فصل
في حكمه بالقود على من قتل جارية وأنه يفعل به كما فعل
ثبت في الصحيحين : [ أن يهوديا رض رأس جارية بين حجرين على أوضاح لها أي : حلي فأخذ فاعترف فأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يرض رأسه بين حجرين ]
وفي هذا الحديث دليل على قتل الرجل بالمرأة وعلى أن الجاني يفعل به كما فعل وأن القتل غيلة لا يشترط فيه إذن الولي فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يدفعه إلى أوليائها ولم يقل : إن شئتم فاقتلوه وإن شئتم فاعفوا عنه بل قتله حتما وهذا مذهب مالك واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ومن قال : إنه فعل ذلك لنقض العهد لم يصح فإن ناقض العهد لا ترضخ رأسه بالحجارة بل يقتل بالسيف (5/8)
فصل
في حكمه صلى الله عليه و سلم فيمن ضرب امرأة حاملا فطرحها
في الصحيحين : [ أن امرأتين من هذيل رمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها فقضى فيها رسول الله صلى الله عليه و سلم بغرة : عبد أو وليدة في الجنين وجعل دية المقتولة على عصبة القاتلة ] هكذا في الصحيحين وفي النسائي : فقضى في حملها بغرة وأن تقتل بها وكذلك قال غيره أيضا : إنه قتلها مكانها والصحيح : أنه لم يقتلها لما تقدم وقد روى البخاري في صحيحه [ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قضى في جنين امرأة من بني لحيان بغرة : عبد أو وليدة ثم إن المرأة التي قضى عليها بالغرة توفيت فقضى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن ميراثها لبنيها وزوجها وأن العقل على عصبتها ]
وفي هذا الحكم أن شبه العمد لا يوجب القود وأن العاقلة تحمل الغرة تبعا للدية وأن العاقلة هم العصبة وأن زوج القاتلة لا يدخل معهم وأن أولادها أيضا ليسوا من العاقلة (5/8)
فصل
في حكمه صلى الله عليه و سلم بالقسامة فيمن لم يعرف قاتله
ثبت في الصحيحين : [ أنه صلى الله عليه و سلم حكم بها بين الأنصار واليهود وقال لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن : أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم ؟ وقال البخاري : وتستحقون قاتلكم أو صاحبكم فقالوا : أمر لم نشهده ولم نره فقال : فتبرئكم يهود بأيمان خمسين فقالوا : كيف نقبل أيمان قوم كفار ؟ فوداه رسول الله صلى الله عليه و سلم من عنده ]
وفي لفظ : [ ويقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته إليه ] واختلف لفظ الأحاديث الصحيحة في محل الدية ففي بعضها أنه صلى الله عليه و سلم وداه من عنده وفي بعضها وداه من إبل الصدقة
وفي سنن أبي داود : [ أنه صلى الله عليه و سلم ألقى ديته على اليهود لأنه وجد بينهم ]
وفي مصنف عبد الرزاق : [ أنه صلى الله عليه و سلم بدأ بيهود فأبوا أن يحلفوا فرد القسامة على الأنصار فأبوا أن يحلفوا فجعل عقله على يهود ]
وفي سنن النسائي : [ فجعل عقله على اليهود وأعانهم ببعضها ] وقد تضمنت هذه الحكومة أمورا :
منها : الحكم بالقسامة وأنها من دين الله وشرعه
ومنها : القتل بها لقوله : [ فيدفع برمته إليه ] وقوله في لفظ آخر : [ وتستحقون دم صاحبكم ] فظاهر القرآن والسنة القتل بأيمان الزوج الملاعن وأيمان الأولياء في القسامة وهو مذهب أهل المدينة وأما أهل العراق فلا يقتلون في واحد منهما وأحمد يقتل في القسامة دون اللعان والشافعي عكسه
ومنها : أنه يبدأ بأيمان المدعين في القسامة بخلاف غيرها من الدعاوى
ومنها : أن أهل الذمة إذا منعوا حقا عليهم انتقض عهدهم [ لقوله صلى الله عليه و سلم : إما أن تدوه وإما أن تأذنوا بحرب ]
ومنها : أن المدعى عليه إذا بعد عن مجلس الحكم كتب إليه ولم يشخصه
ومنها : جواز العمل والحكم بكتاب القاضي وإن لم يشهد عليه
ومنها : القضاء على الغائب
ومنها : أنه لا يكتفي في القسامة بأقل من خمسين إذا وجدوا
ومنها : الحكم على أهل الذمة بحكم الإسلام وإن لم يتحاكموا إلينا إذا كان الحكم بينهم وبين المسلمين
ومنها : - وهو الذي أشكل على كثير من الناس - إعطاؤه الدية من إبل الصدقة وقد ظن بعض الناس أن ذلك من سهم الغارمين وهذا لا يصح فإن غارم أهل الذمة لا يعطى من الزكاة وظن بعضهم أن ذلك مما فضل من الصدقة عن أهلها فللإمام أن يصرفه في المصالح وهذا أقرب من الأول وأقرب منه : أنه صلى الله عليه و سلم وداه من عنده واقترض الدية من إبل الصدقة ويدل عليه : [ فوداه من عنده ] وأقرب من هذا كله أن يقال : لما تحملها النبي صلى الله عليه و سلم لإصلاح ذات البين بين الطائفتين كان حكمها حكم القضاء على الغارم لما غرمه لإصلاح ذات البين ولعل هذا مراد من قال : إنه قضاها من سهم الغارمين وهو صلى الله عليه و سلم لم يأخذ منها لنفسه شيئا فإن الصدقة لا تحل له ولكن جرى إعطاء الدية منها مجرى إعطاء الغارم منها لإصلاح ذات البين والله أعلم
فإن قيل : فكيف تصنعون بقوله [ فجعل عقله على اليهود ] ؟ فيقال : هذا مجمل لم يحفظ راويه كيفية جعله عليهم فإنه صلى الله عليه و سلم لما كتب إليهم أن يدوا القتيل أو يأذنوا بحرب كان هذا كالإلزام لهم بالدية ولكن الذي حفظوا أنهم أنكروا أن يكونوا قتلوا وحلفوا على ذلك وأن رسول الله صلى الله عليه و سلم وداه من عنده حفظوا زيادة على ذلك فهم أولى بالتقديم
فإن قيل : فكيف تصنعون برواية النسائي : [ أنه قسمها على اليهود وأعانهم ببعضها ] ؟ قيل : هذا ليس بمحفوظ قطعا فإن الدية لا تلزم المدعى عليهم بمجرد دعوى أولياء القتيل بل لا بد من إقرار أو بينة أو أيمان المدعين ولم يوجد هنا شئ من ذلك وقد عرض النبي صلى الله عليه و سلم أيمان القسامة على المدعين فأبوا أن يحلفوا فكيف يلزم اليهود بالدية بمجرد الدعوى (5/9)
فصل
في حكمه صلى الله عليه و سلم في أربعة سقطوا في بئر فتعلق بعضهم ببعض فهلكوا
ذكر الإمام أحمد والبزار وغيرهما أن قوما احتفروا بئرا باليمن فسقط فيها رجل فتعلق بآخر والثاني بالثالث والثالث بالرابع فسقطوا جميعا فماتوا فارتفع أولياؤهم إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال : اجمعوا من حفر البئر من الناس وقضى للأول بربع الدية لأنه هلك فوقه ثلاثة وللثاني بثلثها لأنه هلك فوقه اثنان وللثالث بنصفها لأنه هلك فوقه واحد وللرابع بالدية تامة فأتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم العام المقبل فقصوا عليه القصة فقال : [ هو ما قضى بينكم ] هكذا سياق البزار
وسياق أحمد نحوه وقال : إنهم أبوا أن يرضوا بقضاء علي فأتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو عند مقام إبراهيم عليه السلام فقصوا عليه القصة فأجازه رسول الله صلى الله عليه و سلم وجعل الدية على قبائل الذين ازدحموا (5/12)
فصل
في حكمه صلى الله عليه و سلم فيمن تزوج امرأة أبيه
روى الإمام أحمد والنسائي وغيرهما : عن البراء رضي الله عنه قال : لقيت خالي أبا بردة ومعه الراية فقال : أرسلني رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى رجل تزوح امرأة أبيه أن أقتله وآخذ ماله
وذكر ابن أبي خيثمة في تاريخه من حديث معاوية بن قرة عن أبيه عن جده رضي الله عنه [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث إلى رجل أعرس بامرأة أبيه فضرب عنقه وخمس ماله ] قال يحيى بن معين : هذا حديث صحيح
وفي سنن ابن ماجه من حديث ابن عباس قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من وقع على ذات محرم فاقتلوه ]
وذكر الجوزجاني أنه رفع إلى الحجاج رجل اغتصب أخته على نفسها فقال : احبسوه وسلوا من ها هنا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فسألوا عبد الله بن أبي مطرف رضي الله عنه فقال : [ سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : من تخطى حرم المؤمنين فخطوا وسطه بالسيف ]
وقد نص أحمد في رواية إسماعيل بن سعيد في رجل تزوج امرأة أبيه أو بذات محرم فقال : يقتل ويدخل ماله في بيت المال
وهذا القول هو الصحيح وهو مقتضى حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم
وقال الشافعي ومالك وأبو حنيفة : حده حد الزاني ثم قال أبو حنيفة : إن وطئها بعقد عزر ولا حد عليه وحكم رسول الله صلى الله عليه و سلم وقضاؤه أحق وأولى (5/13)
فصل
في حكمه صلى الله عليه و سلم بقتل من اتهم بأم ولده فلما ظهرت برائته أمسك عنه
[ روى ابن أبي خيثمة وابن السكن وغيرهما من حديث ثابت عن أنس رضي الله عنه أن ابن عم مارية كان يتهم بها فقال النبي صلى الله عليه و سلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه : إذهب فإن وجدته عند مارية فاضرب عنقه فأتاه علي فإذا هو في ركي يتبرد فيها فقال له علي : اخرج فناوله يده فأخرجه فإذا هو مجبوب ليس له ذكر فكف عنه علي ثم أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله : إنه مجبوب ما له ذكر ] وفي لفظ آخر : أنه وجده في نخلة يجمع تمرا وهو ملفوف بخرقة فلما رأى السيف ارتعد وسقطت الخرقة فإذا هو مجبوب لا ذكر له
وقد أشكل هذا القضاء على كثير من الناس فطعن بعضهم في الحديث ولكن ليس في إسناده من يتعلق عليه وتأوله بعضهم على أنه صلى الله عليه و سلم لم يرد حقيقة القتل إنما أراد تخويفه ليزدجر عن مجيئه إليها قال : وهذا كما قال سليمان للمرأتين اللتين اختصمتا إليه في الولد : علي بالسكين حتى أشق الولد بينهما ولم يرد أن يفعل ذلك بل قصد استعلام الأمر من هذا القول ولذلك كان من تراجم الأئمة على هذا الحديث : باب الحاكم يوهم خلاف الحق ليتوصل به إلى معرفة الحق فأحب رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يعرف الصحابة براءته وبراءة مارية وعلم أنه إذا عاين السيف كشف عن حقيقة حاله فجاء الأمر كما قدره رسول الله صلى الله عليه و سلم
وأحسن من هذا أن يقال : إن النبي صلى الله عليه و سلم أمر عليا رضي الله عنه بقتله تعزيرا لإقدامه وجرأته على خلوته بأم ولده فلما تبين لعلي حقيقة الحال وأنه بريء من الريبة كف عن قتله واستغنى عن القتل بتبيين الحال والتعزير بالقتل ليس بلازم كالحد بل هو تابع للمصلحة دائر معها وجودا وعدما (5/14)
فصل
في قضائه صلى الله عليه و سلم في القتيل يوجد بين قريتين
[ روى الإمام أحمد وابن أبي شيبة من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : وجد قتيل بين قريين فأمر النبي صلى الله عليه و سلم فذرع ما بينهما فوجد إلى أحدهما أقرب فكأني أنظر إلى شبر رسول الله صلى الله عليه و سلم / فألقاه على أقربهما ]
وفي مصنف عبد الرزاق قال عمر بن عبد العزيز : قضى رسول الله صلى الله عليه و سلم فيما بلغنا في القتيل يوجد بين ظهراني ديار قوم : أن الايمان على المدعى عليهم فإن نكلوا حلف المدعون واستحقوا فإن نكل الفريقان كانت الدية نصفها على المدعى عليهم وبطل النصف إذا لم يحلفوا
وقد نص الإمام أحمد في رواية المروزي على القول بمثل رواية أبي سعيد فقال : قلت لأبي عبد الله : القوم إذا أعطوا الشئ فتبينوا أنه ظلم فيه قوم ؟ فقال : يرد عليهم إن عرف القوم قلت : فإن لم يعرفوا ؟ قال : يفرق على مساكين ذلك الموضع فقلت : فما الحجة في أن يفرق على مساكين ذلك الموضع ؟ فقال : عمر بن الخطاب رضي الله عنه جعل الدية على أهل المكان يعني القرية التي وجد فيها القتيل فأراه قال : كما أن عليهم الدية هكذا يفرق فيهم يعني : إذا ظلم قوم منهم ولم يعرفوا فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد قضى بموجب هذا الحديث وجعل الدية على أهل المكان الذي وجد فيه القتيل واحتج به أحمد وجعل هذا أصلا في تفريق المال الذي ظلم فيه أهل ذلك المكان عليهم إذا لم يعرفوا بأعيانهم
وأما الأثر الآخر فمرسل لا تقوم بمثله حجة ولو صح تعين القول بمثله ولم تجز مخالفته ولا يخالف باب الدعاوي ولا باب القسامة فإنه ليس فيهم لوث ظاهر يوجب تقديم المدعين فيقدم المدعى عليهم في اليمين فإذا نكلوا قوي جانب المدعين من وجهين : أحدهما : وجود القتيل بين ظهرانيهم والثاني : نكولهم عن براءة ساحتهم باليمين وهذا يقوم مقام اللوث الظاهر فيحلف المدعون ويستحقون فإذا نكل الفريقان كلاهما أورث ذلك شبهة مركبة من نكول كل واحد منهما فلم ينهض ذلك سببا لإيجاب كمال الدية عليهم إذا لم يحلف غرماؤهم ولا إسقاطها عنهم بالكلية حيث لم يحلفوا فجعلت الدية نصفين ووجب نصفها على المدعى عليهم لثبوت الشبهة في حقهم بترك اليمين ولم تجب عليهم بكمالها لأن خصومهم لم يحلفوا فلما كان اللوث متركبا من يمين المدعين ونكول المدعى عليهم ولم يتم سقط ما يقابل أيمان المدعين وهو النصف ووجب ما يقابل نكول المدعى عليهم وهو النصف وهذا من أحسن الاحكام وأعدلها وبالله التوفيق (5/15)
فصل
في قضائه صلى الله عليه و سلم بتأخير القصاص من الجرح حتى يندمل
ذكر عبد الرزاق في مصنفه وغيره : من حديث ابن جريح [ عن عمرو بن شعيب قال : قضى رسول الله صلى الله عليه و سلم في رجل طعن آخر بقرن في رجله فقال : يا رسول الله : أقدني فقال : حتى تبرأ جراحك فأبى الرجل إلا أن يستقيده فأقاده النبي صلى الله عليه و سلم فصح المستقاد منه وعرج المستقيد فقال : عرجت وبرأ صاحبي فقال النبي صلى الله عليه و سلم : ألم آمرك أن لا تستقيد حتى تبرأ جراحك فعصيتني فأبعدك الله وبطل عرجك ثم أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم من كان به جرح بعد الرجل الذي عرج أن لا يستقاد منه حتى يبرأ جرح صاحبه ] فالجراح على ما بلغ حتى يبرأ فما كان من عرج أو شلل فلا قود فيه وهو عقل ومن استقاد جرحا فأصيب المستقاد منه فعقل ما فضل من ديته على جرح صاحبه له
قلت : الحديث في مسند الإمام أحمد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده متصل [ أن رجلا طعن بقرن في ركبته فجاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : أقدني فقال : حتى تبرأ فقال : أقدني فأقاده ثم جاء إليه فقال : يا رسول الله ! عرجت فقال : قد نهيتك فعصيتني فأبعدك الله وبطل عرجتك ثم نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يقتص من جرح حتى يبرأ صاحبه ]
وفي سنن الدارقطني : [ عن جابر رضي الله عنه أن رجلا جرح فأراد أن يستقيد فنهى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يستقاد من الجارح حتى يبرأ المجروح ]
وقد تضمنت هذه الحكومة أنه لا يجوز الإقتصاص من الجرح حتى يستقر أمره إما باندمال أو بسراية مستقرة وأن سراية الجناية مضمونة بالقود وجواز القصاص في الضربة بالعصا والقرن ونحوهما ولا ناسخ لهذه الحكومة ولا معارض لها والذي نسخ بها تعجيل القصاص قبل الإندمال لا نفس القصاص فتأمله وأن المجني عليه إذا بادر واقتص من الجاني ثم سرت الجناية إلى عضو من أعضائه أو إلى نفسه بعد القصاص فالسراية هدر
وأنه يكتفى بالقصاص وحده دون تعزير الجاني وحبسه قال عطاء : الجروح قصاص وليس الإمام أن يضربه ولا يسجنه إنما هو القصاص وما كان ربك نسيا ولو شاء لأمر بالضرب والسجن وقال مالك : يقتص منه بحق الآدمي ويعاقب لجرأته
والجمهور يقولون : القصاص يغني عن العقوبة الزائدة فهو كالحد إذا أقيم على المحدود لم يحتج معه إلى عقوبة أخرى
والمعاصي ثلاثة أنواع : نوع عليه حد مقدر فلا يجمع بينه وبين التعزير ونوع لا حد فيه ولا كفارة فهذا يردع فيه بالتعزير ونوع فيه كفارة ولا حد فيه كالوطء في الإحرام والصيام فهل يجمع فيه بين الكفارة والتعزير ؟ على قولي للعلماء وهما وجهان لأصحاب أحمد والقصاص يجري مجرى الحد فلا يجمع بينه وبين التعزير (5/17)
فصل
في قضائه صلى الله عليه و سلم بالقصاص في كسر السن
في الصحيحين : من حديث أنس [ أن ابنة النضر أخت الربيع لطمت جارية فكسرت سنها فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه و سلم فأمر بالقصاص فقالت أم الربيع : يا رسول الله ! أيقتص من فلانة لا والله لا يقتص منها فقال النبي صلى الله عليه و سلم سبحان الله يا أم الربيع كتاب الله القصاص فقالت : لا والله لا يقتص منها أبدا فعفا القوم وقبلوا الدية فقال النبي صلى الله عليه و سلم : إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره ] (5/19)
فصل
في قضائه صلى الله عليه و سلم فيمن عض يد رجل فانتزع يده من فيه فسقطت ثنية العاض بإهدارها
ثبت في الصحيحين [ أن رجلا عض يد رجل فنزع يده من فيه فوقعت ثناياه فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يعض أحدكم أخاه كما يعض الفحل لا دية لك ]
وقد تضمنت هذه الحكومة أن من خلص نفسه من يد ظالم له فتلفت نفس الظالم أو شئ من أطرافه أو ماله بذلك فهو هدر غير مضمون (5/19)
فصل
في قضائه صلى الله عليه و سلم فيمن اطلع في بيت رجل بغير إذنه فحذفه بحصاة أو عود ففقأعينه فلا شئ عليه
ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه [ عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لو أن امرءا اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه لم يكن عليك جناح ]
وفي لفظ فيهما : [ من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم ففقؤوا عينه فلا دية له ولا قصاص ]
وفيهما : أن رجلا اطلع من جحر في بعض حجر النبي صلى الله عليه و سلم فقام إليه بمشقص وجعل يختله ليطعنه فذهب إلى القول بهذه الحكومة وإلى التي قبلها فقهاء الحديث منهم : الإمام أحمد والشافعي ولم يقل بها أبو حنيفة ومالك (5/20)
فصل
وقضى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن الحامل إذا قتلت عمدا لا تقتل حتى تضع ما في بطنها وحتى تكفل ولدها ذكره ابن ماجه في سننه
وقضى أن لا يقتل الوالد بالولد ذكره النسائي وأحمد
وقضى أن المؤمنين تتكافأ دماؤهم ولا يقتل مؤمن بكافر
وقضى أن من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين إما أن يقتلوا أو يأخذوا العقل
وقضى أن في دية الأصابع من اليدين والرجلين في كل واحدة عشرا من الإبل وقضى في الأسنان في كل سن بخمسين من الإبل وأنها كلها سواء وقضى في المواضع بخمس خمس
وقضى في العين السادة لمكانتها إذا طمست بثلث ديتها وفي اليد الشلاء إذا قطعت بثلث ديتها وفي السن السوداء إذا نزعت بثلث ديتها
وقضى في الأنف إذا جدع كله بالدية كاملة وإذا جدعت أرنبته بنصف الدية
وقضى في المأمومة بثلث الدية وفي الجائفة بثلثها وفي المنقلة بخمسة عشر من الإبل وقضى في اللسان بالدية وفي الشفتين بالدية وفي البيضتين بالدية وفي الذكر بالدية وفي الصلب بالدية وفي العينين بالدية وفي إحداهما بنصفها وفي الرجل الواحدة بنصف الدية وفي اليد بنصف الدية وقضى أن الرجل يقتل بالمرأة
وقضى أن دية الخطإ على العاقلة مائة من الإبل وقد اختلفت الرواية عنه في أسنانها ففي السنن الأربعة عنه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : ثلاثون بنت مخاض وثلاثون بنت لبون وثلاثون حقة وعشرة بني لبون ذكر
قال الخطابي : ولا أعلم أحدا من الفقهاء قال بهذا
وفيها أيضا من حديث ابن مسعود : أنها أخماس : عشرون بنت مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون ابن مخاص وعشرون حقة وعشرون جذعة
وقضى في العمد إذا رضوا بالدية ثلاثين حقة وثلاثين جذعة وأربعين خلفة وما صولحوا عليه فهو لهم
فذهب أحمد وأبو حنيفة إلى القول بحديث ابن مسعود رضي الله عنهما وجعل الشافعي ومالك بدل ابن مخاض ابن لبون وليس في واحد من الحديثين
وفرضها النبي صلى الله عليه و سلم على أهل الإبل مائة من الإبل وعلى أهل البقر مائتي بقرة وعلى أهل الشاء ألفي شاة وعلى أهل الحلل مائتي حلة
وقال عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه أنه صلى الله عليه و سلم جعلها ثمانمائة دينار أو ثمانمائة آلاف درهم [ ذكر أهل السنن الأربعة من حديث عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا قتل فجعل النبي صلى الله عليه و سلم ديته اثني عشر ألفا ]
وثبت عن عمر أنه خطب فقال : إن الإبل قد غلت ففرضها على أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الورق اثني عشر ألفا وعلى أهل البقر مائتي بقرة وعلى أهل الشاء ألفي شاة وعلى أهل الحلل مائتي حلة وترك دية أهل الذمة فلم يرفعها فيما رفع من الدية
[ وقد روى أهل السنن الأربعة عنه صلى الله عليه و سلم : دية المعاهد نصف دية الحر ]
ولفظ ابن ماجه : [ قضى أن عقل أهل الكتابين نضف عقل المسلمين وهم اليهود والنصارى ]
واختلف الفقهاء في ذلك فقال مالك : ديتهم نصف دية المسلمين في الخطإ والعمد وقال الشافعي : ثلثها في الخطإ والعمد وقال أبو حنيفة : بل كدية المسلم في الخطإ والعمد وقال الإمام أحمد : مثل دية المسلم في العمد وعنه في الخطإ روايتان إحداهما : نصف الدية وهي ظاهر مذهبه والثانية : ثلثها فأخذ مالك بظاهر حديث عمرو بن شعيب وأخذ الشافعي بأن عمر جعل ديته أربعة آلاف وهي ثلث دية المسلم وأخذ أحمد بحديث عمرو إلا أنه في العمد ضعف الدية عقوبة لأجل سقوط القصاص وهكذا عنده من سقط عنه القصاص ضعفت عليه الدية عقوبة نص عليه توقيفا وأخذ أبو حنيفة بما هو أصله من جريان القصاص بينهما فتتساوى ديتهما
وقضى صلى الله عليه و سلم أن عقل المرأة مثل عقل الرجل إلى الثلث من ديتها ذكره النسائي فتصير على النصف من ديته وقضى بالدية على العاقلة وبرأ منها الزوج وولد المرأة القاتلة
وقضى في المكاتب أنه إذا قتل يوم بدر ما أدى من كتابته دية الحر وما بقي فدية المملوك قلت : يعني قيمته وقضى بهذا القضاء علي ين أبي طالب وإبراهيم النخعي ويذكر رواية عن أحمد وقال عمر : إذا أدى شطر كتابته كان غريما ولا يرجع رقيقا وبه قضى عبد الملك بن مروان وقال ابن مسعود : إذا أدى الثلث وقال عطاء : إذا أدى ثلاثة أرباع الكتابة فهو غريم والمقصود : أن هذا القضاء النبوي لم تجمع الأمة على تركه ولم يعلم نسخه
وأما حديث [ المكاتب عبد ما بقي عليه درهم ] فلا معارضة بينه وبين هذا القضاء فإنه في الرق بعد ولا تحصل حريته التامة إلا بالأداء (5/20)
فصل
في قضائه صلى الله عليه و سلم على من أقر بالزنى
ثبت في صحيح البخاري ومسلم [ أن رجلا من أسلم جاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم فاعترف بالزنى فأعرض عنه النبي صلى الله عليه و سلم حتى شهد على نفسه أربع مرات فقال النبي صلى الله عليه و سلم : أبك جنون ؟ قال : لا قال : أحصنت ؟ قال : نعم فأمر به فرجم في المصلى فلما أذلقته الحجارة فر فأدرك فرجم حتى مات فقال له النبي صلى الله عليه و سلم خيرا وصلى عليه ]
وفي لفظ لهما : أنه قال له : [ أحق ما بلغني عنك قال : وما بلغك عني قال : بلغني أنك وقعت بجارية بني فلان فقال : نعم قال : فشهد على نفسه أربع شهادات ثم دعاه النبي صلى الله عليه و سلم فقال : أبك جنون قال : لا قال : أحصنت قال : نعم ثم أمر به فرجم ]
وفي لفظ لهما : [ فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه النبي صلى الله لعيه وسلم فقال : أبك جنون قال : لا قال : أحصنت قال : نعم قال : اذهبوا به فارجموه ]
وفي لفظ للبخاري : [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت ! قال : لا يا رسول الله قال : أنكتها لا يكني قال : نعم فعند ذلك أمر برجمه ]
وفي لفظ لأبي داود : [ أنه شهد على نفسه أربع مرات كل ذلك يعرض عنه فأقبل في الخامسة قال : أنكتها ؟ قال : نعم قال : حتى غاب ذلك منك في ذلك منها ؟ قال : نعم قال : كما يغيب الميل في المكحلة والرشاء في البئر ؟ قال : نعم قال : فهل تدري ما الزنى ؟ قال : نعم أتيت منها حراما ما يأتي الرجل من امرأته حلالا قال : فما تريد بهذا القول ؟ قال : أريد أن تطهرني قال : فأمر به فرجم ]
وفي السنن : أنه لما وجد مس الحجارة قال : يا قوم ردوني إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فإن قومي قتلوني وغروني من نفسي وأخبروني أن رسول الله صلى الله عليه و سلم غير قاتلي
وفي صحيح مسلم : [ فجاءت الغامدية فقالت : يا رسول الله إني قد زنيت فطهرني وأنه ردها فلما كان من الغد قالت : يا رسول الله لم تردني لعلك أن تردني كما رددت ماعزا ؟ فوالله إني لحبلى قال : إما لا فاذهبي حتى تلدي فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة قالت : هذا قد ولدته قال : اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز فقالت : هذا يا نبي الله قد فطمته وقد أكل الطعام فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها وأمر الناس فرجموها فأقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها فانتضح الدم على وجهه فسبها فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : مهلا يا خالد فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحبي مكس لغفر له ثم أمر بها فصلى عليها ودفنت ]
وفي صحيح البخاري : [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قضى فيمن زنى ولم يحصن بنفي عام وإقامة الحد عليه ]
وفي الصحيحين : [ أن رجلا قال له : أنشدك بالله إلا قضيت بيننا بكتاب الله فقام خصمه وكان أفقه منه فقال : صدق اقض بيننا بكتاب الله وائذن لي فقال : قل قال : إن ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته فافتديت منه بمائة شاة وخادم وإني سألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام وأن على امرأة هذا الرجم فقال : والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله المائة والخادم رد عليك وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام واغد يا أنيس على امرأة هذا فاسألها فإن اعترفت فارجمها فاعترفت فرجمها ]
وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه و سلم : [ الثيب بالثيب جلد مائة والرجم والبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ]
فتضمنت هذه القضية رجم الثيب وأنه لا يرجم حتى يقر أربع مرات وأنه إذا أقر دون الأربع لم يلزم بتكميل نصاب الإقرار بل للإمام أن يعرض عنه ويعرض له بعدم تكميل الإقرار
وأن إقرار زائل العقل بجنون أو سكر ملغى لا عبرة به وكذلك طلاقه وعتقه وأيمانه ووصيته
وجواز إقامة الحد في المصلى وهذا لا يناقض نهيه أن تقام الحدود في المساجد
وأن الحر المحصن إذا زنى بجارية فحد الرجم كما لو زنى بحرة وأن الإمام يستحب له أن يعرض للمقر بأن لا يقر وأنه يجب استفسار المقر في محل الإجمال لأن اليد والفم والعين لما كان استمتاعها زنى استفسر عنه دفعا لاحتماله
وأن الإمام له أن يصرح باسم الوطء الخاص به عند الحاجة إليه كالسؤال عن الفعل
وأن الحد لا يجب على جاهل بالتحريم لأنه صلى الله عليه و سلم سأله عن حكم الزنى فقال : أتيت منها حراما ما يأتي الرجل من أهله حلالا
وأن الحد لا يقام على الحامل وأنها إذا ولدت الصبي أمهلت حتى ترضعه وتفطمه وأن المرأة يحفر لها دون الرجل وأن الإمام لا يجب عليه أن يبدأ بالرجم
وأنه لا يجوز سب أهل المعاصي إذا تابوا وأنه يصلى على من قتل في حد الزنى وأن المقر إذا استقال في أثناء الحد وفر ترك ولم يتمم عليه الحد فقيل : لأنه رجوع وقيل : لأنه توبة قبل تكميل الحد فلا يقام عليه كما لو تاب قبل الشروع فيه وهذا اختيار شيخنا
وأن الرجل إذا أقر أنه زنى بفلانة لم يقم عليه حد القذف مع حد الزنى وأن ما قبض من المال بالصلح الباطل باطل يجب رده
وأن الإمام له أن يوكل في استيفاء الحد
وأن الثيب لا يجمع عليه بين الجلد والرجم لأنه صلى الله عليه و سلم لم يجلد ماعزا ولا الغامدية ولم يأمر أنيسا أن يجلد المرأة التي أرسله إليها وهذا قول الجمهور وحديث عبادة : [ خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا : الثيب بالثيب جلد مائة والرجم ] منسوخ فإن هذا كان في أول الأمر عند نزول حد الزاني ثم رجم ماعزا والغامدية ولم يجلدهما وهذا كان بعد حديث عبادة بلا شك وأما حديث جابر في السنن : [ أن رجلا زنى فأمر به النبي صلى الله عليه و سلم فجلد الحد ثم أقر أنه محصن فأمر به فرجم ] فقد قال جابر في الحديث نفسه : إنه لم يعلم بإحصانه فجلد ثم علم بإحصانه فرجم رواه أبو داود
وفيه : أن الجهل بالعقوبة لا يسقط الحد إذا كان عالما بالتحريم فإن ماعزا لم يعلم أن عقوبته القتل ولم يسقط هذا الجهل الحد عنه
وفيه : أنه يجوز للحاكم أن يحكم بالإقرار في مجالسه وإن لم يسمعه معه شاهدان نص عليه أحمد فإن النبي صلى الله عليه و سلم لم يقل لأنيس : فإن اعترفت بحضرة شاهدين فارجمها
وأن الحكم إذا كان حقا محضا لله لم يشترط الدعوى به عند الحاكم وأن الحد إذا وجب على امرأة جاز للإمام أن يبعث إليها من يقيمه عليها ولا يحضرها وترجم النسائي على ذلك : صونا للنساء عن مجلس الحكم وأن الإمام والحاكم والمفتي يجوز له الحلف على أن هذا حكم الله عز و جل إذا تحقق ذلك وتيقنه بلا ريب وأنه يجوز التوكيل في إقامة الحدود وفيه نظر فإن هذا استنابة من النبي صلى الله عليه و سلم وتضمن تغريب المرأة كما يغرب الرجل لكن يغرب معها محرمها إن أمكن وإلا فلا وقال مالك : لا تغريب على النساء لأنهن عورة (5/26)
فصل
في حكمه صلى الله عليه و سلم على أهل الكتاب في الحدود بحكم الإسلام
ثبت في الصحيحين و الأسانيد : [ أن اليهود جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكروا له أن رجلا منهم وامرأة زنيا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما تجدون في التوراة في شأن الرجم ؟ قالوا : نفضحهم ويجلدون فقال عبد الله بن سلام : كذبتم إن فيها الرجم فأتوا بالتوراة فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها فقال له عبد الله ابن سلام : ارفع يدك فرفع يده فإذا فيها آية الرجم فقالوا : صدق يا محمد إن فيها الرجم فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه و سلم فرجما ]
فتضمنت هذه الحكومة أن الإسلام ليس بشرط في الإحصان وأن الذمي يحصن الذمية وإلى هذا ذهب أحمد والشافعي ومن لم يقل بذلك اختلفوا في وجه هذا الحديث فقال مالك في غير الموطأ : لم يكن اليهود بأهل ذمة والذي في صحيح البخاري : أنهم أهل ذمة ولا شك أن هذا كان بعد العهد الذي وقع بين النبي صلى الله عليه و سلم وبينهم ولم يكونوا إذ ذاك حربا كيف وقد تحاكموا إليه ورضوا بحكمه ؟ وفي بعض طرق الحديث : أنهم قالوا : اذهبوا بنا إلى هذا النبي فإنه بعث بالتخفيف وفي بعض طرقه : أنهم دعوه إلى بيت مدراسهم فأتاهم وحكم بينهم فهم كانوا أهل عهد وصلح بلا شك
وقالت طائفة أخرى : إنما رجمهما بحكم التوراة قالوا : وسياق القصة صريح في ذلك وهذا مما لا يجدي عليهم شيئا البتة فإنه حكم بينهم بالحق المحض فيجب اتباعه بكل حال فماذا بعد الحق إلا الضلال
وقالت طائفة : رجمهما سياسة وهذا من أقبح الأقوال بل رجمهما بحكم الله الذي لا حكم سواه
وتضمنت هذه الحكومة أن أهل الذمة إذا تحاكموا إلينا لا نحكم بينهم إلا بحكم الاسلام
وتضمنت قبول شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض لأن الزانيين لم يقرا ولم يشهد عليهما المسلمون فإنهم لم يحضروا زناهما كيف وفي السنن في هذه القصة فدعا رسول الله صلى الله عليه و سلم بالشهود فجاؤوا أربعة فشهدوا أنهما رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة
وفي بعض طرق هذا الحديث : فجاء أربعة منهم وفي بعضها : فقال لليهود : ائتوني بأربعة منكم
وتضمنت الإكتفاء بالرجم وأن لا يجمع بينه وبين الجلد قال ابن عباس : الرجم في كتاب الله لا يغوص عليها إلا غواص وهو قوله تعالى : { يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب } [ المائدة : 15 ] واستنبطه غيره من قوله : { إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا } [ المائدة : 44 ] قال الزهري في حديثه : فبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم { إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا } كان النبي صلى الله عليه و سلم منهم (5/32)
فصل
في قضائه صلى الله عليه و سلم في الرجل يزني بجارية امرأته
في المسند و السنن الأربعة : من حديث قتادة عن حبيب بن سالم أن رجلا يقال له : عبد الرحمن بن حنين وقع على جارية امرأته فرفع إلى النعمان بن بشير وهو أمير على الكوفة فقال : لأقضين فيك بقضية رسول الله صلى الله عليه و سلم إن كانت أحلتها لك جلدتك مائة جلدة وإن لم تكن أحلتها رجمتك بالحجارة فوجدوه أحلتها له فجلده مائة قال الترمذي : في إسناد هذا الحديث اضطراب سمعت محمدا يعني البخاري يقول : لم يسمع قتادة من حبيب بن سالم هذا الحديث إنما رواه عن خالد بن عرفطة وأبو بشر لم يسمعه أيضا من حبيب بن سالم إنما رواه عن خالد بن عرفطة وسألت محمدا عنه ؟ فقال : أنا أنفي هذا الحديث وقال النسائي : هو مضطرب وقال أبو حاتم الرازي : خالد بن عرفطة مجهول
وفي المسند و السنن عن قبيصة بن حريث عن سلمة بن المحبق [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قضى في رجل وقع على جارية امرأته إن كان استكرهها فهي حرة وعليه لسيدتها مثلها وإن كانت طاوعته فهي له وعليه لسيدتها مثلها ]
فاختلف الناس في القول بهذا الحكم فأخذ به أحمد في ظاهر مذهبه فإن الحديث حسن وخالد بن عرفطة قد روى عنه ثقتان : قتادة وأبو بشر ولم يعرف فيه قدح والجهالة ترتفع عنه برواية ثقتين والقياس وقواعد الشريعة يقتضي القول بموجب هذه الحكومة فإن إحلال الزوجة شبهة توجب سقوط الحد ولا تسقط التعزير فكانت المائة تعزيرا فإذا لم تكن أحلتها كان زنى لا شبهة فيه ففيه الرجم فأي شئ في هذه الحكومة مما يخالف القياس
وأما حديث سلمة بن المحبق : فإن صح تعيين القول به ولم يعدل عنه ولكن قال النسائي : لا يصح هذا الحديث قال أبو داود : سمعت أحمد بن حنبل يقول : الذي رواه عن سلمة بن المحبق شيخ لا يعرف ولا يحدث عنه غير الحسن يعني قبيصة بن حريث وقال البخاري في التاريخ : قبيصة بن حريث سمع سلمة بن المحبق في حديثه نظر وقال ابن المنذر : لا يثبت خبر سلمة بن المحبق وقال البيهقي : وقبيصة بن حريث غير معروف وقال الخطابي : هذا حديث منكر وقبيصة غير معروف والحجة لا تقوم بمثله وكان الحسن لا يبالي أن يروي الحديث ممن سمع
وطائفة أخرى قبلت الحديث ثم اختلفوا فيه فقالت طائفة : هو منسوخ وكان هذا قبل نزول الحدود
وقالت طائفة : بل وجهه أنه إذا استكرهها فقد أفسدها على سيدتها ولم تبق ممن تصلح لها ولحق بها العار وهذا مثلة معنوية فهي كالمثلة الحسية أو أبلغ منها وهو قد تضمن أمرين : إتلافها على سيدتها والمثلة المعنوية بها فيلزمه غرامتها لسيدتها وتعتق عليه وأما إن طاوعته فقد أفسدها على سيدتها فتلزمه قيمتها لها ويملكها لأن القيمة قد استحقت عليه وبمطاوعتها وإرادتها خرجت عن شبهة المثلة قالوا : ولا بعد في تنزيل الإتلاف المعنوي منزلة الإتلاف الحسي إذ كلاهما يحول بين المالك وبين الإنتفاع بملكه ولا ريب أن جارية الزوجة إذا صارت موطوءة لزوجها فإنها لا تبقى لسيدتها كما كانت قبل الوطء فهذا الحكم من أحسن الأحكام وهو موافق للقياس الأصولي
وبالجملة : فالقول به مبني على قبول الحديث ولا تضر كثرة المخالفين له ولو كانوا أضعاف أضعافهم (5/34)
فصل
ولم يثبت عنه صلى الله عليه و سلم أنه قضى في اللواط بشئ لأن هذا لم تكن تعرفه العرب ولم يرفع إليه صلى الله عليه و سلم ولكن ثبت عنه أنه قال : [ اقتلوا الفاعل والمفعول به ] رواه أهل السنن الأربعة وإسناده صحيح وقال الترمذي : حديث حسن
وحكم به أبو بكر الصديق وكتب به إلى خالد بعد مشاورة الصحابة وكان علي أشدهم في ذلك
وقال ابن القصار وشيخنا : أجمعت الصحابة على قتله وإنما اختلفوا في كيفية قتله فقال أبو بكر الصديق : يرمى من شاهق وقال علي رضي الله عنه : يهدم عليه حائط وقال ابن عباس : يقتلان بالحجارة فهذا اتفاق منهم على قتله وإن اختلفوا في كيفيته وهذا موافق لحكمه صلى الله عليه و سلم فيمن وطئ ذات محرم لأن الوطء في الموضعين لا يباح للواطئ بحال ولهذا جمع بينهما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما فإنه روي عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوه ] وروي أيضا عنه : [ من وقع على ذات محرم فاقتلوه ] وفي حديثه أيضا بالإسناد : [ من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه ]
وهذا الحكم على وفق حكم الشارع فإن المحرمات كلما تغلظت تغلظت عقوباتها ووطء من لا يباح بحال أعظم جرما من وطء من يباح في بعض الأحوال فيكون حده أغلط وقد نص أحمد في إحدى الروايتين عنه أن حكم من أتى بهيمة حكم اللواط سواء فيقتل بكل حال أو يكون حده حد الزاني
واختلف السلف في ذلك فقال الحسن : حده حد الزاني وقال أبو سلمة عنه : يقتل بكل حال وقال الشعبي والنخعي : يعزر وبه أخذ الشافعي ومالك وأبو حنيفة وأحمد في رواية فإن ابن عباس رضي الله عنه أفتى بذلك وهو راوي الحديث (5/36)
فصل
وحكم صلى الله عليه و سلم على من أقر بالزنى بامرأة معينة بحد الزنى دون حد القذف ففي السنن : [ من حديث سهل بن سعد أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه و سلم فأقر عنده أنه زنى بامرأة سماها فبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المرأة فسألها عن ذلك فأنكرت أن تكون زنت فجلده الحد وتركها ]
فتضمنت هذه الحكومة أمرين :
أحدهما : وجوب الحد على الرجل وإن كذبته المرأة خلافا لأبي حنيفة وأبي يوسف أنه لا يحد
الثاني : أنه لا يجب عليه حد القذف للمرأة
وأما ما رواه أبو داود في سننه : من حديث ابن عباس رضي الله عنه [ أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه و سلم فأقر أنه زنى بامرأة أربع مرات فجلده مائة جلدة وكان بكرا ثم سأله البينة على المرأة فقالت : كذب والله يا رسول الله فجلد حد الفرية ثمانين ] فقال النسائي : هذا حديث منكر انتهى وفي إسناده القاسم بن فياض الأنباري الصنعاني تكلم فيه غير واحد وقال ابن حبان : بطل الإحتجاج به (5/38)
فصل
وحكم في الأمة إذا زنت ولم تحصن بالجلد وأما قوله تعالى في الإماء : { فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } [ النساء : 25 ] فهو نص في أن حدها بعد التزويج نصف حد الحرة من الجلد وأما قبل التزويج فأمر بجلدها
وفي هذا الجلد قولان :
أحدهما : أنه الحد ولكن يختلف الحال قبل التزويج وبعده فإن للسيد إقامته قبله وأما بعده فلا يقيمه إلا الإمام
والقول الثاني : أن جلدها قبل الإحصان تعزير لا حد ولا يبطل هذا ما رواه مسلم في صحيحه : من حديث أبي هريرة رضي الله عنه يرفعه : [ إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها ولا يعيرها ثلاث مرات فإن عادت في الرابعة فليجلدها وليبعها ولو بضفير ] وفي لفظ [ فليضربها كتاب الله ]
وفي صحيحه أيضا : [ من حديث علي رضي الله عنه أنه قال : أيها الناس أقيموا على أرقائكم الحد من أحصن منهن ومن لم يحصن فإن أمة لرسول الله صلى الله عليه و سلم زنت فأمرني أن أجلدها فإذا هي حديثة عهد بنفاس فخشيت إن أنا جلدتها أن أقتلها فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم فقال : أحسنت ]
فإن التعزير يدخل تحته لفظ الحد في لسان الشارع كما في قوله صلى الله عليه و سلم : [ لا يضرب فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله تعالى ]
وقد ثبت التعزير بالزيادة على العشرة جنسا وقدرا في مواضع عديدة لم يثبت نسخها ولم تجمع الأمة على خلافها
وعلى كل حال فلا بلد أن يخالف حالها بعد الإحصان حالها قبله وإلا لم يكن للتقييد فائدة فإما أن يقال قبل الإحصان : لا حد عليها والسنة الصحيحة تبطل ذلك وإما أن يقال : حدها قبل الإحصان حد الحرة وبعده نصفه وهذا باطل قطعا مخالف لقواعد الشرع وأصوله وإما أن يقال : جلدها قبل الإحصان تعزير وبعده حد وهذا أقوى وإما أن يقال : الإفتراق بين الحالتين في إقامة الحد لا في قدره وأنه في إحدى الحالتين للسيد وفي الأخرى للإمام وهذا أقرب ما يقال
وقد يقال : إن تنصيصه على التنصيف بعد الإحصان لئلا يتوهم متوهم أن بالإحصان يزول التنصيف ويصير حدها حد الحرة كما أن الجلد زال عن البكر بالإحصان وانتقل إلى الرجم فبقي على التنصيف في أكمل حالتيهما وهي الإحصان تنبيها على أنه إذا اكتفي به فيها ففيما قبل الإحصان أولى وأحرى والله أعلم
[ وقضى رسول الله صلى الله عليه و سلم في مريض زنى ولم يحتمل إقامة الحد بأن يؤخذ له عثكال فيه مائة شمراخ فيضرب بها ضربة واحدة ] (5/39)
فصل
وحكم رسول الله صلى الله عليه و سلم بحد القذف لما أنزل الله سبحانه براءة زوجته من السماء فجلد رجلين وامرأة وهما : حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة قال أبو جعفر النفيلي : ويقولون : المرأة حمنة بنت جحش
وحكم فيمن بدل دينه بالقتل ولم يخص رجلا من امرأة وقتل الصديق امرأة ارتدت بعد إسلامها يقال لها : أم قرفة
وحكم في شارب الخمر بضربه بالجريد والنعال وضربه أربعين وتبعه أبو بكر رضي الله عنه على الأربعين
وفي مصنف عبد الرزاق : [ أنه صلى الله عليه و سلم جلد في الخمر ثمانين ]
وقال ابن عباس رضي الله عنه : لم يوقت فيها رسول الله صلى الله عليه و سلم شيئا
وقال علي رضي الله عنه : جلد رسول الله صلى الله عليه و سلم في الخمر أربعين وأبو بكر أربعين وكملها عمر ثمانين وكل سنة
[ وصح عنه صلى الله عليه و سلم أنه أمر بقتله في الرابعة أو الخامسة ] واختلف الناس في ذلك فقيل : هو منسوخ وناسخه [ لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث ] وقيل : هو محكم ولا تعارض بين الخاص والعام ولا سيما إذا لم يعلم تأخر العام وقيل : ناسخه حديث عبد الله حمار فإنه أتي به مرارا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فجلده ولم يقتله
وقيل : قتله تعزير بحسب المصلحة فإذا كثر منه ولم ينهه الحد واستهان به فللإمام قتله تعزيرا لا حدا وقد صح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال : ائتوني به في الرابعة فعلي أن أقتله لكم وهو أحد رواة الأمر بالقتل عن النبي صلى الله عليه و سلم وهم : معاوية وأبو هريرة وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو وقبيصة بن ذئيب رضي الله عنهم
وحديث قبيصة : فيه دلالة على أن القتل ليس بحد أو أنه منسوخ فإنه قال فيه : [ فأتي رسول الله صلى الله عليه و سلم برجل قد شرب فجلده ثم أتي به فجلده ثم أتي به فجلده ورفع القتل وكانت رخصة ] رواه أبو داود
فإن قيل : فما تصنعون بالحديث المتفق عليه عن علي رضي الله عنه أنه قال : ما كنت لأدي من أقمت عليه الحد إلا شارب الخمر فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يسن فيه شيئا إنما هو شئ قلناه نحن لفظ أبي داود ولفظهما : فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم مات ولم يسنه
قيل : المراد بذلك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يقدر فيه بقوله تقديرا لا يزاد عليه ولا ينقص كسائر الحدود وإلا فعلي رضي الله عنه قد شهد أن رسول الله صلى الله عيه وسلم قد ضرب فيها أربعين
وقوله : إنما هو شئ قلناه نحن يعني التقدير بثمانين فإن عمر رضي الله عنه جمع الصحابة رضي الله عنهم واستشارهم فأشاروا بثمانين فأمضاها ثم جلد علي في خلافته أربعين وقال : هذا أحب إلي
ومن تأمل الأحاديث رآها تدل على أن الأربعين حد والأربعون الزائدة عليها تعزير اتفق عليه الصحابة رضي الله عنهم والقتل إما منسوخ وإما أنه إلى رأي الإمام بحسب تهالك الناس فيها واستهانتهم بحدها فإذا رأى قتل واحد لينزجر الباقون فله ذلك وقد حلق فيها عمر رضي الله عنه وغرب وهذا من الأحكام المتعلقة بالأئمة وبالله التوفيق (5/41)
فصل
في حكمه صلى الله عليه و سلم في السارق
قطع سارقا في مجن قيمته ثلاثة دراهم
وقضى أنه لا تقطع اليد في أقل من ربع دينار
وصح عنه أنه قال : [ اقطعوا في ربع دينار ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك ] ذكره الإمام أحمد رحمه الله
وقالت عائشة رضي الله عنها : لم تكن تقطع يد السارق في عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم في أدنى من ثمن المجن ترس أو جحفة وكان كل منهما ذا ثمن
وصح عنه أنه قال : [ لعن الله السارق يسرق الحبل فتقطع يده ويسرق البيضة فتقطع يده ] فقيل : هذا حبل السفينة وبيضة الحديد وقيل : بل كل حبل وبيضة وقيل : هو إخبار بالواقع أي : إنه يسرق هذا فيكون سببا لقطع يده بتدرجه منه إلى ما هو أكبر منه قال الأعمش : كانوا يرون أنه بيض الحديد والحبل كانوا يرون أن منه ما يساوي دراهم
وحكم في امرأة كانت تستعير المتاع وتجحده بقطع يدها
وقال أحمد رحمه الله : بهذه الحكومة ولا معارض لها
وحكم صلى الله عليه و سلم بإسقاط القطع عن المنتهب والمختلس والخائن والمراد بالخائن : خائن الوديعة
وأما جاحد العارية فيدخل في إسم السارق شرعا [ لأن النبي صلى الله عليه و سلم لما كلموه في شأن المستعيرة الجاحدة قطعها وقال : والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ]
فإدخاله صلى الله عليه و سلم جاحد العارية في إسم السارق كإدخاله سائر أنواع المسكر في إسم الخمر فتأمله وذلك تعريف للأمة بمراد الله من كلامه
[ وأسقط صلى الله عليه و سلم القطع عن سارق الثمر والكثر وحكم أن من أصاب منه شيئا بفمه وهو محتاج فلا شئ عليه ومن خرج منه بشئ فعليه غرامة مثليه والعقوبة ومن سرق منه شيئا في جرينه هو بيدره فعليه القطع إذا بلغ ثمن المجن ] فهذا قضاؤه الفصل وحكمه العدل
وقضى في الشاة التي تؤخذ من مراتعها بثمنها مرتين وضرب نكال وما أخذ من عطنه ففيه القطع إذا بلغ ثمن المجن
وقضى بقطع سارق رداء صفوان بن أمية وهو نائم عليه في المسجد فأراد صفوان أن يهبه إياه أو يبيعه منه فقال : هلا كان قبل أن تأتيني به
وقطع سارقا سرق ترسا من صفة النساء في المسجد
ودرأ القطع عن عبد من رقيق الخمس سرق من الخمس وقال : [ مال الله سرق بعضه بعضا ] رواه ابن ماجه
ورفع إليه سارق فاعترف ولم يوجد معه متاع فقال له : [ ما إخاله سرق ؟ قال : بلى فأعاد عليه مرتين أو ثلاثا فأمر به فقطع ]
ورفع إليه آخر فقال : [ ما إخاله سرق ؟ فقال : بلى فقال : اذهبوا به فاقطعوه ثم احسموه ثم ائتوني به فقطع ثم أتي به النبي صلى الله عليه و سلم فقال له : تب إلى الله فقال : تبت إلى الله فقال : تاب الله عليك ]
وفي الترمذي عنه [ أنه قطع سارقا وعلق يده في عنقه ] قال : حديث حسن (5/45)
فصل
في حكمه صلى الله عليه و سلم على من اتهم رجلا بسرقة
روى أبو داود : عن أزهر بن عبد الله أن قوما سرق لهم متاع فاتهموا ناسا من الحاكة فأتوا النعمان بن بشير صاحب رسول الله صلى الله عليه و سلم فحبسهم أياما ثم خلى سبيلهم فأتوه فقالوا : خليت سبيلهم بغير ضرب ولا امتحان فقال : ما شئتم إن شئتم أن أضربهم فإن خرج متاعكم فذاك وإلا أخذت من ظهوركم مثل الذي أخذت من ظهورهم فقالوا : هذا حكمك ؟ فقال : حكم الله وحكم رسوله (5/48)
فصل
وقد تضمنت هذه الأقضية أمورا :
أحدها : أنه لا يقطع في أقل من ثلاثة دراهم أو ربع دينار
الثاني : جواز لعن أصحاب الكبائر بأنواعهم دون أعيانهم كما لعن السارق ولعن آكل الربا وموكله ولعن شارب الخمر وعاصرها ولعن من عمل عمل قوم لوط ونهى عن لعن عبد الله حمار وقد شرب الخمر ولا تعارض بين الأمرين فإن الوصف الذي علق عليه اللعن مقتض وأما المعين فقد يقوم به ما يمنع لحوق اللعن به من حسنات ماحية أو توبة أو مصائب مكفرة أو عفو من الله عنه فلعن الأنواع دون الأعيان
الثالث : الإشارة إلى سد الذرائع فإنه أخبر أن سرقة الحبل والبيضة لا تدعه حتى تقطع يده
الرابع : قطع جاحد العارية وهو سارق شرعا كما تقدم
الخامس : أن من سرق مالا قطع فيه ضوعف عاليه الغرم وقد نص عليه الإمام أحمد رحمه الله فقال : كل من سقط عنه القطع ضوعف عليه الغرم وقد تقدم الحكم النبوي في صورتين : سرقة الثمار المعلقة والشاة من المرتع
السادس : اجتماع التعزير مع الغرم وفي ذلك الجمع بين العقوبتين : مالية وبدنية
السابع : اعتبار الحرز فإنه صلى الله عليه و سلم أسقط القطع عن سارق الثمار من الشجرة وأوجبه على سارقه من الجرين وعند أبي حنيفة أن هذا لنقصان ماليته لإسراع الفساد إليه وجعل هذا أصلا في كل ما نقصت ماليته بإسراع الفساد إليه وقول الجمهور أصح فإنه صلى الله عليه و سلم جعل له ثلاثة أحوال : حالة لا شئ فيها وهو ما إذا أكل منه بفيه وحالة يغرم مثليه ويضرب من غير قطع وهو ما إذا أخذه من شجره وأخرجه وحالة يقطع فيها وهو ما إذا سرقه من بيدره سواء كان قد انتهى جفافه أو لم ينته فالعبرة للمكان والحرز لا ليبسه ورطوبته ويدل عليه أنه صلى الله عليه و سلم أسقط القطع عن سارق الشاة من مرعاها وأوجبه على سارقها من عطنها فإنه حرزها
الثامن : إثبات العقوبات المالية وفيه عدة سنن ثابتة لا معارض لها وقد عمل بها الخلفاء الراشدون وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم وأكثر من عمل بها عمر رضي الله عنه
التاسع : أن الإنسان حرز لثيابه ولفراشه الذي هو نائم عليه أين كان سواء كان في المسجد أو في غيره
العاشر : أن المسجد حرز لما يعتاد وضعه فيه فإن النبي صلى الله عليه و سلم قطع من سرق منه ترسا وعلى هذا فيقطع من سرق من حصيره وقناديله وبسطه وهو أحد القولين في مذهب أحمد وغيره ومن لم يقطعه قال : له فيها حق فإن لم يكن فيها حق قطع كالذمي
الحادي عشر : أن المطالبة في المسروق شرط في القطع فلو وهبه إياه أو باعه قبل رفعه إلى الإمام سقط عنه القطع كما صرح به النبي صلى الله عليه و سلم وقال : [ هلا كان قبل أن تأتيني به ]
الثاني عشر : أن ذلك لا يسقط القطع بعد رفعه إلى الإمام وكذلك كل حد بلغ الإمام وثبت عنده لا يجوز إسقاطه وفي السنن : عنه : [ إذا بلغت الحدود الإمام فلعن الله الشافع والمشفع ]
الثالث عشر : أن من سرق من شئ له فيه حق لم يقطع
الرابع عشر : أنه لا يقطع إلا بالإقرار مرتين أو بشهادة شاهدين لأن السارق أقر عنده مرة فقال : ما إخالك سرقت ؟ فقال : بلى فقطعه حينئذ ولم يقطعه حتى أعاد عليه مرتين
الخامس عشر : التعريض للسارق بعدم الإقرار وبالرجوع عنه وليس هذا حكم كل سارق بل من السراق من يقر بالعقوبة والتهديد كما سيأتي إن شاء الله تعالى
السادس عشر : أنه يجب على الإمام حسمه بعد القطع لئلا يتلف وفي قوله : احسموه دليل على أن مؤنة الحسم ليست على السارق
السابع عشر : تعليق يد السارق في عنقه تنكيلا له وبه ليراه غيره
الثامن عشر : ضرب المتهم إذا ظهر منه أمارات الريبة وقد عاقب النبي صلى الله عليه و سلم في تهمة وحبس في تهمة
التاسع عشر : وجوب تخلية المتهم إذا لم يظهر عنده شئ مما اتهم به وأن المتهم إذا رضي بضرب المتهم فإن خرج ماله عنده وإلا ضرب هو مثل ضرب من اتهمه إن أجيب إلى ذلك وهذا كله مع أمارات الريبة كما قضى به النعمان بن بشير رضي الله عنه وأخبر أنه قضاء رسول الله صلى الله عليه و سلم
العشرون : ثبوت القصاص في الضربة بالسوط والعصا ونحوهما (5/49)
فصل
وقد روى عنه أبو داود : [ أنه أمر بقتل سارق فقالوا : إنما سرق فقال : اقطعوه ثم جيء به ثانيا فأمر بقتله فقالوا : إنما سرق فقال : اقطعوه ثم جيء به في الثالثة فأمر بقتله فقالوا : إنما سرق فقال : اقطعوه ثم جيء به رابعة فقال : اقتلوه فقالوا : إنما سرق فقال : اقطعوه فأتي به في الخامسة فأمر بقتله فقتلوه ]
فاختلف الناس في هذه الحكومة : فالنسائي وغيره لا يصححون هذا الحديث قال النسائي : هذا حديث منكر ومصعب بن ثابت ليس بالقوي وغيره يحسنه ويقول : هذا حكم خاص بذلك الرجل وحده لما علم رسول الله صلى الله عليه و سلم من المصلحة في قتله وطائفة ثالثة تقبله وتقول به وأن السارق إذا سرق خمس مرات قتل في الخامسة وممن ذهب إلى هذا المذهب أبو مصعب من المالكية
وفي هذه الحكومة الإتيان على أطراف السارق الأريعة وقد روى عبد الرزاق في مصنفه : [ أن النبي صلى الله عليه و سلم أتي بعبد سارق فأتي به أربع مرات فتركه ثم أتي به الخامسة فقطع يده ثم السادسة فقطع رجله ثم السابعة فقطع يده ثم الثامنة فقطع رجله ]
واختلف الصحابة ومن بعدهم هل يؤتى على أطرافه كلها أم لا ؟ على قولين فقال الشافعي ومالك وأحمد في إحدى روايته : يؤتى عليها كلها وقال أبو حنيفة وأحمد في رواية ثانية : لا يقطع منه أكثر من يد ورجل وعلى هذا القول فهل المحذور تعطيل منفعة الجنس أو ذهاب عضوين من شق ؟ فيه وجهان يظهر أثرهما فيما لو كان أقطع اليمنى فقط أو أقطع الرجل اليسرى فقط فإن قلنا : يؤتى على أطرافه لم يؤثر ذلك وإن قلنا : لا يؤتى عليها قطعت رجله اليسرى في الصورة الأولى ويده اليمنى في الثانية على العلتين وإن كان أقطع اليسرى مع الرجل اليمنى لم يقطع على العلتين وإن كان أقطع اليد اليسرى فقط لم تقطع يمناه على العلتين وفيه نظر فتأمل
وهل قطع رجله اليسرى يبتنى على العلتين ؟ فإن عللنا بذهاب منفعة الجنس قطعت رجله وإن عللنا بذهاب عضوين من شق لم تقطع
وإن كان أقطع اليدين فقط وعللنا بذهاب منفعة الجنس قطعت رجله اليسرى وإن عللنا بذهاب عضوين من شق لم يقطع هذا طرد هذه القاعدة وقال صاحب المحرر فيه : تقطع يمنى يديه على الروايتين وفرق بينها وبين مسألة مقطوع اليدين والذي يقال في الفرق : إنه إذا كان أقطع الرجلين فهو كالمقعد وإذا قطعت إحدى يديه انتفع بالأخرى في الأكل والشرب والوضوء والإستجمار وغيره وإذا كان أقطع اليدين لم ينتفع إلا برجليه فإذا ذهبت إحداهما لم يمكنه الإنتفاع بالرجل الواحدة بلا يد ومن الفرق أن اليد الواحدة تنفع مع عدم منفعة المشي والرجل الواحدة لا تنفع مع عدم منفعة البطش (5/52)
فصل
في قضائه صلى الله عليه و سلم فيمن سبه من مسلم أو ذمي أو معاهد
[ ثبت عنه صلى الله عليه و سلم أنه قضى بإهدار دم أم ولد الأعمى لما قتلها مولاها على السب ]
وقتل جماعة من اليهود على سبه وأذاه وأمن الناس يوم الفتح إلا نفرا ممن كان يؤذيه ويهجره وهم أربعة رجال وامرأتان وقال : [ من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله ] وأهدر دمه ودم أبي رافع
وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لأبي برزة الأسلمي وقد أراد قتل من سبه : ليس هذا لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم فهذا قضاؤه صلى الله عليه و سلم وقضاء خلفائه من بعده ولا مخالف لهم من الصحابة وقد أعاذهم الله من مخالفة هذا الحكم
وقد روى أبو داود في سننه : عن علي رضي الله عنه أن يهودية كانت تشتم النبي صلى الله عليه و سلم وتقع فيه فخنقها رجل حتى ماتت فأبطل رسول الله صلى الله عليه و سلم دمها
وذكر أصحاب السير والمغازي عن ابن عباس رضى الله عنهما قال : [ هجت امرأة النبي صلى الله عليه و سلم فقال : من لي بها فقال رجل من قومها : أنا فنهض فقتلها فأخبر النبي صلى الله عليه و سلم فقال : لا ينتطح فيها عنزان ]
وفي ذلك بضعة عشر حديثا ما بين صحاح وحسان ومشاهير وهو إجماع الصحابة
وقد ذكر حرب في مسائله : عن مجاهد قال : أتي عمر رضي الله عنه برجل سب النبي صلى الله عليه و سلم فقتله ثم قال عمر رضي الله عنه : من سب الله ورسوله أو سب أحدا من الأنبياء فاقتلوه ثم قال مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما : أيما مسلم سب الله ورسوله أو سب أحدا من الأنبياء فقد كذب برسول الله صلى اله عليه وسلم وهي ردة يستتاب فإن رجع وإلا قتل وأيما معاهد عاند فسب الله أو سب أحدا من الأنبياء أو جهر به فقد نقض العهد فاقتلوه
وذكر أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه مر به راهب فقيل له : هذا يسب النبي صلى الله عليه و سلم فقال ابن عمر رضي الله عنه : لو سمعته لقتلته إنا لم نعطهم الذمة على أن يسبوا نبينا والآثار عن الصحابة بذلك كثيرة وحكى غير واحد من الأئمة الإجماع على قتله قال شيخنا : وهو محمول على إجماع الصدر الأول من الصحابة والتابعين والمقصود : إنما هو ذكر حكم النبي صلى الله عليه و سلم وقضائه فيمن سبه
وأما تركه صلى الله عليه و سلم قتل من قدح في عدله بقوله : اعدل فإنك لم تعدل وفى حكمه بقوله : إن كان ابن عمتك وفي قصده بقوله : إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله أو في خلوته بقوله : يقولون إنك تنهى عن الغي وتستخلي به وغير ذلك فذلك أن الحق له فله أن يستوفيه وله أن يتركه وليس لأمر ترك استيفاء حقه صلى الله عليه و سلم
وأيضا فإن هذا كان في أول الأمر حيث كان صلى الله عليه و سلم مأمورا بالعفو والصفح
وأيضا فإنه كان يعفو عن حقه لمصلحة التأليف وجمع الكلمة ولئلا ينفر الناس عنه ولئلا يتحدثوا أنه يقتل أصحابه وكل هذا يختص بحياته صلى الله عليه و سلم (5/54)
فصل
في حكمه صلى الله عليه و سلم فيمن سمه
ثبت في الصحيحين : [ أن يهودية سمته في شاة فأكل منها لقمة ثم لفظها وأكل معه بشر بن البراء فعفا عنها النبي صلى الله عليه و سلم ولم يعاقبها ] هكذا في الصحيحين
وعند أبي داود : أنه أمر بقتلها فقيل : إنه عفا عنها في حقه فلما مات بشر بن البراء قتلها به
وفيه دليل على أن من قدم لغيره طعاما مسموما يعلم به دون آكله فمات به أقيد منه (5/56)
فصل
في حكمه صلى الله عليه و سلم في الساحر
في الترمذي عنه صلى الله عليه و سلم : [ حد الساحر ضربة بالسيف ] والصحيح أنه موقوف على جندب بن عبد الله
وصح عن عمر رضي الله عنه أنه أمر بقتله وصح عن حفصة رضي الله عنها أنها قتلت مدبرة سحرتها فأنكر عليها عثمان إذ فعلته دون أمره وروي عن عائشة رضي الله عنها أيضا أنها قتلت مدبرة سحرتها وروي أنها باعتها ذكره ابن المنذر وغيره
وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يقتل من سحره من اليهود فأخذ بهذا الشافعي وأبو حنيفة رحمهما الله وأما مالك وأحمد رحمهما الله فإنهما يقتلانه ولكن منصوص أحمد رحمه الله أن ساحر أهل الذمة لا يقتل واحتج بأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يقتل لبيد بن الأعصم اليهودي حين سحره ومن قال بقتل ساحرهم يجيب عن هذا بأنه لم يقر ولم يقم عليه بينة وبأنه خشي صلى الله عليه و سلم أن يثير على الناس شرا بترك إخراج السحر من البئر فكيف لو قتله (5/57)
فصل
في حكمه صلى الله عليه و سلم في أول غنيمة كانت في الإسلام وأول قتيل
لما بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم عبد الله بن جحش ومن معه سرية إلى نخلة ترصد عيرا لقريش وأعطاه كتابا مختوما وأمره أن لا يقرأه إلا بعد يومين فقتلوا عمرو بن الحضرمي وأسروا عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان وكان ذلك في الشهر الحرام فعنفهم المشركون ووقف رسول الله صلى الله عليه و سلم الغنيمة والأسيرين حتى أنزل الله سبحانه وتعالى : { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله } [ البقرة : 217 ] فأخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم العير والأسيرين وبعثت إليه قريش في فدائهما فقال : لا حتى يقدم صاحبنا - يعني سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان - فإنا نخشاكم عليهما فإن تقتلوهما نقتل صاحبيكم فلما قدما فاداهما رسول الله صلى الله عليه و سلم بعثمان والحكم وقسم الغنيمة
وذكر ابن وهب : أن النبي صلى الله عليه و سلم رد الغنيمة وودى القتيل
والمعروف في السير خلاف هذا
وفي هذه القصة من الفقه إجازة الشهادة على الوصية المختومة وهو قول مالك وكثير من السلف ويدل عليه حديث ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيحين : [ ما حق امرئ مسلم له شئ يوصي به يبيت به ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده ]
وفيها : أنه لا يشترط في كتاب الإمام والحاكم البينة ولا أن يقرأه الإمام والحاكم على الحامل له وكل هذا لا أصل له في كتاب ولا سنة وقد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يدفع كتبه مع رسله ويسيرها إلى من يكتب إلبه ولا يقرؤها على حاملها ولا يقيم عليها شاهدين وهذا معلوم بالضرورة من هديه وسنته (5/58)
فصل
فى حكمه صلى الله عليه و سلم في الجاسوس
ثبت أن حاطب بن أبي بلتعة لما جس عليه سأله عمر رضي الله عنه ضرب عنقه فلم يمكنه وقال : [ ما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال : إعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ] وقد تقدم حكم المسألة مستوفى
واختلف الفقهاء في ذلك فقال سحنون : إذا كاتب المسلم أهل الحرب قتل ولم يستتب وماله لورثته وقال غيره من أصحاب مالك رحمه الله : يجلد جلدا وجيعا ويطال حبسه وينفى من موضع يقرب من الكفار وقال ابن القاسم : يقتل ولا يعرف لهذا توبة وهو كالزنديق
وقال الشافعي وأبو حنيفة وأحمد رحمهم الله : لا يقتل والفريقان احتجوا بقصة حاطب وقد تقدم ذكر وجه احتجاجهم ووافق ابن عقيل من أصحاب أحمد مالكا وأصحابه (5/59)
فصل
في حكمه في الأسرى
ثبت عنه في الأسرى أنه قتل بعضهم ومن على بعضهم وفادى بعضهم بمال وبعضهم بأسرى من المسلمين واسترق بعضهم ولكن المعروف أنه لم يسترق رجلا بالغا
فقتل يوم بدر من الأسرى عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث وقتل من يهود جماعة كثيرين من الأسرى وفادى أسرى بدر بالمال بأربعة آلاف إلى أربعمائة وفادى بعضهم على تعليم جماعة من المسلمين الكتابة ومن علي أبي عزة الشاعر يوم بدر وقال في أسارى بدر : [ لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لأطلقتهم له ]
وفدى رجلين من المسلمين برجل من المشركين
وفدى رجالا من المسلمين بامرأة من السبي استوهبها من سلمة بن الأكوع
ومن على ثمامة بن أثال وأطلق يوم فتح مكة جماعة من قريش فكان يقال لهم : الطلقاء
وهذه أحكام لم ينسخ منها شئ بل يخير الإمام فيها بحسب المصلحة واسترق من أهل الكتاب وغيرهم فسبايا أوطاس وبني المصطلق لم يكونوا كتابيين وإنما كانوا عبدة أوثان من العرب واسترق الصحابة من سبي بني حنيفة ولم يكونوا كتابيين قال ابن عباس رضي الله عنهما : خير رسول الله صلى الله عليه و سلم في الأسرى بين الفداء والمن والقتل والإستعباد يفعل ما شاء وهذا هو الحق الذي لا قول سواه (5/59)
فصل
وحكم في اليهود بعدة قضايا فعاهدهم أول مقدمه المدينة ثم حاربه بنو قينقاع فظفر بهم ومن عليهم ثم حاربه بنو النضير فظفر بهم وأجلاهم ثم حاربه بنو قريظة فظفر بهم وقتلهم ثم حاربه أهل خيبر فظفر بهم وأقرهم في أرض خيبر ما شاء سوى من قتل منهم
ولما حكم سعد بن معاذ في بني قريظة بأن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم وتغنم أموالهم أخبره رسول الله صلى الله عليه و سلم : أن هذا حكم الله عز و جل من فوق سبع سماوات
وتضمن هذا الحكم : أن ناقضي العهد يسري نقضهم إلى نسائهم وذريتهم إذا كان نقضهم بالحرب ويعودون أهل حرب وهذا عين حكم الله عز و جل (5/61)
فصل
في حكمه صلى الله عليه و سلم في فتح خيبر
حكم يومئذ بإقرار يهود فيها على شطر ما يخرج منه من ثمر أو زرع
وحكم بقتل ابني أبي الحقيق لما نقضوا الصلح بينهم وبينه : على أن لا يكتموا ولا يغيبوا شيئا من أموالهم فكتموا وغيبوا وحكم بعقوبة المتهم بتغييب المال حتى أقر به وقد تقدم ذلك مستوفى في غزوة خيبر
وكانت لأهل الحديبية خاصة ولم يغب عنها إلا جابر بن عبد الله فقسم له رسول الله صلى الله عليه و سلم سهمه (5/61)
فصل
في حكمه صلى الله عليه و سلم في فتح مكة
حكم بأن من أغلق بابه أو دخل دار أبي سفيان أو دخل المسجد أو وضع السلاح فهو آمن وحكم بقتل نفر ستة منهم : مقيس بن صبابة وابن خطل ومغنيتان كانتا تغنيان بهجائه وحكم بأنه لا يجهز على جريح ولا يتبع مدبر ولا يقتل أسير ذكره أبو عبيد في الأموال وحكم لخزاعة أن يبذلوا سيوفهم في بني بكر إلى صلاة العصر ثم قال لهم : [ يا معشر خزاعة إرفعوا أيديكم عن القتل ] (5/62)
فصل
في حكمه صلى الله عليه و سلم في قسمة الغنائم
حكم صلى الله عليه و سلم أن للفارس ثلاث أسهم وللراجل سهم هذا حكمه الثابت عنه في مغازيه كلها وبه أخذ جمهور الفقهاء
وحكم أن السلب للقاتل
وأما حكمه بإخراح الخمس فقال ابن إسحاق : كانت الخيل يوم بني قريظة ستة وثلاثين فرسا وكان أول فئ وقعت فيه السهمان وأخرج منه الخمس ومضت به السنة ووافقه على ذلك القاضي إسماعيل بن إسحاق فقال إسماعيل : وأحسب أن بعضهم قال : ترك أمر الخمس بعد ذلك ولم يأت في ذلك من الحديث ما فيه بيان شاف وإنما جاء ذكر الخمس يقينا في غنائم حنين
وقال الواقدي : أول خمس خمس في غزوة بني قينقاع بعد بدر بشهر وثلاثة أيام نزلوا على حكمه فصالحهم على أن له أموالهم ولهم النساء والذرية وخمس أموالهم
وقال عبادة بن الصامت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى بدر فلما هزم الله العدو تبعتهم طائفة يقتلونهم وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه و سلم وطائفة استولت على العسكر والغنيمة فلما رجع الذين طلبوهم قالوا : لنا النفل نحن طلبنا العدو وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه و سلم : نحن أحق به لأنا أحدقنا برسول الله صلى الله عليه و سلم أن لا ينال العدو غرته وقال الذين استولوا على العسكر : هو لنا نحن حويناه فأنزل الله عز و جل : { يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول } [ الأنفال : ا ] فقسمه رسول الله صلى الله عليه و سلم عن بواء قبل أن ينزل : { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه } [ الأنفال : 41 ]
