المجلد الأول
كتاب الطهارة
كتاب الطهارة
...
سبل السلام شرح بلوغ المرام
تأليف: محمد بن اسماعيل الصنعاني
كتاب الطهارة
الكتاب والطهارة في الأصل: مصدران أضيفا وجعلا اسماً لمسائل من مسائل الفقه، تشتمل على مسائل خاصة.
وبدأ بالطهارة اتباعاً لسنة المصنفين في ذلك، وتقديماً للأمور الدينية على غيرها، واهتماماً بأهمها وهي الصلاة. ولما كانت الطهارة شرطاً من شروطها بدأ بها، وهي هنا اسم مصدر: أي طهر تطهيراً وطهارة، مثل: كلم تكليماً وكلاماً.
وحقيقتها: استعمال المطهرَيْن: أي الماء والتراب، أو أحدهما، على الصفة المشروعة في إزالة النجس، والحدث؛ لأن الفقيه إنما يبحث عن أحوال المكلفين من الوجوب وغيره.
ثم لما كان الماء هو المأمور بالتطهّر به أصالة قدمه فقال:(1/14)
باب المياه
الباب لغة: ما يدخل ويخرج منه. قال تعالى: {ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ} {وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} - وهو هنا مجاز؛ شبه الدخول إلى الحوض في مسائل مخصوصة بالدخول في الأماكن المحسوسة، ثم أثبت لها الباب.
والمياه: جمع ماء، وأصله: موه ولذا ظهرت الهاء في جمعه، وهو جنس يقع على القليل والكثير، إلا أنه جمع لاختلاف أنواعه باعتبار حكم الشرع، فإن فيه ما ينهى عنه وفيه ما يكره. وباعتبار الخلاف أيضاً في بعض المياه كماء البحر، فإنه نقل الشارح الخلاف في التطهّر به عن ابن عمر، وابن عمرو.
وفي النهآية: أن في كون ماء البحر مطهّراً خلافاً لبعض أهل الصدر الأول، وكأنه لقدم الخلاف فيه بدأ المصنف بحديث يفيد طهوريته، وهو حجة الجماهير.
1- (عن أبي هريرة رضي الله عنه) الجار والمجرور متعلّق بمقدر كأنه قال: باب المياه أروي فيه، أو أذكر، أو نحو ذلك حديثاً عن أبي هريرة. وهو الأول من أحاديث الباب.
وأبو هريرة هو الصحابي الجليل الحافظ المكثر، واختلف في اسمه واسم أبيه على نحو من ثلاثين قولاً. قال ابن عبد البر: الذي تسكن النفس إليه من الأقوال: أنه عبد الرحمن بن صخر، وبه قال محمد بن إسحاق. وقال الحاكم أبو أحمد: ذكر لأبي هريرة في مسند بقي بن مخلد خمسة آلاف حديث وثلاثمائة وأربعة وسبعون حديثاً. وهو أكثر الصحابة حديثاً، فليس لأحد من الصحابة هذا القدر، ولا ما يقاربه. قلت: كذا في الشرح. والذي رأيته في الاستيعاب، لابن عبد البر بلفظ: إلا أن عبد الله أو عبد الرحمن هو الذي يسكن إليه القلب في اسمه في الإسلام ثم قال فيه: أي الاستيعاب. مات في المدينة سنة تسع وخمسين وهو ابن ثمان وسبعين سنة، ودفن بالبقيع. وقيل: مات بالعقيق، وصلى عليه الوليد بن عقبة بن أبي سفيان، وكان يومئذ أميراً على المدينة، كما قاله ابن عبد البر.
(قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في البحر ) أي: في حكمه، والبحر: الماء الكثير، أو المالح فقط كما في القاموس، وهذا اللفظ ليس من(1/14)
مقوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، بل مقوله: " هو الطهور " بفتح الطاء، هو المصدر واسم ما يتطهر به؛ أو: الطاهر المطهر كما في القاموس. وفي الشرع: يطلق على المطهر، وبالضم مصدر. وقال سيبويه: إنه بالفتح لهما، ولم يذكره في القاموس بالضم "ماؤه" هو فاعل المصدر، وضمير ماؤه يقتضي أنه أريد بالضمير في قوله: هو الطهور: البحر يعني مكانه، إذ لو أريد به الماء لما احتيج إلى قوله: ماؤه، إذ يصير في معنى طهور ماؤه في الماء، و "الحلُّ" هو مصدر حل الشيء ضد حرم، ولفظ الدارقطني الحلال " مَيْتَتُهُ " هو فاعله أيضاً (أخرجه الأربعة، وابن أبي شيبة) هو أبو بكر. قال الذهبي في حقه: الحافظ العديم النظير الثبت النحرير، عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، صاحب المسند والمصنف وغير ذلك، وهو من شيوخ البخاري، ومسلم، وأبي داود، وابن ماجه (واللفظ له) أي: لفظ الحديث السابق سرده لابن أبي شيبة، وغيره ممن ذكر أخرجوه بمعناه. (و) صححه (ابن خزيمة) بضم الخاء المعجمة فزاي بعدها مثناة تحتية فتاء تأنيث. قال الذهبي: الحافظ الكبير إمام الأئمة شيخ الإسلام، أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة، انتهت إليه الإمامة والحفظ في عصره بخراسان (و) صححه (الترمذي) أيضاً فقال عقب سرده: هذا حديث حسن صحيح. وسألت محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث فقال: حديث صحيح. هذا لفظ الترمذي، كما في مختصر السنن للحافظ المنذري.
وحقيقة الصحيح عند المحدثين ما نقله: عدل تام الضبط، عن مثله، متصل السند، غير معلّ، ولا شاذ.
هذا، وقد أخرج المصنف هذا الحديث في التلخيص من تسع طرق عن تسعة من الصحابة، ولم تخلُ طريق منها عن مقال، إلا أنه قد جزم بصحته من سمعت، وصححه ابن عبد البر، وصححه ابن منده، وابن المنذر، وأبو محمد البغوي.
قال المصنف: وقد حكم بصحة جملة من الأحاديث لا تبلغ درجة هذا ولا تقاربه.
قال الزرقاني في شرح الموطأ: وهذا الحديث أصل من أصول الإسلام، تلقته الأمة بالقبول، وتداوله فقهاء الأمصار في سائر الأعصار في جميع الأقطار، ورواه الأئمة الكبار. ثم عد من رواه، ومن صححه.
والحديث وقع جواباً عن سؤال كما في الموطأ: "أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: "جاء رجل" وفي مسند أحمد: "من بني مدلج" وعند الطبراني "اسمه عبد الله" إلى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فقال: يا رسول الله إنا نركب البحر، ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضّأنا به عطشنا، أفنتوضأ به؟
وفي لفظ أبي داود: "بماء البحر" فقال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته".
فأفاد صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أن ماء البحر طاهر مطهر، لا يخرج عن الطهورية بحال، إلا ما سيأتي من تخصيصه بما إذا تغير أحد أوصافه، ولم يجب صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بقوله: نعم، مع إفادتها الغرض، بل أجاب بهذا اللفظ ليقرن الحكم بعلّته، وهي الطهورية المتناهية في بابها، وكأنّ السائل لما رأى ماء البحر خالف المياه بملوحة طعمه، ونتن ريحه، توهم أنه غير مراد من قوله تعالى: {فاغسلوا-} أي بالماء المعلوم إرادته من قوله: فاغسلوا أو أنه لما عرف من قوله تعالى: {- وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً طَهُوراً} - ظن اختصاصه، فسأل عنه، فأفاده صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم(1/15)
الحكم، وزاده حكماً لم يسأل عنه، وهو حل ميتته.
قال الرافعي: لما عرف صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم اشتباه الأمر على السائل في ماء البحر، أشفق أن يشتبه عليه حكم ميتته.
وقد يبتلى بها راكب البحر، فعجب الجواب عن سؤاله ببيان حكم الميتة. قال ابن العربي: وذلك من محاسن الفتوى، أن يجاء في الجواب بأكثر مما سئل عنه، تتميماً للفائدة، وإفادة لعلم غير المسؤول عنه. ويتأكد ذلك عند ظهور الحاجة إلى الحكم، كما هنا، لأن من توقف في طهورية ماء البحر، فهو عن العلم بحل ميتته مع تقدم تحريم الميتة أشد توقفاً. ثم المراد بميتته: ما مات فيه من دوابه: مما لا يعيش إلا فيه. لا ما مات فيه مطلقاً، فإنه وإن صدق عليه لغة أنه ميتة بحر، فمعلوم أنه لا يراد إلا ما ذكرنا. وظاهره حل كل ما مات فيه، ولو كان كالكلب والخنزير، ويأتي الكلام في ذلك في بابه إن شاء الله تعالى.
2- (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه) اسمه سعد بن مالك بن سنان الخزرجي الأنصاري الخدري: بضم الخاء المعجمة ودال مهملة ساكنة نسبة إلى خدرة حي من الأنصار كما في القاموس. قال الذهبي: كان من علماء الصحابة، وممن شهد بيعة الشجرة، وروى حديثاً كثيراً، وأفتى مدة. عاش أبو سعيد ستاً وثمانين سنة، ومات في أول سنة أربع وسبعين، وحديثه كثير وحدث عنه جماعة من الصحابة، وله في الصحيحين أربعة وثمانون حديثاً.
)قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إن الماء طهور لا ينجسه شيء" . أخرجه الثلاثة) هم أصحاب السنن، ما عدا ابن ماجه، كما عرفت (وصححه أحمد) قال الحافظ المنذري في مختصر السنن: إنه تكلم فيه بعضهم، لكن قال: حكي عن الإمام أحمد أنه قال: حديث بئر بضاعة صحيح. وقال الترمذي: هذا حديث حسن. وقد جود أبو أسامة هذا الحديث، ولم يروَ حديث أبي سعيد في بئر بضاعة بأحسن مما روى أبو أسامة. وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أبي سعيد.
والحديث له سبب وهو: "أنه قيل لرسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "أنتوضأ من بئر بضاعة، وهي بئر يطرح فيه الحيض ولحم الكلاب والنتن؟ فقال: الماء طهور" الحديث، هكذا في سنن أبي داود، وفي لفظ فيه: "إن الماء" كما ساقه المصنف.
واعلم أنه قد أطال هنا في الشرح المقال، واستوفى ما قيل في حكم المياه من الأقوال، ولنقتصر في الخوض في المياه على قدر يجتمع به شمل الأحاديث، ويعرف به مأخذ الأقوال: ووجوه الاستدلال فنقول:
قد وردت أحاديث يؤخذ منها أحكام المياه، فمنها: حديث: "الماء طهور لا ينجسه شيء" .
وحديث: "إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث" .
وحديث: "الأمر بصب ذنوب من ماء على بول الأعرابي في المسجد".
وحديث: "إذا استيقظ أحدكم فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً" .
وحديث: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه" .
وحديث: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم" الحديث. وفيه الأمر بإراقة الماء الذي ولغ فيه. وهي أحاديث ثابتة ستأتي جميعها في كلام(1/16)
المصنف.
إذا عرفت هذا، فإنه اختلفت اراء العلماء رحمهم الله تعالى، في الماء إذا خالطته نجاسة، ولم تغير أحد أوصافه:
فذهب القاسم، ويحيى بن حمزة، وجماعة من الآل، ومالك، والظاهرية وأحمد في أحد قوليه، وجماعة من أصحابه إلى: أنه طهور، قليلاً كان أو كثيراً، عملاً بحديث: "الماء طهور" وإنما حكموا بعدم طهورية ما غيّرت النجاسة أحد أوصافه، للإجماع على ذلك؛ كما يأتي الكلام عليه قريباً.
وذهب الهادوية، والحنفية، والشافعية إلى قسمة الماء إلى قليل تضرّه النجاسة مطلقاً، وكثير لا تضرّه، إلا إذا غيرت بعض أوصافه، ثم اختلفوا بعد ذلك في تحديد القليل والكثير.
فذهب الهادوية إلى تحديد القليل بأنه: ما ظن المستعمل للماء الواقعة فيه النجاسة استعمالها باستعماله، وما عدا ذلك فهو الكثير.
وذهب الحنفية إلى تحديد الكثير من الماء: بما إذا حرّك أحد طرفيه ادمي، لم تسر الحركة إلى الطرف الاخر؛ وهذا رأي الإمام، وأما رأي صاحبيه: فعشرة في عشرة، وما عداه فهو القليل.
وذهب الشافعية إلى تحديد الكثير من الماء بما بلغ قلتين من قلال هجر وذلك نحو خمسمائة رطل، عملاً بحديث القلتين، وما عداه فهو القليل.
ووجه هذا الاختلاف تعارض الأحاديث التي أسلفناها: فإن حديث الاستيقاظ، وحديث الماء الدائم يقضيان: أن قليل النجاسة ينجس قليل الماء، وكذلك حديث الولوغ، والأمر بإراقة ما ولغ الكلب فيه. وعارضها حديث بول الأعرابي، والأمر بصب ذنوب ماء عليه؛ فإنه يقتضي أن قليل النجاسة لا ينجس قليل الماء. ومن المعلوم أنه قد طهر ذلك الموضع الذي وقع عليه بول الأعرابي بذلك الذنوب، وكذلك قوله: "الماءُ طَهورٌ لا ينجِّسُهُ شيء" .
فقال الأولون وهم القائلون: لا ينجسه شيء، إلا ما غير أحد أوصافه: يجمع بين الأحاديث بالقول بأنه لا ينجسه شيء، كما دلّ له هذا اللفظ، ودلّ عليه حديث بول الأعرابي.
وأحاديث الاستيقاظ، والماء الدائم، والولوغ ليست واردة لبيان حكم نجاسة الماء، بل الأمر باجتنابها تعبدي، لا لأجل النجاسة، وإنما هو لمعنى لا نعرفه، كعدم معرفتنا لحكمة أعداد الصلوات ونحوها.
وقيل: بل النهي في هذه الأحاديث للكراهة فقط، وهي طاهرة مطهرة.
وجمع الشافعية بين الأحاديث بأن حديث "لا ينجسه شيءٌ" محمول على ما بلغ القلتين فما فوقهما وهو كثير، وحديث الاستيقاظ، وحديث الماء الدائم محمول على القليل.
وعند الهادوية: أن حديث الاستيقاظ محمول على الندب فلا يجب غسلهما له.
وقالت الحنفية: المراد بلا ينجسه شيء: الكثير الذي سبق تحديده. وقد أعلّوا حديث القلتين بالاضطراب، وكذلك أعله الإمام المهدي في البحر. وبعضهم تأوله: وبقية الأحاديث في القليل، ولكنه ورد عليهم حديث بول الأعرابي، فإنه كما عرفت دل على أنه لا يضر قليل النجاسة قليل الماء، فدفعته الشافعية: بالفرق بين ورود الماء على النجاسة، وورودها عليه فقالوا: إذا وردت على الماء نجسته، كما في حديث الاستيقاظ، وإذا ورد عليها الماء لم تضرّه، كما في خبر بول الأعرابي. وفيه بحث حققناه في حواشي شرح العمدة، وحواشي ضوء النهار.
وحاصله: أنهم حكموا: أنه إذا وردت النجاسة على الماء القليل نجسته، وإذا ورد عليها الماء القليل لم ينجس، فجعلوا علة عدم تنجس الماء الورود على النجاسة، وليس كذلك، بل التحقيق: أنه حين يرد الماء على النجاسة يرد عليها(1/17)
شيئاً فشيئاً حتى يفني عينها ويذهب قبل فنائه، فلا يأتي اخر جزء من الماء الوارد على النجاسة إلا وقد طهر المحل الذي اتصلت به، أو بقي فيه جزء منها يفنى ويتلاشى، عند ملاقاة آخر جزء منها يرد عليه الماء، كما تفنى النجاسة وتتلاشى إذا وردت على الماء الكثير بالإجماع، فلا فرق بين هذا وبين الكثير في إفناء الكل للنجاسة، فإن الجزء الأخير الوارد على النجاسة يحيل عينها لكثرته بالنسبة إلى ما بقي من النجاسة، فالعلّة في عدم تنجسه بوروده عليها: هي كثرته بالنسبة إليها، لا الورود، فإنه لا يعقل التفرقة بين الورودين: بأنّ أحدهما ينجسه دون الأخر.
وإذا عرفت ما أسلفناه، وأنّ تحديد الكثير والقليل لم ينهض على أحدهما دليل. فأقرب الأقاويل بالنظر إلى الدليل: قول القاسم بن إبراهيم، ومَنْ معه، وهو قول جماعة من الصحابة، كما في البحر، وعليه عدة من أئمة الال المتأخرين، واختاره منهم الإمام شرف الدين.
وقال ابن دقيق العيد: إنه قول لأحمد، ونصره بعض المتأخرين من أتباعه، ورجّحه أيضاً من أتباع الشافعي: القاضي أبو الحسن الروياني، صاحب بحر المذهب قاله في الإمام. وقال ابن حزم في المحلى: إنه روي عن عائشة أم المؤمنين، وعمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود، وابن عباس، والحسن بن علي بن أبي طالب، وميمونة أم المؤمنين، وأبي هريرة، وحذيفة بن اليمان، والأسود بن يزيد، وعبد الرحمن أخيه، وابن أبي ليلى، وسعيد بن جبير، وابن المسيب، ومجاهد، وعكرمة، والقاسم بن محمد، والحسن البصري، وغير هؤلاء.
3- )وعن أبي أمامة) بضم الهمزة، واسمه صدي بمهملتين الأولى مضمومة والثانية مفتوحة ومثناة تحتية مشددة (الباهلي) بموحدة نسبة إلى باهلة، في القاموس: باهلة: قوم، واسم أبيه عجلان. قال ابن عبد البر: لم يختلفوا في ذلك، يعني في اسمه واسم أبيه. سكن أبو أمامة مصر، ثم انتقل عنها وسكن حمص، ومات بها سنة إحدى. وقيل: سنة ست وثمانين وقيل: هو اخر من مات من الصحابة بالشام. كان من المكثرين في الورواية عنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم (رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إنَّ الماءَ لا يُنَجِّسُهُ شيءٌ إلا ما غَلَبَ على ريحهِ وطعمهِ ولونِهِ" المراد: أحدها كما يفسره حديث البيهقي (أخرجه ابن ماجه وضعفه أبو حاتم) قال الذهبي في حقه: أبو حاتم هو الرازي الإمام الحافظ الكبير، محمد بن إدريس بن المنذر الحنظلي، أحد الأعلام؛ ولد سنة خمس وتسعين ومائة، وأثنى عليه إلى أن قال: قال النسائي: ثقة. توفي أبو حاتم في شعبان سنة سبع وسبعين ومائتين، وله اثنتان وثمانون سنة. وإنما ضعّف الحديث، لأنه من ورواية رشدين بن سعد بكسر الراء وسكون المعجمة، قال أبو يوسف: كان رشدين رجلاً صالحاً في دينه، فأدركته غفلة الصالحين، فخلط في الحديث، وهو متروك.
وحقيقة الحديث الضعيف: هو ما اختل فيه أحد شروط الصحيح، والحسن، وله ستة أسباب معروفة، سردها في الشرح.
)والبيهقي) هو: الحافظ العلامة شيخ خراسان، أبو بكر أحمد بن الحسين، له التصانيف التي لم يسبق إلى مثلها: كان زاهداً ورعاً تقياً، ارتحل إلى الحجاز والعراق. قال الذهبي: تاليفه تقارب ألف جزء، وبيهق بموحدة مفتوحة ومثناة تحتية ساكنة وهاء مفتوحة فقاف: بلد قرب نيسابور، أي رواه بلفظ: "الماء طهور إلا إن تغير ريحه أو طعمه أو لونه" عطف عليه (بنجاسة) الباء سببية: أي بسبب نجاسة (تحدث(1/18)
فيه) قال المصنف: قال الدارقطني: ولا يثبت هذا الحديث. وقال الشافعي: ما قلت من أنه إذا تغير طعم الماء، أو ريحه، أو لونه كان نجساً، يروى عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم من وجه لا يثبت أهل الحديث مثله. وقال النووي: اتفق المحدثون على تضعيفه، والمراد تضعيف ورواية الاستثناء، لا أصل الحديث، فإنه قد ثبت في حديث بئر بضاعة، ولكن هذه الزيادة قد أجمع العلماء على القول بحكمها. قال ابن المنذر: قد أجمع العلماء: على أن الماء القليل والكثير إذا وقعت فيه نجاسة فغيرت له طعماً، أو لوناً، أو ريحاً فهو نجس، فالإجماع هو الدليل على نجاسة ما تغير أحد أوصافه، لا هذه الزيادة.
4- (وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما) هو ابن عمر بن الخطاب أسلم عبد الله صغيراً بمكة، وأول مشاهده الخندق وعمّر: وروى عنه خلائق، كان من أوعية العلم، وكانت وفاته بمكة سنة ثلاث وسبعين، ودفن بها بذي طوى، في مقبرة المهاجرين.
)قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إذا كان المَاءُ قُلّتَيْن لم يَحْمل الخَبَثَ" بفتح المعجمة والموحدة، (وفي لفظ "لم يَنْجُس" هو بفتح الجيم وضمها، كما في القاموس (أخرجه الأربعة، وصححه ابن خزيمة) تقدم ذكره في أوّل حديث.
)والحاكم) هو الإمام الكبير إمام المحققين، أبو عبد الله محمد بن عبد الله النيسابوري المعروف بابن البيع، صاحب التصانيف. ولد سنة إحدى وعشرين وثلاث مئة، وطلب هذا الشأن، ورحل إلى العراق، وهو ابن عشرين، وحجّ، ثم جال في خراسان وما وراء النهر، وسمع من ألفي شيخ أو نحو ذلك، حدث عنه الدارقطني، وأبو يعلى الخليلي، والبيهقي، وخلائق. وله التصانيف الفائقة مع التقوى والديانة. ألف المستدرك، وتاريخ نيسابور، وغير ذلك. توفي في شهر صفر سنة خمس وأربع مئة.
(وابن حبّان) بكسر الحاء المهملة وتشديد الموحدة. قال الذهبي: هو الحافظ العلامة، أبو حاتم محمد بن حبان بن أحمد بن حبان البستي، صاحب التصانيف. سمع أمماً لا يحصون من مصر إلى خراسان. حدّث عنه الحاكم، وغيره. وكان ابن حبان من فقهاء الدين وحفاظ الاثار، عالماً بالطب والنجوم وفنون العلم. صنف المسند الصحيح، والتاريخ، وكتاب الضعفاء. وفقّه الناس بسمرقند، قال الحاكم: كان ابن حبان من أوعية العلم والفقه واللغة والوعظ، من عقلاء الرجال. توفي في شوال سنة أربع وخمسين وثلاث مئة وهو في عشر الثمانين.
وقد سبقت الإشارة إلى أن هذا الحديث هو: دليل الشافعية في جعلهم الكثير: ما بلغ قلتين، وسبق اعتذار الهادوية والحنفية عن العمل به بالاضطراب في متنه. إذ في رواية: "إذا بلغ ثلاث قلال" وفي رواية: "قلة"، وبجهالة قدر القلة، وباحتمال معناه، فإن قوله: "لم يحمل الخبث" يحتمل أنه لا يقدر على حمله، بل يضره الخبث، ويحتمل أنه يتلاشى فيه الخبث، وقد أجاب الشافعية عن هذا كله، وقد بسطه في الشرح، إلا الأخير فلم يذكره، كأنه تركه لضعفه، لأن ورواية "لم ينجس" صريحة في عدم احتماله المعنى الأول.
5- )وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لا يَغْتَسِلْ أَحَدُكُمْ في الماءِ الدائم" وهو: الراكد الساكن، ويأتي وصفه بأنه الذي لا يجري (وَهُوَ جُنُبٌ أخرجه) بهذا اللفظ (مسلم. وللبخاري) ورواية بلفظ: "لا يبُولَنَّ أَحَدُكُمْ في الماء الدَّائم الذي لا يَجري ثُمَّ يَغْتَسَلُ" روي برفع اللام على أنه خبر(1/19)
لمبتدأ محذوف: أي ثم هو يغتسل، وقد جوّز جزمه على عطفه على موضع يبولن، ونصبه بتقدير أن على إلحاق ثم بالواو في ذلك، وإن أفاد أن النهي إنما هو عن الجمع بين البول والاغتسال، دون إفراد أحدهما، مع أنه ينهى عن البول فيه مطلقاً، فإنه لا يخل بجواز النصب؛ لأنه يستفاد من هذا النهي عن الجمع، ومن غيره النهي عن إفراد البول وإفراد الاغتسال. هذا بناء على أن ثم قد صارت بمعنى الواو تفيد الجمع، وهذا قاله النووي معترضاً به على ابن مالك؛ حيث جوز النصب، وأقره ابن دقيق العيد في غير شرح العمدة، إلا أنه أجاب عن النووي بما أفاده قولنا: فإنه لا يخل بجواز النصب إلى اخره.
قلت: والذي تقتضيه قواعد العربية أن النهي في الحديث إنما هو عن الجمع بين البول ثم الاغتسال منه، سواء رفعت اللام أو نصبت؛ وذلك لأن ثم تفيد ما تفيده الواو العاطفة في أنها للجمع، وإنما اختصت ثم بالترتيب، فالجميع واهمون فيما قرروه.
ولا يستفاد النهي عن كل واحد على انفراده من ورواية البخاري؛ لأنها إنما تفيد النهي عن الجمع، ورواية مسلم تفيد النهي عن الاغتسال فقط إذا لم تقيد بورواية البخاري. ثم ورواية أبي داود بلفظ: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسل فيه" تفيد النهي عن كل واحد على انفراده (فيه. ولمسلم) وفي روايته (منه) بدلاً عن قوله فيه، والأولى تفيد أنه لا يغتسل فيه بالانغماس مثلاً، والثانية تفيد أن لا يتناول منه ويغتسل خارجه. (ولأبي داود) بلفظ: "ولا يغتسل فيه" عوضاً عن ثم يغتسل (من الجنابة) عوضاً عن قوله: وهو جنب، وقوله هنا: "ولا يغتسل" دال على أن النهي عن كل واحد من الأمرين على انفراده، كما هو أحد الاحتمالين الأولين في ورواية "ثم يغتسل منه". قال في الشرح: وهذا النهي في الماء الكثير للكراهة. وفي الماء القليل للتحريم. قيل عليه: إنه يؤدي إلى استعمال لفظ النهي في حقيقته ومجازه، فالأحسن أن يكون من عموم المجاز، والنهي مستعمل في عدم الفعل الشامل للتحريم، وكراهة التنزيه.
فأما حكم الماء الراكد وتنجيسه بالبول، أو منعه من التطهير بالاغتسال فيه للجنابة، فعند القائلين: بأنه لا ينجس إلا ما تغير أحد أوصافه: النهي عنه للتعبد وهو طاهر في نفسه، وهذا عند المالكية فإنه يجوز التطهر به؛ لأن النهي عندهم للكراهة، وعند الظاهرية: أنه للتحريم. وإن كان النهي تعبداً، لأجل التنجيس لكن الأصل في النهي التحريم. وأما عند من فرق بين القليل والكثير فقالوا: إن كان الماء كثيراً وكل على أصله في حده ولم يتغير أحد أوصافه، فهو الطاهر. والدليل على طهوريته: تخصيص هذا العموم، إلا أنه قد يقال: إذا قلتم: النهي للكراهة في الكثير، فلا تخصيص لعموم حديث الباب، وإن كان الماء قليلاً وكل في حده على أصله فالنهي عنه للتحريم، إذ هو غير طاهر ولا مطهر، وهذا على أصلهم في كون النهي للنجاسة.
وذكر في الشرح الأقوال في البول في الماء وأنه لا يحرم في الكثير الجاري كما يقتضيه مفهوم هذا الحديث، والأولى اجتنابه. أما القليل الجاري فقيل يكره، وقيل: يحرم وهو الأولى.( قلت) بل الأولى خلافه إذ الحديث في النهي عن البول فيما لا يجري، فلا يشمل الجاري قليلاً كان أم كثيراً( نعم) لو قيل بالكراهة لكان قريباً. وإن كان كثيراً راكداً فقيل: يكره مطلقاً، وقيل: إن كان قاصداً إلا إذا عرض وهو فيه فلا كرهة. قال في الشرح: ولو قيل بالتحريم لكان أظهر وأوفق؛ لظاهر النهي، لأن فيه إفساداً له على غيره ومضارة(1/20)
للمسلمين. وإن كان راكداً قليلاً فالصحيح: التحريم للحديث.
ثم هل يلحق غير البول كالغائط به في تحريم ذلك في هذا الماء القليل؟ فالجمهور على أنه يلحق به بالأولى. وعند أحمد بن حنبل: لا يلحق به غيره، بل يختص الحكم بالبول. وقوله: "في الماء" صريح في النهي عن البول فيه، وأنه يجتنب إذا كان كذلك. فإذا بال في إناء وصبه في الماء الدائم فالحكم واحد، وعن داود لا ينجسه ولا يكون منهياً عنه إلا في الصورة الأولى لا غير.
وحكم الوضوء في الماء الدائم الذي بال فيه من يريد الوضوء: حكم الغسل إذ الحكم واحد. وقد ورد في رواية: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يتوضأ منه" ذكرها في الشرح ولم ينسبها إلى أحد، وقد أخرجها عبد الرزاق، وأحمد، وابن أبي شيبة، والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، وابن حبان من حديث أبي هريرة مرفوعاً، وأخرجه الطحاوي، وابن حبان، والبيهقي بزيادة: "أو يشرب".
6- (وعن رجل صحب النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "نهى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أن تغتسل المرأة بفضل الرجل" أي بالماء الذي يفضل عن غسل الرجل (أو الرجل بفضل المرأة) مثله (وليغترفا) من الماء عند اغتسالهما منه (جميعاً أخرجه أبو داود، والنسائي، وإسناده صحيح) إشارة إلى رد قول البيهقي حيث قال: إنه في معنى المرسل، أو إلى قول ابن حزم حيث قال: إن أحد رواته ضعيف. أما الأول وهو كونه في معنى المرسل؛ فلأن إبهام الصحابي لا يضر؛ لأن الصحابة كلهم عدول عند المحدثين. وأما الثاني فلأنه أراد ابن حزم بالضعيف: داود بن عبد الله الأودي، وهو ثقة، وكأنه في البحر اغتر بقول ابن حزم، فقال بعد ذكر الحديث: إن راويه ضعيف وأسنده إلى مجهول. وقال المصنف في فتح الباري: إن رجاله ثقات ولم نقف له على علة، فلهذا قال هنا: وهو صحيح، نعم هو معارض بما يأتي من قوله في الحديث الاتي:
7- (وعن ابن عباس رضي الله عنهما) هو حيث أطلق: بحر الأمة وحبرها عبد الله بن العباس. ولد قبل الهجرة بثلاث سنين، وشهرة إمامته في العلم ببركات الدعوة النبوية بالحكمة والفقه في الدين والتأويل تغني عن التعريف به. كانت وفاته بالطائف سنة ثمان وستين في اخر أيام ابن الزبير بعد أن كُفّ بصره "أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يغتسل بفضل ميمونة" . أخرجه مسلم من ورواية عمرو بن دينار بلفظ قال: وعلمي، والذي يخطر على بالي أن أبا الشعثاء أخبرني. الحديث. وأعله قوم بهذا التردد. ولكنه قد ثبت عند الشيخين بلفظ: "أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وميمونة كانا يغتسلان من إناء واحد" ، ولا يخفى أنه لا تعارض؛ لأنه يحتمل أنهما كانا يغترفان معاً فلا تعارض.
نعم المعارض قوله: (ولأصحاب السنن) أي من حديث ابن عباس، كما أخرجه البيهقي في السنن، ونسبه إلى أبي داود: "اغتسل بعض أزواج النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في جفنة فجاء" أي النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم (ليغتسل منها فقالت) له: إني كنت جنباً أي وقد اغتسلت منها "فقال: إنَّ الماءَ لا يَجْنُبُ" في القاموس جنب أي كفرح وجنب أي ككرم، فيجوز فتح النون وضمها هنا، هذا إن جعلته من الثلاثي، ويصح من أجنب يجنب، وأما اجتنب فلم يأت بهذا المعنى وهو إصابة الجنابة (وصححه(1/21)
الترمذي. وابن خزيمة(
ومعنى الحديث قد ورد من طرق سردها في الشرح، وقد أفادت معارضة الحديث الماضي، وأنه يجوز غسل الرجل بفضل المرأة، ويقاس عليه العكس لمساواته له، وفي الأمرين خلاف، والأظهر جواز الأمرين، وأن النهي محمول على التنزيه.
8- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "طهورُ" قال في الشرح: الأظهر فيه ضم الطاء ويقال بفتحها لغتان "إناء أحدكم إذا وَلَغَ فيه الكلب" في القاموس: ولغ الكلب في الإناء وفي الشراب يلغ كيهب ويالغ وولغ كورث ووجل: شرب ما فيه بأطراف لسانه، أو أدخل لسانه فيه فحركه "أنْ يَغْسلَهُ" أي الإناء "سبعَ مَرَّات أوُلاهُنَّ بالتراب" أخرجه مسلم، وفي لفظ له "فليرقه" أي الماء الذي ولغ فيه، (وللترمذي أخراهن) أي السبع "أو أولاهن بالتراب".
دل الحديث على أحكام:
أولها: نجاسة فم الكلب من حيث الأمر بالغسل لما ولغ فيه، والإراقة للماء، وقوله: طهور إناء أحدكم؛ فإنه لا غسل إلا من حدث أو نجس، وليس هنا حدث فتعين النجس، والإراقة إضاعة مال، فلو كان طاهراً الماء طاهراً لما أمر بإضاعته؛ إذ قد نهى عن إضاعة المال، وهو ظاهر في نجاسة فمه، وألحق به سائر بدنه قياساً عليه، وذلك لأنه إذا ثبت نجاسة لعابه، ولعابه جزء من فمه؛ إذ هو عرق فمه، ففمه نجس؛ إذ العرق جزء متحلب من البدن فكذلك بقية بدنه، إلا أن من قال: إن الأمر بالغسل ليس لنجاسة الكلب قال: يحتمل أنَّ النجاسة في فمه ولعابه؛ إذ هو محل استعماله للنجاسة بحسب الأغلب، وعلق الحكم بالنظر إلى غالب أحواله من أكله النجاسات بفمه ومباشرته لها، فلا يدل على نجاسة عينه، قول الجماهير، والخلاف لمالك وداود والزهري، وأدلة الأولين ما سمعت.
وأدلة غيرهم وهم القائلون: إن الأمر بالغسل للتعبد لا للنجاسة، أنه لو كان للنجاسة لاكتفى بما دون السبع، إذ نجاسته لا تزيد على العذرة. وأجيب عنه: بأن أصل الحكم الذي هو الأمر بالغسل معقول المعنى ممكن التعليل، أي بأنه للنجاسة. والأصل في الأحكام التعليل فيحمل على الأغلب، والتعبد إنما هو في العدد فقط. كذا في الشرح وهو مأخوذ من شرح العمدة وقد حققنا في حواشيه خلاف ما قرره من أغلبية تعليل الأحكام وطوَّلنا هنالك الكلام.
الحكم الثاني: أنه دل الحديث على وجوب سبع غسلات للإناء وهو واضح. ومن قال: لا تجب السبع بل ولوغ الكلب كغيره من النجاسات والتسبيع ندب، استدل على ذلك: بأن راوي الحديث وهو أبو هريرة قال: يغسل من ولوغه ثلاث مرات، كما أخرجه الطحاوي، والدارقطني. وأجيب عن هذا: بأن العمل بما رواه عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، لا بما رآه، وأفتى به، وبأنه معارض بما روى عنه أيضاً: أنه أفتى بالغسل سبعاً وهي أرجح سنداً، وترجح أيضاً بأنها توافق الورواية المرفوعة. وبما روى عنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أنه قال في الكلب يلغ في الإناء: "يُغسلُ ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً" قالوا: فالحديث دل على عدم تعيين السبع وأنه مخير، ولا تخيير في معين، وأجيب عنه، بأنه حديث ضعيف لا تقوم به حجة.
الحكم الثالث: وجوب التتريب للإناء لثبوته في الحديث، ثم الحديث يدل على تعيين التراب، وأنه في الغسلة الأولى. ومن أوجبه قال: لا فرق بين أن يخلط الماء بالتراب حتى(1/22)
يتكدر، أو يطرح الماء على التراب، أو يطرح التراب على الماء. وبعض من قال: بإيجاب التسبيع قال: لا تجب غسلة التراب لعدم ثبوتها عنده، ورد: بأنها قد ثبتت في الرواية الصحيحة بلا ريب، والزيادة من الثقة مقبولة.
وأورد على ورواية التراب بأنها قد اضطربت فيها الرواية، فروى أولاهن، أو أخراهن، أو إحداهن، أو السابعة، أو الثامنة، والاضطراب قادح، فيجب الاطراح لها. وأجيب عنه: بأنه لا يكون الاضطراب قادحاً إلا مع استواء الروايات، وليس ذلك هنا كذلك؛ فإن ورواية أولاهن أرجح لكثرة رواتها، وبإخراج الشيخين لها. وذلك من وجوه الترجيح عند التعارض. وألفاظ الروايات التي عورضت بها أولاهن لا تقاومها وبيان ذلك: أن ورواية أخراهن منفردة لا توجد في شيء من كتب الحديث مسندة. ورواية السابعة بالتراب اختلف فيها، فلا تقاوم ورواية أولاهن بالتراب، ورواية إحداهن بالحاء والدال المهملتين ليست في الأمهات، بل رواها البزار، فعلى صحتها، فهي مطلقة يجب حملها على المقيدة، ورواية أولاهن أو أخراهن بالتخيير، إن كان ذلك من الراوي فهو شك منه فيرجع إلى الترجيح، ورواية أولاهن أرجح، وإن كان من كلامه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فهو تخيير منه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، ويرجع إلى ترجيح أولاهن لثبوتها فقط عند الشيخين كما عرفت.
وقوله: "إناء أحدكم" الإضافة ملغاة هنا لأن حكم الطهارة والنجاسة لا يتوقف على ملكه الإناء، وكذا قوله: (فلْيغْسلْهُ) لا يتوقف على أن يكون مالك الإناء هو الغاسل.
وقوله: وفي لفظ: "فليرقه" هي من ألفاظ ورواية مسلم، وهي أمر بإراقة الماء الذي ولغ فيه الكلب أو الطعام، وهي من أقوى الأدلة على النجاسة، إذ المراق أعم من أن يكون ماءاً أو طعاماً، فلو كان طاهراً لم يأمر بإراقته كما عرفت. إلا أنه نقل المصنف في فتح الباري: عدم صحة هذه اللفظة عن الحفاظ. وقال ابن عبد البر: لم ينقلها أحد من الحفاظ من أصحاب الأعمش. وقال ابن منده: لا تعرف عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بوجه من الوجوه.
نعم. أهمل المصنف ذكر الغسلة الثامنة، وقد ثبت عند مسلم: "وعفروه الثامنة بالتراب". قال ابن دقيق العيد: إنه قال بها الحسن البصري، ولم يقل بها غيره، ولعل المراد بذلك من المتقدمين. والحديث قوي فيها، ومن لم يقل به احتاج إلى تأويله بوجه فيه استكراه اهـ. قلت: والوجه أي المستكره في تأويله ذكره النووي فقال: المراد: اغسلوه سبعاً واحدة منهن بالتراب مع الماء، فكأن التراب قائم مقام غسلة فسميت ثامنة، ومثله قال الدميري في شرح المنهاج، وزاد: أنه أطلق الغسل على التعفير مجازاً.
قلت: لا يخفى أن إهمال المصنف لذكرها وتأويل من قال بإخراجها من الحقيقة إلى المجاز كل ذلك محاماة عن المذهب. والحق مع الحسن البصري.
هذا، وإن الأمر بقتل الكلاب ثم النهي عنه وذكر ما يباح اتخاذه منها يأتي الكلام عليه في باب الصيد إن شاء الله تعالى.
9- (وعن أبي قتادة رضي الله عنه) بفتح القاف فمثناة فوقية بعد الألف دال مهملة اسمه في أكثر الأقوال الحارث بن ربعي بكسر الراء فموحدة ساكنة فمهملة مكسورة ومثناة تحتية مشددة الأنصاري، فارس رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم. شهد أحداً وما بعدها، وكانت وفاته سنة أربع وخمسين بالمدينة، وقيل مات بالكوفة في خلافة أمير المؤمنين علي عليه السلام(1/23)
وشهد معه حروبه كلها (أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال في الهرة)
والحديث له سبب، وهو: أن أبا قتادة سكب له وضوءاً فجاءت هرة تشرب منه، فأصغى لها الإناء حتى شربت، فقيل له في ذلك. فقال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إنها ليست بنَجَس" أي فلا ينجس ما لامَسَتْهُ "إنما هي من الطُّوَّافينَ" جمع طواف "عليكُمْ" قال ابن الأثير: الطائف الخادم الذي يخدمك برفق وعنآية، والطواف فعال منه، شبهها بالخادم الذي يطوف على مولاه ويدور حوله أخذاً من قوله تعالى: {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ} - وفي ورواية مالك وأحمد وابن حبان والحاكم وغيرهم. زيادة لفظ: "والطوافات" جمع الأول مذكراً سالماً نظراً إلى ذكور الهر. والثاني مؤنثاً سالماً نظراً إلى إناثها. فإن قلت: قد فات في جمع المذكر السالم شرط كونه يعقل وهو شرط لجمعه علماً وصفة. قلت: لما نزل منزلة من يعقل بوصفه بصفته وهو الخادم أجراه مجراه في جمعه صفة.
وفي التعليل إشارة إلى أنه تعالى لما جعلها بمنزلة الخادم في كثرة اتصالها بأهل المنزل وملابستها لهم، ولما في منزلهم، خفف الله تعالى على عباده بجعلها غير نجس رفعاً للحرج (أخرجه الأربعة، وصححه الترمذي وابن خزيمة) وصححه أيضاً البخاري والعقيلي والدارقطني.
والحديث دليل على طهارة الهرة وسؤرها، وإن باشرت نجساً، وأنه لا تقييد لطهارة فمها بزمان، وقيل: لا يطهر فمها إلا بمضي زمان من ليلة أو يوم أو ساعة، أو شربها الماء، أو غيبتها حتى يحصل ظن بذلك، أو بزوال عين النجاسة من فمها، وهذا الأخير أوضح الأقوال؛ لأنه مع بقاء عين النجاسة في فمها فالحكم بالنجاسة لتلك العين لا لفمها، فإن زالت العين فقد حكم الشارع بأنها ليست بنجس.
10-( وعن أنس بن مالك رضي الله عنه) هو أبو حمزة بالحاء المهملة والزاي الأنصاري النّجاري الخزرجي. خدم رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم منذ قدم المدينة إلى وفاته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وقدم صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم المدينة وهو ابن عشر سنين، أو ثمان، أو تسع. أقوال. سكن البصرة من خلافة عمر ليفقه الناس وطال عمره إلى مائة وثلاث وستين، وقيل: أقل من ذلك. قال ابن عبد البر: أصح ما قيل تسع وتسعون سنة. وهو آخر من مات بالبصرة من الصحابة سنة إحدى أو اثنتين، أو ثلاث وتسعين.
(قال: جاء أعرابي) بفتح الهمزة نسبة إلى الأعراب وهم: سكان البادية سواء أكانوا عرباً أو عجماً. وقد ورد تسميته: أنه ذو الخويصرة اليماني وكان رجلاً جافياً (فبال في طائفة المسجد) أي في ناحيته، والطائفة: القطعة من الشيء (فزجره الناس) بالزاي فجيم فراء أي نهروه، وفي لفظ: "فقام إليه الناس ليقعوا به"، وفي أخرى: "فقال أصحاب رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "مه، مه"، (فنهاهم رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم) بقوله لهم: "دعوه"، وفي لفظ: "لا تزْرُمُوه" (فلما قضى بوله أمر النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بذنوب) بفتح الذال المعجمة فنون آخره موحدة وهي الدلو الملان ماء، وقيل: العظيمة (من ماء) تأكيد، وإلا فقد أفاده لفظ الذنوب، فهو من باب كتبت بيدي، وفي رواية: "سجلا" بفتح السين المهملة وسكون الجيم، وهو بمعنى الذنوب (فأهريق عليه) أصله: فأريق عليه، ثم أبدلت الهاء من الهمزة فصار فهريق عليه، وهو رواية، ثم زيدت همزة أخرى بعد إبدال الأولى(1/24)
فقيل: فأهريق (متفق عليه) عند الشيخين كما عرفت.
والحديث فيه دلالة: على نجاسة بول الآدمي، وهو إجماع، وعلى أن الأرض إذا تنجست طهرت بالماء كسائر المتنجسات، وهل يجزىء في طهارتها غير الماء؟ قيل: تطهرها الشمس والريح؛ فإن تأثيرهما في إزالة النجاسة أعظم إزالة من الماء، ولحديث: "زكاةُ الأرض يُبْسُهَا"، ذكره ابن أبي شيبة. وأجيب: بأنه ذكره موقوفاً، وليس من كلامه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، كما ذكر عبد الرزاق: حديث أبي قلابة موقوفاً عليه بلفظ: "جُفوفُ الأرض طَهُورُها" فلا تقوم بهما حجة.
والحديث ظاهر في أن صب الماء يطهر الأرض رخوة كانت أو صلبة، وقيل: لا بد من غسل الصلبة كغيرها من المتنجسات، وأرض مسجده صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، كانت رخوة، فكفى فيها الصب.
وكذلك الحديث ظاهر في أنه لا تتوقف الطهارة على نضوب الماء؛ لأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لم يشترط في الصب على بول الأعرابي شيئاً، وهو الذي اختاره المهدي في البحر، وفي أنه لا يشترط حفرها وإلقاء التراب، وقيل: إذا كانت صلبة فلا بد من حفرها وإلقاء التراب؛ لأن الماء لم يعم أعلاها وأسفلها، ولأنه ورد في بعض طرق الحديث: أنه قال صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "خذوا ما بال عليه من التُّراب وألقُوهُ وأهْرِيقوا على مكانه ماء" . قال المصنف في التلخيص: له إسنادان موصولان. أحدهما عن ابن مسعود، والاخر عن واثلة بن الأسقع، وفيهما مقال: ولو ثبتت هذه الزيادة لبطل قول من قال: إن أرض مسجده صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم رخوة، فإنه يقول: لا يحفر ويلقى التراب إلا من الأرض الصلبة.
وفي الحديث فوائد:
منها: احترام المساجد؛ فإنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لما فرغ الأعرابي من بوله دعاه ثم قال له: إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البَوْل ولا القَذر إنما هي لذكْر الله عزَّ وجلَّ وقراءة القران" . ولأن الصحابة لما تبادروا إلى الإنكار أقرهم صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وإنما أمرهم بالرفق، كما في ورواية الجماعة للحديث إلا مسلماً أنه قال: "إنما بُعثْتُم ميسرين ولم تُبْعَثوا مُعَسّرين" . ولو كان الإنكار غير جائز لقال لهم: إنه لم يأت الأعرابي ما يوجب نهيكم له.
ومنها: الرفق بالجاهل وعدم التعنيف، ومنها حسن خلقه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ولطفه بالمتعلم، ومنها أن الإبعاد عند قضاء الحاجة إنما هو لمن يريد الغائط لا البول؛ فإنه كان عُرْفُ العرب عدم ذلك وأقره الشارع، وقد بال صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وجعل رجلاً عند عقبه يستره، ومنها دفع أعظم المضرتين بأخفهما؛ لأنه لو قطع عليه بوله لأضر به، وكان يحصل من تقويمه من محله، مع ما قد حصل من تنجيس المسجد، تنجيس بدنه وثيابه ومواضع من المسجد غير الذي قد وقع فيه البول أولاً.
11- (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "أحلّتْ لَنا مَيْتَتَان" أي بعد تحريمهما الذي دلت عليه الآيات "ودمان" كذلك "فأمّا المَيْتَتان فالجرادُ" أي ميتته "والحوتُ" أي ميتته "وأما الدّمان. فالكبدُ والطِّحالُ" بزنة كتاب (أخرجه أحمد وابن ماجه وفيه ضعف) لأنه رواه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر. قال أحمد: حديثه منكر، وصح أنه موقوف كما قال أبو زرعة وأبو حاتم، وإذا ثبت أنه موقوف فله حكم المرفوع؛ لأن قول الصحابي: أحل لنا كذا وحرم علينا كذا مثل قوله: أمرنا(1/25)
ونهينا، فيتم به الاحتجاج. ويدل على حل ميتة الجراد على أي حال وجدت، فلا يعتبر في الجراد شيء سواء مات حتف أنفه أو بسبب.
والحديث حجة على من اشترط موتها بسبب عادي، أو بقطع رأسها، وإلا حرمت. وكذلك يدل على حل ميتة الحوت على أي صفة وجد، طافياً كان أو غيره لهذا الحديث، وحديث "الحلُّ مَيْتَتُهُ". وقيل: لا يحل منه إلا ما كان موته بسبب ادمي، أو جزر الماء، أو قذفه، أو نضوبه، ولا يحل الطافي لحديث: "ما ألقاه البحرُ أو جزَرَ عَنْهُ فكُلُوا. وما مات فيه فطَفَا فلا تأكُلُوهُ" أخرجه أحمد وأبو داود من حديث جابر، وهو خاص فيخص به عموم الحديثين. وأجيب عنه: بأنه حديث ضعيف باتفاق أئمة الحديث.
قال النووي: حديث جابر لا يجوز الاحتجاج به لو لم يعارضه شيء كيف وهو معارض اهـ. فلا يخص به العام، ولأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أكل من العنبرة التي قذفها البحر لأصحاب السرية، ولم يسأل بأي سبب كان موتها، كما هو معروف في كتب الحديث والسيرة.
والكبد حلال بالإجماع، وكذلك مثلها الطحال فإنه حلال، إلا أنه في البحر قال: يكره لحديث علي رضي الله عنه: "إنه لقمه الشيطان" أي إنه يسر بأكله، إلا أنه حديث لا يعرف من أخرجه.
12- وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إذا وقَعَ الذُّبَابُ في شراب أحدكم" وهو كما أسلفناه من أن الإضافة ملغاة كما في قوله: "إذا ولغَ الكلبُ في إناء أحدكُم" وفي لفظ: "في طعام أحدكُم" "فَلْيَغْمسْهُ" زاد في ورواية البخاري: "كلُّهُ" ، تأكيداً. وفي لفظ أبي داود: "فامْقِلوه" ، وفي لفظ ابن السكن: "فليمقله" "ثمَّ لينْزِعْهُ" فيه: أنه يمهل في نزعه بعد غمسه "فإنَّ في أحد جناحَيْهِ داءً وفي الاخر شفاءً" هذا تعليل للأمر بغمسه. وفي لفظ البخاري: "ثم ليطرحه فإن في أحد جنايه شفاء وفي الاخر داء" ، وفي لفظ: "سما" (أخرجه البخاري وأبو داود. وزاد: "وإنّهُ يَتّقِي بجناحهِ الذي(1/26)
فيه الداء". وعند أحمد وابن ماجه: "أنه يقدم السم ويؤخر الشفاء"والحديث دليل ظاهر على(1/27)
جواز قتله دفعاً لضرره، وأنه يطرح ولا يؤكل، وأن الذباب إذا مات في مائع فإنه لا ينجسه؛ لأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أمر بغمسه، ومعلوم أنه يموت من ذلك، ولاسيما إذا كان الطعام حاراً، فلو كان ينجسه لكان أمراً بإفساد الطعام، وهو صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إنما أمر بإصلاحه. ثم عدى هذا الحكم إلى كل ما لا نفس له سائلة كالنحلة والزنبور والعنكبوت وأشباه ذلك؛ إذ الحكم يعم بعموم علته، وينتفي بانتفاء سببه، فلما كان سبب التنجيس هو الدم المحتقن في الحيوان بموته، وكان ذلك مفقوداً فيما لا دم له سائل، انتفى الحكم بالتنجس لانتفاء علته، والأمر بغمسه ليخرج الشفاء منه كما خرج الداء منه.
وقد علم أن في الذباب قوة سمية كما يدل عليها الورم والحكة الحاصلة من لسعه وهي بمنزلة السلاح، فإذا وقع فيما يؤذيه اتقاه بسلاحه، كما قال صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "فإنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء" أمر صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أن تقابل تلك السمية بما أودعه الله سبحانه وتعالى فيه من الشفاء في جناحه الآخر بغمسه كله. فتقابل المادة السمية المادة النافعة فيزول ضررها، وقد ذكر غير واحد من الأطباء: أن لسعة العقرب والزنبور إذا دلك موضعها بالذباب نفع منه نفعاً بيناً ويسكنها، وما ذلك إلا للمادة التي فيه من الشفاء.
13- ( وعن أبي واقد) بقاف مكسورة ودال مهملة اسمه الحارث بن عوف من أقوال: قيل إنه شهد بدراً، وقيل إنه من مسلمة الفتح، والأول أصح. مات سنة ثمان أو خمس وستين بمكة (الليثي) بمثناة تحتية نسبة إلى ليث لأنه من بني عامر بن ليث (رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "ما قُطعَ من البهيمة" في القاموس البهيمة كل ذات أربع قوائم ولو في الماء، وكل حي لا يميز. والبهيمة أولاد الضأن والمعز، ولعل المراد هنا الأخير أو الأول لما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى "وهي حيّةٌ فَهُوَ" أي المقطوع "ميت" أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه واللفظ له)، أي قال إنه حسن، وقد عرف معنى الحسن في تعريف الصحيح فيما سلف واللفظ للترمذي.
والحديث قد روي من أربع طرق عن أربعة من الصحابة: عن أبي سعيد، وأبي واقد، وابن عمر، وتميم الداري. وحديث أبي واقد هذا رواه أيضاً أحمد(1/28)
والحاكم بلفظ: قدم رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم المدينة، وبها ناس يعمدون إلى أليات الغنم وأسنمة الإبل فقال: "ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميت".
والحديث دليل على أن ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميت.
وسبب الحديث دال على أنه أريد بالبهيمة ذات الأربع وهو المعنى الأول لذكره الإبل فيه، لا المعنى الأخير الذي ذكره القاموس، لكنه مخصوص بما أبين من السمك ولو كانت ذات أربع، أو يراد به المعنى الأوسط وهو كل حي لا يميز، فيخص منه الجراد، والسمك، وما أبين مما لا دم له. وقد أفاد قوله "فهو ميت" أنه لا بد أن يحل المقطوع الحياة، لأن الميت هو ما من شأنه أن يكون حياً.(1/29)
باب الآنية
الآنية جمع إناء وهو معروف؛ وإنما بوب لها، لأنّ الشارع قد نهى عن بعضها، فقد تعلّقت بها أحكام.
1- (عن حذيفة) أي أروي، أو أذكر، كما سلف، وحذيفة بضم الحاء المهملة فذال معجمة فمثناة تحتية ساكنة ففاء، هو أبو عبد الله حذيفة (بن اليمان) بفتح المثناة التحتية وتخفيف الميم اخره نون، وحذيفة وأبوه صحابيان جليلان شهدا أحداً، وحذيفة صاحب سرّ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وروى عنه جماعة من الصحابة، والتابعين. ومات بالمدائن سنة خمس، أو ست وثلاثين بعد قتل عثمان بأربعين ليلة (قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لا تشربوا في انية الذَّهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافهما" جمع صحفة. قال الكشاف والكسائي: الصحفة هي ما تشبع الخمسة "فإنها" أي انية الذهب والفضة وصحافهما "لهم" أي للمشركين، وإن لم يذكروا فهم معلومون "في الدنيا" إخبار عما هم عليه، لا إخبار بحلها لهم، "ولكم في الاخرة" متفق عليه بين الشيخين.
والحديث دليل على تحريم الأكل والشرب في انية الذهب والفضة، وصحافهما، سواء كان الإناء خالصاً ذهباً أو مخلوطاً بالفضة، إذ هو مما يشمله أنه إناء ذهب وفضة. قال النووي: إنه انعقد الإجماع على تحريم الأكل والشرب فيهما.
واختلف في العلة:
فقيل: للخيلاء.
وقيل: بل لكونه ذهباً وفضة.
واختلفوا في الإناء المطلي بهما: هل يلحق بهما في التحريم، أم لا؟
فقيل: إن كان يمكن فصلهما حرم إجماعاً؛ لأنه مستعمل للذهب والفضة، وإن كان لا يمكن فصلهما لا يحرم. وأما الإناء المضبب بهما، فإنه يجوز الأكل والشرب فيه إجماعاً.
وهذا في الأكل والشرب فيما ذكر لا خلاف فيه، فأما غيرهما من سائر الاستعمالات، ففيه الخلاف:
قيل: لا يحرم: لأن النص لم يرد إلا في الأكل والشرب. وقيل: يحرم سائر الاستعمالات إجماعاً.
ونازع في الأخير بعض المتأخرين وقال: النص ورد في الأكل والشرب لا غير، وإلحاق سائر الاستعمالات بهما قياساً لا تتم فيه شرائط القياس.
والحقّ ما ذهب إليه القائل: بعدم تحريم غير الأكل والشرب فيهما؛ إذ هو الثابت بالنص، ودعوى الإجماع غير صحيحة، وهذا من شؤم تبديل اللفظ النبوي بغيره؛ فإنه ورد بتحريم الأكل والشرب فقط، فعدلوا عن عبارته إلى الاستعمال، وهجروا العبارة النبوية، وجاءوا بلفظ(1/29)
عام من تلقاء أنفسهم، ولها نظائر في عباراتهم. ولهذا ذكر المصنف هذا الحديث هنا؛ لإفادة تحريم الوضوء في انية الذهب والفضة؛ لأنه استعمال لهما على مذهبه في تحريم ذلك، وإلاّ فباب هذا الحديث باب الأطعمة والأشربة.
ثم هل يلحق بالذهب والفضة نفائس الأحجار كالياقوت والجواهر؟ فيه خلاف، والأظهر عدم إلحاقه، وجوازه على أصل الإباحة؛ لعدم الدليل الناقل عنها.
2- (وعن أم سلمة رضي الله عنها) هي أم المؤمنين زوج النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، اسمها هند بنت أبي أمية، كانت تحت أبي سلمة بن عبد الأسد، هاجرت إلى أرض الحبشة مع زوجها، وتوفي عنها في المدينة بعد عودتهما من الحبشة، وتزوجها النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في المدينة سنة أربع من الهجرة، وتوفيت سنة تسع وخمسين، وقيل: اثنتين وستين، ودفنت بالبقيع، وعمرها أربع وثمانون سنة (قالت: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "الذي يشربُ في إناء الفضَّة" هكذا عند الشيخين. وانفرد مسلم في ورواية أخرى بقوله: "في إناء الفضة والذهب" "إنما يجرجر" بضم المثناة التحتية وجيم فراء وجيم مكسورة. والجرجرة: صوت وقوع الماء في الجوف، وصوت البعير عند الجرة، وجعل الشرب والجرع جرجرة "في بطنه نار جهنم." متفق عليه) بين الشيخين.
قال الزمخشري: يروى برفع النار أي: على أنها فاعل مجازاً، وإلاّ فنار جهنم على الحقيقة لا تجرجر في بطنه، إنما جعل جرع الإنسان للماء في هذه الأواني المنهي عنها، واستحقاق العقاب على استعمالها: كجرجرة نار جهنم في جوفه مجازاً، هكذا على ورواية الرفع. وذكر الفعل يعني يجرجر وإن كان فاعله النار وهي مؤنثة للفصل بينها وبين فعلها، ولأنّ تأنيثها غير حقيقي، والأكثر على نصب نار جهنم، وفاعل الجرجرة هو الشارب والنار مفعوله، والمعنى: كأنما يجرع نار جهنم من باب: - {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً} -. قال النووي: والنصب هو الصحيح المشهور الذي عليه الشارحون وأهل العرف واللغة، وجزم به الأزهري. وجهنم عجمية لا تنصرف للتأنيث والعلمية؛ إذ هي علم لطبقة من طبقات النار، أعاذنا الله منها، سميت بذلك لبعد قعرها، وقيل: لغلظ أمرها في العذاب.
والحديث يدل على ما دل عليه حديث حذيفة الأول.
3- (وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إذا دبغَ الإهابُ" بزنة كتاب هو الجلد، أو ما لم يدبغ كما في القاموس، ومثله في النهآية "فقد طهر" بفتح الطاء والهاء ويجوز ضمها كما يفيده القاموس (أخرجه مسلم) بهذا اللفظ (وعند الأربعة) وهم أهل السنن: "أيُّما إهابٍ دُبغ" تمامه "فقد طهر". والحديث أخرجه الخمسة، إنما اختلف لفظه، وقد روى بألفاظ، وذكر له سبب، وهو: أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مر بشاة ميتة لميمونة فقال: "ألا استمتعتُم بإهابها فإنَّ دباغ الأديم طَهورٌ" ، وروى البخاري: من حديث سودة قالت: "ماتت لَنَا شاةٌ فدبغنا مَسْكَها ثُمَّ ما زلنا ننْتبذُ فيه حتى صار شَناً".
والحديث دليل على أنّ الدباغ، مطهر لجلد ميتة كلّ حيوان، كما يفيده عموم كلمة "أيما"، وأنه يطهر باطنه وظاهره.
وفي المسألة سبعة أقوال:
الأول: أنّ الدباغ يطهر جلد الميتة(1/30)
باطنه وظاهره، ولا يخص منه شيء، عملاً بظاهر حديث ابن عباس وما في معناه. وهذا مروي عن علي عليه السلام، وابن مسعود.
الثاني من الأقوال: أنه لا يطهر الدباغ شيئاً، وهو مذهب جماهير الهادوية، ويروى عن جماعة من الصحابة مستدلين بحديث الشافعي الذي أخرجه أحمد، والبخاري في تاريخه، والأربعة، والدارقطني، والبيهقي، وابن حبان: عن عبد الله بن عكيم قال: "أتانا كتاب رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قبل موته: أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب" وفي ورواية الشافعي وأحمد وأبي داود: قبل موته بشهر، وفي رواية: بشهر، أو شهرين. قال الترمذي: حسن. وكان أحمد يذهب إليه ويقول: هذا آخر الأمرين، ثم تركه، قالوا أي: الهادوية: وهذا الحديث ناسخ لحديث ابن عباس لدلالته على تحريم الانتفاع من الميتة بإهابها وعصبها.
وأجيب عنه بأجوبة.
الأول: أنه حديث مضطرب في سنده، فإنه روى تارة عن كتاب النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وتارة عن مشايخ من جهينة عمن قرأ كتاب النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم. ومضطرب أيضاً في متنه، فروى من غير تقييد في ورواية الأكثر، وروى بالتقييد بشهر، أو شهرين، أو أربعين يوماً، أو ثلاثة أيام، ثم إنه معلّ أيضاً بالإرسال؛ فإنه لم يسمعه عبد الله بن عكيم منه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، ومعلّ بالانقطاع؛ لأنه لم يسمعه عبد الرحمن بن أبي ليلى من ابن عكيم، ولذلك ترك أحمد بن حنبل القول به آخراً، وكان يذهب إليه أولاً، كما قال عنه الترمذي.
وثانياً: بأنه لا يقوى على النسخ؛ لأن حديث الدباغ أصح؛ فإنه مما اتفق عليه الشيخان. وأخرج مسلم، وروى من طرق متعددة في معناه عدة أحاديث عن جماعة من الصحابة، فعن ابن عباس حديثان، وعن أم سلمة ثلاثة، وعن أنس حديثان، وعن سلمة بن المحبق، وعائشة، والمغيرة، وأبي أمامة، وابن مسعود. ولأن الناسخ لا بد من تحقيق تأخره، ولا دليل على تأخر حديث ابن عكيم، ورواية التاريخ فيه بشهر أو شهرين معلة، فلا تقوم بها حجة على النسخ. على أنها لو كانت ورواية التاريخ صحيحة، ما دلت على أنه آخر الأمرين جزماً.
ولا يقال: فإذا لم يتم النسخ تعارض الحديثان، حديث عبد الله بن عكيم وحديث ابن عباس ومن معه، ومع التعارض يرجع إلى الترجيح أو الوقف؛ لأنا نقول: لا تعارض إلا مع الاستواء وهو مفقود، كما عرفت من صحة حديث ابن عباس، وكثرة من معه من الرواة، وعدم ذلك في حديث ابن عكيم.
وثالثاً: بأن الإهاب كما عرفت عن القاموس والنهآية: اسم لما لم يدبغ في أحد القولين. وقال النضر بن شميل: الإهاب لما لم يدبغ، وبعد الدبغ يقال له: شن وقربة، وبه جزم الجوهري قيل: فلما احتمل الأمرين، وورد الحديثان في صورة المتعارضين، جمعنا بينهما: بأنه نهى عن الانتفاع بالإهاب ما لم يدبغ، فإذا دبغ لم يسم إهاباً، فلا يدخل تحت النهي، وهو حسن.
الثالث: يطهر جلد ميتة المأكول لا غيره، لكن يرده عموم "أيما إهاب" .
الرابع: يطهر الجميع إلاّ الخنزير؛ فإنه لا جلد له وهو مذهب أبي حنيفة.
الخامس: يطهر إلاّ الخنزير لكن، لا لكونه لا جلد له، بل لكونه رجساً لقوله تعالى: {- فَإِنَّهُ رِجْسٌ - والضمير للخنزير، فقد حكم برجسيته كله، والكلب مقيس عليه بجامع النجاسة، وهو قول الشافعي.
السادس: يطهر الجميع، لكن ظاهره دون باطنه، فيستعمل في اليابسات دون المائعات، ويصلى عليه ولا يصلى فيه، وهو مروي عن مالك جمعاً منه بين الأحاديث(1/31)
لما تعارضت.
السابع ينتفع بجلود الميتة، وإن لم تدبغ ظاهراً وباطناً؛ لما أخرجه البخاري من ورواية ابن عباس أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مر بشاة ميتة، فقال: "هلا انتفعتم بإهابه؟ قالوا: إنها ميتة، قال: إنما حرم أكلها" وهو رأي الزهري. وأجيب عنه: بأنه مطلق قيدته أحاديث الدباغ التي سلفت.
4- (وعن سلمةَ بن المحبِّق رضي الله عنه) هو بضم الميم وفتح الحاء المهملة وتشديد الموحدة المكسورة والقاف. وسلمة صحابي يعد في البصريين، روى عنه ابنه سنان. ولسنان أيضاً صحبة (قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "دباغ جُلود الميتة طهورها" صححه ابن حبان) أي أخرجه وصححه، وقد أخرج غير ابن حبان هذا الحديث، لكن بألفاظ: عند أحمد، وأبي داود، والنسائي، والبيهقي عن سلمة بلفظ: "دباغ الأديم: ذكاته"، وفي لفظ: "دباغها، ذكاتها" ، وفي اخر: "دباغها: طهورها" وفي لفظ: "ذكاتها: دباغها" ، وفي لفظ اخر: "ذكاة الأديم: دباغه" . وفي الباب أحاديث بمعناه، وهو يدلّ على ما دلّ عليه حديث ابن عباس. وفي تشبيه الدباغ بالذكاة: إعلام بأنّ الدباغ في التطهير بمنزلة تذكية الشاة في الإحلال؛ لأن الذبح يطهرها ويحل أكلها.
5- (وعن ميمونة رضي الله عنه) هي أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث الهلالية، كان اسمها برة، فسماها رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ميمونة، تزوجها صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في شهر ذي القعدة سنة سبع في عمرة القضية، وكانت وفاتها سنة إحدى وستين، وقيل: إحدى وخمسين، وقيل: ست وستين، وقيل: غير ذلك، وهي خالة ابن عباس، ولم يتزوج صلى الله تعالى عليه واله وسلم بعدها (قالت: مر رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بشاة يجرُّونها فقال: "لو أخذْتُم إهَابَهَا؟" فقالوا: إنها ميتةٌ، فقال: "يُطهرها الماءُ والقَرَظُ" أخرجه أبو داود والنسائي)، وفي لفظ عند الدارقطني عن ابن عباس: "أليس في الماء والقرظ ما يطهرها"، وأما رواية: "أليس في الشث والقرظ ما يطهرها"، فقال النووي: إنه بهذا اللفظ باطل لا أصل له. وقال في شرح مسلم: يجوز الدباغ بكل شيء ينشف فضلات الجلد ويطيبه، ويمنع من ورود الفساد عليه، كالشث، والقرظ، وقشور الرمان، وغير ذلك من الأدوية الطاهرة، ولا يحصل بالشمس إلا عند الحنفية، ولا بالتراب، والرماد، والملح على الأصح.
6- (وعن أبي ثعلبة) بفتح المثلثة بعدها عين مهملة ساكنة فلام مفتوحة فموحدة (الخشني رضي الله عنه) بضم الخاء المعجمة فشين معجمة مفتوحة فنون، نسبة إلى خشين بن النمر من قضاعة حذفت ياؤه عند النسبة، واسمه جرهم بضم الجيم بعدها راء ساكنة فهاء مضمومة، ابن ناشب بالنون وبعد الألف شين معجمة اخره موحدة، اشتهر بلقبه، بايع النبي(1/32)
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بيعة الرضوان، وضرب له بسهم يوم خيبر، وأرسله إلى قومه فأسلموا، نزل بالشام ومات بها سنة خمس وسبعين، وقيل: غير ذلك (قال: قلت: يا رسول الله إنا بأرض قوم أهل كتاب أفنأكل في انيتهم؟ قال: "لا تأكلوا فيها إلا أن لا تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها" . متفق عليه) بين الشيخين.
استدل به على نجاسة انية أهل الكتاب، وهل هو لنجاسة رطوبتهم، أو لجواز أكلهم الخنزير، وشربهم الخمر، أو للكراهة؟
ذهب إلى الأول القائلون بنجاسة رطوبة الكفار، وهم الهادوية، والقاسمية. واستدلوا أيضاً بظاهر قوله تعالى: {- إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ –{والكتابي يسمى مشركاً؛ إذ قالوا: المسيح ابن الله، وعزير ابن الله.
وذهب غيرهم من أهل البيت كالمؤيد بالله وغيره، وكذلك الشافعي: إلى طهارة رطوبتهم، وهو الحق؛ لقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ} - ولأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم توضأ من مزادة مشركة، ولحديث جابر عند أحمد، وأبي داود: "كنا نغزو مع رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فنصيب من آنية المشركين وأسقيتهم، ولا يعيب ذلك علينا".
قلنا: في غيره من الأدلة غنية عنه. فمنها ما أخرجه أحمد من حديث أنس: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم دعاه يهودي إلى خبز شعير وإهالة سنخة فأكل منها" بفتح السين وسكون النون المعجمة فخاء مفتوحة أي متغيرة.
قال في البحر: لو حرمت رطوبتهم لاستفاض بين الصحابة نقل توقيهم لها لقلة المسلمين حينئذ، مع كثرة استعمالاتهم التي لا يخلو منها ملبوس ومطعوم، والعادة في مثل ذلك تقضي بالاستفاضة. قال: وحديث أبي ثعلبة: إما محمول على كراهة الأكل في آنيتهم للاستقذار، لا لكونها نجسة؛ إذ لو كانت نجسة لم يجعله مشروطاً بعدم وجدان غيرها، إذ الإناء المتنجس بعد إزالة نجاسته هو وما لم يتنجس على سواء، أو لسد ذريعة المحرم، أو لأنها نجسة لما يطبخ فيها، لا لرطوبتهم كما تفيده ورواية أبي داود وأحمد بلفظ: "إنا نجاور أهل الكتاب وهم يطبخون في قدورهم الخنزير ويشربون في آنيتهم الخمر، فقال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إن وجدتم غيرها" الحديث، وحديثه الأول مطلق، وهذا مقيد بانية يطبخ فيها ما ذكر ويشرب، فيحمل المطلق على المقيد.
وأما الآية: فالنجس لغة المستقذر، فهو أعم من المعنى الشرعي، وقيل: معناه ذو نجس؛ لأن معهم الشرك الذي هو بمنزلة النجس، ولأنهم لا يتطهرون، ولا يغتسلون، ولا يتجنبون النجاسات فهي ملابسة لهم، وبهذا يتم الجمع بين هذا، وبين آية المائدة، والأحاديث الموافقة لحكمها، وآية المائدة أصرح في المراد.
7- (وعن عمران بن حصين) بالمهملتين تصغير حصن، وعمران هو أبو نجيد بالجيم تصغير نجد الخزاعي الكعبي، أسلم عام خيبر، وسكن البصرة إلى أن مات بها سنة اثنتين أو ثلاث وخمسين، وكان من فضلاء الصحابة، وفقهائهم (رضي الله عنه: أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وأصحابه توضئوا من مزادة) بفتح الميم بعدها زاي ثم ألف وبعد الألف مهملة وهي الراوية، ولا تكون إلا من جلدين تقام بثالث بينهما لتتسع، كما في القاموس (امرأة مشركة. متفق عليه) بين الشيخين (في حديث طويل) أخرجه البخاري بألفاظ فيها: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بعث علياً،(1/33)
واخر معه في بعض أسفاره صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وقد فقدوا الماء"، فقال: "اذهبا فابتغيا الماء . فانطلقا، فتلقيا امرأة بين مزادتين أو سطيحتين من ماء على بعير لها. فقالا لها: أين الماء؟ قالت: عهدي بالماء أمس هذه الساعة، قالا انطلقي إلى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إلى أن قال: ودعا النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بإناء، ففرغ فيه من أفواه المزادتين أو السطيحتين، ونودي في الناس اسقوا، واستسقوا، فسقى من سقى، واستقى من شاء" الحديث، وفيه زيادة ومعجزات نبوية.
والمراد أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم توضأ من مزادة المشركة، وهو دليل لما سلف في شرح حديث أبي ثعلبة من طهارة انية المشركين، ويدل أيضاً على طهور جلد الميتة بالدباغ؛ لأن المزادتين من جلود ذبائح المشركين وذبائحهم ميتة، ويدل على طهارة رطوبة المشرك؛ فإن المرأة المشركة قد باشرت الماء وهو دون القلتين؛ فإنهم صرحوا بأنه لا يحمل الجمل قدر القلتين. ومن يقول: إن رطوبتهم نجسة، ويقول: لا ينجس الماء إلا ما غيره، فالحديث يدل على ذلك.
8- (وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن قدح النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم انكسر، فاتخذ مكان الشعب) بفتح الشين المعجمة وسكون المهملة لفظ مشترك بين معان. المراد منها هنا: الصدع والشق (سلسلة من فضة) في القاموس سلسلة بفتح أوله وسكون اللام وفتح السين الثانية منها: إيصال الشيء بالشيء، أو سلسلة بكسر أوله: دائر من حديد ونحوه، والظاهر أن المراد الأول، فيقرأ بفتح أوله (أخرجه البخاري(.
وهو دليل على جواز تضبيب الإناء بالفضة، ولا خلاف في جوازه كما سلف. إلا أنه هنا قد اختلف في واضع السلسلة، فحكى البيهقي عن بعضهم: أن الذي جعل السلسلة هو أنس بن مالك، وجزم به ابن الصلاح، وقال أيضاً: فيه نظر؛ لأن في البخاري من حديث عاصم الأحول: "رأيت قدح النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عند أنس بن مالك، فكان قد انصدع، فسلسله بفضة".
وقال ابن سيرين: إنه كان فيه حلقة من حديد، فأراد أنس أن يجعل مكانها حلقة من ذهب أو فضة، فقال له أبو طلحة: "لا تغيرن شيئاً صنعه رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فتركه" هذا لفظ البخاري. وهو يحتمل أن يكون الضمير في قوله فسلسله بفضة عائد إلى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، ويحتمل أن يكون عائداً إلى أنس كما قال البيهقي، إلا أن اخر الحديث يدل للأول، وأن القدح لم يتغير عما كان عليه على عهد رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم. قلت: والسلسلة غير الحلقة التي أراد أنس تغييرها، فالظاهر: أن قوله فسلسله هو النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وهو حجة لما ذكره.(1/34)
باب إزالة النجاسة وبيانها.
أي بيان النجاسة ومطهراتها
1- (وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عن الخمر) أي بعد تحريمها (تتخذ خلاً. فقال: "لا". أخرجه مسلم والترمذي وقال: حسن صحيح) فسر الاتخاذ: بالعلاج لها، وقد صارت خمراً، ومثله حديث أبي طلحة، فإنها لما حرمت الخمر سأل أبو طلحة النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عن خمر عنده لأيتام: هل يخللها؟ فأمره بإراقتها. أخرجه(1/34)
أبو داود والترمذي.
والعمل بالحديث هو رأي الهادوية والشافعي لدلالة الحديث على ذلك، فلو خللها لم تحل، ولم تطهر، وظاهره بأي علاج كان، ولو بنقلها من الظل إلى الشمس أو عكسه، وقيل: تطهر وتحل. وأما إذا تخللت بنفسها من دون علاج فإنها طاهرة حلال. إلا أنه قال في البحر: إن أكثر أصحابنا يقولون: إنها لا تطهر، وإن تخللت بنفسها من غير علاج.
واعلم أنّ للعلماء في خل الخمر ثلاثة أقوال:
الأول: أنها إذا تخللت الخمر بغير قصد حل خلها، وإذا خللت بالقصد حرم خلها.
الثاني: يحرم كل خل تولد عن خمر مطلقاً.
الثالث: أن الخل حلال مع تولده من الخمر سواء قصد أم لا، إلا أن فاعلها اثم إن تركها بعد أن صارت خمراً، عاص لله مجروح العدالة؛ لعدم إراقته لها حال خمريتها، فإنه واجب كما دل له حديث أبي طلحة. لكن قال في الشرح: يحل الخل الكائن عن الخمر، فإنه خل لغة وشرعاً.
وقيل: وجعل التخلل أيضاً من دون تخمر في صور. منها: إذا صب في إناء معتق بالخل عصير عنب فإنه يتخلل ولا يصير خمراً. ومنها: إذا جردت حبات العنب من عناقيدها، وملىء منها الإناء، وختم رأس الإناء بطين أو نحوه فإنه يتخلل ولا يصير خمراً. ومنها: إذا عصر أصل العنب، ثم ألقي عليه قبل أن يتخلل مثلاه خلاً صادقاً، فإنه يتخلل، ولا يصير خمراً أصلاً.
2- (وعنه) أي: عن أنس بن مالك (قال: لما كان يوم خيبر أمر رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أبا طلحة فنادى :" إن الله ورسوله ينهيانكم" بتثنية الضمير لله تعالى ولرسوله.
وقد ثبت أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال للخطيب الذي قال في خطبته: من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما الحديث: "بئس خطيب القوم أنت" لجمعه بين ضمير الله تعالى وضمير رسوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وقال: قل: "ومن يعص الله ورسوله" . فالواقع هنا يعارضه، وقد وقع أيضاً في كلامه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم التثنية بلفظ: " أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما" .
وأجيب بأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم نهى الخطيب؛ لأن مقام الخطابة يقتضي البسط والإيضاح، فأرشده إلى أنه يأتي بالاسم الظاهر، لا بالضمير، وأنه ليس العتب عليه من حيث جمعه بين ضميره تعالى وضمير رسوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم. والثاني أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم له أن يجمع بين الضميرين وليس لغيره لعلمه بجلال ربه وعظمة الله.
"عن لحوم الحمر الأهلية" كما يأتي "فإنها رجس" متفق عليه) وحديث أنس في البخاري: "أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم جاءه جاء فقال: أكلت الحمر، ثم جاءه جاء فقال: أكلت الحمر، ثم جاءه جاء فقال: أفنيت الحمر، فأمر منادياً ينادي :" إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية؛ فإنها رجس، فأكفئت القدور، وإنها لتفور بالحمر" .
والنهي عن لحوم الحمر الأهلية ثابت في حديث علي عليه السلام، وابن عمر، وجابر بن عبد الله، وابن أبي أوفى، والبراء، وأبي ثعلبة، وأبي هريرة، والعرباض بن سارية، وخالد بن الوليد، وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، والمقدام بن معديكرب، وابن عباس، وكلها ثابتة في دواوين الإسلام، وقد ذكر من أخرجها في الشرح. وهي دالة على تحريم أكل لحوم الحمر الأهلية، وتحريمها هو قول الجماهير من الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم؛ لهذه الأدلة.
وذهب ابن عباس إلى عدم تحريم الحمر الأهلية؛ وفي(1/35)
البخاري عنه: لا أدري أنهي عنها من أجل أنها كانت حمولة الناس، أو حرمت؟ ولا يخفى ضعف هذا القول؛ لأن الأصل في النهي التحريم وإن جهلنا علته، واستدل ابن عباس بعموم قوله تعالى: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} - الآية، فإنه تلاها جواباً لمن سأله عن تحريمها، ولحديث أبي داود: "أنه جاء إلى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم غالب بن أبجر فقال: يا رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أصابتنا سنة، ولم يكن في مالي ما أطعم أهلي إلا سمان حمر، وإنك حرمت لحوم الحمر الأهلية، فقال :" أطعم أهلك من سمين حمرك، فإنما حرمتها من أجل جوال القرية" يريد التي تأكل الجلة وهي العذرة.
وأجيب: بأن الآية خصت عمومها الأحاديث الصحيحة المتقدمة، وبأن حديث أبي داود مضطرب مختلف فيه اختلافاً كثيراً، وإن صح حمل على الأكل منها عند الضرورة، كما دل عليه قوله: أصابتنا سنة، أي شدة وحاجة.
وذكر المصنف لهذين الحديثين في باب النجاسات وتعدادها مبني على أن التحريم من لازمه التنجيس، وهو قول الأكثر، وفيه خلاف.
والحق: أن الأصل في الأعيان الطهارة، وأن التحريم لا يلازم النجاسة، فإن الحشيشة محرمة طاهرة، وكذا المخدرات والسموم القاتلة لا دليل على نجاستها. وأما النجاسة فيلازمها التحريم، فكل نَجس محرم ولا عكس؛ وذلك لأن الحكم في النجاسة هو المنع عن ملابستها على كل حال، فالحكم بنجاسة العين حكم بتحريمها، بخلاف الحكم بالتحريم؛ فإنه يحرم لبس الحرير والذهب، وهما طاهران ضرورة شرعية وإجماعاً.
فإذا عرفت هذا فتحريم الحمر والخمر الذي دلت عليه النصوص لا يلزم منه نجاستهما، بل لا بد من دليل اخر عليه، وإلا بقيتا على الأصل المتفق عليه من الطهارة. فمن ادعى خلافه فالدليل عليه، ولذا نقول: لا حاجة إلى إتيان المصنف بحديث عمرو بن خارجة الاتي قريباً مستدلاً به على طهارة لعاب الراحلة. وأما الميتة فلولا أنه ورد: "دباغ الأديم طهوره" "وأيما إهاب دبغ فقد طهر" لقلنا بطهارتها؛ إذ الوارد في القران تحريم أكلها، لكن حكمنا بالنجاسة لما قام عليها دليل غير دليل تحريمها.
3- (وعن عمرو بن خارجة) هو صحابي أنصاري عداده في أهل الشام، وكان حليفاً لأبي سفيان بن حرب، وهو الذي روى عنه عبد الرحمن بن غنم: أنه سمع رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقول في خطبته: "إنَّ الله قد أعطَى كلَّ ذي حق حقه فلا وصيَّة لوارث" (قال: خطبنا رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بمنىً وهو على راحلته) بالحاء المهملة وهي من الإبل الصالحة لأن ترحل (ولعابها) بضم اللام وعين مهملة وبعد الألف موحدة، هو: ما سال من الفم (يسيلُ على كتفي. أخرجه أحمد، والترمذي وصححه(.
والحديث: دليل على أن لعاب ما يؤكل لحمه طاهر، قيل: وهو إجماع، وهو أيضاً الأصل، فذكر الحديث بيان للأصل، ثم هذا مبني على أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم علم سيلان اللعاب عليه ليكون تقريراً.
4- (وعن عائشة رضي الله عنها) هي أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق. أمها أم رومان ابنة عامر. خطبها النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بمكة، وتزوجها في شوال سنة عشرة من النبوة، وهي بنت ست سنين، وعرس بها أي دخل بها في المدينة في شوال سنة ثنتين من الهجرة وقيل: غير ذلك، وهي بنت تسع سنين من غير اعتبار الكبر ومات عنها ولها ثماني عشرة(1/36)
سنة، ولم يتزوج بكراً غيرها، واستأذنت النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في الكنية، فقال لها: تكني بابن أختك عبد الله بن الزبير. وكانت فقيهة عالمة فصيحة فاضلة، كثيرة الحديث عن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، عارفة بأيام العرب وأشعارها. روى عنها جماعة من الصحابة والتابعين، نزلت براءتها من السماء في عشر ايات في سورة النور. توفي رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في بيتها، ودفن فيه، وماتت بالمدينة سنة سبع وخمسين، وقيل: سنة ثمان وخمسين، ليلة الثلاثاء لسبع عشرة خلت من رمضان، ودفنت بالبقيع، وصلى عليها أبو هريرة، وكان خليفة مروان في المدينة.
( قالت: "كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يغسلُ المنيَّ، ثم يخرُجُ إلى الصَّلاة في ذلك الثّوب، وأنا أنظرُ إلى أثر الغسل فيه" متفق عليه) وأخرجه البخاري أيضاً من حديث عائشة بألفاظ مختلفة: وأنها كانت تغسل المني من ثوبه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وفي بعضها: "وأثَرُ الغسل في ثوبهِ بقع الماء" وفي لفظ: "فيخرج إلى الصلاة وإن بقع الماء في ثوبه" وفي لفظ: "وأثر الغسل فيه بقع الماء" وفي لفظ: "ثم أراه فيه بقعة أو بقعاً". إلا أنه قد قال البزار: إن حديث عائشة هذا مداره على سليمان بن يسار، ولم يسمع من عائشة، وسبقه إلى هذا الشافعي في الأم حكآية عن غيره. ورد ما قاله البزار بأن تصحيح البخاري له، وموافقة مسلم له على تصحيحه مفيد لصحة سماع سليمان من عائشة، وأن رفعه صحيح.
وبهذا الحديث استدل من قال: بنجاسة المني وهم الهادوية، والحنفية، ومالك، ورواية عن أحمد قالوا: لأن الغسل لا يكون إلا عن نجس، وقياساً على غيره من فضلات البدن المستقذرة من البول والغائط؛ لانصباب جميعها إلى مقر وانحلالها عن الغذاء؛ ولأن الأحداث الموجبة للطهارة نجسة والمني منها؛ ولأنه يجري من مجرى البول، فتعين غسله بالماء كغيره من النجاسات، وتأولوا ما يأتي مما يفيده قوله: (ولمُسلم) أي عن عائشة ورواية انفرد بلفظها عن البخاري وهي قولها: (لقد كنتُ أفرُكُهُ من ثَوْبِ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فَرْكاً) مصدر تأكيدي يقرر أنها كانت تفركه وتحكه، والفرك: الدلك، يقال: فرك الثوب، إذا دلكه (فيصلي فيه، وفي لفظ له) أي لمسلم عن عائشة: (لقد كنتُ أحُكُهُ) أي المني حال كونه (يابساً بظفري من ثوبه). اختص مسلم بإخراج ورواية الفرك، ولم يخرجها البخاري.
وقد روى الحت والفرك أيضاً البيهقي، والدارقطني، وابن خزيمة، وابن الجوزي، من حديث عائشة، ولفظ البيهقي: "ربما حتته من ثوب رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وهو يصلي" ولفظ الدارقطني، وابن خزيمة: "أنها كانت تحت المني من ثوب رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وهو يصلي"، ولفظ ابن حبان: "لقد رأيتني أفرك المني من ثوب رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وهو يصلي" رجاله رجال الصحيح؛ وقريب من هذا الحديث: حديث ابن عباس عند الدارقطني. والبيهقي، وقال البيهقي بعد إخراجه: ورواه وكيع، وابن أبي ليلى موقوفاً على ابن عباس، وهو الصحيح اهـ. سئل رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عن المني يصيب الثوب فقال: "إنما هو بمنزلة المخاط والبصاق والبزاق وقال: "إنما يكفيك أن تمسحه بخرقة أو إذخرة" .
فالقائلون بنجاسة المني: تأولوا أحاديث الفرك هذه: بأن المراد به الفرك مع غسله بالماء وهو بعيد.
وقالت الشافعية: المني طاهر، واستدلوا على طهارته(1/37)
بهذه الأحاديث قالوا: وأحاديث غسله محمولة على الندب، وليس الغسل دليل النجاسة، فقد يكون لأجل النظافة، وإزالة الدرن، ونحوه. قالوا: وتشبيهه بالبزاق والمخاط دليل على طهارته أيضاً، والأمر بمسحه بخرقة، أو إذخرة لأجل إزالة الدرن المستكره بقاؤه في ثوب المصلى، ولو كان نجساً لما أجزأ مسحه. وأما التشبيه للمني بالفضلات المستقذرة من البول والغائط، كما قاله من قال بنجاسته، فلا قياس مع النص.
قال الأولون: هذه الأحاديث في فركه وحته إنما هي في منيه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وفضلاته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم طاهرة فلا يلحق به غيره.
وأجيب عنه: بأن عائشة أخبرت عن فرك المني من ثوبه، فيحتمل أنه عن جماع، وقد خالطه مني المرأة، فلم يتعين أنه منيه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وحده، والاحتلام على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام غير جائز؛ لأنه من تلاعب الشيطان، ولا سلطان له عليهم ولأنه قيل إنه منيه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وحده، وأنه من فيض الشهوة بعد تقدم أسباب خروجه من ملاعبة ونحوها، وأنه لم يخالطه غيره، فهو محتمل، ولا دليل مع الاحتمال.
وذهبت الحنفية إلى نجاسة المني كغيرهم؛ ولكن قالوا: يطهره الغسل، أو الفرك، أو الإزالة بالإذخر، أو الخرقة عملاً بالحديثين. وبين الفريقين القائلين بالنجاسة، والقائلين بالطهارة مجادلات، ومناظرات، واستدلالات طويلة استوفيناها في حواشي شرح العمدة.
5- (وعن أبي السمح) بفتح السين المهملة وسكون الميم فحاء مهملة، واسمه إياد بكسر الهمزة ومثناة تحتية مخففة بعد الألف دال مهملة، وهو خادم رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم له حديث واحد (قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "يُغْسَلُ من بَوْلِ الجارية" في القاموس: أن الجارية فتية النساء "ويرش منْ بَوْل الغُلام" أخرجه أبو داود، والنسائي، وصححه الحاكم(.
وأخرج الحديث أيضاً البزار، وابن ماجه، وابن خزيمة من حديث أبي السمح قال: "كنت أخدم النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فأتي بحسن أو حسين، فبال على صدره فجئت أغسله، فقال: "يغسل من بول الجارية" ، الحديث. وقد رواه أيضاً أحمد، وأبو داود وابن خزيمة، وابن ماجه، والحاكم من حديث لبابة بنت الحارث قالت: "كان الحسين وذكرت الحديث" وفي لفظه: "يغسل من بول الأنثى، وينضح من بول الذكر" ورواه المذكورون، وابن حبان من حديث علي عليه السلام قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في بول الرضيع: "ينضح بول الغلام، ويغسل بول الجارية" قال قتادة راويه: هذا ما لم يطعما فإذا طعما غسلا. وفي الباب أحاديث مرفوعة وموقوفة، وهي كما قال الحافظ البيهقي: إذا ضم بعضها إلى بعض قويت.
والحديث دليل على الفرق بين بول الغلام وبول الجارية في الحكم، وذلك قبل أن يأكلا الطعام، كما قيده به الراوي، وقد روي مرفوعاً أي بالتقييد بالطعم لهما. وفي صحيح ابن حبان، والمصنف لابن أبي شيبة عن ابن شهاب: "مضت السنة أن يرش بول من لم يأكل الطعام من الصبيان"، والمراد ما لم يحصل لهم الاغتذاء بغير اللبن على الاستقلال؛ وقيل: غير ذلك.
وللعلماء في ذلك ثلاثة مذاهب:
الأول: للهادوية، والحنفية، والمالكية، أنه يجب غسلهما كسائر النجاسات قياساً لبولهما على سائر النجاسات، وتأولوا الأحاديث، وهو تقديم للقياس على النص.
الثاني: وجه للشافعية، وهو أصح الأوجه عندهم: أنه يكفي النضح في بول الغلام، لا الجارية، فكغيرها من(1/38)
النجاسات، عملاً بالأحاديث الواردة بالتفرقة بينهما، وهو قول علي عليه السلام، وعطاء، والحسن، وأحمد، وإسحاق، وغيرهم.
والثالث: يكفي النضح فيهما وهو كلام الأوزاعي. وأما هل بول الصبي طاهر أو نجس؟ فالأكثر: على أنه نجس، وإنما خفف الشارع تطهيره.
واعلم أن النضح كما قاله النووي في شرح مسلم: هو أن الشيء الذي أصابه البول يغمر، ويكاثر بالماء مكاثرة لا تبلغ جريان الماء، وتردده، وتقاطره، بخلاف المكاثرة في غيره؛ فإنه يشترط أن تكون بحيث يجري عليها بعض الماء، ويتقاطر من المحل، وإن لم يشترط عصره، وهذا هو الصحيح المختار، وهو قول إمام الحرمين، والمحققين.
6- )وعن أسماء) بفتح الهمزة وسين مهملة فميم فهمزة ممدودة (بنت أبي بكر رضي الله عنهما) وهي أم عبد الله بن الزبير. أسلمت بمكة قديماً، وبايعت النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وهي أكبر من عائشة بعشر سنين، وماتت بمكة بعد أن قتل ابنها بأقل من شهر، ولها من العمر مائة سنة، وذلك سنة ثلاث وسبعين، ولم تسقط لها سن، ولا تغير لها عقل، وكانت قد عميت.
(أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال في دم الحيض يصيب الثوب: "تحته" ) بالفتح للمثناة الفوقية وضم الحاء المهملة وتشديد المثناة الفوقية، أي تحكه، والمراد بذلك إزالة عينه ( ثمَّ تقرُصُهُ بالماء ) أي الثوب، وهو بفتح المثناة الفوقية وإسكان القاف وضم الراء والصاد المهملتين: أي تدلك ذلك الدم بأطراف أصابعها ليتحلل بذلك ويخرج ما شربه الثوب منه (ثم تَنْضَحُهُ) بفتح الضاد المعجمة: أي تغسله بالماء (ثمَّ تصلي فيه" متفق عليه). ورواه ابن ماجه بلفظ: "اقرصيه بالماء واغسليه" ولابن أبي شيبة بلفظ: "اقرصيه بالماء، واغسليه، وصلي فيه" . وروى أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وابن خزيمة، وابن حبان من حديث أم قيس بنت محصن: "أنها سألت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عن دم الحيض يصيب الثوب فقال: "حكيه بصلع، واغسليه بماء وسدر" قال ابن القطان: إسناده في غآية الصحة، ولا أعلم له علة، وقوله: بصلع بصاد مهملة مفتوحة فلام ساكنة وعين مهملة: الحجر.
والحديث دليل على نجاسة دم الحيض، وعلى وجوب غسله، والمبالغة في إزالته بما ذكر من الحت، والقرص، والنضح لإذهاب أثره، وظاهره: أنه لا يجب غير ذلك، وإن بقي من العين بقية، فلا يجب الإلحاد لإذهابها؛ لعدم ذكره في الحديث أي حديث أسماء، وهو محل البيان؛ ولأنه قد ورد في غيره: "ولا يضرك أثره" .
7- )وعن أبي هريرة قال: قالت خولة) بالخاء المعجمة مفتوحة وسكون الواو وهي بنت يسار، كما أفاده ابن عبد البر في الاستيعاب حيث قال: خولة بنت يسار (يا رسول الله فإن لم يذهب الدم قال: "يكفيك الماءُ ولا يضُرُّكِ أثَرُهُ" . أخرجه الترمذي وسنده ضعيف)، وكذلك أخرجه البيهقي، لأن فيه ابن لهيعة. وقال إبراهيم الحربي: لم نسمع بخولة بنت يسار إلا في هذا الحديث. ورواه الطبراني في الكبير من حديث خولة بنت حكيم بإسناد أضعف من الأول. وأخرجه الدارمي من حديث عائشة موقوفاً عليها: "إذا غسلت المرأة الدم، فلم يذهب فلتغيره بصفرة أو زعفران" رواه أبو داود عنها موقوفاً أيضاً، وتغييره بالصفرة والزعفران ليس لقلع عينه، بل لتغطية لونه تنزهاً عنه.
والحديث دليل لما أشرنا: من أنه لا يجب استعمال الحاد(1/39)
لقطع أثر النجاسة وإزالة عينها. وبه أخذ جماعة من أهل البيت، ومن الحنفية، والشافعية.
واستدل من أوجب الحاد وهم الهادوية: بأن المقصود من الطهارة أن يكون المصلى على أكمل هيئة وأحسن زينة. ولحديث: "اقرصيه وأميطيه عنك بإذخرة" .
قال في الشرح: وقد عرفت أن ما ذكره يفيد المطلوب، وأن القول الأول أظهر، هذا كلامه.
وقد يقال: قد ورد الأمر بالغسل لدم الحيض بالماء والسدر، والسدر من الحواد، والحديث الوارد به في غآية الصحة كما عرفت، فيقيد به ما أطلق في غيره، ويخص استعمال الحاد بدم الحيض، ولا يقاس عليه غيره من النجاسات، وذلك لعدم تحقق شروط القياس، ويحمل حديث: "ولا يضرك أثره" وحديث عائشة، وقولها: فلم يذهب، أي بعد الحاد.
فهذه الأحاديث في هذا الباب اشتملت من النجاسات على: الخمر، ولحوم الحمر الأهلية، والمني، وبول الجارية، والغلام، ودم الحيض. ولو أدخل المصنف بول الأعرابي في المسجد، ودباغ الأديم، ونحوه في هذا الباب، لكان أوجه.(1/40)
باب الوضوء
في القاموس الوضوء يأتي بالضم الفعل وبالفتح ماؤه ومصدر أيضا أو لغتان ويعني بهما المصدر وقد يعنى بهما الماء يقال توضأت للصلاة وتوضيت لغية أو لثغة أهـ
واعلم أن الوضوء من أعظم شروط الصلاة وقد ثبت عند الشيخين من حديث أبي هريرة مرفوعا "إن الله لا يقبل صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ" وثبت حديث "الوضوء شطر الإيمان" وأنزل الله فريضته من السماء في قوله – {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} - الآية وهي مدنية واختلف العلماء هل كان فرض الوضوء بالمدينة أو بمكة فالمحققون على أنه فرض بالمدينة لعدم النص الناهض على خلافه، وورد في الوضوء فضائل كثيرة منها حديث أبي هريرة عند مالك وغيره مرفوعا "إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرجت من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء فإذا غسل يديه خرجت من يديه كل خطيئة بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى يخرج نقيا من الذنوب". وأشمل منه ما أخرجه مالك أيضا من حديث عبد الله الصنابحي بضم الصاد المهملة وفتح النون وكسر الموحدة آخره مهملة نسبة إلى صنابح بطن من مراد وهو صحابي قال إن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "إذا توضأ العبد المؤمن فتمضمض خرجت الخطايا من فيه وإذا استنثر خرجت الخطايا من أنفه فإذا غسل وجهه خرجت الخطايا من وجهه حتى تخرج من تحت أشفار عينيه فإذا غسل يديه خرجت الخطايا من يديه حتى تخرج من تحت أظفار يديه فإذا مسح رأسه خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج من أذنيه فإذا غسل رجليه خرجت الخطايا من رجليه حتى تخرج من أظفار رجليه ثم كان مشيه إلى المسجد وصلاته نافلة له" وفي معناهما عدة أحاديث، ثم هل الوضوء من خصائص هذه الأمة فيه خلاف المحققون على أنه ليس من خصائصها إنما الذي من خصائصها الغرة والتحجيل.(1/40)
1- (عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أنه قال: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء" أخرجه مالك وأحمد والنسائي وصححه ابن خزيمة وذكره البخاري تعليقا). المعلق هو ما يسقط من أول إسناده راو فأكثر.
قال في الشرح: الحديث متفق عليه عند الشيخين من حديث أبي هريرة وهذا لفظه، قال ابن منده: إسناده مجمع على صحته.
قال النووي: غلط بعض الكبار فزعم أن البخاري لم يخرجه.
قلت وظاهر صنيع المصنف هنا يقضي بأنه لم يخرجه واحد من الشيخين وهو من أحاديث عمدة الأحكام التي لا يذكر فيها إلا ما أخرجه الشيخان إلا أنه بلفظ "عند كل صلاة" . وفي معناه عدة أحاديث عن عدة من الصحابة منها عن علي عليه السلام عند أحمد وعن زيد بن خالد عند الترمذي وعن أم حبيبة عند أحمد وعن عبد الله بن عمر وسهل بن سعد وجابر وأنس عند أبي نعيم وأبي أيوب عند أحمد والترمذي ومن حديث ابن عباس وعائشة عند مسلم وأبي داود وورد الأمر به من حديث تسوكوا فإن السواك مطهرة للفم أخرجه ابن ماجه وفيه ضعف ولكن له شواهد عديدة دالة على أن للأمر به أصلا.
وورد في أحاديث أن السواك من سنن المرسلين وأنه من خصال الفطرة وأنه من الطهارات وأن فضل الصلاة التي يستاك لها على الصلاة التي لا يستاك لها سبعون ضعفا أخرجها أحمد وابن خزيمة والحاكم والدارقطني وغيرهم.
قال في البدر المنير قد ذكر في السواك زيادة على مائة حديث فواعجبا لسنة تأتي فيها الأحاديث الكثيرة ثم يهملها كثير من الناس بل كثير من الفقهاء فهذه خيبة عظيمة.
هذا ولفظ السواك بكسر السين في اللغة يطلق على الفعل وعلى الالة ويذكر ويؤنث وجمعه سوك ككتاب وكتب ويراد به في الاصطلاح استعمال عود أو نحوه في الأسنان لتذهب الصفرة وغيرها قلت وعند ذهاب الأسنان أيضا يشرع لحديث عائشة قلت يا رسول الله الرجل يذهب فوه ويستاك قال نعم، قلت وكيف يصنع قال يدخل أصبعه في فيه أخرجه الطبراني في الأوسط وفيه ضعف.
وأما حكمه فهو سنة عند جماهير العلماء وقيل بوجوبه وحديث الباب دليل على عدم وجوبه لقوله في الحديث لأمرتهم أي أمر إيجاب فإنه ترك الأمر به لأجل المشقة لا أمر الندب فإنه قد ثبت بلا مرية
والحديث دل على تعيين وقته وهو عند كل وضوء وفي الشرح أنه يستحب في جميع الأوقات ويشتد استحبابه في خمسة أوقات أحدها عند الصلاة سواء كان متطهرا بماء أو تراب أو غير متطهر كمن لم يجد ماء ولا ترابا
الثاني عند الوضوء
الثالث عند قراءة القران
الرابع عند الاستيقاظ من النوم
الخامس عند تغير الفم
قال ابن دقيق العيد السر فيه أي في السواك عند الصلاة أنا مأمورون في كل حال من أحوال التقرب إلى الله أن نكون في حالة كمال ونظافة إظهارا لشرف العبادة وقد قيل إن ذلك الأمر يتعلق بالملك وهو أنه يضع فاه على فم القارئ ويتأذى بالرائحة الكريهة فسن السواك لأجل ذلك وهو وجه حسن، ثم ظاهر الحديث أنه لا يخص صلاة في استحباب السواك لها في إفطار ولا صيام.والشافعي يقول لا يسن بعد الزوال في الصوم لئلا يذهب به خلوف الفم المحبوب إلى الله تعالى. وأجيب بأن السواك لا يذهب به الخلوف(1/41)
فإنه صادر من خلو المعدة ولا يذهب بالسواك، ثم هل يسن ذلك للمصلي وإن كان متوضئا كما يدل له حديث عند كل صلاة قيل نعم يسن ذلك وقيل لا يسن إلا عند الوضوء لحديث "مع كل وضوء" وأنه يقيد إطلاق "عند كل صلاة" بأن المراد عند وضوء كل صلاة
ولو قيل إنه يلاحظ المعنى الذي لأجله شرع السواك فإن كان قد مضى وقت طويل يتغير فيه الفم بأحد المغيرات التي ذكرت وهي أكل ما له رائحة كريهة وطول السكوت وكثرة الكلام وترك الأكل والشرب شرع السواك وإن لم يتوضأ وإلا فلا لكان وجها
وقوله في رسم السواك اصطلاحا أو نحوه أي نحو العود ويريدون به كل ما يزيل التغير كالخرقة الخشنة والأصبع الخشنة والأشنان. والأحسن أن يكون السواك عود أراك متوسطا لا شديد اليبس فيجرح اللثة ولا شديد الرطوبة فلا يزيل ما يراد إزالته.
2- (وعن حمران رضي الله عنه بضم الحاء المهملة وسكون الميم وبالراء هو ابن أبان بفتح الهمزة وتخفيف الموحدة وهو مولى عثمان بن عفان أرسله له خالد بن الوليد من بعض من سباه في مغازيه فأعتقه عثمان أن عثمان هو ابن عفان تأتي ترجمته قريبا دعا بوضوء أي بماء يتوضأ به فغسل كفيه ثلاث مرات هذا من سنن الوضوء باتفاق العلماء وليس هو غسلهما عند الاستيقاظ الذي سيأتي حديثه بل هذا سنة الوضوء فلو استيقظ وأراد الوضوء فظاهر الحديثين أنه يغسلهما للاستيقاظ ثلاث مرات ثم للوضوء كذلك ويحتمل تداخلهما، ثم تمضمض المضمضة أن يجعل الماء في الفم ثم يمجه وكمالها أن يجعل الماء في فيه ثم يديره ثم يمجه كذا في الشرح وفي القاموس المضمضة تحريك الماء في الفم فجعل من مسماها التحريك ولم يجعل منه المج ولم يذكر في حديث عثمان هل فعل ذلك مرة أو ثلاثا لكن في حديث علي عليه السلام أنه مضمض واستنشق ونثر بيده اليسرى فعل هذا ثلاثا ثم قال هذا طهور نبي الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم واستنشق الاستنشاق: إيصال الماء إلى داخل الأنف وجذبه بالنفس إلى أقصاه واستنثر الاستثنار عند جمهور أهل اللغة والمحدثين والفقهاء إخراج الماء من الأنف بعد الاستنشاق ثم غسل وجهه ثلاث مرات ثم غسل يده اليمنى فيه بيان لما أجمل في الآية من قوله - وأيديكم - الآية وأنه يقدم اليمنى إلى المرفق بكسر ميمه وفتح فائه وبفتحها،وكلمة إلى في الأصل للانتهاء وقد تستعمل بمعنى مع وبينت الأحاديث أنه المراد كما في حديث جابر كان يدير الماء على مرفقيه أي النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، أخرجه الدارقطني بسند ضعيف وأخرج بسند حسن في صفة وضوء عثمان أنه غسل يديه إلى المرفقين حتى مسح أطراف العضدين وهو عند البزار والطبراني من حديث وائل بن حجر في صفة الوضوء وغسل ذراعيه حتى جاوز المرافق وفي الطحاوي والطبراني من حديث ثعلبة بن عباد عن أبيه ثم غسل ذراعيه حتى سال الماء على مرفقيه فهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضا. قال إسحاق بن راهويه إلى في الآية يحتمل أن تكون بمعنى الغآية وأن تكون بمعنى مع فبينت السنة أنها بمعنى مع.
قال الشافعي: لا أعلم خلافا في إيجاب دخول المرفقين في الوضوء وبهذا عرفت أن الدليل قد(1/42)
قام على دخول المرافق قال الزمخشري لفظ إلى يفيد معنى الغآية مطلقا فأما دخولها في الحكم وخروجها فأمر يدور مع الدليل ثم ذكر أمثلة لذلك وقد عرفت أنه قد قام ها هنا الدليل على دخولها ثلاث مرات ثم اليسرى مثل ذلك أي إلى المرفق ثلاث مرات ثم مسح برأسه هو موافق للآية في الإتيان بالباء ومسح يتعدى بها وبنفسه.
قال القرطبي إن الباء هنا للتعدية يجوز حذفها وإثباتها وقيل دخلت الباء ها هنا لمعنى تفيده وهو أن الغسل لغة يقتضي مغسولا به والمسح لغة لا يقتضي ممسوحا به فلو قال امسحوا رؤوسكم لأجزأ المسح باليد بغير ماء وكأنه قال فامسحوا برؤوسكم الماء وهو من باب القلب والأصل فيه فامسحوا بالماء رؤوسكم.
ثم اختلف العلماء هل يجب مسح كل الرأس أو بعضه قالوا والآية لا تقتضي أحد الأمرين بعينه إذ قوله - وامسحوا برءوسكم - يحتمل جميع الرأس أو بعضه ولا دلالة في الآية على استيعابه ولا عدم استيعابه لكن من قال يجزىء مسح بعضه قال إن السنة وردت مبينة لأحد احتمالي الآية وهو ما رواه الشافعي من حديث عطاء "أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم توضأ فحسر العمامة عن رأسه ومسح مقدم رأسه" وهو وإن كان مرسلا فقد اعتضد بمجيئه مرفوعا من حديث أنس وهو وإن كان في سنده مجهول فقد عضد بما أخرجه سعيد بن منصور من حديث عثمان في صفة الوضوء أنه مسح مقدم رأسه وفيه راو مختلف فيه.
وثبت عن ابن عمر الاكتفاء بمسح بعض الرأس قاله ابن المنذر وغيره ولم ينكر عليه أحد من الصحابة، ومن العلماء من يقول لا بد من مسح البعض مع التكميل على العمامة لحديث المغيرة وجابر عند مسلم، ولم يذكر في هذه الورواية تكرار مسح الرأس كما ذكره في غيرها وإن كان قد طوى ذكر التكرار أيضا في المضمضة كما عرفت وعدم الذكر لا دليل فيه ويأتي الكلام في ذلك
ثم غسل رجله اليمنى إلى الكعبين ثلاث مرات الكلام في ذلك كما تقدم في يده اليمنى إلى المرفق إلا أن المرافق قد اتفق على مسماها بخلاف الكعبين فوقع في المراد بهما خلاف المشهور أنه العظم الناشز عند ملتقى الساق وهو قول الأكثر وحكى عن أبي حنيفة والإمامية أنه العظم الذي في ظهر القدم عند معقد الشراك وفي المسألة مناظرات ومقاولات طويلة
قال في الشرح ومن أوضح الأدلة أي على ما قاله الجمهور حديث النعمان بن بشير في صفة الصف في الصلاة فرأيت الرجل منا يلزق كعبه بكعب صاحبه
قلت ولا يخفى أنه لا ينهض فيه لأن المخالف يقول أنا أسميه كعبا ولا أخالفكم فيه لكني أقول إنه غير المراد في آية الوضوء إذ الكعب يطلق على الناشز وعلى ما في ظهر القدم وغآية ما في حديث النعمان أنه سمي الناشز كعبا ولا خلاف في تسميته وقد أيدنا في حواشي ضوء النهار أرجحية مذهب الجمهور بأدلة هنالك ثم اليسرى مثل ذلك أي إلى الكعبين ثلاث مرات ثم قال أي عثمان رأيت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم توضأ نحو وضوئي هذا متفق عليه.
وتمام الحديث فقال أي رسول صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه" أي لا يحدث نفسه فيهما بأمور الدنيا وما لا تعلق له بالصلاة ولو عرض له حديث(1/43)
فأعرض عنه بمجرد عروضه عفى عنه ولا يعد محدثا لنفسه
واعلم أن الحديث قد أفاد الترتيب بين الأعضاء المعطوفة بثم وأفاد التثليث ولم يدل على الوجوب لأنه إنما هو صفة فعل ترتبت عليه فضيلة ولم يترتب عليه عدم إجزاء الصلاة إلا إذا كان بصفته ولا ورد بلفظ يدل على إيجاب صفاته. فأما الترتيب فخالفت فيه الحنفية وقالوا لا يجب وأما التثليث فغير واجب بالإجماع وفيه خلاف شاذ. ودليل عدم وجوبه تصريح الأحاديث بأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم توضأ مرتين مرتين ومرة مرة وبعض الأعضاء ثلثها وبعضها بخلاف ذلك وصرح في وضوء مرة مرة أنه لا يقبل الله الصلاة إلا به، وأما المضمضة والاستنشاق فقد اختلف في وجوبهما، فقيل يجبان لثبوت الأمر بهما في حديث أبي داود بإسناد صحيح، وفيه وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما ولأنه واظب عليهما في جميع وضوئه. وقيل إنهما سنة بدليل حديث أبي داود والدارقطني وفيه إنه لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمر الله تعالى فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ويمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين فلم يذكر المضمضمة والاستنشاق فإنه اقتصر فيه على الواجب الذي لا يقبل الله الصلاة إلا به وحينئذ فيؤول حديث الأمر بأنه أمر ندب.
3- ( وعن علي عليه السلام هو أمير المؤمنين أبو الحسن علي بن أبي طالب ابن عم رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أول من أسلم من الذكور في أكثر الأقوال على خلاف في سنه كم كان وقت إسلامه وليس في الأقوال أنه بلغ ثماني عشرة بل مترددة بين ست عشرة إلى سبع سنين شهد المشاهد كلها إلا تبوك فأقامه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في المدينة خليفة عنه وقال له أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى. استخلف يوم قتل عثمان يوم الجمعة لثمان عشر خلت من شهر ذي الحجة سنة خمس وثلاثين واستشهد صبح الجمعة بالكوفة لسبع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان سنة أربعين ومات بعد ثلاث من ضربة الشقي ابن ملجم له وقيل غير ذلك
وخلافته أربع سنين وسبعة أشهر وأيام وقد ألفت في صفاته وبيان أحواله كتب جمة واستوفينا شطرا صالحا من ذلك في الروضة الندية شرح التحفة العلوية.
في صفة وضوء النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال ومسح برأسه واحدة. أخرجه أبو داود هو قطعة من حديث طويل استوفى فيه صفة الوضوء من أوله إلى اخره وهو يفيد ما أفاد حديث عثمان وإنما أتى المصنف بما فيه التصريح بما لم يصرح به في حديث عثمان وهو مسح الرأس مرة فإنه نص أنه واحدة مع تصريحه بتثليث ما عداه من الأعضاء
وقد اختلف العلماء في ذلك فقال قوم بتثليث مسحه كما يثلث غيره من الأعضاء إذ هو من جملتها وقد ثبت في الحديث تثليثه وإن لم يذكر في كل حديث ذكر فيه تثليث الأعضاء فإنه قد أخرج أبو داود من حديث عثمان في تثليث المسح أخرجه من وجهين صحح أحدهما ابن خزيمة وذلك كاف في ثبوت هذه السنة. وقيل لا يشرع تثليثه لأن أحاديث عثمان الصحاح كلها كما قال أبو داود تدل على مسح الرأس مرة واحدة وبأن المسح مبني على التخفيف فلا يقاس على الغسل وبأن العدد لو اعتبر في المسح لصار في صورة الغسل،(1/44)
وأجيب بأن كلام أبي داود ينقضه ما رواه هو وصححه ابن خزيمة كما ذكرناه. والقول بأن المسح مبني على التخفيف قياس في مقابلة النص فلا يسمع فالقول بأنه يصير في صورة الغسل لا يبالى به بعد ثبوته عن الشارع ثم ورواية الترك لا تعارض ورواية الفعل وإن كثرت ورواية الترك إذ الكلام في أنه غير واجب بل سنة من شأنها أن تفعل أحيانا وتترك أحيانا. وأخرجه أي حديث علي عليه السلام النسائي والترمذي بإسناد صحيح بل قال الترمذي إنه أصح شيء في الباب وأخرجه أبو داود من ست طرق وفي بعض طرقه لم يذكر المضمضة والاستنشاق وفي بعض ومسح على رأسه حتى لم يقطر.
4- (وعن عبد الله بن زيد بن عاصم هو الأنصاري المازني من مازن بن النجار شهد أحدا وهو الذي قتل مسيلمة الكذاب وشاركه وحشي وقتل عبد الله يوم الحرة سنة ثلاث وستين، وهو غير عبد الله بن زيد بن عبد ربه الذي يأتي حديثه في الأذان وقد غلط فيه بعض أئمة الحديث فلذا نبهنا عليه في صفة الوضوء قال: ومسح رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم برأسه فأقبل بيديه وأدبر متفق عليه فسر الإقبال بهما بأنه بدأ من مؤخر رأسه فإن الإقبال باليد إذا كان مقدما يكون من مؤخر الرأس إلا أنه قد ورد في البخاري بلفظ وأدبر بيديه وأقبل واللفظ الآخر في قوله وفي لفظ لهما أي للشيخين بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما أي اليدين إلى قفاه ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه.
الحديث يفيد صفة المسح للرأس وهو أن يأخذ الماء ليديه فيقبل بهما ويدبر.
وللعلماء ثلاثة أقوال الأول يبدأ بمقدم رأسه الذي يلي الوجه فيذهب إلى القفا ثم يردهما إلى المكان الذي بدأ منه وهو مبتدأ الشعر من حد الوجه وهذا هو الذي يعطيه ظاهر قوله بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه إلا أنه أورد على هذه الصفة أنه أدبر بهما وأقبل لأن ذهابه إلى جهة القفا إدبار ورجوعه إلى الوجه إقبال. وأجيب بأن الواو لا تقتضي الترتيب فالتقدير أدبر وأقبل
والثاني أن يبدأ بمؤخر رأسه ويمر إلى جهة الوجه ثم يرجع إلى المؤخر محافظة على ظاهر لفظ أقبل وأدبر فالإقبال إلى مقدم الوجه والإدبار إلى ناحية المؤخر وقد وردت هذه الصفة في الحديث الصحيح بدأ بمؤخر رأسه. ويحمل الاختلاف في لفظ الأحاديث على تعدد الحالات
والثالث أن يبدأ بالناصية ويذهب إلى ناحية الوجه ثم يذهب إلى جهة مؤخر الرأس ثم يعود إلى ما بدأ منه وهو الناصية. ولعل قائل هذا قصد المحافظة على قوله بدأ بمقدم رأسه مع المحافظة على ظاهر لفظ أقبل وأدبر لأنه إذا بدأ بالناصية صدق أنه بدأ بمقدم رأسه وصدق أنه أقبل أيضا فإنه ذهب إلى ناحية الوجه وهو القبل وقد أخرج أبو داود من حديث المقدام أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لما بلغ مسح رأسه وضع كفيه على مقدم رأسه فأمرهما حتى بلغ القفا ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه وهي عبارة واضحة في المراد، والظاهر أن هذا من العمل المخير فيه وأن المقصود من ذلك تعميم الرأس بالمسح
5- (وعن عبد الله بن عمرو بفتح العين المهملة وهو أبو عبد الرحمن أو أبو محمد(1/45)
عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل السهمي القرشي يلتقي مع النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في كعب بن لؤي أسلم عبد الله قبل أبيه وكان أبوه أكبر منه بثلاث عشرة سنة وكان عبد الله عالما حافظا عابدا، وكانت وفاته سنة ثلاث وستين وقيل وسبعين وقيل غير ذلك واختلف في موضع وفاته فقيل بمكة أو الطائف أو مصر أو غير ذلك في صفة الوضوء قال ثم مسح أي رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم برأسه وأدخل إصبعيه السباحتين بالمهملة فموحدة فألف بعدها مهملة تثنية سباحة وأراد بهما مسبحتي اليد اليمنى واليسرى وسميت سباحة لأنه يشار بها عند التسبيح في أذنيه ومسح بإبهاميه إبهامي يديه ظاهر أذنيه. أخرجه أبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة
والحديث كالأحاديث الأول في صفة الوضوء إلا أنه أتى به المصنف لما ذكر من إفادة مسح الأذنين الذي لم تفده الأحاديث التي سلفت ولذا اقتصر على ذلك من الحديث
ومسح الأذنين قد ورد في عدة من الأحاديث من حديث المقدام بن معديكرب عند أبي داود والطحاوي بإسناد حسن
ومن حديث الربيع أخرجه أبو داود أيضا ومن حديث أنس عند الدارقطني والحاكم
ومن حديث عبد الله بن زيد وفيه أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مسح أذنيه بماء غير الماء الذي مسح به رأسه
وسيأتي وقال فيه البيهقي هذا إسناد صحيح وإن كان قد تعقبه ابن دقيق العيد وقال الذي في ذلك الحديث ومسح رأسه بماء غير فضل يديه ولم يذكر الأذنين وأيده المصنف بأنه عند ابن حبان والترمذي كذلك
واختلف العلماء هل يؤخذ للأذنين ماء جديد أو يمسحان ببقية ما مسح به الرأس والأحاديث قد وردت بهذا وهذا
ويأتي الكلام عليه قريبا
6- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إذا استيقظ أحدكم من منامه ظاهره ليلا أو نهارا فليستنثر ثلاثا" في القاموس: استنثر استنشق الماء ثم استخرج ذلك بنفس الأنف اهـ وقد جمع بينهما في بعض الأحاديث فمع الجمع يراد من الاستنثار دفع الماء من الأنف ومن الاستنشاق جذبه إلى الأنف فإن الشيطان يبيت على خيشومه هو أعلى الأنف وقيل الأنف كله وقيل عظام رقاق لينة في أقصى الأنف بينه وبين الدماغ وقيل غير ذلك متفق عليه
الحديث دليل على وجوب الاستنثار عند القيام من النوم مطلقا إلا أن في ورواية للبخاري "إذا استيقظ أحدكم من منامه فتوضأ فليستنثر ثلاثا فإن الشيطان" الحديث فيقيد الأمر المطلق به هنا بإرادة الوضوء ويقيد النوم بمنام الليل كما يفيده لفظ يبيت إذ البيتوتة فيه، وقد يقال إنه خرج على الغالب فلا فرق بين نوم الليل ونوم النهار
والحديث من أدلة القائلين بوجوب الاستنثار دون المضمضة وهو مذهب أحمد وجماعة، وقال الجمهور لا يجب بل الأمر للندب واستدلوا بقوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم للأعرابي: "توضأ كما أمرك الله" وعين له ذلك في قوله: "لا تتم صلاة أحد حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ويمسح رأسه ورجليه إلى الكعبين" كما أخرجه أبو داود من حديث رفاعة ولأنه قد ثبت من روايات صفة وضوئه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم من حديث عبد الله بن زيد وعثمان(1/46)
وابن عمرو بن العاص عدم ذكرهما مع استيفاء صفة وضوئه وثبت ذكرهما أيضا وذلك من أدلة الندب.
وقوله "يبيت الشيطان" قال القاضي عياض يحتمل أن يكون على حقيقته فإن الأنف أحد منافذ الجسم التي يتوصل إلى القلب منها بالاشتمام وليس من منافذ الجسم ما ليس عليه غلق سواه وسوى الأذنين
وفي الحديث: "إن الشيطان لا يفتح غلقا" وجاء في التثاؤب الأمر بكظمه من أجل دخول الشيطان حينئذ في الفم ويحتمل الاستعارة فإن الذي ينعقد من الغبار من رطوبة الخياشيم قذارة توافق الشيطان، قلت والأول أظهر.
7- (وعنه أي أبي هريرة عند الشيخين أيضا "إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده" خرج ما إذا أدخل يده بالمغرفة ليستخرج الماء فإنه جائز إذ لا غمس فيه لليد وقد ورد بلفظ لا يدخل لكن يراد به إدخالها للغمس لا للأخذ في الإناء يخرج البرك والحياض حتى يغسلها ثلاثا فإنه لا يدري أين باتت يده متفق عليه وهذا لفظ مسلم
الحديث يدل على إيجاب غسل اليد لمن قام من نومه ليلا أو نهارا وقال بذلك من نوم الليل أحمد لقوله باتت فإنه قرينة إرادة النوم بالليل كما سلف إلا أنه قد ورد بلفظ إذا قام أحدكم من الليل عند أبي داود والترمذي من وجه اخر صحيح إلا أنه يرد عليه أن التعليل يقتضي إلحاق نوم النهار بنوم الليل. وذهب غيره وهو الشافعي ومالك وغيرهما إلى أن الأمر في ورواية فليغسل للندب والنهي الذي في هذه الورواية للكراهة والقرينة عليه ذكر العدد فإن ذكره في غير النجاسة العينية دليل الندب ولأنه علل بأمر يقتضي الشك والشك لا يقتضي الوجوب في هذا الحكم استصحابا لأصل الطهارة ولا تزول الكراهة إلا بالثلاث الغسلات وهذا في المستيقظ من النوم
وأما من يريد الوضوء من غير نوم فيستحب له لما مر في صفة الوضوء ولا يكره الترك لعدم ورود النهي فيه والجمهور على أن النهي والأمر لاحتمال النجاسة في اليد وأنه لو درى أين باتت يده كمن لف عليها فاستيقظ وهي على حالها فلا يكره له أن يغمس يده وإن كان غسلهما مستحبا كما في المستيقظ وغيرهم يقولون الأمر بالغسل تعبد فلا فرق بين الشاك والمتيقن وقولهم أظهر كما سلف.
8-(وعن لقيط بفتح اللام وكسر القاف ابن عامر ابن صبرة بفتح الصاد المهملة وكسر الموحدة كنيته أبو رزين كما قاله ابن عبد البر صحابي مشهور عداده في أهل الطائف قال قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "أسبغ الوضوء" الإسباغ الإتمام واستكمال الأعضاء وخلل بين الأصابع ظاهر في إرادة أصابع اليدين والرجلين وقد صرح بهما في حديث ابن عباس "إذا توضأت فخلل أصابع يديك ورجليك" يأتي من أخرجه قريبا "وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما" أخرجه الأربعة وصححه ابن خزيمة ولأبي داود في ورواية "إذا توضأت فمضمض" وأخرجه أحمد والشافعي وابن الجارود وابن حبان والحاكم والبيهقي وصححه الترمذي والبغوي وابن القطان. والحديث دليل على وجوب إسباغ الوضوء وهو إتمامه واستكمال الأعضاء وفي القاموس أسبغ الوضوء أبلغه(1/47)
مواضعه ووفى كل عضو حقه وفي غيره مثله فليس التثليث للأعضاء من مسماه ولكن التثليث مندوب ولا يزيد على الثلاث فإن شك هل غسل العضو مرتين أو ثلاثا جعلها مرتين، وقال الجويني يجعل ذلك ثلاثا ولا يزيد عليها مخافة من ارتكاب البدعة وأما ما روي عن ابن عمر أنه كان يغسل رجليه سبعا ففعل صحابي لا حجة فيه ومحمول على أنه كان يغسل الأربع من نجاسة لا تزول إلا بذلك
ودليل على إيجاب تخليل الأصابع وقد ثبت من حديث ابن عباس أيضا كما أشرنا إليه وهو الذي أخرجه الترمذي وأحمد وابن ماجه والحاكم وحسنه البخاري
وكيفيته أن يخلل بيده اليسرى بالخنصر منها ويبدأ بأسفل الأصابع، وأما كون التخليل باليد اليسرى فليس في النص وإنما قال الغزالي إنه يكون بها قياسا على الاستنجاء.
وقد روى أبو داود والترمذي من حديث المستورد بن شداد رأيت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذا توضأ يدلك بخنصره ما بين أصابع رجليه وفي لفظ لابن ماجه يخلل بدل يدلك.
والحديث دليل على المبالغة في الاستنشاق لغير الصائم وإنما لم يكن في حقه المبالغة لئلا ينزل إلى حلقه ما يفطره ودل ذلك على أن المبالغة ليست بواجبة إذ لو كانت واجبة لوجب عليه التحري ولم يجز له تركها.
وقوله في ورواية أبو داود: "إذا توضأت فمضمض" يستدل به على وجوب المضمضة ومن قال لا تجب جعل الأمر للندب لقرينة ما سلف من حديث رفاعة بن رافع في أمره صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم للأعرابي بصفة الوضوء الذي لا تجزىء الصلاة إلا به ولم يذكر فيه المضمضة والاستنشاق.
9- (وعن عثمان رضي الله عنه هو أبو عبد الله عثمان بن عفان الأموي القرشي أحد الخلفاء وأحد العشرة أسلم في أول الإسلام وهاجر إلى الحبشة الهجرتين وتزوج بنتي النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم رقية أولا ثم لما توفيت زوجه النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بأم كلثوم، استخلف في أول يوم من المحرم سنة أربع وعشرين، وقتل يوم الجمعة لثمان عشرة خلت من ذي الحجة الحرام سنة خمس وثلاثين ودفن ليلة السبت بالبقيع وعمره اثنتان وثمانون سنة وقيل غير ذلك. "أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يخلل لحيته في الوضوء" أخرجه الترمذي وصححه ابن خزيمة
والحديث أخرجه الحاكم والدارقطني وابن حبان من ورواية عامر بن شقيق عن أبي وائل، قال البخاري حديثه حسن، وقال الحاكم لا نعلم فيه ضعفا بوجه من الوجوه، هذا كلامه وقد ضعفه ابن معين وقد روى الحاكم للحديث شواهد عن أنس وعائشة وعلي وعمار.
قال المصنف وفيه أيضا عن أم سلمة وأبي أيوب وأبي أمامة وابن عمر وجابر وابن عباس وأبي الدرداء وقد تكلم على جميعها بالتضعيف إلا حديث عائشة وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه ليس في تخليل اللحية شيء.
وحديث عثمان هذا دال على مشروعية تخليل اللحية، وأما وجوبه فاختلف فيه فعند الهادوية يجب كقبل نباتها لأحاديث وردت بالأمر بالتخليل إلا أنها أحاديث ما سلمت عن الإعلال والتضعيف فلم تنتهض على الإيجاب.
10 -(وعن عبد الله بن زيد رضي الله عنه "أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أتي بثلثي مد" بضم الميم وتشديد الدال المهملة في القاموس مكيال وهو رطلان أو رطل وثلث أو ملء(1/48)
كف الإنسان المعتدل إذا ملأهما ومد يده بهما ومنه سمي مدا وقد جربت ذلك فوجدته صحيحا اهـ. "فجعل يدلك ذراعيه" أخرجه أحمد وصححه ابن خزيمة
وقد أخرج أبو داود من حديث أم عمارة الأنصارية بإسناد حسن أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم توضأ بإناء فيه قدر ثلثي مد. ورواه البيهقي من حديث عبد الله بن زيد فثلثا المد هو أقل ما روي أنه توضأ به صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم
وأما حديث أنه توضأ بثلث مد فلا أصل له وقد صحح أبو زرعة من حديث عائشة وجابر أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يغتسل بالصاع ويتوضأ بالمد وأخرج مسلم نحوه من حديث سفينة وأبو داود من حديث أنس "توضأ من إناء يسع رطلين" والترمذي بلفظ "يجزىء في الوضوء رطلان". وهي كلها قاضية بالتخفيف في ماء الوضوء وقد علم نهيه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عن الإسراف في الماء وإخباره أنه سيأتي قوم يعتدون في الوضوء فمن جاوز ما قال الشارع أنه يجزىء فقد أسرف فيحرم وقول من قال إن هذا تقريب لا تحديد ما هو ببعيد لكن الأحسن بالمتشرع محاكاة أخلاقه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم والاقتداء به في كمية ذلك، وفيه دليل على مشروعية الدلك لأعضاء الوضوء وفيه خلاف فمن قال بوجوبه استدل بهذا ومن قال لا يجب قال لأن المأمور به في الآية الغسل وليس الدلك من مسماه ولعله يأتي ذكر ذلك.
11- (وعنه أي عن عبد الله بن زيد أنه رأى النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يأخذ لأذنيه ماء غير الماء الذي أخذه لرأسه. أخرجه البيهقي وهو أي هذا الحديث عند مسلم من هذا الوجه بلفظ ومسح برأسه بماء غير فضل يديه، وهو المحفوظ، وذلك أنه ذكر المصنف في التلخيص عن ابن دقيق العيد أن الذي رآه في الورواية هو بهذا اللفظ الذي قال المصنف إنه المحفوظ. وقال المصنف أيضا إنه الذي في صحيح ابن حبان وفي ورواية الترمذي ولم يذكر في التلخيص أنه أخرجه مسلم ولا رأيناه في مسلم، وإذا كان كذلك فأخذ ماء جديد للرأس هو أمر لا بد منه وهو الذي دلت عليه الأحاديث وحديث البيهقي هذا هو دليل أحمد والشافعي أنه يؤخذ للأذنين ماء جديد وهو دليل ظاهر. وتلك الأحاديث التي سلفت غآية ما فيها أنه لم يذكر أحد أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أخذ ماء جديدا وعدم الذكر ليس دليلا على عدم الفعل إلا أن قول الرواة من الصحابة ومسح رأسه وأذنيه مرة واحدة ظاهر أنه بماء واحد. وحديث "الأذنان من الرأس " وإن كان في أسانيده مقال إلا أن كثرة طرقه يشد بعضها بعضا ويشهد لها أحاديث مسحهما مع الرأس مرة واحدة وهي أحاديث كثيرة عن علي وابن عباس والربيع وعثمان كلهم متفقون على أنه مسحهما مع الرأس مرة واحدة أي بماء واحد كما هو ظاهر لفظ مرة إذ لو كان يؤخذ للأذنين ماء جديد ما صدق أنه مسح رأسه وأذنيه مرة واحدة وإن احتمل أن المراد أنه لم يكرر مسحهما وأنه أخذ لهما ماء جديدا فهو احتمال بعيد وتأويل حديث إنه أخذ لهما ماءاً خلاف الذي مسح به رأسه أقرب ما يقال فيه إنه لم يبق في يده بلة تكفي لمسح الأذنين فأخذ لهما ماء جديدا.(1/49)
12- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقول: "إن أمتي يأتون يوم القيامة غرا" بضم الغين المعجمة وتشديد الراء جمع أغر أي ذوي غرة وأصلها لمعة بيضاء تكون في جبهة الفرس، وفي النهآية يريد بياض وجوههم بنور الوضوء يوم القيامة ونصبه على أنه حال من فاعل يأتون وعلى ورواية "يدعون" يحتمل المفعولية محجلين بالمهملة والجيم من التحجيل، في النهآية أي بيض مواضع الوضوء من الأيدي والأقدام، استعار أثر الوضوء في الوجه واليدين والرجلين للإنسان من البياض الذي يكون في وجه الفرس ويديه ورجليه من أثر الوضوء بفتح الواو لأنه الماء ويجوز الضم عند البعض كما تقدم "فمن استطاع منكم أن يطيل غرته" أي وتحجيله وإنما اقتصر على أحدهما لدلالته على الاخر واثر الغرة وهي مؤنثة على التحجيل وهو مذكر لشرف موضعها وفي ورواية لمسلم فليطل غرته وتحجيله "فليفعل" متفق عليه واللفظ لمسلم
وظاهر السياق أن قوله فمن استطاع إلى اخره من الحديث وهو يدل على عدم الوجوب إذ هو في قوة من شاء منكم فلو كان واجبا ما قيده بها إذ الاستطاعة لذلك متحققة قطعا وقال نعيم أحد رواته لا أدري قوله فمن استطاع إلخ من قول النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أو من قول أبي هريرة وفي الفتح لم أر هذه الجملة في ورواية أحد ممن روى هذا الحديث من الصحابة وهم عشرة ولا ممن رواه عن أبي هريرة غير ورواية نعيم هذه، والحديث دليل على مشروعية إطالة الغرة والتحجيل، واختلف العلماء في القدر المستحب من ذلك، فقيل في اليدين إلى المنكب وفي الرجلين إلى الركبة. وقد ثبت هذا عن أبي هريرة ورواية ورأيا وثبت من فعل ابن عمر أخرجه ابن أبي شيبة وأبو عبيد بإسناد حسن، وقيل إلى نصف العضد والساق، والغرة في الوجه أن يغسل إلى صفحتي العنق.
والقول بعدم مشروعيتهما وتأويل حديث أبي هريرة بأن المراد به المداومة على الوضوء خلاف الظاهر ورد بأن الراوي أعرف بما روى، كيف وقد رفع معناه ولا وجه لنفيه. وقد استدل على أن الوضوء من خصائص هذه الأمة بهذا الحديث وبحديث مسلم مرفوعا سيما ليست لأحد غيركم والسيما بكسر السين المهملة العلامة، ورد هذا بأنه قد ثبت الوضوء لمن قبل هذه الأمة، قيل فالذي اختصت به هذه الأمة هو الغرة والتحجيل.
13- (وعن عائشة رضي الله عنها قالت :" كان النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يعجبه التيمن" أي تقديم الأيمن "في تنعله" لبس نعله "وترجله" بالجيم أي مشط شعره "وطهوره وفي شأنه كله" تعميم بعد التخصيص متفق عليه
قال ابن دقيق العيد هو عام مخصوص يعني قوله كله بدخول الخلاء والخروج من المسجد ونحوهما فإنه يبدأ فيهما باليسار. قيل والتأكيد بكله يدل على بقاء التعميم ودفع التجوز عن البعض فيحتمل أن يقال حقيقة الشأن ما كان فعلا مقصودا وما يستحب فيه التياسر ليس من الأفعال المقصودة بل هي إما تروك وإما غير مقصودة، والحديث دليل على استحباب البداءة بشق الرأس الأيمن(1/50)
في الترجل والغسل والحلق وبالميامن في الوضوء والغسل والأكل والشرب وغير ذلك. قال النووي قاعدة الشرع المستمرة البداءة باليمين في كل ما كان من باب التكريم والتزيين، وما كان بضدها استحب فيه التياسر ويأتي الحديث في الوضوء قريبا وهذه الدلالة للحديث مبنية على أن لفظ يعجبه يدل على استحباب ذلك شرعا وقد ذكرنا تحقيقه في حواشي شرح العمدة عند الكلام على هذا الحديث.
14- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إذا توضأتم فابدأوا بميامنكم" أخرجه الأربعة وصححه ابن خزيمة
وأخرجه أحمد وابن حبان والبيهقي وزاد فيه وإذا لبستم قال ابن دقيق العيد هو حقيق بأن يصحح، والحديث دليل على البداءة بالميامن عند الوضوء في غسل اليدين والرجلين وأما غيرهما كالوجه والرأس فظاهر أيضا شمولهما إلا أنه لم يقل أحد به فيهما ولا ورد في أحاديث التعليم بخلاف اليدين والرجلين فأحاديث التعليم وردت بتقديم اليمنى فيهما على اليسرى في حديث عثمان الذي مضى وغيره، والآية مجملة بينتها السنة واختلف في وجوب ذلك ولا كلام في أنه الأولى، فعند الهادوية يجب لحديث الكتاب وهو بلفظ الأمر وهو للوجوب في أصله وباستمرار فعله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم له فإنه ما روي أنه توضأ مرة واحدة بخلافه إلا ما يأتي من حديث ابن عباس ولأنه فعله بيانا للواجب فيجب.
ولحديث ابن عمر وزيد بن ثابت وأبي هريرة أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم توضأ على الولاء ثم قال: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به" وله طرق يشد بعضها بعضا. وقالت الحنفية وجماعة لا يجب الترتيب بين أعضاء الوضوء ولا بين اليمنى واليسرى من اليدين والرجلين. قالوا الواو في الآية لا تقتضي الترتيب وبأنه قد روى عن علي عليه السلام أنه بدأ بمياسره وبأنه قال ما أبالي بشمالي بدأت أم بيميني إذا أتممت الوضوء.
وأجيب عنه بأنهما أثران غير ثابتين فلا تقوم بهما حجة ولا يقاومان ما سلف وإن كان الدارقطني قد أخرج حديث علي ولم يضعفه وأخرجه من طرق بألفاظ لكنها موقوفة كلها.
15- (وعن المغيرة بضم الميم فغين معجمة مكسورة فياء وراء، يكنى أبا عبد الله أو أبا عيسى أسلم عام الخندق وقدم مهاجرا وأول مشاهده الحديبية، وفاته سنة خمسين من الهجرة بالكوفة وكان عاملا عليها من قبل معاوية، وهو ابن شعبة بضم الشين المعجمة وسكون العين المهملة فموحدة مفتوحة "أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم توضأ فمسح بناصيته" في القاموس الناصية والناصاة قصاص الشعر "وعلى العمامة والخفين" تثنية خف بالخاء المعجمة مضمومة أي ومسح عليهما أخرجه مسلم ولم يخرجه البخاري ووهم من نسبه إليهما، والحديث دليل على عدم جواز الاقتصار على مسح الناصية وقال زيد بن علي عليه السلام وأبو حنيفة يجوز الاقتصار، وقال ابن القيم ولم يصح عنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في حديث واحد أنه اقتصر على مسح بعض رأسه ألبتة لكن كان إذا مسح بناصيته كمل على العمامة كما في حديث المغيرة هذا، وقد ذكر الدارقطني أنه رواه عن ستين رجلا، وأما الاقتصار على العمامة بالمسح فلم يقل به الجمهور، وقال ابن القيم إنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان(1/51)
يمسح على رأسه تارة وعلى العمامة تارة وعلى الناصية والعمامة تارة والمسح على الخفين يأتي له باب مستقل ويأتي حديث المسح على العصائب
16- (وعن جابر هو أبو عبد الله جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام بالحاء والراء المهملتين الأنصاري السلمي من مشاهير الصحابة ذكر البخاري أنه شهد بدرا وكان ينقل الماء يومئذ، ثم شهد بعدها مع النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ثماني عشرة غزوة ذكر ذلك الحاكم أبو أحمد وشهد صفين مع علي عليه السلام وكان من المكثرين الحفاظ وكف بصره في اخر عمره وتوفي سنة أربع أو سبع وسبعين بالمدينة وعمره أربع وتسعون سنة وهو اخر من مات بالمدينة من الصحابة (في صفة حج النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم) يشير إلى حديث جليل شريف سيأتي إن شاء الله تعالى في الحج قال أي النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "ابدءوا بما بدأ الله به" أخرجه النسائي هكذا بلفظ الأمر وهو عند مسلم بلفظ الخبر أي بلفظ "نبدأ" ولفظ الحديث قال ثم خرج أي النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم من الباب أي باب الحرم إلى الصفا فلما دنا من الصفا قرأ – {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} - نبدأ بما بدأ الله به" بلفظ الخبر فعلا مضارعا فبدأ بالصفا لبداءة الله به في الآية
وذكر المصنف هذه القطعة من حديث جابر هنا لأنه أفاد أن ما بدأ الله به ذكرا نبتدىء به فعلا فإن كلامه كلام حكيم لا يبدأ ذكرا إلا بما يستحق البداءة به فعلا فإنه مقتضى البلاغة ولذا قال سيبويه: إنهم أي العرب يقدمون ما هم بشأنه أهم وهم به أعنى فإن اللفظ عام والعام لا يقتصر على سببه أعني بما بدأ الله به لأن كلمة ما موصولة والموصولات من ألفاظ العموم وآية الوضوء وهي قوله تعالى: { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} - داخله تحت الأمر بقوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "ابدءوا بما بدأ الله به" فيجب البداءة بغسل الوجه ثم ما بعده على الترتيب وإن كانت الآية لم تفد تقديم اليمنى على اليسرى من اليدين والرجلين وتقدم القول فيه قريبا وذهبت الحنفية وآخرون إلى أن الترتيب بين أعضاء الوضوء غير واجب واستدل لهم بحديث ابن عباس أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم توضأ فغسل وجهه ويديه ثم رجليه ثم مسح رأسه بفضل وضوئه وأجيب بأنه لا تعرف له طريق صحيحة حتى يتم به الاستدلال ثم لا يخفى أنه كان الأولى تقديم حديث جابر هذا على حديث المغيرة وجعله متصلا بحديث أبي هريرة لتقاربهما في الدلالة.
17- (وعنه أي جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال "كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّمإذا توضأ أدار الماء على مرفقيه" أخرجه الدارقطني هو الحافظ الكبير الإمام العديم النظير في حفظه قال الذهبي في حقه هو حافظ الزمان أبو الحسين على بن عمر ابن أحمد البغدادي الحافظ الشهير صاحب السنن مولده سنة ست وثلاثمائة سمع من عوالم وبرع في هذا الشأن قال الحاكم صار الدارقطني أوحد عصره في الحفظ والفهم والورع وإماما في القراءة والنحو وله مصنفات يطول ذكرها وأشهد أنه لم يخلق على أديم الأرض مثله وقال الخطيب كان فريد عصره وإمام وقته وانتهى إليه علم الأثر والمعرفة بالعلل وأسماء(1/52)
الرجال مع الصدق والثقة وصحة الاعتقاد وقد أطال أئمة الحديث الثناء على هذا الرجل وكانت وفاته في ثامن ذي القعدة سنة خمس وثمانين وثلثمائة بإسناد ضعيف وأخرجه البيهقي أيضا بإسناد الدارقطني وفي الإسنادين معا القاسم بن محمد بن عقيل وهو متروك وضعه أحمد وابن معين وغيرهما وعده ابن حبان في الثقات لكن الجارح أولى وإن كثر المعدل وهنا الجارح أكثر وصرح بضعف الحديث جماعة من الحفاظ كالمنذري وابن الصلاح والنووي وغيرهم قال المصنف ويغنى عنه حديث أبي هريرة عند مسلم أنه توضأ حتى أشرع في العضد وقال هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ قلت ولو أتى به هنا لكان أولى.
18- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه" أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه بإسناد ضعيف هذا قطعة من الحديث الذي أخرجه المذكورون فإنهم أخرجوه بلفظ "لا صلاة لمن لا وضوء له ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه" والحديث مروى من طريق يعقوب بن سلمة عن أبيه عن أبي هريرة وهو يعقوب بن سلمة الليثي قال البخاري لا يعرف له سماع من أبيه ولا لأبيه من أبي هريرة وله طرق أخرى عند الدارقطني والبيهقي ولكنها كلها ضعيفة أيضا وعند الطبراني من حديث أبي هريرة بلفظ الأمر "إذا توضأت فقل بسم الله والحمد لله فإن حفظتك لا تزال تكتب لك الحسنات حتى تحدث من ذلك الوضوء" ولكن سنده واه.
19- (وللترمذي لم يقل والترمذي عن سعيد بن زيد وزيد هو ابن عمرو بن نفيل أحد العشرة المشهود لهم بالجنة صحابي جليل القدر لأنه لم يروه في السنن بل رواه في العلل فغاير المصنف في العبارة لهذه الإشارة ولأنه لم يروه عن أبي هريرة وأبي سعيد نحوه وقال أحمد لا يثبت فيه شيء وأخرجه البزار وأحمد وابن ماجه والدارقطني وغيرهم قال الترمذي قال محمد يعنى البخاري إنه أحسن شيء في هذا الكتاب لكنه ضعيف لأن في رواته مجهولين ورواية أبي سعيد الخدري التي أخرجها الترمذي وغيره من ورواية كثير بن زيد عن ربيح عن عبد الرحمن عن أبي سعيد ولكنه قدح في كثير بن زيد وفي ربيح أيضا وقد روى الحديث في التسمية من حديث عائشة وسهل بن سعد وابن سبرة وأم سبرة وعلى وأنس وفي الجميع مقال إلا أن هذه الروايات يقوى بعضها بعضا فلا تخلوا عن قوة ولذا قال ابن أبي شيبة ثبت لنا أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قاله وإذا عرفت هذا فالحديث قد دل على مشروعية التسمية في الوضوء وظاهر قوله لا وضوء أنه لا يصح ولا يوجد من دونها إذ الأصل في النفي الحقيقة وقد اختلف العلماء في ذلك فذهب الهادوية إلى أنها فرض على الذاكر وقال أحمد بن حنبل والظاهرية بل وعلى الناسى وفي أحد قولي الهادي إنها سنة وإليه ذهبت الحنفية والشافعية لحديث أبي هريرة "من ذكر الله أول وضوئه طهر جسده كله وإذا لم يذكر اسم الله لم يطهر منه إلا موضع الوضوء" أخرجه الدارقطني وغيره وهو ضعيف وبه استدل من فرق بين الذاكر والناسى قائلا إن الأول(1/53)
في حق العامد وهذا في حق الناسى وحديث أبي هريرة هذا الأخير وإن كان ضعيفا فقد عضده في الدلالة على عدم الفرضية حديث " توضأ كما أمرك الله" وقد تقدم وهو الدليل على تأويل النفي في حديث الباب بأن المراد لا وضوء كامل على أنه قد روى هذا الحديث بلفظ: "لا وضوء كامل" إلا أنه قال المصنف لم يروه بهذا اللفظ قاله البيهقي في السنن بعد إخراجه هذا أيضا ضعيف أبو بكر الداهرى يريد أحد رواته أنه غير ثقة عند أهل العلم بالحديث وأما القول بأن هذا مثبت ودال على الإيجاب فيرجح ففيه أنه لم يثبت ثبوتا يقضى بالإيجاب بل طرقه كما عرفت وقد دل على السنية حديث كل أمر ذي بال فيتعاضد هو وحديث الباب على مطلق الشرعية وأقلها الندبية.
20- (وعن طلحة هو أبو محمد أو أبو عبد الله طلحة بن مصرف بضم الميم وفتح الصاد المهملة وكسر الراء المشددة وفاء وطلحة أحد الأعلام الأثبات من التابعين مات سنة ثنتي عشرة ومائة عن أبيه مصرف عن جده كعب بن عمرو الهمداني ومنهم من يقول ابن عمر بضم العين المهملة قال ابن عبد البر والأشهر ابن عمرو وله صحبة ومنهم من ينكرها ولا وجه لإنكار من أنكر ذلك ثم ذكر هذا الحديث قال رأيت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يفصل بين المضمضة والاستنشاق أخرجه أبو داود بإسناد ضعيف لأنه من ورواية ليث بن أبي سليم وهو ضعيف قال النووي اتفق العلماء على ضعفه ولأن مصرفا والد طلحة مجهول الحال قال أبو داود وسمعت أحمد يقول زعموا أن ابن عيينة كان ينكره يقول إيش هذا طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده والحديث دليل على الفصل بين المضمضة والاستنشاق بأن يؤخذا لكل واحد ماء جديد وقد دل له أيضا حديث على عليه السلام وعثمان أنهما أفرادا المضمضة والاستنشاق ثم قالا هكذا رأينا رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم توضأ أخرجه أبو على بن السكن في صحاحه وذهب إلى هذا جماعة وذهبت الهاودية إلى أن السنة الجمع بينهما بغرفة لما أخرجه ابن ماجه من حديث علي عليه السلام أنه تمضمض فاستنشق ثلاثا من كف واحدة وأخرجه أبو داود والجمع بينهما ورد من حديث على من ست طرق وتأتي إحداها قريبا وكذلك من حديث عثمان عند أبي داود وغيره وفي لفظ لابن حبان ثلاث مرات من ثلاث حفنات وفي لفظ للبخارى ثلاث مرات غرفة واحدة ومع ورود الروايتين الجمع وعدمه فالأقرب التخيير وأن الكل سنة وإن كانت ورواية الجمع أكثر وأصح وقد اختار في الشرح التخيير وقال إنه قول الإمام يحيى واعلم أن الجمع قد يكون بغرفة واحدة وبثلاث منها كما أرشد إليه ظاهر قوله في الحديث من كف واحد ومن غرفة واحده وقد يكون الجمع بثلاث غرفات لكل واحدة من الثلاث المرات غرفة كما هو صريح ثلاث مرات من ثلاث حفنات قال البيهقي في السنن بعد ذكره الحديث يعني والله أعلم أنه تمضمض واستنثر كل مرة من غرفة واحدة ثم فعل ذلك ثلاثا من ثلاث غرفات قال ويدل له حديث عبد الله بن زيد ثم ساقه بسنده وفيه ثم أدخل يده في الإناء(1/54)
فمضمض واستنشق واستنثر ثلاث مرات من ثلاث غرفات من ماء ثم قال رواه البخاري في الصحيح وبه يتضح أنه يتعين هذا الاحتمال.
21- (وعن علي رضي الله عنه في صفة الوضوء ثم تمضمض صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم واستنثر ثلاثا يمضمض وينثر من الكف الذي يأخذ منه الماء أخرجه أبو داود والنسائي، هذا من أدلة الجمع ويحتمل أنه من غرفة واحدة أو من ثلاث غرفات
22- (وعن عبد الله بن زيد رضي الله عنه في صفة الوضوء أي وضوئه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ثم أدخل صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يده أي في الماء فمضمض واستنشق لم يذكر الاستنثار لأن المراد إنما هو ذكر اكتفائه بكف واحدة من الماء لما يدخل في الفم والأنف وأما دفع الماء فليس من مقصود الحديث من كف واحدة الكف يذكر ويؤنث يفعل ذلك ثلاثا متفق عليه هو ظاهر أنه كفاه كف واحد للثلاث المرات وإن كان يحتمل أنه أراد به فعل كل منهما من كف واحد يغترف في كل واحدة من الثلاث والحديث كالأول من أدلة الجمع وهذا الحديث والأول مقتطعان من الحديثين الطويلين في صفة الوضوء وقد تقدم مثل هذا إلا أن المصنف إنما يقتصر على موضع الحجة الذي يريده كالجمع هنا.
23- (وعن أنس رضي الله عنه قال رأى النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم رجلا وفي قدمه مثل الظفر بضم الظاء المعجمة والفاء فيه لغات أخر أجودها ما ذكر وجمعه أظفار وجمع الجمع أظافير لم يصبه الماء أي ماء وضوئه فقال له ارجع فأحسن وضوءك أخرجه أبو داود والنسائي
وقد أخرج مثله مسلم من حديث جابر عن عمر إلا أنه قيل إنه موقوف على عمر، وقد أخرج أبو داود من طريق خالد بن معدان عن بعض أصحاب النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم "أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم رأى رجلا يصلي وفي ظهر قدميه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء فأمره النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أن يعيد الوضوء والصلاة " ، قال أحمد بن حنبل لما سئل عن إسناده جيد نعم، هو دليل على وجوب استيعاب أعضاء الوضوء بالماء نصا في الرجل وقياسا في غيرها. وقد ثبت حديث ويل للأعقاب من النار قاله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في جماعة لم يمس أعقابهم الماء وإلى هذا ذهب الجمهور، وروى عن أبي حنيفة قال إنه يعفى عن نصف العضو أو ربعه أو أقل من الدرهم روايات حكيت عنه.
وقد استدل بالحديث أيضا على وجوب الموالاة حيث أمره أن يعيد الوضوء ولم يقتصر على أمره بغسل ما تركه قيل ولا دليل فيه لأنه أراد التشديد عليه في الإنكار والإشارة إلى أن من ترك شيئا فكأنه ترك الكل ولا يخفى ضعف هذا القول فالأحسن أن يقال إن قول الراوي أمره أن يعيد الوضوء أي غسل ما تركه وسماه إعادة باعتبار ظن المتوضىء فإنه صلى ظانا بأنه قد توضأ وضوءا مجزئا وسماه وضوءا في قوله يعيد الوضوء لأنه وضوء لغة، وفي الحديث دليل على أن الجاهل والناسي حكمهما في الترك حكم العامد.
24- (وعنه أي أنس بن مالك قال كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يتوضأ بالمد تقدم تحقيق قدره ويغتسل بالصاع وهو أربعة أمداد ولذا قال إلى خمسة(1/55)
أمداد كأنه قال بأربعة أمداد إلى خمسة متفق عليه
وتقدم أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم توضأ بثلثي مد وقدمنا أنه أقل ما قدر به ماء وضوئه ولو أخر المصنف ذلك الحديث إلى هنا أو قدم هذا لكان أوفق لحسن الترتيب.
ظاهر هذا الحديث أن هذا غآية ما كان ينتهي إليه وضوءه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وغسله ولا ينافيه حديث عائشة الذي أخرجه البخاري أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم توضأ من إناء واحد يقال له الفرق بفتح الفاء والراء وهو إناء يسع تسعة عشر رطلا لأنه ليس في حديثها أنه كان ملآنا ماء بل قولها من إناء يدل على تبعيض ما توضأ منه.
وحديث أنس هذا والحديث الذي سلف عن عبد الله بن زيد يرشدان إلى تقليل ماء الوضوء والاكتفاء باليسير منه
وقد قال البخاري وكره أهل العلم فيه أي ماء الوضوء أن يتجاوز فعل النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم.
25- (وعن عمر بضم العين المهملة منقول من جمع عمرة وهو أبو حفص عمر بن الخطاب القرشي يجتمع مع النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في كعب بن لؤي أسلم سنة ست من النبوة وقيل سنة خمس بعد أربعين رجلا، وشهد المشاهد كلها مع النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وله مشاهد في الإسلام وفتوحات في العراق والشام، وتوفي في غرة المحرم سنة أربع وعشرين طعنه أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة وخلافته عشر سنين ونصف. قال قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء" تقدم أنه إتمامه " ثم يقول" بعد إتمامه "أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية" هو من باب {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} عبر عن الآتي بالماضي لتحقق وقوعه والمراد تفتح له يوم القيامة يدخل من أيها شاء أخرجه مسلم وأبو داود وابن ماجه والترمذي وزاد "اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين"، جمع بينهما إلماما بقوله تعالى: {إِِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} . ولما كانت التوبة طهارة الباطن من أدران الذنوب والوضوء طهارة الظاهر عن الأحداث المانعة عن التقرب إليه تعالى ناسب الجمع بينهما أي طلب ذلك من الله تعالى غاية المناسبة في طلب أن يكون السائل محبوبا لله وفي زمرة المحبوبين له. وهذه الرواية وإن قال الترمذي بعد إخراجه الحديث في إسناده اضطراب فصدر الحديث ثابت في مسلم وهذه الزيادة قد رواها البزار والطبراني في الأوسط من طريق ثوبان بلفظ "من دعا بوضوء فتوضأ فساعة فرغ من وضوئه يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين" ورواه ابن ماجه من حديث أنس وابن السني في عمل اليوم والليلة والحاكم في المستدرك من حديث أبي سعيد بلفظ " من توضأ فقال سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك كتب في رق ثم طبع بطابع فلا يكسر إلى يوم القيامة" وصحح النسائي أنه موقوف وهذا الذكر عقيب الوضوء. قال النووي قال أصحابنا ويستحب أيضا عقيب الغسل.
وإلى هنا انتهى باب الوضوء ولم يذكر المصنف من الأذكار فيه إلا حديث التسمية في أوله وهذا الذكر في آخره. وأما حديث الذكر مع غسل كل عضو فلم(1/56)
يذكره للاتفاق على ضعفه، قال النووي الأدعية في أثناء الوضوء لا أصل لها ولم يذكرها المتقدمون، وقال ابن الصلاح لم يصح فيه حديث.
هذا ولا يخفى حسن ختم المصنف باب الوضوء بهذا الدعاء الذي يقال عند تمام الوضوء فعلا فقاله عند تمام أدلته تأليفا وعقب الوضوء بالمسح على الخفين لأنه من أحكام الوضوء فقال:(1/57)
باب المسح على الخفين
أي باب ذكر أدلة شرعية ذلك. والخف: نعل من أدم يغطي الكعبين. والجرموق: خف كبير يلبس فوق خف صغير. والجورب فوق الجرموق يغطي الكعبين بعض التغطية دون النعل، وهي تكون دون الكعاب.
1- (عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: كنت مع النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم) أي: في سفر، كما صرح به البخاري. وعند مالك وأبي داود تعيين السفر: أنه في غزوة تبوك، وتعيين الصلاة: أنها صلاة الفجر (فتوضأ) أي أخذ في الوضوء، كما صرحت به الأحاديث، ففي لفظ: "تمضمض واستنشق ثلاث مرات" وفي أخرى: فمسح برأسه، فالمراد بقوله: توضأ أخذ فيه، لا أنه استكمله، كما هو ظاهر اللفظ (فأهويت) أي مددت يدي، أو قصدت الهوى من القيام إلى القعود (لأنزع خفيه) كأنه لم يكن قد علم برخصة المسح، أو علمها وظن أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم سيفعل الأفضل، بناء على أن الغسل أفضل، ويأتي فيه الخلاف، أو جوز أنه لم يحصل شرط المسح، وهذا الأخير أقرب لقوله: (فقال: "دعهما" أي الخفين "فإني أدخلتُهما طاهرَتين" حال من القدمين، كما تبينه ورواية أبي داود: "فإني أدخلت القدمين الخفين وهما طاهرتان" (فمسح عليهما. متفق عليه) بين الشيخين. ولفظه هنا للبخاري. وذكر البزار: أنه روى عن المغيرة من ستين طريقاً، وذكر منها ابن منده: خمسة وأربعين طريقاً.
والحديث دليل على جواز المسح على الخفين في السفر، لأن هذا الحديث ظاهر فيه كما عرفت. وأما في الحضر، فيأتي الكلام عليه في الحديث الثالث.
وقد اختلف العلماء في جواز ذلك، فالأكثر على جوازه سفراً؛ لهذا الحديث وحضراً لغيره من الأحاديث. قال أحمد بن حنبل: فيه أربعون حديثاً عن الصحابة مرفوعة. وقال ابن أبي حاتم: فيه عن أحد وأربعين صحابياً، وقال ابن عبد البر في الاستذكار: روى عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم المسح على الخفين نحو من أربعين من الصحابة.
ونقل ابن المنذر عن الحسن البصري قال: حدثني سبعون من أصحاب رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "أنه كان يمسح على الخفين. وذكر أبو القاسم بن منده: أسماء من رواه في تذكرته فبلغوا ثمانين صحابياً. والقول بالمسح: قول أمير المؤمنين علي عليه السلام، وسعد بن أبي وقاص، وبلال، وحذيفة، وبريدة، وخزيمة بن ثابت، وسلمان، وجرير البجلي، وغيرهم.
قال ابن المبارك: ليس في المسح على الخفين بين الصحابة اختلاف؛ لأن كل من روى عنه إنكاره، فقد روى عنه إثباته.
وقال ابن عبد البر: لا أعلم أنه روى عن أحد من السلف إنكاره، إلا عن مالك، مع أن الرواية الصحيحة عنه مصرحة بإثباته.
قال المصنف: قد صرح جمع من(1/57)
الحفاظ بأن المسح متواتر، وقال به أبو حنيفة، والشافعي، وغيرهما مستدلين بما سمعت.
وروى عن الهادوية والإمامية والخوارج: القول بعدم جوازه، واستدلوا بقوله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ} - قالوا: فعينت الآية مباشرة الرجلين بالماء، واستدلوا أيضاً: بما سلف في باب الوضوء من أحاديث التعليم، وكلها عينت غسل الرجلين. قالوا: والأحاديث التي ذكرتم في المسح منسوخة بآية المائدة؛ والدليل على النسخ قول علي عليه السلام: سبق الكتاب الخفين. وقول ابن عباس: ما مسح رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بعد المائدة.
وأجيب: أولاً: بأن آية الوضوء نزلت في غزوة المريسيع، ومسحه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في غزوة تبوك، كما عرفت، فكيف ينسخ المتقدم المتأخر.
وثانياً: بأنه لو سلم تأخر آية المائدة، فلا منافاة بين المسح والآية؛ لأن قوله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ}. مطلق، وقيدته أحاديث المسح على الخف، أو عام وخصصته تلك الأحاديث.
وأما ما روي عن علي عليه السلام، فهو حديث منقطع، وكذا ما روي عن ابن عباس، مع أنه يخالف ما ثبت عنهما من القول بالمسح.
وقد عارض حديثهما ما هو أصح منهما، وهو حديث جرير البجلي؛ فإنه لما روى: أنه رأى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يمسح على خفيه، قيل له: هل كان ذلك قبل المائدة أو بعدها؟ قال: وهل أسلمت إلا بعد المائدة؟ وهو حديث صحيح.
وأما أحاديث التعليم، فليس فيها ما ينافي جواز المسح على الخفين: فإنها كلها فيمن ليس عليه خفان. فأي دلالة على نفي ذلك، على أنه قد يقال: قد ثبت في آية المائدة القراءة بالجر لأرجلكم عطفاً على الممسوح وهو الرأس، فيحمل على مسح الخفين، كما بينته السنة، ويتم ثبوت المسح بالسنة والكتاب، وهو أحسن الوجوه التي توجه به قراءة الجر.
إذا عرفت هذا فللمسح عند القائلين به شرطان: الأول: ما أشار إليه الحديث، وهو لبس الخفين مع كمال طهارة القدمين؛ وذلك بأن يلبسهما وهو على طهارة تامة، بأن يتوضأ حتى يكمل وضوءه ثم يلبسهما، فإذا أحدث بعد ذلك حدثاً أصغر، جاز المسح عليهما، بناء على أنه أريد بطاهرتين الطهارة الكاملة، وقد قيل: بل يحتمل أنهما طاهرتان عن النجاسة، يروى عن داود، ويأتي من الأحاديث ما يقوي القول الأول.
والثاني مستفاد من مسمى الخف، فإن المراد به الكامل؛ لأنه المتبادر عند الإطلاق، وذلك بأن يكون ساتراً قوياً مانعاً نفوذ الماء غير مخرق، فلا يمسح على ما لا يستر العقبين، ولا على مخرق يبدو منه محل الفرض، ولا على منسوج؛ إذ لا يمنع نفوذ الماء، ولا مغصوب لوجوب نزعه.
هذا وحديث المغيرة لم يبين كيفية المسح، ولا كميته، ولا محله، ولكن الذي أفاده قول المصنف.
2- (وللأربعة عَنْهُ إلا النّسائي: أنَّ النبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مسَحَ أعْلى الْخُفِّ وأسْفَلَهُ. وفي إسناده ضَعْفٌ.
بيّن أن محل المسح أعلى الخف وأسفله، ويأتي من ذهب إليه، ولكنه قد أشار إلى ضعفه، وبيّن وجه ضعفه في التلخيص، وأن أئمة الحديث ضعفوه بكاتب المغيرة هذا.
وكذلك بين محل المسح وعارض حديث المغيرة هذا.
3- (وعن علي عليه السلام، أنه قال: لو كانَ الدِّين بالرأي) أي بالقياس وملاحظة المعاني (لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه) أي ما تحت القدمين أولى بالمسح من الذي هو على أعلاهما؛ لأنه الذي يباشر المشي، ويقع على ما ينبغي إزالته،(1/58)
بخلاف أعلاه، وهو ما على ظهر القدم (وقد رأيت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يَمْسَحُ على ظاهرِ خفيه، أخرجه أبو داود بإسناد حسن) وقال المصنف في التلخيص: إنه حديث صحيح.
والحديث فيه إبانة لمحل المسح على الخفين، وأنه ظاهرهما، لا غير، ولا يمسح أسفلهما.
وللعلماء في ذلك قولان: أحدهما أن يغمس يديه في الماء، ثم يضع باطن كفه اليسرى تحت عقب الخف، وكفه اليمنى على أطراف أصابعه، ثم يمر اليمنى إلى ساقه، واليسرى إلى أطراف أصابعه. وهذا للشافعي. واستدل لهذه الكيفية بما ورد في حديث المغيرة: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مسح على خفيه، ووضع يده اليمنى على خفه الأيمن، ويده اليسرى على خفه الأيسر، ثم مسح أعلاهما مسحة واحدة، كأني أنظر أصابعه على الخفين" رواه البيهقي، وهو منقطع، على أنه لا يفي بتلك الصفة.
وثانيهما: مسح أعلى الخف دون أسفله، وهي التي أفادها حديث علي عليه السلام هذا.
وأما القدر المجزىء من ذلك: فقيل: لا يجزىء إلا قدر ثلاث أصابع، وقيل: ولو بأصبع، وقيل: لا يجزىء إلا إذا مسح أكثره، وحديث علي، وحديث المغيرة المذكوران في الأصل ليس فيهما تعرض لذلك. نعم قد روى عن علي عليه السلام: أنه رأى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يمسح على ظهر الخف خطوطاً بالأصابع. قال النووي: إنه حديث ضعيف. وروى عن جابر: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أرى بعض من علمه المسح، أن يمسح بيده من مقدم الخفين إلى أصل الساق مرة، وفرج بين أصابعه". قال المصنف: إسناده ضعيف جداً. فعرفت أنه لم يرد في الكيفية، ولا الكمية حديث يعتمد عليه إلا حديث علي في بيان محل المسح. والظاهر أنه إذا فعل المكلف ما يسمى مسحاً على الخف لغة أجزأه. وأما مقدار زمان جواز المسح فقد أفاده الحديث.
4- (وعن صفوان) بفتح الصاد المهملة وسكون الفاء (ابن عسال) بفتح المهملة وتشديد السين المهملة وباللام المرادي سكن الكوفة (قال: كان النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يأمُرُنا إذا كنّا سَفْراً ) جمع سافر كتجر جمع تاجر ( ألا ننزَع خفافَنا ثلاثةَ أيام ولياليهن إلا من جنابة ) أي فننزعها ولو قبل مرور الثلاث (ولكن) لا ننزعهن ( من غائط وبول ونوم ) أي لأجل هذه الأحداث إلا إذا مرت المدة المقدرة (أخرجه النسائي، والترمذي، واللفظ له، وابن خزيمة، وصححاه) أي الترمذي، وابن خزيمة، ورواه الشافعي، وابن ماجه، وابن حبان، والدارقطني، والبيهقي، وقال الترمذي عن البخاري: إنه حديث حسن. بل قال البخاري: ليس في التوقيت شيء أصح من حديث صفوان بن عسال المرادي، وصححه الترمذي، والخطابي.
والحديث دليل على توقيت إباحة المسح على الخفين للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وفيه دلالة على اختصاصه بالوضوء دون الغسل وهو مجمع عليه. وظاهر قوله: "يأمرنا" الوجوب، ولكن الإجماع صرفه عن ظاهره فبقي للإباحة وللندب.
وقد اختلف العلماء: هل الأفضل المسح على الخفين، أو خلعهما وغسل القدمين. قال المصنف عن ابن المنذر: والذي اختاره أن المسح أفضل. وقال النووي: صرح أصحابنا: بأن الغسل أفضل، بشرط أن لا يترك المسح رغبة عن السنة، كما قالوا في تفضيل القصر على الإتمام.
5- (وعن علي عليه السلام قال: جعل رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ثلاثة أيام(1/59)
وليَاليَهُنَّ للمُسافر ويوماً وليلة للمُقيم يعني في المسح على الخفين ) هذا مدرج من كلام علي، أو من غيره من الرواة (أخرجه مسلم)، وكذلك أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن حبان.
والحديث دليل على توقيت المسح على الخفين للمسافر، كما سلف في الحديث قبله، ودليل على مشروعية المسح للمقيم أيضاً، وعلى تقدير زمان إباحته بيوم وليلة للمقيم. وإنما زاد في المدة للمسافر؛ لأنه أحق بالرخصة من المقيم؛ لمشقة السفر.
6- (وعن ثوبان) بفتح المثلثة تثنية ثوب، وهو أبو عبد الله، أو أبو عبد الرحمن. قال ابن عبد البر: والأول أصح. ابن بجدد بضم الموحدة وسكون الجيم وضم الدال المهملة الأولى. وقيل: ابن جحدر بفتح الجيم وسكون الحاء المهملة فدال مهملة فراء، وهو من أهل السراة موضع بين مكة والمدينة، وقيل: من حمير أصابه سبي، فشراه رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فأعتقه، ولم يزل ملازماً لرسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم سفراً وحضراً، إلى أن توفي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فنزل الشام، ثم انتقل إلى حمص، فتوفي بها سنة أربع وخمسين.
(قال: بعث رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم سرية، فأمرهُم أنْ يَمْسَحُوا على العَصَائب، يعني العَمائم) سميت عصابة لأنه يعصب بها الرأس (والتساخين) بفتح المثناة بعدها سين مهملة وبعد الألف خاء معجمة فمثناة تحتية فنون جمع تسخان. قال في القاموس: التساخين: المراجل الخفاف، وفسرها الراوي بقوله: (يعني الخفاف) جمع خف. والظاهر أنه وما قبله في قوله: يعني العمائم مدرج في الحديث من كلام الراوي (رواه أحمد، وأبو داود، وصححه الحاكم).
ظاهر الحديث: أنه يجوز المسح على العمائم كالمسح على الخفين، وهل يشترط فيها الطهارة للرأس، والتوقيت كالخفين؟ لم نجد فيه كلاماً للعلماء، ثم رأيت بعد ذلك في حواشي القاضي عبد الرحمن على بلوغ المرام: أنه يشترط في جواز المسح على العمائم أن يعتم الماسح بعد كمال الطهارة، كما يفعل الماسح على الخف. وقال: وذهب إلى المسح على العمائم بعض العلماء، ولم يذكر لما ادعاه دليلاً. وظاهره أيضاً أنه لا يشترط للمسح عليها عذر، وأنه يجزىء مسحها، وإن لم يمس الرأس ماء أصلاً.
وقال ابن القيم: إنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مسح على العمامة فقط، ومسح على الناصية، وكمل على العمامة، وقيل: لا يكون ذلك إلا للعذر؛ لأن في الحديث عند أبي داود: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بعث سرية فأصابهم البرد. فلما قدموا على رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، أمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين"، فيحمل ذلك على العذر، وفي هذا الحمل بعد، وإن جنح إلى القول به في الشرح؛ لأنه قد ثبت المسح على الخفين، والعمامة من غير عذر في غير هذا.
7- (وعن عمر موقوفاً) الموقوف: هو ما كان من كلام الصحابي، ولم ينسبه إلى النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم (وعن أنس مرفوعاً) إليه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إذا توضأ أحدكم فلبس خُفّيْه فلْيَمْسَحْ عليهما" تقييد اللبس، والمسح ببعد الوضوء: دليل: على أنه أريد بطاهرتين في حديث المغيرة، وما في معناه: الطهارة المحققة من الحدث الأصغر "وليصل فيهما ولا يخلعها إن شاء" قيدهما بالمشيئة: دفعاً لما يفيده ظاهر الأمر من الوجوب، وظاهر النهي من التحريم (إلا من جنابة) فقد عرفت أنه يجب خلعهما (أخرجه الدارقطني والحاكم(1/60)
وصححه (.والحديث قد أفاد شرطية الطهارة، وأطلقه عن التوقيت، فهو مقيد به، كما يفيده حديث صفوان، وحديث علي عليه السلام.
8- (وعن أبي بكرة) بفتح الموحدة وسكون الكاف وراء، اسمه نفيع بضم النون وفتح الفاء وسكون المثناة التحتية اخره عين مهملة، ابن مسروح، وقيل: ابن الحارث، وكان أبو بكرة يقول: أنا مولى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، ويأبى أن ينتسب. وكان نزل من حصن الطائف عند حصاره صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم له في جماعة من غلمان أهل الطائف، وأسلم وأعتقه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وكان من فضلاء الصحابة، قال ابن عبد البر: كان مثل النضر بن عبادة، مات بالبصرة سنة إحدى، أو ثنتين وخمسين وكان أولاده أشرافاً بالبصرة بالعلم والولايات، وله عقب كثير:
)عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "أنّه رخّص للمُسافر ثلاثةَ أيّام ولَيَاليَهُنّ" أي في المسح على الخفين (وللمُقيم يَوْماً ولَيْلَةً إذا تَطَهّرَ ) أي كل من المقيم والمسافر إذا تطهر من الحدث الأصغر (فَلَبِس خُفّيْه) ليس المراد من الفاء التعقيب، بل مجرد العطف؛ لأنه معلوم أنه ليس شرطاً في المسح (أن يمسح عليهما. أخرجه الدارقطني، وصححه ابن خزيمة)، وصححه الخطابي أيضاً، ونقل البيهقي: أن الشافعي صححه، وأخرجه ابن حبان، وابن الجارود، وابن أبي شيبة، والبيهقي، والترمذي في العلل.
والحديث مثل حديث علي عليه السلام في إفادة مقدار المدة للمسافر والمقيم. ومثل حديث عمر وأنس في شرطية الطهارة، وفيه إبانة أن المسح رخصة لتسمية الصحابي له بذلك.
9- (وعن أبيِّ) بضم الهمزة وتشديد المثناة التحتية (ابن عمارة) بكسر العين المهملة، وهو المشهور وقد تضم. قال المصنف في التقريب: مدني سكن مصر، له صحبة، في إسناد حديثه اضطراب، يريد هذا الحديث، ومثله قال ابن عبد البر في الاستيعاب: (أنه قال: يا رسول الله أمْسَحُ عَلى الخُفّيْن؟ قال: نعم، قال: يوماً؟ قال: نعم، قال: ويومين قال: نعم، قال: وثلاثة أيام؟ قال: نعم، وما شئت. أخرجه أبو داود وقال: ليس بالقوي).
قال الحافظ المنذري في مختصر السنن: وبمعناه: أي بمعنى ما قال أبو داود قال البخاري. وقال الإمام أحمد: رجاله لا يعرفون. وقال الدارقطني: هذا إسناد لا يثبت اهـ.
وقال ابن حبان: لست أعتمد على إسناد خبره. وقال ابن عبد البر: لا يثبت، وليس له إسناد قائم، وبالغ ابن الجوزي، فعدّه في الموضوعات.
وهو دليل على عدم توقيت المسح في حضر ولا سفر، وهو مروي عن مالك، وقديم قولي الشافعي، ولكن الحديث لا يقاوم مفاهيم الأحاديث التي سلفت، ولا يدانيها، ولو ثبت لكان إطلاقه مقيداً بتلك الأحاديث، كما يقيد بشرطية الطهارة التي أفادتها.
هذا وأحاديث باب المسح تسعة وعدَّها في الشرح ثمانية ولا وجه له.(1/61)
باب نواقض الوضوء
النواقض: جمع ناقض، والنقض في الأصل: حلّ المبرم، ثم استعمل في إبطال الوضوء بما عيّنه الشارع مبطلاً مجازاً، ثم صار حقيقة عرفية. وناقض الوضوء ناقض للتيمم؛ فإنه بدل عنه.(1/61)
1- (عن أنس بن مالك قال: كان أصحاب رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على عَهْدِه ينتظرون العشاء حتى تخْفقَ) من باب ضرب يضرب: أي: تميل (رُؤوسُهُمْ) أي من النوم (ثم يُصَلُّونَ ولا يَتَوَضأونَ. أخرجه أبو داود، وصححه الدارقطني، وأصله في مسلم) وأخرجه الترمذي، وفيه "يوقظون للصلاة"، وفيه "حتى إني لأسمع لأحدهم غطيطاً، ثم يقومون فيصلون ولا يتوضأون". وحمله جماعة من العلماء على نوم الجالس، ودفع هذا التأويل: بأن في ورواية عن أنس: "يضعون جنوبهم" رواها يحيى القطان.
