نبت معروف طيب الرائحة (فإنا نجعله في قبورنا وبيوتنا فقال: "إلا الإذخر" متفق عليه).
فيه دليل على أن فتح مكة عنوة، لقوله "لم تحل" وقوله: "سلط عليها" وقوله: "لا تحل" وعلى ذلك الجماهير.
وذهب الشافعي إلى أنها فتحت صلحاً لأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لم يقسمها على الغانمين كما قسم خيبر، وأجيب عنه بأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم منّ على أهل مكة وجعلهم الطلقاء وصانهم عن القتل والسبي للنساء والذرية واغتنام الأموال، إفضالا منه على قرابته وعشيرته.
وفيه دليل على أنه لا يحل القتال لأحد بعده صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بمكة. قال الماوردي: من خصائص الحرم أنه لا يحارب أهله وإن بغوا على أهل العدل، وقالت طائفة بجوازه وفي المسألة خلاف.
وتحريم القتال فيها هو الظاهر. قال القرطبي: ظاهر الحديث يقتضي تخصيصه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بالقتال لا عتذاره عن ذلك الذي أبيح له مع أن أهل مكة كانوا إذ ذاك مستحقين للقتال لصدهم عن المسجد الحرام، وإخراج أهله منه، وكفرهم، وقال به غير واحد من أهل العلم. قال ابن دقيق العيد: يتأكد القول بالتحريم بأن الحديث دل على المأذون فيه للنبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ولم يؤذن فيه لغيره، ويؤيده قوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "فإن ترخص أحدكم لقتال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم" فدل أن حال القتال فيها من خصائصه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم.
ودلّ على تحريم تنفير صيدها وبالأولى تحريم قتله، وعلى تحريم قطع شوكها، ويفيد تحريم قطع ما لا يؤذي بالأولى. ومن العجب أنه ذهب الشافعي إلى جواز قطع الشوك من فروع الشجر كما نقله عنه أبو ثور وأجازه جماعة غيره، ومنهم الهادوية وعللوا ذلك بأنه يؤذي فأشبه الفواسق.
قلت: وهذا من تقديم القياس على النص وهو باطل على أنك عرفت أنه لم يقم دليل على أن علة قتل الفواسق هو الأذية.
واتفق العلماء على تحريم قطع أشجارها التي لم ينبتها الأدميون في العادة، وعلى تحريم قطع خلاها وهو الرطب من الكلإ فإذا يبس فهو الحشيش، واختلفوا فيما ينبته الآدميون فقال القرطبي: الجمهور على الجواز.
وأفاد أنها لا تحل لقطتها إلا لمن يُعرّف بها أبداً ولا يتملكها، وهو خاص بلقطة مكة، وأما غيرها فيجوز أن يلتقطها بنية التملك بعد التعريف بها سنة، ويأتي ذكر الخلاف في المسألة في باب اللقطة إن شاء الله تعالى.
وفي قوله: "ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين" دليل على أن الخيار للولي ويأتي الخلاف في ذلك في باب الجنايات.
وقوله: "نجعله في قبورنا" أي نسدّ به خلل الحجارة التي تجعل على اللحد، وفي البيوت كذلك يجعل فيما بين الخشب على السقوف.
وكلام العباس يحتمل أنه شفاعة إليه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، ويحتمل أنه اجتهاد منه لما علم من أن العموم غالبه التخصيص كأنه يقول هذا ما تدعو إليه الحاجة، وقد عهد في الشريعة عدم الحرج فقرّر صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كلامه؛ واستثناؤه إما بوحي أو اجتهاد منه صلى الله عليه وسلم .
13- وعن عبد الله بن زيد بن عاصم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إنَّ إبراهيم حرَّم مكة) وفي رواية "إن الله حرّم مكة" ولا منافاة فالمراد أن الله حكم بحرمتها وإبراهيم أظهر هذا الحكم على العباد (ودعا لأهلها) حيث قال: {رَبِّ(2/197)
اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} وغيرها من الآيات "وإني حرّمتُ المدينة" هي علم بالغلبة لمدينته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم التي هاجر إليها فلا يتبادر عند إطلاق لفظها إلا هي "كما حرّم إبراهيم مكّة، وإني دعوت في صاعها ومُدِّهَا" أي فيما يكال بهما لأنهما مكيالان معروفان "بمثل ما دعا به إبراهيمُ لأهل مكة" متفق عليه). المراد من تحريم مكة: تأمين أهلها من أن يقاتلوا، وتحريم من يدخلها لقوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} ، وتحريم صيدها وقطع شجرها، وعضد شوكها.
والمراد من تحريم المدينة: تحريم صيدها، وقطع شجرها، ولا يحدث فيها حدث.
وفي تحديد حرم المدينة خلاف ورد تحديده بألفاظ كثيرة ورجحت رواية "ما بين لابتيها" لتوارد الرواة عليها.
14- وعن علي رضي الله عنه قال: قال النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم "المدينةُ حرمٌ ما بين عَيْرٍ" بالعين المهملة فمثناة تحتية فراء جبل بالمدينة "إلى ثور" رواه مسلم) ثور بالمثلثة وسكون الواو وآخره راء في القاموس إنه جبل بالمدينة، قال: وفيه الحديث الصحيح، وذكر هذا الحديث، ثم قال: وأما قول أبي عبيد القاسم بن سلام وغيره من الأكابر الأعلام: إن هذا تصحيف، والصواب إلى أحد لأن ثوراً إنما هو بمكة فغير جيد، لما أخبرني الشجاع الثعلبي الشيخ الزاهد عن الحافظ أبي محمد بن عبد السلام البصري أن حذاء أُحد جانحاً إلى ورائه جبلاً صغيراً يقال له ثور، وتكرر سؤالي عنه طوائف من العرب العارفين بتلك الأرض فكل أخبرني أن اسمه ثور ولما كتب إليّ الشيخ عفيف الدين المطري عن والده الحافظ الثقة قال: إن خلف أُحد عن شماله جبلاً صغيراً مدوراً يسمى ثوراً يعرفه أهل المدينة خلف عن سلف انتهى. وهو لا ينافي حديث ".." ما بين لابتيها لأنهما حرتان يكتنفانها كما في القاموس وعير وثور مكتنفان المدينة فحديث عير وثور يفسر اللابتين.(2/198)
باب صفة الحج ودخول مكة
أراد به: بيان المناسك والإتيان بها مرتبة، وكيفية وقوعها، وذكر حديث جابر وهو وافٍ بجميع ذلك.
1- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم حج) عبر بالماضي لأنه روى ذلك بعد تقضي الحج حين سأله عنه محمد بن عليّ بن الحسين كما في صحيح مسلم (فخرجنا معه) أي من المدينة (حتى أتينا ذا الحليفة فولدت أسماء بنت عميس) بصيغة التصغير امرأة أبي بكر يعني "محمد بن أبي بكر" (فقال) أي النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "اغتسلي واستثفري" بسين مهملة فمثناة فوقية ثم راء هو: شدّ المرأة على وسطها شيئاً ثم تأخذ خرقة عريضة تجعلها في محل الدم وتشد طرفيها من ورائها ومن قدامها إلى ذلك الذي شدته في وسطها وقوله (بثوب) بيان لما تستثفر به (وأحْرمي") فيه: أنه لا يمنع النفاس صحة عقد الإحرام (فصلى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم) أي صلاة الفجر(2/198)
كذا ذكره النووي في شرح مسلم، والذي في الهدي النبوي أنها صلاة الظهر، وهو الأولى لأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلى خمس صلوات بذي الحليفة الخامسة هي الظهر، وسافر بعدها (في المسجد ثم ركب القَصْواء) بفتح القاف فصاد مهملة فواو فألف ممدودة وقيل: بضم القاف مقصور وخطىء من قاله لقب لناقته صلى الله عليه وسلم (حتى إذا استوت به على البيداء) اسم محل (أهلَّ) رفع صوته (بالتوحيد) أي إفراد التلبية لله وحده بقوله: "لبيك اللهمَّ لَبّيك، لبيك لا شريك لك لبيك" وكانت الجاهلية تزيد في التلبية: إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك (إن الحمد) بفتح الهمزة وكسرها والمعنى واحد وهو التعليل (والنعمة لك والملك، لا شريك لك" حتى إذا أتينا البيت استلم الركن) أي مسحه بيده، وأراد به الحجر الأسود، وأطلق الركن عليه لأنه قد غلب على اليماني (فرمل) أي في طوافه بالبيت أي أسرع في مشيه مهرولا (ثلاثاً) أي مرات (ومشى أربعاً، ثم أتى إلى مقام إبراهيم فصلى) ركعتي الطواف (ورجع إلى الركن فاستلمه، ثم خرج من الباب) أي باب الحرم (إلى الصفا، فلما دنا) أي قرب (من الصفا قرأ {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} ابداءوا في الأخذ في السعي (بما بدأ الله به فرقي) بفتح القاف (الصفا حتى رأى البيت فاستقبل القبلة فوحد الله وكبره) وبين ذلك بقوله: (وقال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير لا إله إلا الله أنجز وعده" بإظهاره تعالى للدين "ونصر عبده" يريد به نفسه، "وهزم الأحزاب" في يوم الخندق، "وحده" أي من غير قتال الآدميين ولا سبب لانهزامهم كما أشار إليه قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا} أو المراد كل من تحزب لحربه صلى الله عليه وسلم فإنه هزمهم (ثم دعا بين ذلك ثلاث مرات) دل أنه كرر الذكر المذكور ثلاثاً (ثم نزل) من الصفا منتهياً (إلى المروة،حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى) قال عياض: فيه إسقاط لفظة لا بد منها وهي حتى انصبت قدماه فرمل في بطن الوادي فسقط لفظ رمل قال: وقد ثبتت هذه اللفظة في رواية لمسلم وكذا ذكرها الحميدي في الجمع بين الصحيحين (حتى إذا صعد) من بطن الوادي (مشى إلى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا) من استقباله القبلة إلى آخر ما ذكر (فذكر) أي جابر (الحديث) بتمامه واقتصر المصنف على محل الحاجة (وفيه) أي في الحديث (فلما كان يومُ التَرْوية) بفتح المثناة الفوقية فراء وهو الثامن من شهر ذي الحجة سمي بذلك لأنهم يتروون فيه إذا لم يكن بعرفة ماء (توجهوا إلى منى وركب صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ثم مكث) بفتح الكاف ثم مثلثة: لبث (قليلا) أي بعد صلاة الفجر (حتى طلعت الشمس، فأجاز) أي جاوز المزدلفة ولم يقف بها (حتى أتى عرفة) أي 0قرب منها لا أنه دخل بدليل (فوجد القبة) خيمة صغيرة (قد ضربت له بنمرة) بفتح النون وكسر الميم فراء فتاء تأنيث محل معروف (فنزل بها) فإن نمرة ليست من عرفات (حتى إذا زالت الشمس أمر(2/199)
بالقصواء فرحلت له" مغير الصيغة مخفف الحاء المهملة: أي وضع عليها رحلها "فأتى بطن الوادي) وادي عرفة (فخطب الناس ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر) جمعاً من غير أذان (ولم يصل بينهما شيئاً، ثم ركب حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات وجعل حبل) فيه ضبطان بالجيم والحاء المهملة والموحدة إما مفتوحة أو ساكنة (المشاة) وبها ذكره في النهاية وفسره بطريقهم الذي يسلكونه في الرمل وقيل أراد صفهم ومجتمعهم في مشيهم تشبيها بحبل الرمل (بين يديه واستقبل القبلة فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص) قال في شرح مسلم: هكذا في جميع النسخ وكذا نقله القاضي عن جميع النسخ قال: قيل: صوابه حين غاب القرص قال: ويحتمل أن يكون قوله: "حتى غاب القرص" بياناً لقوله غربت الشمس وذهبت الصفرة فإن هذه قد تطلق مجازاً على مغيب معظم القرص فأزال ذلك الاحتمال بقوله حتى غاب القرص
(ودفع، وقد شنق) بتخفيف النون: ضم وضيق (للقصواء الزمام، حتى إن رأسها ليصيب مَوْرك) بفتح الميم وكسر الراء (رحْله) بالحاء المهملة الموضع الذي يثني الراكب رجله عليه قدام وسط الرحل إذا مل من الركوب
(ويقول بيده اليمنى) أي يشير بها قائلاً: "يا أيها الناس: السكينة.السكينة" بالنصب أي الزموا (كلما أتى حبلا) بالمهملة وسكون الموحدة من حبال الرمل وحبل الرمل ما طال منه وضخم (أرخى لها قليلاً حتى تصعد) بفتح المثناة وضمها يقال: صعد وأصعد (حتى إذا أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح) أي لم يصل (بينهما شيئاً) أي نافلة (ثم اضطجع حتى طلع الفجر، فصلى الفجر حتى تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب حتى أتى المشعر الحرام) وهو جبل معروف في المزدلفة يقال له قُزَح بضم القاف وفتح الزاي وحاء مهملة (فاستقبل القبلة فدعا وكبر وهلل، فلم يزل واقفاً حتى أسفر) أي الفجر (جداً) بكسر الجيم إسفاراً بليغاً (فدفع قبل أن تطلع الشمس، حتى أتى بطن مُحَسِّر) بضم الميم وفتح المهملة وكسر السين المهملة المشددة سمي بذلك لأن فيل أصحاب الفيل حُسر فيه أي كل وأعيا (فحرك قليلا) أي حرك لدابته لتسرع في المشي وذلك مسافة مقدار رمية حجر (ثم سلك الطريق الوسطى) وهي غير الطريق التي ذهب فيها إلى عرفات (التي تخرج على الجمرة الكبرى) وهي جمرة العقبة (حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة) وهي حد لمنى وليست منها، والجمرة: اسم لمجتمع الحصى سميت بذلك: لاجتماع الناس، يقال: أجمر بنو فلان إذا اجتمعوا (فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها مثل حصى الخذف) وقدره مثل حبة الباقلاء (رمى من بطن الوادي) بيان لمحل الرمي (ثم انصرف إلى المنحر فنحر، ثم ركب رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر) فيه حذف أي فأفاض إلى البيت فطاف به طواف الإفاضة ثم صلى الظهر وهذا يعارضه حديث ابن عمر "أنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر يوم النحر بمنى" وجمع بينهما بأنه صلى بمكة ثم أعاده بأصحابه جماعة بمنى لينالوا فضل الجماعة خلفه (رواه مسلم مطولا) وفيه زيادات حذفها المصنف واقتصر على محل الحاجة هنا.(2/200)
واعلم أن هذا حديث عظيم مشتمل على جمل من الفوائد ونفائس من مهمات القواعد، قال القاضي عياض: قد تكلم الناس على ما فيه من الفقه وأكثروا، وصنف فيه أبو بكر بن المنذر جزءاً كبيراً أخرج فيه من الفقه مائة ونيفاً وخمسين نوعاً، قال: ولو تقصى لزيد على هذا العدد أو قريب منه.
قلت: وليعلم أن الأصل في كل ما ثبت أنه فعله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في حجه الوجوب، لأمرين أحدهما: أن أفعاله في الحج بيان الحج الذي أمر الله به، والأفعال في بيان الوجوب محمولة على الوجوب. والثاني وقوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "خذوا عني مناسككم" فمن ادعى عدم وجوب شيء من أفعاله في الحج فعليه الدليل، ولنذكر ما يحتمله المختصر من فوائده ودلائله. ففيه دلالة على أن غسل الإحرام سنة للنفساء والحائض ولغيرهما بالأولى، وعلى استثفار الحائض والنفساء. وعلى صحة إحرامهما. وأن يكون الإحرام عقيب صلاة فرض أو نفل فإنه قد قيل: إن الركعتين اللتين أهل بعدهما فريضة الفجر؛ وأنه يرفع صوته بالتلبية، قال العلماء: ويستحب الاقتصار على تلبية النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فلو زاد فلا بأس، فقد زاد عمر رضي الله عنه "لبيك ذا النعماء والفضل الحسن لبيك مرهوباً منك ومرغوباً إليك". وابن عمر رضي الله عنه "لبيك وسعديك والخير بيديك والرغباء إليك والعمل". وأنس رضي الله عنه "لبيك حقاً حقا تعبداً ورقا". وأنه ينبغي للحاج القدوم أولا مكة ليطوف طواف القدوم، وأن يستلم الركن قبل طوافه، ثم يرمل في الثلاثة الأشواط الأول، والرمل: إسراع المشي مع تقارب الخطا، وهو الخبب، ثم يمشي أربعاً على عادته، وأنه يأتي بعد تمام مقام إبراهيم ويتلو {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} ثم يجعل المقام بينه وبين البيت ويصلي ركعتين، وقد أجمع العلماء على أنه ينبغي لكل طائف إذا طاف بالبيت أنه يصلي خلف المقام ركعتي الطواف واختلفوا هل هما واجبتان أم لا فقيل بالوجوب، وقيل إن كان الطواف واجباً وجبتا وإلا فسنة، وهل يجبان خلف مقام إبراهيم حتماً أو يجزئان في غيره؟ فقيل يجبان خلفه، وقيل يندبان خلفه ولو صلاهما في الحجر أو في المسجد الحرام أو في أي محل من مكة جاز وفاتته الفضيلة. وورد في القراءة فيهما في الأولى بعد الفاتحة الكافرون والثانية بعدها الصمد رواه مسلم. ودل على أنه يشرع له الاستلام عند الخروج من المسجد كما فعله عند الدخول، واتفقوا أن الاستلام سنة، وأنه يسعى بعد الطواف، ويبدأ بالصفا ويرقى إلى أعلاه، ويقف عليه مستقبلا القبله ويذكر الله تعالى بهذا الذكر، ويدعو ثلاث مرات، وفي الموطإ: "حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى". وقد قدمنا لك أن في رواية مسلم سقطاً فدلت رواية الموطأ أنه يرمل في بطن الوادي، وهو الذي يقال له بين الميلين وهو مشروع في كل مرة من السبعة الأشواط لا في الثلاثة الأول كما في طواف القدوم بالبيت. وأنه يرقى أيضاً على المروة كما رقى على الصفا ويذكر ويدعو وبتمام ذلك تتم عمرته فإن حلق أو قصر صار حلالاً، وهكذا فعل الصحابة الذي أمرهم صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بفسخ الحج إلى العمرة. وأما من كان قارناً فإنه لا يحلق ولا يقصر ويبقى على إحرامه. ثم في يوم التروية وهو ثامن ذي الحجة يحرم من أراد الحج ممن حل من عمرته ويطلق هو ومن كان قارناً إلى منى(2/201)
كما قال جابر: "فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى" أي توجه من كان باقياً على إحرامه لتمام حجه ومن كان قد صار حلالاً أحرم وتوجه إلى منى وتوجه صلى الله عليه وسلم إليها راكباً فنزل بها وصلى الصلوات الخمس.
فيه أن الركوب أفضل من المشي في تلك المواطن، وفي الطريق أيضاً، وفيه خلاف ودليل الأفضلية فعله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم. وأن السنة أن يصلي بمنى الصلوات الخمس وأن يبيت بها هذه الليلة وهي ليلة التاسع من ذي الحجة. وأن السنة ألا يخرجوا يوم عرفة من منى إلا بعد طلوع الشمس. وأن السنة أن لا يدخلوا عرفات إلا بعد زوال الشمس. وأن يصلوا الظهر والعصر جمعاً بعرفات فإنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم نزل بنمرة وليست من عرفات ولم يدخل إلى الموقف إلا بعد الصلاتين، وأن لا يصلى بينهما شيئاً. وأن السنة أن يخطب الإمام الناس قبل صلاة العصرين، وهذه إحدى الأربع الخطب المسنونة، والثانية يوم السابع من ذي الحجة عند الكعبة بعد صلاة الظهر، والثالثة يوم النحر، والرابعة يوم النفر الأول وهو اليوم الثاني من أيام التشريق. وفي قوله: ثم ركب حتى أتى الموقف إلى آخره.(سنن وآداب) منها: أن يجعل الذهاب إلى الموقف عند فراغه من الصلاتين. ومنها أن الوقوف راكباً أفضل، ومنها أن يقف عند الصخرات وهي صخرات مفترشات في أسفل جبل الرحمة وهو الجبل الذي بوسط أرض عرفات. ومنها استقبال القبلة في الوقوف. ومنها أنه يبقى في الموقف حتى تغيب الشمس ويكون في وقوفه داعياً فإنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وقف على راحلته راكباً يدعو الله عز وجل وكان في دعائه رافعاً يديه إلى صدره وأخبرهم أن خير الدعاء دعاء يوم عرفه وذكر من دعائه في الموقف "اللهم لك الحمد كالذي نقول وخيراً مما نقول. اللهم لك صلاتي ونسكي ومحياي مماتي وإليك مآبي ولك تراثي. اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ووسواس الصدر وشتات الأمر اللهم إني أعوذ بك من شر ما تجيء به الريح" ذكره الترمذي. ومنها أن يدفع بعد تحقق غروب الشمس بالسكينة ويأمر بها الناس إن كان مطاعاً، ويضم زمام مركوبه لئلا يسرع في المشي إلا إذا أتى جبلا من جبال الرمال أرخاه قليلا ليخف على مركوبه صعوده. فإذا أتى المزدلفة نزل بها وصلى المغرب والعشاء جمعاً بأذان واحد وإقامتين وهذا الجمع متفق عليه وإنما اختلفوا في سببه فقيل: لأنه نسك وقيل: لأجل أنهم مسافرون وأنه لا يصلي بينهما شيئاً. وقوله: "ثم اضطجع حتى طلع الفجر" فيه سنن نبوية المبيت بمزدلفة وهو مجمع على أنه نسك إنما اختلفوا هل هو واجب أو سنة، والأصل فيما فعله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في حجته الوجوب كما عرفت، وأن السنة أن يصلي الصبح بالمزدلفة ثم يدفع منها بعد ذلك فيأتي المشعر الحرام فيقف به ويدعو والوقوف عنده من المناسك ثم يدفع منه عند إسفار الفجر إسفاراً بليغاً فيأتي بطن محسر فيسرع السير فيه لأنه محل غضب الله فيه على أصحاب الفيل فلا ينبغي الأناة فيه ولا البقاء به، فإذا أتى الجمرة وهي جمرة العقبة نزل ببطن الوادي ورماها بسبع حصيات كل حصاة كحبة الباقلا يكبر مع كل حصاة، ثم ينصرف بعد ذلك إلى المنحر فينحر إن كانت عنده بدنة يريد نحوها، وأما هو صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فإنه(2/202)
نحر بيده الشريفة ثلاثاً وستين بدنة وكان معه مائة بدنة فأمر علياً عليه السلام بنحر باقيها ثم ركب إلى مكة فطاف طواف الإفاضة وهو الذي يقال له طواف الزيارة ومن بعده يحل له كل ما حرم بالإحرام حتى وطء النساء، وأما إذا رمى جمرة العقبة ولم يطف هذا الطواف فإنه يحل له ما عدا النساء، فهذه الجمل من السنن والآداب التي أفادها هذا الحديث الجليل من أفعاله صلى الله عليه وسلم تبين كيفية أعمال الحج وفي كثير مما دل عليه هذا الحديث الجليل مما سقناه خلاف بين العلماء كثير، في وجوبه وعدم وجوبه، وفي لزوم الدم بتركه وعدم لزومه، وفي صحة الحج إن ترك منه شيئاً وعدم صحته، وقد طول بذكر ذلك في الشرح، واقتصرنا على ما أفاده الحديث فالآتي بما اشتمل عليه هو الممتثل لقوله صلى الله عليه وسلم : "خذوا عني مناسككم" والمقتدي به في أفعاله وأقواله.
2- وعَنْ خُزَيْمةَ بن ثابتِ رضي الله عَنْهُ: "أنَّ النّبيَّ صَلّى الله عَلَيْه ِوآله وَسَلّم كانَ إذا فرغَ من تلبيتهِ في حجٍ أَوْ عمرة سأَلَ الله رضوانه والجنّةَ واستعاذَ برحْمته منَ النّار" رواهُ الشافعيُّ بإسناد ضعيف.
سقط هذا الحديث من نسخة الشارح التي وقفنا عليها فلم يتكلم عليه ووجه ضعفه أن فيه: [تض] صالح بن محمد بن أبي زائدة أبو واقد الليثي ضعفوه. والحديث دليل على استحباب الدعاء بعد الفراغ من كل تلبية يلبيها المحرم في أي حين بهذا الدعاء ونحوه ويحتمل أن المراد بالفراغ منها انتهاء وقت مشروعيتها وهو عند رمي جمرة العقبة، والأول أوضح.
3- وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "نحرت هاهنا ومنى كلها مَنْحَرٌ فانحروا في رحالكم) جمع رحل وهو المنزل (ووقفت هاهنا وعرفة كلها موقفٌ) وحد عرفة ما خرج عن وادي عرفة إلى الجبال المقابلة مما يلي بساتين بني عامر (ووقفت ههنا وجمعٌ كلها موقف" رواه مسلم) أفاد صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أنه لا يتعين على أحد نحره حيث نحر، ولا وقوفه بعرفة، ولا جمع حيث وقف، بل ذلك موسع عليهم حيث نحروا في أي بقعة من بقاع منى، فإنه يجزىء عنهم، وفي أي بقعة من بقاع عرفه وجمع وقفوا أجزأ، وهذه زيادات في بيان التخفيف عليهم، وقد كان صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أفاده تقريره لمن حج معه ممن لم يقف في موقفه ولم ينحر من منحره إذ من المعلوم أنه حج معه أمم لا تحصى،ولا يتسع لها مكان وقوفه ونحره؛ هذا والدم الذي محله منى هو دم القران والتمتع. والإحصار والإفساد والتطوّع بالهدى وأما الذي يلزم المعتمر فمحله مكة وأما سائر الدماء اللازمة من الجزاءات فمحلها الحرم المحرم وفي ذلك خلاف معروف.
4- وعَنْ عائشةَ رضي الله عنْها "أَنَّ النبيّ صَلّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلّم لَمّا جَاءَ إلى مَكّةَ دَخَلَهَا مِنْ أَعْلَاهَا وخرجَ مِنْ أَسْفَلِها" مُتّفقٌ عَلَيْهِ. هذا إخبار عن دخوله صلى الله عليه وسلم عام الفتح فإنه دخلها من محل يقال له كداء بفتح الكاف والمدّ غير منصرف، وهي الثنية التي ينزل منها إلى المعلاة مقبرة أهل مكة وكانت صعبة المرتقى فسهلها معاوية ثم عبد الملك ثم المهدي ثم سهلت كلها في زمن سلطان مصر المؤيد في حدود عشرين وثمانمائة، وأسفل مكة هي الثنية(2/203)
السفلى يقال لها كُدى بضم القاف والقصر عند باب الشبيكة ويقول أهل مكة: افتح وادخل وضم واخرج. ووجه دخوله صلى الله عليه وسلم من الثنية العليا ما روي أنه قال أبو سفيان: "لا أسلم حتى الخيل تطلع من كداء فقال له العباس: ما هذا؟ قال: شيء طلع بقلبي وإن الله لا يطلع الخيل من هنالك أبداً" قال العباس: "فذكرت أبا سفيان بذلك لما دخل رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم منها" وعند البيهقي من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "كيف قال حسان" فأنشده شعراً:
عدمت بنيتي إن لم تروها ... تثير النقع مطلعها كَداء
فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال: "ادخلوها من حيث قال حسان".
واختلف في استحباب الدخول من حيث دخل صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم والخروج من حيث خرج فقيل: يستحب وأنه يعدل إليه من لم يكن طريقه عليه، وقال البعض: وإنما فعله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لأنه كان على طريقه فلا يستحب لمن لم يكن كذلك.
وقال ابن تيمية: يشبه أن يكون ذلك والله أعلم أن الثنية العليا التي تشرف على الأبطح والمقابر إذا دخل منها الإنسان فإنه يأتي من وجهة البلد والكعبة ويستقبلها استقبالاً من غير انحراف، بخلاف الذي يدخل من الناحية السفلى، لأنه يستدبر البلد والكعبة فاستحب أن يكون ما يليه منها مؤخراً لئلا يستدبر وجهها.
5- وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان لا يقدم مكة إلا بات) ليلة قدومه (بذي طُوى) في القاموس مثلثة الطاء ويُنَوَّن موضع قرب مكة (حتى يصبح ويغتسل، ويذكر ذلك عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم) أي أنه فعله (متفق عليه). فيه استحباب ذلك وأنه يدخل مكة نهاراً وهو قول الأكثر.
وقال جماعة من السلف وغيرهم: الليل والنهار سواء، والنبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم دخل مكة في عمرة الجعرانة ليلا. وفيه دلالة على استحباب الغسل لدخول مكة.
6- وعن ابنِ عباس رضي الله عنهما "أنه كان يُقَبِّلُ الْحَجَر الأسود ويَسْجُدُ عليه" رواهُ الحاكم مرفوعاً والبيْهفِي موقوفاً. وحسنه أحمد، وقد رواه الأزرقي بسنده إلى محمد بن عباد بن جعفر قال: رأيت ابن عباس جاء يوم التروية وعليه حلة، مرجلاً رأسه، فقبل الحجر الأسود وسجد عليه، ثم قبله وسجد عليه ثلاثاً، رواه أبو يعلى بسنده من حديث أبي داود الطيالسي عن جعفر بن عثمان المخزومي قال: رأيت محمد بن عباد بن جعفر قبل الحجر وسجد عليه؛ وقال: رأيت خالى ابن عباس يقبل الحجر ويسجد عليه. وقال: رأيت عمر يقبل الحجر ويسجد عليه وقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله، وحديث عمر في صحيح مسلم: أنه قبل الحجر والتزمه وقال: "رأيت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بك حفياً" يؤيد هذا ففيه شرعية تقبيل الحجر والسجود عليه.(2/204)
7-(وعنه) أي ابن عباس رضي الله عنهما. (قال: أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم ) أي أصحابه الذين قدموا معه مكة في عمرة القضاء (أن يرمُلوا) بضم الميم (ثلاثة أشواط) أي يهرولون فيها في الطواف (ويمشوا أربعاً ما بين الركنين. متفق عليه).
8- وعن ابن عُمَر رضي اللَّهُ عَنْهُما "أَنّهُ كان إذا طاف بالبيتِ الطّوافَ الأوَّلَ خَبَّ ثلاثاً ومشى أَرْبعاً" وفي رواية "رأَيتُ رسول اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذا طاف في الحج أَو العُمْرة أَوَّل ما يقْدُمُ فإنّه يسعى ثلاثة أَطواف بالبيت ويمشي أَربعةً" مُتّفقٌ عليه.
وأصل ذلك ووجه حكمته ما رواه ابن عباس قال: "قدم رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وأصحابه مكة، فقال المشركون: إنه يقدم عليكم وفد قد وهنتهم حمى يثرب، فأمر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أصحابه أن يرملوا الأشواط الثلاثة وأن يمشوا ما بين الركنين ولم يمنعه أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم". أخرجه الشيخان، وفي لفظ مسلم: "إن المشركين جلسوا مما يلي الحجر وإنهم حين رأوهم يرملون قالوا: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى وهنتهم؟ إنهم لأجلد من كذا وكذا". وفي لفظ لغيره "إن هم إلا كالغزلان" فكان هذا أصل الرمل، وسببه إغاظة المشركين وردّ قولهم، وكان هذا في عمرة القضاء ثم صار سنّة، ففعله في حجة الوداع مع زوال سببه وإسلام من في مكة وإنما لم يرملوا بين الركنين لأن المشركين كانوا من ناحية الحجر عند قعيقعان فلم يكونوا يرون من بين الركنين.
وفيه دليل على أنه لا بأس بقصد إغاظة الأعداء بالعبادة وأنه لا ينافي إخلاص العمل بل هو إضافة طاعة إلى طاعة وقد قال تعالى: {وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ}
9- (.وعنه) أي ابن عباس (قال: لم أر رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلّم يستلم من البيت غير الركنين اليمانيين. رواه مسلم).
اعلم أن للبيت أربعة أركان: الركن الأسود ثم اليماني، ويقال لهما: اليمانيان بتخفيف الياء وقد تشدّد وإنما قيل لهما اليمانيان تغليباً كالأبوين والقمرين، والركنان الآخران يقال لهما: الشاميان وفي الركن الأسود فضيلتان كونه على قواعد إبراهيم عليه السلام والثانية كونه فيه الحَجَر وأما اليماني ففيه فضيلة كونه على قواعد إبراهيم، وأما الشاميان فليس فيهما شيء من هاتين الفضيلتين فلهذا خص الأسود بسنتي التقبيل والاستلام للفضيلتين، وأما اليماني فيستلمه من يطوف ولا يقبله لأن فيه فضيلة واحدة.
واتفقت الأمة على استحباب استلام الركنين اليمانيين، واتفق الجماهير على أنه لا يمسح الطائف الركنين الآخرين. قال القاضي: وكان فيه أي في استلام الركنين الآخرين خلاف لبعض الصحابة والتابعين وانقرض الخلاف وأجمعوا على أنهما لا يستلمان وعليه حديث الباب.
10- وعن عُمَرَ رضي الله عنهُ: "أنّهُ قَبّلَ الحجر وقالَ: إني أَعْلمُ أَنك حجرٌ لا تضُرُّ ولا تنْفعُ، ولولا أَني رأَيتُ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يُقَبِّلكَ ما قبّلْتك" مُتّفقٌ عليه.
وأخرج مسلم من حديث سويد بن غفلة أنه قال: رأيت عمر قبل الحجر والتزمه وقال: رأيت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بك حفياً. وأخرج البخاري أن رجلا سأل ابن عمرعن استلام الحجر فقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمله ويقبله قال: أرأيت إن زحمت أرأيت إن غلبت؟ قال: اجعل أرأيت باليمن رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمه ويقبله. وروى الأزرقي(2/205)
حديث عمر بزيادة وأنه قال له عليّ عليه السلام: بلى يا أمير المؤمنين هو يضر وينفع قال: وأين ذلك؟ قال: في كتاب الله قال: وأين ذلك من كتاب الله عز وجل؟ قال: قال الله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} قال: فلما خلق الله آدم مسح على ظهره فأخرج ذريته من صلبه فقررهم أنه الرب وهم العبيد ثم كتب ميثاقهم في رق وكان لهذا الحجر عينان ولسان فقال له: افتح فاك فألقمه ذلك الرق وجعله في هذا الموضع، وقال: تشهد لمن وافاك بالإيمان يوم القيامة، قال الراوي: فقال عمر: أعوذ بالله أن أعيش في قوم لست فيهم يا أبا الحسن.
قال الطبري: إنما قال ذلك عمر لأن الناس كانوا حديثي عهد بعبادة الأصنام فخشى عمر أن يفهموا أن تقبيل الحجر من باب تعظيم بعض الأحجار كما كانت العرب تفعل في الجاهلية فأراد عمر أن يعلم الناس أن استلامه ابتاع لفعل رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لا لأن الحجر ينفع ويضر بذاته كما كانت الجاهلية تعتقده في الأوثان.
11 - وعن أبي الطفيل قال: رأيت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يطوف بالبيت ويستلم الركن بمحجن) هي عصا محنية الرأس، (معه ويقبل المحجن. رواه مسلم)، وأخرج الترمذي وغيره وحسنه من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "يأتي هذا الحجر يوم القيامة له عينان يبصر بهما ولسان ينطق به يشهد لمن استلمه بحق"، وروي الأزرقي بإسناد صحيح من حديث ابن عباس، قال: "إن هذا الركن يمين الله عَزَّ وجَلَّ في الأرض يصافح بها عباده مصافحة الرجل أخاه وأخرج أحمد عنه الركن يمين الله في الأرض يصافح بها خلقه، والذي نفس ابن عباس بيده ما من امرىء مسلم يسأل الله عنده شيئاً إلا أعطاه إياه".
وحديث أبي الطفيل دال أنه يجزىء عن استلامه باليد استلامه بآلة ويقبل الآلة كالمحجن والعصا، وكذلك إذا استلمه بيده قبل يده، فقد روى الشافعي: "أنه قال ابن جريج لعطاء هل رأيت أحداً من أصحاب رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذا استلموا قبلوا أيديهم قال: نعم رأيت جابر بن عبد الله وابن عمر وأبا سعيد وأبا هريرة إذا استملوا قبلوا أيديهم"، فإن لم يمكن استلامه لأجل الزحمة قام حياله ورفع يده وكبر لما روي "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: يا عمر إنك رجل قوي لا تزاحم على الحجر فتؤذي الضعفاء إن وجدت خلوة فاستلمه وإلا فاستقبله وهلل وكبر" رواه أحمد والأزرقي، وإذا أشار بيده فلا يقبلها لأنه لا يقبل إلا الحجر أو ما مس الحجر.(2/206)
12- (وعن يعلى بن أمية رضي الله عنه قال: طاف النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مضطبعاً ببرد أخضر . رواه الخمسة إلا النسائي وصححه الترمذي) الاضطباع افتعال من الضبع وهوالعضو ويمسى التأبط لأنه يجعل وسط الراداء تحت الإبط وبيدي ضبعه الأيمن وقيل بيدي ضبعيه، وفي النهاية هو أن يأخذ الإزار أو البر ويجعله تحت إبطه الأيمن ويلقي طرفيه على كتفه الأيسر من جهتي صدره وظهره. وأخرج أبو داود عن ابن عباس: "اضطبع فكبر واستلم وكبر ثم رمل ثلاثة أطواف كانوا إذا بلغوا الركن اليماني وتغيبوا من قريش مشوا ثم يطلعون عليهم يرملون تقول قريش كأنهم الغزلان"، قال ابن عباس: فكانت سنة وأول ما اضطبعوا في عمرة القضاء ليستعينوا بذلك على الرمل ليرى المشركون قوتهم ثم صار سنة ويضطبع في الأشواط السبعة، فإذا قضى طوافه ثوى ثيابه ولم يضطبع في ركعتي الطواف وقيل: في الثلاثة الأولى لا غير.
13- (وعن أنس رضي الله عنه قال: كان يهل منا المهل فلا ينكر عليه ويكبر منا المكبر فلا ينكر عليه. متفق عليه) تقدم أن الإهلال رفع الصوت بالتلبية وأول وقته من حين الإحرام إلى الشروع في الإحلال وهو في الحج إلى أن يأخذ في رمي جمرة العقبة وفي العمرة إلى الطواف. ودل الحديث على أنه من كبر مكان التلبية فلا نكير عليه بل هو سنة لأنه يريد أنس أنهم كانوا يفعلون ذلك ورسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فيهم فيقر كلاً على ما قاله إلا أن الحديث ورد في صفة غدوهم من منى إلى عرفات وفيه رد على من قال: يقطع التلبية بعد صبح يوم عرف
14- (.وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بعثني النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في الثقل) بفتح المثلثة وفتح القاف وهو متاع المسافر كما في النهاية (أو قال في الضعفة) شك من الراوي (من جمع) بفتح الجيم وسكون الميم علم المزدلفة سميت به لأن آدم وحواء لما أهبطا اجتمعا بها كما في النهاية بليل قد علم أن من السنة أنه لا بد من المبيت بجمع، وأنه لا يفيض من بات بها إلا بعد صلاة الفجر بها ثم يقف في المشعر الحرام ولا يدفع منه إلا بعد إسفار الفجر جداً ويدفع قبل طلوع الشمس وقد كانت الجاهلية لا يفيضون من جمع حتى تطلع الشمس ويقولون:
أشرق ثبير كيما نغير فخالفهم صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إلا أن حديث ابن عباس هذا ونحوه دل على الرخصة للضعفة في عدم استكمال المبيت. والنساء كالضعفة أيضاً لحديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها "أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أذن للظعن" بضم الظاء والعين المهلمة وسكونها جمع ظعينة وهي المرأة في الهودج ثم أطلق على المرأة وعلى الهودج بلا امرأة كما في النهاية.
15- وعن عائشة رضي الله عنها قالت: استأذنت سودة رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ليلة المزدلفة أن تدفع قبله وكانت ثبطة) بفتح المثلثة وسكون الموحودة فسرها قوله: (تعني ثقيلة فأذن لها . متفق عليهما) على حديث ابن عباس وعائشة. وفيه دليل على جواز الدفع(2/207)
من مزدلفة قبل الفجر ولكن للعذر كما أفاده قولها: "وكانت ثبطة" وجمهور العلماء أنه يجب المبيت بمزدلفة ويلزم من تركه دم. وذهب آخرون إلى أنه سنة إن تركه فاتته الفضيلة ولا إثم عليه ولا دم ويبيت أكثر الليل، وقيل: ساعة من النصف الثاني، وقيل غير ذلك والذي فعله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم المبيت بها إلى أن صلى الفجر، وقد قال: "خذوا عني مناسككم" .
16- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال لنا رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس" رواه الخمسة إلا النسائي وفيه انقطاع) وذلك لأن فيه الحسن العرني بجلي كوفي ثقة احتج به مسلم واستشهد به البخاري غير أن حديثه عن ابن عباس منقطع، قال أحمد: الحسن العرني لم يسمع من ابن عباس. وفيه دليل على أن وقت رمي جمرة العقبة من بعد طلوع الشمس وإن كان الرامي ممن أبيح له التقدم إلى منى وأذن له في عدم المبيت بمزدلفة.
وفي المسألة أربعة أقوال: الأول: جواز الرمي من بعد نصف الليل للقادر والعاجز، قاله أحمد والشافعي. الثاني: لا يجوز إلا بعد الفجر مطلقاً وهو قول أبي حنيفة. الثالث: لايجوز للقادر إلا بعد طلوع الفجر ولمن له عذر بعد نصف الليل وهو قول الهادوية. والرابع: للثوري والنخعي أنه من بعد طلوع الشمس للقادر وهذا أقوى الأقوال دليلاً وأرجحها قيلاً.
17- (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: أرسل النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بأم سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر ثم مضت فأفاضت . رواه أبو دادو وإسناده على شرط مسلم) الحديث دليل على جواز الرمي قبل الفجر لأن الظاهر أنه لا يخفى عليه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ذلك، فقرره وقد عارضه حديث ابن عباس وجمع بينهما بأنه لا يجوز الرمي قبل الفجر لمن له عذر، وكان ابن عباس لا عذر له، وهذا قول الهادوية فإنهم يقولون: لا يجوز الرمي للقادر إلا بعد الفجر ويجوز لغيره من بعد نصف الليل إلا أنهم أجازوا للقادر قبل طلوع الشمس. وقد ذهب الشافعي إلى جواز الرمي من بعد نصف الليل للقادر والعاجز، وقال آخرون: إنه لا رمي إلا من بعد طلوع الشمس للقادر وهو الذي يدل له فعله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وقوله في حديث ابن عباس المتقدم قريباً وهو وإن كان فيه انقطاع فقد عضده فعله مع قوله: "خذوا عني" الحديث، وقد تقدمت أقوال العلماء في ذلك.
18- (وعن عروة بن مضرس) بضم الميم وتشديد الراء وبالضاد المعجمة والسين المهملة كوفي شهد حجة الوداع، وصدر حديثه أنه قال: "أتيت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بالموقف يعني جمعاً فقلت: جئت يا رسول الله من جبل طيء فأكلت مطيتي وأتعبت نفسي والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه فهل لي من حج؟"، ثم ذكر الحديث، (قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "من شهد صلاتنا" يعني صلاة الفجر هذه (يعني بالمزدلفة "فوقف معنا" أي في مزدلفة، "حتى ندفع" وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً "فقد تم حجه وقضى تفثه" رواه الخمسة وصححه الترمذي وابن خزيمة) فيه دلالة على أنه لا يتم الحجة إلا بشهود صلاة الفجر بمزدلفة والوقوف بها حتى يدفع(2/208)
الإمام وقد وقف بعرفة قبل ذلك في ليل أو نهار. ودل على إجزاء الوقوف بعرفة في نهار يوم عرفة إذا كان من بعد الزوال أو في ليلة الأضحى، وأنه إذا فعل ذلك فقد قضى ثفته وهو قضاء المناسك وقيل إذهاب الشعر ومفهوم الشرط أن من لم يفعل ذلك لم يتم حجه، فأما الوقوف بعرفة فإنه مجمع عليه، وأما بمزدلفة، فذهب الجمهور إلى أنه يتم الحج وإن فاته ويلزم فيه دم.
وذهب ابن عباس وجماعة من السَلَف إلى أنه ركن كعرفة وهذا المفهوم دليله ويدل له روايته النسائي: "ومن لم يدرك جمعاً فلا حج له" . وقوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} وفعله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وقوله: "خذوا عني مناسككم" . وأجاب الجمهور بأن المراد من حديث عروة من فعل جميع ما ذكر فقد تم حجة وأتى بالكامل من الحج ويدل له ما أخرجه أحمد وأهل السنن وابن حبان والحاكم والدارقطني والبيهقي: أنه أتاه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وهو واقف بعرفات ناس من أهل نجد فقالوا: كيف الحج؟ فقال: "الحج عرفة من جاء قبل صلاة الفجر من ليلة جمع فقد تم حجه" وفي رواية لأبي داود "من أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك الحج" ومن رواية الدارقطني "الحج عرفة، الحج عرفة" قالوا: فهذا صريح في المراد وأجابوا عن زيادة "ومن لم يدرك جمعاً فلا حج له" باحتمالها التأويل أي فلا حج كامل الفضيلة وبأنها رواية أنكرها أبو جعفر العقيلي وألف في إنكارها جزءاً. وعن الآية أنها لا تدل إلا على الأمر بالذكر عند المشعر لا على أنه ركن وبأنه فعله صلى الله عليه وسلم بياناً للواجب المستكمل الفضيلة.
19- وعن عمر رضي الله عنه قال: إن المشركين كانوا لا يفيضون) أي من مزدلفة (حتى تطلع الشمس ويقولون: أشرق) بفتح الهمزة فعل أمر من الإشراق أي أدخل في الشروق (ثبير) بفتح المثلثة وكسر الموحدة فمثناة تحتية فراء جبل معروف على يسار الذاهب إلى منى وهو أعظم جبال مكة ( وأن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم خالفهم فأفاض قبل أن تطلع الشمس . رواه البخاري) وفي رواية بزيادة "كيما نغير" أخرجها الإسماعيلي و ابن ماجه وهو من الإغارة الإسراع في عدو الفرس.
وفيه أنه يشرع الدفع وهو الإفاضة قبل شروق الشمس وتقدم حديث جابر "حتى أسفر جداً".
20- وعن ابنِ عبّاسٍ وأُسامةَ بنِ زَيْدٍ رضي الله عَنْهماْ قالا: "لمْ يزلِ للنّبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يُلبِّي حتى رمى جمرة العَقَبة" رواهُ الْبُخاريُّ. فيه دليل على مشروعية الاستمرار في التلبية إلى يوم النحر حتى يرمي الجمرة. وهل يقطعه عند الرمي بأوّل حصاة أو مع فراغه منها؟ ذهب الجمهور إلى الأوّل وأحمد إلى الثاني ودل له ما رواه النسائي "فلم يزل يلبي حتى رمي الجمرة فلما رجع قطع التلبية" وما رواه أيضاً ابن خزيمة وقال: حديث صحيح من حديث ابن عباس عن الفضل أنه قال: "أفضت مع رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم من عرفات فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة ويكبّر مع كل حصاة ثم قطع التلبية مع آخر حصاة" وهو يبين المراد من قوله: "حتى رمى الجمرة العقبة" أي أتم رميها وللعلماء خلاف متى يقطع التلبية؟ وهذه الأحاديث قد بينت وقت تركه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لها(2/209)
21- وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه جعل البيت عن يساره) عند رميه جمرة العقبة (ومنى عن يمينه ورمى الجمرة بسبع حصيات وقال: هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة. متفق عليه.
قام الإجماع على أن هذه الكيفية ليست بواجبة وإنما هي مستحبة وهذا قاله ابن مسعود ردّاً على من يرميها من فوقها.
واتفقوا أن سائر الجمار ترمى من فوقها.
وخص سورة البقرة بالذكر لأن غالب أعمال الحج مذكور فيها أو لأنها اشتملت على أكثر أمور الديانات والمعاملات، وفيه جواز أن يقال سورة البقرة خلافاً لمن قال: يكره ولا دليل له.
22- وعن جابر رضي الله عنهُ قالَ: "رمى رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم الجمرةَ يَوْمَ النّحْر ضُحى وأَمّا بعد ذلك فإذا زالتِ الشمسُ" روَاهُ مُسلمٌ.
تقدم الكلام على وقت رمي جمرة العقبة.
والحديث دليل على أن وقت رمي الثلاث الجمار من بعد زوال الشمس وهو قول جماهير العلماء.
23- وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يرمي الجمرة الدنيا) بضم الدال وبكسرها أي الدانية إلى مسجد الخيف وهي أوّل الجمرات التي ترمى ثاني النحر (بسبع حصيات يكبّر على إثر كل حصاة ثم يتقدم ثم يسهل) بضم حرف المضارعة وسكون المهملة أي يقصد السهل من الأرض (فيقوم فيستقبل القبلة ثم يدعو ويرفع يديه ويقوم طويلاً ثم يرمي الوسطى ثم يأخذ ذات الشمال) أي يمشي إلى جهة شماله ليقف داعياً في مقام لا يصيبه الرمي (فيسهل ويقوم مستقبل القبلة ثم يدعو ويرفع يديه ويقوم طويلاً ثم يرمي جمرة ذات العقبة من بطن الوادي ولا يقف عندها ثم ينصرف فيقول: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل. رواه البخاري).
فيه ما قد دلت عليه الأدلة الماضية: من الرمي بسبع حصيات لكل جمرة، والتكبير عند كل حصاة، وفيه زيادة أنه يستقبل القبلة بعد الرمي للجمرتين. ويقوم طويلاً يدعو الله تعالى، وقد فسر مقدار القيام ما أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح "أن ابن عمر كان يقوم عند الجمرتين بمقدار ما يقرأ سورة البقرة وأنه يرفع يديه عند الدعاء" قال ابن قدامة: ولا نعلم في ذلك خلافاً إلا ما يروى عن مالك "أنه لا يرفع يديه عند الدعاء" وحديث ابن عمر دليل لخلاف ما قال مالك.
24- وعنه) أي ابن عمر (رضي الله عنهما أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "اللهم ارحم المحَلّقين" أي الذين حلقوا رؤوسهم في حج أو عمرة عند الإحلال منها (قالوا) يعني السامعين من الصحابة، قال المصنف في الفتح: إن لم يقف في شيء من الطرق على الذي تولى السؤال بعد البحث الشديد عنه (والمقصرين) هو من عطف التلقين كما في قوله تعالى: {قَالَ وَمَنْ كَفَرَ} فى أحد الوجهين في الآية كأنه قيل: وارحم المقصرين (يا رسول الله؟ قال: في الثالثة "والمقصرين" متفق عليه) وظاهره أنه دعا للمحلقين مرتين وعطف المقصرين في الثالثة وفي روايات أنه دعا للمحلقين ثلاثاً ثم عطف المقصرين.
ثم إنه اختلف في هذا الدعاء متى كان منه صلى الله عليه وسلم ، فقيل: في عمرة الحديبية،(2/210)
وجزم به إمام الحرمين. وقيل: في حجة الوداع، الموضعين، قال النووي وقال: هو الصحيح المشهور وقال القاضي عياض: كان في الموضعين، قال النووي: ولا يبعد ذلك، وبمثله قال ابن دقيق العيد، قال المصنف: وهذا هو المتعين لتظافر الروايات بذلك.
والحديث دليل على مشروعية الحلق والتقصير وأن الحلق أفضل. هذا ويجب في حلق الرأس استكمال حلقه عند الهادوية ومالك وأحمد وقيل: هو الأفضل ويجزيء الأقل فقيل: الربع وقيل: النصف، وقيل: أقل ما يجب حلق ثلاث شعرات، وقيل: شعرة واحدة، والخلاف في التقصير في التفضيل مثل هذا، وأما مقداره فيكون مقدار أنملة وقيل إذا اقتصر على دونها أجزأ وهذا كله في حق الرجال. ثم هو أي تفضيل الحلق على التقصير أيضاً في حق الحاج والمعمر وأما المتمتع فإنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم خيره بين الحلق والتقصير كما في رواية البخاري بلفظ "ثم يحلقوا أو يقصروا" .
وظاهر الحديث استواء الأمرين في حق المتمتع وفصل المصنف في الفتح فقال: إن كان بحيث يطلع شعره فالأولى له الحلق وإلا فالتقصير ليقع الحلق في الحج وبين وجه التفصيل في الفتح.
وأما النساء فالمشروع في حقهن التقصير إجماعاً، وأخرج أبو داود من حديث ابن عباس "ليس على النساء حلق وإنما على النساء التقصير" وأخرج الترمذي من حديث عليّ عليه السلام "نهى أن تحلق المرأة رأسها" وهل يجزيء لو حلقت قال بعض الشافعية يجزي ويكره لها ذلك.
25- وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف في حجة الوداع) أي يوم النحر بعد الزوال وهو على راحلته يخطب عند الجمرة (فجعلوا يسألونه فقال رجل: ) قال المصنف: لم أقف على اسمه بعد البحث الشديد (لم أشعر) أي لم أفطن ولم أعلم (فحلقت قبل أن أذبح قال: "اذبح) أي الهدي، والذبح ما يكون في الحلق (ولا حرج") أي لا إثم (وجاء آخر فقال: لم أشعر فنحرت) النحر ما يكون في اللبة (قبل أن أرمي) جمرة العقبة (قال: "ارْم ولا حرج" فما سئل يومئذ عن شيء قدّم ولا أخر إلا قال: "افعل ولا حرج" متفق علي.
اعلم أن الوظائف على الحاج يوم النحر أربع: الرمي لجمرة العقبة، ثم نحر الهدي أو ذبحه، ثم الحلق والتقصير، ثم طواف الإفاضة هذا هو الترتيب المشروع فيها وهكذا فعل صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في حجته، ففي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم أتى منى فأَتى الجمرة فرماها ثم أتى منزله بمنى فنحر وقال للحالق: "خذه" ولا نزاع في هذا للحاج مطلقاً ونازع بعض الفقهاء في القارن فقال: لا يحلق حتى يطوف.
والحديث دليل على أنه يجوز تقديم بعض هذه الأشياء وتأخيرها وأنه لا ضيق ولا إثم على من قدم أو أخر. فاختلف العلماء في ذلك.
فذهب الشافعي وجمهور السلف وفقهاء أصحاب الحديث والعلماء إلى الجواز وأنه لا يجب الدم على من فعل ذلك لقوله للسائل "ولا حرج" فإنه ظاهر في نفي الإثم والفدية معاً لأن اسم الضيق يشملهما قال الطبري: لم يسقط النبي صلى الله عليه وسلم الحرج إلا وقد أجزأ الفعل إذ لو لم يجزئه لأمره بالإعادة لأن الجهل والنسيان لا يضعان عن المكلف الحكم الذي يلزمه في الحج كما لو ترك(2/211)
الرمي ونحوه فإنه لا يأثم بتركه ناسياً أو جاهلاً لكن يجب عليه الإعادة، وأما الفدية فالأظهر سقوطها على الناسي والجاهل وعدم سقوطها عن العالم.
قال ابن دقيق العيد: القول بسقوط الدم عن الجاهل والناسي دون العامد قوي من جهة أن الدليل دل على وجوب اتباع أفعال النبي صلى الله عليه وسلم في الحج بقول: "خذوا عني مناسككم" وهذه السؤالات المرخصة بالتقديم لما وقع السؤال عنه إنما قرنت بقول السائل "لم أشعر" فيختص الحكم بهذه الحالة ويحمل قوله "لا حرج" على نفي الإثم والدم معاً في الناسي والجاهل ويبقى العامد على أصل وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم في الحج، والقائل بالتفرقة بين العامد وغيره قد مشى أيضاً على القاعدة في أن الحكم إذا رتب على وصف يمكن بأن يكون معتبراً لم يجز اطراحه، ولا شك أن عدم الشعور وصف مناسب لعدم التكليف والمؤاخذه، والحكم علق به فلا يمكن اطراحه بإلحاق العامد به إذ لا يساويه.
قال: وأما التمسك بقول الراوي: "فما سئل عن شيء" إلى آخره لإشعاره بأن الترتيب مطلقاً غير مراعى فجوابه أن هذه الأخبار من الراوي تتعلق بما وقع السؤال عنه وهو مطلق بالنسبة إلى حال السائل والمطلق لا يدل على أحد الخاصين بعينه فلا تبقى حجة في حال العمد.
26- وعن المِسْوَر) بكسر الميم وسكون المهملة وفتح الواو فراء (ابن مَخْرَمَة رضي الله عنه) بفتح الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح الراء زهري قرشي مات النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمان سنين وسمع منه وحفظ عنه انتقل من المدينة بعد قتل عثمان إلى مكة ولم يزل بها إلى أن حاصرها عسكر يزيد فقتله حجر من حجارة المنجنيق وهو يصلي في أول سنة أربع وستين وكان من أهل الفضل والدين (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر قبل أن يحلق وأمر أصحابه بذلك . رواه البخاري.
فيه دلالة على تقديم النحر قبل الحلق وتقدّم قريباً أن المشروع تقديم الحلق قبل الذبح فقيل حديث المسور هذا إنما هو إخبار عن فعله صَلّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلّم في عمرة الحديبية حيث أحصر فتحلل صَلّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلّم بالذبح. وقد بوّب عليه البخاري: "باب النحر قبل الحلق في الحصر" وأشار البخاري إلى أن هذا الترتيب يختص بالمحصر على جهة الوجوب فإنه أخرجه بمعناه هذا وقد أخرجه بطوله في كتاب الشروط وفيه أنه قال لأصحابه: "قوموا فانحروا ثم احلقوا" وفيه قول أم سلمة له صلى الله عليه وسلم "اخرج ثم لا تكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحر بدنك فخرج فنحر بدنه ثم دعا حالقه فحلقه" الحديث وكان الأحسن تأخير المصنف له إلى باب الإحصار.
27- وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إذا رمَيْتُم وحلقتم فَقَدْ حَلَّ لكُمْ الطّيب وكلُّ شيءٍ إلا النساءَ" رواهُ أَحمد وأَبو داود وفي إسناده ضَعْفٌ.
لأنه من رواية[تض] الحجاج بن أرطأة[/تض] وله طرق أخر مدارها عليه.
وهو يدل على أنه بمجموع الأمرين رمي جمرة العقبة والحلق يحل كل محرم على المحرم إلا النساء فلا يحل وطؤهن إلا بعد طواف الإفاضة والظاهر أنه مجمع على حل الطيب وغيره إلا الوطء بعد الرمي وإن لم يحلق.(2/212)
28- وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنَّ النّبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قالَ: "ليس على النّساءِ حَلّقٌ وإنما يُقصِّرْن" رواهُ أبو داود بإسْنَادٍ حَسَنٍ.
تقدم ذكر هذا الحكم في الشرح وأنه ليس في حقهن، فإن حلقن أجزأ.
29- وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه استأذن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أَن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته) وهي ماء زمزم فإنهم كانوا يغترفونه بالليل ويجعلونه في الحياض سبيلاً (فأذن له . متفق عليه).
فيه دليل على أنه يجب المبيت بمنى ليلة ثاني النحر وثالثه إلا لمن له عذر، وهذا يروى عن أحمد.
والحنفية قالت: إنه سنة. قيل: إنه يختص هذا الحكم بالعباس دون غيره، وقيل: بل وبمن يحتاج إليه في سقايته وهو الأظهر، لأنه لا يتم له وحده إعداد الماء للشاربين، وهل يختص بالماء أو يلحق به ما في معناه من الأكل وغيره وكذا حفظ ماله وعلاج مريضه وهذا الإلحاق رأي الشافعي ويدل للإلحاق الحديث وهو قوله:
30- (وعن عاصم بن عدي رضي الله عنه) هو أبو عبد الله أو عمر أو عمرو حليف بني عبيد بن زيد من بني عمرو بن عوف من الأنصار شهد بدراً والمشاهد بعدها، وقيل: لم يشهد بدراً وإنما أخرج إليها معه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فردّه إلى أهل مسجد الضرار لشيء بلغه عنهم وضرب له سهمه وأجره فكان كمن شهدها. مات سنة خمس وأربعين، وقيل: استشهد يوم اليمامة وقد بلغ مائة وعشرين سنة (أن النبي صلى الله عليه وسلم أرخص لرعاء الإبل في البيتوتة عن منى يرمون يوم النحر) جمرة العقبة ثم ينفرون ولا يبيتون بمنى (ثم يرمون يومين) أي يرمون اليوم الثالث لذلك اليوم واليوم الذي فاتهم الرمي فيه وهو اليوم الثاني (ثم يرمون يوم النفر) أي اليوم الرابع إن لم يتعجلوا (رواه الخمسة وصححه الترمذي وابن حبان).
فإن فيه دليلاً على أنه يجوز لأهل الأعذار عدم المبيت بمنى وأنه غير خاص بالعباس ولا بسقايته وأنه لو أحدث أحد سقاية جاز له ما جاز لأهل سقاية زمزم.
31- وعن أَبي بَكْرَة رضي الله عنه قال: "خَطَبَنَا رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يوْم النّحر" متّفقٌ عليه.
فيه شرعية الخطبة يوم النحر وليست خطبة العيد فإنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لم يصل العيد في حجته ولا خطب خطبته.
واعلم أن الخطب المشروعات في الحج ثلاث عند المالكية والحنفية: الأولى: سابع ذي الحجة، والثانية: يوم عرفة، والثالثة: ثاني النحر. وزاد الشافعي رابعة في يوم النحر وجعل الثالثة في ثالث النحر لا في ثانية، قال: لأنه أول النفر. وقالت المالكية والحنفية: إن خطبة يوم النحر لا تعد خطبة إنما هي وصايا عامة، لأنها مشروعة في الحج. ورد عليهم بأن الصحابة سموها خطبة، وبأنها اشتملت على مقاصد الخطبة كما أفاده لفظها وهو قوله: "تدرون أي يوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم: فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه فقال: "أليس يوم النحر؟" قلنا: بلى، قال: "أي شهر هذا؟" قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: "أليس ذي الحجة؟" قلنا: بلى، قال: " أي بلد هذا؟" قلنا:(2/213)
الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه فقال: "أليست البلدة الحرام؟" قلنا: بلى: قال: "فإن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربكم، ألا هل بلغت؟" قالوا: نعم، قال: "اللهم اشهد، فليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع فلا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض". أخرجه البخاري. فاشتمل الحديث على تعظيم البلد الحرام ويوم النحر وشهر ذي الحجة والنهي عن الدماء والأموال، والنهي عن رجوعهم كفاراً، وعن قتالهم بعضهم بعضاً، والأمر بالإبلاغ عنه، وهذه من مقاصد الخطب ويدل على شرعية خطبة ثاني يوم النحر.
32- وعن سَرّاء بفتح المهملة وتشديد الراء ممدودة (بنت نَبْهان بفتح النون وسكون الموحدة (قالت: خطبنا رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يوم الرؤوس فقال: "أليس هذا أوسط أيام التشريق؟" الحديث رواه أبو داود بإسناد حسن) وهذه هي الخطبة الرابعة، ويوم الرؤوس ثاني يوم النحر بالاتفاق. وقوله: "أوسط أيام التشريق" يحتمل أفضلها ويحتمل الأوسط بين الطرفين. وفيه دليل على أن يوم النحر منها. ولفظ حديث السراء قالت: سمعت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقول: "أتدرون أي يوم هذا قالت: وهو اليوم الذي يدعونه يوم الرؤوس قالوا: الله ورسوله أعلم قال: "هذا أوسط أيام التشريق" قال: أتدرون أي بلد هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "هذا المشعر الحرام" قال: "إني لا أدري لعلى لا ألقاكم بعد عامي هذا ألا وإن دمائكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة بلدكم هذا حتى تلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم ألا فليبلغ أدناكم أقصاكم ألا هل بلغت" فلما قدمنا المدينة لم يلبث إلا قليلا حتى مات.
33- وعن عائشة رضي الله عنْها: "أَنَّ النّبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قالَ لهَا: "طوافُك بالبيت وسعيك بين الصّفا والمروة يكفيك لحجِّك وعمرتك" رواهُ مسلمٌ.
فيه دليل على أن القارن يكفيه طواف واحد وسعي واحد للحج والعمرة وإليه ذهب جماعة من الصحابة والشافعي وغيره. وذهبت الهادوية والحنفية إلى أنه لا بد من طوافين وسعيين فالأحاديث متواردة على معنى حديث عائشة عن ابن عمر وجابر وغيرهما. واستدل من قال بالطوافين بقوله تعالى: { وأتموا الحج والعمرة لله} ولا دليل في ذلك، فإن التمام حاصل وإن لم يطف إلا طوافاً واحداً، وقد اكتفى صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بطواف وسعي واحد وكان قارنا كما هو الحق؛ واستدلوا أيضاً بحديث رواه زياد بن مالك قال في الميزان: زياد بن مالك عن ابن مسعود ليس بحجة، وقال البخاري: لا يعرف له سماع من عبد الله وعنه روي حديث "القارن يطوف طوافين ويسعى سعيين". واعلم أنّ عائشة كانت قد أهلت بعمرة ولكنها حاضت فقال لها رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "ارفضي عمرتك" قال النووي: معنى رفضها إياها رفض العمل فيه وإتمام أعمالها التي هي الطواف والسعي وتقصير شعر الرأس فأمرها صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بالإعراض عن أفعال العمرة وأن تحرم بالحج، فتصير قارنة وتقف بعرفات، وتفعل المناسك كلها، إلا الطواف فتؤخره حتى تطهر. ومن أدلة أنها صارت قارنة قوله صلى الله عليه وسلم لها: "طوافك(2/214)
بالبيت" الحديث فإنه صريح أنها كانت متلبسة بحج وعمرة ويتعين تأويل قوله صلى الله عليه وسلم : "ارفضي عمرتك" بما ذكره النووي، فليس معنى ارفضي العمرة الخروج منها وإبطالها بالكلية فإن الحج والعمرة لا يصح الخروج منهما بعد الإحرام بهما بنية الخروج، وإنما يصح بالتحلل منهما بعد فراغهما.
34- وعن ابن عبّاس رضي اللَّهُ عَنْهما "أنَّ النّبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لمْ يرْمُل في السبع الذي أَفاض فيه" رواه الخمسة إلا الترمذيَّ وصحّحهُ الحاكِمُ. فيه دليل أنه لا يشرع الرمل الذي سلفت مشروعيته في طواف القدوم في طواف الزيارة وعليه الجمهور.
35- وعن أنس رضي الله عنه: "أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم رقد رقدة بالمحصب) بالمهملتين فموحدة بزنة مكرم اسم مفعول: الشِّعب الذي مخرجه إلى الأبطح وهو خيف بني كنانة (ثم ركب إلى البيت فطاف به) أي طواف الوداع (رواه البخاري) وكان ذلك يوم النحر الآخر وهو ثالث أيام التشريق فإنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم رمى الجمار يوم النفر بعد الظهر وأخر صلاة الظهر حتى وصل المحصب ثم صلى الصلوات فيه كما ذكر. واختلف السلف والخلف هل التحصيب سنة أم لا؟ فقيل: سنة. وقيل: لا؛ إنما هو منزل نزله النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وقد فعله الخلفاء بعده تأسياً به صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم. وذهب ابن عباس إلى أنه ليس من المناسك المستحبة، وإلى مثله ذهبت عائشة كما دل له الحديث وهو قوله.
36- وعنْ عائشة رضي الله عنْها "أنّها لم تكن تفعل ذلك: أَي النزول بالأبطح، وتقُولُ: إنّما نزله رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لأنّهُ كان منزلاً أَسمح لخرُوجه" رواه مُسلمٌ أي أسهل لخروجه من مكة راجعاً إلى المدينة، قيل: والحكمة في نزوله فيه إظهار نعمة الله باعتزاز دينه، وإظهار كلمته، وظهوره على الدين كله، فإن هذا المحل هو الذي تقاسمت فيه قريش على قطيعة بني هاشم وكتبوا صحيفة القطيعة في القصة المعروفة. وإذا كانت الحكمة هي هذه فهي نعمة عل الأمة أجمعين فينبغي نزوله لمن حج من الأمة إلى يوم الدين.
37- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال أُمر) بضم الهمزة (الناس) نائب الفاعل (أن يكون آخرُ عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن الحائض. متفق عليه) الآمر للناس هو النبي صلى الله عليه وسلم ، وكذلك المخفف عن الحائض، وغيّر الراوي الصيغة، للعلم بالفاعل، وقد أخرجه مسلم وأحمد عن ابن عباس بلفظ: "كان الناس ينصرفون في كل وجهة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا ينفرن أحد حتى يكون آخرُ عهده بالبيت". وهو دليل على وجوب طواف الوداع، وبه قال جماهير السلف والخلف وخالف الناصر ومالك وقالا: لو كان واجباً لما خفف عن الحائض، وأجيب بأن التخفيف دليل الإيجاب، إذ لو لم يكن واجباً لما أطلق عليه لفظ التخفيف والتخفيف عنها دليل على أنه لا يجب عليها فلا تنتظر الطهر ولا يلزمها دم بتركه لأنه ساقط عنها من أصله. ووقت طواف الوداع من ثالث النحر فإنه يجزيء إجماعاً وهل يجزيء قبله؟ والأظهر عدم إجزائه لأنه آخر المناسك واختلفوا إذا أقام(2/215)
بعده هل يعيده أم لا؟ قيل: إذا بقي بعده لشراء زاد وصلاة جماعة لم يُعده، وقيل يعيده إذا قام لتمريض ونحوه، وقال أبو حنيفة: لا يعيد ولو أقام شهرين ثم هل يشرع في حق المعتمر قيل: لا يلزمه لأنه لم يرد إلا في الحج وقال الثوري: يجب على المعتمر أيضاً وإلا لزمه دم.
38- وعن ابن الزبير رضي الله عنهما) هو عند الإطلاق يراد به عبد الله (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "صلاةٌ في مسجدي هذا" الإشارة تفيد أنه الموجود عند الخطاب فلا يدخل في الحكم ما يزيد فيه "أفضل من ألف صلاةٍ" وفي رواية: خيرٌ، وفي أخرى "تعدل ألف صلاة " فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجدِ الْحرام أفضلُ من صلاةٍ في مسجدي هذا بمائة صلاةً" وفي لفظ عند ابن ماجه وابن زنجويه وابن عساكر من حديث أنس "صلاة في مسجدي بخمسين ألف صلاة" إسناده ضعيف وفي لفظ عند أحمد من حديث ابن عمر "وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه" وفي لفظ عن جابر "أفضل من ألف صلاة فيما سواه" أخرجه أحمد وغيره (رواه أحمد وصحّحه ابن حبان) وروى الطبراني عن أبى الدرداء قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة والصلاة في مسجدي بألف صلاة والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة" ورواه ابن عبد البر من طريق البزار ثم قال: هذا إسناد حسن. قلت: فعلى هذا يحمل قوله في حديث ابن الزبير بمائة صلاة أي من صلاة مسجدي فتكون مائة ألف صلاة فيتوافق الحديثان. قال أبو محمد بن حزم: ورواه ابن الزبير عن عمر بن الخطاب بسند كالشمس في الصحة ولا مخالف لهما من الصحابة فصار كالإجماع وقد روي بألفاظ كثيرة عن جماعة من الصحابة وعددهم فيما اطلعت عليه خمسة عشر صحابياً وسرد أسماءهم. وهذا الحديث وما في معناه دال على أفضلية المسجدين على غيرهما من مساجد الأرض وعلى تفاضلهما فيما بينهما وقد اختلفت أعداد المضاعفة كما عرفت والأكثر دال على عدم اعتبار مفهوم الأقل والحكم للأكثر لأنه صريح. وسبقت إشارة إلى أن الأفضلية في مسجده صلى الله عليه وسلم خاصة بالموجود في عصره قال النووي: لقوله في مسجدي فالإضافة للعهد. قلت: ولقوله هذا، ومثل ما قاله النووي من الاختصاص نقل المصنف عن ابن عقيل الحنبلي. وقال الآخرون: إنه لا اختصاص للموجود حال تكلمه صلى الله عليه وسلم بل كل ما زيد فيه داخل في الفضيلة وفائدة الإضافة الدلالة على اختصاصه دون غيره من مساجد المدينة لا أنها للاحتراز عما يزاد فيه. قلت: بل فائدة الإضافة الأمران معاً، قال من عمم الفضيلة فيما زيد فيه: إنه يشهد لهذا ما رواه ابن أبي شيبة والديلمي في مسند الفردوس من حديث أبي هريرة مرفوعاً "لو مدّ هذا المسجد إلى صنعاء لكان مسجدي" وروى الديلمي مرفوعاً "هذا مسجدي وما زيد فيه فهو منه" وفي سنده عبد الله بن سعيد المقبري وهو واه. وأخرج الديلمي أيضاً حديثاً آخر في معناه إلا أنه حديث معضل، وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عمر قال: زاد عمر في المسجد،(2/216)
من شامية ثم قال: لو زدنا فيه حتى يبلغ الجبانة كان مسجد رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم. وفيه عبد العزيز بن عمران المدني متروك. ولا يخفى عدم نهوض هذه الأثار إذ المرفوع معضل وغيره كلام صحابي. ثم هل تعم هذه المضاعفة الفرض والنفل أو تخص بالأول؟ قال النووي: إنها تعمهما وخالفه الطحاوي والمالكية مستدلين بحديث "أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته المكتوبة" . وقال المصنف: يمكن بقاء حديث "أفضل صلاة المرء" على عمومه فتكون النافلة في بيته في مكة أو المدينة تضاعف على صلاتها في البيت بغيرهما وكذا في المسجد وإن كانت في البيوت أفضل مطلقاً. قلت: ولا يخفى أن الكلام في المضاعفة في المسجد لا في البيوت في المدينة ومكة إذا لم ترد فيهما المضاعفة بل في مسجديهما وقال الزركشي وغيره: إنها تضاعف النافلة في مسجد المدينة ومكة وصلاتها في البيوت أفضل قلت: يدل لأفضلية النافلة في البيوت مطلقاً محافظته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على صلاة النافلة في بيته وما كان يخرج إلى مسجده إلا لأداء الفرائض مع قرب بيته من مسجده. ثم هذا التضعيف لا يختص بالصلاة بل قال الغزالي: كل عمل في المدينة بألف. وأخرج البيهقي عن جابر مرفوعاً "الصلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام والجمعة في مسجدي هذا أفضل من ألف جمعة فيما سواه إلا المسجد الحرام شهر رمضان في مسجدي هذا أفضل من ألف شهر رمضان فيما سواه إلا المسجد الحرام" وعن ابن عمر نحوه، وقريب منه للطبراني في الكبير عن بلال بن الحارث.(2/217)
باب الفوات والإحصار
الحصر: المنع، قاله: أكثر أئمة اللغة، والإحصار: هو الذي يكون بالمرض والعجز والخوف ونحوها وإذا كان بالعدوّ قيل له الحصر، وقيل: هما بمعنى واحد.
1- عن ابن عباس رضي الله عنْهُما قال: "قَدْ أُحْصر رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فَحَلَق رأسه وجامع نساءَهُ ونحر هَدْيهُ حتى اعتمر عاماً قابلا" رواه البُخاريُّ. اختلف العلماء بماذا يكون الإحصار؟
فقال الأكثر: يكون من كل حابس يحبس الحاج من عدوّ ومرض وغير ذلك حتى أفتى ابن مسعود رجلاً لدغ بأنه محصر، وإليه ذهب طوائف من العلماء منهم الهادوية والحنفية وقالوا: إنه يكون بالمرض والكبر والخوف، وهذه منصوص عليها ويقاس على سائر الأعذار المانعة، ويدل عليه عموم قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} الآية وإن كان سبب نزولها إحصار النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بالعدو فالعام لا يقصر على سببه.
وفيه ثلاثة أقوال أُخر أحدهما: أنه خاص به صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وأنه لا حصر بعده.
والثاني: أنه خاص بمثل ما اتفق له صلى الله عليه وسلم فلا يلحق به إلا من أحصره عدوّ كافر.
والثالث: أن الإحصار لا يكون إلا بالعدو كافراً كان أو باغياً. والقول المصدر هو أقوى الأقوال، وليس في غيره من الأقوال إلا آثار وفتاوى للصحابة.
هذا وقد تقدّم حديث البخاري، وأنه صلى الله عليه وسلم نحر قبل أن يحلق وذلك في قصة الحديبية قالوا: وحديث ابن عباس هذا لا يقتضي(2/217)
الترتيب كما عرفت ولم يقصده ابن عباس إنما قصد وصف ما وقع من غير نظر إلى ترتيب.
وقوله: "ونحر هديه" هو إخبار بأنه كان معه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم هدي نحره هنالك ولا يدل كلامه على إيجابه.
وقد اختلف العلماء في وجوب الهدي على المحصر، فذهب الأكثر إلى وجوبه.
وخالف مالك فقال: لا يجب والحق معه فإنه لم يكن مع كل المحصرين هَدْي وهذا الهدي الذي كان معه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ساقه من المدينة متنفلا به، وهو الذي أراده الله تعالى بقوله: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} والآية لا تدل على الإيجاب أعني قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} وحققناه في منحة الغفار حاشية ضوء النهار.
وقوله: "حتى اعتمر عاماً قابلا" قيل: إنه يدل على إيجاب القضاء على من أحصر والمراد من أحصر عن النفل وأما من أحصر عن واجبه من حج أو عمرة فلا كلام أنه يجب عليه الإتيان بالواجب إن منع من أدائه. والحق أنه لا دلالة في كلام ابن عباس على إيجاب القضاء فإن ظاهر ما فيه أنه أخبر أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم اعتمر عاماً قابلا ولا كلام أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم اعتمر في عام القضاء، ولكنه عمرة أخرى ليس قضاء عن عمرة الحديبية. أخرج مالك بلاغاً: أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم حل هو وأصحابه بالحديبية فنحروا الهدي وحلقوا رؤوسهم وحلوا من كل شيء قبل أن يطوفوا بالبيت وقبل أن يصل إليه الهدي. ثم لم نعلم أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أمر أحداً من أصحابه ولا ممن كان معه يقضوا شيئاً ولا أن يعودوا لشيء.
وقال الشافعي: فحيث أحصر ذبح وحل ولا قضاء عليه من قِبل أن الله تعالى لم يذكر قضاء؛ ثم قال: لأنا علمنا من تواطيء أحاديثهم أنه كان معه في عام الحديبية رجال معروفون ثم اعتمر عمرة القضاء فتخلف بعضهم في المدينة من غير ضرورة في نفس ولا مال، ولو لزمهم القضاء لأمرهم بأن لا يتخلوا عنه. وقال: إنما سميت عمرة القضاء والقضية للمقاضاة التي وقعت بين النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وبين قريش لا على أنهم وجب عليهم قضاء تلك العمرة.
وقول ابن عباس "ونحر هديه" اختلف العلماء هل نحره يوم الحديبية في الحل أو في الحرم، وظاهر قوله تعالى: والهدي معكوفا أن يبلغ محله} أنهم نحروه في الحل؛ وفي محل نحر الهدي للمحصر أقوال:
الأول: للجمهور أنه يذبح هديه حيث يحل في حل أو حرم.
الثاني: للهادوية والحنفية أنه لا ينحره إلا في الحرم.
الثالث: لابن عباس وجماعة أنه إن كان يستطيع البعث به إلى الحرم وجب عليه ولا يحل حتى ينحر في محله وإن كان لا يستطيع البعث به إلى الحرم نحره في محل إحصاره، وقيل إنه نحره في طرف الحديبية وهو من الحرم، والأول أظهر.
2- وعن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ضُبَاعَة) بضم المعجمة ثم موحدة مخففة (بنت الزبير بن عبد المطلب) بن هاشم بن عبد مناف، بنت عم رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم تزوجها المقداد ابن عمرو فولدت له عبد الله وكريمة، روى عنها ابن عباس وعائشة وغيرهما قاله ابن الأثير في الجامع الكبير. (فقالت: يا رسول الله إني أريد الحج وأنا شاكية فقال صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "حُجي واشترطي أنَّ محلي حيث حبستني" متفق عليه فيه دليل على أن المحرم إذا اشترط في إحرامه ثم(2/218)
عرض له المرض فإن له أن يتحلل وإليه ذهب طائفة من الصحابة والتابعين ومن أئمة المذاهب أحمد وإسحاق وهو الصحيح من مذهب الشافعي ومن قال: إن عذر الإحصار يدخل فيه المرض، قال: يصير المريض محصراً له حكمه.
وظاهر هذا الحديث أنه لا يصير محصراً بل يحل حيث حصره المرض ولا يلزمه ما يلزم المحصر من هدي ولا غيره.
وقال طائفة من الفقهاء: أنه لا يصح الاشتراط ولا حكم له قالوا: وحديث ضباعة قصة عين موقوفة مرجوحة أو منسوخة أو أن الحديث ضعيف وكل ذلك مردود إذ الأصل عدم الخصوصية وعدم النسخ. والحديث ثابت في الصحيحين وسنن أبي داود والترمذي والنسائي وسائر كتب الحديث المعتمدة من طرق متعددة بأسانيد كثيرة عن جماعة من الصحابة.
ودل مفهوم الحديث أن من لم يشترط في إحرامه فليس له التحلل ويصير محصراً له حكم المحصر على ما هو الصواب على أن الإحصار يكون بغير العدو.
3- وعن عكرمة) هو أبو عبد الله عكرمة مولى عبد الله بن عباس أصله من البربر يسمع من ابن عباس وعائشة وأبي هريرة وأبي سعيد وغيرهم ونسب إليه أنه يرى رأي الخوارج وقد أطال المصنف في ترجمته في مقدمة الفتح وأطال الذهبي فيه في الميزان والأكثرون على إطراحه وعدم قبوله: (عن الحجاج بن عمرو) بن أبي غزية بفتح الغين المعجمة وكسر الزاي وتشديد المثناة التحتية (الأنصاري رضي الله عنه) المازني نسبة إلى جده مازن بن النجار قال البخاري: له صحبة روى عنه حديثين هذا أحدهما (قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: منْ كُسر) مغير الصيغة (أوْ عَرجَ) بفتح المهملة الراء وهو محرم لقوله (فقد حلّ وعليه الحج من قابل") إذا لم يكن قد أتى الفريضة (قال عكرمة: فسألت ابن عباس وأبا هريرة رضي الله عنهما عن ذلك فقالا: صدق) في إخباره عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم (رواه الخمسة وحسنه الترمذي).
والحديث دليل على أن من أحرم فأصابه مانع من مرض مثل ما ذكره أو غيره فإنه بمجرّد حصول ذلك المانع يصير حلالا.
فأفادت الثلاثة الأحاديث أن المحرم يخرج عن إحرامه بأحد ثلاث أمور:
إما بالإحصار بأي مانع كان، أو بالاشتراط، أو بحصول ما ذكر من حادث كسر أو عرج وهذا فيمن أحصر وفاته الحج.
وأما من فاته الحج لغير إحصار فإنه اختلف العلماء في حكمه فذهب الهادوية وآخرون إلى أنه يتحلل بإحرامه الذي أحرمه للحج بعمرة، وعن الأسود قال: "سألت عمر عمن فاته الحج وقد أحرم به فقال: يهل بعمرة وعليه الحج من قابل ثم لقيت زيد بن ثابت فسألته فقال: مثله" أخرجهما البيهقي.
وقيل يهل بعمرة ويستأنف لها إحراماً آخر، وقالت الهادوية: ويجب عليه دم لفوات الحج، وقالت الشافعية والحنفية: لا يجب عليه إذ يشرع له التحلل، وقد تحلل بعمرة والأظهر ما قالوه لعدم الدليل على الإيجاب والله أعلم.(2/219)
المجلد الثالث
كتاب البيوع
كتاب البيوع
...
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أحل لعباده البيع والشراء وحرم عليهم المكاسب الخبيثة والربا والصلاة والسلام على من عرف الأمة الأحكام وأبان لها مناهج الحلال والحرام وعلى آله الذين شروا غرف دار السلام بطاعة مولاهم في كل مرام وبعد فقد أعان الله وله الحمد على إتمام الجزء الأول من شرح بلوغ المرام وها نحن آخذون في شرح الجزء الثاني ونسأل من الله الإعانة على التمام قال المصنف رحمه الله تعالى
كتاب البيوع
اعلم أن الحكمة في شرعية البيع كما قاله المصنف في فتح الباري إن حاجة الإنسان تتعلق بما في يد صاحبه غالبا وصاحبه قد لا يبذله ففي شرعية البيع وسيلة إلى بلوغ الغرض غير حرج انتهى وإنما جمعه دلالة على اختلاف أنواعه وهي ثمانية ولفظة البيع والشراء يطلق كل منهما على ما يطلق عليه الآخر فهما من الألفاظ المشتركة بين المعاني المتضادة وحقيقة البيع لغة تمليك مال بمال وزاد فيه الشرع قيد التراضي وقيل هو إيجاب وقبول في مالين ليس فيهما معنى التبرع فتخرج المعاطاة وقيل مبادلة مال بمال لا على وجه التبرع فتدخل فيه المعاطاة والدليل على اشتراط الإيجاب والقبول أنه تعالى قال :{ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ }(3/3)
وأخرج ابن حبان وابن ماجه عنه صلى الله عليه وسلم: "إنما البيع عن تراض" ولما كان الرضا أمرا خفيا لا يطلع عليه وجب تعلق الحكم بسبب ظاهر يدل عليه وهو الصيغة ولا بد أن يكون على صيغة الجزم لفظها لتتم معرفة الرضا وقد استثنى المحقر من ذلك لجرى عادة المسلمين فيه بالدخول من غير لفظ وهذا عند الجماهير من علماء الأمة وذهبت الشافعية إلى أنه لا بد من اللفظين كغيره وقد اختار النووي وأكثر المتأخرين من الشافعية عدم اشتراط العقد في المحقر والمحقر ما دون ربع المثقال وقيل التافه من البقول والرطب والخبز وقيل ما دون نصاب الرقة والأشبه اتباع العرف عند الحق أنه لم يتم دليل على اشتراط الإيجاب والقبول بل حقيقة البيع المبادلة الصادرة عن تراض كما أفادت الآية والحديث نعم الرضا أمر خفي يناط بقرائن منها الإيجاب والقبول ولا ينحصر فيهما بل متى انسلخت النفس عن المبيع والثمن بأي لفظ كان وعلى هذا معاملات الناس قديما وحديثا إلا من عرف المذاهب إذنه وخاف نقض الحاكم للبيع لا حظ الإيجاب والقبول(3/4)
باب شروطه وما نهى عنه
يعنى بالشروط شروط البيع طاعة في عرف الفقهاء ما يلزم من عدمه عدم حكم أو سبب سواء علق بكلمة شرط أو لا وله في عرف النحاة معنى آخر وقد جعلوا شروط البيع أنواعا منها في العاقد وهو أن يكون عاقلا مميزا ومنها في الآلة وهو أن يكون بلفظ الماضي ومنها في المحل وهو أن يكون مالا متقوما وأن يكون مقدور التسليم ومنها التراضي ومنها شرط النفاذ وهو الملك أو الولاية وقوله وما نهى عنه أي من البيوع وستأتي الأحاديث في الذي نهى عن بيعه
1- عن رفاعة بن رافع هو زرقي أنصاري شهد بدرا وأبو رافع أحد النقباء الإثني عشر وكان أول من قدم المدينة بسورة يوسف وشهد رفاعة المشاهد كلها وشهد مع علي الجمل وصفين توفي أول زمن معاوية أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أي الكسب أطيب? قال: "عمل الرجل بيده" ومثله المرأة "وكل بيع مبرور" هو ما خلص عن اليمين الفاجرة لتنفيق السلعة وعن الغش في المعاملة رواه البزار وصححه الحاكم ورواه المصنف في التلخيص عن رافع بن خديج ومثله في المشكاة وعزاه لأحمد وأخرجه السيوطي في الجامع أيضا عن رافع ذكره في مسنده قيل ويحتمل أنه أريد برفاعة رفاعة بن رافع ابن خديج فقد رواه الطبراني عن عباية بن رافع بن خديج عن أبيه عن جده وعباية هو ابن رفاعة بن رافع بن خديج فيكون سقط من المصنف قوله عن أبيه والحديث دليل على تقرير ما جبلت عليه الطبائع من كسب المكاسب وإنما سئل صلى الله عليه وسلم عن أطيبها أي أحلها وأبركها وتقديم عمل اليد على البيع المبرور دال على أنه الأفضل ويدل له حديث البخاري الآتي ودل على أطيبية التجارة الموصوفة وللعلماء خلاف في أفضل(3/4)
المكاسب قال الماوردي: أصول المكاسب الزراعة والتجارة والصنعة قال والأشبه بمذهب الشافعي أن أطيبها التجارة قال والأرجح عندي أن أطيبها الزراعة لأنها أقرب إلى التوكل وتعقب بما أخرجه البخاري من حديث المقدام مرفوعا "ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده" قال النووي إن أطيب المكاسب ما كان بعمل اليد وإن كان زراعة فهو أطيب المكاسب لما يشتمل عليه من كونه عمل اليد ولما فيه من التوكل ولما فيه من النفع العام للآدمي والدواب والطير قال الحافظ بان حجر وفوق ذلك ما يكسب من أموال الكفار بالجهاد وهو مكسب النبي صلى الله عليه وسلم وهو أشرف المكاسب لما فيه من إعلاء كلمة الله تعالى انتهى قيل وهو داخل في كسب اليد
2- وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عام الفتح كان الفتح في رمضان سنة ثمان من الهجرة وهو بمكة "إن الله ورسوله حرم" وقع في رواية الصحيحين هكذا بإفراد الضمير وفي بعض الطرق "إن الله حرم" وفي رواية في غيرهما "إن الله ورسوله حرما" وتقدم وجه الكلام على الضميرين في باب الآنية "بيع الخمر والميتة" بفتح الميم ما زالت عنه الحياة لا بذكاة شرعية "والخنزير والأصنام" قال الجوهري هو الوثن وقال غيره الوثن ماله جثة والصنم ما كان مصورا فقيل يا رسول الله: أرأيت شحوم الميتة فإنها تطلى بها السفن وتدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس؟ قال: لا هو حرام" ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك "قاتل الله اليهود إن الله لما حرم عليهم شحومها جملوه" بفتح الجيم والميم أي أذابوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه" متفق عليه في الحديث دليل على تحريم ما ذكر قيل والعلة في تحريم بيع الثلاثة الأول هي النجاسة ولكن الأدلة على نجاسة ناهضة وكذا نجاسة الميتة والخنزير فمن جعل العلة النجاسة عدى الحكم إلى تحريم بيع كل نجس وقال جماعة يجوز بيع الأزبال النجسة وقيل يجوز ذلك للمشتري دون البائع لاحتياج المشتري دونه وهي علة عليلة وهذا كله عند من جعل العلة النجاسة والأظهر أنه لا ينهض دليل على التعليل بذلك بل العلة التحريم ولذا قال صلى الله عليه وسلم لما حرمت عليهم الشحوم فجعل العلة نفس التحريم ولم يذكر علة هذا ولا يدخل في الميتة شعرها وصوفها ووبرها لأنها لا تحلها الحياة ولا يصدق عليها اسم الميتة وقيل إن الشعور متنجسة وتطهر بالغسل وجواز بيعها مذهب الجمهور وقيل إلا الثلاثة التي هي نجسة الذات وأما علة تحريم بيع الأصنام فقيل لأنها لا منفعة فيها مباحة وقيل إن كانت بحيث إذا كسرت تنفع بأكسارها جاز بيعها والأولى أن يقال لا يجوز بيعها وهي أصنام للنهي ويجوز بيع كسرها إذ هي ليست بأصنام ولا وجه لمنع بيع الأكسار أصلا ولما أطلق صلى الله عليه(3/5)
وسلم تحريم بيع الميتة جوز ا لسامع أنه قد يخص من العام بعض ما يصدق عليه فقال السائل أرأيت شحوم الميتة وذكر لها ثلاث منافع أي أخبرني عن الشحوم هل تخص من التحريم لنفعها أم لا فأجاب صلى الله عليه وسلم أنه حرام فأبان له أنها غير خارجة عن الحكم والضمير في قوله "هو حرام" يحتمل أنه للبيع أي بيع الشحوم حرام وهذا هو الأظهر لأن الكلام مسوق له ولأنه قد أخرج الحديث أحمد وفيه فما ترى في بيع شحوم الميتة الحديث ويحتمل أنه للانتفاع المدلول عليه بقوله فإنها تطلى بها السفن إلى آخره وحمله الأكثر عليه فقالوا لا ينتفع من الميتة بشيء إلا بجلدها إذا دبغ لدليله الذي مضى في أول الكتاب فهو يخص هذا العموم وهو مبني على عود الضمير إلى الانتفاع ومن قال الضمير يعود إلى البيع استدل بالإجماع على جواز إطعام الميتة الكلاب ولو كانت كلاب الصيد لمن ينتفع بها وقد عرفت أن الأقرب عود الضمير إلى البيع فيجوز الانتفاع بالنجس مطلقا ويحرم بيعه لما عرفت وقد يزيده قوة قوله في ذم اليهود "إنهم جملوا الشحم ثم باعوه وأكلوا ثمنه" فإنه ظاهر في توجه النهي إلى البيع الذي ترتب عليه أكل الثمن وإذا كان التحريم للبيع جاز الانتفاع بشحوم الميتة والأدهان المتنجسة في كل شيء غير أكل الآدمي ودهن بدنه فيحرمان كحرمة أكل الميتة والترطب بالنجاسة وجاز إطعام شحوم الميتة الكلاب وإطعام العسل المتنجس النحل وإطعامه الدواب وجوز جميع ذلك مذهب الشافعي ونقله القاضي عياض عن مالك وأكثر أصحابه وأبى حنيفة وأصحابه والليث ويؤيد جواز الانتفاع ما رواه الطحاوي أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن فأرة وقعت في سمن فقال "إن كان جامدا فألقوها وما حولها وإن كان مائعا فاستصبحوا به أو انتفعوا به" قال الطحاوي إن رجاله ثقات وروى ذلك عن جماعة من الصحابة منهم علي رضي الله عنه وابن عمر وأبو موسى ومن التابعين القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وهذا هو ا لواضح دليلا وأما التفرقة بين الاستهلاكات وغيرها فلا دليل لها بل هو رأي محض وأما المتنجس فإن كان يمكن تطهيره فلا كلام في بجواز بيعه وأن لا يمكن فيحرم بيعه قالته الهادوية وابن حنبل وفي الحديث دليل على أنه إذا حرم بيع شيء حرم ثمنه وأن كل حيلة يتوصل بها إلى تحليل محرم فهي باطلة
3- وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا اختلف المتبايعان" في رواية "البيعان" "وليس بينهما بينة فالقول ما يقول رب السلعة أو يتتاركان" وفي رواية يترادان زاد ابن ماجه في روايته "والمبيع قائم بعينه" ولأحمد "والسلعة كما هي" وأما رواية "والمبيع مستهلك" فهي مضعفة رواه الخمسة وصححه الحاكم وللعلماء كلام كثير على صحة الحديث وهو دليل على أنه إذا وقع(3/6)
اختلاف بين البائع والمشتري في الثمن أو المبيع أو في شرط من شروطهما فالقول قول البائع مع يمينه لما عرف من القواعد الشرعية أن من كان القول قوله فعليه اليمين وللعلماء في هذا الحكم الذي أفاده الحديث ثلاثة أقوال الأول: للهادي أن القول قول البائع مطلقا وهو ظاهر حديث الباب الثاني: للقهاء أنهما يتحالفان ويترادان المبيع والثالث: فيه تفضيل وفرق بين الاختلاف في النوع أو الجنس أو الصفة وبين غيرها وهو تفصيل بلا دليل مستوفى في كتب الفروع ونقله في الشرح ويعني بالتحالف أن يحلف البائع ما بعت منك كذا ويحلف المشتري ما اشتريت منك كذا وقيل غير ذلك والوجه في التحالف أن كل واحد مدعى عليه فيجب على كل واحد منهما اليمين لنفي ما ادعي عليه وهذا مفهوم من قوله صلى الله عليه وسلم "البينة على المدعي واليمين على المنكر" والحاصل أن هذا حديث مطلق مقيد بأدلة باب الدعاوي وسيأتي
4- وعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي" بفتح الموحدة وكسر الغين المعجمة وتشديد المثناة التحتية أريد بها الزانية "وحلوان" بضم الحاء المهملة "الكاهن " متفق عليه الأصل في النهي التحريم والصحابي قد أخبر أنه صلى الله عليه وسلم نهى أي أتى بعبارة تفيد النهي وإن لم يذكرها وهو دال على تحريم ثلاثة أشياء الأول تحريم ثمن الكلب بالنص ويدل على تحريم بيعه باللزوم وهو عام لكل كلب من معلم وغيره وما يجوز اقتناؤه وما لا يجوز وعن عطاء والنخعي يجوز بيع كلب الصيد لحديث جابر "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب إلا كلب الصيد" أخرجه النسائي برجال ثقات إلا أنه طعن في صحته فإن صح خصص عموم النهي والثاني تحريم مهر البغي وهو ما تأخذه الزانية في مقابل الزنا سماه مهرا مجازا فهذا مال حرام وللفقهاء تفاصيل في حكمه تعود إلى كيفية أخذه والذي اختاره ابن القيم أنه في جميع كيفياته يجب التصدق به ولا يرد إلى الدافع لأنه دفعه باختياره في مقابل عوض لا يمكن صاحب العوض استرجاعه فهو كسب خبيث يجب التصدق به ولا يعان صاحب المعصية بحصول غرضه ورجوع ماله والثالث حلوا ن الكاهن وهو مصدر حلوته حلوانا إذا أعطيته وأصله من الحلاوة شبه بالشيء الحلو من حيث إنه يؤخذ سهلا بلا كلفة وأجمع العلماء على تحريم حلوان الكاهن والكاهن الذي يدعي علم الغيب ويخبر الناس عن الكوائن وهو شامل لكل من يدعي ذلك من منجم وضراب بالحصباء ونحو ذلك فكل هؤلاء داخل تحت حكم الحديث ولا يحل له ما يعطاه ولا يحل لأحد تصديقه فيما يتعاطاه 5- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه كان على جمل له قد أعيا أي كل عن السير فأراد أن يسيبه قال: فلحقني رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا لي وضربه فسار(3/7)
سيرا لم ير مثله فقال: "بعنيه بأوقية" قلت لا ثم قال بعنيه فبعته بوقية واشترطت حملانه بضم الحاء المهملة أي الحمل عليه إلى أهلي فلما بلغت أتيته بالجمل فنقدني ثمنه ثم رجعت فأرسل في أثري فقال: "أتراني" بضم المثناة الفوقية أي تظنني "ما كستك" المماكسة المكالمة في النقص عن الثمن "لآخذ جملك خذ جملك ودراهمك فهو لك متفق عليه وهذا السياق لمسلم فيه دليل على أنه لا بأس بطلب البيع من الرجل لسلعته ولا بالمماكسة وأنه يصح البيع للدابة واستثناء ركوبها ولكن عارضه حديث النهي عن بيع الثنيا وسيأتي وعن بيع وشرط ولما تعارضتا اختلف العلماء في ذلك على أقوال الأول لأحمد أنه يصح ذلك وحديث بيع الثنيا فيه إلا أن يعلم ذلك وهذا منه فقد علمت الثنيا فصح البيع وحديث النهي عن بيع وشرط فيه مقال مع احتمال أنه أراد الشرط المجهول والثاني لمالك أنه يصح إذا كانت المسافة قريبة وحده ثلاثة أيام وحمل حديث جابر على هذا الثالث أنه لا يجوز مطلقا وحديث جابر مؤول بأنه قصة عين موقوفة يتطرق إليها الاحتمالات قالوا ولأنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يعطيه الثمن ولم يرد حقيقة البيع قالوا ويحتمل أن الشرط ليس في نفس العقد فلعله كان سابقا فلم يؤثر ثم تبرع صلى الله عليه وسلم بإركابه وأظهر الأقوال الأول وهو صحة مثل هذا الشرط وكل شرط يصح إفراده بالعقد كإيصال المبيع إلى المنزل وخياطة الثوب وسكنى الدار وقد روى عثمان أنه باع دارا واستثنى سكناها شهرا ذكره في الشفاء
6- وعنه أي عن جابر قال "أعتق رجل منا" أي من الأنصار "عبدا له عن دبر" بضم الدال المهملة وضم الموحدة أيضا "ولم يكن له مال غيره فدعا به النبي صلى الله عليه وسلم فباعه" متفق عليه وأخرجه أبو داود والنسائي عن جابر أيضا وسميا فيه العبد والرجل ولفظه عن جابر أن رجلا من الأنصار يقال له أبو مذكور أعتق غلاما له يقال له أبو يعقوب عن دبر لم يكن له مال غيره "فدعا به النبي صلى الله عليه وسلم فقال من يشتريه" فاشتراه نعيم بن عبدالله بن النحام بثمانمائة درهم "فدفعها إليه" زاد الإسماعيلي وعليه دين وقد ترجم له البخاري في باب الاستقراض فقال من باع مال الغرماء وقسمه بين الغرماء أو أعطاه إياه حتى ينفقه على نفسه فأشار إلى علة بيعه وهو الاحتياج إلى ثمنه واستدل به بعضهم على منع المفلس عن التصرف في ماله وعلى أن للإمام أن يبيع عنه وسيأتي بقية أبحاثه في بابه إن شاء الله تعالى
7- وعن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن فأرة وقعت في سمن فماتت فيه فسئل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ألقوها وما حولها وكلوه" رواه البخاري وزاد أحمد والنسائي في سمن جامد دل أمره صلى الله عليه وسلم بإلقاء ما حولها وهو ما لامسته من السمن على نجاسة الميتة لأن المراد بما حولها ما لاقاها قال المصنف في فتح الباري: لم يأت في طريق صحيحة تحديد ما يلقى لكن أخرج ابن أبي شيبة من مرسل عطاء أن يكون(3/8)
قدر الكف وسنده جيد لولا إرساله ودل مفهوم قوله: جامدا أنه لو كان مائعا لنجس كله لعدم تميز ما لاقاها مما لم يلاقها ودل أيضا على أنه لا ينتفع بالدهن المتنجس في شيء من الانتفاعات إلا أنه تقدم الكلام في ذلك وأنه يباح الانتفاع به الأكل ودهن الآدمي فيحمل هذا وما يأتي من قوله "فلا تقربوه" على الأكل والدهن للآدمي جمعا بين مقتضى الأدلة نعم وأما مباشرة النجاسة فهو وإن جائز إلا لإزالتها عما وجب أو ندب إزالتها عنه فإنه لا خلاف في جوازه مفسدتها وبقي الكلام في مباشرتها لتسجير التنور وإصلاح الأرض بها فقيل: هو طلب مصلحتها وأنه يقاس جواز المباشرة له على المباشرة لإزالة مفسدتها والأقرب أنها تدخل إزالة مفسدتها تحت جلب مصلحتها فتسجير التنور بها يدخل فيه الأمر أن إزالة مفسدة بقاء عينها وجلب المصلحة لنفعها في التسخير وحينئذ فجواز المباشرة للانتفاع لا إشكال فيه
8- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا وقعت الفأرة في السمن فإن كان جامدا فألقوها وما حولها وإن كان مائعا فلا تقربوه" ررواه أحمد وأبو داود وقد حكم عليه البخاري وأبو حاتم بالوهم وذلك لأنه قال الترمذي سمعت البخاري يقول هو خطأ والصواب الزهري عن عبدالله عن ابن عباس رضي الله عنهما عن ميمونة رضي الله عنها فرأى البخاري أنه ثابت عن ميمونة فحكم بالوهم على الطريق المروية عن أبي هريرة وجزوم ابن حبان في صحيحه بأنه ثابت من الوجهين واعلم أن هذا الاختلاف إنما هو لتصحيح اللفظ الوارد وأما الحكم فهو ثابت وأن طرحها وما حولها والانتفاع بالباقي لا يكون إلا في الجامد وهو ثابت أيضا في صحيح البخاري بلفظ "خذوها وما حولها وكلوا سمنكم" ويفهم منه أن الذائب يلقى جميعه إذ العلة مباشرة الميتة ولا اختصاص في الذائب بالمباشرةوتميز البعض عن البعض وظاهر الحديث أنه لا يقرب السمن المائع ولو كان في غاية الكثرة وقد تقدم وجه الجمع بينه وبين حديث الطحاوي فائدة تمكين المكلف لغير المكلف كالكلب والهر من أكل الميتة ونحوها جائز وبه قال الإمام يحيى وقواه المهدي وقال إذ لم يعهد عن السلف منعها انتهى قلت: بل واجب إن لم يطعمه غيرها كما يدل له حديث "إن امرأة دخلت النار في هرة" وعلله "بأنها لم تطعمها ولم تتركها تأكل من خشاش الأرض وفي خشاش الأرض" ما هو محرم على المكلف وغيره فالحديث دل على أن أحد الأمرين إطعامها أو تركها تأكل من خشاش الأرض واجب وبسبب تركه عذبت المرأة وخشاش الأرض بالخاء المعجمة المفتوحة فشين معجمة هي هوام الأرض وحشراتها كما في النهاية
9- وعن أبي الزبير هو أبو الزبير محمد بن مسلم المكي تابعي روى عن جابر ابن عبدالله كثيرا قال سألت جابرا عن ثمن السنور بكسر المهملة وتشديد النون هو الهر كما في القاموس والكلب فقال: "زجر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك" رواه مسلم والنسائي وزاد "إلا كلب صيد" وأخرج مسلم هذا من حديث جابر ورافع بن خديج وزاد النسائي في روايته استثناء كلب الصيد ثم قال هذا منكر قال المصنف في التلخيص(3/9)
إنه ورد الاستثناء من حديث جابر ورجاله ثقات انتهى ورواية جابر هذه رواها أحمد والنسائي وفيها استثناء الكلب المعلم إلا أنه قال المناوي في شرح الجامع الصغير متعقبا لقول المصنف إن رجالها ثقات بأنه قال ابن الجوزي فيه الحسين بن أبي حفصة قال يحيى ليس بشيء وضعفه أحمد وقال ابن حبان هذا الخبر بهذا اللفظ باطل لا أصل له نعم الثابت جواز اقتناء الكلب للصيد من غير نقص من عمل من اقتناه لقوله صلى الله عليه وسلم: "من اقتنى كلبا إلا كلب صيد نقص من أجره كل يوم قيراطان قيل قيراط من عمل الليل وقيراط من عمل النهار" وقيل من الفرض والنفل هذا والنهي عن ثمن الكلب متفق عليه من حديث ابن مسعود وانفرد مسلم برواية النهي عن ثمن السنور وأصل النهي التحريم والجمهور على تحريم بيع الكلب مطلقا واختلفوا في السنور وقد ذهب إلى تحريم بيع السنور أبو هريرة وطاوس ومجاهد وذهب الجمهور إلى جواز بيعه إذا كان له نفع وحملوا النهي على التنزيه وهو خلاف ظاهر الحديث والقول بأنه حديث ضعيف مردود أيضا بأنه أخرجه مسلم عن معقل بن عبدالله عن أبي الزبير فهذان ثقتان رويا عن أبي الزبير وهو ثقة أيضا
10- وعن عائشة رضي الله عنها قالت جائتني بريرة بفتح الباء الموحدة وراءين بينهما مثناة تحتية مولاة لعائشة فقالت: "إني كاتبت" من المكاتبة وهي العقد بين السيد وعبده أهلي هم ناس من الأنصار كما هو عند النسائي "على تسع أواق في كل عام أوقية فأعينيني" بصيغة الأمر للمؤنث من الإعانة فقلت: "إن أحب أهلك أن أعدها له ويكون ولاؤك لي فعلت فذهبت بريرة إلى أهلها فقالت لهم فأبوا عليها فجاءت من عندهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وسلم جالس فقالت: إني قد عرضت ذلك عليه فأبوا إلا أن يكون لهم الولاء فسمع النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "خذيها واشترطي لهم" قال الشافعي والمزني يعني اشترطي عليهم فاللام بمعنى على الولاء "فإنما الولاء لمن أعتق" ففعلت عائشة ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أما بعد فما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله تعالى ما كان من شرط ليس في كتاب الله" أي في شرعه الذي كتبه على العباد وحكمه أعم من ثبوته بالقرآن أو السنة "فهو باطل وإن كان مائة شرط قضاء الله أحق" بالاتباع من الشروط المخالفة لحكم الله "وشرط الله أوثق وإنما الولاء لمن أعتق" متفق عليه واللفظ للبخارى وعند مسلم قال: "اشتريها وأعتقيها واشترطي لهم الولاء" والحديث دليل على مشروعية الكتابة وهي عقد بين السيد وعبده على رقبته(3/10)
وهي مشتقة من الكتب وهو الفرض والحكم كما في قوله: {كُُتِِِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} وهي مندوبة وقال عطاء وداود واجبة إذا طلبها العبدبقدر قيمته لظاهر الأمر في {فَكَاتِبُوهُمْ} وهو الأصل في الأمر قلت إلا أنه تعالى قيد الوجوب بقوله :{إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} نعم بعد علم الخير فيهم تجب الكتابة وفي تفسير الخير أقوال للسلف الأول ما جاء في حديث مرسل ومرفوع عند أبي داود أنه قال صلى الله عليه وسلم: "إن علمتم فيهم حرفة ولا ترسلوهم كلا على الناس" الثاني: لابن عباس قال: خيرا المال الثالث: عنه أمانة ووفاء الرابع عنه: إن علمت أن مكاتبك يقضيك وقولها في كل عام أوقية وفي تقريره صلى الله عليه وسلم لذلك دليل على جواز التنجيم لا على تحتمه وشرطيته كما ذهب إليه الشافعي والهادي وغيرهما وقالوا التنجيم في الكتابة شرط وأقله نجمان واستدلوا بروايات عن السلف لا تنهض دليلا وذهب الجمهور وأحمد ومالك إلى جواز عقد الكتابة على نجم لقوله {فَكَاتِبُوهُمْ} ولم يفصل وهو ظاهر والقول بأنه قيد إطلاقها الآثار عن السلف غير صحيح إذ ليس بإجماع وتقييد الآيات بآراء العلماء باطل ودل قوله صلى الله عليه وسلم خذيها على جواز بيع المكاتب عند تعسر الإيفاء بمال الكتابة وللعلماء في جواز بيع المكاتب ثلاثة أقوال الأول جوازه وهو مذهب أحمد ومالك وحجتهم قوله صلى الله عليه وسلم: "المكاتب رق ما بقي عليه درهم" أخرجه أبو داود وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده والثاني أنه يجوز بييعه برضاه إلى من يعتقه محتجين بظاهر حديث بريرة والقول الثالث: أنه لا يجوز بيعه مطلقا وهو لأبي حنيفة وجماعة قالوا لأنه خرج عن ملك السيد وتأولوا الحديث بأن قالوا إن بريرة عجزت نفسها وفسخوا عقد كتابتها والقول الأول أظهر لأن التقييد بالواقع في قصة بريرة ليس فيه دليل على أنه شرط وإنما كان الواقع كذلك فمن أين أنه شرط وأما القول بأن بيعه يوجب سقوط حق الله فجوابه أن حق الله تعالى ما ثبت فإنه لا يثبت إلا بالإيفاء والفرض أنه عجز المكاتب عنه وقوله "واشترطي لهم الولاء" إن جعلت اللام بمعنى على من باب قوله {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ} كما قاله الشافعي فلا إشكال إلا أنه قد ضعف بأنه لو كان كذلك لم ينكر عليهم اشتراط الولاء ويجاب عنه بأن الذي أنكره اشتراطهم له أول الأمر وقيل أراد بذلك الزجر والتوبيخ لهم لأنه صلى الله عليه وسلم كان قد بين لهم حكم الولاء وأن هذا الشرط لا يحل فلما ظهرت منهم المخالفة قال لعائشة ذلك ومعناه لا تبالي لأن اشتراطهم مخالف للحق فلا يكون ذلك للإباحة بل المقصود الإهانة وعدم المبالاة بالاشتراط وأن وجوده كعدمه وبعد معرفة هذه الوجوه والتأويل يزول الإشكال بأنه كيف وقع منه صلى الله عليه وسلم الإذن لعائشة بالشرط فإنه ظاهر أنه خداع وغرر للبائع من حيث إنه يعتقد عند البيع أنه بقي له بعض المنافع وانكشف الأمر على خلافه ولكن بعد تحقق وجوه التأويل يذهب الإشكال وفي قوله وإنما الولاء لمن أعتق دليل على حصر الولاء فيمن أعتق لا يتعداه إلى غيره
11- وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال نهى عمر عن بيع أمهات الأولاد(3/11)
فقال لا تباع ولا توهب ولا تورث يستمتع بها ما بدا له فإذا مات فهي حرة رواه مالك والبيهقي وقال رفعه بعض الرواة فوهم وقال الدارقطني الصحيح وقفه على عمر ومثله قال عبدالحق قال صاحب الإلمام المعروف فيه الوقف الذي رفعه ثقة وفي الباب آثار عن الصحابة وقد أخرج الحاكم وابن عساكر وابن المنذر عن بريدة قال كنت جالسا عند عمر إذ سمع صائحا قال يا يرفأ أنظر ما هذا الصوت فنظر ثم جاء فقال جارية من قريش تباع أمها فقال عمر ادع لي المهاجرين والأنصار فلم يمكث ساعة حتى امتلأت الدار والحجرة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد فهل كان فيما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم القطيعة قالوا لا قال فإنها قد أصبحت فيكم فاشية ثم قرأ {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} ثم قال وأي قطيعة أقطع من أن تباع أم امرىء منكم وقد أوسع الله لكم قالوا فاصنع ما بدا لك فكتب إلى الآفاق أن لا تباع أم حر فإنها قطيعة وإنه لا يحل فهذا ونحوه من الآثار والحديث دليل على أن الأمة إذا ولدت من سيدها حرم بيعها سواء كان الولد باقيا أولا وإلى هذا ذهب أكثر الأئمة وادعى الإجماع على المنع من بيعها جماعة من المتأخرين وأفاد الحافظ ابن كثير الكلام على هذه المسئلة في جزء مفرد قال وتلخص لي عن الشافعي فيها أربعة أقوال وفي المسئلة من حيث هي ثمانية أقوال وقد ذهب الناصر والإمامية وداود إلى جواز بيعها لما أفاده الحديث الآتي
12- وعن جابر رضي الله عنه قال: "كنا نبيع سرارينا أمهات الأولاد والنبي صلى الله عليه وسلم حي لا يرى بذلك بأسا" رواه النسائي وابن ماجه والدار قطني وصححه ابن حبان وأخرجه أحمد والشافعي والبيهقي وأبو داود والحاكم وزاد في زمن أبي بكر وفيه فلما كان عمر نهانا فانتهينا ورواه الحاكم من حديث أبي سعيد وإسناده ضعيف قال البيهقي: ليس في شيء من الطرق أنه صلى الله عليه وسلم يتحقق على ذلك وأقرهم عليه وترده رواية النسائي التي فيها والنبي صلى الله عليه وسلم حي لا يرى بذلك بأسا واستدل القائلون بجواز بيعها أيضا بأنه صح عن علي عليه السلام أنه رجع عن تحريم بيعها إلى جوازه وأخرج عبدالرزاق عن معمر عن أيوب عن ابن سيرين عن عبيدة ا لسلماني المرادي قال سمعت عليا يقول اجتمع رأيي ورأي عمر في أمهات الأولاد أن لا يبعن ثم رأيت بعد ذلك أن يبعن الحديث وهو معدود في أصح الأسانيد وأجاب في الشرح عن هذه الأدلة بأنه يحتمل أن حديث جابر كان في أول الأمر وأن ما ذكر ناسخ وأيضا فإنه راجع إلى التقرير وما ذكر قول وعند التعارض القول أرجح قلت ولا يخفى ضعف هذا الجواب لأنه لا نسخ بالاحتمال فللقائل بجواز بيعها أن يقلب الاستدلال ويقول يحتمل أن حديث ابن عمر كان أول الأمر ثم نسخ بحديث جابر وإن كان احتمالا بعيدا عند قوله إن حديث جابر راجع إلى التقرير وحديث ابن عمر قول والقول أرجح عند التعارض يقال عليه القول(3/12)
لم ينسخ رفعه بل صرح المصنف وغيره أن رفعه وهم وليس في منع بيعها إلا رأي عمر رضي الله عنه لا غير ومن شاوره من الصحابة وليس بإجماع فليس بحجة على أنه لو كان في المسئلة نص لما احتاج عمر والصحابة إلى الرأي
13- وعن جابر رضي الله عنه قال::نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع فضل الماء: رواه مسلم وزاد في رواية:وعن بيع ضراب الجمل: وأخرجه أصحاب السنن من حديث إياس بن عبد وصححه الترمذي وقال أبو الفتح القشيري هو على شرطهما والحديث دليل على أنه لا يجوز بيع ما فضل من الماء عن كفاية صاحبه قال العلماء وصورة ذلك أن يتبع في أرض مباحة فيسقى الأعلى ثم يفضل عن كفايته فليس له المنع وكذا إذا اتخذ حفرة في أرض مملوكة يجمع فيها الماء أو حفر البئر فيقى منه ويسقى أرضه فليس له منع ما فضل وظاهر الحديث يدل على أنه يجب عليه بذل ما فضل عن كفايته لشرب أو طهور أو سقي زرع وسواء كان في أرض مباحة أو مملوكة وقد ذهب إلى هذا العموم ابن القيم في الهدى وقال: إنه يجوز دخول الأرض المملوكة لأخذ الماء والكلأ لأن له حقا في ذلك ولا يمنعه استعمال ملك الغير وقال إنه نص أحمد على جواز الرعي في أرض غير مباحة للراعي وإلى مثله ذهب المنصور بالله والإمام يحيى في الحطب والحشيش ثم قال إنه لا فائدة لإذن صاحب الأرض لأنه ليس له منعه من الدخول بل يجب عليه تمكينه ويحرم عليه منعه فلا يتوقف دخوله على الإذن وإنما يحتاج إلى الإذن في الدخول في الدار إذا كان فيها سكن لوجوب الاستئذان وأما إذا لم يكن فيها سكن فقد قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} ومن احتفر بئرا أو نهرا فهو أحق بمائه ولا يمنع الفضلة عن غيره سواء قلنا إن الماء حق للحافر لا ملك كما هو قول جماعة من العلماء أو قلنا هو ملك فإن عليه بذل الفضلة لغيره لما أخرجه أبو داود أنه قال رجل يا نبي الله ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ قال: الماء" قال يا نبي الله ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ قال: "الملح" وأفاد أن في حكم الماء الملح وما شاكله ومثله الكلأ فمن سبق بدوابه إلى أرض مباحة فيها عشب فهو أحق برعيه ما دامت فيه دوابه فإذا خرجت منه فليس له بيعه هذا وأما المحرز في الأسقية والظروف فهو مخصص من ذلك بالقياس على الحطب فقد قال صلى الله عليه وسلم: "لأن يأخذ أحدكم حبلا فيأخذ حزمة من حطب فيبيع ذلك فيكف بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطى أو منع" فيجوزبيعه ولا يجب بذله إلا لمطر وكذلك بيع البئر والعين فتكون أنفسهما فإنه جائز فقد قال صلى الله عليه وسلم: " من يشتري بئر رومة يوسع بها على المسلمين فله الجنة" فاشتراها ععثمان والقصة معروفة وقوله وعن ضراب الجمل أي ونهى عن أجرة ضراب الجمل وقد عبر عنه بالعسب في الحديث الآتي
14- وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال :" نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن(3/13)
عسب الفحل" وهو بفتح العين المهملة وسكون السين المهملة فباء موحدة رواه البخاري وفيه وفيما قبله دليل على تحريم استئجار الفحل للضراب والأجرة حرام وذهب جماعة من السلف إلى أنه يجوز ذلك إلا أنه يستأجره للضراب مدة معلومة أو تكون الضربات معلومة قالوا لأن الحاجة تدعو إليه وهي منفعة مقصودة وحملوا النهي على التنزيه وهو خلاف أصله
15- وعنه أي ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " نهى عن بيع حبل الحبلة" بفتح الحاء المهملة والباء الموحدة فيهما وكان بيعا يبتاعه أهل الجاهلية وفسره قوله كان الرجل يبتاع الجزور بفتح الجيم وضم الزاي أي البعير ذكرا كان أو أنثي وهو مؤنث وإن أطلق على مذكر تقول هذا الجزور إلى أن تنتج الناقة بضم أوله وفتح ثالثه أي تلد الناقة وهذا الفعل لم يأت في لغة العرب إلا على بناء الفعل للمجهول ثم تنتج التي في بطنها وهذا التفسير من قوله وكان بيعا الخ مدرج في الحديث من كلام نافع وقيل من كلام ابن عمر متفق عليه واللفظ للبخاري ووقع في رواية حمل ولد الناقة من دون اشتراط الإنتاج وفي رواية أن تنتج الناقة ما في بطنها من دون أن يكون نتاجها قد حمل أو أنتج والحبل مصدر حبلت تحبل سمي به المحبول والحبلة جمع حابل مثل ظلمة في ظالم وكتبة في كاتب ويقال حابل وحابلة بالتاء قال أبو عبيد لم يرد الحبل في غير الآدميات إلا في هذا الحديث وقال غيره بل ثبت في غيره والحديث دليل على تحريم هذا البيع واختلف العلماء في هذا المنهى عنه لاختلاف الروايات هل هو من حيث يؤجل بثمن الجزور إلى أن يحصل النتاج المذكور أو أنه يبيع منه النتاج ذهب إلى الأول مالك والشافعي وجماعة قالوا وعلة النهي جهالة الأجل وذهب إلى الثاني أحمد وإسحاق وجماعة من أئمة اللغة وبه جزم الترمذي قالوا وعلة النهي هو كونه بيع معلوم ومجهول وغير مقدور على تسليمه وهو داخل في بيع الغرر وقد أشار إلى هذا البخاري حيث صدر الباب ببيع الغرر وأشار إلى التفسير الأول ورجحه أيضا في تفسير السلم بكونه موافقا للحديث وإن كان كلام أهل اللغة موافقا للثاني نعم ويتحصل من الخلاف أربعة أقوال لأنه يقال هل المراد البيع إلى أجل أو بيع الجنين وعلى الأول هل المراد بالأجل ولادة الأم أو ولادة ولدها وعلى الثاني هل المراد بيع الجنين الأول أو جنين الجنين فصارت أربعة أقوال هذا وحكى عن ابن كيسان وأبي العباس المبرد أن المراد بالحبلية الكرمة وأنه نهى عن بيع ثمر العنب قبل أن يصلح بسكون الباء الموحدة لكن الروايات بالتحريك إلا أنه قد حكى في الحبلة بمعنى الكرمة فتحها
16- وعنه أي ابن عمر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الولاء"(3/14)
بفتح الواو وعن هبته متفق عليه والولاء هو ولاء العتق أي وهو إذا مات المعتق ورثه معتقه كانت العرب تهبه وتبيعه فنهى عنه لأن الولاء كالنسب لا يزول بالإزالة ذكره في النهاية
17- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر" رواه مسلم اشتمل الحديث على النهي عن صورتين من صور البيع الأولى بيع الحصاة واختلف في تفسير بيع الحصاة قيل هو أن يقول ارم بهذه الحصاة فعلى أي ثوب وقعت فهو لك بدرهم وقيل هو أن يبيعه من أرضه قدر ما انتهت إليه رمية الحصاة وقيل هو أن يقبض على كف من حصا ويقول لي بعدد ما خرج في القبضة من الشيء المبيع أو يبعه سلعة ويقبض على كف من حصا ويقول لي بكل حصاة درهم وقيل إن يمسك أحدهما حصاة بيده ويقول أي وقت سقطت الحصاة فقد وجب البيع وقيل هو أن يعترض القطيع من الغنم فيأخذ حصاة ويقول أي شاة أصابتها فهي لك بكذا وكل هذه متضمنة للغرر لما في الثمن أو المبيع من الجهالة ولفظ الغرر يشملها وإنما أفردت لكونها كانت مما يبتاعها الجاهلية فنهى صلى الله عليه وسلم عنها وأضيف البيع إلى الحصاة للملابسة لاعتبار الحصاة فيه والثانية بيع الغرر بفتح الغين المعجمة والراء المتكررة وهو بمعنى مغرور اسم مفعول و إضافة المصدر إليه من إضافته إلى المفعول ويحتمل غير هذا ومعناه الخداع الذي هو مظنة أن لا رضا به عند تحققه فيكون من أكل المال بالباطل ويتحقق في صور إما بعدم القدرة على تسليمه كبيع العبد الآبق والفرس النافر أو بكونه معدوما أو مجهولا أو لا يتم ملك البائع له كالسمك في الماء الكثير ونحو ذلك من الصور وقد يحتمل بعض الغرر فيصح معه البيع إذا دعت إليه الحاجة كالجهل بأساس الدار وكبيع الجبة المحشوة وإن لم ير حشوها فإن ذلك مجمع عليه وكذا على جواز إجارة الدار والدابة شهرا مع أنه قد يكون الشهر ثلاثين يوما أو تسعة وعشرين وعلى دخول الحمام بالأجرة مع اختلاف الناس في استعمالهم الماء وقدر مكثهم وعلى جواز الشرب في السقاء بالعوض مع الجهالة وأجمعوا على عدم صحة بيع الأجنة في البطون والطير في الهواء واختلفوا في صور كثيرة اشتملت عليها كتب الفروع
18- وعنه أي أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من اشترى طعاما فلا يبعه حتى يكتاله" رواه مسلم وقد ورد في الطعام "أنه لا يبيعه من اشتراه حتى يستوفيه" من حديث جماعة من الصحابة وورد في أعم من الطعام حديث حكيم ابن حزام عند أحمد قال قلت يا رسول الله إني أشتري بيوعا فما يحل لي منها وما يحرم علي؟ قال: "إذا اشتريت شيئا فلا تبعه حتى تقبضه" وأخرج الدارقطني وأبو داود من حديث زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى أن تباع السلعة حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم " وأخرجه السبعة إلا الترمذي من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم: "قال من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه" قال ابن عباس: ولا أحسب كل شيء إلا مثله فدلت الأحاديث أنه لا يجوز بيع أي سلعة شريت إلا بعد قبض البائع لها واستيفائها(3/15)
وذهب قوم إلى أنه يختص هذا الحكم بالطعام لا غيره من المبييعات وذهب أبو حنيفة إلى أنه يختص ذلك بالمنقول دون غيره لحديث زيد بن ثابت فإنه في السلع والجواب أن ذكر حكم الخاص لا يخص به العام وحديث حكيم عام فالعمل عليه وإليه ذهب الجمهور وأنه لا يجوز البيع للمشتري قبل القبض مطلقا وهو الذي دل له حديث حكيم واستنبطه ابن عباس
فائدة أخرج الدارقطني من حديث جابر "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان صاع البائع وصاع المشتري" ونحوه للبزار من حديث أبي هريرة بإسناد حسن فدل على أنه "إذا اشترى الشيء مكايلة وقبضه ثم باعه لم يجز تسليمه بالكيل الأول حتى يكيله على من اشتراه ثانيا" وبذلك قال الجمهور وقال عطاء: يجوز بيعه بالكيل الأول وكأنه لم يبلغه الحديث ولعل علة الأمر بالكيل ثانيا لتحقق ما يجوز من النقص بإعادة الكيل لإذهاب الخداع وحديث الصاعين دليل على أنه لا يجوز بيع الجزاف إلا أن في حديث ابن عمر أنهم كانوا يبتاعون الطعام جزافا ولفظه كنا نشتري الطعام من الركبان جزافا فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى ننقله أخرجه الجماعة إلا الترمذي قال ابن قدامة يجوز بيع الصبرة جزافا لا نعلم فيه خلافا وإذا ثبت جواز بيع الجزاف حمل حديث الصاعين على أن المراد أنه إذا اشترى الطعام كيلا وأريد بيعه فلا بد من إعادة كيله للمشتري
19- وعنه أي أبي هريرة قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة" رواه أحمد والنسائي وصححه الترمذي وابن حبان ولأبي داود من حديث أبي هريرة "من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا" قال الشافعي له تأويلان أحدهما أن يقول بعتك بألفين نسيئة وبألف نقدا فأيهما شئت أخذت به وهذا بيع فاسد لأنه إيهام وتعليق والثاني أن يقول بعتك عبدي على أن تبيعني فرسك انتهى وعلة النهي على الأول عدم استقرار الثمن ولزوم الربا عند من يمنع بيع الشيء بأكثر من سعر يومه لأجل النساء وعلى الثاني لتعليقه بشرط مستقبل يجوز وقوعه وعدم وقوعه فلم يستقر الملك وقوله فله أوكسهما أو الربا يعني أنه إذا فعل ذلك فهو لا يخلو عن أحد الأمرين إما الأوكس الذي هو أخذ الأقل أو الربا وهذا مما يؤيد التفسير الأول
20- وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح مالم يضمن ولا بيع ما ليس عندك" رواه الخمسة وصححه الترمذي وابن خزيمة والحاكم وأخرجه أي الحاكم في علوم الحديث من رواية أبي حنيفة عن عمرو المذكور بلفظ نهى عن بيع وشرط ومن هذا الوجه يعني الذي أخرجه الحاكم أخرجه الطبراني في الأوسط وهو غريب وقد رواه جماعة واستغربه النووي والحديث اشتمل على أربع صور نهى عن البيع على صفتها الأولى سلف وبيع وصورة ذلك حيث يريد الشخص أن يشتر سلعة بأكثر(3/16)
من ثمنها لأجل النساء وعنده أن ذلك لا يجوز فيحتال بأن يستقرض الثمن من البائع ليعجله إليه حيلة والثانية شرطان في بيع اختلف في تفسيرهما فقيل هو أن يقول بعت هذا نقدا بكذا وبكذا نسيئة وقيل هو أن يشرط البائع على المشتري أن لا يبيع السلعة ولا يهبها وقيل هو أن يقول بعتك هذه السلعة بكذا على أن تبيعني السلعة الفلانية بكذا ذكره في الشرح نقلا عن الغيث وفي النهاية لا يحل سلف وبيع وهو مثل أن يقول بعتك هذا العبد بألف على أن تسلفني ألفا في متاع أو على أن تقرضني ألفا لأنه يقرضه ليحابيه في الثمن فيدخل في حد الجهالة ولأن كل قرض جر منفعة فهو ربا ولأن في العقد شرطا ولا يصح وقوله ولا شرطان في بيع فسره في النهاية بأنه كقولك بعتك هذا الثوب نقدا بدينار ونسيئة بدينارين وهو كالبيعتين في بيعة والثالثة قوله ولا ربح مالم يضمن قيل معناه مالم يملك وذلك هو الغصب فإنه غير ملك للغاصب فإذا باعه وربح في ثمنه لم يحل له الربح وقيل معناه مالم يقبض لأن السلعة قبل قبضها ليست في ضمان المشتري إذا تلفت تلفت من مال البائع والرابعة قوله ولا بيع ما ليس عندك قد فسرها حديث حكيم بن حزام عن أبي داود والنسائي أنه قال قلت يا رسول الله يأتيني الرجل فيريد مني المبيع ليس عندي فأبتاع له من السوق قال "لا تبع ما ليس عندك" فدل على أنه لا يحل بيع الشيء قبل أن يملكه
21- وعنه أي عمرو بن شعيب قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع العربان" بضم العين المهملة وسكون الراء والباء الموحدة ويقال أربان ويقال عربون رواه مالك قال بلغني عن عمرو بن شعيب به وأخرجه أبو داود وابن ماجه وفيه راو لم يسم وسمي في رواية فإذا هو ضعيف وله طرق لا تخلو عن مقال فبيع العربان فسره مالك قال هو أن يشتري الرجل العبد أو الأمة أو يكتري ثم يقول للذي اشترى منه أو اكترى منه أعطيتك دينارا أو درهما على أني إن أخذت السلعة فهو من ثمنها وإلا فهو لك واختلف الفقهاء في جواز هذا البيع فأبطله مالك والشافعي لهذا النهي ولما فيه من الشرط الفاسد والغرر ودخوله في أكل المال بالباطل وروى عن عمر وابنه وأحمد جوازه
22- وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "ابتعت زيتا في السوق فلما استوجبته لقيني رجل فأعطاني به ربحا حسنا فأردت أن أضرب على يد الرجل يعني يعقد له البيع فأخذ رجل من خلفي بذراعي فالتفت فإذا هو زيد بن ثابت قال لا تبعه حيث ابتعته حتى تحوزه إلى رحلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم" رواه أحمد وأبو داود واللفظ له وصححه ابن حبان والحاكم الحديث دليل على أنه لا يصح من المشتري أن يبيع ما اشتراه قبل أن يحوزه إلى رحله والظاهر أن المراد به القبض لكنه عبر عنه بما ذكر لما كان غالب قبض المشتري الحيازة(3/17)
إلى المكان الذي يختص به وأما نقله من مكان إلى مكان لا يختص به فعند الجمهور أن ذلك قبض وفصل الشافعي فقال إن كان مما يتناول باليد كالدرهم والثوب فقبضه نقل وما ينقل في العادة كالأخشاب والحبوب والحيوان فقبضه بالنقل إلى مكان آخر وما كان لا ينقل كالعقار والثمر على الشجر فقبضه بالتخلية قوله فلما استوجبته في رواية أبي داود استوفيته وظاهر اللفظ أنه قبضه ولم يكن قد حازه إلى رحله ويدل له قوله نهى أن تباع السلعة حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم
23- وعنه أي ابن عمر قال: قلت يا رسول الله إني أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير آخذ هذا من هذا وأعطي هذا من هذا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا بأس أن تأخذها بسعر يومها مالم تفترقا وبينكما شيء" رواه الخمسة وصححه الحاكم هو دليل على أنه يجوز أن يقضى عن الذهب بالفضة وعن الفضة الذهب لأن ابن عمر كان يبيع بالدنانير فيلزم المشتري في ذمته له دنانير وهي الثمن ثم يقبض عنها الدراهم وبالعكس وبوب أبو داود باب اقتضاء الذهب عن الورق ولفظه كنت أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير وأنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "لا بأس أن تأخذها بسعر يومها مالم تفترقا وبينكما شيء وفيه" دليل على أن النقدين حاضرين والحاضر أحدهما فبين صلى الله عليه وسلم الحكم بأنهما إذا فعلا ذلك فحقه أن لا يفترقا إلا وقد قبض ما هو لازم عوض ما في الذمة فلا يجوز أن يقبض البعض من الذهب ويبقى البعض في ذمة من عليه الدنانير عوضا عنها ولا العكس لأن ذلك من باب الصرف طاعة فيه أن لا يفترقا وبينهما شيء وأما قوله في رواية أبي داود بسعر يومها فالظاهر شرط وإن كان في الواقع يدل على ذلك قوله "فإذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد"
24 - وعنه أي ابن عمر قال "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النجش" بفتح النون وسكون الجيم بعدها شين معجمة متفق عليه النجش لغة تنفير الصيد واستثارته من مكانه ليصاد وفي الشرع الزيادة في ثمن السلعة المعروضة للبيع لا ليشتريها بل ليغر بذلك غيره وسمي الناجش في السلعة ناجشا لأنه يثير الرغبة فيها ويرفع ثمنها قال ابن بطال أجمع العلماء على أن الناجش عاص بفعله واختلفوا في البيع إذا وقع على ذلك فقال طائفة من أئمة الحديث البيع فاسد وبه قال أهل الظاهر وهو المشهور في مذهب الحنابلة ورواية عن مال إلا أن الحنابلة يقولون بفساده إن كان مواطأة من البائع أو منه وقال المالكية يثبت له الخيار وهو قول الهادوية قياسا على المصراة والبيع صحيح عندهم وعند الحنفية قالوا لأن النهي عائد إلى أمر مفارق للبيع وهو قصد الخداع فلم يقتض الفساد وأما ما نقل عن ابن عبد البر وابن العربي وابن حزم أن التحريم إذا كانت الزيادة المذكورة فوق ثمن المثل فلو أن رجلا رأى سلعة تباع بدون قيمتها فزاد فيها لتنتهي إلى قيمتها لم يكن ناجشا عاصيا بل يؤجر على ذلك بنيته قالوا لأن ذلك من النصيحة فهو مردود بأن النصيحة تحصل(3/18)
بغير إبهام أنه يريد الشراء وأما مع هذا فهو خداع وغرر وبأنه أخرج البخاري من حديث ابن أبي أوفى سبب نزول قوله تعالى إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا الآية قال أقام رجل سلعه بالله لقد أعطى بها مالم يعط فنزلت قال ابن أبي أوفى الناجش آكل ربا خائن فجعل ابن أبي أوفى من أخبر بأكثر ممن اشترى به أنه ناجش لمشاركته لمن يزيد في السلعة وهو لا يريد أن يشتريها في ضرر الغير فاشتركا في الحكم لذلك وحيث كان الناجش غير البائع فقد يكون آكل ربا إذا جعل له البائع جعلا
25- وعن جابر رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة" مفاعلة بالحاء المهملة والقاف "والمزابنة" بزنتها بالزاي بعد الألف موحدة فنون "والمخابرة " بزنتها بالخاء المعجمة فألف فموحدة فراء "وعن الثنيا" بالمثلث مضمومة فنون مفتوحة فمثناة تحتية بزنة ثريا الاستثناء "إلا أن تعلم" عائد إلى الأخير رواه الخمسة إلا ابن ماجه وصححه الترمذي اشتمل الحديث على أربع صور نهى الشارع عنها الأولى المحاقلة وفسرها جابر راوي الحديث بأنها بيع الرجل من الرجل الزرع بمائة فرق من الحنطة وفسرها أبو عبيد بأنها بيع الطعام في سنبله وفسرها مالك بأن تكرى الأرض ببعض ما تنبت وهذه هي المخابرة ويبعد هذا التفسير عطفها عليها في هذه الرواية وبأن الصحابي أعرف بتفسير ما روى وقد فسرها جابر بما عرف كما أخرجه عنه الشافعي والثانية المزابنة مأخوذة من الزبن بفتح الزاي وسكون الموحدة هو الدفع الشديد كأن كل واحد من المتبايعين يدفع الآخر عن حقه وفسرها ابن عمر كما رواه مالك ببيع التمر أي رطبا بالتمر كيلا وبيع العنب بالزبيب كيلا وأخرجه عنه الشافعي في الأم وقال تفسير المحاقلة والمزابنة في الأحاديث يحتمل أن يكون عن النبي صلى الله عليه وسلم منصوصا ويحتمل أنه ممن رواه والعلة في النهي عن ذلك هو الربا لعدم العلم بالتساوي والثالثة المخابرة وهي من المزارعة وهي المعاملة على الأرض ببعض ما يخرج منها من الزرع ويأتي الكلام عليها في المزارعة والرابعة الثنيا منهي عنها إلا أن تعلم وصورة ذلك أن يبيع شيئا ويستثني بعضه ولكنه إذا كان ذلك البعض معلوما صحت نحو أن يبيع أشجارا أو أعنابا ويستثني واحدة معينة فإن ذلك يصح اتفاقا قالوا لو قال إلا بعضها فلا يصح لأن الاستثناء مجهول وظاهر الحديث أنه إذا علم القدر المستثنى صح مطلقا وقيل لا يصح أن يستثنى ما يزيد على الثلث هذا الوجه في النهي عن الثنيا هو الجهالة وما كان معلوما فقد انتفت العلة فخرج عن حكم النهي وقد نبه النص عن العلة بقوله "إلا أن تعلم "(3/19)
26- وعن أنس رضي الله عنه قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمخاضرة" بالخاء والضاد معجمتين مفاعلة في الخضرة "والملامسة والمنابذة" بالذال المعجمة "والمزابنة" رواه البخاري اشتمل الحديث على خمس صور من صور البيع منهي عنها الأولى المحاقلة وتقدم الكلام فيها والثانية المخاضرة وهي بيع الثمار والحبوب قبل أن يبدو صلاحها وقد اختلف العلماء فيما يصح بيعه من الثمار والزرع فقال طائفة إذا كان قد بلغ حدا ينتفع به ولو لم يكن قد أخذ الثمار ألوانه واشتد الحب صح البيع بشرط القطع وأما إذا شرط البقاء فلا يصح اتفاقا لأنه شغل لملك البائع أو لأنه صفقتان في صفقة وهو إعارة أو إجارة وبيع وأما إذا بلغ حد الصلاح فاشتد الحب وأخذ الثمار ألوانه فبيعه صحيح وفاقا غلا أن يشترط المشتري بقاءه فقيل لا يصح البيع وقيل يصح وقيل إن كانت المدة معلومة صح وإن كانت غير معلومة لم يصح فلو كان قد صلح بعض منه دون بعض فبيعه غير صحيح وللحنفية تفاصيل ليس عليها دليل والثالثة الملامسة وبينها ما أخرجه البخاري عن الزهري أنها لمس الرجل الثوب بيده بالليل أو النهار وأخرج النسائي من حديث أبي هريرة هي أن يقول الرجل للرجل أبيعك ثوبي بثوبك ولا ينظر أحد منهما إلى ثوب الآخر ولكنه يلمسه لما أخرج أحمد عن عبدالرزاق عن معمر الملامسة أن يلمس الثوب بيده ولا ينشره ولا يقلبه إذا مسه وجب البيع ومسلم من حديث أبي هريرة أن يلمس كل واحد منهما ثوب صاحبه من غير تأمل والرابعة المنابذة فسرها ما أخرجه ابن ماجه من طريق سفيان عن الزهري المنابذة أن يقول ألق إلي ما معك وألقي إليك ما معي والنسائي من حديث أبي هريرة أن يقول أنبذ ما معي وتنبذ ما معك ويشترى كل واحد منهما من الآخر ولا يدري كل واحد منهما كم مع الآخر وأحمد عن عبدالرزاق عن معمر المنابذة أن يقول إذا نبذت هذا الثوب فقد وجب البيع ومسلم من حديث أبي هريرة المنابذة أن ينبذ كل واحد منهما ثوبه إلى الآخر لم ينظر كل واحد منهما إلى ثوب صاحبه وعلمت من قوله فقد وجب البيع أن بيع الملامسة والمنابذة جعل فيه نفس اللمس والنبذ بيعا بغير صيغته وظاهر النهي التحريم وللفقهاء تفاصيل في هذا لا تليق بهذا المختصر
فائدة: استدل بقوله لا ينظر إليه أنه لا يصح بيع الغائب وللعلماء ثلاثة أقوال الأول لا يصح وهو قول الشافعي والثاني يصح ويثبت له الخيار إذا رآه وهو للهادوية والحنفية والثالث إن وصفه صح وإلا فلا وهو قول مالك وأحمد وآخرين واستدل به على بطلان بيع الأعمى وفيه أيضا ثلاثة أقوال الأول بطلانه وهو قول معظم الشافعية حتى من أجاز منهم بيع الغائب لكون الأعمى لا يراه بعد ذلك والثاني يصح إن وصف له والثالث يصح مطلقا وهو للهادوية والحنفية
27- وعن طاوس بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه(3/20)
وسلم: "لا تلقوا الركبان ولا يبع حاضر لباد" قلت لابن عباس ما قوله ولا يبع حاضر لباد قال لا يكون له سمسار" متفق عليه واللفظ للبخاري اشتمل الحديث على النهي عن صورتين من صور البيع الأولى النهي عن تلقي الركبان أي الذين يجلبون إلى البلد أرزاق العباد للبيع سواء كانوا ركبانا أو مشاة جماعة أو واحدا وإنما خرج الحديث على الأغلب في أن الجالب يكون عددا وأما ابتداء التلقي فيكون ابتداؤه من خارج السوق الذي تباع فيه السلعة وفي حديث ابن عمر "كنا نتلقى الركبان فنشتري منهم الطعام فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى يبلغ به سوق الطعام" وفي لفظ آخر بيان أن التلقي لا يكون في السوق قال ابن عمر كانوا يبتاعون الطعام في أعلى السوق فيبيعونه في مكانه فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه في مكانه حتى ينقلوه أخرجه البخاري فدل على أن القصد إلى أعلى السوق لا يكون تلقيا وأن منتهى التلقي ما فوق السوق وقالت الهادوية والشافعية إنه لا يكون التلقي إلا خارج البلد وكأنهم نظروا إلى المعنى المناسب للمنع وهو تغرير الجالب فإنه إذا قدم إلى البلد أمكنه معرفة السعر وطلب الحظ لنفسه فإن لم يفعل ذلك فهو من تقصيره واعتبرت المالكية وأحمد وإسحاق السوق مطلقا عملا بظاهر الحديث والنهي ظاهر في التحريم حيث كان قاصدا التلقي عالما بالنهي عنه وعن أبي حنيفة والأوزاعي أنه يجوز التلقي إذا لم يضر بالناس فإن ضر كره فإن تلقاه فاشترى صح البيع عند الهادوية والشافعية وثبت الخيار عند الشافعي للبائع لما أخرجه أبو داود والترمذي وصححه ابن خزيمة من حديث أبي هريرة بلفظ "لا تلقوا الجلب فإن تلقاه إنسان فاشتراه فصاحبه بالخيار إذا أتى السوق" ظاهر الحديث أن العلة في النهي نفع البائع وإزالة الضرر عنه وقيل نفع أهل السوق لحديث ابن عمر لا تلقوا السلع حتى تهبطوا بها السوق واختلف العلماء هل البيع معه صحيح أو فاسد فعند من ذكرناه قريبا أنه صحيح لأن النهي لم يرجع إلى نفس العقد ولا إلى وصف ملازم له فلا يقتضي النهي الفساد وقد اشترط جماعة من العلماء لتحريم التلقي شرائط فقيل يشترط في التحريم أن يكذب المتلقي في سعر البلد ويشتري منهم بأقل من ثمن المثل وقيل أن يخبرهم بكثرة المؤنة عليهم في الدخول وقيل أن يخبرهم بكساد ما معهم ليغبنهم وهذه تقييدات لم يدل عليها دليل بل الحديث أطلق النهي والأصل فيه التحريم مطلقا الصورة الثانية ما أفاده قوله "ولا يبع حاضر لباد" وقد فسره ابن عباس بقوله لا يكون له سمسار بسينين مهملتين وهو في الأصل القيم بالأمر والحافظ ثم اشتهر في متولي البيع والشراء لغيره بالأجرة كذا قيده البخاري وجعل حديث ابن عباس مقيدا لما أطلق من الأحاديث وأما بغير أجرة فجعله من باب النصيحة والمعاونة فأجازه وظاهر أقوال العلماء أن النهي شامل لما كان بأجرة وما كان بغير أجرة وفسر بعضهم صورة بيع الحاضر للبادي بأن يجيء البلد غريب بسلعة يريد بيعها بسعر الوقت في الحال فيأتيه الحاضر فيقول ضعه عندي لأبيعه لك على(3/21)
التدريج بأعلى من هذا السعر ثم من العلماء من خص هذا الحكم بالبادي وجعله قيدا ومنهم من ألحق به الحاضر إذا شاركه في عدم معرفة السعر وقال ذكر البادي في الحديث خرج مخرج الغالب فأما أهل القرى الذين يعرفون الأسعار فليسوا بداخلين في ذلك ثم منهم من قيد ذلك بشرط العلم بالنهي وأن يكون المتاع المجلوب مما تعم به الحاجة وأن يعرض الحضري ذلك على البدوي فلو عرضه البدوي على الحضري لم يمنع وكل هذه القيود لا يدل عليها الحديث بل استنبطوها من تعليلهم للحديث بعلل متصيدة من الحكم ثم قد عرفت أن الأصل في النهي التحريم وإلى هنا ذهبت طائفة من العلماء وقال آخرون إن الحديث منسوخ وإنه جائز مطلقا كتوكيله ولحديث النصيحة ودعوى النسخ غير صحيحة لافتقارها إلى معرفة التاريخ ليعرف المتأخر وحديث النصيحة إذا استنصح أحدكم أخاه فلينصح له مشروط فيه أنه إذا استنصحه نصحه بالقول لا أنه يتولى له البيع وهذا في حكم بيع الحاضر للبادي وكذلك الحكم في الشراء له فلا يشتري حاضر لباد وقد قال البخاري باب لا يشتري حاضر لباد بالسمسرة قال ابن حبيب المالكي الشراء للبادي كالبيع لقوله صلى الله عليه وسلم لا يبع بعضكم على بيع بعض فإن معناه الشراء وأخرج أبو عوانة في صحيحه عن ابن سيرين قال: لقيت أنس بن مالك فقلت لا يبع حاضر لباد أما نهيتم أن تبيعوا أو تبتاعوا لهم قال: نعم وأخرجه أبو داود وعن ابن سيرين عن أنس كان يقال لا يبع حاضر لباد وهي كلمة جامعة لا يبيع له شيئا ولا يبتاع له شيئا فإن قيل قد لوحظ في النهي عن تلقي الجنوبة عدم غبن البادي ولوحظ في النهي عن بيع الحاضر للبادي الرفق بأهل البلد واعتبر فيه غبن البادي وهو كالتناقض فالجواب أن الشارع يلاحظ مصلحة الناس ويقدم مصلحة الجماعة على الواحد لا الواحد على الجماعة ولما كان البادي إذا باع لنفسه انتفع جميع أهل السوق واشتروا رخيصا فانتفع به جميع سكان البلد لاحظ الشارع نفع أهل البلد على نفع البادي ولما كان في التلقي إنما ينتفع المتلقي خاصة وهو واحد لم يكن في إباحة التلقي مصلحة لا سيما وقد تنضاف إلى ذلك علة ثانيةوهي لحوق الضرر بأهل السوق في انفراد التلقي عنهم في الرخص وقطع الموارد عليهم وهم أكثر من المتلقي نظر الشارع لهم فلا تناقض بين المسألتين بل هما صحيحتان في الحكمة والمصلحة
28- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تلقوا الجلب" بفتح اللام مصدر بمعنى المجلوب "فمن تلقي فاشتري منه فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار" رواه مسلم تقدم الكلام عليه وأنه دليل على ثبوت الخيار للبائع وظاهره ولو شراه المتلقي بسعر السوق فإن الخيار ثابت
29- وعنه أي أبي هريرة قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيع حاضر لباد ولا تناجشوا ولا يبيع الرجل على بيع أخيه ولا يخطب على خطبة"(3/22)
بكسر الخاء المعجمة وأما في الجمعة وغيرها فيضمها "أخيه ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في إنائها" كفأت الإناء كببته وقلبته متفق عليه ولمسلم "لا يسوم المسلم على سوم المسلم" اشتمل الاحديث على مسائل منهي عنها الأولى نهى عن بيع الحاضر للبادي وقد تقدم الثانية ما يفيده قوله ولا تناجشوا وهو معطوف في المعنى على قوله نهى لأن معناه لا يبع حاضر لباد ولا تناجشوا وتقدم الكلام عليه قريبا في حديث ابن عمر نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النجش الثالثة قوله "ولا يبيع الرجل على بيع أخيه" يروى برفع المضارع على أن لا نافية وبجزمه على أنها ناهية وإثبات الياء يقوي الأول وعلى الثاني فبأنه عومل المجزوم معاملة غير المجزوم فتركت الياء وفي رواية بحذفها فلا إشكال وصورة البيع على البيع أن يكون قد وقع البيع بالخيار فيأتي في مدة الخيار رجل فيقول للمشتري افسخ هذا البيع وأنا أبيعك مثله بأرخص من ثمنه أو أحسن منه وكذا الشراء على الشراء هو أن يقول للبائع في مدة الخيار افسخ البيع وأنا أشتريه منك بأكثر من هذا الثمن وصورة السوم أن يكون قد اتفق مالك السلعة والراغب فيها على البيع ولم يعقد فيقول آخر للبائع أنا أشتريه منك بأكثر بعد أن كانا على الثمن وقد أجمع العلماء على تحريم هذه الصور كلها وأن فاعلها عاص وأما بيع المزايدة وهو البيع ممن يزيد فليس من المنهي عنه وقد بوب البخاري باب بيع المزايدة وورد في ذلك صريحا ما أخرجه أحمد أصحاب السنن واللفظ للترمذي وقال حسن عن أنس "أنه صلى الله عليه وسلم باع حلسا وقدحا وقال: "من يشتري هذا الحلس والقدح" ؟فقال رجل آخذهما بدرهم فقال: "من يزيد على درهم فأعطوه رجل درهمين فباعهما" منه وقال ابن عبد البر إنه لا يحرم البيع ممن يزيد اتفاقا وقيل إنه يكره واستدل لقائله بحديث عن سفيان بن وهب أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع المزايدة" لكنه من رواية ابن لهيعة وهو ضعيف الرابعة قوله "ولا يخطب على خطبة أخيه" زاد في مسلم "إلا أن يأذن له" وفي رواية "حتى يأذن" والنهي يدل على تحريم ذلك وقد أجمع العلماء على تحريمها إذا كان قد صرح بالإجابة ولم يأذن ولم يترك فإن تزوج والحال هذه عصى اتفاقا وصح عند الجمهور وقال داود يفسخ النكاح ونعم ما قال وهي رواية عن مالك وإنما اشترط التصريح بالإجابة وإن كان النهي مطلقا لحديث فاطمة بنت قيس فإنها قالت خطبني أبو جهم ومعاوية فلم ينكر رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة بعضهم على بعض بل خطبها مع ذلك لأسامة والقول بأنه يحتمل أنه لم يعلم أحدهما بخطبة الآخر وأنه صلى الله عليه وسلم أشار بأسامة لا أنه خطب خلاف الظاهر وقوله أخيه أي في الدين ومفهومه أنه لو أخ كأن يكون كافرا فلا يحرم وهو حيث تكون المرأة كتابية وكان يستجيز نكاحها وبه قال الأوزاعي وقال غيره يحرم أيضا على خطبة الكافر والحديث خرج التقييد فيه مخرج الغالب فلا(3/23)
اعتبار لمفهومه الخامسة قوله ولا تسأل المرأة يروى مرفوعا ومجزوما وعليه فكسر اللام لالتقاء الساكنين والمراد أن المرأة الأجنبية لا تسأل الرجل أن يطلق امرأته وينكحها ويصير ما هو لها من النفقة والعشرة لها وعبر عن ذلك بالإكفاء لما في الصحفة من باب التمثيل كأن ما ذكر لما كان معدا للزوجة فهو في حكم ما قد جمعته في الصحفة لتنتفع به فإذا ذهب عنها فكأنما قد كفئت الصحفة وخرج ذلك عنها فعبر عن ذلك المجموع المركب بالمركب المذكور للشبه بينهما
30- وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة" رواه أحمد وصححه الترمذي والحاكم لكن في إسناده مقال لأن فيه حيي بن عبدالله المعافري مختلف فيه وله شاهد كأنه يريد به حديث عبادة بن الصامت لا يفرق بين الأم وولدها قيل إلى متى قال حتى يبلغ الغلام وتحيض الجارية أخرجه الدارقطني والحاكم وفي سنده عندهما عبدالله بن عمر والواقفي وهو ضعيف ولا يخفى أن هذا الحديث والذي بعده كان يحسن ضمهما إلى حديث ابن عمر الذي تقدم في النهي عن بيع أمهات الأولاد أو يؤخر هو إلى هنا وهذا الحديث ظاهر في تحريم التفريق بين الوالدة وولدها وظاهره عام في الملك والجهات غلا أنه لا يعلم أنه ذهب أحد إلى هذا العموم فهو محمول على التفريق في الملك وهو صريح في حديث علي الآتي وظاهره أيضا تحريم التفريق ولو بعد البلوغ إلا أنه يقيده بحديث عبادة وفي الغيث أنه خصه في الكبير الإجماع كما في العتق وكأن مستند الإجماع حديث عبادة ثم الحديث نص في تحريم التفريق بين الوالدة وولدها وقيس عليه سائر الأرحام المحارم بجامع الرحامة وكذلك ورد النص في الأخوة وهو ما أفاده قوله
31- وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبيع غلامين أخوين فبعتهما ففرقت بينهما فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أدركهما فارتجعهما ولا تبعهما غلا جميعا" رواه أحمد ورجاله ثقات وقد صححه ابن خزيمة وابن الجارود وابن حبان والحاكم والطبراني وابن القطان وحكى ابن أي حاتم في العلل عن أبيه أنه إنما سمعه الحكم من ميمون بن أبي شيب وهو يرويه عن علي رضي الله عنه وميمون لم يدرك عليا والحديث دليل على بطلان هذا البيع ودل على تحريم التفريق كما دل عليه الحديث الأول إلا أن الأول دل على التفريق بأي وجه من الوجوه وهذا الحديث نص بالبيع وألحقوا به تحريم التفريق بسائر الإنشاءات كالهبة والنذر وهو ما كان باختيار المفرق وأما التفريق بالقسمة فليس باختياره فإن سبب الملك قهري وهو الميراث وحديث علي رضي الله عنه قد دل على بطلان البيع ولكنه عارضه الحديث الأول حديث أبي أيوب فإنه دل على صحة الإخراج عن الملك بالبيع ونحوه المستحق للعقوبة إذ لو كان لا يصح الإخراج عن الملك لم يتحقق التفريق فلا عقوبة ولذا اختلف العلماء(3/24)
في ذلك فذهب أبو حنيفة إلى أنه ينعقد مع العصيان قالوا والأمر بالارتجاع للغلامين يحتمل أنه بعقد جديد برضا المشتري فائدة في التفريق بين البهيمة وولدها وجهان لا يصح لنهيه صلى الله عليه وسلم عن تعذيب البهائم ويصح قياسا على الذبح وهو الأولى
32- وعن أنس رضي الله عنه قال غلا السعر الغلاء ممدود وهو ارتفاع السعر على معتاده في المدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الناس يا رسول الله غلا السعر فسعر لنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله هو المسعر" يعني يفعل ذلك هو وحده بإرادته "القابض" أي المقتر "الباسط" الموسع مأخوذ من قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ } " الرازق إني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال" رواه الخمسة إلا النسائي وصححه ابن حبان وأخرجه ابن ماجه والدارمي والبزار وأبو يعلى من حديث أنس وإسناده على شرط مسلم وصححه الترمذي والحديث دليل على أن التسعير مظلمة وإذا كان مظلمة فهو محرم وإلى هذا ذهب أكثر العلماء وروي عن مالك أنه يجوز التسعير ولو في القوتين والحديث دال على تحريم التسعير لكل متاع وإن كان سياقه في خاص وقال المهدي: إنه استحسن الأئمة المتأخرون تسعير ما عدا القوتين كاللحم والسمن رعاية لمصلحة الناس ودفع الضرر عنهم وقد استوفينا الكلام في هذه المسألة في منحة الغفار وبسطنا القول هناك بما لا مزيد عليه
33- وعن معمر بن عبدالله هو بفتح الميم وسكون العين وفتح الميم ويقال له معمر بن أبي معمر أسلم قديما وهاجر إلى الحبشة وتأخرت هجرته إلى المدينة ثم هاجر إليها وسكن بها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا يحتكر إلا خاطئ" بالهمزة هو العاصي الآثم رواه مسلم وفي الباب أحاديث دالة على تحريم الاحتكار وفي النهاية على قوله صلى الله عليه وسلم "من احتكر طعاما" قال أي اشتراه وحبسه ليقل فيغلو وظاهر حديث مسلم تحريم الاحتكار للطعام وغيره إلا أن يدعي أنه لا يقال احتكر إلا في الطعام وقد ذهب أبو يوسف إلى عمومه فقال كل ما أضر بالناس حبسه فهو احتكار وإن كان ذهبا أو ثيابا وقيل لا احتكار إلا في قوت الناس وقوت البهائم وهو قول الهادوية والشافعية ولا يخفى أن الأحاديث الواردة في منع الاحتكار وردت مطلقة ومقيدة بالطعام وما كان من الأحاديث على هذا الأسلوب فإنه عند الجمهور لا يقيد فيه الملطق بالمقيد لعدم التعارض بينهما بل يبقى المطلق على إطلاقه وهذا يقتضي أنه يعمل بالمطلق في منع الاحتكار مطلقا ولا يقيد بالقوتين إلا على رأي أبي ثور وقد رده أئمة الأصول وكأن الجمهور خصوه بالقوتين نظرا إلى الحكمة المناسبة للتحريم وهي دفع الضرر عن عامة الناس والأغلب في دفع الضرر عن العامة إنما يكون في القوتين فقيدوا الإطلاق بالحكمة المناسبة أو أنهم قيدوه بمذهب الصحابي الراوي فقد أخرج مسلم عن سعيد بن المسيب أنه كان يحتكر(3/25)
فقيل له فإنك تحتكر فقال لأن معمرا راوي الحديث كان يحتكر قال ابن عبدالبر كانا يحتكران الزيت وهذا ظاهر أن سعيدا قيد الإطلاق بعمل الراوي وأما معمر فلا يعلم بم قيده ولعله بالحكمة المناسبة التي قيد بها الجمهور
34- وعن أبي هريرة رضي عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تصروا" بضم المثناة الفوقية وفتح الصاد المهملة من صرى يصري على الأصح "الإبل والغنم فمن ابتاعها بعد فهو بخير النظرين" الرأيين "بعد أن يحلبها إن شاء أمسك وإن شاء ردها وصاعا" عطف على ضمير المفعول في ردها على تقدير ويعطيى "من تمر" متفق عليه ولمسلم أي عن أبي هريرة "فهو بالخيار ثلاثة أيام" وفي رواية له علقها البخاري "ورد معها صاعا من طعام إلا سمراء" وقال البخاري والتمر أكثر أصل التصرية حبس الماء يقال صريت الماء إذا حبسته وقال الشافعي: هي ربط أخلاف الناقة والمثناة وترك حلبها حتى يجتمع لبنها فيكثر فيظن المشتري أن ذلك عادتها ولم يذكر في الحديث البقر والحكم واحد لحديث نهى عن التصرية للحيوان إذا أريد بيعه لأنه قد ورد تقييده في رواية النسائي بلفظ ولا تصروا الإبل والغنم للبيع وفي رواية له إذا باع أحدكم المثناة أو اللقحة فليحلبها وهذا هو الراجح عند الجمهور ويدل عليه التعليل بالتدليس والغرر كذا قيل غلا أني لمأر التعليل بهما منصوصا وأما التصرية لا للبيع بل ليجتمع الحليب لنفع المالك فهو وإن كان فيه إيذاء للحيوان غلا أنه ليس فيه إضرار فيجوز وظاهر الحديث أنه لا يثبت الخيار غلا بعد الحلب ولو ظهرت التصرية بغير حلب فالخيار ثابت وثبوت الخيار قاض بصحة بيع المصراة وفي الحديث دليل على أن الرد بالتصرية فوري لأن الفاء في قوله فهو بخير النظرين تدل على التعقيب تراخ وإليه ذهب بعض الشافعية وذهب الأكثر إلى أنه على التراخي لقوله فله الخيار ثلاثا وأجيب من طرف القائل بالفور أن ذلك محمول على ما إذا لم يعلم أنها مصراة إلا في الثالث لأن الغالب أنها لا تعلم في أقل من ذلك لجواز النقصان باختلاف العلف ونحوه ولأن في رواية أحمد والطحاوي فهو بأحد النظرين بالخيار إلى أن يحوزها أو يردا وأما ابتداء الثلاث ففيه خلاف قيل من بعد تبين التصرية وقيل من عند العقد وقيل من التفرق ودل الحديث أنه يرد عوض اللبن صاعا من تمر وأما الرواية التي علقها البخاري بذكر صاعا من طعام فقد رجح البخاري رواية التمر لكونه أكثر وإذا ثبت أنه يرد المشتري صاعا من تمر ففي المسألة ثلاثة مذاهب الأول للجمهور من الصحابة والتابعين بإثبات الردة للمصراة ورد صاع من تمر سواء كان اللبن كثيرا أو قليلا والتمر قوتا لأهل البلد أولا والثاني للهادوية فقالوا ترد المصراة ولكنهم قالوا يرد اللبن بعينه إن ان باقيا أو مثله إن كان تالفا أو قميته يوم(3/26)
الرد حيث لم يوجد المثل قالوا وذلك لأنه تقرر أن ضمان المتلف إن كان مثليا فبالمثل وإن كان قيميا فبالقيمة واللبن إن كان مثليا ضمن بمثله وإن كان قيميا قوم بأحد النقدين وضمن بذلك فكيف يضمن بالتمر أو الطعام قالوا وأيضا فإنه كان الواجب أن يختلف الضمان بقدر اللبن ولا يقدر بصاع قل أو كثر وأجيب بأن هذا القياس تضمن العموم في جميع المتلفات وهذا خاص ورد به النص والخاص مقدم على العام أما تقدير الصاع فإنه قدره الشارع ليدفع التشاجر لعدم الوقوف على حقيقة قدر اللبن لجواز اختلاطه بحادث بعد البيع فقطع الشارع النزاع وقدره بحد لا يبعد رفعا للخصومة وقدره بأقرب شيء إلى اللبن فإنهما كانا قوتين في ذلك الزمان ولهذا الحكم نظائر في الشريعة وهو ضمان الجنايات كالموضحة فإن أرشها مقدر مع الاختلاف في الكبر والصغر والغرة في الجنين مع اختلافه والحكمة في ذلك كله دفع التشاجر والثالث للحنفية فخالفوا في اصل المسألة وقالوا لا يرد البيع بعيب التصرية فلا يجب رد الصاع من التمر واعتذروا عن الحديث بأعذار كثيرة بالقدح في الصحابي(3/27)
الراوي للحديث وبأنه حديث مضطرب وبأنه منسوخ وبأنه معارض بقوله تعالى:{ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} وكلها أعذار مردودة وقالوا الحديث خالف قياس الأصول من جهات الأولى من حيث إن اللبن التالف إذا كان موجودا عند العقد فقد نقص جزء من المبيع فيمتنع الرد وإن كان حادثا عند المشتري فهو غير مضمون وأجيب(3/28)
أولا بأن الحديث أصل مستقل برأسه ولا يقال إنه خالف قياس الأصول وثانيا بأن النقص إنما يمنع الرد إذا لم يكن لاستعلام العيب وهو هنا لاستعلام العيب فلا يمنع والثانية من حيث إنه جعل الخيار فيه ثلاثا مع أن خيار العيب وخيار المجلس وخيار الرؤية لا يقدر شيء منها بالثلاث وأجيب بأن المصراة انفردت بالمدة المذكورة لأنه لا يتبين حكم التصرية في الأغلب إلا بها بخلاف غيرها والثالثة أنه يلزم ضمان الأعيان مع بقائها حيث كان اللين موجودا وأجيب عنه موجود متميز لأنه مختلط باللبن الحادث فقد تعذر رده بعينه بسبب الاختلاط فيكون مثل ضمان العبد الآبق المغصوب والرابعة من حيث أنه يلزم إثبات الرد بغير عيب لأنه لو كان نقصان اللبن عيبا لثبت به الرد من دون تصرية ولا اشتراط لأنه لم يشترط الرد وأجيب بأنه في حكم خيار الشرط من حيث المعنى فإن المشتري لما رأى ضرعها مملوءا فكأن البائع شرط له أن ذلك عادة لها وقد ثبت لهذا نظائر مثل ما تقدم في في تلقي الجلوبة وإذا تقرر عندك ضعف القولين الآخرين علمت أن الحق هو الأول وعرفت أن الحديث أصل في النهي عن الغش وفي ثبوت الخيار لمن دلس عليه وفي أن التدليس لا يفسد أصل العقد وفي تحريم التصرية للمبيع وثبوت الخيار بها وقد أخرج أحمد وابن ماجه من حديث ابن مسعود مرفوعا بيع المحفلات خلابة ولا تحل الخلابة لمسلم وفي إسناده ضعف ورواه ابن أبي شيبة موقوفا بسند صحيح والمحفلات جمع محفلة بالحاء المهملة والفاء التي تجمع لبنها في ضروعها والخلابة بكسر الخاء المعجمة وتخفيف اللام بعدها موحدة الخداع
35- وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: من اشترى شاة محفلة فردها فليرد معها صاعا رواه البخاري وزاد الإسماعيلي من تمر لم يرفعه المصنف بل وقفه على ابن مسعود لأن البخاري لم يرفعه وقد تقدم الكلام على معناه مستوفي
36- وعن أبي هررة رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على صبرة" الصبرة بضم الصاد المهملة وسكون الموحدة الكومة المجموعة "من الطعام " من طعام "فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللا فقال: "ما هذا يا صاحب الطعام؟" قال أصابته السماء يا رسول الله قال: "أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس من غش فليس مني" رواه مسلم قال النووي كذا في الأصول مني بياء المتكلم وهو صحيح ومعناه ليس ممن اهتدى بهديي واقتدى بعلمي وعملي وحسن طريقتي وقال سفيان بن عيينة يكره تفسيير مثل هذا ونقول نمسك عن تأويله ليكون أوقع في النفوس وأبلغ في الزجر والحديث دليل على تحريم الغش وهو مجمع شرعا مذموم فاعله عقلا
37- عن عبدالله بن بريدة هو أبو سهل عبدالله بن بريدة بن الحصيب الأسلمي قاضي مرو تابعي ثقة سمع اباه وغيره عن أبيه رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حبس العنب أيام القطاف" الأيام التي يقطف فيها "حتى(3/29)
يبعه ممن يتخذه خمرا فقد تقحم النار على بصيرة" أي على علم بالسبب الموجب لدخوله رواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان من حديث بريدة بزيادة حتى يبيعه من يهودي أونصراني أو ممن يعلم أنه يتخذه خمراً فقد تقحم في النار على بصيرة والحديث دليل على تحريم بيع العنب ممن يتخذه خمرا لوعيد البائع بالنار وهو مع القصد محرم إجماعا وأما مع عدم القصد فقال الهادوية يجوز البيع مع الكراهة ويؤول بأن ذلك مع الشك في جعله خمرا وأما إذا علمه فهو محرم ويقاس على ذلك ما كان يستعان به في معصية وأما مالا يفعل إلا لمعصية كالمزامير والطنابير ونحوها فلا يجوز بيعها ولا شراؤها إجماعا وكذلك بيع السلاح والكراع من الكفار والبغاة إذا كانوا يستعينون بها على حرب المسلمين فإنه لا يجوز إلا أن يباع بأفضل منه جاز
38- وعن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" "الخراج بالضمان" رواه الخمسة وضعفه البخاري لأن فيه مسلم بن خالد الزنجي وهو ذاهب الحديث وأبو داود وصححه الترمذي وابن خزيمة وابن الجارود وابن حبان والحاكم وابن القطان الحديث أخرجه الشافعي وأصحاب السنن بطوله وهو أن رجلا اتشرى غلاما في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان عنده ما شاء الله ثم رده من عيب وجده فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم برده بالعيب فقال المقضي عليه قد استعمله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الخراج بالضمان والخراج هو الغلة والكراء ومعناه أن المبيع إذا كان له دخل وغلة فإن مالك الرقبة الذي هو ضامن لها يملك خراجها لضمان أصلها فإذا ابتاع رجل أرضا فاستعملها أو ماشية فنتجها أو دابة فركبها أو عبدا فاستخدمه ثم وجد به عيبا فله أن يرد الرقبة ولا شيء عليه فيما انتفع به لأنها لو تلفت ما بين مدة الفسخ والعقد لكانت في ضمان المشتري فوجب أن يكون الخراج له وقد اختلف العلماء في المسألة على ثلاثة أقوال الأول للشافعي أن الخراج بالضمان على ما قررناه في معنى الحديث وما وجد من ملكا الأصلية والفرعية فهو للمشتري ويرد المبيع مالم يكن ناقصا عما أخذه الثاني للهادوية أنه يفرق بين ملكا الأصلية والفرعية فيستحق المشتري الفرعية وأما الأصلية فتصير أمانة في يده فإن رد المشتري المبيع بالحكم وجب الرج ويضمن التلف وإن كان بالتراضي لم يردها الثالث للحنفية أن المشتري يستحق ملكا الفرعية كالكراء وأما ملكا الأصلية كالثمار فإن كانت باقية ردها مع الأصل وإن كانت تالفة امتنع الرد واستحق الأرش الرابع المالك أنه يفرق بين ملكا الأصلية كالصوف والشعر فيستحقه المشتري والولد يرده مع أمه وهذا مالم تكن متصلة بالمبيع وقت الرد فإن كانت متصلة وجب الرد لها إجماعا هذا ما قاله المذكورون والحديث ظاهر فيما ذهب إليه الشافعي وأما إذا وطئ المشتري الأمة ثم وجد فيها عيبا فقد اختلف العلماء في ذلك فقالت الهادوية وأهل الرأي والثوري وإسحاق يمتنع الرد لأن الوطء جناية لأنه لا يحل وطء الأمة لأصل(3/30)
المشتري ولا لفصله فقد عيبها بذلك قالوا وكذا مقدمات الوطء يمتنع الرد بعدها لذلك قالوا ولكنه يرجع على البائع بأرش العيب وقيل يردها ويرد معها مهر مثلها ومنهم من فرق بين الثيب والبكر وقد استوفي الخطابي ذلك ونقله الشارح والكل أقوال عارية عن الاستدلال ودعوى أن الوطء جناية غير صحيحة والتعليل بأنه حرمها به على أصوله وفصوله فكانت جناية عليهما فإنه لم ينحصر المشترى لها فيهما
39- وعن عروة البارقي رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه دينارا يشتري به أضحية أو شاة فاشترى به شاتين فباع إحداهما بدينار فأتاه بشاة ودينار فدعا له بالبركة في بيعه فكان لو اشترى ترابا لربح" فيه رواه الخمسة إلا النسائي وقد أخرجه البخاري ضمن حديث ولم يسق لفظه وأورد له الترمذي شاهدا من حديث حكيم بن حزام الحديث في إسناده سعيد بن زيد أخو حماد مختلف فيه قال المنذري والنووي إسناده حسن صحيح وفيه كلام كثير وقال المصنف الصواب أنه متصل في إسناده مبهم وفي الحديث دلالة على أن عروة شرى مالم يوكل بشرائه وباع كذلك لأنه أعطاه دينارا لشراء أضحية فلو وقف على الأمر لشرى ببعض الدينار الأضحية ورد البعض وهذا الذي فعله هو الذي تسميه الفقهاء العقد الموقوف الذي ينفذ بالإجازة وقد وقعت هنا وللعلماء فيه خمسة أقوال الأول أنه يصح العقد الموقوف وذهب إلى هذا جماعة من السلف والهادوية عملا بالحديث والثاني أنه لا يصح وإليه ذهب الشافعي وقال إن الإجازة لا تصححه محتجا بحديث لا تبع ما ليس عندك أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وهو شامل للمعدوم وملك الغير وتردد الشافعي في صحة حديث عروة وعلق القول به على صحته والثالث التفصيل لأبي حنيفة فقال يجوز البيع لا الشراء وكأنه فرق بينهما بأن البيع إخراج عن ملك المالك وللمالك حق في استبقاء ملكه فإذا أجاز فقد أسقط حقه بخلاف الشراء فإنه إثبات لملك فلا بد من تولي المالك لذلك والرابع لمالك وهو عكس ما قاله أبو حنيفة وكأنه أراد الجمع بين الحديثين حديث "لا تبع ما ليس عندك" وحديث عروة فيعمل به مالم يعارض والخامس أنه يصح إذا وكل بشراء شيء فيشتري بعضه وهو للجصاص وإذا صح حديث عروة فالعمل به هو الراجح وفيه دليل على صحة بيع الأضحية وإن تعينت سيما لإبدال المثل ولا تطيب زيادة الثمن ولذا أمره بالتصدق بها وفي دعائه صلى الله عليه وسلم له بالبركة دليل على أن شكر الصنيع لمن فعل المعروف ومكافأته مستحبة ولو بالدعاء 40-عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن شراء ما في بطون الأنعام حتى تضع وعن بيع ما في ضروعها وعن شراء العبد وهو آبق وعن شراء المغانم حتى تقسم وعن شراء الصدقات حتى تقبض وعن حصول الغائص" رواه ابن ماجه والبزار والدارقطني بإسناد ضعيف لأنه من حديث شهر بن حوشب وشهر تكلم فيه جماعة كالنضر بن شميل والنسائي وابن عدي وغيرهم وقال البخاري شهر حسن(3/31)
الحديث وقوي أمره وروى عن أحمد أنه قال ما أحسن حديثه والحديث اشتمل على ست صور منهي عنها الأولى بيع ما في بطون الحيوان وهو مجمع على تحريمه والثانية اللبن في الضروع وهو مجمع عليه أيضا وقد تقدم والثالثة العبد الآبق وذلك لتعذر تسليمه والرابعة شراء المغانم قبل القسمة وذلك لعدم الملك والخامسة شراء الصدقات قبل القبض فإنه لا يستقر ملك المتصدق عليه إلا بعد القبض إلا أنه استثنى الفقهاء من ذلك بيع المصدق للصدقة قبل القبض بعد التخلية فإنه يصح لأنهم جعلوا التخلية كالقبض في حقه السادسة ضربة الغائص وهو أن يقول أغوص في البحر غوصة بكذا فما خرج فهو لك والعلة في ذلك هو الغرر
41- وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم: " لا تشتروا السمك في الماء فإنه غرر" رواه أحمد وأشار إلى أن الصواب وقفه وهو دليل على حرمة بيع السمك في الماء وقد علله بأنه غرر وذلك لأنه تختفي في الماء حقيقته ويرى الصغير كبيرا وعكسه وظاهره النهي عن ذلك مطلقا وفصل الفقهاء في ذلك فقالوا إن كان في ماء كثير لا يمكن أخذه إلا بتصيد ويجوز عدم أخذه فالبيع غير صحيح وإن كان في ماء لا يفوت فيه ويؤخذ بتصيد فالبيع صحيح ويثبت فيه الخيار بعد التسليم وإن كان لا يحتاج إلى تصيد فالبيع صحيح ويثبت فيه خيار الرؤية وهذا التفصيل يؤخذ من الأدلة والتعليل المقتضي للإلحاق يخصص عموم النهي
42- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تباع ثمرة حتى تطعم" بضم المنثاة الفوقيةوكسر العين المهملة يبدو صلاحها "ولا يباع صوف على ظهر ولا لبن في ضرع" رواه الطبراني في الأوسط والدارقطني وأخرجه أبو داود في المراسيل لعكرمة وهو الراجح وأخرجه أيضا موقوفا على ابن عباس بإسناد قوي ورجحه البيهقي اشتمل الحديث على ثلاث مسائل الأولى النهي عن بيع لا ثمرة حتى يبدو صلاحها ويطيب أكلها ويأتي الكلام في ذلك والثانية النهي عن بيع الصوف على الظهر وفيه قولان للعلماء الأول أنه لا يصح عملا بالحديث ولأنه يقع الاختلاف في موضع القطع من الحيوان فيقع الإضرار به وهذا قول الهادوية والشافعي وأبي حنيفة والقول الثاني أنه يصح البيع لأنه مشاهد يمكن تسليمه فيصح كما صح من المذبوح وهذا قول مالك ومن وافقه قالوا والحديث موقوف على ابن عباس والقول الأول أظهر والحديث قد تعاضد فيه والجواب والموقوف وقد صح النهي عن الغرر والغرر حاصل فيه والثالثة النهي عن بيع اللين في الضرع لما فيه من الغرر وذهب سعيد بن جبير إلى جوازه قال لأنه صلى الله عليه وسلم سمى الضرع خزانة في قوله فيمن يحلب شاة أخيه بغير إذنه يعمد أحدكم إلى خزانة أخيه ويأخذ ما فيها وأجيب بأن تسميته خزانة مجاز ولئن سلم فبيع ما في الخزانة بيع غرر ولا يدرى بكميته وكيفيته
43- وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهى(3/32)
بيع المضامين المراد بهما ما في بطون الإبل والملاقيح هو ما في ظهور الجمال رواه البزار وفي إسناده ضعف لأن في رواته صالح بن أبي الأخضر عن الزهري وهو ضعيف ورواه مالك عن الزهري عن سعيد مرسلا قال الدراقطني في العلل تابعه معمر ووصله عمر بن قيس عن الزهري وقول مالك هو الصحيح وفي الباب عن ابن عمر أخرجه عبدالرزاق بإسناد قوي والحديث دليل على عدم صحة بيع المضامين والملاقيح وقد تقدم وهو إجماع
44- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أقال مسلما بيعته أقال الله عثرته" رواه أبو داود وابن ماجه وصححه ابن حبان والحاكم وهو عنده بلفظ "من أقال مسلما أقال الله عثرته يوم القيامة" قال أبو الفتح القشيري هو على شرطهما وفي الباب ما يشده من الأحاديث الدالة على فضل الإقالة وحقيقتها شرعا رفع العقد الواقع بين المتعاقدين وهي مشروعة إجماعا ولا بد من لفظ يدل عليها وهو أقلت أو ما يفيد معناه عرفا وللإقالة شرائط ذكرت في كتب الفروع لا دليل عليها وإنما دل الحديث على أنها تكون بين المتبايعين لقوله بيعته وأما كون المقال مسلما فليس بشرط وإنما ذكره لكونه حكماً أغلبياً وإلا فثواب الإقالة ثابت في إقالة غير المسلم وقد ورد بلفظ "من أقال نادما" أخرجه البزار(3/33)
باب الخيار
الخيار بكسر الخاء المعجمة اسم من الاختيار أو التخيير وهو طلب خير الأمرين من إمضاء البيع أو فسخه وهو أنواع ذكر المصنف في هذا الباب خيار الشرط وخيار المجلس
1- عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا تبايع الرجلان" أي أوقعا العقد بينهما لا تساوما من غير عقد "فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا" وفي لفظ "يفترقا" والمراد بالأبدان "وكانا جميعا أو يخير" من التخيير "أحدهما الآخر" فإن خير أحدهما الآخر أي إذا اشترط أحدهما الخيار مدة معلومة فإن الخيار لا ينقضي بالتفرق بل يبقى حتى تمضي مدة الخيار التي شرطها وقيل المراد إذا اختار إمضاء البيع قبل التفرق لزمه البيع حينئذ وبطل اعتبار التفرق ويدل لهذا قوله "فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع" أي نفذ وتم "وإن تفرقا" بالأبدان "بعد أن تبايعا" أي عقدا عقد البيع "ولم يترك واحد منهما البيع فقد وجب البيع" متفق عليه واللفظ لمسلم الحديث دليل على ثبوت(3/33)
خيار المجلس للمتبايعين وأنه يمتد إلى أن يحصل التفرق بالأبدان وقد اختلف العلماء في ثبوته على قولين الأول ثبوته وهو لجماعة من الصحابة منهم علي عليه السلام و ابن عباس و ابن عمر وغيرهم وإليه ذهب أكثر التابعين والشافعي وأحمد وإسحاق والإمام يحيى قالوا والتفرق الذي يبطل له الخيار ما يسمى عادة تفرقا ففي المنزل الصغير بخروج أحدهما وفي الكبير بالتحول من مجلسه إلى آخر بخطوتين أو ثلاث ودل على أن هذا تفرق فعل ابن عمر المعروف فإن قاما معا أو ذهبا معا فالخيار باق وهذا المذهب دليله هذا الحديث المتفق عليه القول الثاني للهادوية والحنفية و مالك والإمامية أنه لا يثبت خيار المجلس بل متى تفرق المتبايعان بالقول فلا خيار إلا ما شرط مستدلين بقوله تعالى {تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} وبقوله {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} قالوا والإشهاد إن وقع بعد التفرق لم يطابق الأمر وإن وقع قبله لم يصادف محله وحديث "إذا اختلف البيعان فالقول قول البائع" ولم يفصل وأجيب بأن الآية مطلقة قيدت بالحديث وكخيار الشرط وكذلك الحديث وآية الإشهاد يراد بهما عند العقد ولا ينافيه ثبوت خيار المجلس كما لا ينافيه سائر الخيارات قالوا والحديث منسوخ بحديث "المسلمون على شروطهم" والخيار بعد لزوم العقد يفسد الشرط ورد بأن الأصل عدم النسخ ولا يثبت بالاحتمال قالوا ولأنه من رواية مالك ولم يعمل به وأجيب بأن مخالفة الراوي لا توجب عدم العمل بروايته لأن عمله مبني على اجتهاده وقد يظهر له ما هو أرجح عنده مما رواه وإن لم يكن أرجح في نفس الأمر قالوا وحديث الباب يحمل على المتساومين فإن استعمال البائع في المساوم شائع وأجيب عنه بأنه إطلاق مجازي والأصل الحقيقة وعورض بأنه يلزم أيضا حمله على المجازي على القول الأول فإنه على تقدير القول بأن المراد التفرق بالأبدان هو بعد تمام الصيغة وقد مضى فهو مجاز في الماضي وردت هذه المعارضة بأنا لا نسلم أنه مجاز في الماضي بل هو حقيقة فيه كما ذهب إليه الجمهور بخلاف المستقبل فمجاز اتفاقا قالوا المراد التفرق بالأقوال والمراد بالتفرق فيما هو ما بين قول البائع بعتك بكذا أو قول المشتري اشتريت قالوا فالمشتري بالخيار في قوله اشتريت أو تركه والبائع بالخيار إلى أن يوجب المشتري ولا يخفى ركاكة هذا القول وبطلانه فإنه إلغاء للحديث عن الفائدة إذ من المعلوم يقينا أن كلا من البائع والمشتري في هذه الصورة على الخيار إذ لا عقد بينهما فالإخبار به لاغ عن الإفادة ويرده لفظ الحديث كما لا يخفى فالحق هو القول الأول وأما معارضة حديث الباب بالحديث الآتي وهو قوله
2- وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(3/34)
"البائع والمبتاع بالخيار حتى يتفرقا إلا أن تكون صفقة خيار ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله" رواه الخمسة إلا ابن ماجه ورواه الدارقطني وابن خزيمة وابن الجارود وفي رواية "حتى يتفرقا عن مكانهما" وبحديث أبي داوود عن ابن عمرو بلفظ "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا أن تكون صفقة خيار ولا يحل له أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله" قالوا فقوله أن يستقيله دال على نفوذ البيع فقد أجيب عنه بأن الحديث دليل خيار المجلس أيضا لقوله بالخيار ما لم يتفرقا وأما قوله أن يستقيله فالمراد به الفسخ لأنه لو أريد الاستقالة حقيقة لم يكن للمفارقة معنى فتعين حملها على الفسخ وعلى ذلك حمله الترمذي وغيره من العلماء فقالوا معناه لا يحل له أن يفارقه بعد البيع خشية أن يختار فسخ البيع فالمراد بالاستقالة فسخ النادم وحملوا نفي الحل على الكراهة لأنه لا يليق بالمروءة وحسن معاشرة المسلم لا أن اختيار الفسخ حرام وأما ما روي عن ابن عمر أنه كان إذا بايع رجلا فأراد أن يتم بيعه قام يمشي هنيهة فرجع إليه فإنه محمول على أن ابن عمر لم يبلغه النهي وقال ابن حزم حمل حديث ابن عمرو هذا على التفرق بالأقوال تذهب معه فائدة الحديث لأنه يلزم معه حل التفرق سواء خشي أن يستقيله أو لا لأن الإقالة تصح قبل التفرق وبعده قال ابن عبد البر قد أكثر المالكية والحنفية من الكلام برد الحديث بما المطلوب ذكره وأكثره لا يحصل منه شيء وإذا ثبت لفظ مكانهما لم يبق للتأويل مجال وبطل بطلانا ظاهرا حمله على تفرق الأقوال
3- وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال "ذكر رجل" هو حبان بفتح الحاء بن منقذ المهملة والباء الموحدة "للنبي صلى الله عليه وسلم أنه يخدع في البيوع فقال إذا بايعت فقل لا خلابة" بكسر الخاء المعجمة وتخفيف اللام وبموحدة أي لا خديعة متفق عليه زاد ابن إسحاق في رواية يونس بن بكير وعبد الأعلى عنه "ثم أنت بالخيار في كل سلعة ابتعتها ثلاث ليال فإن رضيت فأمسك وإن سخطت فاردد" فبقي ذلك الرجل حتى أدرك زمان عثمان وهو ابن مائة وثلاثين سنة فكثر الناس في زمان عثمان فكان إذا اشترى شيئا فقيل له إنك غبنت فيه رجع فيشهد له رجل من الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل له الخيار ثلاثا فيرد له دراهمه والحديث دليل على خيار الغبن في البيع والشراء إذا حصل الغبن واختلف فيه العلماء على قولين الأول ثبوت الخيار بالغبن وهو قول أحمد ومالك ولكن إذا كان الغبن فاحشا لمن لا يعرف ثمن السلعة وقيده بعض المالكية بأن يبلغ الغبن ثلث القيمة ولعلهم المثناة التقييد مما علم من أنه لا يكاد يسلم أحد من مطلق الغبن في غالب الأحوال ولأن القليل يتسامح به في العادة وأنه من رضى بالغبن بعد معرفته فإن ذلك لا يسمى غبنا وإنما يكون من باب التساهل في البيع الذي أثنى صلى الله عليه وسلم على فاعله وأخبر أن الله يحب الرجل سهل البيع سهل الشراء وذهب الجماهير من العلماء(3/35)
إلى عدم ثبوت الخيار بالغبن لعموم أدلة البيع ونفوذه من غير تفرقة بين الغبن أولا قالوا وحديث الباب إنما كان الخيار فيه لضعف عقل ذلك الرجل إلا أنه ضعف لم يخرج به عن حد التمييز فتصرفه كتصرف الصبي المأذون له ويثبت له الخيار مع الغبن قلت ويدل لضعف عقله ما أخرجه أحمد وأصحاب السنن من حديث أنس بلفظ إن رجلا كان يبايع وكان في عقله أي إدراكه ضعف ولأنه لقنه صلى الله عليه وسلم بقوله "لا خلابة" اشتراط عدم الخداع فكان شراؤه وبيعه مشروطا بعدم الخداع ليكون من باب خيار الشرط قال ابن العربي إن الخديعة في هذه القصة يحتمل أن تكون في العيب أو في الملك أو في الثمن أو في العين فلا يحتج بها في الغبن بخصوصه وهي خاصة لا عموم فيها قلت في رواية ابن إسحاق أنه شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما يلقى من الغبن وهي ترد ما قاله ابن العربي وقال بعضهم إنه إذا قال الرجل البائع أو المشتري لا خلابة ثبت الخيار وإن لم يكن فيه غبن ورد بأنه مقيد بما في الرواية أنه كان يغبن وأثبت الهادوية الخيار بالغبن في صورتين الأولى من تصرف عن الغير والثانية في الصبي المميز محتجين بهذا الحديث وهو دليل لهم على الصورة الثانية إذا ثبت أنه كان في عقله ضعف دون الأولى(3/36)
باب الربا
الربا بكسر الراء مقصورة من ربا يربو ويقال الرماء بالميم والربية بضم الراء والتخفيف وهو الزيادة ومنه قوله تعالى: {اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} ويطلق الربا على كل بيع محرم وقد أجمعت الأمة على تحريم الربا في الجملة وإن اختلفوا في التفاصيل والأحاديث في النهي عنه وذم فاعله ومن أعانه كثيرة جدا وردت بلعنه ومنها
1- عن جابر رضي الله عنه قال " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال هم سواء" رواه مسلم وللبخاري نحوه من حديث أبي جحيفة عن جابر رضي الله عنه قال "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال هم سواء" رواه مسلم وللبخاري نحوه من حديث أبي جحيفة أي دعا على المذكورين بالإبعاد عن الرحمة وهو دليل على إ ثم من ذكر وتحريم ما تعاطوه وخص الأكل لأنه الأغلب في الانتفاع وغيره مثله والمراد من موكله الذي أعطى الربا لأنه ما تحصل الربا إلا منه فكان داخلا في الإثم وإما الكاتب والشاهدين لإعانتهم على المحظور وذلك إذا قصدا وعرفا بالربا وورد في رواية لعن الشاهد بالإفراد على إرادة الجنس فإن قلت حديث اللهم ما لعنت من لعنة فاجعلها رحمة أو نحوه وفي لفظ ما لعنت فعلى من لعنت يدل على أنه لا يدل اللعن منه صلى الله عليه وسلم على التحريم وأنه لم يرد به حقيقة الدعاء على من أوقع عليه اللعن قلت(3/36)
ذلك فيما إذا كان من أوقع عليه اللعن غير فاعل لمحرم معلوم أو كان اللعن في حال غضب منه صلى الله عليه وسلم
2- وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الربا ثلاثة وسبعون بابا أيسرها في الإثم مثل أن ينكح الرجل أمه وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم" رواه ابن ماجه مختصرا والحاكم بتمامه وصححه وفي معناه أحاديث الربا في عرض المسلم بقوله السبتان بالسبة وفيه دليل على أنه يطلق الربا على الفعل المحرم وإن لم يكن من أبواب الربا المعروفة وتشبيه أيسر الربا بإتيان الرجل أمه لما فيه من استقباح ذلك عند العقل
3- وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ولا تشفوا" بضم المثناة الفوقية فشين معجمة مكسورة ففاء مشددة أي "لا تفضلوا بعضها على بعض ولا تبيعوا الورق إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا منها غائبا بناجز" بالجيم والزاي أي حاضر متفق عليه الحديث دليل على تحريم بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة متفاضلا سواء كان حاضرا أو غائبا لقوله إلا مثلا بمثل فإنه استثنى من أعم الأحوال كأنه قال لا تبيعوا ذلك في حال من الأحوال إلا في حال كونه مثلا بمثل أي متساويين قدرا وزاده تأكيدا بقوله "ولا تشفوا" أي لا تفاضلوا وهو من الشف بكسر الشين وهي الزيادة هنا وإلى ما أفاده الحديث ذهبت الجلة من العلماء الصحابة والتابعين والعترة والفقهاء فقالوا يحرم التفاضل فيما ذكر غائبا كان أو حاضرا وذهب ابن عباس وجماعة من الصحابة إلى أنه لا يحرم الربا إلا في النسيئة فالمراد نفي الكمال لا نفي الأصل ولأنه مفهوم وحديث أبي سعيد منطوق ولا يقاوم المفهوم المنطوق فإنه مطرح مع المنطوق وقد روى الحاكم أن ابن عباس رجع عن ذلك القول أي بأنه لا ربا إلا في النسيئة واستغفر الله من القول به ولفظ الذهب عام لجميع ما يطلق عليه من مضروب وغيره وكذلك لفظ الورق وقوله لا تبيعوا غائبا منها بناجز المراد بالغائب ما غاب عن مجلس البيع مؤجلا كان أو لا والناجز الحاضر
4- وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد" رواه مسلم لا يخفى ما أفاده من التأكيد بقوله مثلا بمثل وسواء بسواء وفيه دليل على تحريم التفاضل جنسا من الستة المذكورة التي(3/37)
وقع عليها النص وإلى تحريم الربا فيها ذهبت الأمة كافة واختلفوا فيما عداها فذهب الجمهور إلى ثبوته فيما عداها مما شاركها في العلة ولكن لما لم يجدوا علة منصوصة اختلفوا فيها اختلافا كثيرا يقوي للناظر العارف أن الحق ما ذهبت إليه الظاهرية من أنه لا يجري الربا إلا في الستة المنصوص عليها وقد أفردنا الكلام على ذلك في رسالة مستقلة سميتها القول المجتبى واعلم أنه اتفق العلماء على جواز بيع ربوي بربوي لا يشاركه في الجنس مؤجلا ومتفاضلا كبيع الذهب بالحنطة والفضة بالشعير وغيره من المكيل واتفقوا على أنه لا يجوز بيع الشيء بجنسه وأحدهما مؤجل
5- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الذهب بالذهب وزنا بوزن" نصب على الحال " مثلا بمثل والفضة بالفضة وزنا بوزن مثلا بمثل فمن زاد أو استزاد فهو ربا" رواه مسلم فيه دليل على تعين التقدير بالوزن لا بالخرص والتخمين بل لا بد من التعيين الذي يحصل بالوزن وقوله فمن زاد أي أعطى الزيادة أو استزاد أي طلب الزيادة فقد أربى أي فعل الربا المحرم واشترك في إ ثمه الآخذ والمعطي
6- وعن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا اسمه سواد بفتح السين المهملة وتخفيف الواو ودال مهملة ابن غزية بفتح الغين المعجمة وكسر الزاي ومثناة تحتية بزنة عطية وهو من الأنصار على خيبر فجاءه بتمر جنيب بالجيم المفتوحة والنون بزنة عظيم يأتي ببيان معناه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أكل تمر خيبر هكذا" فقال لا والله يا رسول الله إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والصاعين بالثلاثة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تفعل بع الجمع" بفتح الجيم وسكون الميم التمر الرديء "بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا" وقال في الميزان مثل ذلك متفق عليه ولمسلم وكذلك الميزان الجنيب قيل الطيب وقيل الصلب وقيل الذي أخرج منه حشفه ورديئه وقيل هو الذي لا يختلط بغيره ةقد فسر الجمع بما ذكرناه آنفا وفسر في رواية لمسلم بأنه الخلط من التمر ومعناه مجموع من أنواع مختلفة والحديث دليل على أن بيع الجنس بجنسه يجب فيه التساوي سواء اتفقا في الجودة والرداءة أو اختلفا وأن الكل جنس واحد وقوله وقال في الميزان مثل ذلك أي قال فيما كان يوزن إذا بيع بجنسه مثل ما قال في المكيل إنه لا يباع متفاضلا وإذا أريد مثل ذلك بيع بالدراهم وشري ما يراد بها والإجماع قائم على أنه لا فرق بين المكيل والموزون في ذلك الحكم واحتجت الحنفية بهذا الحديث على أن ما كان في زمنه صلى الله عليه وعلى وسلم مكيلا لا يصح أن يباع ذلك بالوزن متساويا بل لا بد من اعتبار كيله وتساويه كيلا وكذلك الوزن وقال ابن عبد البر أجمعوا أن ما كان أصله الوزن لا يصح أن يباع بالكيل بخلاف ما كان أصله الكيل فإن بعضهم يجيز فيه الوزن(3/38)
ويقول إن المماثلة تدرك بالوزن في كل شيء وغيرهم يعتبرون الكيل والوزن بعادة البلد ولو خالف ما كان عليه في ذلك الوقت فإن اختلفت العادة اعتبر بالأغلب فإن استوى الأمران كان له حكم المكيل إذا بيع بالكيل وإن بيع بالوزن كان له حكم الموزون
واعلم أنه لم يذكر في هذه الرواية أنه صلى الله عليه وسلم أمره برد البيع بل ظاهرها أنه قرره وإنما أعلمه بالحكم وعذره للجهل به إلا أنه قال ابن عبد البر إن سكوت الراوي عن رواية فسخ العقد ورده لا يدل على عدم وقوعه وقد أخرج من طريق أخرى وكأنه يشير إلى ما أخرجه من طريق أبي بصرة عن سعيد نحو هذه القصة فقال هذا الربا فرده قال ويحتمل تعدد القصة وأن التي لم يقع فيها الرد كانت متقدمة وفي الحديث دلالة على جواز الترفيه على النفس باختيار الأفضل
7- وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الصبرة" بضم الصاد المهملة الطعام المجتمع "من التمر التي لا يعلم مكيلها بالكيل المسمى من التمر" رواه مسلم دل الحديث على أنه لا بد من التساوي بين الجنسين وتقدم وهو وجه النهي
8- وعن معمر بن عبد الله رضي الله عنه قال إني كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الطعام بالطعام مثلا بمثل" وكان طعامنا يومئذ الشعير رواه مسلم ظاهر لفظ الطعام أنه يشمل كل مطعوم ويدل على أنه لا يباع متفاضلا وإن اختلف الجنس والظاهر أنه لا يقول أحد بالعموم وإنما الخلاف في البر والشعير كما سيأتي عن مالك ولكن معمر خص الطعام بالشعير وهذا من التخصيص بالعادة الفعلية حيث لم يغب الإسم وقد ذهب إلى التخصيص بها الحنفية والجمهور لا يخصصون بها إلا إذا اقتضت غلبة الاسم وإلا حمل اللفظ على العموم ولكنه مخصوص بما تقدم من قوله فإذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم بعد عده للبر والشعير فدل على أنهما صنفان وهو قول الجماهير وخالف في ذلك مالك والليث والأوزاعي فقالوا هما صنف واحد لا يجوز بيع أحدهما وصله متفاضلا وسبقهم إلى ذلك معمر بن عبد الله راوي الحديث فأخرج مسلم عنه أنه أرسل غلامه بصاع قمح فقال بعه ثم اشتر به شعيرا فذهب الغلام فأخذ صاعا وزيادة بعض صاع فقال له معمر لم فعلت ذلك انطلق فرده ولا تأخذن إلا مثلا بمثل فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ساق هذا الحديث المذكور فقيل له فإنه ليس مثله فقال إني أخاف أن يضارع وظاهره أنه اجتهاد منه ويرد عليهم ظاهر الحديث ونص حديث أبي داود والنسائي من حديث عبادة بن الصامت قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا بأس ببيع البر بالشعير والشعير أكثر، وهما يدا بيد"
9- وعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال اشتريت يوم خيبر قلادة باثني عشر دينارا فيها ذهب وخرز ففصلتها فوجدت فيها أكثر من اثني عشر دينارا فذكرت(3/39)
ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لا تباع حتى تفصل" رواه مسلم الحديث قد أخرجه الطبراني في الكبير بطرق كثيرة بألفاظ متعددة حتى قيل إنه مضطرب وأجاب المصنف أن هذا الاختلاف لا يوجب ضعفا بل المقصود من الاستدلال محفوظ لا اختلاف فيه وهو النهي عن بيع ما لم يفصل وأما جنسها وقدر ثمنها فلا يتعلق به في هذه الحالة ما يوجب الاضطراب وحينئذ فينبغي الترجيح بين رواتها وإن كان الجميع ثقات فيحكم بصحة رواية أحفظهم وأضبطهم فتكون رواية الباقين بالنسبة إليه شاذة وهو كلام حسن يجاب به فيما يشابه هذا مثل حديث جابر وقصة جمله ومقدار ثمنه والحديث دليل على أنه لا يجوز بيع ذهب مع غيره بذهب حتى يفصل ويباع الذهب بوزنه ذهبا ويباع الآخر بما زاد ومثله غيره من الربويات فإنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا تباع حتى تفصل" فصرح ببطلان العقد وأنه يجب التدارك له وقد اختلف في هذا الحكم فذهب كثير من السلف و الشافعي وأحمد وغيرهم إلى العمل بظاهر الحديث وخالف في ذلك الهادوية والحنفية وآخرون وقالوا بجواز ذلك بأكثر مما فيه من الذهب ولا يجوز بمثله ولا بدونه قالوا وذلك لأنه حصل الذهب في مقابلة الذهب والزائد من الذهب في مقابلة المصاحب له فصح العقد قالوا لأنه إذا احتمل العقد وجه صحة وبطلان حمل على الصحة قالوا وحديث القلادة الذهب فيها أكثر من اثني عشر دينارا لأنها إحدى الروايات في مسلم وصححها أصحاب أبي علي الغساني ولفظها قلادة فيها اثنا عشر دينارا وهي أيضا كرواية الأكثر في الحكم وهو على التقديرين لا يصح لأنه لا بد أن يكون المنفرد أكثر من المصاحب ليكون ما زاد من المنفرد في مقابلة المصاحب وأجاب المانعون بأن الحديث فيه دلالة على علة النهي وهوعدم الفصل حيث قال لا تباع حتى تفصل وظاهره الإطلاق في المساوي وغيره فالحق مع القائلين بعدم الصحة ولعل حكمة النهي هو سد الذريعة إلى وقوع التفاضل في الجنس الربوي ولا يكون إلا بتمييزه بفصل واختبار المساواة بالكيل أو الوزن وعدم الكفاية بالظن في التغليب ولمالك قول ثالث في المسألة وهو أنه يجوز بيع السيف المحلى بالذهب إذا كان الذهب في البيع تابعا لغيره وقدره بأن يكون الثلث فما دونه وعلل لقوله بأنه إذا كان الجنس المقابل بجنسه الثلث فما دونه فهو مغلوب ومكثور للجنس المخالف والأكثر ينزل في غالب الأحكام منزلة الكل فكأنه لم يبع ذلك الجنس بجنسه ولا تخفى ركته وضعفه وأضعف منه القول الرابع وهو جواز بيعه بالذهب مطلقا مثلا بمثل أو أقل أو أكثر ولعل قائله ما عرف حديث القلادة
10- وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وعلى وسلم نهى عن(3/40)
بيع الحيوان بالحيوان نسيئة" رواه الخمسة وصححه الترمذي وابن الجارود وأخرجه أحمد وأبو يعلى والضياء في المختارة كلهم من حديث الحسن عن سمرة وقد صححه الترمذي وقال غيره رجاله ثقات إلا أن الحفاظ رجحوا إرساله لما في سماع الحسن من سمرة من النزاع لكن رواه ابن حبان والدارقطني من حديث ابن عباس ورجاله ثقات أيضا إلا أنه رجح البخاري وأحمد إرساله وأخرجه الترمذي عن جابر بإسناد لين وأخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند عن جابر بن سمرة والطحاوي والطبراني عن ابن عمر وهو يعضد بعضه بعضا وفيه دليل على عدم صحة بيع الحيوان بالحيوان نسيئة إلا أنه قد عارضه رواية أبي رافع أنه صلى الله عليه وسلم استسلف بعيرا بكرا وقضى رباعيا وسيأتي فاختلف العلماء في الجمع بينه وبين حديث سمرة فقيل المراد بحديث سمرة أن يكون نسيئة من الطرفين معا فيكون من بيع الكالىء بالكالىء وهو لا يصح وبهذا فسره الشافعي جمعا بينه وبين حديث أبي رافع وذهبت الهادوية والحنفية والحنابلة إلى أن هذا ناسخ لحديث أبي رافع وأجيب عنه بأن النسخ لا يثبت إلا بدليل والجمع أولى منه وقد أمكن بما قاله الشافعي ويؤيده آثار عن الصحابة أخرجها البخاري قال اشترى ابن عمر راحلة بأربعة أبعرة مضمونة عليه يوفيها صاحبها بالربذة واشترى رافع بن خديج بعيرا ببعيرين وأعطاه أحدهما وقال آتيك وصله غدا وقال ابن المسيب لا ربا في البعير بالبعيرين والمثناة بالشاتين إلى أجل واعلم أن الهادوية يعللون منع بيع الحيوان الموجود بالحيوان المفقود بأن المبيع القيمي لا بد أن يكون موجودا عند العقد في ملك البائع له والحيوان قيمي مبيع مطلقا فيجب كونه موجودا وإن لم يكن حاضرا مجلس العقد فلا بد أن يكون متميزا عند البائع إما بإشارة أو لقب أو وصف وكذلك عللوا منع قرض الحيوان بعدم إمكان ضبطه وحديث أبي رافع يزعمون نسخه ويأتي تحقيق الكلام في شرح الحديث الرابع عشر
11- وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا تبايعتم بالعينة" بكسر العين المهملة وسكون المثناة التحتية "وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا" بضم الذال المعجمة والكسر الاستهانة والضعف "لا ينزعه شيء حتى ترجعوا إلى دينكم" رواه أبو داود من رواية نافع عنه وفي إسناده مقال لأن في إسناده أبا عبد الرحمن الخراساني اسمه إسحاق عن عطاء الخراساني قال الذهبي في الميزان هذا من مناكيره ولأحمد نحوه من رواية عطاء ورجاله ثقات وصححه ابن القطان قال المصنف وعندي أن الحديث الذي صححه ابن القطان معلول لأنه لا يلزم من كونه رجاله ثقات أن يكون صحيحا لأن الأعمش مدلس ولم يذكر سماعه من عطاء وعطاء يحتمل أن يكون هو الخراساني(3/41)
فيكون من تدليس التسوية بإسقاط نافع بن عطاء وابن عمر فيرجع إلى الحديث الأول وهو المشهور اه والحديث له طرق عديدة عقد له البيهقي بابا وبين عللها واعلم أن بيع العينة هو أن يبيع سلعة بثمن معلوم إلى أجل ثم يشتريها من المشتري بأقل ليبقى الكثير في ذمته وسميت عينة لحصول العين أي النقد فيها ولأنه يعود إلى البائع عين ماله وفيه دليل على تحريم هذا البيع وذهب إليه مالك وأحمد وبعض الشافعية عملا بالحديث قالوا ولما فيه من تفويت مقصد الشارع من المنع عن الربا وسد الذرائع مقصود قال القرطبي لأن بعض صور هذا البيع تؤدي إلى بيع التمر بالتمر متفاضلا ويكون الثمن لغوا وأما الشافعي فنقل عنه أنه قال بجوازه أخذا من قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد وأبي هريرة الذي تقدم "بع الجمع بالدراهم جنيبا" قال فإنه دال على جواز بيع العينة فيصح أن يشتري ذلك البائع له ويعود له عين ماله لأنه لما لم يفصل ذلك في مقام الاحتمال دل على صحة البيع مطلقا سواء كان من البائع أو غيره وذلك لأن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال يجري مجرى العموم في المقال وأيد ما ذهب إليه الشافعي بأنه قد قام الإجماع على جواز البيع من البائع بعد مدة لا لأجل التوصل إلى عوده إليه بالزيادة وقالت الهادوية يجوز البيع من البائع إذا كان غير حيلة ولا فرق بين التعجيل والتأجيل وبأن المعتبر في ذلك وجود الشرط في أصل العقد وعدمه فإذا كان مشروطا عند العقد أو قبله على عوده إلى البائع فالبيع فاسد أو باطل على الخلاف وإن كان مضمراً مشروط فهو صحيح ولعلهم يقولون حديث العينة فيه مقال فلا ينتهض دليلا على التحريم وقوله "وأخذتم أذناب البقر" كناية عن الاشتغال عن الجهاد بالحرث والرضا بالزرع كناية عن كونه قد صار همهم وهمتهم وتسليط الله كناية عن جعلهم أذلاء بالتسليط لما في ذلك من الغلبة والقهر وقوله -"حتى ترجعوا إلى دينكمط- أي ترجعوا إلى الاشتغال بأعمال الدين وفي هذه العبارة زجر بالغ وتقريع شديد حتى جعل ذلك بمنزلة الردة وفيه الحث على الجهاد
12- وعن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من شفع لأخيه شفاعة فأهدى له هدية فقبلها فقد أتى بابا عظيما من أبواب الربا" رواه أحمد وأبو داود وفي إسناده مقال فيه دليل على تحريم الهدية في مقابلة الشفاعة وظاهره سواء كان قاصدا لذلك عند الشفاعة أو غير قاصد لها وتسميته ربا من باب الاستعارة للشبه بينهما ذلك لأن الربا هو الزيادة في المال من الغير لا في مقابلة عوض وهذا مثله ولعل المراد إذا كانت الشفاعة في واجب كالشفاعة عند السلطان في إنقاذ المظلوم من يد الظالم أو كانت في محظور كالشفاعة عنده في تولية ظالم على الرعية فإنها في الأولى واجبة فأخذ الهدية في مقابلها محرم والثانية محظور فقبضها في مقابلها محظور(3/42)
وأما إذا كانت الشفاعة في أمر مباح فلعله جائز أخذ الهدية لأنها مكافأة على إحسان غير واجب ويحتمل أنها تحرم لأن الشفاعة شيء يسير لا تؤخذ عليه مكافأة وإنما قال المصنف وفي إسناده مقال لأنه رواه القاسم عن أبي أمامة وهو أبو عبد الرحمن مولاهم الأموي الشامي فيه مقال قال المنذري قلت في الميزان قال الإمام أحمد روى عنه علي بن زيد أعاجيب وما أراها إلا من قبل القاسم وقال ابن حبان كان ممن يروي عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المعضلات ثم إنه وثقة ابن معين وقال الترمذي ثقة انتهى
13- وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي" رواه أبو داود والترمذي وصححه ورواه أحمد في القضاء وابن ماجه في الأحكام والطبراني في الصغير وقال الهيثمي رجاله ثقات وذكر المصنف هذا الحديث في أبواب الربا لأنه أفاد لعن من ذكر لأجل أخذ المال الذي يشبه الربا كذلك أخذ الربا وقد تقدم لعن آخذه أول الباب وحقيقة اللعن البعد عن مظان الرحمة ومواطنها وقد ثبت اللعن عنه صلى الله عليه وسلم لأصناف كثيرة تزيد على العشرين وفيه دلالة على جواز لعن العصاة من أهل القبلة وأما حديث "المؤمن ليس باللعان" فالمراد به لعن من لا يستحق ممن لم يلعنه الله ولا رسوله أو ليس بالكثير اللعن كما تفيده صيغة فعال والراشي هو الذي يبذل المال ليتوصل به إلى الباطل مأخوذ من الرشاء وهو الحبل الذي يتوصل به إلى الماء في البئر فعلى هذا بذل المال للتوصل إلى الحق لا يكون رشوة والمرتشي آخذ الرشوة وهو الحاكم واستحقا اللعنة جميعا لتوصل الراشي بماله إلى الباطل والمرتشي للحكم بغير الحق وفي حديث ثوبان زيادة والرائش وهو الذي يمشي بينهما
14- وعنه أي ابن عمرو "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يجهز جيشا فنفدت الإبل فأمره أن يأخذ على قلائص الصدقة قال فكنت آخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة" رواه الحاكم والبيهقي ورجاله ثقات ذكر المصنف له هنا لأن الحديث يدل أن لا ربا في الحيوانات وإلا فبابه القرض وفي الحديث دليل على جواز اقتراض الحيوان وفيه أقوال ثلاثة الأول جواز ذلك وهو قول الشافعي ومالك وجماهير العلماء من السلف والخلف عملا بهذا الحديث وبأن الأصل جواز ذلك إلا جارية لمن يملك وطأها فإنه لا يجوز ويجوز لمن لا يملك وطأها كمحارمها والمرأة والثاني يجوز مطلقا للجارية وغيرها وهو لابن جرير وداود الثالث للهادوية والحنفية أنه لا يجوز قرض شيء من الحيوانات وهذا الحديث يرد قولهم وتقدم دعواهم النسخ وعدم صحته
واعلم أنه قد وقع في الشرح أن حديث ابن عمرو في قرض الحيوان كما ذكرناه وراجعنا كتب الحديث فوجدنا في سنن البيهقي ما لفظه بعد سياقه بإسناده قال عمرو بن حريش لعبد الله بن عمرو بن العاص إنا بأرض ليس فيها ذهب ولا فضة أفأبيع البقرة بالبقرتين والبعير بالبعيرين والمثناة بالشاتين فقال "أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أجهز(3/43)
جيشا" الحديث المصدر في الكتاب وفي لفظ "فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يبتاع ظهرا إلى خروج المصدق" فسياق الأول واضح أنه في بيع ولفظ الثاني صريح في ذلك إذا عرفت هذا فحمله على القرض خلاف ما دل عليه من بيع الحيوان بالحيوان نسيئة وقد عارضه حديث النهي عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة كما تقدم في الحديث العاشر وقد علمت ما قيل فيه والأقرب من باب الترجيح أن حديث ابن عمرو أرجح من حيث الإسناد فإنه قد قال الشافعي في حديث سمرة أنه غير ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رواه عنه البيهقي وقرض الحيوان بالحيوان قد صح عنه صلى الله عليه وسلم جوازه أيضا
15- وعن ابن عمرو رضي الله عنهما وكان قياس قاعدة المصنف وعنه قال "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة" وفسرها بقوله أن يبيع ثمر حائطه إن كان نخلا بتمر كيلا وإن كان كرما أن يبيعه بزبيب كيلا وإن كان زرعا أن يبيعه بكيل طعام نهى عن ذلك كله متفق عليه تقدم الكلام على تفسير المزابنة واشتقاقها ووجه التسمية وقوله ثمر بالمثلثة وفتح الميم فشمل الرطب وغيره والمراد ما كان في أصله رطبا من هذه الأمور المذكورة وأراد بالكرم العنب وقد اختلف العلماء في تفسير المزابنة وتقدم أن المعول عليه في تفسيرها ما فسرها به الصحابي لاحتمال أنه مرفوع وإلا فهو أعرف بمراد الرسول صلى الله عليه وسلم قال ابن عبد البر لا مخالف لهم أن مثل هذا مزابنة وإنما اختلفوا هل يلحق بذلك كل ما لا يجوز بيعه إلا مثل بمثل فالجمهور على الإلحاق في الحكم للمشاركة في العلة في ذلك وهو عدم العلم بالتساوي مع الاتفاق في الجنس والتقدير وأما تسمية ما ألحق مزابنة فهو إلحاق في الاسم فلا يصح إلا على رأي من أثبت اللغة بالقياس
16- وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن اشتراء الرطب بالتمر فقال: "أينقص الرطب إذا يبس؟" قالوا نعم فنهى عن ذلك" رواه الخمسة وصححه ابن المديني والترمذي وابن حبان والحاكم وإنما صححه ابن المديني وإن كان مالك علقه عن داود بن الحصين لأن مالكا لقي شيخه بعد ذلك فحدث به مرة عن داود ثم استقر رأيه على التحديث به عن شيخه قال ابن المديني إن والده حدث به عن مالك بتعليقه عن داود إلا أن سماع والده عن مالك قديم ثم حدث به مالك عن شيخه فصح من طريق مالك ومن أعله بجهالة حال أبي عياش فقد رد عليه بأن الدارقطني قال إنه ثبت ثقة وقال المنذري قد روى عنه ثقات وقد اعتمده مالك مع شدة نقده قال الحاكم ولا أعلم أحدا طعن فيه والحديث دليل على عدم جواز بيع الرطب بالتمر لعدم التساوي كما تقدم
17- وعن ابن عمررضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع(3/44)
الكالىء بالكالىء" يعني الدين بالدين رواه إسحاق والبزار بإسناد ضعيف ورواه الحاكم والدارقطني من دون تفسير لكن في إسناده موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف قال أحمد لا تحل الرواية عندي عنه ولا أعرف هذا الحديث لغيره وصحفه الحاكم فقال موسى بن عتبة فصححه على شرط مسلم وتعجب البيهقي من تصحيفه على الحاكم قال أحمد ليس في هذا حديث يصح لكن إجماع الناس أنه لا يجوز بيع دين بدين وظاهر الحديث أن تفسيره بذلك مرفوع والكالىء من كلأ الدين كلوءا فهو كالىء إذا تأخر وكلأته وقد لا يهمز تخفيفا قال في النهاية هو أن يشتري الرجل شيئا إلى أجل فإذا حل الأجل لم يجد ما يقضي به فيقول بعنيه إلى أجل آخر بزيادة شيء فيبيعه ولا يجري بينهما تقابض والحديث دل على تحريم ذلك وإذا وقع كان باطلا(3/45)
باب الرخصة في العرايا
وبيع أصول الثمار
1- عن زيد بن ثابت رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في العرايا أن تباع بخرصها كيلا" متفق عليه ولمسلم رخص في العرية يأخذها أهل البيت بخرصها تمرا يأكلونها رطبا الترخيص في الأصل التسهيل والتيسير وفي عرف المتشرعة ما شرع من الأحكام لعذر مع بقاء دليل الإيجاب والتحريم لولا ذلك العذر وهذا دليل على أن حكم العرايا مخرج من بين المحرمات مخصوص بالحكم وقد صرح باستثنائه في حديث جابر عند البخاري بلفظ "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمار حتى يطيب ولا يباع شيء منه إلا بالدنانير والدراهم إلا العرايا" وفي قوله في العرايا مضاف محذوف أي في بيع ثمر العرايا لأن العرية هي النخلة وهي في الأصل عطية ثمر النخل دون الرقبة كانت العرب في الجدب يتطوع أهل النخل منهم بذلك على من لا ثمر له كما كانوا يتطوعون بمنيحة المثناة والإبل وقال مالك العرية أن يعري الرجل الرجل النخلة ثم يتأذى المعري بدخول المعرى عليه فرخص له أن يشتريها أي رطبها منه بتمر أي يابس وقد وقع اتفاق الجمهور على جواز رخصة العرايا وهو بيع الرطب على رؤوس النخل بقدر يقدر كيله من التمر خرصا فيما دون خمس أوسق بشرط التقابض وإنما قلنا فيما دون خمسة أوسق لحديث أبي هريرة
2- وعن أبي هريرة رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في العرايا بخرصها فيما دون خمسة أوسق أو في خمسة أوسق" متفق عليه وبين مسلم أن الشك فيه من داود بن الحصين وقد وقع الاتفاق بين الشافعي ومالك على صحته فيما دون الخمسة وامتناعه فيما فوقها والخلاف بينهما فيها لحديث جابر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين أذن لأصحاب العرايا أن يبيعوها بخرصها يقول الوسق والوسقين والثلاثة والأربعة أخرجه أحمد وترجم له ابن حبان الاحتياط على أن لا يزيد على أربعة أوسق وأما اشتراط التقابض فلأن الترخيص إنما وقع في بيع ما ذكر مع عدم تيقن التساوي(3/45)
فقط وأما التقابض فلم يقع فيه ترخيص فبقي على الأصل من اعتباره ويدل لاشتراطه ما أخرجه الشافعي من حديث زيد بن ثابت أنه سمى رجالا محتاجين من الأنصار شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نقد في أيديهم يبتاعون به رطبا ويأكلون مع الناس وعندهم فضول قوتهم من التمر فرخص لهم أن يبتاعوا العرايا بخرصها من التمر وفيه مأخذ لمن يشترط التقابض وإلا لم يكن لذكر وجود التمر عندهم وجه
واعلم أن الحديث ورد في الرطب بالتمر على رؤوس الشجر وأما شراء الرطب بعد قطعه بالتمر فقال بجوازه كثير من الشافعية إلحاقا له بما على رؤوس الشجر كما بوب بذلك البخاري لأن محل الرخصة هو الرطب نفسه مطلقا أعم من كونه على رؤوس النخل أو قد قطع فيشمله النص ولا يكون قياسا ولا منع إذ قد تدعو حكمة الترخيص إلى شراء الرطب الحاصل فإنه قد تدعو إليه الحاجة في الحال وقد يكون مع المشتري تمر فيأخذه به فيدفع به قول ابن دقيق العيد إن ذلك لا يجوز وجها واحدا لأن أحد المعاني في الرخصة أن يأكل الرطب على التدريج طريا وهذا القصد لا يحصل مما على وجه الأرض
3- وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها نهى البائع والمبتاع" متفق عليه وفي رواية وكان إذا سئل عن صلاحها قال حتى تذهب عاهتها وهي الآفة والعيب اختلف السلف في المراد ببدو الصلاح على ثلاثة أقوال الأول أنه يكفي بدو الصلاح في جنس الثمار أن يكون الصلاح متلاحقا وهو قول الليث والمالكية والثاني أنه لا بد أن يكون في جنس تلك الثمرة المبيعة وهو قول لأحمد والثالث أنه يعتبر الصلاح في تلك الشجرة المبيعة وهو قول الشافعية ويفهم من قوله يبدو أنه لا يشترط تكامله فيكفي زهو بعض الثمارة وبعض الشجرة مع حصول المعنى المقصود وهو اختلفا من العاهة وقد جرت حكمة الله أن لا تطيب الثمار دفعة واحدة لتطول مدة التفكه بها والانتفاع والحديث دليل على النهي عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها والإجماع قائم على أنه لا يصح بيع الثمار قبل خروجها لأنه بيع معدوم وكذا بعد خروجها قبل نفعها إلا أنه روى المصنف في الفتح أن الحنفية أجازوا بيع الثمار قبل بدو الصلاح وبعده بشرط القطع وأبطلوه بشرط البقاء قبله وبعده وأما بعد صلاحها ففيه تفاصيل فإن كان بشرط القطع صح إجماعا وإن كان بشرط البقاء كان بيعا فاسدا إن جهلت المدة فإن علمت صح عند الهادوية ولا غرر وقال المؤيد لا يصح للنهي عن بيع وشرط وإن أطلق صح عند الهادوية وأبي حنيفة إذ المتردد بين الصحة والفساد يحمل على الصحة إذ هي الظاهر إلا أن يجري عرف ببقائه مدة مجهولة فيفسده وأفاد نهي البائع والمبتاع أما البائع فلئلا يأكل مال أخيه بالباطل وأما المشتري فلئلا يضيع ماله والعاهة هي الآفة التي تصيب الثمار وقد بين ذلك حديث زيد بن ثابت قال "كان الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبايعون الثمار فإذا جذ الناس وحضر تقاضيهم قال المبتاع إنه أصاب(3/46)
الثمار الدمان وهو فساد الطلع وسواده أصابه مراض قشام عاهات يحتجون بها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كثرت عنده الخصومة في ذلك :"فأما لا فلا تتبايعوا حتى يبدو صلاح الثمارة" كالمشورة يشير بها لكثرة خصوماتهم انتهى وأفهم قوله كالمشورة أن النهي للتنزيه لا للتحريم كأنه فهمه من السياق وإلا فأصله التحريم وكان زيد لا يبيع ثمار أرضه حتى تطلع الثرايا فيتبين الأصفر من الأحمر وأخرج أبو داود من حديث أبي هريرة مرفوعا إذا طلع النجم صباحا رفعت العاهة من كل بلد والنجم الثريا والمراد طلوعها صباحا وهو في أول الصيف وذلك عند اشتداد الحر ببلاد الحجاز وابتداء نضج الثمار وهو المعتبر حقيقة وطلوع الثريا علامة
4- وعن أنس رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى تزهى" قيل في رواية النسائي قيل يا رسول الله فأفاد أن التفسير مرفوع "وما زهوها؟" بفتح الزاي قال "تحمار وتصفار" متفق عليه واللفظ للبخاري يقال أزهى يزهى إذا احمر واصفر وزها النخل يزهو إذا ظهرت ثمرته وقيل هما بمعنى الاحمرار والاصفرار ومنهم من أنكر يزهو ومنهم من أنكر يزهى كذا في النهاية قال الخطابي في هذه الرواية هي الصواب ولا يقال في النخل يزهو إنما يقال يزهى ومنهم من قال زها إذا طال واكتمل وأزهى إذا احمر واصفر قال الخطابي قوله "تحمار وتصفار" لم يرد بذلك اللون الخالص من الحمرة والصفرة إنما أراد حمرة أو صفرة بكمودة فلذلك قال تحمار وتصفار قال ولو أراد اللون الخالص لقال تحمر وتصفر قال ابن التين أراد بقوله تحمار وتصفار ظهور أوائل الحمرة والصفرة قبل أن ينضج قال وإنما يقال يفعال في اللون المتغير إذا كان لا يزول ذلك وقيل لا فرق إلا أنه قد يقال في هذا المحل المراد به ما ذكر بقرينة الحديث الآتي وهو قوله
5- وعن أنس رضي الله عنه قياس قاعدته وعنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع العنب حتى يسود وعن بيع الحب حتى يشتد" رواه الخمسة إلى النسائي وصححه ابن حبان والحاكم والمراد باسوداد العنب واشتداد الحب بدو صلاحه قال النووي فيه دليل لمذهب الكوفيين وأكثر العلماء في أنه يجوز بيع السنبل المشتد وأما مذهبنا ففيه تفصيل إن كان السنبل شعيرا أو ذرة أو مما في معناهما مما ترى حباته خارجة صح بيعه وإن كان حنطة أو نحوها مما يستر حباته بالقشور التي تزال في الدياس ففيه قولان للشافعي الجديد أنه لا يصح وهو أصح قوليه والقديم أنه يصح وأما قبل الاشتداد فلا يصح إلا(3/47)
بشرط القطع كما ذكرنا فإذا باع الزرع قبل الاشتداد مع الأرض بلا شرط صح تبعا للأرض وكذا الثمار قبل الصلاح إذا بيعت مع الشجر جاز بلا شرط تبعا هكذا حكم القول في الأرض لا يجوز بيعها دون الزرع إلا بشرط القطع وكذا لا يصلح بيع البطيخ ونحوه قبل بدو صلاحه وفروع المسألة كثيرة وقد نقحت مقاصدها في روضة الطالبين وشرح المهذب وجمعت فيها جملة مستكثرة وبالله التوفيق
6- وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لوبعت من أخيك ثمرا فأصابته جائحة" هي آفة تصيب الزرع "فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا بم تأخذ مال أخيك بغير حق" رواه مسلم وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح الجائحة مشتقة من الجوح وهو الاستئصال ومنه حديث إن أبي يجتاح مالي وفي الحديث دليل على أن الثمار التي على رؤوس الشجر إذا باعها المالك وأصابتها جائحة أن يكون تلفها من مال البائع وأنه لا يستحق على المشتري في ذلك شيئا وظاهر الحديث فيما باعه منهي عنه وأنه وقع البيع بعد بدو الصلاح لأنه منهي عن بيعه قبل بدوه ويحتمل وروده أي حديث وضع الجوائح قبل النهي يدل له ما وقع في حديث زيد بن ثابت أنه قال قدم النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نبتاع الثمار قبل أن يبدو صلاحها وسمع خصومة فقال ما هذا فذكر الحديث وأنه نهى عن بيعها قبل بدو صلاحها فأفاد مع ذكر سبب النهي تاريخ ذلك فيكون حديث وضع الجوائح متأخرا فيحمل أي حديث وضع الجوائح على البيع بعد بدو الصلاح وقد اختلف العلماء في وضع الجوائح فذهب الأقل إلى أن الجائحة إذا أصابت الثمر جميعه أن يوضع الثمن جميعه وأن التلف من مال البائع عملا بظاهر الحديث وذهب الأكثر إلى أن التلف من مال المشتري وأنه لا وضع لأجل الجائحة إلا ندباً واحتجوا له بحديث أبي سعيد أنه صلى الله عليه وسلم أمر الناس أن يتصدقوا على الذي أصيب في ثماره وسيأتي قالوا ووجه تلفه من مال المشتري أن التخلية في العقد الصحيح بمنزلة القبض وقد سلمه البائع للمشتري بالتخلية فكأنه قبضه وأجيب عنه بأن قوله "فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا" الحديث دال على التحريم وأنه تلف على البائع لقوله "مال أخيك" إذ يدل أنه لم يستحق منه الثمن وأنه مال أخيه لا ماله وحديث التصدق محمول على الاستحباب بقرينة قوله "لا يحل لك" وفائدة الأمر بالتصدق الإرشاد إلى الوفاء بغرضين جبر البائع وتعريض المشتري لمكارم الأخلاق كما يدل له قوله في آخر الحديث لما طلبوا الوفاء ليس لكم إلا ذلك فلو كان لازما لأمرهم بالنظرة إلى ميسرة
7- وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من ابتاع نخلا" هو اسم جنس يذكر ويؤنث والجمع نخيل " بعد أن تؤبر" والتأبير التشقيق والتلقيح وهو شق طلع النخلة الأنثى ليذرفها شيء من طلع النخلة الذكر(3/48)
"فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع" متفق عليه دل الحديث على أن الثمرة بعد التأبير للبائع وهذا منطوقه ومفهومه أنها قبله للمشتري وإلى هذا ذهب جمهور العلماء عملا بظاهر الحديث وقال أبو حنيفة: هي للبائع قبل التأبير وبعده فعمل بالمنطوق ولم يعمل بالمفهوم بناء على أصله من عدم العمل بمفهوم المخالفة ورد عليه بأن ملكا المستترة تخالف الظاهرة في البيع فإن ولد الأمة المنفصل لا يتبعها والحمل يتبعها وفي قوله "إلا أن يشترط المبتاع" دليل على أنه إذا قال المشتري اشتريت الشجرة بثمرتها كانت الثمرة له ودل الحديث على أن الشرط الذي لا ينافي مقتضى العقد لا يفسد البيع فيخص النهي عن بيع وشرط وهذا النص في النخل ويقاس عليه غيره من الأشجار(3/49)
أبواب السلم والقرض والرهن
1- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال "قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين" منصوبان بنزع الخافض أي إلى السنة والسنتين فقال "من أسلف في تمر" روي بالمثناة والمثلثة فهو بها أعم "فليسلف في كيل معلوم" إذا كان مما يكال "ووزن معلوم" إذا كان مما يوزن "إلى أجل معلوم" متفق عليه وللبخاري "من أسلف في شيء" السلف بفتحتين هو السلم وزنا ومعنى قيل وهو لغة أهل العراق والسلف لغة أهل الحجاز وحقيقته شرعا بيع موصوف في الذمة ببدل يعطى عاجلا وهو مشروع إلاعند ابن المسيب واتفقوا على أنه يشترط فيه ما يشترط في البيع وعلى تسليم رأس المال في المجلس إلا أنه أجاز مالك تأجيل الثمن يوما أو يومين ولا بد من أن يقدر بأحد المقدارين كما في الحديث فإن كان مما لا يكال ولا يوزن فقال المصنف في فتح الباري فلا بد فيه من عدد معلوم رواه ابن بطال وادعى عليه الإجماع وقال المصنف أو ذرع معلوم فإن العدد والذرع يلحقان بالوزن والكيل للجامع بينهما وهو ارتفاع الجهالة بالمقدار واتفقوا على اشتراط تعيين الكيل فيما يسلم فيه بالكيل كصاع الحجاز وقفيز العراق وأردب مصر فإذا أطلق انقلب إلى الأغلب في الجهة التي وقع فيها عقد السلم واتفقوا على أنه لا بد من معرفة صفة الشيء المسلم في صفة تميزه عن غيره ولم يتعرض له في الحديث لأنهم كانوا يعلمون به وظاهر الحديث أن التأجيل شرط في السلم فإن كان حالا لم يصح أو كان الأجل مجهولا وإلى هذا ذهب ابن عباس وجماعة من السلف وذهب آخرون إلى عدم شرطية ذلك وأنه يجوز السلم في الحال والظاهر أنه لم يقع في عصر النبوة إلا في المؤجل وإلحاق الحال بالمؤجل قياس على ما خالف القياس لأن السلم خالف القياس إذا هو بيع معدوم وعقد غرر واختلفوا أيضا في شرطية المكان الذي يسلم فيه فأثبته جماعة قياسا(3/49)
على الكيل والوزن والتأجيل وذهب آخرون إلى عدم اشتراطه وفصلت الحنفية فقالت إن كان لحمله مؤونة فيشترط وإلا فلا وقالت الشافعية إن عقد حيث لا يصلح للتسليم كالطريق فيشترط وإلا فقولان وكل هذه التفاصيل مستندها العرف
2- وعن عبد الله بن أبي أوفى وعبد الرحمن بن أبزى بفتح الهمزة وسكون الموحدة وفتح الزاي الخزاعي سكن الكوفة واستعمله علي بن أبي طالب عليه السلام على خراسان وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم وصلى خلفه قال كنا نصيب الغنائم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يأتينا أنباط من أنباط الشام هم من العرب دخلوا في العجم والروم فاختلطت أنسابهم وفسدت ألسنتهم سموا بذلك لكثرة معرفتهم بأنباط الماء أي استخراجه فنسلفهم في الحنطة والشعير والزبيب وفي رواية والزيت إلى أجل مسمى قيل أكان لهم زرع قالا ما كنا نسألهم عن ذلك رواه البخاري الحديث دليل على صحة السلف في المعدوم حال العقد إذ لو كان من شرطه وجود المسلم فيه لاستفصلوهم وقد قالا ما كنا نسألهم وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال وقد ذهب إلى هذا الهادوية والشافعية و مالك واشترطوا إمكان عند حلول الأجل ولا يضر انقطاعه قبل حضور الأجل لما عرفت من ترك الاستفصال كذا في الشرح قلت وهو استدلال بفعل الصحابي أو تركه ولا دليل على أنه صلى الله عليه وسلم علم ذلك وأقره وأحسن منه في الاستدلال أنه صلى الله عليه وسلم أقر أهل المدينة على السلم سنة وسنتين والرطب ينقطع في ذلك ويعارض ذلك حديث ابن عمر عند أبي داود ولا تسلفوا في النخل حتى يبدو صلاحه فإن صح ذلك كان مقيدا لتقريره لأهل المدينة على سلم السنة والسنتين وأنه أمرهم بأن لا يسلفوا حتى يبدو صلاح النخل ويقوى ما ذهب إليه الناصر وأبو حنيفة من أنه يشترط في المسلم فيه أن يكون موجودا من العقد إلى الحلول
3- وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله" رواه البخاري التعبير بأخذ أموال الناس يشمل أخذها بالاستدانة وأخذها لحفظها والمراد من إرادته التأدية قضاؤها في الدنيا وتأدية الله عنه يشمل تيسيره تعالى لقضائها في الدنيا بأن يسوق إلى المستدين ما يقضي به دينه وأداؤها عنه في الآخرة بإرضائه غريمه بما شاء تعالى وقد أخرج ابن ماجه وابن حبان والحاكم مرفوعا "ما من مسلم يدان دينا يعلم الله أنه يريد أداءه إلا أداه الله عنه في الدنيا والآخرة" وقوله "يريد إتلافها" الظاهر أنه من يأخذ بالاستدانة مثلا لا لحاجة ولا لتجارة بل لا يريد إلا إتلاف ما أخذ على صاحبه ولا ينوي قضاءها وقوله أتلفه الله الظاهر إتلاف الشخص نفسه في الدنيا بإهلاكه وهو يشمل ذلك ويشمل إتلاف طيب عيشه وتضييق أموره وتعسر مطالبه ومحق بركته ويحتمل إتلافه في الآخرة بتعذيبه قال ابن بطال فيه الحث على ترك استئكال أموال الناس والترغيب في حسن التأدية إليهم عند المداينة وأن الجزاء يكون من جنس العمل وأخذ منه الداودي أن من(3/50)
عليه دين فليس له أن يتصدق ولا يعتق وفيه بعد وفي الحديث الحث على حسن النية والترهيب عن خلافه وبيان أن مدار الأعمال عليها وأن من استدان ناويا الإيفاء أعانه الله عليه وقد كان عبد الله بن جعفر يرغب في الدين فيسأل عن ذلك فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إن الله مع الدائن حتى يقضى دينه" رواه ابن ماجه والحاكم وإسناده حسن إلا أنه اختلف فيه على محمد بن علي ورواه الحاكم من حديث عائشة بلفظ "ما من عبد كانت له نية في وفاء دينه إلا كان له من الله عون" قالت يعني عائشة فأنا ألتمس ذلك العون فإن قلت قد ثبت حديث "إنه يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين" وحديث "الآن بردت جلدته" قاله لمن أدى دينا عن ميت مات عليه دين قلت يحتمل أن معنى لا يغفر للشهيد الدين أنه باق عليه حتى يوفيه الله عنه يوم القيامة ولا يلزم من بقائه عليه أن يعاقب في قبره ومعنى قوله بردت جلدته خلصته من بقاء الدين عليه ويحتمل أن ذلك فيمن استدان ولم ينو الوفاء
4-وعن عائشة رضي الله عنها قالت قلت يا رسول الله إن فلانا قدم له بز من الشام فلو بعثت إليه فأخذت منه ثوبين نسيئة إلى ميسرة فبعث إليه فامتنع" أخرجه الحاكم والبيهقي ورجاله ثقات فيه دليل على بيع النسيئة وصحة التأجيل إلى ميسرة وفيه ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من حسن معاملة العباد وعدم إكراههم على الشيء وعدم الإلحاح عليهم وهذا من باب الرهن وهو لغة الإحتباس من قولهم رهن الشيء إذا دام وثبت ومنه {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} وفي الشرع جعل مال وثيقة على دين ويطلق على العين المرهونة.
5- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الظهر يركب" بالبناء للمفعول "ومثله يشرب بنفقته إذا كان مرهونا ولبن الدر" بفتح الدال المهملة وتشديد الراء وهو اللبن تسمية بالمصدر قيل هو من إضافة الشيء إلى نفسه وقيل من إضافة الموصوف إلى صفته "يشرب بنفقته إذا كان مرهونا وعلى الذي يركب ويشرب النفقة" رواه البخاري فاعل يركب ويشرب هو المرتهن بقرينة العوض وهو الركوب وإن كان يحتمل أنه الراهن إلا أنه احتمال بعيد لأن النفقة لازمة له فإن المرهون ملكه وقد جعلت في الحديث على الراكب والشارب المالك إذ النفقة لازمة للمالك على كل حال والحديث دليل على أنه يستحق المرتهن الانتفاع بالرهن في مقابلة نفقته وفي المسألة ثلاثة أقوال الأول ذهب أحمد وإسحاق إلى العمل بظاهر الحديث وخصوا ذلك بالركوب والدر فقالوا ينتفع بهما بقدر قيمة النفقة ولا يقاس غيرهما عليهما والثاني للجمهور قالوا لا ينتفع المرتهن بشيء قالوا والحديث خالف القياس من وجهين أولهما تجويز الركوب والشرب لغير المالك بغير إذنه وثانيهما تضمينه ذلك بالنفقة لا بالقيمة قال ابن عبد البر هذا الحديث عند جمهور الفقهاء ترده أصول مجمع عليها وآثار ثابتة لا يختلف في صحتها ويدل على نسخه حديث ابن عمر "لا تحلب ماشية امرىء بغير إذنه" أخرجه(3/51)
البخاري في أبواب المظالم قلت أما النسخ فلا بد له من معرفة التاريخ على أنه لا يحمل عليه إلا إذا تعذر الجمع ولا تعذر هنا إذ يخص عموم النهي بالمرهونة وأما مخالفة القياس فليست الأحكام الشرعية مطردة على نسق واحد بل الأدلة تفرق بينها في الأحكام والشارع حكم هنا بركوب المرهون وشرب لبنه وجعله قيمة النفقة وقد حكم الشارع ببيع الحاكم عن المتمرد بغير إذنه وجعل صاع التمر عوضا عن اللبن وغير ذلك وقال الشافعي المراد أنه لا يمنع الراهن من ظهرها ودرها فجعل الفاعل الراهن وتعقب بأنه ورد بلفظ المرتهن فتعين الفاعل والقول الثالث للأوزاعي والليث أن المراد من الحديث أنه إذا امتنع الراهن من الإنفاق على المرهون فيباح حينئذ الإنفاق على الحيوان حفظا لحياته وجعل له في مقابل النفقة الانتفاع بالركوب أو شرب اللبن بشرط أن لا يزيد قدر ذلك أو قيمته على قدر علفه وقوى هذا القول في الشرح ولا يخفى أنه تقييد للحديث بما لم يقيده به الشرع وإنما قيده بالضابط المتصيد من الأدلة وهو أن كل عين في يده لغيره بإذن الشارع فإنه ينفق عليها بنية الرجوع على المالك وله أن يؤجرها أو يتصرف في لبنها في قيمة العلف إلا أنه إذا كان في البلد حاكم ولم يستأذنه فلا رجوع بما أنفق ويلزمه غرامة المنفعة واللبن فإن لم يكن في البلد حاكم أو كان يتضرر الحيوان بمدة الرجوع فله أن ينفق ويرجع بما أنفق إلا أنه قد يقال إنها قاعدة عامة فتخص بحديث الكتاب
6- وعنه أي أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يغلق" بفتح حرف المضارعة وغين معجمة ساكنة ولام مفتوحة وقاف يقال غلق الرهن إذا خرج عن ملك الراهن واستولى عليه المرتهن بسبب عجزه عن أداء ما رهنه فيه وكان هذا عادة العرب فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم "الرهن من صاحبه الذي رهنه له غنمه" زيادته "وعليه غرمه" هلاكه ونفقته رواه الدارقطني والحاكم ورجاله ثقات إلا أن المحفوظ عند أبي داود وغيره إرساله قال الحافظ ابن عبد البر اختلف في قوله له غنمه وعليه غرمه فقيل هي مدرجة من قول سعيد بن المسيب قال ورفعها ابن أبي ذئب ومعمر وغيرهما مع كونهم أرسلوا الحديث على اختلاف على ابن أبي ذئب ووقفها غيرهم وقد روى ابن وهب هذا الحديث فجوده وبين أن هذه اللفظة من قول ابن المسيب وكذا أبو داود في المراسيل قوى أنه من قوله ومعنى يغلق لا يستحقه المرتهن إذا عجز صاحبه عن فكه والحديث ورد لإبطال ما كان عليه في الجاهلية عن غلق الرهن عند المرتهن وبيان أن زيادته للراهن ونفقته عليه كما سلف فيما قبله
وهو من أحاديث باب القرض والأحاديث في فضله والحث عليه كثيرة.
7- وعن أبي رافع "أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكرا" بفتح الموحدة وسكون الكاف من الإبل "فقدمت عليه إبل من إبل الصدقة فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره قال لا أجد إلا خيارا رباعيا" هو بفتح الراء الذي يدخل في السنة السابعة وتبقى رباعيته فقال "أعطه إياه فإن خيار الناس أحسنهم قضاء" رواه مسلم(3/52)
تقدم الكلام على الخلاف في قرض الحيوان والحديث دليل على جوازه وأنه يستحب لمن عليه دين من قرض أو غيره أن يرد أجود من الذي عليه وأن ذلك من مكارم الأخلاق المحمودة عرفا وشرعا ولا يدخل في القرض الذي يجر نفعا لأنه لم يكن مشروطا من المقرض وإنما ذلك تبرع من المستقرض وظاهره العموم للزيادة عددا أو صفة وقال مالك الزيادة في العدد لا تحل
8- وعن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل قرض جر منفعة فهو ربا" رواه الحارث بن أبي أسامة وإسناده ساقط لأن في إسناده سوار بن مصعب الهمداني المؤذن الأعمى وهو متروك وله شاهد ضعيف عن فضالة بن عبيد عند البيهقي أخرجه البيهقي في المعرفة بلفظ كل قرض جر منفعة فهو وجه من وجوه الربا وآخر موقوف عن عبد الله بن سلام عند البخاري لم أجده في البخاري في باب الاستقراض ولا نسبه المصنف في التلخيص إلى البخاري بل قال إنه رواه البيهقي في السنن الكبرى عن ابن مسعود وأبي بن كعب وعبد الله بن سلام وابن عباس موقوفا عليهم انتهى فلو كان في البخاري لما أهمل نسبته إليه في التلخيص والحديث بعد صحته لا بد من التوفيق بينه وبن ما تقدم وذلك بأن هذا محمول على أن المنفعة مشروطة من المقرض أو في حكم المشروطة وأما لو كانت تبرعا من المقترض فقد تقدم أنه يستحب له أن يعطي خيرا مما أخذه(3/53)
باب التفليس والحجر
هو لغة مصدر فلسته نسبته إلى الإفلاس الذي هو مصدر أفلس أي صار إلى حالة لا يملك فيها فلسا والحجر لغة مصدر حجر أي منع وضيق وشرعا قول الحاكم للمديون حجرت عليك التصرف في مالك
1- عن أبي بكر بن عبد الرحمن أي ابن الحارث بن هشام المخزومي قاضي المدينة تابعي سمع عائشة وأبا هريرة روى عنه الشعبي والزهري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أدرك ماله بعينه" لم يتغير بصفة لا بزيادة ولا نقصان "عند رجل قد أفلس فهو أحق به من غيره" متفق عليه ورواه أبو داود ومالك من رواية أبي بكر بن عبد الرحمن مرسلا وقد وصله أبو داود من طريق أخرى فيها إسماعيل بن عياش لأنها من روايته عن الشاميين وروايته عنهم صحيحة بلفظ أيما رجل باع متاعا فأفلس الذي ابتاعه ولم يقبض الذي باعه من ثمنه شيئا فوجد متاعه بعينه فهو أحق به وإن مات المشتري فصاحب المتاع أسوة الغرماء ووصله البيهقي وضعفه تبعا لأبي داود راجعنا سنن أبي داود فلم نجد فيها تضعيفا للرواية هذه بل قال في هذه الرواية بعد إخراجه لها من طريق مالك وحديث مالك(3/53)
أصح يريد أنه أصح من رواية أبي بكر بن عبد الرحمن التي ساقها أبو داود وفيها قال أبو بكر قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم "أن من توفي وعنده سلعة رجل بعينها لم يقض من ثمنها شيئا فصاحب السلعة أسوة الغرماء فيها" ولم يتكلم الشارح رحمه الله على هذا بشيء ورواه أبو داود وابن ماجة من رواية عمر بن خلدة بفتح الخاء المعجمة واللام ودال مهملة قال "أتينا أبا هريرة في صاحب لنا قد أفلس فقال لأقضين فيكم بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من أفلس أو مات فوجد رجل متاعه بعينه فهو أحق به" وصححه الحاكم وضعفه أبو داود وضعف أيضا هذه الزيادة في ذكر الموت سكت عليه الشارح وقد راجعت سنن أبي داود فلم أجد فيها تضعيفا لرواية عمر بن خلدة بل قال البيهقي بعد رواية حديث أبي بكر بن عبد الرحمن المرسلة التي ساق لفظها المصنف هنا بلفظ أيما رجل إلى آخره أنه قال الشافعي رواية عمر بن خلدة أولى من رواية أبي بكر هذه قال لأنها موصولة جمع فيها النبي صلى الله عليه وسلم بين الموت والإفلاس قال وحديث ابن شهاب يريد به رواية أبي بكر بن عبد الرحمن المذكورة منقطع وساق في ذلك كلاما كثيرا يرجح به رواية عمر بن خلدة فلينظر هذا الحديث اشتمل على مسائل الأولى أنه إذا وجد البائع متاعه عند من شراه منه وقد أفلس فإنه أحق بمتاعه من سائر الغرماء فيأخذه إذا كان له غرماء وعموم قوله من أدرك ماله يعم من كان له مال عند الآخر بقرض أو بيع وإن كان قد وردت أحاديث مصرحة بلفظ البيع فقد أخرج ابن خزيمة وابن حبان وغيرهما الحديث بلفظ "إذا ابتاع الرجل سلعة ثم أفلس وهي عنده بعينها فهو أحق بها من الغرماء" فقد عرف في الأصول أن الخاص الموافق للعام لا يخصص العام إلا عند أبي ثور وقد زيفوا ما ذهب إليه من ذلك ولذلك ذهب الشافعي وآخرون إلى أن المقرض أولى بماله في القرض كما أنه أولى به في البيع وذهب غيره إلى أنه يختص ذلك بالبيع للتصريح به في أحاديث الباب لكن قد عرفت أن ذلك لا يخص عموم حديث الباب المسألة الثانية أفاد قوله بعينه أنه إذا وجده وقد تغير بصفة من الصفات أو بزيادة أو نقصان فإنه ليس صاحبه أولى به بل يكون أسوة الغرماء وقد اختلف العلماء في ذلك فذهبت الهادوية و الشافعي إلى أنه إذا تغيرت صفته بعيب فللبائع أخذه ولا أرش له وإن تغير بزيادة كان للمشتري غرامة تلك الزيادة وهي ما انفق عليه حتى حصلت وكذلك الفوائد للمشتري ولو كانت متصلة لأنها إنما حدثت في ملكه ويلزم له قيمة ما لا حد لبقائه كالشجرة إذا غرسها وإبقاء ماله حد بلا أجرة كالزرع وكذلك إذا نقصت العين فله أخذ الباقي بحصته من الثمن يتناوله لأن الباقي مبيع باق بعينه. المسألة الثالثة دل لفظ أبي بكر بن عبد الرحمن المرسل أن البائع إذا كان قد قبض بعض الثمن فليس له حق في استرجاع المبيع بل يكون أسوة الغرماء وبهذا أخذ جمهور العلماء وعند الهادوية وهو راجح قولي الشافعي أنه لا يصير المبيع بقبض بعض ثمنه أسوة الغرماء بل البائع أولى به وكأن الشافعي ذهب إلى هذا لأنه لم يصح الحديث عنده بل قال إنه منقطع فمن قال بصحة الحديث وأنه موصول قال بما قاله(3/54)
الجمهور ومن لا فلا وفي وصله وعدمه خلاف منهم من رجح إرساله وهم أكثر الحفاظ المسألة الرابعة قوله فإن مات المشتري فصاحب المتاع أسوة الغرماء فيه حذف تقديره فمتاع صاحب المتاع أسوة الغرماء وهذا دال على التفرقة بين الموت والإفلاس وإلى التفرقة بينهما ذهب مالك وأحمد عملا بهذه الرواية قالوا لأن الميت برئت ذمته وليس للغرماء محل يرجعون إليه فاستووا في ذلك بخلاف المفلس وسواء خلف الميت وفاء أو لا وذهب الهادوية إلى أنه إذا خلف وفاء فليس البائع أولى بمتاعه بل يسلم الورثة الثمن من التركة وحجتهم أنه قد ورد في حديث أبي بكر بن عبد الرحمن زيادة لفظ إلا إن ترك صاحبها وفاء لكن قال الشافعي يحتمل أن الزيادة من رأي أبي بكر بن عبد الرحمن وقرينة الاحتمال أن الذين وصلوه عنه لم يذكروا قضية الموت وكذلك الذين رووه عن أبي هريرة وذهب الشافعي إلى أنه لا فرق بين الموت والإفلاس وأن صاحب المتاع أولى بمتاعه عملا بعموم "من أدرك ماله عند رجل" الحديث متفق عليه قال ولا فرق بين الموت والإفلاس والتفرقة بينهما برواية أبي بكر بن عبد الرحمن وقوله فيها فإن مات فصاحب المتاع أسوة الغرماء غير صحيحة لأن الحديث مرسل لم يصح وصله فلا يعمل به بل في رواية عمر بن خلدة التسوية بين الموت والإفلاس وهو حديث حسن يحتج بمثله
2- وعن عمرو بن الشريد رضي الله عنه بفتح الشين المعجمة وكسر الراء تابعي سمع ابن عباس وغيره عن أبيه قال "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لي" : بفتح اللام ثم مثناة تحتية مشددة مصدر لوى يلوي أي مطل أضيف إلى فاعله "وهو الواجد" بالجيم يعني من الوجد بالضم أي القدرة "يحل" بضم حرف المضارعة "عرضه وعقوبته " رواه أبو داود والنسائي وعلقه البخاري وصححه ابن حبان وأخرجه أحمد وابن ماجه والبيهقي وفسر البخاري حل العرض بما علقه عن سفيان قال يقول مطلني وعقوبته حبسه وهو دليل لزيد بن علي أنه يحبس حتى يقضي دينه وأجاز الجمهور الحجر وبيع الحاكم عنه ماله وهذا أيضا داخل تحت لفظ عقوبته لا سيما وتفسيرها بالحبس ليس بمرفوع ودل الحديث على تحريم مطل الواجد ولذا أبيحت عقوبته وإنما اختلف العلماء هل يبلغ إلى حد الكبيرة فيفسق وترد شهادته بمطله مرة واحدة أم لا فذهبت الهادوية إلى أنه يفسق بذلك واختلفوا في قدر ما يفسق به فقال الجمهور منهم إنه يفسق بمطل عشرة دراهم فما فوق قياسا على نصاب السرقة وفي كلام الهادي عليه السلام ما يقضي بأنه يفسق بدون ذلك وكذلك ذهبت إلى هذا المالكية والشافعية إلا أنهم ترددوا في اشتراط التكرار فأتى مذهب الشافعي اشتراطه ثم يدل بمفهومه على أن الواجد وهو المعسر لا يحل عرضه ولا عقوبته والحكم كذلك عند الجماهير وهو الذي دل على قوله تعالى :{فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}
3- وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها فكثر دينه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(3/55)
"تصدقوا عليه" فتصدق الناس عليه ولم يبلغ ذلك وفاء دينه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لغرمائه "خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك" رواه مسلم تقدم الكلام في الجمع بين هذا الحديث وحديث جابر قوله فلا يحل لك أن تأخذ بأن هذا على جهة الاستحباب والحث على جبر من حدث عليه حادث ويدل أيضا قوله "وليس لكم إلا ذلك" على أن الثمرة غير مضمونة إذ لو كانت مضمونة لقال وما بقي فنظرة إلى ميسرة أو نحوه إذ الدين لا يسقط بإعسار المدين وإنما تتأخر عنه المطالبة في الحال ومتى أيسر وجب عليه القضاء
4- وعن ابن كعب بن مالك اسمه عبد الرحمن سماه عبد الرزاق عن أبيه "أن النبي صلى الله عليه وسلم حجر على معاذ ماله وباعه في دين كان عليه" رواه الدارقطني وصححه الحاكم وأخرجه أبو داود مرسلا ورجح إرساله قال عبد الحق المرسل أصح من المتصل وقال ابن الصلاح في الأحكام هو حديث ثابت كان ذلك في سنة تسع وجعل لغرمائه خمسة أسباع حقوقهم فقالوا يا رسول الله بعه لنا فقال: "ليس لكم إليه سبيل" وأخرجه البيهقي من طريق الواقدي وزاد أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه بعد ذلك إلى اليمن ليجبره والحديث دليل على أنه يحجر الحاكم على المدين التصرف في ماله ويبيعه عنه لقضاء غرمائه والقول بأنه حكاية فعل غير صحيح فإن هذا فعل لا يتم إلا بأقوال تصدر عنه صلى الله عليه وسلم يحجر بها تصرفه وألفاظ يبيع بها ماله وألفاظ يقضي بها غرماءه وما كان بهذه المثابة لا يقال إنه حكاية فعل إنما حكاية الفعل مثل حديث خلع نعله فخلعوا نعالهم كما لا يخفى ظاهر الحديث أن ماله كان مستغرقا بالدين فهل يلحق به من لم يستغرق ماله في الحجر والبيع عنه كالواجد إذا مطل اختلف العلماء في ذلك فقال جمهور الهادوية و الشافعي إنه يلحق به فيحجر عليه ويباع ماله لأنه قد حصل المقتضي لذلك وهو عدم المسارعة بقضاء الدين وقال زيد بن علي والحنفية إنه لا يلحق به فلا يحجر عليه ولا يباع عنه بل يجب حبسه حتى يقضي دينه لحديث إنه "لا يحل مال امرىء مسلم إلا بطيبة من نفسه" ولقوله تعالى {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} ومقتضى الحجر والبيع إخراج المال من غير طيبة من نفسه ولا رضاه والجواب عنه بأن الحديث والآية عامان خصصا بحديث معاذ لا يتم لأن حديث معاذ ليس إلا في المستغرق ماله بدينه والكلام في غيره وهو الواجد الماطل فالأولى أن يقال أنهما خصصا بقياس الماطل الواجد على من استغرق دينه ماله إلا أنه لا يخفى عدم نهوض القياس نعم في حديث "لي الواجد يحل عرضه وعقوبته" دليل على أنه يحجر عليه ويباع عنه ماله فإنه داخل تحت مفهوم العقوبة وتفسيرها بالحبس فقط مجرد رأي من قائله هذا وقد حكم عمر في أسيفع جهينة كحكمه صلى الله عليه وسلم في معاذ فأخرج مالك في الموطأ بسند منقطع ورواه الدارقطني في غرائب مالك بإسناد متصل أن رجلا من جهينة كان يشتري الرواحل فيغالي فيها فيسرع المسير فيسبق الحاج فأفلس فرفع أمره إلى عمر بن الخطاب فقال أما بعد أيها الناس فإن الأسيفع أسيفع جهينة قد رضي من دينه وأمانته(3/56)
أن يقال سبق الحاج وفيه إلا أنه ادان معرضا فأصبح وقد دين به أي أحاط به الدين فمن كان له عليه دين فليأتنا بالغداة فنقسم ماله بين غرمائه وإياكم والدين فإن أوله هم وآخره حرب انتهى وأما قصة جابر مع غرماء أبيه وهي أنه لما قتل أبوه في أحد وعليه دين فاشتد الغرماء في حقوقهم قال "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فسألهم أن يقبلوا ثمر حائطي ويحللوا أبي فأبوا فلم يعطهم النبي صلى الله عليه وسلم حائطي وقال سنغدوا عليك فغدا علينا حين أصبح فطاف في النخل ودعا في ثمرها بالبركة فجذذتها فقضيتهم وبقي لنا من ثمرها" فإن فيها دليلا على أن انتظار الغلة والتمكن منها لا يعد مطلا قيل ويؤخذ منها أن من كان له دخل ينظر إلى دخله وإن طالت مدته إذ لا فرق بين المدة الطويلة والقصيرة في حق الآدمي ومن لا دخل له لا ينظر ويبيع الحاكم ماله لأهل الدين نعم وأما الحجر على البالغ لسفه وسوء تصرف فقال به الشافعي ولم يقل به زيد بن علي ولا أبو حنيفة وبوب له البيهقي في السنن الكبرى باب الحجر على البالغين بالسفه وذكر فيه بسنده أن عبد الله بن جعفر اشترى أرضا بستمائة ألف درهم فهم علي وعثمان أن يحجرا عليه قال فلقيت الزبير فقال ما اشترى أحد بيعا أرخص مما اشتريت قال فذكر له عبد الله الحجر قال لو أن عندي مالا لشاركتك قال فأنا أقرضك نصف المال قال فأنا شريكك فأتاهما علي وعثمان وهما يتراوضان قال ما تراوضان فذكر له الحجر على عبد الله بن جعفر قال أتحجران على رجل أنا شريكه قالا لا لعمري قال فأنا شريكه وفي رواية قال عثمان كيف أحجر على رجل في بيع شريكه فيه الزبير قال الشافعي فعلي لا يطلب الحجر إلا وهو يراه والزبير لو كان الحجر باطلا لقال لا يحجر على بالغ وكذلك عثمان بل كلهم يعرف الحجر ثم ساق حديث عائشة وإرادة عبد الله بن الزبير الحجر عليها وغير ذلك من الأدلة من أفعال السلف ويستدل له بالحديث الصحيح وهو النهي عن إضاعة المال فإن السفيه يضيعه بسوء تصرفه فيجب الإنكار عليه بحجره عنه قال النووي والصغير لا ينقطع عنه حكم اليتم بمجرد علو السن ولا بمجرد البلوغ بل لا بد أن يظهر منه الرشد في دينه وماله وقال أبو حنيفة إذا بلغ خمسا وعشرين سنة يجب تسليم ماله إليه وإن كان غير ضابط
5- وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال "عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني" متفق عليه وفي رواية للبيهقي فلم يجزني ولم يرني بلغت وصححها ابن خزيمة وجه ذكر الحديث هنا أن من لم يبلغ خمس عشرة سنة لا تنفذ تصرفاته من بيع وغيره ومعنى قوله لم يجزني لم يجعل لي حكم الرجال المتقاتلين في إيجاب الجهاد علي وخروجي معه وقوله فأجازني أي رآني فيمن يجب عليه الجهاد ويؤذن له في الخروج إليه وفيه دليل على أن من استكمل خمس عشرة سنة صار مكلفا بالغا له أحكام الرجال ومن(3/57)
كان دونها فلا ويدل له قوله ولم يرني بلغت وناقش في الاستدلال به على البلوغ بعض المتأخرين قائلا إن الإذن في الخروج للحرب يدور على الجلادة والأهلية فليس له في رده دليل على أنه لأجل عدم البلوغ وفهم ابن عمر ليس بحجة قلت وهو احتمال بعيد والصحابي أعرف بما رواه وفيه دليل على أن الخندق كانت سنة أربع والقول بأنها سنة خمس يرده هذا الحديث ولأنهم أجمعوا أن أحدا كانت سنة ثلاث
6- وعن عطية القرظي رضي الله عنه بضم القاف فراء نسبة إلى بني قريظة قال "عرضنا على النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة فكان من أنبت قتل ومن لم ينبت خلي سبيله فكنت ممن لم ينبت فخلي سبيلي" رواه الأربعة وصححه ابن حبان والحاكم وقال على شرط الشيخين وهو كما قال إلا أنهما لم يخرجا لعطية والحديث دليل على أنه يحصل بالإنبات البلوغ فتجري على من أنبت أحكام المكلفين ولعله إجماع
7- وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يجوز لامرأة عطية إلا بإذن زوجها" وفي لفظ "لا يجوز للمرأة أمر في مالها إذا ملك زوجها عصمتها" رواه أحمد وأصحاب السنن إلا الترمذي وصححه الحاكم قال الخطابي حمله الأكثر على حسن العشرة واستطابة النفس أو يحمل على غير الرشيدة وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للنساء تصدقن فجعلت المرأة تلقي القرط والخاتم وبلال يتلقاه بردائه وهذه عطية بغير إذن الزوج انتهى وهذا مذهب الجمهور مستدلين بمفهومات الكتاب والسنة ولم يذهب إلى معنى الحديث إلا طاوس فقال إن المرأة محجورة عن مالها إذا كانت مزوجة إلا فيما أذن لها فيه الزوج وذهب مالك إلى أن تصرفها من الثلث
8- وعن قبيصة بفتح القاف فموحدة فمثناة تحتية فصاد مهملة ابن مخارق بضم الميم فخاء معجمة فراء مكسورة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة رجل تحمل حمالة" بفتح الحاء المهملة وتخفيف الميم " فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجا من قومه لقد أصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة" رواه مسلم قد تقدم بلفظه في باب قسمة الصدقات ولعل إعادته هنا أن الرجل الذي تحمل حمالة قد لزمه دين فلا يكون له حكم المفلس في الحجر عليه بل يترك حتى يسأل الناس فيقضي دينه وهذا يستقيم على القواعد إذا لم يكن قد ضمن ذلك المال(3/58)
باب الصلح
قد قسم العلماء الصلح أقساما صلح المسلم مع الكافر والصلح بين الزوجين والصلح بين الفئة الباغية والعادلة والصلح بين المتقاضيين والصلح في الجراح كالعفو على مال(3/58)
والصلح لقطع الخصومة إذا وقعت في الأملاك والحقوق وهذا القسم هو المراد هنا وهو الذي يذكره الفقهاء في باب الصلح
1- عن عمرو بن عوف المزني رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما والمسلمون" وفي لفظ أبي داود "والمؤمنون على شروطهم إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حراما" رواه الترمذي وصححه وأنكروا عليه لأنه من رواية كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف وهو ضعيف كذبه الشافعي وتركه أحمد وفي الميزان عن ابن حبان له عن أبيه عن جده نسخة موضوعة وقال الشافعي وأبو داود هو ركن من أركان الكذب واعتذر المصنف عن الترمذي بقوله وكأنه اعتبره بكثرة الإشارة وقد صححه ابن حبان من حديث أبي هريرة فيه مسألتان الأولى في أحكام الصلح وهو أن وضعه مشروط فيه المراضاة لقوله جائز أي أنه ليس بحكم لازم يقضى به وإن لم يرض به الخصم وهو جائز أيضا بين غير المسلمين من الكفار فتعتبر أحكام الصلح بينهم وإنما خص المسلمون بالذكر لأنهم المعتبرون في الخطاب المنقادون لأحكام السنة والكتاب وظاهره عموم صحة الصلح سواء كان قبل اتضاح الحق للخصم أو بعده ويدل للأول قصة الزبير والأنصاري فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكن قد أبان للزبير ما استحقه وأمره أن يأخذ بعض ما يستحقه على جهة الإصلاح فلما لم يقبل الأنصاري الصلح وطلب الحق أبان رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير قدر ما يستحقه كذا قال الشارح والثابت أن هذا ليس من الصلح مع الإنكار بل من الصلح مع سكوت المدعى عليه وهي مسألة مستقلة وذلك لأن الزبير لم يكن عالما الفراش الذي له حتى يدعه بالصلح بل هذا أول التشريع في قدر السقيا والتحقيق أنه لا يكون الصلح إلا هكذا وأما بعد إبانة الحق للخصم فإنما يطلب من صاحب الحق أن يترك لخصمه بعض ما يستحق وإلى جواز الصلح على الإنكار ذهب مالك وأحمد وأبو حنيفة عدا في ذلك الهادوية والشافعي وقالوا لا يصح الصلح مع الإنكار ومعنى عدم صحته أنه لا يطيب مال الخصم مع إنكار المصالح وذلك حيث يدعي عليه آخر عينا أو دينا فيصالح ببعض العين أو الدين مع إنكار خصمه فإن الباقي لا يطيب له بل يجب عليه تسليمه لقوله صلى الله عليه وسلم لا يحل مال امرىء مسلم إلا بطيبة من نفسه وقوله تعالى {عَنْ تَرَاضٍ} وأجيب بأنها قد وقعت طيبة النفس بالرضا بالصلح وعقد الصلح قد صار في حكم عقد المعاوضة فيحل له ما بقي قلت الأولى أن يقال إن كان المدعي يعلم أن له حقا عند خصمه جاز له قبض ما صولح عليه وإن كان خصمه منكراً وإن كان يدعي باطلا فإنه يحرم عليه الدعوى وأخذ ما صولح به والمدعى عليه إن كان عنده حق يعلمه وإنما ينكر لغرض عليه تسليم ما صولح به عليه وإن كان يعلم أنه ليس عنده حق جاز له إعطاء جزء من ماله في دفع شجار غريم وأذيته وحرم على المدعي أخذه وبهذا تجتمع الأدلة فلا يقال الصلح على الإنكار لا يصح ولا أنه يصح على الإطلاق بل يفصل فيه المسألة الثانية(3/59)
ما أفادها قوله والمسلمون على شروطهم أي ثابتون عليه واقفون عندها وفي تعديته بعلى ووصفهم بالإسلام أو الإيمان دلالة على علو مرتبتهم وأنهم لا يخلون بشروطهم وفيه دلالة على لزوم الشرط إذا شرطه المسلم إلا ما استثناه في الحديث وللمفرعين تفاصيل في الشروط وتقاسيم منها ما يصح ويلزم حكمه ومنها ما لا يصح ولا يلزم ومنها ما يصح ويلزم منه فساد العقد وهي هنالك مبسوطة بعلل ومناسبات وللبخاري في كتاب الشروط تفاصيل كثيرة معروفة وقوله "إلا شرطا حرم حلالا" ذلك كاشتراط البائع أن لا يطأ الأمة "أو أحل حراما" مثل أن يشترط وطء الأمة التي حرم الله عليها وطأها
2 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يمنع" يروى بالرفع على الخبر والجزم على النهي "جار جاره أن يغرز خشبة" بالإفراد وفي لفظ "خشبه" بالجمع في جداره "ثم يقول أبو هريرة: ما لي أراكم عنها معرضين والله لأرمين بها بين أكتافكم" بالتاء جمع كتف متفق عليه وفي لفظ لأبي داود فنكسوا رؤوسهم ولأحمد حين حدثهم بذلك فطأطأوا رؤوسهم والمراد المخاطبون وهذا قاله أبو هريرة أيام إمارته على المدينة في زمن مروان فإنه كان يستخلفه فيها فالمخاطبون ممن يجوز أنهم جاهلون بذلك وليسوا بصحابة وقد روى أحمد وعبد الرزاق من حديث ابن عباس "لا ضرر ولا ضرار وللرجل أن يضع خشبة جاره" والحديث فيه دليل على أنه ليس للجار أن يمنع جاره من وضع خشبة على جداره وأنه إذا امتنع عن ذلك أجبر لأنه حق ثابت لجاره وإلى هذا ذهب أحمد وإسحاق وغيرهما عملا بالحديث وذهب إليه الشافعي في القديم وقضى به عمر في أيام وفور الصحابة وقال الشافعي إن عمر لم يخالفه أحد من الصحابة وهو فيما رواه مالك بسند صحيح أن الضحاك بن خليفة سأله محمد بن مسلمة أن يسوق خليجا له فيجريه في أرض محمد بن مسلمة فامتنع فكلمه عمر في ذلك فأبى فقال والله ليمرن به ولو على بطنك وهذا نظير قصة حديث أبي هريرة وعممه عمر في كل ما يحتاج الجار إلى الانتفاع به من جاره وأرضه وذهب آخرون إلى أنه لا يجوز أن يضع خشبة إلا بإذن جاره فإن لم يأذن لم يجز قالوا لأن أدلة أنه لا يحل مال امرىء مسلم إلا بطيبة من نفسه تمنع هذا الحكم فهو للتنزيه وأجيب عنه بما قاله البيهقي لم نجد في السنن الصحيحة ما يعارض هذا الحكم إلا عمومات لا ينكر أن يخصها وقد حمله الراوي على ظاهره من التحريم وهو أعلم بالمراد بدليل قوله ما لي أراكم عنها معرضين فإنه استنكار لإعراضهم دال على أن ذلك للتحريم قال الخطابي معنى قوله بين أكتافكم إن لم تقبلوا هذا الحكم وتعملوا به راضين لأجعلنها أي الخشبة على رقابكم كارهين قال وأراد بذلك المبالغة قلت والذي يتبادر أن المراد لأرمين بها أي هذه السنة المأمور بها بينكم بلاغا لما تحملته منها وخروجا عن كتمها وإقامة الحجة عليكم بها
3- وعن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(3/60)
"لا يحل لامرىء أن يأخذ عصا أخيه بغير طيبة نفس منه" رواه والحاكم ابن حبان في صحيحيهما وفي الباب أحاديث كثيرة في معناه أخرج الشيخان من حديث عمر "لا يحلبن أحد ماشية أحد بغير إذنه" وأخرج أبو داود والترمذي والبيهقي من حديث عبد الله بن السائب بن يزيد عن أبيه عن جده بلفظ "لا يأخذ أحدكم متاع أخيه لاعبا ولا جادا" والأحاديث دالة على تحريم مال المسلم إلا بطيبة من نفسه وإن قل والإجماع واقع على ذلك وإيراد المصنف لحديث أبي حميد عقيب حديث أبي هريرة إشارة إلى تأويل حديث أبي هريرة وأنه محمول على التنزيه كما هو قول الشافعي في الجديد ويرد عليه أنه إنما يحتاج إلى التأويل إذا تعذر الجمع وهو هنا ممكن بالتخصيص فإن حديث أبي هريرة خاص وتلك الأدلة عامة كما عرفت وقد أخرج من عمومها أشياء كثيرة كأخذ الزكاة كرها وكالشفعة وإطعام المضطر ونفقة القريب المعسر والزوجة وكثير من الحقوق المالية التي لا يخرجها المالك برضاه فإنها تأخذ منه كرها وغرز الخشبة منها على أنه مجرد انتفاع والعين باقية(3/61)
باب الحوالة والضمان
الحوالة بفتح الحاء وقد تكسر حقيقتها عند الفقهاء نقل دين من ذمة إلى ذمة واختلفوا هل هي بيع دين بدين رخص فيه وأخرج من النهي عن بيع الدين بالدين أو هي استيفاء وقيل هي عقد إرفاق مستقل ويشترط فيها لفظها ورضا المحيل بلا خلاف والمحال عند الأكثر والمحال عليه عند البعض وتماثل الصفات وأن تكون في الشيء المعلوم ومنهم من خصها بما دون الطعام لأنه بيع طعام قبل أن يستوفى
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مطل الغني " إضافة للمصدر إلى الفاعل أي مطل الغني غريمه وقيل إلى المفعول أي مطل الغريم للغني "ظلم" وبالأولى مطله الفقير "وإذا أتبع" بضم الهمزة وسكون المثناة الفوقية وكسر والموحدة "أحدكم على مليء" مأخوذ من الملاء بالهمزة يقال ملؤ الرجل أي صار مليئا "فليتبع" بإسكان المثناة الفوقية أيضا مبني للمجهول كالأول أي إذا أحيل فليحتل متفق عليه دل الحديث على تحريم المطل من الغني والمطل هو المدافعة والمراد هنا تأخير ما استحق أداؤه بغير عذر من قادر على الأداء والمعنى على تقدير أنه من إلى الفاعل أنه يحرم على الغني القادر أن يمطل بالدين بعد استحقاقه بخلاف العاجز ومعناه على التقدير الثاني أنه يجب وفاء الدين ولو كان مستحقه غنيا فلا يكون غناه سببا لتأخير حقه وإذا كان ذلك في حق الغني ففي حق الفقير أولى ودل الأمر على وجوب قبول الإحالة وحمله الجمهور على الاستحباب ولا أدري ما الحامل على صرفه عن ظاهره وعلى الوجوب حمله أهل الظاهر وتقدم البحث في أن المطل كبيرة يفسق صاحبه فلا نكرره وإنما اختلفوا هل يفسق قبل الطلب أو لا بد منه(3/61)
والذي يشعر به الحديث أنه لا بد من الطلب لأن المطل لا يكون إلا معه ويشمل المطل كل من لزمه حق كالزوج لزوجته والسيد في نفقة عبده ودل الحديث بمفهوم المخالفة أن مطل العاجز عن الأداء لا يدخل في الظلم ومن لا يقول بالمفهوم يقول لا يسمى العاجز ماطلا والغني الغائب عنه ماله كالمعدوم ويؤخذ من هذا أن المعسر لا يطالب حتى يوسر قال الشافعي لو جازت مؤاخذته لكان ظالما والفرض أنه ليس بظالم لعجزه ويؤخذ منه أنه إذا تعذر على المحال عليه التسليم لفقر لم يكن للمحتال الرجوع إلى المحيل لأنه لو كان له الرجوع لم يكن لاشتراط فلهذا فائدة فلما شرطه الشارع علم أنه انتقل انتقالا لا رجوع له كما لو عوض في دينه بعوض ثم تلف العوض في يد صاحب الدين وقالت الحنفية يرجع عند التعذر وشبهوا الحوالة بالضمان وأما إذا جهل الإفلاس حال الحوال فله الرجوع
2- وعن جابر رضي الله عنه قال توفي رجل منا فغسلناه وحنطناه وكفناه ثم أتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا تصلي عليه فخطا خطا ثم قال "أ عليه دين قلنا ديناران فانصرف" أي عن الصلاة عليه فتحملهما أبو قتادة فأتيناه فقال أبو قتادة الديناران علي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "حق الغريم" منصوب على المصدر مؤكد لمضمون قوله الديناران علي أي حق عليك الحق وثبت عليك وكنت غريما وبرىء منهما الميت قال نعم فصلى عليه رواه أحمد وأبو داود والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم وأخرجه البخاري من حديث سلمة بن الأكوع إلا أن في حديثه ثلاثة دنانير وكذلك أخرجه أبو داود والطبراني وجمع بينه وبين قوله ديناران أن في حديث الكتاب أنهما كانا ديناران وشطرا فمن قال ثلاثة جبر الكسر ومن قال ديناران ألغاه أو كان الأصل ثلاثة فقضى قبل موته دينارا فمن قال ثلاثة اعتبر أصل الدين ومن قال ديناران اعتبر الباقي ويحتمل أنهما قصتان وإن كان بعيدا وفي رواية الحاكم أنه صلى الله عليه وسلم جعل إذا لقي أبا قتادة يقول ما صنعت الديناران حتى كان آخر ذلك أن قال قضيتهما يا رسول الله قال الآن بردت جلدته وروى الدارقطني من حديث علي عليه السلام "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتي بجنازة لم يسأل عن شيء من عمل الرجل ويسأل عن دينه فإن قيل عليه دين كف وإن قيل ليس عليه دين صلى فأتى بجنازة فلما قام ليكبر سأل هل عليه دين فقالوا ديناران فعدل عنه فقال علي هما علي يا رسول الله وهو بريء منهما فصلى عليه ثم قال جزاك الله خيرا وفك الله رهانك" الحديث قال ابن بطال ذهب الجمهور إلى صحة هذه الكفالة عن الميت ولا رجوع له في مال الميت وفي الحديث دليل على أنه يصح أن يحتمل الواجب غير من وجب عليه وأنه ينفعه ذلك ويدل على شدة أمر الدين فإنه صلى الله عليه وسلم ترك الصلاة عليه لأنها شفاعة وشفاعته مقبولة لاترد والدين لا يسقط إلا بالتأدية وفي الحديث دليل على أنه لا يكتفى بالظاهر من اللفظ بل لا بد للحاكم في الإلزام الفراش من تحقق ألفاظ العقود والإقرارات وأنه إذا ادعى من عليه الحكومة أنه قصد باللفظ(3/62)
معنى يحتمله وإن بعد الاحتمال لا يحكم عليه بظاهر اللفظ وعطف وبرىء منهما الميت على ذلك مما يؤيد ذلك المعنى المستنبط
3- وعن أبي هريرة رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالرجل المتوفى عليه الدين فيسأل هل ترك لدينه من قضاء فإن حدث أنه ترك وفاء صلى عليه وإلا قال صلوا على صاحبكم فلما فتح الله عليه الفتوح قال "أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن توفي وعليه دين فعلي قضاؤه" متفق عليه وفي رواية للبخاري فمن مات ولم يترك وفاء إيراد المصنف له عقيب الذي قبله إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم نسخ ذلك الحكم لما فتح عليه صلى الله عليه وسلم واتسع الحال بتحمله الديون عن الأموات فظاهر قوله "فعلي قضاؤه" أنه يجب عليه القضاء وهل هو من خالص ماله أو من مال المصالح محتمل قال ابن بطال وهكذا يلزم المتولي لأمر المسلمين أن يفعله فيمن مات وعليه دين فإن لم يفعل فالإثم عليه وقد ذكر الرافعي في آخر الحديث قيل يا رسول الله وعلى كل إمام بعدك قال وعلى كل إمام بعدي وقد وقع معناه في الطبراني الكبير من حديث زاذان عن سلمان قال "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نفدي سبايا المسلمين ونعطي سائلهم ثم قال من ترك مالا فلورثته ومن ترك دينا فعلي وعلى الولاة من بعدي في بيت مال المسلمين" وفيه راو متروك ومتهم
4- وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا كفالة في حد" رواه البيهقي بإسناد ضعيف وقال إنه منكر وهو دليل على أنه لا تصح الكفالة في الحد قال ابن حزم لا تجوز الضمانة بالوجه أصلا لا في مال ولا حد ولا في شيء من الأشياء لأنه شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ومن طريق النظر أن نسأل من قال بصحته عمن تكفل بالوجه فقط فغاب المكفول عنه ماذا تصنعون بالضامن بوجه أتلزمونه غرامة ما على المضمون فهذا جور وأكل مال بالباطل لأنه لم يلتزمه قط أم تتركونه فقد أبطلتم الضمان بالوجه أم تكلفونه طلبه فهذا تكليف الحرج وما لا طاقة له به وما لم يكلفه الله إياه قط وأجاز الكفالة بالوجه جماعة من العلماء واستدلوا بأنه صلى الله عليه وسلم كفل في تهمة قال وهو خبر باطل لأنه من رواية إبراهيم بن خيثم بن عراك وهو وأبوه في غاية الضعف لا تجوز الرواية عنهما ثم ذكر آثارا عن عمر بن عبد العزيز وردها كلها بأنه لا حجة فيها إذ الحجة في كلام الله ورسوله لا غيره وهذه الآثار قد سردها في الشرح(3/63)
باب الشركة والوكالة
الشركة بفتح أوله وكسر الراء وبكسره مع سكونها وهي بضم الشين اسم للشيء المشترك والشركة الحالة التي تحدث بالاختيار بين اثنين فصاعدا وإن أريد الشركة بين(3/63)
الورثة في المال الموروث حذفت بالاختيار والوكالة بفتح الواو وقد تكسر مصدر وكل مشددا بمعنى التفويض والحفظ وتخفف فتكون بمعنى التفويض وهي شرعا إقامة الشخص غيره مقام نفسه مطلقا ومقيدا
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه فإذا خانا خرجت من بينهما" رواه أبو داود وصححه الحاكم وأعله ابن القطان بالجهل بحال سعيد بن حيان وقد رواه عنه ولده أبو حيان بن سعيد لكن ذكره ابن حبان في الثقات وذكر أنه روى عنه الحارث بن شريد إلا أنه أعله الدارقطني بالإرسال فلم فيه أبا هريرة وقال إنه الصواب ومعناه أن الله الوقوف أي في الحفظ والرعاية والإمداد بمعونتهما في مالهما وإنزال البركة في تجارتهما فإذا حصلت الخيانة نزعت البركة من مالهما وفيه حث على التشارك مع عدم الخيانة وتحذير منه معها
2- وعن السائب بن يزيد المخزومي رضي الله عنه أنه كان شريك النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة فجاء يوم الفتح فقال مرحبا بأخي وشريكي رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه قال ابن عبد البر السائب بن أبي السائب من المؤلفة قلوبهم وممن حسن إسلامه وكان من المعمرين عاش إلى زمن معاوية وكان شريك النبي صلى الله عليه وسلم في أول الإسلام في التجارة فلما كان يوم الفتح قال مرحبا بأخي وشريكي كان لا يماري ولا يداري وصححه الحاكم ولابن ماجه كنت شريكي في الجاهلية والحديث دليل على أن الشركة كانت ثابتة قبل الإسلام ثم قررها الشرع على ما كانت
3- وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال اشتركت أنا وعمار وسعد فيما نصيب يوم بدر الحديث تمامه فجاء سعد بأسيرين ولم أجئ أنا وعمار بشيء رواه النسائي فيه دليل على صحة الشركة في المكاسب وتسمى شركة الأبدان وحقيقتها أن يوكل كل صاحبه أن يتقبل ويعمل عنه في قدر معلوم ويعينان الصنعة وقد ذهب إلى صحتها الهادوية و أبو حنيفة وذهب الشافعي إلى عدم صحتها لبنائها على الغرر إذ لا يقطعان بحصول الربح لتجويز تعذر العمل وبقوله قال أبو ثور وابن حزم وقال ابن حزم لا تجوز الشركة بالأبدان في شيء من الأشياء أصلا فإن وقعت فهي باطلة لا أفطر ولكل واحد منهما ما كسب فإن اقتسماه وجب أن يقضي له ما أخذه وإلا بدله لأنها شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وأما حديث ابن مسعود فهو من رواية ولده أبي عبيدة بن عبد الله وهو خبر منقطع لأن أبا عبيدة لم يذكر عن أبيه شيئا فقد رويناه من طريق وكيع عن شعبة عن عمرو بن مرة قال قلت لأبي عبيدة أتذكر عن عبد الله شيئا قال لا ولو صح لكان حجة على من قال بصحة هذه الشركة لأنه أول ومع سائر المسلمين إن هذه الشركة لا تجوز وإنه لا ينفرد أحد من أهل العسكر بما يصيب دون جميع أهل العسكر إلا السلب للقاتل على الخلاف فإن فعل فهو غلول من كبائر الذنوب ولأن هذه الشركة لو صح(3/64)
حديثها فقد أبطلها الله عز وجل وأنزل {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} الآية فأبطلها الله تعالى وقسمها هو بين المجاهدين ثم إن الحنفية لا يجيزون الشركة في الاصطياد ولايجيزها المالكية في العمل في مكانين فهذه الشركة في الحديث لا تجوز عندهم اه هذا وقد قسم الفقهاء الشركة إلى أربعة أقسام أطالوا فيها وفي فروعها في كتب الفروع فلا نطيل بها قال ابن بطال أجمعوا على أن الشركة الصحيحة أن يخرج كل واحد مثل ما أخرج صاحبه ثم يخلط ذلك حتى لا يتميز ثم يتصرفا جميعا إلا أن يقيم كل منهما الآخر مقام نفسه وهذه تسمى شركة العنان وتصح إن أخرج أحدهما أقل من الآخر من المال ويكون الربح والخسران على قدر مال كل واحد منهما وكذلك إذا اشتريا سلعة بينهما على السواء أو ابتاع أحدهما أكثر من الآخر منهما فالحكم في ذلك أن يأخذ كل من الربح والخسران بمقدار ما أعطى من الثمن وبرهان ذلك أنهما إذا خلطا المالين فقد صارت تلك الجملة مشاعة بينهما فما ابتاعا بها فمشاع بينهما وإذا كان كذلك فثمنه وربحه وخسرانه مشاع بينهما ومثله السلعة التي اشترياها فإنها بدل من الثمن
4- وعن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال أردت الخروج إلى خيبر فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال "إذا أتيت وكيلي بخيبر فخذ منه خمسة عشر وسقا" رواه أبو داود وصححه تمام الحديث "فإن ابتغى منك آية فضع يدك على ترقوته" وفي الحديث دليل على شرعية الوكالة والإجماع على ذلك وتعلق الأحكام بالوكيل وتمام الحديث فيه دليل على العمل بالقرينة في مال الغير وأنه يصدق بها الرسول لقبض العين وقد ذهب إلى تصديق الرسول في القبض جماعة من العلماء وقيده المهدي في الغيث مع غلبة ظن صدقه وعند الهادوية أنه لا يجوز تصديق الرسول لأنه مال الغير فلا يصح التصديق فيه وقيل عنهم إلا أن يحصل الظن بصدق الرسول جاز الدفع إليه وعن عروة البارقي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معه بدينار يشتري له أضحية الحديث رواه البخاري في أثناء حديث وقد تقدم
5- وعن عروة البارقي رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معه بدينار يشتري له أضحية" الحديث رواه البخاري في أثناء حديث وقد تقدم أي في كتاب البيع وتقدم الكلام على ما فيه من الأحكام
6- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر على الصدقة" الحديث متفق عليه تمامه فقيل منع ابن جميل وخالد بن الوليد والعباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيرا فأغناه الله وأما خالد فإنكم تظلمون خالدا قد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله وأما العباس فهي علي ومثلها معها" والظاهر أنه صلى الله عليه وسلم بعث عمر لقبض الزكاة وابن جميل من الأنصار كان منافقا ثم تاب بعد ذلك قال المصنف وابن جميل لم أقف على اسمه وقوله ما ينقم بكسر القاف ما ينكر إلا أنه كان فقيرا فأغناه الله وهو من باب تأكيد المدح بما يشبه الذم لأنه إذا لم يكن له عذر إلا ما ذكره فلا عذر له وفيه التعريض بكفران النعمة والتقريع بسوء الصنيع وقوله أعتاده جمع عتد بفتحتين(3/65)
وهو ما يعده الرجل من السلاح والدواب وقيل الخيل خاصة وحمل البخاري معناه على أنه جعلها زكاة ماله وصرفها في سبيل الله وهو بناء على أنه يجوز إخراج القيمة عن الزكاة وقوله فهي علي ومثلها معها يفيد أنه صلى الله عليه وسلم تحملها عن العباس تبرعا وفيه صحة تبرع الغير بالزكاة ونظيره حديث أبي قتادة في تبرعه بتحمل الدين عن الميت وهذا أقرب الاحتمالات وقد روي بألفاظ أخر تحتمل احتمالات كثيرة وقد بسطها المصنف في الفتح وتبعه الشارح وأما حديث أنه صلى الله عليه وسلم كان تعجل منه زكاة عامين فقد روي من طريق لم يسلم شيء منها من مقال وفي الحديث دليل على توكيل الإمام للعامل في قبض الزكاة ولأجل هذا ذكره المصنف هنا وفيه أن بعث العمال لقبض الزكاة سنة نبوية وفيه أنه يذكر الغافل بما أنعم الله عليه بإغنائه بعد أن كان فقيرا ليقوم بحق الله وفيه جواز ذكر من منع الواجب في غيبته بما ينقصه وفيه تحمل الإمام عن بعض المسلمين والاعتذار عن البعض وحسن التأويل
7- وعن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر ثلاثا وستين وأمر عليا أن يذبح الباقي الحديث رواه مسلم تقدم الكلام عليه في كتاب الحج وفيه دلالة على صحة التوكيل في نحر الهدي وهو إجماع إذا كان الذابح مسلما فإن كان كافرا كتابيا صح عند الشافعي بشرط أن ينوي صاحب الهدي عند دفعه إليه أو عند ذبحه
8- وعن أبي هريرة رضي الله عنه في قصة العسيف بعين وسين مهملتين فمثناة تحتية ففاء الأجير وزنا ومعنى قال النبي صلى الله عليه وسلم "اغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها" الحديث متفق عليه سيأتي في الحدود مستوفى وذكر هنا بناء على أن المأمور وكيل عن الإمام في إقامة الحد وبوب البخاري باب الوكالة في الحدود وأورد هذا الحديث وغيره وقال المصنف في الفتح والإمام لما لم يتول إقامة الحد بنفسه وولاه غيره كان ذلك بمنزلة توكيله للغير(3/66)
باب الإقرار
الإقرار لغة الإثبات في الشرع إخبار الإنسان بما عليه وهو ضد الجحود
1- عن أبي ذر رضي الله عنه قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قل الحق ولو كان مرا" صححه ابن حبان من حديث طويل ساقه الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب وفيه وصايا نبوية ولفظه قال "أوصاني خليلي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنظر إلى من هو أسفل مني ولا أنظر إلى من هو فوقي وأن أحب المساكين وأن أدنو منهم وأن أصل رحمي وإن قطعوني وجفوني وأن أقول الحق ولو كان مرا وأن لا أخاف في الله لومة لائم وأن لا أسأل أحدا شيئا وأن أستكثر من لا حول ولا قوة إلا بالله فإنها من كنوز الجنة" وقوله قل الحق يشمل قوله على نفسه وعلى غيره وهو مأخوذ من(3/66)
قوله تعالى- كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسهم أو الوالدين والأقربين - ومن قوله تعالى {وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} وباعتبار شموله ذكره المصنف هنا تبعا للرافعي فإنه ذكره في باب الإقرار وفيه دلالة على اعتبار إقرار الإنسان على نفسه في جميع الأمور وهو أمر عام لجميع الأحكام لأن قول الحق على النفس و الإخبار بما عليها مما يلزمها التخلص منه بمال أو بدن أو عرض وقوله ولو كان مرا من باب التشبيه لأن الحق قد يصعب إجراؤه على النفس كما يصعب عليها إساغة المر لمرارته ويأتي في باب الحدود والقصاص أحاديث في الإقرار(3/67)
باب العارية
العارية بتشديد المثناة التحتية وتخفيفها ويقال عارة وهي مأخوذة من عار الفرس إذا ذهب لأن العارية تذهب من يد المعير أو من العار لأنه لا يستعير أحد إلا وبه عار وحاجة وهي في الشرع عبارة عن إباحة المنافع من دون ملك العين
1- عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "على اليد ما أخذت حتى تؤديه" رواه أحمد والأربعة وصححه الحاكم بناء منه على سماع الحسن من سمرة لأن الحديث من رواية الحسن عن سمرة وللحفاظ في سماعه منه ثلاثة مذاهب الأول أنه سمع منه مطلقا وهو مذهب علي بن المديني والبخاري والترمذي والثاني لا مطلقا وهو مذهب يحيى بن سعيد القطان ويحيى بن معين وابن حبان والثالث لم يسمع منه إلا حديث العقيقة وهو مذهب النسائي واختاره ابن عساكر وادعى عبد الحق أنه الصحيح والحديث دليل على وجوب رد ما قبضه المرء وهو ملك لغيره ولا يبرأ إلا بمصيره إلى مالكه أو من يقوم مقامه لقوله حتى تؤديه ولا تتحقق التأدية إلا بذلك وهو عام في الغصب والوديعة والعارية وذكره في باب العارية لشموله لها وربما يفهم منه أنها مضمونة على المستعير وفي ذلك ثلاث أقوال الأول أنها مضمونة مطلقا وإليه ذهب ابن عباس وزيد بن علي وعطاء وأحمد وإسحاق والشافعي لهذا الحديث ولما يأتي مما يفيد معناه والثاني للهادي وآخرين معه أن العارية لا يجب ضمانها إلا إذا شرط مستدلين بحديث صفوان ويأتي الكلام عليه والثالث للحسن وأبي حنيفة وآخرين أنها لا تضمن وإن ضمنت لقوله صلى الله عليه وسلم ليس على المستعير غير المغل ولا على المستودع غير المغل ضمان أخرجه الدارقطني والبيهقي عن ابن عمر وضعفاه وصححا وقفه على شريح وقوله المغل بضم الميم فغين معجمة قال في النهاية أي إذا لم يخن في العارية والوديعة فلا ضمان عليه من الإغلال وهو الخيانة وقيل المغل المستغل وأراد به القابض لأنه بالقبض يكون مستغلا والأول أولى وحينئذ فلا تقوم به حجة على أنه لا تقوم به الحجة ولو صح رفعه لأن المراد ليس عليه ذلك من حيث هو مستعير لأنه لو التزم الضمان للزمه وحديث الباب كثيرا ما يستدلون منه بقوله "على اليد ما أخذت حتى تؤديه" على التضمين ولا دلالة فيه(3/67)
صريحا فإن اليد الأمينة أيضا عليها ما أخذت حتى تؤدى ولذلك قلنا وربما يفهم ولم يبق دليل على تضمين العارية إلا قوله صلى الله عليه وسلم "عارية مضمونة" في حديث صفوان فإن وصفها بمضمونة يحتمل أنها صفة موضحة وأن المراد من شأنها الضمان فيدل على ضمانها مطلقا ويحتمل أنها صفة للتقييد وهو الأظهر لأنها تأسيس ولأنها كثيرة ثم ظاهره أن المراد عارية قد ضمناها لك وحينئذ يحتمل أن يلزم ويحتمل أنه غير لازم بل كالوعد وهو بعيد فيتم الدليل بالحديث للقائل إنها تضمن وهو الأظهر بالتضمين إما بطلب صاحبها له أو بتبرع المستعير
2- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك" رواه والترمذي أبو داود وحسنه وصححه الحاكم واستنكره أبو حاتم الرازي وأخرجه جماعة من الحفاظ وهو شامل للعارية والوديعة ونحوهما وأنه يجب أداء الأمانة كما أفاده قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} وقوله "لا تخن من خانك " دليل على أنه لا يجازي بالإساءة من أساء وحمله الجمهور على أنه مستحب لدلالة قوله تعالى :{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} على الجواز وهذه هي المعروفة بمسألة الظفر وفيها أقوال للعلماء هذا القول الأول وهو الأشهر من أقوال الشافعي وسواء كان من جنس ما أخذ عليه أو من غيره جنسه والثاني يجوز إذا كان من جنس ما أخذ عليه لا من غيره لظاهر قوله بمثل ما عوقبتم به وقوله مثلها وهو رأي الحنفية و المؤيد والثالث لا يجوز ذلك إلا بحكم لظاهر النهي في الحديث ولقوله تعالى: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} وأجيب أنه ليس أكلا بالباطل والحديث يحمل فيه النهي على التنزيه الرابع لابن حزم أنه يجب عليه أن يأخذ بقدر حقه سواء كان من نوع ما هو له أو من غيره ويعينه ويستوفي حقه فإن فضل على ما هو له رده أو لورثته وإن نقص بقي في ذمة من عليه الحق فإن لم يفعل ذلك فهو عاص لله عز وجل إلا أن يحلله ويبرئه فهو مأجور فإن كان الحق الذي له لا بينة له عليه وظفر بشيء من مال من عنده له الحق أخذه فإن طولب أنكر فإن استحلف حلف وهو مأجور في ذلك قال وهذا هو قول الشافعي وأبي سليمان وأصحابهما وكذلك ثمنا كل من ظفر لظالم بمال ففرض عليه أخذه وإنصاف المظلوم منه واستدل بالآيتين بقوله تعالى: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} وبقوله تعالى :{وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ(3/68)
الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} وبقوله تعالى: {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} وبقوله تعالى:{ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} وبقوله صلى الله عليه وسلم لهند امرأة أبي سفيان: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف" لما ذكرت له أن أبا سفيان رجل شحيح وأنه لا يعطيني ما يكفيني وبني فهل علي من جناح أن آخذ من ماله شيئا ولحديث البخاري " إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا وإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف" واستدل لكونه إذا لم يفعل يكون عاصيا بقوله تعالى: {تَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} قال فمن ظفر بمثل ما ظلم فيه هو أو مسلم أو ذمي فلم يزله عن يد الظالم ويرد إلى المظلوم حقه فهو أحد الظالمين ولم يعن على البر والتقوى بل أعان على الإثم والعدوان وكذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من رأى منكراً أن يغيره بيده إن استطاع فمن قدر على قطع الظلم وكفه وإعطاء كل ذي حق حقه فلم يفعل فقد قدر على إنكار المنكر ولم يفعل فقد عصى الله ورسوله ثم ذكر حديث أبي هريرة فقال هو من رواية طلق بن غنام عن شريك وقيس بن الربيع وكلهم ضعيف قال ولئن صح فلا حجة فيه لأنه ليس انتصاف المرء من حقه خيانة بل هو حق واجب وإنكار منكر وإنما الخيانة أن يخون بالظلم والباطل من لا حق له عنده قلت ويؤيد ما ذهب إليه حديث "انصر أخاك ظالما أو مظلوما" فإن الأمر ظاهر في الإيجاب ونصر الظالم بإخراجه عن الظلم وذلك بأخذ ما في يده لغيره ظلما
3- وعن يعلى بن أمية ويقال منيه بضم الميم وفتح النون وتشديد التحتية المثناة صحابي مشهور قال قال رسول صلى الله عليه وسلم: "إذا أتتك رسلي فأعطهم ثلاثين درعا" قلت يا رسول الله أعارية مضمونة؟ أو عارية مؤداة ؟قال: "بل عارية مؤداة" رواه أحمد وأبو داود والنسائي وصححه ابن حبان المضمونة التي تضمن إن تلفت بالقيمة والمؤداة التي تجب تأديتها مع بقاء عينها فإن تلفت لم تضمن بالقيمة والحديث دليل لمن ذهب إلى أنها لا تضمن العارية إلا بالتضمين وتقدم أنه أوضح الأقوال
4- وعن صفوان بن أمية قرشي من أشراف قريش هرب يوم الفتح واستؤمن له فعاد وحضر مع النبي صلى الله عليه وسلم حنينا والطائف كافرا ثم أسلم وحسن إسلامه "أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار منه دروعا يوم حنين فقال أغصب يا محمد قال بل عارية مضمونة" رواه أبو داود وأحمد والنسائي وصححه الحاكم وأخرج له شاهدا ضعيفا عن ابن عباس ولفظه بل عارية مؤداة وفي عدد الدروع روايات فلأبي داود كانت ما بين الثلاثين إلى الأربعين وللبيهقي في حديث مرسل كانت ثمانين وللحاكم من حديث جابر كانت مائة درع وما يصلحها وزاد أحمد والنسائي في رواية ابن عباس فضاع بعضها فعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يضمنها له فقال أنا اليوم يا رسول الله أرغب في الإسلام وقوله "مضمونة" تقدم الكلام عليها وأن أصل الوصف التقييد وأنه الأكثر فهو دليل على ضمانها بالتضمين كما أسلفنا لا أنه محتمل ويكون مجملا كما قيل قاله الشارح(3/69)
باب الغصب
1- عن سعيد بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من اقتطع شبرا من الأرض" أي من أخذه وهو أحد ألفاظ الصحيحين "ظلما طوقه الله يوم القيامة" إياه "من سبع أرضين" متفق عليه اختلف في معنى التطويق فقيل معناه يعاقب بالخسف إلى سبع أرضين فتكون كل أرض في تلك الحالة طوقا في عنقه ويؤيده أن في حديث ابن عمر خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين وقيل يكلف نقل ما ظلمه منها يوم القيامة إلى المحشر ويكون كالطوق في عنقه لا أنه طوق حقيقة ويؤيده حديث أيما رجل ظلم شبرا من الأرض كلفه الله أن يحفره حتى يبلغ آخر سبع أرضين ثم يطوقه حتى يقضي بين الناس أخرجه الطبراني وابن حبان من حديث يعلى بن مرة مرفوعا ولأحمد والطبراني "من أخذ أرضا بغير حقها كلف أن يحمل ترابها إلى المحشر" وفيه قولان آخران والحديث دليل على تحريم الظلم والغصب وشدة عقوبته وإمكان غصب الأرض وأنه من الكبائر وأن من ملك أرضا ملك أسفلها إلى تخوم الأرض وله منع من أراد أن يحفر سربا أو بئرا وأنه من ملك ظاهر الأرض ملك باطنها بما فيه من حجارة أو أبنية أو معادن وأن له أن ينزل بالحفر ما شاء ما لم يضر من يجاوره وأن الأرضين السبع متراكمة لم يفتق بعضها من بعض لأنها لو فتقت لاكتفي في حق هذا الغاصب بتطويق التي غصبها لانفصالها عما تحتها وفيه دلالة على أن الأرض تصير مغصوبة بالاستيلاء عليها وهل تضمن إذا تلفت بعد الغصب فيه خلاف فقيل لا تضمن لأنه إنما يضمن ما أخذ لقوله صلى الله عليه وسلم على اليد ما أخذت حتى تؤديه قالوا ولا يقاس ثبوت اليد في غير المنقول على النقل في المنقول لاختلافهما في التصرف وذهب الجمهور إلى أنها تضمن بالغصب قياسا على المنقول المتفق على أنه يضمن بعد النقل بجامع الاستيلاء الحاصل في نقل المنقول وفي ثبوت اليد على غير المنقول بل الحق أن ثبوت اليد استيلاء وإن لم ينقل يقال استولى الملك على البلد واستولى زيد على أرض عمرو وقوله شبرا وكذا ما فوقه بالأولى وما دونه داخل في التحريم وإنما لم يذكر لأنه قد لا يقع إلا نادرا وقد وقع في بعض ألفاظه عند البخاري شيئا عوضا عن شبرا فعم إلا أن الفقهاء يقولون إنه لا بد أن يكون المغصوب له قيمة فألزموا أنه حينئذ يأكل الرجل صاع تمر أو زبيب على واحدة واحدة فلا يضمن فيأكل عمره من المال الحرام فلا يضمن وإن أثم كأكله من الخبز واللحم على لقمة لقمة من غير استيلاء على الجميع
2- وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند بعض نسائه فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين" سماها ابن حزم زينب بنت جحش "مع خادم لها" قال المصنف لم أقف على اسم الخادم "بقصعة فيها طعام فضربت بيدها فكسرت القصعة فضمها وجعل فيها الطعام وقال كلوا ودفع القصعة الصحيحة للرسول(3/70)
وحبس المكسورة" رواه البخاري والترمذي وسمى الضاربة عائشة وزاد "فقال النبي صلى الله عليه وسلم طعام بطعام وإناء بإناء " وصححه واتفقت مثل هذه القصة من عائشة في صحفة أم سلمة فيما أخرجه النسائي عن أم سلمة "أنها أتت بطعام في صحفة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فجاءت عائشة متزرة بكساء ومعها فهر ففلقت به الصحفة" الحديث وقد وقع مثلها لحفصة وأن عائشة كسرت الإناء ووقع مثلها لصفية مع عائشة والحديث دليل على أن من استهلك على غيره شيئا كان مضمونا بمثله وهو متفق عليه في المثلى من الحبوب وغيرها وأما في القيمي ففيه ثلاثة أقوال الأول للشافعي والكوفيين أنه يجب فيه المثل حيوانا كان أو غيره ولا تجزئ القيمة إلا عند عدمه والثاني للهادوية أن القيمي يضمن بقيمته وقال مالك والحنفية أما ما يكال أو يوزن فمثله وما عدا ذلك من العروض والحيوانات فالقيمة واستدل الشافعي ومن معه بقول النبي صلى الله عليه وسلم "إناء بإناء وطعام بطعام" وبما وقع في رواية ابن أبي حاتم "من كسر شيئا فهو له وعليه مثله" زاد في رواية الدارقطني فصارت قضية أي من النبي صلى الله عليه وسلم أي حكما عاما لكل من وقع له مثل ذلك فاندفع قول من قال إنها قضية عين لا عموم فيها ولو كانت كذلك لكان قوله صلى الله عليه وسلم "طعام بطعام وإناء بإناء" كافيا في الدليل على أن ذكره للطعام واضح في التشريع العام لأنه لا غرامة هنا للطعام بل الغرامة للإناء وأما الطعام فهو هدية له صلى الله عليه وسلم فإن عدم المثل فالمضمون له مخير بين أن يمهله حتى يجد المثل وبين أن يأخذ القيمة واستدل في البحر وغيره لمن قال بوجوب القيمة بأنه صلى الله عليه وسلم قضى على من أعتق شركا له في عبد أن يقوم عليه باقيه لشريكه قالوا فقضى صلى الله عليه وسلم بالقيمة وأجيب بأن المعتق نصيبه من عبد بينه وبين آخر لم يستهلك شيئا ولا غصب شيئا ولا تعدى أصلا بل أعتق حصته التي أباح الله له عتقها ثم إن المستهلك بزعم المستدل هنا هو الشقص من العبد ومناظرة شقص لشقص تبعد فيكون النقد أقرب وأبعد من الشجار على أن التقويم لغة يشمل التقدير بالمثل أو بالقيمة وإنما خص اصطلاحا بالقيمة وكلام الشارع يفسر باللغة لا بالاصطلاح الحادث واستدل بإمساكه صلى الله عليه وسلم أكسار القصعة في بيت التي كسرت الهادوية والحنفية القائلين بأن العين المغصوبة إذا زال بفعل الغاصب أسمها ومعظم نفعها تصير ملكا للغاصب قال ابن حزم إنه ليس في تعليم الظلمة أكل أموال الناس أكثر من هذا فيقال لكل فاسق إذا أردت أخذ قمح يتيم أو غيره أو أكل غنمه أو استحلال ثيابه فقطعها ثيابا على رغمه واذبح غنمه واطبخها وخذ الحنطة واطحنها وكل ذلك حلالا طيبا وليس عليك إلا قيمة ما أخذت وهذا خلاف القرآن في نهيه تعالى أن يؤكل أموال الناس بالباطل وخلاف المتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن أموالكم عليك حرام" واحتج المخالف بقضية القصعة وقد تقدم(3/71)
الكلام فيها واحتجوا بخبر الشاة المعروف وهو أن امرأة دعته صلى الله عليه وسلم إلى طعام فأخبرته أنها أرادت ابتياع شاة فلم تجدها فأرسلت إلى جارة لها أن ابعثي لي الشاة التي لزوجك فبعثت بها إليها فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشاة أن تطعم الأسارى قالوا فهذا يدل على أن حق صاحب الشاة قد سقط عنها إذا شويت وأجيب بأن الخبر لا يصح فإن صح فهو حجة عليهم لأنه خلاف قولهم إذ فيه أنه صلى الله عليه وسلم لم يبق ذلك اللحم في ملك التي أخذتها بغير إذن مالكها وهم يقولون إنه للغاصب وقد تصدق بها صلى الله عليه وسلم بغير إذنها وخبر شاة الأسارى قد بحثنا فيه في منحة الغفار
3- وعن رافع بن خديج رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء وله نفقته" رواه أحمد والأربعة إلا النسائي وحسنه الترمذي ويقال إن البخاري ضعفه هذا القول عن البخاري ذكره الخطابي وخالفه الترمذي فنقل عن البخاري تحسينه إلا أنه قال أبو زرعة وغيره لم يسمع عطاء بن أبي رباح من رافع بن خديج وقد اختلف فيه الحفاظ اختلافا كثيرا وله شواهد تقويه وهو دليل على أن غاصب الأرض إذا زرع الأرض لا يملك الزرع وأنه لمالكها وله ما غرم على الزرع من النفقة والبذر وهذا مذهب أحمد بن حنبل وإسحاق و مالك وهو قول أكثر علماء المدينة والقاسم بن إبراهيم وإليه ذهب أبو محمد بن حزم ويدل له حديث "ليس لعرق ظالم حق" وسيأتي إذ المراد به من غرس أو زرع أو حفر في أرض غيره بغير حق ولا شبهة وذهب أكثر الأمة إلى أن الزرع لصاحب البذر الغاصب وعليه أجرة الأرض واستدلوا بحديث الزرع للزارع وإن كان غاصبا إلا أنه لم يخرجه أحد قال في المنار وقد بحثت عنه فلم أجده والشارح نقله وبيض لمخرجه واستدلوا بحديث ليس لعرق ظالم حق ويأتي وهو لأهل القول الأول أظهر في الاستدلال
4- وعن عروة بن الزبير رضي الله عنه قال: قال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أرض غرس أحدهما فيها نخلا والأرض للآخر" فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الأرض لصاحبها وأمر صاحب النخل أن يخرج نخله وقال ليس لعرق ظالم" بالإضافة والتوصيف وانكر الخطابي الإضافة "حق" رواه أبو داود وإسناده حسن وآخره عند أصحاب السنن من رواية عروة عن سعيد بن زيد واختلف في وصله وإرساله وفي تعيين صحابيه فرواه أبو داود من طريق عروة مرسلا ومن طريق آخر متصلا من رواية محمد بن إسحاق وقال فقال رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأكثر ظني أنه أبو سعيد وفي الباب عن عائشة أخرجه أبو داود الطيالسي وعن سمرة عند أبي داود والبيهقي وعن عبادة وعبد الله بن عمرو عند الطبراني واختلفوا في تفسير "عرق ظالم" فقيل هو أن يغرس الرجل في أرض فيستحقها بذلك وقال مالك كل ما أخذ واحتفر وغرس بغير حق وقال ربيعة العرق الظالم يكون(3/72)
ظاهرا ويكون باطنا فالباطن ما احتفظ الرجل من الآبار واستخرجه من المعادن والظاهر ما بناه أو غرسه وقيل الظالم من بنى أو زرع أو حفر في أرض غيره بغير حق ولا شبهة وكل ما ذكر من التفاسير متقارب ودليل على أن الزارع في أرض غيره ظالم ولا حق له بل يخير بين إخراج ما غرسه وأخذ نفقته عليه جمعا بين الحديثين من غير تفرقة بين زرع وشجر والقول بأنه دليل على أن الزرع للغاصب حمل له على خلاف ظاهره وكيف يقول الشارع "ليس لعرق ظالم حق" ويسميه ظالما وينفي عنه الحق ونقول بل الحق له
5- وعن أبي بكرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم النحر بمنى: "إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا" متفق عليه وما دل عليه واضح وإجماع ولو بدأ به المصنف في أول باب الغصب لكان أليق أساسا وأحسن افتتاحا(3/73)
باب الشفعة
الشفعة بضم الشين المعجمة وسكون الفاء في اشتقاقها ثلاثة أقوال قيل من الشفع وهو الزوج وقيل من الزيادة وقيل من الإعانة وهي شرعا انتقال حصة إلى حصة بسبب شرعي كأن انتقلت إلى أجنبي بمثل العوض المسمى وقال أكثر الفقهاء إنها واردة على خلاف القياس لأنها تؤخذ كرها ولأن الأذية لا تدفع عن واحد بضرر آخر وقيل خالفت هذا القياس ووافقت قياسات أخر يدفع فيها ضرر الغير بضرر الآخر ثم يؤخذ حقه كرها كبيع الحاكم عن المتمرد والمفلس ونحوهما
1- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت" بضم الصاد المهملة وتشديد الراء ففاء معناه بينت مصارف "الطرق" وشوارعها "فلا شفعة" متفق عليه واللفظ للبخاري وفي رواية مسلم أي من حديث جابر "الشفعة في كل شرك" أي مشترك "في أرض أو ربع" بفتح الراء وسكون الموحدة الدار ويطلق على الأرض لا يصلح وفي لفظ لا يحل أن يبيع الخليط لدلالة السياق عليه حتى يعرض على شريكه وفي رواية الطحاوي أي من حديث جابر "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شيء" ورجاله ثقات الألفاظ في هذا الحديث قد تضافرت في الأدلة على ثبوت الشفعة للشريك في الدور والعقار والبساتين وهذا مجمع عليه إذا كان مما يقسم وفيما لا يقسم كالحمام(3/73)
الصغير ونحوه خلاف وذهب الهادوية وفي البحر العترة إلى صحة الشفعة في كل شيء ومثله في البحر عن أبي حنيفة وأصحابه ويدل له حديث الطحاوي ومثله عند ابن عباس عند الترمذي مرفوعا "الشفعة في كل شيء" وإن قيل إن رفعه خطأ فقد ثبت إرساله عن ابن عباس وهو شاهد لرفعه على أن مرسل الصحابي إذا صحت إليه الرواية حجة وعن المنصور أنه لا شفعة في المكيل والموزون لأنه لا ضرر فيه فأجيب بأن فيه ضررا وهو إسقاط حق الجوار ولأنا لا نسلم أن العلة الضرر وذهب الأكثر على عدم ثبوتها في المنقول مستدلين بقوله "فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة" فإنه دل على أنها لا تكون إلا في العقار وتلحق به الدار لقوله في حديث مسلم أو ربع قالوا ولأن الضرر في المنقول نادر وأجيب بأن ذكر حكم بعض أفراد العام لا يقصره عليه قالوا:ولأنه أخرج البزار من حديث جابر والبيهقي من حديث أبي هريرة بلفظ الحصر فيهما الأول "و لا شفعة إلا في ربع أو حائط" ولفظ الثاني "لا شفعة إلا في دار أو عقار" إلا أنه قال البيهقي بعد سياقه له الإسناد ضعيف وأجيب بأنها لو ثبتت لكانت مفاهيم ولا تقاوم منطوق في كل شيء ومنهم من استثنى من المنقول الثياب فقال تصح فيها الشفعة ومنهم من استثنى منه الحيوان فقال تصح فيه الشفعة وفي حديث مسلم دليل على أنه لا يحل للشريك بيع حصته حتى يعرض على شريكه وأنه محرم عليه البيع قبل عرضه ومن حمله على الكراهة فهو حمل على خلاف أصل النهي بلا دليل واختلف العلماء هل للشريك الشفعة بعد أن آذنه شريكه ثم باعه من غيره فقيل له ذلك ولا يمنع صحتها تقدم إيذانه وهذا قول الأكثر وقال الثوري والحكم وأبو عبيد وطائفة من أهل الحديث تسقط شفعته بعد عرضه عليه وهو الأوفق بلفظ الحديث وهو الذي اخترناه في حاشية ضوء النهار وفي قوله أن يبيع ما يشعر بأنها إنما تثبت فيما كان بعقد البيع وهذا مجمع عليه وفي غيره خلاف وقوله في كل شيء يشمل الشفعة في الإجارة وقد منعها الهادوية وقالوا إنما تكون في عين لا منفعة وضعف قولهم لأن المنفعة تسمى شيئا وتكون مشتركة فشملها في كل شرك أيضا إذ لو لم تكن شيئا ولا مشتركة لما صح التأجير فيها ولا القسمة بالمهايأة ونحو ذلك وهي بيع مخصوص فيشملها لا يحل له أن يبيع فالحق ثبوت الشفعة فيها لشمول الدليل لها ولوجود علة الشفعة فيها وظاهر قوله في كل شرك أي مشترك ثبوتها للذمي على المسلم إذا كان شريكا له في الملك وفيه خلاف والأظهر ثبوتها للذمي في غير جزيرة العرب لأنهم منهيون عن البقاء فيها
2- وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جار الدار أحق بالدار" رواه النسائي وصححه ابن حبان وله علة وهي أنه أخرجه أئمة من الحفاظ عن قتادة عن أنس وآخرون أخرجوه عن الحسن عن سمرة قالوا وهذا هو المحفوظ وقيل هما صحيحان جميعا قاله ابن القطان وهو الأولى وهذا وإن كان فيه علة فالحديث الآتي صحيح وهو قوله
3- وعن أبي رافع رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(3/74)
"الجار أحق بصقبه" بالصاد المهملهة مفتوحة وفتح القاف القرب أخرجه البخاري وفيه قصة وهي أنه قال أبو رافع للمسور بن مخرمة ألا تأمر هذا يشير إلى سعد أن يشتري مني بيتي اللذين في داره فقال له سعد والله لا أزيدك على أربعمائة دينار مقطعة أو منجمة فقال أبو رافع سبحان الله لقد منعتهما من خمسمائة نقدا فلولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الجار أحق بصقبه" ما بعتك والحديث وإن كان ذكره أبو رافع في البيع فهو يعم الشفعة فذهب إلى ثبوتها الهادوية والحنفية وآخرون لهذه الأحاديث ولغيرها كحديث الشريد بن سويد قال قلت يا رسول الله أرض لي ليس لأحد فيها شرك ولا قسم إلا الجوار قال "الجار أحق بصقبه " أخرجه ابن سعد عن قتادة عن عمرو بن شعيب عن الشريد وحديث جابر الآتي وذهب علي وعمر وعثمان والشافعي وأحمد وإسحاق وغيرهم إلى أنه لا شفعة بالجوار قالوا والمراد بالجار في الأحاديث الشريك قالوا ويدل على أن المراد به ذلك حديث أبي رافع فإنه سمى الخليط جارا واستدل بالحديث وهو من أهل اللسان وأعرف بالمراد والقول بأنه لا يعرف في اللغة تسمية الشريك جار غير صحيح فإن كل شيء قارب شيئا فهو جار وأجيب بأن أبا رافع غير شريك لسعد بل جار له لأنه كان يملك بيتين في دار سعد لا أنه كان يملك شقصا شائعا من منزل سعد واستدلوا أيضا بما سلف من أحاديث الشفعة للشريك وقوله "فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة" ونحوه من الأحاديث التي فيها حصر الشفعة قبل القسمة وأجيب عنها بأن غاية ما فيها إثبات الشفعة للشريك من غير تعرض للجار لا بمنطوق ولا مفهوم ومفهوم الحصر في قوله "إنما جعل النبي صلى الله عليه وسلم الشفعة" الحديث إنما هو فيما قبل القسمة للمبيع بين المشتري والشريك فمدلوله أن القسمة تبطل الشفعة وهو صريح رواية "وإنما جعل النبي صلى الله عليه وسلم الشفعة في كل ما لم يقسم" وأحاديث إثبات الشفعة للخليط لا تبطل ثبوتها للجار بعد قيام الأدلة عليها التي منها ما سلف ومنها الحديث الآتي
4- وعن جابر رضى الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها وإن كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا" رواه أحمد والأربعة ورجاله ثقات أحسن المصنف بتوثيق رجاله وعدم إعلاله وإلا فإنهم قد تكلموا في هذه الرواية بأنه انفرد بزيادة قوله "إذا كان طريقهما واحدا" عبد الملك بن أبي سليمان العزرمي قلت وعبد الملك ثقة مأمون لا يضر انفراده كما عرف في الأصول وعلوم الحديث والحديث من أدلة شفعة الجار إلا أنه قيده بقوله إذا كان طريقهما واحدا وقد ذهب إلى اشتراط هذا بعض العلماء قائلا بأنها تثبت الشفعة للجار إذا اشتركا في الطريق قال في الشرح ولا يبعد اعتباره أما من حيث الدليل فللتصريح به في حديث جابر هذا ومفهوم الشرط أنه إذا كان مختلفا فلا شفعة وأما من حيث التعليل فلأن شرعية الشفعة لمناسبة دفع الضرر والضرر بحسب الأغلب إنما يكون مع شدة الاختلاط وشبكة الانتفاع وذلك إنما هو مع الشريك في الأصل أو في الطريق ويندر الضرر مع(3/75)
عدم ذلك وحديث جابر المقيد بالشرط لا يحتمل التأويل المذكور أولا لأنه إذا كان المراد بالجار الشريك فلا فائدة لاشتراط كون الطريق واحدا قلت ولا يخفى أنه قد آل الكلام إلى الخليط لأنه مع اتحاد الطريق تكون الشفعة للخلطة فيها وهذا هو الذي قررناه في منحة الغفار حاشية ضوء النهار قال ابن القيم: وهو أعدل الأقوال وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وحديث جابر هذا صريح فيه فإنه أثبت الشفعة بالجوار مع اتحاد الطريق ونفاها به في حديثه الآخر مع اختلافها حيث قال "فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة" فمفهوم حديث جابر هذا هو بعينه منطوق حديثه المتقدم فأحدهما يصدق الآخر ويوافقه لا يعارضه ولا يناقضه وجابر روى اللفظين فتوافقت السنن وائتلفت بحمد الله انتهى بمعناه وقوله ينتظر بها دال على أنها لا تبطل شفعة الغائب وإن تراخى وأنه لا يجب عليه السير حين يبلغه الشراء لأجلها وأما الحديث الآتي وهو قوله
5- وعن ابن عمر رضي الله عنه الشفعة كحل عقال رواه ابن ماجه والبزار وزاد ولا شفعة لغائب وإسناده ضعيف فإنه لا تقوم به حجة لما ستعرفه ولفظه من روايتهما لا شفعة لغائب ولا لصغير والشفعة كحل عقال وضعفه البزار وقال ابن حبان لا أصل له وقال أبو زرعة منكر وقال البيهقي ليس بثابت وفي معناه أحاديث كلها لا أصل لها اختلف الفقهاء في ذلك فعند الهادوية والشافعية والحنابلة أنها على الفور ولهم تقادير في زمان الفور لا دليل على شيء منها ولا شك أنه إذا كان وجه شرعيتها دفع الضرر فإنه يناسب الفورية لأنه يقال كيف يبالغ في دفع ضرر الشفيع ويبالغ في ضرر المشتري ببقاء مشتراه معلقا إلا أنه لا يكفي هذا القدر في إثبات حكم والأصل عدم اشتراط الفورية وإثباتها يحتاج إلى دليل ولا دليل وقد عقد البيهقي بابا في السنن الكبرى لألفاظ منكرة يذكرها بعض الفقهاء وعد منها الشفعة كحل عقال ولا شفعة لصبي ولا لغائب والشفعة لا ترث ولا تورث والصبي على شفعته حتى يدرك ولا شفعة لنصراني وليس لليهودي ولا للنصراني شفعة فعد منها حديث الكتاب(3/76)
باب القراض
القراض بكسر القاف وهو معاملة العامل بنصيب من الربح وهذه تسميته في لغة أهل الحجاز وتسمى مضاربة مأخوذة من الضرب في الأرض لما كان الربح يحصل في الغالب بالسفر أو من الضرب في المال وهو التصرف
1- عن صهيب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث فيهن البركة البيع إلى أجل والمقارضة وخلط البر بالشعير للبيت لا للبيع" رواه ابن ماجه بإسناد ضعيف وإنما كانت البركة في ثلاث لما في البيع إلى أجل من المسامحة(3/76)
والمساهلة والإعانة للغريم بالتأجيل وفي المقارضة لما في ذلك من انتفاع الناس بعضهم ببعض وخلط البر بالشعير قوتا لا للبيع لأنه قد يكون فيه غرر وغش
2- وعن حكيم بن حزام أنه كان يشترط على الرجل إذا أعطاه مالا مقارضة أن لا تجعل مالي في كبد رطبة ولا تحمله في بحر ولا تنزل به في بطن مسيل فإن فعلت شيئا من ذلك فقد ضمنت مالي رواه الدارقطني ورجاله ثقات وقال مالك في الموطأ عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب عن أبيه عن جده إنه عمل في مال لعثمان على أن الربح بينهما وهو موقوف صحيح لا خلاف بين المسلمين في جواز القراض وأنه مما كان في الجاهلية فأقره الإسلام وهو نوع من الإجارة إلا أنه عفى فيها عن جهالة الأجر وكانت الرخصة في ذلك الموضع الرفق بالناس ولها أركان وشروط فأركانها العقد بالإيجاب أو ما في حكمه والقبول أو ما في حكمه وهو الامتثال بين جائزي التصرف إلا من مال مسلم لكافر على مال نقد عند الجمهور ولها أحكام مجمع عليها منها أن الجهالة مغتفرة فيها ومنها أنه لا ضمان على العامل فيما تلف من رأس المال إذا لم يتعد واختلفوا إذا كان دينا فالجمهور على منعه قيل لتجويز إعسار العامل بالدين فيكون من تأخيره عنه لأجل الربح فيكون من الربا المنهي عنه وقيل لأن ما في الذمة يتحول عن الضمانة ويصير أمانة وقيل لأن ما في الذمة ليس بحاضر حقيقة فلم يتعين كونه مال المضاربة ومن شرط المضاربة أن تكون على مال من صاحب المال واتفقوا أيضا على أنه إذا اشترط أحدهما من الربح لنفسه شيئا زائدا معينا فإنه لا يجوز ويلغو ودل حديث حكيم على أنه يجوز لمالك المال أن يحجر العامل عما شاء فإن خالف ضمن إذا تلف المال وإن سلم المال فالمضاربة باقية فيما إذا كان يرجع إلى الحفظ وأما إذا كان الاشتراط لا يرجع إلى الحفظ بل كان يرجع إلى التجارة وذلك بأن ينهاه أن لا يشتري نوعا معينا ولا يبيع من فلان فإنه يصير فضوليا إذا خالف فإن أجاز المالك نفذ البيع وإن لم يجز لم ينفذ(3/77)
باب المساقاة والإجارة
1- عن ابن عمر رضي الله عنهما "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع" متفق عليه وفي رواية لهما فسألوه أن يقرهم بها(3/77)
على أن يكفوا عملها ولهم نصف الثمر فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نقركم بها على ذلك ما شئنا" فقروا بها حتى أجلاهم عمر رضي الله عنه ولمسلم "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها على أن يعتملوها من أموالهم ولهم شطر ثمرها" الحديث دليل على صحة المساقاة والمزارعة وهو قول علي عليه السلام وأبي بكر وعمر وأحمد وابن خزيمة وسائر فقهاء المحدثين أنهما تجوزان مجتمعتين وتجوز كل واحدة منفردة والمسلمون في جميع الأمصار والأعصار مستمرون على العمل بالمزارعة وقوله "ما شئنا" دليل على صحة المساقاة والمزارعة وإن كانت المدة مجهولة وقال الجمهور لا تجوز المساقاة والمزارعة إلا في مدة معلومة كالإجازة وتأولوا قوله ما شئنا على مدة العهد وأن المراد نمكنكم من المقام في خيبر ما شئنا ثم نخرجكم إذا شئنا لأنه صلى الله عليه وسلم كان عازما على إخراج اليهود من جزيرة العرب وفيه نظر وأما المساقاة فإن مدتها معلومة لأنها إجارة وقد اتفقوا على أنها لا تجوز إلا بأجل معلوم وقال ابن القيم في زاد المعاد في قصة خيبر دليل على جواز المساقاة والمزارعة بجزء من الغلة من ثمر أو زرع فإنه صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر على ذلك واستمر في ذلك إلى حين وفاته ولم ينسخ البتة واستمر عمل خلفائه الراشدين عليه وليس هذا من باب المؤاجرة في شيء بل من باب المشاركة وهو نظير المضاربة سواء فمن أباح المضاربة وحرم ذلك فقد فرق بين متماثلين فإنه صلى الله عليه وسلم دفع إليهم الأرض على أن يعتملوها من أموالهم ولم يدفع إليها البذر ولا كان يحمل إليهم البذر من المدينة قطعا فدل على أن هديه عدم اشتراط كون البذر من رب الأرض وأنه يجوز أن يكون من العامل وهذا كان هديه صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهدي الخلفاء الراشدين من بعده وكما أنه هو المنقول فهو الموافق للقياس فإن الأرض بمنزلة رأس المال في المضاربة والبذر يجري مجرى سقي الماء ولهذا يموت في الأرض ولا يرجع إلى صاحبه ولو كان بمنزلة رأس المال في المضاربة لاشترط عوده إلى صاحبه وهذا يفسد المزارعة فعلم أن القياس الصحيح هو الموافق لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين انتهى وقد أشار في كلامه إلى ما يذهب إليه الحنفية والهادوية من أن المساقاة والمزارعة لا تصح وهي فاسدة وتأولوا هذا الحديث بأن خيبر فتحت عنوة فكان أهله عبيدا له صلى الله عليه وسلم فما أخذه فهو له وما تركه فهو له وهو كلام مردود لا يحسن الاعتماد عليه
2- وعن حنظلة بن قيس رضي الله عنه هو الزرقي الأنصاري من ثقات أهل المدينة قال: سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب والفضة فقال: لا بأس به إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الماذيانات بذال معجمة مكسورة ثم مثناة تحتية ثم ألف ونون ثم ألف ثم مثناة فوقية هي مسايل المياه وقيل ما ينبت حول السواقي وأقبال الجداول بفتح الهمزة فقاف فموحدة أوائل الجداول وأشياء من الزرع فيهلك هذا ويسلم هذا ويسلم هذا ويهلك هذا ولم يكن للناس كراء إلا هذا فلذلك(3/78)
زجر عنه فأما شيء مضمون فلا بأس به رواه مسلم وفيه بيان لما أجمل في المتفق عليه من إطلاق النهي عن كراء الأرض مضمون الحديث دليل على صحة كراء الأرض بأجرة معلومة من الذهب والفضة ويقاس عليهما غيرهما من سائر الأشياء المتقومة ويجوز بما يخرج منها من ثلث وربع لما دل عليه الحديث الأول وحديث ابن عمر قال قد علمت أن الأرض كانت تكرى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما على الأربعاء وشيء من التبن لا أدري ما هو أخرجه مسلم وأخرج أيضا أن ابن عمر كان يعطي أرضه بالثلث والربع ثم تركه ويأتي ما يعارضه وقوله على الأربعاء جمع ربيع وهي الساقية الصغيرة ومعناه هو وحديث الباب أنهم كانوا يدفعون الأرض إلى من يزرعها ببذر من عنده على أن يكون لمالك الأرض ما ينبت على مسايل المياه ورؤوس الجداول أو هذه القطعة والباقي للعامل فنهوا عن ذلك لما فيه من الغرر فربما هلك ذا دون ذاك
3- وعن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المزارعة وأمر بالمؤاجرة" رواه مسلم وأخرج مسلم أيضا أن عبد الله بن عمر كان يكري أرضه حتى بلغه أن رافع بن خديج الأنصاري كان ينهى عن كراء المزارع فلقيه عبد الله فقال يا ابن خديج ماذا تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كراء الأرض فقال رافع لعبد الله سمعت عمي وكانا شهدا بدرا يحدثان أهل الدار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض فقال عبد الله لقد كنت أعلم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأرض تكرى ثم خشي عبد الله أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدث في ذلك شيئا لم يكن فترك كراء الأرض وفي النهي عن المزارعة أحاديث ثابتة وقد جمع بينها وبين الأحاديث الدالة على جوازها بوجوه أحسنها أن النهي كان في أول الأمر لحاجة الناس وكون المهاجرين ليس لهم أرض فأمر الأنصار بالتكرم بالمواساة ويدل له ما أخرجه مسلم من حديث جابر قال كان لرجال من الأنصار فضول أرض وكانوا يكرونها بالثلث والربع فقال النبي صلى الله عليه وسلم "من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه فإن أبى فليمسكها " وهذا كما نهوا عن ادخار لحوم الأضحية ليتصدقوا بذلك ثم بعد توسع حال المسلمين زال الاحتياج فأبيح لهم المزارعة وتصرف المالك في ملكه بما شاء من إجارة وغيرها ويدل على ذلك ما وقع من المزارعة في عهده صلى الله عليه وسلم وعهد الخلفاء من بعده ومن البعيد غفلتهم عن النهي وترك إشاعة رافع له في هذه المدة وذكره في آخر خلافة معاوية قال الخطابي قد عقل المعنى ابن عباس وأنه ليس المراد تحريم المزارعة بشطر ما تخرجه الأرض وإنما أريد بذلك أن يتمانحوا وأن يرفق بعضهم ببعض انتهى وعن زيد بن ثابت يغفر الله لرافع أنا والله أعلم بالحديث منه إنما أتاه رجلان من الأنصار قد اختلفا فقال إن كان هذا شأنكم فلا تكروا المزارع كأن زيدا يقول إن رافعا اقتطع الحديث فروى راو أوله فأخل بالمقصود وأما الاعتذار عن جهالة الأجرة فقد صح في المرضعة بالنفقة والكسوة مع(3/79)
الجهالة قدرا أو لأنه كالمعلوم جملة لأن الغالب تقارب حال الحاصل وقد حد بجهة الكمية أعني النصف والثلث وجاء النص فقطع التكلفات
4- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطى الذي حجمه أجره ولو كان حراما لم يعطه" رواه البخاري وفي لفظ في البخاري ولو علم كراهية لم يعطه وهذا من قول ابن عباس كأنه يريد الرد على من زعم أنه لا يحل إعطاء الحجام أجرته وأنه حرام وقد اختلف العلماء في أجرة الحجام فذهب الجمهور إلى أنه حلال احتجوا بهذا الحديث وقالوا هو كسب فيه دناءة وليس بمحرم وحملوا النهي على التنزيه ومنهم من ادعى النسخ وأنه كان حراما ثم أبيح وهو صحيح إذا عرف التاريخ وذهب أحمد وآخرون إلى أنه يكره للحر الاحتراف بالحجامة ويحرم عليه الإنفاق على نفسه من أجرتها ويجوز له الإنفاق على الرقيق والدواب وحجتهم ما أخرجه مالك وأحمد وأصحاب السنن برجال ثقات من حديث محيصة "أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كسب الحجام فنهاه فذكر له الحاجة فقال اعلفه نواضحك" وأباحوه للعبد مطلقا وفيه جواز التداوي بإخراج الدم وغيره وهو إجماع
5- وعن رافع بن خديج رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كسب الحجام خبيث" رواه مسلم الخبيث ضد الطيب وهل يدل الظاهر أنه لا يدل له فإنه تعالى قال -ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون- فسمى رذال المال خبيثا ولم يحرمه وأما حديث "من السحت كسب الحجام" فقد فسره هذا الحديث وأنه أريد بالسحت عدم الطيب وأيد ذلك إعطاؤه صلى الله عليه وسلم الحجام أجرته قال ابن العربي يجمع بينه وبين إعطائه صلى الله عليه وسلم الحجام أجرته بأن محل الجواز ما إذا كانت الأجرة على عمل معلوم ومحل الزجر ما إذا كانت الأجرة على عمل مجهول قلت هذا بناء على أن ما يأخذه حرام وقال ابن الجوزي إنما كرهت لأنها من الأشياء التي تجب على المسلم للمسلم إعانته بها عند الاحتياج فما كان ينبغي أن يأخذ على ذلك أجرا
6- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي ثم غدر ورجل باع حرا فأكل ثمنه ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره" رواه مسلم فيه دلالة على شدة جرم من ذكر وأنه تعالى يخصمهم يوم القيامة نيابة عمن ظلموه وقوله أعطى بي أي حلف باسمي وعاهد أو أعطى الأمان باسمي وبما شرعته من ديني وتحريم الغدر والنكث مجمع عليه وكذا بيع الحر مجمع على تحريمه(3/80)
وقوله استوفى منه أي استكمل منه العمل ولم يعطه الأجرة فهو أكل لماله بالباطل مع تعبه وكده
7- وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله" أخرجه البخاري وقد عارضه ما أخرجه أبو داود من حديث عبادة بن الصامت ولفظه علمت ناسا من أهل الصفة الكتاب والقرآن فأهدى إلي رجل منهم قوسا فقلت ليست لي بمال فأرمي عليها في سبيل الله فأتيته فقلت يا رسول الله أهدي إلي قوسا ممن كنت أعلمه الكتاب والقرآن وليست لي بمال فأرمي عليها في سبيل الله فقال: "إن كنت تحب أن تطوق طوقا من نار فاقبلها" فاختلف في العمل بالحديثين فذهب الجمهور و مالك والشافعي إلى جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن سواء كان المتعلم صغيرا أو كبيرا ولو تعين تعليمه على المعلم عملا بحديث ابن عباس ويؤيده ما يأتي في النكاح من جعله صلى الله عليه وسلم تعليم الرجل لامرأته القرآن مهرا لها قالوا وحديث عبادة لا يعارض حديث ابن عباس إذ حديث ابن عباس صحيح وحديث عبادة في رواته مغيرة بن زياد مختلف فيه واستنكر أحمد حديثه وفيه الأسود بن ثعلبة فيه مقال فلا يعارض الحديث الثابت قالوا ولو صح فإنه محمول على أن عبادة كان متبرعا بالإحسان وبالتعليم غير قاصد لأخذ الأجرة فحذره النبي صلى الله عليه وسلم من إبطال أجره وتوعده وفي أخذ الأجرة من أهل الصفة بخصوصهم كراهة ودناءة لأنهم ناس فقراء كانوا يعيشون بصدقة الناس فأخذ المال منهم مكروه وذهب الهادوية والحنفية وغيرهما إلى تحريم أخذ الأجرة على تعليم القرآن مستدلين بحديث عبادة وفيه ما عرفت فيه قريبا نعم استطرد البخاري ذكر أخذ الأجرة على الرقية في هذا الباب فأخرج من حديث أبي سعيد في رقية بعض الصحابة لبعض العرب وأنه لم يرقه حتى شرط عليه قطيعا من غنم فتفل عليه وقرأ عليه {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فكأنما نشط من عقال فانطلق يمشي وما به قلبة أي علة فأوفاه ما شرط ولما ذكروا ذلك لرسول الله قال: "قد أصبتم اقسموا واضربوا لي معكم سهما" وذكر البخاري لهذه القصة في هذا الباب وإن لم تكن من الأجرة على التعليم وإنما فيها دلالة على جواز أخذ العوض في مقابلة قراءة القرآن لتأييد جواز أخذ الأجرة على قراءة القرآن تعليما أو غيره إذ لا فرق بين قراءته للتعليم وقراءته للطب وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه" رواه ابن ماجه وفي الباب عن أبي هريرة رضي الله عنه عند أبي يعلى والبيهقي وجابر عند الطبراني وكلها ضعاف لأن في حديث ابن عمر شرقي(3/81)
بن قطامي ومحمد بن زياد الراوي عنه وكذا في مسند أبي يعلى والبيهقي وتمامه عند البيهقي وأعلمه أجره وهو في عمله قال البيهقي عقيب سياقه بإسناده وهذا ضعيف
9- وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من استأجر أجيرا فليسم له أجرته" رواه عبد الرزاق وفيه انقطاع ووصله البيهقي من طريق أبي حنيفة قال البيهقي كذا رواه أبو حنيفة وكذا في كتابي عن أبي هريرة وقيل من وجه آخر ضعيف عن ابن مسعود وفي الحديث دليل على ندب تسمية أجرة الأجير على عمله لئلا تكون مجهولة فتؤدي إلى الشجار والخصام(3/82)
باب إحياء الموات
الموات بفتح الميم والواو الخفيفة الأرض التي لم تعمر شبهت العمارة بالحياة وتعطيلها بعدم الحياة وإحياؤها عمارتها
واعلم أن الإحياء ورد عن الشارع مطلقا وما كان كذلك وجب الرجوع فيه إلى العرف لأنه قد يبين مطلقات الشارع كما في قبض المبيعات والحرز في السرقة مما يحكم به العرف والذي يحصل به الإحياء في العرف أحد خمسة أسباب تبييض الأرض وتنقيتها للزرع وبناء الحائط على الأرض وحفر الخندق القعير الذي لا يطلع من نزله إلا بمطلع هذا كلام الإمام يحيى
1- عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من عمر أرضا" بالفعل الماضي ووقع أعمر في رواية والصحيح الأول ليست لأحد "فهو أحق بها" قال عروة وقضى به عمر في خلافته رواه البخاري وهو دليل على أن الإحياء تملك إن لم يكن قد ملكها مسلم أو ذمي أو ثبت فيها حق للغير وظاهر الحديث أنه لا يشترط في ذلك إذن الإمام وهو قول الجمهور وعن أبي حنيفة أنه لا بد من إذنه ودليل الجمهور هذا الحديث والقياس على ماء البحر والنهر وما صيد من طير وحيوان وأنهم اتفقوا على أنه لا يشترط فيه إذن الإمام وأما ما تقدم عليه يد لغير معين كبطون الأودية فلا يجوز إلا بإذن الإمام مما ليس فيه ضرر لمصلحة عامة ذكره بعض الهادوية وقال المؤيد وأبو حنيفة لا يجوز إحياؤها بحال لجريها مجرى الأملاك لتعلق سيول المسلمين بها إذ هي مجرى السيول وقال الإمام المهدي وهو قوي فإن تحول عنها جري الماء جاز إحياؤها بإذن الإمام لانقطاع الحق وعدم تعين أهله وليس للإمام الإذن مع ذلك إلا لمصلحة عامة لا ضرر فيها ولا يجوز الإذن لكافر بالإحياء لقوله صلى الله عليه وسلم(3/82)
عادي الأرض لله ولرسوله ثم هي لكم والخطاب للمسلمين وقوله وقضى به عمر قيل هو مرسل لأن عروة ولد في آخر خلافة عمر
2- وعن سعيد بن زيد تقدمت ترجمته في كتاب الوضوء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أحيا أرضا ميتة فهي له" رواه الثلاثة وحسنه الترمذي وقال روي مرسلا وهو كما قال واختلف في صحابيه أي في راويه من الصحابة فقيل جابر وقيل عائشة وقيل عبد الله بن عمر الراجح من الثلاثة الأقوال الأول وفيه أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم غرس أحدهما نخلا في أرض الآخر فقضى لصاحب الأرض بأرضه وأمر صاحب النخل أن يخرج نخله منها قال فلقد رأيتها وإنها تضرب أصولها بالفؤوس وإنها لنخل عم حتى أخرجت منها وتقدم الكلام على فقهه وأنه ليس لعرق ظالم حق وعن
3- وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن الصعب بفتح الصاد المهملة وسكون العين المهملة فموحدة ابن جثامة بفتح الجيم فمثلثة مشددة أخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا حمى إلا لله ولرسوله" رواه البخاري الحمى يقصر ويمد والقصر أكثر وهو المكان المحمي وهو خلاف المباح ومعناه أن يمنع الإمام الرعي في أرض مخصوصة لتختص برعيها إبل الصدقة مثلا وكان في الجاهلية إذ أراد الرئيس أن يمنع الناس من محل يريد اختصاصه استعوى كلبا من مكان عال فإلى حيث ينتهي صوته حماه من كل جانب فلا يرعاه غيره ويرعى هو مع غيره فأبطل الإسلام ذلك وأثبت الحمى لله ولرسوله وقال الشافعي يحتمل الحديث شيئين أحدهما ليس لأحد أن يحمي للمسلمين إلا مما حماه النبي صلى الله عليه وسلم والآخر معناه إلا على مثل ما حماه عليه النبي صلى الله عليه وسلم فعلى الأول ليس لأحد من الولاة بعده أن يحمي وعلى الثاني يختص الحمى بمن قام مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الخليفة خاصة ورجح هذا الثاني بما ذكره البخاري عن الزهري تعليقا أن عمر حمى الشرف والربذة وأخرج ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن نافع عن ابن عمر أن عمر حمى الربذة لإبل الصدقة وقد ألحق بعض الشافعية ولاة الأقاليم في أنهم يحمون لكن بشرط أن لا يضر بكافة المسلمين واختلف هل يحمي الإمام لنفسه أو لا يحمي إلا لما هو للمسلمين فقال المهدي كان له صلى الله عليه وسلم أن يحمي لنفسه لكنه لم يملك لنفسه ما يحمي لأجله وقال الإمام يحيى والفريقان لا يحمي إلا لخيل المسلمين ولا يحمي لنفسه ويحمي لإبل الصدقة ولمن ضعف من المسلمين عن الانتجاع لقوله لا حمى إلا لله الحديث ولا يخفى أنه لا دليل فيه على الاختصاص أما قصة عمر فإنها دالة على(3/83)
الاختصاص ولفظها فيما أخرجه أبو عبيد وابن أبي شيبة والبخاري والبيهقي عن أسلم أن عمر بن الخطاب استعمل مولى له يسمى هنيا على الحمى فقال له يا هني اضمم جناحك عن المسلمين واتق دعوة المظلوم فإن دعوة المظلوم مجابة وأدخل رب الصريمة ورب الغنيمة وإياك ونعم ابن عوف ونعم ابن عفان فإنهما إن تهلك ماشيتهما يرجعان إلى نخل وزرع وإن رب الصريمة ورب الغنيمة إن تهلك ماشيتهما يأتيني ببنيه يقول يا أمير المؤمنين أفتاركهم أنا لا أبا لك فالماء والكلأ أيسر علي من الذهب والورق وايم الله أنهم يرون أني ظلمتهم وإنها لبلادهم قاتلوا عليها في الجاهلية وأسلموا عليها في الإسلام والذي نفسي بيده لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت على الناس في بلادهم انتهى هذا صريح أنه لا يحمى الإمام لنفسه
4- وعن ابن عباس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار" رواه أحمد وابن ماجه وله أي لابن ماجه من حديث أبي سعيد مثله وهو في الموطأ مرسل وأخرجه ابن ماجه أيضا والبيهقي من حديث عبادة بن الصامت وأخرجه مالك عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه مرسلا بزيادة من ضار ضاره الله ومن شاق شاق الله عليه وأخرجه بها الدارقطني والحاكم والبيهقي عن أبي سعيد مرفوعا وأخرجه عبد الرزاق وأحمد عن ابن عباس أيضا وفيه زيادة "وللرجل أن يضع خشبته في حائط جاره والطريق الميتاء سبعة أذرع" وقوله لا ضرر الضرر ضد النفع يقال ضره ضرا وضرارا وأضر به يضر إضرارا ومعناه لا يضر الرجل أخاه فينقصه شيئا من حقه والضرار فعال من الضر أي لا يجازيه بإضراره بإدخال الضر عليه فالضر ابتداء الفعل والضرر الجزاء عليه قلت يبعده جواز الانتصار لمن ظلم ولمن انتصر بعد ظمه الآية وجزاء سيئة سيئة مثلها وقيل الضرر ما تضر به صاحبك وتنتفع أنت به والضرار أن تضره أن تنتفع وقيل هما بمعنى وتكرارهما للتأكيد وقد دل الحديث على تحريم الضرر لأنه إذا نفى ذاته دل على النهي عنه لأن النهي لطلب الكف عن الفعل وهو يلزم منه عدم ذات الفعل فاستعمل اللازم في الملزوم وتحريم الضرر معلوم عقلا وشرعا إلا ما دل الشرع على إباحته رعاية للمصلحة التي تربو على المفسدة وذلك مثل إقامة الحدود ونحوها وذلك معلوم في تفاصيل الشريعة ويحتمل أن لا تسمى الحدود من القتل والضرب ونحوه ضررا من فاعلها لغيره لأنه إنما امتثل أمر الله له بإقامة الحد على العاصي فهو عقوبة من الله تعالى لإنه إنزال ضرر من الفاعل ولذا لا يذم الفاعل لإقامة الحد بل يمدح على ذلك
5- وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحاط حائطا على أرض فهي له" رواه أبو داود وصححه ابن الجارود وتقدم أن من أعمر أرضا(3/84)
ليست لأحد فهي له وهذا الحديث يبين نوعا من أنواع العمارة ولا بد من تقييد الأرض بأنه لا حق فيها لأحد كما سلف
6- وعن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حفر بئرا فله أربعون ذراعا عطنا" بفتح العين المهملة وفتح الطاء فنون في القاموس العطن محركة وطن الإبل ومبركها حول الحوض "لماشيته" رواه ابن ماجه بإسناد ضعيف لأن فيه إسماعيل بن سلم وقد أخرجه الطبراني من حديث أشعث عن الحسن وفي الباب عن أبي هريرة عند أحمد حريم البئر البدىء خمسة وعشرون ذراعا وحريم البئر العادي خمسون ذراعا وأخرجه الدارقطني من طريق سعيد بن المسيب عنه وأعله بالإرسال وقال من أسنده فقد وهم وفي سنده محمد بن يوسف المقري شيخ شيخ الدارقطني وهو متهم بالوضع ورواه البيهقي من طريق يونس عن الزهري عن ابن المسيب مرسلا وزاد فيه وحريم بئر الزرع ثلا ثمائة ذراع من نواحيها كلها وأخرجه الحاكم من حديث أبي هريرة موصولا ومرسلا والموصول فيه عمر بن قيس ضعيف والحديث دليل على ثبوت الحريم للبئر والمراد بالحريم ما يمنع منه المحيي والمحتفر لإضراره وفي النهاية سمي بالحريم لأنه يحرم منع صاحبه منه ولأنه يحرم على غيره التصرف فيه والحديث نص في حريم البئر وظاهر حديث عبد الله أن العلة في ذلك هي ما يحتاج إليه صاحب البئر عند سقي إبله لاجتماعها على الماء وحديث أبي هريرة دال على أن العلة في ذلك هو ما يحتاج إليه البئر لئلا تحصل المضرة عليها بقرب الإحياء منها ولذلك اختلف الحال والعادي والجمع بين الحديثين أنه ينظر ما يحتاج إليه إما لأجل السقي للماشية أو لأجل البئر وقد اختلف العلماء في ذلك فذهب الهادي والشافعي وأبو حنيفة إلى أن حريم البئر الإسلامية أربعون وذهب أحمد إلى أن الحريم خمسة وعشرون وأما العيون فذهب الهادي إلى أن حريم العين الكبيرة الفوارة خمسمائة ذراع من كل جانب استحسانا وقيل وكأنه نظر إلى أرض رخوة تحتاج إلى ذلك القدر وأما الأرض الصلبة فدون ذلك والدار المنفردة حريمها فناؤها وهو مقدار طول جدار الدار وقيل ما تصل إليه الحجارة إذا انهدمت وإلى هذا ذهب زيد بن علي وغيره وحريم النهر قدر ما يلقى منه كسحه وقيل مثل نصفه من كل جانب وقيل بل بقدر أرض النهر جميعا وحريم الأرض ما تحتاج إليه وقت عملها وإلقاء كسحها وكذا المسيل حريمه مثل البئر على الخلاف وكل هذه الأقوال قياس على البئر بجامع الحاجة وهذا في الأرض المباحة وأما الأرض المملوكة فلا حريم في ذلك بل كل يعمل في ملكه ما
7- وعن علقمة بن وائل عن أبيه "أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطعه أرضا بحضرموت" رواه أبو داود والترمذي وصححه ابن حبان وصححه أيضا الترمذي والبيهقي ومعناه أنه خصه(3/85)
ببعض الأرض الموات فيختص بها ويصير أولى بها بإحيائه ممن لم يسبق إليها بالإحياء واختصاص الإحياء بالموات متفق عليه في كلام الشافعية والهادوية وغيرهم وحكى القاضي عياض أن الإقطاع تسويغ الإمام من مال الله شيئا لمن يراه أهلا لذلك قال وأكثر ما يستعمل في الأرض وهو أن يخرج منها لمن يراه ما يحوزه إما بأن يملكه إياه فيعمره وإما بأن يجعل له غلتها مدة قال والثاني هو الذي يسمى في زماننا هذا إقطاعا ولم أر أحدا من أصحابنا ذكره وتخريجه على طريقة فقهية مشكل والذي يظهر أنه يحصل للمقطع بذلك اختصاص كاختصاص المتحجر ولكنه لا يملك الرقبة بذلك انتهى وبه جزم المحب الطبري وادعى الأوزاعي الخلاف في جواز تخصيص الإمام بعض الجند بغلة أرض إذا كان مستحقا لذلك قال ابن التين إنما يسمى إقطاعا إذا كان من أرض أو عقار وإنما يقطع من الفيء ولا يقطع من حق مسلم ولا معاهد قال وقد يكون الإقطاع تمليكا وغير تمليك وأما ما يقطع في أرض اليمن في هذه الأزمنة المتأخرة من إقطاع جماعة من أعيان الآل قرى من البلاد العشرية يأخذون زكاتها وينفقونها على أنفسهم مع غناهم فهذا شيء محرم لم تأت به الشريعة المحمدية بل أتت بخلافه وهو تحريم الزكاة على آل محمد وتحريمها على الأغنياء من الأمة فإنا لله وإنا إليه راجعون
8- وعن ابن عمر رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع الزبير حضر" بضم الحاء المهملة وسكون الضاد المعجمة فراء "فرسه" أي ارتفاع الفرس في عدوه "فأجرى الفرس حتى قام ثم رمى بسوطه فقال أعطوه حيث بلغ السوط" رواه أبو داود وفيه ضعف لأن فيه العمري المكبر وهو عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب وفيه مقال وأخرجه أحمد من حديث أسماء بنت أبي بكر وفيه أن الإقطاع كان من أموال بني النضير قال في البحر وللإمام إقطاع الموات لإقطاع النبي صلى الله عليه وسلم الزبير حضر فرسه ولفعل أبي بكر وعمر
9- وعن رجل من الصحابة قال غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول "الناس شركاء في ثلاثة في الكلإ" مهموز ومقصور( والماء والنار رواه أحمد وأبو داود ورجاله ثقات وروى ابن ماجه من حديث أبي هريرة مرفوعا "ثلاث لا يمنعن الكلأ والماء والنار" وإسناده صحيح وفي الباب روايات كثيرة لا تخلو من مقال ولكن الكل ينهض على الحجية ويدل للماء بخصوصه أحاديث في مسلم وغيره والكلأ النبات رطبا كان أو يابسا وأما الحشيش والهشيم فمختص باليابس وأما الخلا مقصور فيختص بالرطب ومثله العشب والحديث دليل على عدم اختصاص أحد من الناس بأحد الثلاثة وهو إجماع في الكلأ في الأرض المباحة والجبال التي لم يحرزها أحد فإنه لا يمنع من أخذ كلئها أحد إلا ما حماه الإمام كما سلف وأما النابت في الأرض المملوكة والمتحجرة(3/86)
ففيه خلاف بين العلماء فعند الهادوية وغيرها أن ذلك مباح أيضا وعموم الحديث دليل لهم وأما النار فاختلف في المراد بها فقيل أريد بها الحطب الذي يحطبه الناس وقيل أريد بها الاستصباح منها والاستضاءة بضوئها وقيل الحجارة التي تورى منها النار إذا كانت في موات والأقرب أنه أريد بها النار حقيقة فإن كانت من حطب مملوك فقيل حكمها حكم أصلها وقيل يحتمل أنه يأتي فيها الخلاف الذي في الماء وذلك لعموم الحاجة وتسامح الناس في ذلك وأما الماء فقد تقدم الكلام فيه وأنه يحرم منع المياه المجتمعة من الأمطار في أرض مباحة وأنه ليس أحد أحق بها من أحد إلا لقرب أرضه منها ولو كان في أرض مملوكة فكذلك إلا أن صاحب الأرض المملوكة أحق به يسقيها ويسقي ماشيته ويجب بذله لما فضل من ذلك فلو كان في أرضه أو داره عين نابعة أو بئر احتفرها فإنه لا يملك الماء بل حقه فيه تقديمه في الانتفاع به على غيره وللغير دخول أرضه كما سلف فإن قيل فهل يجوز بيع العين والبئر نفسهما قيل يجوز بيع العين والبئر لأن النهي وارد عن بيع فضل الماء لا البئر والعيون في قرارهما فلا نهي عن بيعهما والمشتري لهما أحق بمائهما بقدر كفايته وقد ثبت شراء عثمان لبئر رومة من اليهودي بأمره صلى الله عليه وسلم وسبلها للمسلمين فإن قيل إذا كان الماء لا يملك فكيف تحجر اليهودي البئر حتى باعها من عثمان قيل هذا كان في أول الإسلام حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وقبل تقرر الأحكام على اليهودي والنبي صلى الله عليه وسلم أبقاهم أول الأمر على ما كانوا عليه وقررهم على ما تحت أيديهم(3/87)
باب الوقف
الوقف لغة الحبس يقال وقفت كذا أي حبسته وهو شرعا حبس مال يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه فتكون التصرف في رقبته على مصرف مباح
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا مات ابن آدم انقطع عنه عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له" رواه مسلم ذكره في باب الوقف العلماء الصدقة الجارية بالوقف وكان أول وقف في الإسلام وقف عمر رضي الله عنه الآتي حديثه كما أخرجه ابن أبي شيبة أن أول حبس في الإسلام صدقة عمر قال الترمذي لا نعلم بين الصحابة والمتقدمين من أهل الفقه خلافا في جواز وقف الأرضين وأشار الشافعي أنه من خصائص الإسلام لا يعلم في الجاهلية وألفاظه وقفت وحبست وسبلت وأبدت فهذه صرائح ألفاظه وكنايته تصدقت واختلف في حرمت فقيل صريح وقيل غير صريح وقوله "أو علم ينتفع به" المراد النفع الأخروي فيخرج ما لا نفع فيه كعلم النجوم من حيث أحكام السعادة وضدها ويدخل فيه من ألف علما نافعا أو نشره فبقي من يرويه عنه وينتفع به أو كتب علما نافعا ولو بالأجرة مع النية أو وقف كتبا ولفظ الولد(3/87)
شامل للأنثى والذكر وشرط صلاحه ليكون الدعاء مجابا والحديث دليل على أنه ينقطع أجر كل عمل بعد الموت إلا هذه الثلاثة فإنه يجري أجرها بعد الموت ويتجدد ثوابها قال العلماء لأن ذلك كسبه وفيه دليل على أن دعاء الولد لأبويه بعد الموت يلحقهما وكذلك غير الدعاء من الصدقة وقضاء الدين وغيرهما.