وقال القاضي إسماعيل : إنما قسم رسول الله صلى الله عليه و سلم أموال بني النضير بين المهاجرين وثلاثة من الأنصار : سهل بن حنيف وأبي دجانة والحارث بن الصمة لأن المهاجرين حين قدموا المدينة شاطرهم الأنصار ثمارهم فقال لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن شئتم قسمت أموال بني النضير بينكم وبينهم وأقمتم على مواساتهم في ثماركم وإن شئتم أعطيناها للمهاجرين دونكم وقطعتم عنهم ما كنتم تعطونهم من ثماركم ] فقالوا : بل تعطيهم دوننا ونمسك ثمارنا فأعطاها رسول الله صلى الله عليه و سلم المهاجرين فاستغنوا بما أخذوا واستغنى الأنصار بما رجع إليهم من ثمارهم وهؤلاء الثلاثة من الأنصار شكوا حاجة (5/62)
فصل
وكان طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد رضي الله عنهما بالشام لم يشهدا بدرا فقسم لهما رسول الله صلى الله عليه و سلم سهميهما فقالا : وأجورنا يا رسول الله ؟ فقال : وأجوركما
وذكر ابن هشام وابن حبيب أن أبا لبابة والحارث بن حاطب وعاصم بن عدي خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فردهم وأمر أبا لبابة على المدينة وابن أم مكتوم على الصلاة وأسهم لهم
والحارث بن الصمة كسر بالروحاء فضرب له رسول الله صلى الله عليه و سلم بسهمه
قال ابن هشام : وخوات بن جبير ضرب له رسول الله صلى الله عليه و سلم بسهمه ولم يختلف أحد أن عثمان بن عفان رضي الله عنه تخلف على امرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم فضرب له بسهمه فقال : وأجري يا رسول الله ؟ قال :
وأجرك قال ابن حبيب : وهذا خاص للنبي صلى الله عليه و سلم وأجمع المسلمون أن لا يقسم لغائب
قلت : وقد قال أحمد ومالك وجماعة من السلف والخلف : إن الإمام إذا بعث أحدا في مصالح الجيش فله سهمه
قال ابن حبيب : ولم يكن النبي صلى الله عليه و سلم يسهم للنساء والصبيان والعبيد ولكن كان يحذيهم من الغنيمة (5/65)
فصل
وعدل في قسمة الإبل والغنم كل عشرة منها ببعير فهذا في التقويم وقسمة المال المشترك وأما في الهدي فقد قال جابر : نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم عام الحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة فهذا في الحديبية وأما في حجة الوداع فقال جابر أيضا : أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بدنة وكلاهما في الصحيح
وفي السنن من حديث ابن عباس أن رجلا : أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : إن علي بدنة وأنا موسر بها ولا أجدها فأشتريها فأمره أن يبتاع سبع شياه فيذبحهن (5/66)
فصل
حكم النبي صلى الله عليه و سلم بالسلب كله للقاتل ولم يخمسه ولم يجعله من الخمس بل من أصل الغنيمة وهذا حكمه وقضاؤه
قال البخاري في صحيحه : السلب للقاتل إنما هو من غير الخمس وحكم به بشهادة واحد وحكم به بعد القتل فهذه أربعة أحكام تضمنها حكمه صلى الله عليه و سلم بالسلب لمن قتل قتيلا
وقال مالك وأصحابه : السلب لا يكون إلا من الخمس وحكمه حكم النفل قال مالك : ولم يبلغنا أن النبي صلى الله عليه و سلم قال ذلك ولا فعله في غير يوم حنين ولا فعله أبو بكر ولا عمر رضي الله عنهما قال ابن المواز : ولم يعط غير البراء بن مالك سلب قتيله وخمسه
قال أصحابه : قال الله تعالى : { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه } فجعل أربعة أخماس الغنيمة لمن غنمها فلا يجوز أن يؤخذ شئ مما جعله الله لهم بالإحتمال
وأيضا فلو كانت هذه الآية إنما هي في غير الأسلاب لم يؤخر النبي صلى الله عليه و سلم حكمها إلى حنين وقد نزلت في قصة بدر وأيضا إنما قال : [ من قتل قتيلا فله سلبه ] بعد أن برد القتال ولو كان أمرا متقدما لعلمه أبو قتادة فارس رسول الله صلى الله عليه و سلم وأحد أكابر أصحابه وهو لم يطلبه حتى سمع منادي رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول ذلك
قالوا : وأيضا فالنبي صلى الله عليه و سلم أعطاه إياه بشهادة واحد بلا يمين فلو كان من رأس الغنيمة لم يخرج حق مغنم إلا بما تخرج به الأملاك من البينات أو شاهد ويمين
قالوا : وأيضا فلو وجب للقاتل ولم يجد بينة لكان يوقف كاللقطة ولا يقسم وهو إذا لم تكن بينة يقسم فخرج من معنى الملك ودل على أنه إلى اجتهاد الإمام يجعله من الخمس الذي يجعل في غيره هذا مجموع ما احتج به لهذا القول
قال الآخرون : قد قال ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم وفعله قبل حنين بستة أعوام فذكر البخاري في صحيحه : [ أن معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء الأنصاريين ضربا أبا جهل بن هشام يوم بدر بسيفيهما حتى قتلاه فانصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبراه فقال : أيكما قتله ؟ فقال كل واحد منهما : أنا قتلته فقال : هل مسحتما سيفيكما ؟ قالا : لا فنظر إلى السيفين فقال : كلاكما قتله وسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح ] وهذا يدل على أن كون السلب للقاتل أمر مقرر معلوم من أول الأمر وإنما تجدد يوم حنين الإعلام العام والمناداة به لا شرعيته
وأما قول ابن المواز : إن أبا بكر وعمر لم يفعلاه فجوابه من وجهين أحدهما : أن هذا شهادة على النفي فلا تسمع الثاني : أنه يجوز أن يكون ترك المناداة بذلك على عهدهما اكتفاء بما تقرر وثبت من حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم وقضائه وحتى لو صح عنهما ترك ذلك تركا صحيحا لا احتمال فيه لم يقدم على حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم
وأما قوله : ولم يعط غير البراء بن مالك سلب قتيله فقد أعطى السلب لسلمة بن الأكوع ولمعاذ بن عمرو ولأبي طلحة الأنصاري قتل عشرين يوم حنين فأخذ أسلابهم وهذه كلها وقائع صحيحة معظمها في الصحيح فالشهادة على النفي لا تكاد تسلم من النقض
وأما قوله : وخمسه فهذا لم يحفظ به أثر البتة بل المحفوظ خلافه ففي سنن أبي داود : [ عن خالد أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يخمس السلب ]
وأما قوله تعالى : { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه } فهذا عام والحكم بالسلب للقاتل خاص ويجوز تخصيص عموم الكتاب بالسنة ونظائره معلومة ولا يمكن دفعها
وقوله : لا يجعل شئ من الغنيمة لغير أهلها بالإحتمال جوابه من وجهين أحدهما : أنا لم نجعل السلب لغير الغانمين الثاني : إنما جعلناه للقاتل بقول رسول الله صلى الله عليه و سلم لا بالإحتمال ولم يؤخر النبي صلى الله عليه و سلم حكم الآية إلى يوم حنين كما ذكرتم بل قد حكم بذلك يوم بدر ولا يمنع كونه قاله بعد القتال من استحقاقه بالقتل
وأما كون أبي قتادة لم يطلبه حتى سمع منادي النبي صلى الله عليه و سلم يقوله فلا يدل على أنه لم يكن متقررا معلوما وإنما سكت عنه أبو قتادة لأنه لم يكن يأخذه بمجرد دعواه فلما شهد له به شاهد أعطاه
والصحيح : أنه يكتفى في هذا بالشاهد الواحد ولا يحتاج إلى شاهد آخر ولا يمين كما جاءت به السنة الصحيحة الصريحة التي لا معارض لها وقد تقدم هذا في موضعه
وأما قوله : إنه لو كان للقاتل لوقف ولم يقسم كاللقطة فجوابه أنه للغانمين وإنما للقاتل حق التقديم فإذا لم تعلم عين القاتل اشترك فيه الغانمون فإنه حقهم ولم يظهر مستحق التقديم منهم فاشتركوا فيه (5/66)
فصل
في حكمه صلى الله عليه و سلم فيما حازه المشركون من أموال المسلمين ثم ظهر عليه المسلمون أو أسلم عليه المشركون
في البخاري : أن فرسا لابن عمر رضي الله عنه ذهب وأخذه العدو فظهر عليه المسلمون فرد عليه في زمن رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبق له عبد فلحق بالروم فظهر عليه المسلمون فرده عليه خالد في زمن أبي بكر رضي الله عنه
وفي سنن أبي داود : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم هو الذي رد عليه الغلام وفي المدونة و الواضحة [ أن رجلا من المسلمين وجد بعيرا له في المغانم فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن وجدته لم يقسم فخذه وإن وجدته قد قسم فأنت أحق به بالثمن إن أردته ]
وصح عنه : [ أن المهاجرين طلبوا منه دورهم يوم الفتح بمكة فلم يرد على أحد داره وقيل له : أين تنزل غدا من دارك بمكة ؟ فقال : وهل ترك لنا عقيل منزلا ] وذلك أن الرسول صلى الله عليه و سلم لما هاجر إلى المدينة وثب عقيل على رباع النبي صلى الله عليه و سلم بمكة فحازها كلها وحوى عليها ثم أسلم وهي في يده وقضى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن من أسلم على شئ فهو له وكان عقيل ورث أبا طالب ولم يرثه علي لتقدم إسلامه على موت أبيه ولم يكن لرسول الله صلى الله عليه و سلم ميراث من عبد المطلب فإن أباه عبد الله مات وأبوه عبد المطلب حي ثم مات عبد المطلب فورثه أولاده وهم أعمام النبي صلى الله عليه و سلم ومات أكثر أولاده ولم يعقبوا فحاز أبو طالب رباعه ثم مات فاستولى عليها عقيل دون علي لاختلاف الدين ثم هاجر النبي صلى الله عليه و سلم فاستولى عقيل على داره فلذلك قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ وهل ترك لنا عقيل منزلا ]
وكان المشركون يعمدون إلى من هاجر من المسلمين ولحق بالمدينة فيستولون على داره وعقاره فمضت السنة أن الكفار المحاربين إذا أسلموا لم يضمنوا ما أتلفوه على المسلمين من نفس أو مال ولم يردوا عليهم أموالهم التي غصبوها عليهم بل من أسلم على شئ فهو له هذا حكمه وقضاؤه صلى الله عليه و سلم (5/69)
فصل
في حكمه صلى الله عليه و سلم فيما كان يهدى إليه
كان أصحابه رضي الله عنهم يهدون إليه الطعام وغيره فيقبل منهم ويكافئهم أضعافها
وكانت الملوك تهدي إليه فيقبل هداياهم ويقسمها بين أصحابه ويأخذ منها لنفسه ما يختاره فيكون كالصفي الذي له من المغنم
وفي صحيح البخاري : [ أن النبي صلى الله عليه و سلم أهديت إليه أقبية ديباج مزررة بالذهب فقسمها في ناس من أصحابه وعزل منها واحدا لمخرمة بن نوفل فجاء ومعه المسور ابنه فقام على الباب فقال : ادعه لي فسمع النبي صلى الله عليه و سلم صوته فتلقاه به فاستقبله وقال : يا أبا المسور خبأت هذا لك ]
وأهدى له المقوقس مارية أم ولده وسيرين التي وهبها لحسان وبغلة شهباء وحمارا
وأهدى له النجاشي هدية فقبلها منه وبعث إليه هدية عوضها وأخبر أنه مات قبل أن تصل إليه وأنها ترجع فكان الأمر كما قال
وأهدى له فروة بن نفاثة الجذامي بغلة بيضاء ركبها يوم حنين ذكره مسلم
وذكر البخاري : أن ملك أيلة آهدى له بغلة بيضاء فكساه رسول الله صلى الله عليه و سلم بردة وكتب له ببحرهم
وأهدى له أبو سفيان هدية فقبلها
وذكر أبو عبيد : أن عامر بن مالك ملاعب الأسنة أهدى للنبي صلى الله عليه و سلم فرسا فرده وقال : [ إنا لا نقبل هدية مشرك ] وكذلك قال لعياض المجاشعي : [ إنا لا نقبل زبد المشركين ] يعني : رفدهم
قال أبو عبيد : وإنما قبل هدية أبي سفيان لأنها كانت في مدة الهدنة بينه وبين أهل مكة وكذلك المقوقس صاحب الإسكندرية إنما قبل هديته لأنه أكرم حاطب بن أبي بلتعة رسوله إليه وأقر بنبوته ولم يؤيسه من إسلامه ولم يقبل صلى الله عليه و سلم هدية مشرك محارب له قط (5/71)
فصل
وأما حكم هدايا الأئمة بعده فقال سحنون من أصحاب مالك : إذا أهدى أمير الروم هدية إلى الإمام فلا بأس بقبولها وتكون له خاصة وقال الأوزاعي : تكون للمسلمين ويكافئه عليها من بيت المال وقال الإمام أحمد رحمه الله وأصحابه : ما أهداه الكفار للإمام أو لأمير الجيش أو قواده فهو غنيمة حكمها حكم الغنائم (5/72)
فصل
في حكمه صلى الله عليه و سلم في قسمة الأموال
الأموال التي كان النبي صلى الله عليه و سلم يقسمها ثلاثة : الزكاة والغنائم والفئ
فأما الزكاة والغنائم فقد تقدم حكمهما وبينا أنه لم يكن يستوعب الأصناف الثمانية وأنه كان ربما وضعها في واحد
وأما حكمه في الفئ فثبت في الصحيح [ أنه صلى الله عليه و سلم قسم يوم حنين في المؤلفة قلوبهم من الفئ ولم يعط الأنصار شيئا فعتبوا عليه فقال لهم : ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاء والبعير وتنطلقون برسول الله صلى الله عليه و سلم تقودونه إلى رحالكم فوالله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به ] وقد تقدم ذكر القصة وفوائدها فى موضعها
والقصة هنا أن الله سبحانه أباح لرسوله من الحكم في مال الفئ ما لم يبحه لغيره وفي الصحيح عنه صلى الله عليه و سلم : [ إني أعطي أقواما وأدع غيرهم والذي أدع أحب إلي من الذي أعطي ]
وفي الصحيح عنه : [ إني لأعطي أقواما أخاف ظلعهم وجزعهم وأكل أقواما إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير منهم عمرو بن تغلب ] قال عمرو بن تغلب : فما أحب أن لي بكلمة رسول الله صلى الله عليه و سلم حمر النعم
وفي الصحيح : [ أن عليا بعث إليه بذهيبة من اليمن فقسمها أرباعا فأعطى الأقرع بن حابس وأعطى زيد الخيل وأعطى علقمة بن علاثة وعيينة بن حصن فقام إليه رجل غائر العينين ناتئ الجبهة كث اللحية محلوق الرأس فقال : يا رسول الله اتق الله فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ويلك أولست أحق أهل الارض أن يتقي الله ؟ ! ] الحديث
وفي السنن : [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم وضع سهم ذي القربى في بني هاشم وفي بني المطلب وترك بني نوفل وبني عبد شمس فانطلق جبير بن مطعم وعثمان بن عفان إليه فقالا : يا رسول الله ! لا ننكر فضل بني هاشم لموضعهم منك فما بال إخواننا بني المطلب أعطيتهم وتركتنا وإنما نحن وهم بمنزلة واحدة فقال النبي صلى الله عليه و سلم : إنا وبنو المطلب لا نفترق في جاهلية ولا إسلام إنما نحن وهم شئ واحد ] وشبك بين أصابعه
وذكر بعض الناس أن هذا الحكم خاص بالنبي صلى الله عليه و سلم وأن سهم ذوي القربى يصرف بعده في بني عبد شمس وبني نوفل كما يصرف في بني هاشم وبني المطلب قال : لأن عبد شمس وهاشما والمطلب ونوفلا إخوة وهم أولاد عبد مناف ويقال : إن عبد شمس وهاشما توأمان
والصواب : استمرار هذا الحكم النبوي وأن سهم ذوي القربى لبني هاشم وبني المطلب حيث خصه رسول الله صلى الله عليه و سلم بهم وقول هذا القائل : إن هذا خاص بالنبي صلى الله عليه و سلم باطل فإنه بين مواضع الخمس الذي جعله الله لذوي القربى فلا يتعدى به تلك المواضع ولا يقصر عنها ولكن لم يكن يقسمه بينهم على السواء بين أغنيائهم وفقرائهم ولا كان يقسمه قسمة الميراث للذكر مثل حظ الأنثيين بل كان يصرفه فيهم بحسب المصلحة والحاجة فيزوج منه عزبهم ويقضي منه عن غارمهم ويعطي منه فقيرهم كفايته
وفي سنن أبي داود : عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : ولأني رسول الله صلى الله عليه و سلم خمس الخمس فوضعته مواضعه حياة رسول الله صلى الله عليه و سلم وحياة أبي بكر رضي الله عنه وحياة عمر رضي الله عنه
وقد استدل به على أنه كان يصرف في مصارفه الخمسة ولا يقوى هذا الإستدلال إذ غاية ما فيه أنه صرفه في مصارفه التي كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصرفه فيها ولم يعدها إلى سواها فأين تعميم الأصناف الخمسة به ؟ ! والذي يدل عليه هدي رسول الله صلى الله عليه و سلم وأحكامه أنه كان يجعل مصارف الخمس كمصارف الزكاة ولا يخرج بها عن الأصناف المذكورة لا أنه يقسمه بينهم كقسمة الميراث ومن تأمل سيرته وهديه حق التأمل لم يشك في ذلك
وفي الصحيحين : عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب فكانت لرسول الله صلى الله عليه و سلم خاصة ينفق منها على أهله نفقة سنة وفي لفظ : يحبس لأهله قوت سنتهم ويجعل ما بقي في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله
وفي السنن : عن عوف بن مالك رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا أتاه الفئ قسمه من يومه فأعطى الآهل حظين وأعطى العزب حظا
فهذا تفضيل منه للآهل بحسب المصلحة والحاجة وإن لم تكن زوجه من ذوي القربى
وقد اختلف الفقهاء في الفئ هل كان ملكا لرسول الله صلى الله عليه و سلم يتصرف فيه كيف يشاء أو لم يكن ملكا له ؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره
والذي تدل عليه سنته وهديه أنه كان يتصرف فيه بالأمر فيضعه حيث أمره الله ويقسمه على من أمر بقسمته عليهم فلم يكن يتصرف فيه تصرف المالك بشهوته وإرادته يعطي من أحب ويمنع من أحب وإنما كان يتصرف فيه تصرف العبد المأمور ينفذ ما أمره به سيده ومولاه فيعطي من أمر بإعطائه ويمنع من أمر بمنعه وقد صرح رسول الله صلى الله عليه و سلم بهذا فقال : [ والله إني لا أعطي أحدا ولا أمنعه إنما أنا قاسم أضع حيث أمرت ] فكان عطاؤه ومنعه وقسمه بمجرد الأمر فإن الله سبحانه خيره بين أن يكون عبدا رسولا وبين أن يكون ملكا رسولا فاختار أن يكون عبدا رسولا
والفرق بينهما أن العبد الرسول لا يتصرف الا بأمر سيده ومرسله والملك الرسول له أن يعطي من يشاء ويمنع من يشاء كما قال تعالى للملك الرسول سليمان : { هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب } [ ص : 39 ] أي : أعط من شئت وامنع من شئت لا نحاسبك وهذه المرتبة هي التي عرضت على نبينا صلى الله عليه و سلم فرغب عنها إلى ما هو أعلى منها وهي مرتبة العبودية المحضة التي تصرف صاحبها فيها مقصور على أمر السيد في كل دقيق وجليل
والمقصود : أن تصرفه في الفئ بهذه المثابة فهو ملك يخالف حكم غيره من المالكين ولهذا كان ينفق مما أفاء الله عليه مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب على نفسه وأهله نفقة سنتهم ويجعل الباقي في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله عز و جل وهذا النوع من الأموال هو السهم الذي وقع بعده فيه من النزاع ما وقع إلى اليوم
فأما الزكاوات والغنائم وقسمة المواريث فإنها معينة لأهلها لا يشركهم غيرهم فيها فلم يشكل على ولاة الأمر بعده من أمرها ما أشكل عليهم من الفئ ولم يقع فيها من النزاع ما وقع فيه ولو لا إشكال أمره عليهم لما طلبت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم ميراثها من تركته وظنت أنه يورث عنه ما كان ملكا له كسائر المالكين وخفي عليها رضي الله عنها حقيقة الملك الذي ليس مما يورث عنه بل هو صدقة بعده ولما علم ذلك خليفته الراشد البار الصديق ومن بعده من الخلفاء الراشدين لم يجعلوا ما خلفه من الفئ ميراثا يقسم بين ورثته بل دفعوه إلى علي والعباس يعملان فيه عمل رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى تنازعا فيه وترافعا إلى أبي بكر الصديق وعمر ولم يقسم أحد منهما ذلك ميراثا ولا مكنا منه عباسا وعليا وقد قال الله تعالى : { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب * للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون * والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم } إلى قوله : { والذين جاؤوا من بعدهم } إلى آخر الآية [ الحشر : 7 - 10 ] فأخبر سبحانه أن ما أفاء على رسوله بجملته لمن ذكر في هذه الآيات ولم يخص منه خمسه بالمذكورين بل عمم وأطلق واستوعب ويصرف على المصارف الخاصة وهم أهل الخمس ثم على المصارف العامة وهم المهاجرون والأنصار وأتباعهم إلى يوم الدين فالذي عمل به هو وخلفاؤه الراشدون هو المراد من هذه الآيات ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيما رواه أحمد رحمه الله وغيره عنه : ما أحد أحق بهذا المال من أحد وما أنا أحق به من أحد والله ما من المسلمين أحد إلا وله في هذا المال نصيب إلا عبد مملوك ولكنا على منازلنا من كتاب الله وقسمنا من رسول الله صلى الله عليه و سلم فالرجل وبلاؤه في الإسلام والرجل وقدمه في الإسلام والرجل وغناؤه في الإسلام والرجل وحاجته ووالله لئن بقيت لهم ليأتين الراعي بجبل صنعاء حظه من هذا المال وهو يرعى مكانه فهؤلاء المسمون في آية الفئ هم المسمون في آية الخمس ولم يدخل المهاجرون والأنصار وأتباعهم في آية الخمس لأنهم المستحقون لجملة الفئ وأهل الخمس لهم استحقاقان : استحقاق خاص من الخمس واستحقاق عام من جملة الفئ فإنهم داخلون في النصيبين
وكما أن قسمته من جملة الفئ بين من جعل له ليس قسمة الأملاك التي يشترك فيها المالكون كقسمة المواريث والوصايا والأملاك المطلقة بل بحسب الحاجة والنفع والغناء في الإسلام والبلاء فيه فكذلك قسمة الخمس في أهله فإن مخرجهما واحد في كتاب الله والتنصيص على الأصناف الخمسة يفيد تحقيق إدخالهم وأنهم لا يخرجون من أهل الفئ بحال وأن الخمس لا يعدوهم إلى غيرهم كأصناف الزكاة لا تعدوهم إلى غيرهم كما أن الفئ العام في آية الحشر للمذكورين فيها لا يتعداهم إلى غيرهم ولهذا أفتى أئمة الإسلام كمالك والامام أحمد وغيرهما أن الرافضة لا حق لهم في الفئ لأنهم ليسوا من المهاجرين ولا من الأنصار ولا من الذين جاؤوا من بعدهم يقولون : ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذي سبقونا بالايمان وهذا مذهب أهل المدينة واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وعليه يدل القرآن وفعل رسول الله صلى الله عليه و سلم وخلفائه الراشدين
وقد اختلف الناس فى آية الزكاة وآية الخمس فقال الشافعى : تجب قسمة الزكاة والخمس على الأصناف كلها ويعطي من كل صنف من يطلق عليه اسم الجمع
وقال مالك رحمه الله وأهل المدينة : بل يعطي في الأصناف المذكورة فيهما ولا يعدوهم إلى غيرهم ولا تجب قسمة الزكاة ولا الفئ في جميعهم
وقال الإمام أحمد وأبو حنيفة : يقول مالك رحمهم الله في آية الزكاة ويقول الشافعي رحمه الله في آية الخمس
ومن تأمل النصوص وعمل رسول الله صلى الله عليه و سلم وخلفائه وجده يدل على قول أهل المدينة فإن الله سبحانه جعل أهل الخمس هم أهل الفئ وعينهم اهتماما بشأنهم وتقديما لهم ولما كانت الغنائم خاصة بأهلها لا يشركهم فيها سواهم نص على خمسها لأهل الخمس ولما كان الفئ لا يختص بأحد دون أحد جعل جملته لهم وللمهاجرين والأنصار وتابعيهم فسوى بين الخمس وبين الفئ في المصرف وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصرف سهم الله وسهمه في مصالح الإسلام وأربعة أخماس الخمس في أهلها مقدما للأهم فالأهم والأحوج فالأحوج فيزوج منه عزابهم ويقضي منه ديونهم ويعين ذا الحاجة منهم ويعطي عزبهم حظا ومتزوجهم حظين ولم يكن هو ولا أحد من خلفائه يجمعون اليتامى والمساكين وأبناء السبيل وذوي القربى ويقسمون أربعة أخماس الفئ بينهم على السوية ولا على التفضيل كما لم يكونوا يفعلون ذلك في الزكاة فهذا هديه وسيرته وهو فصل الخطاب ومحض الصواب (5/73)
فصل
في حكمه صلى الله عليه و سلم في الوفاء بالعهد لعدوه وفي رسلهم أن لا يقتلوا ولا يحبسوا وفي النبذ إلى من عاهده على سواء إذا خاف منه نقض العهد
[ ثبت عنه أنه قال لرسولي مسيلمة الكذاب لما قالا : نقول : إنه رسول الله : لولا أن الرسل لا تقتل لقتلكما ]
[ وثبت عنه أنه قال لأبي رافع وقد أرسلته إليه قريش فأراد المقام عنده وأنه لا يرجع إليهم فقال : إني لا أخيس بالعهد ولا أحبس البرد ولكن ارجع إلى قومك فإن كان في نفسك الذي فيها الآن فارجع ]
وثبت عنه أنه رد اليهم أبا جندل للعهد الذي كان بينه وبينهم أن يرد إليهم من جاءه منهم مسلما ولم يرد النساء وجاءت سبيعة الأسلمية مسلمة فخرج زوجها في طلبها فأنزل الله عز و جل : { يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار } الآية [ الممتحنة : 11 ] فاستحلفها رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه لم يخرجها إلا الرغبة في الإسلام وأنها لم تخرج لحدث أحدثته في قومها ولا بغضا لزوجها فحلفت فأعطى رسول الله صلى الله عليه و سلم زوجها مهرها ولم يردها عليه فهذا حكمه الموافق لحكم الله ولم يجيء شئ ينسخه البتة ومن زعم أنه منسوخ فليس بيده إلا الدعوى المجردة وقد تقدم بيان ذلك في قصة الحديبية
وقال تعالى : { وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين } [ الأنفال : 58 ]
وقال صلى الله عليه و سلم : [ من كان بينه وبين قوم عهد فلا يحلن عقدا ولا يشدنه حتى يمضي أمده أو ينبذ إليهم على سواء ] قال الترمذى : حديث حسن صحيح
ولما أسرت قريش حذيفة بن اليمان وأباه أطلقوهما وعاهدوهم أن لا يقاتلاهم مع رسول الله صلى الله عليه و سلم وكانوا خارجين إلى بدر فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ انصرفا نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم ] (5/80)
فصل
في حكمه صلى الله عليه و سلم في الأمان الصادر من الرجال والنساء
ثبت عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم ]
وثبت عنه أنه أجار رجلين أجارتهما أم هانئ ابنة عمه وثبت عنه أنه أجار أبا العاص بن الربيع لما أجارته ابنته زينب ثم قال : [ يجير على المسلمين أدناهم ] وفي حديث آخر : [ يجير على المسلمين أدناهم ويرد عليهم أقصاهم ]
فهذه أربع قضايا كلية أحدها : تكافؤ دمائهم وهو يمنع قتل مسلمهم بكافرهم
والثانية : أنه يسعى بذمتهم أدناهم وهو يوجب قبول أمان المرأة والعبد
وقال ابن الماجشون لا يجوز الأمان إلا لوالي الجيش أو والي السرية قال ابن شعبان : وهذا خلاف قول الناس كلهم
والثالثة : أن المسلمين يد على من سواهم وهذا يمنع من تولية الكفار شيئا من الولايات فإن للوالي يدا على المولى عليه
والرابعة : أنه يرد عليهم أقصاهم وهذا يوجب أن السرية إذا غنمت غنيمة بقوة جيش الإسلام كانت لهم وللقاصي من الجيش إذ بقوته غنموها وأن ما صار في بيت المال من الفئ كان لقاصيهم ودانيهم وإن كان سبب أخذه دانيهم فهذه الأحكام وغيرها مستفادة من كلماته الأربعة صلوات الله وسلامه عليه (5/81)
فصل
في حكمه صلى الله عليه و سلم في الجزية ومقدارها وممن تقبل
قد تقدم أن أول ما بعث الله عز و جل به نبيه صلى الله عليه و سلم الدعوة إليه بغير قتال ولا جزية فأقام على ذلك بضع عشرة سنة بمكة ثم أذن له في القتال لما هاجر من غير فرض له ثم أمره بقتال من قاتله والكف عمن لم يقاتله ثم لما نزلت ( براءة ) سنة ثمان أمره بقتال جميع من لم يسلم من العرب : من قاتله أو كف عن قتاله إلا من عاهده ولم ينقضه من عهده شيئا فأمره أن يفي له بعهده ولم يأمره بأخذ الجزية من المشركين وحارب اليهود مرارا ولم يؤمر بأخذ الجزية منهم
ثم أمره بقتال أهل الكتاب كلهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية فامتثل أمر ربه فقاتلهم فأسلم بعضهم وأعطى بعضهم الجزية واستمر بعضهم على محاربته فأخذها صلى الله عليه و سلم من أهل نجران وأيلة وهم من نصارى العرب ومن أهل دومة الجندل وأكثرهم عرب وأخذها من المجوس ومن أهل الكتاب باليمن وكانوا يهودا
ولم يأخذها من مشركي العرب فقال أحمد والشافعي : لا تؤخذ إلا من الطوائف الثلاث التي أخذها رسول الله صلى الله عليه و سلم منهم وهم : اليهود والنصارى والمجوس ومن عداهم فلا يقبل منهم إلا الإسلام أو القتل وقالت طائفة : في الأمم كلها إذا بذلوا الجزية قبلت منهم : أهل الكتابين بالقرآن والمجوس بالسنة ومن عداهم ملحق بهم لأن المجوس أهل شرك لا كتاب لهم فأخذها منهم دليل على أخذها من جميع المشركين وإنما لم يأخذها صلى الله عليه و سلم من عبدة الاوثان من العرب لأنهم أسلموا كلهم قبل نزول آية الجزية فإنها نزلت بعد تبوك وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم قد فرغ من قتال العرب واستوثقت كلها له بالإسلام ولهذا لم يأخذها من اليهود الذين حاربوه لأنها لم تكن نزلت بعد فلما نزلت أخذها من نصارى العرب ومن المجوس ولو بقي حينئذ أحد من عبدة الأوثان بذلها لقبلها منه كما قبلها من عبدة الصلبان والنيران ولا فرق ولا تأثير لتغليظ كفر بعض الطوائف على بعض ثم إن كفر عبدة الاوثان ليس أغلظ من كفر المجوس وأي فرق بين عبدة الأوثان والنيران بل كفار المجوس أغلظ وعباد الأوثان كانوا يقرون بتوحيد الربوبية وأنه لا خالق إلا الله وأنهم إنما يعبدون آلهتهم لتقربهم إلى الله سبحانه وتعالى ولم يكونوا يقرون بصانعين للعالم أحدهما : خالق للخير والآخر للشر كما تقوله المجوس ولم يكونوا يستحلون نكاح الأمهات والبنات والأخوات وكانوا على بقايا من دين إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه
وأما المجوس فلم يكونوا على كتاب أصلا ولا دانوا بدين أحد من الأنبياء لا في عقائدهم ولا في شرائعهم والأثر الذي فيه أنه كان لهم كتاب فرفع ورفعت شريعتهم لما وقع ملكهم على ابنته لا يصح البتة ولو صح لم يكونوا بذلك من أهل الكتاب فإن كتابهم رفع وشريعتهم بطلت فلم يبقوا على شئ منها
ومعلوم أن العرب كانوا على دين إبراهيم عليه السلام وكان له صحف وشريعة وليس تغيير عبدة الاوثان لدين إبراهيم عليه السلام وشريعته بأعظم من تغيير المجوس لدين نبيهم وكتابهم لو صح فإنه لا يعرف عنهم التمسك بشئ من شرائع الأنبياء عليهم الصلوات والسلام بخلاف العرب فكيف يجعل المجوس الذين دينهم أقبح الاديان أحسن حالا من مشركي العرب وهذا القول أصح في الدليل كما ترى
وفرقت طائفة ثالثة بين العرب وغيرهم فقالوا : تؤخذ من كل كافر إلا مشركي العرب
ورابعة : فرقت بين قريش وغيرهم وهذا لا معنى له فإن قريشا لم يبق فيهم كافر يحتاج إلى قتاله وأخذ الجزية منه البتة وقد كتب النبي صلى الله عليه و سلم إلى أهل هجر وإلى المنذر بن ساوى وإلى ملوك الطوائف يدعوهم إلى الإسلام أو الجزية ولم يفرق بين عربي وغيره
وأما حكمه في قدرها فإنه بعث معاذا إلى اليمن وأمره أن يأخذ من كل حالم دينارا أو قيمته معافر وهي ثياب معروفة باليمن ثم زاد فيها عمر رضي الله عنه فجعلها أربعة دنانير على أهل الذهب وأربعين درهما على أهل الورق في كل سنة فرسول الله صلى الله عليه و سلم علم ضعف أهل اليمن وعمر رضي الله عنه علم غنى أهل الشام وقوتهم (5/82)
فصل
في حكمه صلى الله عليه و سلم في الهدنة وما ينقضها
ثبت عنه صلى الله عليه و سلم أنه صالح أهل مكة على وضع الحرب بينه وبينهم عشر سنين ودخل حلفاؤهم من بني بكر معهم وحلفاوه من خزاعة معه فعدت حلفاء قريش على حلفائه فغدروا بهم فرضيت قريش ولم تنكره فجعلهم بذلك ناقضين للعهد واستباح غزوهم من غير نبذ عهدهم إليهم لأنهم صاروا محاربين له ناقضين لعهده برضاهم وإقرارهم لحلفائهم على الغدر بحلفائه وألحق ردأهم في ذلك بمباشرهم
وثبت عنه أنه صالح اليهود وعاهدهم لما قدم المدينة فغدروا به ونقضوا عهده مرارا وكل ذلك يحاربهم ويظفر بهم وآخر ما صالح يهود خيبر على أن الأرض له ويقرهم فيها عمالا له ما شاء وكان هذا الحكم منه فيهم حجة على جواز صلح الإمام لعدوه ما شاء من المدة فيكون العقد جائزا له فسخه متى شاء وهذا هو الصواب وهو موجب حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم الذي لا ناسخ له (5/85)
فصل
وكان في صلحه لأهل مكة أن من أحب أن يدخل في عهد محمد وعقده دخل ومن أحب أن يدخل في عهد قريش وعقدهم دخل وأن من جاءهم من عنده لا يردونه إليه ومن جاءه منهم رده إليهم وأنه يدخل العام القابل إلى مكة فيخلونها له ثلاثا ولا يدخلها إلا بجلبان السلاح وقد تقدم ذكر هذه القصة وفقهها في موضعه
ذكر أقضيته وأحكامه صلى الله عليه و سلم في النكاح وتوابعه (5/86)
فصل
في حكمه صلى الله عليه و سلم في الثيب والبكر يزوجهما أبوهما
ثبت عنه في الصحيحين : أن خنساء بنت خدام زوجها أبوها وهي كارهة وكانت ثيبا فأتت رسول الله صلى الله عليه و سلم فرد نكاحها
وفي السنن : من حديث ابن عباس : أن جارية بكرا أتت النبي صلى الله عليه و سلم فذكرت له أن أباها زوجها وهي كارهة فخيرها النبي صلى الله عليه و سلم وهذه غير خنساء فهما قضيتان قضى في إحداهما بتخيير الثيب وقضى في الأخرى بتخيير البكر
وثبت عنه في الصحيح أنه قال : [ لا تنكح البكر حتى تستأذن قالوا : يا رسول الله : وكيف إذنها ؟ قال : أن تسكت ]
وفي صحيح مسلم : [ البكر تستأذن في نفسها واذنها صماتها ]
وموجب هذا الحكم أنه لا تجبر البكر البالغ على النكاح ولا تزوج إلا برضاها وهذا قول جمهور السلف ومذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايات عنه وهو القول الذي ندين الله به ولا نعتقد سواه وهو الموافق لحكم رسول الله صلى الله عليه و سلم وأمره ونهيه وقواعد شريعته ومصالح أمته
أما موافقته لحكمه فإنه حكم بتخيير البكر الكارهة وليس رواية هذا الحديث مرسلة بعلة فيه فإنه قد روي مسندا ومرسلا فإن قلنا بقول الفقهاء : إن الإتصال زيادة ومن وصله مقدم على من أرسله فظاهر وهذا تصرفهم في غالب الأحاديث فما بال هذا خرج عن حكم أمثاله وإن حكمنا بالإرسال كقول كثير من المحدثين فهذا مرسل قوي قد عضدته الآثار الصحيحة الصريحة والقياس وقواعد الشرع كما سنذكره فيتعين القول به
وأما موافقته هذا القول لأمره فإن قال : والبكر تستأذن وهذا أمر مؤكد لأنه ورد بصيغة الخبر الدال على تحقق المخبر به وثبوته ولزومه والاصل في أوامره صلى الله عليه و سلم أن تكون للوجوب ما لم يقم إجماع على خلافه
وأما موافقته لنهيه فلقوله : [ لا تنكح البكر حتى تستأذن ] فأمر ونهى وحكم بالتخيير وهذا إثبات للحكم بأبلغ الطرق
وأما موافقته لقواعد شرعه فإن البكر البالغة العاقلة الرشيدة لا يتصرف أبوها في أقل شئ من مالها إلا برضاها ولا يجبرها على إخراج اليسير منه بدون رضاها فكيف يجوز أن يرقها ويخرج بضعها منها بغير رضاها إلى من يريده هو وهي من أكره الناس فيه أبغض شئ إليها ؟ ومع هذا فينكحها إياه قهرا بغير رضاها إلى من تريده ويجعلها أسيرة عنده كما قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ اتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم ] أي : أسرى ومعلوم أن إخراج مالها كله بغير رضاها أسهل عليها من تزويجها بمن لا تختاره بغير رضاها ولقد أبطل من قال : إنها إذا عينت كفئا تحبه وعين أبوها كفئا فالعبرة بتعيينه ولو كان بغيضا إليها قبيح الخلقة
وأما موافقته لمصالح الأمة فلا يخفى مصلحة البنت في تزويجها بمن تختاره وترضاه وحصول مقاصد النكاح لها به وحصول ضد ذلك بمن تبغضه وتنفر عنه فلو لم تأت السنة الصريحة بهذا القول لكان القياس الصحيح وقواعد الشريعة لا تقتضي غيره وبالله التوفيق
فإن قيل : فقد حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم بالفرق بين البكر والثيب وقال : [ ولا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا تنكح البكر حتى تستأذن ] وقال : [ الأيم أحق بنفسها من وليها والبكر يستأذنها أبوها ] فجعل الأيم أحق بنفسها من وليها فعلم أن ولي البكر أحق بها من نفسها وإلا لم يكن لتخصيص الأيم بذلك معنى
وأيضا فإنه فرق بينهما في صفة الإذن فجعل إذن الثيب النطق وإذن البكر الصمت وهذا كله يدل على عدم اعتبار رضاها وأنها لا حق لها مع أبيها
فالجواب : أنه ليس في ذلك ما يدل على جواز تزويجها بغير رضاها مع بلوغها وعقلها ورشدها وأن يزوجها بأبغض الخلق إليها إذا كان كفئا والأحاديث التي احتججتم بها صريحة في إبطال هذا القول وليس معكم أقوى من قوله : [ الأيم أحق بنفسها من وليها ] هذا إنما يدل بطريق المفهوم ومنازعوكم ينازعونكم في كونه حجة ولو سلم أنه حجة فلا يجوز تقديمه على المنطوق الصريح وهذا أيضا إنما يدل إذا قلت : إن للمفهوم عموما والصواب أنه لا عموم له إذ دلالته ترجع إلى أن التخصيص بالمذكور لا بد له من فائدة وهي نفي الحكم عما عداه ومعلوم أن انقسام ما عداه إلى ثابت الحكم ومنتفيه فائدة وأن إثبات حكم آخر للمسكوت عنه فائدة وإن لم يكن ضد حكم المنطوق وأن تفصيله فائدة كيف وهذا مفهوم مخالف للقياس الصريح بل قياس الأولى كما تقدم ويخالف النصوص المذكورة
وتأمل قوله صلى الله عليه و سلم : [ والبكر يستأذنها أبوها ] عقيب قوله : [ الأيم أحق بنفسها من وليها ] قطعا لتوهم هذا القول وأن البكر تزوج بغير رضاها ولا إذنها فلا حق لها في نفسها البتة فوصل إحدى الجملتين بالأخرى دفعا لهذا التوهم ومن المعلوم أنه لا يلزم من كون الثيب أحق بنفسها من وليها أن لا يكون للبكر في نفسها حق البتة
وقد اختلف الفقهاء في مناط الإجبار على ستة أقوال
أحدها : أنه يجبر بالبكارة وهو قول الشافعي ومالك وأحمد في رواية
الثاني : أنه يجبر بالصغر وهو قول أبي حنيفة وأحمد في الرواية الثانية
الثالث : أنه يجبر بهما معا وهو الرواية الثالثة عن أحمد
الرابع : أنه يجبر بأيهما وجد وهو الرواية الرابعة عنه
الخامس : أنه يجبر بالإيلاد فتجبر الثيب البالغ حكاه القاضي إسماعيل عن الحسن البصري قال : وهو خلاف الإجماع قال : وله وجه حسن من الفقه فيا ليت شعري ما هذا الوجه الأسود المظلم ؟ !
السادس : أنه يجبر من يكون في عياله ولا يخفى عليك الراجح من هذه المذاهب (5/87)
فصل
وقضى صلى الله عليه و سلم بأن إذن البكر الصمات وإذن الثيب الكلام فإن نطقت البكر بالإذن بالكلام فهو آكد وقال ابن حزم : لا يصح أن تزوج إلا بالصمات وهذا هو اللائق بظاهريته (5/91)
فصل
وقضى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن اليتيمة تستأمر في نفسها ولا يتم بعد احتلام فدل ذلك على جواز نكاح اليتيمة قبل البلوغ وهذا مذهب عائشة رضي الله عنها وعليه يدل القرآن والسنة وبه قال أحمد وأبو حنيفة وغيرهما
قال تعالى : { ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن } [ النساء : 127 ]
قالت عائشة رضي الله عنها : هي اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في نكاحها ولا يقسط لها سنة صداقها فنهوا عن نكاحهن إلا أن يقسطوا لهن سنة صداقهن
وفي السنن الأربعة : [ عنه صلى الله عليه و سلم اليتيمة تستأمر في نفسها فإن صمتت فهو إذنها وإن أبت فلا جواز عليها ] (5/91)
فصل
في حكمه صلى الله عليه و سلم في النكاح بلا ولي
في السنن عنه من حديث عائشة رضي الله عنها : [ أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل فنكاحها باطل فنكاحها باطل فإن أصابها فلها مهرها بما أصاب منها فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له ] قال الترمذي حديث حسن
وفي السنن الأربعة : عنه : [ لا نكاح إلا بولي ]
وفيها عنه : [ لا تزوج المرأة المرأة ولا تزوج المرأة نفسها فإن الزانية هي التي تزوج نفسها ] (5/92)
فصل
وحكم أن المرأة إذا زوجها الوليان فهي للأول منهما وأن الرجل إذا باع للرجلين فالبيع للأول منهما (5/93)
فصل
في قضائه في نكاح التفويض
ثبت عنه أنه قضى في رجل تزوج امرأة ولم يفرض لها صداقا ولم يدخل بها حتى مات أن لها مهر مثلها ولا وكس ولا شطط ولها الميراث وعليها العدة أربعة أشهر وعشرا
وفي سنن أبي داود عنه : أنه قال لرجل : [ أترضى أن أزوجك فلانة ؟ قال : نعم وقال للمرأة : أترضين أن أزوجك فلانا ؟ قالت : نعم فزوح أحدهما صاحبه فدخل بها الرجل ولم يفرض لها صداقا ولم يعطها شيئا فلما كان عند موته عوضها من صداقها سهما له بخيبر ]
وقد تضمنت هذه الأحكام جواز النكاح من غير تسمية صداق وجواز الدخول قبل التسمية واستقرار مهر المثل بالموت وإن لم يدخل بها ووجوب عدة الوفاة بالموت وإن لم يدخل بها الزوج وبهذا أخذ ابن مسعود وفقهاء العراق وعلماء الحديث منهم : أحمد والشافعي في أحد قوليه
وقال علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت رضي الله عنهما : لا صداق لها وبه أخذ أهل المدينة ومالك والشافعي في قوله الآخر
وتضمنت جواز تولي الرجل طرفي العقد كوكيل من الطرفين أو ولي فيهما أو ولي وكله الزوج أو زوج وكله الولي ويكفي أن يقول : زوجت فلانا فلانة مقتصرا على ذلك أو تزوجت فلانة إذا كان هو الزوج وهذا ظاهر مذهب أحمد وعنه رواية ثانية : لا يجوز ذلك إلا للولي المجبر كمن زوج أمته أو ابنته المجبرة بعبده المجبر ووجه هذه الرواية أنه لا يعتبر رضى واحد من الطرفين
وفي مذهبه قول ثالث : أنه يجوز ذلك إلا للزوج خاصة فإنه لا يصح منه تولي الطرفين لتضاد أحكام الطرفين فيه (5/93)
فصل
في حكمه صلى الله عليه و سلم فيمن تزوج امرأة فوجدها في الحبل
في السنن والمصنف : عن سعيد بن المسيب عن بصرة بن أكثم قال : تزوجت امرأة بكرا في سترها فدخلت عليها فإذا هي حبلى فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ لها الصداق بما استحللت من فرجها والولد عبد لك وإذا ولدت فاجلدوها ] وفرق بينهما
وقد تضمن هذا الحكم بطلان نكاح الحامل من زنى وهو قول أهل المدينة والإمام أحمد وجمهور الفقهاء ووجوب المهر المسمى في النكاح الفاسد وهذا هو الصحيح من الأقوال الثلاثة والثاني : يجب مهر المثل وهو قول الشافعي رحمه الله والثالث : يجب أقل الأمرين
وتضمنت وجوب الحد بالحبل وإن لم تقم بينة ولا اعتراف والحبل من أقوى البينات وهذا مذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأهل المدينة وأحمد في إحدى الروايتين عنه
وأما حكمه بكون الولد عبدا للزوج فقد قيل : إنه لما كان ولد زنى لا أب له وقد غرته من نفسها وغرم صداقها أخدمه ولدها وجعله له بمنزة العبد أنه أرقه فإنه انعقد حرا تبعا لحرية أمه وهذا محتمل ويحتمل أن يكون أرقه عقوبة لأمه على زناها وتغريرها للزوج ويكون هذا خاصا بالنبي صلى الله عليه و سلم وبذلك الولد لا يتعدى الحكم إلى غيره ويحتمل أن يكون هذا منسوخا وقد قيل : إنه كان في أول الإسلام يسترق الحر في الدين وعليه حمل بيعه صلى الله عليه و سلم لسرق في دينه والله أعلم (5/95)
فصل
في حكمه صلى الله عليه و سلم في الشروط في النكاح
في الصحيحين : عنه : [ إن أحق الشروط أن توفوا ما استحللتم به الفروج ]
وفيهما عنه : [ لا تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ صحفتها ولتنكح فإنما له ما قدر لها ]
وفيهما : أنه نهى أن تشترط المرأة طلاق أختها
وفي مسند أحمد عنه [ لا يحل أن تنكح امرأة بطلاق أخرى ]
فتضمن هذا الحكم وجوب الوفاء بالشروط التي شرطت في هذا العقد إذ لم تتضمن تغييرا لحكم الله ورسوله
وقد اتفق على وجوب الوفاء بتعجيل المهر أو تأجيله والضمين والرهن به ونحو ذلك وعلىعدم الوفاء باشتراك ترك الوطء والإنفاق والخلو عن المهر ونحو ذلك
واختلف في شرط الإقامة في بلد الزوجة وشرط دار الزوجة وأن لا يتسرى عليها ولا يتزوج عليها فأوجب أحمد وغيره الوفاء به ومتى لم يف به فلها الفسخ عند أحمد
واختلف في اشتراط البكارة والنسب والجمال والسلامة من العيوب التي لا يفسخ بها النكاح وهل يؤثر عدمها في فسخه ؟ على ثلاثة أقوال ثالثها : الفسخ عند عدم النسب خاصة
وتضمن حكمه صلى الله عليه و سلم بطلان اشتراط المرأة طلاق أختها وأنه لا يجب الوفاء به فإن قيل : فما الفرق بين هذا وبين اشتراطها أن لا يتزوج عليها حتى صححتم هذا وأبطلتم شرط طلاق الضرة ؟ قيل : الفرق بينهما أن في اشتراط طلاق الزوجة من الإضرار بها وكسر قلبها وخراب بيتها وشماتة أعدائها ما ليس في اشتراط عدم نكاحها ونكاح غيرها وقد فرق النص بينهما فقياس أحدهما على الآخر فاسد (5/97)
فصل
في حكمه صلى الله عليه و سلم في نكاح الشغار والمحلل والمتعة ونكاح المحرم ونكاح الزانية
أما الشغار : فصح النهي عنه من حديث ابن عمر وأبي هريرة ومعاوية
وفي صحيح مسلم : عن ابن عمر مرفوعا [ لا شغار في الإسلام ]
وفي حديث ابن عمر : والشغار : أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته وليس بينهما صداق
وفي حديث أبي هريرة : والشغار : أن يقول الرجل للرجل : زوجني ابنتك وأزوجك ابنتي أو زوجني أختك وأزوجك أختي
وفي حديث معاوية : أن العباس بن عبد الله بن عباس أنكح عبد الرحمن بن الحكم ابنته وأنكحه عبد الرحمن ابنته وكانا جعلا صداقا فكتب معاوية رضي الله عنه إلى مروان يأمره بالتفريق بينهما وقال : هذا الشغار الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم
فاختلف الفقهاء في ذلك فقال الإمام أحمد : الشغار الباطل أن يزوجه وليته على أن يزوجه الآخر وليته ولا مهر بينهما على حديث ابن عمر فإن سموا مع ذلك مهرا صح العقد بالمسمى عنده وقال الخرقي : لا يصح ولو سموا مهرا على حديث معاوية وقال أبو البركات ابن تيمية وغيره من أصحاب أحمد : إن سموا مهرا وقالوا : مع ذلك : بضع كل واحدة مهر الأخرى لم يصح وإن لم يقولوا ذلك صح
واختلف في علة النهي فقيل : هي جعل كل واحد من العقدين شرطا في الآخر وقيل : العلة التشريك في البضع وجعل بضع كل واحدة مهرا للأخرى وهي لا تنتفع به فلم يرجع إليها المهر بل عاد المهر إلى الولي ولو ملكه لبضع زوجته بتمليكه لبضع موليته وهذا ظلم لكل واحدة من المرأتين وإخلاء لنكاحهما عن مهر تنتفع به وهذا هو الموافق للغة العراب فإنهم يقولون : بلد شاغر من أمير ودار شاغرة من أهلها : إذا خلت وشغر الكلب : إذا رفع رجله وأخلى مكانها فإذا سموا مهرا مع ذلك زال المحذور ولم يبق إلا اشتراط كل واحد على الآخر شرطا لا يؤثر في فساد العقد فهذا منصوص أحمد
وأما من فرق فقال : إن قالوا مع التسمية : إن بضع كل واحدة مهر للأخرى فسد لأنها لم يرجع إليها مهرها وصار بضعها لغير المستحق وإن لم يقولوا ذلك صح والذي يجئ على أصله أنهم متى عقدوا على ذلك وإن لم يقولوه بألسنتهم أنه لا يصح لأن القصود في العقود معتبرة والمشروط عرفا كالمشروط لفظا فيبطل العقد بشرط ذلك والتواطؤ عليه ونيته فإن سمى لكل واحدة مهر مثلها صح وبهذا تظهر حكمة النهي واتفاق الأحاديث في هذا الباب (5/98)
فصل
وأما نكاح المحلل ففي المسند والترمذي من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال : [ لعن رسول الله صلى الله عليه و سلم المحلل والمحلل له ] قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح
وفي المسند : من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا : [ لعن الله المحلل والمحلل له ] وإسناده حسن
وفيه : عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم مثله
وفي سنن ابن ماجه : من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ ألا أخبركم بالتيس المستعار ؟ قالوا : بلى يا رسول الله قال : هو المحلل لعن الله المحلل والمحلل له ]
فهؤلاء الأربعة من سادات الصحابة رضي الله عنهم وقد شهدوا على رسول الله صلى الله عليه و سلم بلعنه أصحاب التحليل وهم : المحلل والمحلل له وهذا إما خبر عن الله فهو خبر صدق وإما دعاء فهو دعاء مستجاب قطعا وهذا يفيد أنه من الكبائر الملعون فاعلها ولا فرق عند أهل المدينة وأهل الحديث وفقهائهم بين اشتراط ذلك بالقول أو بالتواطؤ والقصد فإن القصود في العقود عندهم معتبرة والأعمال بالنيات والشرط المتواطأ عليه الذي دخل عليه المتعاقدان كالملفوظ عندهم والألفاظ لا تراد لعينها بل للدلالة على المعاني فإذ ظهرت المعاني والمقاصد فلا عبرة بالألفاظ لأنها وسائل وقد تحققت غاياتها فترتبت عليها أحكامها (5/100)
فصل
وأما نكاح المتعة فثبت عنه أنه أحلها عام الفتح وثبت عنه أنه نهى عنها عام الفتح واختلف هل نهى عنها يوم خيبر ؟ على قولين والصحيح : أن النهي إنما كان عام الفتح وأن النهي يوم خيبر إنما كان عن الحمر الأهلية وإنما قال علي لابن عباس : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى يوم خيبر عن متعة النساء ونهى عن الحمر الأهلية محتجا عليه في المسألتين فظن بعض الرواة أن التقييد بيوم خيبر راجع إلى الفصلين فرواه بالمعنى ثم أفرد بعضهم أحد الفصلين وقيده بيوم خيبر وقد تقدم بيان المسألة في غزاة الفتح
وظاهر كلام ابن مسعود إباحتها فإن في الصحيحين : عنه : [ كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه و سلم وليس معنا نساء فقلنا : يا رسول الله ! ألا نستخصي ؟ فنهانا عن ذلك ثم رخص لنا بعد أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل ] ثم قرأ عبد الله : { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين } [ المائدة : 187 ] ولكن في الصحيحين : [ عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم حرم متعة النساء ] وهذا التحريم : إنما كان بعد الإباحة وإلا لزم منه النسخ مرتين ولم يحتج به على علي ابن عباس رضي الله عنهم ولكن النظر : هل هو تحريم بتات أو تحريم مثل تحريم الميتة والدم وتحريم نكاح الأمة فيباح عند الضرورة وخوف العنت ؟ هذا هو الذي لحظه ابن عباس وأفتى بحلها للضرورة فلما توسع الناس فيها ولم يقتصروا على موضع الضرورة أمسك عن فتياه ورجع عنها (5/101)
فصل
وأما نكاح المحرم فثبت عنه في صحيح مسلم من رواية عثمان بن عفان رضي الله عنه قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا ينكح المحرم ولا ينكح ]
واختلف عنه صلى الله عليه و سلم هل تزوج ميمونة حلالا أو حراما ؟ فقال ابن عباس : تزوجها محرما وقال أبو رافع : تزوجها حلالا وكنت الرسول بينهما وقول أبي رافع أرجح لعدة أوجه
أحدها : أنه إذ ذاك كان رجلا بالغا وابن عباس لم يكن حينئذ ممن بلغ الحلم بل كان له نحو العشر سنين فأبو رافع إذ ذاك كان أحفظ منه
الثاني : أنه كان الرسول بين رسول الله صلى الله عليه و سلم وبينها وعلى يده دار الحديث فهو أعلم به منه بلا شك وقد أشار بنفسه إلى هذا إشارة متحقق له ومتيقن ولم ينقله عن غيره بل باشره بنفسه
الثالث : أن ابن عباس لم يكن معه في تلك العمرة فإنها كانت عمرة القضية وكان ابن عباس إذ ذاك من المستضعفين الذين عذرهم الله من الولدان وإنما سمع القصة من غير حضور منه لها
الرابع : أنه صلى الله عليه و سلم حين دخل مكة بدأ بالطواف بالبيت ثم سعى بين الصفا والمروة وحلق ثم حل
ومن المعلوم : أنه لم يتزوج بها في طريقه ولا بدأ بالتزويج بها قبل الطواف بالبيت ولا تزوح في حال طوافه هذا من المعلوم أنه لم يقع فصح قول أبي رافع يقينا
الخامس : أن الصحابة رضي الله عنهم غلطوا ابن عباس ولم يغلطوا أبا رافع
السادس : أن قول أبي رافع موافق لنهي النبي صلى الله عليه و سلم عن نكاح المحرم وقول ابن عباس يخالفه وهو مستلزم لأحد أمرين إما لنسخه وإما لتخصيص النبي صلى الله عليه و سلم بجواز النكاح محرما وكلا الأمرين مخالف للأصل ليس عليه دليل فلا يقبل
السابع : أن ابن أختها يزيد بن الأصم شهد أن رسول الله صلى الله عليه و سلم تزوجها حلالا قال : وكانت خالتي وخالة ابن عباس ذكره مسلم (5/102)
فصل
وأما نكاح الزانية فقد صرح الله سبحانه وتعالى بتحريمه في سورة النور وأخبر أن من نكحها فهو إما زان أو مشرك فإنه إما أن يلتزم حكمه سبحانه ويعتقد وجوبه عليه أو لا فإن لم يلتزمه ولم يعتقده فهو مشرك وإن التزمه واعتقد وجوبه وخالفه فهو زان ثم صرح بتحريمه فقال : { وحرم ذلك على المؤمنين } [ النور : 3 ]
ولا يخفى أن دعوى نسخ الآية بقوله : { وأنكحوا الأيامى منكم } [ النور : 34 ] من أضعف ما يقال : وأضعف منه حمل النكاح على الزنى إذ يصير معنى الآية : الزاني لا يزني إلا بزانية أو مشركة والزانية لا يزني بها إلا زان أو مشرك وكلام الله ينبغي أن يصان عن مثل هذا
وكذلك حمل الآية على امرأة بغي مشركة فى غاية البعد عن لفظها وسياقها كيف وهو سبحانه إنما أباح نكاح الحرائر والإماء بشرط الإحصان وهو العفة فقال : { فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان } [ النساء : 25 ] فإنما أباح نكاحها في هذه الحالة دون غيرها وليس هذا من باب دلالة المفهوم فإن الأبضاع في الأصل على التحريم فيقتصر في إباحتها على ما ورد به الشرع وما عداه فعلى أصل التحريم
وأيضا فإنه سبحانه قال : { الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات } [ النور : 26 ] والخبيثات : الزواني وهذا يقتضي ان من تزوج بهن فهو خبيث مثلهن
وأيضا فمن أقبح القبائح أن يكون الرجل زوج بغي وقبح هذا مستقر في فطر الخلق وهو عندهم غاية المسبة
وأيضا : فإن البغي لا يؤمن أن تفسد على الرجل فراشه وتعلق عليه أولادا من غيره والتحريم يثبت بدون هذا
وأيضا : فإن النبي صلى الله عليه و سلم فرق بين الرجل وبين المرأة التي وجدها حبلى من الزنى
وأيضا فإن مرثد بن أبي مرثد الغنوي استأذن النبي صلى الله عليه و سلم أن يتزوج عناق وكانت بغيا فقرأ عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم آية النور وقال : [ لا تنكحها ] (5/104)
فصل
في حكمه صلى الله عليه و سلم فيمن أسلم على أكثر من أربع نسوة أو على أختين
في الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما : [ أن غيلان أسلم وتحته عشر نسوة فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : اختر منهن أربعا ] وفي طريق أخرى : [ وفارق سائرهن ]
وأسلم فيروز الديلمي وتحته أختان فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : [ اختر أيتهما شئت ]
فتضمن هذا الحكم صحة نكاح الكفار وأنه له أن يختار من شاء من السوابق واللواحق لأنه جعل الخيرة إليه وهذا قول الجمهور وقال أبو حنيفة : إن تزوجهن في عقد واحد فسد نكاح الجميع وإن تزوجهن مترتبات ثبت نكاح الأربع وفسد نكاح من بعدهن ولا تخيير (5/105)
فصل
وحكم صلى الله عليه و سلم : [ أن العبد إذا تزوح بغير إذن مواليه فهو عاهر ] قال الترمذي : حديث حسن (5/107)
فصل
واستأذنه بنو هشام بن المغيرة أن يزوجوا علي بن أبي طالب رضي الله عنه ابنة أبي جهل فلم يأذن في ذلك وقال : [ إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم فإنما فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها إني أخاف أن تفتن فاطمة في دينها وإني لست أحرم حلالا ولا أحل حراما ولكن والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله في مكان واحد أبدا ]
وفي لفظ فذكر صهرا له فأثنى عليه وقال : حدثني فصدقني ووعدني فوفى لي
فتضمن هذا الحكم أمورا
أحدها : أن الرجل إذا شرط لزوجته أن لا يتزوج عليها لزمه الوفاء بالشرط ومتى تزوج عليها فلها الفسخ ووجه تضمن الحديث لذلك أنه صلى الله عليه و سلم اخبر أن ذلك يؤذي فاطمة ويريبها وأنه يؤذيه صلى الله عليه و سلم ويريبه ومعلوم قطعا أنه صلى الله عليه و سلم إنما زوجه فاطمة رضي الله عنها على أن لا يؤذيها ولا يريبها ولا يؤذي أباها صلى الله عليه و سلم ولا يريبه وإن لم يكن هذا مشترطا في صلب العقد فإنه من المعلوم بالضرورة أنه إنما دخل عليه وفي ذكره صلى الله عليه و سلم صهره الآخر وثناءه عليه بأنه حدثه فصدقه ووعده فوفى له تعريض بعلي رضي الله عنه وتهييج له على الإقتداء به وهذا يشعر بأنه جرى منه وعد له بأنه لا يريبها ولا يؤذيها فهيجه على الوفاء له كما وفى له صهره الآخر
فيؤخذ من هذا أن المشروط عرفا كالمشروط لفظا وأن عدمه يملك الفسخ لمشترطه فلو فرض من عادة قوم أنهم لا يخرجون نساءهم من ديارهم ولا يمكنون أزواجهم من ذلك البتة واستمرت عادتهم بذلك كان كالمشروط لفظا وهو مطرد على قواعد أهل المدينة وقواعد أحمد رحمه الله : أن الشرط العرفي كاللفظي سواء ولهذا أوجبوا الأجرة على من دفع ثوبه إلى غسال أو قصار أو عجينه إلى خباز أو طعامه إلى طباخ يعملون بالأجرة أو دخل الحمام أو استخدم من يغسله ممن عادته يغسل بالأجرة ونحو ذلك ولم يشرط لهم أجرة أنه يلزمه أجرة المثل وعلى هذا فلو فرض أن المرأة من بيت لا يتزوج الرجل على نسائهم ضرة ولا يمكنونه من ذلك وعادتهم مستمرة بذلك كان كالمشروط لفظا
وكذلك لو كانت ممن يعلم أنها لا تمكن إدخال الضرة عليها عادة لشرفها وحسبها وجلالها كان ترك التزوج عليها كالمشروط لفظا سواء
وعلى هذا فسيدة نساء العالمين وابنة سيد ولد آدم أجمعين أحق النساء بهذا فلو شرطه علي في صلب العقد كان تأكيدا لا تأسيسا
وفي منع علي من الجمع بين فاطمة رضي الله عنها وبين بنت أبي جهل حكمة بديعة وهي أن المرأة مع زوجها في درجته تبع له فإن كانت في نفسها ذات درجة عالية وزوجها كذلك كانت في درجة عالية بنفسها وبزوجها وهذا شأن فاطمة وعلي رضي الله عنهما ولم يكن الله عز و جل ليجعل ابنة أبي جهل مع فاطمة رضي الله عنها في درجة واحدة لا بنفسها ولا تبعا وبينهما من الفرق ما بينهما فلم يكن نكاحها على سيدة نساء العالمين مستحسنا لا شرعا ولا قدرا وقد أشار صلى الله عليه و سلم إلى هذا بقوله : [ والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله في مكان واحد أبدا ] فهذا إما أن يتناول درجة الآخر بلفظه أو إشارته (5/107)
فصل
فيما حكم الله سبحانه بتحريمه من النساء على لسان نبيه صلى الله عليه و سلم
حرم الأمهات وهن كل من بينك وبينه إيلاد من جهة الأمومة أو الأبوة كأمهاته وأمهات آبائه وأجداده من جهة الرجال والنساء وإن علون
وحرم البنات وهن كل من انتسب إليه بإيلاد كبنات صلبه وبنات بناته وأبنائهن وإن سفلن
وحرم الأخوات من كل جهة وحرم العمات وهن أخوات ابائه وإن علون من كل جهة
وأما عمة العم فإن كان العم لأب فهى عمة أبيه وإن كان لأم فعمته أجنبية منه فلا تدخل في العمات وأما عمة الأم فهي داخلة في عماته كما دخلت عمة أبيه في عماته
وحرم الخالات وهن أخوات أمهاته وأمهات آبائه وإن علون وأما خالة العمة فإن كانت العمة لأب فخالتها أجنبية وإن كانت لأم فخالتها حرام لأنها خالة وأما عمة الخالة فإن كانت الخالة لأم فعمتها أجنبية وإن كانت لأب فعمتها حرام لأنها عمة الأم
وحرم بنات الأخ وبنات الأخت فيعم الأخ والأخت من كل جهة وبناتهما وإن نزلت درجتهن
وحرم الأم من الرضاعة فيدخل في أمهاتها من قبل الآباء والأمهات وإن علون وإذا صارت المرضعة أمه صار صاحب اللبن - وهو الزوح أو السيد إن كانت جارية - أباه وآباؤه أجداده فنبه بالمرضعة صاحبة اللبن التي هي مودع فيها للأب على كونه أبا بطريق الأولى لأن اللبن له وبوطئه ثاب ولهذا حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم بتحريم لبن الفحل فثبت بالنص وإيمائه انتشار حرمة الرضاع إلى أم المرتضع وأبيه من الرضاعة وأنه قد صار ابنا لهما وصارا أبوين له فلزم من ذلك أن يكون إخوتهما وأخواتهما خالات له وعمات وأبناؤهما وبناتهما إخوة له وأخوات فنبه بقوله : { وأخواتكم من الرضاعة } [ النساء : 22 ] على انتشار حرمة الرضاع إلى إخوتهما وأخواتهما كما انتشرت منهما إلى أولادهما فكما صاروا إخوة وأخوات للمرتضع فأخوالهما وخالاتهما أخوال وخالات له وأعمام وعمات له : الأول بطريق النص والآخر بتنبيهه كما أن الإنتشار إلى الأم بطريق النص وإلى الأب بطريق تنبيهه
وهذه طريقة عجيبة مطردة في القرآن لا يقع عليها إلا كل غائص على معانيه ووجوه دلالاته ومن هنا قضى رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه [ يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ] ولكن الدلالة دلالتان : خفية وجلية فجمعهما للأمة ليتم البيان ويزول الإلتباس ويقع على الدلالة الجلية الظاهرة من قصر فهمه عن الخفية
وحرم أمهات النساء فدخل في ذلك أم المرأة وإن علت من نسب أو رضاع دخل بالمرأة أو لم يدخل بها لصدق الإسم على هؤلاء كلهن
وحرم الربائب اللاتي في حجور الأزواح وهن بنات نسائهم المدخول بهن فتناول بذلك بناتهن وبنات بناتهن وبنات أبنائهن فإنهن داخلات في اسم الربائب وقيد التحريم بقيدين أحدهما : كونهن في حجور الأزواج والثاني : الدخول بأمهاتهن فإذا لم يوجد الدخول لم يثبت التحريم وسواء حصلت الفرقة بموت أو طلاق هذا مقتضى النص
وذهب زيد بن ثابت ومن وافقه وأحمد في رواية عنه : إلى أن موت الأم في تحريم الربيبة كالدخول بها لأنه يكمل الصداق ويوجب العدة والتوارث فصار كالدخول والجمهور أبوا ذلك وقالوا : الميتة غير مدخول بها فلا تحرم ابنتها والله تعالى قيد التحريم بالدخول وصرح بنفيه عند عدم الدخول
وأما كونها في حجره فلما كان الغالب ذلك ذكره لا تقييدا للتحريم به بل هو بمنزلة قوله : { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق } [ الإسراء : 31 ] ولما كان من شأن بنت المرأة أن تكون عند أمها فهي في حجر الزوج وقوعا وجوازا فكأنه قال : اللاتي من شأنهن أن يكن في حجوركم ففي ذكر هذا فائدة شريفة وهي جواز جعلها في حجره وأنه لا يجب عليه إبعادها عنه وتجنب مؤاكلتها والسفر والخلوة بها فأفاد هذا الوصف عدم الإمتناع من ذلك
ولما خفي هذا على بعض أهل الظاهر شرط في تحريم الربيبة أن تكون في حجر الزوج وقيد تحريمها بالدخول بأمها وأطلق تحريم أم المرأة ولم يقيده بالدخول فقال جمهور العلماء من الصحابة ومن بعدهم : إن الأم تحرم بمجرد العقد على البنت دخل بها أو لم يدخل ولا تحرم البنت إلا بالدخول بالأم وقالوا : أبهموا ما أبهم الله وذهبت طائفة إلى أن قوله { اللاتي دخلتم بهن } وصف لنسائكم الأولى والثانية وأنه لا تحرم الأم إلا بالدخول بالبنت وهذا يرده نظم الكلام وحيلولة المعطوف بين الصفة والموصوف وامتناع جعل الصفة للمضاف إليه دون المضاف إلا عند البيان فإذا قلت : مررت بغلام زيد العاقل فهو صفة للغلام لا لزيد إلا عند زوال اللبس كقولك : مررت بغلام هند الكاتبة ويرده أيضا جعله صفة واحدة لموصوفين مختلفي الحكم والتعلق والعامل وهذا لا يعرف في اللغة التي نزل بها القرآن
وأيضا فإن الموصوف الذي يلي الصفة أولى بها لجواره والجار أحق بصقبه ما لم تدع ضرورة إلى نقلها عنه أو تخطيها إياه إلى الأبعد
فإن قيل : فمن أين أدخلتم ربيبته التي هي بنت جاريته التي دخل بها وليست من نسائه ؟
قلنا : السرية قد تدخل في جملة نسائه كما دخلت في قوله : { نساؤكم حرث لكم فاتوا حرثكم أنى شئتم } [ البقرة : 223 ] ودخلت في قوله : { أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم } [ البقرة : 187 ] ودخلت في قوله : { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء } [ النساء : 22 ]
فإن قيل : فيلزمكم على هذا إدخالها في قوله : { وأمهات نسائكم } [ النساء : 23 ] فتحرم عليه أم جاريته ؟
قلنا : نعم وكذلك نقول : إذا وطىء أمته حرمت عليه أمها وابنتها
فإن قيل : فأنتم قد قررتم أنه لا يشترط الدخول بالبنت في تحريم أمها فكيف تشترطونه ها هنا ؟
قلنا : لتصير من نسائه فإن الزوجة صارت من نسائه بمجرد العقد وأما المملوكة فلا تصير من نسائه حتى يطأها فإذا وطئها صارت من نسائه فحرمت عليه أمها وابنتها
فإن قيل : فكيف أدخلتم السرية في نسائه في آية التحريم ولم تدخلوها في نسائه في آية الظهار والايلاء ؟
قيل : السياق والواقع يأبى ذلك فإن الظهار كان عندهم طلاقا وإنما محل الأزواج لا الإماء فنقله الله سبحانه من الطلاق إلى التحريم الذي تزيله الكفارة ونقل حكمه وأبقى محله وأما الإيلاء فصريح في أن محله الزوجات لقوله تعالى : { للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم * وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم } [ البقرة : 226 - 227 ]
وحرم سبحانه حلائل الأبناء وهن موطوآت الأبناء بنكاح أو ملك يمين فإنها حليلة بمعنى محللة ويدخل في ذلك ابن صلبه وابن ابنه وابن ابنته ويخرج بذلك ابن التبني وهذا التقييد قصد به إخراجه
وأما حليلة ابنه من الرضاع فإن الأئمة الأربعة ومن قال بقولهم يدخلونها في قوله : { وحلائل أبنائكم } [ النساء : 23 ] ولا يخرجونها بقوله : { الذين من أصلابكم } [ النساء : 23 ] ويحتجون بقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ حرموا من الرضاع ما تحرمون من النسب ] قالوا : وهذه الحليلة تحرم إذا كانت لابن النسب فتحرم إذا كانت لابن الرضاع قالوا : والتقييد لإخراج ابن التبني لا غير وحرموا من الرضاع بالصهر نظير ما يحرم بالنسب ونازعهم في ذلك آخرون وقالوا : لا تحرم حليلة ابنه من الرضاعة لأنه ليس من صلبه والتقييد كما يخرج حليلة ابنة التبني يخرج حليلة ابن الرضاع سواء ولا فرق بينهما قالوا : وأما قوله صلى الله عليه و سلم : [ يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ] فهو من أكبر أدلتنا وعمدتنا في المسألة فإن تحريم حلائل الآباء والأبناء إنما هو بالصهر لا بالنسب والنبي صلى الله عليه و سلم قد قصر تحريم الرضاع على نظيره من النسب لا على شقيقه من الصهر فيجب الإقتصار بالتحريم على مورد النص
قالوا : والتحريم بالرضاع فرع على تحريم النسب لا على تحريم المصاهرة فتحريم المصاهرة أصل قائم بذاته والله سبحانه لم ينص في كتابه على تحريم الرضاع إلا من جهة النسب ولم ينبه على التحريم به من جهة الصهر البتة لا بنص ولا إيماء ولا إشارة والنبي صلى الله عليه و سلم أمر أن يحرم به ما يحرم من النسب وفي ذلك إرشاد وإشارة إلى أنه لا يحرم به ما يحرم بالصهر ولو لا أنه أراد الإقتصار على ذلك لقال : [ حرموا من الرضاع ما يحرم من النسب والصهر ]
قالوا : وأيضا فالرضاع مشبه بالنسب ولهذا أخذ منه بعض أحكامه وهو الحرمة والمحرمية فقط دون التوارث والإنفاق وسائر أحكام النسب فهو نسب ضعيف فأخذ بحسب ضعفه بعض أحكام النسب ولم يقو على سائر أحكام النسب وهو ألصق به من المصاهرة فكيف يقوى على أخذ أحكام المصاهرة مع قصوره عن أحكام مشبهه وشقيقه ؟ !