قال ابن دقيق العيد: يحمل على النوم الخفيف.
وردّ: بأنه لا يناسبه ذكر الغطيط، والإيقاظ؛ فإنهما لا يكونان إلا في نوم مستغرق.
وإذا عرفت هذا فالأحاديث قد اشتملت على خفقة الرأس، وعلى الغطيط، وعلى الإيقاظ، وعلى وضع الجنوب، وكلها وصفت بأنهم كانوا لا يتوضأون من ذلك، فاختلف العلماء في ذلك على أقوال ثمانية:
الأول: أنّ النوم ناقض مطلقاً على كل حال، بدليل إطلاقه في حديث صفوان بن عسال الذي سلف في مسح الخفين، وفيه: من بول، أو غائط، أو نوم.
قالوا: فجعل مطلق النوم كالغائط، والبول في النقض، وحديث أنس بأي عبارة روي ليس فيه بيان أنه قرّرهم رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على ذلك، ولا راهم، فهو فعل صحابي لا يدري كيف وقع، والحجة إنما هي في أفعاله، وأقواله، وتقريراته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم.
القول الثاني: أنه لا ينقض مطلقاً؛ لما سلف من حديث أنس، وحكآية نوم الصحابة على تلك الصفات، ولو كان ناقضاً لما أقرّهم الله عليه، وأوحى إلى رسوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في ذلك، كما أوحي إليه في شأن نجاسة نعله، وبالأولى صحة صلاة من خلفه، ولكنه يردّ عليهم حديث صفوان بن عسال.
القول الثالث: أن النوم ناقض كلّه، إنما يعفى عن خفقتين ولو توالتا، وعن الخفقات المتفرقات، وهو مذهب الهادوية، والخفقة: هي ميلان الرأس من النعاس، وحدّ الخفقة أن لا يستقر رأسه من الميل حتى يستيقظ، ومَنْ لم يمل رأسه عفي له عن قدر خفقة، وهي ميل الرأس فقط حتى يصل ذقنه صدره، قياساً على نوم الخفقة، ويحملون أحاديث أنس على النعاس الذي لا يزول معه التمييز. ولا يخفى بعده.
القول الرابع: أنّ النوم ليس بناقض بنفسه بل هو مظنة للنقض لا غير، فإذا نام جالساً ممكناً مقعدته من الأرض لم ينتقض، وإلا انتقض، وهو مذهب الشافعي، واستدل بحديث علي عليه السلام: "العين وكاء السَّه فمن نام فليتوضأ" حسنه الترمذي، إلا أن فيه مَنْ لا تقوم به حجة، وهو بقية بن الوليد، وقد عنعنه، وحمل أحاديث أنس على من نام ممكناً مقعدته، جمعاً بين الأحاديث، وقيّد حديث صفوان بحديث علي عليه السلام هذا.
الخامس: أنه إذا نام على هيئة من هيئات المصلي راكعاً، أو ساجداً، أو قائماً، فإنه لا ينتقض وضوؤه سواء كان في الصلاة، أو خارجها، فإن نام مضجعاً، أو على قفاه نقض، واستدل له بحديث: "إذا نام العبد في سجوده باهى الله به الملائكة. يقول: عبدي روحه عندي وجسده ساجد بين يدي" رواه البيهقي وغيره، وقد ضعف.
قالوا: فسماه ساجداً وهو نائم، ولا سجود إلا بطهارة.
وأجيب: بأنه سماه باعتبار أول أمره، أو باعتبار هيئته.
السادس: أنه ينتقض إلا نوم الراكع والساجد؛ للحديث الذي سبق، وإن كان خاصاً بالسجود، فقد قاس عليه الركوع، كما قاس الذي قبله سائر هيئات المصلى.
السابع:(1/62)
أنه لا ينقض النوم في الصلاة على أي حال، وينقض خارجها، وحجته الحديث المذكور، لأنه حجة هذه الأقوال الثلاثة.
الثامن: أن كثير النوم ينقض على كل حال، ولا ينقض قليله، وهؤلاء يقولون: إن النوم ليس بناقض بنفسه، بل مظنة النقض، والكثير مظنة، بخلاف القليل، وحملوا أحاديث أنس على القليل، إلا أنهم لم يذكروا قدر القليل، ولا الكثير حتى يعلم كلامهم بحقيقته، وهل هو داخل تحت أحد الأقوال، أم لا؟.
فهذه أقوال العلماء في النوم اختلفت أنظارهم فيه؛ لاختلاف الأحاديث التي ذكرناها. وفي الباب أحاديث لا تخلو عن قدح أعرضنا عنها.
والأقرب القول: بأنّ النوم ناقض لحديث صفوان، وقد عرفت أنه صححه ابن خزيمة، والترمذي، والخطابي، ولكن لفظ النوم في حديثه مطلق ودلالة الاقتران ضعيفة، فلا يقال: قد قرن بالبول والغائط، وهما ناقضان على كل حال. ولما كان مطلق ورود حديث أنس بنوم الصحابة، وأنهم كانوا لا يتوضأون ولو غطوا غطيطاً، وبأنهم كانوا يضعون جنوبهم، وبأنهم كانوا يوقظون، والأصل جلالة قدرهم، وأنهم لا يجهلون ما ينقض الوضوء، سيما وقد حكاه أنس عن الصحابة مطلقاً، ومعلوم أن فيهم العلماء العارفين بأمور الدين خصوصاً الصلاة التي هي أعظم أركان الإسلام، وسيما الذين كانوا منهم ينتظرون الصلاة معه صلى الله عليه واله وسلم، فإنهم أعيان الصحابة، وإذا كانوا كذلك فيقيد مطلق حديث صفوان بالنوم المستغرق الذي لا يبقى معه إدراك، ويؤول ما ذكره أنس من الغطيط ووضع الجنوب والإيقاظ بعدم الاستغراق، فقد يغطّ من هو في مبادىء نومه قبل استغراقه. ووضع الجَنْب لا يستلزم الاستغراق، فقد كان صلى الله عليه واله وسلم يضع جنبه بعد ركعتي الفجر ولا ينام، فإنه كان يقوم لصلاة الفجر بعد وضع جنبه.
وإن كان قيل: إنه من خصائصه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "أنه لا ينقض نومه وضوءه، فعدم ملازمة النوم لوضع الجنب معلومة، والإيقاظ قد يكون لمن هو في مبادىء النوم، فينبه، لئلا يستغرقه النوم.
هذا وقد ألحق بالنوم الإغماء، والجنون، والسكر بأي مسكر، بجامع زوال العقل. وذكر في الشرح أنهم اتفقوا على أن هذه الأمور ناقضة، فإن صح كان الدليل الإجماع.
2- (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت فاطمة بنتُ أبي حُبَيْش) حبيش بضم الحاء المهملة وفتح الباء الموحدة وسكون المثناة التحتية فشين معجمة. وفاطمة قرشية أسدية، وهي زوج عبد الله بن جحش (إلى النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فقالت: يا رسول الله إني امرأة أُسْتَحاض) من الاستحاضة وهي: جريان الدم من فرج المرأة في غير أوانه (فلا أطْهُرُ أفأدعُ الصلاة؟ قال: "لا إنما ذلك" بكسر الكاف خطاب للمؤنث "عرق" بكسر العين المهملة وسكون الراء فقاف، وفي فتح الباري: أن هذا العرق يسمى العاذل بعين مهملة وذال معجمة، ويقال: عاذر: بالراء بدلاً عن اللام، كما في القاموس "وليس بحيض" فإن الحيض يخرج من قعر رحم المرأة، فهو إخبار باختلاف المخرجين، وهو رد لقولها: لا أطهر؛ لأنها اعتقدت أن طهارة الحائض لا تعرف إلا بانقطاع الدم، فكنّت بعدم الطهر عن اتصاله، وكانت قد علمت: أن الحائض لا تصلي، فظنّت أنّ ذلك الحكم مقترن بجريان الدم، فأبان لها صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "أنه ليس بحيض، وأنها طاهرة يلزمها الصلاة "فإذا أقبَلَتْ حَيْضَتُك"(1/63)
بفتح الحاء ويجوز كسرها، والمراد بالإقبال: ابتداء دم الحيض "فدعي الصلاة" يتضمّن: نهي الحائض عن الصلاة، وتحريم ذلك عليها، وفساد صلاتها، وهو إجماع "وإذا أدْبَرَتْ" هو ابتداء انقطاعها "فاغْسلي عنك الدمَ" أي: واغتسلي، وهو مستفاد من أدلة أخرى "ثم صلي" . متفق عليه(.
الحديث دليل على وقوع الاستحاضة، وعلى أنّ لها حكماً يخالف حكم الحيض، وقد بيّنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أكمل بيان، فإنه أفتاها بأنها لا تدع الصلاة مع جريان الدم، وبأنها تنتظر وقت إقبال حيضها، فتترك الصلاة فيها، وإذا أدبرت غسلت الدم، واغتسلت كما ورد في بعض طرق البخاري: "واغتسلي". وفي بعضها كورواية المصنف هنا: الاقتصار على غسل الدم.
والحاصل: أنه قد ذكر الأمران في الأحاديث الصحيحة غسل الدم، والاغتسال. وإنما بعض الرواة اقتصر على أحد الأمرين، والآخر على الآخر. ثم أمرها بالصلاة بعد ذلك. نعم، وإنما بقي الكلام في معرفتها لإقبال الحيض مع استمرار الدم بماذا يكون؟ فإنه قد أعلم الشارع المستحاضة بأحكام إقبال الحيضة، وإدبارها، فدل على أنها تميز ذلك بعلامة. وللعلماء في ذلك قولان:
أحدهما: أنها تميّز ذلك بالرجوع إلى عادتها، فإقبالها وجود الدم في أول أيام العادة، وإدبارها انقضاء أيام العادة، وورد الردّ إلى أيام العادة في حديث فاطمة في بعض الروايات بلفظ: "دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها" ، وسيأتي في باب الحيض تحقيق الكلام على ذلك.
الثاني: ترجع إلى صفة الدم، كما يأتي في حديث عائشة في قصة فاطمة بنت أبي حبيش هذه بلفظ: "إن دم الحيض أسود يعرف، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة، وإذا كان الاخر فتوضئي، وصلي، ويأتي في باب الحيض إن شاء الله تعالى، فيكون إقبال الحيض إقبال الصفة، وإدباره إدبارها، ويأتي أيضاً الأمر بالرد إلى عادة النساء، ويأتي تحقيق ذلك جميعاً، ويأتي بيان اختلاف العلماء، وأن كلا ذهب إلى القول بالعمل بعلامة من العلامات.
)وللبخاري) أي: من حديث عائشة هذا زيادة: "ثم توضئي لكُلّ صلاة" ، وأشار مسلم إلى أنه حذفها عمداً) فإنه قال في صحيحه بعد سياق الحديث: وفي حديث حماد حرف تركنا ذكره. قال البيهقي: هو قوله: "توضئي" ؛ لأنها زيادة غير محفوظة، وأنه تفرد بها بعض الرواة عن غيره ممن روى الحديث. وقد قرر المصنف في الفتح: أنها ثابتة من طرق ينتفي معها تفرد من قاله مسلم.
واعلم أن المصنف ساق حديث المستحاضة في باب النواقض، وليس المناسب للباب إلا هذه الزيادة، لا أصل الحديث، فإنه من أحكام باب الاستحاضة والحيض، وسيعيده هنالك، فهذه الزيادة هي الحجة على أنّ دم الاستحاضة حدث، من جملة الأحداث، ناقض للوضوء، ولهذا أمر الشارع بالوضوء منه لكل صلاة؛ لأنه إنما رفع الوضوء حكمه لأجل الصلاة، فإذا فرغت من الصلاة نقض وضوؤها، وهذا قول الجمهور: أنها توضأ لكل صلاة.
وذهبت الهادوية والحنفية: إلى أنها توضأ لوقت كل صلاة، وأن الوضوء متعلق بالوقت، وأنها تصلي به الفريضة الحاضرة، وما شاءت من النوافل، وتجمع بين الفريضتين على وجه الجواز عند من: يجيز ذلك، أو لعذر، وقالوا: الحديث فيه مضاف مقدر وهو: لوقت كل صلاة فهو من مجاز الحذف؛ ولكنه لا بدّ من قرينة توجب التقدير؛ وقد تكلف في الشرح: إلى ذكر ما لعله يقال: إنه قرينة للحذف، وضعفه.
وذهبت المالكية:(1/64)
إلى أنه يستحب الوضوء ولا يجب إلاّ لحدث اخر.
وسيأتي تحقيق ما في ذلك في حديث حمنة بنت جحش في باب الحيض إن شاء الله تعالى، وتأتي أحكام المستحاضة التي تجوز لها، وتفارق بها الحائض هنالك فهو محل الكلام عليها، وفي الشرح سرده هنا، وأما هنا فما ذكر حديثها إلا باعتبار نقض الاستحاضة للوضوء.
3- (وعن علي عليه السلام قال: كُنْتُ رَجُلاً مَذَّاءً) بزنة ضراب صيغة مبالغة من المذي بفتح الميم وسكون الذال المعجمة وتخفيف الياء، وفيه لغات، وهو ماء أبيض لزج رقيق يخرج عند الملاعبة، أو تذكر الجماع، أو إرادته، يقال: مذى زيد يمذي، مثل: مضى يمضي، وأمذى يمذي، مثل: أعطى يعطي (فأَمَرْتُ المقْدَادَ) وهو ابن الأسود الكندي (أنْ يسألَ رسولَ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم) أي: عما يجب على مَنْ أمذى، فسأله (فقال: فيه الوُضُوءُ. متفق عليه واللفظ للبخاري(.
وفي بعض ألفاظه عند البخاري بعد هذا: "فاستحييت أن أسأل رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم.
"وفي لفظ: "لمكان ابنته مني" وفي لفظ لمسلم: "لمكان فاطمة".
ووقع عند أبي داود، والنسائي، وابن خزيمة عن علي عليه السلام بلفظ: "كنت رجلاً مذاءً فجعلت أغتسل منه في الشتاء حتى تشقق ظهري". وزاد في لفظ للبخاري فقال: "توضأ واغسل ذكرك" ، وفي مسلم: "اغسل ذكرك وتوضأ" ، وقد وقع اختلاف في السائل هل هو المقداد كما في هذه الرواية، أو عمار كما في ورواية أخرى؟ وفي ورواية أخرى: أن علياً رضي الله عنه هو السائل.
وجمع ابن حبان بين ذلك: بأن علياً عليه السلام أمر المقداد أن يسأل، ثم سأل بنفسه، إلا أنه تعقب: بأن قوله: فاستحييت أن أسأل لمكان ابنته مني: دالّ على أنه رضي الله عنه لم يباشر السؤال، فنسبة السؤال إليه في ورواية مَنْ قال: إنّ علياً سأل: مجاز؛ لكونه الآمر بالسؤال.
والحديث دليل على أنّ المذي ينقض الوضوء، ولأجله ذكره المصنف في هذا الباب، ودليل على أنه لا يوجب غسلاً، وهو إجماع، ورواية "توضأ واغسل ذكرك" لا تقتضي تقديم الوضوء؛ لأن الواو لا تقتضي الترتيب، ولأن لفظ رواية مسلم تبين المراد، وأما إطلاق لفظ (ذكرك) فهو ظاهر في غسل الذكر كله، وليس كذلك، إذ الواجب غسل محل الخارج، وإنما هو من إطلاق اسم الكل على البعض، والقرينة ما علم من قواعد الشرع.
وذهب البعض إلى أنه يغسله كله عملاً بلفظ الحديث، وأيده رواية أبي داود: "يغسل ذكره وأنثييه ويتوضأ" ، وعنده أيضاً: "فتغسل من ذلك فرجك وأنثييك وتوضأ للصلاة" إلا أنّ ورواية غسل الأنثيين قد طعن فيها، وأوضحناه في حواشي ضوء النهار، وذلك أنها من ورواية عروة، عن علي، وعروة لم يسمع من علي، إلا أنه رواه أبو عوانة في صحيحه من طريق عبيدة، عن علي بالزيادة. قال المصنف في التلخيص: وإسناده لا مطعن فيه، فمع صحتها فلا عذر عن القول بها.
وقيل: الحكمة فيه: أنه إذا غسله كله تقلص فبطل خروج المذي، واستدل بالحديث على نجاسة المذي.
4-(وعن عائشة: أنَّ النَّبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قَبّل بَعْضَ نِسائِهِ، ثمَّ خَرَجَ إلى الصَّلاةِ وَلَمْ يَتَوَضَّأ . أخرجهُ أحمد، وضعّفهُ البُخاريُّ.
وأخرجه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه. قال الترمذي: سمعت محمد بن إسماعيل يضعف هذا الحديث، وأبو داود(1/65)
أخرجه من طريق إبراهيم التيمي عن عائشة، ولم يسمع منها شيئاً، فهو مرسل. وقال النسائي: ليس في هذا الباب حديث أحسن منه، ولكنه مرسل. قال المصنف: روى من عشرة أوجه عن عائشة، أوردها البيهقي في الخلافيات وضعّفها. وقال ابن حزم: لا يصح في هذا الباب شيء، وإن صح فهو محمول على ما كان عليه الأمر قبل نزول الوضوء من اللمس.
إذا عرفت هذا، فالحديث دليل على أن لمس المرأة، وتقبيلها لا ينقض الوضوء، وهذا هو الأصل، والحديث مقرر للأصل، وعليه الهادوية جميعاً، ومن الصحابة علي عليه السلام.
وذهبت الشافعية: إلى أنّ لمس من لا يحرم نكاحها ناقض للوضوء مستدلين بقوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ.} فلزم الوضوء من اللمس. قالوا: واللمس حقيقة في اليد، ويؤيد بقاءه على معناه قراءة: {أَوْ لمَسْتُمُ النِّسَاءَ.} . فإنها ظاهرة في مجرد لمس الرجل من دون أن يكون من المرأة فعل، وهذا يحقّق بقاء اللفظ على معناه الحقيقي، فقراءة: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ.} كذلك، إذ الأصل اتفاق معنى القراءتين.
وأجيب عن ذلك: بصرف النظر عن معناه الحقيقي للقرينة فيحمل على المجاز، وهو هنا: حمل الملامسة على الجماع، واللمس كذلك، والقرينة حديث عائشة المذكور، وهو إن قدح فيه بما سمعت، فطرقه يقوي بعضها بعضاً. وحديث عائشة في البخاري: "في أنها كانت تعترض في قبلته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فإذا قام يصلي غمزها فقبضت رجليها أي عند سجوده وإذا قام بسطتهما"، فإنه يؤيد حديث الكتاب المذكور، ويؤيد بقاء الأصل، ويدل على أنه ليس اللمس بناقض. وأما اعتذار المصنف في فتح الباري عن حديثها هذا: بأنه يحتمل أنه كان بحائل أو أنه خاص به، فإنه بعيد مخالف للظاهر.
وقد فسر علي عليه السلام الملامسة بالجماع. وفسرها حبر الأمة ابن عباس بذلك، وهو المدعو له بأن يعلمه الله التأويل، فأخرج عنه عبد بن حميد أنه فسر الملامسة بعد أن وضع أصبعيه في أذنيه: ألا وهو النيك، وأخرج عنه الطستي أنه سأله نافع بن الأزرق عن الملامسة، ففسرها بالجماع، مع أن تركيب الآية الشريفة وأسلوبها يقتضي أن المراد بالملامسة الجماع؛ فإنه تعالى عدّ من مقتضيات التيمم المجيء من الغائط تنبيهاً على الحدث الأصغر، وعدّ الملامسة تنبيهاً على الحدث الأكبر، وهو مقابل لقوله تعالى: في الأمر بالغسل بالماء: {وَإِن كُنتُمْ جُنُباً} -. ولو حملت الملامسة على اللمس الناقض للوضوء لفات التنبيه على أن التراب يقوم مقام الماء في رفعه للحدث الأكبر، وخالف صدر الآية.
وللحنفية تفاصيل لا ينتهض عليها دليل.
5- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إذا وجد أحدكم في بطنه شيئاً، فأشكلَ عليْهِ أخرَجَ منهُ شيء أم لا؟ فلا يخرجن من المسجد" إذا كان فيه لإعادة الوضوء "حتى يسمع صوتاً" للخارج "أو يجد ريحاً" له (أخرجه مسلم) وليس السمع، أو وجدان الريح شرطاً في ذلك، بل المراد حصول اليقين.
وهذا الحديث الجليل أصل من أصول الإسلام، وقاعدة جليلة من قواعد الفقه، وهو أنه دل على أنّ الأشياء يحكم ببقائها على أصولها، حتى يتيقن خلاف ذلك. وأنه لا أثر للشك الطارىء عقبها، فمن حصل له ظن، أو شك بأنه أحدث وهو على يقين من طهارته، لم يضرّه ذلك حتى يحصل له اليقين، كما أفاده قوله: "حتى يسمع صوتاً، أو يجد ريحاً" ، فإنه علّقه بحصول ما يحسّه،(1/66)
وذكرهما تمثيل، وإلا فكذلك سائر النواقض كالمذي والودي.
ويأتي حديث ابن عباس: "إن الشيطان يأتي أحدكم، فينفخ في مقعدته، فيخيل إليه أنه أحدث، ولم يحدث، فلا ينصرفن حتى يسمع صوتاً، أو يجد ريحاً" والحديث عام لمن كان في الصلاة، أو خارجها، وهو قول الجماهير. وللمالكية تفاصيل وفروق بين مَنْ كان داخل الصلاة، أو خارجها، لا ينتهض عليها دليل.
6- (وعن طلق) بفتح الطاء وسكون اللام (بن عليِّ) اليمامي الحنفي. قال ابن عبدالبر: إنه من أهل اليمامة (قال: قال رجل: مسست ذكري، أو قال: الرجل يمس ذكره في الصلاة أعليه وضوء؟ فقال النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لا" ، أي: لا وضوء عليه "إنما هو" أي: الذكر "بَضْعَةٌ" بفتح الموحدة وسكون الضاد المعجمة (منْكَ) أي: كاليد والرجل ونحوهما، وقد علم أنه لا وضوء من مس البضعة منه (أخرجه الخمسة وصححه ابن حبان).
(وقال ابن المديني) بفتح الميم فدال مهملة فمثناة تحتية فنون نسبة إلى جده، وإلا فهو علي بن عبد الله المديني. قال الذهبي: هو حافظ العصر وقدوة أهل هذا الشأن، أبو الحسن علي بن عبد الله صاحب التصانيف، ولد سنة إحدى وستين ومائة. من تلاميذه البخاري، وأبو داود، وقال ابن مهدي: علي بن المديني أعلم الناس بحديث رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم. قال النسائي: كأن علي بن المديني خلق لهذا الشأن قال العلامة محيي الدين النووي: لابن المديني نحو مائة مصنف: (و أحسن من حديث بُسْرة) بضم الموحدة وسكون السين المهملة فراء، ويأتي حديثها قريباً، وهذا الحديث رواه، أحمد والدارقطني. وقال الطحاوي: إسناده مستقيم غير مضطرب؛ وصححه الطبراني، وابن حزم، وضعّفه الشافعي، وأبو حاتم، وأبو زرعة، والدارقطني، والبيهقي، وابن الجوزي.
والحديث دليل على ما هو الأصل من عدم نقض مس الذكر للوضوء، وهو مروي عن علي عليه السلام، وعن الهادوية، والحنفية.
وذهب: إلى أنّ مسه ينقض الوضوء جماعة من الصحابة، والتابعين، ومن أئمة المذاهب أحمد، والشافعي مستدلين بقوله.
7- (وعن بسرة) تقدم ضبط لفظها، وهي (بنت صفوان) بن نوفل القرشية الأسدية، كانت من المبايعات له صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، روى عنها عبد الله بن عمر، وغيره: "أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "مَنْ مَسَّ ذَكرهُ فليتوضأ" . أخرجه الخمسة، وصححه الترمذي، وابن حبان، وقال البخاري: هو أصح شيء في هذا الباب)، وأخرجه أيضاً الشافعي، وأحمد، وابن خزيمة، والحاكم، وابن الجارود. وقال الدارقطني: صحيح ثابت. وصححه يحيى بن معين، والبيهقي، والحازمي.
والقدح فيه: بأنه رواه عروة عن مروان، أو عن رجل مجهول: غير صحيح، فقد ثبت: أن عروة سمعه من بسرة من غير واسطة، كما جزم به ابن خزيمة، وغيره من أئمة الحديث.
وكذلك القدح فيه: بأن هشام بن عروة الراوي له عن أبيه لم يسمعه من أبيه: غير صحيح؛ فقد ثبت: أنه سمعه من أبيه، فاندفع القدح وصح الحديث. وبه استدل مَنْ سمعت من الصحابة، والتابعين، وأحمد، والشافعي: على نقض مس الذكر للوضوء، والمراد مسه من غير حائل؛ لأنه أخرج ابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة: "إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه، ليس دونها حجاب ولا ستر، فقد وجب عليه الوضوء" وصححه الحاكم، وابن عبد البر. قال ابن السكن: هو أجود(1/67)
ما روي في هذا الباب.وزعمت الشافعية أن الإفضاء لا يكون إلا بباطن الكف، وأنه لا نقض إذا مس الذكر بظاهر كفه. وردّ عليهم المحققون بأن الإفضاء لغة: الوصول: أعمّ من أن يكون بباطن الكف، أو ظهرها. قال ابن حزم: لا دليل على ما قالوه لا من كتاب، ولا سنة، ولا إجماع، ولا قول صاحب، ولا قياس، ولا رأي صحيح.
وأيدت أحاديث بسرة أحاديث أخر، عن سبعة عشر صحابياً مخرجة في كتب الحديث، ومنهم طلق بن علي راوي حديث عدم النقض، وتأول مَنْ ذكر حديثه في عدم النقض. بأنه كان في أول الأمر؛ فإنه قدم في أول الهجرة قبل عمارته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مسجده، فحديثه منسوخ بحديث بسرة؛ فإنها متأخرة في الإسلام.
وأحسن من القول بالنسخ القول بالترجيح؛ فإن حديث بسرة أرجح؛ لكثرة من صححه من الأئمة، ولكثرة شواهده؛ ولأن بسرة حدثت به في دار المهاجرين والأنصار، وهم متوافرون، ولم يدفعه أحد، بل علمنا أن بعضهم صار إليه، وصار إليه عروة عن روايتها، فإنه رجع إلى قولها، وكان قبل ذلك يدفعه، وكان ابن عمر يحدث به عنها، ولم يزل يتوضأ من مس الذكر إلى أن مات.
قال البيهقي: يكفي في ترجيح حديث بسرة على حديث طلق بن علي: أنه لم يخرجه صاحبا الصحيح، ولم يحتج بأحد من رواته، وقد احتج بجميع رواة حديث بسرة، ثم إن حديث طلق من ورواية قيس بن طلق.
قال الشافعي: قد سألنا عن قيس بن طلق فلم نجد من يعرفه، فما يكون لنا قبول خبره.
وقال أبو حاتم، وأبو زرعة: قيس بن طلق ليس فيمن تقوم به حجة، ووهياه.
وأما مالك، فلما تعارض الحديثان قال بالوضوء من مس الذكر ندباً لا وجوباً.
8- (وعن عائشة رضي الله عنها أنَّ رسولَ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "مَنْ أصابَهُ قيءٌ أو رُعافٌ أو قلْسٌ" بفتح القاف وسكون اللام وفتحها وسين مهملة، "أو مَذْيٌ" أي من أصابه ذلك في صلاته "فلينْصَرفْ" منها "فلْيَتَوَضَّأ، ثم ليبْن على صلاته وهو في ذلك" أي: في حال انصرافه، ووضوئه "لا يتكلم". أخرجه ابن ماجه وضعفه أحمد، وغيره") وحاصل ما ضعفوه به: أن رفعه إلى النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم غلط، والصحيح أنه مرسل. قال أحمد والبيهقي: المرسل الصواب.
فمن يقول: إنَّ المرسل حجة قال: ينقض ما ذكر فيه.
والنقض بالقيء مذهب الهادوية، والحنفية، وشرطت الهادوية أن يكون من المعدة؛ إذ لا يسمى قيئاً إلا ما كان منها، وأن يكون ملء الفم دفعة؛ لورود ما يقيد المطلق هنا، وهو "قيء ذارع ودسعة دفعة تملأ الفم" كما في حديث عمار، وإن كان قد ضعف.
وعند زيد بن علي أنه ينقض مطلقاً عملاً بمطلق هذا الحديث، وكأنه لم يثبت عنده حديث عمار.
وذهب جماعة من أهل البيت، والشافعي، ومالك إلى أن القيء غير ناقض؛ لعدم ثبوت حديث عائشة هذا مرفوعاً، والأصل عدم النقض، فلا يخرج عنه إلا بدليل قوي.
وأما الرعاف ففي نقضه الخلاف أيضاً، فمن قال بنقضه فهو عمل بهذا الحديث، ومن قال بعدم نقضه فإنه عمل بالأصل، ولم يرفع هذا الحديث.
وأما الدم الخارج من أي موضع من البدن من غير السبيلين، فيأتي الكلام عليه في حديث أنس: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم احتجم، وصلى، ولم يتوضأ".
وأما القلس وهو ما خرج من الحلق ملء الفم، أو دونه وليس بقيء، فإن عاد فهو القيء، فالأكثر على أنه غير ناقض؛ لعدم نهوض الدليل، فلا يخرج من(1/68)
الأصل.وأما المذي فتقدم الكلام عليه، وأنه ناقض إجماعاً.
وأما ما أفاده الحديث من البناء على الصلاة بعد الخروج منها، وإعادة الوضوء حيث لم يتكلم ففيه خلاف، فروى عن زيد بن علي، والحنفية، ومالك، وقديم قولي الشافعي أنه يبنى، ولا تفسد صلاته بشرط ألا يفعل مفسداً، كما أشار إليه الحديث بقوله: "لا يتكلم".
وقالت الهادوية، و الناصر، و الشافعي في اخر قوليه: إن الحدث يفسد الصلاة؛ لما سيأتي من حديث طلق بن علي: "إذا فسا أحدكم في الصلاة فلينصرف، وليتوضأ، وليعد الصلاة" رواه أبو داود ويأتي الكلام عليه.
9- (وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه) بفتح السين المهملة وضم الميم فراء، أبو عبد الله، وأبو خالد، جابر بن سمرة العامري، نزل الكوفة، ومات بها سنة أربع وسبعين، وقيل: ست وستين: (أن رجلاً سأل النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "أتوضأ من لحوم الغنم؟) أي: من أكلها (قال: "إن شئْتَ"، قال: أتوضأ من لحوم الإبل؟ قالَ: " نعَمْ" أخرجه مسلم)، وروى نحوه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وغيرهم من حديث البراء بن عازب قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "توضأوا من لحوم الإبل ولا توضأوا من لحوم الغنم" .
قال ابن خزيمة: لم أر خلافاً بين علماء الحديث: أن هذا الخبر صحيح من جهة النقل لعدالة ناقليه.
والحديثان دليلان على نقض لحوم الإبل للوضوء، وأنَّ مَنْ أكلها انتقض وضوؤه.
وقال بهذا أحمد،، و إسحاق،، و ابن المنذر،، و ابن خزيمة، واختاره البيهقي، وحكاه عن أصحاب الحديث مطلقاً. وحكي عن الشافعي أنه قال: إن صح الحديث في لحوم الإبل قلت به. قال البيهقي: قد صح فيه حديثان حديث جابر، وحديث البراء.
وذهب إلى خلافة جماعة من الصحابة، والتابعين، والهادوية، ويروى عن الشافعي، وأبي حنيفة. قالوا: والحديثان إما منسوخان بحديث: "إنه كان اخر الأمرين منه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عدم الوضوء مما مست النار" أخرجه الأربعة، وابن حبان من حديث جابر.
قال النووي: دعوى النسخ باطلة؛ لأن هذا الأخير عام وذلك خاص؛ والخاص مقدم على العام. وكلامه هذا مبني على تقديم الخاص على العام مطلقاً، تقدّم الخاص أو تأخّر، وهي مسألة خلافية في الأصول بين الأصوليين، أو أن المراد بالوضوء التنظيف، وهو غسل اليد؛ لأجل الزهومة، كما جاء في الوضوء من اللبن، وأن له دسماً، والوارد في اللبن التمضمص من شربه. وذهب البعض إلى أنّ الأمر في الوضوء من لحوم الإبل للاستحباب، لا للإيجاب، وهو خلاف ظاهر الأمر.
أما لحوم الغنم فلا نقض بأكلها بالاتفاق. كذا قيل، ولكن حكى في شرح السنة: وجوب الوضوء مما مست النار.
وعن عمر بن عبد العزيز: أنه كان يتوضأ من أكل السكر.
قلت: وفي الحديث مأخذ لتجديد الوضوء على الوضوء؛ فإنه حكم بعدم نقض الأكل من لحوم الغنم، وأجاز له الوضوء، وهو تجديد الوضوء على الوضوء.
10- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قالَ: قالَ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "مَنْ غَسّلَ مَيِّتاً فَلْيَغْتَسِلَ. ومَنْ حَمَلهُ فَلْيَتَوضَأ" أخرجه أحمد والنسائي والترمذي وحسّنهُ، وقالَ أحمدُ: لا يَصحُّ في هذا البابِ شيءٌ.
وذلك لأنه أخرجه أحمد من طريق فيها ضعيف، ولكنه قد حسّنه الترمذي، وصححه ابن حبان؛ لوروده من طرق ليس فيها ضعف، وذكر الماوردي:(1/69)
أن بعض أصحاب الحديث خرج له مائة وعشرين طريقاً.
وقال أحمد: إنه منسوخ، بما رواه البيهقي عن ابن عباس: أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "ليس عليكم في غسل ميتكم غسل إذا غسلتموه، إن ميتكم يموت طاهراً، وليس بنجس فحسبكم أن تغسلوا أيديكم" ، ولكنه ضعّفه البيهقي، وتعقبه المصنف؛ لأنه قال البيهقي: هذا ضعيف، والحمل فيه على أبي شيبة. قال المصنف: أبو شيبة هو إبراهيم بن أبي بكر بن شيبة، احتج به النسائي، ووثقه الناس، ومن فوقه احتج بهم البخاري إلى أن قال: فالحديث حسن.
ثم قال في الجمع بينه، وبين الأمر في حديث أبي هريرة: إن الأمر للندب.
قلت: وقرينته حديث ابن عباس هذا، وحديث ابن عمر عند عبد الله بن أحمد: "كنا نغسل الميت فمنا من يغتسل ومنا من لا يغتسل".
قال المصنف: إسناده صحيح، وهو أحسن ما جمع به بين هذه الأحاديث.
وأما قوله: "ومَن حمله فليتوضأ" فلا أعلم قائلاً يقول: بأنه يجب الوضوء من حمل الميت، ولا يندب. قلت: ولكنه مع نهوض الحديث لا عذر عن العمل به. ويفسّر الوضوء بغسل اليدين، كما يفيده التعليل بقوله: "إن ميتكم يموت طاهراً"؛ فإن لمس الطاهر لا يوجب غسل اليدين منه، فيكون في حمل الميت غسل اليدين ندباً تعبداً، إذ المراد إذا حمله مباشراً لبدنه، بقرينة السياق، ولقوله: "يموت طاهراً" فإنه لا يناسب ذلك إلا من يباشر بدنه بالحمل.
11- (وعن عبد الله بن أبي بكر) هو ابن أبي بكر الصديق، أمه وأم أسماء واحدة، أسلم قديماً، وشهد مع رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم الطائف، وأصابه سهم انقض عليه بعد سنين فمات منه في شوال سنة إحدى عشرة، وصلى عليه أبوه: (إن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لعمرو بن حزم) هو عمرو بن حزم بن زيد الخزرجي النجاري، يكنى أبا الضحاك، أول مشاهده الخندق، واستعمله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على نجران، وهو ابن سبع عشرة سنة ليفقههم في الدين، ويعلمهم القران، ويأخذ صدقاتهم، وكتب له كتاباً فيه الفرائض، والسنن، والصدقات، والديات. وتوفي عمرو بن حزم في خلافة عمر بالمدينة، ذكر هذا ابن عبد البر في الاستيعاب: ( أنْ لا يمَسَّ القُران إلا طاهرٌ رواه مالك مرسلاً، ووصله النسائي، وابن حبان، وهو معلول).
حقيقة المعلول: الحديث الذي يطلع على الوهم فيه بالقرائن، وجمع الطرق فيقال له: معلل ومعلول، والأجود أن يقال فيه المعل: من أعله. والعلة عبارة عن أسباب خفية غامضة طرأت على الحديث، فأثرت فيه، وقدحت. وهو من أغمض أنواع علوم الحديث، وأدقها، ولا يقوم بذلك إلا من رزقه الله فهماً ثاقباً، وحفظاً واسعاً، ومعرفة تامة بمراتب الرواة، وملكة قوية بالأسانيد، والمتون.
وإنما قال المصنف: إن هذا الحديث معلول؛ لأنه من ورواية سليمان بن داود، وهو متفق على تركه، كما قال ابن حزم، ووهم في ذلك؛ فإنه ظن أنه سليمان بن داود اليماني، وليس كذلك بل هو سليمان بن داود الخولاني، وهو ثقة، أثنى عليه أبو زرعة، وأبو حاتم، وعثمان بن سعيد، وجماعة من الحفاظ، واليماني هو المتفق على ضعفه.
وكتاب عمرو بن حزم تلقاه الناس بالقبول. قال ابن عبد البر: إنه أشبه المتواتر لتلقي الناس له بالقبول. وقال يعقوب بن سفيان: لا أعلم كتاباً أصح من هذا الكتاب؛ فإن أصحاب رسول الله صَلّى الله(1/70)
عَلَيْهِ وَسَلّم، والتابعين يرجعون إليه، ويدَعون رأيهم. قال الحاكم: قد شهد عمر بن عبد العزيز، وإمام عصره الزهري بالصحة لهذا الكتاب.
وفي الباب من حديث حكيم بن حزام: "لا يمس القران إلا طاهر" ، وإن كان في إسناده مقال، إلا أنه ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد من حديث عبد الله بن عمر: أنه قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لا يمس القرآن إلا طاهر" قال الهيثمي: رجاله موثقون، وذكر له شاهدين، ولكنه يبقي النظر في المراد من الطاهر، فإنه لفظ مشترك يطلق عليه الطاهر من الحدث الأكبر، والطاهر من الحدث الأصغر، ويطلق على المؤمن، وعلى من ليس على بدنه نجاسة، ولا بد لحمله على معين من قرينة، وأما قوله تعالى: {لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} .
فالأوضح أن الضمير للكتاب المكنون الذي سبق ذكره في صدر الآية وأن "المطهرون" هم الملائكة.
12- (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يذكر الله على كل أحيانه" رواه مسلم وعلقه البخاري)، والحديث مقرر للأصل وهو ذكر الله على كل حال من الأحوال وهو ظاهر في عموم الذكر، فتدخل تلاوة القرآن ولو كان جنباً إلا أنه قد خصصه حديث عليّ عليه السلام الذي في باب الغسل كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقرئنا القرآن ما لم يكن جنباً، وأحاديث آخر في معناه تأتي، وكذلك هو مخصص بحالة الغائط والبول والجماع.
والمراد بكل أحيانه معظمها كما قال الله تعالى: - يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم-.
والمصنف ذكر الحديث لئلا يتوهم أن نواقض الوضوء مانعة من ذكر الله تعالى.
13- (وعن معاوية) هو ابن أبي سفيان صخر بن حرب، هو وأبوه من مسلمة الفتح، ومن المؤلفة قلوبهم، ولاه عمر الشام بعد موت يزيد بن أبي سفيان، ولم يزل بها متولياً أربعين سنة، إلى أن مات سنة ستين في شهر رجب بدمشق، وله ثمان وسبعون سنة (قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "العين" أراد الجنس، والمراد: العينان من كل إنسان ( وكاء ) بكسر الواو والمد ( السه) بفتح السين المهملة وكسرها هي: الدبر، والوكاء ما يربط به الخريطة، أو نحوها "فإذا نَامَتْ العَيْنَان اسْتطْلَقَ الوكاء" أي: انحل (رواه أحمد، والطبراني، وزاد الطبراني: ومن نام فليتوضأ، وهذه الزيادة في الحديث) وهي قوله: "ومن نام فليتوضأ" (عند أبي داود من حديث علي عليه السلام) ولفظه: "العين وكاء السه فمن نام فليتوضأ" (دون قوله: استطلق الوكاء، وفي كلا الإسنادين ضعف) إسناد حديث معاوية، وإسناد حديث علي؛ فإن في إسناد حديث معاوية: بقية، عن أبي بكر بن أبي مريم، وهو ضعيف، وفي حديث علي أيضاً بقية، عن الوضين بن عطاء.
قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن هذين الحديثين فقال: ليسا بقويين. وقال أحمد: حديث علي أثبت من حديث معاوية. وحسّن المنذري، والنووي، وابن الصلاح: حديث علي.
والحديثان يدلان على أن النوم ليس بناقض بنفسه، وإنما هو مظنة النقض، فهما من أدلة القائلين بذلك، ودليل على أنه لا ينقض إلا النوم المستغرق،(1/71)
وتقدم الكلام في ذلك وكان الأولى بحسن الترتيب أن يذكر المصنف هذا الحديث عقب حديث أنس في أول باب النواقض كما لا يخفى.
14- (ولأبي داودَ أيْضاً عن ابن عباس رضي الله عنهُمَا مَرْفوعاً: "إنما الوُضُوءُ على مَنْ نَامَ مُضْطَجِعاً" وفي إسنادِهِ ضَعْفٌ أيضاً.
لأنه قال أبو داود: إنه حديث منكر، وبين وجه نكارته، وفيه القصر على أنه لا ينقض إلا نوم المضطجع، لا غير، ولو استغرقه النوم، فالجمع بينه وبين ما مضى من الأحاديث: أنه خرج على الأغلب، فإنّ الأغلب على من أراد النوم الاضطجاع، فلا معارضة.
15- (وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: "أنَّ النّبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم احْتَجَمَ وصلى، ولمْ يَتَوَضَّأ" ، أخرجهُ الدارقطني، ولَيّنَهُ.
أي: قال: هو لين؛ وذلك لأن في إسناده صالح بن مقاتل، وليس بالقوي، وذكره النووي في فصل الضعيف.
والحديث مقرر للأصل، دليل على أن خروج الدم من البدن غير الفرجين لا ينقض الوضوء. وفي الباب أحاديث تفيد عدم نقضه عن ابن عمر، وابن عباس، وابن أبي أوفى.
وقد اختلف العلماء في ذلك.
فالهادوية: على أنه ناقض بشرط أنه يكون سائلاً يقطر، أو يكون قدر الشعيرة يسيل في وقت واحد من موضع واحد إلى ما يمكن تطهيره.
وقال زيد بن علي، و الشافعي، و مالك، و الناصر، وجماعة من الصحابة، والتابعين: إن خروج الدم من البدن من غير السبيلين ليس بناقض؛ لحديث أنس هذا؛ وما أيّده من الاثار عمن ذكرناه، ولقوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لا وضوء إلا من صوت، أو ريح" أخرجه أحمد، والترمذي، وصححه. وأحمد، والطبراني بلفظ: "لا وضوء إلا من ريح، أو سماع" ؛ لأن الأصل عدم النقض حتى يقوم ما يرفع الأصل، ولم يقم دليل على ذلك.
16- (وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنّ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "يأتي أحدكم الشيطان في صلاته" حال كونه فيها "فيَنْفخ في مقْعَدَته فيُخَيّل إليه" يحتمل أنه مبني للفاعل، وفيه ضمير للشيطان، وأنهُ الذي يخيل: أي يوقع في خيال المصلي أنه أحدث، ويحتمل أنه مبني للمفعول ونائبه "أنّه أحْدَثَ ولم يحْدثْ، فإذا وَجَدَ ذلكَ، فلا يَنْصَرِفْ حتى يسْمَعَ صَوْتاً، أو يَجدَ ريحاً" . أخرجه البزار) بفتح الموحدة وتشديد الزاي بعد الألف راء، وهو الحافظ العلامة أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البصري صاحب المسند الكبير المعلل أخذ عن الطبراني وغيره، وذكره الدارقطني، وأثنى عليه، ولم يذكر الذهبي ولادته، ولا وفاته.
والحديث تقدم ما يفيد معناه، وهو إعلان من الشارع بتسليط الشيطان على العباد حتى في أشرف العبادات ليفسدها عليهم، وأنه لا يضرهم ذلك، ولا يخرجون عن الطهارة إلا بيقين (وأصله في الصحيحين من حديث عبد الله بن زيد(.
17- (ولمسلم نحوه) تقدم حديث أبي هريرة في هذا الباب.
18- (وللحاكم عن أبي سعيد) هو الخدري، تقدم (مرفوعاً: "إذا جاء أحدكم الشّيْطانُ فقالَ" أي: وسوس له قائلاً "إنّك أحدثْتَ فَلْيَقُل: كَذَبْتَ" يحتمل أنه يقوله لفظاً، أو في نفسه: ولكن قوله: (وأخرجه ابن حبان بلفظ: فليقل في نفسه) بين أن المراد الاخر منه. وقد روى حديث الحاكم بزيادة بعد قوله: كذبت: "إلا من وجد ريحاً،(1/72)
أو سمع صوتاً بأذنه" ، وتقدم ما تفيده هذه الأحاديث.ولو ضم المصنف هذه الروايات إلى حديث أبي هريرة الذي قدمه، وأشار إليه هنا لكان أولى بحسن الترتيب، كما عرفت.
وهذه الأحاديث دالّة على حرص الشيطان على إفساد عبادة بني ادم، خصوصاً الصلاة، وما يتعلق بها، وأنه لا يأتيهم غالباً إلا من باب التشكيك في الطهارة، تارة بالقول، وتارة بالفعل، ومن هنا تعرف أن أهل الوسواس في الطهارات امتثلوا ما فعله، وقاله.(1/73)
باب آداب قضاء الحاجة
الحاجة كناية عن خروج البول والغائط، وهو مأخوذ من قوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إذا قَعَدَ أحدكُم لحاجته" ، ويعبر عنه الفقهاء بباب الاستطابة لحديث: "ولا يستطيب بيمينه" ، والمحدثون بباب التخلي مأخوذ من قوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إذا دخل أحدكم الخلاء" ، والتبرّز من قوله: "البراز في الموارد"، وكما سيأتي، فالكلّ من العبارات صحيح.
1- (عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذَا دَخَلَ الخَلاء ) بالخاء المعجمة ممدود المكان الخالي، كانوا يقصدونه لقضاء الحاجة ( وضع خاتَمَهُ. أخرجه الأربعة وهو معلول)، وذلك لأنه من ورواية همام، عن ابن جريج، عن الزهري، عن أنس، ورواته ثقات، لكن ابن جريج لم يسمعه من الزهري، بل سمعه من زياد بن سعد، عن الزهري، ولكن بلفظ اخر: "وهو أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم اتخذ خاتماً من ورق، ثم ألقاه" ، والوهم فيه من همام، كما قال أبو داود، وهمام ثقة، كما قاله ابن معين. وقال أحمد: ثبت في كل المشايخ، وقد روى الحديث مرفوعاً، وموقوفاً عن أنس من غير طريق همام، وأورد له البيهقي شاهداً، ورواه الحاكم أيضاً بلفظ: "أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لبس خاتماً نقشه: محمد رسول الله، وكان إذا دخل الخلاء وضعه" .
والحديث دليل على الإبعاد عند قضاء الحاجة، كما يرشد إليه لفظ الخلاء؛ فإنه يطلق على المكان الخالي، وعلى المكان المعدّ لقضاء الحاجة، ويأتي في حديث المغيرة ما هو أصرح من هذا بلفظ: "فانطلق حتى توارى"، وعند أبي داود: "كان إذا أراد البراز انطلق حتى لا يراه أحد" .
ودليل على تبعيد ما فيه ذكر الله عند قضاء الحاجة. وقال بعضهم: يحرم إدخال المصحف الخلاء لغير ضرورة، وقيل: فلو غفل عن تنحية ما فيه ذكر الله حتى اشتغل بقضاء حاجته غيبه في فيه، أو في عمامته، أو نحوه، وهذا فعل منه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وقد عرف وجهه، وهو صيانة ما فيه ذكر الله عزّ وجلّ عن المحلات المستخبثة، فدلّ على ندبه، وليس خاصاً بالخاتم، بل في كل ملبوس فيه ذكر الله.
2- (وعنه) أي: عن أنس رضي الله عنه (قال: كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذا دخل الخلاء: أي: أراد الخلاء) دخوله (قال: "اللهُم إني أعوذُ بك من الخُبُث" بضم الخاء المعجمة وضم الموحدة ويجوز إسكانها جمع خبيث ( والخبائث ) جمع خبيثة يريد بالأول ذكور الشياطين، وبالثاني إناثهم (أخرجه السبعة) ولسعيد بن منصور كان يقول: "بسم الله اللهم" الحديث. قال المصنف في الفتح: ورواه العمري وإسناده على شرط مسلم، وفيه زيادة التسمية،(1/73)
ولم أرها في غيره. وإنما قلنا: إذا أراد دخوله، لقوله: دخل؛ لأنه بعد دخول الخلاء لا يقول ذلك، وقد صرح بما قرره البخاري في الأدب المفرد من حديث أنس قال: "كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذا أراد أن يدخل الخلاء" الحديث. وهذا في الأمكنة المعدة لذلك، بقرينة الدخول، ولذا قال ابن بطال: رواية "إذا أتى" أعم لشمولها.
ويشرع هذا الذكر في غير الأماكن المعدة لقضاء الحاجة، وإن كان الحديث ورد في الحشوش، وأنها تحضرها الشياطين. ويشرع القول بهذا في غير الأماكن المعدة عند إرادة رفع ثيابه، وفيها قبل دخولها، وظاهر حديث أنس أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يجهر بهذا الذكر، فيحسن الجهر به.
3- (وعن أنس) كأنه ترك الإضمار فلم يقل: وعنه لبعد الاسم الظاهر، بخلافه في الحديث الثاني، وفي بعض النسخ من بلوغ المرام وعنه بالإضمار أيضاً (قال: كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يدخُلُ الخلاء فأحْمل أنا وغلام) الغلام هو المترعرع قيل: إلى حد السبع سنين. وقيل: إلى الالتحاء، ويطلق على غيره مجازاً (نحوي إدَاوَةً) بكسر الهمزة إناء صغير من جلد يتخذ للماء (منْ ماء وعنَزَةً) بفتح العين المهملة وفتح النون فزاي هي عصا طويلة في أسفلها زج، ويقال: رمح قصير (فيستنجي بالماء. متفق عليه) المراد بالخلاء هنا: الفضاء بقرينة العنزة؛ لأنه كان إذا توضأ صلى إليها في الفضاء، أو يستتر بها: بأن يضع عليها ثوباً، أو لغير ذلك من قضاء الحاجات التي تعرض له، ولأن خدمته في البيوت تختص بأهله، والغلام الآخر اختلف فيه، فقيل: ابن مسعود، وأطلق عليه ذلك مجازاً، ويبعده قوله: نحوي، فإن ابن مسعود كان كبيراً، فليس نحو أنس في سنه، ويحتمل أنه أراد نحوي: في كونه كان يخدم النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فيصح؛ فإن ابن مسعود كان صاحب سواد رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، يحمل نعله، وسواكه، أو لأنه مجاز، كما في الشرح.
وقيل: هو أبو هريرة، وقيل: جابر بن عبد الله.
الحديث دليل على جواز الاستخدام للصغير، وعلى الاستنجاء بالماء.
ونقل عن مالك أنه أنكر استنجاء النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بالماء، والأحاديث قد أثبتت ذلك فلا سماع لإنكار مالك.
قيل: وعلى أنه أرجح من الاستنجاء بالحجارة، وكأنه أخذه من زيادة التكلّف بحمل الماء بيد الغلام، ولو كان يساوي الحجارة، أو هي أرجح منه، لما احتاج إلى ذلك.
والجمهور من العلماء على أن الأفضل الجمع بين الحجارة والماء: فإن اقتصر على أحدهما، فالأفضل الماء حيث لم يرد الصلاة، فإن أرادها فخلاف، فمن يقول: تجزىء الحجارة، لا يوجبه، ومن يقول: لا تجزىء، يوجبه.
ومن اداب الاستنجاء بالماء مسح اليد بالتراب بعده كما أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة: "كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذا أتى الخلاء أتيت بماء في تور، أو ركوة فاستنجى منه، ثم مسح يده على الأرض" .
وأخرج النسائي من حديث جرير، قال: كنت مع النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فأتى الخلاء، فقضى حاجته ثم قال: "يا جرير هات طهوراً، فأتيته بماء فاستنجى، وقال بيده، فدلك بها الأرض" ويأتي مثله في الغسل.
4- (وعن المغيرة بن شعبة قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "خُذْ الإداوَةَ" : فانطلق ) أي: النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ( حتى توارى عني فقضى حاجته، متفق علي).
الحديث(1/74)
دليل على التواري عند قضاء الحاجة، ولا يجب؛ إذ الدليل فعل، ولا يقتضي الوجوب، لكنه يجب بأدلة ستر العورات عن الأعين.
وقد ورد الأمر بالاستتار من حديث أبي هريرة عند أحمد، وأبي داود، وابن ماجه: أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "من أتى الغائط فليستتر، فإن لم يجد إلا أن يجمع كثيباً من رمل فليستدبره؛ فإن الشيطان يلعب بمقاعد بني ادم، من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج" فدل على استحباب الاستتار، كما دل على رفع الحرج، ولكن هذا غير التواري عن الناس، بل هو خاص، بقرينة: "فإن الشيطان"، فلو كان في فضاء ليس فيه إنسان، استحبّ له أن يستتر بشيء، ولو بجمع كثيب من رمل.
5- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: " اتّقوا اللاَّعنَيْن" بصيغة التثنية، وفي ورواية مسلم قالوا: وما اللاعنان يا رسول الله؟ قال: "الذي يتخلى في طَريق الناس أوْ في ظلِّهم" رواه مسلم). قال الخطابي: يريد باللاعنين: الأمرين الجالبين للعن الحاملين للناس عليه، والداعيين إليه، وذلك أن من فعلهما لعن وشتم، يعني: أن عادة الناس لعنة، فهو سبب، فانتساب اللعن إليهما من المجاز العقلي؛ قالوا: وقد يكون اللاعن بمعنى الملعون، فاعل بمعنى مفعول، فهو كذلك من المجاز العقلي. والمراد بالذي يتخلى في طريق الناس: أي: يتغوط فيما يمر به الناس؛ فإنه يؤذيهم بنتنه واستقذاره، ويؤدي إلى لعنه، فإن كان لعنه جائزاً، فقد تسبب إلى الدعاء عليه بإبعاده عن الرحمة، وإن كان غير جائز، فقد تسبب إلى تأثيم غيره بلعنه.
فإن قلت: فأي الأمرين أريد هنا؟
قلت: أخرج الطبراني في الكبير بإسناد حسنه الحافظ المنذري عن حذيفة بن أسيد: أنّ النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "من آذى المسلمين في طرقهم وجبت عليه لعنتهم".
وأخرج في الأوسط، والبيهقي، وغيرهما برجال ثقات إلا محمد بن عمرو الأنصاري، وقد وثقه ابن معين من حديث أبي هريرة: سمعت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقول: "من سل سخيمته على طريق من طرق الناس المسلمين فعليه لعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين" . والسخيمة بالسين المفتوحة المهملة والخاء المعجمة فمثناة تحتية: العذرة. فهذه الأحاديث دالة على استحقاقه اللعنة.والمراد بالظل هنا مستظلّ الناس الذي اتخذوه مقيلاً ومناخاً ينزلونه ويقعدون فيه، إذ ليس كل ظل يحرم القعود لقضاء الحاجة تحته، فقد قعد النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم تحت حائش النخل لحاجته، وله ظل بلا شك. قلت: يدل له حديث أحمد: "أو ظل يستظل به".
6- (وزاد أبو داود عن معاذ: والموارد، ولفظه :" اتّقوا المَلاعن الثّلاثةَ البَرَازَ" بفتح الموحدة فراء مفتوحة اخره زاي، وهو: المتسع من الأرض يكنى به عن الغائط، وبالكسر المبارزة في الحرب "في الموارد" جمع مورد وهو الموضع الذي يأتيه الناس من رأس عين، أو نهر لشرب الماء، أو للتوضىء "وقَارعةِ الطّريق" المراد الطريق الواسع الذي يقرعه الناس بأرجلهم، أي يدقونه ويمرون عليه "والظل" تقدم المراد به.
7- (ولأحمد عن ابن عباس: "أوْ نقع ماء" بفتح النون وسكون القاف فعين مهملة.(1/75)
ولفظه بعد قوله: "اتقوا الملاعن الثلاث: أن يقعد أحدكم في ظل يستظل به، أو في طريق، أو نقع ماء" .
ونقع الماء المراد به الماء المجتمع، كما في النهآية (وفيهما ضعف) أي: في حديث أحمد وأبي داود.
أما حديث أبي داود فلأنه قال أبو داود عقبه: وهو مرسل؛ وذلك لأنه من ورواية أبي سعيد الحميري، ولم يدرك معاذاً فيكون منقطعاً، وقد أخرجه ابن ماجه من هذه الطريق. وأما حديث أحمد؛ فلأن فيه ابن لهيعة، والراوي عن ابن عباس مبهم.
8- (وأخرج الطبراني) قال الذهبي: هو الإمام الحجة أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني مسند الدنيا، ولد سنة ستين ومائتين، وسمع سنة ثلاث وسبعين، وهاجر بمدائن الشام، والحرمين واليمن، ومصر، وبغداد، والكوفة، والبصرة، وأصبهان، والجزيرة، وغير ذلك. وحدث عن ألف شيخ، أو يزيدون، وكان من فرسان هذا الشأن مع الصدق والأمانة، وأثنى عليه الأئمة (النهي عن قضاء الحاجة تحت الأشجار المثمرة) وإن لم تكن ظلاً لأحد (وضَفّة) بفتح الضاد المعجمة وكسرها جانب (النّهْر الجاري من حديث ابن عمر بسند ضعيف) ؛ لأنّ في رواته متروكاً، وهو فرات بن السائب، ذكره المصنف في التلخيص.
فإذا عرفت هذا، فالذي تحصل من الأحاديث ستة مواضع، منهي عن التبرز فيها: قارعة الطريق، ويقيد مطلق الطريق بالقارعة، والظل، والموارد، ونقع الماء. والأشجاء المثمرة، وجانب النهر. وزاد أبو داود في مراسيله من حديث مكحول: "نهى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عن أن يبال بأبواب المساجد" .
9- (وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إذَا تَغَوَّط الرَّجُلان فلْيتَوار" أي يستتر وهو من المهموز جزم بحذف الهمزة: أي المنقلبة ألفاً "كُلُّ واحد منهُما عَنْ صاحبه" والأمر للإيجاب ( ولا يتحدَّثا ) حال تغوطهما "فإن الله يمْقُت على ذلك" والمقت أشد البغض (رواه أحمد وصححه ابن السكن) بفتح السين المهملة وفتح الكاف، وهو الحافظ الحجة أبو علي سعيد بن عثمان بن سعيد بن السكن البغدادي، نزل مصر، وولد سنة أربع وتسعين ومائتين، وعني بهذا الشأن، وجمع وصنف وبعد صيته. روى عنه أئمة من أهل الحديث، توفي سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة.
)وابن القطان) بفتح القاف وتشديد الطاء، هو الحافظ العلامة، أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الملك الفارسي الشهير بابن القطان. كان من أبصر الناس بصناعة الحديث، وأحفظهم لأسماء رجاله، وأشدهم عناية بالرواية، وله تأليف. حدَّث ودرس، وله كتاب الوهم والإيهام الذي وضعه على الأحكام الكبرى لعبد الحق، وهو يدل على حفظه وقوة فهمه، لكنه تعنت في أحوال الرجال، توفي في ربيع الأول سنة ثمان وعشرين وستمائة (وهو معلول) ولم يذكر في الشرح العلة، وهي ما قاله أبو داود: لم يسنده إلا عكرمة بن عمار العجلي اليماني، وقد احتج به مسلم في صحيحه، وضعّف بعض الحفاظ حديث عكرمة هذا عن يحيى بن أبي كثير. وقد أخرج مسلم حديثه عن يحيى بن أبي كثير، واستشهد البخاري بحديثه عنه. وقد روى حديث النهي عن الكلام حال قضاء الحاجة أبو داود، وابن ماجه من حديث أبي سعيد، وابن خزيمة في صحيحه، إلا أنهم رووه كلهم من ورواية عياض(1/76)
ابن هلال، أو هلال بن عياض. قال الحافظ المنذري: لا أعرفه بجرح ولا عدالة، وهو في عداد المجهولين.
والحديث دليل على وجوب ستر العورة، والنهي عن التحدث حال قضاء الحاجة، والأصل فيه التحريم، وتعليله بمقت الله عليه، أي: شدة بغضه لفاعل ذلك زيادة في بيان التحريم، ولكنه ادعى في البحر: أنه لا يحرم إجماعاً، وأن النهي للكراهة، فإن صح الإجماع، وإلا فإن الأصل هو التحريم، وقد ترك صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم رد السلام الذي هو واجب عند ذلك، فأخرج الجماعة، إلا البخاري عن ابن عمر: "أن رجلاً مرَّ على النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وهو يبول فسلم عليه، فلم يرد عليه" .
10- (وعن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لا يمسّنَّ أحدُكم ذكرَه بيمينه وهو يبول، ولا يتمسّح من الخلاء بيمينه" كناية عن الغائط، كما عرفت أنه أحد ما يطلق عليه "ولا يتنفّس" يخرج نفسه "في الإنَاء" عند شربه منه (متفق عليه واللفظ لمسلم).
فيه دليل على تحريم مس الذكر باليمين حال البول: لأنه الأصل في النهي، وتحريم التمسح بها من الغائط، وكذلك من البول لما يأتي من حديث سلمان، وتحريم التنفس في الإناء حال الشرب. وإلى التحريم ذهب أهل الظاهر في الكل عملاً به، كما عرفت، وكذلك جماعة من الشافعية في الاستنجاء.
وذهب الجمهور: إلى أنه للتنزيه، وأجمل البخاري في الترجمة فقال: "باب النهي عن الاستنجاء باليمين" وذكر حديث الكتاب، قال المصنف في الفتح: "عبّر بالنهي إشارة إلى أنه لم يظهر له هل هو للتحريم، أو للتنزيه؟ أو أن القرينة الصارفة للنهي عن التحريم لم تظهر، وهذا حيث استنجى بآلة كالماء والأحجار، أما لو باشر بيده، فإنه حرام إجماعاً. وهذا تنبيه على شرف اليمين وصيانتها عن الأقذار. والنهي عن التنفس في الإناء لئلا يقذره على غيره، أو يسقط من فمه، أو أنفه ما يفسده على الغير، وظاهره أنه للتحريم، وحمله الجماهير على الأدب.
11- (وعن سلمان) هو أبو عبد الله سلمان الفارسي، ويقال له: سلمان الخير، مولى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، أصله من فارس، سافر لطلب الدين، وتنصّر، وقرأ الكتب، وله أخبار طويلة نفيسة، ثم تنقل حتى انتهى إلى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فآمن به وحسن إسلامه، وكان رأساً في أهل الإسلام، وقال فيه رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "سلمان منا أهل البيت" ، وولاّه عمر المدائن، وكان من المعمرين، قيل: عاش مائتين وخمسين سنة.
وقيل: ثلاثمائة وخمسين، وكان يأكل من عمل يده، ويتصدّق بعطائه. مات بالمدينة سنة خمسين، وقيل: اثنتين وثلاثين.
)قال: لقد نهانا رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أن نستقْبلَ القبْلَةَ بغائط أو بَوْل ) المراد أن نستقبل بفروجنا عند خروج الغائط أو البول ( أو أن نسْتَنْجي باليَمين ) وهذا غير النهي عن مس الذكر باليمين عند البول الذي مرَّ ( أو أنْ نسْتَنْجِيَ بأقَلَّ من ثلاثةَ أحْجار ) الاستنجاء: إزالة النجو بالماء، أو الحجارة ( أو أن نستنجي برجيع ) وهو الروث ( أو عظم . رواه مسلم ).
الحديث فيه النهي عن استقبال القبلة، وهي الكعبة، كما فسرها حديث أبي أيوب في قوله: "فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة، فننحرف ونستغفر الله"، وسيأتي،(1/77)
ثم قد ورد النهي عن استدبارها أيضاً، كما في حديث أبي هريرة عند مسلم مرفوعاً: "إذا جلس أحدكم لحاجته، فلا يستقبل القبلة، ولا يستدبرها" وغيره من الأحاديث.
واختلف العلماء هل هذا النهي للتحريم، أو لا؟
على خمسة أقوال:
الأول: أنه للتنزيه بلا فرق بين الفضاء والعمران، فيكون مكروهاً، وأحاديث النهي محمولة على ذلك بقرينة حديث جابر: "رأيته قبل موته بعام مستقبل القبلة" أخرجه أحمد، وابن حبان، وغيرهما، وحديث ابن عمر: "أنه رأى النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقضي حاجته مستقبلاً لبيت المقدس مستدبراً للكعبة" متفق عليه. وحديث عائشة: "فحولوا مقعدتي إلى القبلة" المراد بمقعدته ما كان يقعد عليه حال قضاء حاجته إلى القبلة: رواه أحمد، وابن ماجه، وإسناده حسن.
وأول الحديث: أنه ذكر عند رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قوم يكرهون أن يستقبلوا بفرجهم القبلة قال: "أراهم قد فعلوا استقبلوا بمقعدتي القبلة" هذا لفظ ابن ماجه: وقال الذهبي في الميزان: في ترجمة خالد بن أبي الصلت: هذا الحديث منكر.
الثاني: أنه محرّم فيهما، لظاهر أحاديث النهي، والأحاديث التي جعلت قرينة على أنه للتنزيه محمولة على أنها كانت لعذر، ولأنها حكاية فعل، لا عموم لها.
الثالث: أنه مباح فيهما قالوا: وأحاديث النهي منسوخة بأحاديث الإباحة؛ لأن فيها التقييد بقبل عام ونحوه، واستقواه في الشرح.
الرابع: يحرم في الصحارى دون العمران؛ لأن أحاديث الإباحة وردت في العمران فحملت عليه، وأحاديث النهي عامة، وبعد تخصيص العمران بأحاديث فعله التي سلفت بقيت الصحارى على التحريم. وقد قال ابن عمر: "إنما نهى عن ذلك في الفضاء، فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك، فلا بأس به" رواه أبو داود وغيره، وهذا القول ليس بالبعيد؛ لبقاء أحاديث النهي على بابها، وأحاديث الإباحة كذلك.
الخامس: الفرق بين الاستقبال فيحرم فيهما، ويجوز الاستدبار فيهما، وهو مردود بورود النهي فيهما على سواء. فهذه خمسة أقوال. أقربها الرابع.
وقد ذكر عن الشعبي: أنّ سبب النهي في الصحراء: أنها لا تخلو عن مصلِّ من مَلَك أو ادمي أو جني: فربما وقع بصره على عورته، رواه البيهقي. وقد سئل: أي الشعبي، عن اختلاف الحديثين: حديث ابن عمر أنه راه يستدبر القبلة، وحديث أبي هريرة في النهي، فقال: صدقا جميعاً. أما قول أبي هريرة فهو في الصحراء، فإن لله عباداً ملائكة وجنّا يصلون، فلا يستقبلهم أحد ببول ولا غائط، ولا يستدبرهم. وأما كنفكم فإنما هي بيوت بنيت لا قبلة فيها، وهذا خاص بالكعبة.
وقد ألحق بها بيت المقدس لحديث أبي داود: "نهى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عن استقبال القبلتين بغائط أو بول" ، وهو حديث ضعيف، لا يقوى على رفع الأصل، وأضعف منه القول بكراهة استقبال القمرين؛ لما يأتي في الحديث الثاني عشر.
والاستنجاء باليمنى تقدم الكلام عليه.
وقوله: "أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار" يدل على أنه لا يجزىء أقل من ثلاثة أحجار، وقد ورد كيفية استعمال الثلاث في حديث ابن عباس: "حجران للصفحتين وحجر للمسربة" وهي بسين مهملة وراء مضمومة أو مفتوحة مجرى الحدث من الدبر.
وللعلماء خلاف في الاستنجاء بالحجارة:
فالهادوية على أنه لا يجب الاستنجاء إلا على المتيمم، أو من خشي تعدي الرطوبة ولم تزل النجاسة بالماء، وفي غير هذه الحالة مندوب لا واجب،(1/78)
وإنما يجب الاستنجاء بالماء للصلاة.وذهب الشافعي إلى أنه مخيّر بين الماء، والحجارة، أيهما فعل أجزأه.
وإذا اكتفى بالحجارة، فلا بد عنده من الثلاث المسحات، ولو زالت العين بدونها، وقيل: إذا حصل الإنقاء بدون الثلاث أجزأ، وإذا لم يحصل بثلاث، فلا بدّ من الزيادة، ويندب الإيتار. ويستحب التثليث في القبل والدبر فتكون ستة أحجار، وورد ذلك في حديث.
قلت: إلا أن الأحاديث لم تأتِ في طلبه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لابن مسعود، وأبي هريرة، وغيرهما إلا بثلاثة أحجار، وجاء بيان كيفية استعمالها في الدبر، ولم يأتِ في القبل، ولو كانت الست مرادة لطلبها صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عند إرادته التبرز، ولو في بعض الحالات، فلو كان حجر له ستة أحرف أجزأ المسح به.
ويقوم غير الحجارة مما ينقي مقامها:
خلافاً للظاهرية فقالوا: بوجوب الأحجار تمسكاً بظاهر الحديث.
وأجيب: بأنه خرج على الغالب؛ لأنه المتيسَّر، ويدل على ذلك نهيه أن يستنجى برجيع أو عظم. ولو تعيّنت الحجارة لنهى عما سواها، وكذلك نهى عن الحمم، فعند أبي داود: "مُرْ أمّتك أن لا يستنجوا بروثة أو حممة؛ فإن الله تعالى جعل لنا فيها رزقاً" فنهى صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عن ذلك.
وكذلك ورد في العظم: أنها من طعام الجن، كما أخرجه مسلم من حديث ابن مسعود، وفيه: "أنه قال صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم للجن لما سألوه الزاد: "لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه أوفر ما يكون لحماً، وكل بعرة علف لدوابكم" .
ولا ينافيه تعليل الروثة بأنها ركس في حديث ابن مسعود، لما طلب منه رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أن يأتيه بثلاثة أحجار، فأتاه بحجرين وروثة، فألقى الروثة، وقال: "إنها ركس" فقد يعلل الأمر الواحد بعلل كثيرة ولا مانع أيضاً أن تكون رجساً، وتجعل لدواب الجن طعاماً. ومما يدل على عدم النهي عن استقبال القمرين الحديث الآتي:
12- وهو قوله (وللسبعة من حديث أبي أيوب) واسمه خالد بن زيد بن كليب الأنصاري من أكابر الصحابة شهد بدراً، ونزل النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم حال قدومه المدينة عليه. مات غازياً سنة خمسين بالروم، وقيل: بعدها.
والحديث مرفوع أوله: أنه قال صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إذا أتيتم الغائط" الحديث، وفي آخره من كلام أبي أيوب قال: "فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة" الحديث تقدم؛ فقوله: "فلا تستَقبلوا القبْلَةَ ولا تستدبروها ببَوْل أو غائط ولكن شرّقوا أو غرّبوا" صريح في جواز استقبال القمرين، واستدبارهما؛ إذ لا بد أن يكونا في الشرق أو الغرب غالباً.
13- (وعن عائشة رضي الله عنها إنَّ النّبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "مَنْ أتى الغَائِطَ فَلْيَسْتَترْ" رواه أبو داود.
هذا الحديث في السنن نسبه إلى أبي هريرة، وكذلك في التلخيص، وقال: مداره على أبي سعيد الحبراني الحمصي وفيه اختلاف. قيل: إنه صحابي، ولا يصح، والراوي عنه مختلف فيه.
والحديث كالذي سلف: دال على وجوب الاستتار، وقد قدمنا شطره، ولفظه في السنن عن أبي هريرة عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "من اكتحل فليوتر، من فعل فقد أحسن،(1/79)
ومن لا فلا حرج، ومن استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج، ومن أكل فما تخلل فليلفظ، وما لاك بلسانه فليبتلع، من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج؛ ومن أتى الغائط فليستتر، فإن لم يجد إلا أن يجمع كثيباً من رمل فليستتر به، فإنّ الشيطان يلعب بمقاعد بني ادم، من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج" فهذا الحديث الذي أخرجه أبو داود عن أبي هريرة، وليس له هنا عن عائشة رواية، ثم هو مضعّف بمن سمعت، فكان على المصنف أن يعزوه إلى أبي هريرة، وأن يشير إلى ما فيه على عادته في الإشارة إلى ما قيل في الحديث، وكأنه ترك ذلك؛ لأنه قال في فتح الباري: إن إسناده حسن، وفي البدر المنير: أنه حديث صحيح صححه جماعة، منهم ابن حبان، والحاكم، والنووي.
14- (وعنها) أي عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان إذا خرج من الغائط قال: "غفرانك" بالنصب على أنه مفعول فعل محذوف: أي: أطلب غفرانك (أخرجه الخمسة وصححه الحاكم وأبو حاتم(.
ولفظة "خرج" تشعر بالخروج من المكان كما سلف في لفظ: "دخل"، ولكن المراد أعم منه، ولو كان في الصحراء.
قيل: واستغفاره صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم من تركه لذكر الله وقت قضاء الحاجة؛ لأنه كان يذكر الله على كل أحيانه، فجعل تركه لذكر الله في تلك الحال تقصيراً، وعدّه على نفسه ذنباً، فتداركه بالاستغفار.
وقيل: معناه التوبة من تقصيره في شكر نعمته التي أنعم بها عليه، فأطعمه، ثم هضمه، ثم سهل خروج الأذى منه، فرأى شكره قاصراً عن بلوغ حق هذه النعمة، ففزع إلى الاستغفار منه، وهذا أنسب ليوافق حديث "أنس قال: كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذا خرج من الخلاء قال: الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني. رواه ابن ماجه. وورد في وصف نوح عليه السلام: أنه كان يقول من جملة شكره بعد الغائط: "الحمد لله الذي أذهب عني الأذى ولو شاء حبسه فيّ" . وقد وصفه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بأنه كان عبداً شكوراً.
قلت: ويحتمل أن استغفاره للأمرين معاً، ولما لا نعلمه، على أنه قد يقال: إنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وإن ترك الذكر بلسانه حال التبرز لم يتركه بقلبه.
وفي الباب من حديث أنس: أنه كان صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقول: " الحمد لله الذي حسن إليَّ في أوله وآخره".
وحديث ابن عمر: أنه كان يقول إذا خرج: "الحمد لله الذي أذاقني لذته وأبقى فيَّ قوته وأذهب عني أذاه" . وكل أسانيدها ضعيفة.
وقال أبو حاتم: أصح ما فيه حديث عائشة.
قلت: لكنه لا بأس في الإتيان بها جميعاً شكراً على النعمة، ولا يشترط الصحة للحديث في مثل هذا.
15- (وعن ابن مسعود) هو عبد الله بن مسعود. قال الذهبي: هو الإمام الرباني أبو عبد الرحمن، عبد الله بن أم عبد الهذلي، صاحب رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وخادمه، وأحد السابقين الأولين، من كبار البدريين، ومن نبلاء الفقهاء والمقربين. أسلم قديماً، وحفظ من فيِّ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم سبعين سورة، وقال صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "مَنْ أحب أن يقرأ القران غضّاً، كما أنزل، فليقرأه على قراءة ابن أم عبد" ، وفضائله جمة عديدة. توفي بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين، وله نحو من ستين سنة (قال: أتى النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم الغائط فأمرني(1/80)
أن آتيه بثلاثةِ أحجار، فوجدتُ حَجَرينِ ولم أجد ثالثاً، فأتيْتُهُ برَوْثة، فأخذهما وألقَى الرَّوثَة) زاد ابن خزيمة: أنها "كانت روثة حمار" (وقال: إنها ركس) بكسر الراء وسكون الكاف، في القاموس: إنه الرجس (أخرجه البخاري، وزاد أحمد والدارقطني: ائتني بغيرها).
أخذ بهذا الحديث الشافعي، وأحمد، وأصحاب الحديث، فاشترطوا أن لا تنقص الأحجار عن الثلاث مع مراعاة الإنقاء. وإذا لم يحصل بها زاد حتى ينقى. ويستحب الإيتار، وتقدمت الإشارة إلى ذلك. ولا يجب الإيتار لحديث أبي داود: "ومن لا فلا حرج" تقدم.
قال الخطابي: لو كان القصد الإنقاء فقط لخلا ذكر اشتراط العدد عن الفائدة، فلما اشترط العدد لفظاً، وعلم الإنقاء معنى دلّ على إيجاب الأمرين، وأما قول الطحاوي: لو كان الثلاث شرطاً لطلب صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ثالثاً. فجوابه: أنه قد طلب صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم الثالث، كما في ورواية أحمد، والدارقطني المذكورة في كلام المصنف، وقد قال في الفتح: إن رجاله ثقات، على أنه لو لم تثبت الزيادة هذه، فالجواب على الطحاوي: أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم اكتفى بالأمر الأول في طلب الثلاث، وحين ألقى الروثة علم ابن مسعود أنه لم يتم امتثاله الأمر حتى يأتي بثالثة. ثم يحتمل أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم اكتفى بأحد أطراف الحجرين، فمسح به المسحة الثالثة، إذ المطلوب تثليث المسح ولو بأطراف حجر واحد. وهذه الثلاث لأحد السبيلين.
ويشترط للآخر ثلاثة أيضاً فتكون ستة؛ لحديث ورد بذلك في مسند أحمد، على أنّ في النفس من إثبات ستة أحجار شيئاً، فإنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ما علم أنه طلب ستة أحجار مع تكرّر ذلك منه مع أبي هريرة، وابن مسعود، وغيرهما. والأحاديث بلفظ: "من أتى الغائط"، كحديث عائشة: "إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليستطب بثلاثة أحجار فإنها تجزىء عنه" عند أحمد، والنسائي، وأبي داود، والدارقطني، وقال: إسناده حسن صحيح، مع أن الغائط إذا أطلق ظاهراً في خارج الدبر، وخارج القبل يلازمه. وفي حديث خزيمة بن ثابت: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم سئل عن الاستطابة فقال: "بثلاثة أحجار ليس فيها رجيع" أخرجه أبو داود، والسؤال عام للمخرجيْن معاً، أو أحدهما، والمحل محل البيان. وحديث سلمان بلفظ: "أمرنا أن لا نكتفي بدون ثلاثة أحجار" وهو مطلق في المخرجيْن. ومن اشترط الستة؛ فلحديث أخرجه أحمد، ولا أدري ما صحته، فيبحث عنه، ثم تتبعت الأحاديث الواردة في الأمر بثلاثة أحجار، والنهي عن أقل منها فإذا هي كلها في خارج الدبر، فإنها بلفظ النهي عن الاستنجاء بأقل من ثلاثة أحجار، وبلفظ الاستجمار: "إذا استجمر أحدكم فليستجمر ثلاثاً" ، وبلفظ التمسح: "نهى صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أن يتمسح بعظم" .
إذا عرفت هذا: فالاستنجاء لغة: إزالة النجو، وهو الغائط، والغائط كناية عن العذرة، والعذرة خارج الدبر، كما يفيد ذلك كلام أهل اللغة، ففي القاموس: النجو: ما يخرج من البطن من ريح أو غائط، واستنجى: اغتسل بالماء، أو تمسح بالحجر، وفيه استطاب: استنجى، واستجمر: استنجى، وفيه التمسح: إمرار اليد لإزالة الشيء السائل، أو المتلطخ اهـ.
فعرفت من هذا كله أن الثلاثة الأحجار لم يرد الأمر بها والنهي عن أقل منها إلا في إزالة خارج الدبر، لا غير، ولم يأت بها دليل في خارج القبل، والأصل عدم التقدير بعدد، بل المطلوب الإزالة لأثر(1/81)
البول من الذكر، فيكفي فيه واحدة، مع أنه قد ورد بيان استعمال الثلاث في الدبر: بأنَّ واحدة للمسربة واثنتين للصفحتين، ما ذاك إلا لاختصاصه بها.
16- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قالَ: "إنَّ رسولَ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم نهى أن يُسْتَنْجى بعظْمٍ، أوْ رَوْثٍ" وقالَ: "إنّهُمَا لا يُطَهِّرانِ" رواه الدارقطني وصححه.
وأخرجه ابن خزيمة بلفظ هذا، والبخاري بقريب منه، وزاد فيه أنه قال له أبو هريرة لما فرغ: ما بال العظم والروث؟ قال: "هي من طعام الجن" وأخرجه البيهقي مطولاً كذا في الشرح، ولفظه في سنن البيهقي: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال لأبي هريرة رضي الله عنه: ابغني أحجاراً أستنفض بها، ولا تأتيني بعظم ولا روث، فأتيته بأحجار في ثوبي، فوضعتها إلى جنبه، حتى إذا فرغ وقام تبعته، فقلت: يا رسول الله ما بال العظم والروث؟
فقال: "أتاني وفد نصيبين، فسألوني الزاد، فدعوت الله لهم ألا يمرُّوا بروثة، ولا عظم إلا وجدوا عليه طعاماً" ، والنهي في الباب عن الزبير، وجابر، وسهل بن حنيف، وغيرهم بأسانيد فيها ما فيه مقال، والمجموع يشهد بعضها لبعض.
وعلّل هنا بأنهما لا يطهران. وعلّل بأنهما طعام الجن؛ وعلّلت الروثة بأنها ركس، والتعليل بعدم التطهير فيها عائد إلى كونها ركساً. وأما عدم تطهير العظم، فلأنه لزج لا يكاد يتماسك فلا ينشف النجاسة ولا يقطع البلة. ولما علل صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بأن العظم والروثة طعام الجن، قال له ابن مسعود: وما يغني عنهم ذلك يا رسول الله؟ قال: "إنهم لا يجدون عظماً، إلا وجدوا عليه لحمه الذي كان عليه يوم أخذ، ولا وجدوا روثاً، إلا وجدوا فيه حبه الذي كان يوم أكل" رواه أبو عبد الله الحاكم في الدلائل، ولا ينافيه ما ورد: أن الروث علف لدوابهم، كما لا يخفى.
وفيه دليل على أن الاستنجاء بالأحجار طهارة لا يلزم معها الماء، وإن استحب؛ لأنه علل بأنهما لا يطهران، فأفاد أن غيرهما يطهر.
17- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "اسْتَنْزهوا" من التنزه وهو البعد بمعنى: تنزهوا، أو بمعنى اطلبوا النزاهة "من البَوْل فإنَّ عامَّةَ عذاب القبر" أي أكثر من يعذب فيه (منه) أي بسبب ملابسته وعدم التنزه عنه (رواه الدارقطني(.
والحديث أمر بالبعد عن البول، وأنّ عقوبة عدم التنزه منه تعجل في القبر، وقد ثبت حديث الصحيحين: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مرّ بقبرين يعذبان، ثم أخبر: أن عذاب أحدهما؛ لأنه كان لا يستنزه من البول، أو لأنه لا يستتر من بوله" من الاستتار: أي: لا يجعل بينه وبين بوله ساتراً يمنعه عن الملامسة له، أو: "لأنه لا يستبرىء" من الاستبراء، أو: "لأنه لا يتوقاه"، وكلها ألفاظ واردة في الروايات، والكلّ مفيد لتحريم ملامسة البول وعدم التحرّز منه.
وقد اختلف الفقهاء هل إزالة النجاسة فرض أو لا؟
فقال مالك: إزالتها ليست بفرض.
وقال الشافعي: إزالتها فرض ما عدا ما يعفى عنه منها. واستدل على الفرضية بحديث التعذيب على عدم التنزه من البول، وهو وعيد لا يكون إلا على ترك فرض. واعتذر لمالك عن الحديث: بأنه يحتمل أنه عذّب؛ لأنه كان يترك البول يسيل عليه، فيصلي بغير طهور؛ لأن الوضوء لا يصح مع وجوده، ولا يخفى أن أحاديث الأمر بالذهاب إلى المخرج بالأحجار، والأمر بالاستطابة دالّة على(1/82)
وجوب إزالة النجاسة، وفيه دلالة على نجاسة البول.والحديث نص في بول الإنسان؛ لأن الألف واللام في البول في حديث الباب عوض عن المضاف، أي: عن بوله، بدليل لفظ البخاري في صاحب القبرين، فإنها بلفظ: "كان لا يستنزه عن بوله" ، ومن حمله في جميع الأبوال، وأدخل فيه أبوال الإبل، كالمصنف في فتح الباري، فقد تعسف، وقد بيّنا وجه التعسف في هوامش فتح الباري.
18- (وللحاكم) أي: من حديث أبي هريرة (أكثر عذاب القبر من البول، وهو صحيح الإسناد).
هذا كلامه هنا، وفي التلخيص ما لفظه: وللحاكم، وأحمد، وابن ماجه: "أكثر عذاب القبر من البول" ، وأعله أبو حاتم، وقال: إن رفعه باطل اهـ. ولم يتعقبه بحرف، وهنا جزم بصحته، فاختلف كلامه كما ترى، ولم يتنبه الشارح رحمه الله لذلك، فأقرّ كلامه هنا.
والحديث يفيد ما أفاده الأول. واختلف في عدم الاستنزاه: هل هو من الكبائر، أو من الصغائر؟ وسبب الاختلاف حديث صاحبي القبرين؛ فإن فيه "وما يعذبان في كبير، بلى إنه لكبير" بعد أن ذكر: أن أحدهما عذب بسبب عدم الاستبراء من البول.
فقيل: إنّ نفيه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كبر ما يعذبان فيه يدل على أنه من الصغائر.
ورد هذا بأن قوله: "بلى إنه لكبير" يرد هذا.
وقيل: بل أراد أنه ليس بكبير في اعتقادهما، أو في اعتقاد المخاطبين، وهو عند الله كبير.
وقيل: ليس بكبير في مشقة الاحتراز، وجزم بهذا البغوي، ورجّحه ابن دقيق العيد.
وقيل: غير ذلك، وعلى هذا فهو من الكبائر.
19- (وعن سراقة) رضي الله عنه بضم السين المهملة وبعد الراء قاف، وهو أبو سفيان سراقة (بن مالك) بن جعشم بضم الجيم وسكون المهملة وضم الشين المعجمة، وهو الذي ساخت قوائم فرسه، لما لحق برسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم حين خرج فاراً من مكة، والقصة مشهورة، قال سراقة في ذلك يخاطب أبا جهل:
أبا حكم والله لو كنت شاهداً ... لأمر جوادي حين ساخت قوائمه
علمت ولم تشكك بأن محمداً ...
رسول ببرهان فمن ذا يقاومه
من أبيات. توفي سراقة سنة أربع وعشرين في صدر خلافة عثمان.
)قال: علّمَنَا رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في الخلاء أن نقعد على اليُسْرَى) من الرجلين (ونَنْصبَ اليمنى. رواه البيهقي بسند ضعيف) وأخرجه الطبراني. قال الحازمي: في سنده مَن لا نعرفه، ولا نعلم في الباب غيره.
قيل: والحكمة في ذلك: أنه يكون أعون على خروج الخارج؛ لأن المعدة في الجانب الأيسر.
وقيل: ليكون معتمداً على اليسرى، ويقل مع ذلك استعمال اليمنى لشرفها.
20- (وعن عيسى بن يزداد رضي الله عنه) قيل بياء موحدة وراء مهملة ودالين مهملتين بينهما ألف، وضبط بمثناة تحتية وزاي معجمة وبقيته كالأول (عن أبيه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إذا بال أحدكم فَلْيَنْتُر ذكرَهُ ثلاث مرات" رواه ابن ماجه بسند ضعيف) ورواه أحمد في مسنده، والبيهقي، وابن قانع، وأبو نعيم في المعرفة، وأبو داود في المراسيل، والعقيلي في الضعفاء، كلهم من ورواية عيسى المذكور. قال ابن معين: لا يعرف عيسى، ولا أبوه.
وقال العقيلي: لا يتابع عليه ولا يعرف إلا به. وقال النووي في شرح المهذب: اتفقوا(1/83)
على أنه ضعيف، إلا أن معناه في الصحيحين في ورواية صاحبي القبرين على ورواية ابن عساكر: "كان لا يستبرىء من بوله" بموحدة ساكنة، أي: لا يستفرغ البول جهده بعد فراغه منه، فيخرج بعد وضوئه. والحكمة في ذلك حصول الظن بأنه لم يبق في المخرج ما يخاف من خروجه، وقد أوجب بعضهم الاستبراء؛ لحديث أحد صاحبي القبرين هذا، وهو شاهد لحديث الباب.
21- (وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم سأل أهل قباء) بضم القاف ممدود مذكر مصروف، وفيه لغة بالقصر وعدم الصرف (فقال :" إنَّ الله يثْني عليكم فقالوا: إنّا نُتْبع الحجارة الماء." رواه البزار بسند ضعيف). قال البزار: لا نعلم أحداً رواه عن الزهري إلا محمد بن عبد العزيز، ولا عنه إلا ابنه. ومحمد ضعيف، وراويه عنه عبد الله بن شبيب ضعيف، (وأصله في أبي داود) والترمذي في السنن عن أبي هريرة عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "نزلت هذه الآية في أهل قباء" – {فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ} - قال: كانوا يستنجون بالماء فنزلت فيهم هذه الآية. قال المنذري: زاد الترمذي: غريب، وأخرجه ابن ماجه (وصححه ابن خزيمة من حديث أبي هريرة بدون ذكر الحجارة).
قال النووي في شرح المهذب: المعروف في طرق الحديث أنهم كانوا يستنجون بالماء، وليس فيهم أنهم كانوا يجمعون بين الماء والأحجار. وتبعه ابن الرفعة فقال: لا يوجد هذا في كتب الحديث. وكذا قال المحب الطبري نحوه. قال المصنف: ورواية البزار واردة عليهم، وإن كانت ضعيفة.
قلت: يحتمل أنهم يريدون لا يوجد في كتب الحديث بسند صحيح، ولكن الأولى الردّ بما في الإلمام؛ فإنه صحح ذلك. قال في البدر: والنووي معذور، فإن رواية ذلك غريبة في زوايا وخبايا، لو قطعت إليها أكباد الإبل لكان قليلاً.
قلت: يتحصل من هذا كله: أن الاستنجاء بالماء أفضل من الحجارة، والجمع بينهما أفضل من الكل بعد صحة ما في الإلمام، ولم نجد عنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أنه جمع بينهما.
وعدة أحاديث باب قضاء الحاجة أحد وعشرون. وقال في الشرح: خمسة عشر: وكأنه عدَّ أحاديث الملاعن حديثاً واحداً، ولا وجه له، فإنها أربعة أحاديث عن أبي هريرة عند مسلم، وعن معاذ عند أبي داود، وعن ابن عباس عند أحمد. وعن ابن عمر عند الطبراني، فقد اختلفت صحابة ومخرجين، وعد حديثي النهي عن استقبال القبلة واحداً وهما حديثان: عن سلمان عند مسلم، وعن أبي أيوب عند السبعة.(1/84)
باب الغسل وحكم الجنب
الغُسل بضم الغين المعجمة: اسم للاغتسال.
وقيل: إذا أريد به الماء فهو مضموم، وأما المصدر فيجوز فيه الضم والفتح.
وقيل: المصدر بالفتح، والاغتسال بالضم.
وقيل: إنه بالفتح فعل المغتسل، وبالضم الذي يغتسل به. وبالكسر ما يجعل مع الماء كالأشنان (وحكم الجنب) أي: الأحكام المتعلقة بمن أصابته جنابة.
1- (عَنْ أبي سعيدٍ الْخُدْري رضي الله عنه قالَ: قالَ رَسُولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "(1/84)
"الماءُ مِنَ الماءِ" رواه مُسلمٌ، وأصْلُهُ في البخاريِّ.
أي: الاغتسال من الإنزال، فالماء الأول المعروف، والثاني المني، وفيه من البديع الجناس التام. وحقيقة الاغتسال إفاضة الماء على الأعضاء.
واختلف في وجوب الدلك: فقيل: يجب.
وقيل: لا يجب. والتحقيق أن المسألة لغوية: فإن الوارد في القران الغسل في أعضاء الوضوء، فيتوقف إثبات الدلك فيه على أنه من مسماه. وأما الغسل فورد بلفظ: {وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ} - وهذا اللفظ فيه زيادة على مسمى الغسل، وأقلها الدلك. وما عدل عز وجل في العبارة إلا لإفادة التفرقة بين الأمرين. فأما الغسل فالظاهر أنه ليس من مسماه الدلك؛ إذ يقال: غسله العرق، وغسله المطر، فلا بد من دليل خارجي على شريطة الدلك في غسل أعضاء الوضوء، بخلاف غسل الجنابة والحيض، فقد ورد فيه بلفظ التطهير كما سمعت، وفي الحيض: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} - إلا أنه سيأتي في حديث عائشة وميمونة ما يدل على أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم اكتفى في إزالة الجنابة بمجرد الغسل، وإفاضة الماء من دون ذلك، فالله أعلم بالنكتة التي لأجلها عبّر في التنزيل عن غسل أعضاء الوضوء بالغسل، وعن إزالة الجنابة بالتطهير، مع الاتحاد في الكيفية.
وأما المسح، فإنه الإمرار على الشيء باليد، يصيب ما أصاب، ويخطىء ما أخطأ، فلا يقال: لا يبقى فرق بين الغسل والمسح إذا لم يشترط الدلك.
وحديث الكتاب ذكره مسلم، كما نسبه المصنف إليه في قصة عتبان بن مالك، ورواه أبو داود، وابن خزيمة، وابن حبان بلفظ الكتاب، وروى البخاري القصة ولم يذكر الحديث. ولذا قال المصنف: وأصله في البخاري وهو: أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال لعتبان بن مالك: "إذا أعجلت أو أقحطت فعليك الوضوء". والحديث له طرق عن جماعة من الصحابة عن أبي أيوب، وعن رافع بن خديج، وعن عتبان بن مالك، وعن أبي هريرة، وعن أنس.
والحديث دالّ بمفهوم الحصر المستفاد من تعريف المسند إليه. وقد ورد عند مسلم بلفظ: "إنما الماء من الماء" على أنه لا غسل إلا من الإنزال، ولا غسل من التقاء الختانين، وإليه ذهب داود، وقليل من الصحابة، والتابعين. وفي البخاري: "أنه سئل عثمان عمن يجامع امرأته، ولم يمن، فقال: يتوضأ، كما يتوضأ للصلاة، ويغسل ذكره".
وقال عثمان: سمعته من رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم. وبمثله قال علي، والزبير، وطلحة، وأبيّ ابن كعب، وأبو أيوب، ورفعه إلى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، ثم قال البخاري: الغسل أحوط.
وقال الجمهور: هذا المفهوم منسوخ بحديث أبي هريرة الآتي:
2- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إذا جلسَ" أي: الرجل المعلوم من السياق "بين شُعَبها" أي: المرأة "الأربع" بضم الشين المعجمة وفتح العين المهملة فموحدة جمع شعبة "ثم جَهَدَهَا" بفتح الجيم والهاء، معناه: كدها. بحركته، أي: بلغ جهده في العمل بها "فَقَدْ وَجَبَ الغُسْلُ" وفي ورواية مسلم: "ثم اجتهد" وعند أبي داود: "وألزق الختان بالختان ثم جهدها" . قال المصنف في الفتح: وهذا يدلّ على أنّ الجهد هنا: كناية عن معالجة الإيلاج (متفق عليه. زاد مسلم: وإن "لم ينزل" والشعب الأربع، وقيل: يداها ورجلاها، وقيل رجلاها وفخذاها، وقيل: ساقاها وفخذاها، وقيل: غير ذلك، والكل كناية عن الجماع.
فهذا الحديث استدل به الجمهور على نسخ مفهوم حديث "الماء من(1/85)
الماء" ، واستدلوا على أن هذا اخر الأمرين: بما رواه أحمد وغيره من طريق الزهري، عن أبيّ بن كعب أنه قال: "إن الفتيا التي كانوا يقولون: إن الماء من الماء رخصة، كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم رخص بها في أول الإسلام، ثم أمر بالاغتسال بعد" صححه ابن خزيمة، وابن حبان، وقال الإسماعيلي: إنه صحيح على شرط البخاري، وهو صريح في النسخ.
على أن حديث الغسل وإن لم ينزل أرجح لو لم يثبت النسخ، منطوق في إيجاب الغسل، وذلك مفهوم، والمنطوق مقدم على العمل بالمفهوم، وإن كان المفهوم موافقاً للبراءة الأصلية، والآية تعضد المنطوق في إيجاب الغسل؛ فإنه قال تعالى: - وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ -. قال الشافعي: إن كلام العرب يقتضي: أن الجنابة تطلق بالحقيقة على الجماع، وإن لم يكن فيه إنزال، قال: فإن كل من خوطب بأن فلاناً أجنب عن فلانة، عقل: أنه أصابها، وإن لم ينزل. قال: ولم يختلف أن الزنا الذي يجب به الجلد هو الجماع، ولو لم يكن منه إنزال اهـ. فتعاضد الكتاب والسنة على إيجاب الغسل من الإيلاج.
3- (وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل قال: "تغتسل" . متفق عليه،زاد مسلم فقالت أم سلمة: وهل يكون هذا؟ قال: "نعم، فمن أين يكون الشبه؟"
بكسر الشين المعجمة وسكون الموحدة وبفتحهما لغتان، اتفق الشيخان على إخراجه من طرق عن أم سلمة، وعائشة، وأنس، ووقعت هذه المسألة لنساء من الصحابيات: لخولة بنت حكيم عند أحمد، والنسائي، وابن ماجه، ولسهلة بنت سهيل عند الطبراني؛ ولبسرة بنت صفوان عند ابن أبي شيبة.
والحديث دليل على أن المرأة ترى ما يراه الرجل في منامه، والمراد إذا أنزلت الماء، كما في البخاري: "قال: نعم إذا رأت الماء" . أي المني بعد الاستيقاظ؛ وفي رواية: "هنّ شقائق الرجال" .
وفيه: ما يدلّ على أن ذلك غالب من حال النساء كالرجال. ورد على من زعم أن مني المرأة لا يبرز. وقوله: "فمن أين يكون الشبه؟" استفهام إنكار، وتقرير أنّ الولد تارة يشبه أباه، وتارة يشبه أمه وأخواله، فأيّ الماءين غلب كان الشبه للغالب.
4- (وعن عائشة رضي الله عنها قالتْ: "كانَ رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يَغْتَسِلُ مِنْ أَرْبَعٍ: مِنَ الجَنَابَةِ، ويَوْمَ الجمعةِ، ومِنَ الحِجامَةِ، وغُسْلِ المَيِّتِ" . رواهُ أبو داود، وصَحّحه ابن خُزيمةَ.
ورواه أحمد والبيهقي، وفي إسناده مصعب بن شيبة، وفيه مقال.
والحديث: دليل على مشروعية الغسل في هذه الأربعة الأحوال. فأما الجنابة فالوجوب ظاهر.
وأما الجمعة: ففي حكمه ووقته خلاف. أما حكمه فالجمهور على أنه مسنون لحديث سمرة: "مَنْ توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل" .
يأتي قريباً. وقال داود، وجماعة: إنه واجب، لحديث: "غسل الجمعة واجب على كل محتلم" يأتي قريباً، أخرجه السبعة من حديث أبي سعيد.
وأجيب: بأنه يحمل الوجوب على تأكد السنية.
وأما وقته: ففيه خلاف أيضاً. فعند الهادوية: أنه من فجر الجمعة إلى عصرها، وعند غيرهم: أنه للصلاة، فلا يشرع بعدها ما لم يدخل وقت العصر. وحديث "مَنْ أتى الجمعة فليغتسل" دليل الثاني، وحديث عائشة هذا يناسب الأول.
أما الغسل من الحجامة: فقيل: هو سنة، وتقدم حديث أنس: "أنه صَلّى الله(1/86)
عَلَيْهِ وَسَلّم احتجم، وصلى، ولم يتوضأ" فدل على أنه سنة: يفعل تارة، كما أفاده حديث عائشة هذا، ويترك أخرى، كما في حديث أنس، ويروى عن علي عليه السلام: "الغسل من الحجامة سنة، وإن تطهرت أجزأك".
وأما الغسل من غسل الميت فتقدم الكلام فيه. وللعلماء فيه ثلاثة أقوال. أنه سنة وهو أقربها، وأنه واجب، وأنه لا يستحب.
5- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه) أنه قال: (في قصة ثمامة) بضم المثلثة وتخفيف الميم (ابن أثال) بضم الهمزة فمثلثة مفتوحة وهو الحنفي سيد أهل اليمامة (عندما أسلم) أي عند إسلامه: (وأمره النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أن يغتسل. رواه عبد الرزاق(.
وهو الحافظ الكبير: عبد الرزاق بن همام الصنعاني صاحب التصانيف، روى عن عبيد الله بن عمر، وعن خلائق. وعنه أحمد، وإسحاق، وابن معين، والذهلي. قال الذهبي: وثقه غير واحد، وحديثه مخرج في الصحاح، كان من أوعية العلم. مات في شوال سنة إحدى عشرة ومائتين. (وأصله متفق عليه) بين الشيخين.
الحديث: دليل على شرعية الغسل بعد الإسلام، وقوله: أمره يدل على الإيجاب. وقد اختلف العلماء في ذلك:
فعند الهادوية: إنه إذا كان قد أجنب حال كفره، وجب عليه الغسل للجنابة، وإن كان قد اغتسل حال كفره، فلا حكم له، وحديث: "الإسلام يجب ما قبله" لا يوافق هذا القول.
وعند الحنفية: أنه إن كان قد اغتسل حال كفره فلا غسل عليه.
وعند الشافعية، وغيرهم: لا يجب عليه الغسل بعد إسلامه للجنابة؛ للحديث المذكور، وهو: "إن الإسلام يجب ما قبله" ، وأما إذا لم يكن أجنب حال كفره، فإنه يستحب له الاغتسال، لا غيره.
أما عند أحمد فقال: يجب عليه مطلقاً؛ لظاهر حديث الكتاب، ولما أخرجه أبو داود من حديث قيس بن عاصم قال: "أتيت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أريد الإسلام، فأمرني أن أغتسل بماء وسدر" وأخرجه الترمذي، والنسائي بنحوه.
6- (وعن أبي سعيد الخدْرِيِّ رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "غُسْلُ الجُمُعةِ واجب على كُلِّ مُحْتَلمٍ". أخرَجَهُ السّبعَةُ.
هذا دليل داود في إيجابه غسل الجمعة، والجمهور يتأولونه بما عرفت قريباً، وقد قيل: إنه كان الإيجاب أول الأمر بالغسل؛ لما كانوا فيه من ضيق الحال، وغالب لباسهم الصوف، وهم في أرض حارة الهواء، فكانوا يعرقون عند الاجتماع لصلاة الجمعة، فأمرهم صلى الله عليه وآله وسلم بالغسل، فلما وسع الله عليهم، ولبسوا القطن، رخص لهم في ذلك.
7- (وعن سمرة) تقدم ضبطه (ابن جندب) بضم الجيم وسكون النون وفتح الدال المهملة بعدها موحدة، هو أبو سعيد في أكثر الأقوال. سمرة بن جندب الفزاري حليف الأنصار، نزل الكوفة، وولي البصرة، وعداده في البصريين، كان من الحفاظ المكثرين بالبصرة. مات اخر سنة تسع وخمسين (قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "مَنْ تَوَضأ يَوْمَ الجُمُعة فبها" أي بالسنة أخذ "ونعمتْ" السنة، أو بالرخصة أخذ ونعمت؛ لأن السنة الغسل. أو بالفريضة أخذ، ونعمت الفريضة؛ فإن الوضوء هو الفريضة "ومن اغتسل فالغسل أفْضَلُ" رواه الخمسة، وحسنه الترمذي)، ومن صحّح سماع الحسن من سمرة قال: الحديث(1/87)
صحيح، وفي سماعه منه خلاف.
والحديث: دليل على عدم وجوب الغسل، وهو كما عرفت دليل الجمهور على ذلك، وعلى تأويل حديث الإيجاب، إلا أنّ فيه سؤالاً، وهو: أنه كيف يفضّل الغسل وهو سنة على الوضوء وهو فريضة والفريضة أفضل إجماعاً.
والجواب: إنه ليس التفضيل على الوضوء نفسه، بل على الوضوء الذي لا غسل معه، كأنه قال: مَنْ توضأ، واغتسل، فهو أفضل ممن توضأ فقط. ودلّ لعدم الفرضية أيضاً حديث مسلم: "من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة، فاستمع، وأنصت غفر له ما بين الجمعة إلى الجمعة وزيادة ثلاثة أيام" .
ولداود أن يقول: هو مقيد بحديث الإيجاب. فالدليل الناهض حديث سمرة، فلم يخرجه الشيخان؛ فالأحوط للمؤمن أن لا يترك غسل الجمعة. وفي الهدي النبوي: الأمر بالغسل يوم الجمعة مؤكد جداً، ووجوبه أقوى من وجوب الوتر، وقراءة البسملة في الصلاة، ووجوب الوضوء من مس النساء، ووجوبه من مس الذكر، ووجوبه من القهقهة في الصلاة، ومن الرعاف، ومن الحجامة، والقيء.
8- (وعن علي عليه السلام قال: كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقرئنا القران ما لم يكن جُنُباً . رواه أحمد والخمسة).
هكذا في نسخ بلوغ المرام. والأولى: والأربعة قد وجد في بعضها. كذلك (وهذا لفظ الترمذي وحسنه، وصححه ابن حبان)، وذكر المصنف في التلخيص: أنه حكم بصحته الترمذي، وابن السكن، وعبد الحق، والبغوي، وروى ابن خزيمة بإسناده عن شعبة أنه قال: هذا الحديث ثلث رأس مالي، وما أحدِّث بحديث أحسن منه. وأما قول النووي: خالف الترمذيَّ الأكثرون فضعفوا هذا الحديث، فقد قال المصنف: إنّ تخصيصه للترمذي بأنه صححه: دليل على أنه لم يَرو تصحيحه لغيره، وقد قدّمنا من صحّحه غير الترمذي، وروى الدارقطني عن علي موقوفاً: "اقرأوا القران ما لم تصب أحدكم جنابة، فإن أصابته فلا، ولا حرفاً"، وهذا يعضد حديث الباب.
إلا أنه قال ابن خزيمة: لا حجة في الحديث لمن منع الجنب من القراءة؛ لأنه ليس فيه نهي؛ وإنما هي حكاية فعل، ولم يبيّن صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أنه إنما امتنع عن ذلك لأجل الجنابة. وروى البخاري عن ابن عباس: "أنه لم ير بالقراءة للجنب بأساً"، والقول به رواية: "لم يكن يحجب النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أو يحجزه عن القران شيء سوى الجنابة" أخرجه أحمد، وأصحاب السنن، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، والبزار، والدارقطني، والبيهقي: أصرح في الدليل على تحريم القراءة على الجنب من حديث الباب: غير ظاهر؛ فإن الألفاظ كلها إخبار عن تركه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم القران حال الجنابة، ولا دليل في الترك على حكم معين.
وتقدم حديث عائشة: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يذكر الله على كل أحيانه" ، وقدّمنا أنه مخصص بحديث علي عليه السلام هذا، ولكن الحق أنه لا ينهض على التحريم، بل يحتمل أنه ترك ذلك حال الجنابة للكراهة، أو نحوها، إلا أنه أخرج أبو يعلى من حديث علي عليه السلام قال: "رأيت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم توضأ، ثم قرأ شيئاً من القران، ثم قال هكذا لمن ليس بجنب، فأما الجنب فلا، ولا آية" . قال الهيثمي: رجاله موثقون، وهو يدل على التحريم؛ لأنه نهي، وأصله ذلك، ويعاضد ما سلف.
وأما حديث ابن عباس مرفوعاً: "لو أن أحدكم إذا أتى أهله فقال: بسم الله" الحديث، فلا دلالة فيه على جواز القراءة للجنب؛ لأنه يأتي بهذا اللفظ غير(1/88)
قاصد للتلاوة، ولأنه قبل غشيانه أهله وصيرورته جنباً. وحديث ابن أبي شيبة: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان إذا غشى أهله فأنزل قال: اللهم لا تجعل للشيطان فيما رزقتني نصيباً" ليس فيه تسمية، فلا يرد به إشكال.
9- (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود" إلى إتيانها "فليتوضأ بينهما وضوءاً" كأنه أكده؛ لأنه قد يطلق على غسل بعض الأعضاء، فأبان التأكيد أنه أراد به الشرعي، وقد ورد في ورواية ابن خزيمة، والبيهقي: "وضوءه للصلاة". (رواه مسلم، زاد الحاكم) عن أبي سعيد "فإنه أنشط للعود" .
فيه دلالة على شرعية الوضوء لمن أراد معاودة أهله، وقد ثبت أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم غشي نساءه، ولم يحدث وضوءاً بين الفعلين. وثبت أنه اغتسل بعد غشيانه عند كل واحدة، فالكل جائز.
10- (وللأربعة عَنْ عائشة رضي الله عنهَا قالَتْ: "كانَ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يَنَامُ وهو جُنُبٌ، مِنْ غيرِ أنْ يمسَّ ماءً" . وَهُو مَعْلُولٌ.
بيّن المصنف العلة: أنه من ورواية أبي إسحاق، عن الأسود، عن عائشة. قال أحمد: على أنه ليس بصحيح. وقال أبو داود: وهم.
ووجهه: أن أبا إسحاق لم يسمعه من الأسود، وقد صححه البيهقي، وقال: إن أبا إسحاق سمعه من الأسود، فبطل القول بأنه أجمع المحدثون: أنه خطأ من أبي إسحاق. قال الترمذي: وعلى تقدير صحته، فيحتمل أن المراد لا يمس ماء الغسل. قلت: فيوافق أحاديث الصحيحين، فإنها مصرحة بأنه يتوضأ، ويغسل فرجه لأجل النوم، والأكل، والشرب، والجماع.
وقد اختلف العلماء: هل هو واجب أو غير واجب؟ فالجمهور قالوا: بالثاني؛ لحديث الباب هذا، فإنه صريح أنه لا يمس ماء، وحديث طوافه على نسائه بغسل واحد. كذا قيل. ولا يخفى أنه ليس فيه على المدعي هنا دليل.
وذهب داود، وجماعة: إلى وجوبه لورود الأمر بالغسل عند مسلم: "ليتوضأ ثم لينم". وفي البخاري: "اغسل فرجك ثم توضأ" وأصله الإيجاب وتأوله الجمهور: أنه للاستحباب جمعاً بين الأدلة، ولما رواه ابن خزيمة، وابن حبان في صحيحيهما من حديث ابن عمر: "أنه سأل النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أينام أحدنا وهو جنب؟ قال: نعم، ويتوضأ إن شاء" . وأصله في الصحيحين، دون قوله: "إن شاء" إلا أن تصحيح من ذكرها، وإخراجها في الصحيح من كتابه كاف في العمل، ويؤيد حديث "ولا يمس ماء"، ولا يحتاج إلى تأويل الترمذي، ويعضد الأصل، وهو عدم وجوب الوضوء على من أراد النوم جنباً، كما قاله الجمهور.
11- (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذا اغْتَسَلَ من الجنابة) أي: أراد ذلك "يَبْدَأ فيغسل يدَيْهِ" في حديث ميمونة: "مرتين أو ثلاثاً" "ثم يُفْرغُ" أي: الماء "بيمينه على شماله فيغسل فرجه ثم يتوضأ" في حديث ميمونة: "وضوءه للصلاة" "ثم يأخُذُ الماءَ فيُدْخِلُ أصابعَهُ في أصُول الشّعْر" أي: شعر رأسه، وفي ورواية البيهقي: "يخلّل بها شق رأسه الأيمن فيتتبع بها أصول الشعر، ثم يفعل بشق رأسه الأيسر كذلك"، "ثم حَفَنَ على رأسه ثلاث حفَنَات" .(1/89)
الحفنة: بالمهملة فنون: ملء الكف، كما في النهاية، وبكسر الحاء، وفتحها كما في القاموس، وفي حديث ميمونة: "ثم أفرغ على رأسه ثلاث حفنات ملء كفيه" ، إلا أن أكثر روايات مسلم: ملء كفه بالإفراد "ثم أفاض" أي: الماء " على سائر جسده" أي بقيته. ولفظ حديث: ميمونة "ثم غسل" بدل أفاض "ثم غسل رجليه . متفق عليه واللفظ لمسلم).
12- (ولهما) أي: الشيخين (من حديث ميمونة) في صفة الغسل من ابتدائه إلى انتهائه، إلّا أن المصنف اقتصر على ما لم يذكر في حديث عائشة فقط: "ثم أفْرَغَ على فرجِه وغسَلَهُ بشماله ثمَّ ضَرَبَ بها الأرض وفي رواية: "فمسحها بالتراب" وفي آخره: "ثم أَتَيْتُه بالمنديل" بكسر الميم وهو معروف "فرَدَّهُ" وفيه: "وجعل يَنْفُضُ الماء بيده" وقيل هذا اللفظ في حديثهما: "ثم تنحى عن مقامه ذلك، فغسل رجليه، ثم أتيته إلى آخره".
وهذان الحديثان مشتملان على بيان كيفية الغسل من ابتدائه إلى انتهائه، فابتداؤه غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء إذا كان مستيقظاً من النوم، كما ورد صريحاً، وكان الغسل من الإناء، وقد قيّده في حديث ميمونة مرتين، أو ثلاثاً، ثم غسل الفرج. وفي الشرح: أنّ ظاهره مطلق الغسل، فيكفي مرة واحدة. ودلك الأرض لأجل إزالة الرائحة من اليد، ولم يذكر أنه أعاد غسل الفرج بعد ذلك، مع أنها إذا كانت الرائحة في اليد، فهي باقية في الفرج، هذا ما يفهم من الحديث.
ويدل على أن الماء الذي يطهر به محل النجاسة طاهر مطهّر، وعلى تشريك النية للغسل الذي يزيل النجاسة برفعها الحدث.
واستدلّ به على أن بقاء الرائحة بعد غسل المحل لا يضر. ويدل على أن غسل الجنابة مرة واحدة، هذا كلامه، ويحتمل أنها لم تبقَ رائحة، بل ضرب الأرض؛ لإزالة لزوجة اليد، إن سلم أنها تفارق الرائحة.
وأما وضوءه قبل الغسل: فإنه يحتمل أنه وضوءه للصلاة، وأنه يصح قبل رفع الحدث الأكبر، وأن يكون غسل هذه الأعضاء كافياً عن غسل الجنابة، وأنه تتداخل الطهارتان، وهو رأي زيد بن علي، والشافعي، وجماعة، ونقل ابن بطال الإجماع على ذلك، ويحتمل أنه غسل أعضاء الوضوء للجنابة، وقدمها تشريفاً لها، ثم وضّأها للصلاة، لكن هذا لم ينقل أصلاً، ويحتمل أنه وضّأها للصلاة، ثم أفاض عليها الماء مع بقية الجسد للجنابة، ولكن عبارة: "أفاض الماء على سائر جسده" لا تناسب هذا، إذ هي ظاهرة: أنه أفاضه على ما بقي من جسده مما لم يمسه الماء، فإن السائر: الباقي، لا الجميع. قال في القاموس: والسائر: الباقي، لا الجميع، كما توهّم جماعات. فالحديثان ظاهران في كفاية غسل أعضاء الوضوء مرة واحدة عن الجنابة والوضوء, وأنه لا يشترط في صحة الوضوء رفع الحدث الأكبر.
ومن قال: لا يتداخلان، وأنه يتوضأ بعد كمال الغسل، لم ينهض له على ذلك دليل. وقد ثبت في سنن أبي داود: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يغتسل ويصلي الركعتين، وصلاة الغداة، ولا يمس ماء"، فبطل القول بأنه ليس في حديث ميمونة، وعائشة: أنه صلى بعد ذلك الغسل، ولا يتمّ الاستدلال بالتداخل، إلا إذا ثبت: أنه صلى بعده. قلنا: قد ثبت في حديث السنن صلاته به. نعم لم يذكر المصنف في وضوء الغسل: أنه مسح رأسه، إلا أن يقال: قد شمله قول ميمونة: "وضوءه للصلاة" . وقولها: "ثم أفاض الماء" الإفاضة الإسالة.
وقد استدل به على عدم وجوب الدلك، وعلى أن(1/90)
مسمّى الغسل لا يدخل فيه الدلك لأنها عبرت ميمونة بالغسل، وعبرت عائشة بالإفاضة، والمعنى واحد، والإفاضة لا دلك فيها، فكذلك الغسل.
وقال الماوردي: لا يتم الاستدلال بذلك؛ لأن أفاض: بمعنى غسل، والخلاف في الغسل قائم. هذا.
وأما هل يكرر غسل الأعضاء ثلاثاً عند وضوء الغسل؟ فلم يذكر ذلك في حديث عائشة، وميمونة. قال القاضي عياض: إنه لم يأتِ في شيء من الروايات ذلك.
قال المصنف: بل قد ورد ذلك في ورواية صحيحة عن عائشة، وفي قول ميمونة: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أخّر غسل الرجلين"، ولم يرد في رواية عائشة.
قيل: يحتمل أنه أعاد غسل رجليه بعد أن غسلهما أولاً للوضوء لظاهر قولها: "توضأ وضوءه للصلاة" ، فإنه ظاهر في دخول الرجلين في ذلك:
وقد اختلف العلماء في ذلك: فمنهم من اختار غسلهما أولاً، ومنهم من اختار تأخير ذلك. وقد أخذ منه جواز تفريق أعضاء الوضوء، وقول ميمونة: "ثم أتيته بالمنديل فرده".
فيه دليل على عدم شرعية التنشيف للأعضاء. وفيه أقوال:
الأشهر أنه يستحب تركه.
وقيل: مباح.
وقيل: غير ذلك.
وفيه دلالة على أن نفض اليد من ماء الوضوء لا بأس به، وقد عارضه حديث: "لا تنفضوا أيديكم، فإنها مراوح الشيطان" إلا أنه حديث ضعيف لا يقاوم حديث الباب.
13- ( وعن أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قالت: قُلْتُ: يا رسول الله، إني امْرَأَةٌ أشُدُّ شَعَرَ رأسي، أَفَأَنْقُضُهُ لِغَسْلِ الجَنَابَةِ؟ وفي رواية: والحيْضَةِ؟ فقالَ: "لا، إنّما يكفيكِ أنْ تحثِي على رأسِك ثلاثَ حَثَيَاتٍ" رواه مسلمٌ.
لكن لفظه: "أشدُّ ضفر رأسي" بدل: "شعره " وكأنه رواه المصنف بالمعنى، وضفر بفتح الضاد وإسكان الفاء هو المشهور.
والحديث: دليل على أنه لا يجب نقض الشعر على المرأة في غسلها من جنابة، أو حيض، وأنه لا يشترط وصول الماء إلى أصوله، وهي مسألة خلاف:
فعند الهادوية: لا يجب النقض في غسل الجنابة، ويجب في الحيض والنفاس. لقوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لعائشة: "انقضي شعرك واغتسلي" .
وأجيب: بأنه معارض بهذا الحديث.
ويجمع بينهما: بأن الأمر بالنقض للندب، ويجاب: بأن شعر أم سلمة كان خفيفاً، فعلم صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أنه يصل الماء إلى أصوله.
وقيل: يجب النقض إن لم يصل الماء إلى أصول الشعر، وإن وصل لخفة الشعر لم يجب نقضه، أو بأنه إن كان مشدوداً نقض، وإلا لم يجب نقضه؛ لأنه يبلغ الماء أصوله. وأما حديث: "بلوا الشعر وأنقوا البشر" فلا يقوى على معارضة حديث أم سلمة. وأما فعله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وإدخال أصابعه، كما سلف في غسل الجنابة، ففعله لا يدل على الوجوب، ثم هو في حق الرجال، وحديث أم سلمة في غسل النساء، هكذا حاصل ما في الشرح.
إلا أنه لا يخفى: أن حديث عائشة كان في الحج، فإنها أحرمت بعمرة، ثم حاضت قبل دخول مكة، فأمرها صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أن تنقض رأسها، وتمشط، وتغتسل، وتهلّ بالحج، وهي حينئذ لم تطهر من حيضها، فليس إلا غسل تنظيف، لا حيض، فلا يعارض حديث أم سلمة أصلاً، فلا حاجة إلى هذه التاويل التي في غاية الركة، فإن خفة شعر هذه دون هذه يفتقر إلى دليل. والقول: بأن هذا مشدود، وهذا خلافه والعبارة عنهما من الراوي بلفظ النقض دعوى بغير دليل.
نعم في المسألة حديث واضح: فإنه أخرج الدارقطني في الإفراد، والطبراني،(1/91)
والخطيب في التلخيص، والضياء المقدسي من حديث أنس مرفوعاً: "إذا اغتسلت المرأة من حيضها نقضت شعرها نقضاً، وغسلته بخطمي وأشنان، وإن اغتسلت من جنابة صبت الماء على رأسها صباً وعصرته" فهذا الحديث مع إخراج الضياء له، وهو يشترط الصحة فيما يخرجه، يثمر الظن في العمل به. ويحمل هذا على الندب لذكر الخطمي والأشنان؛ إذ لا قائل بوجوبهما، فهو قرينة على الندب، وحديث أم سلمة محمول على الإيجاب، كما قال: "إنما يكفيك" ، فإذا زادت نقض الشعر كان ندباً.
ويدل لعدم وجوب النقض ما أخرجه مسلم، وأحمد: "أنه بلغ عائشة: أن ابن عمر كان يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤوسهن. فقالت: يا عجباً لابن عمر: هو يأمر النساء أن ينقضن شعرهن، أفلا يأمرهن أن يحلقن رؤوسهن، لقد كنت أغتسل أنا ورسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم من إناء واحد، فما أزيد أن أفرغ على رأسي ثلاث إفراغات" وإن كان حديثها في غسلها من الجنابة. وظاهر ما نقل عن ابن عمر: أنه كان يأمر النساء بالنقض في حيض، وجنابة.
14- (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إني لا أحلُّ المسجد" أي دخوله، والبقاء فيه "لحائض ولا جنب" . رواه أبو داود، وصححه ابن خزيمة).
ولا سماع لقول ابن الرفعة: إنَّ في رواته متروكاً؛ لأنه قد ردّ قوله بعض الأئمة.
والحديث دليل على أنه لا يجوز للحائض والجنب دخول المسجد، وهو قول الجمهور، وقال داود، وغيره: يجوز، وكأنه بني على البراءة الأصلية، وأن هذا الحديث لا يرفعها.
وأما عبورهما المسجد، فقيل: يجوز لقوله تعالى: {إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ} - في الجنب، وتقاس الحائض عليه، والمراد به: مواضع الصلاة.
وأجيب: بأن الآية فيمن أجنب في المسجد فإنه يخرج منه للغسل، وهو خلاف الظاهر، وفيها تأويل اخر.
15- (وعنها) أي: عائشة (قالت: كنت أغتسل أنا ورسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم من إناء واحد تختلف أيدينا فيه ) أي: في الاغتراف منه ( من الجنابة ) بيان لنغتسل (متفق عليه، وزاد ابن حبان: وتلتقي) أي: تلتقي (أيدينا) فيه.
وهو دليل على جواز اغتسال الرجل والمرأة، من ماء واحد، في إناء واحد، والجواز هو الأصل، وقد سلف الكلام في هذا في باب المياه.
16- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إن تحت كل شعرة جنابة، فاغسلوا الشعر" ؛ لأنه إذا كان تحته جنابة، فبالأولى أنها فيه، ففرع غسل الشعر على الحكم بأن تحت كل شعرة جنابة "وانقوا البشر" . رواه أبو داود، والترمذي، وضعفاه(.
لأنه عندهما من ورواية الحارث بن وجيه: بفتح الواو فجيم فمثناة تحتية. قال أبو داود: وحديثه منكر؛ وهو ضعيف، وقال الترمذي: غريب لا نعرفه إلّا من حديث الحارث، وهو شيخ ليس بذاك. وقال الشافعي: هذا الحديث ليس بثابت. وقال البيهقي: أنكره أهل العلم بالحديث: البخاري وأبو داود وغيرهما.
ولكن في الباب من حديث علي عليه السلام مرفوعاً: "مَنْ ترك موضع شعرة من جنابة لم يغسلها فعل به كذا وكذا، فمن ثم عاديت رأسي، فمن ثم(1/92)
عاديت رأسي ثلاثاً"، وكان يجزه. وإسناده صحيح، كما قال المصنف، ولكن قال ابن كثير في الإرشاد: إن حديث علي هذا من ورواية عطاء بن السائب؛ وهو سييء الحفظ، وقال النووي: إنه حديث ضعيف.
قلت: وسبب اختلاف الأئمة في تصحيحه وتضعيفه: أن عطاء بن السائب اختلط في اخر عمره، فمن روى عنه قبل اختلاطه، فروايته عنه صحيحة. ومن روى عنه بعد اختلاطه، فروايته عنه ضعيفة، وحديث علي هذا، اختلفوا: هل رواه قبل الاختلاط، أو بعده؟ فلذا اختلفوا في تصحيحه، وتضعيفه، حتى يتبين الحال فيه. وقيل: الصواب وقفه على عليّ عليه السلام.
والحديث دليل على أنه يجب غسل جميع البدن في الجنابة، ولا يعفى عن شيء منه. قيل: وهو إجماع، إلا المضمضة والاستنشاق ففيهما خلاف. قيل: يجبان؛ لهذا الحديث، وقيل: لا يجبان؛ لحديث عائشة الذي تقدم وميمونة. وحديث إيجابهما هذا غير صحيح، ولا يقاوم ذلك. وأما أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم توضأ وضوءه للصلاة، ففعل لا ينهض على الإيجاب. إلا أن يقال: إنه بيان لمجمل، فإن الغسل مجمل في القران، يبينه الفعل.
17- (ولأحْمَدَ عنْ عائِشَةَ رضي الله عنها نَحْوُهُ، وفيهِ رَاوٍ مَجْهُولٍ ).
لم يذكر المصنف الحديث في التلخيص، ولا عيّن من فيه، وإذا كان فيه مجهول، فلا تقوم به حجة.
وأحاديث الباب عدتها سبعة عشر.(1/93)
باب التيمم
التيمم هو اللغة: القصد.
وفي الشرع: القصد إلى الصعيد لمسح الوجه واليدين، بنية استباحة الصلاة ونحوها.
واختلف العلماء: هل التيمم رخصة أو عزيمة؟
وقيل: هو لعدم الماء عزيمة، وللعذر رخصة.
1- (عن جابر) هو إذا أُطلق جابر بن عبد الله (أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال) متحدثاً بنعمة الله، ومبيناً لأحكام شريعته: "أُعطِيتُ" حذف الفاعل للعلم به "خَمْساً" أي: خصالاً، أو فضائل، أو خصائص، والاخر يناسبه قوله: "لمْ يُعطهنَّ أحدٌ قبلي" ومعلوم أنه لا يعطاهن أحد بعده، فتكون خصائص له؛ إذ الخاصة ما توجد في الشيء ولا توجد في غيره. ومفهوم العدد غير مراد؛ لأنه قد ثبت أنه أُعْطِىَ أكثر من الخمس، وقد عدها السيوطي في الخصائص، فبلغت الخصائص زيادة على المائتين، وهذا إجمال فصله "نصرت بالرعب" وهو: الخوف "مَسيرةَ شَهْر" أي: بيني وبين العدو مسافة شهر، وأخرج الطبراني: "نصرت بالرعب على عدوي مسيرة شهرين" . وأخرج أيضاً تفسير ذلك عن السائب بن يزيد: بأنه شهر خلفي، وشهر أمامي.
قيل: وإنما جعل مسافة شهر؛ لأنه لم يكن بينه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وبين أحد من أعدائه أكثر من هذه المسافة، وهي حاصلة له، وإن كان وحده. وفي كونها حاصلة لأمته خلاف "وجُعلت لي الأرضُ مسْجداً" موضع سجود، ولا يختص به موضع دون غيره، وهذه لم تكن لغيره صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، كما صرح به في رواية: "وكان من قبلي إنما كانوا يصلون في كنائسهم" ، وفي أخرى: "ولم يكن أحد من الأنبياء يصلي حتى يبلغ محرابه" وهو نص على أنها لم تكن هذه الخاصية لأحد من الأنبياء قبله "وطهوراً" بفتح الطاء: أي: مطهرة تستباح(1/93)
بها الصلاة.وفيه دليل، أن التراب يرفع الحدث كالماء، لاشتراكهما في الطهورية، وقد يمنع ذلك، ويقال: الذي له من الطهورية استباحة الصلاة به، كالماء. ويدل على جواز التيمم بجميع أجزاء الأرض. وفي رواية: "وجعلت لي الأرض كلها ولأمتي مسجداً وطهوراً" وهو من حديث أبي أمامة عند أحمد، وغيره.
وأما قول من منع من ذلك مستدلاً بقوله في بعض روايات الصحيح: "وجعلت تربتها طهوراً" أخرجه مسلم، فلا دليل فيه على اشتراط التراب؛ لما عرفت في الأصول: من أن ذكر بعض أفراد العام لا يخصص به، ثم هو مفهوم لقب لا يعمل به عند المحققين.
نعم في قوله تعالى: في آية المائدة في التيمم: {فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ} -. دليل على أن المراد التراب؛ وذلك أن كلمة من للتبعيض كما قال في الكشاف حيث قال: إنه لا يفهم أحد من العرب قول القائل: مسحت برأسه من الدهن، ومن التراب إلا معنى التبعيض، انتهى. والتبعيض لا يتحقق إلا في المسح من التراب، لا من الحجارة ونحوها "فأيما رجل" هو للعموم في قوة: فكل رجل "أدركته الصلاة فليصل" أي: على كل حال، وإن لم يجد مسجداً، ولا ماء: أي: بالتيمم كما بينته ورواية أبي أمامة: "فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة، فلم يجد ماء: وجد الأرض طهوراً، ومسجداً" .
وفي لفظ: "فعنده طهوره ومسجده" وفيه: أنه لا يجب على فاقد الماء تطلبه (وذكر الحديث) أي: ذكر جابر بقية الحديث، فالمذكور في الأصل اثنتان.
ولنذكر بقية الخمس، فالثالثة قوله: "وأحلت لي الغنائم" ، وفي رواية: " المغانم" . قال الخطابي: كان من تقدم، أي: من الأنبياء على ضربين: منهم من لم يؤذن له في الجهاد، فلم تكن لهم مغانم، ومنهم من أذن لهم فيه، ولكن إذا غنموا شيئاً لم يحل لهم أن يأكلوه، وجاءت نار فأحرقته.
وقيل: أجيز لي التصرف فيها بالتنفيل، والاصطفاء، والصرف في الغانمين، كما قال الله تعالى: {قُلِ الأَنفَالُ للَّهِ وَالرَّسُولِ} -.
والرابعة قوله: "وأعطيت الشفاعة" قد عد في الشرح الشفاعات اثنتي عشرة شفاعة، واختار أن الكل من حيث هو: مختص به، وإن كان بعض أنواعها يكون لغيره. ويحتمل أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أراد بها الشفاعة العظمى، في إراحة الناس من الموقف؛ لأنها الفرد الكامل، ولذلك يظهر شرفها لكل من في الموقف.
والخامسة قوله: "وكان النبي يبعث في قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة" فعموم الرسالة خاص به صلى الله عليه وسلم وآله، فأما نوح فإنه بعث إلى قومه خاصة. نعم صار بعد إغراق من كذب به مبعوثاً إلى الأرض؛ لأنه لم يبق إلا من كان مؤمناً به، ولكن ليس العموم في أصل البعثة. وقيل: غير ذلك.
وبهذا عرفت أنه صلى الله عليه وآله وسلم وآله مختص بكل واحدة من هذه الخمس، لا أنه مختص بالمجموع. وأما الأفراد فقد شاركه غيره فيها، كما قيل، فإنه قول مردود، وفي الحديث فوائد جليلة مبينة في الكتب المطولة.
وكان ينبغي للمصنف أن يقول بعد قوله: وذكر الحديث. متفق عليه: ثم يعطف عليه قوله: وفي حديث حذيفة إلى آخره، لأنه بقي حديث جابر غير منسوب إلى مخرج، وإن كان قد فهم أنه متفق عليه بعطف قوله.
2- (وفي حديثِ حُذَيْفةَ، عنْدَ مسلم: "وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُوراً، إذا لمْ نجدِ المَاءَ" .
هذا القيد قرآني معتبر في الحديث الأول، كما بيناه.(1/94)
3- (وعن علي عِنْدَ أحْمد: "وَجُعلَ التُّرابُ لي طَهُورا" .
وعن علي رضي الله عنه عِنْدَ أحْمد: "وَجُعلَ التُّرابُ لي طَهُورا" .
هو وما قبله دليل من قال: إنه لا يجزىء إلا التراب، وقد أجيب بما سلف: من أن التنصيص على بعض أفراد العام لا يكون مخصصاً، مع أنه من العمل بمفهوم اللقب، ولا يقوله جمهور أئمة الأصول.
4- (عن عمار) بفتح العين المهملة وتشديد الميم آخره راء، هو أبو اليقظان عمار (بن ياسر) بمثناة تحتية وبعد الألف سين مهملة فراء. أسلم عمار قديماً وعذب في مكة على الإسلام وهاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة، وسماه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم الطيب والمطيب، وهو من المهاجرين الأولين، شهد بدراً، والمشاهد كلها، وقتل بصفين مع علي عليه السلام، وهو ابن ثلاث وسبعين سنة، وهو الذي قال له صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "تقتلك الفئة الباغية" .
)قال: بعثني رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في حاجة فأجنبت) أي: صرت جنباً، وقدمنا أنه يقال: أجنب الرجل صار جنباً. ولا يقال: اجتنب، وإن كثر في لسان الفقهاء (فلم أجد الماء فتمرغت) بفتح المثناة الفوقية والميم وتشديد الراء فغين معجمة، وفي لفظ: "فتمعكت" ومعناه: تقلبت (في الصعيد، كما تتمرغ الدابة، ثم أتيت النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فذكرت له ذلك فقال: "إنما كانَ يكفيك أن تقول" أي: تفعل، والقول يطلق على الفعل، كقولهم: قال بيده: هكذا "بيديك هكذا" بينه بقوله: "ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة، ثم مسح الشمال على اليمين، وظاهر كفّيْه وَوَجْهه" . متفق عليه) بين الشيخين (واللفظ لمسلم).
استعمل عمار القياس، فرأى أنه لما كان التراب نائباً عن الغسل، فلا بد من عمومه للبدن. فأبان له صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم الكيفية التي تجزئه، وأراه الصفة المشروعة، وأعلمه أنها التي فرضت عليه.
ودلّ أنه يكفي ضربة واحدة، ويكفي في اليدين مسح الكفين، وأن الآية مجملة، بيّنها صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بالاقتصار على الكفين.
وأفاد أن الترتيب بين الوجه والكفين غير واجب، وإن كانت الواو لا تفيد الترتيب، إلا أنه قد ورد العطف في ورواية للبخاري للوجه على الكفين بثم، وفي لفظ لأبي داود: "ثم ضرب بشماله على يمينه، وبيمينه على شماله على الكفين، ثم مسح وجهه" ، وفي لفظ: للإسماعيلي، ما هو أوضح من هذا: "إنما يكفيك أن تضرب بيديك على الأرض، ثم تنفضهما، ثم تمسح بيمينك على شمالك وبشمالك على يمينك، ثم تمسح على وجهك ؛ ودل على أن التيمم فرض من أجنب ولم يجد الماء.
وقد اختلف في كمية الضربات، وقدر التيمم في اليدين:
فذهب جماعة من السلف، ومن بعدهم إلى أنها تكفي الضربة الواحدة، وذهب إلى أنها لا تكفي الضربة الواحدة جماعة من الصحابة، ومن بعدهم، وقالوا: لا بد من ضربتين؛ للحديث الاتي قريباً، والذاهبون إلى كفاية الضربة: جمهور العلماء، وأهل الحديث؛ عملاً بحديث عمار، فإنه أصح حديث في الباب، وحديث الضربتين يأتي: أنه لا يقوى على معارضته. قالوا: وكل ما عدا حديث عمار فهو ضعيف، أو موقوف، كما يأتي.
وأما قدر ذلك في اليدين:
فقال جماعة من العلماء، وأهل الحديث: إنه يكفي في اليدين الراحتان، وظاهر الكفين؛ لحديث عمار هذا. وقد رويت عن عمار روايات بخلاف هذا، لكن الأصح ما في الصحيحين. وقد كان يفتي به عمار بعد موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم: وقال اخرون: إنها تجب ضربتان، ومسح اليدين مع المرفقين، لحديث ابن عمر(1/95)
الآتي؛ ويأتي أن الأصح فيه أنه موقوف، فلا يقاوم حديث عمار المرفوع الوارد للتعليم.
ومن ذلك اختلافهم في الترتيب بين الوجه واليدين، وحديث عمار كما عرفت قاض بأنه لا يجب، وإليه ذهب من قال: تكفي ضربة واحدة قالوا: والعطف في الآية بالواو لا ينافي ذلك.
وذهب من قال: بالضربتين: إلى أنه لا بد من الترتيب بتقديم الوجه على اليدين، واليمنى على اليسرى.
وفي حديث عمار: دلالة على أن المشروع هو ضرب التراب. وقال بعدم إجزاء غيره: الهادوية، وغيرهم: لحديث عمار هذا، وحديث ابن عمر الآتي.
وقال الشافعي: يجزىء وضع يده في التراب؛ لأن في إحدى روايتي تيممه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم من الجدار: "أنه وضع يده" ، (وفي رواية ) أي من حديث عمار. (للبخاري، وضَرَبَ بكفيه الأرض ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفيه ) أي: ظاهرهما كما سلف، وهو كاللفظ الأول، إلا أنه خالفه بالترتيب، وزيادة النفخ.
فأما نفخ التراب: فهو مندوب.
وقيل: لا يندب، وسلف الكلام في الترتيب.
وهذا التيمم وارد في كفاية التراب للجنب الفاقد للماء، وقد قاسوا عليه الحائض، والنفساء، وخالف فيه ابن عمر، وابن مسعود. وأما كون التراب يرفع الجنابة، أو لا، فسيأتي في شرح حديث أبي هريرة، وهو حديث السادس.
5- (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين" : رواه الدارقطني(.
وقال في سننه عقب روايته: وقفه يحيى القطان، وهشيم، وغيرهما، وهو الصواب اهـ، ولذا قال المصنف: (وصحح الأئمة وقفه) على ابن عمر. قالوا: وإنه من كلامه، وللاجتهاد مسرح في ذلك، وفي معناه عدة روايات كلها غير صحيحة، بل إما موقوفة، أو ضعيفة، فالعمدة حديث عمار، وبه جزم البخاري في صحيحه فقال: "باب التيمم للوجه والكفين". قال المصنف في الفتح: أي: هو الواجب المجزىء، وأتى بصيغة الجزم في ذلك، مع شهرة الخلاف فيه؛ لقوة دليله، فإن الأحاديث الواردة في صفة التيمم لم يصح منها سوى حديث أبي جهيم، وعمار. وما عداهما فضعيف، أو مختلف في رفعه، ووقفه، والراجح عدم رفعه. فأما حديث أبي جهيم، فورد بذكر اليدين مجملاً. وأما حديث عمار، فورد بلفظ الكفين في الصحيحين، وبلفظ المرفقين في السنن. وفي رواية: إلى نصف الذراع، وفي رواية، إلى الآباط. فأما ورواية المرفقين، وكذا نصف الذراع ففيهما مقال.
وأما ورواية الآباط، فقال الشافعي، وغيره: إن كان ذلك وقع بأمر النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فبكل تيمم صح عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بعده، فهو ناسخ له، وإن كان وقع بغير أمره، فالحجة فيما أمر به. ويؤيد رواية الصحيحين في الاقتصار على الوجه والكفين: أن عماراً كان يفتي بعد النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بذلك، وراوي الحديث أعرف بالمراد به من غيره، ولا سيما الصحابي المجتهد.
6- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "الصعيد" هو عند الأكثرين التراب. وعن بعض أئمة اللغة: أنه وجه الأرض، تراباً كان، أو غيره، وإن كان صخراً لا تراب عليه. وتقدم الكلام في ذلك. "وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين"(1/96)
فيه: دليل على تسمية التيمم وضوءاً "فإذا وَجَدَ" أي المسلم "الماء فليتق الله ولْيُمِسه بشرته" . رواه البزار، وصححه ابن القطان). تقدم الكلام على ضبط ألفاظهما والتعريف بحالهما (لكن صوب الدارقطني إرساله) قال الدارقطني في كتاب العلل: إرساله أصح.
وفي قوله: "إذا وجد الماء" دليل على أنه إن وجد الماء وجب إمساسه بشرته، وتمسك به من قال: إن التراب لا يرفع الحدث، وأن المراد: أن يمسه بشرته لما سلف من جنابة، فإنها باقية عليه، وإنما أباح له التراب الصلاة، لا غير، وإذا فرغ منها عاد عليه حكم الجنابة؛ ولذا قالوا: لا بد لكل صلاة من تيمم. واستدلوا بحديث عمرو بن العاص؛ وقوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم له: "أصليت بأصحابك وأنت جنب؟"، وقول الصحابة له صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إن عمراً صلى بهم وهو جنب، فأقرهم على تسميته جنباً. ومنهم من قال: "إن التراب حكمه حكم الماء يرفع الجنابة، ويصلي به ما شاء، وإذا وجد الماء لم يجب عليه أن يمسه إلا للمستقبل من الصلاة، واستدلوا: بأنه تعالى جعله بدلاً عن الماء، فحكمه حكمه، وبأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم سماه طهوراً، وسماه وضوءاً، كما سلف قريباً.
والحق أن التيمم يقوم مقام الماء، ويرفع الجنابة رفعاً مؤقتاً إلى حال وجدان الماء؛ أما إنه قائم مقام الماء، فلأنه تعالى جعله عوضاً عنه عند عدمه، والأصل أنه قائم مقامه في جميع أحكامه، فلا يخرج عن ذلك إلا بدليل. وأما إنه إذا وجد الماء اغتسل؛ فلتسميته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عمراً جنباً، ولقوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "فإذا وجد الماء فليتق الله" ، فإن الأظهر أنه أمر بإمساسه الماء لسبب قد تقدم على وجدان الماء؛ إذ إمساسه لما يأتي من أسباب وجوب الغسل، أو الوضوء، معلوم من الكتاب والسنة، والتأسيس خير من التأكيد.
7- (وللترمذي عن أبي ذر) بذال معجمة مفتوحة فراء، اسمه جندب بضم الجيم وسكون النون وضم الدال المهملة وفتحها أيضاً، ابن جنادة بضم الجيم وتخفيف النون بعد الألف دال مهملة. وأبو ذر من أعيان الصحابة، وزهّادهم، والمهاجرين؛ وهو أول من حيّا النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بتحية الإسلام، وأسلم قديماً بمكة يقال: كان خامساً في الإسلام، ثم انصرف إلى قومه: إلى أن قدم المدينة على النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بعد الخندق، ثم سكن بعد وفاته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم الربذة، إلى أن مات بها سنة اثنتين وثلاثين، في خلافة عثمان، وصلى عليه ابن مسعود، ويقال: إنه مات بعده بعشرة أيام (نحوُه) أي: نحو حديث أبي هريرة، ولفظه: "قال أبو ذر: اجتويت المدينة، فأمر لي رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بإبل، فكنت فيها، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: هلك أبو ذر، قال ما حالك؟ قلت: كنت أتعرض للجنابة، وليس قربي ماء. قال: الصعيد طهور لمن لم يجد الماء، ولو عشر سنين" (وصححه) أي: حديث أبي ذر الترمذي، قال المصنف في الفتح: إنه صححه أيضاً ابن حبان، والدارقطني.
8- (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خرج رجلان في سفر وليس معهما ماء فحضرت الصلاة فتيمما صعيداً طيباً) هو الطاهر الحلال، وقد قيّد الله الصعيد به في الآيتين في القران، فإطلاقه في حديث أبي هريرة مقيد بالآيات، والأحاديث (فصليا ثم وجدا الماء في الوقت) أي: وقت الصلاة التي صلياها (فأعاد أحدهما الصلاة والوضوء) سماه إعادة تغليباً،(1/97)
رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فذكرا ذلك له، فقال للذي لم يعد: "أصَبْتَ السُّنة" أي: الطريقة الشرعية "وأجْزَأتْكَ صلاتُك" لأنها وقعت في وقتها، والماء مفقود، فالواجب التراب "وقال للاخر" الذي أعاد: "لَكَ الأجْرُ مرَّتين" أجر الصلاة بالتراب، وأجر الصلاة بالماء (رواه أبو داود، والنسائي).
وفي مختصر السنن للمنذري: أنه أخرجه النسائي مسنداً، ومرسلاً. وقال أبو داود: إنه مرسل عن عطاء بن يسار. لكن قال المصنف: هذه الورواية رواها ابن السكن في صحيحه، وله شاهد من حديث ابن عباس، رواه إسحاق في مسنده: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بال، ثم تيمم، فقيل له: إن الماء قريب منك، قال: فلعلي لا أبلغه".
والحديث دليل على جواز الاجتهاد في عصره صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وعلى أنه لا يجب الطلب والتلوم له: أي الانتظار، ودل على أنه لا تجب الإعادة على من صلى بالتراب، ثم وجد الماء في الوقت بعد الفراغ من الصلاة.
وقيل: بل يعيد الواجد في الوقت؛ لقوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "فإذا وجد الماء فليتق الله وليمسه بشرته" . هذا قد وجد الماء.
وأجيب: بأنه مطلق فيمن وجد الماء بعد الوقت، وقبل خروجه، وحال الصلاة، وبعدها. وحديث أبي سعيد هذا فيمن لم يجد الماء في الوقت حال الصلاة، فهو مقيد فيحمل عليه المطلق، فيكون معناه: فإذا وجدت الماء قبل الصلاة في الوقت فأمسه بشرتك، أي: إذا وجدته، وعليك جنابة متقدمة، فيقيد به، كما قدمنا.
واستدل القائل بالإعادة في الوقت: بقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ} والخطاب متوجه مع بقاء الوقت.
وأجيب: بأنه بعد فعل الصلاة لم يبق للخطاب توجه إلى فاعلها، كيف؟ وقد قال صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "وأجزأتك صلاتك" للذي لم يعد، إذ الإجزاء: عبارة عن كون الفعل مسقطاً لوجوب إعادة العبادة، والحق أنه قد أجزأه.
9-(وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عز وجل: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} قال: إذا كانت بالرجل الجراحة في سبيل الله) أي: الجهاد (والقروح) جمع قرح، وهي: البثور التي تخرج في الأبدان، كالجدري، ونحوه (فيجنب) تصيبه الجنابة (فيخاف) يظن (أن يموت إن اغتسل تيمم، رواه الدارقطني موقوفاً) على ابن عباس (ورفعه) إلى النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم (البزار، وصححه ابن خزيمة، والحاكم). وقال أبو زرعة، وأبو حاتم: أخطأ فيه علي بن عاصم. وقال البزار: لا نعلم من رفعه عن عطاء من الثقات إلا جريراً. وقد قال ابن معين: إنه سمع من عطاء بعد الاختلاط، وحينئذ فلا يتم رفعه.
وفيه دليل على شرعية التيمم في حق الجنب إن خاف الموت. فأما لو لم يخف إلا الضرر، فالآية وهي قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى} - دالة على إباحة المرض للتيمم، سواء خاف تلفه، أو دونه، والتنصيص في كلام ابن عباس على الجراحة، والقروح، إنما هو مجرد مثال. وإلا فكل مرض كذلك. ويحتمل أن ابن عباس يخص هذين من بين الأمراض، وكذلك كونها في سبيل الله مثال. فلو كانت الجراحة من سقطة، فالحكم واحد، وإذا كان مثالاً، فلا ينفي جواز التيمم لخشية الضرر، إلا أن قوله: "أن يموت" يدل على أنه لا يجزىء التيمم إلا لمخافة الموت، وهو قول أحمد، وأحد قولي الشافعي.
وأما الهادوية،(1/98)
ومالك، وأحد قولي الشافعي، والحنفية، فأجازوا التيمم؛ لخشية الضرر، قالوا: لإطلاق الآية. وذهب داود، والمنصور: إلى إباحته للمرض، وإن لم يخف ضرراً، وهو ظاهر الآية.
10- (وعن علي عليه السلام قال: انكسرت إحدى زنديَّ) بتشديد المثناة التحتية تثنية زند، وهو مفصل طرف الذراع في الكف (فسألت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم)، أي: عن الواجب من الوضوء في ذلك ( فأمَرَني أنْ أمْسَحَ على الجبائر ) هي ما يجبر به العظم المكسور ويلف عليه (رواه ابن ماجه بسند واه جداً) بكسر الجيم وتشديد الدال المهملة، وهو منصوب على المصدر، أي أجد ضعفه جداً. الجد: التحقيق، كما في القاموس، فالمراد أحقق ضعفه تحقيقاً. والحديث أنكره يحيى بن معين، وأحمد، وغيرهما، قالوا: وذلك أنه من ورواية عمرو بن خالد الواسطي، وهو كذاب. ورواه الدارقطني، والبيهقي من طريقين أوهى منه. قال النووي: اتفق الحفاظ على ضعف هذا الحديث. وقال الشافعي: لو عرفت إسناده بالصحة لقلت به، وهذا مما أستخير الله فيه. وفي معناه أحاديث أخر. قال البيهقي: إنه لا يصح منها شيء، إلا أنه يقويه قوله:
11- (وعن جابر رضي الله عنه في الرجل الذي شج) بضم الشين المعجمة وجيم، من شجه يشجه بكسر الشين وضمها: كسره، كما في القاموس (فاغتسل فمات: إنما كان يكفيه أن يتيمم، ويعصب على جرحه خرقة، ثمَّ يمسح عليها، ويغسل سائر جسده، رواه أبو داود بسند ضعيف).
لأنه تفرد به الزبير بن خريق: بضم الخاء المعجمة فراء مفتوحة ومثناة تحتية ساكنة وقاف. قال الدارقطني: ليس بالقوي.
قلت: وقال الذهبي: إنه صدوق (وفيه اختلاف على راويه) وهو: عطاء، فإنه رواه عنه الزبير بن خريق، عن جابر.
ورواه عنه الأوزاعي بلاغاً عن عطاء، عن ابن عباس. فالاختلاف وقع في ورواية عطاء، هل عن جابر، أو عن ابن عباس؟ وفي إحدى الروايتين ما ليس في الأخرى.
وهذا الحديث، وحديث علي الأول: قد تعاضدا على وجوب المسح على الجبائر بالماء، وفيه خلاف بين العلماء. منهم من قال: يمسح لهذين الحديثين، وإن كان فيهما ضعف، فقد تعاضدا، ولأنه عضو تعذر غسله بالماء، فمسح ما فوقه كشعر الرأس، وقياساً على مسح أعلى الخفين، وعلى العمامة، وهذا القياس يقوي النص.
قلت: من قال بالمسح عليهما قوي عنده المسح على الجبائر، وهو الظاهر.
ثم في حديث جابر دليل على أنه يجمع بين التيمم، والمسح، والغسل، وهو مشكل، حيث جمع بين التيمم والغسل.
قيل: فيحمل على أن أعضاء الوضوء كانت جريحة، فتعذر إمساسها بالماء، فعدل إلى التيمم، ثم أفاض الماء على بقية جسده. وأما الشجة: فقد كانت في الرأس، والواجب فيه الغسل، لكن تعذر لأجل الشجة، فكان الواجب عليه عصبها، والمسح عليها، إلا أنه قال المصنف في التلخيص: إنه لم يقع في ورواية عطاء عن ابن عباس ذكر التيمم، فثبت: أن الزبير بن خريق تفرّد به، نبّه على ذلك ابن القطان، ثم قال: ولم يقع في ورواية عطاء ذكر المسح على الجبيرة، فهو من إفراد الزبير.
قال: ثم سياق المصنف لحديث جابر يدل على أن قوله: إنما كان يكفيه، غير مرفوع، وهو مرفوع، وإنما لما اختصره المصنف فاتته العبارة(1/99)
الدالة على رفعه، وهو حديث فيه قصة.
ولفظها عند أبي داود عن جابر قال: "خرجنا في سفر؛ فأصاب رجلاً منا حجر، فشجّه في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابه فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ قالوا: ما نجد لك رخصة، وأنت تقدر على الماء، فاغتسل، فمات فلما قدمنا على رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، أخبر بذلك، فقال: قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا؟ فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب، أو يعصب شك موسى على جرحه خرقة ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده" إلى آخره.
12- (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: من السُّنة) أي: سنة النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، والمراد: طريقته وشرعه (أن لا يُصلِّي الرَّجُلُ) والمرأة أيضاً (بالتيمم إلا صَلاةً واحدةً ثمَّ يتيمم للصَّلاة الأخرى. رواه الدارقطني بإسناد ضعيف) لأنه من ورواية الحسن بن عمارة وهو ضعيف (جداً) نصب على المصدر، كما عرفت.
وفي الباب عن علي رضي الله عنه، وابن عمر حديثان ضعيفان.
وإن قيل: إن أثر ابن عمر أصح، فهو موقوف، فلا تقوم بالجميع حجة. والأصل: أنه تعالى قد جعل التراب قائماً مقام الماء. وقد علم أنه لا يجب الوضوء بالماء إلا من الحدث، فالتيمم مثله، وإلى هذا ذهب جماعة من أئمة الحديث، وغيرهم، وهو الأقوم دليلاً.(1/100)
باب الحيض
الحيض: مصدر حاضت المرأة تحيض حيضاً ومحيضاً فهي حائض، ولما كانت له أحكام شرعية، من أفعال، وتروك: عقد له المصنف باباً ساق فيه ما ورد فيه من أحكامه.
1- (عن عائشة رضي الله عنها: أن فاطمة بنت أبي حبيش) تقدم ضبطه في أول باب النواقض (كانت تستحاض) تقدم أن الاستحاضة: جريان الدم من فرج المرأة في غير أوانه، وتقدم فيه: "أن فاطمة جاءت النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فقالت: إني امرأة أستحاض، فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟" (فقال لها رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إنَّ دمَ الحيض دمٌ أسْوَدٌ يُعْرَفُ" بضم حرف المضارعة وكسر الراء: أي له عرف ورائحة، وقيل: بفتح الراء: أي تعرفه النساء ( فإذا كان ذلكَ ) بكسر الكاف "فأمْسكي عن الصَّلاة. فإذا كانَ الآخر" أي: الذي ليس بتلك الصفة "فتوضَّئي وصَلي" رواه أبو داود، والنسائي، وصححه ابن حبان، والحاكم، واستنكره أبو حاتم) ؛ لأنه من حديث عدي بن ثابت، عن أبيه، عن جده، وجده: لا يعرف، وقد ضعف الحديث أبو داود.
وهذا الحديث فيه ردّ المستحاضة إلى صفة الدم: بأنه إذا كان بتلك الصفة فهو حيض، وإلا فهو استحاضة، وقد قال به الشافعي في حق المبتدأة. وقد تقدم في النواقض أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال لها: "إنما ذلك عرق، فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي" ، ولا ينافيه هذا الحديث،(1/100)
فإنه يكون قوله: "إن دم الحيض أسود يعرف" ، بياناً لوقت إقبال الحيضة وإدبارها.
فالمستحاضة إذا ميزت أيام حيضها: إما بصفة الدم، أو بإتيانه في وقت عادتها إن كانت معتادة، وعلمت بعادتها، ففاطمة هذه يحتمل أنها كانت معتادة، فيكون قوله: "فإذا أقبلت حيضتك" أي: بالعادة، أو غير معتادة، فيراد بإقبال حيضتها بالصفة، ولا مانع من اجتماع المعرفين في حقها، وحق غيرها.
هذا، وللمستحاضة أحكام خمسة، قد سلفت إشارة إلى الوعد بها.
منها: جواز وطئها في حال جريان دم الاستحاضة عند جماهير العلماء؛ لأنها كالطاهر في الصلاة والصوم وغيرهما، وكذا في الجماع، ولأنه لا يحرم إلا عن دليل، ولم يأت دليل بتحريم جماعها. قال ابن عباس: المستحاضة يأتيها زوجها إذا صلت، الصلاة أعظم.
يريد: إذا جازت لها الصلاة ودمها جار، وهي أعظم ما يشترط له الطهارة، جاز جماعها. ومنها: أنها تؤمر بالاحتياط في طهارة الحدث والنجس، فتغسل فرجها قبل الوضوء، وقبل التيمم، وتحشو فرجها بقطنة أو خرقة؛ دفعاً للنجاسة وتقليلاً لها، فإن لم يندفع الدم بذلك شدّت مع ذلك على فرجها، وتلجّمت، واستثفرت، كما هو معروف في الكتب المطولة، وليس بواجب عليها، وإنما هو الأولى؛ تقليلاً للنجاسة بحسب القدرة، ثم تتوضأ بعد ذلك.
ومنها: أنه ليس لها الوضوء قبل دخول وقت الصلاة عند الجمهور؛ إذ طهارتها ضرورية، فليس لها تقديمها قبل وقت الحاجة.
2- (وفي حديث أسماء بنت عميس) بضم المهملة وفتح الميم وسكون المثناة التحتية فسين مهملة. هي امرأة جعفر، هاجرت معه إلى أرض الحبشة، وولدت له هناك أولاداً. منهم عبد الله، ثم لما قتل جعفر تزوجها أبو بكر الصديق، فولدت له محمداً، ولما مات أبو بكر تزوجها علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فولدت له يحيى (عند أبي داود: ولتجلس) هو عطف على ما قبله في الحديث؛ لأن المصنف إنما ساق شطر حديث أسماء، لكن في لفظ أبي داود عنها هكذا: "سبحان الله هذا من الشيطان لتجلس" إلى اخره بدون واو. وفي نسخة في بلوغ المرام: (في مِركن) بكسر الميم: الإجانة التي تغسل فيها الثياب "فإذا رأت صُفْرَةً فَوْقَ الماء" الذي تقعد فيه، فتصب عليها الماء، فإنها تظهر الصفرة فوق الماء "فلْتغتسلْ للظُّهر والعَصْر غُسْلاً واحداً وتغتسل للمغرب والعشاء غُسْلاً واحداً، وتغتسلُ للفجر غُسْلاً واحداً، وتتوضأ فيما بين ذلك" ).
هذا الحديث، وحديث حمنة الآتي فيه الأمر بالاغتسال في اليوم والليلة ثلاث مرات. وقد بيّن في حديث حمنة، أن المراد: إذا أخّرت الظهر والمغرب، ومفهومه: أنها إذا وقتت اغتسلت لكل فريضة، وقد اختلف العلماء:
فروي عن جماعة من الصحابة والتابعين: أنه يجب عليها الاغتسال لكل صلاة.
وذهب الجمهور إلى أنها لا يجب عليها ذلك. وقالوا: رواية: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أمرها بالغسل لكل صلاة" ضعيفة، وبيّن البيهقي ضعفها. وقيل: بل هو حديث منسوخ: بحديث فاطمة بنت أبي حبيش: "أنها توضأت لكل صلاة".
قلت: إلا أن النسخ يحتاج إلى معرفة المتأخر، ثم إنه قال المنذري: إنّ حديث أسماء بنت عميس حسن، فالجمع بين حديثها وحديث فاطمة بنت أبي حبيش أن يقال: إن الغسل مندوب بقرينة عدم أمر فاطمة به، واقتصاره على أمرها بالوضوء، فالوضوء هو الواجب، وقد جنح الشافعي إلى هذا.(1/101)
3-(وعن حمنة) بفتح الحاء المهملة وسكون الميم فنون (بنت جحش) بفتح الجيم وسكون الحاء المهملة فشين معجمة، هي أخت زينب أم المؤمنين، وامرأة طلحة بن عبد الله (قالت: كنت أستحاض حيضة كثيرة شديدة). في سنن أبي داود: بيان لكثرتها قالت: "إنما أثج ثجاً"، (فأتيت النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أستفتيه فقال: "إنما هي ركضة من الشيطان" ، معناه: أن الشيطان قد وجد سبيلاً إلى التلبيس عليها في أمر دينها وطهرها وصلاتها، حتى أنساها عادتها، وصارت في التقدير كأنها ركضه منه، ولا ينافي ما تقدم: من أنه: عرق يقال له: العاذل؛ لأنه يحمل على أن الشيطان ركضه حتى انفجر، والأظهر: أنها ركضة منه حقيقة، إذ لا مانع من حملها عليه "فتحيضي ستة أيام أو سبعة أيام ثم اغتسلي، فإذا استنقأت فصلي أربعة وعشرين" إن كانت أيام الحيض ستة "أو ثلاثة وعشرين" إن كانت أيام الحيض سبعة "وصومي وصلي" أي ما شئت من فريضة، وتطوع ( "فإن ذلك يجزئك وكذلك فافعلي" فيما يستقبل من الشهور، ولفظ أبي داود: "فافعلي كل شهر" (كما تحيض النساء) في سنن أبي داود زيادة: "وكما يطهرن: ميقات حيضتهن وطهرهن" . فيه: الرد لها إلى غالب أحوال النساء (فإن قويت) أي قدرت ( على أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر ) هذا لفظ أبي داود وقوله "وتعجلي العصر" يريد أن تؤخري الظهر: أي فتأتي بها في آخر وقتها قبل خروجه، وتعجلي العصر فتأتي به في أول وقته، فتكون قد أتت بكل صلاة في وقتها وجمعت بينهما جمعاً صورياً ( ثم تغتسلي حين تطْهُرين ). هذا اللفظ ليس في سنن أبي داود، بل لفظه هكذا: "فتغسلين فتجمعين بين الصلاتين الظهر والعصر" أي جمعاً صورياً، كما عرفت ( وتصلي الظُّهْر والعصر جميعاً ) هذا غير لفظ أبي داود، كما عرفت ( ثمَّ تؤخرين المغْربَ والعشاء ) لفظ أبي داود: "وتؤخرين المغرب وتعجلين العشاء" وما كان يحسن من المصنف حذف ذلك كما عرفت ( ثمَّ تَغْتسلين وتجمعين بين الصَّلاتيْن فافْعلي وتغتسلين مع الصبح وتصلين، قال) أي النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ( وهو أعجب الأمرين إليَّ ) ظاهره: أنه من كلامه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم. إلا أنه قال أبو داود: رواه عمر بن ثابت عن ابن عقيل قال: فقالت حمنة: "هذا أعجب الأمرين إلي" لم يجعله من قول النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم (رواه الخمسة، وصححه الترمذي، وحسنه البخاري).
قال المنذري في مختصر سنن أبي داود، قال الخطابي: قد ترك بعض العلماء القول بهذا الحديث؛ لأن ابن عقيل راويه ليس بذاك، وقال أبو بكر البيهقي: تفرد به عبد الله بن محمد بن عقيل، وهو مختلف في الاحتجاج به، هذا اخر كلامه. وقد أخرجه الترمذي، وابن ماجه. وقال الترمذي، هذا حديث حسن صحيح: وقال أيضاً: وسألت محمداً يعني: البخاري عن هذا الحديث، فقال: هو حديث حسن. وقال أحمد: هو حديث حسن صحيح اهـ. فعرفت أن القول: بأنه حديث غير صحيح، بل قد صححه الأئمة. وقد عرفت مما سقناه من لفظ رواية أبي داود: أن المصنف نقل غير لفظ أبي داود من ألفاظ أحد الخمسة، ولكن لا بد من تقييد ما أطلقته(1/102)
الروايات بقوله: "وتعجلين العشاء" ، كما قال: "وتعجلين العصر" ؛ لأنه أرشدها صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إلى ذلك؛ لملاحظة الإتيان بكل صلاة في وقتها، هذه في آخر وقتها، وهذه في أول وقتها.
وقوله في الحديث: "ستة أو سبعة أيام" ليست فيه كلمة "أو" شكا من الراوي، ولا للتخيير، بل للإعلام: بأن للنساء أحد العددين، فمنهن من تحيض ستاً، ومنهن من تحيض سبعاً، فترجع إلى من هي في سنها، وأقرب إلى مزاجها، ثم قوله: "فإن قويت" يشعر بأنه ليس بواجب عليها، وإنما هو مندوب لها، وإلا، فإن الواجب إنما هو الوضوء لكل صلاة بعد الاغتسال عن الحيض: بمرور الستة أو السبعة الأيام، وهو الأمر الأول الذي أرشدها صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إليه؛ فإن في صدر الحديث: "آمرك بأمرين: أيهما فعلت أجزأ عنك من الآخر، وإن قويت عليهما فأنت أعلم" . ثم ذكر لها الأمر الأول: أنها تحيض ستاً أو سبعاً، ثم تغتسل وتصلي، كما ذكره المصنف، وقد علم أنها تتوضأ لكل صلاة؛ لأن استمرار الدم ناقض، فلم يذكره في هذه الرواية، وقد ذكره في غيرها، ثم ذكر الأمر الثاني من جمع الصلاتين، والاغتسال كما عرفت.
وفي الحديث دليل على أنه لا يباح جمع الصلاتين في وقت أحدهما للعذر؛ إذ لو أبيح لعذر لكانت المستحاضة أول من يباح لها ذلك، ولم يبح لها ذلك، بل أمرها بالتوقيت، كما عرفت.
4- (وعن عائشة رضي الله عنها: أن أم حبيبة) بالحاء المهملة المفتوحة (بنت جحش) قيل: الأصح أن اسمها حبيبة، وكنيتها أم حبيب بغير هاء وهي أخت حمنة التي تقدم حديثها (شكت إلى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم الدم فقال: "امكثي قدرَ ما كانت تحْبِسك حَيْضَتُك" أي قبل استمرار جريان الدم "ثمَّ اغتسلي" أي غسل الخروج عن الحيض "فكانت تغتسل لكل صلاة" من غير أمر منه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لها بذلك (رواه مسلم. وفي ورواية للبخاري: "وتوضئي لكل صلاة" وهي) أي هذه الورواية (لأبي داود وغيره من وجه اخر). أم حبيبة: كانت تحت عبد الرحمن بن عوف، وبنات جحش ثلاث: زينب أم المؤمنين، وحمنة، وأم حبيبة، قيل: إنهن كن مستحاضات كلهن. وقد ذكر البخاري ما يدل على أن بعض أمهات المؤمنين كانت مستحاضة؛ فإن صح أن الثلاث مستحاضات فهي زينب، وقد عد العلماء المستحاضات في عصره صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فبلغن عشر نسوة.
والحديث: دليل على إرجاع المستحاضة إلى أحد المعرفات، وهي أيام عادتها، وعرفت أن المعرفات: إما العادة التي كانت لها قبل الاستحاضة، أو صفة الدم بكونه أسود يعرف، أو العادة التي للنساء من الستة الأيام، أو السبعة، أو إقبال الحيضة وإدبارها. كل هذه قد تقدمت في أحاديث المستحاضة. فبأيها وقع معرفة الحيض والمراد حصول الظن لا اليقين عملت به، سواء كانت ذات عادة، أو لا، كما يفيده إطلاق الأحاديث، بل ليس المراد إلا ما يحصل لها ظن أنه حيض، وإن تعددت الأمارات كان أقوى في حقها، ثم متى حصل ظن زوال الحيض وجب عليها الغسل، ثم تتوضأ لكل صلاة أو تجمع جمعاً صورياً بالغسل. وهل لها أن تجمع الجمع الصوري بالوضوء؟ هذا لم يرد به نص في حقها، إلا أنه معلوم جوازه لكل أحد من غيره، وأما هل لها أن تصلي النوافل بوضوء الفريضة؟ فهذا مسكوت عنه أيضاً، والعلماء مختلفون في ذلك كله.(1/103)
5-(وعن أم عطية) اسمها نسيبة بضم النون وفتح السين المهملة وسكون المثناة التحتية وفتح الموحدة بنت كعب، وقيل بنت الحارث الأنصارية، بايعت النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، كانت من كبار الصحابيات، وكانت تغزو مع رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، تمرّض المرضى، وتداوي الجرحى (قالت: كنا لا نعد الكدرة) أي ما هو بلون الماء الوسخ الكدر (والصفرة) هو الماء الذي تراه المرأة كالصديد يعلوه اصفرار (بعدَ الطُّهْر) أي بعد رؤية القصة البيضاء، والجفوف (شَيْئاً) أي لا نعده حيضاً (رواه البخاري وأبو داود واللفظ له).
وقولها: "كنا" قد اختلف فيه العلماء، فقيل: له حكم الرفع إلى النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم؛ لأن المراد: كنا في زمانه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مع علمه، فيكون تقريراً منه، وهذا رأي البخاري، وغيره من علماء الحديث، فيكون حجة؛ وهو دليل على أنه لا حكم لما ليس بدم غليظ أسود يعرف، فلا يعد حيضاً بعد أن ترى القصة بفتح القاف وتشديد الصاد المهملة؛ قيل: إنه شيء كالخيط الأبيض يخرج من الرحم بعد انقطاع الدم، أو بعد الجفوف، وهو أن يخرج ما يحشى به الرحم جافاً، ومفهوم قولها: بعد الطهر، أي بأحد الأمرين: أن قبله تعد الكدرة والصفرة شيئاً: أي حيضاً، وفيه خلاف بين العلماء معروف في الفروع.
6- (وعن أنَس رضي الله عنهُ، أنَّ اليهودَ كانوا إذا حَاضَتِ المَرْأَةُ فيهم لَمْ يُؤاكلُوها، فقَالَ النبيُّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "اصْنَعُوا كلَّ شيءٍ إلا النكاحَ" . رواه مُسلم.
الحديث قد بين المراد من قوله تعالى: { قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَآءَ فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} - أن المأمور به من الاعتزال والمنهي عنه من القربان هو النكاح: أي اعتزلوا نكاحهن ولا تقربوهن له، وما عدا ذلك من المؤاكلة، والمجالسة، والمضاجعة، وغير ذلك جائز؛ وقد كان اليهود لا يساكنون الحائض في بيت واحد، ولا يجامعونها، ولا يؤاكلونها، كما صرحت به رواية مسلم. وأما الاستمتاع منهن، فقد أباحه هذا الحديث، وكما يفيده أيضاً.
7- (وعن عائشةَ رضي الله عنهَا قالت: كانَ رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يَأمُرُنِي فَأَتُّزرُ، فَيُبَاشرُني وأَنَا حَائضٌ . متفقٌ عليه.
أي يلصق بشرته ببشرتي فيما دون الإزار، وليس بصريح بأنه يستمتع منها، إنما فيه إلصاق البشرة بالبشرة، والاستمتاع فيما بين الركبة والسرة في غير الفرج أجازه البعض، وحجته: "اصنعوا كل شيء إلا النكاح" ، ومفهوم هذا الحديث، وقال بعض بكراهته، وآخر: بتحريمه، فالأول أولى؛ للدليل. فأما لو جامع وهي حائض فإنه يأثم إجماعاً؛ ولا يجب عليه شيء. وقيل: تجب عليه الصدقة لما يفيده.
8- (وعن ابن عباس رضي الله عنهُمَا عَنْ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في الذي يأتي امْرَأَتَهُ وهي حَائِضٌ قال: "يَتَصَدَّقُ بدينار، أوْ بنصْفِ دينارٍ" رواه الخمْسَةُ، وصححه الحاكم وابن القَطّان، ورَجّحَ غيرُهُمَا وَقْفَه.
على ابن عباس.
الحديث فيه روايات هذه إحداها، وهي التي خرج لرجالها في الصحيح، وروايته مع ذلك مضطربة. وقد قال الشافعي: لو كان هذا الحديث ثابتاً لأخذنا به. قال المصنف: الاضطراب في إسناد هذا الحديث، ومتنه كثير جداً، وقد ذهب إلى إيجاب الصدقة الحسن، وسعيد، لكن قالا: يعتق رقبة قياساً على من جامع(1/104)
في رمضان. وقال غيرهما: بل يتصدق بدينار، أو بنصف دينار. وقال الخطابي: قال أكثر أهل العلم لا شيء عليه، وزعموا: أن هذا مرسل، أو موقوف. وقال ابن عبد البر: حجة من لم يوجب: اضطراب هذا الحديث، وأن الذمة على البراءة، ولا يجب أن يثبت فيها شيء لمسكين، ولا غيره إلا بدليل، لا مدفع فيه، ولا مطعن عليه، وذلك معدوم في هذه المسئلة. قلت: أما من صح عنده، كابن القطان، فإنه أمعن النظر في تصحيحه، وأجاب عن طرق الطعن فيه، وأقره ابن دقيق العيد، وقواه في كتابه الإلمام، فلا عذر له عن العمل به. وأما من لم يصح عنده كالشافعي، وابن عبد البر، فالأصل براءة الذمة، فلا تقوم به الحجة.
9- (وعن أبي سعيد الخُدْريِّ رضيَ الله عنهُ، قالَ: قال رسُول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "أليسَ إذا حَاضَتِ المَرْأَةُ لم تُصَلِّ ولمْ تَصُمْ؟" مُتّفقٌ عليه، في حديثٍ طويلٍ.
تمامه: "فذلك من نقصان دينها" . رواه مسلم من حديث ابن عمر بلفظ: "تمكث الليالي ما تصلي، وتفطر في شهر رمضان، فهذا نقصان دينها" وهو إخبار يفيد تقريرها على ترك الصوم والصلاة، وكونهما لا يجبان عليها، وهو إجماع في أنها لا يجبان حال الحيض، ويجب قضاء الصيام؛ لأدلة أخر.
وأما كونها لا تدخل المسجد؛ فلحديث: "لا أحل المسجد لحائض ولا جنب" وتقدم.
وأما أنها لا تقرأ القران؛ فلحديث ابن عمر: "ولا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئاً من القران" ، وإن كان فيه مقال، وكذلك لا تمس المصحف لحديث عمرو بن حزم، تقدم وتقدمت شواهده، والأحاديث لا تقصر عن الكراهة لكل ما ذكر، وإن لم تبلغ درجة التحريم، إذ لا تخلو عن مقال في طرقها، ودلالة ألفاظها غير صريحة في التحريم.
10- (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: لما جئنا) أي عام حجة الوداع، وكانت قد أحرمت معه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم (سَرف) بالسين المهملة مفتوحة وكسر الراء ففاء: اسم محل منعه من الصرف للعلمية والتأنيث، وهو محل بين مكة والمدينة (حضت، فقال النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "افْعَلي ما يَفْعَلُ الحاج غير أن لا تطوفي بالبَيْتِ حتى تطهُري" . متفق عليه في حديث طويل).
فيه صفة حجه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وفيه دليل على أن الحائض يصح منها جميع أفعال الحج غير الطواف بالبيت، وهو مجمع عليه. واختلف في علته، فقيل: لأن من شرط الطواف الطهارة، وقيل: لكونها ممنوعة من دخول المسجد. وأما ركعتا الطواف، فقد علم أنهما لا يصحان منها؛ إذ هما مرتبتان على الطواف والطهارة.
11- (وعن معاذ) بضم الميم فعين مهملة خفيفة آخره ذال معجمة، وهو أبو عبد الرحمن معاذ بن جبل، الأنصاري الخزرجي، أحد من شهد العقبة من الأنصار، وشهد بدراً، وغيرها من المشاهد، وبعثه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إلى اليمن قاضياً، ومعلماً، وجعل إليه قبض الصدقات من العمال باليمن، وكان من أجلاء الصحابة، وعلمائهم. استعمله عمر على الشام بعد أبي عبيدة، فمات في طاعون عمواس سنة ثماني عشرة، وقيل: سبع عشرة، وله ثمان وثلاثون سنة (أنه سأل النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "ما يحل للرجل من امرأته، وهي حائض؟ قال: "ما فوق الإزَار" ، رواه أبو داود وضعفه) وقال: ليس بالقويّ.
والحديث دليل على تحريم مباشرة محل الإزار، وهو(1/105)
ما بين السرة والركبة والحديث قد عارضه حديث: "اصنعوا كل شيء إلا النكاح" تقدم، وهو أصح من هذا، فهو أرجح منه، ولو ضمه المصنف إليه لكان أولى، وتقدم الكلام فيه. وفي حديث عائشة: "كان يأمرني فأتزر".
12- (وعن أُمِّ سَلَمَةَ رضيَ الله عَنْهَا: كانت النّفَساءُ تَقْعُدُ على عَهْدِ النّبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بَعْدَ نِفَاسِهَا أَرْبعين يوماً. رواه الخمسةُ إلا النسائي، واللفظ لأبي داود.
وفي لَفْظٍ لَهُ: ولم يأمُرها النبيُّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بقضاءِ صلاةِ النِّفاسِ، وصَحّحه الحاكم.
وضعفه جماعة، لكن قال النووي: قول جماعة من مصنفي الفقهاء: إن هذا الحديث ضعيف: مردود عليهم، وله شاهد عند ابن ماجه من حديث أنس: أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم "وقت للنفساء أربعين يوماً، إلا أن ترى الطهر قبل ذلك" ، وللحاكم من حديث عثمان بن أبي العاص: "وقت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم للنساء في نفاسهن أربعين يوماً" .