واعلم أنه قد زيد على هذه ثلاثة ما أخرجه ابن ماجه بلفظ إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما نشره وولدا صالحا تركه أو مصحفا ورثه أو مسجدا بناه أو بيتا لابن السبيل بناه أو نهرا أجراه أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه بعد موته ووردت خصال أخر تبلغ عشرا ونظمها الحافظ السيوطي رحمه الله تعالى قال:
إذا مات ابن آدم ليس يجري ... عليه من فعال غير عشر
علوم بثها ودعاء نجل ... وغرس النخل والصدقات تجري
وراثة مصحف ورباط ثغر ... وحفر البئر أو إجراء نهر
وبيت للغريب بناه يأوى ... إليه أو بناء محل ذكر
2- وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال أصاب عمر أرضا بخيبر في رواية النسائي أنه كان لعمر مائة رأس فاشترى بها مائة سهم من خيبر فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها فقال يا رسول الله إني أصبت أرضا بخيبر لم أصب مالا قط هو أنفس عندي منه فقال صلى الله عليه وسلم "إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها" قال فتصدق بها عمر وأنه لا يباع أصلها ولا يورث ولا يوهب فتصدق بها على الفقراء و في القربى" أي ذوي قربى عمر "وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف لا جناح على من وليها أن يأكل بالمعروف أو يطعم صديقاً غير متمول مالا" متفق عليه واللفظ لمسلم وفي رواية للبخاري تصدق بأصلها لا يباع ولا يوهب ولكن ينفق ثمره أفادت رواية البخاري أن كونه لا يباع ولا يوهب من كلامه صلى الله عليه وسلم وأن هذا شأن الوقف وهو يدفع قول أبي حنيفة بجواز بيع الوقوف قال أبو يوسف إنه لو بلغ أبا حنيفة هذا الحديث لقال به ورجع عن بيع الوقف قال القرطبي رد الوقف مخالف للإجماع فلا يلتفت إليه وقوله "أن يأكل منها من وليها بالمعروف" قال القرطبي جرت العادة أن العامل يأكل من ثمرة الوقف حتى لو اشترط الواقف أن لا يأكل منه لاستقبح ذلك منه والمراد بالمعروف القدر الذي جرت به العادة وقيل القدر الذي يدفع الشهوة وقيل المراد أن يأخذ منه بقدر عمله والأول أولى وقوله غير متمول أي غير متخذ منها مالا أي ملكا والمراد لا يتملك شيئا من رقابها ولا يأخذ من غلتها ما يشتري بدله ملكا بل ليس له إلا ما ينفقه وزاد أحمد في روايته أن عمر أوصى بها إلى حفصة أم المؤمنين ثم إلى الأكابر من آل عمر ونحوه عند الدارقطني
3- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر(3/88)
على الصدقة الحديث وفيه "وأما خالد فقد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله" متفق عليه تقدم تفسير الأعتاد والحديث دليل على صحة وقف العين عن الزكاة وأنه يأخذ بزكاته آلات للحرب للجهاد في سبيل الله وعلى أنه يصح وقف العروض وقال أبو حنيفة لا يصح لأن العروض تبذل وتغير والوقف موضوع على التأبيد والحديث حجة عليه ودل على صحة وقف الحيوان لأنها قد فسرت الأعتاد بالخيل وعلى جواز صرف الزكاة إلى صنف واحد من الثمانية وتعقب ابن دقيق العيد جميع ما ذكر بأن القصة محتملة لما ذكر ولغيره فلا ينتهض الاستدلال بها على شيء مما ذكر قال ويحتمل أن يكون تحبيس خالد إرصادا وعدم تصرف ولا يكون وقفا(3/89)
باب الهبة والعمرى والرقبى
الهبة بكسر الهاء مصدر وهبت وهي شرعا تمليك عين بعقد على غير عوض معلوم في الحياة ويطلق على الشيء الموهوب ويطلق على أعم من ذلك
1- عن النعمان بن بشير أن أباه أتى به صلى الله عليه وسلم فقال: إني نحلت ابني هذا غلاما كان لي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكل ولدك نحلته مثل هذا" فقال: لا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فارجعه" وفي لفظ" فانطلق أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشهده على صدقتي فقال: " أفعلت هذا بولدك كلهم" قال: لا قال :"اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم" فرجع أبي فرد تلك الصدقة" متفق عليه وفي رواية لمسلم قال: "فأشهد على هذا غيري" ثم قال: "أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء؟" قال بلى قال: "فلا إذن" الحديث دليل على وجوب المساواة بين الأولاد في الهبة وقد صرح به البخاري وهو قول أحمد وإسحاق والثوري وآخرين وأنها باطلة مع عدم المساواة وهو الذي تفيده ألفاظ الحديث من أمره صلى الله عليه وسلم بإرجاعه ومن قوله "اتقوا الله وقوله اعدلوا بين أولادكم" وقوله فلا إذن وقوله لا أشهد على جور واختلف في كيفية التسوية فقيل بأن تكون عطية الذكر والأنثى سواء وهو ظاهر قوله في بعض ألفاظه عند النسائي ألا سويت بينهم وعند ابن حبان سووا بينهم ولحديث ابن عباس سووا بين أولادكم في العطية فلو كنت مفضلا أحدا لفضلت النساء أخرجه سعيد بن منصور والبيهقي بإسناد حسن وقيل بل التسوية أن يجعل للذكر مثل حظ الأنثيين على حسب التوريث وذهب الجمهور إلى أنها لا تجب التسوية بل تندب وأطالوا في الاعتذار عن الحديث وذكر في الشرح عشرة(3/89)
أعذار كلها غير ناهضة وقد كتبنا في ذلك رسالة جواب سؤال أوضحنا فيها قوة القول بوجوب التسوية وأن الهبة مع عدمها باطلة
2- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه" متفق عليه وفي رواية للبخاري "ليس لنا مثل السوء الذي يعود في هبته كالكلب يقيء ثم يرجع في قيئه" فيه دلالة على تحريم الرجوع في الهبة وهو مذهب جماهير العلماء وبوب له البخاري باب لا يحل لأحد أن يرجع في هبته وصدقته وقد استثنى الجمهور ما يأتي من الهبة للولد ونحوه وذهبت الهادوية و أبو حنيفة إلى حل الرجوع في الهبة دون الصدقة إلا الهبة لذي رحم قالوا والحديث المراد به التغليظ في الكراهة قال الطحاوي قوله كالعائد في قيئه التحريم لكن الزيادة في الرواية الأخرى وهو قوله "كالكلب" تدل على عدم التحريم لأن الكلب غير متعبد فالقيء ليس حراما عليه والمراد التنزه عن فعل يشبه فعل الكلب وتعقب باستبعاد التأويل ومنافرة سياق الحديث له وعرف الشرع في مثل هذه العبارة الزجر الشديد كما ورد النهي في الصلاة عن إقعاء الكلب ونقر الغراب والتفات الثعلب ونحوه ولا يفهم من المقام إلا التحريم والتأويل البعيد لا يلتفت إليه ويدل على التحريم الحديث الآتي وهو
3- وعن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل لرجل مسلم أن يعطي العطية ثم يرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده" رواه أحمد والأربعة وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم فإن قوله لا يحل ظاهر في التحريم والقول بأنه مجاز عن الكراهة الشديدة صرف له عن ظاهره وقوله إلا الوالد دليل على أنه يجوز للأب الرجوع فيما وهبه لابنه كبيرا كان أو صغيرا واختصه الهادوية بالطفل وهو خلاف ظاهر الحديث وفرق بعض العلماء فقال يحل الرجوع في الهبة دون الصدقة لأن الصدقة يراد بها ثواب الآخرة وهو فرق غير مؤثر في الحكم وحكم الأم حكم الأب عند أكثر العلماء نعم وخص الهادي ما وهبته الزوجة لزوجها من صداقها بأنه ليس لها الرجوع في ذلك ومثله رواه البخاري عن النخعي وعمر بن عبد العزيز تعليقا وقال الزهري يرد إليها إن كان خدعها وأخرج عبد الرزاق بسند منقطع إن النساء يعطين رغبة ورهبة فأيما امرأة أعطت زوجها فشاءت أن ترجع رجعت
4- وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها" رواه البخاري فيه دلالة أن عادته صلى الله عليه وسلم كانت جارية بقبول الهدية والمكافأة عليها وفي رواية لابن أبي شيبة "ويثيب عليها ما هو خير منها" وقد استدل به على وجوب الإثابة على الهدية إذ كونه عادة له صلى الله عليه وسلم مستمرة يقتضي لزومه ولا يتم به الاستدلال على الوجوب لأنه قد يقال إنما فعله صلى الله عليه وسلم مستمرا(3/90)
لما جبل عليه من مكارم الأخلاق لا لوجوبه وقد ذهبت الهادوية إلى وجوب المكافأة بحسب العرف قالوا لأن الأصل في الأعيان الأعواض قال في البحر ويجب تعويضها حسب العرف وقال الإمام يحيى المثلي مثله والقيمي قيمته ويجب له الإيصاء بها وقال الشافعي في الجديد الهبة للثواب باطلة لاتنعقد لأنها بيع بثمن مجهول ولأن موضع الهبة التبرع فلو أوجبناه لكان في معنى المعاوضة وقد فرق الشرع والعرف بين الهبة والبيع فما يستحق العوض أطلق عليه لفظ البيع بخلاف الهبة قيل وكأن من أجازها للثواب جعل العرف فيها بمنزلة الشرط وهو ثواب مثلها وقال بعض المالكية يجب الثواب على الهبة إذا أطلق الواهب أو كان مما يطلب مثله الثواب كالفقير للغني بخلاف ما يهبه الأعلى للأدنى فإذا لم يرض الواهب بالثواب فقيل تلزم الهبة إذا أعطاه الموهوب له القيمة وقيل لا تلزم إلا أن يرضيه والأول المشهور عن مالك رحمه الله ويرده الحديث الآتي وهو:
5- (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال "وهب رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم ناقة فأثابه عليها فقال: "رضيت؟" قال لا فزاده فقال:" رضيت؟" قال لا فزاده فقال "رضيت؟" قال نعم رواه أحمد وصححه ابن حبان) ورواه الترمذي وبين أن العوض كان ست بكرات وفيه دليل على اشتراط رضا الواهب وأنه إن سلم إليه قدر ما وهب ولم يرض زيد له وهو دليل لأحد القولين الماضيين وهو قول ابن عمر قالوا فإذا اشترط فيه الرضا فليس هناك بيع انعقد
6- (وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" العمرى" بضم المهملة وسكون الميم وألف مقصورة " لمن وهبت له" متفق عليه ولمسلم أي من حديث جابر "أمسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها فإنه من أعمر عمرى فهي للذي أعمرها حيا وميتا ولعقبه" وفي لفظ "إنما العمرى التي أجازها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول هي لك ولعقبك فأما إذا قال هي لك ما عشت فإنها ترجع إلى صاحبها" ولأبي داود والنسائي أي من حديث جابر "لا ترقبوا ولا تعمروا فمن أرقب شيئا أو أعمر شيئا فهو لورثته" الأصل في العمرى والرقبى أنه كان في الجاهلية يعطي الرجل الرجل الدار ويقول أعمرتك إياها أي أبحتها لك مدة عمرك فقيل لها عمرى لذلك كما أنه قيل لها رقبى لأن كلا منهما يرقب موت الآخر وجاءت الشريعة بتقرير ذلك ففي الحديث دلالة على شرعيتها وأنها مملكة لمن وهب له وإليه ذهب العلماء كافة إلا رواية عن داود أنها لا تصح واختلف إلى ماذا يتوجه التمليك فالجمهور أنه يتوجه إلى الرقبة كغيرها من الهبات وعند الشافعي ومالك إلى المنفعة دون الرقبة وتكون على ثلاثة أقسام مؤبدة إن قال أبدا ومطلقة عند عدم التقييد ومقيدة بأن يقول ما عشت فإذا مت رجعت إلي(3/91)
واختلف العلماء في ذلك والأصح أنها صحيحة في جميع الأحوال وأن الموهوب له يملكها ملكا تاما يتصرف فيها بالبيع وغيره من التصرفات وذلك لتصريح الأحاديث بأنها لمن أعمرها حيا وميتا وأما قوله فإذا قال هي لك ما عشت فإنها ترجع إلى صاحبها فلأنها بهذا القيد قد شرط أن تعود إلى الواهب بعد موته فيكون لها حكم ما إذا صرح بذلك الشرط وهي كما لو أعمره شهرا أو سنة فإنها عارية إجماعا وقوله "أمسكوا أموالكم" وقوله "لا ترقبوا" محمول على الكراهة والإرشاد لهم إلى حفظ أموالهم لأنهم كانوا يعمرون ويرقبون ويرجع إليهم إذا مات من أعمروه وأرقبوه فجاء الشرع بمراغمتهم وصحح العقد وأبطل الشرط المضاد لذلك فإنه أشبه الرجوع في الهبة وقد صح النهي عنه وأخرج النسائي من حديث ابن عباس يرفعه العمرى لمن أعمرها والرقبى لمن أرقبها والعائد في هبته كالعائد في قيئه وأما إذا صرح بالشرط كما في الحديث وقال ما عشت فإنها عارية مؤقتة لا هبة ومر حديث العائد في هبته كالعائد في قيئه ومثله الحديث الآتي وهو
7- وعن عمر رضي الله عنه قال: حملت على فرس في سبيل الله فأضاعه صاحبه فظننت أنه بائعه برخص فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: "لا تبتعه وإن أعطاكه بدرهم" الحديث متفق عليه تمامه "فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه" وقوله فأضاعه أي قصر في مؤنته وحسن القيام به وقوله لا تبتعه أي لا تشتره وفي لفظ ولا تعد في صدقتك فسمى الشراء عودا في الصدقة قيل لأن العادة جرت بالمسامحة في ذلك من البائع للمشتري فأطلق على القدر الذي يقع به التسامح رجوعا ويحتمل أنه مبالغة وأن عودها إليه بالقيمة كالرجوع وظاهر النهي التحريم وإليه ذهب قوم وقال الجمهور إنه للتنزيه وتقدم أن الرجوع في الهبة محرم وأنه الأقوى دليلا إلا ما استثني قال الطبري يخص من عموم هذا الحديث من وهب بشرط الثواب وما إذا كان الواهب الوالد لولده والهبة التي لم تقبض والتي ردها الميراث إلى الواهب لثبوت الأخبار باستثناء ذلك ومما لا رجوع فيه مطلقا الصدقة يراد بها ثواب الآخرة قلت هذا في الرجوع في الهبة فأما شراؤها وهو الذي فيه سياق هذا الحديث فالظاهر أن النهي للتنزيه وإنما التحريم في الرجوع فيها ويحتمل أنه لا فرق بينهما للنهي وأصله التحريم
8- وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "تهادوا تحابوا" رواه البخاري في الأدب المفرد وأبو يعلى بإسناد حسن وأخرجه البيهقي وغيره وفي كل رواته مقال والمصنف قد حسن إسناده وكأنه لشواهده التي منها الحديث وإن كان ضعيفا وهو قوله
9- وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"تهادوا فإن الهدية تسل السخيمة" بالسين المهملة مفتوحة فخاء معجمة فمثناة تحتية في القاموس السخيمة والسخيمة بالضم الحقد رواه البزار بإسناد ضعيف لأن في روايته من ضعف وله طرق كلها لا تخلو عن مقال وفي بعض ألفاظه تذهب وحر الصدر(3/92)
بفتح الواو والحاء المهملة وهو الحقد أيضا والأحاديث وإن لم تخل عن مقال فإن للهدية في القلوب موقعا لا يخفى
10- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا نساء المسلمات" قال القاضي الأشهر نصب النساء على أنه منادى مضاف إلى المسلمات من إضافة الصفة وقيل غير هذا "لا تحقرن" بالحاء المهملة ساكنة وفتح القاف وكسرها "جارة لجارتها ولو فرسن شاة" بكسر الفاء وسكون الراء وكسر السين المهملة آخره نون وهو من البعير بمنزلة الحافر من الدابة وربما استعير للشاة متفق عليه في الحديث حذف تقديره لا تحقرن جارة لجارتها هدية ولو فرسن شاة والمراد من ذكره المبالغة في الحث على هدية الجارة لجارتها لا حقيقة الفرسن لأنه لم تجر العادة بإهدائه وظاهره النهي للمهدي اسم فاعل عن استحقار ما يهديه بحيث يؤدي إلى ترك الإهداء ويحتمل أنه للمهدى إليه والمراد لا يحقرن ما أهدى إليه ولو كان حقيرا ويحتمل إرادة الجمع وفيه الحث على التهادي سيما بين الجيران ولو بالشيء الحقير لما فيه من جلب المحبة والتأنيس
11- وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من وهب هبة فهو أحق بها ما لم يثب عليها" رواه الحاكم وصححه والمحفوظ من رواية ابن عمر عن عمر قوله قال المصنف صححه الحاكم وابن حزم وفيه دليل على جواز الرجوع في الهبة التي لم يثب عليها وعدم جواز الرجوع في الهبة التي أثاب عليها الموهوب له الواهب وتقدم الكلام في ذلك وفي حكم الهبة للثواب والمكافأة وما أحسن ما قيل في ذلك إن الفاعل لا يفعل إلا لغرض فالهبة للأدنى كثيرا ما تكون كالصدقة وهي غرض معهم وللمساوي معاشرة لجلب المودة وحسن العشرة وهي مثل عطية الأدنى إلا أن في عطية الأدنى توهم الصدقة والعرف جار بتخالف الهدايا باعتبار حال المهدي والمهدى إليه فإذا كان الغرض الطمع والتحصيل كما يهدي المتكسب للملك يتحفه بشيء يرجو فضله فلو اقتصر الملك على قدر قيمتها لذم والذم دليل الرجوع بل إما أن يردها أو يعطيه خيرا منها وإن كان غرض المهدي تحصيل الاتصال بينهما والمخالقة الحسنة وتصفية ذات البين أجزأه من المكافأة أدنى شيء قل أو كثر بل الأقل أنسب لإشعاره بأن ليس الغرض المعاوضة بل تكميل المودة وأنه لا فرق بين ما تملكه أنت وما أملكه أنا(3/93)
باب اللقطة
اللقطة بضم اللام وفتح القاف قيل لا يجوز غيره وقال الخليل القاف ساكنة لاغير وأما بفتحها فهو اللاقط قيل وهذا هو القياس إلا أنه أجمع أهل اللغة والحديث على الفتح ولذا قيل لا يجوز غيره
1 - عن أنس رضي الله عنه قال: "مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتمرة في الطريق(3/93)
فقال: "لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها" متفق عليه دل على جواز أخذ الشيء الحقير الذي يتسامح به ولا يجب التعريف به وأن الآخذ يملكه بمجرد الأخذ له وظاهر الحديث أنه يجوز ذلك في الحقير وإن كان مالكه معروفا وقيل لا يجوز إلا إذا جهل وأما إذا علم فلا يجوز إلا بإذنه وإن كان يسيرا وقد أورد عليه أنه صلى الله عليه وسلم كيف تركها في الطريق مع أن على الإمام حفظ المال الضائع وحفظ ما كان من الزكاة وصرفه في مصارفه ويجاب عنه بأنه لا دليل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يأخذها للحفظ وإنما ترك أكلها تورعا أو أنه تركها عمدا ليأخذها من يمر ممن تحل له الصدقة ولا يجب على الإمام إلا حفظ المال الذي يعلم طلب صاحبه له لا ما جرت العادة بالإعراض عنه لحقارته وفيه حث على التورع عن أكل يجوز فيه أنه حرام
2- وعن زيد بن خالد الجهني هو أبو طلحة أو أبو عبد الرحمن نزل الكوفة ومات بها سنة ثمان وسبعين وهو ابن خمسين و ثمانين سنة وروى عنه جماعة قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم لم يقم برهان على تعيين الرجل فسأله عن اللقطة أي عن حكمها شرعا فقال: "اعرف عفاصها" بكسر العين المهملة ففاء وبعد الألف صاد مهملة "وعاءها" ووقع في رواية خرقتها "ووكاءها" بكسر الواو ممدودا ما يربط به "ثم عرفها" بتشديد الراء "سنة فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها" قال فضالة الغنم؟ الضالة تقال على الحيوان وما ليس بحيوان يقال له لقطة قال: "هي لك أو لأخيك أو للذئب" قال فضالة الإبل؟ قال: "ما لك ولها معها سقاؤها" أي جوفها وقيل عنقها "وحذاؤها" بكسر الحاء المهملة فذال معجمة أي خفها "ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها" متفق عليه اختلف العلماء في الالتقاط هل هو أفضل أم الترك فقال أبو حنيفة الأفضل الإلتقاط لأن من الواجب على المسلم حفظ مال أخيه ومثله قال الشافعي وقال مالك وأحمد تركه أفضل لحديث ضالة المؤمن حرق النار ولما يخاف من وقال قوم بل الالتقاط واجب وتأولوا الحديث بأنه فيمن أراد أخذها للانتفاع بها من أول الأمر قبل تعريفه بها هذا وقد اشتمل الحديث على ثلاثة مسائل الأولى في حكم اللقطة وهي الضائعة التي ليست بحيوان فإن ذلك يقال له ضالة فقد أمر صلى الله عليه وسلم الملتقط أن يعرف وعاءها وما تشد به وظاهر الأمر وجوب التعرف لما ذكر ووجوب التعريف ويزيد الأخير عليه دلالة قوله
3- وعنه أي عن زيد بن خالد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من آوى ضالة فهو ضال ما لم يعرفها" رواه مسلم فوصفه بالضلال إذا لم يعرف بها وقد اختلف في فائدة معرفتهما فقيل لترد للواصف لها وأنه يقبل قوله بعد إخباره بصفتها ويجب(3/94)
ردها إليه كما دل له ما هنا وما في رواية البخاري فإن جاء أحد يخبرك بها وفي لفظ بعددها ووعائها ووكائها فأعطها إياه وإلى هذا ذهب أحمد ومالك واشترطت المالكية زيادة صفة الدنانير والعدد قالوا لورود ذلك في بعض الروايات وقالوا الجهل بالعدد إذا عرف العفاص والوكاء فأما إذا عرف إحدى العلامتين المنصوص عليهما من العفاص والوكاء وجهل الأخرى فقيل لا شيء له إلا بمعرفتهما جميعا وقيل تدفع إليه بعد الإنظار مدة ثم اختلف هل تدفع إليه بعد وصفه لعفاصها ووكائها بغير يمينه أم لا بد من اليمين فقيل تدفع إليه بغير يمين لأنه ظاهر الأحاديث وقيل لا ترد إلا بالبينة وقال من أوجب البينة إن فائدة أمر الملتقط بمعرفتها لئلا يلتبس بماله لا لأجل ردها لمن وصفها فإنها لا ترد إليه إلا بالبينة قالوا وذلك لأنه مدع وكل مدع لا يسلم إليه ما ادعاه إلا بالبينة وهذا أصل مقرر شرعا لا يخرج عنه بمجرد وصف المدعى للعفاص والوكاء وأجيب بأن ظاهر الأحاديث وجوب الرد بمجرد الوصف فإنه قال صلى الله عليه وسلم "فأعطها إياه" وفي حديث الباب مقدر بعد قوله فإن جاء صاحبها أي فأعطه إياها وإنما حذف جواب الشرط للعلم به وحديث البينة على المدعي ليست البينة مقصورة على الشهادة بل هي عامة لكل ما يتبين به الحق ومنها وصف العفاص والوكاء على أنه قد قال من اشترط البينة إنها إذا ثبتت الزيادة وهي قوله فأعطها إياه كان العمل عليها والزيادة قد صحت كما حققه المصنف فيجب العمل بها ويجب الرد بالوصف وكما أوجب صلى الله عليه وسلم التعريف بها فقد حد وقته بسنة فأوجب التعريف بها سنة وأما ما بعدها فقيل لا يجب التعريف بها بعد السنة وقيل يجب والدليل مع الأول ودل على أنه يعرف بها سنة لاغير حقيرة كانت أو عظيمة عند التعريف يكون في مظان اجتماع الناس من الأسواق وأبواب المساجد والمجامع الحافلة وقوله وإلا فشأنك بها نصب شأنك على الإغراء ويجوز رفعه على الابتداء وخبره بها وهو تفويض له في حفظها أو الانتفاع بها واستدل به على جواز تصرف الملتقط فيها أي تصرف إما بصرفها على نفسه غنيا كان أو فقيرا أو التصدق بها إلا أنه قد أورد من الأحاديث ما يقتضي أنه لا يتملكها فعند مسلم "ثم عرفها سنة فإن لم يجيء صاحبها كانت وديعة عندك" وفي رواية "ثم عرفها سنة فإن لم تعرف فاستنفقها ولتكن وديعة عندك فإن جاء طالبها يوما من الدهر فأدها إليه" ولذلك اختلف العلماء في حكمها بعد السنة قال في نهاية المجتهد إنه اتفق فقهاء الأمصار مالك والثوري والأوزاعي والشافعي على أنه يتملكها ومثله عن عمر وابنه وابن مسعود وقال أبو حنيفة ليس له إلا أن يتصدق بها ومثله يروى عن علي و ابن عباس وجماعة من التابعين وكلهم متفقون على أنه إن أكلها ضمنها لصاحبها إلا أهل الظاهر فقالوا تحل له بعد السنة وتصير مالا من ماله ولا يضمنها إن جاء صاحبها قلت ولا أدري ما يقولون في حديث مسلم ونحوه الدال على وجوب ضمانها وأقرب الأقوال(3/95)
ما ذهب إليه الشافعي ومن معه لأنه أذن صلى الله عليه وسلم في استنفاقه لها ولم يأمره بالتصدق بها ثم أمره بعد الإذن في الاستنفاق أن يردها إلى صاحبها إن جاء يوما من الدهر وذلك تضمين لها المسألة الثانية في ضالة الغنم فقد اتفق العلماء على أن لواجد الغنم في المكان القفر البعيد من العمران أن يأكلها لقوله صلى الله عليه وسلم "هي لك أو لأخيك أو للذئب" فإن معناه أنها معرضة للهلاك مترددة بين أن تأخذها أو أخوك والمراد به ما هو أعم من صاحبها أو من ملتقط آخر والمراد من الذئب جنس ما يأكل الشاة وفيه حث على أخذه إياها وهل يجب عليه ضمان قيمتها لصاحبها أو لا فقال الجمهور إنه يضمن قيمتها والمشهور عن مالك أنه لا يضمن واحتج بالتسوية بين الملتقط والذئب والذئب لا غرامة عليه فكذلك الملتقط وأجيب بأن اللام ليست للتمليك لأن الذئب لا يملك وقد أجمعوا على أنه لو جاء صاحبها قبل أن يأكلها الملتقط فهي باقية على ملك صاحبها والمسألة الثالثة في ضالة الإبل وقد حكم رسول الله عليه صلى الله عليه وسلم بأنها لا تلتقط بل تترك ترعى الشجر وترد المياه حتى يأتي صاحبها قالوا وقد نبه صلى الله عليه وسلم على أنها غنية غير محتاجة إلى الحفظ بما ركب الله في طباعها من الجلادة على العطش وتناول الماء بغير تعب لطول عنقها وقوتها على المشي فلا تحتاج إلى الملتقط بخلاف الغنم وقالت الحنفية وغيرها الأولى التقاطها قال العلماء والحكمة في النهي عن التقاط الإبل أن بقاءها حيث ضلت أقرب إلى وجدان مالكها لها من تطلبه لها في رحال الناس
4- وعن عياض بكسر المهملة آخره ضاد معجمة ابن حمار بلفظ الحيوان المعروف صحابي معروف قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من وجد لقطة فليشهد ذوي عدل وليحفظ عفاصها ووكاءها ثم لا يكتم ولا يغيب فإن جاء ربها فهو أحق بها وإلا فهو مال الله يؤتيه من يشاء" رواه أحمد والأربعة إلا الترمذي وصححه ابن خزيمة وابن الجارود وابن حبان تقدم الكلام في اللقطة والعفاص والوكاء وأفاد هذا الحديث زيادة وجوب الإشهاد بعدلين على التقاطها وقد ذهب إلى هذا أبو حنيفة وهو أحد قولي الشافعي فقالوا يجب الإشهاد على اللقطة وعلى أوصافها وذهب الهادي ومالك وهو أحد قولي الشافعي إلى أنه لا يجب الإشهاد قالوا لعدم ذكر الإشهاد في الأحاديث الصحيحة فيحمل هذا على الندب وقال الأولون هذه الزيادة بعد صحتها يجب العمل بها فيجب الإشهاد ولا ينافي ذلك عدم ذكره في غيره من الأحاديث والحق وجوب الإشهاد في قوله "فهو مال الله يؤتيه من يشاء" دليل للظاهرية في أنها تصير ملكا للملتقط ولا يضمنها وقد يجاب بأن هذا مقيد بما سلف من إيجاب الضمان وأما قوله صلى الله عليه وسلم "يؤتيه من يشاء" فالمراد أنه يحل انتفاعه بها بعد مرور سنة التعريف
5- وعن عبد الرحمن بن عثمان التيمي هو قرشي وهو ابن أخي طلحة بن عبيد الله صحابي وقيل إنه أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وليست له رؤية وأسلم يوم الحديبية(3/96)
وقيل يوم الفتح وقتل مع ابن الزبير أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لقطة الحاج رواه مسلم أي عن التقاط الرجل ما ضاع للحاج والمراد ما ضاع في مكة لما تقدم من حديث أبي هريرة "أنها لا تحل لقطتها إلا لمنشد" وتقدم أنه حمله الجمهور على أنه نهي عن التقاطهما للتملك لا للتعريف بها فإنه يحل قالوا وإنما اختصت لقطة الحاج بذلك لإمكان إيصالها إلى أربابها لأنها إن كانت لمكي فظاهر وإن كانت لآفاقي فلا يخلو أفق في الغالب من رواد منه إليها فإذا عرفها واجدها في كل عام سهل التوصل إلى معرفة صاحبها قاله ابن بطال وقال جماعة هي كغيرها من البلاد وإنما تختص مكة بالمبالغة في التعريف لأن الحاج يرجع إلى بلده وقد لا يعود فاحتاج الملتقط إلى المبالغة في التعريف بها والظاهر القول الأول وأن حديث النهي هذا مقيد بحديث أبي هريرة بأنه لا يحل التقاطها إلا لمنشد فالذي اختصت به لقطة مكة بأنها لا تلتقط إلا للتعريف بها أبدا فلا تجوز للتملك ويحتمل أن هذا الحديث في لقطة الحاج مطلقا في مكة وغيرها لأنه هنا مطلق ولا دليل على تقييده بكونها في مكة
6- عن المقدام بن معد يكرب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا لا يحل ذو ناب من السباع ولا الحمار الأهلي ولا اللقطة من مال معاهد إلا أن يستغني عنها" رواه أبو داود يأتي الكلام على تحريم ما ذكر في باب الأطعمة وذكر الحديث هنا لقوله "ولا اللقطة من مال معاهد" فدل على أن اللقطة من ماله كاللقطة من مال المسلم وهذا محمول على التقاطها من محل غالب أهله أو كلهم ذميون وإلا فاللقطة لا تعاف من مال أي إنسان عند التقاطها وقوله "إلا أن يستغني عنها" مؤول الفراشير كما سلف في التمرة ونحوها أو بعدم معرفة صاحبها بعد التعريف بها كما سلف أيضا وعبر عنه بالاستغناء لأنه سبب عدم المعرفة في الأغلب فإنه لو لم يستغن عنها لبالغ في طلبها أو نحو ذلك
فائدة قال النووي في شرح المهذب اختلف العلماء فيمن مر ببستان أو زرع أو ماشية فقال الجمهور لا يأخذ منه شيئا إلا في حال الضرورة فيأخذ ويغرم عند الشافعي والجمهور وقال بعض السلف لا يلزمه شيء وقال أحمد إذا لم يكن للبستان حائط جاز له الأكل من الفاكهة الرطبة في أصح الروايتين ولو لم يحتج إلى ذلك وفي الأخرى إذا احتاج ولا ضمان عليه في الحالين وعلق الشافعي القول بذلك على صحة الحديث قال البيهقي يعني حديث ابن عمر مرفوعا "إذا مر أحدكم بحائط فليأكل ولا يتخذ خبنة" أخرجه الترمذي واستغربه قال البيهقي لم يصح وجاء من أوجه أخر غير قوية قال المصنف والحق أن مجموعها لا يقصر عن درجة الصحيح وقد احتجوا في كثير من الأحكام بما هو دونها وقد بينت ذلك في كتابي المنحة فيما علق الشافعي القول به على الصحة اه وفي المسئلة خلاف وأقاويل كثيرة قد نقلها الشارع عن المذهب ولم يتلخص البحث لتعارض(3/97)
الأحاديث في الإباحة والنهي فلم يقو نقل أحاديث الإباحة على نقل الأصل وهو حرمة مال الآدمي وأحاديث النهي أكدت ذلك الأصل(3/98)
باب الفرائض
الفرائض جمع فريضة وهي فعلية بمعنى مفروضة مأخوذة من الفرض وهوالقطع وخصت المواريث باسم الفرائض من قوله تعالى: {نَصِيباً مَفْرُوضاً} أي مقدارا معلوما وقد وردت أحاديث كثيرة في الحث على تعلم الفرائض وورد أنه أول علم يرفع
1- عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألحقوا الفرائض بأهله" ا والمراد بها الست المنصوص عليها وهو أهلها في القرآن "فما بقي فهو لأولى رجل ذكر" اختلف في فائدة وصف الرجل بالذكر والأقرب أنه تأكيد ونقل في الشرح كلاما كثيرا وفائدته قليلة متفق عليه والفرائض المنصوصة في القرآن ست النصف ونصفه ونصف نصفه والثلثان ونصفهما ونصف نصفهما والمراد من أهلها من يستحقها بنص كتاب الله قال ابن بطال: المراد بأولى رجل أن الرجال من العصبة بعد أهل الفرائض إذا كان فيهم من هو أقرب إلى الميت استحق دون من هو أبعد فإن استووا اشتركوا ولم يقصد من يدلي بالآباء والأمهات مثلا لأنه ليس فيهم من هو أولى من غيره إذا استووا في المنزلة وقال غيره المراد به العمة مع العم وبنت الأخ مع ابن الأخ وبنت العم مع ابن العم وخرج من ذلك الأخ والأخت لأبوين أو لأب فإنهم يرثون بنص قوله تعالى: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} وأقرب العصبات البنون ثم بنوهم وإن سلفوا ثم الأب ثم الجد أبو الأب وإن علوا وتفاصيل العصبات وسائر أهل الفرائض مستوفى في كتب الفرائض والحديث مبني على وجود عصبة من الرجال فإذا لم توجد عصبة من الرجال أعطي بقية الميراث من لا فرض له من النساء كما يأتي في بنت وبنت ابن وأخت
2- وعن أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يرث المسلم الكافر ولا يرث الكافر المسلم" متفق عليه المسلم في صدر الحديث فاعل والكافر مفعول وفي آخره بالعكس وإلى ما أفاده الحديث ذهب الجماهير وروي خلافه عن معاذ و معاوية و مسروق وسعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي وإسحاق وذهب إليه الإمامية والناصر قالوا إنه يرث المسلم من الكافر من غير عكس واحتج معاذ بأنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول "الإسلام يزيد ولا ينقص" أخرجه أبو داود وصححه الحاكم وقد أخرج مسدد(3/98)
أنه اختصم إلى معاذ أخوان مسلم ويهودي مات أبوهما يهوديا فحاز ابنه اليهودي ميراثه فنازعه المسلم فورث معاذ المسلم وأخرج ابن أبي شيبة من طريق عبد الله بن مغفل قال ما رأيت قضاء أحسن من قضاء معاوية نرث أهل الكتاب ولا يرثوننا كما يحل لنا النكاح منهم ولا يحل لهم منا وأجاب الجمهور بأن الحديث المتفق عليه نص في منع التوريث وحديث معاذ ليس فيه دلالة على خصوصية الميراث إنما فيه الإخبار بأن دين الإسلام يفضل غيره من سائر الأديان ولا يزال يزداد ولا ينقص
3- وعن ابن مسعود رضي الله عنه في بنت وبنت ابن وأخت قضى النبي صلى الله عليه وسلم للابنة النصف ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين وما بقى فللأخت رواه البخاري فيه دلالة على أن الأخت مع البنت وبنت الإبن عصبة تعطى بقية الميراث وهو مجموع على أن الأخوات مع البنات عصبة وقد كان أفتى أبو موسى أن للأخت النصف ثم أمر السائل أن يسأل ابن مسعود فقضى ابن مسعود بقضاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو موسى لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم ضبط أئمة اللغة الحبر بكسر الحاء وفتحها ورواية المحدثين جميعا له بفتحها قال أبو عبيد هو العالم بتحبير الكلام وتحسينه وقيل سمي حبرا لما يبقى من أثر علومه زاد الراغب في قلوب الناس ومن آثار أفعاله الحسنة المقتدى بها
4- وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يتوارث أهل ملتين" رواه أحمد والأربعة والترمذي وأخرجه الحاكم بلفظ أسامة وروى النسائي حديث أسامة بهذا اللفظ والحديث دليل على أنه لا توارث بين أهل ملتين مختلفتين بالكفر أو بالإسلام والكفر وذهب الجمهور إلى أن المراد بالملتين الكفر والإسلام فيكون كحديث "لا يرث المسلم الكافر" الحديث قالوا وأما توريث ملل الكفر بعضهم من بعض فإنه ثابت ولم يقل بعموم الحديث للملل كلها إلا الأوزاعي فإنه قال لا يرث اليهودي من النصراني ولا عكسه وكذلك سائر الملل والظاهر من الحديث مع الأوزاعي وهو مذهب الهادوية والحديث مخصص للقرآن في قوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} فإنه عام في الأولاد فيخص منه الولد الكافر بأن لا يرث من أبيه المسلم والقرآن يخص بأخبار الآحاد كما عرف في الأصول
5- وعن عمران بن حصين قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن ابن ابني مات فما لي من ميراثه؟ فقال: "لك السدس" فلما ولى دعاه فقال: "لك سدس آخر" فلما ولى دعاه فقال: "إن السدس الآخر طعمة" رواه أحمد والأربعة وصححه الترمذي وهو من رواية الحسن البصري عن عمران وفي سماعه خلاف قال قتادة لا أدري مع أي شيء ورثه وقال أقل شيء ورث الجد السدس وصورة هذه المسألة أنه ترك الميت بنتين وهذا السائل وهو الجد فللبنتين الثلثان وبقي ثلث فدفع النبي صلى الله عليه وسلم إلى السائل السدس بالفرض لأنه فرض الجد هنا ولم يدفع إليه السدس(3/99)
الآخر لئلا يظن أن فرضه الثلث وتركه حتى ولي أي ذهب فدعاه فقال "لك سدس آخر" وهو بقية التركة فلما ذهب دعاه فقال "إن الآخر" بكسر الخاء "طعمة" أي زيادة على الفريضة والمراد من ذلك إعلامه بأنه زائد على الفرض الذي له فله سدس فرضا والباقي تعصيبا
6- وعن ابن بريدة رضي الله عنه عن أبيه رضي الله عنه هو بريدة بن الحصيب أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل للجدة السدس إذا لم يكن دونها أم رواه أبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة وابن الجارود وقواه ابن عدي فيه عبد الله العتكي مختلف فيه وثقه أبو حاتم والحديث دليل على أن ميراث الجدة السدس سواء كانت أم أم أو أم أب ويشترك فيه الجدتان فأكثر إذا استوين فإن اختلفن سقطت البعدى من الجهتين بالقربى ولا يسقطهن إلا الأم والأب كل منهما يسقط من كان من جهته
7- وعن المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه قال قال رسول صلى الله عليه وسلم: "الخال وارث من لا وارث له " أخرجه أحمد والأربعة سوى الترمذي وحسنه أبو زرعة الرازي وصححه والحاكم ابن حبان فيه دليل على توريث الخال عند عدم من يرث من العصبة وذوي السهام والخال من ذوي الأرحام وقد اختلف العلماء في توريث ذوي الأرحام فذهبت طائفة كثيرة من علماء الآل وغيرهم إلى توريثهم فمن خلف عمته وخالته ولا وارث له سواهما كان للعمة الثلثان وللخالة الثلث واستدلوا بهذا الحديث وبقوله تعالى {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} وخالفت طائفة من الأئمة وقالوا لا يثبت لذوي الأرحام ميراث لأن الفرائض لا تثبت إلا بكتاب الله أو سنة صحيحة أو إجماع والكل مفقود هنا وأجابوا عن حديث الباب أنه نص في الخال لا في غيره والآية مجملة ومسمى أولى الأرحام فيها غير مسماه في عرف الفقهاء وقد وردت أحاديث بأنه لا ميراث للعمة والخالة وإن كان فيها مقال لكنها معتضدة بأن الأصل عدم الميراث حتى يقوم الدليل الناهض مما ذكرناه والقائلون بأنه لا ميراث لذوي الأرحام يقولون يكون مال من لا وارث له لبيت المال إذا كان منتظما وهو إذا كان في يد إمام عادل يصرفه في مصارفه أو كان في البلد قاض قائم بشروط القضاء مأذون له في التصرف في مال المصالح دفع إليه ليصرفه فيها وتفاصيل بقية مواريث ذوي الأرحام على القول به مستوفى في كتب هذا الفن فلا نطول بها
8- وعن أبي أمامة بن سهل رضي الله عنه قال كتب عمر إلى أبي عبيدة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "الله ورسوله مولى من لا مولى له والخال وارث من لا وارث له" رواه أحمد والأربعة سوى أبي داود وحسنه الترمذي وصححه ابن حبان الحديث يرد قول من قال إن المراد بالخال في حديث المقدام السلطان ولو كان كذلك لقال أنا وارث من لا وارث له وقد أخرج أبو داود وصححه ابن حبان "أنا وارث من لا وارث له أعقل عنه وأرثه" فالجمع بينه وبين حديث المقدام وحديث أبي أمامة الدالين على ثبوت(3/100)
ميراث الخال حيث لا وارث له أنه أراد به أنه صلى الله عليه وسلم وارث من لا وارث له في جميع الجهات من العصبات وذوي السهام والخال والمراد من إرثه صلى الله عليه وسلم أنه يصير المال لمصالح المسلمين وأنه لا يكون المال لبيت المال إلا عند عدم جميع من ذكر من الخال وغيره
9- وعن جابر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا استهل المولود ورث" رواه أبو داود وصححه ابن حبان والاستهلال روي في تفسيره حديث مرفوع ضعيف الاستهلال العطاس أخرجه البزار وقال ابن الأثير: استهل المولود إذا بكى عند ولادته وهو كناية عن ولادته حيا وإن لم يستهل بل وجدت منه أمارة تدل على حياته والحديث دليل على أنه إذا استهل السقط ثبت له حكم غيره في أنه يرث ويقاس عليه سائر الأحكام من الغسل والتكفين والصلاة عليه ويلزم من قتله القود أو الدية واختلفوا هل يكفي في الإخبار باستهلاله عدلة أو لا بد من عدلين أو أربع الأول للهادوية والثاني للهادي والثالث للشافعي وهذا الخلاف يجري في كل ما يتعلق بعورات النساء وأفاد مفهوم الحديث أنه إذا لم يستهل لا يحكم بحياته فلا يثبت له شيء من الأحكام التي ذكرنا
10- وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس للقاتل من الميراث شيء" رواه النسائي والدارقطني وقواه ابن عبد البر وأعله النسائي والصواب وقفه على عمرو والحديث له شواهد كثيرة لا تقصر عن العمل بمجموعها وإلى ما أفاده من عدم إرث القاتل عمدا كان أو خطأ ذهب الشافعي وأبو حنيفة وأصحابه وأكثر العلماء قالوا لا يرث من الدية ولا من المال وذهبت الهادوية و مالك إلى أنه إن كان القتل خطأ ورث من المال دون الدية ولا يتم لهم دليل ناهض على هذه التفرقة بل أخرج البيهقي عن خلاس أن رجلا رمى بحجر فأصاب أمه فماتت من ذلك فأراد نصيبه من ميراثها فقال له إخوته لا حق لك فارتفعوا إلى علي عليه السلام فقال له علي عليه السلام حقك من ميراثها الحجر فأغرمه الدية ولم يعطه من ميراثها شيئا وأخرج أيضا عن جابر بن زيد قال أيما رجل قتل رجلا أو امرأة عمدا أو خطأ ممن يرث فلا ميراث له منهما وأيما امرأة قتلت رجلا أو امرأة عمدا أو خطأ فلا ميراث لها منهما وإن كان القتل عمدا فالقود إلا أن يعفو أولياء المقتول فإن عفوا فلا ميراث له من عقله ولا من ماله قضى بذلك عمر بن الخطاب و علي وشريح وغيرهم من قضاة المسلمين
11- وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما أحرز الوالد أو الولد فهو لعصبته من كان" رواه أبو داود والنسائي(3/101)
وابن ماجه وصححه ابن المديني وابن عبد البر المراد بإحراز الولد أو الوالد أن ما صار مستحقا لهما من الحقوق فإنه يكون للعصبة ميراثا والحديث فيه قصة ولفظه في السنن أن رئاب بن حذيفة تزوج امرأة فولدت له ثلاثة غلمة فماتت أمهم فورثوها رباعها وولاء مواليها وكان عمرو بن العاص عصبة بنيها فأخرجهم إلى الشام فماتوا فقدم عمرو بن العاص ومات مولى لها وترك مالا فخاصمه إخوتها إلى عمر بن الخطاب فقال عمر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما أحرز" الحديث قال فكتب له كتابا فيه شهادة عبد الرحمن بن عوف وزيد بن ثابت ورجل آخر والحديث دليل على أن الولاء لا يورث وفيه خلاف وتظهر فائدة الخلاف فيما إذا أعتق رجل عبدا ثم مات ذلك الرجل وترك أخوين أو ابنين ثم مات أحد الابنين وترك ابنا أو أحد الأخوين وترك ابنا فعلى القول بالتوريث ميراثه بين الابن وابن الابن أو الأخ وابن الأخ وعلى القول بعدمه يكون للابن وحده
12- وعن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب" رواه الحاكم من طريق الشافعي عن محمد بن الحسن عن أبي يوسف وصححه ابن حبان وأعله البيهقي وللعلماء كلام كثير في طرق الحديث وصحته وعدمها وقد تقدم في كتاب البيع ودل على أن الولاء لا يكتسب ببيع ولا هبة و يقاس عليهما سائر التمليكات من النذر والوصية لأنه قد جعله كالنسب والنسب لا ينتقل بعوض ولا بغير عوض
13- وعن أبي قلابة بكسر القاف وتخفيف اللام بعد ألفه موحدة تابعي جليل عن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفرضكم زيد بن ثابت" أخرجه أحمد والأربعة سوى أبي داود وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم وأعل بالإرسال بأن أبا قلابة لم يسمع هذا الحديث من أنس وإن كان سماعه لغيره من الأحاديث عن أنس ثابتا وهذا الذي ذكر قطعة من الحديث فإنه حديث طويل فيه ذكر سبعة من الصحابة يختص كل منهم بخصلة خير فذكر المصنف منه ما له تعلق بباب الفرائض لأنه شهادة لزيد بن ثابت بأنه أعلم المخاطبين بالمواريث فيؤخذ منه أنه يرجع إليه عند الاختلاف واعتمده الشافعي في الفرائض ورجحه على غيره(3/102)
باب الوصايا
الوصايا جمع وصية كهدايا وهدية وهي شرعا عهد خاص يضاف إلى ما بعد الموت(3/102)
1- عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما حق امرىء مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده" متفق عليه كلمة ما نافية بمعنى ليس وحق أسمها وخبرها ما بعد إلا والواو زائدة في الخبر لوقوع الفصل بإلا قال الشافعي معناه ما الحزم والاحتياط للمسلم إلا أن تكون وصيته مكتوبة عنده إذا كان له شيء يريد أن يوصي فيه لأنه لا يدري متى تأتيه منيته فتحول بينه وبين ما يريد من ذلك وقال غيره الحق لغة الشيء الثابت ويطلق شرعا على ما يثبت به الحكم والحكم الثابت أعم من أن يكون واجبا أو مندوبا ويطلق على المباح بقلة فإن اقترن به على ونحوه كان ظاهرا في الوجوب وإلا فهو على الاحتمال وفي قوله يريد أن يوصي ما يدل على أن الوصية ليست بواجبة عليه وإنما ذلك عند إرادته وقد أجمع المسلمون على الأمر بها وإنما اختلفوا هل هي واجبة أم لا فذهب الجماهير إلى أنها مندوبة وذهب داود وأهل الظاهر إلى وجوبها وحكي عن الشافعي في القديم وادعى ابن عبد البر الإجماع على عدم وجوبها مستدلا من حيث المعنى بأنه لو لم يوص لقسم جميع ماله بين ورثته بالإجماع فلو كانت الوصية واجبة لأخرج من ماله سهم ينوب عن الوصية والأقرب ما ذهب إليه الهادوية وأبو ثور من وجوبها على من عليه حق شرعي يخشى أن يضيع إن لم يوص به كوديعة ودين لله تعالى أو لآدمي ومحل الوجوب فيمن عليه حق ومعه مال ولم يمكنه تخليصه إلا إذا أوصى به وما انتفى فيه واحد من ذلك فلا وجوب وقوله "ليلتين" للتقريب لا للتحديد وإلا فقد روي ثلاث ليال وقال الطيبي في تخصيص الليلتين والثلاث تسامح في إرادة المبالغة أي لا ينبغي أن يبيت زمانا وقد سامحناه في الليلتين والثلاث فلا ينبغي أن يتجاوز ذلك وروى مسلم عن ابن عمر راوي الحديث أنه قال ولم أبت ليلة إلا ووصيتي مكتوبة عندي وأما ما أخرجه ابن المنذر بسند صحيح عن نافع أنه قيل لابن عمر في مرض موته ألا توصي قال أما مالي فالله أعلم ما كنت أصنع فيه فيجمع بينه وبين ما قبله بأنه كان يكتب وصيته ويتعاهدها وينجز ما كان يوصي به حتى وفد عليه الموت ولم يكن له شيء يوصي به وفي قوله أما مالي فالله أعلم ما كنت أصنع فيه ما يدل لهذا الجمع واستدل بقوله "مكتوبة عنده" على جواز الاعتماد على الكتابة والخط وإن لم يقترن بشهادة وقال بعض أئمة الشافعية إن ذلك خاص بالوصية وأنه يجوز الاعتماد على الخط فيها من دون شهادة لثبوت الخبر فيها ولأن الوصية لما أمر الشارع بها وهي تكون مما يلزم من حقوق ولوازم كان حقها أن تجدد في الأوقات واستصحاب الإشهاد في كل لازم يريد أن يتخلص منه خشية مفاجأة الأجل متعسر بل متعذر في بعض الأوقات فيلزم منه عدم وجوب الوصية أو شرعيتها بالكتاب من دون شهادة إذ لا فائدة في ذلك وقد ثبت الأمر المذكور في الحديث بها فدل على قبولها من غير شهادة وقال الجماهير المراد مكتوبة بشرطها وهو الشهادة واستدلوا بقوله تعالى(3/103)
{شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} إنه دال على اعتبار الإشهاد في الوصية وأجيب بأنه لا يلزم من ذكر الإشهاد في الآية أنها لا تصح الوصية إلا به والتحقيق أن المعتبر معرفة الخط فإذا عرف خط الموصي عمل به ومثله خط الحاكم وعليه عمل الناس قديما وحديثا وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث الكتب يدعو فيها العباد إلى الله وتقوم عليهم الحجة بذلك ولم يزل الناس يكتب بعضهم إلى بعض في المهمات من الدينيات والدنيويات ويعملون بها وعليه العمل بالوجادة كل ذلك من دون إشهاد والحديث دليل على الإيصاء بشيء يتعلق الفراشوق ونحوها لقوله "له شيء يريد أن يوصي" وأما كتب الشهادتين ونحوهما مما جرت به عادة الناس فلا يعرف فيه حديث مرفوع وإنما أخرج عبد الرزاق بسند صحيح عن أنس موقوفا قال كانوا يكتبون في صدور وصاياهم بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أوصى به فلان بن فلان أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور وأوصى من ترك من أهله أن يتقوا الله ويصلحوا ذات بينهم ويطيعوا الله ورسوله إن كانوا مؤمنين وأوصاهم بما أوصى به إبراهيم بنيه ويعقوب {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} وضمير كانوا عائد إلى الصحابة إذ المخبر صحابي واختلف العلماء هل أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لم يوص لاختلاف الروايات في ذلك ففي البخاري عن ابن أبي أوفى أنه لم يوص قالوا لأنه لم يترك مالا وأما الأرض قد كان سبلها وأما السلاح والبغلة فقد كان أخبر أنها لا تورث كذا ذكره النووي وفي المغازي لابن إسحاق أنه صلى الله عليه وسلم لم يوص عند موته إلا بثلاث لكل من الدارسيين والرهاويين والأشعريين بجاد مائة وسق من خيبر وألا يترك في جزيرة العرب دينان وأن ينفذ بعث أسامة وأخرج مسلم من حديث ابن عباس "أوصى صلى الله عليه وسلم بثلاث أجيروا الوفد بمثل ما كنت أجيرهم" الحديث وفي حديث ابن أبي أوفى "أوصى بكتاب الله" وفي حديث أنس عند النسائي وأحمد وابن سعد كانت وصيته صلى الله عليه وسلم حين حضره الموت الصلاة وما ملكت أيمانكم وقد ثبتت بالأنصار وبأهل بيته ولكنها ليست عند الموت وروي غير ذلك وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم أراد في مرضه أن يكتب كتابا وهو وصيته للأمة إلا أنه حيل بينه وبينه كما أخرجه البخاري
2- وعن سعد بن أبي وقاص قال قلت يا رسول الله: أنا ذو مال وقع في رواية كثير ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: "لا" قلت: أفأتصدق بشطر مالي؟ قال: "لا" قلت: أفأتصدق بثلثه؟ قال: "الثلث والثلث كثير إنك" أن يروى بفتح الهمزة وكسرها فالفتح على تقدير لام التعليل والكسر على أنها شرطية وجوابه(3/104)
خير على تقدير فهو خير "تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة" جمع عائل هو الفقير "يتكففون" يسألون "الناس" بأكفهم متفق عليه اختلف متى وقع هذا الحكم فقيل في حجة الوداع بمكة فإنه مرض سعد فعاده صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك وهو صريح في رواية الزهري وقيل في فتح مكة أخرجه الترمذي عن ابن عيينة واتفق الحفاظ أنه وهم وأن الأول هو الصحيح وقيل وقع ذلك في المرتين معا وأخذ من مفهوم قوله كثير أنه لا يوصي من مال قليل روي هذا عن علي وابن عباس وعائشة وقوله لا يرثني إلا ابنة لي أي لا يرثني من الأولاد وإلا فإن سعدا كان من بني زهرة وهم عصبته وكان هذا قبل أن يولد له الذكور وإلا فإنه ذكر الواقدي أنه ولد لسعد بعد ذلك أربعة بنين وقيل أكثر من عشرة ومن البنات اثنتا عشرة بنتا وقوله أفأتصدق يحتمل أنه استأذنه في تنجيز ذلك في الحال أو أراد بعد الموت إلا أنه في رواية بلفظ أوصي وهي نص في الثاني فيحمل الأول عليه وقوله بشطر مالي أراد به النصف وقوله "والثلث كثير" يروى بالمثلثة وبالموحدة على أنه شك من الراوي وقع ذلك في البخاري ومثله وقع في النسائي وأكثر الروايات بالمثلثة ووصف الثلث بالكثرة بالنسبة إلى ما دونه وفي فائدة وصفه بذلك احتمالان الأول بيان أن الأولى الاقتصار عليه من غير زيادة وهذا هو المتبادر وفهمه ابن عباس فقال: وددت أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع في الوصية والثاني بيان أن التصدق بالثلث وهو الأكمل أي كثير أجره ويكون من الوصف بحال المتعلق وفي الحديث دليل على منع الوصية بأكثر من الثلث لمن له وارث وعلى هذا استقر الإجماع وإنما اختلفوا هل يستحب الثلث أو أقل فذهب ابن عباس والشافعي وجماعة إلى أن المستحب ما دون الثلث لقوله "والثلث كثير" قال قتادة: أوصى أبو بكر بالخمس وأوصى عمر بالربع والخمس أحب إلي وذهب آخرون إلى أن المستحب الثلث لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله جعل لكم في الوصية ثلث أموالكم زيادة على حسناتكم" وسيأتي قريبا أنه حديث ضعيف والحديث ورد فيمن له وارث فأما من لا وارث له فذهب مالك إلى أنه مثل من له وارث فلا يستحب له الزيادة على الثلث وأجازت الهادوية والحنفية له الوصية بالمال كله وهو قول ابن مسعود فلو أجاز الوارث الوصية بأكثر من الثلث نفذت لإسقاطهم حقهم وإلى هذا ذهب الجمهور وخالفت الظاهرية و المزني وسيأتي في حديث ابن عباس إلا أن يشاء الورثة وأنه حسن يعمل به نعم فلو رجع الورثة عن الإجازة فذهب جماعة إلى أنه لا رجوع لهم في حياة الموصي ولا بعد وفاته وقيل إن رجعوا بعد وفاته فلا يصح لأن الحق قد انقطع بالموت بخلاف حال الحياة فإنه يتجدد لهم الحق وسبب الخلاف الاختلاف في المفهوم من قوله صلى الله عليه وسلم إنك أن تذر إلى آخره هل يفهم منه علة المنع من الوصية بأكثر من الثلث وأن السبب في ذلك رعاية حق الوارث وأنه إذا انتفى ذلك انتفى الحكم بالمنع و أن العلة لا تتعدى الحكم ويجعل المسلمون بمنزلة(3/105)
الورثة كما هو أحد قولي الشافعي والأظهر أن العلة متعدية وأنه ينتفي الحكم في حق من ليس له وارث معين
3- وعن عائشة رضي الله عنها أن رجلا جاء مبينا أنه سعد بن عبادة أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: إن أمي افتلتت بضم المثناة بعد الفاء الساكنة وكسر اللام نفسها أخذت فلتة ولم توص وأظنها لو تكلمت تصدقت أفلها أجر إن تصدقت عنها قال: "نعم" متفق عليه واللفظ لمسلم في الحديث دليل على أن الصدقة من الولد تلحق الميت ولا يعارضه قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} لثبوت حديث إن أولادكم من كسبكم ونحوه فولده من سعيه وثبوت "أو ولد صالح يدعو له" وقد قدمنا الكلام في ذلك في آخر كتاب الجنائز
4- وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث" رواه أحمد والأربعة إلا النسائي وحسنه أحمد والترمذي وقواه ابن خزيمة وابن الجارود ورواه الدارقطني من حديث ابن عباس وزاد في آخره "إلا أن يشاء الورثة" وإسناده حسن وفي الباب عن عمرو بن خارجة عند الترمذي والنسائي وعن أنس عند ابن ماجه وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند الدارقطني وعن جابر عنده أيضا وقال الصواب إرساله وعن علي عند ابن أبي شيبة ولا يخلو إسناد كل واحد منها عن مقال لكن مجموعها ينهض على العمل به بل جزم الشافعي في الأم أن هذا المتن متواتر فإنه قال إنه نقل كافة عن كافة وهو أقوى من نقل واحد قلت الأقرب وجوب العمل به لتعدد طرقه ولما قال الشافعي وإن نازع في تواتره الفخر الرازي ولا يضر ذلك بثبوته فإنه متلقى بالقبول من الأمة كما عرف وقد ترجم له البخاري فقال باب لا وصية لوارث وكأنه لم يثبت على شرطه فلم يخرجه ولكنه أخرج بعده عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس موقوفا في تفسير الآية وله حكم المرفوع والحديث دليل على منع الوصية للوارث وهو قول الجماهير من العلماء وذهب الهادي وجماعة إلى جوازها مستدلين بقوله تعالى -كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت- الآية قالوا ونسخ الوجوب لا ينافي بقاء الجواز قلنا نعم لو لم يرد هذا الحديث فإنه ناف لجوازها إذ وجوبها قد علم نسخه من آية المواريث كما قال ابن عباس كان المال للولد والوصية للوالدين فنسخ الله سبحانه من ذلك ما أحب فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس وجعل للمرأة الثمن والربع وللزوج الشطر والربع وقوله إلا أن يشاء الورثة دل على أنها تصح وتنفذ الوصية للوارث إن أجازها الورثة وتقدم الكلام في إجازة الورثة ما زاد على الثلث هل ينفذ بها أو لا وأن الظاهرية ذهبت إلى أنه لا أثر لإجازتهم والظاهر معهم لأنه صلى الله عليه وسلم لما نهى عن الوصية للوارث قيدها بقوله "إلا أن يشاء الورثة" وأطلق لما منع عن الوصية بالزائد على الثلث وليس لنا تقييد ما أطلقه ومن قيد هنالك قال إنه(3/106)
يؤخذ القيد من التعليل بقوله إنك أن تذر الخ فإنه دل على أن المنع من الزيادة على الثلث كان مراعاة لحق الورثة فإن أجازوا سقط حقهم ولا يخلو عن قوة هذا في الوصية للوارث واختلفوا إذا أقر المريض للوارث بشيء من ماله فأجازه الأوزاعي وجماعة مطلقا وقال أحمد لا يجوز إقرار المريض لوارثه مطلقا واحتج بأنه لا يؤمن بعد المنع من الوصية لوارثه أن يجعلها إقرارا واحتج الأول بما يتضمن الجواب عن هذه الحجة فقال إن التهمة في حق المحتضر بعيدة وبأنه وقع الاتفاق أنه لو أقر بوارث آخر صح إقراره مع أنه يتضمن الإقرار بالمال وبأن مدار الأحكام على الظاهر فلا يترك إقراره للظن المحتمل فإن أمره إلى الله قلت وهذا القول أقوى دليلا واستثنى مالك ما إذا أقر لبنته ومعها من يشاركها من غير الولد كابن العم قال لأنه يتهم في أنه يزيد لابنته وينقص ابن العم وكذلك استثنى ما إذا أقر لزوجته المعروف بمحبته لها وميله إليها وكان بينه وبين ولده من غيرها تباعد لا سيما إذا كان له منها ولد في تلك الحال قلت والأحسن ما قيل عن بعض المالكية واختاره الروياني من الشافعية أن مدار الأمر على التهمة وعدمها فإن فقدت جاز وإلا فلا وهي تعرف بقرائن الأحوال وغيرها وعن بعض الفقهاء أنه لا يصح إقراره إلا للزوجة بمهرها
5- (وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة في حسناتكم" رواه الدارقطني وأخرجه أحمد والبزار من حديث أبي الدرداء وابن ماجه من حديث أبي هريرة وكلها ضعيفة لكن قد يقوي بعضها بعضا والله أعلم) وذلك لأن في إسناده إسماعيل بن عياش وشيخه عتبة بن حميد وهما ضعيفان وإن كان لهم في رواية إسماعيل تفصيل معروف والحديث دليل على شرعية الوصية بالثلث وأنه لا يمنع منه الميت وظاهره الإطلاق في حق من له مال كثير ومن قل ماله وسواء كانت لوارث أو غيره ولكن يقيده ما سلف من الأحاديث التي هي أصح منه فلا تنفذ للوارث وإليه ذهب الفقهاء الأربعة وغيرهم والمؤيد بالله وروى عن زيد بن علي وذهبت الهادوية إلى نفوذها للوارث وادعى فيه إجماع أهل البيت ولا يصح هذا واعلم أن قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} يقتضي ظاهره أنه يخرج الدين والوصية من تركة الميت على سواء فتشارك الوصية الدين إذا استغرق المال وقد اتفق العلماء على أنه يقدم إخراج الدين على الوصية لما أخرجه أحمد والترمذي وغيرهما من حديث علي عليه السلام من رواية الحارث الأعور عنه قال قضى محمد صلى الله عليه وسلم أن الدين قبل الوصية وأنتم تقرءون الوصية قبل الدين وعلقه البخاري وإسناده ضعيف لكن قال الترمذي العمل عليه عند أهل العلم وكأن البخاري اعتمد عليه لاعتضاده بالاتفاق على مقتضاه وقد أورد له شاهدا ولم يختلف العلماء أن الدين يقدم على الوصية فإن قيل فإذا كان الأمر هكذا فلم قدمت الوصية على الدين في الآية قلت أجاب السهيلي بأنها لما كانت الوصية تقع على وجه البر والصلة والدين يقع بتعدي الميت بحسب الأغلب بدأ بالوصية لكونها أفضل وأجاب غيره بأنها(3/107)
إنما قدمت الوصية لأنها شيء يؤخذ بغير عوض والدين يؤخذ بعوض فكان إخراج الوصية أشق على الوارث من إخراج الدين وكان أداؤها مظنة التفريط بخلاف الدين فقدمت الوصية لذلك ولأنها حظ الفقير والمسكين غالباً والدين حظ الغريم يطلبه بقوة وله مقال ولأن الوصية ينشئها الموصي من قبل نفسه فقدمت تحريضا على العمل بها بخلاف الدين فإنه مطلوب منه ذكر أو لم يذكر أو لأن الوصية ممكنة من كل أحد تتعلق بذمته إماندباً أو وجوبا فيشترك فيها جميع المخاطبين وتقع بالمال وبالعمل وقل ما يخلو عن ذلك بخلاف الدين وما يكثر وقوعه أهم بأن يذكر أولا مما يقل وقوعه(3/108)
باب الوديعة
الوديعة: هي العين التي يضعها مالكه أو نائبه عند آخر ليحفظها وهي مندوبة إذا وثق من نفسه بالأمانة لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} وقوله صلى الله عليه وسلم "والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه" أخرجه مسلم وقد تكون واجبة إذا لم يكن من يصلح لها غيره وخاف الهلاك عليها إن لم يقبلها
1- عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أودع وديعة فليس عليه ضمان" أخرجه ابن ماجه وإسناده ضعيف وذلك أن في رواته المثنى بن الصباح وهو متروك وأخرجه الدارقطني بلفظ "ليس على المستعير غير المغل ضمان ولا على المستودع غير المغل ضمان" وفي إسناده ضعيفان قال الدارقطني وإنما يوري هذا عن شريح غير مرفوع وفسر المغل في رواية الدارقطني بالخائن وقيل هو المستغل وفي الباب آثار عن أبي بكر و علي و ابن مسعود و جابر أن الوديعة أمانة وفي بعضها مقال ويغني عن ذلك الإجماع فإنه وقد على أنه ليس على الوديع ضمان إلا ما يروى عن الحسن البصري أنه إذا اشترط الضمان فإنه يضمن وقد تؤول بأنه مع التفريط والوديعة قد تكون باللفظ كاستودعتك ونحوه من الألفاظ الدالة على الاستحفاظ ويكفي القبول لفظا وقد تكون بغير لفظ كأن يضع في حانوته وهو حاضر ولم يمنعه من ذلك أو في المسجد وهو غير مصل وأما إذا كان في الصلاة فلا لأنه لا يمكنه إظهار الكراهة وفي باب الوديعة تفاصيل في الفروع كثيرة قوله وباب قسم الصدقات بين الأصناف الثمانية تقدم في آخر الزكاة وهو أليق بالاتصال به وباب قسم الفيء والغنيمة يأتي عقب الجهاد إن شاء الله وهو أولى بأن يلي الجهاد لأنه من توابعه وإنما ذكر المصنف هذا لأنها جرت عادة كتب فروع الشافعية على جعل هذين البابين قبيل كتاب النكاح والمصنف خالفهم فألحقهما بما هو أليق بهما(3/108)
كتاب النكاح
كتاب النكاح
...
كتاب النكاح
النكاح لغة: الضم والتداخل ويستعمل في الوطء وفي العقد قيل مجاز من إطلاق اسم المسبب على السبب وقيل إنه حقيقة فيهما وهو مراد من قال إنه مشترك فيهما وكثر استعماله في العقد فقيل إنه فيه حقيقة شرعية ولم يرد في الكتاب العزيز إلا في العقد
1- عن عبد الله ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة بالباء الموحدة والهمزة والمد فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" بكسر الواو والجيم والمد متفق عليه وقع الخطاب منه للشباب لأنهم مظنة الشهوة للنساء واختلف العلماء في المراد بالباءة والأصح أن المراد بها الجماع فتقديره من استطاع منكم الجماع لقدرته على مؤنة النكاح فليتزوج ومن لم يستطع الجماع لعجزه عن مؤنته فعليه بالصوم ليدفع شهوته ويقطع شر مائه كما يقطع الوجاء ووقع في رواية ابن حبان مدرجا تفسير الوجاء بأنه الإخصاء وقيل الوجاء رض الخصيتين والإخصاء سلبهما والمراد أن الصوم كالوجاء والأمر بالتزوج يقتضي وجوبه مع القدرة على تحصيل مؤنته وإلى الوجوب ذهب داود وهو رواية عن أحمد وقال ابن حزم وفرض على كل قادر على الوطء إن وجد أن يتزوج أو يتسرى فإن عجز عن ذلك فليكثر من الصوم وقال إنه قول جماعة من السلف وذهب الجمهور إلى أن الأمر للندب مستدلين بأنه تعالى خير بين التزوج والتسري بقوله: {فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} والتسري لا يجب إجماعا فكذا النكاح لأنه لا تخيير بين واجب وغير واجب إلا أن دعوى الإجماع غير صحيحة لخلاف داود وابن حزم وذكر ابن دقيق العيد أن من الفقهاء من قال بالوجوب على من خاف العنت وقدر على النكاح وتعذر عليه التسري وكذا حكاه القرطبي فيجب على من لا يقدر على ترك الزنا إلا به ثم ذكر من يحرم عليه ويكره ويندب له ويباح فيحرم على من يخل بالزوجة في الوطء والإنفاق مع قدرته عليه وتوقانه إليه ويكره في حق مثل هذا حيث لا إضرار بالزوجة والإباحة فيما إذا انتفت الدواعي والموانع ويندب في حق كل من يرجى منه النسل ولو لم يكن له في الوطء شهوة لقوله صلى الله عليه وسلم "فإني مكاثر بكم الأمم" ولظواهر الحث على النكاح والأمر به وقوله " فعليه بالصوم" إغراء بلزوم الصوم وضمير عليه يعود إلى من فهو مخاطب في المعنى وإنما جعل الصوم وجاء لأنه بتقليل الطعام والشراب يحصل للنفس إنكسار عن الشهوة ولسر جعله الله تعالى في الصوم فلا ينفع تقليل الطعام وحده من دون صوم واستدل به الخطابي على جواز التداوي لقطع الشهوة بالأدوية وحكاه البغوي في شرح السنة ولكن ينبغي أن يحمل على دواء يسكن الشهوة ولا يقطعها(3/109)
بالأصالة لأنه قد يقوى على وجدان مؤن النكاح بل قد وعد الله من يستعف أن يغنيه من فضله لأنه جعل الإغناء غاية للاستعفاف ولأنهم اتفقوا على منع الجب والإخصاء فيلحق بذلك ما في معناه وفيه الحث على تحصيل ما يغض به البصر ويحصن الفرج وفيه أنه لا يتكلف للنكاح بغير الممكن كالاستدانة واستدل به العراقي على أن التشريك في العبادة لا يضر بخلاف الرياء لكنه يقال إن كان المشرك عبادة كالمشرك فيه فإنه لا يضر فإنه يحصل بالصوم تحصين الفرج وغض البصر وأما تشريك المباح كما لو دخل إلى الصلاة لترك خطاب من يحل خطابه فهو محل نظر يحتمل القياس على ما ذكر ويحتمل عدم صحة القياس نعم إن دخل في الصلاة لترك الخوض في الباطل أو الغيبة وسماعها كان مقصدا صحيحا واستدل به بعض المالكية على تحريم الاستمناء لأنه لو كان مباحا لأرشد إليه لأنه أسهل وقد أباح الاستمناء بعض الحنابلة وبعض الحنفية
2- وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم حمد الله وأثنى عليه وقال: "لكني أنا أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس" مني متفق عليه هذا اللفظ لمسلم وللحديث سبب وهو أنه قال أنس جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته صلى الله عليه وسلم فلما أخبروا كأنهم تقالوها فقالوا أين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فقال أحدهم أما أنا فإني أصلي الليل أبدا وقال آخر وأنا أصوم الدهر ولا أفطر وقال آخر وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: "أنتم قلتم كذا وكذا أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له ولكني أنا أصلي وأنام وأصوم" الحديث وهو دليل على أن المشروع هو الاقتصاد في العبادات دون الانهماك والإضرار بالنفس وهجر المألوفات كلها وأن هذه الملة المحمدية مبنية شريعتها على الاقتصاد والتسهيل والتيسير وعدم التعسير {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} قال الطبري في الحديث الرد على من منع استعمال الحلال من الطيبات مأكلا وملبسا قال القاضي عياض هذا مما اختلف فيه السلف فمنهم من ذهب إلى ما قاله الطبري ومنهم من عكس واستدل بقوله تعالى: ل {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} قال والحق أن الآية في الكفار وقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بالأمرين والأولى التوسط في الأمور وعدم الإفراط في ملازمة الطيبات فإنه يؤدي إلى الترفه والبطر ولا يأمن من الوقوع في الشبهات فإن من اعتاد ذلك قد لا يجده أحيانا فلا يستطيع الصبر عنه فيقع في المحظور كما أن من منع من الراوي ذلك أحيانا قد يفضي به إلى التنطع وهو التكلف المؤدي إلى الخروج عن السنة المنهي عنه ويرد عليه صريح قوله تعالى: {قٌُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} كما أن الأخذ بالتشديد في العبادة يؤدي إلى الملل القاطع لأصلها وملازمة الاقتصار على الفرائض مثلا وترك النفل يفضي إلى البطالة وعدم النشاط إلى العبادة وخيار الأمور(3/110)
أوسطها وأراد صلى الله عليه وسلم بقوله: "فمن رغب عن سنتي" عن طريقتي "فليس مني" أي ليس من أهل الحنيفية السهلة بل الذي يتعين عليه أن يفطر ليقوى على الصوم وينام ليقوى على القيام وينكح النساء ليعف نظره وفرجه وقيل إن أراد من خالف هديه صلى الله عليه وسلم وطريقته أن الذي أتى به من العبادة أرجح مما كان عليه صلى الله عليه وسلم فمعنى ليس مني أي ليس من أهل ملتي لأن اعتقاد ذلك يؤدي إلى الكفر
3- وعنه أي عن أنس قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بالباءة وينهى عن التبتل نهيا شديدا ويقول "تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة" رواه أحمد وصححه ابن حبان وله شاهد عند أبي داود والنسائي وابن حبان من حديث معقل بن يسار التبتل الانقطاع عن النساء وترك النكاح انقطاعا إلى عبادة الله وأصل البتل القطع ومنه قيل لمريم البتول وفاطمة عليها السلام البتول لانقطاعهما عن نساء زمانهما دينا وفضلا ورغبة في الآخرة والمرأة الولود كثيرة الولادة ويعرف ذلك في البكر بحال قرابتها والودود المحبوبة بكثرة ما هي عليه من خصال الخير وحسن الخلق والتحبب إلى زوجها والمكاثرة المفاخرة وفيه جوازها في الدار الآخرة ووجه ذلك أن من أمته أكثر فثوابه أكثر لأن له مثل أجر من تبعه
4- وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " تنكح المرأة لأربع" أي الذي يرغب في نكاحها ويدعو إليها خصال أربع "لمالها وحسبها وجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك" متفق عليه بين الشيخين مع بقية السبعة الذين تقدم ذكرهم في خطبة الكتاب الحديث إخبار أن الذي يدعو الرجال إلى التزوج أحد هذه الأربع وآخرها عندهم ذات الدين فأمرهم صلى الله عليه وسلم أنهم إذا وجدوا ذات الدين فلا يعدلوا عنها وقد ورد النهي عن نكاح المرأة لغير دينها فأخرج ابن ماجه والبزار والبيهقي من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا "لا تنكحوا النساء لحسنهن فلعله يرديهن ولا لمالهن فلعله يطغيهن وانكحوهن للدين ولأمة سوداء خرقاء ذات دين أفضل" وورد في صفة خير النساء ما أخرجه النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل يا رسول الله أي النساء خير؟ قال: "التي تسره إن نظر وتطيعه إن أمر ولا تخالفه في نفسها ومالها بما يكره" والحسب هو الفعل الجميل للرجل وآبائه وقد فسر الحسب بالمال في الحديث الذي أخرجه الترمذي وحسنه من حديث سمرة مرفوعا "الحسب المال والكرم التقوى" إلا أنه لا يراد به المال في حديث الباب لذكره بجنبه فالمراد فيه المعنى الأول ودل الحديث على أن مصاحبة أهل الدين في كل شيء هي الأولى لأن مصاحبهم يستفيد من أخلاقهم وبركتهم وطرائقهم ولا سيما الزوجة فهي أولى من يعتبر دينه لأنها ضجيعته وأم أولاده وأمينته على ماله ومنزله وعلى(3/111)
نفسها وقوله تربت يداك أي التصقت بالتراب من الفقر وهذه الكلمة خارجة مخرج ما يعتاده الناس في المخاطبات لا أنه صلى الله عليه وسلم قصد بها الدعاء
5- وعنه أي أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفىّ بالراء وتشديد الفاء فألف مقصورة إنسانا إذا تزوج قال: "بارك الله لك وبارك عليك وجمع بينكما في خير" رواه أحمد والأربعة وصححه الترمذي وابن خزيمة وابن حبان الرفاء الموافقة وحسن المعاشرة وهو من رفأ الثوب وقيل من رفوت الرجل إذا سكنت ما به من روع فالمراد إذا دعا صلى الله عليه وسلم للمتزوج بالموافقة بينه وبين أهله وحسن العشرة بينهما قال ذلك وقد أخرج بقي بن مخلد عن رجل من بني تميم قال كنا نقول في الجاهلية بالرفاء والبنين فعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال قولوا الحديث وأخرج مسلم من حديث جابر أنه صلى الله عليه وسلم قال له تزوجت قال نعم قال بارك الله فيك وزاد الدارمي وبارك عليك وفيه أن الدعاء للمتزوج سنة وأما المتزوج فيسن له أن يفعل ويدعو بما أفاده حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أفاد أحدكم امرأة أو خادما أو دابة فليأخذ بناصيتها وليقل: "اللهم إني أسألك خيرها وخير ما جبلت عليه وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلت عليه" رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه
6- وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد في الحاجة زاد فيه ابن كثير في الإرشاد في النكاح وغيره "إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ويقرأ ثلاث آيات رواه أحمد والأربعة وحسنه الترمذي والحاكم والآيات {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} إلى {رَقِيباً} والثانية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} إلى أخرها والثالثة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} إلى قوله: {عَظِيماً} كذا في الشرح وفي الإرشاد لابن كثير عد الآيات في نفس الحديث وقوله في الحاجة عام لكل حاجة ومنها النكاح وقد صرح به في رواية كما ذكرناه وأخرج البيهقي أنه قال شعبة قلت لأبي إسحاق هذه خطبة النكاح وغيرها قال في كل حاجة وفيه دلالة على سنية ذلك في النكاح وغيره ويخطب بها العاقد بنفسه حال العقد وهي من السنن المهجورة وذهبت الظاهرية إلى أنها واجبة ووافقهم من الشافعية أبو عوانة وترجم في صحيحه باب وجوب الخطبة عند العقد ويأتي في شرح الحديث التاسع ما يدل على عدم الوجوب
7- وعن جابر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا(3/112)
خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر منها إلى ما يدعو إلى نكاحها فليفعل" وتمامه قال جابر: فخطبت جارية فكنت أتخبأ لها حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها فتزوجتها رواه أحمد وأبو داود ورجاله ثقات وصححه الحاكم وله شاهد عند الترمذي والنسائي عن المغيرة ولفظه أنه قال له وقد خطب امرأة "انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما" وعند ابن ماجه وابن حبان من حديث محمد بن سلمة ولمسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل تزوج امرأة أي أراد ذلك " أنظرت إليها" قال لا قال: "اذهب فانظر إليها" دلت الأحاديث على أنه يندب تقديم النظر إلى من يريد نكاحها وهو قول جماهير العلماء والنظر إلى الوجه والكفين لأنه يستدل بالوجه على الجمال أو ضده والكفين على خصوبة البدن أو عدمها وقال الأوزاعي ينظر إلى مواضع اللحم وقال داود ينظر إلى جميع بدنها والحديث مطلق فينظر إلى ما يحصل له إليه ويدل على فهم الصحابة لذلك ما رواه عبد الرزاق وسعيد بن منصور أن عمر كشف عن ساق أم كلثوم بنت علي لما بعث بها علي إليه لينظرها ولا يشترط رضا المرأة بذلك النظر بل له أن يفعل ذلك على غفلتها كما فعله جابر قال أصحاب الشافعي ينبغي أن يكون نظره إليها قبل الخطبة حتى إن كرهها تركها من غير إيذاء بخلافه بعد الخطبة وإذا لم يمكنه النظر إليها استحب له أن يبعث امرأة يثق بها تنظر إليها وتخبره بصفتها فقد روى أنس أنه صلى الله عليه وسلم بعث أم سليم إلى امرأة فقال انظري إلى عرقوبها وشمي معاطفها أخرجه أحمد والطبراني والحاكم والبيهقي وفيه كلام وفي رواية شمي عوارضها وهي الأإطعام التي في عرض الفم وهي ما بين الثنايا والأضراس واحدها عارض والمراد اختبار رائحة النكهة وأما المعاطف فهي ناحيتا العنق ويثبت مثل هذا الحكم للمرأة فإنها تنظر إلى خاطبها فإنه يعجبها منه ما يعجبه منها كذا قيل ولم يرد به حديث والأصل تحريم نظر الأجنبي والأجنبية إلا بدليل كالدليل على جواز نظر الرجل لمن يريد خطبتها
8- وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه" تقدم أنها بكسر الخاء "حتى يترك الخاطب قبله أو يأذن له" متفق عليه واللفظ للبخاري النهي أصله التحريم إلا لدليل يصرفه عنه وادعى النووي الإجماع على أنه له وقال الخطابي النهي للتأديب وليس للتحريم وظاهره أنه منهي عنه سواء أجيب الخاطب أم لا وقدمنا في البيع أنه لا يحرم إلا بعد الإجابة والدليل حديث فاطمة بنت قيس وتقدم والإجماع قائم بعد الإجابة والإجابة من المرأة المكلفة في الكفء ومن ولي الصغيرة الكفء وأما غير الكفء فلا بد من إذن الولي على القول بأن له المنع وهذا في الإجابة الصريحة وأما إذا كانت غير صريحة فالأصح عدم التحريم وكذلك إذا لم يحصل رد ولا إجابة ونص الشافعي أن سكوت البكر رضا(3/113)
بالخاطب فهو إجابة وأما العقد مع تحريم الخطبة فقال الجمهور يصح وقال داود يفسخ النكاح قبل الدخول وبعده وقوله "أو يأذن له" دل على أنه يجوز له الخطبة بعد الإذن وجوازها للمأذون له بالنص ولغيره بالإلحاق لأن إذنه قد دل على إضرابه فتجوز خطبتها لكل من يريد نكاحها وتقدم الكلام على قوله أخيه وأنه أفاد التحريم على خطبة المسلم لا على خطبة الكافر وتقدم الخلاف فيه وأما إذا كان الخاطب فاسقا فهل يجوز للعفيف الخطبة على خطبته قال الأمير الحسين في الشفاء إنه يجوز الخطبة على خطبة الفاسق ونقل عن ابن القاسم صاحب مالك ورجحه ابن العربي وهو قريب فيما إذا كانت المخطوبة عفيفة فيكون كفء لها فتكون خطبته كلا خطبة ولم يعتبر الجمهور بذلك إذا صدرت عنها علامة القبول
9- وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال جاءت امرأة قال المصنف في الفتح لم أقف على اسمها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله: جئت أهب لك نفسي أي أمر نفسي لأن الحر لا تملك رقبته "فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فصعد النظر فيها وصوبه" في النهاية ومنه الحديث "فصعد في النظر وصوبه" أي نظر أعلاي وأسفلي وتأملني وهو من أدلة جواز النظر إلى من يريد زواجها وقال المصنف إنه تحرر عنده أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يحرم عليه النظر إلى المؤمنات الأجنبيات بخلاف غيره "ثم طأطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه" فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئا جلست فقام رجل من الصحابة قال المصنف لم أقف على اسمه فقال يا رسول الله: إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها فقال: "فهل عندك من شيء" فقال: لا والله يا رسول الله قال: "اذهب إلى أهلك فانظر هل تجد شيئا" فذهب ثم رجع فقال: لا والله ما وجدت شيئا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انظر ولو خاتما" أي ولو نظرت خاتما "من حديد" فذهب ثم رجع فقال: لا والله يا رسول الله ولا خاتما من حديد أي موجود فخاتم مبتدأ حذف خبره ولكن هذا إزاري قال سهل بن سعد الراوي ماله رداء فلها نصفه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما تصنع بإزارك إن لبسته" أي كله "لم يكن عليها منه شيء وإن لبسته" أي كله "لم يكن عليك منه شيء" ولعله بهذا الجواب بين له أن قسمة الرداء لا تنفعه ولا تنفع المرأة فجلس الرجل حتى إذا طال مجلسه قام فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم موليا فأمر به فدعي به فلما جاء قال: "ماذا معك من القرآن" قال معي سورة كذا وسورة كذا عددها فقال: "تقرؤهن عن ظهر قلبك" قال نعم قال: "اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن" متفق عليه واللفظ لمسلم وفي رواية قال انطلق فقد زوجتكها فعلمها من القرآن وفي رواية للبخاري "أملكناكها بما معك من القرآن" ولأبي داود عن أبي هريرة قال أي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تحفظ؟"(3/114)
قال سورة البقرة والتي تليها قال: "قم فعلمها عشرين" آية دل الحديث على مسائل عديدة وقد تتبعها ابن التين وقال هذه إحدى وعشرين فائدة بوب البخاري على أكثرها قلت ولنأت بأنفسها وأوضحها الأولى جواز عرض المرأة نفسها على رجل من أهل الصلاح وجواز النظر من الرجل وإن لم يكن خاطبا لإرادة التزوج يريد أنه ليس جواز النظر الموطأ للخاطب بل يجوز لمن تخطبه المرأة فإن نظره صلى الله عليه وسلم إليها دليل أنه أراد زواجها بعد عرضها عليه نفسها وكأنها لم تعجبه فأضرب عنها والثانية ولاية الإمام على المرأة التي لا قريب لها إذا أذنت إلا أن في بعض ألفاظ الحديث أنها فوضت أمرها إليه وذلك توكيل وأنه يعقد للمرأة من غير سؤال عن وليها هل هو موجود أو لا حاضر أو لا وسؤالها هل هي في عصمة رجل أو عدمه قال الخطابي وإلى هذا ذهب جماعة حملا على ظاهر الحال وعند الهادوية أنها تحلف الغريبة احتياطا الثالثة: أن الهبة لا تثبت إلا بالقبول الرابعة: أنه لا بد من الصداق في النكاح وأنه يصح أن يكون شيئا يسيرا فإن قوله "ولو خاتما من حديد" مبالغة في تقليله فيصح بكل ما تراضى عليه الزوجان أو من إليه ولاية العقد مما فيه منفعة وضابطه أن كل ما يصلح أن يكون قيمة أو ثمنا لشيء يصح أن يكون مهرا ونقل القاضي عياض الإجماع على أنه لا يصح أن يكون مما لا قيمة له ولا يحل به النكاح وقال ابن حزم يصح بكل ما يسمى شيئا ولو حبة من شعير لقوله صلى الله عليه وسلم "هل تجد شيئا" وأجيب بأن قوله صلى الله عليه وسلم "ولو خاتما من حديد" مبالغة في التقليل وله قيمة وبأن قوله في الحديث "من استطاع منكم الباءة ومن لم يستطع" دل على أنه شيء لا يستطيعه كل واحد وحبة الشعير مستطاعة لكل أحد وكذلك قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً} وقوله تعالى: {نْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} دال على اعتبار المالية في الصداق حتى قال بعضهم أقله خمسون وقيل أربعون وقيل خمسة دراهم وإن كانت هذه التقادير لا دليل على اعتبارها بخصوصها والحق أنه يصح بما يكون له قيمة وإن تحقرت والأحاديث والآيات يحتمل أنها خرجت مخرج الغالب وأنه لا يقع الرضا هنا من الزوجة إلا بكونه مالا له صورة ولا يطيق كل أحد تحصيله الخامسة أنه ينبغي ذكر الصداق في العقد لأنه أقطع للنزاع وأنفع للمرأة فلو عقد بغير ذكر صداق صح العقد ووجب لها مهر المثل بالدخول وأنه يستحب تعجيل المهر السادسة أنه يجوز الحلف وإن لم يكن عليه اليمين وأنه يجوز الحلف على ما يظنه لأنه صلى الله عليه وسلم قال له بعد يمينه اذهب إلى أهلك فانظر هل تجد شيئا فدل أن يمينه كانت على ظنه ولو كانت لا تكون إلا على العلم لم يكن للأمر بذهابه إلى أهله فائدة السابعة أنه لا يجوز للرجل أن يخرج من ملكه ما لا بد له منه كالذي يستر عورته أو يسد خلته من الطعام والشراب لأنه صلى الله عليه وسلم علل منعه عن قسمة ثوبه بقوله "إن لبسته لم يكن عليك منه شيء" الثامنة اختبار مدعي الإعسار فإنه صلى الله عليه وسلم لم يصدقه في أول دعواه الإعسار حتى ظهر له قرائن صدقه وهو دليل على أنه لا يسمع اليمين من مدعي الإعسار حتى تظهر قرائن إعساره التاسعة أنها لا تجب الخطبة للعقد لأنها لم تذكر(3/115)
في شيء من طرق الحديث وتقدم أن الظاهرية تقول بوجوبها وهذا يرد قولهم وأنه يصح أن يكون الصداق منفعة كالتعليم فإنه منفعة ويقاس عليه غيره ويدل عليه قصة موسى مع شعيب وقد ذهب إلى جواز كونه منفعة الهادوية وخالفت الحنفية وتكلفوا لتأويل الحديث وادعوا أن التزوج بغير مهر من خواصه صلى الله عليه وسلم وهو خلاف الأصل العاشرة قوله بما معك من القرآن يحتمل كما قاله القاضي عياض وجهين أظهرهما أن يعلمها ما معه من القرآن أو قدرا معينا منه ويكون ذلك صداقا ويؤيده قوله في بعض طرقه الصحيحة فعلمها من القرآن وفي بعضها تعيين عشر من الآيات ويحتمل أن الباء للتعليل وأنه زوجه بها بغير صداق إكراما له لكونه حافظا لبعض من القرآن ويؤيد هذا الاحتمال قصة أم سليم مع أبي سليم وذلك أنه خطبها فقالت والله ما مثلك يرد ولكنك كافر وأنا مسلمة ولا يحل لي أن أتزوجك فإن تسلم فذلك مهرك ولا أسألك غيره فأسلم فكان ذلك مهرها أخرجه النسائي وصححه عن ابن عباس وترجم له النسائي باب التزويج على الإسلام وترجم على حديث سهل هذا بقوله باب التزويج على سورة البقرة وهذا ترجيح منه للاحتمال الثاني والاحتمال الأول أظهر كما قاله القاضي لثبوت رواية فعلمها من القرآن الحادية عشرة أن النكاح ينعقد بلفظ التمليك وهو مذهب الهادوية والحنفية ولا يخفى أنها قد اختلفت الألفاظ في الحديث فروي بالتمليك وبالتزويج وبالإمكان قال ابن دقيق العيد هذه لفظة واحدة في قصة واحدة اختلفت مع اتحاد مخرج الحديث والظاهر أن الواقع من النبي صلى الله عليه وسلم لفظ واحد فالمرجع في هذا إلى الترجيح وقد نقل عن الدارقطني أن الصواب رواية من روى قد زوجتكها وأنهم أكثر وأحفظ وأطال المصنف في الفتح الكلام على هذه الثلاثة الألفاظ ثم قال فرواية التزويج والإنكاح أرجح وأما قول ابن التين إنه اجتمع أهل الحديث على أن الصحيح رواية زوجتكها وأن رواية ملكتكها وهم فيه فقد قال المصنف إن ذلك مبالغة منه وقال البغوي الذي يظهر أنه كان بلفظ التزويج على وفق قول الخاطب زوجنيها إذ هو الغالب في لفظ العقود إذ قلما يختلف فيه لفظ المتعاقدين وقد ذهبت الهادوية والحنفية والمشهور عن المالكية إلى جواز العقد بكل لفظ يفيد معناه إذا قرن به الصداق أو قصد به النكاح كالتمليك ونحوه ولا يصح بلفظ العارية والإجارة والوصية
10- وعن عامر بن عبد الله بن الزبير عامر تابعي سمع أباه وغيره مات سنة أربع وعشرين ومائة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أعلنوا النكاح" رواه أحمد وصححه الحاكم وفي الباب عن عائشة "أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالغربال" أي الدف أخرجه الترمذي وفي رواته عيسى بن ميمون ضعيف كما قاله الترمذي وأخرجه ابن ماجه والبيهقي وفي إسناده خالد بن إياس منكر الحديث قال أحمد وأخرج الترمذي أيضا من حديث عائشة وقال حسن غريب "أعلنوا هذا النكاح واجعلوه في المساجد واضربوا عليه بالدفوف وليولم أحدكم ولو بشاة فإذا خطب أحدكم امرأة(3/116)
وقد خضب بالسواد فليعلمها لا يغرها" دلت الأحاديث على الأمر بإعلان النكاح والإعلان خلاف الإسرار وعلى الأمر بضرب الغربال وفسره بالدف والأحاديث فيه واسعة وإن كان في كل منها مقال إلا أنها يعضد بعضها بعضا ويدل على شرعية ضرب الدف لأنه أبلغ في الإعلان من عدمه وظاهر الأمر الوجوب ولعله لا قائل به فيكون مسنونا ولكن بشرط أن لا يصحبه محرم من التغني بصوت رخيم من امرأة أجنبية بشعر فيه مدح القدود والخدود بل ينظر الأسلوب العربي الذي كان في عصره صلى الله عليه وسلم فهو المأمور به وأما ما أحدثه الناس من بعد ذلك المأمور به ولا كلام في أنه في هذه الأعصار يقترن بمحرمات كثيرة فيحرم لذلك لا لنفسه
11- وعن أبي بردة بن أبي موسى عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بولي" رواه أحمد والأربعة وصححه ابن المديني والترمذي وابن حبان وأعله بإرساله قال ابن كثير قد أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وغيرهم من حديث إسرائيل وأبو عوانة وشريح القاضي وقيس بن الربيع ويونس بن أبي إسحاق وزهير بن معاوية كلهم عن أبي إسحاق كذلك قال الترمذي ورواه شعبة والثوري عن أبي إسحاق مرسلا قال والأول عندي أصح هكذا صححه عبد الرحمن بن مهدي فيما حكاه ابن خزيمة عن أبي المثنى عنه وقال علي بن المديني حديث إسرائيل في النكاح صحيح وكذا صححه البيهقي وغير واحد من الحفاظ قال ورواه أبو يعلى الموصلي في مسنده عن جابر مرفوعا قال الحافظ الضياء بإسناد رجاله كلهم ثقات قلت ويأتي حديث أبي هريرة لا تزوج المرأة المرأة ولا تزوج المرأة نفسها وحديث عائشة إن النكاح من غير ولي باطل قال الحاكم وقد صحت الرواية فيه عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة وأم سلمة وزينب بنت جحش قال وفي الباب عن علي وابن عباس ثم سرد ثلاثين صحابيا والحديث دل على أنه لا يصح النكاح إلا بولي لأن الأصل في النفي نفي الصحة لا الكمال والولي هو الأقرب إلى المرأة من عصبتها دون ذوي أرحامها واختلف العلماء في اشتراط الولي في النكاح فالجمهور على اشتراطه وأنها لا تزوج المرأة نفسها وحكى عن ابن المنذر أنه لا يعرف عن أحد من الصحابة خلاف ذلك وعليه دلت الأحاديث وقال مالك يشترط في حق الشريفة لا الوضيعة فلها أن تزوج نفسها وذهبت الحنفية إلى أنه لا يشترط مطلقا محتجين بالقياس على البيع فإنها تستقل ببيع سلعتها وهو قياس فاسد الاعتبار إذ هو قياس مع نص ويأتي الكلام في ذلك مستوفى في شرح حديث أبي هريرة لا تزوج المرأة المرأة الحديث وقالت الظاهرية يعتبر الولي في حق البكر لحديث "الثيب أولى بنفسها" وسيأتي ويأتي أن المراد منه اعتبار رضاها جمعا بينه وبين أحاديث اعتبار الولي وقال أبو ثور للمرأة أن تنكح نفسها بإذن وليها لمفهوم الحديث الآتي
12- وعن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل فإن دخل بها فلها(3/117)
المهر بما استحل من فرجها فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له" أخرجه الأربعة إلا النسائي وصححه أبو عوانة وابن حبان والحاكم قال ابن كثير وصححه يحيى بن معين وغيره من الحفاظ قال أبو ثور فقوله "بغير إذن وليها" يفهم منه أنه إذا أذن لها جاز لها أن تعقد لنفسها وأجيب بأنه مفهوم لا يقوى على معارضة المنطوق باشتراطه واعلم أن الحنفية طعنوا في هذا الحديث بأنه رواه سليمان بن موسى عن الزهري وسئل الزهري عنه والذي روى هذا القدح هو إسماعيل بن علية القاضي عن ابن جريج الراوي عن سليمان أنه سأل الزهري عنه أي عن الحديث فلم يعرفه وأجيب عنه بأنه لا يلزم من نسيان الزهري له أن يكون سليمان بن موسى وهم عليه لا سيما وقد أثنى الزهري على سليمان بن موسى وقد طال كلام العلماء على هذا الحديث واستوفاه البيهقي في السنن الكبرى وقد عاضدته أحاديث اعتبار الولي وغيرها مما يأتي في شرح حديث أبي هريرة وفي الحديث دليل على اعتبار إذن الولي في النكاح بعقده لها أو عقد وكيله وظاهره أن المرأة تستحق المهر بالدخول وإن كان النكاح باطلا لقوله فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها وفيه دليل على أنه إذا اختل ركن من أركان النكاح فهو باطل مع العلم والجهل وأن النكاح يسمى باطلا وصحيحا ولا واسطة وقد أثبت الواسطة الهادوية وجعلوها العقد الفاسد قالوا وهو ما خالف مذهب الزوجين أو أحدهما جاهلين ولم تكن المخالفة في أمر مجمع عليه وترتب عليه أحكام مبينة في الفروع والضمير في قوله فإن اشتجروا عائد إلى الأولياء الدال عليهم ذكر الولي والسياق والمراد بالاشتجار منع الأولياء من العقد عليها وهذا هو العضل وبه تنتقل الولاية إلى السلطان إن عضل الأقرب وقيل بل تنتقل إلى الأبعد وانتقالها إلى السلطان مبني على منع الأقرب الأبعد وهو محتمل ودل على أن السلطان ولي من لا ولي لها لعدمه أو لمنعه ومثلهما غيبة الولي ويؤيد حديث الباب ما أخرجه الطبراني من حديث ابن عباس مرفوعا "لا نكاح إلا بولي والسلطان ولي من لا ولي له" وإن كان فيه الحجاج بن أرطاة فقد أخرجه سفيان في جامعة ومن طريقة الطبراني في الأوسط بإسناد حسن عن ابن عباس بلفظ " لا نكاح إلا بولي مرشد أو سلطان" ثم المراد بالسلطان من إليه الأمر جائرا كان أو عادلا لعموم الأحاديث القاضية بالأمر لطاعة السلطان جائرا أو عادلا وقيل بل المراد به العادل المتولي لمصالح العباد لا سلاطين الجور فإنهم ليسوا بأهل لذلك 13- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تنكح" مغير الصيغة مجزوما ومرفوعا ومثله الذي بعده "الأيم" التي فارقت زوجها بطلاق أو موت "حتى تستأمر" من الاستئمار طلب الأمر " ولا تنكح البكر حتى تستأذن" قالوا يا رسول الله وكيف إذنها؟ قال :" أن تسكت" متفق عليه فيه أنه لا بد من طلب الأمر من الثيب وأمرها فلا يعقد عليها حتى يطلب الولي الأمر منها بالإذن(3/118)
بالعقد والمراد من ذلك اعتبار رضاها وهو معنى أحقيتها بنفسها من وليها في الأحاديث وقوله البكر أراد بها البكر البالغة وعبر هنا بالاستئذان وعبر في الثيب بالاستئمار إشارة إلى الفرق بينهما وأنه يتأكد مشاورة الثيب ويحتاج الولي إلى صريح القول بالإذن منها في العقد عليها والإذن من البكر دائر بين القول والسكوت بخلاف الأمر فإنه صريح في القول وإنما اكتفي منها بالسكوت لأنها قد تستحي من التصريح وقد ورد في رواية عائشة قالت يا رسول الله إن البكر تستحي قال: "رضاها صماتها" أخرجه الشيخان ولكن قال ابن المنذر يستحب أن يعلم أن سكوتها رضا وقال ابن شعبان يقال لها ثلاثا إن رضيت فاسكتي وإن كرهت فانطقي فأما إذا لم تنطق ولكنها بكت عند ذلك فقيل لا يكون سكوتها رضا مع ذلك وقيل لا أثر لبكائها في المنع إلا أن يقترن بصياح ونحوه وقيل يعتبر الدمع هل هو حار فهو يدل على المنع أو بارد فهو يدل على الرضا والحديث عام للأولياء من الأب وغيره في أنه لا بد من إذن البكر البالغة وإليه ذهب الهادوية والحنفية وآخرون عملا بعموم الحديث هنا وبالخاص الذي أخرجه مسلم بلفظ والبكر يستأذنها أبوها ويأتي ذكر الخلاف في ذلك واستيفاء الكلام عليه في شرح الحديث الآتي
14- وعن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الثيب أحق بنفسها من وليها والبكر تستأمر وإذنها سكوتها" رواه مسلم وفي لفظ أي من رواية ابن عباس "ليس للولي مع الثيب أمر واليتيمة تستأمر" رواه أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان تقدم الكلام على أن المراد بأحقية الثيب بنفسها اعتبار رضاها كما تقدم على استئمار البكر وقوله "ليس للولي مع الثيب أمر" أي إن لم ترض لما سلف من الدليل على اعتبار رضاها وعلى أن العقد إلى الولي وأما قوله "واليتمية تستأمر" فاليتيمة في الشرع الصغيرة التي لا أب لها وهو دليل للناصر والشافعي في أنه لا يزوج الصغيرة إلا الأب لأنه صلى الله عليه وسلم قال تستأمر اليتيمة ولا استئمار إلا بعد البلوغ إذ لا فائدة لاستئمار الصغيرة وذهب الحنفية إلى أنه يجوز أن يزوجها الأولياء مستدلين بظاهر قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} الآية وما ذكر في سبب نزولها في أن يكون في حجر الولي ليس له رغبة في نكاحها وإنما يرغب في مالها فيتزوجها لذلك فنهوا وليس بصريح في أنه ينكحها صغيرة لاحتمال أنه يمنعها الأزواج حتى تبلغ ثم يتزوجها قالوا ولها بعد البلوغ الخيار قياسا على الأمة فإنها تخير إذا أعتقت وهي مزوجة والجامع حدوث ملك التصرف ولا يخفى ضعف هذا القول وما يتفرع من جواز الفسخ وضعف القياس ولهذا قال أبو يوسف لا خيار لها مع قوله بجواز تزويج غير الأب لها كأنه لم يقل بالخيار لضعف القياس فالأرجح ما ذهب إليه الشافعي
15- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول صلى الله عليه وسلم(3/119)
"لا تزوج المرأة المرأة ولا تزوج المرأة نفسها" رواه ابن ماجه والدارقطني ورجاله ثقات فيه دليل على أن المرأة ليس لها ولاية في الإنكاح لنفسها ولا لغيرها فلا عبرة لها في النكاح إيجابا ولا قبولا فلا تزوج نفسها بإذن الولي ولا غيره ولا تزوج غيرها بولاية ولا بوكالة ولا تقبل النكاح بولاية ولا وكالة وهو قول الجمهور وذهب أبو حنيفة إلى تزويج العاقلة البالغة نفسها وابنتها الصغيرة وتتوكل عن الغير لكن لو وضعت نفسها عند غير كفء فلأوليائها الاعتراض وقال مالك تزوج الدنية نفسها دون الشريفة كما تقدم واستدل الجمهور بالحديث بقوله تعالى: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} قال الشافعي: هي أصرح آية في اعتبار الولي وإلا لما كان لعضله معنى وسبب نزولها في معقل بن يسار زوج أخته فطلقها زوجها طلقة رجعية وتركها حتى انقضت عدتها ورام رجعتها فحلف أن لا يزوجها قال ففيه نزلت هذه الآية رواه البخاري زاد أبو داود فكفرت عن يميني وأنكحتها إياه فلو كان لها تزويج نفسها لم يعاتب أخاها على الامتناع ولكان نزول الآية لبيان أنها تزوج نفسها وبسبب نزول الآية يعرف ضعف قول الرازي إن الضمير للأزواج وضعف قول صاحب نهاية المجتهد إنه ليس في الآية إلا نهيهم عن العضل ولا يفهم منه اشتراط إذنهم في صحة العقد لا حقيقة ولا مجازا بل قد يفهم منه ضد هذا وهو أن الأولياء ليس لهم سبيل على من يلونهم اه ويقال عليه قد فهم السلف شرط إذنهم في عصره صلى الله عليه وسلم وبادر من نزلت فيه إلى التكفير عن يمينه والعقد ولو كان لا سبيل للأولياء لأبان الله تعالى غاية البيان بل كرر تعالى كون الأمر إلى الأولياء في عدة آيات ولم يأت حرف واحد أن للمرأة إنكاح نفسها ودلت أيضا أن نسبة النكاح إليهن في الآيات مثل {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} ومراد به الإنكاح بعقد الولي إذ لو فهم صلى الله عليه وسلم أنها تنكح نفسها لأمرها بعد نزول الآية بذلك ولأبان لأخيها أنه لا ولاية له ولم يبح له الحنث في يمينه والتكفير ويدل لاشتراط الولي ما أخرجه البخاري وأبو داود من حديث عروة عن عائشة أنها أخبرته أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء منها نكاح الناس اليوم يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها ثم قالت في آخره فلما بعث محمد الفراش هدم نكاح الجاهلية كله إلا نكاح الناس اليوم فهذا دال على أنه صلى الله عليه وسلم قرر ذلك النكاح المعتبر فيه الولي وزاده تأكيدا بما قد سمعت من الأحاديث ويدل على نكاحه صلى الله عليه وسلم لأم سلمة وقولها إنه ليس أحد من أوليائها حاضرا ولم يقل صلى الله عليه وسلم أنكحي أنت نفسك مع أنه مقام البيان ويدل له قوله تعالى: {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ} فإنه خطاب للأولياء بأن لا ينكحوا المسلمات المشركين ولو فرض أنه يجوز لها إنكاح نفسها لما كانت الآية دالة على تحريم ذلك عليهن لأن القائل بأنها تنكح نفسها يقول بأنه ينكحها وليها أيضا فيلزم أن الآية لم تف بالدلالة على تحريم إنكاح المشركين للمسلمات لأنها إنما دلت على نهي الأولياء من إنكاح المشركين لا على نهي المسلمات أن ينكحن أنفسهن منهم وقد علم تحريم نكاح المشركين المسلمات فالأمر للأولياء دال على أنه ليس للمرأة ولاية(3/120)
في النكاح ولقد تكلم صاحب نهاية المجتهد على الآية بكلام في غاية السقوط فقال الآية مترددة بين أن تكون خطابا للأولياء أو لأولي الأمر ثم قال فإن قيل هو عام والعام يشمل أولي الأمر والأولياء قلنا هذا الخطاب إنما هو خطاب بالمنع والمنع بالشرع فيستوي فيه الأولياء وغيرهم وكون الولي مأمورا بالمنع بالشرع لا يوجب له ولاية خاصة بالإذن ولو قلنا إنه خطاب للأولياء يوجب اشتراط إذنهم في النكاح لكان مجملا لا يصح به عمل لأنه ليس فيه ذكر أصناف الأولياء ولا مراتبهم والبيان لا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة اه والجواب أن الأظهر أن الآية خطاب لكافة المؤمنين المكلفين الذين خوطبوا بصدرها أعني قوله: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} والمراد لا ينكحهن من إليه الإنكاح وهم الأولياء أو خطاب للأولياء ومنهم الأمراء عند فقدهم أو عضلهم لما عرفت من قوله "فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي لها" فبطل قوله إنه متردد بين خطاب الأولياء وأولي الأمر وقوله قلنا هذا الخطاب إنما هو خطاب بالمنع بالشرع قلنا نعم قوله والمنع بالشرع يستوي فيه الأولياء وغيرهم قلنا هذا كلام في غاية السقوط فإن المنع بالشرع هنا للأولياء الذين يتولون العقد إما جوازا كما تقوله الحنفية أو شرطا كما يقوله غيرهم فالأجنبي بمعزل عن المنع لأنه لا ولاية له على بنات زيد مثلا فما معنى نهيه عن شيء ليس من تكليفه فهذا تكليف يخص الأولياء فهو كمنع الغني من السؤال ومنع النساء عن التبرج فالتكاليف الشرعية منها ما يخص الذكور ومنها ما يخص الإناث ومنها ما يخص بعضا من الفريقين أو فردا منهما ومنها ما يعم الفريقين وإن أراد أنه يجب على الأجنبي الإنكار على من يزوج مسلمة بمشرك فخروج من البحث وقوله ولو قلنا إنه خطاب للأولياء لكان مجملا لا يصح به عمل جوابه أنه ليس بمجمل إذ الأولياء معروفون في زمان من أنزلت عليهم الآية وقد كان معروفا عندهم ألا ترى إلى قول عائشة يخطب الرجل إلى الرجل وليته فإنه دال على أن الأولياء معروفون وكذلك قول أم سلمة له صلى الله عليه وسلم ليس أحد من أوليائي حاضرا وإنما ذكرنا هذا لأنه نقل الشارح رحمه الله كلام النهاية وهو طويل وجنح إلى رأي الحنفية واستقواه الشارح ولم يقو في نظري ما قاله فأحببت أن أنبه على بعض ما فيه ولولا محبة الاختصار لنقلته بطوله وأبنت ما فيه ومن الأدلة على اعتبار الولي قوله صلى الله عليه وسلم الثيب أحق بنفسها من وليها فإنه أثبت حقا للولي كما يفيده لفظ أحق وأحقيته هي الولاية وأحقيتها رضاها فإنه لا يصح عقده بها إلا بعده فحقها بنفسها آكد من حقه لتوقف حقه على إذنها
16- وعن نافع عن ابن عمر قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشغار" فسره بقوله أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته وليس بينهما صداق متفق عليه قال الشافعي لا أدري التفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن ابن عمر أو عن نافع أو عن مالك حكاه عنه البيهقي في المعرفة وقال الخطيب إنه ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو قول مالك وصل بالمتن المرفوع وقد بين ذلك(3/121)
ابن مهدي والقعنبي ويدل على أنه من كلام مالك أنه أخرجه الدارقطني من طريق خالد بن مخلد عن مالك قال سمعت أن الشغار أن يزوج الرجل إلخ وأما البخاري فصرح في كتاب الحيل أن تفسير الشغار من قول نافع قال القرطبي تفسير الشغار بما ذكر صحيح موافق لما ذكره أهل اللغة فإن كان مرفوعا فهو المقصود وإن كان من قول الصحابي فمقبول أيضا لأنه أعلم بالمقال وأفقه بالحال اه وإذ قد ثبت النهي عنه فقد اختلف الفقهاء هل هو باطل أو غير باطل فذهبت الهادوية والشافعي ومالك إلى أنه باطل للنهي عنه وهو يقتضي البطلان وللفقهاء خلاف في علة النهي لا نطول به فكلها أقوال تخمينية ويظهر من قوله في الحديث لا صداق بينهما أنه علة النهي وذهبت الحنفية وطائفة إلى أن النكاح صحيح ويلغو ما ذكر فيه عملا بعموم قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} ويجاب بأنه خصه النهي
17- وعن ابن عباس رضي الله عنهما "أن جارية بكرا أتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم" رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه وأعل بالإرسال وأجيب عنه بأنه رواه أيوب بن سويد عن الثوري عن أيوب موصولا وكذلك رواه معمر بن سليمان الرقي عن زيد بن حبان عن أيوب موصولا وإذا اختلف في وصل الحديث وإرساله فالحكم لمن وصله قال المصنف الطعن في الحديث لا معنى له لأنه له طرقا يقوي بعضها بعضا اه وقد تقدم حديث أبي هريرة المتفق عليه وفيه " ولا تنكح البكر حتى تستأذن" وهذا الحديث أفاد ما أفاده فدل على تحريم إجبار الأب لابنته البكر على النكاح وغيره من الأولياء بالأولى وإلى عدم جواز إجبار الأب ذهبت الهادوية والحنفية لما ذكر ولحديث مسلم والبكر يستأذنها أبوها وإن قال البيهقي زيادة الأب في الحديث غير محفوظة فقد رده المصنف بأنها زيادة عدل يعني فيعمل بها وذهب أحمد وإسحاق والشافعي إلى أن للأب إجبار بنته البكر البالغة على النكاح عملا بمفهوم الثيب أحق بنفسها كما تقدم فإنه دل أن البكر بخلافها وأن الولي أحق بها ويرد بأنه مفهوم لا يقاوم المنطوق وبأنه لو أخذ بعمومه لزم في حق غير الأب من الأولياء وأن لا يخص الأب بجواز الإجبار وقال البيهقي في تقوية كلام الشافعي إن حديث ابن عباس هذا محمول على أنه زوجها من غير كفء قال المصنف جواب البيهقي هو المعتمد لأنها واقعة عين فلا يثبت الحكم بها تعميما قلت كلام هذين الإمامين محاماة عن كلام الشافعي ومذهبهم وإلا فتأويل البيهقي لا دليل عليه فلو كان كما قال لذكرته المرأة بل قالت إنه زوجها وهي كارهة فالعلة كراهتها فعليها علق التخيير لأنها المذكورة فكأنه قال صلى الله عليه وسلم إذا كنت كارهة فأنت بالخيار وقول المصنف إنها واقعة عين غير صحيح بل حكم عام لعموم علته فأينما وجدت الكراهة ثبت الحكم وقد أخرج النسائي عن عائشة أن فتاة دخلت عليها فقالت إن أبي زوجني من ابن أخيه(3/122)
يرفع بي خسيسته وأنا كارهة قالت اجلسي حتى يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فأرسل إلى أبيها فدعاه فجعل الأمر إليها فقالت يا رسول الله قد أجزت ما صنع أبي ولكن أردت أن أعلم النساء أن ليس للآباء من الأمر شيء" والظاهر أنها بكر ولعلها البكر التي في حديث ابن عباس وقد زوجها أبوها كفؤا ابن أخيه وإن كانت ثيبا فقد صرحت أنه ليس مرادها إلا إعلام النساء أنه ليس للآباء من الأمر شيء ولفظ النساء عام للثيب والبكر وقد قالت هذا عنده صلى الله عليه وسلم فأقرها عليه والمراد بنفي الأمر عن الآباء نفي التزويج للكراهة لأن السياق في ذلك فلا يقال هو عام لكل شيء
18- وعن الحسن هو أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن مولى زيد بن ثابت ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر بالمدينة وقدم البصرة بعد مقتل عثمان وقيل إنه لقي عليا بالمدينة وأما بالبصرة فلم تصح رؤيته إياه وكان إمام وقته علما وزهدا وورعا مات في رجب سنة عشرة ومائة عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم "أيما امرأة زوجها وليان فهي للأول منهما" رواه أحمد والأربعة وحسنه الترمذي تقدم ذكر الخلاف في سماع الحسن من سمرة ورواه الشافعي وأحمد والنسائي من طريق قتادة عن الحسن عن عقبة بن عامر قال الترمذي الحسن عن سمرة في هذا أصح قال ابن المديني لم يسمع الحسن عن عقبة شيئا والحديث دليل على أن المرأة إذا عقد لها وليان لرجلين وكان العقد مترتبا أنها للأول منهما سواء دخل بها الثاني أو لا أما إذا دخل بها عالما فإجماع أنه زنا وأنها للأول وكذلك إن دخل بها جاهلا إلا أنه لا حد عليه للجهل فإن وقع العقدان في وقت واحد بطلا وكذا إذا علم ثم التبس فإنهما يبطلان إلا أنها إذا أقرت الزوجة أو دخل بها أحد الزوجين برضاها فإن ذلك يقرر العقد الذي أقرت بسبقه إذا لحق عليها فإقرارها صحيح وكذا الدخول برضاها فإنه قرينة السبق لوجوب الحمل على السلامة
19- وعن جابر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما عبد تزوج بغير إذن مواليه وأهله فهو عاهر" أي زان رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه وكذلك صححه ابن حبان ورواه من حديث ابن عمر موقوفا وأنه وجد عبدا له تزوج بغير إذنه ففرق بينهما وأبطل عقده وضربه الحد والحديث دليل على أن نكاح العبد بغير إذن مالكه باطل وحكمه حكم الزنا عند الجمهور إلا أنه يسقط عنه الحد إذا كان جاهلا للتحريم ويلحق به النسب وذهب داود إلى أن نكاح العبد بغير إذن مالكه صحيح لأن النكاح عنده فرض عين فهو كسائر فروض العين لا يفتقر إلى إذن السيد وكأنه لم يثبت لديه الحديث وقال الإمام يحيى إن العقد الباطل لا يكون له حكم(3/123)
الزنا هنا ولو كان عالما بالتحريم لأن العقد شبهة يدرأ بها الحد وهل ينفذ عقده بالإجازة من سيده فقال الناصر والشافعي لا ينفذه بالإجازة لأنه سماه النبي صلى الله عليه وسلم عاهرا وأجيب بأن المراد إذا لم تحصل الإجازة إلا أن الشافعي لا يقول بالعقد الموقوف أصلا والمراد بالعاهر أنه كالعاهر وأنه ليس بزان حقيقة
20- وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يجمع" بلفظ المضارع المبني للمجهول و لا نافية فهو مرفوع ومعناه النهي وقد ورد في إحدى روايات الصحيح بلفظ "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها" متفق عليه فيه دليل على تحريم الجمع بين من ذكر قال الشافعي يحرم الجمع بين من ذكر وهو قول من لقيته من المفتين لا خلاف بينهم في ذلك ومثله قال الترمذي وقال ابن المنذر لست أعلم في منع ذلك اختلافا اليوم وإنما قال بالجواز فرقة من الخوارج ونقل الإجماع أيضا ابن عبد البر وابن حزم والقرطبي والنووي ولا يخفى أن هذا الحديث خصص عموم قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} الآية قيل ويلزم الحنفية أن يجوزوا الجمع بين من ذكر لأن أصولهم تقديم عموم الكتاب على أخبار الآحاد إلا أنه أجاب صاحب الهداية بأنه حديث مشهور والمشهور له حكم القطعي سيما مع الإجماع من الأمة وعدم الإعتداد بالمخالف
21- وعن عثمان رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ينكح" بفتح حرف المضارعة من نكح "المحرم ولا ينكح" بضمه "من أنكح" رواه مسلم وفي رواية له أي لمسلم عثمان "ولا يخطب" أي لنفسه أو لغيره زاد ابن حبان "ولا يخطب عليه" وتقدم ذلك في كتاب الحج إلا قوله ولا يخطب عليه والمراد أنه لا يخطب أحد منه وليته
22- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو محرم متفق عليه الحديث قد أكثر الناس فيه الكلام لمخالفة ابن عباس لغيره قال ابن عبد البر اختلفت الآثار في هذا الحكم لكن الرواية أنه تزوجها وهو حلال جاءت من طرق شتى وحديث ابن عباس صحيح الإسناد لكن الوهم إلى الواحد أقرب من الوهم إلى الجماعة فأقل أحوال الخبرين أن يتعارضا فتطلب الحجة من غيرهما وحديث عثمان صحيح في منع نكاح المحرم فهو المعتمد انتهى وقال الأثرم قلت لأحمد إن أبا ثور يقول بأي شيء يدفع حديث ابن عباس أي مع صحته قال الله المستعان ابن المسيب يقول وهم ابن عباس وميمونة تقول تزوجني وهو حلال انتهى يريد بقول ميمونة ما رواه عنها مسلم وهو
23- ولمسلم عن ميمونة نفسها أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال(3/124)
وعضد حديثها حديث عثمان وقد تؤول حديث ابن عباس بأن معنى وهو محرم أي داخل في الحرم أو في الأشهر الحرم جزم بهذا التأويل ابن حبان في صحيحه وهو تأويل بعيد لا تساعد عليه الأحاديث وقد تقدم الكلام في هذا في الحج
24- وعن عقبة بن عامر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج" متفق عليه أي أحق الشروط بالوفاء شروط النكاح لأن أمره أحوط وبابه أضيق والحديث دليل على أن الشروط المذكورة في عقد النكاح يتعين الوفاء بها وسواء كان الشرط عرضا أو مالا حيث كان الشرط للمرأة لأن استحلال البضع إنما يكون فيما يتعلق بها أو ترضاه لغيرها وللعلماء في المسألة أقوال قال الخطابي الشروط في النكاح مختلف فيها فمنها ما يجب الوفاء به اتفاقا وهو ما أمر الله تعالى به من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان وعليه حمل بعضهم هذا الحديث ومنها ما لا يوفى به اتفاقا كطلاق أختها لما ورد من النهي عنه ومنها ما اختلف فيه كاشتراط أن لا يتزوج عليها ولا يتسرى ولا ينقلها من منزلها إلى منزله وأما ما يشترطه العاقد لنفسه خارجا عن الصداق فقيل هو للمرأة مطلقا وهو قول الهادوية وعطاء وجماعة وقيل هو لمن شرطه وقيل يختص ذلك بالأب دون غيره من الأولياء وقال مالك إن وقع في حال العقد فهو من جملة المهر أو خارجا عنه فهو لمن وهب له ودليله ما أخرجه النسائي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده يرفعه بلفظ "أيما امرأة نكحت على صداق أو حباء أو عدة قبل عصمة النكاح فهو لها وما كان بعد عصمة النكاح فهو لمن أعطيه وأحق ما أكرم عليه الرجل ابنته أو أخته" وأخرج نحوه الترمذي من حديث عروة عن عائشة ثم قال والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من الصحابة منهم عمر قال إذا تزوج الرجل المرأة بشرط أن لا يخرجها لزم وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحاق إلا أنه قد تعقب بأن نقله عن الشافعي غريب والمعروف عن الشافعية أن المراد من الشروط هي التي لا تنافي النكاح بل تكون من مقتضياته ومقاصده كاشتراط حسن العشرة والإنفاق والكسوة والسكنى وأن لا يقصر في شيء من حقها من قسمة ونفقة وكشرطه عليها ألا تخرج إلا بإذنه وأن لا تتصرف في متاعه ونحو ذلك قلت هذه الشروط إن أرادوا أنه يحمل عليها الحديث فقد قللوا فائدته لأن هذه أمور لازمة للعقد لا تفتقر إلى شرط وإن أرادوا غير ذلك فما هو نعم لو شرطت ما ينافي العقد كأن لا يقسم لها ولا يتسرى عليها فلا يجب الوفاء به قال الترمذي قال علي رضي الله عنه سبق شرط الله شرطها فالمراد في الحديث الشروط الجائزة لا المنهي عنها فأما شرطها أن لا يخرجها من منزلها فهذا شرط غير منهي عنه فيتعين الوفاء به
25- وعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال " رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أوطاس في المتعة ثلاثة أيام ثم نهى عنها" رواه مسلم اعلم أن حقيقة المتعة كما في كتب الإمامية هي النكاح المؤقت بأمد معلوم أو مجهول وغايته إلى خمسة وأربعين يوم ويرتفع النكاح بانقضاء المؤقت في المنقطعة الحيض وبحيضتين في الحائض وبأربعة أشهر(3/125)
وعشر في المتوفى عنها زوجها وحكمه ألا يثبت لها المهر غير المشروط ولا تثبت لها نفقة ولا توارث ولا عدة إلا الاستبراء بما ذكر ولا يثبت به نسب إلا أن يشترط وتحرم المصاهرة بسببه هذا كلامهم وحديث سلمة هذا أفاد أنه صلى الله عليه وسلم رخص في المتعة ثم نهى عنها واستمر النهي ونسخت الرخصة وإلى نسخها ذهب الجماهير من السلف والخلف وقد روي نسخها بعد الترخيص في ستة مواطن الأول: في خيبر الثاني: في عمرة القضاء الثالث: عام الفتح الرابع: عام أوطاس الخامس: غزوة تبوك السادس: في حجة الوداع فهذه التي وردت إلا أن في ثبوت بعضها خلافا قال النووي الصواب أن تحريمها وإباحتها وقعا مرتين فكانت مباحة قبل خيبر ثم حرمت فيها ثم أبيحت عام الفتح وهو عام أوطاس ثم حرمت تحريما مؤبدا وإلى هذا التحريم ذهب أكثر الأمة وذهب إلى بقاء الرخصة جماعة من الصحابة وروي رجوعهم وقولهم بالنسخ ومن أولئك ابن عباس روي عنه بقاء الرخصة ثم رجع عنه إلى القول بالتحريم قال البخاري بين علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه منسوخ وأخرج ابن ماجه عن عمر بإسناد صحيح أنه خطب فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لنا في المتعة ثلاثا ثم حرمها والله لا أعلم أحدا تمتع وهو محصن إلا رجمته بالحجارة وقال ابن عمر نهانا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كنا مسافحين إسناده قوي والقول بأن إباحتها قطعي ونسخها غير صحيح لأن الراوين لإباحتها رووا نسخها وذلك إما قطعي في الطرفين أو ظني في الطرفين كذا في الشرح وفي نهاية المجتهد أنها تواترت الأخبار بالتحريم إلا أنها اختلفت في الوقت الذي وقع فيه التحريم انتهى وقد بسطنا القول في تحريمها في حواشي ضوء النهار
26- وعن علي رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المتعة عام خيبر" متفق عليه لفظه في البخاري "إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المتعة وعن الحمر الأهلية زمن خيبر" بالخاء المعجمة أوله والراء آخره وقد وهم من رواه عام حنين بمهملة أوله ونون آخره أخرجه النسائي والدارقطني ونبه على أنه وهم ثم الظاهر أن الظرف في رواية البخاري متعلق بالأمرين معا المتعة ولحوم الحمر الأهلية وحكى البيهقي عن الحميدي أنه كان يقول سفيان بن عيينة في خيبر يتعلق بالحمر الأهلية لا بالمتعة قال البيهقي وهو محتمل ذلك ولكن أكثر الروايات يفيد تعلقه بهما وفي رواية حصول من طريق معمر بسنده أنه بلغه أن ابن عباس رخص في متعة النساء فقال له إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه يوم خيبر وعن لحوم الحمر الأهلية إلا أنه قال السهيلي إنه لا يعرف عن أهل السير ورواة الآثار أنه نهى عن نكاح المتعة يوم خيبر قال والذي يظهر أنه وقع تقديم وتأخير وقد ذكر ابن عبد البر أن الحميدي ذكر عن ابن عيينة أن النهي زمن خيبر عن لحوم الحمر الأهلية وأما المتعة فكان في غير يوم خيبر وقال(3/126)
أبو عوانة في صحيحه سمعت أهل العلم يقولون معنى حديث علي أنه نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر وأما المتعة فسكت عنها وإنما نهى عنها يوم الفتح والحامل لهؤلاء على ما سمعت ثبوت الرخصة بعد زمن خيبر ولا تقوم لعلي الحجة على ابن عباس إلا إذا وقع النهي أخيرا إلا أنه يمكن الانفصال عن ذلك بأن عليا رضي الله عنه لم تبلغه فيها يوم الفتح لوقوع النهي عن قرب ويمكن أن عليا عرف بالرخصة يوم الفتح ولكن فهم توقيت الترخيص وهو أيام شدة الحاجة مع العزوبة وبعد مضي ذلك فهي باقية على أصل التحريم المتقدم فتقوم له الحجة على ابن عباس وأما قول ابن القيم إن المسلمين لم يكونوا يستمتعون بالكتابيات يريد فيقوى أن النهي لم يقع عام خيبر إذ لم يقع هناك نكاح متعة فقد يجاب عنه بأنه قد يكون هناك مشركات غير كتابيات فإن أهل خيبر كانوا يصاهرون الأوس والخزرج قبل الإسلام فلعله كان هناك من نساء الأوس والخزرج من يستمتعون منهن
27- وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له" رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه وفي الباب عن علي أخرجه الأربعة إلا النسائي بكذا حديث ابن مسعود ابن القطان وابن دقيق العيد على شرط البخاري وقال الترمذي حديث حسن صحيح والعمل عليه عند أهل العلم منهم عمر وعثمان وعبد الله بن عمر وهو قول الفقهاء من التابعين وأما حديث علي رضي الله عنه ففي إسناده مجالد وهو ضعيف وصححه ابن السكن وأعله الترمذي ورواه ابن ماجه والحاكم من حديث عقبة بن عامر ولفظه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بالتيس المستعار؟" قالوا بلى يا رسول الله قال " فهو المحلل لعن الله المحلل والمحلل له" والحديث دليل على تحريم التحليل لأنه لا يكون اللعن إلا على فاعل المحرم وكل محرم منهي عنه والنهي يقتضي فساد العقد واللعن وإن كان ذلك للفاعل لكنه علق بوصف يصح أن يكون علة الحكم وذكروا للتحليل صورا منها أن يقول له في العقد إذا أحللتها فلا نكاح وهذا مثل نكاح المتعة لأجل التوقيت ومنها أن يقول في العقد إذا أحللتها طلقتها ومنها أن يكون مضمرا عند العقد بأن يتواطأ على التحليل ولا يكون النكاح الدائم هو المقصود وظاهر شمول اللعن فساد العقد لجميع الصور وفي بعضها خلاف بلا دليل ناهض فلا يشتغل بها
28- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ينكح الزاني المجلود" إلا مثله رواه أحمد وأبو داود ورجاله ثقات الحديث دليل على أنه يحرم على المرأة أن تزوج بمن ظهر زناه ولعل الوصف بالمجلود بناء على الأغلب في حق من ظهر منه الزنا وكذلك يحرم عليه أن يتزوج بالزانية التي ظهر زناها وهذا الحديث موافق قوله تعالى: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} إلا أنه حمل الحديث والآية(3/127)
الأكثر من العلماء على أن معنى لا ينكح لا يرغب الزاني المجلود إلا في مثله والزانية لا ترغب في في نكاح غير العاهر هكذا تأولوهما والذي يدل عليه الحديث والآية النهي عن ذلك لا الإخبار عن مجرد الرغبة وأنه يحرم نكاح الزاني العفيفة والعفيف الزانية ولا أصرح من قوله: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} أي كاملي الإيمان الذين هم ليسوا بزناة
وإلا فإن الزاني لا يخرج من مسمى الإيمان عند الأكثر
29- وعن عائشة رضي الله عنها قالت طلق رجل امرأته ثلاثا فتزوجها رجل ثم طلقها قبل أن يدخل بها فأراد زوجها الأول أن يتزوجها فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: "لا حتى يذوق الآخر من عسيلتها" مصغر عسل وأنث لأن العسل مؤنث وقيل إنه يذكر ويؤنث ما ذاق الأول متفق عليه واللفظ لمسلم اختلف في المراد فقيل إنزال المني وأن التحليل لا يكون إلا بذلك وذهب إليه الحسن وقال الجمهور ذوق العسيلة كناية عن المجامعة وهو تغييب الحشفة من الرجل في فرج المرأة ويكفي منه ما يوجب الحد ويوجب الصداق وقال الأزهري الصواب أن معنى العسيلة حلاوة الجماع التي تحصل بتغييب الحشفة قال أبو عبيدة العسيلة لذة الجماع والعرب تسمي كل شيء تستلذه عسلا والحديث محتمل وأما قول سعيد بن المسيب إنه يحصل التحليل بالعقد الصحيح فقال ابن المنذر لا نعلم أحدا وافقه عليه إلا الخوارج ولعله لم يبلغه الحديث فأخذ بظاهر القرآن وأما رواية ذلك عن سعيد بن جبير فلا يوجد مسندا عنه في كتاب إنما نقله أبو جعفر النحاس في معاني القرآن وتبعه عبد الوهاب المالكي في شرح الرسالة وقد حكى ابن الجوزي مثل قول ابن المسيب عن داود(3/128)
باب الكفاءة والخيار
الكفاءة المساواة أو المماثلة والكفاءة في الدين معتبرة فلا يحل تزوج مسلمة بكافر إجماعا
1- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العرب بعضهم أكفاء بعض والموالي بعضهم أكفاء بعض إلا حائكا أو حجاما" رواه الحاكم وفي إسناده راو لم يسم واستنكره أبو حاتم وله شاهد عند البزار عن معاذ بن جبل بسند منقطع وسأل ابن أبي حاتم عن هذا الحديث أباه فقال هذا كذب لا أصل له وقال في موضع آخر باطل ورواه ابن عبد البر في التمهيد قال الدارقطني في العلل لا يصح وحدث به هشام بن عبيد الراوي فزاد فيه بعد أو حجاما أو دباغا فاجتمع عليه الدباغون وهموا به قال ابن عبد البر هذا منكر موضوع وله طرق كلها واهية والحديث دليل على أن العرب سواء في الكفاءة بعضهم لبعض وأن الموالي ليسوا أكفاء لهم وقد اختلف العلماء في المعتبر من الكفاءة اختلافا كثيرا والذي يقوى هو ما ذهب إليه زيد بن علي ومالك ويروى عن عمر وابن مسعود و ابن سيرين وعمر بن عبد العزيز وهو أحد قولي الناصر أن المعتبر الدين لقوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}(3/128)
ولحديث الناس "كلهم ولد آدم" وتمامه "وآدم من تراب" أخرجه ابن سعد من حديث أبي هريرة وليس فيه لفظ "كلهم والناس كإطعام المشط لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى" أخرجه ابن لال بلفظ قريب من لفظ حديث سهل بن سعد وأشار البخاري إلى نصرة هذا القول حيث قال باب الأكفاء في الدين وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً}
فاستنبط من الآية الكريمة المساواة بين بني آدم ثم أردفه بإنكاح أبي حذيفة من سالم بابنة أخيه هند بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة وسالم مولى لامرأة من الأنصار وقد تقدم حديث فعليك بذات الدين وقد خطب النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة فقال: "الحمد لله الذي أذهب عنكم عبية" بضم المهملة وكسرها "يا أيها الناس إنما الناس رجلان مؤمن تقي كريم على الله وفاجر شقي هين على الله" ثم قرأ الآية وقال صلى الله عليه وسلم: "من سره أن يكون أكرم الناس فليتق الله" فجعل صلى الله عليه وسلم الالتفات إلى الأنساب من عبية فكيف يعتبرها المؤمن ويبني عليها حكما شرعيا وفي الحديث أربع من أمور الجاهلية لا يتركها الناس ثم ذكر منها الفخر بالأنساب أخرجه ابن جرير من حديث ابن عباس وفي الأحاديث شيء كثير في ذم الالتفات إلى الترفع بها وقد أمر صلى الله عليه وسلم بني بياضة بإنكاح أبي هند الحجام وقال إنما هو امرؤ من المسلمين فنبه على الوجه المقتضي لمساواتهم وهو الاتفاق في وصف الإسلام وللناس في هذه المسألة عجائب لا تدور على دليل غير الكبرياء والترفع ولا إله إلا الله كم حرمت المؤمنات النكاح لكبرياء الأولياء واستعظامهم أنفسهم اللهم إنا نبرأ إليك من شرط ولده الهوى ورباه الكبرياء ولقد منعت الفاطميات في جهة اليمن ما أحل الله لهن من النكاح لقول بعض أهل مذهب الهادوية إنه يحرم نكاح الفاطمية إلا من فاطمي من غير دليل ذكروه وليس مذهبا لإمام المذهب الهادي عليه السلام بل زوج بناته من الطبريين وإنما نشأ هذا القول من بعده في أيام الإمام أحمد بن سليمان وتبعهم بيت رياستها فقالوا بلسان الحال تحرم شرائفهم على الفاطميين إلا من مثلهم وكل ذلك من غير علم ولا هدى ولا كتاب منير بل ثبت خلاف ما قالوه عن سيد البشر كما دل له
2- وعن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: "انكحي أسامة" رواه مسلم وفاطمة قرشية فهرية أخت الضحاك بن قيس وهي من المهاجرات الأول كانت ذات جمال وفضل وكمال جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن طلقها أبو عمرو بن حفص بن المغيرة بعد انقضاء عدتها منه فأخبرته أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه وأما معاوية فصعلوك لا مال له انكحي أسامة بن زيد" الحديث فأمرها بنكاح أسامة مولاه ابن مولاه وهي قرشية وقدمه على أكفائها ممن ذكر ولا أعلم أنه(3/129)
طلب من أحد أوليائها إسقاط حقه وكأن المصنف رحمه الله أورد هذا الحديث بعد بيان ضعف الحديث الأول للإشارة إلى أنه لا عبرة في الكفاءة بغير الدين كما أورد لذلك قوله
3- وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا بني بياضة انكحوا أبا هند" اسمه يسار وهو الذي حجم النبي صلى الله عليه وسلم وكان مولى لبني بياضة وأنكحوا إليه وكان حجاما رواه أبو داود والحاكم بسند جيد فهو من أدلة عدم اعتبار كفاءة الأنساب وقد صح أن بلالا نكح هالة بنت عوف أخت عبد الرحمن بن عوف وعرض عمر بن الخطاب ابنته حفصة على سلمان الفارسي
4- وعن عائشة رضي الله عنها قالت خيرت بريرة على زوجها حين عتقت متفق عليه في ولمسلم عنها رضي الله عنها أن زوجها كان عبدا وفي رواية عنها كان حرا والأول أثبت لأنه جزم البخاري أنه كان عبد الله ولذا قال وصح عن ابن عباس رضي الله عنه عند البخاري أنه كان عبدا ورواه علماء المدينة وإذا روى علماء المدينة شيئا ورأوه فهو أصح وأخرجه أبو داود من حديث ابن عباس بلفظ إن زوج بريرة كان عبدا أسود يسمى مغيثا فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم وأمرها أن تعتد وفي البخاري عن ابن عباس ذاك مغيث عبد بني فلان يعني زوج بريرة وفي أخرى عند البخاري كان زوج بريرة عبدا أسود يقال له مغيث قال الدارقطني لم تختلف الرواية عن عروة عن عائشة أنه كان عبدا وكذا قال جعفر بن محمد عن أبيه عن عائشة قال النووي: يؤيد قول من قال كان عبدا قول عائشة كان عبدا فأخبرت وهي صاحبة القصة بأنه كان عبدا فصح رجحان كونه عبدا قوة وكثرة وحفظا والحديث دليل على ثبوت الخيار للمعتقة بعد عتقها في زوجها إذا كان عبدا وهو إجماع واختلف إذا كان حرا فقيل لايثبت لها الخيار وهو قول الجمهور قالوا: لأن العلة في ثبوت الخيار إذا كان عبدا هو عدم المكافأة من العبد للحرة في كثير من الأحكام فإذا عتقت ثبت لها الخيار من البقاء في عصمته أو المفارقة لأنها في وقت العقد عليها لم تكن من أهل الاختيار وذهبت الهادوية والشعبي وآخرون إلى أنه يثبت لها الخيار وإن كان حرا احتجوا بأنه قد ورد في رواية أن زوج بريرة كان حرا ورده الأولون بأنها رواية مرجوحة لا يعمل بها قالوا ولأنها عند تزويجها لم يكن لها اختيار فإن سيدها يزوجها وإن كرهت فإذا أعتقت تجدد لها حال لم يكن قبل ذلك قال ابن القيم في تخييرها ثلاثة مآخذ وذكر مأخذين وضعفهما ثم ذكر الثالث وهو أرجحها وتحقيقه أن السيد عقد عليها بحكم الملك حيث كان مالكا لرقبتها ومنافعها والعتق يقتضي تمليك الرقبة والمنافع للمعتق وهذا مقصود العتق وحكمته فإذا ملكت رقبتها ملكت بضعها ومنافعها ومن جملتها منافع البضع فلا يملك عليها إلا باختيارها فخيرها الشارع بين الأمرين البقاء تحت الزوج أو الفسخ منه وقد جاء في بعض طرق حديث بريرة ملكت نفسك فاختاري قلت وهو من تعليق الحكم وهو الاختيار على ملكها لنفسها فهو إشارة إلى علة التخيير وهذا يقتضي ثبوت الخيار إن كانت تحت حر وهل يقع الفسخ بلفظ الاختيار(3/130)
قيل: نعم كما يدل له قوله في الحديث خيرت وقيل لا بد من لفظ الفسخ ثم إذا اختارت نفسها لم يكن للزوج الرجعة عليها وإنما يراجعها بعقد جديد إن رضيت به ولا يزال لها الخيار بعد علمها ما لم يطأها لما أخرجه أحمد عنه صلى الله عليه وسلم "إذا عتقت الأمة فهي بالخيار ما لم يطأها إن تشأ فارقته وإن وطئها فلا خيار لها" وأخرجه الدارقطني بلفظ "إن قاربك فلا خيار لك" فدل أن الوطء مانع من الخيار وإليه ذهب الحنابلة
واعلم أن هذا الحديث جليل قد ذكره العلماء في مواضع من كتبهم في الزكاة وفي العتق وفي البيع وفي النكاح وذكره البخاري في البيع وأطال المصنف في عدة ما استخرج منه من الفوائد حتى بلغت مائة واثنتين وعشرين فائدة فنذكر ما له تعلق بالباب الذي نحن بصدده منها جواز بيع أحد الزوجين الرقيقين دون الآخر وأن بيع الأمة المزوجة لا يكون طلاقا وأن عتقها لا يكون طلاقا ولا فسخا وأن للرقيق أن يسعى في فكاك رقبته من الرق وأن الكفارة معتبرة في الحرية قلت قد أشار في الحديث إلى سبب تخييرها وهو ملكها نفسها كما عرفت فلا يتم هذا وأن اعتبارها يسقط برضا المرأة التي لا ولي لها ومما ذكر في قصة بريرة أن زوجها كان يتبعها في سكك المدينة يتحدر دمعه لفرط محبته لها قالوا فيؤخذ منه أن الحب يذهب الحياء وأنه يعذر من كان كذلك إذا كان بغير اختيار منه فيعذر أهل المحبة في الله إذا حصل لهم الوجد عند سماع ما يفهمون منه الإشارة إلى أحوالهم حيث يغتفر منهم ما لا يحصل عن اختيار كالرقص ونحوه قلت لا يخفى أن زوج بريرة بكى من فراق محبه فمحب الله يبكي شوقا إلى لقائه وخوفا من سخطه كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكي عند سماع القرآن وكذلك أصحابه ومن تبعهم بإحسان وأما الرقص والتصفيق فشأن أهل الفسق والخلاعة لا شأن من يحب الله ويخشاه فأعجب لهذا المأخذ الذي أخذوه من الحديث وذكره المصنف في الفتح عند سرد قيه غير ما ذكرناه وأبلغ فوائده إلى العدد الذي وصفناه وفي بعضها خفاء وتكلف لا يليق بمثل كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم
5- وعن الضحاك تابعي معروف روى عن أبيه ابن فيروز بفتح الفاء وسكون المثناة الراء وسكون الواو آخره زاي هو أبو عبد الله الديلمي ويقال الحميري لنزوله حمير وهو من أبناء فارس من فرس صنعاء كان ممن وفد على النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي قتل العنسي الكذاب الذي ادعى النبوة في سنة إحدى عشرة وأتى حين قتله النبي صلى الله عليه وسلم وهو مريض مرض موته وكان بين ظهوره وقتله أربعة أشهر عن أبيه رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله إني أسلمت وتحتي أختان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طلق أيتهما شئت" رواه أحمد والأربعة إلا النسائي وصححه ابن حبان والدارقطني والبيهقي وأعله البخاري بأنه رواه الضحاك عن أبيه ورواه عنه أبو وهب الجيشاني بفتح الجيم وسكون المثناة التحتية والشين المعجمة فنون قال البخاري لا نعرف سماع بعضهم من بعض والحديث دليل على اعتبار أنكحة الكفار وإن خالفت نكاح الإسلام(3/131)
وأنها لا تخرج المرأة من الزوج إلا بطلاق بعد الإسلام وأنه يبقى بعد الإسلام بلا تجديد عقد وهذا مذهب مالك وأحمد والشافعي وداود وعند الهادوية والحنفية أنه لا يقر منه إلا ما وافق الإسلام وتأولوا هذا الحديث بأن المراد بالطلاق الاعتزال وإمساك الأخت الأخرى عنده بعقد جديد ولا يخفى أنه تأويل متعسف وكيف يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم من دخل في الإسلام ولم يعرف الأحكام بمثل هذا وكذلك تأولوا مثل هذا قوله
6- وعن سالم عن أبيه عبد الله بن عمر أن غيلان بن سلمة هو ممن أسلم بعد فتح الطائف ولم يهاجر وهو من أعيان ثقيف ومات في خلافة عمر أسلم وله عشر نسوة فأسلمن معه "فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخير منهن أربعا" رواه أحمد والترمذي وصححه ابن حبان والحاكم وأعله البخاري وأبو زرعة قال الترمذي قال البخاري هذا الحديث غير محفوظ وأطال المصنف في التلخيص الكلام على الحديث وأخصر منه وأحسن إفادة كلام ابن كثير في الإرشاد قال عقب سياقه له رواه الإمامان أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي وأحمد بن حنبل والترمذي وابن ماجه وهذا الإسناد رجاله على شرط الشيخين إلا أن الترمذي يقول سمعت البخاري يقول هذا محفوظ ذ البحديث غير محفوظ والصحيح ما روى شعيب وغيره عن الزهري قال حدثت عن محمد بن شعيب الثقفي أن غيلان فذكره قال البخاري وإنما حديث الزهري عن سالم عن أبيه أن رجلا من ثقيف طلق نساءه فقال له عمر: لتراجعن نساءك الحديث قال ابن كثير: قلت قد أجمع الإمام أحمد في روايته لهذا الحديث بين هذين الحديثين بهذا السند فليس ما ذكره البخاري قادحا وساق رواية النسائي له برجال ثقات إلا أنه يرد على ابن كثير ما نقله الأثرم عن أحمد أنه قال هذا الحديث غير صحيح والعمل عليه وهو دليل على ما دل عليه حديث الضحاك ومن تأول ذلك تأول هذا
فائدة سبقت إشارة إلى قصة تطليق رجل من ثقيف نساءه وذلك أنه اختار أربعا فلما كان في عهد عمر طلق نساءه وقسم ماله بين بنيه فلما بلغ ذلك عمر قال: إني لأظن الشيطان مما يسترق سمع بموتك فقذفه في نفسك وأعلمك أنك لا تمكث إلا قليلا وأيم الله لتراجعن نساءك ولترجعن مالك أو لأورثهن منك ولآمرن بقبرك فليرجم كما رجم قبر أبي رغال الحديث ووقع في الوسيط ابن غيلان وهو وهم بل هو غيلان وأشد منه وهما ما وقع في مختصر ابن الحاجب ابن عيلان بالعين المهملة وفي سنن أبي داود أن قيس بن الحرث أسلم وعنده ثمان نسوة فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يختار أربعا وروى الشافعي والبيهقي عن نوفل بن معاوية أنه قال أسلمت وتحتي خمس نسوة فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "فارق واحدة وأمسك أربعا" فعمدت إلى أقدمهن عندي عاقر من ستين سنة ففارقتها وعاش نوفل بن معاوية مائة وعشرين سنة ستين في الإسلام(3/132)
وستين في الجاهلية وفي كلام عمر ما يدل على إبطال الحيلة لمنع التوريث وأن الشيطان قد يقذف في قلب العبد ما يسترقه من السمع من أحواله وأنه يرجم القبر عقوبة للعاصي وإهانة وتحذيرا عن مثل ما فعله
7- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال "رد النبي صلى الله عليه وسلم ابنته زينب على أبي العاص بن الربيع بعد ست سنين بالنكاح الأول ولم يحدث نكاحا" رواه أحمد والأربعة إلا النسائي وصححه أحمد والحاكم قال الترمذي حسن وليس بإسناده بأس وفي لفظ حصول كان إسلامها قبل إسلامه بست سنين وعنى بإسلامها هجرتها وإلا فهي أسلمت مع سائر بناته صلى الله عليه وسلم وهن أسلمن منذ بعثه الله وكانت هجرتها بعد وقعة بدر بقليل ووقعة بدر كانت في رمضان من السنة الثانية من هجرته صلى الله عليه وسلم وحرمت المسلمات على الكفار في الحديبية سنة ست من ذي القعدة منها فيكون مكثها بعد ذلك نحوا من سنتين ولهذا ورد في رواية أبي داود ردها عليه بعد سنتين وهكذا قرر ذلك أبو بكر البيهقي قال الترمذي لا يعرف وجه هذا الحديث يشير إلى أنه كيف ردها عليه بعد ست سنين أو ثلاث أو سنتين وهو مشكل لاستبعاد أن تبقى عدتها هذه المدة ولم يذهب أحد إلى تقرير المسلمة تحت الكافر إذا تأخر إسلامه عن إسلامها نقل الإجماع في ذلك ابن عبد البر وأشار إلى أن بعض أهل الظاهر جوزه ورد بالإجماع وتعقب بثبوت الخلاف فيه عن علي والنخعي أخرجه ابن أبي شيبة عنهما وبه أفتى حماد شيخ أبي حنيفة فروى عن علي أنه قال في الزوجين الكافرين يسلم أحدهما هو أملك لبضعها ما دامت في دار هجرتها وفي رواية هو أولى بها ما لم تخرج من مصرها وفي رواية عن الزهري أنه إن أسلمت ولم يسلم زوجها فهما على نكاحهما ما لم يفرق بينهما سلطان وقال الجمهور إن أسلمت الحربية وزوجها حربي وهي مدخول بها فإن أسلم وهي في العدة فالنكاح باق وإن أسلم بعد انقضاء عدتها وقعت الفرقة بينهما وهذا الذي ادعى عليه الإجماع في البحر وادعاه ابن عبد البر كما عرفت وتأول الجمهور حديث زينب بأن عدتها لم تكن قد انقضت وذلك بعد نزول آية التحريم لبقاء المسلمة تحت الكافر وهو مقدار سنتين وأشهر لأن الحيض قد يتأخر مع بعض النساء فردها صلى الله عليه وسلم لما كانت العدة غير منقضية وقيل المراد بقوله بالنكاح الأول أنه لم يحدث زيادة شرط ولا مهر ورد هذا ابن القيم وقال لا نعرف اعتبار العدة في شيء من الأحاديث ولا كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل المرأة هل انقضت عدتها أم لا ولا ريب أن الإسلام لو كان بمجرده فرقة لكانت فرقة بائنة لا رجعية فلا أثر للعدة في بقاء النكاح وإنما أثرها في منع نكاحها للغير فلو كان الإسلام قد نجز الفرقة بينهما لم يكن أحق بها في العدة ولكن الذي دل عليه(3/133)
حكمه صلى الله عليه وسلم أن النكاح موقوف فإن أسلم قبل انقضاء عدتها فهي زوجته وإن انقضت عدتها فلها أن تنكح من شاءت وإن أحبت انتظرته فإن أسلم كانت زوجته من غير حاجة إلى تجديد نكاح ولا يعلم أحد جدد بعد الإسلام نكاحه البتة بل كان الواقع أحد الأمرين إما افتراقهما ونكاحها غيره وإما بقاؤهما عليه وإن تأخر إسلامه وأما تنجيز الفرقة ومراعاة العدة فلا يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بواحد منهما مع كثرة من أسلم في عهده وقرب إسلام أحد الزوجين من الآخر وبعده منه قال ولولا إقراره صلى الله عليه وسلم الزوجين على نكاحهما وإن تأخر إسلام أحدهما عن الآخر بعد صلح الحديبية وزمن الفتح لقلنا بتعجيل الفرقة بالإسلام من غير اعتبار عدة لقوله تعالى: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} وقوله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} ثم سرد قضايا توكد ما ذهب إليه وهو أقرب الأقوال في المسألة
8- وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن النبي صلى الله عليه وسلم رد ابنته زينب على أبي العاص بن الربيع بنكاح جديد" قال الترمذي حديث ابن عباس أجود إسنادا والعمل على حديث عمرو بن شعيب قال الحافظ ابن كثير في الإرشاد قال الإمام أحمد هذا حديث ضعيف وحجاج لم يسمعه من عمرو بن شعيب إنما سمعه من محمد بن عبد الله العرزمي والعرزمي لا يساوي حديثه شيئا قال والصحيح حديث ابن عباس يعني المتقدم وهكذا قال البخاري والترمذي والدارقطني والبيهقي وحكاه عن حفاظ الحديث وأما ابن عبد البر فإنه جنح إلى ترجيح رواية عمرو بن شعيب وجمع بينه وبين حديث ابن عباس فحمل قوله في حديث ابن عباس بالنكاح الأول أي بشروطه ومعنى لم يحدث شيئا أي لم يزد على ذلك شيئا وقد أشرنا إليه آنفا قال وحديث عمرو بن شعيب تعضده الأصول وقد صرح فيه بوقوع عقد جديد ومهر جديد والأخذ بالصريح أولى من الأخذ بالمحتمل انتهى قلت يرد تأويل حديث ابن عباس تصريح ابن عباس في رواية فلم يحدث شهادة ولا صداقا رواه ابن كثير في الإرشاد ونسبه إلى إخراج الإمام أحمد له وأما قول الترمذي والعمل على حديث عمرو بن شعيب فإنه يريد عمل أهل العراق ولا يخفى أن عملهم بالحديث الضعيف وهجر القوي لا يقوى الضعيف بل يضعف ما ذهبوا إليه من العمل
9- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال "أسلمت امرأة فتزوجت فجاء زوجها فقال يا رسول الله إني كنت أسلمت وعلمت بإسلامي فانتزعها رسول الله صلى الله عليه وسلم من زوجها الآخر وردها إلى زوجها الأول" رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه وصححه ابن حبان والحاكم الحديث دليل على أنه إذا أسلم الزوج وعلمت امرأته بإسلامه فهي في عقد نكاحه وإن تزوجت فهو تزوج باطل تنتزع من الزوج الآخر وقوله وعلمت بإسلامي يحتمل أنه أسلم بعد انقضاء عدتها أو قبلها وأنها ترد إليه على كل حال وأن علمها بإسلامه قبل تزوجها بغيره يبطل نكاحها مطلقا سواء انقضت عدتها أم لا فهو من الأدلة لكلام ابن القيم(3/134)
الذي قدمناه لأن تركه صلى الله عليه وسلم الاستفصال هل علمت بعد انقضاء العدة أو لا دليل على أنه لا حكم للعدة إلا أنه على كلام ابن القيم الذي قدمناه أنها بعد انقضاء عدتها تزوج من شاءت لا تتم هذه القضية إلا على تقدير تزوجها في العدة كذا قاله الشارح رحمه الله ولا يخفى أنه مشكل لأنه إن كان عقد الآخر بعد انقضاء عدتها من الأول فنكاحها صحيح وإن كان قبل انقضاء عدتها فهو باطل إلا أن يقال إنه أسلم وهي في العدة وإذا أسلم وهي فيها فالنكاح باق بينهما فتزوجها بعد إسلامه باطل لأنها باقية في عقد نكاحها فهذا أقرب
10- وعن زيد بن كعب بن عجرة عن أبيه قال : "تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم العالية من بني غفار" بكسر الغين المعجمة ففاء خفيفة فراء بعد الألف قبيلة معروفة "فلما دخلت عليه ووضعت ثيابها رأى بكشحها" بفتح الكاف فشين معجمة فحاء مهملة هو ما بين الخاصرتين إلى الضلع كما في القاموس "بياضا فقال البسي ثيابك والحقي بأهلك وأمر لها بالصداق" رواه الحاكم وفي إسناده جميل بن زيد وهو مجهول واختلف عليه في شيخه اختلافا كثيرا اختلف في الحديث عن جميل فقيل عنه كما قال المصنف وقيل عن ابن عمر وقيل عن كعب بن عجرة وقيل عن كعب بن زيد والحديث فيه دليل على أن البرص منفر ولا يدل الحديث على أنه يفسخ به النكاح صريحا لاحتمال قوله صلى الله عليه وسلم "الحقي بأهلك" أنه قصد به الطلاق إلا أنه قد روى هذا الحديث ابن كثير بلفظ "أنه صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة من بني غفار فلما دخلت عليه رأى بكشحها وضحا فردها إلى أهلها وقال دلستم علي" فهو دليل على الفسخ وهذا الحديث ذكره ابن كثير في باب الخيار في النكاح والرد بالعيب وقد اختلف العلماء في فسخ النكاح بالعيوب فذهب أكثر الأمة إلى ثبوته وإن اختلفوا في التفاصيل فروي عن علي وعمر أنها لا ترد النساء إلا من أربع من الجنون والجذام والبرص والداء في الفرج وإسناده منقطع وروى البيهقي بإسناد جيد عن ابن عباس رضي الله عنه أربع لا يجزن في بيع ولا نكاح المجنونة والمجذومة والبرصاء والعفلاء والرجل يشارك المرأة في ذلك ويرد بالجب والعنة على خلاف في العنة وفي أنواع من المنفرات خلاف واختار ابن القيم أن كل عيب ينفر الزوج الآخر منه ولا يحل به مقصود النكاح من المودة والرحمة يوجب الخيار وهو أولى من البيع كما أن الشروط المشروطة في النكاح أولى بالوفاء من الشروط في البيع قال: ومن تدبر مقاصد الشرع في مصادره وموارده وعدله وحكمته وما اشتملت عليه من المصالح لم يخف عليه رجحان هذا القول وقربه من قواعد الشريعة وقال: وأما الاقتصار على عيبين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة أو ستة أو سبعة أو ثمانية دون ما هو أولى منها أو مساويها فلا وجه له فالعمى والخرس والطرش وكونها مقطوعة اليدين أو الرجلين أو إحداهما من أعظم المنفرات والسكوت عنه من أقبح التدليس والغش وهو مناف للدين والإطلاق إنما ينصرف إلى السلامة فهو كالمشروط عرفا قال وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لمن تزوج امرأة وهو لا يولد له أخبرها أنك عقيم فماذا تقول في العيوب الذي هذا عندها كمال لا نقص انتهى(3/135)