وأما المصاهرة والرضاع فإنه لا نسب بينهما ولا شبهة نسب ولا بعضية ولا اتصال قالوا : ولو كان تحريم الصهرية ثابتا لبينه الله ورسوله بيانا شافيا يقيم الحجة ويقطع العذر فمن الله البيان وعلى رسوله البلاغ وعلينا التسليم والإنقياد فهذا منتهى النظر في هذه المسألة فمن ظفر فيها بحجة فليرشد إليها وليدل عليها فإنا لها منقادون وبها معتصمون والله الموفق للصواب (5/109)
فصل
وحرم سبحانه وتعالى نكاح من نكحهن الآباء وهذا يتناول منكوحاتهم بملك اليمين أو عقد نكاح ويتناول آباء الآباء وآباء الأمهات وإن علون والإستثناء بقوله : { إلا ما قد سلف } من مضمون جملة النهي وهو التحريم المستلزم للتأثيم والعقوبة فاستثنى منه ما سلف قبل إقامة الحجة بالرسول والكتاب (5/114)
فصل
وحرم سبحانه الجمع بين الأختين وهذا يتناول الجمع بينهما فى عقد النكاح وملك اليمين كسائر محرمات الآلة وهذا قول جمهور الصحابة ومن بعدهم وهو الصواب وتوقفت طائفة في تحريمه بملك اليمين لمعارضة هذا العموم بعموم قوله سبحانه : { والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين } [ المؤمنون : 5 ، 6 ] و [ المعارج : 29 ، 30 ] ولهذا قال أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه : أحلتهما آية وحرمتهما آية
وقال الامام أحمد في رواية عنه : لا أقول : هو حرام ولكن ننهى عنه فمن أصحابه من جعل القول بإباحته رواية عنه والصحيح : أنه لم يبحه ولكن تأدب مع الصحابة أن يطلق لفظ الحرام على أمر توقف فيه عثمان بل قال : ننهى عنه
والذين جزموا بتحريمه رجحوا آية التحريم من وجوه
أحدها : أن سائر ما ذكر فيها من المحرمات عام في النكاح وملك اليمين فما بال هذا وحده حتى يخرج منها فإن كانت آية الإباحة مقتضية لحل الجمع بالملك فلتكن مقتضية لحل أم موطوءته بالملك ولموطوءة أبيه وابنه بالملك إذ لا فرق بينهما البتة ولا يعلم بهذا قائل
الثاني : أن آية الإباحة بملك اليمين مخصوصة قطعا بصور عديدة لا يختلف فيها اثنان كأمه وابنته وأخته وعمته وخالته من الرضاعة بل كأخته وعمته من النسب عند من لا يرى عتقهن بالملك كمالك والشافعي ولم يكن عموم قوله : { أو ما ملكت أيمانكم } معارضا لعموم تحريمهن بالعقد والملك فهذا حكم الأختين سواء
الثالث : أن حل الملك ليس فيه أكثر من بيان جهة الحل وسببه ولا تعرض فيه لشروط الحل ولا لموانعه وآية التحريم فيها بيان موانع الحل من النسب والرضاع والصهر وغيره فلا تعارض بينهما البتة وإلا كان كل موضع ذكر فيه شرط الحل وموانعه معارضا لمقتضى الحل وهذا باطل قطعا بل هو بيان لما سكت عنه دليل الحل من الشروط والموانع
الرابع : أنه لو جاز الجمع بين الأختين المملوكتين في الوطء جاز الجمع بين الأم وابنتها المملوكتين فإن نص التحريم شامل للصورتين شمولا واحدا وأن إباحة المملوكات إن عمت الأختين عمت الأم وابنتها
الخامس : أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجمع ماءه في رحم أختين ] ولا ريب أن جمع الماء كما يكون بعقد النكاح يكون بملك اليمين والإيمان يمنع منه (5/114)
فصل
[ وقضى رسول الله صلى الله عليه و سلم بتحريم الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها ] وهذا التحريم مأخوذ من تحريم الجمع بين الأختين لكن بطريق خفي وما حرمه رسول الله صلى الله عليه و سلم مثل ما حرمه الله ولكن هو مستنبط من دلالة الكتاب
وكان الصحابة رضي الله عنهم أحرص شئ على استنباط أحاديث رسول الله صلى الله عليه و سلم من القرآن ومن ألزم نفسه ذلك وقرع بابه ووجه قلبه إليه واعتنى به بفطرة سليمة وقلب ذكي رأى السنة كلها تفصيلا للقرآن وتبيينا لدلالته وبيانا لمراد الله منه وهذا أعلى مراتب العلم فمن ظفر به فليحمد الله ومن فاته فلا يلومن إلا نفسه وهمته وعجزه
واستفيد من تحريم الجمع بين الأختين وبين المرأة وعمتها وبينها وبين خالتها أن كل امرأتين بينهما قرابة لو كان أحدهما ذكرا حرم على الآخر فإنه يحرم الجمع بينهما ولا يستثنى من هذا صورة واحدة فإن لم يكن بينهما قرابة لم يحرم الجمع بينهما وهل يكره ؟ على قولين وهذا كالجمع بين امرأة رجل وابنته من غيرها
واستفيد من عموم تحريمه سبحانه المحرمات المذكورة : أن كل امرأة حرم نكاحها حرم وطؤها بملك اليمين إلا إماء أهل الكتاب فإن نكاحهن حرام عند الأكثرين ووطؤهن بملك اليمين جائز وسوى أبو حنيفة بينهما فأباح نكاحهن كما يباح وطؤهن بالملك
والجمهور : احتجوا عليه بأن الله سبحانه وتعالى إنما أباح نكاح الإماء بوصف الإيمان فقال تعالى : { ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم } [ النساء : 25 ] وقال تعالى : { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } [ البقرة : 221 ] خص ذلك بحرائر أهل الكتاب بقي الإماء على قضية التحريم وقد فهم عمر رضي الله عنه وغيره من الصحابة إدخال الكتابيات في هذه الآية فقال : لا أعلم شركا أعظم من أن تقول : إن المسيح إلهها
وأيضا فالأصل في الأبضاع الحرمة وإنما أببيح نكاح الإماء المؤمنات فمن عداهن على أصل التحريم وليس تحريمهن مستفادا من المفهوم
واستفيد من سياق الآية ومدلولها أن كل امرأة حرمت حرمت ابنتها إلا العمة والخالة وحليلة الإبن وحليلة الأب وأم الزوجة وأن كل الأقارب حرام إلا الأربعة المذكورات في سورة الأحزاب وهن بنات الأعمام والعمات وبنات الأخوال والخالات (5/116)
فصل
ومما حرمه النص نكاح المزوجات وهن المحصنات واستثنى من ذلك ملك اليمين فأشكل هذا الإستغناء على كثير من الناس فإن الأمة المزوجة يحرم وطؤها على مالكها فأين محل الإستثناء ؟
فقالت طائفة : هو منقطع أي لكن ما ملكت أيمانكم ورد هذا لفظا ومعنى أما اللفظ فإن الإنقطاع إنما يقع حيث يقع التفريغ وبابه غير الإيجاب من النفي والنهي والإستفهام فليس الموضع موضع انقطاع وأما المعنى : فإن المنقطع لا بد فيه من رابط بينه وبين المستثنى منه بحيث يخرج ما توهم دخوله فيه بوجه ما فإنك إذا قلت : ما بالدار من أحد دل على انتفاء من بها بدوابهم وأمتعتهم فإذا قلت : إلا حمارا أو إلا الأثافي ونحو ذلك أزلت توهم دخول المستثنى في حكم المستثنى منه وأبين من هذا قوله تعالى : { لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما } [ مريم : 62 ] فاستثناء السلام أزال توهم نفي السماع العام فإن عدم سماع اللغو يجوز أن يكون لعدم سماع كلام ما وأن يكون مع سماع غيره وليس في تحريم نكاح المزوجة ما يوهم تحريم وطء الإماء بملك اليمين حتى يخرجه
وقالت طائفة : بل الإستثناء على بابه ومتى ملك الرجل الأمة المزوجة كان ملكه طلاقا لها وحل له وطؤها وهي مسألة بيع الأمة : هل يكون طلاقا لها أم لا ؟ فيه مذهبان للصحابة فابن عباس رضي الله عنه يراه طلاقا ويحتج له بالآية وغيره يأبى ذلك ويقول : كما يجامع الملك السابق للنكاح اللاحق اتفاقا ولا يتنافيان كذلك الملك اللاحق لا ينافي النكاح السابق قالوا : وقد خير رسول الله صلى الله عليه و سلم بريرة لما بيعت ولو انفسخ نكاحها لم يخيرها قالوا : وهذا حجة على ابن عباس رضي الله عنه فإنه هو راوي الحديث والآخذ برواية الصحابي لا برأيه
وقالت طائفة ثالثة : إن كان المشتري امرأة لم ينفسخ النكاح لأنها لم تملك الإستمتاع ببضع الزوجة وإن كان رجلا انفسخ لأنه يملك الإستمتاع به وملك اليمين أقوى من ملك النكاح وهذا الملك يبطل النكاح دون العكس قالوا : وعلى هذا فلا إشكال في حديث بريرة
وأجاب الأولون عن هذا بأن المرأة وإن لم تملك الإستمتاع ببضع أمتها فهي تملك المعاوضة عليه وتزويجها وأخذ مهرها وذلك كملك الرجل وإن لم تستمتع بالبضع
وقالت فرقة أخرى : الآية خاصة بالمسبيات فإن المسبية إذا سبيت حل وطؤها لسابيها بعد الإستبراء وإن كانت مزوجة وهذا قول الشافعي وأحد الوجهين لأصحاب أحمد وهو الصحيح كما روى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث جيشا إلى أوطاس فلقي عدوا فقاتلوهم فظهروا عليهم وأصابوا سبايا وكأن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم تحرجوا من غشيانهن من أجل أزواجهن من المشركين فأنزل الله عز و جل في ذلك : { والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم } [ النساء : 24 ] أي : فهن لكم حلال إذا انقضت عدتهن
فتضمن هذا الحكم إباحة وطء المسبية وإن كان لها زوج من الكفار وهذا يدل على انفساخ نكاحه وزوال عصمة بضع امرأته وهذا هو الصواب لأنه قد استولى على محل حقه وعلى رقبة زوجته وصار سابيها أحق بها منه فكيف يحرم بضعها عليه فهذا القول لا يعارضه نص ولا قياس
والذين قالوا من أصحاب أحمد وغيرهم : إن وطأها إنما يباح إذا سبيت وحدها قالوا : لأن الزوج يكون بقاؤه مجهولا والمجهول كالمعدوم فيجوز وطؤها بعد الإستبراء فإذا كان الزوج معها لم يجز وطؤها مع بقائه فأورد عليهم ما لو سبيت وحدها وتيقنا بقاء زوجها في دار الحرب فإنهم يجوزون وطأها فأجابوا بما لا يجدي شيئا وقالوا : الأصل إلحاق الفرد بالأعم الأغلب فيقال لهم : الأعم الأغلب بقاء أزواج المسبيات إذا سبين منفردات وموتهم كلهم نادر جدا ثم يقال : إذا صارت رقبة زوجها وأملاكه ملكا للسابي وزالت العصمة عن سائر أملاكه وعن رقبته فما الموجب لثبوت العصمة في فرج امرأته خاصة وقد صارت هي وهو وأملاكهما للسابي ؟
ودل هذا القضاء النبوي على جواز وطء الإماء الوثنيات بملك اليمين فإن سبايا أوطاس لم يكن كتابيات ولم يشترط رسول الله صلى الله عليه و سلم في وطئهم إسلامهن ولم يجعل المانع منه إلا الإستبراء فقط وتأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع مع أنهم حديثوا عهد بالإسلام حتى خفي عليهم حكم هذه المسألة وحصول الإسلام من جميع السبايا وكانوا عدة آلاف بحيث لم يتخلف منهم عن الإسلام جارية واحدة مما يعلم أنه في غاية البعد فإنهن لم يكرهن على الإسلام ولم يكن لهن من البصيرة والرغبة والمحبة في الإسلام ما يقتضي مبادرتهن إليه جميعا فمقتضى السنة وعمل الصحابة في عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم وبعده جواز وطء المملوكات على أي دين كن وهذا مذهب طاووس وغيره وقواه صاحب المغني فيه ورجح أدلته وبالله التوفيق
ومما يدل على عدم اشتراط إسلامهن ما روى الترمذي في جامعه عن عرباض بن سارية أن النبي صلى الله عليه و سلم حرم وطء السبايا حتى يضعن ما في بطونهن فجعل للتحريم غاية واحدة وهي وضع الحمل ولو كان متوقفا على الإسلام لكان بيانه أهم من بيان الإستبراء
وفي السنن و المسند عنه [ لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقع على امرأة من السبي حتى يستبرئها ] ولم يقل حتى تسلم ولأحمد : [ من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا ينكحن شيئا من السبايا حتى تحيض ] ولم يقل : وتسلم
وفي السنن عنه : أنه قال في سبايا أوطاس : [ لا توطأ حامل حتى تضع ولا غير حامل حتى تحيض حيضة واحدة ] ولم يقل : وتسلم فلم يجىء عنه اشتراط إسلام المسبية في موضع واحد البتة (5/118)
فصل
في حكمه صلى الله عليه و سلم في الزوجين يسلم أحدهما قبل الآخر
قال ابن عباس رضي الله عنهما : رد رسول الله صلى الله عليه و سلم زينب ابنته على أبي العاص بن الربيع بالنكاح الأول ولم يحدث شيئا رواه أحمد وأبو داود والترمذي وفي لفظ : بعد ست سنين ولم يحدث نكاحا قال الترمذي : ليس بإسناده بأس وفي لفظ : وكان إسلامها قبل إسلامه بست سنين ولم يحدث شهادة ولا صداقا
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : أسلمت امرأة على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فتزوجت فجاء زوجها إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله ! إني كنت أسلمت وعلمت بإسلامي فانتزعها رسول الله صلى الله عليه و سلم من زوجها الآخر وردها على زوجها الأول رواه أبو داود
وقال أيضا : إن رجلا جاء مسلما على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم جاءت امرأته مسلمة بعده فقال : يا رسول الله : إنها أسلمت معي فردها عليه قال الترمذي : حديث صحيح
وقال مالك إن أم حكيم بنت الحارث بن هشام أسلمت يوم الفتح بمكة وهرب زوجها عكرمة بن أبي جهل من الإسلام حتى قدم اليمن فارتحلت أم حكيم حتى قدمت عليه باليمن فدعته إلى الإسلام فأسلم فقدم على رسول الله صلى الله عليه و سلم عام الفتح فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه و سلم وثب إليه فرحا وما عليه رداء حتى بايعه فثبتا على نكاحهما ذلك قال : ولم يبلغنا أن امرأة هاجرت إلى الله ورسوله صلى الله عليه و سلم وزوجها كافر مقيم بدار الكفر إلا فرقت هجرتها بينها وبينه إلا أن يقدم زوجها وزوجها مهاجرا قبل أن تنقضي عدتها ذكره مالك رحمه الله في الموطأ فتضمن هذا الحكم أن الزوجين إذا أسلما معا فهما على نكاحهما ولا يسأل عن كيفية وقوعه قبل الإسلام هل وقع صحيحا أم لا ؟ ما لم يكن المبطل قائما كما إذا أسلما وقد نكحها وهي في عدة من غيره أو تحريما مجمعا عليه أو مؤبدا كما إذا كانت محرما له بنسب أو رضاع أو كانت مما لا يجوز له الجمع بينها وبين من معه كالأختين والخمس وما فوقهن فهذه ثلاث صور أحكامها مختلفة
فإذا أسلما وبينها وبينه محرمية من نسب أو رضاع أو صهر أو كانت أخت الزوجة أو عمتها أو خالتها أو من يحرم الجمع بينها وبينها فرق بينهما بإجماع الأمة لكن إن كان التحريم لأجل الجمع خير بين إمساك أيتهما شاء وإن كانت بنته من زنى فرق بينها أيضا عند الجمهور وإن كان يعتقد ثبوت النسب بالزنى فرق بينهما اتفاقا وإن أسلم أحدهما وهي في عدة من مسلم متقدمة على عقده فرق بينهما اتفاقا وإن كانت العدة من كافر فإن اعتبرنا دوام المفسد أو الإجماع عليه لم يفرق بينهما لأن عدة الكافر لا تدوم ولا تمنع النكاح عند من يبطل أنكحة الكفار ويجعل حكمها حكم الزنى
وإن أسلم أحدهما وهي حبلى من زنى قبل العقد فقولان مبنيان على اعتبار قيام المفسد أو كونه مجمعا عليه
وإن أسلما وقد عقداه بلا ولي أو بلا شهود أو في عدة وقد انقضت أو على أخت وقد ماتت أو على خامسة كذلك أقرا عليه وكذلك إن قهر حربي حربية واعتقداه نكاحا ثم أسلما أقرا عليه
وتضمن أن أحد الزوجين إذا أسلم قبل الآخر لم ينفسخ النكاح بإسلامه فرقت الهجرة بينهما أو لم تفرق فإنه لا يعرف أن رسول الله صلى الله عليه و سلم جدد نكاح زوجين سبق أحدهما الآخر بإسلامه قط ولم يزل الصحابة يسلم الرجل قبل امرأته وامرأته قبله ولم يعرف عن أحد منهم البتة أنه تلفظ بإسلامه هو وامرأته وتساوقا فيه حرفا بحرف هذا مما يعلم أنه لم يقع البتة وقد رد النبي صلى الله عليه و سلم ابنته زينب على أبي العاص بن الربيع وهو إنما أسلم زمن الحديبية وهي أسلمت من أول البعثة فبين إسلامهما أكثر من ثماني عشرة سنة
و أما قوله في الحديث : كان بين إسلامها وإسلامه ست سنين فوهم إنما أراد : بين هجرتها وإسلامه
فإن قيل : وعلى ذلك فالعدة تنقضي في هذه المدة فكيف لم يجدد نكاحها ؟ قيل : تحريم المسلمات على المشركين إنما نزل بعد صلح الحديبية لا قبل ذلك فلم ينفسخ النكاح في تلك المدة لعدم شرعية هذا الحكم فيها ولما نزل تحريمهن على المشركين أسلم أبو العاص فردت عليه
وأما مراعاة زمن العدة فلا دليل عليه من نص ولا إجماع وقد ذكر حماد بن سلمة عن قتادة عن سعيد بن المسيب أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال في الزوجين الكافرين يسلم أحدهما : هو أملك ببضعها ما دامت في دار هجرتها
وذكر سفيان بن عيينة عن مطرف بن طريف عن الشعبي عن علي : هو أحق بها ما لم يخرج من مصرها
وذكر ابن أبي شيبة عن معتمر بن سليمان عن معمر عن الزهري إن أسلمت ولم يسلم زوجها فهما على نكاحهما إلا أن يفرق بينهما سلطان
ولا يعرف اعتبار العدة في شئ من الأحاديث ولا كان النبي صلى الله عليه و سلم يسأل المرأة هل انقضت عدتها أم لا ولا ريب أن الإسلام لو كان بمجرده فرقة لم تكن فرقة رجعية بل بائنة فلا أثر للعدة في بقاء النكاح وإنما أثرها في منع نكاحها للغير فلو كان الإسلام قد نجز الفرقة بينهما لم يكن أحق بها في العدة ولكن الذي دل عليه حكمه صلى الله عليه و سلم أن النكاح موقوف فإن أسلم قبل انقضاء عدتها فهي زوجته وإن انقضت عدتها فلها أن تنكح من شاءت وإن أحبت انتظرته فإن أسلم كانت زوجته من غير حاجة إلى تجديد النكاح
ولا نعلم أحدا جدد للإسلام نكاحه البتة بل كان الواقع أحد أمرين : إما افتراقهما ونكاحها غيره واما بقاؤها عليه وإن تأخر إسلامها أو إسلامه وإما تنجيز الفرقة أو مراعاة العدة فلا نعلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قضى بواحدة منهما مع كثرة من أسلم في عهده من الرجال وأزواجهن وقرب إسلام أحد الزوجين من الآخر وبعده منه ولو لا إقراره صلى الله عليه و سلم الزوجين على نكاحهما وإن تأخر إسلام أحدهما عن الآخر بعد صلح الحديبية وزمن الفتح لقلنا بتعجيل الفرقة بالإسلام من غير اعتبار عدة لقوله تعالى : { لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن } وقوله : { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } [ الممتحنة : 10 ] وأن الإسلام سبب الفرقة وكل ما كان سببا للفرقة تعقبه الفرقة كالرضاع والخلع والطلاق وهذا اختيار الخلال وأبي بكر صاحبه وابن المنذر وابن حزم وهو مذهب الحسن وطاووس وعكرمة وقتادة والحكم قال ابن حزم : وهو قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه وجابر بن عبد الله وابن عباس وبه قال حماد بن زيد والحكم بن عتيبة وسعيد بن جبير وعمر بن عبد العزيز وعدي بن عدي الكندي والشعبي وغيرهم قلت : وهو أحد الروايتين عن أحمد ولكن الذي أنزل عليه قوله تعالى : { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } وقوله : { لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن } لم يحكم بتعجيل الفرقة فروى مالك في موطئه عن ابن شهاب قال : كان بين إسلام صفوان بن أمية وبين إسلام امرأته بنت الوليد بن المغيرة نحو من شهر أسلمت يوم الفتح وبقي صفوان حتى شهد حنينا والطائف وهو كافر ثم أسلم ولم يفرق النبي صلى الله عليه و سلم بينهما واستقرت عنده امرأته بذلك النكاح وقال ابن عبد البر : وشهرة هذا الحديث أقوى من إسناده
وقال ابن شهاب : أسلمت أم حكيم يوم الفتح وهرب زوجها عكرمة حتى أتى اليمن فدعته إلى الإسلام فأسلم وقدم فبايع النبي صلى الله عليه و سلم فبقيا على نكاحهما
ومن المعلوم يقينا أن أبا سفيان بن حرب خرج فأسلم عام الفتح قبل دخول النبي صلى الله عليه و سلم مكة ولم تسلم هند امرأته حتى فتح رسول الله صلى الله عليه و سلم مكة فبقيا على نكاحهما وأسلم حكيم بن حزام قبل امرأته وخرج أبو سفيان بن الحارث وعبد الله بن أبي أمية عام الفتح فلقيا النبي صلى الله عليه و سلم بالأبواء فأسلما قبل منكوحتيهما فبقيا على نكاحهما ولم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم فرق بين أحد ممن أسلم وبين امرأته
وجواب من أجاب بتجديد نكاح من أسلم في غاية البطلان ومن القول على رسول الله صلى الله عليه و سلم بلا علم واتفاق الزوجين في التلفظ بكلمة الإسلام معا في لحظة واحدة معلوم الإنتفاء
ويلي هذا القول مذهب من يقف الفرقة على انقضاء العدة مع ما فيه إذ فيه آثار وإن كانت منقطعة ولو صحت لم يجز القول بغيرها قال ابن شبرمة : كان الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم يسلم الرجل قبل المرأة والمرأة قبل الرجل فأيهما أسلم قبل انقضاء عدة المرأة فهي امرأته وإن أسلم بعد العدة فلا نكاح بينهما وقد تقدم قول الترمذي في أول الفصل وما حكاه ابن حزم عن عمر رضي الله عنه فما أدري من أين حكاه ؟ والمعروف عنه خلافه فإنه ثبت عنه من طريق حماد بن سلمة عن أيوب وقتادة كلاهما عن ابن سيرين عن عبد الله بن يزيد الخطمي أن نصرانيا أسلمت امرأته فخيرها عمر بن الخطاب رضي الله عنه إن شاءت فارقته وإن شاءت أقامت عليه ومعلوم بالضرورة أنه إنما خيرها بين انتظاره إلى أن يسلم فتكون زوجته كما هي أو تفارقه وكذلك صح عنه : أن نصرانيا أسلمت امرأته فقال عمر رضي الله عنه : إن أسلم فهي امرأته وإن لم يسلم فرق بينهما فلم يسلم ففرق بينهما
وكذلك قال لعبادة بن النعمان التغلبي وقد أسلمت امرأته : اما أن تسلم وإلا نزعتها منك فأبى فنزعها منه
فهذه الآثار صريحة في خلاف ما حكاه أبو محمد بن حزم عنه وهو حكاها وجعلها روايات أخر وإنما تمسك أبو محمد بآثار فيها أن عمر وابن عباس وجابرا فرقوا بين الرجل وبين امرأته بالإسلام وهي آثار مجملة ليست بصريحة في تعجيل التفرقة ولو صحت فقد صح عن عمر ما حكيناه وعن علي ما تقدم وبالله التوفيق (5/122)
فصل
في حكمه صلى الله عليه و سلم في العزل
ثبت في الصحيحين : عن أبي سعيد قال : أصبنا سبيا فكنا نعزل فسألنا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ وإنكم لتفعلون ؟ قالها ثلاثا ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة ]
وفي السنن : عنه [ أن رجلا قال : يا رسول الله إن لي جارية وأنا أعزل عنها وأنا أكره أن تحمل وأنا أريد ما يريد الرجال وإن اليهود تحدث أن العزل الموؤدة الصغرى قال : كذبت يهود لو أراد الله أن يخلقه ما استطعت أن تصرفه ]
وفي الصحيحين : عن جابر قال : كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم والقرآن ينزل
وفي صحيح مسلم عنه : كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فلم ينهنا
وفي صحيح مسلم أيضا : عنه قال : [ سأل رجل النبي صلى الله عليه و سلم فقال : إن عندي جارية وأنا أعزل عنها فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن ذلك لا يمنع شيئا أراده الله قال : فجاء الرجل فقال : يا رسول الله إن الجارية التي كنت ذكرتها لك حملت فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أنا عبد الله ورسوله ]
وفي صحيح مسلم أيضا عن أسامة بن زيد [ أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله ! إني أعزل عن امرأتي فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : لم تفعل ذلك ؟ فقال الرجل : أشفق على ولدها أو قال : على أولادها فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لو كان ضارا ضر فارس والروم ]
وفي مسند أحمد و سنن ابن ماجه من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : [ نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يعزل عن الحرة إلا بإذنها ]
وقال أبو داود : سمعت أبا عبد الله ذكر حديث ابن لهيعة عن جعفر بن ربيعة عن الزهري عن المحرر بن أبي هريرة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا يعزل عن الحرة إلا بإذنها ] فقال : ما أنكره
فهذه الأحاديث صريحة في جواز العزل وقد رويت الرخصة فيه عن عشرة من الصحابة : علي وسعد بن أبي وقاص وأبي أيوب وزيد بن ثابت وجابر وابن عباس والحسن بن علي وخباب بن الأرت وأبي سعيد الخدري وابن مسعود رضي الله عنهم
قال ابن حزم : وجاءت الإباحة للعزل صحيحة عن جابر وابن عباس وسعد بن أبي وقاص وزيد بن ثابت وابن مسعود رضي الله عنهم وهذا هو الصحيح
وحرمه جماعه منهم أبو محمد ابن حزم وغيره
وفرقت طائفة بين أن تأذن له الحرة فيباح أو لا تأذن فيحرم وإن كانت زوجته أمة أبيح بإذن سيدها ولم يبح بدون إذنه وهذا منصوص أحمد ومن أصحابه من قال : لا يباح بحال ومنهم من قال : يباح بكل حال ومنهم من قال : يباح بإذن الزوجة حرة كانت أو أمة ولا يباح بدون إذنها حرة كانت أو أمة
فمن أباحه مطلقا احتج بما ذكرنا من الأحاديث وبأن حق المرأة في ذوق العسيلة لا في الإنزال ومن حرمه مطلقا احتج بما رواه مسلم في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها عن جدامة بنت وهب أخت عكاشة قال : حضرت رسول الله صلى الله عليه و سلم في أناس فسألوه عن العزل فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ذلك الوأد الخفي وهي : { وإذا الموؤدة سئلت } قالوا : وهذا ناسخ لأخبار الإباحة فإنه ناقل عن الأصل وأحاديث الإباحة على وفق البراءة الأصلية وأحكام الشرع ناقلة عن البراءة الأصلية قالوا : وقول جابر رضي الله عنه : كنا نعزل والقرآن ينزل فلو كان شيئا ينهى عنه لنهى عنه القرآن
فيقال : قد نهى عنه من أنزل عليه القرآن بقوله : إنه الموؤدة الصغرى والوأد كله حرام قالوا : وقد فهم الحسن البصري النهي من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه لما ذكر العزل عند رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : لا عليكم ألا تفعلوا ذاكم فإنما هو القدر قال ابن عون : فحدثت به الحسن فقال : والله لكأن هذا زجر قالوا : ولأن فيه قطع النسل المطلوب من النكاح وسوء العشرة وقطع اللذة عند استدعاء الطبيعة لها
قالوا : ولهذا كان ابن عمر رضي الله عنه لا يعزل وقال : لو علمت أن أحدا من ولدي يعزل لنكلته وكان علي يكره العزل ذكره شعبة عن عاصم عن زر عنه وصح عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال في العزل : هو الموؤودة الصغرى وصح عن أبي أمامة أنه سئل عنه فقال : ما كنت أرى مسلما يفعله وقال نافع عن ابن عمر : ضرب عمر على العزل بعض بنيه وقال يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن المسيب قال : كان عمر وعثمان ينهيان عن العزل
وليس فى هذا ما يعارض أحاديث الإباحة مع صراحتها وصحتها أما حديث جدامة بنت وهب فإنه وإن كان رواه مسلم فإن الأحاديث الكثيرة على خلافه وقد قال أبو داود : حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبان حدثنا يحيى أن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان حدثه أن رفاعة حدثه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه [ أن رجلا قال : يا رسول الله ! إن لي جارية وأنا أعزل عنها وأنا أكره أن تحمل وأنا أريد ما يريد الرجال وإن اليهود تحدث أن العزل الموؤودة الصغرى قال : كذبت يهود لو أراد الله أن يخلقه ما استطعت أن تصرفه ]
وحسبك بهذا الإسناد صحة فكلهم ثقات حفاظ وقد أعله بعضهم بأنه مضطرب فإنه اختلف فيه على يحيى بن أبي كثير فقيل : عنه عن محمد ابن عبد الرحمن بن ثوبان عن جابر بن عبد الله ومن هذه الطريق : أخرجه الترمذي والنسائي وقيل : فيه عن أبي مطيع بن رفاعة وقيل : عن أبي رفاعة وقيل : عن أبي سلمة عن أبي هريرة وهذا لا يقدح في الحديث فإنه قد يكون عند يحيى عن محمد بن عبد الرحمن عن جابر وعنده عن ابن ثوبان عن أبي سلمة عن أبي هريرة وعنده عن ابن ثوبان عن رفاعة عن أبي سعيد ويبقى الإختلاف في إسم أبي رفاعة هل هو أبو رافع أو ابن رفاعة أو أبو مطيع ؟ وهذا لا يضر مع العلم بحال رفاعة
ولا ريب أن أحاديث جابر صريحة صحيحة في جواز العزل وقد قال الشافعي رحمه الله : ونحن نروي عن عدد من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم أنهم رخصوا في ذلك ولم يروا به بأسا قال البيهقي : وقد روينا الرخصة فيه عن سعد بن أبي وقاص وأبي أيوب الأنصاري وزيد بن ثابت وابن عباس وغيرهم وهو مذهب مالك والشافعي وأهل الكوفة وجمهور أهل العلم
وقد أجيب عن حديث جدامة بأنه على طريق التنزيه وضعفته طائفة وقالوا : كيف يصح أن يكون النبي صلى الله عليه و سلم كذب اليهود في ذلك ثم يخبر به كخبرهم ؟ ! هذا من المحال البين وردت عليه طائفة أخرى وقالوا : حديث تكذيبهم فيه اضطراب وحديث جذامة في الصحيح
وجمعت طائفة أخرى بين الحديثين وقالت : إن اليهود كانت تقول أن العزل لا يكون معه حمل أصلا فكذبهم رسول الله صلى الله عليه و سلم في ذلك ويدل عليه قوله صلى الله عليه و سلم : [ لو أراد الله أن يخلقه لما استطعت أن تصرفه ] وقوله : [ إنه الوأد الخفي ] فإنه وإن لم يمنع الحمل بالكلية كترك الوطء فهو مؤثر في تقليله
وقالت طائفة أخرى : الحديثان صحيحان ولكن حديث التحريم ناسخ وهذه طريقة أبي محمد ابن حزم وغيره قالوا : لأنه ناقل عن الأصل والأحكام كانت قبل التحريم على الإباحة ودعوى هؤلاء تحتاج إلى تاريخ محقق يبين تأخر أحد الحديثين عن الآخر وأنى لهم به وقد اتفق عمر وعلي رضي الله عنهما على أنها لا تكون موؤودة حتى تمر عليها التارات السبع فروى القاضي أبو يعلى وغيره بإسناده عن عبيد بن رفاعة عن أبيه قال : جلس إلى عمر علي والزبير وسعد رضى الله عنهم في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وتذاكروا العزل فقالوا : لا بأس به فقال رجل : إنهم يزعمون أنها الموؤودة الصغرى فقال علي رضي الله عنه : لا تكون موؤودة حتى تمر عليها التارات السبع : حتى تكون من سلالة من طين ثم تكون نطفة ثم تكون علقة ثم تكون مضغة ثم تكون عظاما ثم تكون لحما ثم تكون خلقا آخر فقال عمر رضي الله عنه : صدقت أطال الله بقاءك وبهذا احتج من احتج على جواز الدعاء للرجل بطول البقاء
وأما من جوزه بإذن الحرة فقال : للمرأة حق في الولد كما للرجل حق فيه ولهذا كانت أحق بحضانته قالوا : ولم يعتبر إذن السرية فيه لأنها لا حق لها في القسم ولهذا لا تطالبه بالفيئة ولو كان لها حق في الوطء لطولب المؤلي منها بالفيئة
قالوا : وأما زوجته الرقيقة فله أن يعزل عنها بغير إذنها صيانة لولده عن الرق ولكن يعتبر إذن سيدها لأن له حقا في الولد فاعتبر إذنه في العزل كالحرة ولأن بدل البضع يحصل للسيد كما يحصل للحرة فكان إذنه في العزل كإذن الحرة
قال أحمد رحمه الله في رواية أبي طالب في الأمة إذا نكحها : يستأذن أهلها يعني في العزل لأنهم يريدون الولد والمرأة لها حق تريد الولد وملك يمينه لا يستأذنها
وقال فيه رواية صالح وابن منصور وحنبل وأبي الحارث والفضل ابن زياد والمروذي : يعزل عن الحرة باذنها والأمة بغير إذنها يعني أمته وقال في رواية ابن هانئ : إذا عزل عنها لزمه الولد قد يكون الولد مع العزل وقد قال بعض من قال : ما لي ولد إلا من العزل وقال في رواية المروذي : في العزل عن أم الولد : إن شاء فإن قالت : لا يحل لك ؟ ليس لها ذلك (5/128)
فصل
في حكمه صلى الله عليه و سلم في الغيل وهو وطء المرضعة
ثبت عنه في صحيح مسلم : أنه قال : [ لقد هممت أن أنهى عن الغيلة حتى ذكرت أن الروم وفارس يصنعون ذلك فلا يضر أولادهم ]
وفي سنن أبي داود عنه من حديث أسماء بنت يزيد : [ لا تقتلوا أولادكم سرا فوالذي نفسي بيده إنه ليدرك الفارس فيدعثره ]
قال : قلت : ما يعني ؟ قالت : الغيلة : يأتي الرجل امرأته وهي ترضع
قلت : أما الحديث الأول فهو حديث جدامة بنت وهب وقد تضمن أمرين لكل منهما معارض : فصدره هو الذي تقدم : [ لقد هممت أن أنهى عن الغيلة ] وقد عارضه حديث أسماء وعجزه : ثم سألوه عن العزل فقال : [ ذلك الوأد الخفي ] وقد عارضه حديث أبي سعيد : [ كذبت يهود ] وقد يقال : إن قوله : [ لا تقتلوا أولادكم سرا ] نهي أن يتسبب إلى ذلك فإنه شبه الغيل بقتل الولد وليس بقتل حقيقة وإلا كان من الكبائر وكان قرين الإشراك بالله ولا ريب أن وطء المراضع مما تعم به البلوى ويتعذر على الرجل الصبر عن امراته مدة الرضاع ولو كان وطؤهن حراما لكان معلوما من الدين وكان بيانه من أهم الأمور ولم تهمله الأمة وخير القرون ولا يصرح أحد منهم بتحريمه فعلم أن حديث أسماء على وجه الإرشاد والإحتياط للولد وأن لا يعرضه لفساد اللبن بالحمل الطارئ عليه ولهذا كان عادة العرب أن يسترضعوا لأولادهم غير أمهاتهم والمنع منه غايته أن يكون من باب سد الذرائع التي قد تفضي إلى الإضرار بالولد وقاعدة باب سد الذرائع إذا عارضه مصلحة راجحة قدمت عليه كما تقدم بيانه مرارا والله أعلم (5/134)
فصل
في حكمه صلى الله عليه و سلم في قسم الإبتداء والدوام بين الزوجات
ثبت في الصحيحين : عن أنس رضي الله عنه أنه قال : من السنة إذا تزوج الرجل البكر على الثيب أقام عندها سبعا وقسم وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثا ثم قسم قال أبو قلابة : ولو شئت لقلت : إن أنسا رفعه إلى النبي صلى الله عليه و سلم
وهذا الذي قاله أبو قلابة قد جاء مصرحا به عن أنس كما رواه البزار في مسنده من طريق أيوب السختياني عن أبي قلابة عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم جعل للبكر سبعا وللثيب ثلاثا
وروى الثوري عن أيوب وخالد الحذاء كلاهما عن أبي قلابة عن أنس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إذا تزوج البكر أقام عندها سبعا وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثا ]
وفي صحيح مسلم : عن أم سلمة رضي الله عنها [ لما تزوجها رسول الله صلى الله عليه و سلم فدخل عليها أقام عندها ثلاثا ثم قال : إنه ليس بك على أهلك هوان إن شئت سبعت لك وإن سبعت لك سبعت لنسائي ] وله في لفظ : [ لما أراد أن يخرج أخذت بثوبه فقال : إن شئت زدتك وحاسبتك به للبكر سبع وللثيب ثلاث ]
وفي السنن : عن عائشة رضي الله عنها [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقسم فيعدل ويقول : اللهم إن هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك ] يعني القلب
وفي الصحيحين : أنه صلى الله عليه و سلم كان إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه
وفي الصحيحين : أن سودة وهبت يومها لعائشة رضي الله عنها وكان النبي صلى الله عليه و سلم يقسم لعائشة يومها ويوم سودة
وفي السنن : عن عائشة رضي الله عنها كان النبي صلى الله عليه و سلم لا يفضل بعضنا على بعض في القسم من مكثه عندنا وكان قل يوم إلا وهو يطوف علينا جميعا فيدنو من كل امرأة من غير مسيس حتى يبلغ إلى التي هو يومها فيبيت عندها
وفي صحيح مسلم : إنهن كن يجتمعن كل ليلة في بيت التي يأتيها
وفي الصحيحين : عن عائشة رضي الله عنها في قوله : { وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا } أنزلت في المرأة تكون عند الرجل فتطول صحبتها فيريد طلاقها فتقول : لا تطلقني وأمسكني وأنت في حل من النفقة علي والقسم لي فذلك قوله : { فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير }
وقضى خليفته الراشد وابن عمه علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه إذا تزوج الحرة على الأمة قسم للأمة ليلة وللحرة ليلتين وقضاء خلفائه وإن لم يكن مساويا لقضائه فهو كقضائه في وجوبه على الأمة وقد احتج الإمام أحمد بهذا القضاء عن علي رضي الله عنه وقد ضعفه أبو محمد بن حزم بالمنهال بن عمرو وبابن أبي ليلى ولم يصنع شيئا فإنهما ثقتان حافظان جليلان ولم يزل الناس يحتجون بابن أبي ليلى على شئ ما في حفظه يتقى منه ما خالف فيه الأثبات وما تفرد به عن الناس وإلا فهو غير مدفوع عن الأمانة والصدق فتضمن هذا القضاء أمورا
منها وجوب قسم الإبتداء وهو أنه إذا تزوج بكرا على ثيب أقام عندها سبعا ثم سوى بينهما وإن كانت ثيبا خيرها بين أن يقيم عندها سبعا ثم يقضيها للبواقي وبين أن يقيم عندها ثلاثا ولا يحاسبها هذا قول الجمهور وخالف فيه إمام أهل الرأي وإمام أهل الظاهر وقالوا : لا حق للجديدة غير ما تستحقه التي عنده فيجب عليه التسوية بينهما
ومنها أن الثيب إذا اختارت السبع قضاهن للبواقي واحتسب عيها بالثلاث ولو اختارت الثلاث لم يحتسب عليها بها وعلى هذا من سومح بثلاث دون ما فوقها ففعل أكثر منها دخلت الثلاث في الذي لم يسامح به بحيث لو ترتب عليه إثم أثم على الجميع وهذا كما رخص النبي صلى الله عليه و سلم للمهاجر أن يقيم بعد قضاء نسكه ثلاثا فلو أقام أبدا ذم على الإقامة كلها
ومنها : أنه لا تجب التسوية بين النساء في المحبة فإنها لا تملك وكانت عائشة رضي الله عنها أحب نسائه إليه وأخذ من هذا أنه لا تجب التسوية بينهن في الوطء لأنه موقوف على المحبة والميل وهي بيد مقلب القلوب
وفي هذا تفصيل وهو أنه إن تركه لعدم الداعي إليه وعدم الإنتشار فهو معذور وإن تركه مع الداعي إليه ولكن داعيه إلى الضرة أقوى فهذا مما يدخل تحت قدرته وملكه فإن أدى الواجب عليه منه لم يبق لها حق ولم يلزمه التسوية وإن ترك الواجب منه فلها المطالبة به
ومنها : إذا أراد السفر لم يجز له أن يسافر بإحداهن إلا بقرعة
ومنها : أنه لا يقضي للبواقي إذا قدم فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يكن يقضي للبواقي
وفي هذا ثلاثة مذاهب
أحدها : أنه لا يقضي سواء أقرع أو لم يقرع وبه قال أبو حنيفة ومالك
والثاني : أنه يقضي للبواقي أقرع أو لم يقرع وهذا مذهب أهل الظاهر
والثالث : أنه إن أقرع لم يقض وإن لم يقرع قضى وهذا قول أحمد والشافعي
ومنها : أن للمرأة أن تهب ليلتها لضرتها فلا يجوز له جعلها لغير الموهوبة وإن وهبتها للزوج فله جعلها لمن شاء منهن والفرق بينهما أن الليلة حق للمرأة فإذا أسقطتها وجعلتها لضرتها تعينت لها وإذا جعلتها للزوج جعلها لمن شاء من نسائه فإذا اتفق أن تكون ليلة الواهبة تلي ليلة الموهوبة قسم لها ليلتين متواليتين وإن كانت لا تليها فهل له نقلها إلى مجاورتها فيجعل الليلتين متجاورتين ؟ على قولين للفقهاء وهما في مذهب أحمد والشافعي
ومنها : أن الرجل له أن يدخل على نسائه كلهن في يوم إحداهن ولكن لا يطؤها في غير نوبتها
ومنها : أن لنسائه كلهن أن يجتمعن في بيت صاحبة النوبة يتحدثن إلى أن يجيء وقت النوم فتؤوب كل واحدة إلى منزلها
ومنها : أن الرجل إذا قضى وطرا من امرأته وكرهتها نفسه أو عجز عن حقوقها فله أن يطلقها وله أن يخيرها إن شاءت أقامت عنده ولا حق لها في القسم والوطء والنفقة أو في بعض ذلك بحسب ما يصطلحان عليه فإذا رضيت بذلك لزم وليس لها المطالبة به بعد الرضى
هذا موجب السنة ومقتضاها وهو الصواب الذي لا يسوغ غيره وقول من قال : إن حقها يتجدد فلها الرجوع في ذلك متى شاءت فاسد فإن هذا خرج مخرج المعاوضة وقد سماه الله تعالى صلحا فليزم كما يلزم ما صالح عليه من الحقوق والأموال ولو مكنت من طلب حقها بعد ذلك لكان فيه تأخير الضرر إلى أكمل حالتيه ولم يكن صلحا بل كان من أقرب أسباب المعاداة والشريعة منزهة عن ذلك ومن علامات المنافق أنه إذا وعد أخلف وإذا عاهد غدر والقضاء النبوي يرد هذا
ومنها : أن الأمة المزوجة على النصف من الحرة كما قضى به أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ولا يعرف له في الصحابة مخالف وهو قول جمهور الفقهاء إلا رواية عن مالك : أنهما سواء وبها قال أهل الظاهر وقول الجمهور هو الذي يقتضيه العدل فإن الله سبحانه لم يسو بين الحرة والأمة لا في الطلاق ولا في العدة ولا في الحد ولا في الملك ولا في الميراث ولا في الحج ولا في مدة الكون عند الزوج ليلا ونهارا ولا في أصل النكاح بل جعل نكاحها بمنزلة الضرورة ولا في عدد المنكوحات فإن العبد لا يتزوج أكثر من اثنتين هذا قول الجمهور وروى الإمام أحمد بإسناده : عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : يتزوج العبد ثنتين ويطلق ثنتين وتعتد امرأته حيضتين واحتج به أحمد ورواه أبو بكر عبد العزيز عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : لا يحل للعبد من النساء إلا ثنتان
وروى الإمام أحمد بإسناده عن محمد بن سيرين قال : سأل عمر رضي الله عنه الناس : كم يتزوج العبد ؟ فقال عبد الرحمن : ثنتين وطلاقه ثنتين فهذا عمر وعلي وعبد الرحمن رضي الله عنهم ولا يعرف لهم مخالف في الصحابة مع انتشار هذا القول وظهوره وموافقته للقياس (5/135)
فصل
في قضائه صلى الله عليه و سلم في تحريم وطء المرأة الحبلى من غير الواطئ
ثبت في صحيح مسلم : [ من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم أتى بامرأة مجح على باب فسطاط فقال : لعله يريد أن يلم بها فقالوا : نعم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لقد هممت أن ألعنه لعنا يدخل معه قبره كيف يورثه وهو لا يحل له كيف يستخدمه وهو لا يحل له ]
قال أبو محمد ابن حزم : لا يصح في تحريم وطء الحامل خبر غير هذا انتهى وقد روى أهل السنن من حديث أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال في سبايا أوطاس : [ لا توطأ حامل حتى تضع ولا غير حامل حتى تحيض حيضة ]
وفي الترمذي وغيره : من حديث رويفع بن ثابت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسق ماءه ولد غيره ] قال الترمذي : حديث حسن
وفيه عن العرباض بن سارية رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم حرم وطء السبايا حتى يضعن ما في بطونهن
وقوله صلى الله عليه و سلم : [ كيف يورثه وهو لا يحل له كيف يستخدمه وهو لا يحل له ] كان شيخنا يقول في معناه : كيف بجعله عبدا موروثا عنه ويستخدمه استخدام العبيد وهو ولده لان وطأه زاد في خلقه ؟ قال الإمام أحمد : الوطء يزيد في سمعه وبصره قال فيمن اشترى جارية حاملا من غيره فوطئها قبل وضعها فإن الولد لا يلحق بالمشتري ولا يتبعه لكن يعتقه لأنه قد شرك فيه لان الماء يزيد في الولد وقد روي عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم مر بامرأة مجح على باب فسطاط فقال : لعله يريد أن يلم بها وذكر الحديث يعني : أنه إن استلحقه وشركه في ميراثه لم يحل له لأنه ليس بولده وإن أخذه مملوكا يستخدمه لم يحل له لأنه قد شرك فيه لكون الماء يزيد في الولد
وفي هذا دلالة ظاهرة على تحريم نكاح الحامل سواء كان حملها من زوج أو سيد أو شبهة أو زنى وهذا لا خلاف فيه إلا فيما إذا كان الحمل من زنى ففي صحة العقد قولان أحدهما : بطلانه وهو مذهب أحمد ومالك والثاني : صحته وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي ثم اختلفا فمنع أبو حنيفة من الوطء حتى تنقضي العدة وكرهه الشافعي وقال أصحابه : لا يحرم (5/140)
فصل
في حكمه صلى الله عليه و سلم في الرجل يعتق أمته ويجعل عتقها صداقها
ثبت عنه في الصحيح : أنه أعتق صحفية وجعل عتقها صداقها قيل لأنس : ما أصدقها ؟ قال : أصدقها نفسها وذهب إلى جواز ذلك علي بن أبي طالب وفعله أنس بن مالك وهو مذهب أعلم التابعين وسيدهم سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن والحسن البصري والزهري وأحمد وإسحاق
وعن أحمد رواية أخرى أنه لا يصح حتى يستأنف نكاحها بإذنها فإن أبت ذلك فعليها قيمتها
وعنه رواية ثالثة : أنه يوكل رجلا يزوجه إياها
والصحيح : هو القول الأول الموافق للسنة وأقوال الصحابة والقياس فإنه كان يملك رقبتها فأزال ملكه عن رقبتها وأبقى ملك المنفعة بعقد النكاح فهو أولى بالجواز مما لو أعتقها واستثنى خدمتها وقد تقدم تقرير ذلك في غزاة خيبر (5/142)
فصل
في قضائه صلى الله عليه و سلم في صحة النكاح الموقوف على الإجازة في السنن : عن ابن عباس رضي الله عنهما أن جارية بكرا أتت النبي صلى الله عليه و سلم فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة فخيرها النبي صلى الله عليه و سلم
وقد نص الإمام أحمد على القول بمقتضى هذا فقال في رواية صالح في صغير زوجه عمه قال : إن رضي به في وقت من الأوقات جاز وإن لم يرض فسخ ونقل عنه ابنه عبد الله إذا زوجت اليتيمة فإذا بلغت فلها الخيار وكذلك نقل ابن منصور عنه حكي له قول سفيان في يتيمة زوجت ودخل بها الزوج ثم حاضت عند الزوج بعد قال : تخير فإن اختارت نفسها لم يقع التزويج وهي أحق بنفسها وإن قالت : اخترت زوجي ؟ فليشهدوا على نكاحهما قال أحمد : جيد
وقال في رواية حنبل في العبد إذا تزوج بغير إذن سيده ثم علم السيد بذلك : فإن شاء يطلق عليه فالطلاق بيد السيد وإذا أذن له في التزويج فالطلاق بيد العبد ومعنى قوله : يطلق أي : يبطل العقد ويمنع تنفيذه وإجازته هكذا أوله القاضي وهو خلاف ظاهر النص وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك على تفصيل في مذهبه والقياس يقتضي صحة هذا القول فإن الإذن إذا جاز أن يتقدم القبول والإيجاب جاز أن يتراخى عنه
وأيضا فإنه كما يجوز وقفه على الفسخ يجوز وقفه على الإجازة كالوصية ولأن المعتبر هو التراضي وحصوله في ثاني الحال كحصوله في الأول ولأن إثبات الخيار في عقد البيع هو وقف للعقد في الحقيقة على إجازة من له الخيار ورده وبالله التوفيق (5/143)
فصل
في حكمه صلى الله عليه و سلم في الكفاءة في النكاح
قال الله تعالى : { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم } [ الحجرات : 13 ] وقال تعالى : { إنما المؤمنون إخوة } [ الحجرات : 10 ] وقال : { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض } [ التوبة : 71 ] وقال تعالى : { فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض } [ آل عمران : 195 ]
وقال صلى الله عليه و سلم : [ لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمى على عربي ولا لأبيض على أسود ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى الناس من آدم وآدم من تراب ]
وقال صلى الله عليه و سلم : [ إن آل بني فلان ليسوا لي بأولياء إن أوليائي المتقون حيث كانوا وأين كانوا ]
وفي الترمذي : عنه صلى الله عليه و سلم : [ إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير قالوا : يا رسول الله ! وإن كان فيه ؟ فقال : إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه ] ثلاث مرات
وقال النبي صلى الله عليه و سلم لبني بياضة : [ أنكحوا أبا هند وأنكحوا إليه ] وكان حجاما
وزوج النبي صلى الله عليه و سلم زينب بنت جحش القرشية من زيد بن حارثة مولاه وزوج فاطمة بنت قيس الفهرية القرشية من أسامة ابنه وتزوج بلال بن رباح بأخت عبد الرحمن بن عوف وقد قال الله تعالى : { والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات } [ النور : 26 ] وقد قال تعالى : { فانكحوا ما طاب لكم من النساء } [ النساء : 3 ]
فالذي يقتضيه حكمه صلى الله عليه و سلم اعتبار الدين في الكفاءة أصلا وكمالا فلا تزوج مسلمة بكافر ولا عفيفة بفاجر ولم يعتبر القرآن والسنة في الكفاءة أمرا وراء ذلك فإنه حرم على المسلمة نكاح الزاني الخبيث ولم يعتبر نسبا ولا صناعة ولا غنى ولا حرية فجوز للعبد القن نكاح الحرة النسيبة الغنية إذا كان عفيفا مسلما وجوز لغير القرشيين نكاح القرشيات ولغير الهاشميين نكاح الهاشميات وللفقراء نكاح الموسرات
وقد تنازع الفقهاء في أوصاف الكفاءة فقال مالك في ظاهر مذهبه إنها الدين وفي رواية عنه : إنها ثلاثة : الدين والحرية والسلامة من العيوب
وقال أبو حنيفة : هي النسب والدين
وقال أحمد في رواية عنه : هي الدين والنسب خاصة وفي رواية أخرى : هي خمسة : الدين والنسب والحرية والصناعة والمال وإذا اعتبر فيها النسب فعنه فيه روايتان إحداهما : أن العرب بعضهم لبعض أكفاء الثانية : أن قريشا لا يكافئهم إلا قرشي وبنو هاشم لا يكافئهم إلا هاشمي
وقال أصحاب الشافعي : يعتبر فيها الدين والنسب والحرية والصناعة والسلامة من العيوب المنفرة
ولهم في اليسار ثلاثة أوجه : اعتباره فيها وإلغاؤه واعتباره في أهل المدن دون أهل البوادي فالعجمى ليس عندهم كفئا للعربي ولا غير القرشي للقرشية ولا غير الهاشمي للهاشمية ولا غير المنتسبة إلى العلماء والصلحاء المشهورين كفئا لمن ليس منتسبا إليهما ولا العبد كفئا للحرة ولا العتيق كفئا لحرة الأصل ولا من مس الرق أحد آبائه كفئا لمن لم يمسها رق ولا أحدا من آبائها وفي تأثير رق الأمهات وجهان ولا من به عيب مثبت للفسخ كفئا للسليمة منه فإن لم يثبت الفسخ وكان منفرا كالعمى والقطع وتشويه الخلقة فوجهان واختار الروياني أن صاحبه ليس بكفء ولا الحجام والحائك والحارس كفئا لبنت التاجر والخياط ونحوهما ولا المحترف لبنت العالم ولا الفاسق كفئا للعفيفة ولا المبتدع للسنية ولكن الكفاءة عند الجمهور هي حق للمرأة والأولياء
ثم اختلفوا فقال أصحاب الشافعي : هي لمن له ولاية في الحال وقال أحمد في رواية : حق لجميع الأولياء قريبهم وبعيدهم فمن لم يرض منهم فله الفسخ وقال أحمد في رواية ثالثة : إنها حق الله فلا يصح رضاهم بإسقاطه ولكن على هذه الرواية لا تعتبر الحرية ولا اليسار ولا الصناعة ولا النسب إنما تعتبر الدين فقط فإنه لم يقل أحمد ولا أحد من العلماء : إن نكاح الفقير للموسرة باطل وإن رضيت ولا يقول هو ولا أحد : إن نكاح الهاشمية لغير الهاشمي والقرشية لغير القرشي باطل وإنما نبهنا على هذا لأن كثيرا من أصحابنا يحكون الخلاف في الكفاءة هل هي حق لله أو للآدمي ؟ ويطلقون مع قولهم : إن الكفاءة هي الخصال المذكورة وفي هذا من التساهل وعدم التحقيق ما فيه (5/144)
فصل
في حكمه صلى الله عليه و سلم في ثبوت الخيار للمعتقة تحت العبد
ثبت في الصحيحين و السنن : [ أن بريرة كاتبت أهلها وجاءت تسأل النبي صلى الله عليه و سلم في كتابتها فقالت عائشة رضي الله عنها : إن أحب أهلك أن أعدها لهم ويكون ولاؤك لي فعلت فذكرت ذلك لأهلها فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم فقال النبي صلى الله عليه و سلم لعائشة رضي الله عنها : اشتريها واشترطي لهم الولاء فإنما الولاء لمن أعتق ] ثم خطب الناس فقال : [ ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط قضاء الله أحق وشرط الله أوثق وإنما الولاء لمن أعتق ] ثم خيرها رسول الله صلى الله عليه و سلم بين أن تبقى على نكاح زوجها وبين أن تفسخه فاختارت نفسها فقال لها : [ إنه زوجك وأبو ولدك فقالت : يا رسول الله ! تأمرني بذلك ؟ قال : لا إنما أنا شافع قالت : فلا حاجة لي فيه وقال لها إذ خيرها : إن قربك فلا خيار لك وأمرها أن تعتد وتصدق عليها بلحم فأكل منه النبي صلى الله عليه و سلم وقال : هو عليها صدقة ولنا هدية ]
وكان في قصة بريرة من الفقه جواز مكاتبة المرأة وجواز بيع المكاتب وإن لم يعجزه سيده وهذا مذهب أحمد المشهور عنه وعليه أكثر نصوصه وقال في رواية أبي طالب : لا يطأ مكاتبته ألا ترى أنه لا يقدر أن يبيعها وبهذا قال أبو حنيفة ومالك والشافعي والنبي صلى الله عليه و سلم أقر عائشة رضي الله عنها على شرائها وأهلها على بيعها ولم يسأل : أعجزت أم لا ومجيئها تستعين في كتابتها لا يستلزم عجزها وليس في بيع المكاتب محذور فإن بيعه لا يبطل كتابته فإنه يبقى عند المشتري كما كان عند البائع إن أدى إليه عتق وإن عجز عن الأداء فله أن يعيده إلى الرق كما كان عند بائعه فلو لم تأت السنة بجواز بيعه لكان القياس يقتضيه
وقد ادعى غير واحد الإجماع القديم على جواز بيع المكاتب قالوا : لأن قصة بريرة وردت بنقل الكافة ولم يبق بالمدينة من لم يعرف ذلك لأنها صفقة جرت بين أم المؤمنين وبين بعض الصحابة رضي الله عنهم وهم موالي بريرة ثم خطب رسول الله صلى الله عليه و سلم الناس في أمر بيعها خطبة في غير وقت الخطبة ولا يكون شئ أشهر من هذا ثم كان من مشي زوجها خلفها باكيا في أزقة المدينة ما زاد الأمر شهرة عند النساء والصبيان قالوا : فظهر يقينا أنه إجماع من الصحابة إذ لا يظن بصاحب أنه يخالف من سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم مثل هذا الأمر الظاهر المستفيض قالوا : ولا يمكن أن توجدونا عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم المنع من بيع المكاتب إلا رواية شاذة عن ابن عباس لا يعرف لها إسناد
واعتذر من منع بيعه بعذرين أحدهما : أن بريرة كانت قد عجزت وهذا عذر أصحاب الشافعي والثاني : أن البيع ورد على مال الكتابة لا على رقبتها وهذا عذر أصحاب مالك
وهذان العذران أحوج إلى أن يعتذر عنهما من الحديث ولا يصح واحد منهما أما الأول : فلا ريب أن هذه القصة كانت بالمدينة وقد شهدها العباس وابنه عبد الله وكانت الكتابة تسع سنين في كل سنة أوقية ولم تكن بعد أدت شيئا ولا خلاف أن العباس وابنه إنما سكنا المدينة بعد فتح مكة ولم يعش النبي صلى الله عليه و سلم بعد ذلك إلا عامين وبعض الثالث فأين العجز وحلول النجوم ؟ !
وأيضا فإن بريرة لم تقل : عجزت ولا قالت لها عائشة : أعجزت ؟ ولا اعترف أهلها بعجزها ولا حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم بعجزها ولا وصفها به ولا أخبر عنها البتة فمن أين لكم هذا العجز الذي تعجزون عن إثباته ؟ !
وأيضا فإنها إنما قالت لعائشة : كاتبت أهلي على تسع أواق في كل سنة أوقية وإني أحب أن تعينيني ولم تقل : لم أؤد لهم شيئا ولا مضت علي نجوم عدة عجزت عن الأداء فيها ولا قالت : عجزني أهلي
وأيضا فإنهم لو عجزوها لعادت في الرق ولم تكن حينئذ لتسعى في كتابتها وتستعين بعائشة على أمر قد بطل
فإن قيل : الذي يدل على عجزها قول عائشة : إن أحب أهلك أن أشتريك وأعتقك ويكون ولاؤك لي فعلت وقول النبي صلى الله عليه و سلم لعائشة رضي الله عنها : [ اشتريها فأعتقيها ] وهذا يدل على إنشاء عتق من عائشة رضي الله عنها وعتق المكاتب بالأداء لا بإنشاء من السيد قيل : هذا هو الذي أوجب لهم القول ببطلان الكتابة قالوا : ومن المعلوم أنها لا تبطل إلا بعجز المكاتب أو تعجيزه نفسه وحينئذ فيعود في الرق فإنما ورد البيع على رقيق لا على مكاتب
وجواب هذا : أن ترتيب العتق على الشراء لا يدل على إنشائه فإنه ترتيب للمسبب على سببه ولا سيما فإن عائشة لما أرادت أن تعجل كتابتها جملة واحدة كان هذا سببا في إعتاقها وقد قلتم أنتم : إن قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه ]
إن هذا من ترتيب المسبب على سببه وأنه بنفس الشراء يعتق عليه لا يحتاج إلى إنشاء عتق
وأما العذر الثاني : فأمره أظهر وسياق القصة يبطله فإن أم المؤمنين اشترتها فأعتقتها وكان ولاؤها لها وهذا مما لا ريب فيه ولم تشتر المال والمال كان تسع أواق منجمة فعدتها لهم جملة واحدة ولم تتعرض للمال الذي في ذمتها ولا كان غرضها بوجه ما ولا كان لعائشة غرض في شراء الدراهم المؤجلة بعددها حالة
وفي القصة جواز المعاملة بالعقود عددا إذا لم يختلف مقدارها وفيها أنه لا يجوز لأحد من المتعاقدين أن يشترط على الآخر شرطا يخالف حكم الله ورسوله وهذا معنى قوله : [ ليس في كتاب الله ] أي : ليس في حكم الله جوازه وليس المراد أنه ليس في القرآن ذكره وإباحته ويدل عليه قوله : [ كتاب الله أحق وشرط الله أوثق ]
وقد استدل به من صحح العقد الذي شرط فيه شرط فاسد ولم يبطل العقد به وهذا فيه نزاع وتفصيل يظهر الصواب منه في تبيين معنى الحديث فإنه قد أشكل على الناس قوله : [ اشترطي لهم الولاء فإن الولاء لمن أعتق ] فأذن لها في هذا الإشتراط وأخبر أنه لا يفيد والشافعي طعن في هذه اللفظة وقال : إن هشام بن عروة انفرد بها وخالفه غيره فردها الشافعي ولم يثبتها ولكن أصحاب الصحيحين وغيرهم أخرجوها ولم يطعنوا فيها ولم يعللها أحد سوى الشافعي فيما نعلم ثم اختلفوا في معناها فقالت طائفة : اللام ليست على بابها بل هي بمعنى على كقوله : { إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها } [ الإسراء : 7 ] أي : فعليها كما قال تعالى : { من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها } [ فصلت : 46 ]
وردت طائفة هذا الإعتذار بخلافه لسياق القصة ولموضوع الحرف وليس نظير الاية فإنها قد فرقت بين ما للنفس وبين ما عليها بخلاف قوله : اشترطي لهم
وقالت طائفة : بل اللام على بابها ولكن في الكلام محذوف تقديره : اشترطي لهم أو لا تشترطي فإن الإشتراط لا يفيد شيئا لمخالفته لكتاب الله
ورد غيرهم هذا الإعتذار لاستلزامه إضمار ما لا دليل عليه والعلم به من نوع علم الغيب
وقالت طائفة أخرى : بل هذا أمر تهديد لا إباحة كقوله تعالى : { اعملوا ما شئتم } [ فصلت : 40 ] وهذا في البطلان من جنس ما قبله وأظهر فسادا فما لعائشة وما للتهديد هنا ؟ وأين في السياق ما يقتضي التهديد لها ؟ نعم هم أحق بالتهديد لا أم المؤمنين
وقالت طائفة : بل هو أمر إباحة وإذن وأنه يجوز اشتراط مثل هذا ويكون ولاء المكاتب للبائع قاله بعض الشافعية وهذا أفسد من جميع ما تقدم وصريح الحديث يقتضي بطلانه ورده
وقالت طائفة : إنما أذن لها في الإشتراط ليكون وسيلة إلى ظهور بطلان هذا الشرط وعلم الخاص والعام به وتقرر حكمه صلى الله عليه و سلم وكان القوم قد علموا حكمه صلى الله عليه و سلم في ذلك فلم يقنعوا دون أن يكون الولاء لهم فعاقبهم بأن أذن لعائشة في الإشتراط ثم خطب الناس فأذن فيهم ببطلان هذا الشرط وتضمن حكما من أحكام الشريعة وهو أن الشرط الباطل إذا شرط في العقد لم يجز الوفاء به ولو لا الإذن في الإشتراط لما علم ذلك فإن الحديث تضمن فساد هذا الحكم وهو كون الولاء لغير المعتق
وأما بطلانه إذا شرط فإنما استفيد من تصريح النبي صلى الله عليه و سلم ببطلانه بعد اشتراطه ولعل القوم اعتقدوا أن اشتراطه يفيد الوفاء به وإن كان خلاف مقتضى العقد المطلق فأبطله النبي صلى الله عليه و سلم وإن شرط كما أبطله بدون الشرط
فإن قيل : فإذا فات مقصود المشترط ببطلان الشرط فإنه إما أن يسلط على الفسخ أو يعطى من الأرش بقدر ما فات من غرضه والنبي صلى الله عليه و سلم لم يقض بواحد من الأمرين
قيل : هذا إنما يثبت إذا كان المشترط جاهلا بفساد الشرط فأما إذا علم بطلانه ومخالفته لحكم الله كان عاصيا آثما بإقدامه على اشتراطه فلا فسخ له ولا أرش وهذا أظهر الأمرين في موالي بريرة والله أعلم (5/147)
فصل
وفي قوله صلى الله عليه و سلم : [ إنما الولاء لمن أعتق ] من العموم ما يقتضي ثبوته لمن أعتق سائبة أو في زكاة أو كفارة أو عتق واجب وهذا قول الشافعي وأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايات وقال في الرواية الأخرى : لا ولاء عليه وقال في الثالثة : يرد ولاؤه في عتق مثله ويحتج بعمومه أحمد ومن وافقه في أن المسلم إذا أعتق عبدا ذميا ثم مات العتيق ورثه بالولاء وهذا العموم أخص من قوله : [ لا يرث المسلم الكافر ] فيخصصه أو يقيده وقال الشافعي ومالك وأبو حنيفة : لا يرثه بالولاء إلا أن يموت العبد مسلما ولهم أن يقولوا : إن عموم قوله : [ الولاء لمن أعتق ] مخصوص بقوله : [ لا يرث المسلم الكافر ] (5/152)
فصل
وفي القصة من الفقه تخيير الأمة المزوجة إذا أعتقت وزوجها عبد وقد اختلفت الرواية في زوج بريرة هل كان عبدا أو حرا ؟ فقال القاسم عن عائشة رضي الله عنها : كان عبدا ولو كان حرا لم يخيرها وقال عروة عنها : كان حرا
وقال ابن عباس : كان عبدا أسود يقال له : مغيث عبدا لبني فلان كأني أنظر إليه يطوف وراءها في سكك المدينة وكل هذا في الصحيح وفي سنن أبي داود عن عروة عن عائشة : كان عبدا لآل أبي أحمد فخيرها رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال لها : [ إن قربك فلا خيار لك ]
وفي مسند أحمد عن عائشة رضي الله عنها : أن بريرة كانت تحت عبد فلما أعتقتها قال لها رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ اختاري فإن شئت أن تمكثي تحت هذا العبد وإن شئت أن تفارقيه ]
وقد روى في الصحيح : أنه كان حرا
وأصح الروايات وأكثرها : أنه كان عبدا وهذا الخبر رواه عن عائشة رضي الله عنها ثلاثة : الأسود وعروة والقاسم أما الأسود فلم يختلف عنه عن عائشة أنه كان حرا وأما عروة فعنه روايتان صحيحتان متعارضتان إحداهما : أنه كان حرا والثانية : أنه كان عبدا وأما عبد الرحمن بن القاسم فعنه روايتان صحيحتان إحداهما : أنه كان حرا والثانية : الشك قال داود بن مقاتل : ولم تختلف الرواية عن ابن عباس أنه كان عبدا
واتفق الفقهاء على تخيير الأمة إذا أعتقت وزوجها عبد واختلفوا إذا كان حرا فقال الشافعي ومالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه : لا تخيير وقال أبو حنيفة وأحمد في الرواية الثانية : تخير وليست الروايتان مبنيتين على كون زوجها عبدا أو حرا بل على تحقيق المناط في إثبات الخيار لها وفيه ثلاثة مآخذ للفقهاء أحدها : زوال الكفاءة وهو المعبر عنه بقولهم : كملت تحت ناقص الثاني : أن عتقها أوجب للزوج ملك طلقة ثالثة عليها لم تكن مملوكة له بالعقد وهذا مأخذ أصحاب أبي حنيفة وبنوا على أصلهم أن الطلاق معتبر بالنساء لا بالرجال الثالث : ملكها نفسها ونحن نبين ما في هذه
المأخذ الأول : وهو كمالها تحت ناقص فهذا يرجع إلى أن الكفاءة معتبرة في الدوام كما هي معتبرة في الإبتداء فإذا زالت خيرت المرأة كما تخير إذا بان الزوج غير كفء لها وهذا ضعيف من وجهين
أحدهما : أن شروط النكاح لا تعتبر دوامها واستمرارها وكذلك توابعه المقارنة لعقده لا يشترط أن تكون توابع في الدوام فإن رضى الزوجة غير المجبرة شرط في الإبتداء دون الدوام وكذلك الولي والشاهدان وكذلك مانع الإحرام والعدة والزنى عند من يمنع نكاح الزانية إنما يمنع ابتداء العقد دون استدامته فلا يلزم من اشتراط الكفاءة ابتداء اشتراط استمرارها ودوامها
الثاني : أنه لو زالت الكفاءة في أثناء النكاح بفسق الزوج أو حدوث عيب موجب للفسخ لم يثبت الخيار على ظاهر المذهب وهو اختيار قدماء الأصحاب ومذهب مالك وأثبت القاضي الخيار بالعيب الحادث ويلزمه إثباته بحدوث فسق الزوج وقال الشافعي : إن حدث بالزوج ثبت الخيار وإن حدث بالزوجة فعلى قولين
وأما المأخذ الثاني وهو أن عتقها أوجب للزوج عليها ملك طلقة ثالثة - فمأخذ ضعيف جدا فأي مناسبة بين ثبوت طلقة ثالثة وبين ثبوت الخيار لها ؟ وهل نصب الشارع ملك الطلقة الثالثة سببا لملك الفسخ وما يتوهم - من أنها كانت تبين منه باثنتين فصارت لا تبين إلا بثالث وهو زيادة إمساك وحبس لم يقتضه العقد - فاسد فإنه يملك ألا يفارقها البتة ويمسكها حتى يفرق الموت بينهما والنكاح عقد على مدة العمر فهو يملك استدامة إمساكها وعتقها لا يسلبه هذ الملك فكيف يسلبه إياه ملكه عليها طلقة ثالثة وهذا لو كان الطلاق معتبرا بالنساء فكيف والصحيح أنه معتبر بمن هو بيده وإليه ومشروع في جانبه
وأما المأخذ الثالث : وهو ملكها نفسها فهو أرجح المآخذ وأقربها إلى أصول الشرع وأبعدها من التناقض وسر هذا المأخذ أن السيد عقد عليها بحكم الملك حيث كان مالكا لرقبتها ومنافعها والعتق يقتضي تمليك الرقبة والمنافع للمعتق وهذا مقصود العتق وحكمته فإذا ملكت رقبتها ملكت بضعها ومنافعها ومن جملتها منافع البضع فلا يملك عليها إلا باختيارها فخيرها الشارع بين أن تقيم مع زوجها وبين أن تفسخ نكاحه إذ قد ملكت منافع بضعها وقد جاء في بعض طرق حديث بريرة أنه صلى الله عليه و سلم قال لها : [ ملكت نفسك فاختاري ]
فإن قيل : هذا ينتقض بما لو زوجها ثم باعها فإن المشتري قد ملك رقبتها وبضعها ومنافعه ولا تسلطونه على فسخ النكاح قلنا : لا يرد هذا نقضا فإن البائع نقل إلى المشتري ما كان مملوكا له فصار المشتري خليفته وهو لما زوجها أخرج منفعة البضع عن ملكه إلى الزوج ثم نقلها إلى المشتري مسلوبة منفعة البضع فصار كما لو آجر عبده مدة ثم باعه فإن قيل : فهب أن هذا يستقيم لكم فيما إذا باعها فهلا قلتم ذلك إذا أعتقها وأنها ملكت نفسها مسلوبة منفعة البضع كما لو آجرها ثم أعتقها ولهذا ينتقض عليكم هذا المأخذ ؟
قيل : الفرق بينهما : أن العتق في تمليك العتيق رقبته ومنافعه أقوى من البيع ولهذا ينفذ فيما لم يعتقه ويسري في حصة الشريك بخلاف البيع فالعتق إسقاط ما كان السيد يملكه من عتيقه وجعله له محررا وذلك يقتضي إسقاط ملك نفسه ومنافعها كلها وإذا كان العتق يسري في ملك الغير المحض الذي لا حق له فيه البتة فكيف لا يسري إلى ملكه الذي تعلق به حق الزوج فإذا سرى إلى نصيب الشريك الذي حق للمعتق فيه فسريانه إلى ملك الذي يتعلق به حق الزوج أولى وأحرى فهذا محض العدل والقياس الصحيح
فإن قيل : فهذا فيه إبطال حق الزوج من هذه المنفعة بخلاف الشريك فإنه يرجع إلى القيمة
قيل : الزوج قد استوفى المنفعة بالوطء فطريان ما يزيل دوامها لا يسقط له حقا كما لو طرأ ما يفسده أو يفسخه برضاع أو حدوث عيب أو زوال كفاءة عند من يفسخ به
فإن قيل : فما تقولون فيما رواه النسائي من حديث ابن موهب عن القاسم بن محمد قال : كان لعائشة رضي الله عنها غلام وجارية قالت : فأردت أن أعتقهما فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ إبدئي بالغلام قبل الجارية ] ولو لا أن التخيير يمنع إذا كان الزوج حرا لم يكن للبداءة بعتق الغلام فائدة فإذا بدأت به عتقت تحت حر فلا يكون لها اختيار
وفي سنن النسائي أيضا : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ أيما أمة كانت تحت عبد فعتقت فهي بالخيار ما لم يطأها زوجها ]
قيل : أما الحديث الأول : فقال أبو جعفر العقيلي وقد رواه : هذا خبر لا يعرف إلا بعبيد الله بن عبد الرحمن بن موهب وهو ضعيف وقال ابن حزم : هو خبر لا يصح ثم لم صح لم يكن فيه حجة لأنه ليس فيه أنهما كانا زوجين بل قال : كان لها عبد وجارية ثم لو كانا زوجين لم يكن في أمره لها بعتق العبد أولا ما يسقط خيار المعتقة تحت الحر وليس في الخبر أنه أمرها بالإبتداء بالزوج لهذا المعنى بل الظاهر أنه أمرها بأن تبتدئ بالذكر لفضل عتقه على الأنثى وأن عتق أنثيين يقوم مقام عتق ذكر كما في الحديث الصحيح مبينا
وأما الحديث الثاني : فضعف لأنه من رواية الفضل بن حسن بن عمرو بن أمية الضمري وهو مجهول فإذا تقرر هذا وظهر حكم الشرع في إثبات الخيار لها فقد روى الإمام أحمد بإسناده عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ إذا أعتقت الأمة فهي بالخيار ما لم يطأها إن شاءت فارقته وإن وطئها فلا خيار لها ولا تستطيع فراقه ] ويستفاد من هذا قضيتان
إحداهما : أن خيارها على التراخي ما لم تمكنه من وطئها وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد والشافعي ثلاثة أقوال هذا أحدها والثاني : أنه على الفور والثالث : أنه إلى ثلاثة أيام
الثانية : أنها إذا مكنته من نفسها فوطئها سقط خيارها وهذا إذا علمت بالعتق وثبوت الخيار به فلو جهلتهما لم يسقط خيارها بالتمكين من الوطء وعن أحمد رواية ثانية : أنها لا تعذر بجهلها بملك الفسخ بل إذا علمت بالعتق ومكنته من وطئها سقط خيارها ولو لم تعلم أن لها الفسخ والرواية الأولى أصح فإن عتق الزوج قبل أن تختار - وقلنا : إنه لا خيار للمعتقة تحت حر - بطل خيارها لمساواة الزوج لها وحصول الكفاءة قبل الفسخ قال الشافعي في أحد قوليه - وليس هو المنصور عند أصحابه : لها الفسخ لتقدم ملك الخيار على العتق فلا يبطله والأول أقيس لزوال سبب الفسخ بالعتق وكما لو زال العيب في البيع والنكاح فبل الفسخ به وكما لو زال الإعسار في زمن ملك الزوجة الفسخ به وإذا قلنا : العلة ملكها نفسها فلا أثر لذلك فإن طلقها طلاقا رجعيا فعتقت في عدتها فاختارت الفسخ بطلت الرجعة وإن اختارت المقام معه صح وسقط اختيارها للفسخ لأن الرجعية كالزوجة
وقال الشافعي وبعض أصحاب أحمد : لا يسقط خيارها إذا رضيت بالمقام دون الرجعة ولها أن تختار نفسها بعد الإرتجاع ولا يصح اختيارها في زمن الطلاق فإن الإختيار في زمن هي فيه صائرة إلى بينونة ممتنع فإذا راجعها صح حينئذ أن تختاره وتقيم معه لأنها صارت زوجة وعمل الإختيار عمله وترتب أثره عليه ونظير هذا إذا ارتد زوج الأمة بعد الدخول ثم عتقت في زمن الردة فعلى القول الأول لها الخيار قبل إسلامه فإن اختارته ثم أسلم سقط ملكها للفسخ وعلى قول الشافعي : لا يصح لها خيار قبل إسلامه لأن العقد صائر إلى البطلان فإذا أسلم صح خيارها
فإن قيل : فما تقولون إذا طلقها قبل أن تفسخ هل يقع الطلاق أم لا ؟
قيل : نعم يقع لأنها زوجة وقال بعض أصحاب أحمد وغيرهم : يوقف الطلاق فإن فسخت تبينا أنه لم يقع وإن اختارت زوجها تبينا وقوعه فإن قيل : فما حكم المهر إذا اختارت الفسخ ؟
قيل : إما أن تفسخ قبل الدخول أو بعده فإن فسخت بعده لم يسقط المهر وهو لسيدها سواء فسخت أو أقامت وإن فسخت قبله ففيه قولان هما روايتان عن أحمد إحداهما : لا مهر لأن الفرقة من جهتها والثانية يجب نصفه ويكون لسيدها لا لها
فإن قيل : فما تقولون في المعتق نصفها هل لها خيار ؟ قيل : فيها قولان وهما روايتان عن أحمد فإن قلنا : لا خيار لها كزوج مدبرة له لا يملك غيرها وقيمتها مائة فعقد على مائتين مهرا ثم مات عتقت ولم تملك الفسخ قبل الدخول لأنها لو ملكت سقط المهر أو انتصف فلم تخرج من الثلث فيرق بعضها فيمتنع الفسخ قبل الدخول بخلاف ما إذا لم تملكه فإنها تخرج من الثلث فيعتق جميعها (5/153)
فصل
في قوله صلى الله عليه و سلم : [ لو راجعته فقالت : أتأمرني ؟ فقال : لا إنما أنا شافع فقالت : لا حاجة لي فيه ] فيه ثلاث قضايا
إحداها : أن أمره على الوجوب ولهذا فرق بين أمره وشفاعته ولا ريب أن امتثال شفاعته من أعظم المستحبات
الثانية : أنه صلى الله عليه و سلم لم يغضب على بريرة ولم ينكر عليها إذ لم تقبل شفاعته لأن الشفاعة في إسقاط المشفوع عنده حقه وذلك إليه إن شاء أسقطه وإن شاء أبقاه فلذلك لا يحرم عصيان شفاعته صلى الله عليه و سلم ويحرم عصيان أمره
الثالثة : أن اسم المراجعة في لسان الشارع قد يكون مع زوال عقد النكاح بالكلية فيكون ابتداء عقد وقد يكون مع تشعثه فيكون إمساكا وقد سمى سبحانه ابتداء النكاح للمطلق ثلاثا بعد الزوج الثاني مراجعة فقال : { فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا } [ البقرة : 23 ] أي : إن طلقها الثاني فلا جناح عليها وعلى الأول أن يتراجعا نكاحا مستأنفا (5/159)
فصل
وفي أكله صلى الله عليه و سلم من اللحم الذي تصدق به على بريرة وقال : [ هو عليها صدقة ولنا هدية ] دليل على جواز أكل الغني وبني هاشم وكل من تحرم عليه الصدقة مما يهديه إليه الفقير من الصدقة لاختلاف جهة المأكول ولأنه قد بلغ محله وكذلك يجوز له أن يشتريه منه بماله هذا إذا لم تكن صدقة نفسه فإن كانت صدقته لم يجز له أن يشتريها ولا يهبها ولا يقبلها هدية كما نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عمر رضي الله عنه عن شراء صدقته وقال : [ لا تشتره وإن أعطاكه بدرهم ] (5/159)
فصل
في قضائه صلى الله عليه و سلم في الصداق بما قل وكثر وقضائه بصحة النكاح على ما مع الزوج من القرآن
ثبت في صحيح مسلم : عن عائشة رضي الله عنها : كان صداق النبي صلى الله عليه و سلم لأزواجه ثنتي عشرة أوقية ونشا فذلك خمسمائة
وقال عمر رضي الله عنه : ما علمت رسول الله صلى الله عليه و سلم نكح شيئا من نسائه ولا أنكح شيئا من بناته على أكثر من ثنتي عشره أوقية قال الترمذي : حديث حسن صحيح انتهى
والأوقية : أربعون درهما
وفي صحيح البخاري : من حديث سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لرجل : [ تزوج ولو بخاتم من حديد ]
وفي سنن أبي داود : من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من أعطى في صداق ملء كفيه سويقا أو تمرا فقد استحل ]
وفي الترمذي : أن امرأة من بني فزارة تزوجت على نعلين فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ رضيت من نفسك ومالك بنعلين ؟ قالت : نعم فأجازه ] قال الترمذي : حديث حسن صحيح
وفي مسند الإمام أحمد : من حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن أعظم النكاح بركة أيسره مؤونة ]
وفي الصحيحين : [ أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقالت : يا رسول الله ! إني قد وهبت نفسي لك فقامت طويلا فقال رجل : يا رسول الله زوجنيها إن لم تكن لك بها حاجة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : فهل عندك من شئ تصدقها إياه ؟ قال : ما عندي إلا إزاري هذا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إنك إن أعطيتها إزارك جلست ولا إزار لك فالتمس شيئا قال : لا أجد شيئا قال : فالتمس ولو خاتما من حديد فالتمس فلم يجد شيئا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : هل معك شئ من القرآن ؟ قال : نعم سورة كذا وسورة كذا لسور سماها فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : قد زوجتكها بما معك من القرآن ]
وفي النسائي : أن أبا طلحة خطب أم سليم فقالت : والله يا أبا طلحة ما مثلك يرد ولكنك رجل كافر وأنا امرأة مسلمة ولا يحل لي أن أتزوجك فإن تسلم فذاك مهري وما أسالك غيره فأسلم فكان ذلك مهرها قال ثابت : فما سمعنا بامرأة قط كانت أكرم مهرا من أم سليم فدخل بها فولدت له
فتضمن هذا الحديث أن الصداق لا يتقدر أقله وأن قبضة السويق وخاتم الحديد والنعلين يصح تسميتها مهرا وتحل بها الزوجة
وتضمن أن المغالاة في المهر مكروهة في النكاح وانها من قلة بركته وعسره
وتضمن أن المرأة إذا رضيت بعلم الزوج وحفظه للقرآن أو بعضه من مهرها جاز ذلك وكان ما يحصل لها من انتفاعها بالقرآن والعلم هو صداقها كما إذا جعل السيد عتقها صداقها وكان انتفاعها بحريتها وملكها لرقبتها هو صداقها وهذا هو الذي اختارته أم سليم من انتفاعها بإسلام أبي طلحة وبذلها نفسها له إن أسلم وهذا أحب إليها من المال الذي يبذله الزوج فإن الصداق شرع في الأصل حقا للمرأة تنتفع به فإذا رضيت بالعلم والدين وإسلام الزوج وقراءته للقرآن كان هذا من أفضل المهور وأنفعها وأجلها فما خلا العقد عن مهر وأين الحكم بتقدير المهر بثلاثة دراهم أو عشرة من النص ؟ والقياس إلى الحكم بصحة كون المهر ما ذكرنا نصا وقياسا وليس هذا مستويا بين هذه المرأة وبين الموهوبة التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه و سلم وهي خالصة له من دون المؤمنين فإن تلك وهبت نفسها هبة مجردة عن ولي وصداق بخلاف ما نحن فيه فإنه نكاح بولي وصداق وإن كان غير مالي فإن المرأة جعلته عوضا عن المال لما يرجع إليها من نفعه ولم تهب نفسها للزوج هبة مجردة كهبة شئ من مالها بخلاف الموهوبة التي خص الله بها رسوله صلى الله عليه و سلم هذا مقتضى هذه الأحاديث
وقد خالف في بعضه من قال : لا يكون الصداق إلا مالا ولا تكون منافع أخرى ولا علمه ولا تعليمه صداقا كقول أبي حنيفة وأحمد في رواية عنه ومن قال : لا يكون أقل من ثلاثة دراهم كمالك وعشرة دراهم كأبي حنيفة وفيه أقوال أخر شاذة لا دليل عليها من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس ولا قول صاحب
ومن ادعى في هذه الأحاديث التي ذكرناها اختصاصها بالنبي صلى الله عليه و سلم أو أنها منسوخة أو أن عمل أهل المدينة على خلافها فدعوى لا يقوم عليها دليل والأصل يردها وقد زوج سيد أهل المدينة من التابعين سعيد بن المسيب ابنته على درهمين ولم ينكر عليه أحد بل عد ذلك في مناقبه وفضائله وقد تزوج عبد الرحمن بن عوف على صداق خمسة دراهم وأقره النبي صلى الله عليه و سلم ولا سبيل إلى إثبات المقادير إلا من جهة صاحب الشرع (5/160)
فصل
في حكمه صلى الله عليه و سلم وخلفائه في أحد الزوجين يجد بصاحبه برصا أو جنونا أو جذاما أو يكون الزوج عنينا
في مسند أحمد : [ من حديث يزيد بن كعب بن عجرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم تزوج امرأة من بني غفار فلما دخل عليها ووضع ثوبه وقعد على الفراش أبصر بكشحها بياضا فاماز عن الفراش ثم قال : خذي عليك ثيابك ] ولم يأخذ مما آتاها شيئا
وفي الموطأ : عن عمر أنه قال : أيما امرأة غر بها رجل بها جنون أو جذام أو برص فلها المهر بما أصاب منها وصداق الرجل على من غره
وفي لفظ آخر : قضى عمر في البرصاء والجذماء والمجنونة إذا دخل بها فرق بينهما والصداق لها بمسيسه إياها وهو له على وليها
وفي سنن أبي داود : [ من حديث عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما : طلق عبد يزيد أبو ركانة زوجته أم ركانة ونكح امرأة من مزينة فجاءت إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقالت : ما يغني عني إلا كما تغني هذه الشعرة لشعرة أخذتها من رأسها ففرق بيني وبينه فأخذت النبي صلى الله عليه و سلم حمية فذكر الحديث وفيه : أنه صلى الله عليه و سلم قال له : طلقها ففعل ثم قال : راجع امراتك أم ركانة فقال : إني طلقتها ثلاثا يا رسول الله قال : قد علمت ارجعها وتلا : { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن } [ الطلاق : 1 ] ]
ولا علة لهذا الحديث إلا رواية ابن جريج له عن بعض بني أبي رافع وهو مجهول ولكن هو تابعي وابن جريج من الأئمة الثقات العدول ورواية العدل عن غيره تعديل له ما لم يعلم فيه جرح ولم يكن الكذب ظاهرا في التابعين ولا سيما التابعين من أهل المدينة ولا سيما موالي رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا سيما مثل هذه السنة التي تشتد حاجة الناس إليها لا يظن بابن جريج أنه حملها عن كذاب ولا عن غير ثقة عنده ولم يبين حاله
وجاء التفريق بالعنة عن عمر وعثمان وعبد الله بن مسعود وسمرة بن جندب ومعاوية بن أبي سفيان والحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة والمغيرة بن شعبة لكن عمر وابن مسعود والمغيرة أجلوه سنة وعثمان ومعاوية وسمرة لم يؤجلوه والحارث بن عبد الله أجله عشرة أشهر
وذكر سعيد بن منصور : حدثنا هشيم أنبأنا عبد الله بن عوف عن ابن سيرين أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعث رجلا على بعض السعاية فتزوج امرأة وكان عقيما فقال له عمر : أعلمتها أنك عقيم ؟
قال : لا قال : فانطلق فأعلمها ثم خيرها
وأجل مجنونا سنة فإن أفاق وإلا فرق بينه وبين امرأته
فاختلف الفقهاء في ذلك فقال داود وابن حزم ومن وافقهما : لا يفسخ النكاح بعيب البتة وقال أبو حنيفة : لا يفسخ إلا بالجب والعنة خاصة وقال الشافعي ومالك : يفسخ بالجنون والبرص والجذام والقرن والجب والعنة خاصة وزاد الإمام أحمد عليهما : أن تكون المرأة فتقاء منخرقة ما بين السبيلين ولأصحابه في نتن الفرج والفم وانخراق مخرجي البول والمني في الفرج والقروح السيالة فيه والبواسير والناصور والإستحاضة واستطلاق البول والنجو والخصي وهو قطع البيضتين والسل وهو سل البيضتين والوجء وهو رضهما وكون أحدهما خنثى مشكلا والعيب الذي بصاحبه مثله من العيوب السبعة والعيب الحادث بعد العقد وجهان
وذهب بعض أصحاب الشافعي إلى رد المرأة بكل عيب ترد به الجارية في البيع وأكثرهم لا يعرف هذا الوجه ولا مظنته ولا من قاله وممن حكاه : أبو عاصم العباداني في كتاب طبقات أصحاب الشافعي وهذا القول هو القياس أو قول ابن حزم ومن وافقه
وأما الإقتصار على عيبين أو ستة أو سبعة أو ثمانية دون ما هو أولى منها أو مساو لها فلا وجه له فالعمى والخرس والطرش وكونها مقطوعة اليدين أو الرجلين أو إحداهما أو كون الرجل كذلك من أعظم المنفرات والسكوت عنه من أقبح التدليس والغش وهو مناف للدين والإطلاق إنما ينصرف إلى السلامة فهو كالمشروط عرفا وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لمن تزوج امرأة وهو لا يولد له : أخبرها أنك عقيم وخيرها فماذا يقول رضي الله عنه في العيوب التي هذا عندها كمال لا نقص ؟ !