فهذه الأحاديث يعضد بعضها بعضاً، وتدل على أن الدم الخارج عقيب الولادة حكمه يستمر أربعين يوماً تقعد فيه المرأة عن الصلاة، وعن الصوم، وإن لم يصرح به الحديث. فقد أفيد من غيره، وأفاد حديث أنس: أنها إذا رأت الطهر قبل ذلك طهرت، وأنه لا حد لأقله.(1/106)
كتاب الصلاة
باب المواقيت
الصلاة لغة: الدعاء سميت هذه العبادة الشرعية باسم الدعاء لاشتمالها عليه والمواقيت جمع ميقات والمراد به الوقت الذي عينه الله لأداء هذه العبادة وهو القدر المحدود للفعل من الزمان
1- (عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "وقت الظهر إذا زالت الشمس" أي مالت إلى جهة المغرب وهو الدلوك الذي أراده تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} "وكان ظل الرجل كطوله" أي ويستمر وقتها حتى يصير ظل كل شيء مثله فهذا تعريف لأول وقت الظهر وآخره فقوله وكان عطف على زالت كما قررناه أي ويستمر وقت الظهر إلى صيرورة ظل الرجل مثله "ما لم يحضر" "وقت العصر" وحضوره بمصير ظل كل شيء مثله كما يفيده مفهوم هذا وصريح غيره "ووقت العصر" يستمر "ما لم تصفر الشمس" وقد عين آخره في غيره بمصير ظل الشيء مثليه "ووقت صلاة المغرب" من عند سقوط قرص الشمس ويستمر "ما لم يغب الشفق الأحمر" وتفسيره بالحمرة سيأتي نصا "ووقت صلاة العشا"ء من غيبوبة الشفق ويستمر "إلى نصف الليل الأوسط" المراد به الأول "ووقت صلاة الصبح" أوله "من طلوع الفجر" ويستمر "ما لم تطلع الشمس" رواه مسلم تمامه في مسلم "فإذا طلعت الشمس فأمسك عن الصلاة فإنها تطلع بين قرني الشيطان" الحديث أفاد تعيين أكثر الأوقات الخمسة أولا وآخرا فأول الظهر زوال الشمس وآخره مصير ظل الشيء(1/106)
مثله وذكر الرجل في الحديث تمثيلا وإذا صار كذلك فهو أول العصر ولكنه يشاركه الظهر في قدر يتسع لأربع ركعات فإنه يكون وقتا لهما كما يفيده حديث جبريل فإنه صلى بالنبي صلى الله عليه وسلم الظهر في اليوم الأول بعد الزوال وصلى به العصر عند مصير ظل الشيء مثله وفي اليوم الثاني صلى به الظهر عند مصير ظل الشيء مثله في الوقت الذي صلى فيه العصر اليوم الأول فدل على أن ذلك وقت يشترك فيه الظهر والعصر وهذا هو الوقت المشترك وفيه خلاف فمن أثبته فحجته ما سمعته ومن نفاه تأول قوله وصلى به الظهر في اليوم الثاني حين صار ظل الشيء مثله بأن معناه فرغ من صلاة الظهر في ذلك الوقت وهو بعيد ثم يستمر وقت العصر إلى اصفرار الشمس وبعد الاصفرار ليس بوقت للأداء بل وقت قضاء كما قاله أبو حنيفة وقيل بل أداء إلى بقية تسع ركعة لحديث "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغيب الشمس فقد أدرك العصر" وأول وقت المغرب إذا وجبت الشمس أي غربت كما ورد عند الشيخين وغيرهما وفي لفظ: "إذا غربت" وآخره "ما لم يغب الشفق " وفيه دليل على اتساع وقت الغروب وعارضه حديث جبريل فإنه صلى به صلى الله عليه وسلم المغرب في وقت واحد في اليومين وذلك بعد غروب الشمس والجمع بينهما أنه ليس في حديث جبريل حصر لوقتهما في ذلك ولأن أحاديث تأخير المغرب إلى غروب الشفق متأخرة فإنها في المدينة وإمامة جبريل في مكة فهي زيادة تفضل الله بها وقيل إن حديث جبريل دال على أنه لا وقت لها إلا الذي صلى فيه وأول العشاء غيبوبة الشفق ويستمر إلى نصف الليل وقد ثبت في الحديث التحديد لآخره بثلث الليل لكن أحاديث النصف صحيحة فيجب العمل بها وأول وقت صلاة الصبح طلوع الفجر ويستمر إلى طلوع الشمس فهذا الحديث الذي في مسلم قد أفاد أول كل وقت من الخمسة وآخره وفيه دليل على أن لوقت كل صلاة أولا وآخرا وهل يكون بعد الاصفرار وبعد نصف الليل وقت لأداء العصر والعشاء أو لا هذا الحديث يدل على أنه ليس بوقت لهما ولكن حديث من أدرك ركعة من العصر قبل غروب الشمس فقد أدرك العصر فإنه يدل على أن بعد الاصفرار وقتا للعصر وإن كان في لفظ أدرك ما يشعر بأنه إذا كان تراخيه عن الوقت المعروف لعذر أو نحوه وورد في الفجر مثله وسيأتي ولم يرد مثله في العشاء ولكنه ورد في مسلم وليس في النوم تفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى فإنه دليل على امتداد وقت كل صلاة إلى دخول وقت الأخرى إلا أنه مخصوص بالفجر فإن آخر وقتها طلوع الشمس وليس بوقت للتي بعدها وبصلاة العشاء فإن آخره نصف الليل وليس وقتا للتي بعدها وقد قسم الوقت إلى اختياري واضطراري ولم يقم دليل ناهض على غير ما سمعت وقد استوفينا الكلام على المواقيت في رسالة بسيطة سميناها اليواقيت في المواقيت
2- (وله أي لمسلم من حديث بريدة بضم الموحدة فراء فمثناة تحتية فدال مهملة فتاء تأنيث هو أبو عبد الله أو أبو سهل أو أبو الحصيب بريدة بن الحصيب بضم الحاء المهملة فصاد(1/107)
مهملة مفتوحة فمثناة تحتية ساكنة فموحدة الأسلمي أسلم قبل بدر ولم يشهدها وبايع بيعة الرضوان سكن المدينة ثم تحول إلى البصرة ثم خرج إلى خراسان غازيا فمات بمرو زمن يزيد بن معاوية سنة اثنتين أو ثلاث وستين في العصر أي في بيان وقتها والشمس بيضاء نقية بالنون والقاف ومثناة تحتية مشددة أي لم يدخلها شيء من الصفرة
3- ( ومن حديث أبي موسى أي ولمسلم من حديث أبي موسى وهو عبد الله بن قيس الأشعري أسلم قديما بمكة وهاجر إلى الحبشة وقيل رجع إلى أرضه ثم وصل إلى المدينة مع وصول مهاجري الحبشة ولاه عمر بن الخطاب البصرة بعد عزل المغيرة سنة عشرين فافتتح أبو موسى الأهواز ولم يزل على البصرة إلى صدر خلافة عثمان فعزله فانتقل إلى الكوفة وأقام بها ثم أقره عثمان عاملا على الكوفة إلى أن قتل عثمان ثم انتقل بعد أمر التحكيم إلى مكة ولم يزل بها حتى مات سنة خمسين وقيل بعدها وله نيف وستون سنة والشمس مرتفعة أي وصلى العصر وهي مرتفعة لم تمل إلى الغروب وفي الأحاديث ما يدل على المسارعة بالعصر وأصرح الأحاديث في تحديد أول وقتها حديث جبريل أنه صلاها بالنبي صلى الله عليه وسلم وظل الرجل مثله وغيره من الأحاديث كحديث بريدة وحديث أبي موسى محمولة عليه
4- ( وعن أبي برزة بفتح الموحدة وسكون الراء فزاي فهاء اسمه نضلة بفتح النون فضاد ساكنة معجمة ابن عبيد وقيل ابن عبد الله أسلم قديما وشهد الفتح ولم يزل يغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توفي صلى الله عليه وسلم فنزل بالبصرة ثم غزا خراسان وتوفي بمرو وقيل بغيرها سنة ستين الأسلمي قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العصر ثم يرجع أحدنا بعد صلاته إلى رحله بفتح الراء وسكون الحاء المهملة وهو مسكنه في أقصى المدينة حال من رحله وقيل صفة له والشمس حية أي يصل إلى رحله حال كون الشمس حية أي بيضاء قوية الأثر حرارة ولونا وإنارة وكان يستحب أن يؤخر من العشاء لم يبين إلى متى وكأنه يريد مطلق التأخير وقد بينه غيره من الأحاديث وكان يكره النوم قبلها لئلا يستغرق النائم فيه حتى يخرج اختيار وقتها والحديث التحادث مع الناس بعدها فينام عقب تكفير الخطيئة بالصلاة فتكون خاتمة عمله ولئلا يشتغل بالحديث عن قيام آخر الليل إلا أنه قد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يسمر مع أبي بكر في أمر المسلمين وكان ينفتل بالفاء فمثناة بعدها فوقية مكسورة أي يلتفت إلى من خلفه أو ينصرف من صلاة الغداة الفجر حين يعرف الرجل جليسه أي بضوء الفجر لأنه كان مسجده صلى الله عليه وسلم ليس فيه مصابيح وهو يدل على أنه كان يدخل فيها والرجل لا يعرف جليسه وهو دليل التبكير بها وكان يقرأ بالستين إلى المائة يريد أنه إذا اختصر قرأ بالستين في صلاته في الفجر وإذا طول فإلى المائة من الآيات متفق عليه فيه ذكر وقت صلاة العصر والعشاء والفجر من دون تحديد للأوقات وقد سبق في الذي مضى ما هو أصرح وأشمل(1/108)
5- (وعندهما أي الشيخين المدلول عليهما بقوله متفق عليه من حديث جابر والعشاء أحيانا يقدمها أول وقتها وأحيانا يؤخرها عنه كما فصله قوله إذا رآهم أي الصحابة اجتمعوا في أول وقتها عجل رفقا بهم وإذا رآهم أبطئوا عن أوله أخر مراعاة لما هو الأرفق بهم وقد ثبت عنه أنه لولا خوف المشقة عليهم لأخر بهم الصبح كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليها بغلس, الغلس محركة ظلمة آخر الليل كما في القاموس وهو أول الفجر ويأتي ما يعارضه في حديث رافع بن خديج
6- (ولمسلم وحده من حديث أبي موسى فأقام الفجر حين انشق الفجر والناس لا يكاد يعرف بعضهم بعضا وهو كما أفاده الحديث الأول
7- (وعن رافع بن خديج بفتح الخاء المعجمة وكسر الدال المهملة فمثناة تحتية فجيم ورافع هو أبو عبد الله ويقال أبو خديج الخزرجي الأنصاري الأوسي من أهل المدينة تأخر عن بدر لصغر سنه وشهد أحدا وما بعدها أصابه سهم يوم أحد فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا أشهد لك يوم القيامة" وعاش إلى زمان عبد الملك بن مروان ثم انتقضت جراحته فمات سنة ثلاث أو أربع وسبعين وله ست وثمانون سنة وقيل زمن يزيد بن معاوية قال كنا نصلي المغرب مع النبي صلى الله عليه وسلم فينصرف أحدنا وإنه ليبصر مواقع نبله بفتح النون وسكون الموحدة وهي السهام العربية لا واحد لها من لفظها وقيل واحدها نبلة كتمر وتمرة متفق عليه والحديث فيه دليل على المبادرة بصلاة المغرب بحيث ينصرف منها والضوء باق وقد كثر الحث على المسارعة بها
8- ( وعن عائشة رضي الله عنها قالت أعتم بفتح الهمزة وسكون العين المهملة فمثناة فوقية مفتوحة يقال أعتم إذا دخل في العتمة والعتمة محركة ثلث الليل الأول بعد غيبوبة الشفق كما في القاموس رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة بالعشاء أي أخر صلاتها حتى ذهب عامة الليل كثير منه لا أكثره ثم خرج فصلى وقال إنه لوقتها أي المختار والأفضل لولا أن أشق على أمتي أي لأخرتها إليه رواه مسلم وهو دليل على أن وقت العشاء ممتد وأن آخره أفضله وأنه صلى الله عليه وسلم كان يراعي الأخف على الأمة وأنه ترك الأفضل وقتا وهي بخلاف المغرب فأفضله أوله وكذلك غيره إلا الظهر أيام الحر كما يفيده قوله
9- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا اشتد الحر فأبردوا" بهمزة مفتوحة مقطوعة وكسر الراء بالصلاة أي صلاة الظهر "فإن شدة الحر من فيح جهنم" بفتح الفاء وسكون المثاة التحتية فحاء مهملة أي سعة انتشارها وتنفسها متفق عليه يقال أبرد إذا دخل في وقت البرد كأظهر إذا دخل في الظهر كما يقال أنجد وأتهم إذا بلغ نجدا وتهامة ذلك في الزمان وهذا في المكان والحديث دليل على وجوب الإبراد بالظهر عند شدة الحر لأنه الأصل في الأمر وقيل إنه للاستحباب(1/109)
وإليه ذهب الجمهور وظاهره عام للمنفرد والجماعة والبلد الحار وغيره وفيه أقوال غير هذه وقيل الإبراد سنة والتعجيل أفضل لعموم أدلة فضيلة أول الوقت وأجيب بأنها عامة مخصوصة بأحاديث الإبراد وعورض حديث الإبراد بحديث خباب شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء في جباهنا وأكفنا فلم يشكنا أي لم يزل شكوانا وهو حديث صحيح رواه مسلم وأجيب عنه بأجوبة أحسنها أن الذي شكوه شدة الرمضاء في الأكف والجباه وهذه لا تذهب عن الأرض إلا آخر الوقت أو بعد آخره ولذا قال لهم صلى الله عليه وسلم: "صلوا الصلاة لوقتها" كما هو ثابت في رواية خباب هذه بلفظ فلم يشكنا وقال: "صلوا الصلاة لوقتها" رواها ابن المنذر فإنه دال على أنهم طلبوا تأخيرا زائدا عن وقت الإبراد فلا يعارض حديث الأمر بالإبراد وتعليل الإبراد بأن "شدة الحر من فيح جهنم" يعني وعند شدته يذهب الخشوع الذي هو روح الصلاة وأعظم المطلوب منها قيل وإذا كان العلة ذلك فلا يشرع الإبراد في البلاد الباردة وقال ابن العربي في القبس ليس في الإبراد تحديد إلا ما ورد في حديث ابن مسعود يعني الذي أخرجه أبو داود والحاكم من طريق الأسود عنه كان قدر صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر في الصيف ثلاثة أقدام إلى خمسة أقدام وفي الشتاء خمسة أقدام إلى سبعة أقدام ذكره المصنف في التلخيص وقد بينا ما فيه وأنه لا يتم به الاستدلال في المواقيت وقد عرفت أن حديث الإبراد يخصص فضيلة صلاة الظهر في أول وقتها بزمان شدة الحر كما قيل إنه مخصص بالفجر
10- (وعن رافع بن خديج قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أصبحوا بالصبح" وفي رواية "أسفروا فإنه أعظم لأجوركم" رواه الخمسة وصححه الترمذي وابن حبان وهذا لفظ أبي داود وبه احتجت الحنفية على تأخير الفجر إلى الإسفار وأجيب عنه بأن استمرار صلاته صلى الله عليه وسلم بغلس وبما أخرج أبو داود من حديث أنس "أنه صلى الله عليه وسلم أسفر بالصبح مرة ثم كانت صلاته بعد بغلس حتى مات" يشعر بأن المراد بـ"أصبحوا" غير ظاهره فقيل المراد به تحقق طلوع الفجر وأن أعظم ليس للتفضيل وقيل المراد به إطالة القراءة في صلاة الصبح حتى يخرج منها مسفرا وقيل: المراد به الليالي المقمرة فإنه لا يتضح أول الفجر معها لغلبة نور القمر لنوره أو أنه صلى الله عليه وسلم فعله مرة واحدة لعذر ثم استمر على خلافه كما يفيده حديث أنس وأما الرد على حديث الإسفار بحديث عائشة ثم ابن أبي شيبة وغيره بلفظ ما صلى النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة لوقتها الآخر حتى قبضه الله فليس بتام لأن الإسفار ليس آخره وقت صلاة الفجر بل آخر ما يفيده
11- ( وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس" أي وأضاف إليها أخرى بعد طلوعها "فقد أدرك الصبح" ضرورة أنه ليس المراد من صلى ركعة فقط والمراد فقد أدرك صلاته لوقوع ركعة في الوقت ومن أدرك ركعة من العصر ففعلها قبل(1/110)
أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر وإن فعل الثلاث بعد الغروب متفق عليه وإنما حملنا الحديث على ما ذكرناه من أن المراد الإتيان بالركعة بعد الطلوع وبالثلاث بعد الغروب للإجماع على أنه ليس المراد من أتى بركعة فقط من الصلاتين صار مدركا لهما وقد ورد في الفجر صريحا في رواية البيهقي بلفظ: "من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس وركعة بعد أن تطلع الشمس فقد أدرك الصلاة" وفي رواية "من أدرك في الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فليصل إليها أخرى" وفي العصر من حديث أبي هريرة بلفظ: "من صلى من العصر ركعة قبل أن تغرب الشمس ثم صلى ما بقي بعد غروبها لم يفته العصر" والمراد من الركعة الإتيان بواجباتها من الفاتحة واستكمال الركوع والسجود وظاهر الأحاديث أن الكل أداء وأن الإتيان ببعضها قبل خروج الوقت ينسحب حكمه على ما بعد خروجه فضلا من الله ثم مفهوم ما ذكر أنه من أدرك دون ركعة لا يكون مدركا للصلاة إلا أن قوله
12- ولمسلم عن عائشة رضي الله عنها نحوه وقال: "سجدة" بدل ركعة فإنه ظاهر أن من أدرك سجدة صار مدركا للصلاة إلا أن قوله ثم قال أي الراوي ويحتمل أنه النبي صلى الله عليه وسلم والسجدة إنما هي الركعة يدفع أن يراد بالسجدة نفسها لأن هذا التفسير إن كان من كلامه صلى الله عليه وسلم فلا إشكال وإن كان من كلام الراوي فهو أعرف بما روى وقال الخطابي المراد بالسجدة الركعة بسجودها وركوعها والركعة إنما تكون تامة بسجودها فسميت على هذا المعنى سجدة اهـ السجدة على بابها لأفادت أن من أدرك ركعة بإحدى سجدتيها صار مدركا وليس بمراد لورود سائر الأحاديث بلفظ الركعة فتحمل رواية السجدة عليها فيبقى مفهوم من أدرك ركعة سالما عما يعارضه ويحتمل أن من أدرك سجدة فقط صار مدركا للصلاة كمن أدرك ركعة ولا ينافي ذلك ورود من أدرك ركعة لأن مفهومه غير مراد بدليل من أدرك سجدة ويكون الله تعالى قد تفضل فجعل من أدرك سجدة مدركا كمن أدرك ركعة ويكون إخباره صلى الله عليه وسلم بإدراك الركعة قبل أن يعلمه الله جعل من أدرك السجدة مدركا للصلاة فلا يرد أنه قد علم أن من أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة بطريق الأولى وأما قوله والسجدة إنما هي الركعة فهو محتمل أنه من كلام الراوي وليس بحجة وقولهم تفسير الراوي مقدم كلام أغلبي وإلا فحديث فرب مبلغ أوعى من سامع وفي لفظ أفقه يدل على أنه يأتي بعد السلف من هو أفقه منهم ثم ظاهر الحديث أن من أدرك الركعة من صلاة الفجر أو العصر لا تكره الصلاة في حقه عند طلوع الشمس وعند غروبها وإن كانا وقتي كراهة ولكن في حق المتنفل فقط وهو الذي أفاده قوله
13- (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا صلاة" أي نافلة بعد الصبح أي صلاته أو زمانه "حتى تطلع الشمس ولا صلاة بعد العصر" أي صلاته أو وقته حتى تغيب الشمس متفق عليه ولفظ(1/111)
مسلم: "لا صلاة بعد صلاة الفجر" فعينت المراد من قوله "بعد الفجر" فإنه يحتمل ما ذكرناه كما ورد في رواية "لا صلاة بعد العصر" نسبها ابن الأثير إلى الشيخين وفي رواية لا صلاة بعد طلوع الفجر إلا ركعتي الفجر ستأتي فالنفي قد توجه إلى ما بعد فعل صلاة الفجر وفعل صلاة العصر ولكنه بعد طلوع الفجر لا صلاة إلا نافلته فقط وأما بعد دخول العصر فالظاهر إباحة النافلة مطلقا ما لم يصل العصر وهذا نفي للصلاة الشرعية وهو في معنى النهي والأصل فيه التحريم فدل على تحريم النفل في هذين الوقتين مطلقا والقول بأن ذات السبب تجوز كتحية المسجد مثلا وما لا سبب لها لا تجوز قد بينا أنه لا دليل عليه في حواشي شرح العمدة وأما صلاته صلى الله عليه وسلم ركعتين بعد صلاة العصر في منزله كما أخرجه البخاري من حديث عائشة "ما ترك السجدتين بعد العصر عندي قط" وفي لفظ: "لم يكن يدعهما سرا ولا علانية" فقد أجيب عنه بأنه صلى الله عليه وسلم صلاهما قضاء لنافلة الظهر لما فاتته ثم استمر عليهما لأنه كان إذا عمل عملا أثبته فدل على جواز قضاء الفائتة في وقت الكراهة وبأنه من خصائصه جواز النفل في ذلك الوقت كما دل له حديث أبي داود عن عائشة "أنه كان يصلي بعد العصر وينهي عنها وكان يواصل وينهي عن الوصال" وقد ذهب طائفة من العلماء إلى أنه لا كراهة للنفل بعد صلاتي الفجر والعصر لصلاته صلى الله عليه وسلم هذه بعد العصر ولتقريره صلى الله عليه وسلم لمن رأه يصلي بعد صلاة الفجر نافلة الفجر ولكنه يقال هذان دليلان على جواز قضاء النافلة في وقت الكراهة لا أنهما دليلان على أنه لا يكره النفل مطلقا إذ الأخص لا يدل على رفع الأعم بل يخصصه وهو من تخصيص الأقوال بالأفعال على أنه يأتي النص على أن من فاتته نافلة الظهر فلا يقضيها بعد العصر ولأنه لو تعارض القول والفعل كان القول مقدما عليه فالصواب أن هذين الوقتين يحرم فيهما إذن النوافل كما تحرم في الأوقات الثلاثة التي أفادها
14- ( وله أي لمسلم عن عقبة بضم العين المهملة وسكون القاف فموحدة مفتوحة ابن عامر هو أبو حماد أو أبو عامر عقبة بن عامر الجهني كان عاملا لمعاوية على مصر وتوفي بها سنة ثمان وخمسين وذكر خليفتة أنه قتل يوم النهروان مع علي عليه السلام وغلطه ابن عبد البر ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن وأن نقبر بضم الباء وكسرها فيهن موتانا حتى تطلع الشمس بازغة حتى ترفع بين قدر ارتفاعها الذي عنده تزول الكراهة حديث عمرو بن عبسة بلفظ وترتفع قيس رمح أو رمحين وقيس بكسر القاف وسكون المثناة التحتية فسين مهملة أي قدر أخرجه أبو داود والنسائي وحين يقوم قائم الظهيرة في حديث ابن عبسة حتى يعدل الرمح ظله حتى تزول الشمس أي تميل عن كبد السماء وحين تتضيف بفتح المثناة الفوقية فمثناة بعدها وفتح الضاد المعجمة وتشديد الياء وفاء أي تميل الشمس للغروب فهذه ثلاثة أوقات روينا إن انضافت إلى الأولين كانت خمسة إلا أن الثلاثة تختص بكراهة أمرين دفن الموتى والصلاة والوقتان الأولان يختصان بالنهي عن الثاني منهما وقد ورد تعليل النهى(1/112)
عن هذه الثلاثة في حديث ابن عبسة عند من ذكر بأن الشمس عند طلوعها تطلع بين قرني شيطان فيصلي لها الكفار وبأنه عند قيام قائم الظهيرة تسجر جهنم وتفتح أبوابها وبأنها تغرب بين قرني شيطان ويصلي لها الكفار ومعنى قوله قائم الظهيرة قيام الشمس وقت الزوال من قولهم قامت به دابته وقفت والشمس إذا بلغت وسط السماء أبطأت حركة الظل إلى أن تزول فيتخيل الناظر المتأمل أنها وقفت وهي سائرة والنهي عن هذه الأوقات الثلاثة عام بلفظه لفرض الصلاة ونفلها والنهي للتحريم كما عرفت من أنه أصله وكذا يحرم قبر الموتى فيها ولكن فرض الصلاة أخرجه حديث من نام عن صلاته الحديث وفيه فوقتها حين يذكرها ففي أي وقت ذكرها أو استيقظ من نومه أتى بها وكذا من أدرك ركعة قبل غروب الشمس وقبل طلوعها لا يحرم عليه بل يجب عليه أداؤها في ذلك الوقت فيخص النهي بالنوافل دون الفرائض وقيل بل يعمها بدليل أنه صلى الله عليه وسلم لما نام في الوادي عن صلاة الفجر ثم استيقظ لم يأت بالصلاة في ذلك الوقت بل آخرها إلى أن خرج الوقت المكروه وأجيب عنه أولا بأنه صلى الله عليه وسلم لم يستيقظ هو وأصحابه إلا حين أصابهم حر الشمس كما ثبت في الحديث ولا يوقظهم حرها إلا وقد ارتفعت وزال وقت الكراهة وثانيا بأنه قد بين صلى الله عليه وسلم وجه تأخير أدائها عند الاستيقاظ بأنهم في واد حضر فيه الشيطان فخرج صلى الله عليه وسلم عنه وصلى في غيره وهذا التعليل يشعر بأنه ليس التأخير لأجل وقت الكراهة لو سلم أنهم استيقظوا ولم يكن قد خرج الوقت فتحصل من الأحاديث أنها تحرم النوافل في الأوقات الخمسة وأنه يجوز أن تقضى النوافل بعد صلاة الفجر وصلاة العصر أما صلاة العصر فلما سلف من صلاته صلى الله عليه وسلم قاضيا لنافلة الظهر بعد العصر إن لم نقل إنه خاص به وأما صلاة الفجر فلتقريره لمن صلى نافلة الفجر بعد صلاته وأنها تصلى الفرائض في أي الأوقات الخمسة لنائم وناس ومؤخر عمدا وإن كان آثما بالتأخير والصلاة أداء في الكل ما لم يخرج وقت العامد فهي قضاء في حقه ويدل على تخصيص وقت الزوال يوم الجمعة من هذه الأوقات بجواز النفل فيه الحديث الآتي وهو قوله
15- والحكم الثاني وهو النهي عن الصلاة وقت الزوال والحكم الأول النهي عنها عند طلوع الشمس إلا أنه تسامح المصنف في تسميته حكما فإن الحكم في الثلاثة الأوقات واحد وهو النهي عن الصلاة فيها وإنما هذا الثاني أحد محلات الحكم لا أنه حكم ثان وفسر الشارح الحكم الثاني بالنهي عن الصلاة في الأوقات الثلاثة كما أفاده حديث أبي سعد وحديث عقبة لكن فيه أنه الحكم الأول لأن الثاني هو النهي عن قبر الأموات فإنه الثاني في حديث عقبة وفيه أنه يلزم أن زيادة استثناء يوم الجمعة يعم الثلاثة الأوقات في عدم الكراهة وليس كذلك اتفاقا إنما الخلاف في ساعة الزوال يوم الجمعة عند الشافعي من حديث أبي هريرة بسند ضعيف وزاد فيه "إلا يوم الجمعة" والحديث المشار إليه أخرجه البيهقي في المعرفة من حديث عطاء بن عجلان عن أبي نضرة عن أبي سعيد وأبي هريرة قالا(1/113)
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن الصلاة نصف النهار إلا يوم الجمعة وقال إنما كان ضعيفا لأن فيه إبراهيم بن يحيى وإسحاق بن عبد الله بن أبي فروة وهما ضعيفان ولكنه يشهد له قوله
16- (وكذا لأبي داود عن أبي قتادة نحوه ولفظه وكره النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة نصف النهار إلا يوم الجمعة وقال: "إن جهنم تسجر إلا يوم الجمعة" قال أبو داود إنه مرسل وفيه ليث بن أبي سليم وهو ضعيف إلا أنه أيده فعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فإنهم كانوا يصلون نصف النهار يوم الجمعة ولأنه صلى الله عليه وسلم حث على التبكير إليها ثم رغب في الصلاة إلى خروج الإمام من غير تخصيص ولا استثناء ثم أحاديث النهي عامة لكل محل يصلى فيه إلا أنه خصها بغير مكة قوله
17- (وعن جبير بضم الجيم وفتح الموحدة وسكون المثناة التحتية فراء ابن مطعم بضم الميم وسكون الطاء وكسر العين المهملة وهو أبو محمد جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل القرشي النوفلي كنيته أبو أمية أسلم قبل الفتح ونزل المدينة ومات بها سنة أربع أو سبع أو تسع وخمسين وكان جبير عالما بأنساب قريش قيل إنه أخذ ذلك من أبي بكر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار" رواه الخمسة وصححه الترمذي وابن حبان وأخرجه الشافعي وأحمد والدارقطني وابن خزيمة والحاكم من حديث جبير أيضا وأخرجه الدارقطني من حديث ابن عباس وأخرجه غيرهم وهو دال على أنه لا يكره الطواف بالبيت ولا الصلاة فيه في أي ساعة من ساعات الليل والنهار وقد عارض ما سلف فالجمهور عملوا بأحاديث النهي ترجيحا لجانب الكراهة ولأن أحاديث النهي ثابتة في الصحيحين وغيرهما وهي أرجح من غيرها وذهب الشافعي وغيره إلى العمل بهذا الحديث قالوا لأن أحاديث النهي قد دخلها التخصيص بالفائتة والنوم عنها والنافلة التي تقضى فضعفوا جانب عمومها فتخصص أيضا بهذا الحديث ولا تكره النافلة بمكة في أي ساعة من الساعات وليس هذا خاصاً بركعتي الطواف بل يعم كل نافلة لرواية ابن حبان في صحيحه "يا بني عبد المطلب إن كان لكم من الأمر شيء فلا أعرفن أحدا منكم يمنع من يصلي عند البيت أي ساعة شاء من ليل أو نها" ر قال في النجم الوهاج وإذا قلنا بجواز النفل يعني في المسجد الحرام في أوقات الكراهة فهل يختص ذلك بالمسجد الحرام أو يجوز في جميع بيوت حرم مكة فيه وجهان والصواب أنه يعم جميع الحرم
18- (وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الشفق الحمرة" رواه الدارقطني وصححه ابن خزيمة وغيره وقفه على ابن عمر وتمام الحديث "فإذا غاب الشفق وجبت الصلاة" وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه من حديث ابن عمر مرفوعا "ووقت صلاة المغرب إلى أن تذهب حمرة الشفق" وقال البيهقي روى هذا الحديث عن علي وعمر وابن عباس وعبادة بن الصامت وشداد بن أوس وأبي هريرة ولا يصح منها شيء قلت(1/114)
البحث لغوي والمرجع فيه إلى أهل اللغة وقح العرب فكلامه حجة وإن كان موقوفا عليه وفي القاموس الشفق محركة الحمرة في الأفق من الغروب إلى العشاء وإلى قريبها أو إلى قريب العتمة اهـ والشافعي يرى أن وقت المغرب عقيب غروب الشمس بما يتسع لخمس ركعات ومضى قدر الطهارة وستر العورة وأذان وإقامة لا غير وحجته حديث جبريل أنه صلى به صلى الله عليه وسلم المغرب في اليومين معا في وقت واحد عقيب غروب الشمس قال فلو كان للمغرب وقت ممتد لآخره إليه كما أخر الظهر إلى مصير ظل الشيء مثله في اليوم الثاني وأجيب عنه بأن حديث جبريل متقدم في أول فرض الصلاة بمكة اتفاقا وأحاديث أن آخر وقت المغرب الشفق متأخرة واقعة في المدينة أقوالا وأفعالا فالحكم لها وبأنها أصح إسنادا من حديث توقيت جبريل فهي مقدمة عند التعارض وأما الجواب بأنها أقوال وخبر جبريل فعل غير ناهض فإن خبر جبريل فعل وقول فإنه قال له صلى الله عليه وسلم بعد أن صلى به الأوقات الخمسة ما بين هذين الوقتين وقت لك ولأمتك نعم لا بينية بين المغرب والعشاء على صلاة جبريل فيتم الجواب بأنه فعل بالنظر إلى وقت المغرب والأقوال مقدمة على الأفعال عند التعارض على الأصح وأما هنا فما ثم تعارض إنما الأقوال أفادت زيادة في الوقت للمغرب من الله بها قلت لا يخفى أنه كان الأولى تقديم هذا الحديث في أول باب الأوقات عقب أول حديث فيه وهو حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه واعلم أن هذا القول هو قول الشافعي في الجديد وقوله القديم أن لها وقتين أحدهما هذا والثاني يمتد إلى مغيب الشفق وصححه أئمة من أصحابه كابن خزيمة والخطابي والبيهقي وغيرهم وقد ساق النووي في شرح المهذب الأدلة على امتداده إلى الشفق فإذا عرفت الأحاديث الصحيحة تعين القول به جزما لأن الشافعي نص عليه في القديم وعلق القول به في الإملاء على ثبوته وقد ثبت الحديث بل أحاديث
19- (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الفجر" أي لغة "فجران فجر يحرم الطعام" يريد على الصائم "وتحل فيه الصلاة" أي يدخل وقت وجوب صلاة الفجر "وفجر تحرم فيه الصلاة" أي صلاة الصبح فسره بها لئلا يتوهم أنها تحرم فيه مطلق الصلاة والتفسير يحتمل أنه منه صلى الله عليه وسلم وهو الأصل ويحتمل أنه من الراوي ويحل فيه الطعام رواه ابن خزيمة والحاكم وصححاه لما كان الفجر لغة مشتركا بين الوقتين وقد أطلق في بعض أحاديث الأوقات أن أول صلاة الصبح الفجر بين صلى الله عليه وسلم المراد به وأنه الذي له علامة ظاهرة واضحة وهي التي أفاده قوله
20- ( وللحاكم من حديث جابر نحوه نحو حديث ابن عباس ولفظه في المستدرك "الفجر فجران فأما الفجر الذي يكون كذنب السرحان فلا يحل الصلاة ويحل الطعام وأما الذي يذهب مستطيلا في الأفق فإنه يحل الصلاة ويحرم الطعام" وقد عرفت معنى قول المصنف وزاد في الذي يحرم الطعام أنه يذهب مستطيلا أي ممتدا في الأفق وفي رواية(1/115)
البخاري "أنه صلى الله عليه وسلم مد يده من عن يمينه ويساره" وفي الآخر وهو الذي لا تحل فيه الصلاة ولا يحرم فيه الطعام أي وقال في الآخر إنه في صفته "كذنب السرحان" بكسر السين المهملة وسكون الراء فحاء مهملة وهو الذئب والمراد أنه لا يذهب مستطيلا ممتدا بل يرتفع في السماء كالعمود وبينهما ساعة فإنه يظهر الأول وبعد ظهوره يظهر الثاني ظهورا بينا فهذا فيه بيان وقت الفجر وهو أول وقته وآخره ما يتسع لركعة كما عرفت ولما كان لكل وقت أول وآخر بين صلى الله عليه وسلم الأفضل منهما في الحديث الآتي وهو
21- (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الأعمال الصلاة في أول وقتها" رواه الترمذي والحاكم وصححاه وأصله في الصحيحين أخرجه البخاري عن ابن مسعود بلفظ سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي العمل أحب إلى الله قال: "الصلاة لوقتها" وليس فيه لفظ أول فالحديث دل على أفضلية الصلاة في أول وقتها على كل عمل من الأعمال كما هو ظاهر التعريف للأعمال باللام وقد عورض بحديث أفضل الأعمال إيمان بالله ولا يخفى أنه معلوم أن المراد من الأعمال في حديث ابن مسعود ما عدا الإيمان فإنه إنما سأل عن أفضل أعمال أهل الإيمان فمراده غير الإيمان قال ابن دقيق العيد الأعمال هنا أي في حديث ابن مسعود محمولة على البدنية فلا تتناول أعمال القلوب فلا تعارض حديث أبي هريرة أفضل الأعمال الإيمان بالله عز وجل ولكنها قد وردت أحاديث أخر في أنواع من أعمال البر بأنها أفضل الأعمال فهي التي تعارض حديث الباب ظاهرا وقد أجيب بأنه صلى الله عليه وسلم أخبر كل مخاطب بما هو أليق به وهو به أقوم وإليه أرغب ونفعه فيه أكثر فالشجاع أفضل الأعمال في حقه الجهاد فإنه أفضل من تخليه للعبادة والغني أفضل الأعمال في حقه الصدقة وغير ذلك أو أن كلمة من مقدرة والمراد من أفضل الأعمال أو كلمة أفضل لم يرد بها الزيادة بل الفضل المطلق وعورض تفضيل الصلاة في أول وقتها على ما كان منها في غيره بحديث العشاء فإنه قال صلى الله عليه وسلم لولا أن أشق على أمتي لأخرتها يعني إلى النصف أو قريب منه وبحديث الإصباح أو الإسفار بالفجر وبأحاديث الإبراد بالظهر والجواب أن ذلك تخصيص لعموم أول الوقت ولا معارضة بين عام وخاص وأما القول بأن ذكر أول وقتها تفرد به علي بن حفص من بين أصحاب شعبة وأنهم كلهم رووه بلفظ على وقتها من دون ذكر أول فقد أجيب عنه من حيث الرواية بأن تفرده لا يضر فإنه شيخ صدوق من رجال مسلم ثم قد صحح هذه الرواية الترمذي والحاكم وأخرجها ابن خزيمة في صحيحه ومن حيث الدراية أن رواية لفظ على وقتها تفيد معنى لفظ أول لأن كلمة على تقتضي الاستعلاء على جميع الوقت ورواية لوقتها باللام تفيد ذلك لأن المراد استقبال وقتها ومعلوم ضرورة شرعية أنها لا تصح قبل دخوله فتعين أن المراد لاستقبالكم الأكثر من وقتها وذلك بالإتيان بها في أول وقتها ولقوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} - ولأنه صلى الله عليه وسلم كان دأبه دائما الإتيان بالصلاة في أول وقتها ولا يفعل إلا الأفضل إلا لما ذكرناه كالإسفار ونحوه كالعشاء ولحديث علي عند أبي داود ثلاث لا تؤخر ثم(1/116)
ذكر منها الصلاة إذا حضر وقتها والمراد أن ذلك الأفضل وإلا فإن تأخيرها بعد حضور وقتها جائز ويدل له أيضا قوله
22- (وعن أبي محذورة بفتح الميم وسكون الحاء المهملة وضم الذال المعجمة بعد الواو راء واختلفوا في اسمه على أقوال أصحها أنه سمرة بن معين بكسر الميم وسكون العين المهملة وفتح المثناة التحتية وقال ابن عبد البر إنه اتفق العالمون بطريق أنساب قريش أن اسم أبي محذورة أوس وأبو محذورة مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم أسلم عام الفتح وأقام بمكة إلى أن مات يؤذن بها للصلاة مات سنة تسع وخمسين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أول الوقت" أي للصلاة المفروضة "رضوان الله" أي يحصل بأدائها فيه رضوان الله تعالى عن فاعلها "وأوسطه رحمة الله" أي يحصل لفاعل الصلاة فيه رحمته وهو معلوم أن رتبة الرضوان أبلغ "وآخره عفو الله" ولا عفو إلا عن ذنب أخرجه الدارقطني بسند ضعيف لأنه من رواية يعقوب بن الوليد المدني قال أحمد كان من الكذابين الكبار وكذبه ابن معين وتركه النسائي ونسبه ابن حبان إلى الوضع كذا في حواشي القاضي وفي الشرح أن في إسناده إبراهيم بن زكريا البجلي وهو متهم ولذا قال المصنف جدا مؤكدا لضعفه وقدمنا إعراب جدا ولا يقال إنه يشهد له قوله
23- (وللترمذي من حديث ابن عمر نحوه في ذكر أول الوقت وآخره دون الأوسط وهو ضعيف أيضا لأن فيه يعقوب بن الوليد أيضا وفيه ما سمعت وإنما قلنا لا يصح شاهدا لأن الشاهد والمشهود له فيهما من قال الأئمة فيه إنه كذاب فكيف يكون شاهدا ومشهودا له وفي الباب عن جابر وابن عباس وأنس وكلها ضعيفة وفيه عن علي عليه السلام من رواية موسى بن محمد عن علي بن الحسين عن أبيه عن جده عن علي قال البيهقي إسناده فيما أظن أصح ما روي في هذا الباب مع أنه معلول فإن المحفوظ روايته عن جعفر بن محمد عن أبيه موقوفا قال الحاكم لا أعرف فيه حديثا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة وإنما الرواية فيه عن جعفر بن محمد عن أبيه موقوفا قلت إذا صح هذا الموقوف فله حكم الرفع لأنه لا يقال في الفضائل بالرأي وفيه احتمال ولكن هذه الأحاديث وإن لم تصح فالمحافظة منه صلى الله عليه وسلم على الصلاة أول الوقت دالة على أفضليته وغير ذلك من الشواهد التي قدمناها
24- (وعن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا صلاة بعد الفجر إلا سجدتين" أي ركعتي الفجر كما يفسره ما بعده أخرجه الخمسة إلا النسائي وأخرجه أحمد والدارقطني قال الترمذي غريب لا يعرف إلا من حديث قدامة بن موسى والحديث دليل على تحريم النافلة بعد طلوع الفجر قبل صلاته إلا سنة الفجر(1/117)
وذلك أنه وإن كان لفظه نفيا فهو في معنى النهي وأصل النهي التحريم قال الترمذي أجمع أهل العلم على كراهة أن يصلي الرجل بعد الفجر إلا ركعتي الفجر قال المصنف دعوى الترمذي الإجماع عجيب فإن الخلاف فيه مشهور حكاه ابن المنذر وغيره وقال الحسن البصري لا بأس بها وكان مالك يرى أن يفعل من فاتته الصلاة في الليل والمراد ببعد الفجر بعد طلوعه كما دل له قوله وفي رواية عبد الرزاق أي عن ابن عمر "لا صلاة بعد طلوع الفجر إلا ركعتي الفجر" وكما يدل له قوله
25- (ومثله للدارقطني عن عمرو بن العاص فإنهما فسرا المراد ببعد الفجر وهذا وقت سادس من الأوقات التي نهى عن الصلاة فيها وقد عرفت الخمسة الأوقات مما مضى إلا أنه قد عارض النهي عن الصلاة بعد العصر الذي هو أحد الستة الأوقات
26- (وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر ثم دخل بيتي فصلى ركعتين فسألته في سؤالها ما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يصلهما قبل ذلك عندها أو أنها قد كانت علمت بالنهي فاستنكرت مخالفة الفعل له " فقال شغلت عن ركعتين بعد الظهر" قد بين الشاغل له صلى الله عليه وسلم أنه أتاه ناس من عبد القيس وفي رواية عن ابن عباس عند الترمذي أنه صلى الله عليه وسلم أتاه مال فشغله عن الركعتين بعد الظهر "فصليتهما الآن" أي قضاء عن ذلك وقد فهمت أم سلمة أنهما قضاء فلذا قالت "قلت أفنقضيهما إذا فاتتا" أي كما قضيتهما في هذا الوقت قال: "لا" أي لا تقضوهما في هذا الوقت بقرينة السياق وإن كان النفي غير مقيد أخرجه أحمد إلا أنه سكت عليه المصنف هنا وقال بعد سياقه له في فتح الباري إنها رواية ضعيفة لا تقوم بها حجة ولم يبين هنالك وجه ضعفها وما كان يحسن منه أن يسكت هنا عما قيل فيه والحديث دليل على ما سلف من أن القضاء في ذلك الوقت كان من خصائصه صلى الله عليه وسلم وقد دل على هذا حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد العصر وينهى عنها ويواصل وينهى عن الوصال أخرجه أبو داود ولكن قال البيهقي الذي اختص به صلى الله عليه وسلم المداومة على الركعتين بعد العصر لا أصل القضاء اهـ ولا يخفى أن حديث أم سلمة المذكور يرد هذا القول ويدل على أن القضاء خاص به أيضا وهذا الذي أخرجه أبو داود هو الذي أشار إليه المصنف بقوله
27- (و لأبي داود عن عائشة رضي الله عنها بمعناه) تقدم الكلام فيه(1/118)
باب الأذان
الأذان لغة الإعلام قال الله تعالى {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِه}
وشرعا الإعلام بوقت الصلاة بألفاظ مخصوصة وكان فرضه بالمدينة في السنة الأولى من الهجرة ووردت أحاديث تدل على أنه شرع بمكة والصحيح الأول
1- ( عن عبد الله بن زيد هو أبو محمد عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري(1/118)
الخزرجي شهد عبد الله العقبة وبدرا والمشاهد بعدها مات بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين قال طاف بي وأنا نائم رجل وللحديث سبب وهو ما في الروايات أنه لما كثر الناس ذكروا أن يعلموا وقت الصلاة بشيء يجمعهم لها فقالوا لو اتخذنا ناقوسا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك للنصارى فقالوا لو اتخذنا بوقا قال ذلك لليهود فقالوا لو رفعنا نارا قال ذلك للمجوس فافترقوا فرأى عبد الله بن زيد فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال طاف بي الحديث وفي سنن أبي داود فطاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوسا في يده فقلت يا عبد الله أتبيع الناقوس قال وما تصنع به قلت ندعو به إلى الصلاة قال أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك قلت بلى فقال تقول الله أكبر فذكر الأذان أي إلى آخره بتربيع التكبير تكريره أربعا ويأتي ما عاضده وما عارضه بغير ترجيع أي في الشهادتين قال في شرح مسلم هو العود إلى الشهادتين برفع الصوت بعد قولهما مرتين بخفض الصوت ويأتي قريبا والإقامة فرادى لا تكرير في شيء من ألفاظها إلا قد قامت الصلاة فإنها تكرر قال فلما أصبحت أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إنها لرؤيا حق الحديث أخرجه أحمد وأبو داود وصححه الترمذي وابن خزيمة الحديث دليل على مشروعية الأذان للصلاة دعاء للغائبين ليحضروا إليها ولذا اهتم صلى الله عليه وسلم في النظر في أمر يجمعهم للصلاة وهو إعلام بدخول وقتها أيضا واختلف العلماء في وجوبه ولا شك أنه من شعار أهل الإسلام ومن محاسن ما شرعه الله وأما وجوبه فالأدلة فيه محتملة وتأتي وكمية ألفاظه قد اختلف فيها وهذا الحديث دل على أنه يكبر في أوله أربع مرات وقد اختلفت الرواية فوردت بالتثنية في حديث أبي محذورة في بعض رواياته وفي بعضها بالتربيع أيضا فذهب الأكثر إن العمل بالتربيع لشهرة روايته ولأنها زيادة عدل فهي مقبولة ودل الحديث على عدم مشروعية الترجيع وقد اختلف في ذلك فمن قال إنه غير مشروع عمل بهذه الرواية ومن قال إنه مشروع عمل بحديث أبي محذورة وسيأتي ودل على أن الإقامة تفرد ألفاظها إلا لفظ الإقامة فإنه يكررها وظاهر الحديث أنه يفرد التكبير في أولها ولكن الجمهور على أن التكبير في أولها يكرر مرتين قالوا ولكنه بالنظر إلى تكريره في الأذان أربعا كأنه غير مكرر فيها وكذلك يكرر في آخرها ويكرر لفظ الإقامة وتفرد بقية الألفاظ وقد أخرج البخاري حديث أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة إلا الإقامة وسيأتي وقد استدل به من قال الأذان في كل كلماته مثنى مثنى والإقامة ألفاظها مفردة إلا قد قامت الصلاة وقد أجاب أهل التربيع بأن هذه الرواية صحيحة دالة على ما ذكر لكن رواية التربيع قد صحت بلا مرية وهي زيادة من عدل مقبولة فالقائل بتربيع التكبير أول الأذان قد عمل بالحديثين ويأتي أن رواية يشفع الأذان لا تدل على عدم التربيع للتكبير هذا ولا يخفى أن لفظ كلمة التوحيد في آخر الأذان والإقامة مفردة بالاتفاق فهو خارج عن الحكم بالأمر بشفع الأذان قال العلماء والحكمة في تكرير الأذان وإفراد ألفاظ الإقامة هي أن الأذان لإعلام الغائبين فاحتيج إلى التكرير ولذا يشرع فيه رفع الصوت(1/119)
وأن يكون على محل مرتفع بخلاف الإقامة فإنها لإعلام الحاضرين فلا حاجة إلى تكرير ألفاظها ولذا شرع فيها خفض الصوت والحدر وإنما كررت جملة قد قامت الصلاة لأنها مقصود الإقامة
2- ( وزاد أحمد في آخره ظاهره في حديث عبد الله بن زيد قصة قول بلال في أذان الفجر الصلاة خير من النوم روى الترمذي وابن ماجه وأحمد من حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى عن بلال قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تثوبن في شيء من الصلاة إلا في صلاة الفجر" إلا أن فيه ضعيفا وفيه انقطاع أيضا وكان على المصنف أن يذكر ذلك على عادته ويقال التثويب مرتين كما في سنن أبي داود وليس الصلاة خير من النوم في حديث عبد الله بن زيد كما ربما توهمه عبارة المصنف حيث قال في آخره وإنما يريد أن أحمد ساق رواية عبد الله بن زيد ثم وصل بها رواية بلال
3- (ولابن خزيمة عن أنس رضي الله عنه قال من السنة أي طريقة النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا قال المؤذن في الفجر حي على الفلاح الفلاح هو الفوز والبقاء" أي هلموا إلى سبب ذلك قال: "الصلاة خير من النوم" وصححه ابن السكن وفي رواية النسائي "الصلاة خير من النوم الصلاة خير من النوم في الأذان الأول من الصبح" وفي هذا تقييد لما أطلقته الروايات قال ابن رسلان وصحح هذه الرواية ابن خزيمة قال فشرعية التثويب إنما هي في الأذان الأول للفجر لأنه لإيقاظ النائم وأما الأذان الثاني فإنه إعلام بدخول الوقت ودعاء إلى الصلاة ولفظ النسائي في سننه الكبرى من جهة سفيان عن أبي جعفر عن أبي سليمان عن أبي محذورة قال كنت أؤذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم فكنت أقول في أذان الفجر الأول حي على الصلاة حي على الفلاح الصلاة خير من النوم الصلاة خير من النوم قال ابن حزم وإسناده صحيح اهـ من تخريج الزركشي لأحاديث الرافعي ومثل ذلك في سنن البيهقي الكبرى من حديث أبي محذورة أنه كان يثوب في الأذان الأول من الصبح بأمره صلى الله عليه وسلم قلت وعلى هذا ليس الصلاة خير من النوم من ألفاظ الأذان المشروع للدعاء إلى الصلاة والإخبار بدخول وقتها بل هو من الألفاظ التي شرعت لإيقاظ النائم فهو كألفاظ التسبيح الأخير الذي اعتاده الناس في هذه الأعصار المتأخرة عوضا عن الأذان الأول وإذا عرفت هذا هان عليك ما اعتاده الفقهاء من الجدال في التثويب هل هو من ألفاظ الأذان أو لا وهل هو بدعة أو لا ثم المراد من معناه اليقظة للصلاة خير من النوم أي من الراحة التي يعتاضونها في الآجل خير من النوم ولنا كلام في هذه الكلمة أودعناه رسالة لطيفة
4- ( وعن أبي محذورة تقدم ضبطه وبيان حاله أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه الأذان أي ألقاه صلى الله عليه وسلم بنفسه في قصة حاصلها أنه خرج أبو محذورة بعد الفتح إلى حنين هو وتسعة من أهل مكة فلما سمعوا الأذان أذنوا استهزاء بالمؤمنين فقال صلى الله عليه وسلم: "قد سمعت في هؤلاء تأذين إنسان حسن الصوت" فأرسل إلينا فأذنا رجلا رجلا وكنت آخرهم فقال حين أذنت تعال فأجلسني بين يديه فمسح على ناصيتي وبرك(1/120)
علي ثلاث مرات ثم قال: "اذهب فأذن ثم المسجد الحرام" فقلت يا رسول الله فعلمني الحديث فذكر فيه الترجيع أي في الشهادتين ولفظه عند أبي داود ثم تقول أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله تخفض بها صوتك قيل المراد أن يسمع من بقربه قيل والحكمة في ذلك أن يأتي بهما أولا بتدبر وإخلاص ولا يتأتى كمال ذلك إلا مع خفض الصوت قال ثم ترفع صوتك بالشهادة أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله فهذا هو الترجيع الذي ذهب جمهور العلماء إلى أنه مشروع لهذا الحديث الصحيح وهو زيادة على حديث عبد الله بن زيد وزيادة العدل مقبولة وإلى عدم القول به ذهب الهادي وأبو حنيفة وآخرون عملا منهم بحديث عبد الله بن زيد الذي تقدم أخرجه مسلم ولكن ذكر التكبير في أوله مرتين فقط لا كما ذكره عبد الله بن زيد آنفا وبهذه الرواية عملت الهادوية ومالك وغيرهم ورواه أي حديث أبي محذورة هذا الخمسة هم أهل السنن الأربعة وأحمد فذكروه أي التكبير في أول الأذان مربعا كروايات حديث عبد الله بن زيد قال ابن عبد البر في الاستذكار التكبير أربع مرات في أول الأذان محفوظ من رواية الثقات من حديث أبي محذورة ومن حديث عبد الله بن زيد وهي زيادة يجب قبولها واعلم أن ابن تيمية في المنتقى نسب التربيع في حديث أبي محذورة إلى رواية مسلم والمصنف لم ينسبه إليه بل نسبه إلى رواية الخمسة فراجعت صحيح مسلم وشرحه فقال النووي إن أكثر أصوله فيها التكبير مرتين في أوله وقال القاضي عياض إن في بعض طرق الفارسي لصحيح مسلم ذكر التكبير أربع مرات في أوله وبه تعرف أن المصنف اعتبر أكثر الروايات وابن تيمية اعتمد بعض طرقه فلا يتوهم المنافاة بين كلام المصنف وابن تيمية
5- ( وعن أنس رضي الله عنه قال "أمر" بضم الهمزة مبني لما لم يسم بني كذلك للعلم بالفاعل فإنه لا يأمر في الأصول الشرعية إلا النبي صلى الله عليه وسلم ويدل له الحديث الآتي قريبا "بلال" نائب الفاعل "أن يشفع" بفتح أوله "الأذان" يأتي بكلماته شفعا أي مثنى مثنى أو أربعا أربعا فالكل يصدق عليه أنه شفع وهذا إجمال بينه حديث عبد الله بن زيد وأبي محذورة فشفع التكبير أن يأتي به أربعا أربعا وشفع غيره أن يأتي به مرتين مرتين وهذا بالنظر إلى الأكثر وإلا فإن كلمة التهليل في آخره مرة واحدة اتفاقا "ويوتر الإقامة" يفرد ألفاظها إلا الإقامة بين المراد بها بقوله يعني قد قامت الصلاة فإنه يشرع أن يأتي بها مرتين ولا يوترها متفق عليه ولم يذكر مسلم الاستثناء أعني قوله إلا الإقامة فاختلف العلماء في هذا على ثلاثة أقوال الأول للهادوية فقالوا تشرع تثنية ألفاظ الإقامة كلها لحديث إن بلالا كان يثني الأذان والإقامة رواه عبد الرزاق والدارقطني والطحاوي إلا أنه قد ادعى فيه الحاكم الانقطاع وله طرق فيها ضعف وبالجملة لا تعارض رواية التربيع في التكبير رواية الإفراد في الإقامة لصحتها فلا يقال إن التثنية في ألفاظ الإقامة زيادة عدل فيجب قبولها لأنك قد عرفت أنها لم تصح والثاني(1/121)
لمالك فقال تفرد ألفاظ الإقامة حتى قد قامت الصلاة والثالث للجمهور أنها تفرد ألفاظها إلا قد قامت الصلاة فتكرر عملا بالأحاديث الثابتة بذلك
6- (وللنسائي أي عن أنس "أمر" بالبناء للفاعل وهو "النبي صلى الله عليه وسلم بلالا" وإنما أتى به المصنف ليفيد أن الحديث الأول متفق عليه مرفوع وإن ورد بصيغة البناء للمجهول قال الخطابي إسناد تثنية الأذان وإفراد الإقامة أصحها أي الروايات وعليه أكثر علماء الأمصار وجرى العمل به في الحرمين والحجاز والشام واليمن وديار مصر ونواحي الغرب إلى أقصى حجر من بلاد الإسلام ثم عد من قاله من الأئمة قلت وكأنه أراد باليمن من كان فيها شافعي المذهب وإلا فقد عرفت مذهب الهادوية وهم سكان غالب اليمن وما أحسن ما قاله بعض المتأخرين وقد ذكر الخلاف في ألفاظ الأذان هل هو مثنى أو أربع أي التكبير في أوله وهل فيه ترجيع الشهادتين أو لا والخلاف في الإقامة ما لفظه هذه المسألة من غرائب الواقعات يقل نظيرها في الشريعة بل وفي العادات وذلك أن هذه الألفاظ في الأذان والإقامة قليلة محصورة معينة يصاح بها في كل يوم وليلة خمس مرات في أعلى مكان وقد أمر كل سامع أن يقول كما يقول المؤذن وهم خير القرون في غرة الإسلام شديدو المحافظة على الفضائل مع هذا كله لم يذكر خوض الصحابة ولا التابعين واختلافهم فيها ثم جاء الخلاف الشديد في المتأخرين ثم كل من المتفرقين أدلى بشيء صالح في الجملة وإن تفاوت وليس بين الروايات تناف لعدم المانع من أن يكون كل سنة كما نقوله وقد قيل في أمثاله كألفاظ التشهد وصورة صلاة الخوف
7- ( وعن أبي جحيفة بضم الجيم وفتح الحاء المهملة فمثناة تحتية ساكنة ففاء هو وهب بن عبد الله وقيل ابن مسلم السوائي بضم السين المهملة وتخفيف الواو وهمزة بعد الألف العامري نزل الكوفة وكان من صغار الصحابة توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبلغ الحلم ولكنه سمع منه جعله علي على بيت المال وشهد معه المشاهد كلها توفي بالكوفة سنة أربع وسبعين قال رأيت بلالا يؤذن وأتتبع فاه أي أنظر إلى فيه متتبعا ههنا أي يمنة وههنا أي يسرة وأصبعاه أي إبهاماه ولم يرد تعيين الأصبعين وقال النووي هما المسبحتان في أذنيه رواه أحمد والترمذي وصححه ولابن ماجه أي من حديث أبي جحيفة أيضا وجعل أصبعيه في أذنيه ولأبي داود من حديثه أيضا لوى عنقه لما بلغ حي على الصلاة يمينا وشمالا هو بيان لقوله ههنا وههنا ولم يستدر بجملة بدنه وأصله في الصحيحين الحديث دل على آداب للمؤذن وهي الالتفات إلى جهة اليمين وإلى جهة الشمال وقد بين محل ذلك لفظ أبي داود حيث قال لوى عنقه لما بلغ حي على الصلاة وأصرح منه حديث مسلم بلفظ فجعلت أتتبع فاه ههنا وههنا يمينا وشمالا يقول حي على الصلاة حي على الفلاح ففيه بيان أن الالتفات عند الحيعلتين وبوب عليه ابن خزيمة بقوله انحراف المؤذن عند قوله حي على الصلاة حي على الفلاح بفمه(1/122)
لا ببدنه كله قال وإنما يمكن الانحراف بالفم بانحراف الوجه ثم ساق من طريق وكيع فجعل يقول في أذانه هكذا وحرف رأسه يمينا وشمالا وأما رواية إن بلالا استدار في أذانه فليست بصحيحة وكذلك رواية أنه صلى الله عليه وسلم أمره أن يجعل أصبعيه في أذنيه رواية ضعيفة وعن أحمد بن حنبل لا يدور إلا إذا كان على منارة قصدا لإسماع أهل الجهتين وذكر العلماء أن فائدة التفاته أمران أحدهما أنه أرفع لصوته وثانيهما أنه علامة للمؤذن ليعرف من يراه على بعد أو من كان به صمم أنه يؤذن وهذا في الأذان وأما الإقامة فقال الترمذي إنه استحسنه الأوزاعي
8- (وعن أبي محذورة "أن النبي صلى الله عليه وسلم أعجبه صوته فعلمه الأذان" رواه ابن خزيمة وصححه وقد قدمنا القصة واستحسانه صلى الله عليه وسلم لصوته وأمره له بالأذان بمكة وفيه دلالة على أنه يستحب أن يكون صوت المؤذن حسنا
9- (وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العيدين غير مرة ولا مرتين أي بل مرات كثيرة بغير أذان ولا إقامة أي حال كون الصلاة غير مصحوبة بأذان ولا إقامة رواه مسلم فيه دليل على أنه لا يشرع لصلاة العيدين أذان ولا إقامة وهو كالإجماع وقد روى خلاف هذا عن ابن الزبير ومعاوية وعمر بن عبد العزيز قياسا منهم للعيدين على الجمعة وهو قياس غير صحيح بل فعل ذلك بدعة إذ لم يؤثر عن الشارع ولا عن خلفائه الراشدين ويزيده تأكيدا
10- (ونحوه أي نحو حديث جابر بن سمرة في المتفق عليه أي الذي اتفق على إخراجه الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من الصحابة وأما القول بأنه يقال في العيد عوضا عن الأذان الصلاة جامعة فلم ترد به سنة في صلاة العيدين قال في الهدي النبوي وكان صلى الله عليه وسلم إذا انتهى إلى المصلى أخذ في الصلاة أي صلاة العيد من غير أذان ولا إقامة ولا قول الصلاة جامعة والسنة أن لا يفعل شيء من ذلك وبه يعرف أن قوله في الشرح ويستحب في الدعاء إلى الصلاة في العيدين وغيرهما مما لا يشرع فيه أذان كالجنازة الصلاة جامعة غير صحيح إذ لا دليل على الاستحباب ولو كان مستحبا لما تركه صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون من بعده نعم ثبت ذلك في صلاة الكسوف ولا يصح فيه القياس لأن ما وجد سببه في عصره ولم يفعله ففعله بعد عصره بدعة فلا يصح إثباته بقياس ولا غيره.
11- ( وعن أبي قتادة في الحديث الطويل في نومهم عن الصلاة أي عن صلاة الفجر وكان عند قفولهم من غزوة خيبر قال ابن عبد البر هو الصحيح "ثم أذن بلال" أي بأمره صلى الله عليه وسلم كما في سنن أبي داود "ثم أمر بلالا أن ينادي بالصلاة فنادى بها" فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان يصنع كل يوم" رواه مسلم فيه دلالة على شرعية التأذين للصلاة الفائتة بنوم ويلحق بها المنسية لأنه صلى الله عليه وسلم(1/123)
جمعهما في الحكم حيث قال من نام عن صلاته أو نسيها الحديث وقد روى مسلم من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم أمر بلالا بالإقامة ولم يذكر الأذان وبأنه صلى الله عليه وسلم لما فاتته الصلاة يوم الخندق أمر لها بالإقامة ولم يذكر الأذان كما في حديث أبي سعيد عند الشافعي وهذه لا تعارض رواية أبي قتادة لأنه مثبت وخبر أبي هريرة وأبي سعيد ليس فيهما ذكر الأذان بنفي ولا إثبات فلا معارضة إذ عدم الذكر لا يعارض
12- (وله أي لمسلم عن جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى المزدلفة" أي منصرفا عن عرفات "فصلى بها المغرب والعشاء" جمع بينهما "بأذان واحد وإقامتين" وقد روى البخاري من حديث ابن مسعود أنه صلى أي بالمزدلفة المغرب بأذان وإقامة والعشاء بأذان وإقامة وقال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله" ويعارضهما معا قوله
13- (وله أي لمسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين المغرب والعشاء بإقامة واحدة وظاهره أنه لا أذان فيهما وهو صريح في مسلم أن ذلك بالمزدلفة فإن فيه قال سعيد بن جبير أفضنا مع ابن عمر حتى أتينا جمعا أي المزدلفة فإنه اسم لها وهو بفتح الجيم وسكون الميم فصلى بها المغرب والعشاء بإقامة واحدة ثم انصرف وقال هكذا صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا المكان وقد دل على أنه لا أذان بهما وأنه لا إقامة إلا واحدة للصلاتين وقد دل قوله وزاد أبو داود أي من حديث ابن عمر لكل صلاة أي أنه أقام لكل صلاة لأنه زاد بعد قوله بإقامة واحدة لكل صلاة فدل على أن لكل صلاة إقامة فرواية مسلم تقيد برواية أبي داود هذه وفي رواية له أي لأبي داود عن ابن عمر ولم يناد في واحدة منهما وهو صريح في نفي الأذان وقد تعارضت هذه الروايات فجابر أثبت أذانا واحدا وإقامتين وابن عمر نفى الأذان وأثبت الإقامتين وحديث ابن مسعود الذي ذكرناه أثبت الأذانين والإقامتين فإن قلنا المثبت مقدم على النافي عملنا بخبر ابن مسعود والشارح رحمه الله قال يقدم خبر جابر أي لأنه مثبت للأذان على خبر ابن عمر لأنه ناف له ولكن نقول بل نقدم خبر ابن مسعود لأنه أكثر إثباتا
14- (وعن ابن عمر وعائشة رضي الله عنهما قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن بلالا يؤذن بليل" قد بينت رواية البخاري أن المراد به قبيل الفجر فإن فيها ولم يكن بينهما إلا أن يرقى ذا وينزل ذا وعند الطحاوي بلفظ إلا أن يصعد هذا وينزل هذا "فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم" واسمه عمرو "وكان أي ابن أم مكتوم رجلا أعمى لا ينادي حتى يقال له أصبحت أصبحت" أي دخلت متفق عليه وفي آخره إدراج أي كلام ليس من كلامه صلى الله عليه وسلم يريد به قوله وكان رجلا أعمى إلى آخره ولفظ البخاري هكذا قال وكان رجلا أعمى بزيادة لفظ قال وبين الشارح فاعل قال أنه ابن عمر وقيل الزهري فهو كلام مدرج من كلام أحد الرجلين وفي الحديث شرعية الأذان قبل الفجر لا لما شرع له الأذان فإن الأذان شرع كما سلف(1/124)
للإعلام بدخول الوقت ولدعاء السامعين لحضور الصلاة وهذا الأذان الذي قبل الفجر قد أخبر صلى الله عليه وسلم بوجه شرعيته بقوله "ليوقظ نائمكم ويرجع قائمكم" رواه الجماعة إلا الترمذي والقائم هو الذي يصلي صلاة الليل ورجوعه عوده إلى نومه أو قعوده عن صلاته إذا سمع الأذان فليس للإعلام بدخول وقت ولا لحضور الصلاة إنما هو كالتسبيحة الأخيرة التي تفعل في هذه الأعصار غايته أنه كان بألفاظ الأذان وهو مثل النداء الذي أحدثه عثمان في يوم الجمعة لصلاتها فإنه كان يأمر بالنداء لها في محل يقال له الزوراء ليجتمع الناس للصلاة وكان ينادي لها بألفاظ الأذان المشروع ثم جعله الناس من بعده تسبيحا بالآية والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الخلاف في المسألة والاستدلال للمانع والمجيز لا يلتفت إليه من همه العمل بما ثبت وفي قوله: "كلوا واشربوا" أي أيها المريدون للصيام حتى يؤذن ابن أم مكتوم ما يدل على إباحة ذلك إلى أذانه وفي قوله: إنه كان لا يؤذن أي ابن أم مكتوم حتى يقال له أصبحت أصبحت ما يدل على جواز الأكل والشرب بعد دخول الفجر وقال به جماعة ومن منع من ذلك قال معنى قوله أصبحت أصبحت وأنهم يقولون له ذلك عند آخر جزء من أجزاء الليل وأذانه يقع في أول جزء من طلوع الفجر وفي الحديث دليل على جواز اتخاذ مؤذنين في مسجد واحد ويؤذن واحد بعد واحد وأما أذان اثنين معا فمنعه قوم وقالوا أول من أحدثه بنو أمية وقيل لا يكره إلا أن يحصل بذلك تشويش قلت في هذا المأخذ نظر لأن بلالا لم يكن يؤذن للفريضة كما عرفت بل المؤذن لها واحد هو ابن أم مكتوم واستدل بالحديث على جواز تقليد المؤذن الأعمى والبصير وعلى جواز تقليد الواحد وعلى جواز الأكل والشرب مع الشك في طلوع الفجر إذ الأصل بقاء الليل وعلى جواز الاعتماد على الصوت في الرواية إذا عرفه وإن لم يشاهد الراوي وعلى جواز ذكر الرجل بما فيه من العاهة إذا كان القصد التعريف به ونحوه وجواز نسبته إلى أمه إذا اشتهر بذلك
15- (وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن بلالا أذن قبل الفجر فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع فينادي ألا إن العبد نام رواه أبو داود وضعفه فإنه قال عقب إخراجه هذا حديث لم يروه عن أيوب إلا حماد بن سلمة وقال المنذري قال الترمذي هذا محفوظ حديث غير محفوظ وقال علي بن المديني حديث حماد بن سلمة هو غير محفوظ وأخطأ فيه حماد بن سلمة وقد استدل به من قال لا يشرع الأذان قبل الفجر ولا يخفى أنه لا يقاوم الحديث الذي اتفق عليه الشيخان ولو ثبت أنه صحيح لتؤول على أنه قبل شرعية الأذان الأول فإنه كان بلال هو المؤذن الأول الذي أمر صلى الله عليه وسلم عبد الله بن زيد أن يلقي عليه ألفاظ الأذان ثم اتخذ ابن أم مكتوم بعد ذلك مؤذنا مع بلال فكان بلال يؤذن الأذان الأول لما ذكره صلى الله عليه وسلم من فائدة أذانه ثم إذا طلع الفجر أذن ابن أم مكتوم
16- (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(1/125)
"إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن" متفق عليه فيه شرعية القول لمن سمع المؤذن أن يقول كما يقول على أي حال كان من طهارة وغيرها ولو جنبا أو حائضا إلا حال الجماع وحال التخلي لكراهة الذكر فيهما وأما إذا كان السامع في حال الصلاة ففيه أقوال الأقرب أنه يؤخر الإجابة إلى بعد خروجه منها والأمر يدل على الوجوب على السامع لا على من رآه فوق المنارة ولم يسمعه أو كان أصم وقد اختلف في وجوب الإجابة فقال به الحنفية وأهل الظاهر وآخرون وقال الجمهور لا يجب واستدلوا بأنه صلى الله عليه وسلم سمع مؤذنا فلما كبر قال على الفطرة فلما تشهد قال خرجت من النار أخرجه مسلم قالوا فلو كانت الإجابة واجبة لقال صلى الله عليه وسلم كما قال المؤذن فلما لم يقل دل على أن الأمر في حديث أبي سعيد للاستحباب وتعقب بأنه ليس في كلام الراوي ما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يقل كما قال فيجوز أنه صلى الله عليه وسلم قال مثل قوله ولم ينقله الراوي اكتفاء بالعادة ونقل الزائد وقوله مثل ما يقول يدل على أنه يتبع كل كلمة يسمعها فيقول مثلها وقد روت أم سلمة أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول كما يقول المؤذن حتى يسكت أخرجه النسائي فلو لم يجاوبه حتى فرغ من الأذان استحب له التدارك إن لم يطل الفصل وظاهر قوله النداء أنه يجيب كل مؤذن أذن بعد الأول وإجابة الأول أفضل قال في الشرح إلا في الفجر والجمعة فهما سواء لأنهما مشروعان قلت يريد الأذان قبل الفجر والأذان قبل حضور الجمعة ولا يخفى أن الذي قبل الفجر قد صحت مشروعيته وسماه النبي صلى الله عليه وسلم أذانا في قوله: "إن بلالا يؤذن بليل" فيدخل تحت حديث أبي سعيد وأما الأذان قبل الجمعة فهو محدث بعد وفاته صلى الله عليه وسلم ولا يسمى أذانا شرعيا وليس المراد من المماثلة أن يرفع صوته كالمؤذن لأن رفعه لصوته لقصد الإعلام بخلاف المجيب ولا يكفي إمراره الإجابة على خاطره فإنه ليس بقول وظاهر حديث أبي سعيد والحديث الآتي وهو
17- ( وللبخاري عن معاوية رضي الله عنه مثله أي مثل حديث أبي سعيد أن السامع يقول كقول المؤذن في جميع ألفاظه إلا في الحيعلتين فيقول ما أفاده قوله
18- ( ولمسلم عن عمر في فضل القول كما يقول المؤذن كلمة كلمة سوى الحيعلتين حي على الصلاة حي على الفلاح فإنه يخصص ما قبله فيقول أي السامع لا حول ولا قوة إلا بالله عند كل واحدة منهما وهذا المتن هو الذي رواه معاوية كما في البخاري وعمر كما في مسلم وإنما اختصر المصنف فقال وللبخاري عن معاوية أي القول كما يقول المؤذن إلى آخر ما ساقه في رواية مسلم عن عمر إذا عرفت هذا فيقولها أربع مرات ولفظه عند مسلم "إذا قال المؤذن الله أكبر الله أكبرفقال أحدكم الله أكبر الله أكبر" إلى أن قال "فإذا قال حي على الصلاة قال لا حول ولا قوة إلا بالله ثم قال حي على الفلاح قال لا حول ولا قوة إلا بالله" فيحتمل أنه يريد إذا قال حي على الصلاة حوقل وإذا قالها ثانيا حوقل ومثله حي على الفلاح فيكن أربعا ويحتمل أنها تكفي حوقلة واحدة عند الأولى من الحيعلتين وقد أخرج النسائي وابن خزيمة حديث معاوية وفيه يقول ذلك وقال المصنف(1/126)
في فضل القول لأن آخر الحديث أنه قال إذا قال السامع ذلك من قلبه دخل الجنة والمصنف لم يأت بلفظ الحديث بل بمعناه هذا والحول هو الحركة أي لا حركة ولا استطاعة إلا بمشيئة الله وقيل لا حول في دفع شر ولا قوة في تحصيل خير إلا بالله وقيل لا حول عن معصية الله إلا بعصمته ولا قوة على طاعته إلا بمعونته وحكى هذا عن ابن مسعود مرفوعا واعلم أن هذا الحديث مقيد لإطلاق حديث أبي سعيد الذي فيه فقولوا مثل ما يقول أي فيما عدا الحيعلة وقيل يجمع السامع بين الحيعلة والحوقلة عملا بالحديثين والأول أولى لأنه تخصيص للحديث العام أو تقييد لمطلقه ولأن المعنى مناسب لإجابة الحيعلة من السامع بالحوقلة فإنه لما دعي إلى ما فيه الفوز والفلاح والنجاة وإصابة الخير ناسب أن يقول هذا أمر عظيم لا أستطيع مع ضعفي القيام به إلا إذا وفقني الله بحوله وقوته ولأن ألفاظ الأذان ذكر الله فناسب أن يجيب بها إذ هو ذكر له تعالى وأما الحيعلة فإنما هي دعاء إلى الصلاة والذي يدعو إليها هو المؤذن وأما السامع فإنما عليه الامتثال والإقبال على ما دعي إليه وإجابته في ذكر الله لا فيما عداه والعمل بالحديثين كما ذكرنا هو الطريقة المعروفة في حمل المطلق على المقيد أو تقديم الخاص على العام فهي أولى بالاتباع وهل يجيب عند الترجيع أو لا يجيب وعند التثويب فيه خلاف وقيل يقول في جواب التثويب صدقت وبررت وهذا استحسان من قائله وإلا فليس فيه سنة تعتمد فائدة أخرج أبو داود عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن بلالا أخذ في الإقامة فلما أن قال قد قامت الصلاة قال النبي صلى الله عليه وسلم أقامها الله وأدامها وقال في سائر الإقامة بنحو حديث عمر في الأذان يريد بحديث عمر ما ذكره المصنف وسقناه في الشرح من متابعة المقيم في ألفاظ الإقامة كلها
19- ( وعن عثمان بن أبي العاص هو أبو عبد الله عثمان بن أبي العاص بن بشر الثقفي استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على الطائف فلم يزل عليها مدة حياته صلى الله عليه وسلم وخلافة أبي بكر وسنين من خلافة عمر ثم عزله وولاه عمان والبحرين وكان من الوافدين عليه صلى الله عليه وسلم في وفد ثقيف وكان أصغرهم سنا له سبع وعشرون سنة ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم عزمت ثقيف على الردة فقال لهم يا ثقيف كنتم آخر الناس إسلاماً فلا تكونوا أولهم ردة فامتنعوا من الردة مات في بالبصرة سنة إحدى وخمسين( أنه قال: يا رسول الله اجعلني إمام قومي فقال: "أنت إمامهم واقتد بأضعفهم" أي اجعل أضعفهم بمرض أو زمانة أو نحوهما قدوة لك تصلي بصلاته تخفيفاً "واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً" أخرجه الخمسة وحسنه الترمذي وصححه الحاكم) الحديث يدل على جواز طلب الإمامة في الخير وقد ورد في أدعيت عباد الرحمن الذين وصفهم الله بتلك الأوصاف أنهم يقولون {وََاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} وليس من طلب الرياسة المكروهة فإن ذلك فيما يتعلق برياسة الدنيا التي لا تعان من طلبها ولا يستحق أن يعطاها فما يأتي بيانه وأنه يجب على إمام(1/127)
الصلاة أن يلاحظ حال المصليين خلفه فيجعل أضعفهم كأنه المقتدي به فيخفف لأجله ويأتي في أبواب الإمامة في الصلاة تخفيفه وأنه يتخذ المتبوع مؤذنا ليجمع الناس للصلاة وإن من صفة المؤذن المأمور باتخاذه أن لا يأخذ على أذانه أجرا أي أجرة وهو دليل على أن من أخذ على أذانه أجرا ليس مأمورا باتخاذه وهل يجوز له أخذ الأجرة فذهب الشافعية إلى جواز أخذه الأجرة مع الكراهة وذهبت الهادوية والحنفية إلى أنها تحرم عليه الأجرة لهذا الحديث قلت ولا يخفى أنه لا يدل على التحريم وقيل يجوز أخذها على التأذين في محل مخصوص إذ ليست على الأذان حينئذ بل على ملازمة المكان كأجرة الرصد
20- ( وعن مالك بن الحويرث بضم الحاء المهملة وفتح الواو وسكون المثناة التحتية وكسر الراء وثاء مثلثة وهو ابن سليمان مالك بن الحويرث الليثي وفد على النبي صلى الله عليه وسلم وأقام عنده عشرين ليلة وسكن البصرة ومات سنة أربع وتسعين بها قال قال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم" الحديث أخرجه السبعة هو مختصر من حديث طويل أخرجه البخاري بألفاظ أحدها قال مالك أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من قومي فأقمنا عنده عشرين ليلة وكان رحيما رفيقا فلما رأى شوقنا إلى أهلينا قال: "ارجعوا فكونوا فيهم وعلموهم وصلوا فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم" زاد في رواية "وصلوا كما رأيتموني أصلي" فساق المصنف قطعة منه هي موضع ما يريده من الدلالة على الحث على الأذان ودليل إيجابه الأمر به وفيه أنه لا يشترط في المؤذن غير الإيمان لقوله أحدكم
21- ( وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبلال إذا أذنت فترسل أي رتل ألفاظه ولا تعجل ولا تسرع في سردها " وإذا أقمت فاحدر" بالحاء والدال المهملتين والدال مضمومة فراء والحدر الإسراع "واجعل بين أذانك وإقامتك مقدار ما يفرغ الآكل من أكله" أي تمهل وقتا يقدر فيه أفطر الآكل من أكله الحديث بالنصب على أنه مفعول فعل محذوف أي اقرأ الحديث أو أتم أو نحوه ويجوز رفعه على خبرية مبتدأ محذوف وإنما يأتون بهذه العبارة إذا لم يستوفوا لفظ الحديث ومثله قولهم الآية والبيت وهذا الحديث لم يستوفه المصنف وتمامه والشارب من شربه والمعتصر إذا دخل لقضاء الحاجة ولا تقوموا حتى تروني رواه الترمذي وضعفه قال لا نعرفه إلا من حديث عبد المنعم وإسناده مجهول وأخرجه الحاكم أيضا وله شاهد من حديث أبي هريرة ومن حديث سليمان أخرجه أبو الشيخ ومن حديث أبي بن كعب أخرجه عبد الله ابن أحمد وكلها واهية إلا أنه يقويها المعنى الذي شرع له الأذان فإنه نداء لغير الحاضرين ليحضروا للصلاة فلا بد من تقدير وقت يتسع للذاهب للصلاة وحضورها وإلا لضاعت فائدة النداء وقد ترجم البخاري باب كم بين الأذان والإقامة ولكن لم يثبت التقدير قال ابن بطال لا حد لذلك غير تمكن دخول الوقت واجتماع المصلين وفيه دليل على شرعية(1/128)
الترسل في الأذان لأن المراد من الإعلام للبعيد وهو مع الترسل أكثر إبلاغا وعلى شرعة الحدر والإسراع في الإقامة لأن المراد منها إعلام الحاضرين فكان الإسراع بها أنسب ليفرغ منها بسرعة فيأتي بالمقصود وهو الصلاة
22- (وله أي الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤذن إلا متوضىء" وضعفه أيضا أي كما ضعف الأول فإنه ضعف هذا بالانقطاع إذ هو عن الزهري عن أبي هريرة قال الترمذي والزهري لم يسمع من أبي هريرة والراوي عن الزهري ضعيف ورواية الترمذي من رواية يونس عن الزهري عنه موقوفا إلا أنه بلفظ لا ينادي وهذا أصح ورواه أبو الشيخ في كتاب الأذان من حديث ابن عباس بلفظ إن الأذان متصل بالصلاة فلا يؤذن أحدكم إلا وهو طاهر وهو دليل على اشتراط الطهارة للأذان من الحدث الأصغر ومن الحدث الأكبر بالأولى وقالت الهادوية يشترط فيه الطهارة من الحدث الأكبر فلا يصح أذان الجنب ويصح من غير المتوضيء عملا بهذا الحديث كما قاله في الشرح قلت ولا يخفى أن الحديث دال على شرطية كون المؤذن متوضئا فلا وجه لما قالوه من التفرقة بين الحديثين وأما استدلالهم لصحته من المحدث حدثا أصغر بالقياس على جواز قراءة القرن فقياس في مقابلة النص لا يعمل به عندهم في الأصول وقد ذهب أحمد وآخرون إلا أنه لا يصح أذان المحدث حدثا أصغر عملا بهذا الحديث وإن كان فيه ما عرفت والترمذي صحح وقفه على أبي هريرة وأما الإقامة فالأكثر على شرطية الوضوء لها قالوا لأنه لم يرد أنها وقعت على خلاف ذلك في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يخفى ما فيه وقال قوم تجوز على غير وضوء وإن كان مكروها وقال آخرون تجوز بلا كراهة.
23- ( وله أي الترمذي عن زياد بن الحارث هو زياد بن الحارث الصدائي بايع النبي صلى الله عليه وسلم وأذن بين يديه يعد في البصريين وصداء بضم الصاد المهملة وتخفيف الدال المهملة وبعد الألف همزة اسم قبيلة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم::ومن أذن: عطف على ما قبله وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "إن أخا صداء قد أذن فهو يقيم" وضعفه أيضا أي كما ضعف ما قبله قال الترمذي إنما يعرف من حديث زياد ابن أنعم الأفريقي وقد ضعفه ابن القطان وغيره وقال البخاري هو مقارب لحديث ضعفه أبو حاتم وابن حبان وقال الترمذي والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم أن من أذن فهو يقيم والحديث دليل على أن الإقامة حق لمن أذن فلا تصح من غيره وعليه الهادوية وعضد حديث الباب حديث ابن عمر بلفظ مهلا يا بلال فإنما يقيم من أذن أخرجه الطبراني والعقيلي وأبو الشيخ وإن كان قد ضعفه أبو حاتم وابن حبان وقال الحنفية وغيرهم تجزأ إقامة غير من أذن لعدم نهوض الدليل على ذلك ولما يدل له قوله.
24- (ولأبي داود من حديث عنبد الله بن زيد) أي ابن عبد ربه الذي تقدم حديثه أول الباب (أنه قال) أي النبي صلى الله عليه وسلم لما أمره أن يلقيه على بلال (أنا رأيته: يعني الأذان) في المنام (وأنا كنت أريده قال: فأقم أنت. وفيه ضعف أيضا) لم يتعرض(1/129)
الشارح رحمه الله لبيان وجهه ولا بينه أبو داود بل سكت عليه لكن قال الحافظ المنذري إنه ذكر البيهقي أن في إسناده ومتنه اختلافا وقال أبو بكر الحازمي في إسناده مقال وحينئذ فلا يتم به الاستدلال نعم الأصل جواز كون المقيم غير المؤذن والحديث يقوي ذلك الأصل
25- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤذن أملك بالأذان" أي وقته موكول إليه لأنه أمين عليه "والإمام أملك بالإقامة" فلا يقيم إلا بعد إشارته رواه ابن عدي هو الحافظ الكبير الإمام الشهير أبو أحمد عبد الله بن عدي الجرجاني ويعرف أيضا بابن القصار صاحب كتاب الكامل في الجرح والتعديل كان أحد الأعلام ولد سنة تسع وسبعين ومائتين وسمع على خلائق وعنه أمم قال ابن عساكر كان ثقة على لحن فيه قال حمزة السهمي كان ابن عدي حافظا متفننا لم يكن في زمانه أحد مثله قال الخليلي كان عديم النظير حفظا وجلالة سألت عبد الله بن محمد الحافظ فقال زر قميص ابن عدي أحفظ من عبد الباقي بن قانع توفي في جمادى الآخرة سنة خمس وستين وثلاثمائة وضعفه لأنه أخرجه في ترجمة شريك القاضي وتفرد به شريك وقال البيهقي ليس بمحفوظ ورواه أبو الشيخ وفيه ضعف والحديث دليل على أن المؤذن أملك بالأذان أي أن ابتداء وقت الأذان إليه لأنه الأمين على الوقت والموكول بارتقابه وعلى أن الإمام أملك بالإقامة فلا يقيم إلا بعد إشارة الإمام بذلك وقد أخرج البخاري إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني فدل على أن المقيم يمقيم وإن لم يحضر الإمام فإقامته غير متوقفة على إذنه كذا في الشرح ولكن قد ورد أنه كان بلال قبل أن يقيم يأتي إلى منزله صلى الله عليه وسلم يؤذنه بالصلاة والإيذان لها بعد الأذان استئذان في الإقامة وقال المصنف إن حديث البخاري معارض بحديث جابر بن سمرة إن بلالا كان لا يقيم حتى يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ويجمع بينهما بأن بلالا كان يراقب وقت خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا رآه يشرع في الإقامة قبل أن يراه غالب الناس ثم إذا رأواه قاموا اهـ وأما تعيين وقت قيام المؤتمين إلى الصلاة فقال مالك في الموطأ لم أسمع في قيام الناس حين تقام الصلاة حدا محدودا إلا أني أرى ذلك على طاقة الناس فإن منهم الثقيل والخفيف وذهب الأكثرون إلى أن الإمام إن كان معهم في المسجد لم يقوموا حتى تفرغ الإقامة وعن أنس أنه كان يقوم إذا قال المؤذن قد قامت الصلاة رواه ابن المنذر وغيره وعن ابن المسيب إذا قال المؤذن الله أكبر وجب القيام وإذا قال حي على الصلاة عدلت الصفوف وإذا قال لا إله إلا الله كبر الإمام ولكن هذا رأي منه لم يذكر فيه سنة
26- (وللبيهقي نحوه أي نحو حديث أبي هريرة عن علي عليه السلام من قوله
27- ( وعن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يرد الدعاء بين الأذان والإقامة" رواه النسائي وصححه ابن خزيمة والحديث في مرفوع سنن أبي داود أيضا ولفظه هكذا عن أنس بن مالك قال" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يرد الدعاء بين(1/130)
الأذان والإقامة" اهـ قال المنذري وأخرجه الترمذي والنسائي في عمل اليوم والليلة اهـ والحديث دليل على قبول الدعاء في هذه المواطن إذ عدم الرد يراد به القبول والإجابة ثم هو عام لكل دعاء ولا بد من تقييده بما في الأحاديث غيره من أنه ما لم يكن دعاء بإثم أو قطيعة رحم هذا وقد ورد تعيين أدعية تقال بعد الأذان وهو ما بين الأذان والإقامة الأول: أن يقول رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا قال صلى الله عليه وسلم: "إن من قال ذلك غفر له ذنبه" الثاني: أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بعد فراغه من إجابة المؤذن قال ابن القيم: في الهدى أكمل ما يصلي به ويصل إليه كما علم أمته أن يصلوا عليه فلا صلاة عليه أكمل منها قلت: وستأتي صفتها في كتاب الصلاة إن شاء الله تعالى الثالث: أن يقول بعد صلاته عليه اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته وهذا في صحيح البخاري وزاد غيره إنك لا تخلف الميعاد الرابع: أن يدعو لنفسه بعد ذلك ويسأل الله من فضله كما في السنن عنه صلى الله عليه وسلم قل مثل ما يقول أي المؤذن فإذا انتهيت فسل تعطه وروى أحمد بن حنبل عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من قال حين ينادي المنادي اللهم رب هذه الدعوة القائمة والصلاة النافعة صل على محمد وارض عنه رضا لا سخط بعده استجاب الله دعوته" وأخرج الترمذي من حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقول عند أذان المغرب:: اللهم هذا إقبال ليلك وإدبار نهارك وأصوات دعاتك فاغفر لي : وأخرج الحاكم عن أبي أمامة يرفعه قال كان إذا سمع المؤذن قال:: اللهم رب هذه الدعوة المستجابة المستجاب لها دعوة الحق وكلمة التقوى توفني عليها وأحيني عليها واجعلني من صالحي أهلها عملا يوم القيامة: وقد عين صلى الله عليه وسلم ما يدعي به أيضا لما قال: "الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرد" قالوا فما نقول يا رسول الله قال: "سلوا الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة" قال ابن القيم" إنه حديث صحيح وذكر البيهقي أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول عند كلمة الإقامة: "أقامها الله وأدامها" وفي المقام أدعية أخر(1/131)
باب شروط الصلاة
الشرط لغة العلامة ومنه قوله تعالى {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} أي علامات الساعة وفي لسان الفقهاء ما يلزم من عدمه العدم
1- ( عن علي بن طلق تقدم طلق بن علي في نواقض الوضوء قال ابن عبد البر أظنه والد طلق بن علي الحنفي ومال أحمد والبخاري إلى أن علي بن طلق وطلق بن علي اسم لذات واحدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا فسا أحدكم في الصلاة فلينصرف وليتوضأ وليعد الصلاة" رواه الخمسة وصححه ابن حبان كأنه عبر بهذه العبارة اختصارا وإلا فأصلها وأخرجه ابن حبان وصححه وقد تقدمت له هذه العبارة مرارا(1/131)
ويحتمل أن ابن حبان صحح أحاديث أخرجها غيره ولم يخرجها هو وهو بعيد وقد أعل الحديث ابن القطان بمسلم بن سلام الحنفي فإنه لا يعرف وقال الترمذي قال البخاري لا أعلم لعلي بن طلق غير هذا الحديث الواحد والحديث دليل على أن الفساء ناقض للوضوء وهو مجمع عليه ويقاس عليه غيره من النواقض وأنه تبطل به الصلاة وقد تقدم حديث عائشة فيمن أصابه قيء في صلاته أو رعاف فإنه ينصرف ويبني على صلاته حيث لم يتكلم وهو معارض لهذا وكل منهما فيه مقال والشارح جنح إلى ترجيح هذا قال لأنه مثبت لاستئناف الصلاة وذلك ناف وقد يقال هذا ناف لصحة الصلاة وذلك مثبت لها فالأولى الترجيح بأن هذا قال بصحته ابن حبان وذلك لم يقل أحد بصحته فهذا أرجح من حيث الصحة
2- (وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقبل الله صلاة حائض" المراد بها المكلفة وإن تكلفت بالاحتلام مثلا وإنما عبر بالحيض نظرا إلى الأغلب "إلا بخمار" بكسر الخاء المعجمة آخره راء هو هنا ما يغطى به الرأس والعنق رواه الخمسة إلا النسائي وصححه ابن خزيمة وأخرجه أحمد والحاكم وأعله الدارقطني وقال إن وقفه أشبه وأعله الحاكم بالإرسال ورواه الطبراني في الصغير والأوسط من حديث أبي قتادة بلفظ: "لا يقبل الله من امرأة صلاة حتى توارى زينتها ولا من جارية بلغت المحيض حتى تختمر" ونفي القبول المراد به هنا نفي الصحة والإجزاء وقد يطلق القبول ويراد به كون العبادة بحيث يترتب عليها الثواب فإذا نفى كان نفيا لما يترتب عليها من الثواب لا نفيا للصحة كما ورد "إن الله لا يقبل صلاة الآبق ولا من في جوفه خمر" كذا قيل وقد بينا في رسالة الإسبال وحواشي شرح العمدة أن نفي القبول يلازم نفي الصحة وفي قوله إلا بخمار ما يدل على أنه يجب على المرأة ستر رأسها وعنقها ونحوه مما يقع عليه الخمار ويأتي في حديث أبي داود من حديث أم سلمة في صلاة المرأة في درع وخمار ليس عليها إزار وأنه قال صلى الله عليه وسلم: "إذا كان الدرع سابغا يغطي ظهور قدميها" فيدل على أنه لا بد في صلاتها من تغطية رأسها ورقبتها كما أفاده حديث الخمار ومن تغطية بقية بدنها حتى ظهر قدميها كما أفاده حديث أم سلمة ويباح كشف وجهها حيث لم يأت دليل بتغطيته والمراد كشفه عند صلاتها بحيث لا يراها أجنبي فهذه عورتها في الصلاة وأما عورتها بالنظر إلى نظر الأجنبي إليها فكلها عورة كما يأتي تحقيقه وذكره هنا وجعل عورتها في الصلاة هي عورتها بالنظر إلى نظر الأجنبي وذكر الخلاف في ذلك ليس محله هنا إذ لها عورة في الصلاة وعورة في نظر الأجانب والكلام الآن في الأول والثاني يأتي في
3- ( وعن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان الثوب واسعا فالتحف به" يعني في الصلاة" ولمسلم "فخالف بين طرفيه" وذلك بأن يجعل شيئا منه على عاتقه "وإن كان ضيقا فاتزر به" متفق عليه الالتحاف في معنى الارتداء وهو أن يتزر بأحد طرفي الثوب ويرتدي بالطرف الآخر وقوله يعني في الصلاة الظاهر(1/132)
أنه مدرج من كلام أحد الرواة قيد به أخذا من القصة فإن فيها أنه قال جابر جئت إليه صلى الله عليه وسلم وهو يصلي وعلي ثوب فاشتملت به وصليت إلى جانبه فلما انصرف قال لي صلى الله عليه وسلم: "ما هذا الاشتمال الذي رأيت قلت كان ثوب قال فإن كان واسعا فالتحف به وإذا كان ضيقا فاتزر به" فالحديث قد أفاد أنه إذا كان الثوب واسعا التحف به بعد اتزاره بطرفيه وإذا كان ضيقا اتزر به لستر عورته فعورة الرجل من تحت السرة إلى الركبة على أشهر الأقوال
4- (ولهما أي الشيخين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه "لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء" أي إذا كان واسعا كما دل له الحديث الأول والمراد ألا يتزر في وسطه ويشد طرفي الثوب في حقويه بل يتوشح به على عاتقه فيحصل الستر لأعالي البدن وحمل الجمهور هذا النهي على التنزيه كما حملوا الأمر في قوله فالتحف به على الندب وحمله أحمد على الوجوب وأنها لا تصح صلاة من قدر على ذلك فتركه وفي رواية عنه تصح الصلاة ويأثم فجعله على الرواية الأولى من الشرائط وعلى الثانية من الواجبات واستدل الخطابي للجمهور بصلاته صلى الله عليه وآله وسلم في ثوب واحد كان أحد طرفيه على بعض نسائه وهي نائمة قال ومعلوم أن الطرف الذي هو لابسه من الثوب غير متسع لأن يتزر به ويفضل منه ما كان لعاتقه قلت وقد يجاب عنه بأن مراد أحمد مع القدرة على الالتحاف لا أنه لا تصح صلاته أو يأثم مطلقا كما صرح به قوله لا تصح صلاة من قدر على ذلك ويحتمل أنه في تلك الحالة لا يقدر على غير ذلك الثوب بل صلاته فيه والحال أن بعضه على النائم أكبر دليل على أنه لا يجد
5- ( وعن أم سلمة أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم أتصلي المرأة في درع وخمار بغير إزار قال إذا كان الدرع سابغا بسين مهملة فموحدة بعد الألف فغين معجمة أي واسعا "يغطي ظهور قدميها" أخرجه أبو داود وصحح الأئمة وقفه وقد تقدم بيان معناه وله حكم الرفع وإن كان موقوفا إذ الأقرب أنه لا مسرح للاجتهاد في ذلك وقد أخرجه مالك وأبو داود موقوفا ولفظه عن محمد بن زيد بن قنفذ عن أمه أنها سألت أم سلمة ماذا تصلي فيه المرأة من الثياب قالت تصلي في الخمار والدرع السابغ إذا غيب ظهور قدميها
6- (وعن عامر بن ربيعة رضي الله عنه هو أبو عبد الله عامر بن ربيعة بن مالك العنزي بفتح العين المهملة وسكون النون وقيل بفتحها والزاي نسبة إلى عنز بن وائل ويقال له العدوي أسلم قديما وهاجر الهجرتين وشهد المشاهد كلها مات سنة اثنتين أو ثلاث أو خمس وثلاثين قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة فأشكلت علينا القبلة فصلينا ظاهره من غير نظر في الأمارات فلما طلعت الشمس إذا نحن صلينا إلى غير القبلة فنزلت {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} أخرجه الترمذي وضعفه(1/133)
لأن فيه أشعث بن سعيد السمان وهو ضعيف الحديث والحديث دليل على أن من صلى لغير القبلة لظلمة أو غيم أنها تجزئه صلاته سواء كان مع النظر في الأمارات والتحري أو لا وسواء انكشف له الخطأ في الوقت أو بعده ويدل له ما رواه الطبراني من حديث معاذ بن جبل قال صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم غيم في السفر إلى غير القبلة فلما قضى صلاته تجلت الشمس فقلنا يا رسول الله صلينا إلى غير القبلة قال: "قد رفعت صلاتكم بحقها إلى الله" وفيه أبو عيلة وقد وثقه ابن حبان وقد اختلف العلماء في هذا الحكم فالقول بالإجزاء مذهب الشعبي والحنفية والكوفيين فيما عدا من صلى بغير تحر وتيقن الخطأ فإنه حكى في البحر الإجماع على وجوب الإعادة عليه فإن تم الإجماع خص به عموم الحديث وذهب آخرون إلى أنه لا تجب عليه الإعادة إذا صلى بتحر وانكشف له الخطأ وقد خرج الوقت وأما إذا تيقن الخطأ والوقت باق وجبت عليه الإعادة لتوجه الخطاب مع بقاء الوقت فإن لم يتيقن فلا يأمن من الخطأ في الآخر فإن خرج الوقت فلا إعادة للحديث واشترطوا التحري إذ الواجب عليه عليه تيقن الاستقبال فإن تعذر اليقين فعل ما أمكنه من التحري فإن قصر فهو غير معذور إلا إذا تيقن الإصابة وقال الشافعي تجب الإعادة عليه في الوقت وبعده لأن الاستقبال واجب قطعا وحديث السرية فيه ضعف قلت الأظهر العمل بخبر السرية لتقويه بحديث معاذ بل هو حجة وحده والإجماع قد عرف كثرة دعواهم له ولا يصح
7- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بين المشرق والمغرب قبلة" رواه الترمذي وقواه البخاري وفي التلخيص حديث "ما بين المشرق والمغرب قبلة" رواه الترمذي عن أبي هريرة مرفوعا وقال حسن صحيح فكان عليه هنا أن يذكر تصحيح الترمذي له على قاعدته ورأيناه في الترمذي بعد سياقه له بسنده من طريقين حسن إحداهما وصححها ثم قال وقد روي عن غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "ما بين المشرق والمغرب قبلة" منهم عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن عباس وقال ابن عمر: إذا جعلت المغرب عن يمينك والمشرق عن يسارك فما بينهما قبلة إذا استقبلت القبلة وقال ابن المبارك: ما بين المشرق والمغرب قبلة لأهل المشرق اهـ والحديث دليل على أن الواجب استقبال الجهة لا العين في حق من تعذرت عليه العين وقد ذهب إليه جماعة من العلماء لهذا الحديث ووجه الاستدلال به على ذلك أن المراد أن بين الجهتين قبلة لغير المعاين ومن في حكمه لأن المعاين لا تنحصر قبلته بين الجهتين المشرق والمغرب بل كل الجهات في حقه سواء متى قابل العين أو شطرها فالحديث دليل على أن ما بين الجهتين قبلة وأن الجهة كافية في الاستقبال وليس فيه دليل على أن المعاين يتعين عليه العين بل لا بد من الدليل على ذلك وقوله تعالى {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} خطاب له صلى الله عليه وسلم وهو في المدينة واستقبال العين فيها متعسر أو متعذر إلا ما قيل في محرابه صلى الله عليه وسلم لكن الأمر بتوليته وجهه شطر المسجد الحرام عام لصلاته في محرابه وغيره وقوله: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} دال على كفاية الجهة إذ العين في كل محل تتعذر على كل مصل وقولهم يقسم الجهات حتى يحصل له أنه توجه(1/134)
إلى العين تعمق لم يرد به دليل ولا فعله الصحابة وهم خير قبيل فالحق أن الجهة كافية ولو لمن كان في مكة وما يليها
8— (وعن عامر بن ربيعة رضي الله عنه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته حيث توجهت به" متفق عليه هو في البخاري عن عامر بن ربيعة بلفظ كان يسبح على الراحلة وأخرجه عن ابن عمر بلفظ كان يسبح على ظهر راحلته وأخرج الشافعي نحوه من حديث جابر بلفظ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو على راحلته النوافل وقوله: زاد البخاري يومىء برأسه أي في سجوده وركوعه زاد ابن خزيمة ولكنه يخفض السجدتين من الركعة ولم يكن يصنعه أي هذا الفعل وهو الصلاة على ظهر الراحلة في المكتوبة أي الفريضة الحديث دليل على صحة صلاة النافلة على الراحلة وإن فاته استقبال القبلة وظاهره سواء كان على محمل أو لا وسواء كان السفر طويلا أو قصيرا إلا أن في رواية رزين في حديث جابر زيادة في سفر القصر وذهب إلى شرطية هذا جماعة من العلماء وقيل لا يشترط بل يجوز في الحضر وهو مروي عن أنس من قوله وفعله والراحلة هي الناقة والحديث ظاهر في جواز ذلك للراكب وأما الماشي فمسكوت عنه وقد ذهب إلى جوازه جماعة من العلماء قياسا على الراكب بجامع التيسير للمتطوع إلا أنه قيل لا يعفى له عدم الاستقبال في ركوعه وسجوده وإتمامهما وأنه لا يمشي إلا في قيامه وتشهده ولهم في جواز مشيه ثم الاعتدال من الركوع قولان وأما اعتداله بين السجدتين فلا يمشي فيه إذ لا يمشي إلا مع القيام وهو يجب عليه القعود بينهما وظاهر قوله حيث توجهت أنه لا يعتدل لأجل الاستقبال لا في حال صلاته ولا في أولها إلا أن في قوله
9- (ولأبي داود من حديث أنس رضي لله عنه وكان إذا سافر فأراد أن يتطوع استقبل بناقته القبلة فكبر ثم صلى حيث كان وجه ركابه وإسناده حسن ما يدل على أنه ثم تكبيرة الإحرام يستقبل القبلة وهي زيادة مقبولة وحديثه حسن فيعمل بها وقوله ناقته وفي الأول راحلته هما بمعنى واحد وليس بشرط أن يكون ركوبه على ناقة بل قد صح في رواية مسلم أنه صلى الله عليه وسلم صلى على حماره وقوله: إذا سافر تقدم أن السفر شرط ثم بعض العلماء وكأنه يأخذه من هذا وليس بظاهر في الشرطية وفي هذا الحديث والذي قبله أن ذلك في النفل لا الفرض بل صرح البخاري أنه لا يصنعه في المكتوبة إلا أنه قد ورد في رواية الترمذي والنسائي أنه صلى الله عليه وسلم أتى إلى مضيق هو وأصحابه والسماء من فوقهم والبلة من أسفل منهم فحضرت الصلاة فأمر المؤذن فأذن وأقام ثم تقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته فصلى بهم يومىء إيماء فيجعل السجود أخفض من الركوع قال الترمذي حديث غريب وثبت ذلك عن أنس من فعله وصححه عبد الحق وحسنه الثوري وضعفه البيهقي وذهب البعض إلى أن الفريضة تصح على الراحلة إذا كان مستقبل القبلة في هودج ولو كانت سائرة كالسفينة فإن الصلاة تصح فيها إجماعا قلت(1/135)
وقد يفرق بأنه قد يتعذر في البحر وجدان الأرض فعفي عنه بخلاف راكب الهودج وأما إذا كانت الراحلة واقفة فعند الشافعي تصح الصلاة للفريضة كما تصح عندهم في الأرجوحة المشدودة بالحبال وعلى السرير المحمول على الرجال إذا كانوا واقفين والمراد من المكتوبة التي كتبت على جميع المكلفين فلا يرد عليه أنه صلى الله عليه واله وسلم كان يوتر على راحلته والوتر واجب عليه
10- (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام " رواه الترمذي وله علة وهي الاختلاف في وصله وإرساله فرواه حماد موصولا عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن أبي سعيد ورواه الثوري مرسلا عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم وآله ورواية الثوري أصح وأثبت وقال الدارقطني: المحفوظ المرسل ورجحه البيهقي والحديث دليل على أن الأرض كلها تصح فيها الصلاة ما عدا المقبرة وهي التي تدفن فيها الموتى فلا تصح فيها الصلاة وظاهره سواء كان على القبر أو بين القبور وسواء كان قبر مؤمن أو كافر فالمؤمن تكرمة له والكافر بعدا من خبثه وهذا الحديث يخصص جعلت لي الأرض كلها مسجدا الحديث وكذلك الحمام فإنه لا تصح فيه الصلاة فقيل للنجاسة فيختص بما فيه النجاسة منه وقيل تكره لا غير وقال أحمد بن حنبل: لا تصح فيه الصلاة ولو على سطحه عملا بالحديث وذهب الجمهور إلى صحتها ولكن مع كراهته وقد ورد النهي معللا بأنه محل الشياطين والقول الأظهر مع أحمد ثم ليس التخصيص لعموم حديث "جعلت لي الأرض مسجدا" بهذين المحلين فقط بل بما يفيده الحديث الآتي وهو قوله
11- ( وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلي في سبع المزبلة" هي مجتمع إلقاء الزبل "والمجزرة" محل جزر الأنعام "والمقبرة" وهما بزنة مفعلة بفتح العين ولحوق التاء بهما شاذ "وقارعة الطريق" ما تقرعه الأقدام بالمرور عليها "والحمام" تقدم فيه الكلام "ومعاطن" بفتح الميم فعين مهملة وكسر الطاء المهملة فنون الإبل وهو مبرك "الإبل" حول الماء "وفوق ظهر بيت الله تعالى" رواه الترمذي وضعفه فإنه قال بعد إخراجه ما لفظه وحديث ابن عمر ليس بذاك القوي وقد تكلم في زيد بن جبيرة من قبل حفظه وجبيرة بفتح الجيم وكسر الموحدة فمثناة تحتية فراء وقال البخاري فيه متروك وقد تكلف استخراج علل للنهي عن هذه المحلات فقيل المقبرة والمجزرة للنجاسة وقارعة الطريق كذلك وقيل لأن فيها حقا للغير فلا تصح فيها الصلاة واسعة كانت أو ضيقة لعموم النهي ومعاطن الإبل ورد التعليل فيها منصوصا بأنها مأوى الشياطين(1/136)
أخرجه أبو داود وورد بلفظ مبارك الإبل وفي لفظ مزابل الإبل وفي أخرى مناخ الإبل وهي أعم من معاطن الإبل وعللوا النهي عن الصلاة على ظهر بيت الله وقيدوه بأنه إذا كان على طرف بحيث يخرج عن هوائها لم تصح صلاته وإلا صحت إلا أنه لا يخفى أن هذا التعليل أبطل معنى الحديث فإنه إذا لم يستقبل بطلت الصلاة لعدم الشرط لا لكونها على ظهر الكعبة فلو صح هذا الحديث لكان بقاء النهي على ظاهره في جميع ما ذكر هو الواجب وكان مخصصا لعموم "جعلت لي الأرض مسجدا" لكن قد عرفت ما فيه إلا أن الحديث في القبور من بين هذه المذكورات قد صح كما يفيده
12- (وعن أبي مرثد بفتح الميم وسكون الراء وفتح المثلثة الغنوي بفتح الغين المعجمة والنون وهو مرثد بن أبي مرثد أسلم هو وأبوه وشهد بدرا وقتل مرثد يوم غزوة الرجيع شهيداً في حياته صلى الله عليه وسلم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها" رواه مسلم وفيه دليل على النهي عن الصلاة إلى القبر كما نهى عن الصلاة على القبر والأصل التحريم ولم يذكر المقدار الذي يكون به النهي عن الصلاة إلى القبر والظاهر أنه ما يعد مستقبلا له عرفا ودل على تحريم الجلوس على القبر وقد وردت به أحاديث كحديث جابر في وطء القبر وحديث أبي هريرة "لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيايه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر" أخرجه مسلم وقد ذهب إلى تحريم ذلك جماعة من العلماء وعن مالك أنه لا يكره القعود عليها ونحوه وإنما النهي عن القعود لقضاء الحاجة وفي الموطأ عن علي عليه السلام أنه كان يتوسد القبر ويضطجع عليه ومثله في البخاري عن ابن عمر وعن غيره والأصل في النهي التحريم كما مرة وفعل الصحابي لا يعارض الحديث المرفوع إلا أن يقال إن فعل الصحابي دليل لحمل النهي على الكراهة ولا يخفى بعده
13- ( وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر" أي نعليه كما دل له قوله "فإن رأى في نعليه أذى أو قذرا" شك من الراوي "فليمسحه وليصل فيهما" أخرجه أبو داود وصححه ابن خزيمة اختلف في وصله وإرساله ورجح أبو حاتم وصله ورواه الحاكم من حديث أنس وابن مسعود ورواه الدارقطني من حديث ابن عباس وعبد الله بن الشخير وإسنادهما ضعيف وفي الحديث دلالة على شرعية الصلاة في النعال وعلى أن مسح النعل من النجاسة مطهر له من القذر والأذى والظاهر فيهما عند الإطلاق النجاسة رطبة أو جافة ويدل له سبب الحديث وهو إخبار جبريل له صلى الله عليه وسلم أن في نعله أذى فخلعه في صلاته واستمر فيها فإنه سبب هذا وأن المصلي إذا دخل في الصلاة وهو متلبس غير عالم ما بها أو ناسيا لها ثم عرف بها في أثناء صلاته أنه يجب عليه إزالتها ثم يستمر في صلاته ويبني على ما صلى وفي الكل خلاف إلا أنه لا دليل للمخالف يقاوم الحديث فلا نطيل بذكره ويؤيد طهورية النعال بالمسح بالتراب الحديث الآتي وهو(1/137)
14- ( وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا وطىء أحدكم الأذى بخفيه" أي مثلا أو نعليه أو أي ملبوس لقدميه "فطهورهما" أي الخفين "التراب" أخرجه أبو داود وصححه ابن حبان وأخرجه ابن السكن والحاكم والبيهقي من حديث أبي هريرة وسنده ضعيف وأخرجه أبو داود من حديث عائشة وفي الباب غير هذه بأسانيد لا تخلو عن ضعف إلا أنه يشد بعضها بعضا وقد ذهب الأوزاعي إلى العمل بهذه الأحاديث وكذا النخعي وقالا يجزيه أن يمسح خفيه إذا كان فيهما نجاسة فيهما ويشهد له أن أم سلمة سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت إني امرأة أطيل ذيلي وأمشي في المكان القذر فقال: "يطهره ما بعده" أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه ونحوه أن امرأة من بني عبد الأشهل قالت قلت يا رسول الله إن لنا طريقا إلى المسجد منتنة فكيف نفعل إذا مطرنا؟ فقال: "أليس من بعدها طريق هي أطيب" منها قلت بلى قال: "فهذه بهذه" أخرجه أبو داود وابن ماجه قال الخطابي وفي إسناد الحديثين مقال وتأوله الشافعي بأنه إنما هو فيما جرى على ما كان يابسا لا يعلق بالثوب منه شيء قلت ولا يناسبه قولها إذا مطرنا وقال مالك معنى كون الأرض يطهر بعضها بعضا أن يطأ الأرض القذرة ثم يصل للأرض الطيبة اليابسة فإن بعضها يطهر بعضا أما النجاسة تصيب الثوب أو الجسد فلا يطهرها إلا الماء قال وهو إجماع قيل ومما يدل لحديث الباب وأنه على ظاهره ما أخرجه البيهقي عن أبي المعلى عن أبيه عن جده قال أقبلت مع علي بن أبي طالب عليه السلام إلى الجمعة وهو ماش فحال بينه وبين المسجد حوض من ماء وطين فخلع نعليه وسراويله قال قلت هات يا أمير المؤمنين أحمله عنك قال لا فخاض فلما جاوزه لبس نعليه وسراويله ثم صلى بالناس ولم يغسل رجليه أي ومن المعلوم أن الماء المجتمع في القرى لا يخلو عن
15- (وعن معاوية بن الحكم هو معاوية بن الحكم السلمي كان ينزل المدينة وعداده في أهل الحجاز قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القران" رواه مسلم وللحديث سبب حاصله أنه عطس في الصلاة رجل فشمته معاوية وهو في الصلاة فأنكر عليه من لديه من الصحابة بما أفهمه ذلك ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك::إن هذه الصلاة..." الحديث وله عدة ألفاظ والمراد من عدم الصلاحية عدم صحتها ومن الكلام مكالمة الناس ومخاطبتهم كما هو صريح السبب فدل على أن المخاطبة في الصلاة تبطلها سواء كانت لإصلاح الصلاة أو غيرها وإذا احتيج إلى تنبيه الداخل فيأتي حكمه وبماذا يثبت ودل الحديث على أن الكلام من الجاهل في الصلاة لا يبطلها وأنه معذور لجهله فإنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر معاوية بالإعادة وقوله إنما هو أي الكلام المأذون فيه في الصلاة أو الذي يصلح فيها التسبيح والتكبير وقراءة القران أي إنما يشرع فيها ذلك وما انضم إليه من الأدعية ونحوها لدليله الآتي وهو(1/138)
16- ( وعن زيد بن أرقم قال: إن كنا لنتكلم في الصلاة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد ما لا بد منه من الكلام كرد السلام ونحوه لا أنهم كانوا يتحادثون فيها تحادث المتجالسين كما يدل له قوله يكلم أحدنا صاحبه بحاجته حتى نزلت {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} - وهي صلاة العصر على أكثر الأقوال وقد ادعى فيه الإجماع {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام. متفق عليه واللفظ لمسلم) قال النووي في شرح مسلم: فيه دليل على تحريم جميع أنواع كلام الآدميين أجمع العلماء على أن المتكلم فيها عامدا عالما بتحريمه لغير مصلحتها ولغير إنقاذ هالك وشبهه مبطل للصلاة وذكر الخلاف في الكلام لمصلحتها ويأتي في شرح حديث ذي اليدين في أبواب السهو وفهم الصحابة الأمر بالسكوت من قوله قانتين لأنه أحد معاني القنوت وله أحد عشر معنى معروفة وكأنهم أخذوا خصوص هذا المعنى من القرائن أو من تفسيره صلى الله عليه وسلم لهم ذلك والحديث فيه أبحاث قد سقناها في حواشي شرح العمدة فإن اضطر المصلي إلى تنبيه غيره فقد أباح له الشارع نوعا من الألفاظ كما يفيده الحديث
17- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "التسبيح للرجال" وفي رواية "إذا نابكم أمر فالتسبيح للرجال والتصفيق للنساء" متفق عليه زاد مسلم "في الصلاة" وهو المراد من السياق وإن لم يأت بلفظه والحديث دليل على أنه يشرع لمن نابه في الصلاة أمر من الأمور كأن يريد تنبيه الإمام على أمر سها عنه وتنبيه المار أو من يريد منه أمرا وهو لا يدري أنه يصلي فينبهه على أنه في صلاة فإن كان المصلي رجلا قال سبحان الله وقد ورد في البخاري بهذا اللفظ وأطلق فيما عداه وإن كانت المصلية امرأة نبهت بالتصفيق وكيفيته كما قال عيسى بن أيوب أن تضرب بأصبعين من يمينها على كفها اليسرى وقد ذهب إلى القول بهذا الحديث جمهور العلماء وبعضهم فصل بلا دليل ناهض فقال إن كان ذلك للإعلام بأنه في صلاة فلا يبطلها وإن كان لغير ذلك فإنه يبطلها ولو كان فتحا على الإمام قالوا لما أخرجه أبو داود من قوله صلى الله عليه وسلم "يا علي لا تفتح على الإمام في الصلاة " وأجيب بأن أبا داود ضعفه بعد سياقه له فحديث الباب باق على إطلاقه لا تخرج منه صورة إلا بدليل ثم الحديث لا يدل على وجوب التسبيح تنبيها أو التصفيق إذ ليس فيه أمر إلا أنه قد ورد بلفظ الأمر في رواية إذا نابكم أمر فليسبح الرجال وليصفق النساء وقد اختلف في ذلك العلماء قال شارح التقريب الذي ذكره أصحابنا ومنهم الرافعي والنووي أنه سنة وحكاه عن الأصحاب ثم قال بعد كلام والحق انقسام التنبيه في الصلاة إلى ما هو واجب ومندوب ومباح بحسب ما يقتضيه الحال
18- (وعن مطرف بضم الميم وفتح الطاء المهملة وتشديد الراء المكسورة وبالفاء ابن عبد الله بن الشخير بكسر الشين المعجمة وكسر الخاء المشددة ومطرف تابعي جليل(1/139)
عن أبيه عبد الله بن الشخير وهو ممن وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم في بني عامر يعد في البصريين قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وفي صدره أزيز بفتح الهمزة فزاي مكسورة فمثناة تحتية ساكنة فزاي وهو صوت القدر في غليانها كأزيز المرجل بكسر الميم وسكون الراء وفتح الجيم هو القدر من البكاء بيان للأزيز أخرجه الخمسة هم عنده على ما ذكره في الخطبة من عدا الشيخين فهم أصحاب السنن وأحمد إلا أنه هنا أراد بهم غير ذلك وهم أهل السنن الثلاثة وأحمد كما بينه قوله إلا ابن ماجه وصححه ابن حبان وصححه أيضا ابن خزيمة والحاكم ووهم من قال إن مسلما أخرجه ومثله ما روى أن عمر صلى صلاة الصبح وقرأ سورة يوسف حتى بلغ إلى قوله - إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله - فسمع نشيجه أخرجه البخاري مقطوعا ووصله سعيد بن منصور وأخرجه ابن المنذر والحديث دليل على أن مثل ذلك لا يبطل الصلاة وقيس عليه
19- (وعن علي رضي الله عنه قال كان لي من رسول الله صلى الله عليه وسلم مدخلان" بفتح الميم ودال مهملة وخاء معجمة تثنية مدخل بزنة مقتل أي وقتان أدخل عليه فيهما "فكنت أذا أتيته وهو يصلي تنحنح لي" رواه النسائي وابن ماجه وصححه ابن السكن وقد روى بلفظ سبح مكان تنحنح من طريق أخرى ضعيفة والحديث دليل على أن التنحنح غير مبطل للصلاة وقد ذهب إليه الناصر والشافعي عملا بهذا الحديث وعند الهادوية أنه مفسد إذا كان بحرفين فصاعدا إلحاقا له بالكلام المفسد قالوا وهذا الحديث فيه اضطراب ولكن قد سمعت أن رواية تنحنح صححها ابن السكن ورواية سبح ضعيفة فلا تتم دعوى الاضطراب ولو ثبت الحديثان معا لكان الجمع بينهما بأنه صلى الله عليه وسلم كان تارة يسبح وتارة يتنحنح صحيحا
20- (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال قلت لبلال كيف رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرد عليهم أي على الأنصار كما دل له السياق حين يسلمون عليه وهو يصلي قال يقول هكذا وبسط كفه أخرجه أبو داود والترمذي وصححه وأخرجه أيضا أحمد والنسائي وابن ماجه وأصل الحديث أنه خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قباء يصلي فيه فجاءت الأنصار وسلموا عليه فقلت لبلال كيف رأيت الحديث ورواه أحمد وابن حبان والحاكم أيضا من حديث ابن عمر أنه سأل صهيبا عن ذلك بدل بلال وذكر الترمذي أن الحديثين صحيحان جميعا والحديث دليل على أنه إذا سلم أحد على المصلي رد عليه السلام بإشارة دون النطق وقد أخرج مسلم عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه لحاجة قال ثم أدركته وهو يصلي فسلمت عليه فأشار إلي فلما فرغ دعاني وقال إنك سلمت علي فاعتذر إليه بعد الرد بالإشارة وأما حديث ابن مسعود أنه سلم عليه وهو يصلي فلم يرد عليه صلى الله عليه وسلم ولا ذكر الإشارة بل قال له بعد فراغه من الصلاة "إن في الصلاة شغلا" إلا أنه قد ذكر البيهقي في حديثه أنه صلى الله عليه وسلم أومأ له(1/140)
برأسه وقد اختلف العلماء في رد السلام في الصلاة على من سلم على المصلي فذهب جماعة إلى أنه يرد باللفظ وقال جماعة يرد بعد السلام من الصلاة وقال قوم يرد في نفسه وقال قوم يرد بالإشارة كما أفاده هذا الحديث وهذا هو أقرب الأقوال للدليل وما عداه لم يأت به دليل قيل وهذا الرد بالإشارة استحباب بدليل أنه لم يرد صلى الله عليه وسلم به على ابن مسعود بل قال له: "إن في الصلاة شغلا" قلت قد عرفت من رواية البيهقي أنه صلى الله عليه وسلم رد عليه بالإشارة برأسه ثم اعتذر إليه عن الرد باللفظ لأنه الذي كان يرد به عليهم في الصلاة فلما حرم الكلام رد عليه صلى الله عليه وسلم بالإشارة ثم أخبره أن الله أحدث من أمره أن لا يتكلموا في الصلاة فالعجب من قول من قال يرد باللفظ مع أنه صلى الله عليه وسلم قال هذا أي أن الله أحدث من أمره في الاعتذار عن رده على ابن مسعود السلام باللفظ وجعل رده السلام في الصلاة كلاما وأن الله نهى عنه والقول بأنه من سلم على المصلي لا يستحق جوابا يعني بالإشارة ولا باللفظ يرده رده صلى الله عليه وسلم على الأنصار وعلى جابر بالإشارة ولو كانوا لا يستحقون لأخبرهم بذلك ولم يرد عليهم وأما كيفية الإشارة ففي المسند من حديث صهيب قال مررت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فسلمت فرد علي إشارة قال الراوي لا أعلمه إلا قال إشارة بأصبعه وفي حديث ابن عمر في وصفه لرده صلى الله عليه وسلم السلام على الأنصار أنه صلى الله عليه وسلم قال هكذا وبسط جعفر بن عون الراوي عن ابن عمر كفه وجعل بطنه أسفل وجعل ظهره إلى فوق فتحصل من هذا أنه يجيب المصلي بالإشارة إما برأسه أو بيده أو بأصبعه والظاهر أنه واجب لأن الرد بالقول واجب وقد تعذر في الصلاة فبقي الرد بأي ممكن وقد أمكن بالإشارة وجعله الشارع ردا وسماه الصحابة ردا ودخل تحت قوله تعالى - أو ردوها- وأما حديث أبي هريرة أنه قال صلى الله عليه وسلم: "من أشار في الصلاة إشارة تفهم عنه فليعد صلاته" ذكره الدارقطني فهو حديث باطل لأنه من رواية أبي غطفان عن أبي هريرة وهو رجل مجهول
21- (وعن أبي قتادة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو حامل أمامة" بضم الهمزة "بنت زينب" هي أمها وهي زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبوها أبو العاص بن الربيع "فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها" متفق عليه ولمسلم زيادة وهو يؤم الناس في المسجد في قوله كان يصلي ما يدل على أن هذه العبارة لا تدل على التكرار مطلقا لأن هذا الحمل لأمامة وقع منه صلى الله عليه وسلم مرة واحدة لا غير والحديث دليل على أن حمل المصلي في الصلاة حيوانا ادميا أو غيره لا يضر صلاته سواء كان ذلك لضرورة أو غيرها وسواء كان في صلاة فريضة أو غيرها وسواء كان إماما أو منفردا وقد صرح في رواية مسلم أنه صلى الله عليه وسلم كان إماما فإذا جاز في حال الإمامة جاز في حال الانفراد وإذا جاز في الفريضة جاز في النافلة بالأولى وفيه دلالة على طهارة ثياب الصبيان وأبدانهم وأنه الأصل ما لم تظهر النجاسة وأن الأفعال التي مثل هذه لا تبطل الصلاة فإنه صلى الله عليه وسلم كان يحملها ويضعها وقد ذهب إليه(1/141)
الشافعي ومنع غيره من ذلك وتأولوا الحديث بتأويلات بعيدة منها أنه خاص به صلى الله عليه وسلم ومنها أن أمامة كان تعلق به من دون فعل منه ومنها أنه للضرورة ومنهم من قال إنه منسوخ وكلها دعاوى بغير برهان واضح وقد أطال ابن دقيق العيد في شرح العمدة القول في هذا وزدناه إيضاحا في حواشيها
22- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:: اقتلوا الأسودين في الصلاة الحية والعقرب: أخرجه الأربعة وصححه ابن حبان وله شواهد كثيرة والأسودان اسم يطلق على الحية والعقرب على أي لون كانا كما يفيده كلام أئمة اللغة فلا يتوهم أنه خاص بذي اللون الأسود فيهما وهو دليل على وجوب قتل الحية والعقرب في الصلاة إذ هو الأصل في الأمر وقيل إنه للندب وهو دليل على أن الفعل الذي لا يتم قتلهما إلا به لا يبطل الصلاة سواء كان بفعل قليل أو كثير وإلى هذا ذهب جماعة من العلماء وذهبت الهادوية إلى أن ذلك يفسد الصلاة وتأولوا الحديث بالخروج من الصلاة قياسا على سائر الأفعال الكثيرة التي تدعو إليها الحاجة وتعرض وهو يصلي كإنقاذ الغريق ونحوه فإنه يخرج لذلك من صلاته وفيه لغيرهم تفاصيل أخر لا يقوم عليها دليل والحديث حجة للقول الأول وأحاديث الباب اثنان وعشرون وفي الشرح ستة وعشرون(1/142)
باب سترة المصلي
1- ( عن أبي جهيم بضم الجيم مصغر جهم وهو عبد الله بن جهيم وقيل هو عبد الله بن الحارث بن الصمة بكسر المهملة وتشديد الميم الأنصاري له حديثان هذا أحدهما والآخر في السلام على من يبول وقال فيه أبو داود أبو الجهيم بن الحارث بن الصمة وقد قيل إن راوي حديث البول رجل آخر هو عبد الله بن الحارث والذي هنا عبد الله بن جهيم وأنهما اثنان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم::" لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه من الإثم" : لفظ:من الإثم ليس من ألفاظ البخاري ولا مسلم بل قال المصنف في فتح الباري إنها لا توجد في البخاري إلا عند بعض رواته وقدح فيه بأنه ليس من أهل العلم قال وقد عيب على الطبري نسبتها إلى البخاري في كتابه الأحكام وكذا عيب على صاحب العمدة نسبتها إلى الشيخين معا اهـ فالعجب من نسبة المصنف لها هنا إلى الشيخين فقد وقع له من الوهم ما وقع لصاحب العمدة "لكان أن يقف أربعين خيرا له من أن يمر بين يديه" متفق عليه واللفظ للبخاري وليس فيه ذكر مميز(1/142)
الأربعين ووقع في البزار أي من حديث أبي جهيم من وجه آخر أي من طريق رجالها غير رجال المتفق عليه أربعين خريفا أي عاما أطلق الخريف على العام من إطلاق الجزء على الكل والحديث دليل على تحريم المرور بين يدي المصلي أي ما بين موضع جبهته في سجوده وقدميه وقيل غير هذا وهو عام في كل مصل فرضا أو نفلا سواء كان إماما أو منفردا وقيل يختص بالإمام والمنفرد إلا المأموم فإنه لا يضره من مر بين يديه لأن سترة الإمام سترة له وإمامه سترة له إلا أنه قد رد هذا القول بأن السترة إنما ترفع الحرج عن المصلي لا عن المار ثم ظاهر الوعيد يختص بالمار لا بمن وقف عامدا مثلا بين يدي المصلي أو قعد أو رقد ولكن إذا كانت العلة فيه التشويش على المصلي فهو في معنى المار
2- (وعن عائشة رضي الله عنها قالت سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك عن سترة المصلي فقال: "مثل مؤخرة" بضم الميم وهمزة ساكنة وكسر الخاء المعجمة وفيها لغات أخر "الرحل" هو العود الذي في آخر الرحل أخرجه مسلم وفي الحديث ندب للمصلي إلى اتخاذ سترة وأنه يكفيه مثل مؤخرة الرحل وهي قدر ثلثي ذراع وتحصل بأي شيء أقامه بين يديه قال العلماء والحكمة في السترة كف البصر عما وراءها ومنع من يجتاز بقربه وأخذ من هذا أنه لا يكفي الخط بين يدي المصلي وإن كان قد جاء به حديث أخرجه أبو داود إلا أنه ضعيف مضطرب وقد أخذ به أحمد بن حنبل فقال يكفي الخط وينبغي له أن يدنو من السترة ولا يزيد ما بينه وبينها على ثلاثة أذرع فإن لم يجد عصا أو نحوها جمع أحجارا أو ترابا أو متاعه قال النووي استحب أهل العلم الدنو من السترة بحيث يكون بينه وبينها قدر مكان السجود وكذلك بين الصفوف وقد ورد الأمر بالدنو منها وبيان الحكمة في اتخاذها وهو ما رواه أبو داود وغيره من حديث سهل بن أبي حثمة مرفوعا إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها لا يقطع الشيطان عليه صلاته ويأتي في الحديث الرابع ما يفيد ذلك والقول بأن أقل السترة مثل مؤخرة الرحل يرده الحديث الآتي
3- (وعن سبرة بفتح السين المهملة وسكون الموحدة وهو أبو ثرية بضم المثلثة وفتح الراء وتشديد الشاة التحتية وهو سبرة ابن معبد الجهني سكن المدينة وعداده في البصريين قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليستتر أحدكم في الصلاة ولو بسهم" أخرجه الحاكم فيه الأمر بالسترة وحمله الجماهير على الندب وعرفت أن فائدة اتخاذها أنه مع اتخاذها لا يقطع الصلاة شيء ومع عدم اتخاذها يقطعها ما يأتي وفي قوله لو بسهم ما يفيد أنها تجزأ السترة غلظت أو دقت وأنه ليس أقلها مثل مؤخرة الرحل كما قيل قالوا والمختار أن يجعل السترة عن يمينه أو شماله ولا يصمد إليها
4- ( وعن أبي ذر بفتح الذال المعجمة وقد تقدمت ترجمته قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقطع صلاة المرء المسلم" أي يفسدها أو يقلل ثوابها "إذا لم يكن بين يديه مثل مؤخرة الرحل" أي مثلا وإلا فقد أجزأ السهم كما عرفت(1/143)
"المرأة" هو فاعل يقطع أي مرور المرأة "والحمار والكلب الأسود" الحديث أي أتم الحديث وتمامه قلت فما بال الأسود من الأحمر من الأصفر من الأبيض قال يا ابن أخي سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عما سألتني فقال: "الكلب الأسود شيطان" وفيه "الكلب الأسود شيطان" الجار يتعلق بمقدر أي وقال أخرجه مسلم وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه مختصرا ومطولا الحديث دليل على أنه يقطع صلاة من لا سترة له مرور هذه المذكورات وظاهر القطع الإبطال وقد اختلف العلماء في العمل بذلك فقال قوم يقطعها المرأة والكلب الأسود دون الحمار لحديث ورد في ذلك عن ابن عباس أنه مر بين يدي الصف على حمار والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي ولم يعد الصلاة ولا أمر أصحابه بإعادتها أخرجه الشيخان فجعلوه مخصصا لما هنا وقال أحمد يقطعها الكلب الأسود قال وفي نفسي من المرأة والحمار أما الحمار فلحديث ابن عباس وأما المرأة فلحديث عائشة عند البخاري أنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل وهي معترضة بين يديه فإذا سجد غمز رجليها فكفتهما فإذا قام بسطتهما فلو كانت الصلاة يقطعها مرور المرأة لقطعها اضطجاعها بين يديه وذهب الجمهور إلى أنه لا يقطعها شيء وتأولوا الحديث بأن المراد بالقطع نقص الأجر لا الإبطال قالوا لشغل القلب بهذه الأشياء ومنهم من قال هذا الحديث منسوخ بحديث أبي سعيد الآتي لا يقطع الصلاة شيء ويأتي الكلام عليه وقد ورد أنه يقطع الصلاة اليهودي والنصراني والمجوسي والخنزير وهو ضعيف أخرجه أبو داود من حديث ابن عباس وضعفه
5- (وله أي لمسلم عن أبي هريرة نحوه أي نحو حديث أبي ذر دون الكلب كذا في نسخ بلوغ المرام ويريد أن لفظ الكلب لم يذكر في حديث أبي هريرة ولكن راجعت الحديث فرأيت لفظه في مسلم عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب ويقي من ذلك مثل مؤخرة الرحل"
6- ( ولأبي داود والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما نحوه دون آخره وقيد المرأة بالحائض في أبي داود عن شعبة قال حدثنا قتادة قال سمعت جابر بن زيد يحدث عن ابن عباس رفعه شعبة قال: " يقطع الصلاة المرأة الحائض والكلب" وأخرجه النسائي وابن ماجه وقوله دون آخره يريد أنه ليس في حديث ابن عباس آخر حديث أبي هريرة الذي في مسلم وهو قوله ويقي من ذلك مثل مؤخرة الرحل فالضمير في آخره في عبارة المصنف لآخر حديث أبي هريرة مع أنه لم يأت بلفظه كما عرفت ولا يصح أنه يريد دون آخر حديث أبي ذر كما لا يخفى من أن حق الضمير عوده إلى الأقرب ثم راجعت سنن أبي داود وإذا لفظه "يقطع الصلاة المرأة الحائض والكلب" اهـ فاحتملت عبارة المصنف أن مراده دون آخر حديث أبي ذر وهو قوله "الكلب الأسود شيطان" أو دون حديث أبي هريرة وهو ما ذكرناه في الشرح والأول أقرب لأنه ذكر لفظ حديث أبي ذر دون لفظ حديث أبي هريرة وإن صح أن يعيد إليه الضمير وإن لم يذكره إحالة على الناظر وتقييد المرأة(1/144)
بالحائض يقتضي مع صحة الحديث حمل المطلق على المقيد فلا تقطع إلا الحائض كما أنه أطلق الكلب عن وصفه بالأسود في بعض الأحاديث وقيد في بعضها به فحملوا المطلق على المقيد وقالوا لا يقطع إلا الأسود فتعين في المرأة الحائض حمل المطلق على المقيد
7- (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس" مما سلف تعيينه من السترة وقدرها وقدر كم يكون بينها وبين المصلي "فأراد أحد أن يجتاز" أي يمضي "بين يديه فليدفعه" ظاهره وجوبا "فإن أبى" أي عن الاندفاع "فليقاتله" ظاهره كذلك "فإنما هو شيطان" تعليل للأمر بقتاله أو لعدم اندفاعه أو لهما متفق عليه وفي رواية أي لمسلم من حديث أبي هريرة "فإن معه القرين" في القاموس القرين الشيطان المقرون بالإنسان لا يفارقه وظاهر كلام المصنف أن رواية فإن معه القرين متفق عليها بين الشيخين من حديث أبي سعيد ولم أجدها في البخاري ووجدتها في صحيح مسلم لكن من حديث أبي هريرة والحديث دال بمفهومه على أنه إذا لم يكن للمصلي سترة فليس له دفع الإشارة بين يديه وإن كان له سترة دفعه قال القرطبي بالإشارة ولطيف المنع فإن لم يمتنع عن الاندفاع قاتله أي دفعه دفعا أشد من الأول قال وأجمعوا أنه لا يلزمه أن يقاتله بالسلاح لمخالفة ذلك قاعدة الصلاة من الإقبال عليها والاشتغال بها والخشوع هذا كلامه وأطلق جماعة أن له قتاله حقيقة وهو ظاهر اللفظ والقول بأنه يدفعه بلعنه وسبه يرده لفظ هذا الحديث ويؤيده فعل أبي سعيد راوي الحديث مع الشاب الذي أراد أن يجتاز بين يديه وهو يصلي أخرجه البخاري عن أبي صالح السمان قال رأيت أبا سعيد الخدري في يوم جمعة يصلي إلى شيء يستره من الناس فأراد شاب من بني أبي معيط أن يجتاز بين يديه فدفعه أبو سعيد في صدره فنظر الشاب فلم يجد مساغا إلا بين يديه فعاد ليجتاز فدفعه أبو سعيد أشد من الأول الحديث وقيل يرده بأسهل الوجوه فإذا أبى فبأشد ولو أدى إلى قتله فإن قتله فلا شيء عليه لأن الشارع أباح قتله والأمر في الحديث وإن كان ظاهره الإيجاب لكن قال النووي لا أعلم أحدا من الفقهاء قال بوجوب هذا الدفع بل صرح أصحابنا بأنه مندوب ولكن قال المصنف قد صرح بوجوبه أهل الظاهر وفي قوله فإنما هو شيطان تعليل بأن فعله فعل الشيطان في إرادة التشويش على المصلي وفيه دلالة على جواز إطلاق لفظ الشيطان على الإنسان الذي يريد إفساد صلاة المصلي وفتنته في دينه كما قال تعالى: {شَيَاطِينَ الإِِنْسِ وَالْجِنِّ} وقيل المراد بأن الحامل له على ذلك شيطان ويدل له رواية مسلم "فإن معه القرين" وقد اختلف في الحكمة المقتضية للأمر بالدفع الإثم عن المار وقيل: لدفع الخلل الواقع بالمرور في الصلاة وهذا الأرجح لأن عناية المصلي بصيانة صلاته أهم من دفعه الإثم عن غيره قلت ولو قيل إنه لهما معا لما بعد الإثم فيكون لدفع الإثم عن المار الذي أفاد حديث "لو لم يعلم المار" ولصيانة الصلاة عن النقصان من أجرها فقد أخرج أبو نعيم عن(1/145)
عمر" لو يعلم المصلي ما ينقص من صلاته بالمرور بين يديه ما صلى إلا إلى شيء يستره من الناس" وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود "إن المرور بين يدي المصلي يقطع نصف صلاته" ولهما حكم الرفع وإن كانا موقوفين إلا أن الأول فيمن لم يتخذ سترة والثاني: مطلق فيحمل عليه وأما من اتخذ السترة فلا نقص في صلاته بمرور المار لأنه قد صرح الحديث أنه مع اتخاذ السترة لا يضره مرور من مر فأمره بدفعه للمار لعل وجهه إنكار المنكر على المار لتعديه ما نهاه عنه الشارع ولذا يقدم الأخف على الأغلظ
8- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئا فإن لم يجد فلينصب عصا فإن لم يكن فليخط خطا ثم من مر بين يديه..." أخرجه أحمد وابن ماجه وصححه ابن حبان ولم يصب من زعم -وهو ابن الصلاح- أنه مضطرب فإنه أورده مثالا للمضطرب فيه بل هو حسن ونازعه المصنف في النكت وقد صححه أحمد وابن المديني وفي مختصر السنن قال سفيان بن عيينة لم نجد شيئا نشد به هذا الحديث ولم يجيء إلا من هذا الوجه وكان إسماعيل بن أمية إذا حدث بهذا الحديث يقول هل عندكم شيء تشدونه به وقد أشار الشافعي إلى ضعفه وقال البيهقي لا بأس به في مثل هذا الحكم إن شاء الله تعالى والحديث دليل على أن السترة تجزئ بأي شيء كانت وفي مختصر السنن قال سفيان بن عيينة رأيت شريكا صلى بنا في جنازة العصر فوضع قلنسوته بين يديه وفي الصحيحين من رواية ابن عمر "أنه صلى الله عليه وسلم كان يعرض راحلته فيصلي إليها" وقد تقدم أنه أي المصلي إذا لم يجد جمع ترابا أو أحجارا واختار أحمد بن حنبل أن يكون الخط كالهلال وفي قوله: "ثم لا يضره شيء ما" يدل أنه يضره إذا لم يفعل إما بنقصان من صلاته أو بإبطالها على ما ذكر أنه يقطع الصلاة إذ في المراد بالقطع الخلاف كما تقدم وهذا فيما إذا كان المصلي إماما أو منفردا لا إذا كان مؤتما فإن الإمام سترته سترة له وقد سبق قريبا وقد بوب له البخاري وأبو داود وأخرج الطبراني في الأوسط من حديث أنس مرفوعا سترة الإمام لمن خلفه وإن كان فيه ضعف واعلم أن الحديث عام في الأمر باتخاذ السترة في الفضاء وغيره فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى إلى جدار جعل بينه وبينه قدر ممر الشاة ولم يكن يتباعد منه بل أمر بالقرب من السترة وكان إذا صلى إلى عود أو عمود أو شجرة جعله على جانبه الأيمن أو الأيسر ولم يصمد له صمدا وكان يركز الحربة في السفر أو العنزة فيصلي إليها فتكون سترته وكان يعرض راحلته فيصلي إليها وقاس الشافعية على ذلك بسط المصلي لنحو سجادة بجامع إشعار الكفار أنه في الصلاة وهو صحيح.