وذهب داود وابن حزم إلى أنه لا يفسخ النكاح بعيب ألبتة وكأنه لما لم يثبت الحديث به ولا يقولون بالقياس لم يقولوا بالفسخ
11- وعن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: أيما رجل تزوح امرأة فدخل بها فوجدها برصاء أو مجنونة أو مجذومة فلها الصداق بمسيسه إياها وهو له على من غره منها أخرجه سعيد بن منصور ومالك وابن أبي شيبة ورجاله ثقات تقدم الكلام في الفسخ بالعيب وقوله وهو أي المهر له أي للزوج على من غره منها أي يرجع عليه وإليه ذهب الهادي ومالك وأصحاب الشافعي وذلك لأنه غرم لحقه بسببه إلا أنهم اشترطوا علمه بالعيب فإذا كان جاهلا فلا غرم عليه وقول عمر على من غره دال على ذلك إذ لا غرر منه إلا مع العلم وذهب أبو حنيفة والشافعي إلى أنه لا رجوع إلا أن الشافعي قال بها في الجديد قال ابن كثير في الإرشاد وقد حكى الشافعي في القديم عن عمر وعلي وابن عباس في المغرور يرجع بالمهر على من غره ويعتضد بما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: "من غشنا فليس منا" ثم قال الشافعي في الجديد: وإنما تركنا ذلك لحديث "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل فإن أصابها فلها الصداق بما استحل من فرجها" قال فجعل لها الصداق في النكاح الباطل وهي التي غرته فلأن يجعل لها الصداق بلا رجوع على الغار في النكاح الصحيح الذي الزوج فيه مخير بطريق الأولى انتهى وقد يقال هذا مطلق مقيد بحديث الباب
12- وروى سعيد أيضا يعني ابن منصور عن علي رضي الله عنه نحوه وزاد أو بها قرن بفتح القاف وسكون الراء هو العفلة بفتح العين المهملة وفتح الفاء واللام وهي تخرج في قبل النساء وحيا الناقة كالأدرة في الرجال فزوجها بالخيار فإن مسها فلها المهر بما استحل من فرجها
13- ومن طريق سعيد بن المسيب أيضا أي وأخرج سعيد بن منصور من طريق ابن المسيب قال قضى عمر أن العنين أن يؤجل سنة ورجاله ثقات بالمهملة فنون فمثناة تحتية فنون بزنة سكين هو من لا يأتي النساء عجزا لعدم انتشار ذكره ولا يريدهن والاسم العنانة والتعنين والعنينة بالكسر ويشدد والعنة بالضم الاسم أيضا من عنن عن امرأته حكم عليه القاضي بذلك أو منع بالسحر وهذا الأثر دال على أنها عيب يفسخ بها النكاح بعد تحققها واختلفوا في ذلك والقائلون بالفسخ اختلفوا أيضا في إمهاله ليحصل التحقيق فقيل يمهل سنة وهو مروي عن عمر وابن مسعود وروي عثمان أنه لم يؤجله وعن الحارث بن عبد الله يؤجل عشرة أشهر وذهب أحمد والهادي وجماعة إلى أنه لا فسخ في ذلك واستدلوا بأن الأصل عدم الفسخ وهذا أثر لا حجة فيه وبأنه صلى الله عليه وسلم لم يخير امرأة رفاعة وقد شكت منه ذلك وهو في موضع التعليم وقد أجاب في البحر بقوله قلنا لعل زوجها أنكر والظاهر معه قلت لا يخفى أن امرأة رفاعة لم تشك من رفاعة فإنه كان قد(3/136)
طلقها فتزوجها عبد الرحمن بن الزبير فجاءت تشكو إليه صلى الله عليه وسلم وقالت إنما معه مثل هدبة الثوب فقال صلى الله عليه وسلم: "أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة لا حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته" وفي رواية الموطأ أن رفاعة طلق امرأته تميمة بنت وهب في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث فنكحت عبد الرحمن بن الزبير فأعرض عنها فلم يستطع أن يمسها ففارقها فأراد رفاعة أن ينكحها وهو زوجها الأول فقال صلى الله عليه وسلم: "أتريدين" الحديث وبهذا يعرف عدم صحة الاستدلال بقصة رفاعة فإنها لم تطلب الفسخ بل فهم منها صلى الله عليه وسلم أنها تريد أن يراجعها رفاعة فأخبرها أن عبد الرحمن حيث لم يذق عسيلتها ولا ذاقت عسيلته لا يحلها لرفاعة وكيف يحمل حديثها على طلبها الفسخ وقد أخرج مالك في الموطأ أن عبد الرحمن لم يستطع أن يمسها فطلقها فأراد رفاعة أن ينكحها وهو زوجها الأول فجاءت تستفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجابها بأنها لا تحل له وأما قصة أبي ركانة وهي "أنه نكح امرأة من مزينة فجات إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت ما يغني عني إلا كما تغني عني هذه الشعرة لشعرة أخذتها من رأسها ففرق بيني وبينه فأخذت النبي صلى الله عليه وسلم حمية فدعا بركانة وإخوته ثم قال لجلسائه أترون فلانا يعني ولدا له يشبه منه كذا وكذا من عبد يزيد وفلانا لابنه الآخر يشبه منه كذا وكذا قالوا نعم قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد يزيد طلقها ففعل" الحديث أخرجه أبو داود عن ابن عباس والظاهر أنه لم يثبت عنده صلى الله عليه وسلم ما ادعته المرأة من العنة لأنها خلاف الأصل ولأنه صلى الله عليه وسلم تعرف أولاده بالقيافة وسأله عنها أصحابه صلى الله عليه وسلم فدل أنه لم يثبت له أنه عنين فأمره بالطلاق إرشادا إلى أنه ينبغي له فراقها حيث طلبت ذلك منه لا أنه يجب عليه
فائدة: قال ابن المنذر: اختلفوا في المرأة تطالب الرجل بالجماع فقال الأكثرون إن وطئها بعد أن دخل بها مرة واحدة لم يؤجل أجل العنين وهو قول الأوزاعي والثوري وأبي حنيفة ومالك والشافعي وإسحاق وقال أبو ثور إن ترك جماعها لعلة أجل لها سنة وإن كان لغير علة فلا تأجيل وقال عياض اتفق كافة العلماء أن للمرأة حقا في الجماع فيثبت الخيار لها إذا تزوجت المجبوب والممسوح جاهلة بهما ويضرب للعنين سنة لاختبار زوال ما به انتهى قلت ولم يستدلوا على مقدار الأجل بالسنة بدليل ناهض إنما يذكر الفقهاء أنه لأجل أن تمر به الفصول الأربعة فيتبين حينئذ حاله(3/137)
باب عشرة النساء
بكسر العين وسكون الشين المعجمة أي عشرة الرجال أي الأزواج النساء أي الزوجات 1-عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ملعون(3/137)
من أتى امرأة في دبرها" رواه أبو داود والنسائي واللفظ له ورجاله ثقات لكن أعل بالإرسال روي هذا الحديث بلفظه من طرق كثيرة عن جماعة من الصحابة منهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعمر وخزيمة وعلي بن طلق وطلق بن علي وابن مسعود وجابر وابن عباس وابن عمر والبراء وعقبة بن عامر وأنس وأبو ذر وفي طرقه جميعها كلام ولكنه مع كثرة الطرق واختلاف الرواة يشد بعض طرقه بعضا ويدل على تحريم إتيان النساء في أدبارهن وإلى هذا ذهبت الأمة إلا القليل للحديث هذا ولأن الأصل تحريم المباشرة إلا ما أحله الله ولم يحل تعالى إلا القبل كما دل له قوله: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} وقوله: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} فأباح موضع الحرث والمطلوب من الحرث نبات الزرع فكذلك النساء الغرض من إتيانهن هو طلب النسل لا قضاء الشهوة وهو لا يكون إلا في القبل فيحرم ما عدا موضع الحرث ولا يقاس عليه غيرة لعدم المشابهة في كونه محلا للزرع وأما حل الاستمتاع فيما عدا الفرج فمأخوذ من دليل آخر وهو جواز مباشرة الحائض فيما عدا الفرج وذهبت الإمامية إلى جواز إتيان الزوجة والأمة بل المملوك في الدبر وروي عن الشافعي أنه قال لم يصح في تحليله ولا تحريمه شيء والقياس أنه حلال ولكن قال الربيع والله الذي لا إله إلا هو لقد نص الشافعي على تحريمه في ستة كتب ويقال إنه كان يقول بحله في القديم وفي الهدي النبوي عن الشافعي أنه قال لا أرخص فيه بل أنهى عنه وقال إن من نقل عن الأئمة إباحته فقد غلط عليهم أفحش الغلط وأقبحه وإنما الذي أباحوه أن يكون الدبر طريقا إلى الوطء في الفرج فيطأ من الدبر لا في الدبر فاشتبه على السامع انتهى ويروى جواز ذلك عن مالك وأنكره أصحابه وقد أطال الشارح القول في المسألة بما لا حاجة إلى استيفائه هنا وقرر آخرا تحريم ذلك ومن أدلة تحريمه قوله
2- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لا ينظر الله إلى رجل أتى رجلا أو امرأة في دبرها رواه الترمذي والنسائي وابن حبان وأعل بالوقف على ابن عباس ولكن المسألة لا مسرح للاجتهاد فيها سيما ذكر هذا النوع من الوعيد فإنه لا يدرك بالاجتهاد فله حكم الرفع
3- وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره واستوصوا بالنساء خيرا فإنهن خلقن من ضلع" بكسر الضاء المعجمة وفتح اللام وإسكانها واحد الأضلاع "وإن أعوج شيء من الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته لم يزل أعوج فاستوصوا بالنساء خيرا" أي اقبلوا الوصية فيهن والمعنى أني أوصيكم بهن خيرا أو المعنى يوصي بعضكم بعضا فيهن خيرا متفق عليه واللفظ للبخاري ولمسلم(3/138)
"فإن استمتعت بها استمتعت بها وبها عوج" هو بكسر أوله على الأرجح "وإن ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها طلاقها" الحديث دليل على عظم حق الجار وأن من آذى الجار فليس بمؤمن بالله واليوم الآخر وهذا إن كان يلزم منه كفر من آذى جاره إلا أنه محمول على المبالغة لأن من حق الإيمان ذلك فلا ينبغي لمؤمن الاتصاف به وقد عد أذى الجار من الكبائر فالمراد من كان يؤمن إيمانا كاملا وقد وصى الله على الجار في القرآن وحد الجار إلى أربعين دارا كما أخرج الطبراني أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال يا رسول الله إني نزلت في محل بني فلان وإن أشدهم لي أذى أقربهم إلي دارا فبعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكرا وعمر وعليا رضي الله عنهم يأتون في المسجد فيصيحون على أن أربعين دارا جار ولا يدخل الجنة من خاف جاره بوائقه وأخرج الطبراني في الكبير والأوسط إن الله ليدفع بالمؤمن الصالح عن مائة بيت من جيرانه وهذا فيه زيادة على الأول والأذية للمؤمن مطلقاً محرمة قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} ولكنه في حق الجار أشد تحريما فلا يغتفر منه شيء وهو كل ما يعد في العرف أذى حتى ورد في الحديث أنه لا يؤذيه بقتار قدره إلا أن يغرف له من مرقته ولا يحجز عنه الريح إلا بإذنه وإن اشترى فاكهة أهدى إليه منها وحقوق الجار مستوفاة في الإحياء للغزالي وقوله واستوصوا تقدم بيان معناه وعلله بقوله فإنهن خلقن من ضلع يريد خلقن خلقا فيه اعوجاج لأنهن خلقن من أصل معوج والمراد أن حواء أصلها خلقت من ضلع آدم كما قال تعالى: {خَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} بعد قوله: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} وأخرج ابن إسحاق من حديث ابن عباس "إن حواء خلقت من ضلع آدم الأقصر الأيسر وهو نائم" وقوله: "وإن أعوج ما في الضلع" إخبار بأنها خلقت من أعوج أجزاء الضلع مبالغة في إثبات هذه الصفة لهن وضمير قوله تقيمه وكسرته للضلع وهو يذكر ويؤنث وكذا جاء في لفظ البخاري تقيمها وكسرتها ويحتمل أنه للمرأة ورواية مسلم صريحة في ذلك حيث قال وكسرها طلاقها والحديث فيه الأمر بالوصية بالنساء والاحتمال لهن والصبر على عوج أخلاقهن وأنه لا سبيل إلى إصلاح أخلاقهن بل لا بد من العوج فيها وأنه من أصل الخلقة وتقدم ضبط العوج هنا وقد قال أهل اللغة العوج بالفتح في كل منتصب كالحائط والعود وشبههما وبالكسر ما كان في بساط أو معاش أو دين ويقال فلان في دينه عوج بالكسر
4- وعن جابر رضي الله عنه قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة فلما قدمنا المدينة ذهبنا لندخل فقال صلى الله عليه وسلم: "أمهلوا حتى تدخلوا ليلا" يعني عشاء "لكي تمتشط الشعثة" بفتح الشين المعجمة وكسر العين المهملة فمثناة(3/139)
"وتستحد" بسين وحاء مهملتين "المغيبة" بضم الميم وكسر المعجمة بعدها مثناة تحتية ساكنة فموحدة مفتوحة التي غاب عنها زوجها متفق عليه فيه دليل على أنه يحسن التأني للقادم على أهله حتى يشعروا بقدومه قبل وصوله بزمان يتسع لما ذكر من تحسين هيئات من غاب عنهن أزواجهن من الامتشاط وإزالة الشعر بالموسى مثلا من المحلات التي يحسن إزالته منها وذلك لئلا يهجم على أهله وهم في هيئة غير مناسبة فينفر الزوج عنهن والمراد إذا سافر سفرا يطيل فيه الغيبة كما دل له قوله وفي رواية البخاري أي عن جابر "إذا أطال أحدكم الغيبة فلا يطرق أهله ليلا" قال أهل اللغة الطروق المجيء بالليل من سفر وغيره على غفلة ويقال لكل آت بالليل طارق ولا يقال في النهار إلا مجازا وقوله ليلا ظاهره تقييد النهي بالليل وأنه لا كراهة في دخوله إلى أهله نهارا من غير شعورهم واختلف في علة التفرقة بين الليل والنهار فعلل البخاري في ترجمة الباب بقوله باب لا يطرق الرجل أهله ليلا إذا أطال الغيبة مخافة أن يتخونهم أو يتلمس عثراتهم فعلى هذا التعليل يكون الليل جزء العلة لأن الريبة تغلب في الليل وتندر في النهار وإن كانت العلة ما صرح به وهو قوله لكي تمتشط إلى آخره فهو حاصل في الليل والنهار قيل ويحتمل أن يكون معتبرا على كلا التقديرين فإن الغرض منه التنظيف والتزيين هوتحصيل لكمال الغرض من قضاء الشهوة وذلك في الأغلب يكون في الليل فالقادم في النهار يتأنى ليحصل لزوجته التنظيف والتزيين لوقت المباشرة وهو الليل بخلاف القادم في الليل وكذلك ما يخشى منه من العثور على وجود أجنبي وهو في الأغلب يكون في الليل وقد أخرج ابن خزيمة عن ابن عمر قال " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تطرق النساء ليلا فطرق رجلان كلاهما فوجد يريد كل واحد منهما مع امرأته ما يكره" وأخرج أبو عوانة في صحيحه من حديث جابر أن عبد الله بن رواحة أتى امرأته ليلا وعندها امرأة تمشطها فظنها رجلا فأشار إليها بالسيف فلما ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم "نهى أن يطرق الرجل أهله ليلا " وفي الحديث الحث على البعد عن تتبع عورات الأهل والحث على ما يجلب التودد والتحاب بين الزوجين وعدم التعرض لما يوجب سوء الظن بالأهل وبغيرهم أولى وفيه أن الاستحداد ونحوه مما تتزين به المرأة لزوجها محبوب للشرع وأنه ليس من تغيير خلق الله المنهي عنه
5- وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته" من أفضى الرجل إلى المرأة جامعها أو خلا بها جامع أو لا كما في القاموس "وتفضي إليه ثم ينشر سرها" أي وتنشر سره أخرجه مسلم إلا أنه بلفظ "إن من أشر الناس" قال القاضي عياض: وأهل النحو يقولون لا يجوز أشر وأخير وإنما يقال هو خير منه وشر منه قال وقد جاءت الأحاديث الصحيحة باللغتين جميعا وهي حجة في جوازهما جميعا وأنهما لغتان والحديث دليل على تحريم إفشاء الرجل ما يقع بينه وبين امرأته من أمور الوقاع(3/140)
ووصف تفاصيل ذلك وما يجري من المرأة فيه من قول أو فعل ونحوه وأما مجرد ذكر الوقاع فإذا لم يكن لحاجة فذكره مكروه لأنه خلاف المروءة وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت" فإن دعت إليه حاجة أو ترتبت عليه
فائدة بأن كان ينكر إعراضه عنها أو تدعي عليه العجز عن الجماع أو نحو ذلك فلا كراهة في ذكره كما قال صلى الله عليه وسلم: "إني لأفعله أنا" وهذه وقال لأبي طلحة "أعرستم الليلة" وقال لجابر: "الكيس الكيس" كذلك المرأة لا يجوز لها إفشاء سره وقد ورد به النص أيضا
6- وعن حكيم بن معاوية أي ابن حيدة بفتح الحاء المهملة فمثناة تحتية ساكنة فدال مهملة ومعاوية صحابي روى عنه ابنه حكيم وروى عن حكيم ابنه بهز بفتح الموحدة وسكون الهاء فزاي عن أبيه رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله ما حق زوج أحدنا هكذا بعدم التاء هي اللغة الفصيحة وجاء زوجة بالتاء عليه قال: "تطعمها إذا اكلت وتكسوها إذا اكتسيت ولا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت" رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وعلق البخاري بعضه حيث قال: باب هجر النبي صلى الله عليه وسلم نساءه في غير بيوتهن ويذكر عن معاوية بن حيدة رفعه ولا تهجر إلا في البيت والأول أصح وصححه ابن حبان والحاكم دل الحديث على وجوب نفقة الزوجة وكسوتها وأن النفقة بقدر سعته لا يكلف فوق وسعه لقوله "إذا اكلت" كذا قيل وفي أخذه من هذا اللفظ خفاء فمتى قدر على تحصيل النفقة وجب عليه أن لا يختص بها دون زوجته ولعله مقيد بما زاد على قدر سد خلته لحديث "ابدأ بنفسك" ومثله القول في الكسوة وفي الحديث دليل على جواز الضرب تأديبا إلا أنه منهي عن ضرب الوجه للزوجة وغيرها وقوله "لا تقبح" أي لا تسمعها ما تكره وتقول قبحك الله ونحوه من الكلام الجافي ومعنى قوله "لا تهجر إلا في البيت" أنه إذا أراد هجرها في المضجع تأديبا لها كما قال تعالى: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} فلا يهجرها إلا في البيت ولا يتحول إلى دار أخرى أو يحولها إليها إلا أن رواية البخاري التي ذكرناها دلت أنه صلى الله عليه وسلم هجر نساءه في غير بيوتهن وخرج إلى مشربة له وقد قال البخاري إن هذا أصح من حديث معاوية هذا وقد يقال دل فعله على جواز هجرهن في غير البيوت وحديث معاوية على هجرهن في البيوت ويكون مفهوم الحصر غير مراد واختلف في تفسير الهجر فالجمهور فسروه بترك الدخول عليهن والإقامة عندهن على ظاهر الآية وهو من الهجران بمعنى البعد وقيل يضاجعها ويوليها ظهره وقيل يترك جماعها وقيل يجامعها ولا يكلمها وقيل من الهجر الإغلاظ في القول وقيل من الهجار وهو الحبل الذي يربط به البعير أي أوثقوهن في البيوت قاله الطبري واستدل له ووهاه ابن العربي
7- وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال كانت اليهود تقول إذا أتى الرجل امرأته من دبرها في قبلها كان الولد أحول فنزلت {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} متفق عليه واللفظ لمسلم ولفظ البخاري سمعت جابرا يقول كانت اليهود تقول إذا(3/141)
جامعها من ورائها أي في قبلها كما فسرته الرواية الأولى جاء الولد أحول فنزلت {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}
واختلف الروايات في سبب نزولها على ثلاثة أقوال: الأول: ما ذكره المصنف من رواية الشيخين أنه في إتيان المرأة من ورائها في قبلها وأخرج هذا المعنى جماعة من المحدثين عن جابر وغيره واجتمع فيه ستة وثلاثون طريقا صرح في بعضها أنه لا يحل إلا في القبل وفي أكثرها الرد على اليهود
الثاني: أنها نزلت في حل إتيان دبر الزوجة أخرجه جماعة عن ابن عمر من اثني عشر طريقا الثالث: أنها نزلت في حل العزل عن الزوجة أخرجه أئمة من أهل الحديث عن ابن عباس وعن ابن عمر وعن ابن المسيب ولا يخفى أن ما في الصحيحين مقدم على غيره فالراجح هو القول الأول وابن عمر قد اختلفت عنه الرواية والقول بأنه أريد بها العزل لا يناسبه لفظ الآية هذا وقد روي عن ابن الحنفية أن معنى قوله تعالى: {أَنَّى شِئْتُمْ} فهو بيان للفظ أنى وأنه معنى إذا فلا يدل على شيء مما ذكر أنه سبب النزول على أن إتيان الزوجة موكول إلى مشيئة الزوج
8- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لن يضره الشيطان أبدا" متفق عليه هذا لفظ مسلم والحديث دليل على أنه يكون القول قبل المباشرة عند الإرادة وهذه الرواية تفسر رواية "لو أن أحدكم يقول حين يأتي أهله" أخرجها البخاري بأن المراد حين يريد وضمير جنبنا للرجل وامرأته وفي رواية الطبراني "جنبني وجنب ما رزقتني" بالإفراد وقوله "لم يضره الشيطان أبدا" أي لم يسلط عليه قال القاضي عياض: نفي الضرر على جهة العموم في جميع أنواع الضرر غير مراد وإن كان الظاهر العموم في جميع الأحوال من صيغة النفي مع التأبيد وذلك لما ثبت في الحديث من أن كل ابن آدم يطعن الشيطان في بطنه حين يولد إلا مريم وابنها فإن في هذا الطعن نوع ضرر في الجملة مع أن ذلك سبب صراخه قلت هذا من المقاضي مبني على عموم الضرر الديني والدنيوي وقيل ليس المراد إلا الديني وأنه يكون من جملة العباد الذي قال تعالى فيهم: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} ويؤيد هذا أنه أخرج عبد الرزاق عن الحسن وفيه فكان يرجى إن حملت به أن يكون ولدا صالحا وهو مرسل ولكنه لا يقال من قبل الرأي
قال ابن دقيق العيد: يحتمل أنه لايضره في دينه ولكن يلزم منه العصمة وليست إلا للأنبياء وقد أجيب بأن العصمة في حق الأنبياء على جهة الوجوب وفي حق من دعي لأجله بهذا الدعاء على جهة الجواز فلا يبعد أن يوجد من لا يصدر منه معصية عمدا وإن لم يكن ذلك واجبا له وقيل(3/142)
م يضره لم يفتنه في دينه إلى الكفر وليس المراد عصمته عن المعصية وقيل لم يضره مشاركة الشيطان لأبيه في جماع أمه ويؤيده ما جاء عن مجاهد أن الذي يجامع ولا يسمي يلتف الشيطان على إحليله فيجامع معه قيل ولعل هذا أقرب الأجوبة قلت إلا أنه لم يذكر من أخرجه عن مجاهد ثم هو مرسل ثم الحديث سيق لفائدة تحصل للولد ولا تحصل على هذا ولعله يقول إن عدم مشاركة الشيطان لأبيه في جماع أمه فائدته عائدة على الولد أيضا وفي الحديث استحباب التسمية وبيان بركتها في كل حال وأن يعتصم بالله وذكره من الشيطان والتبرك باسمه والاستعاذة به من جميع الأسواء وفيه أن الشيطان لا يفارق ابن آدم في حال من الأحوال إلا إذا ذكر الله
9- وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء فبات غضبان لعنتها الملائكة حتى تصبح أي وترجع عن العصيان" ففي بعض ألفاظ البخاري "حتى ترجع" متفق عليه واللفظ للبخاري ولمسلم "كان الذي في السماء ساخطا عليها حتى يرضى عنها" في الحديث إخبار بأنه يجب على المرأة إجابة زوجها أي إذا دعاها للجماع لأن قوله إلى فراشه كناية عن الجماع كما في قوله الولد للفراش ودليل الوجوب لعن الملائكة لها إذ لا يلعنون إلا عن أمر الله ولا يكون إلا عقوبة ولا عقوبة إلا على ترك واجب وقوله حتى تصبح دليل على وجوب الإجابة في الليل ولا مفهوم له لأنه خرج ذكره مخرج الغالب وإلا فإنه يجب عليها إجابته نهارا وقد أخرج غير مقيد بالليل ابن خزيمة وابن حبان مرفوعا ثلاثة لا تقبل لهم صلاة ولا تصعد لهم إلى السماء حسنة العبد الآبق حتى يرجع والسكران حتى يصحو والمرأة الساخط عليها زوجها حتى يرضى وإن كان هذا في سخطه مطلقا ولو لعدم طاعتها في غير الجماع وليس فيه لعن إلا أن فيه وعيدا شديدا يدخل فيه عدم طاعتها له في جماعها من ليل أو نهار وزاد البخاري في روايته في بدء الخلق فبات غضبان عليها أي زوجها وقيل هذه الزيادة يتجه وقوع اللعن عليها لأنها حينئذ يتحقق ثبوت معصيتها بخلاف ما إذا لم يغضب من ذلك فإنها لا تستحق اللعن وفي قوله "لعنتها الملائكة" دلالة على أن منع من عليه الحق عمن هو له وقد طلبه يوجب سخط الله تعالى على المانع سواء كان الحق في بدن أو مال قيل ويدل على أنه يجوز لعن العاصي المسلم إذا كان على وجه الإرهاب عليه قبل أن يواقع المعصية فإذا واقعها دعي له بالتوبة والمغفرة
قال المصنف في الفتح بعد نقله لهذا عن المهلب: ليس هذا التقييد مستفادا من الحديث بل من أدلة أخرى والحق أن منع اللعن أراد به معناه اللغوي وهو الإبعاد من الرحمة وهذا لا يليق أن يدعى(3/143)
به على المسلم بل يطلب له الهداية والتوبة والرجوع عن المعصية والذي أجازه أراد معناه العرفي وهو مطلق السب ولا يخفى أن محله إذا كان بحيث يرتدع العاصي به وينزجر ولعن الملائكة لا يلزم منه جواز اللعن منا فإن التكليف مختلف انتهى كلامه قلت قول المهلب إنه يلعن قبل وقوع المعصية للإرهاب كلام مردود فإنه لا يجوز لعنه قبل إيقاعه لها أصلا لأن سبب اللعن وقوعها منه فقبل وقوع السبب لا وجه لإيقاع المسبب ثم إنه رتب في الحديث لعن الملائكة على إباء المرأة عن الإجابة وأحاديث لعن شارب الخمر رتب فيها اللعن على وصف كونه شاربا وقول الحافظ بأنه إن أريد معناه العرفي جاز لا يخفى أنه غير مراد للشارع إلا المعنى اللغوي والتحقيق أن الله تعالى أخبرنا أن الملائكة تلعن من ذكر وبأنه تعالى لعن شارب الخمر ولم يأمرنا بلعنه فإن ورد الأمر بلعنه وجب علينا الامتثال ولعنه ما لم تعلم توبته وندب لنا الدعاء له بالتوفيق للتوبة والاستغفار وقد أخبر الله تعالى أن الملائكة تلعن من ذكر ومعلوم أنه عن أمر الله وأخبر أنهم يستغفرون لمن في الأرض وهو عام يشتمل من يلعنونهم من أهل إلى الايمان وهم المرادون في آلاية إذ المراد من عصاة أهل الأيمان لأنهم المحتاجون إلى الاستغفار لا أنها مقيدة بقوله: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا ا} الآية كما قيل لأن التائب مغفور له وإنما دعاؤهم له بالمغفرة تعبد وزيادة تنويه بشأن التائبين وأما شمول عمومها للكفار فمعلوم أنه غير مراد وبهذا يعرف أن الملائكة قاموا بالأمرين كما أشرنا إليه وفي الحديث رعاية الله لعبده ولعن من عصاه في قضاء شهوته منه وأية رعاية أعظم من رعاية الملك الكبير للعبد الحقير فليكن لنعم مولاه ذاكرا ولأياديه شاكرا ومن معاصيه محاذرا ولهذه النكتة الشريفة من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم مذاكرا
10- وعن ابن عمر رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الواصلة" بالصاد المهملة "والمستوصلة والواشمة" بالشين المعجمة "والمستوشمة" متفق عليه الواصلة هي المرأة التي تصل شعرها بشعر غيرها سواء فعلته لنفسها أو لغيرها والمستوصلة التي تطلب فعل ذلك وزاد في الشرح ويفعل بها ولا يدل عليه اللفظ والواشمة فاعلة الوشم وهو أن تغرز إبرة ونحوها في ظهر كفها أو شفتها أو نحوهما من بدنها حتى يسيل الدم تحشو ذلك الموضع بالكحل والنورة فيخضر والمستوشمة الطالبة لذلك والحديث دليل على تحريم الأربعة الأشياء المذكورة في الحديث فالوصل محرم للمرأة مطلقا بشعر محرم أو غيره آدمي أو غيره سواء كانت المرأة ذات زينة أو لا مزوجة أو غير مزوجة وللهادوية و الشافعيه خلاف وتفاصيل لا ينهض عليها دليل بل الأحاديث قاضية بالتحريم مطلقا لوصل الشعر واستيصاله كما هي قاضية بتحريم الوشم وسؤاله ودل اللعن أن هذه المعاصي من الكبائر هذا وقد علل الوشم في بعض الأحاديث بأنه تغيير لخلق الله ولا يقال إن الخضاب بالحناء ونحوه تشمله العلة وإن شملته فهو مخصوص بالإجماع وبأنه قد وقع في عصره صلى الله عليه وسلم بل أمر بتغيير بياض أصابع المرأة بالخضاب كما في قصة هند فأما وصل الشعر بالحرير ونحوه من الخرق
فقال القاضي عياض: اختلف العلماء في المسألة فقال: مالك(3/144)
والطبري وكثيرون أو قال الأكثرون: الوصل ممنوع بكل شيء سواء وصلته بصوف أو حرير أو خرق واحتجوا بحديث مسلم عن جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم زجر أن تصل المرأة برأسها شيئا" وقال الليث بن سعد: النهي مختص بالوصل بالشعر ولا بأس بوصله بصوف أو خرق وغير ذلك وقال: بعضهم يجوز بكل شيء وهو مروي عن عائشة ولا يصح عنها قال القاضي: وأما ربط خيوط الحرير الملونة ونحوها مما لا يشبه الشعر فليس بمنهي عنه لأنه ليس بوصل ولا لمعنى مقصود من الوصل وإنما هو للتجمل والتحسين انتهى ومراده من المعنى المناسب هو ما في ذلك من الخداع للزوج فما كان لونه مغايرا للون الشعر فلا خداع فيه
11- وعن جذامة بنت وهب رضي الله عنها بضم الجيم وذال معجمة ويروى بالدال المهملة قيل وهو تصحيف هي أخت عكاشة بن محصن من أمه هاجرت مع قومها وكانت تحت أنيس بن قتادة مصغر أنس قالت حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس وهو يقول: "لقد هممت أن أنهى عن الغيلة" بكسر الغين المعجمة فمثناة تحتية "فنظرت في الروم وفارس فإذا هم يغيلون أولادهم فلا يضر ذلك أولادهم شيئا" ثم سألوه عن العزل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذلك الوأد الخفي" رواه مسلم اشتمل الحديث على مسألتين الأولى الغيلة تقدم ضبطها ويقال لها الغيل بفتح الغين مع فتح المثناة التحية والغيال بكسر الغين المراد بها مجامعة الرجل امرأته وهي ترضع كما قاله مالك والأصمعي وغيرهما وقيل: هي أن ترضع المرأة وهي حامل والأطباء يقولون إن ذلك داء والعرب تكرهه وتتقيه ولكن النبي صلى الله عليه وسلم رد عليهم وبين عدم الضرر الذي زعمه العرب والأطباء بأن فارس والروم تفعل ذلك ولا ضرر يحدث مع الأولاد وقوله فإذا هم يغيلون من أغال يغيل والمسألة الثانية العزل وهو بفتح العين المهملة وسكون الزاي وهو أن ينزع الرجل بعد الإيلاج لينزل خارج الفرج وهو يفعل لأحد أمرين أما في حق الأمة فلئلا تحمل كراهة لمجيء الولد من الأمة لأنه مع ذلك يتعذر بيعها وأما في حق الحرة فكراهة ضرر الرضيع إن كان أو لئلا تحمل المرأة وقوله في جواب سؤالهم عنه ذلك الوأد الخفي دال على تحريمه لأن الوأد دفن البنت حية وبالتحريم جزم ابن حزم محتجا بحديث الكتاب هذا وقال الجمهور يجوز عن الحرة بإذنها وعن الأمة السرية بغير إذنها ولهم خلاف في الأمة المزوجة بحر قالوا وحديث الكتاب معارض بحديثين الأول عن جابر قال: كانت لنا جوار وكنا نعزل فقالت اليهود: تلك الموءودة الصغرى فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال "كذبت اليهود ولو أراد الله خلقه لم تستطع رده" أخرجه النسائي والترمذي وصححه والثاني أخرجه النسائي من حديث أبي هريرة نحوه قال الطحاوي والجمع بين الأحاديث بحمل النهي في حديث جذامة على التنزيه ورجح ابن حزم حديث جذامة وأن النهي فيه للتحريم بأن حديث غيرها مرجح لأصل الإباحة وحديثها مانع فمن(3/145)
ادعى أنه أبيح بعد المنع فعليه البيان ونوزع ابن حزم في دلالة قوله صلى الله عليه وسلم ذلك الوأد الخفي على الصراحة بالتحريم لأن التحريم للوأد المحقق الذي هو قطع حياة محققة والعزل وإن شبهه صلى الله عليه وسلم به فإنما هو قطع لما يؤدي إلى الحياة والمشبه دون المشبه به وإنما سماه وأدا لما تعلق به من قصد منع الحمل وأما علة النهي عن العزل فالأحاديث دالة على أن وجهه أنه معاندة للقدر وهو دال على عدم التفرقة بين الحرة والأمة
فائدة معالجة المرأة لإسقاط النطفة قبل نفخ الروح يتفرع جوازه وعدمه على الخلاف في العزل ومن أجازه أجاز المعالجة ومن حرمه حرم هذا بالأولى ويلحق بهذا تعاطي المرأة ما يقطع الحبل من أصله وقد أفتى بعض الشافعية بالمنع وهو مشكل على قولهم بإباحة العزل مطلقا
12- وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رجلا قال يا رسول الله إن لي جارية وأنا أعزل عنها وأكره أن تحمل وأنا أريد ما يريد الرجال وإن اليهود تحدث أن العزل الموءودة الصغرى قال: "كذبت اليهود لو أراد الله أن يخلقه ما استطعت أن تصرفه" رواه أحمد وأبو داود واللفظ له والنسائي والطحاوي ورجاله ثقات الحديث قد عارض حديث النهي وتسميته صلى الله عليه وسلم العزل الوأد الخفي وفي هذا كذب اليهود في تسميته الموءودة الصغرى وقد جمع بينهما بأن حديث النهي حمل على التنزيه وتكذيب اليهود لأنهم أرادوا التحريم الحقيقي وقوله لو أراد أن يخلقه إلى آخره معناه أنه تعالى إذا قدر خلق نفس فلا بد من خلقها وأنه يسبقكم الماء فلا تقدرون على دفعه ولا ينفعكم الحرص على ذلك فقد يسبق الماء من غير شعور العازل لتمام ما قدره الله وقد أخرج أحمد والبزار من حديث أنس وصححه ابن حبان أن رجلا سأل عن العزل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو أن الماء الذي يكون منه الولد أهرقته على صخرة لأخرج الله منها ولدا" وله شاهدان في الكبير للطبراني عن ابن عباس وفي الأوسط له عن ابن مسعود
13- وعن جابر رضي الله عنه قال "كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل لو كان شيء ينهى عنه لنهانا عنه القرآن" متفق عليه إلا أن قوله لو كان شيء ينهى عنه إلى آخره لم يذكره البخاري وإنما رواه مسلم من كلام سفيان أحد رواته وظاهره أنه قاله استنباطا قال المصنف في الفتح تتبعت المسانيد فوجدت أكثر رواته عن سفيان لا يذكرون هذه الزيادة انتهى وقد وقع لصاحب العمدة مثل ما وقع للمصنف هنا فجعل الزيادة من الحديث وشرحها ابن دقيق العيد واستغرب استدلال جابر بتقرير الله لهم ولمسلم أي عن جابر فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينهنا عنه فدل تقريره صلى الله عليه وسلم لهم على جوازه قيل إنه أراد جابر بالقرآن ما يقرأ أعم من المتعبد بتلاوته أو غيره مما يوحي إليه فكأنه يقول فعلنا في زمن التشريع ولو كان حراما لم نقر عليه قيل فيزول استغراب ابن دقيق العيد إلا أنه لا بد من علم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم فعلوه والحديث دليل على جواز العزل ولا ينافيه كراهة التنزيه كما دل له أحاديث النهي(3/146)
14- وعن أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطوف على نسائه بغسل واحد" أخرجاه واللفظ لمسلم تقدم الكلام عليه في باب الغسل واستدل به على أنه لم يكن القسم بين نسائه صلى الله عليه وسلم عليه واجبا وقال ابن العربي: إنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم ساعة من النهار لا يجب عليه فيها القسم وهي بعد العصر فإن اشتغل عنها كانت بعد المغرب وكأنه أخذه من حديث عائشة الذي أخرجه البخاري "أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا انصرف من العصر دخل على نسائه فيدنو من إحداهن" فقولها فيدنو يحتمل أنه للوقاع إلا أن في بعض رواياته من غير وقاع فهو لا يتم مأخذا لابن العربي وقد أخرج البخاري من حديث أنس "أنه صلى الله عليه وسلم كان يطوف على نسائه في الليلة الواحدة وله يومئذ تسع نسوة" ولا يتم أن يراد بالليلة بعد المغرب كما قاله لأنه لا يتسع ذلك الوقت سيما مع الانتظار لصلاة العشاء لفعل ذلك كذا قيل وهو مجرد استبعاد وإلا فالظاهر اتساعه لذلك فقد كان صلى الله عليه وسلم يؤخر العشاء أو لأنه أعطى قوة في ذلك لم يعطها غيره والحديث دليل أنه كان لا يجب القسم عليه لنسائه وهو ظاهر قوله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} الآية وذهب إليه جماعة من أهل العلم والجمهور يقولون يجب عليه القسم وتأولوا هذا الحديث بأنه كان يفعل ذلك برضا صاحبة النوبة وبأنه يحتمل فعله عند استيفاء القسم ثم يستأنف القسمة وبأنه يحتمل أنه فعل ذلك قبل وجوب القسم وقوله وله يومئذ تسع نسوة وفي رواية البخاري وهن إحدى عشرة ويجمع بين الروايتين بأن يحمل قول من قال تسع نظرا إلى الزوجات التي اجتمعن عنده ولم يجتمع عنده أكثر من تسع وأنه مات عن تسع كما قال أنس أخرجه الضياء عنه في المختارة ومن قال إحدى عشرة أدخل مارية القبطية وريحانة فيهن ويطلق عليهما لفظ نسائه تغليبا وفي الحديث دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم كان أكمل الرجال في الرجولية حيث كان له هذه القوة وقد أخرج البخاري أنه كان له قوة ثلاثين رجلا وفي رواية الإسماعيلي قوة أربعين ومثله لأبي نعيم في صفة الجنة وزاد من رجال أهل الجنة وقد أخرج أحمد والنسائي وصححه الحاكم من حديث زيد بن أرقم إن الرجل في الجنة ليعطى قوة مائة في الأكل والشرب والجماع والشهوة(3/147)
باب الصداق
الصداق بفتح الصاد المهملة وكسرها مأخوذ من الصدق لإشعاره بصدق رغبة الزوج في الزوجة وفيه سبع لغات وله ثمانية أسماء يجمعها قوله صداق ومهر نحلة وفريضة حباء وأجر ثم عقر علائق وكان الصداق في شرع من قبلنا للأولياء كما قال صاحب المستعذب على المذهب
1- عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه أعتق صفية وجعل عتقها صداقها" متفق عليه هي أم المؤمنين صفية بنت حيي بن أخطب من سبط هارون بن عمران كانت تحت ابن أبي الحقيق وقتل يوم خيبر ووقعت صفية في السبي فاصطفاها(3/147)
رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقها وتزوجها وجعل عتقها صداقها وماتت سنة خمسين وقيل غير ذلك والحديث دليل على صحة جعل العتق صداقا أي عبارة وقعت تفيد ذلك وللفقهاء عدة عبارات في كيفية العبارة في هذا المعنى وذهب إلى صحة جعل العتق مهرا الهادوية و أحمد وإسحاق وغيرهم واستدلوا بهذا الحديث وذهب الأكثر إلى عدم صحة جعل العتق مهرا وأجابوا عن الحديث بأنه صلى الله عليه وسلم أعتقها بشرط أن يتزوجها فوجب له عليها قيمتها وكانت معلومة فتزوجها بها ويرد هذا التأويل أنه في مسلم بلفظ "ثم تزوجها وجعل عتقها صداقها" وفيه أنه قال عبد العزيز راويه قال ثابت لأنس بعد أن روى هذا الحديث ما أصدقها قال نفسها وأعتقها فإنه ظاهر أنه جعل نفس العتق صداقا وأما قول من قال إن هذا شيء فهمه أنس فعبر به ويجوز أن فهمه غير صحيح فجوابه أنه أعرف باللفظ وأفهم له وقد صرح بأنه صلى الله عليه وسلم جعل العتق صداقا فهو راو لفعله صلى الله عليه وسلم وحسن الظن به لثقته يوجب قبول روايته للأفعال كما يجب قبولها للأقوال وإلا لزم رد الأقوال والأفعال إذ لم ينقل الصحابة اللفظ النبوي إلا في شيء قليل وأكثر ما يروونه بالمعنى كما هو معروف ورواية المعنى عمدتها فهمه وقوله إنه لم يرفعه أنس بل قاله تظننا خلاف ظاهر لفظه فإنه قال جعل يريد النبي صلى الله عليه وسلم صداقها عتقها وقد أخرج الطبراني وأبو الشيخ من حديث صفية قالت "أعتقني النبي صلى الله عليه وسلم وجعل عتقي صداقي" وهو صريح فيما رواه أنس وأنه لم يقل ذلك تظننا كما قيل وإنما خالف الجمهور الحديث وتأولوه قالوا لأنه خالف القياس لوجهين أحدهما أن عقدها على نفسها إما أن يقع قبل عتقها وهو محال وإما بعده وذلك غير لازم لها والثاني أنا إن جعلنا العتق صداقا فإما يتقرر العتق حالة الرق وهو محال أيضا لتناقضهما أو حالة الحرية فليزم سبقها على العقد فيلزم وجود العتق حال فرض عدمه وهو محال لأن الصداق لا بد أن يتقدم تقرره على الزوج إما نصا وإما حكما حتى تملك الزوجة طلبه ولا يتأتى مثل ذلك في العتق فاستحال أن يكون صداقا وأجيب أولا أنه بعد صحة القصة لا يبالى بهذه المناسبات وثانيا بعد تسليم ما قالوه فالجواب عن الأول يكون بعد العتق وإذا امتنعت من العقد لزمها السعاية بقيمتها ولا محذور في ذلك وعن الثاني بأن العتق منفعة يصح المعاوضة عنها والمنفعة إذا كانت كذلك صح العقد عليها مثل سكنى الدار وخدمة الزوج ونحو ذلك وأما قول من قال إن ثواب العتق عظيم فلا ينبغي أن يفوت بجعله صداقا وكان يمكن جعل المهر غيره فجوابه أنه صلى الله عليه وسلم يفعل المفضول لبيان التشريع ويكون ثوابه أكثر من ثواب الأفضل فهو في حقه أفضل وأما جعل حديث عائشة في قصة جويرية مؤيدا لحديث صفية ولفظه "أنه صلى الله عليه وسلم قال لجويرية لما جاءت تستعينه في كتابتها هل لك أن أقضي عنك كتابتك وأتزوجك قالت قد فعلت" أخرجه أبو داود فلا يخفى أنه ليس فيه تعرض للمهر ولا غيره فليس مما نحن فيه(3/148)
2- وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن رضي الله عنه هو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري القرشي أحد الفقهاء السبعة المشهورين بالفقه بالمدينة في قول من مشاهير التابعين وأعلامهم يقال إن اسمه كنيته وهو كثير الحديث واسع الرواية سمع عن جماعة من الصحابة وأخذ عنه جماعة مات سنة أربع وسبعين وقيل أربع ومائة وهو في سبعين سنة قال سألت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كم كان صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: كان صداقه لأزواجه اثنتي عشرة أوقية بضم الهمزة وتشديد المثناة التحتية ونشا بفتح النون وشين معجمة مشددة وقالت أتدري ما النش قال قلت لا قالت نصف أوقية فتلك خمسمائة درهم فهذا صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم لأزواجه رواه مسلم المراد في الحديث أوقية الحجاز وهي أربعون درهما وكان كلام عائشة هذا بناء على الأغلب وإلا فإن صداق صفية عتقها قيل ومثلها جويرية وخديجة لم يكن صداقها هذا المقدار وأم حبيبة أصدقها النجاشي عن النبي صلى الله عليه وسلم بأربعة آلاف درهم وأربعة آلاف دينار إلا إنه كان تبرعا منه إكراما لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن عن أمره صلى الله عليه وسلم وقد استحب الشافعية جعل المهر خمسمائة درهم تأسيا وأما أقل المهر الذي يصح به العقد فقد قدمناه أما أكثره فلا حد له إجماعا قال تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً} والقنطار قيل إنه ألف ومائتا أوقية ذهبا وقيل ملء مسك ثور ذهبا وقيل سبعون ألف مثقال وقيل مائة رطل ذهبا وقد كان أراد عمر قصر أكثره على قدر مهور أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ورد الزيادة إلى بيت المال وتكلم به في الخطبة فردت عليه امرأة محتجة بقوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً} فرجع وقال كلكم أفقه من عمر
3- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال لما تزوج علي فاطمة رضي الله عنها هي سيدة نساء العالمين تزوجها علي رضي الله عنه في السنة الثانية من الهجرة في شهر رمضان وبنى عليها في ذي الحجة ولدت له الحسن والحسين والمحسن وزينب ورقية وأم كلثوم وماتت بالمدينة بعد موته صلى الله عليه وسلم بثلاثة أشهر وقد بسطنا ترجمتها في الروضة الندية قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطها شيئا قال ما عندي شيء قال فأين درعك الحطمية" بضم الحاء المهملة وفتح الطاء نسبة إلى حطمة من محارب بطن من عبد آلاف كانوا يعملون الدروع رواه أبو داود والنسائي وصححه الحاكم فيه دليل على أنه ينبغي تقديم شيء للزوجة قبل الدخول بها جبرا لخاطرها وهو المعروف عند الناس كافة ولم يذكر في الرواية هل أعطاها درعه المذكور أو غيرها وقد وردت روايات في تعيين ما أعطى علي فاطمة رضي الله عنهما إلا أنها غير مسندة
4- وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة نكحت على صداق أو حباء" بكسر الحاء المهملة فموحدة فهمزة ممدودة العطية للغير أو للزوجة زائد على مهرها "أو عدة" بكسر العين المهملة ما وعد(3/149)
به الزوج وإن لم يحضر "قبل عصمة النكاح فهو لها وما كان بعد عصمة النكاح فهو لمن أعطيه وأحق ما أكرم الرجل عليه ابنته أو أخته" رواه أحمد والأربعة إلا الترمذي الحديث دليل على أن ما سماه الزوج قبل العقد فهو للزوجة وإن كان تسميته لغيرها من أب وأخ كذلك ما كان عند العقد وفي المسألة خلاف فذهب إلى ما أفاده الحديث الهادي ومالك وعمر بن عبد العزيز والثوري وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن الشرط لازم لمن ذكر من أخ أو أب والنكاح صحيح وذهب الشافعي إلى أن تسمية المهر تكون فاسدة ولها صداق المثل وذهب مالك إلى أنه إن كان الشرط عند العقد فهو لابنته وإن كان بعد النكاح فهو له قال في نهاية المجتهد وسبب اختلافهم تشبيه النكاح في ذلك بالبيع فمن شبهه بالوكيل ببيع السلعة وشرط لنفسه حباء قال لا يجوز النكاح كما لا يجوز البيع ومن جعل النكاح في ذلك مخالفا للبيع قال يجوز وأما تفريق مالك فلأنه اتهمه إذا كان الشرط في عقد النكاح أن يكون ذلك اشترط لنفسه نقصانا على صداق مثلها ولم يتهمه إذا كان بعد انعقاد النكاح والاتفاق على الصداق انتهى وإنما علل ذلك بما سمعت ولم يذكر الحديث لأن فيه مقالا هذا وأما ما يعطي الزوج في العرف مما هو للإتلاف كالطعام ونحوه فإن شرط في العقد كان مهرا وما سلم قبل العقد كان إباحة فيصح الرجوع فيه مع بقائه إذا كان في العادة يسلم للتلف وإن كان يسلم للبقاء رجع في قيمته بعد تلفه إلا أن يتمنعوا من تزويجه رجع بقيمته في الطرفين جميعا وإذا ماتت الزوجة أو امتنع هو من التزويج كان له الرجوع فيما بقي وفيما سلم للبقاء وفيما تلف قبل الوقت الذي يعتاد التلف فيه لا فيما عدا ذلك وفيما سلمه بعد العقد هبة أو هدية على حسب الحال أو رشوة إن لم تسلم إلا به وأن كان الطعام الذي يفعل في وليمة العرس مما ساقه الزوج إلى ولي الزوجة وكان مشروطا مع العقد لصغيره وفعل ذلك جاز التناول منه لمن يعتاد لمثله كالقرابة وغيرهم لأن الزوج إنما شرطه وسلمه ليفعل ذلك لا ليبقى ملكا للزوج والعرف معتبر في هذا
5- وعن علقمة أي ابن قيس أبي شبل بن مالك من بني بكر بن النخع روى عن عمر وابن مسعود وهو تابعي جليل اشتهر بحديث ابن مسعود وصحبته وهو عم الأسود النخعي مات سنة إحدى وستين عن ابن مسعود سئل عن رجل تزوج امرأة ولم يفرض لها صداقا ولم يدخل بها حتى مات فقال ابن مسعود لها مثل صداق نسائها لا وكس بفتح الواو وسكون الكاف وسين مهملة هو النقص أي لا ينقص من مهر نسائها ولا شطط بفتح الشين وبالطاء المهملة وهو الجور أي لا يجار على الزوج بزيادة مهرها على نسائها وعليها العدة ولها الميراث فقام معقل بفتح الميم وسكون العين المهملة وكسر القاف ابن إطعام بكسر السين المهملة فنون فألف فنون الأشجعي بفتح الهمزة وشين معجمة ساكنة ومعقل هو أبو محمد شهد فتح مكة ونزل الكوفة(3/150)
وحديثه في أهل الكوفة وقتل يوم الحرة صبرا فقال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بروع" بفتح الباء الموحدة وسكون الراء وفتح الواو فعين مهملة "بنت واشق" بواو مفتوحة فألف فشين معجمة فقاف "امرأة منا" بكسر الميم فنون مشددة فألف مثل ما قضيت ففرح بها ابن مسعود رواه أحمد والأربعة وصححه الترمذي وحسنه جماعة منهم ابن مهدي وابن حزم وقال لا مغمز فيه لصحة إسناده ومثله قال البيهقي في الخلافيات: وقال الشافعي لا أحفظه من وجه يثبت مثله وقال لو ثبت حديث بروع لقلت به وقال في الأم إن كان يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو أول الأمور ولا حجة في أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كبر ولا شيء في قوله إلا طاعة الله بالتسليم له ولم أحفظه عنه من وجه يثبت مثله مرة يقال عن معقل بن إطعام ومرة عن معقل بن يسار ومرة عن بعض أشجع ولا يسمى هذا تضعيف الشافعي بالاضطراب وضعفه الواقدي بأنه حديث ورد إلى المدينة من أهل الكوفة فما عرفه أهل المدينة وقد روي عن علي رضي الله عنه أنه رده بأن معقل بن إطعام أعرابي بوال على عقبيه وأجيب بأن الاضطراب غير قادح لأنه متردد بين صحابي وصحابي وهذا لا يطعن به في الرواية وعن قوله إنه يروى عن بعض أشجع فلا يضر أيضا لأنه قد فسر ذلك البعض بمعقل فقد تبين أن ذلك البعض صحابي وأما عدم معرفة علماء المدينة له فلا يقدح بها مع عدالة الراوي وأما الرواية عن علي رضي الله عنه فقال في البدر المنير لم يصح عنه وقد روى الحاكم من حديث حرملة بن يحيى أنه قال سمعت الشافعي يقول إن صح حديث بروع بنت واشق قلت به قال الحاكم قلت صح فقل به وذكر الدارقطني الاختلاف فيه في العلل ثم قال وأنسبها إسنادا حديث قتادة إلا أنه لم يحفظ اسم الصحابي قلت لا يضر جهالة اسمه على رأي المحدثين وما قال المصنف من أن لحديث بروع شاهدا من حديث عقبة بن عامر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوج امرأة رجلا فدخل بها ولم يفرض لها صداقا فحضرته الوفاة فقال أشهدكم أن سهمي بخيبر لها" أخرجه أبو داود والحاكم فلا يخفى أن لا شهادة له على ذلك لأن هذا في امرأة دخل بها زوجها نعم فيه شاهد أنه يصح النكاح بغير تسمية والحديث دليل على أن المرأة تستحق كمال المهر بالموت وإن لم يسم لها الزوج ولا دخل بها وتستحق مهر مثلها وفي المسألة قولان الأول العمل بالحديث وأنها تستحق المهر كما ذكر وقول ابن مسعود اجتهاد موافق الدليل وقول أبي حنيفة وأحمد وآخرين والدليل الحديث وما طعن به فيه قد سمعت دفعه والثاني لا تستحق إلا الميراث لعلي وابن عباس وابن عمر والهادي ومالك وأحد قولي الشافعي قالوا لأن الصداق عوض فإذا لم يستوف الزوج المعوض عنه لم يلزم قياسا على ثمن المبيع قالوا والحديث فيه تلك المطاعن قلنا المطاعن قد دفعت فنهض الحديث للاستدلال فهو أولى من القياس
6- وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أعطى في صداق امرأة سويقا" هو دقيق القمح المقلو أو الذرة أو الشعير أو غيرها(3/151)
أو تمرا فقد استحل" أخرجه أبو داود وأشار إلى ترجيح وقفه وقال المصنف في التلخيص فيه موسى بن مسلم بن رومان وهو ضعيف وروي موقوفا وهو أقوى انتهى فكان عليه أن يشير إلى أن فيه ضعفا على عادته وأخرجه الشافعي بلاغا والحديث دليل على أنه يصح كون المهر من غير الدراهم والدنانير وأنه يجزي مطلق السويق والتمر وظاهره وإن قل وتقدمت أقاويل العلماء في قدر أقل المهر في شرح حديث الواهبة نفسها
7- وعن عبد الله بن عامر بن ربيعة هو أبي محمد عبد الله بن عامر بن ربيعة العنزي بفتح العين وسكون النون وبالزاي في نسبه خلاف كثير قبض النبي صلى الله عليه وسلم وهو في أربع سنين أو خمس مات عبد الله المذكور سنة خمس وثمانين وقيل سنة تسعين عن أبيه "أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز نكاح امرأة على نعلين" أخرجه الترمذي وصححه وخولف أي الترمذي في ذلك أي في التصحيح لفظ الحديث أن امرأة من بني فزارة تزوجت على نعلين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رضيت من نفسك ومالك بنعلين" قالت نعم فأجازه والحديث دليل على صحة جعل المهر أي شيء له ثمن وقد سلف أن كل ما صح جعله ثمنا صح جعله مهرا وفيه مأخذ لما ورد في غيره من أنها لا تتصرف المرأة في مالها إلا برأي زوجها
8- وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: زَوَّج النبي صلى الله عليه وسلم رجلا امرأة بخاتم من حديد" أخرجه الحاكم قد تقدم حديث سهل في الواهبة نفسها بطوله وفيه أنه صلى الله عليه وسلم أمر من خطبها أن يلتمس ولو خاتما من حديد فلم يجده فزوجه إياها على تعليمها شيئا من القرآن فإن كان هذا هو ذلك الحديث فلم يتم جعل المهر خاتما من حديد كما عرفت وإن أريد غيره فيحتمل وهو بعيد لقول المصنف وهو طرف من الحديث الطويل المتقدم في أوائل النكاح وعلى تقدير أنه أريد ذلك الحديث فتأويله أنه صلى الله عليه وسلم أذن في جعل الصداق خاتما من حديد وإن لم يتم العقد عليه
9- وعن علي رضي الله عنه قال لا يكون المهر أقل من عشرة دراهم أخرجه الدارقطني موقوفا وفي سنده مقال أي موقوف على علي رضي الله عنه وقد روي من حديث جابر مرفوعا ولم يصح والحديث معارض للأحاديث المتقدمة المرفوعة الدالة على صحة أي شيء يصح جعله مهرا كما عرفت والمقال الذي في الحديث هو أن فيه مبشر بن عبيد قال أحمد كان يضع الحديث
10- وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير الصداق أيسره" أي أسهله على الرجل أخرجه أبو داود وصححه الحاكم فيه دلالة على استحباب تخفيف المهر وأن غير الأيسر على خلاف ذلك وإن كان جائزا كما أشارت إليه الآية الكريم في قوله- وآتيتم إحداهن قنطارا-وتقدم أن عمر نهى عن المغالاة في المهور فقالت امرأة ليس ذلك إليك يا عمر إن الله يقول: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً} من ذهب قال عمر امرأة خاصمت عمر فخصمته أخرجه عبد الرزاق وقوله في الرواية(3/152)
من ذهب هي قراءة ابن مسعود وله طرق بألفاظ مختلفة وتحتمل أن الخيرية بركة المرأة ففي الحديث أبركهن مؤنة
11- وعن عائشة رضي الله عنها أن عمرة بنت الجون بفتح الجيم وسكون الواو فنون تعوذت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أدخلت عليه تعني لما تزوجها فقال: "لقد عذت بمعاذ" بفتح الميم ما يستعاذ به فطلقها "وأمر أسامة يمتعها بثلاثة أثواب" أخرجه ابن ماجه وفي إسناده راو متروك وأصل القصة في الصحيح من حديث أبي أسيد الساعدي وقد سماها في الحديث عمرة ووقع مع ذلك اختلاف في اسمها ونسبها كثير لكنه لا يتعلق به حكم شرعي واختلف في سبب تعوذها منه ففي رواية أخرجها ابن سعد أنه صلى الله عليه وسلم لما دخل عليها وكانت من أجمل النساء فداخل نساءه صلى الله عليه وسلم غيرة فقيل لها إنما تحظى المرأة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تقول إذا دخلت عليه أعوذ بالله منك وفي رواية أخرجها ابن سعد أيضا بإسناد البخاري إن عائشة وحفصة دخلتا عليها أول ما قدمت مشطتاها وخضبتاها وقالت لها إحداهما إن النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه من المرأة إذا دخل عليها أن تقول أعوذ بالله منك وقيل في سببه غير ذلك والحديث دليل على شرعية المتعة للمطلقة قبل الدخول واتفق الأكثر على وجوبها في حق من لم يسم لها صداقا إلا عن الليث ومالك وقد قال تعالى: {لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} وظاهر الأمر الوجوب وأخرج البيهقي في سننه عن ابن عباس قال المس النكاح والفريضة الصداق ومتعوهن قال هو على الزوج يتزوج المرأة ولم يسم لها صداقا ثم يطلقها قبل أن يدخل بها فأمره الله أن يمتعها على قدر عسره ويسره الحديث وقد أخرج عنه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم متعة الطلاق أعلاها الخادم ودون ذلك الورق ودون ذلك الكسوة نعم هذه المرأة التي متعها صلى الله عليه وسلم يحتمل أنه لم يسم لها صداقا فمتعها كما قضت به الآية ويحتمل أنه كان سمى لها فمتعها إحسانا منه وفضلا وأما تمتيع من لم يسم الزوج لها مهرا ودخل بها ثم فارقها فقد اختلف في ذلك فذهب علي وعمر والشافعي إلى وجوبها أيضا بقوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} وذهبت الهادوية والحنفية إلى أنه لا يجب إلا مهر المثل لا غير قالوا وعموم الآية مخصوص بمن لم يكن قد دخل بها والذي خصه الآية الأخرى التي أوجب فيها المتعة لأنه شرط فيها عدم المس وهذا قد مس وأما قوله تعالى: {فََتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ} فإنه يحتمل نفقة العدة ولا دليل مع الاحتمال هذا وقد سبقت إشارة إلى أن الليث لا يقول بوجوب المتعة مطلقا واستدل له بأنها لو كانت واجبة لكانت مقدرة ودفع بأن نفقة القريب واجبة ولا تقدير لها(3/153)
باب الوليمة
الوليمة: مشتقة من الولم بفتح الواو وسكون اللام وهو الجمع لأن الزوجين يجتمعان(3/153)
قاله الأزهري وغيره والفعل منها أولم تقع على كل طعام يتخذ لسرور حادث ووليمة العرس ما يتخذ عند الدخول وما يتخذ عند الإملاك
1- عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى على عبد الرحمن بن عوف أثر صفرة فقال: "ما هذا؟" قال يا رسول الله: إني تزوجت امرأة على وزن نواة من ذهب قال: "بارك الله لك أولم ولو بشاة" متفق عليه واللفظ لمسلم جاء في الروايات بيان الصفرة بأنها ردغ من زعفران وهو بفتح الراء ودال مهملة وغين معجمة أثر الزعفران فإن قلت قد علم النهي عن التزعفر فكيف لم ينكره صلى الله عليه وسلم قلت هذا مخصص للنهي بجوازه للعروس وقيل يحتمل أنها كانت في ثيابه دون بدنه بناء على جوازه في الثوب وقد منع جوازه فيه أبو حنيفة والشافعي ومن تبعهما والقول بجوازه في الثياب مروي عن مالك وعلماء المدينة واستدل لهم بمفهوم النهي الثابت في الأحاديث الصحيحة كحديث أبي موسى مرفوعا "لا يقبل الله صلاة رجل في جسده شيء من الخلوق" وأجيب بأن ذلك مفهوم لا يقاوم النهي الثابت في الأحاديث الصحيحة وبأن قصة عبد الرحمن كانت قبل النهي في أول الهجرة وبأنه يحتمل أن الصفرة التي رآها صلى الله عليه وسلم كانت من جهة امرأته علقت به فكان ذلك غير مقصود له ورجح هذا النووي وعزاه للمحققين وبنى عليه البيضاوي وقوله على وزن نواة من ذهب قيل المراد واحدة نوى التمر قيل كان يومئذ ربع دينار ورد بأن نوى التمر يختلف فكيف يجعل معيارا لما يوزن وقيل إن النواة من ذهب عبارة عما قيمته خمسة دراهم من الورق وجزم به الخطابي واختاره الأزهري ونقله عياض عن أكثر العلماء ويؤيده أن في رواية البيهقي وزن نواة من ذهب قومت خمسة دراهم وفي رواية عند البيهقي عن قتادة قومت ثلاثة دراهم وثلثا وإسناده ضعيف لكن جزم به أحمد وقيل في قدرها غير ذلك وعن بعض المالكية أن النواة عند أهل المدينة ربع دينار والحديث دليل أنه يدعى للعروس بالبركة وقد نال عبد الرحمن بركة الدعوة النبوية حتى قال فلقد رأيتني لو رفعت حجرا لرجوت أن أصيب ذهبا أو فضة رواه البخاري عنه في آخر هذه الرواية وفي قوله "أولم ولو بشاة" دليل على وجوب الوليمة في العرس وإليه ذهب الظاهرية قيل وهو نص الشافعي في الأم ويدل له ما أخرجه أحمد من حديث بريدة أنه صلى الله عليه وسلم قال لما خطب علي فاطمة لا بد من وليمة وسنده لا بأس به وهو يدل على لزوم الوليمة وهو في معنى الوجوب وما أخرجه أبو الشيخ والطبراني في الأوسط من حديث أبي هريرة مرفوعا "الوليمة حق وسنة فمن دعي ولم يجب فقد عصى" والظاهر من الحق الوجوب وقال أحمد الوليمة سنة وقال الجمهور مندوبة وقال ابن بطال لا أعلم أحدا أوجبها وكأنه لم يعرف الخلاف واستدل على الندبية بما قال الشافعي لا أعلم أمربذلك غير عبد الرحمن ولا أعلم أنه صلى الله عليه وسلم ترك الوليمة رواه عنه البيهقي(3/154)
فجعل ذلك مستندا إلى كون الوليمة غير واجبة ولا يخفى ما فيه واختلف العلماء في وقت الوليمة هل هي عند العقد أو عقبه أو عند الدخول وهي أقوال في مذهب المالكية ومنهم من قال عند العقد وبعد الدخول وصرح الماوردي من الشافعية بأنها عند الدخول قال السبكي والمنقول من فعل النبي صلى الله عليه وسلم أنها بعد الدخول وكأنه يشير إلى قصة زواج زينب بنت جحش لقول أنس أصبح يعني النبي صلى الله عليه وسلم عروسا بزينب فدعا القوم وقد ترجم عليه البيهقي باب وقت الوليمة وأما مقدارها فظاهر الحديث أن الشاة أقل مايجزئ إلا أنه قد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم أولم على أم سلمة وغيرها بأقل من شاة وأولم على زينب بشاة وقال أنس لم يولم على غير زينب بأكثر مما أولم عليها إلا أنه أولم على ميمونة بنت الحارث لما تزوجها بمكة عام القضية وطلب من أهل مكة أن يحضروا فامتنعوا بأكثر من وليمته على زينب وكأن أنسا يريد أنه وقع في وليمة زينب بالشاة من البركة في الطعام ما لم يقع في غيرها فإنه أشبع الناس خبزا ولحما فكان المراد لم يشبع أحدا خبزا ولحما في وليمة من ولائمه صلى الله عليه وسلم أكثر مما وقع في وليمة زينب
2- وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دعي أحدكم إلى وليمة فليأتها" متفق عليه ولمسلم أي عن ابن عمر مرفوعا "إذا دعا أحدكم أخاه فليجب عرسا كان أو نحوه" الحديث الأول دال على وجوب الإجابة إلى الوليمة والثاني دال على وجوبها إلى كل دعوة ولا تعارض بين الروايتين وإن كانا عن راو واحد وقد أخذت الظاهرية وبعض الشافعية بظاهره فقالوا تجب الإجابة إلى الدعوة مطلقا وزعم ابن حزم أنه قول جمهور الصحابة والتابعين ومنهم من فرق بين وليمة العرس وغيرها فنقل ابن عبد البر وعياض والنووي الاتفاق على وجوب إجابة وليمة العرس وصرح جمهور الشافعية والحنابلة بأنها فرض عين ونص عليه مالك وعن البعض فرض كفاية وفي كلام الشافعي ما يدل على وجوب الإجابة في وليمة العرس وعدم الرخصة في غيرها فإنه قال إتيان دعوة الوليمة حق والوليمة التي تعرف وليمة العرس وكل دعوة دعي إليها رجل وليمة فلا أرخص لأحد في تركها ولو تركها لم يتبين أنه عاص كما تبين لي في وليمة العرس وفي البحر للمهدي حكاية إجماع العترة على عدم وجوب الإجابة في الولائم كلها هذا وعلى القول بالوجوب فقد قال ابن دقيق العيد في شرح الإلمام وقد يسوغ ترك الإجابة لأعذار منها أن يكون في الطعام شبهة أو يخص بها الأغنياء أو يكون هناك من يتأذى بحضوره معه أو لا يليق لمجالسته أو يدعوه لخوف شره أو لطمع في جاهه أو ليعاونه على باطل أو يكون هناك منكر من خمر أو لهو أو فراش حرير أو ستر لجدار البيت أو صورة في البيت أو يعتذر إلى الداعي فيتركه أو كانت في الثالث كما يأتي فهذه الأعذار ونحوها في تركها على القول بالوجوب وعلى القول بالندب بالأولى وهذا مأخوذ مما علم من الشريعة ومن قضايا وقعت للصحابة كما في البخاري أن أبا أيوب دعاه ابن عمر فرأى في البيت(3/155)
سترا على الجدار فقال ابن عمر غلبنا عليه النساء فقال من كنت أخشى عليه فلم أكن أخشى عليك والله لا أطعم لك طعاما فرجع أخرجه البخاري تعليقا ووصله أحمد ومسدد في مسنده وأخرج الطبراني عن سالم بن عبد الله بن عمر قال عرست في عهد أبي فأذنا الناس فكان أبو أيوب فيمن أذنا وقد ستروا بيتي ببجاد أخضر فأقبل أبو أيوب فاطلع فرآه فقال يا عبد الله أتسترون الجدر فقال أبي واستحى غلبنا عليه النساء يا أبا أيوب فقال من خشيت أن تغلبه النساء فذكروه وفي رواية فأقبل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يدخلون الأول فالأول حتى أقبل أبو أيوب وفيه فقال عبد الله أقسمت عليك لترجعن فقال وأنا أعزم على نفسي أن لا أدخل يومي هذا ثم انصرف وأخرج أحمد في كتاب الزهد أن رجلا دعا ابن عمر إلى عرس فإذا بيته قد ستر بالكرور فقال ابن عمر يا فلان متى تحولت الكعبة في بيتك ثم قال لنفر معه من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ليهتك كل رجل ما يليه والحديث وما قبله دليل على تحريم ستر الجدران وقد أخرج أبو داود وغيره من حديث ابن عباس مرفوعا لا تستروا الجدر بالثياب وفيه ضعف وله شاهد وأخرج البيهقي وغيره من حديث سلمان موقوفا أنه أنكر ستر البيت فقال محموم بيتكم أو تحولت الكعبة ثم قال لا أدخله حتى يهتك والمسألة فيها خلاف جزم جماعة بالتحريم لستر الجدار وجمهور الشافعية على أنه مكروه وقد أخرج مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال إن الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين وجذب الستر حتى هتكه في قصة معروفة وقد كنا كتبنا في هذا رسالة جواب سؤال في مدة قديمة وقد أخرج الطبراني في الأوسط من حديث عمران بن حصين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إجابة طعام الفاسقين وأخرج النسائي من حديث جابر مرفوعا "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعد على مائدة يدار عليها الخمر" وإسناده جيد وأخرجه الترمذي من وجه آخر عن جابر وفيه ضعف وأخرجه أحمد من حديث عمر وبالجملة الدعوة مقتضية للإجابة وحصول المنكر مانع عنها فتعارض المانع والمقتضي والحكم للمانع
3- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شر الطعام طعام الوليمة يمنعها من يأتيها وهم الفقراء" كما يدل له حديث ابن عباس عند الطبراني "بئس الطعام طعام الوليمة يدعى إليها الشبعان ويمنع عنها الجيعان" اهـ فلو شملت الدعوة الفريقين زالت الشرية عنها ويدعى إليها من يأباها يعني الأغنياء ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله أخرجه مسلم المراد من الوليمة وليمة العرس لما تقدم قريبا من أنها إذا أطلقت من غير تقييد انصرفت إلى وليمة العرس وشرية طعامها قد بين وجهه قوله يدعى إليها من يأباها فإنها جملة مستأنفة بيان لوجه شرية الطعام والحديث دليل على أنه يجب على من يدعى الإجابة ولو كانت إلى شر طعام وأنه يعصي الله ورسوله من لم يجب وتقدم الكلام على ذلك
وعنه أي أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دعي(3/156)
أحدكم فليجب فإن كان صائما فليصل وإن كان مفطرا فليطعم" أخرجه مسلم فيه دليل على أنه يجب على من كان صائما أن لا يعتذر بالصوم ثم إنه قد اختلف في المراد من الصلاة فقال الجمهور المراد فليدع لأهل الطعام بالمغفرة والبركة وقيل المراد بالصلاة المعروفة أي يشتغل بالصلاة ليحصل فضلها وينال بركتها أهل الطعام والحاضرون وظاهره أنه لا يلزمه الإفطار ليجيب فإن كان صومه فرضا فلا خلاف أنه يحرم عليه الإفطار وإن كان نفلا جاز له وظاهر قوله فليطعم وجوب الأكل وقد اختلف العلماء في ذلك والأصح عند الشافعية أنه لا يجب الأكل في طعام الوليمة ولا غيرها وقيل يجب لظاهر الأمر وأقله لقمة ولا تجب الزيادة وقال من لم يوجب الأكل الأمر للندب والقرينة الصارفة إليه قوله
5- وله أي لمسلم من حديث جابر رضي الله عنه نحوه وقال "فإن شاء طعم وإن شاء ترك" فإنه خيره والتخيير دليل على عدم الوجوب للأكل ولذلك أورده المصنف عقيب حديث أبي هريرة
6- وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طعام أول يوم حق" أي واجب أو مندوب "وطعام يوم الثاني سنة وطعام يوم الثالث سمعة ومن سمع سمع الله به" رواه الترمذي واستغربه وقال لا نعرفه إلا من حديث زياد بن عبد الله البكائي وهو كثير الغرائب والمناكير قال المصنف كالراد على الترمذي ما لفظه ورجاله رجال الصحيح إلا أنه قال المصنف إن زيادا مختلف فيه وشيخه عطاء بن السائب اختلط وسماعه منه بعد اختلاطه انتهى قلت وحينئذ فلا يصح قوله إن رجاله رجال الصحيح ثم قال وله شاهد عن أنس عند ابن ماجه وفي إسناده عبد الملك بن حسين وهو ضعيف وفي الباب أحاديث لا تخلو عن مقال والحديث دليل على شرعية الضيافة في الوليمة يومين ففي أول يوم واجبة كما يفيده لفظ حق لأنه الثابت اللازم وتقدم الكلام في ذلك وفي اليوم الثاني سنة أي طريقة مستمرة يعتاد الناس فعلها لا يدخل صاحبها الرياء والتسميع وفي اليوم الثالث رياء وسمعة فيكون فعلها حراما والإجابة إليها كذلك وعليه أكثر العلماء قال النووي إذا أولم ثلاثا فالإجابة في اليوم الثالث مكروهة وفي اليوم الثاني لا تجب مطلقا ولا يكون استحبابها فيه كاستحبابها في اليوم الأول وذهب جماعة إلى أنه لا تكره في الثالث لغير المدعو في اليوم الأول والثاني لأنه إذا كان المدعوون كثيرين ويشق جمعهم في يوم واحد فدعا في كل يوم فريقا لم يكن في ذلك رياء ولا سمعة وهذا قريب وجنح البخاري إلى أنه لا بأس بالضيافة ولو إلى سبعة أيام حيث قال باب حق إجابة الوليمة والدعوة ومن أولم سبعة أيام ونحوه ولم يوقت النبي صلى الله عليه وسلم يوما ولا يومين وأشار بذلك إلى ما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق حفصة بنت سيرين قالت لما تزوج أبي دعا الصحابة سبعة أيام وفي رواية ثمانية أيام وإليها(3/157)
أشار البخاري بقوله أو نحوه وفي قوله ولم يوقت ما يدل على عدم صحة حديث الباب عنده قال القاضي عياض استحب أصحابنا لأهل السعة كونها أسبوعا فأخذت المالكية بما دل عليه كلام البخاري
7- وعن صفية بنت شيبة أي ابن عثمان بن أبي طلحة الحجبي من بني عبد الدار قيل إنها رأت النبي صلى الله عليه وسلم وقيل إنها لم تره وجزم ابن سعد بأنها تابعية قالت: "أولم النبي صلى الله عليه وسلم على بعض نسائه بمدين من شعير" أخرجه البخاري
قال المصنف: لم أقف على تعيين اسمها يعني بعض نسائه المذكورة هنا قال وفي الباب أحاديث تدل على أنها أم سلمة وقيل: إنها وليمة علي بفاطمة رضي الله عنها وأراد ببعض نسائه من تنسب إليه من النساء في الجملة وإن كان خلاف المتبادر إلا أنه يدل له ما أخرجه الطبراني من حديث أسماء بنت عميس قالت: "لقد أولم علي بفاطمة فما كان وليمة في ذلك الزمان أفضل من وليمته رهن درعه عند يهودي بشطر شعير" ولعله المراد بمدين من شعير لأن المدين نصف صاع فكأنه قال شطر صاع فينطبق على القصة التي في الباب ويكون نسبة الوليمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مجازية إما لكونه الذي وفى اليهودي من شعيره أو لغير ذلك قلت ولا يخفى أنه تكلف ولا مانع أن يولم صلى الله عليه وسلم بمدين ويولم علي أيضا بمدين والمذكور في الباب وليمته صلى الله عليه وسلم
8- وعن أنس رضي الله عنه قال: "قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بين خيبر والمدينة ثلاث ليال يبنى" مغير الصيغة "عليه بصفية" أي يبنى عليه خباء جديد بسبب صفية أو بمصاحبتها "ودعوت المسلمين إلى وليمته فما كان فيها من خبر ولا لحم وما كان فيها إلا أن أمر بالأنطاع فبسطت فألقى عليها التمر والأقط" وفي القاموس الأقط ككتف وإبل شيء يتخذ من المخيض الغنمي والسمن ومجموع هذه الأشياء يسمى حيسا متفق عليه واللفظ للبخاري فيه إجزاء الوليمة بغير ذبح شاة والبناء بالمرأة في السفر وإيثار الجديدة بثلاثة أيام وإن كانوا في السفر
9- وعن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا اجتمع داعيان فأجب أقربهما بابا" زاد في التلخيص فإن أقربهما إليك بابا أقربهما إليك جوارا فإن سبق أحدهما فأجب الذي سبق رواه أبو داود وسنده ضعيف ولكن رجال إسناده موثقون ولا يدرى ما وجه ضعف سنده فإنه رواه أبو داود عن هناد بن السري عن عبد السلام بن حرب عن أبي خالد الدالاني عن أبي العلاء الأودي عن حميد بن عبد الرحمن الحميري عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكل هؤلاء وثقهم الأئمة إلا أبا خالد الدالاني فإنهم اختلفوا فيه فوثقه أبو حاتم وقال أحمد وابن معين لا بأس به وقال ابن حبان لا يجوز الاحتجاج به وقال ابن عدي حديثه لين وقال شريك كان مرجئا والحديث على سياق المصنف ظاهره الوقف وفيه دليل على أنه إذا اجتمع داعيان فالأحق بالإجابة الأسبق فإن استويا قدم الجار والجار على مراتب فأحقهم أقربهم بابا فإن استويا أقرع بينهم(3/158)
10- وعن أبي جحيفة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا آكل متكئا" رواه البخاري الاتكاء مأخوذ من الوكاء والتاء بدل الواو والوكاء هو ما يشد به الكيس أو غيره فكأنه أوكأ مقعدته ويشدها بالقعود على الوطاء الذي تحته ومعناه الاستواء على وطاء متمكنا قال الخطابي: المتكىء هنا هو المتمكن في جلوسه من التربع وشبهه المعتمد على الوطاء تحته قال ومن استوى قاعدا على وطاء فهو متكىء والعامة لا تعرف المتكىء إلا من مال على أحد شقيه ومعنى الحديث إذا أكلت لا أقعد متكئا كفعل من يريد الاستكثار من الأكل ولكن آكل بلغة فيكون قعودي مستوفزا ومن حمل الاتكاء على الميل على أحد الشقين تأول ذلك على مذهب أهل رآه بأن ذلك فيه ضرر فإنه لا ينحدر في مجاري الطعام سهلا ولا يسيغه هنيئا وربما تأذى به
11- وعن عمر بن أبي سلمة قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك" متفق عليه
الحديث دليل على وجوب التسمية للأمر بها وقيل إنها مستحبة في الأكل ويقاس عليه الشرب قال العلماء: ويستحب أن يجهر بالتسمية ليسمع غيره وينبهه عليها فإن تركها لأي سبب نسيان أو غيره في أول الطعام فليقل في أثنائه بسم الله أوله وآخره لحديث أبي داود والترمذي وغيرهما قال الترمذي حسن صحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله فإن نسي أن يذكر الله في أوله فليقل بسم الله أوله وآخره" وينبغي أن يسمي كل واحد من الآكلين فإن سمى واحد فقط فقد حصل بتسميته السنة قاله الشافعي ويستدل بأنه صلى الله عليه وسلم أخبر أن الشيطان يستحل الطعام الذي لم يذكر اسم الله عليه فإن ذكره واحد من الآكلين صدق عليه أنه ذكر اسم الله عليه وفي الحديث دليل على وجوب الأكل باليمين للأمر به أيضا ويزيده تأكيدا أنه صلى الله عليه وسلم أخبر بأن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله وفعل الشيطان يحرم على الإنسان ويزيده تأكيدا أن رجلا أكل عنده صلى الله عليه وسلم بشماله فقال: "كل بيمينك" فقال: لا أستطيع قال: "لا استطعت ما منعه إلا الكبر" فما رفعها إلى فيه أخرجه مسلم ولا يدعو صلى الله عليه وسلم إلا على من ترك الواجب وأما كون الدعاء لتكبره فهو محتمل أيضا ولا ينافي أن الدعاء عليه للأمرين معا وفي قوله "وكل مما يليك" دليل أنه يجب الأكل مما يليه وأنه ينبغي حسن العشرة للجليس وأن لا يحصل من الإنسان ما يسوء جليسه مما فيه سوء عشرة وترك مروءة فقد يتقذر جليسه ذلك لا سيما في الثريد والأمراق ونحوها إلا في مثل الفاكهة فإنه قد أخرج الترمذي وغيره من حديث عكراش بن ذؤيب قال أتينا بجفنة كثيرة الثريد والوذر وهو بفتح الواو وفتح الذال المعجمة فراء جمع وذرة قطعة من اللحم لا عظم فيها فخبطت بيدي في نواحيها وأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين يديه فقبض بيده اليسرى على يدي اليمنى ثم قال يا عكراش كل من موضع واحد فإنه طعام واحد ثم أتينا بطبق فيه ألوان التمر فجعلت آكل من بين يدي وجالت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطبق فقال(3/159)
يا عكراش كل من حيث شئت فإنه غير لون واحد فهذا يدل على التفرقة بين الأطعمة والفواكه بل يدل على أنه إذا تعدد لون المأكول من طعام أو غيره فله أن يأكل من أي جانب وكذلك إذا لم يبق تحت يد الآكل شيء فله أن يتبع ذلك ولو من سائر الجوانب فقد أخرج البخاري ومسلم من حديث أنس "أن خياطا دعا النبي صلى الله عليه وسلم لطعام صنعه قال فذهبت مع النبي صلى الله عليه وسلم فقرب خبز شعير ومرقا فيه دباء وقديد فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتتبع الدباء من حوالي القصعة أي جوانبها فلم أزل أتتبع الدباء من يومئذ" وفي الحديث قال أنس فلما رأيت ذلك جعلت ألقيه إليه ولا أطعمه وهو دليل على تطلبه له من جميع القصعة لمحبته له هذا ومما نهي عنه الأكل من وسط القصعة كما يدل له الحديث الآتي وهو قوله
12- وعن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بقصعة من ثريد فقال: "كلوا من جوانبها ولا تأكلوا من وسطها فإن البركة تنزل في وسطها" رواه الأربعة وهذا لفظ النسائي وسنده صحيح دل على النهي عن الأكل من وسط القصعة وعلله بأنه تنزل البركة في وسطها وكأنه إذا أكل منه لم تنزل البركة على الطعام والنهي يقتضي التحريم وسواء كان الآكل وحده أو مع جماعة
13- وعن أبي هريرة قال: "ما عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما قط كان إذا اشتهى شيئا أكله وإن كرهه تركه" متفق عليه فيه إخبار بعدم عيبه صلى الله عليه وسلم للطعام وذمه له فلا يقول هو مالح أو حامض أو نحو ذلك وحاصله أنه دل على عدم عنايته صلى الله عليه وسلم بالأكل بل ما اشتهاه أكله وما لم يشتهه تركه وليس في تركه ذلك دليل على أنه يحرم عيب الطعام
14- وعن جابر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تأكلوا بالشمال فإن الشيطان يأكل بالشمال" رواه مسلم تقدم أنه من أدلة تحريم الأكل بالشمال وإن ذهب الجماهير إلى كراهته لاغير وقد ورد في الشرب كذلك أيضا وهو دليل على أن الشيطان يأكل أكلا حقيقيا
15 وعن أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإناء ثلاثا" متفق عليه وقد أخرج الشيخان من حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم كان يتنفس في الشراب ثلاثا أي في أثناء الشراب لا أنه في إناء الشراب وورد تعليل ذلك في رواية مسلم أنه أروى أي أقمع للعطش وأبرأ أي أكثر برأ لما فيه من الهضم ومن سلامته من التأثير في برد المعدة وأمرأ أي أكثر مراءة لما فيه من السهولة وقيل العلة خشية تقذيره على غيره لأنه قد يخرج شيء من الفم فيتصل بالماء فيقذره على غيره
16- ولأبي داود عن ابن عباس أي مرفوعا وزاد على ما ذكر وينفخ(3/160)
فيه وصححه الترمذي فيه دلالة على تحريم النفخ في الإناء وأخرج الترمذي من حديث أبي سعيد "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النفخ في الشراب" فقال رجل القذاة أراها في الإناء فقال: "أهرقها قال فإني لا أروى من نفس واحد قال فأبن القدح عن فيك ثم تنفس في الشرب ثلاث مرات" ومن حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تشربوا واحدا" أي شربا واحدا "كشرب البعير ولكن اشربوا مثنى وثلاث وسموا إذا أنتم شربتم واحمدوا إذا أنت رفعتم" وأفاد أن المرتين سنة أيضا نعم وقد ورد النهي عن الشرب من فم السقاء فأخرج الشيخان من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الشرب من في السقاء وأخرجا من حديث أبي سعيد قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اختناث الأسقية" زاد في رواية واختناثها أن يقلب رأسها ثم يشرب منه وقد عارضه حديث كبشة قالت "دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فشرب من في قربة معلقة قائما" فقمت إلى فيها فقطعته أي أخذته شفاء نتبرك به ونستشفى به أخرجه الترمذي وقال حسن غريب صحيح وأخرجه ابن ماجه وجمع بينهما بأن النهي إنما هو في السقاء الكبير والقربة هي الصغيرة أو أن النهي للتنزيه لئلا يتخذه الناس عادة دون الندرة وعلة النهي أنها قد تكون فيه دابة فتخرج إلى في الشارب فيبتلعها مع الماء كما ورد أنه شرب رجل من في السقاء فخرجت منه حية وكذلك ثبت النهي عن الشرب قائما فأخرج مسلم من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يشربن أحدكم قائما فمن نسي فليستقيء" أي يتقيأ وفي رواية عن أنس زجر عن الشرب قائما قال قتادة قلنا فالأكل قال أشد وأخبث ولكنه عارضه ما أخرجه مسلم من حديث ابن عباس قال "سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من زمزم فشرب وهو قائم" وفي لفظ "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شرب من زمزم وهو قائم" وفي صحيح البخاري أن عليا رضي الله عنه شرب قائما وقال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل كما رأيتموني وجمع بينهما بأن النهي للتنزيه فعله صلى الله عليه وسلم بيانا لجواز ذلك فهو واجب في حقه صلى الله عليه وسلم لبيان التشريع وقد وقع منه صلى الله عليه وسلم مثل هذا في صور كثيرة وأما التقيؤ لمن شرب قائما فإنه يستحب للحديث الصحيح الوارد بذلك وظاهر حديث التقيؤ أنه يستحب مطلقا لعامد وناس ونحوهما وقال القاضي عياض إنه من شرب ناسيا فلا خلاف بين العلماء أنه ليس عليه أن يتقيأ نعم ومن آداب الشرب أنه إذا كان عند الشارب جلساء وأراد أن يعمم الجلساء أن يبدأ بمن عن يمينه كما أخرج الشيخان من حديث أنس "أنه أعطى صلى الله عليه وسلم القدح فشرب وعن يساره أبو بكر وعن يمينه أعرابي فقال عمر أعط أبا بكر يا رسول الله فأعطى الأعرابي الذي عن يمينه ثم قال الأيمن فالأيمن" وأخرجا من حديث سهل بن سعد قال أتي النبي صلى الله عليه وسلم بقدح فشرب منه وعن يمينه غلام أصغر القوم هو عبد الله بن عباس والأشياخ عن يساره فقال: "يا غلام أتأذن أن أعطيه الأشياخ" فقال(3/161)
ما كنت لأوثر بفضل منك أحدا يا رسول الله "فأعطاه إياه" ومن مكروهات الشرب أن لا تشرب من ثلمة القدح لما أخرجه أبو داود من حديث أبي سعيد الخدري "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشرب من ثلمة القدح"(3/162)
باب القسم بين الزوجات
1- عن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه ويعدل ويقول: "اللهم هذا قسمي" بفتح القاف "فيما أملك" وهو المبيت مع كل واحدة في نوبتها "فلا تلمني فيما تملك ولا أملك" قال الترمذي يعني الحب والمودة رواه الأربعة وصححه ابن حبان والحاكم ولكن رجح الترمذي إرساله قال أبو زرعة لا أعلم أحدا تابع حماد بن سلمة على وصله لكن صححه ابن حبان من طريق حماد بن سلمة عن أيوب السختياني عن أبي قلابة عن عبد الله بن يزيد عن عائشة موصولا والذي رواه مرسلا هو حماد بن يزيد عن أيوب عن أبي قلابة عن عائشة قال الترمذي والجواب أصح قلت بعد تصحيح ابن حبان الوصل فقد تعاضد الموصل والمرسل دل الحديث على أنه صلى الله عليه وسلم كان يقسم بين نسائه وتقدمت الإشارة إلى أنه هل كان واجبا عليه أم لا قيل وكان القسم عليه صلى الله عليه غير واجب لقوله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} الآية قال بعض المفسرين إنه أباح الله له أن يترك التسوية والقسم بين أزواجه حتى إنه ليؤخر من شاء منهن عن نوبتها ويطأ من يشاء غير نوبتها وأن ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم بناء على أن الضمير في منهن للزوجات وإذا ثبت أنه لا يجب القسم عليه صلى الله عليه وسلم فإنه كان يقسم بينهن من حسن عشرته وكمال حسن خلقه وتأليف قلوب نسائه والحديث يدل على أن المحبة وميل القلب مقدور للعبد بل هو من الله تعالى لا يملكه العبد ويدل له ولكن الله ألف بينهم بعد قوله لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بينهم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه
2- وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما دون الأخرى جاء يوم القيامة وشقه مائل" رواه أحمد والأربعة وسنده صحيح الحديث دليل على أنه يجب على الزوج التسوية بين الزوجات ويحرم عليه الميل إلى إحداهن وقد قال تعالى: {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} والمراد الميل في القسم والإنفاق لا في المحبة لما عرفت من أنها مما لا يملكه العبد ومفهوم قوله كل الميل جواز الميل اليسير ولكن إطلاق الحديث ينفي ذلك ويحتمل تقييد الحديث بمفهوم الآية
3- وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: "من السنة إذا تزوج الرجل البكر على الثيب أقام عندها سبعا ثم قسم وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثا ثم قسم" متفق عليه واللفظ للبخاري يريد من سنة النبي صلى الله عليه وسلم فله حكم الرفع(3/162)
ولذا قال أبو قلابة راويه عن أنس ولو شئت لقلت إن أنسا رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم يريد فيكون رواية بالمعنى إذ معنى من السنة هو الرفع إلا إنه رأى المحافظة على قول أنس أولى وذلك لأن كونه مرفوعا إنما هو بطريق اجتهادي محتمل والرفع نص وليس للراوي أن ينقل ما هو محتمل إلى ما هو غير محتمل كذا قاله ابن دقيق العيد وبالجملة إنهم لا يعنون بالسنة إلا سنة النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال سالم وهل يعنون يريد الصحابة بذلك إلا سنة النبي صلى الله عليه وسلم والحديث قد أخرجه أئمة من المحدثين عن أنس مرفوعا من طرق مختلفة عن أبي قلابة والحديث دليل على إيثار الجديدة لمن كانت عنده زوجة وقال ابن عبد البر: جمهور العلماء على أن ذلك حق المرأة بسبب الزفاف سواء أكانت عنده زوجة أم لا واختاره النووي لكن الحديث دل على أنه فيمن كانت عنده زوجة وقد ذهب إلى التفرقة بين البكر والثيب بما ذكر الجمهور فظاهر الحديث أنه واجب وأنه حق للزوجة الجديدة وفي الكل خلاف لم يقم عليه دليل يقاوم الأحاديث والمراد بالإيثار في البقاء عندها ما كان متعارفا حال الخطاب والظاهر أن الإيثار يكون بالمبيت والقيلولة لا استغراق ساعات الليل والنهار عندها كما قاله جماعة حتى قال ابن دقيق العيد إنه أفرط بعض الفقهاء حتى جعل مقامه عندها عذرا في إسقاط الجمعة وتجب الموالاة في السبع والثلاث فلو فرق وجب الاستئناف ولا فرق بين الحرة والأمة فلو تزوج أخرى في مدة السبع أو الثلاث فالظاهر أنه يتم ذلك لأنه قد صار مستحقا لها
4- وعن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوجها أقام عندها ثلاثا وقال: "إنه ليس بك على أهلك" يريد نفسه "هوان إن شئت سبعت لك" أي أتممت عندك سبعا "وإن سبعت لك سبعت لنسائي" رواه مسلم وزاد في رواية "دخل عليها فلما أراد أن يخرج أخذت بثوبه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن شئت زدت لك وحاسبتك للبكر سبع وللثيب ثلاث" دل ما تقدم على استحقاق البكر والثيب ما ذكر من العدد ودلت الأحاديث على أنه إذا تعدى الزوج المدة المقدرة برضا المرأة سقط حقها من الإيثار ووجب عليها القضاء لذلك وأما إذا كان بغير رضاها فحقها ثابت وهو مفهوم قوله صلى الله عليه وسلم "إن شئت" ومعنى قوله "ليس بك على أهلك هوان" أن لا يلحقك منا هوان ولا نضيع مما تستحقينه شيئا بل تأخذينه كاملا ثم أعلمها أن إليها الاختيار بين ثلاث بلا قضاء وبين سبع ويقضي نساءه وفيه حسن ملاطفة الأهل وإبانة ما يجب لهم وما لا يجب والتخيير لهم فيما هو لهم وعن عائشة أن سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم لعائشة يومها ويوم سودة متفق عليه
5- وعن عائشة رضي الله عنها أن سودة بنت زمعة بفتح الزاي والميم وعين مهملة وكان صلى الله عليه وسلم تزوج سودة بمكة بعد موت خديجة وتوفيت بالمدينة سنة أربع وخمسين وهبت يومها لعائشة وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم لعائشة يومها ويوم سودة متفق عليه زاد البخاري وليلتها وزاد أيضا في آخره تبتغي بذلك رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجه أبو داود وذكر فيه سبب الهبة بسند رجاله رجال مسلم أن(3/163)
سودة حين أسنت وخافت أن يفارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت يا رسول الله يومي لعائشة فقبل ذلك ففيها وأشباهها نزلت {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً} الآية وأخرج ابن سعد برجال ثقات من رواية القاسم بن أبي بزة مرسلا أن النبي صلى الله عليه وسلم طلقها يعني سودة فقعدت على طريقه وقالت والذي بعثك الفراش ما لي في الرجال حاجة ولكني أحب أن أبعث مع نسائك يوم القيامة فأنشدك بالذي أنزل عليك الكتاب هل طلقتني بوجدة وجدتها علي قال لا قالت فأنشدك الله لما راجعتني فراجعها قالت فإني جعلت يومي لعائشة حبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الحديث دليل على جواز هبة المرأة نوبتها لضرتها ويعتبر رضا الزوج لأن له حقا في الزوجة فليس لها أن تسقط حقه إلا برضاه واختلف الفقهاء إذا وهبت نوبتها للزوج فقال الأكثر تصح ويخص بها الزوج من أراد وهذا هو الظاهر وقيل ليس له ذلك بل تصير كالمعدومة وقيل إن قالت له خص بها من شئت جاز لا إذا أطلقت له قالوا ويصح الرجوع للمرأة فيما وهبت من نوبتها لأن الحق يتجدد
6- وعن عروة قال قالت عائشة رضي الله عنها يا ابن أختي "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفضل بعضنا على بعض في القسم من مكثه ثمنا وكان قل يوم إلا وهو يطرق علينا جميعا فيدنو من كل واحدة مسيس" وفي رواية "بغير وقاع" فهو المراد هنا "حتى يبلغ التي هو يومها فيبيت عندها" رواه أحمد وأبو داود واللفظ له وصححه الحاكم فيه دليل على أنه يجوز للرجل الدخول على من لم يكن في يومها من نسائه والتأنيس لها واللمس والتقبيل وفيه بيان حسن خلقه صلى الله عليه وسلم وأنه كان خير الناس لأهله وفي هذا رد لما قاله ابن العربي وقد أشرنا إليه سابقا أنه كان له صلى الله عليه وسلم ساعة من النهار لا يجب عليه القسم فيها وهي بعد العصر قال المصنف لم أجد لما قاله دليلا وقد عين الساعة التي يدور فيها الحديث الآتي وهو قوله
7- ولمسلم عن عائشة رضي الله عنها "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى العصر دار على نسائه ثم يدنوا منهن" أي دنو لمس وتقبيل من دون وقاع كما عرفت
8- وعن عائشة رضي الله عنها "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسأل في مرضه الذي مات فيه أين أنا غدا يريد يوم عائشة فأذن له أزواجه يكون حيث شاء فكان في بيت عائشة" متفق عليه وفي رواية وكان أول ما بدىء به من مرضه في بيت ميمونة أخرجها البخاري في آخر كتاب المغازي وقوله "فأذن له أزواجه "ووقع عند أحمد عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إني لا أستطيع أن أدور بيوتكن فإن شئتن أذنتن لي فأذن له" ووقع عند ابن سعد بإسناد صحيح عن الزهري أن فاطمة هي التي خاطبت أمهات المؤمنين وقالت إنه يشق عليه الاختلاف ويمكن أنه استأذن صلى الله عليه وسلم واستأذنت له فاطمة رضي الله عنها فيجتمع الحديثان ووقع في رواية أنه دخل بيت عائشة يوم الاثنين ومات يوم الاثنين الذي يليه والحديث دليل على أن المرأة إذا أذنت كان(3/164)
مسقطا لحقها من النوبة وأنه لا تكفي القرعة إذا مرض كما تكفي إذا سافر كما دل له قوله
9- وعنها أي عائشة قالت "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه" متفق عليه وأخرجه ابن سعد وزاد فيه عنها فكان إذا خرج سهم غيري عرف فيه الكراهية دل الحديث على القرعة بين الزوجات لمن أراد سفرا وأراد إخراج إحداهن معه وهذا فعل لا يدل على الوجوب وذهب الشافعي إلى وجوبه وذهبت الهادوية إلى أن له السفر بمن شاء وأنه لا تلزمه القرعة قالوا لأنه لا يجب عليه القسم في السفر وفعله صلى الله عليه وسلم إنما كان من مكارم أخلاقه ولطف شمائله وحسن معاملته فإن سافر بزوجة فلا يجب القضاء لغير من سافر بها وقال أبو حنيفة يجب القضاء سواء كان سفره بقرعة أو بغيرها وقال الشافعي إن كان بقرعة لم يجب القضاء وإن كان بغيرها وجب عليه القضاء ولا دليل على الوجوب مطلقا ولا مفصلا والاستدلال بأن القسم واجب وأنه لا يسقط الواجب بالسفر جوابه أن السفر أسقط هذا الواجب بدليل أن له أن يسافر ولا يخرج منهن أحدا فإنه لا يجب عليه بعد عوده قضاء أيام سفره لهن اتفاقا والإقراع لا يدل الحديث على وجوبه لما عرفت أنه فعل وفي الحديث دليل على اعتبار القرعة بين الشركاء ونحوهم والمشهور عن المالكية والحنفية عدم اعتبار القرعة قال القاضي عياض هو مشهور عن مالك وأصحابه لأنه من باب الحظ والقمار وحكي عن الحنفية إجازتها اه واحتج من منع من القرعة بأن بعض النساء قد تكون أنفع في السفر من غيرها فلو خرجت القرعة للتي لا نفع فيها في السفر لأضر بحال الزوج وكذا قد يكون بعض النساء أقوم برعاية مصالح بيت الرجل في الحضر فلو خرجت القرعة عليها بالسفر لأضر بحال الزوج من رعاية مصالح بيت الرجل في الحضر قال القرطبي تختص مشروعية القرعة بما إذا اتفقت أحوالهن لئلا يخص واحدة فيكون ترجيحا بلا مرجح قيل هذا تخصيص لعموم الحديث بالمعنى الذي شرع لأجل الحكم والجري على ظاهره كما ذهب إليه الشافعي أقوم
10- وعن عبد الله بن زمعة رضي الله عنه هو ابن الأسود بن عبد المطلب بن أسد بن عبد العزى صحابي مشهور وليس له في البخاري سوى هذا الحديث وعداده في أهل المدينة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد" بالنصب على المصدرية رواه البخاري وتمامه فيه "ثم يجامعها " وفي رواية "ولعله أن يضاجعها" وفي الحديث دليل على جواز ضرب المرأة ضربا خفيفا لقوله جلد العبد ولقوله في رواية أبي داود "لاتضرب ظعينتك ضربك أمتك" وفي لفظ للنسائي "كما تضرب العبد أو الأمة" وفي رواية للبخاري "ضرب الفحل أو العبد" فإنها دالة على جواز الضرب إلا أنه لا يبلغ ضرب الحيوانات والمماليك وقد قال تعالى: {وَاضْرِبُوهُنَّ} ودل على جواز ضرب غير الزوجات فيما ذكر ضربا شديدا وقوله "ثم يجامعها" دال على أن علة النهي أن ذلك لا يستحسنه العقلاء في مجرى العادات لأن الجماع والمضاجعه أنما تليق مع ميل نفس(3/165)
والرغبة في العشرة والمجلود غالبا ينفر عمن جلده بخلاف التأديب المستحسن فأنه لا ينفر الطباع ولاريب أن عدم الضرب والاغتفار والسماحة أشرف من ذلك كما هو أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد أخرج النسائي من حديث عائشة "ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة له ولا خادما قط ولا ضرب بيده قط إلا في سبيل الله أو تنتهك محارم الله فينتقم لله"(3/166)
باب الخلع
بضم المعجمة وسكون اللام هو فراق الزوجة على مال مأخوذ من خلع الثوب لأن المرأة لباس الرجل مجازا وضم المصدر تفرقة بين المعنى الحقيقي والمجازي والأصل فيه قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}
1- عن ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة ثابت بن قيس سماها البخاري جميلة ذكره عن عكرمة مرسلا وأخرج البيهقي مرسلا أن اسمها زينب بنت عبد الله بن أبي بن سلول ذلك أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله ثابت بن قيس هو خزرجي أنصاري شهد أحدا وما بعدها وهو من أعيان الصحابة كان خطيبا للأنصار ولرسول لله صلى الله عليه وسلم وشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة ما أعيب روى بالمثناة الفوقية مضمومة ومكسورة من العتب وبالمثناة التحتية ساكنة من العيب وهو أوفق بالمراد عليه في خلق ضم اللام ويجوز سكونها ولا دين ولكني أكره الكفر في الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتردين عليه حديقته" فقالت نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اقبل الحديقة وطلقها تطليقة" رواه البخاري وفي رواية له وأمره بطلاقها ولأبي داود والترمذي أي من حديث ابن عباس وحسنه أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت منه فجعل النبي صلى الله عليه وسلم عدتها حيضة قولها أكره الكفر في الإسلام أي أكره من الإقامة عنده أن أقع فيما يقتضي الكفر والمراد ما يضاد الإسلام من النشوز وبغض الزوج وغير ذلك أطلقت على ما ينافي خلق الإسلام الكفر مبالغة ويحتمل غير ذلك وقوله حديقته أي بستانه ففي الرواية أنه كان تزوجها على حديقة نخل الحديث فيه دليل على شرعية الخلع وصحته وأنه يحل أخذ العوض من المرأة واختلف العلماء هل يشترط في صحته أن تكون المرأة ناشزة أم لا فذهب إلى الأول الهادي والظاهرية واختاره ابن المنذر مستدلين بقصة ثابت هذه فإن طلب الطلاق نشوز وبقوله تعالى: {إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} وقوله: {إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} وذهب أبو حنيفة والشافعي والمؤيد وأكثر أهل العلم إلى الثاني(3/166)
وقالوا يصح الخلع مع التراضي بين الزوجين وإن كانت الحال مستقيمة بينهما ويحل العوض لقوله تعالى: {فََإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً} الآية ولم تفرق ولحديث إلا بطيبة من نفسه وقالوا إنه ليس في حديث ثابت هذا دليل على الاشتراط والآية يحتمل أن الخوف فيها وهو الظن والحسبان يكون في المستقبل فيدل على جوازه وإن كان الحال مستقيما بينهما وهما مقيمان لحدود الله في الحال ويحتمل أن يراد أن يعلما ألا يقيما حدود الله ولا يكون العلم إلا لتحققه في الحال كذا قيل وقد يقال إن العلم لا ينافي أن يكون النشوز مستقبلا والمراد إني أعلم في الحال أني لا أحتمل معه إقامة حدود الله في الاستقبال وحينئذ فلا دليل على اشتراط النشوز في الآية على التقديرين ودل الحديث على أن يأخذ الزوج منها ما أعطاه من غير زيادة واختلف هل تجوز الزيادة أم لا فذهب الشافعي ومالك إلى أنها تحل الزيادة إذا كان النشوز من المرأة قال مالك لم أزل أسمع أن الفدية تجوز بالصداق وبأكثر منه لقوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} قال ابن بطال ذهب الجمهور إلى أنه يجوز للرجل أن يأخذ في الخلع أكثر مما أعطاها وقال مالك لم أر أحدا ممن يقتدي به منع ذلك لكنه ليس من مكارم الأخلاق وأما الرواية التي فيها أنه قال صلى الله عليه وسلم أما الزيادة فلا فلم يثبت رفعها وذهب عطاء وطاوس وأحمد وإسحاق والهادوية وآخرون إلى أنها لا تجوز الزيادة لحديث الباب ولما ورد من رواية أما الزيادة فلا فإنه قد أخرجها في آخر حديث الباب البيهقي وابن ماجه عن ابن جريج عن عطاء مرسلا ومثله عند الدارقطني وأنها قالت لما قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "أتردين عليه حديقته" قالت وزيادة قال النبي صلى الله عليه وسلم "أما الزيادة فلا" الحديث ورجاله ثقات إلا أنه مرسل وأجاب من قال بجواز الزيادة أنه لا دلالة في حديث الباب على الزيادة نفيا ولا إثباتا وحديث أما الزيادة فلا تقدم الجواب عنه بأنه لم يثبت رفعها وأنه مرسل وإن ثبت رفعها فلعله خرج مخرج المشورة عليها والرأي وأنه لا يلزمها لا أنه خرج مخرج الإخبار عن تحريمها على الزوج وأما أمره صلى الله عليه وسلم بتطليقه لها فإنه أمر إرشاد لا إيجاب كذا قيل والظاهر بقاؤه على أصله من الإيجاب ويدل له قوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} فإن المراد يجب عليه أحد الأمرين وهنا قد تعذر الإمساك بمعروف لطلبها للفراق فيتعين عليه التسريح بإحسان عند الظاهر إنه يقع الخلع بلفظ الطلاق وأن المواطأة على رد المهر لأجل الطلاق يصير بها الطلاق خلعا واختلفوا إذا كان بلفظ الخلع فذهبت الهادوية وجمهور العلماء إلى أنه طلاق وحجتهم أنه لفظ لا يملكه إلا الزوج فكان طلاقا ولو كان فسخا لما جاز على غير الصداق كالإقالة وهو يجوز عند الجمهور بما قل أو كثر فدل أنه طلاق وذهب ابن عباس وآخرون إلى أنه فسخ وهو مشهور مذهب أحمد ويدل له أنه صلى الله عليه وسلم أمرها أن تعتد بحيضة قال الخطابي في هذا أقوى دليل لمن قال إن الخلع فسخ وليس بطلاق إذا لو كان طلاقا لم يكتف بحيضة للعدة واستدل القائل بأنه فسخ أنه تعالى ذكر في كتابه الطلاق قال {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} عند ذكر الافتداء ثم قال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً(3/167)
غَيْرَهُ} فلو كان الافتداء طلاقا لكان الطلاق الذي لا تحل له إلا من بعد زوج هو الطلاق الرابع وهذا الاستدلال مروي عن ابن عباس فإنه سأله رجل طلق امرأته طلقتين ثم اختلعها قال نعم ينكحها فإن الخلع ليس بطلاق ذكر الله الطلاق في أول الآية وآخرها والخلع فيما بين ذلك فليس الخلع بشيء ثم قال: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} - ثم قرأ {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} وقد قررنا أنه ليس بطلاق في منحة الغفار حاشية ضوء النهاء ووضحنا هناك الأدلة وبسطناها عند من قال إنه طلاق يقول إنه طلاق بائن لأنه لو كان للزوج الرجعة لم يكن للافتداء بها فائدة وللفقهاء أبحاث طويلة وفروع كثيرة في الكتب الفقهية فيما يتعلق بالخلع ومقصودنا شرح ما دل عليه الحديث على أنه قد زدنا على ذلك ما يحتاج إليه
2- وفي رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند ابن ماجه أن ثابت بن قيس كان دميما وأن امرأته قالت لولا مخافة الله إذا دخل علي لبصقت في وجهه وفي رواية عن ابن عباس أن امرأة ثابت أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله لا يجتمع رأسي ورأس ثابت أبدا إني رفعت جانب الخباء فرأيته أقبل في عدة فإذا هو أشدهم سوادا وأقصرهم قامة وأقبحهم وجها الحديث فصرح الحديث بسبب طلبها الخلع
3- ولأحمد من حديث سهل بن أبي حثمة بفتح الحاء المهملة فمثلثة ساكنة وكان ذلك أول خلع في الإسلام أنه أول خلع وقع في عصره صلى الله عليه وسلم وقيل إنه وقع في الجاهلية وهو أن عامر بن الظرب بفتح الظاء المعجمة وكسر الراء ثم موحدة زوج ابنته من ابن أخيه عامر بن الحارث فلما دخلت عليه نفرت منه فشكا إلى أبيها فقال لا أجمع عليك فراق أهلك ومالك وقد خلعتها منك بما أعطيتها زعم بعض العلماء أن هذا كان أول خلع في العرب(3/168)
كتاب الطلاق
كتاب الطلاق
...
كتاب الطلاق
هو لغة: حل الوثاق مشتق من الإطلاق وهو الإرسال والترك وفلان طلق اليدين بالخير أي كثير البذل والإرسال لهما بذلك وفي الشرع حل عقدة التزويج قال إمام الحرمين هو لفظ جاهلي ورد الإسلام بتقريره
1- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبغض الحلال إلى الله الطلاق" رواه أبو داود وابن ماجه وصححه الحاكم ورجح أبو حاتم إرساله وكذا الدارقطني والبيهقي رجحا الإرسال الحديث فيه دليل على أن في الحلال أشياء مبغوضة إلى الله تعالى وأن أبغضها الطلاق فيكون مجازا عن كونه لا ثواب فيه ولا قربة في فعله ومثل بعض العلماء المبغوض من الحلال بالصلاة المكتوبة في غير المسجد لغير عذر والحديث دليل على أنه يحسن تجنب إيقاع الطلاق ما وجد عنه مندوحة وقد قسم بعض العلماء(3/168)
الطلاق إلى الأحكام الخمسة فالحرام الطلاق البدعي والمكروه الواقع بغير سبب مع استقامة الحال وهذا هو القسم المبغوض مع حله
2- وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه طلق امرأته وهي حائض في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: "مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء" متفق عليه في قوله "مره فليراجعها" دليل على أن الآمر لابن عمر بالمراجعة النبي صلى الله عليه وسلم فإن عمر مأمور بالتبليغ عن النبي صلى الله عليه وسلم إلى ابنه بأنه مأمور بالمراجعة فهو نظير قوله تعالى: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ} فإنه صلى الله عليه وسلم مأمور بأن يأمرنا بإقامة الصلاة فنحن مأمورون من الله تعالى وابن عمر كذلك مأمور من النبي صلى الله عليه وسلم فلا يتوهم أن هذه المسألة من باب مسألة هل الأمر بالأمر بالشيء أمر بذلك الشيء وإنما تلك المسألة مثل قوله صلى الله عليه وسلم "مروا أولادكم بالصلاة لسبع" الحديث لا مثل هذه وإذا عرفت أنه مأمور منه صلى الله عليه وسلم بالمراجعة فهل الأمر للوجوب فتجب الرجعة أم لا ذهب إلى الأول مالك وهو رواية عن أحمد وصحح صاحب الهداية من الحنفية وجوبها وهو قول داود ودليلهم الأمر بها قالوا فإذا امتنع الرجل منها أدبه الحاكم فإن أصر على الامتناع ارتجع الحاكم عنه وذهب الجمهور إلى أنها مستحبة فقط قالوا لأن ابتداء النكاح لا يجب فاستدامته كذلك فكان القياس قرينة على أن الأمر للندب وأجيب بأن الطلاق لما كان محرما في الحيض كانت استدامة النكاح فيه واجبة وفي قوله حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر دليل على أنه لا يطلق إلا في الطهر الثاني دون الأول وقد ذهب إلى تحريم الطلاق فيه مالك وهو الأصح عند الشافعية وذهب أبو حنيفة إلى أن الانتظار إلى الطهر الثاني مندوب وكذا عن أحمد مستدلين بقوله وفي رواية لمسلم أي عن ابن عمر "مره فليراجعها ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا" فأطلق الطهر ولأن التحريم إنما كان لأجل الحيض فإذا زال زال موجب التحريم فجاز طلاقها في هذا الطهر كما جاز في الذي بعده وكما يجوز في الطهر الذي لم يتقدمه طلاق في حيضة ولا يخفى قرب ما قالوه وفي قوله قبل أن يمس دليل على أنه إذا طلق في الطهر بعد المس فإنه طلاق بدعي محرم وبه صرح الجمهور وقال بعض المالكية إنه يجبر على الرجعة فيه كما إذا طلق وهي حائض وفي قوله ثم تطهر وقوله طاهرا خلاف للفقهاء هل المراد به انقطاع الدم أو لا بد من الغسل فعن أحمد روايتان والراجح أنه لا بد من اعتبار الغسل لما مر في رواية النسائي فإذا اغتسلت من حيضتها الأخرى فلا يمسها حتى يطلقها وإن شاء أن يمسكها أمسكها وهو مفسر لقوله طاهرا وقوله ثم تطهر وقوله فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء أي أذن في قوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}(3/169)
وفي رواية مسلم قال ابن عمر وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} الآية وفي الحديث دليل على أن الأقراء الأطهار للأمر بطلاقها في الطهر وقوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} أي وقت ابتداء عدتهن وفي قوله أو حاملا دليل على أن طلاق الحامل سني وإليه ذهب الجمهور وإذا عرفت أن الطلاق البدعي منهي عنه محرم فقد اختلف فيه هل يقع ويعتد به أم لا يقع فقال الجمهور يقع مستدلين بقوله في هذا الحديث وفي أخرى أي في رواية أخرى للبخاري وحسبت تطليقة وهو بضم الحاء المهملة ومبني للمجهول من الحساب والمراد جعلها واحدة من الثلاث التطليقات التي يملكها الزوج ولكنه لم يصرح بالفاعل هنا فإن كان الفاعل ابن عمر فلا حجة فيه وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم فهو الحجة إلا أنه قد صرح بالفاعل في غير هذه الرواية كما في مسند ابن وهب بلفظ وزاد ابن أبي ذئب في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وهي واحدة وأخرجه الدارقطني من حديث ابن أبي ذئب وابن إسحاق جميعا عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال هي واحدة وقد ورد أن الحاسب لها هو النبي صلى الله عليه وسلم من طرق يقوي بعضها بعضا وفي رواية لمسلم قال ابن عمر أي لما سأله سائل أما أنت طلقتها واحدة أو اثنتين "فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أراجعها ثم أمسكها حتى تحيض حيضة أخرى ثم أمهلها حتى تطهر ثم أطلقها قبل أن أمسها" وأما أنت طلقتها ثلاثا فقد عصيت ربك فيما أمرك به من طلاق امرأتك دل على تحريم الطلاق في الحيض وقد يدل قوله: أمرني أن أراجعها على وقوع الطلاق إذ الرجعة فرع الوقوع وفيه بحث وخالفه فيه طاوس والخوارج والروافض وحكاه في البحر عن الباقر والصادق والناصر قالوا لا يقع شيء ونصر هذا القول ابن حزم ورجحه ابن تيمية وابن القيم واستدلوا بقوله وفي رواية أخرى أي لمسلم عن ابن عمر قال عبد الله بن عمر فردها علي ولم يرها شيئا وقال إذا طهرت فليطلق أو ليمسك ومثله في رواية أبي داود فردها علي ولم يرها شيئا وإسناده على شرط الصحيح إلا أنه قال ابن عبد البر في قوله ولم يرها شيئا منكر لم يقله غير أبي الزبير وليس بحجة فيما خالفه فيه مثله فكيف بمن هو أثبت منه ولو صح لكان معناها والله أعلم ولم يرها شيئا مستقيما لكونها لم تقع على السنة وقال الخطابي: قال أهل الحديث لم يرو أبو الزبير حديثا أنكر من هذا ويحتمل أن معناه لم يرها شيئا تحرم معه المراجعة أو لم يرها شيئا جائزا في السنة ماضيا في الاختيار وإن كان لازما له ونقل البيهقي في المعرفة عن الشافعي أنه ذكر رواية أبي الزبير فقال نافع أثبت من أبي الزبير والأثبت من الحديثين أولى أن يؤخذ به إذا تخالفا وقد وافق نافعا غيره من أهل التثبت قال وحمل(3/170)
قوله ولم يرها شيئا على أنه لم يعدها شيئا صوابا غير خطأ بل يؤمر صاحبه ألا يقيم عليه لأنه أمره بالمراجعة ولو كان طلقها طاهرا لم يؤمر بذلك فهو كما يقال للرجل إذا أخطأ في فعله أو أخطأ في جوابه إنه لم يصنع شيئا أي لم يصنع شيئا صوابا وقد أطال ابن القيم الكلام على نصرة عدم الوقوع ولكن بعد ثبوت أنه صلى الله عليه وسلم حسبها تطليقة تطيح كل عبارة ويضيع كل صنيع وقد كنا نفتي بعدم الوقوع وكتبنا فيه رسالة وتوقفنا مدة ثم رأينا وقوعه.
تنبيه ثم إنه قوي عند ما كنت أفتي به أولا من عدم الوقوع لأدلة قوية سقتها في رسالة سميناها الدليل الشرعي في عدم وقوع الطلاق البدعي ومن الأدلة أنه مسمى ومنسوب إلى البدعة وكل بدعة ضلالة والضلالة لا تدخل في نفوذ حكم شرعي ولا يقع بها بل هي باطلة ولأن الرواة لحديث ابن عمر اتفقوا على أن المسند مرفوع في هذا الحديث غير مذكور فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم حسب تلك التطليقة على ابن عمر ولا قال له قد وقعت ولا رواه ابن عمر مرفوعا بل في صحيح مسلم ما دل على أن وقوعها إنما هو رأي لابن عمر وأنه سئل عن ذلك فقال وما لي لا أعتد بها وإن كنت قد عجزت واستحمقت وهذا يدل على أنه لا يعلم في ذلك نصا نبويا لأنه لو كان عنده لم يترك روايته ويتعلق بهذه العلة العليلة فإن العجز والحمق لا مدخل لهما في صحة الطلاق ولو كان عنده نص نبوي لقال وما لي لا أعتد بها وقد أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أعتد بها وقد صرح الإمام الكبير محمد بن إبراهيم الوزير بأنه قد اتفق الرواة على عدم رفع الوقوع في الرواية إليه صلى الله عليه وسلم وقد ساق السيد محمد ست عشر حجة على عدم وقوع الطلاق البدعي ولخصناها في رسالتنا المذكورة وبعد هذا تعرف رجوعنا عما هنا فليلحق هذا في نسخ سبل السلام وأما الاستدلال على الوقوع بقوله فليراجعها ولا رجعة إلا بعد طلاق فهو غير ناهض لأن الرجعة المقيدة ببعد الطلاق عرف شرعي متأخر إذ هي لغة أعم من ذلك ودل الحديث على تحريم الطلاق في الحيض وبأن الرجعة يستقل بها الزوج من دون رضا المرأة والولي لأنه جعل ذلك إليه ولقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} وبأن الحامل لا تحيض لقوله طاهرا أو حاملا فدل على أنها لا تحيض لإطلاق الطلاق فيه وأجيب بأن حيض الحامل لما لم يكن له أثر في تطويل العدة لم يعتبر لأن عدتها بوضع الحمل وأن الأقراء في العدة هي الأطهار قال الغزالي: ويستثنى من تحريم طلاق الحائض طلاق المخالعة لأن النبي صلى الله وآله وسلم لم يستفصل حال امرأة ثابت هل هي طاهرة أو حائض مع أمره له بالطلاق والشافعي يذهب إلى أن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال.
3- وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال "كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة فقال عمر بن الخطاب إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة" بفتح الهمزة أي مهملة "فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم" رواه مسلم الحديث ثابت من طرق عن ابن عباس وقد استشكل أنه(3/171)
كيف يصح من عمر مخالفة ما كان في عصره صلى الله عليه وسلم ثم في عصر أبي بكر ثم في أول أيامه وظاهر كلام ابن عباس أنه كان الإجماع على ذلك وأجيب عنه بستة أجوبة: الأول أنه كان الحكم كذلك ثم نسخ في عصره صلى الله عليه وسلم فقد أخرج أبو داود من طريق يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس قال كان الرجل إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثا فنسخ ذلك اهـ إلا أنه لم يشتهر النسخ فبقي الحكم المنسوخ معمولا به إلى أن أنكره عمر قلت إن ثبتت رواية النسخ فذاك وإلا فإنه يضعف هذا قول عمر إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة إلخ فإنه واضح في أنه رأي محض لا سنة فيه وما في بعض ألفاظه عند مسلم أنه قال ابن عباس لأبي الصهباء لما تتابع الناس في الطلاق في عهد عمر فأجازه عليهم
ثانيها أن حديث ابن عباس هذا مضطرب قال القرطبي في شرح مسلم وقع فيه مع الاختلاف على ابن عباس الاضطراب في لفظه فظاهر سياقه أن هذا الحكم منقول عن جميع أهل ذلك العصر والعادة تقتضي أن يظهر ذلك وينتشر ولا ينفرد به ابن عباس فهذا يقتضي التوقف عن العمل بظاهره إذا لم يقتض القطع ببطلانه اهـ قلت وهذا مجرد استبعاد فإنه كم من سنة وحادثة انفرد بها راو ولا يضر سيما مثل ابن عباس بحر الأمة ويؤيد ما قاله ابن عباس من أنها كانت الثلاث واحدة ما يأتي من حديث أبي ركانة وإن كان فيه كلام وسيأتي.
الثالث أن هذا الحديث ورد في صورة خاصة هي قول المطلق أنت طالق أنت طالق وذلك أنه كان في عصر النبوة وما بعده وكان حال الناس محمولا على السلامة والصدق فيقبل قول من ادعى أن اللفظ الثاني تأكيد لا تأسيس طلاق آخر ويصدق في دعواه فلما رأى عمر تغير أحوال الناس وغلبة الدعاوى الباطلة رأى من المصلحة أن يجري المتكلم على ظاهر قوله ولا يصدق في دعوى ضميره وهذا الجواب ارتضاه القرطبي قال النووي هو أصح الأجوبة قلت ولا يخفى أنه تقرير لكون نهي عمر رأيا محضا ومع ذلك فالناس مختلفون في كل عصر فيهم الصادق والكاذب وما يعرف ما في ضمير الإنسان إلا من كلامه فيقبل قوله وإن كان مبطلا في نفس الأمر فيحكم بالظاهر والله يتولى السرائر مع أن ظاهر قول ابن عباس طلاق الثلاث واحدة أنه كان ذلك بأية عبارة وقعت.
الرابع أن معنى قوله كان طلاق الثلاث واحدة أن الطلاق الذي يوقع في عهده صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر إنما كان يوقع في الغالب واحدة لا يوقع ثلاثا فمراده أن هذا الطلاق الذي توقعونه ثلاثا كان يوقع في ذلك العهد واحدة فيكون قوله فلو أمضيناه عليهم بمعنى لو أجريناه على حكم ما شرع من وقوع الثلاث وهذا الجواب يتنزل على قوله استعجلوا في أمر كان لهم فيه أناة تنزلا قريبا من غير تكلف ويكون معناه الإخبار عن اختلاف عادات الناس في إيقاع الطلاق لا في وقوعه فالحكم متقرر وقد رجح هذا التأويل ابن العربي ونسبه إلى أبي زرعة وكذا البيهقي أخرجه عنه قال معناه أن ما تطلقون أنتم ثلاثا كانوا يطلقون واحدة قلت وهذا يتم إن اتفق على أنه لم يقع في عصر النبوة إرسال ثلاث تطليقات دفعة واحدة وحديث أبي ركانة وغيره يدفعه وينبو(3/172)
عنه قول عمر فلو أمضيناه فإنه ظاهر في أنه لم يكن مضى في ذلك العصر حتى رأى إمضاءه وهو دليل وقوعه في عصر النبوة لكنه لم يمض فليس فيه أنه كان وقوع الثلاث دفعة واحدة نادرا في ذلك العصر
الخامس: أن قول ابن عباس كان طلاق الثلاث ليس له حكم الرفع فهو موقوف عليه وهذا الجواب ضعيف لما تقرر في أصول الحديث وأصول الفقه أن كنا نفعل وكانوا يفعلون له حكم الرفع.
السادس: أنه أريد بقوله طلاق الثلاث واحدة هو لفظ البتة إذا قال أنت طالق البتة وكما سيأتي في حديث ركانة فكان إذا قال القائل ذلك قبل تفسيره بالواحدة وبالثلاث فلما كان في عصر عمر لم يقبل منه التفسير بالواحدة قيل وأشار إلى هذا البخاري فإنه أدخل في هذا الباب الآثار التي فيها البتة والأحاديث فيها التصريح بالثلاث كأنه يشير إلى عدم الفرق بينهما وأن البتة إذا أطلقت حملت على الثلاث إلا إذا أراد المطلق واحدة فيقبل فروى بعض الرواة البتة بلفظ الثلاث يريد أن أصل حديث ابن عباس كان طلاق البتة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر إلى آخره قلت ولا يخفى بعد هذا التأويل وتوهيم الراوي في التبديل ويبعده أن الطلاق بلفظ البتة في غاية الندور فلا يحمل عليه ما وقع كيف وقول عمر قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة يدل أن ذلك واقع أيضا في عصر النبوة والأقرب أن هذا رأي من عمر ترجح له كما منع من متعة الحج وغيرها وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك غير رسول الله صلى الله عليه وسلم وكونه خالف ما كان على عهده صلى الله عليه وسلم فهو نظير متعة الحج بلا ريب والتكلفات في الأجوبة ليوافق ما ثبت في عصر النبوة لا يليق فقد ثبت عن عمر اجتهادات يعسر تطبيقها على ذلك نعم إن أمكن التطبيق على وجه صحيح فهو المراد.
4- وعن محمود بن لبيد رضي الله عنه ابن أبي رافع الأنصاري الأشهلي ولد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وحدث عنه أحاديث قال البخاري له صحبة وقال أبو حاتم لا نعرف له صحبة وذكره مسلم في التابعين وكان من العلماء مات سنة ست وتسعين وقد ترجم له أحمد في مسنده وأخرج له أحاديث ليس فيها شيء صرح فيه بالسماع قال أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا فقام غضبان ثم قال "أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم" حتى قام رجل فقال يا رسول الله ألا أقتله رواه النسائي ورواته موثقون الحديث دليل على أن جمع الثلاث التطليقات بدعة واختلف العلماء في ذلك فذهب الهادوية و أبو حنيفة ومالك إلى أنه بدعة وذهب الشافعي وحمد والإمام يحيى إلى أنه ليس ببدعة ولا مكروه واستدل الأولون بغضبه صلى الله عليه وسلم وبقوله أيلعب بكتاب الله وبما أخرجه سعيد بن منصور بسند صحيح عن أنس أن عمر كان إذا أتي برجل طلق امرأته ثلاثا أوجع ظهره ضربا وكأنه أخذ تحريمه من قوله صلى الله عليه وسلم أيلعب بكتاب الله
واستدل آخرون بقوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} وبقوله: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} وبما يأتي في حديث اللعان أنه طلقها الزوج ثلاثا بحضرته صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه وأجيب بأن الآيتين مطلقتان والحديث صريح بتحريم الثلاث فتقيد به(3/173)
الآيتان وبأن طلاق الملاعن لزوجته ليس طلاقا في محله لأنها بانت بمجرد اللعان كما يأتي واعلم أن حديث محمود لم يكن فيه دليل على أنه صلى الله عليه وسلم أمضى عليه الثلاث أو جعلها واحدة وإنما ذكره المصنف إخبارا بأنها قد وقعت التطليقات الثلاث في عصره
5- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال طلق أبو ركانة بضم الراء وبعد الألف نون أم ركانة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "راجع امرأتك" قال إني طلقتها ثلاثا قال: "قد علمت راجعها" رواه أبو داود ولفظ أحمد أي عن ابن عباس طلق أبو ركانة امرأته في مجلس واحد ثلاثا فحزن عليها فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنها واحدة وفي سندهما أي حديث أبي داود وحديث أحمد ابن إسحاق أي محمد صاحب السيرة وفيه مقال وقد حققنا في ثمرات النظر في علم أهل الأثر وفي إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد عدم صحة القدح بما يجرح روايته وقد روى أبو داود من وجه آخر أحسن منه أن ركانة طلق امرأته سهيمة بالسين المهملة مضمومة تصغير سهمة البتة فقال والله ما أردت إلا واحدة فردها إليه النبي صلى الله عليه وسلم وأخرجه أبو يعلى وصححه وطرقه كلها من رواية محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس وقد عمل العلماء بمثل هذا الإسناد في عدة من الأحكام مثل حديث أنه صلى الله عليه وسلم رد ابنته على أبي العاص بالنكاح الأول تقدم وقد صححه أبو داود لأنه أخرجه أيضا من طريق أخرى وهي التي أشار إليها المصنف بقوله أحسن منه وهي أنه أخرجه من حديث نافع بن عجير بن عبد يزيد بن ركانة أن ركانة الحديث وصححه أيضا ابن حبان والحاكم وفيه خلاف بين العلماء بين مصحح ومضعف والحديث دليل على أن إرسال الثلاث التطليقات في مجلس واحد يكون طلقة واحدة وقد اختلف العلماء في المسألة على أربعة أقوال الأول أنه لا يقع بها شيء لأنها طلاق بدعة وتقدم ذكرهم وأدلتهم الثاني أنه يقع به الثلاث وإليه ذهب عمر وابن عباس وعائشة ورواية عن علي والفقهاء الأربعة وجمهور السلف والخلف واستدلوا بآيات الطلاق وأنها لم تفرق بين واحدة ولا ثلاث وأجيب بما سلف أنها مطلقات تحتمل التقييد بالأحاديث واستدلوا بما في الصحيحين أن عويمرا العجلاني طلق امرأته ثلاثا بحضرته صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه فدل على إباحة جمع الثلاث وعلى وقوعها وأجيب بأن هذا التقرير لا يدل على الجواز ولا على وقوع الثلاث لأن النهي إنما هو فيما يكون في طلاق رافع لنكاح كان مطلوب الدوام والملاعن أوقع الطلاق على ظن أنه بقي له إمساكها ولم يعلم أنه باللعان حصلت فرقة الأبد سواء كان فراقه بنفس اللعان أو بتفريق الحاكم فلا يدل على المطلوب واستدلوا بما في المتفق عليه أيضا في حديث فاطمة بنت قيس أن زوجها طلقها ثلاثا وأنه صلى الله عليه وسلم لما أخبر بذلك قال: "ليس لها نفقة وعليها العدة" وأجيب بأنه ليس في الحديث تصريح بأنه أوقع الثلاث في مجلس واحد فلا يدل على المطلوب قالوا عدم استفصاله صلى الله عليه وسلم هل كان في مجلس أو مجالس دال على(3/174)
أنه لا فرق في ذلك ويجاب عنه بأنه لم يستفصل لأنه كان الواقع في ذلك العصر غالبا عدم إرسال الثلاث كما تقدم وقولنا غالبا لئلا يقال قد أسلفنا أنها وقعت الثلاث في عصر النبوة لأنا نقول نعم لكن نادرا ومثل هذا ما استدلوا به من حديث عائشة أن رجلا طلق امرأته ثلاثا فتزوجت فطلق الآخر فسئل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أتحل للأول قال: "لا حتى يذوق عسيلتها" أخرجه البخاري والجواب عنه هو ما سلف ولهم أدلة من السنة فيها ضعف فلا تقوم بها حجة فلا نعظم بها حجم الكتاب وكذلك ما استدلوا به من فتاوى الصحابة أقوال أفراد لا تقوم بها حجة القول الثالث إنها تقع بها واحدة رجعية وهو مروي عن علي وابن عباس وذهب إليه الهادي والقاسم والصادق والباقر ونصره أبو العباس ابن تيمة وتبعه ابن القيم تلميذه على نصره واستدلوا بما مر من حديثي ابن عباس وهما صريحان في المطلوب وبأن أدلة غيره من الأقوال غير ناهضة أما الأول والثاني فلما عرفت ويأتي ما في غيرهما القول الرابع أنه يفرق بين المدخول بها وغيرها فتقع الثلاث على المدخول بها وتقع على غير المدخول بها واحدة وهو قول جماعة من أصحاب ابن عباس وإليه ذهب إسحاق بن راهويه واستدلوا بما وقع في رواية أبي داود أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث وبالقياس فإنه إذا قال أنت طالق بانت منه بذلك فإذا أعاد اللفظ لم يصادف محلا للطلاق فكان لغوا وأجيب بما مر من ثبوت ذلك في حق المدخولة وغيرها فمفهوم حديث أبي داود لا يقاوم عموم أحاديث ابن عباس واعلم أن ظاهر الأحاديث أنه لا فرق بين أن يقول أنت طالق ثلاثا أو يكرر هذا اللفظ ثلاثا وفي كتب الفروع أقوال وخلاف في التفرقة بين الألفاظ لم يستند إلى دليل واضح وقد أطال الباحثون في الفروع في هذه المسألة الأقوال وقد أطبق أهل المذاهب الأربعة على وقوع الثلاث متابعة لإمضاء عمر لها واشتد نكيرهم على من خالف ذلك وصارت هذه المسألة عندهم علما للرافضة والمخالفين وعوقب بسبب الفتيا بها شيخ الإسلام ابن تيمية وطيف بتلميذه الحافظ ابن القيم على جمل بسبب الفتوى بعدم وقوع الثلاث ولا يخفى أن هذه محض عصبية شديدة في مسألة فرعية قد اختلف فيها سلف الأمة وخلفها فلا نكير على من ذهب إلى قول من الأقوال المختلف فيها كما هو معروف وها هنا يتميز المنصف من غيره من فحول النظار والأتقياء من الرجال.
6- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة" رواه الأربعة إلا النسائي وصححه الحاكم وفي رواية عن أبي هريرة لابن عدي من وجه آخر ضعيف الطلاق والعتاق والنكاح وقد بين معناها قوله(3/175)
7-وللحارث بن أبي أسامة من حديث عبادة بن الصامت رفعه لا يجوز اللعب في ثلاث الطلاق والنكاح والعتاق فمن قالهن فقد وجبن وسنده ضعيف لأن فيه ابن لهيعة وفيه انقطاع أيضا والأحاديث دلت على وقوع الطلاق من الهازل وأنه لا يحتاج إلى النية في الصريح وإليه ذهب الهادوية والحنفية والشافعية وذهب أحمد والناصر والصادق والباقر إلى أنه لا بد من النية لعموم حديث الأعمال بالنيات وأجيب بأنه عام خصه ما ذكر من الأحاديث ويأتي الكلام في العتق
8- وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تعالى تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تكلم" متفق عليه ورواه ابن ماجه من حديث أبي هريرة بلفظ عما توسوس به صدورها بدل ما حدثت به أنفسها وزاد في آخره وما استكرهوا عليه قال المصنف وأظن الزيادة هذه مدرجة كأنها دخلت على هشام بن عمار من حديث في حديث والحديث دليل على أنه لا يقع الطلاق بحديث النفس وهو قول الجمهور وروي عن ابن سيرين والزهري ورواية عن مالك بأنه إذا طلق في نفسه وقع الطلاق وقواه ابن العربي بأن من اعتقد الكفر بقلبه ومن أصر على المعصية أ ثم وكذلك من قذف مسلما بقلبه وكل ذلك من أعمال القلب دون اللسان ويجاب عنه بأن الحديث المذكور أخبر عن الله تعالى بأنه لا يؤاخذ الأمة بحديث نفسها وأنه تعالى قال: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا} وحديث النفس يخرج عن الوسع نعم الاسترسال مع النفس في باطل أحاديثها يصير العبد عازما على الفعل فيخاف منه الوقوع فيما يحرم فهو الذي ينبغي أن يسارع بقطعه إذا خطر وأما احتجاج ابن العربي بالكفر والرياء فلا يخفى أنهما من أعمال القلب فهما مخصوصان من الحديث على أن الاعتقاد وقصد الرياء قد خرجا عن حديث النفس وأما المصر على المعصية فالإثم على عمل المعصية المتقدم على الإصرار فإنه دال على أنه لم يتب عنها واستدل به على أن من كتب الطلاق طلقت امرأته لأنه عزم بقلبه وعمل بكتابته وهو قول الجمهور وشرط مالك فيه الإشهاد على ذلك وسيأتي
9- وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تعالى وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" رواه ابن ماجه والحاكم وقال أبو حاتم لا يثبت وقال النووي في الروضة في تعليق الطلاق إنه حديث حسن وكذا قال في أواخر الأربعين له اهـ وللحديث أسانيد وقال ابن أبي حاتم إنه سأل أباه عن أسانيده فقال هذه أحاديث منكرة كلها موضوعة وقال عبد الله بن أحمد في العلل سألت أبي عنه فأنكره جدا وقال ليس يروى هذا إلا عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم ونقل الخلال عن أحمد أنه قال من زعم أن الخطأ والنسيان مرفوع فقد خالف كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الله أوجب في قتل النفس الخطأ الكفارة والحديث دليل على أن الأحكام الأخروية من العقاب معفوة عن الأمة المحمدية إذا صدرت عن خطإ(3/176)
أو نسيان أو إكراه وأما ابتناء الأحكام والآثار الشرعية عليها ففي ذلك خلاف بين العلماء فاختلفوا في طلاق الناسي فعن الحسن أنه كان يراه كالعمد إلا إذا اشترط أخرجه ابن أبي شيبة عنه وعن عطاء وهو قول الجمهور أنه لا يكون طلاقا للحديث وكذا ذهب الجماهير أنه لا يقع طلاق الخاطىء وعن الحنفية يقع واختلف في طلاق المكره فعند الجماهير لا يقع ويروى عن النخعي وبه قالت الحنفية إنه يقع واستدل الجمهور بقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} وقال عطاء الشرك أعظم من الطلاق وقرر الشافعي الاستدلال بأن الله تعالى لما وضع الكفر عمن تلفظ به حال الإ كراه وأسقط عنه أحكام الكفر كذلك سقط عن المكره ما دون الكفر لأن الأعظم إذا سقط سقط ما هو دونه بطريق الأولى
10- وعن ابن عباس رضي الله عنه قال إذا حرم الرجل امرأته ليس بشيء وقال لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة رواه البخاري ولمسلم عن ابن عباس إذا حرم الرجل عليه امرأته فهو يمين يكفرها الحديث موقوف وفيه دليل على أن تحريم الزوجة لا يكون طلاقا وإن كان يلزم فيه كفارة يمين كما دلت له رواية مسلم فمراده ليس بشيء ليس بطلاق لا أنه لا حكم له أصلا وقد أخرج عنه البخاري هذا الحديث بلفظ إذا حرم الرجل امرأته فإنما هي يمين يكفرها فدل على أنه المراد بقوله ليس بشيء أنه ليس بطلاق ويحتمل أنه أراد لا يلزم فيه شيء وتكون رواية أنه يمين رواية أخرى فيكون له قولان في المسألة والمسألة اختلف فيها السلف من الصحابة والتابعين والخلف من الأئمة المجتهدين حتى بلغت الأقوال إلى ثلاثة عشر قولا أصولا وتفرعت إلى عشرين مذهبا الأول أنه لغو لا حكم له في شيء من الأشياء وهو قول جماعة من السلف وقول الظاهرية والحجة على ذلك أن التحريم والتحليل إلى الله تعالى كما قال تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} - وقد قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} قالوا ولأنه لا فرق بين تحليل الحرام وتحريم الحلال فلما كان الأول باطلا فليكن الثاني باطلا عند قوله هي حرام إن أراد به الإنشاء فإنشاء التحريم ليس إليه وإن أراد به الإخبار فهو كذب قالوا ونظرنا إلى ما سوى هذا القول يعني من الأقوال التي هي في المسألة فوجدناها أقوالا مضطربة لا برهان عليها من الله فيتعين القول بهذا وهذا القول يدل عليه حديث ابن عباس وتلاوته لقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} فإنه دال على أنه لا يحرم بالتحريم ما حرمه على نفسه فإن الله تعالى أنكر على رسوله تحريم ما أحل الله له وظاهره أنه لا تلزم الكفارة وأما قوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} فإنها كفارة حلفه صلى الله عليه وسلم كما أخرجه الطبري بسند صحيح عن زيد بن أسلم التابعي(3/177)
المشهور قال أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أم إبراهيم ولده في بيت بعض نسائه فقالت يا رسول الله في بيتي وعلى فراشي فجعلها عليه حراما فقالت يا رسول الله كيف تحرم الحلال فحلف بالله لا يصيبها فنزلت هذا أحد القولين فيما حرمه صلى الله عليه وسلم وسيأتي القول الآخر في تحريم إيلائه صلى الله عليه وسلم والحديث وإن كان مرسلا فقد أخرج النسائي بسند صحيح عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت له أمة يطؤها فلم تزل به حفصة وعائشة حتى حرمها فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ} وهذا أصح طرق سبب النزول والمرسل عن زيد قد شهد له هذا فالكفارة لليمين لا لمجرد التحريم وقد فهم هذا زيد بن أسلم فقال بعد روايته القصة يقول الرجل لامرأته أنت علي حرام لغو وإنما يلزمه كفارة يمين إن حلف وحينئذ فالأسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم إلغاء التحريم والتكفير إن حلف وهذا القول أقرب الأقوال المذكورة وأرجحها عندي فلم أسرد شيئا منها.
11- وعن عائشة رضي الله عنها أن ابنة الجون لما أدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ودنا منها قالت أعوذ بالله منك قال: "لها لقد عذت بعظيم الحقي بأهلك" رواه البخاري اختلف في اسم ابنة الجون المذكورة اختلافا كثيرا ونفع تعيينها قليل فلا نشتغل بنقله أخرج ابن سعد من طريق عبد الواحد بن أبي عون قال قدم النعمان بن أبي الجون الكندي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أزوجك أجمل أيم في العرب كانت تحت ابن عم لها فتوفي وقد رغبت فيك قال نعم قال فابعث من يحملها إليك فبعث معه أبا أسيد الساعدي قال أبو أسيد فأقمت ثلاثة أيام ثم تحملت بها معي في محفة فأقبلت بها حتى قدمت المدينة فأنزلتها في بني ساعدة ووجهت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بني عمرو بن عوف فأخبرته الحديث قال ابن أبي عون وكان ذلك في ربيع الأول سنة سبع ثم أخرج ذلك من طريقين وفي تمام القصة قيل لها استعيذي منه فإنه أحظى لك عنده وخدعت لما رئي من جمالها وذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم من حملها على ما قالت قال إنهن صواحب يوسف وكيدهن والحديث دليل على أن قول الرجل لامرأته الحقي بأهلك طلاق لأنه لم يرو أنه زاد غير ذلك فيكون كناية طلاق إذا أريد به الطلاق كان طلاقا قال البيهقي زاد ابن أبي ذئب عن الزهري الحقي بأهلك جعلها تطليقة ويدل على أنه كناية طلاق أنه قد جاء في قصة كعب بن مالك أنه لما قيل له اعتزل امرأتك قال الحقي بأهلك فكوني عندهم ولم يرد الطلاق فلم تطلق وإلى هذا ذهب الفقهاء الأربعة وغيرهم وقالت الظاهرية لا يقع الطلاق الفراشي بأهلك قالوا والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن قد عقد بابنة الجون وإنما أرسل إليها ليخطبها إذ الروايات قد اختلفت في قصتها ويدل على أنه لم يكن عقد بها ما في صحيح البخاري أنه صلى الله عليه وسلم قال: "هبي لي نفسك" قالت وهل تهب الملكة نفسها للسوقة فأهوى ليضع يده(3/178)
عليها لتسكن فقالت أعوذ بالله منك قالوا فطلب الهبة دال على أنه لم يكن عقد بها ويبعد ما قالوه قوله ليضع يده ورواية فلما دخل عليها فإن ذلك إنما يكون مع الزوجة وأما قوله "هبي لي نفسك" فإنه قال تطييبا لخاطرها واستمالة لقلبها ويؤيده ما سلف من رواية أنها رغبت فيك وقد روي اتفاقه مع أبيها على مقدار صداقها وهذه وإن لم تكن صرائح في العقد بها إلا أنه أقرب الاحتمالين
12- وعن جابر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا طلاق إلا بعد نكاح ولا عتق إلا بعد ملك" رواه أبو يعلى وصححه الحاكم وقال أنا متعجب من الشيخين كيف أهملاه لقد صح على شرطهما من حديث ابن عمر وعائشة وعبد الله بن عباس ومعاذ بن جبل وجابر انتهى وهو معلول بما قاله الدارقطني الصحيح مرسل ليس فيه جابر قال يحيى بن معين لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم "لا طلاق قبل نكاح" وقال ابن عبد البر روي من وجوه إلا إنها عند أهل العلم بالحديث معلولة انتهى ولكنه يشهد له قوله
13- وأخرج ابن ماجه عن المسور بكسر الميم وسكون السين المهملة وفتح الواو فراء ابن مخرمة بفتح الميم فخاء معجمة ساكنة مثله وإسناده حسن لكنه معلول أيضا لأنه اختلف فيه على الزهري قال علي بن الحسين بن واقد عن هشام عن سعيد عن الزهري عن عروة عن المسور وقال حماد بن خالد عن هشام عن سعيد عن الزهري عن عروة عن عائشة وعن أبي بكر وعن أبي هريرة وأبي موسى الأشعري وأبي سعيد الخدري وعمران بن حصين وغيرهم ذكرها البيهقي في الخلافيات وقال البيهقي أصح حديث فيه حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال الترمذي هو أحسن شيء روي في هذا الباب ولفظه عند أصحاب السنن "ليس على رجل طلاق فيما لا يملك" الحديث قال البيهقي قال البخاري أصح شيء فيه وأشهره حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ويأتي وحديث الزهري عن عائشة وعن علي ومداره على جويبر عن الضحاك عن النزال بن سبرة عن علي وجويبر متروك عند قال البيهقي ورواه ابن ماجه بإسناد حسن والحديث دليل على أنه لا يقع الطلاق على المرأة الأجنبية فإن كان تنجيزا فإجماع وإن كان تعليقا بالنكاح كأن يقول إن نكحت فلانة فهي طالق ففيه ثلاث أقوال الأول أنه لا يقع مطلقا وهو قول الهادوية والشافعية وأحمد وداود وآخرين ورواه البخاري عن اثنين وعشرين صحابيا ودليل هذا القول حديث الباب وإن كان فيه مقال من قبل الإسناد فهو متأيد بكثرة الطرق وما أحسن ما قال ابن عباس قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} ولم يقل إذا طلقتموهن ثم نكحتموهن وبأنه إذا قال المطلق إن تزوجت فلانة هي طالق مطلق لأجنبية فإنها حين أنشأ الطلاق أجنبية والمتجدد هو نكاحها فهو كما لو قال لأجنبية إن دخلت الدار فأنت طالق فدخلت وهي زوجته لم تطلق إجماعا وذهب أبو حنيفة وهو أحد قولي المؤيد بالله إلى أنه يصح التطليق مطلقا وذهب مالك وآخرون إلى التفصيل فقالوا إن(3/179)
خص بأن يقول كل امرأة أتزوجها من بني فلان أو من بلد كذا فهي طالق أو قال في وقت كذا وقع الطلاق وإن عمم وقال كل امرأة أتزوجها فهي طالق لم يقع شيء وقال في نهاية المجتهد سبب الخلاف هل من شرط وقوع الطلاق وجود الملك متقدما على الطلاق بالزمان أو ليس من شرطه فمن قال هو من شرطه قال لا يتعلق الطلاق بالأجنبية ومن قال ليس من شرطه إلا وجود الملك فقط قال يقع قلت دعوى الشرطية تحتاج إلى دليل ومن لم يدعها فالأصل معه ثم قال وأما الفرق بين التخصيص والتعميم فاستحسان مبني على المصلحة وذلك إذا وقع فيه التعميم فلو قلنا بوقوعه امتنع منه التزويج فلم يجد سبيلا إلى النكاح الحلال فكان من باب النذر بالمعصية وأما إذا خصص فلا يمتنع منه ذلك اهـ قلت سبق الجواب عن هذا بعدم الدليل على الشرطية هذا والخلاف في العتق مثل الخلاف في الطلاق فيصح عند أبي حنيفة وأصحابه وعند أحمد في أصح قوليه وعليه أصحابه ومنهم ابن القيم فإنه فرق بين الطلاق والعتاق فأبطله في الأول وقال به في الثاني مستدلا على الثاني بأن العتق له قوة وسراية فإنه يسري إلى ملك الغير ولأنه يصح أن يجعل الملك سببا للعتق كما لو اشترى عبدا ليعتقه عن كفارة أو نذر أو اشتراه بشرط العتق ولأن العتق من باب القرب والطاعات وهو يصح النذر بها وإن لم يكن حال النذر به مملوكا كقولك لئن آتاني الله من فضله لأصدقن بكذا وكذا ذكره في الهدي النبوي قلت ولا يخفى ما فيه فإن السراية إلى ملك الغير تفرعت من إعتاقه لما يملكه من الشقص فحكم الشارع بالسراية لعدم تبعض العتق وأما قوله ولأنه يصح أن يجعل الملك سببا للعتق كما لو اشترى عبدا ليعتقه فيجاب عنه بأنه لا يعتق هذا الذي اشتراه إلا بإعتاقه كما قال ليعتقه وهذا عتق لما يملكه وأما قوله إنه يصح النذر ومثله بقوله لئن آتاني الله من فضله فهذه فيها خلاف ودليل المخالف أنه قال صلى الله عليه وسلم: "لا نذر فيما لا يملك ابن آدم" كما يفيده قوله
14- وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا نذر لابن آدم فيما لا يملك ولا عتق له فيما لا يملك ولا طلاق له فيما لا يملك" أخرجه أبو داود والترمذي وصححه ونقل عن البخاري أنه أصح ما ورد فيه تقدم الكلام في ذلك مستوفى
15- وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رفع القلم" أي ليس يجري أصالة لا أنه رفع بعد وضع والمراد برفع القلم عدم المؤاخذة لا قلم الثواب فلا ينافيه صحة إسلام الصبي المميز كما ثبت في غلام اليهودي الذي كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام فأسلم فقال: "الحمد لله الذي أنقذه من النار" وكذلك ثبت أن امرأة رفعت إليه صلى الله عليه وسلم صبيا فقالت ألهذا حج فقال: "نعم ولك أجر" ونحو هذا كثير في الأحاديث "عن ثلاثة عن النائم حتى(3/180)
يستيقظ وعن الصغير حتى يكبر وعن المجنون حتى يعقل أو يفيق" رواه أحمد والأربعة إلا الترمذي وصححه الحاكم وأخرجه ابن حبان الحديث فيه كلام كثير لأئمة الحديث وفيه دليل على أن الثلاثة لا يتعلق بهم تكليف وهو في النائم المستغرق إجماع والصغير الذي لا تمييز له وفيه خلاف إذا عقل وميز والحديث جعل غاية رفع القلم عنه إلى أن يكبر فقيل إلى أن يطيق الصيام ويحصي الصلاة وهذا لأحمد وقيل إذا بلغ اثنتي عشرة سنة وقيل إذا ناهز الاحتلام وقيل إذا بلغ والبلوغ يكون في حق الذكر مع إنزال المني إجماعا وفي حق الأنثى عند الهادوية وبلوغ خمس عشرة سنة وإنبات الشعر الأسود المتجعد في العانة بعد تسع سنين عند الهادوية وكذلك الإمناء في حال اليقظة إذا كان لشهوة وفي الكل خلاف معروف وأما المجنون فالمراد به زائل العقل فيدخل فيه السكران والطفل كما يدخل المجنون وقد اختلف في طلاق السكران على قولين الأول أنه لا يقع وإليه ذهب عثمان وجابر وزيد و عمر بن عبد العزيز وجماعة من السلف وهو مذهب أحمد وأهل الظاهر لهذا الحديث ولقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} فجعل قول السكران غير معتبر لأنه لا يعلم ما يقول بأنه غير مكلف لانعقاد الإجماع على أن من شرط التكليف العقل ومن لا يعقل ما يقول فليس بمكلف أو بأنه كان يلزم أن يقع طلاقه إذا كان مكرها على شربها غير عالم بأنها خمر ولا يقوله المخالف الثاني وقوع طلاق السكران ويروى عن علي وابن عباس وجماعة من الصحابة وعن الهادي وأبي حنيفة والشافعي ومالك واحتج لهم بقوله تعالى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} فإنه نهي لهم عن قربانها حال السكر والنهي يقتضي أنهم مكلفون حال سكرهم والمكلف يصح منه الإنشاءات وبأن إيقاع الطلاق عقوبه له وبأن ترتيب الطلاق على التطليق من باب ربط الأحكام بأسبابها فلا يؤثر فيه السكر وبأن الصحابة أقاموه مقام الصاحي في كلامه فإنهم قالوا إذا شرب سكر وإذا سكر هذي فإذا هذي افترى وحد المفتري ثمانون وبأنه أخرج سعيد بن منصور عنه صلى الله عليه وسلم "لا قيلولة في الطلاق" وأجيب بأن الآية خطاب لهم حال صحوهم ونهي لهم قبل سكرهم أن يقربوا الصلاة حالة أنهم لا يعلمون ما يقولون فهي دليل لنا كما سلف وبأن جعل الطلاق عقوبة يحتاج إلى دليل على المعاقبة للسكران بفراق أهله فإن الله لم يجعل عقوبته إلا الحد وبأن ترتيب الطلاق على التطليق محل النزاع وقد قال أحمد والبتي إنه لا يلزمه عقد ولا بيع ولا غيره على أنه يلزمهم القول بترتيب الطلاق على التطليق صحة طلاق المجنون والنائم والسكران غير العاصي بسكره والصبي وبأن ما نقل عن الصحابة بأنهم قالوا إذا شرب إلى آخره فقال ابن حزم إنه خبر مكذوب باطل متناقض فإن فيه إيجاب الحد على من هذى والهاذي لا حد عليه وبأن حديث "لا قيلولة في طلاق" خبر غير صحيح وإن صح فالمراد طلاق المكلف العاقل دون من لا يعقل ولهم أدلة غير هذه لا تنهض على المدعي(3/181)
كتاب الرجعة
كتاب الرجعة
...