والقياس : أن كل عيب ينفر الزوج الآخر منه ولا يحصل به مقصود النكاح من الرحمة والمودة يوجب الخيار وهو أولى من البيع كما أن الشروط المشترطة في النكاح أولى بالوفاء من شروط البيع وما ألزم الله ورسوله مغرورا قط ولا مغبونا بما غر به وغبن به ومن تدبر مقاصد الشرع في مصادره وموارده وعدله وحكمته وما اشتمل عليه من المصالح لم يخف عليه رجحان هذا القول وقربه من قواعد الشريعة
وقد روى يحيى بن سعيد الأنصاري عن ابن المسيب قال : قال عمر : أيما امرأة زوجت وبها جنون أو جذام أو برص فدخل بها ثم اطلع على ذلك فلها مهرها بمسيسه إياها وعلى الولي الصداق بما دلس كما غره
ورد هذا بأن ابن المسيب لم يسمع من عمر من باب الهذيان البارد المخالف لإجماع أهل الحديث قاطبة قال الإمام أحمد : إذا لم يقبل سعيد بن المسيب عن عمر فمن يقبل وأئمة الإسلام وجمهورهم يحتجون بقول سعيد بن المسيب : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : فكيف بروايته عن عمر رضي الله عنه وكان عبد الله بن عمر يرسل إلى سعيد يسأله عن قضايا عمر فيفتي بها ولم يطعن أحد قط من أهل عصره ولا من بعدهم ممن له في الإسلام قول معتبر في رواية سعيد بن المسيب عن عمر ولا عبرة بغيرهم
وروى الشعبي عن علي : أيما امرأة نكحت وبها برص أو جنون أو جذام أو قرن فزوجها بالخيار ما لم يمسها إن شاء أمسك وإن شاء طلق وإن مسها فلها المهر بما استحل من فرجها
وقال وكيع : عن سفيان الثوري عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب عن عمر قال : إذا تزوجها برصاء أو عمياء فدخل بها فلها الصداق ويرجع به على من غره وهذا يدل على أن عمر لم يذكر تلك العيوب المتقدمة على وجه الإختصاص والحصر دون ما عداها وكذلك حكم قاضي الإسلام حقا الذي يضرب المثل بعلمه ودينه وحكمه : شريح قال عبد الرزاق : عن معمر عن أيوب عن ابن سيرين خاصم رجل إلى شريح فقال : إن هؤلاء قالوا لي : إنا نزوجك بأحسن الناس فجاؤوني بامرأة عمشاء فقال شريح : إن كان دلس لك بعيب لم يجز فتأمل هذا القضاء وقوله : إن كان دلس لك بعيب كيف يقتضي أن كل عيب دلست به المرأة فللزوج الرد به ؟ وقال الزهري يرد النكاح من كل داء عضال
ومن تأمل فتاوى الصحابة والسلف علم أنهم لم يخصوا الرد بعيب دون عيب إلا رواية رويت عن عمر رضي الله عنه : لا ترد النساء إلا من العيوب الأربعة : الجنون والجذام والبرص والداء في الفرج وهذه الرواية لا نعلم لها إسنادا أكثر من أصبغ عن ابن وهب عن عمر وعلي روي عن ابن عباس ذلك بإسناد متصل ذكره سفيان عن عمرو بن دينار عنه هذا كله إذا أطلق الزوج وأما إذا اشترط السلامة أو شرط الجمال فبانت شوهاء أو شرطها شابة حديثة السن فبانت عجوزا شمطاء أو شرطها بيضاء فبانت سوداء أو بكرا فبانت ثيبا فله الفسخ في ذلك كله
فإن كان قبل الدخول فلا مهر لها وإن كان بعده فلها المهر وهو غرم على وليها إن كان غره وإن كانت هي الغارة سقط مهرها أو رجع عليها به إن كانت قبضته ونص على هذا أحمد في إحدى الروايتين عنه وهو أقيسهما وأولاهما بأصوله فيما إذا كان الزوج هو المشترط
وقال أصحابه : إذا شرطت فيه صفة فبان بخلافها فلا خيار لها إلا في شرط الحرية إذا بان عبدا فلها الخيار وفي شرط النسب إذا بان بخلافه وجهان والذي يقتضيه مذهبه وقواعده أنه لا فرق بين اشتراطه واشتراطها بل إثبات الخيار لها إذا فات ما اشترطته أولى لأنها لا تتمكن من المفارقة بالطلاق فإذا جاز له الفسخ مع تمكنه من الفراق بغيره فلأن يجوز لها الفسخ مع عدم تمكنها أولى وإذا جاز لها الفسخ إذا ظهر الزوج ذا صناعة دنيئة لا تشينه في دينه ولا في عرضه وإنما تمنع كمال لذتها واستمتاعها به فإذا شرطته شابا جميلا صحيحا فبان شيخا مشوها أعمى أطرش أخرس أسود فكيف تلزم به وتمنع من الفسخ ؟ وهذا في غاية الإمتناع والتناقض والبعد عن القياس وقواعد الشرع وبالله التوفيق
وكيف يمكن أحد الزوجين من الفسخ بقدر العدسة من البرص ولا يمكن منه بالجرب المستحكم المتمكن وهو أشد إعداء من ذلك البرص اليسير وكذلك غيره من أنواع الداء العضال ؟
وإذا كان النبي صلى الله عليه و سلم حرم على البائع كتمان عيب سلعته وحرم على من علمه أن يكتمه من المشتري فكيف بالعيوب في النكاح وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم لفاطمة بنت قيس حين استشارته في نكاح معاوية أو أبي الجهم : [ أما معاوية فصعلوك لا مال له وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه ] فعلم أن بيان العيب في النكاح أولى وأوجب فكيف يكون كتمانه وتدليسه والغش الحرام به سببا للزومه وجعل ذا العيب غلا لازما في عنق صاحبه مع شدة نفرته عنه ولا سيما مع شرط السلامة منه وشرط خلافه وهذا مما يعلم يقينا أن تصرفات الشريعة وقواعدها وأحكامها تأباه والله أعلم
وقد ذهب أبو محمد ابن حزم إلى أن الزوج إذا شرط السلامة من العيوب فوجد أي عيب كان فالنكاح باطل من أصله غير منعقد ولا خيار له فيه ولا إجازة ولا نفقة ولا ميراث قال : لأن التي أدخلت عليه غير التي تزوج إذ السالمة غير المعيبة بلا شك فإذا لم يتزوجها فلا زوجية بينهما (5/163)
فصل
في حكم النبي صلى الله عليه و سلم في خدمة المرأة لزوجها
قال ابن حبيب في الواضحة : حكم النبي صلى الله عليه و سلم بين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وبين زوجته فاطمة رضي الله عنها حين اشتكيا إليه الخدمة فحكم على فاطمة بالخدمة الباطنة خدمة البيت وحكم على علي بالخدمة الظاهرة ثم قال ابن حبيب : والخدمة الباطنة : العجين والطبخ والفرش وكنس البيت واستقاء الماء وعمل البيت كله
وفي الصحيحين : [ أن فاطمة رضي الله عنها أتت النبي صلى الله عليه و سلم تشكو إليه ما تلقى في يديها من الرحى وتسأله خادما فلم تجده فذكرت ذلك لعائشة رضي الله عنها فلما جاء رسول الله صلى الله عليه و سلم أخبرته قال علي : فجاءنا وقد أخذنا مضاجعنا فذهبنا نقوم فقال : مكانكما فجاء فقعد بيننا حتى وجدت برد قدميه على بطني فقال : ألا أدلكما على ما هو خير لكما مما سألتما إذا أخذتما مضاجعكما فسبحا الله ثلاثا وثلاثين واحمدا ثلاثا وثلاثين وكبرا أربعا وثلاثين فهو خير لكما من خادم قال علي : فما تركتها بعد قيل : ولا ليلة صفين ؟ قال : ولا ليلة صفين ]
وصح عن أسماء أنها قالت : كانت أخدم الزبير خدمة البيت كله وكان له فرس وكنت أسوسه وكنت أحتش له وأقوم عليه
وصح عنها أنها كانت تعلف فرسه وتسقي الماء وتخرز الدلو وتعجن وتنقل النوى على رأسها من أرض له على ثلثي فرسخ
فاختلف الفقهاء في ذلك فأوجب طائفة من السلف والخلف خدمتها له في مصالح البيت وقال أبو ثور : عليها أن تخدم زوجها في كل شئ ومنعت طائفة وجوب خدمته عليها في شئ وممن ذهب إلى ذلك مالك والشافعي وأبو حنيفة وأهل الظاهر قالوا : لأن عقد النكاح إنما اقتضى الإستمتاع لا الإستخدام وبذل المنافع قالوا : والأحاديث المذكورة إنما تدل على التطوع ومكارم الأخلاق فأين الوجوب منها ؟
واحتج من أوجب الخدمة بأن هذا هو المعروف عند من خاطبهم الله سبحانه بكلامه وأما ترفيه المرأة وخدمة الزوج وكنسه وطحنه وعجنه وغسيله وفرشه وقيامه بخدمة البيت فمن المنكر والله تعالى يقول : { ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف } [ البقرة : 228 ] وقال : { الرجال قوامون على النساء } [ النساء : 34 ] وإذا لم تخدمه المرأة بل يكون هو الخادم لها فهي
القوامة عليه
وأيضا : فإن المهر في مقابلة البضع وكل من الزوجين يقضي وطره من صاحبه فإنما أوجب الله سبحانه نفقتها وكسوتها ومسكنها في مقابلة استمتاعه بها وخدمتها وما جرت به عادة الأزواج
وأيضا فإن العقود المطلقة إنما تنزل على العرف والعرف خدمة المرأة وقيامها بمصالح البيت الداخلة وقولهم : إن خدمة فاطمة وأسماء كانت تبرعا وإحسانا يرده أن فاطمة كانت تشتكي ما تلقى من الخدمة فلم يقل لعلي : لا خدمة عليها وإنما هي عليك وهو صلى الله عليه و سلم لا يحابي في الحكم أحدا ولما رأى أسماء والعلف على رأسها والزبير معه لم يقل له : لا خدمة عليها وأن هذا ظلم لها بل أقره على استخدامها وأقر سائر أصحابه على استخدام أزواجهم مع علمه بأن منهن الكارهة والراضية هذا أمر لا ريب فيه
ولا يصح التفريق بين شريفة ودنيئة وفقيرة وغنية فهذه أشرف نساء العالمين كانت تخدم زوجها وجاءته صلى الله عليه و سلم تشكو إليه الخدمة فلم يشكها وقد سمى النبي صلى الله عليه و سلم في الحديث الصحيح المرأة عانية فقال : [ اتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم ] والعاني : الأسير ومرتبة الأسير خدمة من هو تحت يده ولا ريب أن النكاح نوع من الرق كما قال بعض السلف : النكاح رق فلينظر أحدكم عند من يرق كريمته ولا يخفى على المنصف الراجح من المذهبين والأقوى من الدليلين (5/169)
حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم بين الزوجين يقع الشقاق بينهما
روى أبو داود في سننه : من حديث عائشة رضي الله عنها [ أن حبيبة بنت سهل كانت عند ثابت بن قيس بن شماس فضربها فكسر بعضها فأتت النبي صلى الله عليه و سلم بعد الصبح فدعا النبي صلى الله عليه و سلم ثابتا فقال : خذ بعض مالها وفارقها فقال : ويصلح ذلك يا رسول الله ؟ قال : نعم قال : فإني أصدقتها حديقتين وهما بيدها فقال النبي صلى الله عليه و سلم : خذهما وفارقها ففعل ]
وقد حكم الله تعالى بين الزوجين يقع الشقاق بينهما بقوله تعالى : { وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا } [ النساء : 35 ]
وقد اختلف السلف والخلف في الحكمين : هل هما حاكمان أو وكيلان ؟ على قولين
أحدهما : أنهما وكيلان وهو قول أبي حنيفة والشافعي في قول وأحمد في رواية
والثاني : أنهما حاكمان وهذا قول أهل المدينة ومالك وأحمد في الرواية الأخرى والشافعي في القول الآخر وهذا هو الصحيح
والعجب كل العجب ممن يقول : هما وكيلان لا حاكمان والله تعالى قد نصبهما حكمين وجعل نصبهما إلى غير الزوجين ولو كانا وكيلين لقال : فليبعث وكيلا من أهله ولتبعث وكيلا من أهلها
وأيضا فلو كانا وكيلين لم يختصا بأن يكونا من الأهل
وأيضا فإنه جعل الحكم إليهما فقال : { إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما } والوكيلان لا إرادة لهما إنما يتصرفان بإرادة موكليهما
وأيضا فإن الوكيل لا يسمى حكما في لغة القرآن ولا في لسان الشارع ولا في العرف العام ولا الخاص
وأيضا فالحكم من له ولاية الحكم والإلزام وليس للوكيل شئ من ذلك
وأيضا فإن الحكم أبلغ من حاكم لأنه صفة مشبهة باسم الفاعل دالة على الثبوت ولا خلاف بين أهل العربية في ذلك فإذا كان اسم الحاكم لا يصدق على الوكيل المحض فكيف بما هو أبلغ منه
وأيضا فإنه سبحانه خاطب بذلك غير الزوجين وكيف يصح أن يوكل عن الرجل والمرأة غيرهما وهذا يحوج إلى تقدير الآية هكذا : { وإن خفتم شقاق بينهما } فمروهما أن يوكلا وكيلين : وكيلا من أهله ووكيلا من أهلها ومعلوم بعد لفظ الآية ومعناها عن هذا التقدير وأنها لا تدل عليه بوجه بل هي دالة على خلافه وهذا بحمد الله واضح
وبعث عثمان بن عفان عبد الله بن عباس ومعاوية حكمين بين عقيل بن أبي طالب وامرأته فاطمة بنت عتبة بن ربيعة فقيل لهما : إن رأيتما أن تفرقا فرقتما
وصح عن علي بن أبي طالب أنه قال للحكمين بين الزوجين عليكما إن رأيتما أن تفرقا فرقتما وإن رأيتما أن تجمعا جمعتما
فهذا عثمان وعلي وابن عباس ومعاوية جعلوا الحكم إلى الحكمين ولا يعرف لهم من الصحابة مخالف وإنما يعرف الخلاف بين التابعين فمن بعدهم والله أعلم
وإذا قلنا : إنهما وكيلان فهل يجبر الزوجان على توكيل الزوج في الفرقة بعوض وغيره وتوكيل الزوجة في بذل العوض أو لا يجبران ؟ على روايتين فإن قلنا : يجبران فلم يوكلا جعل الحاكم ذلك إلى الحكمين بغير رضى الزوجين وإن قلنا : إنهما حكمان لم يحتج إلى رضى الزوجين
وعلى هذا النزاع ينبني ما لو غاب الزوجان أو أحدهما فإن قيل : إنهما وكيلان لم ينقطع نظر الحكمين وإن قيل : حكمان انقطع نظرهما لعدم الحكم على الغائب وقيل : يبقى نظرهما على القولين لأنهما يتطرفان لحظهما فهما كالناظرين وإن جن الزوجان انقطع نظر الحكمين إن قيل : إنهما وكيلان لأنهما فرع الموكلين ولم ينقطع إن قيل : إنهما حكمان لأن الحاكم يلي على المجنون وقيل : ينقطع أيضا لأنهما منصوبان عنهما فكأنهما وكيلان ولا ريب أنهما حكمان فيهما شائبة الوكالة ووكيلان منصوبان للحكم فمن العلماء من رجح جانب الحكم ومنهم من رجح جانب الوكالة ومنهم من اعتبر الأمرين (5/172)
حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم في الخلع
في صحيح البخاري : عن ابن عباس رضي الله عنه [ أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس أتت النبي صلى الله عليه و سلم فقالت : يا رسول الله ! ثابت بن قيس ما أعيب عليه في خلق ولا دين ولكني أكره الكفر في الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : تردين عليه حديقته ؟ قالت : نعم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : اقبل الحديقة وطلقها تطليقة ]
وفي سنن النسائي عن الربيع بنت معوذ [ أن ثابت بن قيس بن شماس ضرب امرأته فكسر يدها وهي جميلة بنت عبد الله بن أبي فأتى أخوها يشتكيه إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأرسل إليه فقال : خذ الذي لها عليك وخل سبيلها قال : نعم فأمرها رسول الله صلى الله عليه و سلم أن تتربص حيضة واحدة وتلحق بأهلها ]
وفي سنن أبي داود : عن ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس اختلعت من زوجها فأمرها النبي صلى الله عليه و سلم أن تعتد حيضة
وفي سنن الدارقطني في هذه القصة : فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ أتردين عليه حديقته التي أعطاك ؟ قالت : نعم وزيادة فقال النبي صلى الله عليه و سلم : أما الزيادة فلا ولكن حديقته قالت : نعم فأخذ ماله وخلى سبيلها فلما بلغ ذلك ثابت بن قيس قال : قد قبلت قضاء رسول الله صلى الله عليه و سلم ] قال الدارقطني : إسناده صحيح
فتضمن هذا الحكم النبوي عدة أحكام :
أحدها : جواز الخلع كما دل عليه القرآن قال تعالى : { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به } [ البقرة : 229 ] ومنع الخلع طائفة شاذة من الناس خالفت النص والإجماع
وفي الآية دليل على جوازه مطلقا بإذن السلطان وغيره ومنعه طائفة بدون إذنه والأئمة الأربعة والجمهور على خلافه
وفي الآية دليل على حصول البينونة به لأنه سبحانه سماه فدية ولو كان رجعيا كما قاله بعض الناس لم يحصل للمرأة الإفتداء من الزوج بما بذلته له ودل قوله سبحانه : { فلا جناح عليهما فيما افتدت به } على جوازه بما قل وكثر وأن له أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها
وقد ذكر عبد الرزاق عن معمر عن عبد الله بن محمد بن عقيل أن الربيع بنت معوذ بن عفراء حدثته أنها اختلعت من زوجها بكل شئ تملكه فخوصم في ذلك إلى عثمان بن عفان فأجازه وأمره أن يأخذ عقاص رأسها فما دونه
وذكر أيضا عن ابن جريج عن موسى بن عقبة عن نافع أن ابن عمر جاءته مولاة لامرأته اختلعت من كل شئ لها وكل ثوب لها حتى نقبتها
ورفعت إلى عمر بن الخطاب امرأة نشزت عن زوجها فقال : اخلعها ولو من قرطها ذكره حماد بن سلمة عن أيوب عن كثير بن أبي كثير عنه
وذكر عبد الرزاق عن معمر عن ليث عن الحكم بن عتيبة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : لا يأخذ منها فوق ما أعطاها
وقال طاووس : لا يحل أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها وقال عطاء : إن أخذ زيادة على صداقها فالزيادة مردودة إليها وقال الزهري : لا يحل له أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها وقال ميمون بن مهران : إن أخذ منها أكثر مما أعطاها لم يسرح بإحسان وقال الأوزاعي : كانت القضاة لا تجيز أن يأخذ منها شيئا إلا ما ساق إليها
والذين جوزوه احتجوا بظاهر القرآن واثار الصحابة والذين منعوه احتجوا بحديث أبي الزبير أن ثابت بن قيس بن شماس لما أراد خلع امرأته قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ أتردين عليه حديقته ؟ قالت : نعم وزيادة فقال النبي صلى الله عليه و سلم : أما الزيادة فلا ] قال الدارقطني : سمعه أبو الزبير من غير واحد وإسناده صحيح
قالوا : والآثار من الصحابة مختلفة فمنهم من روي عنه تحريم الزيادة ومنهم من روي عنه إباحتها ومنهم من روي عنه كراهتها كما روى وكيع عن أبي حنيفة عن عمار بن عمران الهمداني عن أبيه عن علي رضي الله عنه أنه كره أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها والإمام أحمد أخذ بهذا القول ونص على الكراهة وأبو بكر من أصحابه حرم الزيادة وقال : ترد عليها
وقد ذكر عبد الرزاق عن ابن جريج قال : قال لي عطاء : [ أتت امرأة رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت : يا رسول الله ! إني أبغض زوجي وأحب فراقه قال : فتردين عليه حديقتة التي أصدقك ؟ قالت : نعم وزيادة من مالي فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أما الزيادة من مالك فلا ولكن الحديقة قالت : نعم فقضى بذلك على الزوج ] وهذا وإن كان مرسلا فحديث أبي الزبير مقو له وقد رواه ابن جريج عنهما (5/174)
فصل
وفي تسميته سبحانه الخلع فدية دليل على أن فيه معنى المعاوضة ولهذا اعتبر فيه رضى الزوجين فإذا تقايلا الخلع ورد عليها ما أخذ منها وارتجعها في العدة فهل لهما ذلك ؟ منعه الأئمة الأربعة وغيرهم وقالوا : قد بانت منه بنفس الخلع وذكر عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن سعيد بن المسيب أنه قال في المختلعة : إن شاء أن يراجعها فليرد عليها ما أخذ منها في العدة وليشهد على رجعتها قال معمر : وكان الزهري يقول مثل ذلك قال قتادة : وكان الحسن يقول : لا يراجعها إلا بخطبة
ولقول سعيد بن المسيب والزهري وجه دقيق من الفقه لطيف المأخذ تتلقاه قواعد الفقه وأصوله بالقبول ولا نكارة فيه غير أن العمل على خلافه فإن المرأة ما دامت في العدة فهي في حبسه ويلحقها صريح طلاقه المنجز عند طائفة من العلماء فإذا تقايلا عقد الخلع وتراجعا إلى ما كانا عليه بتراضيهما لم تمنع قواعد الشرع ذلك وهذا بخلاف ما بعد العدة فإنها قد صارت منه أجنبية محضة فهو خاطب من الخطاب ويدل على هذا أن له أن يتزوجها في عدتها منه بخلاف غيره (5/178)
فصل
وفي أمره صلى الله عليه و سلم المختلعة أن تعتد بحيضة واحدة دليل على حكمين أحدهما : أنه لا يجب عليها ثلاث حيض بل تكفيها حيضة واحدة وهذا كما أنه صريح السنة فهو مذهب أمير المؤمنين عثمان بن عفان وعبد الله بن عمر بن الخطاب والربيع بنت معوذ وعمها وهو من كبار الصحابة لا يعرف لهم مخالف منهم كما رواه الليث بن سعد عن نافع مولى ابن عمر أنه سمع الربيع بنت معوذ بن عفراء وهي تخبر عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنها اختلعت من زوجها على عهد عثمان بن عفان فجاء عمها إلى عثمان بن عفان فقال له : إن ابنة معوذ اختلعت من زوجها اليوم أفتنتقل ؟ فقال عثمان : لتنتقل ولا ميراث بينهما ولا عدة عليها إلا أنها لا تنكح حتى تحيض حيضة خشية أن يكون بها حبل فقال عبد الله بن عمر : فعثمان خيرنا وأعلمنا وذهب إلى هذا المذهب إسحاق بن راهويه والإمام أحمد في رواية عنه اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية
قال من نصر هذا القول : هو مقتضى قواعد الشريعة فإن العدة إنما جعلت ثلاث حيض ليطول زمن الرجعة فيتروى الزوج ويتمكن من الرجعة في مدة العدة فإذا لم تكن عليها رجعة فالمقصود مجرد براءة رحمها من الحمل وذلك يكفي فيه حيضة كالإستبراء قالوا : ولا ينتقض هذا علينا بالمطلقة ثلاثا فإن باب الطلاق جعل حكم العدة فيه واحدا بائنة ورجعية
قالوا : وهذا دليل على أن الخلع فسخ وليس بطلاق وهو مذهب ابن عباس وعثمان وابن عمر والربيع وعمها ولا يصح عن صحابي أنه طلاق البتة فروى الإمام أحمد عن يحى بن سعيد عن سفيان عن عمرو عن طاووس عن ابن عباس رضي الله عنهم أنه قال : الخلع تفريق وليس بطلاق
وذكر عبد الرزاق عن سفيان عن عمرو عن طاووس أن إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص سأله عن رجل طلق امرأته تطليقتين ثم اختلعت منه أينكحها ؟ قال ابن عباس : نعم ذكر الله الطلاق في أول الآية وآخرها والخلع بين ذلك
فإن قيل : كيف تقولون : إنه لا مخالف لمن ذكرتم من الصحابة وقد روى حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه عن جمهان أن أم بكرة الأسلمية كانت تحت عبد الله بن أسيد واختلعت منه فندما فارتفعا إلى عثمان بن عفان فأجاز ذلك وقال : هي واحدة إلا أن تكون سمت شيئا فهو على ما سمت
وذكر ابن أبي شيبة : حدثنا علي بن هاشم عن ابن أبي ليلى عن طلحة بن مصرف عن إبراهيم النخعي عن علقمة عن ابن مسعود قال : لا تكون تطليقة بائنة إلا في فدية أو إيلاء وروي عن علي بن أبي طالب فهؤلاء ثلاثة من أجلاء الصحابة رضي الله عنهم
قيل : لا يصح هذا عن واحد منهم أما أثر عثمان رضي الله عنه فطعن فيه الإمام أحمد والبيهقي وغيرهما قال شيخنا : وكيف يصح عن عثمان وهو لا يرى فيه عدة وإنما يرى الإستبراء فيه بحيضة ؟ فلو كان عنده طلاقا لأوجب فيه العدة وجمهان الراوي لهذه القصة عن عثمان لا نعرفه بأكثر من أنه مولى الأسلميين
وأما أثر علي بن أبي طالب فقال أبو محمد بن حزم : رويناه من طريق لا يصح عن علي رضي الله عنه وأمثلها : أثر ابن مسعود على سوء حفظ ابن أبي ليلى ثم غايته إن كان محفوظا أن يدل على أن الطلقة في الخلع تقع بائنة لا أن الخلع يكون طلاقا بائنا وبين الأمرين فرق ظاهر والذي يدل على أنه ليس بطلاق أن الله سبحانه وتعالى رتب على الطلاق بعد الدخول الذي لم يستوف عدده ثلاثة أحكام كلها منتفية عن الخلع أحدها : أن الزوج أحق بالرجعة فيه الثاني : أنه محسوب من الثلاث فلا تحل بعد استيفاء العدد إلا بعد زوج وإصابة الثالث : أن العدة فيه ثلاثة قروء وقد ثبت بالنص والإجماع أنه لا رجعة في الخلع وثبت بالسنة وأقوال الصحابة أن العدة فيه حيضة واحدة وثبت بالنص جوازه بعد طلقتين ووقوع ثالثة بعده وهذا ظاهر جدا في كونه ليس بطلاق فإنه سبحانه قال : { الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به } [ البقرة : 229 ] وهذا وإن لم يختص بالمطلقة تطليقتين فإنه يتناولها وغيرهما ولا يجوز أن يعود الضمير إلى من لم يذكر ويخلى منه المذكور بل إما أن يختص بالسابق أو يتناوله وغيره ثم قال : { فإن طلقها فلا تحل له من بعد } وهذا يتناول من طلقت بعد فدية وطلقتين قطعا لأنها هي المذكورة فلا بد من دخولها تحت اللفظ وهكذا فهم ترجمان القرآن الذي دعا له رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يعلمه الله تأويل القرآن وهي دعوة مستجابة بلا شك
وإذا كانت أحكام الفدية غير أحكام الطلاق دل على أنها من غير جنسه فهذا مقتضى النص والقياس وأقوال الصحابة ثم من نظر إلى حقائق العقود ومقاصدها دون ألفاظها يعد الخلع فسخا بأي لفظ كان حتى بلفظ الطلاق وهذا أحد الوجهين لأصحاب أحمد وهو اختيار شيخنا قال : وهذا ظاهر كلام أحمد وكلام ابن عباس وأصحابه قال ابن جريج : أخبرني عمرو بن دينار أنه سمع عكرمة مولى ابن عباس يقول : ما أجازه المال فليس بطلاق قال عبد الله بن أحمد : رأيت أبي كان يذهب إلى قول ابن عباس وقال عمرو عن طاووس عن ابن عباس : الخلع تفريق وليس بطلاق وقال ابن جريج عن ابن طاووس : كان أبي لا يرى الفداء طلاقا ويخيره
ومن اعتبر الألفاظ ووقف معها واعتبرها في أحكام العقود جعله بلفظ الطلاق طلاقا وقواعد الفقه وأصوله تشهد أن المرعي في العقود حقائقها ومعانيها لا صورها وألفاظها وبالله التوفيق
ومما يدل على هذا أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر ثابت بن قيس أن يطلق امرأته في الخلع تطليقة ومع هذا أمرها أن تعتد بحيضة وهذا صريح في أنه فسخ ولو وقع بلفظ الطلاق
وأيضا فإنه سبحانه علق عليه أحكام الفدية بكونه فدية ومعلوم أن الفدية لا تختص بلفظ ولم يعين الله سبحانه لها لفظا معينا وطلاق النداء طلاق مقيد ولا يدخل تحت أحكام الطلاق المطلق كما لا يدخل تحتها في ثبوت الرجعة والإعتداد بثلاثة قروء بالسنة الثابتة وبالله التوفيق (5/179)
ذكر أحكام رسول الله صلى الله عليه و سلم في الطلاق
ذكر حكمه صلى الله عليه و سلم في طلاق الهازل وزائل العقل والمكره والتطليق في نفسه
في السنن : من حديث أبي هريرة رضي الله عنه [ ثلاث جدهن جد وهزلهن جد : النكاح والطلاق والرجعة ]
وفيها : عنه من حديث ابن عباس : [ إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ]
وفيها : عنه صلى الله عليه و سلم [ لا طلاق ولا عتاق في إغلاق ]
وصح عنه أنه قال للمقر بالزنى : [ أبك جنون ] ؟
وثبت عنه أنه أمر به أن يستنكه
وذكر البخاري في صحيحه : عن علي أنه قال لعمر : ألم تعلم أن القلم رفع عن ثلاث : عن المجنون حتى يفيق وعن الصبي حتى يدرك وعن النائم حتى يستيقظ
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه و سلم [ إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تكلم أو تعمل به ]
فتضمنت هذه السنن أن ما لم ينطق به اللسان من طلاق أو عتاق أو يمين أو نذر ونحو ذلك عفو غير لازم بالنية والقصد وهذا قول الجمهور وفي المسألة قولان آخران
أحدهما : التوقف فيها قال عبد الرزاق عن معمر : سئل ابن سيرين عمن طلق في نفسه فقال : أليس قد علم الله ما في نفسك ؟ قال : بلى قال : فلا أقول فيها شيئا
والثاني : وقوعه إذا جزم عليه وهذا رواية أشهب عن مالك وروي عن الزهري وحجة هذا القول قوله صلى الله عليه و سلم : [ إنما الأعمال بالنيات ] وأن من كفر في نفسه فهو كفر وقوله تعالى : { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله } [ البقرة : 248 ] وأن المصر على المعصية فاسق مؤاخذ وإن لم يفعلها وبأن أعمال القلوب في الثواب والعقاب كأعمال الجوارح ولهذا يثاب على الحب والبغض والموالاة والمعاداة في الله وعلى التوكل والرضى والعزم على الطاعة ويعاقب على الكبر والحسد والعجب والشك والرياء وظن السوء بالأبرياء
ولا حجة في شئ من هذا على وقوع الطلاق والعتاق بمجرد النية من غير تلفظ أما حديث الأعمال بالنيات : فهو حجة عليهم لأنه أخبر فيه أن العمل مع النية هو المعتبر لا النية وحدها وأما من اعتقد الكفر بقلبه أو شك فهو كافر لزوال الإيمان الذي هو عقد القلب مع الإقرار فإذا زال العقد الجازم كان نفس زواله كفرا فإن الإيمان أمر وجودي ثابت قائم بالقلب فما لم يقم بالقلب حصل ضده وهو الكفر وهذا كالعلم والجهل إذا فقد العلم حصل الجهل وكذلك كل نقيضين زال أحدهما خلفه الاخر
وأما الآية فليس فيها أن المحاسبة بما يخفيه العبد إلزامه بأحكامه بالشرع وإنما فيها محاسبته بما يبديه أو يخفيه ثم هو مغفور له أو معذب فأين هذا من وقوع الطلاق بالنية وأما أن المصر على المعصية فاسق مؤاخذ فهذا إنما هو فيمن عمل المعصية ثم أصر عليها فهنا عمل اتصل به العزم على معاودته فهذا هو المصر وأما من عزم على المعصية ولم يعملها فهو بين أمرين إما أن لا تكتب عليه وإما أن تكتب له حسنة إذا تركها لله عز و جل وإما الثواب والعقاب على أعمال القلوب فحق والقرآن والسنة مملوآن به ولكن وقوع الطلاق والعتاق بالنية من غير تلفظ أمر خارج عن الثواب والعقاب ولا تلازم بين الأمرين فإن ما يعاقب عليه من أعمال القلوب هو معاص قلبية يستحق العقوبة عليها كما يستحقه على المعاصي البدنية إذ هي منافية لعبودية القلب فإن الكبر والعجب والرياء وظن السوء محرمات على القلب وهي أمور اختيارية يمكن اجتنابها فيستحق العقوبة على فعلها وهي أسماء لمعان مسمياتها قائمة بالقلب
وأما العتاق والطلاق فاسمان لمسميين قائمين باللسان أو ما ناب عنه من إشارة أو كتابة وليسا اسمين لما في القلب مجردا عن النطق
وتضمنت أن المكلف إذا هزل بالطلاق أو النكاح أو الرجعة لزمه ما هزل به فدل ذلك على أن كلام الهازل معتبر وإن لم يعتبر كلام النائم والناسي وزائل العقل والمكره والفرق بينهما أن الهازل قاصد للفظ غير مريد لحكمه وذلك ليس إليه فإنما إلى المكلف الأسباب وأما ترتب مسبباتها وأحكامها فهو إلى الشارع قصده المكلف أو لم يقصده والعبرة بقصده السبب اختيارا في حال عقله وتكليفه فإذا قصده رتب الشارع عليه حكمه جد به أو هزل وهذا بخلاف النائم والمبرسم والمجنون والسكران وزائل العقل فإنهم ليس لهم قصد صحيح وليسوا مكلفين فألفاظهم لغو بمنزلة ألفاظ الطفل الذي لا يعقل معناها ولا يقصده
وسر المسألة الفرق بين من قصد اللفظ وهو عالم به ولم يرد حكمه وبين من لم يقصد اللفظ ولم يعلم معناه فالمراتب التي اعتبرها الشارع أربعة
إحداها : أن لا يقصد الحكم ولا يتلفط به
الثانية : أن لا يقصد اللفظ ولا حكمه
الثالثة : أن يقصد اللفظ دون حكمه
الرابعة : أن يقصد اللفظ والحكم فالأوليان لغو والآخرتان معتبرتان هذا الذي استفيد من مجموع نصوصه وأحكامه وعلى هذا فكلام المكره كله لغو لا عبرة به وقد دل القرآن على أن من أكره على التكلم بكلمة الكفر لا يكفر ومن أكره على الإسلام لا يصير به مسلما ودلت السنة على أن الله سبحانه تجاوز عن المكره فلم يؤاخذه بما أكره عليه وهذا يراد به كلامه قطعا وأما أفعاله ففيها تفصيل فما أبيح منها بالإكراه فهو متجاوز عنه كالأكل في نهار رمضان والعمل في الصلاة ولبس المخيط في الإحرام ونحو ذلك وما لا يباح بالإكراه فهو مؤاخذ به كقتل المعصوم وإتلاف ماله وما اختلف فيه كشرب الخمر والزنى والسرقة هل يحد به أو لا ؟ فالإختلاف هل يباح ذلك بالإكراه أو لا ؟ فمن لم يبحه حده به ومن أباحه بالإكراه لم يحده وفيه قولان للعلماء وهما روايتان عن الإمام أحمد
والفرق بين الأقوال والأفعال في الإكراه أن الأفعال إذا وقعت لم ترتفع مفسدتها بل مفسدتها معها بخلاف الأقوال فإنها يمكن إلغاؤها وجعلها بمنزلة أقوال النائم والمجنون فمفسدة الفعل الذي لا يباح بالإكراه ثابتة بخلاف مفسدة القول فإنها إنما تثبت إذا كان قائله عالما به مختارا له وقد روى وكيع عن ابن أبي ليلى عن الحكم بن عتيبة عن خيثمة بن عبد الرحمن قال : قالت امرأة لزوجها : سمني فسماها الظبية فقال : ما قلت شيئا قال : فهات ما أسميك به قالت : سمنى خلية طالقا قال : أنت خلية طالق فأتت عمر بن الخطاب فقالت : إن زوجي طلقني فجاء زوجها فقص عليه القصة فأوجع عمر رأسها وقال لزوجها : خذ بيدها وأوجع رأسها
فهذا الحكم من أمير المؤمنين بعدم الوقوع لما لم يقصد الزوج اللفظ الذي يقع به الطلاق بل قصد لفظا لا يريد به الطلاق فهو كما لو قال لأمته أو غلامه : إنها حرة وأراد أنها ليست بفاجرة أو قال لامرأته : أنت مسرحة أو سرحتك ومراده تسريح الشعر ونحو ذلك فهذا لا يقع عتقه ولا طلاقه بينه وبين الله تعالى وإن قامت قرينة أو تصادقا في الحكم لم يقع به
فإن قيل : فهذا من أي الأقسام ؟ فإنكم جعلتم المراتب أربعة ومعلوم أن هذا ليس بمكره ولا زائل العقل ولا هازل ولا قاصد لحكم اللفظ ؟ قيل : هذا متكلم باللفظ مريد به أحد معنييه فلزم حكم ما أراده بلفظه دون ما لم يرده فلا يلزم بما لم يرده باللفظ إذا كان صالحا لما أراده [ وقد استحلف النبي صلى الله عليه و سلم ركانة لما طلق امرأته البتة فقال : ما أردت ؟ قال : واحدة قال : آلله قال : آلله قال : هو ما أردت ] فقبل منه نيته في اللفظ المحتمل وقد قال مالك : إذا قال : أنت طالق البتة وهو يريد أن يحلف على شئ ثم بدا له فترك اليمين فليست طالقا لأنه لم يرد أن يطلقها وبهذا أفتى الليث بن سعد والإمام أحمد حتى إن أحمد في رواية عنه : يقبل منه ذلك في الحكم
وهذه المسألة لها ثلاث صور
إحداها : أن يرجع عن يمينه ولم يكن التنجيز مراده فهذه لا تطلق عليه في الحال ولا يكون حالفا
الثانية : أن يكون مقصوده اليمين لا التنجيز فيقول : أنت طالق ومقصوده : إن كلمت زيدا
الثالثة : أن يكون مقصوده اليمين من أول كلامه ثم يرجع عن اليمين في أثناء الكلام ويجعل الطلاق منجزا فهذا لا يقع به لأنه لم ينو به الإيقاع وإنما نوى به التعليق فكان قاصرا عن وقوع المنجز فإذا نوى التنجيز بعد ذلك لم يكن قد أتى في التنجيز بغير النية المجردة وهذا قول أصحاب أحمد وقد قال تعالى : { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم } [ البقرة : 225 ]
واللغو : نوعان أحدهما : أن يحلف على الشئ يظنه كما حلف عليه فيتبين بخلافه والثاني : أن تجري اليمين على لسانه من غير قصد للحلف كلا والله وبلى والله في أثناء كلامه وكلاهما رفع الله المؤاخذة به لعدم قصد الحالف إلى عقد اليمين وحقيقتها وهذا تشريع منه سبحانه لعباده ألا يرتبوا الأحكام على الألفاظ التي لم يقصد المتكلم بها حقائقها ومعانيها وهذا غير الهازل حقيقة وحكما
وقد أفتى الصحابة بعدم وقوع طلاق المكره وإقراره فصح عن عمر أنه قال : ليس الرجل بأمين على نفسه إذا أوجعته أو ضربته أو أوثقته وصح عنه أن رجلا تدلى بحبل ليشتار عسلا فأتت امرأته فقالت : لأقطعن الحبل أو لتطلقني فناشدها الله فأبت فطلقها فأتى عمر فذكر له ذلك فقال له : ارجع إلى امرأتك فإن هذا ليس بطلاق وكان علي لا يجيز طلاق المكره وقال ثابت الأعرج : سألت ابن عمر وابن الزبير عن طلاق المكره فقالا جميعا : ليس بشئ
فإن قيل : فما تصنعون بما رواه الغازي بن جبلة عن صفوان بن عمران الأصم عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم [ أن رجلا جلست امرأته على صدره وجعلت السكين على حلقه وقالت له : طلقني أو لأذبحنك فناشدها فأبت فطلقها ثلاثا فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم فقال : لا قيلولة في الطلاق ] رواه سعيد بن منصور في سننه وروى عطاء بن عجلان عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه والمغلوب على عقله ]
وروى سعيد بن منصور : حدثنا فرج بن فضالة حدثني عمرو بن شراحيل المعافري أن امرأة استلت سيفا فوضعته على بطن زوجها وقالت : والله لأنفذنك أو لتطلقني فطلقها ثلاثا فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب فأمضى طلاقها وقال علي كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه
قيل : أما خبر الغازي بن جبلة ففيه ثلاث علل إحداها : ضعف صفوان بن عمرو والثانية : لين الغازي بن جبلة والثالثة : تدليس بقية الراوي عنه ومثل هذا لا يحتج به قال أبو محمد بن حزم : وهذا خبر في غاية السقوط
وأما حديث ابن عباس : كل الطلاق جائز فهو من رواية عطاء بن عجلان وضعفه مشهور وقد رمي بالكذب قال أبو محمد بن حزم : وهذا الخبر شر من الأول
وأما أثر عمر فالصحيح عنه خلافه كما تقدم ولا يعلم معاصرة المعافري لعمر وفرج بن فضالة فيه ضعف
وأما أثر علي فالذي رواه عنه الناس أنه كان لا يجيز طلاق المكره وروى عبد الرحمن بن مهدي عن حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان لا يجيز طلاق المكره فإن صح عنه ما ذكرتم فهو عام مخصوص بهذا (5/182)
فصل
وأما طلاق السكران فقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون } [ النساء : 43 ] فجعل سبحانه قول السكران غير معتبر لأنه لا يعلم ما يقول وصح عنه صلى الله عليه و سلم أنه أمر بالمقر بالزنى أن يستنكه ليعتبر قوله الذي أقر به أو يلغى
وفي صحيح البخاري في قصة حمزة لما عقر بعيري علي فجاء النبي صلى الله عليه و سلم فوقف عليه يلومه فصعد فيه النظر وصوبه وهو سكران ثم قال : هل أنتم إلا عبيد لأبي فنكص النبي صلى الله عليه و سلم على عقبية وهذا القول لو قاله غير سكران لكان ردة وكفرا ولم يؤاخذ بذلك حمزة
وصح عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال : ليس لمجنون ولا سكران طلاق رواه ابن أبي شيبة عن وكيع عن ابن أبي ذئب عن الزهري عن أبان بن عثمان عن أبيه
وقال عطاء : طلاق السكران لا يجوز وقال ابن طاووس عن أبيه : طلاق السكران لا يجوز وقال القاسم بن محمد : لا يجوز طلاقه
وصح عن عمر بن عبد العزيز أنه أتي بسكران طلق فاستحلفه بالله الذي لا إله إلا هو : لقد طلقها وهو لا يعقل فحلف فرد إليه امرأته وضربه الحد
وهو مذهب يحيى بن سعيد الأنصاري وحميد بن عبد الرحمن وربيعة والليث بن سعد وعبد الله بن الحسن وإسحاق بن راهويه وأبي ثور والشافعي في أحد قوليه واختاره المزني وغيره من الشافعية ومذهب أحمد في إحدى الروايات عنه وهي التي استقر عليها مذهبه وصرح برجوعه إليها فقال في رواية أبي طالب : الذي لا يأمر بالطلاق إنما أتى خصلة واحدة والذي يأمر بالطلاق فقد أتى خصلتين حرمها عليه وأحلها لغيره فهذا خير من هذا وأنا أتقي جميعا وقال في رواية الميموني : قد كنت أقول : إن طلاق السكران يجوز حتى تبينته فغلب علي : أنه لا يجوز طلاقه لأنه لو أقر لم يلزمه ولو باع لم يجز بيعه قال : وألزمه الجناية وما كان من غير ذلك فلا يلزمه قال أبو بكر عبد العزيز : وبهذا أقول وهذا مذهب أهل الظاهر كلهم واختاره من الحنفية أبو جعفر الطحاوي وأبو الحسن الكرخي
والذين أوقعوه لهم سبعة مآخذ
أحدها : أنه مكلف ولهذا يؤاخذ بجناياته
والثاني : أن إيقاع الطلاق عقوبة له
والثالث : أن ترتب الطلاق على التطليق من باب ربط الأحكام بأسبابها فلا يؤثر فيه السكر
والرابع : أن الصحابة أقاموه مقام الصاحي في كلامه فإنهم قالوا : إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى وحد المفتري ثمانون
والخامس : حديث : [ لا قيلولة في الطلاق ] وقد تقدم
السادس : حديث : [ كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه ] وقد تقدم
والسابع : أن الصحابة أوقعوا عليه الطلاق فرواه أبو عبيد عن عمر ومعاوية ورواه غيره عن ابن عباس قال أبو عبيد : حدثنا يزيد بن هارون عن جرير بن حازم عن الزبير بن الحارث عن أبي لبيد أن رجلا طلق امرأته وهو سكران فرفع إلى عمر بن الخطاب وشهد عليه أربع نسوة ففرق عمر بينهما
قال : وحدثنا ابن أبي مريم عن نافع بن يزيد عن جعفر بن ربيعة عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أن معاوية أجاز طلاق السكران هذا جميع ما احتجوا به وليس في شئ منه حجة أصلا
فأما المأخذ الأول وهو : أنه مكلف فباطل إذ الإجماع منعقد على أن شرط التكليف العقل ومن لا يعقل ما يقول فليس بمكلف
وأيضا فلو كان مكلفا لوجب أن يقع طلاقه إذا كان مكرها على شربها أو غير عالم بأنها خمر وهم لا يقولون به
وأما خطابه فيجب حمله على الذي يعقل الخطاب أو على الصاحي وأنه نهي عن السكر إذا أراد الصلاة وأما من لا يعقل فلا يؤمر ولا ينهى
وأما إلزامه بجناياته فمحل نزاع لا محل وفاق فقال عثمان البتي : لا يلزمه عقد ولا بيع ولا حد إلا حد الخمر فقط وهذا إحدى الروايتين عن أحمد أنه كالمجنون في كل فعل يعتبر له العقل
والذين اعتبروا أفعاله دون أقواله فرقوا بفرقين أحدهما : أن إسقاط أفعاله ذريعة إلى تعطيل القصاص إذ كل من أراد قتل غيره أو الزنى أو السرقة أو الحراب سكر وفعل ذلك فيقام عليه الحد إذا أتى جرما واحدا فإذا تضاعف جرمه بالسكر كيف يسقط عنه الحد ؟ هذا مما تأباه قواعد الشريعة وأصولها وقال أحمد منكرا على من قال ذلك : وبعض من يرى طلاق السكران ليس بجائز يزعم أن سكران لو جنى جناية أو أتى حدا أو ترك الصيام أو الصلاة كان بمنزلة المبرسم والمجنون هذا كلام سوء
والفرق الثاني : أن إلغاء أقواله لا يتضمن مفسدة لأن القول المجرد من غير العاقل لا مفسدة فيه بخلاف الأفعال فإن مفاسدها لا يمكن إلغاؤها إذا وقعت فإلغاء أفعاله ضرر محض وفساد منتشر بخلاف أقواله فإن صح هذان الفرقان بطل الإلحاق وإن لم يصحا كانت التسوية بين أقواله وأفعاله متعينة
وأما المأخذ الثاني - وهو أن إيقاع الطلاق به عقوبة له - ففي غاية الضعف فإن الحد يكفيه عقوبة وقد حصل رضى الله سبحانه من هذه العقوبة بالحد ولا عهد لنا في الشريعة بالعقوبة بالطلاق والتفريق بين الزوجين
وأما المأخذ الثالث : أن إيقاع الطلاق به من ربط الأحكام بالأسباب ففي غاية الفساد والسقوط فإن هذا يوجب إيقاع الطلاق ممن سكر مكرها أو جاهلا بأنها خمر وبالمجنون والمبرسم بل وبالنائم ثم يقال : وهل ثبت لكم أن طلاق السكران سبب حتى يربط الحكم به وهل النزاع إلا في ذلك ؟
وأما المأخذ الرابع : وهو أن الصحابة جعلوه كالصاحي في قولهم : إذا شرب سكر وإذا سكر هذى فهو خبر لا يصح البتة
قال أبو محمد بن حزم : وهو خبر مكذوب قد نزه الله عليا وعبد الرحمن بن عوف منه وفيه من المناقضة ما يدل على بطلانه فإن فيه إيجاب الحد على من هذى والهاذي لا حد عليه
وأما المأخذ الخامس وهو حديث : [ لا قيلولة في الطلاق ] فخبر لا يصح ولو صح لوجب حمله على طلاق مكلف يعقل دون من لا يعقل ولهذا لم يدخل فيه طلاق المجنون والمبرسم والصبي
وأما المأخذ السادس وهو خبر : [ كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه ] فمثله سواء لا يصح ولو صح لكان في المكلف وجواب ثالث : أن السكران الذي لا يعقل إما معتوه وإما ملحق به وقد ادعت طائفة أنه معتوه قالوا : المعتوه في اللغة : الذي لا عقل له ولا يدري ما يتكلم به
وأما المأخذ السابع : وهو أن الصحابة أوقعوا عليه الطلاق فالصحابة مختلفون في ذلك فصح عن عثمان ما حكيناه عنه
وأما أثر بن عباس فلا يصح عنه لأنه من طريقين في أحدهما الحجاج بن أرطاة وفي الثانية إبراهيم بن أبي يحيى وأما ابن عمر ومعاوية فقد خالفهما عثمان بن عفان (5/190)
فصل
وأما طلاق الإغلاق فقد قال الإمام أحمد في رواية حنبل : وحديث عائشة رضي الله عنها : سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول : [ لا طلاق ولا عتاق في إغلاق ] يعني الغضب هذا نص أحمد حكاه عنه الخلال وأبو بكر في الشافي و زاد
المسافر فهذا تفسير أحمد
وقال أبو داود في سننه : أظنه الغضب وترجم عليه : باب الطلاق على غلط وفسره أبو عبيد وغيره : بأنه الإكراه وفسره غيرهما : بالجنون وقيل : هو نهي عن إيقاع الطلقات الثلاث دفعة واحدة فيغلق عليه الطلاق حتى لا يبقى منه شئ كغلق الرهن حكاه أبو عبيد الهروي
قال شيخنا وحقيقة الإغلاق : أن يغلق على الرجل قلبه فلا يقصد الكلام أو لا يعلم به كأنه انغلق عليه قصده وإرادته قلت : قال أبو العباس المبرد : الغلق : ضيق الصدر وقلة الصبر بحيث لا يجد مخلصا قال شيخنا : ويدخل في ذلك طلاق المكره والمجنون ومن زال عقله بسكر أو غضب وكل من لا قصد له ولا معرفة له بما قال
والغضب على ثلاثة أقسام
أحدها : ما يزيل العقل فلا يشعر صاحبه بما قال وهذا لا يقع طلاقه بلا نزاع
والثاني : ما يكون في مباديه بحيث لا يمنع صاحبه من تصور ما يقول وقصده فهذا يقع طلاقه
الثالث : أن يستحكم ويشتد به فلا يزيل عقله بالكلية ولكن يحول بينه وبين نيته بحيث يندم على ما فرط منه إذا زال فهذا محل نظر وعدم الوقوع في هذه الحالة قوي متجه (5/195)
حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم في الطلاق قبل النكاح
في السنن : من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا نذر لابن آدم فيما لا يملك ولا عتق له فيما لا يملك ولا طلاق له فيما لا يملك ] قال الترمذي : هذا حديث حسن وهو أحسن شئ في هذا الباب وسألت محمد بن إسماعيل فقلت : أي شئ أصح في الطلاق قبل النكاح ؟ فقال : حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده
وروى أبو داود : [ لا بيع إلا فيما يملك ولا وفاء نذر إلا فيما يملك ]
وفي سنن ابن ماجه : عن المسور بن مخرمة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لا طلاق قبل النكاح ولا عتق قبل ملك ]
وقال وكيع : حدثنا ابن أبي ذئب عن محمد بن المنكدر وعطاء بن أبي رباح كلاهما عن جابر بن عبد الله يرفعه : [ لا طلاق قبل نكاح ]
وذكر عبد الرزاق عن ابن جريج قال : سمعت عطاء يقول : قال ابن عباس رضي الله عنه : لا طلاق إلا من بعد نكاح
قال ابن جريج : بلغ ابن عباس أن ابن مسعود يقول : إن طلق ما لم ينكح فهو جائز فقال ابن عباس : أخطأ في هذا إن الله تعالى يقول : { إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن } [ الأحزاب : 49 ] ولم يقل : إذا طلقتم المؤمنات ثم نكحتموهن
وذكر أبو عبيد : عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه سئل عن رجل قال : إن تزوجت فلانة فهي طالق فقال علي : ليس طلاق إلا من بعد ملك
وثبت عنه رضي الله عنه أنه قال : لا طلاق إلا من بعد نكاح وإن سماها وهذا قول عائشة وإليه ذهب الشافعي وأحمد وإسحاق وأصحابهم وداود وأصحابه وجمهور أهل الحديث
ومن حجة هذا القول : أن القائل : إن تزوجت فلانة فهي طالق مطلق لأجنبية وذلك محال فإنها حين الطلاق المعلق أجنبية والمتجدد هو نكاحها والنكاح لا يكون طلاقا فعلم أنها لو طلقت فإنما يكون ذلك استنادا إلى الطلاق المتقدم معلقا وهي إذ ذاك أجنبية وتجدد الصفة لا يجعله متكلما بالطلاق عند وجودها فإنه عند وجودها مختار للنكاح غير مريد للطلاق فلا يصح كما لو قال لأجنبية : إن دخلت الدار فأنت طالق فدخلت وهي زوجته لم تطلق بغير خلاف
فإن قيل : فما الفرق بين تعليق الطلاق وتعليق العتق ؟ فإنه لو قال : إن ملكت فلانا فهو حر صح التعليق وعتق بالملك ؟
قيل : في تعليق العتق قولان وهما روايتان عن أحمد كما عنه روايتان في تعليق الطلاق والصحيح من مذهبه الذي عليه أكثر نصوصه وعليه أصحابه : صحة تعليق العتق دون الطلاق والفرق بينهما أن العتق له قوة وسراية ولا يعتمد نفوذ الملك فإنه ينفذ في ملك الغير ويصح أن يكون الملك سببا لزواله بالعتق عقلا وشرعا كما يزول ملكه بالعتق عن ذي رحمه المحرم بشرائه وكما لو اشترى عبدا ليعتقه في كفارة أو نذر أو اشتراه بشرط العتق وكل هذا يشرع فيه جعل الملك سببا للعتق فإنه قربه محبوبة لله تعالى فشرع الله سبحانه التوسل إليه بكل وسيلة مفضية إلى محبوبه وليس كذلك الطلاق فإنه بغيض إلى الله وهو أبغض الحلال إليه ولم يجعل ملك البضع بالنكاح سببا لإزالته البتة وفرق ثان أن تعليق العتق بالملك من باب نذر القرب والطاعات والتبرر كقوله : لئن آتاني الله من فضله لأتصدقن بكذا وكذا فإذا وجد الشرط لزمه ما علقه به من الطاعة المقصودة فهذا لون وتعليق الطلاق على الملك لون آخر (5/196)
حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم في تحريم طلاق الحائض والنفساء والموطوءة في طهرها وتحريم إيقاع الثلاث جملة
في الصحيحين : [ أن ابن عمر رضي الله عنه طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فسأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد ذلك وإن شاء يطلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء ]
ولمسلم : [ مره فليراجعها ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا ]
وفي لفظ : [ إن شاء طلقها طاهرا قبل أن يمس فذلك الطلاق للعدة كما أمره الله تعالى ] وفي لفظ للبخاري : [ مره فليراجعها ثم ليطلقها في قبل عدتها ]
وفي لفظ لأحمد وأبي داود والنسائي عن ابن عمر رضي الله عنهما : قال : طلق عبد الله بن عمر امرأته وهي حائض فردها عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم ولم يرها شيئا وقال : [ إذا طهرت فليطلق أو ليمسك ]
وقال ابن عمر رضي الله عنه : قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم : { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن } في قبل عدتهن [ الطلاق : 1 ]
فتضمن هذا الحكم أن الطلاق على أربعة أوجه : وجهان حلال ووجهان حرام
فالحلالان : أن يطلق امرأته طاهرا من غير جماع أو يطلقها حاملا مستبينا حملها
والحرامان : أن يطلقها وهي حائض أو يطلقها في طهر جامعها فيه هذا في طلاق المدخول بها
وأما من لم يدخل بها فيجوز طلاقها حائضا وطاهرا كما قال تعالى : { لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة } [ البقرة : 236 ]
وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها } [ الاحزاب : 49 ] وقد دل على هذا قوله تعالى : { فطلقوهن لعدتهن } [ الطلاق : 1 ] وهذه لا عدة لها ونبه عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم بقوله : [ فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء ] ولو لا هاتان الآيتان اللتان فيهما إباحة الطلاق قبل الدخول لمنع من طلاق من لا عدة له عليها
وفي سنن النسائي وغيره : من حديث محمود بن لبيد قال : أخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا فقام غضبان فقال : [ أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم ] حتى قام رجل فقال : يا رسول الله ! أفلا أقتله
وفي الصحيحين : عن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان إذا سئل عن الطلاق قال : أما أنت إن طلقت امرأتك مرة أو مرتين فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم أمرني بهذا وإن كنت طلقتها ثلاثا فقد حرمت عليك حتى تنكح زوجا غيرك وعصيت الله فيما أمرك من طلاق امرأتك
فتضمنت هذه النصوص أن المطلقة نوعان : مدخول بها وغير مدخول بها وكلاهما لا يجوز تطليقها ثلاثا مجموعة ويجوز تطليق غير المدخول بها طاهرا وحائضا
وأما المدخول بها فإن كانت حائضا أو نفساء حرم طلاقها وإن كانت طاهرا فإن كانت مستبينة الحمل جاز طلاقها بعد الوطء وقبله وإن كانت حائلا لم يجز طلاقها بعد الوطء في طهر الاصابة ويجوز قبله هذا الذي شرعه الله على لسان رسوله من الطلاق وأجمع المسلمون على وقوع الطلاق الذي أذن الله فيه وأباحه إذا كان من مكلف مختار عالم بمدلول اللفظ قاصد له
واختلفوا في وقوع المحرم من ذلك وفيه مسألتان
المسألة الأولى : الطلاق في الحيض أو في الطهر الذي واقعها فيه
المسألة الثانية : في جمع الثلاث ونحن نذكر المسألتين تحريرا وتقريرا كما ذكرناهما تصويرا ونذكر حجج الفريقين ومنتهى أقدام الطائفتين مع العلم بأن المقلد المتعصب لا يترك من قلده ولو جائته كل آية وأن طالب الدليل لا يأتم بسواه ولا يحكم إلا إياه ولكل من الناس مورد لا يتعداه وسبيل لا يتخطاه ولقد عذر من حمل ما انتهت إليه قواه وسعى إلى حيث انتهت إليه خطاه
فأما المسألة الأولى فإن الخلاف في وقوع الطلاق المحرم لم يزل ثابتا بين السلف والخلف وقد وهم من ادعى الإجماع على وقوعه وقال بمبلغ علمه وخفي عليه من الخلاف ما اطلع عليه غيره وقد قال الإمام أحمد : من ادعى الإجماع فهو كاذب وما يدريه لعل الناس اختلفوا
كيف والخلاف بين الناس في هذه المسألة معلوم الثبوت عن المتقدمين والمتأخرين ؟ قال محمد بن عبد السلام الخشني : حدثنا محمد بن بشار حدثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي حدثنا عبيد الله بن عمر عن نافع مولى ابن عمر عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال في رجل طلق امرأته وهي حائض قال ابن عمر : لا يعتد بذلك ذكره أبوه محمد بن حزم في المحلى بإسناده إليه
وقال عبد الرزاق في مصنفه : عن ابن جريج عن ابن طاووس عن أبيه أنه قال : كان لا يرى طلاقا ما خالف وجه الطلاق ووجه العدة وكان يقول : وجه الطلاق : أن يطلقها طاهرا من غير جماع وإذا استبان حملها
وقال الخشني : حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا همام بن يحيى عن قتادة عن خلاس بن عمرو أنه قال في الرجل يطلق امرأته وهي حائض : قال : لا يعتد بها قال أبو محمد بن حزم : والعجب من جرأة من ادعى الإجماع على خلاف هذا وهو لا يجد فيما يوافق قوله في إمضاء الطلاق في الحيض أو في طهر جامعها فيه كلمة عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم غير رواية عن ابن عمر قد عارضها ما هو أحسن منا عن ابن عمر وروايتين ساقطتين عن عثمان وزيد بن ثابت رضي الله عنهما إحداهما : رويناها من طريق ابن وهب عن ابن سمعان عن رجل أخبره أن عثمان بن عفان رضي الله عنه كان يقضي في المرأة التي يطلقها زوجها وهي حائض أنها لا تعتد بحيضتها تلك وتعتد بعدها بثلاثة قروء
قلت : وابن سمعان هو عبد الله بن زياد بن سمعان الكذاب وقد رواه عن مجهول لا يعرف قال أبو محمد : والأخرى من طريق عبد الرزاق عن هشام بن حسان عن قيس بن سعد مولى أبي علقمة عن رجل سماه عن زيد بن ثابت أنه قال فيمن طلق امرأته وهي حائض : يلزمه الطلاق وتعتد بثلاث حيض سوى تلك الحيضة
قال أبو محمد : بل نحن أسعد بدعوى الإجماع ها هنا لو استجزنا ما يستجيزون ونعوذ بالله من ذلك وذلك أنه لا خلاف بين أحد من أهل العلم قاطبة ومن جملتهم جميع المخالفين لنا في ذلك أن الطلاق في الحيض أو في طهر جامعها فيه بدعة نهى عنها رسول الله صلى الله عليه و سلم مخالفة لأمره فإذا كان لا شك في هذا عندهم فكيف يستجيزون الحكم بتجويز البدعة التي يقرون أنها بدعة وضلالة أليس بحكم المشاهدة مجيز البدعة مخالفا لإجماع القائلين بأنها بدعة ؟ قال أبو محمد : وحتى لو لم يبلغنا الخلاف لكان القاطع على جميع أهل الإسلام بما لا يقين عنده ولا بلغه عن جميعهم كاذبا على جميعهم
قال المانعون من وقوع الطلاق المحرم : لا يزال النكاح المتيقن إلا بيقين مثله من كتاب أو سنة أو إجماع متيقن فإذا أوجدتمونا واحدا من هذه الثلاثة رفعنا حكم النكاح به لا سبيل إلى رفعه بغير ذلك قالوا : وكيف والأدلة المتكاثرة تدل على عدم وقوعه فإن هذا الطلاق لم يشرعه الله تعالى البتة ولا أذن فيه فليس في شرعه فكيف يقال بنفوذه وصحته ؟
قالوا : وإنما يقع من الطلاق المحرم ما ملكه الله تعالى للمطلق ولهذا لا يقع به الرابعة لأنه لم يملكها إياه ومن المعلوم أنه لم يملكه الطلاق المحرم ولا أذن له فيه فلا يصح ولا يقع
قالوا : ولو وكل وكيلا أن يطلق امرأته طلاقا جائزا فطلق طلاقا محرما لم يقع لأنه غير مأذون له فيه فكيف كان إذن المخلوق معتبرا في صحة إيقاع الطلاق دون إذن الشارع ومن المعلوم أن المكلف إنما يتصرف بالإذن فما لم يأذن به الله ورسوله لا يكون محلا للتصرف البتة
قالوا : وأيضا فالشارع قد حجر على الزوج أن يطلق في حال الحيض أو بعد الوطء في الطهر فلو صح طلاقه لم يكن لحجر الشارع معنى وكان حجر القاضي على من منعه التصرف أقوى من حجر الشارع حيث يبطل التصرف بحجره
قالوا : وبهذا أبطلنا البيع وقت الغداء يوم الجمعة لأنه بيع حجر الشارع على بائعه هذا الوقت فلا يجوز تنفيذه وتصحيحه
قالوا : ولأنه طلاق محرم منهي عنه فالنهي يقتضي فساد المنهي عنه فلو صححناه لكان لا فرق بين المنهي عنه والمأذون فيه من جهة الصحة والفساد
قالوا : وأيضا فالشارع إنما نهى عنه وحرمه لأنه يبغضه ولا يحب وقوعه بل وقوعه مكروه إليه فحرمه لئلا يقع ما يبغضه ويكرهه وفي تصحيحه وتنفيذه ضد هذا المقصود
قالوا : وإذا كان النكاح المنهي عنه لا يصح لأجل النهي فما الفرق بينه وبين الطلاق وكيف أبطلتم ما نهى الله عنه من النكاح وصححتم ما حرمه ونهى عنه من الطلاق والنهي يقتضي البطلان في الموضعين ؟
قالوا : ويكفينا من هذا حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم العام الذي لا تخصيص فيه برد ما خالف أمره وإبطاله وإلغاءه كما في الصحيح عنه من حديث عائشة رضي الله عنها : [ كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد ] وفي رواية : [ من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ] وهذا صريح أن هذا الطلاق المحرم الذي ليس عليه أمره صلى الله عليه و سلم مردود باطل فكيف يقال : إنه صحيح لازم نافذ ؟ فأين هذا من الحكم برده ؟
قالوا : وأيضا فإنه طلاق لم يشرعه الله أبدا وكان مردودا باطلا كطلاق الأجنبية ولا ينفعكم الفرق بأن الأجنبية ليست محلا للطلاق بخلاف الزوجة فإن هذه الزوجة ليست محلا للطلاق المحرم ولا هو مما ملكه الشارع إياه
قالوا : وأيضا فإن الله سبحانه إنما أمر بالتسريح بإحسان ولا أشر من التسريح الذي حرمه الله ورسوله وموجب عقد النكاح أحد أمرين : إما إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان والتسريح المحرم أمر ثالث غيرهما فلا عبرة به البتة
قالوا : وقد قال الله تعالى : { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن } وصح عن النبي صلى الله عليه و سلم المبين عن الله مراده من كلامه أن الطلاق المشروع المأذون فيه هو الطلاق في زمن الطهر الذي لم يجامع فيه أو بعد استبانة الحمل وما عداهما فليس بطلاق للعدة في حق المدخول بها فلا يكون طلاقا فكيف تحرم المرأة به ؟
قالوا : وقد قال تعالى : { الطلاق مرتان } [ البقرة : 269 ] ومعلوم أنه إنما أراد الطلاق المأذون فيه وهو الطلاق للعدة فدل على أن ما عداه ليس من الطلاق فإنه حصر الطلاق المشروع المأذون فيه الذي يملك به الرجعة في مرتين فلا يكون ما عداه طلاقا قالوا : ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم يقولون : إنهم لا طاقة لهم بالفتوى في الطلاق المحرم كما روى ابن وهب عن جرير بن حازم عن الأعمش أن ابن مسعود رضي الله عنه قال : من طلق كما أمره الله فقد بين الله له ومن خالف فإنا لا نطيق خلافه ولو وقع طلاق المخالف لم يكن الإفتاء به غير مطاق لهم ولم يكن للتفريق معنى إذ كان النوعان واقعين نافذين
وقال ابن مسعود رضي الله عنه أيضا : من أتى الأمر على وجهه فقد بين الله له وإلا فوالله ما لنا طاقة بكل ما تحدثون
وقال بعض الصحابة وقد سئل عن الطلاق الثلاث مجموعة : من طلق كما أمر فقد بين له ومن لبس تركناه وتلبيسه
قالوا : ويكفي من ذلك كله ما رواه أبو داود بالسند الصحيح الثابت : حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الرزاق حدثنا ابن جريج قال : أخبرني أبو الزبير أنه سمع عبد الرحمن بن أيمن مولى عروة يسأل ابن عمر قال أبو الزبير وأنا أسمع : كيف ترى في رجل طلق امرأته حائضا ؟ فقال : [ طلق ابن عمر امرأته حائضا على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فسأل عمر عن ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : إن عبد الله بن عمر طلق امرأته وهي حائض قال عبد الله : فردها علي ولم يرها شيئا وقال : إذا طهرت فليطلق أو ليمسك ] قال ابن عمر : وقرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم : { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن } في قبل عدتهن قالوا : وهذا إسناد في غاية الصحة فإن أبا الزبير غير مدفوع عن الحفظ والثقة وإنما يخشى من تدليسه فإذا قال : سمعت أو حدثني زال محذور التدليس وزالت العلة المتوهمة وأكثر أهل الحديث يحتجون به إذا قال : عن ولم يصرح بالسماع ومسلم يصحح ذلك من حديثه فأما إذا صرح بالسماع فقد زال الإشكال وصح الحديث وقامت الحجة
قالوا : ولا نعلم في خبر أبي الزبير هذا ما يوجب رده وإنما رده من رده استبعادا واعتقادا أنه خلاف الأحاديث الصحيحة ونحن نحكي كلام من رده ونبين أنه ليس فيه ما يوجب الرد
قال أبو داود : والأحاديث كلها على خلاف ما قال أبو الزبير
وقال الشافعي : ونافع أثبت عن ابن عمر من أبي الزبير والأثبت من الحديثين أولى أن يقال به إذا خالفه
وقال الخطابي : حديث يونس بن جبير أثبت من هذا يعني قوله : مره فليراجعها وقوله : أرأيت إن عجز واستحق ؟ قال : فمه
قال ابن عبد البر : وهذا لم ينقله عنه أحد غير أبي الزبير وقد رواه عنه جماعة أجلة فلم يقل ذلك أحد منهم وأبو الزبير ليس بحجة فيما خالفه فيه مثله فكيف بخلاف من هو أثبت منه
وقال بعض أهل الحديث : لم يرو أبو الزبير حديثا أنكر من هذا
فهذا جملة ما رد به خبر أبي الزبير وهو عند التأمل لا يوجب رده ولا بطلانه
أما قول أبي داود : الأحاديث كلها على خلافه فليس بأيديكم سوى تقليد أبي داود وأنتم لا ترضون ذلك وتزعمون أن الحجة من جانبكم فدعوا التقليد وأخبرونا أين في الأحاديث الصحيحة ما يخالف حديث أبي الزبير ؟ فهل فيها حديث واحد أن رسول الله صلى الله عليه و سلم احتسب عليه تلك الطلقة وأمره أن يعتد بها فإن كان ذلك فنعم والله هذا خلاف صريح لحديث أبي الزبير ولا تجدون إلى ذلك سبيلا وغاية ما بأيديكم مره فليراجعها والرجعة تستلزم وقوع الطلاق وقول ابن عمر وقد سئل : أتعتد بتلك التطليقة ؟ فقال : أرأيت إن عجز واستحمق وقول نافع أو من دونه : فحسبت من طلاقها وليس وراء ذلك حرف واحد يدل على وقوعها والإعتداد بها ولا ريب في صحة هذه الألفاظ ولا مطعن فيها وإنما الشأن كل الشأن في معارضتها لقوله : [ فردها علي ولم يرها شيئا ] وتقديمها عليه ومعارضتها لتلك الأدلة المتقدمة التي سقناها وعند الموازنة يظهر التفاوت وعدم المقاومة ونحن نذكر ما في كلمة كلمة منها
أما قوله : مره فليراجعها فالمراجعة قد وقعت في كلام الله ورسوله على ثلاث معان
أحدها : ابتداء النكاح كقوله تعالى : { فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله } [ البقرة : 230 ] ولا خلاف بين أحد من أهل العلم بالقرآن أن المطلق ها هنا : هو الزوح الثاني وأن التراجع بينها وبين الزوج الأول وذلك نكاح مبتدأ
وثانيهما : الرد الحسي إلى الحالة التي كان عليها أولا كقوله لأبي النعمان بن بشير لما نحل ابنه غلاما خصه به دون ولده : رده فهذا رد ما لم تصح فيه الهبة الجائزة التي سماها رسول الله صلى الله عليه و سلم جورا وأخبر أنها لا تصلح وأنها خلاف العدل كما سيأتي تقريره إن شاء الله تعالى
ومن هذا قوله لمن فرق بين جارية وولدها في البيع فنهاه عن ذلك ورد البيع وليس هذا الرد مستلزما لصحة البيع فإنه بيع باطل بل هو رد شيئين إلى حالة اجتماعهما كما كانا وهكذا الأمر بمراجعة ابن عمر امرأته ارتجاع ورد إلى حالة الإجتماع كما كانا قبل الطلاق وليس في ذلك ما يقتضي وقوع الطلاق في الحيض البتة
وأما قوله : أرأيت إن عجز واستحمق فيا سبحان الله أين البيان في هذا اللفظ بأن تلك الطلقة حسبها عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم والأحكام لا تؤخذ بمثل هذا ولو كان رسول الله صلى الله عليه و سلم قد حسبها عليه واعتد عليه بها لم يعدل عن الجواب بفعله وشرعه إلى : أرأيت وكان ابن عمر أكره ما إليه أرأيت فكيف يعدل للسائل عن صريح السنة إلى لفظة أرأيت الدالة على نوع من الرأي سببه عجز المطلق وحمقه عن إيقاع الطلاق على الوجه الذي أذن الله له فيه والأظهر فيما هذه صفته أنه لا يعتد به وأنه ساقط من فعل فاعله لأنه ليس في دين الله تعالى حكم نافذ سببه العجز والحمق عن امثتال الأمر إلا أن يكون فعلا لا يمكن رده بخلاف العقود المحرمة التي من عقدها على الوجه المحرم فقد عجز واستحمق وحينئذ فيقال : هذا أدل على الرد منه على الصحة واللزوم فإنه عقد عاجز أحمق على خلاف أمر الله ورسوله فيكون مردودا باطلا فهذا الرأي والقياس أدل على بطلان طلاق من عجز واستحمق منه على صحته واعتباره
وأما قوله : فحسبت من طلاقها ففعل مبني لما لم يسم فاعله فإذا سمي فاعله ظهر وتبين هل في حسبانه حجة أو لا ؟ وليس في حسبان الفاعل المجهول دليل البتة وسواء كان القائل : فحسبت ابن عمر أو نافعا أو من دونه وليس فيه بيان أن رسول الله صلى الله عليه و سلم هو الذي حسبها حتى تلزم الحجة به وتحرم مخالفته فقد تبين أن سائر الأحاديث لا تخالف حديث أبي الزبير وأنه صريح في أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يرها شيئا وسائر الأحاديث مجملة لا بيان فيها
قال الموقعون : لقد ارتقيتم أيها المانعون مرتقى صعبا وأبطلتم أكثر طلاق المطلقين فإن غالبه طلاق بدعي وجاهرتم بخلاف الأئمة ولم تتحاشوا خلاف الجمهور وشذذتم بهذا القول الذي أفتى جمهور الصحابة ومن بعدهم بخلافه والقرآن والسنن تدل على بطلانه قال تعالى : { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } وهذا يعم كل طلاق وكذلك قوله : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } [ البقرة : 228 ] ولم يفرق وكذلك قوله تعالى : { الطلاق مرتان } وقوله : { وللمطلقات متاع } [ البقرة : 241 ] وهذه مطلقة وهي عمومات لا يجوز تخصيصها إلا بنص أو إجماع
قالوا : وحديث ابن عمر دليل على وقوع الطلاق المحرم من وجوه أحدها : الأمر بالمراجعة وهي لم شعث النكاح وإنما شعثه وقوع الطلاق
الثاني : قول ابن عمر فراجعتها وحسبت لها التطليقة التي طلقها وكيف يظن بابن عمر أنه يخالف رسول الله صلى الله عليه و سلم فيحسبها من طلاقها ورسول الله صلى الله عليه و سلم لم يرها شيئا
الثالث : قول ابن عمر لما قيل له : أيحتسب تلك التطليقة ؟ قال : أرأيت إن عجز واستحمق أي : عجزه وحمقه لا يكون عذرا له في عدم احتسابه بها
الرابع : أن ابن عمر قال : وما يمنعني أن أعتد بها وهذا إنكار منه لعدم الإعتداد بها وهذا يبطل تلك اللفظة التي رواها عنه أبو الزبير إذ كيف يقول ابن عمر : وما يمنعنى أن أعتد بها ؟ وهو يرى رسول الله قد ردها عليه ولم يرها شيئا
الخامس : أن مذهب ابن عمر الإعتداد بالطلاق في الحيض وهو صاحب القصة وأعلم الناس بها وأشدهم اتباعا للسنن وتحرجا من مخالفتها قالوا : وقد روى ابن وهب في جامعه حدثنا ابن أبي ذئب أن نافعا أخبرهم عن ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض فسأل عمر رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ذلك فقال : [ مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد ذلك وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء ] وهي واحدة هذا لفظ حديثه
قالوا : وروى عبد الرزاق عن ابن جريج قال : أرسلنا إلى نافع وهو يترجل في دار الندوة ذاهبا إلى المدينة ونحن مع عطاء : هل حسبت تطليقة عبد الله بن عمر امرأته حائضا على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ قال : نعم
قالوا : وروى حماد بن زيد عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من طلق في بدعة ألزمناه بدعته ] رواه عبد الباقي بن قانع عن زكريا الساجي حدثنا إسماعيل بن أمية الذارع حدثنا حماد فذكره
قالوا : وقد تقدم مذهب عثمان بن عفان وزيد بن ثابت في قواهما بالوقوع
قالوا : وتحريمه لا يمنع ترتب أثره وحكمه عليه كالظهار فإنه منكر من القول وزور وهو محرم بلا شك وترتب أثره عليه وهو تحريم الزوجة إلى أن يكفر فهكذا الطلاق البدعي محرم ويترتب عليه أثره إلى أن يراجع ولا فرق بينهما
قالوا : وهذا ابن عمر يقول للمطلق ثلاثا : حرمت عليك حتى تنكح زوجا غيرك وعصيت ربك فيما أمرك به من طلاق امرأتك فأوقع عليه الطلاق الذي عصى به المطلق ربه عز و جل
قالوا : وكذلك القذف محرم وترتب عليه أثره من الحد ورد الشهادة وغيرهما
قالوا : والفرق بين النكاح المحرم والطلاق المحرم أن النكاح عقد يتضمن حل الزوجة وملك بضعها فلا يكون إلا على الوجه المأذون فيه شرعا فإن الأبضاع في الأصل على التحريم ولا يباح منها إلا ما أباحه الشارع بخلاف الطلاق فإنه إسقاط لحقه وإزالة لملكه وذلك لا يتوقف على كون السبب المزيل مأذونا فيه شرعا كما يزول ملكه عن العين بالإتلاف المحرم وبالإقرار الكاذب وبالتبرع المحرم كهبتها لمن يعلم أنه يستعين بها على المعاصي والآثام
قالوا : والإيمان أصل العقود وأجلها وأشرفها يزول بالكلام المحرم إذا كان كفرا فكيف لا يزول عقد النكاح بالطلاق المحرم الذي وضع لإزالته
قالوا : ولو لم يكن معنا في المسألة إلا طلاق الهازل فإنه يقع مع تحريمه لأنه لا يحل له الهزل بآيات الله وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم [ ما بال أقوام يتخذون آيات الله هزوا : طلقتك راجعتك طلقتك راجعتك ] فإذا وقع طلاق الهازل مع تحريمه فطلاق الجاد أولى أن يقع مع تحريمه
قالوا : وفرق آخر بين النكاح المحرم والطلاق المحرم أن النكاح نعمة فلا تستباح بالمحرمات وإزالته وخروج البضع عن ملكه نقمة فيجوز أن يكون سببها محرما
قالوا : وأيضا فإن الفروج يحتاط لها والإحتياط يقتضي وقوع الطلاق وتجديد الرجعة والعقد
قالوا : وقد عهدنا النكاح لا يدخل فيه إلا بالتشديد والتأكيد من الإيجاب والقبول والولي والشاهدين ورضى الزوجة المعتبر رضاها ويخرج منه بأيسر شئ فلا يحتاج الخروج منه إلى شئ من ذلك بل يدخل فيه بالعزيمة ويخرج منه بالشبهة فأين أحدهما من الآخر حتى يقاس عليه
قالوا : ولو لم يكن بأيدينا إلا قول حملة الشرع كلهم قديما وحديثا : طلق امرأته وهي حائض والطلاق نوعان : طلاق سنة وطلاق بدعة وقول ابن عباس رضي الله عنه : الطلاق على أربعة أوجه : وجهان حلال ووجهان حرام فهذا الإطلاق والتقسيم دليل على أنه عندهم طلاق حقيقة وشمول اسم الطلاق له كشموله للطلاق الحلال ولو كان لفظا مجردا لغوا لم يكن له حقيقة ولا قيل : طلق امرأته فإن هذا اللفظ إذا كان لغوا كان وجوده كعدمه ومثل هذا لا يقال فيه : طلق ولا يقسم الطلاق - وهو غير واقع - إليه وإلى الواقع فإن الالفاظ اللاغية التي ليس لها معان ثابتة لا تكون هي ومعانيها قسما من الحقيقة الثابتة لفظا فهذا أقصى ما تمسك به الموقعون وربما ادعى بعضهم الإجماع لعدم علمه بالنزاع
قال المانعون من الوقوع : الكلام معكم في ثلاث مقامات بها يستبين الحق في المسألة
المقام الأول : بطلان ما زعمتم من الإجماع وأنه لا سبيل لكم إلى إثباته البتة بل العلم بانتفائه معلوم
المقام الثاني أن فتوى الجمهور بالقول لا يدل على صحته وقول الجمهور ليس بحجة
المقام الثالث : أن الطلاق المحرم لا يدخل تحت نصوص الطلاق المطلقة التي رتب الشارع عليها أحكام الطلاق فإن ثبتت لنا هذه المقامات الثلاث كنا أسعد بالصواب منكم في المسألة
فنقول : أما المقام الأول فقد تقدم من حكاية النزاع ما يعلم معه بطلان دعوى الإجماع كيف ولو لم يعلم ذلك لم يكن لكم سبيل إلى إثبات الإجماع الذي تقوم به الحجة وتنقطع معه المعذرة وتحرم معه المخالفة فإن الإجماع الذي يوجب ذلك هو الإجماع القطعي المعلوم
وأما المقام الثاني : وهو أن الجمهور على هذا القول فأوجدونا في الأدلة الشرعية أن قول الجمهور حجة مضافة إلى كتاب الله وسنة رسوله وإجماع أمته
ومن تأمل مذاهب العلماء قديما وحديثا من عهد الصحابة وإلى الآن واستقرأ أحوالهم وجدهم مجمعين على تسويغ خلاف الجمهور ووجد لكل منهم أقوالا عديدة انفرد بها عن الجمهور ولا يستثنى من ذلك أحد قط ولكن مستقل ومستكثر فمن شئتم سميتموه من الأئمة تتبعوا ما له من الأقوال التي خالف فيها الجمهور ولو تتبعنا ذلك وعددناه لطال الكتاب به جدا ونحن نحيلكم على الكتب المتضمنة لمذاهب العلماء واختلافهم ومن له معرفة بمذاهبهم وطرائقهم يأخذ إجماعهم على ذلك من اختلافهم ولكن هذا في المسائل التي يسوغ فيها الإجتهاد ولا تدفعها السنة الصحيحة الصريحة وأما ما كان هذا سبيله فإنهم كالمتفقين على إنكاره ورده وهذا هو المعلوم من مذاهبهم في الموضعين
وأما المقام الثالث : وهو دعواكم دخول الطلاق المحرم تحت نصوص الطلاق وشمولها للنوعين إلى آخر كلامكم فنسألكم : ما تقولون فيمن ادعى دخول أنواع البيع المحرم والنكاح المحرم تحت نصوص البيع والنكاح وقال : شمول الإسم للصحيح من ذلك والفاسد سواء بل وكذلك سائر العقود المحرمة إذا ادعى دخولها تحت ألفاظ العقود الشرعية وكذلك العبادات المحرمة المنهي عنها إذا ادعى دخولها تحت الألفاظ الشرعية وحكم لها بالصحة لشمول الإسم لها هل تكون دعواه صحيحة أو باطلة ؟ فإن قلتم : صحيحة ولا سبيل لكم إلى ذلك كان قولا معلوم الفساد بالضرورة من الدين وإن قلتم : دعواه باطلة تركتم قولكم ورجعتم إلى ما قلناه وإن قلتم تقبل في موضع وترد في موضع قيل لكم : ففرقوا بفرقان صحيح مطرد منعكس معكم به برهان من الله بين ما يدخل من العقود المحرمة تحت ألفاظ النصوص فيثبث له حكم الصحة وبين ما لا يدخل تحتها فيثبت له حكم البطلان وإن عجزتم عن ذلك فاعلموا أنه ليس بأيديكم سوى الدعوى التي يحسن كل أحد مقابلتها بمثلها أو الإعتماد على من يحتج لقوله لا بقوله وإذا كشف الغطاء عما قررتموه في هذه الطريق وجد عين محل النزاع فقد جعلتموه مقدمة في الدليل وذلك عين المصادرة على المطلوب فهل وقع النزاع إلا في دخول الطلاق المحرم المنهي عنه تحت قوله : { وللمطلقات متاع } وتحت قوله : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } وأمثال ذلك وهل سلم لكم منازعوكم قط ذلك حتى تجعلوه مقدمة لدليلكم ؟