9- (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقطع الصلاة شيء وادرءوا ما استطعتم" أخرجه أبو داود وفي سنده ضعف(1/146)
في مختصر المنذري في إسناده مجالد وهو أبو سعيد بن عمير الهمداني الكوفي وقد تكلم واحد وأخرج له مسلم حديثا مقرونا بغيره من أصحاب الشعبي وأخرج نحوه أيضا الدارقطني من حديث أنس وأبي أمامة والطبراني من حديث جابر وفي إسنادهما ضعف وهذا الحديث معارض لحديث أبي ذر وفيه أنه يقطع صلاة من ليس له سترة المرأة والحمار والكلب الأسود ولما تعارض الحديثان اختلف نظر العلماء فيهما فقيل المراد بالقطع في حديث أبي ذر نقص الصلاة بشغل القلب بمرور المذكورات وبعدم القطع في حديث أبي سعيد عدم البطلان أي أنه لا يبطلها شيء وإن نقص ثوابها بمرور ما ذكر في حديث أبي ذر وقيل حديث أبي سعيد هذا ناسخ لحديث أبي ذر وهذا ضعيف لأنه لا نسخ مع إمكان الجمع لما عرفت ولأنه لا يتم النسخ إلا بمعرفة التاريخ ولا يعلم هنا المتقدم من المتأخر على أنه لو تعذر الجمع بينهما لرجع إلى الترجيح وحديث أبي ذر أرجح لأنه أخرجه مسلم في صحيحه وحديث أبي سعيد في سنده ضعف كما عرفت(1/147)
باب الحث على الخشوع في الصلاة
في القاموس الخشوع الخضوع أو قريب من الخضوع أو هو في البدن والخشوع في الصوت والبصر والسكون والتذلل وفي الشرع الخضوع تارة يكون في القلب وتارة يكون من قبل البدن كالسكوت وقيل لا بد من اعتبارهما حكاه الفخر الرازي في تفسيره ويدل على أنه من عمل القلب حديث علي عليه السلام الخشوع في القلب أخرجه الحاكم قلت ويدل له حديث "لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه" وحديث الدعاء في الاستعاذة "وأعوذ بك من قلب لا يخشع" وقد اختلف في وجوب الخشوع في الصلاة فالجمهور على عدم وجوبه وقد أطال الغزالي في الإحياء الكلام في ذلك وذكر أدلة وجوبه وادعى النووي الإجماع على عدم وجوبه
1- (عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم" هذا إخبار من أبي هريرة عن نهيه صلى الله عليه وسلم ولم يأت بلفظه الذي أفاد النهي لكن هذا له حكم الرفع "أن يصلي الرجل" ومثله المرأة "مختصرا" بضم الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح المثناة الفوقية فصاد مهملة مكسورة فراء وهو منتصب على الحال وعامله يصلي وصاحبه الرجل متفق عليه واللفظ لمسلم وفسره المصنف أيضا بقوله ومعناه أن يجعل يده اليمنى أو اليسرى على خاصرته كذلك أي الخاصرة اليمنى أو اليسرى أو هما معا عليهما إلا أن تفسيره بما ذكر يعارضه ما في القاموس من قوله وفي الحديث المختصرون يوم القيامة على وجوههم النور أي المصلون بالليل فإذا تعبوا وضعوا أيديهم على خواصرهم اهـ إلا أني لم أجد الحديث مخرجا فإن صح فالجمع بينه وبين حديث الكتاب أن يتوجه النهي إلى من(1/147)
فعل ذلك بغير تعب كما يفيده قوله في تفسيره فإذا تعبوا إلا أنه يخالفه تفسير النهاية فإنه قال أراد أنهم يأتون ومعهم أعمال صالح يتكئون عليها وفي القاموس الخاصرة الشاكلة وما بين الحرقفة والقصيري وفسر الحرقفة بعظم الحجبة أي رأس الورك وهذا التفسير الذي ذكره المصنف عليه الأكثر وقيل الاختصار في الصلاة هو أن يأخذ بيده عصا يتوكأ عليها وقيل أن يختصر السورة ويقرأ من آخرها اية أو ايتين وقيل أن يحذف من الصلاة فلا يمد قيامها وركوعها وسجودها وحدودها والحكمة في النهي عنه بينها قوله
2- ( وفي البخاري عن عائشة أن ذلك أي الاختصار في الصلاة فعل اليهود في صلاتهم وقد نهينا عن التشبه بهم في جميع أحوالهم فهذا وجه حكمة النهي لا ما قيل إنه فعل الشيطان أو أن إبليس أهبط من الجنة كذلك أو إنه فعل المتكبرين لأن هذه علل تخمينية وما ورد منصوصا أي عن الصحابي هو العمدة لأنه أعرف بسبب الحديث ويحتمل أنه مرفوع وما ورد في الصحيح مقدم على غيره لورود هذه الأشياء أثرا وفي ذكر المصنف للحديث في باب الخشوع ما يشعر بأن العلة في النهي عن الاختصار أنه ينافي الخشوع
3- (وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:: إذا قدم العشاء : ممدود كسماء طعام العشي كما في القاموس "فابدأوا به" أي بأكله "قبل أن تصلوا المغرب" متفق عليه وقد ورد بإطلاق لفظ الصلاة قال ابن دقيق العيد فيحمل المطلق على المقيد وورد بلفظ إذا وضع العشاء وأحدكم صائم فلا يقيد به لما عرف في الأصول من أن ذكر حكم الخاص الموافق لا يقتضي تقييدا ولا تخصيصا والحديث دال على إيجاب تقديم أكل العشاء إذا حضر على صلاة المغرب والجمهور حملوه على الندب وقالت الظاهرية بل يجب تقديم أكل العشاء فلو قدم الصلاة لبطلت عملا بظاهر الأمر ثم الحديث ظاهر في أنه يقدم العشاء مطلقا سواء كان محتاجا إلى الطعام أو لا وسواء خشي فساد الطعام أو لا وسواء كان خفيفا أو لا وفي معنى الحديث تفاصيل أخر بغير دليل بل تتبعوا علة الأمر بتقديم الطعام فقالوا هو تشويش الخاطر بحضور الطعام وهو يفضي إلى ترك الخشوع في الصلاة وهي علة ليس عليها دليل إلا ما يفهم من كلام بعض الصحابة فإنه أخرج ابن أبي شيبة عن أبي هريرة وابن عباس أنهما كانا يأكلان طعاما وفي التنور شواء فأراد المؤذن أن يقيم الصلاة فقال له ابن عباس لا تعجل لا نقوم وفي أنفسنا منه شيء وفي رواية لئلا يعرض لنا في صلاتنا وله عن الحسن بن علي عليهما السلام أنه قال العشاء قبل الصلاة يذهب النفس اللوامة ففي هذه الآثار إشارة إلى التعليل بما ذكر ثم هذا إذا كان الوقت موسعا واختلف إذا تضيق بحيث لو قدم أكل العشاء خرج الوقت فقيل يقدم الأكل وإن خرج الوقت محافظة على تحصيل الخشوع في الصلاة قيل وهذا على قول من يقول بوجوب الخشوع في الصلاة وقيل بل يبدأ بالصلاة محافظة على حرمة الوقت وهو قول الجمهور من العلماء وفيه أن حضور الطعام عذر في ترك الجماعة عند من أوجبها وعند غيره قيل وفي قوله "فابدأوا" ما يشعر بأنه إذا كان حضور الصلاة وهو(1/148)
يأكل فلا يتمادى فيه وقد ثبت عن ابن عمر أنه كان إذا حضر عشاؤه وسمع قراءة الإمام في الصلاة لم يقم حتى يفرغ من طعامه وقد قيس على الطعام غيره مما يحصل بتأخيره تشويش الخاطر فالأولى البداءة به
4- (وعن أبي ذر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قام أحدكم في الصلاة " أي دخل فيها "فلا يمسح الحصى" أي من جبهته أو من محل سجوده "فإن الرحمة تواجهه" رواه الخمسة بإسناد صحيح وزاد أحمد في روايته واحدة أو دع في هذا النقل قلق لأنهم يفهم أنه زاد أحمد على هذا اللفظ الذي ساقه المصنف ومعناه على هذا فلا يمسح واحدة أو دع وهو غير مراد ولفظه عند أحمد عن أبي ذر سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن كل شيء حتى سألته عن مسح الحصاة فقال واحدة أو دع أي امسح واحدة أو اترك المسح فاختصار المصنف أخل بالمعنى كأنه اتكل في بيان معناه على لفظه لمن عرفه ولو قال وفي رواية لأحمد الإذن بمسحة واحدة لكان واضحا والحديث دليل على النهي عن مسح الحصاة بعد الدخول في الصلاة لا قبله فالأولى له أن يفعل ذلك لئلا يشغل باله وهو في الصلاة والتقييد بالحصى أو التراب كما في رواية للغالب ولا يدل على نفيه عما عداه قيل والعلة في النهي المحافظة على الخشوع كما يفيده سياق المصنف للحديث في هذا الباب أو لئلا يكثر العمل في الصلاة وقد نص الشارع على العلة بقوله فإن الرحمة تواجهه أي تكون تلقاء وجهه فلا يغير ما تعلق بوجهه من التراب والحصى ولا ما يسجد عليه إلا أن يؤلمه فله ذلك ثم النهي ظاهر في التحريم
5- (وفي الصحيح أي المتفق عليه عن معيقيب بضم الميم وفتح العين المهملة والمثناة التحتية وكسر القاف بعدها تحتية ساكنة بعدها موحدة هو معيقيب بن أبي فاطمة الدوسي شهد بدرا وكان أسلم قديما بمكة وهاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية وأقام بها حتى قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وكان على خاتم النبي صلى الله عليه وسلم واستعمله أبو بكر وعمر رضي الله عنهما على بيت المال مات سنة ست وأربعين وقيل في آخر خلافة عثمان نحوه أي نحو حديث أبي ذر ولفظه "لا تمسح الحصى وأنت تصلي فإن كنت لا بد فاعلا فواحدة لتسوية الحصى" بغير تعليل أي ليس فيه أن الرحمة تواجهه
6-( وعن عائشة رضي الله عنها قالت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة فقال: "هو اختلاس" بالخاء المعجمة فمثناة فوقية آخره سين مهملة هو الأخذ للشيء على غفلة "يختلسه الشيطان من صلاة العبد" رواه البخاري قال الطيبي سماه اختلاسا لأن المصلي يقبل على ربه تعالى ويترصد الشيطان فوات ذلك عليه فإذا التفت استلبه ذلك وهو دليل على كراهة الالتفات في الصلاة وحمله الجمهور على ذلك إذا كان التفاتا لا يبلغ إلى استدبار القبلة بصدره أو عنقه كله وإلا كان مبطلا للصلاة وسبب الكراهة نقصان الخشوع كما أفاده إيراد المنصف للحديث في هذا الباب أو ترك(1/149)
استقبال القبلة ببعض البدن أو لما فيه من الإعراض عن التوجه إلى الله تعالى كما أفاده ما أخرجه أحمد وابن ماجه من حديث أبي ذر لا يزال الله مقبلا على العبد في صلاته ما لم يلتفت فإذا صرف وجهه انصرف أخرجه أبو داود والنسائي وللترمذي أي عن عائشة وصححه إياك بكسر الكاف لأنه خطاب المؤنث والالتفات بالنصب لأنه محذر منه في الصلاة فإنه هلكة لإخلاله بأفضل العبادات وأي هلكة أعظم من هلكة الدين فإن كان لا بد من الالتفات ففي التطوع قيل والنهي عن الالتفات إذا كان لغير حاجة وإلا فقد ثبت أن أبا بكر رضي الله عنه التفت لمجيء النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الظهر والتفت الناس لخروجه صلى الله عليه وسلم في مرض موته حيث أشار إليهم ولو لم يلتفتوا ما علموا بخروجه ولا إشارته وأقرهم على
7- (وعن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان أحدكم في الصلاة فإنه يناجي ربه" وفي رواية في البخاري "فإن ربه بينه وبين القبلة" والمراد من المناجاة إقباله تعالى عليه بالرحمة والرضوان "فلا يبصقن بين يديه ولا عن يمينه" قد علل في حديث أبي هريرة بأن عن يمينه ملكا "ولكن عن شماله تحت قدمه" متفق عليه وفي رواية "أو تحت قدمه" الحديث نهى عن البصاق إلى جهة القبلة أو جهة اليمين إذا كان العبد في الصلاة وقد ورد النهي مطلقا عن أبي هريرة وأبي سعيد "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في جدار المسجد فتناول حصاة فحتها" وقال: "إذا تنخم أحدكم فلا يتنخمن قبل وجهه ولا عن يمينه وليبصقن عن يساره أو تحت قدمه اليسرى" متفق عليه وقد جزم النووي بالمنع في كل حالة داخل الصلاة وخارجها سواء كان في المسجد أو غيره وقد أفاده حديث أنس في حق المصلي إلا أن غيره من الأحاديث قد أفادت تحريم البصاق إلى القبلة مطلقا في المسجد وفي غيره وعلى المصلي وغيره ففي صحيح ابن خزيمة وابن حبان من حديث حذيفة مرفوعا "من تفل تجاه القبلة جاء يوم القيامة وتفلته بين عينيه" ولابن خزيمة من حديث ابن عمر مرفوعا "يبعث صاحب النخامة في القبلة يوم القيامة وهي في وجهه" وأخرج أبو داود وابن حبان من حديث السائب بن خلاد أن رجلا أم قوما فبصق في القبلة فلما فرغ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يصلي لكم" ومثل البصاق إلى القبلة البصاق عن اليمين فإنه منهي عنه مطلقا أيضا وأخرج عبد الرزاق عن ابن مسعود أنه كره أن يبصق عن يمينه وليس في الصلاة وعن معاذ بن جبل ما بصقت عن يميني منذ أسلمت وعن عمر بن عبد العزيز أنه نهى عنه أيضا وقد أرشد صلى الله عليه وسلم إلى أي جهة يبصق فقال عن شماله تحت قدمه فبين الجهة أنها جهة الشمال والمحل أنه تحت القدم وورد في حديث أنس عند أحمد ومسلم بعد قوله: "ولكن عن يساره أو تحت قدم" ه زيادة ثم أخذ طرف ردائه فبصق فيه ورد بعضه على بعض فقال أو يفعل هكذا وقوله أو تحت قدمه خاص بمن ليس في المسجد وأما إذا كان فيه ففي ثوبه لحديث "البصاق في المسجد(1/150)
خطيئة" إلا أنه قد يقال المراد البصاق إلى جهة القبلة أو جهة اليمين خطيئة لا تحت القدم أو عن شماله لأنه قد أذن فيه الشارع ولا يأذن في خطيئة هذا وقد سمعت أنه علل صلى الله عليه وسلم النهي عن البصاق على اليمين بأن عن يمينه ملكا فأورد سؤال وهو أن على الشمال أيضا ملكا وهو كاتب السيئات وأجيب بأنه اختص بذلك ملك اليمين تخصيصا له وتشريفا وإكراما وأجاب بعض المتأخرين بأن الصلاة أم الحسنات البدنية فلا دخل لكاتب السيئات فيها واستشهد لذلك بما أخرجه ابن أبي شيبة من حديث حذيفة موقوفا في هذا الحديث ولا عن يمينه فإن عن يمينه كاتب الحسنات وفي الطبراني من حديث أمامة في هذا الحديث فإنه يقوم بين يدي الله وملك عن يمينه وقرينه عن يساره وإذا ثبت هذا فالتفل يقع على القرين وهو الشيطان ولعل ملك اليسار حينئذ بحيث لا يصيبه شيء من ذلك أو أنه يتحول في الصلاة إلى جهة اليمين
8- (وعنه أي أنس رضي الله عنه قال كان قرام بكسر القاف وتخفيف الراء الستر الرقيق وقيل الصفيق من صوف ذي ألوان لعائشة سترت به جانب بيتها فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم "أميطي عنا" أي أزيلي "قرامك هذا فإنه لا تزال تصاويره تعرض" بفتح المثناة الفوقية وكسر الراء "لي في صلاتي" رواه البخاري في الحديث دلالة على إزالة ما يشوش على المصلي صلاته مما في منزله أو في محل صلاته ولا دليل فيه على بطلان الصلاة لأنه لم يرو أنه صلى الله عليه وسلم أعادها ومثله
9- (واتفقا -أي الشيخان- على حديثها -أي عائشة -في قصة أنبجانية بفتح الهمزة وسكون النون وكسر الموحدة وتخفيف الجيم وبعد النون ياء النسبة كساء غليظ لا علم فيه أبي جهم بفتح الجيم وسكون الهاء هو عامر بن حذيفة وفيه فإنها أي الخميصة وكانت ذات أعلام أهداها له صلى الله عليه وسلم أبو جهم فالضمير لها وإن لم يتقدم في كلام المصنف ذكرها ولفظ الحديث عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في خميصة لها أعلام فنظر إلى أعلامها نظرة فلما انصرف قال: "اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم وأتوني بأنبجانية أبي جهم فإنها ألهتني آنفا عن صلاتي" هذا لفظ البخاري وعبارة المصنف تفهم أن ضمير فإنها للأنبجانية وكذا ضمير ألهتني عن صلاتي وذلك أن أبا جهم أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم خميصة لها أعلام كما روى مالك في الموطأ عن عائشة قالت أهدى أبو جهم بن حذيفة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خميصة لها علم فشهد فيها الصلاة فلما انصرف قال: "ردي هذه الخميصة إلى أبي جهم" وفي رواية عنها "كنت أنظر إلى علمها وأنا في الصلاة فأخاف أن يفتنني" قال ابن بطال إنما طلب منه ثوبا غيرها ليعلمه أنه لم يرد عليه هديته استخفافا به وفي الحديث دليل على كراهة ما يشغل عن الصلاة من النقوش ونحوها مما يشغل القلب وفيه مبادرته صلى الله عليه وسلم إلى صيانه الصلاة عما يلهي وإزاله ما يشغل عن الإقبال عليها قال الطيبي فيه إيذان بأن للصور والأشياء الظاهرة تأثيرا في القلوب الطاهرة والنفوس الزكية فضلا عما دونها وفيه(1/151)
كراهة الصلاة على المفارش والسجاجيد المنقوشة وكراهة نقش المساجد ونحوه
10- (وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لينتهين" بفتح اللام وفتح المثناة التحتية وسكون النون وفتح المثناة الفوقية وكسر الهاء "أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء" في الصلاة أي إلى ما فوقهم مطلقا "أو لا ترجع إليهم" رواه مسلم قال النووي في شرح مسلم فيه النهي الأكيد والوعيد الشديد في ذلك وقد نقل الإجماع على ذلك والنهي يفيد تحريمه وقال ابن حزم تبطل به الصلاة قال القاضي عياض واختلفوا في غير الصلاة في الدعاء فكرهه قوم وجوزه الأكثرون
11- (وله أي لمسلم عن عائشة قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا صلاة بحضرة طعام" تقدم الكلام في ذلك إلا أن هذا يفيد أنها لا تقام الصلاة في موضع حضر فيه الطعام وهو عام للنفل والفرض وللجائع وغيره والذي تقدم أخص من هذا "ولا" أي لا صلاة "وهو" أي المصلي "يدافعه الأخبثان" البول والغائط ويلحق بهما مدافعة الريح فهذا مع المدافعة وأما إذا كان يجد في نفسه ثقل ذلك وليس هناك مدافعة فلا نهي عن الصلاة معه ومع المدافعة فهي مكروهة قيل تنزيها لنقصان الخشوع فلو خشي خروج الوقت إن قدم التبرز وإخراج الأخبثين قدم الصلاة وهي صحيحة مكروهة كذا قال النووي ويستحب إعادتها وعن الظاهرية أنها باطلة
12- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "التثاؤب من الشيطان" لأنه يصدر عن الامتلاء والكسل وهما مما يحبه الشيطان فكأن التثاؤب منه "فإذا تثاءب أحدكم فليكظم أي يمنعه ويمسكه ما استطاع" رواه مسلم والترمذي وزاد أي الترمذي "في الصلاة" فقيد الأمر بالكظم بكونه في الصلاة ولا ينافي النهي عن تلك الحالة مطلقا لموافقة المقيد والمطلق في الحكم وهذه الزيادة هي في البخاري أيضا وفيه بعدها ولا يقل ها فإنما ذلك من الشيطان يضحك منه وكل هذا مما ينافي الخشوع وينبغي أن يضع يده على فيه لحديث إذا تثاءب أحدكم فليضع يده على فيه فإن الشيطان يدخل مع التثاؤب وأخرجه أحمد والشيخان وغيرهم(1/152)
باب المساجد
المساجد جمع مسجد بفتح الجيم وكسرها فإن أريد به المكان المخصوص فهو بكسر الجيم لا غير وإن أريد به موضع السجود وهو موضع وقوع الجبهة في الأرض فإنه بالفتح لا غير وفي فضائل المساجد أحاديث واسعة وأنها أحب البقاع إلى الله وأن "من بنى لله مسجدا من مال حلال بنى الله له بيتا في الجنة" وأحاديثها في مجمع الزوائد وغيره
1- (عن عائشة رضي الله عنها قالت" أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور" يحتمل أن المراد بها البيوت ويحتمل أن المراد المحال التي تبنى فيها(1/152)
الدور "وأن تنظف" عن الأقذار "وتطيب" رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصحح إرساله والتطييب بالبخور ونحوه والأمر بالبناء للندب لقوله أينما أدركتك الصلاة فصل أخرجه مسلم ونحوه عند غيره قيل وعلى إرادة المعنى الأول في الدور ففي الحديث دليل على أن المساجد شرطها قصد التسبيل إذ لو كان يتم مسجدا بالتسمية لخرجت تلك الأماكن التي اتخذت في المساكن عن ملك أهلها وفي شرح السنة أن المراد المحال التي فيها الدور ومنه – سأريكم دار الفاسقين- لأنهم كانوا يسمون المحال التي اجتمعت فيها القبيلة دارا قال سفيان بناء المساجد في الدور يعني القبائل
2- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قاتل الله اليهود" أي لعن كما جاء في رواية وقيل معناه قتلهم وأهلكهم "اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" متفق عليه وفي مسلم عن عائشة قالت إن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتاها بالحبشة فيها تصاوير فقال: "إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا تلك التصاوير أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة" واتخاذ القبور مساجد أعم من أن يكون بمعنى الصلاة إليها أو بمعنى الصلاة عليها وفي مسلم لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها ولا عليها قال البيضاوي: لما كانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور أنبيائهم تعظيما لشأنهم ويجعلونها قبلة يتوجهون في الصلاة نحوها اتخذوها أوثانا لهم ومنع المسلمين من ذلك قال وأما من اتخذ مسجدا في جوار صالح وقصد التبرك بالقرب منه لا لتعظيم له ولا لتوجه نحوه فلا يدخل في ذلك الوعيد قلت قوله لا لتعظيم له يقال اتخاذ المساجد بقربه وقصد التبرك به تعظيم له ثم أحاديث النهي مطلقة ولا دليل على التعليل بما ذكر والظاهر أن العلة سد الذريعة والبعد عن التشبه بعبدة الأوثان الذين يعظمون الجمادات التي لا تسمع ولا تنفع ولا تضر ولما في إنفاق المال في ذلك من العبث والتبذير الخالي عن النفع بالكلية ولأنه سبب لإيقاد السرج عليها الملعون فاعله ومفاسد ما يبنى على القبور من المشاهد والقباب لا تحصر وقد أخرج أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن ابن عباس قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج" وزاد مسلم والنصارى زاد في حديث أبي هريرة هذا بعد قوله اليهود وقد استشكل ذلك لأن النصارى ليس لهم نبي إلا عيسى عليه السلام إذ لا نبي بينه وبين محمد صلى الله عليه وسلم وهو حي في السماء وأجيب بأنه كان فيهم أنبياء غير المرسلين كالحواريين ومريم في قول وأن المراد من قوله أنبيائهم المجموع من اليهود والنصارى أو المراد الأنبياء وكبار أتباعهم واكتفى بذكر الأنبياء ويؤيد ذلك قوله في رواية مسلم "كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد" ولهذا لما أفرد النصارى كما في الحديث الآتي
3- (ولهما أي البخاري ومسلم من حديث عائشة "كانوا إذا مات فيهم" أي النصارى "قال الرجل الصالح" ولما أفرد اليهود كما في حديث أبي هريرة قال أنبيائهم وأحسن من هذا أن يقال أنبياء اليهود أنبياء النصارى لأن النصارى مأمورون بالإيمان(1/153)
بكل رسول فرسل بني إسرائيل يسمون أنبياء في حق الفريقين بنوا على قبره مسجدا وفيه "أولئك شرار الخلق" اسم الإشارة عائد إلى الفريقين وكفى به ذما والمراد من الاتخاذ أعم من أن يكون ابتداعا أو اتباعا فاليهود ابتدعت والنصارى اتبعت
4- ( وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلا فجاءت برجل فربطوه بسارية من سواري المسجد الحديث متفق عليه الرجل هو ثمامة بن أثال صرح بذلك في الصحيحين وغيرهما وليس فيه أن الربط عن أمره صلى الله عليه وسلم ولكنه صلى الله عليه وسلم قرر ذلك لأن في القصة أنه كان يمر به ثلاثة أيام ويقول ما عندك يا ثمامة الحديث وفيه دليل على جواز ربط الأسير بالمسجد وإن كان كافرا وأن هذا تخصيص لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن المسجد لذكر الله والطاعة" وقد أنزل صلى الله عليه وسلم وفد ثقيف في المسجد قال الخطابي: فيه جواز دخول المشرك المسجد إذا كان له فيه حاجة مثل أن يكون له غريم في المسجد لا يخرج إليه ومثل أن يحاكم إلى قاض هو في المسجد وقد كان الكفار يدخلون مسجده صلى الله عليه وسلم ويطيلون فيه الجلوس وقد أخرج أبو داود من حديث أبي هريرة أن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد وأما قوله تعالى: {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} فالمراد به لا يمكنون من حج ولا عمرة كما ورد في القصة التي بعث لأجلها صلى الله عليه وسلم بآيات براءة إلى مكة وقوله فلا يحجن بعد هذا العام مشرك وكذلك قوله تعالى: {مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ} لا يتم بها دليل على تحريم المساجد على المشركين لأنها نزلت في حق من استولى عليها وكانت له الحكمة والمنعة كما وقع في سبب نزول الآية الكريمة فإنها نزلت في شأن النصارى واستيلائهم على بيت المقدس وإلقاء الأذى فيه والأزبال أو أنها نزلت في شأن قريش ومنعهم له صلى الله عليه وسلم عام الحديبية عن العمرة وأما دخوله من غير استيلاء ومنع وتخريب فلم تفده الآية الكريمة وكأن المصنف ساقه لبيان جواز دخول المشرك المسجد وهو مذهب إمامه فيما عدا المسجد الحرام
5- (وعنه أي أبي هريرة أن عمر رضي الله عنه مر بحسان بالحاء المهملة مفتوحة فسين مهملة مشددة هو ابن ثابت شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم يكنى أبا عبد الرحمن أطال ابن عبد البر في ترجمته في الاستيعاب قال وتوفي حسان قبل الأربعين في خلافة علي عليه السلام وقيل بل مات سنة خمسين وهو ابن مائة وعشرين سنة ينشد بضم حرف المضارعة وسكون النون وكسر الشين المعجمة في المسجد فلحظ إليه أي نظر إليه وكأن حسان فهم منه نظر الإنكار فقال قد كنت أنشد فيه وفيه أي المسجد من هو خير منك يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم متفق عليه وقد أشار البخاري في باب بدء الخلق في هذه القصة أن حسان أنشد في المسجد ما أجاب به المشركين عنه صلى الله عليه وسلم ففي الحديث دلالة على جواز إنشاد الشعر في المسجد(1/154)
وقد عارضه أحاديث أخرج ابن خزيمة وصححه الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تناشد الأشعار في المسجد وله شواهد وجمع بينها وبين حديث الباب بأن النهي محمول على تناشد أشعار الجاهلية وأهل البطالة وما لم يكن فيه غرض صحيح والمأذون فيه ما سلم من ذلك وقيل المأذون فيه مشروط بأن لا يكون ذلك مما يشغل من في المسجد وعنه رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد فليقل لا ردها الله عليك فإن المساجد لم تبن لهذا" رواه مسلم
6- (وعنه أي أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سمع رجلا ينشد" بفتح المثناة التحتية وسكون النون وضم الشين المعجمة من نشد الدابة إذا طلبها "ضالة في المسجد فليقل لا ردها الله عليك" عقوبة له لارتكابه في المسجد ما لا يجوز وظاهره أنه يقول جهرا وأنه واجب "فإن المساجد لم تبن لهذا" رواه مسلم أي بل بنيت لذكر الله والصلاة والعلم والمذاكرة في الخير ونحوه والحديث دليل على تحريم السؤال عن ضالة الحيوان في المسجد وهل يلحق به السؤال عن غيرها من المتاع ولو ذهب في المسجد قيل يلحق للعلة وهي قوله: "فإن المساجد لم تبن لهذا" وأن من ذهب له متاع فيه أو في غيره قعد في باب المسجد يسأل الخارجين والداخلين إليه واختلف أيضا في تعليم الصبيان القرآن في المسجد وكأن المانع يمنعه لما فيه من رفع الأصوات المنهي عنه في حديث واثلة جنبوا مساجدكم مجانينكم وصبيانكم ورفع أصواتكم أخرجه عبد الرزاق والطبراني في الكبير وابن ماجه
7- (وعنه) أي أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع" يشتري "في المسجد فقولوا له لا أربح الله تجارتك" رواه الترمذي والنسائي وحسنه) فيه دلالة على تحريم البيع والشراء في المساجد وأنه يجب على من رأى ذلك فيه أن يقول لكل من البائع والمشتري لا أربح الله تجارتك جهرا زجزا للفاعل لذلك يقول والعلة هي قوله فيما سلف فإن المساجد لم تبن لذلك وهل ينعقد البيع قال الماوردي: إنه ينعقد اتفاقا
8- ( وعن حكيم بن حزام بالحاء المهملة مكسورة والزاي وحكيم صحابي كان من أشراف قريش في الجاهلية والإسلام أسلم عام الفتح عاش مائة وعشرين سنة ستين في الجاهلية وستين في الإسلام وتوفي بالمدينة سنة أربع وخمسين وله أربعة أولاد صحابيون كلهم عبد الله وخالد ويحيى وهشام قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقام الحدود في المساجد ولا يستقاد فيها" أي يقام القود فيها رواه أحمد وأبو داود بسند ضعيف ورواه الحاكم وابن السكن وأحمد بن حنبل والدارقطني والبيهقي وقال المصنف في التلخيص لا بأس بإسناده والحديث دليل على تحريم إقامة الحدود في المساجد وعلى تحريم الاستقادة فيها
9- (وعن عائشة رضي الله عنها قالت أصيب سعد هو ابن معاذ بضم الميم(1/155)
فعين مهملة بعد الألف ذال معجمة هو أبو عمرو سعد بن معاذ الأوسي أسلم بالمدينة بين العقبة الأولى والثانية وأسلم بإسلامه بنو عبد الأشهل وسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الأنصار وكان مقداما مطاعا شريفا في قومه من كبار الصحابة شهد بدرا وأحدا وأصيب يوم الخندق في أكحله فلم يرقأ دمه حتى مات بعد شهر توفي في شهر ذي القعدة سنة خمس من الهجرة يوم الخندق فضرب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أي نصب عليه خيمة في المسجد ليعوده من قريب أي ليكون مكانه قريبا منه صلى الله عليه وسلم فيعوده متفق عليه فيه دلالة على جواز النوم في المسجد وبقاء المريض فيه وإن كان جريحا وضرب الخيمة وإن منعت من الصلاة
10- (وعنها أي عن عائشة قالت رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسترني وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد الحديث متفق عليه قد بين في رواية للبخاري أن لعبهم كان بالدرق والحراب وفي رواية لمسلم يلعبون في المسجد بالحراب وفي رواية للبخاري وكان يوم عيد فهذا يدل على جواز مثل ذلك في المسجد في يوم مسرة وقيل إنه منسوخ بالقران والسنة أما القران فقوله تعالى {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} وأما السنة فبحديث "جنبوا مساجدكم صبيانكم" الحديث وتعقب بأنه حديث ضعيف وليس فيه ولا في الآية تصريح بما ادعاه ولا عرف التاريخ فيتم النسخ وقد حكي أن لعبهم كان خارج المسجد وعائشة كانت في المسجد وهذا مرود بما ثبت في بعض طرق هذا الحديث أن عمر أنكر عليهم لعبهم في المسجد فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "دعهم" وفي ألفاظه أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمر: "لتعلم اليهود أن في ديننا فسحة وأني بعثت بحنيفية سمحة" وكأن عمر بنى على الأصل في تنزيه المساجد فبين له صلى الله عليه وسلم أن التعمق والتشدد ينافي قاعدة شريعته صلى الله عليه وسلم من التسهيل والتيسير وهذا يدفع قول الطبري إنه يغتفر للحبش ما لا يغتفر لغيرهم فيقر حيث ورد ويدفع قول من قال إن اللعب بالحراب ليس لعبا مجردا بل فيه تدريب الشجعان على مواضع الحروب والاستعداد للعدو ففي ذلك من المصلحة التي تجمع عامة المسلمين ويحتاج إليها في إقامة الدين فأجيز فعلها في المسجد هذا وأما نظر عائشة إليهم وهم يلعبون وهي أجنبية ففيه دلالة على جواز نظر المرأة إلى جملة الناس من دون تفصيل لأفرادهم كما تنظرهم إذا خرجت للصلاة في المسجد وعند الملاقاة في الطرقات ويأتي تحقيق هذه المسألة في محلها
11- (وعنها أي عائشة (أن الوليدة) الوليد الأمة سوداء كان لها خباء بكسر الخاء المعجمة وموحدة فهمزة ممدودة الخيمة من وبر أو غيره وقيل لا تكون إلا من شعر في المسجد فكانت تأتيني فتحدث عندي الحديث متفق عليه والحديث برمته في البخاري عن عائشة أن وليدة سوداء كان لحي من العرب فأعتقوها فكانت معهم فخرجت صبية لهم عليها وشاح أحمر من سيور قال فوضعته أو وقع منها فمرت حدياة وهو(1/156)
ملقي فحسبته لحما فخطفته قالت فالتمسوه فلم يجدوه فاتهموني به فجعلوا يفتشوني حتى فتشوا قبلها قالت والله إني لقائمة معهم إذ مرت الحدياة فألقته قالت فوقع بينهم فقلت هذا الذي اتهموني به زعمتم وأنا بريئة منه وهاهو ذا قالت فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت قال عائشة فكان لها خباء في المسجد أو حفش فكانت تأتيني فتحدث عندي قالت فلا تجلس إلا قالت ويوم الوشاح من تعاجيب ربنا ألا إنه من دارة الكفر نجاني قالت عائشة قلت لها ما شأنك لا تقعدين إلا قلت هذا فحدثتني بهذا الحديث فهذا الذي أشار إليه المصنف بقوله الحديث وفي الحديث دلالة على إباحة المبيت والمقيل في المسجد لمن ليس له مسكن من المسلمين رجلا كان أو امرأة عند أمن الفتنة وجواز ضرب الخيمة له ونحوها
12- (وعن أنس رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البصاق" في القاموس البصاق كغراب والبساق والبزاق ماء الفم إذ خرج منه وما دام فيه فهو ريق وفي لفظ للبخاري البزاق ولمسلم "االتفل في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها" متفق عليه الحديث دليل على أن البصاق في المسجد خطيئة والدفن يكفرها وقد عارضه ما تقدم من حديث فليبصق عن يساره أو تحت قدمه فإن ظاهره سواء كان في المسجد أو غيره قال النووي هما عمومان لكن الثاني مخصوص بما إذا لم يكن في المسجد ويبقى عموم الخطيئة إذا كان في المسجد من دون تخصيص وقال القاضي عياض إنما يكون البصاق في المسجد خطيئة إذا لم يدفنه وأما إذا أراد دفنه فلا وذهب إلى هذا أئمة من أهل الحديث ويدل له حديث أحمد والطبراني بإسناد حسن من حديث أبي أمامة مرفوعا من تنخع في المسجد فلم يدفنه فسيئة فإن دفنه فحسنه فلم يجعله سيئة إلا بقيد عدم الدفن ونحوه حديث أبي ذر ثم مسلم مرفوعا وجدت في مساوىء أمتي النخاعة تكون في المسجد لا تدفن وهكذا فهم السلف ففي سنن سعيد بن منصور عن أبي عبيدة بن الجراح أنه تنخم في المسجد ليلة فنسى أن يدفنها حتى رجع إلى منزله فأخذ شعلة من نار ثم جاء فطلبها حتى دفنها وقال الحمد لله حيث لم تكتب على خطيئة الليلة فدل على أنه فهم أن الخطيئة مختصة بمن تركها وقدمنا وجها من الجمع وهو أن الخطيئة حيث كان التفل عن اليمين أو إلى جهة القبلة لا إذا كان عن الشمال وتحت القدم فالحديث هذا مخصص بذلك ومقيد به قال الجمهور والمراد أي من دفنها دفنها في تراب المسجد ورمله وحصاه وقول من قال المراد من دفنها إخراجها من المسجد بعيد
13- (وعنه أي أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى يتباهى" يتفاخر "الناس في المساجد " بأن يقول واحد في مسجدي أحسن من مسجدك علوا وزينة وغير ذلك أخرجه الخمسة إلا الترمذي وصححه ابن خزيمة الحديث من أعلام(1/157)
النبوة وقوله: "لا تقوم الساعة" قد يؤخذ منه أنه من أشراطها والتباهي إما بالقول كما عرفت أو بالفعل كأن يبالغ كل واحد في تزيين مسجده ورفع بنائه وغير ذلك وفيه دلالة مفهمة بكراهة ذلك وأنه من أشراط الساعة وأن الله لا يحب تشييد المساجد ولا عمارتها إلا بالطاعة
14- (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أمرت بتشيد المساجد" أخرجه أبو داود وصححه ابن حبان وتمام الحديث قال ابن عباس: لتزخرفنها كما زخرفتها اليهود والنصارى وهذا مدرج من كلام ابن عباس كأنه فهمه من الأخبار النبوية من أن هذه الأمة تحذو حذو بني إسرائيل والتشييد رفع البناء وتزيينه بالشيد وهو الجص كذا في الشرح والذي في القاموس شاد الحائط يشيده طلاه بالشيد وهو ما يطلى به الحائط من جص ونحوه انتهى فلم يجعل رفع البناء من مسماه والحديث ظاهر في الكراهة أو التحريم لقول ابن عباس كما زخرفت اليهود والنصارى فإن التشبه بهم محرم وذلك أنه ليس المقصود من بناء المساجد إلا أن تكن الناس من الحر والبرد وتزيينها يشغل القلوب عن الخشوع الذي هو روح جسم العبادة والقول بأنه يجوز تزيين المحراب باطل قال المهدي في البحر: إن تزيين الحرمين لم يكن برأي ذي حل وعقد ولا سكوت رضا أي من العلماء وإنما فعله أهل الدول الجبابرة من غير مؤاذنة لأحد من أهل الفضل وسكت المسلمون والعلماء من غير رضا وهو كلام حسن وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "ما أمرت" إشعار بأنه لا يحسن ذلك فإنه لو كان حسنا لأمره الله به صلى الله عليه وسلم وأخرج البخاري من حديث ابن عمر أن مسجده صلى الله عليه وسلم كان على عهده صلى الله عليه وسلم مبنيا باللبن وسقفه الجريد وعمده خشب النخل فلم يزد فيه أبو بكر شيئا وزاد فيه عمر وبناه على بنائه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم باللبن والجريد وأعاد عمده خشبا ثم غيره عثمان فزاد فيه زيادة كبيرة وبنى جدرانه بالأحجار المنقوشة والجص وجعل عمدة من حجارة منقوشة وسقفه بالساج قال ابن بطال: وهذا يدل على أن السنة في بنيان المساجد القصد وترك الغلو في تحسينها فقد كان عمر مع كثرة الفتوحات في أيامه وكثرة المال عنده لم يغير المسجد عما كان عليه وإنما احتاج إلى تجديده لأن جريد النخل كان قد نخر في أيامه ثم قال: عند عمارته أكن الناس من المطر وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس ثم كان عثمان والمال في زمنه أكثر فحسنه بما لا يقتضي الزخرفة ومع ذلك أنكر بعض الصحابة عليه وأول من زخرف المساجد الوليد بن عبد الملك وذلك في أواخر عصر الصحابة وسكت كثير من أهل العلم عن إنكار ذلك خوفا من الفتنة
15- (وعن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عرضت على أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد" رواه أبو داود والترمذي واستغربه وصححه ابن خزيمة القذاة بزنة حصاة هي مستعملة في كل شيء يقع في البيت وغيره إذا كان يسيرا وهذا إخبار بأن ما يخرجه الرجل من المسجد وإن قل وحقر مأجور(1/158)
فيه لأن فيه تنظيف بيت الله وإزالة ما يؤذي المؤمنين ويفيد بمفهومه أن من الأوزار إدخال القذاة إلى المسجد
16- (وعن أبي قتادة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين" متفق عليه الحديث نهى عن جلوس الداخل إلى المسجد إلا بعد صلاته ركعتين وهما تحية المسجد وظاهره وجوب ذلك وذهب الجمهور إلى أنه ندب واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم للذي رآه يتخطى "اجلس فقد آذيت" ولم يأمره بصلاتهما وبأنه قال صلى الله عليه وسلم لمن علمه الأركان الخمسة فقال: لا أزيد عليها "أفلح إن صدق" الأول: مردود بأنه لا دليل على أنه لم يصلهما فإنه يجوز أنه صلاهما في طرف المسجد ثم جاء يتخطى الرقاب والثاني: بأنه قد وجب غير ما ذكر كصلاة الجنائز ونحوها ولا مانع من أنه وجب بعد قوله لا أزيد واجبات وأعلمه صلى الله عليه وسلم بها ثم ظاهر الحديث أنه يصليهما في أي وقت شاء ووقت الكراهة وفيه خلاف وقررناه في حواشي شرح العمدة أنه لا يصليهما من دخل المسجد في أوقات الكراهة وقررنا أيضا أن وجوبهما هو الظاهر لكثرة الأوامر الواردة به وظاهره أنه إذا جلس ولم يصلهما لا يشرع له أن يقوم فيصليهما وقال جماعة يشرع له التدارك لما رواه ابن حبان في صحيحه من حديث أبي ذر أنه دخل المسجد فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ركعت ركعتين" قال لا قال: "قم فاركعهما" وترجم عليه ابن حبان تحية المسجد لا تفوت بالجلوس وكذلك ما يأتي من قصة سليك الغطفاني وقوله ركعتين لا مفهوم له في جانب الزيادة بل في جانب القلة فلا تتأدى سنة التحية بركعة واحدة قال في الشرح: وقد أخرج من عموم المسجد المسجد الحرام فتحيته الطواف وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ فيه بالطواف قلت هكذا ذكره ابن القيم في الهدى وقد يقال إنه لم يجلس فلا تحية للمسجد الحرام إذ التحية إنما تشرع لمن جلس والداخل المسجد الحرام يبدأ بالطواف ثم يصلي صلاة المقام فلا يجلس إلا وقد صلى نعم لو دخل المسجد الحرام وأراد القعود قبل الطواف فإنه يشرع له صلاة التحية كغيره من المساجد وكذلك قد استثنوا صلاة العيد لأنه صلى الله عليه وسلم لم يصل قبلها ولا بعدها ويجاب عنه بأنه صلى الله عليه وسلم ما جلس حتى يتحقق في حقه أنه ترك التحية بل وصل إلى الجنانة أو إلى المسجد فإنه صلى العيد في مسجده مرة واحدة ولم يقعد بل وصل إلى المسجد ودخل في صلاة العيد وأما الجنابة فلا تحية لها إذ ليست بمسجد إذا وأما إذا اشتغل الداخل بالصلاة كأن يدخل وقد أقيمت الفريضة فيدخل فيها فإنها تجزئه عن ركعتي التحية بل هو منهي عنها بحديث إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة(1/159)
باب صفة الصلاة
1- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال مخاطبا للمسيء في صلاته وهو خلاد بن رافع "إذا قمت إلى الصلاة فاسبغ الوضوء" تقدم أن إسباغ(1/159)
الوضوء إتمامه "ثم استقبل القبلة فكبر تكبيرة الإحرام ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن" فيه أنه لا يجب دعاء الاستفتاح إذ لو وجب لأمره به وظاهره أنه يجزئه من القرآن غير الفاتحة ويأتي تحقيقه "ثم اركع حتى تطمئن راكعا" فيه إيجاب الركوع والاطمئنان فيه "ثم ارفع من الركوع حتى تعتدل قائما" من الركوع "ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا" فيه أيضا وجوب السجود ووجوب الاطمئنان فيه "ثم ارفع من السجود حتى تطمئن جالسا" بعد السجدة الأولى "ثم اسجد الثانية حتى تطمئن ساجدا" كالأولى فهذه صفة ركعة من ركعات الصلاة قياما وتلاوة وركوعا واعتدالا منه وسجودا وطمأنينة وجلوسا بين السجدتين ثم سجدة باطمئنان كالأولى فهذه صفة ركعة كاملة "ثم افعل ذلك" أي جميع ما ذكر من الأقوال والأفعال إلا تكبيرة الإحرام فإنها مخصوصة بالركعة الأولى لما علم شرعا من عدم تكرارها "في صلاتك" في ركعات صلاتك "كلها" أخرجه السبعة بألفاظ متقاربة و هذا اللفظ الذي ساقه هنا للبخاري وحده ولابن ماجه أي من حديث أبي هريرة بإسناد مسلم أي بإسناد رجاله رجال مسلم "حتى تطمئن قائما" عوضا عن قوله في لفظ البخاري "حتى تعتدل" فدل على إيجاب الاطمئنان عند الاعتدال من الركوع ومثله أي مثل ما أخرجه ابن ماجه ما في قوله
2- (في حديث رفاعة بكسر الراء هو ابن رافع صحابي أنصاري شهد بدرا وأحدا وسائر المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهد مع علي عليه السلام الجمل وصفين وتوفي أول إمارة معاوية عند أحمد وابن حبان فإنه عندهما بلفظ حتى تطمئن قائماً وفي لفظ لأحمد فأقم صلبك حتى ترجع العظام أي التي انخفضت حال الركوع ترجع إلى ما كانت عليه حال القيام للقراءة وذلك بكمال الاعتدال وللنسائي وأبي داود من حديث رفاعة بن رافع أي مرفوعا " إنها لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله تعالى" في آية المائدة "ثم يكبر الله" تكبيرة الإحرام "ويحمده" بقراءة الفاتحة إلا أن قوله: "فإن كان معك قرآن" يشعر بأن المراد بقوله "يحمده" غير القراءة وهو دعاء الافتتاح فيؤخذ منه وجوب مطلق الحمد والثناء بعد تكبيرة الإحرام ويأتي الكلام في ذلك ويثني عليه بها وفيها أي في رواية النسائي وأبي داود عن رفاعة " فإن كان معك قرآن فاقرأ وإلا أي وإن لم يكن معك قرآن " فاحمد الله" أي ألفاظ الحمد الله والأظهر أن يقول الحمد لله وكبره بلفظ الله أكبر وهلله بقول لا إله إلا الله فدل على أن هذه عوض القراءة لمن ليس له قرآن يحفظه ولأبي داود أي من رواية رفاعة ثم اقرأ بأم الكتاب وبما شاء الله ولابن حبان ثم بما شئت هذ حديث جليل يعرف بحديث المسيء صلاته وقد اشتمل على تعليم ما يجب في الصلاة وما لا تتم إلا به فدل على وجوب الوضوء لكل قائم إلى الصلاة وهو كما دلت عليه الآية {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ}(1/160)
والمراد لمن كان محدثا كما عرف من غيره وقد فصل ما أجملته رواية البخاري رواية النسائي بلفظ: "حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ويمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين" وهذا التفصيل دل على عدم وجوب المضمضة والاستنشاق ويكون هذا قرينة على حمل الأمر بهما حيث ورد على الندب ودل على إيجاب استقبال القبلة قبل تكبيرة الإحرام وقد تقدم وجوبه وبيان عفو الاستقبال للمتنفل الراكب ودل على وجوب تكبيرة الإحرام وعلى تعيين ألفاظها رواية الطبراني لحديث رفاعة بلفظ ثم يقول الله أكبر ورواية ابن ماجه التي صححها ابن خزيمة وابن حبان من حديث أبي حميد من فعله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة اعتدل قائما ورفع يديه ثم قال الله أكبر ومثله أخرجه البزار من حديث علي عليه السلام بإسناد صحيح على شرط مسلم أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة قال الله أكبر فهذا يبين أن المراد من تكبيرة الإحرام هذا اللفظ ودل على وجوب قراءة القرآن في الصلاة سواء كان الفاتحة أو غيرها لقوله "ما تيسر معك من القرن" وقوله "فإن كان معك قران" ولكن رواية أبي داود بلفظ: "فاقرأ بأم الكتاب" وعند أحمد وابن حبان "ثم اقرأ بأم القران ثم اقرأ بما شئت" وترجم له ابن حبان باب فرض المصلي فاتحة الكتاب في كل ركعة فمع تصريح الرواية بأم القران يحمل قوله ما تيسر معك على الفاتحة لأنها كانت المتيسرة لحفظ المسلمين لها أو يحمل أنه صلى الله عليه وسلم عرف من حال المخاطب أنه لا يحفظ الفاتحة ومن كان كذلك وهو يحفظ غيرها فله أن يقرأه أو أنه منسوخ بحديث تعيين الفاتحة أو أن المراد ما تيسر فيما زاد على الفاتحة ويؤيده رواية أحمد وابن حبان فإنها عينت الفاتحة وجعلت ما تيسر لما عداها فيحتمل أن الراوي حيث قال ما تيسر ولم يذكر الفاتحة ذهل عنها ودل على إيجاب غير الفاتحة معها لقوله بأم الكتاب وبما شاء الله أو شئت ودل على أن من لم يحفظ القران يجزئه الحمد والتكبير والتهليل وأنه لا يتعين عليه منه قدر مخصوص ولا لفظ مخصوص وقد ورد تعيين الألفاظ بأن يقول سبحان الله والحمد الله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ودل على وجوب الركوع ووجوب الاطمئنان فيه وفي لفظ لأحمد كيفيته فقال فإذا ركعت فاجعل راحتيك على ركبتيك وامدد ظهرك ومكن ركوعك وفي رواية ثم تكبر وتركع حتى تطمئن مفاصلك وتسترخي ودل على وجوب الرفع من الركوع وعلى وجوب الانتصاب قائما وعلى وجوب الاطمئنان لقوله حتى تطمئن قائما وقد قال المصنف إنها بإسناد مسلم وقد أخرجها السراج أيضا بإسناد على شرط البخاري فهي على شرط الشيخين ودل على وجوب السجود والطمأنينة فيه وقد فصلتها رواية النسائي عن إسحاق بن أبي طلحة بلفظ ثم يكبر ويسجد حتى يمكن وجهه وجبهته حتى تطمئن مفاصله وتسترخي ودل على وجوب القعود بين السجدتين وفي رواية النسائي ثم يكبر فيرفع رأسه حتى يستوي قاعدا على مقعدته ويقيم صلبه وفي رواية فإذا رفعت رأسك فاجلس على فخذك اليسرى فدل على أن هيئة القعود بين السجدتين بافتراش اليسرى ودل على أنه يجب أن يفعل كل ما ذكر في بقية ركعات صلاته إلا تكبيرة الإحرام فإنه(1/161)
معلوم أن وجوبها خاص بالدخول في الصلاة أول ركعة ودل على إيجاب القراءة في كل ركعة وعلى ما عرفت من تفسير ما تيسر بالفاتحة وتجب الفاتحة في كل ركعة وتجب قراءة ما شاء معها في كل ركعة ويأتي الكلام على إيجاب ما عدا الفاتحة في الآخرتين والثالثة من المغرب واعلم أن هذا حديث جليل تكرر من العلماء الاستدلال به على وجوب كل ما ذكر فيه وعدم وجوب كل ما لم يذكر فيه أما الاستدلال على أن كل ما ذكر فيه واجب فلأنه ساقه صلى الله عليه وسلم بلفظ الأمر بعد قوله لن تتم الصلاة إلا بما ذكر فيه وأما الاستدلال بأن كل ما لم يذكر فيه لا يجب فلأن المقام مقام تعليم الواجبات في الصلاة فلو ترك ذكر بعض ما يجب لكان فيه تأخير البيان عن وقت الحاجة وهو لا يجوز بالإجماع فإذا حصرت ألفاظ هذا الحديث الصحيح أخذ منها بالزائد ثم إن عارض الوجوب الدال عليه ألفاظ هذا الحديث أو عدم الوجوب دليل أقوى منه عمل به وإن جاءت صيغة أمر بشيء لم يذكر في هذا الحديث احتمل أن يكون هذا الحديث قرينة على حمل الصيغة على الندب واحتمل البقاء على الظاهر فيحتاج إلى مرجح للعمل به ومن الواجبات المتفق عليها ولم تذكر في هذا الحديث النية قلت كذا في الشرح ولقائل أن يقول قوله إذا قمت إلى الصلاة دال على إيجابها إذ ليس النية إلا القصد إلى فعل الشيء وقوله فتوضأ أي قاصدا له ثم قال والقعود الأخير أي من الواجب المتفق عليه ولم يذكره في الحديث ثم قال ومن المختلف فيه التشهد الأخير والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيه والسلام في آخر الصلاة
3- (وعن أبي حميد بصيغة التصغير الساعدي هو أبو حميد بن عبد الرحمن بن سعد الأنصاري الخزرجي الساعدي منسوب إلى ساعدة وهو أبو الخزرج المدني غلب عليه كنيته مات أخر ولاية معاوية قال " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كبر" أي للإحرام "جعل يديه" أي كفيه "حذو" بفتح الحاء المهملة وسكون الذال المعجمة "منكبيه" وهذا هو رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام "وإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه" تقدم بيانه في رواية أحمد لحديث المسيء صلاته "فإذا ركعت فاجعل راحتيك على ركبتيك وامدد ظهرك ومكن ركوعك" "ثم هصر" بفتح الهاء فصاد مهملة مفتوحة فراء "ظهره" قال الخطابي أي ثناه في استواء من غير تقويس وفي رواية للبخاري "ثم حنى" بالحاء المهملة والنون وهو بمعناه وفي رواية "غير مقنع رأسه ولا مصوبه" وفي رواية "وفرج بين أصابعه" "فإذا رفع رأسه" أي من الركوع "استوى" زاد أبو داود "فقال سمع الله لمن حمده اللهم ربنا لك الحمد ورفع يديه" وفي رواية لعبد الحميد زيادة "حتى يحاذي بهما منكبيه" معتدلا "حتى يعود كل فقار" بفتح الفاء والقاف آخره راء جمع فقارة وهي عظام الظهر وفيها رواية بتقديم القاف على الفاء "مكانه" وهي التي عبر عنها في حديث رفاعة بقوله حتى ترجع العظام "فإذا سجد وضع يديه غير مفترش"(1/162)
أي لهما وعند ابن حبان "غير مفترش ذراعيه" "ولا قابضهما" بأن يضمهما إليه "واستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة" ويأتي بيانه في شرح حديث " أمرت أن أسجد على سبعة أعظم" "وإذا جلس في الركعتين" جلوس التشهد الأوسط "جلس على رجله اليسرى ونصب اليمنى وإذا جلس في الركعة الأخيرة " للتشهد الأخير "قدم رجله اليسرى ونصب الأخرى وقعد على مقعدته" أخرجه البخاري حديث أبي حميد هذا روى عنه قولا وروى عنه فعلا واصفا فيهما صلاته صلى الله عليه وسلم وفيه بيان صلاته صلى الله عليه وسلم وأنه كان عند تكبيرة الإحرام يرفع يديه حذو منكبيه ففيه دليل على أن ذلك من أفعال الصلاة وأن رفع اليدين مقارن للتكبير وهو الذي دل عليه حديث وائل بن حجر عند أبي داود وقد ورد تقديم الرفع على التكبير وعكسه فورد بلفظ رفع يديه ثم كبر وبلفظ كبر ثم رفع يديه وللعلماء قولان الأول: مقارنة الرفع للتكبير والثاني: تقديم الرفع على التكبير ولم يقل أحد بتقديم التكبير على الرفع فهذه صفته وفي المنهاج وشرحه النجم الوهاج الأول: رفعه وهو الأصح مع ابتدائه لما رواه الشيخان عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه حذو منكبيه حين يكبر فيكون ابتداؤه مع ابتدائه ولا استصحاب في انتهائه فإن فرغ من التكبير قبل تمام الرفع أو بالعكس أتم الآخر فإن فرغ منهما حط يديه ولم يستدم الرفع والثاني: يرفع غير مكبر ثم يكبر ويداه قارتان فإذا فرغ أرسلهما لأن أبا داود رواه كذلك بإسناد حسن وصحح هذا البغوي واختاره الشيخ ودليله في مسلم من رواية ابن عمر والثالث يرفع مع ابتداء التكبير ويكون انتهاؤه مع انتهائه ويحطهما بعد فراغ التكبير لا قبل فراغه لأن الرفع للتكبير فكان معه وصححه المصنف ونسبه إلى الجمهور انتهى بلفظه وفيه تحقيق الأقوال وأدلتها ودلت الأدلة أنه من العمل المخير فيه فلا يتعين شيء بحكمه وأما حكمه فقال داود والأوزاعي والحميدي شيخ البخاري وجماعة إنه واجب لثبوته من فعله صلى الله عليه وسلم فإنه قال المصنف إنه روى رفع اليدين في أول الصلاة خمسون صحابيا منهم العشرة المشهود لهم الجنة وروى البيهقي عن الحاكم قال لا تعلم سنة اتفق على روايتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلفاء الأربعة ثم العشرة المشهود لهم بالجنة فمن بعدهم من الصحابة مع تفرقهم في البلاد الشاسعة غير هذه السنة قال البيهقي هو كما قال أستاذنا أبو عبد الله قال الموجبون قد ثبت الرفع عند تكبيرة الإحرام هذا الثبوت وقد قال صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي" فلذا قلنا بالوجوب وقال غيرهم إنه سنة من سنن الصلاة وعليه الجمهور وزيد بن علي والقاسم والناصر والإمام يحيى وبه قالت الأئمة الأربعة من أهل المذاهب ولم يخالف فيه ويقول إنه ليس سنة إلا الهادي وبهذا تعرف أن من روى عن الزيدية أنهم لا يقولون به فقد عمم النقل بلا علم هذا وأما إلى أي محل يكون الرفع فرواية أبي حميد هذه تفيد أنه إلى مقابل المنكبين والمنكب مجمع رأس عظم الكتف والعضد وبه أخذت الشافعية وقيل إنه يرفع حتى يحاذي بهما فروع أذنه(1/163)
لحديث وائل بن حجر بلفظ حتى حاذى أذنيه وجمع بين الحديثين بأن المراد أنه يحاذي بظهر كفيه المنكبين وبأطراف أنامله الأذنين كما تدل له رواية لوائل عند أبي داود بلفظ حتى كانت حيال منكبيه ويحاذي بإبهاميه أذنيه وقوله أمكن يديه من ركبتيه قد فسر هذا الإمكان رواية أبي داود كأنه قابض عليهما وقوله هصر ظهره تقدم قول الخطابي فيه وتقدم في رواية ثم حنى بالحاء المهملة والنون وهو بمعناه وفي رواية غير مقنع رأسه ولا مصوبه في رواية وفرج بين أصابعه وقد سبق وقوله حتى يعود كل فقار المراد منه كمال الاعتدال وتفسره رواية ثم يمكث قائما حتى يقع كل عضو موضعه وفي ذكره كيفية الجلوسين الجلوس الأوسط والأخير دليل على تغايرهما وأنه في الجلسة الأخيرة يتورك أي يفضي بوركه إلى الأرض وينصب رجله اليمنى وفيه خلاف بين العلماء سيأتي وبهذا الحديث عمل الشافعي ومن تابعه
4- (وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قام إلى الصلاة قال: "وجهت وجهي للذي فطر السموات" أي قصدت بعبادتي إلى قوله "من المسلمين" وفيه روايتان أن يقول "وأنا أول المسلمين" بلفظ الآية ورواية وأنا من المسلمين وإليها أشار المصنف "اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت أنت ربي وأنا عبدك إلى آخره" رواه مسلم تمامه "ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعا إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت لبيك وسعديك والخير كله في يديك والشر ليس إليك أنا بك وإليك تباركت وتعاليت أستغفرك وأتوب إليك" وقوله "فطر السموات والأرض" أي ابتدأ خلقهما مثال سبق وقوله "حنيفا" أي مائلا إلى الدين الحق وهو الإسلام وزيادة وما أنا من المشركين بيان للحنيف وأيضا لمعناه النسك العبادة وكل ما يتقرب به إلى الله وعطفه على الصلاة من عطف العام على الخاص وقوله: "ومحياي ومماتي" أي حياتي وموتي لله أي هو المالك لهما والمختص بهما وقوله: "رب العالمين" الرب الملك والعالمين جمع عالم مشتق من العلم وهو اسم لجميع المخلوقات كذا قيل وفي القاموس العالم الخلق كله أو ما حواه بطن الفلك ولا يجمع فاعل بالواو والنون غيره وغير ياسى وقوله: "لا شريك له" - تأكيد لقوله "رب العالمين" المفهوم منه الاختصاص وقوله "اللهم أنت الملك" أي المالك لجميع المخلوقات وقوله: "ظلمت نفسي" اعتراف بظلم نفسه قدمه على سؤال المغفرة ومعنى "لبيك" أقيم على طاعتك وامتثال أمرك إقامة متكررة وسعديك أي أسعد أمرك وأتبعه إسعادا متكررا ومعنى الخير كله في يديك الإقرار بأن كل خير واصل إلى العباد ومرجو وصوله فهو في يديه تعالى ومعنى "والشر ليس إليك" أي ليس مما يتقرب إليه به أي يضاف إليك فلا يقال يا رب الشر أو لا يصعد إليك فإنه إنما يصعد إليه الكلم الطيب ومعنى "أنا بك وإليك" أي التجائي وانتهائي إليك وتوفيقي بك ومعنى "تباركت"(1/164)
استحققت الثناء أو ثبت الخير عندك فهذا ما يقال في الاستفتاح مطلقا وفي رواية له أي لمسلم أن ذلك كان يقوله صلى الله عليه وسلم في صلاة الليل ونقل المصنف في التلخيص عن الشافعي وابن خزيمة أنه يقال في المكتوبة وأن حديث علي عليه السلام ورد فيها فعلى كلامه هنا يحتمل أنه مختص بها هذا الذكر ويحتمل أنه عام وأنه يخير العبد بين قوله عقيب التكبير أو قول ما أفاده
5- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كبر في الصلاة" أي تكبيرة الإحرام "سكت هنيهة" بضم الهاء فنون فمثناة تحتية فهاء مفتوحة فنون أي ساعة لطيفة قبل أن يقرأ فينبغي أي عن سكوته ما يقول فيه فقال أقول: "اللهم باعد ببين وبين خطاياي" المباعدة المراد بها محو ما حصل منها أو العصمة عما يأتي منها "كما باعدت بين المشرق والمغرب" لا يجتمع المشرق والمغرب لا يجتمع هو وخطاياه "اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس" بفتح الدال المهملة والنون فسين مهملة في القاموس أنه الوسخ والمراد أزل عني الخطايا بهذه الإنالة "اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد" بالتحريك جمع بردة قال الخطابي: ذكر الثلج والبرد تأكيد أو لأنهما ماءان لم تستعملها الأيدي وقال ابن دقيق العيد: عبر بذلك عن غاية المحو فإن الثوب للذي تكرر عليه ثلاثة أشياء منقية يكون في غاية النقاء وفيه أقوال أخر متفق عليه وفي الحديث دليل على أنه يقول هذا الذكر بين التكبيرة والقراءة سرا وأنه يخير العبد بين هذا الدعاء والدعاء الذي في حديث علي عليه السلام أو يجمع بينهما
6- (وعن عمر رضي الله عنه أنه كان يقول أي بعد تكبيرة الإحرام "سبحانك اللهم وبحمدك" أي أسجد حال كوني متلبسا بحمدك "تبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك" رواه مسلم بسند منقطع قال الحاكم قد صح عن عمر وقال في الهدي النبوي: إنه قد صح عن عمر أنه كان يستفتح به في مقام النبي صلى الله عليه وسلم ويجهر به ويعلمه الناس وهو بهذا الوجه في حكم المرفوع ولذا قال الإمام أحمد أما أنا فأذهب إلى ما روي عن عمر ولو أن رجلا استفتح ببعض ما روي لكان حسنا وقد ورد في التوجه بألفاظ كثيرة والقول بأنه يخير العبد بينها قول حسن وأما الجمع بين هذا وبين وجهت وجهي الذي تقدم فقد ورد في حديث ابن عمر رواه الطبراني في الكبير وفي رواته ضعف والدارقطني عطف على مسلم أي ورواه الدارقطني موصولا وموقوفا على عمر وأخرجه أبو داود والحاكم من حديث عائشة مرفوعا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استفتح الصلاة قال سبحانك الحديث ورجال إسناده ثقات وفيه انقطاع وأعله أبو داود وقال الدارقطني ليس بالقوي
7- (ونحوه أي نحو حديث عمر عن أبي سعيد مرفوعا ثم الخمسة وفيه وكان(1/165)
يقول بعد التكبير "أعوذ بالله السميع" لأقوالهم "العليم" بأقوالهم وأفعالهم وضمائرهم "من الشيطان الرجيم" المرجوم "من همزه" المراد به الجنون "ونفخه" بالنون فالفاء فالخاء المعجمة والمراد به الكبر "ونفثه" بالنون والفاء المثلثة المراد به الشعر وكأنه أراد به الهجاء والحديث دليل على الاستعاذة وأنها بعد التكبيرة والظاهر أنها أيضا بعد التوجه بالأدعية لأنها تعوذ القراءة وهو قبلها
8- (وعن عائشة رضي الله عنها قالت "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح" أي يفتتح "الصلاة بالتكبير" أي يقول الله أكبر كما ورد بهذا اللفظ في الحلية لأبي نعيم والمراد تكبيرة الإحرام ويقال لها تكبيرة الافتتاح والقراءة منصوب عطف على الصلاة أي ويستفتح القراءة "بالحمد" بضم الدال على الحكاية "لله رب العالمين وكان إذا ركع لم يشخص" بضم الشاة التحتية فشين فخاء معجمتان فصاد مهملة "رأسه" أي لم يرفعه "ولم يصوبه" بضمها أيضا وفتح الصاد المهملة وكسر الواو المشددة أي لم يخفضه خفضا بليغا بل بين الخفض والرفع وهو التسوية كما دل له قوله ولكن بين ذلك أي بين المذكور من الخفض والرفع "وكان إذا رفع" أي "رأسه من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائما" تقدم في حديث أبي هريرة في أول الباب "ثم ارفع حتى تعتدل قائما" " وكان إذا رفع رأسه من السجود" أي الأول "لم يسجد" الثانية "حتى يستوي" بينهما "جالسا" وتقدم ثم ارفع حتى تطمئن جالسا "وكان يقول في كل ركعتين" أي بعدهما "التحية" أي يتشهد بالتحيات لله كما يأتي ففي الثلاثية والرباعية المراد به الأوسط وفي الثنائية الأخير "وكان يفرش رجله اليسرى وينصب اليمنى" ظاهره أن هذا جلوسه في جميع الجلسات بين السجودين وحال التشهدين وتقدم في حديث أبي حميد وإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى ونصب اليمنى "وكان ينهى عن عقبة الشيطان" بضم العين المهملة وسكون القاف فموحدة ويأتي تفسيرها "وينهى أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع" بأن يبسطهما في سجوده وفسر السبع بالكلب وورد في رواية بلفظه وكان يختم الصلاة بالتسليم أخرجه مسلم وله علة وهي أنه أخرجه مسلم من رواية أبي الجوزاء بالجيم والزاي عن عائشة قال ابن عبد البر هو مرسل أبو الجوزاء لم يسمع من عائشة وأعل أيضا بأنه أخرجه مسلم من طريق الأوزاعي مكاتبة والحديث فيه دلالة على تعيين التكبير ثم الدخول في الصلاة وتقدم الكلام فيه في حديث أبي هريرة أول الباب واستدل بقولها والقراءة بالحمد على أن البسملة ليست من الفاتحة وهو قول أنس وأبي من الصحابة وقال به مالك وأبو حنيفة وآخرون وحجتهم هذا الحديث وقد أجيب عنه بأن مرادها بالحمد لله رب العالمين السورة نفسها لا هذا اللفظ فإن الفاتحة تسمى بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} كما ثبت ذلك في صحيح البخاري فلا حجة فيه على أن البسملة ليست من الفاتحة ويأتي الكلام عليه مستوفى في حديث أنس قريبا وتقدم(1/166)
الكلام على أنه في ركوعه لا يرفع رأسه ولا يخفضه كما تقدم على قوله "وكان إذا رفع رأسه" إلى قوله "وكان يقول التحية" والمراد بها الثناء المعروف بالتحيات لله الآتي لفظه في حديث ابن مسعود إن شاء الله تعالى ففيه شرعية التشهد الأوسط والأخير ولا يدل على الوجوب لأنه فعل إلا أن يقال إنه بيان لإجمال الصلاة في القران المأمور بها وجوبا والأفعال لبيان الواجب واجبة أو يقال بإيجاب أفعال الصلاة لقوله صلى الله عليه وسلم "صلوا كما رأيتموني أصلي" وقد اختلف في التشهدين فقيل واجبان وقيل سنتان وقيل الأول سنة والأخير واجب ويأتي الكلام في حديث ابن مسعود إن شاء الله تعالى على التشهد الأخير وأما الأوسط فإنه استدل من قال بالوجوب بهذا الحديث كما قررناه وبقوله صلى الله عليه وسلم "إذا صلى أحدكم فليقل التحيات لله" الحديث ومن قال بأنها سنة استدل بأنه صلى الله عليه وسلم لما سها عنه لم يعد لأدائه وجبره بسجود السهو ولو وجب لم يجبره سجود السهو كالركوع وغيره من الأركان وقد رد هذا الاستدلال بأنه يجوز أن يكون الوجوب مع الذكر فإن نسي حتى دخل في فرض آخر جبره سجود السهو وفي قولها "وكان يفرش رجله اليسرى وينصب اليمنى" ما يدل أنه كان جلوسه صلى الله عليه وسلم بين السجدتين وحال التشهد وقد ذهب إليها الهادوية والحنفية ولكن حديث أبي حميد الذي تقدم فرق بين الجلوسين فجعل هذا صفة الجلوس بعد الركعتين وجعل صفة الجلوس الأخير تقديم رجله اليسرى ونصب الأخرى والقعود على مقعدته وللعلماء خلاف في ذلك والظاهر أنه من الأفعال المخير فيها وفي قولها "ينهى عن عقبة الشيطان" أي في القعود وفسرت بتفسيرين أحدهما أنه يفترش قدميه ويجلس بأليتيه على عقبيه ولكن هذه القعدة اختارها العبادلة في القعود في غير الأخير وهذه تسمى إقعاء وجعلوا المنهي عنه هو الهيئة الثانية وتسمى أيضا إقعاء وهي أن يلصق الرجل أليتيه في الأرض وينصب ساقيه وفخذيه ويضع يديه على الأرض كما يقعى الكلب وافتراش الذراعين تقدم أنه بسطهما على الأرض حال السجود وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن التشبه بالحيوانات نهى عن بروك كبروك البعير والتفات كالتفات الثعلب وافتراش كافتراش السبع وإقعاء كإقعاء الكلب ونقر كنقر الغراب ورفع الأيدي وقت السلام كأذناب خيل شمس وفي قولها "وكان يختم الصلاة بالتسليم" دلالة على شرعية التسليم وأما إيجابه فيستدل له بما قدمناه سابقا
9- (وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم "كان يرفع يديه حذو" بفتح الحاء المهملة وسكون الذال المعجمة أي مقابل "منكبيه إذا افتتح الصلاة" تقدم في حديث أبي حميد الساعدي "وإذا كبر للركوع" رفعهما "وإذا رفع رأسه" أي أراد أن يرفعه من الركوع متفق عليه فيه شرعية رفع اليدين في هذه الثلاثة المواضع أما عند تكبيرة الإحرام فتقدم فيه الكلام وأما عند الركوع والرفع منه فهذا الحديث دل على مشروعية ذلك قال محمد بن نصر المروزي أجمع علماء الأمصار على ذلك إلا أهل الكوفة(1/167)
قلت والخلاف فيه للهادوية مطلقا في المواضع الثلاثة واستدل للهادي في البحر بقوله صلى الله عليه وسلم مالي أراكم الحديث قلت وهو إشارة إلى حديث جابر بن سمرة أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي ولفظه عنه قال "كنا إذا صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا بأيدينا السلام الله وأشار بيديه إلى الجانبين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "علام تومئون بأيديكم مالي أرى أيديكم كأذناب خيل شمس اسكنوا في الصلاة وإنما يكفي أحدكم أن يضع يده على فخذه ثم يسلم على أخيه عن يمينه وشماله" انتهى بلفظه وهو حديث صريح في أنه كان ذلك في إيمائهم بأيديهم ثم السلام والخروج من الصلاة وسببه صريح في ذلك وأما قوله اسكنوا في الصلاة فهو عائد إلى ما أنكره عليهم من الإيماء إلى كل حركة في الصلاة فإنه معلوم أن الصلاة مركبة من حركات وسكون وذكر الله قال المقبلي في المنار على كلام الإمام المهدي إن كان هذا غفلة من الإمام إلى هذا الحد فقد أبعد وإن كان مع معرفته حقيقة الأمر فهو أورع وأرفع من ذلك والإكثار في هذا لجاج مجرد وأمر الرفع أوضح من أن تورد له الأحاديث المفردات وقد كثرت كثرة لا توازى وصحت صحة لا تمنع ولذا لم يقع الخلاف المحقق فيه إلا للهادي فقط فهي من النوادر التي تقع لأفراد العلماء مثل مالك والشافعي وغيرهما ما أحد منهم إلا له نادرة ينبغي أن تغمر في جنب فضله وتجتنب انتهى وخالفت الحنفية فيما عدا الرفع عند تكبيرة الإحرام واحتجوا برواية مجاهد أنه صلى خلف ابن عمر فلم يره يفعل ذلك وبما أخرجه أبو داود من حديث ابن مسعود بأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه عند الافتتاح ثم لا يعود وأجيب بأن الأول فيه أبو بكر بن عياش وقد ساء حفظه ولأنه معارض برواية نافع وسالم ابني ابن عمر لذلك وهما مثبتان ومجاهد ناف والمثبت مقدم وبأن تركه لذلك إذا ثبت كما رواه مجاهد يكون مبينا لجوازه وأنه لا يراه واجبا وبأن الثاني وهو حديث ابن مسعود لم يثبت كما قال الشافعي ولو ثبت لكانت رواية ابن عمر مقدمة عليها لأنها إثبات وذلك نفي والإثبات مقدم وقد نقل البخاري عن الحسن وحميد بن هلال أن الصحابة كانوا يفعلون ذلك قال البخاري ولم يستثن الحسن أحدا ونقل عن شيخه علي بن المديني أنه قال حق على المسلمين أن يرفعوا أيديهم عند الركوع والرفع منه لحديث ابن عمر هذا وزاد البخاري في موضع آخر بعد كلام ابن المديني وكان علي أعلم أهل زمانه قال ومن زعم أنه بدعة فقد طعن في الصحابة ويدل له قوله
10- (وفي حديث أبي حميد عند أبي داود "يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه ثم يكبر" تقدم حديث أبي حميد من رواية البخاري لكن ليس فيه ذكر الرفع إلا عند تكبيرة الإحرام بخلاف حديثه عند أبي داود ففيه إثبات الرفع في الثلاثة المواضع كما أفاده حديث ابن عمر ولفظه عند أبي داود "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قام إلى الصلاة اعتدل قائما ورفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه فإذا أراد أن يركع رفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه" الحديث تمامه "ثم قال الله أكبر وركع ثم اعتدل فلم يصوب رأسه(1/168)
ولم يقنع ووضع يديه على ركبتيه ثم قال سمع الله لمن حمد ورفع يديه واعتدل حتى رجع كل عظم إلى موضعه معتدلا" الحديث وأفاد رفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وسلم يديه في الثلاثة المواضع وكان على المصنف أن يقول بعد قوله ثم يكبر الحديث ليفيد أن الاستدلال به جميعه فإنه قد يتوهم أن حديث أبي حميد ليس فيه إلا الرفع عند تكبيرة الإحرام كما أن قوله
11- (ولمسلم عن مالك بن الحويرث نحو حديث ابن عمر أي الرفع في الثلاثة المواضع لكن قال حتى يحاذي بهما أي اليدين فروع أذنيه أطرافهما فخالف رواية ابن عمر وأبي حميد في هذا اللفظ فذهب البعض إلى ترجيح رواية ابن عمر لكونها متفقا عليها وجمع آخرون بينهما فقالوا يحاذي بظهر كفيه المنكبين وبأطراف أنامله الأذنين وأيدوا ذلك برواية أبي داود عن وائل بلفظ حتى كانت حيال منكبيه وحاذى بإبهاميه أذنيه وهذا جمع حسن
12- (وعن وائل بفتح الواو وألف فهمزة هو أبو هنيد بضم الهاء وفتح النون بن حجر بن ربيعة الحضرمي كان أبوه من ملوك حضرموت وفد وائل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم الراوي ويقال "إنه صلى الله عليه واله وسلم بشر أصحابه قبل قدومه فقال يقدم عليكم وائل بن حجر من أرض بعيدة طائعا راغبا في الله عز وجل وفي رسوله وهو بقية أبناء الملوك فلما دخل عليه صلى الله عليه واله وسلم رحب به وأدناه من نفسه وبسط له رداءه فأجلسه عليه وقال اللهم بارك على وائل وولده واستعمله على الأقيال من حضرموت" روى له الجماعة إلا البخاري وعاش إلى زمن معاوية وبايع له قال "صليت مع رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فوضع يده اليمنى على يده اليسرى على صدره" أخرجه ابن خزيمة وأخرج أبو داود والنسائي بلفظ ثم وضع يده اليمنى على ظهر كفه اليسرى والرسغ والساعد الرسغ بضم الراء وسكون السين المهملة بعدها معجمة هو المفصل بين الساعد والكف والحديث دليل على مشروعية الوضع المذكور في الصلاة ومحله على الصدر كما أفاد هذا الحديث وقال النووي في المنهاج: ويجعل يديه تحت صدره قال في شرح النجم الوهاج: عبارة الأصحاب تحت صدره يريد والحديث بلفظ على صدره قال وكأنهم جعلوا التفاوت بينهما يسيرا وقد ذهب إلى مشروعيته زيد بن علي وأحمد بن عيسى وروى أحمد بن عيسى حديث وائل هذا في كتابه الأمالي وإليه ذهبت الشافعية والحنفية وذهبت الهادوية إلى عدم مشروعيته وأنه يبطل الصلاة لكونه فعلا كثيرا قال ابن عبد البر لم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه خلاف وهو قول جمهور الصحابة والتابعين قال: وهو الذي ذكره مالك في الموطأ ولم يحك ابن المنذر وغيره عن مالك غيره وروى عن مالك الإرسال وصار إليه أكثر
13- (وعن عبادة بضم العين المهملة وتخفيف الموحدة وبعد الألف دال مهملة وهو أبو الوليد عبادة بن الصامت بن قيس الخزرجي الأنصاري السالمي كان من نقباء الأنصار وشهد العقبة الأولى والثانية والثالثة وشهد بدرا والمشاهد كلها وجهه عمر إلى(1/169)
الشام قاضيا ومعلما فأقام بحمص ثم انتقل إلى فلسطين ومات بها في الرملة وقيل في بيت المقدس سنة أربع وثلاثين وهو ابن اثنتين وسبعين سنة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القران" متفق عليه هو دليل على نفي الصلاة الشرعية إذا لم يقرأ فيها المصلي بالفاتحة لأن الصلاة مركبة من أقوال وأفعال والمركب ينتفي بانتفاء جميع أجزائه وبانتفاء البعض ولا حاجة إلى تقدير نفي الكمال لأن التقدير إنما يكون عند تعذر صدق نفي الذات إلا أن الحديث الذي أفاده قوله وفي رواية لابن حبان والدارقطني "لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب" فيه دلالة على أن النفي متوجه إلى الإجزاء وهو كالنفي للذات في المآل لأن ما لا يجزىء فليس بصلاة شرعية والحديث دليل على وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة ولا يدل على إيجابها في كل ركعة بل في الصلاة جملة وفيه احتمال أنه في كل ركعة لأن الركعة تسمى صلاة وحديث المسيء صلاته قد دل على أن كل ركعة تسمى صلاة لقوله صلى الله عليه وسلم بعد أن علمه ما يفعله في ركعة "وافعل ذلك في صلاتك كلها" فدل على إيجابها في كل ركعة لأنه أمر أن يقرأ فيها بفاتحة الكتاب وإلى وجوبها في كل ركعة ذهبت الشافعية وغيرهم وعند الهادوية وآخرين أنها لا تجب قراءتها في كل ركعة بل في جملة الصلاة والدليل ظاهر مع أهل القول الأول وبيانه من وجهين الأول أن في بعض ألفاظه بعد تعليمه صلى الله عليه وسلم وآله له ما ذكره من القراءة والركوع والسجود والاطمئنان إلى آخره أنه قال الراوي فوصف أي رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله الصلاة هكذا أربع ركعات حتى فرغ ثم قال "لا تتم صلاة أحدكم حتى يفعل ذلك" ومعلوم أن المراد من قوله يفعل ذلك أي كل ما ذكره من القراءة بأم الكتاب وغيرها في كل ركعة لقوله فوصف الصلاة هكذا أربع ركعات والثاني أن ما ذكره صلى الله عليه وسلم وآله مع القراءة من صفات الركوع والسجود والاعتدال ونحوه مأمور به في كل ركعة كما يفيده هذا الحديث والمخالف في قراءة الفاتحة في كل ركعة لا يقول إنه يكفي الركوع والسجود والاطمئنان في ركعة واحدة من صلاته أو يفرقها في ركعاتها فكيف يقول إن القراءة بالفاتحة تنفرد من بين هذه المأمورات بأنها لا تجب إلا في ركعة واحدة أو يفرق بين الركعات وهذا تفريق بين أجزاء الدليل بلا دليل فتعين حينئذ أن المراد من قوله " ثم افعل ذلك في صلاتك كلها" في ركعاتها ثم رأيت بعد كتبه أنه أخرج والبيهقي وابن حبان بسند صحيح أنه صلى الله عليه وسلم وآله قال لخلاد بن رافع وهو المسيء صلاته "ثم اصنع ذلك" في كل ركعة ولأنه صلى الله عليه وسلم وآله كان يقرأ بها في كل ركعة كما رواه مسلم وقال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" ثم ظاهر الحديث وجوب قراءتها في سرية وجهرية للمنفرد والمؤتم أما المنفرد فظاهر وأما المؤتم فدخوله في ذلك واضح وزاده إيضاحا في قوله وفي أخرى من رواية عبادة لأحمد وأبي داود والترمذي وابن حبان "لعلكم تقرءون خلف إمامكم" قلنا نعم قال: "لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب فإنه(1/170)
لا صلاة لمن لم يقرأ بها" فإنه دليل على إيجاب قراءة الفاتحة خلف الإمام تخصيصا كما دل اللفظ الذي عند الشيخين بعمومه وهو أيضا ظاهر في عموم الصلاة الجهرية والسرية وفي كل ركعة أيضا وإلى هذا ذهب الشافعية وذهبت الهادوية إلى أنه لا يقرؤها المؤتم خلف إمامه في الجهرية إذا كان يسمع قراءته ويقرؤها في السرية وحيث لا يسمع في الجهرية وقالت الحنفية لا يقرؤها المأموم في سرية ولا جهرية وحديث عبادة حجة على الجميع واستدلالهم بحديث "من صلى خلف الإمام فقراءة الإمام قراءة له" مع كونه ضعيفا قال المصنف في التلخيص بأنه مشهور من حديث جابر وله طرق عن جماعة من الصحابة كلها معلومة انتهى وفي المنتهى رواه الدارقطني من طرق كلها ضعاف والصحيح أنه مرسل لا يتم به الاستدلال لأنه عام لأن لفظ قراءة الإمام اسم جنس مضاف يعم كل ما يقرؤه الإمام وكذلك قوله تعالى {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} وحديث "إذا قرأ فأنصتوا" فإن هذه عمومات في الفاتحة وغيرها وحديث عبادة خاص بالفاتحة فيختص به العامة ثم اختلف القائلون بوجوب قراءتها خلف الإمام فقيل في محل سكتاته بين الآيات وقيل في سكوته بعد تمام قراءة الفاتحة ولا دليل على هذين القولين في الحديث بل حديث عبادة دال أنها تقرأ عند قراءة الإمام الفاتحة ويزيده إيضاحا ما أخرجه أبو داود من حديث عبادة أنه صلى خلف أبي نعيم وأبو نعيم يجهر بالقراءة فجعل عبادة يقرأ بأم القران فلما انصرفوا من الصلاة قال لعبادة بعض من سمعه يقرأ سمعتك تقرأ بأم القران وأبو نعيم يجهر قال أجل صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الصلوات التي يجهر فيها بالقراءة قال فالتبست عليه القراءة فلما فرغ أقبل علينا بوجهه فقال هل تقرءون إذا جهرت بالقراءة فقال بعضنا نعم إنا نصنع ذلك قال فلا وأنا أقول "مال ينازعني القران فلا تقرءوا بشيء إذا جهرت إلا بأم القران" فهذا عبادة راوي الحديث قرأ بها جهرا خلف الإمام لأنه فهم من كلامه صلى الله عليه وسلم أنه يقرأ بها خلف الإمام جهرا وإن نازعه وأما أبو هريرة فإنه أخرج عنه أبو داود أنه لما حدث بقوله صلى الله عليه وسلم "من صلى صلاة لا يقرأ فيها بأم القران فهي خداج فهي خداج فهي خداج" غير تمام قال له الراوي عنه وهو أبو السائب مولى هشام بن زهرة يا أبا هريرة إني أكون أحيانا وراء الإمام فغمز ذراعه وقال اقرأ بها يا فارسي في نفسك الحديث وأخرج عن مكحول أنه كان يقول اقرأ في المغرب والعشاء والصبح بفاتحة الكتاب وفي كل ركعة سرا ثم قال مكحول اقرأ بها فيما جهر به الإمام إذا قرأ بفاتحة الكتاب وسكت سرا فإن لم يسكت قرأتها قبله ومعه وبعده لا تتركها على حال وقد أخرج أبو داود من حديث أبي هريرة أنه أمره صلى الله عليه وسلم أن ينادي في المدينة أنه لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب فما زاد وفي لفظ إلا بقرآن ولو بفاتحة الكتاب فما زاد إلا أنه يحمل على المنفرد جمعا بينه وبين حديث عبادة الدال على أنه لا يقرأ خلف الإمام إلا بفاتحة الكتاب
14- (وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر(1/171)
كانوا يفتتحون الصلاة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي القراءة في الصلاة بهذا اللفظ متفق عليه ولا يتم هنا أن يقال ما قلناه في حديث عائشة إن المراد بالحمد لله رب العالمين السورة فلا يدل على حذف البسملة بل يكون دليلا عليها إذ هي من مسمى السورة لقوله زاد مسلم لا يذكرون { بسم الله الرحمن الرحيم} في أول قراءة ولا في آخرها زيادة في المبالغة في النفس وإلا فإنه ليس في آخرها بسملة ويحتمل أن يريد بآخرها السورة الثانية التي تقرأ بعد الفاتحة والحديث دليل على أن الثلاثة كانوا لا يسمعون من خلفهم لفظ البسملة عند قراءة الفاتحة جهرا مع احتمال أنهم يقرءون البسملة سرا ولا يقرءونها أصلا إلا أن قوله وفي رواية أي عن أنس لأحمد والنسائي وابن خزيمة لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم يدل بمفهومه أنهم يقرءونها سرا ودل قوله وفي أخرى أي رواية أخرى عن أنس لابن خزيمة كانوا يسرون فمنطوقه أنهم كانوا يقرءون بها سرا ولذا قال المصنف وعلى هذا أي على قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر البسملة سرا يحمل النفي في رواية مسلم حيث قال لا يذكرون أي لا يذكرونها جهرا خلافا لمن أعلها أي أبدى علة لما زاده مسلم والعلة هي أن الأوزاعي روى هذه الزيادة عن قتادة مكاتبة وقد ردت هذه العلة بأن الأوزاعي لم ينفرد بها بل قد رواها غيره رواية صحيحة والحديث قد استدل به من يقول إن البسملة لا يجهر بها في الفاتحة ولا في غيرها بناء على أن قوله ولا في آخرها مراد به أول السورة الثانية ومن أثبتها قال المراد أنه لم يجهر بها الثلاثة حال جهرهم بالفاتحة بل يقرءونها سرا كما قرره المصنف وقد أطال العلماء في هذه المسئلة الكلام وألف فيها بعض الأعلام وبين أن حديث أنس مضطرب قال ابن عبد البر في الاستذكار بعد سرده روايات حديث أنس هذه ما لفظه هذا الاضطراب لا تقوم معه حجة لأحد من الفقهاء الذين يقرؤون بسم الله الرحمن الرحيم والذين لا يقرؤونها وقد سئل عن ذلك أنس فقال كبرت سني ونسيت انتهى فلا حجة فيه والأصل أن البسملة من القران وأطال الجدال بين العلماء من الطوائف لاختلاف المذاهب والأقرب أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بها تارة جهراً وتارة يخفيها, وقد استوفينا البحث في حواشي شرح العمدة بما لا زيادة عليه واختار جماعة من المحققين أنها مثل سائر آيات القران يجهر بها فيما يجهر فيه ويسر بها فيما يسر فيه وأما الاستدلال بكونه صلى الله عليه وسلم لم يقرأ بها في الفاتحة ولا في غيرها في صلاته على أنها ليست بآية والقراءة بها تدل على أنها آية فلا ينهض لأن ترك القراءة بها في الصلاة لو ثبت لا يدل على نفي قرانيتها فإنه ليس الدليل على القرانية الجهر بالقراءة بالآية في الصلاة بل الدليل أعم من ذلك وإذا انتفى الدليل الخاص لم ينتف الدليل العام
15- (وعن نعيم بضم النون وفتح العين المهملة مصغر المجمر بضم الميم وسكون الجيم وكسر الميم وبالراء ويقال وتشديد الميم الثانية ذكره الحلبي في شرح العمدة هو أبو عبد الله مولى عمر بن الخطاب سمع من أبي هريرة وغيره وسمى مجمرا لأنه أمر أن يجمر مسجد المدينة كل جمعة حين ينتصف النهار قال صليت وراء أبي هريرة فقرأ بسم الله(1/172)
الرحمن الرحيم ثم قرأ بأم القران حتى إذا بلغ {وَلا الضَّالِّينَ} قال آمين ويقول كلما سجد وإذا قام من الجلوس أي التشهد الأوسط وكذلك إذا قام من السجدة الأولى والثانية الله أكبر وهو تكبير النقل ثم يقول أي أبو هريرة إذا سلم والذي نفسي بيده أي روحي في تصرفه إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم رواه النسائي وابن خزيمة وذكره البخاري تعليقا وأخرجه السراج وابن حبان وغيرهم وبوب عليه النسائي الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم وهو أصح حديث ورد في ذلك فهو مؤيد للأصل وهو كون البسملة حكمها حكم الفاتحة في القراءة جهرا وإسراراً إذ هو ظاهر في أنه كان صلى الله عليه وسلم يقرأ بالبسملة لقول أبي هريرة إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان محتملا أنه يريد في أكثر أفعال الصلاة وأقوالها إلا أنه خلاف الظاهر ويبعد من الصحابي أن يبتدع في صلاته شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ثم يقول والذي نفسي بيده إني لأشبهكم وفيه دليل على شرعية التأمين للإمام وقد أخرج الدارقطني في السنن من حديث وائل بن حجر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} قال آمين يمد بها صوته وقال إنه حديث صحيح ودليل على تكبير النقل ويأتي ما فيه مستوفى في حديث أبي
16- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قرأتم الفاتحة فاقرءوا بسم الله الرحمن الرحيم فإنها إحدى آياتها" رواه الدارقطني وصوب وقفه لا يدل الحديث هذا على الجهر بها ولا الإسرار بل يدل على الأمر بمطلق قراءتها وقد ساق الدارقطني في السنن له أحاديث في الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة واسعة مرفوعة عن علي عليه السلام وعن عمار وعن ابن عباس وعن ابن عمرو وعن أبي هريرة وعن أم سلمة وعن جابر وعن أنس بن مالك ثم قال بعد سرد أحاديث هؤلاء وغيرهم ما لفظه وروي الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم عن النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه ومن أزواجه غير من سمينا كتبنا أحاديثهم بذلك في كتاب الجهر بها مفردا واقتصرنا على ما ذكرنا هنا طلبا للاختصار والتخفيف انتهى لفظه والحديث دليل على قراءة البسملة وأنها إحدى آيات الفاتحة وتقدم الكلام في ذلك
17 -(عنه أي أبي هريرة قال "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من قراءة أم القرن رفع صوته وقال آمين" رواه الدارقطني وحسنه والحاكم وصححه قال الحاكم إسناده صحيح على شرطهما وقال البيهقي حسن صحيح والحديث دليل على أنه يشرع للإمام التأمين بعد قراءة الفاتحة جهرا وظاهره في الجهرية وفي السرية وبشرعيته قالت الشافعية وذهبت الهادوية إلى عدم شرعيته لما يأتي وقالت الحنفية يسر بها في الجهرية ولمالك قولان الأول كالحنفية والثاني أنه لا يقولها والحديث حجة بينة للشافعية وليس في الحديث تعرض لتأمين المأموم والمنفرد وقد أخرج البخاري في شرعية التأمين للمأموم من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمن(1/173)
الإمام فأمنوا فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه" وأخرج أيضا من حديثه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قال الإمام {وَلا الضَّالِّينَ} فقولوا آمين" الحديث وأخرج أيضا من حديث مرفوعا "إذا قال أحدكم آمين وقالت الملائكة في السماء آمين فوافق أحدهما الآخر غفر الله له ما تقدم من ذنبه" فدلت الأحاديث على شرعيته للمأموم والأخير يعم المنفرد وقد حمله الجمهور من القائلين به على الندب وعن بعض أهل الظاهر أنه للوجوب عملا بظاهر الأمر فأوجبوه على كل مصل واستدلت الهادوية على أنه بدعة مفسدة للصلاة بحديث "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس" الحديث ولا يتم به الاستدلال لأن هذا قام الدليل على أنه من أذكار الصلاة كالتسبيح ونحوه وكلام الناس المراد به مكالمتهم ومخاطبتهم كما عرفت
18- (ولأبي داود والترمذي من حديث وائل بن حجر نحوه أي نحو حديث أبي هريرة ولفظه في السنن "إذا قرأ الإمام ولا الضالين قال آمين ورفع بها صوته" وفي لفظ له عنه "أنه صلى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فجهر بآمين" وآمين بالمد والتخفيف في جميع الروايات وعن جميع القراء وحكى فيها لغات ومعناها اللهم استجب وقيل غير ذلك
19- (وعن عبد الله بن أبي أوفى هو أبو إبراهيم أو محمد أو معاوية واسم أبي أوفى علقمة بن قيس بن الحرث الأسلمي شهد الحديبية وخيبر وما بعدهما ولم يزل في المدينة حتى قبض صلى الله عليه وسلم فتحول إلى الكوفة ومات بها وهو آخر من مات بالكوفة من الصحابة قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئا فعلمني ما يجزئني عنه فقال قل: "سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم" الحديث بالنصب أي أتم الحديث وتمامه في سنن أبي داود قال أي الرجل يا رسول الله هذا لله فما لي قال قل: "اللهم ارحمني وارزقني وعافني واهدني" فلما قام قال هكذا بيديه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما هذا فقد ملأ يديه من الخي" ر انتهى إلا أنه ليس في سنن أبي داود العلي العظيم رواه أحمد وأبو داود والنسائي وصححه ابن حبان والدارقطني والحاكم الحديث دليل على أن هذه الأذكار قائمة مقام القراءة للفاتحة وغيرها لمن لا يحسن ذلك وظاهره أنه لا يجب عليه تعلم القران ليقرأ به في الصلاة فإن معنى لا أستطيع لا أحفظ الآن منه شيئا فلم يأمره بحفظه وأمره بهذه الألفاظ مع أنه يمكنه حفظ الفاتحة كما يحفظ هذه وقد تقدم في حديث المسيء صلاته
20- (وعن أبي قتادة رضي الله عنه قال "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله يصلي بنا فيقرأ في الظهر والعصر في الركعتين الأوليين" بياءين تثنية أولى "بفاتحة الكتاب" أي في كل ركعة منهما "وسورتين" أي يقرؤهما في كل ركعة سورة "ويسمعنا الآية أحيانا" وكأنه من هنا علموا مقدار قراءته "ويطول الركعة الأولى" يجعل السورة فيها أطول من التي في الثانية "ويقرأ في الأخريين" تثنية أخرى "بفاتحة الكتاب" من غير زيادة عليها متفق عليه فيه دليل على شرعية قراءة الفاتحة في الأربع الركعات(1/174)
في كل واحدة وقراءة سورة معها في كل ركعة من الأوليين وأن هذا كان عادته عليه السلام كما يدل له كان يصلي إذ هي عبارة تفيد الاستمرار غالبا وإسماعهم الآية أحيانا دليل على أنه لا يجب الإسرار في السرية وأن ذلك لا يقتضي سجود السهو وفي قوله أحيانا ما يدل على أنه تكرر ذلك منه صلى الله عليه وسلم وقد أخرج النسائي من حديث البراء قال "كنا نصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم الظهر ونسمع منه الآية بعد الآية من سورة لقمان والذاريات وأخرج ابن خزيمة من حديث أنس نحوه ولكن قال سبح اسم ربك الأعلى وهل أتاك حديث الغاشية" وفي الحديث دليل على تطويل الركعة الأولى ووجهه ما أخرجه عبد الرزاق في آخر حديث أبي قتادة هذا وظننا أنه يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة الأولى وأخرج أبو داود من حديث عبد الرزاق عن عطاء إني لأحب أن يطول الإمام الركعة الأولى وقد ادعى ابن حبان أن التطويل إنما هو بترتيل القراءة فيها مع استواء المقروء وقد روى مسلم من حديث حفصة كان يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها وقيل إنما طالت الأولى بدعاء الافتتاح والتعوذ وأما القراءة فيها فهما سواء وفي حديث أبي سعيد الآتي ما يرشد إلى ذلك وقال البيهقي يطول في الأولى إن كان ينتظر أحدا وإلا فيسوى بين الأوليين وفيه دليل على أنه لا يزاد في الأخريين على الفاتحة وكذلك الثالثة في المغرب وإن كان مالك قد أخرج في الموطأ من طريق الصنابحي أنه سمع أبا بكر يقرأ فيها - ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا - الآية وللشافعي قولان في استحباب قراءة السورة في الأخريين وفيه دليل على جواز أن يخبر الإنسان بالظن وإلا فمعرفة القراءة بالسورة لا طريق فيه إلى اليقين وإسماع الآية أحيانا لا يدل على قراءة كل السورة وحديث أبي سعيد الآتي يدل على الإخبار عن ذلك بالظن وكذا حديث خباب حين سئل بم كنتم تعرفون قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في الظهر والعصر قال باضطراب لحيته ولو كانوا يعلمون قراءته فيهما بخبر عنه صلى الله عليه وسلم لذكروه
21- (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال "كنا نحزر" بفتح النون وسكون الحاء المهملة وضم الزاي نخرص ونقدر وفي قوله كنا نحزر ما يدل على أن المقدرين لذلك جماعة وقد أخرج ابن ماجه رواية أن الحازرين ثلاثون رجلا من الصحابة "قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهر والعصر فحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين في الظهر قدر ألم تنزيل السجدة" أي في كل ركعة بعد قراءة الفاتحة "وفي الأخريين قدر النصف من ذلك" فيه دلالة على قراءة غير الفاتحة معها في الأخريين ويزيده دلالة على ذلك قوله "وفي الأوليين من العصر على قدر الأخريين من الظهر" ومعلوم أنه كان يقرأ في الأوليين من العصر سورة غير الفاتحة "والأخريين" أي من العصر "على النصف من ذلك" أي من الأوليين منه رواه مسلم الأحاديث في هذا قد اختلفت فقد ورد "أنها كانت صلاة الظهر تقام فيذهب الذاهب إلى البقيع فيقضي حاجته ثم يأتي إلى أهله فيتوضأ ويدرك النبي صلى الله عليه وسلم في الركعة الأولى مما يطيلها" أخرجه مسلم(1/175)
والنسائي عن أبي سعيد وأخرج أحمد ومسلم من حديث أبي سعيد أيضا "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الظهر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر ثلاثين آية وفي الأخريين قدر خمس عشرة آية أو قال نصف ذلك وفي العصر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر خمس عشرة آية وفي الأخريين قدر نصف ذلك" هذا لفظ مسلم وفيه دليل على أنه لا يقرأ في الأخريين من العصر إلا الفاتحة وأنه يقرأ في الأخريين من الظهر غيرها معها وتقدم حديث أبي قتادة "أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الأخريين من الظهر بأم الكتاب ويسمعنا الآية أحيانا" وظاهره أنه لا يزيد على أم الكتاب فيهما ولعله أرجح من حديث أبي سعيد من حيث الرواية لأنه اتفق عليه الشيخان من حيث الرواية ومن حيث الدراية لأنه إخبار مجزوم به وخبر أبي سعيد انفرد به مسلم ولأنه خبر عن حزر وتقدير وتظنن ويحتمل أن يجمع بينهما بأنه صلى الله عليه وسلم كان يصنع هذا تارة فيقرأ في الأخريين غير الفاتحة معها ويقتصر فيهما أحيانا فتكون الزيادة عليها فيهما سنة تفعل أحيانا وتترك أحيانا
22- (وعن سليمان بن يسار هو أبو أيوب سليمان بن يسار بفتح المثناة التحتية وتخفيف السين المهملة وهو مولى ميمونة أم المؤمنين وأخو عطاء بن يسار من أهل المدينة وكبار التابعين كان فقيها فاضلا ثقة عابدا ورعا حجة وهو أحد الفقهاء السبعة قال كان فلان في شرح السنة للبغوي أن فلانا يريد به أميرا كان على المدينة قيل اسمه عمرو بن سلمة وليس هو عمر بن عبد العزيز كما قيل لأن ولادة عمر بن عبد العزيز كانت بعد وفاة أبي هريرة والحديث مصرح بأن أبا هريرة صلى خلف فلان هذا يطيل الأوليين في الظهر ويخفف العصر ويقرأ في المغرب بقصار المفصل اختلف في أول المفصل فقيل إنها من الصافات أو الجاثية أو القتال أو الفتح أو الحجرات أو الصف أو تبارك أو سبح أو الضحى واتفق أن منتهاه آخر القران وفي العشاء بوسطه وفي الصبح بطواله فقال أبو هريرة ما صليت وراء أحد أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا أخرجه النسائي بإسناد صحيح قال العلماء السنة أن يقرأ في الصبح والظهر بطوال المفصل ويكون الصبح أطول وفي العشاء والعصر بأوسطه وفي المغرب بقصاره قالوا والحكمة في تطويل الصبح والظهر أنهما وقتا غفلة بالنوم في آخر الليل ليدركهما المتآخرون لغفلة أو نوم ونحوهما وفي العصر ليست كذلك بل هي في وقت الأعمال فخفت لذلك وفي المغرب لضيق الوقت فاحتيج إلى زيادة تخفيفها ولحاجة الناس إلى عشاء صائمهم وضيفهم وفي العشاء لغلبة النوم ولكن وقتها واسع فأشبهت العصر هكذا قالوه وستعرف اختلاف أحوال صلاته صلى الله عليه وسلم مما يأتي بما لا يتم به هذا التفصيل
23- (وعن جبير بن مطعم رضي الله عنه تقدم ضبطهما وبيان حال جبير قال " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور" متفق عليه قد بين في فتح الباري أن سماعه لذلك كان قبل إسلامه وهو دليل على أن المغرب لا يختص بقصار المفصل(1/176)
وقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم قرأ في المغرب ب المص وأنه قرأ فيها بالصافات وأنه قرأ فيها بحم الدخان وأنه قرأ فيها {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} وأنه قرأ فيها بالتين والزيتون وأنه قرأ فيها بالمعوذتين وأنه قرأ فيها بالمرسلات وأنه كان يقرأ فيها بقصار المفصل وكلها أحاديث صحيحة وأما المداومة في المغرب على قصار المفصل فإنما هو فعل مروان بن الحكم وقد أنكر عليه زيد بن ثابت وقال له مالك تقرأ بقصار المفصل وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بطولى الطوليين تثنية طولى والمراد بهما الأعراف والأنعام والأعراف أطول من الأنعام إلى هنا أخرجه البخاري وهي الأعراف وقد أخرج النسائي أنه صلى الله عليه وسلم فرق الأعراف في ركعتي المغرب وقد قرأ في العشاء بالتين والزيتون ووقت لمعاذ فيها بـ {الشَّمْسِ وَضُحَاهَا }{ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} ونحوه والجمع بين هذه الروايات أنه وقع ذلك منه صلى الله عليه وسلم باختلاف الحالات والأوقات والأشغال عدما ووجودا
24- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة ألم تنزيل السجدة" أي في الركعة الأولى و {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ} أي في الثانية متفق عليه فيه دليل على أن ذلك كان دأبه صلى الله عليه وسلم في تلك الصلاة وزاد استمراره على ذلك بيانا قوله
25- (وللطبراني من حديث ابن مسعود يديم ذلك أي يجعله عادة دائمة له قال شيخ الإسلام ابن تيمية السر في قراءتهما في صلاة فجر يوم الجمعة أنهما تضمنتا ما كان وما يكون في يومهما فإنهما اشتملتا على خلق آدم وعلى ذكر المعاد وحشر العباد وذلك يكون في يوم الجمعة ففي قراءتهما تذكير للعباد بما كان فيه ويكون قلت ليعتبروا بذكر ما كان ويستعدوا لما يكون
26- (وعن حذيفة رضي الله عنه قال "صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم فما مرت به آية رحمة إلا وقف عندها يسأل" أي يطلب من الله رحمته "ولا آية عذاب إلا تعوذ منها" مما ذكر فيها أخرجه الخمسة وحسنه الترمذي في الحديث دليل على أنه ينبغي للقارئ في الصلاة تدبر ما يقرؤه وسؤال رحمته والاستعاذة من عذابه ولعل هذا كان في صلاة الليل وإنما قلنا ذلك لأن حديث حذيفة مطلق وورد تقييده بحديث عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبيه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة ليست بفريضة فمر بذكر الجنة والنار فقال: "أعوذ بالله من النار ويل لأهل النار" رواه أحمد وابن ماجه بمعناه وأخرج أحمد عن عائشة "قمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة التمام فكان يقرأ بالبقرة والنساء وآل عمران ولا يمر بآية فيها تخويف إلا دعا الله عز وجل واستعاذ ولا يمر بآية فيها استبشار إلا دعا الله عز وجل ورغب إليه" وأخرج النسائي وأبو داود من حديث عوف بن مالك قمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فبدأ فاستاك وتوضأ ثم قام فصلى فاستفتح البقرة لا يمر بآية رحمة إلا وقف فسأل ولا يمر بآية عذاب إلا(1/177)
وقف وتعوذ الحديث وليس لأبي داود ذكر السواك والوضوء فهذا كله في النافلة كما هو صريح الأول وفي قيام الليل كما يفيده الحديثان الآخران فإنه لم يأت عنه صلى الله عليه وسلم في رواية قط أنه أم الناس بالبقرة وآل عمران في فريضة أصلا ولفظ قمت يشعر أنه في الليل فتم ما ترجينا بقولنا ولعل هذا في صلاة الليل باعتبار ما ورد فلو فعله أحد في الفريضة فلعله لا بأس فيه ولا يخل بصلاته سيما إذا كان منفردا لئلا يشق على غيره إذا كان إماما وقولها ليلة التمام في القاموس ليلة التمام ككتاب وليل تمام أطول ليالي الشتاء أو هي ثلاث لا يستبان نقصانها أو هي إذا بلغت اثنتي عشرة ساعة فصاعدا انتهى
27- (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا وإني نهيت أن أقرأ القران راكعا أو ساجدا" فكأنه قيل فماذا تقول فيهما فقال: "فأما الركوع فعظموا فيه الرب" قد بين كيفية هذا التعظيم حديث مسلم عن حذيفة فجعل يقول أي رسول الله صلى الله عليه وسلم سبحان ربي العظيم "وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن" بفتح القاف وكسر الميم ومعناه حقيق "أن يستجاب لكم" رواه مسلم الحديث دليل على تحريم قراءة القران حال الركوع والسجود لأن الأصل في النهي التحريم وظاهره وجوب تسبيح الركوع ووجوب الدعاء في السجود للأمر بهما وقد ذهب إلى ذلك أحمد بن حنبل وطائفة من المحدثين وقال الجمهور أنه مستحب لحديث المسيء صلاته فإنه لم يعلمه صلى الله عليه وسلم ذلك ولو كان واجبا لأمره به ثم ظاهر قوله فعظموا فيه الرب أنها المساجد المرة الواحدة ويكون بها ممتثلا ما أمر به وقد أخرج أبو داود من حديث ابن مسعود " إذا ركع أحدكم فليقل ثلاث مرات سبحان ربي العظيم" وذلك أدناه ورواه الترمذي وابن ماجه إلا أنه قال أبو داود فيه إرسال وكذا قال البخاري والترمذي وفي قوله ذلك أدناه ما يدل على أنها لا المساجد المرة الواحدة والحديث دليل على مشروعية الدعاء حال السجود بأي دعاء كان من طلب خيري الدنيا والآخرة والاستعاذة من شرهما وأنه محل الإجابة وقد بين بعض الأدعية ما أفاده قوله
28- (وعن عائشة رضي الله عنها قالت "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم ربنا وبحمدك" الواو للعطف والمعطوف عليه ما يفيده ما قبله والمعطوف متعلق بحمدك والمعنى أنزهك وأتلبس بحمدك ويحتمل أن تكون للحال والمراد أسبحك وأنا متلبس بحمدك أي حال كوني متلبسا به "اللهم اغفر لي" متفق عليه الحديث ورد بألفاظ منها أنها قالت عائشة "ما صلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أنزلت عليه {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} إلا يقول سبحانك ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي" والحديث دليل على أن هذا من أذكار الركوع والسجود ولا ينافيه حديث أما الركوع فعظموا في الرب لأن هذا الذكر زيادة على ذلك التعظيم الذي كان يقوله صلى الله عليه وسلم فيجمع بينه وبين هذا وقوله "اللهم اغفر لي" امتثال لقوله تعالى {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} وفيه مسارعته صلى الله عليه وسلم إلى امتثال ما أمره الله به قياما بحق(1/178)
العبودية وتعظيما لشأن الربوية زاده الله شرفا وفضلا وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر
29- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة" أي إذا قام فيها "يكبر" أي تكبيرة الإحرام "حين يقوم" فيه دليل على أنه لا يتوجه ولا يصنع قبل التكبيرة شيئا "ثم يكبر حين يركع" تكبيرة النقل "ثم يقول سمع الله لمن حمده" أي أجاب الله من حمده فإن من حمد الله تعالى متعرضا لثوابه استجاب الله له وأعطاه ما تعرض له فناسب بعده أن يقول ربنا ولك الحمد "حين يرفع صلبه من الركوع" فهذا في حال أخذه في رفع صلبه من هويه للقيام ثم يقول "وهو قائم ربنا ولك الحمد" بإثبات الواو للعطف على مقدر أي ربنا أطعناك وحمدناك أو للحال أو زائدة وورد في رواية بحذفها وهي نسخة في بلوغ المرام "ثم يكبر حين يهوى ساجدا" تكبير النقل "ثم يكبر حين يرفع رأسه" أي من السجود الأول "ثم يكبر حين يسجد" أي السجدة الثانية "ثم يكبر حين يرفع" أي من السجدة الثانية هذا كله تكبير النقل "ثم يفعل ذلك" أي ما ذكر ما عدا التكبيرة الأولى التي للإحرام "في الصلاة" أي ركعاتها كلها ويكبر حين يقوم من الثنتين بعد الجلوس "للتشهد" الأوسط متفق عليه الحديث دليل على شرعية ما ذكر فيه من الأذكار فأما أول التكبير فهي تكبيرة الإحرام وقد تقدم الدليل على وجوبها هذا الحديث وأما ما عداها من التكبير الذي وصفه فقد كان وقع من بعض أمراء بني أمية تركه تساهلا ولكنه استقر العمل من الأمة على فعله في كل خفض ورفع في كل ركعة خمس تكبيرات كما عرفته من لفظ هذا الحديث ويزيد في الرباعية والثلاثية تكبير النهوض من التشهد الأوسط فيتحصل في المكتوبات الخمس بتكبيرة الإحرام أربع وتسعون تكبيرة ومن دونها تسع وثمانون تكبيرة واختلف العلماء في حكم تكبير النقل فقيل إنه واجب وروي قولا لأحمد بن حنبل وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم داوم عليه وقد قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" وذهب الجمهور إلى ندبه لأنه صلى الله عليه وسلم لم يعلمه المسيء صلاته وإنما علمه تكبيرة الإحرام وهو موضع البيان للواجب ولا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة وأجيب عنه بأنه قد أخرج تكبيرة النقل في حديث المسيء أبو داود من حديث رفاعة بن رافع فإنه ساقه وفيه ثم يقول الله أكبر ثم يرفع وذكر فيه قوله سمع الله لمن حمده وبقية تكبيرات النقل وأخرجها الترمذي والنسائي ولذا ذهب أحمد وداود إلى وجوب تكبير النقل وظاهر قوله يكبر حين كذا وحين كذا أن التكبير يقارن هذه الحركات فيشرع في التكبير عند ابتدائه للركن وأما القول بأنه يمد التكبير حتى يمد الحركة كما في الشرح وغيره فلا وجه له بل يأتي باللفظ من غير زيادة على أدائه ولا نقصان منه وظاهر قوله ثم يقول: "سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد" أنه يشرع ذلك لكل مصل من إمام ومأموم إذ هو حكاية لمطلق صلاته صلى الله عليه وسلم وإن كان يحتمل أنه حكاية لصلاته صلى الله عليه وسلم إماما إذ المتبادر(1/179)
من الصلاة عند إطلاقها الواجبة وكانت صلاته صلى الله عليه وسلم الواجبة جماعة وهو الإمام فيها إلا أنه لو فرض هذا فإن قوله صلى الله عليه وسلم "صلوا كما رأيتموني أصلي" أمر لكل مصل أن يصلي كصلاته صلى الله عليه وسلم من إمام ومنفرد وذهبت الشافعية والهادوية وغيرهم إلى أن التسميع مطلقا لمتنفل أو مفترض وللإمام والمنفرد والحمد للمؤتم لحديث "إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا لك الحمد" أخرجه أبو داود وأجيب بأن قوله "إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا لك الحمد" لا ينفي قول المؤتم سمع الله لمن حمده وإنما يدل على أنه يقول المؤتم ربنا لك الحمد عقب قول الإمام سمع الله لمن حمده والواقع هو ذلك لأن الإمام يقول سمع الله لمن حمده في حال انتقاله والمأموم يقول التحميد في حال اعتداله واستفيد الجمع بينهما من الحديث الأول قلت لكن أخرج أبو داود عن الشعبي لا يقول المؤتم خلف الإمام سمع الله لمن حمده ولكن يقول ربنا لك الحمد ولكنه موقوف على الشعبي فلا تقوم به حجة وقد ادعى الطحاوي وابن عبد البر الإجماع على كون المنفرد يجمع بينهما وذهب آخرون إلى أنه يجمع بينهما الإمام والمنفرد ويحمد المؤتم قالوا والحجة جمع الإمام بينهما لاتحاد حكم الإمام والمنفرد
30- (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا رفع رأسه من الركوع قال: "اللهم " لم أجد لفظ اللهم في مسلم في رواية أبي سعيد ووجدتها في رواية ابن عباس "ربنا لك الحمد ملء" بنصب الهمزة على المصدرية ويجوز رفعه خبر مبتدأ محذوف "السموات والأرض" وفي سنن أبي داود وغيره "وملء الأرض" وهي في رواية ابن عباس عند مسلم فهذه الرواية كلها ليست لفظ أبي سعيد لعدم وجود اللهم في أوله ولا لفظ ابن عباس لوجود ملء الأرض فيها ( وملء ما شئت من شيء بعد) بضم الدال على البناء للقطع عن الإضافة ونية المضاف إليه "أهل" بنصبه على النداء أو رفعه أي أنت أهل "الثناء والمجد أحق" بالرفع خبر مبتدإ محذوف وما مصدرية تقديره هذا أي قوله اللهم لك الحمد أحق قول العبد وإنما لم يجعل لا مانع لما أعطيت خبرا وأحق مبتدأ لأنه محذوف في بعض الروايات فجعلناه جملة استئنافية إذا حذف تم الكلام من دون ذكره وفي الشرح جعل أحق مبتدأ وخبره لا مانع لما أعطيت وفي شرح المهذب نقلا عن ابن الصلاح معناه أحق ما قال العبد قوله "لا مانع لما أعطيت" إلى آخره وقوله وكلنا لك عبد اعتراض بين المبتدأ والخبر قال أو يكون قوله أحق ما قال العبد خبرا لما قبله أي قوله ربنا لك الحمد إلى آخره أحق ما قال العبد قال والأول أولى قال النووي لما فيه من كمال التفويض إلى الله تعالى والاعتراف بكمال قدرته وعظمته وقهره وسلطانه وانفراده بالوحدانية وتدبير مخلوقاته انتهى ما قال العبد وكلنا لك عبد ثم استأنف فقال "اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد" رواه مسلم الحديث دليل على مشروعية هذا الذكر في هذا الركن لكل مصل وقد جعل الحمد كالأجسام وجعله سادا لما ذكره(1/180)
من الظروف مبالغة في كثرة الحمد وزاد مبالغة بذكر ما يشاؤه تعالى مما لا يعلمه العبد والثناء الوصف بالجميل والمدح والمجد والعظمة ونهاية الشرف والجد بفتح الجيم معناه الحظ أي لا ينفع ذا الحظ من عقوبتك حظه بل ينفعه العمل الصالح وروي بالكسر للجيم أي لا ينفعه جده واجتهاده وقد ضعفت رواية
31- (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أسجد على سبعة أعظم على الجبهة وأشار بيده إلى أنفه واليدين والركبتين وأطراف القدمين" متفق عليه وفي رواية أمرنا أي أيها الأمة وفي رواية أمر النبي صلى الله عليه وسلم والثلاث الروايات للبخاري وقوله "وأشار بيده إلى أنفه" فسرتها رواية النسائي قال ابن طاوس وضع يده على جبهته وأمرها على أنفه وقال هذا واحدا قال القرطبي هذا يدل على أن الجبهة الأصل في السجود والأنف تبع لها قال ابن دقيق العيد معناه أنه جعلهما كأنهما عضو واحد وإلا لكانت الأعضاء ثمانية والمراد من اليدين الكفان وقد وقع بلفظهما في رواية والمراد من قوله وأطراف القدمين أن يجعل قدميه قائمتين على بطون أصابعهما وعقباه مرتفعتان فيستقبل بظهور قدميه القبلة وقد ورد هذا في حديث أبي حميد في صفة السجود وقيل يندب ضم أصابع اليدين لأنها لو انفرجت انحرفت رءوس بعضها عن القبلة وأما أصابع الرجلين فقد تقدم في حديث أبي حميد الساعدي في باب صفة الصلاة بلفظ واستقبل بأصابع رجليه القبلة هذا والحديث دليل على وجوب السجود على ما ذكر لأنه ذكر صلى الله عليه وسلم بلفظ الإخبار عن أمر الله له ولأمته والأمر لا يرد إلا بنحو صيغة أفعل وهي تفيد الوجوب وقد اختلف في ذلك فالهادوية وأحد قولي الشافعي أنه للوجوب لهذا الحديث وذهب أبو حنيفة إلى أنه يجزىء السجود على الأنف فقط مستدلا بقوله "وأشار بيده إلى أنفه" قال المصنف في فتح الباري وقد احتج لأبي حنيفة بهذا في السجود على الأنف قال ابن دقيق العيد والحق أن مثل هذا لا يعارض التصريح بالجبهة وإن أمكن أن يعتقد أنهما كعضو واحد فذلك في التسمية والعبارة لا في الحكم الذي دل عليه انتهى واعلم أنه وقع هنا في الشرح أنه ذهب أبو حنيفة وأحد قولي الشافعي وأكثر الفقهاء إلى أن الواجب الجبهة فقط لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث المسيء صلاته ومكن جبهتك فكان قرينة على حمل الأمر هنا على غير الوجوب وأجيب عنه بأن هذا لا يتم إلا بعد معرفة تقدم هذا على حديث المسيء صلاته ليكون قرينة على حمل الأمر على الندب وأما لو فرض تأخره لكان في هذا زيادة شرع ويمكن أن تتأخر شرعيته ومع جهل التاريخ يرجح العمل بالموجب لزيادة الاحتياط كذا قاله الشارح وجعل السجود على الجبهة والأنف مذهبا للعترة فحولنا عبارته إلى الهادوية مع أنه ليس مذهبهم إلا السجود على الجبهة فقط كما في البحر وغيره ولفظ الشرح هنا والحديث فيه دلالة على وجوب السجود على ما ذكر فيه وقد ذهب إلى هذا العترة وأحد قولي الشافعي انتهى وعرفت أنه وهم في قوله إن(1/181)
أبا حنيفة يوجبه على الجبهة فإنه يجيزه عليها أو على الأنف وأنه مخير في ذلك ثم ظاهره وجوب السجود على العضو جميعه ولا يكفي بعض ذلك والجبهة يضع منها على الأرض ما أمكنه بدليل وتمكن جبهتك وظاهره أنه لا يجب كشف شيء من هذه الأعضاء لأن مسمى السجود عليها يصدق بوضعها من دون كشفها ولا خلاف أن كشف الركبتين غير واجب لما يخاف من كشف العورة واختلف في الجبهة فقيل يجب كشفها لما أخرجه أبو داود في المراسيل أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى رجلا يسجد على جنبه وقد اعتم على جبهته فحسر عن جبهته إلا أنه قد علق البخاري عن الحسن كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسجدون وأيديهم في ثيابهم ويسجد الرجل منهم على عمامته ووصله البيهقي وقال هذا أصح ما في السجود موقوفا على الصحابة وقد وردت أحاديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يسجد على كور عمامته من حديث ابن عباس أخرجه أبو نعيم في الحلية وفي إسناده ضعف ومن حديث ابن أبي أوفى أخرجه الطبراني في الأوسط وفيه ضعف ومن حديث جابر عند ابن عدي وفيه متروكان ومن حديث أنس عند ابن أبي حاتم في العلل وفيه ضعف وذكر هذه الأحاديث وغيرها البيهقي ثم قال أحاديث كان يسجد على كور عمامته لا يثبت فيها شيء يعني مرفوعا والأحاديث من الجانين غير ناهضة على الإيجاب وقوله سجد على جبهته يصدق على الأمرين وإن كان مع عدم الحائل أظهر فالأصل جواز الأمرين وأما حديث خباب شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء في جباهنا وأكفنا فلم يشكنا الحديث فلا دلالة فيه على كشف هذه الأعضاء ولا عدمه وفي حديث أنس عند مسلم أنه كان أحدهم يبسط ثوبه من شدة الحر ثم يسجد عليه ولعل هذا مما لا خلاف فيه والخلاف في السجود على محموله فهو محل النزاع وحديث أنس
32- (وعن ابن بحينة هو عبد الله بن مالك بن بحينة بضم الباء الموحدة وفتح الحاء المهملة وسكون المثناة التحتية وبعدها نون وهو اسم لأم عبد الله واسم أبيه مالك بن القشب بكسر القاف وسكون الشين المعجمة فموحدة الأزدي مات عبد الله في ولاية معاوية بين سنة أربع وخمسين وثمان وخمسين " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى وسجد فرج" بفتح الفاء وتشديد الراء آخره جيم "بين يديه" أي باعد بينهما أي نحى كل يد عن الجنب الذي يليها "حتى يبدو بياض إبطيه" متفق عليه الحديث دليل على فعل هذه الهيئة في الصلاة قيل والحكمة في ذلك أن يظهر كل عضو بنفسه ويتميز حتى يكون الإنسان الواحد في سجوده كأنه عدد ومقتضى هذا أن يستقل كل عضو بنفسه ولا يعتمد بعض الأعضاء على بعض وقد ورد هذا المعنى مصرحا به فيما أخرجه الطبراني وغيره من حديث ابن عمر بإسناد ضعيف أنه قال: "لا تفترش افتراش السبع واعتمد على راحتيك وأبد ضبعيك فإذا فعلت ذلك سجد كل عضو منك" وعند مسلم من حديث ميمونة كان النبي صلى الله(1/182)
عليه وسلم يجافي بيديه فلو أن بهيمة أرادت أن تمر مرت" وظاهر الحديث الأول وهذا مع قوله صلى الله عليه وسلم "صلوا كما رأيتموني أصلي" يقتضي الوجوب ولكنه قد أخرج أبو داود من حديث أبي هريرة ما يدل على أن ذلك غير واجب بلفظ شكا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم له مشقة السجود عليهم إذا تفرجوا فقال استعينوا بالركب وترجم له الرخصة في ترك التفريج قال ابن عجلان أحد رواته وذلك أن يضع مرفقيه على ركبتيه إذا أطال السجود وقوله "حتى يرى بياض إبطيه" ليس فيه كما قيل دلالة على أنه لم يكن صلى الله عليه وسلم لابسا القميص لأنه وإن كان لابسا فإنه قد يبدو منه أطراف إبطيه لأنها كانت أكمام قمصان أهل ذلك العصر غير طويلة فيمكن أن يرى الإبط من كمها ولا دلالة فيه على أنه لم يكن على إبطيه شعر كما قيل لأنه يمكن أن المراد يرى أطراف إبطيه لا باطنهما حيث الشعر فإنه لا يرى إلا بتكلف وإن صح ما قيل إن من خواصه أنه ليس على إبطيه شعر فلا إشكال
33- (وعن البراء بفتح الموحدة فراء وقيل بالقصر ثم همزة ممدودة هو أبو عمارة في الأشهر وهو ابن عازب بعين مهملة فزاي بعد الألف مكسورة فموحدة ابن الحرث الأوسي الأنصاري الحارثي، أول مشهد شهده الخندق نزل الكوفة وافتتح الري سنة أربع وعشرين في قول وشهد مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الجمل وصفين والنهروان مات بالكوفة أيام مصعب بن الزبير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا سجدت فضع كفيك وارفع مرفقيك" رواه مسلم الحديث دليل على وجوب هذه الهيئة للأمر بها وحمله العلماء على الاستحباب قالوا والحكمة فيه أنه أشبه بالتواضع وأتم في تمكين الجبهة والأنف من الأرض وأبعد من هيئة الكسالى فإن المنبسط يشبه الكلب ويشعر حاله بالتهاون بالصلاة وقلة الاعتناء بها والإقبال عليها وهذا في حق الرجل لا المرأة فإنها تخالفه في ذلك لما أخرجه أبو داود في مراسيله عن زيد بن أبي حبيب أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على امرأتين يصليان فقال إذا سجدتما فضما بعض اللحم إلى الأرض فإن المرأة في ذلك ليست كالرجل قال البيهقي وهذا المرسل أحسن من موصولين فيه يعني من حديثين موصولين ذكرهما البيهقي في سننه وضعفهما ومن السنة تفريج الأصابع في الركوع لما رواه أبو داود من حديث أبي حميد الساعدي "أنه كان صلى الله عليه وسلم يمسك يديه على ركبتيه كالقابض عليهما ويفرج بين أصابعه" ومن السنة في الركوع أن يوتر يديه فيجافي عن جنبيه كما في حديث أبي حميد عند أبي داود بهذا اللفظ ورواه ابن خزيمة بلفظ "ونحى يديه عن جنبيه" وتقدم قريبا وذكر المصنف حديث ابن بحينة هذا الذي ذكره في بلوغ المرام في التلخيص مرتين أولا في وصف ركوعه وثانيا في وصف سجوده دليلا على التفريج في الركوع وهو صحيح فإنه قال إذا صلى فرج بين يديه حتى يبدو بياض إبطيه فإنه يصدق على حالة الركوع والسجود
34-(وعن وائل بن حجر أن النبي صلى الله عليه وسلم "كان إذا ركع فرج بين(1/183)
أصابعه" أي أصابع يديه "وإذا سجد ضم أصابعه" رواه الحاكم قال العلماء الحكمة في ضمه أصابعه عند سجوده لتكون متوجهة إلى سمت القبلة
35- (وعن عائشة رضي الله عنها قالت "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي متربعا" رواه النسائي وصححه ابن خزيمة وروى البيهقي من حديث عبد الله بن الزبير عن أبيه رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو هكذا ووضع يديه على ركبتيه وهو متربع جالس ورواه البيهقي عن حميد رأيت أنسا يصلي متربعا على فراشه وعلقه البخاري قال العلماء وصفة التربع أن يجعل باطن قدمه اليمنى تحت الفخذ اليسرى وباطن اليسرى تحت اليمنى مطمئنا وكفيه على ركبتيه مفرقا أنامله كالراكع والحديث دليل على كيفية قعود العليل إذا صلى من قعود إذ الحديث وارد في ذلك وهو في صفة صلاته صلى الله عليه وسلم لما سقط عن فرسه فانفكت قدمه فصلى متربعا وهذه القعدة اختارها الهادوية في قعود المريض لصلاته ولغيرهم اختيار آخر والدليل مع الهادوية وهو هذا الحديث
36- (وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول بين السجدتين "اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وعافني وارزقني" رواه الأربعة إلا النسائي واللفظ لأبي داود وصححه الحاكم ولفظ الترمذي "واجبرني" بدل "وارحمني" ولم يقل وعافني وجمع ابن ماجه في لفظ روايته بين ارحمني واجبرني ولم يقل اهدني ولا عافني وجمع الحاكم بينهما إلا أنه لم يقل وعافني والحديث دليل على شرعية الدعاء في القعود بين السجدتين وظاهره أنه كان صلى الله عليه وسلم يقوله جهرا
37- (وعن مالك بن الحويرث رضي الله عنه "أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فإذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعدا" رواه البخاري وفي لفظ له "فإذا رفع رأسه من السجدة الثانية جلس واعتمد على الأرض ثم قام" وأخرج أبو داود من حديث أبي حميد في صفة صلاته صلى الله عليه وسلم وفيه "ثم أهوى ساجدا ثم ثنى رجليه وقعد حتى رجع كل عضو في موضعه ثم نهض" وقد ذكرت هذه القعدة في بعض ألفاظ رواية حديث المسيء صلاته وفي الحديث دليل على شرعية هذه القعدة بعد السجدة الثانية من الركعة الأولى والركعة الثالثة ثم ينهض لأداء الركعة الثانية أو الرابعة وتسمى جلسة الاستراحة وقد ذهب إلى القول بشرعيتها الشافعي في أحد قوليه وهو غير المشهور عنه المشهور عنه وهو رأي الهادوية والحنفية ومالك وأحمد وإسحاق أنه لا يشرع القعود مستدلين بحديث وائل بن حجر في صفة صلاته صلى الله عليه وسلم بلفظ "فكان إذا رفع رأسه من السجدتين استوى قائما" أخرجه البزار في مسنده إلا أنه ضعفه النووي وبما رواه ابن المنذر من حديث النعمان بن أبي عياش واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان إذا رفع رأسه من السجدة في أول ركعة وفي الثالثة قام كما هو ولم يجلس ويجاب عن الكل بأنه لا منافاة إذ من فعلها فلأنها سنة ومن تركها فكذلك وإن كان ذكرها في حديث المسيء يشعر بوجوبها لكن لم يقل به أحد فيما أعلم(1/184)
38- ( وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " قنت شهرا بعد الركوع يدعو على أحياء من العرب" وورد تعيينهم أنهم رعل وعصية وبنو لحيان ثم تركه متفق عليه لفظه في البخاري مطولا عن عاصم الأحول قال سألت أنس بن مالك عن القنوت فقال قد كان القنوت قلت قبل الركوع أو بعده قال قبله قلت فإن فلانا أخبرني عنك أنك قلت بعد الركوع قال كذب إنما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الركوع شهراً أراه كان بعث قوما يقال لهم القراء زهاء سبعين رجلا إلى قوم من المشركين فغدروا وقتلوا القراء دون أولئك وكان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فقنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا يدعو عليهم ولأحمد والدارقطني نحوه أي من حديث أنس من وجه آخر وزاد فأما في الصبح فلم يزل يقنت حتى فارق الدنيا فقوله في الحديث الأول ثم تركه أي فيما عدا الفجر ويدل على أنه أراده قوله فلم يزل يقنت في كل صلاته هذا والأحاديث عن أنس في القنوت قد اضطربت وتعارضت في صلاة الغداة وقد جمع بينها في الهدى النبوي فقال أحاديث أنس كلها صحاح يصدق بعضها بعضا ولا تناقض فيها والقنوت الذي ذكره قبل الركوع غير الذي ذكره بعده والذي وقته غير الذي أطلقه فالذي ذكره قبل الركوع هو إطالة القيام للقراءة الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الصلاة طول القيام والذي ذكره بعد هو إطالة القيام للدعاء ففعله شهرا يدعو إلى قوم ويدعو لقوم ثم استمر تطويل هذا الركن للدعاء والثناء إلى أن فارق الدنيا كما دل له الحديث أن أنسا كان إذا رفع رأسه من الركوع انتصب قائما حتى يقول القائل قد نسى وأخبرهم أن هذه صفة صلاته صلى الله عليه وسلم أخرجه عنه في الصحيحين فهذا هو القنوت قال فيه أنس إنه ما زال صلى الله عليه وسلم حتى فارق الدنيا والذي تركه هو الدعاء على أقوام من العرب وكان بعد الركوع فمراد أنس بالقنوت قبل الركوع وبعده الذي أخبر أنه ما زال عليه هو إطالة القيام في هذين المحلين بقراءة القران وبالدعاء هذا مضمون كلامه ولا يخفى أنه لا يوافق قوله فأما في الصبح فلم يزل يقنت حتى فارق الدنيا وأنه دل على أن ذلك خاص بالفجر وإطالة القيام بعد الركوع عام للصلوات جميعها وأما حديث أبي هريرة الذي أخرجه الحاكم وصححه بأنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا رفع رأسه من الركوع من صلاة الصبح الركعة الثانية يرفع يديه فيدعو بهذا الدعاء اللهم اهدني فيمن هديت" إلى آخره ففيه عبد الله بن سعيد المقبري ولا تقوم به حجة وقد ذهب إلى أن الدعاء عقيب آخر ركوع من الفجر سنة جماعة من السلف ومن الخلف الهادي والقاسم وزيد بن علي والشافعي وإن اختلفوا في ألفاظه فعند الهادي بدعاء من القران وعند الشافعي بحديث اللهم اهدني فيمن هديت إلى اخره
39- ( وعنه أي أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم "كان لا يقنت إلا إذا دعا(1/185)
لقوم أو دعا على قوم صححه ابن خزيمة أما دعاؤه فكما ثبت أنه كان يدعو للمستضعفين من أهل مكة وأما دعاؤه على قوم فكما عرفته قريبا ومن هنا قال بعض العلماء يسن القنوت في النوازل فيدعو بما يناسب الحادثة وإذا عرفت هذا فالقول بأنه يسن في النوازل قول حسن تأسيا بما فعله صلى الله عليه وسلم في دعائه على أولئك الأحياء من العرب إلا أنه قد يقال قد نزل به صلى الله عليه وسلم حوادث كحصار الخندق وغيره ولم يرو أنه قنت فيه ولعله يقال الترك لبيان الجواز وقد ذهب أبو حنيفة وأبو يوسف إلى أنه منهي عن القنوت في الفجر وكأنهم استدلوا بقوله
40- ( وعن سعيد كذا في نسخ البلوغ سعيد وهو سعد بغير مثناة تحتية بن طارق الأشجعي قال قلت لأبي وهو طارق بن أشيم بفتح الهمزة فشين معجمة فمثناة تحتية مفتوحة بزنة أحمر قال ابن عبد البر يعد في الكوفيين روى عنه ابنه أبو مالك سعد بن طارق يا أبت إنك صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي أفكانوا يقنتون في الفجر فقال أي بني محدث رواه الخمسة إلا أبا داود وقد روى خلافه عمن ذكر والجمع بينهما أنه وقع القنوت لهم تارة وتركوه أخرى وأما أبو حنيفة ومن ذكر معه فإنهم جعلوه منهيا عنه لهذا الحديث لأنه إذا كان محدثا فهو بدعة والبدعة منهي عنها
41- ( وعن الحسن بن علي عليهما السلام هو أبو محمد الحسن بن علي سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد في النصف من شهر رمضان سنة ثلاث من الهجرة قال ابن عبد البر إنه أصح ما قيل في ذلك وقال أيضا كان الحسن حليما ورعا فاضلا ودعاه ورعه وفضله إلى أنه ترك الدنيا والملك رغبة فيما عند الله بايعوه بعد أبيه عليه السلام فبقي نحوا من سبعة أشهر خليفة بالعراق وما وراءها من خراسان وفضائله لا تحصى وقد ذكرنا منها شطرا صالحا في الروضة الندية وفاته سنة إحدى وخمسين بالمدينة النبوية ودفن في البقيع وقد أطال ابن عبد البر في الاستيعاب في عده لفضائله قال "علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في قنوت الوتر" أي في دعائه وليس فيه بيان لمحله "اللهم اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت وتولني فيمن توليت وبارك لي فيما أعطيت وقني شر ما قضيت فإنك تقضي ولا يقضى عليك وإنه لا يذل من واليت تباركت ربنا وتعاليت" رواه الخمسة وزاد الطبراني والبيهقي بعد قوله "ولا يذل من واليت ولا يعز من عاديت" زاد النسائي في وجه آخر في آخره وصلى الله على النبي إلخ إلا أنه قال المصنف في تخريج أحاديث الأذكار إن هذه الزيادة غريبة لا تثبت لأن فيها عبد الله بن علي لا يعرف وعلى القول بأنه عبد الله بن علي بن الحسن بن علي فالسند منقطع فإنه لم يسمع من عمه الحسين ثم قال فتبين أن هذا الحديث ليس من شرط الحسن لانقطاعه أو جهالة رواته انتهى فكان عليه أن يقول ولا تثبت(1/186)
هذه الزيادة والحديث دليل على مشروعية القنوت في صلاة الوتر وهو مجمع عليه في النصف الأخير من رمضان وذهب الهادوية وغيرهم إلى أنه يشرع أيضا في غيره إلا أن الهادوية لا يجيزونه بالدعاء من غير القرآن والشافعية يقولون إنه يقنت بهذا الدعاء في صلاة الفجر ومستندهم في ذلك قوله
42- ( وللبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا دعاء ندعو به في القنوت من صلاة الصبح قلت أجمله هنا وذكره في تخريج الأذكار من رواية البيهقي وقال: "اللهم اهدني" الحديث إلى آخره رواه البيهقي من طرق أحدها عن بريد بالموحدة والراء تصغير برد وهو ثقبة بن أبي مريم سمعت ابن الحنفية وابن عباس يقولان كان النبي صلى الله عليه وسلم يقنت في صلاة الصبح ووتر الليل بهؤلاء الكلمات وفي إسناده مجهول وروى من طريق أخرى وهي التي ساق المصنف لفظها عن ابن جريج بلفظ يعلمنا دعاء ندعو به في القنوت وصلاة الصبح وفيه عبد الرحمن بن هرمز ضعيف ولذا قال المصنف وفي سنده ضعف.
43- ( وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير وليضع يديه قبل ركبتيه" أخرجه الثلاثة هذا الحديث أخرجه أهل السنن وعلله البخاري والترمذي والدارقطني قال البخاري محمد بن عبد الله بن الحسن لا يتابع عليه وقال لا أدري سمع من أبي الزناد أم لا وقال الترمذي غريب لا نعرفه من حديث أبي الزناد وقد أخرجه النسائي من حديث أبي هريرة أيضا عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر فيه وليضع يديه قبل ركبتيه وقد أخرج ابن أبي داود من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم " كان إذا سجد بدأ بيديه قبل ركبتيه" ومثله أخرج الدراوردي من حديث ابن عمر وهو الشاهد الذي سيشير المصنف إليه وقد أخرج ابن خزيمة في صحيحه من حديث مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال "كنا نضع اليدين قبل الركبتين فأمرنا بوضع الركبتين قبل اليدين" والحديث دليل على أنه يقدم المصلي يديه قبل ركبتيه عند الانحطاط إلى السجود وظاهر الحديث الوجوب لقوله "لا يبركن" وهو نهي وللأمر بقوله "وليضع" قيل ولم يقل أحد بوجوبه فتعين أنه مندوب وقد اختلف العلماء في ذلك فذهب الهادوية ورواية عن مالك والأوزاعي إلى العمل بهذا الحديث حتى قال الأوزاعي أدركنا الناس يضعون أيديهم قبل ركبهم وقال ابن أبي داود وهو قول أصحاب الحديث وذهبت الشافعية والحنفية ورواية عن مالك إلى العمل بحديث وائل وهو قوله وهو أي حديث أبي هريرة هذا أقوى في سنده من حديث وائل بن حجر وهو أنه قال
44- ( رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه" أخرجه الأربعة فإن الأول أي حديث أبي هريرة شاهدا من حديث ابن عمر صححه ابن خزيمة تقدم ذكر الشاهد هذا قريبا وذكره أي الشاهد البخاري معلقا موقوفا قال قال نافع كان ابن عمر يضع يديه قبل ركبتيه وحديث وائل أخرجه أصحاب السنن(1/187)
الأربعة وابن خزيمة وابن السكن في صحيحيهما من طريق شريك عن عاصم بن كليب عن أبيه قال البخاري و الترمذي و أبو داود و البيهقي تفرد به شريك ولكن له شاهد عن عاصم الأحول عن أنس قال " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم انحط بالتكبير حتى سبقت ركبتاه يديه" أخرجه الدارقطني والحاكم والبيهقي وقال الحاكم هو على شرطهما وقال البيهقي تفرد به العلاء بن العطار والعلاء مجهول هذا وحديث وائل هو دليل الحنفية والشافعية وهو مروي عن عمر أخرجه عبد الرزاق وعن ابن مسعود أخرجه الطحاوي وقال به أحمد وإسحاق وجماعة من العلماء وظاهر كلام المصنف ترجيح حديث أبي هريرة وهو خلاف مذهب إمامه الشافعي وقال النووي: لا يظهر ترجيح أحد المذهبين على الآخر ولكن أهل هذا المذهب رجحوا حديث وائل وقالوا في أبي هريرة إنه مضطرب إذ قد روى عنه الأمران وحقق ابن القيم المسألة وأطال فيها وقال إن في حديث أبي هريرة قلبا من الراوي حيث قال وليضع يديه قبل ركبتيه وإن أصله وليضع ركبتيه قبل يديه قال ويدل عليه أول الحديث وهو قوله "فلا يبرك كما يبرك البعير" فإن المعروف من بروك البعير هو تقديم اليدين على الرجلين وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بمخالفة سائر الحيوانات في هيئات الصلاة فنهى عن التفات كالتفات الثعلب وعن افتراش كافتراش السبع وإقعاء كإقعاء الكلب ونقر كنقر الغراب ورفع الأيدي كأذناب خيل شمس أي حال السلام وقد تقدم ويجمعها قولنا
إذا نحن قمنا في الصلاة فإننا ... نهينا عن الإتيان فيها بستة
بروك بعير والتفات كثعلب ... ونقر غراب في سجود الفريضة
وإقعاء كلب أو كبسط ذراعه ... وأذناب خيل عند فعل التحية
وزدنا على ما ذكره في الشرح قولنا
وزدنا كتدبيح الحمار بمده ... لعنق وتصويب لرأس بركعة
هذا السابع وهو بالدال بعدها موحدة ومثناة تحتية وحاء مهملة وروي بالذال المعجمة قيل وهو تصحيف قال في النهاية هو أن يطأطىء المصلي رأسه حتى يكون أخفض من ظهره انتهى إلا أنه قال النووي حديث التدبيح ضعيف وقيل كان وضع اليدين قبل الركبتين ثم أمروا بوضع الركبتين قبل اليدين وحديث ابن خزيمة الذي أخرجه عن سعد بن أبي وقاص وقدمناه قريبا يشعر بذلك وقول المصنف إن لحديث أبي هريرة شاهدا يقوى به معارض بأن لحديث وائل أيضا شاهدا قد قدمناه وقال الحاكم إنه على شرطهما وغايته وإن لم يتم كلام الحاكم فهو مثل شاهد أبي هريرة الذي تفرد به شريك فقد اتفق حديث وائل وحديث أبي هريرة في القوة وعلى تحقيق ابن القيم فحديث أبي هريرة عائد إلى حديث وائل وإنما وقع فيه قلب ولا ينكر ذلك فقد وقع القلب في ألفاظ الحديث
45- ( وعن ابن عمر رضي الله عنهما "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قعد للتشهد وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى واليمنى على اليمنى وعقد(1/188)
ثلاثا وخمسين وأشار بأصبعه السبابة" قال العلماء خصت السبابة بالإشارة لاتصالها بنياط القلب فتحريكها سبب لحضوره رواه مسلم وفي رواية له "وقبض أصابعه كلها وأشار بالتي تلي الإبهام" ووضع اليدين على الركبتين مجمع على استحبابه وقوله "وعقد ثلاثا وخمسين" قال المصنف في التلخيص صورتها أنه يجعل الإبهام مفتوحة تحت المسبحة وقوله فأتى أصابعه كلها أي أصابع يده اليمنى قبضها على الراحة وأشار بالسبابة وفي رواية وائل بن حجر حلق بين الإبهام والوسطى أخرجه ابن ماجه فهذه ثلاث هيئات جعل الإبهام تحت المسبحة مفتوحة وسكت في هذه عن بقية الأصابع هل تضم إلى الراحة أو تبقى منشورة على الركبة الثانية ضم الأصابع كلها على الراحة والإشارة بالمسبحة الثالثة التحليق بين الإبهام والوسطى ثم الإشارة بالسبابة وورد بلفظ الإشارة كما هنا وكما في حديث ابن الزبير "أنه صلى الله عليه وسلم كان يشير بالسبابة ولا يحركها" أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان في صحيحه وعند ابن خزيمة والبيهقي من حديث وائل أنه صلى الله عليه وسلم رفع إصبعه فرأيته يحركها يدعو بها قال البيهقي يحتمل أن يكون مراده بالتحريك الإشارة لا تكرير تحريكها حتى لا يعارض حديث ابن الزبير وموضع الإشارة عند قوله لا إله إلا الله لما رواه البيهقي من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وينوي بالإشارة التوحيد والإخلاص فيه فيكون جامعا في التوحيد بين الفعل والقول والاعتقاد ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الإشارة بالأصبعين وقال أحد أحد لمن راه يشير بأصبعيه ثم الظاهر أنه مخير بين هذه الهيئات ووجه الحكمة شغل كل عضو بعبادة وورد في اليد اليسرى عند الدارقطني من حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم ألقم كفه اليسرى ركبته وفسر الإلقام بعطف الأصابع على الركبة وذهب إلى هذا بعضهم عملا بهذه الرواية قال وكأن الحكمة فيه منع اليد عن العبث واعلم أن قوله في حديث ابن عمر وعقد ثلاثا وخمسين إشارة إلى طريقة معروفة تواطأت عليها العرب في عقود الحساب وهي أنواع من الاحاد والعشرات والمئين والألوف أما الاحاد فللواحد عقد الخنصر إلى أقرب ما يليه من باطن الكف وللاثنين عقد البنصر معها كذلك وللثلاثة عقد الوسطى معها كذلك وللأربعة حل الخنصر وللخمسة حل البنصر معها دون الوسطى وللستة عقد البنصر وحل جميع الأنامل وللسبعة بسط البنصر إلى أصل الإبهام مما يلي الكف وللثمانية بسط البنصر فوقها كذلك وللتسعة بسط الوسطى فوقها كذلك وأما العشرات فلها الإبهام والسبابة فللعشرة الأولى عقد رأس الإبهام على طرف السبابة وللعشرين إدخال الإبهام بين السبابة والوسطى وللثلاثين عقد رأس السبابة على رأس الإبهام عكس العشرة وللأربعين تركيب الإبهام على العقد الأوسط من السبابة وعطف الإبهام على أصلها وللخمسين عطف الإبهام إلى أصلها وللستين تركيب السبابة على ظهر الإبهام عكس الأربعين وللسبعين إلقاء رأس الإبهام على العقد الأوسط من السبابة ورد طرف السبابة إلى الإبهام وللثمانين رد طرف السبابة إلى أصلها وبسط الإبهام على جنب(1/189)
السبابة من ناحية الإبهام وللتسعين عطف السبابة إلى أصل الإبهام وضمها بالإبهام وأما المئين فكالآحاد إلى تسعمائة في اليد اليسرى والألوف كالعشرات في اليسرى
46- ( وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "التفت إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إذا صلى أحدكم فليقل التحيات" جمع تحية ومعناها البقاء والدوام أو العظمة أو السلامة من الآفات أو كل أنواع التعظيم "لله والصلوات" قيل الخمس أو ما هو أعم من الفرض والنفل أو العبادات كلها أو الدعوات أو الرحمة وقيل التحيات العبادات القولية والصلوات العبادات الفعلية "والطيبات" أي ما طاب من الكلام وحسن أن يثني به على الله أو ذكر الله أو الأقوال الصالحة أو الأعمال الصالحة أو ما هو أعم من ذلك وطيبها كونها كاملة خالصة عن الشوائب والتحيات مبتدأ خبرها "لله والصلوات والطيبات" عطف عليه وخبرهما محذوف وفيه تقادير أخر "السلام" أي السلام الذي يعرف كل أحد "عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته" خصوه صلى الله عليه وسلم أولا بالسلام عليه لعظم حقه عليهم وقدموه على التسليم على أنفسهم لذلك ثم أتبعوه بالسلام عليهم في قولهم "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين" وقد ورد أنه يحمل كل عبد صالح في السماء والأرض وفسر الصالح بحقوق الله وحقوق عباده ودرجاتهم متفاوتة "أشهد أن لا إله إلا الله" لا مستحق للعبادة بحق غيره فهو قصر إفراد لأن المشركين كانوا يعبدونه ويشركون معه غيره "وأشهد أن محمدا عبده ورسوله" هكذا هو بلفظ عبده ورسوله في جميع روايات الأمهات الست ووهم ابن الأثير في جامع الأصول فساق حديث ابن مسعود بلفظ وأن محمدا رسول الله ونسبه إلى الشيخين وغيرهما وتبعه على وهمه صاحب تيسير الوصول وتبعهما على الوهم الجلال في ضوء النهار وزاد أنه لفظ البخاري ولفظ البخاري كما قاله المصنف فتنبه "ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو" متفق عليه واللفظ للبخاري قال البزار أصح حديث عندي في التشهد حديث ابن مسعود يروى عنه من نيف وعشرين طريقا ولا نعلم روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد أثبت منه ولا أصح إسنادا ولا أثبت رجالا ولا أشد تظافرا بكثرة الأسانيد والطرق وقال مسلم إنما أجمع الناس على تشهد ابن مسعود لأن أصحابه لا يخالف بعضهم بعضا وغيره قد اختلف عنه أصحابه وقال محمد بن يحيى الذهلي هو أصح ما روى في التشهد وقد روى حديث التشهد أربعة وعشرون صحابيا بألفاظ مختلفة اختار الجماهير منها حديث ابن مسعود والحديث فيه دلالة على وجوب التشهد لقوله فليقل وقد ذهب إلى وجوبه أئمة من الآل وغيرهم من العلماء وقالت طائفة إنه غير واجب لعدم تعليمه المسيء صلاته ثم اختلفوا في الألفاظ التي تجب عند من أوجبه أو عند من قال إنه سنة وقد سمعت أرجحية حديث ابن مسعود وقد اختاره الأكثر فهو الأرجح وقد رجح جماعة غيره من ألفاظ التشهد الواردة عن الصحابة وزاد ابن أبي شيبة قول وحده لا شريك له في حديث ابن مسعود(1/190)
من رواية أبي عبيدة عن أبيه وسنده ضعيف لكن ثبتت هذه الزيادة من حديث أبي موسى عند مسلم وفي حديث عائشة الموقوف في الموطأ وفي حديث ابن عمر عند الدارقطني إلا أنه بسند ضعيف وفي سنن أبي داود قال ابن عمر زدت فيه وحده لا شريك له وظاهره أنه موقوف على ابن عمر وقوله ثم ليتخير من الدعاء أعجبه زاد أبو داود فيدعو به ونحوه للنسائي من وجه آخر بلفظ فليدع وظاهره الوجوب أيضا للأمر به وأنه يدعو بما شاء من خير الدنيا والآخرة وقد ذهب إلى وجوب الاستعاذة الآتية طاوس فإنه أمر ابنه بالإعادة للصلاة لما لم يتعوذ من الأربع الآتي ذكرها وبه قال بعض الظاهرية وقال ابن حزم ويجب أيضا في التشهد الأول والظاهر مع القائل بالوجوب وذهب الحنفية والنخعي وطاوس إلى أنه لا يدعو في الصلاة إلا بما يوجد في القران وقال بعضهم لا يدعو إلا بما كان مأثورا ويرد القولين قوله صلى الله عليه وسلم "ثم ليتخير من الدعاء أعجبه" وفي لفظ "ما أحب" وفي لفظ للبخاري "من الثناء ما شاء" فهو إطلاق للداعي أن يدعو بما أراد وقال ابن سيرين: لا يدعو في الصلاة إلا بأمر الآخرة وقد أخرج سعيد بن منصور من حديث ابن مسعود فعلمنا التشهد في الصلاة أي النبي صلى الله عليه وسلم ثم يقول إذا فرغ أحدكم من التشهد فليقل: "اللهم إني أسألك من الخير ما علمت منه وما لم أعلم وأعوذ بك من الشر كله ما علمت منه وما لم أعلم اللهم إني أسألك من خير ما سألك منه عبادك الصالحون وأعوذ بك من شر ما استعاذك منه عبادك الصالحون {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} " الآية ومن أدلة وجوب التشهد ما أفاده قوله وللنسائي أي من حديث ابن مسعود كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد حذف المصنف تمامه وهو السلام على الله السلام على جبريل وميكائيل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقولوا هذا ولكن قولوا التحيات إلى آخره ففي قوله يفرض عليه دليل الإيجاب إلا أنه أخرج النسائي هذا الحديث من طريق ابن عيينة قال ابن عبد البر في الاستذكار تفرد ابن عيينة بذلك وأخرج مثله الدارقطني والبيهقي وصححاه ولأحمد أي من حديث ابن مسعود وهو من أدلة الوجوب أيضا "أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه التشهد وأمره أن يعلمه الناس" أخرجه أحمد عن ابن عبيدة عن عبد الله قال "علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد وأمره أن يعلمه الناس التحيات" وذكره إلخ
47- (ولمسلم عن ابن عباس قال "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد التحيات المباركات الصوات الطيبات لله" إلى آخره تمامه "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله" هذا لفظ مسلم وأبي داود ورواه الترمذي وصححه كذلك لكنه ذكر السلام منكرا بنو ورواه ابن ماجه كمسلم لكنه قال "وأشهد أن محمدا عبده ورسوله" ورواه الشافعي وأحمد بتنكير السلام أيضاً وقالا فيه وأن محمدا ولم يذكرا أشهد وفيه زيادة المباركات وحذف الواو من الصلوات ومن الطيبات وقد اختار الشافعي تشهد(1/191)
ابن عباس هذا قال المصنف إنه قال الشافعي لما قيل له كيف صرت إلى حديث ابن عباس في التشهد قال لما رأيته واسعا وسمعته عن ابن عباس صحيحا كان عندي أجمع وأكثر لفظا من غيره فأخذت به غير معنف لمن يأخذ بغيره مما صح
48- (وعن فضالة بفتح الفاء بزنة سحابة هو أبو محمد فضالة بن عبيد بصيغة التصغير لعبد أنصاري أوسي أول مشاهده أحد ثم شهد ما بعدها وبايع تحت الشجرة ثم انتقل إلى الشام وسكن دمشق وتولى القضاء بها ومات بها وقيل غير ذلك قال "سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يدعو في صلاته ولم يحمد الله ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال عجل هذا" أي بدعائه قبل تقديم الأمرين "ثم دعاه فقال إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد ربه والثناء عليه" هو عطف تفسيري ويحتمل أن يراد بالتحميد نفسه وبالثناء ما هو أعم أي عبارة فيكون من عطف العام على الخاص "ثم يصلي" هو خبر محذوف أي ثم هو يصلي عطف جملة على جملة فلذا لم تجزم "على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يدعو بما شاء" من خير الدنيا والآخرة رواه أحمد والثلاثة وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم الحديث دليل على وجوب ما ذكر من التحميد والثناء والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم والدعاء بما شاء وهو موافق في المعنى لحديث ابن مسعود وغيره فإن أحاديث التشهد تتضمن ما ذكر من الحمد والثناء وهي مبينة لما أجمله هذا ويأتي الكلام في الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم وهذا إذا ثبت أن هذا الدعاء الذي سمعه النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك الرجل كان في قعدة التشهد وإلا فليس في هذا الحديث دليل على أنه كان ذلك حال قعدة التشهد إلا أن ذكر المصنف له هنا يدل على أنه كان في قعود التشهد وكأنه عرف ذلك من سياقه وفيه دليل على تقديم الوسائل بين يدي المسائل وهي نظير- إياك نعبد وإياك نستعين - حيث قدم الوسيلة وهي العبادة على طلب الاستعانة
49- (وعن أبي مسعود الأنصاري أبو مسعود اسمه عقبة بن عامر بن ثعلبة الأنصاري الخزرجي البدري شهد العقبة الثانية وهو صغير ولم يشهد بدرا وإنما نزل به فنسب إليه سكن الكوفة ومات بها في خلافة أمير المؤمنين علي عليه السلام قال قال بشير بن سعد هو أبو النعمان بشير بن سعد بن ثعلبة الأنصاري الخزرجي والد النعمان بن بشير شهد العقبة وما بعدها "يا رسول الله أمرنا الله أن نصلى عليك" يريد في قوله تعالى - {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} - "فكيف نصلي عليك فسكت " أي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعند أحمد ومسلم زيادة "حتى تمنينا أنه لم يسأله" "ثم قال قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد الحميد" صيغة مبالغة فعيل بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث أي أنك محمود بمحامدك اللائقة بعظمة شأنك وهو تعليل لطلب الصلاة أي لأنك محمود ومن محامدك إفاضتك أنواع العنايات وزيادة(1/192)
البركات على نبيك الذي تقرب إليك بامتثال ما أهلته له من أداء الرسالة ويحتمل أن حميدا بمعنى حامد أي أنك حامد من يستحق أن يحمد ومحمد من أحق عبادك بحمدك وقبول دعاء من يدعو له ولآله وهذا أنسب بالمقام مجيد مبالغة ماجد والمجد الشرف والسلام كما علمتم بالبناء للمجهول وتشديد اللام وفيه رواية بالبناء للمعلوم وتخفيف اللام رواه مسلم وزاد ابن خزيمة "فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا" وهذه الزيادة رواها أيضا ابن حبان والدارقطني والحاكم وأخرجها أبو حاتم وابن خزيمة في صحيحيهما وحديث الصلاة أخرجه الشيخان عن كعب بن عجرة عن أبي حميد الساعدي وأخرجه البخاري عن أبي سعيد والنسائي عن طلحة والطبراني عن سهل بن سعد وأحمد والنسائي عن زيد بن خارجة والحديث دليل على وجوب الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم في الصلاة لظاهر الأمر أعني قولوا وإلى هذا ذهب جماعة من السلف والأئمة والشافعي وإسحق ودليلهم الحديث مع زيادته الثابتة ويقتضي أيضا وجوب الصلاة على الآل وهو قول الهادي والقاسم وأحمد بن حنبل ولا عذر لمن قال بوجوب الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم مستدلا بهذا الحديث من القول بوجوبها على الآل إذ المأمور به واحد ودعوى النووي وغيره الإجماع على أن الصلاة على الآل مندوبة غير مسلمة بل نقول الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم لا تتم ويكون العبد ممتثلا بها حتى يأتي بهذا اللفظ النبوي الذي فيه ذكر الآل لأنه قال السائل كيف نصلي عليك فأجابه بالكيفية أنها الصلاة عليه وعلى آله فمن لم يأت بالآل فما صلى عليه بالكيفية التي أمر بها فلا يكون ممتثلا للأمر فلا يكون مصليا عليه صلى الله عليه وسلم وكذلك بقية الحديث من قوله كما صليت إلى آخره يجب إذ هو من الكيفية المأمور بها ومن فرق بين ألفاظ هذه الكيفية بإيجاب بعضها وندب بعضها فلا دليل له على ذلك وأما استدلال المهدي في البحر على أن الصلاة على الآل سنة بالقياس على الأذان فإنهم لم يذكروا معه صلى الله عليه وسلم فيه فكلام باطل فإنه كما قيل لا قياس مع النص لأنه لا يذكر الآل في تشهد الأذان لا ندباً ولا وجوبا ولأنه ليس في الأذان دعاء له صلى الله عليه وسلم بل شهادة بأنه رسول الله والآل لم يأت تعبد بالشهادة بأنهم آله ومن هنا تعلم أن حذف لفظ الآل من الصلاة كما يقع في كتب الحديث ليس على ما ينبغي وكنت سئلت عنه قديما فأجبت أنه قد صح عند أهل الحديث بلا ريب كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وهم رواتها وكأنهم حذفوها خطأ تقية لما كان في الدولة الأموية من يكره ذكرهم ثم استمر عليه عمل الناس متابعة من الآخر للأول فلا وجه له وبسطت هذا الجواب في حواشي شرح العمدة بسطا شافيا وأما من هم الآل ففي ذلك أقوال الأصح أنهم من حرمت عليهم الزكاة فإنه بذلك فسرهم زيد بن أرقم والصحابي أعرف بمراده صلى الله عليه وسلم فتفسيره قرينة على تعيين المراد من اللفظ المشترك وقد فسرهم بآل علي وآل جعفر وآل عقيل وآل العباس فإن قيل يحتمل أن يراد بقوله "إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا" أي إذا نحن دعونا لك في دعائنا فلا يدل(1/193)
على إيجاب الصلاة عليه في الصلاة قلت الجواب من وجهين الأول المتبادر في لسان الصحابة من الصلاة في قوله صلاتنا الشرعية لا اللغوية والحقيقة العرفية مقدمة إذا ترددت بين المعنيين الثاني أنه قد ثبت وجوب الدعاء في آخر التشهد كما عرفت من الأمر به والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم قبل الدعاء واجبة لما عرفت من حديث فضالة وبهذا يتم إيجاب الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم بعد التشهد قبل الدعاء الدال على وجوبه
50- ( وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا تشهد أحدكم" مطلق في التشهد الأوسط والأخير "فليستعذ بالله من أربع" بينها بقوله يقول "اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال" متفق عليه وفي رواية لمسلم "إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير" هذه الرواية قيدت إطلاق الأولى وأبانت أن الاستعاذة المأمور بها بعد التشهد الأخير ويدل التعقيب بالفاء أنها تكون قبل الدعاء المخير فيه بما شاء والحديث دليل على وجوب الاستعاذة مما ذكر وهو مذهب الظاهرية وقال ابن حزم منهم ويجب أيضا في التشهد الأول عملا منه بإطلاق اللفظ المتفق عليه وأمر طاوس ابنه بإعادة الصلاة لما لم يستعذ فيها فإنه يقول بالوجوب وبطلان صلاة من تركها والجمهور حملوه على الندب وفيه دلالة على ثبوت عذاب القبر والمراد من فتنة المحيا ما يعرض للإنسان مدة حياته من الافتتان بالدنيا والشهوات والجهالات وأعظمها والعياذ بالله أمر الخاتمة عند الموت وقيل هي الابتلاء مع عدم الصبر وفتنة الممات قيل المراد بها الفتنة عند الموت أضيفت إليه لقربها منه ويجوز أن يراد بها فتنة القبر وقيل أراد بها السؤال مع الحيرة وقد أخرج البخاري إنكم تفتنون في قبوركم مثل أو قريبا من فتنة الدجال ولا يكون هذا تكريرا لعذاب القبر لأن عذاب القبر متفرع على ذلك وقوله فتنة المسيح الدجال قال العلماء أهل اللغة الفتنة الامتحان والاختبار وقد يطلق على القتل والإحراق والتهمة وغير ذلك والمسيح بفتح الميم وتخفيف السين المهملة وآخره حاء مهملة وفيه ضبط آخر وهذا الأصح ويطلق على الدجال وعلى عيسى ولكن إذا أريد به الدجال قيد باسمه سمي المسيح لمسحه الأرض وقيل لأنه ممسوح العين وأما عيسى فقيل له المسيح لأنه خرج من بطن أمه ممسوحا بالدهن وقيل لأن زكريا مسحه وقيل لأنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا برأ وذكر صاحب القاموس أنه جمع في وجه تسميته بذلك خمسين قولا
51- (وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم علمني دعاء أدعو به في صلاتي قال: "قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا" يروى بالمثلثة وبالموحدة فيخير الداعي بين اللفظين ولا يجمع بينهما لأنه لم يرد إلا أحدهما "ولا يغفر الذنوب إلا أنت" إقرار بالوحدانية "فاغفر لي" استجلاب للمغفرة "مغفرة" نكرها للتعظيم أي مغفرة عظيمة وزادها تعظيما بوصفها بقوله "من عندك"(1/194)
لأن ما يكون من عنده تعالى لا تحيط بوصفه عبارة "وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم" توسل إلى نيل مغفرة الله ورحمته بصفتي غفرانه ورحمته متفق عليه الحديث دليل على شرعية الدعاء في الصلاة على الإطلاق من غير تعيين محل له ومن محلاته بعد التشهد والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم والاستعاذة لقوله فليتخير من الدعاء ما شاء والإقرار بظلم نفسه اعتراف بأنه لا يخلو أحد من البشر عن ظلم نفسه بارتكابه ما نهى عنه أو تقصيره عن أداء ما أمر به وفيه التوسل إلى الله تعالى بأسمائه عند طلب الحاجات واستدفاع المكروهات وأنه يأتي من صفاته في كل مقام ما يناسبه كلفظ الغفور الرحيم عند طلب المغفرة ونحو وارزقنا وأنت خير الرازقين- عند طلب الرزق والقران والأدعية النبوية مملوءة بذلك وفي الحديث دليل على طلب التعليم من العالم سيما في الدعوات المطلوب فيها جوامع الكلم واعلم أنه قد ورد في الدعاء بعد التشهد ألفاظ غير ما ذكر أخرج النسائي عن جابر أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في صلاته بعد التشهد أحسن الكلام كلام الله وأحسن الهدي هدى محمد وأخرج أبو داود عن ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم من الدعاء بعد التشهد "اللهم ألف على الخير بين قلوبنا وأصلح ذات بيننا واهدنا ونجنا من الظلمات إلى النور وجنبنا الفواحش والفتن ما ظهر منها وما بطن وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا وأزواجنا وذرياتنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم واجعلنا شاكرين لنعمتك مثنين بها قابليها وأتمها علينا" أخرجه أبو داود وأخرج أبو داود أيضا عن بعض الصحابة أنه صلى الله عليه وسلم قال لرجل كيف تقول في الصلاة قال أتشهد ثم أقول اللهم إني أسألك الجنة وأعوذ بك من النار أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ فقال صلى الله عليه وسلم: "حول ذلك ندندن أنا ومعاذ" ففيه أنه يدعو الإنسان بأي لفظ شاء من مأثور وغيره
52- ( وعن وائل بن حجر قال "صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم فكان يسلم عن يمينه السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وعن شماله السلام عليكم ورحمة الله وبركاته" رواه أبو داود بإسناد صحيح هذا الحديث أخرجه أبو داود من حديث علقمة بن وائل عن أبيه ونسبه المصنف في التلخيص إلى عبد الجبار بن وائل وقال لم يسمع من أبيه فأعله بالانقطاع وهنا قال صحيح وراجعنا سنن أبي داود فرأيناه رواه عن علقمة بن وائل عن أبيه وقد صح سماع علقمة عن أبيه فالحديث سالم عن الانقطاع فتصحيحه هنا هو الأولى وإن خالف ما في التلخيص وحديث التسليمتين رواه خمسة عشر من الصحابة بأحاديث مختلفة ففيها صحيح وحسن وضعيف ومتروك وكلها بدون زيادة وبركاته إلا في رواية وائل هذه ورواية عن ابن مسعود وعند ابن ماجه وعند ابن حبان ومع صحة إسناد حديث وائل كما قال المصنف هنا يتعين قبول زيادته إذ هي زيادة عدل وعدم ذكرها في رواية غيره ليست رواية لعدمها قال الشارح إنه لم ير من قال وجوب زيادة وبركاته إلا أنه قال قال الإمام يحيى إذا زاد وبركاته ورضوانه وكرامته(1/195)
أجزأ إذ هو زيادة فضيلة وقد عرفت أن الوارد زيادة وبركاته وقد صحت ولا عذر عن القول بها وقال به السرخسي والإمام والروياني في الحلية وقول ابن الصلاح إنها لم تثبت قد تعجب منه المصنف وقال هي ثابتة عند ابن حبان في صحيحه وعند أبي داود وعند ابن ماجه قال المصنف إلا أنه قال ابن رسلان في شرح السنن لم نجدها في ابن ماجه قلت راجعنا سنن ابن ماجه من نسخة صحيحة مقروءة فوجدنا فيه ما لفظه باب التسليم حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا عمر بن عبيد عن ابن إسحاق عن الأحوص عن عبد الله "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسلم عن يمينه وعن شماله حتى يرى بياض خده السلام عليكم ورحمة الله وبركاته" انتهى بلفظه وفي تلقيح الأفكار تخريج الأذكار للحافظ ابن حجر لما ذكر النووي أن زيادة وبركاته زيادة فردة ساق الحافظ طرقا عدة لزيادة وبركاته ثم قال فهذه عدة طرق ثبتت بها وبركاته بخلاف ما يوهمه كلام الشيخ أنها رواية فردة انتهى كلامه وحيث ثبت أن التسليمتين من فعله صلى الله عليه وسلم في الصلاة وقد ثبت قوله "صلوا كما رأيتموني أصلي" وثبت حديث تحريمها التكبير وتحليلها السلام أخرجه أصحاب السنن بإسناد صحيح فيجب التسليم لذلك وقد ذهب إلى القول بوجوبه الهادوية والشافعية وقال النووي: إنه قول جمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم وذهب الحنفية وآخرون إلى أنه سنة مستدلين على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر "إذا رفع الإمام رأسه من السجدة وقعد ثم أحدث قبل التسليم فقد تمت صلاته" فدل على أن التسليم ليس بركن واجب وإلا لوجبت الإعادة ولحديث المسيء صلاته فإنه صلى الله عليه وسلم لم يأمره بالسلام وأجيب عنه بأن حديث ابن عمر ضعيف باتفاق الحفاظ فإنه أخرجه الترمذي وقال هذا حديث إسناده ليس بذاك القوي وقد اضطربوا في إسناده وحديث المسيء صلاته لا ينافي الوجوب فإن هذه زيادة وهي مقبولة والاستدلال بقوله تعالى {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} على عدم وجوب السلام استدلال غير تام لأن الآية مجملة بين المطلوب منها فعله صلى الله عليه وسلم ولو عمل بها وحدها لما وجبت القراءة ولا غيرها ودل الحديث على وجوب التسليم على اليمين واليسار وإليه ذهبت الهادوية وجماعة وذهب الشافعي إلى أن الواجب تسليمة واحدة والثانية مسنونة قال النووي أجمع العلماء الذين يعتد بهم أنه لا يجب إلا تسليمة واحدة فإن اقتصر عليها استحب له أن يسلم تلقاء وجهه فإن سلم تسليمتين جعل الأولى عن يمينه والثانية عن يساره ولعل حجة الشافعي حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أوتر بتسع ركعات لم يقعد إلا في الثامنة فيحمد الله ويذكره ويدعو ثم ينهض ولا يسلم ثم يصلي التاسعة فيجلس ويذكر الله ويدعو ثم يسلم تسليمة أخرجه ابن حبان وإسناده على شرط مسلم وأجيب عنه بأنه لا يعارض حديث الزيادة كما عرفت من قبول الزيادة إذا كانت من عدل وعند مالك أن المسنون تسليمة واحدة وقد بين ابن عبد البر ضعف أدلة هذا القول من الأحاديث واستدل المالكية على كفاية(1/196)
التسليمة الواحدة بعمل أهل المدينة وهو عمل توارثوه كابرا عن كابر وأجيب عنه بأنه قد تقرر في الأصول أن عملهم ليس بحجة وقوله عن يمينه وعن شماله أي منحرفا إلى الجهتين بحيث يرى بياض خده كما ورد في رواية سعد "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم سلم عن يمينه وعن شماله حتى كأني أنظر إلى صفحة خده" وفي لفظ حتى أرى بياض خده أخرجه مسلم والنسائي
53- ( وعن المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم "كان يقول في دبر" قال في القاموس الدبر بضم الدال وبضمتين نقيض القبل من كل شيء عقبه ومؤخره وقال في الدبر محركة الدال والباء بالفتح الصلاة في آخر وقتها وتسكن الباء ولا يقال بضمتين فإنه من لحن المحدثين "كل صلاة مكتوبة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت" ووقع عند عبد بن حميد بعده "ولا راد لما قضيت ولا ينفع ذا الجد منك الجد" متفق عليه زاد الطبراني من طريق أخرى عن المغيرة بعد قوله له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير ورواته موثوقون وثبت مثله عند البزار من حديث عبد الرحمن بن عوف بسند صحيح لكنه في القول إذا أصبح وإذا أمسى ومعنى "لا مانع لما أعطيت" أن من قضيت له بقضاء من رزق أو غيره لا يمنعه أحد عنه ومعنى "لا معطي لما منعت" أنه من قضيت له بحرمان لا معطى له والجد بفتح الجيم كما سلف قال البخاري معناه: الغنى والمراد لا ينفعه ولا ينجيه حظه في الدنيا بالمال والولد والعظمة والسلطان وإنما ينجيه فضلك ورحمتك والحديث دليل على استحباب هذا الدعاء عقب الصلوات لما اشتمل على توحيد الله ونسبة الأمر كله إليه والمنع والإعطاء وتمام القدرة
54- (وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "كان يتعوذ بهن دبر كل صلاة اللهم إني أعوذ بك" أي ألتجئ إليك "من البخل" بضم الموحدة وسكون الخاء المعجمة وفيه لغات "وأعوذ بك من الجبن" بزنة البخل "وأعوذ بك من أن أراد إلى أرذل العمر وأعوذ بك من فتنة الدنيا وأعوذ بك من عذاب القبر" رواه البخاري قوله دبر الصلاة هنا وفي الأول يحتمل أنه قبل الخروج لأن دبر الحيوان منه وعليه بعض أئمة الحديث ويحتمل أنه بعدها وهو أقرب والمراد بالصلاة عند الإطلاق المفروضة والتعوذ من البخل قد كثر في الأحاديث قيل والمقصود منه منع ما يجب بذله من المال شرعا أو عادة والجبن هو المهابة للأشياء والتأخر عن فعلها يقال منه جبان كسحاب لمن قام به والمتعوذ منه هو التأخر عن الإقدام بالنفس إلى الجهاد الواجب والتأخر عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك والمراد من الرد إلى أرذل العمر هو بلوغ الهرم والخرف حتى يعود كهيئته الأولى في أوان الطفولية ضعيف البنية سخيف العقل قليل الفهم وأما فتنة الدنيا فهي الافتتان بشهواتها وزخارفها حتى تلهيه(1/197)
عن القيام بالواجبات التي خلق لها العبد وهي عبادة بارئه وخالقه وهو المراد من قوله تعالى - {نَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} - وتقدم الكلام على عذاب القبر
55- ( وعن ثوبان رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا انصرف من صلاته" أي سلم منها "استغفر الله ثلاثا" بلفظ أستغفر الله وفي الأذكار للنووي قيل للأوزاعي وهو أحد رواة هذا الحديث كيف الاستغفار قال تقول أستغفر الله أستغفر الله وقال "اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام " رواه مسلم والاستغفار إشارة إلى أن العبد لا يقوم بحق عبادة مولاه لما يعرض له من الوساوس والخواطر فشرع له الاستغفار تداركا لذلك وشرع له أن يصف ربه بالسلام كما وصف به نفسه والمراد ذو السلامة من كل نقص وآفة مصدر وصف به للمبالغة ومنك السلام أي منك نطلب السلامة من شرور الدنيا والآخرة والمراد بقوله يا ذا الجلال والإكرام يا ذا الغنى المطلق والفضل التام وقيل الذي عنده الجلال والإكرام لعباده المخلصين وهو من عظائم صفاته تعالى ولذا قال صلى الله عليه وسلم ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام ومر برجل يصلي وهو يقول يا ذا الجلال والإكرام فقال قد استجيب لك
56- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من سبح الله دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين" يقول سبحان الله "وحمد الله ثلاثا وثلاثين" يقول الحمد لله "وكبر الله ثلاثا وثلاثين" يقول الله أكبر "فتلك تسع وتسعون" عدد أسماء الله الحسنى "وقال تمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير غفرت خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر" هو ما يعلو عليه عند اضطرابه رواه مسلم وفي رواية أخرى لمسلم عن أبي هريرة "أن التكبير أربع وثلاثون" وبه تتم المائة فينبغي العمل بهذا تارة وبالتهليل أخرى ليكون قد عمل بالروايتين وأما الجمع بينهما كما قال الشارح وسبقه غيره فليس بوجه لأنه لم يرد الجمع بينهما ولأنه يخرج العدد عن المائة هذا وللحديث سبب وهو "أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا يا رسول الله قد ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم فقال: "وما ذلك" قالوا يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون ولا نتصدق ويعتقون ولا نعتق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفلا أعلمكم شيئا تدركون به من سبقكم وتسبقون به من بعدكم ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم" قالوا بلى قال " سبحوا الله.. " الحديث وكيفية التسبيح وأخويه كما ذكرناه وقيل يقول سبحان الله والحمد لله والله أكبر ثلاثا وثلاثين وقد ورد في البخاري من حديث أبي هريرة أيضا "يسبحون عشرا ويحمدون عشرا ويكبرون عشرا" وفي صفة أخرى "يسبحون خمسا وعشرين تسبيحة ومثلها تحميدا ومثلها تكبيرا ومثلها لا إله إلا الله وحده(1/198)
لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير" فتتم المائة وأخرج أبو داود من حديث زيد بن أرقم "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول دبر كل صلاة اللهم ربنا ورب كل شيء أنا شهيد إنك أنت الرب وحدك لا شريك لك اللهم ربنا ورب كل شيء إنا نشهد أن محمدا صلى الله عليه وسلم عبدك ورسولك اللهم ربنا ورب كل شيء أنا شهيد أن العباد كلهم إخوة اللهم ربنا ورب كل شيء اجعلني مخلصا لك وأهلي في كل ساعة من الدنيا والآخرة يا ذا الجلال والإكرام استمع واستجب الله أكبر الله أكبر الأكبر الله نور السموات والأرض الله أكبر الأكبر حسبي الله ونعم الوكيل الله أكبر الأكبر" وأخرج أبو داود من حديث علي عليه السلام وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم من الصلاة قال: "اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت" وأخرج أبو داود والنسائي من حديث عقبة بن عامر "أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقرأ بالمعوذات دبر كل صلاة" وأخرج مسلم من حديث البراء أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول بعد الصلاة: "رب قني عذابك يوم تبعث عبادك" وورد بعد صلاة المغرب وبعد صلاة الفجر بخصوصهما قول "لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير عشر مرات" أخرجه أحمد وهو زيادة على ما ذكر في غيرهما وأخرج الترمذي عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قال في دبر صلاة الفجر وهو ثان رجليه قبل أن يتكلم لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير عشر مرات كتب الله له عشر حسنات ومحا عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات وكان يومه ذلك في حرز من كل مكروه وحرز من الشيطان ولم ينبغ لذنب أن يدركه في ذلك اليوم إلا الشرك بالله عز وجل" قال الترمذي غريب حسن صحيح وأخرجه النسائي من حديث معاذ وزاد فيه بيده الخير وزاد فيه أيضا وكان له بكل واحدة قالها عتق رقبة وأخرج الترمذي والنسائي من حديث عمارة بن شبيب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير عشر مرات على إثر المغرب بعث الله له ملائكة يحفظونه من الشيطان الرجيم حتى يصبح وكتب له بها عشر حسنات ومحا عنه عشر سيئات موبقات وكانت له بعدل عشر رقبات مؤمنات" قال الترمذي حسن لا نعرفه إلا من حديث ليث بن سعد ولا نعرف لعمارة سماعا من النبي صلى الله عليه وسلم وأما قراءة الفاتحة بنية كذا وبنية كذا كما يفعل الآن فلم يرد بها دليل بل هي بدعة وأما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد تمام التسبيح وأخويه من الثناء فالدعاء بعد الذكر سنة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أمام الدعاء كذلك سنة إنما الاعتياد لذلك وجعله في حكم السنن الراتبة ودعاء الإمام مستقبل القبلة مستدبرا للمأمومين فلم يأت به سنة بل الذي ورد أنه صلى الله عليه وسلم كان يستقبل المأمومين إذا سلم قال البخاري باب يستقبل الإمام الناس إذا سلم وورد حديث سمرة بن جندب وحديث زيد بن خالد كان إذا صلى أقبل علينا بوجهه وظاهره المداومة على ذلك(1/199)
57- ( وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "أوصيك يا معاذ لا تدعن" هو نهي من ودعه إلا أنه هجر ماضيه في الأكثر استغناء عنه بترك وقد ورد قليلا وقرىء {مَا وَدَعَكَ رَبُّكَ} - دبر كل صلاة أن تقول "اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك" رواه أحمد وأبو داود والنسائي بسند قوي النهي أصله التحريم فيدل على إيجاب هذه الكلمات دبر الصلاة وقيل إنه نهى إرشاد ولا بد من قرينة على ذلك وقيل يحتمل أنها في حق معاذ نهي تحريم وفيه بعد وهذه الكلمات عامة لخير الدنيا والآخرة
58- (وعن أبي أمامة هو إياس على الأصح كما قاله ابن عبد البر ابن ثعلبة الحارثي الأنصاري الخزرجي لم يشهد بدرا إلا أنه عذره صلى الله عليه وسلم عن الخروج لعلته بمرض والدته وأبو أمامة الباهلي تقدم في أول الكتاب فإذا أطلق فالمراد به هذا وإذا أريد الباهلي قيد به قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة مكتوبة" أي مفروضة "لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت" رواه النسائي وصححه ابن حبان وزاد فيه الطبراني وقل هو الله أحد وقد ورد نحوه من حديث علي عليه السلام بزيادة من قرأها حين يأخذ مضجعه أمنه الله على داره ودار جاره وأهل دويرات حوله رواه البيهقي في شعب الإيمان وضعف إسناده وقوله "لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت" هو على حذف مضاف أي لا يمنعه إلا عدم موته حذف لدلالة المعنى عليه واختصت آية الكرسي بذلك لما اشتملت عليه من أصول الأسماء والصفات الإلهية والوحدانية والحياة والقيومية والعلم والملك والقدرة والإرادة وقل هو الله أحد متمحضة لذكر صفات الله تعالى
59- (وعن مالك بن الحويرث رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "صلوا كما رأيتموني أصلي" رواه البخاري هذا الحديث أصل عظيم في دلالته على أن أفعاله صلى الله عليه وسلم في الصلاة وأقواله بيان لما أجمل من الأمر بالصلاة في القران وفي الأحاديث وفيه دلالة على وجوب التأسي به صلى الله عليه وسلم فيما فعله في الصلاة فكل ما حافظ عليه من أفعالها وأقوالها وجب على الأمة إلا لدليل يخصص شيئا من ذلك وقد أطال العلماء الكلام في الحديث واستوفاه ابن دقيق العيد في شرح العمدة وزدناه تحقيقا في حواشيها
60- (وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صل قائما فإن لم تستطع" أي الصلاة قائما "فقاعدا فإن لم تستطع" أي وإن لم تستطع الصلاة قاعدا "فعلى جنب وإلا" أي وإن لم تستطع الصلاة على جنب "فأوم" لم نجده في نسخ بلوغ المرام منسوبا وقد أخرجه البخاري دون قوله وإلا فأوم والنسائي وزاد "فإن لم تستطع فمستلق" {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} وقد رواه الدارقطني(1/200)
من حديث علي عليه السلام بلفظ "فإن لم تستطع أن تسجد أوم واجعل سجودك أخفض من ركوعك فإن لم يستطع أن يصلي قاعدا صلى على جنبه الأيمن مستقبل القبلة فإن لم يستطع أن يصلي على جنبه الأيمن صلى مستلقيا رجلاه مما يلي القبلة" وفي إسناده ضعف وفيه متروك وقال المصنف لم يقع في الحديث ذكر الإيماء وإنما أورده الرافعي قال ولكنه ورد في حديث جابر إن استطعت وإلا فأوم إيماء واجعل سجودك أخفض من ركوعك أخرجه البزار البيهقي في المعرفة قال البزار وقد سئل عنه أبو حاتم فقال الصواب عن جابر موقوفا ورفعه خطأ وقد روي أيضا من حديث ابن عمر وابن عباس وفي إسناد يهما ضعف والحديث دليل على أنه لا يصلي الفريضة قاعدا إلا لعذر وهو عدم الاستطاعة ويلحق به ما إذا خشي ضررا لقوله تعالى: {وََمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} وكذا قوله فإن لم تستطع فعلى جنب وفي قوله في حديث الطبراني فإن نالته مشقة فجالسا فإن نالته مشقة فنائما أي مضجعا وفيه حجة على من قال إن العاجز عن القعود تسقط عنه الصلاة وهو يدل على أن من نالته مشقة ولو بالتألم يباح له الصلاة من قعود وفيه خلاف والحديث مع من قال إن التألم يبيح ذلك ومن المشقة صلاة من يخاف دوران رأسه إن صلى قائما في السفينة أو يخاف الغرق أبيح له القعود هذا ولم يبين الحديث هيئة القعود على أي صفة ومقتضى إطلاقه صحته على أي هيئة شاءها المصلي وإليه ذهب جماعة من العلماء وقال الهادي وغيره إنه يتربع واضعا يده على ركبتيه ومثله عند الحنفية وذهب زيد بن علي وجماعة إلى أنه مثل قعود التشهد قيل والخلاف في الأفضل قال المصنف في فتح الباري اختلف في الأفضل فعند الأئمة الثلاثة التربع وقيل مفترشا وقيل متوركا وفي كل منها أحاديث وقوله في الحديث على جنب الكلام في الاستطاعة هنا كما مر وهو هنا مطلق وقيده في حديث علي عليه السلام عند الدار قطني على جنبه الأيمن مستقبل القبلة بوجهه وهو حجة الجمهور وأنه يكون على هذه الصفة كتوجه الميت في القبر ويؤخذ من الحديث أنه لا يجب شيء بعد تعذر الإيماء على الجنب وعن الشافعي والمؤيد يجب الإيماء بالعينين والحاجبين وعن زفر الإيماء بالقلب وقيل يجب إمرار القران والذكر على اللسان ثم على القلب إلا أن هذه الكلمة لم تأت في الأحاديث وفي الآية {فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} وإن كان عدم الذكر لا ينفي الوجوب بدليل آخر وقد وجبت الصلاة على الإطلاق وثبت "إذا أمرتم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" فإذا استطاع شيئا مما يفعل في الصلاة وجب عليه لأنه مستطيع له
61- ( وعن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمريض صلى على وسادة فرمى بها وقال "صل على الأرض إن استطعت وإلا فأوم إيماء واجعل سجودك أخفض من ركوعك" رواه البيهقي بسند قوي ولكن صحح أبو حاتم وقفه الحديث أخرجه البيهقي في المعرفة من طريق سفيان الثوري وفي الحديث فرمى بها وأخذ عودا ليصلي عليه فأخذه ورمى به وذكر الحديث وقال البزار لا يعرف أحد رواه عن الثوري غير أبي بكر الحنفي وقد سئل عنه أبو حاتم فقال الصواب عن جابر موقوفا ورفعه خطأ وقد(1/201)
روى الطبراني من حديث طارق بن شهاب عن ابن عمر قال "عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم مريضا" فذكره وفي إسناده ضعف والحديث دليل على أنه لا يتخذ المريض ما يسجد عليه حيث تعذر سجوده على الأرض وقد أرشده إلى أنه يفصل بين ركوعه وسجوده ويجعل سجوده أخفض من ركوعه فإن تعذر عليه القيام والركوع فإنه يومىء من قعود لهما جاعلا الإيماء بالسجود أخفض من الركوع أو لم يتعزر عليه القيام فإنه يومىء للركوع من قيام ثم يباع ويومىء للسجود من قعود وقيل في هذه الصورة يومىء لهما من قيام ويقعد للتشهد وقيل يومىء لهما كليهما من القعود ويقوم للقراءة وقيل يسقط عنه القيام ويصلي قاعدا فإن صلى قائما جاز وإن تعذر عليه القعود أومأ لهما من قيام(1/202)
باب سجود السهو وغيره من سجود التلاوة والشكر
1- ( وعن عبد الله بن بحينة رضي الله عنه تقدم ضبطه وترجمته وتكرر على الشارح ترجمته فأعادها هنا "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم الظهر فقام في الركعتين الأوليين" بالمثناتين التحتيتين "ولم يجلس" هو تأكيد لقام من باب أقول له ارحل لا تقيمن عندنا "فقام الناس معه حتى إذا قضى الصلاة وانتظر الناس تسليمه كبر وهو جالس وسجد سجدتين قبل أن يسلم ثم سلم" أخرجه السبعة وهذا لفظ البخاري الحديث دليل على أن ترك التشهد الأول سهوا يجبره سجود السهو وقوله صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي" يدل على وجوب التشهد الأول وجبرانه هنا عند تركه دل على أنه وإن كان واجبا فإنه يجبر بسجود السهو والاستدلال على عدم وجوبه بأنه لو كان واجبا لما جبره السجود إذ حق الواجب أن يفعل بنفسه لا يتم إذ يمكن أنه كما قال أحمد بن حنبل واجب ولكنه إن ترك سهوا جبره سجود السهو وحاصله أنه لا يتم الاستدلال على عدم وجوبه حتى يقوم الدليل على أن كل واجب لا يجزىء عنه سجود السهو إن ترك سهوا وقوله كبر دليل على شرعية تكبيرة الإحرام لسجود السهو وأنها غير مختصة بالدخول في الصلاة وأنه يكبرها وإن كان لم يخرج من صلاته بالسلام منها وأما تكبيرة النقل فلم تذكر هنا ولكنها ذكرت في قوله وفي رواية لمسلم أي عن عبد الله بن بحينة "يكبر في كل سجدة وهو جالس ويسجد ويسجد معه الناس" فيه دليل على شرعية تكبير النقل كما سلف في الصلاة وقوله "مكان ما نسي من الجلوس" كأنه عرف الصحابي ذلك من قرينة الحال فهذا لفظ مدرج من كلام الراوي ليس حكاية لفعله صلى الله عليه وسلم الذي شاهده ولا لقوله صلى الله عليه وسلم ثم فيه دليل على أن محل مثل هذا السجود قبل السلام ويأتي ما يخالفه والكلام عليه وفي رواية مسلم دلالة على وجوب متابعة الإمام وفي الحديث دلالة أيضا على وجوب متابعته وإن ترك ما هذا حاله فإنه صلى الله عليه وسلم أقرهم على(1/202)
متابعته مع تركهم للتشهد عمدا وفيه تأمل لاحتمال أنه ما ذكر أنه ترك وتركوا إلا بعد تلبسه وتلبسهم بواجب آخر
2- ( وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال "صلى النبي صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي" هو بفتح العين المهملة وكسر الشين المعجمة وتشديد المثناة التحتية قال الأزهري هو ما بين زوال الشمس وغروبها وقد عينها أبو هريرة في رواية لمسلم أنها الظهر وفي أخرى أنها العصر ويأتي وقد جمع بينهما بأنها تعددت القصة "ركعتين ثم قام إلى خشبة في مقدم المسجد فوضع يده عليها وفي القوم" المصلين "أبو بكر وعمر فهابا أن يكلماه" أي بأنه سلم على ركعتين "وخرج" من المسجد "سرعان الناس" بفتح السين المهملة وفتح الراء هو المشهور ويروى بإسكان الراء هم المسرعون إلى الخروج قيل وبضمها وسكون الراء على أنه جمع سريع كقفيز وقفزان "فقالوا أقصرت" بضم القاف وكسر الصاد " الصلاة" وروى بفتح الصاد وكلاهما صحيح والأول أشهر "ورجل يدعوه" أي يسميه "النبي صلى الله عليه وسلم ذا اليدين" وفي رواية " رجل يقال له الخرباق بن عمرو" بكسر الخاء المعجمة وسكون الراء فباء موحدة آخره قاف لقب ذي اليدين لطول كان في يديه وفي الصحابة رجل آخر يقال له ذو الشمالين ذي اليدين ووهم الزهري فجعل ذا اليدين وذا الشمالين واحدا وقد بين العلماء وهمه "فقال يا رسول الله أنسيت أم قصرت الصلاة" أي شرع الله قصر الرباعية إلى اثنتين فقال "لم أنس ولم تقصر" أي في ظني "فقال بلى قد نسيت فصلى ركعتين ثم سلم ثم كبر ثم سجد مثل سجوده أو أطول ثم رفع رأسه فكبر ثم وضع رأسه فكبر فسجد مثل سجوده أو أطول ثم رفع رأسه وكبر" متفق عليه واللفظ العالمين هذا الحديث قد أطال العلماء الكلام عليه وتعرضوا لمباحث أصولية وغيرها وأكثرهم استيفاء لذلك القاضي عياض ثم المحقق ابن دقيق العيد في شرح العمدة وقد وفينا المقام حقه في حواشيها والمهم هنا الحكم الفرعي المأخوذ منه وهو أن الحديث دليل على أن نية الخروج من الصلاة وقطعها إذا كانت بناء على ظن التمام لا يوجب بطلانها ولو سلم التسليمتين وأن كلام الناسي لا يبطل الصلاة وكذا كلام من ظن التمام و بهذا قال جمهور العلماء من السلف والخلف وهو قول ابن عباس وابن الزبير وأخيه عروة وعطاء والحسن وغيرهم وقال به الشافعي وأحمد وجميع أئمة الحديث وقال به الناصر من أئمة الآل وقالت الهادوية والحنفية التكلم في الصلاة ناسيا أو جاهلا يبطلها مستدلين بحديث ابن مسعود وحديث زيد بن أرقم في النهي عن التكلم في الصلاة وقالوا هما ناسخان لهذا الحديث وأجيب بأن حديث ابن مسعود كان بمكة متقدما على حديث الباب بأعوام والمتقدم لا ينسخ المتأخر وبأن حديث زيد بن أرقم وحديث ابن مسعود أيضا عمومان وهذا الحديث خاص بمن تكلم ظانا لتمام صلاته فيخص به الحديثان المذكوران فتجتمع الأدلة من غير إبطال لشيء منها ويدل الحديث أيضا على أن الكلام عمدا لإصلاح الصلاة لا يبطلها كما في كلام ذي اليدين وقوله فقالوا يريد الصحابة نعم كما في رواية تأتي فإنه كلام عمد لإصلاح الصلاة وقد روي عن مالك أن(1/203)
الإمام إذا تكلم بما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم من الاستفسار والسؤال عند الشك وإجابة المأموم أن الصلاة لا تفسد وقد أجيب بأنه صلى الله عليه وسلم تكلم معتقدا للتمام وتكلم الصحابة معتقدين للنسخ وظنوا حينئذ التمام قلت ولا يخفى أن الجزم باعتقادهم التمام محل نظر بل فيهم متردد بين القصر والنسيان وهو ذو اليدين نعم سرعان الناس اعتقدوا القصر ولا يلزم اعتقاد الجميع ولا يخفى أنه لا عذر عن العمل بالحديث لمن يتفق له مثل ذلك وما أحسن كلام صاحب المنار فإنه ذكر كلام الهدى ودعواه نسخه كما ذكرناه ثم رده بما رددناه ثم قال وأنا أقول أرجو الله للعبد إذا لقي الله عاملا لذلك أن يثبته في الجواب بقوله صح لي ذلك عن رسولك ولم أجد ما يمنعه وأن ينجو بذلك ويثاب عن العمل به وأخاف على المتكلفين وعلى المجبرين على الخروج من الصلاة للاستئناف فإنه ليس بأحوط كما ترى لأن الخروج بغير دليل ممنوع وإبطال للعمل وفي الحديث دليل على أن الأفعال الكثيرة التي ليست من جنس الصلاة إذا وقعت سهوا أو مع ظن التمام لا تفسد بها الصلاة فإن في رواية "أنه صلى الله عليه وسلم خرج إلى منزله" وفي أخرى "يجر رداءه مغضبا" وكذلك خروج سرعان الناس فإنها أفعال كثيرة قطعا وقد ذهب إلى هذا الشافعي وفيه دليل على صحة البناء على الصلاة بعد السلام وإن طال زمن الفصل بينهما وقد روي هذا عن ربيعة ونسب إلى مالك وليس بمشهور عنه ومن العلماء من قال يختص جواز البناء إذا كان الفصل بزمن قريب وقيل بمقدار ركعة وقيل بمقدار الصلاة ويدل أيضا أنه يجبر ذلك سجود السهو وجوبا لحديث صلوا كما رأيتموني أصلي ويدل أيضا على أن سجود السهو لا يتعدد بتعدد أسباب السهو ويدل على أن سجود السهو بعد السلام خلاف الحديث الأول ويأتي فيه الكلام وأما تعيين الصلاة التي اتفقت فيها القصة فيدل له قوله وفي رواية لمسلم أي من حديث أبي هريرة صلاة العصر عوضا عن قوله في الرواية الأولى إحدى صلاتي العشي ولأبي داود أي من حديثه أيضا فقال أي النبي صلى الله عليه وسلم "أصدق ذو اليدين" فأومئوا أي نعم وهي في الصحيحين لكن بلفظ فقالوا قلت وهي في رواية لأبي داود بلفظ فقال الناس نعم وقال أبو داود إنه لم يذكر فأومئوا إلا حماد بن زيد وفي رواية له أي لأبي داود من حديث أبي هريرة "ولم يسجد حتى يقنه الله ذلك" ولفظ أبي داود "ولم يسجد سجدتي السهو حتى يقنه الله ذلك" أي صير تسليمه على ثنتين يقينا عنده إما بوحي أو تذكر حصل له اليقين به والله أعلم ما مستند أبي هريرة في هذا
3- (وعن عمران بن حصين رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم فسها فسجد سجدتين ثم تشهد ثم سلم" رواه أبو داود والترمذي وحسنه الحاكم وصححه في سياق حديث السنن أن هذا السهو سهوه صلى الله عليه وسلم الذي في خبر ذي اليدين فإن فيه بعد أن ساق حديث أبي هريرة مثل ما سلف من سياق الصحيحين إلى قوله ثم رفع وكبر ما لفظه فقيل لمحمد أي ابن سيرين الراوي سلم في السهو فقال لم أحفظه من أبي هريرة ولكن نبئت أن عمران بن حصين قال ثم سلم وفي السنن أيضا من حديث(1/204)
عمران بن حصين قال سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاث ركعات من العصر ثم دخل فقام إليه رجل يقال له الخرباق كان طويل اليدين إلى قوله فقال أصدق فقالوا نعم فصلى تلك الركعة ثم سجد سجدتيها ثم سلم انتهى ويحتمل أنها تعددت القصة وفي الحديث دليل أنه يستحب عقيب الصلاة كما تدل له الفاء وفيه تصريح بالتشهد قيل ولم يقل أحد بوجوبه ولفظ تشهد يدل أنه أتى بالشهادتين وبه قال بعض العلماء وقيل يكفي التشهد الأوسط واللفظ في الأول أظهر وفيه دليل على شرعية التسليم كما تدل له رواية عمران بن حصين التي ذكرناها لا الرواية التي أتى بها المصنف فإنها ليست بصريحة أن التسليم كان لسجدتي السهو فإنها تحتمل أنه لم يكن سلم للصلاة وأنه سجد لها قبل السلام ثم سلم تسليم الصلاة
4- (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى أثلاثا أم أربعا فليطرح الشك وليبن على ما استيقن ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم فإن كان صلى خمسا" في رباعية "شفعن" أي السجدتان " له صلاته" صيرنها شفعا لأن السجدتين قامتا مقام ركعة وكأن المطلوب من الرباعية الشفع وإن زادت على الأربع "وإن كان صلى تماما كانتا ترغيما للشيطان" أي إلصاقا لأنفه بالرغام والرغام بزنة غراب التراب وإلصاق الأنف به في قولهم رغم أنفه كناية عن إذلاله وإهانته والمراد إهانة الشيطان حيث لبس عليه صلاته رواه مسلم الحديث فيه دلالة على أن الشاك في صلاته يجب عليه البناء على اليقين عنده ويجب عليه أن يسجد سجدتين وإلى هذا ذهب جماهير العلماء ومالك والشافعي وأحمد وذهب الهادوية وجماعة من التابعين إلى وجوب الإعادة عليه حتى يستيقن وقال بعضهم يعيد ثلاث مرات فإذا شك في الرابعة فلا إعادة عليه والحديث مع الأولين والحديث ظاهر في أن هذا حكم الشاك مطلقا مبتدأ كان أو مبتلي وفرق الهادوية بينهم فقالوا في الأول يجب عليه الإعادة وفي الثاني يتحرى بالنظر في الأمارات فإن حصل له ظن التمام أو النقص عمل به وإن كان النظر في الأمارات لا يحصل له بحسب العادة شيئا فإنه يبني على الأقل كما في هذا الحديث وإن كان عادته أن يفيده النظر ولكنه لم يفده في هذه الحالة وجب عليه أيضا الإعادة وهذا التفصيل يرد عليه هذا الحديث الصحيح ويرد عليه أيضا حديث عبد الرحمن بن عوف عند أحمد قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر واحدة صلى أو اثنتين فليجعلها واحدة وإذا لم يدر ثنتين صلى أو ثلاثا فليجعلها ثنتين وإذا لم يدر ثلاثة صلى أو أربعا فليجعلها ثلاثا ثم يسجد إذا فرغ من صلاته وهو جالس قبل أن يسلم سجدتين"
5- ( وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال "صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي إحدى الرباعيات خمسا وفي رواية أنه قال إبراهيم النخعي "زاد أو نقص" "فلما سلم قيل له(1/205)
يا رسول الله أحدث في الصلاة شيء قال وما ذاك قالوا صليت كذا وكذا فثنى رجليه واستقبل القبلة فسجد سجدتين ثم سلم ثم أقبل على الناس بوجهه فقال إنه لو حدث في الصلاة شيء أنبأتكم به ولكن إنما أنا بشر مثلكم" في البشرية وبين وجه المثلية بقوله "أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني وإذا شك أحد في صلاته" هل زاد أو نقص "فليتحر الصواب" بأن يعمل بظنه من غير تفرقة بين الشك في ركعة أو ركن وقد فسره حديث عبد الرحمن بن عوف الذي قدمناه "فليتم عليه ثم ليسجد سجدتين" متفق عليه ظاهر هذا الحديث أنهم تابعوه صلى الله عليه وسلم على الزيادة ففيه دليل على أن متابعة المؤتم للإمام فيما ظنه واجبا لا يفسد صلاته فإنه صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم بالإعادة وهذا في حق أصحابه في مثل هذه الصورة لتجويزهم التغيير في عصر النبوة فأما لو اتفق الآن قيام الإمام إلى الخامسة سبح له من خلفه فإن لم يقعد انتظروه قعودا حتى يتشهدوا بتشهده ويسلموا بتسليمه فإنها لم تفسد عليه حتى يقال يعزلون بل فعل ما هو واجب في حقه وفي هذا دليل على أن محل سجود السهو بعد السلام إلا أنه قد يقال إنه صلى الله عليه وسلم ما عرف سهوه في الصلاة إلا بعد أن سلم منها فلا يكون دليلا واعلم أنه قد اختلفت الأحاديث في محل سجود السهو واختلفت بسبب ذلك أقوال الأئمة قال بعض أئمة الحديث أحاديث باب سجود السهو قد تعددت منها حديث أبي هريرة فيمن شك فلم يدر كم صلى وفيه الأمر أن يسجد سجدتين ولم يذكر موضعهما وهو حديث أخرجه الجماعة ولم يذكروا فيه محل السجدتين هل هو قبل السلام أو بعده نعم عند أبي داود وابن ماجه فيه زيادة قبل أن يسلم ومنها حديث أبي سعيد من شك وفيه أنه يسجد سجدتين قبل التسليم ومنها حديث أبي هريرة وفيه القيام إلى الخشبة وأنه سجد بعد السلام ومنها حديث ابن بحينة وفيه السجود قبل السلام ولما وردت هكذا اختلفت آراء العلماء في الأخذ بها فقال داود تستعمل في مواضعها على ما جاءت به ولا يقاس عليها ومثله قال أحمد في هذه الصلاة خاصة عدا وخالف فيما سواها فقال يسجد قبل السلام لكل سهو وقال آخرون هو مخير في كل سهو إن شاء سجد بعد السلام وإن شاء قبل السلام في الزيادة والنقص وقال مالك إن كان السجود لزيادة سجد بعد السلام وإن كان لنقصان سجد قبله وقالت الهادوية والحنفية الأصل في سجود السهو بعد السلام وتأولوا الأحاديث الواردة في السجود قبله وستأتي أدلتهم وقال الشافعي الأصل السجود قبل السلام ورد ما خالفه من الأحاديث بادعائه نسخ السجود بعد السلام وروى عن الزهري قال سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم سجدتي السهو قبل السلام وبعده وآخر الأمرين قبل السلام وأيده برواية معاوية "أنه صلى الله عليه وسلم سجدهما قبل السلام" وصحبته متأخرة وذهب إلى مثل قولي الشافعي أبو هريرة ومكحول والزهري وغيرهم قال في الشرح وطريق الإنصاف أن الأحاديث الواردة في ذلك قولا وفعلا فيها نوع تعارض وتقدم بعضها وتأخر البعض غير ثابت برواية صحيحة موصولة حتى يستقيم القول بالنسخ فالأولى الحمل على التوسع في جواز الأمرين ومن أدلة الهادوية(1/206)
والحنفية رواية البخاري التي أفادها قوله وفي رواية للبخاري أي من حديث ابن مسعود "فليتم ثم يسلم ثم يسجد" ما يدل على أنه بعد السلام وكذلك رواية مسلم التي أفادها قوله ولمسلم أي من حديث ابن مسعود "أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد سجدتي السهو بعد السلام" من الصلاة والكلام أي الذي خوطب به وأجاب عنه بما أفاده اللفظ الأول ويدل له أيضا
6- ( ولأحمد وأبي داود والنسائي من حديث عبد الله بن جعفر مرفوعا "من شك في صلاته فليسجد سجدتين بعد ما يسلم" وصححه ابن خزيمة فهذه أدلة من يقول إنه يسجد بعد السلام مطلقا ولكنه قد عارضها ما عرفت فالقول بالتخيير أقرب الطرق إلى الجمع بين الأحاديث كما عرفت قال الحافظ أبو بكر البيهقي روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سجد للسهو قبل السلام وأنه أمر بذلك وروينا أنه سجد بعد السلام وأنه أمر به وكلاهما صحيح ولهما شواهد يطول بذكرها الكلام ثم قال الأشبه بالصواب جواز الأمرين جميعا قال وهذا مذهب كثير من أصحابنا
7- (وعن المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا شك أحدكم فقام في الركعتين فاستتم قائما فليمض ولا يعود للتشهد الأول "وليسجد سجدتين" لم يذكر محلهما " فإن لم يستتم قائما فليجلس" ليأتي بالتشهد الأول "ولا سهو عليه" رواه أبو داود وابن ماجه والدارقطني واللفظ له بسند ضعيف وذلك أن مداره في جميع طرقه على جابر الجعفي وهو ضعيف وقد قال أبو داود ليس في كتابي عن جابر غير هذا الحديث وفي الحديث دلالة على أنه لا يسجد للسهو إلا لفوات التشهد الأول لا لفعل القيام لقوله ولا سهو عليه وقد ذهب إلى هذا جماعة وذهبت الهادوية وابن حنبل إلى أنه يسجد للسهو لما أخرجه البيهقي من حديث أنس أنه تحرك للقيام من الركعتين الأخريين من العصر على جهة السهو فسبحوا فقعد ثم سجد للسهو وأخرجه الدارقطني والكل من فعل أنس موقوف عليه إلا أن في بعض طرقه أنه قال هذه السنة وقد رجح حديث المغيرة عليه لكونه مرفوعا ولأنه يؤيده حديث ابن عمر مرفوعا "لا سهو إلا في قيام عن جلوس أو جلوس عن قيام" أخرجه الدارقطني والحاكم والبيهقي وفيه ضعف ولكن يؤيد ذلك أنها قد وردت أحاديث كثيرة في الفعل القليل وأفعال صدرت منه صلى الله عليه وسلم ومن غيره مع علمه بذلك ولم يأمر فيها بسجود السهو ولا سجد لما صدر عنه منها قلت وأخرج النسائي من حديث ابن بحينة أنه صلى الله عليه وسلم صلى فقام في الركعتين فسبحوا به فمضى فلما فرغ من صلاته سجد سجدتين ثم سلم وأخرج أحمد والترمذي وصححه من حديث زياد بن علاقة قال صلى بنا المغيرة بن شعبة فلما صلى ركعتين قام ولم يجلس فسبح له من خلفه فأشار إليهم أن قوموا فلما فرغ من صلاته سلم ثم سجد سجدتين وسلم ثم قال هكذا صنع بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن هذه فيمن مضى بعد أن يسبحوا له فيحتمل أنه سجد لترك التشهد وهو الظاهر
8- (وعن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس على من خلف الإمام سهو فإن سها الإمام فعليه وعلى من خلفه" رواه الترمذي والبيهقي(1/207)
بسند ضعيف وأخرجه الدارقطني في السنن بلفظ آخر وفيه زيادة وإن سها من خلف الإمام فليس عليه سهو والإمام كافيه والكل من الروايات فيها خارجة بن مصعب ضعيف وفي الباب عن ابن عباس إلا أن فيه متروكا والحديث دليل على أنه لا يجب على المؤتم سجود السهو إذا سها في صلاته وإنما يجب عليه إذا سها الإمام فقط وإلى هذا ذهب زيد بن علي والناصر والحنفية والشافعية وذهب الهادي إلى أنه يسجد للسهو لعموم أدلة سجود السهو للإمام والمنفرد والمؤتم والجواب أنه لو ثبت هذا الحديث لكان مخصصا لعمومات أدلة سجود السهو ومع عدم ثبوته فالقول قول الهادي
9- (وعن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لكل سهو سجدتان بعدما يسلم" رواه أبو داود وابن ماجه بسند ضعيف قالوا لأن في إسناده إسماعيل بن عياش وفيه مقال وخلاف قال البخاري إذا حدث عن أهل بلده يعني الشاميين فصحيح وهذا الحديث من روايته عن الشاميين فتضعيف الحديث به فيه نظر والحديث دليل لمسألتين الأولى أنه إذا تعدد المقتضى لسجود السهو تعدد لكل سهو سجدتان وقد حكي عن ابن أبي ليلى وذهب الجمهور إلى أنه لا يتعدد السجود وإن تعدد موجبه لأن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ذي اليدين سلم وتكلم ومشى ناسيا ولم يسجد إلا سجدتين ولئن قيل إن القول أولى بالعمل به من الفعل فالجواب أنه لا دلالة فيه على تعدد السجود لتعدد مقتضيه بل هو للعموم لكل ساه فيفيد الحديث أن كل من سها في صلاته بأي سهو كان يشرع له سجدتان ولا يختصان بالمواضع التي سها فيها النبي صلى الله عليه وسلم ولا بالأنواع التي سها بها والحمل على هذا المعنى أولى من حمله على المعنى الأول وإن كان هو الظاهر فيه جمعا بينه وبين حديث ذي اليدين على أن لك أن تقول إن حديث ذي اليدين لم يقع فيه السهو المذكور حال الصلاة فإنه محل النزاع فلا يعارض حديث الكتاب والمسألة الثانية يحتج به من يرى سجود السهو بعد السلام وتقدم فيه تحقيق الكلام
10- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال سجدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في – {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} - رواه مسلم هذا من أحاديث سجود التلاوة وهو داخل في ترجمة المصنف الماضية كما عرفت حيث قال باب سجود السهو وغيره والحديث دليل على مشروعية سجود التلاوة وقد أجمع على ذلك العلماء وإنما اختلفوا في الوجوب وفي مواضع السجود فالجمهور أنه سنة وقال أبو حنيفة واجب غير فرض ثم هو سنة في حق التالي والمستمع إن سجد التالي وقيل وإن لم يسجد فأما مواضع السجود فقال الشافعي يسجد فيما عدا المفصل فيكون أحد عشر موضعا وقالت الهادوية والحنفية في أربعة عشر محلا إلا أن الحنفية لا يعدون في الحج إلا سجدة واعتبروا بسجدة سور ص والهادوية عكسوا ذلك كما ذكر ذلك المهدي في البحر وقال أحمد وجماعة يسجد في خمسة عشر موضعا عدا سجدتي الحج وسجدة ص واختلفوا أيضا هل يشترط فيها ما يشترط في الصلاة من الطهارة وغيرها فاشترط ذلك جماعة وقال قوم لا يشترط وقال البخاري كان ابن عمر يسجد وضوء وفي مسند ابن أبي شيبة كان ابن عمر ينزل عن راحلته(1/208)
فيهريق الماء ثم يركب فيقرأ السجدة فيسجد وما يتوضأ ووافقه الشعبي على ذلك وروي عن ابن عمر أنه لا يسجد الرجل إلا وهو طاهر وجمع بين قوله وفعله على الطهارة من الحدث الأكبر قلت والأصل إنه لا يشترط الطهارة إلا بدليل وأدلة وجوب الطهارة وردت للصلاة والسجدة لا تسمى صلاة فالدليل على من شرط ذلك وكذلك أوقات الكراهة ورد النهي عن الصلاة فيها فلا تشمل السجدة الفردة وهذا الحديث دل على السجود للتلاوة في المفصل ويأتي الخلاف في ذلك ثم رأيت لابن حزم كلاما في شرح المحلي لفظه السجود في قراءة القرآن ليس ركعة أو ركعتين فليس صلاة وإذا كان ليس صلاة فهو جائز بلا وضوء وللجنب والحائض القبلة كسائر الذكر ولا فرق إذ لا يلزم الوضوء إلا للصلاة ولم يأت بإيجابه لغير الصلاة قرآن ولا سنة ولا إجماع ولا قياس فإن قيل السجود من الصلاة وبعض الصلاة صلاة قلنا والتكبير بعض الصلاة والجلوس والقيام والسلام بعض الصلاة فهل يلتزمون أن لا يفعل أحد شيئا من هذه الأفعال والأقوال إلا وهو على وضوء هذا لا يقولونه ولا يقوله أحد
11- (وعن ابن عباس رضي الله عنه قال ص ليست من عزائم السجود وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد فيها" رواه البخاري أي ليست مما ورد في السجود فيها أمر ولا تحريض ولا تخصيص ولا حث وإنما ورد بصيغة الإخبار عن داود عليه السلام بأنه فعلها وسجد نبينا صلى الله عليه وسلم فيها اقتداء به لقوله تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} وفيه دلالة على أن المسنونات قد يكون بعضها آكد من بعض وقد روي أنه قال صلى الله عليه وسلم سجدها داود توبة وسجدناها شكرا وروى ابن المنذر وغيره بإسناد حسن عن علي بن أبي طالب عليه السلام إن العزائم حم والنجم واقرأ وألم تنزيل وكذا ثبت عن ابن عباس في الثلاثة الأخر وقيل في الأعراف وسبحان وحم وألم أخرجه ابن أبي شيبة
12- (وعنه أي ابن عباس " أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد بالنجم" رواه البخاري هو دليل على السجود في المفصل كما أن الحديث الأول دليل على ذلك وقد خالف فيه مالك وقال لا سجود لتلاوة في المفصل وقد قدمنا لك الخلاف في أول الفصل محتجا بما روي عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم لم يسجد في شيء من المفصل منذ تحول إلى المدينة أخرجه أبو داود وهو ضعيف الإسناد وفيه أبو قدامة واسمه الحارث بن عبد الله إيادي بصري لا يحتج بحديثه كما قال الحافظ المنذري في مختصر السنن ومحتجا أيضا بقوله
13- ( وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال "قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم النجم فلم يسجد فيها" متفق عليه وزيد بن ثابت من أهل المدينة وقراءته بها كانت في المدينة قال مالك فأيد حديث ابن عباس وأجيب عنه بأن ترك السجود تارة وفعله تارة دليل السنية أو لمانع عارض ذلك ومع ثبوت حديث زيد فهو ناف وحديث غيره وهو ابن عباس مثبت والمثبت
14- (وعن خالد بن معدان رضي الله عنه بفتح الميم وسكون العين المهملة وتخفيف الدال وخالد هو أبو عبد الله بن معدان الشامي الكلاعي بفتح الكاف تابعي من أهل حمص(1/209)
قال لقيت سبعين رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكان من ثقات الشاميين مات سنة أربع ومائة وقيل سنة ثلاث قال فضلت سورة الحج بسجدتين رواه أبو داود في المراسيل كذا نسبه المصنف إلى مراسيل أبي داود وهو موجود في سننه مرفوعا من حديث عقبة بن عامر بلفظ " قلت يا رسول الله في سورة الحج سجدتان قال "نعم ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما" فالعجب كيف نسبه المصنف إلى المراسيل مع وجوده في سننه مرفوعا ولكنه قد وصل في
15- (رواه أحمد والترمذي موصولا من حديث عقبة بن عامر وزاد أي الترمذي في روايته "فمن لم يسجدهما فلا يقرأها" بضمير مفرد أي السورة أو آية السجدة ويراد الجنس وسنده ضعيف لأن فيه ابن لهيعة قيل إنه تفرد به وأيده الحاكم بأن الرواية صحت فيه من قول عمر وابنه وابن مسعود وابن عباس وأبي الدرداء وأبي موسى وعمار وساقها موقوفة عليهم وأكده البيهقي بما رواه في المعرفة من طريق خالد بن معدان وفي الحديث رد على أبي حنيفة وغيره ممن قال إنه ليس بواجب كما قال إنه ليس في سورة الحج إلا سجدة واحدة في الأخيرة منها وفي قوله "فمن لم يسجدها فلا يقرأها" تأكيد لشرعية السجود فيها ومن قال بإيجابه فهو من أدلته ومن قال ليس بواجب قال لما ترك السنة وهو سجود التلاوة بفعل المندوب وهو القرآن كان الأليق الاعتناء بالمسنون وأن لا يتركه فإذا تركه فالأحسن له أن لا يقرأ السورة
16- (وعن عمر رضي الله عنه قال يا أيها الناس إنا نمر بالسجود أي بآيته فمن سجد فقد أصاب أي السنة ومن لم يسجد فلا إثم عليه رواه البخاري وفيه أي البخاري عن عمر إن الله لم يفرض السجود أي لم يجعله فرضا إلا أن نشاء وهو في الموطأ فيه دلالة على أن عمر كان لا يرى وجوب سجود التلاوة واستدل بقوله إلا أن نشاء أن من شرع في السجود وجب عليه إتمامه لأنه مخرج من بعض حالات عدم فرضية السجود وأجيب بأنه استثناء منقطع والمراد ولكن ذلك موكول إلى
17- (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال "كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا القران فإذا مر بالسجدة كبر وسجد وسجدنا معه" رواه أبو داود بسند فيه لين لأنه من رواية عبد الله المكبر العمري وهو ضعيف وأخرجه الحاكم من رواية عبيد الله المصغر وهو ثقة وفي الحديث دلالة على التكبير وأنه مشروع وكان الثوري يعجبه هذا الحديث قال أبو داود يعجبه لأنه كبر وهل هو تكبير الافتتاح أو النقل الأول أقرب ولكنه يجتزىء بها عن تكبيرة النقل لعدم ذكر تكبيرة أخرى وقيل يكبر له وعدم الذكر ليس دليلا قال بعضهم ويتشهد ويسلم قياسا للتحليل على التحريم وأجيب بأنه لا يجزىء هذا القياس فلا دليل على ذلك وفي الحديث دليل على مشروعية سجود التلاوة للسامع لقوله وسجدنا وظاهره سواء كانا مصليين معا أو أحدهما في الصلاة وقالت الهادوية إذا كانت الصلاة فرضا أخرها حتى يسلم قالوا لأنها زيادة عن الصلاة فتفسدها ولما رواه نافع عن ابن عمر أنه قال "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا السورة في غير الصلاة فيسجد ونسجد" معه أخرجه أبو داود(1/210)
قالوا ويشرع له أن يسجد إذا كانت الصلاة نافلة لأن النافلة مخفف فيها وأجيب عن الحديث بأنه استدلال بالمفهوم وقد ثبت من فعله صلى الله عليه وسلم أنه قرأ سورة الانشقاق في الصلاة وسجد وسجد من خلفه وكذلك سورة تنزيل السجدة قرأ بها وسجد فيها وقد أخرج أبو داود والحاكم والطحاوي من حديث ابن عمر "أنه صلى الله عليه وسلم سجد في الظهر فرأى أصحابه أنه قرأ آية سجدة فسجدوها"
واعلم أنه قد ورد الذكر في سجود التلاوة بأن يقول: "سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره بحوله وقوته" أخرجه أحمد وأصحاب السنن والحاكم والبيهقي وصححه ابن السكن وزاد في آخره ثلاثا وزاد الحاكم في آخره - فتبارك الله أحسن الخالقين - وفي حديث ابن عباس "أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجود التلاوة "اللهم اكتب لي بها عندك أجرا واجعلها لي عندك ذخرا وضع عني بها وزرا وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود"
18- ( وعن أبي بكرة رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا جاءه خبر يسره خر ساجدا لله" رواه الخمسة إلا النسائي هذا مما شملته الترجمة بقوله وغيره وهو دليل على شرعية سجود الشكر وذهب إلى شرعيته الهادوية والشافعي وأحمد خلافا لمالك ورواية أبي حنيفة بأنه لا كراهة فيه ولا ندب والحديث دليل للأولين وقد سجد صلى الله عليه وسلم في آية ص وقال هي لنا شكر واعلم أنه قد اختلف هل يشترط لها الطهارة أم لا فقيل يشترط قياسا على الصلاة وقيل لا يشترط لأنها ليست بصلاة وهو الأقرب كما قدمناه وقال المهدي إنه يكبر لسجود الشكر وقال أبو طالب ويستقبل القبلة وقال الإمام يحيى ولا يسجد للشكر في الصلاة قولا واحدا إذ ليس من توابعها قيل ومقتضى شرعيته حدوث نعمة أو اندفاع مكروه فيفعل ذلك في الصلاة ويكون كسجود التلاوة
19- (وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال "سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطال السجود ثم رفع رأسه فقال إن جبريل أتاني فبشرني" وجاء تفسير البشرى بأنه تعالى قال "من صلى عليه صلى الله عليه وسلم صلاة صلى الله عليه بها عشرا" رواه أحمد في المسند من طرق "فسجدت لله شكرا" رواه أحمد وصححه الحاكم أخرجه البزار وابن أبي عاصم في فضل الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم قال البيهقي وفي الباب عن جابر وابن عمر وأنس وجرير وأبي جحيفة
20- (وعن البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عليا إلى اليمن فذكر الحديث قال فكتب علي بإسلامهم "فلما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب خر ساجدا شكرا لله تعالى على ذلك " رواه البيهقي وأصله في البخاري وفي معناه سجد كعب بن مالك لما أنزل الله توبته فإنه يدل على أن شرعية ذلك كانت متقررة عندهم
تم ا لجزء الأول من " سبل السلام شرح بلوغ المرام "
ويليه الجزء الثاني وأوله باب صلاة التطوع(1/211)
المجلد الثاني
(تابع) كتاب الصلاة
باب صلاة التطوع
...