كتاب الرجعة
1- عن عمران بن حصين رضي الله عنه أنه سئل عن الرجل يطلق ثم يراجع ولا يشهد فقال أشهد على طلاقها وعلى رجعتها رواه أبو داود هكذا موقوفا وسنده صحيح وأخرجه البيهقي بلفظ أن عمران بن حصين سئل عمن راجع امرأته ولم يشهد فقال راجع في غير سنة فليشهد الآن وزاد الطبراني في رواية ويستغفر الله دل الحديث على شرعية الرجعة والأصل فيها قوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} الآية وقد أجمع العلماء على أن الزوج يملك رجعة زوجته في الطلاق الرجعي ما دامت في العدة من غير اعتبار رضاها ورضا وليها إذا كان الطلاق بعد المسيس وكان الحكم بصحة الرجعة مجمعا عليه لا إذا كان مختلفا فيه والحديث دل على ما دلت عليه آية سورة الطلاق وهي قوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} بعد ذكره الطلاق وظاهر الأمر وجوب الإشهاد وبه قال الشافعي في القديم وكأنه استقر مذهبه على عدم وجوبه فإنه قال المرزعي في تيسير البيان وقد اتفق الناس على أن الطلاق من غير إشهاد جائز وأما الرجعة فيحتمل أنها تكون في معنى الطلاق لأنها قرينته فلا يجب فيها الإشهاد لأنها حق للزوج ولا يجب عليه الإشهاد على قبضه ويحتمل أن يجب الإشهاد وهو ظاهر الخطاب انتهى والحديث يحتمل أنه قاله عمران اجتهادا إذ للاجتهاد فيه مسرح إلا أن قوله راجع في غير سنة قد يقال إن السنة إذا أطلقت في لسان الصحابي يراد بها سنة النبي صلى الله عليه وسلم فيكون مرفوعا إلا أنه لا يدل على الإيجاب لتردد كونه من سنته صلى الله عليه وسلم بين الإيجاب والندب والإشهاد على الرجعة ظاهر إذا كانت بالقول الصريح واتفقوا على الرجعة بالقول واختلف إذا كانت الرجعة بالفعل فقال الشافعي والإمام يحيى إن الفعل محرم فلا تحل به ولأنه تعالى ذكر الإشهاد ولا إشهاد إلا على القول وأجيب بأنه لا إ ثم عليه لأنه تعالى قال: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ} وهي زوجة والإشهاد غير واجب كما سلف وقال الجمهور يصح بالفعل واختلفوا هل من شرط الفعل النية فقال مالك لا يصح بالفعل إلا مع النية كأنه يقول لعموم الأعمال بالنيات وقال الجمهور يصح لأنها زوجة شرعا داخلة تحت قوله إلا على أزواجهم ولا يشترط النية في لمس الزوجة وتقبيلها وغيرهما إجماعا واختلف هل يجب عليه إعلامها بأنه قد راجعها لئلا تتزوج غيره فذهب الجمهور من العلماء أنه يجب عليه وقيل لا يجب وتفرع من الخلاف لو تزوجت قبل علمها بأنه راجعها فقال الأولون النكاح باطل وهي لزوجها الذي ارتجعها واستدلوا بإجماع العلماء على أن الرجعة صحيحة وإن لم تعلم بها المرأة وبأنهم أجمعوا أن الزوج الأول أحق بها قبل أن تزوج وعن مالك أنها للثاني دخل بها أو لم يدخل واستدل بما رواه ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب عن ابن المسيب أنه قال مضت السنة في الذي يطلق امرأته ثم يراجعها ثم يكتمها رجعتها فتحل فتنكح زوجا غيره أنه ليس له من أمرها شيء ولكنها لمن تزوجها إلا أنه قيل إنه لم يرو هذا إلا عن ابن شهاب فقط وهو(3/182)
الزهري فيكون من قوله وليس بحجة ويشهد لكلام الجمهور حديث الترمذي عن سمرة بن جندب أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أيما امرأة تزوجها اثنان فهي للأول منهما" فإنه صادق على هذه الصورة
واعلم أنه قال تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} في ذلك إن أرادا إصلاحا أي أحق بردهن في العدة بشرط أن يريد الزوج بردها الإصلاح وهو حسن العشرة والقيام بحقوق الزوجية فإن أراد بالرجعة غير ذلك كمن يراجع زوجته ليطلقها كما يفعله العامة فإنه يطلق ثم ينتقل من موضعه فيراجع ثم يطلق إرادة لبينونة المرأة فهذا المراجعة لم يرد بها إصلاحا ولا إقامة حدود الله فهي باطلة إذ الآية ظاهرة في أنه لا تباح له المراجعة ويكون أحق برد امرأته إلا بشرط إرادة الإصلاح وأي إرادة إصلاح في مراجعتها ليطلقها ومن قال إن قوله إن أرادوا إصلاحا ليس بشرط للرجعة فإنه قول مخالف لظاهر الآية بلا دليل
2- وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه لما طلق امرأته قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر "مره فليراجعها" متفق عليه تقدم الكلام عليه بما يكفي من غير زيادة(3/183)
باب الإيلاء والظهار والكفارة
الإيلاء لغة: الحلف وشرعا الامتناع باليمين من وطء الزوجة والظهار بكسر الظاء مشتق من الظهر لقول القائل أنت علي كظهر أمي والكفارة وهي من التكفير التغطية
1- عن عائشة رضي الله عنها قالت: "آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسائه وحرم فجعل الحرام حلالا وجعل لليمين كفارة" رواه الترمذي ورواته ثقات ورجح الترمذي إرساله على وصله الحديث دليل على جواز حلف الرجل من زوجته وليس فيه تصريح بالإيلاء المصطلح عليه في عرف الشرع وهو الحلف من وطء الزوجة اعلم أنها اختلفت الروايات في سبب إيلائه صلى الله عليه وسلم وفي الشيء الذي حرمه على روايات أحدها أنه بسبب إفشاء حفصة للحديث الذي أسره إليها واختلف في الحديث الذي أسره إليها أخرجه البخاري عن ابن عباس عن عمر في حديث طويل وأجمل في رواية البخاري هذه وفسره في رواية أخرجها الشيخان لمارية وأنه أسره إلى حفصة فأخبرت به عائشة للعسل وقيل بل أسر إلى حفصة أن أباها يلي أمر الأمة بعد أبي بكر وقال لا تخبري عائشة بتحريمي مارية وثانيها السبب في إيلائه أنه فرق هدية جاءت له بين نسائه فلم ترض زينب بنت جحش بنصيبها فزادها مرة أخرى فلم ترض فقالت عائشة لقد أقمت وجهك ترد عليك الهدية فقال: "لأنتن أهون علي الله من أن يغمني لا أدخل عليكن شهرا" أخرجه ابن سعد عن عمرة عن عائشة ومن طريق الزهري عن عمرة عن عائشة نحوه وقال ذبح ذبحا ثالثها أنه بسبب طلبهن النفقة أخرجه مسلم من حديث جابر فهذه أسباب ثلاثة إما لإفشاء بعض نسائه السر وهي حفصة والسر أحد ثلاثة إما(3/183)
تحريمه مارية أو العسل أو بتحريج صدره من قبل ما فرقه بينهن من الهدية أو تضييقهن في طلب النفقة قال المصنف واللائق بمكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم وسعة صدره وكثرة صفحه أن يكون مجموع هذه الأشياء سببا لاعتزالهن وقولها وحرم أي حرم مارية أو العسل وليس فيه دليل على أن التحريم للجماع حتى يكون من باب الإيلاء الشرعي فلا يوجه لجزم ابن بطال وغيره أنه صلى الله عليه وسلم امتنع من جماع نسائه ذلك الشهر إن أخذه من هذا الحديث ولا مستند له غيره فإنه قال المصنف لم أقف على نقل صريح في ذلك فإنه لا يلزم من عدم دخوله عليهن أن لا تدخل إحداهن عليه في المكان الذي اعتزل فيه إلا إن كان المكان المذكور في المسجد فيتم استلزام عدم الدخول عليهن مع استمرار الإقامة في المسجد العزم على ترك الوطء لامتناع الوطء في المسجد
2- وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال إذا مضت أربعة أشهر وقف المولي حتى يطلق ولا يقع عليه الطلاق حتى يطلق أخرجه البخاري الحديث كالتفسير لقوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} وقد اختلف العلماء في مسائل من الإيلاء الأولى في اليمين فإنهم اختلفوا فيها فقال الجمهور ينعقد الإيلاء بكل يمين على الامتناع من الوطء سواء حلف بالله أو بغيره وقالت الهادوية أنه لا ينعقد إلا بالحلف بالله قالوا لأنه لا يكون يمينا إلا ما كان بالله تعالى فلا تشمل الآية ما كان بغيره قلت وهو الحق الثانية في الأمر الذي تعلق به الإيلاء وهو ترك الجماع صريحا أو كناية أو ترك الكلام عند البعض والجمهور على أنه لا بد فيه من التصريح بالامتناع من الوطء لا مجرد الامتناع عن الزوجة ولا كلام أن الأصل في الإيلاء قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} الآية فإنها نزلت لإبطال ما كان عليه الجاهلية من إطالة مدة الإيلاء فإنه كان الرجل يولي من امرأته سنة وسنتين فأبطل الله تعالى ذلك وأنظر المولي أربعة أشهر فإما أن يفيء أو يطلق الثالثة اختلفوا في مدة الإيلاء فعند الجمهور والحنفية أنه لا بد أن يكون أكثر من أربعة أشهر وقال الحسن وآخرون ينعقد بقليل الزمان وكثيره لقوله تعالى- يؤلون من نسائهم- ورد بأنه لا دليل في الآية إذ قد قدر الله المدة فيها بقوله تعالى: {أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} فالأربعة قد جعلها الله مدة الإمهال وهي كأجل الدين لأنه تعالى قال: {فَإِنْ فَاءُوا} بفاء التعقيب وهو بعد الأربعة فلو كان المدة أربعة أو أقل لكانت قد انقضت فلا يطالب بعدها والتعقيب للمدة لا للإيلاء لبعده والرابعة أن مضي المدة لا يكون طلاقا عند الجمهور وقال أبو حنيفة بل إذا مضت الأربعة الأشهر طلقت المرأة قالوا والدليل على أنه لا يكون بمضيها طلاقا أنه تعالى خير في الآية بين الفيئة والعزم على الطلاق فيكونان في وقت واحد وهو بعد مضي الأربعة فلو كان الطلاق يقع بمضي الأربعة والفيئة بعدها لم يكن تخيير لأن حق المخير فيهما أن يقع أحدهما في الوقت الذي يصح فيه الآخر كالكفارة لأنه تعالى أضاف عزم الطلاق إلى الرجل وليس مضي المدة من فعل الرجل ولحديث ابن عمر هذا الذي نحن في سياقه وإن كان موقوفا فهو مقو للأدلة الخامسة الفيئة هي الرجوع ثم اختلفوا بماذا تكون فقيل تكون(3/184)
بالوطء على القادر والمعذور يبين عذره بقوله لو قدرت لفئت لأنه الذي يقدر عليه لقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} وقيل بقوله رجعت عن يميني وهذا للهادوية كأنهم يقولون المراد رجوعه عن يمينه لا إيقاع ما حلف عليه وقيل تكون في حق المعذور بالنية لأنها توبة يكفي فيها العزم ورد بأنها توبة عن حق مخلوق فلا بد من إفهامه الرجوع عن الأمر الذي عزم عليه السادسة اختلفوا هل تجب الكفارة على من فاء فقال الجمهور تجب لأنها يمين قد حنث فيها فتجب الكفارة لحديث "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير" وقيل لا تجب لقوله تعالى: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وأجيب بأن الغفران يختص بالذنب لا بالكفارة ويدل للمسألة الخامسة قوله
3- وعن سليمان بن يسار بفتح المثناة فسين مهملة مخففة بعد الألف راء هو أبو أيوب سليمان بن يسار مولى ميمونة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أخو عطاء بن يسار كان سليمان من فقهاء المدينة وكبار التابعين ثقة فاضلا ورعا حجة هو أحد الفقهاء السبعة روى عن ابن عباس وأبي هريرة وأم سلمة مات سنة سبع ومائة وهو ابن ثلاث وسبعين سنة قال أدركت بضعة عشر رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يقفون المولي رواه الشافعي وفي الإرشاد لابن كثير أنه قال الشافعي بعد رواية الحديث وأقل ذلك ثلاثة عشر اه يريد أقل ما يطلق عليه لفظ بضعة عشر وقوله يقفون بمعنى يقفونه أربعة أشهر كما أخرجه إسماعيل هو ابن أبي إدريس عن سليمان أيضا قال أدركنا الناس يقفون الإيلاء إذا مضت الأربعة فإطلاق رواية الكتاب محمولة على هذه الرواية المقيدة وقد أخرج الدارقطني من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه أنه قال سألت اثنى عشر رجلا من الصحابة عن الرجل يولي فقالوا ليس عليه شيء حتى تمضي أربعة أشهر فيوقف فإن فاء وإلا طلق وأخرج إسماعيل المذكور من حديث ابن عمر أنه قال إذا مضت أربعة أشهر يوقف حتى يطلق ولا يقع عليه الطلاق حتى يطلق وأخرج الإسماعيلي أثر ابن عمر بلفظ أنه كان يقول أيما رجل آلى من امرأته فإذا مضت أربعة أشهر يوقف حتى يطلق أو يفيء ولا يقع عليها طلاق إذا مضت حتى يوقف وفي الباب آثار كثيرة عن السلف كلها قاضية بأنه لا بد بعد مضي الأربعة الأشهر من إيقاف المولي ومعنى إيقافه هو أن يطالب إما بالفيء وإما بالطلاق ولا يقع الطلاق بمجرد مضي المدة وإلى هذا ذهب الجماهير وعليه دل ظاهر الآية إذ قوله تعالى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} يدل قوله {سَمِيعٌ} على أن الطلاق يقع بقول يتعلق به السمع ولو كان يقع بمضي المدة لكفى قوله {عَلِيمٌ} لما عرف من بلاغة القرآن وأن فواصل الآيات تشير إلى ما دلت عليه الجملة السابقة فإذا وقع الطلاق فإنه يكون رجعيا عند الجمهور وهو الظاهر ولغيرهم تفاصيل لا يقوم عليها دليل
4- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال كان إيلاء الجاهلية السنة والسنتين فوقت الله أربعة أشهر فإن كان أقل من أربعة أشهر فليس بإيلاء أخرجه البيهقي وأخرجه(3/185)
الطبراني أيضا عنه وقال الشافعي كانت العرب في الجاهلية تحلف بثلاثة أشياء وفي لفظ كانوا يطلقون الطلاق والظهار والإيلاء فنقل تعالى الإيلاء والظهار عما كان عليه الجاهلية من إيقاع الفرقة على الزوجة إلى ما استقر عليه حكمهما في الشرع وبقي حكم الطلاق على ما كان عليه والحديث دليل على أن أقل ما ينعقد به الإيلاء أربعة أشهر
5- وعن ابن عباس رضي الله عنه أن رجلا ظاهر من امرأته ثم وقع عليها فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني وقعت عليها قبل أن أكفر قال: "فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله به" رواه الأربعة وصححه الترمذي ورجح النسائي إرساله ورواه البزار من وجه آخر عن ابن عباس وزاد فيه كفر ولا تعد هذا من باب الظهار والحديث لا يضر إرساله كما قررناه من أن إتيانه من طريق مرسلة وطريق موصولة لا يكون علة بل يزيده قوة والظهار مشتق من الظهر لأنه قول الرجل لامرأته أنت علي كظهر أمي فأخذ اسمه من لفظه وكنوا بالظهر عما يستهجن ذكره وأضافه إلى الأم لأنها أم المحرمات وقد أجمع العلماء على تحريم الظهار وإ ثم فاعله كما قال تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً} وأما حكمه بعد إيقاعه فيأتي وقد اتفق العلماء على أنه يقع بتشبيه الزوجة بظهر الأم ثم اختلفوا فيه في مسائل: الأولى إذا شبهها بعضو منها غيره فذهب الأكثر إلى أنه يكون ظهارا أيضا وقيل يكون ظهارا إذا شبهها بعضو يحرم النظر إليه وقد عرفت أن النص لم يرد إلا في الظهر الثانية أنهم اختلفوا أيضا فيما إذا شبهها بغير الأم من المحارم فقالت الهادوية لا يكون ظهارا لأن النص ورد في الأم وذهب آخرون منهم مالك والشافعي وأبو حنيفة إلى أنه يكون ظهارا ولو شبهها بمحرم من الرضاع ودليلهم القياس فإن العلة التحريم المؤبد وهو ثابت في المحارم كثبوته في الأم وقال مالك وأحمد إنه ينعقد وإن لم يكن المشبه به مؤبد التحريم كالأجنبية بل قال أحمد حتى في البهيمة ولا يخفى أن النص لم يرد إلا في الأم وما ذكر من إلحاق غيرها فبالقياس وملاحظة المعنى ولا ينتهض دليلا على الحكم الثالثة أنهم اختلفوا أيضا هل ينعقد الظهار من الكافر فقيل نعم لعموم الخطاب في الآية وقيل لا ينعقد منه لأن من لوازمه الكفارة وهي لا تصح من الكافر ومن قال ينعقد منه قال يكفر بالعتق أو الإطعام لا بالصوم لتعذره في حقه وأجيب بأن العتق والإطعام إذا فعلا لأجل الكفارة كانا قربة ولا قربة لكافر الرابعة أنهم اختلفوا أيضا في الظهار من الأمة المملوكة فذهبت الهادوية والحنفية والشافعية أنه لا يصح الظهار منها لأن قوله تعالى: {مِنْ نِسَائِهِمْ} لا يتناول المملوكة في عرف اللغة للاتفاق في الإيلاء على أنها غير داخلة في عموم النساء وقياسا على الطلاق وذهب مالك وغيره إلى أنه يصح من الأمة لعموم لفظ النساء إلا أنه اختلف القائلون بصحته منها في الكفارة فقيل لا تجب إلا نصف الكفارة فكأنه قاس ذلك على الطلاق عنده الخامسة الحديث دليل على أنه يحرم وطء الزوجة التي ظاهر منها قبل التكفير وهو مجمع عليه لقوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} فلو وطىء لم يسقط التكفير ولا يتضاعف(3/186)
لقوله صلى الله عليه وسلم: "حتى تفعل ما أمرك الله" قال الصلت بن دينار سألت عشرة من الفقهاء عن المظاهر يجامع قبل التكفير فقالوا كفارة واحدة وهو قول الفقهاء الأربعة وعن ابن عمر أن عليه كفارتين إحداهما للظهار الذي اقترن به العود والثانية للوطء المحرم كالوطء في رمضان نهارا ولا يخفى ضعفه وعن الزهري وابن جبير أنها تسقط الكفارة لأنه فات وقتها فإنه قبل المسيس وقد فات وأجيب بأن فوات وقت الأداء لا يسقط الثابت في الذمة كالصلاة وغيرها من العبادات واختلف في تحريم المقدمات فقيل حكمها حكم المسيس في التحريم لأنه شبهها بمن يحرم في حقها الوطء ومقدماته وهذا قول الأكثر وعن الأقل لا تحرم المقدمات لأن المسيس هو الوطء وحده فلا يشمل المقدمات إلا مجازا ولا يصح أن يرادا إلا أنه جمع بين الحقيقة والمجاز وعن الأوزاعي يحل له الاستمتاع بما فوق الإزار
6- وعن سلمة بن صخر هو البياضي بفتح الموحدة وتخفيف المثناة التحتية وضاد معجمة أنصاري خزرجي كان أحد البكائين روى عنه سليمان بن يسار وابن المسيب قال البخاري لا يصح حديثه يعني هذا الذي في الظهار قال دخل رمضان فخفت أن أصيب امرأتي وفي الإرشاد قال إني كنت امرءا أصيب من النساء ما لا يصيب غيري فظاهرت منها فانكشف لي شيء منها ليلة فوقعت عليها فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "حرر رقبة" فقلت ما أملك إلا رقبتي قال: "فصم شهرين متتابعين" قلت وهل أصبت الذي أصبت إلا من الصيام قال: "أطعم فرقا من تمر ستين مسكينا" أخرجه أحمد والأربعة إلا النسائي وصححه ابن خزيمة وابن الجارود وقد أعله عبد الحق بالانقطاع بين سليمان بن يسار وسلمة لأن سليمان لم يدرك سلمة حكى ذلك الترمذي عن البخاري وفي الحديث مسائل الأولى أنه دل على ما دلت عليه الآية من ترتيب خصال الكفارة والترتيب إجماع بين العلماء الثانية أنها أطلقت الرقبة في الآية وفي الحديث أيضا ولم تقيد بالإيمان كما قيدت به في آية القتل فاختلف العلماء في ذلك فذهب زيد بن علي وأبو حنيفة وغيرهما إلى عدم التقييد وأنها تجزئ رقبة ذمية وقالوا لا تقيد بما في آية القتل لاختلاف السبب وقد أشار الزمخشري إلى عدم اعتبار القياس لعدم الاشتراك في العلة فإن المناسبة أنه لما أخرج رقبة مؤمنة من صفة الحياة إلى الموت كان كفارته إدخال رقبة مؤمنة في حياة الحرية وإخراج عن الرقية فإن الرق يقتضي سلب التصرف عن المملوك فأشبه الموت الذي يقتضي سلب التصرف عن الميت فكان في إعتاقه إثبات التصرف فأشبه الإحياء الذي يقتضي إثبات التصرف للحي وذهبت الهادوية ومالك والشافعي إلى أنه لا يجزىء إعتاق رقبة كافرة وقالوا تقيد آية الظهار كما قيدت آية القتل وإن اختلف السبب قالوا وقد أيدت ذلك السنة فإنه لما جاءه صلى الله عليه وسلم السائل يستفتيه في عتق رقبة(3/187)
كانت عليه سأل صلى الله عليه وسلم الجارية " أين الله؟" فقالت في السماء فقال: "من أنا؟" فقالت أنت رسول الله قال: "فأعتقها فإنها مؤمنة" أخرجه البخاري وغيره قالوا فسؤاله صلى الله عليه وسلم لها عن الإيمان وعدم سؤاله عن صفة الكفارة وسببها دال على اعتبار الإيمان في كل رقبة تعتق عن سبب لأنه قد تقرر أن ترك الاستفصال مع قيام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال كما قد تقرر قلت الشافعي قائل بهذه القاعدة فإن قال بها من معه من المخالفين كان الدليل على التقييد هو السنة لا الكتاب أنهم قرروا في الأصول أنه لا يحمل على المقيد إلا مع اتحاد السبب ولكنه وقع في حديث أبي هريرة عند أبي داود ما لفظه فقال يا رسول الله إن علي رقبة مؤمنة الحديث إلى آخره قال عز الدين الذهبي هذا الحديث صحيح وحينئذ فلا دليل في الحديث على ما ذكر فإنه صلى الله عليه وسلم لم يسألها عن الإيمان إلا لأن السائل قال عليه رقبة مؤمنة الثالثة اختلف العلماء في الرقبة المعيبة بأي عيب فقالت الهادوية وداود تجزئ المعيبة لتناول اسم الرقبة لها وذهب آخرون إلى عدم إجزاء المعيبة قياسا على الهدايا والضحايا بجامع التقرب إلى الله وفصل الشافعي فقال إن كانت كاملة المنفعة كالأعور أجزأت وإن نقصت منافعه لم تجز إذا كان ذلك ينقصها نقصانا ظاهرا كالأقطع والأعمى إذ العتق تمليك المنفعة وقد نقصت وللحنفية تفاصيل في العيب يطول تعدادها ويعز قيام الأدلة عليها الرابعة أن قوله صلى الله عليه وسلم: "فصم شهرين متتابعين" دال على وجوب التتابع وعليه دلت الآية وشرطت أن تكون قبل المسيس فلو مس فيهما استأنف وهو إجماع إذا وطئها نهارا متعمدا وكذا ليلا عند الهادوية و أبي حنيفة وآخرين ولو ناسيا للآية وذهب الشافعي وأبو يوسف إلى أنه لا يضر ويجوز لأن علة النهي إفساد الصوم ولا إفساد بوطء الليل وأجيب بأن الآية عامة واختلفوا إذا وطىء نهارا ناسيا فعند الشافعي وأبي يوسف لا يضر لأنه لم يفسد الصوم وقالت الهادوية وأبو حنيفة بل يستأنف كما إذا وطىء عامدا لعموم الآية قالوا وليست العلة إفساد الصوم بل دل عموم الدليل للأحوال كلها على أنها لا تتم الكفارة إلا بوقوعها قبل المسيس الخامسة اختلفوا أيضا فيما إذا عرض له في أثناء صيامه عذر مأيوس ثم زال هل يبني على صومه أو يستأنف فقالت الهادوية و مالك وأحمد إنه يبني على صومه لأنه فرقه بغير اختياره وقال أبو حنيفة وهو أحد قولي الشافعي بل يستأنف لاختياره التفريق وأجيب بأن العذر صيره كغير المختار وأما إذا كان العذر مرجوا فقيل يبني أيضا وقيل لا يبني لأن رجاء زوال العذر صيره كالمختار وأجيب بأنه مع العذر لا اختيار له السادسة أن ترتيب قوله صلى الله عليه وسلم فصم على قول السائل ما أملك إلا رقبتي يقضي بما قضت به الآية من أنه لا ينتقل إلى الصوم إلا لعدم وجدان الرقبة فإن وجد الرقبة إلا أنه يحتاجها لخدمته للعجز فإنه لا يصح منه الصوم فإن قيل إنه قد صح التيمم لواجد الماء إذا كان يحتاج إليه فهلا قستم هذا عليه قلت لا قياس لأن التيمم قد شرع مع العذر الفراش الاحتياج إلى الماء كان لعذر فإن قيل فهل يجعل الشبق إلى الجماع عذرا يكون له معه العدول إلى الإطعام ويعد صاحب(3/188)
الشبق غير مستطيع للصوم قلت هو ظاهر حديث سلمة وقوله في الاعتذار عن التكفير بالصيام وهل أصبت الذي أصبت إلا من الصيام وإقراره صلى الله عليه وسلم على عذره وقوله أطعم يدل على أنه عذر يعدل معه إلى الإطعام السابعة أن النص القرآني والنبوي صريح في إطعام ستين مسكينا كأنه جعل عن كل يوم من الشهرين إطعام مسكين واختلف العلماء هل لا بد من إطعام ستين مسكينا أو يكفي إطعام مسكين واحد ستين يوما فذهبت الهادوية ومالك وأحمد والشافعي إلى الأول لظاهر الآية وذهبت الحنفية وهو أحد قولي زيد بن علي والناصر إلى الثاني وأنه يكفي إطعام واحد ستين يوما أو أكثر من واحد بقدر إطعام ستين مسكينا قالوا لأنه في اليوم الثاني مستحق كقبل الدفع إليه وأجيب بأن ظاهر الآية تغاير المساكين بالذات ويروى عن أحمد ثلاثة أقوال كالقولين هذين والثالث إن وجد غير المسكين لم يجز الصرف إليه وإلا أجزأ إعادة الصرف إليه الثامنة اختلف في قدر الإطعام لكل مسكين فذهبت الهادوية والحنفية إلى أن الواجب ستون صاعا من تمر أو ذرة أو شعير أو نصف صاع من بر وذهب الشافعي إلى أن الواجب لكل مسكين مد والمد ربع الصاع واستدل بقوله في حديث الباب "أطعم عرقا من تمر ستين مسكينا" والعرق مكتل يأخذ خمسة عشر صاعا من تمر ولأنه أكثر الروايات في حديث سلمة هذا واستدل الأولون بأنه ورد في رواية عبد الرزاق اذهب إلى صاحب صدقة بني زريق فقل له فليدفعها إليك فأطعم عنك منها وسقا ستين مسكينا قالوا والوسق ستون صاعا وفي رواية لأبي داود والترمذي فأطعم وسقا من تمر ستين مسكينا وجاء في تفسير العرق أنه ستون صاعا وفي رواية لأبي داود أن العرق مكتل يسع ثلاثين صاعا قال أبو داود وهذا أصح الحديثين ولما اختلف في تفسير العرق على ثلاثة أقوال واضطربت الروايات فيه جنح الشافعي إلى الترجيح بالكثرة وأكثر الروايات خمسة عشر صاعا وقال الخطابي في معالم السنن العرق السقيفة التي من الخوص فيتخذ منها المكاتل قال وجاء تفسيره أنه ستون صاعا وفي رواية لأبي داود يسع ثلاثين صاعا وفي رواية سلمة يسع خمسة عشر صاعا فذكر أن العرق يختلف في السعة والضيق قال فذهب الشافعي إلى رواية الخمسة عشر صاعا قلت يؤيد قوله أن الأصل براءة الذمة عن الزائد وهو وجه الترجيح التاسعة في الحديث دليل على أن الكفارة لا تسقط جميع أنواعها بالعجز وفيه خلاف فذهب الشافعي وأحد الروايتين عن أحمد إلى عدم سقوطها بالعجز لما في حديث أبي داود عن خويلة بنت مالك بن ثعلبة قالت ظاهر مني زوجي أوس بن الصامت إلى أن قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتق رقبة قالت لا يجد قال يصوم شهرين متتابعين قالت إنه شيخ كبير ما به من صيام قال يطعم ستين مسكينا قالت ماعنده شيء يتصدق به قال فإني سأعينه بعرق الحديث فلو كان يسقط عنه بالعجز لأبانه صلى الله عليه وسلم ولم يعنه من عنده وذهب أحمد في رواية وطائفة إلى سقوطها بالعجز كما تسقط الواجبات بالعجز عنها وعن أبدالها وقيل إنها تسقط كفارة الوطء في رمضان بالعجز عنها لا غيرها من الكفارات قالوا لأن النبي صلى الله عليه وسلم(3/189)
أمر المجامع في نهار رمضان أن يأكل الكفارة هو وعياله والرجل لا يكون مصرفا لكفارته وقال الأولون إنما حلت له لأنه إذا عجز وكفر عنه الغير جاز أن يصرفها إليه وهو مذهب أحمد في كفارة الوطء في رمضان وله في غيرها من الكفارات قولان وهو نظير ما قالته الهادوية من أنه يجوز للإمام إذا قبض الزكاة من شخص أن يردها إليه العاشرة قال الخطابي دل الحديث على أن الظهار المقيد كالظهار المطلق وهو إذا ظاهر من امرأته إلى مدة ثم أصابها قبل انقضاء تلك المدة واختلفوا فيه إذا بر ولم يحنث فقال مالك وابن أبي ليلى إذا قال لامرأته أنت علي كظهر أمي إلى الليل لزمته الكفارة وإن لم يقربها وقال أكثر أهل العلم لا شيء عليه إذا لم يقربها وجعل الشافعي في الظهار المؤقت قولين أحدهما أنه ليس بظهار
فائدة: قد يتوهم أن سبب نزول آية الظهار حديث سلمة هذا لاتفاق الحكمين في الآية والحديث وليس كذلك بل سبب نزولها قصة أوس بن الصامت ذكره ابن كثير في الإرشاد من حديث خويلة بنت ثعلبة قالت في والله في أوس أنزل الله سورة المجادلة قالت كنت عنده وكان شيخا كبيرا قد ساء خلقه وقد ضجر قالت فدخل علي يوما فراجعته بشيء فغضب فقال أنت علي كظهر أمي قالت ثم خرج والحاصل في نادي قومه ساعة ثم دخل علي فإذا هو يريدني عن نفسي قالت قلت كلا والذي نفس خويلة بيده لا تخلص إلي وقد قلت ما قلت فحكم الله ورسوله فيهما الحديث رواه الإمام أحمد وأبو داود وإسناده مشهور وأخذ منه أنه إذا قصد بلفظ الظهار الطلاق لم يقع الطلاق وكان ظهارا وإلى هذا ذهب أحمد والشافعي وغيرهما قال الشافعي ولو ظاهر يريد به طلاقا كان ظهارا ولو طلق يريد ظهارا كان طلاقا وقال أحمد إذا قال أنت علي كظهر أمي وعنى به الطلاق كان ظهارا ولا تطلق وعلله ابن القيم بأن الظهار كان طلاقا في الجاهلية فنسخ فلم يجز أن يعاد إلى الأمر المنسوخ وأيضا فأوس إنما نوى به الطلاق لما كان عليه فأجرى عليه حكم الظهار دون الطلاق وأيضا فإنه صريح في حكمه فلم يجز في جعله كناية في الحكم الذي أبطل الله شرعه وقضاء الله أحق وحكمه أوجب(3/190)
باب اللعان
هو مأخوذ من اللعن لأنه يقول الزوج في الخامسة لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ويقال فيه اللعان والالتعان والملاعنة واختلف في وجوبه على الزوج فقال في الشفاء للأمير الحسين يجب إذا كان ثمة ولد وعلم أنه لم يقربها وفي المذهب والانتصار أنه مع غلبة الظن بالزنا في المرأة أو العلم يجوز ولا يجب ومع عدم الظن يحرم
1- وعن ابن عمر رضي الله عنه قال سأل فلان هو عويمر العجلاني كما في أكثر الروايات فقال يا رسول الله أرأيت أن لو وجد أحدنا امرأته على فاحشة كيف يصنع إن تكلم تكلم بأمر عظيم وإن سكت سكت على مثل ذلك أي على أمر عظيم فلم يجبه فلما كان بعد ذلك أتاه فقال إن الذي سألتك عنه قد ابتليت به فأنزل الله الآيات(3/190)
في سورة النور والأكثر في الروايات أن سبب نزول الآيات قصة هلال بن أمية وزوجته وكانت متقدمة على قصة عويمر وإنما تلاها صلى الله عليه وسلم لأن حكمها عام للأمة فتلاهن عليه ووعظه وذكره عطف تفسير إذ الوعظ هو التذكير وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة الموعود به في قوله: {لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} قال لا والذي بعثك الفراش ما كذبت عليها ثم دعاها فوعظها كذلك قالت لا والذي بعثك الفراش إنه لكاذب فبدأ بالرجل فشهد أربع شهادات بالله ثم ثنى بالمرأة ثم فرق بينهما رواه مسلم في الحديث مسائل الأولى قوله فلم يجبه ووقع عند أبي داود فكره صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها قال الخطابي: يريد المسألة عما لا حاجة بالسائل إليه وقال الشافعي كانت المسائل فيما لم ينزل فيه حكم زمن نزول الوحي ممنوعة لئلا ينزل في ذلك ما يوقعهم في مشقة وتعنت كما قال تعالى: {لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ} وفي الحديث الصحيح أعظم الناس جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته وقال الخطابي قد وجدنا المسألة في كتاب الله على وجهين أحدهما ما كانت على وجه التبيين والتعليم فيما يلزم الحاجة إليه من أمر الدين والآخر ما كان على الطريق التعنت والتكلف فأباح النوع الأول وأمر به وأجاب عنه فقال :{فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ} وقال: {فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} وأجابه تعالى في الآيات {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} وغيرها وقال في النوع الآخر {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} وقال: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} فكل ما كان من السؤال على هذا الوجه فهو مكروه وإذا وقع السكوت عن جواب فإنما هو زجر وردع للسائل فإذا وقع الجواب فهو عقوبة وتغليظ الثانية في قوله فبدأ بالرجل ما يدل على أنه يبدأ به وهو قياس الحكم الشرعي لأنه المدعي فيقدم وبه وقعت البداءة في الآية وقد وقع الإجماع على أن تقديمه سنة واختلف هل تجب البداءة به أم لا فذهب الجماهير إلى وجوبها لقوله صلى الله عليه وسلم لهلال البينة وإلا حد في ظهرك فكانت البداية به لدفع الحد عن الرجل فلو بدأ بالمرأة كان دافعا لأمر لم يثبت وذهب أبو حنيفة إلى أنها تصح البداءة بالمرأة لأن الآية لم تدل على لزوم البداءة بالرجل لأن العطف فيها بالواو وهي لا تقتضي الترتيب وأجيب عنه بأنها وإن لم تقتض الترتيب فإنه تعالى لا يبدأ إلا بما هو الأحق في البداءة والأقدم في العناية وبين فعله صلى الله عليه وسلم ذلك فهو مثل قوله نبدأ بما بدأ الله به في وجوب البداءة بالصفا الثالثة قوله ثم فرق بينهما دال على أن الفرقة بينهما لا تقع إلا بتفريق الحاكم لا بنفس اللعان وإلى هذا ذهب كثير مستدلين بهذا اللفظ في الحديث وأنه ثبت في الصحيح بأن الرجل طلقها ثلاثا بعد تمام اللعان تركها النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ولو كانت الفرقة تقع بنفس اللعان لبين صلى الله عليه وسلم أن طلاقه في غير محله وقال الجمهور بل الفرقة تقع بنفس اللعان وإنما اختلفوا هل تحصل الفرقة بتمام لعانه وإن لم تلتعن هي فقال الشافعي تحصل به وقال أحمد لا تحصل إلا بتمام(3/191)
لعانهما وهو المشهور عند المالكية وبه قالت الظاهرية واستدلوا بما جاء في صحيح مسلم من قوله صلى الله عليه وسلم ذلكم التفريق بين كل متلاعنين وقال ابن العربي أخبر صلى الله عليه وسلم بقوله ذلكم عن قوله لا سبيل لك عليها قال وكذا حكم كل متلاعنين فإن كان الفراق لا يكون إلا بحكم فقد نفذ الحكم فيه من الحاكم الأعظم صلى الله عليه وسلم بقوله ذلكم التفريق بين كل متلاعنين قالوا وقوله فرق بينهما معناه إظهار ذلك وبيان حكم الشرع فيه لا أنه أنشأ الفرقة بينهما قالوا فأما طلاقه إياها فلم يكن عن أمره صلى الله عليه وسلم وبأنه لم يزد التحريم الواقع باللعان إلا تأكيدا فلا يحتاج إلى إنكاره وبأنه لو كان لا فرقة إلا بالطلاق لجاز له الزواج بها بعد أن تنكح زوجا غيره وقد أخرج أبو داود عن ابن عباس الحديث وفيه وقد وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا بيت لها عليه ولا قوت من أجل أنهما يتفرقان من غير طلاق ولا متوفى عنها وأخرج أبو داود من حديث سهل بن سعد في حديث المتلاعنين قال مضت السنة بعد في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبدا وأخرجه البيهقي بلفظ "فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وقال لا يجتمعان أبدا" وعن علي وابن مسعود قالا مضت السنة بين المتلاعنين أن لا يجتمعا أبدا وعن عمر يفرق بينهما ولا يجتمعان أبدا الرابعة اختلف العلماء في فرقة اللعان هل هي فسخ أو طلاق بائن فذهبت الهادوية والشافعي وأحمد وغيرهم إلى أنها فسخ مستدلين بأنها توجب تحريما مؤبدا فكانت فسخا كفرقة الرضاع إذ لا يجتمعان أبدا ولأن اللعان ليس صريحا في الطلاق ولا كناية فيه وذهب أبو حنيفة إلى أنها طلاق بائن مستدلا بأنها لا تكون إلا من زوجة فهي من أحكام النكاح المختصة فهي طلاق إذ هو من أحاكم النكاح المختصة بخلاف الفسخ فإنه قد يكون من أحكام غيره النكاح كالفسخ بالعيب وأجيب بأنه لا يلزم من اختصاصه بالنكاح أن يكون طلاقا كما أنه لا يلزم فيه نفقة ولا غيرها الخامسة وهي فرع للرابعة اختلفوا لو أكذب نفسه بعد اللعان هل تحل له الزوجة فقال أبو حنيفة تحل له لزوال المانع وهو قول سعيد بن المسيب فإنه قال فإن أكذب نفسه فإنه خاطب من الخطاب وقال ابن جبير ترد إليه ما دامت في العدة وقال الشافعي وأحمد لا تحل له أبدا لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا سبيل لك عليها" قلت قد يجاب عنه بأنه صلى الله عليه وسلم قاله لمن التعن ولم يكذب نفسه السادسة في حديث لعان هلال بن أمية أنه قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء الحديث عند أبي داود وغيره قال الخطابي فيه من الفقه أن الزوج إذا قذف امرأته برجل بعينه ثم تلاعنا فإن اللعان يسقط عنه الحد فيصير في التقدير ذكره المقذوف به تبعا ولا يعتبر حكمه وذلك أنه قال صلى الله عليه وسلم لهلال بن أمية: "البينة أو حد في ظهرك" فلما تلاعنا لم يتعرض لهلال بالحد ولا يروى في شيء من الأخبار أن شريك بن سحماء عفا عنه فعلم أن الحد الذي كان يلزمه بالقذف سقط عنه باللعان وذلك لأنه مضطر إلى ذكر من يقذفها به لإزالة الضرر عن نفسه فلم يحمل نفسه على القصد له بالقذف وإدخال الضرر عليه قلت ولا يخفى أنه لا ضرورة في تعيين من قذفها به قال(3/192)
وقال الشافعي إنما يسقط الحد عنه إذا ذكر الرجل وسماه في اللعان فإن لم يفعل ذلك حد له وقال أبو حنيفة الحد لازم له وللرجل مطالبته به وقال مالك يحد للرجل ويلاعن للزوجة انتهى قلت ولا دليل في حديث هلال على سقوط الحد بالقذف لأنه حق للمقذوف ولم يرد أنه طالب به حتى يقول له صلى الله عليه وسلم قد سقط باللعان أو يحد القاذف فيتبين الحكم والأصل ثبوت الحد على القاذف واللعان إنما شرع لدفع الحد عن الزوج والزوجة
2- وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للمتلاعنين: "حسابكما على الله" بينه بقوله أحدكما كاذب فإذا كان أحدهما كاذبا فالله هو المتولي لجزائه لاسبيل لك عليها هو إبانة للفرقة بينهما كما سلف قال يا رسول الله مالي يريد به الصداق الذي سلمه إليها قال: "إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها وإن كنت كذبت عليها فذاك أبعد لك منها" متفق عليه الحديث أفاد ما سلف من الفراق بينهما وأن أحدهما كاذب في نفس الأمر وحسابه على الله وأن لا يرجع بشيء مما سلمه من الصداق لأنه إن كان صادقا في القذف فقد استحقت المال بما استحل منها وإن كان كاذبا فقد استحقته أيضا بذلك ورجوعه إليه أبعد لأنه هضمها بالكذب عليها فكيف يرتجع ما أعطاها
3- وعن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبصروها فإن جاءت به أبيض سبطا" بفتح السين المهملة وكسر الباء الموحدة بعدها طاء مهملة وهو الكامل الخلق من الرجال "فهو لزوجها وإن جاءت به أكحل" بفتح الهمزة وسكون الكاف هو الذي منابت أجفانه كلها سود كأن فيها كحلا وهي خلقة جعدا بفتح الجيم وسكون العين المهملة فدال مهملة وهو من الرجال القصير "فهو للذي رماها به" متفق عليه ولهما في أخرى فجاءت به على النعت المكروه وفي الأحاديث ثبتت له عدة صفات وفي رواية لهما وللنسائي أنه قال صلى الله عليه وسلم بعد سرد صفات مافي بطنها "اللهم بين" فوضعت شبيها بالذي ذكر زوجها أنه وجده عندها وفي الحديث دليل على أنه يصح اللعان للمرأة الحامل ولا يؤخر إلى أن تضع وإليه ذهب الجمهور لهذا الحديث وقالت الهادوية وأبو يوسف ومحمد ويروى عن أبي حنيفة وأحمد أنه لا لعان لنفي الحمل لجواز أن يكون ريحا فلا يكون للعان حينئذ معنى قلت وهذا رأي في مقابلة النص وكأنهم يريدون أنه لا لعان بمجرد ظن الحمل من الأجنبي لا لوجدانه معها الذي هو صورة النص وفي الحديث دليل على أنه ينتفي الولد باللعان وإن لم يذكر النفي في اليمين وإلى هذا ذهب أهل الظاهر وعند بعض المالكية وبعض أصحاب أحمد أنه لا يصح اللعان على الحمل إلا بشرط ذكر الزوج لنفي الولد دون المرأة وإنه يصح نفي الولد وهو حمل ويؤخر اللعان إلى ما بعد الوضع ولا دليل عليهما بل الحق قول الظاهرية فإنه لم يقع في اللعان عنده صلى الله(3/193)
عليه وسلم نفي الولد ولم نره في حديث هلال ولا عويمر ولم يكن اللعان إلا منهما في عصره صلى الله عليه وسلم وأما لعان الحامل فقد ثبت في هذه الأحاديث وقد أخرج مالك عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم لاعن بين رجل وامرأته وانتفى من ولده ففرق بينهما وألحق الولد بالمرأة وفي حديث سهل وكانت حاملا فأنكر حملها وذكر أنه انتفى من ولده ولكنه لا يدل على اشتراط نفي الولد لأنه فعله الرجل من تلقاء نفسه وقال أبو حنيفة لا يصح نفي الحمل واللعان عليه فإن لاعنها حاملا ثم أتت بالولد لزمه ولم يمكن من نفيه أصلا لأن اللعان لا يكون إلا بين الزوجين وهذه قد بانت بلعانهما في حال حملها ويجاب بأن هذا رأي في مقابلة النص الثابت في حديث الباب وفي حديث ابن عمر هذا وإن كان البخاري قد بين أن قوله فيه وكانت حاملا من كلام الزهري لكن حديث الباب صحيح صريح وفي الحديث دليل على العمل بالقيافة وكان مقتضاها إلحاق الولد بالزوج إن جاءت به على صفته لأنه للفراش لكنه بين صلى الله عليه وسلم المانع عن الحكم بالقيافة نفيا وإثباتا بقوله لولا الأيمان لكان لي ولها شأن
4- وعن ابن عباس رضي الله عنهما "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر رجلا أن يضع يده عند الخامسة على فيه وقال إنها الموجبة" رواه أبو داود والنسائي ورجاله ثقات فيه دلالة على أنه يشرع من الحاكم المبالغة في منع الحلف خشية أن يكون كاذبا فإنه صلى الله عليه وسلم منع بالقول بالتذكير والوعظ كما سلف ثم منع هاهنا بالفعل ولم يرو أنه أمر بوضع يد أحد على فم المرأة وإن أوهمه كلام الرافعي وقوله إنها الموجبة أي للفرقة ولعذاب الكاذب وفيه دليل على أن اللعنة الخامسة واجبة وأما كيفية التحليف فأخرج الحاكم والبيهقي من حديث ابن عباس في تحليف هلال بن أمية أنه قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "احلف بالذي لا إله إلا هو إني لصادق" يقول ذلك أربع مرات الحديث بطوله قال الحاكم صحيح على شرط البخاري
5- وعن سهل بن سعد رضي الله عنه في قصة المتلاعنين قال أي الرجل لما فرغا من تلاعنهما كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم متفق عليه تقدم الكلام على تحقيق المقام
6- وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن امرأتي لا ترد يد لامس قال غربها بالغين المعجمة والراء وباء موحدة قال في النهاية أي "أبعدها" يريد الطلاق قال أخاف أن تتبعها نفسي قال: "فاستمتع" بها رواه أبو داود والترمذي والبزار ورجاله ثقات وأطلق عليه النووي الصحة لكنه نقل ابن الجوزي عن أحمد أنه قال لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب شيء وليس له أصل فتمسك بهذا ابن الجوزي وعده في الموضوعات مع أنه أورده بإسناد صحيح وأخرجه النسائي من وجه آخر عن ابن عباس بلفظ طلقها قال لا أصبر عنها(3/194)
قال فأمسكها اختلف العلماء في تفسير قوله لا ترد يد لامس على قولين الأول أن معناه الفجور وأنها لا تمنع من يريد منها الفاحشة وهذا قول أبي عبيد والخلال والنسائي وابن الأعرابي والخطابي واستدل به الرافعي على أنه لا يجب تطليق من فسقت بالزنا إذا كان الرجل لا يقدر على مفارقتها والثاني أنها تبذر بمال زوجها ولا تمنع أحدا طلب منها شيئا منه وهذا قول أحمد والأصمعي ونقله عن علماء الإسلام وأنكر ابن الجوزي على من ذهب إلى الأول قال في النهاية وهو أشبه بالحديث لأن المعنى الأول يشكل على ظاهر قوله تعالى: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} وإن كان في معنى الآية وجوه كثيرة قلت الوجه الأول في غاية من البعد بل لا يصح للآية ولأنه صلى الله عليه وسلم لا يأمر الرجل أن يكون ديوثا فحمله على هذا لا يصح والثاني بعيد لأن التبذير إن كان بمالها فمنعها ممكن وإن كان من مال الزوج فكذلك ولا يوجب أمره بطلاقها على أنه لم يتعارف في اللغة أن يقال فلان لا يرد يد لامس كناية عن الجود فالأقرب المراد أنها سهلة الأخلاق ليس فيها نفور وحشمة عن الأجانب لا أنها تأتي الفاحشة وكثير من النساء والرجال بهذه المثابة مع البعد من الفاحشة ولو أراد به أنها لا تمنع نفسها عن الوقاع من الأجانب لكان قاذفا لها
7- وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين نزلت آية المتلاعنين: "أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله في شيء ولم يدخلها الله جنته وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه" أي يعلم أنه ولده "احتجب الله عنه وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين" أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه وصححه ابن حبان وقد تفرد به عبد الله بن يونس عن سعيد المقبري عن أبي هريرة ولا يعرف عبد الله إلا بهذا الحديث ففي تصحيحه نظر وصححه أيضا الدارقطني مع اعترافه بتفرد عبد الله وفي الباب عن ابن عمر عند البزار وفيه إبراهيم بن يزيد الجوزي ضعيف وأخرج أحمد من طريق مجاهد عن ابن عمر نحوه أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند عن أبيه عن وكيع وقال تفرد به وكيع ومعنى الحديث واضح
8- وعن عمر رضي الله عنه قال من أقر بولده طرفة عين فليس له أن ينفيه أخرجه البيهقي وهو حسن موقوف فيه دليل على أنه لا يصح النفي للولد بعد الإقرار به وهو مجمع عليه واختلف فيما إذا سكت بعد علمه به ولم ينفه فقال المؤيد إنه يلزمه وإن لم يعلم أن له النفي لأن ذلك حق يبطل بالسكوت وذلك كالشفيع إذا أبطل شفعته قبل علمه باستحقاقها وذهب أبو طالب إلى أن له النفي متى علم إذ لا يثبت التخيير من دون علم فإن سكت عند العلم لزم ولم يمكن من النفي بعد ذلك ولا يعتبر عنده فور ولا تراخ بل السكوت كالإقرار وقال الإمام يحيى والشافعي بل يكون نفيه على الفور قال وحد الفور ما لم يعد تراخيا عرفا كما لو اشتغل بإسراج دابته أو لبس ثيابه أو نحو ذلك لم يعد تراخيا ولهم في المسألة تقادير ليس عليها دليل إلا الرأي وفروع على غير أصل أصيل(3/195)
9- وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا قال عبد الغني إن اسمه ضمضم بن قتادة قال يا رسول الله إن امرأتي ولدت غلاما أسود قال: "هل لك من إبل قال نعم قال فما ألوانها قال حمر قال هل فيها من أورق" بالراء والقاف بزنة أحمر وهو الذي في لونه سواد ليس بحالك "قال نعم قال فأنى ذلك قال لعله نزعه" بالنون فزاي وعين مهملة أي جذبه إليه "عرق قال فلعل ابنك هذا نزعه عرق" متفق عليه وفي رواية لمسلم أي عن أبي هريرة وهو أي الرجل يعرض بأن ينفيه وقال في آخره ولم يرخص له في الانتفاء منه قال الخطابي هذا القول من الرجل تعريض بالريبة كأنه يريد نفي الولد فحكم النبي صلى الله عليه وسلم بأن الولد للفراش ولم يجعل خلاف الشبه واللون دلالة يجب الحكم بها وضرب له المثل بما يوجد من اختلاف الألوان في الإبل ولقاحها واحد وفي هذا إثبات القياس وبيان أن المتشابهين حكمهما من حيث الشبه واحد ثم قال وفيه دليل على أن الحد لا يجب في المكاني وإنما يجب في القذف الصريح وقال المهلب التعريض إذا كان على جهة السؤال لا حد فيه وإنما يجب الحد في التعريض إذا كان على المواجهة والمشاتمة وقال ابن المنير يفرق بين الزوج والأجنبي في التعريض أن الأجنبي يقصد الأذية المحضة والزوج قد يعذر بالنسبة إلى صيانة النسب وقال القرطبي لا خلاف أنه لا يجوز نفي الولد باختلاف الألوان المتقاربة كالسمرة والأدمة ولا في البياض والسواد إذا كان قد أقر بالوطء ولم تمض مدة الاستبراء قال في الشرح كأنه أراد في مذهبه وإلا فالخلاف ثابت عند الشافعية بتفصيل وهو إن لم ينضم إليه قرينة زنا لم يجز النفي وإن اتهمها بولد على لون الرجل الذي اتهمها به جاز النفي على الصحيح وعند الحنابلة يجوز النفي مع القرينة مطلقا والخلاف إنما هو عند عدمها والحديث يحتمله لأنه لم يذكر أن معه قرينة الزنا وإنما هو مجرد مخالفة اللون(3/196)
باب العدة والإحداد
بكسر العين المهملة اسم لمدة تتربص بها المرأة عن التزويج بعد وفاة زوجها أو فراقه لها إما بالولادة أو الأقراء أو الأشهر والإحداد بالحاء المهملة بعدها دالان مهملتان بينهما ألف وهو لغة المنع وشرعا ترك الطيب والزينة للمعتدة عن وفاة
1- عن المسور بكسر الميم وسكون السين المهملة فواو مفتوحة فراء ابن مخرمة بفتح الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح الراء تقدمت ترجمته أن سبيعة بضم السين المهملة فباء موحدة فمثناة تحتية تصغير سبع وتاء التأنيث الأسلمية نفست بضم النون وكسر الفاء بعد وفاة زوجها هو سعيد بن خولة توفي بمكة بعد حجة الوداع بليال وقع في تقديرها خلاف كبير لا حاجة إلى ذكره ويأتي بعضه قريبا فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنته(3/196)
أن تنكح فأذن لها فنكحت رواه البخاري وأصله في الصحيحين وفي لفظ للبخاري أنها وضعت بعد وفاة زوجها بأربعين ليلة وفي لفظ لمسلم أي عن المسور قال الزهري ولا أرى بأسا أن تزوج وهي في دمها أي دم نفاسها غير أنه لا يقربها زوجها حتى تطهر الحديث دليل على أن الحامل المتوفى عنها زوجها تنقضي عدتها بوضع الحمل وإن لم يمض عليها أربعة أشهر وعشر ويجوز بعده أن تنكح وفي المسألة خلاف فهذا الذي أفاده الحديث قول جماهير العلماء من الصحابة وغيرهم لهذا الحديث ولعموم قوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} والآية وإن كان ما قبلها في المطلقات لكن ذلك لا يخص عمومها وأيد بقاء عمومها على أصله ما أخرجه عبد الله بن أحمد في رواية المسند والضياء في المختارة وابن مردويه عن أبي بن كعب قال قلت يا رسول الله-: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} هي المطلقة ثلاثا أم المتوفى عنها قال هي المطلقة ثلاثا والمتوفى عنها وأخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والدارقطني عن أبي من وجه آخر قال لما نزلت هذه الآية قلت يا رسول الله هذه الآية مشتركة أم مبهمة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أية آية قلت وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن المطلقة والمتوفى عنها زوجها قال نعم وثبت عن ابن مسعود رضي الله عنه عدة روايات دالة على قوله بهذا وأخرج عنه ابن مردويه قال نسخت سورة النساء القصري كل عدة -: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} أجل كل حامل مطلقة أو متوفى عنها زوجها أن تضع حملها وأخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال نزلت سورة النساء القصري بعد التي في البقرة بسبع سنين وأخرج الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال وكنت أنا وابن عباس وأبو هريرة رضي الله عنهم فجاء رجل فقال أفتني في امرأة ولدت بعد وفاة زوجها بأربعين ليلة أحلت قال ابن عباس تعتد آخر الأجلين قلت أنا: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} قال ابن عباس ذلك في الطلاق قال أبو سلمة أرأيت لو أن امرأة جرت حملها سنة فما عدتها قال ابن عباس آخر الأجلين قال أبو هريرة أنا مع ابن أخي يعني أبا سلمة فأرسل ابن عباس غلامه كريبا إلى أم سلمة يسألها أمضت في ذلك سنة فقالت قتل زوج سبيعة الأسلمية وهي حبلى فوضعت بعد موته بأربعين ليلة فخطبت فأنكحها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخرجه عبد بن حميد من حديث أبي سلمة وفيه أنهم أرسلوا إلى عائشة فسألوها فقالت ولدت سبيعة مثل ما مضى إلا أنها قالت بعد وفاة زوجها بليال وفي الباب عدة روايات عن السلف دالة على أن الآية باقية على عمومها في جميع العدد وأن عموم آية البقرة منسوخ بهذه الآية الكريمة ومع تأخر نزولها كما صرحت به الروايات ينبغي أن يكون التخصيص أو النسخ متفقا عليه وذهبت الهادوية وغيرهم ويروى عن علي أنها تعتد بآخر الأجلين إما وضع الحمل إن تأخر عن الأربعة الأشهر والعشر أو بالمدة المذكورة إن تأخرت عن وضع الحمل مستدلين بقوله تعالى" {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ(3/197)
بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً ً- قالوا فالآية الكريمة فيها عموم وخصوص من وجه وقوله: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ} كذلك فجمع بين الدليلين بالعمل بهما
والخروج من العهدة بيقين بخلاف ما إذا عمل بأحدهما وأجيب عنه بأن حديث سبيعةنص في الحكم مبين بأن آية النساء القصرى شاملة للمتوفى عنها زوجها وأيد حديثها ما سمعته من الأحاديث والآثار وأما الرواية عن علي رضي الله عنه فقال الشعبي ما أصدق أن علي بن أبي طالب كان يقول عدة المتوفى عنها زوجها آخر الأجلين هذا وكلام الزهري صريح أنه يعقد بها وإن كانت لم تطهر من دم نفاسها وإن حرم وطؤها لأجل علة أخرى هي بقاء الدم وقال النووي في شرح مسلم: قال العلماء من أصحابنا وغيرهم سواء كان الحمل ولدا أو أكثر كامل الخلقة أو ناقصها أو علقة أو مضغة فإنها تنقضي العدة بوضعه إذا كان فيه صورة خلقة آدمي سواء كانت صورة خفية تختص النساء بمعرفتها أو صورة جلية يعرفها كل أحد وتوقف ابن دقيق العيد فيه من أجل أن الغالب في إطلاق وضع الحمل هو الحمل التام المتخلق وأما خروج المضغة والعلقة فهو نادر والحمل على الغالب أقوى قال المصنف ولهذا نقل عن الشافعي قول بأن العدة لا تنقضي بوضع قطعة لحم ليس فيها صورة بينة ولا خفية وظاهر الحديث والآية الإطلاق فيما يتحقق كونه حملا وأما ما لا يتحقق كونه حملا فلا لجواز أنه قطعة لحم والعدة لازمة بيقين فلا تنقضي بمشكوك فيه --
2- وعن عائشة رضي الله عنها قالت "أمرت" مغير الصيغة والآمر هو النبي صلى الله عليه وسلم "بريرة أن تعتد بثلاث حيض" رواه ابن ماجه ورواته ثقات لكنه معلول وقد ورد ما يؤيده وهو دليل على أن العدة تعتبر بالمرأة عند من يجعل عدة المملوكة دون عدة الحرة لا بالزوج على القول الأظهر من أن زوج بريرة كان عبدا
3- وعن الشعبي هو أبو عمرو عامر بن شراحيل بن عبد الله الشعبي الهمذاني الكوفي تابعي جليل القدر فقيه كبير قال ابن عيينة كان ابن عباس في زمانه والشعبي في زمانه مر ابن عمر بالشعبي وهو يحدث بالمغازي فقال شهدت القوم وهو أعلم بها مني وقال الزهري العلماء أربعة ابن المسيب بالمدينة والشعبي بالكوفة والحسن البصري بالبصرة ومكحول بالشام ولد الشعبي في خلافة عمر كما في الكاشف للذهبي وقيل لست خلت من خلافه عثمان ومات سنة أربع ومائة وله اثنتان وستون سنة عن فاطمة بنت قيس عن النبي صلى الله عليه وسلم في المطلقة ثلاثا "ليس لها سكنى ولا نفقة" رواه مسلم الحديث دليل على أن المطلقة ثلاثا ليس لها نفقة ولا سكنى وفي المسألة خلاف ذهب إلى ما أفاده الحديث ابن عباس و الحسن وعطاء والشعبي وأحمد في إحدى الروايات القاسم والإمامية و إسحاق وأصحابه و داود وكافة أهل الحديث مستدلين بهذا الحديث وذهب عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز والحنفية و الثوري وغيرهم إلى أنها تجب لها النفقة وسكنى مستدلين على الأول بقوله تعالى: {فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} وهذا في الحامل وبالإجماع في الرجعية على أنها تجب لها النفقة وعلى الثاني بقوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ}(3/198)
وذهب الهادي وآخرون إلى وجوب النفقة دون السكنى مستدلين بقوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ} ولأنها حبست بسببه كالرجعية ولا يجب لها السكنى لأن قوله: {مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} يدل على أن ذلك حيث فيكون الزوج وهو يقتضي الاختلاط ولا يكون ذلك إلا في حق الرجعية قالوا وحديث فاطمة بنت قيس قد طعن فيه بمطاعن يضعف معها الاحتجاج به وحاصلها أربعة مطاعن الأول كون الراوي امرأة ولم تقترن بشاهدين عدلين يتابعانها على حديثها الثاني أن الرواية تخالف ظاهر القرآن الثالث أن خروجها من المنزل لم يكن لأجل أنه لا حق لها في السكنى بل لإيذائها أهل زوجها بلسانها الرابع معارضة روايه برواية عمر وأجيب بأن كون الراوي قادح فكم من سنن ثبتت عن النساء يعلم ذلك من عرف السير وأسانيد الصحابة وأما قول عمر لا نترك كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري أحفظت أم نسيت فهذا تردد منه في حفظها وإلا فإنه قد قبل عن عائشة وحفصة عدة أخبار وتردده في حفظها عذر له في عدم العمل بالحديث ولا يكون شكه حجة على غيره وأما قوله إنه مخالف للقرآن وهو قوله تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} فإن الجمع ممكن بحمل الحديث على التخصيص لبعض أفراد العام وأما رواية عمر فأرادوا بها قوله وسنة نبينا وقد عرف من علوم الحديث أن قول الصحابي من السنة كذا يكون مرفوعا فالجواب أنه قد أنكر أحمد بن حنبل الزيادة من قول عمر وجعل يقسم ويقول وأين في كتاب الله إيجاب النفقة والسكنى للمطلقة ثلاثا وقال هذا لا يصح عن عمر قال ذلك الدارقطني وأما حديث عمر سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لها السكنى والنفقة فإنه من رواية إبراهيم النخعي عن عمر وإبراهيم لم يسمعه من عمر فإنه لم يولد إلا بعد موت عمر بسنين وأما القول بأن خروج فاطمة من بيت زوجها كان لإيذائها لأهل بيته بلسانها فكلام أجنبي عما يفيده الحديث الذي روت ولو كانت تستحق السكنى لما أسقطه صلى الله عليه وسلم لبذاءة لسانها ولوعظها وكفها عن إذاية أهل زوجها ولا يخفى ضعف هذه المطاعن في رد الحديث فالحق ما أفاده الحديث وقد أطال ابن القيم في ذلك في الهدي النبوي ناصرا للعمل بحديث فاطمة
4- وعن أم عطية رضي الله عنها اسمها نسيبة بضم النون وفتح المهملة صحابية لها أحاديث في كتب الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تحد" بضم حرف المضارعة وكسر الحاء المهملة ويجوز ضم الدال على أن لا نافية وجزمها على أنها نهي "امرأة على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا ولا تلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب" بفتح العين المهملة وسكون الصاد المهملة فباء موحدة في النهاية أنها برود يمنية يعصب غزلها أي يجمع ويشد ثم يصبغ وينشر فيبقى موشى لبقاء ما عصب منه أبيض لم يأخذه الصبغ "ولا تكتحل ولا تمس طيبا إلا إذا طهرت نبذة(3/199)
بضم النون وسكون الباء الموحدة فذال معجمة أي قطعة من قسط بضم القاف وسكون السين المهملة في النهاية أنه ضرب من الطيب وقيل العود أو أظفار يأتي تفسيره متفق عليه وهذا لفظ مسلم ولأبي داود والنسائي من الزيادة ولا تختضب وللنسائي ولا تمتشط الحديث فيه مسائل الأولى: تحريم إحداد المرأة فوق ثلاثة أيام على أي ميت من أب أو غيره وجوازه ثلاثا عليه وعلى الزوج فقط أربعة أشهر وعشرا إلا أنه أخرج أبو داود في المراسيل من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للمرأة أن تحد على أبيها سبعة أيام وعلى من سواه ثلاثة أيام فلو صح كان مخصصا للأب من عموم النهي في حديث أم عطية إلا أنه مرسل لا يقوى على التخصيص
الثانية: في قوله امرأة إخراج للصغيرة بمفهومه فلا يجب عليها الإحداد على الزوج فلا تنهى عن الإحداد على غيره أكثر من ثلاثة وإليه ذهب الحنفية و الهادي وذهب الجمهور إلى أنها داخلة في العموم
وأن ذكر المرأة خرج مخرج الغالب والتكليف على وليها في منعها من الطيب وغيره ولأن العدة واجبة على الصغيرة كالكبيرة ولا تحل خطبتها
الثالثة: في قوله على ميت دليل على أنه لا إحداد على المطلقة فإن كان رجعياً فإجماع وإن كان بائنا فذهب الجمهور إلى أنه لا إحداد عليها وهو قول الهادي والشافعي ومالك ورواية عن أحمد لظاهر قوله على ميت وإن كان مفهوما فإنه يؤيده أن الإحداد شرع لقطع ما يدعو إلى الجماع وكان هذا في حق المتوفى عنها لتعذر رجوعها إلى الزوج وأما المطلقة بائنا فإنه يصح أن تعود مع زوجها بعقد إذا لم تكن مثلثة أي مطلقة ثلاثا وذهب آخرون منهم علي وزيد بن علي وأبو حنيفة وأصحابه إلى وجوب الإحداد على المطلقة بائنا قياسا على المتوفى عنها لأنهما اشتركتا في العدة واختلفتا في سببها ولأن العدة تحرم النكاح فحرمت دواعيه والقول الأول أظهر دليلا الرابعة أنه لا دلالة في الحديث على وجوب الإحداد وإنما دل على حله على الزوج الميت وذهب إلى وجوبه أكثر العلماء لما أخرجه أبو داود من حديث أم سلمة أنها قالت دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفي أبو سلمة وقد جعلت علي صبرا الحديث سيأتي ورواه النسائي قال ابن كثير: وفي سنده غرابة قال ولكن رواه الشافعي عن مالك أنه بلغه عن أم سلمة فذكره وهو مما يتقوى به الحديث ويدل على أن له أصلا ولما أخرجه عنها أيضا أحمد وأبو داود والنسائي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب ولا الممشقة ولا الحلي ولا تختضب ولا تكتحل قال الحافظ ابن كثير إسناده جيد لكن رواه البيهقي موقوفا عليها وذهب الحسن والشعبي أن المطلقة ثلاثا والمتوفى عنها زوجها تكتحلان وتمتشطان وتتطيبان وتتقلدان وتنتعلان وتصبغان ما شاءتا واستدلا بما أخرجه أحمد وصححه ابن حبان من حديث أسماء بنت عميس قالت "دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم الثالث من قتل جعفر بن أبي طالب فقال لا تحدي بعد يومك" هذا لفظ أحمد وله ألفاظ كلها دالة على أمره صلى الله عليه وسلم لها بعدم الإحداد بعد ثلاث وهذا ناسخ لأحاديث أم سلمة في الإحداد لأنه بعدها(3/200)
فإن أم سلمة أمرت بالإحداد بعد موت زوجها وموته متقدم على قتل جعفر وقد أجاب الجمهور عن حديث أسماء بأجوبة سبعة كلها تكلف لا حاجة إلى سردها المسألة الخامسة في قوله أربعة أشهر وعشرا قيل الحكمة في التقدير بهذه المدة أن الولد تتكامل خلقته وينفخ فيه الروح بعد مضي مائة وعشرين يوما وهي زيادة على أربعة أشهر بنقصان الأهلة فجبر الكسر إلى العقد على طريق الاحتياط وذكر العشر مؤنثا باعتبار الليالي والمراد مع أيامها عند الجمهور فلا تحل حتى تدخل الليلة الحادية عشرة المسألة السادسة في قوله ثوبا مصبوغا دليل على النهي عن كل مصبوغ بأي لون إلا ما استثناه في الحديث وقال ابن عبد البر أجمع العلماء على أنه لا يجوز للحادة لبس الثياب المعصفرة ولا المصبوغة إلا ما صبغ بسواد فرخص فيه مالك والشافعي لكونه لا يتخذ للزينة بل هو من لباس الحزن واختلف في الحرير فذهبت الشافعية في الأصح إلى المنع لها منه مطلقا مصبوغا أو غير مصبوغ قالوا لأنه أبيح للنساء للتزين به والحادة ممنوعة من التزين وقال ابن حزم إنها تجتنب الثياب المصبوغة فقط ويحل لها أن تلبس ما شاءت من حرير أبيض أو أصفر من لونه الذي لم يصبغ ويباح لها أن تلبس المنسوج بالذهب والحلي كله من الذهب والفضة والجوهر والياقوت وهذا جمود منه على لفظ النص الوارد في حديث أم عطية وأما حديث أم سلمة الذي فيه النهي عن لبسها الثياب المعصفرة ولا الممشقة ولا الحلي فقال إنه لم يصح لأنه من رواية إبراهيم بن طهمان ورد عليه بأنه من الحفاظ الأثبات الثقات وقد صحح حديثه جماعة من الأئمة كابن المبارك وأحمد وأبي حاتم وابن حزم أدار التحريم على ما ثبت عنده بالنص وغيره من الأئمة أداره على التعليل بالزينة فبقي كلامهم أن ثوب العصب إذا كان فيه زينة منعت منه ويخصصون الحديث بالمعنى المناسب للمنع وتقدم تفسير ثوب العصب عن النهاية وللعلماء في تفسيره أقوال أخر المسألة السابعة في قوله ولا تكتحل دليل على منعها من الاكتحال وهو قول الجمهور وقال ابن حزم ولا تكتحل ولو ذهبت عيناها لا ليلا ولا نهارا ودليله حديث الباب وحديث أم سلمة المتفق عليه أن امرأة توفي عنها زوجها فخافوا على عينها فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنوه في الكحل فما أذن فيه بل قال لا مرتين أو ثلاثا وذهب الجمهور مالك وأحمد وأبو حنيفة وأصحابه إلى أنه يجوز الاكتحال بالإثمد للتداوي مستدلين بحديث أم سلمة الذي أخرجه أبو داود أنها قالت في كحل الجلاء لما سألتها امرأة أن زوجها توفي وكانت تشتكي عينها فأرسلت إلى أم سلمة فسألتها عن كحل الجلاء فقالت أم سلمة لا يكتحل منه إلا من أمر لا بد منه يشتد عليك فتكتحلين بالليل وتمسحينه بالنهار ثم قالت أم سلمة دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفي أبو سلمة وذكرت حديث الصبر قال ابن عبد البر وهذا عندي وإن كان مخالفا لحديثها الآخر الناهي عن الكحل مع الخوف على العين إلا أنه يمكن الجمع بأنه صلى الله عليه وسلم عرف من الحالة التي نهاها أن حاجتها إلى الكحل غير ضرورية والإباحة في الليل لدفع الضرر بذلك قلت ولا يخفى أن فتوى أم سلمة قياس منها للكحل(3/201)
على الصبر والقياس مع النص الثابت والنهي المتكرر لا يعمل به عند من قال بوجوب الإحداد
5- وعن أم سلمة قالت جعلت على عيني صبرا بعد أن توفي أبو سلمة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنه يشب الوجه" بفتح حرف المضارعة "فلا تجعليه إلا بالليل وانزعيه بالنهار ولا تمتشطي بالطيب ولا بالحناء فإنه خضاب قلت بأي شيء أمتشط قال بالسدر" رواه أبو داود والنسائي وإسناده حسن فيه دليل على تحريم الطيب وهو عام لكل طيب وقد ورد في لفظ "لا تمس طيبا" ولكنه قد استثنى فيما سلف حال طهرها من حيضها وأذن لها في القسط والأظفار وقال البخاري القسط والكست مثل الكافور والقافور يجوز في كل منهما القاف والكاف قال النووي القسط والأظفار نوعان معروفان من البخور
6- وعنها أي أم سلمة أن امرأة قالت يا رسول الله ابنتي مات عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفنكحلها بضم الحاء قال: "لا" متفق عليه تقدم الكلام في الكحل وظاهر الحديث أنها لا تكحلها للتداوي فمن قال إنه تمنع الحادة من الكحل بالإثمد لأنه الذي تحصل به الزينة فأما الكحل بالتوتيا والعنزروت ونحوهما فلا بأس به لأنه لا زينة فيه بل يصح العين يرد عليه لفظ الحديث فإنها سألت عن كحل تداوي به العين لا عن كحل الإثمد بخصوصه إلا أن يدعى أن الكحل إذا أطلق لا يتبادر إلا إليه
7- وعن جابر قال طلقت خالتي فأرادت أن تجذ نخلها بالجيم والذال المعجمة هو القطع المستأصل كما في القاموس وفي النهاية بالدال المهملة صرام النخل وهو قطع ثمرها فزجرها رجل أن تخرج فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال "بلى جذي نخلك فإنك عسى أن تصدقي أو تفعلي معروفا" رواه مسلم في باب جواز خروج المعتدة البائن كما بوبه النووي وأخرجه أبو داود والنسائي بزيادة طلقت خالتي ثلاثا والحديث دليل على جواز خروج المعتدة من طلاق بائن من منزلها في النهار للحاجة إلى ذلك ولا يجوز لغير حاجة وقد ذهب إلى ذلك طائفة من العلماء وقالوا يجوز الخروج للحاجة والعذر ليلا ونهارا كالخوف وخشية انهدام المنزل ويجوز إخراجها إذا تأذت بالجيران أو تأذوا بها أذى شديدا لقوله تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} وفسر الفاحشة بالبذاءة على الأحماء وغيرهم وذهبت طائفة منهم إلى جواز خروجها نهارا مطلقا دون الليل للحديث المذكور وقياسا على عدة الوفاة ولا يخفى أن الحديث المذكور علل فيه جواز الخروج برجاء أن تصدق أو تفعل معروفا وهذا عذر في الخروج وأما لغير عذر فلا يدل عليه إلا أن يقال إنما هذا رجاء فعل ذلك وقد يرجى في كل خروج في الغالب وفيه دليل على استحباب الصدقة من التمر عند جذاذه واستحباب التعريض لصاحبه بفعل الخير والتذكير بالمعروف(3/202)
8- وعن فريعة بضم الفاء وفتح الراء وسكون المثناة التحتية وعين مهملة أخت أبي سعيد الخدري شهدت بيعة الرضوان ولها رواية بنت مالك أن زوجها خرج في طلب أعبد له فقتلوه قالت فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرجع إلى أهلي فإن زوجي لم يترك لي مسكنا يملكه ولا نفقة فقال: "نعم" فلما كنت في الحجرة ناداني فقال: "امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله" قالت فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا قالت فقضى به بعد ذلك عثمان أخرجه أحمد والأربعة وصححه الترمذي والذهلي بضم الذال المعجمة وابن حبان والحاكم وغيرهم أخرجوه كلهم من حديث سعد بن إسحاق بن كعب عن عمته زينب بنت كعب بن عجرة عن الفريعة وقال ابن عبد البر هذا حديث معروف مشهور عند علماء الحجاز والعراق وأعله عبد الحق تبعا لابن حزم بجهالة حال زينب وبأن سعد بن إسحاق غير مشهور العدالة وتعقب بأن زينب هذه من التابعيات وهي امرأة أبي سعيد روى عنها سعد بن إسحاق وذكرها ابن حبان في كتاب الثقات وقد روى عنها سليمان بن محمد بن كعب بن عجرة فهي امرأة تابعية تحت صحابي ثم روى عنها الثقات ولم يطعن فيها بحرف وسعد بن إسحاق وثقه ابن معين والنسائي والدارقطني وروى عنه حماد بن زيد وسفيان الثوري وابن جريج ومالك وغيرهم والحديث دليل على أن المتوفى عنها زوجها تعتد في بيتها الذي نوت فيه العدة ولا تخرج منه إلى غيره وإلى هذا ذهب جماعة من السلف والخلف وفي ذلك عدة روايات وآثار عن الصحابة ومن بعدهم وقال بهذا أحمد والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم وقال ابن عبد البر وبه يقول جماعة من فقهاء الأمصار بالحجاز والشام ومصر والعراق وقضى به عمر بمحضر من المهاجرين والأنصار والدليل حديث الفريعة ولم يطعن فيه أحد ولا في رواته إلا ما عرفت وقد دفع ويجب لها السكنى في مال زوجها لقوله تعالى: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} والآية وإن كان قد نسخ فيها استمرار النفقة والكسوة حولا فالسكنى باق حكمها مدة العدة وقد قرر الشافعي الاستدلال بالآية بما فيه تطويل وذهبت طائفة من السلف والخلف إلى أنه لا سكنى للمتوفى عنها روى عبد الرزاق عن عروة عن عائشة أنها كانت تفتي المتوفى عنها بالخروج في عدتها وأخرج أيضا عن ابن عباس أنه قال إنما قال الله تعتد أربعة أشهر وعشرا ولم يقل تعتد في بيتها فتعتد حيث شاءت ومثله أخرجه عن جابر بن عبد الله ومثله عن جماعة من الصحابة وإليه ذهب الهادي فقال لا تجب السكنى ويجب أن لا تبيت إلا في منزلها ودليلهم ما ذكره ابن عباس من أنه تعالى ذكر مدة العدة ولم يذكر السكنى والجواب أنه ثبت بالسنة وهو حديث الفريعة وبالكتاب أيضا كما تقدم إلا أن حديث الفريعة صرحت فيه أن البيت ليس لزوجها فيؤخذ منه أنها لا تخرج من البيت الذي مات وهي فيه سواء كان له أو لا وقد أطال في الهدي النبوي الكلام على ما يتفرع من إثبات السكنى وهل تجب على الورثة من رأس التركة أو لا وهل تخرج من منزلها للضرورة أو لا وذكر خلافا كثيرا بين العلماء في ذلك ليس للتطويل بنقله كثير فائدة إذ ليس على شيء من تلك الفروع دليل ناهض(3/203)
9- وعن فاطمة بنت قيس قالت قلت يا رسول الله إن زوجي طلقني ثلاثا وأخاف أن يقتحم مغير الصيغة علي أي يهجم علي أحد بغير شعور فأمرها فتحولت رواه مسلم تقدم الكلام على حديث فاطمة وحكم ما أفاده ولا وجه لإعادة المصنف له
10- وعن عمرو بن العاص قال لا تلبسوا علينا سنة نبينا عدة أم الولد إذا توفي عنها سيدها أربعة أشهر وعشر رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه وصححه الحاكم وأعله الدارقطني بالانقطاع وذلك لأنه من رواية قبيصة بن ذؤيب عن عمرو بن العاص ولم يسمع منه قال الدارقطني وقال ابن المنذر ضعفه أحمد وأبو عبيد وقال محمد بن موسى سألت أبا عبد الله عنه فقال لا يصح وقال الميموني رأيت أبا عبد الله يعجب من حديث عمرو بن العاص هذا ثم قال أي سنة للنبي صلى الله عليه وسلم في هذا وقال أربعة أشهر وعشرا إنما هي عدة الحرة عن النكاح وإنما هذه أمة خرجت عن الرق إلى الحرية وقال المنذري في إسناد حديث عمرو مطر بن طهمان أبو رجاء الوراق وقد ضعفه غير واحد وله علة ثالثة هي الاضطراب لأنه روي على ثلاثة وجوه وقال أحمد حديث منكر وقد روى خلاس عن علي مثل رواية قبيصة عن عمرو ولكن خلاس بن عمرو قد تكلم في حديثه كان ابن معين لا يعبأ بحديثه وقال أحمد في روايته عن علي يقال إنها كتاب وقال البيهقي رواية خلاس عن علي ضعفية عند أهل العلم والمسألة فيها خلاف ذهب إلى ما أفاده حديث عمرو الأوزاعي والناصر والظاهرية وآخرون وذهب مالك والشافعي وأحمد وجماعة إلى أن عدتها حيضة لأنها ليست زوجة ولا مطلقة فليس إلا استبراء رحمها وذلك بحيضة تشبيها بالأمة يموت عنها سيدها وذلك مما لا خلاف فيه وقال مالك فإن كانت ممن لا تحيض اعتدت بثلاثة أشهر ولها السكنى وقال أبو حنيفة عدتها ثلاث حيض وهو قول علي وابن مسعود وذلك لأن العدة إنما وجبت عليها وهي حرة وليست بزوجة فتعتد عدة الوفاة ولا بأمة فتعتد عدة الأمة فوجب أن يستبرأ رحمها بعدة الحرائر قلنا إذا كان المراد الاستبراء كفت حيضة إذ بها يتحقق وقال قوم عدتها نصف عدة الحرة تشبيها لها بالأمة المزوجة عند من يرى ذلك وسيأتي وقالت الهادوية عدتها حيضتان تشبيها بعدة البائع والمشتري فإنهم يوجبون على البائع الاستبراء بحيضة وعلى المشتري كذلك والجامع زوال الملك قال في نهاية المجتهد سبب الخلاف أنها مسكوت عنها أي في الكتاب والسنة وهي مترددة الشبه بين الأمة والحرة فأما من شبهها بالزوجة الأمة فضعيف وأضعف منه من شبهها بعدة الحرة المطلقة اه قلت وقد عرفت ما في حديث عمرو من المقال فالأقرب قول أحمد و الشافعي أنها تعتد بحيضة وهو قول ابن عمر وعروة بن الزبيرو القاسم بن محمد والشعبي والزهري لأن الأصل البراءة من الحكم وعدم حبسها عن الأزواج واستبراء الرحم يحصل بحيضة وعن عائشة رضي الله عنها قالت إنما الأقراء الأطهار أخرجه مالك في قصة بسند صحيح وعن عائشة رضي الله عنها قالت إنما الأقراء الأطهار أخرجه مالك في قصة بسند صحيح والقصة هي ما أفاده سياق الحديث قال الشافعي أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة أنها قالت وقد جادلها في ذلك ناس وقالوا إن الله يقول {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ}(3/204)
فقالت عائشة صدقتم وهل تدرون ما الأقراء الأقراء الأطهار قال الشافعي أخبرنا مالك عن ابن شهاب ما أدركت أحدا من فقهائنا إلا وهو يقول هذا يريد الذي قالت عائشة انتهى واعلم أن هذه مسألة اختلف فيها سلف الأمة وخلفها مع الاتفاق أن القرء بفتح القاف وضمها يطلق لغة على الحيض والطهر وأنه لا خلاف أن المراد في قوله تعالى: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ}
أحدهما لا مجموعهما إلا أنهم اختلفوا في الأحد المراد منهما فيها فذهب كثير من الصحابة وفقهاء المدينة و الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين وهو قول مالك وقال هو الأمر الذي أدركت عليه أهل العلم ببلدنا أن المراد بالأقراء في الآية الكريمة الأطهار مستدلين بحديث عائشة هذا وقال الشافعي إنه يدل لذلك الكتاب واللسان أي اللغة أما الكتاب فقوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} وقد قال صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر "ثم تطهر ثم إن شاء أمسك وإن شاء الله طلق فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء" وفي حديث ابن عمر لما طلق امرأته حائضا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا طهرت فليطلق أو يمسك" وتلا صلى الله عليه وسلم {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} لقبل عدتهن أو في قبل عدتهن قال الشافعي أنا شككت فأخبر صلى الله عليه وسلم أن العدة الطهر دون الحيض وقرأ فطلقوهن لقبل عدتهن وهو أن يطلقها طاهرا وحينئذ تستقبل عدتها فلو طلقت حائضا لم تكن مستقبلة عدتها إلا بعد الحيض وأما اللسان فهو أن القرء اسم معناه الحبس تقول العرب هو يقرىء الماء في حوضه وفي سقائه وتقول يقرىء الطعام في شدقه يعني يحبس الطعام فيه وتقول إذا حبس الشيء أقرأه أي خبأه وقال الأعشى
أفي كل يوم أنت جاشم غزوة ... تشد لأقصاها عزيم عزائكا
مورثة عزا وفي الحي رفعة ... لما ضاع فيها من قروء نسائكا
فالقرء في البيت بمعنى الطهر لأنه ضيع أطهارهن في غزاته وآثرها عليهن أي آثر الغزو على القعود فضاعت قروء نسائه بلا جماع فدل على أنها الأطهار وذهب جماعة من السلف كالخلفاء الأربعة وابن مسعود وطائفة كثيرة من الصحابة والتابعين إلى أنها الحيض وبه قال أئمة الحديث وإليه رجع أحمد ونقل عنه أنه قال كنت أقول إنها الأطهار وأنا اليوم أذهب إلى أنها الحيض وهو قول الحنفية وغيرهم واستدلوا بأنه لم يستعمل القرء في لسان الشارع إلا في الحيض كقوله تعالى: {ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن} وهذا هو الحيض والحمل لأن المخلوق في الرحم هو أحدهما وبهذا فسره السلف والخلف وقوله صلى الله عليه وسلم "دعي الصلاة أيام أقرائك" ولم يقل أحد أن المراد به الطهر ولقوله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه أحمد وأبو داود في سبايا أوطاس "لا توطأ حامل حتى تضع ذات حمل حتى تحيض حيضة" وسيأتي وأجاب الأولون عن الآية بأن الآية أفادت تحريم كتمان ما خلق الله في أرحامهن وهو الحيض أو الحبل أو كلاهما ولا ريب أن الحيض داخل في ذلك ولكن تحريم كتمانه لا يدل على أن القرء المذكور في الآية هو الحيض فإنها(3/205)
إذا كانت الأطهار فإنها تنقضي بالطعن في الحيضة الرابعة أو الثالثة فكتمان الحيض يلزم منه عدم معرفة انقضاء الطهر الذي تتم به العدة فتكون دلالة الآية على أن الأقراء الأطهار أظهر وعن الحديث الأول بأن الأصح أن لفظه كما قال الشافعي أخبرنا مالك عن نافع بن سليمان بن يسار عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لتنتظر عداد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها ثم لتدع الصلاة ثم لتغتسل ولتصل" وهذه رواية نافع ونافع أحفظ من سليمان بن يسار الراوي لذلك اللفظ هذا حاصل ما نقل عن الشافعي من رده للحديث الأول وعن الحديث الثاني بأنه لا شك أن الاستبراء ورد بحيضة وهو النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قول جمهور الأمة والفرق بين الاستبراء والعدة أن العدة وجبت قضاء لحق الزوج فاختصت بزمان حقه وهو الطهر وبأنها تتكرر فيعلم فيها البراءة بواسطة الحيض بخلاف الاستبراء
واعلم أنه قد أكثر الاستدلال المتنازعون في المسألة من الطرفين كل يستدل على ما ذهب إليه وغاية ما أفادت الأدلة أنه أطلق القرء على الحيض وأطلق على الطهر وهو في الآية محتمل كما عرفت فإن كان مشتركا كما قاله جماعة فلا بد من قرينة معينة لأحد معنييه وإن كان في أحدهما حقيقة وفي الآخر مجازا فالأصل الحقيقة ولكنهم مختلفون هل هو حقيقة في الحيض مجاز في الطهر أو العكس قال الأكثرون بالأول وقال الأقلون بالثاني فالأولون يحملونه في الآية على الحيض لأنه الحقيقة والأقلون على الطهر ولا ينهض دليل على تعيين أحد القولين لأن غاية الموجود في اللغة الاستعمال في المعنيين وللمجاز علامات من التبادر وصحة النفي ونحو ذلك ولا ظهور لها هنا وقد أطال ابن القيم الاستدلال على أنه الحيض واستوفى المقال قال السيد رحمه الله ولم يقهرنا دليله إلى تعيين ما قاله ومن أدلة القول بأن الأقراء الحيض قوله
12- وعن ابن عمر رضي الله عنه طلاق الأمة المزوجة تطليقتان وعدتها حيضتان رواه الدارقطني موقوفا على ابن عمر وأخرجه مرفوعا وضعفه لأنه من رواية عطية العوفي وقد ضعفه غير واحد من الأئمة وأخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث عائشة بلفظ طلاق الأمة طلقتان وقرؤها حيضتان وهو ضعيف لأنه من حديث مظاهر بن مسلم قال فيه أبو حاتم منكر الحديث وقال ابن معين لا يعرف وصححه الحاكم وخالفوه فاتفقوا على ضعفه لما عرفته فلا يتم به الاستدلال للمسألة الأولى واستدل به هنا على أن الأمة تخالف الحرة فتبين على الزوج بطلقتين وتكون عدتها قرأين واختلف العلماء في المسألة على أربعة أقوال أقواها ما ذهب إليه الظاهرية من أن طلاق العبد والحر سواء لعموم النصوص الواردة في الطلاق من غير فرق بين حر وعبد وأدلة التفرقة كلها غير ناهضة وقد سردها في الشرح فلا حاجة بالإطالة بذكرها مع عدم نهوض دليل قول منها ثمنا وأما عدتها فاختلف أيضا فيها فذهبت الظاهرية إلى أنها كعدة الحرة قال أبو محمد بن حزم لأن الله علمنا العدد في الكتاب فقال: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} {وَالَّذِينَ(3/206)
يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} وقال: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} وقد علم الله تعالى إذ أباح لنا الإماء أن عليهن العدد
المذكورات وما فرق عز وجل بين حرة ولا أمة في ذلك {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} وتعقب استدلاله بالآيات بأنها كلها في الزوجات الحرائر فإن قوله فلا جناح عليهما فيما افتدت به في حق الحرائر فإن افتداء الأمة إلى سيدها لا إليها وكذا قوله: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} فجعل ذلك إلى الزوجين والمراد به العقد والمراد به العقد وفي الأمة ذلك يختص بسيدها وكذا قوله: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} والأمة لا فعل لها في نفسها قلت لكنها إذا لم تدخل في هذه الآيات ولا تثبت فيها سنة صحيحة ولا إجماع ولا قياس ناهض هنا فماذا يكون حكمها في عدتها فالأقرب أنها زوجة شرعا قطعا فإن الشارع قسم لنا من أحل لنا وطأها إلى زوجة أو ما ملكت اليمين في قوله: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} وهذه التي هي محل النزاع ليست ملك يمين قطعا فهي زوجة فتشملها الآيات وخروجها عن حكم الحرائر فيما ذكر من الافتداء والعقد والفعل بالمعروف في نفسها لا ينافي دخولها في حكم العدة لأن هذه أحكام أخر تعلق الحق فيها بالسيد كما يتعلق في الحرة الصغيرة بالولي فالراجح أنها كالحرة تطليقا وعدة
13- وعن رويفع تصغير رافع بن ثابت رضي الله عنه من بني مالك بن النجار عداده في المصريين توفي سنة ست وأربعين عن النبي صلى الله عليه وسلم "لا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقي ماءه زرع غيره" أخرجه أبو داود والترمذي وصححه ابن حبان وحسنه البزار فيه دليل على تحريم وطء الحامل من غير الواطىء وذلك كالأمة المشتراة إذا كانت حاملا من غيره والمسبية وظاهره أن ذلك إذا كان الحمل متحققا أما إذا كان غير متحقق وملكت الأمة بسبي أو شراء أو غيره فسيأتي أنه لا يجوز وطؤها حتى تستبرأ بحيضة وقد اختلف العلماء في الزانية غير الحامل هل تجب عليها العدة أو تستبرأ بحيضة فذهب الأقل إلى وجوب العدة عليها وذهب الأكثر إلى عدم وجوبها والدليل غير ناهض مع الفريقين فإن الأكثر استدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم "الولد للفراش" ولا دليل فيه إلا على عدم لحوق ولد الزنا بالزاني والقائل بوجوب العدة استدل بعموم الأدلة ولا يخفى أن الزانية غير داخلة فيها فإنها في الزوجات نعم تدخل في دليل الاستبراء وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "لا توطأ حامل حتى تضع ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة" قال المصنف في التلخيص إنما استدلت الحنابلة بحديث رويفع على فساد نكاح الحامل من الزنا واحتج به الحنفية على امتناع وطئها قال وأجاب الأصحاب عنه بأنه ورد في السبي لا في مطلق النساء وتعقب بأن العبرة بعموم اللفظ
14- وعن عمر رضي الله عنه في امرأة المفقود تربص أربع سنين ثم تعتد أربعة أشهر(3/207)
وعشرا أخرجه مالك والشافعي وله طرق أخرى وفيه قصة أخرجها عبد الرزاق بسنده في الفقيد الذي فقد قال دخلت الشعب فاستهوتني الجن فمكثت أربع سنين فأتت امرأتي عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأمرها أن تربص أربع سنين من حين رفعت أمرها إليه ثم دعا وليه أي ولي الفقيد فطلقها ثم أمرها أن تعتد أربعة أشهر وعشرا ثم جئت بعد ما تزوجت فخيرني عمر بينها وبين الصداق الذي أصدقتها ورواه ابن أبي شيبة عن عمر ورواه البيهقي وقصة المفقود أخرجها البيهقي وفيها أنه قال لعمر لما رجع إني خرجت لصلاة العشاء فسبتني الجن فلبثت فيهم زمانا طويلا فغزاهم جن مؤمنون أو قال مسلمون فقاتلوهم وظهروا عليهم فسبوا منهم سبايا فسبوني فيما سبوا منهم فقالوا نراك رجلا مسلما لا يحل لنا سباؤك فخيروني بين المقام وبين القفول فاخترت القفول إلى أهلي فأقبلوا معي فأما الليل فلا يحدثوني وأما النهار فإعصار ريح اتبعها فقال له عمر فما كان طعامك فيهم قال الفول وما لا يذكر اسم الله عليه قال فما كان شرابك قال الجدف قال قتادة والجدف ما لا يخمر من الشراب وفيه دليل على أن مذهب عمر أن امرأة المفقود بعد مضي أربعة سنين من يوم رفعت أمرها إلى الحاكم تبين من زوجها كما يفيد ظاهر رواية الكتاب وإن كانت رواية ابن أبي شيبة دالة على أنه يأمر الحاكم ولي الفقيد بطلاق امرأته وقد ذهب إلى هذا مالك وأحمد وإسحاق وهو أحد قولي الشافعي وجماعة من الصحابة بدليل فعل عمر وذهب أبو يوسف ومحمد ورواية عن أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي إلى أنها لا تخرج عن الزوجية حتى يصح لها موته أو طلاقه أو ردته ولا بد من تيقن ذلك قالوا لأن عقدها ثابت بيقين فلا يرتفع إلا بيقين وعليه يدل ما رواه الشافعي عن علي موقوفا امرأة المفقود امرأة ابتليت فلتصبر حتى يأتيها يقين موته قال البيهقي هو عن علي مطولا مشهور ومثله أخرجه عنه عبد الرزاق قالت الهادوية فإن لم يحصل اليقين بموته ولا طلاقه تربصت العمر الطبيعي مائه وعشرين سنة وقيل مائة وخمسين إلى مائتين وهذا كما قال بعض المحققين قضية فلسفية طبيعة يتبرأ الإسلام منها إذ الأعمار قسم من الخالق الجبار والقول بأنها العادة غير صحيح كما يعرفه كل مميز بل هو أندر النادر بل معترك المنايا كما أخبر به الصادق بين الستين والسبعين وقال الإمام يحيى ولا وجه للتربص لكن إن ترك لها الغائب ما يقوم بها فهو كالحاضر إذ لم يفتها إلا الوطء وهو حق له لا لها وإلا فسخها الحاكم عند مطالبتها من دون المفقود لقوله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً} والحديث "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام" والحاكم وضع لرفع المضارة في الإيلاء والظهار وهذا أبلغ والفسخ مشروع بالعيب ونحوه قلت وهذا أحسن الأقوال وما سلف عن علي وعمر أقوال موقوفة وفي الإرشاد لابن كثير عن الشافعي بسنده إلى أبي الزناد قال سألت سعيد بن المسيب عن الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته قال يفرق بينهما قلت سنة قال سنة قال الشافعي الذي يشبه أن قول سعيد سنة أن لا يكون سنة النبي صلى الله عليه وسلم وقد طول الكلام في هذا(3/208)
في حواشي ضوء النهار واخترنا الفسخ بالغيبة أو بعدم قدرة الزوج على الإنفاق نعم لو ثبت قوله
15- وعن المغيرة بن شعبة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة المفقود امرأته حتى يأتيها البيان أخرجه الدارقطني بإسناد ضعيف لكان مقويا لتلك الآثار إلا أنه ضعفه أبو حاتم والبيهقي وابن القطان وعبد الحق وغيرهم
16- وعن جابر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يبيتن" من البيتوتة وهي بقاء الليل "رجل عند امرأة إلا أن يكون ناكحا أو ذا محرم" أخرجه مسلم وفي لفظ لمسلم أيضا زيادة عند امرأة ثيب قيل إنما خص الثيب لأنها التي يدخل عليها غالبا وأما البكر فهي متصونة في العادة مجانبة للرجال أشد مجانبة ولأنه يعلم بالأولى أنه إذا نهى عن الدخول على الثيب التي يتساهل الناس في الدخول عليها فبالأولى البكر والمراد من قوله ناكحا أي متزوجا بها وفي الحديث دليل على أنها تحرم الخلوة بالأجنبية وأنه يباح له الخلوة بالمحرم وهذان الحكمان مجمع عليهما وقد ضبط العلماء المحرم بأنه كل من حرم عليه نكاحها على التأبيد بسبب مباح يحرمها فقوله على التأبيد احتراز عن أخت الزوجة وعمتها وخالتها ونحوهن وقوله بسبب مباح احتراز عن أم الموطوءة بشبهة وبنتها فإنها حرام على التأبيد لكن لا بسبب مباح فإن وطء الشبهة لا يوصف بأنه مباح ولا محرم ولا بغيرهما من أحكام الشرع الخمسة لأنه ليس فعل مكلف وقوله يحرمها احتراز عن الملاعنة فأنها محرمة على التأبيد لا لحرمتها بل تغليظا عليها ومفهوم قوله لا يبيتن أنه يجوز له البقاء عند الأجنبية في النهار خلوة أو غيرها لكن قوله
17- وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم" أخرجه البخاري دل على تحريم خلوته بها ليلا أو نهارا وهو دليل لما دل عليه الحديث الذي قبله وزيادة وأفاد جواز خلوة الرجل بالأجنبية مع محرمها وتسميتها خلوة تسامح فالاستثناء منقطع
18- وعن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في سبايا أوطاس اسم واد في أخذها هوازن وهو موضع حرب حنين وقيل وادي اوطاس غير وادي حنين "لا توطأ حامل حتى تضع ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة" أخرجه أبو داود وصححه الحاكم وله شاهد عن ابن عباس بلفظ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن توطأ حامل حتى تضع أو حائل حتى تحيض في الدارقطني إلا أنه من رواية شريك القاضي وفيه كلام قاله ابن كثير في الإرشاد والحديث دليل على أنه يجب على الثاني استبراء المسبية إذا أراد وطأها بحيضة إن كانت غير حامل ليتحقق براءة رحمها وبوضع الحمل إن كانت حاملا وقيس على غير المسبية المشتراة والمتملكة بأي وجه من وجوه التملك بجامع ابتداء التملك وظاهر قوله "ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة" عموم البكر والثيب فالثيب لما ذكر والبكر أخذا بالعموم وقياسا على العدة فإنها تجب على الصغيرة(3/209)
مع العلم ببراءة الرحم وإلى هذا ذهب الأكثرون وذهب آخرون إلى أن الاستبراء إنما يكون في حق من لم يعلم براءة رحمها أما من علم براءة رحمها فلا استبراء عليها وهذا رواه عبد الرزاق عن ابن عمر قال إذا كانت الأمة عذراء لم يستبرئها إن شاء ورواه البخاري في الصحيح عنه وأخرج في الصحيح مثله عن علي رضي الله عنه من حديث بريدة ويؤيد هذا القول مفهوم ما أخرجه أحمد من حديث رويفع من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا ينكح ثيبا من السبايا حتى تحيض وإلى هذا ذهب مالك على تفصيل أفاده قول المازري من المالكية في تحقيق مذهبه حيث قال إن القول الجامع في ذلك أن كل أمة أمن عليها الحمل فلا يلزم فيها الاستبراء وكل من غلب على الظن كونها حاملا أو شك في حملها أو تردد فيه فالاستبراء لازم فيها وكل من غلب على الظن براءة رحمها لكنه يجوز حصوله فالمذهب على قولين في ثبوت الاستبراء وسقوطه وأطال بما خلاصته أن مأخذ مالك في الاستبراء إنما هو العلم بالبراءة فحيث لا تعلم ولا تظن البراءة وجب الاستبراء وحيث تعلم أو تظن البراءة فلا استبراء وبهذا قال ابن تيمية وتلميذه ابن القيم والأحاديث الواردة في الباب تشير إلى أن العلة الحمل أو تجويزه وقد عرفت أن النص ورد في السبايا وقيس عليه انتقال الملك بالشراء أو غيره وذهب داود الظاهري إلى أنه لا يجب الاستبراء في غير السبايا لأنه لا يقول بالقياس فوقف على محل النص ولأن الشراء ونحوه عنده كالتزويج
واعلم أن ظاهر أحاديث السبايا جواز وطئهن وإن لم يدخلن في الإسلام فإنه صلى الله عليه وسلم لم يذكر في حل الوطء إلا الاستبراء بحيضة أو بوضع الحمل ولو كان الإسلام شرطا لبينه وإلا لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة ولا يجوز والذي قضى به إطلاق الأحاديث وعمل الصحابة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم جواز الوطء للمسبية من دون إسلام وقد ذهب إلى هذا طاوس وغيره
واعلم أن الحديث دل بمفهومه على جواز الاستمتاع قبل الاستبراء بدون الجماع وعليه دل فعل ابن عمر أنه قال وقعت في سهمي جارية يوم جلولاء كأن عنقها إبريق فضة قال فما ملكت نفسي أن جعلت أقبلها والناس ينظرون أخرجه البخاري
19- وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الولد للفراش وللعاهر الحجر" متفق عليه من حديثه أي أبي هريرة قال ابن عبد البر إنه جاء عن بضع وعشرين نفسا من الصحابة والحديث دليل على ثبوت نسب الولد بالفراش من الأب واختلف العلماء في معنى الفراش فذهب الجمهور إلى أنه اسم للمرأة وقد يعبر به عن حالة الافتراش وذهب أبو حنيفة إلى أنه اسم للزوج ثم اختلفوا بماذا يثبت فعند الجمهور إنما يثبت للحرة بإمكان الوطء في نكاح صحيح أو فاسد وهو مذهب الهادوية و الشافعي وأحمد وعند أبي حنيفة أنه يثبت بنفس العقد وإن علم أنه لم يجتمع بها بل ولو طلقها عقيبه في المجلس وذهب ابن تيمية إلى أنه لا بد من معرفة الدخول المحقق واختاره تلميذه ابن القيم قال وهل يعد أهل اللغة وأهل العرف المرأة فراشا قبل البناء بها وكيف تأتي(3/210)
الشريعة بإلحاق نسب من لم يبن بامرأته ولا دخل بها ولا اجتمع بها لمجرد إمكان ذلك وهذا الإمكان قد يقطع بانتفائه عادة فلا تصير المرأة فراشا إلا بدخول محقق قال في المنار هذا هو المتيقن ومن أين لنا الحكم بالدخول بمجرد الامكان فإن غايته أنه مشكوك فيه ونحن متعبدون في جميع الأحكام بعلم أو ظن والممكن أعم من المظنون والعجب من تطبيق الجمهور بالحكم مع الشك فظهر لك قوة كلام ابن تيمية وهو رواية عن أحمد هذا في ثبوت فراش الحرة وأما ثبوت فراش الأمة فظاهر الحديث شموله له وأنه يثبت الفراش للأمة بالوطء إذا كانت مملوكة للوطىء أو في شبهة ملك إذا اعترف السيد أو ثبت بوجه والحديث وارد في الأمة ولفظه في رواية عائشة قالت اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة في غلام فقال سعد يا رسول الله هذا ابن أخي عتبة بن أبي وقاص عهد إلي أنه ابنه انظر إلى شبهه وقال عبد بن زمعة هذا أخي يا رسول الله ولد على فراش أبي من وليدته فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شبهه فرأى شبها بينا بعتبة فقال: "هو لك يا عبد بن زمعة الولد للفراش وللعاهر الحجر واحتجبي منه يا سودة" فأثبت النبي صلى الله عليه وسلم الولد لفراش زمعة للوليدة المذكورة فسبب الحكم ومحله إنما كان في الأمة وهذا قول الجمهور وإليه ذهب الشافعي ومالك والنخعي وأحمد وإسحاق وذهبت الهادوية والحنفية إلى أنه لا يثبت الفراش للأمة إلا بدعوى الولد ولا يكفي الإقرار بالوطء فإن لم يدعه فلا نسب له وكان ملكا لمالك الأمة وإذا ثبت فراشها بدعوى أول ولد منها فما ولدته بعد ذلك لحق بالسيد وإن لم يدع المالك ذلك قالوا وذلك للفرق بين الحرة والأمة فإن الحرة تراد للاستفراش والوطء بخلاف ملك اليمين فإن ذلك تابع وأغلب المنافع غيره وأجيب بأن الكلام في الأمة التي اتخذت للوطء فإن الغرض من الاستفراش قد حصل بها فإذا عرف الوطء كانت فراشا ولا يحتاج إلى استلحاق والحديث دال لذلك فإنه لما قال عبد بن زمعة ولد على فراش أبي ألحقه النبي صلى الله عليه وسلم بزمعة صاحب الفراش ولم ينظر إلى الشبه البين الذي فيه المخالفة للملحوق به وتأولت الحنفية والهادوية حديث أبي هريرة بتأويلات كثيرة وزعموا أنه صلى الله عليه وسلم لم يلحق الغلام المتنازع فيه بنسب زمعة واستدلوا بأنه صلى الله عليه وسلم أمر سودة بنت زمعة بالاحتجاب منه وأجيب بأنه أمرها بالاحتجاب منه على سبيل الاحتياط والورع والصيانة لأمهات المؤمنين من بعض المباحات مع الشبهة وذلك لما رآه صلى الله عليه وسلم في الولد من الشبه بعتبة بن أبي وقاص وللمالكية هنا مسلك آخر فقالوا الحديث دل على مشروعية حكم بين حكمين وهو أن يأخذ الفرع شبها من أكثر من أصل فيعطي أحكاما فإن الفراش يقتضي إلحاقه بزمعة والشبه يقتضي إلحاقه بعتبة فأعطى الفرع حكما بين حكمين فروعي الفراش في إثبات النسب وروعي الشبه البين بعتبة في أمر سودة بالاحتجاب قالوا وهذا أولى التقديرات فإن الفرع إذا دار بين أصلين(3/211)
فألحق بأحدهما فقط فقد أبطل شبهه بالثاني من كل وجه فإذا ألحق بكل واحد منهما من وجه كان أولى من إلغاء أحدهما من كل وجه فيكون هذا الحكم وهو إثبات النسب بالنظر إلى ما يجب للمدعي من أحكام البنوة ثابتا وبالنظر إلى ما يتعلق بالغير من النظر إلى المحارم غير ثابت قالوا ولا يمتنع ثبوت النسب من وجه دون وجه كما ذهب أبو حنيفة والأوزاعي وغيرهم إلى أنه لا يحل أن يتزوج بنته من الزنا وإن كان لها حكم الأجنبية وقد اعترض هذا ابن دقيق العيد بما ليس بناهض وفي الحديث دليل على أن لغير الأب أن يستلحق الولد فإن عبد بن زمعة استلحق أخاه بإقراره بأن الفراش لأبيه وظاهر الرواية أن ذلك يصح وإن لم يصدقه الورثة فإن سودة لم يذكر منها تصديق ولا إنكار إلا أن يقال إن سكوتها قائم مقام الإقرار وفي المسألة قولان الأول أنه إذا كان المستلحق غير الأب ولا وارث غيره وذلك كأن يستلحق الجد ولا وارث سواه صح إقراره وثبت نسب المقر به وكذلك إن كان المستلحق بعض الورثة وصدقه الباقون والأصل في ذلك أن من حاز المال ثبت النسب بإقراره واحدا كان أو جماعة وهذا مذهب أحمد والشافعي لأن الورثة قاموا مقام الميت وحلوا محله الثاني للهادوية أنه لا يصح الاستلحاق من غير الأب وإنما المقر به يشارك المقر في الإرث دون النسب ولكن قوله صلى الله عليه وسلم لعبد "هو أخوك" كما أخرجه البخاري دليل ثبوت النسب في ذلك ثم اختلف القائلون بلحوق النسب بإقرار غير الأب هل هو إقرار خلافة ونيابة عن الميت فلا يشترط عدالة المستلحق بل ولا إسلامه أو هو إقرار شهادة فتعتبر فيه أهلية الشهادة فقالت الشافعية و أحمد إنه إقرار خلافة ونيابة وقال المالكية إنه إقرار شهادة واستدل الهادوية والحنفية بالحديث على عدم ثبوت النسب بالقيافة لقوله الولد للفراش قالوا ومثل هذا التركيب يفيد الحصر ولأنه لو ثبت بالقيافة لكانت قد حصلت بما رآه من شبه المدعى بعتبة ولم يحكم به له بل حكم به لغيره وذهب الشافعي وغيره إلى ثبوته بالقيافة إلا أنه إنما يثبت بها فيما حصل من وطأين محرمين كالمشتري والبائع يطآن الجارية في طهر قبل استبراء واستدلوا بما أخرجه الشيخان من استبشاره صلى الله عليه وسلم بقول مجزز المدلجي وقد رأى قدمي أسامة بن زيد وزيد "إن هذه الأقدام بعضها من بعض" فاستبشر صلى الله عليه وسلم بقوله وقرره على قيافته وسيأتي الكلام فيه في آخر باب الدعاوى وبما ثبت من قوله صلى الله عليه وسلم في قصة اللعان "إن جاءت به على صفة كذا فهو لفلان أو على صفة كذا فهو لفلان" فإنه دليل الإلحاق بالقيافة ولكن منعته الأيمان عن الإلحاق فدل على أن القيافة مقتض لكنه عارض العمل بها المانع وبأنه صلى الله عليه وسلم قال لأم سليم لما قالت أو تحتلم المرأة فمن أين يكون الشبه ولأنه أمر سودة بالاحتجاب كما سلف لما رأى من الشبه وبأنه قال للذي ذكر له أن امرأته أتت بولد على غير لونه لعله نزعه عرق فإنه ملاحظة للشبه ولكنه لا حكم للقيافة مع ثبوت الفراش في ثبوت النسب وقد أجاب النفات للقيافة بأجوبة لا تخلو عن تكلف والحكم الشرعي يثبته الدليل الظاهر والتكلف لرد الظواهر من الأدلة محاماة عن المذهب ليس من شأن المتبع لما جاء عن الله وعن رسوله(3/212)
صلى الله عليه وسلم وأما الحصر في حديث "الولد للفراش" فنعم هو لا يكون الولد إلا للفراش مع ثبوته والكلام مع انتفائه ولأنه قد يكون حصراً وهو غالب ما يأتي من الحصر فإن الحصر الحقيقي قليل فلا يقال قد رجعتم إلى ما ذممتم من التأويل وأما قوله "وللعاهر" أي الزاني "الحجر" فالمراد له الخيبة والحرمان وقيل له الرمي بالحجارة إلا أنه لا يخفى أنه يقصر الحديث على الزاني المحصن والحديث عام(3/213)
باب الرضاع
بكسر الراء وفتحها ومثله الرضاعة
1- عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحرم المصة والمصتان" أخرجه مسلم المصة الواحدة من المص وهو أخذ اليسير من الشيء كما في الضياء وفي القاموس مصصته بالكسر أمصه ومصصته أمصه كخصصته أخصه شربته شربا رفيقا والحديث دل على أن مص الصبي للثدي مرة أو مرتين لا يصير به رضيعا وفي المسألة أقوال الأول: أن الثلاث فصاعدا تحرم وإلى هذا ذهب داود وأتباعه وجماعة من العلماء لمفهوم حديث مسلم هذا وحديث الآخر بلفظ "لا تحرم الإملاجة والإملاجتان" فأفاد بمفهومه تحريم ما فوق الاثنتين القول الثاني: لجماعة من السلف والخلف وهو أن قليل الرضاع وكثيره يحرم وهذا يروى عن علي وابن عباس وآخرين من السلف وهو مذهب الهادوية والحنفية و مالك قالوا وحده ما وصل الجوف بنفسه وقد ادعى الإجماع على أنه يحرم من الرضاع ما يفطر الصائم واستدلوا بأنه تعالى علق التحريم باسم الرضاع فحيث وجد اسمه وجد حكمه وورد الحديث موافقا للآية فقال صلى الله عليه وسلم: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" ولحديث عقبة الآتي وقوله صلى الله عليه وسلم: "كيف وقد زعمت أنها أرضعتكما" ولم يستفصل عن عدد الرضعات فهذه أدلتهم ولكنها اضطربت أقوالهم في ضبط الرضعة وحقيقتها اضطرابا كثيرا ولم يرجع إلى دليل ويجاب عما ذكروه من التعليق باسم الرضاع أنه مجمل بينه الشارع بالعدد وضبطه به وبعد البيان لا يقال إنه ترك الاستفصال القول الثالث: أنها لا تحرم إلا خمس رضعات وهو قول ابن مسعود وابن الزبير والشافعي ورواية عن أحمد واستدلوا بما يأتي من حديث عائشة وهو نص في الخمس وبأن سهلة بنت سهيل أرضعت سالما خمس رضعات ويأتي أيضا وهذا إن عارضه مفهوم حديث المصة والمصتان فإن الحكم في هذا منطوق وهو أقوى من المفهوم فهو مقدم عليه وعائشة وإن روت أن ذلك كان قرآنا فإن له حكم خبر الآحاد في العمل به كما عرف في الأصول وقد عضده حديث سهل فإن فيه أنها أرضعت سالما خمس رضعات لتحرم عليه وإن كان فعل صحابية فإنه دال أنه قد كان متقررا عندهم أنه لا يحرم إلا الخمس الرضعات ويأتي تحقيقه وأما حقيقة الرضعة فهي المرة من الرضاع كالضربة من الضرب والجلسة من الجلوس فمتى التقم الصبي الثدي وامتص منه ثم ترك ذلك باختياره من غير عارض كان ذلك رضعة والقطع لعارض كنفس(3/213)
أو استراحة يسيرة أو لشيء يلهيه ثم يعود من قريب لا يخرجها عن كونها رضعة واحدة كما أن الآكل إذا قطع أكله بذلك ثم عاد عن قريب كان ذلك أكلة واحدة وهذا مذهب الشافعي في تحقيق الرضعة الواحدة وهو موافق للغة فإذا حصلت خمس رضعات على هذه الصفة حرمت
2- وعنها أي عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انظرن من إخوانكن فإنما الرضاعة من المجاعة" متفق عليه في الحديث قصة وهو أنه صلى الله عليه وسلم دخل على عائشة وعندها رجل فكأنه تغير وجهه كأنه كره ذلك فقالت إنه أخي فقال "انظرن من إخوانكن فإنما الرضاعة من المجاعة"
قال المصنف: لم أقف على اسمه وأظنه ابنا لأبي القعيس وقوله انظرن أمر بالتحقق في أمر الرضاعة هل هو رضاع صحيح بشرطه من وقوعه في زمن الرضاع ومقدار الإرضاع فإن الحكم الذي ينشأ من الرضاع إنما يكون إذا وقع الرضاع المشترط وقال أبو عبيد معناه أنه الذي إذا جاع كان طعامه الذي يشبعه اللبن من الرضاع لا حيث يكون الغذاء بغير الرضاع وهو تعليل لإمعان التحقق في شأن الرضاع وبأن الرضاع الذي تثبت به الحرمة وتحل به الخلوة هو حيث يكون الرضيع طفلا يسد اللبن جوعه لأن معدته كمال يكفيها اللبن وينبت بذلك لحمه فيصير جزءا من المرضعة فيشترك في الحرمة مع أولادها فمعناه لا رضاعة معتبرة إلا المغنية عن المجاعة أو المطعمة من المجاعة فهو في معنى حديث ابن مسعود الآتي "لا رضاع إلا ما أنشز العظم وأنبت اللحم" وحديث أم سلمة "لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء" أخرجه الترمذي وصححه واستدل به على أن التغذي بلبن المرضعة محرم سواء كان شربا أو وجورا أو سعوطا أو حقنة حيث كان يسد جوع الصبي وهو قول الجمهور وقالت الهادوية والحنفية لا تحرم الحقنة وكأنهم يقولون أنها لا تدخل تحت اسم الرضاع قلت إذا لوحظ المعنى من الرضاع دخل كل ما ذكروا وإن لوحظ مسمى الرضاع فلا يشمل إلا التقام الثدي ومص اللبن منه كما تقوله الظاهرية فإنهم قالوا لا يحرم إلا ذلك ولما حصر في الحديث الرضاعة على ما كان من المجاعة كما قد عرفت وقد ورد
3- وعنها أي عائشة قالت جاءت سهلة بنت سهيل فقالت يا رسول الله إن سالما مولى أبي حذيفة معنا في بيتنا وقد بلغ ما يبلغ الرجال فقال: "أرضعيه تحرمي عليه" رواه مسلم وفي سنن أبي داود "فأرضعيه خمسة رضعات" فكان بمنزلة ولدها من الرضاعة معارضا لذلك وكأنه ذكره المصنف كالمشير إلى أنه قد خصص هذا الحكم بحديث سهلة فإنه دال على أن رضاع الكبير يحرم مع أنه ليس داخلا تحت الرضاعة من المجاعة وبيان القصة أن أبا حذيفة كان قد تبنى سالما وزوجه وكان سالم مولى لامرأة من الأنصار فلما أنزل الله {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} الآية كان من له أب معروف نسب إلى أبيه ومن لا أب له معروف كان مولى وأخا في الدين فعند ذلك جاءت سهلة تذكر ما نصه الحديث في الكتاب(3/214)
وقد اختلف السلف في هذا الحكم فذهبت عائشة رضي الله عنها إلى ثبوت حكم التحريم وإن كان الراضع بالغا عاقلا قال عروة إن عائشة أم المؤمنين أخذت بهذا الحديث فكانت تأمر أختها أم كلثوم وبنات أخيها يرضعن من أحبت أن يدخل عليها من الرجال رواه مالك ويروى عن علي وعروة وهو قول الليث بن سعد وأبي محمد بن حزم ونسبه في البحر إلى عائشة وداود الظاهري وحجتهم حديث سهلة هذا وهو حديث صحيح لا شك في صحته ويدل له أيضا قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} فإنه مقيد بوقت وذهب الجمهور من الصحابة والتابعين والفقهاء إلى أنه لا يحرم من الرضاع إلا ما كان في الصغر وإنما اختلفوا في تحديد الصغر فالجمهور قالوا مهما كان في الحولين فإن رضاعه يحرم ولا يحرم ما كان بعدهما مستدلين بقوله تعالى: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} وقال جماعة الرضاع المحرم ما كان قبل الفطام ولم يقدروه بزمان وقال الأوزاعي إن فطم وله عام واحد واستمر فطامه ثم رضع في الحولين لم يحرم هذا الرضاع شيئا وإن تمادى رضاعه ولم يفطم فيما يرضع وهو في الحولين حرم وما كان بعدهما لا يحرم وإن تمادى إرضاعه وفي المسألة أقوال أخر عارية عن الاستدلال فلا نطيل بها المقال واستدل الجمهور بحديث "إنما الرضاعة من المجاعة" وتقدم فإنه لا يصدق ذلك إلا على من يشبعه اللبن ويكون غذاءه لا غيره فلا يدخل الكبير سيما وقد ورد بصيغة الحصر وأجابوا عن حديث سالم بأنه خاص بقصة سهلة فلا يتعدى حكمه إلى غيرها كما يدل له قوله أم سلمة أم المؤمنين لعائشة رضي الله عنهما لا نرى هذا إلا خاصا بسالم ولا ندري لعله رخصة لسالم أو أنه منسوخ وأجاب القائلون بتحريم رضاع الكبير بأن الآية وحديث إنما الرضاعة من المجاعة واردان لبيان الرضاعة الموجبة للنفقة للمرضعة ملكا يجبر عليها الأبوان رضيا أم كرها كما يرشد إليه آخر الآية وهو قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وعائشة هي الراوية لحديث إنما الرضاعة من المجاعة وهي التي قالت برضاع الكبير وأنه يحرم فدل على أنها فهمت ما ذكرناه في معنى الآية والحديث وأما قول أم سلمة إنه خاص بسالم فذلك تظنن منها وقد أجابت عليها عائشة فقالت أما لك في رسول الله أسوة حسنة فسكتت أم سلمة ولو كان خاصا لبينه صلى الله عليه وسلم كما بين اختصاص أبي بردة بالتضحية بالجذعة من المعز والقول بالنسخ يدفعه أن قصة سهل متأخرة عن نزول آية الحولين فإنها قالت سهلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كيف أرضعه وهو رجل كبير فإن هذا السؤال منها استنكار لرضاع الكبير دال على أن التحليل بعد اعتقاد التحريم قلت ولا يخفى أن الرضاعة لغة إنما تصدق على من كان في سن الصغر وعلى اللغة وردت آية الحولين وحديث "إنما الرضاعة من المجاعة" والقول بأن الآية لبيان الرضاعة الموجبة للنفقة لا ينافي أيضا أنها لبيان زمان الرضاعة بل جعله الله تعالى زمان من أراد تمام الرضاعة وليس بعد التمام ما يدخل في حكم ماحكم الشارع بأنه قد تم والأحسن في الجمع بين حديث سهلة وما عارضه كلام ابن تيمية فإنه قال إنه يعتبر الصغر في الرضاعة إلا إذا دعت إليه الحاجة كرضاع الكبير الذي لا يستغنى عن(3/215)
دخوله على المرأة وشق احتجابها عنه كحال سالم مع امرأة أبي حذيفة فمثل هذا الكبير إذا أرضعته للحاجة أثر رضاعه وأما من عداه فلا بد من الصغر انتهى فإنه جمع بين الأحاديث حسن وإعمال لها من غير مخالفة لظاهرها باختصاص ولا نسخ ولا إلغاء لما اعتبرته اللغة ودلت له الأحاديث
4- وعنها أي عن عائشة رضي الله عنها أن أفلح بفتح الهمزة ففاء آخره حاء مهملة مولى لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل مولى لأم سلمة أخا أبي القعيس بقاف مضمومة وعين وسين مهملتين بينهما مثناة تحتية جاء يستأذن عليها بعد الحجاب قالت فأبيت أن آذن له فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرته بالذي صنعت فأمرني أن آذن له علي وقال إنه عمك متفق عليه اسم أبي القعيس وائل بن أفلح الأشعري وقيل اسمه الجعد فعلى الأول يكون أخوه وافق اسمه اسم أبيه قال ابن عبد البر لا أعلم لأبي القعيس ذكرا إلا في هذا الحديث والحديث دليل على ثبوت حكم الرضاع في حق زوج المرضعة وأقاربه كالمرضعة وذلك لأن سبب اللبن هو ماء الرجل والمرأة معا فوجب أن يكون الرضاع منهما كالجد لما كان سبب ولد الولد أوجب تحريم ولد الولد به لتعلقه بولده لذلك قال ابن عباس في هذا الحكم اللقاح واحد أخرجه عنه ابن أبي شيبة فإن الوطء يدر اللبن فللرجل منه نصيب وإلى هذا ذهب الجمهور من الصحابة والتابعين وأهل المذاهب والحديث دليل واضح لمن ذهبوا إليه وفي رواية أبي داود زيادة تصريح حيث قالت دخل علي أفلح فاستترت منه فقال أتستترين مني وأنا عمك قلت من أين قال أرضعتك امرأة أخي قلت إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل الحديث وخالف في ذلك ابن عمر وابن الزبير ورافع بن خديج وعائشة وجماعة من التابعين و ابن المنذر وداود وأتباعه فقالوا لا يثبت حكم الرضاع للرجل لأن الرضاع إنما هو للمرأة التي اللبن منها قالوا ويدل عليه قوله تعالى :{وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} وأجيب بأن الآية ليس فيها ما يعارض الحديث فإذ ذكر الأمهات لا يدل على أن ما عداهن ليس كذلك ثم إن دل بمفهومه فهو مفهوم لقب مطرح كما عرف في الأصول وقد استدلوا بفتوى جماعة من الصحابة بهذا المذهب ولا يخفى أنه لا حجة في ذلك وقد أطال بعض المتأخرين البحث في المسألة وسبقه ابن القيم في الهدي واستحسنه ابن تيمية والواضح ما ذهب إليه الجمهور
5- وعنها أي عائشة رضي الله عنها قالت: "كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فيما يقرأ من القرآن" رواه مسلم يقرأ بضم حرف المضارعة تريد أن النسخ بخمس رضعات تأخر إنزاله جدا حتى إنه توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعض الناس يقرأ خمس رضعات ويجعلها قرآنا متلوا لكونه لم يبلغه النسخ لقرب عهده فلما بلغهم النسخ بعد ذلك رجعوا عن ذلك وأجمعوا على أنه لا يتلى وهذا من نسخ التلاوة دون الحكم وهو أحد أنواع النسخ فإنه ثلاثة أقسام نسخ التلاوة والحكم مثل عشر رضعات يحرمن والثاني: نسخ التلاوة دون الحكم(3/216)
كخمس رضعات وكالشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما والثالث: نسخ الحكم دون التلاوة وهو كثير نحو قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً} الآية وقد تقدم تحقيق القول في حكم هذا الحديث وأن العمل على ما أفاده هو أرجح الأقوال والقول بأن حديث عائشة هذا ليس بقرآن لأنه لا يثبت بخبر الآحاد ولا هو حديث لأنها لم تروه حديثا مردود بأنها وإن لم تثبت قرآنيته ويجري عليه حكم ألفاظ القرآن فقد روته عن النبي صلى الله عليه وسلم فله حكم الحديث في العمل به وقد عمل بمثل ذلك العلماء فعمل به الشافعي وأحمد في هذا الموضع وعمل به الهادوية والحنفية في قراءة ابن مسعود في صيام الكفارة ثلاثة أيام متتابعات وعمل مالك في فرض الأخ من الأم بقراءة أبي وله أخ وأخت من أم والناس كلهم احتجوا بهذه القراءة والعمل بحديث الباب هذا لا عذر عنه ولذا اخترنا العمل به فيما سلف
6- وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أريد بضم الهمزة مبني للمجهول على ابنة حمزة أي قيل له لو تزوجتها فقال: "إنها لا تحل لي إنها ابنة أخي من الرضاعة ويحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب" متفق عليه اختلف في اسم ابنة حمزة على سبعة أقوال ليس فيها ما يجزم به وإنما كانت ابنة أخيه صلى الله عليه وسلم لأنه رضع من ثويبة أمة أبي لهب وقد كانت أرضعت عمه حمزة وأحكام الرضاع هي حرمة التناكح وجواز النظر والخلوة والمسافرة لا غير ذلك من التوارث ووجوب الإنفاق والعتق بالملك وغيره من أحكام النسب وقوله صلى الله عليه وسلم "ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" يراد به تشبيهه في التحريم ثم التحريم ونحوه بالنظر إلى المرضع فإن أقاربه أقارب للرضيع وأما أقارب الرضيع ما عدا أولاده فلا علاقة بينهم وبين المرضع فلا يثبت لهم شيء من الأحكام
7- وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق" بالفاء فمثناة فوقية فقاف "الأمعاء" جمع المعا بكسر الميم وفتحها "وكان قبل الفطام" رواه الترمذي وصححه هو والحاكم والمراد ما سلك فيها من الفتق بمعنى الشق والمراد ما وصل إليه فلا يحرم القليل الذي لا ينفذ إليها ويحتمل أن المراد ما وصلها وغذاها واكتفت به عن غيره فيكون دليلا على عدم تحريم رضاع الكبير ويدل على أن المراد هذا قوله في الحديث وكان قبل الفطام فإنه يراد به قبل الحولين كما ورد في هذا الحديث الآخر إن ابني إبراهيم مات في الثدي وإن له مرضعا في الجنة وتقدم الكلام في الأمرين ويدل لهذا الأخير قوله
8- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لا رضاع إلا في الحولين رواه الدارقطني وابن عدي مرفوعا وموقوفا ورجحا الموقوف لأنه تفرد برفعه الهيثم بن جميل عن ابن عيينة قاله الدارقطني وقال وكان ثقة حافظا ورواه سعيد بن منصور عن ابن عيينة فوقفه قلت وهذا ليس بعلة كما قررناه مرارا وقال ابن عدي إن الهيثم كان يغلط وقال البيهقي الصحيح إنه موقوف وروى البيهقي التحديد بالحولين عن عمر وابن مسعود(3/217)
والحديث دال على اعتبار الحولين وأنه لا يسمى الرضاع رضاعا إلا في الحولين وقد تقدم أنه الذي دلت عليه الآية والقول بأنها إنما دلت على حكم الواجب من النفقة ونحوها لا على مدة الرضاع تقدم دفعه ويدل لهذا الحكم قوله
9- وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا رضاع إلا ما أنشز" بشين معجمة فزاي أي شد " وقوي العظم وأنبت اللحم" أخرجه أبو داود فإن ذلك إنما يكون لمن هو في سن الحولين ينمو باللبن ويقوى به عظمه وينبت عليه لحمه
10- وعن عقبة بن الحارث وهو أبو سروعة عقبة بن الحارث بن عامر القرشي النوفلي أسلم يوم الفتح يعد في أهل مكة أنه تزوج أم يحيي بنت أبي إهاب بكسر الهمزة فجاءت امرأة قال المصنف لم أعرف اسمها فقالت قد أرضعتكما فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "كيف وقد قيل" ففارقها عقبة فنكحت زوجا غيره أخرجه البخاري الحديث دليل على أنه شهادة المرضعة وحدها تقبل وبوب على ذلك البخاري وإليه ذهب ابن عباس وجماعة من السلف و أحمد بن حنبل وقال أبو عبيد يجب على الرجل المفارقة ولا يجب على الحاكم الحكم بذلك وقال مالك إنه لا يقبل في الرضاع إلا امرأتان وذهب الهادوية والحنفية إلى أن الرضاع كغيره لا بد من شهادة رجلين أو رجل وامرأتين ولا تكفي شهادة المرضعة لأنها تقرر فعلها وقال الشافعي تقبل شهادة المرضعة مع ثلاث نسوة بشرط أن لا تعرض بطلب أجرة قالوا وهذا الحديث محمول على الاستحباب والتحرز عن مظان الاشتباه وأجيب بأن هذا خلاف الظاهر سيما وقد تكرر سؤاله للنبي صلى الله عليه وسلم أربع مرات وأجابه بقوله "كيف وقد قيل" وفي بعض ألفاظه "دعها" وفي رواية الدارقطني "لا خير لك فيها" ولو كان من باب الاحتياط لأمره بالطلاق مع أنه في جميع الروايات لم يذكر الطلاق فيكون هذا الحكم مخصوصا من عموم الشهادة المعتبر فيها العدد وقد اعتبرتم ذلك في عورات النساء فقلتم يكتفى بشهادة أمرأة واحدة والعلة عندهم فيه أنه قلما يطلع الرجال على ذلك فالضرورة داعية إلى اعتباره فكذا هنا
11- وعن زياد السهمي قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسترضع الحمقاء" خفيفة العقل أخرجه أبو داود وهو مرسل وليس لزياد البغوي ووجه النهي أن للرضاع تأثيرا في الطباع فيختار من لا حماقة فيها ونحوها(3/218)
باب النفقات
جمع نفقة والمراد بها الشيء الذي يبذله الإنسان فيما يحتاجه هو أو غيره من الطعام والشراب وغيرهما
1- عن عائشة رضي الله عنها قالت دخلت هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف أسلمت عام الفتح في مكة بعد إسلام زوجها قتل أبوها عتبة وعمها شيبة وأخوها الوليد(3/218)
ابن عتبة يوم بدر فشق عليها ذلك فلما قتل حمزة فرحت بذلك وعمدت إلى بطنه فشقته وأخذت كبده فلاكتها ثم لفظتها توفيت في المحرم سنة أربع عشرة وقيل غير ذلك امرأة أبي سفيان أبو سفيان بن حرب اسمه صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس من رؤساء قريش أسلم عام الفتح قبل إسلام زوجته حين أخذته جند النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الفتح وأجاره العباس ثم غدا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم وكانت وفاته في خلافة عثمان سنة اثنتين وثلاثين على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح الشح البخل مع حرص فهو أخص من البخل والبخل يختص بمنع المال والشح بكل شيء لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني إلا ما أخذت من ماله بغير علمه فهل علي في ذلك من جناح فقال: "خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك" متفق عليه الحديث فيه دليل على جواز ذكر الإنسان بما يكره إذا كان على وجه الاشتكاء والفتيا وهذا أحد المواضع التي أجازوا فيها الغيبة ودل على وجوب نفقة الزوجة والأولاد على الزوج وظاهره وإن كان الولد كبيرا لعموم اللفظ وعدم الاستفصال فإن أتى ما يخصصه من حديث آخر وإلا فالعموم قاض بذلك وفيه دليل على أن الواجب الكفاية من غير تقدير للنفقة وإلى هذا ذهب جماهير العلماء منهم الهادي والشافعي وعليه دل قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وفي قول للشافعي إنها مقدرة بالأمداد فعلى الموسر كل يوم مدان والمتوسط مد ونصف والمعسر مد وعن الهادي كل يوم مدان وفي كل شهر درهمان وعن أبي يعلى الواجب من الخبز رطلان كل يوم في حق المعسر والموسر وإنما يختلفان في صفته وجودته لأن الموسر والمعسر مستويان في قدر المأكول وإنما يختلفان في الجودة وغيرها قال النووي وهذا الحديث حجة على من اعتبر التقدير قال المصنف تعقبا له ليس صريحا في الرد عليهم ولكن التقدير بما ذكر محتاج إلى دليل فإن ثبت حملت الكفاية في ذلك الحديث على ذلك المقدار وفي قولها إلا ما أخذت من ماله دليل على أن للأم ولاية في الإنفاق على أولادها مع تمرد الأب وعلى أن من تعذر عليه استيفاء ما يجب له أن يأخذه لأنه صلى الله عليه وسلم أقرها على الأخذ في ذلك ولم يذكر لها أنه حرام وقد سألته هل عليها جناح فأجاب بالإباحة في المستقبل وأقرها على الأخذ في الماضي وقد ورد في بعض ألفاظه في البخاري "لا حرج عليك أن تطعميهم بالمعروف" وقوله "خذي ما يكفيك وولدك" يحتمل أنه فتيا منه صلى الله عليه وسلم ويحتمل أنه حكم وفيه دليل على الحكم على الغائب من دون نصب وكيل عنه وعليه بوب البخاري باب القضاء على الغائب وذكر هذا الحديث لكنه قال النووي شرط القضاء على الغائب أن يكون غائبا عن البلد أو متعززا لا يقدر عليه أو متعذرا ولم يكن أبو سفيان فيه شيء من هذه بل كان حاضرا إلا أنه قد أخرج الحاكم في تفسير الممتحنة في المستدرك أنه صلى الله عليه وسلم لما اشترط في البيعة على النساء ولا يسرقن قالت هند لا أبايعك على السرقة(3/219)
إني أسرق من زوجي فكف حتى أرسل إلى أبي سفيان يتحلل لها منه فقال أما الرطب فنعم وأما اليابس فلا وهذا المذكور يدل على أنه قضى على حاضر إلا إنه خلاف ما بوب له البخاري والحاصل أن القصة مترددة بين كونه فتيا وبين كونه حكما وكونه فتيا أقرب لأنه لم يطالبها ببينة ولا استحلفها وقد قيل إنه حكم بعلمه بصدقها فلم يطلب منها بينة ولا يمينا فهو حجة لمن يقول إنه يحكم الحاكم بعلمه إلا أنه مع الاحتمال لا ينهض دليلا على معين من صور الاحتمال إنما يتم به الاستدلال على وجوب النفقة على الزوج للزوجة وأولاده وعلى أن لها الأخذ من ماله إن لم يقم بكفايتها وهو الحكم الذي أراده المصنف من إيراد الحديث هذا هنا في باب النفقات
2- وعن طارق المحاربي هو طارق بن عبد الله المحاربي بضم المميم وحاء مهملة روى عنه جامع بن شداد وربعي بكسر الراء وسكون الموحدة وكسر العين المهملة وتشديد المثناة التحتية ابن حراش بكسر الحاء المهملة وتخفيف الراء والشين المعجمة قال قدمنا المدينة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر يخطب الناس ويقول: "يد المعطي العليا وابدأ بمن تعول أمك وأباك وأختك وأخاك ثم أدناك فأدناك" رواه النسائي وصححه ابن حبان والدارقطني الحديث كالتفسير لحديث اليد العليا خير من اليد السفلى وفسر في النهاية بالمعطية أو المنفقة واليد السفلى بالمانعة أو السائلة وقوله ابدأ بمن تعول دليل على وجوب الإنفاق على القريب وقد فصله بذكر الأم قبل الأب إلى آخر ما ذكره فدل هذا الترتيب على أن الأم أحق من الأب بالبر قال القاضي عياض وهو مذهب الجمهور ويدل له ما أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة فذكر الأم ثلاث مرات ثم ذكر الأب معطوفا بثم فمن لا يجد إلا كفاية لأحد أبويه خص بها الأم للأحاديث هذه وقد نبه القرآن على زيادة حق الأم في قوله: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً} وفي قوله وأختك وأخاك ثم أدناك إلى آخره دليل على وجوب الإنفاق للقريب المعسر فإنه تفصيل لقوله وابدأ بمن تعول فجعل الأخ من عياله وإلى هذا ذهب عمر وابن أبي ليلى وأحمد والهادي ولكنه اشترط في البحر أن يكون القريب وارثا مستدلا بقوله تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} واللام للجنس وعند الشافعي أن النفقة تجب لفقير غير مكتسب زمنا أو صغيرا أو مجنونا لعجزه عن كفاية نفسه قالوا فإن لم يكن فيه إحدى هذه الصفات الثلاث فأقوال أحسنها تجب لأنه يقبح أن يكلف التكسب مع اتساع مال قريبه والثاني المنع للقدرة على الكسب فإنه نازل منزلة المال الثالث أنه يجب نفقة الأصل على الفرع دون العكس لأنه ليس من المصاحبة بالمعروف أن يكلف أصله التكسب مع علو السن وعند الحنفية يلزم التكسب لقريب محرم فقير عاجز عن الكسب بقدر الإرث هكذا في كتب الفريقين وفي البحر نقل عنهم ما يخالف هذا وهذه أقوال لم يسفر فيها وجه الاستدلال وفي قوله تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} ما يشعر بأن للقريب حقا على قريبه والحقوق متفاوته فمع حاجته للنفقة تجب ومع عدمها فحقه الإحسان بغيرها من البر والإكرام(3/220)
والحديث كالمبين لذوي القربى ودرجاتهم فيجب الإنفاق للمعسر على الترتيب في الحديث ولم يذكر فيه الولد والزوجة لأنهما قد علما من دليل آخر وهو الحديث الأول والتقييد بكونه وارثا محل توقف
واعلم أن للعلماء خلافا في سقوط نفقة الماضي فقيل تسقط للزوجة والأقارب وقيل لا تسقط وقيل تسقط نفقة القريب دون الزوجة وعللوا هذا التفصيل بأن نفقة القريب إنما شرعت للمواساة لا لأجل إحياء النفس وهذا قد انتفى بالنظر إلى الماضي وأما نفقة الزوجة فهي واجبة لأجل المواساة ولذا تجب مع غنى الزوجة ولإجماع الصحابة على عدم سقوطها فإن تم الإجماع فلا التفات إلى خلاف من خالف بعده وقد قال صلى الله عليه وسلم ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف فمهما كانت زوجة مطيعة فهذا الحق الذي لها ثابت وأخرج الشافعي بإسناد جيد عن عمر رضي الله عنه أنه كتب إلى أمراء الأجناد في رجال غابوا عن نسائهم فأمرهم أن يأمروهم بأن ينفقوا أو يطلقوا فإن طلقوا بعثوا بنفقة ما حبسوا وصححه الحافظ أبو حاتم الرازي ذكره ابن كثير في الإرشاد
3- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "للمملوك والمملوكة على السيد طعامه وكسوته ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق" رواه مسلم الحديث دليل على ما هو مجمع عليه من وجوب نفقة المملوك وكسوته وظاهره مطلق الطعام والكسوة فلا يجبان من عين ما يأكله السيد ويلبسه وحديث مسلم بالأمر بإطعامهم مما يطعم وكسوتهم مما يلبس محمول على الندب ولولا ما قيل من الإجماع على هذا لاحتمل أن هذا يقيد مطلق حديث الكتاب ودل على أنه لا يكلفه السيد من الأعمال إلا ما يطيقه وهذا مجمع عليه أيضا
4- وعن حكيم بن معاوية القشيري عن أبيه معاوية بن حيدة قال قلت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: "أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت" الحديث وتقدم في عشرة النساء بتمامه ونسبه إلى أحمد وأبي داود والنسائي وابن ماجه وأنه علق البخاري بعضه وصححه ابن حبان والحاكم وتقدم الكلام عليه
5- وعن جابر في حديث الحج بطوله قال في ذكر النساء "ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف" أخرجه مسلم وهو دليل على وجوب النفقة والكسوة للزوجة كما دلت له الآية وهو مجمع عليه وقد تقدم تحقيقه وقوله بالمعروف إعلام بأنه لا يجب إلا ما تعورف من إنفاق كل على قدر حاله كما قال تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا} ثم الواجب لها طعام مصنوع لأنه الذي يصدق عليه أنه نفقة ولا تجب القيمة إلا برضا من يجب عليه الإنفاق وقد طول ذلك ابن القيم في الهدي النبوي واختاره وهو الحق فإنه قال ما لفظه وأما فرض(3/221)
الدراهم فلا أصل له في كتاب الله تعالى ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابه البتة ولا التابعين ولا تابعيهم ولا نص عليه أحد من الأئمة الأربعة ولا غيرهم من أئمة الإسلام والله تعالى أوجب نفقة الأقارب والزوجات والرقيق بالمعروف وليس من المعروف فرض الدراهم بل المعروف الذي نص عليه الشرع أن يكسوهم مما يلبس ويطعمهم مما يأكل وليست الدراهم من الواجب ولا عوضه ولا يصح الاعتياض عما لم يستقر ولم يملك فإن نفقة الأقارب والزوجات إنما تجب يوما فيوما ولو كانت مستقرة لم تصح المعاوضة عنها بغير رضا الزوج والقريب فإن الدراهم تجعل عوضا عن الواجب الأصلي وهو إما البر عند الشافعي أو المقتات عند الجمهور فكيف يجبر على المعاوضة على ذلك بدراهم من غير رضا ولا إجبار الشرع له على ذلك فهذا مخالف لقواعد الشرع ونصوص الأئمة ومصالح العباد ولكن إن اتفق المنفق والمنفق عليه جاز باتفاقهما على أن في اعتياض الزوجة عن النفقة الواجبة لها نزاعا معروفا في مذهب الشافعي وغيره
6- وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت" رواه النسائي وهو عند مسلم بلفظ أن يحبس عمن يملك قوته الحديث دليل على وجوب النفقة على الإنسان لمن يقوته فإنه لا يكون آثما إلا على تركه لما يجب عليه وقد بولغ هنا في إثمه بأن جعل ذلك الإثم كافيا في هلاكه عن كل إثم سواه والذين يقوتهم ويملك قوتهم هم الذي يجب عليه الإنفاق عليهم وهم أهله وأولاده وعبيده على ما سلف تفصيله ولفظ مسلم خاص بقوت المماليك ولفظ النسائي عام
7- وعن جابر يرفعه في الحامل المتوفى عنها زوجها قال لا نفقة لها أخرجه البيهقي ورجاله ثقات لكن قال المحفوظ وقفه وثبت نفي النفقة في حديث فاطمة بنت قيس كما تقدم رواه مسلم وتقدم أنه في حق المطلقة بائنا وأنه لا نفقة لها وتقدم الكلام فيه والكلام هنا في نفقة المتوفى عنها زوجها وهذه المسألة فيها خلاف ذهب جماعة من العلماء إلى أنها لا تجب النفقة للمتوفى عنها سواء كانت حاملا أو حائلا أما الأولى فلهذا النص وأما الثانية فبطريق الأولى وإلى هذا ذهبت الشافعية والحنفية والمؤيد لهذا الحديث ولأن الأصل براءة الذمة ووجوب التربص أربعة أشهر وعشرا لا يوجب النفقة وذهب آخرون منهم الهادي إلى وجوب النفقة لها مستدلين بقوله متاعا إلى الحول قالوا ونسخ المدة من الآية لا يوجب نسخ النفقة ولأنها محبوسة بسببه فتجب نفقتها وأجيب بأنها كانت تجب النفقة بالوصية كما دل لها قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ} فنسخت الوصية بالمتاع إما بقوله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} وإما بآية المواريث وإما بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا وصية لوارث"(3/222)
وأما قوله تعالى: {فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} فإنها واردة في المطلقات فلا تتناول المتوفى عنها وفي سنن أبي داود من حديث ابن عباس أنها نسخت آية {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} إلى الحول بآية الميراث بما فرض الله لهن من الربع والثمن ونسخ أجل الحول بأن جعل أجلها أربعة أشهر وعشرا وأما ذكر المصنف حديث فاطمة بنت قيس فكأنه يريد أن البائن والمتوفى عنها حكمهما واحد بجامع البينونة والحل للغير
8- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اليد العليا خير من اليد السفلى" تقدم تفسيرهما "ويبدأ" أي في البر والإحسان أحدكم "بمن يعول تقول المرأة أطعمني أو طلقني" رواه الدارقطني وإسناده حسن أخرجه من طريق عاصم عن أبي صالح عن أبي هريرة إلا أن في حفظ عاصم شيئا وأخرجه البخاري موقوفا على أبي هريرة وفي رواية الإسماعيلي قالوا يا أبا هريرة شيء تقوله عن رأيك أو عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هذا من كيسي إشارة إلى أنه من استنباطه هكذا قاله الناظرون في الأحاديث والذي يظهر بل ويتعين أن أبا هريرة لما قال لهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قالوا هذا شيء تقوله عن رأيك أو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجاب بقوله من كيسي جواب المتهكم بهم لا مخبرا أنه لم يكن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكيف يصح حمل قوله من كيس أبي هريرة على أنه أراد به الحقيقة وقد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فينسب استنباطه إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهل هذا إلا كذب منه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاشا أبا هريرة من ذلك فهو من رواة حديث "من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" فالقرائن واضحة أنه لم يرد أبو هريرة إلا التهكم بالسائل ولذا قلنا إنه يتعين أن هذا مراده والذي أتى به المصنف من الرواية بعض حديثه على أنه فسر قوله من كيس أبي هريرة أي من حفظه وعبر عنه بالكيس إشارة إلى ما في صحيح البخاري وغيره من أنه بسط ثوبه أو نمرة كانت عليه فأملاه رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا كثيرا ثم لفه فلم ينس منه شيئا كأنه يقول ذلك الثوب صار كيسا وأشرنا لك إلى أنه لم يأت المصنف بحديث أبي هريرة تاما وتمامه في البخاري ويقول العبد أطعمني واستعملني وفي رواية الإسماعيلي ويقول خادمك أطعمني وإلا بعني ويقول الابن إلى من تدعني والكل دليل على وجوب الإنفاق على من ذكر من الزوجة والمملوك والولد وقد تقدم ذلك ودل على أنه يجب نفقة العبد وإلا وجب بيعه وإيجاب نفقة الولد على أبيه وإن كان كبيرا قال ابن المنذر اختلف في نفقة من بلغ من الأولاد ولا مال له ولا كسب فأوجب طائفة النفقة لجميع الأولاد أطفالا كانوا أو بالغين إناثا أو ذكرانا إذا لم يكن لهم أموال يستغنون بها عن الآباء وذهب الجمهور إلى أن الواجب الإنفاق عليه إلى أن يبلغ الذكر وتتزوج الأنثى ثم لا نفقة على الأب إلا إذا كانوا زمنى فإن كانت لهم أموال فلا وجوب على الأب واستدل به على أن للزوجة إذا أعسر زوجها بنفقتها طلب الفراق ويدل له قوله(3/223)
9- وعن سعيد بن المسيب رضي الله عنه في الرجل لا يجد ما ينفق على أهله قال يفرق بينهما أخرجه سعيد بن منصور عن سفيان عن أبي الزناد عنه رضي الله عنه قال قلت لسعيد بن المسيب سنة فقال سنة وهذا مرسل قوي ومراسيل سعيد معمول بها لما عرف من أنه لا يرسل إلا عن ثقة قال الشافعي والذي يشبه أن يكون قول سعيد سنة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما قول ابن حزم لعله أراد سنة عمر فإنه خلاف الظاهر وكيف يقول له السائل سنة ويريد سؤاله عن سنة عمر هذا مما لا ينبغي حمل الكلام عليه وهل سأل السائل إلا عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما قال جماعة إنه إذا قال الراوي من السنة كذا فإنه يحتمل أن يريد سنة الخلفاء وأما بعد سؤال الراوي فلا يريد السائل إلا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يجيب المجيب إلا عنها لا عن سنة غيره لأنه إنما سأل عما هو حجة وهو سنته صلى الله عليه وسلم وقد أخرج الدارقطني والبيهقي من حديث أبي هريرة مرفوعا بلفظ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته قال يفرق بينهما وأما دعوى المصنف إنه وهم الدارقطني وتبعه البيهقي على الوهم فهو غير صحيح وقد حققناه في حواشي ضوء النهار وسيأتي كتاب عمر إلى أمراء الأجناد في أنهم يأخذون على من عندهم من الأجناد أن ينفقوا أو يطلقوا وقد اختلف العلماء في هذا الحكم وهو فسخ الزوجية عند إعسار الزوج على أقوال الأول ثبوت الفسخ وهو مذهب علي وعمر وأبي هريرة وجماعة من التابعين ومن الفقهاء مالك والشافعي وأحمد وبه قال أهل الظاهر مستدلين بما ذكر وبحديث لا ضرر ولا ضرار تقدم تخريجه وبأن النفقة في مقابل الاستمتاع بدليل أن الناشز لا نفقة لها عند الجمهور فإذا لم تجب النفقة سقط الاستمتاع فوجب الخيار للزوجة وبأنهم قد أوجبوا على السيد بيع مملوكه إذا عجز عن إنفاقه فإيجاب فراق الزوجة أولى لأن كسبها ليس مستحقا للزوج كاستحقاق السيد لكسب عبده وبأنه قد نقل ابن المنذر إجماع العلماء على الفسخ بالعنة والضرر الواقع من العجز عن النفقة أعظم من الضرر الواقع بكون الزوج عنينا وبأنه تعالى قال: {وَلا تُضَارُّوهُنَّ} وقال: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} وأي إمساك بمعروف وأي ضرر أشد من تركها بغير نفقة والثاني ما ذهب إليه الهادوية والحنفية وهو قول للشافعي أنه لا فسخ بالإعسار من النفقة مستدلين بقوله تعالى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا} قالوا وإذا لم يكلفه الله النفقة في هذه الحال فقد ترك ما لا يجب عليه ولا يأثم بتركه فلا يكون سببا للتفريق بينه وبين سكنه وبأنه قد ثبت في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم لما طلب أزواجه منه النفقة قام أبو بكر وعمر إلى عائشة وحفصة فوجا أعناقهما وكلاهما يقول تسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده الحديث قالوا فهذا أبو بكر وعمر يضربان بنتيهما بحضرته صلى الله عليه وسلم لما سألتاه النفقة التي لا يجدها فلو كان الفسخ لهما وهما طالبتان للحق لم يقر النبي صلى الله عليه وسلم الشيخين على ما فعلا ولبين(3/224)
أن لهما أن تطالبا مع الإعسار حتى تثبت على تقدير ذلك المطالب بالفسخ ولأنه كان في الصحابة المعسر بلا ريب ولم يخبر النبي صلى الله عليه وسلم أحدا منهم بأن للزوجة الفسخ ولا فسخ أحد قالوا ولأنها لو مرضت الزوجة وطال مرضها حتى تعذر على الزوج جماعها لوجبت نفقتها ولم يمكن من الفسخ وكذلك الزوج فدل أن الإنفاق ليس في مقابلة الاستمتاع كما قلتم وأما حديث أبي هريرة فقد بين أنه من كيسه وحديثه الآخر لعله مثله وحديث سعيد مرسل وأجيب بأن الآية إنما دلت على سقوط الوجوب عن الزوج وبه نقول وأما الفسخ فهو حق للمرأة تطالب به وبأن قصة أزواجه صلى الله عليه وسلم وضرب أبي بكر وعمر إلى آخر ما ذكرتم هي كالآية دلت على عدم الوجوب عليه صلى الله عليه وسلم وليس فيه أنهن سألن الطلاق أو الفسخ ومعلوم أنهن لا يسمحن بفراقه فإن الله تعالى قد خيرهن فاخترن رسول الله صلى الله عليه وسلم والدار الآخرة فلا دليل فى القصة وأما إقراره لأبي بكر وعمر على ضربهما فلما علم من أن للآباء تأديب الأبناء إذا أتوا ما لا ينبغي ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم لا يفرط فيما يجب عليه من الإنفاق فلعلهن طلبن زيادة على ذلك فتخرج القصة عن محل النزاع بالكلية وأما المعسرون من الصحابة فلم يعلم أن امرأة طلبت الفسخ أو الطلاق لإعسار الزوج بالنفقة ومنعها عن ذلك حتى تكون حجة بل كان نساء الصحابة كرجالهن يصبرن على ضنك العيش وتعسره كما قال مالك إن نساء الصحابة كن يردن الآخرة وما عند الله تعالى ولم يكن مرادهن الدنيا فلم يكن يبالين بعسر أزواجهن وأما نساء اليوم فإنما يتزوجن رجاء الدنيا من الأزواج والنفقة والكسوة وأما حديث ابن المسيب فقد عرفت أنه من مراسيله وأئمة العلم يختارون العمل بها كما سلف فهو موافق لحديث أبي هريرة المرفوع الذي عاضده مرسل سعيد ولو فرض سقوط حديث أبي هريرة ففيما ذكرناه غنية عنه
والقول الثالث: أنه يحبس الزوج إذا أعسر بالنفقة حتى يجد ما ينفق وهو قول العنبري وقالت الهادوية: يحبس للتكسب والقولان مشكلان لأن الواجب إنما هو الغداء في وقته والعشاء في وقته فهو واجب في وقته فالحبس إن كان في خلال وجوب الواجب فهو مانع عنه فيعود على الغرض المراد بالنقض وإن كان قبله فلا وجوب فكيف يحبس لغير واجب وإن كان بعده صار كالدين ولا يحبس له مع ظهور الإعسار اتفاقا وفي هذه المسألة قال محمد بن داود لامرأة سألته عن إعسار زوجها فقال ذهب ناس إلى أنه يكلف السعي والاكتساب وذهب قوم إلى أنها تؤمر المرأة بالصبر والاحتساب فلم تفهم منه الجواب فأعادت السؤال وهو يجيبها ثم قال يا هذه قد أجبتك ولست قاضيا فأقضي ولا سلطانا فأمضي ولا زوجا فأرضي وظاهر كلامه الوقف في هذه المسألة فيكون قولا رابعا
القول الخامس: أن الزوجة إذا كانت موسرة وزوجها معسر كلفت الإنفاق على زوجها ولا ترجع عليه إذا أيسر لقوله تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} وهو قول أبي محمد بن حزم ورد بأن الآية سياقها في نفقة المولود الصغير ولعله لا يرى التخصيص بالسياق القول السادس لابن القيم وهو أن المرأة إذا تزوجت عالمة بإعساره أو كان موسرا ثم أصابته جائحة فإنه(3/225)
لا فسخ لها وإلا كان لها الفسخ وكأنه جعل علمها رضا بعسرته ولكن حيث كان موسرا ثم تزوجه ثم أعسر للجائحة لا يظهر وجه عدم ثبوت الفسخ لها وإذا عرفت هذه الأقوال عرفت أن أقواها دليلا وأكثرها قائلا هو القول الأول وقد اختلف القائلون بالفسخ في تأجيله بالنفقة فقال مالك يؤجل شهرا وقال الشافعي ثلاثة أيام وقال حماد سنة وقيل شهرا أو شهرين قلت ولا دليل على التعيين بل ما يحصل به التضرر الذي يعلم ومن قال إنه يجب عليه التطليق قال ترافعه الزوجة إلى الحاكم لينفق أو يطلق وعلى القول بأنه فسخ ترافعه إلى الحاكم ليثبت الإعسار ثم تفسخ هي وقيل ترافعه إلى الحاكم ليجبره على الطلاق أو يفسخ عليه أو يأذن لها في الفسخ فإن فسخ أو أذن في الفسخ فهو فسخ لا طلاق ولا رجعة له وإن أيسر في العدة فإن طلق كان طلاقا رجعيا له فيه الرجعة
10- وعن عمر رضي الله عنه أنه كتب إلى أمراء الأجناد في رجال غابوا عن نسائهم أن يأخذوهم بأن ينفقوا أو يطلقوا فإن طلقوا بعثوا بنفقة ما حبسوا أخرجه الشافعي والبيهقي بإسناد حسن تقدم تحقيق وجه هذا الرأي من عمر وأنه دليل على أن النفقة عنده لا تسقط بالمطل في حق الزوجة وعلى أنه يجب أحد الأمرين على الأزواج الإنفاق أو الطلاق
11- وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله عندي دينار قال: "أنفقه على نفسك" قال: عندي آخر قال :"أنفقه على ولدك" قال: عندي آخر قال: "أنفقه على أهلك" قال عندي آخر قال: "أنفقه على خادمك" قال عندي آخر قال :"أنت أعلم" أخرجه الشافعي وأبو داود واللفظ له وأخرجه النسائي والحاكم بتقديم الزوجة على الولد وفي صحيح مسلم من رواية جابر تقديم الزوجة على الولد من غير تردد وقال المصنف قال ابن حزم اختلف على يحيى القطان والثوري فقدم يحيى الزوجة على الولد وقدم سفيان الولد على الزوجة فينبغي أن لا يقدم أحدهما على الآخر بل يكونان سواء لأنه قد صح أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا تكلم تكلم ثلاثا فيحتمل أن يكون في إعادته قدم الولد مرة ومرة قدم الزوجة فصارا سواء قلت هذا حمل بعيد فليس تكريره صلى الله عليه وسلم لما يقوله ثلاثا بمطرد بل عدم التكرير غالب وإنما يكرر إذا لم يفهم عنه ومثل هذا الحديث جواب سؤال لا يجري فيه التكرير لعدم الحاجة إليه لفهم السائل للجواب عند رواية جابر التي لا تردد فيها تقوي رواية تقديم الأهل والحديث قد تقدم وفيه حث على إنفاق الإنسان ما عنده وأنه لا يدخر لأنه قال له في الآخر بعد كفايته وكفاية من يجب عليه أنت أعلم ولم يقل ادخر لحاجتك وإن كانت هذه العبارة تحتمل ذلك
12- وعن بهز بفتح الموحدة وسكون الهاء فزاي ابن حكيم عن أبيه حكيم عن جده معاوية بن حيدة القشيري صحابي تقدم ضبطه قال قلت يا رسول الله من أبر؟ قال: "أمك" قلت: ثم من؟ قال: "أمك" قلت ثم من؟ قال "أمك" قلت ثم من؟(3/226)
قال "أباك ثم الأقرب فالأقرب" أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه وأخرجه الحاكم وتقدم الكلام عليه وأنه يقتضي تقديم الأم بالبر وأحقيتها به على الأب(3/227)
باب الحضانة
بكسر الحاء المهملة مصدر من حضن الصبي حضنا وحضانة جعله في حضنه أو رباه فاحتضنه والحضن بكسر الحاء هو ما دون الإبط إلى الكشح والصدر أو العضدان وما بينهما وجانب الشيء أو ناحيته كما في القاموس وفي الشرع حفظ من لا يستقل بأمره وتربيته ووقايته عما يهلكه أو يضره
1- عن عبد الله بن عمرو بفتح المهملة ووقع بضمها في نسخة وهو غلط أن امرأة قالت يا رسول الله إن ابني هذا كانت بطني له وعاء بكسر الواو والمد وقد يضم ويقال الإعاء الظرف كما في القاموس وثديي له سقاء هو ككساء جلد السخلة إذا أجذع يكون للماء واللبن كما فيه أيضا وحجري بحاء مهملة مثلثة فجيم فراء حضن الإنسان له حواء بحاء مهملة بزنة كساء أيضا اسم المكان الذي يحوي الشيء أي يضمه ويجمعه وإن أباه طلقني وأراد أن ينزعه مني فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنت أحق به ما لم تنكحي" رواه أحمد وأبو داود وصححه الحاكم الحديث دليل على أن الأم أحق بحضانة ولدها إذا أراد الأب انتزاعه منها وقد ذكرت هذه المرأة صفات اختصت بها تقتضي استحقاقها وأولويتها بحضانة ولدها وأقرها صلى الله عليه وسلم على ذلك وحكم لها ففيه تنبيه على المعنى المقتضي للحكم وأن العلل والمعاني المعتبرة في إثبات الأحكام مستقرة في الفطر السليمة والحكم الذي دل عليه الحديث لا خلاف فيه وقضى به أبو بكر ثم عمر وقال ابن عباس ريحها وفراشها وحرها خير له منك حتى يشب ويختار لنفسه أخرجه عبد الرزاق في قصة ودل الحديث على أن الأم إذا نكحت سقط حقها من الحضانة وإليه ذهب الجماهير قال ابن المنذر أجمع على هذا كل من أحفظ عنه من أهل العلم وذهب الحسن وابن حزم إلى عدم سقوط الحضانة بالنكاح واستدل بأن أنس بن مالك كان عند والدته وهي مزوجة وكذا أم سلمة تزوجت بالنبي صلى الله عليه وسلم وبقي ولدها في كفالتها وكذا ابنة حمزة قضى بها النبي صلى الله عليه وسلم لخالتها وهي مزوجة قال وحديث ابن عمرو المذكور فيه مقال فإنه صحيفة يريد لأنه قد قيل إن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده صحيفة وأجيب عنه بأن حديث عمرو بن شعيب قبله الأئمة وعملوا به البخاري وأحمد وابن المديني والحميدي وإسحاق بن راهويه وأمثالهم فلا يلتفت إلى القدح فيه وأما ما احتج به فإنه لا يتم دليلا إلا مع طلب من تنتقل إليه الحضانة ومنازعته وأما مع عدم طلبه فلا نزاع في أن للأم المزوجة أن تقوم بولدها ولم يذكر في القصص المذكورة أنه حصل نزاع في ذلك فلا دليل فيما ذكره على ما ادعاه
2- وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن امرأة قالت يا رسول الله إن زوجي يريد(3/227)
أن يذهب بابني وقد نفعني وسقاني من بئر أبي عنبة بكسر العين المهملة واحدة حبات العنب فجاء زوجها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا غلام هذا أبوك وهذه أمك فخذ بيد أيهما شئت فأخذ بيد أمه فانطلقت به" رواه أحمد والأربعة وصححه الترمذي وصححه ابن القطان والحديث دليل على أن الصبي بعد استغنائه بنفسه يخير بين الأم والأب واختلف العلماء في ذلك فذهب جماعة قليلة إلى أنه يخير الصبي عملا بهذا الحديث وهو قول إسحاق بن راهويه وحد التخيير من السبع السنين وذهبت الهادوية والحنفية إلى عدم التخيير وقالوا الأم أولى به إلى أن يستغني بنفسه فإذا استغنى بنفسه فالأب أولى بالذكر والأم أولى بالأنثى ووافقهم مالك في عدم التخيير لكنه قال إن الأم أحق بالولد ذكرا كان أو أنثى قيل حتى يبلغ وفي المسألة تفاصيل بلا دليل واستدل نفاة التخيير بعموم حديث أنت أحق به ما لم تنكحي قالوا ولو كان الاختيار إلى الصغير ما كانت أحق به وأجيب بأنه إن كان عاما في الأزمنة أو مطلقا فيها فحديث التخيير يخصصه أو يفيده وهذا جمع بين الدليلين فإن لم يختر الصبي أحد أبويه فقيل يكون للأم بلا قرعة لأن الحضانة حق لها وإنما ينقل عنها باختياره فإذا لم يخير بقي على الأصل وقيل وهو الأقوى دليلا أنه يقرع بينهما إذ قد جاء في القرعة حديث أبي هريرة بلفظ فقال النبي صلى الله عليه وسلم استهما فقال الرجل من يحول بيني وبين ولدي فقال صلى الله عليه وسلم اختر أيهما شئت فاختار أمه فذهبت به أخرجه البيهقي وظاهره تقديم القرعة على الاختيار لكن قدم الإختيار عليها لعمل الخلفاء الراشدين به إلا أنه قال في الهدي النبوي إن التخيير والقرعة لا يكونان إلا إذا حصلت به مصلحة الولد فلو كانت الأم أصون من الأب وأغير منه قدمت عليه ولا التفات إلى قرعة ولا اختيار الصبي في هذه الحالة فإنه ضعيف العقل يؤثر البطالة واللعب فإذا اختار من يساعده على ذلك فلا التفات إلى اختياره وكان عنده من هو أنفع له ولا تحتمل الشريعة غير هذا والنبي صلى الله عليه وسلم قال مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم على تركها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع والله يقول:{قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} فإذا كانت الأم تتركه في المكتب أو تعلمه القرآن والصبي يؤثر اللعب ومعاشرة أقرانه وأبوه يمكنه من ذلك فإنها أحق به ولا تخيير ولا قرعة وكذلك العكس انتهى وهذا كلام حسن
3- وعن رافع بن سنان رضي الله عنه أنه أسلم و أبت امرأته أن تسلم فأقعد النبي صلى الله عليه وسلم الأم في ناحية والأب في ناحية وأقعد الصبي بينهما فمال إلى أمه فقال اللهم اهده فمال إلى أبيه فأخذه أخرجه أبو داود والنسائي وصححه الحاكم إلا أنه قال ابن المنذر لا يثبته أهل النقل وفي إسناده مقال وذلك لأنه من رواية عبد الحميد بن جعفر بن رافع ضعفه الثوري ويحيى بن معين واختلف في هذا الصبي فقيل إنه أنثى وقيل ذكر والحديث ليس فيه تخيير الصبي والظاهر أنه لم يبلغ سن التخيير فإنه إنما أقعده صلى الله عليه وسلم بينهما ودعا أن يهديه الله فاختار أباه لأجل الدعوة النبوية فليس من أدلة التخيير(3/228)
وفي الحديث دليل على ثبوت حق الحضانة الأم الكافرة وإن كان الولد مسلما إذ لو لم يكن لها حق لم يقعده النبي صلى الله عليه وسلم بينهما وإلى هذا ذهب أهل الرأي و الثوري وذهب الجمهور إلى أنه لا حق لها مع كفرها قالوا لان الحاضن يكون حريصا على تربية الطفل على دينه ولأن الله تعالى قطع الموالاة بين الكافرين والمسلمين وجعل المؤمنين بعضهم أولى ببعض وقال ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا والحضانة ولاية لا بد فيها من مراعاة مصلحة المولى عليه كما عرفت قريبا وحديث رافع قد عرفت عدم انتهاضه وعلى القول بصحته فهو منسوخ بالآيات القرآنية هذه وكيف تثبت الحضانة للأم الكافرة مثلا وقد اشترط الجمهور وهم الهادوية وأصحاب أحمد و الشافعي عدالة الحاضنة وأنه لا حق للفاسقة فيها وإن كان شرطا في غاية من البعد ولو كان شرطا في الحاضنة لضاع أطفال العالم ومعلوم أنه لم ينزل منذ بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم إلى أن تقوم الساعة أطفال الفساق بينهم يربونهم لا يتعرض لهم أحد من أهل الدنيا مع أنهم الأكثرون ولا يعلم إنه انتزع طفل من أبويه أو أحدهما لفسقه فهذا الشرط باطل لعدم العمل به نعم يشترط كون الحاضن عاقلا بالغا فلا حضانة لمجنون ولا معتوه ولا طفل إذ هؤلاء يحتاجون لمن يحضنهم ويكفيهم وأما اشتراط حرية الحاضن فقالت به الهادوية وأصحاب الأئمة الثلاثة وقالوا لأن المملوك لا ولاية له على نفسه فلا يتولى غيره والحضانة ولاية وقال مالك في حر له ولد من أمته إن الأم أحق به ما لم تبع فتنتقل فيكون الأب أحق به واستدل بعموم حديث "لا توله والدة عن ولدها" وحديث "من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة" أخرج الأول البيهقي من حديث أبي بكر وحسنة السيوطي وأخرج الثاني أحمد والترمذي والحاكم من حديث أبي أيوب وصححه الحاكم قال ومنافعها وإن كانت مملوكة للسيد فحق الحضانة مستثنى وإن استغرق وقتا من ذلك كالأوقات التي تستثنى للمملوك في حاجة نفسه وعبادة ربه
4- وعن البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في ابنة حمزة لخالتها وقال "الخالة بمنزلة الأم" أخرجه البخاري وأخرجه أحمد من حديث علي رضي الله عنه فقال والجارية عند خالتها فإن الخالة والدة والحديث دليل على ثبوت الحضانة للخالة وأنها كالأم ومقتضاه أن الخالة أولى من الأب ومن أم الأم ولكن خص ذلك الإجماع وظاهره أن حضانة المرأة المزوجة أولى من الرجال فإن عصبة المذكورة من الرجال موجودون طالبون للحضانة كما دلت له القصة واختصام علي رضي الله عنه وجعفر وزيد بن حارثة وقد سبقت وأنه قضى بها للخالة وقال الخالة بمنزلة الأم وقد وردت رواية في القصة أنه صلى الله عليه وسلم قضى بها لجعفر فاستشكل القضاء بها لجعفر فإنه ليس محرما وهو وعلي رضي الله عنهما سواء في القرابة لها وجوابه أنه صلى الله عليه وسلم قضى بها لزوجة جعفر وهي خالتها فإنها كانت تحت جعفر لكن لما كان المنازع جعفرا(3/229)
وقال في محل الخصومة بنت عمي وخالتها تحتي أي زوجتي قضى بها لجعفر لما كان هو المطالب ظاهرا وقال الخالة بمنزلة الأم إبانة بأن القضاء للخالة فمعنى قوله قضى بها لجعفر قضى بها لزوجة جعفر وإنما أوقع القضاء عليه لأنه المطالب فلا إشكال في هذا إلا أنه استشكل ثانيا بأن الخالة مزوجة ولا حق لها في الحضانة لحديث أنت أحق به ما لم تنكحي والجواب عنه أن الحق في المزوجة للزوج وإنما تسقط حضانتها لأنها تشتغل بالقيام بحقه وخدمته فإذا رضي الزوج بأنها تحضن من لها حق في حضانته وأحب بقاء الطفل في حجره لم يسقط حق المرأة من الحضانة وهذه القصة دليل الحكم وهذا مذهب الحسن والإمام يحيى وابن حزم وابن جرير ولأن النكاح للمرأة إنما يسقط حضانة الأم وحدها حيث كان المنازع لها الأب وأما غيرها فلا يسقط حقها من الحضانة بالتزويج أو الأم والمنازع لا غير الأب يؤيده ما عرف من أن المرأة المطلقة يشتد بغضها للزوج المطلق ومن يتعلق به فقد يبلغ بها الشأن إلى إهمال ولدها منه قصدا لإغاظته وتبالغ في التحبب عند الزوج الثاني بتوفير حقه وبهذا يجتمع شمل الأحاديث والقول بأنه صلى الله عليه وسلم قضى بها لجعفر وأنه دال على أن للعصبة حقا في الحضانة بعيد لأنه وعليا رضي الله عنهما سواء في ذلك لأن قوله صلى الله عليه وسلم الخالة أم صريح أن ذلك علة القضاء ومعناه أن الأم لا تنازع في حضانة ولدها فلا حق لغيرها
5- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أتى أحدكم" مفعول مقدم "خادمه" فاعل "بطعامه فليجلسه معه فإن لم يجلسه معه فليناوله لقمة أو لقمتين" متفق عليه واللفظ للبخاري الخادم يطلق على الذكر والأنثى أعم من أن يكون مملوكا أو حرا وظاهر الأمر الإيجاب وأنه يناوله من الطعام ما ذكر مخيرا وفيه بيان أن الحديث الذي فيه الأمر بأن يطعمه مما يطعم ليس المراد به مؤاكلته ولا أن يشبعه من عين ما يأكل بل يشركه فيه بأدنى شيء من لقمة أو لقمتين قال ابن المنذر عن جميع أهل العلم إن الواجب إطعام الخادم من غالب القوت الذي يأكل منه مثله في تلك البلدة وكذلك الإدام والكسوة وأن للسيد أن يستأثر بالنفيس من ذلك وإن كان الأفضل المشاركة وتمام الحديث فإنه ولي حره وعلاجه فدل على أن ذلك يتعلق بالخادم الذي له عناية في تحصيل الطعام فيندرج في ذلك الحامل للطعام لوجود المعنى فيه وهو تعلق نفسه به
6- وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عذبت امرأة " قال المصنف" لم أقف على اسمها وفي رواية أنها حميرية وفي رواية من بني اسرائيل "في هرة" هي أنثى السنور والهر الذكر "سجنتها حتى ماتت فدخلت النار فيها لا هي أطعمتها وسقتها " إذ هي حبستها "ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض" بفتح الخاء المعجمة ويجوز ضمها وكسرها وشينين معجمتين بينهما ألف(3/230)
والمراد هوام الأرض متفق عليه والحديث دليل على تحريم قتل الهرة لأنه لا عذاب إلا على فعل محرم ويحتمل أن المرأة كافرة فعذبت بكفرها وزيدت عذابا بسبب ذلك وقال النووي إنها كانت مسلمة إنما دخلت النار بهذه المعصية وقال أبو نعيم في تاريخ أصبهان كانت كافرة ورواه البيهقي في البعث والنشور عن عائشة فاستحقت العذاب بكفرها وظلمها وقال الدميري في شرح المنهاج: إن الأصح أن الهرة يجوز قتلها حال عدوها دون هذه الحال وجوز القاضي قتلها في حال سكونها إلحاقا لها بالخمس الفواسق وفي الحديث دليل على جواز اتخاذ الهرة وربطها إذا لم يهمل إطعامها قلت ويدل على أنه لا يجب إطعام الهرة بل الواجب تخليتها تبطش بنفسها(3/231)
كتاب الجنايات
كتاب الجنايات
...