قالوا : وأما استدلالكم بحديث ابن عمر فهو إلى أن يكون حجة عليكم أقرب منه إلى أن يكون حجة لكم من وجوه
أحدها : صريح قوله : فردها علي ولم يرها شيئا وقد تقدم بيان صحته قالوا : فهذا الصريح الصحيح ليس بأيديكم ما يقاومه في الموضعين بل جميع تلك الألفاظ إما صحيحة غير صريحة وإما صريحة غير صحيحة كما ستقفون عليه
الثاني : أنه قد صح عن ابن عمر رضي الله عنه بإسناد كالشمس من رواية عبيد الله عن نافع عنه في الرجل يطلق امرأته وهي حائض قال : لا يعتد بذلك وقد تقدم
الثالث : أنه لو كان صريحا في الإعتداد به لما عدل به إلى مجرد الرأي وقوله للسائل : أرأيت ؟
الرابع : أن الالفاظ قد اضطربت عن ابن عمر في ذلك اضطرابا شديدا وكلها صحيحة عنه وهذا يدل على أنه لم يكن عنده نص صريح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في وقوع تلك الطلقة والإعتداد بها وإذا تعارضت تلك الألفاظ نظرها إلى مذهب ابن عمر وفتواه فوجدناه صريحا في عدم الوقوع ووجدنا أحد ألفاظ حديثه صريحا في ذلك فقد اجتمع صريح روايته وفتواه على عدم الإعتداد وخالف في ذلك ألفاظ مجملة مضطربة كما تقدم بيانه
وأما قول ابن عمر رضي الله عنه : وما لي لا أعتد بها وقوله : أرأيت إن عجز واستحمق فغاية هذا أن يكون رواية صريحة عنه بالوقوع ويكون عنه روايتان
وقولكم كيف يفتي بالوقوع وهو يعلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد ردها عليه ولم يعتد عليه بها ؟ فليس هذا بأول حديث خالفه راويه وله بغيره من الأحاديث التي خالفها راويها أسوة حسنة في تقديم رواية الصحابي ومن بعده على رأيه
وقد روى ابن عباس حديث بريرة وأن بيع الأمة ليس بطلاقها وأفتى بخلافه فأخذ الناس بروايته وتركوا رأيه وهذا هو الصواب فإن الرواية معصومة عن معصوم والرأي بخلافها كيف وأصرح الروايتين عنه موافقته لما رواه من عدم الوقوع على أن في هذا فقها دقيقا إنما يعرفه من له غور على أقوال الصحابة ومذاهبهم وفهمهم عن الله ورسوله واحتياطهم للأمة ولعلك تراه قريبا عند الكلام على حكمه صلى الله عليه و سلم في إيقاع الطلاق الثلاث جملة
وأما قوله في حديث ابن وهب عن ابن أبي ذئب في آخره : وهي واحدة فلعمر الله لو كانت هذه اللفظة من كلام رسول الله صلى الله عليه و سلم ما قدمنا عليها شيئا ولصرنا إليها بأول وهلة ولكن لا ندري أقالها ابن وهب من عنده أم ابن أبي ذئب أم نافع فلا يجوز أنا يضاف إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ما لا يتيقن أنه من كلامه ويشهد به عليه وترتب عليه الأحكام ويقال : هذا من عند الله بالوهم والإحتمال والظاهر أنها من قول من دون ابن عمر رضي الله عنه ومراده بها أن ابن عمر إنما طلقها طلقة واحدة ولم يكن ذلك منه ثلاثا أي طلق ابن عمر رضي الله عنه امرأته واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكره
وأما حديث ابن جريج عن عطاء عن نافع أن تطليقة عبد الله حسبت عليه فهذا غايته أن يكون من كلام نافع ولا يعرف من الذي حسبها أهو عبد الله نفسه أو أبوه عمر أو رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ ولا يجوز أن يشهد على رسول الله صلى الله عليه و سلم بالوهم والحسبان وكيف يعارض صريح قوله : ولم يرها شيئا بهذا المجمل ؟ والله يشهد - وكفى بالله شهيدا - أنا لو تيقنا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم هو الذي حسبها عليه ولم نتعد ذلك ولم نذهب إلى سواه
وأما حديث أنس : فمن طلق في بدعة ألزمناه بدعته فحديث باطل على رسول الله صلى الله عليه و سلم ونحن نشهد بالله أنه حديث باطل عليه ولم يروه أحد من الثقات من أصحاب حماد بن زيد وإنما هو من حديث إسماعيل بن أمية الذارع الكذاب الذي يذرع ويفصل ثم الراوي له عنه عبد الباقي بن قانع وقد ضعفه البرقاني وغيره وكان قد اختلط في آخر عمره وقال الدارقطني : يخطئ كثيرا ومثل هذا إذا تفرد بحديث لم يكن حديثه حجة
وأما إفتاء عثمان بن عفان وزيد بن ثابت رضي الله عنهما بالوقوع فلو صح ذلك ولا يصح أبدا فإن أثر عثمان فيه كذاب عن مجهول لا يعرف عينه ولا حاله فإنه من رواية ابن سمعان عن رجل وأثر زيد : فيه مجهول عن مجهول : قيس بن سعد عن رجل سماه عن زيد فيالله العجب أين هاتان الروايتان من رواية عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي عن عبيد الله حافظ الأمة عن نافع عن ابن عمر أنه قال : لا يعتد بها فلو كان هذا الأثر من قبلكم لصلتم به وجلتم
وأما قولكم : إن تحريمه لا يمنع ترتب أثره عليه كالظهار فيقال أولا : هذا قياس يدفعه ما ذكرناه من النص وسائر تلك الأدلة التي هي أرجح منه ثم يقال ثانيا : هذا معارض بمثله سواء معارضة القلب بأن يقال : تحريمه يمنع ترتب أثره عليه كالنكاح ويقال ثالثا : ليس للظهار جهتان : جهة حل وجهة حرمة بل كله حرام فإنه منكر من القول وزور فلا يمكن أن ينقسم إلى حلال جائز وحرام باطل بل هو بمنزلة القذف من الأجنبي والردة فإذا وجد لم يوجد إلا مع مفسدته فلا يتصور أن يقال : منه حلال صحيح وحرام باطل بخلاف النكاح والطلاق والبيع فالظهار نظير الأفعال المحرمة التي إذا وقعت قارنتها مفاسدها فترتبت عليها أحكامها وإلحاق الطلاق بالنكاح والبيع والإجارة والعقود المنقسمة إلى حلال وحرام وصحيح وباطل أولى
وأما قولكم : إن النكاح عقد يملك به البضع والطلاق عقد يخرج به فنعم من أين لكم برهان من الله ورسوله بالفرق بين العقدين في اعتبار حكم أحدهما والإلزام به وتنفيذه وإلغاء الآخر وإبطاله ؟
وأما زوال ملكه عن العين بالإتلاف المحرم فذلك ملك قد زال حسا ولم يبق له محل وأما زواله بالإقرار الكاذب فأبعد وأبعد فإنا صدقناه ظاهرا في إقراره وأزلنا ملكه بالإقرار المصدق فيه وإن كان كاذبا
وأما زوال الإيمان بالكلام الذي هو كفر فقد تقدم جوابه وأنه ليس في الكفر حلال وحرام
وأما طلاق الهازل فإنما وقع لأنه صادف محلا وهو طهر لم يجامع فيه فنفذ وكونه هزل به إرادة منه أن لا يترتب أثره عليه وذلك ليس إليه بل إلى الشارع فهو قد أتى بالسبب التام وأراد ألا يكون سببه فلم ينفعه ذلك بخلاف من طلق في غير زمن الطلاق فإنه لم يأت بالسبب الذي نصبه الله سبحانه مفضيا إلى وقوع الطلاق وإنما أتى بسبب من عنده وجعله هو مفضيا إلى حكمه وذلك ليس إليه
وأما قولكم : إن النكاح نعمة فلا يكون سببه إلا طاعة بخلاف الطلاق فإنه من باب إزالة النعم فيجوز أن يكون سببه معصية فيقال : قد يكون الطلاق من أكبر النعم التي يفك بها المطلق الغل من عنقه والقيد من رجله فليس كل طلاق نقمة بل من تمام نعمة الله على عباده أن مكنهم من المفارقة بالطلاق إذا أراد أحدهم استبدال زوج مكان زوج والتخلص ممن لا يحبها ولا يلائمها فلم ير للمتحابين مثل النكاح ولا للمتباغضين مثل الطلاق ثم كيف يكون نقمة والله تعالى يقول : { لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن } [ البقرة : 236 ] ويقول : { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن } [ الطلاق : 1 ]
وأما قولكم : إن الفروج يحتاط لها فنعم وهكذا قلنا سواء فإنا احتطنا وأبقينا الزوجين على يقين النكاح حتى يأتي ما يزيله بيقين فإذا أخطأنا فخطؤنا في جهة واحدة وإن أصبنا فصوابنا في جهتين جهة الزوج الأول وجهة الثاني وأنتم ترتكبون أمرين : تحريم الفرج على من كان حلالا له بيقين وإحلاله لغيره فإن كان خطأ فهو خطأ من جهتين فتبين أنا أولى بالإحتياط منكم وقد قال الإمام أحمد في رواية أبي طالب : في طلاق السكران نظير هذا الإحتياط سواء فقال : الذي لا يأمر بالطلاق : إنما أتى خصلة واحدة والذي يأمر بالطلاق أتى خصلتين حرمها عليه وأحلها لغيره فهذا خير من هذا
وأما قولكم : إن النكاح يدخل فيه بالعزيمة والإحتياط ويخرج منه بأدنى شئ قلنا : ولكن لا يخرج منه إلا بما نصبه الله سببا يخرج به منه وأذن فيه : وأما ما ينصبه المؤمن عنده ويجعله هو سببا للخروج منه فكلا فهذا منتهى أقدام الطائفتين في هذه المسألة الضيقة المعترك الوعرة المسلك التي يتجاذب أعنة أدلتها الفرسان وتتضاءل لدى صولتها شجاعة الشجعان وإنما نبهنا على مأخذها وأدلتها ليعلم الغر الذي بضاعته من العلم مزجاة أن هناك شيئا آخر وراء ما عنده وأنه إذا كان ممن قصر في العلم باعه فضعف خلف الدليل وتقاصر عن جني ثماره ذراعه فليعذر من شمر عن ساق عزمه وحام حول آثار رسول الله صلى الله عليه و سلم وتحكيمها والتحاكم إليها بكل همة وإن كان غير عاذر لمنازعه في قصوره ورغبته عن هذا الشأن البعيد فليعذر منازعه في رغبته عما ارتضاه لنفسه من محض التقليد ولينظر مع نفسه أيهما هو المعذور وأي السعيين أحق بأن يكون هو السعي المشكور والله المستعان وعليه التكلان وهو الموفق للصواب الفاتح لمن أم بابه طالبا لمرضاته من الخير كل باب (5/198)
فصل
في حكمه صلى الله عليه و سلم فيمن طلق ثلاثا بكلمة واحدة
قد تقدم حديث محمود بن لبيد رضى الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أخبر عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا فقام مغضبا ثم قال : [ أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم ؟ ! ] وإسناده على شرط مسلم فإن ابن وهب قد رواه عن مخرمة بن بكير بن الأشج عن أبيه قال : سمعت محمود بن لبيد فذكره ومخرمة ثقة بلا شك وقد احتج مسلم في صحيحه بحديثه عن أبيه
والذين أعلوه قالوا : لم يسمع منه وإنما هو كتاب قال أبو طالب : سألت أحمد بن حنبل عن مخرمة بن بكير ؟ فقال : هو ثقة ولم يسمع من أبيه إنما هو كتاب مخرمة فنظر فيه كل شئ يقول : بلغني عن سليمان بن يسار فهو من كتاب مخرمة وقال أبو بكر بن أبي خيثمة : سمعت يحيي بن معين يقول : مخرمة بن بكير وقع إليه كتاب أبيه ولم يسمعه وقال في رواية عباس الدوري : هو ضعيف وحديثه عن أبيه كتاب ولم يسمعه منه وقال أبو داود : لم يسمع من أبيه إلا حديثا واحدا حديث الوتر وقال سعيد بن أبي مريم عن خاله موسى بن سلمة : أتيت مخرمة فقلت : حدثك أبوك ؟ قال : لم أدرك أبي ولكن هذه كتبه
والجواب عن هذا من وجهين
أحدهما : أن كتاب أبيه كان عنده محفوظا مضبوطا فلا فرق في قيام الحجة بالحديث بين ما حدثه به أو رآه في كتابه بل الأخذ عن النسخة أحوط إذا تيقن الراوي أنها نسخة الشيخ بعينها وهذه طريقة الصحابة والسلف وقد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يبعث كتبه إلى الملوك وتقوم عليهم بها الحجة وكتب كتبه إلى عماله في بلاد الإسلام فعملوا بها واحتجوا بها ودفع الصديق كتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم في الزكاة إلى أنس بن مالك فحمله وعملت به الأمة وكذلك كتابه إلى عمرو بن حزم في الصدقات الذي كان عند آل عمرو ولم يزل السلف والخلف يحتجون بكتاب بعضهم إلى بعض ويقول المكتوب إليه : كتب إلي فلان أن فلانا أخبره ولو بطل الإحتجاج بالكتب لم يبق بأيدي الأمة إلا أيسر اليسير فإن الإعتماد إنما هو على النسخ لا على الحفظ والحفظ خوان والنسخة لا تخون ولا يحفظ في زمن من الأزمان المتقدمة أن أحدا من أهل العلم رد الإحتجاج بالكتاب وقال : لم يشافهني به الكاتب فلا أقبله بل كلهم مجمعون على قبول الكتاب والعمل به إذا صح عنده أنه كتابه
الجواب الثاني : أن قول من قال : لم يسمع من أبيه معارض بقول من قال : سمع منه ومعه زيادة علم وإثبات قال عبد الرحمن بن أبي حاتم : سئل أبي عن مخرمة بن بكير ؟ فقال : صالح الحديث قال : وقال ابن أبي أويس : وجدت في ظهر كتاب مالك : سألت مخرمة عما يحدث به عن أبيه سمعها من أبيه ؟ فحلف لي : ورب هذه البنية - يعني المسجد - سمعت من أبي وقال علي بن المديني : سمعت معن بن عيسى يقول : مخرمة سمع من أبيه وعرض عليه ربيعة أشياء من رأي سليمان بن يسار وقال علي : ولا أظن مخرمة سمع من أبيه كتاب سليمان لعله سمع منه الشئ اليسير ولم أجد أحدا بالمدينة يخبرني عن مخرمة بن بكير أنه كان يقول في شئ من حديثه : سمعت أبي ومخرمة ثقة انتهى ويكفي أن مالكا أخذ كتابه فنظر فيه واحتج به في موطئه وكان يقول : حدثني مخرمة وكان رجلا صالحا وقال أبو حاتم : سألت إسماعيل بن أبي أويس قلت : هذا الذي يقول مالك بن أنس : حدثني الثقة من هو ؟ قال : مخرمة بن بكير وقيل لأحمد بن صالح المصري : كان مخرمة من ثقات الرجال ؟ قال : نعم وقال ابن عدي عن ابن وهب ومعن بن عيسى عن مخرمة : أحاديث حسان مستقيمة وأرجو أنه لا بأس به
وفي صحيح مسلم قول ابن عمر للمطلق ثلاثا : حرمت عليك حتى تنكح زوجا غيرك وعصيت ربك فيما أمرك به من طلاق امرأتك وهذا تفسير منه للطلاق المأمور به وتفسير الصحابي حجة وقال الحاكم : هو عندنا مرفوع
ومن تأمل القرآن حق التأمل تبين له ذلك وعرف أن الطلاق المشروع بعد الدخول هو الطلاق الذي يملك به الرجعة ولم يشرع الله سبحانه إيقاع الثلاث جملة واحدة البتة قال تعالى : { الطلاق مرتان } ولا تعقل العرب في لغتها وقوع المرتين إلا متعاقبتين كما قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ من سبح الله دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين وحمده ثلاثا وثلاثين وكبره أربعا وثلاثين ] ونظائره فإنه لا يعقل من ذلك إلا تسبيح وتكبير وتحميد متوال يتلو بعضه بعضا فلو قال : سبحان الله ثلاثا وثلاثين والحمد لله ثلاثا وثلاثين والله أكبر أربعا وثلاثين بهذا اللفظ لكان ثلاث مرات فقط وأصرح من هذا قوله سبحانه : { والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله } [ النور : 6 ] فلو قال : أشهد بالله أربع شهادات إني لمن الصادقين كانت مرة وكذلك قوله : { ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين } [ النور : 8 ] فلو قالت : أشهد بالله أربع شهادات إنه لمن الكاذبين كانت واحدة وأصرح من ذلك قوله تعالى : { سنعذبهم مرتين } [ التوبة : 101 ] فهذا مرة بعد مرة ولا ينتقض هذا بقوله تعالى : { نؤتها أجرها مرتين } [ الاحزاب : 31 ] وقوله صلى الله عليه و سلم : [ ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين ] فإن المرتين هنا هما الضعفان وهما المثلان وهما مثلان في القدر كقوله تعالى : { يضاعف لها العذاب ضعفين } [ الأحزاب : 30 ] وقوله : { فآتت أكلها ضعفين } [ البقرة : 265 ] أي : ضعفي ما يعذب به غيرها وضعفي ما كانت تؤتي ومن هذا قول أنس : انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم مرتين أي : شقتين وفرقتين كما قال في اللفظ الآخر : انشق القمر فلقتين وهذا أمر معلوم قطعا أنه إنما انشق القمر مرة واحدة والفرق معلوم بين ما يكون مرتين في الزمان وبين ما يكون مثلين وجزأين ومرتين في المضاعفة فالثاني : يتصور فيه اجتماع المرتين في آن واحد والأول لا يتصور فيه ذلك
ومما يدل على أن الله لم يشرع الثلاث جملة : أنه قال تعالى : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } إلى أن قال : { وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا } [ البقرة : 228 ] فهذا يدل على أن كل طلاق بعد الدخول فالمطلق أحق فيه بالرجعة سوى الثالثة المذكورة بعد هذا وكذلك قوله تعالى : { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن } إلى قوله : { فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف } فهذا هو الطلاق المشروع وقد ذكر الله سبحانه وتعالى أقسام الطلاق كلها في القرآن وذكر أحكامها فذكر الطلاق قبل الدخول وأنه لا عدة فيه وذكر الطلقة الثالثة وأنها تحرم الزوجة على المطلق حتى تنكح زوجا غيره وذكر طلاق الفداء الذي هو الخلع وسماه فدية ولم يحسبه من الثلاث كما تقدم وذكر الطلاق الرجعي الذي المطلق أحق فيه بالرجعة وهو ما عدا هذه الأقسام الثلاثة
وبهذا احتج أحمد والشافعي وغيرهما على أنه ليس في الشرع طلقة واحدة بعد الدخول بغير عوض بائنة وأنه إذا قال لها : أنت طالق طلقة بائة كانت رجعة ويلغو وصفها بالبينونة وأنه لا يملك إبانتها إلا بعوض وأما أبو حنيفة فقال : تبين بذلك لأن الرجعة حق له وقد أسقطها والجمهور يقولون : وإن كانت الرجعة حقا له لكن نفقة الرجعية وكسوتها حق عليه فلا يملك إسقاطه إلا باختيارها وبذلها العوض أو سؤالها أن تفتدي نفسها منه بغير عوض في أحد القولين وهو جواز الخلع بغير عوض
وأما إسقاط حقها من الكسوة والنفقة بغير سؤالها ولا بذلها العوض فخلاف النص والقياس
قالو ! : وأيضا فالله سبحانه شرع الطلاق على أكمل الوجوه وأنفعها للرجل والمرأة فإنهم كانوا يطلقون في الجاهلية بغير عدد فيطلق أحدهم المرأة كلما شاء ويراجعها وهذا وإن كان فيه رفق بالرجل ففيه إضرار بالمرأة فنسخ سبحانه ذلك بثلاث وقصر الزوج عليها وجعله أحق بالرجعة ما لم تنقض عدتها فإذا استوفى العدد الذي ملكه حرمت عليه فكان في هذا رفق بالرجل إذ لم تحرم بأول طلقة وبالمرأة حيث لم يجعل إليه أكثر من ثلاث فهذا شرعه وحكمته وحدوده التي حدها لعباده فلو حرمت عليه بأول طلقة يطلقها كان خلاف شرعه وحكمته وهو لم يملك إيقاع الثلاث جملة بل إنما ملك واحدة فالزائد عليها غير مأذون له فيه
قالوا : وهذا كما أنه لم يملك إبانتها بطلقة واحدة إذ هو خلاف ما شرعه لم يملك إبانتها بثلاث مجموعة إذ هو خلاف شرعه
ونكتة المسألة ان الله لم يجعل للأمة طلاقا بائنا قط إلا في موضعين أحدهما : طلاق غير المدخول بها والثاني : الطلقة الثالثة وما عداه من الطلاق فقد جعل للزوج فيه الرجعة هذا مقتضى الكتاب كما تقدم تقريره وهذا قول الجمهور منهم : الإمام أحمد والشافعي وأهل الظاهر قالوا : لا يملك إبانتها بدون الثلاث إلا في الخلع
ولأصحاب مالك ثلاثة أقوال فيما إذا قال : أنت طالق طلقة لا رجعة فيها أحدها : أنها ثلاث قاله ابن الماجشون لأنه قطع حقه من الرجعة وهي لا تنقطع إلا بثلاث فجاءت الثلاث ضرورة الثاني : أنها واحدة بائنة كما قال هذا قول ابن القاسم لأنه يملك إبانتها بطلقة بعوض فملكها بدونه والخلع عنده طلاق الثالث : أنها واحدة رجعية وهذا قول ابن وهب وهو الذي يقتضيه الكتاب والسنة والقياس وعليه الأكثرون (5/220)
فصل
وأما المسألة الثانية وهي وقوع الثلاث بكلمة واحدة فاختلف الناس فيها على أربعة مذاهب
أحدها : أنها تقع وهذا قول الأئمة الأربعة وجمهور التابعين وكثير من الصحابة رضي الله عنهم
الثاني : أنها لا تقع بل ترد لأنها بدعة محرمة والبدعة مردودة لقوله صلى الله عليه و سلم : [ من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ] وهذا المذهب حكاه أبو محمد ابن حزم وحكي للإمام أحمد فأنكره وقال : هو قول الرافضة
الثالث : أنه يقع به واحدة رجعية وهذا ثابت عن ابن عباس ذكره أبو داود عنه قال الإمام أحمد : وهذا مذهب ابن إسحاق يقول : خالف السنة فيرد إلى السنة انتهى وهو قول طاووس وعكرمة وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية
الرابع : أنه يفرق بين المدخول بها وغيرها فتقع الثلاث بالمدخول بها ويقع بغيرها واحدة وهذا قول جماعة من أصحاب ابن عباس وهو مذهب إسحاق بن راهويه فيما حكاه عنه محمد بن نصر المروزي في كتاب اختلاف العلماء
فأما من لم يوقعها جملة فاحتجوا بأنه طلاق بدعة محرم والبدعة مردودة وقد اعترف أبو محمد ابن حزم بانها لو كانت بدعة محرمة لوجب أن ترد وتبطل ولكنه اختار مذهب الشافعي أن جمع الثلاث جائز غير محرم وسيأتي حجة هذا القول
وأما من جعلها واحدة فاحتج بالنص والقياس فأما النص فما رواه معمر وابن جريج عن ابن طاووس عن أبيه أن أبا الصهباء قال لابن عباس : ألم تعلم أن الثلاث كانت تجعل واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبي بكر وصدرا من إمارة عمر ؟ قال نعم رواه مسلم في صحيحه
وفي لفظ : ألم تعلم أن الثلاث كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر ترد إلى واحدة ؟ قال : نعم
وقال أبو داود : حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الرزاق أن ابن جريج قال : أخبرني بعض بني أبى رافع مولى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن عكرمة عن ابن عباس قال : [ طلق عبد يزيد - أبو ركانة وإخوته - أم ركانة ونكح امرأة من مزينة فجاءت النبي صلى الله عليه و سلم فقالت : ما يغني عني إلا كما تغني هذه الشعرة لشعرة أخذتها من رأسها ففرق بيني وبينه فأخذت النبي صلى الله عليه و سلم حمية فدعا بركانة وإخوته ثم قال لجلسائه : ألا ترون أن فلانا يشبه منه كذا وكذا من عبد يزيد وفلانا منه كذا وكذا ؟ قالوا : نعم قال النبي صلى الله عليه و سلم لعبد يزيد : طلقها ففعل ثم قال : راجع امرأتك أم ركانة وإخوته فقال : إنى طلقتها ثلاثا يا رسول الله قال : قد علمت راجعها ] وتلا : { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن }
وقال الإمام أحمد : حدثنا سعد بن إبراهيم قال : حدثنا أبي عن محمد بن إسحاق قال : حدثني داود بن الحصين عن عكرمة مولى ابن عباس عن عبد الله بن عباس قال : [ طلق ركانة بن عبد يزيد أخو بني المطلب امرأته ثلاثا في مجلس وحد فحزن عليها حزنا شديدا قال : فسأله رسول الله صلى الله عليه و سلم كيف طلقتها : فقال : طلقتها ثلاثا فقال : في مجلس واحد قال : نعم قال : فإنما تلك واحدة فارجعها إن شئت ] قال : فراجعها فكان ابن عباس يرى أنما الطلاق عند كل طهر
قالوا : وأما القياس فقد تقدم أن جمع الثلاث محرم وبدعة والبدعة مردودة لأنها ليست على أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم قالوا : وسائر ما تقدم في بيان التحريم يدل على عدم وقوعها جملة قالوا : ولو لم يكن معنا إلا قوله تعالى : { فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله } [ النور : 6 ] وقوله : { ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله } [ النور : 8 ] قالوا : وكذلك كل ما يعتبر له التكرار من حلف أو إقرار أو شهادة وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ تحلفون خمسين يمينا وتستحقون دم صاحبكم ]
فلو قالوا : نحلف بالله خمسين يمينا : إن فلانا قتله كانت يمينا واحدة قالوا : وكذلك الإقرار بالزنى كما في الحديث : أن بعض الصحابة قال لماعز : إن أقررت أربعا رجمك رسول الله صلى الله عليه و سلم فهذا لا يعقل أن تكون الأربع فيه مجموعة بفم واحد
وأما الذين فرقوا بين المدخول بها وغيرها فلهم حجتان
إحداهما : ما رواه أبو داود بإسناد صحيح عن طاووس أن رجلا يقال له : أبو الصهباء كان كثير السؤال لابن عباس قال له : أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبي بكر وصدرا من إمارة عمر ؟ فلما رأى عمر الناس قد تتايعوا فيها قال أجيزوهن عليهم
الحجة الثانية : أنها تبين بقوله : أنت طالق فيصادفها ذكر الثلاث وهى بائن فتلغو ورأى هؤلاء أن إلزام عمر بالثلاث هو في حق المدخول بها وحديث أبي الصهباء في غير المدخول بها قالوا : ففي هذا التفريق موافقة المنقول من الجانبين وموافقة القياس وقال بكل قول من هذه الأقوال جماعة من أهل الفتوى كما حكاه أبو محمد ابن حزم وغيره ولكن عدم الوقوع جملة هو مذهب الإمامية وحكوه عن جماعة من أهل البيت
قال الموقعون للثلاث : الكلام معكم في مقامين
أحدهما : تحريم جمع الثلاث والثاني : وقوعها جملة ولو كان محرمة ونحن نتكلم معكم في المقامين فأما الأول :
فقد قال الشافعي وأبو ثور وأحمد بن حنبل في إحدى الروايات عنه وجماعة من أهل الظاهر : إن جمع الثلاث سنة واحتجوا عليه بقوله تعالى : { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } [ البقرة : 236 ] ولم يفرق بين أن تكون الثلاث مجموعة أو مفرقة ولا يجوز أن نفرق بين ما جمع الله بينه كما لا نجمع بين ما فرق الله بينه وقال تعالى : { وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن } [ البقرة : 227 ] ولم يفرق وقال : { لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن } الآية ولم يفرق وقال : { وللمطلقات متاع بالمعروف } [ البقرة : 241 ] وقال : { يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن } [ الأحزاب : 49 ] ولم يفرق قالوا : وفي الصحيحين أن عويمرا العجلاني طلق امرأته ثلاثا بحضرة رسول الله صلى الله عليه و سلم قبل أن يأمره بطلاقها قالوا : فلو كان جمع الثلاث معصية لما أقر عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا يخلو طلاقها أن يكون قد وقع وهي امرأته أو حين حرمت عليه باللعان فإن كان الأول فالحجة منه ظاهرة وإن كان الثاني فلا شك أنه طلقها وهو يظنها امرأته فلو كان حراما لبينها له رسول الله صلى الله عليه و سلم وإن كانت قد حرمت عليه قالوا : وفي صحيح البخاري من حديث القاسم بن محمد عن عائشة أم المؤمنين أن رجلا طلق امرأته ثلاثا فتزوجت فطلقت فسئل رسول الله صلى الله عليه و سلم أتحل للأول ؟ قال : [ لا حتى يذوق عسيلتها كما ذاق الأول ] فلم ينكر صلى الله عليه و سلم ذلك وهذا يدل على إباحة جمع الثلاث وعلى وقوعها إذ لو لم تقع لم يوقف رجوعها إلى الأول على ذوق الثاني عسيلتها
قالوا : وفي الصحيحين من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن [ أن فاطمة بنت قيس أخبرته أن زوجها أبا حفص بن المغيرة المخزومي طلقها ثلاثا ثم انطلق إلى اليمن فانطلق خالد بن الوليد في نفر فأتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم في بيت ميمونة أم المؤمنين فقالوا : إن أبا حفص طلق امرأته ثلاثا فهل لها من نفقة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ليس لها نفقة وعليها العدة ]
وفي صحيح مسلم في هذه القصة : قالت فاطمة فأتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ كم طلقك ؟ قلت : ثلاثا فقال : صدق ليس لك نفقة ]
وفي لفظ له : قالت : يا رسول الله ! إن زوجي طلقني ثلاثا وإني أخاف أن يقتحم علي
وفي لفظ له : عنها أن النبي صلى الله عليه و سلم قال في المطلقة ثلاثا : [ ليس لها سكنى ولا نفقة ]
قالوا : وقد روى عبد الرزاق في مصنفه عن يحيى بن العلاء عن عبيد الله بن الوليد الوصافي عن إبراهيم بن عبيد الله بن عبادة بن الصامت عن داود بن عبادة بن الصامت قال : طلق جدي امرأة له ألف تطليقة فانطلق أبي إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكر له ذلك فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ ما اتقى الله جدك أما ثلاث فله وأما تسعمائة وسبعة وتسعون فعدوان وظلم إن شاء الله عذبه وإن شاء غفر له ]
ورواه بعضهم عن صدقة بن أبي عمران عن إبراهيم بن عبيد الله بن عبادة بن الصامت عن أبيه عن جده قال : [ طلق بعض آبائي امرأته فانطلق بنوه إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا : يا رسول الله ! إن أبانا طلق أمنا ألفا فهل له من مخرج ؟ فقال : إن أباكم لم يتق الله فيجعل له مخرجا بانت منه بثلاث على غير السنة وتسعمائة وسبعة وتسعون إثم في عنقه ]
قالوا : وروى محمد بن شاذان عن معلى بن منصور عن شعيب بن زريق أن عطاء الخراساني حدثهم عن الحسن قال : حدثنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه طلق امرأته وهي حائض ثم أراد أن يتبعها بطلقتين أخريين عند القرءين الباقيين فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ يا ابن عمر ! ما هكذا أمرك الله أخطأت السنة ] وذكر الحديث وفيه فقلت : يا رسول الله ! لو كنت طلقتها ثلاثا أكان لي أن أجمعها قال : [ لا كانت تبين وتكون معصية ]
قالوا : وقد روى أبو داود في سننه : عن نافع بن عجير بن عبد يزيد بن ركانة أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته سهيمة البتة فأخبر النبي صلى الله عليه و سلم بذلك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ والله ما أردت إلا واحدة ؟ فقال ركانة : والله ما أردت إلا واحدة فردها إليه رسول الله صلى الله عليه و سلم ] فطلقها الثانية في زمن عمر والثالثة في زمن عثمان
وفي جامع الترمذي : [ عن عبد الله بن علي بن يزيد بن ركانة عن أبيه عن جده أنه طلق امرأته البتة فأتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : ما أردت بها ؟ قال : واحدة قال : آلله قال : آلله قال : هو على ما أردت ] قال الترمذي : لا نعرفه إلا من هذا الوجه وسألت محمدا - يعني البخاري - عن هذا الحديث ؟ فقال : فيه اضطراب
ووجه الإستدلال بالحديث أنه صلى الله عليه و سلم أحلفه أنه أراد بالبتة واحدة فدل على أنه لو أراد بها أكثر لوقع ما أراده ولو لم يفترق الحال لم يحلفه
قالوا : وهذا أصح من حديث ابن جريج عن بعض بني أبي رافع عن عكرمة عن ابن عباس أنه طلقها ثلاثا قال أبو داود : لأنهم ولد الرجل وأهله أعلم به أن ركانة إنما طلقها البتة
قالوا : وابن جريج إنما رواه عن بعض بني أبي رافع فإن كان عبيد الله فهو ثقة معروف وإن كان غيره من إخوته فمجهول العدالة لا تقوم به حجة
قالوا : وأما طريق الإمام أحمد ففيها ابن إسحاق والكلام فيه معروف وقد حكى الخطابي أن الإمام أحمد كان يضعف طرق هذا الحديث كلها
قالوا : وأصح ما معكم حديث أبي الصهباء عن ابن عباس وقد قال البيهقي : هذا الحديث أحد ما اختلف فيه البخاري ومسلم فأخرجه مسلم وتركه البخاري وأظنه تركه لمخالفته سائر الروايات عن ابن عباس ثم ساق الروايات عنه بوقوع الثلاث ثم قال : فهذه رواية سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح ومجاهد وعكرمة وعمرو بن دينار ومالك بن الحارث ومحمد بن إياس بن البكير قال : ورويناه عن معاوية بن أبى عياش الأنصاري كلهم عن ابن عباس أنه أجاز الثلاث وأمضاهن
وقال ابن المنذر : فغير جائز أن يظن بابن عباس أنه يحفط عن النبي صلى الله عليه و سلم شيئا ثم يفتي بخلافه
وقال الشافعي : فإن كان معنى قول ابن عباس : إن الثلاث كانت تحسب على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم واحدة يعني أنه بأمر النبي صلى الله عليه و سلم فالذي يشبه - والله أعلم - أن يكون ابن عباس قد علم أنه كان شيئا فنسخ قال البيهقي : ورواية عكرمة عن ابن عباس فيها تأكيد لصحة هذا التأويل - يريد البيهقي - ما رواه أبو داود والنسائي من حديث عكرمة في قوله تعالى : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } الآية وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثا فنسخ ذلك فقال : { الطلاق مرتان }
قالوا : فيحتمل أن الثلاث كانت تجعل واحدة من هذا الوقت بمعنى أن الزوج كان يتمكن من المراجعة بعدها كما يتمكن من المراجعة بعد الواحدة ثم نسخ ذلك
وقال ابن سريج : يمكن أن يكون ذلك إنما جاء في نوع خاص من الطلاق الثلاث وهو أن يفرق بين الألفاظ كأن يقول : أنت طالق أنت طالق أنت طالق وكان في عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم وعهد أبي بكر رضي الله عنه الناس على صدقهم وسلامتهم لم يكن فيهم الخب والخداع فكانوا يصدقون أنهم أرادوا به التأكيد ولا يريدون به الثلاث فلما رأى عمر رضي الله عنه في زمانه أمورا ظهرت وأحوالا تغيرت منع من حمل اللفظ على التكرار وألزمهم الثلاث
وقالت طائفة : معنى الحديث أن الناس كانت عادتهم على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم إيقاع الواحدة ثم يدعها حتى تنقضي عدتها ثم اعتادوا الطلاق الثلاث جملة وتتايعوا فيه ومعنى الحديث على هذا : كان الطلاق الذي يوقعه المطلق الآن ثلاثا يوقعه على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبي بكر واحدة فهو إخبار عن الواقع لا عن المشروع
وقالت طائفة : ليس في الحديث بيان أن رسول الله صلى الله عليه و سلم هو الذي كان يجعل الثلاث واحدة ولا أنه أعلم بذلك فأقر عليه ولا حجة إلا فيما قاله أو فعله أو علم به فأقر عليه ولا يعلم صحة واحدة من هذه الأمور في حديث أبي الصهباء
قالوا : وإذا اختلفت علينا الأحاديث نظرنا إلى ما عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فإنهم أعلم بسنته فنظرنا فإذا الثابت عن عمر بن الخطاب الذي لا يثبت عنه غيره ما رواه عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل حدثنا زيد بن وهب أنه رفع إلى عمر بن الخطاب رجل طلق امرأته ألفا فقال له عمر : أطلقت امرأتك ؟ فقال : إنما كنت ألعب فعلاه عمر بالدرة وقال : إنما يكفيك من ذلك ثلاث
وروى وكيع عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت قال : جاء رجل إلى علي بن أبي طالب فقال : إني طلقت امرأتي ألفا فقال له علي : بانت منك بثلاث واقسم سائرهن بين نسائك
وروى وكيع أيضا عن جعفر بن برقان عن معاوية بن أبي يحيى قال : جاء رجل إلى عثمان بن عفان فقال : طلقت امرأتي ألفا فقال : بانت منك بثلاث
وروى عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن عمرو بن مرة عن سعيد بن جبير قال : قال رجل لابن عباس : طلقت امرأتي ألفا فقال له ابن عباس : ثلاث تحرمها عليك وبقيتها عليك وزر اتخذت آيات الله هزوا
وروى عبد الرزاق أيضا عن معمر عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة قال : جاء رجل إلى ابن مسعود فقال : إني طلقت امرأتي تسعا وتسعين فقال له ابن مسعود : ثلاث تبينها منك وسائرهن عدوان
وذكر أبو داود في سننه عن محمد بن إياس أن ابن عباس وأبا هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص سئلوا عن البكر يطلقها زوجها ثلاثا فكلهم قال : لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره
قالوا : فهؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم كما تسمعون قد أوقعوا الثلاث جملة ولو لم يكن فيهم إلا عمر المحدث الملهم وحده لكفى فإنه لا يظن به تغيير ما شرعه النبي صلى الله عليه و سلم من الطلاق الرجعي فيجعله محرما وذلك يتضمن تحريم فرج المرأة على من لم تحرم عليه وإباحته لمن لا تحل له ولو فعل ذلك عمر لما أقره عليه الصحابة فضلا عن أن يوافقوه ولو كان عند ابن عباس حجة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أن الثلاث واحدة لم يخالفها ويفتي بغيرها موافقة لعمر وقد علم مخالفته له في العول وحجب الأم بالإثنين من الإخوة والأخوات وغير ذلك
قالوا : ونحن في هذه المسألة تبع لأصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فهم أعلم بسنته وشرعه ولو كان مستقرا من شريعته أن الثلاث واحدة وتوفي والأمر على ذلك لم يخف عليهم ويعلمه من بعدهم ولم يحرموا الصواب فيه ويوفق له من بعدهم ويروي حبر الأمة وفقيهها خبر كون الثلاث واحدة ويخالفه
قال المانعون من وقوع الثلاث : التحاكم في هذه المسألة وغيرها إلى من أقسم الله سبحانه وتعالى أصدق قسم وأبره أنا لا نؤمن حتى نحكمه فيما شجر بيننا ثم نرضى بحكمه ولا يلحقنا فيه حرج ونسلم له تسليما لا إلى غيره كائنا من كان اللهم إلا أن تجمع أمته إجماعا متيقنا لا نشك فيه على حكم فهو الحق الذي لا يجوز خلافه ويأبى الله أن تجتمع الأمة على خلاف سنة ثابتة عنه أبدا ونحن قد أوجدناكم من الأدلة ما تثبت المسألة به بل وبدونه ونحن نناظركم فيما طعنتم به في تلك الأدلة وفيما عارضتمونا به على أنا لا نحكم على أنفسنا إلا نصا عن الله أو نصا ثابتا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أو إجماعا متيقنا لا شك فيه وما عدا هذا فعرضة للنزاع وغايته أن يكون سائغ الإتباع لا لازمه فلتكن هذه المقدمة سلفا لنا عندكم وقد قال تعالى : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } [ النساء : 59 ] فقد تنازعنا نحن وأنتم في هذه المسألة فلا سبيل إلى ردها إلى غير الله ورسوله البتة وسيأتي أننا أحق بالصحابة وأسعد بهم فيها فنقول :
أما منعكم لتحريم جمع الثلاث فلا ريب أنها مسألة نزاع ولكن الأدلة الدالة على التحريم حجة عليكم
أما قولكم : إن القرآن دل على جواز الجمع فدعوى غير مقبولة بل باطلة وغاية ما تمسكتم به إطلاق القرآن للفظ الطلاق وذلك لا يعم جائزه ومحرمه كما لا يدخل تحته طلاق الحائض وطلاق الموطوءة في طهرها وما مثلكم في ذلك إلا كمثل من عارض السنة الصحيحة في تحريم الطلاق المحرم بهذه الإطلاقات سواء ومعلوم أن القرآن لم يدل على جواز كل طلاق حتى تحملوه ما لا يطيقه وإنما دل على أحكام الطلاق والمبين عن الله عز و جل بين حلاله وحرامه ولا ريب أنا أسعد بظاهر القرآن كما بينا في صدر الإستدلال وأنه سبحانه لم يشرع قط طلاقا بائنا بغير عوض لمدخول بها إلا أن يكون آخر العدد وهذا كتاب الله بيننا وبينكم وغاية ما تمسكتم به ألفاظ مطلقة قيدتها السنة وبينت شروطها وأحكامها
وأما استدلالكم بأن الملاعن طلق امرأته ثلاثا بحضرة رسول الله صلى الله عليه و سلم فما أصحه من حديث وما أبعده من استدلالكم على جواز الطلاق الثلاث بكلمة واحدة في نكاح يقصد بقاؤه ودوامه ثم المستدل بهذا إن كان ممن يقول : إن الفرقة وقعت عقيب لعان الزوج وحده كما يقوله الشافعي أو عقيب لعانهما وإن لم يفرق الحاكم كما يقوله أحمد في إحدى الروايات عنه فالإستدلال به باطل لأن الطلاق الثلاث حينئذ لغو لم يفد شيئا وإن كان ممن يوقف الفرقة على تفريق الحاكم لم يصح الإستدلال به أيضا لأن هذا النكاح لم يبق سبيل إلى بقائه ودوامه بل هو واجب الإزالة ومؤبد التحريم فالطلاق الثلاث مؤكد لمقصود اللعان ومقرر له فإن غايته أن يحرمها عليه حتى تنكح زوجا غيره وفرقة اللعان تحرمها عليه على الأبد ولا يلزم من نفوذ الطلاق في نكاح قد صار مستحق التحريم على التأبيد نفوذه في نكاح قائم مطلوب البقاء والدوام ولهذا لو طلقها في هذا الحال وهي حائض أو نفساء أو في طهر جامعها فيه لم يكن عاصيا لأن هذا النكاح مطلوب الإزالة مؤيد التحريم ومن العجب أنكم متمسكون بتقرير رسول الله صلى الله عليه و سلم على هذا الطلاق المذكور ولا تتمسكون بإنكاره وغضبه للطلاق الثلاث من غير الملاعن وتسميته لعبا بكتاب الله كما تقدم فكم بين هذا الإقرار وهذا الإنكار ؟ ونحن بحمد الله قائلون بالأمرين مقرون لما أقره رسول الله صلى الله عليه و سلم منكرون لما أنكره
وأما استدلالكم بحديث عائشة رضي الله عنها أن رجلا طلق امرأته ثلاثا فتزوجت فسئل رسول الله صلى الله عليه و سلم هل تحل للأول ؟ قال : [ لا حتى تذوق العسيلة ] فهذا لا ننازعكم فيه نعم هو حجة على من اكتفى بمجرد عقد الثاني ولكن أين في الحديث أنه طلق الثلاث بفم واحد بل الحديث حجة لنا فإنه لا يقال : فعل ذلك ثلاثا وقال ثلاثا إلا من فعل وقال : مرة بعد مرة هذا هو المعقول في لغات الأمم عربهم وعجمهم كما يقال : قذفه ثلاثا وشتمه ثلاثا وسلم عليه ثلاثا
قالوا : وأما استدلالكم بحديث فاطمة بنت قيس فمن العجب العجاب فإنكم خالفتموه فيما هو صريح فيه لا يقبل تأويلا صحيحا وهو سقوط النفقة والكسوة للبائن مع صحته وصراحته وعدم ما يعارضه مقاوما له وتمسكتم به فيما هو مجمل بل بيانه في نفس الحديث مما يبطل تعلقكم به فإن قوله : طلقها ثلاثا ليس بصريح في جمعها بل كما تقدم كيف وفي الصحيح في خبرها نفسه من رواية الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن زوجها أرسل إليها بتطليقة كانت بقيت لها من طلاقها
وفي لفظ في الصحيح : أنه طلقها آخر ثلاث تطليقات وهو سند صحيح متصل مثل الشمس فكيف ساغ لكم تركه إلى التمسك بلفظ مجمل وهو أيضا حجة عليكم كما تقدم ؟
قالوا : وأما استدلالكم بحديث عبادة بن الصامت الذي رواه عبد الرزاق فخبر في غاية السقوط لأن في طريقه يحيى بن العلاء عن عبيد الله بن الوليد الوصافي عن إبراهيم بن عبيد الله - ضعيف عن هالك عن مجهول ثم الذي يدل على كذبه وبطلانه أنه لم يعرف في شئ من الآثار صحيحا ولا سقيما ولا متصلا ولا منقطعا أن والد عبادة بن الصامت أدرك الإسلام فكيف بجده فهذا محال بلا شك وأما حديث عبد الله بن عمر فأصله صحيح بلا شك لكن هذه الزيادة والوصلة التي فيه : فقلت : يا رسول الله : لو طلقتها ثلاثا أكانت تحل لي ؟ إنما جاءت من رواية شعيب بن زريق وهو الشامي وبعضهم يقلبه فيقول : زريق بن شعيب وكيفما كان فهو ضعيف ولو صح لم يكن فيه حجة لأن قوله : لو طلقتها ثلاثا بمنزلة قوله : لو سلمت ثلاثا أو أقررت ثلاثا أو نحوه مما لا يعقل جمعه
وأما حديث نافع بن عجير الذي رواه أبو داود أن ركانة طلق امرأته البتة فأحلفه رسول الله صلى الله عليه و سلم ما أراد إلا واحدة فمن العجب تقديم نافع بن عجير المجهول الذي لا يعرف حاله البتة ولا يدرى من هو ولا ما هو على ابن جريج ومعمر وعبد الله بن طاووس في قصة أبي الصهباء وقد شهد إمام أهل الحديث محمد بن إسماعيل البخاري بأن فيه اضطرابا هكذا قال الترمذي في الجامع وذكر عنه في موضع آخر : أنه مضطرب فتارة يقول : طلقها ثلاثا وتارة يقول : واحدة وتارة يقول : البتة وقال الإمام أحمد : وطرقه كلها ضعيفة وضعفه أيضا البخاري حكاه المنذري عنه
ثم كيف يقدم هذا الحديث المضطرب المجهول رواية على حديث عبد الرزاق عن ابن جريج لجهالة بعض بني أبي رافع هذا وأولاده تابعيون وإن كان عبيد الله أشهرهم وليس فيهم متهم بالكذب وقد روى عنه ابن جريج ومن يقبل رواية المجهول أو يقول : رواية العدل عنه تعديل له فهذا حجة عنده فأما أن يضعفه ويقدم عليه رواية من هو مثله في الجهالة أو أشد فكلا فغاية الأمر أن تتساقط روايتا هذين المجهولين ويعدل إلى غيرهما وإذا فعلنا ذلك نظرنا في حديث سعد بن إبراهيم فوجدناه صحيح الإسناد وقد زالت علة تدليس محمد بن إسحاق بقوله : حدثني داود بن الحصين وقد احتج أحمد بإسناده في مواضع وقد صحح هو وغيره بهذا الإسناد بعينه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم رد زينب على زوجها أبي العاص بن الربيع بالنكاح الأول ولم يحدث شيئا
وأما داود بن الحصين عن عكرمة فلم تزن الأئمة تحتج به وقد احتجوا به في حديث العرايا فيما شك فيه ولم يجزم به من تقديرها بخمسة أوسق أو دونها مع كونها على خلاف الأحاديث التي نهى فيها عن بيع الرطب بالتمر فما ذنبه في هذا الحديث سوى رواية ما لا يقولون به وإن قدحتم في عكرمة - ولعلكم فاعلون - جاءكم ما لا قبل لكم به من التناقض فيما احتججتم به أنتم وأئمة الحديث من روايته وارتضاء البخاري لإدخال حديثه في صحيحه (5/226)
فصل
وأما تلك المسالك الوعرة التي سلكتموها في حديث أبي الصهباء فلا يصح شئ منها
أما المسلك الأول وهو انفراد مسلم بروايته وإعراض البخاري عنه فتلك شكاة ظاهر عنك عارها وما ضر ذلك الحديث انفراد مسلم به شيئا ثم هل تقبلون أنتم أو أحد مثل هذا في كل حديث ينفرد به مسلم عن البخاري وهل قال البخاري قط : إن كل حديث لم أدخله في كتابي فهو باطل أو ليس بحجة أو ضعيف وكم قد احتج البخاري بأحاديث خارج الصحيح ليس لها ذكر في صحيحه وكم صحح من حديث خارج عن صحيحه فأما مخالفة سائر الروايات له عن ابن عباس فلا ريب أن عن ابن عباس روايتين صحيحتين بلا شك إحداهما : توافق هذا الحديث والأخرى : تخالفه فإن أسقطنا رواية برواية سلم الحديث على أنه بحمد الله سالم ولو اتفقت الروايات عنه على مخالفته فله أسوة أمثاله وليس بأول حديث خالفه راويه فنسألكم : هل الأخذ بما رواه الصحابي عندكم أو بما رآه ؟ فإن قلتم : الأخذ بروايته وهو قول جمهوركم بل جمهور الأمة على هذا كفيتمونا مؤونة الجواب وإن قلتم : الأخذ برأيه أريناكم من تناقضكم ما لا حيلة لكم في دفعه ولا سيما عن ابن عباس نفسه فإنه روى حديث بريرة وتخييرها ولم يكن بيعها طلاقا ورأى خلافه وأن بيع الأمة طلاقها فأخذتم - وأصبتم - بروايته وتركتم رأيه فهلا فعلتم ذلك فيما نحن فيه وقلتم : الرواية معصومة وقول الصحابي غير معصوم ومخالفته لما رواه يحتمل احتمالات عديدة من نسيان أو تأويل أو اعتقاد معارض راجح في ظنه أو اعتقاد أنه منسوخ أو مخصوص أو غير ذلك من الإحتمالات فكيف يسوغ ترك روايته مع قيام هذه الإحتمالات ؟ وهل هذا إلا ترك معلوم لمظنون بل مجهول ؟ قالوا : وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه حديث التسبيح من ولوغ الكلب وأفتى بخلافه فأخذتم بروايته وتركتم فتواه ولو تتبعنا ما أخذتم فيه برواية الصحابي دون فتواه لطال
قالوا : واما دعواكم نسخ الحديث فموقوفة على ثبوت معارض مقاوم متراخ فأين هذا ؟ !
وأما حديث عكرمة عن ابن عباس في نسخ المراجعة بعد الطلاق الثلاث فلو صح لم يكن فيه حجة فإنه إنما فيه أن الرجل كان يطلق امرأته ويراجعها بغير عدد فنسخ ذلك وقصر على ثلاث فيها تنقطع الرجعة فأين في ذلك الإلزام بالثلاث بفم واحد ثم كيف يستمر المنسوخ على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر لا تعلم به الأمة وهو من أهم الأمور المتعلقة بحل الفروج ثم كيف يقول عمر : إن الناس قد استعجلوا في شئ كانت لهم فيه أناة وهل للأمة أناة في المنسوح بوجه ما ؟ ! ثم كيف يعارض الحديث الصحيح بهذا الذي فيه علي بن الحسين بن واقد وضعفه معلوم ؟
وأما حملكم الحديث على قول المطلق : أنت طالق أتت طالق أنت طالق ومقصوده التأكيد بما بعد الأول فسياق الحديث من أوله إلى آخره يرده فإن هذا الذي أولتم الحديث عليه لا يتغير بوفاة رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا يختلف على عهده وعهد خلفائه وهلم جرا إلى آخر الدهر ومن ينويه في قصد التأكيد لا يفرق بين بر وفاجر وصادق وكاذب بل يرده إلى نيته وكذلك من لا يقبله في الحكم لا يقبله مطلقا برا كان أو فاجرا
وأيضا فإن قوله : إن الناس قد استعجلوا وتتايعوا في شئ كانت لهم فيه أناة فلو أنا أمضيناه عليهم إخبار من عمر بأن الناس قد استعجلوا ما جعلهم الله في فسحة منه وشرعه متراخيا بعضه عن بعض رحمة بهم ورفقا وأناة لهم لئلا يندم مطلق فيذهب حبيبه من يديه من أول وهلة فيعز عليه تداركه فجعل له أناة وسهلة يستعتبه فيها ويرضيه ويزول ما أحدثه العتب الداعي إلى الفراق ويراجع كل منهما الذي عليه بالمعروف فاستعجلوا فيما جعل لهم فيه أناة ومهلة وأوقعوه بفم واحد فرأى عمر رضي الله عنه أنه يلزمهم ما التزموه عقوبة لهم فإذا علم المطلق أن زوجته وسكنه تحرم عليه من أول مرة بجمعه الثلاث كف عنها ورجع إلى الطلاق المشروع المأذون فيه وكان هذا من تأديب عمر لرعيته لما أكثروا من الطلاق الثلاث كما سيأتي مزيد تقريره عند الإعتذار عن عمر رضي الله عنه في إلزامه بالثلاث هذا وجه الحديث الذي لا وجه له غيره فأين هذا من تأويلكم المستكره المستبعد الذي لا توافقه ألفاظ الحديث بل تنبو عنه وتنافره
وأما قول من قال : إن معناه كان وقوع الطلاق الثلاث الآن على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم واحدة فإن حقيقة هذا التأويل : كان الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم يطلقون واحدة وعلى عهد عمر صاروا يطلقون ثلاثا والتأويل إذا وصل إلى هذا الحد كان من باب الألغاز والتحريف لا من باب بيان المراد ولا يصح ذلك بوجه ما فإن الناس ما زالوا يطلقون واحدة وثلاثا وقد طلق رجال نساءهم على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم ثلاثا فمنهم من ردها إلى واحدة كما في حديث عكرمة عن ابن عباس ومنهم من أنكر عليه وغضب وجعله متلاعبا بكتاب الله ولم يعرف ما حكم به عليهم وفيهم من أقره لتأكيد التحريم الذي أوجبه اللعان ومنهم من ألزمه بالثلاث لكون ما أتى به من الطلاق آخر الثلاث فلا يصح أن يقال : إن الناس ما زالوا يطلقون واحدة إلى أثناء خلافة عمر فطلقوا ثلاثا ولا يصح أن يقال : إنهم قد استعجلوا في شئ كانت لهم فيه أناة فنمضيه عليهم ولا يلائم هذا الكلام الفرق بين عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم وبين عهده بوجه ما فإنه ماض منكم على عهده وبعد عهده
ثم إن في بعض ألفاظ الحديث الصحيحة : ألم تعلم أنه من طلق ثلاثا جعلت واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم
وفي لفظ : أما علمت أن الرجل كان إذ طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر فقال ابن عباس : بلى كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبي بكر وصدرا من إمارة عمر فلما رأى الناس - يعني عمر - قد تتايعوا فيها قال : أجيزوهن عليهم هذا لفظ الحديث وهو بأصح إسناد وهو لا يحتمل ما ذكرتم من التأويل بوجه ما ولكن هذا كله عمل من جعل الأدلة تبعا للمذهب فاعتقد ثم استدل وأما من جعل المذهب تبعا للدليل واستدل ثم اعتقد لم يمكنه هذا العمل
وأما قول من قال : ليس في الحديث بيان أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان هو الذي يجعل ذلك ولا أنه علم به وأقره عليه فجوابه أن يقال : سبحانك هذا بهتان عظيم أن يستمر هذا الجعل الحرام المتضمن لتغيير شرع الله ودينه وإباحة الفرج لمن هو عليه حرام وتحريمه على من هو عليه حلال على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه خير الخلق وهم يفعلونه ولا يعلمونه ولا يعلمه هو والوحي ينزل عليه وهو يقرهم عليه فهب أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يكن يعلمه وكان الصحابة يعلمونه ويبدلون دينه وشرعه والله يعلم ذلك ولا يوحيه إلى رسوله ولا يعلمه به ثم يتوفى الله رسوله صلى الله عليه و سلم والأمر على ذلك فيستمر هذا الضلال العظيم والخطأ المبين عندكم مدة خلافة الصديق كلها يعمل به ولا يغير إلى أن فارق الصديق الدنيا واستمر الخطأ والضلال المركب صدرا من خلافة عمر حتى رأى بعد ذلك برأيه أن يلزم الناس بالصواب فهل في الجهل بالصحابة وما كانوا عليه في عهد نبيهم وخلفائه أقبح من هذا وتالله لو كان جعل الثلاث واحدة خطأ محضا لكان أسهل من هذا الخطإ الذي ارتكبتموه والتأويل الذي تأولتموه ولو تركتم المسألة بهيأتها لكان أقوى لشأنها من هذه الأدلة والأجوبة
قالوا : وليس التحاكم في هذه المسألة إلى مقلد متعصب ولا هياب للجمهور ولا مستوحش من التفرد إذا كان الصواب في جانبه وإنما التحاكم فيها إلى راسخ في العلم قد طال منه باعه ورحب بنيله ذراعه وفرق بين الشبهة والدليل وتلقى الأحكام من نفس مشكاة الرسول وعرف المراتب وقام فيها بالواجب وباشر قلبه أسرار الشريعة وحكمها الباهرة وما تضمنته من المصالح الباطنة والظاهرة وخاض في مثل هذه المضايق لججها واستوفى من الجانبين حججها والله المستعان وعليه التكلان
قالوا : وأما قولكم : إذا اختلفت علينا الأحاديث نظرنا فيما عليه الصحابة رضي الله عنهم فنعم والله وحيهلا بيرك الإسلام وعصابة الإيمان
( فلا تطلب لي الأعواض بعدهم ... فإن قلبي لا يرضى بغيرهم )
ولكن لا يليق بكم أن تدعونا إلى شئ وتكونوا أول نافر عنه ومخالف له فقد توفي النبي صلى الله عليه و سلم عن أكثر من مائة ألف عين كلهم قد رآه وسمع منه فهل صح لكم عن هؤلاء كلهم أو عشرهم أو عشر عشرهم أو عشر عشر عشرهم القول بلزوم الثلاث بفم واحد ؟ هذا ولو جهدتم كل الجهد لم تطيقوا نقله عن عشرين نفسا منهم أبدا مع اختلاف عنهم في ذلك فقد صح عن ابن عباس القولان وصح عن ابن مسعود القول باللزوم وصح عنه التوقف ولو كاثرناكم بالصحابة الذين كان الثلاث على عهدهم واحدة لكانوا أضعاف من نقل عنه خلاف ذلك ونحن نكاثركم بكل صحابي مات إلى صدر من خلافة عمر ويكفينا مقدمهم وخيرهم وأفضلهم ومن كان معه من الصحابة على عهده بل لو شئنا لقلنا ولصدقنا : إن هذا كان إجماعا قديما لم يختلف فيه على عهد الصديق اثنان ولكن لا ينقرض عصر المجمعين حتى حدث الإختلاف فلم يستقر الإجماع الأول حتى صار الصحابة على قولين واستمر الخلاف بين الأمة في ذلك إلى اليوم ثم نقول : لم يخالف عمر إجماع من تقدمه بل رأى إلزامهم بالثلاث عقوبة لهم لما علموا أنه حرام وتتايعوا فيه ولا ريب أن هذا سائغ للأئمة أن يلزموا الناس بما ضيقوا به على أنفسهم ولم يقبلوا فيه رخصة الله عز و جل وتسهيله بل اختاروا الشدة والعسر فكيف بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكمال نظره للأمة وتأديبه لهم ولكن العقوبة تختلف باختلاف الأزمنة والأشخاص والتمكن من العلم بتحريم الفعل المعاقب عليه وخفائه وأمير المؤمنين عمر رضي الله عنه لم يقل لهم : إن هذا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وإنما هو رأي رآه مصلحة للأمة يكفهم بها عن التسارع إلى إيقاع الثلاث ولهذا قال : فلو أنا أمضيناه عليهم وفي لفظ آخر : [ فأجيزوهن عليهم ] أفلا يرى أن هذا رأي منه رآه للمصلحة لا إخبار عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ولما علم رضي الله عنه أن تلك الأناة والرخصة نعمة من الله على المطلق ورحمة به وإحسان إليه وأنه قابلها بضدها ولم يقبل رخصة الله وما جعله له من الأناة عاقبه بأن حال بينه وبينها وألزمه ما ألزمه من الشدة والإستعجال وهذا موافق لقواعد الشريعة بل هو موافق لحكمة الله في خلقه قدرا وشرعا فإن الناس إذا تعدوا حدوده ولم يقفوا عندها ضيق عليهم ما جعله لمن اتقاه من المخرج وقد أشار إلى هذا المعنى بعينه من قال من الصحابة للمطلق ثلاثا : إنك لو اتقيت الله لجعل لك مخرجا كما قاله ابن مسعود وابن عباس فهذا نظر أمير المؤمنين ومن معه من الصحابة لا أنه رضي الله غير أحكام الله وجعل حلالها حراما فهذا غاية التوفيق بين النصوص وفعل أمير المؤمنين ومن معه وأنتم لم يمكنكم ذلك إلا بإلغاء أحد الجانبين فهذا نهاية أقدام الفريقين في هذا المقام الضنك والمعترك الصعب وبالله التوفيق (5/242)
حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم في العبد يطلق زوجته تطليقتين ثم تعتق بعد ذلك هل تحل له بدون زوج وإصابة ؟
روى أهل السنن : من حديث أبي الحسن مولى بني نوفل أنه استفتى ابن عباس في مملوك كانت تحته مملوكة فطلقها تطليقتين ثم عتقا بعد ذلك هل يصلح له أن يخطبها ؟ قال : نعم قضى بذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم
وفي لفظ : قال ابن عباس : بقيت لك واحدة قضى به رسول الله
قال الإمام أحمد : عن عبد الرزاق أن ابن المبارك قال لمعمر : من أبو حسن هذا ؟ لقد تحمل صخرة عظيمة انتهى قال المنذري : وأبو حسن هذا قد ذكر بخير وصلاح وقد وثقه أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان غير أن الراوي عنه عمر بن معتب وقد قال علي بن المديني : هو منكر الحديث وقال النسائي : ليس بالقوي
وإذا عتق العبد والزوجة في حباله مالك تمام الثلاث وإن عتق وقد طلقها اثنتين ففيها أربعة أقوال للفقهاء
أحدها : أنها لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره حرة كانت أو أمة وهذا قول الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين بناء على أن الطلاق بالرجال وأن العبد إنما يملك طلقتين ولو كانت زوجته حرة
والثاني : أن له أن يعقد عليها عقدا مستأنفا من غير اشتراط زوج وإصابة كما دل عليه حديث عمر بن معتب هذا وهذا إحدى الروايتين عن أحمد وهو قول ابن عباس وأحد الوجهين للشافعية ولهذا القول فقه دقيق فإنهما إنما حرمتها عليه التطليقتان لنقصه بالرق فإذا عتق وهي في العدة زال النقص ووجد سبب ملك الثلاث وآثار النكاح باقية فملك عليها تمام الثلاث وله رجعتها وإن عتق بعد انقضاء عدتها بانت منه وحلت له بدون زوج وإصابة فليس هذا القول ببعيد في القياس
والثالث : أن له أن يرتجعها في عدتها وأن ينكحها بعدها بدون زوج وإصابة ولو لم يعتق وهذا مذهب أهل الظاهر جميعهم فإن عندهم أن العبد والحر في الطلاق سواء
وذكر سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي معبد مولى ابن عباس عن ابن عباس رضي الله عنهما أن عبدا له طلق امرأته تطليقتين فأمره ابن عباس أن يراجعها فأبى فقال ابن عباس : هي لك فاستحلها بملك اليمين
والقول الرابع : أن زوجته إن كانت حرة ملك عليها تمام الثلاث وإن كانت أمة حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره وهذا قول أبي حنيفة
وهذا موضع اختلف فيه السلف والخلف على أربعة أقوال
أحدها : أن طلاق العبد والحر سواء وهذا مذهب أهل الظاهر جميعهم حكاه عنهم أبو محمد ابن حزم واحتجوا بعموم النصوص الواردة في الطلاق وإطلاقها وعدم تفريقها بين حر وعبد ولم تجمع الأمة على التفريق فقد صح عن ابن عباس أنه أفتى غلاما له برجعة زوجته بعد طلقتين وكانت أمة وفي هذا النقل عن ابن عباس نظر فإن عبد الرزاق روى عن ابن جريج عن عمرو بن دينار أن أبا معبد أخبره أن عبدا كان لابن عباس وكانت له امرأة جارية لابن عباس فطلقها فبتها فقال له ابن عباس : لا طلاق لك فارجعها
قال عبد الرزاق : حدثنا معمر عن سماك بن الفضل أن العبد سأل ابن عمر رضي الله عنهما فقال : لا ترجع إليها وإن ضرب رأسك
فمأخذ هذه الفتوى أن طلاق العبد بيد سيده كما أن نكاحه بيده كما روى عبد الرحمن بن مهدي عن الثوري عن عبد الكريم الجزري عن عطاء عن ابن عباس قال : ليس طلاق العبد ولا فرقته بشئ
وذكر عبد الرزاق عن ابن جريج عن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول في الأمة والعبد : سيدهما يجمع بينهما ويفرق وهذا قول أبي الشعثاء وقال الشعبي : أهل المدينة لا يرون للعبد طلاقا إلا بإذن سيده فهذا مأخذ ابن عباس لا أنه يرى طلاق العبد ثلاثا إذا كانت تحته أمة وما علمنا أحدا من الصحابة قال بذلك
والقول الثاني : أن أي الزوجين رق كان الطلاق بسبب رقه اثنتين كما روى حماد بن سلمة عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : الحر يطلق الأمة تطليقتين وتعتد بحيضتين والعبد يطلق الحرة تطليقتين وتعتد ثلاث حيض وإلى هذا ذهب عثمان البتي
والقول الثالث : أن الطلاق بالرجال فيملك الحر ثلاثا وإن كانت زوجته أمة والعبد ثنتين وإن كانت زوجته حرة وهذا قول الشافعي ومالك وأحمد في ظاهر كلامه هذا قول زيد بن ثابت وعائشة وأم سلمة أمي المؤمنين وعثمان بن عفان وعبد الله بن عباس وهذا مذهب القاسم وسالم وأبي سلمة وعمر بن عبد العزيز ويحيى بن سعيد وربيعة وأبي الزناد وسليمان بن يسار وعمرو بن شعيب وابن المسيب وعطاء
والقول الرابع : أن الطلاق بالنساء كالعدة كما روى شعبة عن أشعث بن سوار عن الشعبي عن مسروق عن ابن مسعود السنة : الطلاق والعدة بالنساء
وروى عبد الرزاق : عن محمد بن يحيى وغير واحد عن عيسى عن الشعبي عن اثني عشر من صحابة النبي صلى الله عليه و سلم قالوا : الطلاق والعدة بالمرأة هذا لفظه وهذا قول الحسن وابن سيرين وقتادة وإبراهيم والشعبي وعكرمة ومجاهد والثوري والحسن بن حي وأبي حنيفة وأصحابه
فإن قيل : فما حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم في هذه المسألة ؟ قيل : قد قال أبو داود : حدثنا محمد بن مسعود حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج عن مظاهر بن أسلم عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ طلاق الأمة تطليقتان وقرؤها حيضتان ]
وروى زكريا بن يحيى الساجي حدثنا محمد بن إسماعيل بن سمرة الأحمسي حدثنا عمر بن شبيب المسلي حدثنا عبد الله بن عيسى عن عطية عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ طلاق الأمة ثنتان وعدتها حيضتان ]
وقال عبد الرزاق : حدثنا ابن جريج قال : كتب إلي عبد الله بن زياد بن سمعان أن عبد الله بن عبد الرحمن الأنصاري أخبره عن نافع عن أم سلمة أم المؤمنين أن غلاما لها طلق امرأة له حرة تطليقتين فاستفتت أم سلمة النبي صلى الله عليه و سلم فقال : [ حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره ] وقد تقدم حديث عمر بن معتب عن أبي حسن عن ابن عباس رضي الله عنه ولا يعرف عن النبي صلى الله عليه و سلم غير هذه الآثار الاربعة على عجرها وبجرها
أما الاول : فقال أبو داود : هو حديث مجهول وقال الترمذي : حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث مظاهر بن أسلم ومظاهر لا يعرف له في العلم غير هذا الحديث انتهى وقال أبو القاسم ابن عساكر في أطرافه بعد ذكر هذا الحديث : روى أسامة بن زيد بن أسلم عن أبيه أنه كان جالسا عند أبيه فأتاه رسول الأمير فأخبره أنه سأل القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله عن ذلك فقالا هذا وقالا له : إن هذا ليس في كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم ولكن عمل به المسلمون قال الحافظ : فدل على أن الحديث المرفوع غير محفوظ وقال أبو عاصم النبيل : مظاهر بن أسلم ضعيف وقال يحيى بن معين : ليس بشئ مع أنه لا يعرف وقال أبو حاتم الرازي : منكر الحديث وقال البيهقي : لو كان ثابتا لقلنا به إلا أنا لا نثبت حديثا يرويه من نجهل عدالته
وأما الأثر الثاني : ففيه عمر بن شبيب المسلي ضعيف وفيه عطية وهو ضعيف أيضا
وأما الأثر الثالث : ففيه ابن سمعان الكذاب وعبد الله بن عبد الرحمن مجهول
وأما الأثر الرابع : ففيه عمر بن معتب وقد تقدم الكلام فيه
والذي سلم في المسألة الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم والقياس
أما الآثار فهي متعارضة كما تقدم فليس بعضها أولى من بعض بقي القياس وتجاذبه طرفان : طرف المطلق وطرف المطلقة فمن راعى طرف المطلق قال : هو الذي يملك الطلاق وهو بيده فيتنصف برقه كما يتنصف نصاب المنكوحات برقه ومن راعى طرف المطلقة قال : الطلاق يقع عليها وتلزمها العدة والتحريم وتوابعها فتنصف برقها كالعدة ومن نصف برقها كالعدة ومن نصف برق أي الزوجين كان راعى الأمرين وأعمل الشبهين ومن كمله وجعله ثلاثا رأى أن الآثار لم تثبت والمنقول عن الصحابة متعارض والقياس كذلك فلم يتعلق بشئ من ذلك وتمسك بإطلاق النصوص الدالة على أن الطلاق الرجعي طلقتان ولم يفرق الله بين حر وعبد ولا بين حرة وأمة { وما كان ربك نسيا } قالوا : والحكمة التي لأجلها جعل الطلاق الرجعي اثنتين في الحر والعبد سواء قالوا : وقد قال مالك : إن له أن ينكح أربعا كالحر لأن حاجته إلى ذلك كحاجة الحر وقال الشافعي وأحمد : أجله في الإيلاء كأجل الحر لأن ضرر الزوجة في الصورتين سواء وقال أبو حنيفة : إن طلاقه وطلاق الحر سواء إذا كانت إمرأتاهما حرتين إعمالا لإطلاق نصوص الطلاق وعمومها للحر والعبد
وقال أحمد بن حنبل والناس معه : صيامه في الكفارات كلها وصيام الحر سواء وحده في السرقة والشراب وحد الحر سواء قالوا : ولو كانت هذه الآثار أو بعضها ثابتا لما سبقتمونا إليه ولا غلبتمونا عليه ولو اتفتت آثار الصحابة لم نعدها إلى غيرها فإن الحق لا يعدو حسم وبالله التوفيق (5/249)
حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم بأن الطلاق بيد الزوج لا بيد غيره
قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن } [ الأحزاب : 49 ] وقال : { وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف } [ البقرة : 231 ] نجعل الطلاق لمن نكح لأن له الإمساك وهو الرجعة وروى ابن ماجه في سننه : من حديث ابن عباس قال : [ أتى النبي صلى الله عليه و سلم رجل فقال : يا رسول الله ! سيدي زوجني أمته وهو يريد أن يفرق بيني وبينها قال : فصعد رسول الله صلى الله عليه و سلم المنبر فقال : يا أيها الناس ما بال أحدكم يزوج عبده أمته ثم يريد أن يفرق بينهما إنما الطلاق لمن أخذ بالساق ]
وقد روى عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما كان يقول : طلاق العبد بيد سيده إن طلق جاز وإن فرق فهي واحدة إذا كانا له جميعا فإن كان العبد له والأمة لغيره طلق السيد أيضا إن شاء
وروى الثوري عن عبد الكريم الجزري عن عطاء عنه : ليس طلاق العبد ولا فرقته بشئ
وذكر عبد الرزاق حدثنا ابن جريج أخبرني أبو الزبير سمع جابرا يقول في الأمة والعبد : سيدهما يجمع بينهما ويفرق
وقضاء رسول الله صلى الله عليه و سلم أحق أن يتبع : وحديث ابن عباس رضي الله عنهما المتقدم وإن كان في إسناده ما فيه فالقرآن يعضده وعليه عمل الناس (5/254)
حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم فيمن طلق دون الثلاث ثم راجعها بعد زوج أنها على بقية الطلاق
ذكر ابن المبارك عن عثمان بن مقسم أنه أخبره أنه سمع نبيه بن وهب يحدث عن رجل من قومه عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قضى في المرأة يطلقها زوجها دون الثلاث ثم يرتجعها بعد زوج أنها على ما بقي من الطلاق ]
وهذا الأثر وإن كان فيه ضعيف ومجهول فعليه أكابر الصحابة كما ذكر عبد الرزاق في مصنفه عن مالك وابن عيينة عن الزهري عن ابن المسيب وحميد بن عبد الرحمن وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وسليمان بن يسار كلهم يقول : سمعت أبا هريرة يقول : سمعت عمر بن الخطاب يقول : أيما امرأة طلقها زوجها تطليقة أو تطليقتين ثم تركها حتى تنكح زوجا غيره فيموت عنها أو يطلقها ثم ينكحها زوجها الأول فإنها عنده على ما بقي من طلاقها
وعن علي بن أبي طالب وأبي بن كعب وعمران بن حصين رضي الله عنهم مثله
قال الإمام أحمد : هذا قول الأكابر من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم
وقال ابن مسعود وابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم : تعود على الثلاث قال ابن عباس رضي الله عنهما : نكاح جديد وطلاق جديد
وذهب إلى القول الأول أهل الحديث فيهم أحمد والشافعي ومالك وذهب إلى الثاني أبو حنيفة هذا إذا أصابها الثاني فإن لم يصبها فهي على ما بقي من طلاقها عند الجميع وقال النخعي : لم أسمع فيها اختلافا ولو ثبت الحديث لكان فصل النزاع في المسألة ولو اتفقت آثار الصحابة لكانت فصلا أيضا
وأما فقه المسألة فمتجاذب فإن الزوج الثاني إذا هدمت إصابته الثلاث وأعادتها إلى الأول بطلاق جديد فما دونها أولى وأصحاب القول الأول يقولون : لما كانت إصابة الثاني شرطا في حل المطلقة ثلاثا للأول لم يكن بد من هدمها وإعادتها على طلاق جديد وأما من طلقت دون الثلاث فلم تصادف إصابة الثاني فيها تحريما يزيله ولا هي شرط في الحل للأول فلم تهدم شيئا فوجودها كعدمها بالنسبة إلى الأول وإحلالها له فعادت على ما بقي كما لو لم يصبها فإن إصابته لا أثر لها البتة ولا نكاحه وطلاقه معلق بها بوجه ما ولا تأثير لها فيه (5/255)
حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم في المطلقة ثلاثا لا تحل للأول حتى يطأها الزوج الثاني
ثبت في الصحيحين : عن عائشة رضي الله عنهما [ أن امرأة رفاعة القرظي جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت : يا رسول الله ! إن رفاعة طلقني فبت طلاقي وإني نكحت بعده عبد الرحمن بن الزبير القرظي وإن ما معه مثل الهدبة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك ]
وفي سنن النسائي : عن عائشة لاضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ العسيلة : الجماع : ولو لم ينزل ]
وفيها عن ابن عمر قال : [ سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الرجل يطلق امرأته ثلاثا فيتزوجها الرجل فيغلق الباب ويرخي الستر ثم يطلقها قبل أن يدخل بها ؟ قال : لا تحل للأول حتى يجامعها الآخر ]
فتضمن هذا الحكم أمورا
أحدها : أنه لا يقبل قول المرأة على الرجل أنه لا يقدر على جماعها
الثاني : أن إصابة الزوج الثاني شرط في حلها للأول خلافا لمن اكتفى بمجرد العقد فإن قوله مردود بالسنة التي لا مرد لها
الثالث : أنه لا يشترط الإنزال بل يكفي مجرد الجماع الذي هو ذوق العسيلة
الرابع : أنه صلى الله عليه و سلم لم يجعل مجرد العقد المقصود الذي هو نكاح رغبة كافيا ولا اتصال الخلوة به وإغلاق الأبواب وإرخاء الستور حتى يتصل به الوطء وهذا يدل على أنه لا يكفي مجرد عقد التحليل الذي لا غرض للزوج والزوجة فيه سوى صورة العقد وإحلالها للأول بطريق الأولى فإنه إذا كان عقد الرغبة المقصود للدوام غير كاف حتى يوجد فيه الوطء فكيف يكفي عقد تيس مستعار ليحلها لا رغبة له في إمساكها وإنما هو عارية كحمار العشريين المستعار للضراب ؟ (5/257)
حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم في المرأة تقيم شاهدا واحدا على طلاق زوجها والزوج منكر
ذكر ابن وضاح عن ابن أبي مريم عن عمرو بن أبي سلمة عن زهير بن محمد عن ابن جريج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إذا ادعت المرأة طلاق زوجها فجاءت على ذلك بشاهد واحد عدل استحلف زوجها فإن حلف بطلت عنه شهادة الشاهد وإن نكل فنكوله بمنزلة شاهد آخر وجاز طلاقه ] فتضمن هذا الحكم أربعة أمور
أحدها : أنه لا يكتفى بشهادة الشاهد الواحد في الطلاق ولا مع يمين المرأة قال الإمام أحمد : الشاهد واليمين إنما يكون في الأموال خاصة لا يقع في حد ولا نكاح ولا طلاق ولا إعتاق ولا سرقة ولا قتل وقد نص في رواية أخرى عنه على أن العبد إذا ادعى أن سيده أعتقه وأتى بشاهد حلف مع شاهده وصار حرا واختاره الخرقي ونص أحمد في شريكين في عبد ادعى كل واحد منهما أن شريكه أعتق حقه منه وكانا معسرين عدلين فللعبد أن يحلف مع كل واحد منهما ويصير حرا ويحلف مع أحدهما ويصير نصفه حرا ولكن لا يعرف عنه أن الطلاق يثبت بشاهد ويمين
وقد دل حديث عمرو بن شعيب هذا على أنه يثبت بشاهد ونكول الزوج وهو الصواب إن شاء الله تعالى فإن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ولا يعرف من أئمة الإسلام إلا من احتج به وبنى عليه وإن خالفه في بعض المواضع وزهير بن محمد الراوي عن ابن جريج ثقة محتج به في الصحيحين وعمرو بن أبي سلمة هو أبو حفص التنيسي محتج به في الصحيحين أيضا فمن احتج بحديث عمرو بن شعيب فهذا أصح من حديثه
الثاني : أن الزوج يستحلف في دعوى الطلاق إذا لم تقم المرأة به بينة لكن إنما استحلفه مع قوة جانب الدعوى بالشاهد
الثالث : أنه يحكم في الطلاق بشاهد ونكول المدعى عليه وأحمد في إحدى الروايتين عنه يحكم بوقوعه بمجرد النكول من غير شاهد فإذا ادعت المرأة على زوجها الطلاق وأحلفناه لها في إحدى الروايتين فنكل قضي عليه فإذا أقامت شاهدا واحدا ولم يحلف الزوج على عدم دعواها فالقضاء بالنكول عليه في هذه الصورة أقوى
وظاهر الحديث : أنه لا يحكم على الزوج بالنكول إلا إذا أقامت المرأة شاهدا واحدا كما هو إحدى الروايتين عن مالك وأنه لا يحكم عليه بمجرد دعواها مع نكوله لكن من يقضي عليه به يقول : النكول إما إقرار وإما بينة وكلاهما يحكم به ولكن ينتقض هذا عليه بالنكول في دعوى القصاص ويجاب بأن النكول بدل استغني به فيما يباح بالبدل وهو الأموال وحقوقها دون النكاح وتوابعه
الرابع : أن النكول بمنزلة البينة فلما أقامت شاهدا واحدا وهو شطر البينة كان النكول قائما مقام تمامها
ونحن نذكر مذاهب الناس في هذه المسألة فقال أبو القاسم بن الجلاب في تفريعه : وإذا ادعت المرأة الطلاق على زوجها لم يحلف بدعواها فإن أقامت على ذلك شاهدا واحدا لم تحلف مع شاهدها ولم يثبت الطلاق على زوجها وهذا الذي قاله لا يعلم فيه نزاع الأئمة الأربعة قال : ولكن يحلف لها زوجها فإن حلف برئ من دعواها
قلت : هذا فيه قولان للفقهاء وهما روايتان عن الإمام أحمد
إحداهما : أنه يحلف لدعواها وهو مذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة والثانية : لا يحلف فإن قلنا : لا يحلف فلا إشكال وإن قلنا : يحلف فنكل عن اليمين فهل يقضى عليه بطلاق زوجته بالنكول ؟ فيه روايتان عن مالك إحداهما : أنها تطلق عليه بالشاهد والنكول عملا بهذا الحديث وهذا اختيار أشهب هذا فيه غاية القوة لأن الشاهد والنكول سببان من جهتين مختلفتين فقوي جانب المدعي بهما فحكم له فهذا مقتضى الأثر والقياس
والرواية الثانية عنه : أن الزوج إذا نكل عن اليمين حبس فإن طال حبسه ترك واختلفت الرواية عن الإمام أحمد هل يقضى بالنكول في دعوى المرأة الطلاق ؟ على روايتين ولا أثر عنده لإقامة الشاهد الواحد بل إذا ادعت عليه الطلاق ففيه روايتان في استحلافه فإن قلنا : لا يستحلف لم يكن لدعواها أثر وإن قلنا : يستحلف فأبى فهل يحكم عليه بالطلاق ؟ فيه روايتان وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في القضاء بالنكول وهل هو إقرار أو بدل أو قائم مقام البينة في موضعه من هذا الكتاب ؟ (5/259)
حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم في تخيير أزواجه بين المقام معه وبين مفارقتهن له
ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت : لما أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بتخيير أزواجه بدأ بي فقال : [ إني ذاكر لك أمرا فلا عليك ألا تعجلى حتى تستأمري أبويك قالت : وقد علم أن أبوي لم يكونا ليأمراني بفراقه ثم قرأ : { يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا * وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما } [ الأحزاب : 28 ] فقلت : في هذا أستأمر أبوي ؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة ] قالت عائشة : ثم فعل أزواج النبي صلى الله عليه و سلم مثل ما فعلت فلم يكن ذلك طلاقا
قال ربيعة وابن شهاب : فاختارت واحدة منهن نفسها فذهبت وكانت البتة قال ابن شهاب : وكانت بدوية قال عمرو بن شعيب : وهي ابنة الضحاك العامرية رجعت إلى أهلها وقال ابن حبيب : قد كان دخل بها انتهى
وقيل : لم يدخل بها وكانت تلتقط بعد ذلك البعر وتقول : أنا الشقية
واختلف الناس في هذا التخيير في موضعين أحدهما : في أي شئ كان ؟ والثاني : في حكمه فأما الأول : فالذي عليه الجمهور أنه كان بين المقام معه والفراق وذكر عبد الرزاق في مصنفه عن الحسن أن الله تعالى إنما خيرهن بين الدنيا والآخرة ولم يخيرهن في الطلاق وسياق القرآن وقول عائشة رضي الله عنها يرد قوله ولا ريب أنه سبحانه خيرهن بين الله ورسوله والدار الآخرة وبين الحياة الدنيا وزينتها وجعل موجب اختيارهن الله ورسوله والدار الآخرة المقام مع رسوله وموجب اختيارهن الدنيا وزينتها أن يمتعهن ويسرحهن سراحا جميلا وهو الطلاق بلا شك ولا نزاع
وأما اختلافهم فى حكمه ففي موضعين أحدهما : في حكم اختيار الزوج والثاني : في حكم اختيار النفس فأما الأول : فالذي عليه معظم أصحاب النبي ونساؤه كلهن ومعظم الأمة أن من اختارت زوجها لم تطلق ولا يكون التخيير بمجرده طلاقا صح ذلك عن عمر وابن مسعود وابن عباس وعائشة قالت عائشة : خيرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم فاخترناه فلم نعده طلاقا وعن أم سلمة وقريبة أختها وعبد الرحمن بن أبي بكر
وصح عن علي وزيد بن ثابت وجماعة من الصحابة : أنها إن اختارت زوجها فهي طلقة رجعية وهو قول الحسن ورواية عن أحمد رواها عنه إسحاق بن منصور قال : إن اختارت زوجها فواحدة يملك الرجعة وإن اختارت نفسها فثلاث قال أبو بكر : انفرد بهذا إسحاق بن منصور والعمل على ما رواه الجماعة قال صاحب المغني : ووجه هذه الرواية أن التخيير كناية نوى بها الطلاق فوقع بمجردها كسائر كناياته وهذا هو الذي صرحت به عائشة رضي الله عنها والحق معها بإنكاره ورده فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما اختاره أزواجه لم يقل : وقع بكن طلقة ولم يراجعهن وهي أعلم الأمة بشأن التخيير وقد صح عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : لم يكن ذلك طلاقا وفي لفظ : لم نعده طلاقا وفي لفظ : [ خيرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أفكان طلاقا ؟ ]
والذي لحظه من قال : إنها طلقة رجعية أن التخيير تمليك ولا تملك المرأة نفسها إلا وقد طلقت فالتمليك مستلزم لوقوع الطلاق وهذا مبني على مقدمتين إحداهما : أن التخيير تمليك والثانية : أن التمليك يستلزم وقوع الطلاق وكلا المقدمتين ممنوعة فليس التخيير بتمليك ولو كان تمليكا لم يستلزم وقوع الطلاق قبل إيقاع من ملكه فإن غاية أمره أن تملكه الزوجة كما كان الزوج يملكه فلا يقع بدون إيقاع من ملكه ولو صح ما ذكروه لكان بائنا لأن الرجعية لا تملك نفسها
وقد اختلف الفقهاء في التخيير : هل هو تمليك أو توكيل أو بعضه تمليك وبعضه توكيل أو هو تطليق منجز أو لغو لا أثر له البتة ؟ على مذاهب خمسة التفريق هو مذهب أحمد ومالك قال أبو الخطاب في رؤوس المسائل : هو تمليك يقف على القبول وقال صاحب المغني فيه : إذا قال : أمرك بيدك أو اختاري فقالت : قبلت لم يقع شئ لأن أمرك بيدك توكيل فقولها في جوابه : قبلت ينصرف إلى قبول الوكالة فلم يقع شئ كما لو قال لأجنبية : أمر امرأتي بيدك فقالت : قبلت وقوله : اختارى : في معناه وكذلك إن قالت : أخذت أمري دخل عليهما أحمد في رواية إبراهيم بن هانئ إذا قال لامرأته : أمرك بيدك فقالت : قبلت ليس بشئ حتى يتبين وقال : إذا قالت : أخذت أمري ليس بشئ قال : وإذا قال لامرأته : اختاري فقالت : قبلت نفسي أو اخترت نفسي كان أبين انتهى وفرق مالك بين اختاري وبين أمرك بيدك فجعل أمرك بيدك تمليكا و اختاري تخييرا لا تمليكا قال أصحابه : وهو توكيل
وللشافعي قولان أحدهما : أنه تمليك وهو الصحيح عند أصحابه والثاني : أنه توكيل وهو القديم وقالت الحنفية : تمليك وقال الحسن وجماعة من الصحابة : هو تطليق تقع به واحدة منجزة وله رجعتها وهي رواية ابن منصور عن أحمد
وقال أهل الظاهر وجماعة من الصحابة : لا يقع به طلاق سواء اختارت نفسها أو اختارت زوجها ولا أثر للتخيير في وقوع الطلاق
ونحن نذكر مآخذ هذه الأقوال على وجه الإشارة إليها
قال أصحاب التمليك : لما كان البضع يعود إليها بعد ما كان للزوج كان هذا حقيقة التمليك
قالوا : وأيضا فالتوكيل يستلزم أهلية الوكيل لمباشرة ما وكل فيه والمرأة ليست بأهل لإيقاع الطلاق ولهذا لو وكل امرأة في طلاق زوجته لم يصح في أحد القولين لأنها لا تباشر الطلاق والذين صححوه قالوا : كما يصح أن يوكل رجلا في طلاق امرأته يصح أن يوكل امرأة في طلاقها
قالوا : وأيضا فالتوكيل لا يعقل معناه ها هنا فإن الوكيل هو الذي يتصرف لموكله لا لنفسه والمرأة ها هنا إنما تتصرف لنفسها ولحظها وهذا ينافي تصرف الوكيل قال أصحاب التوكيل واللفظ لصاحب المغني : وقولهم : إنه توكيل لا يصح فإن الطلاق لا يصح تمليكه ولا ينتقل عن الزوج وإنما ينوب فيه غيره عنه فإذا استناب غيره فيه كان توكيلا لا غير
قالوا : ولو كان تمليكا لكان مقتضاه انتقال الملك إليها في بضعها وهو محال فإنه لم يخرج عنها ولهذا لو وطئت بشبهة كان المهر لها لا للزوج ولو ملك البضع لملك عوضه كمن ملك منفعة عين كان عوض تلك المنفعة له
قالوا : وأيضا فلو كان تمليكا لكانت المرأة مالكة للطلاق وحينئذ يجب أن لا يبقى الزوج مالكا لاستحالة كون الشئ الواحد بجميع أجزائه ملكا لمالكين في زمن واحد والزوج مالك للطلاق بعد التخيير فلا تكون هي مالكة له بخلاف ما إذا قلنا : هو توكيل واستنابة كان الزوج مالكا وهي نائبة ووكيلة عنه
قالوا : وأيضا فلو قال لها : طلقي نفسك ثم حلف أن لا يطلق فطلقت نفسها حنث فدل على أنها نائبة عنه وأنه هو المطلق
قالوا : وأيضا فقولكم : إنه تمليك إما أن تريدوا به أنه ملكها نفسها أو أنه ملكها أن تطلق فإن أردتم الأول لزمكم أن يقع الطلاق بمجرد قولها : قبلت لأنه أتى بما يقتضي خروج بضعها عن ملكه واتصل به القبول وإن أردتم الثاني فهو معنى التوكيل وإن غيرت العبارة
قال المفرقون بين بعض صوره وبعض - وهم أصحاب مالك - : إذا قال لها : أمرك بيدك أو جعلت أمرك إليك أو ملكتك أمرك فذاك تمليك وإذا قال : اختاري فهو تخيير قالوا : والفرق بينهما حقيقة وحكما أما الحقيقة فلأن اختاري لم يتضمن أكثر من تخييرها لم يملكها نفسها وإنما خيرها بين أمرين بخلاف قوله : أمرك بيدك فإنه لا يكون بيدها إلا وهي مالكته وأما الحكم فلأنه إذا قال لها : أمرك بيدك وقال : أردت به واحدة فالقول قوله مع يمينه وإذا قال : اختاري فطلقت نفسها ثلاثا وقعت ولو قال : أردت واحدة إلا أن تكون غير مدخول بها فالقول قوله في إرادته الواحدة قالوا : لأن التخيير يقتضي أن لها أن تختار نفسها ولا يحصل لها ذلك إلا بالبينونة فإن كانت مدخولا بها لم تبن إلا بالثلاث وإن لم تكن مدخولا بها بانت بالواحدة وهذا بخلاف : أمرك بيدك فإنه لا يقتضي تخييرها بين نفسها وبين زوجها بل تمليكها أمرها وهو أعم من تمليكها الإبانة بثلاث أو بواحدة تنقضي بها عدتها فإن أراد بها أحد محتمليه قبل قوله وهذا بعينه يرد عليهم في اختاري فإنه أعم من أن تختار البينونة بثلاث أو بواحدة تنقضي بها عدتها بل : أمرك بيدك أصرح في تمليك الثلاث من اختاري لأنه مضاف ومضاف إليه فيعم جميع أمرها بخلاف اختاري فإنه مطلق لا عموم له فمن أين يستفاد منه الثلاث ؟ وهذا منصوص الإمام أحمد فإنه قال في اختاري : إنه لا تملك به المرأة أكثر من طلقة واحدة إلا بنية الزوج ونص في أمرك بيدك وطلاقك بيدك ووكلتك في الطلاق : على أنها تملك به الثلاث وعنه رواية أخرى : أنها لا تملكها إلا بنيته
وأما من جعله تطليقا منجزا فقد تقدم وجه قوله وضعفه
وأما من جعله لغوا فلهم مأخذان أحدهما : أن الطلاق لم يجعله الله بيد النساء إنما جعله بيد الرجال ولا يتغير شرع الله باختيار العبد فليس له أن يختار نقل الطلاق إلى من لم يجعل الله إليه الطلاق البتة
قال أبو عبيد القاسم بن سلام : حدثنا أبو بكر بن عياش حدثنا حبيب بن أبي ثابت أن رجلا قال لامرأة له : إن أدخلت هذا العدل إلى هذا البيت فأمر صاحبتك بيدك فأدخلته ثم قالت : هي طالق فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأبانها منه فمروا بعبد الله بن مسعود فأخبروه فذهب بهم إلى عمر فقال : يا أمير المؤمنين : إن الله تبارك وتعالى جعل الرجال قوامين على النساء ولم يجعل النساء قوامات على الرجال فقال له عمر : فما ترى ؟ قال : أراها امرأته قال : وأنا أرى ذلك فجعلها واحدة
قلت : يحتمل أنه جعلها واحدة بقول الزوج : فأمر صاحبتك بيدك ويكون كناية في الطلاق ويحتمل أنه جعلها واحدة بقول ضرتها : هي طالق ولم يجعل للضرة إبانتها لئلا تكون هي القوامة على الزوج فليس في هذا دليل لما ذهبت إليه هذه الفرقة بل هو حجة عليها
وقال أبو عبيد : حدثنا عبد الغفار بن داود عن ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب أن رميثة الفارسية كانت تحت محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر فملكها أمرها فقالت : أنت طالق ثلاث مرات فقال عثمان بن عفان : أخطأت لا طلاق لها لأن المرأة لا تطلق
وهذا أيضا لا يدل لهذه الفرقة لأنه إنما لم يوقع الطلاق لأنها أضافته إلى غير محله وهو الزوج وهو لم يقل : أنا منك طالق وهذا نظير ما رواه عبد الرزاق حدثنا ابن جريج أخبرني أبو الزبير أن مجاهدا أخبره أن رجلا جاء إلى ابن عباس رضي الله عنهما فقال : ملكت امرأتي أمرها فطلقتني ثلاثا فقال ابن عباس : خطأ الله نوءها إنما الطلاق لك عليها وليس لها عليك
قال الاثرم : سألت أبا عبد الله عن الرجل يقول لامرأته : أمرك بيدك ؟ فقال : قال عثمان وعلي رضي الله عنهما : القضاء ما قضت قلت : فإن قالت : قد طلقت نفسي ثلاثا قال : القضاء ما قضت قلت : فإن قالت : طلقتك ثلاثا قال : المرأة لا تطلق واحتج بحديث ابن عباس رضي الله عنهما : خطأ الله نوءها ورواه عن وكيع عن شعبة عن الحكم عن ابن عباس رضي الله عنه في رجل جعل أمر امرأته في يدها فقالت : قد طلقتك ثلاثا قال ابن عباس : خطأ الله نوءها أفلا طلقت نفسها قال أحمد : صحف أبو مطر فقال : خطأ الله فوها ولكن روى عبد الرزاق عن ابن جريج قال : سألت عبد الله بن طاووس كيف كان أبوك يقول في رجل ملك امرأته أمرها أتملك أن تطلق نفسها أم لا ؟ قال : كان يقول : ليس إلى النساء طلاق فقلت له : فكيف كان أبوك يقول في رجل ملك رجلا أمر امرأته أيملك الرجل أن يطلقها ؟ قال : لا فهذا صريح من مذهب طاووس أنه لا يطلق إلا الزوج وأن تمليك الزوجة أمرها لغو وكذلك توكيله غيره في الطلاق قال أبو محمد بن حزم : وهذا قول أبي سليمان وجميع أصحابنا
الحجة الثانية لهؤلاء : أن الله سبحانه إنما جعل أمر الطلاق إلى الزوج دون النساء لأنهن ناقصات عقل ودين والغالب عليهن السفه وتذهب بهن الشهوة والميل إلى الرجال كل مذهب فلو جعل أمر الطلاق إليهن لم يستقم للرجال معهن أمر وكان في ذلك ضرر عظيم بأزواجهن فاقتضت حكمته ورحمته أنه لم يجعل بأيديهن شيئا من أمر الفراق وجعله إلى الأزواج فلو جاز للأزواج نقل ذلك إليهن لناقض حكمة الله ورحمته ونظره للأزواج قالوا : والحديث إنما دل على التخيير فقط فإن اخترن الله ورسوله والدار الآخرة كما وقع كن أزواجه بحالهن وإن اخترن أنفسهن متعهن وطلقهن هو بنفسه وهو السراح الجميل لا أن اختيارهن لأنفسهن يكون هو نفس الطلاق وهذا في غاية الظهور كما ترى
قال هؤلاء : والآثار عن الصحابة في ذلك مختلفة اختلافا شديدا فصح عن عمر وابن مسعود وزيد بن ثابت في رجل جعل أمر امرأته بيدها فطلقت نفسها ثلاثا أنها طلقة واحدة رجعية وصح عن عثمان رضي الله عنه أن القضاء ما قضت ورواه سعيد بن منصور عن ابن عمر وغيره عن ابن الزبير وصح عن علي وزيد وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم : أنها إن اختارت نفسها فواحدة بائنة وإن اختارت زوجها فواحدة رجعية
وصح عن بعض الصحابة : أنها إن اختارت نفسها فثلاث بكل حال : وروي عن ابن مسعود فيمن جعل أمر امرأته بيد آخر فطلقها فليس بشئ
قال أبو محمد بن حزم : وقد تقصينا من روينا عنه من الصحابة أنه يقع به الطلاق فلم يكونوا بين من صح عنه ومن لم يصح عنه إلا سبعة ثم اختلفوا وليس قول بعضهم أولى من قول بعض ولا أثر في شئ منها إلا ما رويناه من طريق النسائي أخبرنا نصر بن علي الجهضمي حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد قال : قلت لأيوب السختياني : هل علمت أحدا قال في أمرك بيدك : أنها ثلاث غير الحسن ؟ قال : لا اللهم غفرا إلا ما حدثني به قتادة عن كثير مولى ابن سمرة عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ثلاث قال أيوب : فلقيت كثيرا مولى ابن سمرة فسألته فلم يعرفه فرجعت إلى قتادة فأخبرته فقال : نسي قال أبو محمد : كثير مولى ابن سمرة مجهول ولو كان مشهورا بالثقة والحفظ لما خالفنا هذا الخبر وقد أوقفه بعض رواته على أبي هريرة انتهى
وقال المروذي : سألت أبا عبد الله ما تقول في امرأة خيرت فاختارت نفسها ؟ قال : قال فيها خمسة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم : إنها واحدة ولها الرجعة : عمر وابن مسعود وابن عمر وعائشة وذكر آخر قال غير المروذي : هو زيد بن ثابت
قال أبو محمد ومن خير امرأته فاختارت نفسها أو اختارت الطلاق أو اختارت زوجها أو لم تختر شيئا فكل ذلك لا شئ وكل ذلك سواء ولا تطلق بذلك ولا تحرم عليه ولا لشئ من ذلك حكم ولو كرر التخيير وكررت هي اختيار نفسها أو اختيار الطلاق ألف مرة وكذلك إن ملكها نفسها أو جعل أمرها بيدها ولا فرق
ولا حجة في أحد دون رسول الله صلى الله عليه و سلم وإذ لم يأت في القرآن ولا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أن قول الرجل لامرأته : أمرك بيدك أو قد ملكتك أمرك أو اختاري يوجب أن يكون طلاقا أو أن لها أن تطلق نفسها أو تختار طلاقا فلا يجوز أن يحرم على الرجل فرج أباحه الله تعالى له ورسوله صلى الله عليه و سلم بأقوال لم يوجبها الله ولا رسوله صلى الله عليه و سلم وهذا في غاية البيان انتهى كلامه
قالوا : واضطراب أقوال الموقعين وتناقضها ومعارضة بعضها لبعض يدل على فساد أصلها ولو كان الأصل صحيحا لاطردت فروعه ولم تتناقض ولم تختلف ونحن نشير إلى طرف من اختلافهم
فاختلفوا : هل يقع الطلاق بمجرد التخيير أو لا يقع حتى تختار نفسها ؟ على قولين : تقدم حكايتهما ثم اختلف الذين لا يوقعونه بمجرد قوله : أمرك بيدك : هل يختص اختيارها بالمجلس أو يكون في يدها ما لم يفسخ أو يطأ ؟ على قولين أحدهما أنه يتقيد بالمجلس وهذا قول أبي حنيفة والشافعي ومالك في إحدى الروايتين عنه الثاني : أنه في يدها أبدا حتى يفسخ أو يطأ وهذا قول أحمد وابن المنذر وأبي ثور والرواية الثانية عن مالك ثم قال بعض أصحابه : وذلك ما لم تطل حتى يتبين أنها تركته وذلك بأن يتعدى شهرين ثم اختلفوا هل عليها يمين : أنها تركت أم لا ؟ على قولين
ثم اختلفوا إذا رجع الزوج فيما جعل إليها فقال أحمد وإسحاق والأوزاعي والشعبي ومجاهد وعطاء : له ذلك ويبطل خيارها
وقال مالك وأبو حنيفة والثوري والزهري : ليس له الرجوع وللشافعية خلاف مبني على أنه توكيل فيملك الموكل الرجوع أو تمليك فلا يملكه قال بعض أصحاب التمليك : ولا يمتنع الرجوع وإن قلنا إنه تمليك لانه لم يتصل به القبول فجاز الرجوع فيه كالهبة والبيع
واختلفوا : فيما يلزم من اختيارها نفسها فقال أحمد والشافعي واحدة رجعية وهو قول ابن عمر وابن مسعود وابن عباس واختاره أبو عبيد وإسحاق وعن علي : واحدة بائنة وهو قول أبي حنيفة وعن زيد بن ثابت ثلاث وهو قول الليث وقال مالك : إن كانت مدخولا بها فثلاث وإن كانت غير مدخول بها قبل منه دعوى الواحدة
واختلفوا : هل يفتقر قوله : أمرك بيدك إلى نية أم لا ؟ فقال أحمد والشافعي وأبو حنيفة : يفتقر إلى نية وقال مالك لا يفتقر إلى نية واختلفوا : هل يفتقر وقوع الطلاق إلى نية المرأة إذا قالت : اخترت نفسي أو فسخت نكاحك ؟ فقال أبو حنيفة : لا يفتقر وقوع الطلاق إلى نيتها إذا نوى الزوج وقال أحمد والشافعي : لا بد من نيتها إذا اختارت بالكناية ثم قال أصحاب مالك : إن قالت : اخترت نفسي أو قبلت نفسي لزم الطلاق ولو قالت : لم أرده وإن قالت قبلت أمري سئلت عما أرادت ؟ فإن أرادت الطلاق كان طلاقا وإن لم ترده لم يكن طلاقا ثم قال مالك : إذا قال لها : أمرك بيدك وقال : قصدت طلقة واحدة فالقول قوله مع يمينه وإن لم تكن له نية فله أن يوقع ما شاء وإذا قال : اختاري وقال : أردت واحدة فاختارت نفسها طلقت ثلاثا ولا يقبل قوله
ثم ها هنا فروع كثيرة مضطربة غاية الإضطراب لا دليل عليها من كتاب ولا سنة ولا إجماع والزوجة زوجته حتى يقوم دليل على زوال عصمته عنها
قالوا : ولم يجعل الله إلى النساء شيئا من النكاح ولا من الطلاق وإنما جعل ذلك إلى الرجال وقد جعل الله سبحانه الرجال قوامين على النساء إن شاؤوا أمسكوا وإن شاؤوا طلقوا فلا يجوز للرجل أن يجعل المرأة قوامة عليه إن شاءت أمسكت وإن شاءت طلقت قالوا : ولو أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم على شئ لم نتعد إجماعهم ولكن اختلفوا فطلبنا الحجة لأقوالهم من غيرها فلم نجد الحجة تقوم إلا على هذا القول وإن كان من روي عنه قد روي عنه خلافه أيضا وقد أبطل من ادعى الإجماع في ذلك فالنزاع ثابت بين الصحابة والتابعين كما حكيناه والحجة لا تقوم بالخلاف فهذا ابن عباس وعثمان بن عفان قد قالا : إن تمليك الرجل لامرأته أمرها ليس بشئ وابن مسعود يقول فيمن جعل أمر امرأته بيد آخر فطلقها : ليس بشئ وطاووس يقول فيمن ملك امرأته أمرها : ليس إلى النساء طلاق ويقول فيمن ملك رجلا أمر امرأته أيملك الرجل أن يطلقها ؟ قال : لا
قلت : أما المنقول عن طاووس فصحيح صريح لا مطعن فيه سندا وصراحة وأما المنقول عن ابن مسعود فمختلف فنقل عنه موافقة علي وزيد في الوقوع كما رواه ابن أبي ليلى عن الشعبي : أن أمرك بيدك واختاري سواء في قول علي وابن مسعود وزيد ونقل عنه فيمن قال لامرأته : أمر فلانة بيدك إن أدخلت هذا العدل البيت ففعلت أنها امرأته ولم يطلقها عليه
وأما المنقول عن ابن عباس وعثمان فإنما هو فيما إذا أضافت المرأة الطلاق إلى الزوج وقالت : أنت طالق وأحمد ومالك يقولان ذلك مع قولهما بوقوع الطلاق إذا اختارت نفسها أو طلقت نفسها فلا يعرف عن أحد من الصحابة إلغاء التخيير والتمليك البتة إلا هذه الرواية عن ابن مسعود وقد روي عنه خلافها والثابت عن الصحابة اعتبار ذلك ووقوع الطلاق به وإن اختلفوا فيما تملك به المرأة كما تقدم والقول بأن ذلك لا أثر له لا يعرف عن أحد من الصحابة البتة وإنما وهم أبو محمد في المنقول عن ابن عباس وعثمان ولكن هذا مذهب طاووس وقد نقل عن عطاء ما يدل على ذلك فروى عبد الرزاق عن ابن جريج قلت لعطاء : رجل قال لامرأته : أمرك بيدك بعد يوم أو يومين قال : ليس هذا بشئ قلت : فأرسل إليها رجلا أن أمرها بيدها يوما أو ساعة قال : ما أدري ما هذا ؟ ما أظن هذا شيئا قلت لعطاء : أملكت عائشة حفصة حين ملكها المنذر أمرها قال عطاء : لا إنما عرضت عليها أتطلقها أم لا ولم تملكها أمرها
ولو لا هيبة أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم لما عدلنا عن هذا القول ولكن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم هم القدوة وإن اختلفوا في حكم التخيير ففي ضمن اختلافهم اتفاقهم على اعتبار التخيير وعدم إلغائه ولا مفسدة في ذلك والمفسدة التي ذكرتموها في كون الطلاق بيد المرأة إنما تكون لو كان ذلك بيدها استقلالا فأما إذا كان الزوج هو المستقل بها فقد تكون المصلحة له في تفويضها إلى المرأة ليصير حاله معها على بينة إن أحبته أقامت معه وإن كرهته فارقته فهذا مصلحة له ولها وليس في هذا ما يقتضي تغيير شرع الله وحكمته ولا فرق بين توكيل المرأة في طلاق نفسها وتوكيل الأجنبي ولا معنى لمنع توكيل الأجنبي في الطلاق كما يصح توكيله في النكاح والخلع
وقد جعل الله سبحانه للحكمين النظر في حال الزوجين حين الشقاق إن رأيا التفريق فرقا وإن رأيا الجمع جمعا وهو طلاق أو فسخ من غير الزوج إما برضاه إن قيل : هما وكيلان أو بغير رضاه إن قيل : هما حكمان وقد جعل للحاكم أن يطلق على الزوج في مواضع بطريق النيابة عنه فإذا وكل الزوج من يطلق عنه أو يخالع لم يكن في هذا تغيير لحكم الله ولا مخالفة لدينه فإن الزوج هو الذي يطلق إما بنفسه أو بوكيله وقد يكون أتم نظرا للرجل من نفسه وأعلم بمصلحته فيفوض إليه ما هو أعلم بوجه المصلحة فيه منه وإذا جاز التوكيل في العتق والنكاح والخلع والإبراء وسائر الحقوق من المطالبة بها وإثباتها واستيفائها والمخاصمة فيها فما الذي حرم التوكيل في الطلاق ؟ نعم الوكيل يقوم مقام الموكل فيما يملكه من الطلاق وما لا يملكه وما يحل له منه وما يحرم عليه ففي الحقيقة لم يطلق إلا الزوج إما بنفسه أو بوكيله (5/261)
حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم الذي بينه عن ربه تبارك وتعالى فيمن حرم أمته أو زوجته أو متاعه
قال تعالى : { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم * قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } [ التحريم : 1 ] ثبت في الصحيحين [ أنه صلى الله عليه و سلم شرب عسلا من بيت زينب بنت جحش فاحتالت عليه عائشة وحفصة حتى قال : لن أعود له ] وفي لفظ : وقد حلفت
وفي سنن النسائي : عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كانت له أمة يطؤها فلم تزل به عائشة وحفصة حتى حرمها فأنزل الله عز و جل : { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك }
وفي صحيح مسلم : عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إذا حرم الرجل امرأته فهي يمين يكفرها وقال : لقد كان لكم في رسول الله أسوة وفي جامع الترمذي : عن عائشة رضي الله عنها قالت : آلى رسول الله صلى الله عليه و سلم من نسائه وحرم فجعل الحرام حلالا وجعل في اليمين كفارة هكذا رواه مسلمة بن علقمة عن داود عن الشعبى عن مسروق عن عائشة ورواه علي بن مسهر وغيره عن الشعبي عن النبي صلى الله عليه و سلم مرسلا وهو أصح انتهى كلام أبي عيسى
وقولها : جعل الحرام حلالا أي : جعل الشئ الذي حرمه وهو العسل أو الجارية حلالا بعد تحريمه إياه
وقال الليث بن سعد : عن يزيد بن أبي حبيب عن عبد الله بن هبيرة عن قبيصة بن ذؤيب قال : سألت زيد بن ثابت وابن عمر رضي الله عنهم عمن قال لامرأته أنت علي حرام فقالا جميعا : كفارة يمين وقال عبد الرزاق عن ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال في التحريم : هي يمين يكفرها
قال ابن حزم : وروي ذلك عن أبي بكر الصديق وعائشة أم المؤمنين وقال الحجاج بن منهال : حدثنا جرير بن حازم قال : سألت نافعا مولى ابن عمر رضي الله عنه عن الحرام أطلاق هو ؟ قال : لا أوليس قد حرم رسول الله صلى الله عليه و سلم جاريته فأمره الله عز و جل أن يكفر عن يمينه ولم يحرمها عليه
وقال عبد الرزاق : عن معمر عن يحى بن أبي كثير وأيوب السختياني كلاهما عن عكرمة أن عمر بن الخطاب قال : هي يمين يعني التحريم
وقال إسماعيل بن إسحاق : حدثنا المقدمي : حدثنا حماد بن زيد عن صخر بن جويرية عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : الحرام يمين
وفي صحيح البخاري : عن سعيد بن جبير أنه سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقول : إذا حرم امرأته ليس بشئ وقال : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة فقيل : هذا رواية أخرى عن ابن عباس وقيل : إنما أراد أنه ليس بطلاق وفيه كفارة يمين ولهذا احتج بفعل رسول الله صلى الله عليه و سلم وهذا الثاني أظهر وهذه المسألة فيها عشرون مذهبا للناس ونحن نذكرها ونذكر وجوهها ومآخذها والراجح منها بعون الله تعالى وتوفيقه
أحدها : أن التحريم لغو لا شئ فيه لا في الزوجة ولا في غيرها لا طلاق ولا إيلاء ولا يمين ولا ظهار روى وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن مسروق : ما أبالي حرمت امرأتي أو قصة من ثريد وذكر عبد الرزاق عن الثوري عن صالح بن مسلم عن الشعبي أنه قال في تحريم المرأة : لهي أهون علي من نعلي
وذكر عن ابن جريج أخبرني عبد الكريم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه قال : ما أبالي حرمتها يعني امرأته أو حرمت ماء النهار وقال قتادة : سأل رجل حميد بن عبد الرحمن الحميري عن ذلك ؟ فقال : قال الله تعالى : { فإذا فرغت فانصب * وإلى ربك فارغب } [ ألم نشرح : 7 ] وأنت رجل تلعب فاذهب فالعب هذا قول أهل الظاهر كلهم
المذهب الثاني : أن التحريم في الزوجة طلاق ثلاث قال ابن حزم : قاله علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وابن عمر وهو قول الحسن ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وروي عن الحكم بن عتيبة قلت : الثابت عن زيد بن ثابت وابن عمر ما رواه هو من طريق الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي هبيرة عن قبيصة أنه سأل زيد بن ثابت وابن عمر عمن قال لامرأته : أنت علي حرام فقالا جميعا : كفارة يمين ولم يصح عنهما خلاف ذلك وأما علي فقد روى أبو محمد ابن حزم من طريق يحيى القطان حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال : يقول رجال في الحرام : هي حرام حتى تنكح زوجا غيره ولا والله ما قال ذلك علي وإنما قال علي : ما أنا بمحلها ولا بمحرمها عليك إن شئت فتقدم وإن شئت فتأخر وأما الحسن فقد روى أبو محمد من طريق قتادة عنه أنه قال : كل حلال علي حرام فهو يمين ولعل أبا محمد غلط على علي وزيد وابن عمر من مسألة الخلية والبرية والبتة فإن أحمد حكى عنهم أنها ثلاث وقال هو عن علي وابن عمر صحيح فوهم أبو محمد وحكاه في :
أنت علي حرام وهو وهم ظاهر فإنهم فرقوا بين التحريم فأفتوا فيه بأنه يمين وبين الخلية فأفتوا فيها بالثلاث ولا أعلم أحدا قال : إنه ثلاث بكل حال
المذهب الثالث : أنه ثلاث في حق المدخول بها لا يقبل منه غير ذلك وإن كانت غير مدخول بها وقع ما نواه من واحدة واثنتين وثلاث فإن أطلق فواحدة وإن قال : لم أرد طلاقا فإن كان قد تقدم كلام يجوز صرفه إليه قبل منه وإن كان ابتداء لم يقبل وإن حرم أمته أو طعامه أو متاعه فليس بشئ وهذا مذهب مالك
المذهب الرابع : أنه إن نوى الطلاق كان طلاقا ثم إن نوى به الثلاث فثلاث وإن نوى دونها فواحدة بائنة وإن نوى يمينا فهو يمين فيها كفارة وإن لم ينو شيئا فهو إيلاء فيه حكم الإيلاء فإن نوى الكذب صدق في الفتيا ولم يكن شيئا ويكون في القضاء إيلاء وإن صادف غير الزوجة الأمة والطعام وغيره فهو يمين فيه كفارتها وهذا مذهب أبي حنيفة
المذهب الخامس : أنه إن نوى به الطلاق كان طلاقا ويقع ما نواه فإن أطلق وقعت واحدة وإن نوى الظهار كان ظهارا وإن نوى اليمين كان يمينا وإن نوى تحريم عينها من غير طلاق ولا ظهار فعليه كفارة يمين وإن لم ينو شيئا ففيه قولان أحدهما : لا يلزمه شئ والثاني : يلزمه كفارة يمين وإن صادف جارية فنوى عتقها وقع العتق وإن نوى تحريمها لزمه بنفس اللفظ كفارة يمين وإن نوى الظهار منها لم يصح ولم يلزمه شئ وقيل : بل يلزمه كفارة يمين وإن لم ينو شيئا ففيه قولان أحدهما : لا يلزمه شئ والثاني : عليه كفارة يمين وإن صادف غير الزوجة والأمة لم يحرم ولم يلزمه به شئ وهذا مذهب الشافعي
المذهب السادس : أنه ظهار بإطلاقه نواه أو لم ينوه إلا أن يصرفه بالنية إلى الطلاق أو اليمين فينصرف إلى ما نواه هذا ظاهر مذهب أحمد وعنه رواية ثانية : أنه بإطلاقه يمين إلا أن يصرفه بالنية إلى الظهار أو الطلاق فينصرف إلى ما نواه وعنه رواية أخرى ثالثة : أنه ظهار بكل حال ولو نوى غيره وفيه رواية رابعة حكاها أبو الحسين في فروعه أنه طلاق بائن
ولو وصله بقوله : أعني به الطلاق فعنه فيه روايتان إحداهما : أنه طلاق فعلى هذا هل تلزمه الثلاث أو واحدة ؟ على روايتين والثانية : أنه ظهار أيضا كما لو قال : أنت علي كظهر أمي : أعني به الطلاق هذا تلخيص مذهبه
المذهب السابع : أنه إن نوى به ثلاثا فهي ثلاث وإن نوى به واحدة فهي واحدة بائنة وإن نوى به يمينا فهي يمين وإن لم ينو شيئا فهي كذبة لا شئ فيها وهذا مذهب سفيان الثوري حكاه عنه أبو محمد ابن حزم
المذهب الثامن : أنه طالقة واحدة بائنة بكل حال وهذا مذهب حماد بن أبي سليمان
المذهب التاسع : أنه إن نوى ثلاثا فثلاث وإن نوى واحدة أو لم ينو شيئا فواحدة بائنة وهذا مذهب إبراهيم النخعي حكاه عنه أبو محمد ابن حزم
المذهب العاشر : أنه طلقة رجعية حكاه ابن الصباغ وصاحبه أبو بكر الشاشي عن الزهري عن عمر بن الخطاب
المذهب الحادي عشر : أنها حرمت عليه بذلك فقط ولم يذكر هؤلاء ظهارا ولا طلاقا ولا يمينا بل ألزموه موجب تحريمه قال ابن حزم : صح هذا عن علي بن أبي طالب ورجال من الصحابة لم يسموا وعن أبي هريرة وصح عن الحسن وخلاس بن عمرو وجابر بن زيد وقتادة أنهم أمروه باجتنابها فقط
المذهب الثاني عشر : التوقف في ذلك لا يحرمها المفتي على الزوج ولا يحللها له كما رواه الشعبي عن علي أنه قال : ما أنا بمحلها ولا محرمها عليك إن شئت فتقدم وإن شئت فتأخر
المذهب الثالث عشر : الفرق بين أن يوقع التحريم منجزا أو معلقا تعليقا مقصودا وبين أن يخرجه مخرج اليمين فالأول : ظهار بكل حال ولو نوى به الطلاق ولو وصله بقوله : أعني به الطلاق والثاني : يمين يلزمه به كفارة يمين فإذا قال : أنت علي حرام أو إذا دخل رمضان فأنت علي حرام فظهار وإذا قال : إن سافرت أو إن أكلت هذا الطعام أو كلمت فلان فامرأتي علي حرام فيمين مكفرة وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية فهذه أصول المذاهب في هذه المسألة وتتفرع إلى أكثر من عشرين مذهبا (5/274)
فصل
فأما من قال : التحريم كله لغو لا شئ فيه فاحتجوا بأن الله سبحانه لم يجعل للعبد تحريما ولا تحليلا وإنما جعل له تعاطي الأسباب التي تحل بها العين وتحرم كالطلاق والنكاح والبيع والعتق وأما مجرد قوله : حرمت كذا وهو علي حرام فليس إليه قال تعالى : { ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب } [ النحل : 116 ] وقال تعالى : { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك } [ التحريم : 1 ] فإذا كان سبحانه لم يجعل لرسوله أن يحرم ما أحل الله له فكيف يجعل لغيره التحريم ؟
قالوا : وقد قال النبى صلى الله عليه و سلم : [ كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد ] وهذا التحريم كذلك فيكون ردا باطلا
قالوا : ولأنه لا فرق بين تحريم الحلال وتحليل الحرام وكما أن هذا الثاني لغو لا أثر له فكذلك الأول
قالوا : ولا فرق بين قوله لامرأته : أنت علي حرام وبين قوله لطعامه : هو علي حرام
قالوا : وقوله : أنت علي حرام إما أن تريد به إنشاء تحريمها أو الإخبار عنها بأنها حرام وإنشاء تحريم محال فإنه ليس إليه إنما هو إلى من أحل الحلال وحرم الحرام وشرع الأحكام وإن أراد الإخبار فهو كذب فهو إما خبر كاذب أو إنشاء باطل وكلاهما لغو من القول
قالوا : ونظرنا فيهما سوى هذا القول فرأيناها أقوالا مضطربة متعارضة يرد بعضها بعضا فلم يحرم الزوجة بشئ منها بغير برهان من الله ورسوله فنكون قد ارتكبنا أمرين : تحريمها على الأول وإحلالها لغيره والأصل بقاء النكاح حتى تجمع الأمة أو يأتي برهان من الله ورسوله على زواله فيتعين القول به فهذا حجة هذا الفريق (5/279)
فصل
وأما من قال : إنه ثلاث بكل حال إن ثبت هذا عنه فيحتج له بأن التحريم جعل كناية في الطلاق وأعلى أنواعه تحريم الثلاث فيحمل على أعلى أنواعه احتياطا للأبضاع
وأيضا فإنا تيقنا التحريم بذلك وشككنا : هل هو تحريم تزيله الكفارة كالظهار أو يزيله تجديد العقد كالخلع أو لا يزيله إلا زوج وإصابة كتحريم الثلاث ؟ وهذا متيقن وما دونه مشكوك فيه فلا يحل بالشك
قالوا : ولأن الصحابة أفتوا في الخلية والبرية بأنها ثلاث قال أحمد : هو عن علي وابن عمر صحيح ومعلوم أن غاية الخلية والبرية أن تصير إلى التحريم فإذا صرح بالغاية فهي أولى أن تكون ثلاثا ولأن المحرم لا يسبق إلى وهمه تحريم امرأته بدون الثلاث فكأن هذا اللفظ صار حقيقة عرفية في إيقاع الثلاث
وأيضا فالواحدة لا تحرم إلا بعوض أو قبل الدخول أو عند تقييدها بكونها بائنة عند من يراه فالتحريم بها مقيد فإذا أطلق التحريم ولم يقيد انصرف إلى التحريم المطلق الذي يثبت قبل الدخول أو بعده وبعوض وغيره وهو الثلاث (5/280)
فصل
وأما من جعله ثلاثا في حق المدخول بها وواحدة بائنة في حق غيرها فحجته أن المدخول بها لا يحرمها إلا الثلاث وغير المدخول بها تحرمها الواحدة فالزائدة عليها ليست من لوازم التحريم فأورد على هؤلاء أن المدخول بها يملك الزوج إبانتها بواحدة بائنة فأجابوا بما لا يجدي عليهم شيئا وهو أن الإبانة بالواحدة الموصوفة بأنها بائنة إبانة مقيدة بخلاف التحريم فإن الإبانة به مطلقة ولا يكون ذلك إلا بالثلاث وهذا القدر لا يخلصهم من هذا الإلزام فإن إبانة التحريم أعظم تقييدا من قوله : أنت طالق طلقة بائنة فإن غاية البائنة أن تحرمها وهذا قد صرح بالتحريم فهو أولى بالإبانة من قوله : أنت طالق طلقة بائنة (5/281)
فصل
وأما من جعلها واحدة بائنة في حق المدخول بها وغيرها فمأخذ هذا القول أنها لا تفيد عددا بوضعها وإنما تقتضي بينونة يحصل بها التحريم وهو يملك إبانتها بعد الدخول بها بواحدة بدون عوض كما إذا قال : أنت طالق طلقة بائنة فإن الرجعة حق له فإذا أسقطها سقطت ولأنه إذا ملك إبانتها بعوض يأخذه منها ملك الإبانة بدونه فإنه محسن بتركه ولأن العوض مستحق له لا عليه فإذا أسقطه وأبانها فله ذلك (5/281)
فصل
وأما من قال : إنها واحدة رجعية فمأخذه أن التحريم يفيد مطلق انقطاع الملك وهو يصدق بالمتيقن منه وهو الواحدة وما زاد عليها فلا تعرض في اللفظ له فلا يسوغ إثباته بغير موجب وإذا أمكن إعمال اللفظ في الواحدة فقد وفى بموجبه فالزيادة عليه لا موجب لها قالوا : وهذا ظاهر جدا على أصل من يجعل الرجعية محرمة وحينئذ فنقول : التحريم أعم من تحريم رجعية أو تحريم بائن فالدال على الأعم لا يدل على الأخص وإن شئت قلت : الأعم لا يستلزم الأخص أو ليس الأخص من لوازم الأعم أو الأعم لا ينتج الأخص (5/282)
فصل
وأما من قال : يسأل عما أراد من ظهار أو طلاق رجعي أو محرم أو يمين فيكون ما أراد من ذلك فمأخذه أن اللفظ لم يوضع لإيقاع الطلاق خاصة بل هو محتمل للطلاق والظهار والإيلاء فإذا صرف إلى بعضها بالنية فقد استعمله فيما هو صالح له وصرفه إليه بنيته فينصرف إلى ما أراده ولا يتجاوز به ولا يقصر عنه وكذلك لو نوى عتق أمته بذلك عتقت وكذلك لو نوى الإيلاء من الزوجة واليمين من الأمة لزمه ما نواه قالوا : وأما إذا نوى تحريم عينها لزمه بنفس اللفظ كفارة يمين اتباعا لظاهر القرآن وحديث ابن عباس الذي رواه مسلم في صحيحه : إذا حرم الرجل امرأته فهي يمين يكفرها وتلا : { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } وهذا يشبه ما قاله مجاهد في الظهار : إنه يلزمه بمجرد التكلم به كفارة الظهار وهو في الحقيقة قول الشافعي رحمه الله فإنه يوجب الكفارة إذا لم يطلق عقيبه على الفور قالوا : ولأن اللفظ يحتمل الإنشاء والإخبار فإن أراد الإخبار فقد استعمله فيما هو صالح له فيقبل منه وإن أراد الإنشاء سئل عن السبب الذي حرمها به فإن قال : أردت ثلاثا أو واحدة أو اثنتين قبل منه لصلاحية اللفظ له واقترانه بنيته وإن نوى الظهار كان كذلك لأنه صرح بموجب الظهار لأن قوله : أنت علي كظهر أمي موجبه التحريم فإذا نوى ذلك بلفظ التحريم كان ظهارا واحتماله للطلاق بالنية لا يزيد على احتماله للظهار بها وإن أراد تحريمها مطلقا فهو يمين مكفرة لأنه امتناع منها بالتحريم فهو كامتناعه منها باليمين (5/282)
فصل
وأما من قال : إنه ظهار إلا أن ينوي به طلاقا فمأخذ قوله : أن اللفظ موضوع للتحريم فهو منكر من القول وزور فإن العبد ليس إليه التحريم والتحليل وإنما إليه إنشاء الأسباب التي يرتب عليها ذلك فإذا حرم ما أحل الله له فقد قال المنكر والزور فيكون كقوله : أنت علي كظهر أمي بل هذا أولى أن يكون ظهارا لأنه إذا شبهها بمن تحرم عليه دل على التحريم باللزوم فإذا صرح بتحريمها فقد صرح بموجب التشبيه في لفظ الظهار فهو أولى أن يكون ظهارا قالوا : وإنما جعلناه طلاقا بالنية فصرفناه إليه بها لأنه يصلح كناية في الطلاق فينصرف إليه بالنية بخلاف إطلاقه فإنه ينصرف إلى الظهار فإذا نوى به اليمين كان يمينا إذ من أصل أرباب هذا القول أن تحريم الطعام ونحوه يمين مكفرة فإذا نوى بتحريم الزوجة اليمين نوى ما يصلح له اللفظ فقبل منه (5/283)
فصل
وأما من قال : إنه ظهار وإن نوى به الطلاق أو وصله بقوله : أعني به الطلاق فمأخذ قوله ما ذكرنا من تقرير كونه ظهارا ولا يخرج عن كونه ظهارا بنية الطلاق كما لو قال : أنت علي كظهر أمي ونوى به الطلاق أو قال : أعني به الطلاق فإنه لا يخرج بذلك عن الظهار ويصير طلاقا عند الأكثرين : إلا على قول شاذ لا يلتفت إليه لموافقته ما كان الأمر عليه في الجاهلية من جعل الظهار طلاقا ونسخ الإسلام لذلك وإبطاله فإذا نوى به الطلاق فقد نوى ما أبطله الله ورسوله مما كان عليه أهل الجاهلية عند إطلاق لفظ الظهار طلاقا وقد نوى ما لا يحتمله شرعا فلا تؤثر نيته في تغيير ما استقر عليه حكم الله الذي حكم به بين عباده ثم جرى أحمد وأصحابه على أصله من التسوية بين إيقاع ذلك والحلف به كالطلاق والعتاق وفرق شيخ الإسلام بين البابين على أصله في التفريق بين الإيقاع والحلف كما فرق الشافعي وأحمد رحمهما الله ومن وافقهما بين البابين في النذر بين أن يحلف به فيكون يمينا مكفرة وبين أن ينجزه أو يعلقه بشرط يقصد وقوعه فيكون نذرا لازم الوفاء كما سيأتي تقريره في الأيمان إن شاء الله تعالى قال : فليزمهم على هذا أن يفرقوا بين إنشاء التحريم وبين الحلف فيكون في الحلف به حالفا يلزمه كفارة يمين وفي تنجيزه أو تعليقه بشرط مقصود مظاهرا يلزمه كفارة الظهار وهذا مقتضى المنقول عن ابن عباس رضي الله عنهما فإنه مرة جعله ظهارا أو مرة جعله يمينا (5/284)
فصل
وأما من قال : إنه يمين مكفرة بكل حال فمأخذ قوله : أن تحريم الحلال من الطعام والشراب واللباس يمين تكفر به النص والمعنى وآثار الصحابة فإن الله سبحانه وتعالى قال : { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم * قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } [ التحريم : 1 و 2 ] ولا بد أن يكون تحريم الحلال داخلا تحت هذا الفرض لأنه سببه وتخصيص محل السبب من جملة العام ممتنع قطعا إذ هو المقصود بالبيان أولا فلو خص لخلا سبب الحكم عن البيان وهو ممتنع وهذا الإستدلال في غاية القوة فسألت عنه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى فقال : نعم التحريم يمين كبرى في الزوجة كفارتها كفارة الظهار ويمين صغرى فيما عداها كفارتها كفارة اليمين بالله قال : وهذا معنى قول ابن عباس وغيره من الصحابة ومن بعدهم إن التحريم يمين تكفر فهذا تحرير المذاهب في هذه المسألة نقلا وتقريرها استدلالا ولا يخفى - على من آثر العلم والإنصاف وجانب التعصب ونصرة ما بني عليه من الأقوال -
الراجح من المرجوح وبالله المستعان (5/284)
فصل
وقد تبين بما ذكرنا أن من حرم شيئا غير الزوجة من الطعام والشراب واللباس أو أمته لم يحرم عليه بذلك وعليه كفارة يمين وفي هذا خلاف في ثلاثة مواضع
أحدها : أنه لا يحرم وهذا قول الجمهور وقال أبو حنيفة : يحرم تحريما مقيدا تزيله الكفارة كما إذا ظاهر من امرأته فإنه لا يحل له وطؤها حتى يكفر ولأن الله سبحانه سمى الكفارة في ذلك تحلة وهي ما يوجب الحل فدل على ثبوت التحريم قبلها ولأنه سبحانه قال لنبيه صلى الله عليه و سلم : { لم تحرم ما أحل الله لك } ولأنه تحريم لما أبيح له فيحرم بتحريمه كما لو حرم زوجته
ومنازعوه يقولون : إنما سميت الكفارة تحلة من الحل الذي هو ضد العقد لا من الحل الذي هو مقابل التحريم فهي تحل اليمين بعد عقدها وأما قوله : { لم تحرم ما أحل الله لك } فالمراد تحريم الأمة أو العسل ومنع نفسه منه وذلك يسمى تحريما فهو تحريم بالقول لا إثبات للتحريم شرعا
وأما قياسه على تحريم الزوجة بالظهار أو بقوله : أنت علي حرام فلو صح هذا القياس لوجب تقديم التكفير على الحنث قياسا على الظهار إذ كان في معناه وعندهم لا يجوز التكفير إلا بعد الحنث فعلى قولهم : يلزم أحد أمرين ولا بد إما أن يفعله حراما وقد فرض الله تحلة اليمين فيلزم كون المحرم مفروضا أو من ضرورة المفروض لأنه لا يصل إلى التحلة إلا بفعل المحلوف عليه أو أنه لا سبيل له إلى فعله حلالا لأنه لا يجوز تقديم الكفارة فيستفيد بها الحل وإقدامه عليه وهو حرام ممتنع هذا ما قيل في المسألة من الجانبين
وبعد فلها غور وفيها دقة وغموض فإن من حرم شيئا فهو بمنزلة من حلف بالله على تركه ولو حلف على تركه لم يجز له هتك حرمة المحلوف به بفعله إلا بالتزام الكفارة فإذا التزمها جاز له الإقدام عل فعل المحلوف عليه فلو عزم على ترك الكفارة فإن الشارع لا يبيح له الإقدام على فعل ما حلف عليه ويأذن له فيه وإنما يأذن له في ويبيحه إذا التزم ما فرض الله من الكفارة فيكون إذنه له فيه وإباحته بعد امتناعه منه بالحلف أو التحريم رخصة من الله له ونعمة منه عليه بسبب التزامه لحكمه الذي فرض له من الكفارة فإذا لم يلتزمه بقي المنع الذي عقده على نفسه إصرا عليه فإن الله إنما رفع الآصار عمن اتقاه والتزم حكمه وقد كانت اليمين في شرع من قبلنا يتحتم الوفاء بها ولا يجوز الحنث فوسع الله على هذه الأمة وجوز لها الحنث بشرط الكفارة فإذا لم يكفر لا قبل ولا بعد لم يوسع له في الحنث فهذا معنى قوله : إنه يحرم حتى يكفر
وليس هذا من مفردات أبي حنيفة بل هو أحد القولين في مذهب أحمد يوضحه : أن هذا التحريم والحلف قد تعلق به منعان : منع من نفسه لفعله ومنع من الشارع للحنث بدون الكفارة فلو لم يحرمه تحريمه أو يمينه لم يكن لمنعه نفسه ولا لمنع الشارع له أثر بل كان غاية الأمر أن الشارع أوجب في ذمته بهذا المنع صدقة أو عتقا أو صوما لا يتوقف عليه حل المحلوف عليه ولا تحريمه البتة بل هو قبل المنع وبعده على السواء من غير فرق فلا يكون للكفارة أثر البتة لا في المنع منه ولا في الإذن وهذا لا يخفى فساده
وأما إلزامه بالإقدام عليه مع تحريمه حيث لا يجوز تقديم الكفارة فجوابه أنه إنما يجوز له الإقدام عند عزمه على التكفير فعزمه على التكفير منع من بقاء تحريمه عليه وإنما يكون التحريم ثابتا إذا لم يلتزم الكفارة ومع التزامها لا يستمر التحريم (5/285)
فصل
الثاني : أن يلزمه كفارة بالتحريم وهو بمنزلة اليمين وهذا قول من سميناه من الصحابة وقول فقهاء الرأي والحديث إلا الشافعي ومالكا فإنهما قالا : لا كفارة عليه بذلك
والذين أوجبوا الكفارة أسعد بالنص من الذين أسقطوها فإن الله سبحانه ذكر تحلة الأيمان عقب قوله : { لم تحرم ما أحل الله لك } وهذا صريح في أن تحريم الحلال قد فرض فيه تحلة الأيمان إما مختصا به وإما شاملا له ولغيره فلا يجوز أن يخلى سبب الكفارة المذكورة في السياق عن حكم الكفارة ويعلق بغيره وهذا ظاهر الإمتناع
وأيضا فإن المنع من فعله بالتحريم كالمنع منه باليمين بل أقوى فإن اليمين إن تضمن هتك حرمة اسمه سبحانه فالتحريم تضمن هتك حرمة شرعه وأمره فإنه إذا شرع الشئ حلالا فحرمه المكلف كان تحريمه هتكا لحرمه ما شرعه ونحن نقول : لم يتضمن الحنث في اليمين هتك حرمة الإسم ولا التحريم هتك حرمة الشرع كما يقوله من يقول من الفقهاء وهو تعليل فاسد جدا فإن الحنث إما جائز وإما واجب أو مستحب وما جوز الله لأحد البتة أن يهتك حرمة اسمه وقد شرع لعباده الحنث مع الكفارة وأخبر النبي صلى الله عليه و سلم أنه إذا حلف على يمين ورأى غيرها خيرا كفر عن يمينه وأتى المحلوف عليه ومعلوم أن هتك اسمه تبارك وتعالى لم يبح في شريعة قط وإنما الكفارة كما سماها الله تعالى تحلة وهي تفعلة من الحل فهي تحل ما عقد به اليمين ليس إلا وهذا العقد كما يكون باليمين يكون بالتحريم وظهر سر قوله تعالى : { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } عقيب قوله : { لم تحرم ما أحل الله لك } (5/287)
فصل
الثالث : أنه لا فرق بين التحريم في غير الزوجة بين الأمة وغيرها عند الجمهور إلا الشافعي وحده أوجب في تحريم الأمة خاصة كفارة يمين إذ التحريم له تأثير في الأبضاع عنده دون غيرها
وأيضا فإن سبب نزول الآية تحريم الجارية فلا يخرج محل السبب عن الحكم ويتعلق بغيره ومنازعوه يقولون : النص علق فرض تحلة اليمين بتحريم الحلال وهو أعم من تحريم الأمة وغيرها فتجب الكفارة حيث وجد سببها وقد تقدم تقريره (5/288)
حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم في قوله الرجل لامرأته : الحقي بأهلك
ثبت في صحيح البخاري : أن ابنة الجون لما دخلت على رسول الله صلى الله عليه و سلم ودنا منها قالت : أعوذ بالله منك قال : [ عذت بعظيم الحقي بأهلك ]
وثبت في الصحيحين : أن كعب بن مالك رضي الله عنه لما أتاه رسول الله صلى الله عليه و سلم يأمره أن يعتزل امرأته قال لها : الحقي بأهلك
فاختلف الناس في هذا فقالت طائفة : ليس هذا بطلاق ولا يقع به الطلاق نواه أو لم ينوه وهذا قول أهل الظاهر قالوا : والنبي صلى الله عليه و سلم لم يكن عقد على ابنة الجون وإنما أرسل إليها ليخطبها قالوا : ويدل على ذلك ما في صحيح البخاري : من حديث حمزة بن أبي أسيد عن أبيه أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد أتي بالجونية فأنزلت في بيت أميمة بنت النعمان بن شراحيل في نخل ومعها دابتها فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ هبي لي نفسك فقالت : وهل تهب الملكة نفسها للسوقة فأهوى ليضع يده عليها لتسكن فقالت : أعوذ بالله منك فقال : قد عذت بمعاذ ثم خرج فقال : يا أبا أسيد : اكسها رازقيين وألحقها بأهلها ]
وفي صحيح مسلم : عن سهل بن سعد قال : [ ذكرت لرسول الله صلى الله عليه و سلم امرأة من العرب فأمر أبا أسيد أن يرسل إليها فأرسل إليها فقدمت فنزلت في أجم بني ساعدة فخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى جاءها دخل عليها فإذا امرأة منكسة رأسها فلما كلمها قالت : أعوذ بالله منك قال : قد أعذتك مني فقالوا : أتدرين من هذا ؟ قالت : لا قالوا : هذا رسول الله صلى الله عليه و سلم جاءك ليخطبك قالت : أنا كنت أشقى من ذلك ]
قالوا : وهذه كلها أخبار عن قصة واحدة في امرأة واحدة في مقام واحد وهي صريحة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يكن تزوجها بعد وإنما دخل عليها ليخطبها
وقال الجمهور - منهم الأئمة الأربعة وغيرهم - : بل هذا من ألفاظ الطلاق إذا نوى به الطلاق وقد ثبت في صحيح البخاري : أن أبانا إسماعيل بن إبراهيم طلق به امرأته لما قال لها إبراهيم : مريه فليغير عتبة بابه فقال لها : أنت العتبة وقد أمرني أن أفارقك الحقي بأهلك وحديث عائشة كالصريح في أنه صلى الله عليه و سلم كان عقد عليها فإنها قالت : لما أدخلت عليه فهذا دخول الزوج بأهله ويؤكده قولها : ودنا منها
وأما حديث أبي أسيد فغاية ما فيه قوله : هبي لي نفسك وهذا لا يدل على أنه لم يتقدم نكاحه لها وجاز أن يكون هذا استدعاء منه صلى الله عليه و سلم للدخول لا للعقد
وأما حديث سهل بن سعد فهو أصرحها في أنه لم يكن وجد عقد فإن فيه أنه صلى الله عليه و سلم لما جاء إليها قالوا : هذا رسول الله جاء ليخطبك والظاهر أنها هي الجونية لأن سهلا قال في حديثه : فأمر أبا أسيد أن يرسل إليها فأرسل إليها فالقصة واحدة دارت على عائشة رضي الله عنها وأبي أسيد وسهل وكل منهم رواها وألفاظهم فيها متقاربة ويبقى التعارض بين قوله : جاء ليخطبك وبين قوله : فلما دخل عليها ودنا منها : فإما أن يكون أحد اللفظين وهما أو الدخول ليس دخول الرجل على امرأته بل الدخول العام وهذا محتمل
وحديث ابن عباس رضي الله عنهما في قصة إسماعيل صريح ولم يزل هذا اللفظ من الألفاظ التي يطلق بها في الجاهلية والإسلام ولم يغيره النبي صلى الله عليه و سلم بل أقرهم عليه وقد أوقع أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم الطلاق وهم القدوة : بأنت حرام وأمرك بيدك واختاري ووهبتك لأهلك وأنت خلية وقد خلوت مني وأنت برية وقد أبرأتك وأنت مبرأة وحبلك على غاربك وأنت الحرج فقال علي وابن عمر : الخلية ثلاث وقال عمر : واحدة وهو أحق بها وفرق معاوية بين رجل وامرأته قال لها : إن خرجت فأنت خلية وقال علي وابن عمر رضي الله عنهما وزيد في البرية : إنها ثلاث وقال عمر رضي الله عنه : هي واحدة وهو أحق بها وقال علي في الحرج : هي ثلاث وقال عمر : واحدة وقد تقدم ذكر أقوالهم في أمرك بيدك وأنت حرام
والله سبحانه ذكر الطلاق ولم يعين له لفظا فعلم أنه رد الناس إلى ما يتعارفونه طلاقا فأي لفظ جرى عرفهم به وقع به الطلاق مع النية
والألفاظ لا تراد لعينها بل للدلالة على مقاصد لافظها فإذا تكلم بلفظ دال على معنى وقصد به ذلك المعنى ترتب عليه حكمه ولهذا يقع الطلاق من العجمي والتركي والهندي بألسنتهم بل لو طلق أحدهم بصريح الطلاق بالعربية ولم يفهم معناه لم يقع به شئ قطعا فإنه تكلم بما لا يفهم معناه ولا قصده وقد دل حديث كعب بن مالك على أن الطلاق لا يقع بهذا اللفظ وأمثاله إلا بالنية
والصواب أن ذلك جار في سائر الألفاظ صريحها وكنايتها ولا فرق بين ألفاظ العتق والطلاق فلو قال : غلامي غلام حر لا يأتي الفواحش أو أمتي أمة حرة لا تبغي الفجور ولم يخطر بباله العتق ولا نواه لم يعتق بذلك قطعا وكذلك لو كانت معه امرأته في طريق فافترقا فقيل له : أين امرأتك ؟ فقال : فارقتها أو سرح شعرها وقال : سرحتها ولم يرد طلاقا لم تطلق كذلك إذا ضربها الطلق وقال لغيره إخبارا عنها بذلك : إنها طالق لم تطلق بذلك وكذلك إذا كانت المرأة في وثاق فأطلقت منه فقال لها : أنت طالق وأراد من الوثاق هذا كله مذهب مالك وأحمد في بعض هذه الصور وبعضها نظير ما نص عليه ولا يقع الطلاق به حتى ينويه ويأتي بلفظ دال عليه فلو انفرد أحد الأمرين عن الآخر لم يقع الطلاق ولا العتاق وتقسيم الألفاظ إلى صريح وكناية وإن كان تقسيما صحيحا في أصل الوضع لكن يختلف باختلاف الأشخاص والأزمنة والأمكنة فليس حكما ثابتا للفظ لذاته فرب لفظ صريح عند قوم كناية عند آخرين أو صريح في زمان أو مكان كناية في غير ذلك الزمان والمكان والواقع شاهد بذلك فهذا لفظ السراح لا يكاد أحد يستعمله في الطلاق لا صريحا ولا كناية فلا يسوغ أن يقال : إن من تكلم به لزمه طلاق امرأته نواه أو لم ينوه ويدعي أنه ثبت له عرف الشرع والإستعمال فإن هذه دعوى باطلة شرعا واستعمالا أما الإستعمال فلا يكاد أحد يطلق به البتة وأما الشرع فقد استعمله في غير الطلاق كقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا } [ الأحزاب : 49 ] فهذا السراح غير الطلاق قطعا وكذلك الفراق استعمله الشرع في غير الطلاق كقوله تعالى : { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن } إلى قوله : { فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف } [ الطلاق : 12 ] فالإمساك هنا : الرجعة والمفارقة : ترك الرجعة لا إنشاء طلقة ثانية هذا مما لا خلاف فيه البتة فلا يجوز أن يقال : إن من تكلم به طلقت زوجته فهم معناه أو لم يفهم وكلاهما في البطلان سواء وبالله التوفيق (5/288)
حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم في الظهار وبيان ما أنزل الله فيه ومعنى العود الموجب للكفارة
قال تعالى : { الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا وإن الله لعفو غفور * والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير * فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم } [ المجادلة : 2 - 4 ]
ثبت في السنن و المسانيد : [ أن أوس بن الصامت ظاهر من زوجته خولة بنت مالك بن ثعلبة وهي التي جادلت فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم واشتكت إلى الله وسمع الله شكواها من فوق سبع سماوات فقالت : يا رسول الله ! إن أوس بن الصامت تزوجني وأنا شابة مرغوب في فلما خلا سني ونثرت له بطني جعلني كأمه عنده فقال لها رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما عندي في أمرك شئ فقالت : اللهم إني أشكو إليك ]
وروي أنها قالت : إن لي صبية صغارا إن ضمهم إليه ضاعوا وإن ضممتهم إلي جاعوا فنزل القرآن
وقالت عائشة الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات لقد جاءت خولة بنت ثعلبة تشكو إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وأنا في كسر البيت يخفى علي بعض كلامها فأنزل الله عز و جل { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير } ( المجادلة : 1 ) فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ ليعتق رقبة قالت : لا يجد قال : فيصوم شهرين متتابعين قالت : يا رسول الله ! إنه شيخ كبير ما به من صيام قال : فليطعم ستين مسكينا قالت : ما عنده من شئ يتصدق به قال : فأتي ساعتئذ بعرق من تمر قلت : يا رسول الله فإني أعينه بعرق آخر قال : أحسنت فأطعمي عنه ستين مسكينا وارجعي إلى ابن عمك ]
وفي السنن : أن سلمة بن صخر البياضي ظاهر من امرأته مدة شهر رمضان ثم واقعها ليلة قبل انسلاخه فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : [ أنت بذاك يا سلمة قال : قلت : أنا بذاك يا رسول الله مرتين وأنا صابر لأمر الله فاحكم في بما أراك الله قال : حرر رقبة قلت : والذي بعثك بالحق نبيا ما أملك رقبة غيرها وضربت صفحة رقبتي قال : فصم شهرين متتابعين قال : وهل أصبت الذي أصبت إلا في الصيام قال : فأطعم وسقا من تمر بين ستين مسكينا قلت : والذي بعثك بالحق لقد بتنا وحشين ما لنا طعام قال : فانطلق إلى صاحب صدقة بني زريق فليدفعها إليك فأطعم ستين مسكينا وسقا من تمر وكل أنت وعيالك بقيتها قال : فرحت إلى قومي فقلت : وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي ووجدت عند رسول الله صلى الله عليه و سلم السعة وحسن الرأي وقد أمر لي بصدقتكم ]
وفي جامع الترمذي عن ابن عباس [ أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه و سلم قد ظاهر من امرأته فوقع عليها فقال : يا رسول الله إني ظاهرت من امرأتي فوقعت عليها قبل أن أكفر قال : وما حملك على ذلك يرحمك الله قال : رأيت خلخالها في ضوء القمر قال : فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله ] قال : هذا حديث حسن غريب صحيح
وفيه أيضا : عن سلمة بن صخر عن النبي صلى الله عليه و سلم في المظاهر يواقع قبل أن يكفر فقال : [ كفارة واحدة ] وقال : حسن غريب انتهى وفيه انقطاع بين سليمان بن يسار وسلمة بن صخر
وفي مسند البزار عن إسماعيل بن مسلم عن عمرو بن دينار عن طاووس عن ابن عباس رضي الله عنه قال : [ أتى رجل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : إني ظاهرت من امرأتي ثم وقعت عليها قبل أن أكفر فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ألم يقل الله : { من قبل أن يتماسا } فقال : أعجبتني فقال : أمسك عنها حتى تكفر ] قال البزار : لا نعلمه يروى بإسناد أحسن من هذا على أن إسماعيل بن مسلم قد تكلم فيه وروى عنه جماعة كثيره من أهل العلم
فتضمنت هذه الأحكام أمورا
أحدها : إبطال ما كانوا عليه في الجاهلية وفي صدر الإسلام من كون الظهار طلاقا ولو صرح بنيته له فقال : أنت علي كظهر أمي أعني به الطلاق لم يكن طلاقا وكان ظهارا وهذا بالإتفاق إلا ما عساه من خلاف شاذ وقد نص عليه أحمد والشافعي وغيرهما قال الشافعي : ولو ظاهر يريد طلاقا كان ظهارا أو طلق يريد ظهارا كان طلاقا هذا لفظه فلا يجوز أن ينسب إلى مذهبه خلاف هذا ونص أحمد : على أنه إذا قال : أنت علي كظهر أمي أعني به الطلاق أنه ظهار ولا تطلق به وهذا لأن الظهار كان طلاقا في الجاهلية فنسخ فلم يجز أن يعاد إلى الحكم المنسوخ
وأيضا فأوس بن الصامت إنما نوى به الطلاق على ما كان عليه وأجرى عليه حكم الظهار دون الطلاق
وأيضا فإنه صريح في حكمه فلم يجز جعله كناية في الحكم الذي أبطله عز و جل بشرعه وقضاء الله أحق وحكم الله أوجب
ومنها أن الظهار حرام لا يجوز الإقدام عليه لأنه كما أخبر الله عنه منكر من القول وزور وكلاهما حرام والفرق بين جهة كونه منكرا وجهة كونه زورا أن قوله : أنت علي كظهر أمي يتضمن إخباره عنها بذلك وإنشاءه تحريمها فهو يتضمن إخبارا وإنشاء فهو خبر زور وإنشاء منكر فإن الزور هو الباطل خلاف الحق الثابت والمنكر خلاف المعروف وختم سبحانه الآية بقوله تعالى : { وإن الله لعفو غفور } وفيه إشعار بقيام سبب الإثم الذي لو لا عفو الله ومغفرته لأخذ به
ومنها : أن الكفارة لا تجب بنفس الظهار وإنما تجب بالعود وهذا قول الجمهور وروى الثوري عن ابن أبي نجيح عن طاووس قال : إذا تكلم بالظهار فقد لزمه وهذه رواية ابن أبي نجيح عنه وروى معمر عن طاووس عن أبيه في قوله تعالى : { ثم يعودون لما قالوا } قال : جعلها عليه كظهر أمه ثم يعود فيطؤها فتحرير رقبة وحكى الناس عن مجاهد : أنه تجب الكفارة بنفس الظهار وحكاه ابن حزم عن الثوري وعثمان البتي وهؤلاء لم يخف عليهم أن العود شرط في الكفارة ولكن العود عندهم هو العود إلى ما كانوا عليه في الجاهلية من التظاهر كما يقوله تعالى في جزاء الصيد : { ومن عاد فينتقم الله منه } [ المائدة : 95 ] أي : عاد إلى الإصطياد بعد نزول تحريمه ولهذا قال : { عفا الله عما سلف } [ المائدة : 95 ] قالوا : ولأن الكفارة إنما وجبت في مقابلة ما تكلم به من المنكر والزور وهو الظهار دون الوطء أو العزم عليه قالوا : ولأن الله سبحانه لما حرم الظهار ونهى عنه كان العود هو فعل المنهي عنه كما قال تعالى : { عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا } [ الإسراء : 8 ] أي : إن عدتم إلى الذنب عدنا إلى العقوبة فالعود هنا نفس فعل المنهي عنه
قالوا : ولأن الظهار كان طلاقا في الجاهلية فنقل حكمه من الطلاق إلى الظهار ورتب عليه التكفير وتحريم الزوجة حتى يكفر وهذا يقتضي أن يكون حكمه معتبرا بلفظه كالطلاق
ونازعهم الجمهور في ذلك وقالوا : إن العود أمر وراء مجرد لفظ الظهار ولا يصح حمل الآية على العود إليه في الإسلام لثلاثة أوجه
أحدها : أن هذه الآية بيان لحكم من يظاهر في الإسلام ولهذا أتى فيها بلفظ الفعل مستقبلا فقال : يظاهرون وإذا كان هذا بيانا لحكم ظهار الإسلام فهو عندكم نفس العود فكيف يقول بعده : ثم يعودون وأن معنى هذا العود غير الظهار عندكم ؟
الثاني : أنه لو كان العود ما ذكرتم وكان المضارع بمعنى الماضي كان تقديره : والذين ظاهروا من نسائهم ثم عادوا في الإسلام ولما وجبت الكفارة إلا على من تظاهر في الجاهلية ثم عاد في الإسلام فمن أين توجبونها على من ابتدأ الظهار في الإسلام غير عائد ؟ فإن هنا أمرين : ظهار سابق وعود إليه وذلك يبطل حكم الظهار الآن بالكلية إلا أن تجعلوا يظاهرون لفرقة ويعودون لفرقة ولفظ المضارع نائبا عن لفظ الماضي وذلك مخالف للنظم ومخرج عن الفصاحة
الثالث : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أمر أوس بن الصامت وسلمة بن صخر بالكفارة ولم يسألهما : هل تظاهرا في الجاهلية أم لا ؟ فإن قلتم : ولم يسألهما عن العود الذي تجعلونه شرطا ولو كان شرطا لسألهما عنه قيل : أما من يجعل العود نفس الإمساك بعد الظهار زمنا يمكن وقوع الطلاق فيه فهذا جار على قوله وهو نفس حجته ومن جعل العود هو الوطء والعزم قال : سياق القصة بين في أن المتظاهرين كان قصدهم الوطء وإنما أمسكوا له وسيأتي تقرير ذلك إن شاء الله تعالى
وأما قول الظهار منكرا من القول وزورا فنعم هو ذلك ولكن الله عز و جل إنما أوجب الكفارة في هذا المنكر والزور بأمرين : به وبالعود كما أن حكم الايلاء إنما يترتب عليه وعلى الوطء لا على أحدهما (5/292)
فصل
وقال الجمهور : لا تجب الكفارة إلا بالعود بعد الظهار ثم اختلفوا في معنى العود : هل هو إعادة لفظ الظهار بعينه أو أمر وراءه ؟ على قولين فقال أهل الظاهر كلهم : هو إعادة لفظ الظهار ؟ ولم يحكوا هذا عن أحد من السلف البتة وهو قول لم يسبقوا إليه وإن كانت هذه الشكاة لا يكاد مذهب من المذاهب يخلو عنها قالوا : فلم يوجب الله سبحانه الكفارة إلا بالظهار المعاد لا المبتدأ قالوا : والإستدلال بالآية من ثلاثة وجوه
أحدها : أن العرب لا يعقل في لغاتها العود إلى الشئ إلا فعل مثله مرة ثانية قالوا : وهذا كتاب الله وكلام رسوله وكلام العرب بيننا وبينكم قال تعالى : { ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه } [ الأنعام : 28 ] فهذا نظير الاية سواء في أنه عدى فعل العود باللام وهو إتيانهم مرة ثانية بمثل ما أتوا به أولا وقال تعالى : { وإن عدتم عدنا } [ الإسراء : 8 ] أي : إن كررتم الذنب كررنا العقوبة ومنه قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه } [ المجادلة : 8 ] وهذا في سورة الظهار نفسها وهو يبين المراد من العود فيه فإنه نظيره فعلا وإرادة والعهد قريب بذكره
قالوا : وأيضا فالذي قالوه : هو لفظ الظهار فالعود إلى القول هو الإتيان به مرة ثانية لا تعقل العرب غير هذا قالوا : وأيضا فما عدا تكرار اللفظ إما إمساك وإما عزم وإما فعل وليس واحد منها بقول فلا يكون الإتيان به عودا لا لفظا ولا معنى ولأن العزم والوطء والإمساك ليس ظهارا فيكون الإتيان بها عودا إلى الظهار
قالوا : ولو أريد بالعود الرجوع في الشئ الذي منع منه نفسه كما يقال عاد في الهبة لقال : ثم يعودون فيما قالوا كما في الحديث : [ العائد في هبته كالعائد في قيئه ]
واحتج أبو محمد بن حزم بحديث عائشة رضي الله عنها أن أوس بن الصامت كان به لمم فكان إذا اشتد به لممه ظاهر من زوجته فأنزل الله عز و جل فيه كفارة الظهار فقال : هذا يقتضي التكرار ولا بد قال : ولا يصح في الظهار إلا هذا الخبر وحده قال : وأما تشنيعكم علينا بأن هذا القول لم يقل به أحد من الصحابة فأرونا من الصحابة من قال : إن العود هو الوطء أو العزم أو الإمساك أو هو العود إلى الظهار في الجاهلية ولو عن رجل واحد من الصحابة فلا تكونون أسعد بأصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم منا أبدا (5/298)
فصل
ونازعهم الجمهور في ذلك وقالوا : ليس معنى العود إعادة اللفظ الأول لأن ذلك لو كان هو العود لقال : ثم يعيدون ما قالوا لانه يقال : أعاد كلامه بعينه وأما عاد فإنما هو في الأفعال كما يقال : عاد في فعله وفي هبته فهذا استعماله بفي ويقال : عاد إلى عمله وإلى ولايته وإلى حاله وإلى إحسانه وإساءته ونحو ذلك وعاد له أيضا
وأما القول : فإنما يقال : أعاده كما قال ضماد بن ثعلبة للنبي صلى الله عليه و سلم : أعد علي كلماتك وكما قال أبو سعيد : أعدها علي يا رسول الله وهذا ليس بلازم فإنه يقال : أعاد مقالته وعاد لمقالته وفي الحديث : فعاد لمقالته بمعنى أعادها سواء وأفسد من هذا رد من رد عليهم بأن إعادة القول محال كإعادة أمس قال : لأنه لا يتهيأ اجتماع زمانين وهذا في غاية الفساد فإن إعادة القول من في إعادة الفعل وهي الإتيان بمثل الأول لا بعينه والعجب من متعصب يقول : لا يعتد بخلاف الظاهرية ويبحث معهم بمثل هذه البحوث ويرد عليهم بمثل هذا الرد وكذلك رد من رد عليهم بمثل العائد في هبته فإنه ليس نظير الآية وإنما نظيرها { ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه } [ المجادلة : 8 ] ومع هذا فهذه الآية تبين المراد من آية الظهار فإن عودهم لما نهوا عنه هو رجوعهم إلى نفس المنهي عنه وهو النجوى وليس المراد له إعادة تلك النجوى بعينها بل رجوعهم إلى المنهي عنه وكذلك قوله تعالى في الظهار : { يعودون لما قالوا } أي : لقولهم فهو مصدر بمعنى المفعول وهو تحريم الزوجة بتشبيهها بالمحرمة فالعود إلى المحرم هو العود إليه وهو فعله فهذا مأخذ من قال : إنه الوطء
ونكتة المسألة : أن القول في معنى المقول والمقول هو التحريم والعود له هو العود إليه وهو استباحته عائدا إليه بعد تحريمه وهذا جار على قواعد اللغة العربية واستعمالها وهذا الذي عليه جمهور السلف والخلف كما قال قتادة وطاووس والحسن والزهري ومالك وغيرهم ولا يعرف عن أحد من السلف أنه فسر الآية بإعادة اللفظ البتة لا من الصحابة ولا من التابعين ولا من بعدهم وها هنا أمر خفي على من جعله إعادة اللفظ وهو أن العود إلى الفعل يستلزم مفارقة الحال التي هو عليها الآن وعوده إلى الحال التي كان عليها أولا كما قال تعالى : { وإن عدتم عدنا } [ الإسراء : 8 ] ألا ترى أن عودهم مفارقة ما هم عليه من الإحسان وعودهم إلى الإساءة وكقول الشاعر :
( وإن عاد للإحسان فالعود أحمد )
والحال التي هو عليها الآن التحريم بالظهار والتي كان عليها إباحة الوطء بالنكاح الموجب للحل فعود المظاهر عود إلى حل كان عليه قبل الظهار وذلك هو الموجب للكفارة فتأمله فالعود يقتضي أمرا يعود إليه بعد مفارقته وظهر سر الفرق بين العود في الهبة وبين العود لما قال المظاهر فإن الهبة بمعنى الموهوب وهو عين يتضمن عوده فيه إدخاله في ملكه وتصرفه فيه كما كان أولا بخلاف المظاهر فإنه بالتحريم قد خرج عن الزوجية وبالعود قد طلب الرجوع إلى الحال التي كان عليها معها قبل التحريم فكان الأليق أن يقال : عاد لكذا يعني : عاد إليه وفي الهبة : عاد إليها وقد أمر النبي صلى الله عليه و سلم أوس بن الصامت وسلمة بن صخر بكفارة الظهار ولم يتلفظا به مرتين فإنهما لم يخبرا بذلك عن أنفسهما ولا أخبر به أزواجهما عنهما ولا أحد من الصحابة ولا سألهما النبي صلى الله عليه و سلم : هل قلتما ذلك مرة أو مرتين ؟ ومثل هذا لو كان شرطا لما أهمل بيانه
وسر المسالة أن العود يتضمن أمرين : أمرا يعود إليه وأمرا يعود عنه ولا بد منهما فالذي يعود عنه يتضمن نقضه وإبطاله والذي يعود إليه يتضمن إيثاره وإرادته فعود المظاهر يقتضي نقض الظهار وإبطاله وإيثار ضده وإرادته وهذا عين فهم السلف من الآية فبعضهم يقول : إن العود هو الإصابة وبعضهم يقول : الوطء وبعضهم يقول : اللمس وبعضهم يقول : العزم
وأما قولكم : إنه إنما أوجب الكفارة في الظهار المعاد إن أردتم به المعاد لفظه فدعوى بحسب ما فهمتموه وإن أردتم به الظهار المعاد فيه لما قال المظاهر لم يستلزم ذلك إعادة اللفظ الأول
وأما حديث عائشة رضي الله عنها في ظهار أوس بن الصامت فما أصحه وما أبعد دلالته على مذهبكم (5/299)
فصل
ثم الذين جعلوا العود أمرا غير إعادة اللفظ اختلفوا فيه : هل هو مجرد إمساكها بعد الظهار أو أمر غيره ؟ على قولين فقالت طائفة : هو إمساكها زمنا يتسع لقوله : أنت طالق فمتى لم يصل الطلاق بالظهار لزمته الكفارة وهو قول الشافعي قال منازعوه : وهو في المعنى قول مجاهد والثوري فإن هذا النفس الواحد لا يخرج الظهار عن كونه موجب الكفارة ففي الحقيقة لم يوجب الكفارة إلا لفظ الظهار وزمن قوله : أنت طالق لا تأثير له في الحكم إيجابا ولا نفيا فتعليق الإيجاب به ممتنع ولا تسمى تلك اللحظة والنفس الواحد من الأنفاس عودا لا في لغة العرب ولا في عرف الشارع وأي شئ في هذا الجزء اليسير جدا من الزمان من معنى العود أو حقيقته ؟
قالوا : وهذا ليس بأقوى من قول من قال : هو إعادة اللفظ بعينه فإن ذلك قول معقول يفهم منه العود لغة وحقيقة وأما هذا الجزء من الزمان فلا يفهم من الإنسان فيه العود البتة قالوا : ونحن نطالبكم بما طالبتم به الظاهرية : من قال هذا القول قبل الشافعي ؟ قالوا : والله سبحانه أوجب الكفارة بالعود بحرف ثم الدالة على التراخي عن الظهار فلا بد أن يكون بين العود وبين الظهار مدة متراخية وهذا ممتنع عندكم وبمجرد انقضاء قوله : أنت علي كظهر أمي صار عائدا ما لم يصله بقوله : أنت طالق فأين التراخي والمهلة بين العود والظهار ؟ والشافعي لم ينقل هذا عن أحد من الصحابة والتابعين وإنما أخبر أنه أولى المعاني بالآية فقال : الذي عقلت مما سمعت في ( يعودون لما قالوا ) أنه إذا أتت على المظاهر مدة بعد القول بالظهار لم يحرمها بالطلاق الذي يحرم به وجبت عليه الكفارة كأنهم يذهبون إلى أنه إذا أمسك ما حرم على نفسه أنه حلال فقد عاد لما قال فخالفه فأحل ما حرم ولا أعلم له معنى أولى به من هذا انتهى (5/301)
فصل
والذين جعلوه أمرا وراء الإمساك اختلفوا فيه فقال مالك في إحدى الروايات الأربع عنه وأبو عبيد : هو العزم على الوطء وهذا قول القاضي أبي يعلى وأصحابه وأنكره الإمام أحمد وقال مالك : يقول : إذا أجمع لزمته الكفارة فكيف يكون هذا لو طلقها بعد ما يجمع أكان عليه كفارة إلا أن يكون يذهب إلى قول طاووس إذا تكلم بالظهار لزمه مثل الطلاق ؟
ثم اختلف أرباب هذا القول فيما لو مات أحدهما أو طلق بعد العزم وقبل الوطء هل تستقر عليه الكفارة ؟ فقال مالك وأبو الخطاب : تستقر الكفارة وقال القاضي وعامة أصحابه : لا تستقر وعن مالك رواية ثانية : أنه العزم على الإمساك وحده ورواية الموطأ خلاف هذا كله : أنه العزم على الإمساك والوطء معا وعنه رواية رابعة : أنه الوطء نفسه وهذا قول أبي حنيفة وأحمد وقد قال أحمد في قوله تعالى : { ثم يعودون لما قالوا } قال : الغشيان إذا أراد أن يغشى كفر وليس هذا باختلاف رواية بل مذهبه الذي لا يعرف عنه غيره أنه الوطء ويلزمه إخراجها قبله عند العزم عليه
واحتج أرباب هذا القول بأن الله سبحانه قال في الكفارة : { من قبل أن يتماسا } فأوجب الكفارة بعد العود وقبل التماس وهذا صريح في أن العود غير التماس وأن ما يحرم قبل الكفارة لا يجوز كونه متقدما عليها قالوا : ولأنه قصد بالظهار تحريمها والعزم على وطئها عود فيما قصده قالوا : ولأن الظهار تحريم فإذا أراد استباحتها فقد رجع في ذلك التحريم فكان عائدا قال الذين جعلوه الوطء : لا ريب أن العود فعل ضد قوله كما تقدم تقريره والعائد فيما نهي عنه وإليه وله : هو فاعله لا مريده كما قال تعالى : { ثم يعودون لما نهوا عنه } فهذا فعل المنهي عنه نفسه لا إرادته ولا يلزم أرباب هذا القول ما ألزمهم به أصحاب العزم فإن قولهم : - إن العود يتقدم التكفير والوطء متأخر عنه فهم يقولإن : إن قوله تعالى : { ثم يعودون لما قالوا } أي : يريدون العود كما قال تعالى : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله } وكقوله تعالى : { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } [ المائدة : 6 ] ونظائره مما يطلق الفعل فيه على إرادته لوقوعه بها قالوا : وهذا أولى من تفسير العود بنفس اللفظ الأول وبالإمساك نفسا واحدا بعد الظهار وبتكرار لفظ الظهار وبالعزم المجرد لو طلق بعده فإن هذه الأقوال كلها قد تبين ضعفها فأقرب الأقوال إلى دلالة اللفظ وقواعد الشريعة وأقوال المفسرين هو هذا وبالله التوفيق (5/302)