باب صلاة التطوع
أي صلاة العبد التطوع فهو من إضافة المصدر إلى مفعوله وحذف فاعله. في القاموس صلاة التطوع: النافلة.
1 - عن ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه" من أهل الصفة كان خادماً لرسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صحبه قديماً ولازمه حضراً وسفراً، مات سنة ثلاث وستين من الهجرة، وكنيته أبو فراس بكسر الفاء فراء آخره سين مهملة، "قال: قال لي رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: سل، فقلت: اسألك مرافقتك في الجنة، فقال أو غير ذلك" ، قلت: هو ذاك، قال: "فأعني على نفسك" أي على نيل مراد نفسك، "بكثرة السجود". رواه مسلم. حمل المصنف السجود على الصلاة نفلاً فجعل الحديث دليلاً على التطوع، وكأنه صرفه عن الحقيقة كون السجود بغير صلاة غير مرغب فيه على انفراده والسجود وإن كان يصدق على الفرض، لكن الإتيان بالفرائض لا بد منه لكل مسلم، وإنما أرشده صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إلى شيء يختص به ينال به ما طلبه.
وفيه دلالة على كمال إيمان المذكور وسمو همته إلى أشرف المطالب وأغلى المراتب وعزف نفسه عن الدنيا وشهواتها. ودلالة على أن الصلاة أفضل الأعمال في حق من كان مثله فإنه لم يرشده صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إلى نيل ما طلبه إلا بكثرة الصلاة مع أن مطلوبة أشرف المطالب.
2 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: حفظت من النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عشر ركعات" هذا إجمال فصله بقوله: "ركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها وركعتين بعد المغرب في بيته" تقييدها يدل على أن ما عداها كان يفعله في المسجد، "وكذلك" قوله: "ركعتين بعد العشاء في بيته وركعتين قبل الصبح" لم يقيدهما مع أنه كان يصليهما صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في بيته وكأنه ترك التقييد لشهرة ذلك من فعله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم. متفق عليه. وفي رواية لهما "وركعتين بعد الجمعة في بيته" فيكون قوله عشر ركعات نظراً إلى التكرار كل يوم، ولمسلم: أي من حديث ابن عمر "كان إذا طلع الفجر لا يصلي إلا ركعتين خفيفتين" هما المعدوتان في العشر، وإنما أفاد لفظ مسلم خفتهما، وإنه لا يصلي بعد طلوعه(2/3)
سواهما وتخفيفهما مذهب مالك والشافعي وغيرهما. وقد جاء في حديث عائشة . "حتى أقول أقرأ بأم الكتاب" يأتي قريباً.
والحديث دليل على أن هذه النوافل للصلاة، وقد قيل في حكمة شرعيتها إن ذلك ليكون ما بعد الفريضة جبراً لما فرط فيها من أدابها وما قبلها لذلك وليدخل في الفريضة ، وقد انشرح صدره للإتيان بها وأقبل قلبه علي فعلها.
قلت: قد أخرج أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والحاكم من حديث تميم الداري قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته فإن كان أتمها كتبت له تامة وإن لم يكن أتمها، قال الله لملائكته: انظروا هل تجدون لعبدي من تطوع فتكملون بها فريضته ثم الزكاة كذلك ثم تؤخذ الأعمال على حسب ذلك". انتهى وهو دليل لما قيل من حكمة شرعيتها، وقوله في حديث مسلم: "إنه لا يصلي بعد طلوع الفجر إلا ركعتيه". قد استدل به من يرى كراهة النفل بعد طلوع الفجر وقد قدمنا ذلك.
3 - وعن عائشة رضي الله عنه أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان لا يدع أربعاً قبل الظهر وركعتين قبل الغداة. رواه البخاري" لا ينافي حديث ابن عمر في قوله ركعتين قبل الظهر لأن هذه زيادة علمتها عائشة ولم يعلمها ابن عمر، ثم يحتمل أن الركعتين اللتين ذكرهما من الأربع وأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يصليهما مثنى، وأن ابن عمر شاهد اثنتين فقط ويحتمل أنهما من غيرها، وأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يصليهما أربعاً متصلة.
ويؤيد هذا حديث أبي أيوب عند أبي داود، والترمذي في الشمائل، وابن ماجه، وابن خزيمة بلفظ: "أربع قبل الظهر ليس فيهن تسليم تفتح لهن أبواب السماء". وحديث أنس: "أربع قبل الظهر كعدلهن بعد العشاء وأربع بعد العشاء كعدلهن من ليلة القدر". أخرجه الطبراني في الأوسط، وعلى هذا فيكون قبل الظهر ست ركعات، ويحتمل أنه كان يصلي الأربع تارة ويقتصر عليها وعنها أخبرت عائشة، وتارة يصلي ركعتين وعنهما أخبر ابن عمر.
4 - وعنها" أي عن عائشة "قالت: لم النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على شيء من النوافل أشد تعاهداً منه على ركعتي الفجر . متفق عليه" تعاهداً، أي محافظة، وقد ثبت أنه كان لا يتركهما حضراً ولا سفراً، وقد حكى وجوبهما عن الحسن البصري "ومسلم" أي عن عائشة مرفوعاً، "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها" ، أي أجرهما خير من الدنيا، وكأنه أريد بالدنيا الأرض وما فيها أثاثها ومتاعها. وفيه دليل على الترغيب في فعلهما وأنها ليستا بواجبتين إذ لم يذكر العقاب في تركهما بل الثواب في فعلهما.
5 - وعن أم حبيبة أم المؤمنين" تقدم ذكر اسمها وترجمتها، "قالت: سمعت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقول: " من صلى اثنتي عشرة ركعة في يومه وليلته" كأن المراد في كل يوم وليلة لا في يوم من الأيام وليلة من الليالي، "بني له بهن بيت في الجنة" ، ويأتي تفصيلها في رواية الترمذي، "رواه مسلم وفي رواية" أي مسلم عن أم حبيبة "تطوعاً" تمييز للاثنتي عشرة زيادة في البيان وإلا فإنه معلوم، "وللترمذي" أي عن(2/4)
أم حبيبة "نحوه" أي نحو حديث مسلم، "وزاد" تفصيل ما أجملته رواية مسلم "أربعاً قبل الظهر" هي التي ذكرتها عائشة في حديثها السابق، "وركعتين بعدها" هي التي في حديث ابن عمر، "وركعتين بعد المغرب" هي التي قيدها حديث ابن عمر بفي بيته، "وركعتين بعد العشاء" هي التي قيدها أيضاً بفي بيته، "وركعتين قبل الصلاة الفجر" هما اللتان اتفق عليهما ابن عمر وعائشة في حديثيهما السابقين، "وللخمسة عنها" أي عن أم حبيبة، "من حافظ على أربع قبل الظهر وأربع بعدها" يحتمل أنها غير الركعتين المذكورتين سابقاً، ويحتمل أن المراد أربع فيها الركعتان اللتان مر ذكرهما، "حرمه الله على النار" أي منعه عن دخولها كما يمنع الشيء المحرم ممن حرم عليه.
6 - وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "رحم الله أمراً صلى أربعاً قبل العصر"" هذه الأربع لم تذكر فيما سلف من النوافل، فإذا ضمت إلى حديث أم حبيبة الذي عند الترمذي كانت النوافل قبل الفرائض وبعدها ست عشرة ركعة، "رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه وابن خزيمة وصححه". وأما صلاة ركعتين قبل العصر فقط فيشملها حديث: "بين كل أذانين صلاة" .
7 - وعن عبد الله بن مغفل المزني" بضم الميم وفتح الغين المعجمة وتشديد الفاء مفتوحة هو أبو سعيد في الأشهر عبد الله بن مغفل بن غنم كان من أصحاب الشجرة سكن المدينة المنورة ثم تحول إلى البصرة وابتني بها داراً، وكان أحد العشرة الذين بعثهم عمر إلى البصرة يفقهون الناس، ومات عبد الله بها سنة ستين وقيل قبلها بسنة، "قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلوا قبل المغرب صلوا قبل المغرب، ثم قال في الثالثة "لمن شاء كراهية" أي لكراهية "أن يتخذها الناس"" أي طريقة مألوفة لا يتخلفون عنها فقد يؤدي إلى فوات أول الوقت، "رواه البخاري" وهو دليل على أنها تندب الصلاة قبل صلاة المغرب، إذ هو المراد من قوله: "قبل المغرب" لا أن المراد قبل الوقت لما علم من أنه منهي عن الصلاة فيه، "وفي رواية لابن حبان" أي من حديث عبد الله المذكور "أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلى قبل المغرب ركعتين" فثبت شرعيتهما بالقول والفعل.
8 - ولمسلم عن أنس قال: كنا نصل ركعتين بعد غروب الشمس، وكان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يرانا فلم يأمرنا ولم ينهنا" فتكون ثابتة بالتقرير أيضاً، فثبتت هاتان الركعتان بأقسام السنة الثلاثة، ولعل أنساً لم يبلغه حديث عبد الله الذي فيه الأمر بهما، وبهذه تكون النوافل عشرين ركعة تضاف إلى الفرائض وهي سبع عشرة ركعة فيتم لمن حافظ على هذه النوافل في اليوم والليلة سبع وثلاثون ركعة وثلاث ركعات الوتر تكون أربعين ركعة في اليوم والليلة، وقال ابن القيم: ثبت أنه كان صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يحافظ في اليوم والليلة على أربعين ركعة سبع عشرة الفرائض واثنتي عشرة التي روت أم حبيبة وإحدى عشرة صلاة الليل فكانت أربعين ركعة انتهى. ولا يخفى أنه بلغ عدد ما ذكر هنا من النوافل غير(2/5)
الوتر اثنتين وعشرين إن جعلنا الأربع قبل الظهر وبعده داخلة تحتها الاثنتان اللتان في حديث ابن عمر ويزاد ما في حديث أم حبيبة التي بعد العشاء فالجميع أربع وعشرون ركعة من دون الوتر والفرائض.
9 - وعن عائشة رضي الله عنه قالت: كان النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يخفف الركعتين اللتين قبل الصبح" أي نافلة الفجر "حتى إني أقول أقرأ بأم الكتاب" يعني أم لا لتخفيفه قيامها متفق عليه:" ، وإلى تخفيفهما ذهب الجمهور ويأتي تعيين قدر ما يقرأ فيهما وذهبت الحنفية إلى تطويلهما ونقل عن النخعي، وأورد فيه البيهقي حديثاً مرسلاً عن سعيد بن جبير وفيه لم يسم، وما ثبت في الصحيح لا يعارضه مثل ذلك.
10 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قرأ في ركعتي الفجر {قل يا أيها الكافرون} " أي في الأولى بعد الفاتحة، و {قل هو الله أحد} أي في الثانية بعد الفاتحة، "رواه مسلم" ، وفي رواية لمسلم أي عن أبي هريرة: "قرأ الآيتين أي في ركعتي الفجر: {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا} ـ إلى آخر الآية في البقرة ـ عوضاً عن: {قل يا أيها الكافرون} ، و {قل يا أهل الكتاب تعالوا} ـ الآية في آل عمران ـ عوضاً عن {قل هو الله أحد} ، وفيه دليل على جواز الاقتصار على آية من وسط السورة.
11 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذا صلى ركعتي الفجر اضطجع على شقه الأيمن. رواه البخاري" العلماء في هذه الضجعة بين مفرط ومفرط ومتوسط فأفرط جماعة من أهل الظاهر منهم ابن حزم ومن تابعه فقالوا بوجوبها، وأبطلوا صلاة الفجر بتركها، وذلك لفعله المذكور في هذا الحديث، ولحديث الأمر بها في حديث أبي هريرة عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم " إذا صلى أحدكم الركعتين قبل الصبح فليضطجع على جنبه الأيمن". قال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب، وقال ابن تيمية: ليس بصحيح لأنه تفرد به عبد الواحد ابن زياد وفي حفظ مقال.
قال المصنف: والحق أنه تقوم به الحُجَّة إلا أنه صرف الأمر عن الوجوب ما ورد من عدم مداومته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على فعلها.
وفرط جماعة فقالوا بكراهتها واحتجوا بأن ابن عمر كان لا يفعل ذلك ويقول: "كفى بالتسليم" أخرجه عبد الرزاق وبأنه كان يحصب من يفعلها، وقال ابن مسعود: "ما بال الرجل إذا صلى الركعتين تمعك كما يتمعك الحمار"، وتوسط فيها طائفة منهم مالك وغيره فلم يروا بها بأساً لم فعلها راحة، وكرهوها لمن فعلها استناناً. ومنهم من قال باستحبابها على الإطلاق سواء فعلها استراحة أم لا.
قيل: وقد شرعت لمن يتجهد من الليل لما أخرجه عبد الرزاق عن عائشة كانت تقول: "إن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لم يضطجع لسنة لكنه كان يدأب ليلة فيضطجع ليستريح منه". وفيه راوٍ لم يسم، وقال النووي: المختار أنها سنة لظاهر حديث أبي هريرة. قلت: وهو الأقرب وحديث عائشة لو صح فغايته أنه إخبار عن فهمها، وعدم استمراره صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عليها دليل سنيتها ثم إنه يسن على الشق الأيمن، قال ابن حزم: فإن تعذر على الأيمن فإنه يوميء ولا يضطجع على الأيسر.(2/6)
12 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: إذا صلى أحدكم الركعتين قبل صلاة الصبح فليضطجع على جنبه الأيمن . رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه" تقدم الكلام، وأنه كان صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يفعلها، وهذه رواية في الأمر بها وتقدم أنه صرفه عن الإيجاب ما عرفت وعرفت كلام الناس فيه.
13 - وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى متفق عليه.
الحديث دليل على مشروعية نافلة الليل مثنى مثنى، فيسلم على كل ركعتين. وإليه ذهب جماهير العلماء، وقال مالك: لا تجوز الزيادة على اثنتين لأن مفهوم الحديث الحصر، لأنه في قوة ما صلاة الليل إلا مثنى مثنى لأن تعريف المبتدأ قد يفيد ذلك على الأغلب، وأجاب الجمهور بأن الحديث وقع جواباً لمن سأل عن صلاة الليل فلا دلالة فيه على الحصر، وبأنه لو سلم فقد عارضه فعله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وهو ثبوت إيتاره بخمس، كما في حديث عائشة عند الشيخين والفعل قرينة على عدم إرادة الحصر.
وقوله: "فإذا خشي أحدكم الصبح أوتر بركعة" دليل على أنه لا يوتر بركعة واحدة إلا لخشية طلوع الفجر وإلا أوتر بخمس أو سبع أو نحوها لا بثلاث للنهي عن الثلاث، فإنه أخرج الدارقطني، والحاكم، وابن حبان من حديث أبي هريرة مرفوعاً "أوتروا بخمس أو بسبع أو بتسع أو إحدى عشرة" ، زاد الحاكم: "ولا توتروا بثلاث لا تشبهوا بصلاة المغرب" . قال المصنف: ورجاله كلهم ثقات ولا يضره وقف من وقفه، إلا أنه قد عارضه حديث أبي أيوب: "من أحب أن يوتر بثلاث فليفعل" ، أخرجه أبو داود والنسائي، وابن ماجه وغيرهم.
وقد جمع بينهما بأن النهي عن الثلاثة إذا كان يقعد للتشهد الأوسط لأنه يشبه المغرب، وأما إذا لم يقعد إلا في آخرها فلا يشبه المغرب، وهو جمع حسن قد أيده حديث عائشة عند أحمد، والنسائي، والبيهقي، والحاكم: "كان صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يوتر بثلاث لا يجلس إلا في آخرتهن". ولفظ أحمد: "كان يوتر بثلاث لا يفصل بينهن". ولفظ الحاكم: "لا يقعد".
هذا وأما مفهوم أنه لا يوتر بواحدة إلا لخشية طلوع الفجر، فإنه يعارضه حديث أبي أيوب هذا فإن فيه: "ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل". وهو أقوى من مفهوم حديث الكتاب، وفي حديث أبي أيوب دليل على صحة الإحرام بركعة واحدة، وسيأتي قريباً.
"وللخمسة" أي من حديث أبي هريرة، "وصححه ابن حبان بلفظ: "صلاة الليل والنهار مثنى مثنى" ، وقال النسائي: هذا خطأ" أخرجه المذكورين من حديث عليّ بن عبد الله البارقي عن ابن عمر بهذا، وأصله في الصحيحين بدون ذكر النهار.
وقال ابن عبد البر: لم يقله أحد عن ابن عمر غير عليّ وأنكروه عليه، وكان ابن معين يضعف حديثه هذا ولا يحتج به، ويقول: إن نافعاً وعبد الله بن دينار وجماعة رووه عن ابن عمر بدون ذكر النهار، وروي بسنده عن يحيى بن معين أنه قال: صلاة النهار أربع لا يفصل بينهن فقيل له: فإن أحمد بن حنبل يقول: صلاة الليل والنهار مثنى مثنى، قال: بأي حديث؟ قيل بحديث(2/7)
الأزدي، قال: ومن الأزدي؟ حتى أقبل منه؟ قال النسائي: هذا الحديث عندي خطأ، وكذا قال الحاكم في علوم الحديث، وقال الدارقطني في العلل: ذكر النهار فهي وهم، وقال الخطابي: روي هذا الحديث طاوس ونانع وغيرهما عن ابن عمر فلم يذكر أحد فيه النهار إلا أن سبيل الزيادة من الثقة أن تقبل، وقال البيهقي: هذا حديث صحيح، وقال: والبارقي احتج به مسلم والزيادة من الثقة مقبولة، انتهى كلام المصنف في التلخيص.
فانظر إلى كلام الأئمة في هذه الزيادة فقد اختلفوا فيها اختلافاً شديداً. ولعل الأمرين جائزان، وقال أبو حنيفة: يخير في النهار بين أن يصلي ركعتين ركعتين أو أربعاً أربعاً ولا يزيد على ذلك. وقد أخرج البخاري ثمانية أحاديث في "صلاة النهار ركعتين".
14 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: أفضل الصلاة بعد الفريضة" فإنها أفضل الصلاة، "صلاة الليل" أخرجه مسلم" يحتمل أنه يريد بالليل جوفه، لحديث أبي هريرة عند الجماعة إلا البخاري قال: "سئل رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة؟ قال: "الصلاة في جوف الليل". وفي حديث عمرو بن عبسة عند الترمذي وصححه: "أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن". وفي حديثه أيضاً عند أبي داود: "قلت: يا رسول الله أي الليل أسمع"؟ قال: "جوف الليل الآخر فصل ما شئت فإن الصلاة فيه مكتوبة مشهودة". والمراد من جوفه الآخر هو الثلث الآخر كما وردت به الأحاديث.
15 - وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "الوتر حق على كل مسلم" هو دليل لمن قال بوجوب الوتر، "من أحب أن يوتر بخمس فليفعل ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل" ، قد قدمنا الجمع بينه وبين ما عارضه، "ومن أحب أن يوتر بواحدة" من دون أن يضيف إليها غيرها كما هو الظاهر، "فليفعل" رواه الأربعة إلا الترمذي وصححه ابن حبان ورجح النسائي وقفه" ، وكذا صحح أبو حاتم، والذهلي، والدارقطني في العلل، والبيهقي وغير واحد وقفه.
قال المصنف: وهو الصواب، قلت: وله حكم الرفع إذ لا مسرح للاجتهاد فيه أي في المقادير.
والحديث دليل على إيجاب الوتر، ويدل له أيضاً حديث أبي هريرة عند أحمد: "من لم يوتر فليس منا". وإلى وجوبه ذهبت الحنفية، وذهب الجمهور إلى أنه ليس بواجب مستدلين بحديث عليّ رضي الله عنه: "الوتر ليس بحتم كهيئة المكتوبة ولكنه سنة سنها رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم" ويأتي، ولفظه عند ابن ماجه: "إن الوتر ليس بحتم ولا كصلاتكم المكتوبة ولكن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أوتر وقال: يا أهل القرآن أوتروا فإن الله وتر يحب الوتر".
وذكر المجد ابن تيمية أن ابن المنذر روى حديث أبي أيوب، بلفظ: "الوتر حق وليس بواجب"، وبحديث: "ثلاث هن عليّ فرائض ولكم تطوع".
وعد منها الوتر وإن كان ضعيفاً فله متابعات يتأيد بها، على أن حديث أبي أيوب الذي استدل به على الإيجاب قد عرفت أن(2/8)
الأصح وقفه عليه، وإن سبق أن له حكم المرفوع فهو لا يقاوم الأدلة الدالة على عدم الإيجاب، والإيجاب قد يطلق على المسنون تأكيداً كما سلف في غسل الجمعة، وقوله: "بخمس وبثلاث" أي: ولا يقعد إلا في آخرها، ويأتي حديث عائشة في الخمس. وقوله: "بواحدة" ظاهره مقتصراً عليها، وقد روى فعل ذلك عن جماعة من الصحابة، فأخرج محمد بن نصر وغيره بإسناد صحيح عن السائب بن يزيد: "أن عمر قرأ القرآن ليلة في ركعة لم يصل غيرها". وروى البخاري: "أن معاوية أوتر بركعة وأن ابن عباس استصوبه".
16 - وعن عليّ بن أبي طالب عليه السلام قال: ليس الوتر بحتم كهيئة المكتوبة ولكن سنة سنها رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم" رواه الترمذي والنسائي وحسنه والحاكم وصححه" تقدم أنه من أدلة الجمهور على عدم الوجوب.
وفي حديث عليّ هذا عاصم بن ضمرة تكلم في غير واحد وذكره القاضي الخيمي في حواشيه على بلوغ المرام ولم أجده في التلخيص، بل ذكر هنا أنه صححه الحاكم ولم يتعقبه فما أدري من أين نقل القاضي ثم رأيت في التقريب ما لفظه: عاصم بن ضمرة السلولي الكوفي صدوق من السادسة، مات سنة أربع وسبعين.
17 - وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قام في شهر رمضان ثم انتظروه من القابلة فلم يخرج، وقال: إني خشيت أن يكتب عليكم الوتر . وراه ابن حبان" أبعد المصنف النجعة.
والحديث في البخاري إلا أنه بلفظ: "أن تفرض عليكم صلاة الليل"، وأخرجه أبو داود من حديث عائشة، ولفظه: "أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلى في المسجد فصلى بصلاته ناس، ثم صلى من القابلة فكثر الناس، ثم اجتمعوا في الليلة الثالثة فلم يخرج إليهم رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فلما أصبح قال: "قد رأيت الذي صنعتم ولم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم" هذا، والحديث في البخاري بقريب من هذا.
وأعلم أنه قد أشكل التعليل لعدم الخروج بخشية الفرضية عليهم مع ثبوت حديث: "هي خمس وهن خمسون لا يبدل القول لدي" ، فإذا أمن التبديل كيف يقع الخوف من الزيادة، وقد نقل المصنف عنه أجوبة كثيرة وزيفها، وأجاب بثلاثة أجوبة، قال: إنه فتح الباري عليه بها وذكرها واستجود منها أن خوفه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان من افتراض قيام الليل يعني جعل التهجد في المسجد جماعة شرطاً في صحة التنقل بالليل قال: ويوميء إليه قوله في حديث زيد بن ثابت: "حتى خشيت أن يكتب عليكم ولو كتب عليكم ما قمتم به فصلوا أيها الناس في بيوتكم" فمنعهم من التجمع في المسجد إشفاقاً عليهم من اشتراطه انتهى.
قلت: ولا يخفى أنه لا يطابق قوله: "أن تفرض عليكم صلاة الليل" كما في البخاري، فإنه ظاهر أنه خشية فرضها مطلقاً، وكان ذلك في رمضان، فدل على أنه صلى بهم ليلتين. وحديث الكتاب أنه صلى بهم ليلة واحدة وفي رواية أحمد: "إنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلى بهم ثلاث ليال(2/9)
وغص المسجد بأهله في الليلة الرابعة" ، وفي قوله: "خشيت أن يكتب عليكم الوتر" دلالة على أن الوتر غير واجب.
واعلم أن أثبت صلاة التراويح وجعلها سنة في قيام رمضان استدل بهذا الحديث على ذلك، وليس فيه دليل على كيفية ما يفعلونه ولا كميته، فإنهم يصلونها جماعة عشرين يتروحون بين كل ركعتين، فأما الجماعة فإن عمر أول من جمعهم على إمام معين وقال: "إنها بدعة" كما أخرجه مسلم في صحيحه، وأخرجه غيره من حديث أبي هريرة: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يرغبهم في قيام رمضان من غير أن يأمرهم فيه بعزيمة فيقول من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، قال: وتوفي رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم والأمر على ذلك، وفي خلافة أبي بكر وصدر من خلافة عمر"، زاد في رواية عند البيهقي: "قال عروة فأخبرني عبد الرحمن القاري أن عمر بن الخطاب خرج ليلة فطاف في رمضان في المسجد وأهل المسجد أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط"، فقال عمر: والله لأظن لو جمعناهم على قارىء واحد فأمر أبي بن كعب أن يقوم بهم في رمضان فخرج عمر والناس يصلون بصلاته فقال عمر: "نعم البدعة هذه"، وساق البيهقي في السنن عدة روايات في هذا المعنى.
واعلم أنه يتعين حمل قوله بدعة على جمعه لهم على معين وإلزامهم بذلك لا أنه أراد أن الجماعة بدعة فإنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قد جمع بهم كما عرفت. إذا عرفت هذا عرفت أن عمر هو الذي جعلها جماعة على معين وسماها بدعة.
وأما قوله: "نعم البدعة"، فليس في البدعة ما يمدح بل كل بدعة ضلالة، وأما الكمية وهي جعلها عشرين ركعة، فليس فيه حديث مرفوع إلا ما رواه عبد بن حميد والطبراني من طريق أبي شيبة إبراهيم بن عثمان، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس: "أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يصلي في رمضان عشرين ركعة والوتر"، قال في سبل الرشاد: أبو شيبة ضعفه أحمد، وابن معين، والبخاري، ومسلم، وداود، والترمذي والنسائي، وغيرهم وكذبه شعبة، وقال ابن معين: ليس بثقة، وعد هذا الحديث من منكراته، وقال الأذرعي في المتوسط: وأما ما نقل أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلى في الليلتين اللتين خرج فيهما عشرين ركعة فهو منكر، وقال الزركشي في الخادم: دعوى أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلى بهم في تلك الليلة عشرين ركعة لم تصح، بل الثابت في الصحيح الصلاة من غير ذكر بالعداد ولما في رواية جابر: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلى بهم ثمان ركعات والوتر، ثم انتظروه في القابلة فلم يخرج إليهم". رواه ابن حبان في صحيحهما انتهى.
وأخرج البيهقي رواية ابن عباس من طريق أبي شيبة، ثم قال: إنه ضعيف وساق روايات: "أن عمر أمر أبياً وتميماً الداري يقومان بالناس بعشرين ركعة". وفي رواية: "أنهم كانوا يقومون في زمن عمر بعشرين ركعة"، وفي رواية بثلاث وعشرين ركعة. وفي رواية: "أن علياً رضي الله عنه كان يؤمهم بعشرين ركعة ويوتر بثلاث"، قال: وفيه قوة.
إذا عرفت هذا علمت أنه ليس في العشرين رواية مرفوعة، بل يأتي حديث عائشة المتفق عليه قريباً: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ما كان(2/10)
يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة" ، فعرفت من هذا كله أن صلاة التراويح على هذا الأسلوب الذي اتفق عليه الأكثر بدعة نعم قيام رمضان سنة بلا خلاف، والجماعة في نافلته لا تنكر، وقد ائتم ابن عباس رضي الله عنه وغيره به صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في صلاة الليل، لكن جعل هذه الكيفية والكمية سنة، والمحافظة عليها هو الذي نقول: إنه بدعة، وهذا عمر رضي الله عنه خرج أولاً، والناس أوزاع متفرقون منهم من يصلي منفرداً ومنهم من يصلي جماعة على ما كانوا في عصره صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وخير الأمور ما كان على عهده.
وأما تسميتها بالتراويح فكأن وجهه ما أخرجه البيهقي من حديث عائشة قالت: "كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يصلي أربع ركعات في الليل ثم يتروح فأطال حتى رحمته ". الحديث، قال البيهقي: تفرد به المغيرة بن دياب وليس بالقوي، فإن ثبت فهو أصل في تروح الإمام في صلاة التراويح. انتهى.
وأما حديث: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ". أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والترمذي، وصححه الحاكم، وقال: على شرط الشيخين. ومثله حديث: "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر" أخرجه الترمذي، وقال: حسن، وأخرجه أحمد، وابن ماجه، وابن حبان، وله طرق فيها مقال إلا أنه يقوي بعضها بعضاً. فإنه ليس المراد بسنة الخلفاء الراشدين إلا طريقتهم الموافقة لطريقته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم من جهاد الأعداء وتقوية شعائر الدين ونحوها، فإن الحديث عام لكل خليفة راشد لا يخص الشيخين، ومعلوم من قواعد الشريعة أن ليس لخليفة راشد أن يشرع طريقة غير ما كان عليها النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ثم عمر رضي الله عنه نفسه الخليفة الراشد سمي ما رآه من تجميع صلاته ليالي رمضان بدعة ولم يقل: إنها سنة فتأمل على أن الصحابة رضي الله عنهم خالفوا الشيخين في مواضع ومسائل، فدل أنه لم يحملوا الحديث على أن ما قالوه وفعلوه حُجَّة، وقد حقق البرماوي الكلام في شرح ألفيته في أصول الفقه مع أنه قال: إنما الحديث الأول يدل أنه إذا اتفق الخلفاء الأربعة على قول كان حُجَّة لا إذا انفرد واحد منهم والتحقيق أن الاقتداء ليس هو التقليد بل هو غيره كما حققناه في شرح نظم الكافل في بحث الإجماع.
18 - وعن خارجة" بالخاء المعجمة فراء بعد الألف فجيم هو "ابن حذافة" بضم المهلمة فذال بعدها معجمة ففاء بعد الألف وهو قَرشي عدوي كان يعدل بألف فارس، روي أن عمرو بن العاص استمد من عمر بثلاثة آلاف فارس فأمده بثلاثة وهم خارجة بن حذافة والزبير بن العوام والمقداد بن الأسود. ولي خارجة القضاء بمصر لعمرو بن العاص، وقيل: كان على شرطته وعداده في أهل مصر، قتله الخارجي ظناً منه أنه عمرو بن العاص حين تعاقدت الخوارج على قتل ثلاثة علي عليه السلام ومعاوية وعمرو بن العاص رضي الله عنهما فتم أمر الله في أمير المؤمنين عليّ عليه السلام دون الآخرين وإلى الغلط بخارجة أشار من قال شعراً:
فليتها إذ فدت عمراً بخارجة ... فدت علياً بمن شاءت من البَشر
وكان قتل خارجة سنة أربعين "قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إن الله أمدكم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم" قلنا: وما هي يا رسول الله؟ قال :(2/11)
"الوتر ما بين الصلاة العشاء إلى طلوع الفجر". رواه الخمسة إلا النسائي وصححه الحاكم".
قلت: قال الترمذي عقيب إخراجه له: حديث خارجة بن حذافة، حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن أبي حبيب، وقد وهم بعض المحدثين في هذا الحديث ثم ساق الوهم فيه؟ فكان يحسن من المصنف التنبيه على ما قاله الترمذي هذا.
وفي الحديث ما يفيد عدم وجوب الوتر لقوله: "أمدكم"، فإن الإمداد هو الزيادة بما يقوي المزيد عليه، يقال: مد الجيش وأمده إذا زاده وألحق به ما يقويه ويكثره ومد الدواة وأمدها زادها ما يصلحها، ومددت السراج والأرض إذا أصلحتهما بالزيت والسماد.
"فائدة في حكمة شرعية النوافل"
أخرج أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والحاكم من حديث تميم الداري مرفوعاً: "أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته، فإن كان أتمها كتبت له تامة، وإن لم يكن أتمها، قال الله تعالى لملائكته: انظروا هل تجدون لعبدي من تطوع فتكملون بها فريضته ثم الزكاة كذلك ، ثم تؤخذ الأعمال على حسب ذلك" ، وأخرجه الحاكم في الكنى من حديث ابن عمر مرفوعاً: "أول ما افترض الله على أمتي الصلوات الخمس، وأول ما يرفع من أعمالهم الصلوات الخمس، وأول ما يسألون عنه الصلوات الخمس، فمن كان ضيع شيئاً منها يقول نقص من الفريضة؟ وانظروا صيام عبدي شهر رمضان فإن كان ضيع شيئاً منه فانظروا هل تجدون لعبدي نافلة من صيام تتمون بها ما نقص من الصيام؟ وانظروا في زكاة عبدي، فإن كان ضيع شيئاً فانظروا هل تجدون لعبدي نافلة من صدقة تتمون بها ما نقص من الزكاة؟ فيؤخذ ذلك على فرائض الله وذلك برحمة الله وعدله، فإن وجد له فضل وضع في ميزانه، وقيل له: ادخل الجنة مسروراً وإن لم يوجد له شيء من ذلك أمرت الزبانية، فأخذت بيديه ورجليه ثم قذف في النار" ، وهو كالشرح والتفصيل لحديث تميم الداري "وروي أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده نحوه" أي نحو حديث خارجة فشرحه شرحه.
19 - وعن عبد الله بن بريدة" بضم الموحدة بعدها راء مهملة مفتوحة ثم مثناة تحتية ساكنة فدال مهملة مفتوحة هو ابن الحصيب بضم الحاء المهملة وفتح الصاد المهملة والمثناة التحتية والباء الموحدة الأسلمي وعبد الله من ثقات التابعين سمع أباه وسمرة بن جندب وآخرين وتولي قضاء مرو وماب بها "عن أبيه" بريدة بن الحصيب تقدم ذكره "قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "الوتر حق" أي لازم فهو من أدلة الإيجاب، "فمن لم يوتر فليس منا" أخرجه أبو داود بسند لين" لأن فيه عبد الله بن عبد الله العتكي، ضعفه البخاري والنسائي، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، "وصححه الحاكم" ، وقال ابن معين: إنه موقوف "وله شاهد ضعيف عن أبي هريرة عند أحمد" ، رواه بلفظ: "من لم يوتر فليس منا" ، وفيه الخليل بن مرة منكر الحديث، وإسناده منقطع كما قاله أحمد، ومعنى "ليس منا" ليس على سنتنا وطريقتنا، والحديث محمول على تأكد السنية للوتر جمعاً بينه وبين الأحاديث الدالة على عدم الوجوب.(2/12)
20 - وعن عائشة رضي الله عنه قالت: ما كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة" ، ثم فصلتها بقولها "يصلي أربعاً" يحتمل أنها متصلاً وهو الظاهر، ويحتمل أنها مفصلات وهو بعيد إلا أنه يوافق حديث "صلاة الليل مثنى مثنى" ، "فلا تسأل عن حسنهن وطولهن" نهت عن سؤال ذلك إما أنه لا يقدر المخاطب على مثله فأي حاجة له في السؤال، أو لأنه قد علم حسنهن وطولهن لشهرته فلا يسئل عنه أو لأنها لا تقدر تصف ذلك، "ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي ثلاثاً قالت: فقلت يا رسول الله أتنام قبل أن يوتر" كأنه كان ينام بعد الأربع ثم يقوم فيصلي الثلاث وكأنه كان قد تقرر عند عائشة أن النوم ناقض للوضوء فسألته فأجابها بقوله: "قال: يا عائشة إن عيني تنامان ولا ينام قلبي" دل على أن الناقض نوم القلب وهو حاصل مع كل من نام مستغرقاً فيكون من الخصائص أن النوم لا ينقض وضوءه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وقد صرح المصنف بذلك في التلخيص، واستدل بهذا الحديث وبحديث ابن عباس: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم نام حتى نفخ ثم قام فصلى ولم يتوضأ". وفي البخاري: "إن الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم" متفق عليه:".
اعلم أنه قد اختلفت الروايات عن عائشة في كيفية صلاته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في الليل وعددها، فقد روي عنها سبع وتسع وإحدى عشرة سوى ركعتي الفجر ومنها هذه الرواية التي أفادها قوله: "وفي رواية لهما" أي الشيخين "عنها" أي عن عائشة "كان يصلي من الليل عشر ركعات" وظاهره أنها موصولة لا قعود فيها، "ويوتر بسجدة" أي ركعة، "ويركع ركعتي الفجر" أي بعد طلوعه، "فتلك" أي الصلاة في الليل مع تغليب ركعتي الفجر أو فتلك الصلاة جميعاً، "ثلاث عشرة ركعة" ، وفي رواية: "أنه كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة ثم يصلي إذا سمع النداء ركعتين خفيفتين فكانت خمس عشرة ركعة". ولما اختلفت ألفاظ حديث عائشة زعم البعض أنه حديث مضطرب، وليس كذلك، بل الروايات محمولة على أوقات متعددة وأوقات مختلفة بحسب النشاط وبيان الجواز وأن الكل جائز، وهذا لا يناسبه قولها ولا في غيره، والأحسن أن يقال: إنها أخبرت عن الأغلب من فعله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فلا ينافيه ما خالفه لأنه إخبار عن النادر.
21 - وعنها" أي عائشة، "قالت: كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة" لم تفصلها وتبين على كم كان يسلم كما ثبت ذلك في الحديث السابق إنما بينت هذا في الوتر بقولها: "ويوتر من ذلك" أي العدد المذكور "بخمس لا يجلس في شيء إلا في آخرها" كأن هذا أحد أنواع إيتاره صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كما إن الإيتار بثلاث أحدها كما أفاده حديثها السابق.
22 - وعنها" أي عائشة "قالت: من كل الليل قد أوتر رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم" أي من أوله وأوسطه وآخره، "وانتهى وتره إلى السحر . متفق عليهما" أي على الحديثين وهذا الحديث بيان لوقت الوتر وأنه الليل كله من بعد صلاة العشاء، وقد أفاد ذلك حديث(2/13)
خارجة حيث قال: "الوتر ما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر" ، وقد ذكرنا أنواع الوتر التي وردت في حاشية ضوء النهار.
23 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم من الليل فترك قيام الليل. متفق عليه".
قوله: "مثل فلان" قال المصنف في فتح الباري: لم أقف على تسميته في شيء من الطرق وكأن إبهام هذا القصد للستر عليه، قال ابن العربي: هذا الحديث دليل على أن قيام الليل ليس بواجب، إذ لو كان واجباً لم يكتف لتاركه بهذا القدر، بل كان يذمه أبلغ ذم. وفيه استحباب الدوام على ما اعتداه المرء من الخير من غير تفريط ويستنبط منه كراهة قطع العبادة.
24 - وعن عليّ عليه السلام قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "أوتروا يا أهل القرآن فإن الله وتر" " في النهاية أي واحد في ذاته لا يقبل الانقسام ولا التجزئة واحد في صفاته لا شبيه له ولا مثل. واحد في أفعاله لا شريك له ولا معين، "يحب الوتر" يثيب عليه ويقبله من عامله، "رواه الخمسة وصححه ابن خزيمة".
المراد بأهل القرآن المؤمنون لأنهم الذي صدقوا القرآن وخاصة من يتولى حفظه ويقوم بتلاوته ومراعاة حدوده وأحكامه. والتعليل بأنه تعالى وتر فيه ـ كما قال القاضي عياض: ـ أن كل ما ناسب الشيء أدنى مناسبة كان أحب إليه وقد عرفت أن الأمر للندب للأدلة التي سلفت الدالة على عدم وجوب الوتر.
25 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً" متفق عليه" في فتح الباري أنه اختلف السَلَف في موضعين: أحدهما في مشروعية ركعتين بعد الوتر من جلوس. والثاني: من أوتر ثم أراد أن ينتفل من الليل هل يكتفي بوتره الأول وينتفل ما شاء أو يشفع وتره بركعة ثم ينتفل، ثم إذا فعل هذا هل يحتاج إلى وتر آخر أو لا.
أما الأول فوقع عند مسلم من طريق أبي سلمة عن عائشة: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يصلي من الليل ركعتين بعد الوتر وهو جالس". وقد ذهب إليه بعض أهل العلم وجعل الأمر في قوله: "اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً" مختصاً بمن أوتر آخر الليل، وأجاب من لم يقل بذلك بأن الركعتين المذكورتين هما ركعتا الفجر، وحمله النووي على أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فعل ذلك لبيان جواز النفل بعد الوتر وجواز التنفل جالساً.
وأما الثاني: فذهب الأكثر إلى أنه يصلي شفعاً ما أراد ولا ينقض وتره الأول عملاً بالحديث.وهو
26 - وعن طلق بن عليّ رضي الله عنه سمعت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقول: "لا وتران في ليلة" رواه أحمد والثلاثة وصححه ابن حبان" ، فدل على أنه لا يوتر بل يصلي شفعاً ما شاء، وهذا نظر إلى ظاهر فعله وإلا فإنه لما شفع وتره الأول لم يبق إلا وتر واحد هو ما يفعله آخراً. وقد روي، عن ابن عمر أنه قال: لما سئل عن ذلك: "إذا كنت لا تخاف الصبح ولا النوم فاشفع ثم صل ما بدا لك ثم أوتر".
27 -وعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يوتر" أي يقرأ في صلاة الوتر " بسبح اسم ربك الأعلى " أي في الأولى بعد قراءة الفاتحة،(2/14)
"وقل يا أيها الكافرون" أي في الثانية بعدها، " وقل هو الله أحد " أي في الثالثة بعدها. "رواه أحمد وأبو داود والنسائي وزاد" أي النسائي "ولا يسلم إلا في آخرهن" الحديث دليل على الإيتار بثلاث، وقد عارضه حديث: "لا توتروا بثلات" وهو عن أبي هريرة، صححه الحاكم، وقد صحح الحاكم عن ابن عباس، وعائشة كراهية الوتر بثلاث، وقد قدمنا وجه الجمع ثم الوتر بثلاث أحد أنواعه كما عرفت فلا يتعين فيه.
فذهبت الحنفية والهادوية إلى تعيين الإيتار بالثلاث تصلي موصولة، قالوا: لأن الصحابة أجمعوا على أن الإيتار بثلاث موصولة جائز، اختلفوا فيما عداه، فالأخذ به أخذ بالإجماع ورد عليهم بعدم صحة الإجماع كما عرفت.
28 - ولأبي داود والترمذي نحوه" أي حديث أبي "عن عائشة وفيه كل سورة" من سبح والكافرون "في ركعة" من الأولى والثانية كما بيناه، "وفي الأخيرة {قل هو الله أحد} والمعوذتين" في حديث عائشة لين لأن فيه خصيفاً الجزري، ورواه ابن حبان والدارقطني من حديث يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة. قال العقيلي: إسناده صالح. وقال ابن الجوزي: أنكر أحمد ويحيى بن معين زيادة المعوذتين، وروى ابن السكن له شاهداً من حديث عبد الله بن سرجس بإسناد غريب.
30 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: أوتروا قبل أن تصبحوا . رواه مسلم" هو دليل على أن الوتر قبل الصبح "ولابن حبان" أي من حديث أبي سعيد، "من أدرك الصبح ولم يوتر فلا وتر له" وهو دليل على أنه لا يشرع الوتر بعد خروج الوقت.
وإما أنه لا يصح قضاؤه فلا، إذ المراد من تركه متعمداً فإنه فاتته السنة العظمى حتى أنه لا يمكنه تداركه، وقد حكى ابن المنذر عن جماعة من السَلَف أن الذي يخرج بالفجر وقته الاختياري، وأما وقته الاضطراري فيبقى إلى قيام صلاة الصبح، وأما من نام عن وتره ونسيه فقد بين حكمه الحديث:.وهو قوله":
31 - وعنه" أي عن أبي سعيد "قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "من نام عن الوتر أو نسيه فليصل إذا أصبح أو ذكر"" لف ونشر مرتب، حيث كان نائماً أو ذكر إذا كان ناسياً "رواه الخمسة إلا النسائي" ، فدل على أن من نام عن وتره أو نسيه فحكمه حكم من نام عن الفريضة أو نسيها أنه يأتي بها عند الاستيقاظ أو الذكر أو القياس أنه أداء كما عرفت فيمن نام عن الفريضة أو نسيها.
32 - وعن جابر رضي الله عنه" هو ابن عبد الله، "قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "من خاف أن لا يقوم من الليل فليوتر أوله، ومن طمع أن يقوم آخره فليوتر آخر الليل، فإن صلاة آخر الليل مشهودة وذلك أفضل" رواه مسلم" فيه دلالة على أن تأخير الوتر أفضل، ولكن إن خاف أن لا يقوم قدمه لئلا يفوته فعلاً، وقد ذهب جماعة من السَلَف إلى هذا وإلى هذا وفعل كل بالحالين، ومعنى كون صلاة آخر الليل مشهودة تشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار.(2/15)
32 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "إذا طلع الفجر فقد ذهب وقت كل صلاة الليل" أي النوافل المشروعة فيه، "والوتر" عطف خاص على عام فإنه من صلاة الليل عطفه عليه لبيان شرفه، "فأوتروا قبل طلوع الفجر" .
فتخصيص الأمر بالإيتار لزيادة العناية بشأنه وبيان أنه أهم صلاة الليل، فإنه يذهب وقته بذهاب الليل وتقدم في حديث أبي سعيد أن النائم والناسي يأتيان بالوتر عند اليقظة إذا أصبح والناسي عند التذكر فهو مخصص لهذا، فبين أن المراد بذهاب وقت الوتر بذهاب الليل على من ترك الوتر لغير العذرين. وفي ترك ذلك للنوم ما رواه الترمذي عن عائشة: "كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذا لم يصل من الليل منعه من ذلك النوم أو غلبته عيناه صلى من النهار اثنتي عشرة ركعة" . وقال: حسن صحيح، وكأنه تداركه لما فات، "رواه الترمذي" ، قلت: وقال عقيبه: سليمان بن موسى قد تفرد به على هذا اللفظ.
33 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ك ان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يصلي الضحى أربعاً ويزيد ما شاء الله . رواه مسلم" هذا يدل على شرعية صلاة الضحى، وأن أقلها أربع، وقيل: ركعتان، وهذا في الصحيحين من رواية أبي هريرة "وركعتي الضحى" .
وقال ابن دقيق العيد: لعله ذكر الأقل الذي يوجد التأكيد بفعله. قال: وفي هذا دليل على استحباب صلاة الضحى وأن أقلها ركعتان، وعدم مواظبة النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على فعلها لا ينافي استحبابها لأنه حاصل بدلالة القول وليس من شرط الحكم أن تتظافر عليه أدلة القول والفعل، لكن ما واظب النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على فعل مرجح على ما لم يواظب عليه انتهى.
وأما حكمها فقد جمع ابن القيم الأقوال فبلغت ستة أقوال. الأول: أنها سنة مستحبة. الثاني: لا تشرع إلا لسبب. الثالث: لا تستحب أصلاً. الرابع: يستحب فعلها تارة وتركها تارة فلا يواظب عليها. الخامس: يستحب الموظبة عليها في البيوت. السادس: أنها بدعة. وقد ذكر هنالك مستند كل قول. هذا وأرجح الأقوال أنها سنة مستحبة كما قرره ابن دقيق العيد، نعم وقد عارض حديث عائشة هذا حديثها الذي أفاده قوله:
34- وله" أي لمسلم "عنها" أي عن عائشة "أنها سئلت هل كان النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يصلي الضحى؟ قالت: لا. إلا أن يجيء من مغيبه" فإن الأول دل على أنه كان يصليها دائماً لما تدل عليه كلمة كان فإنها تدل على التكرار، والثانية دلت على أنه كان لا يصليها إلا في حال مجيئه من مغيبه وقد جمع بينهما. فإن كلمة كان يفعل كذا لا تدل على الدوام دائماً بل غالباً، وإذا قامت قرينة على خلاف صرفتها عنه كما هنا، فإن اللفظ الثاني صرفها عن الدوام وأنها أرادت بقولها: "لا إلا أن يجيء من مغيبه" نفي رؤيتها صلاة الضحى، وأنها لم تره يفعلها إلا في ذلك الوقت، واللفظ الأول إخبار عما بلغها في أنه ما كان يترك صلاة الضحى إلا أنه يضعف هذا قوله.
35 - وله" أي لمسلم وهو أيضاً في البخاري بلفظه، فلو قال: ولهما كان أولى "عنها" أي عائشة "ما رأيت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلي قط سبحة الضحى" بضم السين وسكون الباء أي نافلته، "وإني لأسبحها" فنفت رؤيتها لفعله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لها،(2/16)
وأخبرت أنها كانت تفعلها كأنه استناد إلى ما بلغها من الحث عليها ومن فعله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لها فألفاظها لا تتعارض حينئذ.
وقال البيهقي: المراد بقولها ما رأيته سبحها أي داوم عليها، وقال ابن عبد البر: يرجح ما اتفق عليه الشيخان وهو رواية إثباتها دون ما انفرد به مسلم وهي رواية نفيها، قال: وعدم رؤية عائشة لذلك لا يستلزم عدم الوقوع الذي أثبته غيرها هذا معنى كلامه. قلت: ومما اتفقا عليه في إثباتها حديث أبي هريرة في الصحيحين: "أنه أوصاه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بأن لا يترك ركعتي الضحى"، وفي الترغيب في فعلها أحاديث كثيرة وفي عددها كذلك: مبسوطة في كتب الحديث.
36 - وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: صلاة الأوابين" الأواب: الرجاع إلى الله تعالى بترك الذنوب وفعل الخيرات "حين ترمض الفصال" بفتح الميم من رمضت بكسرها أي تحترق من الرمضاء وهو شدة حرارة الأرض من قوع الشمس على الرمل وغيره، وذلك يكون عند ارتفاع الشمس وتأثيرها الحر والفصال جمع فصيل وهو ولد الناقة سمي بذلك لفصله عن أمه، "رواه الترمذي" ولم يذكر لها عدداً.
وقد أخرج البزار من حديث ثوبان: "أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يستحب أن يصلي بعد نصف النهار، فقال عائشة: يا رسول الله إنك تستحب الصلاة هذه الساعة؟ قال: "تفتح فيها أبواب السماء وينظر تبارك وتعالى فيها بالرحمة إلى خلقه وهي صلاة كان يحافظ عليها آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى " وفيه راو متروك، ووردت أحاديث كثيرة أنها أربع ركعات .
37 - وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم من صلى الضحى اثنتي عشرة ركعة بنى له قصراً في الجنة رواه الترمذي واستغربه" قال المصنف: وإسناده ضعيف. وأخرج البزار عن ابن عمر، قال: "قلت لأبي ذر: يا عماه أوصني، قال: سألتني عما سألت عنه رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فقال: إن صليت الضحى ركعتين لم تكتب من الغافلين، وإن صليت أربعاً كتبت من العابدين، وإن صليت ستاً لم يلحقك ذنب، وإن صليت ثمانياً كتبت من القانتين، وإن صليت ثنتي عشرة بني لك بيت في الجنة". وفيه حسين بن عطاء ضعفه أبو حاتم وغيره. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يخطيء ويدلس، وفي الباب أحاديث لا تخلو عن مقال.
38 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بيتي فصلى الضحى ثماني ركعات. رواه ابن حبان في صحيحه" ، وقد تقدم رواية مسلم عنها "أنا ما رأته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يصلي سبح الضحى".
وهذا الحديث أثبتت فيه صلاته في بيتها وجمع بينهما بأنها نفت الرؤية وصلاته في بيتها يجوز أنها لم تره، ولكنه ثبت لها برواية، واختار القاضي عياض هذا الوجه ولا يعد في ذلك، وإن كان في بيتها لجواز غفلتها في الوقت فلا منافاة والجمع مهما أمكن هو الوجب.
"فائدة"
من فوائد صلاة الضحى أنها تجزىء عن الصدقة التي تصبح على مفاصل الإنسان(2/17)
في كل يوم وهي ثلاثمائة وستون مفصلاً، لما أخرجه مسلم من حديث أبي ذر قال فيه: وتجزىء من ذلك ركعتا الضحى".(2/18)
باب صلاة الجماعة والإمامة
1 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ" بالفاء والذال المعجمة: الفرد "بسبع وعشرين درجة متفق عليه.
2 - ولهما" أي الشيخين "عن أبي هريرة رضي الله عنه: بخمس وعشرين جزءاً " عوضاً عن قوله: "سبع وعشرين درجة" "وكذا" أي وبلفظ "بخمس وعشرين" "للبخاري عن أبي سعيد وقال: "درجة" " عوضاً عن جزء.
ورواه جماعة من الصحابة غير الثلاثة المذكورين منهم أنس وعائشة وصهيب ومعاذ وعبد الله بن زيد وزيد بن ثابت.
قال الترمذي: عامة من رواه قالوا: خمساً وعشرين إلا ابن عمر فقال: "سبعة وعشرين" وله رواية فيها "خمساً وعشرين" ولا منافاة فإن مفهوم العدد غير مراد فرواية الخمس والعشرين داخلة تحت رواية السبع والعشرين، أو أنه أخبر صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بالأقل عدداً أولاً ثم أخبر بالأكثر، وأنه زيادة تفضل الله بها.
وقد زعم قوم أن السبع محمولة على من صلى في المسجد، والخمس لمن صلى في غيره.
وقيل: السبع لبعيد المسجد والخمس لقريبه، ومنهم من أبدى مناسبات وتعليلات استوفاها المصنف في فتح الباري، وهي أقوال تخمينية ليس عليها نص.
والجزء والدرجة بمعنى واحد هنا لأنه عبر بكل واحد منهما عن الآخر وقد ورد تفسيرهما بالصلاة وأن الصلاة الجماعة بسبع وعشرين صلاة فرادى.
والحديث حث على الجماعة. وفيه دليل على عدم وجوبها، وقد قال بوجوبها جماعة من العلماء مستدلين بقوله:
3- وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "والذي نفسي بيده" أي في ملكه وتحت تصرفه "لقد هممت" جواب القسم، والإقسام منه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لبيان عظم شأن ما يذكره زجراً عن ترك الجماعة "أن آمر بحطب فيُحطب ثم آمرُ بالصَّلاة فيؤذَّن لها ثمَّ آمرُ رجلاً فيؤُمَّ الناس ثم أُخالِف" في الصحاح خالف إلى فلان أي أتاه إذا غاب عنه "إلى رجال "لا يشهدون الصَّلاة" أي لا يحضرون الجماعة "فأُحرق عليهم بيوتهم. والذي نفسي بيده لو يعلم أحدُهم أنه يجد عرقاً،" بفتح المهملة وسكون الراء ثم قاف هو العظم إذا كان عليه لحم "سميناً أوْ مرمامتين" تثنية مرماة بكسر الميم فراء ساكنة وقد تفتح الميم وهي ما بين ظلفي الشاة من اللحم "حسنتين" بمهملتين من الحسن "لشهد العِشاء" " أي صلاته جماعة ". متفق عليه: أي بين الشيخين "واللفظ للبخاري".
والحديث دليل على وجوب الجماعة عيناً لا كفاية إذ قد قام بها غيرهم فلا يستحقون العقوبة، ولا عقوبة إلا على ترك(2/18)
واجب أو فعل محرم. وإلى أنها فرض عين: ذهب عطاء والأوزاعي وأحمد وأبو ثور وابن خزيمة وابن المنذر وابن حبان ومن أهل البيت أبو العباس وقالت به الظاهرية.
وقال داود: إنها شرط في صحة الصلاة بناءً على ما يختاره من أن كل واجد في الصلاة فهو شرط فيها، ولم يسله له هذا، لأن الشرطية لا بد لها من دليل، ولذا قال أحمد وغيره: إنها واجبة غير شرط.
وذهب أبو العباس تحصيلاً لمذهب الهادي أنها فرض كفاية، وإليه ذهب الجمهور من متقدمي الشافعية، وكثير من الحنفية والمالكية.
وذهب زيد بن علي والمؤيد بالله وأبو حنيفة وصاحباه والناصر إلى أنها سنة مؤكدة.
استدل القائل بالوجوب بحديث الباب، لأن العقوبة البالغة لا تكون إلا على ترك الفرائض، وبغيره من الأحاديث كحديث ابن مكتوم أنه قال: يا رسول الله قد علمت ما بي وليس لي قائد ـ زاد أحمد ـ وإن بيني وبين المسجد شجراً ونخلاً ولا أقدر على قائد كل ساعة، قال صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "أتسمع الإقامة؟" قال: نعم، قال: "فاحضرها" أخرجه أحمد وابن خزيمة والحاكم وابن حبان بلفظ "أتسمع الأذان؟ قال: نعم. قال: فاتها ولو حَبْواً" والأحاديث في معناه كثيرة ويأتي حديث ابن أم مكتوم، وحديث ابن عباس، وقد أطلق البخاري الوجوب عليها وبوّبة بقوله: "باب وجوب صلاة الجماعة". وقالوا: هي فرض عين إذ لو كانت فرض كفاية لكان قد أسقط وجوبها فعل النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ومن معه لها.
وأما التحريق في العقوبات بالنار فإنه وإن كان قد ثبت النهي عنه عاماً، فهذا خاص.
وأدلة القائل بأنها فرض كفاية أدلة من قال إنها فرض عين بناءً على قيام الصارف للأدلة على فرض العين إلى فرض الكفاية.
وقد أطال القائلون بالسنية الكلام في الجوابات عن هذا الحديث بما لا يشفي وأقربها أنه خرج مخرج الزجر لا الحقيقة بدليل أنه لم يفعله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم.
واستدل القائل بالسنية بقوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في حديث أبي هريرة "صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذّ" فقد اشتركا في الفضيلة، ولو كانت الفرادى غير مجزئة لما كانت لها فضيلة أصلاً وحديث "إذا صليتما في رحالكما" فأثبت لهما الصلاة في رحالهما ولم يبين أنها إذا كانت جماعة وسيأتي.
4 - وعنه" أي أبي هريرة "قال:قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : "أثقل الصلاة على المنافقين" فيه أن الصلاة كلها عليهم ثقيلة فإنهم الذين إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى، ولكن الأثقل عليهم "صلاة العشاء" لأنها في وقت الراحة والسكون "وصلاة الفجر" لأنها في وقت النوم وليس لهم داع ديني ولا تصديق بأجرهما حتى يبثهم على إتيانهما، ويخف عليهم الإتيان بهما، ولأنهما في ظلمة الليل، وداعي الرياء الذي لأجله يصلون منتفٍ، لعدم مشاهدة من يراءونه من الناس إلا القليل، فانتفى الباعث الديني منهما كما انتفى في غيرهما، ثم انتفى الباعث الدنيوي الذي في غيرهما. ولذا قال صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ناظراً إلى انتفاء الباعث الديني عندهم: "ولو يعلمون ما فيهما" في فعلهما من الأجر "لأتوهما" إلى المسجد "ولوْ حَبْواً" " أي ولو مشوا حبواً أي كحبو الصبيّ على يديه وركبتيه، وقيل هو الزحف على الركب، وقيل على الإست، وفي حديث أبي أمامة عند الطبراني "ولو(2/19)
حبواً على يديه ورجليه". وفي رواية جابر عنده أيضا بلفظ: "ولو حبواً أو زحفاً".
فيه حث بليغ على الإتيان إليهما. وأن المؤمن إذا علم ما فيهما أتى إليهما على أي حال، فإنه ما حال بين المنافق وبين هذا الإتيان إلا عدم تصديقه بما فيهما متفق عليه:".
5- وعنه" أي عن أبي هريرة رضي الله عنه "قال: أتى النبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم رجلٌ أعمى" قد وردت بتفسيره الرواية الأخرى وأنه ابن أم مكتوم "قال: يا رسول الله ليس لي قائد يقودني إلى المسجد فرخص له" أي في عدم إتيان المسجد "فلما ولى دعاه فقال: "هل تسمع النداءَ" وفي رواية "الإقامة" "بالصلاة؟" قال: نعم قال: "فأجب" رواه مسلم".
كان الترخيص أولاً مطلقاً عن التقييد بسماعه النداء فرخص له ثم سأله هل تسمع النداء قال: نعم فأمره بالإجابة.
ومفهومه أنه إذا لم يسمع النداء كان ذلك عذراً له، وإذا سمعه لم يكن له عذر عن الحضور.
والحديث من أدلة الإيجاب للجماعة عيناً، لكن ينبغي أن يقيد الوجوب عيناً على سامع النداء لتقييد حديث الأعمى وحديث ابن عباس له، وما أطلق من الأحاديث يحمل على المقيد.
وإذا عرفت هذا فاعلم أن الدعوى وجوب الجماعة عيناً أو كفاية، والدليل هو الحديث الهمِّ بالتحريق وحديث الأعمى، وهما إنما دلاّ على وجوب حضور جماعته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في مسجده لسامع النداء وهو أخص من وجوب الجماعة، ولو كانت الجماعة واجبة مطلقاً لبين صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ذلك للأعمى ولقال له انظر من يصلي معك، ولقال في المتخلفين إنهم لا يحضرون جماعته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ولا يجمعون في منازلهم. والبيان لا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة.
فالأحاديث إنما دلت على وجوب حضور جماعته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عيناً على سامع النداء لا على وجوب مطلق الجماعة كفاية ولا عيناً.
وفيه أنه لا يرخص لسامع النداء عن الحضور وإن كان له عذر فإن هذا ذكر العذر وأنه لا يجد قائداً فلم يعذره إذن.
ويحتمل أن الترخيص له ثابت للعذر، ولكنه أمره بالإجابة ندباً لا وجوباً ليحرز الأجر في ذلك. والمشقة تغتفر بما يجده في قلبه من الروح في الحضور ويدل لكون الأمر للندب أي مع العذر قوله:
6 ـ وَعَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النّبيِّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قالَ: "مَنْ سَمِعَ النِّداءَ فلم يأت فَلا صَلاةَ لَهُ إلا مِنْ عُذْرٍ" رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه وَالدَّارَقُطْنيُّ وابْنُ حِبّانَ وَالحْاكِمُ وَإسْنَادُهُ عَلى شَرْطِ مُسْلمٍ لكنْ رَجّجَ بَعْضُهُمْ وَقْفَهُ.
الحديث أخرج من طريق شعبة موقوفاً ومرفوعاً، والموقوف في زيادة "إلا من عذر" فإن الحاكم وقفه عند أكثر أصحاب شعبة.
وأخرج الطبراني في الكبير من حديث أبي موسى عنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "من سمع النداء فلم يجب من غير ضرر ولا عذر فلا صلاة له"، قال الهيثمي: فيه قيس بن الربيع وثقه شعبة وسفيان الثوري وضعفه جماعة.
وقد أخرج حديث ابن عباس المذكور أبو داود بزيادة "قالوا: وما العذر؟ قال: خوف أو مرض لم يقبل الله منه الصلاة التي صلى" بإسناد ضعيف.
والحديث دليل على تأكد الجماعة وهو حجة لمن يقول إنها فرض عين.
ومن يقول إنها سنة(2/20)
يؤول قوله: "فلا صلاة له" أي كاملة، وأنه نزَّل نفي الكمال منزلة نفي الذات مبالغة.
والأعذار في ترك الجماعة منها ما في حديث أبي داود. ومنها المطر والريح الباردة. ومن أكل كراثاً أو نحوه من ذوات الريح الكريهة فليس له أن يقرب المسجد؛ قيل: ويحتمل أن يكون النهي عنها لما يلزم من أكلها من تفويت الفريضة فيكون آكلها آثماً لما تسبب له من ترك الفريضة، ولكن لعل من يقول إنها فرض عين يقول تسقط بهذه الأعذار صلاتها في المسجد لا في البيت فيصليها جماعة.
7- وعن يزيد بن الأسود رضي الله عنه" هو أبو جابر يزيد بن الأسود السُّوائي بضم المهملة وتخفيف الواو والمد ويقال الخزاعي ويقال العامري روى عنه ابنه جابر وعداده في أهل الطائف وحديثه في الكوفيين "أنه صلى مع رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلاة الصبح، فلما صلى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم" أي فرغ من صلاته "إذا هو برجلين لم يصليا" أي معه "فدعا بهما فجيء بهما ترعد" بضم المهملة "فرائضهما" جمع فريصة وهي اللحمة التي بين جنب الدابة وكتفيها أي ترجف من الخوف قاله في النهاية "فقال لهما: "ما منعكما أن تصليا معنا؟" قالا: قد صلينا في رحالنا" جمع رحل بفتح الراء وسكون المهملة هو المنزل ويطلق على غيره ولكن المراد هنا به المنزل "قال: "فلا تفعلا إذا صليتما في رحالكما ثم أدركتما الإمام ولم يصل فصليا معه فإنها" أي الصلاة مع الإمام بعد صلاتهما الفريضة "لكما نافلة"" والفريضة هي الأولى سواء صليت جماعة أو فرادى لإطلاق الخبر "رواه أحمد واللفظ له والثلاثة وصححه الترمذي وابن حبان" زاد المصنف في التلخيص: "والحاكم والدارقطني وصححه ابن السكن كلهم من طريق يعلي بن عطاء عن جابر بن يزيد بن الأسود عن أبيه".
قال الشافعي في القديم: إسناده مجهول، قال البيهقي: لأن يزيد بن الأسود ليس له راوٍ غير ابنه ولا لابنه جابر راوٍ غير يعلى. قلت: يعلى من رجال مسلم، وجابر وثقه النسائي وغيره. انتهى".
وهذا الحديث وقع في مسجد الخيف، في حُجَّة الوداع.
فدل على مشروعية الصلاة مع الإمام إذا وجده يصلي أو سيصلي بعد أن كان قد صلى جماعة أو فرادى، والأولى هي الفريضة والأخرى نافلة كما صرح به الحديث.
وظاهره أنه لا يحتاج إلى رفض الأولى. وذهب إلى هذا زيد بن علي والمؤيد وجماعة من الآل وهو قول الشافعي.
وذهب الهادي ومالك وهو قول الشافعي إلى أن الثانية هي الفريضة، لما أخرجه أبو داود من حديث يزيد بن عامر: إنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "إذا جئت الصلاة فوجدت الناس يصلون فصل معهم إن كنت قد صليت تكن لك نافلة وهذه مكتوبة".
وأجيب بأنه حديث ضعيف ضعفه النووي وغيره، وقال البيهقي هو مخالف لحديث يزيد بن الأسود وهو أصح ورواه الدارقطني بلفظ: "وليجعل التي صلى في بيته نافلة" قال الدارقطني هذه رواية ضعيفة شاذة وعلى هذا القول لا بدّ من الرفض للأولى بعد دخوله في الثانية، وقيل بشرط فراغه من الثانية صحيحة.
وللشافعي قول ثالث أن الله تعالى يحتسب بأيهما شاء، لقول ابن عمر لمن سأله عن ذلك: "أو ذلك إليك؟ إنما ذلك إلى الله تعالى يحتسب بأيهما شاء" أخرجه مالك في الموطأ.
وقد عورض حديث الباب بما أخرجه أبو داود والنسائي(2/21)
وغيرهما عن ابن عمر يرفعه " لا تصلوا صلاة في يوم مرتين".
ويجاب عنه بأن المنهي عنه أن يصلي كذلك على أنهما فريضة لا على أن إحداهما نافلة، أو المراد لا يصليهما مرتين منفرداً.
ثم ظاهر حديث الباب عموم ذلك في الصلوات كلها وإليه ذهب الشافعي.
وقال أبو حنيفة: لا يعاد إلا الظهر والعشاء أما الصبح والعصر فلا. للنهي عن الصلاة بعدهما وأما المغرب فلأنها وتر النهار فلو أعادها صارت شفعاً.
وقال مالك: إذا كان صلاها في جماعة لم يعدها وإن كان صلاها منفرداً أعادها.
والحديث ظاهر في خلاف ما قاله أبو حنيفة ومالك بل في حديث يزيد بن الأسود أن ذلك كان في صلاة الصبح فيكون أظهر في ردّ ما قاله أبو حنيفة ويخص به عموم النهي عن الصلاة في الوقتين.
8- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إنما جُعِل الإمام ليؤتمَّ به فإذا كبّر" أي للإحرام أو مطلقاً فيشمل تكبير النقل "فكبروا ولا تكبروا حتى يكبِّر" زاده تأكيداً لما أفاده مفهوم الشرط كما في سائر الجمل الآتية: "وإذا ركع فاركعوا ولا تركعوا حتى يركع" أي حتى يأخذ من الركوع لا حتى يفرغ منه كما يتبادر من اللفظ "وإذا قال: سمع الله لمنْ حمده فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد؛ وإذا سجد" أخذ في السجود "فاسجدوا ولا تسجدوا حتى يسجدَ وإذا صلى قائماً فصلُّوا قياماً، وإذا صلى قاعداً" لعذر "فصلوا قُعُوداً أَجمعين" هكذا بالنصب على الحال وهي رواية في البخاري وأكثر الروايات على "أجمعون" بالرفع تأكيداً لضمير الجمع "رواه أبو داود وهذا لفظه وأصله في الصحيحين".
إنما يفيد جعل الإمام مقصوراً على الاتصاف بكونه مؤتماً به لا يتجاوزه المؤتم إلى مخالفته.
والائتمام: الاقتداء والاتباع.
والحديث دل على أن شرعية الإمامة ليقتدى بالإمام، ومن شأن التابع والمأموم أن لا يتقدم متبوعه، ولا يساويه، ولا يتقدم عليه في موقفه، بل يراقب أحواله ويأتي على أثرها بنحو فعله، ومقتضى ذلك أن لا يخالفه في شيء من الأحوال، وقد فصل الحديث ذلك بقوله فإذا كبر إلى آخره.
ويقاس ما لم يذكر من أحواله كالتسليم على ما ذكر فمن خالفه في شيء مما ذكر فقد أثم ولا تفسد صلاته بذلك، إلا أنه إن خالف في تكبيرة الإحرام بتقديمها على تكبيرة الإمام فإنها لا تنعقد معه صلاته لأنه لم يجعله إماماً إذ الدخول بها بعده وهي عنوان الاقتداء به واتخاذه إماماً.
واستدل على عدم فساد الصلاة بمخالفته لإمامه لأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم توعد من سابق الإمام في ركوعه أو سجوده بأن الله يجعل رأسه رأس حمار ولم يأمره بإعادة صلاته ولا قال فإنه لا صلاة له.
ثم الحديث لم يشترط المساواة في النية فدل أنها إذا اختلفت نية الإمام والمأموم كأن ينوي أحدهما فرضاً والآخر نفلاً أو ينوي هذا عصراً والآخر ظهراً أنها تصح الصلاة جماعة وإليه ذهبت الشافعية. ـ ويأتي الكلام على ذلك في حديث جابر في صلاة معاذ ـ.
وقوله: "إذا قال سمع الله لمن حمده" يدل أنه الذي يقوله الإمام ويقول المأموم: اللهم ربنا لك الحمد، وقد ورد بزيادة الواو وورد بحذف اللهم والكل جائز، والأرجح العمل بزيادة اللهم وزيادة(2/22)
الواو لأنهما يفيدان معنى زائداً.
وقد احتج بالحديث من يقول إنه لا يجمع الإمام والمؤتم بين التسميع والتحميد وهم الهادية والحنفية، قالوا: ويشرع للإمام والمنفرد التسميع وقد قدمنا هذا.
وقال أبو يوسف ومحمد: يجمع بينهما الإمام والمنفرد ويقول المؤتم: سمع الله لمن حمده لحديث أبي هريرة أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يفعل ذلك، وظاهره منفرداً وإماماً فإن صلاته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مؤتماً نادرة.
ويقال عليه فأين الدليل على أنه يشمل المؤتم فإن الذي في حديث أبي هريرة هذا أنه يحمد.
وذهب الإمام يحيى والثوري والأوزاعي إلى أنه يجمع بينهما الإمام والمنفرد ويحمد المؤتم لمفهوم حديث الباب إذ يفهم من قوله: "فقولوا اللهم.." إلخ أنه لا يقول المؤتم إلا ذلك.
وذهب الشافعي إلى أنه يجمع بينهما المصلي مطلقاً مستدلاً بما أخرجه مسلم من حديث ابن أبي أوفى "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان إذا رفع رأسه من الركوع قال: سمع الله لمن حمده اللهم ربنا لك الحمد". الحديث قال: والظاهر عموم أحوال صلاته جماعة ومنفرداً وقد قال صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "صلوا كما رأيتموني أصلي" ولا حجة في سائر الروايات على الاقتصار إذ عدم الذكر في اللفظ لا يدل على عدم الشرعية، فقوله إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده لا يدل على نفي قول المؤتم سمع الله لمن حمده، وحديث ابن أبي أوفى في حكايته لفعله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم زيادة وهي مقبولة، لأن القول غير معارض لها.
وقد روى ابن المنذر هذا القول عن عطاء وابن سيرين وغيرهما فلم ينفرد به الشافعي ويكون قول سمع الله لمن حمده عند رفع رأسه وقوله ربنا لك الحمد عند انتصابه.
وقوله: "فصلوا قعوداً أجمعين" دليل أنه يجب متابعة الإمام في القعود لعذر وأنه يقعد المأموم مع قدرته على القيام. وقد ورد تعليله بأنه فعل فارس والروم أي القيام مع قعود الإمام فإنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "إن كدتم آنفاً لتفعلون فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم وهم قعود فلا تفعلوا" وقد ذهب إلى ذلك أحمد بن حنبل وإسحق وغيرهما.
وذهبت الهادوية ومالك وغيرهم إلى أنها لا تصح متابعة القاعد لا قائماً ولا قاعداً لقوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لا تختلفوا على إمامكم ولا تتابعوه في القعود" كذا في شرح القاضي ولم يسنده إلى كتاب ولا وجدت قوله: "ولا تتابعوه في القعود" في حديث فينظر.
وذهب الشافعي إلى أنها تصح صلاة القائم خلف القاعد ولا يتابعوه في القعود قالوا: لصلاة أصحاب رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في مرض موته قياماً حين خرج وأبو بكر قد افتتح الصلاة فقعد عن يساره فكان ذلك ناسخاً لأمره صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لهم بالجلوس في حديث أبي هريرة فإن ذلك كان في صلاته حين جحش وانفكت قدمه فكان هذا آخر الأمرين فتعين العمل به كذا قرره الشافعي.
وأجيب: بأن الأحاديث التي أمرهم فيها بالجلوس لم يختلف في صحتها ولا في سياقها. وأما صلاته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في مرض موته، فقد اختلف فيها هل كان إماماً أو مأموماً؟، والاستدلال بصلاته في مرض موته لا يتم إلا على أنه كان إماماً.
ومنها: أنه يحتمل أن الأمر بالجلوس للندب، وتقرير القيام قرينة على ذلك فيكون هذا جمعاً بين الروايتين خارجاً عن(2/23)
المذهبين جميعاً، لأنه يقتضي التخيير للمؤتم بين القيام والقعود.
ومنها أنه قد ثبت فعل ذلك عن جماعة من الصحابة بعد وفاته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أنهم أمّوا قعوداً أيضاً منهم أسيد بن حضير وجابر وأفتى به أبو هريرة قال ابن المنذر: ولا يحفظ عن أحد من الصحابة خلاف ذلك.
وأما حديث "لا يؤمن أحدكم بعدي قاعداً قوماً قياماً" فإنه حديث ضعيف أخرجه البيهقي والدارقطني من حديث جابر الجعفي عن الشعبي عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم. [تض]وجابر[/تض] ضعيف جداً وهو مع ذلك مرسل، قال الشافعي: قد علم من احتج به أنه لا حجة فيه لأنه مرسل، ومن رواية رجل يرغب أهل العلم عن الرواية عنه ـ يعني جابراً الجعفي ـ.
وذهب أحمد بن حنبل في الجمع بين الحديثين إلى أنه ابتدأ الإمام الراتب الصلاة قاعداً لمرض يرجى برؤه، فإنهم يصلون خلفه قعوداً، وإذا ابتدأ الإمام الصلاة قائماً لزم المأمومين أن يصلوا خلفه قياماً، سواء طرأ ما يقتضي صلاة إمامهم قاعداً أم لا، كما في الأحاديث التي في مرض موته، فإنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لم يأمرهم بالقعود لأنه ابتدأ إمامهم صلاته قائماً، ثم أمّهم صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في بقية الصلاة قاعداً، بخلاف صلاته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بهم في مرضه الأول فإنه ابتدأ صلاته قاعداً فأمرهم بالقعود وهو جمع حسن.
9- وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم رأى في أصحابه تأخراً فقال لهم: "تقدموا فائتموا بي وليأتم بكم من بعدكم" رواه مسلم" كأنهم تأخروا عن القرب والدنو منه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وقوله: "ائتموا بي" أي اقتدوا بأفعالي وليقتد بكم من بعدكم مستدلين بأفعالكم على أفعالي.
والحديث دليل على أنه يجوز اتباع من خلف الإمام ممن لا يراه ولا يسمعه كأهل الصف الثاني يقتدون بالأول، وأهل الصف الثالث بالثاني ونحوه أو بمن يبلغ عنه.
وفي الحديث حث على الصف الأول وكراهة البعد عنه. وتمام الحديث "لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله عز وجل".
10- وعن زيد بن ثابت قال: احتجر" هو بالراء المنع أي اتخذ شيئاً كالحجارة من الخصف وهو الحصير ويروى بالزاي أي اتخذ حاجزاً بينه وبين غيره أي مانعاً "رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم حجرة مخصفة فصلى فيها فتتبع إليه رجال وجاءوا يصلون بصلاته" الحديث وفيه "أَفضلُ صلاة المرءِ في بيته إلا المكتوبة" متفق عليه" وقد تقدم في شرح حديث جابر في باب صلاة التطوع.
وفيه دلالة على جواز فعل مثل ذلك في المسجد إذا لم يكن فيه تضييق على المصلين لأنه كان يفعله بالليل ويبسط بالنهار، وفي رواية مسلم "ولم يتخذه دائماً".
وقوله "فتتبع" من التتبع الطلب والمعنى طلبوا موضعه واجتمعوا إليه، وفي رواية البخاري "فثار إليه" وفي رواية له "فصلى فيها ليالي فصلى بصلاته ناس من أصحابه فلما علم بهم جعل يقعد فخرج إليهم فقال: قد عرفت الذي رأيت من صنيعكم فصلوا أيها الناس في بيوتكم فإن أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة" هذا لفظه، وفي مسلم قريب منه.
والمصنف ساق الحديث في أبواب الإمامة لإفادة شرعية الجماعة في النافلة وقد تقدم معناه في التطوّع.(2/24)
11 ـ وَعَنْ جَابر بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضيَ اللَّهُ عَنْهُما قال: صَلّى مُعَاذٌ بأَصْحَابه العشاءَ فطَوّلَ عَلَيْهَمْ فَقَال النّبيُّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "أتُريدُ يا مُعاذُ أَنْ تَكُونَ فَتّاناً؟ إذا أَممْتَ النّاسَ فَاقْرَأ بالشمس وَضُحَاهَا، وَسَبّحِ اسْم رَبِّكَ الأعْلى، وَاقْرَأ باسْم رَبِّكَ، وَالليّل إذا يغشى" مُتّفقٌ عَلَيْهِ واللّفظ لِمُسْلِمٍ.
والحديث في البخاري لفظ "أقبل رجلين بناضحين وقد جنح الليل فوافق معاذاً يصلي فترك ناضحيه وأقبل إلى معاذ فقرأ بسورة البقرة أو النساء فانطلق الرجل" بعد أن قطع الاقتداء بمعاذ وأتم صلاته منفرداً، وعليه بوب البخاري بقوله: "إذا طول الإمام وكان للرجل أي المأموم حاجة فخرج" "وبلغه أن معاذاً نال منه" وقد جاء ما قاله معاذ مفسراً بلفظ "فبلغ ذلك معاذاً فقال إنه منافق" "فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فشكا إليه معاذاً فقال النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: يا معاذ أفتان أنت؟ أو أفاتن ـ ثلاث مرات ـ فلولا صليت بسبح اسم ربك الأعلى، والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى، فإنه يصلي وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة" وله في البخاري ألفاظ غير هذه.
والمراد بفتان أي أتعذب أصحابك بالتطويل، وحمل ذلك على كراهة المأمومين للإطالة وإلا فإنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قرأ الأعراف في المغرب وغيرها. وكان مقدار قيامه في الظهر بالستين آية وقرأ بأقصر من ذلك. والحاصل أنه يختلف ذلك باختلاف الأوقات في الإمام والمأمومين.
والحديث دليل على صحة صلاة المفترض خلف المتنفل فإن معاذاً كان يصلي فريضة العشاء معه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ثم يذهب إلى أصحابه فيصليها بهم نفلاً. وقد أخرج عبد الرزاق والشافعي والطحاوي من حديث جابر بسند صحيح وفيه "هي له تطوع" وقد طول المصنف الكلام على الاستدلال بالحديث على ذلك في فتح الباري، وقد كتبنا فيه رسالة مستقلة جواب سؤال وأبَنّا فيها عدم نهوض الحديث على صحة صلاة المفترض خلف المتنفل.
والحديث أفاد أنه يخفف الإمام في قراءته وصلاته وقد عين صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مقدار القراءة ويأتي حديث "إذا أمّ أحدكم الناس فليخفف".
12- وعن عائشة رضي الله عنها في قصة صلاة رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بالناس وهو مريض قالت: فجاء حتى جلس عن يسار أبي بكر" هكذا في رواية البخاري في "باب الرجل يأتم بالإمام" تعيين مكان جلوسه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وأنه عن يسار أبي بكر، وهذا هو مقام الإمام. ووقع في البخاري في "باب حد المريض أن يشهد الجماعة" بلفظ "جلس إلى جنبه" ولم يعين فيه محل جلوسه، لكن قال المصنف: إنه عين المحل في رواية بإسناد حسين "أنه عن يساره" قلت: حيث قد ثبت في الصحيح في بعض رواياته فهي تبين ما أجمل في أخرى، وبه يتضح أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان إماماً "فكان" النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم "يصلي بالناس جالساً وأبو بكر" يصلي "قائماً، يقتدي أبو بكر بصلاة النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر. متفق عليه.
فيه دلالة على أنه يجوز وقوف الواحد عن يمين الإمام، وإن حضر معه غيره ويحتمل أنه صنع ذلك ليبلغ عنه أبو بكر،(2/25)
أو لكونه كان وإماماً أول الصلاة أو لكون الصف قد ضاق، أو لغير ذلك من المحتملات، ومع عدم الدليل على أنه فعل لواحد منها فالظاهر الجواز على الإطلاق.
وقولها: "يقتدي أبو بكر" يحتمل أن يكون ذلك الاقتداء على جهة الائتمام فيكون أبو بكر إماماً ومأموماً ويحتمل أن يكون أبو بكر إنما كان مبلغاً وليس بإمام.
واعلم أنه قد وقع الاختلاف في حديث عائشة وفي غيره هل كان النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إماماً أو مأموماً ووردت الروايات بما يفيد هذا وما يفيد هذا، لكنا قدمنا ظهور أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان الإمام، فمن العلماء من ذهب إلى الترجيح بين الروايات فرجح أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان الإمام لوجوه من الترجيح مستوفاة في فتح الباري. وفي الشرح بعض من ذلك. وتقدم في شرح الحديث التاسع بعض وجوه ترجيح خلافه.
ومن العلماء من قال بتعدد القصة وأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلى تارة إماماً وتارة مأموماً في مرض موته.
هذا: وقد استدل بحديث عائشة هذا وقولها: "يقتدي أبو بكر بصلاة النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر" أن أبا بكر كان مأموماً إماماً: وقد بوب البخاري على هذا فقال: "باب الرجل يأتم بالإمام ويأتم الناس بالمأموم".
قال ابن بطال: هذا يوافق قول مسروق والشعبي: أن الصفوف يؤم بعضها بعضاً خلافاً للجمهور.
قال المصنف: قال الشعبي فيمن أحرم قبل أن يرفع الصف الذي يليه رؤوسهم من الركعة أنه أدركها ولو كان الإمام رفع قبل ذلك لأن بعضهم لبعض أئمة.
فهذا يدل أنه يرى أنهم متحملون عن بعضهم بعضاً ما يتحمله الإمام. ويؤيد ما ذهب إليه قوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "تقدموا فأتموا بي وليأتم بكم من بعدكم" وقد تقدم.
وفي رواية مسلم "أن أبا بكر كان يسمعهم التكبير" دليل على أنه يجوز رفع الصوت بالتكبير لاسماع المأمومين فيتبعونه، وأنه يجوز للمقتدي اتباع صوت المكبر، وهذا مذهب الجمهور وفيه خلاف للمالكية.
قال القاضي عياض عن مذهبهم: إن منهم من يبطل صلاة المقتدي ومنهم من لا يبطلها ومنهم من قال إن أذن له بالإسماع صح الاقتداء به وإلا فلا، ولهم تفاصيل غير هذه ليس عليها دليل، وكأنهم يقولون في هذا الحديث إن أبا بكر كان هو الإمام ولا كلام أنه يرفع صوته لإعلام من خلفه.
13- وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "إذا أمَّ أَحدكم النّاس فليخفف فإن فيهم الصَّغير والكبير والضَّعيف وذا الحاجة" وهؤلاء يريدون التخفيف فيلاحظهم الإمام "فإذا صلى وحده فليصل كيف شاء" متفق عليه" مخففاً ومطولاً.
وفيه دليل على جواز تطويل المنفرد للصلاة في جميع أركانها ولو خشي خروج الوقت، وصححه بعض الشافعية، ولكنه معارض بحديث أبي قتادة "إنما التفريط أن تؤخر الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى" أخرجه مسلم فإذا تعارضت مصلحة المبالغة في الكمال بالتطويل، ومفسدة إيقاع الصلاة في غير وقتها كانت مراعاة ترك المفسدة أولى".
ويحتمل أنه إنما يريد بالمؤخر حتى يخرج الوقت من لم يدخل في الصلاة أصلاً حتى خرج، وأما من خرج وهو في الصلاة فلا يصدق عليه ذلك.(2/26)
14- وعن عمرو بن سلمة" بكسر اللام هو أبو يزيد من الزيادة كما قاله البخاري وغيره، وقال مسلم وآخرون: بُريد بضم الباء الموحدة وفتح الراء وسكون المثناة التحتية فدال مهملة هو: عمرو بن سلمة الجرمي بالجيم والراء مخفف قال ابن عبد البر: عمرو بن سلمة أدرك زمن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وكان يؤم قومه على عهد رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، لأنه كان أقرأهم للقرآن، وقيل إنه، قدم على النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مع أبيه، ولم يختلف في قدوم أبيه نزل عمرو البصرة وروى عنه أبو قلابة وعامر الأحول وأبو الزبير المكي "قال: قال أبي" أي سلمة بن نُفَيْع بضم النون أو ابن لأيْ بفتح اللام وسكون الهمزة على الخلاف في اسمه "جئتكم من عند النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم حقاً" نصب على صفة المصدر المحذوف أي نبوة حقاً أو أنه مصدر مؤكد للجملة المتضمنة إذ هو في قوة هو رسول الله حقاً فهو مصدر مؤكد لغيره "قال: "إذا حضرت الصلاة فليؤذن أَحدكم وليؤمكمْ أَكثركم قرآناً" قال: أي عمرو بن سلمة "فنظروا فلم يكن أحد أكثر مني قرآناً" وقد ورد بيان سبب أكثرية قرآنيته أنه كان يتلقى الركبان الذين كانوا يفدون إليه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ويمرون بعمرو وأهله فكان يتلقى منهم ما يقرأونه وذلك قبل إسلام أبيه وقومه "فقدموني بين أيديهم وأنا ابن ست أو سبع سنين. رواه البخاري وأبو داود والنسائي".
وفيه دلالة على أن الأحق بالإمامة الأكثر قرآناً ويأتي الحديث بذلك قريباً.
وفيه أن الإمامة أفضل من الأذان لأنه لم يشترط في المؤذن شرطاً.
وتقديمه وهو ابن سبع سنين دليل لما قاله الحسن البصري والشافعي وإسحاق من أنه لا كراهة في إمامة المميز.
وكرهها مالك والثوري.
وعن أحمد وأبي حنيفة روايتان والمشهور عنهما الإجزاء في النوافل دون الفرائض.
وقال بعدم صحتها الهادي والناصر وغيرهما قياساً على المجنون قالوا: ولا حجة في قصة عمرو هذه لأنه لم يرو أن ذلك كان من أمره صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ولا تقريره.
وأجيب بأن دليل الجواز وقوع ذلك في زمن الوحي ولا يقرر فيه على فعل ما لا يجوز، سيما في الصلاة التي هي أعظم أركان الإسلام، وقد نبه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بالوحي على القذى الذي كان في نعله، فلو كان إمامة الصبي لا تصح لنزل الوحي بذلك، وقد استدل أبو سعيد وجابر بأنهم كانوا يعزلون والقرآن ينزل.
والوفد الذين قدّموا عمراً كانوا جماعة من الصحابة قال ابن حزم: ولا نعلم لهم مخالفاً في ذلك، واحتمال أنه أمهم في نافلة يبعده سياق القصة فإنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم علمهم الأوقات للفرائض ثم قال لهم: "إنه يؤمكم أكثركم قرآناً" وقد أخرج أبو داود في سننه قال عمرو: "فما شهدت مشهداً في جرم ـ اسم قبيلة ـ إلا كنت إمامهم" وهذا يعم الفرائض والنوافل.
قلت: يحتاج من ادّعى التفرقة بين الفرض والنفل وأنه تصح إمامة الصبي في هذا دون ذلك إلى دليل.
ثم الحديث فيه دليل على القول بصحة صلاة المفترض خلف المتنفل كذا في الشرح وفيه تأمل.
15- وعن أبن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "يؤمُّ القوم أَقرؤهم لكتاب الله تعالى" الظاهر أن المراد أكثرهم له حفظاً وقيل أعلمهم بأحكامه(2/27)
والحديث الأول يناسب القول الأول "فإن كانوا في القراءَة سواءً فأَعلمهم بالسُّنة، فإن كانوا في السُّنة سواءً فأَقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواءً فأَقدمهم سِلْماً" أي إسلاماً، وفي رواية "سناً" عوضاً عن سلماً "ولا يؤمن الرجلُ الرجل في سلطانهِ، ولا يقعد في بيته على تكرمته" بفتح المثناة الفوقية وكسر الراء: الفراش ونَحوه مما يبسط لصاحب المنزل ويختص به "إلا بإذنه" رواه مسلم".
الحديث دليل على تقديم الأقرأ على الأفقه وهومذهب أبي حنيفة وأحمد.
وذهب الهادوية إلى أنه يقدم الأفقه على الأقرأ لأن الذي يحتاج إليه من القراءة مضبوط، والذي يحتاج إليه من الفقه غير مضبوط، وقد تعرض له في الصلاة أمور لا يقدر على مراعاتها إلا كامل الفقه، قالوا: ولهذا قدم صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أبا بكر على غيره مع قوله: "أقرؤكم أبيّ" ، قالوا: والحديث خرج على ما كان عليه حال الصحابة من أن الأقرأ هو الأفقه وقد قال[اث] ابن مسعود[/اث]: ما كنا نتجاوز عشر آيات حتى نعرف حكمها وأمرها ونهيها.
ولا يخفى أنه يبعد هذا قوله: "فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة" فإنه دليل على تقديم الأقرأ مطلقاً، والأقرأ على ما فسروه به هو الأعلم بالسنة فلو أريد به ذلك لكان القسمان قسماً واحداً.
وقوله: "فأقدمهم هجرة" هو شامل لمن تقدم هجرة سواء ما كان في زمنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أو بعده كمن يهاجر في دار الكفار إلى دار الإسلام. وأما حديث "لا هجرة بعد الفتح" فالمراد من مكة إلى المدينة لأنهما جميعاً صارا دار إسلام ولعله يقال: وأولاد المهاجرين لهم حكم آبائهم في التقديم.
وقوله "سلماً" أي من تقدم إسلامه يقدم على من تأخر.
وكذا رواية "سناً" أي الأكبر في السن وقد ثبت في حديث مالك بن الحويرث "ليؤمكم أكبركم".
ومن الذين يستحقون التقديم قريش لحديث "قدموا قريشاً": قال الحافظ المصنف: إنه قد جمع طرقه في جزء كبير.
ومنهم الأحسن وجهاً لحديث ورد به وفيه راو ضعيف.
وأما قوله: "ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه" فهو نهي عن تقديم غير السلطان عليه والمراد ذو الولاية سواء كان السلطان الأعظم أو نائبه وظاهره وإن كان غيره أكثر قرآناً وفقهاً فيكون هذا خاصاً، وأول الحديث عام، ويلحق بالسلطان صاحب البيت لأنه ورد في صاحب البيت بخصوصه بأنه الأحق. أخرج الطبراني من حديث ابن مسعود: "لقد علمت أن من السنة أن يتقدم صاحب البيت". قال المصنف: رجاله ثقات.
وأما إمام المسجد فإن كان عن ولاية من السلطان أو عامله فهو داخل في حكم السلطان وإن كان باتفاق من أهل المسجد فيحتمل أنه يصير بذلك أحق وأنها ولاية خاصة، وكذلك النهي عن القعود مما يختص به السلطان في منزله أو الرجل من فراش وسرير ونحوه ولا يقعد فيه أحد إلا بإذنه، ونحوه قوله:
16- ولابن ماجه من حديث جابر رضي الله عنه "ولا تؤمنَّ امرأة رجلا، ولا أعرابيٌّ مهاجراً، ولا فاجرٌ مؤمناً" وإسناده واه".
فيه عبد الله بن محمد العدوي عن علي بن زيد بن جدعان، والعدوي، اتهمه وكيع بوضع الحديث، وشيخه ضعيف، وله طرق أخرى فيها عبد الملك ابن حبيب، وهو متهم بسرقة الحديث وتخليط الأسانيد.
وهو يدل على(2/28)
أن المرأة لا تؤم الرجل وهو مذهب الهادوية والحنفية والشافعية وغيرهم.
وأجاز المزني وأبو ثور إمامة المرأة.
وأجاز الطبري إمامتها في التراويح إذا لم يحضر من يحفظ القرآن، وحجتهم حديث أمِّ ورقة وسيأتي ويحملون هذا النهي على التنزيه أو يقولون الحديث ضعيف.
ويدل أيضاً على أنه لا يؤم الأعرابي مهاجراً ولعله محمول على الكراهة إذ كان في صدر الإسلام.
ويدل أيضاً على أنه لا يؤم الفاجر وهو المنبعث في المعاصي مؤمناً، وإلى هذا ذهبت الهادوية فاشترطوا عدالة من يصلي خلفه، وقالوا: لا تصح إمامة الفاسق.
وذهبت الشافعية والحنفية إلى صحة إمامته مستدلين بما يأتي من حديث ابن عمر وغيره، وهي أحاديث كثيرة دالة على صحة الصلاة خلف كل برّ وفاجر إلا أنها كلها ضعيفة وقد عارضها حديث: "لا يؤمنكم ذو جرأة في دينه". ونحوه، وهي أيضاً ضعيفة، قالوا: فلما ضعفت الأحاديث من الجانبين رجعنا إلى، الأصل وهي أن من صحت صلاته صحت إمامته.
وأيّد ذلك فعل الصحابة فإنه أخرج البخاري في التاريخ عن عبد الكريم أنه قال: "أدركت عشرة من أصحاب محمد صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يصلون خلف أئمة الجور".
ويؤيده أيضاً حديث مسلم: "وكيف أنت إذا كان عليكم أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها أو يميتون الصلاة عن وقتها؟ قال: قلت: فما تأمرني؟ قال: صل الصلاة لوقتها فإن أدركتها معهم فصل فإنها لك نافلة". فقد أذن بالصلاة خلفهم وجعلها نافلة لأنهم أخرجوها عن وقتها،وظاهره أنهم لو صلوها في وقتها لكان مأموراً بصلاتها خلفهم فريضة.
17- وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "رصُّوا" أي في صلاة الجماعة بضم الراء والصاد المهملة من رص البناء "صُفوفكمُ" بانضمام بعضكم إلى بعض "وقاربوا بينها" أي بين الصفوف "وحاذوا" أي يساوي بعضكم بعضاً في الصف "بالأعناق" رواه أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان" تمام الحديث من سنن أبي داود "فوالذي نفسي بيده إني لأرى الشياطين تدخل في خلل الصف كأنها الحذف" بفتح الحاء المهملة والذال المعجمة هي صغار الغنم.
وأخرج الشيخان وأبو داود من حديث النعمان بن بشير قال: أقبل رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على الناس بوجهه فقال: "أقيموا صفوفكم ثلاثاً والله لتقيمنّ صفوفكم أو ليخالفنّ الله بين قلوبكم" قال فرأيت الرجل يلزق منكبه بمنكب صاحبه وكعبه بكعبه" وأخرج[اث] أبو داود[/اث] عنه أيضاً قال: "كان النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يسوّينا في الصفوف كما يقوّم القداح حتى إذا ظن أن قد أخذنا ذلك عنه وفقهنا: أقبل ذات يوم بوجهه إذا رجل منتبذ بصدره فقال: "لتسونّ صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم" وأخرج أيضاً من حديث [اث]البراء بن عازب[/اث] رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يتخلل الصف من ناحية إلى ناحية يمسح صدورنا ومناكبنا ويقول: "لا تختلفوا فتختلف قلوبكم".
وهذه الأحاديث والوعيد الذي فيها دالة على وجوب ذلك وهو مما تساهل فيه الناس، كما تساهلوا فيما يفيده حديث أنس عنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم "أتموا الصف المقدم ثم الذي يليه فما كان من نقص فليكن في الصف المؤخر" أخرجه أبو داود؛ فإنك ترى الناس في المسجد يقومون للجماعة وهم لا يملؤن الصف الأول لو قاموا فيه فإذا أقيمت الصلاة يتفرقون صفوفاً على اثنين وعلى(2/29)
ثلاثة ونحوه. وأخرج أبو داود من حديث جابر بن سمرة قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربهم؟ قلنا: وكيف تصف الملائكة عند ربهم؟ قال: يتمون الصفوف المقدمة ويتراصون في الصف" .
وورد في سدّ الفُرج في الصفوف أحاديث. كحديث ابن عمر "ما من خطوة أعظم أجراً من خطوة مشاها الرجل في فرجة في الصف فسدّها" أخرجه الطبراني في الأوسط، وأخرج أيضاً فيه من حديث عائشة قال صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "من سدّ فرجة في صف رفعه الله بها درجة وبنى له بيتاً في الجنة" قال الهيثمي: فيه مسلم بن خالد الزنجي وهو ضعيف وثقه ابن حبان وأخرج البزار من حديث أبي جحيفة عنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم "من سد فرجة في الصف غفر له" قال الهيثمي: إسناده حسن ويغني عنه "رصوا صفوفكم" الحديث، إذ الفرج إنما تكون من عدم رصهم الصفوف.
18- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: خير صفوف الرجال أَوَّلها" أي أكثرها أجراً وهو الصف الذي يصلي الملائكة على من صلى فيه كما يأتي "وشرُّها آخرها" أقلها أجراً "وخير صفوف النساء آخرها وشرُّها أوَّلها" رواه مسلم" ورواه أيضاً البزار والطبراني في الكبير والأوسط.
والأحاديث في فضائل الصف الأول واسعة. أخرج أحمد ـ قال الهيثمي: رجاله موثقون ـ والطبراني في الكبير من حديث أبي أمامة قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول" قالوا: يا رسول الله وعلى الثاني؟ قال: "وعلى الثاني". وأخرج أحمد والبزار ـ قال[اث] الهيثمي[/اث]: برجال ثقات ـ من حديث[اث] النعمان بن بشير[/اث] قال: سمعت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم استغفر للصف الأول ثلاثاً، وللثاني مرتين، وللثالث مرة". قال الهيثمي: فيه[تض] أيوب بن عتبة[/تض] ضعف من قبل حفظه.
ثم قد ورد في ميمنة الصف الأول ومسامتة الإمام وأفضليته على الأيسر أحاديث، فأخرج الطبراني في الأوسط من حديث أبي بردة قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إن استطعت أن تكون خلف الإمام وإلا فعن يمينه" قال الهيثمي: فيه من لم أجد له ذكراً. وأخرج أيضاً في الأوسط والكبير من حديث[اث] ابن عباس[/اث]: "عليكم بالصف الأول وعليكم بالميمنة وإياكم والصف بين السواري" قال الهيثمي: فيه[تض] إسماعيل بن مسلم[/تض] المكي ضعيف.
واعلم أن الأحق بالصف الأول أولو الأحلام والنّهى، فقد أخرج البزار من حديث عامر بن ربيعة قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "ليليني منكم أهل الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم" قال الهيثمي: فيه عاصم [تض]ابن عبيد الله العمري[/تض] والأكثر على تضعيفه واختلف في الاحتجاج به: وأخرجه مسلم والأربعة من حديث ابن مسعود بزيادة "ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم وإياكم وهيشات الأسواق".
وفي الباب أحاديث غيره.
وفي حديث الباب دلالة على جواز اصطفاف النساء صفوفاً، وظاهره سواء كانت صلاتهن مع الرجال أو مع النساء، وقد علل خيرية آخر صفوفهن بأنهن عند ذلك يبعدن عن الرجال وعن رؤيتهم وسماع كلامهم إلا أنها علة لا تتم(2/30)
إلا إذا كانت صلاتهن مع الرجال، وإما إذا صلين وإمامتهن امرأة فصفوفهن كصفوف الرجال أفضلها أولها.
19- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: صليت مع رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ذات ليلة" هي ليلة مبيته عنده المعروفة "فقمت عن يساره فأخذ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم برأسي من ورائي فجعلني عن يمينه . متفق عليه".
دل على صحة صلاة المتنفل بالمتنفل، وعلى أن موقف الواحد مع الإمام عن يمينه، بدليل الإدارة، إذ لو كان اليسار موقفاً له لما أداره في الصلاة.
وإلى هذا ذهب الجماهير، وخالف النخعي فقال: إذا كان الإمام وواحد، قام الواحد خلف الإمام، فإن ركع الإمام قبل أن يجيء أحد قام عن يمينه، أخرجه سعيد بن منصور، ووجه بأن الإمامة مظنة الاجتماع فاعتبرت في موقف المأموم حتى يظهر خلاف ذلك.
قيل: ويدل على صحة صلاة من قام عن يسار الإمام لأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لم يأمر ابن عباس بالإعادة، وفيه أنه يجوز أنه لم يأمره لأنه معذور بجهله، أو بأنه ما كان قد أحرم بالصلاة.
ثم قوله: "فجعلني عن يمينه" ظاهر في أنه قام مساوياً له، وفي بعض ألفاظه "فقمت إلى جنبه".
وعن بعض أصحاب الشافعي أنه يستحب أن يقف المأموم دونه قليلاً. إلا أنه قد أخرج ابن جريج قال: قلنا لعطاء: الرجل يصلي مع الرجل أين يكون منه؟ قال: إلى شقه، قلت: أيحاذيه حتى يصف معه لا يفوت أحدهما الآخر؟ قال: نعم: قلت: بحيث أن لا يبعد حتى يكون بينهما فرجه، قال: نعم. ومثله في الموطأ عن عمر من حديث ابن مسعود أنه صف معه فقربه حتى جعله حذاءه عن يمينه.
20- وعن أنس رضي الله عنه قال: صلى رسول صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فقمت ويتيم خلفه" فيه العطف على المرفوع المتصل من دون تأكيد ولا فصل وهو صحيح على مذهب الكوفيين، واسم اليتيم ضميره وهو جدّ حسين ابن عبد الله بن ضميرة "وأمّ سليم" هي أمّ أنس واسمها مليكة مصغراً "خلفنا" متفق عليه واللفظ للبخاري".
دل الحديث على صحة الجماعة في النفل.
وعلى صحة الصلاة للتعليم والتبرك كما تدل عليه القصة.
وعلى أن مقام الاثنين خلف الإمام.
وعلى أن الصغير يعتد بوقوفه ويسد الجناح وهو الظاهر من لفظ اليتيم إذ لا يتم بعد الاحتلام.
وعلى أن المرأة لا تصف مع الرجال وأنها تنفرد في الصف، وإن عدم امرأة تنضم إليها عذر في ذلك، فإن انضمت المرأة مع الرجل أجزأت صلاتها لأنه ليس في الحديث إلا تقريرها على التأخر وأنه موقفها، وليس فيه دلالة على فساد صلاتها لو صلت في غيره.
وعند الهادوية أنها تفسد عليها وعلى من خلفها وعلى من في صفها إن علموا.
وذهب أبو حنيفة إلى فساد صلاة الرجل دون المرأة ولا دليل على الفساد في الصورتين.
21- وعن أبي بكرة رضي الله عنه أنه انتهى إلى النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وهو راكع فركع قبل أن يصل إلى الصف فذكر ذلك للنبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فقال: "زادك الله حرْصاً" أي على طلب الخير "ولا تعد"" بفتح المثناة الفوقية من العود "رواه البخاري وزاد أبو داود في(2/31)
"فركع دون الصف ثم مشى إلى الصف"".
الحديث يدل على أن من وجد الإمام راكعاً فلا يدخل في الصلاة حتى يصل الصف لقوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم "ولا تعد".
وقيل: بل يدل على أنه يصح منه ذلك لأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لم يأمره بالإعادة لصلاته، فدل على صحتها، قلت: لعله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لم يأمره لأنه كان جاهلاً للحكم والجهل عذر.
وروى الطبراني في الأوسط من رواية عطاء عن ابن الزبير ـ قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح ـ أنه قال: "إذا دخل أحدكم المسجد والناس ركوع فليركع حين يدخل ثم يدب راكعاً حتى يدخل في الصف فإن ذلك السنة". قال عطاء: قد رأيته يصنع ذلك. قال ابن جريج: وقد رأيت عطاء يصنع ذلك.
قلت: وكأنه مبني على أن لفظ "ولا تُعِدْ" بضم المثناة الفوقية من الإعادة أي زادك الله حرصاً على طلب الخير ولا تعد صلاتك فإنها صحيحة.
وروى بسكون العين المهملة من العدو وتؤيده رواية ابن السكن من حديث أبي بكرة بلفظ: أقيمت الصلاة فانطلقت أسعى حتى دخلت في الصف فلما قضى الصلاة قال: من الساعي آنفاً؟ قال أبو بكرة: فقلت: أنا، قال صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "زادك الله حرصاً ولا تَعْد".
والأقرب رواية أن "لا تَعُد" من العود أي لا تعد ساعياً إلى الدخول قبل وصولك الصف فإنه ليس في الكلام ما يشعر بفساد صلاته حتى يفتيه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بأنه لا يعيدها بل قوله زادك الله حرصاً يشعر بإجزائها. أو "لا تعْدُ" من العدو.
22- وعن وابِصَة" بفتح الواو وكسر الموحدة فصاد مهملة وهو أبو قرصافة بكسر القاف وسكون الراء فصاد مهملة وبعد الألف فاء "ابن مِعْبد رضي الله عنه" بكسر الميم وسكون العين المهملة فدال مهملة وهو ابن مالك من بني أسد بن خزيمة الأنصاري الأسدي نزل وابصة الكوفة ثم تحول إلى الحيرة ومات بالرقة "أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم رأى رجلاً يصلي خلف الصف وحده فأمره أن يعيد الصلاة. رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه وصححه ابن حبان".
فيه دلالة على بطلان صلاة من صلى خلف الصف وحده، وقد قال ببطلانها النخعي وأحمد.
وكان الشافعي يضعف هذا الحديث ويقول: لو ثبت هذا الحديث لقلت به، قال البيهقي: الاختيار أن يتوقى ذلك لثبوت الخبر المذكور.
ومن قال بعدم بطلانها استدل بحديث أبي بكرة وأنه لم يأمره صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بالإعادة، مع أنه أتى ببعض الصلاة خلف الصف منفرداً، قالوا: فيحمل الأمر بالإعادة ههنا على الندب.
قيل: والأولى أن يحمل حديث أبي بكرة على العذر وهو خشية الفوات مع انضمامه بقدر الإمكان، وهذا لغير عذر في جميع الصلاة.
"قلت": وأحسن منه أن يقال هذا لا يعارض حديث أبي بكرة بل يوافقه وإنما لم يأمر صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أبا بكرة بالإعادة لأنه كان معذوراً بجهله ويحمل أمره بالإعادة لمن صلى خلف الصف بأنه كان عالماً بالحكم ويدل على البطلان أيضاً ما تضمنه قوله:
23- وله" أي لابن حبان "عن طلق بن علي رضي الله عنه" الذي سلف ذكره " "لا صلاة لمنفرد خلف الصَّفِّ" " فإن النفي ظاهر في نفي الصحة "وزاد الطبراني في حديث وابصة "ألا دخلت" أيها المصلي منفرداً عن الصف "معَهُمْ" أي في الصف "أو اجْتررت(2/32)
رجُلا" أي من الصف فينضم إليك وتمام حديث الطبراني "إن ضاق بك المكان أعد صلاتك فإنه لا صلاة لك" وهو في مجمع الزوائد من رواية ابن عباس "إذا انتهى أحدكم إلى الصف وقد تم فليجذب إليه رجلاً يقيمه إلى جنبه" وقال: رواه الطبراني في الأوسط وقال: لا يروى عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إلا بهذا الإسناد، وفيه[تض] "السري بن إبراهيم"[/تض] وهو ضعيف جداً؛ ويظهر من كلام مجمع الزوائد أن في حديث وابصة؛ السري بن إسماعيل وهو ضعيف، والشارح ذكر أن السري في رواية الطبراني التي فيها الزيادة إلا أنه قد أخرج أبو داود في المراسيل من رواية مقاتل بن حيان مرفوعاً "إذا جاء أحدكم فلم يجد موضعاً فليختلج إليه رجلاً من الصف فليقم معه فما أعظم أجر المختلج" وأخرج الطبراني في الأوسط من حديث ابن عباس "أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أمر الآتي وقد تمت الصفوف بأن يجتذب إليه رجلاً يقيمه إلى جنبه" ، وإسناده واه.
24- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إذا سمعتم الإقامة" أي للصلاة "فامشوا إلى الصَّلاة وعليكم السكينة" قال النووي: السكينة التأني في الحركات واجتناب العبث "والوقار" في الهيئة كغض الطرف وخفض الصوت وعدم الالتفات، وقيل معناهما واحد وذكر الثاني تأكيداً وقد نبه في رواية مسلم على الحكمة في شرعية هذا الأدب بقوله في آخر حديث أبي هريرة هذا "فإن أحدكم إذا كان يعمد إلى الصلاة فإنه في صلاة" أي فإنه في حكم المصلي، فينبغي اعتماد ما ينبغي للمصلي اعتماده واجتناب ما ينبغي له اجتنابه "ولا تسرعوا فما أدركْتُم" من الصلاة مع الإمام "فصلوا وما فاتكم فأتموا" متفق عليه واللفظ للبخاري".
فيه الأمر بالوقار وعدم الإسراع في الإتيان إلى الصلاة، وذلك لتكثير الخطأ فينال فضيلة ذلك فقد ثبت عند مسلم من حديث جابر "إن بكل خطوة يخطوها إلى الصلاة درجة" وعند أبي داود مرفوعاً "إذا توضأ أحدكم فأحسن الوضوء ثم خرج إلى الصلاة لم يرفع قدمه اليمنى إلا كتب الله له حسنة ولم يضع قدمه اليسرى إلا حط الله عنه سيئة فليقرب أحدكم أو ليبعد فإن أتى المسجد فصلى في جماعة غفر له، فإن جاء وقد صلوا بعضاً وبقي بعض فصلى ما أدرك وأتم ما بقي كان كذلك وإن أتى المسجد وقد صلوا فأتم الصلاة، كان كذلك".
وقوله "فما أدركتم فصلوا" جواب شرط محذوف أي: إذا فعلتم ما أمرتم به من ترك الإسراع ونحوه فما أدركتم فصلوا.
وفيه دلالة على أن فضيلة الجماعة يدركها ولو دخل مع الإمام في أي جزء من أجزاء الصلاة ولو دون ركعة وهو قول الجمهور.
وذهب آخرون إلى أنه لا يصير مدركاً لها إلا بإدراك ركعة لقوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدركها" وسيأتي في الجمعة اشتراط إدراك ركعة ويقاس عليها غيرها.
وأجيب بأن ذلك في الأوقات لا في الجماعة وبأن الجمعة مخصوصة فلا يقاس عليها.
واستدل بحديث الباب على صحة الدخول مع الإمام في أي حالة أدركه عليها، وقد أخرج ابن أبي شيبة مرفوعاً "من وجدني راكعاً أو قائماً أو ساجداً فليكن معي على حالتي التي أنا عليها".
قلت: وليس فيه دلالة على اعتداده بما أدركه مع الإمام، ولا على(2/33)
إحرامه في أي حالة أدركه عليها، بل فيه الأمر بالكون معه، وقد أخرج الطبراني في الكبير برجال موثقين ـ كما قال الهيثمي ـ عن علي وابن مسعود قالا: "من لم يدرك الركعة فلا يعتد بالسجدة" وأخرج أيضاً في الكبير ـ قال الهيثمي أيضاً برجال موثقين ـ من حديث زيد بن وهب قال: دخلت أنا وابن مسعود المسجد والإمام راكع فركعنا، ثم مشينا حتى استوينا بالصف فلما فرغ الإمام قمت أقضي فقال: قد أدركته.
وهذه آثار موقوفة، وفي الآخر دليل ـ أي مأنوس ـ بما ذهب، وهو أحد احتمالات حديث أبي بكرة وإلا فإنها آثار موقوفة ليست بأدلة على ما ذهب إليه ابن الزبير وقد تقدم.
وورد في بعض الروايات حديث الباب بلفظ "فاقضوا" عوض "أتموا" والقضاء يطلق على أداء الشيء فهو في معنى "أتموا" فلا مغايرة.
ثم قد اختلف العلماء فيما يدركه اللاحق مع إمامه هل هي أول صلاته أو آخرها؟ والحق أنها أولها وقد حققناه في حواشي ضوء النهار.
واختلف فيما إذا أدرك الإمام راكعاً فركع معه هل تسقط قراءة تلك الركعة عند من أوجب الفاتحة فيعتد بها أو لا تسقط فلا يعتد بها؟ قيل: يعتد بها لأنه قد أدرك الإمام قبل أن يقيم صلبه، وقيل: لا يعتد بها لأنه فاتته الفاتحة وقد بسطنا القول في ذلك في مسألة مستقلة وترجح عندنا الإجزاء.. ومن أدلته حديث أبي بكرة حيث ركع وهم ركوع، ثم أقره صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على ذلك وإنما نهاه عن العودة إلى الدخول قبل الانتهاء إلى الصف كما عرفت.
25- وعن أبيّ بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "صلاة الرَّجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده" أي أكثر أجراً من صلاته منفرداً "وصلاتهُ مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كان أكثر فهو أحبُّ إلى الله عزَّ وجلَّ" رواه أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان" وأخرجه ابن ماجه، وصححه ابن السكن والعقيلي والحاكم، وذكر الاختلاف فيه، وأخرجه البزار والطبراني بلفظ "صلاة الرجلين يؤم أحدهما صاحبه أزكى عند الله من صلاة مائة تترى".
وفيه دلالة على أن أقل صلاة الجماعة إمام ومأموم، ويوافقه ما أخرجه ابن ماجه من حديث أبي موسى "اثنان فما فوقهما جماعة" ورواه البيهقي أيضاً من حديث أنس وفيهما ضعف.
وبوَّب البخاري "باب اثنان فما فوقهما جماعة" واستدل بحديث مالك ابن الحويرث "إذا حضرت الصلاة فأذنا ثم أقيما ثم ليؤمكما أكبركما". وقد روى أحمد من حديث أبي سعيد: أنه دخل المسجد رجل وقد صلى النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بأصحابه الظهر فقال له النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "ما حبسك يا فلان عن الصلاة"؟ فذكر شيئاً اعتل به؛ قال: فقام يصلي، فقال رسول اللهصَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه؟" فقام رجل معه. قال الهيثمي رجاله رجال الصحيح.
26- وعن أم ورقة رضي الله عنها" بفتح الواو والراء والقاف هي أم ورقة بنت نوفل الأنصارية،(2/34)
وقيل بنت عبد الله بن الحرث بن عويمر كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يزورها ويسميها الشهيدة، وكانت قد جمعت القرآن، وكانت تؤم أهل دارها، ولما غزا رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بدراً قالت: يا رسول الله ائذن لي في الغزو معك ـ الحديث ـ وأمرها أن تؤم أهل دارها وجعل لها مؤذناً يؤذن، وكان لها غلام وجارية فدبرتهما، وفي الحديث أن الغلام والجارية قاما إليها في الليل بقطيفة لها حتى ماتت، وذهبا فأصبح عمر فقام في الناس فقال: من عنده من علم هذين أو من رآهما فليجيء بهما فوجدا فأمر بهما فصلبهما وكانا أول مصلوب بالمدينة "أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أمرها أن تؤم أهل دارها . رواه أبو داود وصححه ابن خزيمة".
والحديث دليل على صحة إمامة المرأة أهل دارها، وإن كان فيهم الرجل، فإنه كان لها مؤذن وكان شيخاً كما في الرواية، والظاهر أنها كانت تؤمه وغلامها وجاريتها، وذهب إلى صحة ذلك أبو ثور والمزني والطبري.
وخالف في ذلك الجماهير.
وأما إمامة الرجل النساء فقط فقد روى عبد الله بن أحمد من حديث أبي بن كعب: أنه جاء إلى النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فقال: يا رسول الله عملت الليلة عملاً قال: "ما هو؟" قال: نسوة معي في الدار، قلن إنك تقرأ ولا نقرأ فصلّ بنا، فصليت ثمانياً والوتر، فسكت النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: فرأينا أن سكوته رضا". قال الهيثمي: في إسناده من لم يُسَمَّ قال: ورواه أبو يعلى والطبراني في الأوسط وإسناده حسن.
27- وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم استخلف ابن أمّ مكتوم" وتقدم اسمه في الأذان "يؤمّ الناس وهو أعمى . رواه أحمد وأبو داود" في رواية لأبي داود أنه استخلفه مرتين وهو في الأوسط للطبراني من حديث عائشة: استخلف النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ابن أمّ مكتوم على المدينة مرتين يؤمّ الناس.
والمراد استخلافه في الصلاة وغيرها، وقد أخرجه الطبراني بلفظ في الصلاة وغيرها وإسناده حسن وقد عدّت مرات الاستخلاف له فبلغت ثلاث عشرة مرة، ذكره في الخلاصة.
والحديث دليل على صحة إمامة الأعمى من غير كراهة في ذلك.
28 ـ "ونحوه" أي حديث أنس "لابن حبان عن عائشة رضي الله عنها" تقدم أنه أخرجه الطبراني في الأوسط.
29- وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: " صلوا على من قال لا إله إلا الله" أي صلاة الجنازة "وصلوا خلف من قال لا إله إلا الله" رواه [تض]الدارقطني[/تض] بإسناد ضعيف" قال في البدر المنير: هذا الحديث من جميع طرقه لا يثبت.
وهو دليل على أنه يصلي عن من قال كلمة الشهادة وإن لم يأت بالواجبات وذهب إلى هذا زيد بن علي وأحمد بن عيسى وذهب إليه أبو حنيفة إلا أنه استثنى قاطع الطريق والباغي.
وللشافعي أقوال في قاطع الطريق إذا صلب. والأصل أن من قال كلمة الشهادة فله ما للمسلمين ومنه صلاة الجنازة عليه. ويدل له حديث: الذي قتل نفسه بمشاقص فقال صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "أما أنا فلا أصلي عليه" ولم ينههم عن الصلاة عليه، ولأن عموم شرعية(2/35)
صلاة الجنازة لا يخص منه أحد من أهل كلمة الشهادة إلا بدليل.
فأما الصلاة خلف من قال لا إله إلا الله فقد قدّمنا الكلام في ذلك وأنه لا دليل على اشتراط العدالة وأن من صحت صلاته صحت إمامته.
30ـ وَعَنْ عليَ رضيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: قالَ النّبيُّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إذا أَتى أَحَدُكمُ الصَّلاةَ والإمَامُ عَلى حَالٍ فَلْيَصْنعْ كما يَصْنَعُ الإمامُ" رَوَاهُ التِّرمذيُّ بإسنادٍ ضعيفٍ.
أخرجه الترمذي من حديث علي ومعاذ وفيه ضعف وانقطاع وقال: لا نعلم أحداً أسنده إلا من هذا الوجه وقد أخرجه أبو داود من حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: حدّثنا أصحابنا. الحديث. وفيه أنّ معاذاً قال: لا أراه على حال إلا كنت عليها. وبهذا يندفع الانقطاع؛ إذا الظاهر أن الراوي لعبد الرحمن غير معاذ بل جماعة من الصحابة والانقطاع إنما ادعي بين عبد الرحمن ومعاذ، قالوا: لأن عبد الرحمن لم يسمع من معاذ وقد سمع من غيره من الصحابة وقال هنا "أصحابنا" والمراد به الصحابة رضي الله عنهم.
وفي الحديث دلالة على أنه يجب على من لحق بالإمام أن ينضم إليه في أي جزء كان من أجزاء الصلاة: فإذا كان الإمام قائماً أو راكعاً، فإنه يعتد بما أدركه معه كما سلف، فإذا كان قاعداً أو ساجداً قعد بقعود وسجد بسجوده ولا يعتد بذلك، وتقدم ما يؤيده من حديث ابن أبي شيبة. "ومن وجدني قائماً أو راكعاً أو ساجداً فليكن معي على حالتي التي أنا عليها".
وأخرج ابن خزيمة مرفوعاً عن أبي هريرة "إذا جئتم ونحن سجود فاسجدوا ولا تعدّوها شيئاً ومن أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة" وأخرج أيضاً فيه مرفوعاً عن أبي هريرة: "ومن أدرك ركعة من الصلاة قبل أن يقيم الإمام صلبه فقد أدركها" وترجم له "باب ذكر الوقت الذي يكون فيه المأموم مدركاً للركعة إذا ركع إمامه".
وقوله "فليصنع كما يصنع الإمام" ليس صريحاً أنه يدخل معه بتكبيرة الإحرام بل ينضم إليه إما بها إذا كان قائماً أو راكعاً فيكبر اللاحق من القيام ثم يركع أو بالكون معه فقط ومتى قام كبر للإحرام، وغايته أنه يحتمل ذلك إلا أن شرعية تكبيرة الإحرام حال القيام للمنفرد والإمام، يقضي أن لا تجزيء إلا كذلك، وذلك أصرح من دخولها بالاحتمال والله أعلم.
"فائدة في الأعذار في ترك الجماعة": أخرج الشيخان عن ابن عمر عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "أنه كان يأمر المنادي فينادي صلوا في رحالكم في الليلة الباردة وفي الليلة المطيرة في السفر". وعن جابر: "خرجنا مع رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في سفر فمطرنا فقال ليصل من شاء منكم في رحله" . رواه مسلم وأبو داود والترمذي وصححه. وأخرجه الشيخان عن ابن عباس: أنه قال لمؤذنه في يوم مطير إذا قلت: أشهد أن محمداً رسول الله فلا تقل: حي على الصلاة. قل: صلوا في بيوتكم. قال: فكأن الناس استنكروا ذلك فقال: أتعجبون من ذا؟ فقد فعل ذا من هو خير مني يعني ـ النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ـ وعند مسلم: أن ابن عباس أمر مؤذنه في يوم جمعة في يوم مطير بنحوه.
وأخرج البخاري عن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إذا كان أحدكم على الطعام فلا يعجل حتى يقضي حاجته منه(2/36)
وإن أقيمت الصلاة".
وأخرج أحمد ومسلم من حديث عائشة قالت: سمعت النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقول: "لا صلاة بحضرة طعام ولا هو يدافع الأخبثين" .
وأخرج البخاري عن أبي الدرداء قال: "من فقه الرجل إقباله على حاجته حتى يقبل على صلاته وقلبه فارغ".(2/37)
باب صلاة المسافر والمريض
1- عن عائشة رضي الله عنها قالت: أول ما فرضت الصلاة" ما عدا المغرب "ركعتين" أي حضراً وسفراً "فأقرت" أي أقر الله "صلاة السفر" بإبقائها ركعتين "وأتمت صلاة الحضر" ما عدا المغرب، يزيد في الثلاث الصلوات ركعتين، والمراد بأتمت: زيد فيها حتى كانت تامة بالنظر إلى صلاة السفر متفق عليه:، وللبخاري" وحده عن عائشة "ثم هاجر" أي النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم "ففرضت أربعاً" أي صارت أربعاً بزيادة اثنتين. "وأقرت صلاة السفر على الأول" أي على الفرض الأول "زاد أحمد: إلا المغرب" أي زاده من رواية عن عائشة بعد قولها: أول ما فرضت الصلاة أي إلا المغرب فإنها فرضت ثلاثاً "فإنها" أي المغرب "وتر النهار" ففرضت وتراً ثلاثاً من أول الأمر "وإلا الصبح فإنها تطوَّل فيها القراءة".
في هذا الحديث دليل على وجوب القصر في السفر لأن "فرضت" بمعنى وجبت، ووجوبه مذهب الهادوية والحنفية وغيرهم.
وقال الشافعي وجماعة: إنه رخصة والتمام أفضل وقالوا: فرضت بمعنى قدرت أو فرضت لمن أراد القصر. واستدلوا بقوله تعالى: { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ } . وبأنه سافر أصحاب رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم معه فمنهم من يقصر ومنهم من يتم ولا يعيب بعضهم على بعض، وبأن عثمان كان يتم، وكذلك عائشة أخرج ذلك مسلم.
وردَّ بأن هذه أفعال صحابة لا حجة فيها، وبأنه أخرج الطبراني في الصغير من حديث ابن عمر موقوفاً "صلاة السفر ركعتان نزلتا من السماء فإن شئتم فردوهما" قال الهيثمي: رجاله موثوقون، وهو توقيف إذ لا مسرح فيه للاجتهاد، وأخرج أيضاً عنه في الكبير برجال الصحيح "صلاة السفر ركعتان من خالف السنة كفر".
وفي قوله "السنة" دليل على رفعه كما هو معروف، قال ابن القيم في الهدى النبوي: كان يقصر صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم الرباعية فيصليها ركعتين من حين يخرج مسافراً إلى أن يرجع إلى المدينة ولم يثبت عنه أنه أتم الرباعية في السفر البتة.
وفي قولها "إلا المغرب" دلالة على أن شرعيتها في الأصل ثلاثاً لم تتغير.
وقولها "إنها وتر النهار" أي صلاة النهار كانت شفعاً والمغرب آخرها لوقوعها في آخر جزء من النهار فهي وتر صلاة النهار، كما أنه شرع الوتر لصلاة الليل، والوتر محبوب إلى الله تعالى كما تقدم في الحديث "إن الله وتر يحب الوتر".
وقولها: "إلا الصبح فإنها تطوَّل فيها القراءة". تريد أن لا يقصر في صلاتها، فإنها ركعتان حضراً وسفراً، لأنه شرع فيها تطويل القراءة ولذلك عبر عنها في الآية بقرآن الفجر لما كانت معظم أركانها لطولها فيها فعبر عنها بها من إطلاق الجزء الأعظم على الكل.
2- وعن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يقْصُر في السفر ويتم؛(2/37)
ويصوم ويُفْطر" الأربعة الأفعال بالمثناة التحتية أي أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يفعل هذا وهذا "رواه الدارقطني ورواته" من طريق عطاء عن عائشة "ثقات إلا أنه معلول والمحفوظ عن عائشة من فعلها، وقالت: إنه لا يشق عليّ. أخرجه البيهقي".
واستنكره أحمد فإن عروة روى عنها أنها كانت تتم وأنها تأولت كما تأول عثمان كما في الصحيح، فلو كان عندها عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم رواية، لم يقل عروة إنها تأولت، وقد ثبت في الصحيحين خلاف ذلك. وأخرج أيضاً الدارقطني عن عطاء، والبيهقي عن عائشة: أنها اعتمرت معه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم من المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت مكة قالت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي أتممت وقصرت. وأفطرت وصمت، فقال: أحسنت يا عائشة وما عاب عليَّ.
قال ابن القيم: وقد روى "كان يقصر وتتم" الأول بالياء آخر الحروف والثاني بالمثناة من فوق وكذلك يفطر وتصوم أي تأخذ هي بالعزيمة في الموضعين قال شيخنا ابن تيمية: وهذا باطل، ما كانت أم المؤمنين لتخالف رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وجميع أصحابه فتصلي خلاف صلاتهم، وفي الصحيح عنها "إن الله فرض الصلاة ركعتين ركعتين فلما هاجر رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إلى المدينة زيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر" فكيف يظن بها مع ذلك أنها تصلي خلاف صلاته وصلاة المسلمين معه؟
قلت: وقد أتمت عائشة بعد موته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال ابن عباس وغيره: إنها تأولت كما تأول عثمان اهـ.
هذا وحديث الباب قد اختلف في اتصاله فإنه من رواية عبد الرحمن بن الأسود عن عائشة قال الدارقطني: إنه أدرك عائشة وهو مراهق قال المصنف رحمه الله: هو كما قال ففي تاريخ البخاري وغيره ما يشهد لذلك، وقال أبو حاتم: أدخل عليها وهو صغير ولم يسمع منها وادعى ابن أبي شيبة والطحاوي ثبوت سماعه منها واختلف قول الدارقطني في الحديث فقال في السنن: إسناده حسن؛ وقال في العلل: المرسل أشبه. هذا كلام المصنف: ونقله الشارح.
وراجعت سنن الدارقطني فرأيته ساقه وقال: إنه صحيح ثم فيه العلاء ابن زهير وقال الذهبي في الميزان: وثقه ابن معين وقال ابن حبان: كان ممن يروي عن الثقات مما لا يشبه حديث الأثبات اهـ. فبطل الاحتجاج به فيما لم يوافق الأثبات وبطل بهذا ادعاء ابن حزم جهالته فقد عرف عيناً وحال وقال ابن القيم بعد روايته لحديث عائشة هذا ما لفظه: وسمعت شيخ الإسلام يقول: هذا كذب على رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أهـ. يريد رواية يَقْصر ويُتم بالمثناة التحتية وجعل ذلك من فعله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فإنه ثبت عنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بأنه لم يُتم رباعية في سفر ولا صام فيه فرضاً.
3 ـ وَعن ابْنِ عُمَرَ رضيَ اللَّهُ عَنْهُما قالَ: قالَ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: " إنَّ الله يُحِبُّ أنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كما يكرَهُ أن تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ" رواهُ أَحمدُ وَصَحّحَهُ ابْنُ خُزيْمَةَ وابْنُ حِبّان، وفي روايةٍ "كما يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ".
فسرت محبة الله برضاه وكراهتُه بخلافها.
وعند أهل الأصول أن الرخصة ما شرع من الأحكام لعذر والعزيمة مقابلها، والمراد بها هنا ما سهله لعباده ووسعه عند الشدة من ترك بعض الواجبات وإباحة بعض المحرمات...(2/38)
والحديث دليل على أن فعل الرخصة أفضل من فعل العزيمة، كذا قيل وليس فيه على ذلك دليل، بل يدل على مساواتها للعزيمة، والحديث يوافق قوله تعالى: {يريدُ اللهُ بكمْ اليسرَ ولا يريدُ بكمْ العُسرَ}.
4 ـ وَعَنْ أَنَسٍ رَضيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: " كانَ رَسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذا خرجَ مَسيرةَ ثَلاثَةِ أَمْيالٍ أَوْ فَرَاسِخَ ـ صَلّى رَكْعَتَيْنِ" رواهُ مُسلمٌ.
المراد من قوله "إذا خرج" إذا كان قصده مسافة هذا القدر لا أن المراد أنه كان إذا أراد سفراً طويلاً فلا يقصر إلا بعد هذه المسافة.
وقوله أميال أو فراسخ شك في الراوي وليس التخيير في أصل الحديث قال الخطابي شك فيه شعبة.
قيل في حد الميل هو أن ينظر إلى الشخص في أرض مستوية فلا يدرك أهو رجل أم امرأة أو غير ذلك.
وقال النووي: هو ستة آلاف ذراع، والذراع أربعة وعشرون أصبعاً معترضة متعادلة، والأصبع ست شعيرات معترضة متعادلة.
وقيل: هو اثنا عشر ألف قدم بقدم الإنسان.
وقيل: هو أربعة ألاف ذراع، وقيل ألف خطوة للجمل، وقيل ثلاثة آلاف ذراع بالهاشمي وهو اثنان وثلاثون أصبعاً، وهو ذراع الهادي عليه الصلاة والسلام وهو الذراع العمري المعمول عليه في صنعاء وبلادها.
وأما الفرسخ فهو ثلاثة أميال وهو فارسي معرب.
واعلم أنه قد اختلف العلماء في المسافة التي تقصر فيها الصلاة على نحو عشرين قولاً ـ حكاها ابن المنذر ـ.
فذهب الظاهرية إلى العمل بهذا الحديث وقالوا: مسافة القصر ثلاثة أميال، وأجيب عليهم بأنه مشكوك فيه فلا يحتج به على التحديد بالثلاثة الأميال نعم يحتج به على التحديد بالثلاثة الفراسخ إذ الأميال داخلة فيها فيؤخذ بالأكثر وهو الاحتياط لكن قيل إنه لم يذهب إلى التحديد بالثلاثة الفراسخ أحد. نعم يصح الاحتجاج للظاهرية بما أخرجه سعيد بن منصور من حديث أبي سعيد. "أنه كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذا سافر فرسخاً يقصر الصلاة" وقد عرفت أن الفرسخ ثلاثة أميال:
وأقل ما قيل في مسافة القصر ما أخرجه ابن أبي شيبة من حديث ابن عمر موقوفاً: أنه كان يقول إذا خرجت ميلاً قصرت الصلاة. وإسناده صحيح وقد روى هذا في البحر عن داود ويلحق بهذين القولين قول الباقر والصادق وأحمد بن عيسى والهادي وغيرهم أنه يقصر في مسافة بريد فصاعداً، مستدلين بقوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في حديث أبي هريرة مرفوعاً "لا يحل لامرأة تسافر بريداً إلا ومعها محرم" أخرجه أبو داود. قالوا: فسمى مسافة البريد سفراً ولا يخفى أنه لا دليل فيه، على أنه لا يسمى الأقل من هذه المسافة سفراً، وإنما هذا تحديد للسفر الذي يجب فيه المحرم ولا تلازم بين مسافة القصر ومسافة وجوب المحرم لجواز التوسعة في إيجاب المحرم تخفيفاً على العباد.
وقال زيد بن علي والمؤيد وغيرهما والحنفية: بل مسافته أربعة وعشرون فرسخاً لما أخرجه البخاري من حديث ابن عمر مرفوعاً "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر فوق ثلاثة أيام إلا مع محرم" قالوا: وسير الإبل في كل يوم ثمانية فراسخ.
وقال الشافعي، بل أربعة برد لحديث ابن عباس مرفوعاً "لا تقصروا الصلاة في أقل من أربعة برد" وسيأتي(2/39)
وأخرجه البيهقي بسند صحيح من فعل ابن عباس وابن عمر وبأنه روى البخاري حديث ابن عباس تعليقاً بصيغة الجزم: أنه سئل أتقصر الصلاة من مكة إلى عرفة؟ قال: "لا ولكن إلى عسفان وإلى جدة وإلى الطائف" وهذه الأمكنة بين كل واحد منها وبين مكة أربعة بُرُد فما فوقها.
والأقوال متعارضة كما سمعت والأدلة متقاومة قال في زاد المعاد: ولم يحدّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لأمته مسافة محددة للقصر والفطر بل أطلق لهم ذلك في مطلق السفر والضرب في الأرض كما أطلق لهم التيمم في كل سفر؛ وأما ما يروى عنه من التحديد باليوم واليومين والثلاثة فلم يصح منها شيء البتة والله أعلم، وجواز القصر والجمع في طويل السفر وقصيره مذهب كثير من السلف.
5- وعنه" أي عن أنس "رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم من المدينة إلى مكة فكان يصلي" أي الرباعية "ركعتين ركعتين" أي كل رباعية ركعتين "حتى رجعنا إلى المدينة : متفق عليه واللفظ للبخاري".
يحتمل أن هذا كان في سفره عام الفتح ويحتمل أنه في حجة الوداع إلا أن فيه عند أبي داود زيادة "أنهم قالوا لأنس: هل أقمتم بها شيئاً؟ قال: أقمنا عشراً" ويأتي أنهم أقاموا في الفتح زيادة على خمسة عشر يوماً أو خمسة عشر وقد صرح في حديث أبي داود أن هذا أي خمسة عشر ونحوها كان عام الفتح.
وفيه دلالة على أنه لم يتم مع إقامته في مكة، وهو كذلك كما يدل عليه الحديث الآتي:
وفيه دليل على أن نفس الخروج من البلد بنية السفر يقتضي القصر ولو لم يجاوز من البلد ميلاً ولا أقل، وأنه لا يزال يقصر حتى يدخل البلد ولو صلى وبيوتهما بمرأى منه.
6- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أقام النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم تسعة عشر يوماً يقصر وفي لفظ" تعيين محل الإقامة وأنه "بمكة تسعة عشر يوماً. رواه البخاري وفي رواية لأبي داود" أي عن ابن عباس "سبع عشرة" بالتذكير في الرواية الأولى لأنه ذكر مميزه يوماً وهو مذكر، وبالتأنيث في رواية أبي داود لأنه حذف مميزه، وتقديره ليلة، وفي رواية لأبي داود عنه تسعة عشر كالرواية الأولى "وفي أخرى" أي لأبي داود عن ابن عباس "خمس عشرة".
7- وله" أي لأبي داود:"عن عمران بن حصين رضي الله عنهما ثماني عشرة" ولفظه عند أبي داود "شهدت معه الفتح فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين ويقول: يا أهل البلد صلوا أربعاً فإنا قوم سفر".
8- وله" أي لأبي داود."عن جابر رضي الله عنه "أقام" أي النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم "بتبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة" ، ورواته ثقات إلا أنه اختلف في وصله" فوصله معمر عن يحيى بن أبي كثير عن محمد بن عبد الرحمن عن ثوبان عن جابر قال أبو داود: غير معمر لا يسنده فأعله الدارقطني في العلل بالإرسال والانقطاع.
قال المصنف رحمه الله: وقد أخرجه البيهقي بلفظ "بضع عشرة".
واعلم أن أبا داود ترجم لباب هذه الأحاديث "باب متى يتم المسافر" ثم ساقها وفيها(2/40)
كلام ابن عباس "من أقام سبعة عشر قصر ومن أقام أكثر أتم".
وقد اختلف العلماء في قدر مدّة الإقامة التي إذا عزم المسافر على إقامتها أتم فيها الصلاة على أقوال.
فقال ابن عباس وإليه ذهب الهادوية: إن أقل مدة الإقامة عشرة أيام لقول علي عليه السلام: "إذا أقمت عشراً فأتم الصلاة" أخرجه المؤيد في شرح التجريد من طرق فيها ضرار بن صرد قال المصنف في التقريب: إنه غير ثقة. قالوا: وهو توقيف.
وقالت الحنفية: خمسة عشر يوماً مستدلين بإحدى روايات ابن عباس وبقوله وقول ابن عمر: إذا قدمت بلدة وأنت مسافر وفي نفسك أن تقيم خمس عشرة ليلة فأكمل الصلاة.
وذهبت المالكية والشافعية إلى أن أقلها أربعة أيام وهو مروي عن عثمان والمراد غير يوم الدخول والخروج، واستدلوا بمنعه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم المهاجرين بعد مضي النسك أن يزيدوا عن ثلاثة أيام في مكة فدل على أنه بالأربعة الأيام يصير مقيماً؛ وثم أقوال أخر لا دليل عليها.
وهذا كله فيمن دخل البلد عازماً على الإقامة فيها.
وأما من تردد في الإقامة ولم يعزم ففيه خلاف أيضاً.
فقالت الهادوية: يقصر إلى شهر لقول علي عليه السلام: "إنه من يقول: اليوم أخرج؛ غداً أخرج. يقصر الصلاة شهراً".
وذهب أبو حنيفة وأصحابه وهو قول للشافعي وقال به الإمام يحيى إلى أنه يقصر أبداً إذ الأصل السفر، ولفعل ابن عمر فإنه أقام بأذربيجان ستة أشهر يقصر الصلاة، وروي عن أنس بن مالك أنه أقام بنيسابور سنة أو سنتين يقصر الصلاة، وعن جماعة من الصحابة أنهم أقاموا برامهرمز تسعة أشهر يقصرون الصلاة.
ومنهم من قدّر ذلك بخمسة عشر وسبعة عشر وثمانية عشر على حسب ما وردت الروايات في مدة إقامته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في مكة وتبوك وأنه بعد ما يجاوز مدة ما روي عنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يتم صلاته.
ولا يخفى أنه لا دليل في المدة التي قصر فيها على نفي القصر فيما زاد عليها، وإذا لم يقم دليل على تقدير المدة فالأقرب أنه لا يزال يقصر كما فعله الصحابة، لأنه لا يسمى بالبقاء مع التردد كل يوم في الإقامة والرحيل مقيماً وإن طالت المدة، ويؤيده ما أخرجه البيهقي في السنن عن ابن عباس: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أقام بتبوك أربعين يوماً يقصر الصلاة". ثم قال: تفرد به الحسين بن عمارة وهو غير محتج به.
9- وعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذا ارتحل" في سفره "قبل أن تزيغ الشمس" أي قبل الزوال "أخر الظهر إلى وقت العصر ثم نزل فجمع بينهما، فإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر" أي وحده ولا يضم إليه العصر "ثم ركب. متفق عليه".
الحديث فيه دليل على جواز الجمع بين الصلاتين للمسافر تأخيراً، ودلالة على أنه لا يجمع بينهما تقديماً، لقوله "صلى الظهر" إذ لو جاز مع التقديم لضم إليه العصر، وهذا الفعل منه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يخصص أحاديث التوقيت التي مضت.
وقد اختلف العلماء في ذلك، فذهب الهادوية وهو قول ابن عباس وابن عمر وجماعة من الصحابة، وروي عن مالك وأحمد والشافعي إلى جواز الجمع للمسافر تقديماً وتأخيراً عملاً بهذا الحديث في التأخير وبما يأتي في التقديم.
وعن الأوزاعي أنه يجوز للمسافر جمع التأخير فقط(2/41)
عملاً بهذا الحديث، وهو مروي عن مالك وأحمد بن حنبل واختاره أبو محمد بن حزم.
وذهب النخعي والحسن وأبو حنيفة إلى أنه لا يجوز الجمع لا تقديماً ولا تأخيراً للمسافر وتأولوا ما ورد من جمعه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بأنه جمع صوري وهو أنه أخر الظهر إلى آخر وقتها وقدم العصر في أول وقتها ومثله العشاء.
ورد عليهم بأنه وإن تمشى لهم هذا في جمع التأخير لم يتم لهم في جمع التقديم الذي أفاد قوله "وفي رواية الحاكم في الأربعين بإسناد الصحيح "صلى الظهر والعصر" أي إذا زاغت قبل أن يرتحل صلى الفريضتين معاً "ثم ركب" فإنها أفادت ثبوت جمع التقديم من فعله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ولا يتصوّر فيه الجمع الصوري "و" مثله الرواية التي "لأبي نعيم في مستخرج مسلم" أي في مستخرجه على صحيح مسلم "كان" أي النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم "إذا كان في سفر فزالت الشمس صلى الظهر والعصر جميعاً ثم ارتحل" فقد أفادت رواية الحاكم وأبي نعيم ثبوت جمع التقديم أيضاً وهما روايتان صحيحتان كما قال المصنف إلا أنه قال ابن القيم إنه اختلف في رواية الحاكم، فمنهم من صححها ومنهم من حسنها ومنهم من قدح فيها وجعلها موضوعة وهو الحاكم فإنه حكم بوضعها، ثم ذكر كلام الحاكم في بيان وضع الحديث ثم رده ابن القيم واختار أنه ليس بموضوع، وسكوت المصنف هنا عليه وجزمه بأنه بإسناد صحيح يدل على رده لكلام الحاكم ويؤيد صحته قوله:
10 ـ وَعَنْ مُعاذٍ رضيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: "خَرَجْنَا معَ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في غَزْوَة تَبوكَ فكان يُصَلي الظُّهْرَ والعصرَ جميعاً والمغْربَ وَالعِشَاءَ جميعاً" رَوَاهُ مُسْلمٌ.
إلا أن اللفظ محتمل لجمع التأخير لا غير أوله ولجمع التقديم، ولكن قد رواه الترمذي بلفظ "كان إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس آخر الظهر إلى أن يجمعها إلى العصر فيصليهما جميعاً وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس عجل العصر إلى الظهر وصلى الظهر والعصر جميعاً" فهو كالتفصيل لمجمل رواية مسلم إلا أنه قال الترمذي بعد إخراجه: إنه حديث حسن غريب تفرد به قتيبة لا نعرف أحداً رواه عن الليث غيره قال: والمعروف عند أهل العلم حديث معاذ من حديث ابن الزبير عن أبي الطفيل عن معاذ: أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم جمع في غزوة تبوك بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء. اهـ.
إذا عرفت هذا فجمع التقديم في ثبوت روايته مقال إلا رواية المستخرج على صحيح مسلم فإنه لا مقال فيها.
وقد ذهب ابن حزم إلى أنه يجوز جمع التأخير لثبوت الرواية به لا جمع التقديم، وهو قول النخعي ورواية عن مالك وأحمد.
ثم إنه قد اختلف في الأفضل للمسافر هل الجمع أو التوقيت فقالت الشافعية: ترك الجمع أفضل. وقال مالك: إنه مكروه، وقيل: يختص بمن له عذر.
واعلم أنه كما قال ابن القيم في الهدي النبوي: لم يكن صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يجمع راتباً في سفره كما يفعله كثير من الناس، ولا يجمع حال نزوله أيضاً، وإنما كان يجمع إذا جدّ به السير، وإذا سار عقيب الصلاة كما في أحاديث تبوك، وأما جمعه وهو نازل غير مسافر فلم ينقل ذلك عنه إلا بعرفة ومزدلفة لأجل اتصال الوقوف، كما قال الشافعي وشيخنا وجعله أبو حنيفة من تمام النسك وأنه سببه، وقال أحمد ومالك والشافعي: إن سبب الجمع بعرفة ومزدلفة السفر.(2/42)
وهذا كله في الجمع في السفر.
وأما الجمع في الحضر فقال الشارح بعد ذكر أدلة القائلين بجوازه فيه: إنه ذهب أكثر الأئمة إلى أنه لا يجوز الجمع في الحضر لما تقدم من الأحاديث المبينة لأوقات الصلوات، ولما تواتر من محافظة النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على أوقاتها حتى قال ابن مسعود: ما رأيت النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلى صلاة لغير ميقاتها إلا صلاتين جمع بين المغرب والعشاء بجمع وصلى الفجر يومئذٍ قبل ميقاتها".
وأما حديث ابن عباس عند مسلم: أنه جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر. قيل لابن عباس: ما أراد إلى ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أمته" فلا يصح الاحتجاج به لأنه غير معين لجمع التقديم والتأخير كما هو ظاهر رواية مسلم وتعيين واحد منها تحكم فوجب العدول عنه إلى ما هو واجب من البقاء على العموم في حديث الأوقات للمعذور وغيره وتخصيص المسافر لثبوت المخصص وهذا هو الجواب الحاسم.
وأما ما يروى من الآثار عن الصحابة والتابعين فغير حجة إذ للاجتهاد في ذلك مسرح، وقد أول بعضهم حديث ابن عباس بالجمع الصوري واستحسنه القرطبي ورجحه وجزم به ابن الماجشون والطحاوي وقواه ابن سيد الناس لما أخرجه الشيخان عن عمرو بن دينار ـ رواي الحديث ـ عن أبي الشعثاء قال: قلت: يا أبا الشعثاء أظنه أخر الظهر وعجل العصر وأخر المغرب وعجل العشاء قال: وأنا أظنه. قال ابن سيد الناس: وراوي الحديث أدرى بالمراد منه من غيره، وإن لم يجزم أبو الشعثاء بذلك.
وأقول إنما هو ظن من الراوي والذي يقال فيه: أدرى بما روى إنما يجري في تفسيره للفظ مثلاً. على أن في الدعوى نظراً، فإن قوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه" يرد عمومها، نعم يتعين هذا التأويل فإنه صرح به النسائي في أصل حديث ابن عباس ولفظه: "صليت مع رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بالمدينة ثمانياً جمعاً وسبعاً جمعاً أخر الظهر وعجل العصر وآخر المغرب وعجل العشاء". والعجب من النووي كيف ضعف هذا التأويل وغفل عن متن الحديث المروي، والمطلق في رواية يحمل على المقيد إذا كانا في قصة واحدة. كما في هذا:
والقول بأن قوله: "أراد أن لا يحرج أمته" يضعف هذا الجمع الصوري لوجود الحرج فيه مدفوع بأن ذلك أيسر من التوقيت إذ يكفي للصلاتين تأهب واحد وقصد واحد إلى المسجد ووضوء واحد بحسب الأغلب بخلاف الوقتين فالحرج في هذا الجمع لا شك أخف.
وأما قياس الحاضر على المسافر كما قيل فوهم، لأن العلة في الأصل هي السفر، وهو غير موجود في الفرع وإلا لزم مثله في القصر والفطر اهـ.
قلت: وهو كلام رصين وقد كنا ذكرنا ما يلاقيه في رسالتنا "اليواقيت في المواقيت" قبل الوقوف على كلام الشارح ـ رحمه الله وجزاه خيراً ـ ثم قال: واعلم أن جمع التقديم فيه خطر عظيم وهو كمن صلى صلاة قبل دخول وقتها فيكون حال الفاعل كما قال تعالى: {هم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً} الآية من ابتدائها وهذه الصلاة المقدمة لا دلالة عليها بمنطوق ولا مفهوم ولا عموم ولا خصوص.(2/43)
11 ـ وَعَن ابنِ عبّاسٍ رضيَ اللَّهُ عنهُما قال: قال رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لا تَقْصرُوا الصَّلاةَ في أقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ مِنْ مَكّةَ إلى عُسْفَانَ" رواهُ الدارقُطْنيُّ بإسناد ضَعيف، والصّحيحُ أَنهُ مَوْقُوفٌ، كَذَا أَخْرَجَهُ ابنُ خُزَيمة.
فإنه من رواية عبد الوهاب بن مجاهد وهو متروك، نسبه الثوري إلى الكاذب، وقال الأزدي: لا تحل الرواية عنه، وهو منقطع أيضاً لأنه لم يسمع من أبيه "والصحيح أنه موقوف كذا أخرجه ابن خزيمة" أي موقوفاً على ابن عباس وإسناده صحيح ولكن للاجتهاد فيه مسرح فيحتمل أنه من رأيه وتقدم أنه لم يثت في التحديد حديث مرفوع.
12 ـ وعنْ جابرٍ رضيَ اللَّهُ عنه قال: قالَ رسُولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "خيرُ أُمّتي الذين إذا أسَاءوا اسْتغفروا وإذا أَحسنوا اسْتبشروا وإذا سافَرُوا قَصَروا وأَفْطروا". أَخْرَجَهُ الطّبرانيُّ في الأوْسَطِ بإسْنادٍ ضعيفٍ وَهُوَ في مُرْسَلِ سعيد بنِ المُسَيَّب عَنْدَ الَبيْهَقِي مختصراً.
الحديث دليل على أن القصر والفطر أفضل للمسافر من خلافهما.
وقالت الشافعية: ترك الجمع أفضل فقياس هذا أن يقولوا التمام أفضل وقد صرحوا به أيضاً، وكأنهم لم يقولوا بهذا الحديث لضعفه. واعلم أن المصنف رحمه الله أعاد هنا حديث عمران بن حصين وحديث جابر وهما قوله:
13- وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: كانت بي بواسير فسألت النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عن الصلاة" هذا لم يذكره المصنف فيما سلف في هذه الرواية "فقال: "صلِّ قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنْب" رواه البخاري" هو كما قال ولم ينسبه فيما تقدم إلى أحد وقد بينا من غير البخاري وما فيه من الزيادة.
14 ـ وَعَنْ جَابرٍ رَضيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: عَادَ النّبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مَريضاً فَرَآهُ يُصَلي على وسادَةٍ فَرَمَى بها وقالَ: "صَلِّ عَلى الأرضِ إن اسْتَطَعْتَ، وإلا فَأَوْم إيماءً واجعلْ سُجُودَكَ أَخْفَضَ مِنْ رُكُوعِكَ" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وصحّحَ أَبو حاتم وَقْفَهُ.
زاد فيما مضى أنه رواه البيهقي بإسناد قوي وقد تقدم في آخر باب صفة الصلاة قبيل باب سجود السهو بلفظهما وشرحناهما هناك فتركنا شرحهما هنا لذلك، ثم ذكر هنا حديث عائشة وقد مر أيضاً في الحديث الرابع والثلاثين في باب صفة الصلاة بلفظه وشرحه الشارح. وقال هناك: صححه ابن خزيمة، وهنا قال: صححه الحاكم وهو:
15 ـ وَعَنْ عَائِشَةَ رَضيَ الله عَنْهَا قالَت: "رَأَيتُ النّبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يُصَلي مُتَرَبِّعاً" رَواه النسائي وَصَحّحَهُ الحاكِمُ.
وهو من أحاديث صلاة المريض لا من أحاديث صلاة المسافر وقد أتى به فيما سلف.
والحديث دليل على صفة قعود المصلي إذا كان له عذر عن القيام، وفيه الخلاف الذي تقدم.(2/44)
باب صلاة الجمعة
الجمعة بضم الميم وفيها الإسكان والفتح مثل همزة ولمزة، وكانت تسمى في الجاهلية العروبة، أخرج الترمذي من حديث أبي هريرة وقال: حسن صحيح أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم(2/44)
قال: "خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة: فيه خلق آدم وفيه دخل الجنة وفيه أخرج منها ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة".
1- عن عبد الله بن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم أنهما سمعا رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقول على أعواد منبره" أي منبره الذي من عود، لا على الذي كان من الطين، ولا على الجذع الذي كان يستند إليه، وهذا المنبر عمل له صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم سنة سبع وقيل سنة ثمان، عمله له غلام امرأة من الأنصار كان نجاراً واسمه على أصح الأقوال ميمون، كان على ثلاث درج ولم يزل عليه حتى زاده مروان في زمن معاوية ست درج من أسفله، وله قصة في زيادته، وهي أن معاوية كتب إليه أن يحمله إلى دمشق فأمر به فقلع فأظلمت المدينة فخرج مروان فخطب فقال: إنما أمرني أمير المؤمنين أن أرفعه، وقال: إنما زدت عليه لما كثر الناس ولم يزل كذلك حتى احترق المسجد النبوي سنة أربع وخمسين وستمائة فاحترق ""لينتهين أقوام عن ودعهم" بفتح الواو وسكون الدال المهملة وكسر العين المهملة أي تركهم "الجمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم" الختم الاستيثاق من الشيء بضرب الخاتم عليه كتماً له وتغطية لئلا يتوصل إليه، ولا يطلع عليه، شبهت القلوب بسبب إعراضهم عن الحق واستكبارهم عن قبوله وعدم نفوذ الحق إليها بالأشياء التي استوثق عليها بالختم فلا ينفذ إلى باطنها شيء، وهذه عقوبة على عدم الامتثال لأمر الله، وعدم إتيان الجمعة من باب تيسير العسرى "ثم ليكونن من الغافلين" رواه مسلم" بعد ختمه تعالى عن قلوبهم فيغفلون عن اكتساب ما ينفعهم من الأعمال وعن ترك ما يضرهم منها.
وهذا الحديث من أعظم الزواجر عن ترك الجمعة والتساهل فيها.
وفيه إخبار بأن تركها من أعظم أسباب الخذلان بالكلية.
والإجماع قائم على وجوبها على الإطلاق والأكثر أنها فرض عين وقال في معالم السنن: إنها فرض كفاية عند الفقهاء.
2- وعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: كنا نصلي مع رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يوم الجمعة ثم ننصرف وليس للحيطان ظل يستظل به . متفق عليه واللفظ للبخاري في لفظ لمسلم" أي من رواية سلمة "كنا نجمّع معه" أي النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم "إذا زالت الشمس ثم نرجع نتتبع الفيء".
الحديث دليل على المبادرة بصلاة الجمعة عند أول زوال الشمس، والنفي في قوله "وليس للحيطان ظل" متوجه إلى القيد وهو قوله "يستظل به" لا نفي لأصل الظل حتى يكون دليلاً على أنه صلاها قبل زوال الشمس، وهذا التأويل معتبر عند الجمهور القائلين بأن وقت الجمعة هو وقت الظهر.
وذهب أحمد وإسحاق إلى صحة صلاة الجمعة قبل الزوال.
واختلف أصحاب أحمد فقال بعضهم: وقتها وقت صلاة العيد، وقيل الساعة السادسة.
وأجاز مالك الخطبة قبل الزوال دون الصلاة وحجتهم ظاهر الحديث وما بعده وأصرح منه ما أخرجه أحمد ومسلم من حديث جابر: "أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يصلي الجمعة ثم نذهب إلى جمالنا فنريحها حين تزول الشمس" يعني النواضح.
وأخرج الدارقطني عن عبد الله بن سيدان قال: شهدت مع أبي بكر الجمعة فكانت خطبته وصلاته قبل نصف النهار(2/45)
ثم شهدتها مع عمر فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول انتصف النهار ثم شهدتها مع عثمان فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول زال النهار فما رأيت أحداً عاب ذلك ولا أنكره. ورواه أحمد بن حنبل في رواية ابنه عبد الله قال: وكذلك روي عن ابن مسعود وجابر وسعيد ومعاوية: أنهم صلوا قبل الزوال.
ودلالة هذا على مذهب أحمد واضحة، والتأويل الذي سبق من الجمهور يدفعه أن صلاة النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مع قراءته سورة الجمعة والمنافقون وخطبته لو كانت بعد الزوال لما ذهبوا من صلاة الجمعة إلا وللحيطان ظل يستظل به كذا في الشرح.
وحققنا في حواشي ضوء النهار أن وقتها الزوال، ويدل له أيضاً قوله:
3-" وعن سهل بن سعد رضي الله عنه" هو أبو العباس سهل بن سعد بن مالك الخزرجي الساعدي الأنصاري قيل كان اسمه "حزنا" فسماه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم "سهلاً" مات النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وله خمس عشرة سنة ومات بالمدينة سنة إحدى وسبعين وهو آخر من مات بالمدينة من الصحابة "قال: "ما كنا نقيل" من القيلولة "ولا نتغدى إلا بعد الجمعة" متفق عليه واللفظ لمسلم. وفي رواية "في عهد رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم" ".
في النهاية المقيل والقيلولة الاستراحة نصف النهار وإن لم يكن معها نوم.
فالحديث دليل على ما دل عليه الحديث الأول وهو من أدلة أحمد وإنما أتى المصنف رحمه الله بلفظ رواية "على عهد رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم" لئلا يقول قائل إنه لم يصرح الراوي في الرواية الأولى أن ذلك كان من فعله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وتقريره فدفعه بالرواية التي أثبتت أن ذلك كان على عهده، ومعلوم أنه لا يصلي الجمعة في عهده في المدينة سواه، فهو إخبار عن صلاته وليس فيه دليل على الصلاة قبل الزوال، لأنهم في المدينة ومكة لا يقيلون ولا يتغدون إلا بعد صلاة الظهر كما قال تعالى: {وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة} نعم كان صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يسارع بصلاة الجمعة في أول وقت الزوال بخلاف الظهر فقد كان يؤخره بعده حتى يجتمع الناس.
4-" وعن جابر رضي الله عنه أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يخطب قائماً فجاءت عير" بكسر العين المهملة وسكون المثناة التحتية فراء قال في النهاية: العير الإبل بأحمالها "من الشام فانفتل" بالنون الساكنة وفتح الفاء فمثناة فوقية أي انصرف "الناس إليها حتى لم يبق" أي في المسجد ـ "إلا اثنا عشر رجلاً. رواه مسلم".
الحديث دليل على أنه يشرع في الخطبة أن يخطب قائماً.
وأنه لا يشترط لها عدد معين كما قيل إنه يشترط لها أربعون رجلاً ولا ما قيل إن أقل ما ينعقد به اثنا عشر رجلاً كما روي عن مالك لأنه لا دليل أنها لا تنعقد بأقل.
وهذه القصة هي التي نزلت فيها الآية: {وإذا رأوا تجارة} الآية:
وقال القاضي عياض: إنه روى أبو داود في مراسيله: أن خطبته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم التي انفضوا عنها إنما كانت بعد صلاة الجمعة وظنوا أنه لا شيء عليهم في الانفضاض عن الخطبة وأنه قبل هذه القصة كان يصلي قبل الخطبة.
قال القاضي: وهذا أشبه بحال أصحابه والمظنون بهم ما كانوا يدعون الصلاة مع النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ولكنهم ظنوا جواز الانصراف بعد انقضاء الصلاة.
5- وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "من(2/46)
أدرك ركعة من صلاة الجمعة وغيرها" أي من سائر الصلوات "فليضف إليها أُخرى" في الجمعة أو غيرها يضيف إليها ما بقي من ركعة وأكثر "وقد تمت صلاته" رواه النسائي وابن ماجه والدارقطني واللفظ له وإسناده صحيح لكن قوى أبو حاتم إرساله" الحديث أخرجوه من حديث بقية حدثني يونس بن يزيد عن سالم عن أبيه ـ الحديث ـ قال أبو داود والدارقطني: تفرّد به بقية عن يونس، وقال ابن أبي حاتم في العلل عن أبيه: هذا خطأ في المتن والإسناد وإنما هو عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعاً "من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها" وأمّا قوله: "من صلاة الجمعة" فوهم وقد أخرج الحديث من ثلاثة عشر طريقاً عن أبي هريرة ومن ثلاثة طرق عن ابن عمر وفي جميعها مقال.
وفي الحديث دلالة على أن الجمعة تصح للاحق وإن لم يدرك من الخطبة شيئاً وإلى هذا ذهب زيد بن علي والمؤيد والشافعي وأبو حنيفة.
وذهبت الهادوية إلى أن إدراك شيء من الخطبة شرط لا تصح الجمعة بدونه.
وهذا الحديث حجة عليهم وإن كان فيه مقال لكن كثرة طرقه يقوّي بعضها بعضاً مع أنه أخرجه الحاكم من ثلاث طرق أحدها من حديث أبي هريرة وقال فيها: على شرط الشيخين، ثم الأصل عدم الشرط حتى يقوم عليه دليل.
6 ـ وَعَنْ جَابرِ بن سَمُرةَ رضي الله عنهُما: "أنَّ النّبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كانَ يخطُبُ قائماً، ثم يجلسُ، ثمَّ يقومُ فَيَخْطبُ قائماً، فَمَنْ أَنْبَأَكَ أَنهُ كانَ يخطُبُ جالساً فَقَدْ كَذَبَ" أَخرجهُ مُسلمٌ.
الحديث دليل أنه يشرع القيام حال الخطبتين والفصل بينهما بالجلوس.
وقد اختلف العلماء هل هو واجب أو سنة فقال أبو حنيفة: إن القيام والقعود سنة.
وذهب مالك إلى أن القيام واجب فإن تركه أساء وصحت الخطبة.
وذهب الشافعي وغيره إلى أن الخطبة لا تكون إلا من قيام لمن أطاقه واحتجوا بمواظبته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على ذلك حتى قال جابر: فمن أنبأك إلى آخره. وبما روي أن كعب بن عجرة لما دخل المسجد وعبد الرحمن بن أبي الحكم يخطب قاعداً فأنكر عليه وتلا عليه {وتركوك قائماً} وفي رواية ابن خزيمة: ما رأيت كاليوم قط إماماً يؤم المسلمين يخطب وهو جالس يقول ذلك مرتين.
وأخرج ابن أبي شيبة عن طاوس: خطب رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قائماً وأبو بكر وعمر وعثمان وأوّل من جلس على المنبر معاوية، وأخرج ابن أبي شيبة عن الشعبي أن معاوية إنما خطب قاعداً لما كثر شحم بطنه ولحمه. وهذا إبانة للعذر فإنه مع العذر في حكم المتفق على جواز القعود في الخطبة.
وأما حديث أبي سعيد الذي أخرجه البخاري: أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم جلس ذات يوم على المنبر وجلسنا حوله.
فقد أجاب عنه الشافعي أنه كان في غير جمعة.
وهذه الأدلة تقضي بشرعية القيام والقعود المذكورين في الخطبة.
وأما الوجوب وكونه شرطاً في صحتها فلا دلالة عليه في اللفظ إلا أنه قد ينضم إليه دليل وجوب التأسي به صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وقد قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي".
وفعله في الجمعة في الخطبتين وتقديمها على الصلاة مبين لآية الجمعة فما واظب عليه فهو واجب وما لم يواظب عليه كان في الترك دليل على عدم الوجوب فإن(2/47)
صح أن قعوده في حديث أبي سعيد كان في خطبة الجمعة كان الأقوى القول الأوّل وإن لم يثبت ذلك فالقول الثاني.
فائدة: تسليم الخطيب على المنبر على الناس فيه حديث أخرجه الأثرم بسنده عن الشعبي: "كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذا صعد المنبر يوم الجمعة استقبل الناس فقال السلام عليكم". الحديث، وهو مرسل. وأخرج ابن عدي: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان إذا دنا من منبره سلم على من عند المنبر ثم صعد فإذا استقبل الناس بوجهه سلم ثم قعد". إلا أنه ضعفه ابن عدي[تض] بعيسى بن عبد الله الأنصاري[/تض] وضعفه به ابن حبان.
7- وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذا خطب احمرّت عيناه وعلا صوته واشتدّ غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم" ويقول: "أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهُدى هدَى محمد" قال النووي: ضبطناه في مسلم بضم الهاء وفتح الدال فيهما وبفتح الهاء وسكون الدال فيهما وفسره الهروي على رواية الفتح بالطريق أي أحسن الطريق طريق محمد. وعلى رواية الضم معناه الدلالة والإرسال وهو الذي يضاف إلى الرسل وإلى القرآن قال تعالى: {وإنك لتهدي} "الشورى: 52" {إن هذا القران يهدي} "الإسراء: 9" وقد يضاف إليه تعالى وهو بمعنى اللطف والتوفيق والعصمة {إنك لا تهدي من أحببت} "القصص: 56" الآية "وشر الأمور محدثاتها" المراد بالمحدثات ما لم يكن ثابتاً بشرع من الله ولا من رسوله "وكل بدعة ضلالةٌ" " البدعة لغة: ما عمل على غير مثال سابق، والمراد بها هنا: ما عمل من دون أن يسبق له شرعية من كتاب ولا سنة "رواه مسلم".