كتاب الجنايات
هي جمع جناية مصدر من جنى الذنب يجنيه جناية أي جره إليه وجمعت وإن كانت مصدرا لاختلاف أنواعها فإنها قد تكون في النفس وفي الأطراف وتكون عمدا وخطأ
1- عن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله" هو تفسير لقوله مسلم "إلا بإحدى ثلاث الثيب الزاني أي المحصن بالرجم والنفس بالنفس والتارك لدينه" أي المرتد عنه "المفارق للجماعة" متفق عليه فيه دليل على أنه لا يباح دم المسلم إلا بإتيانه بإحدى الثلاث والمراد من النفس بالنفس القصاص بشرطه وسيأتي والتارك لدينه يعم كل مرتد عن الإسلام بأي ردة كانت فيقتل إن لم يرجع إلى الإسلام وقوله المفارق للجماعة يتناول كل خارج عن الجماعة ببدعة أو بغي أو غيرهما كالخوارج إذا قاتلوا وأفسدوا وقد أورد على الحصر أنه يجوز قتل الصائل وليس من الثلاثة وأجيب بأنه داخل تحت قوله المفارق للجماعة أو أن المراد من هؤلاء من يجوز قتلهم قصدا والصائل لا يقتل قصدا بل دفعا وفيه دليل على أنه لا يقتل الكافر الأصلي لطلب إيمانه بل لدفع شره وقد بسطنا القول في ذلك في حواشي ضوء النهار وقد يقال إن الكافر الأصلي داخل تحت التارك لدينه لأنه ترك فطرته التي فطر عليها كما عرف في محله
2- وعن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل قتل مسلم إلا بإحدى ثلاث" خصال بينها بقوله: "زان محصن " يأتي تفسيره فيرجم "ورجل يقتل مسلما متعمدا" قيد ما أطلق في الحديث الأول فيقتل "ورجل يخرج من الإسلام فيحارب الله ورسوله فيقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض" رواه أبو داود والنسائي وصححه الحاكم الحديث أفاد ما أفاده الحديث الأول الذي قبله وقوله فيحارب الله ورسوله بعد قوله يخرج من الإسلام(3/231)
بيان لحكم خاص لخارج عن الإسلام خاص وهو المحارب وله حكم خاص هو ما ذكر من القتل أو الصلب أو النفي فهو أخص من الذي أفاده الحديث الذي قبله والنفي الحبس عند أبي حنيفة وعند الشافعي النفي من بلد إلى بلد لا يزال يطلب وهو هارب فزع وقيل ينفي من بلده فقط وظاهر الحديث والآية أيضا أن الإمام مخير بين هذه العقوبات في كل محارب مسلما كان أو كافرا
3- وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء" متفق عليه فيه دليل على عظم شأن دم الإنسان فإنه لا يقدم في القضاء إلا الأهم ولكنه يعارضه حديث أول ما يحاسب العبد عليه صلاته أخرجه أصحاب السنن من حديث أبي هريرة ويجاب بأن حديث الدماء فيما يتعلق بحقوق المخلوق وحديث الصلاة فيما يتعلق بعبادة الخالق وبأن ذلك في أولوية القضاء والآخر في أولوية الحساب كما يدل له ما أخرجه النسائي من حديث ابن مسعود بلفظ أول ما يحاسب عليه العبد صلاته وأول ما يقضى بين الناس في الدماء وقد أخرج البخاري من حديث علي رضي الله عنه وغيره أنه رضي الله عنه أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة في قتلى بدر الحديث فبين فيه أول قضية يقضي فيها وقد بين الاختصام حديث أبي هريرة "أول ما يقضى بين الناس في الدماء ويأتي كل قتيل قد حمل رأسه يقول يا رب سل هذا فيم قتلني" الحديث وفي حديث ابن عباس يرفعه "يأتي المقتول معلقا رأسه بإحدى يديه ملببا قاتله بيده الأخرى تشحط أوداجه دما حتى يقفا بين يدي الله تعالى" وهذا في القضاء في الدماء وفي القضاء بالأموال ما أخرجه ابن ماجه من حديث ابن عمر يرفعه "من مات وعليه دينار أو درهم قضى من حسناته" وفي معناه عدة أحاديث وأنها إذا فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه طرح عليه من سيئات خصمه وألقي في النار وقد استشكل ذلك بأنه كيف يعطى الثواب وهو لا يتناهى في مقابلة العقاب وهو يتناهى يعني على القول بخروج الموحدين من النار وأجاب البيهقي بأنه يعطى من حسناته ما يوازي عقوبة سيئاته المضاعفة التي يضاعف الله تعالى بها الحسنات لأن ذلك من محض الفضل الذي يخص الله تعالى به من يشاء من عباده وهذا فيمن مات غير ناو لقضاء دينه وأما من مات وهو ينوي القضاء فإن الله يقضي عنه كما قدمناه في شرح الحديث الثالث من أبواب السلم
4- وعن سمرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من قتل عبده قتلناه ومن جدع " بالجيم والدال المهملة عبده "جدعناه" رواه أحمد والأربعة وحسنه الترمذي وهو من رواية الحسن البصري عن سمرة وقد اختلف في سماعه منه على ثلاثة أقوال قال ابن معين لم يسمع الحسن منه شيئا وإنما هو كتاب وقيل سمع منه حديث العقيقة وأثبت ابن المديني سماع الحسن من سمرة وفي رواية أبي داود(3/232)
والنسائي بزيادة "ومن خصى عبده خصيناه" وصحح الحاكم هذه الزيادة والحديث دليل على أن السيد يقاد بعبده في النفس والأطراف إذ الجدع قطع الأنف أو الأذن أو اليد أو الشفة كما في القاموس ويقاس عليه إذا كان القاتل غير السيد بطريق الأولى والمسألة فيها خلاف ذهب النخعي وغيره إلى أنه يقتل الحر بالعبد مطلقا عملا بحديث سمرة وأيده عموم قوله تعالى النفس بالنفس وذهب أبو حنيفة إلى أنه يقتل به إلا إذا كان سيده عملا بعموم الآية وكأنه يخص السيد بحديث لا يقاد مملوك من مالكه ولا ولد من والده أخرجه البيهقي إلا أنه من رواية عمر بن عيسى يذكر عن البخاري أنه منكر الحديث وأخرج البيهقي أيضا من حديث ابن عمرو في قصة زنباع لما جب عبده وجدع أنفه أنه صلى الله عليه وسلم قال من مثل بعبده وحرق بالنار فهو حر وهو مولى الله ورسوله فأعتقه صلى الله عليه وسلم ولم يقتص من سيده إلا أن فيه المثنى بن الصباح ضعيف ورواه عن الحجاج بن أرطاة من طريق آخر ولا يحتج به وفي الباب أحاديث لا تقوم بها حجة وذهبت الهادوية و الشافعي ومالك وأحمد إلى أنه لا يقاد الحر بالعبد مطلقا مستدلين بما يفيده قوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} فإن تعريف المبتدأ يفيد الحصر وأنه لا يقتل الحر بغير الحر ولأنه تعالى قال في صدر الآية {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} وهو المساواة الحر بالحر تفسير وتفصيل لها وقوله تعالى في آية المائدة {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} مطلق وهذه الآية مقيدة مبينة وهذه صريحة لهذه الأمة وتلك سيقت في أهل الكتاب وشريعتهم وإن كانت شريعة لنا لكنه وقع في شريعتنا التفسير بالزيادة والنقصان كثيرا فيقرب أن هذا التقييد من ذلك وفيه مناسبة إذ فيه تخفيف ورحمة وشريعة هذه الأمة أخف من شرائع من قبلها فإنه وضع عنهم فيها الآصار التي كانت على من قبلهم والقول بأن آية المائدة نسخت آية البقرة لتأخرها مردود بأنه لا تنافي بين الآيتين إذ لا تعارض بين عام وخاص ومطلق ومقيد حتى يصار إلى النسخ ولأن آية المائدة متقدمة حكما فإنها حكاية لما حكم الله تعالى به في التوراة وهي متقدمة نزولا على القرآن وأخرج ابن أبي شيبة من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن أبا بكر وعمر كانا لا يقتلان الحر بالعبد وأخرج البيهقي من حديث علي رضي الله عنه من السنة أن لا يقتل حر بعبد وفي إسناده جابر الجعفي ومثله عن ابن عباس وفيه ضعف وأما حديث سمرة فهو ضعيف أو منسوخ بما سردناه من الأحاديث هذا وأما قتل العبد بالحر فإجماع وإذا تقرر أن الحر لا يقتل بالعبد فيلزم من قتله قيمته على خلاف فيها معروف ولو بلغت ما بلغت وإن جاوزت دية الحر وقد بيناه في حواشي ضوء النهار وأما إذا قتل السيد عبده ففيه حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا قتل عبده صبرا متعمدا فجلده النبي صلى الله عليه وسلم مائة جلدة ونفاه سنة ومحا سهمه من المسلمين ولم يقده به وأمره أن يعتق رقبة
5- وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يقاد الوالد بالولد" رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وصححه ابن الجارود والبيهقي وقال الترمذي إنه مضطرب قال الترمذي وروي عن عمرو بن شعيب مرسلا وهذا(3/233)
حديث فيه اضطراب والعمل عليه عند أهل العلم انتهى وفي إسناده عنده الحجاج بن أرطأة وجه الاضطراب أنه اختلف على عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده فقيل عن عمر وهي رواية الكتاب وقيل عن سراقة وقيل بلا واسطة وفيها المثنى بن الصباح وهو ضعيف قال الشافعي طرق هذا الحديث كلها منقطعة وقال عبد الحق هذه الأحاديث كلها معلولة لا يصح فيها شيء والحديث دليل على أنه لا يقتل الوالد بالولد قال الشافعي حفظت عن عدد من أهل العلم لقيتهم أن لا يقتل الوالد بالولد وبذلك أقول وإلى هذا ذهب الجماهير من الصحابة وغيرهم كالهادوية والحنفية والشافعية وأحمد وإسحاق مطلقا للحديث قالوا لأن الأب سبب لوجود الولد فلا يكون الولد سببا لإعدامه وذهب البتي إلى أنه يقاد الوالد بالولد مطلقا لعموم قوله تعالى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} وأجيب بأنه مخصص بالخبر وكأنه لم يصح عنده وذهب مالك إلى أنه يقاد بالولد إذا أضجعه وذبحه قال لأن ذلك عمد حقيقة لا يحتمل غيره فإن الظاهر في مثل استعمال الجارح في المقتل هو قصد العمد والعمدية أمر خفي لا يحكم بإثباتها إلا بما يظهر من قرائن الأحوال وأما إذا كان على غير هذه الصفة فيما يحتمل عدم إزهاق الروح بل قصد التأديب من الأب وإن كان في حق غيره يحكم فيه بالعمد وإنما فرق بين الأب وغيره لما للأب من الشفقة على ولده وغلبة قصد التأديب عند فعله ما يغضب الأب فيحمل على عدم قصد القتل وهذا رأي منه وإن ثبت النص لم يقاومه شيء وقد قضى به عمر في قصة المدلجي وألزم الأب الدية ولم يعطه شيئا وقال ليس لقاتل شيء فلا يرث من الدية إجماعا ولا من غيرها عند الجمهور والجد والأم كالأب عندهم في سقوط القود
6- وعن أبي جحيفة قال قلت لعلي رضي الله عنه هل عندكم شيء من الوحي غير القرآن قال لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهم استثناء من لفظ شيء تزوجها على البدلية يعطيه الله تعالى رجلا في القرآن وما في هذه الصحيفة أي الورقة المكتوبة قلت وما في هذه الصحيفة قال العقل أي الدية سميت عقلا لأنهم كانوا يعقلون الإبل التي هي دية بفناء دار المقتول وفكاك بكسر الفاء وفتحها الأسير وأن لا يقتل مسلم بكافر رواه البخاري وأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي من وجه آخر عن علي رضي الله عنه وقال فيه المؤمنون تتكافأ دماؤهم أي تتساوى في الدية والقصاص ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم ولا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده وصححه الحاكم قال المصنف إنما سأل أبو جحيفة عليا رضي الله عنه عن ذلك لأن جماعة من الشيعة كانوا يزعمون أن لأهل البيت عليهم السلام لا سيما علي رضي الله عنه اختصاصا بشيء من الوحي لم يطلع عليه غيره وقد سأل عليا رضي الله عنه عن هذه المسألة غير أبي جحيفة أيضا عند الظاهر أن المسؤول عنه هو ما يتعلق بالأحكام الشرعية من الوحي الشامل لكتاب الله المعجز وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فإن الله تعالى سماها وحيا إذ فسر قوله تعالى(3/234)
{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} بما هو أعم من القرآن ويدل عليه قوله وما في هذه الصحيفة فلا يلزم منه نفي ما نسب إلى علي رضي الله عنه من الجفر وغيره وقد يقال إن هذا داخل تحت قوله إلا فهم يعطيه الله تعالى رجلا في القرآن فإنه كما نسب إلى كثير ممن فتح الله عليه بأنواع العلوم ونور بصيرته أنه يستنبط ذلك من القرآن والحديث قد اشتمل على مسائل الأولى: العقل وهو الدية ويأتي تحقيقها والثانية: فكاك الأسير أي حكم تخليص الأسير من يد العدو وقد ورد الترغيب في ذلك والثالثة: عدم قتل المسلم بالكافر قودا وإلى هذا ذهب الجماهير وأنه لا يقتل ذو عهد في عهده فذو العهد الرجل من أهل دار الحرب يدخل علينا بأمان فإن قتله محرم على المسلم حتى يرجع إلى مأمنه فلو قتله مسلم فقالت الحنفية يقتل المسلم بالذمي إذا قتله بغير استحقاق ولا يقتل بالمستأمن واحتجوا بقوله في الحديث ولا ذو عهد في عهده فإنه معطوف على قوله مؤمن فلا بد من تقييد في الثاني كما في الطرف الأول فيقدر ولا ذو عهد في عهده بكافر ولا بد من تقييد الكافر في المعطوف بلفظ الحربي لأن الذمي يقتل بالذمي ويقتل بالمسلم وإذا كان التقييد لا بد منه في المعطوف وهو مطابق للمعطوف عليه فلا بد من تقدير مثل ذلك في المعطوف عليه فيكون التقدير ولا يقتل مؤمن بكافر حربي ومفهوم حربي أنه يقتل بالذمي بدليل مفهوم المخالفة وإن كانت الحنفية لا تعمل بالمفهوم فهم يقولون إن الحديث يدل على أنه لا يقتل بالحربي صريحا وأما قتله بالذمي فبعموم قوله تعالى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} ولما أخرجه البيهقي من أنه صلى الله عليه وسلم قتل مسلما بمعاهد وقال أنا أكرم من وفى بذمته وهو حديث مرسل من حديث عبد الرحمن بن البيلماني وقد روي مرفوعا قال البيهقي وهو خطأ وقال الدارقطني ابن البيلماني ضعيف لا تقوم به حجة إذا وصل الحديث فكيف بما يرسله وقال أبو عبيد القاسم بن سلام هذا الحديث ليس بمسند ولا يجعل مثله إماما تسفك به دماء المسلمين وذكر الشافعي في الأم إن حديث ابن البيلماني كان في قصة المستأمن الذي قتله عمرو بن الضميري قال فعلى هذا لو ثبت لكان منسوخا لأن حديث "لا يقتل مسلم بكافر" خطب به النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح كما في رواية عمرو بن شعيب وقصة عمرو بن أمية متقدمة قبل ذلك بزمان هذا وأما ما ذكرته الحنفية من التقدير فقد أجيب عنه بأنه لا يجب التقدير لأن قوله ولا ذو عهد في عهده كلام تام فلا يحتاج إلى إضمار لأن الإضمار خلاف الأصل فلا يصار إليه إلا لضرورة فيكون نهيا عن قتل المعاهد وقولهم إن قتل المعاهد معلوم وإلا لم يكن للعهد فائدة فلا حاجة إلى الإخبار به(3/235)
جوابه أنه محتاج إلى ذلك إذ لا يعرف إلا بطريق الشارع وإلا فإن ظاهر العمومات يقضي بجواز قتله ولو سلم تقدير الكافر في الثاني فلا يسلم استلزام تخصيص الأول بالحربي لأن مقتضى العطف مطلق الاشتراك لا الاشتراك من كل وجه ومعنى قوله ويسعى بذمتهم أدناهم أنه إذا أمن المسلم حربيا كان أمانه أمانا من جميع المسلمين ولو كان ذلك المسلم امرأة كما في قصة أم هانىء ويشترط كون المؤمن مكلفا فإنه يكون أمانا من الجميع فلا يجوز نكث ذلك وقوله "وهم يد على من سواهم" أي هم مجتمعون على أعدائهم لا يحل لهم التخاذل بل يعين بعضهم بعضا على جميع من عاداهم من أهل الملل كأنه جعل أيديهم يدا واحدة وفعلهم فعلا واحدا
7- وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن جارية وجد رأسها قد رض بين حجرين فسألوها من صنع بك هذا فلان فلان حتى ذكروا يهوديا فأومأت برأسها فأخذ اليهودي فأقر فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرض رأسه بين حجرين متفق عليه واللفظ لمسلم الحديث دليل على أنه يجب القصاص بالمثل كالمحدد وأنه يقتل الرجل بالمرأة وأنه يقتل بما قتل به فهذه ثلاث مسائل الأولى: وجوب القصاص بالمثقل وإليه ذهب الهادوية و الشافعي ومالك ومحمد بن الحسن عملا بهذا الحديث والمعنى المناسب ظاهر قوي وهو صيانة الدماء من الإهدار ولأن القتل بالمثل كالقتل بالمحدد في إزهاق الروح وذهب أبو حنيفة والشعبي والنخعي إلى أنه لا قصاص في القتل بالمثل واحتجوا بما أخرجه البيهقي من حديث النعمان بن بشير مرفوعا كل شيء خطأ إلا السيف ولكل خطأ أرش وفي لفظ كل شيء سوى الحديدة خطأ ولكل خطأ أرش وأجيب بأن الحديث مداره على جابر الجعفي وقيس بن الربيع ولا يحتج بهما فلا يقاوم حديث أنس هذا وجواب الحنفية عن حديث أنس بأنه حصل في الرض الجرح أو بأن اليهودي كان عادته قتل الصبيان فهو من الساعين في الأرض فسادا تكلف وأما إذا كان القتل بآلة لا يقصد بمثلها القتل غالبا كالعصا والسوط واللطمة ونحو ذلك فعند الهادوية و الليث ومالك يجب فيها القود وقال الشافعي وأبو حنيفة وجماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم لا قصاص فيه وهو شبه العمد وفيه الدية مائة من الإبل مغلظة فيها أربعون خلفة في بطونها أولادها لما أخرجه أحمد وأهل السنن إلا الترمذي من حديث عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا وإن في قتل الخطإ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل فيها أربعون في بطونها أولادها" قال ابن كثير في الإرشاد: في إسناده اختلاف كثير ليس هذا موضع بسطه قلت إذا صح الحديث فقد اتضح الوجه وإلا فالأصل عدم اعتبار الآلة في إزهاق الروح بل ما أزهق الروح أوجب القصاص المسألة الثانية قتل الرجل بالمرأة وفيه خلاف ذهب إلى قتله بها أكثر أهل العلم وحكى ابن المنذر الإجماع على ذلك لهذا الحديث وعن الحسن البصري أنه لا يقتل الرجل بالأنثى وكأنه يستدل بقوله تعالى: {والْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} ورد بأنه ثبت في كتاب عمرو بن حزم الذي تلقاه الناس بالقبول أن الذكر يقتل بالأنثى فهو أقوى من مفهوم الآية وذهبت الهادوية إلى أن الرجل يقاد بالمرأة ويوفى ورثته نصف ديته(3/236)
قالوا لتفاوتهما في الدية ولأنه تعالى قال والجروح قصاص ورد بأن التفاوت في الدية لا يوجب التفاوت في النفس ولذا يقتل عبد قيمته ألف بعبد قيمته عشرون وقد وقعت المساواة في القصاص لأن المراد بالمساواة في الجروح أن لا يزيد المقتص على ما وقع فيه من الجرح المسألة الثالثة أن يكون القود بمثل ما قتل به وإلى هذا ذهب الجمهور وهو الذي يستفاد من قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} وقوله: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} وبما أخرجه البيهقي من حديث البراء عنه صلى الله عليه وسلم "من غرض غرضنا له ومن حرق حرقناه ومن غرق غرقناه" أي من اتخذه غرضا للسهام وهذا يقيد بما إذا كان السبب الذي قتل به يجوز فعله وأما إذا كان لا يجوز فعله كمن قتل بالسحر فإنه لا يقتل به لأنه محرم وفيه خلاف قال بعض الشافعية إذا قتل باللواط أو بإيجار الخمر أنه يدس فيه خشبة ويوجر الخل وقيل يسقط اعتبار المماثلة وذهب الهادوية والكوفيون و أبو حنيفة وأصحابه إلى أنه لا يكون الاقتصاص إلا بالسيف واحتجوا بما أخرجه البزار و ابن عدي من حديث أبي بكرة عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا قود إلا بالسيف" إلا أنه ضعيف قال ابن عدي طرقه كلها ضعيفة واحتجوا بالنهي عن المثلة وبقوله صلى الله عليه وسلم إذا قتلتم فأحسنوا القتلة وأجيب بأنه مخصص بما ذكر وفي قوله فأقر دليل على أنه يكفي الإقرار مرة واحدة إذ لا دليل على أنه كرر الإقرار
8- وعن عمران بن حصين رضي الله عنه أن غلاما لأناس فقراء قطع أذن غلام لأناس أغنياء فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجعل لهم شيئا رواه أحمد والثلاثة بإسناد صحيح الحديث فيه دليل على أنه لا غرامة على الفقير إلا أنه قال البيهقي إن كان المراد بالغلام فيه المملوك فإجماع أهل العلم أن جناية العبد في رقبته فهو يدل والله أعلم أن جنايته كانت خطأ وأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما لم يجعل عليه شيئا لأنه التزم أرش جنايته فأعطاه من عنده متبرعا بذلك وقد حمله الخطابي على أن الجاني كان حرا وكانت الجناية خطأ وكانت عاقلته فقراء فلم يجعل عليهم شيئا إما لفقرهم وإما لأنه لا يعقلون الجناية الواقعة على العبد إن كان المجني عليه مملوكا كما قال البيهقي وقد يكون الجاني غلاما حرا غير بالغ وكانت جنايته عمدا فلم يجعل أرشها على عاقلته وكان فقيرا فلم يجعل عليه في الحال أو رآه على عاقلته فوجدهم فقراء فلم يجعله عليه لكون جنايته في حكم الخطإ ولا عليهم لكونهم فقراء والله أعلم انتهى وقوله ولم يجعل أرشها على عاقلته هذا مذهب الشافعي أن عمد الصغير يكون في ماله ولا تحمله العاقلة وقوله أو رآه على عاقلته يعني مع احتمال أنه خطأ وهذا اتفاق ومع احتمال أنه عمد كما ذهب إليه الهادوية و أبو حنيفة ومالك
9- وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا طعن رجلا بقرن في ركبته فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أقدني فقال حتى تبرأ ثم جاء إليه فقال أقدني فأقاده ثم جاء إليه فقال يا رسول الله عرجت فقال قد نهيتك فعصيتني فأبعدك الله وبطل عرجك ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتص من(3/237)
جرح حتى يبرأ صاحبه رواه أحمد والدارقطني وأعل بالإرسال بناء على أن شعيبا لم يدرك جده وقد دفع بأنه ثبت لقاء شعيب لجده وفي معناه أحاديث تزيده قوة وهو دليل على أنه لا يقتص من الجراحات حتى يحصل البرء من ذلك وتؤمن السراية قال الشافعي إن الانتظار مندوب بدليل تمكينه صلى الله عليه وسلم من الاقتصاص قبل الاندمال وذهب الهادوية وغيرهم إلى أنه واجب لأن دفع المفاسد واجب وإذنه صلى الله عليه وسلم بالاقتصاص كان قبل علمه صلى الله عليه وسلم بما يؤول إليه من المفسدة
10- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها ومافي بطنها فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن دية جنينها غرة بضم الغين المعجمة وتشديد الراء منون " عبد أو وليدة" هما بدل من غرة وأو للتقسيم لا للشك "وقضى بدية المرأة على عاقلتها وورثها ولدها من معهم" في سنن أبي داود أن المرأة التي قضى عليها بالغرة توفيت فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ميراثها لبنيها والعقل على عصبتها ومثله في مسلم فضمير ورثها يعود إلى القاتلة وقيل يعود إلى المقتولة وذلك أن عاقلتها قالوا إن ميراثها لنا فقال لا فقضى بديتها لزوجها وولدها فقال حمل بفتح الحاء المهملة وفتح الميم ابن النابغة بالنون بعد الألف موحدة فغين معجمة وهو زوج المرأة القاتلة الهذلي يا رسول الله كيف يغرم من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل الاستهلال رفع الصوت يريد أنه لم تعلم حياته بصوت نطق أو بكاء فمثل ذلك يطل بالمثناة التحتية مضمومة وتشديد اللام على أنه مضارع مجهول من طل ومعناه يهدر ويلغى ولا يضمن ويروى بالموحدة وتخفيف اللام على أنه ماض من البطلان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما هذا أي هذا القائل "من إخوان الكهان" من أجل سجعه الذي سجع متفق عليه وفي الحديث مسائل الأولى فيه دليل على أن الجنين إذا مات بسبب الجناية وجبت فيه الغرة مطلقا سواء انفصل عن أمه وخرج ميتا أو مات في بطنها فأما إذا خرج حيا ثم مات ففيه الدية كاملة ولكنه لا بد أن يعلم أنه جنين بأن تخرج منه يد أو رجل وإلا فالأصل براءة الذمة وعدم وجوب الغرة وقد فسر الغرة في الحديث بعبد أو وليدة وهي الأمة قال الشعبي الغرة خمسمائة درهم وعند أبي داود والنسائي من حديث بريدة مائة شاة وقيل خمس من الإبل إذ هي الأصل في الديات وهذا في جنين الحرة وأما جنين الأمة فقيل يخصص بالقياس على ديتها فكما أن الواجب قيمتها في ضمانها فيكون الواجب في جنينها الأرش منسوبا إلى القيمة وقياسه على جنين الحرة فإن اللازم فيه نصف عشر الدية فيكون اللازم فيه نصف عشر قيمتها الثانية قوله " وقضى بدية المرأة على عاقلتها" يدل على أنه لا يجب القصاص في مثل هذا وهو من أدلة(3/238)
من يثبت شبه العمد وهو الحق فإن ذلك القتل كان بحجر صغير أو عود صغير لا يقصد به القتل بحسب الأغلب فتجب فيه الدية على العاقلة ولا قصاص فيه والحنفية تجعله من أدلة عدم وجوب القصاص بالمثقل الثالثة في قوله على عاقلتها دليل على أنها تجب الدية على العاقلة والعاقلة هم العصبة وقد فسرت بمن عدا الولد وذوي الأرحام كما أخرجه البيهقي من حديث أسامة بن عمير فقال أبوها إنما يعقلها بنوها فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "الدية على العصبة وفي الجنين غرة" ولهذا بوب البخاري باب جنين المرأة وأن العقل على الوالد وعصبة الوالد لا على الولد قال الشافعي لا أعلم خلافا في أن العاقلة العصبة وهم القرابة من قبل الأب وفسر بالأقرب فالأقرب من عصبة الذكر الحر المكلف وفي ذلك خلاف يأتي في القسامة وظاهر الحديث وجوب الدية على العاقلة وبه قال الجمهور وخالف جماعة في وجوبها عليهم فقالوا لا يعقل أحد عن أحد مستدلين بما عند أحمد وأبي داود والنسائي والحاكم أن رجلا أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم من هذا قال ابني فقال له النبي صلى الله عليه وسلم إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه وعند أحمد وأبي داود والترمذي من حديث عمرو بن الأحوص أنه صلى الله عليه وسلم قال لا يجني جان إلا على نفسه ولا يجني جان على ولده وجمع بينهما وبين وجوب الدية على العاقلة بأن المراد به الجزاء الأخروي أي لا يجني عليه جناية يعاقب بها في الآخرة وعلى القول بأن الوالد والولد ليسا من العاقلة كما قاله الخطابي فلا يتم به الاستدلال الرابعة قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما هو من إخوان الكهان" من أجل سجعه الذي سجع يظهر أن قوله من أجل سجعه مدرج فهمه الراوي ففيه دليل على كراهة السجع قال العلماء إنما كرهه من هذا الشخص لوجهين أحدهما أنه عارض به حكم الشرع ورام إبطاله الثاني أنه تكلفه في مخاطبته وهذان الوجهان من السجع مذمومان وأما السجع الذي ورد منه صلى الله عليه وسلم في بعض الأوقات وهو كثير في الحديث فليس من هذا لأنه لا يعارض حكم الشرع ولا يتكلفه فلا نهي عنه
11- وأخرجه أبو داود والنسائي من حديث ابن عباس رضي الله عنه أن عمر سأل من شهد قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنين قال فقام حمل بن النابغة المذكور في الحديث الذي قبله فقال كنت بين امرأتين فضربت إحداهما الأخرى فذكره مختصرا وصححه ابن حبان والحاكم وأخرجه أبو داود بلفظ أن عمر سأل الناس عن إملاص المرأة فقال المغيرة شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم "قضى فيها بغرة عبد أو أمة" فقال ائتني بمن يشهد معك قال فأتاه محمد بن مسلمة فشهد له ثم قال أبو داود قال أبو عبيد إملاص المرأة إنما سمي إملاصا لأن المرأة تزلقه قبل وقت الولادة وكذلك كل ما زلق من اليد وغيرها فقد ملص انتهى ولا بد من أن يعلم أن الجنين قد تخلق وجرى فيه الروح ليتصف بأنه قتلته الجناية والشافعية فسروه بما ظهر فيه صورة الآدمي من يد وأصبع وغيرهما فإن لم تظهر فيه الصورة ويشهد أهل الخبرة بأن ذلك أصل الآدمي فحكمه كذلك إذا كانت(3/239)
الصورة خفية وإن شك أهل الخبرة لم يجب فيه شيء اتفاقا وفيه دليل على أن في الجنين غرة ذكرا كان أو أنثى لإطلاق الحديث
12- وعن أنس رضي الله عنه أن الربيع بضم الراء والباء الموحدة المفتوحة فمثناة تحتية مشددة مكسورة أخت أنس بنت النضر عمته أي عمة أنس بن مالك الربيع بنت معوذ ووقع في سنن البيهقي بنت معوذ قال المصنف إنه غلط كسرت ثنية جارية أي شابة من الأنصار كما في رواية فطلبوا أي قرابة الربيع إليها أي إلى الجارية العفو فأبوا فعرضوا الأرش فأبوا فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبوا إلا القصاص "فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص" فقال أنس بن النضر يا رسول الله أتكسر ثنية الربيع لا والذي بعثك الفراش لا تكسر ثنيتها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أنس كتاب الله القصاص" فرضي القوم فعفوا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره" متفق عليه واللفظ للبخاري فيه مسائل الأولى أن فيه دليلا على وجوب الاقتصاص في السن بأن كانت بكمالها فهو مأخوذ من قوله تعالى:{وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} وقد ثبت على قلع السن بالسن في العمد وأما كسر السن فقد دل هذا الحديث على القصاص فيه أيضا قال العلماء وذلك إذا عرفت المماثلة وأمكن ذلك من دون سراية إلى غير الواجب قال أبو داود قلت لأحمد يريد أحمد بن حنبل: كيف في السن؟ قال تبرد أي يبرد من سن الجاني بقدر ما كسر من سن المجني عليه وقال بعضهم إن الحديث محمول على القلع وأنه أراد بقوله كسرت قلعت وهو بعيد وأما السن فقد قام الإجماع على أنه لا قصاص في العظم الذي يخاف منه ذهاب النفس إذا لم تتأت فيه المماثلة بأن لا يوقف على قدر الذاهب وقال الليث والشافعي والحنفية لا قصاص في السن لأن دون العظم حائلا من جلد ولحم وعصب فيتعذر معه المماثلة فلو أمكنت لحكمنا بالقصاص ولكن لا نصل إلى العظم حتى ننال ما دونه مما لا يعرف قدره
الثانية: قوله أتكسر ثنية الربيع ظاهر الاستفهام الإنكار وقد تؤول بأنه لم يرد به الحكم والمعارضة وإنما أراد به أن يؤكد للنبي صلى الله عليه وسلم طلب الشفاعة منهم وأكد طلبه من النبي صلى الله عليه وسلم بالقسم وقيل بل قاله قبل أن يعلم أن القصاص حتم وظن أنه يخير بينه وبين الدية أو العفو ويرشد إليه قوله في جوابه يا أنس كتاب الله القصاص وقيل إنه لم يرد الإنكار بل قاله توقعا ورجاء من فضل الله أن يلهم الخصوم الرضا حتى يعفوا أو يقبلوا الأرش وقد وقع الأمر على ما أراد وفي إلهامهم العفو وفي تقريره صلى الله عليه وسلم على الحلف دليل على أنه يجوز الحلف فيما يظن وقوعه
الثالثة: قوله صلى الله عليه وسلم "كتاب الله القصاص" المشهور الرفع على أنه مبتدأ وخبر ويجوز النصب في الأول وفعله محذوف أي كتب كتاب الله وفي الثاني على أنه مفعول للكتاب أو للفعل المقدر ويحتمل وجوها أخر قيل أراد بالكتاب الحكم أي حكم الله القصاص وقيل أشار إلى قوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} أو إلى {فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} أو إلى {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ}(3/240)
وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "إن من عباد الله من لو أقسم" إلى آخره تعجب منه صلى الله عليه وسلم بوقوع مثل هذا من حلف أنس على نفي فعل الغير وإصرار الغير على إيقاع ذلك الفعل وكأن قضية العادة في ذلك أن يحنث في يمينه فألهم الله تعالى الغير العفو فبر قسم أنس وأن هذا الاتفاق وقع إكراما من الله تعالى لأنس ليبر في يمينه وأنه من جملة عباد الله الذين يعطيهم الله تعالى أربهم ويجيب دعاءهم وفيه جواز الثناء على من وقع له مثل ذلك عند أمن الفتنة
13- وعن ابن عباس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قتل في عميا" بكسر العين المهملة وتشديد الميم والياء المثناة من تحت بالقصر فعيلى من العماء قوله "أو رميا" بزنته مصدر يراد به المبالغة "بحجر أو سوط أو عصا فعقله عقل الخطأ ومن قتل عمدا فهو قود ومن حال دونه فعليه لعنه الله" أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه بإسناد قوي قال في النهاية في تفسير اللفظين المعنى أن يوجد بينهم قتيل يعمى أمره ولا يتبين قاتله فحكمه حكم قتيل الخطأ تجب فيه الدية الحديث فيه مسألتان الأولى أنه دليل على أن من لم يعرف قاتله فأنها تجب فيه الدية وتكون على العاقلة وظاهره من غير أيمان قسامة وقد اختلف في ذلك فقالت الهادوية" إن كان الحاضرون الذين وقع بينهم القتل منحصرين لزمت القسامة وجرى فيها حكمها من الأيمان والدية وإن منحصرين لزمت الدية في بيت المال وقال الخطابي: اختلف هل تجب الدية في بيت المال أو لا قال إسحاق بالوجوب وتوجيهه من حيث المعنى أنه مسلم مات بفعل قوم من المسلمين فوجبت ديته في بيت مال المسلمين وذهب الحسن إلى أن ديته تجب على جميع من حضر وذلك لأنه مات بفعلهم فلا تتعداهم إلى غيرهم وقال مالك إنه يهدر لأنه إذا لم يوجد قاتله بعينه استحال أن يؤخذ به أحد وللشافعي قول إنه يقال لوليه ادع على من شئت واحلف فإن حلف استحق الدية وإن نكل حلف المدعى عليه على النفي وسقطت المطالبة وذلك لأن الدم لا يجب إلا بالطلب وإذا عرفت هذا الاختلاف وعدم المستند القوي في أي هذه الأقوال وقد عرفت أن سند الحديث قوي كما قاله المصنف علمت أن القول به أولى الأقوال المسألة الثانية في قوله ومن قتل عمدا فهو قود دليل على أن الذي يوجبه القتل عمدا هو القود عينا وفي المسألة قولان الأول أنه يجب القود عينا وإليه ذهب زيد بن علي وأبو حنيفة وجماعة ويدل له قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} وحديث "كتاب الله القصاص" قالوا وأما الدية فلا تجب إلا إذا رضي الجاني ولا يجبر الجاني على تسليمها والثاني للهادوية وأحمد ومالك غيرهم وقول للشافعي إنه يجب بالقتل عمدا أحد أمرين القصاص أو الدية لقوله صلى الله عليه وسلم "من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يقيد وإما أن يدي" أخرجه أحمد والشيخان وغيرهم وأجيب عنه بأن المراد من الحديث أن ولي المقتول مخير بشرط أن يرضى الجاني أن يغرم الدية قالوا وفي هذا التأويل جمع بين الدليلين قلنا الاقتصار في الآية وفي بعض الأحاديث على بعض ما يجب لا يدل على أنه لا يجب غيره(3/241)
مما قام الدليل على وجوبه وقد أخرج أحمد وأبو داود عن أبي شريح الخزاعي قال سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقول: "من أصيب بدم أو خبل" والخبل الجراح "فهو بالخيار بين إحدى ثلاث إما أن يقتص أو يأخذ العقل أو يعفو فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه فإن قبل من ذلك شيئا ثم عدا بعد ذلك فإن له النار"
14- وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أمسك الرجل الرجل وقتله الآخر يقتل الذي قتل ويحبس الذي أمسك" رواه الدارقطني موصولا ومرسلا وصححه ابن القطان ورجاله ثقات إلا أن البيهقي رجح المرسل قال الحافظ ابن كثير في الإرشاد وهذا الإسناد على شرط مسلم قلت إشارة إلى إسناد الدارقطني فإنه رواه من حديث أبي داود الحفري عن الثوري عن إسماعيل بن أمية عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث ثم قال قال الحافظ البيهقي ما رواه غير أبي داود الحفري عن الثوري وغيره عن إسماعيل بن أمية مرسلا وهذا هو الصحيح والحديث دليل على أنه ليس على الممسك سوى حبسه ولم يذكر قدر مدته فهي راجعة إلى نظر الحاكم وأن القود أو الدية على القاتل وإلى هذا ذهبت الهادوية والحنفية والشافعية للحديث ولقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} وذهب مالك والنخعي وابن أبي ليلى إلى أنهما يقتلان جميعا إذ هما مشتركان في قتله فإنه لولا الإمساك ما قتل وأجيب بأن النص منع الإلحاق فإن حكم ذلك حكم الحافر للبئر والمردي إليها فإن الضمان على المردي دون الحافر اتفاقا ولكن الحديث الآتي دليل للأولين
15- وعن عبد الرحمن بن البيلماني بفتح الموحدة وسكون المثناة التحتية وفتح اللام ضعفه جماعة فلا يحتج بما انفرد به إذا وصل فكيف إذا أرسل فكيف إذا خالف وفيه إبراهيم بن محمد بن أبي ليلى ضعيف "أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل مسلما بمعاهد وقال أنا أولى من وفي بذمته" أخرجه عبد الرزاق هكذا مرسلا ووصله الدارقطني بذكر ابن عمر فيه وإسناده الموصول واه تقدم الكلام في الحديث
16- وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال قتل غلام غيلة بكسر الغين المعجمة وسكون المثناة التحتية أي سرا فقال عمر رضي الله عنه لو اشترك فيه أهل صنعاء لقتلتهم به أخرجه البخاري وأخرجه ابن أبي شيبة من وجه آخر عن نافع أن عمر قتل سبعة من أهل صنعاء برجل وأخرجه في الموطإ بسند آخر من حديث ابن المسيب أن عمر قتل خمسة أو ستة برجل قتلوه غيلة وقال لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به جميعا وللحديث قصة أخرجها الطحاوي والبيهقي عن ابن وهب قال حدثني جرير بن حازم أن المغيرة بن حكيم الصنعاني حدثه عن أبيه أن امرأة بصنعاء غاب عنها زوجها وترك في حجرها ابنا له من غيرها غلاما يقال له أصيل فاتخذت المرأة بعد زوجها خليلا فقالت له إن هذا الغلام يفضحنا فاقتله فأبى فامتنعت منه فطاوعها فاجتمع على قتل الغلام الرجل(3/242)
ورجل آخر والمرأة وخادمها فقتلوه ثم قطعوه أعضاءه وجعلوه في عيبة وطرحوه في ركية في ناحية القرية ليس فيها ماء وذكر القصة وفيها فأخذ خليلها فاعترف ثم اعترف الباقون فكتب يعلى وهو يومئذ أمير شأنهم إلى عمر رضى الله عنه فكتب عمر بقتلهم جميعا وقال والله لو أن أهل صنعاء اشتركوا في قتله لقتلتهم أجمعين وفي هذا دليل أن رأي عمر رضي الله عنه أنه تقتل الجماعة بالواحد وظاهره ولو لم يباشره كل واحد ولذا قلنا إن فيه دليلا لقول مالك والنخعي وقول عمر لو تمالأ أي توافق دليل على ذلك وفي قتل الجماعة بالواحد مذاهب الأول هذا وإليه ذهب جماهير فقهاء الأمصار وهو مروي عن علي رضي الله عنه وغيره وقد أخرج البخاري عن علي رضي الله عنه في رجلين شهدا على رجل بالسرقة فقطعه علي رضي الله عنه ثم أتياه بآخر فقالا هذا الذي سرق وأخطأنا على الأول فلم يجز شهادتهما على الآخر وأغرمهما دية الأول وقال لو أعلم أنكما تعمدتما لقطعتكما ولا فرق بين القصاص في الأطراف والنفس والثاني للناصر والشافعي وجماعة ورواية عن مالك أنه يختار الورثة واحدا من الجماعة وفي رواية عن مالك يقرع بينهم فمن خرجت كان عليه القرعة قتل ويلزم الباقون الحصة من الدية وحجتهم أن الكفاءة معتبرة ولا تقتل الجماعة بالواحد كما لا يقتل الحر بالعبد وأجيب بأنهم لم يقتلوا لصفة زائدة في المقتول بل لأن كل واحد منهم قاتل والثالث لربيعة وداود أنه لا قصاص على الجماعة بل الدية رعاية للمماثلة ولا وجه لتخصيص بعضهم هذه أقوال العلماء في المسألة والظاهر قول داود لأنه تعالى أوجب القصاص وهو المماثلة وقد انتفت هنا عند موجب القصاص هو الجناية التي تزهق الروح بها فإن زهقت بمجموع فعلهم فكل فرد ليس بقاتل فكيف يقتل عند الجمهور وإنما يصح على قول النخعي وإن كان كل واحد قاتلا بانفراده لزم توارد المؤثرات على أثر واحد والجمهور يمنعونه على أنه لا سبيل إلى معرفة أنه مات بفعلهم جميعا أو بفعل بعضهم فإن فرض معرفتنا بأن كل جناية قاتلة بانفرادها لم يلزم أنه مات بكل منها فلا عبرة بالأسبق كما قيل وأما حكم عمر رضي الله عنه ففعل صحابي لا تقوم به الحجة ودعوى أنه إجماع غير مقبولة وإذا لم يجب قتل الجماعة بالواحد فإنها تلزمهم دية واحدة لأنها عوض عن دم المقتول وقيل تلزم كل واحد ونسب قائله إلى خلاف الإجماع هذا ما قررناه هنا ثم قوي لنا قتل الجماعة بالواحد وحررنا دليله في حواشي ضوء النهار وفي ذيلنا على الأبحاث المسددة
17- وعن أبي شريح بضم الشين المعجمة وسكون المثناة التحتية فحاء مهملة الخزاعي بضم الخاء المعجمة فزاي بعد الألف عين مهملة واسمه عمرو بن خويلد وقيل غيره قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فمن قتل له قتيل بعد مقالتي هذه فأهله بين خيرتين: بالخاء المعجمة فراء تثنية خيرة بينهما بقوله :"إما أن يأخذوا(3/243)
العقل أو يقتلوا " أخرجه أبو داود والنسائي وأصله في الصحيحين من حديث أبي هريرة بمعناه" أصل الحديث أنه قال صلى الله عليه وآله وسلم في أثناء كلامه: "ثم إنكم معشر خزاعة قتلتم هذا الرجل من هذيل وإني عاقله فمن قتل له" الحديث وتقدم حديث أبي شريح فيه التخيير بين إحدى ثلاث ولا منافاة قال في الهدي النبوي إن الواجب أحد الشيئين إما القصاص أو الدية والخيرة في ذلك إلى الولي بين أربعة أشياء العفو مجانا أو العفو إلى الدية أو القصاص ولا خلاف في تخييره بين هذه الثلاثة والرابعة المصالحة إلى أكثر من الدية وفيه وجهان أحدهما أشهرهما مذهبا أي للحنابلة جوازه الثاني ليس له العفو على مال إلا الدية أو دونها وهذا أرجح دليلا فإن اختار الدية سقط القود ولم يملك طلبه بعد وهذا مذهب الشافعي وإحدى الروايتين عن مالك وتقدم القول الثاني أن موجبه القود عينا وليس له العفو إلى الدية إلا برضا الجاني وتقدم المختار(3/244)
باب الديات
الديات بتخفيف المثناة التحتية جمع دية كعدات جمع عدة أصل دية ودية بكسر الواو مصدر ودي القتيل يديه إذا أعطى وليه ديته حذفت فاء الكلمة وعوضت عنها تاء التأنيث كما في عدة وهي اسم لأعم مما فيه القصاص وما لا قصاص فيه
1- وعن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم بالحاء المهملة مفتوحة وسكون الزاي وهو تابعي ولي القضاء في المدينة لعمر بن عبد العزيز اسمه كنيته عن أبيه عن جده عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن فذكر الحديث أوله "من محمد النبي إلى شرحبيل بن عبد كلال ونعيم بن عبد كلال والحارث بن عبد كلال قيل ذي رعين أما بعد" إلى آخر ما هنا وفيه "أن من اعتبط" بالعين المهملة بعدها مثناة فوقية ثم موحدة آخرها طاء مهملة أي من قتل قتيلا بلا جناية منه ولا جريرة توجب قتله "مؤمنا قتلا عن بينة فإنه قود إلا أن يرضى أولياء المقتول" فيه دليل على أنهم مخيرون كما قررناه "وإن في النفس الدية مائة من الإبل " بدل من الدية "وفي الأنف إذا أوعب" بضم الهمزة وسكون الواو وكسر العين المهملة فموحدة "جدعه" أي قطع جميعه "الدية وفي اللسان الدية" إذا قطع من أصله أو ما يمنع منه الكلام "وفي الشفتين الدية وفي الذكر الدية" إذا قطع من أصله "وفي البيضتين الدية وفي الصلب الدية وفي العينين الدية وفي الرجل الواحدة نصف الدية" إذا قطعت من مفصل الساق "وفي المأمومة" هي الجناية التي بلغت أم الرأس وهي الدماغ أو الجلدة الرقيقة عليها "ثلث الدية وفي الجائفة" قال في القاموس هي الطعنة تبلغ الجوف ومثله في غيره "ثلث الدية وفي المنقلة" اسم فاعل من نقل مشدد القاف وهي التي تخرج منها صغار العظام وتنتقل من أماكنها وقيل التي تنقل العظم أي تكسره(3/244)
خمس عشرة من الإبل وفي كل إصبع من أصابع اليد والرجل عشر من الإبل وفي السن خمس من الإبل وفي الموضحة" اسم فاعل من أوضح وهي التي توضح العظم وتكشفه "خمس من الإبل وإن الرجل يقتل بالمرأة وعلى أهل الذهب ألف دينار" أخرجه أبو داود في المراسيل والنسائي وابن خزيمة وابن الجارود وابن حبان وأحمد واختلفوا في صحته قال أبو داود في المراسيل قد أسند هذا ولا يصح والذي قال في إسناده سليمان بن داود وهم إنما هو ابن أرقم وقال أبو زرعة عرضته على أحمد فقال سليمان بن داود هذا ليس بشيء وقال ابن حبان سليمان بن داود اليماني ضعيف وسليمان بن داود الخولاني ثقة وكلاهما يرويان عن الزهري والذي روى حديث الصدقات هو الخولاني فمن ضعفه إنما ظن أن الراوي هو اليماني وقال الشافعي لم ينقلوا هذا الحديث حتى ثبت عندهم أنه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابن عبد البر هذا كتاب مشهور عند أهل السير معروف ما فيه عند أهل العلم معرفة تغني شهرتها عن الإسناد لأنه أشبه المتواتر لتلقي الناس إياه بالقبول والمعرفة قال العقيلي حديث ثابت محفوظ إلا أنا نرى أنه غير مسموع عمن فوق الزهري وقال يعقوب بن سفيان لا أعلم في الكتب المنقولة كتابا أصح من كتاب عمرو بن حزم فإن الصحابة والتابعين يرجعون إليه ويدعون رأيهم قال ابن شهاب قرأت في كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم حين بعثه إلى نجران وكان الكتاب عند أبي بكر بن حزم وصححه الحاكم وابن حبان والبيهقي وقال أحمد أرجو أن يكون صحيحا وقال الحافظ ابن كثير في الإرشاد بعد نقله كلام أئمة الحديث فيه ما لفظه قلت وعلى كل تقدير فهذا الكتاب متداول بين أئمة الإسلام قديما وحديثا يعتمدون عليه ويفزعون في مهمات هذا الباب إليه ثم ذكر كلام يعقوب بن سفيان وإذا عرفت كلام العلماء هذا عرفت أنه معمول به وأنه أولى من الرأي المحض وقد اشتمل على مسائل فقهية الأولى فيمن قتل مؤمنا اعتباطا أي بلا جناية منه ولا جريرة توجب قتله كما قدمناه وقال الخطابي اعتبط بقتله أي قتله ظلما لا عن قصاص وقد روى الاغتباط بالغين المعجمة كما يفيده تفسيره في سنن أبي داود فأنه قال إنه سئل يحيى بن يحيى الغساني عن الاغتباط فقال القاتل الذي يقتل في الفتنة فيرى أنه في هدى لا يستغفر الله تعالى منه فهذا يدل أنه من الغبطة الفرح والسرور وحسن الحال فإذا كان المقتول مؤمنا وفرح بقتله فإنه داخل في هذا الوعيد ودل على أنه يجب القود إلا أن يرضى أولياء المقتول فإنهم مخيرون بينه وبين الدية كما سلف الثانية أنه دل على أن قدر الدية مائة من الإبل وفيه دليل أيضا على أن الإبل هي الواجبة وأن سائر الأصناف ليست بتقدير شرعي بل هي مصالحة وإلى هذا ذهب القاسم والشافعي وأما أسنانها فسيأتي في حديث بعد هذا بيانها إلا أن قوله في هذا الحديث "وعلى أهل الذهب ألف دينار" ظاهره أنه أصل أيضا على أهل الذهب والإبل أصل على أهل الإبل ويحتمل أن ذلك مع عدم الإبل وأن قيمة المائة منها(3/245)
ألف دينار في ذلك العصر ويدل لهذا ما أخرجه أبو داود والنسائي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم دية الخطأ على أهل القرى أربعمائة دينار أو عدلها من الورق ويقومها على أثمان الإبل إذا غلت رفع من قيمتها وإذا هاجت ورخصت نقص من قيمتها وبلغت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين أربعمائة إلى ثمانمائة وعدلها من الورق ثمانية آلاف درهم قال وقضى على أهل البقر مائتي بقرة ومن كان دية عقله في الشاء بألفي شاة وأخرج أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا من بني عدي قتل فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ديته اثني عشر ألفا ومثله عند الشافعي وعند الترمذي وصرح بأنها اثنا عشر ألف درهم وعند أهل العراق أنها من الورق عشرة آلاف درهم ومثله عن عمر رضي الله عنه وذلك بتقويم الدينار بعشرة دراهم واتفقوا على تقويم المثقال بها في الزكاة وأخرج أبو داود عن عطاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في الدية على أهل الإبل مائة من الإبل وعلى أهل البقر مائتي بقرة وعلى أهل الشاء ألفي شاة وعلى أهل الحلل مائتي حلة وعلى أهل القمح شيئا لم يحفظه محمد بن إسحاق وهذا يدل على تسهيل الأمر وأنه ليس يجب على من لزمته الدية إلا من النوع الذي يجده ويعتاد التعامل به في ناحيته وللعلماء هنا أقاويل مختلفة وما دلت عليه الأحاديث أولى بالاتباع وهذه التقديرات الشرعية كما عرفت وقد استبدل الناس عرفا في الديات وهو تقديرها بسبعمائة قرش ثم إنهم يجمعون عروضا يقطع فيها بزيادة كثيرة في أ ثمانها فتكون الدية حقيقة نصف الدية الشرعية ولا أعرف لهذا وجها شرعيا فإنه أمر صار مأنوسا ومن له الدية لا يعذر عن قبول ذلك حتى أنه صار من الأمثال قطع دية إذا قطع شيء بثمن لا يبلغه المسألة الثالثة قوله "وفي الأنف إذا أوعب جدعه" أي استؤصل وهو أن يقطع من العظم المنحدر من مجمع الحاجبين فإن فيه الدية وهذا حكم مجمع عليه واعلم أن الأنف مركب من أربعة أشياء من قصبة ومارن وأرنبة وروثة فالقصبة هي العظم المنحدر من مجمع الحاجبين والمارن هو الغضروف الذي يجمع المنخرين والروثة بالراء وبالمثلثة طرف الأنف وفي القاموس المارن الأنف أو طرفه أو ما لان منه واختلف إذا جنى على أحد هذه فقيل تلزم حكومة عند الهادي وذهب الناصر والفقهاء إلى أن في المارن دية لما رواه الشافعي عن طاوس قال عندنا في كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم "في الأنف إذا قطع مارنه مائة من الإبل" قال الشافعي وهذا أبين من حديث آل حزم وفي الروثة نصف الدية لما أخرجه البيهقي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال "قضى النبي صلى الله عليه وسلم إذا قطعت ثندوة الأنف بنصف العقل خمسون من الإبل أو عدلها من الذهب أو الورق" قال في النهاية الثندوة هنا روثة الأنف وهي طرفه ومقدمه المسألة الرابعة قوله "وفي اللسان الدية" أي إذا قطع من أصله كما هو ظاهر الإطلاق وهذا مجمع عليه وكذا إذا قطع منه ما يمنع الكلام وأما إذا قطع ما يبطل بعض الحروف فحصته معتبرة بعدد الحروف وقيل بحروف اللسان فقط وهي ثمانية عشر حرفا(3/246)
لا حروف الحلق وهي ستة ولا حروف الشفة وهي أربعة والأول أولى لأن النطق لا يتأتى إلا باللسان المسألة الخامسة قوله "وفي الشفتين الدية" واحدتهما شفة بفتح الشين وتكسر كما في القاموس وحد الشفتين من تحت المنخرين إلى منتهى الشدقين في عرض الوجه وفي طوله من أعلى الذقن إلى أسفل الخدين وهو مجمع عليه واختلف إذا قطع إحداهما فذهب الجمهور إلى أن كل واحدة نصف الدية على السواء وروي عن زيد بن ثابت أن في العليا ثلثا وفي السفلى ثلثين إذ منافعها أكثر لحفظها للطعام والشراب السادسة قوله "وفي الذكر الدية" هذا إذا قطع من أصله وهو مجمع عليه فإن قطع الحشفة ففيها الدية عند مالك وبعض الشافعية واختاره المهدي كمذهب الهادوية وظاهر الحديث أنه لا فرق بين العنين وغيره والكبير والصغير وإليه ذهب الشافعي وعند الأكثر أن في ذكر الخصي والعنين حكومة السابعة قوله "وفي البيضتين الدية" وهو حكم مجمع عليه وفي كل واحدة نصف الدية وفي البحر عن علي رضي الله عنه وعن ابن المسيب رضي الله عنه أن في البيضة اليسرى ثلثي الدية لأن الولد يكون منها وفي اليمنى ثلث الدية الثامنة أن في الصلب الدية وهو إجماع والصلب بالضم والتحريك عظم من لدن الكاهل إلى العجب بفتح العين المهملة وسكون الجيم أصل الذنب كالصالبة قال تعالى: {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} فإن ذهب المني مع الكسر فديتان التاسعة أفاد أن في العينين الدية وهو مجمع عليه وفي إحداهما نصف الدية وهذا في العين الصحيحة واختلف في الأعور إذا ذهبت عينه بالجناية فذهبت الهادوية والحنفية والشافعية إلى أنه يجب فيها نصف الدية إذ لم يفصل الدليل وهو هذا الحديث وقياسا على من له يد واحدة فإنه ليس له إلا نصف الدية وهو مجمع عليه وذهب جماعة من الصحابة و مالك وأحمد إلى أن الواجب فيها دية كاملة لأنها في معنى العينين واختلفوا إذا جنى على عين واحدة فالجمهور على ثبوت القود لقوله تعالى: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} وعن أحمد أنه لا قود فيها العاشرة قوله وفي الرجل الواحدة نصف الدية وحد الرجل التي تجب فيها الدية من مفصل الساق فإن قطع من الركبة لزم الدية وحكومة في الزائد
واعلم أنه ذكر البيهقي عن الزهري أنه قرأ في كتاب عمرو بن حزم وفي الأذن خمسون من الإبل قال وروينا عن عمر وعلي أنهما قضيا بذلك وروى البيهقي من حديث معاذ أنه قال مائة من الإبل وفي العقل مائة من الإبل وقال البيهقي إسناده ليس بقوي قال ابن كثير لأنه من رواية رشدين بن سعد المصري وهو ضعيف قال زيد بن أسلم مضت السنة أن في العقل إذا ذهب الدية رواه البيهقي الحادية عشرة أنه دل على أن في المأمومة والجائفة وتقدم تفسيرهما في كل واحدة ثلث الدية قال الشافعي لا أعلم خلافا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قال في الجائفة ثلث الدية ذكره ابن كثير في الإرشاد وقال في نهاية المجتهد اتفقوا على أن الجائفة من جراح الجسد لا من جراح الرأس وأنه لا يقاد منها وأن فيها ثلث الدية وأنها جائفة متى وقعت في الظهر والبطن واختلفوا إذا وقعت ذلك من الأعضاء فنفذت إلى تجويفه فحكى مالك عن سعيد بن المسيب أن في كل جراحة نافذة(3/247)
إلى تجويف عضو من الأعضاء أي عضو كان ذلك العضو ثلث الدية واختاره مالك وأما سعيد فإنه قاس ذلك على الجائفة على نحو ما روي عن عمر رضي الله عنه في موضحة الجسد الثانية عشرة وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل وتقدم تفسيرها الثالثة عشرة أفاد أن في كل أصبع عشرا من الإبل سواء كانت من اليدين أو الرجلين فإن فيها عشرا وهو رأي الجمهور وفي حديث عمرو بن شعيب مرفوعا بلفظ والأصابع سواء أخرجه أحمد وأبو داود وقد كان لعمر في ذلك رأي آخر ثم رجع إلى الحديث لما روي له الرابعة عشرة أنه يجب في كل سن خمس من الإبل وعليه الجمهور وفيه خلاف ليس له دليل يقاوم الحديث الخامسة عشرة أنه يلزم في الموضحة خمس من الإبل وإليه ذهب الهادوية والفريقان وفيه خلاف ليس له ما يقاوم النص
فائدة: روى البيهقي عن زيد بن ثابت أن في الهاشمة عشرا من الإبل وحكاه البيهقي عن عدد من أهل العلم وروى عبد الله بن أحمد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قضى في رجل ضرب فذهب سمعه وبصره وعقله ونكاحه بأربع ديات رواه عبد الله بن أحمد وروى النسائي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "قضى في العين العوراء السادة لمكانها إذا طمست بثلث ديتها وفي اليد الشلاء إذا قطعت وفي السن السوداء إذا نزعت بثلث ديتها" ذكره ابن كثير في الإرشاد وأما قوله وإن الرجل يقتل بالمرأة فتقدم الكلام فيه
2- وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "دية الخطأ أخماسا" أي تؤخذ أو تجب بينه بقوله "عشرون حقة وعشرون جذعة وعشرون بنات مخاض وعشرون بنات لبون وعشرون بني لبون" أخرجه الدارقطني وأخرجه الأربعة بلفظ وعشرون بني مخاض بدل بني لبون وإسناد الأول أقوى أي من إسناد الأربعة فإن فيه خشف بن مالك الطائي قال الدارقطني إنه رجل مجهول وفيه الحجاج بن أرطاة
واعلم أنه اعترض البيهقي على الدارقطني وقال إن جعله لبني اللبون غلط منه ثم قال البيهقي والصحيح أنه موقوف على عبد الله بن مسعود والصحيح عن عبد الله أنه جعل أحد أخماسها بني المخاض لا كما توهم شيخنا الدارقطني رحمه الله تعالى والحديث دليل على أن دية الخطأ تؤخذ أخماسا كما ذكر وإليه ذهب الشافعي ومالك وجماعة من العلماء وإلى أن الخامس بنو لبون وعن أبي حنيفة أنه بنو مخاض كما في رواية الأربعة وذهب الهادي وآخرون إلى أنها تؤخذ أرباعا بإسقاط بني اللبون واستدل له بحديث له لم يثبته الحفاظ وذهبوا إلى أنها أرباع مطلقا وذهب الشافعي ومالك إلى أن الدية تختلف باعتبار العمد وشبه العمد والخطأ فقالوا أنها في العمد وشبه العمد تكون أثلاثا كما في الخطأ وأما التغليظ في الدية فإنه ثبت عن عمر وعثمان رضي الله عنهما فيمن قتل في الحرم بدية وثلث تغليظ في الدية وثبت عن جماعة القول بذلك ويأتي الكلام فيه وأخرجه أي حديث ابن مسعود ابن أبي شيبة من وجه آخر موقوفا على ابن مسعود وهو أصح من المرفوع(3/248)
3- وأخرجه أبو داود والترمذي من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: "الدية ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة في بطونها أولادها" وقد تقدم تفسير هذه الأسنان في الزكاة
4- وعن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أعتى " بفتح الهمزة وسكون العين المهملة فمثناة فوقية فألف مقصورة اسم تفضيل من العتو وهو التجبر "الناس على الله ثلاثة من قتل في حرم الله أو قاتله أو قتل لذحل" بفتح الذال المعجمة وسكون الحاء المهملة الثأر وطلب المكافأة بجناية جنيت عليه من قتل أو غيره " الجاهلية " أخرجه ابن حبان في حديث صححه الحديث دليل على أن هؤلاء الثلاث أزيد في العتو على غيرهم من العتاة الأول من قتل في الحرم فمعصية قتله تزيد على معصية من قتل الحرم وظاهره العموم لحرم مكة والمدينة ولكن الحديث ورد في غزاة الفتح في رجل قتل بالمزدلفة إلا أن السبب لا يخص به إلا أن يقال الإضافة عهدية والمعهود حرم مكة وقد ذهب الشافعي إلى التغليظ في الدية على من وقع منه قتل الخطأ في الحرم أو قتل محرما من النسب أو قتل في الأشهر الحرم قال لأن الصحابة غلظوا في هذه الأحوال وأخرج السدي عن مرة عن ابن مسعود قال ما من رجل يهم بسيئة فتكتب عليه إلا أن رجلا لو هم بعد أن يقتل رجلا بالبيت الحرام إلا أذاقه الله تعالى من عذاب أليم وقد رفعه في رواية قلت وهذا مبني على أن الظرف في قوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} متعلق بغير الإرادة بل بالإلحاد وإن كانت الإرادة في غيره والآية محتملة وورد في التغليظ في الدية حديث عمرو بن شعيب مرفوعا بلفظ "عقل شبه العمد مغلظ مثل قتل العمد ولا يقتل صاحبه وذلك أن ينزو الشيطان بين الناس فتكون دماء في غير ضغينة ولا حمل سلاح" رواه أحمد وأبو داود والثاني من قاتله أي من كان له دم عند شخص فيقتل رجلا آخر غير من عنده له الدم سواء كان له مشاركة في القتل أو لا الثالث قوله أو قتل لذحل الجاهلية تقدم تفسير الذحل وهو العداوة أيضا وقد فسر الحديث حديث أبي شريح الخزاعي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أعتى الناس من قتل غير قاتله أو طلب بدم في الجاهلية من أهل الإسلام أو بصر عينه ما لم تبصر" أخرجه البيهقي
5- وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا إن دية الخطأ وشبه العمد" ما كان بالسوط والعصا "مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها" أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه وصححه ابن حبان قال ابن القطان وهو صحيح ولا يضره الاختلاف وتقدم الكلام في الحديث وإنما ذكره المصنف تفسيرا للحديث الذي سلف من حديث عمرو بن شعيب وفيه تغليظ عقل الخطأ ولم يبينه هنالك فبينه هنا
6- وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هذه(3/249)
وهذه سواء" يعني الخنصر والإبهام رواه البخاري ولأبي داود والترمذي أي من حديث ابن عباس "دية الأصابع سواء" هذا أعم من الأول والأسنان سواء زاده بيانا بقوله الثنية والضرس سواء فلا يقال الدية على قدر النفع والضرس أنفع في المضغ ولابن حبان أي من حديث ابن عباس دية أصابع اليدين والرجلين سواء عشرة من الإبل لكل إصبع وقد قدمنا الكلام في هذا مستوفى
7- وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رفعه قال "من تطبب" أي تكلف الطب ولم يكن طبيبا كما يدل له صيغة تفعل "ولم يكن بالطب معروفا فأصاب نفسا فما دونها فهو ضامن" أخرجه الدارقطني وصححه الحاكم وهو عند أبي داود والنسائي وغيرهما إلا أن من أرسله أقوى ممن وصله الحديث دليل على تضمين المتطبب ما أتلفه من نفس فما دونها سواء أصاب بالسراية أو المباشرة وسواء كان عمدا أو خطأ وقد ادعي على هذا الإجماع وفي نهاية المجتهد إذا أعنت أي المتطبب كان عليه الضرب والسجن والدية في ماله وقيل على العاقلة
واعلم أن المتطبب هو من ليس له خبرة بالعلاج وليس له شيخ معروف والطبيب الحاذق هو من له شيخ معروف وثق من نفسه بجودة الصنعة وإحكام المعرفة قال ابن القيم في الهدي النبوي إن الطبيب الحاذق هو الذي يراعي في علاجه عشرين أمرا وسردها هنالك قال والطبيب الجاهل إذا تعاطى علم الطب أو علمه ولم يتقدم له به معرفة فقد هجم بجهله على إتلاف الأنفس وأقدم بالتهور على ما لا يعلمه فيكون قد غرر بالعليل فيلزمه الضمان وهذا إجماع من أهل العلم قال الخطابي لا أعلم خلافا في أن المعالج إذا تعدى فتلف المريض كان ضامنا والمتعاطي علما أو عملا لا يعرفه متعد فإذا تولد من فعله التلف ضمن الدية وسقط عنه القود لأنه لا يستبد بذلك دون إذن المريض وجناية الطبيب على قول عامة أهل العلم على عاقلته اه وأما إعنات الطبيب الحاذق فإن كان بالسراية لم يضمن اتفاقا لأنها سراية فعل مأذون فيه من جهة الشرع ومن جهة المعالج وهكذا سراية كل مأذون فيه لم يتعد الفاعل في سببه كسراية الحد وسراية القصاص عند الجمهور خلافا لأبي حنيفة رضي الله عنه فإنه أوجب الضمان بها وفرق الشافعي بين الفعل المقدر شرعا كالحد وغير المقدر كالتعزير فلا يضمن في المقدر ويضمن في غير المقدر لأنه راجع إلى الاجتهاد فهو في مظنة العدوان وإن كان الإعنات بالمباشرة فهو مضمون عليه إن كان عمدا وإن كان خطأ فعلى العاقلة
8- وعنه أي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه صلى الله عليه وسلم قال: "في المواضح" جمع موضحة "خمس خمس من الإبل" رواه أحمد والأربعة وزاد أحمد والأصابع سواء كلهن عشر عشر من الإبل وصححه ابن خزيمة وابن الجارود وهو يوافق ما تقدم في حديث كتاب عمرو بن حزم وموضحة الوجه والرأس سواء بالإجماع إذ هما كالعضو الواحد
9- وعنه أي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى(3/250)
الله عليه وآله وسلم: "عقل أهل الذمة نصف عقل المسلمين" رواه أحمد والأربعة ولفظ أبي داود "دية المعاهد نصف دية الحر" وللنسائي "عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى يبلغ الثلث من ديتها" وصححه ابن خزيمة لكنه قال ابن كثير إنه من رواية إسماعيل بن عياش وهو إذا روى عن غير الشاميين لا يحتج به عند جمهور الأئمة وهذا منه قلت تعنتوا في إسماعيل بن عياش إذا روى عن غير الشاميين وقبوله في الشاميين والذي يرجح عند الظن قبوله مطلقا لثقته وضبطه وأنه لذلك صحح ابن خزيمة هذه الرواية وهي عن إسماعيل عن ابن جريج وابن جريج ليس بشامي
واعلم أنه اشتمل الحديث على مسألتين الأولى في دية أهل الذمة وههنا للعلماء ثلاثة أقوال الأول: أنها نصف دية المسلم كما أفاده الحديث قال الخطابي: في معالم السنن ليس في دية أهل الكتاب شيء أبين من هذا وإليه ذهب عمر بن عبد العزيزو عروة بن الزبير وهو قول مالك وابن شبرمة وأحمد بن حنبل غير أن أحمد قال إذا كان القتل خطأ فإن كان عمدا لم يقد به وتضاعف عليه اثني عشر ألفا وقال أصحاب الرأي و سفيان الثوري ديته دية المسلم وهو قول الشعبي والنخعي ويروى ذلك عن عمر وابن مسعود وقال الشافعي وإسحاق بن راهويه ديته الثلث من دية المسلم اه فعرفت أن دليل القول الأول حديث الكتاب واستدل للقول الثاني وهو قول الحنفية وإليه ذهب الهادوية بقوله تعالى:{وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} قالوا فذكر الدية والظاهر فيها الإكمال وبما أخرجه البيهقي عن ابن جريج عن الزهري عن أبي هريرة قال كانت دية اليهودي والنصراني في زمن النبي صلى الله عليه وسلم مثل دية المسلمين الحديث وأجيب بأن الدية مجملة وحديث الزهري عن أبي هريرة مرسل ومراسيل الزهري قبيحة وذكروا آثارا كلها كمال الإسناد ودليل القول الثالث هو مفهوم قوله في حديث عمرو بن حزم وفي النفس المؤمنة مائة من الإبل فإنه دل على أن غير المؤمنة بخلافها وكأنه جعل بيان هذا المفهوم ما أخرجه الشافعي نفسه عن ابن المسيب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قضى في دية اليهودي والنصراني بأربعة آلاف وفي دية المجوسي بثمانمائة ومثله عثمان رضي الله عنه فجعل قضاء عمر رضي الله عنه مبينا للقدر الذي أجمله مفهوم الصفة ولا يخفى أن دليل القول الأول أقوى لا سيما وقد صحح الحديث إمامان من أئمة أهل السنة المسألة الثانية ما أفاده قوله وللنسائي أي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى يبلغ الثلث من ديتها وهو دليل على أن أرش جراحات المرأة يكون كأرش جراحات الرجل إلى الثلث وما زاد عليه كان جراحتها مخالفة لجراحاته والمخالفة بأن يلزم فيها نصف ما يلزم في الرجل وذلك لأن دية المرأة على النصف من دية الرجل لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ دية المرأة على النصف من دية الرجل وهو إجماع فيقاس عليه مفهوم المخالفة من أرش جراحة المرأة على الدية الكاملة وإلى هذا ذهب الجمهور من الفقهاء(3/251)
وهو قول عمر وجماعة من الصحابة وذهب علي رضي الله عنه والهادوية والحنفية والشافعية إلى أن دية المرأة وجراحاتها على النصف من دية الرجل وأخرج البيهقي عن علي أيضا أنه كان يقول جراحات النساء على النصف من دية الرجل فيما قل وكثر ولا يخفى أنه قد صحح ابن خزيمة حديث إن عقل المرأة كعقل الرجل حتى يبلغ الثلث فالعمل به متعين والظن به أقوى وبه قال فقهاء المدينة السبعة وجمهور أهل المدينة وهو مذهب مالك وأحمد ونقله أبو محمد المقدسي عن عمر وابنه وقال لا نعلم لهما مخالفا من الصحابة إلا عن علي رضي الله عنه ولا نعلم ثبوته عنه قال ابن كثير قلت هو ثابت عنه وفي المسألة أقوال أخر بلا دليل ناهض
10- وعنه أي عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عقل شبه العمد مغلظ مثل عقل العمد" بينه في حديث أبي داود بلفظ "مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها" وتقدم "ولا يقتل صاحبه" وبين شبه العمد بقوله "وذلك أن ينزو الشيطان" النزو بفتح النون فزاي فواو أي يثب "فتكون دماء بين الناس ضغينة ولا حمل سلاح" أخرجه الدارقطني وضعفه وأخرجه البيهقي بإسناده ولم يضعفه والحديث دليل أنه إذا وقع الجراح من غير قصد إليه ولم يكن بسلاح بل بحجر أو عصا أو نحوهما فإنه لا قود فيه وأنه شبه العمد فيلزم فيه الدية مغلظة كما تقدم في دية العمد وقد تقدم أن الدية في العمد وشبه العمد تكون أثلاثا عند الشافعي ومالك وأنها أرباع عند الهادوية وتقدم ذلك وأما أنها تكون أخماسا كما أفاده حديث ابن مسعود الماضي في الخطأ فتقدم أنه قال به أصحاب الرأي وغيرهم وفيه دليل على إثبات شبه العمد وقدمنا أنه الحق
11- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال قتل رجل رجلا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ديته اثنى عشر ألفا بين البيهقي أن المراد درهما رواه الأربعة ورجح النسائي وأبو حاتم إرساله وقد أخرج البيهقي عن علي رضي الله عنه وعائشة وأبي هريرة وعمر بن الخطاب رضي الله عنهم مثل هذا وإنما رجح النسائي وأبو حاتم إرساله لما قاله البيهقي إن محمد بن ميمون رواه عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس إنما قال لنا فيه عن ابن عباس مرة واحدة وأكثر ما كان يقول عن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم انتهى قلت وزيادة العدل مقبولة وكونه قالها مرة واحدة كاف في الرفع فإنه لو اقتصر عليها لحكم برفع الحديث فإرساله مرارا لا يقدح في رفعه مرة واحدة وإلى هذا ذهب أكثر العلماء وذهب الهادوية وأهل العراق أنها عشرة آلاف درهم واستدل له في البحر بقوله لقول علي به وهو توقيف انتهى إلا أنه لم يطرد هذا فيما ينقله عن علي رضي الله عنه بل تارة يقول مثل هذا وتارة يقول إن قول علي اجتهاد ولا يلزمنا ودعوى التوقيف غيري صحيحة إذ مثل هذا فيه للاجتهاد مسرح
12- وعن أبي رمثة بكسر الراء وسكون الميم وبالمثلثة اسمه رفاعة بن يثربي بفتح(3/252)
المثناة التحتية وسكون المثلثة فراء فموحدة فياء النسبة قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وعداده في أهل الكوفة قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم ومعي ابني فقال من هذا فقلت ابني وأشهد به قال أما إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه رواه النسائي وأبو داود وصححه ابن خزيمة وابن الجارود وأخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث عمرو بن الأحوص أنه شهد حجة الوداع مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لا يجني جان إلا على نفسه ولا يجني جان على ولده" في الباب روايات أخر تعضده والجناية الذنب أو ما يفعله الإنسان مما يوجب عليه العقاب أو القصاص وفيه دلالة على أنه لا يطالب أحد بجناية غيره سواء كان قريبا كالأب والولد وغيرهما أو أجنبيا فالجاني يطلب وحده بجنايته ولا يطالب بجنايته غيره قال الله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} فإن قلت قد أمر الشارع بتحمل العاقلة الدية في جناية الخطأ والقسامة قلت هذا مخصص من الحكم العام وقيل إن ذلك ليس من تحمل الجناية بل من باب التعاضد والتناصر فيما بين المسلمين(3/253)
باب دعوى الدم والقسامة
القسامة بفتح القاف وتخفيف المهملة مصدر أقسم قسما وقسامة وهي الأيمان تقسم على أولياء القتيل إذا ادعوا الدم أو على المدعى عليهم الدم وخص القسم على الدم بالقسامة قال إمام الحرمين القسامة عند أهل اللغة اسم للقوم الذين يقسمون وعند الفقهاء اسم للأيمان وفي القاموس القسامة الجماعة يقسمون على الشيء ويأخذونه أو يشهدون وفي الضياء القسامة الأيمان تقسم على خمسين رجلا من أهل البلد أو القرية التي يوجد فيها القتيل لا يعلم قاتله ولا يدعي أولياؤه قتله على أحد بعينه
1- وعن سهل بن أبي حثمة بفتح المهملة وسكون المثلثة واسم أبي حثمة عبد الله بن ساعدة بن عامر أوسي أنصاري عن رجال من كبراء قومه أن عبد الله بن سهل ومحيصة بضم الميم فحاء مهملة فمثناة تحتية مشددة فصاد مهملة ابن مسعود خرجا إلى خيبر من جهد بضم الجيم وفتحها المشقة هنا أصابهم فأتى محيصة مغير الصيغة فأخبر أن عبد الله بن سهل قد قتل وطرح مغيران أيضا في عين فأتى أي محيصة(يهود) اسم جنس يجمع على يهدان فقال أنتم والله قتلتموه قالوا والله ما قتلناه فأقبل هو وأخوه حويصة بضم المهملة وفتح الواو فمثناة تحتية فصاد مهملة مشددة وعبد الرحمن بن سهل فذهب محيصة ليتكلم وكان أصغر من حويصة وفي رواية فبدأ عبد الرحمن يتكلم وكان أصغر القوم فقال رسول الله صلى الله وسلم: "كبر كبر" بلفظ الأمر فيهما والثاني تأكيد للأول يريد السن مدرج تفسير لقوله كبر أي يتكلم من كان أكبر سنا فتكلم حويصة ثم تكلم محيصة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إما أن يدوا" أي اليهود "صاحبكم" أي عبد الله بن سهل "وإما أن أذنوا بحرب فكتب" أي رسول الله(3/253)
صلى الله عليه وسلم "إليهم في ذلك" أي فيما ذكر من أنهم قتلوا عبد الله فكتبوا أي اليهود إنا والله ما قتلناه فقال أي النبي صلى الله عليه وسلم لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن بن سهل: "أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم" قالوا لا وفي رواية عند مسلم قالوا لم نحضر ولم نشهد وفي بعض ألفاظ البخاري أنه قال "لهم تأتون بالبينة قالوا ما لنا بينة فقال أتحلفون" قال: "فتحلف لكم زفر" قالوا ليسوا مسلمين وفي لفظ قالوا لا نرضى بأيمان اليهود وفي لفظ كيف ينفذ بأيمان كفار فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده فبعث إليهم مائة ناقة قال سهل فلقد ركضتني منها ناقة حمراء متفق عليه اعلم أن هذا الحديث أصل كبير في ثبوت القسامة عند القائلين بها وهم الجماهير فإنهم أثبتوها وبينوا أحكامها ونتكلم على مسائل الأولى أنها لا تثبت القسامة بمجرد دعوى القتل على المدعى عليهم من دون شبهة إجماعا وقد روي عن الأوزاعي وداود ثبوتها شبهة ولا دليل لهما واختلف العلماء في الشبهة التي تثبت بها القسامة فمنهم من جعل الشبهة اللوث وهو كما في النهاية أن يشهد شاهد واحد على إقرار المقتول قبل أن يموت أن فلانا قتلني أو يشهد شاهدان على عداوة بينهما أو تهديد له منه أو نحو ذلك ومن اللوث التلطخ ومنهم من لم يشترطه كالهادوية والحنفية فإنهم قالوا وجود الميت وبه أثر القتل في محل يختص بمحصورين تثبت به القسامة عندهم إذا لم يدع المدعي على غيرهم قالوا لأن الأحاديث وردت في مثل هذه الحالة ورد بأن حديث الباب أصح ما ورد وفيه دليل على اللوث وحقيقته شبهة يغلب الظن بالحكم بها كما فصله في النهاية وهو هنا العداوة فلهذا ذهب مالك والشافعي إلى أنه لا يثبت بهذا قسامة إلا إذا كان بين المقتول والمدعى عليهم عداوة كما كان في قصة خيبر قالوا فإنه يقتل الرجل الرجل ويلقيه في محل طائفة لينسب إليهم وقد عدوا من صور اللوث قول المقتول قبل وفاته قتلني فلان وقال مالك إنه يقبل قوله وإن لم يكن به أثر أو يقول جرحني ويذكر العمد وادعى مالك أنه مما أجمع عليه الأئمة قديما وحديثا ورده ابن العربي بأنه لم يقله من فقهاء الأمصار غيره وتبعه عليه الليث واحتج مالك بقصة بقرة بني إسرائيل فإنه أحيي الرجل وأخبر بقاتله وأجيب بأن ذلك معجزة لنبي وتصديقها قطعي قلت ولأنه أحياه الله بعد موته فعين قاتله فإذا أحيا الله مقتولا بعد موته وعين قاتله قلنا به ولا يكون ذلك أبدا واحتج أصحابه بأن القاتل يطلب غفلة الناس فلو لم يقبل خبر المجروح أدى ذلك إلى إبطال الدماء غالبا وأنها حالة يتحرى فيها المجروح الصدق ويتجنب الكذب والمعاصي ويتحرى التقوى والبر فوجب قبول قوله ولا يخفى ضعف هذه الاستدلالات وقد عدوا صور اللوث مبسوطة في كتبهم المسألة الثانية أنه بعد ثبوت ما ذكر من القتل وكل على أصله تثبت دعوى أولياء القتيل القسامة فتثبت أحكامها فمنها القصاص عند كمال شروطها لقوله في الحديث "تستحقون قتيلكم أو صاحبكم بأيمان خمسين منكم على رجل منهم فيدفع بذمته" وقوله "دم صاحبكم" في لفظ مسلم "يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع بذمته" وإن كان قوله "إما أن بدوا صاحبكم" الحديث يشعر(3/254)
بعدم القصاص إلا أن هذا التصريح في رواية مسلم أقوى في القول بالقصاص وهذا مذهب أهل المدينة فإن كانت الدعوى على واحد معين ثبت القود عليه وإن كانت على جماعة حلفوا وثبتت عليهم الدية عند الشافعية وفي قول يجب عليهم القصاص والأول الصحيح عنه فإن كان الوارث واحدا حلف خمسين يمينا فإن الإيمان لازمة للورثة ذكورا كانوا أو إناثا عمدا كان أو خطأ هذا مذهب الشافعي ومنها أن يبدأ بأيمان المدعي في القسامة بخلاف غيرها من الدعاوى كما في هذه الرواية ويدل له حديث أبي هريرة "البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه إلا في القسامة" وفي إسناده لين إلا أنه قد أخرجه البيهقي من حديث عمرو بن شعيب ولم يتكلم فيه قالوا ولأن جنبة المدعي إذا قويت بشهادة أو شبهة صارت اليمين له وهنا الشبهة قوية فصار المدعي في القسامة مشابها للمدعى عليه المتأيد بالبراءة الأصلية وذهبت الهادوية والحنفية وآخرون إلى أنه يحلف المدعى عليه ولا يمين على المدعين فيحلف خمسون رجلا من أهل القرية ما قتلناه ولا علمنا قاتله وإلى هذا جنح البخاري وذلك لأن الروايات اختلفت في ذلك في قصة الأنصار ويهود خيبر فيرد المختلف فيه إلى المتفق عليه من أن اليمين على المدعى عليه فإن حلفوا فهل تلزمهم الدية أم لا ذهبت الهادوية إلى أنها تلزمهم الدية بعد الأيمان وذهب آخرون إلى أنهم إذا حلفوا خمسين يمينا برئوا ولا دية عليهم وعليه تدل قصة أبي طالب الآتية واستدل الجماعة المذكورة ومن معهم في إيجاب الدية بأحاديث لا تقوم بها حجة لعدم صحة رفعها عند أئمة هذا الشأن وقوله فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده وفي لفظ إنه وداه من إبل الصدقة فقيل المراد به أنه اقترضها منها وأنه لما تحملها صلى الله عليه وسلم للإصلاح بين الطائفتين كان حكمها حكم القضاء عن الغارم لما غرمه لإصلاح ذات البين فلم يأخذها صلى الله عليه وسلم لنفسه فإن الصدقة لا تحل له ولكن جرى إعطاء الدية منها مجرى إعطائها في الغرم لإصلاح ذات البين وأما من قال إنه صلى الله عليه وسلم أعطى ذلك من سهم الغارمين فلا يصح فإن غارم أهل الذمة لا يعطى من الزكاة كذا قيل قلت وفيه نظر فإن اليهود لم تلزمهم الدية لأنه لم يحلف المدعون كما عرفت فما وداه صلى الله عليه وسلم إلا تبرعا منه لئلا يهدر دمه وأما رواية النسائي أنه صلى الله عليه وسلم قسمها على اليهود وأعانهم ببعضها فقال ابن القيم إن هذا ليس بمحفوظ فإنه الدية لا أفطر المدعى عليهم بمجرد دعوى القتيل بل لا بد من إقرار أو بينة أو أيمان لمدعين ولم يوجد هنا شيء من ذلك وقد عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدعين أن يحلفوا فأبوا فكيف يلزم اليهود بالدية بمجرد الدعوى انتهى قلت ويظهر لي أنه ليس في هذا الحديث حكم منه صلى الله عليه وسلم بالقسامة أصلا كما أفاده الحديث وإنما دل الحديث على حكاية للواقع لا غير وذكر لهم صلى الله عليه وسلم قصة الحكم على التقديرين ومن ثمة كتب إلى يهود بعد أن دار بينهم الكلام المذكور وسيأتي تحقيقه وقوله فكتبوا إنا والله ما قتلناه فيه دليل على الاكتفاء بالمكاتبة وبخبر الواحد مع إمكان المشافهة
فائدة: اختار مالك إجراء هذه الدعوى في الأموال فأجاز شهادة المسلوبين على(3/255)
السالبين وإن كانوا مدعين قال لأن قاطع الطريق إنما يفعل ذلك مع الغفلة والانفراد عن الناس انتهى ولا يخفى أنه لا يتم هذا إلا بعد ثبوت أنه صلى الله عليه وسلم حكم بالقسامة وعرفناك هنا عدم نهوض ذلك وسنزيده بيانا عن قريب وإذا ثبت فهذا قياس من مالك مصادم لنص "البينة على المدعي واليمين على المنكر" إلا أن يكون مذهبه جواز تخصيص عموم النص بالقياس وللعلماء كلام في حجية العام بعد تخصيصه
2- وعن رجل من الأنصار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية وقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ناس من الأنصار في قتيل ادعوه على اليهود رواه مسلم قوله على ما كانت عليه في الجاهلية كأنه أشار إلى ما أخرجه البخاري في قصة الهاشمي في الجاهلية وفيها أن أبا طالب قال للقاتل اختر منا إحدى ثلاث إن شئت أن تؤدي مائة من الإبل فإنك قتلت صاحبنا خطأ وإن شئت حلف خمسون من قومك أنك لم تقتله وإن أبيت قتلناك به وفيه دليل على ثبوت القتل بالقسامة واعلم أنا قد أشرنا إلى أنه لم يثبت القسامة إلا الجماهير كما قررناه عنهم وذهب سالم بن عبد الله وعمر بن عبد العزيز وأبو قلابة وابن علية والناصر إلى عدم شرعيتها لمخالفتها الأصول المقررة شرعا فإن الأصل أن البينة على المدعى عليه وبأن الأيمان لا تأثير لها في إثبات الدماء وبأن الشرع ورد بأنه لا يجوز الحلف إلا على ما علم قطعا أو شوهد حسا وبأنه صلى الله عليه وسلم لم يحكم بها وإنما كانت حكما جاهليا فتلطف بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليريهم كيف لا يجري الحكم بها على أصول الإسلام وبيان أنه لم يحكم بها أنهم لما قالوا له وكيف نحلف ولم نحضر ولم نشاهد لم يبين لهم أن هذا الحلف في القسامة من شأنه ذلك وأنه حكم الله فيها وشرعه بل عدل إلى قوله يحلف لكم يهود فقالوا ليسوا بمسلمين فلم يوجب صلى الله عليه وسلم عليهم ويبين لهم أن ليس لكم إلا اليمين من المدعى عليهم مطلقا مسلمين كانوا أو غيرهم بل عدل إلى إعطائه الدية من عنده صلى الله عليه وسلم ولو كان الحكم ثابتا بها لبين وجهه لهم بل تقريره صلى الله عليه وسلم لهم على أنه لا حلف إلا على شيء مشاهد مرئي دليل على أنه لا حلف في القسامة ولأنه لم يطلب صلى الله عليه وسلم اليهود للإجابة عن خصومهم في دعواهم فالقصة منادية بأنها لم تخرج مخرج الحكم الشرعي إذا لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة فهذا أقوى دليل بأنها ليست حكما شرعيا وإنما تلطف صلى الله عليه وسلم في بيان أنها ليست بحكم شرعي بهذا التدريج المنادي بعدم ثبوتها شرعا وأقرهم صلى الله عليه وسلم بأنهم لا يحلفون على ما لا يعلمونه ولا شاهدوه ولا حضروه ولم يبين لهم بحرف واحد أن أيمان القسامة من شأنها أن تكون على ما لا يعلم وبذا تعرف بطلان القول بأن في القصة دليلا على الحكم على الغائب إذ لا حكم فيها أصلا وبطلان الجواب عن كونها مخالفة للأصول بأنها مخصصة من الأصول لأن القسامة سنة مستقلة بنفسها منفردة مخصصة للأصول كسائر المخصصات للحاجة إلى شرعيتها حياطة(3/256)
لحفظ الدماء وردع المعتدين ووجه بطلانه أنه فرع ثبوت الحكم بها عن الشارع فلو ثبت الحكم بها لكان هذا جوابا حسنا وأما ما في حديث مسلم أنه صلى الله عليه وسلم أقر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية وقضى بها بين ناس من الأنصار في قتيل ادعوه على اليهود فهو إخبار عن القصة التي في حديث سهل بن أبي حثمة وقد عرفت أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يقض بها فيه كما قررناه وقد عرفت من حديث أبي طالب أنها كانت في الجاهلية على أن يؤدي الدية القاتل لا العاقلة كما قال أبو طالب إما أن تؤدي مائة من الإبل فإنه ظاهر أنها من ماله لا من عاقلته أو يحلف خمسون من قومك أو تقتل وهنا في قصة خيبر لم يقع شيء من ذلك فإن المدعى عليهم لم يحلفوا ولم يسلموا الدية ولم يطلب منهم الحلف وليس هذا قدحا في رواية الراوي من الصحابة بل في استنباطه لأنه قد أفاد حديثه أنه استنبط قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقسامة من قصة أهل خيبر وليس في تلك القصة قضاء وعدم صحة الاستنباط جائز على الصحابي وغيره اتفاقا وإنما روايته للحديث بلفظه أو بمعناه هي التي يتعين قبولها وأما قول أبي الزناد قتلنا بالقسامة والصحابة متوافرون إني لأرى أنهم ألف رجل فما اختلف منهم اثنان فإنه قال في فتح الباري إنما نقله أبو الزناد عن خارجة بن زيد بن ثابت كما أخرجه سعيد بن منصور والبيهقي في رواية عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه وإلا فأبو الزناد لا يثبت أنه رأى عشرة من الصحابة فضلا عن ألف اه قلت لا يخفى أنه تقرير لما رواه أبو الزناد لثبوت ما رواه عن خارجة بن زيد الفقيه الثقة وإنما دلس أبو الزناد بقوله قتلنا وكأنه يريد معشر المسلمين وإن لم يحضرهم ثم لا يخفى أن غايته بعد ثبوته عن خارجة فعل جماعة من الصحابة وليس بإجماع حتى يكون حجة ولا شك في ثبوت فعل عمر بالقسامة وإن اختلف عنه في القتل بها وإنما نزاعنا في ثبوت حكمه صلى الله عليه وسلم بها فإنه لم يثبت(3/257)
باب قتال أهل البغي
البغي مصدر بغى عليه بفتح المعجمة بغيا بفتح الموحدة وسكون المعجمة علا وظلم وعدل عن الحق وله معان كثيرة وذكر الشارح رحمه الله معناه الاصطلاحي هنا وساقه على اصطلاح الهادوية وقد أبنا ما فيه في حواشي ضوء النهار ولم نذكره هنا لعدم انطباق الأحاديث عليه
1- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من حمل علينا السلاح فليس منا" متفق عليه أي من حمله لقتال المسلمين بغير حق كني بحمله عن المقاتلة إذ القتل لازم لحمل السيف في الأغلب ويحتمل أنه لا كناية فيه(3/257)
وأن المراد حمله حقيقة لإرادة القتال ويدل له قوله علينا وقوله فليس منا تقدم بيانه بأن المراد ليس على طريقتنا وهدينا فإن طريقته صلى الله عليه وسلم نصر المسلم والقتال دونه لا ترويعه وإخافته وقتاله وهذا في غير المستحل فإن استحل القتال للمسلم بغير حق فإنه يكفر باستحلاله المحرم القطعي والحديث دليل على تحريم قتال المسلم والتشديد فيه وأما قتال البغاة من أهل الإسلام فإنه خارج من عموم هذا الحديث بدليل خاص
2- وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة ومات فميتته ميتة" بكسر الميم مصدر نوعي "جاهلية " أخرجه مسلم قوله عن الطاعة أي طاعة الخليفة الذي وقع الاجتماع عليه وكأن المراد خليفة أي قطر من الأقطار إذ لم يجمع الناس على خليفة في جميع البلاد الإسلامية من أثناء الدولة العباسية بل استقل أهل كل إقليم بقائم بأمورهم إذ لو حمل الحديث على خليفة اجتمع عليه أهل الإسلام لقلت فائدته وقوله وفارق الجماعة أي خرج عن الجماعة الذين اتفقوا على طاعة إمام انتظم به شملهم واجتمعت به كلمتهم وحاطهم عن عدوهم قوله فميتته ميتة جاهلية أي منسوبة إلى أهل الجهل والمراد به من مات على الكفر قبل الإسلام وهو تشبيه لميتة من فارق الجماعة بمن مات على الكفر بجامع أن الكل لم يكن تحت حكم إمام فإن الخارج عن الطاعة كأهل الجاهلية لا إمام له وفي الحديث دليل على أنه إذا فارق أحد الجماعة ولم يخرج عليهم ولا قاتلهم أنا لا نقاتله لنرده إلى الجماعة ويذعن للإمام بالطاعة بل نخليه وشأنه لأنه لم يأمر صلى الله عليه وسلم بقتاله بل أخبر عن حال موته وأنه كأهل الجاهلية ولا يخرج بذلك عن الإسلام ويدل له ما ثبت من قول علي رضي الله عنه للخوارج كونوا حيث شئتم وبيننا وبينكم أن لا تسفكوا دما حراما ولا تقطعوا سبيلا ولا تظلموا أحدا فإن فعلتم نفذت إليكم بالحرب وهذا ثابت عنه بألفاظ مختلفة أخرجه أحمد والطبراني والحاكم من طريق عبد الله بن شداد قال عبد الله بن شداد فوالله ما قتلهم حتى قطعوا السبيل وسفكوا الدم الحرام فدل على أن مجرد الخلاف على الإمام لا يوجب قتال من خالفه
3- وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "تقتل عمارا الفئة الباغية : رواه مسلم تمامه في مسلم "يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار" قال ابن عبد البر تواترت الأخبار بهذا وهو من أصح الحديث وقال ابن دحية لا مطعن في صحته ولو كان غير صحيح لرده معاوية وإنما قال معاوية قتله من جاء به ولو كان فيه شك لرده وأنكره حتى أجاب عمرو بن العاص على معاوية فقال فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قتل حمزة وأما ما نقله المصنف في التلخيص وتبعه الشارح في نقله من أنه نقل ابن الجوزي عن خلاد في العلل أنه حكى عن أحمد أنه قال قد روي هذا الحديث من(3/258)
ثمانية وعشرين طريقا ليس فيها طريق صحيح وحكى أيضا عن أحمد وابن معين وابن أبي خيثمة أنهم قالوا لم يصح فقد أجاب السيد محمد بن إبراهيم الوزير عن هذا بقوله الاسترواح إلى ذكر هذا الخلاف الساقط من غير بيان ببطلانه من مثل ابن حجر عصبية شنيعة فأما ابن الجوزي فلم يعرف هذا الشأن وقد ذكر الذهبي في ترجمته في التذكرة كثرة خطئه في مصنفاته فهو أجهل وأحقر من أن ينتهض لمعارضة أئمة الحديث وفرسانه وحفاظه كابن عبد البر والبخاري ومسلم والحميدي وقد رواه كاملا أبو داود والترمذي والذهبي والحاكم وابن خزيمة والقرطبي والإسماعيلي والبرقاني وأمثالهم وقد ذكر جملة منهم تواتره وصحته وجماعة منهم إجماع أهل السنة وأهل الفقه وأهل العلم على ذلك وذكره القرطبي في آخر تذكرته والحاكم في علوم الحديث له وحكاه ابن خزيمة المعروف بإمام الأئمة ولم يحك أحد عنهم خلافا في ذلك وأما الذهبي فإنه حقق صحة دعواه بما أورده من الطرق الصحيحة الجمة والمنع من الصحة بمجرد العصبية من غير حجة صنيع من لا علم له بل من لا عقل له ولا حياء انتهى قلت ولا يخفى أن ابن الجوزي نقل عن أحمد عدم صحته وليس له هو قدح في صحته حتى يقال إنه أحقر من أن ينتهض لمعارضة أئمة الحديث وفرسانه وحفاظه فالأولى في الجواب عن نقل ابن الجوزي ما قاله السيد محمد أيضا أنه قد روى يعقوب بن شيبة الإمام الثقة الحافظ عن أحمد بن حنبل أنه قال فيه إنه حديث صحيح سمعه عنه يعقوب وقد سئل عنه ذكره الذهبي في ترجمة عمار في النبلاء ويؤيده أنه رواه أحمد عن جماعة كثير من الصحابة وكان يرى الضرب على روايات الضعاف والمنكرات وهذا يدل على بطلان ما حكاه ابن الجوزي وإلا فغايته أنه قد تعارض عن أحمد القولان فيطرح وفي تصحيح غيره ما يغني عنه كما لا يخفى وأما الحكاية عن ابن معين وابن أبي خيثمة فإنه رواها المصنف بصيغة التمريض ولم ينسبها إلى راو فيتكلم عليها والحديث دليل على أن الفئة الباغية معاوية ومن في حزبه والفئة المحقة علي رضي الله عنه ومن في صحبته وقد نقل الإجماع من أهل السنة بهذا القول جماعة من أئمتهم كالعامري وغيره وأوضحناه في الروضة الندية
4- وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل تدري يا ابن أم عبد" هو ابن مسعود لأنه المعروف بذلك وكأنه رواه عنه ابن عمر رضي الله عنهما أو سمع النبي صلى الله عليه وسلم يحدثه "كيف حكم الله فيمن بغى من هذه الأمة؟" قال الله ورسوله أعلم قا: "لا يجهز على جريحها" أي لا يتمم قتل من كان جريحا من البغاة "ولا يقتل أسيرها ولا يطلب هاربها ولا يقسم فيؤها" رواه البزار والحاكم وصححه فوهم فإن في إسناده كوثر بفتح الكاف وسكون الواو ومثلثة مفتوحة فراء ابن حكيم وهو متروك وصح عن علي نحوه من طرق موقوفا أخرجه ابن أبي شيبة والحاكم في الميزان كوثر بن حكيم عن عطاء ومكحول وهو كوفي نزل حلب قال ابن معين ليس بشيء وقال أحمد بن حنبل أحاديثه بواطيل انتهى قال ابن عدي(3/259)
هذا حديث غير محفوظ وأما الرواية عن علي عليه السلام فرواها البيهقي وغيره وفي الحديث مسائل الأولى جواز قتال البغاة وهو إجماع لقوله تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} قلت: والآية دالة على الوجوب وبه قالت الهادوية ولكن شرطوا ظن الغلبة وعند جماعة من العلماء أن قتالهم أفضل من قتال الكفار قالوا لما يلحق المسلمين من الضرر منهم
واعلم أنه يتعين أولا قبل قتالهم دعاؤهم إلى الرجوع عن البغي وتكرير الدعاء كما فعل علي رضي الله عنه في الخوارج فإنهم لما فارقوه أرسل إليهم ابن عباس فناظرهم فرجع منهم أربعة آلاف وكانوا ثمانية آلاف وبقي أربعة أبوا أن يرجعوا وأصروا على فراقه فأرسل إليهم كونوا حيث شئتم وبيننا وبينكم أن لا تسفكوا دما حراما ولا تقطعوا سبيلا ولا تظلموا أحدا فقتلوا عبد الله بن خباب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بقروا بطن سريته وهي حبلى وأخرجوا ما في بطنها فبلغ عليا كرم الله وجهه فكتب إليهم أفيدونا بقاتل عبد الله بن خباب فقالوا كلنا قتله فأذن حينئذ في قتالهم وهي روايات ثابتة ساقها المصنف في فتح الباري المسألة الثانية "أنه لا يجهز على جريحها" وهو من أجهز على الجريح وجهز أي بت قتله وأسرعه وتمم عليه ودليله قوله ولا يجهز على جريحها وأخرج البيهقي أن عليا عليه السلام قال لأصحابه يوم الجمل إذا ظهرتم على القوم فلا تطلبوا مدبرا ولا تجهزوا على جريح وانظروا ماحضرت به الحرب من آلته فاقبضوه وما سوى ذلك فهو لورثته قال البيهقي هذا منقطع والصحيح أنه لم يأخذ شيئا ولم يسلب قتيلا ودل الحديث أيضا على أنه لا يقتل أسير البغاة قالوا وهذا خاص بالبغاة لأن قتالهم إنما هو لدفعهم عن المحاربة ودل الحديث أيضا على أنه لا يطلب هاربها وظاهره ولو كان متحيزا إلى فئة وإلى هذا ذهب الشافعي قال لأن القصد دفعهم في تلك الحال وقد وقع وذهبت الهادوية والحنفية إلى أن الهارب إلى فئة يقتل إذ لا يؤمن عوده والحديث يرد هذا القول وكذا ما تقدم من كلام علي عليه السلام المسألة الثالثة قوله "لا يقسم فيؤها" أي لا يغنم فيقسم دال على أن أموال البغاة لا تغنم وإن أجلبوا بها إلى دار الحرب وإلى هذا ذهبت الشافعية والحنفية وأيد هذا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم "لا يحل مال امرىء مسلم إلا بطيبة من نفسه" وقد صحح البيهقي أن عليا عليه السلام لم يأخذ سلبا فأخرجه عن الدراوردي عن جعفر بن محمد عن أبيه عليا عليه السلام كان لا يأخذ سلبا وأخرج أيضا عن أبي بكر بن أبي شيبة عن جعفر بن محمد عن أبيه أن عليا عليه السلام يوم البصرة لم يأخذ من متاعهم شيئا وأخرج عن أبي أمامة قال شهدت يوم صفين وكانوا لا يجهزون على جريح ولا يقتلون موليا ولا يسلبون قتيلا وذهبت الهادوية إلى أنه يغنم ما أجلبوا به من مال وآلة حرب ويخمس لقول علي عليه السلام لكم المعسكر وما حوى وأجيب بأن الحديث مصرح بأنها لا تغنم وبأن ما ذكرناه عن علي عليه السلام مما يوافق الحديث أكثر وأقوى طريقا المسألة الرابعة يؤخذ من اطلاق قوله ولا يجهز على جريحها أنه لا يضمن البغاة ما أتلفوا في القتال من الدماء والأموال وإليه ذهب الإمام يحيى(3/260)
والحنفية واستدل أيضا بقوله تعالى: {حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} ولم يذكر ضمانا وبما أخرجه البيهقي عن ابن شهاب قال هاجت الفتنة الأولى فأدركت الفتنة رجالا ذوي عدد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ممن شهد معه بدرا وبلغنا أنهم أن يهدر أمر الفتنة ولا يقام فيها على رجل قاتل في تأويل القرآن قصاص فيمن قتل ولا حد في سباء امرأة سبيت ولا يرى عليها حد ولا بينها وبين زوجها ملاعنة ولا يرى أن يقذفها أحد إلا جلد الحد ويرى أن ترد إلى زوجها الأول بعد أن تعتد فتنقضي عدتها من زوجها الآخر ويرى أن يرثها زوجها الأول قلت وهذا وإن لم يكن إجماعا فإنه مقو للبراءة الأصلية إذا الأصل أن أموال المسلمين ودماءهم معصومة وذهب الشافعي وحكي عن الهادوية إلى أنه يقتص ممن قتل من البغاة واستدلوا بعموم الآيات والأحاديث نحو {مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} وحديث "من اعتبط مسلما بقتل عن بينة فهو قود" وأجيب بأنها عمومات خصت بما ذكر من أدلة أهل القول الأول
5- وعن عرفجة بضم العين المهملة وسكون الراء وضم الفاء وجيم ابن شريح بالشين المعجمة مصغر شرح وقيل بالمهملة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أتاكم وأمركم جميع يريد أن يفرق جماعتكم فاقتلوه" أخرجه مسلم ورواه مسلم بلفظ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ستكون هنات وهنات فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان" وفي لفظ "فاقتلوه" وفي لفظ "من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه" وأخرج الشيخان واللفظ للبخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنه قال "من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات مات ميتة جاهلية" وفي لفظ "من خرج عن السلطان شبرا مات ميتة جاهلية" دلت هذه الألفاظ على أن من خرج على إمام قد اجتمعت عليه كلمة المسلمين والمراد أهل قطر كما قلناه فإنه قد استحق القتل لإدخاله الضرر على العباد وظاهره سواء كان جائرا أو عادلا وقد جاء في أحاديث تقييد ذلك بما أقاموا الصلاة وفي لفظ ما لم تروا كفرا بواحا وقد حققنا هذه المباحث في منحة الغفار حاشية ضوء النهار تحقيقا تضرب إليه آباط الإبل والحمد الله المنعم المتفضل(3/261)
باب قتال الجاني وقتل المرتد
1- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قتل دون ماله فهو شهيد" رواه أبو داود والنسائي والترمذي وصححه وأخرجه البخاري من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وأخرجه أصحاب السنن وابن حبان والحاكم من حديث سعيد بن زيد وفي الحديث دليل على جواز المقاتلة لمن قصد أخذ مال(3/261)
غيره بغير حق قليلا كان المال أو كثيرا وهذا قول الجماهير وقال بعض المالكية لا يجوز القتال على أخذ القليل من المال
قال القرطبي: سبب الخلاف في ذلك هل القتال لدفع المنكر فلا يفترق الحال بين القليل والكثير أو من باب دفع الضرر فيختلف الحال في ذلك وحكى ابن المنذر عن الشافعي رضي الله عنه أن من أريد ماله أو نفسه أو حريمه ولم يمكنه الدفع إلا بالقتل فله ذلك وليس عليه قود ولا دية ولا كفارة لكن ليس له أن يقصد القتل من غير تفصيل قال ابن المنذر والذي عليه أهل العلم أن للرجل أن يدفع عما ذكر إذا أريد ظلما بغير تفصيل إلا أن كل من يحفظ عنه من علماء الحديث كالمجمعين على استثناء السلطان للآثار الواردة بالأمر بالصبر على جوره وترك القيامة عليه وفرق الأوزاعي بين الحال التي للناس فيها جماعة وإمام فحمل الحديث عليها وأما في حال الخلاف والفرقة فليستسلم ولا يقاتل أحدا قلت ويؤيد ما قاله ابن المنذر عن أهل العلم ما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعا بلفظ "أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي قال فلا تعطه قال أرأيت إن قاتلني قال قاتله قال أرأيت إن قتلني قال فأنت شهيد قال أرأيت إن قتلته قال فهو في النار" وظاهر الحديث إطلاق الأحوال قلت هذا في جواز قتال من يأخذ المال فهل يجوز له أي لمن يراد أخذ ماله ظلما الاستسلام وترك المنع بالقتال الظاهر جوازه ويدل له حديث فكن عبد الله المقتول فإنه دال على جواز الاستسلام في النفس والمال بالأولى فيحمل قوله هنا ولا تعطه على أنه نهي لغير التحريم
2- وعن عمران بن حصين قال قاتل يعلى بن أمية رجلا فعض أحدهما صاحبه فانتزع يده من فمه فنزع ثنيته فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال "أيعض أحدكم " بفتح حرف المضارعة فتكون المهملة ماضية عضض بكسر الضاء الأولى يعضض بفتحها في المضارع فأدغمت ونقلت حركتها إلى ما قبلها "أخاه كما يعض الفحل" أي الذكر من الإبل " لا دية له" متفق عليه واللفظ لمسلم اختلف في العاض والمعضوض منهما فقال الحافظ الصحيح المعروف أن المعضوض أجير يعلى ولا يعلى قيل فيتعين أن يكون يعلى هو العاض وفي الحديث دليل على أن هذه الجناية التي وقعت لأجل الدفع عن الضرر تهدر ولا دية على الجاني وإلى هذا ذهب الجمهور وقالوا لا يلزمه شيء لأنه في حكم الصائل واحتجوا أيضا بالإجماع على أن من شهر على آخر سلاحا ليقتله فدفع عن نفسه فقتل الشاهر أنه لا شيء عليه قالوا ولو جرحه المعضوض في محل آخر من بدنه لم يلزمه شيء وشرط الإهدار أن يتألم المعضوض وأن لا يمكنه تخليص يده بغير ذلك من ضرب شدقه أو فك لحييه ليرسلهما ومهما أمكن التخلص بدون ذلك فعدل عنه إلى الأثقل لم يهدر وللشافعية وجه أنه يهدر على الإطلاق ودليل شرط الإهدار بما ذكر مأخوذ من القواعد الكلية في الشرع وإلا فلا يفيده الحديث فإن كان لعض في موضع آخر من البدن جرى فيه هذا الحكم قياسا(3/262)
3-- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال أبو القاسم صلى الله عليه وآله وسلم: "لو أن أمرأ اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه لم يكن عليك جناح" متفق عليه دل الحديث على تحريم الاطلاع على الغير بغير إذنه وعلى أن من اطلع قاصدا للنظر إلى محل غيره مما لا يجوز الدخول إليه إلا بإذن مالكه فإنه يجوز للمطلع عليه دفعه بما ذكر وإن فقأ عينه فإنه لا ضمان عليه وفي لفظ لأحمد والنسائي وصححه ابن حبان فلا دية له ولا قصاص وأما إذا كان مأذوناً بالنظرفالجناح غير مرفوع على من جنى على الناظر وكذا لو كان المنظور إليه في محل لا يحتاج إلى الإذن ولو نظر منه ما لا يحل له النظر إليه لأن التقصير من المنظور إليه وإلى هذا ذهب الشافعي وغيره والخلاف فيه للمالكية قال يحيى بن يعمر من المالكية لعل مالكا لم يبلغه الخبر وقال ابن دقيق العيد تصرف الفقهاء في الحكم بأنواع من التصرفات منها أنه يفرق بين أن يكون هذا الناظر واقعا في الشارع أو في خالص ملك المنظور إليه أو في سكة منسدة الأسفل اختلفوا فيه والأشهر أنه لا فرق ولا يجوز مد العين إلى حرم الناس بحال وفي وجه للشافعية أنه لا تفقأ إلا عين من وقف في ملك المنظور إليه والحديث مطلق ومنها أنه هل يجوز رمي الناظر قبل الإنذار والنهي فيه وجهان للشافعية أحدهما لا والثاني نعم قلت وهو الذي يدل له الحديث ويؤيده الحديث الآخر "أنه صلى الله عليه وسلم جعل يختل المطلع عليه ليطعنه" والختل فسره في النهاية بقوله يراوده ويطلبه من حيث لا يشعر وفي الحديث دليل أنه إنما يباح له قصد العين بشيء خفيف كالمدرى والبندقة والحصاة لقوله فخذفته قال الفقهاء فأما لو رماه بالنشاب أو بحجر يقتله فقتله فهذا قتيل يتعلق به القصاص أو الدية ومما تصرف فيه الفقهاء أن هذا الناظر إذا كان له محرم في الدار أو زوجة أو متاع لم يجز قصد عينه لأنه له في النظر شبهة وقيل لا يكفي إذا كان له في الدار محرم بل إنما يمتنع قصد عينه إذا لم يكن في الدار إلا محارمه ومنها إذا لم يكن في الدار إلا صاحبها فله الرمي إن كان مكشوف العورة ولا ضمان وإلا فوجهان أظهرهما لا يجوز رميه ومنها أن الحريم إذا كن في الدار مستترات أو في بيت ففي وجه لا يجوز قصد عينه لأنه لا يطلع على شيء قال بعض الفقهاء والأظهر الجواز لإطلاق الأخبار وأنه لا تنضبط روينا الستر والتكشف والاحتياط حسم الباب ومنها أن ذلك إنما يكون إذا لم يقصر صاحب الدار فإن كان بابه مفتوحا أو ثمة كوة واسعة أو ثلمة مفتوحة فينظر فإن كان مجتازا لم يجز قصده وإن كان وقف وتعمد فقيل لا يجوز قصده لتفريط صاحب الدار بفتح الباب وتوسيع الكوة وقيل يجوز بتعديه بالنظر وأجرى هذا الخلاف فيما إذا نظر من سطح بيته أو نظر المؤذن من المئذنة لكن الأظهر ههنا عندهم جواز الرمي لأنه لا تقصير من صاحب الدار ثم قال واعلم أن ما كان من هذه التصرفات الفقهية داخلا تحت إطلاق الحديث فهو مأخوذ منها ومالا فبعضه مأخوذ من فهم المعنى المقصود بالحديث وبعضه مأخوذ من القياس وهو قليل فيما ذكر انتهى كلامه(3/263)
واعلم أنه يؤخذ من هذا الحديث صحة قول الفقهاء إنها تهدم الصوامع المحدثة المعورة وكذا تعلية الملك إذا كانت معورة وهو محكي عن القاسم الرسي وهو رأي عمر فإنه أخرج عنه ابن عبد الحكم في فتوح مصر عن يزيد بن أبي حبيب قال أول من بنى غرفة بمصر خارجة بن حذافة فبلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه فكتب إلى عمرو بن العاص سلام عليك أما بعد فإنه بلغني أن خارجة بن حذافة بنى غرفة ولقد أراد أن يطلع على عورات جيرانه فإذا أتاك كتابي هذا فاهدمها إن شاء الله تعالى والسلام
4- وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن حفظ الحوائط بالنهار على أهلها وأن حفظ الماشية بالليل على أهلها وأن على أهل الماشية ما أصابت ماشيتهم بالليل" رواه أحمد والأربعة إلا الترمذي وصححه ابن حبان وفي إسناده اختلاف مداره على الزهري وقد اختلف عليه فإنه روي من طرق كلها عن الزهري عن حزام عن البراء وحزام لم يسمع من البراء قاله عبد الحق تبعا لابن حزم وأخرجه البيهقي من طرق وفيها الاختلاف إلا أنه قال الشافعي رحمه الله أخذنا به لثبوته واتصاله ومعرفة رجاله قال البيهقي ورويناه عن الشعبي عن شريح أنه كان يضمن ما أفسدته الغنم بالليل ولا يضمن ما أفسدته بالنهار ويتأول هذه الآية {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} وكان يقول النفش بالليل وروي مرة عن مسروق إذ نفشت فيه غنم القوم قال كان كرما فدخلت فيه ليلا فما تركت فيه خضرا فدل الحديث أنه لا يضمن مالك البهيمة ما جنته في النهار لأنه يعتاد إرسالها في النهار ويضمن ما جنته بالليل لأنه يعتاد حفظها بالليل وإلى هذا ذهبت الهادوية ومالك والشافعي ودليلهم الحديث والآية وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا ضمان على أهل الماشية مطلقا وحجته حديث العجماء جرحها جبار أخرجه أحمد والشيخان من حديث أبي هريرة وأحمد والنسائي وابن ماجه عن عمرو بن عوف وفيه زيادة ولكنه قال الطحاوي مذهب أبي حنيفة أنه لا ضمان إذا أرسلها مع حافظ وأما إذا أرسلها من دون حافظ فإنه يضمن وكذا المالكية يقيدون ذلك بما إذا سرحت الدواب في مسارحها المعتادة للرعي وأما إذا كانت في أرض مزروعة لا مسرح فيها فإنهم يضمنون ليلا أو نهارا وفي المسألة أقوال أخر لا تناسب النص هذا ولا دليل لها يقاومه
5- وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه في رجل أسلم ثم تهود لا أجلس حتى يقتل قضاء الله ورسوله جوز في قضاء رفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف ونصبه على أنه مصدر حذف فعله وهو يشير إلى حديث من بدل دينه فاقتلوه وسيأتي من أخرجه فأمر به فقتل متفق عليه وفي رواية لأبي داود وكان قد استتيب قبل ذلك الحديث دليل على أنه يجب قتل المرتد وهو إجماع وإنما وقع الخلاف هل تجب استتابته قبل قتله أو لا ذهب الجمهور إلى وجوب الاستتابة لما في رواية أبي داود هذه وله في رواية أخرى فدعاه(3/264)
أبو موسى عشرين ليلة أو قريبا منها وجاء معاذ فدعاه فأبى فضرب عنقه وذهب الحسن وطاوس وأهل الظاهر وآخرون إلى عدم وجوب استتابة المرتد وأنه يقتل في الحال مستدلين بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه" يعني والفاء تفيد التعقيب كما لا يخفى ولأن حكم المرتد حكم الحربي الذي بلغته الدعوة فإنه يقاتل من دون أن يدعى وإنما شرعت الدعوى لمن خرج عن الإسلام لا عن بصيرة وأما من خرج عن بصيرة فلا وعن ابن عباس وعطاء إن كان أصله مسلما لم يستتب وإلا استتيب نقله عنهما الطحاوي ثم للقائلين بالاستتابة خلاف آخر وهو أنه هل يكفي مرة أو لا بد من ثلاث في مجلس أو في يوم أو في ثلاثة أيام ويروى عن علي عليه السلام يستتاب شهرا
6- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه" رواه البخاري الحديث دليل على قتل من بدل دينه كما تقدم وهو عام للرجل والمرأة والأول إجماع وفي الثاني خلاف ذهب الجمهور إلى أنها تقتل المرأة المرتدة لأن كلمة من هنا تعم الذكر والأنثى ولأنه أخرج ابن المنذر عن ابن عباس راوي الحديث أنه قال تقتل المرأة المرتدة ولما أخرجه هو والدارقطني أن أبا بكر رضي الله عنه قتل امرأة مرتدة في خلافته والصحابة متوافرون ولم ينكر عليه أحد وهو حديث حسن أخرج أيضا حديثا مرفوعا في قتل المرأة ولكنه حديث ضعيف وقد وقع في حديث معاذ حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن أنه قال له: "أيما رجل ارتد عن الإسلام فادعه فإن عاد وإلا فاضرب عنقه وأيما امرأة ارتدت عن الإسلام فادعها فإن عادت وإلا فاضرب عنقها" وإسناده حسن وهو نص في محل النزاع وذهب الحنفية إلى أنها لا تقتل المرأة إذا ارتدت قالوا لأنه قد ورد عنه صلى الله عليه وسلم النهي عن قتل النساء لما رأى امرأة مقتولة وقال ما كانت هذه لتقاتل رواه أحمد وأجاب الجمهور بأن النهي إنما هو عن قتل الكافرة الأصلية كما وقع في سياق قصة النهي فيكون النهي مخصوصا بما فهم من العلة وهو لما كانت لا تقاتل فالنهي عن قتلها إنما هو لتركها المقاتلة فكان ذلك في دين الكفار الأصليين المتحزبين للقتال وبقي عموم قوله من بدل دينه سالما عن المعارض وأيدته الأدلة التي سلفت واعلم أن ظاهر الحديث إطلاق التبديل فيشمل من تنصر بعد أن كان يهوديا وغير ذلك من الأديان الكفرية وإلى هذا ذهبت الشافعية وسواء كان من الأديان التي تقر بالجزية أم لا لإطلاق هذا اللفظ وخالفت الحنفية في ذلك وقالوا ليس المراد إلا تبديل الكفر بعد الإسلام قالوا وإطلاق الحديث متروك اتفاقا في حق الكافر إذا أسلم مع تناول الإطلاق له وبأن الكفر ملة واحدة فالمراد من بدل دين الإسلام بدين آخر فإنه قد أخرج الطبراني من حديث ابن عباس مرفوعا "من خالف دينه دين الإسلام فاضربوا بعنقه" فصرح بدين الإسلام(3/265)
7- وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه فينهاها فلا تنتهي فلما كان ذات ليلة أخذ المعول بكسر الميم وعين مهملة وفتح الواو فجعله قي بظنها واتكأ عليه فقتلها فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ألا اشهدوا فإن دمها هدر" رواه أبو داود ورواته ثقات الحديث دليل على أنه يقتل من سب النبي صلى الله عليه وسلم ويهدر دمه فإن كان مسلما كان سبه له صلى الله عليه وسلم ردة فيقتل قال ابن ابطال من غير استتابة ونقل ابن المنذر عن الأوزاعي والليث أنه يستتاب وإن كان من أهل العهد فإنه يقتل إلا أن يسلم ونقل ابن المنذر عن الليث والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق أنه يقتل أيضا من غير استتابة وعن الحنفية أنه يعزر المعاهد ولا يقتل واحتج الطحاوي بأنه صلى الله عليه وسلم لم يقتل اليهود الذين قالوا السام عليك ولو كان هذا من مسلم لكان ردة ولأن ما هم عليه من الكفر أشد من السب قلت يؤيده أن كفرهم به صلى الله عليه وسلم معناه أنه كذاب وأي سب أفحش من هذا وقد أقروا عليه إلا أن يقال إن هذا النص في حديث الأمة يقاس عليه أهل الذمة وأما القول بأن دماءهم إنما حقنت بالعهد وليس في العهد أنهم يسبون النبي صلى الله عليه وسلم فمن سبه منهم انتقض عهده فيصير كافرا بلا عهد فيهدر دمه فقد يجاب عنه أن عهدهم تضمن إقرارهم على تكذيبهم له صلى الله عليه وسلم وهو أعظم سب إلا أن يقال يخص من بين غيره من السب والله أعلم(3/266)
المجلد الرابع
كتاب الحدود
باب حد الزاني
...
كتاب الحدود
الحدود جمع حد والحد أصله ما يحجز به بين شيئين فيمنع اختلاطهما سميت هذه العقوبات حدودا لكونها تمنع عن المعاودة ويطلق الحد على التقدير وهذه الحدود مقدرة من الشارع ويطلق الحد على نفس المعاصي نحو قوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} وعلى فعل فيه شيء مقدر نحو قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}
باب حد الزاني
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما أن رجلا من الأعراب أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: "أنشدك" قال في الفتح:ضمن أنشدك معنى أذكرك فحذف الباء أي أذكرك الله رافعا نشيدتي أي صوتي وهو بفتح أوله فنون ساكتة وضم الشين المعجمة أي أسألك الله "إلا قضيت لي بكتاب الله تعالى" استثناء مفرغ إذ المعنى لا أنشدك إلا القضاء بكتاب الله فقال الآخر وهو أفقه منه كأن الراوي يعرف أنه أفقه منه أو من كونه سأل أهل الفقه نعم فاقض بيننا بكتاب الله وائذن لي فقال: "قل" قال: إن ابني كان عسيفا بالعين المهملة والسين المهملة فمثناة تحتية ففاء كأجير وزنا ومعنى على هذا فزنى بامرأته وإني أخبرت أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة ووليدة فسألت أهل العلم فأخبروني أن ما على ابني جلد مائة وتغريب عام وأن على امرأة هذا الرجم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله الوليدة والغنم رد عليك وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام -كأنه قد علم صلى الله عليه وسلم أنه غير محصن وقد كان اعترف بالزنا- "واغد يا أنيس " تصغير أنس رجل من الصحابة لا ذكر له إلا في هذا الحديث "إلى امرأة(4/3)
هذا فإن اعترفت فارجمها" متفق عليه وهذا اللفظ لمسلم الحديث دليل على وجوب الحد على الزاني غير المحصن مائة جلدة وعليه دل القرآن وأنه يجب عليه تغريب عام وهو زيادة على ما دل عليه القرآن ودليل على أنه يجب الرجم على الزاني المحصن وعلى أنه يكفي في الاعتراف بالزنا مرة واحدة كغيره من سائر الأحكام وإلى هذا ذهب الحسن ومالك والشافعي وداود وآخرون وذهبت الهادوية والحنفية والحنابلة وآخرون إلى أنه يعتبر في الإقرار بالزنا أربع مرات مستدلين بما يأتي من قصة ماعز ويأتي الجواب عنه في شرح حديثه وأمره صلى الله عليه وسلم أنيسا برجمها بعد اعترافها دليل لمن قال بجواز حكم الحاكم في الحدود ونحوها بما أقر به الخصم عنده وهو أحد قولي الشافعي وبه قال أبو ثور كما نقله القاضي عياض وقال الجمهور: لا يصح ذلك قالوا وقصة أنيس يطرقها احتمال الأعذار وأن قوله فارجمها بعد إعلامه صلى الله عليه وسلم أو أنه فوض الأمر إليه والمعنى فإذا اعترفت بحضرة من يثبت ذلك بقوله حكمت قلت ولا يخفى أن هذه تكلفات واعلم أنه صلى الله عليه وسلم لم يبعث إلى المرأة لأجل إثبات الحد عليها فإنه صلى الله عليه وسلم قد أمر باستتار من أتى بفاحشة وبالستر عليه ونهى عن التجسس وإنما ذلك لأنها لما قذفت المرأة بالزنا بعث إليها صلى الله عليه وسلم لتنكر فتطالب بحد القذف أو تقر بالزنا فيسقط عنه فكان منها الإقرار فأوجبت على نفسها الحد ويؤيد هذا ما أخرجه أبو داود والنسائي عن ابن عباس أن رجلا أقر أنه زنى بامرأة فجلده النبي صلى الله عليه وسلم مائة ثم سأل المرأة فقالت كذب فجلده جلد الفرية ثمانين وقد سكت عليه أبو داود وصححه الحاكم واستنكره النسائي
2- وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة والثيب بالثيب جلد مائة والرجم" رواه مسلم إشارة إلى قوله تعالى: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} بين به أنه قد جعل الله تعالى لهن السبيل بما ذكره من الحكم وفي الحديث مسألتان الأولى حكم البكر إذا زنى والمراد بالبكر ثم الفقهاء الحر البالغ الذي لم يجامع في نكاح صحيح وقوله بالبكر هذا خرج مخرج الغالب لا أنه يراد به مفهومه فإنه يجب على البكر الجلد سواء كان مع بكر أو ثيب كما في قصة العسيف وقوله نفي سنة فيه دليل على وجوب التغريب للزاني البكر عاما وأنه من تمام الحد وإليه ذهب الخلفاء الأربعة ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وغيرهم وادعي فيه الإجماع وذهبت الهادوية والحنفية إلى أنه لا يجب التغريب واستدل الحنفية بأنه لم يذكر في آية النور فالتغريب زيادة على النص وهو ثابت بخبر الواحد فلا يعمل به لأنه يكون ناسخا وجوابه أن الحديث مشهور لكثرة طرقه وكثرة من عمل به من الصحابة وقد عملت الحنفية بمثله بل بدونه كنقض الوضوء من القهقهة وجواز الوضوء بالنبيذ وغير ذلك مما هو زيادة على ما في القرآن وهذا منه وقال(4/4)
ابن المنذر أقسم النبي صلى الله عليه وسلم في قصة العسيف أنه يقضي بكتاب الله ثم قال: إن عليه جلد مائة وتغريب عام وهو المبين لكتاب الله وخطب بذلك عمر على رؤوس المنابر وكأن الطحاوي لما رأى ضعف جواب الحنفية هذا أجاب عنهم بأن حديث التغريب منسوخ بحديث "إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها" ثم قال في الثالثة "فليبعها" والبيع يفوت التغريب قال: وإذا سقط عن الأمة سقط عن الحرة لأنها في معناها قال: ويتأكد بحديث "لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم" قال: وإذا انتفى عن النساء انتفى عن الرجال انتهى
وفيه ضعف لأنه مبني على أن العام إذا خص لم يبق دليلا وهو ضعيف كما عرف في الأصول ثم نقول الأمة خصصت من حكم التغريب وكان الحديث عاما في حكمه للذكر والأنثى والأمة والعبد فخصت منه الأمة وبقي ما عداها داخلا تحت الحكم واستدل الهادوية بما ذكره المهدي في البحر من قوله
قلت: التغريب عقوبة لا حد لقول علي جلد مائة وحبس سنة ولنفي عمر في الخمر ولم ينكر ثم قال: لا أنفي بعدها أحدا والحدود لا تسقط انتهى ولا يخفى ضعف ما قاله أما كلام علي عليه السلام فإنه مؤيد لما قاله الجماهير فإنه جعل الحبس عوضا عن التغريب فهو نوع منه وأما نفي عمر في الخمر فاجتهاد منه زيادة في العقوبة ثم ظهر له أن لا ينفي أحدا باجتهاده والنفي بالزنى بالنص ويروى عن علي عليه السلام
وقال مالك والأوزاعي: إن المرأة لا تغرب قالوا: لأنها عورة وفي نفيها تضييع لها وتعريض للفتنة ولهذا نهيت عن السفر مع غير محرم ولا يخفى أنه لا يرد ما ذكر ولأنه قد شرط من قال بالتغريب أن تكون مع محرمها وأجرته منها إذ وجبت بجنايتها وقيل في بيت المال كأجرة الجلاد وأما الرقيق فإنه ذهب مالك وأحمد وغيرهما إلى أنه لا ينفى قالوا لأن نفيه عقوبة لمالكه لمنعه نفعه مدة غربته وقواعد الشرع قاضية أن لا يعاقب إلى الجاني ومن ثمة سقط فرض الجهاد والحج عن المملوك
وقال الثوري وداود: ينفي لعموم أدلة التغريب ولقوله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} وينصف في حق المملوك لعموم الآية وأما مسافة التغريب فقالوا أقلها مسافة القصر لتحصل الغربة وغرب عمر من المدينة إلى الشام وغرب ثمان إلى مصر ومن كان غريبا لا وطن له غرب إلى غير البلد التي واقع فيها المعصية
المسألة الثانية في قوله: "الثيب بالثيب" المراد بالثيب من قد وطىء في نكاح صحيح وهو حرّ بالغ عاقل والمرأة مثله وهذا الحكم يستوي فيه المسلم والكافر والحكم هو ما دل له قوله "جلد مائة والرجم" فإنه أفاد أنه يجمع للثيب بين الجلد والرجم وهو قول علي كما أخرجه البخاري أنه جلد شراحة يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة وقال: جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال الشعبي: قيل لعلي جمعت بين حدين فأجاب بما ذكر
قال الحازمي: وذهب إلى هذا أحمد وإسحاق وداود وابن المنذر وهو مذهب الهادوية وذهب غيرهم إلى أنه لا يجمع بين الجلد والرجم قالوا وحديث عبادة منسوخ بقصة ماعز والغامدية واليهودية فإنه صلى الله عليه وسلم رجمهم ولم يرو أنه جلدهم قال الشافعي فدلت السنة على أن الجلد ثابت على البكر ساقط عن الثيب قالوا وحديث(4/5)
عبادة متقدم وأجيب بأنه ليس في قصة ماعز ومن ذكر معه على تقدير تأخرها تصريح بسقوط الجلد عن المرجوم لاحتمال أن يكون ترك روايته لوضوحه ولكونه الأصل وقد احتج الشافعي بنظير هذا حين عورض في إيجاب العمرة بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من سأله أن يحج عن أبيه ولم يذكر العمرة فأجاب بأن السكوت عن ذلك لا يدل على سقوطه إلا أنه قد يقال إن جلد من ذكر من الخمسة الذين رجمهم صلى الله عليه وسلم لو وقع مع كثرة من يحضر عذابهما من طوائف المؤمنين يبعد أنه لا يرويه أحد ممن حضر فعدم إثباته في رواية من الروايات مع تنوعها واختلاف ألفاظها دليل أنه لم يقع الجلد فيقوى معه الظن بعدم وجوبه وفعل على ظاهر أنه اجتهاد منه لقوله جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه ظاهر أنه عمل باجتهاده بالجمع بين الدليلين فلا يتم القول بأنه توقيف أو إن كان في قوله بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يشعر بأنه توقيف قلت ولا يخفى قوة دلالة حديث عبادة على إثبات جلد الثيب ثم رجمه ولا يخفى ظهور أنه صلى الله عليه وسلم لم يجلد من رجمه فأنا أتوقف في الحكم حتى يفتح الله وهو خير الفاتحين وكنت قد جزمت في منحة الغفار بقوة القول بالجمع بين الجلد والرجم ثم حصل لي التوقف هنا
3- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى رجل من المسلمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فناداه فقال يا رسول الله: إني زنيت فأعرض عنه فتنحى تلقاء وجهه أي انتقل من الناحية التي كان فيها إلى الناحية التي يستقبل بها وجهه فقال يا رسول الله: إني زنيت فأعرض عنه حتى ثنى ذلك عليه أربع مرات فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أبك جنون؟" قال: لا قال: "فهل أحصنت" بفتح الهمزة فحاء مهملة فصاد مهملة أي تزوجت قال: نعم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اذهبوا به فارجموه" متفق عليه
الحديث اشتمل على مسائل
الأولى أنه وقع منه إقرار أربع مرات فاختلف العلماء هل يشترط تكرار الإقرار بالزنا أربعا أو لا ذهب من قدمنا ذكره وهم الحسن ومالك والشافعي وداود وآخرون إلى عدم اشتراط التكرار مستدلين بأن الأصل عدم اشتراطه في سائر الأقارير كالقتل والسرقة وبأنه صلى الل عليه وسلم قال لأنيس "فإن اعترفت فارجمها" ولم يذكر له تكرار الاعتراف فلو كان شرطا معتبرا لذكره صلى الله عليه وسلم لأنه في مقام البيان لا يؤخر عن وقت الحاجة وذهب الجماهير إلى أنه يشترط في الإقرار بالزنا أربع مرات مستدلين بحديث ماعز هذا وأجيب عنهم بأن حديث ماعز هذا اضطربت فيه الروايات في عدد الإقرارات فجاء فيها أربع مرات ومثله في حديث جابر بن سمرة عند مسلم ووقع في طريق أخرى عند مسلم أيضا مرتين أو ثلاثا ووقع في حديث عنده أيضا في طريق أخرى فاعترف بالزنا ثلاث مرات وقوله صلى الله تعالى عليه وعلى وسلم في بعض الروايات "قد شهدت على نفسك أربع مرات" حكاية لما وقع منه معتبر وما كان ذلك إلا زيادة في الاستثبات والتبين ولذلك سأل صلى الله عليه وسلم هل به جنون أو هو شارب خمر وأمر من يشم رائحته وجعل يستفسره عن الزنا(4/6)
كما سيأتي بألفاظ عديدة كل ذلك لأجل الشبهة التي عرضت في أمره ولأنها قالت الجهينة أتريد أن تردني كما رددت ماعزا فعلم أن الترديد ليس بشرط في الإقرار وبعد فلو سلمنا أنه لا اضطراب وأنه أقر أربع مرات فهذا فعل منه أمره صلى الله عليه سلم ولا طلبه لتكرار إقراره بل فعله من تلقاء نفسه وتقريره عليه دليل على جوازه لا على شرطيته واستدل الجمهور بالقياس على أنه قد اعتبر في الشهادة على الزنا أربعة ورد بأنه استدلال واضح البطلان لأنه قد اعتبر في المال عدلان والإقرار به يكفي مرة واحدة اتفاقا
المسألة الثانية دلت ألفاظ الحديث على أنه يجب على الإمام الاستفصال عن الأمور التي يجب معها الحد فإنه قد روي في هذا الحديث ألفاظ كثيرة دالة عليه ففي حديث بريدة أنه قال: "أشربت خمر" ا قال لا وأنه قام رجل يستنكهه فلم يجد فيه ريحا وفي حديث ابن عباس "لعلك قبلت أو غمزت" وفي رواية " هل ضاجعتها؟" قال نعم قال: "فهل باشرتها؟" قال نعم قال "هل جامعتها؟" قال نعم وفي حديث ابن عباس أنكتها لا يكني رواه البخاري وفي حديث أبي هريرة "أنكحتها؟" قال نعم قال "دخل ذلك منك في ذلك منها" قال نعم قال "كما يغيب المرود في المكحلة والرشاء في البئر؟" قال نعم قال تدري ما الزنا قال نعم أتيت منها حراما ما يأتي الرجل من امرأته حلالا قال: "فما تريد بهذا القول؟" قال تطهرني فأمر به فرجم فدل جميع ما ذكر على أنه يجب الاستفصال والتبين وأنه يندب تلقين ما يسقط الحد وأن الإقرار لا بد فيه من اللفظ الصريح الذي لا المواقعة وقد روي عن جماعة من الصحابة تلقين المقر كما أخرجه مالك عن أبي الدرداء وعن علي عليه السلام في قصة شراحة فإنه قال لها علي استكرهت قالت لا قال فلعل رجل أتاك في نومك الحديث وعند المالكية أنه لا يلقن من اشتهر بانتهاك الحرمات وفي قوله أشربت خمرا دليل على أنه لا يصح إقرار السكران وفيه خلاف وفيه دليل على أنه يحفر للرجل عند رجمه لأن في حديث بريدة عند مسلم فحفر له حفيرة وفي الحديث عند البخاري أنها لما أذلقته الحجارة هرب فأدركناه بالحرة فرجمناه زاد في رواية حتى مات وأخرج أبو داود أنه قال صلى الله عليه وسلم يعني حين أخبر بهربه هلا رددتموه إلي وفي رواية "تركتموه لعله يتوب فيتوب الله عليه" وأخذ من هذا الهادوية والشافعي وأحمد أنه يصح رجوع المقر عن الإقرار فإذا هرب ترك لعله يرجع
وفي قوله صلى الله عليه وسلم "لعله يتوب" إشكال لأنه ما جاء إلا تائبا يطلب تطهيره من الذنب وقد أخرج أبو داود أنه قال صلى الله عليه وسلم في قصة ماعز "والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها" ولعله يجاب بأن المراد لعله يرجع عن إقراره ويتوب بينه وبين الله تعالى فيغفر له أو المراد يتوب عن إكذابه نفسه واعلم أن قوله فأمر به فرجموه يدل أنه صلى الله عليه وسلم لم يحضر الرجم وأنه لا يجب أن يكون أول من يرجم الإمام فيمن ثبت عليه الحد بالإقرار وإلى هذا ذهب الشافعي(4/7)
والهادي والأولى حمل ذلك على الندب وعليه يحمل ما أخرج البيهقي عن علي عليه السلام أنه قال أيما امرأة بغى عليها ولدها أو كان اعتراف فالإمام أول من يرجم فإن ثبت بالبينة فالشهود أول من يرجم
4- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال لما أتى ماعز بن مالك إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "لعلك قبلت أو غمزت؟" بفتح الغين المعجمة والميم فزاي في النهاية الغمز في بعض الأحاديث بالإشارة كالرمز بالعين والحاجب ولعل المراد هنا الجس باليد لأنه ورد في بعض الروايات أو لمست عوضا عنه أو نظرت قال لا يا رسول الله رواه البخاري والمراد استفهامه هل هو أطلق لفظ الزنا على أي هذه مجازا وذلك كما جاء العين تزني وزناها النظر والحديث دليل على التثبت وتلقين المسقط للحد وأنه لا بد من التصريح في الزنا الصريح الذي لا يحتمل غير ذلك
5- وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه خطب فقال: إن الله بعث محمدا بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان فيما أنزل عليه آية الرجم قرأناها ووعيناها وعقلناها فرجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله وإن الرجم حق في كتاب الله على من زنا إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل بفتح المهملة والموحدة أو الاعتراف متفق عليه زاد الإسماعيلي بعد قوله أو الاعتراف وقد قرأناها الشيخ والشيخة فارجموهما البتة وبين في رواية عند النسائي محلها من السورة وأنها كانت في سورة الأحزاب وكذلك أخرج هذه الزيادة في هذا الحديث الموطأ عن يحيى بن سعيد عن ابن المسيب وفي رواية زيادة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالا من الله والله عزيز حكيم وفي رواية لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبتها بيدي وهذا القسم من نسخ التلاوة مع بقاء الحكم وقد عده الأصوليون قسما من أقسام النسخ وفي الحديث دليل على أنها إذا وجدت المرأة الخالية من الزوج أو السيد حبلى ولم تذكر شبهة أنه يثبت الحد بالحبل وهو مذهب عمر وإليه ذهب مالك وأصحابه وقالت الهادوية والشافعي وأبو حنيفة أنه لا يثبت الحد إلا ببينة أو اعتراف لأن الحدود تسقط بالشبهات واستدل الأولون بأنه قاله عمر على المنبر ولم ينكر عليه فينزلت منزلة الإجماع قلت لا يخفى أن الدليل هو الإجماع لا ما ينزل منزلته
6- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب عليها" بمثناة تحتية فمثلثة فراء فموحدة التعنيف لفظا ومعنى "ثم إن زنت فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ثم إن زنت الثالثة فتبين زناها فليبعها ولو بحبل من شعر"(4/8)
متفق عليه وهذا لفظ مسلم
فيه مسائل
الأولى: دل قوله "فتبين زناها" أنه إذا علم السيد بزنا أمته جلدها وإن لم تقم شهادة وذهب إليه بعض العلماء وقيل المراد إذا تبين زناها بما يتبين به في حق الحرة وهو الشهادة أو الإقرار والشهادة تقام عند الحاكم عند الأكثر وقال بعض الشافعية تقام عند السيد وفي قوله فليجلدها دليل على أن ولاية جلد الأمة إلى سيدها وإليه ذهب الشافعي وعند الهادوية أن ذلك إذا لم يكن في الزمان إمام وإلا فالحدود إليه والأول أقوى والمراد بالجلد الحد المعروف في قوله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ}
المسألة الثانية قوله: "ولا يثرب عليها" ورد في لفظ النسائي "ولا يعنفها" وهو بمعنى ما هنا وهو نهى عن الجمع لها بين العقوبة بالتعنيف والجلد ومن قال المراد أنه لا يقنع بالتعنيف دون الجلد فقد أبعد
قال ابن بطال: يؤخذ منه أن كل من أقيم عليه الحد لا يعزر بالتعنيف واللوم وإنما يليق ذلك بمن صدر منه قبل أن يرفع إلى الإمام للتحذير والتخويف فإذا رفع وأقيم عليه الحد كفاه ويؤيد هذا نهيه صلى الله عليه وسلم عن سبب الذي أقيم عليه حد الخمر وقال: "لا تكونوا عونا للشيطان على أخيكم" وفي قوله "ثم إن زنت" إلى آخره دليل على أن الزاني إذا تكرر منه الزنا بعد إقامة الحد عليه تكرر عليه الحد وأما إذا زنى مرارا من دون تخلل إقامة الحد لم يجب عليه إلا حد واحد ويؤخذ من ظاهر قوله: "فليبعها" أنه كان عليها الحد قال المصنف في الفتح الأرجح أنه يجلدها قبل البيع ثم يبيعها والسكوت عنه للعلم بأن الحد لا يترك ولا يقوم البيع مقامه
المسألة الثالثة: ظاهر الأمر وجوب بيع السيد للأمة وأن إمساك من تكررت منه الفاحشة محرم وهذا قول داود وأصحابه وذهب الجمهور إلى أنه مستحب لا واجب
قال ابن بطال: حمل الفقهاء الأمر بالبيع على الحض على مباعدة من تكرر منه الزنا لئلا يظن بالسيد الرضا بذلك فيكون ديوثا وقد ثبت الوعيد على من اتصف بالدياثة وفيه دليل على أنه لا يجب فراق الزانية لأن لفظ أمة أحدكم عام لمن يطؤها مالكها ومن لا يطؤها ولم يجعل الشارع مجرد الزنا موجبا للفراق إذ لو كان موجبا لوجب فراقها في أول مرة بل لم يوجبه إلا في الثالثة على القول بوجوب فراقها بالبيع كما قاله داود وأتباعه وهذا الإيجاب لا لمجرد الزنا بل لتكريره لئلا يظن بالسيد الرضا بذلك فيتصف بالصفة القبيحة ويجري هذا الحكم في الزوجة أنه لا يجب طلاقها وفراقها لأجل الزنا بل إن تكرر منها وجب لما عرفت قالوا وإنما أمر ببيعها في الثالثة لما ذكرنا قريبا ولما في ذلك من الوسيلة إلى تكثير أولاد الزنا قال وحمله بعضهم على الوجوب ولا سلف له من الأمة فلا يشتغل به وقد ثبت النهي عن إضاعة المال فكيف يجب بيع ماله قيمة خطيرة بالحقير ا هـ قلت: ولا يخفى أن الظاهر مع من قال بالوجوب ولم يأت القائل بالاستحباب بدليل على عدم الإيجاب قوله وقد ثبت النهي عن إضاعة المال قلنا وثبت هنا مخصص لذلك النهي وهو هذا الأمر وقد وقع الإجماع على جواز بيع الشيء الثمين بالشيء الحقير إذا كان البائع عالما به وكذلك إذا كان جاهلا ثم الجمهور وقوله ولما في ذلك من الوسيلة إلى تكثير أولاد الزنا فقال ليس في الأمر ببيعها قطع لذلك إذ(4/9)
لا ينقطع إلا بتركها له وليس في بيعها ما يصيرها تاركة له وقد قيل في وجه الحكم في الأمر ببيعها مع أنه ليس من موانع الزنا أنه جواز أن تستغني عند المشتري وتعلم بأن إخراجها من ملك السيد الأول بسبب الزنا فتتركه خشية من تنقلها عند الملاك أو لأنه قد يعفها بالتسري لها أو بتزويجها
المسألة الرابعة هل يجب على البائع أن يعرف المشتري بسبب بيعها لئلا يدخل تحت قوله: "من غشنا فليس منا" فإن الزنا عيب ولذا أمر بالحط من القيمة يحتمل أنه لا يجب عليه ذلك لأن الشارع قد أمره ببيعها ولم يأمره ببيان عيبها ثم هذا المعيب ليس معلوما ثبوته في الاستقبال فقد يتوب الفاجر ويفجر البار وكونه قد وقع منها وأقيم عليها الحد قد صيره كغير الواقع ولهذا نهى عن التعنيف لها وبيان عيبها قد يكون من التعنيف وله يندب له ذكر سبب بيعها فلعله يندب ويدخل تحت عموم المناصحة
المسألة الخامسة في إطلاق الحديث دليل على إقامة الحد على الأمة سواء أحصنت أو لا وفي قوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} دليل على شرطية الإحصان ولكن يحتمل أنه شرط للتنصيف في جلد المحصنة من الإماء وأن عليها نصف الجلد لا الرجم إذ لا يتنصف فيكون فائدة التقييد في الآية وصرح بتفصيل الإطلاق قول علي عليه السلام: في خطبته يا أيها الناس أقيموا على أرقائكم الحد من أحصن منهن ومن لم يحصن رواه ابن عيينة ويحيى بن سعيد عن ابن شهاب كما قال مالك وهذا مذهب الجمهور وذهب جماعة من العلماء إلى أنه لا يحد من العبيد والإماء إلا من أحصن وهو مذهب ابن عباس ولكنه يؤيد كلام الجمهور إطلاق الحديث الآتي
7- وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم " رواه أبو داود وهو في مسلم موقوف على علي رضي الله عنه وأخرجه البيهقي مرفوعا وقد غفل الحاكم فظن أنه لم يذكره أحد الشيخين واستدركه عليهما
قلت: يمكن أنه استدركه لكون مسلم لم يرفعه وقد ثبت عند الحاكم رفعه والحديث دل على ما دل عليه الحديث الأول من إقامة الملاك الحد على المماليك إلا أن هذا يعم ذكورهم وإناثهم فهو أعم من الأول ودل على إقامة الحد عليهم مطلقا أحصنوا أو لا وعلى أن إقامته إلى المالك ذكرا كان أو أنثى واختلف في الأمة المزوجة فالجمهور يقولون إن حدها إلى سيدها وقال مالك حدها إلى الإمام إلا أن يكون زوجها عبدا لمالكها فأمرها إلى السيد وظاهره أنه لا يشترط في السيد شرط صلاحية ولا غيرها قال ابن حزم يقيمه السيد إلا أن يكون كافرا قال لأنهم لا يقرون إلا بالصغار وفي تسليطه على إقامة الحد على مماليكه منافاة لذلك ثم ظاهر الحديث أن للسيد إقامة حد السرقة والشرب وقد خالف في ذلك جماعة بلا دليل ناهض وقد أخرج عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن نافع أن ابن عمر قطع يد غلام له سرق وجلد عبدا له زنى من غير أن يرفعهما إلى الوالي وأخرج مالك في الموطأ بسنده أن عبدا لبني عبد الله بن أبي بكر سرق واعترف فأمرت به عائشة فقطعت يده وأخرج الشافعي وعبد الرزاق بسندهما إلى الحسين بن محمد بن علي أن(4/10)
فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حدت جارية لها زنت ورواه ابن وهب عن ابن جريج عن عمرو بن دينار أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم كانت تجلد وليدتها خمسين إذا زنت وذهبت الهادوية إلى أنه لا يقيم الحد عليه إلا الإمام إلا أن لا يوجد إمام أقامه السيد وذهبت الحنفية إلى أنه لا يقيم الحدود مطلقا إلا الإمام أو من أذن له وقد استدل الطحاوي بما أخرجه من طريق مسلم بن يسار قال كان أبو عبد الله رجل من الصحابة يقول الزكاة والحدود والفيء والجمعة إلى السلطان قال الطحاوي ولا نعلم له مخالفا من الصحابة وقد تعقبه ابن حزم فقال بل خالفه اثنا عشر نفسا من الصحابة وقد سمعت ما روي عن الصحابة وكفي به ردا على الطحاوي ومن ذلك ما أخرجه البيهقي عن عمرو بن مرة وفيه عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال أدركت بقايا الأنصار وهم يضربون الوليدة من ولائدهم في مجالسهم إذا زنت قال الشافعي وكان ابن مسعود يأمر به وأبو برزة يحد وليدته
8- وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما أن امرأة من جهينة هي المعروفة بالغامدية أتت النبي صلى الله عليه وسلم وهي حبلى من الزنا فقالت: يا نبي الله أصبت حدا فأقمه علي فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أحسن إليها فإذا وضعت فأتني بها" ففعل فأمر بها فشكت عليها ثيابها مبني للمجهول أي شدت وورد في رواية عليها ثيابها ثم أمر بها فرجمت ثم صلى عليها فقال عمر: أتصلي عليها يا نبي الله وقد زنت؟ فقال: "لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها الله" رواه مسلم
ظاهر قوله "فإذا وضعت فائتني بها ففعل" أنه وقع الرجم عقيب الوضع إلا أنه قد ثبت في رواية أخرى أنها رجمت بعد أن فطمت ولدها وأتت به وفي يده كسرة خبز ففي رواية الكتاب طي واختصار قال النووي بعد ذكر الروايتين وهما في صحيح مسلم: ظاهرهما الاختلاف فإن الثانية صريحة في أن رجمها كان بعد فطامه وأكله الخبز والأولى أنه رجمها عقيب الولادة فيجب تأويل الأولى وحملها على وفق الثانية فيكون قوله في الرواية الأولى قام رجل من الأنصار فقال إلى رضاعه إنما قاله بعد الفطام و أراد برضاعه كفايته وتربيته وسماه رضاعا مجازا انتهى باختصار والحديث دليل على وجوب الرجم وتقدم الكلام فيه وأما شد ثيابها عليها فلأجل أن لا تكشف عند اضطرابها من مس الحجارة واتفق العلماء أنها ترجم المرأة قاعدة والرجل قائما إلا عند مالك فقال قاعدا وقيل يتخير الإمام بينهما وفي الحديث دليل أنه صلى الله عليه وسلم صلى على المرأة بنفسه إن صحت الرواية فصلى بالبناء للمعلوم إلا أنه قال الطبري: إنها بضم الصاد وكسر اللام قال وكذا هو في رواية ابن أبي شيبة وأبي داود وفي رواية لأبي داود فأمرهم أن يصلوا ولكن أكثر الرواة لمسلم بفتح الصاد وفتح اللام وظاهر قول عمر صلي عليها أنه صلى الله عليه وسلم باشر الصلاة بنفسه وهو يؤيد رواية الأكثر لمسلم والقول بأن المراد من صلى أمر(4/11)
بأن يصلي وأنه أسند إليه صلى الله عليه وسلم لكونه الآمر خلاف الظاهر فإن الأصل الحقيقة وعلى كل تقدير فقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها أو أمر بالصلاة فالقول بكراهة الصلاة على المرجوم يصادم النص إلا أن تخص الكراهة بمن رجم بغير الإقرار لجواز أنه لم يتب فهذا ينزل على الخلاف في الصلاة على الفساق فالجمهور أنه يصلي عليهم ولا دليل مع المانع عن الصلاة عليهم وفي الحديث دليل على أن التوبة لا تسقط الحد وهو أصح القولين عند الشافعية والجمهور والخلاف في حد المحارب إذا تاب قبل القدرة عليه فإنه يسقط بالتوبة عند الجمهور لقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ}
9- وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من أسلم يريد ماعز بن مالك ورجلا من اليهود وامرأة يريد الجهنية رواه مسلم وقصة اليهوديين في الصحيحين من حديث ابن عمر أما حديث ماعز والجهنية فتقدما وفي الحديث دليل على إقامة الحد على الكافر إذا زنى وهو قول الجمهور وذهب المالكية ومعظم الحنفية إلى اشتراط الإسلام وأنه شرط للإحصان الموجب للرجم ونقل ابن عبد البر الاتفاق عليه ورد قوله بأن الشافعي وأحمد لا يشترطان ذلك ودليلهما وقوع التصريح بأن اليهوديين اللذين زنيا كانا قد أحصنا وقد أجاب من اشترط الإسلام عن الحديث هذا بأنه صلى الل عليه وسلم إنما رجمهما بحكم التوراة وليس من حكم الإسلام في شيء وإنما هو من باب تنفيذ الحكم عليهما بما في كتابهما فإن في التوراة الرجم على المحصن وعلى غيره قال ابن العربي إنما رجمهما لإقامة الحجة عليهما بما لا يرده في شرعه مع قوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} ومن ثمة استدعى شهودهما لتقوم عليهما الحجة منهم ورده الخطابي بأن الله تعالى قال وأن احكم بينهم بما أنزل الله وإنما جاءه القوم سائلين الحكم عنده كما دلت عليه الرواية فنبههم على ما كتموه من حكم التوراة ولا جائز أن يكون حكم الإسلام عنده مخالفا لذلك لأنه لا يجوز الحكم بالمنسوخ فدل على أنه إنما حكم بالناسخ انتهى قلت: ولا يخفى احتمال القصة للأمرين والقول الأول مبني على عدم صحة شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض والثاني مبني على جوازه وفيه خلاف معروف وقد دلت القصة على صحة أنكحة أهل الكتاب لأن ثبوت الإحصان فرع عن ثبوت صحته وأن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع كذا قيل قلت أما الخطاب بفروع الشرائع ففيه نظر لتوقفه على أنه حكم صلى الله عليه وسلم بشرعة لا بما في التوراة على أحد احتمالين
10- وعن سعيد بن سعد بن عبادة هو أنصاري قال الواقدي صحبته صحيحة كان واليا لعلي بن أبي طالب على اليمن قال كان بين أبياتنا جمع بيت رويجل تصغير رجل ضعيف فخبث بالخاء المعجمة فموحدة فمثلثة أي فجر بأمة من إمائهم فذكر ذلك سعيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "اضربوه حده فقالوا يا رسول الله إنه أضعف من ذلك قال "خذوا عثكالا" بكسر العين فمثلثة بزنة قرطاس وهو العذق(4/12)
فيه مائة شمراخ بالشين المعجمة أوله وراء آخره خاء معجمة بزنة عثكال وهو غصن دقيق في أصل العثكال "ثم اضربوه ضربة واحدة" ففعلوا رواه أحمد والنسائي وابن ماجه وإسناده حسن لكن اختلفوا في وصله وإرساله قال البيهقي المحفوظ عن أبي أمامة أي ابن سهل بن حنيف كونه مرسلا وأخرجه أحمد وابن ماجه من حديث أبي أمامة عن سعيد بن سعد بن عبادة موصولا وقد أسلفنا لك غير مرة أن هذا ليس بعلة قادحة بل روايته موصولا زيادة من ثقة مقبولة والمراد هنا بالعثكال الغصن الكبير الذي يكون عليه أغصان صغار وهو للنخل كالعنقود للعنب وكل واحد من تلك الأغصان يسمى شمراخا وفي الحديث دليل على أن من كان ضعيفا لمرض ونحوه ولا يطيق إقامة الحد عليه بالمعتاد أقيم عليه بما يحتمله مجموعا دفعة واحدة من غير تكرار للضرب مثل العثكول ونحوه وإلى هذا ذهب الجماهير قالوا ولا بد أن يباشر المحدود جميع الشماريخ ليقع المقصود من الحد وقيل يجزىء وإن لم يباشر جميعه وهو الحق فإنه لم يخلق الله العثاكيل مصفوفة كل واحد إلى جنب الآخر عرضا منتشرة إلى تمام مائة قط ومع عدم الانتشار يمتنع مباشرة كل عود منها فإن كان المريض يرجى زوال مرضه أو خيف عليه شدة حر أو برد أخر الحد عليه إلى زوال ما يخاف
11- وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به ومن وجدتموه وقع على بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة" رواه أحمد والأربعة ورجاله موثقون إلا أن فيه اختلافا ظاهره أن الاختلاف في الحديث جميعه لا في قوله "و من وجدتموه" إلخ فقط وذلك أن الحديث قد روي عن ابن عباس مفرقا وهو مختلف في ثبت كل واحد من الأمرين أما الحكم الأول فإنه قد أخرج البيهقي من حديث سعيد بن جبير ومجاهد عن ابن عباس في البكر يوجد على اللوطية قال يرجم وأخرج عنه أنه قال ينظر أعلى بناء في القرية فيرمى به منكسا ثم يتبع بالحجارة وأما الثاني فإنه أخرج عن عاصم بن بهدلة عن أبي ذر عن ابن عباس أنه سئل عن الذي يأتي البهيمة قال لا حد عليه فهذا الاختلاف عنه دل على أنه ليس عنده سنة فيهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما تكلم باجتهاده كذا قيل في بيان وجه قول المصنف إن فيه اختلافا
والحديث فيه مسألتان
الأولى فيمن عمل عمل قوم لوط ولا ريب أنه ارتكب كبيرة وفي حكمها أقوال:
الأول: أنه يحد حد الزاني قياسا عليه يجامع إيلاج محرم في فرج محرم وهذا قول الهادوية وجماعة من السلف والخلف وإليه رجع الشافعي واعتذروا عن الحديث بأن فيه مقالا فلا ينتهض على إباحة دم المسلم إلا أنه لا يخفى أن هذه الأوصاف التي جمعوها علة لإلحاق اللواط بالزنا لا دليل على علتها
والثاني: يقتل الفاعل والمفعول به محصنين كانا أو غير محصنين للحديث المذكور وهو للناصر وقديم قولي الشافعي وكان طريقة الفقهاء أن يقولوا في القتل فعل ولم ينكر فكان إجماعا سيما مع تكريره من أبي بكر وعلي وغيرهما وتعجب في المنار من قلة الذاهب إلى هذا مع وضوح دليله لفظا(4/13)
وبلوغه إلى حد يعمل به سندا
الثالث: أنه يحرق بالنار فأخرج البيهقي أنه اجتمع رأي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على تحريق الفاعل والمفعول به وفيه قصة وفي إسناده إرسال وقال الحافظ المنذري حرق اللوطية بالنار أربعة من الخلفاء أبو بكر الصديق وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن الزبير وهشام بن عبد الملك
الرابع: أنه يرمى به من أعلى بناء في القرية منكسا ثم يتبع بالحجارة رواه البيهقي عن علي رضي الله عنه وتقدم عن ابن عباس رضي الله عنهما المسألة الثانية فيمن أتى بهيمة دل الحديث على تحريم ذلك وأن حد من يأتيها قتله وإليه ذهب الشافعي في أخير قوليه وقال إن صح الحديث قلت به وروي عن القاسم وذهب الشافعي في قول له أنه يجب حد الزنا قياسا على الزاني وذهب أحمد بن حنبل والمؤيد والناصر وغيرهم إلى أنه يعزر فقط إذ ليس بزنا والحديث قد تكلم فيه بما عرفت ودل على وجوب قتل البهيمة مأكولة كانت أو لا وإلى ذلك ذهب علي رضي الله عنه وقول الشافعي وقيل لابن عباس ما شأن البهيمة قال ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك شيئا ولكن أرى أنه كره أن يؤكل من لحمها أو ينتفع بها بعد ذلك العمل ويروى أنه قال في الجواب إنها ترى فيقال هذه التي فعل بها ما فعل وذهبت الهادوية والحنفية إلى أنه يكره أكلها فظاهره أنه لا يجب قتلها
قال الخطابي: الحديث هذا معارض بنهيه صلى الله عليه وسلم عن قتل الحيوان إلا لمأكله قال المهدي فيحتمل أنه أراد عقوبته بقتلها إن كانت له وهي مأكولة جمعا بين الأدلة
12- وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب وغرب وأن أبا بكر ضرب وغرب وأن عمر ضرب وغرب رواه الترمذي ورجاله ثقات إلا أنه اختلف في ورفعه وقفه وأخرج البيهقي أن عليا عليه السلام جلد ونفى من البصرة إلى الكوفة ومن الكوفة إلى البصرة وتقدم تحقيق ذلك في التغريب وكأنه ساقه المصنف ردا على من زعم نسخ التغريب
13- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المخنثين" جمع مخنث بالخاء المعجمة فنون فمثلثة اسم مفعول أو اسم فاعل روي بهما "من الرجال والمترجلات من النساء" وقال: "أخرجوهم من بيوتكم" رواه البخاري اللعن منه صلى الله عليه وسلم على مرتكب المعصية دال على كبرها وهو محتمل الإخبار والإنشاء كما قدمناه والمخنث من الرجال المراد به من تشبه بالنساء في حركاته وكلامه وغير ذلك من الأمور المختصة بالنساء والمراد من تخلق بذلك لا من كان ذلك من خلقته وجبلته والمراد بالمترجلات من النساء المتشبهات بالرجال هكذا ورد تفسيره في حديث آخر أخرجه أبو داود وهذا دليل على تحريم تشبه الرجال بالنساء وبالعكس وقيل لا دلالة للعن على التحريم لأنه صلى الله عليه وسلم كان يأذن في المخنثين بالدخول على النساء وإنما نفي من سمع منه وصف المرأة بما لا يفطن له إلا من كان له إربة فهو لأجل تتبع أوصاف الأجنبية قلت(4/14)
يحتمل أن من أذن له كان ذلك صفة له خلق لا تخلقا هذا وقال ابن التين أما من انتهى في التشبه بالنساء من الرجال إلى أن يؤتى في دبره وبالرجال من النساء إلى أن تتعاطى السحق فإن لهذين الصنفين من اللوم والعقوبة أشد ممن لم يصل إلى ذلك قلت أما من يؤتى من الرجال في دبره فهو الذي سلف حكمه قريبا
14- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ادفعوا الحدود ما وجدتم لها مدفعا" أخرجه ابن ماجه بإسناد ضعيف وأخرجه الترمذي والحاكم من حديث عائشة بلفظ "ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم وهو" ضعيف أيضا ورواه البيهقي عن علي رضي الله عنه من قوله بلفظ ادرءوا الحدود بالشبهات وذكره المصنف في التلخيص عن علي رضي الله عنه مرفوعا وتمامه ولا ينبغي للإمام أن يعطل الحدود قال وفيه المختار بن نافع وهو منكر الحديث قاله البخاري إلا أنه ساق المصنف في التلخيص عدة روايات موقوفة صحح بعضها وهي تعاضد المرفوع وتدل على أن له أصلا في الجملة وفيه دليل على أنه يدفع الحد بالشبهة التي يجوز وقوعها كدعوى الإكراه أو أنها أتيت المرأة وهي نائمة فيقبل قولها ويدفع عنها الحد ولا تكلف البينة على ما زعمته
15- وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول لله صلى الله عليه وسلم: "اجتنبوا هذه القاذورات" جمع قاذورة والمراد بها الفعل القبيح والقول السيء مما نهى الله تعالى عنه التي نهى الله تعالى عنها "فمن ألم بها فليستتر بستر الله وليتب إلى الله تعالى فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله تعالى" رواه الحاكم وقال على شرطهما وهو في الموطأ من مراسيل زيد ابن أسلم قال ابن عبد البر لا أعلم هذا الحديث أسند بوجه من الوجوه ومراده بذلك حديث مالك وأما حديث الحاكم فهو مسند مع أنه قال إمام الحرمين في النهاية إنه صحيح متفق على صحته قال ابن الصلاح وهذا مما يتعجب منه العارف بالحديث وله أشباه بذلك كثيرة أوقعه فيها اطراحه صناعة الحديث التي يفتقر إليها كل فقيه وعالم وفي الحديث دليل على أنه يجب على من ألم بمعصية أن يستتر ولا يفضح نفسه بالإقرار ويبادر إلى التوبة فإن أبدى صفحته للإمام والمراد بها هنا حقيقة أمره وجب على الإمام إقامة الحد وقد أخرج أبو داود مرفوعا تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب(4/15)
باب حد القذف
القذف لغة الرمي بالشيء وفي الشرع الرمي بوطء يوجب الحد على المقذوف
1- عن عائشة رضي الله عنها قالت لما نزل عذري قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فذكر ذلك وتلا القرآن من قوله: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالأِفْكِ} إلى آخر(4/15)
ثماني عشرة آية على إحدى الروايات في العدد "فلما نزل أمر برجلين" هما حسان ومسطح وامرأة هي حمنة بنت جحش "فضربوا الحد" أخرجه أحمد والأربعة وأشار إليه البخاري في الحديث ثبوت حد القذف وهو ثابت لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} الآية وظاهره أنه لم يثبت القذف لعائشة إلا من الثلاثة المذكورين وقد ثبت أن الذي تولى كبره عبد الله بن أبي بن سلول ولكن لم يثبت أنه جلده صلى الله عليه وسلم حد القذف وقد ذكر ذلك ابن القيم وعد أعذر في تركه صلى الله عليه وسلم لحده ولكنه قد أخرج الحاكم في الإكليل أنه صلى الله عليه وسلم حده من جملة القذفة وأما قول المارودي إنه صلى الله عليه وسلم لم يجلد أحدا من القذفة لعائشة وعلله بأن الحد إنما يثبت ببينة أو إقرار فقد رد قوله بأنه ثبت ما يوجبه بنص القرآن وحد القاذف يثبت بعدم ثبوت ما قذف به ولا يحتاج في إثباته إلى بينة قلت ولا يخفى أن القرآن لم يعين أحدا من القذفة وكأنه يريد ما ثبت في تفسير الآيات فإنه ثبت أن الذي تولى كبره عبد الله بن أبي بن سلول وأن مسطحا من القذفة وهو المراد بنزول قوله تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى} الآية
2- وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أول لعان كان في الإسلام أن شريك بن سحماء قذفه هلال بن أمية بامرأته فقال له النبي صلى الله عليه وسلم البينة وإلا فحد في ظهرك الحديث أخرجه أبو يعلى ورجاله ثقات وفي البخاري نحوه من حديث ابن عباس قوله أول لعان قد اختلفت الروايات في سبب نزول آية اللعان ففي رواية أنس أنها نزلت في قصة هلال وفي أخرى أنها نزلت في قصة عويمر العجلاني ولا ريب أن أول لعان كان بنزولها لبيان الحكم وجمع بينهما بأنها نزلت في شأن هلال وصادف مجيء عويمر العجلاني وقيل غيرذلك والحديث دليل على أن الزوج إذا عجز عن البينة على ما ادعاه من ذلك الأمر وجب عليه الحد إلا أنه نسخ وجوب الحد عليه بالملاعنة وهذا من نسخ السنة بالقرآن إن كانت آية جلد القذف وهي قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} الآية سابقة نزولا على آية اللعان وإلا فآية اللعان إما ناسخة على تقدير تراخي النزول عند من يشترطه لقذف الزوج أو مخصصة إن لم يتراخ النزول أو تكون آية اللعان قرينة على أنه أريد بالعموم في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} الخصوص وهو من عدا القاذف لزوجته من باب استعمال العام في الخاص بخصوصه كذا قيل والتحقيق أن الأزواج القاذفين لأزواجهم باقون في عموم الآية وإنما جعل الله تعالى شهادة الزوج أربع شهادات قائمة مقام الأربعة الشهداء ولذا سمي الله أيمانه شهادة فقال: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} فإذا نكل عن الأيمان وجب جلده جلد القذف كما أنه إذا رمى أجنبية أجنبي ولم يأت بأربعة شهداء جلد للقذف فالأزواج باقون في عموم {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} داخلون في حكمه ولذا قال صلى الله عليه وسلم: "البينة وإلا فحد في ظهرك" وإنما أنزل الله آيات اللعان لإفادة أنه إذا فقد الزوج البينة وهم الأربعة الشهداء فقد جعل الله تعالى عوضهم الأربع الأيمان وزاد(4/16)
الخامسة للتأكيد والتشديد وجلد الزوج بالنكول قول الجمهور فكأنه قيل في الآية الأولى ثم لم يأتوا بأربعة شهداء ولم يحلفوا إن كانوا أزواجا لمن رموا
وغايته أنها قيدت الآية الثانية بعض أفراد عموم الأولى بقيد زائد عوضا عن القيد الأول إذا فقد الأول والله أعلم
3- وعن عبد الله بن عامر بن ربيعة هو أبو عمران عبد الله بن عامر القارىء الشامي كان عالما حافظا لما رواه في الطبقة الثانية من التابعين أحد القراء السبعة روى عن وائلة بن الأسقع وغيره وقرأ القرآن على المغيرة بن شهاب المخزومي عن عثمان بن عفان ولد سنة إحدى وعشرين من الهجرة ومات سنة ثماني عشرة ومائة قال لقد أدركت أبا بكر وعمر وعثمان ومن بعدهم فلم أرهم يضربون المملوك ذكرا كان أو أنثى في القذف إلا أربعين رواه مالك والثوري في جامعه دل على أن رأي من ذكر تنصيف حد القذف على المملوك ولا يخفى أن النص ورد في تنصيف حد الزنا في الإماء بقوله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} فكأنهم قاسوا عليه حد القذف في الأمة إذ كانت قاذفة وخصوا بالقياس عموم والذين يرمون المحصنات ثم قاسوا العبد على الأمة في تنصيف الحد في الزنا والقذف بجامع الملك وعلى رأي من يقول بعدم دخول المماليك في العمومات لا تخصيص إلا أنه مذهب مردود في الأصول وهذا مذهب الجماهير من علماء الأمصار وذهب ابن مسعود وعمر بن عبد العزيز إلى أنه رأي الظاهرية والتحقيق أن القياس غير تام هنا لأنهم جعلوا العلة في إلحاق العبد بالأمة الملك ولا دليل على أنه العلة إلا ما يدعونه من السير والتقسيم والحق أنه ليس من مسالك العلة وأي مانع من كون الأنوثة جزء العلة لنقص حد الأمة لأن الإماء يمتهن ويغلبن ولذا قال تعالى: {وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي لهن ولم يأت مثل ذلك في الذكور إذ لا يغلبون على أنفسهم وحينئذ نقول إنه لا يلحق العبد بالأمة في تنصيف حد الزنا ولا القذف وكذلك الأمة لا ينصف لها حد القذف بل يحد لها كحد الحرة ثمانين جلدة ودعوى الإجماع على تنصيفه في حد الزنا غير صحيحة لخلاف داود وأما في القذف فقد سمعت الخلاف منه ومن غيره
4- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قذف مملوكه يقام عليه الحد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال" متفق عليه فيه دليل على أنه لا يحد المالك في الدنيا إذا قذف مملوكه وإن كان داخلا تحت عموم آية القذف بناء على أنه لم يرد بالإحصان الحرية ولا التزوج وهو لفظ مشترك يطلق على الحر(4/17)
وعلى المحصن وعلى المسلم لأنه صلى الله عليه وسلم أخبر أنه يحد لقذفه مملوكه يوم القيامة ولو وجب حده في الدنيا لم يجب حده يوم القيامة إذ قد ورد أن هذه الحدود كفارات لمن أقيمت عليه وهذا إجماع وأما إذا قذف العبد غير مالكه فإنه أيضا أجمع العلماء على أنه لا يحد قاذفه إلا أم الولد ففيها خلاف فذهب الهادوية والشافعية و أبو حنيفة إلى أنه لا حد أيضا على قاذفها لأنها أيضا مملوكة قبل موت سيدها وذهب مالك والظاهرية إلى أنه يحد وصح ذلك عن ابن عمر(4/18)
باب حد السرقة
1- عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا" نصب على الحال ويستعمل بالفاء وبثم ولا يأتي بالواو قيل معناه ولو زاد وإذا زاد لم يكن إلا صاعدا فهو حال مؤكدة متفق عليه واللفظ لمسلم ولفظ البخاري "تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا" وفي رواية لأحمد أي عن عائشة وهي
2- "اقطعوا في ربع دينار ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك" إيجاب حد السرقة ثابت بالقرآن: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} الآية ولم يذكر في القرآن نصاب ما يقطع فيه فاختلف العلماء في مسائل الأولى هل يشترط النصاب أو لا ذهب الجمهور إلى اشتراطه مستدلين بهذه الأحاديث الثابتة وذهب الحسن والظاهرية والخوارج إلى أنه لا يشترط بل يقطع في القليل والكثير لإطلاق الآية ولما أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة أنه قال صلى الله عليه وسلم: "لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده" وأجيب بأن الآية مطلقة في جنس المسروق وقدره والحديث بيان لها وبأن المراد من حديث البيضة غير القطع بسرقتها بل الإخبار بتحقير شأن السارق وخسارة ما ربحه من السرقة وهو أنه إذا تعاطى هذه الأشياء الحقيرة وصار ذلك خلقا له جرأه على سرقة ما هو أكثر من ذلك مما يبلغ قدره ما يقطع به فليحذر هذا القليل قبل أن تملكه العادة فيتعاطى سرقة ما هو أكثر من ذلك ذكر هذا الخطابي وسبقه ابن قتيبة إليه ونظيره حديث "من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة" وحديث تصدقي "ولو بظلف محرق" ومن المعلوم أن مفحص القطاة لا يصح تسبيله ولا التصدق بالظلف المحرق لعدم الانتفاع بها فما قصد صلى الله عليه وسلم إلا المبالغة في الترهيب الثانية اختلف الجمهور في قدر النصاب بعد اشتراطهم له على أقوال بلغت إلى عشرين قولا والذي قام الدليل عليه(4/18)
منها قولان الأول أن النصاب الذي تقطع به ربع دينار من الذهب وثلاثة دراهم من الفضة وهذا مذهب فقهاء الحجاز و الشافعي وغيرهم مستدلين بحديث عائشة المذكور فإنه بيان لإطلاق الآية وقد أخرجه الشيخان كما سمعت وهو نص في ربع الدينار قالوا والثلاثة الدراهم قيمتها ربع دينار ولما يأتي من أنه صلى الله عليه وسلم قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم قال الشافعي إن الثلاثة الدراهم إذا لم تكن قيمتها ربع دينار لم توجب القطع واحتج له أيضا بما أخرجه ابن المنذر أنه أتى عثمان بسارق سرق أترجة قومت بثلاثة دراهم من حساب الدينار باثني عشر فقطع وأخرج أيضا أن عليا عليه السلام قطع في ربع دينار كانت قيمته درهمين ونصفا وقال الشافعي ربع الدينار موافق الثلاثة الدراهم وذلك أن الصرف على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنا عشر درهما بدينار وكان كذلك بعده ولهذا قومت الدية اثني عشر ألفا من الورق وألف دينار من الذهب القول الثاني للهادوية وأكثر فقهاء العراق أنه لا يوجب القطع إلا سرقة عشرة دراهم ولا يجب في أقل من ذلك واستدلوا لذلك بما أخرجه البيهقي والطحاوي من طريق محمد بن إسحاق من حديث ابن عباس أنه كان ثمن المجن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم وروى أيضا محمد بن إسحاق من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مثله قالوا وقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قطع في مجن وإن كان فيهما أن قيمته ثلاثة دراهم لكن هذه الرواية قد عارضت رواية الصحيحين والواجب الاحتياط فيما يستباح به العضو المحرم قطعه إلا بحقه فيجب الأخذ بالمتيقن وهو الأكثر وقال ابن العربي: ذهب سفيان الثوري مع جلالته في الحديث إلى أن القطع لا يكون إلا في عشرة دراهم وذلك أن اليد محرمة بالإجماع فلا تستباح إلا بما أجمع عليه والعشرة متفق على القطع بها عند الجميع فيتمسك به ما لم يقع الاتفاق على دون ذلك قلت قد أستفيد من هذه الروايات الاضطراب في قدر قيمة المجن من ثلاثة دراهم أو عشرة أو غير ذلك مما ورد في قدر قيمته ورواية ربع دينار في حديث عائشة صريحة في المقدار فلا يقدم عليها ما فيه اضطراب على أن الراجح أن قيمة المجن ثلاثة دراهم لما يأتي من حديث ابن عمر المتفق عليه وباقي الأحاديث المخالفة له لا تقاومه سندا وأما الاحتياط بعد ثبوت الدليل فهو في اتباع الدليل لا فيما عداه على أن رواية التقدير لقيمة المجن بالعشرة جاءت من طريق ابن إسحق ومن طريق عمرو بن شعيب وفيها كلام معروف وإن كنا لا نرى القدح في ابن إسحق إنما ذكروه كما قررناه في مواضع أخر المسألة الثالثة اختلف القائلون بشرطية النصاب فيما يقدر به غير الذهب والفضة فقال مالك في المشهور يقوم بالدراهم لا بربع الدينار يعني إذا اختلف صرفها مثل أن يكون ربع دينار صرف درهمين مثلا وقال الشافعي الأصل في تقويم الأشياء هو الذهب(4/19)
لأنه الأصل في جواهر الأرض كلها قال الخطابي ولذلك فإن الصكاك القديمة كان يكتب فيها عشرة دراهم وزن سبعة مثاقيل فعرفت الدارهم بالدنانير وحصرت بها حتى قال الشافعي إن الثلاثة الدراهم إذا لم تكن قيمتها ربع دينار لم توجب القطع كما قدمنا وقال بقول الشافعي في التقويم أبو ثور والأوزاعي وداود وقال أحمد بقول مالك في التقويم بالدراهم وهذان القولان في قدر النصاب تفرعا عن الدليل كما عرفت وفي الباب أقوال كما قدمنا لم ينهض لها دليل فلا حاجة إلى شغل الأوراق والأوقات بالقال والقيل
3- وعن ابن عمر رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم" متفق عليه المجن بكسر الجيم الترس مفعل من الاجتنان وهو الاستتار والاختفاء وكسرت ميمه لأنه آلة في الاستتار قال:
وكان مجني دون من كنت أتقي ... ثلاث شخوص كاعبان ومغفري
وقد عرفت مما مضى أن الثلاثة الدراهم ربع دينار ويدل له قوله وفي رواية حصول ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك بعد أن ذكر القطع في ربع الدينار ثم أخبر الراوي هنا أنه صلى الله عليه وسلم قطع في ثلاثة دراهم ما ذاك إلا لأنها ربع دينار وإلا لنا في قوله ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك وقوله هنا قيمته هذا هو المعتبر أعني القيمة وورد في بعض ألفاظ هذا الحديث عمد الشيخين بلفظ ثمنه ثلاثة دراهم
قال ابن دقيق العيد: المعتبر القيمة وما ورد في بعض الروايات من ذكر الثمن فكأنه لتساويهما عند الناس في ذلك الوقت أو في عرف الراوي أو باعتبار الغلبة وإلا فلو اختلفت القيمة والثمن الذي شراه به مالكه لم يعتبر إلا القيمة
4- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده" متفق عليه أيضا تقدم أنه من أدلة الظاهرية ولكنه مؤول بما ذكر قريبا والموجب لتأويله ما عرفته من قوله في المتفق عليه "لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار" وقوله فيما أخرجه أحمد ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك فتعين تأويله بما ذكرناه وأما تأويل الأعمش له بأنه أريد بالبيضة بيضة الحديد وبالحبل حبل السفن فغير صحيح لأن الحديث ظاهر في التهجين على السارق لتفويته العظيم بالحقير قيل فالوجه في تأويله أن قوله لتقطع خبر لا أمر ولا فعل وذلك ليس بدليل لجواز أن يريد صلى الله عليه وسلم أنه يقطعه من لا يراعي النصاب أو بشهادة على النصاب ولا يصح إلا دونه أو نحو ذلك
5- وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال مخاطبا لأسامة: "أتشفع في حد من حدود الله؟" ثم قام فخطب فقال: "أيها الناس إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد" متفق عليه واللفظ لمسلم وله من(4/20)
وجه آخر عن عائشة قالت: كانت امرأة تستعير المتاع وتجحده فأمر النبي صلى الله عليه وسلم فتكون يدها الخطاب في قوله: "أتشفع" لأسامة بن زيد كما يدل له ما في البخاري أن قريشا أهمتهم المرأة المخزومية التي سرقت قالوا من يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن يجترىء عليه إلا أسامة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "أتشفع" الحديث وهذا استفهام إنكار وكأنه قد سبق علم أسامة بأنه لا شفاعة في حد وفي الحديث مسألتان الأولى النهي عن الشفاعة في الحدود وترجم البخاري في باب كراهية الشفاعة في الحد إذا رفع إلى السلطان وقد دل لما قيده من أن الكراهة بعد الرفع ما في بعض روايات هذا الحديث فإنه صلى الله عليه وسلم قال لأسامة "لما تشفع لا تشفع في حد فإن الحدود إذا انتهت إلي فليس بمتروكة" وأخرج أبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده يرفعه تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب وصححه الحاكم وأخرج أبو داود والحاكم وصححه من حديث ابن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من حالت شفاعته دن حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره" وأخرج ابن أبي شيبة من وجه أصح عن ابن عمر موقوفا وفي الطبراني من حديث أبي هريرة مرفوعا بلفظ فقد ضاد الله في ملكه وأخرج الدارقطني من حديث الزبير موصولا بلفظ اشفعوا ما لم يصل إلى الوالي فإذا وصل إلى الوالي فعفا فلا عفا الله عنه وأخرج الطبراني عن عروة بن الزبير قال لقي الزبير سارقا فشفع فيه فقيل حتى يبلغ الإمام فقال إذا بلغ الإمام فلعن الله الشافع والمشفع قيل وهذا الموقوف هو المعتمد وتأتي قصة الذي سرق رداء صفوان ورفعه إليه صلى الله عليه سلم ثم أراد أن لا يقطعه فقال صلى الله عليه سلم: "هلا قبل أن تأتيني به" ويأتي من أخرجه وهذه الأحاديث متعاضدة على تحريم الشفاعة بعد البلوغ إلى الإمام وأنه يجب على الإمام إقامة الحد وادعى ابن عبد البر الإجماع على ذلك ومثله في البحر ونقل الخطابي عن مالك أنه فرق بين من عرف بأذية الناس وغيره فقال لا يشفع في الأول مطلقا وفي الثاني تحسن الشفاعة قبل الرفع وفي حديث عن عائشة أقيلوا ذوي الهيئات إلا في الحدود ما يدل على جواز الشفاعة في التعزيرات لا في الحدود ونقل ابن عبد البر الاتفاق على ذلك المسألة الثانية في قوله كانت امرأة تستعير المتاع وتجحده وأخرجه النسائي بلفظ استعارت امرأة على ألسنة ناس يعرفون وهي لا تعرف فباعته وأخذت ثمنه وأخرجه عبد الرزاق بسند صحيح إلى أبي بكر بن عبد الرحمن أن امرأة جاءت فقالت إن فلانة تستعير حليا فأعارتها إياه فمكثت لا تراه فجاءت إلى التي استعارت لها فسألتها فقالت ما استعرتك شيئا فرجعت إلى الأخرى فأنكرت فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فدعاها فسألها فقالت والذي بعثك بالحق ما استعرت منها شيئا فقال: "اذهبوا إلى بيتها تجدوه تحت فراشها فأتوه وأخذوه فأمر بها فقطعت" والحديث دليل على أنه يجب القطع على جحد العارية وهو مذهب أحمد وإسحاق والظاهرية ووجه دلالة الحديث على ذلك واضحة فإنه صلى الله عليه سلم رتب القطع على جحد العارية وقال ابن دقيق العيد إنه لا يثبت الحكم المرتب على الجحود(4/21)
حتى يتبين ترجيح رواية من روى أنها كانت جاحدة على رواية من روى أنها كانت سارقة وذهب الجماهير أنه لا يجب القطع في جحد العارية قالوا لأن الآية في السارق والجاحد لا يسمى سارقا ورد هذا ابن القيم وقال إن الجحد داخل في اسم السرقة قلت أما دخول الجاحد تحت لفظ السارق لغة فلا تساعده عليه اللغة وأما الدليل فثبوت قطع الجاحد بهذا الحديث قال الجمهور وحديث المخزومية قد ورد بلفظ أنها سرقت من طريق عائشة وجابر وعروة بن الزبير ومسعود بن الأسود أخرجه البخاري ومسلم والبيهقي وغيرهم مصرحا بذكر السرقة قالوا فقد تقرر أنها سرقت ورواية جحد العارية لا تدل على أن القطع كان لها بل إنما ذكر جحدها العارية لأنه قد صار خلقا لها معروفا فعرفت المرأة به والقطع كان للسرقة وهذا خلاصة ما أجاب به الخطابي ولا يخفى تكلفه ثم هو مبني على أن المعبر عنه امرأة واحدة وليس في الحديث ما يدل على ذلك لكن في عبارة المصنف ما يشعر بذلك فإنه جعل الذي ذكره ثانيا رواية وهو يقتضي من حيث الإشعار العادي أنهما حديث واحد أشار إليه ابن دقيق العيد في شرح العمدة والمصنف هنا صنع ما صنعه صاحب العمدة في سياق الحديث عند قال الجمهور ويؤيد ما ذهبنا إليه الحديث الآتي وهو قوله
6- وعن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع" رواه أحمد والأربعة وصححه الترمذي وابن حبان قالوا وجاحد العارية خائن ولا يخفى أن هذا عام لكل خائن ولكنه مخصص بجاحد العارية ويكون القطع فيمن جحد العارية لا غيره من الخونة وقد ذهب بعض العلماء إلى أنه يخص القطع بمن استعار على لسان غيره مخادعا للمستعار منه ثم تصرف في العارية وأنكرها لما طولب بها قال فإن هذا لا يقطع بمجرد الخيانة بل لمشاركة السارق في أخذ المال خفية والحديث فيه كلام كثير لعلماء الحديث وقد صححه من سمعت وهذا دال على أن الخائن لا قطع عليه والمراد بالخائن الذي يضمر ما لا يظهره في نفسه والخائن هنا هو الذي يأخذ المال خفية من مالكه مع إظهاره له النصيحة والحفظ والخائن أعم فإنها تكون الخيانة في غير المال ومنه خائنة الأعين وهي مسارقة الناظر بطرفه ما لا يحل له نظره والمنتهب المغير من النهبة وهي الغارة والسلب وكأن المراد هنا ما كان على جهة الغلبة والقهر والمختلس السالب من اختلسه إذا سلبه واعلم أن العلماء اختلفوا في شرطية أن تكون السرقة في حرز فذهب أحمد بن حنبل وإسحاق وهو قول للناصر والخوارج إلى أنه لا يشترط لعدم ورود الدليل باشتراطه من السنة ولإطلاق الآية وذهب غيرهم إلى اشتراطه مستدلين بهذا الحديث إذ مفهومه لزوم القطع فيما أخذ بغير ما ذكر وهو ما كان عن خفية وأجيب بأن هذا مفهوم ولا تثبت به قاعدة يقيد بها القرآن ويؤيد عدم اعتباره أنه صلى الله عليه وسلم قطع يد من أخذ رداء صفوان من تحت رأسه من المسجد الحرام وبأنه صلى الله عليه وسلم قطع يد المخزومية وإنما كانت تجحد(4/22)
ما تستعيره وقال ابن بطال: كم مأخوذ في مفهوم السرقة لغة فإن صح فلا بد من التوفيق بينه وبين ما ذكر مما لا يدل على اعتبار الحرز فالمسألة كما ترى والأصل عدم الشرط وأنا أستخير الله وأتوقف حتى يفتح الله
7- وعن رافع بن خديج رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا قطع في ثمر ولا كثر" هو بفتح الكاف وفتح المثلثة جمار النخل وهو شحمه الذي في وسط النخلة كما في النهاية رواه المذكورون وهم أحمد والأربعة وصححه أيضا الترمذي وابن حبان كما صححا ما قبله قال الطحاوي الحديث تلقته الأمة بالقبول والثمر المراد به ما كان معلقا في النخل قبل أن يجذ ويحرز وعلى هذا تأوله الشافعي وقال حوائط المدينة ليست بحرز وأكثرها تدخل من جوانبها والثمر اسم جامع للرطب واليابس من الرطب والعنب وغيرهما كما في البدر المنير وأما الكثر فوقع تفسيره في رواية النسائي بالجمار والجمار بالجيم آخره راء بزنة رمان وهو شحم النخل الذي في وسط النخلة كما في النهاية والحديث فيه دليل على أنه لا يجوز القطع في سرقة الثمر والكثر وظاهره سواء كان على ظهر المنبت له أو قد جذ وإلى هذا ذهب أبو حنيفة قال في نهاية المجتهد قال أبوحنيفة لا قطع في طعام ولا فيما أصله مباح كالصيد والحطب والحشيش وعمدته في منعه القطع في الطعام الرطب قوله صلى الله عليه وسلم "لا قطع في ثمر ولا كثر" وعند الجمهور أنه يقطع في كل محرز سواء كان على أصله باقيا أو قد جذ سواء كان أصله مباحا كالحشيش ونحوه أولا قالوا لعموم الآية والأحاديث الواردة في اشتراط النصاب وأما حديث لا قطع في ثمر ولا كثر فقال الشافعي إنه أخرج على ما كان عليه عادة أهل المدينة من عدم إحراز حوائطها فترك القطع لعدم الحرز فإذا أحرزت الحوائط كانت كغيرها
8- وعن أبي أمية المخزومي رضي الله عنه لا يعرف له اسم عداده في أهل الحجاز وروى عنه أبو المنذر مولى أبي ذر هذا الحديث قال أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بلص قد اعترف اعترافا ولم يوجد معه متاع فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما إخالك سرقت" قال بلى "فأعاد عليه مرتين أو ثلاثا فأمر به فقطع" وجيء به فقال: "استغفر الله وتب إليه" فقال أستغفر الله وأتوب إليه فقال: "اللهم تب عليه ثلاثا" أخرجه أبو داود واللفظ له وأحمد والنسائي ورجاله ثقات وقال الخطابي في إسناده مقال والحديث إذا رواه مجهول لم يكن حجة ولم يجب الحكم به قال عبد الحق أبو المنذر المذكور في إسناده لم يرو عنه إلا إسحق بن عبد الله بن أبي طلحة وفي الحديث دليل على أنه ينبغي للإمام تلقين السارق الإنكار وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسارق أسرقت قل لا قال الرافعي لم يصححوا هذا الحديث وقال الغزالي قوله قل لا لم يصححه الأئمة وروى البيهقي موقوفا على أبي الدرداء أنه أتي بجارية سرقت فقال أسرقت قولي لا فقالت لا فخلى سبيلها وروى عبد الرزاق عن عمر أنه أتي برجل سرق فسأله أسرقت قل لا(4/23)
فقال لا فتركه وساق روايات عن الصحابة دالة على التلقين واختلف في إقرار السارق فذهبت الهادوية و أحمد وإسحاق إلى أنه لا بد في ثبوت السرقة بالإقرار من إقراره مرتين وكأن هذا دليلهم ولا دلالة فيه لأنه خرج مخرج الاستثبات وتلقين المسقط ولأنه تردد الراوي هل مرتين أو ثلاثا وكان طريق الاحتياط لهم أن يشترطوا الإقرار ثلاثا ولم يقولوا به وذهب الفريقان وغيرهم إلى أنه يكفي الإقرار مرة واحدة كسائر الأقارير ولأنها قد وردت عدة روايات لم يذكر فيها اشتراط عدد الإقرار
9- وأخرجه أي حديث أبي أمية الحاكم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه فساقه بمعناه وقال فيه "اذهبوا به فاقطعوه ثم احسموه" بالمهملتين وأخرجه البزار أيضا أي من حديث أبي هريرة وقال لا بأس بإسناده الحديث دال على وجوب حسم ما قطع والحسم الكي بالنار أي يكوى محل القطع لينقطع الدم لأن منافذ الدم تنسد وإذا ترك فربما استرسل الدم فيؤدي إلى التلف وفي الحديث دلالة على أنه يأمر بالقطع والحسم الإمام وأجرة القاطع والحاسم من بيت المال وقيمة الدواء الذي يحسم به منه لأن ذلك واجب على غيره
فائدة: من السنة أن تعلق يد السارق في عنقه لما أخرجه البيهقي بسنده من حديث فضالة بن عبيد أنه سئل أرأيت تعليق يد السارق في عنقه من السنة قال نعم "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم قطع سارقا ثم أمر بيده فعلقت في عنقه" وأخرج بسنده أن عليا رضي الله عنه قطع سارقا فمر به ويده معلقة في عنقه وأخرج عنه أيضا أنه أقر عنده سارق مرتين فقطع يده وعلقها في عنقه قال الراوي فكأني أنظر إلى يده تضرب صدره
10- وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يغرم السارق إذا أقيم عليه الحد" رواه النسائي وبين أنه منقطع وقال أبو حاتم هو منكر رواه النسائي من حديث المسور بن إبراهيم عن عبد الرحمن بن عوف والمسور لم يدرك جده عبد الرحمن بن عوف قال النسائي هذا مرسل وليس بثابت وكذا أخرجه البيهقي وذكر له علة أخرى وفي الحديث دليل على أن العين المسروقة إذا تلفت في يد السارق لم يغرمها بعد أن وجب عليه القطع سواء أتلفها قبل القطع أو بعده وإلى هذا ذهب الهادوية ورواه أبو يوسف عن أبي حنيفة وفي شرح الكنز على مذهبه تعليل ذلك بأن اجتماع حقين في حق واحد مخالف للأصول فصار القطع بدلا من الغرم ولذلك ثنى سرقة ما قطع به لم يقطع وذهب الشافعي وأحمد وآخرون ورواية عن أبي حنيفة إلى أنه يغرم لقوله صلى الله عليه وسلم "على اليد ما أخذت حتى تؤديه" وحديث عبد الرحمن هذا لا تقوم به حجة مع ما قيل فيه ولقوله تعالى: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} و "لا يحل مال امرىء مسلم(4/24)
إلا بطيبة من نفسه" ولأنه اجتمع في السرقة حقان حق لله تعالى وحق للآدمي فاقتضى كل حق موجبه ولأنه قام الإجماع أنه إذا كان موجودا بعينه أخذ منه فيكون إذا لم يوجد في ضمانه قياسا على سائر الأموال الواجبة وقوله اجتماع الحقين مخالف للأصول الدعوه غير صحيحة فإن الحقين مختلفان فإن القطع بحكمة الزجر والتغريم لتفويت حق الآدمي كما في الغصب ولا يخفى قوة هذا القول
11- وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما عن رسول الله صلى الله عليه سلم أنه سئل عن التمر المعلق فقال: "من أصاب بفيه من ذي حاجة غير متخذ خبنة" بضم الخاء المعجمة وسكون الموحدة فنون وهو معطف الإزار وطرف الثوب "فلا شيء عليه ومن خرج بشيء منه فعليه الغرامة والعقوبة ومن خرج بشيء منه بعد أن يؤويه الجرين" هو موضع التمر الذي يجفف فيه "فبلغ ثمن المجن فعليه القطع" أخرجه أبو داود والنسائي وصححه الحاكم قال المنذري المراد بالثمر المعلق ما كان معلقا في النخل قبل أن يجد ويجرن والثمر اسم جامع للرطب واليابس من التمر والعنب وغيرهما
وفي الحديث مسائل:
الأولى: أنه إذا أخذ المحتاج بفيه لسد فاقته فإنه مباح له
والثانية: أنه يحرم عليه الخروج بشيء منه فإن خرج بشيء منه فلا سواده أن يكون قبل أن يجده ويؤويه الجرين أو بعده فإن كان قبل الجذ فعليه الغرامة والعقوبة وإن كان بعد القطع وإيواء الجرين له فعليه القطع مع بلوغ المأخوذ النصاب لقوله صلى الله عليه وسلم فبلغ ثمن المجن وهذا مبني على أن الجرين حزركما هو الغالب إذ لا قطع إلا من حرز كما يأتي الثالثة: أنه أجمل في الحديث الغرامة والعقوبة ولكنه قد أخرج البيهقي تفسيرها بأنها غرامة مثليه وبأن العقوبة جلدات نكالا وقد استدل بحديث البيهقي هذا على جواز العقوبة بالمال فإن غرامة مثليه بالمال وقد أجازه الشافعي في القديم ثم رجع عنه وقال لا تضاعف الغرامة على أحد في شيء إنما العقوبه في الأبدان لا في الأموال وقال هذا منسوخ والناسخ له قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الماشية بالليل أن ما أتلفت فهو ضامن على أهلها قال وإنما يضمنونه بالقيمة وقد قدمنا الكلام في ذلك في حديث بهز في الزكاة الرابعة: أخذ منه اشتراط كم في وجوب القطع لقوله صلى الله عليه وسلم بعد أن يؤويه الجرين وقوله في الحديث الآخر " لا قطع في ثمر ولا في حريسة الجبل فإذا آواه الجرين أو المراح فالقطع فيما بلغ ثمن المجن" أخرجه النسائي قالوا والإحراز مأخوذ في مفهوم السرقة فإن السرقة والاستراق هو المجيء مستترا في خفية لأخذ مال غيره من حرز كما في القاموس وغيره فالحرز مأخوذ في مفهوم السرقة لغة ولذا لا يقال لمن خان أمانته سارق هذا مذهب الجمهور وذهبت الظاهرية وآخرون إلى عدم اشتراطه عملا بإطلاق الآية الكريمة إلا أنه لا يخفى أنه إذا كان الحرز مأخوذا في مفهوم السرقة فلا إطلاق في الآية والله أعلم(4/25)
واعلم أن حريسة الجبل بالحاء المهملة مفتوحة فراء فمثناة تحتية فسين مهملة والجبل بالجيم فموحدة قيل هي المحروسة أي ليس فيما يحرس بالجبل إذا سرق قطع لأنه ليس بموضع حرز وقيل حريسة الجبل المثناة التي يدركها الليل قبل أن تصل إلى مأواها والمراح الذي تأوي إليه الماشية ليلا كذا في جامع الأصول وهذا الأخير أقرب بمراد الحديث والله أعلم
12- وعن صفوان بن أمية رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له لما أمر بقطع الذي سرق رداءه فشفع فيه: "هلا كان ذلك قبل أن تأتيني به" أخرجه أحمد والأربعة وصححه ابن الجارود والحاكم الحديث أخرجوه من طرق منها عن طاوس عن صفوان ورجحها ابن عبد البر وقال إن سماع طاوس من صفوان ممكن لأنه أدرك عثمان وقال أدركت سبعين شيخا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه سلم وللحديث قصة أخرج البيهقي عن عطاء بن أبي رباح قال بينما صفوان بن أمية مضطجع بالبطحاء إذ جاء إنسان فأخذ بردائه من تحت رأسه فأتي به النبي صلى الله عليه سلم فأمر بقطعه فقال إني أعفو وأتجاوز فقال: "فهلا قبل أن تأتيني به" وله ألفاظ في بعضها أنه كان في المسجد الحرام وفي أخرى في مسجد المدينة نائما وفي الحديث دليل على أنها تقطع يد السارق فيما كان مالكه حافظا له وإن لم يكن مغلقا عليه في مكان قال الشافعي: رداء صفوان كان محرزا باضطجاعه عليه وإلى هذا ذهب الشافعي والحنفية والمالكية وقال في نهاية المجتهد: وإذا توسد النائم شيئا فتوسده له حرز على ما جاء في رداء صفوان قال في الكنز للحنفية ومن سرق من المسجد متاعا وربه عنده يقطع وإن كان غير محرز بالحائط لأن المسجد ما بني لإحراز الأموال فلم يكن المال محرزا بالمكان انتهى وتقدم الخلاف فالحرز واختلف القائلون بشرطيته فقال الشافعي ومالك والإمام يحيى: إن لكل مال حرزا يخصه فحرز الماشية ليس حرز الذهب والفضة وقال الهادوية والحنفية ما أحرز فيه مال فهو حرز لغيره إذ الحرز ما وضع لمنع الداخل ألا يدخل والخارج ألا يخرج وما كان ليس كذلك فليس بحرز لا لغة ولاشرعا وكذلك قالوا المسجد والكعبة حرزان لآلاتهما وكسوتهما واختلفوا في القبر هل هو حرز للكفن فيقطع آخذه أو ليس بحرز فذهب إلى أن النباش سارق جماعة من السلف والهادي والشافعي ومالك وقالوا يقطع لأنه أخذ المال خفية من حرز له وقد روي عن علي عليه السلام وعائشة وقال الثوري وأبو حنيفة لا يقطع النباش لأن القبر ليس بحرز وفي المنار هذه المسألة فيها صعوبة لأن حرمة الميت كحرمة الحي لكن حرمة يد السارق كذلك الأصل منعها ولم يدخل النباش تحت السارق لغة والقياس الشرعي غير واضح وإذا توقفنا امتنع القطع انتهى واختلف في السارق من بيت المال فذهبت الهادوية و الشافعي وأبو حنيفة إلى أنه لا يقطع من سرق من بيت المال وروي عن عمر وذهب مالك إلى أنه يقطع واتفقوا على أنه لا يقطع من سرق من الغنيمة والخمس وإن لم يكن من أهلها قالوا لأنه قد يشارك فيها بالرضخ أو من الخمس(4/26)
13- وعن جابر رضي الله عنه قال جيء بسارق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "اقتلوه" فقال إنما سرق يا رسول الله قال: "اقطعوه" فقطع ثم جيء به الثانية فقال: "اقتلوه" فذكر مثله ثم جيء به الثالثة فذكر مثله ثم جيء به الرابعة كذلك ثم جيء به الخامسة فقال "اقتلوه" أخرجه أبو داود والنسائي تمامه ثمهما فقال جابر فانطلقنا به فقتلناه ثم اجتررناه فألقيناه في بئر ورمينا عليه الحجارة واستنكره أي النسائي فإنه قال الحديث منكر ومصعب بن ثابت ليس بقوي في الحديث قيل لكن يشهد له الحديث الآتي وهو قوله
14- وأخرج أي النسائي من حديث الحارث بن حاطب نحوه وأخرج حديث الحرث الحاكم وأخرج في الحلية لأبي نعيم عن عبد الله بن زيد الجهني قال ابن عبد البر حيث القتل منكر لا أصل له وذكر الشافعي أن القتل في الخامسة منسوخ وزاد ابن عبد البر في كلام الشافعي لا خلاف فيه بين أهل العلم وفي النجم الوهاج إن ناسخه حديث لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث تقدم قال ابن عبد البر وهذا يدل على أن حكاية أبي مصعب عن عثمان وعمر بن عبد العزيز أنه يقتل لا أصل له وجاء في رواية النسائي بعد قطع قوائمه الأربع ثم سرق الخامسة في عهد أبي بكر رضي الله عنه فقال أبو بكر كان رسول الله صلى الله عليه سلم أعلم بهذا حين قال اقتلوه ثم دفعه إلى فتية من قريش فقال اقتلوه فقتلوه قال النسائي لا أعلم في هذا الباب حديثا صحيحا والحديث دليل على قتل السارق في الخامسة وأن قوائمه الأربع تقطع في الأربع المرات والواجب قطع اليمين في السرقة الأولى إجماعا وقراءة ابن مسعود مبينة لإجمال الآية فإنه قرأ فاقطعوا أيمانهما وفي الثانية الرجل اليسرى عند الأكثر لفعل الصحابة وعند طاووس اليد اليسرى لقربها من اليمنى وفي الثالثة يده اليسرى وفي الرابعة رجله اليمنى وهذا عند الشافعي ومالك وأخرجه الدارقطني من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وعلى وسلم قال في السارق إن سرق فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا رجله ثم إن سرق فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا رجله وفي إسناده الواقدي وأخرجه الشافعي من وجه آخر عن أبي هريرة مرفوعا وأخرج الطبراني والدارقطني نحوه في عصمة بن مالك وإسناده ضعيف وخالفت الهادوية والحنفية فقالوا يحبس في الثالثة لما رواه البيهقي من حديث علي رضي الله عنه أنه قال بعد أن قطع رجله وأتي به في الثالثة بأي شيء يتمسح وبأي شيء يأكل لما قيل له تقطع يده اليسرى ثم قال أقطع رجله على أي شيء يمشي إني لأستحي من الله ثم ضربه وخلد في السجن وأجاب الأولون بأن هذا رأي لا يقاوم النصوص وإن كان المنصوص فيه ضعف فقد عاضدته الروايات الأخرى وأما محل القطع فيكون من مفصل الكف إذ هو أقل ما يسمى يدا ولفعله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الدارقطني من حديث عمرو بن شعيب أتي النبي صلى الله عليه وسلم بسارق فقطع يده من مفصل الكف وفي إسناده مجهول وأخرج ابن أبي شيبة من مرسل رجاء بن حيوة أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع(4/27)
من المفصل وأخرجه أبو الشيخ من وجه آخر عن رجاء عن عدي رفعه وعن جابر رفعه وأخرجه سعيد بن منصور عن عمر وقالت الإمامية ويروى عن علي عليه السلام أنه يقطع من أصول الأصابع إذ هو أقل ما يسمى يدا ورد ذلك بأنه لا يقال لمن قطعت أصابعه مقطوع اليد لا لغة ولا عرفا وإنما يقال مقطوع الأصابع وقد اختلفت الرواية عن علي عليه السلام فروي أنه كان يقطع من يد السارق الخنصر والبنصر والوسطى وقال الزهري والخوارج إنه يقطع من الإبط إذ هو اليد حقيقة والأقوى الأول لدليله المأثور وأما محل قطع الرجل فتقطع من مفصل القدم وروي عن علي عليه السلام أنه كان يقطع الرجل من الكعب وروي عنه وهو للإمامية أنه من معقد الشراك
(خاتمة) أخرج أحمد وأبو داود عن عطاء عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها وقد دعت على سارق سرقها ملحفة "لا تسبخي عنه بدعائك عليه" ومعناه لا تخففي عنه الإثم الذي يستحقه بالسرقة وهذا يدل على أن الظالم يخفف عنه بدعاء المظلوم عليه وروى أحمد في كتاب الزهد عن عمر بن عبد العزيز أنه قال بلغني أن الرجل ليظلم مظلمة فلا يزال المظلوم يشتم الظالم وينتقصه حتى يستوفي حقه ويكون للظالم الفضل عليه وفي الترمذي عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من دعا على من ظلمه فقد انتصر" فإن قيل قد مدح الله المنتصر من البغي ومدح العافي عن الجرم قال ابن العربي فالجواب أن الأول محمول على ما إذا كان الباغي وقحا ذا جرأة وفجور والثاني على من وقع منه ذلك نادرا فتقال عثرته بالعفو عنه وقال الواحدي إن كان الانتصار لأجل الدين فهو محمود وإن كان لأجل النفس فهو مباح لا يحمد عليه واختلف العلماء في التحليل من الظلامة على ثلاثة أقوال كان ابن المسيب لا يحلل أحدا من عرض ولا مال وكان سليمان بن يسار وابن سيرين يحللان منهما ورأى مالك التحليل من العرض دون المال(4/28)
باب حد الشارب وبيان المسكر
1- عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي برجل قد شرب الخمر فجلده بجريدتين نحو أربعين قال أي أنس وفعله أبو بكر فلما كان عمر استشار الناس فقال عبد الرحمن بن عوف أخف الحدود ثمانون فأمر به عمر متفق عليه الخمر مصدر خمر كضرب ونصر خمرا يسمى به الشراب المعتصر من العنب إذا غلي وقذف بالزبد وهي مؤنثة وتذكر ويقال خمرة وفي الحديث مسائل الأولى أن تطلق على ما ذكر حقيقة إجماعا وتطلق على ما هو أعم من ذلك وهو ما أسكر من العصير أو من النبيذ أومن غير ذلك وإنما اختلف العلماء هل هذا الإطلاق حقيقة أو لا قال صاحب القاموس العموم أصح لأنها حرمت وما بالمدينة خمر عنب ما كان إلا البسر والتمر انتهى وكأنه يريد أن العموم حقيقة وسميت خمرا قيل لأنها تخمر العقل أي تستره فيكون بمعنى اسم الفاعل أي الساترة للعقل وقيل لأنها تغطى حتى تشتد يقال خمره(4/28)
أي غطاه فيكون بمعنى اسم المفعول وقيل لأنها تخالط العقل من خامره إذا خالطه ومنه هنيئا مريئا غير داء مخامر أي مخالط وقيل لأنها تترك حتى تدرك ومنه اختمر العجين أي بلغ إدراكه وقيل مأخوذة من الكل لاجتماع المعاني هذه فيها قال ابن عبد البر الأوجه كلها موجده في الخمر لأنها نزعت حتى أدركت وسكنت فإذا شربت خالطت العقل حتى تغلب عليه وتغطيه قلت فالخمر تطلق على عصير العنب المشتد حقيقة إجماعا وفي النجم الوهاج الخمر بالإجماع المسكر من عصير العنب وإن لم يقذف بالزبد واشترط أبو حنيفة أن يقذف وحينئذ لا يكون مجمعا عليه واختلف أصحابنا في وقوع الخمر على الأنبذة فقال المزني وجماعة بذلك لأن الاشتراك في الصفة يقتضي الاشتراك في الاسم وهو قياس في اللغة وهو جائز عند الأكثر وهو ظاهر الأحاديث ونسبه الرافعي إلى الأكثرين أنه لا يقع عليها إلا مجازا قلت وبه جزم ابن سيده في المحكم وجزم به صاحب الهداية من الحنفية حيث قال الخمر عندنا ما اعتصر من ماء العنب إذا اشتد وهو المعروف عند أهل اللغة وأهل العلم ورد ذلك الخطابي وقال زعم قوم أن العرب لا تعرف الخمر إلا من العنب فيقال لهم إن الصحابة الذين سموا غير المتخذ من العنب خمرا عرب فصحاء فلو لم يكن الاسم صحيحا لما أطلقوه وقال القرطبي الأحاديث الواردة عن أنس وغيره على صحتها وكثرتها تبطل مذهب الكوفيين القائلين بأن الخمر لا تكون إلا من العنب وما كان من غيره لا يسمى خمرا ولا يتناوله اسم الخمر وهو قول مخالف للغة العرب للسنة الصحيحة ولفهم الصحابة لأنهم لما نزل تحريم الخمر فهموا من الأمر باجتناب الخمر تحريم كل مسكر ولم يفرقوا بين ما يتخذ من العنب وبين ما يتخذ من غيره بل سووا بينهما وحرموا ما كان من غير عصير العنب وهم أهل اللسان وبلغتهم نزل القرآن فلو كان عندهم فيه تردد لتوقفوا عن الإراقة حتى يستفصلوا ويتحققوا التحريم ويأتي حديث عمر أنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة الحديث وعمر من أهل اللغة وإن كان يحتمل أنه أراد بيان ما تعلق به التحريم لا أنه المسمى في اللغة لأنه بصدد بيان الأحكام الشرعية ولعل ذلك صار أعطى شرعيا لهذا النوع فيكون حقيقة شرعية ويدل له حديث مسلم عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "كل مسكر خمر وكل خمر حرام"
قال الخطابي: إن الآية لما نزلت في تحريم الخمر وكان مسماها مجهولا للمخاطبين بين أن مسماها هو ما أسكر فيكون مثل لفظ الصلاة والزكاة وغيرهما من الحقائق الشرعية انتهى قلت هذا يخالف ما سلف عنه قريبا ولا يخفى ضعف هذا الكلام فإن الخمر كانت من أشهر الأشربة عند العرب واسمها أشهر من كل شيء عندهم وليست كالصلاة والزكاة وأشعارهم فيها لا تحصى فكأنه يريد أنه ما كان تعميم الاسم بلفظ الخمر لكل مسكر معروفا عندهم فعرفهم به الشرع فإنهم كانوا يسمون بعض المسكرات بغير لفظ الخمر كالأمزاز يضيفونها إلى ما يتخذ منه من ذرة وشعير ونحوهما ولا يطلقون عليه لفظ الخمر فجاء الشرع بتعميم الاسم لكل مسكر فتحصل مما ذكر جميعا أن الخمر حقيقة لغوية في عصير العنب المشتد الذي يقذف(4/29)
بالزبد وفي غيره مما يسكر حقيقة شرعية أو قياس في اللغة أو مجاز فقد حصل المقصود من تحريم ما أسكر من ماء العنب أو غيره إما بنقل اللفظ إلى الحقيقة الشرعية أو بغيره وقد علمت أنه أطلق عمر وغيره من الصحابة الخمر على كل ما أسكر وهم أهل اللسان والأصل الحقيقة فقد أحسن صاحب القاموس بقوله والعموم أصح وأما الدعاوى التي تقدمت على اللغة كما قاله ابن سيده وشارح الكنز فما أظنها إلا بعد تقرير هذه المذاهب إذنه تكلم كل على ما يعتقده ونزل في قلبه من مذهبه ثم جعله لأهل اللغة المسألة الثانية قوله فجلده بجريدتين نحو أربعين فيه دليل على ثبوت الحد على شارب الخمر وادعى فيه الإجماع ونوزع في دعواه لأنه قد نقل عن طائفة من أهل العلم أنه لا يجب فيه إلا التعزير لأنه صلى الله عليه وسلم لم ينص على حد معين وإنما ثبت عنه الضرب المطلق وفيه دليل على أنه يكون الجلد بالجريد وهو سعف النخل وقد اختلف العلماء هل يتعين الجلد بالجريد على ثلاثة أقوال أقربها جواز الجلد بالعود غير الجريد ويجوز الاقتصار على الضرب باليدين والنعال قال في شرح مسلم أجمعوا على الاكتفاء بالجريد والنعال وأطراف الثياب ثم قال والأصح جوازه بالسوط وقال المصنف: توسط بعض المتأخرين فعين السوط للمتمردين وأطراف الثياب والنعال للضعفاء ومن عداهم بحسب ما يليق بهم وقد عين قوله في الحديث نحو أربعين ما أخرجه البيهقي وأحمد بلفظ فأمر قريبا من عشرين رجلا فجلده كل واحد جلدتين بالجريد والنعال قال المصنف وهذا يجمع ما اختلف فيه على تشعبه وأن جملة الضربات كانت أربعين لا أنه جلده بجريدتين أربعين المسألة الثالثة قوله فلما كان عمر استشار إلى آخره سبب استشارته ما أخرجه أبو داود والنسائي أن خالد بن الوليد كتب إلى عمر إن الناس قد انهمكوا في الخمر وتحاقروا العقوبة قال وعنده المهاجرون والأنصار فسألهم فأجمعوا على أن يضرب ثمانين وأخرج مالك في الموطأ عن ثور بن يزيد أن عمر استشار في الخمر فقال له علي بن أبي طالب عليه السلام نرى أن تجلده ثمانين فإنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذي وإذا هذي افترى فجلد عمر في الخمر ثمانين وهذا حديث معضل ولهذا الأثر عن علي طرق وقد أنكره ابن حزم كما سلف وفي معناه نكارة لأنه قال إذا هذي إفترى لا يعد قوله فرية لأنه لا عمد له ولا فرية إلا عن عمد وقد أخرج عبد الرزاق قال جاءت الأخبار متواترة عن علي عليه السلام أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسن في الخمر شيئا ولا يخفى أن الحديث الآتي يؤيده
2- ولمسلم عن علي في قصة الوليد بن عقبة حققناها في منحة الغفار على ضوء النهار وفيها أن عثمان أمر عليا بجلد الوليد بن عقبة في الخمر فقال لعبد الله بن جعفر اجلده فجلده فلما بلغ أربعين قال امسك جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين وجلد أبو بكر أربعين وجلد عمر ثمانين وكل سنة وهذا أحب إلي وفي الحديث أن رجلا شهد عليه أنه رآه يتقيأ الخمر فقال عثمان إنه لم يتقيأها حتى(4/30)
شربها يريد أنه أحب إليه مع جرأة الشاربين لا أنه أحب إليه مطلقا فلا يرد أنه كيف يجعل فعل عمر أحب إليه من فعل النبي صلى الله عليه وسلم فإن ظاهر الإشارة إلى فعل عمر وهو الثمانون ولكنه يقال إن ظاهر قوله أمسك بعد الأربعين دال على أنه لم يفعل الأحب إليه وأجيب عنه بأن في صحيح البخاري من رواية عبد الله بن عدي بن الخيار أن عليا جلد الوليد ثمانين والقصة واحدة والذي في البخاري أرجح وكأنه بعد أن قال وهذا أحب إلي أمر عبد الله بتمام الثمانين وهذه أولى من الجواب الآخر وهو أنه جلده بسوط له رأسان فضربه أربعين فكانت الجملة ثمانين فإن هذا ضعيف لعدم مناسبة سياقه له والروايات عنه صلى الله عليه سلم أنه جلد في الخمر أربعين كثيرة إلا أن في ألفاظها نحو أربعين وفي بعضها بالنعال فكأنه فهم الصحابة أن ذلك يتقدر بنحو أربعين جلدة واختلف العلماء في ذلك فذهبت الهادوية و أبو حنيفة ومالك وأحمد وأحد قولي الشافعي أنه يجب الحد على السكران ثمانين جلدة قالوا لقيام الإجماع عليه في عهد عمر فإنه لم ينكر عليه أحد وذهب الشافعي في المشهور عنه وداود أنه أربعون لأنه الذي روي عنه صلى الله عليه وسلم فعله ولأنه الذي استقر عليه الأمر في خلافة أبي بكر رضي الله عنه ومن تتبع ما في الروايات واختلافها علم أن الأحوط الأربعون ولا يزاد عليها وفي هذا الحديث أن رجلا شهد على الوليد أنه رآه يتقيأ الخمر فقال عثمان إنه لم يتقيأها حتى شربها وفي مسلم أنه شهد عليه رجلان أحدهما حمران أنه شرب الخمر وشهد عليه آخر أنه رآه يتقيؤها قال النووي في شرح مسلم: هذا دليل لمالك وموافقيه في أن من تقيأ الخمر يحد حد شارب الخمر ومذهبنا أنه لا يحد بمجرد ذلك لاحتمال أنه شربها جاهلا كونها خمرا أو مكرها عليه وغير ذلك من الأعذار المسقطة للحدود ودليل مالك هنا قوي لأن الصحابة اتفقوا على جلد الوليد بن عقبة المذكور في هذا الحديث ا هـ
قلت: وبمثل ما قاله مالك قالت الهادوية ثم لا يخفى أن اقتصار المصنف على الشاهد بالقيء وحده تقصير لإيهامه أنه جلد الوليد بشهادة واحد على التقيؤ
3- وعن معاوية رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في شارب الخمر: "إذا شرب فاجلدوه ثم إذا شرب الثانية فاجلده ثم إذا شرب الثالثة فاجلدوه ثم إذا شرب الرابعة فاضربوا عنقه" أخرجه أحمد وهذا لفظه والأربعة اختلفت الروايات في قتله هل يقتل إذا شرب الرابعة أو إن شرب الخامسة فأخرج أبو داود من رواية أبان القصار وذكر الجلد ثلاث مرات بعد الأولى ثم قال "فإن شربوا فاقتلوهم" وأخرج من حديث ابن عمر من رواية نافع عنه أنه قال وأحسبه قال في الخامسة فإن شربها فاقتلوه وإلى قتله فيها ذهب الظاهرية واستمر عليه ابن حزم واحتج له وادعى عدم الإجماع على نسخه والجمهور على أنه منسوخ ولم يذكروا ناسخا صريحا إلا ما يأتي من رواية أبي داود عن الزهري أنه صلى الله عليه وسلم ترك القتل في الرابعة وقد يقال القول أقوى(4/31)
من الترك فلعله صلى الله عليه وسلم تركه لعذر وذكر الترمذي ما يدل على أنه منسوخ وأخرج ذلك أبو داود صريحا عن الزهري يريد ما أخرجه من رواية الزهري عن قبيصة بن ذؤيب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من شرب الخمر فاجلدوه" إلى أن قال "ثم إذا شرب في الرابعة فاقتلوه" قال فأتي برجل قد شرب فجلده ثم أتي به قد شرب فجلده ثم أتي به قد شرب فجلده ثم أتي به الرابعة فجلده فرفع القتل عن الناس فكانت رخصة وقال الشافعي: هذا يريد نسخ القتل مما لا اختلاف فيه بين أهل العلم ومثله قال الترمذي والله أعلم
4- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه" متفق عليه الحديث دليل على أنه لا يحل ضرب الوجه في حد ولا في غيره وكذلك لا يضرب المحدود في المراق والمذاكير لما أخرجه ابن أبي شيبة عن علي عليه السلام أنه قال للجلاد اضرب في أعضائه واعط كل عضو حقه واتق وجهه ومذاكيره وأخرجه عبد الرزاق وسعيد بن منصور والبيهقي من طرق عن علي عليه السلام وإنما نهى عن المراق والمذاكير لأنه لا يؤمن عليه مع ضربها واختلف في ضربه في الرأس فذهب جماعة من العلماء إلى أنه لا يضرب فيه إذ هو غير مأمون وذهبت الهادوية وغيرهم إلى جواز ضربه فيه قالوا لقول علي عليه السلام للجلاد اضرب الرأس ولقول أبي بكر رضي الله عنه اضرب الرأس فإن الشيطان فيه أخرجه ابن أبي شيبة وفيه ضعف وانقطاع وذهب مالك أنه لا يضرب إلا في رأسه
فائدة في الحديث أنه صلى الله عليه سلم أمر أن يحثي عليه التراب ويبكت فلما ولي شرع القوم يسبونه ويدعون عليه ويقول القائل اللهم العنه فقال صلى الله عليه سلم: "لا تقولوا هذا ولكن قولوا اللهم اغفر له اللهم ارحمه" وأوجب المازري التثريب والتبكيت وأما صفة سوط الضرب فأخرج مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم مرسلا أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يجلد رجلا فأتي بسوط خلق فقال فوق هذا فأتي بسوط جديد فقال دون هذا فيكون بين الجديد والخلق وذكر الرافعي عن علي عليه السلام سوط الحد بين سوطين وضربه بين ضربين قال ابن الصلاح السوط هو المتخذ من سيور تلوى وتلف
5- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقام الحدود في المساجد" رواه الترمذي والحاكم وأخرجه ابن ماجه وفي إسناده إسماعيل بن مسلم المكي ضعيف من قبل حفظه وأخرجه أبو داود والحاكم وابن السكن والدارقطني والبيهقي من حديث حكيم بن حزام ولا بأس بإسناده وله طرق أخر والكل متعاضدة وقد عمل به الصحابة فأخرج ابن أبي شيبة عن طارق بن شهاب قال أتي عمر بن الخطاب برجل في حد فقال أخرجاه من المسجد ثم اضرباه وأسنده على شرط الشيخين وأخرج عن علي عليه السلام أن رجلا جاء إليه فساره فقال يا قنبر أخرجه(4/32)
من المسجد فأقم عليه الحد وفي سنده مقال وإلى عدم جواز إقامة الحد في المسجد ذهب أحمد وإسحاق والكوفيون لما ذكر من الدليل وذهب ابن أبي ليلى والشعبي إلى جوازه ولم يذكر له دليلا وكأنه حمل النهي على التنزيه قال ابن بطال وقول من نزه المسجد أولى يريد قول الأولين
6- وعن أنس رضي الله عنه قال لقد أنزل الله تعالى تحريم الخمر وما بالمدينة شراب يشرب إلا من تمر أخرجه مسلم فيه دليل على ما سلف من تسمية نبيذ التمر خمرا عند نزول آية التحريم
7- وعن عمر رضي الله عنه قال: نزل تحريم الخمر وهي من خمسة من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير والخمر ما خامر العقل متفق عليه وأخرجه الثلاثة أيضا ولا يقال إنه معارض بحديث أنس لأن حديث أنس إخبار عما كان من الشراب في المدينة وكلام عمر ليس فيه تقييد بالمدينة وإنما هو إخبار عما يشربه الناس مطلقا وقوله الخمر ما خامر العقل إشارة إلى وجه التسمية وظهره أن كل ما خالط العقل أو غطاه يسمى خمرا لغة سواء كان مما ذكر أومن غيره ويدل له أيضا الحديث الآتي
8- وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل مسكر خمر وكل مسكر حرام" أخرجه مسلم فإنه دال على أن كل مسكر يسمى خمرا وفي قوله "كل مسكر حرام" دليل على تحريم كل مسكر وهو عام لكل ما كان من عصير أو نبيذ وإنما اختلف العلماء في المراد بالمسكر هل يراد تحريم القدر المسكر وتحريم تناوله مطلقا وإن قل ولم يسكر إذا كان في ذلك الجنس صلاحية الإسكار ذهب إلى تحريم القليل والكثير مما أسكر جنسه الجمهور من الصحابة وغيرهم و أحمد وإسحاق والشافعي ومالك والهادوية جميعا مستدلين بهذا الحديث وحديث جابر الآتي بعد هذا وبما أخرجه أبو داود من حديث عائشة كل مسكر حرام وما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام وبما أخرجه ابن حبان والطحاوي من حديث سعد بن أبي وقاص أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أنهاكم عن قليل ما أسكر كثيره" وفي معناه روايات كثيرة لا تخلو عن مقال في أسانيدها لكنها تعتضد بما سمعت قال أبو مظفر السمعاني: الأخبار في ذلك كثيرة لا مساغ لأحد في العدول عنها وذهب الكوفيون و أبو حنيفة وأصحابه وأكثر علماء البصرة إلى أنه يحل دون المسكر من غير عصير العنب والرطب وتحقيق مذهب الحنفية قد بسطه في شرح الكنز حيث قال: إن أبا حنيفة قال الخمر هو النيء من ماء العنب إذا غلى واشتد وقذف بالزبد حرم قليلها وكثيرها وقال إن الغليان من آية الشدة وكماله بقذف الزبد وبسكونه إذ به يتميز الصافي من الكدر وأحكام الشرع قطعية فتناط بالنهاية كالحدود وإكفار المستحل وحرمة البيع والنجاسة وعند صاحبيه إذا اشتد صار خمرا ولا يشترط القذف بالزبد لأن الاسم يثبت به والمعنى المقتضي للتحريم وهو المأثر في الفساد وإيقاع العداوة وأما الطلاء بكسر الطاء وهو العصير من العنب إن طبخ حتى يذهب أقل من ثلثيه والسكر بفتحتين وهو النيء من ماء(4/33)
الرطب ونقيع الزبيب وهو النيء من ماء الزبيب فالكل حرام إن غلي واشتد وحرمتها دون الخمر والحلال منها أربع نبيذ التمر والزبيب إن طبخ أدنى طبخ وإن اشتد إذا شرب ما لا يسكر بلا لهو وطرب والخليطان وهو أن يخلط ماء التمر وماء الزبيب ونبيذ العسل والتين والبر والشعير والذرة طبخ أو لا والمثلث العنبي انتهى كلامه ببعض تصرف فيه فهذه الأنواع التي لم ينقل تحريمها استدل لها بأنها لا تدخل تحت مسمى الخمر فلا تشملها أدلة تحريم الخمر وتؤول حديث ابن عمر هذا بما قاله الطحاوي حيث قال في تأويل الحديث قال بعضهم المراد به ما يقع السكر عنده قال ويؤيده أن القاتل لا يسمى قاتلا حتى يقتل قال ويدل له حديث ابن عباس يرفعه حرمت الخمر قليلها وكثيرها والسكر من كل شراب أخرجه النسائي ورجاله ثقات إلا أنه اختلف في وصله وانقطاعه وفي رفعه ووقفه على أنه على تقدير صحته فقد قال أحمد وغيره إن الراجح أن الرواية فيه والمسكر بضم الميم وسكون السين لا السكر بضم السين أو بفتحتين وعلى تقدير ثبوته فهو حديث فرد لا يقاوم ما عرفت من الأحاديث التي ذكرناها وقد سرد لهم في الشرح أدلة من آثار وأحاديث لا سواده شيء منها عن قادح فلا تنتهض على المدعي عند لفظ الخمر قد سمعت أن الحق فيه لغة عمومه لكل مسكر كما قاله مجد الدين فقد تناول ما ذكر دليل التحريم وقد أخرج البخاري عن ابن عباس لما سأله أبو جويرية عن الباذق وهو بالباء الموحدة والذال المعجمة المفتوحة وقيل المكسورة وهو فارسي معرب أصله باذة وهو الطلاء فقال ابن عباس سبق محمد الباذق ما أسكر فهو حرام الشراب الحلال الطيب ليس بعد الحلال الطيب إلا الحرام الخبيث وأخرج البيهقي عن ابن عباس أنه أتاه قوم يسألون عن الطلاء فقال ابن عباس وما طلاؤكم هذا إذا سألتموني فبينوا لي الذي تسألونني عنه فقالوا هو العنب يعصر ثم يطبخ ثم يجعل في الدنان قال وما الدنان قالوا دنان مقيرة قال مزفتة قالوا نعم قال يسكر قالوا إذا أكثر منه قال فكل مسكر حرام وأخرج عنه أيضا أنه قال في الطلاء إن النار لا تحل شيئا ولا تحرمه وأخرج أيضا عن عائشة في سؤال أبي مسلم الخولاني قال يا أم المؤمنين إنهم يشربون شرابا لهم يعني أهل الشام يقال له الطلاء قالت صدق الله وبلغ حبي سمعت حبي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أناسا من أمتي يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها" وأخرج مثله عن أبي مالك الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ليشربن أناس من أمتي الخمر يسمونها بغير أسمها وتضرب على رءوسهم المعازف يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم قردة وخنازير" وأخرج عن عمر أنه قال إني وجدت من فلان ريح شراب فزعم أنه يشرب الطلاء وإني سائل عما يشرب فإن كان يسكر جلدته فجلده الحد تاما وأخرج عن أبي عبيد أنه قال جاءت في الأشربة آثار كثيرة مختلفة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وكل له تفسير فأولها الخمر وهي(4/34)
ما غلي من عصير العنب فهذه مما لا اختلاف في تحريمها من المسلمين إنما الاختلاف في غيرها ومنها السكر يعني بفتحتين وهو نقيع التمر الذي لم تمسه النار وفيه يروى عن ابن مسعود أنه قال السكر خمر ومنها البتع بكسر الباء الموحدة والمثناة أي الفوقية الساكنة والمهملة وهو نبيذ العسل ومنها الجعة بكسر الجيم وهي نبيذ الشعير ومنها المذر وهو من الذرة جاء تفسير هذه الأربعة عن ابن عمر رضي الله عنهما وزاد ابن المنذر في الرواية عنه قال والخمر من العنب والسكر من التمر ومنها السكركة يعني بضم السين المهملة وسكونالكاف وضم الراء فكاف مفتوحة عن أبي موسى أنها من الذرة ومنها الفضيخ يعني بالفاء والضاد المعجمة والخاء المعجمة ما افتضخ من البسر من غير أن تمسه نار وسماه ابن عمر الفضوخ قال أبو عبيد فإن كان مع البسر تمر فهو الذي يسمى الخليطين قال أبو عبيد بعض العرب تسمي الخمر بعينها الطلاء قال عبيد بن الأبرص:
هي الخمر تكنى الطلاء ... كما الذئب الغرماء أبا جعدة
قال وكذلك الخمر سمي الباذق إذا عرفت فهذه آثار تؤيد العمل بالعموم ومع التعارض فالترجيح للمحرم على المبيح ومن أدلة الجمهور الحديث الآتي
9- وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما أسكر كثيره فقليله حرام" أخرجه أحمد والأربعة وصححه ابن حبان وأخرجه الترمذي وحسنه ورجاله ثقات وأخرج النسائي والدارقطني وابن حبان من طريق عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه بلفظ "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قليل ما أسكر كثيره" وفي الباب عن علي عليه السلام وعن عائشة رضي الله عنها وعن خوات وعن سعيد وعن ابن عمر وزيد بن ثابت كلها مخرجة في كتب الحديث والكل تقوم به الحجة وتقدم تحقيقه
فائدة ويحرم ما أسكر من أي شيء وإن لم يكن مشروبا كالحشيشة قال المصنف من قال إنها لا تسكر وإنما تخدر فهي مكابرة فإنها تحدث ما تحدث الخمر من الطرب والنشوة قال وإذا سلم عدم الإسكار فهي مفترة وقد أخرج أبو داود أنه نهى رسول الله عن كل مسكر ومفتر قال الخطابي المفتر كل شراب يورث الفتور والخور في الأعضاء وحكى العراقي وابن تيمية الإجماع على تحريم الحشيشة وأن من استحلها كفر قال ابن تيمية إن الحشيشة أول ما ظهرت في آخر المائة السادسة من الهجرة حين ظهرت دولة التتار وهي من أعظم المنكرات وهي شر من الخمر من بعض الوجوه لأنها تورث نشوة ولذة وطربا كالخمر ويصعب الطعام عليها أعظم من الخمر وقد أخطأ القائل
حرموها من غير عقل ونقل ... وحرام تحريم غير الحرام
وأما البنج فهو حرام قال ابن تيمية: إن الحد في الحشيشة واجب قال ابن البيطار: إن الحشيشة وتسمى القنب توجد في مصر مسكرة جدا إذا تناول الإنسان منها قدر درهم أو درهمين وقبائح خصالها كثيرة وعد منها بعض العلماء مائة وعشرين مضرة دينية(4/35)
ودنيوية وقبائح خصالها موجودة في الأفيون وفيه زيادة مضار قال ابن دقيق العيد في الجوزة إنها مسكرة ونقله عنه متأخرو علماء الفريقين واعتمدوه
10- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينبذ له الزبيب في السقاء فيشربه يومه والغد وبعد الغد فإذا كان مساء الثالثة شربه وسقاه فإن فضل" بفتح الضاد وكسرها "شيء أهراقه" أخرجه مسلم هذه الرواية إحدى روايات مسلم وله ألفاظ أخر المساجد من هذه في المعنى وفي دليل على جواز الانتباذ ولا كلام في جوازه وقد احتج من يقول بجواز شرب النبيذ إذا اشتد بقوله في رواية أخرى "سقاه الخادم أو أمر بصبه" فإن سقيه الخادم دليل على جواز شربه وإنما تركه صلى الله عليه وسلم تنزها عنه وأجيب بأنه لا دليل على أنه بلغ حد الإسكار وإنما بدا فيه بعض تغير في طعمه من حموضة أو نحوها فسقاه الخادم مبادرة لخشية الفساد ويحتمل أن تكون أو للتنويع كأنه قال سقاه الخادم أو أمر به فأهريق أي إن كان بدا في طعمه بعض تغير ولم يشتد سقاه الخادم وإن اشتد أمر بإهراقه وبهذا جزم النووي في معنى الحديث
11- وعن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم" أخرجه البيهقي وصححه ابن حبان وأخرجه أحمد وذكره البخاري تعليقا عن ابن مسعود ويأتي ما أخرجه مسلم عن وائل بن حجر والحديث دليل على أنه يحرم التداوي بالخمر لأنه إذا لم يكن فيه شفاء فتحريم شربها باق لا يرفعه تجويز أنه يدفع بها الضرر عن النفس وإلى هذا ذهب الشافعي وقالت الهادوية إلا إذا غص بلقمة ولم يجد ما يسوغها به إلا الخمر جاز وادعى في البحر الإجماع على هذا وفيه خلاف وقال أبو حنيفة: يجوز التداوي بها كما يجوز شرب البول والدم وسائر النجاسات للتداوي قلنا القياس باطل فإن المقيس عليه محرم بالنص المذكور لعمومه لكل محرم
فائدة
في النجم الوهاج قال الشيخ كل ما يقول الأطباء من المنافع في الخمر وشربها كان عند شهادة القرآن أن فيها منافع للناس قبل وأما بعد نزول آية المائدة فإن الله تعالى الخالق لكل شيء سلبها المنافع جملة فليس فيها شيء من المنافع وبهذا تسقط مسألة التداوي بالخمر والذي قاله منقول عن الربيع والضحاك وفيه حديث أسنده الثعلبي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله تعالى لما حرم الخمر سلبها النافع
12- وعن وائل هو ابن حجر بضم الحاء وسكون الجيم الحضرمي أن طارق بن سويد رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر يصنعها للدواء فقال: "إنها ليست بدواء ولكنها داء" أخرجه مسلم وأبو داود وغيرهما أفاد الحكم الذي دل عليه الحديث الأول وهو تحريم التداوي بالخمر وزيادة الإخبار بأنها داء(4/36)
وقد علم من حال من يستعملها أنه يتولد عن شربها أدواء كثيرة وكيف لا يكون ذلك بعد إخبار الشارع أنها داء فقبح الله وصافها من الشعراء الخلعاء ووصاف شربها وتشويق الناس إلى شربها والعكوف عليها كأنهم يضادون الله تعالى ورسوله فيما حرمه ولا شك أنهم يقولون تلك الأشعار بلسان شيطاني يدعون إلى ما حرمه الله تعالى ورسوله(4/37)
باب التعزير وحكم الصائل
التعزير مصدر عزر من العزر وهو الرد والمنع وهو في الشرع تأديب على ذنب لا حد فيه وهو مخالف للحدود من ثلاثة أوجه الأول أنه يختلف باختلاف الناس فتعزير ذوي الهيئات أخف ويستوون في الحدود مع الناس والثاني أنها تجوز فيه الشفاعة دون الحدود والثالث التالف خلافا لأبي حنيفة ومالك وقد فرق قوم بين التعزير والتأديب ولا يتم لهم الفرق ويسمى تعزير لدفعة ورده عن فعل القبائح ويكون بالقول والفعل على حسب ما يقتضيه حال الفاعل وقوله وحكم الصائل الصائل اسم فاعل من صال على قرنه إذا سطا عليه واستطال
1- عن أبي بردة الأنصاري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لا يجلد" روي مبنيا للمعلوم ومبنيا للمجهول ومجزوما على النهي ومرفوعا على النفي "فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله تعالى" متفق عليه وفي رواية عشر جلدات وفي رواية "لا عقوبة فوق عشر ضربات" والمراد بحدود الله ما عين الشارع فيه عددا من الضرب أو عقوبة مخصوصة كالقطع والرجم وهذان داخلان في عموم حدود الله خارجان عما فيه السياق إذ السياق في الضرب وقد اتفق العلماء على حد الزنا والسرقة وشرب الخمر وحد المحارب وحد القذف بالزنا والقتل في الردة والقصاص في النفس واختلفوا في القصاص في الأطراف هل يسمى حدا أم لا كما اختلفوا في عقوبة جحد العارية واللواط وإتيان البهيمة وتحميل المرأة الفحل من البهائم عليها والسحاق وأكل الدم والميتة ولحم الخنزير لغير ضرورة والسحر والقذف بشرب الخمر وترك الصلاة تكاسلا والأكل في رمضان هل يسمى حدا أو لا فمن قال يسمى حدا أجاز الزيادة في التعزير عليها على العشر الأسواط ومن قال لا يسمى لم يجزه إلا أنه قد اختلف في العمل بحديث الباب فذهب إلى الأخذ به الليث وأحمد وإسحق وجماعة من الشافعية وذهب مالك والشافعي وزيد بن علي وآخرون إلى جواز الزيادة في التعزير على العشرة ولكن لا يبلغ أدنى الحدود وذهب القاسم والهادي إلى أن يكون التعزير في كل حد دون حد جنسه لما يأتي من فعل علي عليه السلام قلت لا دليل لهم إلا فعل بعض الصحابة كما روي أن عليا عليه السلام جلد من وجد مع امرأة من غير زنا مائة سوط إلا سوطين وأن عمر رضي الله عنه ضرب من نقش على(4/37)
خاتمة مائة سوط وكذا روي عن ابن مسعود ولا يخفى أن فعل بعض الصحابة ليس بدليل ولا يقاوم النص الصحيح وأن ما نقل عن عمر لا يتم لهم دليلا ولعله لم يبلغ الحديث من فعل ذلك من الصحابة كما أنه قال صاحب التقريب معتذرا لو بلغ الخبر الشافعي لقال به لأنه قال إذا صح الحديث فهو مذهبي ومثله قال الداودي معتذرا لمالك لم يبلغ مالكا هذا الحديث فرأى العقوبة بقدر الذنب ولو بلغه ما عدل عنه فيجب على من بلغه أن يأخذ به
2- وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود" رواه أحمد وأبو داود والنسائي والبيهقي وللحديث طرق كثيرة لا تخلو عن مقال والإقالة هي موافقة البائع على نقض البيع وأقيلوا هنا مأخوذ منها والمراد هنا موافقة ذي الهيئة على ترك المؤاخذة له أو تخفيفها وفسر الشافعي ذوي الهيئات بالذين لا يعرفون بالشر فيزل أحدهم الزلة والعثرات جمع عثرة والمراد هنا الزلة وحكى الماوردي في ذلك وجهين أحدهما أنهم أصحاب الصغائر دون الكبائر والثاني من إذا أذنب تاب وفي عثراتهم وجهان أحدهما الصغائر والثاني أول معصية يزل فيها مطيع واعلم أن الخطاب في أقيلوا للأئمة لأنهم الذين إليهم التعزير لعموم ولاتهم فيجب عليهم الاجتهاد في اختيار الأصلح لاختلاف ذلك باختلاف مراتب الناس وباختلاف المعاصي وليس له أن يفوضه إلى مستحقه ولا إلى غيره وليس التعزير لغير الإمام إلا لثلاثة الأب فإن له تعزير ولده الصغير للتعليم والزجر عن سيء الأخلاق والظاهر أن الأم في مسألة زمن الصبا في كفالته لها ذلك وللأمر بالصلاة والضرب عليها وليس للأب تعزير البالغ وإن كان سفيها والثاني السيد يعزر رقيقه في حق نفسه وفي حق الله تعالى على الأصح والثالث الزوج له تعزير زوجته في أمر النشوز كما صرح به القرآن وهل له ضربها على ترك الصلاة ونحوها الظاهر أن له ذلك إن لم يكف فيها الزجر لأنه من باب إنكار المنكر والزوج من جملة من يكلف بالإنكار باليد أو اللسان أو الجنان والمراد هنا الأولان
3- وعن علي رضي الله عنه قال ما كنت لأقيم على أحد حدا فيموت فأجد في نفسي إلا شارب الخمر فإنه لو مات وديته بتخفيف الدال المهملة وسكون المثناة التحتية أي غرمت ديته أخرجه البخاري فيه دليل على أن الخمر لم يكن فيه حد محدود من رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو من باب التعزيرات فإن مات ضمنه الإمام وكذا كل معزر يموت بالتعزير يضمنه الإمام وإلى هذا ذهب الجمهور وذهبت الهادوية إلى أنه لا شيء فيمن مات بحد أو تعزير قياسا منهم للتعزير على الحد بجامع أن الشارع قد أذن فيهما قالوا وقول علي عليه السلام إنما هو للاحتياط وتقدم الجواب بأنه إذا أعنت في التعزير دل على أنه غير مأذون فيه من أصله بخلاف الإعنات في الحد فإنه لا يضمن لأنه مأذون في أصله فإن أعنت فإنه للخطأ في صفته وكأنهم يريدون أنه لم يكن مأذونا في غير ما أذن به بخصوصه كالضرب مثلا وإلا فهو مأذون في مطلق التعزير وتأويلهم لقول علي عليه السلام ساقط فإنه صريح في أن ذلك واجب لا من باب الاحتياط ولأن في تمام حديثه لأن رسول الله(4/38)
صلى الله عليه وسلم لم يسنه وأما قوله جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين إلى قوله وكل سنة وقد تقدم فلعله يريد أنه جلد جلدا غير مقدر ولا تقررت صفته بالجريد والنعال والأيدي ولذا قال أنس نحو أربعين قال النووي في شرح مسلم ما معناه: وأما من مات في حد من الحدود غير الشرب فقد أجمع العلماء على أنه إذا جلده الإمام أو جلاده فمات فإنه لا دية ولا كفارة على الإمام ولا على جلاده ولا بيت المال وأما من مات بالتعزير فمذهبنا وجوب الضمان للدية والكفارة وذكر تفاصيل في ذلك مذهبية
4- في قتال الصائل الذي ذكره في الترجمة وعن عبد الله بن خباب بفتح الخاء المعجمة فموحدة مشددة فألف فموحدة وهو خباب بن الأرت صحابي تقدمت ترجمته قال سمعت أبي يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه سلم يقول: "تكون فتن فكن فيها ياعبد الله المقتول ولا تكن القاتل" أخرجه ابن أبي خيثمة بالخاء المعجمة مفتوحة فمثناة تحتية ساكنة فمثلثة والدارقطني وأخرج أحمد نحوه عن خالد بن عرفطة بضم العين المهملة وسكون الراء وضم الفاء وبالطاء المهملة وخالد صحابي عداده في أهل الكوفة روى عنه أبو عثمان النهدي وعبد الله بن يسار ومسلم مولاه ولاه سعد بن أبي وقاص القتال يوم القادسية ومات بالكوفة سنة ستين والحديث قد أخرج من طرق كثيرة وفيها كلها راو لم يسم وهو رجل من عبد القيس كان مع الخوارج ثم فارقهم وسبب الحديث أنه قال ذلك الرجل إن الخوارج دخلوا قرية فخرج عبد الله بن خباب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذعرا يجر رداءه فقال والله أرعبتموني مرتين قالوا أنت عبد الله بن خباب قال نعم قالوا هل سمعت من أبيك شيئا تحدثنا به قال سمعته يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ذكر "فتنة القاعد فيها خير والقائم فيها خير من الماشي والماشي فيها خير من الساعي فإن أدركك ذلك فكن عبد الله المقتول" قالوا أنت سمعت هذا من أبيك يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال نعم فقدموه على ضفة النهر فضربوا عنقه وبقروا أم ولده عما في بطنها والحديث قد أخرجه أحمد والطبراني وابن قانع طريق المجهول إلا أن فيه علي بن زيد بن جدعان وفهي مقال ولفظه عن خالد بن عرفطة "ستكون فتنة بعدي وأحداث واختلاف فإن استطعت أن تكون عبد الله المقتول لا القاتل فافعل" وأخرج أحمد والترمذي من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال فإن دخل على بيتي وبسط يده ليقتلني قال كن كابن آدم وأخرج أحمد من حديث ابن عمر بلفظ ما يمنع أحدكم إذا جاء أحدا يريد قتله أن يكون مثل أبني آدم القاتل في النار والمقتول في الجنة وأخرج أحمد وأبو داود وابن حبان من حديث أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه سلم قال في الفتنة "كسروا فيها قسيكم وأوتاركم واضربوا سيوفكم بالحجارة فإن دخل على أحدكم بيته فليكن كخير ابني آدم" وصححه القشيري في الاقتراح على شرط الشيخين والحديث دليل على ترك القتال عند ظهور الفتن والتحذير من الدخول فيها قال القرطبي اختلف السلف في ذلك فذهب سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر ومحمد بن مسلمة(4/39)
وغيرهم إلى أنه يجب الكف عن المقاتلة فمنهم من قال إنه يجب عليه أن يلزم بيته وقالت طائفة يجب عليه التحول من بلد الفتنة أصلا ومنهم من قال يترك المقاتلة وهو قول الجمهور وشذ من أوجبه حتى لو أراد أحدهم قتله لم يدفعه عن نفسه ومنهم من قال يدافع عن نفسه وعن أهله وعن ماله وهو معذور إن قتل أو قتل وذهب جمهور الصحابة والتابعين إلى وجوب نصر الحق وقتال الباغين وحملوا هذه الأحاديث على من ضعف عن القتال أو قصر نظره عن معرفة الحق وقال بعضهم بالتفصيل وهو أنه إذا كان القتال بين طائفتين لا إمام لهم فالقتال حينئذ ممنوع وتنزل الأحاديث على هذا وهو قول الأوزاعي وقال الطبري إنكار المنكر واجب على من يقدر عليه فمن أعان المحق أصاب ومن أعان المبطل أخطأ وإن أشكل الأمر فهي الحالة التي ورد النهي عن القتال فيها وقيل إن النهي إنما هو في آخر الزمان حيث تكون المقاتلة لطلب الملك وفيه دليل على أنه لا يجب الدفاع عن النفس وقوله إن استطعت يدل على أنها لا تحرم المدافعة وأن النهي للتنزيه لا للتحريم
5- في الصائل وعن سعيد بن زيد رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قتل دون ماله فهو شهيد" رواه الأربعة وصححه الترمذي في الحديث دليل على جواز الدفاع عن المال وهو قول الجمهور وشذ من أوجبه فإذا قتل فهو شهيد كما صرح به هذا الحديث وحديث مسلم عن أبي هريرة أنه جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال "يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي قال فلا تعطه قال فإن قاتلني قال فاقتله قال أرأيت إن قتلني قال فأنت شهيد قال أرأيت إن قتلته قال فهو في النار" قالوا فإن قتله فلا ضمان عليه لعدم التعدي منه والحديث عام لقليل المال وكثيره وقد أخرج أبو داود وصححه الترمذي عنه صلى الله عليه وسلم: "من قتل دون دينه فهو شهيد ومن قتل دون دمه فهو شهيد ومن قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون أهله فهو شهيد" وفي الصحيحين ذكر المال فقط ووجه الدلالة أنه لما جعله صلى الله عليه وآله وسلم شهيدا دل على أن له القتل والقتال قال في النجم الوهاج ومحل ذلك إذا لم يجد ملجأ كحصن ونحوه أو لم يستطع الهرب وإلا وجب عليه قلت لا أدري ما وجه وجوب الهرب عليه قالوا ولا يجب الدفع عن المال بل يجوز له أن يتظلم إلا أنه قد تقدم أن علماء الحديث كالمجمعين على استثناء السلطان للآثار الواردة بالأمر بالصبر على جوره فلا يجوز دفاعه عن أخذ المال ويجب الدفع عن البضع لأنه لا سبيل إلى إباحته قالوا وكذلك يجب على النفس إن قصدها كافر لا إذا قصدها مسلم فلا يجب لما تقدم قريبا في شرح الحديث الأول وصح أن عثمان رضي الله عنه منع عبيده أن يدفعوا عنه وكانوا(4/40)
أربعمائة وقال من ألقى سلاحه فهو حر قالوا وخالف المضطر فإن في القتل شهادة بخلاف ترك الأكل وهل ترك الدفاع عن قتل النفس مباح أو مندوب فيه خلاف(4/41)
كتاب الجهاد
كتاب الجهاد
...