فصل
ومنها : أن من عجز عن الكفارة لم تسقط عنه فإن النبي صلى الله عليه و سلم أعان أوس بن الصامت بعرق من تمر وأعانته امرأته بمثله حتى كفر وأمر سلمة بن صخر أن يأخذ صدقة قومه فيكفر بها عن نفسه ولو سقطت بالعجز لما أمرهما بإخراجها بل تبقى في ذمته دينا عليه وهذا قول الشافعي وأحد الروايتين عن أحمد
وذهبت طائفة إلى سقوطها بالعجز كما تسقط الواجبات بعجزه عنها وعن إبدالها
وذهبت طائفة أن كفارة رمضان لا تبقى في ذمته بل تسقط وغيرها من الكفارات لا تسقط وهذا الذي صححه أبو البركات ابن تيمية
واحتج من أسقطها بأنها لو وجبت مع العجز لما صرفت إليه فإن الرجل لا يكون مصرفا لكفارته كما لا يكون مصرفا لزكاته وأرباب القول الأول يقولون : إذا عجز عنها وكفر الغير عنه جاز أن يصرفها إليه كما صرف النبي صلى الله عليه و سلم كفارة من جامع في رمضان إليه وإلى أهله وكما أباح لسلمة بن صخر أن يأكل هو وأهله من كفارته التي أخرجها عنه من صدقة قومه وهذا مذهب أحمد رواية واحدة عنه في كفارة من وطىء أهله في رمضان وعنه في سائر الكفارات روايتان
والسنة تدل على أنه إذا أعسر بالكفارة وكفر عنه غيره جاز صرف كفارته إليه وإلى أهله
فإن قيل : فهل يجوز له إذا كان فقيرا له عيال وعليه زكاة يحتاج إليها أن يصرفها إلى نفسه وعياله ؟ قيل : لا يجوز ذلك لعدم الإخراج المستحق عليه ولكن للإمام أو الساعي أن يدفع زكاته إليه بعد قبضها منه في أصح الروايتين عن أحمد
فإن قيل : فهل له أن يسقطها عنه ؟ قيل : لا نص عليه والفرق بينهما واضح
فإن قيل : فإذا أذن السيد لعبده في التكفير بالعتق فهل له أن يعتق نفسه ؟ قيل : اختلفت الرواية فيما إذا أذن له في التكفير بالمال هل له أن ينتقل عن الصيام إليه ؟ على روايتين إحداهما : أنه ليس له ذلك وفرضه الصيام والثانية : له الإنتقال إليه ولا يلزمه لأن المنع لحق السيد وقد أذن فيه فإذا قلنا : له ذلك فهل له العتق ؟ اختلفت الرواية فيه عن أحمد فعنه في ذلك روايتان ووجه المنع : أنه ليس من أهل الولاء والعتق يعتمد الولاء واختار أبو بكر وغيره أن له الإعتاق فعلى هذا هل له عتق نفسه ؟ فيه قولان في المذهب ووجه الجواز إطلاق الإذن ووجه المنع أن الإذن في الإعتاق ينصرف إلى إعتاق غيره كما لو أذن له في الصدقة انصرف الإذن إلى الصدقة على غيره (5/304)
فصل
ومنها : أنه لا يجوز وطء المظاهر منها قبل التكفير وقد اختلف ها هنا في موضعين أحدهما : هل له مباشرتها دون الفرج قبل التكفير أم لا ؟ والثاني : أنه إذا كانت كفارته الإطعام فهل له الوطء قبله أم لا ؟ وفي المسألتين قولان للفقهاء وهما روايتان عن أحمد وقولان للشافعي
ووجه منع الإستمتاع بغير الوطء ظاهر قوله تعالى : { من قبل أن يتماسا } ولأنه شبهها بمن يحرم وطؤها ودواعيه ووجه الجواز أن التماس كناية عن الجماع ولا يلزم من تحريم الجماع تحريم دواعيه فإن الحائض يحرم جماعها دون دواعيه والصائم يحرم منه الوطء دون دواعيه والمسبية يحرم وطؤها دون دواعيه وهذا قول أبي حنيفة
وأما المسألة الثانية وهي وطؤها قبل التكفير : إذا كان بالإطعام فوجه الجواز أن الله سبحانه قيد التكفير بكونه قبل المسيس في العتق والصيام وأطلقه في الإطعام ولكل منهما حكمه فلو أراد التقييد في الإطعام لذكره كما ذكره في العتق والصيام وهو سبحانه لم يقيد هذا ويطلق هذا عبثا بل لفائدة مقصودة ولا فائدة إلا تقييد ما قيده وإطلاق ما أطلقه ووجه المنع استفادة حكم ما أطلقه مما قيده إما بيانا على الصحيح وإما قياسا قد ألغي فيه الفارق بين الصورتين وهو سبحانه لا يفرق بين المتماثلين وقد ذكر : { من قبل أن يتماسا } مرتين فلو أعاده ثالثا لطال به الكلام ونبه بذكره مرتين على تكرر حكمه في الكفارات ولو ذكره في آخر الكلام مرة واحدة لأوهم اختصاصه بالكفارة الأخيرة ولو ذكره في أول مرة لأوهم اختصاصه بالأولى وإعادته في كل كفارة تطويل وكان أفصح الكلام وأبلغه وأوجزه ما وقع
وأيضا فإنه نبه بالتكفير قبل المسيس بالصوم مع تطاول زمنه وشدة الحاجة إلى مسيس الزوجة على أن اشتراط تقدمه في الإطعام الذي لا يطول زمنه أولى (5/305)
فصل
ومنها : أنه سبحانه أمر بالصيام قبل المسيس وذلك يعم المسيس ليلا ونهارا ولا خلاف بين الأئمة في تحريم وطئها في زمن الصوم ليلا ونهارا وإنما اختلفوا هل يبطل التتابع به ؟ فيه قولان أحدهما : يبطل وهو قول مالك وأبي حنيفة وأحمد في ظاهر مذهبه والثاني : لا يبطل وهو قول الشافعي وأحمد في رواية أخرى عنه
والذين أبطلوا التتابع معهم ظاهر القرآن فإنه سبحانه أمر بشهرين متتابعين قبل المسيس ولم يوجد ولأن ذلك يتضمن النهى عن المسيس قبل إكمال الصيام وتحريمه وهو يوجب عدم الاعتداد بالصوم لأنه عمل ليس عليه أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم فيكون ردا
وسر المسألة أنه سبحانه أوجب أمرين أحدهما : تتابع الشهرين والثاني : وقوع صيامهما قبل التماس فلا يكون قد أتى بما أمر به إلا بمجموع الأمرين (5/306)
فصل
ومنها : أنه سبحانه وتعالى أطلق إطعام المساكين ولم يقيده بقدر ولا تتابع وذلك يقتضي أنه لو أطعمهم فغداهم وعشاهم من غير تمليك حب أو تمر جاز وكان ممتثلا لأمر الله وهذا قول الجمهور ومالك وأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه وسواء أطعمهم جملة أو متفرقين (5/307)
فصل
ومنها : أنه لا بد من استيفاء عدد الستين فلو أطعم واحدا ستين يوما لم يجزه إلا عن واحد هذا قول الجمهور : مالك والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه والثانية : أن الواجب إطعام ستين مسكينا ولو لواحد وهو مذهب أبي حنيفة والثالثة : إن وجد غيره لم يجز وإلا أجزأه وهو ظاهر مذهبه وهي أصح الأقوال (5/307)
فصل
ومنها : أنه لا يجزئه دفع الكفارة إلا إلى المساكين ويدخل فيهم الفقراء كما يدخل المساكين في لفظ الفقراء عند الإطلاق وعمم أصحابنا وغيرهم الحكم في كل من يأخذ من الزكاة لحاجته وهم أربعة : الفقراء والمساكين وابن السبيل والغارم لمصلحته والمكاتب وظاهر القرآن اختصاصها بالمساكين فلا يتعداهم (5/307)
فصل
ومنها أن الله سبحانه أطلق الرقبة ها هنا ولم يقيدها بالإيمان وقيدها فى كفارة القتل بالإيمان فاختلف الفقهاء في اشتراط الايمان في غير كفارة القتل على قولين : فشرطه الشافعي ومالك وأحمد في ظاهر مذهبه ولم يشترطه أبو حنيفة ولا أهل الظاهر والذين لم يشترطوا الإيمان قالوا : لو كان شرطا لبينه الله سبحانه كما بينه في كفارة القتل بل تطلق ما أطلقه ويقيد ما قيده فيعمل بالمطلق والمقيد وزادت الحنفية أن اشتراط الإيمان زيادة على النص وهو نسخ والقرآن لا ينسخ إلا بالقرآن أو خبر متواتر
قال الآخرون : واللفظ للشافعي : شرط الله سبحانه في رقبة القتل مؤمنة كما شرط العدل في الشهادة وأطلق الشهود في مواضع فاستدللنا به على أن ما أطلق من الشهادات على مثل معنى ما شرط وإنما رد الله أموال المسلمين على المسلمين لا على المشركين وفرض الله الصدقات فلم تجز إلا للمؤمنين فكذلك ما فرض من الرقاب لا يجوز إلا لمؤمن فاستدل الشافعي بأن لسان العرب يقتضي حمل المطلق على المقيد إذا كان من جنسه فحمل عرف الشرع على مقتضى لسانهم
وها هنا أمران أحدهما : أن حمل المطلق على المقيد بيان لا قياس الثاني : أنه إنما يحمل عليه بشرطين أحدهما : اتحاد الحكم والثاني : أن لا يكون للمطلق إلا أصل واحد فإن كان بين أصلين مختلفين لم يحمل إطلاقه على أحدهما إلا بدليل تعينه قال الشافعي : ولو نذر رقبة مطلقة لم تجزه إلا مؤمنة وهذا بناء على هذا الأصل وأن النذز محمول على واجب الشرع وواجب العتق لا يتأدى إلا بعتق المسلم ومما يدل على هذا [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لمن استفتى فى عتق رقبة منذورة : ائتني بها فسألها أين الله ؟ فقالت : في السماء فقال : من أنا ؟ قالت : أنت رسول الله فقال : أعتقها فإنها مؤمنة ]
قال الشافعي : فلما وصفت الإيمان أمر بعتقها انتهى
وهذا ظاهر جدا أن العتق المأمور به شرعا لا يجزى إلا في رقبة مؤمنة وإلا لم يكن للتعليل بالإيمان فائدة فإن الأعم متى كان علة للحكم كان الأخص عديم التأثير
وأيضا فإن المقصود من إعتاق المسلم تفريغه لعبادة ربه وتخليصه من عبودية المخلوق إلى عبودية الخالق ولا ريب أن هذا أمر مقصود للشارع محبوب له فلا يجوز إلغاؤه وكيف يستوي عند الله ورسوله تفريغ العبد لعبادته وحده وتفريغه لعبادة الصليب أو الشمس والقمر والنار وقد بين سبحانه اشتراط الإيمان في كفارة القتل وأحال ما سكت عنه على بيانه كما بين اشتراط العدالة في الشاهدين وأحال ما أطلقه وسكت عنه على ما بينه وكذلك غالب مطلقات كلامه سبحانه ومقيداته لمن تأملها وهي أكثر من أن تذكر فمنها : قوله تعالى فيمن أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس : { ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما } [ النساء : 114 ] وفي موضع آخر بل مواضع يعلق الأجر بنفس العمل اكتفاء بالشرط المذكور في موضعه وكذلك قوله تعالى : { فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه } [ الأنبياء : 94 ] وفي موضع يعلق الجزاء بنفس الأعمال الصالحة اكتفاء بما علم من شرط الإيمان وهذا غالب في نصوص الوعد والوعيد (5/307)
فصل
ومنها : أنه لو أعتق نصفي رقبتين لم يكن معتقا لرقبة وفي هذا ثلاثة أقوال للناس وهي روايات عن أحمد ثانيها الإجزاء وثالثها وهو أصحها : أنه إن تكملت الحرية في الرقبتين أجزأه وإلا فلا فإنه يصدق عليه أنه حرر رقبة أي : جعلها حرة بخلاف ما إذا لم تكمل الحرية (5/309)
فصل
ومنها : أن الكفارة لا تسقط بالوطء قبل التكفير ولا تتضاعف بل هي بحالها كفارة واحدة كما دل عليه حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم الذي تقدم قال الصلت بن دينار : سألت عشرة من الفقهاء عن المظاهر يجامع قبل أن يكفر فقالوا : كفارة واحدة قال : وهم الحسن وابن سيرين ومسروق وبكر وقتادة وعطاء وطاووس ومجاهد وعكرمة قال : والعاشر أراه نافعا وهذا قول الأئمة الاربعة
وصح عن ابن عمر وعمرو بن العاص أن عليه كفارتين وذكر سعيد بن منصور عن الحسن وإبراهيم في الذي يظاهر ثم يطؤها قبل أن يكفر : عليه ثلاث كفارات وذكر عن الزهري وسعيد بن جبير وأبي يوسف أن الكفارة تسقط ووجه هذا أنه فات وقتها ولم يبق له سبيل إلى إخراجها قبل المسيس
وجواب هذا أن فوات وقت الأداء لا يسقط الواجب في الذمة كالصلاة والصيام وسائر العبادات ووجه وجوب الكفارتين أن إحداهما للظهار الذي اقترن به العود والثانية للوطء المحرم كالوطء في نهار رمضان وكوطء المحرم ولا يعلم لإيجاب الثلاث وجه إلا أن يكون عقوبة على إقدامه على الحرام وحكم رسول الله صلى الله عليه و سلم يدل على خلاف هذه الأقوال والله أعلم (5/309)
حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم في الإيلاء
ثبت في صحيح البخاري : عن أنس قال : [ آلى رسول الله صلى الله عليه و سلم من نسائه وكانت انفكت رجله فأقام في مشربة له تسعا وعشرين ليلة ؟ ثم نزل فقالوا : يا رسول الله : آليت شهرا فقال : إن الشهر يكون تسعا وعشرين ]
وقد قال سبحانه : { للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم * وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم } [ البقرة : 226 ]
الإيلاء : لغة : الإمتناع باليمين وخص في عرف الشرع بالإمتناع باليمين من وطء الزوجة ولهذا عدي فعله بأداة من تضمينا له معنى يمتنعون من نسائهم وهو أحسن من إقامة من مقام على وجعل سبحانه للازواج مدة أربعة أشهر يمتنعون فيها من وطء نسائهم بالإيلاء فإذا مضت فإما أن يفيء وإما أن يطلق وقد اشتهر عن علي وابن عباس أن الإيلاء إنما يكون في حال الغضب دون الرضى كما وقع لرسول الله صلى الله عليه و سلم مع نسائه وظاهر القرآن مع الجمهور
وقد تناظر في هذه المسألة محمد بن سيرين ورجل آخر فاحتج على محمد بقول علي فاحتج عليه محمد بالآية فسكت
وقد دلت الآية على أحكام
منها : هذا ومنها : أن من حلف على ترك الوطء أقل من أربعة أشهر لم يكن مؤليا وهذا قول الجمهور وفيه قول شاذ أنه مؤل
ومنها : أنه لا يثبت له حكم الإيلاء حتى يحلف على أكثر من أربعة أشهر فإذا كانت مدة الإمتناع أكثر من أربعة أشهر لم يثبت له حكم الإيلاء لأن الله جعل لهم مدة أربعة أشهر وبعد انقضائها إما أن يطلقوا وإما أن يفيؤوا وهذا قول الجمهور منهم أحمد والشافعي ومالك وجعله أبو حنيفة مؤليا بأربعة أشهر سواء وهذا بناء على أصله أن المدة المضروبة أجل لوقوع الطلاق بانقضائها والجمهور يجعلون المدة أجلا لاستحقاق المطالبة وهذا موضع اختلف فيه السلف من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين ومن بعدهم فقال الشافعي حدثنا سفيان عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار قال : أدركت بضعة عشر رجلا من الصحابة كلهم يوقف المؤلي يعني : بعد أربعة أشهر وروى سهيل بن أبي صالح عن أبيه قال : سألت اثني عشر رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم عن المؤلي فقالوا : ليس عليه شئ حتى تمضي أربعة أشهر
وهذا قول الجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم
وقال عبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت : إذا مضت أربعة أشهر ولم يفئ فيها طلقت منه بمضيها وهذا قول جماعة من التابعين وقول أبي حنيفة وأصحابه فعند هؤلاء يستحق المطالبة قبل مضي الأربعة الأشهر فإن فاء وإلا طلقت بمضيها وعند الجمهور لا يستحق المطالبة حتى تمضى الأربعة الأشهر فحينئذ يقال : إما أن تفيء وإما أن تطلق وإن لم يفئ أخذ بإيقاع الطلاق إما بالحاكم وإما بحبسه حتى يطلق
قال الموقعون للطلاق بمضي المدة : آية الإيلاء تدل على ذلك من ثلاثة أوجه
أحدها : أن عبد الله بن مسعود قرأ : { فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم } فإضافة الفيئة إلى المدة تدل على استحقاق الفيئة فيها وهذه القراءة اما أن تجري مجرى الخبر الواحد فتوجب العمل وإن لم توجب كونها من القرآن وإما أن تكون قرآنا نسخ لفظه وبقي حكمه لا يجوز فيها غير هذا البتة
الثاني : أن الله سبحانه جعل مدة الايلاء أربعة أشهر فلو كانت الفيئة بعدها لزادت على مدة النص وذلك غير جائز
الثالث : أنه لو وطئها في مدة الإيلاء لوقعت الفيئة موقعها فدل على استحقاق الفيئة فيها
قالوا : ولأن الله سبحانه وتعالى جعل لهم تربص أربعة أشهر ثم قال : { فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم * وإن عزموا الطلاق } وظاهر هذا أن هذا التقسيم في المدة التي لهم فيها تربص كما إذا قال لغريمه : أصبر عليك بديني أربعة أشهر فإن وفيتني وإلا حبستك ولا يفهم من هذا إلا إن وفيتني في هذه المدة ولا يفهم منه إن وفيتني بعدها وإلا كانت مدة الصبر أكثر من أربعة أشهر وقراءة ابن مسعود صريحة في تفسير الفيئة بأنها في المدة وأقل مراتبها أن تكون تفسيرا قالوا : ولأنه أجل مضروب للفرقة فتعقبه الفرقة كالعدة وكالأجل الذي ضرب لوقوع الطلاق كقوله : إذا مضت أربعة أشهر فأنت طالق
قال الجمهور : لنا من آية الإيلاء عشرة أدلة
أحدها : أنه أضاف مدة الإيلاء إلى الأزواج وجعلها لهم ولم يجعلها عليهم فوجب ألا يستحق المطالبة فيها بل بعدها كأجل الدين ومن أوجب المطالبة فيها لم يكن عنده أجلا لهم ولا يعقل كونها أجلا لهم ويستحق عليهم فيها المطالبة
الدليل الثاني : قوله : { فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم } فذكر الفيئة بعد المدة بفاء التعقيب وهذا يقتضي أن يكون بعد المدة ونظيره قوله سبحانه : { الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } [ البقرة : 229 ] وهذا بعد الطلاق قطعا
فإن قيل : فاء التعقيب توجب أن يكون بعد الإيلاء لا بعد المدة ؟ قيل : قد تقدم ذكر الآية ذكر الإيلاء ثم تلاه ذكر المدة ثم أعقبها بذكر الفيئة فإذا أوجبت الفاء التعقيب بعد ما تقدم ذكره لم يجز أن يعيد إلى أبعد المذكورين ووجب عودها إليهما أو إلى أقربهما
الدليل الثالث : قوله : { وإن عزموا الطلاق } [ البقرة : 227 ] وإنما العزم ما عزم العازم على فعله كقوله تعالى : { ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله } [ البقرة : 235 ] فإن قيل : فترك الفيئة عزم على الطلاق ؟ قيل : العزم هو إرادة جازمة لفعل المعزوم عليه أو تركه وأنتم توقعون الطلاق بمجرد مضي المدة وإن لم يكن منه عزم لا على وطء ولا على تركه بل لو عزم على الفيئة ولم يجامع طلقتم عليه بمضي المدة ولم يعزم الطلاق فكيفما قدرتم فالآية حجة عليكم
الدليل الرابع : أن الله سبحانه خيره في الآية بين أمرين : الفيئة أو الطلاق والتخيير بين أمرين لا يكون إلا في حالة واحدة كالكفارات ولو كان في حالتين لكان ترتيبا لا تخييرا وإذا تقرر هذا فالفيئة عندكم في نفس المدة وعزم الطلاق بانقضاء المدة فلم يقع التخيير في حالة واحدة
فإن قيل : هو مخير بين أن يفيء في المدة وبين أن يترك الفيئة فيكون عازما للطلاق بمضي المدة قيل : ترك الفيئة لا يكون عزما للطلاق وإنما يكون عزما عندكم إذا انقضت المدة فلا يتأتى التخيير بين عزم الطلاق وبين الفيئة البتة فإنه بمضي المدة يقع الطلاق عندكم فلا يمكنه الفيئة وفي المدة يمكنه الفيئة ولم يحضر وقت عزم الطلاق الذي هو مضي المدة وحينئذ فهذا دليل خامس مستقل
الدليل السادس : أن التخيير بين أمرين يقتضي أن يكونا فعلهما إليه ليصح منه اختيار فعل كل منهما وتركه وإلا لبطل حكم خياره ومضي المدة ليس إليه
الدليل السابع : أنه سبحانه قال : { وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم } فاقتضى أن يكون الطلاق قولا يسمع ليحسن ختم الآية بصفة السمع
الدليل الثامن : أنه لو قال لغريمه : لك أجل أربعة أشهر فإن وفيتني قبلت منك وإن لم توفني حبستك كان مقتضاه أن الوفاء والحبس بعد المدة لا فيها : ولا يعقل المخاطب غير هذا
فإن قيل : ما نحن فيه نظير قوله : لك الخيار ثلاثة أيام فإن فسخت البيع وإلا لزمك ومعلوم أن الفسخ إنما يقع في الثلاث لا بعدها ؟ قيل : هذا من أقوى حججنا عليكم فإن موجب العقد اللزوم فجعل له الخيار في مدة ثلاثة أيام فإذا انقضت ولم يفسخ عاد العقد إلى حكمه وهو اللزوم وهكذا الزوجة لها حق على الزوج في الوطء كما له حق عليها قال تعالى : { ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف } [ البقرة : 228 ] فجعل له الشارع امتناع أربعة أشهر لا حق لها فيهن فإذا انقضت المدة عادت على حقها بموجب العقد وهو المطالبة لا وقوع الطلاق وحينئذ فهذا دليل تاسع مستقل
الدليل العاشر : أنه سبحانه جعل للمؤلين شيئا وعليهم شيئين فالذي لهم تربص المدة المذكورة والذي عليهم إما الفيئة وإما الطلاق وعندكم ليس عليهم إلا الفيئة فقط وأما الطلاق فليس عليهم بل ولا إليهم وإنما هو إليه سبحانه عند انقضاء المدة فيحكم بطلاقها عقيب انقضاء المدة شاء أو أبى ومعلوم أن هذا ليس إلى المؤلي ولا عليه وهو خلاف ظاهر النص قالوا : ولأنها يمين بالله تعالى توجب الكفارة فلم يقع بها الطلاق كسائر الأيمان ولأنها مدة قدرها الشرع لم تتقدمها الفرقة فلا يقع بها بينونة كأجل العنين ولأنه لفظ لا يصح أن يقع به الطلاق المعجل فلم يقع به المؤجل كالظهار ولأن الإيلاء كان طلاقا في الجاهلية فنسخ كالظهار فلا يجوز أن يقع به الطلاق لأنه استيفاء للحكم المنسوخ ولما كان عليه أهل الجاهلية
قال الشافعي : كانت الفرق الجاهلية تحلف بثلاثة أشياء : بالطلاق والظهار والايلاء فنقل الله سبحانه وتعالى الإيلاء والظهار عما كانا عليه في الجاهلية من إيقاع الفرقة على الزوجة إلى ما استقر عليه حكمها في الشرع وبقي حكم الطلاق على ما كان عليه هذا لفظه
قالوا : ولأن الطلاق إنما يقع بالصريح والكناية وليس الإيلاء واحدا منهما إذ لو كان صريحا لوقع معجلا إن أطلقه أو إلى أجل مسمى إن قيده ولو كان كناية لرجع فيه إلى نيته ولا يرد على هذا اللعان فإنه يوجب الفسخ دون الطلاق والفسخ يقع بغير قول والطلاق لا يقع إلا بالقول
قالوا : وأما قراءة ابن مسعود فغايتها أن تدل على جواز الفيئة في مدة التربص لا على استحقاق المطالبة بها في المدة وهذا حق لا ننكره
وأما قولكم : جواز الفيئة في المدة دليل على استحقاقها فيها فهو باطل بالدين المؤجل
وأما قولكم : إنه لو كانت الفيئة بعد المدة لزادت على أربعة أشهر فليس بصحيح لأن الأربعة الأشهر مدة لزمن الصبر الذي لا يستحق فيه المطالبة فبمجرد انقضائها يستحق عليه الحق فلها أن تعجل المطالبة به وإما أن تنظره وهذا كسائر الحقوق المعلقة بآجال معدودة إنما تستحق عند انقضاء آجالها ولا يقال : إن ذلك يستلزم الزيادة على الأجل فكذا أجل الإيلاء سواء (5/310)
فصل
ودلت الآية على أن كل من صح منه الإيلاء بأي يمين حلف فهو مؤل حتى يبر إما أن يفيء وإما أن يطلق فكان في هذا حجة لما ذهب إليه من يقول من السلف والخلف : إن المؤلي باليمين بالطلاق إما أن يفيء وإما أن يطلق ومن يلزمه الطلاق على كل حال لم يمكنه إدخال هذه اليمين في حكم الإيلاء فإنه إذا قال : إن وطئتك إلى سنة فأنت طالق ثلاثا فإذا مضت أربعة أشهر لا يقولون له : إما أن تطأ وإما أن تطلق بل يقولون له : إن وطئتها طلقت وإن لم تطأها طلقنا عليك وأكثرهم لا يمكنه من الإيلاج لوقوع النزع الذي هو جزء الوطء في أجنبية ولا جواب عن هذا إلا أن يقال : بأنه غير مؤل وحينئذ فيقال : فلا توقفوه بعد مضي الأربعة الأشهر وقولوا : إن له أن يمتنع من وطئها بيمين الطلاق دائما فإن ضربتم له الأجل أثبتم له حكم الإيلاء من غير يمين وإن جعلتموه مؤليا ولم تجيزوه خالفتم حكم الإيلاء وموجب النص فهذا بعض حجج هؤلاء على منازعيهم
فإن قيل : فما حكم هذه المسألة وهي إذا قال : إن وطئتك فأنت طالق ثلاثا
قيل : اختلف الفقهاء فيها هل يكون مؤليا أم لا ؟ على قولين وهما روايتان عن أحمد وقولان للشافعي في الجديد : أنه يكون مؤليا وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وعلى قولين : فهل يمكن من الإيلاج ؟ فيه وجهان لأصحاب أحمد والشافعي
أحدهما : أنه لا يمكن منه بل يحرم عليه لأنها بالإيلاج تطلق عندهم ثلاثا فيصير ما بعد الإيلاج محرما فيكون الإيلاج محرما وهذا كالصائم إذا تيقن أنه لم يبق إلى طلوع الفجر إلا قدر إيلاج الذكر دون إخراجه حرم عليه الإيلاج وإن كان في زمن الإباحة لوجود الإخراج في زمن الحظر كذلك ها هنا يحرم عليه الإيلاج وإن كان قبل الطلاق لوجود الإخراج بعده
والثاني : أنه لا يحرم عليه الإيلاج قال الماوردي : وهو في قول سائر أصحابنا لأنها زوجته ولا يحرم عليه الإخراج لأنه ترك وإن طلقت بالإيلاج ويكون المحرم بهدا الوطء استدامة الإيلاج لا الإبتداء والنزع وهذا ظاهر نص الشافعي فإنه قال : لو طلع الفجر على الصائم وهو مجامع وأخرجه مكانه كان على صومه فإن مكث بغير إخراجه أفطر ويكفر وقال في كتاب الإيلاء : ولو قال : إن وطئتك فأنت طالق ثلاثا وقف فإن فاء فإذا غيب الحشفة طلقت منه ثلاثا فإن أخرجه ثم أدخله فعليه مهر مثلها قال هؤلاء : ويدل على الجواز أن رجلا لو قال لرجل : ادخل داري ولا تقم استباح الدخول لوجوده عن إذن ووجب عليه الخروج لمنعه من المقام ويكون الخروج وإن كان في زمن الحظر مباحا لأنه ترك كذلك هذا المؤلي يستبيح أن يولج ويستبيح أن ينزع ويحرم عليه استدامة الإيلاج والخلاف في الإيلاج قبل الفجر والنزع بعده للصائم كالخلاف في المؤلي وقيل : يحرم على الصائم الإيلاج قبل الفجر ولا يحرم على المؤلي والفرق أن التحريم قد يطرأ على الصائم بغير الإيلاج فجاز أن يحرم عليه الإيلاج والمؤلي لا يطرأ عليه التحريم بغير الإيلاج فافترقا
وقالت طائفة ثالثة : لا يحرم عليه الوطء ولا تطلق عليه الزوجة بل يوقف ويقال له : ما أمر الله إما أن تفيء وإما أن تطلق قالوا : وكيف يكون مؤليا ولا يمكن من الفيئة بل يلزم بالطلاق وإن مكن منها وقع به الطلاق فالطلاق واقع به على التقديرين مع كونه مؤليا ؟ فهذا خلاف ظاهر القرآن بل يقال لهذا : إن فاء لم يقع به الطلاق وإن لم يفيء ألزم بالطلاق وهذا مذهب من يرى اليمين بالطلاق لا يوجب طلاقا وإنما يجزئه كفارة يمين وهو قول أهل الظاهر وطاووس وعكرمة وجماعة من أهل الحديث واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه (5/316)
حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم في اللعان
قال تعالى : { والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين * والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين * ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين * والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين } [ النور : 6 ، 9 ]
وثبت في الصحيحين : من حديث سهل بن سعد أن عويمرا العجلاني قال لعاصم بن عدي : أرأيت لو أن رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل ؟ فسل لي رسول الله صلى الله عليه و سلم فسأل رسول الله صلى الله عليه و سلم فكره رسول الله صلى الله عليه و سلم المسائل وعابها حتى كبر على عاصم ما سمع من رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم إن عويمرا سأل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ذلك فقال : [ قد نزل فيك وفي صاحبتك فاذهب فأت بها ] فتلاعنا عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما فرغا قال : كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه و سلم قال الزهري : فكانت تلك سنة المتلاعنين قال سهل : وكانت حاملا وكان ابنها ينسب إلى أمه ثم جرت السنة أن يرثها وترث منه ما فرض الله لها
وفي لفظ : فتلاعنا في المسجد ففارقها عند النبي صلى الله عليه و سلم فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ ذاكم التفريق بين كل متلاعنين ]
وقول سهل : وكانت حاملا إلى آخره هو عند البخاري من قول الزهري وللبخاري : ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ انظروا فإن جاءت به أسحم أدعج العينين عظيم الإليتين خدلج الشاقين فلا أحسب عويمرا إلا قد صدق عليها وإن جاءت به أحمير كأنه وحرة فلا أحسب عويمرا إلا قد كذب عليها ] فجاءت به على النعت الذي نعت به رسول الله صلى الله عليه و سلم من تصديق عويمر
وفي لفظ : وكانت حاملا فأنكر حملها
وفي صحيح مسلم : من حديث ابن عمر أن فلان بن فلان قال : يا رسول الله ! أرأيت لو وجد أحدنا امرأته على فاحشة كيف يصنع إن تكلم تكلم بأمر عظيم وإن سكت سكت على مثل ذلك ؟ فسكت النبي صلى الله عليه و سلم فلم يجبه فلما كان بعد ذلك أتاه فقال : إن الذي سألتك عنه قد ابتليت به فأنزل الله عز و جل هؤلاء الآيات في سورة النور : { والذين يرمون أزواجهم } فتلاهن عليه ووعظه وذكره وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة قال : لا والذي بعثك بالحق ما كذبت عليها ثم دعاها فوعظها وذكرها وأخبرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة قالت : لا والذي بعثك بالحق إنه لكاذب فبدأ بالرجل فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ثم ثنى بالمرأة فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ثم فرق بينهما
وفي الصحيحين عنه قال رسول الله صلى الله عليه و سلم للمتلاعنين : [ حسابكما على الله أحدكما كاذب لا سبيل لك عليها قال : يا رسول الله ! مالي ؟ قال : لا مال لك إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها وإن كنت كذبت عليها فهو أبعد لك منها ]
وفي لفظ لهما : فرق رسول الله صلى الله عليه و سلم بين المتلاعنين وقال : [ والله إن أحدكما كاذب فهل منكما تائب ]
وفيهما عنه : أن رجلا لاعن على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم ففرق رسول الله صلى الله عليه و سلم بينهما وألحق الولد بأمه
وفي صحيح مسلم : من حديث ابن مسعود رضي الله عنه في قصة المتلاعنين فشهد الرجل أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ثم لعن الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فذهبت لتلعن فقال لها رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ مه فأبت فلعنت فلما أدبر قال : لعلها أن تجيء به أسود جعدا فجاءت به أسود جعدا ]
وفي صحيح مسلم من حديث أنس بن مالك أن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء وكان أخا البراء بن مالك لأمه وكان أول رجل لاعن في الإسلام فقال النبى صلى الله عليه و سلم : [ أبصروها فإن جاءت به أبيض سبطا قضيء العينين فهو لهلال بن أمية وإن جاءت بها أكحل جعدا حمش الساقين فهو لشريك بن سحماء قال : فأنبئث أنها جاءت به أكحل جعدا حمش الساقين ]
وفي الصحيحين : من حديث ابن عباس نحو هذه القصة فقال له رجل : أهي المرأة التي قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لو رجمت أحدا بغير بينة لرجمت هذه ] فقال ابن عباس : لا تلك امرأة كانت تظهر في الإسلام السوء
ولأبي داود في هذا الحديث عن ابن عباس ففرق رسول الله صلى الله عليه و سلم بينهما وقضى أن لا يدعى ولدها لأب ولا ترمى ولا يرمى ولدها ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد وقضى ألا بيت لها عليه ولا قوت من أجل أنهما يتفرقان من غير طلاق ولا متوفى عنها
وفي القصة قال عكرمة : فكان بعد ذلك أميرا على مصر وما يدعى لأب
وذكر البخاري : أن هلال بن أمية قذف امرأته عند رسول الله صلى الله عليه و سلم بشريك بن سحماء فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ البينة أو حد في ظهرك فقال : يا رسول الله : إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة ؟ فجعل رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : البينة وإلا حد في ظهرك فقال : والذي بعثك بالحق إني لصادق ولينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد فنزل جبريل عليه السلام وأنزل عليه : { والذين يرمون أزواجهم } الآيات فانصرف النبي صلى الله عليه و سلم إليها فجاء هلال فشهد والنبي صلى الله عليه و سلم يقول : إن الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب ؟ فشهدت فلما كانت عند الخامسة وقفوها وقالوا : إنها موجبة قال ابن عباس رضي الله عنهما : فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع ثم قالت : لا أفضح قومي سائر اليوم فمضت فقال النبي صلى الله عليه و سلم : أبصروها فإن جاءت به أكحل العينين سابغ الأليتين خدلج الساقين فهو لشريك بن سحماء فجاءت به كذلك فقال النبي صلى الله عليه و سلم : لو لا ما مضى من كتاب الله كان لي ولها شأن ]
وفي الصحيحين : [ أن سعد بن عبادة قال : يا رسول الله ! أرأيت الرجل يجد مع امرأته رجلا أيقتله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا فقال سعد : بلى والذي بعثك بالحق فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : اسمعوا إلى ما يقول سيدكم ] وفي لفظ آخر : [ يا رسول الله ! إن وجدت مع امرأتي رجلا أمهله حتى آتي بأربعة شهداء ؟ قال : نعم ] وفي لفظ آخر : [ لو وجدت مع أهلي رجلا لم أهجه حتى آتي بأربعة شهداء ؟ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : نعم قال : كلا والذي بعثك بالحق نبيا إن كنت لأعاجله بالسيف قبل ذلك قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : اسمعوا إلى ما يقول سيدكم إنه لغيور وأنا أغير منه والله أغير مني ]
وفي لفظ : [ لو رأيت مع امرأتي رجلا لضربته بالسيف غير مصفح فقال النبي صلى الله عليه و سلم : أتعجبون من غيرة سعد فوالله لأنا أغير منه والله أغير مني ومن أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا شخص أغير من الله ولا شخص أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك بعث الله المرسلين مبشرين ومنذرين ولا شخص أحب إليه المدحة من الله من أجل ذلك وعد الله الجنة ] (5/318)
فصل
واستفيد من هذا الحكم النبوي عدة أحكام
الحكم الأول : أن اللعان يصح من كل زوجين سواء كانا مسلمين أو كافرين عدلين أو فاسقين محدودين في قذف أو غير محدودين أو أحدهما كذلك قال الإمام أحمد في رواية إسحاق بن منصور : جميع الأزواج يلتعنون الحر من الحرة والأمة إذا كانت زوجة والعبد من الحرة والأمة إذا كانت زوجة والمسلم من اليهودية والنصرانية وهذا قول مالك وإسحاق وقول سعيد بن المسيب والحسن وربيعة وسليمان بن يسار
وذهب أهل الرأي والأوزاعي والثوري وجماعة إلى أن اللعان لا يكون إلا بين زوجين مسلمين عدلين حرين غير محدودين فى قذف وهو رواية عن أحمد
ومأخذ القولين أن اللعان يجمع وصفين : اليمين والشهادة وقد سماه الله سبحانه شهادة وسماه رسول الله صلى الله عليه و سلم يمينا حيث يقول : [ لو لا الإيمان لكان لي ولها شأن ] فمن غلب عليه حكم الإيمان قال : يصح من كل من يصح يمينه قالوا : ولعموم قوله تعالى : { والذين يرمون أزواجهم } قالوا : وقد سماه رسول الله صلى الله عليه و سلم يمينا قالوا : ولأنه مفتقر إلى اسم الله وإلى ذكر القسم المؤكد وجوابه قالوا : ولأنه يستوي فيه الذكر والأنثى بخلاف الشهادة قالوا : ولو كان شهادة لما تكرر لفظه بخلاف اليمين فإنه قد يشرع فيها التكرار كأيمان القسامة قالوا : ولأن حاجة الزوج التي لا تصح منه الشهادة إلى اللعان ونفي الولد كحاجة من تصح شهادته سواء والأمر الذي ينزل به مما يدعو إلى اللعان كالذي ينزل بالعدل الحر والشريعة لا ترفع ضرر أحد النوعين وتجعل له فرجا ومخرجا مما نزل به وتدع النوع الآخر في الآصار والأغلال لا فرج له مما نزل به ولا مخرج بل يستغيث فلا يغاث ويستجير فلا يجار إن تكلم تكلم بأمر عظيم وإن سكت سكت على مثله قد ضاقت عنه الرحمة التي وسعت من تصح شهادته وهذا تأباه الشريعة الواسعة الحنيفية السمحة
قال الآخرون : قال الله تعالى : { والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله } وفي الآية دليل من ثلاثة أوجه
أحدها : أنه سبحانه استثنى أنفسهم من الشهداء وهذا استثناء متصل قطعا ولهذا جاء مرفوعا
والثاني : أنه صرح بأن التعانهم شهادة ثم زاد سبحانه هذا بيانا فقال : { ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين }
والثالث : أنه جعله بدلا من الشهود وقائما مقامهم عند عدمهم
قالوا : وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لا لعان بين مملوكين ولا كافرين ] ذكره أبو عمر بن عبد البر في التمهيد
وذكر الدارقطني من حديثه أيضا عن أبيه عن جده مرفوعا : [ أربعة ليس بينهم لعان : ليس بين الحر والأمة لعان وليس بين الحرة والعبد لعان وليس بين المسلم واليهودية لعان وليس بين المسلم والنصرانية لعان ]
وذكر عبد الرزاق في مصنفه عن ابن شهاب قال : من وصية النبي صلى الله عليه و سلم لعتاب بن أسيد : أن لا لعان بين أربع فذكر معناه
قالوا : ولأن اللعان جعل بدل الشهادة وقائما مقامها عند عدمها فلا يصح إلا ممن تصح منه ولهذا تحد المرأة بلعان الزوج ونكولها تنزيلا للعانه منزلة أربعة شهود
قالوا : وأما الحديث : [ لو لا ما مضى من الإيمان لكان لي ولها شأن ] فالمحفوظ فيه : لو لا ما مضى من كتاب الله هذا لفظ البخاري في صحيحه
وأما قوله : لو لا ما مضى من الإيمان فمن رواية عباد بن منصور وقد تكلم فيه غير واحد قال يحيى بن معين : ليس بشئ وقال علي بن الحسين بن الجنيد الرازي : متروك قدري وقال النسائي : ضعيف
وقد استقرت قاعدة الشريعة أن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه والزوج ها هنا مدع فلعانه شهادة ولو كان يمينا لم تشرع في جانبه
قال الأولون : أما تسميته شهادة فلقول الملتعن في يمينه أشهد بالله فسمي بذلك شهادة وإن كان يمينا اعتبارا بلفظها قالوا : وكيف وهو مصرح فيه بالقسم وجوابه وكذلك لو قال : أشهد بالله انعقدت يمينه بذلك سواء نوى اليمين أو أطلق والعرب تعد ذلك يمينا في لغتها واستعمالها قال قيس :
( فأشهد عند الله أني أحبها ... فهذا لها عندي فما عندها ليا )
وفي هذا حجة لمن قال : إن قوله : أشهد تنعقد به اليمين ولو لم يقل : بالله كما هو إحدى الروايتين عن أحمد والثانية لا يكون يمينا إلا بانية وهو قول الأكثرين كما أن قوله : أشهد بالله يمين عند الأكثرين بمطلقه
قالوا : وأما استثناؤه سبحانه أنفسهم من الشهداء فيقال أولا : إلا ها هنا : صفة بمعنى غير والمعنى : ولم يكن لهم شهداء غير أنفسهم فإن غيرا و وإلا يتعاوضان الوصفية والإستثناء فيستثنى بـ غير حملا على إلا ويوصف بـ إلا حملا على غير
ويقال ثانيا : إن أنفسهم مستثنى من الشهداء ولكن يجوز أن يكون منقطعا على لغة بني تميم فإنهم يبدلون في الإنقطاع كما يبدل أهل الحجاز وهم في الإتصال
ويقال ثالثا : إنما استثنى أنفسهم من الشهداء لأنه نزلهم منزلتهم في قبول قولهم وهذا قوي جدا على قول من يرجم المرأة بالتعان الزوج إذا نكلت وهو الصحيح كما يأتي تقريره إن شاء الله تعالى والصحيح : أن لعانهم يجمع الوصفين اليمين والشهادة فهو شهادة مؤكدة بالقسم والتكرار ويمين مغلظة بلفظ الشهادة والتكرار لاقتضاء الحال تأكيد الامر ولهذا اعتبر فيه من التأكيد عشرة أنواع
أحدها : ذكر لفظ الشهادة
الثاني : ذكر القسم بأحد أسماء الرب سبحانه وأجمعها لمعاني أسمائه الحسنى وهو اسم الله جل ذكره
الثالث : تأكيد الجواب بما يؤكد به المقسم عليه : من إن واللام وإتيانه باسم الفاعل الذي هو صادق وكاذب دون الفعل الذي هو صدق وكذب
الرابع : تكرار ذلك أربع مرات
الخامس : دعاؤه على نفسه في الخامسة بلعنة الله إن كان من الكاذبين
السادس : إخباره عند الخامسة أنها الموجبة لعذاب الله وأن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة
السابع : جعل لعانه مقتضى لحصول العذاب عليها وهو إما الحد أو الحبس وجعل لعانها دارئا للعذاب عنها
الثامن : أن هذا اللعان يوجب العذاب على أحدهما إما في الدنيا وإما في الآخرة
التاسع : التفريق بين المتلاعنين وخراب بيتها وكسرها بالفراق
العاشر : تأبيد تلك الفرقة ودوام التحريم بينهما فلما كان شأن هذا اللعان هذا الشأن جعل يمينا مقرونا بالشهادة وشهادة مقرونة باليمين وجعل الملتعن لقبول قوله كالشاهد فإن نكلت المرأة مضت شهادته وحدت وأفادت شهادته ويمينة شيئين : سقوط الحد عنه ووجوبه عليها وإن التعنت المرأة وعارضت لعانه بلعان آخر منها أفاد لعانه سقوط الحد عنه دون وجوبه عليها فكان شهادة ويمينا بالنسبة إليه دونها لأنه إن كان يمينا محضة فهي لا تحد بمجرد حلفه وإن كان شهادة فلا تحد بمجرد شهادته عليها وحده فإذا انضم إلى ذلك نكولها قوي جانب الشهادة واليمين في حقه بتأكده ونكولها فكان دليلا ظاهرا على صدقه فأسقط الحد عنه وأوجبه عليها وهذا أحسن ما يكون من الحكم ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون وقد ظهر بهذا أنه يمين فيها معنى الشهادة وشهادة فيها معنى اليمين
وأما حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده فما أبين دلالته لو كان صحيحا بوصوله إلى عمرو ولكن في طريقه إلى عمرو مهالك ومفاوز قال أبو عمر بن عبد البر : ليس دون عمرو بن شعيب من يحتح به
وأما حديثه الآخر الذي رواه الدارقطني فعلى طريق الحديث عثمان بن عبد الرحمن الوقاصي وهو متروك بإجماعهم فالطريق به مقطوعة
وأما حديث عبد الرزاق فمراسيل الزهري عندهم ضعيفة لا يحتج بها وعتاب بن أسيد كان عاملا للنبي صلى الله عليه و سلم على مكة ولم يكن بمكة يهودي ولا نصراني البتة حتى يوصيه أن لا يلاعن بينهما
قالوا : وأما ردكم لقوله : لو لا ما مضى من الإيمان لكان لي ولها شأن وهو حديث رواه أبو داود في سننه وإسناده لا بأس به وأما تعلقكم فيه على عباد بن منصور فأكثر ما عيب عليه أنه قدري داعية إلى القدر وهذا لا يوجب رد حديثه ففي الصحيح : الإحتجاح بجماعة من القدرية والمرجئة والشيعة ممن علم صدقه ولا تنافي بين قوله : لو لا ما مضى من كتاب الله تعالى ولو لا ما مضى من الأيمان فيحتاج إلى ترجيح أحد اللفظين وتقديمه على الآخر بل الأيمان المذكورة هي في كتاب الله وكتاب الله تعالى حكمه الذي حكم به بين المتلاعنين وأراد صلى الله عليه و سلم : لو لا ما مضى من حكم الله الذي فصل بين المتلاعنين لكان لها شأن آخر
قالوا : وأما قولكم : إن قاعدة الشريعة استقرت على أن الشهادة في جانب المدعي واليمين في جانب المدعى عليه فجوابه من وجوه أحدها : أن الشريعة لم تستقر على هذا بل قد استقرت في القسامة بأن يبدأ بأيمان المدعين وهذا لقوة جانبهم باللوث وقاعدة الشريعة أن اليمين تكون من جنبة أقوى المتداعيين فلما كان جانب المدعى عليه قويا بالبراءة الأصلية شرعت اليمين في جانبه فلما قوي جانب المدعي في القسامة باللوث كانت اليمين في جانبه وكذلك على الصحيح لما قوي جانبه بالنكول صارت اليمين في جانبه فيقال له : احلف واستحق وهذا من كمال حكمة الشارع واقتضائه للمصالح بحسب الإمكان ولو شرعت اليمين من جانب واحد دائما لذهبت قوة الجانب الراجح هدرا وحكمة الشارع تأبى ذلك فالذي جاء به هو غاية الحكمة والمصلحة
وإذا عرف هذا فجانب الزوج ها هنا أقوى من جانبها فإن المرأة تنكر زناها وتبهته والزوج ليس له غرض في هتك حرمته وإفساد فراشه ونسبة أهله إلى الفجور بل ذلك أشوش عليه وأكره شئ إليه فكان هذا لوثا ظاهرا فإذا انضاف إليه نكول المرأة قوي الأمر جدا في قلوب الناس خاصهم وعامهم فاستقل ذلك بثبوت حكم الزنى عليها شرعا فحدت بلعانه ولكن لما لم تكن أيمانه بمنزلة الشهداء الأربعة حقيقة كان لها أن تعارضها بأيمان أخر مثلها يدرأ عنها بها العذاب عذاب الحد المذكور في قوله تعالى : { وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين } [ النور : 2 ] ولو كان لعانه بينة حقيقة لما دفعت أيمانها عنها شيئا وهذا يتضح بالفصل الثاني المستفاد من قضاء رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو أن المرأة إذا لم تلتعن فهل تحد أو تحبس حتى تقر أو تلاعن فيه قولان للفقهاء فقال الشافعي وجماعة من السلف والخلف : تحد وهو قول أهل الحجاز
وقال أحمد : تحبس حتى تقر أو تلاعن وهو قول أهل العراق وعنه رواية ثانية : لا تحبس ويخلى سبيلها
قال أهل العراق ومن وافقهم : لو كان لعان الرجل بينة توجب الحد عليها لم تملك إسقاطه باللعان وتكذيب البينة كما لو شهد عليها أربعة
قالوا : ولأنه لو شهد عليها مع ثلاثة غيره لم تحد بهذه الشهادة فلأن لا تحد بشهادته وحده أولى وأحرى قالوا : ولأنه أحد المتلاعنين فلا يوجب حد الآخر كما لم يوجب لعانها حده
قالوا : وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ البينة على المدعي ] ولا ريب أن الزوج ها هنا مدع
قالوا : ولأن موجب لعانه إسقاط الحد عن نفسه لا إيجاب الحد عليها ولهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ البينة وإلا حد في ظهرك ] فإن موجب قذف الزوج كموجب قذف الأجنبي وهو الحد فجعل الله سبحانه له طريقا إلى التخلص منه باللعان وجعل طريق إقامة الحد على المرأة أحد أمرين : إما أربعة شهود أو اعتراف أو الحبل عند من يحد به من الصحابة كعمر بن الخطاب ومن وافقه وقد قال عمر بن الخطاب على منبر رسول الله صلى الله عليه و سلم : والرجم واجب على كل من زنى من الرجال والنساء إذا كان محصنا إذا قامت بينة أو كان الحبل أو الإعتراف وكذلك قال علي رضي الله عنه فجعلا طريق الحد ثلاثة لم يجعلا فيها اللعان
قالوا : وأيضا فهذه لم يتحقق زناها فلا يجب عليها الحد لأن تحقق زناها إما أن يكون بلعان الزوج وحده لأنه لو تحقق به لم يسقط بلعانها الحد ولما وجب بعد ذلك حد على قاذفها ولا يجوز أن يتحقق بنكولها أيضا لأن الحد لا يثبت بالنكول فإن الحد يدرأ بالشبهات فكيف يجب بالنكول فإن النكول يحتمل أن يكون لشدة خفرها أو لعقلة لسانها أو لدهشها في ذلك المقام الفاضح المخزي أو لغير ذلك من الأسباب فكيف يثبت الحد الذي اعتبر في بينته من العدد ضعف ما اعتبر في سائر الحدود وفي إقراره أربع مرات بالسنة الصحيحة الصريحة واعتبر في كل من الإقرار والبينة أن يتضمن وصف الفعل والتصريح به مبالغة في الستر ودفعا لإثبات الحد بأبلغ الطرق وآكدها وتوسلا إلى إسقاط الحد بأدنى شبهة فكيف يجوز أن يقضي فيه بالنكول الذي هو في نفسه شبهة لا يقضى به في شئ من الحدود والعقوبات البتة ولا فيما عدا الأموال ؟
قالوا : والشافعي رحمه الله تعالى لا يرى القضاء بالنكول في درهم فما دونه ولا في أدنى تعزير فكيف يقضى به في أعظم الأمور وأبعدها ثبوتا وأسرعها سقوطا ولأنها لو أقرت بلسانها ثم رجعت لم يجب عليها الحد فلأن لا يجب بمجرد امتناعها من اليمين على براءتها أولى وإذا ظهر أنه لا تأثير لواحد منهما في تحقق زناها لم يجز أن يقال بتحققه بهما لوجهين
أحدهما : أن ما في كل واحد منهما من الشبهة لا يزول بضم أحدهما إلى الآخر كشهادة مائة فاسق فإن احتمال نكولها لفرط حيائها وهيبة ذلك المقام والجمع وشدة الخفر وعجزها عن النطق وعقلة لسانها لا يزول بلعان الزوج ولا بنكولها
الثاني : أن ما لا يقضى فيه باليمين المفردة لا يقضى فيه باليمين مع النكول كسائر الحقوق
قالوا : وأما قوله تعالى : { ويدرأ عنها العذاب أن تشهد } فالعذاب ها هنا يجوز أن يراد به الحد وأن يراد به الحبس والعقوبة المطلوبة فلا يتعين إرادة الحد به فإن الدال على المطلق لا يدل على المقيد إلا بدليل من خارج وأدنى درجات ذلك الاحتمال فلا يثبت الحد مع قيامه وقد يرجح هذا بما تقدم من قول عمر وعلي رضي الله عنهما : إن الحد إنما يكون بالبينة أو الاعتراف أو الحبل
ثم اختلف هؤلاء فيما يصنع بها إذا لم تلاعن فقال أحمد : إذا أبت المرأة أن تلتعن بعد التعان الرجل أجبرتها عليه وهبت أن أحكم عليها بالرجم لأنها لو أقرت بلسانها لم أرجمها إذا رجعت فكيف إذا أبت اللعان ؟ وعنه رحمه الله تعالى رواية ثانية : يخلى سبيلها اختارها أبو بكر لأنها لا يجب عليها الحد فيجب تخلية سبيلها كما لولم تكمل البينة (5/323)
فصل
قال الموجبون للحد : معلوم أن الله سبحانه وتعالى جعل التعان الزوج بدلا عن الشهود وقائما مقامهم بل جعل الأزواج الملتعنين شهداء كما تقدم وصرح بأن لعانهم شهادة وأوضح ذلك بقوله : { ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله } وهذا يدل على أن سبب العذاب الدنيوي قد وجد وأنه لا يدفعه عنها إلا لعانها والعذاب المدفوع عنها بلعانها هو المذكور في قوله تعالى : { وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين } وهذا عذاب الحد قطعا فذكره مضافا ومعرفا بلام العهد فلا يجوز أن ينصرف إلى عقوبة لم تذكر في اللفظ ولا دل عليها بوجه ما من حبس أو غيره فكيف يخلى سبيلها ويدرأ عنها العذاب بغير لعان وهل هذا إلا مخالفة لظاهر القرآن ؟
قالوا : وقد جعل الله سبحانه لعان الزوح دارئا لحد القذف عنه وجعل لعان الزوجة دارئا لعذاب حد الزنى عنها فكما أن الزوج إذا لم يلاعن يحد حد القذف فكذلك الزوجة إذا لم تلاعن يجب عليها الحد
قالوا : وأما قولكم : إن لعان الزوج لو كان بينة توجب الحد عليها لم تملك هي إسقاطه باللعان كشهادة الأجنبي
فالجواب : أن حكم اللعان حكم مستقل بنفسه غير مردود إلى أحكام الدعاوى والبينات بل هو أصل قائم بنفسه شرعه الذي شرع نظيره من الأحكام وفصله الذي فصل الحلال والحرام ولما كان لعان الزوج بدلا عن الشهود لا جرم نزل عن مرتبة البينة فلم يستقل وحده بحكم البينة وجعل للمرأة معارضته بلعان نظيره وحينئذ فلا يظهر ترجيح أحد اللعانين على الآخر لنا والله يعلم أن أحدهما كاذب فلا وجه لحد المرأة بمجرد لعان الزوج فإذا مكنت من معارضته وإتيانها بما يبرئ ساحتها فلم تفعل ونكلت عن ذلك عمل المقتضى عمله وانضاف إليه قرينة قوته وأكدته وهي نكول المرأة وإعراضها عما يخلصها من العذاب ويدرؤه عنها
قالوا : وأما قولكم : إنه لو شهد عليها مع ثلاثة غيره لم تحد بهذه الشهادة فكيف تحد بشهادته وحده ؟ فجوابه أنها لم تحد بشهادة مجردة وإنما حدت بمجموع لعانه خمس مرات ونكولها عن معارضته مع قدرتها عليها فقام من مجموع ذلك دليل في غاية الظهور والقوة على صحة قوله والظن المستفاد منه أقوى بكثير من الظن المستفاد من شهادة الشهود
وأما قولكم : إنه أحد اللعانين فلا يوجب حد الآخر كما لم يوجب لعانها حده فجوابه أن لعانها إنما شرع للدفع لا للإيجاب كما قال تعالى : { ويدرأ عنها العذاب أن تشهد } فدل النص على أن لعانه مقتض لإيجاب الحد ولعانها دافع ودارئ لا موجب فقياس أحد اللعانين على الآخر جمع بين ما فرق الله سبحانه بينهما وهو باطل قالوا : وأما قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ البينة على المدعي ] فسمعا وطاعة لرسول الله صلى الله عليه و سلم ولا ريب أن لعان الزوج المذكور المكرر بينة وقد انضم إليها نكولها الجاري مجرى إقرارها عند قوم ومجرى بينة المدعين عند آخرين وهذا من أقوى البينات ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال له : [ البينة وإلا حد في ظهرك ] ولم يبطل الله سبحانه هذا وإنما نقله عند عجزه عن بينة منفصلة تسقط الحد عنه يعجز عن إقامتها إلى بينة يتمكن من إقامتها ولما كانت دونها في الرتبة اعتبر لها مقو منفصل وهو نكول المرأة عن دفعها ومعارضتها مع قدرتها وتمكنها قالوا : وأما قولكم : أن موجب لعانه إسقاط الحد عن نفسه لا إيجاب الحد عليها إلى آخره فإن أردتم أن من موجبه إسقاط الحد عن نفسه فحق وإن أردتم أن سقوط الحد عنه يسقط جميع موجبه ولا موجب له سواه فباطل قطعا فإن وقوع الفرقة أو وجوب التفريق والتحريم المؤبد أو المؤقت ونفي الولد المصرح بنفيه أو المكتفى في نفيه باللعان ووجوب العذاب على الزوجة إما عذاب الحد أو عذاب الحبس كل ذلك من موجب اللعان فلا يصح أن يقال : إنما يوجب سقوط حد القذف عن الزوج فقط
قالوا : وأما قولكم : إن الصحابة جعلوا حد الزنى بأحد ثلاثة أشياء : إما البينة أو الإعتراف أو الحبل واللعان ليس منها فجوابه : أن منازعيكم يقولون : إن كان إيجاب الحد عليها باللعان خلافا لأقوال هؤلاء الصحابة فإن إسقاط الحد بالحبل أدخل في خلافهم وأظهر فما الذي سوغ لكم إسقاط حد أوجبوه بالحبل وصريح مخالفتهم وحرم على منازعيكم مخالفتهم في إيجاب الحد بغير هذه الثلاثة مع أنهم أعذر منكم لثلاثة أوجه
أحدها : أنهم لم يخالفوا صريح قولهم وإنما هو مخالفة لمفهوم سكتوا عنه فهو مخالفة لسكوتهم وأنتم خالفتم صريح أقوالهم الثاني : أن غاية ما خالفوه مفهوم قد خالفه صريح عن جماعة منهم بإيجاب الحد فلم يخالفوا ما أجمع عليه الصحابة وأنتم خالفتم منطوقا لا يعلم لهم فيه مخالف البتة ها هنا وهو إيجاب الحد بالحبل فلا يحفظ عن صحابي قط مخالفة عمر وعلي رضي الله عنهما في إيجاب الحد به
الثالث : أنهم خالفوا هذا المفهوم لمنطوق تلك الأدلة التي تقدمت ولمفهوم قوله : { ويدرأ عنها العذاب أن تشهد } [ النور : 8 ] ولا ريب أن هذا المفهوم أقوى من مفهوم سقوط الحد بقولهم : إذا كانت البينة أو الحبل أو الإعتراف فهم تركوا مفهوما لما هو أقوى منه وأولى هذا لو كانوا قد خالفوا الصحابة فكيف وقولهم موافق لأقوال الصحابة ؟ فإن اللعان مع نكول المرأة من أقوى البينات كما تقرر
قالوا : وأما قولكم : لم يتحقق زناها إلى آخره فجوابه إن أردتم بالتحقيق اليقين المقطوع به كالمحرمات فهذا لا يشترط في إقامة الحد ولو كان هذا شرطا لما أقيم الحد بشهادة أربعة إذ شهادتهم لا تجعل الزنى محققا بهذا الإعتبار وإن أردتم بعدم التحقق أنه مشكوك فيه على السواء بحيث لا يترجح ثبوته فباطل قطعا وإلا لما وجب علبها العذاب المدرأ بلعانها ولا ريب أن التحقق المستفاد من لعانه المؤكد المكرر مع إعراضها عن معارضة ممكنة منه أقوى من التحقق بأربع شهود ولعل لهم غرضا في قذفها وهتكها وإفسادها على زوجها والزوج لا غرض له في ذلك منها
وقولكم : إنه لو تحقق فإما أن يتحقق بلعان الزوج أو بنكولها أو بهما فجوابه : أنه تحقق بهما ولا يلزم من عدم استقلال أحد الأمرين بالحد وضعفه عنه عدم استقلالهما معا إذ هذا شأن كل مفرد لم يستقل بالحكم بنفسه ويستقل به مع غيره لقوته به
وأما قولكم : عجبا للشافعي كيف لا يقضي بالنكول في درهم ويقضي به في إقامة حد بالغ الشارع في ستره واعتبر له أكمل بينة فهذا موضع لا ينتصر فيه للشافعي ولا لغيره من الأئمة وليس لهذا وضع كتابنا هذا ولا قصدنا به نصرة أحد من العالمين وإنما قصدنا به مجرد هدي رسول الله صلى الله عليه و سلم في سيرته وأقضيته وأحكامه وما تضمن سوى ذلك فتبع مقصود لغيره فهب أن من لم يقض بالنكول تناقض فماذا يضر ذلك هدي رسول الله صلى الله عليه و سلم
وتلك شكاة ظاهر عنك عارها
على أن الشافعي رحمه الله تعالى لم يتناقض فإنه فرق بين نكول مجرد لا قوة له وبين نكول قد قارنه التعان مؤكد مكرر أقيم في حق الزوج مقام البينة مع شهادة الحال بكراهة الزوج لزنى امرأته وفضيحتها وخراب بيتها وإقامة نفسه وحبه في ذلك المقام العظيم بمشهد المسلمين يدعو على نفسه باللعنة إن كان كاذبا بعد حلفه بالله جهد أيمانه أربع مرات إنه لمن الصادقين والشافعي رحمه الله إنما حكم بقول قد قارنه ما هذا شأنه فمن أين يلزمه أن يحكم بنكول مجرد ؟
قالوا : وأما قولكم : إنها لو أقرت بالزنى ثم رجعت لسقط عنها الحد فكيف يجب بمجرد امتناعها من اليمين ؟ بجوابه : ما تقرر آنفا
قالوا : وأما قولكم : إن العذاب المدرأ عنها بلعانها هو عذاب الحبس أو غيره فجوابه : أن العذاب المذكور إما عذاب الدنيا أو عذاب الاخرة وحمل الآية على عذاب الآخرة باطل قطعا فإن لعانها لا يدرؤه إذا وجب عليها وإنما هو عذاب الدنيا وهو الحد قطعا فإنه عذاب المحدود وهو فداء له من عذاب الآخرة ولهذا شرعه سبحانه طهرة وفديه من ذلك العذاب كيف وقد صرح به في أول السورة بقوله : { وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين } [ النور : 2 ] ثم أعاده بعينه بقوله : { ويدرأ عنها العذاب } فهذا هو العذاب المشهود مكنها من دفعه بلعانها فأين هنا عذاب غيره حتى تفسر الآية به ؟ وإذا تبين هذا فهذا هو القول الصحيح الذي لا نعتقد سواه ولا نرتضي إلا إياه وبالله التوفيق
فإن قيل : فلو نكل الزوج عن اللعان بعد قذفه فما حكم نكوله ؟ قلنا : يحد حد القذف عند جمهور العلماء من السلف والخلف وهو قول الشافعي ومالك وأحمد وأصحابهم وخالف في ذلك أبو حنيفة وقال : يحبس حتى يلاعن أو تقر الزوجة وهذا الخلاف مبني على أن موجب قذف الزوج لامرأته هل هو الحد كقذف الأجنبي وله إسقاطه باللعان أو موجبه اللعان نفسه ؟ فالأول : قول الجمهور والثاني : قول أبي حنيفة واحتجوا عليه بعموم قوله تعالى : { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة } [ النور : 4 ] وبقوله صلى الله عليه و سلم لهلال بن أمية : [ البينة أو حد في ظهرك ] وبقوله له [ عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ] وهذا قاله لهلال بن أمية قبل شروعه في اللعان فلو لم يجب الحد بقذفه لم يكن لهذا معنى وبأنه قذف حرة عفيفة يجري بينه وبينها القيود فحد بقذفها كالأجنبي وبأنه لو لاعنها ثم أكذب نفسه بعد لعانها لوجب عليه الحد فدل على أن قذفه سبب لوجوب الحد عليه وله إسقاطه باللعان إذ لو لم يكن سببا لما وجب بإكذابه نفسه بعد اللعان وأبو حنيفة يقول : قذفه لها دعوى توجب أحد أمرين إما لعانه وإما إقرارها فإذا لم يلاعن حبس حتى يلاعن إلا أن تقر فيزول موجب الدعوى وهذا بخلاف قذف الأجنبي فإنه لا حق له عند المقذوفة فكان قاذفا محضا والجمهور يقولون : بل قذفه جناية منه على عرضها فكان موجبها الحد كقذف الأجنبي ولما كان فيها شائبة الدعوى عليها بإتلافها لحقه وخيانتها فيه ملك إسقاط ما يوجبه القذف من الحد بلعانه فإذا لم يلاعن مع قدرته على اللعان وتمكنه منه عمل مقتضى القذف عمله واستقل بإيجاب الحد إذ لا معارض له وبالله التوفيق (5/332)
فصل
ومنها : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم إنما كان يقضي بالوحي وبما أراه الله لا بما رآه هو فإنه صلى الله عليه و سلم لم يقض بين المتلاعنين حتى جاءه الوحي ونزل القرآن فقال لعويمر حينئذ : [ قد نزل فيك وفي صحابتك فاذهب فأت بها ] وقد قال صلى الله عليه و سلم : [ لا يسألني الله عز و جل عن سنة أحدثتها فيكم لم أؤمر بها ] وهذا في الأقضية والأحكام والسنن الكلية وأما الأمور الجزئية التي لا ترجع إلى أحكام كالنزول في منزل معين وتأمير رجل معين ونحو ذلك مما هو متعلق بالمشاورة المأمور بها بقوله : { وشاورهم في الأمر } [ آل عمران : 159 ] فتلك للرأي فيها مدخل ومن هذا قوله صلى الله عليه و سلم في شأن تلقيح النخل : [ إنما هو رأي رأيته ] فهذا القسم شئ والأحكام والسنن الكلية شئ آخر (5/338)
فصل
ومنها : أن النبي صلى الله عليه و سلم أمره بأن يأتي بها فتلاعنا بحضرته فكان في هذا بيان أن اللعان إنما يكون بحضرة الإمام أو نائبه وأنه ليس لآحاد الرعية أن يلاعن بينهما كما أنه ليس له إقامة الحد بل هو للإمام أو نائبه (5/338)
فصل
ومنها : أنه يسن التلاعن بمحضر جماعة من الناس يشهدونه فإن ابن عباس وابن عمر وسهل بن سعد حضروه مع حداثة أسنانهم فدل ذلك على أنه حضره جمع كثير فإن الصبيان إنما يحضرون مثل هذا الأمر تبعا للرجال قال سهل بن سعد : فتلاعنا وأنا مع الناس عند النبي صلى الله عليه و سلم وحكمة هذا - والله أعلم - أن اللعان بني على التغليظ مبالغة في الردع والزجر وفعله في الجماعة أبلغ في ذلك (5/339)
فصل
ومنها : أنهما يتلاعنان قياما وفي قصة هلال بن أمية أن النبي صلى الله عليه و سلم قال له : قم فاشهد أربع شهادات بالله
وفي الصحيحين : في قصة المرأة ثم قامت فشهدت ولأنه إذا قام شاهده الحاضرون فكان أبلغ في شهرته وأوقع في النفوس وفيه سر آخر وهو أن الدعوة التي تطلب إصابتها إذا صادفت المدعو عليه قائما نفذت فيه ولهذا لما دعا خبيب على المشركين حين صلبوه أخذ أبو سفيان معاوية فأضجعه وكانوا يرون أن الرجل إذا لطئ بالأرض زلت عنه الدعوة (5/339)
فصل
ومنها : البداءة بالرجل في اللعان كما بدأ الله عز و جل ورسوله به فلو بدأت هي لم يعتد بلعانها عند الجمهور واعتد به أبو حنيفة وقد بدأ الله سبحانه في الحد بذكر المرأة فقال : { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } [ النور : 2 ] وفي اللعان بذكر الزوج وهذا في غاية المناسبة لأن الزنى من المرأة أقبح منه بالرجل لأنها تزيد على هتك حق الله إفساد فراش بعلها وتعليق نسب من غيره عليه وفضيحة أهلها وأقاربها والجناية على محض حق الزوج وخيانته فيه وإسقاط حرمته عند الناس وتعييره بإمساك البغى وغير ذلك من مفاسد زناها فكانت البداءة بها في الحد أهم وأما اللعان : فالزوج هو الذي قذفها وعرضها للعان وهتك عرضها ورماها بالعظيمة وفضحها عند قومها وأهلها ولهذا يجب عليه الحد إذا لم يلاعن فكانت البداءة به في اللعان أولى من البداءة بها
فصل ومنها : وعظ كل واحد من المتلاعنين عند إرادة الشروع في اللعان فيوعظ ويذكر ويقال له : عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة فإذا كان عند الخامسة أعيد ذلك عليهما كما صحت السنة بهذا وهذا (5/339)
فصل
ومنها : أنه لا يقبل من الرجل أقل من خمس مرات ولا من المرأة ولا يقبل منه إبدال اللعنة بالغضب والإبعاد والسخط ولا منها إبدال الغضب باللعنة والإبعاد والسخط بل يأتي كل منهما بما قسم الله له من ذلك شرعا وقدرا وهذا أصح القولين في مذهب أحمد ومالك وغيرهما
ومنها : أنه لا يفتقر أن يزيد على الألفاظ المذكورة فى القرآن والسنة شيئا بل لا يستحب ذلك فلا يحتاح أن يقول : أشهد بالله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية ونحو ذلك بل يكفيه أن يقول : أشهد بالله إني لمن الصادقين وهي تقول : أشهد بالله إنه لمن الكاذبين ولا يحتاج أن يقول : فيما رميتها به من الزنى ولا أن تقول هي : إنه لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنى ولا يشترط أن يقول إذا ادعى الرؤية : رأيتها تزني كالمرود في المكحلة ولا أصل لذلك في كتاب الله ولا سنة رسوله فإن الله سبحانه بعلمه وحكمته كفانا بما شرعه لنا وأمرنا به عن تكلف زيادة عليه
قال صاحب الإفصاح وهو يحيى بن محمد بن هبيرة في إفصاحه : من الفقهاء من اشترط أن يراد بعد قوله من الصادقين : فيما رميتها به من الزنى واشترط في نفيها عن نفسها أن تقول : فيما رماني به من الزنى قال : ولا أراه يحتاج إليه لأن الله تعالى أنزل ذلك وبينه ولم يذكر هذا الإشتراط
وظاهر كلام أحمد أنه لا يشترط ذكر الزنى في اللعان فإن إسحاق بن منصور قال : قلت لأحمد : كيف يلاعن ؟ قال : على ما في كتاب الله يقول أربع مرات : أشهد بالله إني فيما رميتها به لمن الصادقين ثم يقف عند الخامسة فيقول : لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين والمرأة مثل ذلك
ففي هذا النص أنه لا يشترط أن يقول : من الزنى ولا تقوله هي ولا يشترط أن يقول عند الخامسة : فيما رميتها به وتقول هي : فيما رماني به والذين اشترطوا ذلك حجتهم أن قالوا : ربما نوى : إني لمن الصادقين في شهادة التوحيد أو غيره من الخبر الصادق ونوت : إنه لمن الكاذبين في شأن آخر فإذا ذكرا ما رميت به من الزنى انتفى هذا التأويل
قال الآخرون : هب أنهما نويا ذلك فإنهما لا ينتفعان بنيتهما فإن الظالم لا ينفعه تأويله ويمينه على نية خصمه ويمينه بما أمر الله به إذا كان مجاهرا فيها بالباطل والكذب موجبه عليه اللعنة أو الغضب نوى ما ذكرتم أو لم ينوه فإنه لا يموه على من يعلم السر وأخفى بمثل هذا (5/340)
فصل
ومنها : أن الحمل ينتفي بلعانه ولا يحتاج أن يقول : وما هذا الحمل مني ولا يحتاج أن يقول : وقد استبرأتها هذا قول أبي بكر عبد العزيز من أصحاب أحمد وقول بعض أصحاب مالك وأهل الظاهر وقال الشافعي : يحتاج الرجل إلى ذكر الولد ولا تحتاج المرأة إلى ذكره وقال الخرقي وغيره : يحتاجان إلى ذكره وقال القاضي : يشترط أن يقول : هذا الولد من زنى وليس هم مني وهو قول الشافعي وقول أبي بكر أصح الأقوال وعليه تدل السنة الثابتة
فإن قيل : فقد روى مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه و سلم لاعن بين رجل وامرأته وانتفى من ولدها ففرق بينهما وألحق الولد بالمرأة
وفي حديث سهل بن سعد : وكانت حاملا فأنكر حملها
وقد حكم صلى الله عليه و سلم [ بأن الولد للفراش ] وهذه كانت فراشا له حال كونها حاملا فالولد له فلا ينتفي عنه إلا بنفيه
قيل : هذا موضع تفصيل لا بد منه وهو أن الحمل إن كان سابقا على ما رماها به وعلم أنها زنت وهي حامل منه فالولد له قطعا ولا ينتفي عنه بلعانه ولا يحل له أن ينفيه عنه في اللعان فإنها لما علقت به كانت فراشا له وكان الحمل لاحقا به فزناها لا يزيل حكم لحوقه به وإن لم يعلم حملها حال زناها الذي قد قذفها به فهذا ينظر فيه فإن جاءت به لأقل من ستة أشهر من الزنى الذي رماها به فالولد له ولا ينتفي عنه بلعانه وإن ولدته لأكثر من ستة أشهر من الزنى الذي رماها به نظر فإما أن يكون استبرأها قبل زناها أو لم يستبرئها فإن كان استبرأها انتفى الولد عنه بمجرد اللعان سواء نفاه أو لم ينفه ولا بد من ذكره عند من يشترط ذكره وإن لم يستبرئها فها هنا أمكن أن يكون الولد منه وأن يكون من الزاني فإن نفاه في اللعان انتفى وإلا لحق به لأنه أمكن كونه منه ولم ينفه
فإن قيل : فالنبي صلى الله عليه و سلم قد حكم بعد اللعان ونفى الولد بأنه إن جاء يشبه الزوج صاحب الفراش فهو له وإن جاء يشبه الذي رميت به فهو له فما قولكم في مثل هذه الواقعة إذا لاعن امرأته وانتفى من ولدها ثم جاء الولد يشبهه هل تلحقونه به بالشبه عملا بالقافة أو تحكمون بانقطاع نسبه منه عملا بموجب لعانه ؟ قيل : هذا مجال ضنك وموضع ضيق تجاذب أعنته اللعان المقتضي لانقطاع النسب وانتفاء الولد وأنه يدعى لأمه ولا يدعى لأب والشبه الدال على ثبوت نسبه من الزوج وأنه ابنه مع شهادة النبي صلى الله عليه و سلم بأنها إن جاءت به على شبهه فالولد له وأنه كذب عليها فهذا مضيق لا يتخلص منه إلا المستبصر البصير بأدلة الشرع وأسراره والخبير بجمعه وفرقه الذي سافرت به همته إلى مطلع الأحكام والمشكاة التي منها ظهر الحلال والحرام والذي يظهر في هذا والله المستعان وعليه التكلان أن حكم اللعان قطع حكم الشبه وصار معه بمنزلة أقوى الدليلين مع أضفعهما فلا عبرة للشبه بعد مضي حكم اللعان في تغيير أحكامه والنبي صلى الله عليه و سلم يخبر عن شأن الولد وشبهه ليغير بذلك حكم اللعان وإنما أخبر عنه ليتبين الصادق منهما من الكاذب الذي قد استوجب اللعنة والغضب فهو إخبار عن أمر قدري كون يتبين به الصادق من الكاذب بعد تقرر الحكم الديني وأن الله سبحانه سيجعل في الولد دليلا على ذلك ويدل عليه أنه صلى الله عليه و سلم قال ذلك بعد انتفائه من الولد وقال : إن جاءت به كذا وكذا فلا أراه إلا صدق عليها وإن جاءت به كذا وكذا فلا أراه إلا كذب عليها فجاءت به على النعت المكروه فعلم أنه صدق عليها ولم يعرض لها ولم يفسخ حكم اللعان فيحكم عليها بحكم الزانية مع العلم بأنه صدق عليها فكذلك لو جاءت به على شبه الزوج يعلم أنه كذب عليها ولا يغير ذلك حكم اللعان فيحد الزوج ويلحق به الولد فليس قوله : إن جاءت به كذا وكذا فهو لهلال بن أمية إلحاقا له به في الحكم كيف وقد نفاه باللعان وانقطع نسبه به كما أن قوله : وإن جاءت به كذا وكذا فهو للذي رميت به ليس إلحاقا به وجعله ابنه وإنما هو إخبار عن الواقع وهذا كما لو حكم بأيمان القسامة ثم أظهر الله سبحانه آية تدل على كذب الحالفين لم ينتقض حكمها بذلك وكذا لو حكم البراءة من الدعوى بيمين ثم أظهر الله سبحانه آية تدل على أنها يمين فاجرة لم يبطل الحكم بذلك (5/341)
فصل
ومنها : أن الرجل إذا قذف امرأته بالزنى برجل بعينه ثم لاعنها سقط الحد عنه لهما ولا يحتاج إلى ذكر الرجل في لعانه وإن لم يلاعن فعليه لكل واحد منهما حده وهذا موضع اختلف فيه فقال أبو حنيفة ومالك : يلاعن للزوجة ويحد للأجنبي وقال الشافعي في أحد قوليه : يجب عليه حد واحد ويسقط عن الحد لهما بلعانه وهو قول أحمد والقول الثاني للشافعي : أنه يحد لكل واحد حدا فإن ذكر المقدوف في لعانه سقط الحد وإن لم يذكره فعلى قولين أحدهما : يستأنف اللعان ويذكره فيه فإن لم يذكره حد له والثاني : أنه يسقط حده بلعانه كما يسقط حد الزوجة
وقال بعض أصحاب أحمد : القذف للزوجة وحدها ولا يتعلق بغيرها حق المطالبة ولا الحد وقال بعض أصحاب الشافعي : يجب الحد لهما وهل يجب حد واحد أو حدان ؟ على وجهين وقال بعض أصحابه : لا يجب إلا حد واحد قولا واحدا ولا خلاف بين أصحابه أنه إذا لاعن وذكر الأجنبي في لعانه : أنه يسقط عنه حكمه وإن لم يذكره فعلى قولين : الصحيح عندهم : أنه لا يسقط والذين أسقطوا حكم قذف الأجنبي باللعان حجتهم ظاهرة وقوية جدا فإنه صلى الله عليه و سلم لم يحد الزوج بشريك بن سحماء وقد سماه صريحا وأجاب الآخرون عن هذا بجوابين : أحدهما : أن المقذوف كان يهوديا ولا يجب الحد بقذف الكافر والثاني : أنه لم يطالب به وحد القذف إنما يقام بعد المطالبة
وأجاب الآخرون عن هذين الجوابين وقالوا : قول من قال : إنه يهودي باطل فإنه شريك بن عبدة وأمه سحماء وهل حليف الأنصار وهو أخو البراء بن مالك لأمه قال عبد العزيز بن بزيزة في شرحه لأحكام عبد الحق : قد اختلف أهل العلم في شريك بن سحماء المقذوف فقيل : إنه كان يهوديا وهو باطل والصحيح : أنه شريك بن عبدة حليف الأنصار وهو أخو البراء بن مالك لأمه وأما الجواب الثاني فهو ينقلب حجة عليكم لأنه لما استقر عنده أنه لا حق له في هذا القذف لم يطالب به ولم يتعرض له وإلا كيف يسكت عن براءة عرضه وله طريق إلى إظهارها بحد قاذفه والقوم كانوا أشد حمية وأنفة من ذلك ؟ وقد تقدم أن اللعان أقيم مقام البينة للحاجة وجعل بدلا من الشهود الأربعة ولهذا كان الصحيح أنه يوجب الحد عليها إذا نكلت فإذا كان بمنزلة الشهادة في أحد الطرفين كان بمنزلتها في الطرف الآخر ومن المحال أن تحد المرأة باللعان إذا نكلت ثم يحد القاذف حد القذف وقد أقام البينة على صدق قوله وكذلك إن جعلناه يمينا فإنها كما درأت عنه الحد من طرف الزوجة درأت عنه من طرف المقذوف ولا فرق لأنه به حاجة إلى قذف الزاني لما أفسد عليه من فراشه وربما يحتاج إلى ذكره ليستدل بشبه الولد له على صدق قاذفه كما استدل النبي صلى الله عليه و سلم على صدق هلال بشبه الولد بشريك بن سحماء فوجب أن يسقط حكم قذفه ما أسقط حكم قذفها وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم للزوج : البينة وإلا حد في ظهرك ولم يقل : وإلا حدان هذا والمرأة لم تطالب بحد القذف فإن المطالبة شرط في إقامة الحد لا في وجوبه وهذا جواب آخر في قولهم : إن شريكا لم يطالب بالحد فإن امرأة أيضا لم تطالب به وقد قال له النبي صلى الله عليه و سلم البينة وإلا حد في ظهرك
فإن قيل : فما تقولون : لو قذف أجنبية بالزنى برجل سماه ؟ فقال : زنى بك فلان أو زنيت به ؟ قيل : ها هنا يجب عليه حدان لأنه قاذف لكل واحد منهما ولم يأت بما يسقط موجب قذفه فوجب عليه حكمه إذ ليس هنا بينة بالنسبة إلى أحدهما ولا ما يقوم مقامها (5/344)
فصل
ومنها : أنه إذا لاعنها وهي حامل وانتفى من حملها انتفى عنه ولم يحتج إلى أن يلاعن بعد وضعه كما دلت عليه السنة الصحيحة الصريحة وهذا موضع اختلف فيه فقال أبو حنيفة رحمه الله : لا يلاعن لنفيه حتى تضع لاحتمال أن يكون ريحا فتنفش ولا يكون للعان حينئذ معنى وهذا هو الذي ذكره الخرقي في مختصره فقال : وإن نفى الحمل في التعانه لم ينتف عنه حتى ينفيه عند وضعها له ويلاعن وتبعه الأصحاب على ذلك وخالفهم أبو محمد المقدسي كما يأتي كلامه وقال جمهور أهل العلم : له أن يلاعن في حال الحمل اعتمادا على قصة هلال بن أمية فإنها صريحة صحيحة في اللعان حال الحمل ونفي الولد في تلك الحال وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن جاءت به على صفة كذا وكذا فلا أراه إلا قد صدق عليها ] الحديث قال الشيخ في المغني : وقال مالك والشافعي وجماعة من أهل الحجاز : يصح نفي الحمل وينتفي عنه محتجين بحديث هلال وأنه نفى حملها فنفاه عنه النبي صلى الله عليه و سلم وألحقه بالأم ولا خفاء أنه كان حملا ولهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ انظروها فإن جاءت به كذا وكذا ] قال : ولأن الحمل مظنون بأمارات تدل عليه ولهذا تثبت للحامل أحكام تخالف فيها الحائل من النفقة والفطر في الصيام وترك إقامة الحد عليها وتأخيرالقصاص عنها وغير ذلك مما يطول ذكره ويصح إستلحاق الحمل فكان كالولد بعد وضعه قال : وهذا القول هو الصحيح لموافقته ظواهر الأحاديث وما خالف الحديث لا يعبأ به كائنا ما كان وقال أبو بكر : ينتفي الولد بزوال الفراش ولا يحتاج إلى ذكره في اللعان احتجاجا بظاهر الأحاديث حيث لم ينقل نفي الحمل ولا تعرض لنفيه
وأما مذهب أبي حنيفة رحمه الله فإنه لا يصح نفي الحمل واللعان عليه فإن لاعنها حاملا ثم أتت بالولد لزمه عنده ولم يتمكن من نفيه أصلا لأن اللعان لا يكون إلا بين الزوجين وهذه قد بانت بلعانها في حال حملها