وقد قسم العلماء البدعة على خمسة أقسام: واجبة ـ كحفظ العلوم بالتدوين والرد على الملاحدة بإقامة الأدلة، ومندوبة ـ كبناء المدارس، ومباحة ـ كالتوسعة في ألوان الطعام وفاخر الثياب، ومحرّمة ومكروهة وهما ظاهران؛ فقوله: "كل بدعة ضلالة" عام مخصوص.
وفي الحديث دليل على أنه يستحب للخطيب أن يرفع بالخطبة صوته ويجزل كلامه ويأتي بجوامع الكلم من الترغيب والترهيب ويأتي بقوله: أما بعد وقد جمع البخاري باباً في استحبابها وذكر فيه جملة من الأحاديث وقد جمع الروايات التي فيها ذكر "أما بعد" لبعض المحدثين وأخرجها على اثنين وثلاثين صحابياً وظاهره أنه كان صلى الله عليه وآله وسلم يلازمها في جميع خطبه وذلك بعد حمد الله والثناء والتشهد كما تفيده الرواية المشار إليها بقوله: "وفي رواية له" أي لمسلم عن جابر بن عبد الله "كانت خطبة النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم(2/48)
يوم الجمعة: يحمد الله ويثني عليه ثم يقول على أثر ذلك وقد علا صوته" حذف المقول اتكالا على ما تقدم وهو قوله: "أما بعد فإن خير الحديث" إلى آخر ما تقدم.
ولم يذكر الشهادة اختصاراً لثبوتها في غير هذه الرواية فقد ثبت أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء" وفي دلائل النبوة للبيهقي من حديث أبي هريرة مرفوعاً حكاية عن الله عز وجل "وجعلت أمتك لا يجوز لهم خطبة حتى يشهدوا أنك عبدي ورسولي" وكان يذكر في تشهد نفسه باسمه العلم "وفي رواية له" أي لمسلم عن جابر ""من يهده الله فلا مضلَّ له ومن يضلل فلا هادي له"" أي أنه يأتي بهذه الألفاظ بعد "أما بعد" "وللنسائي" أي عن جابر ""وكل ضلالة في النار"" أي بعد قوله "كل بدعة ضلالة" كما هو في النسائي واختصره المصنف والمراد صاحبها.
وكان يعلم أصحابه في خطبته قواعد الإسلام وشرائعه ويأمرهم وينهاهم في خطبته إذا عرض له أمر أو نهي، كما أمر الداخل وهو يخطب أن يصلي ركعتين، ويذكر معالم الشرائع في الخطبة، والجنة والنار والمعاد ويأمر بتقوى الله ويحذر من غضبه ويرغب في موجبات رضاه.
وقد ورد قراءة آية في حديث مسلم: كان لرسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم خطبتان يجلس بينهما يقرأ القران ويذكر الناس ويحذر" وظاهره محافظته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على ما ذكر في الخطبة، ووجوب ذلك لأن فعله بيان لما أجمل في آية الجمعة، وقد قال صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "صلوا كما رأيتموني أصلي" وذهب إلى هذا الشافعي.
وقالت الهادوية: لا يجب في الخطبة إلا الحمد والصلاة على النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في الخطبتين جميعاً.
وقال أبو حنيفة: يكفي سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر.
وقال مالك: لا يجزيء إلا ما سمي خطبة.
8- وعن عمار بن ياسر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقول: "إنَّ طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة" بفتح الميم ثم همزة مكسورة ثم نون مشددة أي علامة "مِنْ فِقْهِهِ"" أي مما يعرف به فقه الرجل، وكل شيء دل على شيء فهو مَئِنة له "رواه مسلم".
وإنما كان قصر الخطبة علامة على فقه الرجل لأن الفقيه هو المطلع على حقائق المعاني وجوامع الألفاظ فيتمكن من التعبير بالعبارة الجزلة المفيدة ولذلك كان من تمام هذا الحديث "فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة وإن من البيان لسحراً".
فشبه الكلام العامل في القلوب الجاذب للعقول بالسحر لأجل ما اشتمل عليه من الجزالة وتناسق الدلالة وإفادة المعاني الكثيرة ووقوعه في مجازه من الترغيب والترهيب ونحو ذلك، ولا يقدر عليه إلا من فقه في المعاني وتناسق دلالتها فإنه يتمكن من الإتيان بجوامع الكلم، وكان ذلك من خصائصه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فإنه أوتي جوامع الكلم.
والمراد من طول الصلاة طول الذي لا يدخل فاعله تحت النهي.
وقد كان صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يصلي الجمعة بالجمعة والمنافقون وذلك طول بالنسبة إلى خطبته وليس بالتطويل المنهي عنه.
9- وعن أم هشام بنت حارثة بن النعمان رضي الله عنهما" هي الأنصارية روى(2/49)
عنها حبيب بن عبد الرحمن بن يساف، قال أحمد بن زهير: سمعت أبي يقول: أم هشام بنت حارثة بايعت بيعة الرضوان ذكره ابن عبد البر في الاستيعاب ولم يذكر اسمها، وذكرها المصنف في التقريب ولم يسمعها أيضاً وإنما قال: صحابية مشهورة "قالت: ما أخذت ق والقرآن المجيد إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرؤها كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس : رواه مسلم".
فيه دليل على مشروعية قراءة سورة "ق" في الخطبة كل جمعة.
قال العلماء: وسبب اختياره صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم هذه السورة لما اشتملت عليه من ذكر البعث والموت والمواعظ الشديدة والزواجر الأكيدة.
وفيه دلالة لقراءة شيء من القرآن في الخطبة كما سبق وقد قام الإجماع على عدم وجوب قراءة السورة المذكورة ولا بعضها في الخطبة، وكانت محافظته على هذه السورة اختياراً منه لما هو الأحسن في الوعظ والتذكير.
وفيه دلالة على ترديد الوعظ في الخطبة.
10- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسفاراً والذي يقول له: أَنصت ليست له جمعة" رواه أحمد بإسناد لا بأس به" وله شاهد قوي في جامع حماد مرسل "وهو" أي حديث ابن عباس "يفسر" الحديث.
11 ـ عن أَبي هُريرَة رضي اللَّهُ عنْهُ في الصّحيحيّنِ مَرْفوعاً "إذا قُلْتَ لِصاحِبِكَ أَنْصِتْ يَوْمَ الجُمُعَةِ والإمامُ يَخْطُبُ فَقَدْ لَغَوْتَ".
في قوله "يوم الجمعة" دلالة على أن خطبة غير الجمعة ليست مثلها ينهى عن الكلام حالها.
وقوله "والإمام يخطب" دليل على أنه يختص النهي بحال الخطبة، وفيه رد على من قال إنه ينهى من حال خروج الإمام.
وأما الكلام عند جلوسه بين الخطبتين فهو غير خاطب فلا ينهى عن الكلام حاله. وقيل هو وقت يسير يشبه بالسكوت للتنفس فهو في حكم الخاطب.
وإنما شبه بالحمار يحمل أسفاراً لأنه فاته الانتفاع بأبلغ نافع وقد تكلف المشقة وأتعب نفسه في حضور الجمعة، والمشبه به كذلك فاته الانتفاع بأبلغ نافع مع تحمل التعب في استصحابه.
وفي قوله "ليست له جمعة" دليل على أنه لا صلاة له فإن المراد بالجمعة الصلاة إلا أنها تجزئة إجماعاً فلا بد من تأويل هذا بأنه نفي للفضيلة التي يحوزها من أنصت وهو كما في حديث ابن عمر الذي أخرجه أبو داود وابن خزيمة بلفظ "من لغا وتخطى رقاب الناس كانت له ظهراً" قال ابن وهب أحد رواته: معناه أجزأته الصلاة وحرم فضيلة الجماعة.
وقد احتج بالحديث من قال بحرمة الكلام حال الخطبة وهم الهادوية وأبو حنيفة ومالك ورواية عن الشافعي فإن تشبيهه بالمشبه به المستنكر وملاحظة وجه الشبه يدل على قبح ذلك، وكذلك نسبته إلى فوات الفضيلة الحاصلة بالجمعة، وما ذاك إلا ما لحق المتكلم من الوزر الذي يقال الفضيلة فيصير محبطاً لها.
وذهب القاسم وابنا الهادي وأحد قولي أحمد والشافعي إلى التفرقة بين من يسمع الخطبة ومن لا يسمعها.
ونقل ابن عبد البر الإجماع على وجوب الإنصات على من يسمع خطبة الجمعة(2/50)
إلا عن قليل من التابعين.
وقوله: "إذا قلت لصاحبك أنصت فقد لغوت" تأكيد في النهي عن الكلام لأنه إذا عد من اللغو وهو أمر بمعروف فأولى غيره، فعلى هذا يجب عليه أن يأمره بالإشارة إن أمكن ذلك.
والمراد بالإنصات قيل: من مكالمة الناس فيجوز على هذا الذكر وقراءة القرآن، والأظهر أن النهي شامل للجميع، ومن فرق فعليه الدليل، فمثل جواب التحية والصلاة على النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عند ذكره عند من يقول بوجوبها قد تعارض فيه عموم النهي هنا وعموم الوجوب فيهما، وتخصيص أحدهما لعموم الآخر تحكم من دون مرجح.
واختلفوا في معنى قوله "لغوت" والأقرب ما قاله ابن المنير: أن اللغو ما لا يحسن، وقيل بطلت فضيلة جمعتك وصارت ظهراً.
12ـ وَعَنْ جابرٍ رضي اللَّهُ عَنْهُ قالَ: "دَخَلَ رَجُلٌ يَوْم الجُمُعةِ والنّبيُّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يخطُبُ فَقَالَ: "صَلّيْتَ؟" قالَ: لا، قالَ: "قُمْ فَصَلِّ ركْعَتَيْن" مُتّفقٌ عليه.
الرجل هو سليك الغطفاني سماه في رواية مسلم، وقيل غيره وحذفت همزة الاستفهام من قوله "صليت" وأصله أصليت وفي مسلم قال له: "أصليت" وقد ثبت في بعض طرق البخاري. وسليك بضم السين المهملة بعد اللام مثناة تحتية مصغر. الغطفاني بفتح الغين المعجمة فطاء مهملة بعدها فاء.
وقوله: "صل ركعتين" وعند البخاري وصفهما بخفيفتين، وعند مسلم "وتجوز فيهما" وبوَّب البخاري لذلك بقوله "باب من جاء والإمام يخطب يصلي ركعتين خفيفتين".
وفي الحديث دليل أن تحية المسجد تصلى حال الخطبة، وقد ذهب إلى هذه طائفة من الآل والفقهاء والمحدثين، ويخفف ليفرغ لسماع الخطبة.
وذهب جماعة من السلف والخلف إلى عدم شرعيتهما حال الخطبة، والحديث هذا حجة عليهم، وقد تأولوه بأحد عشر تأويلا كلها مردودة سردها المصنف في فتح الباري بردودها ونقل ذلك الشارح رحمه الله في الشرح، واستدلوا بقوله تعالى: { فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا } ولا دليل في ذلك، لأن هذا خاص وذلك عام، ولأن الخطبة ليست قرآناً وبأنه صلى الله عليه وآله وسلم نهى الرجل أن يقول لصاحبه والخطيب يخطب أنصت وهو أمر بمعروف وجوابه: أن هذا أمر الشارع وهذا أمر الشارع، فلا تعارض بين أمريه، بل القاعد ينصت والداخل يركع التحية وبإطباق أهل المدينة خلفاً عن سلف، على منع النافلة حال الخطبة.
وهذا الدليل للمالكية وجوابه أنه ليس إجماعهم حجة ولو أجمعوا كما عرف في الأصول على أنه لا يتم دعوى إجماعهم، فقد أخرج الترمذي وابن خزيمة وصححه أن أبا سعيد أتى ومروان يخطب فصلاهما فأراد حرس مروان أن يمنعوه فأبى حتى صلاهما ثم قال: ما كنت لأدعهما بعد أن سمعت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يأمر بهما.
وأما حديث ابن عمر عند الطبراني في الكبير مرفوعاً بلفظ: "إذا دخل أحدكم المسجد والإمام يخطب فلا صلاة ولا كلام حتى يفرغ الإمام" ففيه أيوب بن نهيك متروك وضعفه جماعة وذكره ابن حبان في الثقات وقال: يخطىء.
وقد أخذ من الحديث أنه يجوز للخطيب أن يقطع الخطبة باليسير من الكلام، وأجيب عنه بأنه هذا الذي صدر منه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم من جملة الأوامر التي شرعت لها الخطبة، وأمره صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بها دليل على وجوبها. وإليه ذهب(2/51)
البعض.
وأما من دخل الحرم في غير حال الخطبة فإنه يشرع له الطواف فإنه تحته أو لأنه في الأغلب لا يعقد إلا بعد صلاة ركعتي الطواف.
وأما صلاتها قبل صلاة العيد فإن كانت صلاة العيد في جبانة غير مسبلة فلا يشرع لها التحية مطلقاً وإن كانت في مسجد فتشرع.
وأما كونه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لما خرج إلى صلاته لم يصل قبلها شيئاً فذلك لأنه حال قدومه اشتغل بالدخول في صلاة العيد ولأنه كان يصليها في الجبانة ولم يصلها إلا مرة واحدة في مسجده صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فلا دليل فيه على أنها لا تشرع لغيره ولو كانت العيد في مسجد.
13- وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يقرأ في صلاة الجمعة سورة الجمعة" في الأولى "والمنافقين" في الثانية أي بعد الفاتحة فيها لما علم من غيره "رواه مسلم".
وإنما خصهما بهما لما في سورة الجمعة من الحث على حضورها والسعي إليها وبيان فضيلة بعثته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وذكر الأربع الحكم في بعثته من أنه يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة والحث على ذكر الله. ولما في سورة المنافقين من توبيخ أهل النفاق وحثهم على التوبة ودعائهم إلى طلب الاستغفار من رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لأن المنافقين يكثر اجتماعهم في صلاتها، ولما في آخرها من الوعظ والحث على الصدقة.
14- وله" أي لمسلم "عن النعمان بن بشير رضي الله عنه كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقرأ" أي رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم "في العيدين" الفطر والأضحى أي في صلاتهما "وفي الجمعة" أي في صلاتها "بسبح اسم ربك الأعلى" أي في الركعة الأولى بعد الفاتحة "{وهل أتاك حديث الغاشية}" أي في الثانية بعدها وكأنه كان يقرأ ما ذكره ابن عباس تارة وما ذكره النعمان تارة، وفي سور سبح والغاشية من التذكير بأحوال الآخرة والوعد والوعيد ما يناسب قراءتهما في تلك الصلاة الجامعة، وقد ورد في العيدين أنه كان يقرأ بقاف واقتربت.
15- وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: صلى النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم العيد" في يوم الجمعة، "ثم رخص في الجمعة" أي في صلاتها، " ثم قال: من شاء أن يصلي" أي الجمعة "فليصل" هذا بيان لقوله رخص، وإعلام بأنه كان الترخيص بهذا اللفظ، "رواه الخمسة إلا الترمذي وصححه ابن خزيمة".
وأخرج أيضاً أبو داود من حديث أبي هريرة أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "قد اجتمع في يومكم هذا عيدان فمن شاء أجزأه عن الجمعة وإنا مجمعون". وأخرجه ابن ماجه والحاكم من حديث أبي صالح، وفي إسناده بقية وصحح الدارقطني وغيره إرساله، وفي الباب عن ابن الزبير من حديث عطاء: "أنه ترك ذلك، وأنه سأل ابن عباس فقال: أصاب السنة".
والحديث دليل على أن صلاة الجمعة بعد صلاة العيد تصير رخصة يجوز فعلها وتركها وهو خاص بمن صلى العيد دون من لم يصلها، وإلى هذا ذهب الهادي وجماعة إلا في حق الإمام وثلاثة معه. وذهب الشافعي وجماعة إلى أنها لا تصير رخصة مستدلين بأن دليل وجوبها عام لجميع الأيام، وما ذكر من الأحاديث والآثار لا يقوى على تخصيصها لما في أسانيدها من المقال.
قلت: حديث زيد بن أرقم قد صححه ابن خزيمة(2/52)
ولم يطعن غيره فيه فهو يصلح للتخصيص، فإنه يخص العام بالآحاد، وذهب عطاء إلى أنه يسقط فرضها عن الجميع لظاهر قوله: "من شاء أن يصلي فليصل". ولفعل ابن الزبير فإنه صلى بهم في يوم عيد صلاة العيد يوم الجمعة، قال عطاء: ثم جئنا إلى الجمعة فلم يخرج إلينا فصلينا وحدانا، قال: وكان ابن عباس في الطائف، فلما قدم ذكرنا له ذلك فقال: أصاب السنة وعنده أيضاً أنه يسقط فرض الظهر ولا يصلي إلى العصير". وأخرج أبو داود عن ابن الزبير: "أنه قال عيدان اجتمعا في يوم واحد فجمعهما فصلاهما ركعتين بكرة لم يزد عليهما حتى صلى العصر". وعلى القول بأن الجمعة الأصل في يومها والظهر بدل فهو يقتضي صحة هذا القول لأنه إذا سقط وجوب الأصل مع إمكان أدائه سقط البدل.
وظاهر الحديث أيضاً حيث رخص لهم في الجمعة ولم يأمرهم بصلاة الظهر مع تقدير إسقاط الجمعة للظهر يدل على ذلك كما قاله الشارح، وأيد الشارح مذهب ابن الزبير.
قلت: ولا يخفى أن عطاءاً أخبر أنه لم يخرج ابن الزبير لصلاة الجمعة وليس ذلك بنص قاطع أنه لم يصل الظهر في منزله، فالجزم بأن مذهب ابن الزبير سقوط صلاة الظهر في يوم الجمعة يكون عيداً على من صلى صلاة العيد لهذه الرواية غير صحيح لاحتمال أنه صلى الظهر في منزله، بل في قول عطاء أنهم صلوا وحدانا أي الظهر ما يشعر بأنه لا قائل بسقوطه، ولا يقال: أن مراده صلوا الجمعة وحدانا فإنها لا تصح إلا جماعة إجماعاً، ثم القول بأن الأصل في يوم الجمعة صلاة الجمعة والظاهر بدل عنها قول مرجوح بل الظهر هو الفرض الأصلي المفروض ليلة الإسراء والجمعة متأخر فرضها، ثم إذا فاتت وجب الظهر إجماعاً فهي البدل عنه، وقد حققناه في رسالة مستقلة.
16- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربعاً" رواه مسلم" الحديث دليل على شرعية أربع ركعات بعد الجمعة والأمر بها وإن كان ظهره الوجوب، إلا أنه أخرجه عنه ما وقع في لفظه من رواية ابن الصباح: "من كان مصلياً بعد الجمعة فليصل أربعاً" أخرجه مسلم فدل على أن ذلك ليس بواجب والأربع أفضل من الاثنتين لوقوع الأمر بذلك وكثرة فعله لها صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، قال في الهدي النبوي: وكان صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذا صلى الجمعة دخل منزله وصلى ركعتين سنتها، وأمر من صلاها أن يصلي بعدها أربعاً، قال شيخنا ابن تيمية: إن صلى في المسجد صلى أربعاً وإن صلى في بيته صلى ركعتين.
قلت: وعلى هذا تدل الأحاديث وقد ذكر أبو داود عن ابن عمر: "أنه كان إذا صلى في المسجد صلى أربعاً، وإذا صلى في بيته صلي ركعتين" ، وفي الصحيحين عن ابن عمر أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته.
17- وعن السائب بن يزيد رضي الله عنه" هو أبو يزيد السائب بن يزيد الكندي في الأشهر ولد في الثانية من الهجرة وحضر الحجة الوداع مع أبيه وهو ابن سبع سنين "أن معاوية قال: إذا صليت الجمعة فلا تصلها" بفتح حرف المضارعة عن الوصل "بصلاة حتى تتكلم أو تخرج" أي من المسجد "فإن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أمرنا بذلك أن لا نوصل(2/53)
صلاة بصلاة حتى نتكلم أو نخرج" أن وما بعده بدل أو عطف بيان من ذلك "رواه مسلم" فيه مشروعية فصل النافلة عن الفريضة وأن لا توصل بها، وظاهر النهي التحريم وليس خاصاً بصلاة الجمعة، لأنه استدل الراوي على تخصيصخ بذكر صلاة الجمعة بحديث يعمها وغيرها.
قيل: والحكمة في ذلك لئلا يشتبه الفرض بالنافلة، وقد ورد أن ذلك هلكة. وقد ذكر العلماء أنه يستحب التحول للنافلة من موضع الفريضة والأفضل أن يتحول إلى بيته، فإن فعل النوافل في البيوت أفضل، وإلا فإلى موضع في المسجد أو غيره، وفيه تكثير لمواضع السجود، وقد أخرج أبو داود من حديث أبو هريرة مرفوعاً: "أيعجز أحدكم أن يتقدم أو يتأخر أو عن يمينه أو عن شماله في الصلاة يعني السبحة" . ولم يضعفه أبو داود، وقال البخاري في صحيحه: ويذكر عن أبي هريرة يرفعه: "لا يتطوع الإمام في مكانه". ولم يصح النهي.
18- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم من اغتسل" أي للجمعة لحديث: "إذا أتى أحدكم الجمعة فليغتسل" أو مطلقاً، "ثم أتى الجمعة" أي الموضع الذي تقام فيه كما يدل له قوله: "فصلى" من النوافل "قدر له ثم أنصت حتى يفرغ الإمام من خطبته ثم يصلي معه غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وفضل" أي زيادة "ثلاثة أيام . رواه مسلم".
فيه دلالة على أنه لا بد في إحرازه لما ذكر من الأجر من الاغتسال إلا أن في رواية لمسلم: "من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة". وفي هذه الرواية بيان أن غسل الجمعة ليس بواجب وأنه لا بد من النافلة حسبما يمكنه فإنه لم يقدرها بحد فيتم له هذا الأجر ولو اقتصر على تحية المسجد.
وقوله: "أنصت" من الإنصات وهو السكوت وهو غير الاستماع، إذ هو الإصغاء لسماع الشيء، ولذا قال تعالى: {فاستمعوا له وأنصتوا} "الأعراف: 204" وتقدم الكلام على الإنصات هل يجب أو لا.
وفيه دلالة على أن النهي عن الكلام إنما هو حال الخطبة لا بعد الفراغ منها ولو قبل الصلاة فإنه لا نهي عنه كما دلت عليه "حتى".
وقوله "غفر له ما بينه وبين الجمعة" أي ما بين صلاتها وخطبتها إلى مثل ذلك الوقت من الجمعة الثانية حتى يكون سبعة أيام بلا زيادة ولا نقصان أي غفرت له الخطايا الكائنة فيما بينهما.
"وفضل ثلاثة أيام" وغفرت له ذنوب ثلاثة أيام مع السبع حتى تكون عشرة.
وهل المغفور الكبائر أو الصغائر؟ الجمهور على الآخر وأن الكبائر لا يغفرها إلا التوبة.
19- وعنه" أي أبي هريرة "رضي الله عنه أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ذكر يوم الجمعة فقال: "فيه ساعةٌ لا يوافِقُها عبْدٌ مُسْلمٌ وهوَ قائمٌ" جملة حالية أو صفة لعبد والواو لتأكيد لصوق الصفة "يُصَلي" حال ثانية "يسأَلُ الله عزَّ وجلَّ" حال ثالثة "شيئاً إلا أَعطاهُ إياهُ وأشار" أي النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم "بيده يقللها" يحقر وقتها متفق عليه: وفي رواية لمسلم "وهي ساعةٌ خفيفة"" هو الذي أفاده لفظ يقللها في الأولى وفيه إبهام الساعة ويأتي تعيينها.
ومعنى "قائم" أي مقيم لها متلبس بأركانها لا بمعنى حال القيام فقط وهذه الجملة ثابتة في رواية جماعة من الحفاظ وأسقطت في رواية آخرين. وحكي عن بعض(2/54)
العلماء أنه كان يأمر بحذفها من الحديث وكأنه استشكل الصلاة، إذ وقت تلك الساعة إذا كان من بعد العصر فهو وقت كراهة للصلاة وكذا إذا كان من حال جلوس الخطيب على المنبر إلى انصرافه، وقد تأولت هذه الجملة بأن المراد منتظراً للصلاة؛ والمنتظر للصلاة في صلاة كما ثبت في الحديث، وإنما قلنا إن المشير بيده هو النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لما في رواية مالك "فأشار النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم" وقيل المشير بعض الرواة.
وأما كيفية الإشارة فهو أنه وضع أنملته على بطن الوسطى أو الخنصر يبين قلتها. وقد أطلق السؤال هنا وقيده في غيره كما عند ابن ماجه "ما لم يسأل الله إثماً" وعند أحمد "ما لم يسأل إثماً أو قطيعة رحم".
20- وعن أبي برْدة" بضم الموحدة وسكون الراء ودال مهملة هو عامر ابن عبد الله بن قيس، وعبد الله هو أبو موسى الأشعري، وأبو بردة من التابعين المشهورين سمع أباه وعلياً عليه السلام وابن عمر وغيرهم "عن أبيه" أبي موسى الأشعري "قال: سمعت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقول: "هي" أي ساعة الجمعة "ما بين أن يجلس الإمام" أي على المنبر "إلى أن تُقْضَ الصَّلاة" رواه مسلم ورجح الدارقطني أنه من قول أبي بردة".
وقد اختلف العلماء في هذه الساعة وذكر المصنف في فتح الباري عن العلماء ثلاثة وأربعين قولاً وسيشير إليها وسردها الشارح رحمه الله في الشرح، وهذا المروي عن أبي موسى أحدها ورجحه مسلم على ما روى عنه البيهقي وقال: هو أجود شيء في هذا الباب وأصحه وقال به البيهقي وابن العربي وجماعة، وقال القرطبي: هو نص في موضع الخلاف فلا يلتفت إلى غيره وقال النووي: هو الصحيح بل الصواب.
قال المصنف: وليس المراد أنها تستوعب جميع الوقت الذي عين بل تكون في أثنائه لقوله "يقللها" وقوله "خفيفة".
وفائدة ذكر الوقت أنها تنتقل فيها فيكون ابتداء مظنتها ابتداء الخطبة مثلاً وانتهاؤها انتهاء الصلاة.
وأما قوله: إنه رجح الدارقطني أن الحديث من قوله أبي بردة فقد يجاب عنه بأنه لا يكون إلا مرفوعاً فإنه لا مسرح للاجتهاد في تعيين أوقات العبادات ويأتي ما أعله به الدارقطني قريباً.
21 ـ وفي حديث عبد الله بن سلام رضي الله عنه" هو أبو يوسف بن سلام من بني قينقاع إسرائيليّ من ولد يوسف بن يعقوب عليه السلام وهو أحد الأحبار وأحد من شهد له النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بالجنة روى عنه ابناه يوسف ومحمد وأنس بن مالك وغيرهم مات بالمدينة سنة ثلاث وأربعين وسلام بتخفيف اللام قال المبرد: لم يكن في العرب سلام بالتخفيف غيره "عند ابن ماجه" لفظه فيه عن عبد الله بن سلام قال: قلت: ورسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم جالس: إنا لنجد في كتاب الله ـ يعني التوراة ـ في الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مسلم يصلي يسأل الله عز وجل شيئاً إلا قضى الله له حاجته، قال عبد الله: فأشار أي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو بعض ساعة قلت: صدقت يا رسول الله أو بعض ساعة، قلت: أي ساعة هي؟ قال: "هي آخر ساعة من ساعات النهار" قلت: إنها ليست ساعة صلاة قال: "إن العبد المؤمن إذا صلى ثم جلس لا يجلسه إلا الصلاة فهو في صلاة" انتهى.
22 ـ وَجَابرٍ رضي اللَّهُ عنه عِنْد أبي دَاوُدَ وللنسائي: "أَنّها مَا بينَ صَلاةِ العصر وغُروب الشّمس"(2/55)
قوله "أنها" بفتح الهمزة مبتدأ خبره ما تقدم من قوله في حديث عبد الله ابن سلام إلى آخره، ورجح أحمد بن حنبل هذا القول رواه عنه الترمذي وقال أحمد: أكثر الأحاديث على ذلك. وقال ابن عبد البر: هو أثبت شيء في هذا الباب، روى سعيد بن منصور بإسناد صحيح إلى أبي سلمة بن عبد الرحمن: "أن ناساً من الصحابة اجتمعوا فتذكروا ساعة الجمعة ثم افترقوا ولم يختلفوا أنها آخر ساعة من يوم الجمعة" ورجحه إسحاق وغيره، وحكي أنه نص الشافعي.
وقد استشكل هذا فإنه ترجيح لغير ما في الصحيح على ما فيه، والمعروف من علوم الحديث وغيرها أن ما في الصحيحين أو في أحدهما مقدم على غيره والجواب أن ذلك حيث لم يكن حديث الصحيحين أو أحدهما مما انتقده الحفاظ كحديث أبي موسى هذا الذي في مسلم فإنه قد أعل بالانقطاع والاضطر: أما الأول فلأنه من رواية مخرمة بن بكير وقد صرح أنه لم يسمع من أبيه فليس على شرط مسلم، وأما الثاني فلأن أهل الكوفة أخرجوه عن أبي بردة غير مرفوع، وأبو بردة كوفي وأهل بلدته أعلم بحديثه من بكير فلو كان مرفوعاً عند أبي بردة لم يقفوه عليه ولهذا جزم الدارقطني بأن الموقوف هو الصواب.
وجمع ابن القيم بين حديث أبي موسى وابن سلام بأن الساعة تنحصر في أحد الوقتين وسبقه إلى هذا أحمد بن حنبل "وقد اختلف فيها على أكثر من أربعين قولاً أمليتها في شرح البخاري" تقدمت الإشارة إلى هذا، قال الخطابي: اختلف فيها على قولين فقيل: قد رفعت، وهو محكي عن بعض الصحابة. وقيل: هي باقية واختلف في تعيينها، ثم سرد الأقوال ولم يبلغ بها المصنف من العدد وقد اقتصر المصنف هاهنا على قولين كأنهما الأرجح عنده دليلاً.
وفي الحديث بيان فضيله الجمعة لاختصاصها بهذه الساعة.
23- وعن جابر رضي الله عنه" هو ابن عبد الله "قال: مضت السنة أن في كل أربعين فصاعداً جمعة . رواه الدارقطني بإسناد ضعيف".
وذلك أنه من رواية عبد العزيز بن عبد الرحمن، وعبد العزيز قال فيه أحمد: اضرب على أحاديثه فإنها كذب أو موضوعة، وقال النسائي: ليس بثقة، وقال الدارقطني: منكر الحديث، وقال ابن حبان: لا يجوز أن يحتج به وفي الباب أحاديث لا أصل لها، وقال عبد الحق: لا يثبت في العدد حديث؛ وقد اختلف العلماء في النصاب الذين بهم تقوم الجمعة.
فذهب إلى وجوبها على الأربعين لا على من دونهم عمر بن عبد العزيز والشافعي وفي كون الإمام أحدهم وجهان عند الشافعية.
وذهب أبو حنيفة والمؤيد وأبو طالب إلى أنها تنعقد بثلاثة مع الإمام وهو أقل عدد تنعقد به فلا تجب إذا لم يتم هذا القدر مستدلين بقوله تعالى: { فَاسَعَوْا } قالوا: والخطاب للجماعة بعد النداء للجمعة وأقل الجمع ثلاثة فدل على وجوب السعي على الجمعة للجمعة بعد النداء لها والنداء لا بدّ له من مناد فكانوا ثلاثة مع الإمام ولا دليل على اشتراط ما زاد على ذلك، واعترض بأنه لا يلزم من خطاب الجماعة فعلهم لها مجتمعين وقد صرح في البحر بهذا، واعترض به أهل المذهب لما استدلوا به للمذهب ونقضه بقوله تعالى: { وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } { وَجَاهَدُوا } فإنه لا يلزم إيتاء الزكاة في جماعة.
قلت: والحق أن شرطية أي شيء في أي عبادة لا يكون إلا عن(2/56)
دليل ولا دليل هنا على تعين عدد لا من الكتاب ولا من السنة وإذا قد علم أنها لا تكون صلاتها إلا جماعة كما قد ورد بذلك حديث أبي موسى عند ابن ماجة وابن عدي وحديث أبي أمامة عند أحمد والطبراني، والاثنان أقل ما تتم به الجماعة لحديث "الإثنان جماعة" فتتم بهم في الأظهر، وقد سرد الشارح الخلاف والأقوال في كمية العدد المعتبر في صلاة الجمعة فبلغت أربعة عشر قولاً وذكر ما تشبث به كل قائل من الدليل على ما ادعاه بما لا ينهض حجة على الشرطية.
ثم قال: والذي نقل حال النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أنه كان يصليها في جمع كثير غير موقوف على عدد يدل على أن المعتبر وهو الجمع الذي يحصل به الشعار ولا يكون إلا في كثرة يغيظ بها المنافق ويكيد بها الجاحد ويسر بها المصدق، والآية الكريمة دالة على الأمر بالجماعة فلو وقف على أقل ما دلت عليه لم تنعقد. قلت: قد كتبنا رسالة في شروط الجمعة التي ذكروها ووسعنا فيها المقال والاستدلال سميناها: اللمعة في تحقيق شرائط الجمعة.
24 ـ وَعَن سَمُرة بنِ جُنْدبٍ رضي الله عنه "أَنَّ النّبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كانَ يَسْتَغْفِرُ" للمؤمنينَ والمؤمنَاتِ كُلَّ جُمُعَةٍ" رَوَاهُ الْبَزَّارُ بإسْنادٍ لَيِّنٍ.
قلت: قال البزار: لا نعلمه عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إلا بهذا الإسناد وفي إسناده[تض] البزار يوسف بن خالد السمتي[/تض] وهو ضعيف ورواه الطبراني في الكبير إلا أنه بزيادة "والمسلمين والمسلمات".
وفيه دليل على مشروعية ذلك للخطيب لأنها موضع الدعاء، وقد ذهب إلى وجوب دعاء الخطيب لنفسه وللمؤمنين والمؤمنات أبو طالب والإمام يحيى، وكأنهم يقولون إن مواظبته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم دليل الوجوب كما يفيده "كان يستغفر".
وقال غيرهم: يندب ولا يجب لعدم الدليل على الوجوب قال الشارح: والأول أظهر.
25 ـ وَعَنْ جابر بنِ سَمُرة رضي اللَّهُ عنهما "أنَّ النّبيَ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كانَ في الخُطْبة، يقرأُ آياتٍ مِن القرآن ويُذكِّرُ النّاس" رَواهُ أبو داود وأَصْلُهُ في مُسْلمٍ.
كأنه يريد ما تقدم من حديث أمّ هشام بنت حارثة: أنها قالت ما أخذت "ق والقرآن المجيد" إلا من لسان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقرؤها كل جمعة على المنبر" وروى الطبراني في الأوسط من حديث علي عليه السلام: "أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يقرأ على المنبر "{قل يا أيها الكافرون} و {قل هو الله أحد} وفيه رجل مجهول وبقية رجاله موثقون وأخرج الطبراني فيه أيضاً من حديث جابر: "أنه خطب رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فقرأ في خطبته آخر الزمر فتحرّك المنبر مرتين". وفي رواته ضعيفان.
26- وعن طارق بن شهاب رضي الله عنه" ابن عبد شمس الأحمسي البجلي الكوفي أدرك الجاهلية ورأى النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وليس له منه سماع وغزا في خلافة أبي بكر وعمر ثلاثاً وثلاثين أو أربعاً وثلاثين غزوة وسرية ومات سنة اثنتين وثمانين "أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "الجمعة حق واجبٌ على كلِّ مُسْلمٍ في جماعةٍ إلا أربعة مملُوكٌ وامرأةٌ وصبيٌّ ومريضٌ" رواه أبو داود وقال: لم يسمع طارق من النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم" إلا أنه في سنن أبي داود بلفظ "عبد مملوك أو امرأة أو صبي أو مريض" بلفظ أو(2/57)
وكذا ساقه المصنف في التلخيص ثم قال أبو داود: طارق قد رأى النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وهو من أصحاب النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ولم يسمع منه شيئاً. انتهى "وأخرجه الحاكم من رواية طارق المذكور عن أبي موسى" يريد المصنف أنه بهذا صار موصولاً. وفي الباب عن تميم الداري وابن عمر ومولى لابن الزبير رواه البيهقي، وحديث تميم فيه أربعة أنفس ضعفاء على الولاء قاله ابن القطان، وحديث ابن عمر أخرجه الطبراني في الأوسط بلفظ "ليس على مسافر جمعة" وفيه أيضاً من حديث أبي هريرة مرفوعاً "خمسة لا جمعة عليهم المرأة والمسافر والعبد والصبي وأهل البادية".
27- وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم "ليس على مُسافر جمْعَةٌ" رواه الطبراين بإسناد ضعيف" ولم يذكر المصنف تضعيفه في التلخيص، ولا بيّن وجه ضعفه.
وإذا عرفت هذا فقد اجتمع من الأحاديث أنها لا تجب الجمعة على ستة أنفس: الصبي وهو متفق على أنه لا جمعة عليه، والمملوك وهو متفق عليه إلا عند داود فقال بوجوبها عليه لدخوله تحت عموم {يا أيّها الذينَ امنوا إذا نوديَ للصلاةِ} فإنه تقرر في الأصول دخول العبيد في الخطاب وأجيب عنه بأنه خصصته الأحاديث وإن كان فيه مقال فإنه يقوي بعضها بعضاً.
والمرأة وهو مجمع على عدم وجوبها عليها، وقال الشافعي: يستحب للعجائز حضورها بإذن الزوج، ورواية البحر عنه أنه يقول بالوجوب عليهنّ خلاف ما هو مصرح به في كتب الشافعية.
والمريض فإنه لا يجب عليه حضورها إذا كان يتضرر به.
والمسافر لا يجب عليه حضورها وهو يحتمل أن يراد به مباشر السفر وأما النازل فيجب عليه ولو نزل بمقدار الصلاة وإلى هذا ذهب جماعة من الآل وغيرهم. وقيل: لا تجب عليه لأنه داخل في لفظ المسافر وإليه ذهب جماعة من الآل أيضاً، وهو الأقرب لأن أحكام السفر باقية له من القصر ونحوه ولذا لم ينقل أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلى الجمعة بعرفات في حجة الوداع لأنه كان مسافراً.
وكذلك العيد تسقط صلاته عن المسافر ولذا لم يرو أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلى صلاة العيد في حجته تلك وقد وهم ابن حزم فقال: إنه صلاها في حجته وغلّطه العلماء.
السادس أهل البادية وفي النهاية: أن البادية تختص بأهل العمد والخيام دون أهل القرى والمدن. وفي شرح العمدة أن حكم أهل القرى حكم أهل البادية ذكره في شرح حديث "لا يبيع حاضر لباد".
28- وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا استوى على المنبر استقبلناه بوجوهنا . رواه الترمذي بإسناد ضعيف" لأن فيه[تض] محمد بن الفضل بن عطية[تض] وهو ضعيف تفرد به وضعفه به الدارقطني وابن عدي وغيرهما "وله شاهد من حديث البراء عند ابن خزيمة" لم يذكره الشارح ولا رأيته في التلخيص.
والحديث يدل على أن استقبال الناس الخطيب مواجهين له أمر مستمر وهو في حكم المجمع عليه، جزم بوجوبه أبو الطيب من الشافعية، وللهادوية احتمالان فيما إذا تقدم بعض المستمعين على الإمام ولم يواجهوه يصح(2/58)
أو لا يصح؟. ونص صاحب الأثمار أنه يجب على العدد الذين تنعقد لهم الجمعة المواجهة دون غيرهم.
29- وعن الحكم بن حَزْن رضي الله عنه" بفتح المهملة وسكون الزاي فنون. والحكم قال ابن عبد البر: إنه أسلم عام الفتح وقيل يوم اليمامة وأبوه حزن ابن أبي وهب المخزومي "قال "شهدنا الجمعة مع رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فقام متوكئاً على عصا أو قَوْس . رواه أبو داود" تمامه في السنن "فحمد الله وأثنى عليه كلمات خفيفات طيبات مباركات ثم قال: "أيها الناس إنكم لن تطيقوا ـ أو لن تفعلوا ـ كل ما أمرتم به ولكن سَدِّدوا ويَسّروا" وفي رواية "وأبشروا" وإسناده حسن وصححه ابن السكن وله شاهد عند أبي داود من حديث البراء: "أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا خطب يعتمد على عنزة له" . والعنزة مثل نصف الرمح أو أكبر فيها سنان مثل سنان الرمح.
وفي الحديث دليل على أنه يندب للخطيب الاعتماد على سيف أو نحوه وقت خطبته والحكمة أن في ذلك ربطاً للقلب ولبعد يديه عن العبث فإن لم يجد ما يعتمد عليه أرسل يديه أو وضع اليمنى على اليسرى أو على جانب المنبر ويكره دق المنبر بالسيف إذ لم يؤثر فهو بدعة.(2/59)
باب صلاة الخوف
1- عن صالح بن خوّات رضي الله عنه" بفتح الخاء المعجمة وتشديد الواو فمثناة فوقية الأنصاري المدني تابعي مشهور سمع جماعة من الصحابة "عمن صلى مع النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم" في صحيح مسلم عن صالح بن خوات ابن جبير عن سهل بن أبي حثمة، فصرح بمن حدثه في رواية. وفي رواية أبهمه كما هنا "يوم ذات الرِّقاع" بكسر الراء فقاف مخففة آخره عين مهملة هو مكان من نجد بأرض غطفان. سميت الغزوة بذلك لأن أقدامهم نقبت فلفوا عليها الخرق كما في صحيح البخاري من حديث أبي موسى وكانت في جمادى الأولى في السنة الرابعة من الهجرة "صلاة الخوف أن طائفة" من أصحابه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم "صفت معه وطائفة وجاه" بكسر الواو فجيم مواجهة "العدو فصلى بالذين معه ركعة ثم ثبت قائماً وأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا وصفوا" في مسلم فصفوا بالفاء "وجاه العدو وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت ثم ثبت جالساً وأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم. متفق عليه وهذا لفظ مسلم ووقع في المعرفة" كتاب "لابن منده" بفتح الميم وسكون النون فدال مهملة إمام كبير من أئمة الحديث "عن صالح بن خوات عن أبيه" أي خوات وهو صحابي فذكر المبهم أنه أبوه، وفي مسلم أنه من ذكرناه.(2/59)
واعلم أن هذه الغزوة كانت في الرابعة كما ذكرناه وهو الذي قاله ابن إسحاق وغيره من أهل السير والمغازي وتلقاه الناس منهم. قال ابن القيم: وهو مشكل جداً فإنه قد صح أن المشركين حبسوا رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يوم الخندق عن صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء فصلاهنّ جميعاً وذلك قبل نزول صلاة الخوف. والخندق بعد ذات الرقاع سنة خمس، قال: والظاهر أن أول صلاة صلاها رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم للخوف بعسفان، ولا خلاف بينهم أن عسفان كانت بعد الخندق، وقد صح عنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أنه صلى صلاة الخوف بذات الرقاع فعلم أنها بعد الخندق وبعد عسفان وقد تبين لنا وهم أهل السير انتهى.
ومن يحتج بتقديم شرعيتها على الخندق على رواية أهل السير يقول: إنها لا تصلى صلاة الخوف في الحضر ولذا لم يصلها النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يوم الخندق.
وهذه الصفة التي ذكرت في الحديث في كيفية صلاتها واضحة وقد ذهب إليها جماعة من الصحابة ومن الآل من بعدهم.
واشترط الشافعي أن يكون العدو في غير جهة القبلة.
وهذا في الثنائية وإن كانت ثلاثية انتظر في التشهد الأول وتتم الطائفة الركعة الثالثة، وكذلك في الرباعية إن قلنا إنها تصلى صلاة الخوف في الحضر وينتظر في التشهد أيضاً.
وظاهر القرآن مطابق لما دل عليه هذا الحديث الجليل لقوله {ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فيصلوا معك} وهذه الكيفية أقرب إلى موافقة المعتاد من الصلاة في تقليل الأفعال المنافية للصلاة والمتابعة للإمام...
2- وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: غزوت مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم قِبل" بكسر القاف وفتح الموحدة أي جهة "نجد" نجد: كل ما ارتفع من بلاد العرب "فوازينا" بالزاي بعدها مثناة تحتية قابلنا "العدو فصاففناهم فقام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فصلى بنا" في المغازي من البخاري أنها صلاة العصر ثم لفظ البخاري "فصلى لنا" باللام قال المصنف في الفتح: أي لأجلنا ولم يذكر أن فيه رواية بالموحدة وفيه "يصلي" بالفعل المضارع "فقامت طائفة معه وأقبلت طائفة على العدو وركع بمن معه ركعة وسجد سجدتين ثم انصرفوا" أي الذين صلوا معه، ولم يكونوا أتوا بالركعة الثانية ولا سلموا من صلاتهم "مكان الطائفة التي لم تصل فجاءوا فركع بهم ركعة وسجد سجدتين ثم سلم، فقام كل واحد منهم فركع لنفسه ركعة وسجد سجدتين . متفق عليه وهذا لفظ البخاري".
قال المصنف: لم تختلف الطرق عن ابن عمر في هذا ويحتمل أنهم أتموا في حالة واحدة ويحتمل أنهم أتموا على التعاقب وهو الراجح من حيث المعنى وإلا استلزم تضييع الحراسة المطلوبة وإفراد الإمام وحده ويرجحه ما رواه أبو داود من حديث ابن مسعود بلفظ "ثم سلم فقام هؤلاء أي الطائفة الثانية فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا ثم ذهبوا ورجع أولئك إلى مقامهم فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا" انتهى.
والطائفة تطلق على القليل والكثير حتى على الواحد حتى لو كانوا ثلاثة جاز للإمام أن يصلي بواحد والثالث يحرس ثم يصلي مع الإمام وهذا أقل ما يحصل به جماعة الخوف.
وظاهر الحديث أن الطائفة الثانية والت بين ركعتيها ثم أتت الطائفة الأولى بعدها، وقد ذهب إلى هذه الكيفية أبو حنيفة ومحمد.(2/60)
3- وعن جابر رضي الله عنه قال: شهدت مع رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلاة الخوف فصففنا صفين: صفٌّ خلف رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم والعدوُّ بيننا وبين القبلة فكبر النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وكبرنا جميعاً ثم ركع وركعنا جميعاً ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعاً ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه" أي انحدر الصف الذي يليه وهو عطف على الضمير المتصل من دون تأكيد لأنه وقد وقع الفصل "وأقام الصف المؤخر في نحر العدو فلما قضى السجود وقام الصف الذي يليه فذكر الحديث" تمامه "انحدر الصف المؤخر بالسجود وقاموا ثم تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المقدم ثم ركع النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وركعنا جميعاً ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعاً ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه الذي كان مؤخراً في الركعة الأولى وقام والصف المؤخر في نحور العدو، فلما قضى النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم السجود والصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود فسجدوا ثم سلم النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وسلمنا جميعاً، قال جابر: كما يصنع حرسكم هؤلاء بأمرائهم" انتهى لفظ مسلم.
قوله "وفي رواية" هي في مسلم عن جابر وفيها تعيين القوم الذين حاربوهم ولفظها "غزونا مع رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قوماً من جهينة فقاتلونا قتالاً شديداً فلما صلينا الظهر قال المشركون: لو ملنا عليهم ميلة لاقتطعناهم فأخبر جبريل رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ذلك فذكر لنا رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: وقالوا: إنها ستأتيهم صلاة هي أحب إليهم من "الأولاد" فلما حضرت العصر ـ إلى أن قال: ثم سجد وسجد معه الصف الأول فلما قاموا سجد الصف الثاني، ثم تأخر الصف الأول، وتقدم الصف الثاني، فذكر مثله" قال: "فقاموا مقام الأول فكبر رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وكبرنا وركع فركعنا ثم سجد وسجد معه الصف الأول وقام الثاني فلما سجد الصف الثاني ثم جلسوا جميعاً" "وفي أواخره: ثم سلم النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وسلمنا جميعاً . رواه مسلم".
الحديث دليل على أنه إذا كان العدو في جهة القبلة فإنه يخالف ما إذا لم يكن كذلك فإنها تمكن الحراسة مع دخولهم جميعاً في الصلاة. وذلك أن الحاجة إلى الحراسة إنما تكون في حال السجود فقط، فيتابعون الإمام في القيام والركوع، ويحرس الصف المؤخر في حال السجدتين بأن يتركوا المتابعة للإمام ثم يسجدون عند قيام الصف الأول. ويتقدم المؤخر إلى محل الصف المقدم، ويتأخر المقدم ليتابع المؤخر الإمام في السجدتين الأخيرتين، فيصح مع كل من الطائفتين المتابعة في سجدتين.
والحديث يدل أنها لا تكون الحراسة إلا حال السجود فقط دون حال الركوع لأن حال الركوع لا يمتنع معه إدراك أحوال العدو.
وهذه الكيفية لا توافق ظاهر الآية ولا توافق الرواية الأولى عن صالح ابن خوات ولا رواية ابن عمر إلا أنه قد يقال: إنها تختلف الصفات باختلاف الأحوال.
4 ـ ولأبي داود عن أبي عياش الزرقي مثله" أي مثل رواية جابر هذه "وزاد" تعيين محل الصلاة "أنها كانت بعسفان" بضم العين المهملة وسكون السين المهملة ففاء آخره نون وهو موضع على مرحلتين من مكة كما في القاموس.(2/61)
5- وللنسائي من وجه آخر" غير الوجه الذي أخرجه منه مسلم "عن جابر رضي الله عنه أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلى بطائفة من أصحابه ركعتين ثم سلم ثم صلى بآخرين ركعتين ثم سلم" فصلى بإحداهما فرضاً وبالأخرى نفلاً له.
وعمل بهذا الحسن البصري، وادعى الطحاوي أنه منسوخ بناء منه على أنه لا يصح أن يصلي المفترض خلف المتنفل، ولا دليل على النسخ.
6 ـ ومثله لأبي داود عن أبي بكرة" وقال أبو داود: وكذلك في المغرب يكون للإمام ست ركعات وللقوم ثلاث ثلاث.
7 ـ وعَنْ حُذيفة رضيَ اللَّهُ عنه: "أنَّ النّبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في الخوفِ بهؤلاءِ ركْعَةً وهؤلاءِ ركْعَةً ولمْ يَقْضُوا" رَوَاهُ أَحْمدُ وأَبو داودَ والنسائي وصحّحهُ ابنُ حبان.
8 ـ ومِثْلُهُ عِنْدَ ابنِ خُزَيْمَةَ عن ابنِ عبّاسٍ رضيَ الله عَنْهُما.
وهذه الصلاة بهذه الكيفية صلاها حذيفة بطبرستان وكان الأمير سعيد ابن العاص فقال: أيكم صلى مع رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلاة الخوف قال حذيفة: أنا، فصلى بهؤلاء ركعة وبهؤلاء ركعة ولم يقضوا.
وأخرج أبو داود عن ابن عمر وعن زيد بن ثابت: قال زيد: فكانت للقوم ركعة ركعة وللنبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ركعتين. وأخرج عن ابن عباس: قال: فرض الله تعالى الصلاة على لسان نبيكم صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في الحضر أربعاً وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة.
وأخذ بهذا عطاء وطاوس والحسن وغيرهم فقالوا: يصلي في شدة الخوف ركعة يوميء إيماء.
وإن إسحاق يقول: تجزئك عند المسايفة ركعة واحدة تومىء لها إيماء، فإن لم تقدر فسجدة فإن لم فتكبيرة لأنها ذكر الله".
9 ـ وعن ابن عُمَر رضي الله عنهما قال: قالَ رسُولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم "صلاة الخوف ركعةٌ على أيِّ وجهٍ كان" رواهُ البزَّارُ بإسناد ضَعيف.
وأخرج النسائي: أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلاها بذي قرد بهذه الكيفية . وقال المصنف: قد صححه ابن حبان وغيره. وأما الشافعي فقال: لا يثبت.
والحديث دليل على أن صلاة الخوف ركعة واحدة في حق الإمام والمأموم وقد قال به الثوري وجماعة، وقال به من الصحابة أبو هريرة وأبو موسى.
واعلم أنه ذكر المصنف في هذا الكتاب خمس كيفيات لصلاة الخوف وفي سنن أبي داود ثماني كيفيات منها هذه الخمس وزاد ثلاثاً.
وقال المصنف في فتح الباري: قد روي في صلاة الخوف كيفيات كثيرة ورجح ابن عبد البر الكيفية الواردة في حديث ابن عمر لقوة الإسناد وموافقة الأصول في أن المؤتم لا تتم صلاته قبل الإمام.
وقال ابن حزم: صح منها أربعة عشر وجهاً.
وقال ابن العربي: فيها روايات كثيرة أصحها ست عشرة رواية مختلفة.
وقال النووي: نحوه في شرح مسلم ولم يبينها.
قال الحافظ: وقد بينها شيخنا الحافظ أبو الفضل في شرح الترمذي وزاد وجهاً فصارت سبع عشرة ولكن يمكن أن تتداخل.
وقال في الهدي النبوي: صلاها النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عشر مرات. وقال ابن العربي: صلاها أربعاً وعشرين مرة.
وقال الخطابي: صلاها النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في أيام مختلفة بأشكال متباينة يتحرّى ما هو الأحوط للصلاة والأبلغ في الحراسة فهي على اختلاف صورتها متفقة المعنى انتهى.
10ـ وعَنْهُ رضي اللَّهُ عنهُ مَرْفوعاً "لَيْسَ في صَلاةِ الخوفِ سَهْوٌ" أَخرجَهُ(2/62)
الدَّارقُطني بإسناد ضَعيف. وهو مع هذا موقوف، قيل: ولم يقل به أحد من العلماء.
واعلم أنه قد شرط في صلاة الخوف شروط:
منها السفر: فاشترطه جماعة لقوله تعالى: { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ } الآية ولأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لم يصلها في الحضر وقال زيد بن علي والناصر والحنفية والشافعية: لا يشترط لقوله تعالى: { وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ } بناء على أنه معطوف على قوله: { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ } فهو غير داخل في التقييد بالضرب في الأرض ولعل الأوّلين يجعلونه مقيداً بالضرب في الأرض وأن التقدير وإذا كنت فيهم مع هذه الحالة التي هي الضرب في الأرض والكلام مستوفى في كتب التفسير.
ومنها: أن يكون آخر الوقت: لأنها بدل من صلاة الأمن لا تجزيء إلا عند اليأس من المبدل منه وهذه قاعدة للقائلين بذلك وهم الهادوية. وغيرهم يقول: تجزيء أوّل الوقت لعموم أدلة الأوقات.
ومنها: حمل السلاح حال الصلاة: اشترطه داود فلا تصح الصلاة إلا بحمله ولا دليل على اشتراطه. وأوجبه الشافعي والناصر للأمر به في الآية ولهم في السلاح تفاصيل معروفة.
ومنها: ألا يكون القتال محرّماً: سواء كان واجباً عيناً أو كفاية.
ومنها: أن يكون المصلي مطلوباً للعدوّ لا طالباً: لأنه إذا كان طالباً أمكنه أن يأتي بالصلاة تامّة، أو يكون خاشياً لكرّ العدو عليه. وهذه الشرائط مستوفاة في الفروع مأخوذة من أحوال شرعيتها وليست بظاهرة في الشرطية.
واعلم أن شرعية هذه الصلاة من أعظم الأدلة على عظم شأن الجماعة.(2/63)
باب صلاة العيدين
1 ـ عَنْ عَائشةَ رضي اللَّهُ عنها قالت: قالَ رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم "الفطرُ يَوْمَ يُفْطِرُ النّاسُ والأضحى يَوْمَ يُضَحِّي النّاس" رواهُ التِّرمذيُّ.
وقال الترمذي بعد سياقه: هذا حديث حسن غريب. وفسر بعض أهل العلم هذا الحديث أن معنى هذا: الفطر والصوم مع الجماعة ومعظم الناس بلفظه:
فيه دليل على أنه يعتبر في ثبوت العيد الموافقة للناس وأن المنفرد بمعرفة يوم العيد بالرؤية يجب عليه موافقة غيره ويلزمه حكمهم في الصلاة والإفطار والأضحية. وقد أخرج الترمذي مثل هذا الحديث عن أبي هريرة وقال: حديث حسن. وفي معناه حديث ابن عباس وقد قال له كريب: إنه صام أهل الشام ومعاوية برؤية الهلال يوم الجمعة بالشام وقدم المدينة آخر الشهر وأخبر ابن عباس بذلك فقال ابن عباس: لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه قال: قلت: أولا تكتفي برؤية معاوية والناس؟ قال: لا هكذا أمرنا رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم.
وظاهر الحديث أن كريباً ممن رآه وأنه أمره ابن عباس أن يتم صومه وإن كان متيقناً أنه يوم عيد عنده.
وذهب إلى هذا محمد بن الحسن وقال: يجب موافقة الناس وإن خالف يقين نفسه وكذا في الحج لأنه ورد "وعرفتكم يوم تعرفون".
وخالفه الجمهور وقالوا: إنه يجب عليه العمل في نفسه بما تيقنه وحملوا الحديث على عدم معرفته بما يخالف الناس فإنه إذا انكشف بعد الخطأ فقد أجزأه ما فعل. قالوا: وتتأخر الأيام في حق من التبس عليه وعمل بالأصل وتأولوا حديث ابن عباس بأنه يحتمل أنه لم يقل برؤية(2/63)
أهل الشام لاختلاف المطالع في الشام والحجاز، أو أنه لما كان المخبر واحداً لم يعمل بشهادته، وليس فيه أنه أمر كريباً بالعمل بخلاف يقين نفسه فإنما أخبر عن أهل المدينة وأنهم لا يعملون بذلك لأحد الأمرين.
2- وعن أبي عمير" هو أبو عمير "ابن أنس بن مالك رضي الله عنهما" الأنصاري يقال: إن اسمه عبد الله وهو من صغار التابعين روى عن جماعة من الصحابة وعمّر بعد أبيه زماناً طويلاً "عن عمومةٍ له من أصحاب النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أن ركباً جاءوا إلى النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يشهدون أنهم رأوا الهلال بالأمس فأمرهم" النبي صلى الله عليه وآله وسلم "أن يفطروا وإذا أصبحوا أن يغدوا إلى مصلاهم . رواه أحمد وأبو داود وهذا لفظه وإسناده صحيح" وأخرجه النسائي وابن ماجه وصححه ابن المنذر وابن السكن وابن حزم. وقول ابن عبد البر إن أبا عمير مجهول مردود بأنه قد عرفه من صحح له.
الحديث دليل على أن هذه الأذكار قائمة مقام القراءة للفاتحة، وغيرها، لمن لا يحسن ذلك، وظاهره: أنه لا يجب عليه تعلم القران ليقرأ به في الصلاة، فإن معنى لا أستطيع: لا أحفظ الان منه شيئاً، فلم يأمره بحفظه، وأمره بهذه الألفاظ، مع أنه يمكنه حفظ الفاتحة، كما يحفظ هذه. وقد تقدم في حديث المسيء صلاته.
والحديث دليل على أن صلاة العيد تصلى في اليوم الثاني حيث انكشف العيد بعد خروج وقت الصلاة.
وظاهر الحديث الإطلاق بالنظر إلى وقت الصلاة، وأنه وإن كان وقتها باقياً حيث لم يكن ذلك معلوماً من أول اليوم، وقد ذهب إلى العمل به الهادي والقاسم وأبو حنيفة لكن شرط أن لا يعلم إلا وقد خرج وقتها فإنها تقضى في اليوم الثاني فقط في الوقت الذي تؤدى فيه في يومها، قال أبو طالب: بشرط أن يترك اللبس كما ورد في الحديث، وغيره يعمم العذر سواء كان للبس أو لمطر وهو مصرح به في كتب الحنفية قياساً لغير اللبس عليه.
ثم ظاهر الحديث أنها أداء لا قضاء.
وذهب مالك أنها لا تقضى مطلقاً كما لا تقضى في يومها.
وللشافعية تفاصيل أخر ذكرها في الشرح وهذا الحديث ورد في عيد الإفطار وقاسوا عليه الأضحى وفي الترك للبس وقاسوا عليه سائر الأعذار وفي القياس نظر إذا لم يتعين معرفة الجامع والله أعلم.
3- وعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يغدو" أي يخرج وقت الغداة "يوم الفطر" أي إلى المصلى "حتى يأكل تمرات . أخرجه البخاري، وفي رواية معلقة" أي للبخاري علقها عن أنس "ووصلها أحمد "ويأكلهن أفراداً"" وأخرجه البخاري في تاريخه وابن حبان والحاكم من رواية عتبة بن حميد عنه بلفظ: حتى يأكل تمرات ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً أو أقل من ذلك أو أكثر وتراً.
والحديث يدل على مداومته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على ذلك.
قال المهلب: الحكمة في الأكل قبل الصلاة أن لايظن ظان لزوم الصوم حتى يصلي العيد فكأنه أراد سد هذه الذريعة، وقيل لما وقع وجوب الفطر عقيب وجوب الصوم استحب تعجيل الفطر مبادرة إلى امتثال أمر الله.
قال ابن قدامة: ولا نعلم في استحباب تعجيل الأكل في هذا اليوم قبل الصلاة خلافاً.
قال المصنف في الفتح: والحكمة في استحباب التمر ما في الحلو من تقوية البصر الذي يضعفه الصوم، أو لأن الحلو مما يوافق الإيمان ويعبر به المنام ويرقق القلب ومن ثمة استحب بعض التابعين أن يفطر على الحلو مطلقاً.
قال المهلب: وأما جعلهن وتراً فللإشارة إلى الوحدانية، وكذلك كان يفعل صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في جميع أموره تبركاً بذلك.
4- وعن ابن بريدة رضي الله عنه" بضم الموحدة وفتح الراء وسكون المثناة التحتية ودال مهملة(2/64)
"عن أبيه" هو بريدة بن الحصيب تقدم، واسم ابن بريدة: عبد الله بن بريدة بن الحصيب الأسلمي أبو سهل المروزي قاضيها ثقة من الثالثة قاله المصنف في التقريب "قال: كان النبيُّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لا يخرج يوم الفطر حتى يطعم، ولا يطعم يوم الأضحى حتى يصلي . رواه أحمد" وزاد فيه: فيأكل من أضحيته " والترمذي وصححه ابن حبان" وأخرجه أيضاً ابن ماجه والدارقطني والحاكم والبيهقي وصححه ابن القطان وفي رواية البيهقي زيادة: وكان إذا رجع أكل من كبد أضحيته . قال الترمذي: وفي الباب عن علي وأنس، ورواه الترمذي أيضاً عن ابن عمر وفيها ضعف.
والحديث دليل على شرعية الأكل يوم الفطر قبل الصلاة وتأخيره يوم الأضحى إلى ما بعد الصلاة.
والحكمة فيه هو أنه لما كان إظهار كرامة الله تعالى للعباد بشرعية نحر الأضاحي كان الأهم الابتداء بأكلها شكراً لله على ما أنعم به من شرعية النسكية الجامعة لخير الدنيا وثواب الآخرة.
5- وعن أم عطية رضي الله عنها" هي الأنصارية اسمها نسيبة بنت الحرث وقيل بنت كعب كانت تغزو مع رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كثيراً تداوي الجرحى وتمرض المرضى، تعدّ في أهل البصرة، وكان جماعة من الصحابة وعلماء التابعين بالبصرة يأخذون عنها غسل الميت لأنها شهدت غسل بنت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فحكمت ذلك وأتقنت، فحديثها أصل في غسل الميت، ويأتي حديثها هذا في كتاب الجنائز "قالت: أُمرنا" مبني للمجهول للعلم بالآمر، وأنه رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وفي رواية للبخاري: "أمرنا نبينا" "أن نُخْرج" أي إلى المصلى "العواتق" البنات الأبكار البالغات والمقاربات للبلوغ "والحيض" هو أعم من الأول من وجه "في العيدين يشهدن الخير" هو الدخول في فضيلة الصلاة لغير الحيض "ودعوة المسلمين" تعم الجميع " ويعتزل الحيض المصلى. متفق عليه" لكن لفظه عند البخاري: "أمرنا أن نخرج العواتق ذوات الخدور ـ أو قال: العواتق وذوات الخدور فيعتزلن الحيض المصلى". ولفظ مسلم: "أَمرنا يعني النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أن نخرج العواتق وذوات الخدور وأَمرَ الحيض أن يعتزلن مصلى المسلمين" .
فهذا اللفظ الذي أتى به المصنف ليس لفظ أحدهما.
والحديث دليل على وجوب إخراجهن. وفيه أقوال ثلاثة:
الأول: أنه واجب وبه قال الخلفاء الثلاثة أبو بكر وعمر وعلي. ويؤيد الوجوب ما أخرجه ابن ماجه والبيهقي من حديث ابن عباس: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يخرج نساءه وبناته في العيدين". وهو ظاهر في استمرار ذلك منه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وهو عام لمن كانت ذات هيئة وغيرها وصريح في الشواب وفي العجائز بالأولى.
والثاني: سنة وحمل الأمر بخروجهن على الندب قاله جماعة وقواه الشارح مستدلاً بأنه علل خروجهن بشهود الخير ودعوة المسلمين قال: ولو كان واجباً لما علل بذلك ولكان خروجهن لأداء الواجب عليهنّ لامتثال الأمر "قلت": وفيه تأمل فإنه قد يعلل الواجب بما فيه من العوائد ولا يعلل بأدائه.
وفي كلام الشافعي في الأم التفرقة بين ذوات الهيئات والعجائز فإنه قال: أحب شهود العجائز وغير ذوات الهيئات من النساء الصلاة وأنا لشهودهن الأعياد أشد استحباباً.
والثالث: أنه منسوخ قال الطحاوي: إن ذلك كان في صدر الإسلام للاحتياج(2/65)
في خروجهنّ لتكثير السواد فيكون فيه إرهاب للعدو ثم نسخ. وتعقب أنه نسخ بمجرد الدعوى ويدفعه أن ابن عباس شهد خروجهنّ وهو صغير وكان ذلك بعد فتح مكة، ولا حاجة إليهنّ لقوة الإسلام حينئذ، ويدفعه أنه علل في حديث أم عطية حضورهنّ لشهادتهنّ الخير ودعوة المسلمين. ويدفعه أنه أفتت به أم عطية بعد وفاته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بمدة ولم يخالفها أحد من الصحابة.
وأما قول عائشة: "لو رأى النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ما أحدث النساء لمنعهنّ عن المساجد": فهو لا يدل على تحريم خروجهنّ ولا على نسخ الأمر به بل فيه دليل على أنهنّ لا يمنعن لأنه لم يمنعهنّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بل أمر بإخراجهنّ فليس لنا أن نمنع ما أمر به.
6 ـ وعن ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عَنْهُمَا قالَ: "كانَ رسُولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وَأَبُو بكر وعُمَرُ يصلونَ العِيديْنِ قَبْلَ الخُطْبةِ" مُتّفقٌ عليه.
فيه دليل على أن ذلك هو الأمر الذي داوم عليه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وخليفتاه واستمروا على ذلك.
وظاهره وجوب تقديم الصلاة على الخطبة، ونقل الإجماع على عدم وجوب الخطبة في العيدين، ومستنده ما أخرجه النسائي وابن ماجه وأبو داود من حديث عبد الله بن السائب قال: شهدت مع رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم العيد فلما قضى صلاته قال: " إنا نخطب فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس ومن أحب أن يذهب فليذهب" فكانت غير واجبة فلو قدمها لم تشرع إعادتها وإن كان فاعلاً خلاف السنة.
وقد اختلف من أول من خطب قبل الصلاة؟ ففي مسلم أنه مروان، وقيل: سبقه إلى ذلك عثمان كما رواه ابن المنذر بسند صحيح إلى الحسن البصري قال: "أول من خطب قبل الصلاة عثمان". أي صلاة العيد.
وأما مروان فإنه إنما قدم الخطبة لأنه قال لما أنكر عليه أبو سعيد: إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة، قيل إنهم كانوا يتعمدون ترك استماع الخطبة لما فيها من سب من لا يستحق السب والإفراط في مدح بعض الناس.
وقد روى عبد الرزاق عن ابن جريج عن الزهري قال: أول من أحدث الخطبة قبل الصلاة في العيد معاوية... وعلى كل تقدير فإنه بدعة مخالف لهديه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وقد اعتذر لعثمان بأنه كثر الناس في المدينة وتناءت البيوت فكان يقدم الخطبة ليدرك من بعد منزله الصلاة وهو رأي مخالف لهديه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم.
7 ـ وعن ابْنِ عَبّاسٍ رضيَ اللَّهُ عَنْهُما "أنَّ النّبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صَلى يَوْمَ العيدِ رَكْعَتَيْنِ لمْ يُصَل قَبْلَهُمَا ولا بَعْدهُما" أَخْرجَهُ السّبْعة.
هو دليل على أن صلاة العيد ركعتان وهو إجماع فيمن صلى مع الإمام في الجبانة وأما إذا فاتته صلاة الإمام فصلى وحده فكذلك عند الأكثر.
وذهب أحمد والثوري إلى أنه يصلي أربعاً.
وأخرج سعيد بن منصور عن ابن مسعود "من فاتته صلاة العيد مع الإمام فليصل أربعاً" وهو إسناد صحيح.
وقال إسحاق: إن صلاها في الجبانة فركعتين وإلا فأربعاً.
وقال أبو حنيفة: إذا قضى صلاة العيد فهو مخير بين اثنتين وأربع.
وصلاة العيد مجمع على شرعيتها مختلف فيها على أقوال ثلاثة:
الأول: وجوبها عيناً عند الهادي وأبي حنيفة وهو الظاهر من مداومته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم(2/66)
والخلفاء من بعده وأمره بإخراج النساء، وكذلك ما سلف من حديث أمرهم بالغدوّ إلى مصلاهم، فالأمر أصله الوجوب، ومن الأدلة قوله تعالى: { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } على من يقول المراد به صلاة النحر، وكذلك قوله تعالى: { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } "الأعلى: 41، 51" فسرها الأكثر بزكاة الفطر وصلاة عيده.
الثاني: أنها فرض كفاية لأنها شعار وتسقط بقيام البعض به كالجهاد ذهب إليه أبو طالب وآخرون.
الثالث: أنها سنة مؤكدة ومواظبته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عليها دليل تأكيد سنيتها وهو قول زيد بن عليّ وجماعة قالوا: لقوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "خمس صلوات كتبهن الله على العباد" وأجيب بأنه استدلال بمفهوم العدد، وبأنه يحتمل كتبهن كل يوم وليلة. وفي قوله: "لم يصل قبلها ولا بعدها" . دليل على عدم شرعة النافلة قبلها ولا بعدها لأنه إذا لم يفعل ذلك ولا أمر به صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فليس بمشروع في حقه فلا يكون مشروعاً في حقنا ويأتي حديث أبي سعيد فإن فيه الدلالة على ترك ذلك إلا أنه يأتي في حديث سعيد: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يصلي بعد العيد ركعتين في بيته". وصححه الحاكم فالمراد بقوله هنا ولا بعدها أي في المصلي.
8- وعنه" أي ابن عباس "أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلى العيد بلا أذان ولا إقامة. أخرجه أبو داود وأصله في البخاري" وهو دليل على عدم شرعيتهما في صلاة العيد فإنهما بدعة، وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن ابن المسيب: "أن أول من أحدث الأذان لصلاة العيد معاوية"، ومثله رواه الشافعي عن الثقة وزاد "وأخذ به الحجاج حين أمر على المدينة"، وروى ابن المنذر: "أن أول من أحدثه زياد بالبصرة"، وقيل: أول من أحدثة مروان، وقال ابن أبي حبيب: أول من أحدثه عبد الله بن الزبير وأقام أيضاً، وقد روى الشافعي عن الثقة عن الزهري: "أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يأمر المؤذن في العيد أن يقول الصلاة جامعة" . قال في الشرح: وهذا مرسل يعتضد بالقياس على الكسوف لثبوت ذلك فيه، قلت: وفيه تأمل:.
9- وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لا يصلي قبل العيد شيئاً فإذا رجع إلى منزله صلى ركعتين . رواه ابن ماجه بإسناد حسن" وأخرجه الحاكم وأحمد، وروى الترمذي عن ابن عمر نحوه وصححه وهو عند أحمد والحاكم، وله طريق أخرى عند الطبراني في الأوسط لكن فيه جابر الجعفي وهو متروك، والحديث يدل على أنه شرع صلاة ركعتين بعد العيد في المنزل، وقد عارضه حديث ابن عمر عند أحمد مرفوعاً: "لا صلاة يوم العيد لا قبلها ولا بعدها" والجمع بينهما بأن المراد لا صلاة في الجبانة.
10- وعنه" أي أبي سعيد "قال: كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى وأول شيء يبدأ به الصلاة ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس والناس على صفوفهم فيعظهم ويأمرهم . متفق عليه" فيه دليل على شرعية الخروج إلى المصلى والمتبادر منه الخروج إلى موضع غير مسجده صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وهو كذلك فإن مصلاه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم محل معروف بينه وبين باب مسجده ألف ذراع، قاله عمر ابن شبة في أخبار(2/67)
المدينة.
وفي الحديث دلالة على تقديم الصلاة على الخطبة وتقدم، وعلى أنه لا نفل قبلها وفي قوله: "يقوم مقابل الناس" دليل على أنه لم يكن في مصلاه منبر، وقد أخرج ابن حبان في رواية: "خطب يوم عيد على راحلته". وقد ذكر البخاري في تمام روايته عن أبي سعيد: "أن أول من اتخذ المنبر في مصلى العيد مروان". وأن كان قد روى عمر بن شبة: "أن من خطب الناس في المصلى على المنبر عثمان فعله مرة ثم تركه حتى أعاده مروان"، وكأن أبا سعيد لم يطلع على ذلك. وفيه دليل على مشروعية خطبة العيد وأنها كخطب الجمع أمر ووعظ وليس فيه أنها خطبتان كالجمعة، وأنه يقعد بينهما ولعله لم يثبت ذلك من فعله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وإنما صنعه الناس قياساً على الجمعة.
11- وعن عمرو بن شعيب" هو أبو إبراهيم عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص سمع أباه وابن المسيب وطاوساً، وروي عنه الزهري وجماعة، ولم يخرج الشيخان حديثه وضمير أبيه وجده إن كان معنا أن أباه شعيباً روى عن جده محمد أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: كذا فيكون مرسلاً، لأن جده محمداً لم يدرك النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وإن كان الضمير الذي في أبيه عائداً إلى شعيب والضمير في جده إلى عبد الله فيراد أن شعيباً روى عن جده عبد الله فشعيب لم يدرك جده عبد الله، فلهذه العِلَّة لم يخرجا حديثه، وقال الذهبي: قد ثبت سماع شعيب من جده عبد الله، وقد احتج به أرباب السنن الأربعة وابن خزيمة وابن حبان والحاكم، "عن أبيه عن جده قال: قال نبي الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: " التكبير في الفطر" أي في صلاة عيد الفطر "سبع في الأولى" أي في الركعة الأولى، "وخمس في الأخيرة" أي الركعة الأخرى، و "القراءة" الحمد وسورة "بعدهما" أخرجه أبو داود ونقل الترمذي عن البخاري تصحيحه" ، وأخرجه أخمد وعليّ بن المديني، وصححاه، وقد رووه من حديث عائشة وسعد القرظي وابن عباس وابن عمر وكثير بن عبد الله، والكل فيه ضعفاء، وقد روي عن عليّ عليه السلام وابن عباس موقوفاً، قال ابن رشد: إنما صاروا إلى الأخذ بأقوال الصحابة في هذه المسألة لأنه لم يثبت فيها عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم شيء.
قلت: وروي العقيلي عن أحمد بن حنبل أنه قال: ليس يروى في التكبير في العيدين حديث صحيح. هذا والحديث دليل على أنه يكبر في الأولى من ركعتي العيد سبعاً، ويحتمل أنها بتكبيرة الافتتاح وأنها من غيرها والأوضح أنها من دونها وفيها خلاف.
وقال في الهدي النبوي: إن تكبيرة الافتتاح منها إلا أنه لم يأت بدليل، وفي الثانية خمساً وإلى هذا ذهب جماعة من الصحابة وغيرهم وخالف آخرون فقالوا: خمس في الأولى وأربع في الثانية، وقيل: ثلاث في الأولى وثلاث في الثانية، وقيل: ست في الأولى وخمس في الثانية.
قلت: والأقرب العمل بحديث الباب، فإنه وإن كان كل طرقه واهية، فإنه يشد بعضها بعضاً ولأن ما عداه من الأقوال ليس فيها سنة يعمل بها.
وفي الحديث دليل على القراءة بعد التكبير في الركعتين، وبه قال الشافعي ومالك ،(2/68)
وذهب الهادي إلى أن القراءة قبلها فيهما واستدل له في البحر بما لا يتم دليلاً وذهب الباقر وأبو حنيفة إلى أنه يقدم التكبير في الأولى ويؤخر في الثانية ليوالي بين القراءتين.
واعلم أن قول المصنف أنه نقل الترمذي عن البخاري تصحيحه.
وقال في تلخيص الحبير: إنه قال البخاري والترمذي: إنه أصح شيء في هذا الباب، فلا أدري من أي نقله عن الترمذي فإن الترمذي لم يخرج في سننه رواية عمرو بن شعيب أصلاً بل أخرج رواية كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده، وقال: حديث جد كثير أحسن شيء روي في هذا الباب عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وقال: وفي الباب عن عائشة وابن عمر وعبد الله بن عمرو ولم يذكر عن البخاري شيئاً، وقد وقع البيهقي في السنن الكبرى هذا الوهم بعينه إلا أنه ذكره بعد روايته لحديث كثير فقال: قال أبو عيسى: سألت محمداً يعني البخاري عن هذا الحديث، فقال: ليس في هذا الباب شيء أصح منه قال: وحديث عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في هذا الباب هو صحيح أيضاً، انتهى كلام البيهقي.
ولم نجد في الترمذي شيئاً مما ذكره، وقد نبه في تنقيح الأنظار على شيء من هذا، وقال: والعجب أن ابن النحوي ذكر في خلاصته عن البيهقي أن الترمذي قال: سألت محمداً عنه إلخ، وبهذا يعرف أن المصنف قلد في النقل عن الترمذي عن البخاري الحافظ البيهقي، ولهذا لم ينسب حديث عمرو بن شعيب إلا إلى أبي دادو، والأولى العمل بحديث عمرو لما عرفت، وأنه أشفى شيء في الباب، وكان صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يسكت بين كل تكبيرتين سكتة لطيفة ولم يحفظ عنه ذكر معين بين التكبيرتين ولكن ذكر الخلال عن ابن مسعود أنه قال: يحمد الله ويثني عليه ويصلي على النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم. وأخرج الطبراني في الكبير عن ابن مسعود "أن بين كل تكبيرتين قدر كلمتين" وهو موقوف. وفيه[تض] سليمان بن أرقم[تض] ضعيف، وكان ابن عمر مع تحريه للاتباع يرفع يديه مع كل تكبيرة.
12- وعن أبي واقد" بقاف ومهملة اسم فاعل من وقد اسمه: الحارث بن عوف الليثي قديم الإسلام قيل إنه شهد بدراً، وقيل إنه من مسلمة الفتح، والأول أصح. عداده في أهل المدينة، وجاور بمكة، ومات بها سنة ثمان وستين "الليثي رضي الله عنه قال: كان النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقرأ في الفطر والأضحى بـ "قاف" " أي في الأولى بعد الفاتحة "واقتربت" أي في الثانية بعدها "أخرجه مسلم".
فيه دليل على أن القراءة بهما في صلاة العيد سنة، وقد سلف أنه يقرأ فيهما بسبح والغاشية. والظاهر أنه كان يقرأ هذا تارة وهذا تارة، وقد ذهب إلى سُنية ذلك الشافعي ومالك.
13 ـ وَعَنْ جابرٍ رضيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: "كانَ رسولُ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذا كانَ يوْمُ الْعيدِ خَالَفَ الطّريقَ" أَخْرَجَهُ الْبُخَاريُّ.
يعني أنه يرجع من مصلاه من جهة غير الجهة التي خرج منها إليه.
قال الترمذي: أخذ بهذا بعض أهل العلم واستحبه للإمام وبه يقول الشافعي انتهى. وقال به أكثر أهل العلم، ويكون مشروعاً للإمام والمأموم الذي أشار إليه بقوله:(2/69)
14 ـ وَلأبي دَاوُدَ عن ابْنِ عُمَرَ رضيَ اللَّهُ عنهما نَحْوُهُ.
ولفظه في السنن عن ابن عمر "أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخذ يوم العيد في طريق ثم رجع في طريق أخرى".
وفيه دليل أيضاً على ما دل عليه حديث جابر. واختلف في وجه الحكمة في ذلك. فقيل: ليسلم على أهل الطريقين: وقيل: لينال بركته الفريقان: وقيل: ليقضي حاجة من له حاجة فيهما وقيل: ليظهر شعائر الإسلام في سائر الفجاج والطرق وقيل: ليغيظ المنافقين برؤيتهم عزة الإسلام وأهله ومقام شعائره، وقيل: لتكثر شهادة البقاع فإن الذاهب إلى المسجد أو المصلى إحدى خطواته ترفع درجة والأخرى تحط خطيئة حتى يرجع إلى منزله وقيل: وهو الأصح أنه لذلك كله من الحكم التي لا يخلو فعله عنها وكان ابن عمر مع شدة تحريه للسنة يكبر من بيته إلى المصلى.
15ـ وَعَنْ أَنَسٍ رَضَي اللَّهُ عَنْهُ قالَ: قَدمَ رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم المدينة وَلهُم يَوْمان يَلْعبُون فيهما فقَالَ: "قَدْ أَبْدلَكمُ الله بِهِمَا خَيْراً منهما: يومَ الأضحْى ويوْمَ الْفِطْر" أَخْرَجَهُ أَبو داوُد والنسائي بإسنْادٍ صحيح.
الحديث يدل على أنه قال صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ذلك عقيب قدومه المدينة كما تقتضيه الفاء.
والذي في كتب السير أن أول عيد شرع في الإسلام عيد الفطر في السنة الثانية من الهجرة.
وفيه دليل على أن إظهار السرور في العيدين مندوب، وأن ذلك من الشريعة التي شرعها الله لعباده، إذ في إبدال عيد الجاهلية بالعيدين المذكورين دلالة على أنه يفعل في العيدين المشروعين ما تفعله الجاهلية في أعيادها، وإنما خالفهم في تعيين الوقتين "قلت": هكذا في الشرح ومراده من أفعال الجاهلية ما ليس بمحظور ولا شاغل عن طاعة.
وأما التوسعة على العيال في الأعياد بما حصل لهم من ترويح البدن وبسط النفس من كلف العبادة فهو مشروع.
وقد استنبط بعضهم كراهية الفرح في أعياد المشركين والتشبه بهم، وبالغ في ذلك الشيخ الكبير أبو حفص البستي من الحنفية وقال: من أهدى فيه بيضة إلى مشرك تعظيماً لليوم فقد كفر بالله.
16 ـ وعَنْ علي رَضيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: "مِنَ السُّنّةِ أَنْ تَخْرُج إلى العِيدِ مَاشياً" رواهُ التّرْمِذيُّ وحَسّنهُ.
تمامه من الترمذي "وأن تأكل شيئاً قبل أن تخرج".
قال أبو عيسى: والعمل على هذا الحديث عند أكثر أهل العلم يستحبون أن يخرج الرجل إلى العيد ماشياً وأن يأكل شيئاً قبل أن يخرج.
قال أبو عيسى: ويستحب أن لا يركب إلا من عذر انتهى.
ولم أجد فيه أنه حسّنه ولا أظن أنه يحسّنه لأنه رواه من طريق الحارث الأعور وللمحدثين فيه مقال.
وقد أخرج الزهري مرسلاً: أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ما ركب في عيد ولا جنازة. وكان ابن عمر يخرج إلى العيد ماشياً ويعود ماشياً.
وتقييد الأكل بقبل الخروج بعيد الفطر لما مر من حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه، وروى ابن ماجه من حديث أبي رافع وغيره: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يخرج إلى العيد ماشياً ويرجع ماشياً". ولكنه بوب البخاري في الصحيح عن المضى والركوب إلى العيد فقال: "باب المضي والركوب إلى العيد" فسوى بينهما كأنه لما رأى من عدم صحة الحديث فرجع إلى الأصل في التوسعة.
17ـ وعنْ أبي هُرَيرة رضيَ اللَّهُ عَنْهُ: "أَنّهُمْ أصَابُهم مطَرٌ في يَوْم عيدٍ فصَلى بهمُ النّبيُّ(2/70)
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صَلاةَ الْعيدِ في المسجدِ" رَوَاهُ أَبو دَاوُدَ بإسْنادٍ لَيِّن.
لأن في إسناده رجلاً مجهولاً، ورواه ابن ماجه والحاكم بإسناد ضعيف.
وقد اختلف العلماء على قولين: هل الأفضل في صلاة العيد الخروج إلى الجبانة أو الصلاة في مسجد البلد إذا كان واسعاً؟
الثاني قول الشافعي: أنه إذا كان مسجد البلد واسعاً صلوا فيه ولا يخرجون فكلامه يقضي أن العلة في الخروج طلب الاجتماع، ولذا أمر صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بإخراج العواتق وذات الخدور، فإذا حصل ذلك في المسجد فهو أفضل ولذلك فإن أهل مكة لا يخرجون لسعة مسجدها وضيق أطرافها وإلى هذا ذهب الإمام يحيى وجماعة قالوا: الصلاة في المسجد أفضل.
والقول الأول للهادوية ومالك: أن الخروج إلى الجبانة أفضل ولو اتسع المسجد للناس. وحجتهم محافظته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على ذلك ولم يصل في المسجد إلا لعذر المطر ولا يحافظ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إلا على الأفضل ولقول عليّ عليه السلام فإنه روي أنه خرج إلى الجبانة لصلاة العيد وقال: "لولا أنه السنة لصليت في المسجد، واستخلف من يصلي بضعفة الناس في المسجد" قالوا: فإن كان في الجبانة مسجد مكشوف فالصلاة فيه أفضل وإن كان مسقوفاً ففيه تردد.
فائدة: التكبير في العيدين مشروع عند الجماهير، فأما تكبير عيد الإفطار فأوجبه الناصر لقوله تعالى: { وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } والأكثر أنه سنة، ووقته مجهول مختلف فيه على قولين:
فعند الأكثر: أنه من عند خروج الإمام للصلاة إلى مبتدأ الخطبة، وذكر فيه البيهقي حديثين وضعفهما، لكن قال الحاكم: هذه سنة تداولها أئمة الحديث وقد صحت به الرواية عن ابن عمر وغيره من الصحابة.
والثاني: للناصر أنه من مغرب أول ليلة من شوال إلى عصر يومها خلف كل صلاة.
وعند الشافعي إلى خروج الإمام أو حتى يصلي أو حتى يفرغ من الخطبة. أقوال عنه.
وأما صفته ففي فضائل الأوقات للبيهقي بإسناده إلى سلمان "أنه كان يعلمهم التكبير ويقول: كبروا الله أكبر الله أكبر كبيراً أو قال كثيراً اللهم أنت أعلى وأجل من أن تكون لك صاحبة أو يكون لك ولد أو يكون لك شريك في الملك أو يكون لك ولي من الذل وكبره تكبيراً اللهم اغفر لنا اللهم ارحمنا".
وأما تكبير عيد النحر فأوجبه أيضاً الناصر لقوله تعالى: { وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ } ولقوله { كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } ووافقه المنصور بالله.
وذهب الجمهور إلى أنه سنة مؤكدة للرجال والنساء. ومنهم من خصه بالرجال.
وأما وقته فظاهر الآية الكريمة والآثار عن الصحابة أنه لا يختص بوقت دون وقت، إلا أنه اختلف العلماء فمنهم من خصه بعقيب الصلاة مطلقاً، ومنهم من خصه بعقيب الفرائض دون النوافل، ومنهم من خصه بالجماعة دون الفرادى، وبالمؤداة دون المقضية وبالمقيم دون المسافر، وبالأمصار دون القرى.
وأما ابتداؤه وانتهاؤه ففيه خلاف أيضاً فقيل في الأول: من صبح يوم عرفة، وقيل: من ظهره، وقيل: من عصره.
وفي الثاني: إلى ظهر ثالثه، وقيل: إلى آخر أيام التشريق، وقيل: إلى ظهره، وقيل: إلى عصره، ولم يثبت عنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في ذلك حديث واضح، وأصح ما ورد فيه عن الصحابة قول علي(2/71)
وابن مسعود "أنه من صبح يوم عرفة إلى آخر أيام منى"، أخرجهما ابن المنذر.
وأما صفته فأصح ما ورد فيه ما رواه عبد الرازق عن سلمان بسند صحيح "قال: كبروا الله أكبر الله أكبر، الله أكبر كبيراً" وقد روي عن سعيد بن جبير ومجاهد وابن أبي ليلى وقول الشافعي وزاد فيه "ولله الحمد" وفي الشرح صفات كثيرة واستحسانات عن عدة من الأئمة، وهو يدل على التوسعة في الأمر وإطلاق الآية يقتضي ذلك.
واعلم أنه لا فرق بين تكبير عيد الإفطار وعيد النحر في مشروعية التكبير لاستواء الأدلة في ذلك وإن كان المعروف عند الناس إنما هو تكبير عيد النحر.
وقد ورد الأمر في الآية بالذكر في الأيام المعدودات والأيام المعلومات، وللعلماء قولان:
منهم: من يقول هما مختلفان، فالأيام المعدودات أيام التشريق والمعلومات أيام العشر ذكره البخاري عن ابن عباس تعليقاً ووصله غيره، وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس"إن المعلومات: التي قبل أيام التروية ويوم عرفة. والمعدودات: أيام التشريق" وإسناده صحيح وظاهره إدخال يوم العيد في أيام التشريق. وقد روى ابن أبي شيبة عن ابن عباس أيضاً "إن المعلومات يوم النحر وثلاثة أيام بعده" ورجحه الطحاوي لقوله { وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ } فإنها تشعر بأن المراد أيام النحر انتهى.
وهذا لا يمنع تسمية أيام العشر معلومات ولا أيام التشريق معدودات بل تسمية التشريق معدودات متفق عليه لقوله تعالى: { وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ } وقد ذكر البخاري عن أبي هريرة وابن عمر تعليقاً: أنهما كانا يخرجان إلى السوق أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما. وذكر البغوي والبيهقي ذلك. قال الطحاوي: كان مشايخنا يقولون بذلك أيام العشر جميعها.
فائدة ثانية: يندب لبس أحسن الثياب والتطيب بأجود الأطياب في يوم العيد ويزيد في الأضحى الضحية بأسمن ما يجد لما أخرجه الحاكم من حديث الحسن السبط قال: "أمرنا رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في العيدين أن نلبس أجود ما نجد وأن نتطيب بأجود ما نجد وأن نضحي بأسمن ما نجد: البقرة عن سبعة والجزور عن عشرة وأن نظهر التكبير والسكينة والوقار". قال الحاكم بعد إخراجه من طريق إسحاق بن بزرج: لولا جهالة إسحاق هذا لحكمت للحديث بالصحة "قلت": ليس بمجهول فقد ضعفه الأزدي ووثقه ابن حبان. ذكره في التلخيص.(2/72)
باب صلاة الكسوف
1- عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: انكسفت الشمس على عهد رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يوم مات إبراهيم" أي ابنه عليه السلام وموته في العاشرة من الهجرة: وقال أبو داود: في ربيع الأول يوم الثلاثاء لعشر خلون منه وقيل: في الرابعة "فقال الناس: انكسفت الشمس لموت إبراهيم" "فقال صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم" أي رادّاً عليهم ""إنّ الشمس والقمرَ آيتان مِنْ آيات الله لا ينكسفان لمَوْتِ أَحدٍ ولا لِحياته فإذا رَأَيْتُموهما(2/72)
فادعُوا الله وصلُّوا" هذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري "فصلوا وادعوا الله"،
"حتى تَنكشف" ليس هذا اللفظ في البخاري، بل هو في مسلم متفق عليه. يقال: كسفت الشمس: بفتح الكاف وتضم نادراً وانكسفت وخسفت بفتح الخاء وتضم نادراً وانخسفت.
واختلف العلماء في اللفظين هلا يستعملان في الشمس والقمر، أو يختص كل لفظ بواحد منهما؟
وقد ثبت في القرآن نسبة الخسوف إلى القمر، وورد في الحديث خسفت الشمس كما ثبت في نسبة الكسوف إليهما وثبت استعمالهما منسوبين إليهما فيقال فيهما: الشمس والقمر ينخسفان، وينكسفان إنما الذي لم يرد في الأحاديث نسبة الكسوف إلى القمر على جهة الانفراد، وعلى هذا يدل استعمال الفقهاء فإنهم يخصون الكسوف بالشمس والخسوف بالقمر: واختاره ثعلب، وقال الجوهري: إنه أفصح، وقيل يقال بهما في كل منهما.
والكسوف: لغة التغير إلى السواد، والخسوف النقصان، وفي ذلك أقوال أخر.
وإنما قالوا إنها كسفت لموت إبراهيم لأنها كسفت في غير يوم كسوفها المعتاد، فإن كسوفها في العاشر أو الرابع لا يكاد يتفق فلذا قالوا: إنما هو لأجل هذا الخطب العظيم، فردّ عليهم صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ذلك وأخبرهم أنهما علامتان من العلامات الدالة على وحدانية الله تعالى وقدرته على تخويف عباده من بأسه وسطوته.
والحديث مأخوذ في قوله تعالى: { وَمَا نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً }.
وفي قوله "لحياته" مع أنهم لم يدعوا ذلك بيان أنه لا فرق بين الأمرين فكما أنكم لا تقولون بكسوفهما لحياة أحد كذلك لا يكسفان لموته، أو كأن المراد من حياته صحته من مرضه ونحوه، ثم ذكر القمر مع أن الكلام خاص بكسوف الشمس زيادة في الإفادة والبيان، أن حكم النيِّرين واحد في ذلك.
ثم أرشد العباد إلى ما يشرع عند رؤية ذلك من الصلاة والدعاء ويأتي صفة الصلاة.
والأمر دليل الوجوب إلا أنه حمله الجمهور على أنه سنة مؤكدة لانحصار الواجبات في الخمس الصلوات.
وصرح أبو عوانة في صحيحه بوجوبها، ونقل عن أبي حنيفة أنه أوجبها.
وجعل صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم غاية وقت الدعاء والصلاة انكشاف الكسوف، فدل على أنها تفوت الصلاة بالانجلاء، فإذا انجلت وهو في الصلاة فلا يتمها، بل يقتصر على ما فعل إلا أن في رواية لمسلم: "فسلم وقد انجلت"، فدل أنه يتم الصلاة وإن كان قد حصل الانجلاء، ويؤيده القياس على سائر الصلوات فإنها تقيد بركعة كما سلف، فإذا أتى بركعة أتمها.
وفيه دليل على أن فعلها يتقيد بحصول السبب في أي وقت كان من الأوقات، وإليه ذهب الجمهور.
وعند أحمد وأبي حنيفة ما عدا أوقات الكراهة "وفي رواية للبخاري" أي عن المغيرة "حتى تنجلي" عوض قوله تنكشف والمعنى واحد.
2 ـ وَلِلْبُخَاري مِنْ حديثِ أَبي بَكْرَةَ رضي اللَّهُ عَنْهُ "فَصَلُّوا وادعُوا حَتى يُكْشَفَ مَا بكمُ" .
هو أول حديث ساقه البخاري في باب الكسوف ولفظه "يكشف" والمراد يرتفع ما حل بكم من كسوف الشمس أو القمر.
3ـ وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم جهر في صلاة الكسوف بقراءته فصلى أربع ركعات" أي ركوعات بدليل قولها "في ركعتين وأربع سجدات . متفق(2/73)
عليه وهذا لفظ مسلم".
الحديث دل على شرعية الجهر بالقراءة في صلاة الكسوف، والمراد كسوف الشمس لما أخرجه أحمد بلفظ "خسفت الشمس" وقال: "ثم قرأ فجهر بالقراءة" وقد أخرج الجهر أيضاً الترمذي والطحاوي والدارقطني، وقد أخرج ابن خزيمة وغيره من عليّ عليه السلام مرفوعاً الجهر بالقراءة في صلاة الكسوف، وفي ذلك أقوال أربعة:
الأول: أنه يجهر بالقراءة مطلقاً في كسوف الشمس والقمر لهذا الحديث وغيره، وهو إن كان وارداً في كسوف الشمس، فالقمر مثله لجمعة صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بينهما في الحكم حيث قال: "فإذا رأيتموهما" أي كاسفتين "فصلوا وادعوا" والأصل استواؤهما في كيفية الصلاة، ونحوهما وهو مذهب أحمد وإسحاق وأبي حنيفة وابن خزيمة وابن المنذر وآخرين.
والثاني: يسرّ مطلقاً لحديث ابن عباس "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قام قياماً طويلاً نحواً من سورة البقرة". فلو جهر لم يقدره بما ذكر وقد علق البخاري عن ابن عباس: أنه قام بجنب النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في الكسوف فلم يسمع منه حرفاً. ووصله البيهقي من ثلاثة طرق أسانيدها واهية فيضعف القول بأنه يحتمل أن ابن عباس كان بعيداً منه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فلم يسمع جهره بالقراءة.
الثالث: أنه يخير فيهما بين الجهر والإسرار لثبوت الأمرين عنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كما عرفت من أدلة القولين.
الرابع: أنه يسر في الشمس ويجهر في القمر وهو لمن عدا الحنفية من الأربعة عملاً بحديث ابن عباس وقياساً على الصلوات الخمس. وما تقدم من دليل أهل الجهر مطلقاً أنهض مما قالوه.
وقد أفاد حديث الباب أن صفة صلاة الكسوف ركعتان في كل ركعة ركوعان وفي كل ركعة سجدتان ويأتي في شرح الحديث الرابع الخلاف في ذلك "وفي رواية" أي لمسلم عن عائشة "فبعث" أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم "منادياً ينادي: الصلاةَ جامعةً" بنصب الصلاة وجامعة فالأول على أنه مفعول فعل محذوف أي أحضروا، والثاني على الحال ويجوز رفعهما على الابتداء والخبر وفيه تقادير أخر.
وهو دليل على مشروعية الإعلام بهذا اللفظ للاجتماع لها ولم يرد الأمر بهذا اللفظ عنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إلا في هذه الصلاة.
4ـ وعَن ابْنِ عَبّاسٍ رضي الله عَنْهمُا قالَ: "انخَسَفَتْ الشّمْسُ على عَهْدِ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فَصَلى رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فَقَامَ قِيَاماً طَويلاً نحْواً مِنْ قراءةِ سُورَةِ الْبَقرةِ، ثمَّ ركَعَ رُكُوعاً طَويلاً، ثَمَّ رَفَعَ فَقَامَ قِياماً طويلاً وَهُو دُونَ الْقيامِ الأوَّل، ثمَّ ركَعَ ركوعاً طويلاً وهو دون الرُّكوع الأوَّل ثمَّ سَجَدَ، ثمَّ قَام قياماً طويلاً وهُوَ دونَ القِيَام الأوَّل، ثمَّ ركع رُكُوعاً طويلاً وهُو دُون الرُّكوع الأول، ثمَّ رفعَ فقَامَ قياماً طويلاً وهُوَ دونَ القيام الأوَّلِ، ثمَّ ركعَ رُكُوعاً طَويلاً وَهُوَ دونَ الركوع الأوَّل، ثمَّ رفَعَ رَأسَهُ ثمَّ سَجَدَ، ثمَّ انْصرفَ وَقَدْ تَجَلّت الشمسُ فَخَطَبَ النّاسَ" مُتّفقٌ عَلَيْه واللفظ للبُخاريِّ، قوله "فصلى" ظاهر الفاء التعقيب.
واعلم أن صلاة الكسوف رويت على وجوه كثيرة ذكرها الشيخان وأبو داود وغيرهم وهي سنة باتفاق العلماء. وفي دعوى الاتفاق نظر لأنه صرح أبو عوانة في صحيحه بوجوبها، وحكى عن مالك أنه أجراها مجرى الجمعة وتقدم عن أبي حنيفة إيجابها.
ومذهب الشافعي(2/74)
وجماعة أنها تسنّ في جماعة، وقال آخرون: فرادى وحجة الأولين الأحاديث الصحيحة من فعله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لها جماعة.
ثم اختلفوا في صفتها. فالجمهور أنها ركعتان في كل ركعة قيامان وقراءتان وركوعان والسجود سجدتان كغيرها وهذه الكيفية ذهب إليها مالك والشافعي والليث وآخرون.
وفي قوله: "نحواً من قراءة سورة البقرة" دليل على أنه يقرأ فيها القرآن، قال النووي: اتفق العلماء أنه يقرأ في القيام الأول من أول ركعة الفاتحة واختلفوا في القيام الثاني ومذهبنا ومالك أنها لا تصح الصلاة إلا بقراءتها.
وفيه دليل على شرعية طول الركوع، قال المصنف: لم أر في شيء من الطريق بيان ما قاله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فيه إلا أن العلماء اتفقوا أنه لا قراءة فيه وإنما المشروع فيه الذكر من تسبيح وتكبير وغيرهما.
وفي قوله "وهو دون الأول " دلالة على أن القيام الذي يعقبه السجود لا تطويل فيه وأنه دون الأول وإن كان قد وقع في رواية مسلم في حديث جابر "أنه أطال ذلك" لكن قال النووي: إنها شاذة فلا يعمل بها.
ونقل القاضي إجماع العلماء أنه لا يطول الاعتدال الذي يلي السجود وتأول هذه الرواية بأنه أراد بالإطالة زيادة الطمأنينة.
ولم يذكر في هذه الرواية طول السجود ولكنه قد ثبتت إطالته في رواية أبي موسى عند البخاري وحديث ابن عمرو عند مسلم.
قال النووي: قال المحققون من أصحابنا وهو المنصوص للشافعي: أنه يطول للأحاديث الصحيحة بذلك، فأخرج أبو داود والنسائي من حديث سمرة "كان أطول ما يسجد في صلاة قط" وفي رواية مسلم من حديث جابر "وسجوده نحواً من ركوعه" وبه جزم أهل العلم بالحديث.
ويقول عقيب كل ركوع: سمع الله لمن حمده ثم يقول عقيبه: ربنا لك الحمد إلى آخره.
ويطول الجلوس بين السجدتين فقد وقع في رواية مسلم لحديث جابر إطالة الاعتدال بين السجدتين، قال المصنف: لم أقف عليه في شيء من الطرق إلا في هذا، وَنَقْلُ الغزالي الاتفاق على عدم إطالته مردودٌ.
وفي قوله: "ثم قام قياماً طويلاً وهو دون القيام الأول" دليل على إطالة القيام في الركعة الثانية ولكنه دون القيام في الركعة الأولى وقد ورد في رواية أبي داود عن عروة "أنه قرأ آل عمران".
قال ابن بطال: لا خلاف أن الركعة الأولى بقيامها وركوعها تكون أطول من الركعة الثانية بقيامها وركوعها.
واختلف في القيام الأول من الثانية وركوعه هل هما أقصر من القيام الثاني من الأولى وركوعه أن يكونان سواء؟ قيل: وسبب هذا الخلاف فهم معنى قوله: "وهو دون القيام الأول" هل المراد به الأول من الثانية أو يرجع إلى الجميع فيكون كل قيام دون الذي قبله.
وفي قوله: "فخطب الناس" دليل على شرعية الخطبة بعد صلاة الكسوف، وإلى استحبابها ذهب الشافعي وأكثر أئمة الحديث.
وعن الحنفية: لا خطبة في الكسوف لأنها لم تنقل، وتُعُقِّب بالأحاديث المصرحة بالخطبة. والقول بأن الذي فعله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لم يقصد به الخطبة بل قصد الرد على ما اعتقد أن الكسوف بسبب موت أحد مُتَعَقّبٌ بأن رواية البخاري، "فحمد الله وأثنى عليه" وفي رواية "شهد أنه عبده ورسوله" وفي رواية للبخاري "أنه ذكر أحوال الجنة والنار وغير ذلك" وهذه مقاصد الخطبة، وفي لفظ مسلم من حديث فاطمة عن أسماء قالت: "فخطب رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم الناس فحمد الله(2/75)
وأثنى عليه ثم قال: أما بعد ما من شيء لم أكن أُريته إلا وقد أُريته في مقامي هذا حتى الجنة والنار وإنه قد أوحي إليّ أنكم تفتنون في القبور قريباً أو مثل فتنة المسيح الدجال - لا أدري أي ذلك قالت أسماء - فيؤتى أحدكم فيقال ما علمك بهذا الرجل؟ فأما المؤمن أو الموقن - لا أدري أي ذلك قالت أسماء - فيقول: هو محمد رسول الله جاءنا بالبينات والهدى فأجبنا وأطعنا ثلاث مرات ثم يقال: نم قد كنا نعلم أنك تؤمن به فنم صالحاً" وفي مسلم رواية أخرى في الخطبة بألفاظ فيها زيادة "وفي رواية لمسلم" أي عن ابن عباس "صلى" أي النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم "حين كَسَفت الشمس ثماني ركعات" أي ركوعات "في أربع سجدات" في ركعتين لأن كل ركعة لها سجدتان والمراد أنه ركع في كل ركعة أربع ركوعات فيحصل في الركعتين ثمان ركوعات وإلى هذه الصفة ذهبت طائفة.
5 ـ وعن علي رضي الله عنه" أي وأخرج مسلم عنه "مثل ذلك" أي مثل رواية ابن عباس.
6 ـ وله" أي لمسلم "عن جابر" بن عبد الله "صلى" أي النبي صلى الله عليه وآله وسلم "ست ركعات بأربع سجدات" أي صلى ركعتين في كل ركعة ثلاث ركوعات وسجدتان.
7 ـولأبي داود عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه صلى" أي النبي صلى الله عليه وآله وسلم "فركع خمس ركعات" أي ركوعات في كل ركعة "وسجد سجدتين وفعل في الثانية مثل ذلك" ركع خمس ركوعات وسجد سجدتين.
إذا عرفت هذه الأحاديث فقد يحصل من مجموعها أن صلاة الكسوف ركعتان اتفاقاً إنما اختلف في كمية الركوعات في كل ركعة فحصل من مجموع الروايات التي ساقها المصنف أربع صور.
الأولى: ركعتان في كل ركعة ركوعان وبهذا أخذ الشافعي ومالك والليث وأحمد وغيرهم وعليها دل حديث عائشة وجابر وابن عباس وابن عمرو، قال ابن عبد البر: هو أصح ما في الباب وباقي الروايات معللة ضعيفة.
والثانية: ركعتان أيضاً في كل ركعة أربع ركوعات وهي التي أفادتها رواية مسلم عن ابن عباس وعلي عليه السلام.
والثالثة: ركعتان أيضاً في كل ركعة ثلاث ركوعات وعليها دل حديث جابر.
والرابعة: ركعتان أيضاً يركع في كل واحدة خمس ركوعات.
ولما اختلفت الروايات اختلف العلماء فالجمهور أخذوا بالأولى لما عرفت من كلام ابن عبد البر، وقال النووي في شرح مسلم: إنه أخذ بكل نوع بعض الصحابة.
وقال جماعة من المحققين: إنه مخير بين الأنواع فأيهما فعل فقد أحسن، وهو مبني على أنه تعدد الكسوف وأنه فعل هذا تارة وهذا أخرى، ولكن التحقيق أن كل الروايات حكاية عن واقعة واحدة هي صلاته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يوم وفاة إبراهيم، ولهذا عول الآخرون على إعلال الأحاديث التي حكت الصور الثلاث، قال ابن القيم: كبار الأئمة لا يصححون التعدد لذلك كالإمام أحمد والبخاري والشافعي ويرونه غلطاً، وذهبت الحنفية إلى أنها تصلي ركعتين كسائر النوافل.
8 ـ وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما هبت الريح قط إلا جثا" بالجيم والمثلثة "النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على ركبتيه" أي برك عليهما وهي قعدة المخافة لا يفعلها(2/76)
في الغالب إلا الخائف "وقال: "اللهمَّ اجعلْها رَحْمة ولا تجعلْها عذاباً" رواه الشافعي والطبراني".
الريح: اسم جنس صادق على ما يأتي بالرحمة ويأتي بالعذاب وقد ورد في حديث أبي هريرة مرفوعاً "الريح من روح الله تأتي بالرحمة وبالعذاب فلا تسبوها".
وقد ورد في تمام حديث ابن عباس: "اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً". وهو يدل أن المفرد يختص بالعذاب والجمع بالرحمة، قال ابن عباس: في كتاب الله {إنا أرسلنا عليهم ريحاً صرصراً} .. {وأرسلنا عليهم الريح العقيم} .. {وأرسلنا الرياح لواقح} .. {وأنه يرسل الرياح مبشرات} رواه الشافعي في الدعوات الكبير. وهو بيان أنها جاءت مجموعة في الرحمة، ومفردة في العذاب، فاستشكل ما في الحديث من طلب أن تكون رحمة، وأجيب: بأن المراد لا تهلكنا بهذه الريح لأنهم لو هلكوا بهذه الريح لم تهب عليهم ريح أخرى فتكون ريحاً لا رياحاً.
9 ـ وعنه" أي ابن عباس "رضي الله عنهما صلى في زلزلة ست ركعات" أي ركوعات "وأربع سجدات" أي صلى ركعتين في كل ركعة ثلاث ركوعات "وقال: هكذا صلاة الآيات . رواه البيهقي. وذكر الشافعي عن علي مثله دون آخره" وهو قوله: "هكذا صلاة الآيات" أخرجه البيهقي من طريق عبد الله بن الحارث أنه كان في زلزلة في البصرة، ورواه ابن أبي شيبة من هذا الوجه مختصراً: أن ابن عباس صلى بهم في زلزلةٍ أربعَ سجدات ركع فيها ستاً. وظاهر اللفظ أنه صلى بهم جماعة وإلى هذا ذهب القاسم من الآل وقال: يصلي للأفزاع مثل صلاة الكسوف وإن شاء ركعتين ووافقه على ذلك أحمد بن حنبل ولكن قال: كصلاة الكسوف "قلت": لكن في كتب الحنابلة أنه يصلي صلاة الكسوف ركعتين إذا شاء.
وذهب الشافعي وغيره إلى أنه لا يسنّ التجميع وأما صلاة المنفرد فحسن، قال: لأنه لم يرو أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أمر بالتجميع إلا في الكسوفين.(2/77)
باب صلاة الاستسقاء
أي طلب سقاية الله تعالى عند حدوث الجدب: أخرج ابن ماجه من حديث ابن عمر: أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "لم ينقص قوم المكيال والميزان إلا أُخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء".
1- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خرج النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم" أي من المدينة "متواضعاً متبذلاً" بالمثناة الفوقية فذال معجمة أي أنه لابس ثياب البذلة، والمراد ترك الزينة وحسن الهيئة تواضعاً وإظهاراً للحاجة "متخشعاً" الخشوع في الصوت والبصر كالخضوع في البدن "مترسلاً" من الترسل في المشي وهو التأني وعدم العجلة "متضرعاً" لفظ أبي داود "متبذلاً متواضعاً متضرعاً" والتضرع التذلل والمبالغة في السؤال والرغبة كما في النهاية "فصلى ركعتين كما يصلي في العيد لم يخطب خطبتكم هذه" لفظ أبي داود "ولكن لم يزل في الدعاء والتضرع والتكبير ثم صلى ركعتين كما يصلي في العيد" فأفاد لفظه أن الصلاة كانت بعد الدعاء واللفظ الذي أتى به المصنف غير صريح في ذلك "رواه الخمسة وصححه(2/77)
الترمذي وأبو عوانة وابن حبان" وأخرجه الحاكم والبيهقي والآل والدارقطني.
والحديث دليل على شرعية الصلاة للاستسقاء وإليه ذهب الآل.
وقال أبو حنيفة: لا يصلي للاستسقاء وإنما شرع الدعاء فقط.
ثم اختلف القائلون بشرعية الصلاة فقال جماعة: إنها كصلاة العيد في تكبيرها وقراءتها وهو المنصوص للشافعي عملاً بظاهر لفظ ابن عباس.
وقال آخرون: بل يصلي ركعتين لا صفة لهما زائدة على ذلك وإليه ذهب جماعة من الآل ويروى عن علي عليه السلام وبه قال مالك مستدلين بما أخرجه البخاري من حديث عباد بن تميم أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلى بهم ركعتين . وكما يفيده حديث عائشة الآتي قريباً وتأولوا حديث ابن عباس بأن المراد التشبيه في العدد لا في الصفة، ويبعده أنه قد أخرج الدارقطني من حديث ابن عباس: أنه يكبر فيها سبعاً وخمساً كالعيدين ويقرأ بسبح وهل أتاك. وإن كان في إسناده مقال فإنه يؤيده حديث الباب.
وأما أبو حنيفة فاستدل بما أخرجه أبو داود والترمذي: أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم استسقى عند أحجار الزيت بالدعاء. وأخرج عوانة في صحيحه، أنه شكا إليه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قوم القحط فقال: " اجثوا على الركب وقولوا: يا رب يا رب".
وأجيب عنه بأنه ثبت صلاة ركعتين وثبت تركها في بعض الأحيان لبيان الجواز.
وقد عدّ في الهدي النبوي أنواع استسقائه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم.
فالأول: خروجه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إلى المصلى وصلاته وخطبته.
والثاني: يوم الجمعة على المنبر أثناء الخطبة.
والثالث: استسقاؤه على منبر المدينة استسقى مجرداً في غير الجمعة ولم يحفظ عنه فيه صلاة.
الرابع: أنه استسقى وهو جالس في المسجد فرفع يديه ودعا الله عز وجل.
الخامس: أنه استسقى عند أحجار الزيت قريباً من الزوراء وهي خارج باب المسجد.
السادس: أنه استسقى في بعض غزواته لما سبقه المشركون إلى الماء، وأغيث صلى الله عليه وآله وسلم في كل مرة استسقى فيها.
واختلف في الخطبة في الاستسقاء؛ فذهب الهادي إلى أنه لا يخطب فيه لقول ابن عباس "لم يخطب" إلا أنه لا يخفى أنه ينفي الخطبة المشابهة لخطبتهم وذكر ما قاله صلى الله عليه وآله وسلم وقد زاد في رواية أبي داود: أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم رقى المنبر. والظاهر أنه لا يرقاه إلا للخطبة.
وذهب آخرون إلى أنه يخطب فيها كالجمعة لحديث عائشة الآتي وحديث ابن عباس.
ثم اختلفوا هل يخطب قبل الصلاة أو بعدها؟ فذهب الناصر وجماعة إلى الأول.
وذهب الشافعي وآخرون إلى الثاني مستدلين بحديث أبي هريرة عند أحمد وابن ماجه وأبي عوانة والبيهقي: أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم خرج للاستسقاء فصلى ركعتين ثم خطب. واستدل الأوّلون بحديث ابن عباس وقد قدمنا لفظه.
وجمع بين الحديثين: بأن الذي بدأ به هو الدعاء، فعبر بعض عن الدعاء بالخطبة واقتصر على ذلك ولم يرو في الخطبة بعدها، والراوي لتقديم الصلاة على الخطبة اقتصر على ذلك ولم يروا الدعاء قبلها وهذا جمع بين الروايتين.
وأما ما يدعو به فيتحرى ما ورد عنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم من ذلك وقد أبان الألفاظ التي دعا بها صلى الله عليه وآله وسلم بقوله:
2 ـ وعن عائشة رضي الله عنها قالت: شكا الناس إلى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قحوط المطر"(2/78)
وهو مصدر كالحقط "فأمر بمنبر فوضع له في المصلى ووعد الناس يوماً يخرجون فيه قالت عائشة:" عينه لهم "فخرج رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم حين بدا حاجب الشمس فقعد على المنبر" قال ابن القيم: إن صح وإلا ففي القلب منه شيء "فكبر رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وحمد الله عز وجل ثم قال: "إنكُمْ شَكَوْتم جَدْب دياركم واستئخار المطر عن إبان زمانه عنكم فَقَد أَمركُمُ اللَّهُ أن تدعوهُ" قال تعالى: { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } ووعدكم أن يستجيب لكم كما الآية الأولى وفي قوله { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } "ثمَّ قالَ: { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ }
فيه دليل على عدم افتتاح الخطبة بالبسملة بل بالحمدلة ولم تأت رواية عنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أنه افتتح الخطبة بغير التحميد "مالك يوم الدين لا إلَه إلا الله يفعل ما يريد اللَّهم أنت الله لا إلَه إلا أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث واجعل ما أنزلت علينا قوة بلاغاً إلى حين ثم رفع يديه فلم يزل" في سنن أبي داود، "في الرفع" "حتى رئي بياض إبطيه ثم حول إلى الناس ظهر" فاستقبل القِبْلة "وقلب" في سنن أبي داود، "وحول" "رداءه وهو رافع يديه ثم أقبل على الناس" توجه إليهم بعد تحويل ظهره عنهم، "ونزل" أي عن المنبر "فصلى ركعتين فأنشأ الله سحابة فرعدت وبرقت ثم أمطرت" تمامه في سنن أبي داود بإذن الله فلم يأت باب مسجده حتى سالت السيول، فلما رأى سرعتهم إلى الكن ضحك حتى بدت نواجذه، وقال: "أشهد أن الله على كل شيء قدير وأني عبد الله ورسوله" "رواه أبو داود، وقال: غريب وإسناده جيد" هو من تمام قول أبي داود ثم قال أبو داود: "أهل المدينة يقرءون ملك يوم الدين، وإن هذا الحديث حُجَّة لهم"، وفي قوله: "وعد الناس" ما يدل على أنه يحسن تقديم تبيين اليوم للناس ليتأهبوا ويتخلصوا من المظالم ونحوها ويقدموا التوبة، وهذه الأمور واجبة مطلقاً إلا أنه مع حصول الشدة وطلب تفريجها من الله تعالى يتضيق ذلك، وقد ورد في الإسرائيليات "إن الله حرم قوماً من بني إسرائيل السقيا بعد خروجهم لأنه كان فيهم عاص واحد"، ولفظ الناس يعم المسلمين وغيرهم قبل فيشرع إخراج أهل الذمة ويعتزلون المصلي.
وفي الحديث دليل على شرعية رفع اليدين عند الدعاء، ولكنه يبالغ في رفعهما في الاستسقاء حتى يساوي بهما وجهه ولا يجاوز بهما رأسه. وقد ثبت رفع اليدين عند الدعاء في عدة أحاديث وصنف المنذري في ذلك جزءاً.
وقال النووي: قد جمعت فيها نحواً من ثلاثين حديثاً من الصحيحين أو أحدهما وذكرها في أواخر باب صفة الصلاة من شرح المهذب.
وأما حديث أنس في نفي رفع اليدين في غير الاستسقاء، فالمراد به نفي المبالغة لا نفي أصل الرفع.
وأما كيفية قلب الرداء فيأتي عن البخاري جعل اليمين على الشمال وزاد ابن ماجه وابن خزيمة "وجعل الشمال على اليمين" ، وفي رواية لأبي داود "جعل عطافه الأيمن على عاتقه الأيسر وعطافه الأيسر عاتقه الأيمن" ، وفي رواية لأبي داود "أنه كان عليه خميصة سوداء فأراد أن يأخذ بأسفلها ويجعله أعلاها فلما ثقلت عليه قلبها على عاتقه" ويشرع للناس أن يحولوا معه لما أخرجه أحمد بلفظ: "وحول الناس معه"، وقال الليث(2/79)
وأبو يوسف: إنه يختص التحويل بالإمام، وقال بعضهم: لا تحول النساء. وأما وقت التحويل فعند استقباله القِبْلة ولمسلم: "أنه لما أراد أن يدعو استقبل القِبْلة وحول رداءه" ومثله في البخاري.
وفي الحديث دليل على أن صلاة الاستسقاء ركعتان وهو قول الجمهور وقال الهادي: أربع بتسليمتين ووجه قوله بأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم استسقى في الجمعة كما في قصة الأعرابي والجمعة بالخطبتين بمنزلة أربع ركعات ولا يخفى ما فيه، وقد ثبت من فعله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم الركعتان كما عرفت من هذا الحديث والذي قبله ولما ذهبت الحنفية إلى أنه لا يشرع التحويل، وقد أفاده هذا الحديث الماضي زاد المصنف تقوية الاستدلاً على ثبوت التحويل بقوله:
3- وقصة التحويل في الصحيح" أي صحيح البخاري "من حديث عبد الله بن زيد" أي المازني وليس هو راوي الأذان كما وهم فيه بعض الحفاظ ولفظه في البخاري "فاستقبل القِبْلة وقلب رداءه" "وفيه" أي في حديث عبد الله بن زيد "فتوجه" أي النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم " إلى القِبْلة يدعو" في البخاري بعد يدعو، "وحول رداءه"، وفي لفظ "قلب رداءه" "ثم صلى ركعتين جهر فيهما بالقراءة" ، قال البخاري: قال سفيان: وأخبرني المسعودي عن أبي بكر قال: "جعل اليمين على الشمال" انتهى. زاد ابن خزيمة "والشمال على اليمين" ، وقد اختلف في حكمة التحويل، فأشار المصنف إليه بإيراد الحديث:
4- وللدارقطني من مرسل أبي جعفر الباقر" هو محمد بن عليّ بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب سمع أباه زين العابدين وجابر بن عبد الله، وروى عنه ابنه جعفر الصادق وغيره. ولد سنة ست وخمسين ومات سنة سبع عشرة ومائة وهو ابن ثلاث وستين سنة ودفن بالبقيع في البقعة التي دفن فيها أبوه وعم أبيه الحسن بن عليّ بن أبي الطالب وسمي الباقر لأنه تبقر في العلم أي توسع فيه انتهى من جامع الأصول، "وحول رداءه ليتحول القحط" وقال ابن العربي: هو أمارة بينه وبين ربه، قيل: له حول رداءك ليتحول للتفاؤل، قال: لأن من شرط الفأل أن لا يقصد إليه، وقال المصنف: إنه ورد في التفاؤل حديث رجاله ثقات.
قال المصنف في الفتح: إنه أخرجه الدارقطني والحاكم من طريق جعفر بن محمد عن أبيه عن جار فوصله لأن محمد بن عليّ لقي جابراً، وروي عنه إلا أنه قال: إنه رجح الدارقطني إرساله، ثم قال: وعلى كل حال فهو أولى من القول بالظن وقوله: في الحديث الأول: " جهر فيهما بالقراءة" في بعض روايات البخاري "يجهر"، ونقل ابن بطال أنه مجمع عليه أي على الجهر في صلاة الاستسقاء وأخذ منه بعضهم أنها لا تصلي إلا في النهار ولو كانت تصلي في الليل لأسر فيها نهاراً ولجهر فيها ليلاً وفي هذا الأخذ بعد لا يحفى.
5- وعن أنس رضي الله عنه أن رجلاً دخل المسجد يوم الجمعة والنبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قائم يخطب فقال: يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السُبل فادع الله عز وجل يغيثنا فرفع يديه" زاد البخاري في رواية "ورفع الناس أيديهم" "ثم قال: "اللهم أغِثنا" وفي(2/80)
البخاري أسقنا "اللهمَّ أَغِثْنا"" فذكر الحديث "وفيه الدعاء بإمساكها" أي السحاب عن الإمطار متفق عليه:" تمامه من مسلم: قال أنس: فلا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت قال: فلا والله ما رأينا الشمس سبتاً. ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قائم يخطب فاستقبله قائماً فقال: يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله يمسكها عنا قال: فرفع رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يديه ثم قال: "اللهم حَوَالينا ولا علينا اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر" قال فانقلعت وخرجنا نمشي في الشمس قال شريك: فسألت أنس بن مالك أهو الرجل الأول؟ قال: لا أدري. انتهى. قال المصنف: لم أقف على تسميته في حديث أنس.
وهلاك الأموال يعم المواشي والأطيان. وانقطاع السبل عبارة عن عدم السفر لضعف الإبل بسبب عدم المرعى والأقوات أو لأنه لما نفد ما عند الناس من الطعام لم يجدوا ما يحملونه إلى الأسواق.
وقوله "يُغيثنا" يحتمل فتح حرف المضارعة على أنه من غاث إما من الغيث أو الغوث ويحتمل ضمه على أنه من الإغاثة ويرجح هذا قوله: "اللهم أغثنا".
وفيه دلالة على أنه يدعى إذا كثر المطر وقد بوب له البخاري "باب الدعاء إذا كثر المطر" وذكر الحديث.
وأخرج الشافعي في مسنده وهو مرسل من حديث المطلب بن حنطب: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يقول عند المطر "اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا بلاء ولا هدم ولا غرق اللهم على الظراب ومنابت الشجر اللهم حوالينا ولا علينا".
6- وعن أنس رضي الله عنه أن عمر كان إذا قُحِطوا" بضم القاف وكسر المهملة أي أصابهم القحط "استسقى بالعباس بن عبد المطلب وقال" أي عمر: "اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون. رواه البخاري" وأما العباس رضي الله عنه فإنه قال: "اللهم إنه لم ينزل بلاء من السماء إلا بذنب ولم ينكشف إلا بتوبة وقد توجه بي القوم إليك لمكاني من نبيك وهذه أيدينا إليك بالذنوب ونواصينا إليك بالتوبة فاسقنا الغيث؛ فأرخت السماء مثل الجبال حتى أخصبت الأرض" أخرجه الزبير بن بكار في الأنساب، وأخرجه أيضاً من حديث ابن عمر أن عمر استسقى بالعباس عام الرمادة وذكر الحديث، وذكر الباذري أن عام الرمادة كان سنة ثماني عشرة، والرمادة بفتح الراء وتخفيف الميم، سمي العام بها لما حصل من شدة الجدب فاغبرت الأرض جداً من(2/81)
عدم المطر.
وفي هذه القصة دليل على الاستشفاع بأهل الخير والصلاح وبيت النبوة.
وفيه فضيلة العباس وتواضع عمر ومعرفته لحق أهل البيت رضي الله عنهم.
7- وعن أنس رضي الله عنه قال: أصابنا ونحن مع رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مطر قال: فحسر ثوبه" أي كشف بعضه عن بدنه "حتى أصابه من المطر وقال: "إنهُ حديثُ عَهْدٍ بربِّهِ" رواه مسلم" وبوّب له البخاري فقال: "باب من يمطر حتى يتحادر عن لحيته" وساق حديث أنس بطوله.
وقوله: "حديث عهد بربه" أي بإيجاد ربه إياه أن المطر رحمة وهي قريبة العهد بخلق الله لها فيتبرك بها وهو دليل على استحباب ذلك.
8- وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان إذا رأى المطر قال: "اللهمَّ صَيِّباً نافعاً" أخرجاه" أي الشيخان وهذا خلاف عادة المصنف فإنه يقول فيما أخرجاه: متفق عليه.
والصيب من صاب المطر إذا وقع، ونافعاً صفة مقيدة احترازاً عن الصيب الضارّ.
9- وعن سعد رضي الله عنه أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم دعا في الاستسقاء "اللهمَّ جَلِّلْنا" بالجيم من التجليل والمراد تعميم الأرض "سحاباً كثيفاً" بفتح الكاف فمثلثة فمثناة تحتية ففاء، أي متكاثفاً متراكماً "قَصِيفاً" بالقاف المفتوحة فصاد مهملة فمثناة تحتية ففاء، وهو ما كان رعده شديد الصوت وهو من أمارات قوة المطر "دلُوقاً" بفتح الدال المهملة وضم اللام وسكون الواو فقاف يقال خيل دلوق أي مندفعة شديدة الدفعة ويقال دلق السيل على القوم هجم "ضَحُوكاً" بفتح أوّله بزنة فعول أي ذات برق "تُمْطِرنَا مِنْه رذاذاً" بضم الراء فذال معجمة فأخرى مثلها هو ما كان مطره دون الطش "قِطْقطِاً" بكسر القافين وسكون الطاء الأولى قال أبو زيد: القطقط أصغر المطر ثم الرذاذ وهو فوق القطقط ثم الطش وهو فوق الرذاذ "سَجْلاً" مصدر سجلت الماء سجلاً إذا صببته صباً؛ وصف به السحاب مبالغة في كثرة ما يصب منها من الماء حتى كأنها نفس المصدر "يا ذا الجَلال والإكْرامِ" رواه أبو عوانة في صحيحه" وهذا الوصفان نطق بهما القرآن.
وفي التفسير أي الاستغناء المطلق والفضل التامّ، وقيل الذي عنده الإجلال والإكرام للمخلصين من عباده وهما من عظائم صفاته تعالى ولذا قال صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "ألظوا بياذا الجلال والإكرام" وروي أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مرّ برجل وهو يصلي ويقول: يا ذال الجلال والإكرام، فقال: "قد استجيب لك".(2/82)
10 ـ وعَنْ أَبي هُريرَة رضي اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رسُولَ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قالَ: "خَرَجَ سُليمانُ عَليه السّلامُ يَسْتَسْقي فَرَأَى نمْلَةً مُستلقيةً على ظهْرها رافعة قوائمها إلى السماء تقُولُ: اللّهُمَّ إنا خلقٌ منْ خلْقِكَ ليْس بنا غِنى عنْ سُقياكَ، فقال: ارْجِعُوا سُقيتم بدعوةِ غيركم رواهُ أَحمدُ وصحّحهُ الحاكمُ.
فيه دلالة على أن الاستسقاء شرع قديم والخروج له كذلك.
وفيه أنه يحسن إخراج البهائم في الاستسقاء، وأن لها إدراكاً يتعلق بمعرفة الله ومعرفة بذكره وبطلب الحاجات منه. وفي ذلك قصص يطول ذكرها وآيات من كتاب الله دالة على ذلك وتأويل المتأوّلين لها لا ملجأ له.
11 ـ وَعَنْ أَنسٍ رضي اللَّهُ عَنْهُ: "أنَّ النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم استسْقَى فأَشارَ بظهْر كفيْهِ إلى السماءِ" أَخرجهُ مُسلمٌ.
فيه دلالة أنه إذا أريد بالدعاء رفع البلاء فإنه يرفع يديه ويجعل ظهر كفيه إلى السماء وإذا دعا بسؤال شيء وتحصيله جعل بطن كفيه إلى السماء وقد ورد صريحاً في حديث خلاد بن السائب عن أبيه: "أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان إذا سأل جعل بطن كفيه إلى السماء وإذا استعاذ جعل ظهرهما إليها".
وإن كان قد ورد من حديث ابن عباس "سلوا الله ببطون أكفكم ولا تسألوه بظهرها" وإن كان ضعيفاً فالجمع بينهما أن حديث ابن عباس يختص بما إذا كان السؤال بحصول شيء لا لدفع بلاء وقد فسر قوله تعالى {ويدعوننا رغباً ورهباً} أن الرغب بالبطون والرهب بالظهور.(2/83)
باب اللباس
أي ما يحل منه وما يحرم
1- عن أبي عامر الأشعري رضي الله عنه" قال في الأطراف: اختلف في اسمه فقيل عبد الله بن هانىء، وقيل عبد الله بن وهب، وقيل عبيد الله بن وهب وبقي إلى خلافة عبد الملك بن مروان سكن الشام. وليس بعم أبي موسى الأشعري فإنّ ذلك قتل أيام حنين في حياة النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم واسمه عبيد بن سليم "قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "ليكوننَّ من أمّتي أَقوامٌ يَسْتحلُّونَ الْحِرَ" بالحاء والراء المهملتين والمراد به استحلال الزنا وبالخاء والزاي المعجمتين "والحريرَ" رواه أبو داود وأصله في البخاري" وأخرجه البخاري تعليقاً.
والحديث دليل على تحريم لباس الحرير لأن قوله يستحلون بمعنى يجعلون الحرام حلالاً ويأتي الحديث الثاني وفيه التصريح بذلك.
وفي الحديث دليل أن استحلال المحرم لا يخرج فاعله من مسمى الأمة كذا قال "قلت": ولا يخفى ضعف هذا القول فإن من استحل محرّماً أي اعتقد حله فإنه كذّب الرسول صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم الذي أخبر أنه حرام، فقوله بحله ردّ لكلامه وتكذيب، وتكذيبه كفر فلا بدّ من تأويل الحديث بأنه أراد أنه من الأمة قبل الاستحلال فإذا استحل خرج عن مسمى الأمة.
ولا يصح أن يراد بالأمة هنا أمة الدعوة لأنهم مستحلون لكل ما حرّمه لا لهذا بخصوصه.
وقد اختلف في ضبط هذه اللفظة في الحديث. فظاهر إيراد المصنف له في اللباس أنه يختار أنها(2/83)
بالخاء المعجمعة والزاي، وهو الذي نص عليه الحميدي وابن الأثير في هذا الحديث، وهو ضرب من ثياب الإبريسم معروف، وضبطه أبو موسى بالحاء والراء المهملتين.
قال ابن الأثير في النهاية: والمشهور في هذا الحديث على اختلاف طرقه هو الأول وإذا كان هو المراد من الحديث فهو الخالص من الحرير وعطف الحرير عليه من عطف العام على الخاص لأن الخزي ضرب من الحرير.
وقد يطلق الخزّ على ثياب تنسج من الحرير والصوف ولكنه غير مراد هنا لما عرف من أن هذا النوع حلال وعليه يحمل. ما أخرجه أبو داود عن عبد الله بن سعد الدشتكي عن أبيه سعد؛ قال: رأيت ببخارى رجلاً على بغلة بيضاء عليه عمامة خز سوداء قال: كسانيها رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم. أخرجه النسائي. وذكره البخاري ويأتي من حديث عمر بيان ما يحل من غير الخالص.
2- وعن حذيفة رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم "أَن نَشْرَبَ في آنيةِ الذهبِ والْفِضَّة وأَنْ نَأكُلَ فيها" تقدم الحديث عن حذيفة بلفظ: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لا تشربوا في آنية الذهب والفضة" الحديث فقوله هنا "نهى" إخبار عن ذلك اللفظ الذي تقدّم وتقدم الكلام فيه "وعَنْ لُبْسِ الْحرير والديباج، وأَنْ نَجْلِسَ عَلَيْهِ" رواه البخاري" أي ونهى عن لبس الحرير والنهي ظاهر في التحريم.
وإلى تحريم لبس الحرير ذهب الجماهير من الأمة على الرجال دون النساء، وحكى القاضي عياض عن قوم إباحته ونسب في البحر إباحته إلى ابن علية، وقال: إنه انعقد الإجماع بعده على التحريم، ولكنه قال المصنف في الفتح: قد ثبت لبس الحرير عن جماعة من الصحابة وغيرهم قال أبو داود: لبسه عشرون من الصحابة وأكثر، وأورده ابن أبي شيبة عن جمع منهم وقد أخرج ابن أبي شيبة من طريق عمار بن أبي عمار قال: أتت مروان بن الحكم مطارف خز فكساها أصحاب رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم.
قال: والأصح في تفسير الخز أنه ثياب سداها من حرير ولحمتها من غيره وقيل: تنسج مخلوطة من حرير وصوف أو نحوه، وقيل أصله اسم دابة يقال لها الخز فسمى الثوب المتخذ من وبره خزّاً لنعومته ثم أطلق على ما تخلط بحرير لنعومة الحرير.
إذا عرفت هذا فقد يحتمل أن الذي لبسه الصحابة في رواية أبي داود كان من الخز وإن كان ظاهر عبارته يأبى ذلك.
وأما القز بالقاف بدل الخاء المعجمة فقال الرافعي: إنه عند الأئمة: من الحرير فحرّموه على الرجال أيضاً. والقول بحله وحل الحرير للنساء قول الجماهير إلا ابن الزبير فإنه أخرج مسلم عنه: أنه خطب فقال: لا تلبسوا نساءكم الحرير فإني سمعت عمر بن الخطاب يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تلبسوا الحرير" فأخذ بالعموم إلا أنه انعقد الإجماع على حل الحرير للنساء.
فأما الصبيان من الذكور فيحرم عليهم أيضاً عند الأكثر لعموم قوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، "حرام على ذكور أمتي" وقال محمد بن الحسن: يجوز إلباسهم، وقال أصحاب الشافعي: يجوز إلباسهم الحلي والحرير في يوم العيد لأنه لا تكليف عليهم ولهم في غير يوم العيد ثلاثة أوجه أصحها جوازه.
وأما الديباج فهو ما غلظ(2/84)
من ثياب الحرير وعطفه عليه من عطف الخاص على العام.
وأما الجلوس على الحرير فقد أفاد الحديث النهي عنه إلا أنه قال المصنف في الفتح: إنه قد أخرج البخاري ومسلم حديث حذيفة من غير وجه وليس فيه هذه الزيادة وهي قوله: "وأن نجلس عليه" قال: وهي حجة قوية لمن قال يمنع الجلوس على الحرير وهو قول الجمهور خلافاً لابن الماجشون والكوفيين وبعض الشافعية، وقال بعض الحنفية في الدليل على عدم تحريم الجلوس على الحرير: إن قوله نهى ليس صريحاً في التحريم، وقال بعضهم: إنه يحتمل أن يكون المنع ورد عن مجموع اللبس والجلوس لا الجلوس وحده. "قلت: ولا يخفى تكلف هذا القائل والإخراج عن الظاهر بلا حاجة" وقال بعض الحنفية: مدار الجواز والتحريم على اللبس لصحة الأخبار فيه والجلوس ليس بلبس، واحتج الجمهور على أنه يسمى الجلوس لبساً بحديث أنس الصحيح: "فقمت إلى حصير لنا قد أسودّ من طول ما لبس" ولأن لبس كل شيء بحسبه.
وأما افتراش النساء للحرير فالأصل جوازه وقد أحل لهن لبسه ومنه الافتراش ومن قال بمنعهن عن افتراشه فلا حجة له.
واختلف في علة تحريم الحرير على قولين: الأول الفخر والخيلاء والثاني كونه لباس رفاهية وزينة تليق بالنساء دون شهامة الرجال.
3 ـ وعنْ عُمَرَ رضيَ الله عنهُ قال: "نهى النّبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عن لُبْس الحرير إلّا موْضع أُصبعين أوْ ثلاثٍ أَوْ أَرْبع" مُتّفقٌ عليه واللّفْظُ لمسْلِمٍ.
قال المصنف: "أو" هنا للتخيير والتنويع.
وقد أخرج الحديث ابن أبي شيبة من هذا الوجه بلفظ "إن الحرير لا يصلح منه إلا هكذا وهكذا وهكذا" يعني أصبعين وثلاثاً وأربعاً ومن قال المراد أن يكون في كل كم أصبعان فإنه يرده رواية النسائي "لم يرخص في الديباج إلا في موضع أربعة أصابع" وهذا ـ أي الترخيص في الأربع الأصابع ـ مذهب الجمهور.
وعن مالك في رواية منعه وسواء كان منسوجاً أو ملصقاً ويقاس عليه الجلوس.
وقدرت الهادوية الرخصة بثلاث أصابع لكن هذا الحديث نص في الأربع.
4- وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم رخص لعبد الرحمن بن عوف والزبير في قميص الحرير من حِكّة" بكسر الحاء المهملة وتشديد الكاف نوع من الجرب وذكر الحكة مثلا لا قيداً أي من أجل حكة، فمن للتعليل "كانت بهما . متفق عليه" وفي رواية "أنهما شكوَا إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم القمل فرخص لهما في قميص الحرير في غزاة لهما".
قال المصنف في الفتح: يمكن الجمع بأن الحكة حصلت من القمل فنسبت العلة تارة إلى السبب وتارة إلى سبب السبب.
وقد اختلف العلماء في جوازه للحكة وغيرها. فقال الطبري: دلت الرخصة في لبسه للحكة على أن من قصد بلبسه دفع ما هو أعظم من أذى الحكة كدفع السلاح ونحو ذلك فإنه يجوز. والقائلون بالجواز لا يخصونه بالسفر.
وقال البعض من الشافعية: يختص به.
وقال القرطبي: الحديث حجة على من منع إلا أن يدعي الخصوصية بالزبير وعبد الرحمن ولا تصح تلك الدعوى.
وقال مالك وأبو حنيفة: لا يجوز مطلقاً.
وقال الشافعي بالجواز للضرورة، ووقع في كلام الشارح تبعاً للنووي أن(2/85)
الحكمة في لبس الحرير للحكة لما فيه من البرودة، وتعقب بأن الحرير حارّ فالصواب أن الحكمة فيه لخاصية فيه تدفع ما تنشأ عنه الحكة من القمل.
5- وعن علي رضي الله عنه قال: كساني النبي صلى الله عليه وآله وسلم حلة سِيَرَاء" بكسر المهملة ثم مثناة تحتية ثم راء مهملة ثم ألف ممدودة قال الخليل: ليس في الكلام فعلاء بكسر أوله مع المد سوى سيراء ـ وهو الماء الذي يخرج على رأس المولود ـ وحولاء وعنباء لغة في ضبط العنب وحلة بالتنوين، على أن سيراء صفة لها وبغيره على الإضافة وهو الأجود كما في شرح مسلم "فخرجت فيها فرأيت الغضب في وجهه فشققتها بين نسائي. متفق عليه وهذا لفظ مسلم.
قال أبو عبيدة: الحلة إزار ورداء، وقال ابن الأثير: إذا كانا من جنس واحد، وقيل هي برود مضلعة بالقز، وقيل حرير خالص وهو الأقرب.
وقوله "فرأيت الغضب في وجهه" زاد مسلم في رواية فقال: "إني لم أبعثها إليك لتلبسها إنما بعثتها إليك لتشققها خُمُراً بين نسائك" وله في أخرى: "شققتها خمراً بين الفواطم".
وقوله "فشققتها" أي قطعتها ففرقتها خُمُراً وهي بالخاء المعجمة مضمومة وضم الميم جمع خِمار ـ بكسر أوله والتخفيف ـ ما تغطي به المرأة رأسها.
والمراد بالفواطم: فاطمة بنت محمد صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وفاطمة بنت أسد أم علي عليه السلام والثالثة قيل هي فاطمة بنت حمزة وذكرت لهنّ رابعة وهي فاطمة امرأة عقيل بن أبي طالب.
وقد استدل بالحديث على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب لأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أرسلها لعلي عليه السلام فبنى على ظاهر الإرسال وانتفع بها في أشهر ما صنعت له وهو اللبس فبيّن له النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أنه لم يبيح له لبسها.
6- وعن أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "أُحِلَّ الذَّهَبُ والْحريرُ" أي لبسهما "لإناثِ أُمّتي وحُرِّمَ" أي لبسهما وفراش الحرير كما سلف "على ذُكُورها" رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه" إلا أنه أخرجه الترمذي من حديث سعيد بن أبي هند عن أبي موسى وأعله أبو حاتم بأنه لم يلقه. وكذا قال ابن حبان في صحيحه: سعيد بن أبي هند عن أبي موسى معلول لا يصح. وأما ابن خزيمة فصححه.
وقد روي من ثمان طرق غير هذه الطريق عن ثمانية من الصحابة وكلها لا تخلوا عن مقال ولكنه يشدّ بعضها بعضاً.
وفيه دليل على تحريم لبس الرجال الذهب والحرير وجواز لبسهما للنساء ولكنه قد قيل إن حل الذهب للنساء منسوخ.
7 ـ وعنْ عِمْرانَ بن حُصَين رضي الله عَنْهُما أنَّ رسول اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "إنَّ الله يحبُّ إذا أَنعمَ على عبدهِ نعْمَةً أَنْ يرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عليْهِ" رواهُ البيْهَقِيُّ.
وأخرج النسائي من حديث أبي الأحوص، والترمذي والحاكم من حديث ابن عمر "إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده" وأخرج النسائي عن أبي الأحوص عن أبيه وفيه: "إذا آتاك الله مالاً فلير أثر نعمته عليك وكرامته".
في هذه الأحاديث دلالة أن الله تعالى يحب من العبد إظهار نعمته في مأكله وملبسه فإنه شكر للنعمة فعْليّ، ولأنه إذا رآه المحتاج في هيئة حسنة قصده ليتصدق(2/86)
عليه، وبذاذة الهيئة سؤال وإظهار للفقر بلسان الحال ولذا قيل: ولسان حالي بالشكاية أنطق، وقيل: وكفاك شاهد منظري عن مخبري.
8- وعن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن لُبس" بضم اللام "القَسِّي" بفتح القاف وتشديد المهملة بعدها ياء النسبة وقيل: إن المحدثين يكسرون القاف وأهل مصر يفتحونها وهي نسبة إلى بلد يقال لها القس، وقد فسر القسي في الحديث بأنها ثياب مضلعة يؤتى بها من مصر والشام هكذا في مسلم وفي البخاري فيها حرير أمثال الأترج "والمعصفر . رواه مسلم" هو المصبوغ بالعصفر.
فالنهي في الأول للتحريم إن كان حريره أكثر وإلا فإنه للتنزيه والكراهة وأما في الثاني فالأصل في النهي أيضاً التحريم وإليه ذهب الهادوية.
وذهب[اث] جماهير الصحابة[/اث] والتابعين إلى جواز لبس المعصفر وبه قال الفقهاء غير أحمد، وقيل مكروه تنزيهاً، قالوا: لأنه لبس صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم حلة حمراء، وفي الصحيحين عن ابن عمر "رأيت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يصبغ بالصفرة".
وقد رد ابن القيم القول بأنها حلة حمراء بحتاً وقال: إن الحلة الحمراء بردان يمانيان منسوجان بخطوط حمر مع الأسود وهي معروفة بهذا الاسم باعتبار ما فيها من الخطوط وأما الأحمر البحت فمنهي عنه أشد النهي ففي الصحيحين أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم نهى عن المياثر الحمر. ولكن الحديث وهو قوله:
9 ـ وعَنْ عبد الله بن عمْرو رضي اللَّهُ عَنْهُما قالَ: رَأَى عليَّ النَّبيُّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ثَوْبَيْن مُعَصْفَرَيْن فقال: "أُمُّكَ أَمرتْكَ بهذا؟" رواهُ مُسلمٌ.
دليل على تحريم المعصفر معضد للنهي الأول ويزيده قوة في الدلالة تمام هذا الحديث عند مسلم "قلت: أغسلهما يا رسول الله؟ قال: بل احرقهما".
وفي رواية "إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها" وأخرجه أبو داود والنسائي.
وفي قوله: "أمّك أمرتك" إعلان بأنه لباس النساء وزينتهنّ وأخلاقهنّ.
وفيه حجة على العقوبة بإتلاف المال وهو ـ أي أمر ابن عمرو بتحريقها ـ يعارض حديث علي عليه السلام، وأمره بأن يشقها بين نسائه كما في رواية قدمناها فينظر في وجه الجمع إلا أن في سنن أبي داود عن عبد الله بن عمرو: أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم رأى عليه رَّيْطَة مضرجة بالعصفر فقال: "ما هذه الرّيْطَة التي عليك؟" قال: فعرفت ما كره، فأتيت أهلي وهم يسجرون تنوراً لهم، فقذفتها فيه ثم أتيته من الغد فقال: يا عبد الله ما فعلت الريطة؟ فأخبرته فقال: "ألا كسوتها بعض أهلك فإنه لا بأس به للنساء" فهذا يدل على أنه أحرقها من غير أمر من النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فلو صحت هذه الرواية لزال التعارض بينه وبين حديث علي عليه السلام لكنه يبقى التعارض بين روايتي ابن عمرو وقد يقال: إنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أمر أولاً بإحراقها ندباً ثم لما أحرقها قال له صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: لو كسوتها بعض أهلك إعلاماً له بأن هذا كان كافياً عن إحراقها لو فعله وأن الأمر للندب.
وقال القاضي عياض في شرح مسلم: أمره صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بإحراقها من باب التغليظ أو العقوبة.
10 ـ وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أنها أخرجت جبة رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم طيالسة(2/87)
مكفوفة" المكفوف من الحرير ما اتخذ جيبه من حرير وكان لذيله وأكمامه كفاف منه "الجيب والكمين والفرجين بالديباج" هو ما غلظ من الحرير كما سلف "رواه أبو داود وأصله في مسلم وزاد" أي من رواية أسماء "كانت" أي الجبة "عند عائشة حتى قُبضت" مغير الصيغة أي ماتت "فقبضتها وكان النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم يلبسها فنحن نغسلها للمرضى يستشفى بها" الحديث في مسلم له سبب وهو: أن أسماء أرسلت إلى ابن عمر أنه بلغها أنه يحرم العلم في الثواب فأجاب بأنه سمع عمر يقول: سمعت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقول: "إنما يلبس الحرير من لا خلاق له" فخفت أن يكون العلم منه فأخرجت أسماء الجبة "وزاد البخاري في الأدب المفرد" في رواية أسماء "وكان يلبسها للوفد والجمعة" .
قال في شرح مسلم للنووي على قوله مكفوفة: ومعنى المكفوفة أنه جعل له كُفة بضم الكاف وهو ما يكف به جوانبها ويعطف عليها ويكون ذلك في الذيل وفي الفرجين وفي الكمين اهـ. وهو محمول على أنه أربع أصابع أو دونها أو فوقها إذا لم يكن مصمتاً جميعاً بين الأدلة.
وفي جواز مثل ذلك من الحرير وجواز لبس الجبة وماله فرجان من غير كراهة.
وفي استشفاء بآثاره صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وبما لامس جسده الشريف.
وفي قولها: "كان يلبسها للوفد والجمعة" دليل على استحباب التجمل بالزينة للوافد ونحوه كذا قيل، إلا أنه لا يخفى أنه قول صحابية لا دليل فيه.
وأما خياطة الثوب بالخيط الحرير ولبسه وجعل خيط السبحة من الحرير وليقة الدواة وكيس المصحف وغشاية الكتب فلا ينبغي القول بعدم جوازه لعدم شموله النهي له.
وفي اللباس آداب: منها في العمامة تقصير العذبة فلا تطول طولاً فاحشاً وإرسالها بين الكتفين ويجوز تركها بالأصالة، وفي القميص تقصير الكم لحديث أبي داود عن أسماء "كان كم النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إلى الرسغ" قال ابن عبد السلام: إفراط توسعة الثياب والأكمام بدعة وسرف، وفي المئزر، ومثله اللباس والقميص أن لا يسبله زيادة على نصف الساق ويحرم إن جاوز الكعبين.(2/88)
كتاب الجنائز
كتاب الجنائز
...
كتاب الجنائز
الجنائز: جمع جنازة بفتح الجيم وكسرها، في القاموس: الجنازة الميت وتفتح أو بالكسر الميت وبالفتح السرير أو عكسه أو بالكسر السرير مع الميت.
1- ( عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم "أكثروا ذكر هاذم اللّذات: المَوْت" بالكسر بدل من هاذم (رواه الترمذي والنسائي وصححه ابن حبان) والحاكم وابن السكن وابن طاهر وأعله الدارقطني بالإرسال.
وفي الباب عن عمروعن أنس وما تخلو عن مقال، قال المصنف نقلاً عن السهيلي: إن الرواية في هاذم بالذال المعجمة معناه القاطع وأمّا بالمهلة فمعناه المزيل للشيء وليس مراداً هنا، قال المصنف: وفي هذا النفي نظر لا يخفى (قلت): يريد أن المعنى على الدال المهملة صحيح فإن الموت يزيل اللذات كما يقطعها ولكن العمدة الرواية.
والحديث دليل على أنه لا ينبغي للإنسان أن يغفل عن ذكر(2/88)
أعظم المواعظ وهو الموت، وقد ذكر في آخر الحديث فائدة الذكر بقوله "فإنكم لا تذكرونه في كثير إلا قلله ولا قليل إلا كثره". وفي رواية للديلمي عن أبي هريرة "أكثروا ذكر الموت فما من عبد أكثر ذكره إلا أحيى الله قلبه وهوّن عليه الموت" وفي لفظ لابن حبان والبيهقي في شعب الإيمان "أكثروا ذكر هاذم اللذات فإنه ما ذكره عبدٌ قط في ضيق إلا وسعه ولا في سعة إلا ضيقها" وفي حديث أنس عن ابن لال في مكارم الأخلاق "أكثروا ذكر الموت فإن ذلك تمحيص للذنوب وتزهيد في الدنيا" وعند البزار "أكثروا ذكر هاذم اللذات فإنه ما ذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه عليه ولا في سعة إلا ضيقها" وعند ابن أبي الدنيا "أكثروا من ذكر الموت فإنه يمحق الذنوب ويزهد في الدنيا فإن ذكرتموه عند الغنى هدمه وإن ذكرتموه عند الفقر أرضاكم بعيشكم" .
2- (وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لا يتمنّيَنَّ أَحَدُكُمُ المَوْت لضُرَ نزلَ به فإنْ كان لا بُدَّ" أي لا فرار ولا محالة كما في القاموس "مُتَمنِّياً فَلْيَقُل" بدلاً من لفظ التمني الدعاء وتفويض ذلك إلى الله: "اللهم أَحْيني ما كانت الحياة خيراً لي وتوفّني ما كانت الوفاة خيراً لي" متفق عليه).
الحديث دليل على النهي عن تمني الموت للوقوع في بلاء أو محنة أو خشية ذلك من عدوُ أو مرض أو فاقة أو نحوها من مشاق الدنيا لما في ذلك من الجزع وعدم الصبر على القضاء وعدم الرضا.
وفي قوله "لضر نزل به" ما يرشد إلى أنه إذا كان لغير ذلك من خوف أو فتنة في الدين فإنه لا بأس به، وقد دل له حديث الدعاء "إذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون" ، أو كان تمنياً للشهادة كما وقع ذلك لعبد الله بن رواحة وغيره من السلف، وكما في قول مريم - يا ليتني مت قبل هذا - فإنها إنما تمنت ذلك لمثل هذا الأمر المخوف من كُفر من كَفر وشقاوة من شقي بسببها.
وفي قوله: "فإن كان لا بدّ متمنياً" يعني إذا ضاق صدره وفقد صبره عدل إلى هذا الدعاء، وإلا فالأولى له أن لا يفعل ذلك.
3- (وعن بريدة) هو ابن الحصيب (أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "المُؤْمِنُ يمُوتُ بعرقِ" بفتح العين المهملة والراء "الجبين" . رواه الثلاثة وصححه ابن حبان) وأخرجه أحمد وابن ماجه وجماعة، وأخرجه الطبراني من حديث ابن مسعود.
وفيه وجهان: أحدهما: أنه عبارة عما يكابده من شدة السياق "النزع" الذي يعرق دونه جبينه أي يشدد عليه تمحيصاً لبقية ذنوبه، والثاني: أنه كناية عن كدّ المؤمن في طلب الحلال وتضييقه على نفسه بالصوم والصلاة حتى يلقى الله تعالى، فيكون الجارّ والمجرور في محل النصب على الحال.
والمعنى على الأوّل أن حال الموت ونزوع الروح شديد عليه فهو صفة لكيفية الموت وشدته على المؤمن، والمعنى على الثاني أن يدركه الموت في حال كونه على هذه الحالة الشديدة التي يعرق منها الجبين فهو صفة للحال التي يفاجئه الموت عليها.
4- (وعن أبي سعيد وأبي هريرة قالا: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لَقِّنُوا مَوْتاكم" أي الذين في سياق الموت فهو مجاز "لا إله إلا اللَّهُ" رواه مسلم والأربعة) وهذا(2/89)
لفظ مسلم، ورواه ابن حبان بلفظه وزيادة، "فمن كان آخر قوله لا إله إلا الله دخل الجنة يوماً من الدهر وإن أصابه ما أصابه قبل ذلك" وقد غلط من نسبه إلى الشيخين أو إلى البخاري، وروى ابن أبي الدنيا عن حذيفة بلفظ "لقنوا موتاكم لا إله إلا الله، فإنها تهدم ما قبلها من الخطايا". وفي الباب أحاديث صحيحة.
وقوله: "لقنوا" المراد تذكير الذي في سياق الموت هذا اللفظ الجليل وذلك ليقولها، فتكون آخر كلامه فيدخل الجنة كما سبق، فالأمر في الحديث بالتلقين عام لكل مسلم يحضر من هو في سياق الموت، وهو أمر ندب، وكره العلماء الإكثار عليه والموالاة، لئلا يضجر ويضيق حاله ويشتد كربه، فيكره ذلك بقلبه ويتكلم بما لا يليق، قالوا: وإذا تكلم مرة فيعاد عليه التعريض ليكون آخر كلامه، وكأن المراد بقول لا إله إلا الله أي وقول محمد رسول الله فإنها لا تقبل إحداهما إلا بالآخرى كما علم.
والمراد "بموتاكم" : موتى المسلمين. وأما موتى غيرهم، فيعرض عليهم الإسلام، كما عرضه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على عمه عند السياق، وعلى الذمي الذي كان يخدمه، فعاده وعرض عليه الإسلام فأسلم، وكأنه خص في الحديث موتى أهل الإسلام لأنهم الذين يقبلون ذلك ولأن حضور أهل الإسلام عندهم هو الأغلب بخلاف الكفار فالغالب أنه لا يحضر موتاهم إلا الكفار.
(فائدة): يحسن أن يُذكَّر المريض بسعة رحمة الله ولطفه وبرّه، فيحسن ظنه بربه. لما أخرجه مسلم من حديث جابر "سمعت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقول قبل موته: لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه" . وفي الصحيحين مرفوعاً من حديث أبي هريرة "قال: قال الله: أنا عند ظن عبدي بي" . وروى ابن أبي الدنيا عن إبراهيم قال: كانوا يستحبون أن يلقنوا العبد محاسن عمله عند موته، لكي يحسن ظنه بربه" وقد قال بعض أئمة العلم: إنه يحسن جمع أربعين حديثاً في الرجاء تقرأ على المريض فيشتد حسن ظنه بالله تعالى، فإنه تعالى عند ظن عبده به.
وإذا امتزج خوف العبد برجائه عند سياق الموت فهو محمود. أخرج الترمذي بإسناد جيد من حديث أنس: أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم دخل على شاب وهو في الموت فقال: "كيف تجدك؟" قال أرجو الله وأخاف ذنوبي، فقال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجوه وآمنه مما يخاف" .
(فائدة أخرى) ينبغي أن يوجه من هو في السياق إلى القبلة، لما أخرجه الحاكم وصححه من حديث أبي قتادة: أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم حين قدم المدينة سأل عن البراء بن معرور قالوا: توفي وأوصى بثلث ماله لك يا رسول الله وأوصى أن يوجه للقبلة إذا احتضر، فقال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "أصاب الفطرة، وقد رددت ثلثه على ولده" ثم ذهب فصلى عليه وقال: "اللهم اغفر له وأدخله جنتك وقد فعلت" وقال الحاكم: لا أعلم في توجيه المحتضر للقبلة غيره.
5- (وعن معقل بن يسار رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اقرءُوا على مَوْتَاكُمْ" قال ابن حبان: أراد به من حضرته المنية لا أن الميت يقرأ عليه "يس" رواه(2/90)
أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان) وأخرجه أحمد وابن ماجه من حديث سليمان التيمي عن أبي عثمان، وليس بالنهدي عن أبيه عن معقل بن يسار، ولم يقل النسائي وابن ماجه عن أبيه، وأعله ابن القطان بالاضطراب والوقف، وبجهالة حال أبي عثمان وأبيه، ونقل عن الدارقطني أنه قال: هذا حديث مضطرب الإسناد مجهول المتن ولا يصح، وقال أحمد في مسنده: حدثنا صفوان قال: كانت المشيخة يقولون: إذا قرئت يس عند الميت خفف عنها بها. وأسنده صاحب الفردوس عن أبي الدرداء وأبي ذر قالا: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "ما من ميت يموت فيقرأ عنده يس إلا هوّن الله عليه" وهذا يؤيد أن ما قاله ابن حبان من أن المراد به المحتضر وهما أصرح في ذلك مما استدل به.
وأخرج أبو الشيخ في فضائل القرآن وأبو بكر المروزي في كتاب الجنائز عن أبي الشعثاء صاحب ابن عباس أنه يستحب قراءة سورة الرعد وزاد في ذلك يخفف عن الميت وفيه أيضاً عن الشعبي كانت الأنصار يستحبون أن تقرأ عند الميت سورة البقرة.
6- ( وعن أم سلمة قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة وقد شَقَّ بصره ) في شرح مسلم أنه بفتح الشين ورفع بصره فاعل شق هكذا ضبطناه وهو المشهور، وضبط بعضهم بصره بالنصب وهو صحيح أيضاً فالشين مفتوحة بلا خلاف. ( فأغمضه ثم قال: "إن الرُّوح إذا قُبض اتبعه البصرُ" فضج ناس من أهله فقال: "لا تَدعُوا على أنْفُسكم إلا بخَيْر فإنَّ الملائكة تؤمن على ما تقُولون" أي من الدعاء ( ثم قال: "اللّهُم اغفر لأبي سلَمَة وارفَعْ درجته في المَهْديّين، وافْسح لهُ قبرهِ، ونَوِّرْ لهُ فيه واخْلفْهُ في عقِبه" رواه مسلم) يقال: شق الميت بصره إذا حضره الموت وصار ينظر إلى الشيء لا يرتد عنه طرفه.
وفي إغماضه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم طرفه دليل على استحباب ذلك، وقد أجمع عليه المسلمون. وقد علل في الحديث ذلك بأن البصر يتبع الروح أي ينظر أين يذهب.
والحديث من أدلة من يقول إن الأرواح أجسام لطيفة متحللة في البدن، وتذهب الحياة من الجسد بذهابها، وليس عرضاً كما يقوله آخرون.
وفيه دليل على أنه يدعى للميت عند موته، ولأهله، وعقبه، بأمور الآخرة والدنيا.
وفيه دلالة على أن الميت ينعم في قبره أو يعذب.
7- (وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم حين توفي سجي ببرد حبرة) بالحاء المهملة فموحدة فراء فتاء تأنيث بزنة عنبة (متفق عليه(.
التسجية بالمهملة والجيم التغطية أي: غطي، والبرد يجوز إضافته إلى الحبرة ووصفه بها، والحبرة ما كان لها أعلام، وهي من أحب اللباس إليه صلى الله عليه وآله وسلم.
وهذه التغطية قبل الغسل. قال النووي في شرح مسلم: إنه مجمع عليها، وحكمته صيانة الميت عن الانكشاف، وستر صورته المتغيرة عن الأعين، قالوا: وتكون التسجية بعد نزع ثيابه التي توفي فيها لئلا يتغير بدنه بسببها.
8- (وعنها) أي عائشة رضي الله عنها (أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قَبّل النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بعد موته. رواه البخاري(.
استدل به على جواز تقبيل الميت بعد موته، وعلى أنها تندب تسجيته،(2/91)
وهذه أفعال صحابة بعد وفاته لا دليل فيها لانحصار الأدلة في الأربعة نعم هذه الأفعال جائزة على أصل الإباحة وقد أخرج الترمذي من حديث عائشة أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قبّل عثمان بن مظعون وهو ميت وهو يبكي أو قال: وعيناه تهرقان.. قال الترمذي: حديث عائشة حسن صحيح.
9- ( وعن أَبي هُريرة رضي الله عنْهُ عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قالَ: "نَفْسُ المؤمن مُعلّقةٌ بدَيْنِهِ حَتى يُقْضى عَنْهُ" رواهُ أَحْمدُ والترمذيُّ وحسّنَهُ.
وقد ورد التشديد في الدين حتى ترك صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم الصلاة على من مات وعليه دين حتى تحمله عنه بعض الصحابة، وأخبر صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أنه يغفر للشهيد عند أول دفعة من دمه كل ذنب إلا الدين.
وهذا الحديث من الدلائل على أنه لا يزال الميت مشغولاً بدينه بعد موته، ففيه حث على التخلص عنه قبل الموت، وأنه أهم الحقوق، وإذا كان هذا في الدين المأخوذ برضا صاحبه فكيف بما أخذ غصباً ونهباً وسلباً؟
10- (وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال في الذي سقط عن راحلته فمات) وذلك هو واقف بعرفة على راحلته كما في البخاري: "اغْسلوه بماءٍ وسِدْر وكفنُوه في ثوبيه" متفق عليه) تمامه "ولا تحنطوه ولا تخمروا رأسه" وبعده في البخاري "فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً" .
الحديث دليل على وجوب غسل الميت، قال النووي: الإجماع على أن غسل الميت فرض كفاية، قال المصنف بعد نقله في الفتح: وهو ذهول شديد فإن الخلاف فيه مشهور عند المالكية، حتى إن القرطبي رجح في شرح مسلم أنه سنة. ولكن الجمهور على وجوبه، وقد رد ابن العربي على من لم يقل بذلك وقال: قد توارد القول والعمل وغسل الطاهر المطهر فكيف بمن سواه؟. ويأتي كمية الغسلات في حديث أمّ عطية قريباً.
وقوله: "بماء وسدر" ظاهره: أنه يخلط السدر بالماء في كل مرة من مرات الغسل، قيل: وهو يشعر بأنّ غسل الميت للتنظيف لا للتطهير، لأن الماء المضاف لا يتطهر به؛ قيل: وقد يقال يحتمل أنّ السدر لا يغير وصف الماء فلا يصير مضافاً، وذلك بأن يمعك بالسدر ثم يغسل بالماء في كل مرة، وقال القرطبي: يجعل السدر في ماء ثم يخضخض إلى أن تخرج رغوته ويدلك به جسد الميت ثم يصب عليه الماء القراح هذه غسلة؛ وقيل: لا يطرح السدر في الماء أي لئلا يمازج الماء فيغير وصف الماء المطلق.
وتمسك بظاهر الحديث بعض المالكية فقال: غسل الميت إنما هو للتنظيف فيجزي الماء المضاف كما الورد ونحوه، وقالوا: إنما يكره لأجل السرف.
والمشهور عند الجمهور أنه غسل تعبدي يشترط فيه ما يشترط في الاغتسالات الواجبة والمندوبة.
وفي الحديث النهي عن تحنيطه ولم يذكره المصنف كما عرفت، وتعليله بأنه يبعث ملبياً يدل على أن علة النهي كونه مات محرماً، فإذا انتفعت العلة انتفى النهي، وهو يدل على أنّ الحنوط للميت كان أمراً متقرّراً عندهم.
وفيه أيضاً النهي عن تخمير وتغطية رأسه لأجل الإحرام، فمن ليس بمحرم يحنط ويخمر رأسه. والقول بأن ينقطع حكم الإحرام بالموت كما تقول الحنفية وبعض المالكية خلاف الظاهر، وقد ذكر(2/92)
في الشرح خلافهم وأدلتهم وليست بناهضة على مخالفة ظاهر الحديث فلا حاجة إلى سردها.
وقوله "وكفنوه في ثوبين" يدل على وجوب التكفين، وأنه لا يشترط فيه أن يكون وتراً، وقيل: يحتمل أن الاقتصار عليهما لأنه مات فيهم وهو متلبس بتلك العبادة الفاضلة، ويحتمل أنه لم يجد له غيرهما، وأنه من رأس المال، لأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أمر به ولم يستفصل هل عليه دين مستغرق أم لا؟
وورد الثوبان في هذه الرواية مطلقين وفي رواية في البخاري "في ثوبيه" وللنسائي "في ثوبيه اللذين أحرم فيهما" قال المصنف: فيه استحباب تكفين الميت في ثياب إحرامه؛ وأن إحرامه باق وأنه لا يكفن في المخيط.
وفي قوله "يبعث ملبياً" ما يدل لمن شرع في عمل طاعة ثم حيل بينه وبين تمامها بالموت أنه يرجو له أن يكتبه الله في الآخرة من أهل ذلك العمل.
11- ( وعَنْ عائشةَ رضي الله عَنْها قالتْ: "لمّا أَرادُوا غُسْلَ النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قالوا: واللَّهِ ما نَدْري نُجَرِّد رسولَ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كما نُجَرِّدُ مَوْتانا أَمْ لا؟" الحديثَ، رواهُ أَحْمَدُ وأَبو داود.
وتمامه عند أبي داود "فلما اختلفوا ألقى الله عليهم النوم حتى ما منهم من أحد إلا وذقنه في صدره ثم كلمهم ملكهم من ناحية البيت، لا يدرون من هو: اغسلوا النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثيابه فغسلوه وعليه قميصه، يصبون الماء فوق القميص ويدلكونه بالقميص دون أيديهم" . وكانت عائشة تقول: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إلا نساؤه" وفي رواية لابن حبان "وكان الذي أجلسه في حجره علي بن أبي طالب عليه السلام" وروى الحاكم قال: "غسل النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عليّ عليه السلام وعلى يد عليّ خرقة فغسله فأدخل يده تحت القميص فغسله والقميص عليه" وروى ذلك الشافعي عن مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه.
وفي هذه القصة دلالة على أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ليس كغيره من الموتى.
12- (وعن أمّ عطية رضي الله عنها) تقدم اسمها وفيه خلاف وهي أنصارية (قالت: دخل علينا النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ونحن نغسل ابنته ) لم تقع في شيء من روايات البخاري مسماة، والمشهور أنها زينب زوج أبي العاص كانت وفاتها في أوّل سنة ثمان، ووقع في روايات أنها أم كلثوم. ووقع في البخاري عن ابن سيرين: "لا أدري أي بناته" فقال: "اغْسلنها ثلاثاً أو خمساً أو أكثر من ذلك إنْ رأَيتن ذلك بماءٍ وسدر، واجعلن في الآخرة كافوراً أَوْ شيئاً من كافور" هو شك من الراوي أي اللفظين قال. والأول محمول على الثاني لأنه نكرة في سياق الإثبات، فيصدق بكل شيء منه ( فلما فرغنا آذناه ) في البخاري "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال لهنّ: فإذا فرغتن آذنني" ووقع في رواية البخاري "فلما فرغن" عوضاً عن فرغنا "فألقى إلينا حقوه" في لفظ البخاري "فأعطانا حِقوه" وهو بفتح المهملة ويجوز كسرها وبعدها قاف ساكنة والمراد هنا الإزار. وأطلق على الإزار مجازاً إذ معناه الحقيقي معقد الإزار فهو من تسمية الحال باسم المحل ( فقال: "أَشْعرنْها إيّاه" متفق عليه) أي اجعلنه شعارها أي الثوب الذي يلي جسدها (وفي رواية) أي للشيخين عن أم عطية "ابْدَأن بميامنها ومواضع الوضوء منها" في لفظ للبخاري) أي عن أم عطية(2/93)
"فَضَفَرنا شعرها ثلاثة قُرون فأَلْقيناها خلْفها" .
دل الأمر في قوله "اغسلنها ثلاثاً" على أنه يجب ذلك العدد. والظاهر الإجماع على إجزاء الواحدة فالأمر بذلك محمول على الندب.
وأما أصل الغسل فقد علم وجوبه من محل آخر، وقيل: تجب الثلاثة.
وقوله: "أو خمساً" أو للتخيير لا للترتيب هو الظاهر.
وقوله: "أو أكثر" قد فسر في رواية أو سبعاً بدل قوله أو أكثر من ذلك، وبه قال أحمد وكره الزيادة على سبع، قال ابن عبد البر: لا أعلم أحداً قال بمجاوزة السبع، إلا أنه وقع عند أبي داود "أو سبعاً أو أكثر من ذلك" ، فظاهرها شرعية الزيادة على السبع.
وتقدم الكلام في كيفية غسلة السدر. قالوا: والحكمة فيه أنه يليّن جسد الميت.
وأما غسلة الكافور فظاهره أنه يجعل الكافور في الماء ولا يضر الماء تغييره به، والحكمة فيه أنه يطيب رائحة الموضع لأجل من حضر من الملائكة وغيرهم، مع أنه فيه تجفيفاً وتبريداً وقوة نفوذ، وخاصية في تصليب جسد الميت وصرف الهوام عنه، ومنع ما يتحلل من الفضلات، ومنع إسراع الفساد إليه، وهو أقوى الروائح الطيبة في ذلك. وهذا هو السر في جعله في الآخرة إذ لو كان في الأولى مثلاً لأذهبه الماء.
وفيه دلالة على البداءة في الغسل بالميامن، والمراد بها ما يلي الجانب الأيمن.
وقوله: "ومواضع الوضوء منها" ليس بين الأمرين تناف لإمكان البداءة بمواضع الوضوء وبالميامن معاً، وقيل المراد: ابدأن بميامنها في الغسلات التي لا وضوء فيها ومواضع الوضوء منها في الغسلة المتصلة بالوضوء.
والحكمة في الأمر بالوضوء تجديد سمة المؤمن في ظهور أثر الغرة والتحجيل، وظاهر موضع الوضوء دخول المضمضة والاستنشاق.
وقولها "ضفرنا شعرها" استدل به على ضفر شعر الميت، وقال الحنفية: يرسل شعر المرأة خلفها وعلى وجهها مفرقاً.
قال القرطبي: كأن سبب الخلاف أن الذي فعلته أم عطية لم يكن عن أمره صلى الله عليه وسلم. ولكنه قال المصنف: إنه قد روى سعيد بن منصور ذلك بلفظ "قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اغسلنها وتراً واجعلن شعرها ضفائر" وفي صحيح ابن حبان "اغسلنها ثلاثة أو خمساً أو سبعاً واجعلن لها ثلاثة قرون".
والقرن هنا المراد به الضفائر، وفي بعض ألفاظ البخاري "ناصيتها وقرنيها" ففي لفظ ثلاثة قرون تغليب، والكل حجة على الحنفية، والضفر يكون بعد نقض شعر الرأس وغسله وهو في البخاري صريحاً.
وفيه دلالة على إلقاء الشعر خلفها، وذهل ابن دقيق العيد عن كون هذه الألفاظ في البخاري فنسب القول به إلى بعض الشافعية وأنه استند في ذلك إلى حديث غريب.
13- (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كفن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في ثلاثة أثواب بيض سُحولية ) بضم السين المهملة والحاء المهملة ( من كُرْسُف ) بضم الكاف وسكون الراء وضم السين المهملة ففاء أي قطن ( ليس فيها ) أي الثلاثة ( قميص ولا عمامة ) بل إزار ورداء ولفافة كما صرح به في طبقات ابن سعد عن الشعبي (متفق عليه(.
فيه أن الأفضل التكفين في ثلاثة أثواب بيض، لأن الله تعالى لم يكن يختار لنبيه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إلا الأفضل، وقد روى أهل السنن من حديث ابن عباس "البسوا ثياب البياض فإنها أطيب وأطهر وكفنوا فيها موتاكم" وصححه الترمذي والحاكم، وله شاهد من حديث سمرة أخرجوه وإسناده صحيح أيضاً.
وأما ما تقدم في حديث عائشة "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم سجي ببرد حبرة" وهي برد يماني(2/94)
مخطط غالي الثمن، فإنه لا يعارض ما هنا لأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لم يكفن في ذلك البرد بل سجوه به ليتجفف فيه ثم نزعوه عنه كما أخرجه مسلم، على أن الظاهر أن التسجية كانت قبل الغسل. قال الترمذي: تكفينه في ثلاثة أثواب بيض أصح ما رود في كفنه.
وأما ما أخرجه أحمد وابن أبي شيبة والبزار من حديث علي عليه السلام " أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كفن في سبعة أثواب" فهو من رواية عبد الله بن محمد بن عقيل وهو سيء الحفظ يصلح حديثه في المتابعات إلا إذا انفرد فلا يحسن، فكيف إذا خالف كما هنا. فلا يقبل، قال المصنف: وقد روى الحاكم من حديث أيوب عن نافع عن ابن عمر ما يعضد رواية ابن عقيل.
فإن ثبت، جمع بينه وبين حديث عائشة بأنها روت ما اطلعت عليه وهو الثلاثة، وغيرها روى ما اطلع عليه سيما إن صحت الرواية عن علي فإنه كان المباشر للغسل.
واعلم أنه يجب من الكفن ما يستر جميع جسد الميت، فإن قصر عن ستر الجميع قدم ستر العورة، فما زاد عليها ستر به من جانب الرأس وجعل على الرجلين حشيش، كما فعل النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في عمه حمزة ومصعب بن عمير.
فإن أريد الزيادة على الواحد، فالمندوب أن يكون وتراً، ويجوز الاقتصار على الاثنين كما مر في حديث المحرم الذي مات، وقد عرفت من رواية الشعبي كيفية الثلاثة، وأنها إزار ورداء ولفافة، وقيل مئزر ودرجان، وقيل يكون منها قميص غير مخيط وإزار يبلغ من سرته إلى ركبته، ولفافة يلف بها من قرنه إلى قدمه، وتأول هذا القائل قول عائشة: "ليس فيها قميص ولا عمامة" بأنها أرادت نفي وجود الأمرين معاً لا القميص وحده، أو أن الثلاث خارجة عن القميص والعمامة، والمراد أن الثلاثة مما عداها وإن كانا موجودين، وهذا بعيد جداً، قيل والأولى أن يقال أن التكفين بالقميص وعدمه سواء يستحبان فإنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كفن عبد الله بن أُبَيْ في قميصه أخرجه. البخاري. ولا يفعل صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إلا ما هو الأحسن.
وفيه أن قميص الميت مثل قميص الحي مكفوفاً مزروراً، وقد استحب هذا محمد بن سيرين كما ذكره البيهقي في الخلافيات، قال في الشرح: وفي هذا رد على من قال إنه لا يشرع القميص إلا إذا كانت أطرافه غير مكفوفة. قلت: وهذا يتوقف أن كف أطراف القميص كان عرف أهل ذلك العصر.