كتاب الجهاد
الجهاد مصدر جاهدت جهادا أي بلغت المشقة هذا معناه لغة وفي الشرع بذل الجهد في قتال الكفار أو البغاة
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه به مات على شعبة من نفاق" رواه مسلم فيه دليل على وجوب العزم على الجهاد وألحقوا به فعل كل واجب قالوا فإن كان من الواجبات المطلقة كالجهاد وجب العزم على فعله عند إمكانه وإن كان من الواجبات المؤقتة وجب العزم على فعله عند دخول وقته وإلى هذا ذهب جماعة من أئمة الأصول وفي المسألة خلاف معروف ولا يخفى أن المراد من الحديث هنا أن من لم يغز بالفعل ولم يحدث نفسه بالغزو مات على خصلة من خصال النفاق فقوله "ولم يحدث نفسه" لا يدل على العزم الذي معناه عقد النية على الفعل بل معناه هنا لم يخطر بباله أن يغزو ولا حدث به نفسه ولو ساعة من عمره ولو حدثها به أو خطر الخروج للغزو بباله حينا من الأحيان خرج من الاتصاف بخصلة من خصال النفاق وهو نظير قوله صلى الله عليه وسلم ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه أي لم يخطر بباله شيء من الأمور وحديث النفس غير العزم وعقد النية ودل على أن من حدث نفسه بفعل طاعة ثم مات قبل فعلها أنه لا يتوجه عليه عقوبة من لم يحدث نفسه بها أصلا
2- وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم" رواه أحمد والنسائي وصححه الحاكم الحديث دليل على وجوب الجهاد بالنفس وهو بالخروج والمباشرة للكفار وبالمال وهو بذله لما يقوم به من النفقة في الجهاد والسلاح ونحوه وهذا هو المفاد من عدة آيات في القرآن {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} والجهاد باللسان بإقامة الحجة عليهم ودعائهم إلى الله تعالى وبالأصوات عند اللقاء والزجر ونحوه من كل ما فيه نكاية للعدو {وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} وقال صلى الله عليه وسلم لحسان::إن هجو الكفار أشد عليهم من وقع النبل:
3- وعن عائشة رضي الله عنها قالت قلت يا رسول الله على النساء جهاد؟ هو خبر في معنى الاستفهام وفي رواية أعلى النساء قال: "نعم جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة" رواه ابن ماجه وأصله في البخاري بلفظ قالت عائشة استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد فقال: "جهادكن الحج" وفي لفظ له آخر فسأله نساؤه عن الجهاد فقال: "نعم الجهاد الحج" وأخرج النسائي عن أبي هريرة جهاد الكبير أي(4/41)
العاجز والمرأة والضعيف الحج دل ما ذكر على أنه لا يجب الجهاد على المرأة وعلى أن الثواب الذي يقوم مقام ثواب جهاد الرجال حج المرأة وعمرتها ذلك لأن النساء مأمورات بالستر والسكون والجهاد ينافي ذلك إذ فيه مخالطة الأقران والمبارزة ورفع الأصوات وأما جواز الجهاد لهن فلا دليل في الحديث على عدم الجواز وقد أردف البخاري هذا الباب بباب خروج النساء للغزو وقتالهن وغير ذلك وأخرج مسلم من حديث أنس أن أم سليم اتخذت خنجرا يوم حنين وقالت للنبي صلى الله عليه وسلم اتخذته إن دنا مني أحد من المشركين بقرت بطنه فهو يدل على جواز القتال وإن كان فيه ما يدل على أنها لا تقاتل إلا مدافعة وليس فيه أنها تقصد العدو إلى صفه وطلب مبارزته وفي البخاري ما يدل على أن جهادهن إذا حضرن مواقف الجهاد سقي الماء ومداواة المرضى ومناولة السهام
4- وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد فقال "أحي والداك؟" قال نعم قال: "ففيهما فجاهد" متفق عليه
سمي إتعاب النفس في القيام بمصالح الأبوين وإزعاجها في طلب ما يرضيهما وبذل المال في قضاء حوائجهما جهادا من باب المشاكلة لما استأذنه في الجهاد من باب قوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} ويحتمل أن يكون استعارة بعلاقة الضدية لأن الجهاد فيه إنزال الضرر بالأعداء واستعمل في إنزال النفع بالوالدين وفي الحديث دليل على أنه يسقط فرض الجهاد مع وجود الأبوين أو أحدهما لما أخرجه أحمد والنسائي من طريق معاوية بن جاهمة أن أبا جاهمة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أردت الغزو وجئت لأستشيرك فقال "هل لك من أم؟" قال نعم قال: "الزمها" وظاهره سواء كان الجهاد فرض عين أو فرض كفاية وسواء تضرر الأبوان بخروجه أو لا وذهب الجماهير من العلماء إلى أنه يحرم الجهاد على الولد إذا منعه الأبوان أو أحدهما بشرط أن يكونا مسلمين لأن برهما فرض عين والجهاد فرض كفاية فإذا تعين الجهاد فلا فإن قيل بر الوالدين فرض عين أيضا والجهاد عند تعينه فرض عين فهما مستويان فما وجه تقديم الجهاد قلت لأن مصلحته أعم إذ هي لحفظ الدين والدفاع عن المسلمين فمصلحته عامة مقدمة على غيرها وهو يقدم على مصلحة حفظ البدن وفيه دلالة على عظم بر الوالدين فإنه أفضل من الجهاد وأن المستشار يشير بالنصيحة المحضة وأنه ينبغي له أن يستفصل من مستشيره ليدله على ما هو الأفضل
5- ولأحمد وأبي داود من حديث أبي سعيد نحوه في الدلالة على أنه لا يجب عليه الجهاد ووالداه في الحياة إلا بإذنهما كما دل له قوله وزاد أي أبو سعيد في رواية "ارجع فاستأذنهما فإن أذنا لك" بالخروج للجهاد "وإلا فبرهما" بعدم الخروج للجهاد وطاعتهما
6- وعن جرير البجلي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(4/42)
أنا بريء من كل مسلم يقيم بين المشركين" رواه الثلاثة وإسناده صحيح ورجح البخاري إرساله وكذا رجح أيضا أبو حاتم وأبو داود والترمذي والدارقطني إرساله إلى قيس بن أبي حازم ورواه الطبراني موصولا والحديث دليل على وجوب الهجرة من ديار المشركين من غير مكة وهو مذهب الجمهور لحديث جرير ولما أخرجه النسائي من طريق بهز بن حكيم عن أبيه عن جده مرفوعا "لا يقبل الله من مشرك عملا بعد ما أسلم أو يفارق المشركين" ولعموم قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} الآية وذهب الأقل إلى أنها لا تجب الهجرة وأن الأحاديث منسوخة للحديث الآتي وهو قوله
7- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية" متفق عليه قالوا فإنه عام ناسخ لوجوب الهجرة الدال عليه ما سبق وبأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر من أسلم من العرب بالمهاجرة إليه ولم ينكر عليهم مقامهم ببلدهم ولأنه صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث سرية قال لأميرهم إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خلال فأيتهن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم إلى التحول عن دارهم إلى دار المهاجرين وأعلمهم أنهم إن فعلوا ذلك أن لهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين فإن أبوا واختاروا دارهم فأعلمهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله تعالى الذي يجري على المؤمنين الحديث سيأتي بطوله فلم يوجب عليهم الهجرة والأحاديث غير حديث ابن عباس محمولة على من لا يأمن على دينه قالوا وفي هذا جمع بين الأحاديث وأجاب من أوجب الهجرة بأن حديث لا هجرة يراد به نفيها عن مكة كما يدل له قوله بعد الفتح فإن الهجرة كانت واجبة من مكة قبله وقال ابن العربي: الهجرة هي الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام وكانت فرضا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم واستمرت بعده لمن خاف على نفسه ملكا والتي انقطعت بالأصالة هي القصد إلى النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان وقوله "ولكن جهاد ونية" قال الطيبي وغيره هذا الاستدراك يقتضي مخالفة حكم ما بعده لما قبله والمعنى أن الهجرة التي هي مفارقة الوطن التي كانت مطلوبة على الأعيان إلى المدينة قد انقطعت إلا أن المفارقة بسبب الجهاد باقية وكذلك المفارقة بسبب نية صالحة كالفرار من دار الكفر والخروج في طلب العلم والفرار من الفتن والنية في جميع ذلك معتبرة وقال النووي المعنى أن الخير الذي انقطع بانقطاع الهجرة يمكن تحصيله بالجهاد والنية الصالحة وجهاد معطوف بالرفع على محل اسم لا
8- وعن أبي موسى الأشعري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" متفق عليه وفي الحديث هنا اختصار ولفظه عن أبي موسى أنه قال أعرابي للنبي صلى الله عليه وسلم: الرجل يقاتل للمغنم والرجل يقاتل للذكر والرجل يقاتل ليرى مكانه فمن في سبيل الله قال: "من(4/43)
قاتل..." الحديث والحديث دليل على أن القتال في سبيل الله يكتب أجره لمن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا ومفهومه أن من خلا عن هذه الخصلة فليس في سبيل الله وهو من مفهوم الشرط ويبقى الكلام فيما إذا انضم إليها قصد غيرها وهو المغنم مثلا هل هو في سبيل الله أو لا قال الطبري إنه إذا كان أصل المقصد إعلاء كلمة الله تعالى لم يضر ما حصل من غيره ضمنا وبذلك قال الجمهور والحديث يحتمل أنه لا يخرج عن كونه في سبيل الله مع قصد التشريك لأنه قد قاتل لتكون كلمة الله هي العليا ويتأيد بقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} فإن ذلك لا ينافي فضيلة الحج فكذلك في غيره فعلى هذا العمدة الباعث على الفعل فإن كان هو إعلاء كلمة الله لم يضره ما انضاف إليه ضمنا وبقي الكلام فيما إذا استوى القصدان فظاهر الحديث والآية أنه لا يضر إلا أنه أخرج أبو داود والنسائي من حديث أبي أمامة رضي الله عنه بإسناد جيد قال جاء رجل فقال يا رسول الله أرأيت رجلا غزا يلتمس الأجر والذكر ماله؟ قال: "لا شيء له" فأعادها ثلاثاً كل ذلك يقول لا شيء له ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا وابتغي به وجهه" قلت: فيكون هذا دليلا على أنه إذا استوى الباعثان الأجر والذكر مثلا بطل الأجر ولعل بطلانه هنا لخصوصية طلب الذكر لأنه انقلب عمله للرياء والرياء مبطل لما يشاركه بخلاف طلب المغنم فإنه لا ينافي الجهاد بل إذا قصد بأخذ المغنم إغاظة المشركين والانتفاع به على الطاعة كان له أجر فإنه تعالى يقول: {وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} والمراد النيل المأذون فيه شرعا وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "من قتل قتيلا فله سلبه" قيل القتال دليل على أنه لا ينافي قصد المغنم القتال بل ما قاله إلا ليجتهد السامع في قتال المشركين وفي البخاري من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انتدب الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا إيمان بي وتصديق برسولي أن أرجعه بما نال من أجر أو غنيمة أو أدخله الجنة" ولا يخفى أن الأخبار هذه دليل على جواز تشريك النية إذ الإخبار به يقتضي ذلك غالبا ثم إنه قد يقصد المشركون لمجرد نهب أموالهم كما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه في غزاة بدر لأخذ عير المشركين ولا ينافي ذلك أن تكون كلمة الله هي العليا بل ذلك من إعلاء كلمة الله تعالى وأقرهم الله تعالى على ذلك بل قال تعالى: {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} ولم يذمهم بذلك مع أن في هذا الإخبار إخبارا لهم بمحبتهم للمال دون القتال فإعلاء كلمة الله يدخل فيه إخافة المشركين وأخذ أموالهم وقطع أشجارهم ونحوه وأما حديث أبي هريرة عند أبي داود أن رجلا قال يا رسول الله رجل يريد الجهاد في سبيل الله وهو يبتغي عرضا من الدنيا فقال لا أجر له فأعاد عليه ثلاثا كل ذلك يقول: "لا أجر له" فكأنه فهم صلى الله عليه وسلم أن الحامل هو العرض من الدنيا فأجابه بما أجاب وإلا فإنه قد كان تشريك الجهاد بطلب الغنيمة أمرا معروفا في الصحابة فإنه أخرج الحاكم والبيهقي بإسناد صحيح أن عبد الله بن جحش قال يوم أحد اللهم ارزقني رجلا شديدا أقاتله ويقاتلني ثم ارزقني عليه الصبر(4/44)
حتى أقتله وآخذ سلبه فهذا يدل على أن طلب العرض من الدنيا مع الجهاد كان أمرا معلوما جوازه للصحابة فيدعون الله بنيله
9- وعن عبد الله بن السعدي رضي الله عنه هو أبو محمد عبد الله بن السعدي وفي اسم السعدي أقوال وإنما قيل له السعدي لأنه كان مسترضعا في بني سعد سكن عبد الله الأردن ومات بالشام سنة خمسين على قول له صحبة ورواية قاله ابن الأثير ويقال فيه ابن السعدي نسبة إلى جده ويقال فيه ابن الساعدي كما في أبي داود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تنقطع الهجرة ما قوتل العدو" رواه النسائي وصححه ابن حبان دل الحديث على ثبوت حكم الهجرة وأنه باق إلى يوم القيامة فإن قتال العدو مستمر إلى يوم القيامة ولكنه لا يدل على وجوبها ولا كلام في ثوابها مع حصول مقتضيها وأما وجوبها ففيه ما عرفت
10- وعن نافع هو مولى بن عمر يقال أبو عبد الله نافع بن سرجس بفتح السين وسكون الراء وكسر الجيم كان من كبار التابعين من أهل المدينة سمع ابن عمر وأبا سعيد وهو من الثقات المشهورين بالحديث المأخوذ عنهم مات سنة سبع عشرة ومائة وقيل عشرين قال "أغار رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق" بضم الميم وسكون المهملة وفتح الطاء وكسر اللام بعدها قاف بطن شهير من خزاعة "وهم غارون" بالغين المعجمة وتشديد الراء جمع غار أي غافلون فأخذهم على غرة "فقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم" حدثني بذلك عبد الله بن عمر متفق عليه وفيه وأصاب يومئذ جويرية فيه مسألتان الأولى الحديث دليل على جواز المقاتلة قبل الدعاء إلى الإسلام في حق الكفار الذين قد بلغتهم الدعوة من غير إنذار وهذا أصح الأقوال الثلاثة في المسألة وهي عدم وجوب الإنذار مطلقا ويرد عليه حديث بريدة الآتي والثاني وجوبه مطلقا ويرد عليه هذا الحديث والثالث يجب إن لم تبلغهم الدعوة ولا يجب إن بلغتهم ولكن يستحب قال ابن المنذر وهو قول أكثر أهل العلم وعلى معناه تظاهرت الأحاديث الصحيحة وهذا أحدها وحديث كعب بن الأشرف وقتل ابن أبي الحقيق وغير ذلك وادعى في البحر الإجماع على وجوب دعوة من لم تبلغه دعوة الإسلام والثانية في قوله فسبى ذراريهم دليل على جواز استرقاق العرب لأن بني المصطلق عرب من خزاعة وإليه ذهب جمهور العلماء وقال به مالك وأصحابه وأبو حنيفة والأوزاعي وذهب آخرون إلى عدم جواز استرقاقهم وليس لهم دليل ناهض ومن طالع كتب السير والمغازي علم يقينا استرقاقه صلى الله عليه وسلم للعرب غير الكتابيين كهوازن وبني المصطلق وقال لأهل مكة "اذهبوا فأنتم الطلقاء" وفادى أهل بدر والظاهر أنه لا فرق بين الفداء والقتل والاسترقاق لثبوتها في غير العرب مطلقا وقد ثبت فيهم ولم يصح تخصيص ولا نسخ قال أحمد بن حنبل: لا أذهب إلى قول عمر ليس على عربي ملك وقد سبى النبي صلى الله عليه وسلم من العرب كما ورد(4/45)
في غير حديث وأبو بكر وعلي رضي الله عنهما سبيا بني ناجية ويدل له الحديث الآتي
11- وعن سليمان بن بريدة عن أبيه عن عائشة قالت "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على الجيش" هم الجند أو السائرون إلى الحرب أو غيره في نسخة لا غيرها أو سرية هي القطعة من الجيش تخرج منه تغير على العدو وترجع إليه "أوصاه في خاصته بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيرا" ثم قال "اغزوا على اسم الله في سبيل الله تعالى قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغلوا" بالغين المعجمة والغلول الخيانة في المغنم مطلقا "ولا تغدروا" الغدر ضد الوفاء "ولا تمثلوا" من المثلة يقال مثل بالقتيل إذا قطع أنفه أو أذنه أو مذاكيره أو شيئا من أطرافه "ولا تقتلوا وليدا" لمراد غير البالغ سن التكليف "وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال" أي إلى إحدى ثلاث خصال وبينها بقوله "فأيتهن أجابوك إليها فاقبل منهم وكف عنهم" أي القتال وبينها بقوله "ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين فإن أبوا فأخبرهم بأنهم يكونون كأعراب المسلمين" وبيان حكم أعراب المسلمين تضمنه قوله "ولا يكون لهم في الغنيمة" الغنيمة ما أصيب من مال أهل الحرب وأوجف عليه المسلمون بالخيل والركاب "والفيء" هو ما حصل للمسلمين من أموال الكفار من غير حرب ولا جهاد "شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين فإن هم أبوا" أي الإسلام "فاسألهم الجزية" وهي الخصلة الثانية من الثلاث "فإن هم أجابوك فأقبل منهم وإن هم أبوا فاستعن بالله تعالى وقاتلهم" وهذه هي الخصلة الثالثة "وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تفعل ولكن اجعل لهم ذمتك" علل النهي بقوله "فإنكم إن تخفروا" بالخاء المعجمة والفاء والراء من أخفرت الرجل إذا نقضت عهده وذمامه "ذممكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وأن أرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تفعل بل به على حكمك" علل النهي بقوله "فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله تعالى أم لا" أخرجه مسلم
في الحديث مسائل
الأولى: دل على أنه إذا بعث الأمير من يغزو أوصاه بتقوى الله وبمن يصحبه من المجاهدين خيرا ثم يخبره بتحريم الغلو من الغنيمة وتحريم الغدر وتحريم المثلة وتحريم قتل صبيان المشركين وهذه محرمات بالإجماع ودل على أنه يدعو أمير المشركين إلى الإسلام قبل قتالهم وظاهره وإن كان قد بلغتهم الدعوة لكنه مع بلوغها يحمل على الاستحباب كما دل له إغارته صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق وهم غارون وإلا وجب دعاؤهم وفيه دليل على دعائهم إلى الهجرة بعد إسلامهم وهو مشروع ندبا بدليل ما في الحديث من الإذن لهم في البقاء وفيه دليل على أن الغنيمة والفيء لا يستحقهما إلا المهاجرون وأن الأعراب(4/46)
بلا حق لهم فيهما إلا أن يحضروا الجهاد وإليه ذهب الشافعي وذهب غيره إلى خلافه وادعوا نسخ الحديث ولم يأتوا ببرهان على نسخه
المسألة الثانية: في الحديث دليل على أن الجزية تؤخذ من كل كافر كتابي أو غير كتابي عربي أو غير عربي لقوله عدوك وهو عام وإلى هذا ذهب مالك والأوزاعي وغيرهما وذهب الشافعي إلى أنها لا تقبل إلا من أهل الكتاب والمجوس عربا كانوا أو عجما لقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} بعد ذكر أهل الكتاب ولقوله صلى الله عليه سلم "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" وما عداهم داخلون في عموم قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} وقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} واعتذروا عن الحديث بأنه وارد قبل فتح مكة بدليل الأمر بالتحول والهجرة والآيات بعد الهجرة فحديث بريدة منسوخ أو متأول بأن المراد بعدوك من كان من أهل الكتاب قلت والذي يظهر عموم أخذ الجزية من كل كافر لعموم حديث بريدة وأما الآيات فأفادت أخذ الجزية من أهل الكتاب ولم تتعرض لأخذها من غيرهم ولا لعدم أخذها والحديث بين أخذها من غيرهم وحمل عدوك على أهل الكتاب في غاية البعد وإن قال ابن كثير في الإرشاد إن آية الجزية إنما نزلت بعد انقضاء حرب المشركين وعبدة الأوثان ولم يبق بعد نزولها إلا أهل الكتاب قاله تقوية لمذهب إمامه الشافعي ولا يخفى بطلان دعواه بأنه لم يبق بعد نزول آية الجزية إلا أهل الكتاب بل بقي عباد النيران من أهل فارس وغيرهم وعباد الأصنام من أهل الهند وأما عدم أخذها من العرب فلأنها لم تشرع إلا بعد الفتح وقد دخل العرب في الإسلام ولم يبق منهم محارب فلم يبق فيهم بعد الفتح من يسبي ولا من تضرب عليه الجزية بل من خرج بعد ذلك عن الإسلام منهم فليس إلا السيف أو الإسلام كما أن ذلك الحكم في أهل الردة وقد سبى صلى الله عليه وسلم قبل ذلك من العرب بني المصطلق وهوازن وهل حديث الاستبراء إلا في سبايا أوطاس واستمر هذا الحكم بعد عصره صلى الله عليه وسلم ففتحت الصحابة رضي الله عنهم بلاد فارس والروم وفي رعاياهم العرب خصوصا الشام والعراق ولم يبحثوا عن عربي من عجمي بل عمموا حكم السبي والجزية على جميع من استولوا عليه وبهذا يعرف أن حديث بريدة كان بعد نزول فرض الجزية وفرضها كان بعد الفتح فكان فرضها في السنة الثانية عند نزول سورة براءة ولذا نهى فيه عن المثلة ولم ينزل النهي عنها إلا بعد أحد وإلى هذا المعنى جنح ابن القيم في الهدي ولا يخفى قوته
المسألة الثالثة: تضمن الحديث النهي عن إجابة العدو إلى أن يجعل لهم الأمير ذمة الله وذمة رسوله بل يجعل لهم ذمته وقد علله بأن الأمير ومن معه إذا أخفروا ذمتهم أي نقضوا عهدهم فهو أهون عند الله من أن يخفروا ذمته تعالى وإن كان نقض الذمة محرما مطلقا قيل وهذا النهي للتنزيه لا للتحريم ولكن الأصل فيه التحريم ودعوى الإجماع على أنه للتنزيه لا تتم وكذلك تضمن النهي عن إنزالهم على حكم الله وعلله بأنه لا يدري أيصيب فيهم حكم الله أم لا فلا ينزلهم على شيء لا يدري أيقع أم لا بل ينزلهم(4/47)
على حكمه وهو دليل على أن الحق في مسائل الاجتهاد مع واحد وليس كل مجتهد مصيبا للحق وقد أقمنا أدلة حقية هذا القول في محل آخر
12- وعن كعب بن مالك رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد غزوة ورى" بفتح الواو وتشديد الراء أي سترها "بغيرها" متفق عليه وقد جاء الاستثناء في ذلك بلفظ إلا في غزوة تبوك فإنه أظهر لهم مراده وأخرجه أبو داود وزاد فيه ويقول الحرب خدعة وكانت توريته أنه إذا أراد قصد جهة سأل عن طريق جهة أخرى إيهاما أنه يريدها وإنما يفعل ذلك لأنه أتم فيما يريده من إصابة العدو وإتيانهم على غفلة من غير تأهبهم وفيه دليل على جواز مثل هذا وقد قال صلى الله عليه وسلم الحرب خدعة
13- وعن معقل بن النعمان بن مقرن بضم الميم وفتح القاف وتشديد الراء فنون ولم يذكر ابن الأثير معقل بن مقرن في الصحابة إنما ذكر النعمان ابن مقرن وعزا هذا الحديث إليه وكذلك البخاري وأبو داود والترمذي أخرجوه عن النعمان بن مقرن فينظر فما أظن لفظ معقل إلا سبق قلم والشارح وقع له أنه قال هو معقل بن النعمان بن مقرن المزني ولا يخفى أن النعمان هو ابن مقرن فإذا كان له أخ فهو معقل بن مقرن لا ابن النعمان قال ابن الأثير إن النعمان هاجر ومعه سبعة إخوة له يريد أنهم هاجروا كلهم معه فراجعت التقريب للمصنف فلم أجد فيه صحابيا يقال له معقل ابن النعمان ولا ابن مقرن بل فيه النعمان بن مقرن فتعين أن لفظ معقل في نسخ بلوغ المرام سبق قلم وهو ثابت فيما رأيناه من نسخة قال شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لم يقاتل أول النهار أخر القتال حتى ينعقد الشمس وتهب الرياح وينزل النصر رواه أحمد والثلاثة وصححه الحاكم وأصله في البخاري فإنه أخرجه عن النعمان بن مقرن بلفظ إذا لم يقاتل في أول النهار انتظر حتى تهب الأرواح وتحضر الصلاة قالوا والحكمة في التأخير إلى وقت الصلاة مظنة إجابة الدعاء وأما هبوب الرياح فقد وقع به النصر في الأحزاب كما قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا} الأحزاب فكان توخي هبوبها مظنة للنصر وقد علل بأن الرياح تهب غالبا بعد الزوال فيحصل بها تبريد حد السلاح للحرب والزيادة للنشاط ولا يعارض هذا ما ورد من أنه صلى الله عليه وسلم كان يغير صباحا لأن هذا في الإغارة وذلك عند المصادفة للقتال
14- وعن الصعب بن جثامة تقدم ضبطها في الحج قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقع في صحيح ابن حبان السائل هو الصعب ولفظه سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم وساقه بمعناه عن الدار من المشركين يبيتون بصيغة المضارع(4/48)
من بيته مبني للمجهول فيصيبون من نسائهم وذراريهم فقال: "هم منهم" متفق عليه وفي لفظ البخاري عن أهل الدار وهو تصريح بالمضاف المحذوف والتبييت الإغارة عليهم في الليل على غفلة مع اختلاطهم بصبيانهم ونسائهم فيصاب النساء والصبيان من غير قصد لقتلهم ابتداء وهذا الحديث أخرجه ابن حبان من حديث الصعب وزاد فيه عند نهى عنهم يوم حنين وهي مدرجة في حديث الصعب وفي سنن أبي داود زيادة في آخره قال سفيان قال الزهري ثم نهى رسول الله صلى الله عليه سلم بعد ذلك عن قتل النساء والصبيان ويؤيد أن النهي في حنين ما في البخاري قال النبي صلى الله عليه سلم لأحدهم الحق خالدا فقل له: "لا تقتل ذرية ولا عسيفا" وأول مشاهد خالد معه صلى الله عليه وسلم غزوة حنين كذا قيل ولا يخفى أنه قد شهد معه صلى الله عليه وسلم فتح مكة قبل ذلك وأخرج الطبراني في الأوسط من حديث عمر قال لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة أتى بامرأة مقتولة فقال: "ما كانت هذه تقاتل ونهى عن قتل النساء" وقد اختلف العلماء في هذا فذهب الشافعي وأبو حنيفة والجمهور إلى جواز قتل النساء والصبيان في البيات عملا برواية الصحيحين وقوله هم منهم أي في إباحة القتل تبعا لا قصدا إذا لم يمكن انفصالهم عمن يستحق القتل وذهب مالك والأوزاعي إلى أنه لا يجوز قتل النساء والصبيان بحال حتى إذا تترس أهل الحرب بالنساء والصبيان أو تحصنوا بحصن أو سفينة هما فيهما لم يجز قتالهم ولا تحريقهم وإليه ذهب الهادوية إلا أنهم قالوا في التترس يجوز قتل النساء والصبيان حيث جعلوا ترسا ولا يجوز إذا تترسوا بمسلم إلا مع خشية استئصال المسلمين ونقل ابن بطال وغيره اتفاق الجميع على عدم جواز القصد إلى قتل النساء والصبيان للنهي عن ذلك وفي قوله هم منهم دليل بإطلاقه لمن قال هم من أهل النار وهو ثالث الأقوال في المسألة والثاني أنهم من أهل الجنة وهو الراجح في الصبيان والأولى الوقف
15- وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل أي مشرك تبعه يوم بدر "ارجع فلن أستعين بمشرك" رواه مسلم ولفظه عن عائشة قالت خرج رسول الله صلى الله عليه سلم قبل بدر فلما كان بحرة الوبرة أدركه رجل قد كان تذكر فيه جرأة ونجدة ففرح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأوه فلما أدركه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم جئت لأتبعك وأصيب معك قال "أتؤمن بالله؟" قال لا قال: "فارجع فلن أستعين بمشرك" فلما أسلم أذن له والحديث من أدلة من قال لا يجوز الاستعانة بالمشركين في القتال وهو قول طائفة من أهل العلم وذهب الهادوية و أبو حنيفة وأصحابه إلى جواز ذلك قالوا لأنه صلى الله عليه وسلم استعان بصفوان بن أمية يوم حنين واستعان بيهود بني قينقاع ورضخ لهم أخرجه أبو داود في المراسيل وأخرجه الترمذي عن الزهري مرسلا ومراسيل الزهري ضعيفة قال الذهبي لأنه كان خطاء ففي إرساله شبهة تدليس وصحح البيهقي من حديث أبي حميد الساعدي أنه ردهم قال المصنف(4/49)
ويجمع بين الروايات بأن الذي رده يوم بدر تفرس فيه الرغبة في الإسلام فرده رجاء أن يسلم فصدق ظنه أو أن الاستعانة كانت ممنوعة فرخص فيها وهذا أقرب وقد استعان يوم حنين بجماعة من المشركين تألفهم بالغنائم وقد اشترط الهادوية أن يكون معه مسلمون يستقل بهم في إمضاء الأحكام وفي شرح مسلم أن الشافعي قال إن كان الكافر حسن الرأي في المسلمين ودعت الحاجة إلى الاستعانة استعين به وإلا فيكره ويجوز الاستعانة بالمنافق إجماعا لاستعانته صلى الله عليه وسلم بعبد الله بن أبي وأصحابه
16- وعن ابن عمر رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى امرأة مقتولة في بعض مغازيه فأنكر قتل النساء والصبيان" متفق عليه وقد أخرج الطبراني أنه صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة أتي بامرأة مقتولة فقال: "ما كانت هذه تقاتل" أخرجه عن ابن عمر فيحتمل أنها هذه وأخرج أبو داود في المراسيل عن عكرمة أنه صلى الله عليه وسلم رأى امرأة مقتولة بالطائف فقال: "ألم أنه عن قتل النساء من صاحبها" فقال رجل يا رسول الله أردفتها فأرادت أن تصرعني فتقتلني فقتلتها "فأمر بها أن توارى" ومفهوم قوله تقاتل وتقريره لهذا القاتل يدل على أنها إذا قاتلت قتلت وإليه ذهب الشافعي واستدل أيضا بما أخرجه أبو داود والنسائي وابن حبان من حديث رباح بن ربيع التميمي قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة فرأى الناس مجتمعين فرأى امرأة مقتولة فقال: "ما كانت هذه لتقاتل"
17- وعن سمرة قال قال رسول الله صلى الله عليه سلم: "اقتلوا شيوخ المشركين واستبقوا شرخهم" بالشين المعجمة وسكون الراء والخاء المعجمة هم الصغار الذين لم يدركوا ذكره في النهاية رواه أبو داود وصححه الترمذي وقال حسن غريب وفي نسخة صحيح وهو من رواية الحسن عن سمرة وفيها ما قدمناه والشيخ من استبانت فيه السن أو من بلغ خمسين سنة أو إحدى وخمسين كما في القاموس والمراد هنا الرجال المسان أهل الجلد والقوة على القتال ولم يرد الهرمى ويحتمل أنه أريد بالشيوخ من كانوا بالغين مطلقا فيقتل ومن كان صغيرا لا يقتل فيوافق ما تقدم من النهي عن قتل الصبيان ويحتمل أنه أريد بالشرخ من كان في أول الشباب فإنه يطلق عليه كما قال حسان:
إن شرخ الشباب والشعر ... الأسود مالم يعاص كان جنوبا
فإنه يستبقى رجاء إسلامه كما قال أحمد بن حنبل الشيخ لا يكاد يسلم والشباب أقرب إلى الإسلام فيكون الحديث مخصوصا بمن يجوز تقريره على الكفر بالجزية
18- وعن علي كرم الله وجهه أنهم تبارزوا يوم بدر رواه البخاري وأخرجه أبو داود مطولا وفي المغازي من البخاري عن علي كرم الله وجهه أنه قال أنا أول من يجثو للخصومة يوم القيامة قال قيس وفيهم أنزلت: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} قال هم الذين تبارزوا في بدر حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث رضي الله عنهم وشيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وتفصيله ما ذكره ابن إسحاق أنه برز عبيدة لعتبة وحمزة(4/50)
لشيبة وعلي للوليد وعند موسى بن عقبة فقتل علي وحمزة من بارزاهما واختلف عبيدة ومن بارزه بضربتين فوقعت الضربة في ركبة عبيدة فمات منها لما رجعوا بالصفراء ومال علي وحمزة على من بارز عبيدة فأعاناه على قتله والحديث دليل على جواز المبارزة وإلى ذلك ذهب الجمهور وذهب الحسن البصري إلى عدم جوازها وشرط الأوزاعي والثوري وأحمد وإسحاق إذن الأمير كما في هذه الرواية
19- وعن أبي أيوب رضي الله عنه قال إنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار يعني قوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} قاله ردا على من أنكر على من حمل على صف الروم حتى دخل فيهم رواه الثلاثة وصححه الترمذي وقال حسن صحيح غريب وابن حبان والحاكم أخرجه المذكورون من حديث أسلم بن يزيد أبي عمران قال كنا بالقسطنطينية فخرج صف عظيم من الروم فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى حصل فيهم ثم رجع فيهم مقبلا فصاح الناس سبحان الله ألقى بيده إلى التهلكة فقال أبو أيوب أيها الناس إنكم تؤولون هذه الآية على هذا التأويل وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار إنا لما أعز الله دينه وكثر ناصره قلنا بيننا سرا إن أموالنا قد ضاعت فلو أنا قمنا فيها وأصلحنا ما ضاع منها فأنزل الله تعالى هذه الآية فكانت التهلكة الإقامة التي أردنا وصح عن ابن عباس وغيره نحو هذا في تأويل الآية قيل وفيه دليل على جواز دخول الواحد في صف القتال ولو ظن الهلاك قلت أما ظن الهلاك فلا دليل فيه إذ لا يعرف ما كان ظن من حمل هنا وكأن القائل يقول إن الغالب في واحد يحمل على صف كبير أنه يظن الهلاك وقال المصنف في مسألة حمل الواحد على العدد الكثير من العدو أنه صرح الجمهور أنه إذا كان لفرط شجاعته وظنه أنه يرهب العدو بذلك أو يجرىء المسلمين عليهم أو نحو ذلك من المقاصد الصحيحة فهو حسن ومتى كان مجرد تهور فممنوع لا سيما إن ترتب على ذلك وهن المسلمين قلت وخرج أبو داود من حديث عطاء بن السائب قال ابن كثير ولا بأس به عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عجب ربنا من رجل غزا في سبيل الله فانهزم أصحابه فعلم ما عليه فرجع رغبة فيما عندي وشفقة مما عندي حتى أهريق دمه" قال ابن كثير والأحاديث والآثار في هذا كثيرة تدل على جواز المبارزة لمن عرف من نفسه بلاء في الحروب وشدة وسطوة
20- وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال حرق رسول الله صلى الله عليه وسلم نخل بني النضير وقطع متفق عليه يدل على جواز إفساد أموال أهل الحرب بالتحريق والقطع لمصلحة وفي ذلك نزلت الآية: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} الآية قال المشركون إنك تنهي عن الفساد في الأرض فما بال قطع الأشجار وتحريقها قال في معالم التنزيل اللينة فعلة من اللون ويجمع على ألوان وقيل من ماء اللين ومعناه النخلة الكريمة وجمعها لين وذهب الجماهير إلى جواز التحريق والتخريب في بلاد العدو وكرهه الأوزاعي وأبو ثور واحتجا بأن أبا بكر رضي الله عنه وصى جيوشه أن لا يفعلوا ذلك وأجيب بأنه رأى المصلحة في بقائها لأنه قد علم(4/51)
أنها تصير للمسلمين فأراد إبقاءها لهم وذلك يدور على ملاحظة المصلحة
21- وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تغلوا فإن الغلو" بضم الغين المعجمة وض اللام "نار وعار على أصحابه في الدنيا والآخرة" رواه أحمد والنسائي وصححه ابن حبان تقدم أن الغلول الخيانة قال ابن قتيبة سمي بذلك لأن صاحبه يغله في متاعه أي يخفيه وهو من الكبائر بالإجماع كما نقله النووي والعار الفضيحة ففي الدنيا أنه إذا ظهر افتضح به صاحبه وأما في الآخرة فلعل العار ما يفيده ما أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الغلول وعظم أمره فقال: "لا ألفين أحدكم يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء على رقبته فرس له حمحمة يقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك..." الحديث وذكر فيه البعير وغيره فإنه دل الحديث على أنه يأتي الغال بهذه الصفة الشنيعة يوم القيامة على رؤوس الأشهاد فلعل هذا هو العار في الآخرة للغال ويحتمل أنه شيء أعظم من هذا ويؤخذ من هذا الحديث أن هذا ذنب لا يغفر بالشفاعة لقول صلى الله عليه وسلم "لا أملك لك من الله شيئا" ويحتمل أنه أورده في محل التغليظ والتشديد ويحتمل أنه يغفر له بعد تشهيره في ذلك الموقف والحديث الذي سقناه ورد في خطاب العاملين على الصدقات فدل على أن الغلول عام لكل ما فيه حق للعباد وهو مشترك بين الغال وغيره فإن قلت هل يجب على الغال رد ما أخذ قلت قال ابن المنذر إنهم أجمعوا على أن الغال يعيد ما غل قبل القسمة وأما بعدها فقال الأوزاعي والليث ومالك يدفع إلى الإمام خمسه ويتصدق بالباقي وكان الشافعي لا يرى ذلك وقال إن كان ملكه فليس عليه أن يتصدق به وإن كان لم يملكه لم يتصدق به فليس له نظير بمال غيره والواجب أن يدفعه إلى الإمام كالأموال الضائعة
22- وعن عوف بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل رواه أبو داود وأصله عند مسلم ففيه دليل على أن السلب الذي يؤخذ من العدو الكافر يستحقه قاتله سواء قال الإمام قبل القتال من قتل قتيلا فله سلبه أو لا وسواء كان القاتل مقبلا أو منهزما وسواء كان ممن يستحق السهم في المغنم أو لا إذ قوله قضى بالسلب للقاتل حكم مطلق غير مقيد بشيء من الأشياء قال الشافعي وقد حفظ هذا الحكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواطن كثيرة منها يوم بدر فإنه صلى الله عليه وسلم حكم بسلب أبي جهل لمعاذ بن الجموح لما كان هو المؤثر في قتل أبي جهل وكذا في قتل حاطب ابن أبي بلتعة لرجل يوم أحد أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم سلبه رواه الحاكم والأحاديث في هذا الحكم كثيرة وقوله صلى الله عليه وسلم في يوم حنين "من قتل قتيلا فله سلبه" بعد القتال لا ينافي هذا بل هو مقرر للحكم السابق فإن هذا كان معلوما عند الصحابة من قبل حنين ولذا قال عبد الله بن جحش اللهم ارزقني رجلا شديدا إلى قوله أقتله وآخذ(4/52)
سلبه كما قدمنا قريبا وأما قول أبي حنيفة والهادوية إنه لا يكون السلب للقاتل إلا إذا قال الإمام قبل القتال مثلا من قتل قتيلا فله سلبه وإلا كان السلب من جملة الغنيمة بين الغانمين فإنه قول لا توافقة الأدلة وقال الطحاوي ذلك موكول إلى رأي الإمام فإنه صلى الله عليه وسلم أعطى سلب أبي جهل لمعاذ بن الجموح بعد قوله له ولمشاركه في قتله كلاكما قتله لما أرياه سيفيهما وأجيب عنه بأنه صلى الله عليه وسلم إنما أعطاه معاذا لأنه الذي أثر في قتله لما رأى عمق الجناية في سيفه وأما قوله: "كلاكما قتله" فإنه قاله تطييبا لنفس صاحبه وأما تخميس السلب الذي يعطاه القاتل فعموم الأدلة من الأحاديث قاضية بعدم تخميسه وبه قال أحمد وابن المنذر وابن جرير وآخرون كأنهم يخصصون عموم الآية فإنه أخرج حديث عوف بن مالك أبو داود وابن حبان بزيادة ولم يخمس السلب وكذلك أخرجه الطبراني واختلفوا هل تلزم القاتل البينة على أنه قتل من يريد أخذ سلبه فقال الليث والشافعي وجماعة من المالكية إنه لا يقبل قوله إلا بالبينة لورود ذلك في بعض الروايات بلفظ من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه وقال مالك والأوزاعي يقبل قوله بلا بينة قالوا لأنه صلى الله عليه وسلم قد قبل قول واحد ولم يحلفه بل اكتفى بقوله وذلك في قصة معاذ بن الجموح وغيرها فيكون مخصصا لحديث الدعوى والبينة
23- وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه في قصة قتل أبي جهل يوم بدر قال فابتدراه تسابقا إليه بسيفيهما أي ابني عفراء حتى قتلاه ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه فقال: "أيكما قتله هل مسحتما سيفيكما قالا لا قال فنظر فيهما" أي في سيفيهما فقال: "كلاكما قتله فقضى صلى الله عليه وسلم بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح" بفتح الجيم آخره حاء مهملة بزنة فعول متفق عليه استدل به على أن للإمام أن يعطي السلب لمن شاء وأنه مفوض إلى رأيه لأنه صلى الله عليه وسلم أخبر أن ابني عفراء قتلا أبا جهل ثم جعل سلبه لغيرهما وأجيب عنه أنه إنما حكم به صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن عمرو بن الجموح لأنه رأى أثر ضربته بسيفه هي المؤثرة في قتله لعمقها فأعطاه السلب وطيب قلب ابني عفراء بقوله كلاكما قتله وإلا فالجناية القاتلة له حصول معاذ بن عمرو ونسبة القتل إليهما مجاز أي كلاكما أراد قتله وقرينة المجاز إعطاء سلب المقتول لغيرهما وقد يقال هذا محل النزاع
24- وعن مكحول رضي الله عنه هو أبو عبد الله مكحول بن عبد الله الشامي كان من سبي كابل وكان مولى لامرأة من قيس وكان سنديا لا يفصح وهو عالم الشام ولم يكن أبصر منه بالفتيا في زمانه سمع من أنس بن مالك وواثلة وغيرهما ويروي عنه الزهري وغيره وربيعة الرأي وعطاء الخراساني مات سنة ثمان عشرة ومائة "أن النبي صلى الله عليه وسلم نصب المنجنيق على أهل الطائف" أخرجه أبو داود في المراسيل ورجاله ثقات ووصله العقيلي بإسناد ضعيف عن علي رضي الله عنه وأخرجه الترمذي عن ثور راويه عن مكحول ولم يذكر مكحولا فكان من قسم المعضل وقال السهيلي ذكر الرمي بالمنجنيق الواقدي(4/53)
كما ذكره مكحول وذكر أن الذي أشار به سلمان الفارسي وروى ابن أبي شيبة من حديث عبد الله بن سنان ومن حديث عبد الرحمن بن عوف أنه صلى الله عليه وسلم حاصرهم خمسا وعشرين ليلة ولم يذكر أشياء من ذلك وفي الصحيحين من حديث ابن عمر حاصر أهل الطائف شهرا وفي مسلم من حديث أنس أن المدة كانت أربعين ليلة وفي الحديث دليل أنه يجوز قتل الكفار إذا تحصنوا بالمنجنيق ويقاس عليه غيره من المدافع ونحوها
25- وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعلى رأسه المغفر بالغين المعجمة ففاء في القاموس المغفر كمنبر وبهاء وككتابة زرد من الدرع يلبس تحت القلنسوة أو حلق يتقنع بها المسلح فلما نزعه جاءه رجل فقال ابن خطل بفتح المعجمة وفتح الطاء المهملة متعلق بأستار الكعبة فقال: "اقتلوه" متفق عليه فيه دليل على أنه صلى الله عليه وسلم دخل مكة غير محرم يوم الفتح لأنه دخل مقاتلا ولكن يختص به ذلك فإنه محرم القتال فيها كما قال صلى الله عليه وسلم :"وإنما أحلت لي ساعة من نهار" الحديث وهو متفق عليه وأما أمره صلى الله عليه وسلم بقتل ابن خطل وهو أحد جماعة تسعة أمر صلى الله عليه وسلم بقتلهم ولو تعلقوا بأستار الكعبة فأسلم منهم ستة وقتل ثلاثة منهم ابن خطل وكان ابن خطل قد أسلم فبعثه النبي صلى الله عليه وسلم مصدقا وبعث معه رجلا من الأنصار وكان معه مولى يخدمه مسلما فنزل منزلا وأمر مولاه أن يذبح له تيسا ويصنع له طعاما فنام فاستيقظ ولم يصنع له شيئا فعدا عليه فقتله ثم ارتد مشركا وكانت له قينتان تغنيانه بهجاء النبي صلى الله عليه وسلم فأمر بقتلهما معه فقتلت إحداهما واستؤمن للأخرى فأمنها قال الخطابي قتله صلى الله عليه وسلم بحق ما جناه في الإسلام فدل على أن الحرم لا يعصم من إقامة واجب ولا يؤخره عن وقته انته وقد اختلف الناس في هذا فذهب مالك والشافعي إلى أنه يستوفي الحدود والقصاص بكل مكان وزمان لعموم الأدلة ولهذه القصة وذهب الجمهور من السلف والخلف وهو قول الهادوية إلى أنه لا يستوفى فيها حد لقوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} ولقوله صلى الله عليه وسلم "لا يسفك بها دم" وأجابوا عما احتج به الأولون بأنه لا عموم للأدلة في الزمان والمكان بل هي مطلقات مقيدة بما ذكرناه من الحديث وهو متأخر فإنه في يوم الفتح بعد شرعية الحدود وأما قتل ابن خطل ومن ذكر معه فإنه كان في الساعة التي أحلت فيها مكة لرسول الله صلى الله عليه وسلم واستمرت من صبيحة يوم الفتح إلى العصر وقد قتل ابن خطل وقت الضحى بين زمزم والمقام وهذا الكلام فيمن ارتكب حدا في غير الحرم ثم التجأ إليه وأما إذا ارتكب إنسان في الحرم ما يوجب الحد فاختلف القائلون بأنه لا يقام فيه حد فذهب بعض الهادوية أنه يخرج من الحرم ولا يقام عليه الحد وهو فيه وخالف ابن عباس فقال من سرق أو قتل في الحرم أقيم عليه في الحرم رواه أحمد عن طاوس عن ابن عباس وذكر الأثرم عن ابن عباس أيضا من أحدث حدثا في الحرم أقيم عليه الحد ما ماأحدث فيه من شيء والله تعالى يقول: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} ودل كلام(4/54)
ابن عباس رضي الله عنه أنه يقام فيه وفرقوا بينه وبين الملتجىء إليه بأن الجاني فيه هاتك لحرمته والملتجىء معظم لها ولأنه لم يقم الحد على من جنى فيه من أهله لعظم الفساد في الحرم وأدى إلى أن من أراد الفساد قصد إلى الحرم ليسكنه وفعل فيه ما تتقاضاه شهوته وأما الحد بغير القتل فيما دون النفس من القصاص ففيه خلاف أيضا فذهب أحمد في رواية أنه يستوفى لأن الأدلة إنما وردت فيمن سفك الدم وإنما ينصرف إلى القتل ولا يلزم في الحرم تحريم ما دونه لأن حرمة النفس أعظم والانتهاك بالقتل أشد ولأن الحد فيما دون النفس جار مجرى تأديب السيد عبده فلم يمنع منه وعنه رواية بعدم الاستيفاء لشيء عملا بعموم الأدلة ولا يخفى أن الحكم للأخص حيث صح أن سفك الدم لا ينصرف إلا إلى القتل قلت ولا يخفى أن الدليل خاص بالقتل والكلام من أدله في الحدود فلا بد من حملها على القتل إذ حد الزنا غير الرجم وحد الشرب والقذف يقام عليه
26- وعن سعيد بن جبير رضي الله عنه هو أبو عبد الله سعيد بن جبير بضم الجيم وفتح الباء الموحدة فمثناة فراء الأسدي مولي بني والبة بطن من بني أسد بن خزيمة كوفي أحد علماء التابعين سمع ابن مسعود وابن عباس وابن عمر وابن الزبير وأنسا وأخذ عنه عمرو بن دينار وأيوب قتله الحجاج سنة خمس وتسعين في شعبان منها ومات الحجاج في رمضان من السنة المذكورة "أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل يوم بدر ثلاثة صبرا" في القاموس صبر الإنسان وغيره على القتل أن يحبس ويرمى حتى يموت وقد قتله صبرا وصبرا عليه ورجل صبورة مصبور للقتل انتهى أخرجه أبو داود في المراسيل ورجاله ثقات والثلاثة هم طعيمة بن عدي والنضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط ومن قال بدل طعيمة المطعم بن عدي فقد صحف كما قاله المصنف وهذا دليل على جواز قتل الصبر إلا أنه قد روي عنه صلى الله عليه سلم برجال ثقات وفي بعضهم مقال "لا يقتلن قرشي بعد هذا صبرا" قاله صلى الله عليه وسلم بعد قتل ابن الأخطل يوم الفتح
27- وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فدى رجلين من المسلمين برجل من المشركين" أخرجه الترمذي وصححه وأصله عند مسلم فيه دليل على جواز مفاداة المسلم الأسير بأسير من المشركين وإلى هذا ذهب الجمهور وقال أبو حنيفة لا يجوز المفاداة ويتعين إما قتل الأسير أو استرقاقه وزاد مالك أو مفاداته بأسير وقال صاحبا أبي حنيفة يجوز المفاداة بغيره أو بمال أو قتل الأسير أو استرقاقه وقد وقع منه صلى الله عليه سلم قتل الأسير كما في قصة عقبة بن أبي معيط وفداؤه بالمال كما في أسارى بدر والمن عليه كما من على أبي غرة يوم بدر على أن لا يقاتل فعاد إلى القتال يوم أحد فأسره وقتله وقال في حقه لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين والاسترقاق وقع منه صلى الله عليه وسلم لأهل مكة ثم أعتقهم
28- وعن صخر رضي الله عنه بالصاد المهملة فخاء معجمة ساكنة فراء ابن العيلة بالعين المهملة مفتوحة وسكون المثناة التحتية ويقال ابن أبي العيلة عداده في أهل الكوفة وحديثه(4/55)
عندهم روى عنه عثمان بن أبي حازم وهو ابن ابنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن القوم إذا أسلموا أحرزوا دماءهم وأموالهم" أخرجه أبو داود ورجاله موثوقون وفي معناه الحديث المتفق عليه "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها أحرزوا دماءهم وأموالهم" الحديث وفي الحديث دليل على أن من أسلم من الكفار حرم دمه وماله وللعلماء تفصيل في ذلك قالوا من أسلم طوعا من دون قتال ملك ماله وأرضه وذلك كأرض اليمن وإن أسلموا بعد القتال فالإسلام قد عصم دماءهم وأما أموالهم فالمنقول غنيمة وغير المنقول فيء ثم اختلف العلماء في هذه الأرض التي صارت فيئا للمسلمين على أقوال الأول لمالك ونصره ابن القيم أنها تكون وقفا يقسم خراجها في مصالح المسلمين وأرزاق المقاتلة وبناء القناطر والمساجد وغير ذلك من سبل الخير إلا أن يرى الإمام في وقت من الأوقات أن المصلحة في قسمتها كان له ذلك قال ابن القيم وبه قال جمهور العلماء وكانت عليه سيرة الخلفاء الراشدين ونازع في ذلك بلال وأصحابه وقالوا لعمر اقسم الأرض التي فتحوها في الشام وقالوا له خذ خمسها واقسمها فقال عمر هذا غير المال ولكن أحبسه فيئا يجري عليكم وعلى المسلمين ثم وافق سائر الصحابة عمر رضي الله عنه وكذلك جرى في فتوح مصر وأرض العراق وأرض فارس وسائر البلاد التي فتحوها عنوة فلم يقسم منها الخلفاء الراشدون قرية واحدة ثم قال ووافقه على ذلك جمهور الأئمة وإن اختلفوا في كيفية بقائها بلا قسمة فظاهر مذهب الإمام أحمد وأكثر نصوصه على أن الإمام مخير فيها تخيير مصلحة لا تخيير شهوة فإن كان الأصلح للمسلمين قسمتها قسمها وإن كان الأصلح أن يقفها على المسلمين وقفها عليهم وإن كان الأصلح قسمة البعض ووقف البعض فعله فإن رسول الله صلى الله عليه سلم فعل الأقسام الثلاثة فإنه قسم أرض قريظة والنضير وترك قسمة مكة وقسم بعض خيبر وترك بعضها لما ينوبه من مصالح المسلمين وذهب الهادوية إلى أن الإمام مخير فيها بين الأصلح من الأربعة الأشياء إما القسم بين الغانمين أو يتركها لأهلها على خراج أو يتركها على معاملة من غلتها أو يمن بها عليهم قالوا وقد فعل مثل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم
29- وعن جبير رضي الله عنه بالجيم والموحدة والراء مصغرا ابن مطعم بزنة اسم الفاعل أي ابن عدي وجبير صحابي عارف بالأنساب مات سنة ثمان أو تسع وخمسين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في أسارى بدر: "لو كان المطعم بن عدي حيا" هو والد جبير "ثم كلمني في هؤلاء النتني" جمع نتن بالنون والمثناة الفوقية "لتركتهم له" رواه البخاري المراد بهم أسارى بدر وصفهم بالنتن لما هم عليه من الشرك كما وصف الله تعالى المشركين بالنجس والمراد لو طلب مني تركهم وإطلاقهم من الأسر بغير فداء لفعلت ذلك مكافأة له على يد كانت له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما رجع من الطائف دخل النبي صلى الله عليه وسلم في جوار المطعم بن عدي إلى(4/56)
مكة فإن المطعم بن عدي أمر أولاده الأربعة فلبسوا السلاح وقام كل واحد منهم عند الركن من الكعبة فبلغ ذلك قريشا فقالوا له أنت الرجل الذي لا تخفر ذمتك وقيل إن اليد التي كانت له أنه أعظم من سعى في نقض الصحيفة التي كانت كتبتها قريش في قطيعة بني هاشم ومن معهم من المسلمين حين حصروهم في الشعب وكان المطعم قد مات قبل موقعة بدر كما رواه الطبراني وفيه دليل على أنه يجوز ترك أخذ الفداء من الأسير والسماحة به لشفاعة رجل عظيم وأنه يكافأ المحسن وإن كان كافرا
30- وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال أصبنا سبايا يوم أوطاس لهن أزواج فتحرجوا فأنزل الله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} الآية أخرجه مسلم قال أبو عبيد البكري أوطاس واد في ديار هوازن والحديث دليل على انفساخ نكاح المسبية فالاستثناء على هذا متصل وإلى هذا ذهبت الهادوية والشافعي وظاهر الإطلاق سواء سبي معها زوجها أم لا ودلت أيضا على جواز الوطء ولو قبل إسلام المسبية سواء كانت كتابية أو وثنية إذ الآية عامة ولم يعلم أنه صلى الله عليه وسلم عرض على سبايا أوطاس الإسلام ولا أخبر أصحابه أنها لا توطأ مسبية حتى تسلم مع أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة ويدل لهذا ما أخرجه الترمذي من حديث العرباض بن سارية أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم وطء السبايا حتى يضعن ما في بطهونهن فجعل للتحريم غاية واحدة وهي وضع الحمل ولم يذكر الإسلام وما أخرجه في السنن مرفوعا "لا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقع على امرأة من السبي حتى يستبرئها" ولم يذكر الإسلام وأخرجه أحمد وأخرج أحمد أيضا "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا ينكح شيئا من السبايا حتى تحيض حيضة" ولم يذكر الإسلام ولا يعرف اشتراط الإسلام في المسبية في حديث واحد وقد ذهب إلى هذا طاوس وغيره وذهب الشافعي وغيره من الأئمة إلى أنه لا يجوز وطء المسبية بالملك حتى تسلم إذا لم تكن كتابية وسبايا أوطاس هن وثنيات فلا بد عندهم من التأويل بأن حلهن بعد الإسلام ولا يتم ذلك إلا لمجرد الدعوى فقد عرفت أنه لم يأت دليل بشرطية الإسلام
31- وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية" بفتح السين المهملة وكسر الراء وتشديد الياء "وأنا فيهم" قبل بكسر القاف وفتح الباء الموحدة أي "جهة نجد فغنموا إبلا كثيرة وكانت سهمانهم" بضم السين المهملة جمع سهم وهو النصيب "اثني عشر بعيرا ونفلوا بعيرا بعيرا" متفق عليه السرية قطعة من الجيش تخرج منه وتعود إليه وهي من مائة إلى خمسمائة والسرية التي تخرج بالليل والسارية التي تخرج بالنهار والمراد من قوله سهمانهم أي أنصباؤهم أي أنه بلغ نصيب كل واحد منهم هذا القدر أعني اثني عشر بعيرا والنفل زيادة يزادها الغازي على نصيبه من المغنم وقوله نفلوا مبني للمجهول فيحتمل أنه نفلهم أميرهم وهو قتادة ويحتمل أنه النبي صلى الله عليه وسلم وظاهر رواية الليث عن نافع عند مسلم أن القسم والتنفيل كان من أمير الجيش وقررالنبي(4/57)
صلى الله عليه وسلم ذلك لأنه قال ولم يغيره النبي صلى الله عليه وسلم وأما رواية ابن عمر عند مسلم أيضا بلفظ ونفلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيرا بعيرا فقد قال النووي نسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم لما كان مقررا لذلك ولكن الحديث عند أبي داود بلفظ فأصبنا نعما كثيرة وأعطانا أميرنا بعيرا بعيرا لكل إنسان ثم قدمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقسم بيننا غنيمتنا فأصاب كل رجل اثني عشر بعيرا بعد الخمس فدل على أن التنفيل من الأمير والقسمة منه صلى الله عليه وسلم وقد جمع بين الروايات بأن التنفيل كان من الأمير قبل الوصول إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثم بعد الوصول قسم النبي صلى الله عليه وسلم بين الجيش وتولى الأمير قبض ما هو للسرية جملة ثم قسم ذلك على أصحابه فمن نسب ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلكونه الذي قسم أولا ومن نسب ذلك إلى الأمير فباعتبار أنه الذي أعطى ذلك أصحابه آخرا وفي الحديث دليل على جواز التنفيل للجيش ودعوى أنه يختص ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم لا دليل عليه بل تنفيل الأمير قبل الوصول إليه صلى الله عليه وسلم في هذه القصة دليل على عدم الاختصاص وقول مالك إنه يكره أن يكون التنفيل بشرط من الأمير بأن يقول من فعل كذا فله كذا قال لأنه يكون القتال للدنيا فلا يجوز يرده قوله صلى الله عليه وسلم من قتل قتيلا فله سلبه سواء ما قاله صلى الله عليه وسلم قبل القتال أو بعده فإنه تشريع عام إلى يوم القيامة وأما لزوم كون القتال للدنيا فالعمدة الباعث عليه فإنه لا يصير قول الإمام من فعل كذا فله كذا قتاله للدنيا بعد الإعلام له أن المجاهد في سبيل الله من جاهد لتكون كلمة الله هي العليا فمن كان قصده إعلاء كلمة الله لم يضره أن يريد مع ذلك المغنم والاسترزاق كما قال صلى الله عليه وسلم "واجعل رزقي تحت ظل رمحي" واختلف العلماء هل يكون التنفيل من أصل الغنيمة أو من الخمس أو من خمس الخمس قال الخطابي أكثر ما روي من الأخبار يدل على أن النفل من أصل الغنيمة
32- وعنه أي ابن عمر قال قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر: "للفرس سهمين وللراجل سهما" متفق عليه واللفظ للبخاري ولأبي داود أي عن ابن عمر أسهم لرجل ولفرسه ثلاثة أسهم سهمين لفرسه وسهما له الحديث دليل على أنه يسهم لصاحب الفرس ثلاثة سهام من الغنيمة له سهم ولفرسه سهمان وإليه ذهب الناصر والقاسم ومالك والشافعي لهذا الحديث ولما أخرجه أبو داود من حديث أبي عمرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى للفرس سهمين ولكل إنسان سهما فكان للفارس ثلاثة أسهم" ولما أخرجه النسائي من حديث الزبير أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب له أربعة أسهم سهمين لفرسه وسهما له وسهما لقرابته يعني من النبي صلى الله عليه وسلم وذهبت الهادوية والحنفية إلى أن الفرس له سهم واحد لما في بعض روايات أبي داود بلفظ فأعطى للفارس سهمين وللراجل سهما وهو من حديث مجمع بن جارية ولا يقاوم حديث الصحيحين واختلفوا إذا حضر بفرسين فقال الجمهور لا يسهم إلا لفرس واحد ولا يسهم لها إلا إذا حضر بها القتال(4/58)
33- وعن معن بن يزيد بفتح الميم وسكون العين المهملة هو أبو يزيد معن بن يزيد السلمي بضم السين المهملة له ولأبيه ولجده صحبة شهدوا بدرا كما قيل ولا يعلم من شهد بدرا هو وأبوه وجده غيرهم وقيل لا يصح شهوده بدرا يعد في الكوفيين ابن يزيد قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا نفل" بفتح النون وفتح الفاء هو "الغنيمة إلا بعد الخمس" رواه أحمد وأبو داود وصححه الطحاوي المراد بالنفل هو ما يزيده الإمام لأحد الغانمين على نصيبه وقد اتفق العلماء على جوازه واختلفوا هل يكون من أصل الغنيمة أو من الخمس وحديث معن هذا ليس فيه دليل على أحد الأمرين بل غاية ما دل عليه أنها تخمس الغنيمة قبل التنفيل منها وتقدم ما قاله الخطابي من أن أكثر الأخبار دالة على أن التنفيل من أصل الغنيمة واختلفوا في مقدار التنفيل فقال بعضهم لا يجوز أن ينفل أكثر من الثلث أو من الربع كما يدل عليه قوله
34- وعن حبيب بن مسلمة بالحاء المهملة المفتوح وموحدتين بينهما مثناة تحتية وهو عبد الرحمن بن حبيب بن مسلمة القرشي الفهري وكان يقال له حبيب الروم لكثرة مجاهدته لهم ولاه عمر أعمال الجزيرة وضم إليه أرمينية وأذربيجان وكان فاضلا مجاب الدعوة مات بالشام أو بأرمينية سنة اثنتين وأربعين قال شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم نفل الربع في البدأة بفتح الباء الموحدة وسكون الدال المهملة والثلث في الرجعة رواه أبو داود وصححه ابن الجارود وابن حبان والحاكم دل الحديث أنه صلى الله عليه وسلم لم يجاوز الثلث في التنفيل وقال آخرون للإمام أن ينفل السرية جميع ما غنمت لقوله تعالى: {قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} ففوضها إليه صلى الله عليه وسلم والحديث لا دليل فيه على أنه لا ينفل أكثر من الثلث
واعلم أنه اختلف في تفسير الحديث فقال الخطابي رواية عن ابن المنذر إنه صلى الله عليه وسلم بين البدأة والقفول حين فضل إحدى العطيتين على الأخرى لقوة الظهر عند دخولهم وضعفه عند خروجهم ولأنهم وهم داخلون أنشط وأشهى للسير والإمعان في بلاد العدو وأجم وهم عند القفول لضعف دوابهم وأبدانهم وهم أشهى للرجوع إلى أوطانهم وأهاليهم لطول عهدهم بهم وحبهم للرجوع فيرى أنه زادهم في القفول لهذه العلة والله سبحانه وتعالى أعلم قال الخطابي بعد نقله كلام ابن المنذر هذا ليس بالبين لأن فحواه يوهم أن الرجعة هي القفول إلى أوطانهم وليس هو معنى الحديث والبدأة إنما هي ابتداء السفر للغزو إذا نهضت سري من جملة العسكر فإذا وقعت بطائفة من العدو فما غنموا كان لهم فيه الربع ويشركهم سائر العسكر في ثلاثة أرباعه فإن قفلوا من الغزوة ثم رجعوا فأوقعوا بالعدو ثانية كان لهم مما غنموا الثلث لأن نهوضهم بعد القفول أشد لكون العدو على حذر وحزم انتهى وما قاله هو الأقرب
35- وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفل بعض من يبعث من سرايا لأنفسهم خاصة سوى قسمة عامة الجيش" متفق عليه فيه أنه(4/59)
صلى الله عليه وسلم لم يكن ينفل كل من يبعثه بل بحسب ما يراه من المصلحة في التنفيل
36- وعنه أي ابن عمر قال كنا نصيب في مغازينا العسل والعنب فنأكله ولا نرفعه رواه البخاري ولأبي داود أي عن ابن عمر فلم يؤخذ منهم الخمس وصححها ابن حبان لا نرفعه لا نحمله على سبيل الادخار أو لا نرفعه إلى من يتولى أمر الغنيمة ونستأذنه في أكله اكتفاء بما علم من الإذن في ذلك وذهب الجمهور إلى أنه يجوز للغانمين أخذ القوت وما يصلح به وكل طعام اعتيد أكله عموما وكذلك علف الدواب قبل القسمة سواء كان بإذن الإمام أو بغير إذنه ودليلهم هذا الحديث وما أخرجه الشيخان من حديث ابن مغفل قال أصبت جراب شحم يوم خيبر فقلت لا أعطي منه أحدا فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتسم وهذه الأحاديث مخصصة لأحاديث النهي عن الغلول ويدل له أيضا الحديث الآتي وهو قوله
37- وعن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال أصبنا طعاما يوم خيبر فكان الرجل يجيء فيأخذ منه قدر ما يكفيه ثم ينصرف أخرجه أبو داود وصححه ابن الجارود والحاكم فإنه واضح في الدلالة على أخذ الطعام قبل القسمة وقبل التخميس قاله الخطابي وأما سلاح العدو ودوابهم فلا أعلم بين المسلمين خلافا في جواز استعمالها فأما إذا انقضت الحرب فالجواب ردها في المغنم وأما الثياب والحرث والأدوات فلا يجوز أن يستعمل شيء منها إلا أن يقول قائل إنه إذا احتاج إلى شيء منها لحاجة ضرورية كان له أن يستعمله مثل أن يشتد البرد فيستدفىء بثوب ويتقوى به على المقام في بلاد العدو مرصدا له لقتالهم وسئل الأوزاعي عن ذلك فقال لا يلبس الثوب إلا أن يخاف الموت قلت الحديث الآتي
38- وعن رويفع بن ثابت رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يركب دابة من فيء المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه ولا يلبس ثوبا من فيء المسلمين حتى إذا أخلقه رده فيه" أخرجه أبو داود والدارمي ورجاله لا بأس بهم يؤخذ منه جواز الركوب ولبس الثوب وإنما يتوجه النهي إلى الإعجاف والإخلاق للثوب فلو ركب من غير إعجاف ولبس من غير إخلاق وإتلاف جاز
39- وعن أبي عبيدة بن الجراح بالجيم والراء والحاء المهملة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يجير" بالجيم والراء بينهما مثناة تحتية من الإجارة وهي الأمان "على المسلمين بعضهم" أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد وفي إسناده ضعف لأن في إسناده الحجاج بن أرطاة ولكنه يجبر ضعفه الحديث الآتي وهو قوله
40- وللطيالسي من حديث عمرو بن العاص "يجير على المسلمين أدناهم" وفي الصحيحين وهو
41- عن علي رضي الله عنه "ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم" زاد ابن ماجه(4/60)
من حديث علي أيضا من وجه آخر "ويجير عليهم أقصاهم" كالدفع لتوهم أنه لا يجير إلا أدناهم فتدخل المرأة في جواز إجارتها على المسلمين كما أفاده الحديث الآتي
42- وفي الصحيحين من حديث أم هانىء بنت أبي طالب قيل أسمها هند وقيل فاطمة وهي أخت علي بن أبي طالب عليه السلام "قد أجرنا من أجرت" وذلك أنها أجارت رجلين من أحمائها وجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تخبره أن عليا أخاها لم يجز إجارتها فقال صلى الله عليه وسلم: "قد أجرنا" الحديث والأحاديث دالة على صحة أمان الكافر من كل مسلم ذكر أو أنثى حر أم عبد مأذون أو غير مأذون لقوله أدناهم فإنه شامل لكل وضيع وتعلم صحة أمان الشريف بالأولى وعلى هذا جمهور العلماء إلا عند جماعة من أصحاب مالك فإنهم قالوا لا يصح أمان المرأة إلا بإذن الإمام وذلك لأنهم حملوا قوله صلى الله عليه وسلم لأم هانىء قد أجرنا من أجرت على أنه إجازة منه قالوا فلو لم يجز لم يصح أمانها وحمله الجمهور على أنه صلى الله عليه وسلم أمضى ما وقع منها وأنه قد انعقد أمانها لأنه صلى الله عليه وسلم سماها مجيرة ولأنها داخلة في عموم المسلمين في الحديث على ما يقوله بعض أئمة الأصول أو من باب التغليب بقرينة الحديث الآتي
43-وعن عمر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلما" رواه مسلم وأخرجه أحمد بزيادة لئن عشت إلى قابل وأخرج الشيخان من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه سلم أوصى عند موته بثلاث أخرجوا المشركين من جزيرة العرب وأخرج البيهقي من حديث مالك عن ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يجتمع دينان في جزيرة العرب" قال مالك قال ابن شهاب ففحص عمر عن ذلك حتى أتاه الثلج واليقين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يجتمع دينان في جزيرة العرب" فأجلى يهود خيبر قال مالك وقد أجلى يهود نجران وفدك أيضا والحديث دليل على وجوب إخراج اليهود والنصارى والمجوس من جزيرة العرب لعموم قوله "لا يجتمع دينان في جزيرة العرب " وهو عام لكل دين والمجوس بخصوصهم حكمهم حكم أهل الكتاب كما عرفت وأما حقيقة جزيرة العرب فقال مجد الدين في القاموس جزيرة العرب ما أحاط به بحر الهند وبحر الشام عند دجلة والفرات أو ما بين عدن أبين إلى أطراف الشام طولا ومن جدة إلى أطراف ريف العراق عرضا انتهى وأضيفت إلى العرب لأنها كانت أوطانهم قبل الإسلام وأوطان أسلافهم وهي تحت أيديهم وبما تضمنته الأحاديث من وجوب إخراج من له دين غير الإسلام من جزيرة العرب قال مالك والشافعي وغيرهما إلا أن الشافعي والهادوية خصوا ذلك بالحجاز قال الشافعي وإن سأل من يعطي الجزية أن يعطيها ويجري عليه الحكم على أن يسكن الحجاز لم يكن له ذلك والمراد بالحجاز مكة والمدينة واليمامة ومخاليفها كلها وفي القاموس الحجاز مكة والمدينة والطائف ومخاليفها كأنها حجزت بين نجد وتهامة أو بين نجد والسراة(4/61)
أو لأنها احتجزت بالحرار الخمس حرة بني سليم وراقم وليلى وشوران والنار قال الشافعي ولا أعلم أحدا أجلى أحدا من أهل الذمة من اليمن وقد كانت بها ذمة وليس اليمن بحجاز فلا يجليهم أحد من اليمن ولا بأس أن يصالحهم على مقامهم باليمن قلت لا يخفى أن الأحاديث الماضية فيها الأمر بإخراج من ذكر من أهل الأديان غير دين الإسلام من جزيرة العرب والحجاز بعض جزيرة العرب وورد في حديث أبي عبيدة الأمر بإخراجهم من الحجاز وهو بعض مسمى جزيرة العرب والحكم على بعض مسمياتها بحكم لا يعارض الحكم عليها كلها بذلك الحكم كما قرر في الأصول أن الحكم على بعض أفراد العام لا يخصص العام وهذا نظيره وليست جزيرة العرب من ألفاظ العموم كما وهم فيه جماعة من العلماء وغاية ما أفاده حديث أبي عبيدة زيادة التأكيد في إخراجهم من الحجاز لأنه دخل إخراجهم من الحجاز تحت الأمر بإخراجهم من جزيرة العرب ثم أفرد بالأمر زيادة تأكيد لا أنه تخصيص أو نسخ وكيف وقد كان آخر كلامه صلى الله عليه وسلم اخرجوا المشركين من جزيرة العرب كما قال ابن عباس أوصى عند موته وأخرج البيهقي من حديث مالك عن إسماعيل بن أبي حكيم أنه سمع عمر بن عبد العزيز يقول بلغني أنه كان من آخر ما تكلم به رسول الله صلى الله عليه سلم أنه قال قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد لا يبقين دينان بأرض العرب وأما قول الشافعي إنه لا يعلم أحدا أجلاهم من اليمن فليس ترك إجلائهم بدليل فإن أعذار من ترك ذلك كثيرة وقد ترك أبو بكر رضي الله عنه إجلاء أهل الحجاز مع الاتفاق على وجوب إجلائهم لشغله بجهاد أهل الردة لم يكن ذلك دليلا على أنهم لا يجلون بل أجلاهم عمر رضي الله عنه وأما القول بأنه صلى الله عليه سلم أقرهم في اليمن بقوله لمعاذ خذ من كل حالم دينارا أو عدله معافريا فهذا كان قبل أمره صلى الله عليه وسلم بإخراجهم فإنه كان عند وفاته كما عرفت فالحق وجوب إجلائهم من اليمن لوضوح دليله وكذا القول بأن تقريرهم في اليمن قد صار إجماعا سكوتيا لا ينهض على دفع الأحاديث فإن السكوت من العلماء على أمر وقع من الآحاد أو من خليفة أو غيره من فعل محظور أو ترك واجب لا يدل على جواز ما وقع ولا على جواز ما ترك فإنه إن كان الواقع فعلا أو تركا لمنكر وسكتوا لم يدل سكوتهم على أنه ليس بمنكر لما علم من أن مراتب الإنكار ثلاث باليد أو اللسان أو القلب وانتفاء الإنكار باليد واللسان لا يدل على انتفائه بالقلب وحينئذ فلا يدل سكوته على تقريره لما وقع حتى يقال قد أجمع عليه إجماعا سكوتيا إذ لا يثبت أنه قد أجمع الساكت إلا إذا علم رضاه بالواقع ولا يعلم ذلك إلا علام الغيوب وبهذا يعرف بطلان القول بأن الإجماع السكوتي حجة ولا أعلم أحدا قد حرر هذا في رد الإجماع السكوتي مع وضوحه والحمد لله المنعم المتفضل فقد أوضحناه في رسالة مستقلة فالعجب ممن قال ومثله قد يفيد القطع وكذلك قول من قال إنه يحتمل أن حديث الأمر بالإخراج كان عند سكوتهم بغير جزية باطل لأن الأمر بإخراجهم عند وفاته صلى الله عليه وسلم والجزية فرضت في التاسعة من الهجرة عند(4/62)
نزول براءة فكيف يتم هذا ثم إن عمر أجلى أهل نجران وقد كان صالحهم صلى الله عليه وسلم على مال واسع كما هو معروف وهو جزية والتكلف لتقويم ما عليه الناس ورد ما ورد من النصوص بمثل هذه التأويلات مما يطيل تعجب الناظر المنصف قال النووي قال العلماء رحمهم الله تعالى ولا يمنع الكفار من التردد مسافرين إلى الحجاز ولا يمكثون فيه أكثر من ثلاثة أيام قال الشافعي ومن وافقه إلا مكة وحرمها فلا يجوز تمكين كافر من دخولها بحال فإن دخل في خفية وجب إخراجه فإن مات ودفن فيه نبش وأخرج ما لم يتغير وحجته قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ}
قلت: ولا يخفى أن الباديان هم المجوس والمجوس حكمهم من حكم أهل الكتاب لحديث سنوا بهم سنة أهل الكتاب فيجب إخراجهم من أرض اليمن ومن كل محل من جزيرة العرب وعلى فرض أنهم ليسوا بمجوس فالدليل على إخراجهم دخولهم تحت لا يجتمع دينان في أرض العرب
44- وعنه أي عمر رضي الله عنه قال: كانت أموال بني النضير بفتح النون وكسر الضاد المعجمة بعدها مثناة تحتية مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف الإيجاف من الوجف وهو السير السريع عليه المسلمون بخيل ولا ركاب الركاب بكسر الراء الإبل فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة فكان ينفق على أهله نفقة سنة وما بقي يجعله في الكراع بالراء والعين المهملة بزنة غراب اسم لجمع الخيل والسلاح عدة في سبيل الله تعالى متفق عليه بنو النضير قبيلة كبيرة من اليهود وادعهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد قدومه إلى المدينة على أن لا يحاربوه وأن لا يعينوا عليه عدوه وكانت أموالهم ونخيلهم ومنازلهم بناحية المدينة فنكثوا العهد وسار معهم كعب بن الأشرف في أربعين راكبا إلى قريش فحالفهم وكان ذلك على رأس ستة أشهر من وقعة بدر كما ذكره الزهري وذكر ابن إسحاق في المغازي أن ذلك كان بعد قصة أحد وبئر معونة وخرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم يستعينهم في دية رجلين قتلهما عمرو بن أمية الضمري من بني عامر فجلس النبي صلى الله عليه وسلم إلى جنب جدار لهم فتمالؤا على إلقاء صخرة عليه من فوق ذلك الجدار وقام بذلك عمرو بن جحاش بن كعب فأتاه الخبر من السماء فقام مظهرا أنه يقضي حاجة وقال لأصحابه لا تبرحوا ورجع مسرعا إلى المدينة فستبطئه أصحابه فأخبروا أنه رجع إلى المدينة فلحقوا به فأمر بحربهم والمسير إليهم فتحصنوا فأمر بقطع النخل والتحريق وحاصرهم ست ليال وكان ناس من المنافقين بعثوا إليهم أن اثبتوا وتمنعوا فإن قوتلتم قاتلنا معكم فتربصوا فقذف الله الرعب في قلوبهم فلم ينصروهم فسألوا أن يجلوا من أرضهم على أن لهم ما حملت الإبل فصولحوا على ذلك إلا الحلقة بفتح الحاء المهملة وفتح اللام فقاف وهي السلاح فخرجوا إلى أذرعات وأريحاء من الشام وآخرون إلى الحيرة ولحق آل أبي الحقيق وآل حيي بن أخطب بخيبر وكانوا أول من أجلي من اليهود كما قال تعالى لأول الحشر والحشر الثاني من خيبر في أيام عمر رضي الله عنه وقوله -مما أفاء الله على رسوله- الفيء ما أخذ بغير قتال قال في نهاية المجتهد إنه لا خمس فيه عند جمهور العلماء وإنما لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب(4/63)
لأن بني النضير كانت على ميلين من المدينة فمشوا إليها مشاء غير رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه ركب جملا أو حمارا ولم تنل أصحابه صلى الله عليه وسلم مشقة في ذلك وقوله كان ينفق على أهله أي مما استبقاه لنفسه والمراد أنه يعزل لهم نفقة سنة ولكنه كان ينفقه قبل انقضاء السنة في وجوه الخير ولا يتم عليه السنة ولهذا توفي صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة على شعير استدانه لأجله وفيه دلالة على جواز ادخار قوت سنة وأنه لا ينافي التوكل وأجمع العلماء على جواز الادخار مما يستغله الإنسان من أرضه وأما إذا أراد أن يشتريه من السوق ويدخره فإن كان في وقت ضيق الطعام لم يجز بل يشتري ما لا يحصل به تضييق على المسلمين كقوت أيام أو أشهر وإن كان في وقت سعة اشترى قوت السنة وهذا التفصيل نقله القاضي عياض عن أكثر العلماء
45- وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر فأصبنا فيها غنما فقسم فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم طائفة وجعل بقيتها في المغنم رواه أبو داود ورجاله لا بأس بهم الحديث من أدلة التنفيل وقد سلف الكلام فيه فلو ضمه المصنف رحمه الله إليها لكان أولى
46- وعن أبي رافع رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لا أخيس" بالخاء المعجمة فمثناة تحتية فسين مهملة في النهاية لا أنقضه بالعهد "ولا أحبس الرسل" رواه أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان في الحديث دليل على حفظ العهد والوفاء به ولو لكافر وعلى أنه لا يحبس الرسول بل يرد جوابه فكأن وصوله أمان له فلا يجوز أن يحبس بل يرد
47- وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أيما قرية أتيتموها فأقمتم فيها فسهمكم فيها وأيما قرية عصت الله ورسوله فإن خمسها لله ورسوله ثم هي لكم" رواه مسلم "
قال القاضي عياض في شرح مسلم: يحتمل أن يكون المراد بالقرية الأولى هي التي لم يوجف عليها المسلمون بخيل ولا ركاب بل أجلى عنها أهلها وصالحوا فيكون سهمهم فيها أي حقهم من العطاء كما تقرر في الفيء ويكون المراد بالثانية ما أخذت عنوة فيكون غنيمة يخرج منها الخمس والباقي للغانمين وهو معنى قوله هي لكم أي باقيها وقد احتج به من لم يوجب الخمس في الفيء قال ابن المنذر لا نعلم أحدا قبل الشافعي قال بالخمس في الفيء(4/64)
باب الجزية والهدنة
الأظهر في الجزية أنها مأخوذة من الإجزاء لأنها تكفي من توضع عليه في عصمة دمه والهدنة هي متاركة أهل الحرب مدة معلومة لمصلحة ومشروعية الجزية سنة تسع على الأظهر وقيل سنة ثمان(4/64)
1- عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها" يعني الجزية "من مجوس هجر" رواه البخاري وله طريق في الموطأ فيها انقطاع وهي ما أخرجه الشافعي عن ابن شهاب أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "أخذ الجزية من مجوس البحرين" قال البيقهي وابن شهاب إنما أخذ حديثه عن ابن المسيب وابن المسيب حسن المرسل فهذا هو الانقطاع الذي أشار إليه المصنف وأخرج الشافعي من حديث عبد الرحمن أن عمر بن الخطاب ذكر المجوس فقال لا أدري كيف أصنع في أمرهم فقال عبد الرحمن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" وأخرج أبو داود والبيهقي عن ابن عباس قال جاء رجل من مجوس هجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلما خرج قلت له ما قضى الله ورسوله فيكم قال شرا قلت مه قال الإسلام أو القتل قال وقال عبد الرحمن بن عوف قبل منهم الجزية قال ابن عباس وأخذ الناس بقول عبد الرحمن وتركوا ما سمعت قلت لأن رواية عبد الرحمن موصولة وصحيحة ورواية ابن عباس هي عن مجوسي لا تقبل اتفاقا وأخرج الطبراني عن مسلم بن علاء الحضرمي في آخر حديثه بلفظ "سنوا بالمجوس سنة أهل الكتاب" وأخرج البيهقي عن المغيرة في حديث طويل مع فارس وقال فيه "فأمرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدوا الجزية" وكان أهل فارس مجوسا فدلت هذه الأحاديث على أخذ الجزية من المجوس عموما ومن أهل هجر خصوصا كما دلت الآية على أخذها من أهل الكتاب اليهود والنصارى قال الخطابي وفي امتناع عمر رضي الله عنه من أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر دليل على أن رأي الصحابة أن لا تؤخذ الجزية من كل مشرك كما ذهب إليه الأوزاعي وإنما تقبل من أهل الكتاب وقد اختلف العلماء في المعنى الذي من أجله أخذت الجزية منهم فذهب الشافعي في أغلب قوليه إلى أنها إنما قبلت منهم لأنهم من أهل الكتاب وروي ذلك عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقال أكثر أهل العلم إنهم ليسوا من أهل الكتاب وإنما أخذت الجزية من اليهود والنصارى بالكتاب ومن المجوس بالسنة انتهى قلت قدمنا لك أن الحق أخذ الجزية من كل مشرك كما دل له حديث بريدة ولا يخفى أن في قوله "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" ما يشعر بأنهم ليسوا بأهل الكتاب ويدل لما قدمناه قوله
2- وعن عاصم بن عمر هو أبو عمرو عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه العدوي القرشي ولد قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنتين وكان وسيما جسيما خيرا فاضلا شاعرا مات سنة سبعين قبل موت أخيه عبد الله بأربع سنين وهو جد عمر بن عبد العزيز لأمه روى عنه أبو أمامة ابن سهل بن حنيف وعروة بن الزبير عن أنس أي ابن مالك وعن عثمان بن أبي سليمان رضي الله عنه أي ابن جبير بن مطعم القرشي المكي سمع أبا سلمة بن عبد الرحمن وعامر بن عبد الله بن الزبير وغيرهم "أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد إلى أكيدر" بضم الهمزة بعد الكاف مثناة تحتية فدال مهملة فراء "دومة(4/65)
بضم الدال المهملة وسكون الواو ودومة الجندل اسم محل "فأخذوه وأتوا به فحقن له دمه وصالحه على الجزية" رواه أبو داود قال الخطابي أكيدر دومة رجل من العرب يقال إنه من غسان ففي هذا دليل على أخذ الجزية من العرب كجوازه من العجم انتهى قلت فهو من أدلة ما قدمناه وكان صلى الله عليه وسلم بعث خالدا من تبوك والنبي صلى الله عليه وسلم بها في آخر غزاة غزاها وقال لخالد إنك تجده يصيد البقر فمضى خالد حتى إذا كان من حصنه بمبصر العين في ليلة مقمرة أقام وجاءت بقر الوحش حتى حكت قرونها بباب القصر فخرج إليها أكيدر في جماعة من خاصته فتلقتهم جند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذوا أكيدر وقتلوا أخاه حسان فحقن رسول الله دمه وكان نصرانيا واستلب خالد من حسان قباء ديباج مخوصا بالذهب وبعث به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجار خالد أكيدرا من القتل حتى يأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يفتح له دومة الجندل ففعل وصالحه على ألفي بعير وثمانمائة رأس وألفي درع وأربعمائة رمح فعزل رسول الله صلى الله عليه وسلم صفيه خالصا ثم قسم الغنيمة الحديث وفيه "أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاه إلى الإسلام فأبى فأقره على الجزية"
3- وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: "بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وأمرني أن آخذ من كل حالم دينارا أو عدله" بالعين المهملة مفتوحة وتكسر المثل وقيل بالفتح ما عادل من جنسه وبالكسر ما ليس من جنسه وقيل بالعكس كما في النهاية ثم دال مهملة "معافريا" بفتح الميم فعين مهملة بعدها ألف ففاء وراء بعدها ياء النسبة إلى معافر وهي بلد ظاهرا تصنع فيها الثياب فنسبت إليها فالمراد أو عدله ثوبا معافريا أخرجه الثلاثة وصححه ابن حبان والحاكم وقال الترمذي حديث حسن وذكر أن بعضهم رواه مرسلا وأنه أصح وأعله ابن حزم بالانقطاع وأن مسروقا لم يلق معاذا وفيه نظر وقال أبو داود إنه منكر قال وبلغني عن أحمد أنه كان ينكر هذا الحديث إنكارا شديدا قال البيهقي إنما المنكر رواية أبي معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن مسروق عن معاذ فأما رواية الأعمش عن أبي وائل عن مسروق فإنها محفوظة قد رواها عن الأعمش جماعة منهم سفيان الثوري وشعبة ومعمر وأبو عوانة ويحيى بن شعبة وحفص بن غياث وقال بعضهم عن معاذ وقال بعضهم إن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن أو معناه والحديث دليل على تقدير الجزية بالدينار من الذهب على كل حالم أي بالغ وفي رواية محتلم وظاهر إطلاقه سواء كان غنيا أو فقيرا والمراد أنه يؤخذ الدينار ممن ذكر في السنة وإلى هذا ذهب الشافعي فقال أقل ما يؤخذ من أهل الذمة دينار عن كل حالم وبه قال أحمد فقال الجزية دينار أو عدله من المعافري لا يزاد عليه ولا ينقص إلا أن الشافعي جعل ذلك حدا في جانب القلة وأما الزيادة فتجوز لما أخرجه أبو داود من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح أهل نجران على ألفي(4/66)
حلة النصف في محرم والنصف في رجب يؤدونها إلى المسلمين وعارية ثلاثين درعا وثلاثين فرسا وثلاثين بعيرا وثلاثين من كل صنف من أصناف السلاح يغزو بها المسلمون ضامنين لها حتى يردوها عليهم إن كان باليمن كيد قال الشافعي وقد سمعت بعض أهل العلم من المسلمين ومن أهل الذمة من أهل نجران يذكر أن قيمة ماأخذوا من كل واحد أكثر من دينار وإلى هذا ذهب عمر فإنه أخذ زائدا على الدينار وذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا توقيف في الجزية في القلة ولا في الكثرة وأن ذلك موكول إلى نظر الإمام ويجعل هذه الأحاديث محمولة على التخيير والنظر في المصلحة وفي الحديث دليل على أنها لا تؤخذ الجزية من الأنثى لقوله حالم قال في نهاية المجتهد اتفقوا على أنه لا يجب الجزية إلا بثلاثة أوصاف الذكورة والبلوغ والحرية واختلفوا في المجنون والمقعد والشيخ وأهل الصوامع والفقير قال وكل هذه مسائل اجتهادية ليس فيها توقيف شرعي قال وسبب اختلافهم هل يقتلون أم لا ا ه هذا وأما رواية البيهقي عن الحكم بن عتيبة أنه صلى الله عليه وسلم كتب إلى معاذ باليمن على كل حالم أو حالمة دينارا أوقيمته فاسنادها منقطع وقد وصله أبو شيبة عن الحكم بن عتيبة عن مقسم عن ابن عباس بلفظ "فعلى كل حالم دينار أو عدله من المعافر ذكر أو أنثى حر أو عبد دينار أو عوضه من الثياب" لكنه قال البيهقي أبو شيبة ضعيف وفي الباب عن عمرو بن حزم ولكنه منقطع وعن عروة وفيه انقطاع وعن معمر عن الأعمش عن أبي وائل عن مسروق عن معاذ وفيه وحالمة لكن قال أئمة الحديث إن معمرا إذا روى الزهري غلط كثيرا وبه يعرف أنه لم يثبت في أخذ الجزية من الأنثى حديث يعمل به وقال الشافعي سألت محمد بن خالد وعبد الله بن عمرو بن مسلم وعددا من علماء أهل اليمن وكلهم حكوا عن عدد مضوا قبلهم يحكون عن عدد مضوا قبلهم كلهم ثقة أن صلح النبي صلى الله عليه وسلم كان لأهل الذمة باليمن على دينار كل سنة ولا يثبتون أن النساء كن ممن يؤخذ منه الجزية وقال عامتهم ولم يؤخذ من زروعهم وقد كان لهم زروع ولا من مواشيهم شيئا علمناه وقال وسألت عددا كبيرا من ذمة أهل اليمن متفرقين في بلدان اليمن فكلهم أثبت لي لا يختلف قولهم أن معاذا أخذ منهم دينارا عن كل بالغ منهم وسموا البالغ حالما قالوا وكان في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم مع معاذ أن على كل حالم دينارا
واعلم أنه يفهم من حديث معاذ هذا وحديث بريدة المتقدم أنه يجب قبول الجزية ممن بذلها ويحرم قتله وهو المفهوم من قوله تعالى - حتى يعطوا الجزية – الآية أنه ينقطع القتال المأمور به في صدر الآية من قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} بإعطاء الجزية وأما جوازه وعدم قبول الجزية فتدل الآية على النهي عن القتال عند حصول الغاية وهو إعطاء الجزية فيحرم قتالهم بعد إعطائها
4- وعن عائذ بن عمرو المزني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :"الإسلام يعلو ولا يعلى" أخرجه الدارقطني فيه دليل على علو أهل الإسلام على أهل الأديان في كل أمر(4/67)
لإطلاقه فالحق لأهل الإيمان إذا عارضهم غيرهم من أهل الملل كما أشير إليه في إلجائهم إلى مضايق الطرق ولا يزال دين الحق يعلو ويزداد علوا والداخلون فيه أكثر في كل عصر من الأعصار
5- وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام وإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه" رواه مسلم فيه دليل على تحريم ابتداء المسلم لليهودي والنصراني بالسلام لأن ذلك أصل النهي وحمله على الكراهة خلاف أصله وعليه حمله الأقل وإلى التحريم ذهب الجمهور من السلف والخلف ذهب طائفة منهم ابن عباس إلى جواز الابتداء لهم بالسلام وهو وجه لبعض الشافعية إلا أنه قال المازري إنه يقال السلام عليك بالإفراد ولا يقال السلام عليكم واحتج لهم بعموم قوله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} وأحاديث الأمر بإفشاء السلام والجواب أن هذه العمومات مخصوصة بحديث الباب وهذا إذا كان الذمي منفردا وأما إذا كان معه مسلم جاز الابتداء بالسلام ينوي به المسلم لأنه قد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم على مجلس فيه أخلاط من المشركين والمسلمين ومفهوم قوله لا تبدءوا أنه لا ينهى عن الجواب عليهم إن سلموا ويدل له عموم قوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} وأحاديث "إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم" وفي رواية إن اليهود إذا سلموا عليكم يقول أحدهم السام عليكم فقولوا وعليك وفي رواية قل وعليك واتفق العلماء على أنه يرد على أهل الكتاب ولكنه يقتصر على قوله وعليكم وهو هكذا بالواو عند مسلم في روايات قال الخطابي عامة المحدثين يروون هذا الحرف بالواو قالوا وكان ابن عيينة يرويه بغير الواو وقال الخطابي: هذا هو الصواب لأنه إذا حذف صار كلامه بعينه مردودا عليهم خاصة وإذا أثبت المشاركة معهم فيما قالوه قال النووي: إثبات الواو وحذفها جائز إذا صحت به الروايات فإن الواو وإن اقتضت المشاركة فالموت هو علينا وعليهم ولا امتناع وفي الحديث دليل على إلجائهم إلى مضايق الطرق إذا اشتركوا هم والمسلمون في الطريق فيكون واسعه للمسلمين فإن خلت الطريق عن المسلمين فلا حرج عليهم وأما ما يفعله اليهود في هذه الأزمنة من تعمد جعل المسلم على يسارهم إذ لاقاهم في الطريق فشيء ابتدعوه لم يرو فيه شيء وكأنهم يريدون التفاؤل بأنهم من أصحاب اليمين فينبغي منعهم مما يتعمدونه من ذلك لشدة محافظتهم عليه ومصادة المسلم
6- وعن المسور بن مخرمة ومروان رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج عام الحديبية(4/68)
فذكر الحديث هكذا في نسخ بلوغ المرام بإفراد ذكر وكان الظاهر فذكرا بضمير التثنية ليعود إلى المسور ومروان وكأنه أراد فذكر أي الراوي بطوله وفيه "هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو على وضع الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض" أخرجه أبو داود وأصله في البخاري الحديث دليل على جواز المهادنة بين المسلمين وأعدائهم من المشركين مدة معلومة لمصلحة معلومة يراها الإمام وإن كره ذلك أصحابه فإنه ذكر في المهادنة ما يفيده الحديث الآتي وهو قوله
7- وأخرج مسلم بعضه من حديث أنس وفيه "أن من جاءنا منكم لم نرده عليكم ومن جاءكم منا رددتموه علينا" أي من جاء من المسلمين إلى كفار مكة لم يردوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن جاء من أهل مكة إليه صلى الله عليه وسلم رده إليهم فكره المسلمون ذلك فقالوا أتكتب هذا يا رسول الله قال: "نعم إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله ومن جاءنا منهم فسيجعل الله له فرجا ومخرجا" فإنه صلى الله عليه وسلم كتب هذا الشرط مع ما فيه من كراهة أصحابه له والحديث طويل ساقه أئمة السير في قصة الحديبية واستوفاه ابن القيم في زاد المعاد وذكر فيه كثيرا من الفوائد وفيه أنه صلى الله عليه وسلم رد إليهم أبا جندل بن سهيل وقد جاء مسلما قبل تمام كتاب الصلح وأنه بعد رده إليهم جعل الله له فرجا ومخرجا ففر من المشركين ثم أقام بمحل على طريقهم يقطعها عليهم وانضاف إليه جماعة من المسلمين حتى ضيق على أهل مكة مسالكهم والقصة مبسوطة في كتب السير وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم لم يرد النساء الخارجات إليه فقيل لأن الصلح إنما وقع في حق الرجال دون النساء وأرادت قريش تعميم ذلك في الفريقين فإنها لما خرجت أم كلثوم بنت أبي معيط مهاجرة طلب المشركون رجوعها فمنع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك وأنزل الله تعالى الآية وفيها {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} الآية. والحديث دليل على جواز الصلح على رد من وصل إلينا من العدو كما فعله صلى الله عليه وسلم وعلى أن لا يردوا من وصل منا إليهم.
8- وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قتل معاهدا لم يرح" بفتح المثناة التحتية وفتح الراء أصله يراح أي لم يجد "رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما" أخرجه البخاري وفي لفظ للبخاري "من قتل نفسا معاهدا له ذمة الله وذمة رسوله..." الحديث وفي لفظ له تقييد ذلك بغير جرم وفي لفظ له بغير حق وعند أبي داود والنسائي بغير حلها والتقييد معلوم من قواعد الشرع وقوله "من مسيرة أربعين عاما" وقع عند الإسماعيلي سبعين عاما ووقع عند الترمذي من حديث أبي هريرة وعند البيهقي من رواية صفوان بن سليم(4/69)
عن ثلاثين من أبناء الصحابة بلفظ سبعين خريفا وعند الطبراني من حديث أبي مسيرة مائة عام وفيه من حديث أبي بكرة خمسمائة عام وهو في الموطأ من حديث آخر وفي مسند الفردوس عن جابر "إن ريح الجنة ليدرك من مسيرة ألف عام" وقد جمع العلماء بين هذه الروايات المختلفة قال المصنف ما حاصله إن ذلك الإدراك في موقف القيامة وإنه يتفاوت بتفاوت مراتب الأشخاص فالذي يدرك من مسيرة خمسمائة أفضل من صاحب السبعين إلى آخر ذلك وقد أشار إلى ذلك شيخنا في شرح الترمذي ورأيت نحوه في كلام ابن العربي وفي الحديث دليل على تحريم قتل المعاهد وتقدم الخلاف في الاقتصاص من قاتله وقال المهلب هذا فيه دليل على أن المسلم إذا قتل المعاهد أو الذمي لا يقتص منه قال لأنه اقتصر فيه على ذكر الوعيد الأخروي دون الدنيوي هذا كلامه(4/70)
باب السبق والرمي
السبق بفتح السين المهملة وسكون الموحدة مصدر وهو المراد هنا ويقال بتحريك الموحدة وهو الرهن الذي يوضع لذلك والرمي مصدر رمى والمراد به هنا المناضلة بالسهام للسبق
1- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "سابق النبي صلى الله عليه وسلم بالخيل التي قد ضمرت" من التضمير وهو كما في النهاية أن يظاهر عليها بالعلف حتى تسمن ثم لا تعلف إلا قوتها لتخف زاد في الصحاح وذلك في أربعين يوما وهذه المدة تسمى المضمار والموضع الذي يضمر فيه الخيل أيضا مضمار وقيل تشد عليها سروجها وتجلل بالأجلة حتى تعرق فيذهب رهلها ويشتد لحمها "من الحفياء" بفتح الحاء المهملة وسكون الفاء بعدها مثناة تحتية ممدودة وقد تقصر مكان خارج المدينة "وكان أمدها" بالدال المهملة أي غايتها "ثنية الوداع" محل قريب من المدينة سميت بذلك لأن الخارج من المدينة يمشي معه المودعون إليها "وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق وكان ابن عمر فيمن سابق" متفق عليه زاد البخاري من حديث ابن عمر قال سفيان من الحفياء إلى ثنية الوداع خمسة أميال أو ستة ومن الثنية إلى مسجد بني زريق ميل الحديث دليل على مشروعية السباق وأنه ليس من العبث بل من الرياضة المحمودة الموصلة إلى تحصيل المقاصد في الغزو والانتفاع بها في الجهاد وهي دائرة بين الاستحباب والإباحة بحسب الباعث على ذلك قال القرطبي لا خلاف في جواز المسابقة على الخيل وغيرها من الدواب وعلى الأقدام وكذا الترامي بالسهام واستعمال الأسلحة لما في ذلك من التدرب على الحرب وفيه دليل على جواز تضمير الخيل المعدة للجهاد وقيل إنه يستحب
2- وعنه رضي الله عنه أي ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سابق بين(4/70)
الخيل وفضل القرح جمع قارح والقارح ما كملت سنه كالبازل في الإبل في الغاية رواه أحمد وأبو داود وصححه ابن حبان فيه مثل الذي قبله دليل على مشروعية السباق بين الخيل وأنه يجعل غاية القرح أبعد من غاية ما دونها لقوتها وجلادتها وهو المراد من قوله وفضل القرح
3- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا سبق" بفتح السين المهملة وفتح الباء الموحدة هو ما يجعل للسابق على السبق من جعل "إلا في خف أو نصل أو حافر" رواه أحمد والثلاثة وصححه ابن حبان وأخرجه الحاكم من طرق وصححه ابن القطان وابن دقيق العيد وأعل الدارقطني بعضها بالوقف قوله إلا في خف المراد به الإبل والحافر الخيل والنصل السهم أي ذي خف أو ذي حافر أو ذي نصل على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه والحديث دليل على جواز السباق على جعل فإن كان الجعل من غير المتسابقين كالإمام يجعله للسابق حل ذلك بلا خلاف وإن كان من أحد المتسابقين لم يحل لأنه من القمار وظاهر الحديث أنه لا يشرع السبق إلا فيما ذكر من الثلاثة وعلى الثلاثة قصره مالك والشافعي وأجازه عطاء في كل شيء وللفقهاء خلاف في جوازه على عوض أو لا ومن أجازه عليه فله شرائط مستوفاة في المطولات
4- وعنه أي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أدخل فرسا بين فرسين وهو لا يأمن أن يسبق" مغير الصيغة أي يسبقه غيره "فلا بأس به فإن أمن فهو قمار" رواه أحمد وأبو داود وإسناده ضعيف ولأئمة الحديث في صحته إلى أبي هريرة كلام كثير حتى قال أبو حاتم أحسن أحواله أن يكون موقوفا على سعيد بن المسيب فقد رواه يحيى بن سعيد عن سعيد من قوله انتهى وهو كذلك في الموطإ عن الزهري عن سعيد وقال ابن أبي خيثمة سألت ابن معين عنه فقال هذا باطل وضرب على أبي هريرة وقد غلط الشافعي من رواه عن سعيد عن أبي هريرة وفي قوله وهو لا يأمن أن يسبق دلالة على أن المحلل وهو الفرس الثالث في الرهان يشترط عليه أن لا يكون متحقق السبق وإلا كان قمارا وإلى هذا الشرط ذهب البعض وبهذا الشرط يخرج عن القمار ولعل الوجه أن المقصود إنما هو الاختبار للخيل فإذا كان معلوم السبق فات الغرض الذي يشرع لأجله وأما المسابقة بغير جعل فمباحة إجماعا
5- وعن عقبة بن عامر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقرأ:" {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي" رواه مسلم أفاد الحديث تفسير(4/71)
القوة في الآية بالرمي بالسهام لأنه المعتاد في عصر النبوة ويشمل الرمي بالبنادق للمشركين والبغاة ويؤخذ من ذلك شرعية التدرب فيه لأن الإعداد إنما يكون مع الاعتياد إذ من لم يحسن الرمي لا يسمى معدا للقوة(4/72)
كتاب الأطعمة
كتاب الأطعمة
...