14- ( وعن ابن عمر قال: لما توفي عبد الله بن أُبيّ جاء ابنه ) هو عبد الله بن عبد الله ( إلى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فقال: اعطني قميصك أكفنه فيه، فأعطاه . متفق عليه(.
هو دليل على شرعية التكفين في القميص كما سلف قريباً. وظاهر هذه الرواية أنه طلب القميص منه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قبل التكفين إلا أنه قد عارضها ما عند البخاري من حديث جابر: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أتى عبد الله بن أبيّ بعد ما دفن فأخرجه فنفث فيه من ريقه وألبسه قميصه" فإنه صريح أنه كان الإعطاء والإلباس بعد الدفن، وحديث ابن عمر يخالفه، وجمع بينهما بأن المراد من قوله في حديث ابن عمر فأعطاه أي أنعم له بذلك فأطلق على العدة اسم العطية مجازاً لتحقق وقوعها، وكذا قوله في حديث جابر "بعد ما دفن" أي دُلِّيَ في حفرته أو أن المراد من حديث جابر أن الواقع بعد إخراجه من حفرته هو النفث، وأما القميص فقد كان ألبس، والجمع بينهما لا يدل على وقوعهما معاً لأن الواو لا تقتضي(2/95)
الترتيب ولا المعية فلعله أراد أن يذكر ما وقع في الجملة من إكرامه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم من غير إرادة الترتيب.
وقيل إنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أعطاه أحد قميصيه أوّلا ولما دفن أعطاه الثاني بسؤال ولده عبد الله. وفي الإكليل للحاكم ما يؤيد ذلك.
واعلم أنه إنما أعطى عبد الله بن عبد الله بن أبيّ لأنه كان رجلاً صالحاً ولأنه سأله ذلك وكان لا يرد سائلاً، وإلا فإن أباه الذي ألبسه قميصه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وكفن فيه من أعظم المنافقين ومات على نفاقه، وأنزل الله فيه: - { ولا تصل على أحد منهم مات أبداً} -.
وقيل إنما كساه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قميصه لأنه كان كسا العباس لما أُسر ببدر فأراد صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أن يكافئه.
15- ( وعن ابنِ عبّاسٍ رضيِ الله عَنْهُما أَنَّ النبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قالَ: "البسُوا مِنْ ثيابكُمُ الَْيض فإنها مِنْ خَيْر ثيابكُمْ، وكفِّنوا فيها موتاكُم" رواهُ الخمسةُ إلا النّسائيَّ وصححهُ الترمذيُّ.
تقدم حديث البخاري عن عائشة: أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كفن في ثلاثة أثواب بيض.
وظاهر الأمر أنه يجب التكفين في الثياب البيض ويجب لبسها إلا أنه صرف الأمر عنه في اللبس أنه قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه لبس غير الأبيض، وأما التكفين فالظاهر أنه لا صارف عنه إلا أن لا يوجد الأبيض كما وقع في تكفين شهداء أُحد فإنه صلى الله عليه وسلم كفن جماعة في نمرة واحدة كما يأتي فإنه لا بأس به للضرورة.
وأما ما رواه ابن عدي من حديث ابن عباس: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كفن في قطيفة حمراء" ففيه قيس بن الربيع وهو ضعيف وكأنه اشتبه عليه بحديث: أنه جعل في قبره قطيفة حمراء، وكذلك ما قيل إنه كفن في بردة حبرة وتقدم الكلام أنه إنما سجي بها ثم نزعت عنه.
16- ( وعن جابِرٍ رضيَ الله عنهُ قال قال النبيُّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إذَا كَفّنَ أَحَدُكُم أَخاهُ فَلْيُحسن كَفَنهُ" رواهُ مسلْمٌ.
ورواه الترمذي أيضاً من حديث أبي قتادة وقال: حسن غريب. ثم قال: ابن المبارك: قال سَلاَّم بن أبي مطيع قوله "وليحسن كفنه" قال: هو الصفاء بالضاد المعجمة والفاء أي الواسع الفائض.
وفي الأمر بإحسان الكفن دلالة على اختيار ما كان أحسن في الذات، وفي صفة الثوب، وفي كيفية وضع الثياب على الميت.
فأما حسن الذات فينبغي أن يكون على وجه لا يعد من المغالاة كما سيأتي النهي عنه.
وأما صفة الثوب فقد بينها حديث ابن عباس الذي قبل هذا.
وأما كيفية وضع الثياب على الميت فقد بينت فيما سلف.
وقد وردت أحاديث في إحسان الكفن وذكرت فيها علة ذلك: أخرج الديلمي عن جابر مرفوعاً "أحسنوا كفن موتاكم فإنهم يتباهون ويتزاورون بها في قبورهم" وأخرج أيضاً من حديث أم سلمة: "أحسنوا الكفن ولا تؤذوا موتاكم بعويل ولا بتزكية ولا بتأخير وصية ولا بقطيعة وعجلوا بقضاء دَيْنه واعدلوا عن جيران السوء وأعمقوا إذا حفرتم ووسعوا" .
ومن الإحسان إلى الميت ما أخرجه أحمد من حديث عائشة عنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "من غسل ميتاً فأدّى فيه الأمانة ولم يفش عليه ما يكون منه عند ذلك خرج من ذنوبه كيوم(2/96)
ولدته أمه" . وقال صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لِيَلِهِ أقربكم إن كان يعلم فإن لم يكن يعلم فمن ترون عنده حظاً من ورع وأمانة" رواه أحمد. وأخرج الشيخان من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "من ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة" . وأخرج عبد الله بن أحمد من حديث أبيّ بن كعب: "إن آدم عليه السلام قبضته الملائكة وغسلوه وكفنوه وحنطوه وحفروا له وألحدوه وصلوا عليه ودخلوا قبره ووضعوا عليه اللبن ثم خرجوا من القبر ثم حثوا عليه التراب ثم قالوا: يا بني آدم هذا سنتكم" .
17- (وعنه) أي عن جابر (قال: كان النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد ثم يقول: "أَيُّهمْ أَكْثر أخذاً للقرآن" فيقدّمه في اللحد ) سمي لحداً لأنه شق يعمل في جانب القبر فيميل عن وسطه والإلحاد لغة الميل (ولم يغسلوا ولم يصلّ عليهم. رواه البخاري).
دل على أحكام (الأول): أنه يجوز جمع الميتين في ثوب واحد للضرورة وهو أحد الاحتمالين
والثاني: أن المراد يقطعه بينهما ويكفن كل واحد على حياله وإلى هذا ذهب الأكثرون، بل قيل إن الظاهر أنه لم يقل بالاحتمال الأول: أحد فإن فيه التقاء بشرتي الميتين ولا يخفى أن قول جابر في تمام الحديث فكفن أبي وعمي في نمرة واحدة. دليل على الاحتمال الأول، وأما الشارح رحمه الله فقال: الظاهر الاحتمال الثاني: كما فعل في حمزة رضي الله عنه (قلت): حديث جابر أوضح في عدم تقطيع الثوب بينهما فيكون أحد الجائزين، والتقطيع جائز على الأصل.
(الحكم الثاني): أنه دل على أنه يقدّم الأكثر أخذاً للقرآن على غيره لفضيلة القرآن ويقاس عليه سائر جهات الفضل إذا جمعوا في اللحد.
(الحكم الثالث): جمع جماعة في قبر وكأنه للضرورة وبوّب البخاري "باب دفن الرجلين والثلاثة في قبر" وأورد فيه حديث جابر هذا وإن كانت رواية جابر في الرجلين، فقد وقع ذكر الثلاثة في رواية عبد الرزاق: كان يدفن الرجلين والثلاثة في القبر الواحد. وروى أصحاب السنن عن هشام بن عامر الأنصاري قال: جاءت الأنصار إلى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وسلم يوم أحد فقالوا: أصابنا قرح وجهد، فقال: احفروا وأوسعوا واجعلوا الرجلين والثلاثة في قبر. صححه الترمذي. ومثله المرأتان والثلاث:
وأما دفن الرجل والمرأة في القبر الواحد فقد روى عبد الرزاق بإسناد حسن عن واثلة بن الأسقع "أنه كان يدفن الرجل والمرأة في القبر الواحد فيقدم الرجل ويجعل المرأة وراءه" وكأنه كان يجعل بينهما حائلا من تراب.
(الحكم الرابع): أنه لا يغسل الشهيد وإليه ذهب الجمهور ولأهل المذاهب تفاصيل في ذلك.
وروي عن سعيد بن المسيب والحسن وابن شريح أنه يجب غسله. والحديث حجة عليهم، وقد أخرج أحمد من حديث جابر أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال في قتلى أحد: "لا تغسلوهم فإن كل جرحٍ أو دم يفوح مسكاً يوم القيامة" فبين الحكمة في ذلك.
(الحكم الخامس): عدم الصلاة على الشهيد وفي ذلك خلاف بين العلماء معروف فقالت طائفة: يصلى عليه عملاً بعموم أدلة الصلاة على الميت وبأنه روي "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلى على قتلى أُحد، وكبر على حمزة سبعين تكبيره" ، وبأنه روى البخاري عن عقبة بن عامر "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلّى على قتلى أحد" وقالت طائفة: لا يصلى عليه(2/97)
عملا برواية جابر هذه.
قال الشافعي: جاءت الأخبار كأنها عيان من وجوه متواترة "أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لم يصل على قتلى أُحد" وما روي أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلّى عليهم وكبر على حمزة سبعين تكبيرة لا يصح وقد كان ينبغي لمن عارض بذلك هذه الأحاديث الصحيحة أن يستحيي على نفسه. وأما حديث عقبة بن عامر فقد وقع في نفس الحديث أن ذلك كان بعد ثمان سنين يعني، والمخالف يقول: لا يصلى على القبر إذا طالت المدة "فلا يتم له الاستدلال" وكأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم دعا لهم واستغفر لهم حين علم قرب أجله مودعاً لهم بذلك، ولا يدل على نسخ الحكم الثابت انتهى.
ويؤيد كونه دعا لهم عدم الجمعية بأصحابه، إذ لو كانت صلاة الجنازة لأشعر أصحابه وصلاها جماعة كما فعل في صلاته علي النجاشي، فإن الجماعة أفضل قطعاً وأهل أحد أولى الناس بالأفضل، ولأنه لم يرد عنه أنه صلى على قبر فرادى، وحديث عقبة أخرجه البخاري بلفظ "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلى على قتلى أُحُد بعد ثمان سنين" زاد ابن حبان "ولم يخرج من بيته حتى قبضه الله تعالى" .
18- (وعنْ عليٍ عليه السلام قال: سمعْتُ رسول اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقُولُ: " لا تَغَالَوْا في الكفن فإِنّهُ يُسْلبُ سريعاً" رواهُ أبو داودَ.
من رواية الشعبي عن علي عليه السلام وفي إسناده عمرو بن هشام الجنبي بفتح الجيم فنون ساكنة فموحدة مختلف فيه، وفيه انقطاع بين الشعبي وعليّ لأنه قال الدارقطني: إنه لم يسمع منه سوى حديث واحد.
وفيه دلالة على المنع من المغالاة في الكفن وهي زيادة الثمن.
وقوله: "فإنه يسلب سريعاً" كأنه إشارة إلى أنه سريع البلى والذهاب، كما في حديث عائشة: "إن أبا بكر نظر إلى ثوب عليه كان يمرض فيه به ردع من زعفران فقال: اغسلوا ثوبي هذا وزيدوا عليه ثوبين فكفنوني فيها" (قلت) إن هذا خلق قال: إن الحي أحق بالجديد من الميت إنما هو للمهلة.
ذكره البخاري مختصراً.
19- (وعن عائشةَ رضيَ الله عَنْها أَنَّ النّبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قالَ لهَا: "لَوْمُتِّ قَبْلي لَغَسّلْتُك" الحديث، رواهُ أَحمدُ وابن مَاجَهْ وصَحّحهُ ابنُ حبِّانَ.
فيه دلالة على أن للرجل أن يغسل زوجته وهو قول الجمهور.
وقال أبو حنيفة: لا يغسلها بخلاف العكس لارتفاع النكاح ولا عدة عليه والحديث يرد قوله. هذا في الزوجين.
وأما في الأجانب فإنه أخرج أبو داود في المراسيل من حديث أبي بكر ابن عياش عن محمد بن أبي سهل عن مكحول قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا ماتت المرأة مع الرجال ليس فيهم امرأة غيرها والرجل مع النساء ليس معهن رجل غيره فإنهما ييممان ويدفنان" وهما بمنزلة من لا يجد الماء انتهى. محمد بن أبي سهل هذا ذكره ابن حبان في الثقات. وقال البخاري: لا يتابع على حديثه. وعن علي عليه السلام قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لا تبرز فخذك ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت" رواه أبو داود وابن ماجه وفي إسناده اختلاف.
20- ( وعنْ أَسْماءَ بنْتِ عُمَيْسٍ رَضيَ اللَّهُ عنْها: "أَنَّ فاطِمَة رضيَ اللَّهُ عَنْها أَوْصَتْ أَنْ يُغَسِّلَها(2/98)
عَليٌّ عليه السلام" رواهُ الدارقطنيُّ.
هذا يدل على ما دل عليه الحديث الأول وأما غسل المرأة زوجها فيستدل له بما أخرجه أبو داود عن عائشة أنها قالت: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم غير نسائه" وصححه الحاكم، وإن كان قول صحابية، وكذلك حديث فاطمة، فهو يدل على أنه كان أمراً معروفاً في حياته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ويؤيده ما رواه البيهقي من أن أبا بكر أوصى امرأته أسماء بنت عميس أن تغسله واستعانت بعبد الرحمن بن عوف لضعفها عن ذلك ولم ينكره أحد. وهو قول الجمهور والخلاف فيه لأحمد بن حنبل. قال: لارتفاع النكاح كذا في الشرح.
والذي في دليل المطالب من كتب الحنابلة ما لفظه: وللرجل أن يغسل زوجته وأمته وبنتاً دون سبع وللمرأة غسل زوجها وسيدها وابن دون سبع.
21- ( وعن بريدة في قصة الغامدية) بالغين المعجمة وبعد الميم دال مهملة نسبة إلى غامد وتأتي قصتها في الحدود (التي أمر النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم برجمها في الزنا قال: ثم أمر بها فصُلِّي عليها ودفنت . رواه مسلم(.
فيه دليل على أنه يصلي على من قتل بحدّ وليس فيه أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم الذي صلى عليه، وقد قال مالك: إنه لا يصلي الإمام على مقتول في حدّ لأن الفضلاء لا يصلون على الفساق زجراً لهم. قلت: كذا في الشرح لكن قد قال صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في الغامدية: "إنها تابت توبة لو قسمت بين أهل المدينة لوسعتهم" أو نحو هذا اللفظ.
وللعلماء خلاف في الصلاة على الفساق، وعلى من قتل في حد، وعلى المحارب، وعلى ولد الزنا، وقال ابن العربي: مذهب العلماء كأنه الصلاة على كل مسلم ومحدود ومرجوم وقاتل نفسه وولد الزنا اهـ. وقد ورد في قاتل نفسه الحديث:
22- ( وعَنْ جابرِ بنِ سَمُرَةَ قالَ: "أُتِيَ النبيُّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم برجُلٍ قَتَلَ نَفْسَهُ بمشَاقِص فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ" رواه مُسْلمٌ.
المشاقص جمع مشقص وهو نصل عريض.
قال الخطابي: وترك الصلاة عليه معناه العقوبة له وردع لغيره عن مثل فعله.
وقد اختلف الناس في هذا، وكان عمر بن عبد العزيز لا يرى الصلاة على من قتل نفسه، وكذلك قال الأوزاعي.
وقال أكثر الفقهاء: يصلي عليه اهـ، وقالوا في هذا الحديث: إنه صلى عليه الصحابه. قالوا: وهذا كما ترك النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم الصلاة على من مات وعليه دين أول الأمر، وأمرهم بالصلاة على صاحبهم، قلت: إن ثبت نقل أنه أمر صَلّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلّم أصحابه بالصلاة على قاتل نفسه. تم هذا القول وإلا فرأى عمر بن عبد العزيز أوفق بالحديث، إلا أن في رواية للنسائي: "أما أنا فلا أصلي عليه" ، فربما أخذ منها أن غيره صلى عليه.
23- ( وعن أبي هريرة رضي الله عنه في قصة المرأة التي كانت تَقم المسجد) بفتح حرف المضارعة أي تخرج القمامة منه وهي الكناسة (فسأل عنها النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ماتت فقال: "أَفلا كنتمْ آذنتموني" فكأَنهمْ صغروا أَمْرها فقال: "دلُّوني على قبرها" أي بعد قولهم في جواب سؤاله إنها ماتت ( فدلوه فصلى عليها . متفق عليه وزاد مسلم) أي من رواية أبي هريرة (ثم قال) أي النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم "إنَّ هذه القبور(2/99)
مملوءةٌ ظُلْمةٌ على أَهْلها وإنَّ اللَّهَ يُنوِّرها لهمْ بصلاتي عليْهم" وهذه الزيادة لم يخرجها البخاري لأنها مدرجة من مراسيل ثابت كما قال أحمد. هذا والمصنف جزم أن القصة كانت مع امرأة وفي البخاري: أن رجلاً أسود أو امرأة سوداء بالشك من ثابت الراوي لكنه صرح في رواية أخرى في البخاري عن ثابت قال: "ولا أراه إلا امرأة" وبه جزم ابن خزيمة من طريق أخرى عن أبي هريرة فقال: "امرأة سوداء" ورواه البيهقي أيضاً بإسناد حسن وسماها أم محجن وأفاد أن الذي أجابه صلى الله عليه وسلم عن سؤاله هو أبو بكر، وفي البخاري عوض "فسأل عنها" فقال: "ما فعل ذلك الإنسان؟ قالوا: مات يا رسول الله" الحديث.
والحديث دليل على صحة الصلاة على الميت بعد دفنه مطلقاً سواء أصلي عليه قبل الدفن أم لا وإلى هذا ذهب الشافعي.
ويدل له أيضاً صلاته صلى الله عليه وسلم على البراء بن معرور فإنه مات والنبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بمكة فلما قدم صلى على قبره، وكان ذلك بعد شهر من وفاته.
ويدل له أيضاً صلاته صلى الله عليه وسلم على الغلام الأنصاري الذي دفن ليلا ولم يشعر صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بموته، أخرجه البخاري.
ويدل له أيضاً أحاديث وردت في الباب عن تسعة من الصحابة أشار إليها في الشرح.
وذهب أبو طالب تحصيلاً لمذهب الهادي إلا أنه لا صلاة على القبر واستدل له في البحر بحديث لا يقوى على معارضة أحاديث المثبتين لما عرفت من صحتها وكثرتها.
واختلف القائلون بالصلاة على القبر في المدة التي تشرع فيها الصلاة، فقيل إلى شهر بعد دفنه، وقيل إلى أن يبلى الميت لأنه إذا بلي لم يبق ما يصلي عليه، وقيل أبداً لأن المراد من الصلاة عليه الدعاء وهو جائز في كل وقت. قلت: هذا هو الحق إذ لا دليل على التحديد بمدة.
وأما القول بأن الصلاة على القبر من خصائصه صلى الله عليه وآله وسلم فلا تنهض لأن دعوى الخصوصية خلاف الأصل.
24- ( وعن حذيفة رضي الله عنه أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان ينهى عن النعي ) في القاموس: نعاه له نعياً ونعياً ونعياناً أخبره بموته (رواه أحمد والترمذي وحسنه) وكأن صيغة النهي هي ما أخرجه الترمذي من حديث عبد الله عنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم "إياكم والنعي فإن النعي من عمل الجاهلية" فإن صيغة التحذير في معنى النهي. وأخرج حديث حذيفة وفيه قصة، فإنه ساق سنده إلى حذيفة أنه قال لمن حضره: "إذا مت فلا يؤذن أحد إني أخاف أن يكون نعياً فإني سمعت رسول لله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ينهى عن النعي" هذا لفظه ولم يحسنه.
ثم فسر الترمذي النعي بأنه عندهم أن ينادي في الناس إن فلاناً مات ليشهدوا جنازته. وقال بعض أهل العمل: لا بأس أن يعلم الرجل قرابته وإخوانه. وعن إبراهيم أنه قال: لا بأس بأن يعلم الرجل قرابته انتهى.
وقيل المحرّم ما كانت تفعله الجاهلية كانوا يرسلون من يعلم بخبر موت الميت على أبواب الدور والأسواق.
وفي النهاية: والمشهور في العربية أنهم كانو إذا مات فيهم شريف أو قتل بعثوا راكباً إلى القبائل ينعاه إليهم يقول: نَعاء فلاناً أو يَانَعَاء العرب: أي هلك فلان أو هلكت العرب بموت فلان انتهى.
ويقرب عندي أن هذا هو(2/100)
المنهي عنه. قلت: ومنه النعي من أعلى المنارات كما يعرف في هذه الأعصار في موت العظماء.
قال ابن العربي: يؤخذ من مجموع الأحاديث ثلاث حالات (الأولى): إعلام الأهل والأصحاب وأهل الصلاح فهذا سنة.
(الثانية): دعوى الجمع الكثير للمفاخرة فهذه تكره.
(الثالثة) إعلام بنوع آخر كالنياحة ونحو ذلك فهذا يحرم انتهى.
وكأنه أخذ سنية الأولى من أنه لا بد من جماعة يخاطبون بالغسل والصلاة والدفن ويدل له قوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "ألا آذنتموني" ونحوه، ومنه:
25- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم نعى النّجاشي ) بفتح النون وتخفيف الجيم وبعد الألف شين معجمة ثم مثناة تحتية مشددة وقيل مخففة، لقب لكل مَن ملك الحبشة واسمه أصحمة ( في اليوم الذي مات فيه وخرج بهم إلى المصلى ) يحتمل أنه مصلى العيد أو محل اتخذ لصلاة الجنائز ( فصف بهم وكبر عليه أربعاً، متفق عليه(.
فيه دلالة على أن النعي اسم للإعلام بالموت وأنه لمجرد الإعلام جائز.
وفيه دلالة على شرعية صلاة الجنازة على الغائب، وفيه أقوال:
الأول: تشرع مطلقاً وبه قال الشافعي وأحمد وغيرهما وقال ابن حزم لم يأت عن أحد من السلف خلافه.
والثاني: منعه مطلقاً وهو للهادوية والحنفية ومالك.
والثالث: يجوز في اليوم الذي مات فيه الميت أو ما قرب منه إلا إذا طالت المدة.
الرابع: يجوز ذلك إذا كان الميت في جهة القبلة، ووجه التفصيل في القولين معاً الجمود على قصة النجاشي. وقال المانع له مطلقاً: إن صلاته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على النجاشي خاصة به، وقد عرف أن الأصل عدم الخصوصية واعتذروا بما قاله أهل القول الخامس وهو: أن يصلى على الغائب إذا مات بأرض لا يصلى عليها فيها كالنجاشي فإنه مات بأرض لم يسلم أهلها واختاره ابن تيمية، ونقله المصنف في فتح الباري عن الخطابي وأنه استحسنه الروياني، ثم قال: وهو محتمل إلا أنني لم أقف في شيء من الأخبار أنه لم يصلِّ عليه في بلده أحد.
واستدل بالحديث على كراهة الصلاة على الجنازة في المسجد، لخروجه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم. والقول بالكراهة للحنفية والمالكية، ورد بأنه لم يكن في الحديث نهي عن الصلاة فيه، وبأن الذي كرهه القائل بالكراهة إنما هو إدخال الميت المسجد وإنما خرج صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم تعظيماً لشأن النجاشي ولتكثر الجماعة الذين يصلون عليه.
وفيه شرعية الصفوف على الجنازة لأنه أخرج البخاري في هذه القصة حديث جابر وأنه كان في الصف الثاني أو الثالث وبوّب له البخاري "باب من صف صفين أو ثلاثة على الجنازة خلف الإمام".
وفي الحديث من أعلام النبوّة إعلامهم بموته في اليوم الذي توفي فيه مع بُعد ما بين المدينة والحبشة.
26- ( وعن ابن عبّاسٍ قالَ: سَمِعْت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقولُ: "ما مَنْ رجلٍ مُسْلمٍ يموتُ فَيَقومُ على جنازتِهِ أَربْعونَ رجُلاً لا يُشركُون بالله شيئاً لا شَفّعَهُمُ اللَّهُ فيهِ" رواهُ مُسلْمٌ.
في الحديث دليل على فضيلة تكثير الجماعة على الميت. وأن شفاعة المؤمن مقبولة عنده تعالى وفي رواية "ما من مسلم يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون كلهم مائة: يشفعون فيه إلا شُفعوا فيه" . وفي رواية "ثلاثة صفوف" رواها أصحاب السنن.
قال القاضي:(2/101)
قيل هذه الأحاديث خرجت أجوبة لسائلين سألوا عن ذلك فأجاب كل واحد عن سؤاله. ويحتمل أن يكون صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أخبر بقبول شفاعة كل واحد من هذه الأعداد ولا تنافي بينهما إذ مفهوم العدد يطرح مع وجود النص فجميع الأحاديث معمول بها وتقبل الشفاعة بأذناها..
27- ( وعَنْ سَمُرَةَ بنِ جُنْدُبٍ رضيَ الله عَنْهما قال: "صَلّيْتُ وَرَاءَ النّبيِّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على امرأَةٍ مَاتَتْ في نفاسِها فَقَامَ وَسْطَهَا" مُتّفَقٌ عَلَيْهِ.
فيه دليل على مشروعية القيام عند وسط المرأة إذا صلى عليها وهذا مندوب، وأما الواجب فإنما هو استقبال جزء من الميت رجلاً أو امرأة.
واختلف العلماء في حكم الاستقبال في حق الرجل والمرأة فقال أبو حنيفة: إنهما سواء.
وعند الهادوية أنه يستقبل الإمام سرة الرجل وثديي المرأة لرواية أهل البيت عليهم السلام عن علي عليه السلام. وقال القاسم: صدر المرأة، وبينه وبين السرة من الرجل، إذ قد روي قيامه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عند صدرها ولا بدّ من مخالفة بينها وبين الرجل.
وعن الشافعي أنه يقف حذاء رأس الرجل وعند عجيزتها لما أخرجه أبو داود والترمذي من حديث أنس: أنه صلى على رجل فقام عند رأسه وصلى على المرأة فقام عند عجيزتها فقال له العلاء بن زياد: هكذا كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يفعل؟ قال: نعم. إلا أنه قال المصنف في الفتح: إن البخاري أشار بإيراد حديث سمرة إلى تضعيف حديث أنس.
28- (وعن عائشة قالت: والله لقد صلى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على ابني بيضاء ) هما سهل وسهيل أبوهما وهب بن ربيعة وأمهما البيضاء اسمها دعد والبيضاء صفة لها ( في المسجد . رواه مسلم) قالته عائشة ردّاً على من أنكر عليها صلاتها على سعد بن أبي وقاص في المسجد فقالت: "ما أسرع وما أنسى الناس والله لقد صلى" الحديث.
والحديث دليل على ما ذهب إليه الجمهور من عدم كراهية صلاة الجنازة في المسجد.
وذهب أبو حنيفة ومالك إلى أنها لا تصح وفي القدوري للحنفية ولا يصلى على ميت في مسجد جماعة. واحتجا بما سلف من خروجه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إلى الفضاء للصلاة على النجاشي وتقدّم جوابه وبما أخرجه أبو داود "من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء له" وأجيب بأنه نص أحمد على ضعفه لأنه تفرّد به صالح مولى التوأمة وهو ضعيف على أنه في النسخ المشهورة من سنن أبي داود بلفظ "فلا شيء عليه".
وقد روى أن عمر صلى على أبي بكر في المسجد وأن صهيباً صلى على عمر في المسجد.
وعند الهادوية يكره إدخال الميت المسجد كراهة تنزيه وتأولوا هم والحنفية والمالكية حديث عائشة بأن المراد أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلى على ابني البيضاء وجنازتهما خارج المسجد وهو صلى الله عليه وسلم داخل المسجد ولا يخفي بعده وأنه لا يطابق احتجاج عائشة.
29- (وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى) هو أبو عيسى عبد الرحمن بن أبي ليلى ولد لست سنين بقيت من خلافة عمر سمع أباه وعلي بن أبي طالب عليه السلام وجماعة من الصحابة ووفاته سنة اثنتين وثمانين وفي سبب وفاته أقوال، قيل: فقد، وقيل قتل، وقيل(2/102)
غرق في نهر البصرة (قال: كان زيد بن أرقم يكبر على جنائزنا أربعاً وإنه كبر على جنازة خمساً فسألته فقال: كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يكبرها . رواه مسلم والأربعة) تقدم في حديث أبي هريرة أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كبر في صلاته على النجاشي أربعاً ورويت الأربع عن ابن مسعود وأبي هريرة وعقبة بن عامر والبراء بن عازب وزيد بن ثابت، وفي الصحيحين عن ابن عباس: "صلى على قبر فكبر أربعاً". وأخرج ابن ماجه عن أبي هريرة: "أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلى على جنازة فكبر أربعاً". قال ابن أبي داود: ليس في الباب أصح منه.
فذهب إلى أنها أربعاً لا غير جمهور من السلف والخلف منهم الفقهاء الأربعة ورواية عن زيد بن علي عليه السلام.
وذهب أكثر الهادوية إلى أنه يكبر خمس تكبيرات واحتجوا بما روي أن علياً عليه السلام كبر على فاطمة خمساً وأن الحسن كبر على أبيه خمساً وعن ابن الحنفية أنه كبر على ابن عباس خمساً وتأولوا رواية الأربع بأن المراد بها ما عدا تكبيرة الافتتاح وهو بعيد:
30- (وعن علي عليه السلام أنه كبر على سهل بن حنيف) بضم المهملة فنون فمثناة تحتية ففاء (ستا وقال: "إنه بدريٌّ") أي ممن شهد وقعة بدر معه صَلّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلّم (رواه سعيد بن منصور وأصله في البخاري) الذي في البخاري "أن علياً كبر على سهل بن حنيف" زاد البرقاني في مستخرجه ستاً كذا ذكره البخاري في تاريخه.
وقد اختلفت الروايات في عدة تكبيرات الجنازة فأخرج البيهقي عن سعيد بن المسيب: أن عمر قال: كل ذلك قد كان أربعاً وخمساً فاجتمعنا على أربع. ورواه ابن المنذر من وجه آخر عن سعيد، ورواه البيهقي أيضاً عن أبي وائل قال: كانوا يكبرون على عهد رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أربعاً وخمساً وستاً وسبعاً فجمع عمر أصحاب رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فأخبر كلٌّ بما رأى فجمعهم عمر على أربع تكبيرات. وروى ابن عبد البر في الاستذكار بإسناده: كان النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يكبر على الجنائز أربعاً وخمساً وستاً وسبعاً وثمانياً حتى جاء موت النجاشي فخرج إلى المصلى وصف الناس وراءه وكبر عليه أربعاً ثم ثبت النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على أربع حتى توفاه الله؛ فإن صح هذا فكأن عمر ومن معه لم يعرفوا استقرار الأمر على الأربع حتى جمعهم وتشاوروا في ذلك.
31- ( وعن جابرٍ رضي اللَّهُ عنه قال: كانَ رسُولُ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يُكبِّرُ على جنائزنا أَربعاً، ويقرأُ بفاتحةِ الكتابِ في التّكبيرةِ الأولى" رواهُ الشّافعيُّ بإسنادٍ ضعيفٍ.
سقط هذا الحديث من نسخة الشرح فلم يتكلم عليه الشارح رحمه الله قال المصنف في الفتح: إنه أفاد شيخه في شرح الترمذي أن سنده ضعيف وفي التلخيص إنه رواه الشافعي عن إبراهيم بن محمد عن محمد عبد الله بن عقيل عن جابر انتهى وقد ضعفوا ابن عقيل.
واعلم أنه اختلف العلماء في قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة، فنقل ابن المنذر عن ابن مسعود والحسن بن علي وابن الزبير مشروعيتها وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق.
ونقل عن أبي هريرة وابن عمر أنه ليس فيها قراءة وهو قول مالك والكوفيين. واستدل الأولون بما سلف وهو وإن كان ضعيفاً فقد شهد له قوله:(2/103)
32- (وعنْ طلحةَ بن عبد الله بنِ عَوْفٍ قالَ: "صلْيتُ خلفَ ابنِ عَبّاسٍ رضي الله عنهما على جنازةٍ فَقَرَأَ بفاتحة الْكتابِ، قال: لِتَعْلَمُوا أَنّها سُنّةٌ" رواهُ البُخاري.
وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه والنسائي بلفظ "فأخذت بيده فسألته عن ذلك فقال: نعم يا ابن أخي إنه حق وسنة" وأخرج النسائي أيضاً من طريق أخرى بلفظ "فقرأ بفاتحة الكتاب وسورة وجهر حتى أسمعنا فلما فرغ أخذت بيده فسألته فقال: سنة وحق" وقد روى الترمذي عن ابن عباس: أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قرأ على الجنازة بفاتحة الكتاب. ثم قال لا يصح. والصحيح عن ابن عباس قوله: "من السنة".
قال الحاكم: أجمعوا على أن قول الصحابي "من السنة" حديث مسند قال المصنف: كذا نقل الإجماع مع أن الخلاف عند أهل الحديث وعند الأصوليين شهير.
والحديث دليل على وجوب قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة لأن المراد من السنة الطريقة المألوفة عنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لا أن المراد بها ما يقابل الفريضة فإنه اصطلاح عرفي. وزاد الوجوب تأكيداً قوله: "حق" أي ثابت. وقد أخرج ابن ماجه من حديث أم شريك قالت: أمرنا رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أن نقرأ على الجنازة بفاتحة الكتاب. وفي إسناده ضعف يسير يجبره حديث ابن عباس.
والأمر من أدلة الوجوب، وإلى وجوبها ذهب الشافعي وأحمد وغيرهما من السلف والخلف.
وذهب آخرون إلى عدم مشروعيتها لقول ابن مسعود: لم يوقت لنا رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قراءة في صلاة الجنازة بل قال: "كبّر إذا كبر الإمام واختر من أطايب الكلام ما شئت" إلا أنه لم يعزه إلى كتاب حديثي حتى تعرف صحته من عدمها ثم هو قول صحابي على أنه ناف وابن عباس مثبت وهو مقدم.
وعن الهادي وجماعة من الآل أن القراءة سنة عملا بقول ابن عباس سنة وقد عرفت المراد بها في لفظه.
واستدل للوجوب بأنهم اتفقوا أنها صلاة وقد ثبت حديث "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" فهي داخلة تحت العموم وإخراجها منه يحتاج إلى دليل.
وأما موضع قراءة الفاتحة فإنه بعد التكبيرة الأولى ثم يكبر فيصلي على النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ثم يكبر فيدعو للميت وكيفية الدعاء قد أفادها قوله:
33- ( وعن عَوْفِ بن مالك قال: صلى رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على جنَازَةٍ فَحَفِظْتُ منْ دعائهِ "اللهمَّ اغفِرْ لهُ، وارْحَمْهُ، وعَافِهِ واعْفُ عنْهُ، وأَكرم نُزُلَهُ، ووسع مُدْخلهُ، واغْسِلْهُ بالماءِ والثّلْج والبْرَدِ، ونقّه من الْخطايا كما يُنَقَى الثّوب الأبْيضُ من الدنس، وأَبْدلهُ داراً خَيْراً من دارهِ، وأَهْلاً خيراً من أَهْله، وأَدْخلْهُ الجنّةَ، وقِهِ فتْنة القبر وعذابَ النّار" رواه مُسلمٌ.
يحتمل أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم جهر به فحفظه ويحتمل أنه سأله ما قاله فذكره له فحفظه.
وقد قال الفقهاء: يندب الإسرار، ومنهم من قال يخير، ومنهم من قال: يسر في النهار ويجهر بالليل.
وفي الدعاء ينبغي الإخلاص فيه لقوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "أخلصوا له الدعاء" وما ثبت عنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أولى. وأصح الأحاديث الواردة في ذلك هذا الحديث وكذلك قوله:(2/104)
34-( وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة يقول: "اللهم اغفر لحيّنا وميِّتنا وشاهدنا" أي حاضرنا "وغائبنا وصغيرنا" أي ثبته عند التكليف للأفعال الصالحة وإلا فلا ذنب له "وكبيرنا، وذكرنا وأُنثانا، اللهُمَّ من أحْييْته منّا فأَحيْه على الإسلام، ومن توفيْتَهُ منّا فتوفّهُ على الإيمان، اللهم لا تحرمنْا أجْرَهُ ولا تُضِلْنا بَعْدهُ" رواه مسلم والأربعة) والأحاديث في الدعاء للميت كثيرة ففي سنن أبي داود عن أبي هريرة أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم دعا في الصلاة على الجنازة: "اللهم أنت ربها وأنت خلقتها وأنت هديتها للإسلام وأنت قبضت روحها وأنت أعلم بسرها وعلانيتها جئنا شفعاء له فاغفر له ذنبه" . وابن ماجه من حديث واثلة بن الأسقع قال: "صلى بنا رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على جنازة رجل من المسلمين فسمعته يقول: اللهم إن فلان ابن فلان في ذمتك وحبل جوارك، قه فتنة القبر وعذاب النار، وأنت أهل الوفاء والحمد، اللهم فاغفر له وارحمه، فإنك أنت الغفور الرحيم" .
واختلاف الروايات دال على أن الأمر متسع في ذلك ليس مقصوراً على شيء معين، وقد اختار الهادوية أدعية أخرى، واختار الشافعي كذلك، والكل مسطور في الشرح.
وأما قراءة سورة مع الحمد فقد ثبت ذلك كما عرفت في رواية النسائي ولم يرد فيها تعيين وإنما الشأن في إخلاص الدعاء للميت لأنه الذي شرعت له الصلاة، والذي ورد به الحديث وهو قوله:
35- (وعنه) أي أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إذا صليْتم على الميِّت فأَخلصوا لهُ الدعاءَ" رواه أبو داود وصححه ابن حبان) لأنهم شفعاء والشافع يبالغ في طلبها يريد قبول شفاعته فيه.
وروى الطبراني: أن ابن عمر كان إذا رأى جنازة قال: "هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله"، اللهم زدنا إيماناً وتسليماً. ثم أسند عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أنه قال: "من رأى جنازة فقال: الله أكبر صدق الله ورسوله هذا ما وعد الله ورسوله اللهم زدنا إيماناً وتسليماً تكتب له عشرون حسنة".
36- ( وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "أسرعوا بالجنازة فإن تكُ ) أي الجنازة والمراد بها الميت "صالحة فخيْرٌ " خيْرٌ خبر مبتدأ محذوف أي فهو خير ومثله شر الآتي "تُقدِّمُونها إليْه، وإن تكُن سوى ذلك فشرٌّ تضعونه عنْ رقابكم " متفق عليه".
نقل ابن قدامة أن الأمر بالإسراع للندب بلا خلاف بين العلماء.
وسئل ابن حزم فقال بوجوبه، والمراد به شدة المشي وعلى ذلك حمله بعض السلف.
وعند الشافعي والجمهور المراد بالإسراع فوق سجية المشي المعتاد، ويكره الإسراع الشديد. والحاصل أنه يستحب الإسراع بها لكن بحيث لا ينتهي إلى شدة يخاف معها حدوث مفسدة بالميت أو مشقة على الحامل والمشيع.
وقال القرطبي: مقصود الحديث أن لا يتباطأ بالميت عن الدفن، لأن البطء ربما أدى إلى التباهي والاختيال، هذا بناء على أن المراد بقوله بالجنازة بحملها إلى قبرها، وقيل: المراد الإسراع بتجهيزها فهو أعم من القول الأول. قال(2/105)
النووي: هذا باطل مردود بقوله في الحديث "تضعونه عن رقابكم" ، وتعقب بأن الحمل على الرقاب قد يعبر به عن المعاني كما تقول حمل فلان على رقبته ديوناً. قال: ويؤيده أن الكل لا يحملونه، قال المصنف بعد نقله في الفتح: ويؤيده حديث ابن عمر سمعت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقول: إذا مات أحدكم فلا تحبسوه وأسرعوا به إلى قبره" أخرجه الطبراني بإسناد حسن، ولأبي داود مرفوعاً: لا ينبغي لجيفة مسلم أن تبقى بين ظهراني أهله.
والحديث دليل على المبادرة بتجهيز الميت ودفنه، وهذا في غير المفلوج ونحوه فإنه ينبغي التثبت في أمره.
37- ( (وعنه) أي أبي هريرة (قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فلهُ قيراطٌ ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان" قيل: صرح أبو عوانة بأن القائل وما القيراطان هو أبي هريرة (وما القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين" متفق عليه. ولمسلم) أي من حديث أبي هريرة حتى يوضع في اللحد". وللبخاري أيضاً من حديث أبي هريرة "من تبع جنازة مسلم إيماناً واحتساباً وكان معها حتى يصلى عليها ويفرغ من دفنها فإنه يرجع بقيراطين كل قيراطٍ مثلُ جبل أُحُدٍ" فاتفقا على صدر الحديث ثم انفرد كل واحد منهما بلفظ. وهذا الحديث رواه اثنا عشر صحابياً.
وقوله: "إيماناً واحتساباً" قيد به لأنه لا بد منه لأن ترتب الثواب على العمل يستدعي سبق النية، فيخرج من فعل ذلك على سبيل المكافأة المجردة أو على سبيل المحاباة. ذكره المصنف في الفتح.
وقوله: "مثل أُحد" ووقع في رواية النسائي: "فله قيراطان من الأجر كل واحد منهما أعظم من أحد" وفي رواية لمسلم: "أصغرهما مثل أُحد". وعند ابن عدي من رواية واثلة: "كتب له قيراطان من الأجر أخفهما في ميزانه يوم القيامة أثقل من جبل أُحد" .
والشهود: الحضور وظاهره الحضور معها من ابتداء الخروج بها. وقد ورد في لفظ مسلم: "من خرج مع جنازة من بيتها ثم تبعها حتى تدفن كان له قيراطان من الأجر كل قيراط مثل أُحد، ومن صلى عليها ثم رجع كان له قيراط" . والروايات إذا رد بعضها إلى بعض تقضي بأنه لا يستحق الأجر المذكور إلا من صلى عليها ثم تبعها.
قال المصنف رحمه الله: الذي يظهر لي أنه يحصل الأجر لمن صلى وإن لم يتبع لأن ذلك وسيلة إلى الصلاة لكن يكون قيراط من صلى فقط دون قيراط من صلى وتبع. وأخرج سعيد بن منصور من حديث عروة عن زيد بن ثابت: "إذا صليت على جنازة فقد قضيت ما عليك" أخرجه ابن أبي شيبة بلفظ "إذا صليتم" وزاد في آخره "فخلوا بينها وبين أهلها" ومعناه قد قضيت حق الميت فإن أرودت الاتباع فلك زيادة أجر. وعلق البخاري قول حميد بن هلال: ما علمنا على الجنازة إذنا ولكن من صلى ورجع فله قيراط.
وأما حديث أبي هريرة: أميران وليسا بأميرين: الرجل يكون مع الجنازة يصلي عليها فليس له أن يرجع حتى يستأذن وليها. أخرجه عبد الرزاق فإنه حديث منقطع موقوف. وقد رويت في معناه أحاديث مرفوعة كلها ضعيفة.
ولما كان وزن الأعمال في الآخرة ليس لنا طريق إلى معرفة(2/106)
حقيقته ولا يعلمه إلا الله، ولم يكن تعريفنا لذلك إلا بتشبيهه بما نعرفه من أحوال المقادير، شبه قدر الأجر الحاصل من ذلك بالقيراط ليبرز لنا المعقول في صورة المحسوس. ولما كان القيراط حقير القدر بالنسبة إلى ما نعرفه في الدنيا نبه على معرفة قدره: بأنه كأحد الجبل المعروف بالمدينة.
وقوله: "حتى تدفن" ظاهر في وقوع مطلق الدفن وإن لم يفرغ منه كله.
ولفظ "حتى توضع في اللحد" كذلك إلا إن في الرواية الأخرى لمسلم "حتى يفرغ من دفنها" ففيها بيان وتفسير لما في غيرها.
والحديث ترغيب في حضور الميت والصلاة عليه ودفنه، وفيه دلالة على عظم فضل الله وتكريمه للميت وإكرامه بجزيل الإثابة لمن أحسن إليه بعد موته.
تنبيه في حمل الجنازة: أخرج البيهقي في السنن الكبرى بسنده إلى عبد الله بن مسعود أنه قال: إذا تبع أحدكم الجنازة فليأخذ بجوانب السرير الأربعة ثم ليتطوع بعد أو يذر فإنه من السنة. وأخرج بسنده: أن عثمان ابن عفان حمل بين العمودين سرير أمه فلم يفارقه حتى وضعه" وأخرج أيضاً "أن أبا هريرة رضي الله عنه حمل بين عمودي سرير سعد بن أبي وقاص. وأخرج: أن ابن الزبير حمل بين عمودي سرير المسور بن مخرمة. وأخرج من حديث يوسف بن ماهك قال: شهدت جنازة رافع بن خديج وفيها ابن عمر وابن عباس فانطلق ابن عمر حتى أخذ بمقدم السرير بين القائمين فوضعه على كاهله ثم مشى بها. انتهى..
38- (وعن سالم رضي الله عنه) هو أبو عبد الله أووأبو عمرو: سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب أحد فقهاء المدينة من سادات التابعين وأعيان علمائهم روى عن أبيه وغيره مات سنة ست ومائة (عن أبيه) هو عبد الله بن عمر ( أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وهم يمشون أمام الجنازة . رواه الخمسة وصححه ابن حبان وأعله النسائي وطائفه بالإرسال) اختلف في وصله وإرساله فقال أحمد: إنما هو عن الزهري مرسل، وحديث سالم موقوف على ابن عمر من فعله. قال الترمذي: أهل الحديث يرون المرسل أصح. وأخرجه ابن حبان في صحيحه عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر كان يمشي بين يديها وأبو بكر وعمر وعثمان. قال الزهري: وكذلك السنة. وقد ذكر الدارقطني في العلل اختلافاً كثيراً فيه عن الزهري قال: والصحيح قول من قال عن الزهري عن سالم عن أبيه: أنه كان يمشي. قال: وقد مشى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما بين يديها. وهذا مرسل وقال البيهقي: إن الموصول أرجح لأنه من رواية ابن عيينة وهو ثقة حافظ، وعن علي بن المديني قال: قلت لابن عيينة: يا أبا محمد خالفك الناس في هذا الحديث، فقال: استيقن؛ الزهري حدثنيه مراراً لست أحصيه، يعيده ويبديه، سمعته من فيه، عن سالم عن أبيه. قال المصنف: وهذا لا ينفي عنه الوهم لأنه ضبط أنه سمعه منه عن سالم عن أبيه والأمر كذلك إلا أن فيه إدراجاً. وصححه الزهري وحدث به ابن عيينة.
وللاختلاف في الحديث اختلف العلماء على خمسة أقوال (الأوّل): أن المشي أمام الجنازة أفضل لوروده من فعله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وفعل الخلفاء وذهب إليه الجمهور والشافعي.
(والثاني) للهادية والحنفية: أن المشي خلفها أفضل لما رواه ابن طاوس عن أبيه "ما مشى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم حتى مات إلا خلف(2/107)
الجنازة" ولما رواه سعيد بن منصور من حديث عليّ عليه السلام قال: المشي خلفها أفضل من المشي أمامها كفضل صلاة الجماعة على صلاة الفذّ. إسناده حسن وهو موقوف له حكم الرفع، وحكى الأثرم أن أحمد تكلم في إسناده.
(الثالث): أنه يمشي بين يديها وخلفها وعن يمينها وعن شمالها علقه البخاري عن أنس، وأخرجه ابن أبي شيبة موصولاً وكذا عبد الرزاق، وفيه التوسعة على المشيعين وهو يوافق سنة الإسراع بالجنازة وأنهم لا يلزمون مكاناً واحداً يمشون فيه لئلا يشق عليهم أو على بعضهم.
(القول الرابع) للثوري: أن الماشي يمشي حيث شاء والراكب خلفها لما أخرجه أصحاب السنن وصححه ابن حبان والحاكم من حديث المغيرة مرفوعاً "الراكب خلف الجنازة والماشي حيث شاء منها".
(القول الخامس) للنخعي: إن كان مع الجنازة نساء مشي أمامها وإلا فخلفها..
39- (وعن أم عطية قالت: "نهينا" مبني للمجهول "عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا" متفق عليه) جمهور أهل الأصول والمحدثين أن قول الصحابي نهينا أو أمرنا بعدم ذكر الفاعل له حكم المرفوع إذ الظاهر من ذلك أن الآمر والناهي هو النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما هذا الحديث فقد ثبت رفعه وأنه أخرجه البخاري في باب الحيض عن أم عطية بلفظ "نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث" إلا أنه مرسل لأن أم عطية لم تسمعه منه لما أخرجه الطبراني عنها قال: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جمع النساء في بيت ثم بعث إلينا عمر فقال: "إن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بعثني إليكن لأبايعكن على أن لاتسرقن" الحديث. وفيه نهانا أن نخرج في جنازة".
وقولها: "ولم يعزم علينا" ظاهر في أن النهي للكراهة لا للتحريم كأنها فهمته من قرينة وإلا فأصله التحريم، وإلى أنه لكراهة ذهب جمهور أهل العلم ويدل له ما أخرجه ابن أبي شيبة من حديث أبي هريرة "أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان في جنازة فرأى عمر امرأة فصاح بها فقال: دعها يا عمر" الحديث وأخرجه النسائي وابن ماجه. ومن طريق أخرى ورجالها ثقات.
40- ( وعنْ أَبي سَعِيدٍ رضي اللَّهُ عنهُ أَنَّ رسولَ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلّم قال: "إذا رأَيْتُمُ الجنازة فقُوموا، فَمَنْ تبعها فلا يجْلسْ حتى تُوضع" مُتّفقٌ عليه.
الأمر ظاهر في وجوب القيام للجنازة إذا مرت بالمكلف وإن لم يقصد تشييعها وظاهره في عموم كل جنازة من مؤمن وغيره ويؤيده أنه أخرج البخاري قيامه صلى الله عليه وسلم لجنازة يهودي مرت به. وعلل ذلك بأن الموت فزع وفي رواية "أليست نفساً" وأخرج الحاكم " إنما قمنا للملائكة" وأخرج أحمد والحاكم وابن حبان: "إنما نقوم إعظاماً للذي يقبض النفوس". ولفظ ابن حبان: "إعظاماً لله". ولا منافاة بين التعليلين.
وقد عارض هذا الأمر حديث عليّ عليه السلام عند مسلم: أنه صلى الله عليه وسلم قام للجنازة ثم قعد. والقول بأنه يحتمل أن مراده قام ثم قعد لما بعدت عنه، يدفعه أن علياً أشار إلى قوم بأن يقعدوا ثم حدثهم الحديث. ولما تعارض الحديثان اختلف العلماء في ذلك.
فذهب الشافعي إلى أن حديث عليّ عليه السلام ناسخ للأمر بالقيام، وردّ أن حديث عليّ ليس نصّاً لاحتمال أن قعوده صلى الله عليه(2/108)
وسلم كان لبيان الجواز، ولذا قال النووي: المختار أنه مستحب. وأما حديث عبادة بن الصامت أنه كان صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقوم للجنازة فمرّ به حبر من اليهود فقال: هكذا نفعل، فقال: "اجلسوا وخالفوهم" . أخرجه أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي وأخرجه البزار والبيهقي، فإنه حديث ضعيف فيه بشر بن رافع قال البزار: تفرّد به بشر وهو لين الحديث.
وقوله: "ومن تبعها فلا يجلس حتى توضع" أفاد النهي لمن شيعها، عن الجلوس حتى توضع، ويحتمل أن المراد حتى توضع في الأرض أو توضع في اللحد، وقد روي الحديث بلفظين إلا أنه رجح البخاري وغيره رواية "توضع في الأرض".
فذهب بعض السلف إلى وجوب القيام حتى توضع الجنازة لما يفيده النهي هنا ولما عند النسائي من حديث أبي هريرة وأبي سعيد: "ما رأينا رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم شهد جنازة قط فجلس حتى توضع".
وقال الجمهور: إنه مستحب. وقد روى البيهقي من حديث أبي هريرة وغيره: إن القائم كالحامل في الأجر.
41- (وعن أبي إسحاق) هو السبيعي بفتح السين المهملة وكسر الباء الموحدة والعين المهملة الهمداني الكوفي رأى علياً عليه السلام وغيره من الصحابة وهو تابعي مشهور، كثير الرواية، ولد لسنتين من خلافة عثمان، ومات سنة تسع وعشرين ومائة (أن عبد الله بن يزيد) الخطمي بالخاء المعجمة الأوسي كوفي شهد الحديبية وهو ابن سبع عشرة سنة وكان أميراً على الكوفة وشهد مع علي عليه السلام صفين والجمل ذكره ابن عبد البر في الاستيعاب (أدخل الميت من قِبَل رجلي القبر) أي من جهة المحل الذي يوضع فيه رجلاً الميت فهو من إطلاق الحال على المحل (وقال: هذا من السنة. أخرجه أبو داود) وروى عن علي عليه السلام قال: صلى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على جنازة رجل من ولد عبد المطلب فأمر بالسرير فوضع من قبل رجلي اللحد ثم أمر به فسل سلا". ذكره الشارح ولم يخرجه. وفي المسألة ثلاثة أقوال:
(الأول): ما ذكر وإليه ذهبت الهادوية والشافعي وأحمد.
(والثاني): يسل من قبل رأسه لما روى الشافعي عن الثقة مرفوعاً من حديث ابن عباس "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم سل ميتاً من قبل رأسه" وهذا أحد قولي الشافعي.
(والثالث) لأبي حنيفة: أنه يسل من قبل القبلة معترضاً إذ هو أيسر (قلت): بل ورد به النص كما يأتي في شرح حديث جابر في النهي عن الدفن ليلا فإنه أخرجه الترمذي من حديث ابن عباس ماهو نص في إدخال الميت من قبل القبلة ويأتي أنه حديث حسن فيستفاد من المجموع أنه فعلٌ مخير فيه.
(فائدة) اختلف في تجليل القبر بالثوب عند مواراة الميت فقيل يجلل سواء كان المدفون رجلاً أو امرأة لما أخرجه البيهقي لا أحفظه إلا من حديث ابن عباس قال: " جلل رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قبر سعد بثوبه" قال البيهقي: لا أحفظه إلا من حديث يحيي بن عقبة بن أبي العيزار وهو ضعيف.
وقيل: يختص بالنساء لما أخرجه البيهقي أيضاً من حديث أبي إسحاق "أنه حضر جنازة الحرث الأعور فأبي عبد الله بن يزيد أن يبسطوا عليه ثوباً وقال: إنه رجل" قال البيهقي: وهذا إسناده صحيح وإن كان موقوفاً (قلت): يؤيده ما أخرجه أيضاً البيهقي عن رجل من(2/109)
أهل الكوفة "أن علي بن أبي طالب أتاهم يدفنون ميتاً وقد بسط الثوب على قبره فجذب الثوب من القبر، وقال: "إنما يصنع هذا بالنساء".
42- ( وعن ابنِ عُمَرَ رضيَ الله عنهما عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "إذا وَضَعْتُم مَوْتاكُم في القُبُور فقولوا: بسم اللَّهِ، وعلى مَلّهِ رسول الله" أَخْرجهُ أَحْمدُ وأَبو داود والنسائي وصححه ابنُ حبَّانَ وأعلّهُ الدارقطني بالوقفِ.
ورجح النسائي وقفه على ابن عمر أيضاً، إلا أنه له شواهد مرفوعة ذكرها في الشرح، وأخرج الحاكم والبيهقي بسند ضعيف أنها "لما وضعت أم كلثوم بنت النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في القبر قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} بسم الله وفي سبيل الله وعلى مِلَّة رسول الله"، وللشافعي دعاء آخر استحسنه فدل كلامه على أنه يختار الدافن من الدعاء للميت ما يراه وأنه ليس فيه حد محدود.
43- (وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "كسرُ عظْم الميت ككسره حيّاً" رواه أبو داود بإسناد على شرط مسلم: وزاد ابن ماجه، أي في الحديث هذا وهو قوله: "من حديث أم سلمة: "في الإثم" بيان للمثلية. فيه دلالة على وجوب احترام الميت كما يحترم الحي، ولكن بزيادة "في الإثم" أنبأت أنه يفارقه من حيث إنه لا يجب الضمان، وهو يحتمل أن الميت يتألم كما يتألم الحي، وقد ورد به حديث:
44 – (وعن سعد بن أَبي وقّاص قال: "الْحِدوا لي لَحْداً وانْصِبُوا عليَّ اللّبِنَ نصْباً كما صُنع برسُول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم" رواهُ مُسْلم)ٌ. هذا الكلام قاله سعد لما قيل له ألا نتخذ شيئاً كأنه الصندوق من الخشب؟ فقال: اصنعوا. فذكره. واللحد بفتح اللام وضمها هو الحفر تحت الجانب القبلي من القبر.، وفيه دلالة أنه لحد له صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وقد أخرجه أحمد وابن ماجه بإسناد حسن. أنه كان بالمدينة رجلان: رجل يلحد ورجل يشق فبعث الصحابة في طلبهما فقالوا: أيهما جاء عمل عمله لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجاء الذي يلحد فلحد لرسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم". ومثله عن ابن عباس عند أحمد والترمذي. وأن الذي كان يلحد هو أبو طلحة الأنصاري: وفي إسناده ضعف. وفيه الدلالة على أن اللحد أفضل..
45- وللبيهقي) أي وروي البيهقي (عن جابر نحوه) أي نحو حديث سعد (وزاد: ورفع قبره عن الأرض قدر شبر وصححه ابن حبان)،هذا الحديث أخرجه البيهقي وابن حبان من حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر. وفي الباب من حديث القاسم بن محمد قال: دخلت على عائشة فقلت: يا أماه اكشفي لي عن قبر رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وصاحبيه فكشفت له عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطئة، مبطوحة ببطحة العرصة الحمراء. أخرجه أبو داود والحاكم وزاد: ورأيت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مقدماً وأبو بكر رأسه بين كتفي رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وعمر رأسه عند رجلي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرج أبو داود في المراسيل عن صالح بن أبي صالح قال: رأيت قبر رسول الله صلى(2/110)
الله عليه وآله وسلم شبراً أو نحو شبر. ويعارضه ما أخرجه البخاري من حديث سفيان التمار: أنه رأى قبر النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مسنماً. أي مرتفعاً كهيئة السنام وجمع بينهما البيهقي بأنه كان أولاً مسطحاً ثم لما سقط الجدار في زمن الوليد بن عبد الملك أصلح فجعل مسنماً.
(فائدة) كانت وفاته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يوم الاثنين عندما زاغت الشمس لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول ودفن يوم الثلاثاء. كما في الموطأ. وقال جماعة يوم الأربعاء. وتولى غسله ودفنه علي والعباس وأسامة. أخرجه أبو داود من حديث الشعبي وزاد: وحدثني مرحب، كذا في الشرح والذي في التلخيص: مرحب وأبو مرحب بالشك أنهم أدخلوا معهم عبد الرحمن بن عوف. وفي رواية البيهقي زيادة مع علي والعباس "الفضل بن العباس" وصالح وهو شقران "ولم يذكر ابن عوف. وفي رواية له ولابن ماجه: على والفضل وقثم وشقران. وزاد. وسوّى لحده رجل من الأنصار. وجمع بين الروايات بأن من نقص فباعتبار ما رأى أول الأمر ومن زاد أراد به آخر الأمر..
46- (ولمسلم عنه) أي عن جابر "نهى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه" الحديث دليل على تحريم الثلاثة المذكورة لأنه الأصل في النهي. وذهب الجمهور إلى أن النهي في البناء والتجصيص للتنزيه. والقعود للتحريم وهو جمع بين الحقيقة والمجاز ولا يعرف ما الصارف عن حمل الجميع على الحقيقة التي هي أصل النهي. وقد وردت الأحاديث في النهي عن البناء على القبور والكتب عليها والتسريج وأن يزاد فيها وأن توطأ. فأخرج أبو داود والترمذي والنسائي من حديث ابن مسعود مرفوعاً: "لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج". وفي لفظ للنسائي: "نهى أن يبنى على القبر أو يزاد عليه أو يجصص أو يكتب عليه" . وأخرج البخاري من حديث عائشة قالت: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في مرضه الذي لم يقم منه: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". واتفقا على إخراج حديث أبي هريرة بلفظ "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" . وأخرج الترمذي "أن علياً عليه السلام قال لأبي الهياج الأسدي: أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أن لا أدع قبراً مشرفاً إلا سوّيتهُ ولا تمثالاً إلا طمسته "قال الترمذي: حديث حسن، والعمل على هذا عند بعض أهل العلم، فكرهوا أن يرفع القبر فوق الأرض. قال الشارح رحمه الله: وهذه الأخبار المعبر فيها باللعن والتشبيه بقوله: "لا تجعلوا قبري وثناً يعبد من دون الله" تفيد التحريم للعمارة والتزيين والتجصيص ووضع الصندوق المزخرف ووضع الستائر على القبر وعلى سمائه والتمسح بجدار القبر وأن ذلك قد يفضي مع بعد العهد وفشو الجهل إلى ما كان عليه الأمم السابقة من عبادة الأوثان، فكان في المنع عن ذلك بالكلية قطع لهذه الذريعة المفضية إلى الفساد، وهو المناسب للحكمة المعتبرة في شرع الأحكام من جلب المصالح ودفع المفاسد، سواء كانت بأنفسها أو باعتبار ما تفضي إليه انتهى. وهذا كلام حسن وقد وفينا المقام حقه ومسألة مستقلة.
47- (وعَنْ عامرِ بنِ ربيعةَ رضيَ اللَّهُ عنْهُ "أنَّ النبيَ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلّى على عثمانَ بنِ مَظْعُون(2/111)
وأَتى الْقَبْرَ فَحَثى عليه ثلاثَ حَثَيَات وهُوَ قائمٌ" رواهُ الدارقطنيُّ. وأخرجه البزار وزاد بعد قوله وهو قائم "عند رأسه" وزاد أيضاً "فأمر فرشَّ عليه الماء" وروى أبو الشيخ في مكارم الأخلاق عن أبي هريرة مرفوعاً "من حثا على مسلم احتساباً كتب له بكل ثراة حسنة" وإسناده ضعيف. وأخرج ابن ماجه من حديث أبي هريرة "أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم حثى من قبل الرأس ثلاثاً" إلا أنه قال أبو حاتم: حديث باطل وروى البيهقي من طريق محمد بن زياد عن أبي أمامة قال: "توفي رجل فلم تصب له حسنة إلا ثلاث حثيات حثاها على قبر فغفرت له ذنوبه". ولكن هذه شهد بعضها لبعض. وفيه دلالة على مشروعية الحثي على القبر ثلاثاً، وهو يكون باليدين معاً لثبوته في حديث عامر بن ربيعة ففيه حثا بيديه، واستحب أصحاب الشافي أن يقول عند ذلك {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} الآية.
48 - وعن عثْمانَ رضي الله عنه قال: كانَ رسُولُ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذا فرغ مِنْ دفن الميِّتِ وقَفَ عَلْيه وقال: "استغْفِرُوا لأخيكُمْ واسْأَلُوا لَهُ التّثْبيت فإنّهُ الآن يُسْأَل" رواهُ أبو داود وصححه الْحاكِمُ. فيه دلالة على انتفاع الميت باستغفار الحي له، وعليه ورد قوله تعالى: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} وقوله: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} ونحوهما. على أنه يسأل في القبر، وقد وردت به الأحاديث الصحيحة، كما أخرج ذلك الشيخان. فمنها من حديث أنس أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "إن الميت إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه، إنه ليسمع قرع نعالهم". زاد مسلم "وإذا انصرفوا أتاه ملكان" زاد ابن حبان والترمذي من حديث أبي هريرة: "أزرقان أسودان يقال لأحدهما المنكر والآخر النكير" . زاد الطبراني في الأوسط "أعينهما مثل قدور النحاس وأنيابهما مثل صياصي البقر وأصواتهما البقر مثل الرعد" زاد عبد الرزاق "ويحفران بأنيابهما ويطآن في أشعارهما ومعهما مرزبة لو اجتمع عليها أهل منى لم يقلوها" وزاد البخاري من حديث البراء: "فيعاد روحه في جسده" . ويستفاد في مجموع الأحاديث أنهما يسألانه فيقولان: "ما كنت تعبد؟ فإن كان الله هداه فيقول: كنت أعبد الله، فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل لمحمد صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله". وفي رواية "أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله فيقال له: صدقت" "فلا يسأل عن شيء غيرها" "ثم يقال له: على اليقين كنت وعليه مت وعليه تبعث إن شاء الله تعالى". وفي لفظ: "فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي فافرشوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة وألبسوه من الجنة قال: فيأتيه من روحها وطيبها ويفسح له مد بصره، ويقال له انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله مقعداً من الجنة فيراهما جميعاً، فيقول: دعوني حتى أذهب أبشر أهلي فيقال له: اسكت، ويفسح له في قبره سبعون ذراعاً ويملأ خضراً إلى يوم القيامة". وفي لفظ "ويقال له نم فينام نومة العروس لا يوقظه إلا أحب أهله. وأما الكافر والمنافق فيقول له الملكان: من ربك؟(2/112)
فيقول: هاه هاه، لا أدري ويقولان: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه، لا أدري فيقولان: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم: فيقول: هاه هاه لا أدري فيقال: لا دريت ولا تليت أي لا فهمت ولا تبعت من يفهم ويضرب بمطارق من حديد ضربة لو ضرب بها جبل لصار تراباً فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين" .
واعلم أنه قد وردت أحاديث على اختصاص هذه الأمة بالسؤال في القبر دون الأمم السالفة قال العلماء: والسر فيه أن الأمم كانت تأتيهم الرسل فإن أطاعوهم فالمراد، وإن عصوهم اعتزلوهم وعوجلوا بالعذاب. فلما أرسل الله محمداً صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم رحمة للعالمين أمسك عنهم العذاب وقبل الإسلام ممن أظهره سواء أخلص أم لا، وقيض الله لهم من أن يسألهم في القبور ليخرج الله سرهم بالسؤال وليميز الله الخبيث من الطيب. وذهب ابن القيم إلى عموم المسألة وبسط المسألة في كتاب الروح.
49- (وعن ضمرة) بفتح الضاد المعجمة وسكون الميم (ابن حبيب) بالحاء المهملة مفتوحة فموحدة فمثناة فموحدة (أحد التابعين) حمصي ثقة روى عن شدّاد بن أوس وغيره (قال: كانوا) ظاهره الصحابة الذين أدركهم (يستحبون إذا سوي) بضم السين المهملة مغير الصفة من التسوية (على الميت قبره وانصرف الناس عنه أن يقال عند قبره: يا فلان قل: لا إله إلا الله ثلاث مرات، يا فلان قل: ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد. رواه سعيد بن منصور موقوفاً) على ضمرة بن حبيب (وللطبراني نحوه من حديث أبي أمامة مرفوعاً مطولاً) ولفظه عن أبي أمامة: إذا أنا متُ فاصنعوا بي كما أمر رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أن نصنع بموتانا، أمرنا رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فقال: "إذا مات أحد من إخوانكم فسويتم التراب على قبره فليقم أحدكم على رأس قبره ثم ليقل: يا فلان ابن فلانة فإنه يسمعه ولا يجيب ثم يقول: يا فلان ابن فلانة، فإنه يقول: أرشدنا رحمك الله، ولكن لا تشعرون، فليقل: اذكر ما كنت عليه في الدنيا من شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأنك رضيت بالله ربّاً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً وبالقرآن إماماً. فإن منكراً ونكيراً يأخذ كل واحد منهما بيد صاحبه ويقول: انطلق بنا ما يقعدنا عند من لقن حجته؟ فقال رجل: يا رسول الله فإنه لم يعرف أمه؟ قال: ينسبه إلى أمّه حوّاء، يا فلان ابن حواء" قال المصنف: إسناده صالح وقد قوّاه أيضاَ في الأحكام له. قلت: قال الهيثمي بعد سياقه ما لفظه: أخرجه الطبراني في الكبير، وفي إسناده جماعة لم أعرفهم. وفي هامشه: فيه عاصم بن عبد الله ضعيف: ثم قال: والراوي عن أبي أمامة سعيد الأزدي بيض له أبو حاتم، وقال الأثرم: قلت لأحمد بن حنبل: هذا الذي يصنعونه إذا دفن الميت يقف الرجل ويقول: يا فلان ابن فلانة قال: ما رأيت أحداً يفعله إلا أهل الشام حين مات أبو المغيرة. ويروى فيه عن أبي بكر بن أبي مريم عن أشياخهم أنهم كانوا يفعلونه.وقد ذهب إليه الشافعية. وقال في المنار: إن حديث التلقين هذا حديث لا يشك أهل المعرفة بالحديث في وضعه. وأنه أخرجه سعيد بن منصور في سننه(2/113)
عن حمز بن حبيب عن أشياخ له من أهل حمص فالمسئلة حمصية. وأما جعل "اسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل" : شاهداً له، فلا شهادة فيه.وكذلك أمر عمرو بن العاص بالوقوف عند قبره مقدار ما ينحر جزور ليستأنس بهم عند مراجعة رسل ربه: لا شهادة فيه على التلقين. وابن القيم جزم في الهدى بمثل كلام المنار، وأما في كتاب الروح فإنه جعل حديث التلقين من أدلة سماع الميت لكلام الأحياء وجعل اتصال العمل بحديث التلقين من غير نكير كافياً في العمل به، ولم يحكم له بالصحة بل قال في كتاب الروح: إنه حديث ضعيف ويتحصل من كلام أئمة التحقيق أنه حديث ضعيف والعمل به بدعة ولا يغتر بكثرة من يفعله.
50 - وعن بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "كنتُ نهيتكم عن زيارة القبُور فزوروها" رواه مسلم زاد الترمذي) أي من حديث بريدة ("فإنها تذكِّرُ الآخرة".
51 - )زاد ابن ماجه من حديث ابن مسعود) وهو الحديث الخمسون بلفظ "ما مضى" وزاد "وتُزَهّدُ في الدنيا" وفي الباب أحاديث عن أبي هريرة عند مسلم وعن ابن مسعود عند ابن ماجه والحاكم وعن أبي سعيد عند أحمد والحاكم وعن عليّ عليه السلام عند أحمد وعن عائشة عند ابن ماجه. والكل دال على مشروعية زيارة القبور وبيان الحكمة فيها وأنها للاعتبار فإنه في لفظ حديث ابن مسعود "فإنها عبرة وذكر للآخرة والتزهيد في الدنيا" فإذا خلت من هذه لم تكن مرادة شرعاً. وحديث بريدة جمع فيه بين ذكر أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان نهى أولاً عن زيارتها ثم أذن فيها أخرى.وفي قوله: "فزوروها" أمر الرجال بالزيارة وهو أمر ندب اتفاقاً، ويتأكد في حق الوالدين لآثار في ذلك وأما ما يقوله الزائر عند وصوله المقابر فهو: السلام عليكم دار قوم مؤمنين ورحمة الله وبركاته، ويدعو لهم بالمغفرة ونحوها. وسيأتي حديث مسلم في ذلك قريباً وأما قراءة القرآن ونحوها عند القبر فسيأتي الكلام فيها قريباً.
52 - وَعَنْ أَبي هُرَيْرةَ رضي الله عنهُ "أنَّ رسُولَ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لَعَنَ زَائرَاتِ القُبُور" أَخْرجهُ الترمذيُّ وصحّحهُ ابنُ حِبّان وقال الترمذي بعد إخراجه: هذا حديث حسن. وفي الباب عن ابن عباس وحسان.
وقد قال بعض أهل العلم: إن هذا كان قبل أن يرخص النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في زيارة القبور فلما رخص دخل في رخصته الرجال والنساء.وقال بعضهم: إنما كره زيارة القبور للنساء لقلة صبرهنّ وكثرة جزعهن ثم ساق بسنده أن عبد الرحمن بن أبي بكر توفي ودفن في مكة وأتت عائشة قبره ثم قالت
وكنا كندماني جذيمة برهة ... من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
وعشنا بخير في الحياة وقبلنا ... أصاب المنايا رهط كسرى وتبعا
ولما تفرقنا كأني ومالكاً ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
انتهى
ويدل ما قاله بعد أهل العلم ما أخرجه مسلم عن عائشة قالت: كيف أقول يا رسول الله إذا زرت القبور؟ فقال: قولي: "السلام على أهل الديار من المسلمين والمؤمنين يرحم الله المتقدمين منّا والمتأخرين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون" . وما أخرج الحاكم من(2/114)
حديث علي ابن الحسين أن فاطمة عليها السلام كانت تزور قبر عمها حمزة كل جمعة فتصلي وتبكي عنده. قلت: وهو حديث مرسل فإن علي بن الحسين لم يدرك فاطمة بنت محمد صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم. وعموم ما أخرجه البيهقي في شعب الإيمان مرسلاً: من زار قبر الوالدين أو أحدهما في كل جمعة غفر له وكتب بارّاً.
53- وعَنْ أَبي سعيدٍ الخُدْريِّ رضيَ اللَّهُ عنْهُ قالَ: "لَعَن رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم النّائِحَةَ والمُسْتَمِعَةَ" أَخْرَجَهُ أَبُو داود. النوح هو رفع الصوت بتعديد شمائل الميت ومحاسن أفعاله.والحديث دليل على تحريم ذلك وهو مجمع عليه.
54- وعَنْ أُمِّ عطيّةَ قالت: "أَخذ عَلَيْنا رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أَنْ لا نَنُوح" متفقٌ عليه. كان أخذه عليهنّ ذلك وقت المبايعة على الإسلام. والحديثان دالان على تحريم النياحة وتحريم استماعها إذ لا يكون اللعن إلا على محرم. وفي الباب عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "ليس منّا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية" . متفق عليه. وأخرجا من حديث أبي موسى: أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "أنا بريء ممن حلق وسلق وخرق" . وفي الباب غير ذلك. ولا يعارض ذلك ما أخرج أحمد وابن ماجه وصححه الحاكم عن ابن عمر: أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مر بنساء ابن عبد الأشهل يبكين هلكاهن يوم أُحد فقال: "لكن حمزة لا بواكي" فجاء نساء الأنصار يبكين حمزة الحديث. فإنه منسوخ بما في آخره بلفظ "فلا تبكين على هالك بعد اليوم" وهو يدل على أنه عبر عن النياحة بالبكاء. فإن البكاء غير منهي عنه كما يدل له ما أخرجه النسائي عن أبي هريرة قال: "مات ميت من آل رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فاجتمع النساء يبكين عليه فقام عمر ينهاهن ويطردهن فقال له صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: دعهن يا عمر فإن العين تدمع والقلب مصاب والعهد قريب" والميت هي زينب بنته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كما صرح به في حديث ابن عباس أخرجه أحمد وفيه أنه قال لهن: "إياكن ونعيق الشيطان فإنه مهما كان من العين ومن القلب فمن الله ومن الرحمة، وما كان من اليد واللسان فمن الشيطان" فإنه يدل على جواز البكاء، وإنه إنما نهي عن الصوت. ومنه قوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "العين تدمع ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضي الرب" قاله في وفاة ولده إبراهيم، وأخرج البخاري من حديث ابن عمر "إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب ولكن يعذب بهذا وأشار إلى لسانه أو يرحم" وأما ما في حديث عائشة عند الشيخين في قوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لمن أمره أن ينهى النساء المجتمعات للبكاء على جعفر بن أبي طالب "أحث في وجههن التراب" فيحمل على أنه كان بكاء بتصويت النياحة فأمر بالنهي عنه ولو بحثو التراب في أفواههنّ.(2/115)
55- (وعن ابن عمرعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الميتُ يعذب في قبره بما نيح عليه" متفق عليه. اولهما أي الشيخين كما دل له متفق عليه فإنهما المراد به (نحوه) أي نحو حديث ابن عمر وهو (عن المغيرة بن شعبة( الأحاديث في الباب كثيرة. وفيها دلالة على تعذيب الميت بسبب النياحة عليه. وقد استشكل ذلك لأنه تعذيبه بفعل غيره. واختلفت الجوابات. فأنكرت عائشة ذلك على عمر وابنه عبد الله واحتجت بقوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وكذلك أنكره أبو هريرة. واستبعد القرطبي إنكار عائشة وذكر أنه رواه عدة من الصحابة فلا وجه لإنكارها مع إمكان تأويله، ثم جمع القرطبي بين حديث التعذيب والآية بأن قال: حال البرزخ يلحق بأحوال الدنيا وقد جرى التعذيب فيها بسبب ذنب الغير كما يشير إليه قوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} فلا يعارض حديث التعذيب، آية {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} لأن المراد بها الإخبار من حال الآخرة واستقواه الشارح. وذهب الأكثرون إلى تأويله بوجوه. الأوّل: للبخاري أنه يعذب بذلك إذا كان سنته وطريقته وقد أقرّ عليه أهله في حياته فيعذب لذلك، وإن لم يكن طريقته فإنه لا يعذب. فالمراد على هذا أنه يعذب ببعض بكاء أهله وحاصله أنه قد يعذب العبد بفعل غيره إذا كان له فيه سبب. الثاني: المراد أنه يعذب إذا أوصى أن يبكي عليه وهو تأويل الجمهور قالوا: وقد كان معروفاً عند القدماء كما قال طرفة بن العبد:
إذا مت فابكيني بما أنا أهله ... وشقي عليّ الجيب يا معبد
ولا يلزم من وقوع النياحة من أهل الميت امتثالاً له أن لا يعذب لو لم يمتثلوا بل يعذب بمجرّد الإيصاء، فإن امتثلوه وناحوا عذب على الأمرين: الإيصاء لأنه فعله، والنياحة لأنها بسببه. الثالث: أنه خاص بالكافر وأن المؤمن لا يعذب بذنب غيره أصلا وفيه بُعْد لا يخفى فإن الكافر لا يحمل عليه ذنب غيره أيضاً لقوله تعالى: -لا تزر وازرة وزر أخرى- الرابع: أن معنى التعذيب توبيخ الملائكة للميت بما يندبه به أهله كما روى أحمد من حديث أبي موسى مرفوعاً: "الميت يعذب ببكاء الحي، إذا قالت النائحة: واعضداه واناصراه واكاسياه جلد الميت وقال: أنت عضدها؟ أنت ناصرها؟ أنت كاسيها؟" وأخرج معناه ابن ماجه والترمذي. الخامس: أن معنى التعذيب تألم الميت بما يقع من أهله من النياحة وغيرها فإنه يرق لهم، وإلى هذا التأويل ذهب محمد بن جرير وغيره وقال، القاضي عياض، هو أولى الأقوال واحتجوا بحديث فيه: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم زجر امرأة عن البكاء على ابنها وقال: إن أحدكم إذا بكى استعبر له صويحبه، يا عباد الله لا تعذبوا إخوانكم . واستدل له أيضاً أن أعمال العباد تعرض على موتاهم وهو صحيح. وثمة تأويلات أخر وما ذكرناه أشف ما في الباب.
56- وَعَنْ أَنَسٍ رضي اللَّهُ عنهُ قالَ: "شهِدْتُ بِنْتاً لرسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلّم (تدفن) ورسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم جالسٌ على الْقَبْر فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَدْمَعانِ" رَوَاهُ البخاريُّ. قد بين الواقدي وغيره في روايته أن البنت أم كلثوم، وقد رد البخاري قول من قال إنها رقية بأنها ماتت ورسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في بدر فلم يشهد صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم دفنها.(2/116)
والحديث دليل على جواز البكاء على الميت بعد موته وتقدم ما يدل له أيضاً إلا أنه عورض بحديث فإذا وجبت فلا تبكين باكية. وجمع بينهما بأنه محمول على رفع الصوت أو أنه مخصوص بالنساء لأنه قد يفضي بكاؤهن إلى النياحة فيكون من باب سد الذريعة.
57- وعن جابر رضي الله عنه أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "لا تدفنوا موتاكم بالليل إلا أن تضطروا" أخرجه ابن ماجه وأصله في مسلم لكن قال: زَجَرَ بالزي والجيم والراء عوض "نهى أن يقبر الرجل بالليل حتى يصلى عليه" . دل على النهي عن الدفن للميت ليلاً إلا لضرورة، وقد ذهب إلى هذا الحسن وورد تعليل النهي عن ذلك بأن ملائكة النهار أرأف من ملائكة الليل في حديث قال الشارح: والله أعلم بصحته. وقوله "وأصله في مسلم" لفظ الحديث الذي فيه: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم خطب يوماً فذكر رجلاً من أصحابه قبض وكفن في كفن غير طائل وقبر ليلاً وزجر أن يقبر الرجل بالليل حتى يصلي عليه إلا أن يضطر الإنسان إلى ذلك". وهو ظاهر أن النهي إنما هو حيث كان مظنة حصول التقصير في حق الميت بترك الصلاة أو عدم إحسان الكفن إذا كان يحصل بتأخر الميت إلى النهار كثرة المصلين أو حضور من يرجى دعاؤه، حسن تأخره، وعلى هذا فيؤخر عن المسارعة فيه لذلك ولو في النهار؛ ودل لذلك دفن علي عليه السلام لفاطمة عليها السلام ليلاً ودفن الصحابة لأبي بكر ليلاً، وأخرج الترمذي من حديث ابن عباس: "أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم دخل قبراً ليلاً فأسرج له سراج فأخذ من قبل القبلة فقال: رحمك الله إن كنت لأوّاهاً تلاءً للقرآن" . الحديث، قال: هو حديث حسن قال: وقد رخص أكثر أهل العلم في الدفن ليلاً. وقال ابن حزم: لا يدفن ليلاً إلا أن يضطر لذلك. قال: ومن دفن ليلاً من أصحابه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وأزواجه فإنه لضرورة أوجبت ذلك من خوف زحام أو خوف الحر على من حضر أو خوف تغير أو غير ذلك مما يبيح الدفن ليلاً. ولا يحل لأحد أن يظن بهم رضي الله عنهم خلاف ذلك انتهى.
(تنبيه) تقدم في الأوقات حديث عقبة بن عامر: "ثلاث ساعات كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ينهانا أن نصلي فيهن وأن نقبر فيهن موتانا حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تزول الشمس وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب" انتهى. وكان يحسن ذكر المصنف له هنا.
58- وَعَنْ عبد الله بن جَعْفَر رضي اللَّهُ عَنْهُ قال: لمّا جاءَ نَعْيُ جَعْفَر حين قُتِل قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "اصْنَعُوا لآلِ جَعْفَر طَعَاماً فَقَدْ أَتَاهُمْ ما يُشْغِلُهُمْ" أخْرجهُ الْخمسَةُ إلا النّسائيَّ. فيه دليل على شرعية إيناس أهل الميت بصنع الطعام لهم لما هم فيه من الشغل بالموت، ولكنه أخرج أحمد من حديث جرير بن عبد الله البجلي: "كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام بعد دفنه من النياحة". فيحمل حديث جرير على أن المراد صنعة أهل الميت الطعام لمن يدفن منهم ويحضر لديهم كما هو عرف بعض أهل الجهات، وأما الإحسان إليهم بحمل الطعام لهم فلا بأس به وهو الذي أفاده حديث جعفر. ومما يحرم(2/117)
بعد الموت العقر عند القبر لورود النهي عنه، فإنه أخرج أحمد وأبو داود من حديث أنس: أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "لا عقر في الإسلام" . قال عبد الرزاق: كانوا يعقرون عند القبر بقرة أو شاة، قال الخطابي: كان أهل الجاهلية يعقرون الإبل على قبر الرجل الجواد يقولون نجازيه على فعله لأنه كان يعقرها في حياته فيطعمها الأضياف ونحن نعقرها عند قبره حتى تأكلها السباع والطير فيكون مطعماً بعد وفاته كما كان يطعم في حياته. ومنهم من كان يذهب إلى أنه إذا عقرت راحلته عند قبره حشر في القيامة راكباً ومن لم يعقر عنده حشر راجلاً وكان هذا على مذهب من يقول منهم بالبعث فهذا فعل جاهلي محرم.
59-) وعن سليمان بن بريدة) هو الأسلمي روى عن أبيه وعمران بن حصين وجماعة مات سنة خمس عشرة ومائة (عن أبيه) أي بريدة (قال: كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يعلمهم ) أي الصحابة ( إذا خرجوا إلى المقابر ) أي أن يقولوا: " السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون أسأل الله لنا ولكم العافية" . رواه مسلم) وأخرجه أيضاً من حديث عائشة وفيه زيادة "ويرحم الله المتقدمين منا والمتأخرين". والحديث دليل على شرعية زيارة القبور والسلام على من فيها من الأموات وأنه بلفظ السلام على الأحياء. قال الخطابي: فيه أن اسم الدار يقع على المقابر وهو صحيح فإن الدار في اللغة تقع على الربع المسكون وعلى الخراب غير المأهول. والتقييد بالمشيئة للتبرك وامتثالاً لقوله تعالى: -ولا تقولن لشيء إني فاعلٌ ذلك غداً إلا أن يشاء الله- وقيل المشيئة عائدة إلى تلك التربة بعينها. وسؤاله العافية دليل على أنها من أهم ما يطلب وأشرف ما يسئل، والعافية للميت بسلامته من العذاب ومناقشة الحساب. ومقصود زيارة القبور: الدعاء لهم والإحسان إليهم وتذكر الآخرة والزهد في الدنيا، وأما ما أحدثه العامة من خلاف، كدعائهم الميت والاستصراخ به والاستغاثة به وسؤال الله بحقه وطلب الحاجات إليه تعالى به فهذا من البدع والجهالات وتقدم شيء من هذا.
60- وعن ابن عَبّاسٍ رضي الله عَنْهُ قالَ: مرَّ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بقبُور المدينة فأَقْبلَ عليهمْ بوجْهِهِ فقال: "السّلامُ عَلَيْكُمْ يا أَهْلَ الْقُبور، يَغْفِرُ اللَّهُ لنا ولكم، أَنْتُم سَلَفُنا ونْحنُ بالأثَر" رواهُ التِّرمذيُّ وقالَ حسنٌ.فيه أنه يسلم عليهم إذا مرّ بالمقبرة وإن لم يقصد الزيارة لهم. وفيه أنهم يعلمون بالمارّ بهم وسلامه عليهم وإلا كان إضاعة. وظاهره في جمعة وغيرها وفي الحديثين الأول وهذا دليل أن الإنسان إذا دعا لأحد أو استغفر له يبدأ بالدعاء لنفسه والاستغفار لها، وعليه وردت الأدعية القرآنية -ربنا اغفر لنا ولإخواننا- -واستغفر لذنبك وللمؤمنين- وغير ذلك. وفيه أن هذه الأدعية ونحوها نافعة للميت بلا خلاف وأما غيرها من قراءة القرآن له فالشافعي يقول: لا يصل ذلك إليه. وذهب أحمد وجماعة من العلماء إلى وصول ذلك إليه. وذهب جماعة من أهل السنة والحنفية الى أن للإنسان أن يجعل ثواب عمله لغيره صلاة كان أو صوماً أو حجاً أو صدقة أو قراءة قرآن(2/118)
أو ذكرا أو أي أنواع القرب، وهذا هو القول الأرجح دليلاً، وقد أخرج الدارقطني: أن رجلاً سأل النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أنه كيف يبر أبويه بعد موتهما فأجابه: "بأنه يصلي لهما مع صلاته ويصوم لهما مع صيامه". وأخرج أبو داود من حديث معقل بن يسار عنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "اقرءُوا على موتاكم سورة يس" وهو شامل للميت بل هو الحقيقة فيه، وأخرج الشيخان "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يضحي عن نفسه بكبش وعن أمته بكبش" .وفيه إشارة إلى أن الإنسان ينفعه عمل غيره وقد بسطنا الكلام في حواشي ضوء النهار بما يتضح منه قوة هذا المذهب.
61-) وعن عائشة قالت: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا" أي وصلوا "إلى ما قدَّموا" من الأعمال (رواه البخاري. الحديث دليل على تحريم سب الأموات. وظاهره العموم للمسلم والكافر. وفي الشرح: الظاهر أن مخصص بجواز سب الكافر لما حكاه الله من ذم الكفار في كتابه العزيز كعاد وثمود وأشباههم. قلت: لكن قوله "قد أفضوا إلى ما قدَّموا" علة عامة للفريقين معناها أنه لا فائدة تحت سبهم والتفكه بأعراضهم، وأما ذكره تعالى للأمم الخالية بما كانوا فيه من الضلال فليس المقصود ذمهم بل تحذيرا للأمة من تلك الأفعال التي أفضت بفاعلها إلى الوبال وبيان محرمات ارتكبوها. وذكر الفاجر بخصال فجوره لغرض جائز، وليس من السب المنهي عنه فلا تخصيص بالكفار، نعم الحديث مخصص ببعض المؤمنين كما في الحديث: أنه مُرَّ عليه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بجنازة فأثنوا عليها شرا الحديث وأقرهم صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على ذلك بل قال: "وجبت" أي النار ثم قال: "أنتم شهداء الله". ولا يقال إن الذي أثنوا عليه شراً ليس بمؤمن لأنه قد أخرج الحاكم في ذمه: "بئس المرء لقد كان فظاً غليظاً". والظاهر أنه مسلم إذ لو كان كافراً لما تعرضوا لذمه بغير كفره. وقد أجاب القرطبي عن سبهم له وإقراره صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لهم بأنه يحتمل أنه كان مستظهراً بالشر ليكون من باب لا غيبة لفاسق، أو بأنه يحمل النهي عن سب الأموات على ما بعد الدفن. قلت: وهو الذي يناسب التعليل بإفضائهم إلى ما قدموا فإن الإفضاء الحقيقي بعد الدفن.
62-) وروي الترمذي عن المغيرة نحوه) أي نحو حديث عائشة في النهي عن سب الأموات (لكن قال) عوض قوله "فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا" ( فتؤذوا الأحياء ) قال ابن رشد: إن سب الكافر يحرم إذا تأذى به الحي المسلم. ويحل إذا لم يحصل به الأذية، وأما المسلم فيحرم إلا إذا دعت إليه الضرورة كأن يكون فيه مصلحة للميت إذا أريد(2/119)
تخليصه من مظلمة وقعت منه فإنه يحسن بل يجب إذا اقتضى ذلك سبه وهو نظير ما استثني من جواز الغيبة لجماعة من الأحياء لأمور.
(تنبيه) من الأذية للميت القعود على قبره لما أخرجه أحمد قال الحافظ ابن حجر: بإسناد صحيح من حديث عمرو بن حزم الأنصاري قال: رآني رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وأنا متكيء على قبر فقال: "لا تؤذ صاحب القبر" وأخرج مسلم من حديث أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من الجلوس عليه" وأخرج مسلم عن أبي مرثد مرفوعاً "لا تجلسوا على القبور ولا تُصلّوا إليها". والنهي ظاهر في التحريم. وقال المصنف في فتح الباري نقلاً عن النووي: إن الجمهور يقولون بكراهة القعود عليه،وقال مالك: المراد بالقعود الحدث وهو تأويل ضعيف أو باطل انتهى. وبمثل قول مالك قال أبو حنيفة كما في الفتح. قلت: والدليل يقتضي تحريم القعود عليه والمرور فوقه، لأن قوله: "لا تؤذ صاحب القبر" نهى عن أذية المقبور من المؤمنين، وأذية المؤمن محرمة بنص القرآن {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً}(2/120)
كتاب الزكاة
كتاب الزكاة
...
كتاب الزكاة
الزكاة لغة: مشتركة بين النماء والطهارة وتطلق على الصدقة الواجبة والمندوبة والنفقة والعفو والحق وهي أحد أركان الإسلام الخمسة بإجماع الأمة وبما علم من ضرورة الدين واختلف في أي سنة فرضت فقال الأكثر: إنها فرضت في السنة الثانية من الهجرة قبل فرض رمضان ويأتي بيان متى فرض في بابه
1 - (عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمين فذكر الحديث وفيه "إن الله قد افترض عليهم الصدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم" متفق عليه واللفظ للبخاري كان بعثه صلى الله عليه وسلم لمعاذ إلى اليمن سنة عشر قبل حج النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكره البخاري في أواخر المغازي وقيل كان آخر سنة تسع عند منصرفه صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك وقيل سنة ثمان بعد الفتح وبقي فيه إلى خلافة أبي بكر والحديث في البخاري ولفظه عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن قال له: "إنك تقدم على قوم أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم فإذا فعلوا فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم الزكاة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم فإذا أطاعوك فخذ منهم وتوق كرائم أموال الناس" واستدل من أموالهم أن الإمام هو الذي يتولى قبض الزكاة وصرفها إما بنفسه أو بنائبه بقوله تؤخذ فمن امتنع منها أخذت منه قهرا وقد بين صلى الله عليه وسلم المراد من ذلك ببعثه السعادة واستدل بقوله ترد على فقرائهم أنه يكفي إخراج الزكاة في صنف واحد وقيل يحتمل أنه(2/120)
خص الفقراء لكونهم الغالب في ذلك فلا دليل على ما ذكر ولعله أريد بالفقير من يحل إليه الصرف فيدخل المسكين عند من يقول إن المسكين أعلى حالا من الفقير ومن قال بالعكس فالأمر واضح
2 - ( وعن أنس أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كتب له" لما وجهه إلى البحرين عاملا "هذه فريضة الصدقة" أي نسخة فريضة الصدقة للعلم به وفيه جواز إطلاق الصدقة على الزكاة خلافا لمن منع ذلك واعلم أن في البخاري تصدير الكتاب هذا ببسم الله الرحمن الرحيم "التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين" فيه دلالة على أن الحديث مرفوع والمراد بفرضها قدرها لأن وجوبها ثابت بنص القرآن كما يدل له قوله "والتي أمر الله بها رسوله" أي أنه تعالى أمره بتقدير أنواعها وأجناسها والقدر المخرج منها كما بينه التفصيل بقوله "في كل أربع وعشرين من الإبل فما دونها الغنم" هو مبتدأ مؤخر وخبره قوله في كل أربع وعشرن إلى فما دونها "في كل خمس شاة" فيها تعيين إخراج الغنم في مثل ذلك وهو قول مالك وأحمد فلو أخرج بعيرا لم يجز وقال الجمهور يجزيه قالوا لأن الأصل أن تجب من جنس المال وإنما عدل عنه رفقا بالمالك فإذا رجع باختياره إلى الأصل أجزأه فإن كانت قيمة البعير الذي يخرجه دون قيمة الأربع الشياه ففيه خلاف عند الشافعية وغيرهم قال المصنف في الفتح والأقيس أن لا يجزىء "فإذا بلغت" أي الإبل "خمسا وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض أنثى" زاده تأكيدا وإلا فقد علمت والمخاض بفتح الميم وتخفيف المعجمة آخره معجمة وهي من الإبل ما استكمل السنة الأولى ودخل في الثانية إلى آخرها سمي بذلك ذكرا كان أو أنثى لأن أمه من المخاض أي الحوامل لا واحد له من لفظه والماخض الحامل التي دخل وقت حملها وإن لم تحمل وضمير فيها للإبل التي بلغت خمسا وعشرون فإنها تجب فيها بنت مخاض من حين تبلغ عدتها خمسا وعشرين إلى أن تنتهي إلى خمس وثلاثين وبهذا قال الجمهور وروي عن علي عليه السلام أنه يجب في الخمس والعشرين خمس شياه لحديث مرفوع ورد بذلك وحديث موقوف عن علي عليه السلام ولكن المرفوع ضعيف والموقوف ليس بحجة فلذا لم يقل به الجمهور "فإن لم تكن" أي توجد "فابن لبون ذكر" هو من الإبل ما تستكمل السنة الثانية ودخل في الثالثة إلى تمامها سمي بذلك لأن أمه ذات لبن ويقال بنت اللبون للأنثى وإنما زاد قوله ذكر مع قوله ابن لبون للتأكيد كما عرفت "فإذا بلغت" أي الإبل "ستا وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها بنت لبون أنثى فإذا بلغت ستاَ وأربعين إلى ستين ففيها حقة" بكسر الحاء المهملة وتشديد القاف وهي من الإبل ما استكمل السنة الثالثة ودخل في الرابعة إلى تمامها ويقال للذكر حق سميت بذلك لاستحقاقها أن يحمل عليها ويركبها الفحل ولذلك قال "طروق الجمل" بفتح أوله أي مطروقته فعولة بمعنى مفعولة والمراد من شأنها أن تقبل(2/121)
ذلك وإن لم يطرقها "فإذا بلغت" أي الإبل "واحدة وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة" بفتح الجيم والذال المعجمة وهي التي أتت عليها أربع سنين ودخلت في الخامسة "فإذا بلغت" أي الإبل "ستا وسبعين إلى تسعين ففيها بنتا لبون" تقدم بيانه "فإذا بلغت" أي الإبل "إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة ففيها حقتان طروقتا الجمل" تقدم بيانه "فإذا زادت" أي الإبل "على عشرين ومائة" أي واحدة فصاعدا كما هو قول الجمهور ويدل له كتاب عمر رضي الله عنه "فإذا كانت إحدى وعشرين ومائة " ففيها ثلاث بنات لبون حتى تبلغ تسعا وعشرين ومائة ومقتضاه أن ما زاد على ذلك فإن زكاته بالإبل فلا تجب زكاتها إلا إذا بلغت مائة وثلاثين فإنه يجب فيها بنتا لبون وحقة فإذا بلغت مائة وأربعين ففيها بنت لبون وحقتان وعن أبي حنيفة إذا زادت على عشرين ومائة رجعت إلى فريضة الغنم فيكون في كل خمس وعشرين ومائة ثلاث بنات لبون وشاة قلت والحديث إنما ذكر فيه حكم كل أربعين وخمسين فمع بلوغها إحدى وعشرين ومائة يلزم ثلاث بنات لبون عن كل أربعين بنت لبون ولم يبين فيه الحكم في الخمس والعشرين ونحوها فيحتمل ما قاله أبو حنيفة ويحتمل أنها وقص حتى تبلغ مائة وثلاثين كما قدمناه والله أعلم "ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة ومن لم يكن معه إلا أربع من الإبل فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها" أي أن يخرج عنها نفلا منه وإلا فلا واجب عليه فهو استثناء منقطع ذكر لدفع توهم نشأ من قوله "فليس فيها صدقة" أن المنفي مطلق الصدقة لاحتمال اللفظ له وإن كان غير مقصود فهذه صدقة الإبل الواجبة فصلت في هذا الحديث الجليل وظاهره وجوب أعيان ما ذكر إلا أنه سيأتي قريبا أن لم يجد العين الواجبة أجزأه غيرها وأما زكاة الغنم فقد بينها قوله "وفي صدقة الغنم في سائمتها" بدل من صدقة الغنم بإعادة العامل وهو خبر مقدم والسائمة من الغنم الراعية غير المعلوفة وأعلم أنه أفاد مفهوم السوم أنه شرط في وجوب زكاة الغنم وقال به الجمهور وقال مالك وربيعة لا يشترط وقال داود يشترط في الغنم لهذا الحديث قلنا وفي الإبل لما أخرجه أبو داود والنسائي من حديث بهز بن حكيم بلفظ في كل سائمة إبل وسيأتي نعم البقر لم يأت فيها ذكر السوم وإنما قاسوها على الإبل والغنم "إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاة" بالجر تمييز مائة والشاة تعم الذكر والأنثى والضأن والمعز شاة مبتدأ خبره ما تقدم من قوله في صدقة الغنم فإن في الأربعين شاة إلى عشرين ومائة "فإذا زادت على عشرين ومائة إلى مائتين ففيها شاتان فإذا زادت على مائتين إلى ثلاثمائة ففيها ثلاث شياه فإذا زادت على ثلاثمائة ففي كل(2/122)
مائة شاة" ظاهره أنها لا تجب الشاة الرابعة حتى تفي أربعمائة وهو قول الجمهور وفي رواية عن أحمد وبعض الكوفيين إذا زادت على ثلاثمائة واحدة وجبت الأربع "فإذا كانت سائمة الرجل ناقصة عن أربعين شاة شاة واحدة فليس فيها صدقة" واجبة " إلا أن يشاء ربها" إخراج صدقة نفلا كما سلف "ولا يجمع" بالبناء للمفعول "بين متفرق ولا يفرق" مثله مشدد الراء "بين مجتمع خشية الصدقة" مفعول له والجمع بين المفترق صورته أن يكون ثلاث نفر مثلا ولكل واحد أربعون شاة وقد وجب على كل واحد منهم الصدقة فإذا وصل إليهم المصدق جمعوها ليكون عليهم فيها شاة واحدة فنهوا عن ذلك وصورة التفريق بين مجتمع أن الخليطين لكل منهما مائة شاة وشاة فيكون عليهما فيها ثلاث شياه فإذا وصل إليهما المصدق فرقا غنمهما فلم يكن على كل واحد منهما سوى شاة واحدة فنهو عن ذلك قال ابن الأثير هذا الذي سمعته في ذلك وقال الخطابي قال الشافعي الخطاب في هذا للمصدق ولرب المال قال والخشية خشيتان خشية الساعي أن تقل الصدقة وخشية رب المال أن يقل ماله فأمر كل واحد منهما أن لا يحدث في المال شيئا من الجمع والتفريق خشية الصدقة "وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما" والتراجع بين الخليطين أن يكون لأحدهما مثلا أربعون بقرة وللآخر ثلاثون بقرة ومالهما مشترك فأخذ الساعي عن الأربعين مسنة وعن الثلاثين تبيعا فيرجع باذل المسنة بثلاثة أسباعها على خليطه وباذل التبيع بأربعة أسباعه على خليطه لأن كل واحد من السنين واجب على الشيوع كأن المال ملك واحد وفي قوله "بالسوية" دليل على أن الساعي إذا ظلم أحدهما فأخذ منه زيادة على فرضه فإنه لا يرجع بها على شريكه وإنما يغرم له قيمة ما يخصه من الواجب دون الزيادة كذا في الشرح ولو قيل مثلا إنه يدل أنهما يتساويان في الحق والظلم لما بعد الحديث عن إفادة ذلك "ولا يخرج" مبني للمجهول "في الصدقة هرمة" بفتح الهاء وكسر الراء الكبيرة التي سقطت أسنانها " ولا ذات عوار" بفتح العين المهملة وضمها وقيل بالفتح معيبة العين وبالضم عوراء العين ويدخل في ذلك المرض والأولى أن تكون مفتوحة ليشمل ذات العيب فيدخل ما أفاده حديث أبي داود "ولا تعطي الهرمة ولا الدرنة ولا المريضة ولا الشرطاء اللئيمة ولكن من وسط أموالكم فإن الله لم يسألكم خيره ولا أمركم بشره" انتهى والدرنة الجرباء من الدرن الوسخ والشرطاء اللئيمة هي أرذل المال وقيل صغاره وشراره قاله في النهاية "ولا تيس إلا أن يشاء المصدق" اختلف في ضبطه فالأكثر على أنه بالتشديد وأصله المتصدق أدغمت التاء بعد قلبها صادا والمراد به المالك والاستثناء راجع إلى الآخر وهو التيس وذلك أنه إذا لم يكن معدا للإنزاء فهو من الخيار وللمالك أن يخرج الأفضل ويحتمل رده إلى للجميع ويفيد أن للمالك إخراج الهرمة وذات العوار إذا كانت ثمينة قيمتها أكثر من الوسط الواجب وفي هذا(2/123)
خلاف بين المفرعين وقيل إن ضبطه بالتخفيف والمراد به الساعي فيدل على أن له الاجتهاد في نظر الأصلح للفقراء وأنه كالوكيل فتقيد مشيئته بالمصلحة فيعود الاستثناء إلى الجميع على هذا وهذا إذا كانت الغنم مختلفة فلو كانت معيبة كلها أو تيوسا أجزأه إخراج واحدة وعن المالكية يشتري شاة مجزئة عملا بظاهر الحديث وهذه زكاة الغنم وتقدمت زكاة الإبل وتأتي زكاة البقر وأما الفضة فقد أفاد الواجب منها قوله "وفي الرقة" بكسر الراء وتخفيف القاف وهي الفضة الخالصة "في مائتي درهم ربع العشر" أي يجب إخراج ربع عشرها زكاة ويأتي النص على الذهب " فإن لم تكن " أي الفضة "إلا تسعين" درهما "ومائة فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها" كما عرفت وفي قوله تسعين ومائة ما يوهم أنها إذا زادت على التسعين والمائة قبل بلوغ المائتين أن فيها صدقة وليس كذلك بل إنما ذكره لأنه آخر عقد قبل المائة والحساب إذا جاوز الآحاد كان تركيبه بالعقود كالعشرات والمئين والألوف فذكر التسعين لذلك ثم ذكر حكما من أحكام زكاة الإبل قد أشرنا إلى أنه يأتي بقوله "ومن بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة" وقد عرفت في صدر الحديث العدة التي تجب فيها الجذعة "وليست عنده جذعة" أي في ملكه " وعنده حقة فإنها تقبل منه" الحقة عوضا عن الجذعة "ويجعل معها " أي توفية لها "شاتين إن استيسرتا له أو عشرين درهما" إذا لم تتيسر له الشاتان وفي الحديث دليل أن هذا القدر هو جبر التفاوت ما بين الحقة والجذعة "ومن بلغت عنده صدقة الحقة" التي عرفت قدرها "وليست عنده الحقة وعنده الجذعة فإنها تقبل منه الجذعة" وإن كانت زائدة على ما يلزمه فلا يكلف تحصيل ما ليس عنده "ويعطيه المصدق" مقابل ما زاد عنده "شاتين أو عشرين درهما" كما سلف في عكسه رواه البخاري وقد اختلف في قدر التفاوت في سائر الأسنان فذهب الشافعي إلى أن التفاوت بين كل سنين كما ذكر في الحديث وذهب الهادوية إلى أن الواجب هو زيادة فضل القيمة من رب المال أو رد الفضل من المصدق ويرجع في ذلك إلى التقويم قالوا بدليل أنه ورد في رواية عشرة دراهم أو شاة وما ذلك إلا أن التقويم يختلف باختلاف الزمان والمكان فيجب الرجوع إلى التقويم وقد أشار البخاري إلى ذلك فإنه أورد حديث أبي بكر في باب أخذ العروض من الزكاة وذكر في ذلك قول معاذ لأهل اليمن ائتوني بعرض ثيابكم خميص أو لبيس في الصدقة مكان الشعير والذرة أهون عليكم وخير لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بالمدينة ويأتي استيفاء ذلك
3 - وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن فأمره أن يأخذ من كل ثلاثين بقرة تبيعا أو تبيعة" فيه أنه مخير بين الأمرين(2/124)
والتبيع ذو الحول ذكرا كان أو أنثى "ومن كل أربعين مسنة" وهي ذات الحولين "ومن كل حالم دينارا" أي محتلم وقد أخرجه بهذا اللفظ أبو داود والمراد به الجزية ممن لم يسلم "أو عدله" بفتح العين المهملة وسكون الدال المهملة "معافريا" نسبة إلى معافر زنة مساجد حي في اليمن إليهم تنسب الثياب المعافرية يقال ثوب معافري رواه الخمسة واللفظ لأحمد وحسنه الترمذي وأشار إلى اختلاف في وصله لفظ الترمذي بعد إخراجه وروى بعضهم هذا الحديث عن الأعمش عن أبي وائل عن مسروق أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن فأمره أن يأخذ قال وهذا أصح أي من روايته عن مسروق عن معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم وصححه ابن حبان والحاكم وإنما رجح الترمذي الرواية المرسلة لأن رواية الاتصال اعترضت بأن مسروقا لم يلق معاذا وأجيب عنه بأن مسروقا همداني النسب من وداعة يماني الدار وقدكان في أيام معاذ ظاهرا فاللقاء ممكن بينهما فهو محكوم باتصاله على رأي الجمهور قلت وكأن رأي الترمذي رأي البخاري أنه لا بد من تحقق اللقاء والحديث دليل على وجوب الزكاة في البقر وأن نصابها ما ذكر هو مجمع عليه في الأمرين وقال ابن عبد البر لا خلاف بين العلماء أن السنة في زكاة البقر على ما في حديث معاذ وأنه النصاب المجمع عليه وفيه دلالة على أنه لا يجب فيما دون الثلاثين شيء وفيه خلاف للزهري فقال يجب في كل خمس شاة قياسا على الإبل وأجاب الجمهور بأن النصاب لا يثبت بالقياس وبأنه قد روي " ليس فيما دون ثلاثين من البقر شيء" وهو وإن كان مجهول الإسناد فمفهوم حديث معاذ يؤيده
4 - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تؤخذ صدقات المسلمين على مياههم" رواه أحمد ولأبي داود من حديث عمرو بن شعيب أيضا لا تؤخذ صدقاتهم إلا في دورهم وعند النسائي وأبي داود في لفظ من حديث عمرو أيضا "لا جلب ولا جنب ولا تؤخذ صدقاتهم إلا في دورهم" أي لا تجلب الماشية إلى المصدق بل هو الذي يأتي لرب المال ومعنى لا جنب أنه حيث يكون المصدق بأقصى مواضع أصحاب الصدقة فتجنب إليه فنهي عن ذلك وفيه تفسير آخر يخرجه عن هذا الباب والأحاديث دلت على أن المصدق هو الذي يأتي إلى رب المال فيأخذ الصدقة ولفظ أحمد خاص بزكاة الماشية ولفظ أبي داود عام لكل صدقة وقد أخرج أبو داود عن جابر بن عتيك مرفوعا "سيأتيكم ركب مبغضون فإذا أتوكم فرحبوا بهم وخلوا بينهم وبين ما يبتغون فإن عدلوا فلأنفسهم وإن ظلموا فعليها وأرضوهم وإن تمام زكاتكم رضاهم" فهذا يدل أنهم ينزلون بأهل الأموال وأنهم يرضونهم وإن ظلموهم وعند أحمد من حديث أنس قال أتى رجل من بني تميم فقال يا رسول الله إذا أديت الزكاة إلى رسولك فقد برئت منها إلى الله ورسوله قال "نعم ولك أجرها وإنما على من بدلها" وأخرج مسلم حديث جابر مرفوعا أرضوا مصدقكم في جواب ناس من الأعراب أتوه صلى الله عليه وسلم فقالوا إن ناسا من المصدقين يأتوننا فيظلموننا إلا أن في البخاري أن من سئل أكثر مما وجب عليه فلا يعطيه(2/125)
المصدق وجمع بينه وبين هذه الأحاديث أن ذلك حيث يطلب الزيادة على الواجب تأويل وهذه الأحاديث حيث طلبها متأولا وإن رآه صاحب المال ظالما
5 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس على المسلم في عبده ولا في فرسه صدقة رواه البخاري ولمسلم أي من رواية أبي هريرة ليس في العبد صدقة إلا صدقة الفطر" الحديث نص على أنه لا زكاة في العبيد ولا الخيل وهو إجماع فيما كان للخدمة والركوب وأما الخيل المعدة للنتاج ففيها خلاف للحنفية وتفاصيل واحتجوا بحديث في كل فرس سائمة دينار أو عشرة دراهم أخرجه الدارقطني والبيهقي وضعفاه وأجيب بأنه لا يقاوم حديث النفي الصحيح واتفقت هذه الواقعة في زمن مروان فتشاور الصحابة في ذلك فروى أبو هريرة الحديث ليس على الرجل في عبده ولا فرسه صدقة فقال مروان لزيد بن ثابت ما تقول يا أبا سعيد فقال أبو هريرة عجبا من مروان أحدثه بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول ما تقول يا أبا سعيد فقال زيد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أراد به الفرس الغازي فأمر تاجر يطلب نسلها ففيها الصدقة فقال كم قال في كل فرس دينار أو عشرة دراهم وقالت الظاهرية لا تجب الزكاة في الخيل ولو كانت للتجارة وأجيب بأن زكاة التجارة واجبة بالإجماع كما نقله ابن المنذر قلت كيف الإجماع وهذا خلاف الظاهرية
6 - وعن بهز بفتح الباء الموحدة وسكون الهاء والزاي ابن حكيم ابن معاوية بن حيدة بفتح الحاء المهملة وسكون المثناة التحتية وفتح الدال المهملة القشيري بضم القاف وفتح المعجمة وبهز تابعي مختلف في الاحتجاج به فقال يحيى بن معين في هذه الترجمة إسناد صحيح إذا كان من دون بهز ثقة وقال أبو حاتم هو شيخ يكتب حديثه ولا يحتج به وقال الشافعي ليس بحجة وقال الذهبي ما تركه عالم قط عن أبيه عن جده رضي الله عنهم عن معاوية بن حيدة صحابي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "في كل سائمة إبل في أربعين بنت لبون" تقدم في حديث أنس أن بنت اللبون تجب من ست وثلاثين إلى خمس وأربعين فهو يصدق على أنه يجب في الأربعين بنت لبون ومفهوم العدد هنا مطرح زيادة ونقصانا لأنه عارضه المنطوق الصريح وهو حديث أنس "لا تفرق إبل عن حسابها" معناه أن المالك لا يفرق ملكه عن ملك غيره حيث كانا خليطين كما تقدم "من أعطاها مؤتجرا بها" أي قاصدا للأجر بإعطائها "فله أجرها ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله عزمة" يجوز رفعه على أنه خبر مبتدإ محذوف ونصبه على المصدرية وهو مصدر مؤكد لنفسه مثل له علي ألف درهم اعترافا والناصب له فعل يدل عليه جملة فإنا آخذوها والعزمة الجد في الأمر يعني أن أخذ ذلك يجد فيه "لأنه واجب مفروض من عزمات ربنا لا يحل لآل محمد منها شيء" رواه أحمد وأبو داود والنسائي(2/126)
وصححه الحاكم وعلق الشافعي القول به على ثبوته فإنه قال هذا الحديث لا يثبته أهل العلم بالحديث ولو ثبت لقلنا به وقال ابن حبان كان يعني بهزا يخطيء كثيرا ولولا هذا الحديث لأدخلته في الثقات وهو ممن استخير الله فيه والحديث دليل على أنه يأخذ الإمام الزكاة قهرا ممن منعها والظاهر أنه مجمع عليه أن نية الإمام كافية وأنها تجزيء من هي عليه وإن فاته الأجر فقط سقط عنه الوجوب وقوله وشطر ماله هو عطف على الضمير المنصوب في آخذوها والمراد من الشطر البعض وظاهره أن ذلك عقوبة بأخذ جزء من المال على منعه إخراج الزكاة وقد قيل إن ذلك منسوخ أولم يقم مدعي النسخ دليلا على النسخ بل دل على جواز العقوبة بالمال لأن الرواية وشطر ماله بضم الشين فعل مبني للمجهول أي جعل ماله شطرين ويتخير عليه المصدق ويأخذ الصدقة من خير الشطرين عقوبة لمنعه الزكاة قلت وفي النهاية ما لفظه قال الحربي غلط الراوي في لفظ الرواية إنما هي وشطر ماله أي جعل ماله شطرين إلى آخر ما ذكره المصنف وإلى مثله جنح صاحب ضوء النهار فيه وفي غيره من رسائله وذكرنا في حواشيه أنه على هذه الرواية أيضا دال على جواز العقوبة بالمال إذ الأخذ من خير الشطرين عقوبة بأخذ زيادة على الواجب إذ الواجب الوسط غير الخيار ثم رأيت الشارح أشار إلى هذا الذي قلناه في حواشي ضوء النهار قبل الوقوف على كلامه ثم رأيت النووي بعد مدة طويلة يذكر ما ذكرناه بعينه ردا على من قال إنه على تلك الرواية لا دليل فيه على جواز العقوبة بالمال ولفظه إذا تخير المصدق وأخذ من خير الشطرين فقد أخذ زيادة على الواجب وهي عقوبة بالمال إلا أن حديث بهز هذا لو صح فلا يدل إلا على هذه العقوبة بخصوصها في مانع الزكاة لا غيره وهذا الشطر المأخوذ يكون زكاة كله أي حكمه حكمها أخذا ومصرفا ولا يلحق بالزكاة غيرها في ذلك لأنه ألحق بالقياس ولا نص على علته وغير النص من أدلة العلة لا يفيد ظنا يعمل به سيما وقد تقررت حرمة مال المسلم بالأدلة القطعية كحرمة دمه فلا يحل أخذ شيء منه إلا بدليل قاطع ولا دليل بل هذا الوارد في حديث بهز آحادي لا يفيد إلا الظن فكيف يؤخذ به ويقدم على القطعي ولقد استرسل أهل الأمر في هذه الأعصار في أخذ الأموال استرسالا ينكره العقل والشرع وصارت تناط بالولايات بجهال لا يعرفون من الشرع شيئا ولا من الدين أمراَ فليس همهم إلا قبض المال من كل من لهم عليه ولاية ويسمونه أدبا وتأديبا ويصرفونه في حاجاتهم وأقواتهم وكسب الأوطان وعمارة المساكن في الأوطان فإنا لله وإنا إليه راجعون ومنهم من يضيع حد السرقة أو شرب المسكر ويقبض عليه مالا ومنهم من يجمع بينهما فيقيم الحد ويقبض المال وكل ذلك محرم ضرورة دينية لكنه شاب عليه الكبير وشب عليه الصغير(2/127)
وترك العلماء النكير فزاد الشر في الأمر الخطير وقوله لا تحل لآل محمد يأتي الكلام في هذا الحكم مستوفي إن شاء الله تعالى
7 - (وعن علي عليه السلام قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كانت لك مائتا درهم وحال عليها الحول ففيها خمسة دراهم ربع عشرها وليس عليك شيء" أي في الذهب "حتى يكون لك عشرون دينارا وحال عليها الحول ففيها نصف دينار فما زاد فبحساب ذلك وليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول" رواه أبو داود وهو حسن وقد اختلف في رفعه أخرج الحديث أبو داود مرفوعا من حديث الحارث الأعور إلا قوله فما زاد فبحساب ذلك قال فلا أدري أعلي يقول فبحساب ذلك أو يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلا قوله ليس في المال زكاة إلى آخره انتهى فأفاد كلام أبي داود أن في رفعه بجملته اختلافا ونبه المصنف في التلخيص على أنه معلوم وبين علته ولكنه أخرج الدارقطني الجملة الأخرى من حديث ابن عمر مرفوعا بلفظ "لا زكاة في مال امريء حتى يحول عليه الحول" وأخرج أيضا عن عائشة مرفوعا " ليس في المال زكاة حتى يحول عليه الحول" وله طريق أخرى عنها والحديث دليل على أن نصاب الفضة مائتا درهم وهو إجماع وإنما الخلاف في قدر الدرهم فإن فيه خلافا كثيرا سرده في الشرح ولم يأت بما يشفي وتسكن النفس إليه في قدره وفي شرح الدميري أن كل درهم ستة دوانيق وكل عشرة دراهم سبعة مثاقيل والمثقال لم يتغير في جاهلية ولا إسلام قال وأجمع المسلمون على هذا وقرر في المنار بعد بحث طويل أن نصاب الفضة من القروش الموجودة على رأي الهادوية ثلاثة عشر قرشا وعلى رأي الشافعية أربعة عشر وعلى رأي الحنفية عشرون وتزيد قليلا وأن نصاب الذهب عند الهادوية خمسة عشر أحمر وعشرون عند الحنفية ثم قال وهذا تقريب وفيه أن قدر زكاة المائتي الدرهم ربع العشر وهو إجماع وقوله فما زاد فبحساب ذلك قد عرفت أن في رفعه خلافا وعلى ثبوته فيدل على أنه يجب في الزائد وقال بذلك جماعة من العلماء وروي عن علي وعن ابن عمر أنهما قالا ما زاد على النصاب من الذهب والفضة ففيه أي الزائد ربع العشر في قليله وكثيره وأنه لا وقص فيهما ولعلهم يحملون حديث جابر الآتي بلفظ "وليس فيما دون خمس أواق صدقة" على ما إذا انفردت عن نصاب منهما إلا إذا كانت مضافة إلى نصاب منهما وهذا الخلاف في الذهب والفضة وأما الحبوب فقال النووي في شرح مسلم إنهم أجمعوا فيما زاد على خمسة أوسق أنها تجب زكاته بحسابه وأنه لا أوقاص فيها انتهى وحملوا ما يأتي من حديث أبي سعيد بلفظ "وليس فيما دون خمسة أوساق من تمر ولا حب صدقة " على ما لم ينضم إلى خمسة أوسق وهذا يقوي مذهب علي وابن عمر رضي الله عنهما الذي قدمناه في النقدين وقوله "وليس عليك شيء حتى يكون لك عشرون دينارا" فيه حكم نصاب الذهب وقدر زكاته وأنه عشرون دينارا وفيها نصف دينار وهو أيضا ربع عشرها وهو عام لكل فضة وذهب مضروبين أوغير مضروبين وفي حديث أبي سعيد مرفوعا أخرجه الدارقطني(2/128)
وفيه ولا يحل في الورق زكاة حتى يبلغ خمس أواق وأخرج أيضا من حديث جابر مرفوعا ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة وأما الذهب ففيه هذا الحديث ونقل المصنف عن الشافعي أنه قال فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم في الورق صدقة فأخذ المسلمون بعده في الذهب صدقة إما بخبر لم يبلغنا وإما قياسا وقال ابن عبد البر لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذهب شيء من جهة نقل الآحاد الثقات وذكر هذا الحديث الذي أخرجه أبو داود وأخرجه الدارقطني قلت لكن قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الآية منبه على أن في الذهب حقا لله وأخرج البخاري وأبو داود وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي حقها إلا جعلت له يوم القيامة صفائح وأحمي عليه" الحديث فحقها هو زكاتها وفي الباب عدة أحاديث يشد بعضها بعضاً سردها في الدر المنثور ولا بد في نصاب الذهب والفضة من أن يكونا خالصين من الغش وفي شرح الدميري على المنهاج أنه إذا كان الغش يماثل أجرة الضرب والتلخيص فيتسامح به وبه عمل الناس على الإخراج منها ودل الحديث على أنه لا زكاة في المال حتى يحول عليه الحول وهو قول الجماهير وفيه خلاف لجماعة من الصحابة والتابعين وبعض الآل وداود فقالوا إنه لا يشترط الحول لإطلاق حديث في الرقة ربع العشر وأجيب بأنه مقيد بهذا الحديث وما عضده من الشواهد ومن شواهده أيضا
8 - (وللترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما من استفاد مالا فلا زكاة عليه حتى يحول عليه الحول رواه مرفوعا والراجح وفقه إلا أن له حكم الرفع إذ لا مسرح للاجتهاد فيه ويؤيده آثار صحيحة عن الخلفاء الأربعة وغيرهم فإذا حال عليه الحول فينبغي المبادرة بإخراجها فقد أخرج الشافعي والبخاري في التاريخ من حديث عائشة مرفوعا "ما خالطت الصدقة مالا قط إلا أهلكته" وأخرج الحميدي وزاد "يكون قد وجب عليك في مالك صدقة فلا تخرجها فيهلك الحرام الحلال" قال ابن تيمية في المنتقى قد احتج به من يرى تعلق الزكاة بالعين
9 - (وعن علي عليه السلام قال ليس في البقر العوامل صدقة رواه أبو داود والدارقطني والراجح وقفه قال المصنف قال البيهقي رواه النفيلي عن زهير بالشك في وقفه ورفعه إلا أن ذكره المصنف بلفظ ليس في البقر العوامل شيء ورواه بلفظ الكتاب من حديث ابن عباس ونسبه للدارقطني وفيه متروك وأخرجه الدارقطني من حديث علي عليه السلام وأخرجه من حديث جابر إلا أنه بلفظ ليس في البقر المثيرة صدقة وضعف البيهقي إسناده والحديث دليل على أنه لا يجب في البقر العوامل شيء وظاهره سواء كانت سائمة أو معلوفة وقد ثبتت شرطية السوم في الغنم في البخاري وفي الأبل في حديث بهز عند أبي داود والنسائي قال الدميري وألحقت البقر بهما.
10 - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وعلى وسلم قال "من ولي يتيما له مال فليتجر له ولا يتركه حتى تأكله(2/129)
الصدقة رواه الترمذي والدارقطني وإسناده ضعيف لأن فيه المثنى بن الصباح في رواية الترمذي والمثنى ضعيف ورواية الدارقطني فيها مندل بن علي ضعيف والعزرمي متروك ولكن قال المصنف وله أي لحديث عمرو شاهد مرسل عند الشافعي هو قوله صلى الله عليه وسلم ابتغوا في أموال الأيتام لا تأكلها الزكاة أخرجه من رواية ابن جريج عن يوسف بن ماهك مرسلا وأكده الشافعي لعموم الأحاديث الصحيحة في إيجاب الزكاة مطلقا وقد روي مثل حديث عمرو أيضا عن أنس وعن ابن عمرو موقوفا وعن علي عليه السلام فإنه أخرج الدارقطني من حديث أبي رافع قال كانت لآل بني رافع أموال عند علي فلما دفعها إليهم وجدوها تنقص فحسبوها مع الزكاة فوجدوها تامة فأتوا عليا فقال كنتم ترون أن يكون عندي مال لا أزكيه وعن عائشة أخرجه مالك في الموطأ أنها كانت تخرج زكاة أيتام كانوا في حجرها ففي الكل دلالة على وجوب الزكاة في مال الصبي كالمكلف ويجب على وليه الإخراج وهو رأي الجمهور وروي عن ابن مسعود أنه يخرجه الصبي بعد تكليفه وذهب ابن عباس وجماعة إلى أنه يلزمه إخراج العشر من ماله لعموم أدلته لاغيره لحديث رفع القلم قلت ولا يخفى أنه لا دلالة فيه وأن العموم في العشر أيضا حاصل في غيره كحديث في الرقة ربع العشر ونحوه
11 - ( وعن عبد الله بن أبي أوفى قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال اللهم صل عليهم متفق عليه هذا منه صلى الله عليه وسلم امتثالا لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} إلى قوله: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} فإنه أمره الله بالصلاة عليهم ففعلها بلفظها حيث قال "اللهم صل على آل أبي فلان" وقد ورد أنه دعا لهم بالبركة كما أخرجه النسائي أنه قال في رجل بعث بالزكاة "اللهم بارك فيه وفي أهله" وقال بعض الظاهرية بوجوب ذلك على الإمام كأنه أخذه من الأمر في الآية ورد بأنه لو وجب لعلمه صلى الله عليه وسلم السعاة ولم ينقل فالأمر محمول في الآية على أنه خاص به صلى الله عليه وسلم فإنه الذي صلاته سكن لهم واستدل بالحديث على جواز الصلاة على غير الأنبياء وأنه يدعو المصدق بهذا الدعاء لمن أتى بصدقته وكرهه مالك وقال الخطابي أصل الصلاة الدعاء إلا أنه يختلف بحسب المدعو له فصلاة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته دعاء لهم بالمغفرة وصلاتهم عليه دعاء له بزيادة القربة والزلفى ولذلك كان لا يليق بغيره
12 - ( وعن علي عليه السلام أن العباس رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم في تعجيل صدقته قبل أن تحل فرخص له في ذلك رواه الترمذي والحاكم قال الترمذي وفي الباب عن ابن عباس قال وقد اختلف أهل العلم في تعجيل الزكاة قبل محلها ورأى طائفة من أهل العلم أن لا يعجلها وبه يقول سفيان وقال أكثر أهل العلم إن عجلها قبل محلها أجزأت عنه انتهى وقد روى الحديث أحمد وأصحاب السنن والبيهقي وقال: قال الشافعي روى "أنه صلى الله عليه وسلم تسلف صدقة مال العباس قبل أن تحل" ولا أدري أثبت(2/130)
أم لا قال البيهقي عنى بذلك هذا الحديث وهو معتضد بحديث أبي البحتري عن علي عليه السلام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إنا كنا احتجنا فأسلفنا العباس صدقة عامين ورجاله ثقات إلا أنه منقطع وقد ورد هذا من طرق بألفاظ مجموعها يدل أنه صلى الله عليه وسلم تقدم من العباس زكاة عامين واختلف الروايات هل هو استلف ذلك أو تقدمه ولعلهما واقعان معا وهو دليل على جواز تعجيل الزكاة وإليه ذهب الأكثر كما قاله الترمذي وغيره ولكنه مخصوص جوازه بالمالك ولا يصح من المتصرف بالوصاية والولاية واستدل من منع التعجيل مطلقا بحديث "إنه لا زكاة حتى يحول الحول" كما دلت له الأحاديث التي تقدمت والجواب أنه لا وجوب حتى يحول عليه الحول وهذا لا ينفي جواز التعجيل وبأنه كالصلاة قبل الوقت وأجيب بأنه لا قياس مع النص
13 - (وعن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "ليس فيما دون خمس أواق" وقع في مسلم "أواقي" بالياء وفي غيره بحذفها وكلاهما صحيح فإنه جمع أوقية ويجوز في جمعهما الوجهان كما صرح به أهل اللغة من الورق بفتح الواو وكسرها وكسر الراء وإسكانها الفضة مطلقا "صدقة وليس فيما دون خمس ذود" فتح الذال المعجمة وسكون الواو المهملة هي ما بين الثلاث إلى العشر "من الإبل" لا واحد له من لفظه "صدقة وليس فيما دون خمسة أوسق من الثمر " بالمثلثة مفتوحة والميم "صدقة" رواه مسلم الحديث صرح بمفاهيم الأعداد التي سلفت في بيان الأنصباء إذ قد عرفت أنه تقدم أن نصاب الإبل خمس ونصاب الفضة مائتا درهم وهي خمس أواق وأما نصاب الطعام فلم يتقدم وإنما عرف هذا بنفي الواجب فيما دون خمسة أوسق أنه يجب في الخمسة بمفهوم النفي
14 - ( وله) أي لمسلم وهو من حديث أبي سعيد رضي الله عنه "ليس فيما دون خمسة أوساق من تمر" بالمثناة الفوقية "ولا حب صدقة " وأصل حديث أبي سعيد متفق عليه الحديث تصريح أيضا بما سلف من مفاهيم الأحاديث إلا التمر فلم يتقدم فيه شيء والأوساق جمع وسق بفتح الواو وكسرها والوسق ستون صاعا والصاع أربعة أمداد فالخمسة الأوساق ثلثمائة صاع والمد رطل وثلث قال الداودي معياره الذي لا يختلف أربع حفنات بكفي الرجل الذي ليس بعظيم الكفين ولا صغيرهما قال صاحب القاموس بعد حكايته لهذا القول وجربت ذلك فوجدته صحيحا انتهى والحديث دليل على أنه لا زكاة فيما لم يبلغ هذه المقادير من الورق والإبل والثمر والتمر لطفا من الله بعباده وتخفيفا وهو اتفاق في الأولين وأما الثالث ففيه خلاف بسبب ما عارضه من الحديث بعده وهو قوله
15 - (وعن سالم بن عبد الله) بن عمر عن أبيه عبد الله ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فيما سقت السماء" بمطر أو ثلج أو برد أو طل "والعيون" الأنهار الجارية التي يسقى منها بإساحة الماء اغتراف له "أو كان عثريا" بفتح المهملة(2/131)
وفتح المثلثة وكسر الراء وتشديد المثناة التحتية قال الخطابي هو الذي يشرب بعروقه لأنه عثر على الماء وذلك حيث كان الماء قريبا من وجه الأرض فيغرس عليه فيصل الماء إلى العروق من غير سقي وفيه أقوال أخر وما ذكرناه أقربها "العشر" مبتدأ خبره ماتقدم من قوله فيما سقت أو أنه فاعل محذوف أي فيما ذكر يجب "وفيما سقي" بالنضح النضح بفتح النون وسكون الضاد فحاء مهملة السانية من الإبل والبقر وغيرهما من الرجال "نصف العشر" رواه البخاري ولأبي داود من حديث سالم "إذا كان بعلا" عوضا عن قوله عثريا وهو بفتح الموحدة وضم العين المهملة كذا في الشرح وفي القاموس إنه ساكن العين وفسره بأنه كل نخل وشجر وزرع لا يسقى أو ما سقته السماء وهو النخل الذي يشرب بعروقه "العشر وفيما سقي بالسواني أو النضح" دل عطفه عليه على التغاير وأن السواني المراد بها الدواب والنضح ما كان بغيرها كنضح الرجال بالآلة والمراد من الكل ما كان سقيه بتعب وعناء "نصف العشر" وهذا الحديث دل على التفرقة بين ما سقي بالسواني وبين ما سقي بماء السماء والأنهار وحكمته واضحة وهو زيادة التعب والعناء فنقص بعض ما يجب رفقا من الله تعالى بعباده ودل على أنه يجب في قليل ما أخرجت الأرض وكثيره الزكاة على ما ذكر وهذا معارض بحديث جابر وحديث أبي سعيد واختلف العلماء في الحكم في ذلك فالجمهور أن حديث الأوساق مخصص لحديث سالم وأنه لا زكاة فيما لم يبلغ الخمسة الأوساق وذهب جماعة منهم زيد بن علي وأبو حنيفة إلى أنه لا يخص بل يعمل بعمومه فيجب في قليل ما أخرجت الأرض وكثيره والحق مع أهل القول الأول لأن حديث الأوساق حديث صحيح ورد لبيان القدر الذي تجب فيه الزكاة كما ورد حديث مائتي الدرهم لبيان ذلك مع ورود "في الرقة ربع العشر" ولم يقل أحد إنه يجب في قليل الفضة وكثيرها الزكاة وإنما الخلاف هل يجب في القليل منها إذا كانت قد بلغت النصاب كما عرفت وذلك لأنه لم يرد حديث "في الرقة ربع العشر" إلا لبيان أن هذا الجنس تجب فيه الزكاة وأما قدر ما يجب فيه فموكول إلى الحديث التبيين له بمائتي درهم فكذا هنا قوله "فيما سقت السماء العشر" أي في هذا الجنس يجب العشر وأما بيان ما يجب فيه فموكول إلى حديث الأوساق وزاده إيضاحا قوله في الحديث ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة كأنه ما ورد إلالدفع ما يتوهم من عموم فيما سقت السماء ربع العشر كما ورد في ذلك في قوله وليس فيما دون خمسة أوقي من الورق صدقة ثم إذا تعارض العام والخاص كان العمل بالخاص عند جهل التاريخ كما هنا فإنه أظهر الأقوال في الأصول
16 - (وعن أبي موسى الأشعري ومعاذ رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهما حين بعثهما إلى اليمن يعلمان الناس أمر دينهم: "لا تأخذوا في الصدقة إلا من هذه الأصناف الأربعة الشعير والحنطة والزبيب والتمر" رواه الطبراني والحاكم والدارقطني قال البيهقي رواته ثقات وهومتصل وروى الطبراني من حديث موسى بن طلحة عن عمر(2/132)
إنما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة في هذه الأربعة فذكرها قال أبو زرعة إنه مرسل والحديث دليل على أنه لا تجب الزكاة إلا في الأربعة المذكورة لاغير وإلى ذلك ذهب الحسن البصري والحسن بن صالح والثوري والشعبي وابن سيرين وروي عن أحمد ولا يجب عندهم في الذرة ونحوها وأما حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده فذكر الأربعة وفيه زيادة الذرة رواه الدارقطني من دون ذكر الذرة وابن ماجه بذكرها فقد قال المصنف إنه حديث واه وفي الباب مراسيل فيها ذكر الذرة قال البيهقي إنه يقوي بعضها بعضا كذا قال والأظهر أنها لا تقاوم حديث الكتاب وما فيه من الحصر وقد ألحق الشافعي الذرة بالقياس على الأربعة المذكورة بجامع الاقتيات في الاختيار واحترز بالاختيار عما يقتات في المجاعات فإنها لا تجب فيه فمن كان رأيه العمل بالقياس لزمه هذا إن قام الدليل على أن العلة الاقتيات ومن لا يراه دليلا لم يقل به وذهب الهادوية إلى إنها تجب في كل ما أخرجت الأرض لعموم الأدلة نحو "فيما سقت السماء العشر" إلا الحشيش والحطب لقوله صلى الله عليه وسلم "الناس شركاء في ثلاث" وقاسوا الحطب على الحشيش قال الشارح والحديث أي حديث معاذ وأبي موسى وارد على الجميع والظاهر مع من قال به قلت لأنه حصر لا يقاومه العموم ولا القياس وبه يعرف أنه لا يقامه حديث خذ الحب من الحب الحديث أخرجه أبو داود لأنه عموم فالأوضح دليلا مع الحاضرين للوجوب في الأربعة وقال في المنار إن ما عدا الأربعة محل احتياط أخذا وتركا والذي يقوى أنه لا يؤخذ من غيرها قلت الأصل المقطوع به حرمة مال المسلم ولا يخرج عنه إلا بدليل قاطع وهذا المذكور لا يرفع ذلك الأصل وأيضا فالأصل براءة الذمه وهذان الأصلان لم يرفعهما دليل يقاومهما فليس محل الاحتياط إلا ترك الأخذ من الذرة وغيرها مما لم يأت به إلا مجرد العموم الذي قد ثبت تخصيصه
وللدارقطني عن معاذ قال فأما القثاء والبطيخ والرمان والقصب بالقاف والصاد المهملة والضاد المعجمة معا فقد عفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وإسناده ضعيف لأن في إسناده محمد بن عبد الله العزرمي بفتح العين المهملة وسكون الزاي وفتح الراء كذا في حواشي بلوغ المرام بخط السيد محمد بن إبراهيم بن المفضل رحمه الله والذي في الدراقطني من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال سئل عبد الله بن عمرو عن نبات الأرض البقل والقثاء والخيار فقال ليس في البقول زكاة فهذا الذي من رواية محمد بن عبيد الله العزرمي وأما رواية معاذ التي في الكتاب فقال المصنف في التلخيص فيها ضعف وانقطاع إلا أن معناه قد أفاده الحصر في الأربعة الأشياء المذكورة في الحديث الأول وحديث "ليس في الخضروات صدقة" أخرجه الدارقطني مرفوعا من طريق موسى بن طلحة ومعاذ وقول الترمذي لم يصح رفعه إنما هومرسل من حديث موسى بن طلحة عن النبي صلى الله عليه وسلم فموسى بن طلحة تابعي عدل يلزم من يقبل المراسيل قبول ما أرسله وقد ثبت عن علي وعمر موقوفا وله حكم الرفع والخضروات ما لا يكال ولا يقتات(2/133)
18 - (وعن سهل بن أبي حثمة ) بفتح الحاء المهملة وسكون المثلثة قال: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرصتم فجدوا ودعوا الثلث لأهل المال فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع" رواه الخمسة إلا ابن ماجه وصححه ابن حبان والحاكم وفي إسناده مجهول الحال كما قال ابن القطاع لكن قال الحاكم له شاهد متفق على صحته أن عمر أمر به كأنه أشار إلى ما أخرجه عبد الرزاق وابن أبي شبية وأبو عبيد أن عمر كان يقول للخارص دع لهم قدر ما يأكلون وقدر ما يقع وأخرج ابن عبد البر عن جابر مرفوعا "خففوا في الخرص فإن في المال العرية والوطية والآكلة" الحديث وقد اختلف في معنى الحديث على قولين أحدهما أن يترك الثلث أو الربع من العشر وثانيهما أن يترك ذلك من نفس الثمر قبل أن يعشر وقال الشافعي معناه أن يدع ثلث الزكاة أو ربعها ليفرقها هو بنفسه على أقاربه وجيرانه وقيل يدع له ولأهله قدر ما يأكلون ولا يخرص قال في الشرح والأولى الرجوع إلى ما صرحت به رواية جابر وهو التخفيف في الخرص ويترك من العشر قدر الربع أو الثلث فإن الأمور المذكورة قد لا تدرك الحصاد فلا تجب فيها الزكاة قال ابن تيمية إن الحديث جار على قواعد الشريعة ومحاسنها موافق لقوله صلى الله عليه وسلم "ليس في الخضرات صدقة" لأنه قد جرت العادة أنه لا بد لرب المال بعد كمال الصلاح أن يأكل هو وعياله ويطعموا الناس ما لا يدخر ولا يبقى فكان ما جرى العرف بإطعامه وأكله بمنزلة الحضروات التي لا تدخر يوضح ذلك بأن هذا العرف الجاري بمنزلة ما لا يمكن تركه فإنه لا بد للنفوس من الأكل من الثمار الرطبة ولا بد من الطعام بحيث يكون ترك ذلك مضرا بها وشاقاً عليها انتهى
19 –(وعن عتاب بفتح المهملة وتشديد المثناة الفوقية آخره موحدة ابن أسيد بفتح الهمزة وكسر السين المهملة وسكون المثناة التحتية قال: "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرص العنب كما يخرص النخل وتؤخذ زكاته زبيبا" رواه الخمسة وفيه انقطاع لأنه رواه سعيد بن المسيب عن عتاب وقد قال أبو داود إنه لم يسمع منه قال أبو حاتم الصحيح عن سعيد بن المسيب أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عتابا مرسل قال النوري وهو وإن كان مرسلا فهو يعتضد بقول الأئمة والحديث دليل على وجوب خرص الثمر والعنب لأن قول الرواي أمر يفهم أنه أتى صلى الله عليه وسلم بصيغة تفيد الأمر والأصل فيه الوجوب وبالوجوب قال الشافعي وقال الهادوية إنه مندوب وقال أبو حنيفة إنه محرم لأنه رجم بالغيب وأجيب عنه بأنه عمل بالظن ورد به أمر الشارع ويكفي فيه خارص واحد عدل لأن الفاسق لا يقبل خبره عارف لأن الجاهل بالشيء ليس من أهل الاجتهاد فيه لأنه صلى الله عليه وسلم كان يبعث عبد الله بن رواحة وحده يخرص على أهل خيبر ولأنه كالحاكم يجتهد ويعمل فإن أصابت الثمرة جائحة بعد الخرص فقال(2/134)
ابن عبد البر أجمع من يحفظ عنه العلم أن المخروص إذا أصابته جائحة قبل الجذاذ فلا ضمان وفائدة الخرص أمن الخيانة من رب المال ولذلك يجب عليه البينة في دعوى النقص بعد الخرص وضبط حق الفقراء على المالك ومطالبة المصدق بقدر ما خرصه وانتفاع المالك بالأكل ونحوه
واعلم أن النص ورد بخرص النخل والعنب قيل ويقاس عليه غيره مما يمكن ضبطه وإحاطة النظر به وقيل يقتصر على محل النص وهو الأقرب لعدم النص على العلة وعند الهاوية والشافعية أنه لا خرص في الزرع لتعذر ضبطه لاستتاره بالقشر وإذا ادعى المخروص عليه النقص بسبب يمكن إقامة البينة عليه وجب إقامتها وإلا صدق بيمينه وصفة الخرص أن يطوف بالشجرة ويرى جميع ثمرتها ويقول خرصها كذا وكذا رطبا ويجيء منه كذا وكذا يابسا
20 - ( وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن امرأة) هي أسماء بنت يزيد ابن السكن "أتت النبي صلى الله عليه وسلم ومعها ابنة لها وفي يد ابنتها مسكتان غليظتان" بفتح الميم وفتح السين المهملة والواحدة مسكة وهي الأسورة والخلاخيل " من ذهب فقال لها أتعطين زكاة هذا قالت لا قال أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار فألقتهما" رواه الثلاثة وإسناده قوي ورواه أبو داود من حديث حسين المعلم وهو ثقة فقول الترمذي إنه لا يعرف إلا من طريق ابن لهيعة غيرصحيح (وصححه الحاكم من حديث عائشة وحديث عائشة أخرجه الحاكم وغيره ولفظه أنها دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى في يدها فتخات من ورق فقال "ما هذا يا عائشة فقالت صغتهن لأتزين لك بهن يا رسول الله فقال أتؤدين زكاتهن قالت لا قال هن حسبك من النار" قال الحاكم إسناده على شرط الشيخين والحديث دليل على وجوب الزكاة في الحلية وظاهره أنه لا نصاب لها لأمره صلى الله عليه وسلم بتزكية هذه المذكورة ولا تكون خمس أواقي في الأغلب وفي المسألة أربعة أقوال الأول وجوب الزكاة وهو مذهب الهادوية وجماعة من السلف وأحد أقوال الشافعي عملا بهذه الأحاديث والثاني لا تجب الزكاة في الحلية وهو مذهب مالك وأحمد والشافعي في أحد أقواله لآثار وردت عن السلف قاضية بعد وجوبها في الحلية ولكن بعد صحة الحديث لا أثر للآثار والثالث أن زكاة الحلية عاريتها كما روى الدارقطني عن أنس وأسماء بنت أبي بكر الرابع أنها تجب فيها الزكاة مرة واحدة رواه البيهقي عن أنس وأظهر الأقوال دليلا وجوبها لصحة الحديث وقوته وأما نصابها فعند الموجبين نصاب النقدين وظاهر حديثها الإطلاق وكأنهم قيدوه بأحاديث النقدين ويقوي الوجوب قوله
21 - (وعن أم سلمة رضي الله عنها أنها كانت تلبس أوضاحا ) في النهاية هي نوع من الحلي يعمل من الفضة سميت بها لبياضها واحدها وضح انتهى وقوله "من ذهب" يدل على أنها تسمى إذا كانت من الذهب أوضاحا "فقالت يا رسول الله أكنز هو" أي فيدخل تحت آية - {الذين يكنزون الذهب} - قال إذا أديت زكاته فليس بكنز(2/135)
رواه أبو داود والدارقطني وصححه الحاكم فيه دليل كما في الذي قبله على وجوب زكاة الحلية وأن كل مال أخرجت زكاته ليس بكنز فلا يشمله الوعيد في الآية
22 - ( وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نعده للبيع" رواه أبو داود وإسناده لين لأنه من رواية سليمان بن سمرة وهو مجهول وأخرجه الدراقطني والبزار من حديثه أيضا والحديث دليل على وجوب الزكاة في مال التجارة واستدل للوجوب أيضا بقوله تعالى - {وأنفقوا من طيبات ما كسبتم} - قال مجاهد نزلت في التجارة وبما أخرجه الحاكم أنه صلى الله عليه وسلم قال في الإبل صدقتها وفي البقر صدقتها وفي البز صدقته والبز بالباء الموحدة والزاي المعجمة ما يبيعه البزازون وكذا ضبطه الدارقطني والبيهقي قال ابن المنذر الإجماع قائم على وجوب الزكاة في مال التجارة وممن قال بوجوبها الفقهاء السبعة قال لكن لا يكفر جاحدها للاختلاف فيها
23 - ( وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "وفي الركاز" بكسر الراء آخره زاي المال المدفون يؤخذ من غير أن يطلب بكثير عمل "الخمس" متفق عليه) للعلماء في حقيقة الركاز قولان الأول أنه المال المدفون في الأرض من كنوز الجاهلية: الثاني أنه المعادن قال مالك بالأول قال وأما المعادن فتؤخذ فيها الزكاة لأنها بمنزلة الزرع ومثله قال الشافعي وإلى الثاني ذهبت الهادوية وهو قول أبي حنيفة ويدل للأول قوله صلى الله عليه وسلم "العجماء جبار والمعدن جبار وفي الركاز الخمس" أخرجه البخاري فإنه ظاهر أنه غير المعدن وخص الشافعي المعدن بالذهب والفضة لما أخرجه البيهقي أنهم قالوا وما الركاز يا رسول الله؟ قال: "الذهب والفضة التي خلقت في الأرض يوم خلقت" إلا أنه قيل إن هذا التفسير رواية ضعيفة واعتبر النصاب الشافعي ومالك وأحمد عملا بحديث "ليس فيما دون خمس أواق صدقة" في نصاب الذهب والفضة وإلى أنه يجب ربع العشر بحديث " وفي الرقة ربع العشر " بخلاف الركاز فيجب فيه الخمس ولا يعتبر فيه النصاب ووجه الحكمة في التفرقة أن أخذ الركاز بسهولة من غير تعب بخلاف المستخرج من المعدن فإنه لا بد فيه من المشقة وذهبت الهادوية إلى أنه يجب الخمس في المعدن والركاز وأنه لا تقدير لهما بالنصاب بل يجب في القليل والكثير وإلى أنه يعم كل ما استحرج من البحر والبر من ظاهرهما أو باطنهما فيشمل الرصاص والنحاس والحديد والنفط والملح والحطب والحشيش والمتيقن بالنص الذهب والفضة وما عداهما الأصل فيه عدم الوجوب حتى يقوم الدليل وقد كانت هذه الأشياء موجودة في عصر النبوة ولا يعلم أنه أخذ فيها خمسا ولم يرد إلا حديث الركاز وهو في الأظهر في الذهب والفضة وآية - واعلموا أنما علمتم من شيء - وهي في غنائم الحرب
24 - (وعن عمروبن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(2/136)
"في كنز وجده رجل في خربة إن وجدته في قرية مسكونة فعرفه وإن وجدته في قرية غير مسكونة ففيه وفي الركاز الخمس" أخرجه ابن ماجه بإسناد حسن في قوله ففيه وفي الركاز بيان أنه قد صار ملكا لواجده وأنه يجب عليه إخراج خمسه وهذا الذي يجده في قرية لم يسمه الشارع ركازا لأنه لم يستخرجه من باطن الأرض بل ظاهره أنه وجد في ظاهر القرية وذهب الشافعي ومن تبعه إلى أنه يشترط في الركاز أمران كونه جاهليا وكونه في موات فإن وجد في شارع أو مسجد فلقطة لأن يد المسلمين عليه وقد جهل مالكه فيكون لقطة وإن وجد في ملك شخص فللشخص إن لم ينفه عن ملكه فإن نفاه عن ملكه فلمن ملكه عنه وهكذا حتى ينتهي إلى المحيي للأرض ووجه ما ذهب إليه الشافعي ما أخرجه هو عن عمرو بن شعيب بلفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم " قال في كنز وجده رجل في خربة جاهلية إن وجدته في قرية مسكونة أو طريق ميت فعرفه وإن وجدته في خربة جاهلية أو قرية غير مسكونة ففيه وفي الركاز الخمس"
25 – وعن بلال بن الحارث رضي الله عنه هو المزني وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة خمس وسكن المدينة وكان أحد من يحمل ألوية مزينة يوم الفتح روى عنه ابنه الحرث مات سنة ستين وله ثمانون سنة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ من المعدن القبلية" بفتح القاف وفتح الموحدة وكسر اللام وياء مشددة مفتوحة وهو موضع بناحية الفرع "الصدقة" رواه أبو داود وفي الموطأ عن ربيعة عن غير واحد من علمائهم أنه صلى الله عليه وسلم أقطع بلال بن الحرث المعادن القبلية وأخذ منها الزكاة دون الخمس قال الشافعي بعد أن روى حديث مالك ليس هنا مما يثبته أهل الحديث ولم يكن فيه رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا إقطاعه وأما الزكاة في المعادن دون الخمس فليست مروية عن النبي صلى الله عليه وسلم قال البيهقي هو كما قال الشافعي في رواية مالك والحديث يدل على وجوب الصدقة في المعادن ويحتمل أنه أريد بها الخمس وقد ذهب إلى الأول أحمد واسحاق وذهب غيرهم إلى الثاني وهو وجوب الخمس لقوله " وفي الركاز الخمس" وإن كان فيه احتمال كما سلف(2/137)
باب صدقة الفطر
أي الإفطار وأضيفت إليه لأنه سببها كما يدل له ما في بعض روايات البخاري زكاة الفطر من رمضان
1 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعا" نصب على التمييز أو بدل من زكاة بيان لها "من تمر أو صاعا من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة" متفق عليه الحديث دليل على وجوب صدقة(2/137)
الفطر لقوله فرض فإنه بمعنى ألزم وأوجب قال إسحاق هي واجبة بالإجماع وكأنه ما علم فيها الخلاف لداود وبعض الشافعية فإنهم قائلون إنها سنة وتأولوا فرض بأن المراد قدر ورد هذا التأويل بأنه خلاف الظاهر وأما القول بأنها كانت فرضا ثم نسخت بالزكاة لحديث قيس ابن عبادة "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة الفطر قبل أن تنزل الزكاة فلما نزلت الزكاة لم يأمرنا ولم ينهنا" فهو قول غير صحيح لأن الحديث فيه راو مجهول ولو سلم بصحته فليس فيه دليل على النسخ لأن عدم أمره لهم بصدقة الفطر ثانيا لا يشعر بأنها نسخت فإنه يكفي الأمر الأول ولا يرفعه عدم الأمر والحديث دليل على عموم وجوبها على العبيد والأحرار الذكور والإناث صغيرا وكبيرا وغنيا وفقيرا وقد أخرج البيهقي من حديث عبد الله بن أبي ثعلبة أو ثعلبة بن عبدالله مرفوعا "أدوا صاعا من قمح عن كل إنسان ذكرا أو أنثى صغيرا أو كبيرا غنيا أو فقيرا أو مملوكا أما الغني فيزكيه الله وأما الفقير فيرد الله عليه أكثر مما أعطى" قال المنذري في مختصر السنن في إسناده النعمان بن راشد لا يحتج بحديثه نعم العبد تلزم مولاه عند من يقول إنه لا يملك ومن يقول إنه يملك تلزمه وكذلك الزوجة يلزم زوجها والخادم مخدومة والقريب من تلزمه نفقته لحديث "أدوا صدقة الفطر عمن تمونون" أخرجه الدارقطني والبيهقي وإسناده ضعيف ولذلك وقع الخلاف في المسألة كما هو مبسوط في الشرح وغيره وأما الصغير فتلزم في ماله إن كان له مال كما تلزمه الزكاة في ماله وإن لم يكن له مال لزمت منفقه كما يقول الجمهور وقيل تلزم الأب مطلقا وقيل لا تجب على الصغير أصلا لأنها شرعت طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين كما يأتي وأجيب بأنه خرج على الأغلب فلا يقاومه تصرح حديث ابن عمر بإيجابها على الصغير وهو أيضا دال على أنه يجب صاع على كل إنسان من التمر والشعير ولا خلاف في ذلك وكذلك ورد صاع من زبيب وقوله في الحديث "من المسلمين" لأئمة الحديث كلام طويل في هذه الزيادة لأنه لم يتفق عليها الرواة لهذا الحديث إلا أنها على تقدير زيادة من عدل فتقبل ويدل على اشتراط الإسلام في وجوب صدقة الفطر وأنها لا تجب على الكافر عن نفسه وهذا متفق عليه وهل يخرجها المسلم عن عبده الكافر فقال الجمهور لا وقالت الحنفية وغيرهم تجب مستدلين بحديث "ليس على المسلم في عبده صدقة إلا صدقة الفطر" وأجيب بأن حديث الباب خاص والخاص يقضي به على العام فعموم قوله عبده مخصص بقوله من المسلمين وأما قول الطحاوي إن من المسلمين صفة للمخرجين لا للمخرج عنهم فإنه يأباه ظاهر الحديث فإنه فيه العبد وكذا الصغير وهم ممن يخرج عنهم فدل على أن صفة الإسلام لا تختص بالمخرجين ويؤيده حديث مسلم بلفظ "على كل نفس من المسلمين" حر أو عبد وقوله "وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة " يدل على أن المبادرة بها هي المأمور بها فلو أخرها عن الصلاة أثم وخرجت عن كونها صدقة فطر وصارت صدقة من الصدقات ويؤكد ذلك قوله
2 - ولابن عدي والدارقطني أي من حديث ابن عمر بإسناد ضعيف لأن فيه محمد بن عمر الواقدي "أغنوهم" أي الفقراء "عن الطواف" في الأزقة والأسواق لطلب المعاش "في هذا اليوم" أي يوم العيد وإغناؤهم يكون بإعطائهم صدقته أول اليوم(2/138)
3 - وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال " كنا نعطيها" أي صدقة الفطر "في زمان النبي صلى الله عليه وسلم صاعا من طعام أو صاعا من تمر أو صاعا من شعير أو صاعا من زبيب" متفق عليه وفي رواية أو صاعا من أقط بفتح الهمزة وهو لبن مجفف يابس مستحجر يطبخ به كما في النهاية لا خلاف فيما ذكر أنه يجب فيه صاع وإنما الخلاف في الحنطة فإنه أخرج ابن خزيمة عن سفيان عن ابن عمر أنه لما كان معاوية عدل الناس نصف صاع بر بصاع شعير وذلك أنه لم يأت نص في الحنطة أنه يخرج فيها صاع والقول بأن أبا سعيد أراد بالطعام الحنطة في حديثه هذا غير صحيح كما حققه المصنف في فتح الباري قال ابن المنذر لا نعلم في القمح خبرا ثابتا نعتمد عليه عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن البر في المدينة ذلك الوقت إلا الشي اليسير منه فلما كثر في زمن الصحابة رأوا أن نصف صاع منه يقوم مقام صاع من شعير وهم الأئمة فغير جائز أن يعدل عن قولهم إلا إلى قول مثلهم ولا يخفى أنه قد خالف أبو سعيد كما يفيد قوله قال الراوي قال أبو سعيد أما أنا فلا أزال أخرجه أي الصاع كما كنت أخرجه في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبي داود عن أبي سعيد لا أخرج أبدا إلا صاعا أي من أي قوت أخرج ابن خزيمة والحاكم قال أبو سعيد وقد ذكر عنده صدقة رمضان فقال لا أخرج إلا ما كنت أخرج على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من تمر أو صاعا من حنطة أو صاعا من شعير أو صاعا من أقط فقال له رجل من القوم أو مدين من قمح قال لا تلك فعل معاوية لا أقبلها ولا أعمل بها لكنه قال ابن خزيمة ذكر الحنطة في خبر أبي سعيد غير محفوظ ولا أدري ممن الوهم وقال النووي تمسك بقول معاوية من قال بالمدين من الحنطة وفيه نظر لأنه فعل صحابي وقد خالفه فيه أبو سعيد وغيره من الصحابة ممن هو أطول صحبة منه وأعلم بحال النبي صلى الله عليه وسلم وقد صرح معاوية بأنه رأي رآه لا أنه سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم كما أخرجه البيهقي في السنن من حديث أبي سعيد أنه قدم معاوية حاجا أو معتمرا فكلم الناس على المنبر فكان فيما كلم به الناس أنه قال إني أرى مدين من سمراء الشام تعدل صاعا من تمر فأخذ بذلك الناس فقال أبو سعيد أما أنا فلا أزال أخرجه الحديث المذكور في الكتاب فهذا صريح أنه رأي معاوية قال البيهقي بعد إيراد أحاديث في الباب ما لفظه وقد وردت أخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم في صاع من بر ووردت أخبار في نصف صاع ولا يصح شيء من ذلك وقد بينت علة كل واحد منها في الخلافيات انتهى
4 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث" والواقع منه في صومه "وطعمة للمساكين فمن أداها قبل الصلاة" أي صلاة العيد "فهي زكاة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات" رواه أبو داود وابن ماجه وصححه الحاكم فيه دليل على وجوبها لقوله فرض كما سلف ودليل على أن الصدقات تكفر السيئات ودليل(2/139)
على أن وقت إخراجها قبل صلاة العيد وأن وجوبها مؤقت فقيل تجب من فجر أول شوال لقوله أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم وقيل تجب من غروب آخر يوم من رمضان لقوله "طهرة للصائم" وقيل تجب بمضي الوقتين عملا بالدليلين وفي جواز تقديمها أقوال منهم من ألحقها بالزكاة فقال يجوز تقديمها ولو إلى عامين ومنهم من قال يجوز في رمضان لا قبله لأن لها سببين الصوم والإفطار فلا تتقدمهما كالنصاب والحول وقيل لا تقدم على وقت وجوبها إلا ما يغتفر كاليوم واليومين وأدلة الأقوال كما ترى وفي قوله "طعمة للمساكين" دليل على اختصاصهم بها وإليه ذهب جماعة من الآل وذهب آخرون إلى أنها كالزكاة تصرف في الثمانية الأصناف واستقواه المهدي لعموم {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ} والتنصيص على بعض الأصناف لا يلزم منه التخصيص فإنه قد وقع ذلك في الزكاة ولم يقل أحد بتخصيص مصرفها ففي حديث معاذ " أمرت أن آخذها من أغنيائكم وأردها في فقرائكم"(2/140)
باب صدقة التطوع
أي النفل
1 - عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله" فذكر الحديث في تعداد السبعة وهم "الإمام العادل وشاب نشأ في عبادة ربه ورجل قلبه معلق بالمساجد ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وافترقا عليه ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه وفيه رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه" متفق عليه قيل المراد بالظل الحماية والكنف كما يقال أنا في ظل فلان وقيل المراد ظل عرشه ويدل ما أخرجه سعيد بن منصور من حديث سلمان "سبعة يظلهم الله في ظل عرشه" وبه جزم القرطبي وقوله أخفى بلفظ الفعل الماضي حال بتقدير قد وقوله "حتى لا تعلم شماله" مبالغة في الإخفاء وتبعيد الصدقة عن مظان الرياء ويحتمل أنه على حذف مضاف أي عن شماله وفيه دليل على فضل إخفاء الصدقة على إبدائها إلا أن يعلم أن في إظهارها ترغيبا للناس في الاقتداء وأنه يحرس سره عن داعية الرياء وقد قال تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} الآية والصدقة في الحديث عامة للواجبة والنافلة فلا يظن أنها خاصة بالنافلة حيث جعله المصنف في بابها واعلم أنه لا مفهوم يعمل به في قوله " ورجل تصدق" فإن المرأة كذلك إلا في الإمامة ولا مفهوم أيضا للعدد فقد وردت خصال تقتضي الظل وأبلغها المصنف في الفتح إلى ثمان وعشرين خصلة وزاد عليها الحافظ السيوطي حتى أبلغها إلى سبعين وأفردها بالتأليف ثم لخصها في كراسة سماها بزوغ الهلال في الخصال المقتضية للظلال
2 - وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كل(2/140)
امرىء في ظل صدقته" أي يوم القيامة أعم من صدقته الواجبة والنافلة "حتى يفصل بين الناس" رواه ابن حبان والحاكم فيه حث على الصدقة وأما كونه في ظلها فيحتمل الحقيقة وأنها تأتي أعيان الصدقة فتدفع عنه حر الشمس أو المراد في كنفها وحمايتها ومن فوائد صدقة النفل أنها تكون توفية لصدقة الفرض إن وجدت في الآخرة ناقصة كما أخرجه الحاكم في الكنى من حديث ابن عمر وفيه "وانظروا في زكاة عبدي فإن كان ضيع منها شيئا فانظروا هل تجدون لعبدي نافلة من صدقة لتتموا بها ما نقص من الزكاة" فيؤخذ ذلك على فرائض الله وذلك برحمة الله وعدله
3 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيما مسلم كسا مسلما ثوبا على عرى كساه الله من خضر الجنة" أي في ثيابها الخضر " وأيما مسلم أطعم مسلما" متصفا بكونه "على جوع أطعمه الله من ثمار الجنة وأيما مسلم سقى مسلما" متصفا بكونه "على ظمأ سقاه الله من الرحيق" هو الخالص من الشراب الذي لا غش فيه "المختوم" الذي تختم أوانيه وهو عبارة عن نفاستها" رواه أبو داود وفي إسناده لين لم يبين الشارح وجهه وفي مختصر السنن للمنذري في إسناده أبو خالد يزيد بن عبد الرحمن المعروف بالدالاني وقد أثنى عليه غير واحد وتكلم فيه غير واحد وفي الحديث الحث على أنواع البر وإعطائها من هو مفتقر إليها وكون الجزاء عليها من جنس الفعل
4 - وعن حكيم بن حزام رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول وخير الصدقة ما كان عن ظهر غنى ومن يستعفف يعفه الله ومن يستغن يغنه الله" متفق عليه واللفظ للبخاري أكثر التفاسير وعليه الأكثر أن اليد العليا يد المعطي والسفلى يد السائل وقيل يد المتعفف ولو بعد أن يمد إليه المعطي وعلوها معنوي وقيل يد الآخذ لغير سؤال وقيل العليا المعطية والسفلى المانعة وقال قوم من المتصوفة اليد الآخذة أفضل من المعطية مطلقا قال ابن قتيبة ما أرى هؤلاء إلا قوما استطابوا السؤال فهم يحتجون للدناءة ونعم ما قال وقد ورد التفسير النبوي بأن اليد العليا التي تعطي ولا تأخذ أخرجه إسحاق في مسنده عن حكيم بن حزام قال "يا رسول الله ما اليد العليا فذكره" وفي الحديث دليل على البداءة بنفسه وعياله لأنهم الأهم وفيه أن أفضل الصدقة ما بقي بعد إخراجها صاحبها مستغنيا إذ معنى أفضل الصدقة ما أبقى المتصدق من ماله ما يستظهر به على حوائجه ومصالحه لأن المتصدق بجميع ماله يندم غالبا ويجب إذا احتاج أنه لم يتصدق ولفظ الظهر كما قال الخطابي يورد في مثل هذا اتساعا في الكلام وقيل غيرذلك واختلف العلماء في صدقة الرجل بجميع ماله فقال القاضي عياض إنه جوزه العلماء وأئمة الأمصار قال الطبراني ومع جوازه فالمستحب أن لا يفعله وأن يقتصر على الثلث والأولى أن يقال(2/141)
من تصدق بماله كله وكان صبورا على الفاقة ولا عيال له أو له عيال يصبرون فلا كلام في حسن ذلك ويدل له قوله تعالى {ويؤثرون على أنفسهم} الآية {ويطعمون الطعام على حبه} ومن لم يكن بهذه المثابة كره له ذلك وقوله "ومن يستعفف" أي عن المسألة "يعفه الله" أي يعنه الله على العفة "ومن يستغن " بما عنده وإن قل "يغنه الله" بإلقاء القناعة في قلبه والقنوع بما عنده
5 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قيل يا رسول الله أي الصدقة أفضل؟ قال: "جهد المقل وابدأ بمن تعول" أخرجه أحمد وأبو داود وصححه ابن خزيمة والحاكم وابن حبان الجهد بضم الجيم وسكون الهاء الوسع والطاقة وبالفتح المشقة وقيل المبالغة والغاية وقيل هما لغتان بمعنى قال في النهاية أي قدر ما يحتمله القليل من المال وهذا بمعنى حديث سبق درهم مائة ألف درهم رجل له درهمان أخذ أحدهما فتصدق به ورجل له مال كثير فأخذ من عرضه مائه ألف درهم فتصدق بها أخرجه النسائي من حديث أبي ذر وأخرجه ابن حبان والحاكم من حديث أبي هريرة ووجه الجمع بين هذا الحديث والذي قبله ما قاله البيهقي ولفظه والجمع بين قوله صلى الله عليه وسلم: "خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى" وقوله: " أفضل الصدقة جهد المقل" أنه يختلف باختلاف أحوال الناس في الصبر على الفاقة والشدة والاكتفاء بأقل الكفاية وساق أحاديث تدل على ذلك
6 - وعنه أي أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تصدقوا" فقال رجل يا رسول الله عندي دينار قال: "تصدق به على نفسك" قال عندي آخر قال: "تصدق به على ولدك" قال عندي آخر قال: "تصدق به على خادمك" قال عندي آخر قال: "أنت أبصر به" رواه أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم ولم يذكر في هذا الحديث الزوجة وقد وردت في صحيح مسلم مقدمة على الولد وفيه أن النفقة على النفس صدقة وأنه يبدأ بها ثم على الزوجة ثم على الولد ثم على العبد إن كان أو مطلق من يخدمه ثم حيث شاء ويأتي في النفقات تحقيق النفقة على من تجب له أولا فأولا
7 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة" كأن المراد غير مسرفة في الإنفاق "كان لها أجرها بما أنفقت ولزوجها أجره بما اكتسب وللخادم مثل ذلك لا ينقص بعضهم أجر بعض شيئا" متفق فيه دليل جواز تصدق المرأة من بيت زوجها والمراد إنفاقها من الطعام الذي لها فيه تصرف بصفته للزوج ومن يتعلق به شرط أن يكون ذلك بغير إضرار وأن لا يخل بنفقتهم قال ابن العربي قد اختلف السلف في ذلك فمنهم من أجازه في الشيء اليسير الذي لا يؤبه له ولا يظهر به النقصان ومنهم من حمله على ما إذا أذن الزوج ولو بطريق الإجمال وهو اختيار البخاري ويدل له ما أخرجه(2/142)
الترمذي عن أبي أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تنفق المرأة من بيت زوجها إلا بإذنه" قال يا رسول الله ولا الطعام قال: "ذلك أفضل أموالنا" إلا أنه قد عارضه ما أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة بلفظ "إذا أنفقت المرأة من كسب زوجها من غير أمره فلها نصف أجره" ولعله يقال في الجمع بينهما إن إنفاقها مع إذنه تستحق الأجر كاملا ومع عدم الإذن نصف الأجر وأن النهي عن إنفاقها من غير إذنه إذا عرفت منه الفقر أو البخل فلا يحل لها الإنفاق إلا بإذنه بخلاف ما إذا عرفت منه خلاف ذلك جاز لها الإنفاق من غير إذنه ولها نصف أجره ومنهم من قال المراد بنفقة المرأة والعبد والخادم النفقة على عيال صاحب المال في مصالحه وهو بعيد من لفظ الحديث ومنهم من فرق بين المرأة والخادم فقال المرأة لها حق في مال الزوج والتصرف في بيته فجاز لها أن تتصدق بخلاف الخادم فليس له تصرف في مال مولاه فيشترط الإذن فيه ويرد عليه أن المرأة ليس لها التصرف إلا في القدر الذي تستحقه وإذا تصدقت منه اختصت بأجره ثم ظاهره أنهم سواء في الأجر ويحتمل أن المراد بالمثل حصول الأجر في الجملة وإن كان أجر المكتسب أوفر إلا في حديث أبي هريرة "ولها نصف أجره" فهو يشعر بالمساواة
8 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال جاءت زينب امرأة ابن مسعود فقالت يا رسول الله إنك أمرت اليوم بالصدقة وكان عندي حلي لي فأردت أن أتصدق به فزعم ابن مسعود أنه وولده أحق من أن أتصدقت به عليهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم "صدق ابن مسعود زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم" رواه البخاري فيه دلالة على أن الصدقة على من كان أقرب من المتصدق أفضل وأولى والحديث ظاهر في صدقة الواجب ويحتمل أن المراد بها التطوع والأول أوضح ويؤيده ما أخرجه البخاري عن زينب امرأة ابن مسعود أنها قالت يا رسول الله أيجزي عنا أن نجعل الصدقة في زوج فقير وأبناء أخ أيتام في حجورنا؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لك أجر الصدقة وأجر الصلة" وأخرجه أيضا مسلم وهو أوضح في صدقة الواجب لقولها أيجزي ولقوله "صدقة وصلة" إذا الصدقة عند الإطلاق تتبادر في الواجبة وبهذا جزم المازني وهو دليل على جواز صرف زكاة المرأة في زوجها وهو قول الجمهور وفيه خلاف لأبي حنيفة ولا دليل له يقاوم النص المذكور ومن استدل له بأنها تعود إليها بالنفقة فكأنها ما خرجت عنها فقد أورد عليه أنه يلزمه منع صرفها صدقة التطوع في زوجها مع أنها يجوز صرفها فيه اتفاقا وأما الزوج فاتفقوا على أنه لا تجوز له صرف صدقة واجبة في زوجته قالوا لأن نفقتها واجبة عليه فتستغني بها عن الزكاة قاله المصنف في الفتح وعندي في هذا الأخير توقف لأن غنى المرأة بوجوب النفقة عل زوجها لا يصيرها غنية فلهذا الذي يمنع من حل الزكاة لهاوفي قوله وولده ما يدل على إجزائها في الولد إلا أنه ادعى ابن المنذر الإجماع على عدم جواز صرفها إلى الولد وحملوا الحديث على أنه في غير الواجبة أو أن الصرف إلى الزوج وهو المنفق على الأولاد أو أن الأولاد للزوج ولم يكونوا منها كما يشعر به ما وقع في رواية أخرى على زوجها وأيتام في حجرها ولعلهم أولاد زوجها سموا أيتاما باعتبار اليتم من الأم(2/143)
9 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما يزال الرجل والمرأة يسأل الناس أموالهم حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة" بضم الميم وسكون الزاى فعين مهملة "لحم" متفق عليه الحديث دليل على قبح كثرة السؤال وأن كل مسألة تذهب من وجهه قطعة لحم حتى لا يبقى فيه شيء لقوله لا يزال ولفظ الناس عام مخصوص بالسلطان كما يأتي والحديث مطلق في قبح السؤال مطلقا وقيده البخاري بمن يسأل تكثرا كما يأتي يعني من سأل وهو غني فإنه ترجم له بباب من سأل الناس تكثرا لا من سأل لحاجة فإنه يباح له ذلك ويأتي قريبا بيان الغني الذي يمنع من السؤال قال الخطابي: معنى قوله "وليس في وجهه مزعة لحم" يحتمل أن يكون المراد به يأتي ساقطا لا قدر له ولا جاه أو يعذب في وجهه حتى يسقط لحمه عقوبة له في موضع الجناية لكونه أذل وجهه بالسؤال أو أنه يبعث ووجهه عظم ليكون ذلك شعاره الذي يعرف به ويؤيد الأول ما أخرجه الطبراني والبزار من حديث مسعود بن عمرو "لا يزال العبد يسأل وهو غني حتى يخلق وجهه فلا يكون له عند الله وجه" وفيه أقوال أخر
10 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سأل الناس أموالهم تكثرا فإنما يسأل جمرا فليستقل أو ليستكثر" رواه مسلم قال ابن العربي إن قوله "فإنما يسأل جمرا" معناه أنه يعاقب بالنار ويحتمل أن يكون حقيقة أي أنه يصير ما يأخذه جمرا يكوى به كما في مانع الزكاة وقوله فليستقل أمر للتهكم ومثله ما عطف عليه أو للتهديد من باب اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ وهو مشعر بتحريم السؤال للاستكثار
11 - وعن الزبير بن العوام رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة من الحطب على ظهره فيبيعها فيكف بها" أي بقيمتها "وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه" رواه البخاري الحديث دل على ما دل ما قبله عليه من قبح السؤال مع الحاجة وزاد بالحث على الاكتساب ولو أدخل على نفسه المشقة وذلك لما يدخل السائل على نفسه من ذل السؤال وذلة الرد إن لم يعطه المسؤول ولما يدخل على المسؤول من الضيق في ماله أن أعطى كل من يسأل وللشافعية وجهان في سؤال من له قدرة على التكسب أصحهما أنه حرام لظاهر الأحاديث الثاني أ. مكروه بثلاثة شروط: أنه لايذل نفسه ولا يلح في السؤال ولا يؤذي المسؤل، فأن فقد أحدهما فهو حرام بالاتفاق.
12 - وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله عليه وسلم: "المسألة كد يكد بها الرجل وجهه ألا أن يسأل الرجل سلطانا أو في أمر(2/144)
لا بد منه" رواه الترمذي وصححه أي سؤال الرجل أموال الناس كد أي خدش وهو الأثر وفي رواية كدوح بضم الكافى وأما سؤاله من السلطان فإنه لامذمة فيه لأنه إنما يسأل مما هو حق له في بيت المال ولا منة للسلطان على السائل لأنه وكيل فهو كسؤال الإنسان وكيله أن يعطيه من حقه الذي لديه وظاهره أنه وإن سأل السلطان تكثرا فإنه لا بأس فيه ولا إثم لأنه جعله قسيما للأمر الذي لا بد منه وقد فسر الأمر الذي لا بد منه حديث قبيصة وفيه لا يحل السؤال إلا لثلاثة ذي فقر مدقع أو دم موجع أو غرم مفظع الحديث وقوله "أو في أمر لا بد منه" أي لا يتم له حصوله مع ضرورته إلا بسؤال ويأتي حديث قبيصة قريبا وهو مبين ومفسر الأمر الذي لا بد منه(2/145)
باب قسمة الصدقات
أي قسمة الله الصدقات بين مصارفها
1 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة لعامل عليها أو رجل اشتراها بماله أو غارم أو غاز في سبيل الله أو مسكين تصدق عليه منها فأهدى منها لغني" رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه وصححه الحاكم وأعل بالإرسال ظاهره إعلال ما أخرجه المذكورون جميعا وفي الشرح أن التي أعلت بالإرسال رواية الحاكم التي حكم بصحتها وقوله لغني قد اختلفت الأقوال في حد الغنى الذي يحرم به قبض الصدقة على أقوال وليس عليها ما تسكن له النفس من الاستدلال لأن المبحث ليس لغويا حتى يرجع فيه إلى تفسير لغة ولأنه في اللغة أمر نسبي لا يتعين في قدر ووردت أحاديث معينة لقدر الغنى الذي يحرم به السؤال كحديث أبي سعيد ثم النسائي "من سأل وله أوقية فقد ألحف" وعند أبي داود من سأل منكم وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافا وأخرج أيضا من سؤل وله ما يغنيه فإنما يستكثر من النار قالوا وما يغنيه قال قدر ما يعشيه ويغديه صححه ابن حبان فهذا قدر الغنى الذي يحرم معه السؤال وأما الغنى الذي يحرم معه قبض الزكاة فالظاهر أنه من تجب عليه الزكاة وهو من يملك مائتي درهم لقوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن آخذها من أغنيائكم وأردها في فقرائكم" فقابل بين الغنى وأفاد أنه من تجب عليه الصدقة وبين الفقير وأخبر أنه من ترد فيه الصدقة هذا أقرب ما يقال فيه وقد بيناه في رسالة جواب سؤال وأفاد حديث الباب حلها للعامل عليها وإن كان غنيا لأنه يأخذ أجره على عمله لا لفقره وكذلك من اشتراها بماله فإنها قد وافقت مصرفها وصارت ملكا له فإذا باعها فقد باع ما ليس بزكاة حين البيع بل هو ملك له وكذلك الغارم تحل له وإن كان غنياوكذلك الغازي يحل له أن يتجهز من الزكاة وإن كان غنيا لأنه ساع في سبيل الله قال الشارح ويلحق به من كان قائما بمصلحة عامة من مصالح المسلمين كالقضاء والإفتاء والتدريس وإن(2/145)
كان غنيا وأدخل أبو عبيد من كان في مصلحة عامة في العاملين وأشار إليه البخاري حيث قال باب رزق الحاكم والعاملين عليها وأراد بالرزق ما يرزقه الإمام من بيت المال لمن يقوم بمصالح المسلمين كالقضاء والفتيا والتدريس فله الأخذ من الزكاة فيما يقوم به مدة القيام بالمصلحة وإن كان غنيا قال الطبري إنه ذهب الجمهور إلى جواز أخذ القاضي الأجرة على الحكم لأنه يشغله الحكم عن القيام بمصالحه غير أن طائفة من السلف كرهوا ذلك ولم يحرموه وقالت طائفة أخذ الرزق على القضاء إن كانت جهة الأخذ من الحلال كان جائزا إجماعا ومن تركه فإنما تركه تورعا وأما إذا كانت هناك شبهة فالأولى الترك ويحرم إذا كان المال يؤخذ لبيت المال من غير وجهه واختلف إذا كان الغالب حراما وأما الأخذ من المتحاكمين ففي جوازه خلاف ومن جوزه فقد شرط له شرائط ويأتي ذكر ذلك في باب القضاء وإنما لما تعرض له الشارح هنا تعرضنا له
2 - وعن عبد الله بن عدي بن الخيار رضي الله عنه بكسر الخاء المعجمة فمثناه تحتية آخره راء وعبد الله يقال إنه ولد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يعد في التابعين روى عن عمر وعثمان وغيرهما أن رجلين حدثاه أنهما أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألانه من الصدقة فقلب فيهما النظر فسرت ذلك الرواية الأخرى بلفظ فرفع فينا النظر وخفضه فرآهما جلدين فقال "إن شئتما أعطيتكما ولاحظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب" رواه أحمد وقواه أبو داود والنسائي قال أحمد بن حنبل ما أجوده من حديث وقوله "إن شئتما" أي إن أخذ الصدقة ذلة فإن رضيتما بها أعطيتكما أو أنها حرام على الجلد فإن شئتما تناول الحرام أعطيتكما قاله توبيخا وتغليظا والحديث من أدلة تحريم الصدقة على الغني وهو تصريح بمفهوم الآية وإن اختلف في تحقيق فلهذا كما سلف وعلى القوي المكتسب لأن حرفته صيرته في حكم الغني ومن أجاز له تأول الحديث بما لا يقبل
3 - وعن قبيصة بفتح القاف فموحدة مكسورة فمثناه تحتية فصاد مهملة ابن مخارق بضم الميم فخاء معجمة فراء مكسورة بعد الألف فقاف الهلالي وفد على النبي صلى الله عليه وسلم عداده في أهل البصرة روى عنه ابنه قطن وغيره قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة رجل" بالكسر بدلا من ثلاثة ويصح رفعه بتقدير أحدهم "تحمل حمالة" بفتح الحاء المهملة وهو المال يتحمله الإنسان عن غيره "فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك ورجل أصابته جائحة" أي آفة "اجتاحت" أي أهلكت "ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواما" بكسر القاف ما يقوم بحاجته وسد خلته "من عيش ورجل أصابته فاقة" أي حاجة "حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجى" بكسر المهملة والجيم مقصور العقل "من قومه" لأنهم أخبر بحاله يقولون أو قائلين "لقد أصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواما" بكسر القاف "من عيش فما سواهن(2/146)
من المسألة يا قبيصة سحت" بضم السين المهملة "يأكلها" أي الصدقة أنت لأنه جعل السحت عبارة عنها وإلا فالضمير له "سحتا" السحت الحرام الذي لا يحل كسبه لأنه يسحت البركة أي يذهبها رواه مسلم وأبو داود وابن خزيمة وابن حبان الحديث دليل على أنها تحرم المسألة إلا لثلاثة الأول لمن تحمل حمالة وذلك أن يتحمل الإنسان عن غيره دينا أو دية أو يصالح بمال بين طائفتين فإنها تحل له المسألة وظاهره وإن كان غنيا فإنه لا يلزمه تسليمه من ماله وهذا هو أحد الخمسة الذين يحل لهم أخذ الصدقة وإن كانوا أغنياء كما سلف في حديث أبي سعيد والثاني من أصاب ماله آفة سماوية أو أرضية كالبرد والغرق ونحوه بحيث لم يبق له ما يقوم بعيشه حلت له المسألة حتى يحصل له ما يقوم بحاله ويسد خلته والثالث من أصابته فاقه ولكن لا تحل له المسألة إلا بشرط أن يشهد له من أهل بلده لأنهم أخبر بحاله ثلاثة من ذوي العقول لا من غلب عليه الغباوة والتغفيل وإلى كونهم ثلاثة ذهبت الشافعية للنص فقالوا لا يقبل في الإعسار أقل من ثلاثة وذهب غيرهم إلى كفاية الاثنين قياسا على سائر الشهادات وحملوا الحديث على الندب ثم هذا محمول على من كان معروفا بالغنى ثم افتقر أما إذا لم يكن كذلك فإنه يحل له السؤال وإن لم يشهدوا له بالفاقة يقبل قوله وقد ذهب إلى تحريم السؤال ابن أبي ليلى وأنها تسقط به العدالة والظاهر من الأحاديث تحريم السؤال إلا للثلاثة المذكورين أو أن يكون المسؤول السلطان كما سلف
4 - وعن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث رضي الله عنه ابن عبد المطلب ابن هاشم سكن المدينة ثم تحول منها إلى دمشق ومات بها سنة اثنتين وستين وكان قد أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب منه أن يجعله عاملا على بعض الزكاة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث وفيه قصة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد إنما هي أوساخ الناس" هو بيان لعلة التحريم وفي رواية أي لمسلم عن عبد المطلب "وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد" رواه مسلم فأفاد أن لفظ لاينبغي أراد به لا تحل فيفيد التحريم أيضا وليس لعبد المطلب المذكور في الكتب الستة غير هذا الحديث وهو دليل على تحريم الزكاة على محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله فأما عليه صلى الله عليه وسلم فإنه إجماع وكذا ادعى الإجماع على حرمتها على آله أبو طالب وابن قدامة ونقل الجواز عن أبي حنيفة وقيل إن منعوا خمس الخمس والتحريم هو الذي دلت عليه الأحاديث ومن قال بخلافها قال متأولا لها ولا وجه للتأويل وإنما يجب التأويل إذا قام على الحاجة إليه ذليل والتعليل بأنها أوساخ الناس قاض بتحريم الصدقة الواجبة عليهم لا النافلة لإنها هي التي يطهر بها من يخرجها كما قال تعالى - خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها - إلا أن الآية نزلت في صدقة النفل كما هو معروف في كتب التفسير وقد ذهبت طائفة إلى تحريم صدقة النفل أيضا على الآل واخترناه في حواشي ضوء النهار لعموم الأدلة فيه أنه صلى الله عليه وسلم كرم آله عن أن يكونوا محلا للغسالة وشرفهم عنها وهذه العلة المنصوصة(2/147)
وقد ورد التعليل عند أبي نعيم مرفوعا بأن لهم في خمس الخمس ما يكفيهم ويغنيهم فهما علتان منصوصتان ولا يلزم من منعهم عن الخمس أن تحل لهم فإن من منع الإنسان عن ماله وحقه لا يكون منعه له محللا ما حرم عليه وقد بسطنا القول في رسالة مستقلة وفي المراد بالآل خلاف والأقرب ما فسرهم به الراوي وهو زيد بن أرقم بأنهم آل العباس وآل علي وآل جعفر وآل عقيل انتهى قلت ويزيد آل الحارث بن عبد المطلب لهذا الحديث فهذا تفسير الراوي وهو مقدم على تفسير غيره فالرجوع إليه تفسير آل محمد هنا هو الظاهر لأن لفظ الآل مشترك وتفسير راويه دليل على المراد من معانيه فهؤلاء الذين فسرهم به زيد بن أرقم وهو في صحيح مسلم وإنما تفسيرهم هنا ببني هاشم اللازم منه دخول من أسلم من أولاد أبي لهب ونحوهم فهو تفسير بخلاف تفسير الراوى وكذلك يدخل في تحريم الزكاة عليهم بنو المطلب بن عبد مناف كما يدخلون معهم في قسمة الخمس كما يفيد الحديث بعده وهو قوله
5 - وعن جبير بضم الجيم وفتح الباء الموحدة وسكون الياء التحتية ابن مطعم بضم الميم وسكون الطاء وكسر العين المهملة بن نوفل بن عبد مناف القرشي أسلم قبل الفتح ونزل المدينة ومات بها سنة أربع وخمسين وقيل غير ذلك قال مشيت أنا وعثمان بن عفان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا يا رسول الله أعطيت بني المطلب من خمس خيبر وتركتنا ونحن وهم بمنزلة واحدة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما بنو المطلب وبنو هاشم" المراد ببني هاشم آل علي آل جعفر وآل عقيل وآل العباس وآل الحارث ولم يدخل آل أبي لهب في ذلك لأنه لم يسلم منهم في عصره صلى الله عليه وسلم أحد وقيل بل أسلم منهم عتبة ومعتب ابنا أبي لهب وثبتا معه صلى الله عليه وسلم في خيبر "شيء واحد" رواه البخاري الحديث دليل على أن بني المطلب يشاركون بني هاشم في سهم ذوي القربي وتحريم الزكاة أيضا دون من عداهم وإن كانوا في النسب سواء وعلله صلى الله عليه وسلم باستمرارهم على الموالاة كما في لفظ آخر تعليله "بأنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام" فصاروا كالشيء الواحد في الأحكام وهو دليل واضح في ذلك وذهب إليه الشافعي وخالفه الجمهور وقالوا إنه صلى الله عليه وسلم أعطاهم على جهة التفضل لا الاستحقاق وهو خلاف الظاهر بل قوله شيء واحد دليل على أنهم يشاركونهم في استحقاق الخمس وتحريم الزكاة واعلم أن بني المطلب هم أولاد المطلب بن عبد مناف وجبير بن مطعم من أولاد نوفل بن عبد مناف وعثمان من أولاد عبد شمس بن عبد مناف فبنو المطلب وبنو عبد شمس وبنو نوفل أولاد عم في درجة واحدة طاعة فلذا قال عثمان وجبير بن مطعم للنبي صلى الله عليه وسلم إنهم وبني المطلب بمنزلة واحدة لأن الكل أبناء عم
6 - وعن أبي رافع هو أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل اسمه إبراهيم وقيل هرمز وقيل كان للعباس فوهبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أسلم العباس بشر أبو رافع رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامه فأعتقه مات في خلافة علي(2/148)
كما قاله ابن عبد البر "أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلا على الصدقة" أي على قبضها "من بنى مخزوم" اسمه الأرقم "فقال لأبي رافع اصحبني فإنك تصيب منها فقال لا حتى آتي النبي صلى الله عليه وسلم فأسأله فأتاه فسأله فقال: "مولى القوم من أنفسهم وإنها لا تحل لنا الصدقة" رواه أحمد والثلاثة وابن خزيمة وابن حبان الحديث دليل على أن حكم مولى آل محمد صلى الله عليه وسلم حكمهم في تحريم الصدقة قال ابن عبد البر في التمهيد لأنه لا خلاف بين المسلمين في عدم حل الصدقة للنبي صلى الله عليه وسلم ولبني هاشم ولمواليهم انتهى وذهبت جماعة إلى عدم تحريمها عليهم لعدم المشاركة في النسب ولأنه ليس لهم في الخمس سهم وأجيب بأن النص لا تقدم عليه هذه العلل فهي مردودة فإنها ترفع النص قال ابن عبد البر هذا خلاف الثابت من النص ثم هذا نص على تحريم العمالة على الموالي وبالأولى على آل محمد صلى الله عليه وسلم لأنه أراد الرجل الذي عرض على أبي رافع أن يوليه على بعض عمله الذي ولاه النبي صلى الله عليه وسلم فينال عمالة لا أنه أراد أن يعطيه من أجرته فإنه جائز لأبي رافع أخذه إذ هو داخل تحت الخمسة الذين تحل لهم لأنه قد ملك ذلك الرجل أجرته فيعطيه من ملكه فهو حلال لأبي رافع فهو نظير قوله فيما سلف "ورجل تصدق عليه منها فأهدى منها"
7 - وعن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعطي عمر العطاء فيقول أعطه أفقر مني فيقول خذه فتموله أو تصدق به وما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف" بالشين المعجمة والراء والفاء من الإشراف وهو التعرض للشيء والحرص عليه " ولا سائل فخده وما لا فلا تتبعه نفسك" أي لا تعلقها بطلبه رواه مسلم الحديث أفاد أن العامل ينبغي له أن يأخذ العمالة ولا يردها فإن الحديث في العمالة كما صرح به في رواية مسلم والأكثر على أن الأمر في قوله فخذه للندب وقيل للوجوب قيل وهو مندوب في كل عطية يعطاها الإنسان فإنه يندب له قبولها بالشرطين المذكورين في الحديث هذا إذا كان المال الذي يعطيه منه حلالا وأما عطية السلطان الجائر وغيره ممن ماله حلال وحرام فقال ابن المنذر إن أخذها جائز مرخص فيه قال وحجة ذلك أنه تعالى قال في اليهود {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} وقد رهن صلى الله عليه وسلم درعه من يهودي مع علمه بذلك وكذا أخذ الجزية منهم مع علمه بذلك وإن كثيرا من أموالهم من ثمن الخنزير والمعاملات الباطلة انتهى. وفي الجامع الكافي إن عطية السلطان الجائر لا ترد لأنه إن علم أن ذلك عين مال المسلم وجب قبولها وتسليمه إلى مالكه وإن كان ملتبسا فهو مظلمة يصرفها على مستحقها وإن كان ذلك عين مال الجائز فيه تقليل لباطله وأخذ ما يستعين بإنفاقه على معصيته وهو كلام حسن جار على قواعد الشريعة إلا أنه يشترط في ذلك أن يأمن القابض على نفسه من محبة المحسن الذي جبلت النفوس على حب من أحسن إليها وأن لا يوهم الغير أن السلطان على الحق حيث قبض ما أعطاه وقد بسطنا في حواشي ضوء النهار في كتاب البيع ما هو أوسع من هذا(2/149)
كتاب الصيام
كتاب الصيام
...
كتاب الصيام
الصيام لغة: الإمساك وفي الشرع إمساك مخصوص وهو الإمساك عن الأكل والشرب والجماع وغيرها مما ورد به الشرع في النهار على الوجه المشروع ويتبع ذاك الإمساك عن اللغو والرفث وغيرهما من الكلام المحرم والمكروه لورود الأحاديث بالنهي عنها في الصوم زياده على غيره في وقت مخصوص بشروط مخصوصة تفصلها الأحاديث الآتية وكان مبدأ فرضه في السنة الثانية من الهجرة
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقدموا رمضان" فيه دليل على إطلاق هذا اللفظ على شهر رمضان وحديث أبي هريرة ثم أحمد وغيره مرفوعا "لا تقولوا جاء رمضان فإن رمضان اسم من أسماء الله ولكن قولوا جاء شهر رمضان" حديث ضعيف لا يقاوم ما ثبت في الصحيح "بصوم يوم ولا يومين إلا رجل" كذا في نسخ بلوغ المرام ولفظه في البخاري "إلا أن يكون رجل" قال المصنف يكون تامة أي يوجد رجل ولفظ مسلم إلا رجلا قلت وهو قياس العربية لأنه استثناء متصل من مذكور "كان يصوم صوما فليصمه" متفق عليه الحديث دليل على تحريم صوم يوم أو يومين قبل رمضان قال الترمذي بعد رواية الحديث: والعمل على هذا ثم أهل العلم كرهوا أن يتعجل الرجل الصيام قبل دخول رمضان لمعنى رمضان انتهى وقوله لمعنى رمضان تقييد للنهي بأنه مشروط بكون الصوم احتياطا إلا لو كان الصوم صوما مطلقا كالنفل المطلق والنذر ونحوه قلت ولا يخفى أنه بعد هذا التقييد يلزم منه جواز تقدم رمضان بأي صوم كان وهو خلاف ظاهر النهي فإنه عام لم يستثن منه إلا صوم من اعتاد صوم أيام معلومة ووافق ذلك آخر يوم من شعبان ولو أراد صلى الله عليه وسلم الصوم المقيد بما ذكر لقال إلا متنفلا أو نحو هذا اللفظ وإنما نهى عن تقديم رمضان لأن الشارع قد علق الدخول في صوم رمضان برؤية هلاله فالمتقدم عليه مخالف للنص أمرا ونهيا وفيه إبطال لما يفعله الباطنية من تقدم الصوم بيوم أو يومين قبل رؤية هلال رمضان وزعمهم أن اللام في قوله "صوموا لرؤيته" في معنى مستقبلين لها وذلك لأن الحديث يفيد أن اللام لا يصح حملها على هذا المعنى وإن وردت له في موضع وذهب بعض العلماء إلى أن النهي عن الصوم من بعد النصف الأول من يوم سادس عشر من شعبان لحديث أبي هريرة مرفوعا إذا انتصف شعبان فلا تصوموا أخرجه أصحاب السنن وغيرهم وقيل إنه يكره بعد الانتصاف ويحرم قبل رمضان بيوم أو يومين وقال آخرون يجوز من بعد انتصافه ويحرم قبله بيوم أو يومين أما جواز الأول فلأنه الأصل وحديث أبي هريرة ضعيف قال أحمد وابن معين إنه منكروأما تحريم الثاني فلحديث الكتاب وهو قول حسن
2 - وعن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: "من صام اليوم الذي يشك" مغير الصيغة مسند إلى فيه "فقد عصى أبا القاسم" ذكره البخاري تعليقا ووصله إلى عمار وزاد المصنف(2/150)
في الفتح الحاكم وأنهم وصلوه من طريق عمرو بن قيس عن أبي آسحاق ولفظه عندهم كنا ثم عمار بن ياسر فأتي بشاة مصلية فقال كلوا فتنحى بعض القوم فقال إني صائم فقال عمار من صام ألخ الخمسة وصححه ابن خزيمة وابن حبان قال وابن عبد البر هو مسند عندهم لا يختلفون في ذلك انتهى وهو موقوف لفظا تزوجها حكما ومعناه مستفاد من أحاديث النهي عن استقبال رمضان بصوم وأحاديث الأمر بالصوم لرؤيته.
واعلم أن يوم الشك هو يوم الثلاثين من شعبان إذا لم ير الهلال في ليلة بغيم ساتر أو نحوه فيجوز كونه من رمضان وكونه من شعبان.والحديث وما في معناه يدل على تحريم صومه وإليه ذهب الشافعي واختلف الصحابة في ذلك منهم من قال يجواز صومه و منهم من منع منه وعده عصيانا لأبي القاسم والأدلة مع المحرمين وأما ما أخرجه الشافعي عن فاطمة بنت الحسين أن عليا عليه السلام قال لأن أصوم يوما من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوما من رمضان فهو أثر منقطع على أنه ليس في يوم شك مجرد بل بعد أن شهد عنده رجل على رؤية الهلال فصام وأمر الناس بالصيام وقال لأن أصوم إلخ ومما هو نص في الباب حديث ابن عباس "فإن حال بينكم وبينه سحاب فأكملوا العدة ثلاثين ولا تستقبلوا الشهر استقبالا" أخرجه أحمد وأصحاب السنن وابن خزيمة وأبو يعلى وأخرجه الطيالسي بلفظ "ولا تستقبلوا رمضان بيوم من شعبان" وأخرجه الدارقطني وصححه ابن خزيمة في صحيحه ولأبي داود من حديث عائشة "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحفظ من شعبان ما لا يتحفظ من غيره يصوم لرؤية الهلال" أي هلال رمضان فإن غم عليه عد ثلاثين يوما ثم صام وأخرج أبو داود من حديث حذيفة مرفوعا "لا تقدموا الشهر حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة ثم صوموا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة" وفي الباب أحاديث واسعة دالة على تحريم صوم يوم الشك من ذلك قوله:
3 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا رأيتموه" أي الهلال "فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم: بضم الغين المعجمة وتشديد الميم أي حال بينكم وبينه غيم: علكيم فاقدروا له" متفق عليه الحديث دليل على وجوب صوم رمضان لرؤية هلاله وإفطار أول يوم من شوال لرؤية الهلال وظاهره اشتراط رؤية الجميع له من المخاطبين لكن قام الإجماع على عدم وجوب ذلك بل المراد ما يثبت به الحكم الشرعي من إخبار الواحد العدل أو الاثنين على خلاف في ذلك فمعنى إذا رأيتموه أي إذا وجدت فيما بينكم الرؤية فيدل هذا على أن رؤية بلد رؤية لجميع أهل البلاد فيلزم الحكم وقيل لا يعتبر لأن قوله إذا رأيتموه خطاب لأناس مخصوصين به وفي المسألة أقوال ليس على أحدها دليل ناهض والأقرب لزوم أهل بلد الرؤية وما يتصل بها من الجهات التي على سمتهاوفي قوله لرؤيته دليل على أن الواحد إذا انفرد برؤية الهلال لزمه الصوم والإفطار وهو قول أئمة الآل وأئمة المذاهب الأربعة في الصوم واختلفوا في الإفطار فقال الشافعي يفطر ويخفيه وقال الأكثر يستمر صائما احتياطا كذا قاله في الشرح ولكنه تقدم له في أول باب صلاة العيدين أنه لم يقل(2/151)
بأنه يترك يقين نفسه ويتابع حكم الناس إلا محمد بن الحسن الشيباني وأن الجمهور يقولون إنه يتعين عليه حكم نفسه فيما يتيقنه فناقض هنا ما سلف وسبب الخلاف قول ابن عباس لكريب إنه لا يعتد برؤية الهلال وهو بالشام بل يوافق أهل المدينة فيصوم الحادي والثلاثين باعتبار رؤية الشام لأنه يوم الثلاثين عند أهل المدينة وقال ابن عباس إن ذلك من السنة وتقدم الحديث وليس بنص فيما احتجوا به لاحتماله كما تقدم فالحق أنه يعمل بيقين نفسه صوما وإفطارا ويحسن التكتم بهما صونا للعباد عن إثمهم بإساءة الظن به ولمسلم أي عن ابن عمر "فإن أغمي عليك فاقدروا له ثلاثين" وللبخاري أي عن ابن عمر فأكملوا العدة ثلاثين قوله فاقدروا له هو أمر همزته همزة وصل وتكسر الدال وتضم وقيل الضم خطأ وفسر المراد به قوله "فاقدروا له ثلاثين وأكملوا العدة ثلاثين" والمعنى أفطروا يوم الثلاثين واحسبوا تمام الشهر وهذا أحسن تفاسيره وفيه تفاسير أخر نقلها الشارح خارجة عن ظاهر المراد من الحديث قال ابن بطال: في الحديث دفع لمراعاة المنجمين وإنما المعول عليه رؤية الأهلة وقد نهينا عن التكلف وقد قال الباجي في الرد على من قال إنه يجوز للحاسب والمنجم وغيرهما الصوم والإفطار اعتمادا على النجوم إن إجماع السلف حجة عليهم وقال ابن بزيزة: هو مذهب باطل قد نهت الشريعة عن الخوض في علم النجوم لأنها حدس وتخمين ليس فيها قطع قال الشارح قلت والجواب الواضح عليهم ما أخرجه البخاري عن ابن عمر أنه صلى صلى الله عليه وسلم قال: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا يعني تسعا وعشرين مرة وثلاثين مرة"
4 - وله أي البخاري في حديث أبو هريرة "فأكملوا عدة شعبان ثلاثين" وهو تصريح بمفاد الأمر بالصوم لرؤيته في رواية "فإن غم فأكملوا العدة" أي عدة شعبان وهذه الأحاديث نصوص في أنه لا صوم ولا إفطار إلا بالرؤية للهلال أو إكمال العدة
5 - وعن ابن عمررضي الله عنهما قال " تراءى الناس الهلال فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أني رأيته فصام وأمر الناس بصيامه" رواه أبو داود وصححه والحاكم ابن حبان الحديث دليل على العمل بخبر الواحد في الصوم دخولا فيه وهو مذهب طائفة من أئمة العلم ويشترط فيه العدالة وذهب آخرون إلى أنه لا بد من الاثنين لأنها شهادة واستدلوا بخبر رواه النسائي عن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أنه قال جالست أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألتهم وحدثوني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما إلا أن يشهد شاهدان" فدل بمفهومه أنه لا يكفي الواحد وأجيب عنه بأنه مفهوم والمنطوق الذي أفاده حديث ابن عمر وحديث الأعرابي الآتي أقوى منه ويدل على قبول خبر الواحد فيقبل بخبر المرأة والعبدوأما الخروج منه فالظاهر أن الصوم والإفطارمستويان في كفاية خبر الواحد وأما حديث ابن عباس وابن عمر "أنه صلى الله عليه وسلم أجاز خبر واحد على هلال رمضان وكان لا يجيزشهادة الإفطار إلا بشهادة رجلين" فإنه ضعفه الدارقطني وقال تفرد به حفص بن عمر الأيلي وهو ضعيف ويدل لقبول خبر الواحد في الصوم دخولا أيضا قوله(2/152)
6 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن أعرابيا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت الهلال فقال: "أتشهد أن لا إله إلا الله؟" قال: نعم قال: "أتشهد أن محمدا رسول الله؟" قال: نعم قال: "فأذن في الناس يا بلال أن يصوموا غدا" رواه الخمسة وصححه ابن خزيمة وابن حبان ورجح النسائي إرساله فيه دليل كالذي قبله على قبول خبر الواحد في الصوم ودلالة على أن الأصل في المسلمين العدالة إذا لم يطلب صلى الله عليه وسلم من الإعرابي إلا الشهادةوفيه أن الأمر في الهلال جار مجرى الإخبار لا الشهادة وإنه يكفي في الإيمان الإقرار بالشهادتين ولا يلزم التبري من سائر الأديان
7 - وعن حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له" رواه الخمسة ومال الترمذي والنسائي إلى ترجيح وقفه على حفصة وصححه مرفوعا ابن خزيمة وابن حبان وللدارقطني أي عن حفصة "لا صيام لمن لم يفرضه من الليل" الحديث اختلف الأئمة في رفعه ووقفه وقال أبو محمد بن حزم الاختلاف فيه يزيد الخبر قوة لأن من رواه مرفوعا قد رواه موقوفا وقد أخرجه الطبراني من طريق أخرى وقال رجالها ثقات وهو يدل على أنه لا يصح الصيام إلا بتبييت النية وهو أن ينوي الصيام في أي جزء من الليل وأول وقتها الغروب وذلك لأن الصوم عمل والأعمال بالنيات وأجزاء النهار غير منفصلة من الليل بفاصل يتحقق فلا يتحقق إلا إذا كانت النية واقعة في جزء من الليل وتشترط النية لكل يوم على انفراده وهذا مشهور من مذهب أحمد وله قول أنه إذا نوى من أول الشهر تجزئة وقوى هذا القول ابن عقيل بأنه صلى الله عليه وسلم قال: "لكل امريء ما نوى" وهذا قد نوى جميع الشهر ولأن رمضان بمنزلة العبادة الواحدة لأن الفطر في لياليه عبادة أيضا يستعان بها على صوم نهاره وأطال في الاستدلال على هذا بما يدل على قوته والحديث عام للفرض والنفل والقضاء والنذر معينا مطلقا وفيه خلاف وتفاصيل واستدل من قال بعدم وجوب التبييت بحديث البخاري "أنه صلى الله عليه وسلم بعث رجلا ينادي في الناس يوم عاشوراء أن من أكل فليتم أو فليصم ومن لم يأكل فلا يأكل" قالوا وقد كان واجبا ثم نسخ واجبا بصوم رمضان ونسخ وجوبه لا يرفع سائر الأحكام فقيس عليه رمضان وما في حكمه من النذر المعين والتطوع فخص عموم فلا صيام له بالقياس وبحديث عائشة الآتي فإنه دل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يصوم تطوعا من غير تبييت النية وأجيب بأن صوم عاشوراء غير مساو لصوم رمضان حتى يقاس عليه فإنه صلى الله عليه وسلم ألزم الإمساك لمن أكل ولمن لم يأكل فعلم أنه أمر خاص ولأنه إنما أجزأ عاشوراء بغير تبييت لتعذره فيقاس عليه ما سواه كمن نام حتى أصبح على أنه لا يلزم من تمام الإمساك ووجوبه أنه صوم مجزيء وأما حديث عائشة وهو
8 - وعن عائشة رضي الله عنه قالت دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم يوم فقال: "هل عندكم شيء" قلنا: لا قال: "فإني إذا صائم" ثم أتانا يوما آخر(2/153)
فقلت أهدي لنا حيس" بفتح الحاء المهملة فمثناة تحتية فسين مهملة هو التمر مع السمن والأقط فقال: "أرينيه فلقد أصبحت صائما فأكل" رواه مسلم فالجواب عنه أنه أعم من أن يكون بيت الصوم أولا فيحمل على التبييت لأن المحتمل يرد إلى العام ونحوه على أن في بعض روايات حديثها إني أصبحت صائما والحاصل أن الأصل عموم حديث التبييت وعدم الفرق بين الفرض والنفل والقضاء والنذر ولم يقم ما يرفع هذين الأصلين فتعين البقاء عليهما
9 - وعن سهل بن سعد رضي الله عنه هو أن العباس سهل بن سعد بن مالك أنصاري خزرجي يقال كان اسمه حزنا فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم سهلا مات النبي صلى الله عليه وسلم وله خمس عشرة سنة ومات سهل بالمدينة سنة إحدى وتسعين وقيل ثمان وثمانين وهو آخر من مات من الصحابة بالمدينة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر" متفق عليه زاد أحمد "وأخروا السحور" زاد أبو داود " لأن اليهود والنصارى يؤخرون الإفطار إلى اشتباك النجوم" قال في شرح المصابيح ثم صار في ملتنا شعارا لأهل البدعة وسمة لهم والحديث دليل على استحباب تعجيل الإفطار إذا تحقق غروب الشمس بالرؤية أو بأخبار من يجوز العمل بقوله وقد ذكر العلة وهي مخالفة اليهود والنصارى قال المهلب والحكمة في ذلك أنه لا يزاد في النهار من الليل ولأنه أرفق بالصائم وأقوى له على العبادة قال الشافعي تعجيل الإفطار مستحب ولا يكره تأخيره إلا لمن تعمده ورأى الفضل فيه قلت في إباحته صلى الله عليه وسلم المواصلة إلى السحر كما في حديث أبي سعيد ما يدل على أنه لا كراهة إذا كان ذلك سياسة للنفس ودفعا لشهوتها إلا أن قوله
10 - وللترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله عز وجل: أحب عبادي إلي أعجلهم فطرا" دال على أن تعجيل الإفطار أحب إلى الله تعالى من تأخيره وأن إباحة المواصلة إلى السحر لا تكون أفضل من تعجيل الإفطار أو يراد بعبادي الذي يفطرون ولا يواصلون إلى السحر وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه خارج عن عموم الحديث لتصريحه صلى الله عليه وسلم بأنه ليس مثلهم كما يأتي فهو أحب الصائمين إلى الله تعالى وإن لم يكن أعجلهم فطرا لأنه قد أذن له في الوصال ولو أياما متصلة كما يأتي
11 - وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تسحروا فإن في السحور" بفتح المهملة اسم لما يتسحر به وروي بالضم على أنه مصدر "بركة" متفق عليه زاد أحمد من حديث أبي سعيد "فلا تدعوه ولو أن يتجرع أحدكم جرعة من ماء فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين" وظاهر الأمر وجوب التسحر ولكنه صرفه عنه إلى الندب ما ثبت من مواصلته صلى الله عليه وسلم ومواصلة أصحابه ويأتي الكلام في حكم(2/154)
الوصال ونقل ابن المنذر الإجماع على أن التسحر مندوب والبركة المشار إليها فيه اتباع السنة ومخالفة أهل الكتاب لحديث مسلم مرفوعا "فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر" والتقوي به على العبادة وزيادة النشاط والتسبب للصدقة على من سأل وقت السحر
12 - وعن سليمان بن عامر الضبي رضي الله عنه قال ابن عبد البر في الاستيعاب إنه ليس من الصحابة ضبي غير سليمان بن عامر المذكور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر فإن لم يجد فليفطر على ماء فإنه طهور" رواه الخمسة وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم والحديث قد روي من حديث عمران بن حصين وفيه ضعف ومن حديث أنس رواه الترمذي والحاكم وصححه ورواه أيضا الترمذي والنسائي وغيرهم من حديث أنس من فعله صلى الله عليه وسلم قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر على رطبات قبل أن يصلي فإن لم يكن فعلى تمرات فإن لم يكن حسا حسوات من الماء" وورد في عدد التمر أنها ثلاث وفي الباب روايات في معنى ما ذكرناه ودل على أن الإفطار بما ذكر هو السنة قال ابن القيم وهذا من كمال شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته ونصحهم فإن إعطاء الطبيعة الشي الحلو مع خلو المعدة أدعى إلى قبوله وانتفاع القوى به لا سيما القوة الباصرة فإنها تقوى به وأما الماء فإن الكبد يحصل لها بالصوم نوع يبس فإن رطبت بالماء كمل انتفاعها بالغذاء بعده هذا مع ما في التمر والماء من الخاصية التي لها تأثير في صلاح القلب لا يعلمها إلا أطباء القلوب
13 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال" هو ترك الفطر بالنهار وفي ليالي رمضان بالقصد فقال رجل من المسلمين قال المصنف لم أقف على اسمه فإنك تواصل يا رسول الله فقال: "وأيكم مثلي إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني" فلما أبو أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يوما ثم يوما ثم رأوا الهلال فقال: "لو تأخر الهلال لزدتكم كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا" متفق عليه الحديث عند الشيخين من حديث أبي هريرة وابن عمر وعائشة وأنس وتفرد مسلم بإخراجه عن أبي سعيد وهو دليل على تحريم الوصال لأنه الأصل في النهي وقد أبيح الوصال إلى السحر لحديث أبي سعيد فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر وفي حديث أبي سعيد هذا دليل على أن إمساك بعض الليل مواصلة وهو يرد على من قال إن الليل ليس محلا للصوم فلا ينعقد بنيته وفي الحديث دلالة على أن الوصال من خصائصه صلى الله عليه وسلم وقد اختلف في حق غيره فقيل التحريم مطلقا وقيل محرم في حق من يشق عليه ويباح لمن لا يشق عليه الأول رأى الأكثر للنهي وأصله التحريم واستدل من قال إنه لا يحرم بأنه صلى الله عليه وسلم واصل بهم ولو كان النهي للتحريم لما أقرهم عليه فهو قرينة أنه للكراهة رحمة لهم وتخفيفا عنهم ولأنه أخرج أبو داود عن رجل من الصحابة نهى(2/155)
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحجامة والمواصلة ولم يحرمهما إبقاء على أصحابه إسناده صحيح وإبقاء متعلق بقوله نهى وروى البزار والطبراني في الأوسط من حديث سمرة نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال وليس بالعزيمة ويدل له أيضا مواصلة الصحابة فروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح أن ابن الزبير كان يواصل خمسة عشر يوما وذكر ذلك عن جماعة غيره فلو فهموا التحريم لما فعلوه ويدل للجواز أيضا ما أخرجه ابن السكن مرفوعا "ان الله لم يكتب الصيام بالليل فمن شاء فليتبعني ولا أجر له" قالوا والتعليل بأنه من فعل النصارى لا يقتضي التحريم واعتذر الجمهور عن مواصلته صلى الله عليه وسلم بالصحابة بأن ذلك كان تقريعا لهم وتنكيلا بهم واحتمل جواز ذلك لأجل مصلحة النهي في تأكيد زجرهم لأنهم إذا باشروه ظهرت لهم حكمة النهي وكان ذلك أدعى إلى قبوله لما يترتب عليه من الملل في العبادة والتقصير فيما هو أهم منه وأرجح من وظائف العبادات والأقرب من الأقوال هو التفصيل وقوله صلى الله عليه وسلم "وأيكم مثلي" استفهام إنكار وتوبيخ أي أيكم على صفتي ومنزلتي من ربي واختلف في قوله يطعمني ويسقيني فقيل هو على حقيقته كان يطعم ويسقى من عند الله وتعقب بأنه لو كان كذلك لم يكن مواصلا وأجيب عنه بأنه ما كان من طعام الجنة على جهة التكريم فإنه لا ينافي التكليف ولا يكون له حكم طعام الدنيا وقال ابن القيم: المراد ما يغذيه الله من معارفه وما يفيضه على قلبه من لذة مناجاته وقرة عينه بقربه وتنعمه بحبه والشوق إليه وتوابع ذلك من الأحوال التي هي غذاء القلوب وتنعيم الأرواح وقرة العين وبهجة النفوس وللقلب والروح بها أعظم غذاء وأجوده وأنفعه وقد يقوي هذا الغذاء حتى يغني عن غذاء الأجسام برهة من الزمان كما قيل:
لها أحاديث من ذكراك تشغلها ... عن الشراب وتلهيها عن الزاد
لها بوجهك نور يستضاء به ... ومن حديثك في أعقابها حادي
ومن له أدنى معرفة أو تشوق يعلم استغناء الجسم بغذاء القلب والروح عن كثير من الغذاء الحيواني ولا سيما المسرور الفرحان الظافر بمطلوبه الذي قرت عينه بمحبوبه وتنعم بقربه والرضا عنه وساق هذا المعنى واختار هذا الوجه في الإطعام والإسقاء وأما الوصال إلى السحر فقد أذن صلى الله عليه وسلم فيه كما في حديث البخاري عن أبي سعيد أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تواصلوا فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر" وأما حديث عمر في الصحيحين مرفوعا "إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم" فإنه لا ينافي الوصال لأن المراد بأفطر دخل في وقت الإفطار لا أنه صار مفطرا حقيقة كما قيل لأنه لو صار مفطرا حقيقة لما ورد الحث على تعجيل الإفطار ولا النهي عن الوصال ولا استقام الإذن بالوصال إلى السحر
14 - وعنه أي أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يدع قول الزور" أي الكذب "والعمل به والجهل" أي السفه "فليس لله حاجة" أي إرادة "في أن يدع طعامه و شرابه" رواه البخاري وأبو داود واللفظ له(2/156)
الحديث دليل على تحريم الكذب والعمل به وتحريم السفه على الصائم وهما محرمان على غير الصائم أيضا إلا أن التحريم في حقه آكد كتأكد تحريم الزنا من الشيخ والخيلاء من الفقير والمراد من قوله "فليس لله حاجة" أي إرادة بيان عظم ارتكاب ما ذكر وأن صيامه كلا صيام ولا معنى لاعتبار المفهوم هنا فإن الله لا يحتاج إلى أحد وهو الغني سبحانه ذكره ابن بطال وقيل هو كناية عن عدم القبول كما يقول المغضب لمن رد شيئا عليه لا حاجة لي في كذا وقيل إن معناه أن ثواب الصيام لا يقاوم في حكم الموازنة ما يستحق من العقاب لما ذكر هذا وقد ورد في الحديث الآخر "فإن شاتمه أحد أو سابه فليقل إني صائم" فلا تشتم مبتدئا ولا مجاوبا
15 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل وهو صائم ويباشر" المباشرة الملامسة وقد ترد بمعنى الوطء في الفرج وليس بمراد هنا "وهو صائم ولكنه كان أملككم لإربه" بكسر الهمزة وسكون الراء فموحدة وهو حاجة النفس ووطرها وقال المصنف في التلخيص معناه لعضوه متفق عليه واللفظ لمسلم وزاد أي مسلم في رواية في رمضان قال العلماء: معنى الحديث أنه ينبغي لكم الاحتراز من القبلة ولا تتوهموا أنكم مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم في استباحتها لأنه يملك نفسه ويأمن من وقوع القبلة أن يتولد عنها إنزال أو شهوة أو هيجان نفس أو نحو ذلك وأنتم لا تأمنون ذلك فطريقكم كف النفس على ذلك وأخرج النسائي من طريق الأسود" قلت لعائشة أيباشر الصائم قالت: لا قلت: أليس رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يباشر وهو صائم قالت: إنه كان أملككم لإربه" وظاهر هذا أنها اعتقدت أن ذلك خاص به صلى الله عليه وسلم قال القرطبي: وهو اجتهاد منها وقيل: الظاهر أنها ترى كراهة القبلة لغيره صلى الله عليه وسلم كراهة تنزيه لا تحريم كما يدل له قولها أملككم لإربه وفي كتاب الصيام لأبي يوسف القاضي من طريق حماد بن سلمة سئلت عائشة عن المباشرة للصائم فكرهتها وظاهر حديث الباب جواز القبلة والمباشرة للصائم لدليل التأسي به صلى الله عليه وسلم ولأنها ذكرت عائشة الحديث جوابا عمن سأل عن القبلة وهو صائم وجوابها قاض بالإباحة مستدلة بما كان يفعله صلى الله عليه وسلم وفي المسألة أقوال الأول: للمالكية أنه مكروه مطلقا الثاني: أنه محرم مستدلين بقوله تعالى: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ} فإنه منع المباشرة في النهار وأجيب بأن المراد بها في الآية الجماع وقد بين ذلك فعله صلى الله عليه وسلم كما أفاده حديث الباب وقال قوم: إنها تحرم القبلة وقالوا إن من قبل بطل صومه الثالث: أنه مباح وبالغ بعض الظاهرية فقال إنه مستحب الرابع: التفصيل فقالوا: يكره للشاب ويباح للشيخ ويروى عن ابن عباس ودليله ما أخرجه أبو داود أنه أتاه صلى الله عليه وسلم رجل فسأله عن المباشرة للصائم فرخص له وأتاه آخر فسأله فنهاه فإذا الذي رخص له شيخ والذي نهاه شاب الخامس: إن مالك نفسه جاز له وإلا فلا وهو مروي عن الشافعي واستدل له بحديث عمر بن أبي سلمة لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته أمه أم سلمة "أنه صلى الله عليه وسلم يصنع ذلك فقال يا رسول الله: قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر(2/157)
فقال: "إني أخشاكم لله" فدل على أنه لا فرق بين الشاب والشيخ وإلا لبينه صلى الله عليه وسلم لعمر لا سيما وعمر كان في ابتداء تكليفه وقد ظهر مما عرفت أن الإباحة أقوى الأقوال ويدل لذلك ما أخرجه أحمد وأبو داود من حديث عمر بن الخطاب قال: "هششت يوما فقبلت وأنا صائم فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: صنعت اليوم أمرا عظيما فقبلت وأنا صائم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرأيت لو تمضمضت بماء وأنت صائم" قلت لا بأس بذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ففيم" انتهى قوله: "هششت" بفتح الهاء وكسر الشين المعجمة بعدها شين معجمة ساكنة معناه ارتحت وخففت واختلفوا أيضا فيما إذا قبل أو نظر أو باشر فأنزل أو أمذى فعن الشافعي وغيره أنه يقضي إذا أنزل في غير النظر ولا قضاء في الإمذاء وقال مالك يقضي في كل ذلك ويكفر إلا في الإمذاء فيقضي فقط وثمة خلافات أخر الأظهر أنه لا قضاء ولا كفارة إلا على من جامع وإلحاق غير الجامع به بعيد
(تنبيه) قولها: (وهو صائم) لا يدل أنه قبلها وهي صائمة وقد أخرج ابن حبان في صحيحه عن عائشة كان يقبل بعض نسائه في الفريضة والتطوع ثم ساق بإسناده أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يمس وجهها وهي صائمة وقال ليس بين الخبرين تضاد لأنه كان يملك إربه ونبه بفعله ذلك على جواز هذا الفعل لمن هو بمثل حاله وترك استعماله إذا كانت المرأة صائمة علما منه بما ركب في النساء من الضعف عند الأشياء التي ترد عليهن انتهى
16 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم واحتجم وهو صائم" رواه البخاري قيل: ظاهره أنه وقع منه الأمران المذكوران مفترقين وأنه احتجم وهو صائم واحتجم وهو محرم ولكنه لم يقع ذلك في وقت واحد لأنه لم يكن صائما في إحرامه إذا أريد إحرامه وهو في حجة الوداع إذ ليس في رمضان ولا كان محرما في سفره في رمضان عام الفتح ولا في شيء من عمره التي اعتمرها وإن احتمل أنه صام نفلا إلا أنه لم يعرف ذلك وفي الحديث روايات وقال أحمد: إن أصحاب ابن عباس لا يذكرون صياما وقال أبو حاتم: أخطأ فيه شريك إنما هو احتجم وأعطى الحجام أجرته وشريك حدث به من حفظه وقد ساء حفظه فعلى هذا الثابت إنما هو الحجامة والحديث يحتمل أنه إخبار عن كل جملة على حدة وأن المراد احتجم وهو محرم في وقت واحتجم وهو صائم في وقت آخر والقرينة على هذا معرفة أنه لم يتفق له اجتماع الإحرام والصيام وأما تغليط شريك وانتقاده على ذلك اللفظ فأمر بعيد والحمل على صحة لفظ روايته مع تأويلها أولى وقد اختلف فيمن احتجم وهو صائم فذهب إلى أنها لا تفطر الصائم الأكثر من الأئمة وقالوا إن هذا ناسخ لحديث شداد بن أوس وهو
17 - وعن شداد بن أوس "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى على رجل بالبقيع وهو يحتجم في رمضان فقال: "أفطر الحاجم والمحجوم" رواه الخمسة إلا الترمذي وصححة أحمد وابن خزيمة وابن حبان الحديث قد صححه البخاري وغيره وأخرجه الأئمة عن ستة عشر من(2/158)
الصحابة وقال السيوطي في الجامع الصغير: إنه متواتر وهو دليل على أن الحجامة تفطر الصائم من حاجم ومحجوم له وقد ذهبت طائفة قليلة إلى ذلك منهم أحمد بن حنبل وأتباعه لحديث شداد وذهب آخرون إلى أنه يفطر المحجوم له وأما الحاجم فإنه لا يفطر عملا بالحديث هذا في الطرف الأول فلا أدري ما الذي أوجب العمل ببعضه دون بعض وأما الجمهور القائلون أنه لا يفطر حاجم ولا محجوم له فأجابوا عن حديث شداد هذا بأنه منسوخ لأن حديث ابن عباس متأخر لأنه صحب النبي صلى الله عليه وسلم عام حجه وهو سنة عشر وشداد صحبه عام الفتح كذا حكي عن الشافعي قال: وتوقي الحجامة احتياطا أحب إلي ويؤيد النسخ ما في حديث أنس في قصة جعفر بن أبي طالب وقد أخرج الحازمي من حديث أبي سعيد مثله قال أبو محمد بن حزم: إن حديث "أفطر الحاجم والمحجوم" ثابت بلا ريب لكن وجدنا في حديث أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الحجامة للصائم وعن المواصلة ولم يحرمهما إبقاء على أصحابه إسناده صحيح وقد أخرج ابن أبي شيبة ما يؤيد حديث أبي سعيد أنه صلى الله عليه وسلم رخص في الحجامة للصائم والرخصة إنما تكون بعد العزيمة فدل على النسخ سواء كان حاجما أو محجوما وقيل إنه يدل على الكراهة ويدل لها حديث أنس الآتي وقيل إنما قاله صلى الله عليه وسلم في خاص وهو أنه مر بهما وهما يغتابان الناس رواه الوحاظي عن يزيد بن ربيعة عن أبي الأشعث الصنعاني أنه قال إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفطر الحاجم والمحجوم" له لأنهما كانا يغتابان الناس وقال ابن خزيمة في هذا التأويل: إنه أعجوبة لأن القائل به لا يقول إن الغيبة تفطر الصائم وقال أحمد: ومن سلم من الغيبة لوكانت الغيبة تفطر ما كان لنا صوم وقد وجه الشافعي هذا القول وحمل الشافعي الإفطار بالغيبة على سقوط أجر الصوم ومثله قوله صلى الله عليه وسلم للمتكلم والخطيب يخطب: "لا جمعة له" ولم يأمره بالإعادة فدل على أنه أراد سقوط الأجر وحينئذ فلا وجه لجعله أعجوبة كما قال ابن خزيمة وقال البغوي: المراد بإفطارهما تعرضهما للإفطار أما الحاجم فلأنه لا يأمن وصول شيء من الدم إلى جوفه عند المص وأما المحجوم فلأنه لا يأمن ضعف قوته بخروج الدم فيؤول إلى الإفطار قال ابن تيمية في رد هذا التأويل: إن قوله صلى الله عليه وسلم "أفطر الحاجم والمحجوم" له نص في حصول الفطر لهما فلا يجوز أن يعتقد بقاء صومهما والنبي صلى الله عليه وسلم مخبر عنهما بالفطر لا سيما وقد أطلق هذا القول إطلاقا من غير أن يقرنه بقرينة تدل على أن ظاهره غير مراد فلو جاز أن يريد مقاربة الفطر دون حقيقته لكان ذلك تلبيسا لا تبيينا للحكم انتهى قلت ولا ريب في أن هذا هو الذي دل عليه قوله
18 - وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "أول ما كرهت الحجامة للصائم أن جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم فمر به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أفطر هذان" ثم رخص النبي صلى الله عليه وسلم بعد في الحجامة للصائم وكان أنس يحتجم وهو صائم"(2/159)
رواه الدارقطني وقواه قال إن رجاله ثقات ولا تعلم له علة وتقدم أنه من أدلة النسخ لحديث شداد
19 - وعن عائشة رضي الله عنها "أن النبي صلى الله عليه وسلم اكتحل في رمضان وهو صائم" رواه ابن ماجه بإسناد ضعيف وقال الترمذي لا يصح في هذا الباب شيء ثم قال واختلف أهل العلم في الكحل للصائم فكرهه بعضهم وهو قول سفيان وابن المبارك وأحمد وإسحاق ورخص بعض أهل العلم في الكحل للصائم وهو قول الشافعي انتهى وخالف ابن شبرمة وابن أبي ليلى فقالا إنه يفطر لقوله صلى الله عليه وسلم الفطر مما دخل وليس مما خرج وإذا وجد طعمه فقد دخل وأجيب عنه بأنا لا نسلم كونه داخلا لأن العين ليست بمنفذ وإنما يصل من المسام فإن الإنسان قد يدلك قدميه بالحنظل فيجد طعمه في فيه ولا يفطر وحديث الفطر مما دخل علقه البخاري عن ابن عباس ووصله عنه ابن أبي شيبة وأما ما أخرجه أبو داود عنه صلى الله عليه وسلم قال في الإثمد: "ليتقه الصائم" فقال أبو داود قال لي يحيى بن معين هو منكر
20 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه" وفي رواية الترمذي "فإنما هو رزق ساقه الله إليه" متفق عليه وللحاكم أي من حديث أبي هريرة من أفطر في رمضان ناسيا فلا قضاء عليه ولا كفارة" وهو صحيح وورد في لفظ "من أفطر" يعم الجماع وإنما خص الأكل والشرب لكونهما الغالب في النسيان كما قاله ابن دقيق العيد والحديث دليل على أن من أكل أو شرب أو جامع ناسيا لصومه فإنه لا يفطره ذلك لدلالة قوله فليتم صومه على أنه صائم حقيقة وهذا قول الجمهور وزيد بن علي والباقر وأحمد بن عيسى والإمام يحيى والفريقين وذهب غيرهم إلى أنه يفطر قالوا لأن الإمساك عن المفطرات ركن الصوم فحكمه حكم من نسي ركنا من الصلاة فإنه تجب عليه الإعادة وإن كان ناسيا وتأولوا قوله فليتم صومه بأن المراد فليتم إمساكه عن المفطرات وأجيب بأن قوله فلا قضاء عليه ولا كفارة صريح في صحة صومه وعدم قضائه له وقد أخرج الدارقطني إسقاط القضاء في رواية أبي رافع وسعيد المقبري والوليد بن عبد الرحمن وعطاء بن يسار كلهم عن أبي هريرة وأفتى به جماعة من الصحابة منهم علي عليه السلام وزيد بن ثابت وأبو هريرة وابن عمر كما قاله ابن المنذر وابن حزم وفي سقوط القضاء أحاديث يشد بعضها بعضا ويتم الاحتجاج بها وأما القياس على الصلاة فهو قياس فاسد الاعتبار لأنه في مقابلة النص على أنه منازع في الأصل وقد أخرج أحمد عن مولاة لبعض الصحابية"أنها كانت عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتي بقصعة من ثريد فأكلت منها ثم تذكرت أنها صائمة فقال لها ذو اليدين الآن بعد ما شبعت فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "أتمي صومك فإنما هو رزق ساقه الله إليك" وروى عبد الرزاق أن إنسانا جاء إلى أبي هريرة فقال له أصبحت(2/160)
صائما وطعمت فقال لا بأس قال ثم دخلت على إنسان فنسيت فطعمت قال أبو هريرة: أنت إنسان لم تتعود الصيام
21 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ذرعه القيء" بالذال المعجمة والراء فتكون المهملتين أي سبقه وغلبه في الخروج "فلا قضاء عليه ومن استقاء" أي طلب القيء باختياره "فعليه القضاء" رواه الخمسة وأعله أحمد بأنه غلط وقواه الدارقطني وقال البخاري لا آراه محفوظا وقد روي من غير وجه ولا يصح إسناده وأنكره أحمد وقال: ليس من ذا بشيء قال الخطابي: يريد أنه غير محفوظ قد يقال صحيح على شرطهما والحديث دليل على أنه لا يفطر بالقيء الغالب لقوله فلا قضاء عليه إذ عدم القضاء فرع الصحة وعلى أنه يفطر من طلب القيء واستجلبه وظاهره وإن لم يخرج له قيء لأمره بالقضاء ونقل ابن المنذر الإجماع على أن تعمد القيء يفطر قلت ولكنه روي عن ابن عباس ومالك وربيعة والهادي أن القيء لا يفطر مطلقا إلا إذا رجع منه شيء فإنه يفطر وحجتهم ما أخرجه الترمذي والبيهقي بإسناد ضعيف ثلاث لا يفطرن القيء والحجامة والاحتلام ويجاب عنه بحمله على من ذرعه القيء جمعا بين الأدلة وحملا للعام علي الخاص على أن العام غير صحيح والخاص أرجح منه سندا فالعمل به أولى وإن عارضته البراءة الأصلية
22 - وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان" سنة ثمان من الهجرة قال ابن إسحاق وغيره: إنه خرج يوم العاشر منه " فصام حتى بلغ كراع الغميم" بضم الكاف فراء آخره مهملة والغميم بمعجمة مفتوحة وهو واد أمام عسفان "فصام الناس ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه ثم شرب ليعلم الناس بإفطاره ثم قيل له بعد ذلك إن بعض الناس قد صام فقال: "أولئك العصاة" وفي لفظ فقيل: إن الناس قد شق عليهم الصيام وإنما ينتظرون فيما فعلت بقدح من ماء بعد العصر فشرب" رواه مسلم الحديث دليل على أن المسافر له أن يصوم وله أن يفطر وأن له الإفطار وإن صام أكثر النهار وخالف في الطرف الأول داود والإمامية فقالوا لا يجزيء الصوم لقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وبقوله: "أولئك العصاة" قوله: "ليس من البر الصيام في السفر" وخالفهم الجماهير فقالوا يجزئه صومه لفعله صلى الله عليه وسلم والآية لا دليل فيها على عدم الإجزاء وقوله: "أولئك العصاة" إنما هو لمخالفتهم لأمره بالإفطار وقد تعين عليهم وفيه أنه ليس في الحديث أنه أمرهم وإنما يتم على أن فعله يقتضي الوجوب وأما الحديث "ليس من البر" فإنما قاله صلى الله عليه وآله وسلم فيمن شق عليه الصيام نعم يتم الاستدلال بتحريم الصوم في السفر على من شق عليه فإنه إنما أفطر صلى الله عليه وآله وسلم لقولهم إنهم قد شق عليهم الصيام والذين صاموا بعد ذلك وصفهم بأنهم عصاة وأما جواز الإفطار إن صام أكثر النهار فذهب أيضا إلى(2/161)
جوازه الجماهير وعلق الشافعي القول به على صحة الحديث وهذا إذا نوى الصيام في السفر فأما إذا دخل فيه وهو مقيم ثم سافر في أثناء يومه فذهب الجمهور إلى أنه ليس له الإفطار وأجازه أحمد وإسحاق وغيرهم والظاهر معهم لأنه مسافروأما الأفضل فذهبت الهادوية وأبو حنفية والشافعي إلى أن الصوم أفضل للمسافر حيث لا مشقة عليه ولا ضرر فإن تضرر فالفطر أفضل وقال أحمد وإسحاق وآخرون الفطر أفضل مطلقا بالأحاديث التي احتج بها من قال لا يجزىء الصوم قالوا وتلك الأحاديث وإن دلت على المنع لكن حديث حمزة بن عمرو الآتي وقوله ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه وأفاد بنفيه الجناح أنه لا بأس به لا أنه محرم ولا أفضل واحتج من قال بأن الصوم الأفضل أنه كان غالب فعله صلى الله عليه وسلم في أسفاره ولا يخفى أنه لا بد من الدليل على الأكثرية وتأولوا أحاديث المنع بأنه لمن شق عليه الصوم وقال آخرون الصوم والإفطار سواء لتعادل الأحاديث في ذلك وهو ظاهر حديث أنس سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم وظاهره التسوية
23 - وعن حمزة بن عمرو الأسلمي رضي الله عنه هو أبو صالح أو محمد حمزة بالحاء المهملة وزاي يعد في أهل الحجاز روى عنه ابنه محمد وعائشة مات سنة إحدى وستين وله ثمانون سنة أنه قال يا رسول الله أجد فيّ قوة على الصيام في السفر فهل علىّ جناح فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هي رخصة من الله فمن أخذ بها فحسن ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه" رواه مسلم وأصله في المتفق عليه من حديث عائشة أن حمزة بن عمرو سأل وفي لفظ مسلم إني رجل أسرد الصوم أفأصوم في السفر قال صم إن شئت وأفطر إن شئت ففي هذا اللفظ دلالة على أنهما سواء وتقدم الكلام في ذلك وقد استدل بالحديث من يرى أنه لا يكره صوم الدهر وذلك أنه أخبر أنه يسرد الصوم فأقره ولم ينكر عليه وهو في السفر ففي الحضر بالأولى وذلك إذا كان لا يضعف به عن واجب ولا يفوت بسبه عليه حق وبشرط فطره العيدين والتشريق وأما إنكاره صلى الله عليه وسلم على ابن عمرو صوم الدهر فلا يعارض هذا إلا أنه علم صلى الله عليه وسلم أنه سيضعف عنه وهكذا كان فإنه ضعف آخر عمره وكان يقول يا ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان صلى الله عليه وسلم يحب العمل الدائم وإن قل ويحثهم عليه
24 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال رخص للشيخ الكبير أن يفطر ويطعم عن كل يوم مسكينا ولا قضاء عليه رواه الدراقطني والحاكم وصححاه اعلم أنه اختلف الناس في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} والمشهور أنها منسوخة وأنه كان أول فرض الصيام أن من شاء أطعم مسكينا وأفطر ومن شاء صام ثم نسخت بقوله تعالى - وأن تصوموا خير لكم – وقيل بقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وقال قوم هي غير منسوخة منهم ابن عباس كما هنا وروي عنه أنه كان يقرؤها {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِوِقُونَهُ} أي يكلفونه ويقول ليست بمنسوخة هي الشيخ الكبير والمرأة الهرمة وهذا هو الذي أخرجه(2/162)
عنه من ذكره المصنف وفي سنن الدارقطني عن ابن عباس {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} واحد {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً} قال زاد مسكينا آخر {فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} قال وليست منسوخة إلا أنه رخص للشيخ الكبير الذي لا يستطيع الصيام إسناده صحيح ثابت وفيه أيضا لا يرخص في هذا إلا للكبير الذي لا يطيق الصيام أو مريض لا يشفى قال وهذا صحيح وعين في رواية قدر الإطعام وإنه نصف صاع من حنطة وأخرج أيضا عن ابن عباس وابن عمر في الحامل والمرضع أنهما يفطران ولا قضاء وأخرج مثله عن جماعة من الصحابة وإنهما يطعمان كل يوم مسكينا وأخرج عن أنس بن مالك أنه ضعف عاما عن الصوم فصنع جفنة من ثريد فدعا ثلاثين مسكينا فأشبعهم وفي المسألة خلاف بين السلف فالجمهور أن الإطعام لازم في حق من لم يطق الصيام لكبر منسوخ في غيره وقال جماعة من السلف الإطعام منسوخ وليس على الكبير إذا لم يطق الصيام سنان وقال مالك يستحب له الإطعام وقيل غير ذلك والأظهر ما قاله ابن عباس والمراد بالشيخ العاجز عن الصوم ثم الظاهر أن حديثه موقوف ويحتمل أن المراد رخص النبي صلى الله عليه الصيغة للعلم بذلك فإن الترخيص إنما يكون توقيفا ويحتمل أنه فهمه ابن عباس من الآية وهو الأقرب
25 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل هو سلمة أو سلمان صخر البياضي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال هلكت يا رسول الله: قال: "وما أهلكك؟" قال: وقعت على امرأتي في رمضان قال: "هل تجد ما تعتق رقبة" بالنصب بدل من ما قال لا قال: "فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين" قال: لا قال: "فهل تجد ما تطعم ستين مسكينا" الجمهور أن لكل مسكين مد من طعام ربع صاع قال: لا قال: ثم جلس فأتي بضم الهمزة مغير الصيغة النبي صلى الله عليه وسلم "بعرق" بفتح العين المهملة والراء ثم قاف فيه تمر ورد في رواية الصحيحين فيه خمسة عشر صاعا وفي أخرى عشرون فقال: "تصدق بهذا" قال: أعلى أفقر منا فما بين لابتيها تثنية لابة وهي الحرة ويقال فيها لوبة ونوبة بالنون وهي غير مهموزة أهل بيت أحوج إليه منا فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه ثم قال: "اذهب فأطعمه أهلك" رواه السبعة واللفظ لمسلم الحديث دليل على وجوب الكفار على من جامع في نهار رمضان عامدا وذكر النووي أنه إجماع معسرا كان أو موسرا فالمعسر تثبت في ذمته على أحد قولين للشافعية ثانيهما لا تستقر في ذمته لأنه صلى الله عليه وسلم لم يبين له أنها باقية عليه واختلف في الرقبة فإنها هنا مطلقة فالجمهور قيدوها بالمؤمنة حملا للمطلق هنا على المقيد في كفارة القتل قالوا لأن كلام الله(2/163)
في حكم الخطاب الواحد فيترتب فيه المطلق على المقيد مطلقاَ وقالت الحنفية لا يحمل المطلق على المقيد فتجزيء الرقبة الكافرة وقيل يفصل في ذلك وهو أنه يقيد المطلق إذا أقتضى القياس التقييد فيكون تقييدا بالقياس كالتخصيص بالقياس وهو مذهب الجمهور والعلة الجامعة هنا هو أن جميع ذلك كفارة عن ذنب مكفر للخطيئة والمسألة مبسوطة في الأصول ثم الحديث ظاهر في أن الكفارة مرتبة كما ذكر في الحديث فلا يجزيء العدول إلى الثاني مع إمكان الأول ولا إلى الثالث مع إمكان الثاني لوقوعه مرتبا في رواية الصحيحين وروى الزهري الترتيب عن ثلاثين نفسا أو أكثر ورواية التخيير مرجوحة مع ثبوت الترتيب في الصحيحين ويؤيد رواية الترتيب أنه الواقع في كفارة الظهار وهذه الكفارة شبيهة بها قوله ستين مسكينا ظاهر مفهومه أنه لا يجزيء إلا إطعام هذا العدد فلا يجزيء أقل من ذلك وقال الحنفية يجزيء الصرف في واحد ففي القدوري من كتبهم فإن أطعم مسكينا واحدا ستين يوما أجزأه عندنا وإن أعطاه في يوم واحد لن يجزه إلا عن يومه وقوله "ذهب فأطعمه أهلك" فيه قولان للعلماء أحدهما أن هذه كفارة ومن قاعدة الكفارات أن لا تصرف في النفس لكنه صلى الله عليه وسلم خصه بذلك ورد بأن الأصل عدم الخصوصية الثاني أن الكفارة ساقطة عنه لإعساره ويدل له حديث علي رضي الله عنه كله أنت وعيالك فقد كفر الله عنك إلا أنه حديث ضعيف أو أنها باقية في ذمته والذي أعطاه صلى الله عليه وسلم صدقة عليه وعلى أهله لما عرفه صلى الله عليه وسلم من حاجتهم وقالت الهادوية وجماعة إن الكفارة غير واجبة أصلا لا على موسر ولا معسر قالوا لأنه أباح له أن يأكل منها ولو كانت واجبة لما جاز ذلك وهوإستدلال غير ناهض لأن المراد ظاهر في الوجوب وإباحة الأكل لا تدل على أنها كفارة بل فيها الاحتمالات التي سلفت واستدل المهدي في البحر على عدم وجوب الكفار بأنه صلى الله عليه وسلم قال للمجامع "ستغفر الله وصم يوما مكانه" ولم يذكرها وأجيب عنه بأنه قد ثبت رواية الأمر بها ثم السبعة بهذا الحديث المذكور هنا واعلم أنه صلى الله عليه وسلم لم يأمره في هذه الرواية بقضاء اليوم الذي جامع فيه إلا أنه ورد في رواية أخرجها أبو داود من حديث أبي هريرة بلفظ كله أنت وأهل بيتك وصم يوما واستغفر الله وإلى وجوب القضاء ذهبت الهادوية والشافعي لعموم قوله تعالى - فعدة من أيام أخر - وفي قول الشافعي أنه لا قضاء لأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمره إلا بالكفارة لا غير وأجيب بأنه اتكل صلى الله عليه وسلم على ما علم من الآية هذا حكم ما يجب على الرجل وأما المرأة التي جامعها فقد استدل بهذا الحديث أنه لا يلزم إلا كفارة واحدة وأنها لا تجب على الزوجة وهو الأصح من قولي الشافعي وبه قال الأوزاعي وذهب الجمهور إلى وجوبها على المرأة أيضا قالوا وإنما لم يذكرها النبي صلى الله عليه وسلم مع الزوج لأنها لم تعترف واعتراف الزوج لا يوجب عليها الحكم أو لاحتمال أن المرأة لم تكن صائمة بأن تكون طاهرة من الحيض بعد طلوع الفجر(2/164)
أو أن بيان الحكم في حق الرجل يثبت الحكم في المرأة أيضا لما علم من تعميم الأحكام أو أنه عرف فقرها كما ظهر من حال زوجها واعلم أن هذا حديث جليل كثير الفوائد قال المصنف في فتح الباري إنه قد اعتنى بعض المتأخرين ممن أدرك شيوخنا بهذا الحديث فتكلم عليه في مجلدين جمع فيهما ألف فائدة وفائدة انتهى وما ذكرناه فيه كفاية لما فيه من الأحكام وقد طول الشارح فيه ناقلا من فتح الباري
26 - وعن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنبا من جماع ثم يغتسل ويصوم" متفق عليه وزاد مسلم في حديث أم سلمة ولا يقضي فيه دليل على صحة صوم من أصبح أي دخل في الصباح وهو جنب من جماع وإلى هذا ذهب الجمهور وقال النووي: إنه إجماع وقد عارضه ما أخرجه أحمد وابن حبان من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا نودي للصلاة صلاة الصبح وأحدكم جنب فلا يصم يومه" وأجاب الجمهور بأنه منسوخ وأن أبا هريرة رجع عنه لما روي له حديث عائشة وأم سلمة وأفتى بقولهما ويدل للنسخ ما أخرجه مسلم وابن حبان وابن خزيمة عن عائشة "أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستفتيه وهي تسمع من وراء حجاب فقال: يا رسول الله تدركني الصلاة - أي صلاة الصبح - وأنا جنب فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم" قال: لست مثلنا يا رسول الله قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال: "والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي" وقد ذهب إلى النسخ ابن المنذر والخطابي وغيرهما وهذا الحديث يدفع قول من قال إن ذلك كان الموطأ به صلى الله عليه وسلم ورد البخاري حديث أبي هريرة بأن حديث عائشة أقوى سندا حتى قال ابن عبد البر إنه صح وتواتر وأما حديث أبي هريرة فأكثر الروايات أنه كان يفتي به ورواية الرفع أقل ومع التعارض يرجح لقوة الطريق
27 - وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من مات وعليه صيام صام عنه وليه" متفق عليه فيه دليل على أنه يجزيء الميت صيام وليه عنه إذا ما مات وعليه صوم واجب والإخبار في معنى الأمر أي ليصم عنه وليه والأصل فيه الوجوب إلا أنه قد ادعى الإجماع على أنه للندب والمراد من الولي كل قريب وقيل الوارث خاصة وقيل عصبته وفي المسألة خلاف فقال أصحاب الحديث وأبو ثور وجماعة إنه يجزيء صوم الولي عن الميت لهذا الحديث الصحيح وذهبت جماعة من الآل ومالك وأبو حنيفة أنه لا صيام عن الميت وإنما الواجب الكفارة لما أخرجه الترمذي من حديث ابن عمر مرفوعا "من مات وعليه صيام أطعم عنه مكان كل يوم مسكين" إلا أنه قال بعد إخراجه غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه والصحيح أنه موقوف على ابن عمر قالوا ولأنه ورد عن ابن عباس وعائشة الفتيا بالإطعام ولأنه الموافق لسائر العبادات فإنه لا يقوم بها مكلف عن مكلف والحج مخصوص وأجيب بأن الآثار المروية من فتيا عائشة وابن عباس لا تقاوم(2/165)
الحديث الصحيح وأما قيام مكلف بعبادة عن غيره فقد ثبت في الحج بالنص الثابت فيثبت في الصوم به فلا عذر عن العمل به واعتذر المالكية عنه بعدم عمل أهل المدينة به مبني على أن تركهم العمل بالحديث حجة وليس كذلك كما عرف في الأصول وكذلك اعتذار الحنفية بأن الراوي أفتى بخلاف ما روى عذر غير مقبول إذ العبرة بما روى لا بما رأى كما عرف فيها أيضا ثم اختلف القائلون بإجزاء الصيام عن الميت هل يختص ذلك بالولي أو لا فقيل لا يختص بالولي بل لو صام عنه الأجنبي بأمره أجزأ كما في الحج وإنما ذكر الولي في الحديث للغالب وقيل يصح أن يستقل به الأجنبي بغير أمر لأنه قد شبهه صلى الله عليه وسلم بالدين حيث قال "فدين الله أحق أن يقضى" فكما أن الدين لا يختص بقضائه القريب فالصوم مثله وللقريب أن يستنيب(2/166)
باب صوم التطوع
وما نهي عن صومه
1 - عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم عرفة فقال: "يكفر السنة الماضية والباقية" وسئل ذات يوم عن صوم يوم عاشوراء فقال: "يكفر السنة الماضية" وسئل عن صوم يوم الاثنين فقال: "ذلك يوم ولدت فيه وبعثت فيه وأنزل علي فيه" رواه مسلم قد استشكل تكفير ما لم يقع وهو ذنب السنة الآتية وأجيب بأن المراد أنه يوفق فيها لعدم الإتيان بذنب وسماه تكفيرا لمناسبة السنة الماضية أو أنه إن أوقع فيها ذنبا وفق للإتيان بما يكفره وأما صوم يوم عاشوراء وهو العاشر من شهر المحرم عند الجماهير فإنه قد كان واجبا قبل فرض رمضان ثم صار بعده مستحبا وأفاد الحديث أن صوم يوم عرفة أفضل من صوم يوم عاشوراء وعلل صلى الله عليه وسلم شرعية صوم يوم الاثنين بأنه ولد فيه أو بعث فيه أو أنزل عليه فيه وكأنه شك من الراوي وقد اتفق أنه صلى الله عليه وسلم ولد فيه وبعث فيه وفيه دلالة على أنه ينبغي تعظيم اليوم الذي أحدث الله فيه على عبده نعمة بصومه والتقرب فيه وقد ورد في حديث أسامة تعليل صومه صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين والخميس بأنه يوم تعرض فيه الأعمال وأنه يحب أن يعرض عمله وهو صائم ولا منافاة بين التعليلين
2 - وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من صام رمضان ثم اتبعه ستا" هكذا ورد مؤنثا مع أن مميزه أيام وهي مذكر لأن اسم العدد إذا لم يذكر مميزه جاز فيه الوجهان كم صرح به النحاة "من شوال كان(2/166)
كصيام الدهر" رواه مسلم فيه دليل على استحباب صوم ستة أيام من شوال وهو مذهب جماعة من الآل وأحمد والشافعي وقال مالك: يكره صومها قال: لأنه ما رأى أحدا من أهل العلم يصومها ولئلا يظن وجوبها و الجواب أنه بعد ثبوت النص بذلك لا حكم لهذه التعليلات وما أحسن ما قاله ابن عبد البر: إنه لم يبلغ مالكا هذا الحديث يعني حديث مسلم واعلم أن أجر صومها يحصل لمن صامها متفرقة أو متوالية ومن صامها عقيب العيد أو في أثناء الشهر وفي سنن الترمذي عن ابن المبارك أنه اختار أن يكون ستة أيام من أول شوال وقد روى عن ابن المبارك أنه قال من صام ستة أيام من شوال متفرقا فهو جائز قلت ولا دليل على اختيار كونها من أول شوال إذ من أتى بها في شوال في أي أيامه صدق عليه أنه اتبع رمضان ستا من شوال وإنما شبهها بصيام الدهر لأن الحسنة بعشر أمثالها فرمضان بعشرة أشهر وست من شوال بشهرين وليس في الحديث دليل على مشروعية صيام الدهر ويأتي بيانه في آخر الباب
واعلم أنه قال التقي السبكي: إنه قد طعن في هذا الحديث من لا فهم له مغترا بقول الترمذي إنه حسن يريد في رواية سعد بن سعيد الأنصاري أخي يحيى بن سعيد قلت ووجه الاغترار أن الترمذي لم يصفه بالصحة بل بالحسن وكأنه في نسخة الذي رأيناه في سنن الترمذي بعد سياقه للحديث ما لفظه قال أبو عيسى حديث أبي أيوب حديث حسن صحيح ثم قال وسعد بن سعيد هو أخو يحيى بن سعيد الأنصاري وقد تكلم بعض أهل الحديث في سعد بن سعيد من قبل حفظه انتهى قلت قال ابن دحية إنه قال أحمد بن حنبل سعد بن سعيد ضعيف الحديث وقال النسائي ليس بالقوى وقال أبو حاتم لا يجوز الاشتغال بحديث سعد بن سعيد انتهى ثم قال ابن السبكي وقد اعتنى شيخنا أبو محمد الدمياطي بجمع طرقه فأسنده عن بضعة وعشرين رجلا رووه عن سعد بن سعيد وأكثرهم حفاظ ثقات منهم السفيانان وتابع سعدا على روايته أخوه يحيى وعبد ربه وصفوان بن سليم وغيرهم ورواه أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم ثوبان وأبو هريرة وجابر وابن عباس والبراء بن عازب وعائشة ولفظ ثوبان من صام رمضان فشهره بعشره ومن صام ستة أيام بعد الفطر فذلك صيام السنة رواه أحمد والنسائي
3 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد يصوم يوما في سبيل الله" هو إذا أطلق يراد به الجهاد "إلا باعد الله بذلك اليوم عن وجهه النار سبعين خريفا" متفق عليه واللفظ لمسلم فيه دلالة على فضيلة الصوم في الجهاد ما لم يضعف بسبه عن قتال عدوه وكأن فضيلة ذلك لأنه جمع بين جهاد عدوه وجهاد نفسه في طعامة وشرابه وشهوته وكنى بقوله باعد الله بينه وبين النار سبعين خريفا عن سلامته من عذابها
4 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول لا يفطر ويفطر حتى نقول لا يصوم وما رأيت رسول الله صلى الله(2/167)
عليه وسلم استكمل شهراًً قط إلا رمضان وما رأيته في شهر أكثر منه صياما في شعبان" متفق عليه واللفظ لمسلم فيه دليل على أن صومه صلى الله عليه وسلم لم يكن مختصا بشهر دون شهر وأنه كان صلى الله عليه وسلم يسرد الصيام أحيانا ويسرد الفطر أحيانا ولعل كان يفعل ما يقتضيه الحال من تجرده عن الأشغال فيتابع الصوم ومن عكس ذلك فيتابع الإفطار ودليل على أنه يخص شعبان بالصوم أكثر من غيره وقد نبهت عائشة على علة ذلك فأخرج الطبراني عنها "أنه صلى الله عليه وسلم كان يصوم ثلاثة أيام في كل شهر" فربما أخر ذلك فيجتمع صوم السنة فيصوم شعبان وفيه ابن أبي ليلى وهو ضعيف وقيل كان يصوم ذلك تعظيما لرمضان كما أخرجه الترمذي من حديث أنس وغيره أنه سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الصوم أفضل فقال شعبان تعظيما لرمضان قال الترمذي فيه صدقة بن موسى وهو عندهم ليس بالقوي وقيل كان يصومه لأنه شهر يغفل عنه الناس بين رجب ورمضان كما أخرجه النسائي وأبو داود وصححه ابن خزيمة عن أسامة بن زيد قال قلت يا رسول الله لم أرك تصوم في شهر من الشهور ما تصوم في شعبان قال: "ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين فأحب أن يرفع فيه عملي وأنا صائم" قلت: ويحتمل أنه كان يصومه لهذه الحكم كلها وقد عورض حديث أن صوم شعبان أفضل الصوم بعد رمضان بما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعا "أفضل الصوم بعد رمضان صوم المحرم" وأورد عليه أنه لو كان أفضل لحافظ على الإكثار من صيامه وحديث عائشة يقتضي أنه كان أكثر صيامة في شعبان فأجيب بأن تفضيل صوم المحرم بالنظر إلى الأشهر الحرم وفضل شعبان مطلقا وأما عدم إكثاره لصوم المحرم فقال النووي: لأنه إنما علم ذلك آخر عمره
5 - وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصوم من الشهر ثلاثة أيام" وبينها بقوله: "ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة" رواه النسائي والترمذي وصححه ابن حبان الحديث ورد من طرق عديدة من حديث أبي هريرة بلفظ فإن كنت صائما فصم الغر أي البيض أخرجه أحمد والنسائي وابن حبان وفي بعض ألفاظه عند النسائي "فإن كنت صائما فصم البيض ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة" وأخرج أصحاب السنن من حديث قتادة بن ملحان "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نصوم البيض ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة وقال: هي كهيئة الدهر" وأخرج النسائي من حديث جرير مرفوعا "صيام ثلاثة أيام من كل شهر كصيام الدهر ثلاث الأيام البيض" الحديث وإسناده صحيح ووردت أحاديث في صيام ثلاثة أيام من كل شهر مطلقة ومبينة بغير الثلاثة وأخرج أصحاب السنن وصححه ابن خزيمة من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم عدة ثلاثة أيام من كل شهر وأخرجه مسلم من حديث عائشة "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من كل شهر ثلاثة أيام ما يبالي في أي الشهر صام" وأما المبينة بغير الثلاث فهي ما أخرجه أبو داود والنسائي من حديث(2/168)
حفصة "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم في كل شهر ثلاثة أيام الاثنين والخميس والاثنين من الجمعة الأخرى" ولا معارضة بين هذه الأحاديث فإنها كلها دالة على ندبية صوم كل ما ورد وكل من الرواة حكى ما اطلع عليه إلا أن ما أمر به وحث عليه ووصى به أولى وأفضل وأما فعله صلى الله عليه وسلم فلعله كان يعرض له ما يشغله عن مراعاة ذلك وقد عين الشارع أيام البيض وللعلماء في تعيين الثلاثة الأيام التي يندب صومها من كل شهر أقوال عشرة سردها في الشرح
6 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يحل للمرأة" أي المزوجة بدليل قوله "أن تصوم وزوجها شاهد" أي حاضر "إلا بإذنه" متفق عليه واللفظ للبخاري زاد أبو داود غير رمضان فيه دليل على أن الوفاء بحق الزوج أولى من التطوع بالصوم وأما رمضان فإنه يجب عليها وإن كره الزوج ويقاس عليه القضاء فلو صامت النفل بغير إذنه كانت فاعلة لمحرم
7 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام يومين يوم الفطر ويوم النحر" متفق عليه فيه دليل على تحريم صوم هذين اليومين لأن أصل النهي التحريم وإليه ذهب الجمهور فلو نذر صومهما لم ينعقد نذره في الأظهر لأنه نذر بمعصية وقيل يصوم مكانهما عنهما
8 - وعن نبيشة بضم النون وفتح الباء الموحدة وسكون المثناة التحتية وشين معجمة يقال له نبيشة الخير بن عمرو وقيل ابن عبد الله الهذلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أيام التشريق" وهي ثلاثة أيام بعد النحر وقيل يومان بعد النحر "أيام أكل وشرب وذكر الله عز وجل" رواه مسلم وأخرجه مسلم أيضا من حديث كعب بن مالك وابن حبان من حديث أبي هريرة والنسائي من حديث بشر بن سحيم وأصحاب السنن من حديث عقبة بن عامر والبزار من حديث ابن عمر "أيام التشريق أيام أكل وشرب وصلاة فلا يصومها أحد" وأخرج أبو داود من حديث عمر في قصته "أنه صلى الله عليه وسلم كان يأمرهم بإفطارها وينهاهم عن صيامها" أي أيام التشريق وأخرج الدارقطني من حديث عبد الله بن حذافة السهمي أيام التشريق أيام أكل وشرب وبعال البعال مواقعة النساء والحديث وما سقناه في معناه دال على النهي عن الصوم أيام التشريق وإنما اختلف هل هو نهي تحريم أو تنزيه فذهب إلى أنه للتحريم مطلقا جماعة من السلف وغيرهم وإليه ذهب الشافعي في المشهور وهؤلاء قالوا لا يصومها المتمتع ولا غيره وجعلوه مخصصا لقوله تعالى: {ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} لأن الآية عامة فيما قبل يوم النحر وما بعده والحديث خاص بأيام التشريق وأن كان فيه عموم بالنظر إلى الحج وغيره فيرجح خصوصها لكونه مقصودا بالدلالة على أنها ليست محلا للصوم وأن ذاتها باعتبار ما هي مؤهلة له كأنها منافية للصوم وذهبت الهادوية إلى أنه يصومها المتمتع الفاقد للهدي كما يفيده سياق الآية ورواية ذلك عن علي عليه السلام قالوا ولا يصومها القارن والمحصر إذا(2/169)
فقد الهدي وذهب آخرون إلى أنه يصومها المتمتع ومن تعذر عليه الهدي وهو المحصر والقارن لعموم الآية ولما أفاده
9 - وعن عائشة وابن عمر رضي الله عنهما قالا "لم يرخص" بصيغة المجهول "في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي" رواه البخاري فإنه أفاد أن صوم أيام التشريق جائز رخصة لمن لم يجد الهدي وكان متمتعا أو قارنا أو محصرا لإطلاق الحديث بناء على أن فاعل يرخص هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه مرفوع وفي ذلك أقوال ثلاثة ثالثها أنه إن أضاف ذلك إلى عهده صلى الله عليه وسلم كان حجة وإلا فلا وقد ورد التصريح بالفاعل في رواية للدارقطني والطحاوي إلا أنها بإسناد ضعيف ولفظها رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم للمتمتع إذا لم يجد الهدي أن يصوم أيام التشريق إلا أنه خص المتمتع فلا يكون حجة لأهل هذا القول وقد روي من فعل عائشة وأبي بكر وفتيا لعلي رضي الله عنهم وذهب جماعة إلى أن النهي للتنزيه وأنه يجوز صومها لكل واحد وهو قول لا ينهض عليه دليل
10 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم" رواه مسلم الحديث دليل على تحريم تخصيص ليلة الجمعة بالعبادة معتادة إلا ما ورد به النص على ذلك كقراءة سورة الكهف فإنه ورد تخصيص ليلة الجمعة بقراءتها وسور أخر وردت بها أحاديث فيها مقال وقد دل هذا بعمومه على عدم مشروعية صلاة الرغائب في أول ليلة الجمعة من رجب ولو ثبت حديثها لكان مخصصا لها من عموم النهي لكن حديثها تكلم العلماء عليه وحكموا بأنه موضوع ودل على تحريم النفل بصوم يومها منفردا قال ابن المنذر ثبت النهي عن صوم الجمعة كما ثبت عن صوم العيد وقال أبو جعفر الطبري يفرق بين العيد والجمعة بأن الإجماع منعقد على تحريم صوم العيد ولو صام قبله أو بعده وذهب الجمهور إلى أن النهي عن إفراد الجمعة بالصوم للتنزيه مستدلين بحديث ابن مسعود "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من كل شهر ثلاثة أيام وقلما كان يفطر يوم الجمعة" أخرجه الترمذي وحسنه فكان فعله صلى الله عليه وسلم قرينة على أن النهي ليس للتحريم وأجيب عنه بأنه يحتمل أنه كان يصوم يوما قبله أو بعده ومع الاحتمال لا يتم الاستدلال واختلف في وجه حكمة تحريم صومه على أقوال أظهرها أنه يوم عيد كما روي من حديث أبي هريرة مرفوعا "يوم الجمعة يوم عيدكم" وأخرج ابن أبي شيبة بإسناد حسن عن علي رضي الله عنه قال "من كان منكم متطوعا من الشهر فليصم يوم الخميس ولا يصم يوم الجمعة فإنه يوم طعام وشراب" وذكر وهذا أيضا من أدلة تحريم صومه ولا يلزم أن يكون كالعيد من كل وجه فإنه ينعقد حرمة صومه بصيام يوم قبله ويوم بعده كما يفيده قوله
11 - وعنه أيضا رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم يوما قبله أو يوما بعده" متفق(2/170)
عليه فإنه دال على زوال تحريم صومه لحكمة لا نعلهما فلو أفرده بالصوم وجب فطره كما يفيده ما أخرجه أحمد والبخاري وأبو داود من حديث جويرية "أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها في يوم جمعة وهي صائمة فقال لها: "أصمت أمس؟" قالت: لا قال: "تصومين غدا؟" قالت: لا قال: "فأفطري" والأصل في الأمر الوجوب
12 - وعنه أي أبي هريرة رضي الله عنه أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا انتصف شعبان فلا تصوموا" رواه الخمسة واستنكره أحمد وصححه ابن حبان وغيره وإنما استنكره أحمد لأنه من رواية العلاء بن عبد الرحمن قلت وهو من رجال مسلم قال المصنف في التقريب: إنه صدوق وربما وهم والحديث دليل على النهي عن الصوم في شعبان بعد انتصافه ولكنه مقيد بحديث إلا أن يوافق صوما معتادا كما تقدم واختلف العلماء في ذلك فذهب كثير من الشافعية إلى التحريم لهذا النهي وقيل إنه يكره إلا قبل رمضان بيوم أو يومين فإنه محرم وقيل لا يكره وقيل إنه مندوب وأن الحديث مؤول بمن يضعفه الصوم وكأنهم استدلوا بحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يصل شعبان برمضان ولا يخفى أنه إذا تعارض القول والفعل كان القول مقدما منسوخ
13 - وعن الصماء بالصاد المهملة بنت بسر بالموحدة مضمومة وسين مهملة أسمها بهية بضم الموحدة وفتح الهاء وتشديد المثناة التحتية وقيل إسمها بهيمة بزيادة الميم هي أخت عبد الله بن بسر روى عنها أخوها عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم فإن لم يجد أحدكم إلا لحاء" بفتح اللام فحاء مهملة ممدودة عنب بكسر المهلمة وفتح النون فموحدة الفاكهة المعروفة والمراد قشره "أو عود شجرة فليمضغها" أي يطعمها بها للفطر رواه الخمسة ورجاله ثقات إلا أنه مضطرب وقد أنكره مالك وقال أبو داود هو منسوخ أما الاضطراب فلأنه رواه عبد الله بن بسر عن أخته الصماء وقيل عن عبد الله وليس فيه ذكر أخته قيل وليست هذه بعلة قادحة فإنه صحابي وقيل عن أبيه بسر وقيل عن الصماء عن عائشة قال النسائي هذا حديث مضطرب قال المصنف يحتمل أن يكون عند عبد الله عن أبيه وعن أخته وعند أخته بواسطة وهذه طريقة صحيحة وقد رجح عبد الحق الطريق الأولى وتبع في ذلك الدارقطني لكن هذا التلون في الحديث الواحد بإسناد الواحد مع اتحاد المخرج يوهي الرواية وينبيء بقلة الضبط إلا أن يكون من الحفاظ المكثرين المعروفين بجمع طرق الحديث فلا يكون ذلك دالا على قلة الضبط وليس الأمر هنا كذلك بل اختلف فيه على الراوي أيضا عن عبد الله بن بسر وأما إنكار مالك له فإنه قال أبو داود عن مالك إنه قال هذا كذب أما قول أبي داود إنه منسوخ فلعله أراد أن ناسخه قوله
14 - وعن أم سلمة رضي الله عنها "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر ما كان يصوم من الأيام يوم السبت ويوم الأحد وكان يقول: "إنهما يوما عيد للمشركين وأنا أريد أن أخالفهم" أخرجه النسائي وصححه ابن خزيمة وهذا لفظه فالنهي عن صومه(2/171)
كان أول الأمر حيث كان صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب ثم كان آخر أمره صلى الله عليه وسلم مخالفتهم كما صرح به الحديث نفسه وقيل: بل النهي كان عن إفراده بالصوم إلا أنه صام ما قبله أو ما بعده وأخرج الترمذي من حديث عائشة قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من الشهر السبت والأحد والاثنين ومن الشهر الآخر الثلاثاء والأربعاء والخميس" وحديث الكتاب دال على استحباب صوم السبت والأحد مخالفة لأهل الكتاب وظاهره صوم كل على الانفراد والاجتماع
15 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة" رواه الخمسة غير الترمذي وصححه ابن خزيمة والحاكم واستنكره العقيلي لأن في إسناده مهديا الهجري ضعفه العقيلي وقال لا يتابع عليه والراوي عنه مختلف فيه قلت في الخلاصة إنه قال ابن معين لا أعرفه وأما الحاكم فصحح حديثه تركها الذهبي في مختصر المستدرك ولم يعده من الضعفاء في المعنى وأما الراوي عنه فإنه حوشب بن عبدل قال المصنف في التقريب إنه ثقة والحديث ظاهر في تحريم صوم يوم عرفة بعرفة وإليه ذهب يحيى بن سعيد الأنصاري وقال يجب إفطاره على الحاج وقيل لا بأس به إذا لم يضعف عن الدعاء ونقل عن الشافعي واختاره الخطابي والجمهور على أنه يستحب إفطاره وأما هو صلى الله عليه وسلم فقد صح أنه كان يوم عرفة بعرفة مفطرا في حجته ولكن لا يدل تركه الصوم على تحريمه نعم يدل أن الإفطار هو الأفضل لأنه صلى الله عليه وسلم لا يفعل إلا الأفضل إلا أنه قد يفعل المفضول لبيان الجواز فيكون في حقه أفضل لما فيه من التشريع والتبليغ بالفعل ولكن الأظهر التحريم لأنه أصل النهي
16 - وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا صام من صام الأبد" متفق عليه اختلف في معناه قال شارح المصابيح فسر هذا وجهين أحدهما أنه على معنى الدعاء عليه زجرا له عن صنيعه والآخر على سبيل الإخبار والمعنى أنه بمكابدة صورة الجوع وحر الظمإ لاعتياده الصوم حتى خف عليه ولم يفتقر إلى الصبر على الجهد الذي يتعلق به الثواب فكأنه لم يصم ولم تحصل له فضيلة الصوم ويؤيد أنه للإخبار قوله
17 - ولمسلم من حديث أبي قتادة بلفظ "لا صام ولا أفطر" ويؤيده أيضا حديث الترمذي عنه بلفظ "لم يصم ولم يفطر" قال ابن العربي إن كان معناه الدعاء فياويح من أصابه دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان معناه الخبر فيا ويح من أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يصم وإذا لم يصم شرعا فكيف يكتب له ثواب وقد اختلف العلماء في صيام الأبد فقال بتحريمه طائفة وهو اختيار ابن خزيمة لهذا الحديث وما في معناه وذهب طائفة إلى جوازه وهو اختيار ابن المنذر وتأولوا أحاديث النهي عن صيام الدهر بأن المراد من صامه مع الأيام المنهي عنها من العيدين وأيام التشريق وهو تأويل مردود بنهيه صلى الله عليه وسلم لابن عمرو عن صوم الدهر وتعليله بأن لنفسه عليه حقا ولأهله حقا(2/172)
ولضيفه حقا ولقوله: "أما أنا فأصوم وأفطر فمن رغب عن سنتي فليس مني" فالتحريم هو الأوجه دليلا ومن أدلته ما أخرجه أحمد والنسائي وابن خزيمة من حديث أبي موسى مرفوعا "من صام الدهر ضيقت عليه جهنم وعقد بيده" قال الجمهور ويستحب صوم الدهر لمن لا يضعفه عن حق وتأولوا أحاديث النهي تأويلاًًًً غير راجح واستدلوا بأنه صلى الله عليه وسلم شبه صوم ست من شوال مع رمضان وشبه صوم ثلاثة أيام من كل شهر بصوم الدهر فلولا أن صاحبه يستحق الثواب لما شبه به وأجيب بأن ذلك على تقدير مشروعيته فإنها تغني عنه كما أغنت الخمس الصلوات عن الخمسين التي قد كانت فرضت مع أنه لو صلاها أحد لوجوبها لم يستحق ثوابا بل يستحق العقاب نعم أخرج ابن السني من حديث أبي هريرة مرفوعا "من صام الدهر فقد وهب نفسه من الله عز وجل" إلا أنا لا ندري ما صحته(2/173)
باب الاعتكاف وقيام رمضان
الاعتكاف لغة: لزوم الشيء وحبس النفس عليه وشرعا المقام في المسجد من شخص مخصوص على صفة مخصوصة وقيام رمضان أي قيام لياليه مصليا أو تاليا قال النووي: قيام رمضان يحصل بصلاة التراويح وهو إشارة إلى أنه لا يشترط استغراق كل الليل بصلاة النافلة فيه ويأتي ما في كلام النووي
1 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قام رمضان إيمانا" أي تصديقا بوعد الله للثواب "واحتسابا" منصوبا على أنه مفعول لأجله كالذي عطف عليه أي طلبا لوجه الله وثوابه والاحتساب من الحسب كالاعتداد من العدد وإنما قيل فيمن ينوي بعمله وجه الله احتسبه لأنه له حينئذ أن يعتد عمله فجعل في حال مباشرة الفعل كأنه معتد به قاله في النهاية "غفر له ما تقدم من ذنبه" متفق عليه يحتمل أنه يريد قيام جميع لياليه وأن من قام بعضها لا يحصل له ما ذكره من المغفرة وهو الظاهر وإطلاق الذنب شامل للكبائر والصغائر وقال النووي المعروف أنه يختص بالصغائر وبه جزم إمام الحرمين ونسبه عياض لأهل السنة وهو مبني على أنها لا تغفر الكبائر إلا بالتوبة وقد زاد النسائي في روايته "ما تقدم وما تأخر" وقد أخرجها أحمد وأخرجت من طريق مالك وتقدم معنى مغفرة الذنب المتأخر والحديث دليل على فضيلة قيام رمضان والذي يظهر أنه يحصل بصلاة الوتر إحدى عشرة ركعة كما كان صلى الله عليه وسلم يفعل في رمضان وغيره كما سلف في حديث عائشة وأما التراويح على ما اعتيد الآن فلم تقع في عصره صلى الله عليه وسلم إنما كان ابتدعها عمر في خلافته وأمر أبيا أن يجمع بالناس واختلف في القدر الذي(2/173)
كان يصلي به أبي فقيل كان يصلي بهم إحدى عشر ركعة وروي إحدى وعشرون وروي عشرون ركعة وقيل ثلاث وعشرون، وقيل غير ذلك وقد قدمنا تحقيق ذلك
2 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر" أي العشر الأخيرة من رمضان هذا التفسير مدرج من كلام الراوي "شد مئزره" أي اعتزل النساء "وأحيا ليله وأيقظ أهله" متفق عليه وقيل في تفسير شد مئزره أنه كناية عن التشمير للعبادة قيل ويحتمل أن يكون المعنى أنه شد مئزره أي جمعه فلم يحلله واعتزل النساء وشمر للعبادة إلا أنه يبعده ما روي عن علي رضي الله عنه بلفظ فشد مئزره واعتزل النساء فإن العطف يقتضي المغايرة وإيقاع الإحياء على الليل مجاز عقلي لكونه زمانا للإحياء نفسه والمراد به السهر وقوله أيقظ أهله أي للصلاة والعبادة وإنما خص بذلك صلى الله عليه وسلم آخر رمضان لقرب خروج وقت العبادة فيجتهد فيه لأن خاتمة العمل والأعمال بخواتيمها
3 - وعنها أي عائشة رضي الله عنها " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل ثم اعتكف أزواجه من بعده" متفق عليه فيه دليل على أن الاعتكاف سنة واظب عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه من بعده قال أبو داود عن أحمد لا أعلم عن أحد من العلماء خلافا أن الاعتكاف مسنون وأما المقصود منه فهو جمع القلب على الله تعالى بالخلوة مع خلو المعدة والإقبال عليه تعالى والتنعم بذكره والإعراض عما عداه
4 - وعنها أي عائشة رضي الله عنها قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه" متفق عليه في دليل على أن أول وقت الاعتكاف بعد صلاة الفجر وهو ظاهر في ذلك وقد خالف فيه من قال إنه يدخل المسجد قبل طلوع الفجر إذا كان معتكفا نهارا وقبل غروب الشمس إذا كان معتكفا ليلا وأول الحديث بأنه كان يطلع الفجر وهو صلى الله عليه وسلم في المسجد ومن بعد صلاته الفجر يخلو بنفسه في المحل الذي أعده لاعتكافه قلت ولا يخفى بعده فإنها كانت عادته صلى الله عليه وسلم أنه لا يخرج من منزله إلا عند الإقامة
5 - وعنها أي عائشة رضي الله عنها قالت: "إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدخل علي رأسه وهو في المسجد فأرجله وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة إذا كان معتكفا" متفق عليه واللفظ للبخاري في الحديث دليل على أنه لا يخرج المعتكف من المسجد بكل بدنه وأن خروج بعض بدنه لا يضر وفيه أنه يشرع للمعتكف النظافة والحلق والتزين وعلى أن العمل اليسير من الأفعال الخاصة بالإنسان يجوز فعلها وهو في المسجد وعلى جواز استخدام الرجل لزوجته وقوله إلا لحاجة يدل على أنه لا يخرج المعتكف من المسجد إلا للأمر الضروري والحاجة فسرها الزهري بالبول والغائط وقد اتفق على استثنائهما(2/174)
واختلف في غيرهما من الحاجات كالأكل والشرب وألحق بالبول والغائط جواز الخروج للفصد والحجامة ونحوهما
6 - وعنها أي عائشة رضي الله عنها قالت: "السنة على المعتكف أن لا يعود مريضا ولا يشهد جنازة ولا يمس امرأة ولا يباشرها ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بد منه" مما سلف ونحوه ولا اعتكاف إلا بصوم ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع رواه أبو داود ولا بأس برجاله إلا أن الراجح وقف آخره من قولها ولا اعتكاف إلا بصوم وقال المصنف جزم الدارقطني أن القدر الذي من حديث عائشة قولها لا يخرج إلا لحاجة وما عداه ممن دونها انتهى من فتح الباري وهنا قال إن آخره موقوف وفيه دلالة على أنه لا يخرج المعتكف لشيء مما عينته هذه الرواية وأنه أيضا لا يخرج لشهود الجمعة وأنه إن فعل أي ذلك بطل اعتكافه وفي المسألة خلاف كبير ولكن الدليل قائم على ما ذكرناه وأما اشتراط الصوم ففيه خلاف أيضا وهذا الحديث الموقوف دال على اشتراطه وفيه أحاديث منها في نفي شرطيته ومنها في إثباته والكل لا ينهض حجة إلا أن الاعتكاف عرف من فعله صلى الله عليه وسلم ولم يعتكف إلا صائما واعتكافه في العشر الأول من شوال الظاهر أنه صامها ولم يعتكف إلا من ثاني شوال لأن يوم العيد يوم شغله بالصلاة والخطبة والخروج إلى الجبانة إلا أنه لا يقوم بمجرد الفعل حجة على الشرطية وأما اشتراط المسجد فالأكثر على شرطيته إلا عن بعض العلماء والمراد من كونه جامعا أن تقام فيه الصلوات وإلى هذا ذهب أحمد وأبو حنيفة وقال الجمهور يجوز في كل مسجد إلا لمن تلزمه الجمعة فاستحب له الشافعي الجامع وفيه مثل ما في الصوم من أنه صلى الله عليه وسلم لم يعتكف إلا في مسجده وهو مسجد جامع ومن الأحاديث الدالة عل عدم شرطية الصيام قوله
7 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس على المعتكف صيام إلا أن يجعله على نفسه" رواه الدارقطني والحاكم والراجح وقفه أيضا على ابن عباس قال البيهقي الصحيح أنه موقوف ورفعه وهم قلت وللاجتهاد في هذا مسرح فلا يقوم دليلا على عدم الشرطية وأما قوله إلا أن يجعله على نفسه فالمراد أن ينذر الصوم
8 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال المصنف لم أقف على تسمية أحد من هؤلاء وقوله أروا بضم الهمزة على البناء للمجهول ليلة القدر في المنام أي قيل لهم في المنام هي في السبع الأواخر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرى" بضم الهمزة أي ظن "رؤياكم قد تواطأت" أي توافقت لفظا ومعنى "في السبع الأواخر فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر" متفق عليه وأخرج مسلم من حديث ابن عمر مرفوعا "التمسوها في العشر الأواخر فإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يغلبن على السبع البواقي" وأخرج أحمد رأى رجل أن ليلة القدر(2/175)
ليلة سبع وعشرين أو كذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "التمسوها في العشر البواقي في الوتر" منها وروى أحمد من حديث علي مرفوعا إن غلبتم فلا تغلبوا على السبع البواقي وجمع بين الروايات بأن العشر للاحتياط منها وكذلك السبع والتسع لأن ذلك هو المظنة وهو أقصى ما يظن فيه الإدراك وفي الحديث دليل على عظم شأن الرؤيا وجواز الاستناد إليها في الأمور الوجودية بشرط أن لا تخالف القواعد الشرعية
9 - وعن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "في ليلة القدر ليلة سبع وعشرين" رواه أبو داود مرفوعا والراجح وقفه على معاوية وله حكم الرفع وقد اختلف في تعيينها على أربعين قولا أوردتها في فتح الباري ولا حاجة إلى سردها لأن منها ما ليس تعيينها كالقول بأنها رفعت والقول بإنكارها من أصلها فإن هذه عدها المصنف من الأربعين وفيها أقوال أخر لا دليل عليها وأظهر الأقوال أنها في السبع الأواخر وقال المصنف في فتح الباري بعد سرده الأقوال وأرجحها كلها أنها في وتر العشر الأواخر وأنها تنتقل كما يفهم من حديث هذا الباب وأرجاها أوتار الوتر عند الشافعية إحدى وعشرون أو ثالث وعشرون على ما في حديثي أبي سعيد وعبد الله بن أنس وأرجاها عند الجمهور ليلة سبع وعشرين
10 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال قولي: "اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني" رواه الخمسة غير أبي داود وصححه الترمذي والحاكم قيل علاماتها أن المطلع عليها يرى كل شيء ساجدا وقيل يرى الأنوار في كل مكان ساطعة حتى المواضع المظلمة وقيل يسمع سلاما أو خطابا من الملائكة وقيل علامتها استجابة دعاء من وقعت له وقال الطبري ذلك غير لازم فإنها قد تحصل ولا يرى شيئا ولا يسمع واختلف العلماء هل يقع الثواب المترتب لمن اتفق أنه وافقها ولم يظهر له شيء أو يتوقف ذلك على كشفها ذهب إلى الأول الطبري وابن العربي وآخرون وإلى الثاني ذهب الأكثرون ويدل له ما وقع ثم مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ من يقم ليلة القدر فيوافقها قال النووي أي يعلم أنها ليلة القدر ويحتمل أن يراد أن يوافقها في نفس الأمر وإن لم يعلم هو ذلك ورجح هذا المصنف قال ولا أنكر حصول الثواب الجزيل لمن قام لابتغاء ليلة القدر وإن لم يوافق لها وإنما الكلام في حصول الثواب المعين الموعود به وهو مغفرة ما تقدم من ذنبه
11 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تشد" بضم الدال المهملة على أنه نفي ويروى بسكونها على أنه نهي "الرحال" جمع رجل وهو للبعير كالسرج للفرس وشده هنا كناية عن السفر لأنه لازمه غالبا "إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام" أي المحرم "ومسجدي هذا والمسجد الأقصى"(2/176)
متفق عليه اعلم أن إدخال هذا الحديث في باب الاعتكاف لأنه قد قيل لا يصح الاعتكاف إلا في الثلاثة المساجد ثم المراد بالنفي النهي مجازا كأنه قال لا يستقيم شرعا أن يقصد بالزيارة إلا هذه البقاع لاختصاصها بما اختصت به من المزية التي شرفها الله تعالى بها والمراد من المسجد الحرام هو الحرم كله لما رواه أبو داود الطيالسي من طريق عطاء أنه قيل له هذا الفضل في المسجد الحرام وحده أم في الحرم قال بل في الحرم كله ولأنه لما أراد صلى الله عليه وسلم التعيين للمسجد قال مسجدي هذا والمسجد الأقصى بيت المقدس سمي بذلك لأنه لم يكن وراءه مسجد كما قاله الزمخشري والحديث دليل على فضيلة المساجد هذه ودل بمفهوم الحصر أنه يحرم شد الرحال لقصد غير الثلاثة كزيارة الصالحين أحياء وأمواتا لقصد التقرب ولقصد المواضع الفاضلة لقصد التبرك بها والصلاة فيها وقد ذهب إلى هذا الشيخ أبو محمد الجويني وبه قال القاضي عياض وطائفة ويدل عليه ما رواه أصحاب السنن من إنكار أبي بصرة الغفاري على أبي هريرة خروجه إلى الطور وقال لو أدركتك قبل أن تخرج ما خرجت واستدل بهذا الحديث ووافقه أبو هريرة وذهب الجمهور إلى أن ذلك غيرمحرم واستدلوا بما لا ينهض وتأولوا أحاديث الباب بتأويل بعيدة ولا ينبغي التأويل إلا بعد أن ينهض على خلاف ما أولوه الدليل وقد دل الحديث على فضل المساجد الثلاثة وأن أفضلها المسجد الحرام لأن التقديم ذكرا يدل على مزية المقدم ثم مسجد المدينة ثم المسجد الأقصى وقد دل لهذا أيضا ما أخرجه البزار وحسن إسناده من حديث أبي الدرداء مرفوعا الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة والصلاة في مسجدي بألف صلاة والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة وفي معناه أحاديث أخر ثم اختلفوا هل الصلاة في هذه المساجد تعم الفرض والنفل أو تخص الأول قال الطحاوي وغيره إنها تخص بالفروض لقوله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة" ولا يخفى أن لفظ الصلاة المعرف بلام الجنس عام فيشمل النافلة إلا أن يقال إن لفظ الصلاة إذا أطلق لا يتبادر منه إلا الفريضة فلا يشملها.(2/177)
كتاب الحج
باب فضله وبيان من فُرض عليه
...
كتاب الحج
الحج بفتح الحاء المهملة وكسرها لغتان وهو ركن من أركان الإسلام الخمسة بالاتفاق. وأول فرصه سنة ست عند الجمهور واختار ابن القيم في الهدي أنه فرض سنة تسع أو عشر وفيه خلاف.
باب فضله وبيان من فُرض عليه
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "العمرةُ(2/177)
إلى العمرةُ كفّارةٌ لما بينهما، والحج المبرور” قيل هو الذي لا يخالطه شيء من الإثم ورجحه النووي وقيل: المقبول، وقيل: هو الذي تظهر ثمرته على صاحبه بأن يكون حاله بعده خيراً من حاله قبله. وأخرج أحمد والحاكم من حديث جابر: قيل يا رسول الله ما برّ الحج قال: "إطعام الطعام وإفشاء السلام" وفي إسناده ضعف ولو ثبت لتعين به التفسير "ليس لهُ جزاءً إلا الجنة" متفق عليه.
العمرة لغة: الزيارة، وقيل: القصد. وفي الشرع: إحرام وسعي وطواف وحلق أو تقصير، سميت بذلك لأنه يزار بها البيت ويقصد.
وفي قوله: "العمرة إلى العمرة" دليل على تكرار العمرة وأنه لا كراهة في ذلك ولا تحديد بوقت.
وقالت المالكية: يكره في السنة أكثر من عمرة واحدة واستدلوا له بأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لم يفعلها إلا من سنة إلى سنة وأفعاله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم تحمل عندهم على الوجوب أو الندب. وأجيب عنه: بأنه علم من أحواله صلى الله عليه وسلم أنه كان يترك الشي وهو يستحب فعله ليرفع المشقة عن الأمة وقد ندب إلى ذلك بالقول.
وظاهر الحديث عموم الأوقات في شرعيتها وإليه ذهب الجمهور. وقيل: إلا للمتلبس بالحج، وقيل: إلا أيام التشريق، وقيل: ويوم عرفة وقيل: إلا أشهر الحج لغير المتمتع والقارن.
والأظهر أنها مشروعة مطلقاً، وفعله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لها في أشهر الحج ويرد قول من قال بكراهتها فيها، فإنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لم يعتمر عمره الأربع إلا في أشهر الحج كما هو معلوم وإن كانت العمرة الرابعة في حجة، فإنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم حج قارناً كما تظاهرت عليه الأدلة وإليه ذهب الأئمة الأجلة.
2ـ وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله على النساء جهاد؟) هو إخبار يراد به الاستفهام (قال: "نعمْ عليهن جهادٌ لا قتال فيه" كأنها قالت ما هو؛ فقال: "الحجُّ والعُمرةُ" أطلق عليهما لفظ الجهاد مجازاً شبههما بالجهاد وأطلقه عليهما بجامع المشقة وقوله: "لا قتال فيه" إيضاح للمراد وبذكره خرج عن كونه استعارة والجواب من الأسلوب الحكيم (رواه أحمد وابن ماجه واللفظ له) أي لابن ماجه (وإسناده صحيح، وأصله في الصحيح) أي في صحيح البخاري وأفادت عبارته أنه إذا أطلق الصحيح المراد به البخاري.وأراد بذلك ما أخرجه البخاري من حديث عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: يا رسول الله نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد؟ قال: "لا؛ لكن أفضل الجهاد حج مبرور". وأفاد تقييد إطلاق رواية أحمد للحج، أفاد أن الحج والعمرة تقوم مقام الجهاد في حق النساء، وأفاد أيضاً بظاهره أن العمرة واجبة إلا أن الحديث الآتي بخلافه وهو:
3 - وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: أتى النبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أعرابيٌّ) بفتح الهمزة نسبة إلى الأعراب وهم سكان البادية الذين يطلبون مساقط الغيث والكلإ، سواء كانوا من العرب أو من مواليهم، والعربي: من كان نسبه إلى العرب ثابتاً، وجمعه أعراب ويجمع الأعرابي على الأعراب والأعارب (فقال: يا رسول الله أخبرني عن العمرة) أي عن حكمها كما أفاده (أواجبة هي؟ فقال: "لا" أي لا تجب وهو من الاكتفاء "وأن تعتمر خيرٌ لك" أي من تركها، والأخْيِرَة في الأجر تدل على ندبها وأنها غير مستوية الطرفين حتى تكون من(2/178)
المباح، والإتيان بهذه الجملة لدفع ما يتوهم أنها إذا لم تجب ترددت بين الإباحة والندب، بل كان ظاهراً في الإباحة لأنها الأصل فأبان بها ندبها رواه أحمد والترمذي ورفوعا والراجح وقفه على جابر فإنه الذي سأله الأعرابي وأجاب عنه وهو مما للاجتهاد فيه مسرح (وأخرجه ابن عدي من وجه آخر) وذلك أنه رواه من طريق أبي عصمة عن ابن المنكدر عن جابر، ووأبو عصمة كذبوه (ضعيف) لأن في إسناده أبا عصمة، وفي إسناده عند أحمد والترمذي أيضا الحجاج بن أرطأة وهو ضعيف. وقد روى ابن عدي والبيهقي من حديث عطاء عن جابر "الحج والعمرة فريضتان" وسيأتي بما فيه، والقول بأن حديث جابر المذكور صححه الترمذي مردود بما في الإمام أن الترمذي لم يزد على قوله حسن في جميع الروايات عنه وأفرط ابن حزم فقال إنه مكذوب باطل.
وفي الباب أحاديث لا تقوم بها حجة. ونقل الترمذي عن الشافعي أنه قال: ليس في العمرة شيء ثابت أنها تطوع؛ وفي إيجابها أحاديث لا تقوم بها الحجة كحديث عائشة الماضي وكالحديث:
4 - عنْ جابر رضي الله عنه مرْفوعاً: "الحجُّ والعُمْرةُ فريضتان". ولو ثبت لكان ناهضاً على إيجاب العمرة إلا أن المصنف لم يذكر هنا من أخرجه ولا ما قيل فيه. والذي في التلخيص أنه أخرجه ابن عدي والبيهقي من حديث ابن لهيعة عن عطاء عن جابر، وابن لهيعة ضعيف، وقال ابن عدي: هو غير محفوظ عن عطاء، وأخرجه أيضاً الدارقطني من رواية زيد بن ثابت بزيادة "لا يضرك بأيهما بدأت". وفي إحدى طريقيه ضعف، وانقطاع في الأخرى، ورواه البيهقي من طريق ابن سيرين موقوفاً وإسناده أصح وصححه الحاكم.
ولما اختلفت الأدلة في إيجاب العمرة وعدمه اختلف العلماء في ذلك سلفاً وخلفاً. فذهب ابن عمر إلى وجوبها رواه عنه البخاري تعليقاً ووصله عنه ابن خزيمة والدارقطني وعلق أيضاً عن ابن عباس إنها لقرينتها في كتاب الله {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} ووصله عنه الشافعي وغيره، وصرح البخاري بالوجوب وبوب عليه بقوله: "باب وجوب العمرة وفضلها" وساق خبر ابن عمر وابن عباس.واستدل غيره للوجوب بحديث "حج عن أبيك واعتمر" وهو حديث صحيح قال الشافعي لا أعلم في إيجاب العمرة أجود منه. وإلى الإيجاب ذهبت الحنفية لما ذكر من الأدلة، وأما الاستدلال بقوله تعالى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} فقد أجيب عنه بأنه لا يفيد إلا وجوب الإتمام وهو متفق على وجوبه بعد الإحرام بالعمرة ولو تطوعاً.وذهبت الشافعية إلى أن العمرة فرض في الأظهر. والأدلة لا تنهض عند التحقيق على الإيجاب الذي الأصل عدمه.
5 - وعن أنس رضي الله عنه قال: قيل: "يا رسول الله ما السبيل؟" أي الذي ذكر الله تعالى في الآية (قال: "الزَّاد والرَّاحلةُ" رواه الدارقطني وصححه الحاكم قلت: والبيهقي أيضاً من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم (والراجح إرساله) لأنه قال البيهقي: الصواب عن قتادة عن الحسن مرسلا، قال المصنف: يعني الذي أخرجه الدارقطني وسنده صحيح إلى الحسن ولا أرى الموصول إلا وهماً (وأخرجه الترمذي من حديث ابن عمر أيضاً) أي كما أخرجه غيره من حديث أنس (وفي إسناده(2/179)
ضعف) وإن قال الترمذي: إنه حسن، وذلك أن فيه راوياً متروك الحديث وله طرق عن علي وعن ابن عباس وعن ابن مسعود وعن عائشة وعن غيرهم من طرق كلها ضعيفة قال عبد الحق: طرقه كلها ضعيفة. وقال ابن المنذر: لا يثبت الحديث عن ذلك مسنداً، والصحيح من الروايات رواية الحسن المرسلة.وقد ذهب إلى هذا التفسير أكثر الأمة فالزاد شرط مطلقاً والراحلة لمن داره على مسافة.وقال ابن تيمية في شرح العمدة بعد سرده لما ورد في ذلك: فهذه الأحاديث مسندة من طرق حسان ومرسلة وموقوفة تدل على أن مناط الوجوب الزاد والراحلة مع علم النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أن كثيراً من الناس يقدرون على المشي وأيضاً إن الله قال في الحج: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} إما أن يعني القدرة المعتبرة في جميع العبادات وهو مطلق المكنة أو قدراً زائدة على ذلك فإن كان المعتبر هو الأول لم يحتج إلى هذا التقييد كما لم يحتج إليه في آية الصوم والصلاة، فعلم أن المعتبر قدر زائد في ذلك، وليس هو إلا المال، وأيضاً فإن الحج عبادة مفتقرة إلى مسافة، فافتقر وجوبها إلى ملك الزاد والراحلة كالجهاد، ودليل الأصل قوله: {وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} إلى قوله: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} الآية انتهى.وذهب ابن الزبير وجماعة من التابعين إلى أن الاستطاعة هي الصحة لا غير لقوله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} فإنه فسر الزاد بالتقوى وأجيب بأنه غير مراد من الآية كما يدل سبب نزولها. وحديث الباب يدل أنه أريد بالزاد الحقيقة وهو وإن ضعفت طرقه فكثرتها تشد ضعفه، والمراد به كفاية فاصلة عن كفاية من يعول حتى يعود لقوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول" أخرجه أبو داود.ويجزيء الحج وإن كان المال حراماً ويأثم عند الأكثر. وقال أحمد: لا يجزيء.
6- وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لقي ركباً قال عياض: يحتمل أنه لقيهم ليلا فلم يعرفوه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، ويحتمل أنه نهاراً ولكنهم لم يروه قبل ذلك (بالرَوْحاء) براء مهملة وبعد الواو حاء مهملة بزنة حمراء محل قرب المدينة (فقال: "مَنْ القوْم" فقالوا: المسلمون، فقالوا: من أنت؟ قال: "رسول الله" فرفعت إليه امرأة صبياً فقالت: ألهذا حج؟ قال: "نعَمْ ولكِ أَجْرٌ" بسبب حملها وحجها به، أو بسبب سؤالها عن ذلك الأمر، أو بسبب الأمرين أخرجه مسلم والحديث دليل على أنه يصح حج الصبي وينعقد سواء كان مميزاً أم لا حيث فعل وليه عنه ما يفعل الحاج، وإلى هذا ذهب الجمهور ولكنه لا يجزئه عن حجة الإسلام لحديث ابن عباس "إيما غلام حج به أهله ثم بلغ فعليه حجة أخرى" أخرجه الخطيب والضياء المقدسي من حديث ابن عباس وفيه زيادة. قال القاضي: أجمعوا على أنه لا يجزئه إذا بلغ عن فريضة الإسلام إلا فرقة شذت فقالت: يجزئه.لقوله: "نعم" فإن ظاهره حج والحج إذا أطلق يتبادر منه ما يسقط الواجب ولكن العلماء ذهبوا إلى خلاف ذلك. قال النووي: والولي الذي يحرم عن الصبي إذا كان غير مميز وهو ولي ماله وهو أبوه أو جده أو الوصي أي المنصوب من جهة الحاكم أو الأم فلا يصح إحرامها عنه إلا أن تكون(2/180)
وصية عنه أو منصوبة من جهة الحاكم وقيل يصح إحرامها وإحرام العصبة وإن لم يكن لهم ولاية المال وصفة إحرام الولي عنه أن يقول بقلبه جعلته محرماً.
7- وعنه أي ابن عباس (رضي الله عنهما قال: كان الفضل بن عباس رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي في حجة الوداع وكان ذلك في منى (فجاءت امرأة من خَثْعم) بالخاء المعجمة مفتوحة فمثلثة ساكنة فعين مهملة قبيلة معروفة (فجعل الفضل ينظر إليها وتنطر إليه، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر فقالت: يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي) حال كونه (شيخاً) منتصب على الحال وقوله (كبيراً) يصح صفة ولا ينافي اشتراط كون الحال نكرة إذ لا يخرجه ذلك عنها (لا يثبت) صفة ثابتة على الراحلة) يصح صفة أيضاً ويحتمل الحال ووقع في بعض ألفاظه "وإن شددته خشيت عليه" (أفأحج) نيابة (عنه؟ قال: "نَعَمْ" أي حجي عنه (وذلك) أي جميع ما ذكر (في حجة الوداع. متفق عليه واللفظ للبخاري) في الحديث روايات أخر ففي بعضها أن السائل رجل وأنه سأل "هل يحج عن أمه" فيجوز تعدد القضية.وفي الحديث دل على أنه يجزيء الحج عن المكلف إذا كان مأيوساًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًً من القدرة على الحج بنفسه مثل الشيخوخة فإنه مأيوس زوالها، وأما إذا كان عدم القدرة لأجل مرض أو جنون يرجى برؤهما فلا يصح. وظاهر الحديث مع الزيادة أنه لا بد في صحة التحجيج عنه من الأمرين: عدم ثباته على الراحلة، والخشية من الضرر عليه من شده، فمن لا يضره الشد كالذي يقدر على المحفة لا يجزئه حج الغير إلا أنه أدعى في البحر الإجماع على أن الصحة وهي التي يستمسك معها قاعداً شرط بالإجماع فإن صح الإجماع فذاك وإلا فالدليل مع من ذكرنا.قيل: ويؤخذ من الحديث أنه إذا تبرع أحد بالحج عن غيره لزمه الحج عن ذلك الغير وإن كان لا يجب عليه الحج، ووجهه أن المرأة لم تبين أن أباها مستطيع بالزاد والراحلة ولم يستفصل صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عن ذلك، ورد هذا بأنه ليس في الحديث إلا الإجزاء لا الوجوب، فلم يتعرض له، وبأنه يجوز أنها قد عرفت وجوب الحج على أبيها كما يدل لها قولها: "فريضة الله على عباده في الحج". فإنها عبارة دالة على علمها بشرط دليل الوجوب وهو الاستطاعه.واتفق القائلون بإجزاء الحج عن فريضة الغير بأنه لا يجزيء إلا عن موت أو عدم قدرة من عجز ونحوه، بخلاف النفل فإنه ذهب أحمد وأبو حنيفة إلى جواز النيابة عن الغير فيه مطلقاً للتوسيع في النفل.وذهب بعضهم إلى أن الحج عن فرض الغير لا يجزيء أحداً وأن هذا الحكم يختص بصاحبة هذه القصة وإن كان الاختصاص خلاف الأصل، إلا أنه استدل بزيادة رويت في الحديث بلفظ "حجي عنه وليس لأحد بعدك" ورد بأن هذه الزيادة رويت بإسناد ضعيف وعن بعضهم أنه يختص بالولد، وأجيب عنه بأن القياس عليه دليل شرعي وقد نبه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على العلة بقوله في الحديث "فدين الله أحق(2/181)
بالقضاء" كما يأتي فجعله دَيْناً والدين يصح أن يقضيه غير الولد بالاتفاق، وما يأتي من حديث شبرمة.
8- وعنه أي عن ابن عباس (أن امرأة) قال المصنف لم أقف على اسمها ولا اسم أمها (من جُهينة) بضم الجيم بعدها مثناة تحتية فنون اسم قبيلة (جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي نذرت أن تحج ولم تحج حتى ماتت أفأحج عنها؟ قال: "نَعَمْ حُجِّي عَنْهَا، أَرَأيْتِ لَوْ كان على أُمِّك ديْنٌ أكُنْت قاضِيَتَه؟ اقْضُوا اللَّهَ فاللَّهُ أحقُّ بالوفاءِ" رواه البخاري. الحديث دليل على أن الناذر بالحج إذا مات ولم يحج أجزأه أن يحج عنه ولده وقريبه ويجزئه عنه، وإن لم يكن قد حج عن نفسه لأنه صلى الله عليه وسلم لم يسألها حجت عن نفسها أم لا، ولأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم شبهه بالدين وهو يجوز أن يقضي الرجل دين غيره قبل دينه، ورُد بأنه سيأتي في حديث شبرمة ما يدل على عدم إجزاء حج من لم يحج عن نفسه. وأما مسألة الّدين فإنه لا يجوز له أن يصرف ماله إلى دين غيره وهو مطالب بدين نفسه.وفي الحديث دليل على مشروعية القياس وضرب المثل، ليكون أوقع في نفس السامع، وتشبيه المجهول حكمه بالمعلوم، فإنه دل أن قضاء الدين عن الميت كان معلوماً عندهم متقرراً ولهذا حسن الإلحاق به.ودل على وجوب التحجيج عن الميت سواء أوصى أم لم يوص لأن الّدين يجب قضاؤه مطلقاً وكذا سائر الحقوق المالية من كفارة ونحوها. وإلى هذا ذهب ابن عباس وزيد بن ثابت وأبو هريرة والشافعي. ويجب إخراج الأجرة من رأس المال عندهم وظاهره أن يقدم على دين الآدمي وهو أحد أقوال الشافعي ولا يعارض ذلك قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} (النجم: 93) الآية لأن ذلك عام خصه هذا الحديث أو لأن ذلك في حق الكافر، وقيل: اللام في الآية بمعنى على أي ليس عليه مثل: "ولهم اللعنة" أي عليهم، وقد بسطنا القول في هذا حواشي ضوء النهاء.
9- وعنه أي عن ابن عباس رضي الله عنهما، (قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "أيما صبي حج ثم بلغ الحنث" بكسر الحاء المهلمة وسكون النون فمثلثة أي(2/182)
الإثم أي بلغ أن يكتب عليه حنثه "فعليه أن يحج حجة أخرى وأيما عبد حج ثم أعتق فعليه أن يحج حجة أخرى" رواه ابن أبي شيبة والبيهقي ورجاله ثقات إلا أنه اختلف في رفعه والمحفوظ أنه موقوف) قال ابن خزيمة: الصحيح أنه موقوف وللمحدثين كلام كثير في رفعه ووقفه. وروي محمد بن كعب القرظي مرفوعاً قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إني أريد أن أجدد في صدور المؤمنين أيما صبي حج به أهله أجزأت فإن أدرك فعليه الحج" ، ومثله قال في العبد رواه سعيد بن منصور وأبو داود في مراسيله واحتج به أحمد، وروى الشافعي حديث ابن عباس قال ابن تيمية: والمرسل إذا عمل به الصحابة حجة اتفاقاً، قال: وهذا مجمع عليه ولأنه من أهل العبادات فيصح منه الحج ولا يجزئه لأنه فعله قبل أن يخاطب به.
10- وعنه) أي عن ابن عباس رضي الله عنهما (قال: سمعت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يخطب يقول: "لا يخلون رجل بإمرأة" أي أجنبية لقوله: "إلا ومعها ذو محرم ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم" فقام رجل) قال المصنف: لم أقف على تسميته، (فقال: يا رسول الله إن امرأتي خرجت حاجة وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا فقال: "انطلق فحج مع امرأتك" متفق عليه واللفظ لمسلم) دل الحديث على تحريم الخلوة بالأجنبية وهو إجماع، وقد ورد في حديث: "فإن ثالثهما الشيطان" ، وهل يقوم غير المحرم مقامه في هذا بأن يكون معهما من يزيل معنى الخلوة الظاهر أنه يقوم لأن المعنى المناسب للنهي إنما هو خشية أن يوقع بينهما الشيطان الفتنة.
وقال القفال: لا بد من المحرم عملاً بلفظ الحديث: ودل أيضاً على تحريم سفر المرأة من غير محرم وهو مطلق في قليل السفر وكثيره، وقد وردت أحاديث مقيدة لهذا الإطلاق إلا أنها اختلفت ألفاظها، ففي لفظ: "لا تسافر المرأة مسيرة ليلة إلا مع ذي محرم" ، وفي آخر "فوق ثلاث" ، وفي آخر "مسيرة يومين" وفي آخر "ثلاثة أميال" ، وفي لفظ "بريد" وفي آخر "ثلاثة أيام" ، قال النووي: ليس المراد من التحديد ظاهره بل كل ما يسمى سفراً فالمرأة منهية عنه إلا بالمحرم وإنما وقع التحديد عن أمر واقع فلا يعمل بمفهومه. وللعلماء تفصيل في ذلك قالوا: ويجوز سفر المرأة وحدها في الهجرة من دار الحرب والمخافة على نفسها ولقضاء الدين ورد الوديعة والرجوع من النشوز، وهذا مجمع عليه واختلفوا في سفر الحج الواجب فذهب الجمهور إلى أنه لا يجوز للشابة إلا مع محرم ونقل قولاً عن الشافعي أنها تسافر وحدها إذا كان الطريق آمناً ولم ينهض دليله على ذلك، قال ابن دقيق العيد: إن قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} عموم شامل للرجال والنساء وقوله: "لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم" عموم لكل أنواع السفر فتعارض العمومان ويجاب بأن حديث: لا تسافر المرأة للحج إلا مع ذيي محرم: مخصص لعموم الآية، ثم الحديث عام للشابة والعجوز.وقال جماعة من الأئمة يجوز للعجوز السفر من غير محرم وكأنهم نظروا إلى المعنى فخصصوا به العموم، وقيل: لا يخصص بل العجوز كالشابة.
وهل تقوم النساء الثقات(2/183)
مقام المحرم للمرأة؟ فأجاز البعض مستدلاً بأفعال الصحابة ولا تنهض حجة على ذلك لأنه ليس بإجماع، وقيل: يجوز لها السفر إذا كانت ذات حشم، والأدلة لا تدل على ذلك.
وأما أمره صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم له بالخروج مع امرأته فإنه أخذ منه أحمد أنه يجب خروج الزوج مع زوجته إلى الحج إذا لم يكن معها غيره. وغير أحمد قال: لا يجب عليه، وحمل الأمر على الندب، قال: وإن كان لا يحمل على الندب إلا لقرينة عليه فالقرينة عليه ما علم من قواعد الدين أنه لا يجب على أحد بذل منافع نفسه لتحصيل غيره ما يجب عليه. وأخذ من الحديث أنه ليس للرجل منع امرأته من حج الفريضة لأنها عبادة قد وجب عليها، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، سواء قلنا إنه على الفور أو التراخي، أما الأول فظاهر، قيل: وعلى الثاني أيضاً فإن لها أن تسارع إلى براءة ذمتها كما أن لها أن تصلي أول الوقت وليس له منعها. وأما ما أخرجه الدارقطني من حديث ابن عمر مرفوعاً في امرأة لها زوج ولها مال ولا يأذن لها في الحج "ليس لها أن تنطلق إلا بإذن زوجها" فإنه محمول على حج التطوع جمعاً بين الحديثين على أنه ليس في حديث الكتاب ما يدل أنها خرجت من دون إذن زوجها.وقال ابن تميمة: إنه يصح الحج من المرأة بغير محرم ومن غير المستطيع، وحاصله أن من لم يجب عليه لعدم الاستطاعة مثل المريض والفقير والمعضوب والمقطوع طريقه، والمرأة بغير محرم، وغير ذلك إذا تكلفوا شهود المشاهد أجزأهم الحج، ثم منهم من هو محسن في ذلك كالذي يحج ماشياً، ومنهم من هو مسيء في ذلك كالذي يحج بالمسألة، والمرأة تحج بغير محرم وإنما أجزأهم لأن الأهلية تامة والمعصية إن وقعت فهي في الطريق لا في نفس المقصود.
11- وعنه) أي ابن عباس (رضي الله عنهما أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم سمع رجلاً يقول: لبيك عن شُبْرمة) بضم الشين المعجمة فموحدة ساكنة (قال: "من شُبرُمَةُ؟" قال: أخ لي أو قريب لي) شك من الراوي (فقال: "حججتَ عنْ نفسك؟" قال: لا: قال: "حُجَّ عنْ نفْسكَ ثمَّ حُجَّ عَنْ شُبْرُمَة" رواه أبو داود وابن ماجه وصححه ابن حبان والراجح عند أحمد وقفه). وقال البيهقي: إسناده صحيح وليس في هذا الباب أصح منه. وقال أحمد بن حنبل: رفعه خطأ. وقال ابن المنذر: لا يثبت رفعه، وقال الدارقطني: المرسل أصح، قال المصنف: هو كما قال، لكنه يقوي المرفوع لأنه من غير رجاله، وقال ابن تيمية: إن أحمد حكم في رواية ابنه صالح عنه أنه مرفوع فيكون قد اطلع على ثقة من رفعه، قال: وقد رفعه جماعة. على أنه وإن كان موقوفاً فليس لابن عباس فيه مخالف. والحديث دليل على أنه لا يصح أن يحج عن غيره من لم يحج نفسه لأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أمره أن يجعله عن نفسه بعد أن لبى عن شبرمة فدل على أنها لم تنعقد النية عن غيره وإلا لأوجب عليه المضي فيه.
وأن الإحرام ينعقد مع الصحة والفساد وينعقد مطلقاً مجهولاً معلقاً فجاز أن يقع عن غيره ويكون عن نفسه وهذا لأن إحرامه عن الغير باطل لأجل النهي، والنهي يقتضي الفساد، وبطلان صفة الإحرام لا يوجب بطلان أصله وهذا قول أكثر الأئمة أنه لا يصح أن يحج عن غيره من لم يحج عن نفسه(2/184)
مطلقاً مستطيعاً كان أو لا، لأن ترك الاستفصال والتفريق في حكاية الأحوال دال على العموم، ولأن الحج واجب في أول سنة من سنى الإمكان فإذا أمكنه فعله عن نفسه لم يجز أن يفعله عن غيره، لأن الأوّل فرض والثاني نفل، كمن عليه دين وهو مطالب به ومعه دراهم بقدره لم يكن له أن يصرفها إلا إلى دينه وكذلك كل ما احتاج أن يصرفه إلى واجب عنه فلا يصرفه إلى غيره، إلا أن هذا إنما يتم في المستطيع، ولذا قيل: إنما يؤمر أن يبدأ بالحج عن نفسه إذا كان واجباً عليه، وغير المستطيع لم يجب عليه فجاز أن يحج عن غيره ولكن العمل بظاهر عموم الحديث أولى.
12.- وعنه) أي ابن عباس رضي الله عنهما (قال: خطبنا رسول صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فقال: "إن الله كتب عليكم الحج" فقام الأقرع بن حابس فقال: أفي كل عام يا رسول الله؟ قال: "لو قُلتها لوجبت، الحج مرَّة، فما زاد فَهُوَ تطوع" رواه الخمسة غير الترمذي وأصله في مسلم من حديث أبي هريرة) وفي رواية زيادة بعد قوله لو جبت "ولو وجبت لم تقوموا بها ولو لم تقوموا بها لعذبتم" . والحديث دليل على أنه لا يجب الحج إلا مرة واحدة في العمر على كل مكلف مستطيع. وقد أخذ من قوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لو قلت نعم لو جبت" . أنه يجوز أن يفوّض الله إلى الرسول صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم شرح الأحكام ومحل المسألة الأصول وفيها خلاف بين العلماء قد أشار إليه الشارح رحمه الله.(2/185)
باب المواقيت
المواقيت: جمع ميقات، والميقات: ما حدّ ووقّت للعبادة، من زمان ومكان، والتوقيت: التحديد، ولهذا يذكر في هذا الباب ما حده الشارع للإحرام من الأماكن
1- عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وقت لأهل المدينة ذا الحُلَيْفَة) بضم الحاء المهملة وبعد اللام مثناة تحتية وفاء: تصغير حلفة، والحلفة: وواحدة الحلفاء نبت في الماء. وهي مكان معروف بينه وبين مكة عشر مراحل، وهي من المدينة على فرسخ، وبها المسجد الذي أحرم منه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم والبئر تسمى الآن "بئر علي"، وهي أبعد المواقيت إلى مكة (ولأهل الشام الجُحْفَة) بضم الجيم وسكون الحاء المهملة ففاء سميت بذلك لأن السيل اجتحف أهلها إلى الجبل الذي هنالك، وهي من مكة على ثلاث مراحل، وتسمى "مهيعة" كانت قرية قديمة، وهي الآن خراب، ولذا يحرمون الآن من رابغ قبلها لوجود الماء بها للاغتسال (ولأهل نجد قَرْن المنازل) بفتح القاف وسكون الراء، ويقال له: "قرن الثعالب" بينه وبين مكة مرحلتان (ولأهل اليمن يلملم) بينه وبين مكة مرحلتان (هنّ) أي المواقيت (لهنّ) أي البلدان المذكورة والمراد لأهلها ووقع في بعض الروايات "هنّ لهم" ، وفي رواية للبخاري "هنّ لأهلهنّ" (ولمن أتى عليهنّ من غيرهنّ ممن أراد الحج والعمرة ومن كان دون ذلك) المذكور من(2/185)
المواقيت (فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة) يحرمون (من مكة) بحج أو عمرة (متفق عليه). فهذه المواقيت التي عينها صلى الله عليه وسلم لمن ذكره من أهل الآفاق، وهي أيضاً مواقيت لمن أتى عليها، وإن لم يكن من أهل تلك الآفاق المعينة، فإنه يلزمه الإحرام منها إذا أتى عليها قاصداً لإتيان مكة لأحد النسكين، فيدخل في ذلك ما إذا ورد الشامي مثلاً إلى ذي الحليفة فإنه يجب عليه الإحرام منها، ولا يتركه حتى يصل الجحفة، فإن أخر أساء ولزمه دم هذا عند الجمهور.وقالت المالكية: إنه يجوز له التأخير إلى ميقاته، وإن كان الأفضل له خلافه، قالوا: والحديث محتمل فإن قوله "هنّ لهنّ" ظاهره العموم لمن كان من أهل تلك الأقطار، سواء ورد على ميقاته أو ورد على ميقات آخر فإن له العدول إلى ميقاته، كما لو ورد الشامي على ذي الحليفة فإنه لا يلزمه الإحرام منها بل يحرم من الجحفة. وعموم قوله: "ولمن أتى عليهنّ من غيرهنّ" يدل على أنه يتعين على الشامي في مثالنا: أن يحرم من ذي الحليفة لأنه من غير أهلهنّ. قال ابن دقيق العيد: قوله: "ولأهل الشام الجحفة" يشمل من مرّ من أهل الشام بذي الحليفة ومن لم يمرّ وقوله: "ولمن أتى عليهن من غير أهلهنّ" يشمل الشامي إذا مر بذي الحليفة وغيره، فههنا عمومان قد تعارضا انتهى ملخصاً. قال المصنف: ويحصل الانفكاك بأن قوله: "هنّ لهنّ" ، مفسر لقوله مثلاً: "وقت لأهل المدينة ذا الحليفة" وأن المراد بأهل المدينة ساكنوها، ومن سلك طريق ميقاتهم فمرّ على ميقاتهم انتهى. قلت: وإن صح ما قد روي من حديث عروة "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وقت لأهل المدينة ومن مر بهم ذا الحليفة" تبين أن الجحفة إنما هي ميقات للشامي إذا لم يأت المدينة. ولأن هذه المواقيت محيطة بالبيت كإحاطة جوانب الحرم، فكل من مرّ بجانب من جوانبه لزمه تعظيم حرمته، وإن كان بعض جوانبه أبعد من بعض ودل قوله: "ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ" على أن من كان بين الميقات ومكة فميقاته حيث أنشأ الإحرام، إما من أهله ووطنه، أو من غيره. وقوله: "حتى أهل مكة من مكة" دل على أن أهل مكة يحرمون من مكة، وأنها ميقاتهم، سواء كان من أهلها أو من المجاورين أو الواردين إليها، أحرم بحج أو عمرة. وفي قوله: "ممن أراد الحج والعمرة" ما يدل أنه لا يلزم الإحرام إلا من أراد دخول مكة لأحد النسكين، فلو لم يرد ذلك جاز له دخولها من غير إحرام، وقد دخل ابن عمر بغير إحرام، ولأنه قد ثبت بالاتفاق أن الحج، والعمرة عند من أوجبها إنما تجب مرة واحدة، فلو أوجبنا على كل من دخلها أن يحج أو يعتمر لوجب أكثر من مرة، ومن قال: إنه لا يجوز مجاوزة الميقات إلا بالإحرام إلا من استثنى من أهل الحاجات كالحطابين فإن له في ذلك آثاراً عن السلف ولا تقوم بها حجة. فمن دخل مريداً مكة لا ينوي نسكاً من حج ولا عمرة وجاوز ميقاته بغير إحرام، فإن بدا له إراده أحد النسكين أحرم من حيث أراد ولا يلزمه أن يعود إلى ميقاته. واعلم أن قوله: "حتى أهل مكة من مكة" يدل أن ميقات عمرة أهل مكة كحجهم، وكذلك القارن منهم، ميقاته مكة ولكن قال المحب الطبري: إنه لا يعلم أحداً جعل مكة ميقاتاً للعمرة، وجوابه أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلّم جعلها ميقاتاً لها بهذا الحديث، وأما ما روي عن ابن عباس أنه قال: "يا أهل(2/186)
مكة من أراد منكم العمرة فليجعل بينه وبينهاٍ بطن محسر" وقال أيضاً: "من أراد من أهل مكة أن يعتمر خرج إلى التنعيم ويجاوز الحرم" فآثار موقوفة لا تقاوم المرفوع، وأما ما ثبت من أمره صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لعائشة بالخروج إلى التنعيم لتحرم بعمرة فلم يرد إلا تطييب قلبها بدخولها إلى مكة معتمرة كصواحباتها، لأنها أحرمت بالعمرة معه ثم حاضت فدخلت مكة ولم تطف بالبيت كما طفن، كما يدل له قولها قلت: يا رسول الله يصدر الناس بنسكين وأصدر بنسك واحد قال: "انتظري فاخرجي إلى التنعيم فأهلي منه" . الحديث، فإنه محتمل أنها إنما أرادت أن تشابه الداخلين من الحل إلى مكة بالعمرة ولا يدل أنها لا تصح العمرة إلا من الحل لمن صار في مكة ومع الاحتمال لا يقاوم حديث الكتاب، وقد قال طاوس: لا أدري الذي يعتمرون من التنعيم يؤجرون أو يعذبون، قيل له: فلم يعذبون؟ قال: لأنه يدع البيت والطواف ويخرج إلى أربعة أميال ويجيء أربعة أميال قد طاف مائتي طواف وكلما طاف كان أعظم أجراً من أن يمشي في غير ممشى، إلا أن كلامه في تفضيل الطواف على العمرة. قال أحمد: العمرة بمكة من الناس من يختارها على الطواف، ومنهم من يختار المقام بمكة والطواف، وعند أصحاب أحمد أن المكي إذا أحرم للعمرة من مكة كانت عمرة صحيحة قالوا: ويلزمه دم لما ترك من الإحرام من الميقات. قلت: ويأتيك أن إلزامه الدم لا دليل عليه.
2- وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وقت لأهل العراق ذات عِرْق ) بكسر العين المهملة وسكون الراء بعدها قاف، بينه وبين مكة مرحلتان، وسمي بذلك: لأن فيه عرقاً وهو الجبل الصغير (رواه أبو داود والنسائي وأصله عند مسلم من حديث جابر إلا أن راويه شك في رفعه) لأن في صحيح مسلم عن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله سئل عن المهل فقال: سمعت أحسبه رفع إلى النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فلم يجزم برفعه (وفي البخاري أن عمر هو الذي وقت ذات عرق) وذلك أنها لمّا فتحت البصرة والكوفة أي أرضهما، وإلا فإن الذي مصرهما المسلمون طلبوا من عمر أن يعين لهم ميقاتاً فعين له ذات عرق وأجمع عليه المسلمون. قال ابي تيمية في المنتقى: والنص بتوقيت ذات عرق ليس في القوة كغيره، فإن ثبت فليس ببدع وقوع اجتهاد عمر على وفقه، فإنه كان موافقاً للصواب، كأن عمر لم يبلغه الحديث فاجتهد بما وافق النص، هذا وقد انعقد الإجماع على ذلك، وقد روى رفعه بلا شك من حديث أبن الزبير عن جابر عند ابن ماجه، ورواه أحمد مرفوعاً عن جابر بن عبد الله؛ وعن ابن عمرو وفي إسناده الحجاج بن أرطاة. ورواه أبو داود والنسائي والدارقطني وغيرهم من حديث عائشة: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وقت لأهل العراق ذات عرق" . بإسناد جيد، ورواه عبد الله بن أحمد أيضاً عنها، وقد ثبت مرسلاً عن مكحول، وعطاء، قال ابن تيمية: وهذه الأحاديث المرفوعة الجياد الحسان يجب العمل بمثلها مع تعددها ومجيئها مسندة ومرسلة من وجوه شتى وأما ما ذكره بقوله:
3- وعند أَحمد وأَبي داودَ والتِّرمذي عن ابن عبّاس: "أَنَّ النّبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وقّت لأهل المشرقِ العقيق" فإنه وإن قال فيه الترمذي: إنه حسن، فإن مداره على يزيد(2/187)
ابن أبي زياد وقد تكلم فيه غير واحد من الأئمة.قال ابن عبد البر: أجمع أهل العمل على أن إحرام العراق من ذات عرق إحرام من الميقات، هذا والعقيق يعدّ من ذات عرق وقد قيل: إن كان لحديث ابن عباس هذا أصل فيكون منسوخاً، لأن توقيت ذات عرق كان في حجة الوداع، حين أكمل الله دينه كما يدل له ما أخرجه الحارث بن عمرو السهمي قال: أتيت النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وهو بمنى أو عرفات وقد أطاف به الناس قال: فتجيء الأعراب فإذا رأوا وجهه قالوا: هذا وجه مبارك قال: ووقت ذات عرق لأهل العراق. رواه أبو داود والدارقطني.(2/188)
باب وجوه الإحرام وصفته
الوجوه جمع وجه والمراد بها الأنواع التي يتعلق بها الإحرام وهو الحج أوالعمرة أو مجموعهما. وصفته: كيفيته التي يكون فاعلها بها محرماً.
1-. عن عائشة رضي الله عنها قالت خرجنا) أي من المدينة، وكان خروجه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يوم السبت لخمس بقين من ذي القعدة، بعد صلاته الظهر بالمدينة أربعاً، وبعد أنت خطبهم خطبة علمهم فيها الإحرام، وواجباته، وسننه، (مع رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عام حجة الوداع) وكان ذلك سنة عشر من الهجرة، سميت بذلك لأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ودع الناس فيها، ولم يحج بعد هجرته غيرها، (فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج وعمرة) فكان قارناً (ومنا من أهل بحج) فكان مفرداً (وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج، فأما من أهل بعمرة فحل عند قدومه) مكة بعد إتيانه ببقية أعمال العمرة (وأما من أهل بحج، أو جمع بين الحج والعمرة فلم يحلوا حتى كان يوم النحر . متفق عليه).
الإهلال: رفع الصوت، قال العلماء: هو هنا رفع الصوت بالتلبية عند الدخول في الإحرام.
ودل حديثها على أنه وقع من مجموع الركب الذين صحبوه في حجه هذه الأنواع، وقد رويت عنها روايات تخالف هذا، وجمع بينها بما ذكرناه، وقد اختلفت الروايات في إحرام عائشة بماذا كان، لاختلاف الروايات أيضاً.ودل حديثها على أنه وقع من ذلك الركب الإحرام بأنواع الحج الثلاثة. فالمحرم بالحج هو من حج الإفراد، والمحرم بالعمرة هو من حج التمتع، والمحرم بهما هو القارن. ودل حديثها على أن من أهل بالحج مفرداً له عن العمرة لم يحل إلا يوم النحر، وهذا يخالف ما ثبت من الأحاديث عن أربعة عشر صحابياً في الصحيحين وغيرهما "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أمر من لم يكن معه هدي أن يفسخ حجه إلى العمرة". قيل: فيتأوّل حديث عائشة على تقييده بمن كان معه هدي وأحرم بحج مفرداً فإنه كمن ساق الهدي وأحرم بالحج والعمرة معاً.
وقد اختلف العلماء قديماً وحديثاً في الفسخ للحج إلى العمرة، هل هو خاص بالذين حجوا معه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أو لا؟ وقد بسط ذلك ابن القيم في زاد المعاد، وأفردناه برسالة، ولا يحتمل هنا نقل الخلاف والإطالة.واختلف العلماء أيضاً فيما أحرم به صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم والأكثر أنه أحرم بحج وعمرة فكان قارناً وحديث عائشة هذا أدل على أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أحرم(2/188)
بالحج مفرداً لكن الأدلة على أنه حج قارن واسعة جداً.واختلفوا أيضاً في الأفضل من أنواع الحج والأدلة تدل على أن أفضلها القران. وقد استوفي أدلة ذلك ابن القيم.(2/189)
باب الإحرام وما يتعلق به
الإحرام: الدخول في أحد النسكين والتشاغل بأعماله بالنية.
1- وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ما أهل رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إلا من عند المسجد ) أي مسجد ذي الحليفة (متفق عليه) هذا قاله ابن عمر ردّاً على من قال: إنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أحرم من البيداء، فإنه قال: بيداؤكم هذه التي تكذبون على رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أنه أهل منها ما أهل الحديث. وفي رواية: "أنه أهل من عند الشجرة حين قام به بعيره" والشجرة كانت عند المسجد، وعند مسلم: أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ركع ركعتين بذي الحليفة ثم إذا استوت الناقة قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهل"، وقد جمع بين حديث الإهلال بالبيداء والإهلال بدي الحليفة بأنه صلى الله عليه وسلم لما أهل منهما وكل من روى أنه أهل بكذا فهو راو لما سمعه من إهلاله، وقد أخرج أبو داود والحاكم من حديث ابن عباس "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لمّا صلى في مسجد ذي الحليفة ركعتين أهل بالحج حين فرغ منهما، فسمع قوم فحفظوه فلما استقرت به راحلته أهلَّ وأدرك ذلك منه قوم لم يشهدوا في المرة الأولى فسمعوه حين ذاك فقالوا: إنما أهل حين استقلت به راحلته ثم مضى فلما على علا شرف البيداء أهلَّ وأدرك ذلك قوم لم يشهدوه فنقل كما سمع" . الحديث:
ودل الحديث على أن الأفضل أن يحرم من الميقات لا قبله فإن أحرم قبله فقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن من أحرم قبل الميقات أنه محرم، وهل يكره؟ قيل: نعم، لأن قول الصحابة "وقت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لأهل المدينة ذا الحليفة" يقضي بالإهلال من هذه المواقيت ويقضي بنفي النقص والزيادة، فإن لم تكن الزيادة محرمة فلا أقل من أن يكون تركها أفضل، ولولا ما قيل من الإجماع بجواز ذلك لقلنا بتحريمه لأدلة التوقيت، ولأن الزيادة على المقدرات من المشروعات كأعداد الصلاة ورمي الجمار لا تشرع، كالنقص منها، وإنما لم يجزم بتحريم ذلك لما ذكرنا من الإجماع، ولأنه روي عن عدة من الصحابة تقديم الإحرام على الميقات فأحرم ابن عمر من بيت المقدس، وأحرم أنس من العقيق، وأحرم ابن عباس من الشام، وأهلّ عمران بن حصين من البصرة، وأهل ابن مسعود من القادسية.
وورد في تفسير الآية "أن الحج والعمرة إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك" عن علي وابن مسعود، وإن كان قد تؤول بأن مرادهما أن ينشيء لهما سفراً مفرداً من بلده كما أنشأ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لعمرة الحديبية والقضاء سفراً من بلده، ويدل لهذا التأويل أن علياً لم يفعل ذلك، ولا أحد من الخلفاء الراشدين، ولم يحرموا بحج ولا عمرة إلا من الميقات، بل لم يفعله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فكيف يكون ذلك تمام الحج ولم يفعله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ولا أحد من الخلفاء ولا جماهير الصحابة.
نعم الإحرام من بيت المقدس بخصوصه ورد فيه حديث(2/189)
أم سلمة: سمعت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقول: "من أهل من المسجد الأقصى بعمرة أو بحجة غفر له ما تقدم من ذنبه" رواه أحمد وفي لفظ: "من أهل بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، أو وجبت له الجنة" شك عبد الله أيتهما قال. ورواه ابن ماجه بلفظ "من أهل بعمرة من بيت المقدس كانت كفارة لما قبلها من الذنوب" فيكون هذا مخصوصاً ببيت المقدس فيكون الإحرام منه خاصة أفضل من الإحرام من المواقيت، ويدل له إحرام ابن عمر منه ولم يفعل ذلك من المدينة على أن منهم من ضعف الحديث ومنهم من تأوله بأن المراد ينشيء لهما السفر من هنالك.
2- وعن خَلاد) بفتح الخاء المعجمة وتشديد اللام آخره دال مهملة (ابن السائب) بالسين المهملة (عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أَتاني جبريل فأَمرني أَنْ آمُر أَصحابي أَنْ يرْفعوا أَصواتهمْ بالإهلال" رواه الخمسة وصححه الترمذي وابن حبان) وأخرج ابن ماجه " أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم سئل أي الحج أفضل؟ قال: "العج والثج" وفي رواية عن السائب عنه صلى الله عليه وسلم : "أتاني جبريل فقال: "كن عجاجاً ثجاجاً" والعج رفع الصوت والثج نحر البدن.
كل ذلك دال على استحباب رفع الصوت بالتلبية، وإن كان ظاهر الأمر الوجوب. وأخرج ابن أبي شيبة "أن أصحاب رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كانوا يرفعون أصواتهم بالتلبية حتى تبح أصواتهم" وإلى هذا ذهب الجمهور.
وعن مالك: لا يرفع صوته بالتلبية إلا عند المسجد الحرام، مسجد منى.
3- وعنْ زيد بن ثابت رضي الله عنه "أَنَّ النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم تجرَّد لإهلاله واغتسل" رواه الترمذي وحسّنهُ.
وغربه، وضعفه العقيلي، وأخرجه الدارقطني والبيهقي والطبراني، ورواه الحاكم والبيهقي من طريق يعقوب بن عطاء عن أبيه عن ابن عباس قال: "اغتسل رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ثم لبس ثيابه فلما أتى ذا الحليفة صلى ركعتين ثم قعدعلى بعيره فلما استوى به على البيداء أحرم بالحج" ويعقوب ابن عطاء بن أبي رباح ضعيف. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "من السنة أن يغتسل إذا أراد الإحرام وإذا أراد دخول مكة" .
ويستحب التطيب قبل الإحرام. لحديث عائشة: "كنت أطيب النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بأطيب ما أجد" . وفي رواية: "كنت أطيب رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بأطيب ما أقدر عليه قبل أن يحرم ثم يحرم" . متفق عليه ويأتي الكلام في ذلك.
4- وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم سئل عما يلبس المحرم من الثياب قال: "لا يَلْبسُ القميص ولا العمائم ولا السراويلات ولا الْبرانس ولا الخفاف إلا أَحدٌ لا يجد النعلين) أي لا يجدهما يباعان أو يجدهما يباعان ولكن ليس معه ثمن فائض عن حوائجه الأصلية كما في سائر الأبدال (فَلْيَلْبس الخفين وليقطعهما أَسفل من الكعبين، ولا تَلْبسوا شيئاً من الثياب مَسّه الزعفران ولا الورس")(2/190)
بفتح الواو وسكون الراء آخره سين مهملة (متفق عليه واللفظ لمسلم) وأخرج الشيخان من حديث ابن عباس "سمعت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يخطب بعرفات: من لم يجد إزاراً فليلبس سراويل ومن لم يجد نعلين فليلبس خفين" ومثله عند أحمد والظاهر أنه ناسخ لحديث ابن عمر بقطع الخفين لأنه قاله بعرفات في وقت الحاجة، وحديث ابن عمر كان في المدينة، قاله ابن تيمية في المنتقى.
واتفقوا على أن المراد بالتحريم هنا على الرجل ولا تلحق به المرأة في ذلك.
واعلم أنه تحصل من الأدلة أنه يحرم على المحرم الخف ولبس القميص والعمامة والبرانس والسراويل وثوب مسه ورس أو زعفران ولبس الخفين إلا لعدم غيرهما فيشقهما ويلبسهما والطيب والوطء.
والمراد من القميص كل ما أحاط بالبدن مما كان عن تفصيل وتقطيع.
وبالعمامة ما أحاط بالرأس فليحق بها غيرها مما يغطي الرأس، قال الخطابي: ذكر البرانس والعمامة معاً ليدل على أنه لا يجوز تغطية الرأس لا بالمعتاد ولا بالنادر كالبرانس وهو كل ثوب رأسه منه ملتزقاً به من جبة أو دراعة أو غيرهما.
واعلم أن المصنف لم يأت بالحديث فيما يحرم على المرأة المحرمة، والذي يحرم عليها في الأحاديث الانتقاب أي لبس النقاب، كما يحرم لبس الرجل القميص والخفين فيحرم عليها النقاب، ومثله البرقع وهو الذي فصل على قدر ستر الوجه، لأنه الذي ورد به النص، كما ورد بالنهي عن القميص للرجل مع جواز ستر الرجل لبدنه بغيره اتفاقاً، فكذلك المرأة المحرمة تستر وجهها بغير ما ذكر كالخمار والثوب ومن قال: إن وجهها كرأس الرجل المحرم لا يغطى بشي فلا دليل معه.ويحرم عليها لبس القفازين ولبس مامسّه ورس أو زعفران من الثياب.وبياح لها ما أحبت من غير ذلك من حلية وغيرها والطيب،وأما الصيد وحلق الرأس فالظاهر أنهن كالرجل في ذلك والله أعلم.وأما الانغماس في الماء، ومباشرة المحمل بالرأس، وستر الرأس باليد، وكذا وضعه على المخدة عند النوم، فإنه لا يضر لأنه لا يسمى لابساً. والخفاف جمع خف وهو ما يكون إلى نصف الساق، ومثله في الحكم الجوارب، وهو ما يكون إلى فوق الركبة وقد أبيح لمن لم يجد النعلين بشرط القطع إلا أنك قد سمعت ما قاله في المنتقى من نسخ القطع وقد رجحه في الشرح بعد إطالة الكلام بذكر الخفاف في المسألة ثم ألحق أنه لا فدية على لابس الخفين لعدم النعلين.
وخالفت الحنفية فقالوا: تجب الفدية.
ودل الحديث على تحريم لبس ما مسّه الزعفران والورس. واختلف في العلة التي لأجلها النهي هل هي الزينة أو الرائحة، فذهب الجمهور إلى أنها الرائحة فلو صار الثوب بحيث إذا أصابه الماء لم يظهر له رائحة جاز الإحرام فيه. وقد ورد في رواية "إلا أن يكون غسيلاً" وإن كان فيها مقال، ولبس المعصفر والمورّس محرم على الرجال في حال الحل كما في الإحرام.
5- وعَنْ عائشةَ رضي الله عنها قالت: "كُنْتُ أُطيِّبُ رسولَ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لإحرامهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرمَ ولحلِّه قبل أن يطوفَ بالبيت" مُتفقٌ عليه.
فيه دليل استحباب التطيب عند إرادة فعل الإحرام، وجواز استدامته بعد الإحرام وأنه لا يضر بقاء لونه وريحه وإنما يحرم ابتداؤه في حال الإحرام وإلى هذا ذهب جماهير الأئمة والصحابة والتابعين.(2/191)
وذهب جماعة منهم إلى خلافه وتكلفوا لهذه الرواية ونحوها بما لا يتم به مدعاهم فإنهم قالوا: إنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم تطيب ثم اغتسل بعده فذهب الطيب.
قال النووي في شرح مسلم بعد ذكره: الصواب ما قاله الجمهور من أنه يستحب الطيب للإحرام لقولها: "لإحرامه" .
ومنهم من زعم أن ذلك خاص به صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ولا يتم ثبوت الخصوصية إلا بدليل عليها، بل الدليل قائم على خلافها ووهو ما ثبت من حديث عائشة: "كنا نضمح وجوهنا بالمسك المطيب قبل أن نحرم فنعرق ويسيل على وجوهنا ونحن مع رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فلا ينهانا" . رواه أبو داود، وأحمد بلفظ: "كنا نخرج مع رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إلى مكة فننضح جباهنا بالمسك المطيب عند الإحرام فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها فيراه النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فلا ينهانا" . ولا يقال هذا خاص بالنساء في الطيب سواء بالإجماع فالطيب يحرم بعد الإحرام لا قبله وإن دام حاله فإنه كالنكاح لأنه من دواعيه والنكاح إنما يمنع المحرم من ابتدائه لا من استدامته فكذلك الطيب، ولأن الطيب من النظافة من حيث إنه يقصد به دفع الرائحة الكريهة كما يقصد بالنظافة إزالة ما يجمعه الشعر والظفر من الوسخ، ولذا استحب أن يأخذ قبل الإحرام من شعره وأظفاره، لكونه ممنوعاً منه بعد الإحرام، وإن بقي أثره بعده.
وأما حديث مسلم في الرجل الذي جاء يسأل النبي صلى الله عليه وسلم كيف يصنع في عمرته وكان الرجل قد أحرم وهو متضمخ بالطيب فقال: يا رسول الله ما ترى في رجل أحرم بعمرة في جبة بعد ما تضمخ بالطيب؟ فقال صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات الحديث" فقد أجيب عنه بأن هذا السؤال والجواب كانا بالجعرانة في ذي القعدة سنة ثمان، وقد حج صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم سنة عشر، واستدام الطيب، وإنما يؤخذ بالآخر من أمر رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، لأنه يكون ناسخاً للأول.وقولها: "لحله قبل أن يطوف بالبيت" المراد لحله الإحلال الذي يحل به كل محظور وهو طواف الزيارة وقد كان حل بعض الإحلال وهو بالرمي الذي يحل به الطيب وغيره ولا يمنع بعده إلا من النساء. وظاهر هذا أنه قد كان فعل الحق والرمي وبقي الطواف:
6- وعن عثمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ينكحُ" بفتح حرف المضارعة أي لا ينكح هو لنفسه (المحرم ولا ينكح) بضم حرف المضارعة لا يعقد لغيره (ولا يخطبُ) له ولا لغيره (رواه مسلم.
والحديث دليل على تحريم العقد على المحرم لنفسه ولغيره، وتحريم الخطبة كذلك،
والقول بأنه صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة بنت الحرث وهو محرم لرواية ابن عباس لذلك، مردود بأن رواية أبي رافع "أنه تزوجها صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وهو حلال" "أرجح لأن كان السفير بينهما، أي بين النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وبين ميمونة، ولأنها رواية أكثر الصحابة، قال القاضي عياض: لم يرو أنه تزوجها محرماً إلا ابن عباس وحده حتى قال سعيد: ذهل ابن عباس وإن كانت خالته ما تزوجها رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إلا بعد ما حل ذكره البخاري.
ثم ظاهر النهي في الثلاثة التحريم، إلا أنه قيل إن النهي في الخطبة للتنزيه وإنه إجماع، فإن صح الإجماع فذاك ولا أظن(2/192)
صحته، وإلا فالظاهر هو التحريم. ثم رأيت بعد هذا نقلاً عن ابن عقيل الحنبلي أنها تحرم الخطبة أيضاً، قال ابن تيمية: لأن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم نهى عن الجميع نهياً واحداً ولم يفصل وموجب النهي التحريم وليس ما يعارض ذلك من أثر أو نظر.
7- وعن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه في قصة صيده الحمار الوحشي وهو غير محرم) وكان ذلك عام الحديبية (قال: فقال النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لأصحابه وكانوا محرمين: "هل منكم أَحدٌ أَمَرهُ أوْ أَشار إليه بشيءٍ؟" فقالوا: لا، قال: "فكلوا ما بقي من لحمه" متفق عليه) قد استشكل عدم إحرام أبي قتادة وقد جاوز الميقات وأجيب عنه بأجوبه.منها: أنه كان قد بعثه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم هو وأصحابه لكشف عدّو لهم بالساحل.
ومنها أنه لم يخرج مع النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بل بعثه أهل المدينة.ومنها أنها لم تكن المواقيت قد وقتت في ذلك الوقت.والحديث دليل على جواز أكل المحرم لصيد البر، والمراد به إن صاده غير محرم ولم يكن منه إعانة على قتله بشيء وهو رأي الجماهير والحديث نص فيه.وقيل: لا يحل أكله، وإن لم يكن منه إعانة عليه. ويروى هذا عن علي عليه السلام وابن عباس وابن عمر وهو مذهب الهادوية عملاً بظاهر قوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} بناء على أنه أريد بالصيد المصيد. وأجيب عنه: بأن المراد في الآية: الاصطياد، ولفظ الصيد وإن كان متردداً بين المعنيين، لكن بين حديث أبي قتادة المراد. وزاده بياناً حديث جابر بن عبد الله عنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أنه قال: "صيد البر حلال لكم ما لم تصيدوه أو يصد لكم" أخرجه أصحاب السنن وابن خزيمة وابن حبان والحاكم إلا أن في بعض رواته مقالاً بينه المصنف في التلخيص. وعلى تقدير أن المراد في الآية الحيوان الذي يصاد فقد ثبت تحريم الاصطياد من آيات أخر ومن أحاديث. ووقع البيان بحديث جابر فإنه نص في المراد. والحديث فيه زيادة وهي قوله صلى الله عليه وسلم: "هل معكم من لحكمه شيء" وفي رواية: " هل معكم منه شيء" قالوا: معنا رجله، فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكلها" إلا أنه لم يخرج الشيخان هذه الزيادة واستدل المانع لأكل المحرم الصيد مطلقاً بقوله:
8.- وعن الصَعْب) بفتح الصاد المهملة وسكون العين المهملة فموحدة (ابن جثامة) بفتح الجيم وتشديد المثلثة (الليثي رضي الله عنه أنه أهدى لرسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم حماراً وحشياً) وفي رواية: "حمار وحش يقطر دماً" ، وفي أخرى: "لحم حمار وحش" ، وفي آخرى: "عجز حمار وحش" ، وفي رواية: "عضداً من لحم صيد" ، كلها في مسلم (وهو بالأبواء) ممدود (أو بودّان) بفتح الواو وتشديد الدال المهملة وكان ذلك في حجة الوداع (فردّه عليه وقال: "إنّا لمْ نَرُدَّهُ" بفتح الدال رواه المحدثون وأنكره المحققون من أهل العربية، وقالوا: صوابه ضمها لأنه القاعدة في تحريك الساكن إذا كان بعده ضمير المذكر الغائب على الأصح، وقال النووي في شرح مسلم: في ردّه ونحوه للمذكر ثلاثة أوجه أوضحها الضم والثاني الكسر وهو ضعيف والثالث الفتح وهو أضعف منه، بخلاف ما إذا اتصل به ضمير المؤنث، نحو ردّها فإنه بالفتح "عليك إلا أَنّا حُرُمٌ"" بضم الحاء والراء أي محرمون (متفق عليه.
دل على أنه لا يحل لحم الصيد(2/193)
للمحرم مطلقاً، لأنه علل صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ردّه لكونه محرماً، ولم يستفصل هل صاده لأجله أولاً، فدل على التحريم مطلقاً، وأجاب من جوّزه بأنه محمول على أنه صيد لأجله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فيكون جمعاً بينه وبين حديث أبي قتادة، والجمع بين الأحاديث إذا أمكن أولى من إطراح بعضها، وقد دل لهذا أن في حديث أبي قتادة الماضي عند أحمد وابن ماجه بإسناد جيد: "إنما صدته له وأنه أمر أصحابه يأكلون ولم يأكل منه حين أخبرته أني اصطدته له" . قال أبو بكر النيسابوري: قوله "اصطدته لك" وأنه "لم يأكل منه" : لا أعلم أحداً قاله في هذا الحديث غير معمر. قلت: معمر ثقة لا يضر تفرّده ويشهد للزيادة حديث جابر الذي قدّمناه.
وفي الحديث دليل على أنه ينبغي قبول الهدية وإبانة المانع من قبولها إذا ردّها.
واعلم أن ألفاظ الروايات اختلفت فقال الشافعي: إن كان الصعب أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم الحمار حياً فليس للمحرم ذبح حمار وحشي، وإن كان أهدى لحم حمار فيحتمل أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قد فهم أنه صاده لأجله، وأما رواية "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أكل منه" التي أخرجها البيهقي فقد ضعفها ابن القيم، ثم إنه استقوى من الروايات رواية لحم حمار قال: لأنها لا تنافي رواية من روى حماراً لأنه قد يسمى الجزء باسم الكل وهو شائع في اللغة، ولأن أكثر الروايات اتفقت أنه بعض من أبعاض الحمار، وإنما وقع الاختلاف في ذلك البعض ولا تناقض بينها فإنه يحتمل أن يكون المهدي من الشق الذي فيه العجز الذي فيه رجله.
9- وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "خمس من الدواب كلُّهنَّ فواسق يقتلن في الحلِّ والحرم: الغراب والحدأة" بكسر الحاء المهملة وفتح الدال بعدها همزة "والعقرب" يقال على الذكر والأنثى وقد يقال عقربة "والفأرة" بهمزة ساكنة ويجوز تخفيفها ألفاً "والكلب العقور" متفق عليه) وفي رواية في البخاري زيادة ذكر الحية فكانت ستاً، وقد أخرجها بلفظ "ست" أبو عوانة وسرد الخمس مع الحية، ووقع عند أبي داود زيادة السبع العادي، فكانت سبعاً، ووقع عند أبن خزيمة وابن المنذر زيادة: الذئب والنمر، فكانت تسعاً إلا أنه نقل عن الذهلي أنه ذكرهما في تفسير الكلب العقور، ووقع ذكر الذئب في حديث مرسل رجاله ثقات. وأخرج أحمد مرفوعاً الأمر للمحرم بقتل الذئب وفيه راو ضعيف. وقد دلت هذه الزيادات أن مفهوم العدد غير مراد من قوله خمس. والدواب: بتشديد الباء جمع دابة وهو ما دب من الحيوان، وظاهره أنه يسمى الطائر دابة، وهو يطابق قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} ، {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} وقيل: يخرج الطائر من لفظ الدابة لقوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} ولا حجة، لأنه يحتمل أنه عطف خاص على عام. هذا وقد اختص في العرف لفظ الدابة بذوات الأربع القوائم. وتسميتها فواسق: لأن الفسق لغة: الخروج، ومنه {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} أي خرج، ويسمى العاصي فاسقاً، لخروجه عن طاعة ربه، ووصفت المذكورة بذلك لخروجها عن حكم غيرها من الحيوانات، في تحريم قتل المحرم لها، وقيل: لخروجها عن غيرها من الحيوانات في حل أكله لقوله تعالى: {أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} فسمي ما لا يؤكل فسقاً قال تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ(2/194)
عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} ، وقيل: لخروجها عن حكم غيرها بلإيذاء والإفساد وعدم الانتقاع، فهذه ثلاث علل استخرجها العلماء في حل قتل هذه الخمس. ثم اختلف أهل الفتوى فمن قال بالأول، ألحق بالخمس كل ما جاز قتله للحلال في الحرم. ومن قال بالثاني ألحق كل ما لا يؤكل إلا ما نهي عن قتله. وهذا قد يجامع الأول، ومن قال بالثالث خص الإلحاق بما يحصل منه الإفساد قاله المصنف في فتح الباري قلت: ولا يخفى أن هذه العلل لا دليل عليها فيبعد الإلحاق لغير المنصوص بها، والأحوط عدم الإلحاق وبه قالت الحنفية إلا أنهم ألحقوا الحية لثبوت الخبر والذئب لمشاركته للكلب في الكلبية وألحقوا بذلك من ابتدأ بالعدوان والأذى من غيرها. قال ابن دقيق العيد: والتعدية بمعنى الأذى إلى كل مؤذ قوي بالنظر إلى تصرف أهل القياس، فإنه ظاهر من جهة الإيمان بالتعليل بالفسق، وهو الخروج عن الحدّ انتهى. قلت: ولا يخفى أنه قد اختلف في تفسير فسقها على ثلاثة أقوال كما عرفت فلا يتم تعيين واحد منها علة بالإيماء فلا يتم الإلحاق به.وإذا جاز قتلهنّ للمحرم جاز للحلال بالأولى، وقد ورد بلفظ "يُقتلن في الحل والحرم" عند مسلم، وفي لفظ "ليس على المحرم في قتلهن جناح" فدل أنه يقتلها المحرم في الحرم وفي الحل بالأولى. وقوله: "يقتلن" إخبار بحل قتلها وقد ورد بلفظ نفي الجناح ونفي الحرج على قاتلهنّ فدل على حمل الأمر على الإباحة. وأطلق في هذه الرواية لفظ الغراب، وقيد عند مسلم من حديث عائشة "بالأبقع" وهو الذي في ظهره أو بطنه بياض، فذهب بعض أئمة الحديث إلى تقييد المطلق بهذا وهي القاعدة في حمل المطلق على المقيد. والقدح في هذه الزيادة بالشذوذ وتدليس الراوي مدفوع بأنه صرح الراوي بالسماع فلا تدليس وبأنها زيادة من عدل ثقة حافظ فلا شذوذ. قال المصنف: قد اتفق العلماء على إخراج الغراب الصغير الذي يأكل الحب، ويقال له غراب الزرع، وقد احتجوا بجواز أكله فبقي ما عداه من الغربان ملحقاً بالأبقع.
والمراد بالكلب: هو المعروف وتقييده بالعقور يدل أنه لا يقتل غير العقور ونقل عن أبي هريرة تفسير الكلب العقور: بالأسد، وعن زيد بن أسلم تفسيره: بالحية، وعن سفيان أنه الذئب خاصة؛ وقال مالك: كل ما عقر الناس وأخافهم وعدا عليهم مثل الأسد والنمر والفهد والذئب هو الكلب العقور، ونقل عن سفيان وهو قول الجمهور واستدل لذلك بقوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "اللهم سلط عليهم كلباً من كلابك فقتله الأسد" ، وهو حديث حسن أخرجه الحاكم.
10- وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم احتجم وهو محرم) وذلك في حجة الوداع بمحل يقال له لحي جبل بين مكة والمدينة (متفق عليه) دل على جواز الحجامة للمحرم، وهو إجماع في الرأس وغيره إذا كان لحاجة فإن قلع من الشعر شيئاً كان عليه فدية الحلق وإن لم يقلع فلا فدية عليه. وإن كانت الحجامة لغير عذر، فإن كانت في الرأس حرمت إن قطع معها شعر لحرمة قطع الشعر وإن كانت في موضع لا شعر فيه فهي(2/195)
جائزة عند الجمهور ولا فدية. وكرهها قوم وقيل: تحب فيها الفدية. وقد نبه الحديث على قاعدة شرعية وهي أن محرمات الإحرام من الحلق وقتل الصيد ونحوهما، تباح للحاجة وعليه الفدية، فمن احتاج إلى حلق رأسه أو لبس قميصه مثلاً، لحرّ أو برد، أبيح له ذلك ولزمته الفدية، وعليه دل قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ} الآية، وبيّن قدر الفدية الحديث وهو قوله:
11- وعن كعب بن عُجْرة رضي الله عنه) بضم المهملة وسكون الجيم وبالراء كعب صحابي جليل حليف الأنصار نزل الكوفة ومات بالمدينة سنة إحدى وخمسين (قال حُملت) مغير الصيغة (إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي فقال: "ما كنت أُرى" بضم الهمزة أي أظن (الوجع بلغ بك ما أرى) بفتح الهمزة من الرؤية (أَتجد شاة؟" قلت: لا، قال: "تصوم ثلاثة أَيام أو تُطعم ستّة مساكين لكُلِّ مسكين نصْف صاعٍ" متفق عليه)، وفي رواية للبخاري مرّ بي رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بالحديبية ورأسي يتهافت قملاً فقال: "أتؤذيك هوامّك؟ قلت: نعم، قال: فاحلق رأسك" . الحديث وفيه فقال: نزلت فيّ هذه الآية: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ} الآية. وقد روي الحديث بألفاظ عديدة وظاهره أنه يجب تقديم النسك على النوعين الآخرين إذا وجدو، وظاهر الآية الكريمة وسائر روايات الحديث أنه مخير في الثلاث جميعاً ولذا قال البخاري في أول باب الكفارات: "خير النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كعباً في الفدية" وأخرج أبو داود من طريق الشعبي عن ابن أبي ليلى عن كعب بن عجرة. أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إن شئت فانسك نسيكة وإن شئت فصم ثلاثة أيام وإن شئت فأطعم". الحديث. والظاهر أن التخيير إجماع. وقوله: "نصف صاع" أخذ جماهير العلماء بظاهره إلا ما يروى عن أبي حنيفة والثوري أنه نصف صاع من حنطة وصاع من غيرها.
12- .وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما فتح الله على رسوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ) أراد به فتح مكة وأطلقه لأنه المعروف (قام رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في الناس) أي خطيباً وكان قيامه ثاني الفتح (فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "إن الله حبس عن مكّة الفيل" تعريفاً لهم بالمنة التي منّ الله تعالى بها عليهم وهي قصة معروفة مذكورة في القرآن (وسلط عليها رسوله والمؤمنين) ففتحوها عنوة "وإنها لمْ تحلّ لأحدٍ كان قبلي، وإنّما أُحلتْ لي ساعةً من نهار" هي ساعة دخوله إياها "وإنّها لن تحلَّ لأحدٍ بَعْدي، فلا يُنَفّر" بالبناء للمجهول "صيدها" أي لا يزعجه أحد ولا ينحيه عن موضعه (ولا يختلى) بالخاء المعجمة مبني للمجهول أيضاً "شَوْكُها" أي لا يؤخذ ويقطع "ولا تحلُّ ساقطتها" أي لقطتها وهو بهذا اللفظ في رواية "إلا لمنشد" أي معرف لها يقال له: منشد، وطالبها ناشد "ومن قتل لهُ قتيلٌ فهو بخيْر النّظرين " إما أخذ الدية أو قتل القاتل (فقال العباس: إلا الإذخر يا رسول الله) بكسر الهمزة وسكون الذال المعجمة فخاء معجمة مكسورة:(2/196)