كتاب الأطعمة
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل ذي ناب من السبع فأكله حرام" رواه مسلم دل الحديث على تحريم ما له ناب من سباع الحيوانات والناب السن خلف الرباعية كما في القاموس والسبع هو المفترس من الحيوان كما في القاموس أيضا وفيه الافتراس: الاصطياد وفي النهاية أنه نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع هو ما يفترس الحيوان ويأكله قهرا وقسرا كالأسد والذئب والنمر ونحوها واختلف العلماء في المحرم منها فذهب الهادوية و الشافعي وأبو حنيفة وأحمد وداود إلى ما أفاده الحديث ولكنهم اختلفوا في جنس السباع المحرمة فقال أبو حنيفة كل ما أكل اللحم فهو سبع حتى الفيل والضبع واليربوع والسنور وقال الشافعي يحرم من السباع ما يعدو على الناس كالأسد والذئب والنمر دون الضبع والثعلب لأنهما لا يعدوان على الناس وذهب ابن عباس فيما حكاه عنه ابن عبد البر وعائشة وابن عمر على رواية عنه فيها ضعف والشعبي وسعيد بن جبير إلى حل لحوم السباع مستدلين بقوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} الآية فالمحرم هو ما ذكر في الآية وما عداه حلال وأجيب بأن الآية مكية وحديث أبي هريرة بعد الهجرة فهو ناسخ للآية عند من يرى نسخ القرآن بالسنة وبأن الآية خاصة بثمانية الأزواج من الأنعام ردا على من حرم بعضها كما ذكر الله تعالى قبلها من قوله: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ} إلى آخر الآيات فقيل في الرد عليهم: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} الآية أي أن الذي أحللتموه هو المحرم والذي حرمتموه هو الحلال وأن ذلك افتراء على الله وقرن بها لحم الخنزير لكونه مشاركا لها في علة التحريم وهو كونه رجسا فالآية وردت في الكفار الذين يحلون الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به ويحرمون كثيرا مما أباحه الشرع وكان الغرض من الآية بيان حالهم وأنهم يضادون الحق فكأنه قيل ما حرم إلا ما أحللتموه مبالغة في الرد عليهم قلت ويحتمل أن المراد قل لا أجد الآن محرما إلا ما ذكر في الآية ثم حرم الله من بعد كل ذي ناب من السباع ويروي عن مالك أنه إنما يكره أكل كل ذي ناب من السباع لا أنه محرم(4/72)
2- وأخرجه أي أخرج معنى حديث أبي هريرة من حديث ابن عباس بلفظ "نهى" أي عن "كل ذي ناب من السباع" وزاد أي ابن عباس "وكل ذي مخلب" بكسر الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح اللام آخره موحدة "من الطير" وأخرج الترمذي من حديث جابر تحريم كل ذي مخلب من الطير وأخرجه أيضا من حديث العرباض بن سارية وزاد فيه يوم خيبر في القاموس المخلب ظفر كل سبع من الماشي والطائر أو هو لما يصيد من الطير والظفر لما لا يصيد وإلى تحريم كل ذي مخلب من الطير ذهبت الهادوية ونسبه النووي إلى الشافعي وأبي حنيفة وأحمد وداود والجمهور وفي نهاية المجتهد نسب إلى الجمهور القول بحل كل ذي مخلب من الطير وقال وحرمها قوم ونقل النووي أثبت لأنه المذكور في كتب الفريقين وأحمد فإن قيل في دليل الطالب على مذهب أحمد ما لفظه ويحرم من الطير ما يصيد بمخلبه كعقاب وباز وصقر وباشق وشاهين وعدد كثيرا من ذلك ومثله في المنهاج للشافعية ومثله للحنفية وقال مالك يكره كل ذي مخلب من الطير ولا يحرم وأما النسر فقالوا ليس بذي مخلب لكنه محرم لاستخباثه قالت الشافعية ويحرم ما ندب قتله كحية وعقرب وغراب أبقع وحدأة وفأرة وكل سبع ضار واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم "خمس فواسق يقتلن في الحل والحرام" وتقدم في كتاب الحج قالوا ولأن هذه مستخبثات شرعا وطبعا قلت وفي دلالة الأمر بقتلها على تحريم أكلها نظر ويأتي لهم أن الأمر بعدم القتل دليل على التحريم وقد قال الشافعية إن الآدمي إذا وطيء بهيمة من بهائم الأنعام فقد أمر الشارع بقتلها قالوا ولا يحرم أكلها فدل على أنه لا ملازمة بين الأمر بالقتل والتحريم
3- وعن جابر رضي الله عنه قال :"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في لحوم الخيل" متفق عليه وفي لفظ البخاري لرواية جابر هذه ورخص عوض أذن وقد ثبت في روايات أنه صلى الله عليه وسلم وجد القدور تغلي بلحمها فأمر بإراقتها وقال لا تأكلوا من لحومها شيئا والأحاديث في ذلك كثيرة وفي رواية إنها رجس أو نجس وفي لفظ "إنها رجس من عمل الشيطان" وفي الحديث مسألتان الأولى أنه دل منطوقه على تحريم أكل لحوم الحمر الأهلية إذ النهي أصله التحريم وإلى تحريم أكل لحومها ذهب جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلا ابن عباس فقال ليست بحرام وفي رواية ابن جريج عن ابن عباس وأبى ذلك البحر وتلا قوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} الآية وروي عن عائشة وعن مالك روايات أنها مكروهة أو حرام أو مباحة وأما ما أخرجه أبو داود عن غالب بن أبجر قال أصابتنا سنة فلم يكن في مالي ما أطعم أهلي إلا سمان حمر فأتيت رسول الله صلى الله عليه سلم فقلت إنك حرمت لحوم الحمر الأهلية وقد أصابتنا سنة فقال أطعم أهلك من سمين حمرك فإنما حرمتها من جهة جوال القرية يعني الجلالة فقد قال الخطابي:(4/73)
أما حديث ابن أبجر فقد اختلف في إسناده قال أبو داود رواه شعبة عن عبيد بن الحسن عن عبد الرحمن بن معقل عن عبد الرحمن بن بشر عن ناس من مزينة أن سيد مزين أبجر أو ابن أبي أبجر سأل النبي صلى الله عليه وسلم ورواه مسعر فقال عن ابن عيينة عن أبي معقل عن رجلين من مزينة أحدهما عن الآخر وقد ثبت التحريم من حديث جابر يريد هذا وساقه من طريق أبي داود متصلا ثم قال وأما قوله إنما حرمتها من أجل جوال القرية فإن الجوال هي التي تأكل العذرة وهي الجلة إلا أن هذا لا يثبت وقد ثبت أنه إنما نهى عن لحومها لأنها رجس وساق سنده إلى محمد بن سيرين عن أنس بن مالك قال لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر أصبنا حمرا خارجة من القرية فنحرنا وطبخنا منها فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله ورسوله ينهيانكم عنها وإنها رجس من عمل الشيطان فأكفئت القدور انتهى " وبهذا يبطل القول بأنها إنما حرمت مخافة قلة الظهر كما أخرجه الطبراني وابن ماجه عن ابن عباس إنما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم الحمر الأهلية مخافة قلة الظهر وفي رواية البخاري عن ابن عباس في المغازي من رواية الشعبي أنه قال ابن عباس لا أدري أنهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل أنها حمولة الناس فكره أن تذهب حمولتهم أو حرمها ألبتة يوم خيبر فإنه يقال قد علم بالنص أنه حرمها لأنها رجس وكأن ابن عباس لم يعلم بالحديث فتردد في نقله النهي وإذ قد ثبت النهي وأصله التحريم عمل به وإن جهلنا علته وأما ما أخرجه الطبراني من حديث أم نصر المحاربية أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الحمر الأهلية فقال: "أليس ترعى الكلأ وتأكل الشجر قال فأصب من لحومها" فهي رواية غير صحيحة لا تعارض بها الأحاديث الصحيحة
المسألة الثانية دل الحديث على حل أكل لحوم الخيل وإلى حلها ذهب زيد بن علي والشافعي وصاحبا أبي حنيفة وأحمد وإسحاق وجماهير السلف والخلف لهذا الحديث ولما في معناه من الأحاديث الصحيحة وأخرج ابن أبي شيبة بسنده على شرط الشيخين عن عطاء أنه قال لابن جريج لم يزل سلفك يأكلونه قال ابن جريج قلت له أصحاب رسول الله قال نعم ويأتي حديث أسماء نحرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسا فأكلناه وذهبت الهادوية و مالك وهو المشهور عند الحنفية إلى تحريم الخيل واستدلوا بحديث خالد بن الوليد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الخيل والبغال والحمير وكل ذي ناب من السباع وفي رواية بزيادة يوم خيبر وأجيب عنه بأنه قال البيهقي فيه هذا إسناد مضطرب مخالف لرواية الثقات وقال البخاري يروى عن أبي صالح ثور بن يزيد وسليمان بن سليم وفيه نظر وضعف الحديث أحمد والدارقطني والخطابي وابن عبد البر وعبد الحق واستدلوا بقوله تعالى: {لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} وتقدير الاستدلال بالآية بوجوه الأول أن العلة المنصوصة تقتضي الحصر فإباحة أكلها خلاف ظاهر الآية وأجيب عنه بأن كون العلة منصوصة لا يقتضي الحصر فيها فلا تفيد(4/74)
الحصر في الركوب والزينة فإنه ينتفع بها في غيرهما اتفاقا وإنما نص عليهما لكونهما أغلب ما يطلب ولو سلم الحصر لامتنع حمل الأثقال على الخيل والبغال والحمير ولا قائل به الثاني: من وجوه دلالة الآية على تحريم الأكل عطف البغال والحمير فإنه دال على اشتراكهما معها في حكم التحريم فمن أفرد حكمهما عن حكم ما عطف عليه احتاج إلى دليل وأجيب عنه بأن هذا من باب دلالة الاقتران وهي ضعيفة
الثالث: من وجوه دلالة الآية أنها سيقت للامتنان فلو كانت مما يؤكل لكان الامتنان به أكثر لأنه يتعلق ببقاء البنية والحكيم لا يمتن بأدنى النعم ويترك أعلاها سيما وقد امتن بالأكل فيما ذكر قبلها وأجيب بأنه تعالى خص الامتنان بالركوب لأنه غالب ما ينتفع بالخيل فيه عند العرب فخوطبوا بما عرفوه وألفوه كما خوطبوا في الأنعام بالأكل وحمل الأثقال لأنه كان أكثر انتفاعهم بها لذلك فاقتصر في كل من الصنفين بأغلب ما ينتفع به فيه
الرابع: من وجوه دلالة الآية لو أبيح أكلها لفاتت المنفعة التي امتن بها وهي الركوب والزينة وأجيب عنه بأنه لو لزم من الإذن في أكلها أن تفنى للزم مثله في البقر ونحوها مما أبيح أكله ووقع الامتنان به لمنفعة أخرى وقد أجيب عن الاستدلال بالآية بجواب إجمالي وهو أن آية النحل مكية اتفاقا والإذن في أكل الخيل كان بعد الهجرة من مكة بأكثر من ست سنين وأيضا فإن آية النحل ليست نصا في تحريم الأكل والحديث صريح في جوازه وأيضا لو سلم ما ذكر كان غايته الدلالة على ترك الأكل وهو أعم من أن يكون للتحريم أو للتنزيه أو خلاف الأولى وحيث لم يتعين هنا واحد منها لا يتم بها التمسك فالتمسك بالأدلة المصرحة بالجواز أولى وأما زعم البعض أن حديث جابر دال على التحريم لكونه ورد بلفظ الرخصة والرخصة استباحة المحظور مع قيام المانع فدل أنه رخص لهم فيها بسبب المخمصة فلا يدل على الحل المطلق فهو ضعيف لأنه ورد بلفظ أذن لنا ولفظ أطعمنا فعبر الراوي بقوله رخص لنا عن أذن لا أنه أراد الرخصة الاصطلاحية الحادثة بعد زمن الصحابة فلا فرق بين العبارتين أذن ورخص في لسان الصحابة
4- وعن ابن أبي أوفى قال: "غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد" وهو اسم جنس والواحدة جرادة يقع على الذكر والأنثى كحمامة متفق عليه وهو دليل على حل الجراد قال النووي: وهو إجماع وأخرج ابن ماجه عن أنس قال كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يتهادين الجراد في الأطباق وقال ابن العربي في شرح الترمذي: إن جراد الأندلس لا يؤكل لأنه ضرر محض فإذا ثبت ما قاله فتحريمها لأجل الضرر كما تحرم السموم ونحوها واختلفوا هل أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم الجراد أم لا وحديث الكتاب يحتمل أنه كان يأكل معهم إلا أن في رواية البخاري زيادة لفظ "نأكل الجراد معه" قيل وهي محتملة أن المراد غزونا معه فيكون تأكيدا لقوله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحتمل أن المراد نأكل معه قلت وهذا الأخير هو الذي يحسن حمل الحديث عليه إذ التأسيس أبلغ من التأكيد ويؤيده ما وقع في الطب(4/75)
عند أبي نعيم بزيادة ويأكل معنا وأما ما أخرجه أبو داود من حديث سليمان أنه سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجراد فقال: "لا آكله ولا أحرمه" فقد أعله المنذري بالإرسال وكذلك ما أخرجه ابن عدي في ترجمة ثابت بن زهير عن نافع عن ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الضب فقال: "لا آكله ولا أحرمه" وسئل عن الجراد فقال مثل ذلك فإنه قال النسائي ثابت ليس بثقة ويؤكل عند الجماهير على كل حال ولو مات بغير سبب لحديث "أحل لنا ميتتان ودمان السمك والجراد والكبد والطحال" أخرجه أحمد والدارقطني مرفوعا من حديث ابن عمر وقال إن الموقوف أصح ورجح البيهقي الموقوف وقال له الحكم الرفع واختلف فيه هل هو من صيد البحر أم من صيد البر وورد حديثان ضعيفان أنه من صيد البحر وورد عن بعض الصحابة أنه يلزم المحرم فيه الجزاء فدل أنه عنده من صيد البر والأصل فيه أنه بري حتى يقوم دليل على أنه بحري
5- وعن أنس رضي الله عنه في قصة الأرنب قال فذبحها فبعث بوركها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله متفق عليه وفي القصة أنه قال أنس أنفجنا أرنبا ونحن بمر الظهران فسعى القوم وتعبوا فأخذتها فجئت بها إلى أبي طلحة فبعث بوركها أو قال بفخذها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبلها وهو لا يدل على أنه أكل منها لكن في رواية البخاري في كتاب الهبة قال الراوي وهو هشام بن زيد قلت لأنس وأكل منها قال وأكل منها ثم قال فقبله والإجماع واقع على حل أكلها إلا أن الهادوية و عبد الله بن عمر وعكرمة وابن أبي ليلى قالوا يكره أكلها لما أخرجه أبو داود والبيهقي من حديث ابن عمر أنها جيء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يأكلها ولم ينه عنها وزعم أي ابن عمر أنها تحيض وأخرج البيهقي عن عمر وعمار مثل ذلك وأنه أمر بأكلها ولم يأكل منها قلت ولكنه لا يخفى أن عدم أكله صلى الله عليه وسلم لا يدل على كراهيتها وحكى الرافعي عن أبي حنيفة تحريمها
فائدة ذكر الدميري في حياة الحيوان أن الذي يحيض من الحيوان المرأة والضبع والخفاش والأرنب ويقال إن الكلبة كذلك
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل أربع من الدواب النملة والنحلة والهدهد والصرد" رواه أحمد وأبو داود وصححه ابن حبان قال البيهقي رجاله رجال الصحيح قال البيهقي هو أقوى ما ورد في هذا الباب وفيه دليل على تحريم قتل ما ذكر ويؤخذ منه تحريم أكلها لأنه لو حل لما نهى عن القتل وتقدم لنا في هذا الاستدلال بحث وتحريم أكلها رأي الجماهير وفي كل واحدة خلاف إلا النملة فالظاهر أن تحريمها إجماع(4/76)
7- وعن ابن أبي عمار رضي الله عنه هو عبد الرحمن بن أبي عمار المكي وثقه أبو زرعة والنسائي ولم يتكلم فيه أحد ويسمى القس لعبادته ووهم ابن عبد البر في إعلاله وقال البيهقي إن الحديث صحيح قال قلت لجابر الضبع صيد هو قال نعم قلت قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم قال نعم رواه أحمد والأربعة وصححه البخاري وابن حبان الحديث فيه دليل على حل أكل الضبع وإليه ذهب الشافعي فهو مخصص من حديث تحريم كل ذي ناب من السباع وأخرج أبو داود من حديث جابر مرفوعا الضبع صيد فإذا أصابه المحرم ففيه كبش مسن ويؤكل وأخرجه الحاكم وقال صحيح الإسناد قال الشافعي وما زال الناس يأكلونها ويبيعونها بين الصفا والمروة من غير نكير وحرمه الهادوية والحنفية عملا بالحديث العام كما أشرنا إليه ولكن أحاديث التحليل تخصصه وأما استدلالهم على التحريم بحديث خزيمة بن جزء وفيه قال صلى الله عليه وسلم: "أويأكل الضبع أحد؟" أخرجه الترمذي وفي إسناده عبد الكريم أبو أمية وهو متفق على ضعفه
8- وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سئل عن القنفذ بضم القاف وفتحها وضم الفاء فقال: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} الآية فقال شيخ عنده سمعت أبا هريرة يقول ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إنها خبيثة من الخبائث" فقال ابن عمر إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هذا فهو كما قال أخرجه أحمد وأبو داود وإسناده ضعيف ضعف بجهالة الشيخ المذكور قال الخطابي ليس إسناده بذاك وله طرق قال البيهقي لم يرد إلا من وجه ضعيف وقد ذهب إلى تحريمه أبو طالب والإمام يحيى وقال الرافعي في القنفذ وجهان أحدهما أنه يحرم وبه قال أبو حنيفة وأحمد لما روي في الخبر أنه من الخبائث وذهب مالك وابن أبي ليلى إلى أنه حلال وهو أقوى من القول بتحريمه لعدم نهوض الدليل عليه مع القول بأن الأصل الإباحة في الحيوانات وهي مسألة خلافية معروفة في الأصول فيها خلاف بين العلماء
9- وعن ابن عمر رضي الله عنهما قياس قاعدته وعنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجلالة وألبانها" أخرجه الأربعة إلا النسائي وحسنه الترمذي وأخرج الحاكم والدارقطني والبيهقي من حديث ابن عمرو بن العاص نحوه وقال حتى تعلف أربعين ليلة ورواه أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بلفظ "نهى عن لحوم الحمر الأهلية وعن الجلالة وعن ركوبها" ولأبي داود أن يركب عليها وأن يشرب ألبانها والجلالة هي التي تأكل العذرة والنجاسات سواء كانت من الإبل أو البقر أو الغنم أو الدجاج والحديث دليل على تحريم الجلالة وألبانها وتحريم الركوب عليها وقد جزم ابن حزم أن من وقف في عرفات راكبا على جلالة لا يصح حجه وظاهر الحديث أنه إذ ثبت أنها أكلت الجلة فقد صارت محرمة وقال النووي: لا تكون جلالة إلا إذا غلب على علفها النجاسة وقيل بل الاعتبار بالرائحة والنتن وبه جزم النووي والإمام يحيى وقال لا تطهر بالطبخ ولا بإلقاء التوابل(4/77)
وإن زال الريح لأن ذلك تغطية لا استحالة وقال الخطابي كرهه أحمد وأصحاب الرأي و الشافعي وقالوا لا تؤكل حتى تحبس أياما قلت قد عين في الحديث حبسها أربعين يوما وكان ابن عمر يحبس الدجاجة ثلاثة أيام ولم ير مالك بأكلها بأسا من غير حبس وذهب الثوري ورواية عن أحمد إلى التحريم كما هو ظاهر الحديث ومن قال يكره ولا يحرم قال لأن النهي الوارد فيه إنما كان لتغير اللحم وهو لا يوجب التحريم بدليل المذكى إذا جف ولا يخفى أن هذا رأي في مقابلة النص ولقد خالف الناظرون هنا السنة فقال المهدي في البحر المذهب والفريقان وندب حبس الجلالة قبل الذبح الدجاجة ثلاثة أيام والشاة سبعة والبقرة والناقة أربعة عشر وقال مالك لا وجه له قلنا لتطييب أجوافها ا ه والعمل بالأحاديث هو الواجب وكأنهم حملوا النهي على التنزيه ولا ينهض عليه دليل وأما مخالفتهم للتوقيف فلم يعرف وجهه
10- وعن أبي قتادة رضي الله عنه في قصة الحمار الوحشي فأكل منه النبي صلى الله عليه وسلم متفق عليه تقدم ذكر قصة الحمار هذا الذي أهداه أبو قتادة في كتاب الحج وفي هذا دلالة على أنه يحل أكل لحمه وهو إجماع وفيه خلاف شاذ أنه إذا علف وأنس صار كالأهلي
11- وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: "نحرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسا فأكلناه" متفق عليه وفي رواية "ونحن بالمدينة" وفي رواية الدارقطني "هنا فرسا فأكلناه نحن وأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم" والحديث دليل على حل أكل لحم الخيل وتقدم الكلام فيه لأن الظاهر أنه صلى الله عليه وسلم علم ذلك وقرره كيف وقد قالت إنه أكل منه أهله صلى الله عليه وسلم وقالت هنا نحرنا وفي رواية الدارقطني ذبحنا فقيل فيه دليل على أن النحر والذبح واحد قيل ويجوز أن يكون أحد اللفظين مجازا إذ النحر للإبل خاصة وهو الضرب بالحديد في لبة البدنة حتى تفرى أوداجها والذبح هو قطع الأوداج في غير الإبل قال ابن التين الأصل في الإبل النحر وفي غيرها الذبح وجاء في القرآن في البقرة -فذبحوها - وفي السنة نحرها وقد اختلف العلماء في نحر ما يذبح وذبح ما ينحر فأجازه الجمهور والخلاف فيه لبعض المالكية وقوله في الحديث ونحن بالمدينة يرد على من زعم أن حلها قبل فرض الجهاد فإنه فرض أول دخولهم المدينة
12- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "أكل الضب على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم" متفق عليه فيه دليل على حل أكل الضب وعليه الجماهير وحكى عياض عن قوم تحريمه وعن الحنفية كراهته وقال النووي أظنه لا يصح عن أحد فإن صح فهو محجوج بالنص وبإجماع من قبله وقد احتج القائلون بالتحريم بما أخرجه أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الضب وفي إسناده إسماعيل بن عياش ورجاله شاميون وهو قوي في الشاميين فلا يتم قول الخطابي ليس إسناده بذلك ولا قول ابن حزم فيه ضعيف ومجهولون فإن رجاله ثقات كما قاله المصنف ولا قول(4/78)
البيهقي فيه إسماعيل بن عياش وليس بحجة لما عرفت من أنه رواه عن الشاميين وهو حجة في روايته عنهم وبما أخرجه أبو داود من حديث عبد الرحمن بن حسنة أنهم طبخوا ضبابا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أمة من بني إسرائيل مسخت دواب في الأرض فأخشى أن تكون هذه فألقوها" وأخرجه أحمد وصححه ابن حبان والطحاوي وسنده على شرط الشيخين وأجيب عن الأول بأن النهي وإن كان أصله التحريم لكن صرفه هنا إلى الكراهة ما أخرجه مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: "كلوه فإنه حلال ولكنه ليس من طعامي" وهذه الرواية ترد ما رواه مسلم أنه قال بعض القوم عند ابن عباس إن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الضب: "لا آكله ولا أنهى عنه ولا أحرمه" ولذا أعل ابن عباس هذه الرواية فقال: "بئس ما قلتم ما بعث نبي الله إلا محرما أو محللا" كذا في مسلم وأجيب عن الثاني بأنه يحتمل أنه وقع منه صلى الله عليه وسلم ذلك أعني خشية أن تكون أمة ممسوخة قبل أن يعلمه الله تعالى أن الممسوخ لا ينسل وقد أخرج الطحاوي من حديث ابن مسعود قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القردة والخنازير أهي مما مسخ قال إن الله لم يهلك قوما أو يمسخ قوما فيجعل لهم نسلا ولا عاقبة وأصل الحديث في مسلم ولم يعرفه ابن العربي فقال قولهم إن الممسوخ لا ينسل دعوى فإنه لا يعرف بالعقل إنما طريقه النقل وليس فيه أمر يعول عليه وأجيب أيضا بأنه لو سلم أنه ممسوخ لا يقتضي تحريم أكله فإنه كونه كان آدميا قد زال حكمه ولم يبق له أثر أصلا وإنما كره صلى الله عليه وسلم الأكل منه لما وقع عليه من سخط الله سبحانه كما كره الشرب من مياه ثمود قلت ولا يخفى أنه لو لم ير تحريمه لما أمر بإلقائها أو بتقريرهم عليه لأنه إضاعة مال ولا إذن لهم في أكله فالجواب الذي قبله هو الأحسن ويستفاد من المجموع جواز أكله وكراهته للنهي
13- وعن عبد الرحمن بن عثمان هو ابن عبد الله التيمي القرشي رضي الله عنه ابن أخي طلحة بن عبد الله الصحابي قيل إنه أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وليست له رؤية أسلم يوم الفتح وقيل يوم الحديبية وقتل مع ابن الزبير في يوم واحد روى عنه ابناه وابن المنكدر أن طبيبا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الضفدع بزنة الخنصر يجعلها في دواء فنهى عن قتلها أخرجه أحمد وصححه الحاكم وأخرجه أبو داود والنسائي والبيهقي بلفظ ذكر طبيب عند النبي صلى الله عليه وسلم دواء وذكر الضفدع يجعلها فيه فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الضفادع قال البيهقي هو أقوى ما ورد في النهي عن قتل الضفدع وأخرج من حديث ابن عمر لا تقتلوا الضفادع فإن نقيقها تسبيح ولا تقتلوا الخفاش فإنه لما خرب بيت المقدس قال يا رب سلطني على البحر حتى أغرقهم قال البيهقي إسناده صحيح وعن أنس لا تقتلوا الضفادع فإنها مرت على نار إبراهيم فجعلت في أفواهها الماء وكانت ترش على النار والحديث دليل على تحريم(4/79)
قتل الضفادع قالوا ويؤخذ منه تحريم أكلها ولأنها لو حلت لما نهى عن قتلها وتقدم نظير هذا الاستدلال وليس بواضح(4/80)
باب الصيد والذبائح
الصيد يطلق على المصدر أي التصيد وعلى المصيد واعلم أنه تعالى أباح الصيد في آيتين من القرآن الأولى: قوله تعالى: {ا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} والثانية: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} الآية. والآلة التي يصاد بها ثلاثة الحيوان الجارح والمحدد والمثقل ففي الحيوان:
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اتخذ كلبا إلا كلب ماشية أو صيد أو زرع انتقص من أجره كل يوم قيراط" متفق عليه الحديث دليل على المنع من اتخاذ الكلاب واقتنائها وإمساكها إلا ما استثناه من الثلاثة وقد وردت بهذه الألفاظ روايات في الصحيحين وغيرهما واختلف العلماء هل المنع للتحريم أو للكراهة فقيل بالأول ويكون نقصان القيراط عقوبة في اتخاذها بمعنى أن الإثم الحاصل باتخاذها يوازن قدر قيراط من أجر المتخذ له وفي رواية قيراطان وحكمة التحريم ما في بقائها في البيت من التسبب إلى ترويع الناس وامتناع دخول الملائكة الذين دخولهم يقرب إلى فعل الطاعات ويبعد عن فعل المعصية وبعدهم سبب لضد ذلك ولتنجيسها الأواني وقيل بالثاني بدليل نقص بعض الثواب على التدريج فلو كان حراما لذهب الثواب مرة واحدة وفيه أن فعل المكروه تنزيها لا يقتضي نقص شيء من الثواب وذهب إلى تحريم اقتناء الكلب الشافعية إلا المستثنى واختلف في الجمع بين رواية قيراط وروايةقيراطان فقيل إنه باعتبار كثرة الإضرار كما في المدن ينقص قيراطان وقلته كما في البوادي ينقص قيراط أو أن الأول إذا كان في المدينة النبوية والثاني في غيرها أو قيراط من عمل النهار وقيراط من عمل الليل فالمقتصر في الرواية باعتبار كل واحد من الليل والنهار والمثني باعتبار مجموعهما واختلفوا أيضا هل النقصان من العمل الماضي أو من الأعمال المستقبلة قال ابن التين المستقبلة وحكى غيره الخلاف وفيه دليل على أن من اتخذ المأذون منها فلا نقص عليه وقيس عليه اتخاذه لحفظ الدور إذا احتيج إلى ذلك أشار إليه ابن عبد البر واتفقوا على أنه لا يدخل الكلب العقور في الإذن لأنه مأمور بقتله وفي الحديث دليل على التحذير من الإتيان بما ينقص الأعمال الصالحة وفيه الإخبار بلطف الله تعالى في إباحته لما يحتاج إليه في تحصيل المعاش وحفظه(4/80)
تنبيه ورد في مسلم الأمر بقتل الكلاب فقال القاضي عياض: ذهب كثير من العلماء إلى الأخذ بالحديث في قتل الكلاب إلا ما استثني قال وهذا مذهب مالك وأصحابه وذهب آخرون إلى جواز اقتنائها جميعا ونسخ قتلها إلا الأسود البهيم قال وعندي أن النهي أولا كان نهيا عاما عن اقتنائها جميعا وأمر بقتلها جميعا ثم نهى عن قتل ما عدا الأسود ومنع الاقتناء في جميعها إلا المستثنى ا ه والمراد بالأسود البهيم ذو النقطتين فإنه شيطان والبهيم الخالص السواد، والنقطتان معروفتان فوق عينيه
2- وعن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أرسلت كلبك" المعلم "فاذكر اسم الله تعالى عليه فإن أمسك عليك فأدركته حيا فاذبحه وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله وإن وجدت مع كلبك كلبا غيره وقد قتل فلا تأكل فإنك لا تدري أيهما قتله وإن رميت بسهمك فاذكر اسم الله تعالى" هذا إشارة إلى آلة الصيد الثانية أعني المحدد وهو قتله بالرماح والسيوف لقوله تعالى: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} لكن الحديث في السهم "فإن غاب عنك يوما فلم تجد فيه إلا أثر سهمك فكل إن شئت وإن وجدته غريقا في الماء فلا تأكل" متفق عليه وهذا لفظ مسلم
في الحديث مسائل
الأولى: أنه لا يحل صيد الكلب إلا إذا أرسله صاحبه فلو استرسل بنفسه لم يحل ما يصيده عند الجمهور والدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أرسلت" فمفهوم الشرط أن غير المرسل ليس كذلك وعن طائفة أن المعتبر كونه معلما فيحل صيده وإن لم يرسله صاحبه بناء على أنه خرج قوله إذا أرسلت مخرج الغالب فلا مفهوم له وحقيقة المعلم هو أن يكون بحيث يغرى فيقصد ويزجر فيقعد وقيل التعليم قبول الإرسال والإغراء حتى يمتثل الزجر في الابتداء لا بعد العدو ويترك أكل ما أمسك فالمعتبر امتثاله للزجر قبل الإرسال وأما بعد إرساله على الصيد فذلك متعذر والتكليب إلهام من الله تعالى ومكتسب بالعقل كما قال تعالى: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} قال جار الله: مما عرفكم أن تعلموه من اتباع الصيد بإرسال صاحبه وانزجاره بزجره وانصرافه بدعائه وإمساك الصيد عليه وأن لا يأكل منه المسألة الثانية في قوله فاذكر اسم الله عليه هذا مأخوذ من قوله تعالى: {اذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} فإن ضمير عليه يعود إلى ما أمسكن على معنى وسموا عليه إذا أدركتم ذكاته أو إلى ما علمتم من الجوارح أي سموا عليه عند إرساله كما أفاده الكشاف وكذلك قوله إن رميت فاذكر اسم الله دليل على اشتراط التسمية عند الرمي وظاهر الكتاب والسنة وجوب التسمية واختلف العلماء فذهبت الهادوية والحنفية إلى أن التسمية واجبة على الذاكر عند الإرسال ويجب عليه أيضا عند(4/81)
الذبح والنحر فلا تحل ذبيحته ولا صيده إذا تركت عمدا مستدلين بقوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} وبالحديث هذا قالوا وقد عفي عن الناسي بحديث "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" ولما يأتي من حديث ابن عباس بلفظ فإن نسي أن يسمي حين يذبح فليسم ثم ليأكل وسيأتي في آخر الباب إن شاء الله تعالى وذهب آخرون إلى أنها سنة منهم ابن عباس ومالك ورواية عن أحمد مستدلين بقوله تعالى: {إِِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} قالوا فأباح التذكية من غير اشتراط التسمية ولقوله تعالى: {طَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} وهم لا يسمون ولحديث عائشة الآتي أنهم قالوا يا رسول الله إن قوما يأتوننا بلحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا أفنأكل منه قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "سموا عليه أنتم وكلوا" وأجابوا عن أدلة الإيجاب بأن قوله ولا تأكلوا المراد به ما ذبح للأصنام كما قال تعالى: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} وما أهل لغير الله لأنه تعالى قال {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} وقد أجمع علماء المسلمون على أن من أكل متروك التسمية عليه فليس بفاسق فوجب حملها على ما ذكر جمعا بينه وبين الآية السابقة وحديث عائشة وذهبت الظاهرية إلى أنه لا يجوز أكل ما لم يسم عليه ولو كان تاركها ناسيا لظاهر الآية الكريمة وحديث عدي رضي الله عنه فإنه لم يفصل قالوا وأما حديث عائشة وفيه أنهم قالوا يا رسول الله إن قوما حديث عهدهم بالجاهلية يأتون بلحمان الحديث فقد قال ابن حجر إنه أعله البعض بالإرسال قال الدارقطني: الصواب أنه مرسل على أنه لا حجة فيه لأنه أدار الشارع الحكم على المظنة وهي كون الذابح مسلما وإنما شك على السائل حداثة إسلام القوم فألغاه صلى الله عليه وسلم بل فيه دليل على أنه لا بد من التسمية وإلا لبين له عدم لزومها وهذا وقت الحاجة إلى البيان وأما حديث "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" فهم متفقون على تقدير رفع الإثم أو نحوه ولا دليل فيه وأما أهل الكتاب فهم يذكرون اسم الله على ذبائحهم فيتحصل قوة كلام الظاهرية فيترك ما تيقن أنه لم يسم عليه وأما ما شك فيه والذابح مسلم فكما قال صلى الله عليه وسلم " اذكروا اسم الله وكلوا"
المسألة الثالثة في قوله "فإن أدركته حيا فاذبحه" فيه دليل على أنه يجب عليه تذكيته إذا وجده حيا ولا يحل إلا بها وذلك اتفاق فإن أدركه وفيه بقية حياة فإن كان قد قطع حلقومه أو مريئه أو جرح أمعاءه أو أخرج حشوه فيحل بلا ذكاة قال النووي بالإجماع وقال المهدي للهادوية إنه إذا بقي فيه رمق وجب تذكيته والرمق إمكان التذكية لو حضرت آلة ودل قوله وإن أدركته وقد قتل ولم يأكل فكله أنه إذا أكل حرم أكله وقد عرفت أن من شرط المعلم أن لا يأكل فأكله دليل على أنه غير كامل التعليم وقد ورد في الحديث الآخر تعليل ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم "فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه" وهو مستفاد من قوله- فكلوا مما أمسكن عليكم-فإنه فسر الإمساك على صاحبه بألا يأكل منه وقد أخرج أحمد من حديث ابن عباس رضي الله عنهما "وإذا أرسلت الكلب فأكل(4/82)
الصيد فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه وإذا أرسلته ولم يأكل فكل فإنما أمسك على صاحبه" وإلى هذا ذهب أكثر العلماء وروي عن علي رضي الله عنه وجماعة من الصحابة حله وهو مذهب مالك لقوله صلى الله عليه سلم في حديث أبي ثعلبة الذي أخرجه أبو داود بإسناد حسن أنه قال يا رسول الله إن لي كلابا مكلبة فأفتني في صيدها قال "كل مما أمسكن عليك" قال:"وإن أكل قال " وإن أكل" وفي حديث سلمان كله وإن لم تدرك منه إلا نصفه قيل فيحمل حديث عدي على أن ذلك في كلب قد اعتاد الأكل فخرج عن التعليم وقيل إنه محمول على كراهة التنزيه وحديث أبي ثعلبة لبيان أصل الحل وقد كان عدي موسرا فاختار صلى الله عليه وسلم له الأولى وكان أبو ثعلبة معسرا فأفتاه بأصل الحل وقال الأولون الحديثان قد تعارضا وهذه الأجوبة قد لا يخفى ضعفها فيرجع إلى الترجيح وحديث عدي أرجح لأنه مخرج في الصحيحين ومتأيد بالآية وقد صرح صلى الله عليه وسلم بأنه يخاف أنه إنما أمسك على نفسه فيترك ترجيحا لجنبة الحظر كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث وإن وجدت مع كلبك كلبا آخر إلى قوله فلا تأكل فإنه نهى عنه لاحتمال أن المؤثر فيه كلب آخر غير المرسل فيتركه ترجيحا لجنبة الحظر وقوله فإن غاب عنك يوما فلم تجد فيه إلا أثر سهمك فكله إن شئت اختلفت الأحاديث في هذا فروى مسلم وغيره من حديث أبي ثعلبة في الذي يدرك صيده بعد ثلاث أنه قال صلى الله عليه وسلم كل ما لم ينتن وروى مسلم أيضا من حديثه أنه قال صلى الله عليه وسلم "إذا رميت بسهمك فغاب عنك مصرعه فكل ما لم يبت" ولاختلافها اختلف العلماء فقال مالك إذا غاب مصرعه ثم وجد به أثر من الكلب فإنه يأكله ما لم يبت فإذا بات كره وفيه أقوال أخر والتعليل بما لم ينتن وما لم يبت هو النص ويحمل ذكر الأوقات على التقييد به وترك الأكل للاحتياط وترجيح جنبة الحظر وقوله وإن وجدته غريقا فلا تأكل ظاهره وإن وجد به أثر السهم لأنه يجوز أنه ما مات إلا بالغرق المسألة الرابعة الحديث نص في صيد الكلب واختلف فيما يعلم من غيره كالفهد والنمر ومن الطيور كالبازي والشاهين وغيرهما فذهب مالك وأصحابه إلى أنه يحل صيد كل ما قبل التعليم حتى السنور وقال جماعة منهم مجاهد لا يحل إلا صيد الكلب وأما ما صاده غيره الكلب فيشترط إدراك ذكاته وقوله تعالى: {منَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} دليل للثاني بناء على أنه من الكلب بسكون اللام فلا يشمل غيره من الجوارح ولكنه يحتمل أنه مشتق من الكلب بفتح اللام وهو مصدر بمعنى التكليب وهو التضرية فيشمل الجوارح كلها والمراد بالجوارح هنا الكواسب على أهلها وهو عام قال في الكشاف الجوارح الكواسب من سباع البهائم والطير والكلب والفهد والنمر والعقاب والبازي والصقر والشاهين والمراد بالمكلب معلم الجوارح ومضراها بالصيد لصاحبها ورائضها لذلك بما علم من الحيل وطرق التأديب والتثقيف واشتقاقه من الكلب لأن التأديب أكثر ما يكون في الكلاب فاشتق له منه لكثرته في جنسه أو لأن السبع يسمى كلبا ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: " اللهم سلط عليه كلبا من كلابك فأكله"(4/83)
الأسد أو من الكلب الذي هو بمعنى الضراوة يقال هو كلب بكذا إذا كان ضاريا به ا ه فدل كلامه على شمول الآية للكلب وغيره من الجوارح على تقدير الاشتقاقين ولا شك أن الآية نزلت والعرب تصيد بالكلاب والطيور وغيرهما وقد أخرج الترمذي من حديث عدي بن حاتم سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد البازي فقال "ما أمسك عليك فكل" وقد ضعف بمجالد ولكن قد أوضحنا في حواشي ضوء النهار أنه يعمل بما رواه
3- وعن عدي قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد المعراض بكسر الميم وسكون المهملة آخره معجمة يأتي تفسيره فقال: "إذا أصبت بحده فكل وإذا أصبت بعرضه فقتل فإنه وقيذ" بفتح الواو وبالقاف فمثناة تحتية وذال معجمة بزنة عظيم يأتي بيانه "فلا تأكل" رواه البخاري اختلف في تفسير المعراض على أقوال لعل أقربها ما قاله ابن التين إنه عصا في طرفه حديد يرمي به الصائد فما أصاب بحده فهو ذكي يؤكل وما أصاب بعرضه فهو وقيذ أي موقوذ والموقوذ ما قتل بعصا أو حجر أو ما لا حد فيه والموقوذة المضروبة بخشبة حتى تموت من وقذته ضربته وفي الحديث إشارة إلى آلة من آلات الاصطياد وهي المحدد فإنه صلى الله عليه وسلم أخبره أنه إذا أصاب بحد المعراض أكل فإنه محدد وإذا أصاب بعرضه فلا يأكل وفيه دليل أنه لا يحل صيد المثقل وإلى هذا ذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وأحمد والثوري وذهب الأوزاعي ومكحول وغيرهما من علماء الشام إلى أنه يحل صيد المعراض مطلقا وسبب الخلاف معارضة الأصول في هذا الباب بعضها لبعض ومعارضة الأثر لها وذلك أن من الأصول في هذا الباب أن الوقيذ محرم بالكتاب والإجماع ومن أصوله أن العقر ذكاة الصيد فمن رأى أن ما قتله المعراض وقيذ منعه على الإطلاق ومن رآه عقرا مختصا بالصيد وأن الوقذ غير معتبر فيه لم يمنعه على الإطلاق ومن فرق بينما خزق من ذلك وما لم يخزق نظر إلى حديث عدي هذا وهو الصواب هذا وقوله "فإنه وقيذ" أي كالوقيذ وذلك لأن الوقيذ المضروب بالعصا من دون حد وهذا قد شاركه في العلة وهي القتل بغير حد
4- وعن أبي ثعلبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رميت بسهمك فغاب عنك فأدركته فكله ما لم ينتن" أخرجه مسلم تقدم الكلام فيما غاب عن مصرعه من الصيد سواء كان بسهم أو جارح وفي الحديث دلالة على تحريم أكل ما أنتن من اللحم قيل ويحمل على ما يضر الآكل أو صار مستخبثا أو يحمل على التنزيه ويقاس عليه سائر الأطعمة المنتنة
5- وعن عائشة رضي الله عنها أن قوما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إن قوما يأتوننا باللحم لاندري أذكروا اسم الله عليه أي عند ذكاته أم لا قال: "سموا الله عليه أنتم وكلوه" رواه البخاري تقدم أن في رواية إن قوما حديث عهدهم بالجاهلية وهي هنا في البخاري من تمام الحديث بلفظ قالت وكانوا حديثي عهد بالكفر وفي رواية(4/84)
مالك زيادة وذلك في أول الإسلام والحديث قد أعل بالإرسال وليس بعلة عندنا على ما عرفت سيما وقد وصله البخاري وتقدم أن الحديث من أدلة من قال بعدم وجوب التسمية ولا يتم ذلك وإنما هو دليل على أنه لا يلزم أن يعلموا التسمية فيما يجلب إلى أسواق المسلمين وكذا ما ذبحه الأعراب من المسلمين لأنهم قد عرفوا التسمية قال ابن عبد البر لأن المسلم لا يظن به في كل شيء إلا الخير إلا أن يتبين خلاف ذلك ويكون الجواب عنهم بقوله فسموا إلخ من الأسلوب الحكيم وهو جواب السائل بغير ما يترقب كأنه يقول الذي يهمكم أنتم أن تذكروا اسم الله عليه وتأكلوا منه وهذا يقرر ما قدمناه من وجوب التسمية إلا أن تحمل أمور المسلمين على السلامة وأما ما اشتهر من حديث المؤمن يذبح على اسم الله سمى أم لم يسم وإن قال الغزالي في الإحياء: إنه صحيح فقد قال النووي إنه مجمع على ضعفه وقد أخرجه البيهقي من حديث أبي هريرة وقال إنه منكر لا يحتج به وكذا ما أخرجه أبو داود في المراسيل عن الصلت السدوسي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ذبيحة المسلم حلال ذكر اسم الله أو لم يذكر" فهو مرسل وإن كان الصلت ثقة فالإرسال علة عند من لم يقبل المراسيل وقولنا فيما تقدم إنه ليس الإرسال علة نريد إذا أعلوا به حديثا موصولا ثم جاء من جهة أخرى مرسلا
6- وعن عبد الله بن مغفل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهى عن الخذف" بفتح الخاء المعجمة وسكون الذال المعجمة ففاء وقال: "إنها" أنث الضمير مع أن مرجعه الخذف وهو مذكر نظرا إلى المخذوف به وهي الحصاة "لا تصيد صيدا ولا تنكأ" بفتح حرف المضارعة وهمزة في آخره "عدوا ولكنها تكسر السن وتفقأ العين" متفق عليه واللفظ لمسلم الخذف رمي الإنسان بحصاة أو نواة أو نحوهما يجعلها بين أصبعيه السبابتين أو السبابة والإبهام وفي تحريم ما يقتل بالخذف من الصيد الخلاف الذي مضى في صيد المثقل لأن الحصاة تقتل بثقلها لا بحد والحديث نهى عن الخذف لأنه لا فائدة فيه ويخاف منه المفسدة المذكورة ويلحق به كل ما فيه مفسدة واختلف فيما يقتل بالبندقة فقال النووي إنه إذا كان الرمي بالبنادق وبالخذف إنما هو لتحصيل الصيد وكان الغالب فيه عدم قتله فإنه يجوز ذلك إذا أدركه الصائد وذكاه كرمي الطيور الكبار بالبنادق وأما أثر ابن عمر وهو ما أخرجه عنه البيهقي أنه كان يقول المقتولة بالبندقة تلك الموقوذة فهذا في المقتولة بالبندقة وكلام النووي في الذي لا يقتلها وإنما يحسبها على الرامي حتى يذكيها وكلام أكثر السلف أنه لا يؤكل ما قتل بالبندقة وذلك لأنه قتل بالمثقل قلت وأما البنادق المعروفة الآن فإنها ترمي بالرصاص فيخرج وقد صيرته نار البارود كالميل فيقتل بحده لا بصدمه فالظاهر حل ما قتله(4/85)
7- وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتخذوا شيئا فيه الروح غرضا" بفتح الغين المعجمة وفتح الراء فضاد معجمة هو في الأصل الهدف يرمى ثم جعل اسما لكل غاية يتحرى إدراكها رواه مسلم الحديث نهى عن جعل الحيوان هدفا يرمى إليه والنهي للتحريم لأنه أصله ويؤيده قوة حديث "لعن الله من فعل هذا" لما مر صلى الله عليه وسلم وطائر قد نصب وهم يرمونه ووجه حكمة النهي أن فيه إيلاما للحيوان وتضييعا لماليته وتفويتا لذكاته إن كان مما يذكى ولمنفعته إن كان غير مذكى
8- وعن كعب بن مالك "أن امرأة ذبحت شاة بحجر فسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأمر بأكلها" رواه البخاري الحديث دليل على صحة تذكية المرأة وهو قول الجماهير وفيه خلاف شاذ أنه يكره ولا وجه له ودليل على صحة التذكية بالحجر الحاد إذا فرى الأوداج لأنه جاء في رواية أنها كسرت الحجر وذبحت به والحجر إذا كسرت يكون فيه الحد ودليل على أنه يصح أكل ما ذبح بغير إذن المالك وخالف فيه إسحاق بن راهويه وأهل الظاهر وغيرهم واحتجوا بأمره صلى الله عليه وسلم بإكفاء ما في قدور ما ذبح من المغنم قبل القسمة بذي الحليفة كما أخرجه الشيخان وأجيب بأنه إنما أمر بإراقة المرق وأما اللحم فباق جمع ورد إلى المغنم فإن قيل لم ينقل جمعه ورده إليه قلنا ولم ينقل أنهم أتلفوه وأحرقوه فيجب تأويله بما ذكرنا موافقة للقواعد الشرعية قلت لا يخفى تكليف الجواب والمرق مال لو كان حلالا لما أمر بإراقته فإنه من إضاعة المال وأما الاستدلال على المدعي بشاة الأسارى فإنها ذبحت بغير إذن مالكها فأمر صلى الله عليه وسلم بالتصدق بها على الأسارى كما هو معروف فإنه إستدلال غير صحيح وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم لم يستحل أكلها ولا أباح لأحد من المسلمين أكلها بل أمر أن تطعم الكفار المستحلين للميتة وقد أخرج أبو داود من حديث رجل من الأنصار قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فأصاب الناس مجاعة شديدة وجهد فأصابوا غنما فانتهبوها فإن قدورنا لتغلي إذ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم على فرسه فأكفأ قدورنا ثم جعل يرمل اللحم بالتراب وقال "إن النهبة ليست بأحل من الميتة" فهذا مثل الحديث الذي أخرجه الشيخان وفيه التصريح بأنه حرام وفيه إتلاف اللحم لأنه ميتة فعرفت قوة كلام أهل الظاهر وأما حديث الكتاب وأنه صلى الله عليه سلم أمر بأكل ما ذبح بغير إذن مالكه فإنه يرد على أهل الظاهر لأنهم لا يقولون بحل ما ذبح بغير إذن مالكه مخافة أن يموت أو نحوه وفيه دليل على أنه يجوز تمكين الكفار مما هو محرم على المسلمين ويدل له أنه صلى الله عليه وسلم نهى عمر عن لبس الحلة من الحرير فبعث بها عمر لأخيه المشرك إلى مكة كما في البخاري وغيره قال المصنف في الفتح ويدل الحديث على تصديق الأجير الأمين فيما أؤتمن عليه حتى يتبين عليه دليل الخيانة لأن في الحديث أنها كانت المرأة أمة راعية لغنم سيدها وهو كعب بن مالك فخشيت على الشاة أن تموت فذبحتها ويؤخذ منه جواز تصرف المودع لمصلحة بغير إذن المالك(4/86)
9- وعن رافع بن خديج رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال سبب الحديث أنه قال رافع بن خديج يا رسول الله إنا لاقو العدو غدا وليس معنا مدى فقال صلى الله عليه وسلم: "ما أنهر الدم" بفتح الهمزة فنون ساكنة فهاء مفتوحة فراء أي ما أساله وصبه بكثرة من النهر "وذكر اسم الله عليه فكل ليس السن والظفر أما السن فعظم وأما الظفر فمدى" بضم الميم وبفتحها وفتح الدال المهملة فألف مقصورة جمع مدية مثلثة الميم وهي الشفرة أي السكين "الحبشة" متفق عليه
فيه دلالة صريحة بأنه يشترط في الذكاة ما يقطع ويجري الدم واعلم أنه تكون الذكاة بالنحر للإبل وهو الضرب بالحديد في لبة البدنة حتى يفري أوداجها والkjلبة بفتح اللام وتشديد الموحدة موضع القلادة من الصدر والذبح لما عداها وهو قطع الأوداج أي الودجين وهما عرقان محيطان بالحلقوم فقولهم الأوداج تغليب على الحلقوم والمريء فسميت الأربعة أوداجا
واختلف العلماء فقيل: لا بد من قطع الأربعة وعن أبي حنيفة يكفي قطع ثلاثة من أي جانب وقال الشافعي: يكفي قطع الأوداج والمريء وعن الثوري يجزيء قطع الودجين وعن مالك يشترط قطع الحلقوم والودجين لقوله صلى الله عليه وسلم: "ما أنهر الدم" وإنهاره إجراؤه وذلك يكون بقطع لأوداج لأنها مجرى الدم وأما المريء فهو مجرى الطعام وليس به من الدم ما يحصل به إنهاره والحديث دليل على أنه يجزيء الذبح بكل محدد فيدخل السيف والسكين والحجر والخشبة والزجاج والقصب والخزف والنحاس وسائر الأشياء المحددة والنهي عن السن والظفر مطلقا من آدمي أو غيره منفصل أو متصل ولو كان محددا وقد بين صلى الله عليه وسلم النهي في الحديث بقوله: "أما السن فعظم" فالعلة كونه عظما وكأنه قد سبق منه صلى الله عليه وسلم النهي عن الذبح بالعظم وقد علل النووي وجه النهي عن الذبح بالعظم أنه ينجس به وهو من طعام الجن فيكون كالاستجمار بالعظم وعلل في الحديث النهي عن الذبح بالظفر بكونه مدى الحبشة أي وهم كفار وقد نهيتم عن التشبه بهم وأورد عليه بأن الحبشة تذبح بالسكين أيضا فيلزم المنع من ذلك التشبه وأجيب بأن الذبح بالسكين هو الأصل وهو غير مختص بالحبشة وعلل ابن الصلاح ذلك بأنه إنما منع لما فيه من التعذيب للحيوان ولا يحصل به إلا الخنق الذي ليس على صفة الذبح وفي المعرفة للبيهقي رواية عن الشافعي أنه حمل الظفر في هذا الحديث على النوع الذي يدخل في الطيب وهو من بلاد الحبشة وهو لا يفري فيكون في معنى الخنق وإلى تحريم الذبح بما ذكر ذهب الجمهور وعن أبي حنيفة وصاحبيه أنه يجوز بالسن والظفر المنفصلين واحتجوا بما أخرجه أبو داود من حديث عدي بن حاتم أفر الدم بما شئت والجواب أنه عام خصصه حديث رافع بن خديج
10- وعن جابر رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتل(4/87)
شيء من الدواب صبرا" رواه مسلم
وهو دليل على تحريم قتل أي حيوان صبرا وهو إمساكه حيا ثم يرمى حتى يموت وكذلك من قتل من الآدميين في غير معركة ولا حرب ولا خطأ فإنه مقتول صبرا والصبر الحبس
11- وعن شداد بن أوس شداد بالشين المعجمة ودالين مهملتين هو أبو يعلى شداد بن أوس بن ثابت النجاري الأنصاري وهو ابن أخي حسان بن ثابت لم يصح شهوده بدرا نزل بيت المقدس وعداده في أهل الشام مات به سنة ثمان وخمسين وقيل غير ذلك قال عبادة بن الصامت وأبو الدرداء كان شداد ممن أوتي العلم والحلم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة بكسر القاف مصدر نوعي "وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة" بزنة القتلة "وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته" رواه مسلم قوله كتب الإحسان أي أوجبه كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} وهو فعل الحسن ضد القبيح فيتناول الحسن شرعا والحسن عرفا وذكر ما هو أبعد شيء عن اعتبار الإحسان وهو الإحسان في القتل لأي حيوان من آدمي وغيره في حد وغيره ودل على نفي المثلة مكافأة إلا أنه يحتمل أنه مخصص بقوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} وقد تقدم الكلام في ذلك وأبان بعض كيفية إحسانها بقوله وليحد بضم حرف المضارعة من أحد السكين أحسن حدها والشفرة بفتح المعجمة السكين العظيمة وما عظم من الحديد وحدد وقوله وليرح بضم حرف المضارعة أيضا من الإراحة ويكون بإحداد السكين وتعجيل إمرارها وحسن الصنيعة
12- وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذكاة الجنين ذكاة أمه" رواه أحمد وصححه ابن حبان الحديث له طرق عند الترمذي وأبي داود والدارقطني إلا أنه قال عبد الحق إنه لا يحتج بأسانيده كلها وقال الجويني: إنه صحيح لا يتطرق احتمال إلى متنه ولا ضعف إلى سنده وتابعه الغزالي والصواب أنه بمجموع طرقه يعمل به وقد صححه ابن حبان وابن دقيق العيد وفي الباب عن جابر وأبي الدرداء وأبي أمامة وأبي هريرة قاله الترمذي وفيه عن جماعة من الصحابة مما يؤيد العمل والحديث دليل على أن الجنين إذا خرج من بطن أمه ميتا بعد ذكاتها فهو حلال مذكى بذكاة أمه وإلى هذا ذهب الشافعي وجماعة حتى قال ابن المنذر: لم يرو عن أحد من الصحابة ولا من العلماء أن الجنين لا يؤكل إلا باستئناف الذكاة فيه إلا ما يروى عن أبي حنيفة وذلك لصراحة الحديث فيه ففي لفظ ذكاة الجنين بذكاة أمه أخرجه البيهقي فالباء سببية أي إن ذكاته حصلت بسبب ذكاة أمه أو ظرفيه ليوافق ما عند البيهقي أيضا ذكاة الجنين في ذكاة أمه واشترط مالك أن يكون قد أشعر لما رواه أحمد بن عصام عن مالك عن نافع عن ابن عمر مرفوعا إذا أشعر الجنين فذكاته ذكاة أمه(4/88)
لكنه قال الخطيب تفرد به أحمد بن عصام وهو ضعيف وهو في الموطأ موقوف على ابن عمر وهو أصح وعورض بما رواه ابن المبارك عن ابن أبي ليلى قال قال رسول الله صلى الله عليه سلم: "ذكاة الجنين ذكاة أمه أشعر أو لم يشعر" وفيه ضعف لسوء حفظ ابن أبي ليلى ولكنه أخرج البيهقي من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه سلم أنه قال ذكاة الجنين ذكاة أمه أشعر أو لم يشعر روي عن أوجه عن ابن عمر مرفوعا قال البيهقي ورفعه عنه ضعيف والصحيح أنه موقوف قلت والموقوفان عنه قد صحا وتعارضا فيطرحان ويرجع إلى إطلاق حديث الباب وما في معناه وذهب الهادوية والحنفية إلى أن الجنين إذا خرج ميتا من المذكاة فإنه ميتة لعموم: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} وكذا لو خرج حيا ثم مات وإليه ذهب ابن حزم وأجابوا عن الحديث بأن معناه ذكاة الجنين إذا خرج حيا فهو ذكاة أمه قاله في البحر قلت ولا يخفى أنه إلغاء للحديث عن الإفادة فإنه معلوم أن ذكاة الحي من الأنعام ذكاة واحدة من جنين وغيره كيف ورواية البيهقي بلفظ ذكاة الجنين في ذكاة أمه فهي مفسرة لرواية ذكاة أمه وفي أخرى بذكاة أمه
13- وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المسلم يكفيه اسمه" الضمير للمسلم وقد فسره حديث البيهقي عن ابن عباس قال فيه "فإن المسلم فيه اسم من أسماء الله فإن نسي أن يسمي حين يذبح فليسم ثم ليأكل" أخرجه الدارقطني وفيه راو في حفظه ضعف بينه بقوله وفي إسناده محمد بن يزيد بن سنان وهو صدوق ضعيف الحفظ وأخرجه عبد الرزاق بإسناد صحيح إلى ابن عباس موقوفا عليه وله شاهد عند أبي داود في مراسيله بلفظ "ذبيحة المسلم حلال ذكر اسم الله عليها أم لم يذكر" ورجاله موثقون وفي الباب مرسل صحيح ولكنها لا تقاوم ما سلف من الأحاديث الدالة على وجوب التسمية مطلقا إلا أنها تفت في عضد وجوب التسمية مطلقا وتجعل ترك أكل ما لم يسم عليه من باب التورع(4/89)
باب الأضاحي
الأضاحي جمع أضحية بضم الهمزة ويجوز كسرها ويجوز حذف الهمزة وفتح الضاد كأنها اشتقت من اسم الوقت الذي شرع ذبحها فيه وبها سمي اليوم يوم الأضحى
1- عن أنس بن مالك رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه سلم كان يضحي بكبشين أملحين أقرنين ويسمي ويكبر ويضع رجله على صفاحهما" بالمهملتين الأولى مكسورة في النهاية صفحة كل شيء وجهه وجانبه وفي لفظ "ذبحهما بيده" وفي(4/89)
لفظ سمينين ولأبي عوانة في صحيحه أي عن أنس رضي الله عنه ثمينين بالمثلث بدل السين هذا مدرج من كلام أحد الرواة أو أبي عوانة أو المصنف وفي لفظ لمسلم من رواية أنس ويقول بسم الله والله أكبر الكبش هو الثني إذا خرجت رباعيته والأملح الأبيض الخالص وقيل الذي يخالط بياضه شيء من سواده وقيل الذي يخالط بياضه حمرة وقيل هو الذي فيه بياض وسواد والبياض أكثرها والأقرن هو الذي له قرنان واستحب العلماء التضحية بالأقرن لهذا الحديث وأجازوها بالأجم الذي لا قرن له أصلا واختلفوا في مكسور القرن فأجازه الجمهور وعند الهادوية لا يجزيء إذا كان القرن الذاهب مما تحله الحياة واتفقوا على استحباب الأملح قال النووي: إن أفضلها عند الصحابة البيضاء ثم الصفراء ثم الغبراء وهي التي لا يصفو بياضها ثم البلقاء وهي التي بعضها أسود وبعضها أبيض ثم السوداء وأما حديث عائشة يطأ في سواده ويبرك في سواده وينظر في سواده فمعناه أن قوائمه وبطنه وما حول عينيه أسود قلت إذا كانت الأفضلية في اللون مستندة إلى ما ضحى به صلى الله عليه وسلم فالظاهر أنه لم يتطلب لونا معينا حتى يحكم بأنه الأفضل بل ضحى بما اتفق له وتيسر حصوله فلا يدل على أفضلية لون من الألوان وقوله ويسمي ويكبر فسره لفظ مسلم بأنه بسم الله والله أكبر أما التسمية فتقدم الكلام فيها وأما التكبير فكأنه خاص بالتضحية والهدي لقوله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} وأما وضع رجله صلى الله عليه وسلم على صفحة العنق وهي جانبه فليكون أثبت له وأمكن لئلا تضطرب الضحية ودل هو وما بعده أنه يتولى الذبح بنفسه ندبا
2- وله من حديث أي لمسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أمر بكبش أقرن يطأ في سواده ويبرك في سواده وينظر في سواده فأتي به ليضحي به فقال لها يا عائشة "هلمي المدية" ثم قال: "اشحذيها" أي المدية تقدم ضبطها وهو بمعنى وليحد أحدكم شفرته بحجر ففعلت ثم أخذها أي المدية وأخذه فأضجعه أي الكبش ثم ذبحه ثم قال: "بسم الله اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد" ثم ضحى به فيه دليل على أنه يستحب إضجاع الغنم ولا تذبح قائمة ولا باركة لأنه أرفق بها وعليه أجمع المسلمون ويكون الإضجاع على جانبها الأيسر لأنه أيسر للذابح في أخذ السكين باليمنى وإمساك رأسها باليسار وفيه أنه يستحب الدعاء بقبول الأضحية وغيرها من الأعمال وقد قال الخليل والذبيح ثم عمارة البيت ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم وقد أخرج ابن ماجه أنه صلى الله عليه سلم قال ثم التضحية وتوجيهها للقبلة وجهت وجهي آلاية ودل قوله وآل محمد وفي لفظ عن محمد وآل محمد أنه المساجد التضحية من الرجل عن أهل بيته ويشركهم في ثوابها وأنه يصح نيابة المكلف عن غيره في فعل الطاعات وإن لم يكن من الغير أمر ولا وصية فيصح أن يجعل ثواب عمله لغيره صلاة كانت أو غيرها وقد تقدم ذلك ودل له ما أخرجه الدارقطني من حديث جابر أن رجلا قال يا رسول الله: إنه كان(4/90)
لي أبوان أبرهما في حال حياتهما فكيف لي ببرهما بعد موتهما؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "إن من البر بعد البر أن تصلي لهما مع صلاتك وأن تصوم لهما مع صيامك"
3- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان له سعة ولم يضح فلا يقربن مصلانا" رواه أحمد وابن ماجه وصححه الحاكم لكن رجح الأئمة غير الحاكم وقفه وقد استدل به على وجوب التضحية على من كان له سعة لأنه لما نهى عن قربان المصلى دل على أنه ترك واجبا كأنه يقول لا فائدة في الصلاة مع ترك هذا الواجب ولقوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} والحديث مخنف ابن سليم مرفوعا على أهل كل بيت في كل عام أضحية دل لفظه على الوجوب والوجوب قول أبي حنيفة فإنه أوجبها على المعدم والموسر وقيل لا تجب والحديث الأول موقوف فلا حجة فيه والثاني ضعف بأبي رملة قال الخطابي أنه مجهول والآية محتملة قوله وانحر بوضع الكف على النحر في الصلاة أخرجه ابن أبي حاتم وابن أبي شاهين في سننه وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس وفيه روايات من الصحابة مثل ذلك ولو سلم فهي دالة على أن النحر بعد الصلاة فهي تعيين لوقته لا لوجوبه كأنه يقول إذا نحرت فبعد صلاة العيد فإنه قد أخرج ابن جرير عن أنس كان النبي صلى الله عليه وسلم ينحر قبل أن يصلى فأمر أن يصلى ثم ينحر ولضعف أدلة الوجوب ذهب الجمهور من الصحابة والتابعين الفقهاء إلى أنها سنة مؤكدة بل قال ابن حزم لا يصح عن أحد من الصحابة أنها واجبة وقد أخرج مسلم وغيره من حديث أم سلمة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخلت العشر فأراد أحدكم أن يضحى فلا يأخذ من شعره ولا بشره شيئا" قال الشافعي إن قوله فأراد أحدكم يدل على عدم الوجوب ولما أخرجه البيهقي من حديث عبد الله بن عمر أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرت بيوم الأضحى عيدا جعله الله لهذه الأمة فقال الرجل فإن لم أجد إلا منيحة أنثى أو شاة أهلي ومنيحتهم أذبحها قال لا الحديث ولما أخرجه البيهقي أيضا من حديث ابن عباس أنه قال صلى الله عليه وسلم: "ثلاث هن علي فرض ولكم تطوع وعد منها الضحية" وأخرجه أيضا من طريق أخرى بلفظ كتب علي النحر ولم يكتب عليكم وبما أخرجه أيضا من أنه صلى الله عليه وسلم لما ضحى قال: "بسم الله والله أكبر اللهم عنى وعمن لم يضح من أمتي" وأفعال الصحابة دالة على عدم الإيجاب فأخرج البيهقي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أنهما كانا لا يضحيان خشية أن يقتدى بهما وأخرج عن ابن عباس أنه كان إذا حضر الأضحى أعطى مولى له درهمين(4/91)
فقال اشتر بهما لحما وأخبر الناس أنه ضحى ابن عباس وروى أن بلالا ضحى بديك ومثله روى عن أبي هريرة والروايات عن الصحابة في هذا المعنى كثيرة دالة على أنها سنة
4- وعن جندب بن سفيان هو أبو عبد الله جندب بن سفيان البجلي العلقمي الأخمسي كان بالكوفة ثم انتقل إلى البصرة ثم خرج منها ومات في فتنة ابن الزبير بعد أربع سنين قال شهدت الأضحى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قضى صلاته بالناس نظر إلى غنم قد ذبحت فقال: "من ذبح قبل الصلاة فليذبح شاه مكانها ومن لم يكن ذبح فليذبح على اسم الله" متفق عليه فيه دليل على أن وقت التضحية من بعد صلاة العيد فلا تجزى قبله والمراد صلاة المصلى نفسه ويحتمل أن المراد صلاة الإمام وأن اللام للعهد في قوله الصلاة يراد به المذكورة قبلها وهي صلاته صلى الله عليه وسلم وإليه ذهب مالك فقال لا يجوز قبل صلاة الإمام وخطبته وذبحه ودليل اعتبار ذبح الإمام ما رواه الطحاوي من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم النحر بالمدينة فتقدم رجالا فنحروا وظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نحر فأمرهم أن يعيدوا وأجيب بأن المراد زجرهم عن التعجيل الذي قد يؤدى إلى فعلها قبل الوقت ولذا لم يأت في الأحاديث إلا تقييدها بصلاته صلى الله عليه وسلم وقال أحمد مثل قول مالك ولم يشترط ذبحه ونحوه عن الحسن والأوزاعي واسحاق بن راهويه وقال الشافعي وداود: وقتها إذا طلعت الشمس ومضى قدر صلاة العيد وخطبتين وإن لم يصل الإمام ولا صلى المضحى قال القرطبي ظواهر الحديث تدل على تعليق الذبح بالصلاة لكن لما رأى الشافعي أن من لا صلاة عليه مخاطب بالتضحية حمل الصلاة على وقتها وقال ابن دقيق العيد هذا اللفظ أظهر في اعتبار قبل الصلاة وهو قوله في رواية "من ذبح قبل أن يصلى فليذبح مكانها اخرى" قال لكن إن أجريناه على ظاهره أقتضى أنها لا تجزىء الأضحية في حق من لم يصل العيد فإن ذهب إليه أحد فهو أسعد الناس بظاهر هذا الحديث وإلا وجب الخروج عن هذا الظاهر في هذه الصورة ويبقى ما عداها في محل البحث وقد أخرج الطحاوى من حديث جابر أن رجلا ذبح قبل أن يصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهى أن يذبح أحد قبل الصلاة صححه ابن حبان وقد عرفت الأقوى دليلا من هذه الأقوال وهذا الكلام في ابتداء وقت الضحية وأما انتهاؤه فأقوال فعند الهادوية العاشر ويومان بعده وبه قال مالك وأحمد وعند الشافعي أن أيام الأضحى أربعة يوم النحر وثلاثة بعده وعند داود وجماعة من التابعين يوم النحر فقط إلا في منى فيجوز في الثلاثة الأيام وعند جماعة أنه في آخر يوم من شهر ذي الحجة قال في نهاية المجتهد سبب اختلافهم شيئان أحدهما الاختلاف في الأيام المعلومات ما هي في قوله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} الآية فقيل يوم النحر ويومان بعده وهو المشهور وقيل العشر الأول من ذي الحجة والسبب الثاني معارضة دليل الخطاب في هذه الآية بحديث(4/92)
جبير بن مطعم مرفوعا أنه قال صلى الله عليه وسلم: "كل فجاج مكة منحر وكل أيام التشريق ذبح" فمن قال في الأيام المعلومات إنها يوم النحر ويومان بعده في هذه الآية رجح دليل الخطاب فيها على الحديث المذكور وقال لا نحر إلا في هذه الأيام ومن رأى الجمع بين الحديث والآية قال لا معارضة بينهما إذ الحديث اقتضى حكما زائدا على ما في الآية مع أن الآية ليس المقصود فيها تحديد أيام النحر والحديث المقصود منه ذلك قال يجوز الذبح في اليوم الرابع إذا كان من أيام التشريق باتفاق ولا خلاف بينهم أن الأيام المعدودات هي أيام التشريق وأنها ثلاثة أيام بعد يوم النحر إلا ما يروى عن سعيد بن جبير أنه قال يوم النحر من أيام التشريق وإنما اختلفوا في الأيام المعلومات على القولين وأما من قال يوم النحر فقط فبناء على أن المعلومات العشر الأول قالوا وإذا كان الإجماع قد انعقد على أنه لا يجوز الذبح هنا إلا في اليوم العاشر وهو محل الذبح المنصوص عليه فوجب أن لا يكون إلا يوم النحر فقط انتهى فائدة في النهاية أيضا ذهب مالك في المشهور عنه إلى أنه لا يجوز التضحية في ليالي أيام النحر وذهب غيره إلى جواز ذلك وسبب الاختلاف هو أن اليوم يطلق على اليوم والليلة نحو قوله: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ} ويطلق النهار دون الليل نحو وسبع ليال وثمانية أيام فعطف الأيام على الليالي والعطف يقتضي المغايرة ولكن بقي النظر في أيهما أظهر والمحتج بالمغايرة في أنه لا يصح بالليل عمل بمفهوم اللقب ولم يقل به إلا الدقاق إلا أن يقال دل الدليل على أنه يجوز في النهار والأصل في الذبح الحظر فيبقى الليل على الحظر والدليل على تجويزه في الليل ا ه قلت لا حظر في الذبح بل قد أباح الله ذبح الحيوان في أي وقت وإنما كان الحظر عقلا قبل إباحة الله تعالى لذلك
5- وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أربع لا تجوز في الضحايا العوراء البين عورها والمريضة البين مرضها والعرجاء البين ظلعها والكبيرة التي لا تنقي" بضم المثناة الفوقية وإسكان النون وكسر القاف أي التي لا نقي لها بكسر النون وإسكان القاف وهو المخ رواه أحمد والأربعة وصححه الترمذي وابن حبان وصححه الحاكم وقال على شرطهما وصوب كلامه المصنف وقال لم يخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما ولكنه صحيح أخرجه أصحاب السنن بأسانيد صحيحة وحسنه أحمد بن حنبل فقال ما أحسنه من حديث وقال الترمذي صحيح حسن والحديث دليل على أن هذه الأربعة العيوب مانعة من صحة التضحية وسكت عن غيرها من العيوب فذهب أهل الظاهر إلى أنه لا عيب غير هذه الأربعة وذهب الجمهور إلى أنه يقاس عليها غيرها مما كان أشد منها أو مساويا لها كالعمياء ومقطوعة الساق وقوله البين عورها قال في البحر إنه يعفى عما إذا كان الذاهب الثلث فما دونه وكذا في العرج قال الشافعي العرجاء إذا تأخرت عن الغنم لأجله فهو بين وقوله ظلعها أي اعوجاجها(4/93)
6- وعن جابر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن" رواه مسلم المسنة الثنية من كل شيء من الإبل والبقر والغنم فما فوقها كما قدمنا والحديث دليل على أنه لا يجزيء الجذع من الضأن في حال من الأحوال إلا عند تعسر المسنة وقد نقل القاضي عياض الإجماع على ذلك ولكنه غير صحيح لما يأتي وحكي عن ابن عمر والزهري أنه لا يجزيء ولو مع التعسر وذهب كثيرون إلى إجزاء الجذع من الضأن مطلقا وحملوا الحديث على الاستحباب بقرينة حديث أم بلال أنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ضحوا بالجذع من الضأن" أخرجه أحمد وابن جرير والبيهقي وأشار الترمذي إلى حديث نعمت الأضحية الجذع من الضأن وروى ابن وهب عن عقبة بن عامر بلفظ ضحينا مع رسول الله صلى الله عليه سلم بالجذع من الضأن قلت ويحتمل أن ذلك كله عند تعسر المسنة
7- وعن علي رضي الله عنه قال: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه سلم أن نستشرف العين والأذن" أي نشرف عليهما ونتأملهما لئلا يقع نقص وعيب "ولا نضحي بعوراء ولا مقابلة" بفتح الموحدة ما قطع من طرف أذنها شيء ثم بقي معلقا ولا مدابرة والمدابرة بالدال المهملة وفتح الموحدة ما قطع من مؤخر أذنها شيء وترك معلقا ولا خرقاء بالخاء المعجمة مفتوحة والراء ساكنة المشقوقة الأذنين ولا ثرمي بالمثلثة فراء وميم وألف مقصورة هي وهو سقوط الثني من الأسنان وقيل الثنية والرباعية وقيل هو أن تنقطع السن من أصلها مطلقا وإنما نهى عنها لنقصان أكلها قاله في النهاية ووقع في نسخة الشرح شرقاء بالشين المعجمة والراء والقاف وعليها شرح الشارح ولكن الذي في نسخ بلوغ المرام الصحيحة الثرمي كما ذكرناه أخرجه أحمد والأربعة وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم فيه دليل على أنها تجزىء الأضحية إلا ما ذكر وهو مذهب الهادوية وقال الإمام يحيى تجزىء وتكره وقواه المهدي وظاهر الحديث مع الأول وورد النهي عن بضم الميم وإسكان الصاد المهملة ففاء مفتوحة فراء أخرجه أبو داود والحاكم وهي المهزولة كما في النهاية وفي رواية المصفورة قيل هي المستأصلة الأذن وأخرج أبو داود من حديث عقبة بن عامر السلمي أنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المصفرة والمستأصلة والنجقاء والمشيعة والكسراء فالمصفرة التي تستأصل أذنها حتى يبدو صماخها والمستأصلة التي استؤصل قرنها من أصله والنجقاء التي تنجق عينها والمشيعة التي لا تتبع الغنم عجفا أو ضعفا والكسراء الكسيرة هذا لفظ أبي داود وأما مقطوع الألية والذنب فإنه يجزيء لما أخرجه أحمد وابن ماجه والبيهقي من حديث أبي سعيد قال اشتريت كبشا لأضحي به فعدا الذئب فأخذ منه الألية فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال ضح به وفيه جابر الجعفي وشيخه محمد بن قرظة مجهول إلا أن له شاهدا عند البيهقي واستدل به ابن تيمية(4/94)
في المنتقى على أن العيب الحادث بعد تعيين الأضحية لا يضر وذهبت الهادوية إلى عدم إجزاء مسلوب الألية وفي نهاية المجتهد أنه ورد في هذا الباب من الأحاديث الحسان حديثان متعارضان فذكر النسائي عن أبي بردة أنه قال يا رسول الله أكره النقص يكون في القرن والأذن فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وما كرهته فدعه ولا تحرمه على غيرك ثم ذكر حديث علي رضي الله تعالى عنه "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين" الحديث فمن رجح حديث أبي بردة قال لا تتقي إلا العيوب الأربعة وما هو أشد منها ومن جمع بين الحديثين حمل حديث أبي بردة على العيب اليسير الذي هو غير بين وحديث علي على الكثير البين
فائدة أجمع العلماء على جواز التضحية من جميع بهيمة الأنعام وإنما اختلفوا في الأفضل والظاهر أن الغنم في الضحية أفضل لفعله صلى الله عليه وسلم وأمره وإن كان يحتمل أن ذلك لأنها المتيسرة لهم عند الإجماع على أنه لا يجوز التضحية بغير بهيمة الأنعام إلا ما حكي عن الحسن بن صالح أنها تجوز التضحية ببقرة الوحش عن عشرة والظبي عن واحد وما روي عن أسماء أنها قالت ضحينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيل وما روي عن أبي هريرة أنه ضحى بديك
8- وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنه وأن أقسم لحومها وجلودها وجلالها على المساكين ولا أعطي في جزارتها شيئا منها" متفق عليه هذا في بدنه صلى الله عليه وسلم التي ساقها في حجة الوداع وكانت مع التي أتى بها علي رضي الله عنه من اليمن مائة بدنة نحرها صلى الله عليه وسلم يوم النحر بمنى نحر بيده صلى الله عليه سلم ثلاثا وستين ونحر بقيتها علي رضي الله عنه وقد تقدم في كتاب الحج والبدن تطلق لغة على الإبل والبقر والغنم إلا أنها هنا للإبل وهكذا استعمالها في أحاديث وفي كتب الفقه في الإبل خاصة ودل على أنه يتصدق بالجلود والجلال كما يتصدق باللحم وأنه لا يعطي الجزار منها شيئا أجرة لأن ذلك في حكم البيع لاستحقاقه الأجرة وحكم الأضحية حكم الهدي في أنه لا يباع لحمها ولا جلدها ولا يعطى الجزار منها شيئا قال في نهاية المجتهد العلماء متفقون فيما علمت أنه لا يجوز بيع لحمها واختلفوا في جلدها وشعرها مما ينتفع به فقال الجمهور لا يجوز وقال أبو حنيفة يجوز بيعه بغير الدنانير والدراهم يعني بالعروض وقال عطاء يجوز بكل شيء دراهم وغيرها وإنما فرق أبو حنيفة بين الدراهم وغيرها لأنه رأى أن المعاوضة في العروض هي من باب الانتفاع لإجماعهم على أنه يجوز الانتفاع به
9- وعن جابر بن عبد الله قال نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة رواه مسلم دل الحديث على جواز الاشتراك في البدنة والبقرة وأنهما يجزيان عن سبعة وهذا في الهدي ويقاس عليه الأضحية بل قد ورد فيها نص فأخرج الترمذي والنسائي من حديث ابن عباس قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر فحضر الأضحى فاشتركنا في البقرة سبعة وفي البعير عشرة(4/95)
وقد صح اشتراك أهل بيت واحد في ضحية واحدة كما في حديث مخنف وإلى هذا ذهب زيد بن علي وحفيده أحمد بن عيسى والفريقان قال النووي سواء كانوا مجتمعين أو متفرقين مفترضين أو متطوعين أو بعضهم متقربا وبعضهم طالب لحم وبه قال أحمد وذهب مالك إلى أنه لا يجوز الاشتراك في الهدي إلا في هدي التطوع وهدي الإحصار عندي من هدي التطوع واشترطت الهادوية في الاشتراك اتفاق الغرض قالوا ولا يصح مع الاختلاف لأن الهدي شيء واحد فلا يتبعض بأن يكون بعضه واجبا وبعضه غير واجب وقالوا إنها تجزيء البدنة عن عشرة لما سلف من حديث ابن عباس وقاسوا الهدي على الأضحية وأجيب بأنه لا قياس مع النص وادعى ابن رشد الإجماع على أنه لا يجوز أن يشترك في النسك أكثر من سبعة قال وإن كان روي من حديث رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم عدل البعير بعشر شياه أخرجه في الصحيحين ومن طريق ابن عباس وغيره البدنة عن عشر قال الطحاوي وإجماعهم دليل على أن الآثار في ذلك غير صحيحة ا هـ
ولا يخفى أنه لا إجماع مع خلاف من ذكرنا وكأنه لم يطلع عليه واختلفوا في الشاة فقال الهادوية تجزيء عن ثلاثة في الأضحية قالوا وذلك لما تقدم من تضحية النبي صلى الله عليه سلم بالكبش عن محمد وآل محمد قالوا وظاهر الحديث أنها تجزىء عن أكثر لكن الإجماع قصر الإجزاء على الثلاثة قلت وهذا الإجماع الذي ادعوه يباين ما قاله في نهاية المجتهد فإنه قال إنه وقع الإجماع على أن الشاة لا تجزىء إلا عن واحد وعن أهل بيته لفعله صلى الله عليه وسلم ولما أخرجه مالك في الموطأ من حديث أبي أيوب الأنصاري قال كنا نضحي بالشاة الواحدة يذبحها الرجل عنه وعن أهل بيته ثم تباهى الناس بعد
فائدة من السنة لمن أراد أن يضحي أن لا يأخذ من شعره ولا من أظفاره إذا دخل شهر ذي الحجة لما أخرجه مسلم من أربع طرق من حديث أم سلمة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره وبشره شيئا وأخرج البيهقي من حديث عمرو بن العاص أنه صلى الله عليه وسلم قال لرجل سأله عن الضحية وأنه قد لا يجدها فقال: "قلم أظافرك وقص شاربك واحلق عانتك فذلك تمام أضحيتك عند الله عز وجل" وهذا فيه شرعية هذه الأفعال في يوم التضحية وإن لم يترك من أول شهر الحجة وذهب أحمد وإسحق أنه يحرم للنهي وإليه ذهب ابن حزم وقال من لم يحرمه قد قامت القرينة على أن النهي ليس للتحريم وهو ما أخرجه الشيخان وغيرهما من حديث عائشة قالت أنا فتلت قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي ثم قلدها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ثم بعث بها مع أبي فلم يحرم على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء مما أحله الله حتى نحر الهدي قال الشافعي: فيه دلالة على أنه لا يحرم على المرء شيء يبعثه بهديه والبعث بالهدي أكثر من إرادة التضحية قلت هذا قياس منه والنص قد خص من يريد التضحية بما ذكر(4/96)
فائدة أخرى يستحب للمضحي أن يتصدق وأن يأكل واستحب كثير من العلماء أن يقسمها أثلاثا ثلثا للادخار وثلثا للصدقة وثلثا للأكل لقوله صلى الله عليه وسلم: "كلوا وتصدقوا وادخروا" أخرجه الترمذي بلفظ "كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث ليتسع ذو الطول على من لا طول له فكلوا ما بدا لكم وتصدقوا وادخروا" ولعل الظاهرية توجب التجزئة وقال عبد الوهاب أوجب قوم الأكل وليس بواجب في المذهب(4/97)
باب العقيقة
العقيقة هي الذبيحة التي تذبح للمولود وأصل العق الشق والقطع وقيل للذبيحة عقيقة لأنها يشق حلقها ويقال عقيقة للشعر الذي يخرج على رأس المولود من بطن أمه وجعله الزمخشري أصلا والمثناة المذبوحة مشتقة منه
1- عن ابن عباس رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن الحسن والحسين كبشا كبشا " رواه أبو داود وصححه ابن خزيمة وابن الجارود وعبد الحق لكن رجح أبو حاتم إرساله وقد أخرج البيهقي والحاكم وابن حبان من حديث عائشة بزيادة يوم السابع وسماهما وأمر أن يماط عن رأسيهما الأذى وأخرج البيهقي من حديث عائشة رضي الله عنها " أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن الحسن والحسين رضي الله عنهما يوم السابع من ولادتهما" وأخرج البيهقي أيضا من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن الحسن والحسين وختنهما لسبعة أيام قال الحسن البصري إماطة الأذى حلق الرأس وصححه ابن السكن بأتم من هذا وفيه وكان أهل الجاهلية يجعلون قطنة في دم العقيقة ويجعلونها على رأس المولود فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعلوا مكان الدم خلوقا ورواه أحمد والنسائي من حديث بريرة وسنده صحيح ويؤيد هذه الأحاديث الحديث الآتي وهو قوله
2- وأخرج ابن حبان من حديث أنس نحوه والأحاديث دلت على مشروعية العقيقة واختلف فيها مذاهب العلماء فعند الجمهور أنها سنة وذهب داود ومن تبعه إلى أنها واجبة واستدل الجمهور بأن فعله صلى الله عليه وسلم دليل على السنية وبحديث من ولد له ولد فأحب أن ينسك عن ولده فليفعل أخرجه مالك واستدلت الظاهرية بما يأتي من قول عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم بها والأمر دليل الإيجاب وأجاب الأولون بأنه صرفه عن الوجوب قوله فأحب أن ينسك عن ولده فليفعل وقوله في حديث عائشة يوم سابعه دليل أنه وقتها وسيأتي فيه حديث سمرة وأنه لا يشرع قبله ولا بعده وقال النووي إنه يعق قبل السابع وكذا عن الكبير فقد أخرج البيهقي من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعد البعثة ولكنه قال منكر وقال النووي حديث باطل وقيل يجزىء في السابع والثاني والثالث لما أخرجه البيهقي عن عبد الله بن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال العقيقة تذبح لسبع ولأربع عشرة(4/97)
ولإحدى وعشرين ودل الحديث على أنه يجزىء عن الغلام شاة لكن الحديث الآتي وهو قوله
3- وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه سلم أمرهم أن يعق عن الغلام شاتان" وفي رواية مكافئتان قال النووي: بكسر الفاء وبعدها همزة ويأتي تفسيره وعن الجارية شاة رواه الترمذي وصححه وقال حسن صحيح إلا أني لم أجد لفظه أن يعق في نسخ الترمذي قال أحمد وأبو داود: معنى مكافئتان متساويان أو مقاربتان وقال الخطابي: المراد التكافؤ في السن فلا تكون إحداهما مسنة والأخرى غير مسنة بل يكونان مما يجزيء في الأضحية وقيل معناه أن يذبح إحداهما مقابلة للأخرى دل الحديث على أنه يعق عن الغلام بضعف ما يعق عن الجارية وإليه ذهب الشافعي وأبو ثور وأحمد وداود لهذا الحديث وذهبت الهادوية و مالك إلى أن يجزيء عن الذكر والأنثى عن كل واحد شاة للحديث الماضي وأجيب بأن ذلك فعل وهذا قول والقول أقوى وبأنه يجوز أنه صلى الله عليه سلم ذبح عن الذكر كبشا لبيان أنه يجزيء وذبح الاثنين مستحب على أنه أخرج أبو الشيخ حديث ابن عباس من طريق عكرمة بلفظ كبشين كبشين ومن حديث عمرو بن شعيب مثله وحينئذ فلا تعارض وفي إطلاق لفظ الشاة دليل على أنه لا يشترط فيها ما يشترط في الأضحية ومن أشترطها فبالقياس
4- وأخرج أحمد والأربعة عن أم كرز بضم أوله وسكون الراء بعدها زاي الكعبية المكية صحابية لها أحاديث قاله المصنف في التقريب نحوه أي نحو حديث عائشة ولفظه في الترمذي عن سباع بن ثابت أن محمد بن ثابت بن سباع أخبره أن أم كرز أخبرته أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العقيقة قال عن الغلام شاتان وعن الأنثى واحدة ولا يضركم اذكرانا كن أم إناثا قال أبو عيسى يعني الترمذي حسن صحيح وهو يفيد ما يفيد الحديث الثالث
5- وعن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل غلام مرتهن بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويحلق ويسمى" رواه أحمد والأربعة وصححه الترمذي وهذا هو حديث العقيقة الذي اتفقوا على أنه سمعه الحسن من سمرة واختلفوا في سماعه لغيره منه من الأحاديث قال الخطابي اختلف في قوله مرتهن بعقيقته فذهب أحمد بن حنبل أنه إذا مات وهو طفل لم يعق عنه أنه لا يشفع لأبويه قلت ونقله الحليمي عن عطاء الخراساني ومحمد بن مطرف وهما إمامان عالمان متقدمان على أحمد وقيل إن المعنى العقيقة لازمة لا بد منها فشبه لزومها للمولود بلزوم الرهن للمرهون في يد المرتهن وهو يقوي قول الظاهرية بالوجوب وقيل المراد أنه مرهون بأذى شعره ولذلك جاء فأميطوا عنه الأذى ويقوي قول أحمد ما أخرجه البيهقي عن عطاء الخراساني وأخرجه ابن حزم عن بريدة الأسلمي قال إن الناس يعرضون يوم القيامة على العقيقة كما يعرضون على الصلوات الخمس وهذا دليل لو ثبت لمن قال بالوجوب وتقدم أنها مؤقتة(4/98)
باليوم السابع كما دل ما مضى ودل له هذا أيضا وقال مالك تفوت بعده وقال من مات قبل السابع سقطت عنه العقيقة وللعلماء خلاف في العق بعده وفي قولها أمرهم أي المسلمين بأن يعق كل مولود له عن ولده فعند الشافعي يتعين على كل من تلزمه النفقة للمولود وعند الحنابلة يتعين على الأب إلا أن يموت أو يمتنع وأخذ من لفظ تذبح بالبناء للمجهول أنه يجزىء أن يعق عنه الأجنبي وقد تأيد بأنه صلى الله عليه وسلم عق عن الحسين كما سلف إلا أنه يقال قد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم أبوهما كما ورد به الحديث بلفظ كل بني أم ينتمون إلى عصبة إلا ولد فاطمة رضي الله عنها فأنا وليهم وأنا عصبتهم وفي لفظ وأنا أبوهم أخرجه الخطيب من حديث فاطمة الزهراء رضي الله تعالى عنها ومن حديث عمر رضي الله تعالى عنه وأما ما أخرجه أحمد من حديث أبي رافع أن فاطمة رضي الله تعالى عنها لما ولدت حسنا قالت يا رسول الله ألا أعق عن ولدي بدم؟ قال: "لا ولكن احلقي رأسه وتصدقي بوزن شعره فضة" فهو من الأدلة على أنه قد أجزأ عنه ما ذبحه النبي صلى الله عليه وسلم عنه وأنها ذكرت هذا فمنعها ثم عق عنه وأرشدها إلى تولي الحلق والتصدق وهذا أقرب لأنها لا تستأذنه إلا قبل ذبحه وقبل مجيء وقت الذبح وهو السابع وفي قوله في حديث سمرة ويحلق دليل على شرعية حلق رأس المولود يوم سابعه وظاهره عام لحلق رأس الغلام والجارية وحكى المازني كراهة حلق رأس الجارية وعن بعض الحنابلة تحلق لإطلاق الحديث وأما تثقيب أذن الصبية لأجل تعليق الحلي فيها الذي يفعله الناس في هذه الأعصار وقبلها فقال الغزالي في الإحياء إنه لا يرى فيه رخصة فإن ذلك جرح مؤلم ومثله موجب للقصاص فلا يجوز إلا لحاجة مهمة كالفصد والحجامة والختان والتزين بالحلي غير مهم فهذا وإن كان معتادا فهو حرام ا ه وفي كتب الحنابلة أن تثقيب آذان الصبايا للحلي جائز ويكره للصبيان وفي فتاوى قاضي المطلوب من الحنفية لا بأس بثقب أذن العربي لأنهم كانوا في الجاهلية يفعلونه ولم ينكره عليهم النبي صلى الله عليه سلم قوله ويسمى هذا هو الصحيح في الرواية وأما روايته بلفظ ويدمي من الدم أي يفعل في رأسه من دم العقيقة كما كانت تفعله الجاهلية فقد وهم راويها بل المراد تسمية المولود وينبغي اختيار الاسم الحسن له لما ثبت من أنه صلى الله عليه وسلم كان يغير الاسم القبيح وصح عنه: "إن أخنع الأسماء عند الله رجل تسمى شاهان شاه ملك الأملاك لا ملك إلا الله تعالى" فتحرم التسمية بذلك وألحق به تحريم التسمية بقاضي القضاة وأشنع منه حاكم الحكام نص عليه الأوزاعي ومن الألقاب القبيحة ما قاله الزمخشري: إنه توسع الناس في زماننا بكذا حتى لقبوا السفلة بألقاب العلية وهب أن العذر مبسوط فما أقول في تلقيب من ليس من(4/99)
الدين في قبيل ولا دبير بفلان الدين هي لعمري والله الغصة التي لا تساغ
وأحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن ونحوهما وأصدقها حارث وهمام ولا تكره التسمية بأسماء الأنبياء ويس وطه خلافا لمالك وفي مسند الحارث ابن أبي أسامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان له ثلاثة من الولد ولم يسم أحدهم بمحمد فقد جهل" فينبغي التسمي باسمه صلى الله عليه وسلم فقد أخرج في كتاب الخصائص لابن سبع عن ابن عباس "أنه إذا كان يوم القيامة نادى مناد ألا ليقم من اسمه محمد فليدخل الجنة تكرم لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وقال مالك سمعت أهل المدينة يقولون ما من أهل بيت فيهم اسم محمد إلا رزقوا رزق خير وقال ابن رشد: يحتمل أن يكونوا عرفوا ذلك بالتجربة أو عندهم فيه أثر
فائدة روى أبو داود والترمذي " أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن في أذن الحسن والحسين حين ولدا" ورواه الحاكم والمراد الأذن اليمنى وفي بعض المسانيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في أذن مولود سورة الإخلاص وأخرج ابن السني عن الحسن بن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من ولد له مولود فأذن في أذنه اليمنى وأقام الصلاة في أذنه اليسرى لم تضره أم الصبيان" وهي التابعة من الجن ويستحب تحنيكه بتمر لما في الصحيحين من حديث أبي موسى قال ولد لي غلام فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فسماه إبراهيم وحنكه بتمرة ودعا له بالبركة والتحنيك(4/100)
أن يضع التمر ونحوه في حنك المولود حتى ينزل في جوفه منه شيء وينبغي أن يكون المحنك من أهل الخير ممن ترجى بركته(4/101)
كتاب الأيمان والنذور
كتاب الأيمان والنذور
...
كتاب الأيمان والنذور
الأيمان بفتح الهمزة جمع يمين وأصل اليمين في اللغة اليد وأطلقت على الحلف لأنهم كانوا إذا تحالفوا أخذ كل بيمين صاحبه والنذور جمع نذر وأصله الإنذار بمعنى التخويف وعرفه الراغب بأنه إيجاب ما ليس بواجب لحدوث أمر
1- عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أدرك عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ركب الركب ركبان الإبل اسم جمع أو جمع وهم العشرة فصاعدا وقد يكون للخيل وعمر يحلف بأبيه فناداهم رسول الله صلى الله عليه سلم: "ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله" ليس المراد أنه لا يحلف إلا بهذا اللفظ بدليل أنه صلى الله عليه وسلم كان يحلف بغيره نحو (مقلب القلوب) كما يأتي "أو ليصمت" بضم الميم مثل قتل يقتل متفق عليه
2- وفي رواية لأبي داود والنسائي عن أبي هريرة مرفوعا: "لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد" الند بكسر أوله المثل والمراد هنا أصنامهم وأوثانهم التي جعلوها لله تعالى أمثالا لعبادتهم إياها وحلفهم بها نحو قولهم واللات والعزى ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون الحديثان دليل على النهي عن الحلف بغير الله تعالى وهو للتحريم كما هو أصله وبه قالت الحنابلة والظاهرية وقال ابن عبد البر لا يجوز الحلف بغير الله تعالى بالإجماع وفي رواية عنه إن اليمين بغير الله مكروهة منهي عنها لا يجوز لأحد الحلف بها وقوله لا يجوز بيان أنه أراد بالكراهة التحريم كما صرح به أولا وقال الماوردي لا يجوز لأحد أن يحلف أحدا بغير الله تعالى لا بطلاق ولا عتاق ولا نذر وإذا حلف الحاكم أحدا بذلك وجب عزله وعند جمهور الشافعية والمشهور عن المالكية أنه للكراهة ومثله للهادوية ما لم يسو في التعظيم قلت لا يخفى أن الأحاديث واضحة في التحريم لما سمعت ولما أخرج أبو داود والحاكم واللفظ له من حديث ابن عمر أنه قال صلى الله عليه سلم من حلف بغير الله كفر وفي رواية للحاكم كل يمين يحلف بها دون الله تعالى شرك ورواه أحمد بلفظ من حلف بغير الله فقد أشرك وأخرج مسلم "من حلف منكم فقال في حلفه واللات والعزى فليقل لا إله إلا الله" وأخرج النسائي من حديث سعد بن أبي وقاص أنه حلف باللات والعزى قال فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه سلم فقال قل: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير وانفث عن يسارك ثلاثا وتعوذ بالله من الشيطان الرجيم ولا تعد" فهذه الأحاديث الأخيرة تقوي القول بأنه محرم لتصريحها بأنه شرك من غير تأويل ولذا أمر بتجديد الإسلام والإتيان(4/101)
بكلمة التوحيد واستدل القائل بالكراهة بحديث "أفلح وأبيه إن صدق" أخرجه مسلم وأجيب عنه أولا بأنه قال ابن عبد البر إن هذه اللفظة غير محفوظة وقد جاءت عن راويها أفلح والله إن صدق بل زعم بعضهم أن راويها صحف والله إلى وأبيه وثانيا أنها لم تخرج مخرج القسم بل هي من الكلام الذي يجري على الألسنة مثل تربت يداه ونحوه وقولنا من غير تأويل إشارة إلى تأويل القائل بالكراهة فإنه تأول قوله فقد أشرك بما قاله الترمذي قد حمل بعض العلماء مثل هذا على التغليظ كما حمل بعضهم قوله الرياء شرك على ذلك وأجيب بأن هذا إنما يرفع القول بكفر من حلف بغير الله ولا يرفع التحريم كما أن الرياء محرم اتفاقا ولا يكفر من فعله كما قال ذلك البعض واستدل القائل بالكراهة بأن الله تعالى قد أقسم في كتابه بالمخلوقات من الشمس والقمر وغيرهما وأجيب بأنه ليس للعبد الاقتداء بالرب تعالى فإنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد على أنها كلها مؤولة بأن المراد ورب الشمس ونحوه ووجه التحريم أن الحلف يقتضي تعظيم المحلوف به ومنع النفس عن الفعل أو عزمها عليه بمجرد عظمة من حلف به وحقيقة العظمة مختصة بالله تعالى فلا يلحق به غيره ويحرم الحلف بالبراءة من الإسلام أو من الدين أو بأنه يهودي أو نحو ذلك لما أخرجه أبو داود وابن ماجه والنسائي بإسناد على شرط مسلم من حديث بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف فقال إني بريء من الإسلام فإن كان كاذبا فهو كما قال وإن كان صادقا فلن يرجع إلى الإسلام سالما" والأظهر عدم وجوب الكفارة في الحلف بهذه المحرمات إذ الكفارة مشروعة فيما أذن الله تعالى أن يحلف به لا فيما نهى عنه ولأنه لم يذكر الشارع كفارة بل ذكر أنه يقول كلمة التوحيد لا غير
3- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يمينك على ما يصدقك به صاحبك" وفي رواية "اليمين على نية المستحلف" أخرجهما مسلم الحديث دليل على أن اليمين تكون على نية المحلف ولا ينفع فيها نية الحالف إذا نوى بها غير ما أظهره وظاهره الإطلاق سواء كان المحلف له الحاكم أو المدعي للحق والمراد حيث كان المحلف له التحليف كم يشير إليه قوله على ما يصدقك به صاحبك فإنه يفيد أن ذلك حيث كان للمحلف التحليف وهو حيث كان صادقا فيما ادعاه على الحالف وأما لو كان على غير ذلك كانت النية نية الحالف واعتبرت الشافعية أن يكون المحلف الحاكم وإلا كانت النية نية الحالف قال النووي: وأما إذا حلف بغير استحلاف وورى فتنفعه ولا يحنث سواء حلف ابتداء من غير تحليف أو حلفه غير القاضي أو غير نائبه ولا اعتبار في ذلك بنية المحلف بكسر اللام غير القاضي والحاصل أن اليمين على نية الحالف في جميع الأحوال إلا إذا استحلفه القاضي أو نائبه في دعوى توجهت عليه فتكون اليمين على نية المستحلف وهو مراد الحديث أما إذا حلف بغير استحلاف القاضي أو نائبه في دعوى توجهت عليه فتكون اليمين على نية الحالف وسواء في هذا كله بالله تعالى أو بالطلاق(4/102)
والعتاق إلا أنه إذا حلفه القاضي بالطلاق والعتاق فتنفعه التورية ويكون الاعتبار بنية الحالف لأن القاضي ليس له التحليف بالطلاق والعتاق وإنما يستحلف بالله ا ه قلت ولا أدري من أين جاء تقييد الحديث بالقاضي أو نائبه بل ظاهر الحديث أنه إذا استحلفه من له الحق فالنية نية المستحلف مطلقا
4- وعن عبد الرحمن بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس العبشمي أبي سعيد صحابي من مسلمة الفتح افتتح سجستان ثم سكن البصرة ومات بها سنة خمسين أو بعدها قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وإذا حلفت على يمين" أي على محلوف منه سماه يمينا مجازا "ورأيت غيرها خيرا منها فكفر عن يمينك وأت الذي هو خير" متفق عليه وفي لفظ للبخاري فائت الذي هو خير وكفر عن يمينك وفي رواية لأبي داود عن عبد الرحمن أيضا فكفر عن يمينك عند ائت الذي هو خير وإسنادهما بالتثنية أي لفظ البخاري ورواية أبي داود والأولى إفراد الضمير ليعود إلى رواية أبي داود فقط لما علم من عرفهم أن ما في الصحيحين صحيح لا يحتاج إلى أن يقال إسناده صحيح الحديث دليل على أن من حلف على كل شيء وكان تركه خيرا من التمادي على اليمين وجب عليه التكفير وإتيان ما هو خير كما يفيده الأمر ولكنه صرح الجماهير بأنه إنما يستحب له ذلك لا أنه يجب وظاهره وجوب تقديم الكفارة ولكنه ادعى الإجماع على عدم وجوب تقديمها وعلى جواز تأخيرها إلى ما بعد الحنث وعلى أنه لا يصح تقديمها قبل اليمين ودلت رواية ثم ائت الذي هو خير على أنه يقدم الكفارة قبل الحنث لاقتضاء عند الترتيب ورواية الواو تحمل على رواية ثم حملا للمطلق على المقيد فإن تم الإجماع على جواز تأخيرها وإلا فالحديث دال على وجوب تقديمها وممن ذهب إلى جواز تقديمها على الحنث مالك والشافعي وغيرهما وأربعة عشر من الصحابة وجماعة من التابعين وهو قول جماهير العلماء لكن قالوا يستحب تأخيرها عن الحنث وظاهره أن هذا جار في جميع أنواع الكفارة وذهب الشافعي إلى عدم إجزاء تقديم التكفير بالصوم وقال لا يجوز قبل الحنث لأنها عبادة بدنية لا يجوز تقديمها على وقتها كالصلاة وصوم رمضان وأما التكفير بغير الصوم فجائز تقديمه كما يجوز تعجيل الزكاة وذهبت الهادوية والحنفية إلى أنه لا يجوز تقديم التكفير على الحنث على كل حال قالت الهادوية لأن سبب وجود الكفارة هو مجموع الحنث واليمين فلا يصح التقديم قبل تمام سبب الوجوب وعند الحنفية السبب الحنث ولا يخفى أن الحديث دال على خلاف ما عللوا به وذهبوا إليه فالقول الأول أقرب إلى العمل به
5- وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف على يمين فقال إن شاء الله فلا حنث عليه" رواه أحمد والأربعة وصححه ابن حبان قال الترمذي لا نعلم أحدا رفعه غير أيوب السختياني قال ابن علية كان(4/103)
أيوب يرفعه تارة وتارة لا يرفعه قال البيهقي لا يصح رفعه إلا عن أيوب مع أنه شك فيه قلت كأنه يريد أنه رفعه تارة ووقفه أخرى ولا يخفى أن أيوب ثقة حافظ لا يضر تفرده برفعه وكونه وقفه تارة لا يقدح فيه لأن رفعه زيادة عدل مقبولة وقد رفعه عبد الله العمري وموسى بن عقبة وكثر بن فرقد وأيوب بن موسى وحسان بن عطية كلهم عن نافع مرفوعا فقوى رفعه على أنه وإن كان موقوفا فله حكم الرفع إذ لا مسرح للاجتهاد فيه وإلى ما أفاده الحديث ذهب الجماهير وقال ابن العربي اجمع المسلمون بأن قوله إن شاء الله يمنع انعقاد اليمين بشرط كونه متصلا قال ولو جاز منفصلا كما قال بعض السلف لم يحنث أحد في يمين ولم يحتج إلى الكفارة واختلفوا في زمن الإتصال فقال الجمهور هو أن يقول إن شاء الله متصلا باليمين من غير سكوت بينهما التنفس قلت وهذا هو الذي تدل له الفاء في قوله فقال وعن طاوس والحسن وجماعة من التابعين أن له الاستثناء ما لم يقم من مجلسه وقال عطاء قدر حلبة ناقة وقال سعيد بن جبير بعد أربعة أشهر وقال ابن عباس له الاستثناء أبدا متى يذكر قلت وهذه تقادير خالية عن الدليل وقد تأول بعضهم هذه الأقاويل بأن مرادهم أنه يستحب له أن يقول إن شاء الله تبركا ويجب على ما ذهب إليه بعضهم لقوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} فيكون الاستثناء رافعا للإثم الحاصل بتركه أو لتحصيل ثواب الندب على القول باستحبابه ولم يريدوا به حل اليمين ومنع الحنث واختلفوا هل الاستثناء مانع للحنث في الحلف بالله وغيره من الطلاق والعتاق وغيره من الظهار والنذر والإقرار فقال مالك لا ينفع إلا في الحلف بالله دون غيره واستقواه ابن العربي واستدل بأنه تعالى قال: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} فلا يدخل في ذلك إلا اليمين الشرعية وهي الحلف بالله وذهب أحمد إلى أنه لا يدخل العتق لما أخرجه البيهقي من حديث معاذ مرفوعا إذا قال لامرأته أنت طالق إن شاء الله لم تطلق وإذا قال لعبده أنت حر إن شاء الله فإنه حر إلا أنه قال البيهقي تفرد به حميد بن مالك وهو مجهول واختلف عليه في إسناده وذهبت الهادوية إلى أن الاستثناء بقوله إن شاء الله معتبر فيه أن يكون المحلوف عليه فيما شاءه الله أو لا يشاؤه فإن كان مما يشاؤه الله بأن كان واجبا أو مندوبا أو مباحا في المجلس أو حال التكلم لأن مشيئة الله حاصلة في الحال فلا تبطل اليمين بل تنعقد به وإن كان لا يشاؤه بأن يكون محظورا أو مكروها فلا تنعقد اليمين فجعلوا حكم الاستثناء بالمشيئة حكم التقييد بالشرط فيقع المعلق عند وقوع المعلق به وينتفي بانتفائه وكذا قوله إلا أن يشاء الله حكمه حكم إن شاء الله ولا يخفى أن الحديث لا تطابقه هذه الأقوال وفي قوله فقال إن شاء الله دليل على أنه لا يكفي في الاستثناء النية وهو قول كافة العلماء وحكي عن بعض المالكية صحة الاستثناء بالنية من غير لفظ وإلى هذا أشار البخاري وبوب عليه باب النية في الأيمان يعني بفتح الهمزة ومذهب الهادوية صحة الاستثناء بالنية وإن لم يلفظ بالعموم إلا من عدد منصوص فلا بد من الاستثناء باللفظ(4/104)
6- وعنه رضي الله عنه قال كانت يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا ومقلب القلوب" رواه البخاري المراد أن هذا اللفظ الذي كان يواظب عليه في القسم وقد ذكر البخاري الألفاظ التي كان صلى الله عليه وسلم يقسم بها "لا ومقلب القلوب" وفي رواية "لا ومصرف القلوب" "والذي نفسي بيده والذي نفس محمد بيده" "والله" "ورب الكعبة" ولابن أبي شيبة كان إذا اجتهد اليمين قال: "والذي نفس أبي القاسم بيده" ولابن ماجه كانت يمين رسول الله صلى الله عليه سلم التي يحلف بها أشهد عند الله والذي نفسي بيده والمراد بتقليب القلوب تقليب أعراضها وأحوالها لا تقليب ذات القلب قال الراغب تقليب الله القلوب والبصائر صرفها عن رأي إلى رأي والتقلب التصرف قال الله تعالى: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ} وقال ابن العربي: القلب جزء من البدن خلقه الله وجعله للإنسان محل العلم والكلام وغير ذلك من الصفات الباطنة وجعل ظاهر البدن محل التصرفات الفعلية والقولية ووكل به ملكا يأمر بالخير وشيطانا يأمر بالشر والعقل بنوره يهديه والهوى بظلمته يغويه والقضاء مسيطر على الكل والقلب يتقلب بين الخواطر الحسنة والسيئة واللمة من الملك تارة ومن الشيطان أخرى والمحفوظ من حفظه الله ا ه قلت وقوله والكلام بناء منه على إثبات الكلام النفسي وأن محله القلب وقوله صلى الله عليه وسلم لا رد ونفي للسابق من الكلام والحديث دليل على جواز الإقسام بصفة من صفات الله وإن لم تكن من صفات الذات وإلى هذا ذهبت الهادوية حيث قالوا الحلف بالله أو بصفة لذاته أو لفعله لا يكون على ضدها ويريدون بصفة الذات كالعلم والقدرة ولكنهم قالوا لا بد من إضافتها إلى الله تعالى كعلم الله ويريدون بصفة الفعل كالعهد والأمانة إذا أضيفت إلى الله إلا أنه قد ورد حديث بالنهي عن الحلف بالأمانة أخرجه أبو داود من حيث بريدة بلفظ من حلف بالأمانة فليس منا وذلك لأن الأمانة ليست من صفاته تعالى بل من فروضه عل العباد وقولهم لا يكون على ضدها احتراز عن الغضب والرضا والمشيئة فلاتنعقد بها اليمين وذهب ابن حزم وهو ظاهر كلام المالكية والحنفية إلى أن جميع الأسماء الواردة في القرآن أو السنة الصحيحة وكذا الصفات صريح في اليمين وتجب به الكفارة وفصلت الشافعية في المشهور عنهم والحنابلة فقالوا إن كان اللفظ يختص بالله تعالى كالرحمن ورب العالمين وخالق الخلق فهو صريح ينعقد به اليمين سواء قصد الله تعالى أو أطلق وإن كان يطلق عليه تعالى وعلى غيره لكن يقيد كالرب والخالق فتنعقد به اليمين إلا أن يقصد به غير الله تعالى وإن كان يطلق عليه وعلى غيره على السواء نحو الحي والموجود فإن نوي غير الله تعالى أو أطلق فليس بيمين وإن نوى به الله تعالى انعقد على الصحيح
7- وعن عبد الله بن عمروأي ابن العاص قال جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ما الكبائر؟ فذكر الحديث وفيه اليمين الغموس وهي بفتح الغين المعجمة وضم الميم آخره مهملة وفيه قلت ظاهره أن السائل ابن عمرو راوي الحديث(4/105)
والمجيب هو النبي صلى الله عليه وسلم ويحتمل أن يكون السائل غير عبد الله لعبد الله وعبد الله المجيب والأول أظهر وما اليمين الغموس قال التي يقتطع بها مال امرىء مسلم هو فيها كاذب أخرجه البخاري اعلم أن اليمين إما أن تكون بعقد قلب وقصد أو لا بل تجري على اللسان بغير عقد قلب وإنما تقع بحسب ما تعوده المتكلم سواء كانت بإثبات أو نفي نحو والله وبلى والله ولا والله فهذه هي اللغو الذي قال الله تعالى فيه: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} كما يأتي دليله وإن كانت عن عقد قلب فينظر إلى حال المحلوف عليه فينقسم بحسبه إلى أقسام خمسة إما أن يكون معلوم الصدق أو معلوم الكذب أو مظنون الصدق أو مظنون الكذب أو مشكوكا فيه فالأول يمين برة صادقة وهي التي وقعت في كلام الله تعالى نحو {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} ووقعت في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابن القيم: إنه صلى الله عليه وسلم حلف في أكثر من ثمانين موضعا وهذه هي المرادة في حديث إن الله تعالى يحب أن يحلف به وذلك لما يتضمن من تعظيم الله تعالى والثاني وهو معلوم الكذب اليمين الغموس ويقال لها الزور والفاجرة وسميت في الأحاديث يمين صبر ويمينا مصبورة قال في النهاية سميت غموسا لأنها تغمس صاحبها في النار فعلى هذا هي فعول بمعنى فاعل وقد فسرها في الحديث بالتي يقتطع بها مال المرء المسلم فظاهره أنها لا تكون غموسا إلا إذا اقتطع بها مال امريء مسلم لا أن كل محلوف كذبا يكون غموسا ولكنها تسمى فاجرة الثالث ما ظن صدقه وهو قسمان: الأول ما انكشف فيه الأصابة فهدا ألحقه البعض بما علم صدقه إذ بالانكشاف صار مثله والثاني ما ظن صدقه وانكشف خلافه وقد قيل لا يجوز الحلف في هذين القسمين لأن وضع الحلف لقطع الاحتمال فكأن الحالف يقول أنا أعلم مضمون الخبر وهذا كذب فإنه إنما حلف على ظنه الرابع ما ظن كذبه والحلف عليه محرم الخامس ما شك في صدقه وكذبه وهو أيضا محرم فتلخص أنه يحرم ما عدا المعلوم صدقه وقوله ما الكبائر فيه دليل على أنه قد كان معلوما عند السائل أن في المعاصي كبائر وغيرها وقد اختلف العلماء في ذلك فذهب إمام الحرمين وجماعة من أئمة العلم إلى أن المعاصي كلها كبائر وذهب الجماهير إلى أنها تنقسم إلى كبائر وصغائر واستدلوا بقوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} وبقوله: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ} قلت ولا يخفى أنه لا دليل على تسمية شيء من المعاصي صغائر وهو محل النزاع وقيل لا خلاف في المعنى إنما الخلاف لفظي لاتفاق الكل على أن من المعاصي ما يقدح في العدالة ومنها ما لا يقدح فيها قلت وفيه أيضا تأمل وقوله فذكر الحديث ذكر فيه الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس واليمين الغموس وقد تعرض الشارح رحمه الله إلى ما قاله العلماء في تحديد الكبيرة وأطال نقل أقاويلهم في ذلك وهي أقاويل مدخولة والتحقيق أن الكبر والصغر أمر نسبي(4/106)
فلا يتم الجزم بأن هذا صغير وهذا كبير إلا بالرجوع إلى ما نص الشارع على كبره فهو كبير وما عداه باق على الإبهام والاحتمال وقد عد العلائي في قواعده الكبائر المنصوص عليها بعد تتبعها من النصوص فأبلغها خمسا وعشرين وهي الشرك بالله والقتل والزنا وأفحشه بحليلة الجار والفرار من الزحف وأكل الربا وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات والسحر والاستطالة في عرض المسلم بغير حق وشهادة الزور واليمين الغموس والنميمة والسرقة وشرب الخمر واستحلال بيت الله الحرام ونكث الصفقة وترك السنة والتعرب بعد الهجرة واليأس من روح الله والأمن من مكر الله ومنع ابن السبيل من فضل الماء وعدم التنزه من البول وعقوق الوالدين والتسبب إلى شتمهما والإضرار في الوصية وتعقب بأن السرقة لم يرد النص بأنها كبيرة وإنما في الصحيحين "لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن" وفي رواية النسائي "فإن فعل ذلك فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه فإن تاب تاب الله عليه" وقد جاء في أحاديث صحيحة النص على الغلول وهو إخفاء بعض الغنيمة بأنه كبيرة وجاء في الجمع بين الصلاتين لغير عذر ومنع الفحل ولكنه حديث ضعيف وجاء في الأحاديث ذكر أكبر الكبائر كحديث أبي هريرة إن من أكبر الكبائر استطالة المرء في عرض رجل مسلم أخرجه ابن أبي حاتم بإسناد حسن ونحوه من الأحاديث ولا مانع من أن يكون في الذنوب الكبير والأكبر وظاهر الحديث أنه لا كفارة في الغموس وقد نقل ابن المنذر وابن عبد البر اتفاق العلماء على ذلك وقد أخرج ابن الجوزي في التحقيق عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا أنه سمع رسول الله صلى الله عليه سلم يقول ليس فيها كفارة يمين صبر يقتطع بها مالا بغير حق وفيه راو مجهول وقد روى آدم بن أبي إياس وإسماعيل القاضي عن ابن مسعود موقوفا كنا نعد الذنب الذي لا كفارة له اليمين الغموس أن يحلف الرجل على مال أخيه كاذبا ليقتطعه قالوا ولا مخالف له من الصحابة ولكن تكلم ابن حزم في صحة أثر ابن مسعود وإلى عدم الكفارة ذهبت الهادوية وذهب الشافعي وآخرون إلى وجوب الكفارة فيها وهو الذي اختاره ابن حزم في شرح المحلى لعموم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الإيمان الآية واليمين الغموس معقودة قالوا والحديث لا تقوم به حجة حتى تخصص الآية والقول بأنه لا يكفرها إلا التوبة فالكفارة تنفعه في رفع إثم اليمين ويبقى في ذمته ما اقتطعه بها من مال أخيه فإن تحلل منه وتاب محا الله تعالى عنه الإثم
8- وعن عائشة رضي الله عنها في قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} قالت هو قول الرجل لا والله وبلى والله أخرجه البخاري موقوفا على عائشة ورواه أبو داود مرفوعا فيه دليل على أن اللغو من الأيمان ما لا يكون عن قصد الحلف وإنما جرى على اللسان من غير إرادة الحلف وإلى تفسير اللغو بهذا ذهب الشافعي ونقله ابن المنذر عن ابن عمر وابن عباس وغيرهما من الصحابة وجماعة من التابعين وذهب الهادوية والحنفية إلى أن لغو اليمين أن يحلف على الشيء يظن صدقه فيكشف خلافه وذهب طاوس(4/107)
إلى أنها الحلف وهو غضبان وفي ذلك تفاسير أخر لا يقوم عليها دليل وتفسير عائشة أقرب لأنها شاهدت التنزيل وهي عارفة بلغة العرب وعن عطاء والشعبي وطاوس والحسن وأبي قلابة لا والله وبلى والله لغة من لغات العرب لا يراد بها اليمين وهي من صلة الكلام ولأن اللغو في اللغة ما كان باطلا وما لا يعتد به من القول ففي القاموس اللغو واللغى كالفتى السقط وما لا يعتد به من كلام غيره
9- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن لله تسعة وتسعين أسما من أحصاها" وفي لفظ "من حفظها دخل الجنة" متفق عليه وساق الترمذي وابن حبان الأسماء والتحقيق أن سردها إدراج من بعض الرواة اتفق الحفاظ من أئمة الحديث أن سردها إدراج من بعض الرواة وظاهر الحديث أن أسماء الله الحسنى منحصرة في هذا العدد بناء على القول بمفهوم العدد ويحتمل أنه حصر لها باعتبار ما ذكر بعده من قوله من أحصاها دخل الجنة وهو خبر المبتدأ فالمراد أن هذه التسعة والتسعين تختص بفضيلة من بين سائر أسمائه تعالى وهو أن إحصاءها سبب لدخول الجنة وإلى هذا ذهب الجمهور وقال النووي ليس في الحديث حصر أسماء الله تعالى وليس معناه أنه ليس له أسم غير. التسعة والتسعين ويدل عليه ما أخرجه أحمد وصححه ابن حبان من حديث ابن مسعود مرفوعا "أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك" فإنه دل على أن له تعالى أسماء لم يعرفها أحد من خلقه بل استأثر بها ودل على أنه قد يعلم بعض عباده بعض أسمائه ولكنه يحتمل أنه من التسعة والتسعين وقد جزم بالحصر فيما ذكر أبو محمد بن حزم فقال قد صح أن أسماءه تعالى لا تزيد على تسعة وتسعين شيئا لقوله صلى الله عليه وسلم مائة إلا واحدا فنفي الزيادة وأبطلها ثم قال وجاءت أحاديث في إحصاء التسعة والتسعين اسما مضطربة لا يصح منها شيء أصلا وإنما تؤخذ من نص القرآن وما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم سرد أربعة وثمانين أسما استخرجها من القرآن والسنة وقال الشارح تبعا لكلام المصنف في التلخيص: إنه ذكر ابن حزم أحدا وثمانين اسما والذي رأيناه في كلام ابن حزم أربعة وثمانين وقد نقلنا كلامه وتعيين الأسماء الحسنى على ما ذكره في هامش التلخيص واستخرج المصنف من القرآن فقط تسعا وتسعين أسما وسردها في التلخيص وغيره وذكر السيد محمد بن إبراهيم الوزير في إيثار الحق أنه تتبعها من القرآن فبلغت مائة وثلاثة وسبعين أسما وإن قال صاحب الإيثار مائة وسبعة وخمسين فإنا عددناها فوجدناها كما قلنا أولا وعرفت من كلام المصنف أن مراده أن سرد الأسماء الحسنى المعروفة مدرج عند المحققين وأنه ليس من كلامه صلى الله عليه وسلم وذهب كثيرون إلى أن عدها مرفوع وقال المصنف بعد نقله كلام العلماء في ذكر عدد الأسماء والاختلاف فيها ما لفظه ورواية الوليد بن مسلم عن شعيب هي أقرب الطرق الواضحة وعليها عول غالب من شرح الأسماء(4/108)
الحسنى عند سردها على رواية الترمذي وذكر اختلافا في بعض ألفاظها وتبديلا في إحدى الروايات للفظ بلفظ ثم قال واعلم أن الأسماء الحسنى على أربعة أقسام القسم الأول الاسم العلم وهو الله والثاني ما يدل على الصفات الثابتة للذات كالعليم والقدير والسميع والبصير والثالث ما يدل على إضافة أمر إليه كالخالق والرازق والرابع ما يدل على سلب شيء عنه كالعلي والقدوس واختلف العلماء أيضا هل هي توقيفية يعني أنه لا يجوز لأي أحد أن يشتق من الأفعال الثابتة لله تعالى أسما بل لا يطلق عليه إلا ما ورد به نص الكتاب والسنة فقال الفخر الرازي المشهور عن أصحابنا أنها توقيفية وقالت المعتزلة والكرامية إذا دل العقل على أن معنى اللفظ ثابت في حق الله تعالى جاز إطلاقه على الله تعالى وقال القاضي أبو بكر والغزالي الأسماء توقيفية دون الصفات قال الغزالي كما أنه ليس لنا أن نسمي النبي صلى الله عليه وسلم باسم لم يسمه به أبوه ولا أمه ولا سمى به نفسه كذلك في حق الله تعالى واتفقوا على أنه لا يجوز أن يطلق عليه تعالى اسم أو صفة توهم نقصا فلا يقال ماهد ولا زارع ولا فالق وإن جاء في القرآن: {فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} {أمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} ولا يقال ماكر ولا بناء وإن ورد {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا} وقال القشيري الأسماء تؤخذ توقيفا من الكتاب والسنة والإجماع فكل اسم ورد فيها وجب إطلاقه في وصفه وما لم يرد لم يجز ولو صح معناه وقد أوضحنا هذا البحث في كتابنا إيقاظ الفكرة وقوله من أحصاها اختلف العلماء في الإحصاء فقال البخاري وغيره من المحققين معناه حفظها وهو الظاهر فإن إحدى الروايتين مفسرة للأخرى
وقال الخطابي: يحتمل وجوها أحدها: أن يعدها حتى يستوفيها بمعنى أن لا يقتصر على بعضها فيدعو الله بها كلها ويثني عليه بجميعها فيستوجب الموعود عليها من الثواب
وثانيها: المراد بالإحصاء الإطاقة والمعنى من أطاق القيام بحق هذه الأسماء والعمل بمقتضاها وهو أن يعتبر معانيها فيلزم نفسه بمواجبها فإذا قال الرزاق وثق بالرزق وكذا سائر الأسماء ثالثها: المراد به الإحاطة بمعانيها وقيل أحصاها عمل بها فإذا قال الحكيم سلم لجميع أوامره لأن جميعها على مقتضى الحكمة وإذا قال القدوس استحضر كونه مقدسا منزها عن جميع النقائص واختاره أبو الوفاء ابن عقيل
وقال ابن بطال: طريق العمل بها أن ما كان يسوغ الاقتداء به فيها كالرحيم والكريم فيمرن العبد نفسه على أن يصح له الاتصاف بها وما كان يختص به نفسه كالجبار والعظيم فعلى العبد الإقرار بها والخضوع لها وعدم التحلي بصفة منها وما كان فيه معنى الوعد يقف فيه عند الطمع والرغبة وما كان فيه معنى الوعيد يقف منه عند الخشية والرهبة ويؤيد هذا أن حفظها لفظا من دون عمل واتصاف كحفظ القرآن من دون عمل لا ينفع كما جاء يقرؤن القرآن لا يجاوز حناجرهم ولكن هذا الذي ذكرته لا يمنع من ثواب من قرأها سردا وإن كان متلبسا بمعصية وإن كان ذلك مقام الكمال الذي لا يقوم به إلا أفراد من الرجال وفيه أقوال أخر لا تخلو(4/109)
من تكلف تركناها فإن قلت كيف يتم أن المراد من حفظها على ما هو قول جمع المحققين ولم يأت بعددها حديث صحيح قلت لعل المراد من حفظ كل ما ورد في القرآن وفي السنة الصحيحة وإن كان موجودا فيهما أكثر من تسعة وتسعين فقد حفظ التسعة والتسعين في ضمنها فيكون حثا على تطلبها من الكتاب والسنة الصحيحة وحفظها
10- وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صنع إليه معروف فقال لفاعله جزاك الله خيرا فقد أبلغ في الثناء" أخرجه الترمذي وصححه ابن حبان المعروف الإحسان والمراد من أحسن إليه إنسان بأي إحسان فكافأه بهذا القول فقد بلغ في الثناء عليه مبلغا عظيما ولا يدل على أنه قد كافأه على إحسانه بل دل على أنه ينبغي الثناء على المحسن وقد ورد في حديث آخر إن الدعاء إذا عجز العبد عن المكافأة مكافأة ولا يخفى أن ذكر الحديث هنا غير موافق لباب الأيمان والنذور وإنما محله باب الأدب الجامع
11- وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه نهى عن النذر وقال إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل" متفق عليه هذا أول الكلام في النذور والنذر لغة التزام خير أو شر وفي الشرع التزام المكلف شيئا لم يكن عليه منجزا أو معلقا واختلف العلماء في هذا النهي فقيل هو على ظاهره وقيل بل متأول قال ابن الأثير في النهاية تكرر النهي عن النذر في الحديث وهو تأكيد لأمره وتحذير عن التهاون به بعد إيجابه ولو كان معناه الزجر عنه حتى لا يفعل لكان في ذلك إبطال لحكمه وإسقاط للزوم الوفاء به إذا كان بالنهي يصير معصية فلا يلزم وإنما وجه الحديث أنه قد أعلمهم أن ذلك الأمر لا يجر لهم في العاجل نفعا ولا يصرف عنهم ضرا ولا يرد قضاء فقال لا تنذروا على أنكم تدركون بالنذر شيئا لم يقدره الله تعالى لكم أو تصرفون به عنكم ما قدر عليكم فإذا نذرتم ولم تعتقدوا هذا فاخرجوا عنه بالوفاء فإن الذي نذرتموه لازم لكم ا ه وقال المازري بعد نقل معناه عن بعض أصحابه وهذا عندي بعيد عن ظاهر الحديث قال ويحتمل عندي أن يكون وجه الحديث أن الناذر يأتي بالقرب مستثقلا لها لما صارت عليه ضربة لازب فلا ينشط العقل نشاط مطلق الاختيار أو لأن الناذر يصير القربة كالعوض عن الذي نذر لأجله فلا تكون خالصة ويدل عليه قوله إنه لا يأتي بخير وقال القاضي عياض إن المعنى أنه يغالب القدر والنهي لخشية أن يقع في ظن بعض الجهلة ذلك وقوله لا يأتي بخير معناه أن عقباه لا تحمد وقد يتعذر الوفاء به وأن لا يكون سببا لخير لم يقدر فيكون مباحا وذهب أكثر الشافعية ونقل عن المالكية إلى أن النذر مكروه لثبوت النهي واحتجوا بأنه ليس طاعة محضة لأنه لم يقصد به خالص القربة وإنما قصد أن ينفع نفسه أو يدفع عنها ضررا بما التزم وجزم الحنابلة بالكراهة وعندهم رواية أنها كراهة تحريم ونقل(4/110)
الترمذي كراهته عن بعض أهل العلم من الصحابة وقال ابن المبارك يكره النذر في الطاعة والمعصية فإن نذر بالطاعة ووفى به كان له أجر وذهب النووي في شرح المهذب إلى أن النذر مستحب وقال المصنف: وأنا أتعجب ممن أطلق لسانه بأنه ليس بمكروه مع ثبوت النهي الصريح فأقل درجاته أن يكون مكروها قال ابن العربي: النذر شبيه بالدعاء فإنه لا يرد القدر لكنه من القدر وقد ندب إلى الدعاء ونهى عن النذر لأن الدعاء عبادة عاجلة ويظهر به التوجه إلى الله والخضوع والتضرع والنذر فيه تأخير العبادة إلى حين الحصول وترك العمل إلى حين الضرورة ا هـ
قلت القول بتحريم النذر هو الذي دل عليه الحديث ويزيد تأكيدا تعليله بأنه لا يأتي بخير فإنه يصير إخراج المال فيه من باب إضاعة المال وإضاعة المال محرمة، فيحرم النذر بالمال كما هو ظاهر قوله وإنما يستخرج به من البخيل وأما النذر بالصلاة والصيام والزكاة والحج والعمرة ونحوها من الطاعات فلا تدخل في النهي ويدل له ما أخرجه الطبراني بسند صحيح عن قتادة في قوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} قال كانوا ينذرون طاعات من الصلاة والصيام وسائر ما افترض الله عليهم وهو وإن كان أثرا فهو يقويه ما ذكر في سبب نزول الآية هذا وأما النذور المعروفة في هذه الأزمنة على القبور والمشاهد والأموات فلا كلام في تحريمها لأن الناذر يعتقد في صاحب القبر أنه ينفع ويضر ويجلب الخير ويدفع الشر ويعافي الأليم ويشفي السقيم وهذا هو الذي كان يفعله عباد الأوثان بعينه فيحرم كما يحرم النذر على الوثن ويحرم قبضه لأنه تقرير على الشرك ويجب النهي عنه وإبانة أنه من أعظم المحرمات وأنه الذي كان يفعله عباد الأصنام لكن طال الأمد حتى صار المعروف بنو والمنكر معروفا وصارت تعقد اللواءات لقباض النذور على الأموات ويجعل للقادمين إلى محل الميت الضيافات وينحر في بابه النحائر من الأنعام وهذا هو بعينه الذي كان عليه عباد الأصنام فإنا لله وإنا إليه راجعون وقد أشبعنا الكلام في هذا في رسالة تطهير الاعتقاد عن درن الإلحاد والحديث ظاهر في النهي عن النذر مطلقا ما ينذر به ابتداء كمن ينذر أن يخرج من ماله كذا وما يتقرب به معلقا كأن يقول إن قدم زيد تصدقت بكذا
12- وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كفارة النذر كفارة يمين" رواه مسلم وزاد الترمذي فيه إذا لم يسم وصححه الحديث دليل على أن من نذر بأي نذر من مال أو غيره فكفارته كفارة يمين ولا يجب الوفاء به وإلى هذا ذهب جماعة من فقهاء أهل الحديث كما قال النووي وقد أخرج البيهقي عن عائشة رضي الله عنها في رجل جعل ماله في المساكين صدقة قالت كفارة يمين وأخرج أيضا عن أم صفية أنها سمعت عائشة رضي الله عنها وإنسان يسألها عن الذي يقول كل ماله في سبيل الله أو كل ماله في رتاج الكعبة ما يكفر ذلك قالت عائشة يكفره ما يكفر اليمين وكذا أخرجه عن عمر وابن عمر وأم سلمة قال البيهقي هذا في غير العتق(4/111)
فقد روي عن ابن عمر من وجه آخر أن العتاق يقع وكذلك عن ابن عباس ودليلهم حديث عقبة هذا وذهب آخرون إلى تفصيل في المنذور به فإن كان المنذور به فعلا فالفعل إن كان غير مقدور فهو غير منعقد وإن كان مقدورا فإن كان جنسه واجبا لزم الوفاء به عند الهادوية ومالك وأبي حنيفة وجماعة آخرين وقول للشافعي إنه لا ينعقد النذر المطلق بل يكون يمينا فيكفرها ذكر هذا الخلاف في البحر وذهب داود وأهل الظاهر وذكر النووي في شرح مسلم أنه أجمع المسلمون على صحة النذر ووجوب الوفاء به إذا كان الملتزم طاعة فإن كان معصية أو مباحا كدخول السوق لم ينعقد النذر ولا كفارة عليه عندنا وبه قال جمهور العلماء وقال أحمد وطائفة فيه كفارة يمين وقال في نهاية المجتهد إنه وقع الاتفاق على لزوم النذر بالمال إذا كان في سبيل البر وكان على جهة الجزم وإن كان على جهة الشرط فقال مالك يلزم كالجزم ولا كفارة يمين في ذلك إلا أنه إذا نذر بجميع ماله لزم ثلث ماله إذا كان مطلقا وإن كان المنذور به معينا لزمه وإن كان جميع ماله وكذا إذا كان المعين أكثر من الثلث وذهب الشافعي إلى أنها تجب كفارة يمين لأنه ألحقها بالأيمان ثم ذكر أقاويل في المسألة لا ينهض عليها دليل وذكر متمسك القائلين بأدلة ليست من باب النذر ولا تنطبق على المدعي وحديث عقبة أحسن ما يعتمد الناظر عليه وقد حمله جماعة من فقهاء الحديث على جميع أنواع النذر وقالوا هو مخير في جميع أنواع المنذورات بين الوفاء بما التزم وبين كفارة يمين ذكره النووي في شرح مسلم وهو الذي دل عليه إطلاق حديث عقبة
13- ولأبي داود من حديث ابن عباس مرفوعا "من نذر نذرا لم يسمه فكفارته كفارة يمين ومن نذر نذرا في معصية فكفارته كفارة يمين ومن نذر نذرا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين" وإسناده صحيح إلا أن الحفاظ رجحوا وقفه أما النذر الذي لم يسم كأن يقول لله علي نذر فقال كثير من العلماء في ذلك كفارة يمين لا غير وعليه دل حديث عقبة وحديث ابن عباس وأما النذر بالمعصية فكفارته كفارة يمين كما صرح به الحديث سواء فعل المعصية أم لا وكذلك من نذر نذرا لا يطيقه عقلا ولا شرعا كطلوع السماء وحجتين في عام لا ينعقد وتلزمه كفارة يمين وعند الشافعي ومالك وداود وجماهير العلماء لا تلزمه الكفارة لما دل عليه الحديث الآتي وهو قوله
14- وللبخاري من حديث عائشة "ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه" ولم يذكر كفارة وحديث عمر "لا يمين عليك ولا نذر في معصية الله" أخرجه ابن ماجه وذهبت الهادوية وابن حنبل إلى وجوب الكفارة لحديث ابن عباس رضي الله عنهما وأجيب عنه بأن الأصح أنه موقوف وأما الزيادة في حديث عمران بن حصين وكفارته كفارة يمين فقد أخرجها النسائي والحاكم والبيهقي ولكن فيه محمد بن الزبير الحظلي(4/112)
وليس بالقوي وله طريق أخرى فيها علة ورواه الأربعة من حديث عائشة وفيه راو متروك ورواه الدارقطني وفيه أيضا متروك ولا يلزم الوفاء بنذر المعصية لقوله فلا يعصه ولما يفيده قوله
15- ولمسلم من حديث عمران لا وفاء لنذر في معصية فإنه صريح في النهي عن الوفاء كالذي قبله
16- وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله حافية فأمرتني أن أستفتي لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيته فقال النبي صلى الله عليه وسلم "لتمش ولتركب" متفق عليه واللفظ لمسلم ولأحمد والأربعة فقال: "إن الله تعالى لا يصنع بشقاء أختك شيئا مرها فلتختمر ولتركب ولتصم ثلاثة أيام" دل الحديث على أن من نذر أن يمشي إلى بيت الله لا يلزمه الوفاء وله أن يركب لغير عجز وإليه ذهب الشافعي وذهبت الهادوية إلى أنه لا يجوز الركوب مع القدرة على المشي فإذا عجز جاز له الركوب ولزمه دم مستدلين برواية أبي داود لحديث عقبة بأنه قال فيه إن أختي نذرت أن تحج ماشية وإنها لا تطيق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى لغني عن مشي أختك فلتركب ولتهد بدنة قالوا فتقييد رواية الصحيحين بأن إن استطاعت وتركب في الوقت الذي لا تطيق المشي فيه أو يشق عليها وقوله فلتختمر ذكر ذلك لأنه وقع في الرواية أنها نذرت أن تحج لله ماشية غير مختمرة قال فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال مرها الحديث ولعل الأمر بصيام ثلاثة أيام لأجل النذر بعدم الاختمار فإنه نذر بمعصية فوجب كفارة يمين وهو من أدلة من يوجب الكفارة في النذر بمعصية إلا أنه ذكر البيهقي أن في إسناده اختلافا وقد ثبت في رواية أبي داود عن ابن عباس بعد قوله فلتركب ولتهد بدنة قيل وهو على شرط الشيخين إلا أنه قال البخاري لا يصح في حديث عقبة بن عامر الأمر بالإهداء فإن صح فكأنه أمر ندب وفي وجهه خفاء
17- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال استفتى سعد بن عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم في نذر كان على أمه توفيت قبل أن تقضيه فقال: "اقضه عنها" متفق عليه لم يبين في هذه الرواية ما هو النذر وجاء في رواية أفيجزىء أن أعتق عنها فقال أعتق عن أمك فظاهر هذه الرواية أنها نذرت بعتق وأما ما أخرج النسائي عن سعد بن عبادة قال قلت يا رسول الله إن أمي ماتت أفأتصدق عنها قالك "نعم" قلت فأي الصدقة أفضل؟ قال: "سقي الماء" فإنه في أمر آخر غير الفتيا إذ هذا في سؤاله صلى الله عليه وسلم عن الصدقة تبرعا عنها والحديث دليل على أنه يلحق الميت ما فعل له من بعده من عتق أو صدقة أو نحوهما وقد قدمنا ذلك في آخر كتاب الجنائز وهل يجب ذلك على الوارث ذهب الجمهور إلى أنه لا يجب على الوارث أن يقضي النذر عن الميت إذا كان ماليا ولم يخلف(4/113)
تركة وكذا غير المالي وقالت الظاهرية يلزمه ذلك لحديث سعد وأجيب بأن حديث سعد لا دلالة فيه على الوجوب والظاهر مع الظاهرية إذ الأمر للوجوب
18- وعن ثابت بن الضحاك هو ثابت بن الضحاك الأشهلي قال البخاري هو ممن بايع تحت الشجرة حدث عنه أبو قلابة وغيره قال نذر رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحر إبلا ببوانة بضم الموحدة وفتحها وبعدها واو ثم ألف وبعد الألف نون موضع بالشام وقيل أسفل مكة دون يلملم فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله فقال: "هل كان فيها وثن يعبد؟" قال لا قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟" فقال لا فقال: "أوف بنذرك فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله تعالى ولا في قطيعة رحم ولا فيما لا يملك ابن آدم " رواه أبو داود والطبراني واللفظ له وهو صحيح الإسناد وله شاهد من حديث كردم بفتح الكاف وسكون الراء وفتح الدال المهملة عند أحمد والحديث له سبب عند أبي داود وهو أنه قال يا رسول الله: إني نذرت إن ولد لي ولد ذكر أن أذبح على رأس بوانة في عقبة من الصاعد عنه الحديث وهو دليل على أن من نذر أن يتصدق أو يأتي بقربة في محل معين أنه يتعين عليه الوفاء بنذره ما لم يكن في ذلك المحل شيء من أعمال الجاهلية وإلى هذا ذهب جماعة من أئمة الهادوية وقال الخطابي إنه مذهب الشافعي وأجازه غيره لغير أهل ذلك المكان ا ه ولكنه يعارضه حديث لا تشد الرحال فيكون قرينة على أن الأمر هنا للندب كذا قيل ويدل له أيضا قوله
19- وعن جابر أن رجلا قال يوم الفتح أي فتح مكة يا رسول الله إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس فقال: "صل ها هنا" فسأله فقال: "صل ها هنا" فسأله فقال: "فشأنك إذن" رواه أحمد وأبو داود وصححه الحاكم وصححه ابن دقيق العيد في الاقتراح وهو دليل على أنه لا يتعين المكان في النذر وإن عين إلا ندبا
20- وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجد الحرام ومسجد الأقصى ومسجدي هذا" متفق عليه واللفظ للبخاري تقدم الحديث في آخر باب الاعتكاف ولعله أورده هنا للإشارة إلى أن النذر لا يتعين فيه المكان إلا أحد الثلاثة المساجد وقد ذهب مالك والشافعي إلى لزوم الوفاء بالنذر بالصلاة في أي المساجد الثلاثة وخالفهم أبو حنيفة فقال لا يلزم الوفاء وله أن يصلي في أي محل شاء وإنما يجب عنده المشي إلى المسجد الحرام إذا كان لحج أو عمرة وأما غير الثلاثة المساجد فذهب أكثر العلماء إلى عدم لزوم الوفاء لو نذر بالصلاة فيها إلا ندبا وأما شد الرحال للذهاب إلى قبور الصالحين والمواضع الفاضلة فقال الشيخ أبو محمد الجويني إنه حرام وهو الذي أشار القاضي عياض إلى اختياره قال النووي والصحيح عند أصحابنا وهو الذي اختاره إمام الحرمين والمحققون أنه لا يحرم(4/114)
ولا يكره قالوا والمراد أن الفضيلة التامة إنما هي في شد الرحال إلى الثلاثة خاصة وقد تقدم هذا في آخر باب الاعتكاف
21- وعن عمر رضي الله عنه قال قلت: يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام قال: "فأوف بنذرك" متفق عليه وزاد البخاري في رواية فاعتكف ليلة دل الحديث على أنه يجب على الكافر الوفاء بما نذر به إذا أسلم وإليه ذهب البخاري وابن جرير وجماعة من الشافعية لهذا الحديث وذهب الجماهير إلى أنه لا ينعقد النذر من الكافر قال الطحاوي لا يصح منه التقرب بالعبادة قال ولكنه يحتمل أن النبي صلى الله عليه سلم فهم من عمر أنه سمح بفعل ما كان نذر فأمره به لأن فعله طاعة وليس هو ما كان نذر به في الجاهلية وذهب بعض المالكية إلى أنه صلى الله عليه سلم إنما أمر به استحبابا وإن كان التزمه في حال لا ينعقد فيها ولا يخفى أن القول الأول أوفق بالحديث والتأويل تعسف وقد استدل به على أن الاعتكاف لا يشترط فيه الصوم إذ الليل ليس ظرفا له وتعقب بأن في رواية عند مسلم يوما وليلة وقد ورد ذكر الصوم صريحا في رواية أبي داود والنسائي اعتكف وصم وهو ضعيف(4/115)
كتاب القضاء
كتاب القضاء
...
كتاب القضاء
القضاء بالمد الولاية المعروفة وهو في اللغة مشترك بين أحكام الشيء والفراغ منه ومنه فقضاهن سبع سماوات وبمعنى إمضاء الأمر ومنه وقضينا الى بني إسرائيل وبمعنى الحتم والإلزام ومنه وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وفي الشرع إلزام ذي الولاية بعد الترافع وقيل هو الإكراه بحكم الشرع في الوقائع الخاصة لمعين أو جهة والمراد بالجهة كالحكم لبيت المال أو عليه
1- عن بريدة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "القضاة ثلاثة اثنان في النار وواحد في الجنة" وكأنه قيل من هم فقال "رجل عرف الحق فقضى به فهو في الجنة ورجل عرف الحق فلم يقض به وجار في الحكم فهو في النار ورجل لم يعرف الحق فقضى للناس على جهل فهو في النار" رواه الأربعة وصححه الحاكم وقال في علوم الحديث تفرد به الخراسانيون وروته مراوزة قال المصنف له طرق غير هذه جمعتها في جزء مفرد والحديث دليل على أنه لا ينجو من النار من القضاة إلا من عرف الحق وعمل به والعمدة العمل فإن من عرف الحق ولم يعمل به فهو ومن حكم بجهل سواء في النار وظاهره أن من حكم بجهل وإن وافق حكمه الحق فإنه في النار لأنه أطلقه وقال فقضى للناس على جهل فإنه يصدق على من وافق الحق وهو جاهل في قضائه أنه قضى على جهل وفيه التحذير من الحكم بجهل أو بخلاف الحق مع معرفته به والذي في الحديث أن الناجي من قضى بالحق عالما(4/115)
به والإثنان الآخران في النار وفيه أنه يتضمن النهي عن تولية الجاهل القضاء قال في مختصر شرح السنة إنه لا يجوز لغير المجتهد أن يتقلد القضاء ولا يجوز للإمام توليته قال والمجتهد من جمع خمسة علوم علم كتاب الله وعلم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقاويل علماء السلف من إجماعهم واختلافهم وعلم اللغة وعلم القياس وهو طريق استنباط الحكم من الكتاب والسنة إذا لم يجده صريحا في نص كتاب أو سنة أو إجماع فيجب أن يعلم من علم الكتاب محمود والمنسوخ والمجمل والمفسر والخاص والعام والمحكم والمتشابه والكراهة والتحريم والإباحة والندب ويعرف من السنة هذه الأشياء ويعرف منها الصحيح والضعيف والمسند والمرسل ويعرف ترتيب السنة على الكتاب وبالعكس حتى إذا وجد حديثا لا يوافق ظاهره الكتاب اهتدى إلى وجه محمله فإن السنة بيان للكتاب فلا تخالفه وإنما تجب معرفة ما ورد منها من أحكام الشرع دون ما عداها من القصص والأخبار والمواعظ وكذا يجب أن يعرف من علم اللغة ما أتى في الكتاب والسنة من أمور الأحكام دون الإحاطة بجميع لغات العرب ويعرف أقاويل الصحابة والتابعين في الأحكام ومعظم فتاوى فقهاء الأمة حتى لا يقع حكمه مخالفا لأقوالهم فيأمن فيه خرق الإجماع فإذا عرف كل نوع من هذه الأنواع فهو مجتهد وإذا لم يعرفها فسبيله التقليد ا ه
2- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين" رواه أحمد والأربعة وصححه ابن خزيمة وابن حبان دل الحديث على التحذير من ولاية القضاء والدخول فيه كأنه يقول من تولى القضاء فقد تعرض لذبح نفسه فليحذره وليتوقه فإنه إن حكم بغير الحق مع علمه به أو جهله له فهو في النار والمراد من ذبح نفسه إهلاكها أي فقد أهلكها بتوليه القضاء وإنما قال بغير سكين للإعلام بأنه لم يرد بالذبح فري الأوداج الذي يكون في الغالب بالسكين بل أريد به إهلاك النفس بالعذاب الأخروي وقيل ذبح ذبحا معنويا وهو لازم له لأنه إن أصاب الحق فقد أتعب نفسه في الدنيا لإرادته الوقوف على الحق وطلبه واستقصاء ما يجب عليه رعايته في النظر في الحكم والموقف مع الخصمين والتسوية بينهما في العدل والقسط وإن أخطأ في ذلك لزمه عذاب الآخرة فلا بد له من التعب والنصب ولبعضهم كلام في الحديث لا يوافق المتبادر منه
3- وعنه أي أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنكم ستحرصون على الإمارة" عام لكل إمارة من الإمامة العظمى إلى أدنى إمارة ولو على واحد "وستكون ندامة يوم القيامة فنعم المرضعة" أي في الدنيا "وبئست الفاطمة" أي بعد الخروج منها رواه البخاري
قال الطيبي: تأنيث الإمارة(4/116)
غيرحقيقي فترك تأنيث نعم وألحقه ببئس نظرا إلى كون الإمارة حينئذ داهية دهياء وقال غيره أنث في لفظ وتركه في لفظ للافتتان وإلا فالفاعل واحد وأخرج الطبراني والبزار بسند صحيح من حديث عوف بن مالك بلفظ أولها ملامة وثانيها ندامة وثالثها عذاب يوم القيامة إلا من عدل وأخرج الطبراني من حديث زيد بن ثابت يرفعه نعم الشيء الإمارة لمن أخذها بحقها وحلها وبئس الشيء الإمارة لمن أخذها بغير حقها تكون عليه حسرة يوم القيامة وهذا يقيد ما أطلق فيما قبله وقد أخرج مسلم من حديث أبي ذر قال قلت يا رسول الله ألا تستعملني؟ قال: "إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها"
قال النووي: هذا أصل عظيم في اجتناب الولاية لا سيما لمن كان فيه ضعف وهو في حق من دخل فيها بغير أهلية ولم يعدل فإنه يندم على ما فرط فيه إذا جوزي بالجزاء يوم القيامة وأما من كان أهلا لها وعدل فيها فأجره عظيم كما تضافرت به الأخبار ولكن في الدخول فيها خطر عظيم ولذلك امتنع الأكابر منها فامتنع الشافعي لما استدعاه المأمون لقضاء الشرق والغرب وامتنع منه أبو حنيفة لما استدعاه المنصور فحبسه وضربه والذين امتنعوا من الأكابر جماعة كثيرون وقد عد في النجم الوهاج جماعة
(تنبيه) في قوله ستحرصون دلالة على محبة النفوس للإمارة لما فيها من نيل حظوظ الدنيا ولذاتها ونفوذ الكلمة ولذا ورد النهي عن طلبها كما أخرج الشيخان أنه صلى الله عليه وسلم قال لعبد الرحمن: "لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها" وأخرج أبو داود والترمذي عنه صلى الله عليه وسلم "من طلب القضاء واستعان عليه بالشفعاء وكل إليه ومن لم يطلبه ولم يستعن عليه أنزل الله ملكا يسدده" وفي صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: " و الله إنا لا نولي هذا الأمر أحدا سأله ولا أحدا حرص عليه" حرص بفتح الراء قال الله تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} ويتعين على الإمام أن يبحث عن أرضي الناس وأفضلهم فيوليه لما أخرجه الحاكم والبيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من استعمل رجلا على عصابة وفي تلك العصابة من هو أرضي لله تعالى منه فقد خان الله ورسوله وجماعة المسلمين وإنما نهى عن طلب الإمارة لأن الولاية تفيد قوة بعد ضعف وقدرة بعد عجز تتخذها النفس المجبولة على الشر وسيلة إلى الانتقام من العدو والنظر للصديق وتتبع الأغراض الفاسدة ولا يوثق بحسن عاقبتها ولا بالإجماع مجاورتها فالأولى أن لا تطلب ما أمكن وإن كان قد أخرج أبو داود بإسناد حسن عنه صلى الله عليه وسلم من طلب قضاء المسلمين حتى يناله فغلب عدله جوره فله الجنة ومن غلب جوره عدله فله النار
4-وعن عمرو ابن العاص أنه سمع رسول لله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا حكم الحاكم" أي إذا أراد الحكم لقوله "فاجتهد" فإن الاجتهاد قبل الحكم "ثم أصاب فله أجران فإذا حكم واجتهد ثم أخطأ" أي لم يوافق ما هو عند الله تعالى من الحكم(4/117)
"فله أجر" متفق عليه الحديث من أدلة القول بأن الحكم عند الله في كل قضية واحد معين قد يصيبه من أعمل فكره وتتبع الأدلة ووفقه الله فيكون له أجران أجر الاجتهاد وأجر الإصابة والذي له أجر واحد هو من اجتهد فأخطأ فله أجر الاجتهاد واستدلوا بالحديث على أنه يشترط أن يكون الحاكم مجتهدا قال الشارح وغيره وهو المتمكن من أخذ الأحكام من الأدلة الشرعية قال ولكنه يعز وجوده بل كاد يعدم بالكلية ومع تعذره فمن شرطه أن يكون مقلدا مجتهدا في مذهب إمامه ومن شرطه أن يتحقق أصول إمامه وأدلته وينزل أحكامه عليها فيما لم يجده منصوصا من مذهب إمامه اه قلت ولا يخفى ما في هذا الكلام من البطلان وإن تطابق عليه الأعيان وقد بينا بطلان دعوى تعذر الاجتهاد في رسالتنا المسماة بإرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد بما لا يمكن دفعه وما أرى هذه الدعوى التي تطابقت عليها الأنظار إلا من كفران نعمة الله عليهم فإنهم أعني المدعين لهذه الدعوى والمقررين لها مجتهدون يعرف أحدهم من الأدلة ما يمكنه بها الاستنباط مما لم يكن قد عرفه عتاب بن أسيد قاضي رسول الله صلى الله عليه سلم على مكة ولا أبو موسى الأشعري قاضي رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليمن ولا معاذ بن جبل قاضيه فيها وعامله عليها ولا شريح قاضي عمر وعلي رضي الله عنهم على الكوفة ويدل لذلك قول الشارح فمن شرطه أي المقلد أن يكون مجتهدا في مذهب إمامه وأن يتحقق أصوله وأدلته أي ومن شرطه أن يتحقق أصول إمامه وأدلته وينزل أحكامه عليها فيما لم يجده منصوصا من مذهب إمامه فإن هذا هو الاجتهاد الذي حكم بكيدودة عدمه بالكلية وسماه متعذرا فهلا جعل هذا المقلد إمامه كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه سلم عوضا عن إمامه وتتبع نصوص الكتاب والسنة عوضا عن تتبع نصوص إمامه والعبارات كلها ألفاظ دالة على معان فهلا استبدل بألفاظ إمامه ومعانيها ألفاظ الشارع ومعانيها ونزل الأحكام عليها إذا لم يجد نصا شرعيا عوضا عن تنزيلها على مذهب إمامه فيما لم يجده منصوصا تالله لقد استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير من معرفة الكتاب والسنة إلى معرفة كلام الشيوخ والأصحاب وتفهم مرامهم والتفتيش عن كلامهم ومن المعلوم يقينا أن كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه سلم أقرب إلى الأفهام وأدنى إلى إصابة المرام فإنه أبلغ الكلام بالإجماع وأعذبه في الأفواه والأسماع وأقربه إلى الفهم والانتفاع ولا ينكر هذا إلا جلمود الطباع ومن لاحظ له في النفع والانتفاع والأفهام التي فهم بها الصحابة الكلام الإلهي والخطاب النبوي هي كأفهامنا وأحلامهم كأحلامنا إذ لو كانت الأفهام متفاوتة تفاوتا يسقط معه فهم العبارات الإلهية والأحاديث النبوية لما كنا مكلفين ولا مأمورين ولا منهيين لا اجتهادا ولا تقليدا أما الأول فلاستحالته وأما الثاني فلأنا لا نقلد حتى نعلم أنه يجوز لنا التقليد ولا نعلم ذلك إلا بعد فهم الدليل من الكتاب والسنة على جوازه لتصريحهم بأنه لا يجوز التقليد في جواز التقليد فهذا الفهم الذي فهمنا به(4/118)
هذا الدليل نفهم به غيره من الأدلة من كثير وقليل على أنه قد شهد المصطفى صلى الله عليه سلم بأنه يأتي من بعده من هو أفقه ممن في عصره وأوعى لكلامه حيث قال "فرب مبلغ أفقه من سامع" وفي لفظ "أوعى له من سامع" والكلام قد وفينا حقه في الرسالة المذكورة ومن أحسن من ما يغرفه القضاة كتاب عمر رضي الله عنه الذي كتبه إلى أبي موسى الذي رواه أحمد والدارقطني والبيهقي قال الشيخ أبو إسحاق هو أجل كتاب فإنه بين آداب القضاة وصفة الحكم وكيفية الاجتهاد واستنباط القياس ولفظه أما بعد فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة فعليك بالعقل والفهم وكثرة الذكر فافهم إذا أدلى إليك الرجل الحجة فاقض إذا فهمت وامض إذا قضيت فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له آس بين الناس في وجهك ومجلسك وقضائك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك البينة على المدعي واليمين على من أنكر والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا ومن ادعى حقا غائبا أو بينة فاضرب له أمدا ينتهي إليه فإن جاء ببينة أعطيته حقه وإلا استحللت عليه القضية فإن ذلك أبلغ في العذر وأجلى للعمى ولا يمنعك قضاء قضيت فيه اليوم فراجعت فيه عقلك وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق فإن الحق قديم ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل الفهم الفهم فيما يختلج في صدرك مما ليس في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه سلم ثم اعرف الأشباه والأمثال وقس الأمور عند ذلك واعمد إلى أقربها إلى الله تعالى وأشببها بالحق المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودا في حد أو مجربا عليه شهادة زور أو ظنينا في ولاء أو نسب أو قرابة فإن الله تعالى تولى منكم السرائر وادرأ بالبينات والأيمان وإياك والغضب والقلق والضجر والتأذي بالناس عند الخصومة والتنكر عند الخصومات فإن القضاء عند مواطن الحق يوجب الله تعالى به الأجر ويحسن به الذكر فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله تعالى ما بينه وبين الناس ومن تخلق للناس بما ليس في قلبه شانه الله تعالى فإن الله تعالى لا يقبل من العباد إلا ما كان خالصا فما ظنك بثواب من الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته والسلام ا ه ولأمير المؤمنين علي عليه السلام في عهد عهده إلى الأشتر لما ولي مصر فيه عدة مصالح وآداب ومواعظ وحكم وهو معروف في النهج لم أنقله لشهرته وقد أخذ من كلام عمر رضي الله عنه أنه ينقض القاضي حكمه إذا أخطأ ويدل له ما أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينما امرأتان معهما ابناهما جاء الذئب فذهب بابن إحداهما فقالت هذه لصاحبتها إنما ذهب بابنك وقالت الأخرى إنما ذهب بابنك فتحاكمتا إلى داود عليه السلام فقضى به للكبرى فخرجتا إلى سليمان فأخبرتاه فقال ائتوني بالسكين أشقه بينكما نصفين فقالت الصغرى لا تفعل يرحمك الله هو ابنها فقضى به للصغرى" وللعلماء قولان في المسألة: قول إنه ينقضه إذا أخطأ والآخر لا ينقضه لحديث "وإن أخطأ فله أجر"
قلت: ولا يخفى أنه لا دليل فيه لأن المراد(4/119)
أخطأ ما عند الله وما هو في نفس الأمر من الحق وهذا الخطأ لا يعلم إلا يوم القيامة أو بوحي من الله تعالى والكلام في الخطأ الذي يظهر له في الدنيا من عدم استكمال شرائط الحكم أو نحوه
5- وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان" متفق عليه النهي ظاهر في التحريم وحمله الجمهور على الكراهة وترجم النووي في شرح مسلم له بباب كراهة قضاء القاضي وهو غضبان وترجم البخاري بباب هل يقضي القاضي أو يفتي المفتي وهو غضبان وصرح النووي بالكراهة في ذلك وإنما حملوه على الكراهة نظرا إلى العلة المستنبطة لذلك وهي أنه لما رتب النهي على الغضب والغضب بنفسه لا مناسبة فيه لمنع الحكم وإنما ذلك لما هو مظنة لحصوله وهو تشويش الفكر ومشغلة القلب عن استيفاء ما يجب من النظر وحصول هذا قد يفضي إلى الخطأ عن الصواب ولكنه غير مطرد مع كل غضب ومع كل إنسان فإن أفضى الغضب إلى عدم تمييز الحق من الباطل فلا كلام في تحريمه وإن لم يفض إلى هذا الحد فأقل أحواله الكراهة وظاهر الحديث أنه لا فرق بين مراتب الغضب ولا بين أسبابه وخصه البغوي وإمام الحرمين بما إذا كان الغضب لغير الله وعلل بأن الغضب لله يؤمن معه من التعدي بخلاف الغضب للنفس واستبعده جماعة لمخالفته لظاهر الحديث والمعنى الذي لأجله نهي عن الحكم معه ثم لا يخفى أن الظاهر في النهي التحريم وأن جعل العلة المستنبطة صارفة إلى الكراهة بعيد وأما حكمه صلى الله عليه وسلم مع غضبه في قصة الزبير فلما علم من أن عصمته مانعة عن إخراج الغضب له عن الحق عند الظاهر أيضا عدم نفوذ الحكم مع الغضب إذ النهي يقتضي الفساد والتفرقة بين النهي للذات والنهي للوصف كما يقوله الجمهور غير واضح كما قرر في غير هذا المحل وقد ألحق بالغضب الجوع والعطش المفرطان لما أخرجه الدارقطني والبيهقي بسند تفرد به القاسم العمري وهو ضعيف عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يقضي القاضي إلا وهو شبعان ريان وكذلك ألحق به كل ما يشغل القلب ويشوش الفكر من غلبة النعاس أو الهم أو المرض أو نحوها
6- وعن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا تقاضى إليك رجلان فلا تقض للأول حتى تسمع كلام الآخر فسوف تدري كيف تقضي" قال علي رضي الله عنه فما زلت قاضيا بعد" رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه ابن المديني وصححه ابن حبان الحديث أخرجوه من طرق أحسنها رواية البزار عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة عن علي رضي الله عنه وفي إسناده عمرو بن أبي المقدام واختلف فيه على عمرو بن مرة فرواه شعبة عنه عن أبي البختري قال حدثني من سمع عليا رضي الله عنه أخرجه أبو يعلى وإسناده صحيح لولا هذا المبهم وله طرق أخر تشهد له ويشهد له الحديث الآتي وهو قوله(4/120)
7- وله شاهد عند الحاكم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما والحديث دليل على أنه يجب على الحاكم أن يسمع دعوى المدعي أولا ثم يسمع جواب المجيب ولا يجوز له أن يبني الحكم على سماع دعوى المدعي قبل جواب المجيب فإن حكم قبل سماع الإجابة عمدا بطل قضاؤه وكان قدحا في عدالته وإن كان خطأ لم يكن قادحا وأعاد الحكم على وجه الصحة وهذا حيث أجاب الخصم فإن سكت عن الإجابة أو قال لا أقر ولا أنكر ففي البحر عن الإمام يحيى ومالك يحكم عليه لتصريحه بالتمرد وإن شاء حبسه حتى يقر أو ينكر وقيل بل يلزمه الحق بسكوته إذ الإجابة تجب فورا فإذا سكت كان كنكوله وأجيب بأن النكول الامتناع من اليمين وهذا ليس منه وقيل يحبس حتى يقر أو ينكر وأجيب بأن التمرد كاف في جواز الحكم إذ الحكم شرع لفصل الشجار ودفع الضرار وهذا حاصل ما في البحر قيل والأولى أن يقال ذلك حكمه حكم الغائب فمن أجاز الحكم على الغائب أجاز الحكم على الممتنع عن الإجابة باشتراكهما في عدم الإجابة وفي الحكم على الغائب قولان الأول أنه لا يحكم على الغائب لأنه لو كان الحكم عليه جائزا لم يكن الحضور عليه واجبا ولهذا الحديث فإنه دل على أنه لا يحكم حتى يسمع كلام المدعى عليه والغائب لا يسمع له جواب وهذا الذي ذهب إليه زيد بن علي وأبو حنيفة والثاني يحكم عليه لما تقدم من حديث هند وتقدم الكلام فيه مستوفى وهذا مذهب الهادوية ومالك والشافعي وحملوا حديث علي هذا على الحاضر وقالوا الغائب لا يفوت عليه حق فإنه إذا حضر كانت حجته قائمة وتسمع ويعمل بمقتضاها ولو أدى إلى نقض الحكم لأنه في حكم المشروط
8- وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنكم تختصمون إلي فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه فمن قطعت له من حق أخيه شيئا" زاد في رواية "فلا يأخذه" رواه ابن كثير في الإرشاد "فإنما أقطع له قطعة من النار" متفق عليه اللحن هو الميل عن جهة الاستقامة والمراد أن بعض الخصماء يكون أعرف بالحجة وأفطن لها من غيره وقوله على نحو ما أسمع من الدعوى والإجابة والبينة أو اليمين وقد تكون باطل في نفس الأمر فيقطع من مال أخيه قطعة من نار باعتبار ما يؤول إليه من باب: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً} والحديث دليل على أن حكم الحاكم لا يحل به للمحكوم له ما حكم له به على غيره إذا كان ما ادعاه باطلا في نفس الأمر وما أقامه من الشهادة كاذبا وأما الحاكم فيجوز له الحكم بما له والإلزام به وتخليص المحكوم عليه مما حكم به لو امتنع وينفذ حكمه ظاهرا ولكنه لا يحل به الحرام إذا كان المدعي مبطلا وشهادته كاذبة وإلى هذا ذهب الجمهور وخالف أبو حنيفة فقال إنه ينفذ ظاهرا وباطنا وأنه لو حكم الحاكم بشهادة زور أن هذه المرأة زوجة فلان حلت له واستدل بآثار لا يقوم بها دليل وبقياس لا يقوى على مقاومة النص وفي الحديث دليل أنه صلى الله عليه وسلم يقر على الخطأ وقد(4/121)
نقل الاتفاق عن الأصوليين أنه لا يقر فيما حكم فيه باجتهاده بناء على جواز الخطأ في الأحكام وجمع بين اتفاقهم وما أفاده الحديث بأن مرادهم أنه لا يقر فيما حكم فيه باجتهاده بناء على جواز الخطأ عليه فيه وذلك كقصة أسارى بدر والإذن للمتخلفين وأما الحكم الصادر عن الطريق التي فرضت كالحكم بالبينة أو يمين المحكوم عليه فإنه إذا كان مخالفا للباطن لا يسمى الحكم به خطأ بل هو صحيح لأنه على وفق ما وقع به التكليف من وجوب العمل بالشاهدين وإن كانا شاهدي زور فالتقصير منهما أما الحاكم فلا حيلة له في ذلك ولا عتب عليه بسببه بخلاف ما إذا أخطأ في الاجتهاد الذي وقع الحكم على وفقه مثل أن يحكم بأن الشفعة مثلا للجار وكان الحكم في ذلك في علم الله أنها لا تثبت إلا للخليط فإنه إذ كان مخالفا للحق الذي في علم الله فيثبت فيه الخطأ للمجتهد على من يقول الحق مع واحد وهذا هو الذي تقدم أنه إذا أخطأ كان له أجر واستدل بالحديث على أنه لا يحكم الحاكم بعلمه لأنه صلى الله عليه وسلم كان يمكنه اطلاعه على أعيان القضايا مفصلا كذا قاله ابن كثير في الإرشاد قلت وفيه تأمل لأنه صلى الله عليه وسلم إنما أخبر أنه يحكم على نحو ما يسمع ولم ينف أنه يحكم بما علم والتعليل بقوله فإنما أقطع له قطعة من النار دال على أن ذلك في حكمه بما يسمع فإذا حكم بما علمه فلا تجري فيه العلة
9- وعن جابر رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كيف تقدس أمة" أي تطهر "لا يؤخذ من شديدهم لضعيفهم" رواه ابن حبان وأخرج حديث جابر أيضا ابن خزيمة وابن ماجه وقد شهد له الحديث
10- وله شاهد من حديث بريدة عند البزار وفي الباب عن قابوس بن المخارق عن أبيه رواه الطبراني وابن قانع وفيه عن خولة غير منسوبة فقيل إنها امرأة حمزة رواه الطبراني وأبو نعيم وشواهد حديث هذا الباب كثيرة منها ما ذكر ومنها الحديث وهو قوله
11- وآخر من حديث أبي سعيد عن ابن ماجه وهو قوله وآخر أي وله شاهد من حديث أبي سعيد عند ابن ماجه والمراد أنها لا تطهر أمة من الذنوب لا ينتصف لضعيفها من قويها فيما يلزم من الحق له فإنه يجب نصر الضعيف حتى يأخذ حقه من القوي كما يؤيده حديث "انصر أخاك ظالما أو مظلوما"
12- وعن عائشة رضي الله عنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يدعى بالقاضي العادل يوم القيامة فيلقى من شدة الحساب ما يتمنى أنه لم يقض بين اثنين" في عمره رواه ابن حبان وأخرجه البيهقي ولفظه في تمرة(4/122)
في الحديث دليل على شدة نجاسة القضاة يوم القيامة وذلك لما يتعاطونه من الخطر فينبغي له أن يتحرى الحق ويبلغ فيه جهده ويحذر من خلطاء السوء من الوكلاء والأعوان فقد أخرج البخاري وغيره من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا "ما استخلف الله من خليفة إلا له بطانتان بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه والمعصوم من عصمه الله تعالى" وأخرجه النسائي من حديث أبي هرير مرفوعا بلفظ " ما من وال إلا له بطانتان" الحديث ويحذر الغرماء والوكلاء ويروي لهم حديث من خاصم في باطل وهو يعلمه لم يزل في سخط الله حتى ينزع وفي لفظ " من أعان على خصومة بظلم فقد باء بغضب من الله" رواهما أبو داود من حديث ابن عمر ولما عرفته من تجنب أكابر العلماء ولاية القضاء كما قدمناه وإذا كان هذا في القاضي العدل فكيف بقضاة الجور والجهالة في ترجمة عبد الله بن وهب في الغربال أنه كتب إليه الخليفة بقضاء مصر فاختفى في بيته فاطلع عليه بعضهم يوما فقال يابن وهب ألا تخرج فتحكم بين الناس بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أما علمت أن العلماء يحشرون مع الأنبياء والقضاة مع السلاطين
13- وعن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" رواه البخاري فيه دليل على عدم جواز تولية المرأة شيئا من الأحكام العامة بين المسلمين وإن كان الشارع قد أثبت لها أنها راعية في بيت زوجها وذهب الحنفية إلى جواز توليتها الأحكام إلا الحدود وذهب ابن جرير إلى جواز توليتها مطلقا والحديث إخبار عن عدم فلاح من ولي أمرهم امرأة وهم منهيون عن جلب عدم الفلاح لأنفسهم مأمورون باكتساب ما يكون سببا للفلاح
14- وعن أبي مريم الأزدي وهو صحابي اسمه عمرو بن مرة الجهني روى عنه ابن عمه أبو الشماخ وأبو المعطل وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ولاه الله شيئا من أمور المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وفقيرهم احتجب الله دون حاجته" أخرجه أبو داود والترمذي ولفظه عند الترمذي ما من إمام يغلق بابه دون ذوي الحاجة والخلة والمسكنة إلا أغلق الله أبواب السماء دون خلته وحاجته ومسكنته وأخرجه الحاكم عن أبي مخيمرة عن أبي مريم وله قصة مع معاوية وذلك أنه قال لمعاوية سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من ولاه الله.." الحديث فجعل معاوية رجلا على حوائج المسلمين ورواه أحمد من حديث معاذ بلفظ "من ولي من أمور المسلمين شيئا فاحتجب عن أولي الضعف والحاجة احتجب الله تعالى عنه يوم القيامة" ورواه الطبراني في الكبير من حديث ابن عباس بلفظ " أيما أمير احتجب عن الناس فأهملهم احتجب الله تعالى عنه يوم القيامة" وقال ابن أبي حاتم عن أبيه في هذا الحديث منكر وأخرج الطبراني(4/123)
برجال ثقات إلا شيخه فإنه قال المنذري لم يقف فيه على جرح ولا تعديل من حديث أبي جحيفة أنه قال لمعاوية سمعت من رسول الله صلى الله عليه سلم حديثا أحببت أن أضعه عندك مخافة أن لا تلقاني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يا أيها الناس من ولي منكم عملا فحجب بابه عن ذي حاجة للمسلمين حجبه الله أن يلج باب الجنة ومن كانت همته الدنيا حرم الله عليه جواري فإني بعثت بخراب الدنيا ولم أبعث بعمارتها" والحديث دليل على أنه يجب على من ولي أمرا من أمور عباد الله أن لا يحتجب عنهم أن يسهل الحجاب ليصل إليه ذو الحاجة من فقير وغيره وقوله احتجب الله عنه كناية عن منعه له من فضله وعطائه ورحمته
15- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي" في النهاية الراشي من يعطي الذي يعينه على الباطل والمرتشي الآخذ في الحكم رواه أحمد والأربعة وحسنه الترمذي وصححه ابن حبان وزاد أحمد والرائش هو الذي يمشي بينهما وهو السفير بين الدافع والآخذ وإن لم يأخذ على سفارته أجرا فإن أخذ فهو أبلغ
16- وله شاهد من حديث عبد الله بن عمرو عند الأربعة إلا النسائي إلا أنه لم يذكر فيه لفظ في الحكم وكذا في رواية أبي داود لم يذكرها إنما زادها في رواية الترمذي والرشوة حرام بالإجماع سواء كانت للقاضي أو للعامل على الصدقة أو لغيرهما وقد قال تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} وحاصل ما يأخذه القضاة من الأموال على أربعة أقسام رشوة وهدية وأجرة ورزق فالأول الرشوة إن كانت ليحكم له الحاكم بغير حق فهي حرام على الآخذ والمعطي وإن كانت ليحكم له بالحق على غريمه فهي حرام على الحاكم دون المعطي لأنها لاستيفاء حقه فهي كجعل الآبق وأجرة الوكالة على الخصومة وقيل تحرم لأنها توقع الحاكم في الإثم وأما الهدية وهي الثاني فإن كانت ممن يهاديه قبل الولاية فلا تحرم استدامتها وإن كان لا يهدى إليه إلا بعد الولاية فإن كانت ممن لا خصومة بينه وبين أحد عنده جازت وكرهت وإن كانت ممن بينه وبين غريمه خصومة عنده فهي حرام على الحاكم والمهدي(4/124)
ويأتي فيه ما سلف في الرشوة على باطل أو حق وأما الأجرة وهي الثالث فإن كان للحاكم جراية من بيت المال ورزق حرمت بالاتفاق لأنه إنما أجري له الرزق لأجل الاشتغال بالحكم فلا وجه للأجرة وإن كان لا جراية له من بيت المال جاز له أخذ الأجرة على قدر حاكم فإن أخذ أكثر مما يستحقه حرم عليه لأنه إنما يعطى الأجرة لكونه عمل عملا لا لأجل كونه حاكما فأخذه لما زاد على أجرة مثله غير حاكم إنما أخذها لا في مقابلة شيء بل في مقابلة كونه حاكما ولا يستحق لأجل كونه حاكما شيئا من أموال الناس اتفاقا فأجرة العمل أجرة مثله فأخذ الزيادة على أجرة مثله حرام ولذا قيل إن تولية القضاء لمن كان غنيا أولى من تولية من كان فقيرا وذلك لأنه لفقره يصير متعرضا لتناول ما لا يجوز له تناوله إذا لم يكن له رزق من بيت المال قال المصنف لم ندرك في بكذا هذا من يطلب القضاء إلا وهو مصرح بأنه لم يطلبه إلا لاحتياجه إلى ما يقوم بأوده مع العلم بأنه لا يحصل له شيء من بيت المال ا ه
17- وعن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال: "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الخصمين يقعدان بين يدي" الحاكم رواه أبو داود وصححه الحاكم وأخرجه أحمد والبيهقي كلهم من رواية مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير وفيه كلام قال أبو حاتم إنه كثير الغلط والحديث دليل على شرعية قعود الخصمين بين يدي الحاكم ويسوي بينهما في المجلس ما لم يكن أحدهما غير مسلم فإنه يرفع المسلم كما في قصة علي عليه السلام مع غريمه الذمي عند شريح وهي ما أخرجه أبو نعيم في الحلية بسنده قال وجد علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه درعا له عند يهودي التقطها فعرفها فقال درعي سقطت عن جمل لي أورق فقال اليهودي درعي وفي يدي ثم قال اليهودي بيني وبينك قاضي المسلمين فأتوا شريحا فلما رأى عليا قد أقبل تحرف عن موضعه وجلس على فيه ثم قال علي لو كان خصمي من المسلمين لساويته في المجلس لكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تساووهم في المجلس" وساق الحديث قال شريح ما تشاء يا أمير المؤمنين قال درعي سقط عن جمل لي أورق فالتقطها هذا اليهودي قال شريح ما تقول يا يهودي قال درعي وفي يدي قال شريح صدقت والله يا أمير المؤمنين إنها لدرعك ولكن لا يد لك من شاهدين فدعا قنبرا والحسن بن علي فشهدا إنه لدرعه فقال شريح أما شهادة مولاك فقد أجزناها وأما شهادة ابنك فلا نجيزها فقال عليه السلام ثكلتك أمك أما سمعت عمر بن الخطاب يقول قال رسول الله صلى الله عليه سلم: "الحسن و الحسين سيدا شباب أهل الجنة " قال اللهم نعم قال أفلا تجيز شهادة سيدي شباب أهل الجنة ثم قال لليهودي خذ الدرع فقال اليهودي أمير المؤمنين جاء معي إلى قاضي المسلمين فقضى لي ورضي صدقت والله يا أمير المؤمنين إنها لدرعك سقطت عن جمل لك التقطتها أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فوهبها له علي رضي الله عنه وأجازه بتسعمائة(4/125)
وقتل معه يوم صفين ا هـ وقول شريح والله إنها لدرعك كأنه عرفها ويعلم أنها درعه لكنه لا يرى الحكم بعلمه كما أنه لا يرى شهادة الولد لأبيه فانظر ما أبرك العمل بالحق من الحاكم والمحكوم عليه وما آل إليه من الخير للمدعى عليه(4/126)
باب الشهادات
الشهادة مصدر شهد جمع لإرادة الأنواع قال الجوهري الشهادة خبر قاطع والشاهد حامل الشهادة ومؤديها لأنه مشاهد لما غاب عن غيره وقيل مأخوذة من الإعلام من قوله تعالى شهد الله أنه لا إله إلا هو أي علم
1- عن زيد بن خالد الجهني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أخبركم بخير الشهداء؟ هو الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها" رواه مسلم دل على أن خير الشهداء من يأتي بالشهادة لمن هي له قبل أن يسأله إلا أنه يعارضه الحديث الثاني وهو حديث عمران وفيه "ثم يكون قوم يشهدون ولا يستشهدون" في سياق الذم لهم ولما تعارضا اختلف العلماء في الجمع بينهما على ثلاثة أوجه الأول أن المراد بحديث زيد إذا كان عند الشاهد شهادة بحق لا يعلم بها صاحب الحق فيأتي إليه فيخبره بها أو يموت صاحبها فيخلف ورثة فيأتي إليهم فيخبرهم بأنه عنده لهم شهادة وهذا أحسن الأجوبة وهو جواب يحيى بن سعيد شيخ مالك الثاني أن المراد بها شهادة الحسبة وهي ما لا تتعلق بحقوق الآدميين المختصة بهم محضا ويدخل في الحسبة ما يتعلق بحق الله تعالى أو ما فيه شائبة منه كالصلاة والوقف والوصية العامة ونحوها وحديث عمران المراد به الشهادة في حقوق الآدميين المحضة الثالث أن المراد بقوله "أن يأتي بالشهادة قبل أن يسألها" المبالغة في الإجابة فيكون لقوة استعداده كالذي أتى بها قبل أن يسألها كما يقال في حق الجواد إنه ليعطي قبل الطلب وهذه الأجوبة مبنية على أن الشهادة لا تؤدى قبل أن يطلبها صاحب الحق ومنهم من أجاز ذلك عملا برواية زيد وتأويل حديث عمران بأحد تأويلات الأول أنه محمول على شهادة الزور أي يؤدون شهادة لم يسبق لهم بها علم حكاه الترمذي عن بعض أهل العلم الثاني أن المراد إتيانه بالشهادة بلفظ الحلف نحو أشهد بالله ما كان إلا كذا وهذا جواب الطحاوي الثالث أن المراد به الشهادة على ما لا يعلم مما سيكون من الأمور المستقبلة فيشهد على قوم بأنهم من أهل النار وعلى قوم بأنهم من أهل الجنة من غير دليل كما يصنع ذلك أهل الأهواء حكاه الخطابي والأول أحسنها
2- وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يكون قوم يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السمن" متفق عليه القرن أهل زمان واحد متقارب اشتركوا في أمر(4/126)
من الأمور المقصودة ويقال إن ذلك مخصوص بما إذا اجتمعوا في زمان أو رئيس يجمعهم على ملة أو مذهب أو عمل ويطلق القرن على مدة من الزمان واختلفوا في تحديدها من عشرة أعوام إلى مائة وعشرين قال المصنف: إنه لم ير من صرح بالتسعين ولا بمائة وعشرين وما عدا ذلك فقد قال به قائل قلت أما التسعون فنعم وأما المائة والعشرون فصرح به في القاموس فإنه قال أو مائة أو مائة وعشرون والأول أصح لقوله صلى الله عليه وسلم لغلام عش قرنا فعاش مائة سنة انتهى قال صاحب المطالع القرن أمة هلكت فلم يبق منهم أحد وقرنه صلى الله عليه وسلم المراد به المسلمون في عصره وقوله ثم الذين يلونهم هم التابعون والذين يلون التابعين أتباع التابعين وهذا يدل على أن الصحابة أفضل من التابعين والتابعين أفضل من تابعيهم وأن التفضيل بالنظر إلى كل فرد فرد وإليه ذهب الجماهير وذهب ابن عبد البر إلى أن التفضيل بالنسبة إلى مجموع الصحابة لا إلى الأفراد فمجموع الصحابة أفضل ممن بعدهم لا كل فرد منهم إلا أهل بدر وأهل الحديبية فإنهم أفضل من غيرهم يريد أن أفرادهم أفضل من أفراد من يأتي بعدهم واستدل على ذلك بما أخرجه الترمذي من حديث أنس وصححه ابن حبان من حديث عمار من قوله صلى الله عليه وسلم: "أمتي مثل المطر لا يدري أو له خير أم آخره" وبما أخرجه أحمد والطبراني والدارمي من حديث أبي جمعة قال قال أبو عبيدة يا رسول الله أحد خير منا أسلمنا معك وهاجرنا معك قال قوم يكونون من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني وصححه الحاكم وأخرج أبو داود والترمذي من حديث ثعلبة يرفعه "يأتي أيام للعامل فيهن أجر خمسين قيل منهم أو منا يا رسول الله قال بل منكم" وأخرج أبو الحسن القطان في مشيخته عن أنس يرفعه يأتي على الناس زمان الصابر فيه على دينه له أجر خمسين منكم وجمع الجمهور بين الأحاديث بأن للصحبة فضيلة ومزية لا يوازيها شيء من الأعمال فلمن صحبه صلى الله عليه وسلم فضيلتها وإن قصر عمله وأجره باعتبار الاجتهاد في العبادة وتكون خيريتهم على من سيأتي باعتبار كثرة الأجر إلى ثواب الأعمال وهذا قد يكون في حق بعض الصحابة وأما مشاهير الصحابة فإنهم حازوا السبق من كل نوع من أنواع الخير وبهذا يحصل الجمع بين الأحاديث وأيضا فإن المفاضلة بين إلى الأعمال المتساوية في النوع وفضيلة الصحبة مختصة بالصحابة لم يكن لمن عداهم شيء من ذلك النوع وفي قوله ثم يكون قوم إلى آخره دليل على أنه لم يكن في القرنين الأولين من بعد الصحابة من يتصف المذمومة ولكن الظاهر أن المراد بحسب الأغلب واستدل به على تعديل القرون الثلاثة ولكنه أيضا باعتبار الأغلب وقوله لا يؤتمنون أي لا يراهم الناس أمناء ولا يثقون بهم لظهور خيانتهم وقد ثبت أن الأمانة أول ما يرفع من الناس ومعنى قوله يظهر فيهم السمن أنهم يتوسعون في المآكل والمشارب وهي أسباب(4/127)
السمن وقيل أراد كثرة المال وقيل المراد أنهم يسمنون أي يتكثرون بما ليس فيهم ويدعون ما ليس لهم من الشرف وفي حديث أخرجه الترمذي بلفظ "ثم يجيء قوم يتسمنون ويحبون السمن" فجمع بين السمن أي التكثر بما ليس عندهم وتعاطي أسباب السمن
3- وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي غمر" بفتح الغين المعجمة وفتح الميم وكسرها بعدها راء فسره أبو داود بالحنة بالحاء المهملة وهي الحقد والشحناء على أخيه ولا تجوز شهادة القانع بالقاف وبعد الألف نون ثم عين مهملة يأتي بيانه لأهل البيت رواه أحمد وأبو داود وأخرجه أبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بلفظ "رد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شهادة الخائن والخائنة" وأخرجه ابن ماجه والبيهقي وإسناده قوي وأخرجه الترمذي والدارقطني والبيهقي من حديث عائشة رضي الله عنها بلفظ لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة وذي غمر لأخيه الحديث وفيه ضعف قال الترمذي لا يصح عندنا إسناده وقال أبو زرعة في العلل منكر وضعفه عبد الحق وابن حزم وابن الجوزي وقال البيهقي لا يصح من هذا شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم وقوله الخائن قال أبو عبيدة لا نراه خص به الخيانة في أمانات الناس دون ما افترض الله على عباده وأتمنهم عليه فإنه قد سمى ذلك أمانة قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ} فمن ضيع شيئا مما أمر الله تعالى به أو نهى عنه فليس ينبغي أن يكون عدلا فإنه إذا كان خائنا فليس له تقوى ترده عن ارتكاب محظورات الدين التى منها الكذب فلا يحصل الظن بخبره لأنه مظنه تهمة أو مسلوب الأهلية.وأما ذو الغمر فلمراد به ما ذكرناه من الحقد والشحناء.والمراد بأخية المسلم المشهود عليه،والكافر مثله لا يجوز أن يشهد ذو حقد عليه إذا كانت العدواة بسبب غير الدين،فإن ذا الحقد مظنة عدم صدق خبره لمحبته إنزال الضرر بمن يحقد عليه. وأما المسلم إذا لم يكن ذا حقد على الكافر بسبب غير الدين فإنها تقبل شهادته عليه وإن كان بينهما عداوة في الدين، فإن عداوة الدين لا تقتضي أن يشهد عليه زورا فإن الدين لا يسوغ ذلك، وإنما خرج الحديث على الأغلب والقانع هو الخادم لأهل البيت والمنقطع إليهم للخدمة وقضاء الحوائج، وموالاتهم عند الحاجة وفي تمام الحديث وأجازها:أي شهادة القانع لغيرهم: أي لغير من هو تابع لهم، وإنما منع من شهادته لمن هو قانع لهم لأنه مظنة تهمة فيحب دفع الضر عنهم وجلب الخير إليهم فمنع من الشهادة. ومنع هؤلاء من الشهادة دليل على اعتبار العدالة في الشاهد، وعليه دل قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وقد رسموا العدالة بأنها محافظة دينية تحمل على ملازمة التقوى والمروءة ليس معها بدعة وقد نازعناهم في هذا الرسم في عدة من المباحث كرسالة المسائل المهمة فيما تعم به البلوى حكام الأمة وحققنا الحق في العدالة في رسالة ثمرات النظر في علم الأثر(4/128)
وفي منحة الغفار حاشية ضوء النهار ولله الحمد واخترنا أن العدل هو من غلب خيره شره ولم يجرب عليه اعتياد كذب وأقمنا عليه الأدلة هنالك والشارح هنا مشى مع الجماهير وذكر بعض ما يتعلق بتفسير مرادهم
4- وعن أبي هريرة رضي الله عنه:قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية" رواه أبو داود وابن ماجه البدوي من سكن البادية نسب على غير قياس النسبة والقياس بادوي والقرية بفتح القاف وقد تكسر المصر الجامع وفيه دليل على عدم صحة شهادة البدوي على صاحب القرية لا على بدوي مثله فتصح وإلى هذا ذهب أحمد بن حنبل وجماعة من أصحابه وقال أحمد أخشى أن لا تقبل شهادة البدوي على صاحب القرية لهذا الحديث ولأنه متهم حيث أشهد بدويا ولم يشهد قرويا وإليه ذهب مالك إلا أنه قال لا تقبل شهادة البدوي لما فيه من الجفاء في الدين والجهالة بأحكام الشرائع ولأنهم في الغالب لا يضبطون الشهادة على وجهها وذهب الأكثرون إلى قبول شهادتهم وحملوا الحديث على من لا تعرف عدالته من أهل البادية إذ الأغلب أن عدالتهم غير معروفة وقد استدل في البحر لقبول شهادتهم بقبوله صلى الله عليه وسلم لشهادة الأعرابي على هلال رمضان
5- وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه خطب فقال إن أناسا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن الوحي قد انقطع وإنما نؤاخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم رواه البخاري وتمامه فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه وليس لنا من سريرته شيء الله يحاسبه في سريرته ومن أظهر لنا سوءا لم نأمنه ولم نصدقه وإن قال إن سريرته حسنة استدل به على قبول شهادة من لم يظهر منه ريبة نظرا إلى ظاهر الحال وأنه يكفي في التعديل ما يظهر من حال المعدل من الاستقامة من غير كشف عن حقيقة سريرته لأن ذلك متعذر إلا بالوحي وقد انقطع وكأن المصنف أورده وإن كان كلام صحابي لا حجة فيه لأنه خطب به عمر وأقره من سمعه فكان قول جماهير الصحابة ولأن هذا الذي قاله هو الجاري على قواعد الشريعة وظاهر كلامه أنه لا يقبل المجهول ويدل له ما رواه ابن كثير في الإرشاد أنه شهد عند عمر رجل فقال له عمر لست أعرفك ولا يضرك أن لا أعرفك ائت بمن يعرفك فقال رجل من القوم أنا أعرفه قال بأي شيء تعرفه قال بالعدالة والفضل فقال هو جارك الأدنى الذي تعرف ليله ونهاره ومدخله ومخرجه قال لا قال فعاملك بالدينار والدرهم اللذين يستدل بهما على الورع قال لا قال فرفيقك في السفر الذي يستدل به على مكارم الأخلاق قال لا قال لست تعرفه ثم قال للرجل ائت بمن يعرفك قال ابن كثير رواه البغوي بإسناد حسن
6- وعن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه عد شهادة الزور من أكبر الكبائر" متفق عليه في حديث ولفظه أنه صلى الله عليه سلم قال: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثا قالوا بلى قال الإشراك بالله وعقوق الوالدين" وجلس(4/129)
وكان متكئا ثم قال: "ألا وقول الزور" فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت تقدم تفسير شهادة الزور قال الثعلبي: الزور تحسين الشيء ووصفه بخلاف صفته حتى يخيل إلى من سمعه أو رآه بخلاف ما هو به فهو تمويه الباطل بما يوهم أنه حق وقد جعل صلى الله عليه وآله سلم قول الزور عديلا للإشراك ومساويا له قال النووي وليس على ظاهره المتبادر وذلك لأن الشرك أكبر بلا شك وكذلك القتل فلا بد من تأويله وذلك بأن التفضيل لها بالنظر إلى ما يناظرها في المفسدة وهي التسبب في أكل المال بالباطل فهي أكبر الكبائر بالنسبة إلى الكبائر التي يتسبب بها إلى أكل المال بالباطل فهي أكبر من الزنا ومن السرقة وإنما اهتم صلى الله عليه وسلم بإخبارهم عن شهادة الزور وجلس وأتى بحرف التنبيه وكرر الإخبار لكون قول الزور وشهادة الزور أسهل على اللسان والتهاون بها أكثر ولأن الحوامل عليه كثيرة من العداوة والحسد وغيرها فاحتيج إلى الاهتمام بشأنه بخلاف الإشراك فإنه ينبو عنه قلب المسلم ولأنه لا تتعدى مفسدته ألى غير المشرك بخلاف قول الزور فإنه يتعدى إلى من قيل فيه والعقوق يصرف عنه كرم الطبع والمروءة
7- وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: "ترى الشمس؟" قال نعم قال "على مثلها فشاهد أو دع" أخرجه ابن عدي بإسناد ضعيف وصححه الحاكم فأخطأ لأن في إسناده محمد بن سليمان بن مشمول ضعفه النسائي وقال البيهقي لم يرو من وجه يعتمد عليه وفيه دليل على أنه لا يجوز للشاهد أن يشهد إلا على ما يعلمه علما يقينا كما تعلم الشمس بالمشاهدة ولا تجوز الشهادة بالظن فإن كانت الشهادة على فعل فلا بد من رؤيته وإن كانت على صوت فلا بد من سماع ذلك الصوت ورؤية المصوت أو التعريف بالصوت بعدلين أو عدل عند من يكتفي به إلا في مواضع فإنها تجوز الشهادة بالظن وقد بوب البخاري للشهادة على الظن بقوله باب الشهادة على الأنساب والرضاع المستفيض والموت القديم وذكر أربعة أحاديث في ثبوت الرضاع وثبوته إنما هو بالاستفاضة ولم يذكر حديثا على رؤية الرضاع وأشار بذلك إلى ثبوت النسب فإن من لازم الرضاع ثبوت النسب وأما ثبوت الرضاعة نفسها بالاستفاضة فإنه مستفاد من صريح الأحاديث فإن الرضاعة المذكورة فيها كانت في الجاهلية وكان ذلك مستفيضا عند من وقع له وحد الاستفاضة عند الهادوية شهرة في المحلة تثمر ظنا أو علما وإنما اكتفي بالشهرة في المذكورة إذ لا طريق له إلى التحقيق(4/130)
بالنسب لتعذر التحقق فيه في الأغلب وأراد البخاري بالموت القديم ما تطاول الزمان عليه وحده البعض بخمسين سنة وقيل أربعين وذلك لأنه يشق فيه التحقيق وإلى العمل بالشهرة في النسب ذهب الهادوية والشافعية وأحمد ومثله الموت كذلك ذهبت إليه الهادوية في ثبوت الولاء وقال المصنف في الفتح اختلف العلماء في ضابط ما تفيد فيه الشهادة بالاستفاضة فيصح عند الشافعية في النسب قطعا والولادة وفي الموت والعتق والولاء والولاية والوقف والعزل والنكاح وتوابعه والتعديل والتجريح والوصية والرشد والسفه وذلك على الراجح في جميع ذلك وبلغها بعض المتأخرين من الشافعية بضعة وعشرين موضعا وهي مستوفاة في قواعد العلائي إلى آخر كلامه
8- وعنه رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بيمين وشاهد" أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وقال إسناده جيد قال ابن عبد البر لا مطعن لأحد في إسناده كذا قال لكنه قال الترمذي في العلل سألت محمدا يعني البخاري عنه فقال لم يسمعه عندي عمرو من ابن عباس يريد عمرو بن دينار راويه عن ابن عباس وقال الحاكم قد سمع عمرو من ابن عباس عدة أحاديث وسمع من جماعة من أصحابه فلا ينكر أن يكون سمع منه حديثا وسمعه من أصحابه عنه وله شواهد
9- وعن أبي هريرة رضي الله عنه مثله أخرجه أبو داود والترمذي وصححه ابن حبان وأخرجه أيضا الشافعي وقال ابن أبي حاتم في العلل عن أبيه وهو صحيح وقد أخرج الحديث عن اثنين و عشرين من الصحابة وقد سرد الشارح أسماءهم والحديث دليل على أنه يثبت القضاء بشاهد ويمين وإليه ذهب جماهير من الصحابة والتابعين وغيرهم وهو مذهب فقهاء المدينة السبعة والهادوية ومالك وقال الشافعي وعمدتهم هذه الأحاديث واليمين وإن كان حاصلها تأكيد الدعوى لكن يعظم شأنها فإنها إشهاد لله سبحانه أن الحقيقة كما يقول ولو كان الأمر على خلاف الدعوى لكان مفتريا على الله أنه يعلم صدقه فلما كانت بهذه المنزلة العظيمة هابها المؤمن بإيمانه وعظمة شأن الله عنده أن يحلف به كاذبا وهابها الفاجر لما يراه من تعجيل عقوبة الله لمن حلف يمينا فاجرة فلما كان لليمين هذا الشأن صلحت للهجوم على الحكم كشهادة الشاهد وقد اعتبرت الأيمان فقط في اللعان وفي القسامة في مقام الشهود وذهب زيد بن علي وأبو حنيفة وأصحابه إلى عدم الحكم باليمين والشاهد مستدلين بقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وقوله: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} قالوا وهذا يقتضي الحصر ويفيد المخالفة أنه لا يكون بغير ذلك وزيادة الشاهد واليمين تكون نسخا لمفهوم المخالفة وأجيب عنه بأنه على تقدير اعتبار مفهوم المخالفة يصح نسخه بالحديث الصحيح أعني حديث ابن عباس واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم "شاهداك أو يمينه" وأجيب بأن هذا الحديث صحيح وحديث الشاهد واليمين صحيح يعمل بهما في منطوقهما فإن مفهوم أحدهما لا يقاوم منطوق(4/131)
الآخر هذا وفي سنن أبي داود أنه قال سلمة في حديثه قال عمرو في الحقوق يريد أن عمرو بن دينار الراوي عن ابن عباس خص الحكم بالشاهد واليمين بالحقوق قال الخطابي وهذا خاص بالأموال دون غيرها فإن الراوي وقفه عليها والخاص لا يتعدى به محله ولا يقاس عليه غيره واقتضاء العموم منه غير جائز لأنه حكاية فعل والفعل لا عموم له ا ه والحق أنه لا يخرج من الحكم بالشاهد واليمين إلا الحد والقصاص للإجماع أنهما لا يثبتان بذلك(4/132)
باب الدعاوى والبينات
الدعاوى جمع دعوى وهي اسم مصدر من ادعى شيئا إذا زعم أن له حقا أو باطلا والبينات جمع بينة وهي الحجة الواضحة سميت الحجة بينة لوضوح الحق وظهوره بها
1- عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه سلم قال: "لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه" متفق عليه وللبيهقي أي من حديث ابن عباس بإسناد صحيح البينة على المدعي واليمين على من أنكر وفي الباب عن ابن عمر عند ابن حبان وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند الترمذي والحديث دال على أنه لا يقبل قول أحد فيما يدعيه لمجرد دعواه بل يحتاج إلى البينة أو تصديق المدعى عليه فإن طلب يمين المدعى عليه فله ذلك وإلى هذا ذهب سلف الأمة وخلفها قال العلماء والحكمة في كون البينة على المدعي أن جانب المدعي ضعيف لأنه يدعي خلاف الظاهر فكلف الحجة القوية وهي البينة فيقوى بها ضعف المدعي وجانب المدعى عليه قوي لأن الأصل أفطر ذمته فاكتفي منه باليمين وهي حجة ضعيف
2- وعن أبي هريرة رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم عرض على قوم اليمين فأسرعوا فأمر أن يسهم بينهم في اليمين أيهم يحلف " رواه البخاري يفسره ما رواه أبو داود والنسائي من طريق أبي رافع عن أبي هريرة أن رجلين اختصما في متاع ليس لواحد منهما بينة فقال النبي صلى الله عليه وسلم استهما على اليمين ما كان أحبا ذلك أو كرها قال الخطابي ومعنى الاستهام هنا الاقتراع يريد أنهما يقترعان فأيهما خرجت حلف وأخذ ما ادعى وروي مثله عن علي بن أبي طالب عليه السلام وهو أنه أتى بنعل وجد في السوق يباع فقال رجل هذا نعلي لم أبع ولم أهب وقرع على خمسة يشهدون وجاء آخر يدعيه يزعم أنه نعله وجاء بشاهدين قال الراوي فقال علي رضي الله عنه إن فيه قضاء وصلحا وسوف أبين لكم ذلك أما صلحه فأن يباع النعل فيقسم على سبعة أسهم لهذا خمسة ولهذا اثنان وإن لم يصطلحا فالقضاء أن يحلف أحد الخصمين أنه ما باعه ولا وهبه وإنه نعله فإن تشاححتما أيكما يحلف فإنه يقرع بينكما على الحلف فأيكما قرع حلف انتهى كلام الخطابي(4/132)
3 - وعن أبى أمامة الحارثي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من اقتطع حق امرىء مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة" فقال له رجل وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله؟ قال: "وإن كان قضيبا من أراك" رواه مسلم الحديث دليل على شدة الوعيد لمن حلف ليأخذ حقا لغيره أو يسقط عن نفسه حقا فإنه يدخل تحت الاقتطاع لحق المسلم والتعبير بحق المرء المسلم يدخل فيه ما ليس بمال شرعا كجلد الميتة ونحوه وذكر المسلم خرج مخرج الغالب وإلا فالذمي مثله في هذا الحكم قيل ويحتمل أن هذه تختص بمن اقتطع بيمينه حق المسلم لا حق الذمي وإن كان محرما فله عقوبة أخرى وإيجاب النار وتحريم الجنة مقيد بما إذا لم يتب ويتخلص من الحق الذي أخذه باطلا عند المراد باليمين اليمين الفاجرة وإن كانت مطلقة في الحديث فقد قيدها الحديث الآتي وهو قوله
4- وعن الأشعث بشين معجمة ساكنة فعين مهملة مفتوحة فمثلثة وهو أبو محمد ابن قيس بن معد يكرب الكندي قدم على النبي صلى الله عليه وسلم في وفد كندة وكان رئيسهم وذلك في سنة عشر وكان رئيسا في الجاهلية مطاعا في قومه وجيها في الإسلام وارتد عن الإسلام بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ثم رجع إلى الإسلام في خلافة أبي بكر رضي الله عنه وخرج للجهاد مع سعد بن أبي وقاص وشهد القادسية وغيرها ثم سكن الكوفة ومات بها سنة اثنتين وأربعين وصلى عليه الحسن بن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من حلف على يمين يقتطع بها مال امرىء مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان" متفق عليه والمراد بكونه فاجرا فيها أن يكون متعمدا عالما أنه غير محق وإذا كان تعالى عليه غضبان حرمه جنته وأوجب عليه عذابه
5- وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه "أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في دابة ليس لواحد منهما بينة فقضى بها رسول الله صلى الله عليه و سلم بينهما نصفين" رواه أحمد وأبو داود والنسائي وهذا لفظه وقال إسناده جيد قال الخطابي يشبه أن يكون هذا البعير أو الدابة التي كانت في أيديهما معا فجعله النبي صلى الله عليه وسلم بينهما لاستوائهما في الملك باليد ولولا ذلك لم يكونا بنفس الدعوى يستحقانه لو كان الشيء في يد أحدهما وقد روى أبو داود عقيبه حديثا فقال ادعيا بعيرا في عهد رسول الله صلى الله عليه سلم فبعث كل واحد منهما بشاهدين فقسمه النبي صلى الله عليه سلم بينهما نصفين قال الخطابي وهو مروي بالإسناد الأول إلا أن في الحديث المتقدم لم يكن لواحد منهما بينة وفي هذا أن كل واحد منهما قد جاء بشاهدين فاحتمل أن تكون القضية واحدة إلا أن الشهادات لما تعارضت تهاترت فصارا كمن لا بينة له وحكم بالشيء بينهما نصفين لاستوائهما في اليد ويحتمل أن البعير في يد غيرهما فلما أقام كل واحد منهما شاهدين على دعواه نزع الشيء من يد المدعى(4/133)
عليه ودفعه إليهما وقد اختلف العلماء في الشيء يكون في يد الرجل يتداعاه اثنان يقيم كل واحد منهما بينة فقال أحمد بن حنبل وإسحق بن راهويه يقرع بينهما فمن خرجت صار له وكان الشافعي يقول به قديما ثم قال في الجديد فيه قولان أحدهما يقضي به بينهما نصفين وبه قال أصحاب الرأي و سفيان الثوري والقول الثاني يقرع بينهما فأيهما خرج سهمه حلف لقد شهد شهوده بحق ثم يقضى له به وقال مالك لا أقضي به لواحد منهما إن كان في يد غيرهما وحكي عنه أنه قال هو لأعدلهما شهودا وأشهرهما في الصلاح وقال الأوزاعي يؤخذ بأكثر البينتين عددا وحكي عن الشعبي أنه قال هو بينهما على حصص الشهود ا هـ كلام الخطابي وفي المنارأن القرعة ليس هذا محلها وإنما وظيفتها حيث تعذر التقريب إلى الحقيقة من كل وجه وكون المدعي هنا مشتركا أحد المحتملات فلا وجه لإبطاله بالقرعة واختار قسمة المدعي وهو الصواب في هذه الصورة
6- وعن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف على منبري هذا بيمين آثمة تبوأ مقعده من النار" رواه أحمد وأبو داود والنسائي وصححه ابن حبان وأخرج النسائي برجال ثقات من حديث أبي أمامة مرفوعا "من حلف عند منبري هذا بيمين كاذبة يستحل بها مال امرىء مسلم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا" والحديث دليل على عظمة إثم من حلف على منبره صلى الله عليه سلم كاذبا واختلف العلماء في تغليظ الحلف بالمكان والزمان هل يجوز للحاكم أو لا والحديث لا دليل فيه على أحد القولين إنما فيه عظمة إثم من حلف على منبره صلى الله عليه سلم كاذبا وذهب الهادوية والحنفية والحنابلة إلى أنه لا تغليظ بزمان ولا مكان وأنه لا يجب على الحالف الإجابة إلى ذلك وذهب الجمهور إلى أنه يجب التغليظ في الزمان والمكان قالوا ففي المدينة على المنبر وفي مكة بين الركن والمقام وفي غيرهما في المسجد الجامع وكأنهم يقولون في الزمان ينظر إلى الأوقات الفاضلة كبعد العصر وليلة الجمعة ويومها ونحو ذلك احتج الأولون بإطلاق أحاديث اليمين على المدعى عليه وبقوله شاهداك أو يمينه واحتج الجمهور بحديث جابر وحديث أبي أمامة وبفعل عمر وعثمان وابن عباس وغيرهم من السلف واستدلوا للتغليظ بالزمان بقوله تعالى: {حْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ} قال المفسرون هي صلاة العصر وقال آخرون: يستحب التغليظ في الزمان والمكان ولا يجب وقيل هو موضع اجتهاد للحاكم إذا رآه حسنا ألزم به
7- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه سلم: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم" هذا كناية عن غضبه تعالى وإشارة إلى حرمانهم من رحمته "ولا يزكيهم" أي لا يطهرهم عن أدناس الذنوب بالمغفرة "ولهم عذاب أليم رجل على فضل ماء بالفلاة يمنعه ابن السبيل ورجل بايع رجلا بسلعة بعد العصر فحلف له بالله لأخذها بكذا وكذا فصدقه(4/134)
وهو على غير ذلك ورجل بايع إماما لا يبايعه إلا للدنيا فإن أعطاه منها وفي وإن لم يعطه منها لم يف" متفق عليه قوله على فضل ماء أي على ماء فاضل عن كفايته فهذا منع ما لا حاجة إليه من هو محتاج له وتقدم الكلام عليه في كتاب البيع وقوله فصدقه أي المشتري وضمير هو للأخذ مصدر قوله لأخذها لدلالة فعله عليه مثل: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} أي والأخذ على غير ما حلف عليه فهذا ارتكب أمرين عظيمين الحلف بالله والكذب في قيمة السلعة وخص بعد العصر لشرف الوقت وهو من أدلة من غلظ بالزمان وقوله بايع إماما لا يبايعه إلا للدنيا أي لما يعطيه منها والوعيد يحتمل أنه لمجموع ما ذكر من المبايعة لأجل الدنيا فإنها نية غير صالحة ولعدم الوفاء بالخروج عن الطاعة وتفريق الجماعة والأصل في بيعة الإمام أن يقصد بها إقامة الشريعة ويعمل بالحق ويقيم ما أمر الله بإقامته ويهدم ما أمر الله بهدمه ووقع في البخاري ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر ليقتطع بها مال رجل مسلم فيكون من توعد بهذا النوع من الوعيد أربعة. وفي مسلم مثل حديث أبي هريرة قال وشيخ زان وملك كذاب وعائل مستكبر وأخرج أيضا من حديث أبي ذر مرفوعا ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة المنان الذي لا يعطي شيئا إلا منة والمنفق سلعته بالحلف الفاجر والمسبل إزاره فحصل من مجموع الأحاديث تسع خصال إن جعلنا المنفق سلعته بالحلف الكاذب والذي حلف بعد العصر لقد أعطي كذا وكذا شيئا واحدا وإن جعلناهما شيئين كما هو الظاهر فإن المنفق سلعته بالكذب أعم من الذي يحلف لقد أعطي فتكون عشرا
8- وعن جابر رضي الله عنه أن رجلين اختصما في ناقة فقال كل واحد منهما نتجت هذه الناقة عندي وأقاما أي كل واحد بينة فقضى بها رسول الله صلى الله عليه سلم للذي هي في يده سيأتي من أخرجه وأخرج الذي بعده وقد أخرج هذا البيهقي ولم يضعفه وأخرج نحوه عن الشافعي إلا أن فيه تداعيا دابة ولم يضعف إسناده أيضا والحديث دليل على أن اليد مرجحة للشهادة الموافقة لها وقد ذهب إلى هذا الشافعي ومالك وغيرهما قال الشافعي يقال لهما قد استويتما في الدعوى والبينة وللذي هو في يده سبب بكينونته في يده هو أقوى من سببك فهو له بفضل قوة سببه وذكر هذا الحديث وذهب الهادوية وجماعة من الآل وابن حنبل إلى أنه ترجح بينة الخارج وهو من لم يكن في يده قالوا إذ شرعت له وللمنكر اليمين ولقوله صلى الله عليه وسلم: "البينة على المدعي" فإنه يقتضي أنه لا تفيد بينة المنكر ويروى عن علي رضي الله عنه أنه قال من كان في يده شيء فبينته لا تعمل له شيئا ذكره في البحر وأجيب عن ذلك بأن حديث جابر خاص وحديث البينة على المدعي عام والخاص مخصص مقدم وأثر علي رضي الله عنه لم يصح وعلى صحته فمعارض بما سبق وعن القاسم أنه يقسم بينهما لأن اليد مقوية(4/135)
لبينة الداخل فساوت بينة الخارج ويروى عنه كقول الشافعي وللحنفية تفصيل لم يقم عليه دليل
9- وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم رد اليمين على طالب الحق رواهما أي هذا والذي قبله الدارقطني وفي إسنادهما ضعف لأن مدارهما على محمد بن مسروق عن إسحاق بن الفرات ومحمد لا يعرف وإسحاق مختلف فيه كما قاله المصنف وقال الذهبي في الكاشف إن إسحاق بن الفرات قاضي مصر ثقة معروف وقال البيهقي والاعتماد في هذا الباب على أحاديث القسامة فإنه قال صلى الله عليه وسلم لأولياء الدم أتحلفون فأبوا قال فتحلف يهود وهو حديث صحيح وساق الروايات في القسامة وفيها رد اليمين قال فهذه الأحاديث هي المعتمدة في رد اليمين على المدعي إذا لم يحلف المدعى عليه قلت وهذا منه قياس إلا أنه قد ثبت عندهم أن القسامة على خلاف القياس وثبت أنه لا يقاس على ما خالف القياس وقد استدل بحديث الكتاب على ثبوت رد اليمين على المدعي والمراد به أنها تجب اليمين على المدعي ولكن إذا لم يحلف المدعى عليه وقد ذهب الشافعي وآخرون إلى أنه إذا نكل المدعى عليه فإنه لا يجب بالنكول شيء إلا إذا حلف المدعي وذهب الهادوية وجماعة إلى أنه يثبت الحق بالنكول من دون تحليف للمدعي وقال المؤيد لا يحكم به ولكن يحبس حتى يحلف أو يقر استدل الهادوية بأن النكول كالإقرار ورد بأنه مجرد تمرد عن حق معلوم وجوبه عليه هو اليمين فيحبس له حتى يوفيه أو يسقطه بالإقرار واستدلوا أيضا بأنه حكم به عمر وعثمان وابن عباس وأبو موسى وأجيب بعدم حجة أفعالهم نعم لو صح حديث ابن عمر كان الحجة فيه
10- وعن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم مسرورا تبرق" بفتح المثناة الفوقية وضم الراء "أسارير وجهه" هي الخطوط التي في الجبهة واحدها سر وسرر وجمعها أسرار وأسرة وجمع الجمع أسارير أي تضيء وتستنير من الفرح والسرور فقال "ألم تري إلى مجزز" بضم الميم وفتح الجيم ثم زاي مشددة مكسورة ثم زاي أخرى اسم فاعل لأنه كان في الجاهلية إذا أسر أسير جز ناصيته وأطلقه "المدلجي" بضم الميم وبالدال المهملة وجيم بزنة مخرج نسبة إلى بني مدلج بن مرة بن عبد مناف بن كنانة "نظر آنفا" أي الآن "إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد فقال هذه الأقدام بعضها من بعض" متفق عليه في رواية للبخاري أنه صلى الله عليه وسلم قال: "ألم تري أن مجززا المدلجي دخل فرأى أسامة وزيدا وعليهما قطيفة قد غطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما فقال إن هذه الأقدام بعضها من بعض"
واعلم أن الكفار كانوا يقدحون في نسب أسامة لكونه كان أسود شديد وكان زيد أبيض كذا قاله أبو داود وأم أسامة هي أم أيمن كانت حبشية سوداء ووقع في الصحيح(4/136)