قال المنازعون له : هذا فيه إلزامه ولدا ليس منه وسد باب الانتفاء من أولاد الزنى والله سبحانه قد جعل له إلى ذلك طريقا فلا يجوز سدها قالوا : وإنما تعتبر الزوجية في الحال التي أضاف الزنى إليها فيها لأن الولد الذي تأتي به يلحقه إذا لم ينفه فيحتاج إلى نفيه وهذه كانت زوجته في تلك الحال فملك نفي ولدها وقال أبو يوسف ومحمد : له أن ينفي الحمل ما بين الولادة إلى تمام أربعين ليلة منها وقال عبد الملك بن الماجشون : لا يلاعن لنفي الحمل إلا أن ينفيه ثانية بعد الولادة وقال الشافعي : إذا علم بالحمل فأمكنه الحاكم من اللعان فلم يلاعن لم يكن له أن ينفيه بعد
فإن قيل : فما تقولون : لو استحق الحمل وقذفها بالزنى فقال : هذا الولد مني وقد زنت ما حكم هذه المسألة ؟ قيل : قد اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال
أحدها : أنه يحد ويلحق به الولد ولا يمكن من اللعان
والثاني : أنه يلاعن وينتفي الولد
والثالث : أنه يلاعن للقذف ويلحقه الولد والثلاثة روايات عن مالك والمنصوص عن أحمد : أنه لا يصح استلحاق الولد كما لا يصح نفيه
قال أبو محمد : وإن استلحق الحمل فمن قال : لا يصح نفيه قال : لا يصح استلحاقه وهو المنصوص عن أحمد ومن أجاز نفيه قال : يصح استلحاقه وهو مذهب الشافعي لأنه محكوم بوجوده بدليل وجوب النفقة ووقف الميراث فصح الإقرار به كالمولود وإذا استلحقه لم يملك نفيه بعد ذلك كما لو استلحقه بعد الوضع ومن قال : لا يصح استلحاقه قال : لو صح استلحاقه للزمه بترك نفيه كالمولود ولا يلزمه ذلك بالإجماع وليس للشبه أثر في الإلحاق بدليل حديث الملاعنة وذلك مختص بما بعد الوضع فاختص صحة الإلحاق به فعلى هذا لو استلحقه ثم نفاه بعد وضعه كان له ذلك فأما إن سكت عنه فلم ينفه ولم يستلحقه لم يلزمه عند أحد علمنا قوله لأنه تركه محتمل لأنه لا يتحقق وجوده إلا أن يلاعنها فإن أبا حنيفة ألزمه الولد على ما أسلفناه (5/346)
فصل
وقول ابن عباس : ففرق رسول الله صلى الله عليه و سلم بينهما وقضى ألا يدعى ولدها لأب ولا ترمى ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد وقضى أن لا بيت لها عليه ولا قوت من أجل أنهما يفترقان من غير طلاق ولا متوفى عنها
وقول سهل : فكان ابنها يدعى إلى أمه ثم جرت السنة أنه يرثها وترث منه ما فرض الله لها
وقوله : مضت السنة في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبدا
وقال الزهري عن سهل بن سعد : فرق رسول الله صلى الله عليه و سلم بينهما وقال : [ لا يجتمعان أبدا ]
وقول الزوج : يا رسول الله ! مالي ؟ قال : [ لا مال لك إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها وإن كنت كذبت عليها فهو أبعد لك منها ]
فتضمنت هذه الجملة عشرة أحكام
الحكم الأول : التفريق بين المتلاعنين وفي ذلك خمسة مذاهب
أحدها : أن الفرقة تحصل بمجرد القذف هذا قول أبي عبيد والجمهور خالفوه في ذلك ثم اختلفوا فقال جابر بن زيد وعثمان البتي ومحمد بن أبي صفرة وطائفة من فقهاء البصرة : لا يقع باللعان فرقة ألبتة وقال ابن أبى صفرة : اللعان لا يقطع العصمة واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه و سلم لم ينكر عليه الطلاق بعد اللعان بل هو أنشأ طلاقها ونزه نفسه أن يمسك من قد اعترف بأنها زنت أو أن يقوم عليه دليل كذب بإمساكها فجعل النبي صلى الله عليه و سلم فعله سنة ونازع هؤلاء جمهور العلماء وقالوا : اللعان يوجب الفرقة ثم اختلفوا على ثلاثة مذاهب
أحدها : أنها تقع بمجرد لعان الزوج وحده وإن لم تلتعن المرأة وهذا القول مما تفرد به الشافعي واحتج له بأنها فرقة حاصلة بالقول فحصلت بقول الزوج وحده كالطلاق
المذهب الثاني : أنها لا تحصل إلا بلعانهما جميعا فإذا تم لعانهما وقعت الفرقة ولا يعتبر تفريق الحاكم وهذا مذهب أحمد في إحدى الروايتين عنه اختارها أبو بكر وقول مالك وأهل الظاهر واحتج لهذا القول بأن الشرع إنما ورد بالتفريق بين المتلاعنين ولا يكونان متلاعنين بلعان الزوج وحده وإنما فرق النبي صلى الله عليه و سلم بينهما بعد تمام اللعان منهما فالقول بوقوع الفرقة قبله مخالف لمدلول السنة وفعل النبي صلى الله عليه و سلم واحتجوا بأن لفظ اللعان لا يقتضي فرقة فإنه إما أيمان على زناها وإما شهادة به وكلاهما لا يقتضي فرقة وإنما ورد الشرع بالتفريق بينهما بعد تمام لعانهما لمصلحة ظاهرة وهي أن الله سبحانه جعل بين الزوجين مودة ورحمة وجعل كلا منهما سكنا للآخر وقد زال هذا بالقذف وأقامها مقام الخزي والعار والفضيحة فإنه إن كان كاذبا فقد فضحها وبهتها ورماها بالداء العضال ونكس رأسها ورؤوس قومها وهتكها على رؤوس الأشهاد وإن كانت كاذبة فقد أفسدت فراشه وعرضته للفضيحة والخزي والعار بكونه زوج بغي وتعليق ولد غيره عليه فلا يحصل بعد هذا بينهما من المودة والرحمة والسكن ما هو مطلوب بالنكاح فكان من محاسن شريعة الإسلام التفريق بينهما والتحريم المؤبد على ما سنذكره ولا يترتب هذا على بعض اللعان كما لا يترتب على بعض لعان الزوج قالوا : ولأنه فسخ ثبت بأيمان متحالفين فلم يثبت بأيمان أحدهما كالفسخ لتخالف المتبايعين عند الاختلاف
المذهب الثالث : أن الفرقة لا تحصل إلا بتمام لعانهما وتفريق الحاكم وهذا مذهب أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن أحمد وهي ظاهر كلام الخرقي فإنه قال : ومتى تلاعنا وفرق الحاكم بينهما لم يجتمعا أبدا واحتج أصحاب هذا القول بقول ابن عباس في حديثه : ففرق رسول الله صلى الله عليه و سلم بينهما وهذا يقتضي أن الفرقة لم تحصل قبله واحتجوا بأن عويمرا قال : كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه و سلم وهذا حجة من وجهين أحدهما : أنه يقتضي إمكان إمساكها والثاني : وقوع الطلاق ولو حصلت الفرقة باللعان وحده لما ثبت واحد من الأمرين وفي حديث سهل بن سعد : أنه طلقها ثلاثا فأنفذه رسول الله صلى الله عليه و سلم رواه أبو داود
قال الموقعون للفرقة بتمام اللعان بدون تفريق الحاكم : اللعان معنى يقتضي التحريم المؤبد كما سنذكره فلم يقف على تفريق الحاكم كالرضاع قالوا : ولأن الفرقة لو وقعت على تفريق الحاكم لساغ ترك التفريق إذا كرهه الزوجان كالتفريق بالعيب والإعسار قالوا : وقوله : فرق النبي صلى الله عليه و سلم يحتمل أمورا ثلاثة أحدها : إنشاء الفرقة والثاني : الإعلام بها والثالث : إلزامه بموجبها من الفرقة الحسية
وأما قوله : كذبت عليها إن أمسكتها فهذا لا يدل على أن إمساكها بعد اللعان مأذون فيه شرعا بل هو بادر إلى فراقها وإن كان الأمر صائرا إلى ما بادر إليه وأما طلاقه ثلاثة فما زاد الفرقة الواقعة إلا تأكيدا فإنها حرمت عليه تحريما مؤبدا فالطلاق تأكيد لهذا التحريم وكأنه قال : لا تحل لي بعد هذا وأما إنفاذ الطلاق عليه فتقرير لموجبه من التحريم فإنها إذا لم تحل له باللعان أبدا كان الطلاق الثلاث تأكيدا للتحريم الواقع باللعان فهذا معنى إنفاذه فلما لم ينكره عليه وأقره على التكلم به وعلى موجبه جعل هذا إنفاذا من النبي صلى الله عليه و سلم وسهل لم يحك لفظ النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : وقع طلاقك وإنما شاهد القصة وعدم إنكار النبي صلى الله عليه و سلم للطلاق فظن ذلك تنفيذا وهو صحيح بما ذكرنا من الاعتبار والله أعلم (5/348)
فصل
الحكم الثاني : أن فرقة اللعان فسخ وليست بطلاق وإلى هذا ذهب الشافعي وأحمد ومن قال بقولهما واحتجوا بأنها فرقة توجب تحريما مؤبدا فكانت فسخا كفرقة الرضاع واحتجوا بأن اللعان ليس صريحا في الطلاق ولا نوى الزوج به الطلاق فلا يقع به الطلاق قالوا : ولو كان اللعان صريحا في الطلاق أو كناية فيه لوقع بمجرد لعان الزوح ولم يتوقف على لعان المرأة قالوا : ولأنه لو كان طلاقا فهو طلاق من مدخول بها بغير عوض لم ينو به الثلاث فكان يكون رجعيا قالوا : ولأن الطلاق بيد الزوح إن شاء طلق وإن شاء أمسك وهذا الفسخ حاصل بالشرع وبغير اختياره قالوا : وإذا ثبت بالسنة وأقوال الصحابة ودلالة القرآن أن فرقة الخلع ليست بطلاق بل هي فسخ مع كونها بتراضيهما فكيف تكون فرقة اللعان طلاقا ؟ (5/351)
فصل
الحكم الثالث : أن هذه الفرقة توجب تحريما مؤبدا لا يجتمعان بعدهما أبدا قال الأوزاعي : حدثنا الزبيدي حدثنا الزهري عن سهل بن سعد فذكر قصة المتلاعنين وقال : ففرق رسول الله صلى الله عليه و سلم بينهما وقال : لا يجتمعان أبدا
وذكر البيهقي من حديث سعد بن جبير عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ المتلاعنان إذا تفرقا لا يجتمعان أبدا ]
قال : وروينا عن علي وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم قالا : مضت السنة في المتلاعنين أن لا يجتمعا أبدا قال : وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : يفرق بينهما ولا يجتمعان أبدا وإلى هذا ذهب أحمد والشافعي ومالك والثوري وأبو عبيد وأبو يوسف
وعن أحمد رواية أخرى : أنه إن أكذب نفسه حلت له وعاد فراشه بحاله وهي رواية شاذة شذ بها حنبل عنه قال أبو بكر : لا نعلم أحدا رواها غيره وقال صاحب المغني : وينبغي أن تحمل هذه الرواية على ما إذا لم يفرق بينهما فأما مع تفريق الحاكم بينهما فلا حجه لبقاء النكاح بحاله
قلت : الرواية مطلقة ولا أثر لتفريق الحاكم في دوام التحريم فإن الفرقة الواقعة بنفس اللعان أقوى من الفرقة الحاصلة بتفريق الحاكم فإذا كان إكذاب نفسه مؤثرا في تلك الفرقة القوية رافعا للتحريم الناشئ منها فلأن يؤثر في الفرقة التي هي دونها ويرفع تحريهما أولى
وإنما قلنا : إن الفرقة بنفس اللعان أقوى من الفرقة بتفريق الحاكم لأن فرقة اللعان تستند إلى حكم الله ورسوله سواء رضي الحاكم والمتلاعنان التفريق أو أبوه فهي فرقة من الشارع بغير رضى أحد منهم ولا اختياره بخلاف فرقة الحاكم فإنه إنما يفرق باختياره
وأيضا فإن اللعان يكون قد اقتضى بنفسه التفريق لقوته وسلطانه عليه بخلاف ما إذا توقف على تفريق الحاكم فإنه لم يقو بنفسه على اقتضاء الفرقة ولا كان له سلطان عليها وهذا الرواية هي مذهب سعيد بن المسيب قال : فإن أكذب نفسه فهو خاطب من الخطاب ومذهب أبي حنيفة ومحمد وهذا على أصله اطرد لأن فرقة اللعان عنده طلاق وقال سعيد بن جبير : إن أكذب نفسه ردت إليه ما دامت في العدة
والصحيح : القول الأول الذي دلت عليه السنة الصحيحة الصريحة وأقوال الصحابة رضي الله عنهم وهو الذي تقتضيه حكمة اللعان ولا تقتضي سواه فإن لعنة الله تعالى وغضبه قد حل بأحدهما لا محالة ولهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم عند الخامسة : [ إنها الموجبة ] أي الموجبة لهذا الوعيد ونحن لا نعلم عين من حلت به يقينا ففرق بينهما خشية أن يكون هو الملعون الذي قد وجبت عليه لعنة الله وباء بها فجعلو امرأة غير ملعونة وحكمة الشرع تأبى هذا كما أبت أن يعلو الكافر مسلمة والزاني عفيفة
فإن قيل : فهذا يوجب ألا يتزوج غيرها لما ذكرتم بعينه ؟
قيل : ألا يوجب ذلك لأنا لم نتحقق أنه هو الملعون وإنما تحققنا أن أحدهما كذلك وشككنا في عينه فإذا اجتمعا لزمه أحد الأمرين ولا بد إما هذا وإما إمساكه ملعونة مغضوبا عليها قد وجب عليها غضب الله وباءت به فأما إذا تزوجت بغيره أو تزوج بغيرها لم تتحقق هذه المفسدة فيهما
وأيضا فإن النفرة الحاصلة من إساءة كل واحد منهما إلى صاحبه لا تزول أبدا فإن الرجل إن كان صادقا عليها فقد أشاع فاحشتها وفضحها على رؤوس الأشهاد وأقامها مقام الخزي وحقق عليها الخزي والغضب وقطع نسب ولدها وإن كان كاذبا فقد أضاف إلى ذلك بهتها بهذه الفرية العظيمة وإحراق قلبها بها والمرأة إن كانت صادقة فقد أكذبته على رؤوس الأشهاء وأوجبت عليه لعنة الله وإن كانت كاذبة فقد أفسدت فراشه وخانته في نفسها وألزمته العار والفضيحة وأحوجته إلى هذا المقام المخزي فحصل لكل واحد منهما من صاحبه من النفرة والوحشة وسوء الظن ما لا يكاد يلتزم معه شملهما أبدا فاقتضت حكمة من شرعه كله حكمة ومصلحة وعدل ورحمة تحتم الفرقة بينهما وقطع الصحبة المتمحضة مفسدة
وأيضا فإنه إذا كان كاذبا عليها فلا ينبغي أن يسلط على إمساكها مع ما صنع من القبيح إليها وإن كان صادقا فلا ينبغي أن يمسكها مع علمه بحالها ويرضى لنفسه أن يكون زوح بغي
فإن قيل : فما تقولون : لو كانت أمة ثم اشتراها هل يحل له وطؤها بملك اليمين ؟ قلنا : لا تحل له لأنه تحريم مؤبد فحرمت على مشتريها كالرضاع ولأن المطلق ثلاثا إذا اشترى مطلقته لم تحل له قبل زوج وإصابة فهاهنا أولى لأن هذا التحريم مؤبد وتحريم الطلاق غير مؤبد (5/351)
فصل
الحكم الرابع : أنها لا يسقط صداقها بعد الدخول فلا يرجع به عليها فإنه إن كان صادقا فقد استحل من فرجها عوض الصداق وإن كان كاذبا فأولى وأحرى
فإن قيل : فما تقولون : لو وقع اللعان قبل الدخول هل تحكمون عليه بنصف المهر أو تقولون : يسقط جملة ؟
قيل : في ذلك قولان للعلماء وهما روايتان عن أحمد مأخذهما : أن الفرقة إذا كانت بسبب من الزوجين كلعانهما أو منهما ومن أجنبي كشرائها لزوجها قبل الدخول فهل يسقط الصداق تغليبا لجانبها كما لو كانت مستقلة بسبب الفرقة أو نصفه تغليبا لجانبه وأنه هو المشارك في سبب الإسقاط والسيد الذي باعه متسبب إلى إسقاطه ببيعه إياها ؟ فهذا الأصل فيه قولان وكل فرقة جاءت من قبل الزوج نصفت الصداق كطلاقه إلا فسخه لعيبها أو فوات شرط شرطه فإنه يسقط كله وإن كان هو الذي فسخ لأن سبب الفسخ منها وهي الحاملة له عليه ولو كانت الفرقة بإسلامه فهل يسقط عنه أو تنصفه ؟ على روايتين فوجه إسقاطه أنه فعل الواجب عليه وهي الممتنعة من فعل ما يجب عليها فهي المتسببة إلى إسقاط صداقها بامتناعها من الإسلام ووجه التنصيف أن سبب الفسخ من جهته
فإن قيل : فما تقولون في الخلع : هل ينصفه أو يسقطه ؟
قيل : إن قلنا : هو طلاق نصفه وإن قلنا : هو فسخ فقال أصحابنا : فيه وجهان أحدهما : كذلك تغليبا لجانبه والثاني : يسقطه لأنه لم يستقل بسبب الفسخ وعندي أنه إن كان مع أجنبي نصفه وجها واحدا وإن كان معها ففيه وجهان
فإن قيل : فما تقولون : لو كانت الفرقه بشرائه لزوجته من سيدها : هل يسقطه أو ينصفه ؟
قيل : فيه وجهان : أحدهما : يسقطه لأن مستحق مهرها تسبب إلى إسقاط ببيعها والثاني : ينصفه لأن الزوج تسبب إليه بالشراء وكل فرقة جاءت من قبلها كردتها وإرضاعها من يفسخ إرضاعه نكاحها وفسخها لإعساره أو عيبه فإن يسقط مهرها
فإن قيل : فقد قلتم : إن المرأة إذا فسخت لعيب في الزوج سقط مهرها إذ الفرقة من جهتها وقلتم : إن الزوج إذا فسخ لعيب في المرأة سقط أيضا ولم تجعلوا الفسخ من جهته فتنصفوه كما جعلتموه لفسخها لعيبه من جهتها فأسقطتموه فما الفرق ؟ قيل : الفرق بينهما أنه إنما بذل المهر في مقابلة بضع سليم من العيوب فإذا لم يتبين كذلك وفسخ عاد إليها كما خرج منها ولم يستوفه ولا شيئا منه فلا يلزمه شئ من الصداق كما أنها إذا فسخت لعيبه لم تسلم إليه المعقود عليه ولا شيئا منه فلا تستحق عليه شيئا من الصداق (5/354)
فصل
الحكم الخامس : أنها لا نفقة لها عليه ولا سكنى كما قضى به رسول الله صلى الله عليه و سلم وهذا موافق لحكمه في المبتوتة التي لا رجعة لزوجها عليها كما سيأتي بيان حكمه في ذلك وأنه موافق لكتاب الله لا مخالف له بل سقوط النفقة والسكنى للملاعنة أولى من سقوطها للمبتوتة لأن المبتوتة له سبيل إلى أن ينكحها في عدتها وهذه لا سبيل له إلى نكاحها لا في العدة ولا بعدها فلا وجه أصلا لوجوب نفقتها وسكناها وقد انقطعت العصمة انقطاعا كليا
فأقضيته صلى الله عليه و سلم يوافق بعضها بعضا وكلها توافق كتاب الله والميزان الذي أنزله ليقوم الناس بالقسط وهو القياس الصحيح كما ستقر عينك إن شاء الله تعالى بالوقوف عليه عن قريب
وقال مالك والشافعي : لها السكنى وأنكر القاضي إسماعيل بن إسحاق هذا القول إنكارا شديدا
وقوله : [ من أجل أنهما يتفرقان من غير طلاق ولا متوفى عنها ] لا يدل مفهومه على أن كل مطلقة ومتوفى عنها لها النفقة والسكنى وإنما يدل على أن هاتين الفرقتين قد يجب معهما نفقة وسكنى وذلك إذا كانت المرأة حاملا فلها ذلك في فرقة الطلاق اتفاقا وفي فرقة الموت ثلاثة أقوال أحدها : أنه لا نفقة لها ولا سكنى كما لو كانت حائلا وهذا مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى روايتيه والشافعي في أحد قوليه لزوال سبب النفقة بالموت على وجه لا يرجى عوده فلم يبق إلا نفقة قريب فهي في مال الطفل إن كان له مال وإلا فعلى من تلزم نفقته من أقاربه
والثاني : أن لها النفقة والسكنى في تركته تقدم بها على الميراث وهذا إحدى الروايتين عن أحمد لأن انقطاع العصمة بالموت لا يزيد على انقطاعها بالطلاق البائن بل انقطاعها بالطلاق أشد ولهذا تغسل المرأة زوجها بعد موته عند جمهور العلماء حتى المطلقة الرجعية عند أحمد ومالك في إحدى الروايتين عنه فإذا وجبت النفقة والسكنى للبائن الحامل فوجوبها للمتوفى عنها زوجها أولى وأحرى
والثالث : أن لها السكنى دون النفقة حاملا كانت أو حائلا وهذا قول مالك وأحد قولي الشافعي إجراء لها مجرى المبتوتة في الصحة وليس هذا موضع بسط هذه المسائل وذكر أدلتها والتمييز بين راجحها ومرجوحها إذ المقصود أن قوله : [ من أجل أنهما يفترقان من غير طلاق ولا متوفى عنها زوجها ] إنما يدل على أن المطلقة والمتوفى عنها قد يجب لهما القوت والبيت في الجملة فهذا إن كان هذا الكلام من كلام الصحابي والظاهر - والله أعلم - أنه مدرج من قول الزهري (5/356)
فصل
الحكم السادس : انقطاع نسب الولد من جهة الأب لأن رسول الله صلى الله عليه و سلم قضى ألا يدعى ولدها لأب وهذا هو الحق وهو قول الجمهور وهو أجل فوائد اللعان وشذ بعض أهل العلم وقال : المولود للفراش لا ينفيه اللعان البتة لأن النبي صلى الله عليه و سلم قضى أن الولد للفراش وإنما ينفي اللعان الحمل فإن لم يلاعنها حتى ولدت لاعن لإسقاط الحد فقط ولا ينتفي ولدها منه وهذا مذهب أبي محمد بن حزم واحتج عليه بأن رسول الله صلى الله عليه و سلم قضى أن الولد لصاحب الفراش قال : فصح أن كل من ولد على فراشه ولد فهو ولده إلا حيث نفاه الله على لسان رسوله صلى الله عليه و سلم أو حيث يوقن بلا شك أنه ليس ولده ولم ينفه صلى الله عليه و سلم إلا وهي حامل باللعان فقط فبقي ما عدا ذلك على لحاق النسب قال : ولذلك قلنا : إن صدقته في أن الحمل ليس منه فإن تصديقها له لا يلتفت إليه لأن الله تعالى يقول : { ولا تكسب كل نفس إلا عليها } [ الأنعام : 164 ] فوجب أن إقرار الأبوين يصدق على نفي الولد فيكون كسبا على غيرهما وإنما نفى الله سبحانه الولد إذا أكذبته الأم والتعنت هي والزوح فقط فلا ينتفي في غير هذا الموضع انتهى كلامه
وهذا ضد مذهب من يقول : إنه لا يصح اللعان على الحمل حتى تضع كما يقول أحمد وأبو حنيفة والصحيح : صحته على الحمل وعلى الولد بعد وضعه كما قاله مالك والشافعي فالأقوال ثلاثة
ولا تنافي بين هذا الحكم وبين الحكم بكون الولد للفراش بوجه ما فإن الفراش قد زال باللعان وإنما حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم بأن الولد للفراش عند تعارض الفراش ودعوى الزاني فأبطل دعوى الزاني للولد وحكم به لصاحب الفراش وها هنا صاحب الفراش قد نفى الولد عنه
فإن قيل : فما تقولون : لو لاعن لمجرد نفي الولد بقيام الفراش فقال : لم تزن ولكن ليس هذا الولد ولدي ؟
قيل : في ذلك قولان للشافعي وهما روايتان منصوصتان عن أحمد
إحداهما : أنه لا لعان بينهما ويلزمه الولد وهي اختيار الخرقي
والثانية : أن له أن يلاعن لنفي الولد فينتفي عنه بلعانه وحده وهي اختيار أبي البركات بن تيمية وهي الصحيحة
فإن قيل : فخالفتم حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم [ أن الولد للفراش ] قلنا : معاذ الله بل وافقنا أحكامه حيث وقع غيرنا في خلاف بعضها تأويلا فإنه إنما حكم بالولد للفراش حيث ادعاه صاحب الفراش فرجح دعواه بالفراش وجعله له وحكم بنفيه عن صاحب الفراش حيث نفاه عن نفسه وقطع نسبه منه وقضى ألا يدعى لأب فوافقنا الحكمين وقلنا بالأمرين ولم نفرق تفريقا باردا جدا سمجا لا أثر له في نفي الولد حملا ونفيه مولودا فإن الشريعة لا تأتي على هذا الفرق الصوري الذي لا معنى تحته البتة وإنما يرتضي هذا من قل نصيبه من ذوق الفقه وأسرار الشريعة وحكمها ومعانيها والله المستعان وبه التوفيق (5/357)
فصل
الحكم السابع : إلحاق الولد بأمه عند انقطاع نسبه من جهة أبيه وهذا الإلحاق يفيد حكما زائدا على إلحاقه بها مع ثبوت نسبه من الأب وإلا كان عديم الفائدة فإن خروج الولد منها أمر محقق فلا بد في الإلحاق من أمر زائد عليه وعلى ما كان حاصلا مع ثبوت النسب من الأب وقد اختلف في ذلك
فقالت طائفة : أفاد هذا الإلحاق قطع توهم انقطاع نسب الولد من الأم كما انقطع من الأب وأنه لا ينسب إلى أم ولا إلى أب فقطع النبي صلى الله عليه و سلم : هذا الوهم وألحق الولد بالأم وأكد هذا بإيجابه الحد على من قذفه أو قذف أمه وهذا قول الشافعي ومالك وأبي حنيفة وكل من لا يرى أن أمه وعصباتها له
وقالت طائفة ثانية : بل أفادنا هذا الإلحاق فائدة زائدة وهي تحويل النسب الذي كان إلى أبيه إلى أمه وجعل أمه قائمة مقام أبيه في ذلك فهي عصبته وعصباتها أيضا عصبته فإذا مات حازت ميراثه وهذا قول ابن مسعود ويروى عن علي وهذا القول هو الصواب لما روى أهل السنن الأربعة من حديث واثلة ين الأسقع عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ تحوز المرأة ثلاثة مواريث : عتيقها ولقيطها وولدها الذي لاعنت عليه ] ورواه الامام أحمد وذهب إليه
وروى أبو داود في سننه : من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه جعل ميراث ابن الملاعنة لأمه ولورثتها من بعدها
وفي السنن أيضا مرسلا : من حديث مكحول قال : جعل رسول الله صلى الله عليه و سلم ميراث ابن الملاعنة لأمه ولورثتها من بعدها
وهذه الآثار موافقة لمحض القياس فإن النسب في الأصل للأب فإذا انقطع من جهته صار للأم كما أن الولاء في الأصل لمعتق الأب فإذا كان الأب رقيقا كان لمعتق الأم فلو أعتق الأب بعد هذا انجر الولاء من موالي الأم إليه ورجع إلى أصله وهو نظير ما إذا كذب الملاعن نفسه واستلحق الولد رجع النسب والتعصيب من الأم وعصبتها إليه فهذا محض القياس وموجب الأحاديث والآثار وهو مذهب حبر الأمة وعالمها عبد الله بن مسعود ومذهب إمامي أهل الأرض في زمانهما أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وعليه يدل القرآن بألطف إيماء وأحسنه فإن الله سبحانه جعل عيسى من ذرية إبراهيم بواسطة مريم أمه وهي من صميم ذرية إبراهيم وسيأتي مزيد تقرير لهذا عند ذكر أقضية النبي صلى الله عليه و سلم وأحكامه في الفرائض إن شاء الله تعالى
فإن قيل : فما تصنعون بقوله في حديث سهل الذي رواه مسلم في صحيحه في قصة اللعان : وفي آخره : ثم جرت السنة أن يرث منها وترث منه ما فرض الله لها ؟ قيل : نتلقاه بالقبول والتسليم والقول بموجبه وإن أمكن أن يكون مدرجا من كلام ابن شهاب وهو الظاهر فإن تعصيب الأم لا يسقط ما فرض الله لها من ولدها في كتابه وغايتها أن تكون كالأب حيث يجتمع له الفرض والتعصيب فهى تأخذ فرضها ولا بد فإن فضل شئ أخذته بالتعصيب وإلا فازت بفرضها فنحن قائلون بالآثار كلها في هذا الباب بحمد الله وتوفيقه (5/359)
فصل
الحكم الثامن : أنها لا ترمى ولا يرمى ولدها ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد وهذا لأن لعانها نفى عنها تحقيق ما رميت به فيحد قاذفها وقاذف ولدها هذا الذي دلت عليه السنة الصحيحة الصريحة وهو قول جمهور الأمة وقال أبو حنيفة : إن لم يكن هناك ولد نفي نسبه حد قاذفها وإن كان هناك ولد نفي نسبه لم يحد قاذفها والحديث إنما هو فيمن لها ولد نفاه الزوج والذي أوجب له هذا الفرق أنه متى نفى نسب ولدها فقد حكم بزناها بالنسبة إلى الولد فأثر ذلك شبهة في سقوط حد القذف (5/361)
فصل
الحكم التاسع : أن هذه الأحكام إنما ترتبت على لعانهما معا وبعد أن تم اللعانان فلا يترتب شئ منها على لعان الزوج وحده وقد خرج أبو البركات بن تيمية على هذا المذهب انتفاء الولد بلعان الزوج وحده وهو تخريج صحيح فإن لعانه كما أفاد سقوط الحد وعار القذف عنه من غير اعتبار لعانها أفاد سقوط النسب الفاسد عنه وإن لم تلاعن هي بطريق الأولى فإن تضرره بدخول النسب الفاسد عليه أعظم من تضرره بحد القذف وحاجته إلى نفيه عنه أشد من حاجته إلى دفع الحد فلعانه كما استقل بدفع الحد استقل بنفي الولد والله أعلم (5/361)
فصل
الحكم العاشر : وجوب النفقة والسكنى للمطلقة والمتوفى عنها إذا كانتا حاملين فإنه قال : [ من أجل أنهما يفترقان عن غير طلاق إلا متوفى عنها ] فأفاد ذلك أمرين أحدهما : سقوط نفقة البائن وسكناها إذا لم تكن حاملا من الزوج والثاني : وجوبهما لها وللمتوفى عنها إذا كانتا حاملين من الزوج (5/361)
فصل
وقوله صلى الله عليه و سلم : [ أبصروها فإن جاءت به كذا وكذا فهو لهلال بن أمية وإن جاءت به كذا وكذا فهو لشريك بن سحماء ] إرشاد منه صلى الله عليه و سلم إلى اعتبار الحكم بالقافة وأن للشبه مدخلا في معرفة النسب وإلحاق الولد بمنزلة الشبه وإنما لم يلحق بالملاعن لو قدر أن الشبه له لمعارضة اللعان الذي هو أقوى من الشبه له كما تقدم (5/362)
فصل
وقوله في الحديث : [ لو أن رجلا وجد مع امرأته رجلا يقتله فتقتلونه به ] دليل على أن من قتل رجلا في داره وادعى أنه وجده مع امرأته أو حريمه قتل فيه ولا يقبل قوله إذ لو قبل قوله لأهدرت الدماء وكان كل من أراد قتل رجل أدخله داره وادعى أنه وجده مع امرأته
ولكن هاهنا مسألتان يجب التفريق بينهما إحداهما : هل يسعه فيما بينه وبين الله تعالى أن يقتله أم لا ؟ والثاني : هل يقبل قوله في ظاهر الحكم أم لا ؟ وبهذا التفريق يزول الإشكال فيما نقل عن الصحابة رضي الله عنهم في ذلك حتى جعلها بعض العلماء مسألة نزاع بين الصحابة وقال : مذهب عمر رضي الله عنه : أنه لا يقتل به ومذهب علي : أنه يقتل به والذي غره ما رواه سعيد بن منصور في سننه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بينا هو يوما يتغدى إذ جاءه رجل يعدو وفي يده سيف ملطخ بدم ووراءه قوم يعدون فجاء حتى جلس مع عمر فجاء الآخرون فقالوا يا أمير المؤمنين : إن هذا قتل صاحبنا فقال له عمر رضي الله عنه : ما تقول ؟ فقال له : يا أمير المؤمنين ! إني ضربت بين فخذي امرأتي فإن كان بينهما أحد فقد قتلته فقال عمر : ما تقولون ؟ فقالوا : يا أمير المؤمنين ! إنه ضرب بالسيف فوقع في وسط الرجل وفخذي المرأة فأخذ عمر رضي الله عنه سيفه فهزه ثم دفعه إليه وقال : إن عادوا فعد فهذا ما نقل عن عمر رضي الله عنه
وأما علي فسئل عمن وجد مع امرأته رجلا فقتله فقال : إن لم يأت بأربعة شهداء فليعط برمته فظن أن هذا خلاف المنقول عن عمر فجعلها مسألة خلاف بين الصحابة وأنت إذا تأملت حكميهما لم تجد بينهما اختلافا فإن عمر إنما أسقط عنه القول لما اعترف الولي بأنه كان مع امرأته وقد قال أصحابنا واللفظ لصاحب المغني : فإن اعترف الولي بذلك فلا قصاص ولا دية لما روي عن عمر ثم ساق القصة وكلامه يعطي أنه لا فرق بين أن يكون محصنا وغير محصن وكذلك حكم عمر في هذا القتيل وقوله أيضا [ فإن عادوا فعد ] ولم يفرق بين المحصن وغيره وهذا هو الصواب وإن كان صاحب المستوعب قد قال : وإن وجد مع امرأته رجلا ينال منها ما يوجب الرجم فقتله وادعى أنه قتله لأجل ذلك فعليه القصاص في ظاهر الحكم إلا أن يأتي ببينة بدعواه فلا يلزمه القصاص قال : وفي عدد البينة روايتان إحداهما : شاهدان اختارها أبو بكر لأن البينة على الوجود لا على الزنى والأخرى لا تقبل أقل من أربعة والصحيح أن البينة متى قامت بذلك أو أقر به الولي سقط القصاص محصنا كان أو غيره وعليه يدل كلام علي فإنه قال فيمن وجد مع امرأته رجلا فقتله : إن لم يأت بأربعة شهداء [ فليعط برمته ] وهذا لأن هذا القتل ليس بحد للزنى ولو كان حدا لما كان بالسيف ولاعتبر له شروط إقامة الحد وكيفيته وإنما هو عقوبة لمن تعدى عليه وهتك حريمه وأفسد أهله وكذلك فعل الزبير رضي الله عنه لما تخلف عن الجيش ومعه جارية له فأتاه رجلان فقالا : أعطنا شيئا فأعطاهما طعاما كان معه فقالا : خل عن الجارية فضربهما بسيفه فقطعهما بضربة واحدة وكذلك من اطلع في بيت قوم من ثقب أو شق في الباب بغير إذنهم فنظر حرمة أو عورة فلهم خذفه وطعنه في عينه فإن انقلعت عينه فلا ضمان عليهم قال القاضي أبو يعلى : هذا ظاهر كلام أحمد أنهم يدفعونه ولا ضمان عليهم من غير تفصيل
وفصل ابن حامد فقال : يدفعه بالأسهل فالأسهل فيبدأ بقوله : انصرف واذهب وإلا نفعل بك كذا
قلت : وليس في كلام أحمد ولا في السنة الصحيحة ما يقضي هذا التفصيل بل الأحاديث الصحيحة تدل على خلافه فإن في الصحيحين عن أنس أن رجلا أطلع من جحر في بعض حجر النبي صلى الله عليه و سلم فقام إليه بمشقص أو بمشاقص وجعل يختله ليطعنه فأين الدفع بالأسهل وهو صلى الله عليه و سلم يختله أو يختبىء له ويختفي ليطعنه
وفي الصحيحين أيضا : من حديث سهل بن سعد أن رجلا اطلع في جحر في باب النبي صلى الله عليه و سلم وفي يد النبي صلى الله عليه و سلم مدرى يحك به رأسه فلما رآه قال : لو أعلم أنك تنظرني لطعنت به في عينك إنما جعل الإذن من أجل البصر
وفيهما أيضا : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لو أن امرءا اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه لم يكن عليك جناح ]
وفيهما أيضا : [ من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم ففقؤوا عينه فلا دية له ولا قصاص ]
وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وقال : ليس هذا من باب دفع الصائل بل من باب عقوبة المعتدي المؤذي وعلى هذا فيجوز له فيما بينه وبين الله تعالى قتل من اعتدى على حريمه سواء كان محصنا أو غير محصن معروفا بذلك أو غير معروف كما دل عليه كلام الأصحاب وفتاوى الصحابة وقد قال الشافعي وأبو ثور : يسعه قتله فيما بينه وبين الله تعالى إذا كان الزاني محصنا جعلاه من باب الحدود وقال أحمد وإسحاق : يهدر دمه إذا جاء بشاهدين ولم يفصلا بين المحصن وغيره واختلف قول مالك في هذه المسألة فقال ابن حبيب : إن كان المقتول محصنا وأقام الزوج البينة فلا شئ عليه وإلا قتل به وقال ابن القاسم : إذا قامت البينة فالمحصن وغير المحصن سواء ويهدر دمه واستحب ابن القاسم الدية في غير المحصن
فإن قيل : فما تقولون في الحديث المتفق على صحته عن أبي هريرة رضي الله عنه [ أن سعد بن عبادة رضي الله عنه قال : يا رسول الله : أرأيت الرجل يجد مع امرأته رجلا أيقتله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا فقال سعد : بلى والذي بعثك بالحق فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : اسمعوا إلى ما يقول سيدكم ]
وفي اللفظ الآخر : [ إن وجدت مع امرأتي رجلا أمهله حتى آتي بأربعة شهداء ؟ قال : نعم قال : والذي بعثك بالحق إن كنت لأعاجله بالسيف قبل ذلك قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : اسمعوا إلى ما يقول سيدكم إنه لغيور وأنا أغير منه والله أغير مني ]
قلنا : نتلقاه بالقبول والتسليم والقول بموجبه وآخر الحديث دليل على أنه لو قتله لم يقد به لأنه قال : بلى والذي أكرمك بالحق ولو وجب عليه القصاص بقتله لما أقره على هذا الحلف ولما أثنى على غيرته ولقال : لو قتلته قتلت به وحديث أبي هريرة صريح في هذا فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ أتعجبون من غيرة سعد فوالله لأنا أغير منه والله أغير مني ] ولم ينكر عليه ولا نهاه عن قتله لأن قوله صلى الله عليه و سلم حكم ملزم وكذلك فتواه حكم عام للأمة فلو أذن له في قتله لكان ذلك حكما منه بأن دمه هدر في ظاهر الشرع وباطنه ووقعت المفسدة التي درأها الله بالقصاص وتهالك الناس في قتل من يريدون قتله في دورهم ويدعون أنهم كانوا يرونهم على حريمهم فسد الذريعة وحمى المفسدة وصان الدماء وفي ذلك دليل على أنه لا يبقل قول القاتل ويقاد به في ظاهر الشرع فلما حلف سعد أنه يقتله ولا ينتظر به الشهود عجب النبي صلى الله عليه و سلم من غيرته وأخبر أنه غيور وأنه صلى الله عليه و سلم أغير منه والله أشد غيرة وهذا يحتمل معنيين
أحدهما : إقراره وسكوته على ما حلف عليه سعد أنه جائز له فيما بينه وبين الله ونهيه عن قتله في ظاهر الشرع ولا يناقض أول الحديث آخره
والثاني : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ذلك كالمنكر على سعد فقال : [ ألا تسمعون إلى ما يقول سيدكم ] يعني : أنا أنهاه عن قتله وهو يقول : بلى والذي أكرمك بالحق ثم أخبر عن الحامل له على هذه المخالفة وأنه شدة غيرته ثم قال : أنا أغير منه والله أغير مني وقد شرع إقامة الشهداء الأربعة مع شدة غيرته سبحانه فهي مقرونة بحكمة ومصلحة ورحمة وإحسان فالله سبحانه مع شدة غيرته أعلم بمصالح عباده وما شرعه لهم من إقامة الشهود الأربعة دون المبادرة إلى القتل وأنا أغير من سعد وقد نهيته عن قتله وقد يريد رسول الله صلى الله عليه و سلم كلا الأمرين وهو الأليق بكلامه وسياق القصة (5/362)
فصل
في حكمه صلى الله عليه و سلم في لحوق النسب بالزوج إذا خالف لون ولده لونه
ثبت عنه في الصحيحين أن رجلا قال له : إن امرأتي ولدت غلاما أسود كأنه يعرض بنفيه فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ هل لك من إبل ] ؟ قال : نعم قال : [ ما لونها ؟ ] قال : حمر قال : [ فهل فيها من أورق ؟ ] قال : نعم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ فأنى أتاها ذلك ؟ ] قال : لعله يا رسول الله يكون نزعه عرق فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ وهذا لعله يكون نزعه عرق ]
وفي هذا الحديث من الفقه : أن الحد لا يجب بالتعريض إذا كان على وجه السؤال والاستفتاء ومن أخذ منه أنه لا يجب بالتعريض ولو كان على وجه المقابحة والمشاتمة فقد أبعد النجعة ورب تعريض أفهم وأوجع للقلب وأبلغ في النكاية من التصريح وبساط الكلام وسياقه يرد ما ذكروه من الاحتمال ويجعل الكلام قطعي الدلالة على المراد
وفيه أن مجرد الريبة لا يسوغ اللعان ونفي الولد
وفيه ضرب الأمثال والأشباه والنظائر في الأحكام ومن تراجم البخاري في صحيحه على هذا الحديث : باب من شبه أصلا معلوما بأصل مبين قد بين الله حكمه ليفهم السائل وساق معه حديث : [ أرأيت لو كان على أمك دين ؟ ] (5/366)
فصل
في حكمه صلى الله عليه و سلم بالولد للفراش وأن الأمة تكون فراشا وفيمن استلحق بعد موت أبيه
ثبت في الصحيحين من حديث عاثسة رضي الله عنها قالت : اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة في غلام فقال سعد : هذا يا رسول الله ابن أخي عتبة بن أبي وقاص عهد إلي أنه ابنه انظر إلى شبهه وقال عبد بن زمعة : هذا أخي يا رسول الله ولد على فراش أبي من وليدته فنظر رسول الله صلى الله عليه و سلم فرأى شبها بينا بعتبة فقال : [ هو لك يا عبد بن زمعة الولد للفراش وللعاهر الحجر واحتجبي منه يا سودة ] فلم تره سودة قط
فهذا الحكم النبوي أصل في ثبوت النسب بالفراش وفي أن الأمة تكون فراشا بالوطء وفي أن الشبه إذا عارض الفراش قدم عليه الفراش وفي أن أحكام النسب تتبعض فتثبت من وجه دون وجه وهو الذي يسميه بعض الفقهاء حكما بين حكمين وفي أن القافة حق وأنها من الشرع
فأما ثبوت النسب بالفراش فأجمعت عليه الأمة وجهات ثبوت النسب أربعة : الفراش والاستلحاق والبينة والقافة فالثلاثة الأول متفق عليها واتفق المسلمون على أن النكاح يثبت به الفراش واختلفوا في التسري فجعله جمهور الأمة موجبا للفراش واحتجوا بصريح حديث عائشة الصحيح وأن النبي صلى الله عليه و سلم قضى بالولد لزمعة وصرح بأنه صاحب الفراش وجعل ذلك علة للحكم بالولد له فسبب الحكم ومحله إنما كان في الأمة فلا يجوز إخلاء الحديث منه وحمله على الحرة التي لم تذكر ألبتة وإنما كان الحكم في غيرها فإن هذا يستلزم إلغاء ما اعتبره الشارع وعلق الحكم به صريحا وتعطيل محل الحكم الذي كان لأجله وفيه
ثم لو لم يرد الحديث الصحيح فيه لكان هو مقتضى الميزان الذي أنزله الله تعالى ليقوم الناس بالقسط وهو التسوية بين المتماثلين فإن السرية فراش حسا وحقيقة وحكما كما أن الحرة كذلك وهي تراد لما تراد له الزوجة من الاستماع والاستيلاد ولم يزل الناس قديما وحديثا يرغبون في السراري لاستيلادهن واستفراشهن والزوجة إنما سميت فراشا لمعنى هي والسرية فيه على حد سواء
وقال أبو حنيفة : لا تكون الأمة فراشا بأول ولد ولدته من السيد فلا يلحقه الولد إلا إذا استلحقه فيلحقه حينئذ بالاستلحاق لا بالفراش فما ولدت بعد ذلك لحقه إلا أن ينفيه فعندهم ولد الأمة لا يلحق السيد بالفراش إلا أن يتقدمه ولد مستلحق ومعلوم أن النبي صلى الله عليه و سلم ألحق الولد بزمعة وأثبت نسبه منه ولم يثبت قط أن هذه الأمة ولدت له قبل ذلك غيره ولا سأل النبي صلى الله عليه و سلم عن ذلك ولا استفصل فيه
قال منازعوهم : ليس لهذا التفصيل أصل في كتاب ولا سنة ولا أثر عن صاحب ولا تقتضيه قواعد الشرع وأصوله قالت الحنفية : ونحن لا ننكر كون الأمة فراشا في الجملة ولكنه فراش ضعيف وهي فيه دون الحرة فاعتبرنا ما تعتق به بأن تلد منه ولدا فيستلحقه فما ولدت بعد ذلك لحق به إلا أن ينفيه وأما الولد الأول فلا يلحقه إلا بالاستلحاق ولهذا قلتم إنه إذا استلحق ولدا من أمته لم يلحقه ما بعده إلا باستلحاق مستأنف بخلاف الزوجة والفرق بينهما : أن عقد النكاح إنما يراد للوطء والاستفراش بخلاف ملك اليمين فإن الوطء والاستفراش فيه تابع ولهذا يجوز وروده على من يحرم عليه وطؤها بخلاف عقد النكاح قالوا : والحديث لا حجة لكم فيه لأن وطء زمعة لم يثبت وإنما ألحقه النبي صلى الله عليه و سلم لعبد أخا لأنه استلحقه فألحقه باستلحاقه لا بفراش الأب
قال الجمهور : إذا كانت الأمة موطوءة فهي فراش حقيقة وحكما واعتبار ولادتها السابقة في صيرورتها فراشا اعتبار ما لا دليل على اعتباره شرعا والنبي صلى الله عليه و سلم لم يعتبره في فراش زمعة فاعتباره تحكم
وقولكم : إن الأمة لا تراد للوطء فالكلام في الأمة الموطوءة التي اتخذت سرية وفراشا وجعلت كالزوجة أو أحظى منها لا في أمته التي هي أخته من الرضاع ونحوها
وقولكم : إن وطء زمعة لم يثبت حتى يلحق به الولد ليس علينا جوابه بل جوابه على من حكم بلحوق الولد بزمعة وقال لابنه : هو أخوك
وقولكم : إنما ألحقه بالأخ لأنه استلحقه : باطل فإن المستلحق إن لم يقر به جميع الورثة لم يلحق بالمقر إلا أن يشهد منهم اثنان أنه ولد على فراش الميت وعبد لم يكن يقر له جميع الورثة فإن سودة زوجة النبي صلى الله عليه و سلم أخته وهي لم تقر به ولم تستلحقه وحتى لو أقرت به مع أخيها عبد لكان ثبوت النسب بالفراش لا بالاستلحاق فإن النبي صلى الله عليه و سلم صرح عقيب حكمه بإلحاق النسب بأن الولد للفراش معللا بذلك منبها على قضية كلية عامة تتناول هذه الواقعة وغيرها ثم جواب هذا الاعتراض الباطل المحرم أن ثبوت كون الأمة فراشا بالإقرار من الواطىء أو وارثه كاف في لحوق النسب فإن النبي صلى الله عليه و سلم ألحقه به بقوله : ابن وليدة أبي ولد على فراشه كيف وزمعة كان صهر النبي صلى الله عليه و سلم وابنته تحته فكيف لا يثبت عنده الفراش الذي يلحق به النسب ؟
وأما ما نقضتم به علينا أنه إذا استلحق ولدا من أمته لم يلحق ما بعده إلا بإقرار مستأنف فهذا فيه قولان لأصحاب أحمد هذا أحدهما والثاني : أنه يلحقه وإن لم يستأنف إقرارا ومن رجح القول الأول قال : قد يستبرئها السيد بعد الولادة فيزول حكم الفراش بالإستبراء فلا يلحقه ما بعد الأول إلا باعتراف مستأنف أنه وطئها كالحال في أول ولد ومن رجح الثاني قال : قد يثبت كونها فراشا أولا والأصل بقاء الفراش حتى يثبت ما يزيله إذ ليس لهذا نظير قولكم : إنه لا يلحقه الولد مع اعترافه بوطئها حتى يستلحقه وأبطل من هذا الإعتراض قول بعضهم إنه لم يلحقه به أخا وإنما جعله له عبدا ولهذا أتى فيه بلام التمليك فقال : هو لك أي : مملوك لك وقوى هذا الإعتراض بأن في بعض ألفاظ الحديث هو لك عبد وبأنه أمر سودة أن تحتجب منه ولو كان أخا لها لما أمرها بالإحتجاب منه فدل على أنه أجنبي منها قال : وقوله : الولد للفراش تنبيه على عدم لحوق نسبه بزمعة أي : لم تكن هذه الأمة فراشا له لأن الأمة لا تكون فراشا والولد إنما هو للفراش وعلى هذا يصح أمر احتجاب سودة منه قال : ويؤكده أن في بعض طرق الحديث [ احتجبي منه فإنه ليس لك بأخ ] قالوا : وحينئذ فتبين أنا أسعد بالحديث وبالقضاء النبوي منكم
قال الجمهور : الآن حمي الوطيس والتقت حلقتا البطان فنقول - والله المستعان - : أما قولكم : إنه لم يلحقه به أخا وإنما جعله عبدا يرده ما رواه محمد بن إسماعيل البخاري في صحيحه في هذا الحديث : [ هو لك هو أخوك يا عبد بن زمعة ] وليس اللام للتمليك وإنما هي للإختصاص كقوله : [ الولد للفراش ] فأما لفظة قوله : [ هو لك عبد ] فرواية باطلة لا تصح أصلا وأما أمره سودة بالإحتجاب منه فإما أن يكون على طريق الإحتياط والورع لمكان الشبهة التي أورثها الشبه البين بعتبة وإما أن يكون مراعاة للشبهين وإعمالا للدليلين فإن الفراش دليل لحوق النسب والشبه بغير صاحبه دليل نفيه فأعمل أمر الفراش بالنسبة إلى المدعي لقوته وأعمل الشبه بعتبة بالنسبة إلى ثبوت المحرمية بينه وبين سودة وهذا من أحسن الأحكام وأبينها وأوضحها ولا يمنع ثبوت النسب من وجه دون وجه فهذا الزاني يثبت النسب منه بينه وبين الولد في التحريم والبعضية دون الميراث والنفقة والولاية وغيرها وقد يتخلف بعض أحكام النسب عنه مع ثبوته لمانع وهذا كثير في الشريعة فلا ينكر من تخلف المحرمية بين سودة وبين هذا الغلام لمانع الشبه بعتبة وهل هذا إلا محض الفقه ؟ وقد علم بهذا معنى قوله : [ ليس لك بأخ ] لو صحت هذه اللفظة مع أنها لا تصح وقد ضعفها أهل العلم بالحديث ولا نبالي بصحتها مع قوله لعبد : هو أخوك وإذا جمعت أطراف كلام النبي صلى الله عليه و سلم وقرنت قوله : هو أخوك بقوله : [ الولد للفراش وللعاهر الحجر ] تبين لك بطلان ما ذكروه من التأويل وأن الحديث صريح في خلافه لا يحتمله بوجه والله أعلم والعجب أن منازعينا في هذه المسألة يجعلون الزوجة فراشا لمجرد العقد وإن كان بينها وبين الزوج بعد المشرقين ولا يجعلون سريته التي يتكرر استفراشه لها ليلا ونهارا فراشا (5/367)
فصل
واختلف الفقهاء فيما تصير به الزوجة فراشا على ثلاثة أقوال
أحدها : أنه نفس العقد وإن علم أنه لم يجتمع بها بل لو طلقها عقيبه في المجلس وهذا مذهب أبي حنيفة
والثاني : أنه العقد مع إمكان الوطء وهذا مذهب الشافعي وأحمد
والثالث : أنه العقد مع الدخول المحقق لا إمكانه المشكوك فيه وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وقال : إن أحمد أشار إليه في رواية حرب فإنه نص في روايته فيمن طلق قبل البناء وأتت امرأته بولد فأنكره أنه ينتفي عنه بغير لعان وهذا هو الصحيح المجزوم به وإلا فكيف تصير المرأة فراشا ولم يدخل بها الزوج ولم يبن بها لمجرد إمكان بعيد ؟ وهل يعد أهل العرف واللغة المرأة فراشا قبل البناء بها وكيف تأتي الشريعة بالحاق نسب بمن لم يبن بامرأته ولا دخل بها ولا اجتمع بها بمجرد إمكان ذلك ؟ وهذا الإمكان قد يقطع بانتفائه عادة فلا تصير المرأة فراشا إلا بدخول محقق وبالله التوفيق وهذا الذي نص عليه في رواية حرب هو الذي تفتضيه قواعده وأصول مذهبه والله أعلم
واختلفوا أيضا فيما تصير به الأمة فراشا فالجمهورعلى أنها لا تصير فراشا إلا بالوطء وذهب بعض المتأخرين من المالكية إلى أن الأمة التي تشتري للوطء دون الخدمة كالمرتفعة التي يفهم من قرائن الأحوال أنها إنما تراد للتسري فتصير فراشا بنفس الشراء والصحيح أن الأمة والحرة لا تصيران فراشا إلا بالدخول (5/372)
فصل
فهذا أحد الأمور الأربعة التي يثبت بها النسب وهو الفراش
الثاني : الإستلحاق وقد اتفق أهل العلم على أن للأب أن يستلحق فأما الجد فإن كان الأب موجودا لم يؤثر استلحاقه شيئا وإن كان معدوما وهو كل الورثة صح إقراره وثبت نسب المقر به وإن كان بعض الورثة وصدقوه فكذلك وإلا لم يثبت نسبه إلا أن يكون أحد الشاهدين فيه
والحكم في الأخ كالحكم في الجد سواء والأصل في ذلك أن من حاز الحال يثبت النسب بإقراره واحدا كان أو جماعة وهذا أصل مذهب أحمد والشافعي لأن الورثة قاموا مقام الميت وحلوا محله وأورد بعض الناس على هذا الأصل أنه لو كان إجماع الورثة على إلحاق النسب يثبت النسب للزم إذا اجتمعوا على نفي حمل من أمة وطئها الميت أن يحلوا محله في نفي النسب كما حلوا محله في إلحاقه وهذا لا يلزم لأنا اعتبرنا جميع الورثة والحمل من الورثة فلم يجمع الورثة على نفيه
فإن قيل : فأنتم اعتبرتم في ثبوت النسب إقرار جميع الورثة والمقر ها هنا إنما هو عبد وسودة لم تقر به وهي أخته والنبي صلى الله عليه و سلم ألحقه بعبد باستلحاقه ففيه دليل على استلحاق الأخ وثبوت النسب بإقراره ودليل على أن استلحاق أحد الأخوة كاف
قيل : سودة لم تكن منكرة فإن عبدا استلحقه وأقرته سودة على استلحاقه وإقرارها وسكوتها على هذا الأمر المعتدي حكمه إليها من خلوته بها ورؤيته إياها وصيرورته أخا لها تصديق لأخيها عبد وإقرار بما أقر به وإلا لبادرت إلى الإنكار والتكذيب فجرى رضاها وإقرارها مجرى تصديقها هذا إن كان لم يصدر منها تصديق صريح فالواقعة واقعة عين ومتى استلحق الأخ أو الجد أو غيرهما نسب من لو أقر به مورثهم لحقه ثبت نسبه ما لم يكن هنا وارث منازع فالإستلحاق مقتض لثبوت النسب ومنازعة غيره من الورثة مانع من الثبوت فإذا وجد المقتضي ولم يمنع مانع من اقتضائه ترتب عليه حكمه
ولكن هاهنا أمر آخر وهو أن إقرار من حاز الميراث واستلحاقه : هل هو إقرار خلافة عن الميت أو إقرار شهادة ؟ هذا فيه خلاف فمذهب أحمد والشافعي رحمهما الله أنه إقرار خلافة فلا تشترط عدالة المستلحق بل ولا إسلامه بل يصح ذلك من الفاسق والدين وقالت المالكية : هو إقرار شهادة فتعتبر فيه أهلية الشهادة وحكى ابن القصار عن مذهب مالك : أن الورثة إذا أقروا بالنسب لحق وإن لم يكونوا عدولا والمعروف من مذهب مالك خلافه (5/372)
فصل
الثالث : البينة بأن يشهد شاهدان أنه ابنه أو أنه ولد على فراشه من زوجته أو أمته وإذا شهد بذلك اثنان من الورثة لم يلتفت إلى إنكار بقيتهم وثبت نسبه ولا يعرف في ذلك نزاع (5/374)
فصل
الرابع : القافة حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم وقضاءه باعتبار القافة وإلحاق النسب بها
ثبت في الصحيحين : من حديث عائشة رضي الله عنها قالت : [ دخل علي رسول الله صلى الله عليه و سلم ذات يوم مسرورا تبرق أسارير وجهه فقال : ألم تري أن مجززا المدلجي نظر آنفا إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد وعليهما قطيفة قد غطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما فقال : إن هذه الأقدام بعضها من بعض ] فسر النبي صلى الله عليه و سلم بقول القائف ولو كانت كما يقول المنازعون من أمر الجاهلية كالكهانة ونحوها لما سر بها ولا أعجب بها ولكانت بمنزلة الكهانة وقد صح عنه وعيد من صدق كاهنا قال الشافعي : والنبي صلى الله عليه و سلم أثبته علما ولم ينكره ولو كان خطأ لأنكره لأن في ذلك قذف المحصنات ونفي الأنساب انتهى
كيف والنبي صلى الله عليه و سلم قد صرح في الحديث الصحيح بصحتها واعتبارها فقال في ولد الملاعنة : إن جاءت به كذا وكذا فهو لهلال بن أمية وإن جاءت به كذا وكذا فهو لشريك بن سحماء فلما جاءت به على شبه الذي رميت به قال : [ لو لا الأيمان لكان لي ولها شأن ] وهل هذا إلا اعتبار للشبه وهو عين القافة فإن القائف يتبع أثر الشبه وينظر إلى من يتصل فيحكم به لصاحب الشبه وقد اعتبر النبي صلى الله عليه و سلم الشبه وبين سببه ولهذا لما قالت له أم سلمة : أو تحتلم المرأة فقال : [ مم يكون الشبه ]
وأخبر في الحديث الصحيح [ أن ماء الرجل إذا سبق ماء المرأة كان الشبه له وإذا سبق ماؤها ماءه كان الشبه لها ] فهذا اعتبار منه للشبه شرعا وقدرا وهذا أقوى ما يكون من طرق الأحكام أن يتوارد عليه الخلق والأمر والشرع والقدر ولهذا تبعه خلفاؤه الراشدون في الحكم بالقافة
قال سعيد بن منصور : حدثنا سفيان عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار عن عمر في امرأة وطئها رجلان في طهر فقال القائف قد اشتركا فيه جميعا فجعله بينهما
قال الشعبي : وعلي يقول : هو ابنهما وهما أبواه يرثانه ذكره سعيد أيضا
وروى الأثرم بإسناده عن سعيد بن المسيب في رجلين اشتركا في طهر امرأة فحملت فولدت غلاما يشبههما فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب فدعا القافة فنظروا فقالوا : نراه يشبههما فألحقه بهما وجعله يرثهما ويرثانه
ولا يعرف قط في الصحابة من خالف عمر وعليا رضي الله عنهما في ذلك بل حكم عمر بهذا في المدينة وبحضرته المهاجرون والأنصار فلم ينكره منهم منكر
قالت الحنفية : قد أجلبتم علينا في القافة بالخيل والرجل والحكم بالقيافة تعويل على مجرد الشبه والظن والتخمين ومعلوم أن الشبه قد يوجد من الأجانب وينتفي عن الأقارب وذكرتم قصة أسامة وزيد ونسيتم قصة الذي ولدت امرأته غلاما أسود يخالف لونهما فلم يمكنه النبي صلى الله عليه و سلم من نفيه ولا جعل للشبه ولا لعدمه أثرا ولو كان للشبه أثر لاكتفى به في ولد الملاعنة ولم يحتج إلى اللعان ولكان ينتظر ولادته ثم يلحق بصاحب الشبه ويستغني بذلك عن اللعان بل كان لا يصح نفيه مع وجود الشبه بالزوج وقد دلت السنة الصحيحة الصريحة على نفيه عن الملاعن ولو كان الشبه له فإن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ أبصروها فإن جاءت به كذا وكذا فهو لهلال بن أمية ] وهذا قاله بعد اللعان ونفي النسب عنه فعلم أنه لو جاء على الشبه المذكور لم يثبت نسبه منه وإنما كان مجيئه على شبهه دليلا على كذبه لا على لحوق الولد به
قالوا : وأما قصة أسامة وزيد فالمنافقون كانوا يطعنون في نسبه من زيد لمخالفة لونه لون أبيه ولم يكونوا يكتفون بالفراش وحكم الله ورسوله في أنه ابنه فلما شهد به القائف وافقت شهادته حكم الله ورسوله فسر به النبي صلى الله عليه و سلم لموافقتها حكمه ولتكذيبها قول المنافقين لا أنه أثبت نسبه بها فأين في هذا إثبات النسب بقول القائف ؟
قالوا : وهذا معنى الأحاديث التي ذكر فيها اعتبار الشبه فإنها إنما اعتبرت فيه الشبه بنسب ثابت يغير القافة ونحن لا ننكر ذلك قالوا : وأما حكم عمر وعلي فقد اختلف على عمر فروي عنه ما ذكرتم وروي عنه أن القائف لما قال له : قد اشتركا فيه قال وال أيهما شئت فلم يعتبر قول القائف
قالوا : وكيف تقولون بالشبه ولو أقر أحد الورثة بأخ وأنكره الباقون والشبه موجود لم تثبتوا النسب به وقلتم : إن لم تتفق الورثة على الإقرار به لم يثبت النسب ؟
قال أهل الحديث : من العجب أن ينكر علينا القول بالقافة ويجعلها من باب الحدس والتخمين من يلحق ولد المشرقي بمن في أقصى المغرب مع القطع بأنهما لم يتلاقيا طرفة عين ويلحق الولد باثنين مع القطع بأنه ليس ابنا لأحدهما ونحن إنما ألحقنا الولد بقول القائف المستند إلى الشبه المعتبر شرعا وقدرا فهو استناد إلى ظن غالب ورأي راجح وأمارة ظاهرة بقول من هو من أهل الخبرة فهو أولى بالقبول من قول المقومين وهل ينكر مجيء كثير من الأحكام مستندا إلى الأمارات الظاهرة والظنون الغالبة ؟
وأما وجود الشبه بين الأجانب وانتفاؤه بين الأقارب وإن كان واقعا فهو من أندر شئ وأقله والأحكام إنما هي للغالب الكثير والنادر في حكم المعدوم
وأما قصة من ولدت امرأته غلاما أسود فهو حجة عليكم لأنها دليل على أن العادة التي فطر الله عليها الناس اعتبار الشبه وأن خلافه يوجب ريبة وأن في طباع الخلق إنكار ذلك ولكن لما عارض ذلك دليل أقوى منه وهو الفراش كان الحكم للدليل القوي وكذلك نقول نحن وسائر الناس : إن الفراش الصحيح إذا كان قائما فلا يعارض بقافة ولا شبه فمخالفة ظاهر الشبه لدليل أقوى منه - وهو الفراش - غير مستنكر وإنما المستنكر مخالفة هذا الدليل الظاهر بغير شئ
وأما تقديم اللعان على الشبه وإلغاء الشبه مع وجوده فكذلك أيضا هو من تقديم أقوى الدليلين على أضعفهما وذلك لا يمنع العمل بالشبه مع عدم ما يعارضه كالبينة تقدم على اليد والبراءة الأصلية ويعمل بهما عند عدمهما
وأما ثبوت نسب أسامة من زيد بدون القيافة فنحن لم نثبت نسبه بالقيافة والقيافة دليل آخر موافق لدليل الفراش فسرور النبي صلى الله عليه و سلم وفرحه بها واستبشاره لتعاضد أدلة النسب وتضافرها لا لإثبات النسب بقول القائف وحده بل هو من باب الفرح بظهور أعلام الحق وأدلته وتكاثرها ولو لم تصلح القيافة دليلا لم يفرح بها ولم يسر وقد كان النبي صلى الله عليه و سلم يفرح ويسر إذا تعاضدت عنده أدلة الحق ويخبر بها الصحابة ويحب أن يسمعوها من المخبر بها لأن النفوس تزداد تصديقا بالحق إذا تعاضدت أدلته وتسر به وتفرح وعلى هذا فطر الله عباده فهذا حكم اتفقت عليه الفطرة والشرعة وبالله التوفيق
وأما ما روي عن عمر أنه قال : وال أيهما شئت فلا تعرف صحته عن عمر ولو صح عنه لكان قولا عنه فإن ما ذكرنا عنه في غاية الصحة مع أن قوله : وال أيهما شئت ليس بصريح في إبطال قول القائف ولو كان صريحا في إبطال قوله لكان في مثل هذا الموضع إذا ألحقه باثنين كما يقوله الشافعي ومن وافقه
وأما إذا أقر أحد الورثة بأخ وأنكره الباقون فإنما لم يثبت نسبه لمجرد الإقرار فأما إذا كان هناك شبه يستند إليه القائف فإنه لا يعتبر إنكار الباقين ونحن لا نقصر القافة على بني مدلج ولا نعتبر تعدد القائف بل يكفي واحد على الصحيح بناء على أنه خبر وعن أحمد رواية أخرى : أنه شهادة فلا بد من اثنين ولفظ الشهادة بناء على اشتراط اللفظ
فإن قيل : فالمنقول عن عمر أنه ألحقه بأبوين فما تقولون فيما إذا ألحقته القافة بأبوين هل تلحقونه بهما أو لا تلحقونه إلا بواحد وإذا ألحقتموه بأبوين فهل يختص ذلك باثنين أم يلحق بهم وإن كثروا وهل حكم الإثنين في ذلك حكم الأبوين أم ماذا حكمهما ؟
قيل : هذه مسائل فيها نزاع بين أهل العلم فقال الشافعي ومن وافقه : لا يلحق بأبوين ولا يكون للرجل إلا أب واحد ومتى ألحقته القافة باثنين سقط قولها وقال الجمهور : بل يلحق باثنين ثم اختلفوا فنص أحمد في رواية مهنا بن يحيى : أنه يلحق بثلاثة وقال صاحب المغني : ومقتضى هذا أنه يلحق بمن ألحقته القافة به وإن كثروا لأنه إذا جاز إلحاقه باثنين جاز إلحاقه بأكثر من ذلك وهذا مذهب أبي حنيفة لكنه لا يقول بالقافة فهو يلحقه بالمدعين وإن كثروا وقال القاضي : يجب أن لا يلحق بأكثر من ثلاثة هو قول محمد بن الحسن وقال ابن حامد : لا يلحق بأكثر من اثنين وهو قول أبي يوسف فمن لم يلحقه بأكثر من واحد قال : قد أجرى الله سبحانه عادته أن للولد أبا واحدا وأما واحدة ولذلك يقال : فلان ابن فلان وفلان ابن فلانة فقط ولو قيل : فلان ابن فلان وفلان لكان ذلك منكرا وعد قذفا ولهذا إنما يقال يوم القيامة : أين فلان ابن فلان ؟ وهذه غدرة فلان ابن فلان ولم يعهد قط في الوجود نسبة ولد إلى أبوين قط ومن ألحقه باثنين احتج بقول عمر وإقرار الصحابة له على ذلك وبأن الولد قد ينعقد من ماء رجلين كما ينعقد من ماء الرجل والمرأة ثم قال أبو يوسف : إنما جاء الأثر بذلك فيقتصر عليه وقال القاضي : لا يتعدى به ثلاثة لأن أحمد إنما نص على الثلاثة والأصل ألا يلحق بأكثر من واحد وقد دل قول عمر على إلحاقه باثنين مع انعقاده من ماء الأم فدل على إمكان انعقاده من ماء ثلاثة وما زاد على ذلك فمشكوك فيه
قال الملحقون له بأكثر من ثلاثة : إذا جاز تخليقه من ماء رجلين وثلاثة جاز خلقه من ماء أربعة وخمسة ولا وجه لاقتصاره على ثلاثة فقط بل إما أن يلحق بهم وإن كثروا وإما أن لا يتعدى به أحد ولا قول سوى القولين والله أعلم
فإن قيل : إذا اشتمل الرحم على ماء الرجل وأراد الله أن يخلق منه الولد انضم عليه أحكم انضمام وأتمه حتى لا يفسد فكيف يدخل عليه ماء آخر ؟ قيل : لا يمتنع أن يصل الماء الثاني الى حيث وصل الأول فينضم عليهما وهذا كما أن الولد ينعقد من ماء الأبوين وقد سبق ماء الرجل ماء المراة أو بالعكس ومع هذا فلا يمتنع وصول الماء الثاني إلى حيث وصل الأول وقد علم بالعادة أن الحامل إذا توبع وطؤها جاء الولد عبل الجسم ما لم يعارض ذلك مانع ولهذا ألهم الله سبحانه الدواب إذا حملت أن لا تمكن الفحل أن ينزو عليها بل تنفر عنه كل النفار وقال الإمام أحمد : إن الوطء الثاني يزيد في سمع الولد وبصره وقد شبهه النبي صلى الله عليه و سلم بسقي الزرع ومعلوم أن سقيه يزيد في ذاته والله أعلم
فإن قيل : فقد دل الحديث على حكم استلحاق الولد وعلى أن الولد للفراش فما تقولون لو استلحق الزاني ولدا لا فراش هناك يعارضه هل يلحقه نسبه ويثبت له أحكام النسب ؟
قيل : هذه مسألة جليلة اختلف أهل العلم فيها فكان إسحاق بن راهويه يذهب إلى أن المولود من الزنى اذا لم يكن مولودا على فراش يدعيه صاحبه وادعاه الزاني ألحق به وأول قول النبي صلى الله عليه و سلم : الولد للفراش على أنه حكم بذلك عند تنازع الزاني وصاحب الفراش كما تقدم وهذا مذهب الحسن البصري رواه عنه إسحاق بإسناده في رجل زنى بامرأة فولدت ولدا فادعى ولدها فقال : يجلد ويلزمه الولد وهذا مذهب عروة بن الزبير وسليمان بن يسار ذكر عنهما أنهما قالا : أيما رجل أتى إلى غلام يزعم أنه ابن له وأنه زنى بأمه ولم يدع ذلك الغلام أحد فهو ابنه واحتج سليمان بأن عمر بن الخطاب كان يليط أولاد الجاهلية بمن ادعاهم في الإسلام وهذا المذهب كما تراه قوة ووضوحا وليس مع الجمهور أكثر من الولد للفراش وصاحب هذا المذهب أول قائل به والقياس الصحيح يقتضيه فإن الأب أحد الزانيين وهو إذا كان يلحق بأمه وينسب إليها وترثه ويرثها ويثبت النسب بينه وبين أقارب أمه مع كونها زنت به وقد وجد الولد من ماء الزانيين وقد اشتركا فيه واتفقا على أنه ابنهما فما المانع من لحوقه بالأب إذا لم يدعه غيره ؟ فهذا محض القياس وقد قال جريج للغلام الذي زنت أمه بالراعي : من أبوك يا غلام ؟ قال : فلان الراعي وهذا إنطاق من الله لا يمكن فيه الكذب
فإن قيل : فهل لرسول الله صلى الله عليه و سلم في هذه المسألة حكم ؟ قيل : قد روي عنه فيها حديثان نحن نذكر شأنهما (5/374)
فصل
ذكر حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم في استلحاق ولد الزنى وتوريثه
ذكر أبو داود في سننه : من حديث ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا مساعاة في الإسلام من ساعى في الجاهلية فقد لحق بعصبته ومن ادعى ولدا من غير رشدة فلا يرث ولا يورث ]
المساعاة : الزنى وكان الأصمعي يجعلها في الإماء دون الحرائر لأنهن يسعين لمواليهن فيكتسبن لهم وكان عليهم ضرائب مقررة فأبطل النبي صلى الله عليه و سلم المساعاة في الإسلام ولم يلحق النسب بها وعفا عما كان في الجاهلية منها وألحق النسب به وقال الجوهري : يقال : زنى الرجل وعهر فهذا قد يكون في الحرة والأمة ويقال في الأمة خاصة : قد ساعاها ولكن في إسناد هذا الحديث رجل مجهول فلا تقوم به حجة
وروى أيضا في سننه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قضى أن كل مستلحق استلحق بعد أبيه الذي يدعى له ادعاه ورثته فقضى أن كل من كان من أمة يملكها يوم أصابها فقد لحق بمن استلحقه وليس له مما قسم قبله من الميراث وما أدرك من ميراث لم يقسم فله نصيبه ولا يلحق إذا كان أبوه الذي يدعى له أنكره وإن كان من أمة لم يملكها أو من حرة عاهر بها فإنه لا يلحق ولا يرث وإن كان الذي يدعى له هو ادعاه فهو من ولد زنية من حره كان أو أمة ]
وفي رواية : [ وهو ولد زنى لأهل أمه من كانوا حرة أو أمة وذلك فيما استلحق في أول الإسلام فما اقتسم من مال قبل الإسلام فقد مضى ] وهذا لأهل الحديث في إسناده مقال لأنه من رواية محمد بن راشد المكحولي
وكان قوم في الجاهلية لهم إماء بغايا فإذا ولدت أمة أحدهم وقد وطئها غيره بالزنى فربما ادعاه سيدها وربما ادعاه الزاني واختصما في ذلك حتى قام الإسلام فحكم النبي صلى الله عليه و سلم بالولد للسيد لأنه صاحب الفراش ونفاه على الزاني
ثم تضمن هذا الحديث أمورا
منها : أن المستلحق إذا استلحق بعد أبيه الذي يدعى له ادعاه ورثته فإن كان الولد من أمة يملكها الواطئ يوم أصابها فقد لحق بمن استلحقه يعني إذا كان الذي استلحقه ورثة مالك الأمة وصار ابنه من يومئذ ليس له مما قسم قبله من الميراث شئ لأن هذا تجديد حكم نسبه ومن يومئذ يثبت نسبه فلا يرجع بما اقتسم قبله من الميراث إذ لم يكن حكم البنوة ثابتا وما أدرك من ميراث لم يقسم فله نصيبه منه لأن الحكم ثبت قبل قسمه الميراث فيستحق منه نصيبه وهذا نظير من أسلم على ميراث قبل قسمه قسم له في أحد قولي العلماء وبه إحدى الروايتين عن أحمد وإن أسلم بعد قسم الميراث فلا شئ له فثبوت النسب ها هنا بمنزلة الإسلام بالنسبة إلى الميراث
قوله : ولا يلحق إذا كان أبوه الذي يدعى له أنكره هذا يبين أن التنازع بين الورثة وأن الصورة الأولى أن يستلحقه ورثة أبيه الذي كان يدعى له وهذه الصورة إذا استلحقه ورثته وأبوه الذي يدعى له كان ينكر فإنه لا يلحق لأن الأصل الذي الورثة خلف عنه منكر له فكيف يلحق به مع إنكاره ؟ فهذا إذا كان من أمة يملكها أما إذا كان من أمة لم يملكها أو من حرة عاهر بها فإنه لا يلحق ولا يرث وإن ادعاه الواطئ وهو ولد زنية من أمة كان أو من حرة وهذا حجة الجمهور على إسحاق ومن قال بقوله : إنه لا يلحق بالزاني إذا ادعاه ولا يرثه وأنه ولد زنى لأهل أمه من كانوا حرة كانت أو أمة
وأما ما اقتسم من مال قبل الإسلام فقد مضى فهذا الحديث يرد قول إسحاق ومن وافقه لكن فيه محمد بن راشد ونحن نحتج بعمرو بن شعيب فلا يعلل الحديث به فإن ثبت هذا الحديث تعين القول بموجبه والمصير إليه وإلا فالقول قول إسحاق ومن معه والله المستعان
ذكر الحكم الذي حكم به علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الجماعة الذين وقعوا على امرأة في طهر واحد ثم تنازعوا الولد فأقرع بينهم فيه ثم بلغ النبي صلى الله عليه و سلم فضحك ولم ينكره
ذكر أبو داود والنسائي في سننهما من حديث عبد الله بن الخليل عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال : كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه و سلم فجاء رجل من أهل اليمن فقال : إن ثلاثة من نفر أهل اليمن أتوا عليا يختصمون إليه في ولد قد وقعوا على امرأة في طهر واحد فقال لاثنين : طيبا بالولد لهذا فغليا ثم قال : لاثنين : طيبا بالولد لهذا فغليا ثم قال لاثنين : طيبا بالولد لهذا فغليا فقال : أنتم شركاء متشاكسون إني مقرع بينكم فمن قرع فله الولد وعليه لصاحبيه ثلثا الديه فأقرع بينهم فجعله لمن قرع فضحك رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى بدت أضراسه أو نواجذه وفي إسناده يحيى بن عبد الله الكندي الأجلح ولا يحتج بحديثه لكن رواه أبو داود والنسائي بإسناد كلهم ثقات إلى عبد خير عن زيد بن أرقم قال : أتي علي بن أبي طالب بثلاثة وهو باليمن وقعوا على امرأة في طهر واحد فسأل اثنين أتقران لهذا بالولد ؟ قالا : لا حتى سألهم جميعا فجعل كلما سأل اثنين قالا : لا فأقرع بينهم فألحق الولد بالذي صارت عليه القرعة وجعل عليه ثلثي الدية قال : فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم فضحك حتى بدت نواجذه وقد أعل هذا الحديث بأنه روي عن عبد خير بإسقاط زيد ين أرقم فيكون مرسلا قال النسائي : وهذا أصوب وهذا أعجب فإن إسقاط زيد بن أرقم من هذا الحديث لا يجعله مرسلا فإنه عبد خير أدرك عليا وسمع منه وعلي صاحب القصة فهب أن زيد بن أرقم لا ذكر له في السند فمن أين يجيء الإرسال إلا أن يقال : عبد خير لم يشاهد ضحك النبي صلى الله عليه و سلم وعلي إذ ذاك كان باليمن وإنما شاهد ضحكه صلى الله عليه و سلم زيد بن أرقم أو غيره من الصحابة وعبد خير لم يذكر من شاهد ضحكه فصار الحديث به مرسلا فيقال : إذا : قد صح السند عن عبد خير عن زيد بن أرقم متصلا فمن رجح الإتصال لكونه زيادة من الثقة فظاهر ومن رجح رواية الأحفظ والأضبط وكان الترجيح من جانبه ولم يكن علي قد أخبره بالقصة فغايتها أن تكون مرسلة وقد يقوى الحديث بروايته من طريق أخرى متصلا
وبعد فاختلف الفقهاء في هذا الحكم فذهب إليه إسحاق بن راهويه وقال : هو السنة في دعوى الولد وكان الشافعي يقول به في القديم وأما الإمام أحمد فسئل عن هذا الحديث فرجح عليه حديث القافة وقال : حديث القافة أحب إلي
وها هنا أمران أحدهما : دخول القرعة في النسب والثاني : تغريم من خرجت له القرعة ثلثي دية ولده لصاحبيه وأما القرعة فقد تستعمل عند فقدان مرجح سواها من بينة أو إقرار أو قافة وليس ببعيد تعيين المستحق بالقرعة في هذه الحال إذ هي غاية المقدور عليه من أسباب ترجيح الدعوى ولها دخول في دعوى الأملاك المرسلة التي لا تثبت بقرينة ولا أمارة فدخولها في النسب الذي يثبت بمجرد الشبه الخفي المستند إلى قول القائف أولى وأحرى وأما أمر الدية فمشكل جدا فإن هذا ليس بموجب الدية وإنما هو تفويت نسبة بخروج القرعة فيقال : وطء كل واحد صالح لجعل الولد له فقد فوته كل واحد منهم على صاحبيه بوطئه ولكن لم يتحقق من كان له الولد منهم فلما أخرجته القرعة لأحدهم صار مفوتا لنسبه عن صاحبيه فأجري ذلك مجرى إتلاف الولد ونزل الثلاثة منزلة أب واحد فحصل المتلف منه ثلث الدية إذ قد عاد الولد له فيغرم لكل من صاحبيه ما يخصه وهو ثلث الدية
ووجه آخر أحسن من هذا أنه لما أتلفه عليهما بوطئه ولحوق الولد به وجب عليه ضمان قيمته وقيمة الولد شرعا هي ديته فلزمه لهما ثلث قيمته وهي ثلثا الدية وصار هذا كمن أتلف عبدا بينه وبين شريكين له فإنه يجب عليه ثلثا القيمة لشريكيه فإتلاف الولد الحر عليهما بحكم القرعة كإتلاف الرقيق الذي بينهم
ونظير هذا تضمين الصحابة المغرور بحرية الأمة قيمة أولاده لسيد الأمة لما فات رقهم على السيد لحريتهم وكانوا بصدد أن يكونوا أرقاء وهذا ألطف ما يكون من القياس وأدقه وأنت إذا تأملت كثيرا من أقيسة الفقهاء وتشبيهاتهم وجدت هذا أقوى منها وألطف مسلكا وأدق مأخذا ولم يضحك منه النبي صلى الله عليه و سلم سدى
وقد قال : لا تعارض بين هذا ويبن حديث القافة بل إن وجدت القافة تعين العمل بها وإن لم توجد قافة أو أشكل عليهم تعين العمل بهذا الطريق والله أعلم (5/382)
فصل
ذكر حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم في الولد من أحق به في الحضانة
روى أبو داود في سننه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص أن امرأة قالت : [ يا رسول الله ! إن ابني هذا كان بطني له وعاء وثديي له سقاء وحجري له حواء وإن أباه طلقني فأراد أن يتنزعه مني فقال لها رسول الله صلى الله عليه و سلم : أنت أحق به ما لم تنكحي ]
وفي الصحيحين : من حديث البراء بن عازب [ أن ابنة حمزة اختصم فيها علي وجعفر وزيد فقال علي : أنا أحق بها وهي ابنة عمي وقال جعفر : ابنة عمي وخالتها تحتي وقال زيد : ابنة أخي فقضى بها رسول الله صلى الله عليه و سلم لخالتها وقال : الخالة بمنزلة الأم ]
وروى أهل السنن : من حديث أبي هريرة رضي الله عنه [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خير غلاما بين أبيه وأمه ] قال الترمذي : حديث صحيح
وروى أهل السنن أيضا : عنه [ أن امرأة جاءت فقالت يا رسول الله ! إن زوجي يريد أن يذهب بابني وقد سقاني من بئر أبي عنبة وقد نفعني فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم استهما عليه فقال زوجها من يحاقني في ولدي ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : هذا أبوك وهذه أمك وخذ بيد أيهما شئت فأخذ بيد أمه فانطلقت به ] قال الترمذي : حديث حسن صحيح
وفي سنن النسائي : [ عن عبد الحميد بن سلمة الأنصاري عن أبيه عن جده أن جده أسلم وأبت امرأته أن تسلم فجاء بابن له صغير لم يبلغ قال فأجلس النبي صلى الله عليه و سلم الأب ها هنا والأم ها هنا ثم خيره وقال اللهم اهده فذهب إلى أبيه ]
ورواه أبو داود عنه وقال : [ أخبرني جدي رافع بن سنان أنه أسلم وأبت امرأته أن تسلم فأتت النبي صلى الله عليه و سلم فقالت : ابنتي وهي فطيم أو شبهه وقال رافع : ابنتي فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : اقعد ناحية وقال لها : اقعدي ناحية فأقعد الصبية بينهما ثم قال : ادعواها فمالت إلى أمها فقال النبي صلى الله عليه و سلم : اللهم اهدها فمالت إلى أبيها فأخذها ] (5/387)
فصل
الكلام على هذه الأحكام
أما الحديث الأول فهو حديث احتاج الناس فيه إلى عمرو بن شعيب ولم يجدوا بدا من الإحتجاج هنا به ومدار الحديث عليه وليس عن النبي صلى الله عليه و سلم حديث في سقوط الحضانة بالتزويج غير هذا وقد ذهب إليه الأئمة الأربعة وغيرهم وقد صرح بأن الجد هو عبد الله بن عمرو فبطل قول من يقول : لعله محمد والد شعيب فيكون الحديث مرسلا وقد صح سماع شعيب من جده عبد الله بن عمرو فبطل قول من قال : إنه منقطع وقد احتج به البخاري خارج صحيحه ونص على صحة حديثه وقال : كان عبد الله بن الزبير الحميدي وأحمد وإسحاق وعلي بن عبد الله يحتجون بحديثه فمن الناس بعدهم ؟ ! هذا لفظه وقال إسحاق بن راهويه : هو عندنا كأيوب عن نافع عن ابن عمر وحكى الحاكم في علوم الحديث له الإتفاق على صحة حديثه وقال أحمد بن صالح : لا يختلف على عبد الله أنها صحيفة
وقولها : كان بطني وعاء إلى آخره إدلاء منها وتوسل إلى اختصاصها به كما اختص بها في هذه المواطن الثلاثة والاب لم يشاركها في ذلك فنبهت في هذا الإختصاص الذي لم يشاركها فيه الأب على الإختصاص الذي طلبته بالإستفتاء والمخاصمة
وفي هذا دليل على اعتبار المعانى والعلل وتأثيرها فى الأحكام وإناطتها بها وأن ذلك أمر مستقر في الفطر السليمة حتى فطر النساء وهذا الوصف الذي أدلت به المرأة وجعلته سببا لتعليق الحكم به قد قرره النبي صلى الله عليه و سلم ورتب عليه أثره ولو كان باطلا ألغاه بل ترتيبه الحكم عقيبه دليل على تأثيره فيه وأنه سببه
واستدل بالحديث على القضاء على الغائب فإن الأب لم يذكر له حضور ولا مخاصمة ولا دلالة فيه لأنها واقعة عين فإن كان الأب حاضرا فظاهر وإن كان غائبا فالمرأة إنما جاءت مستفتية أفتاها النبي صلى الله عليه و سلم بمقتضى مسألتها وإلا فلا يقبل قولها على الزوج : إنه طلقها حتى يحكم لها بالولد بمجرد قولها (5/389)
فصل
ودل الحديث على أنه إذا افترق الأبوان وبينهما ولد فالأم أحق به من الأب ما لم يقع بالأم ما يمنع تقديمها أو بالولد وصف يقتضي تخييره وهذا ما لا يعرف فيه نزاع وقد قضى به خليفة رسول الله صلى الله عليه و سلم أبو بكر على عمر بن الخطاب ولم ينكر عليه منكر فلما ولي عمر قضى بمثله فروى مالك في الموطأ : عن يحيى بن سعيد أنه قال : سمعت القاسم بن محمد يقول : كانت عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه امرأة من الأنصار فولدت له عاصم بن عمر ثم إن عمر فارقها فجاء عمر قباء فوجد ابنه عاصما يلعب بفناء المسجد فأخذ بعضده فوضعه بين يديه على الدابة فأدركته جدة الغلام فنازعته إياه حتى أتيا أبا بكر الصديق رضي الله عنه فقال عمر : ابني وقالت المرأة : ابني فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : خل بينها وبينه فما راجعه عمر الكلام
قال ابن عبد البر : هذا خبر مشهور من وجوه منقطعة ومتصلة تلقاه أهل العلم بالقبول والعمل وزوجة عمر أم ابنه عاصم : هي جميلة ابنة عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح الأنصاري
قال : وفيه دليل على أن عمر كان مذهبه في ذلك خلاف أبي بكر ولكنه سلم للقضاء ممن له الحكم والإمضاء ثم كان بعد في خلافته يقضي به ويفتي ولم يخالف أبا بكر في شئ منه ما دام الصبي صغيرا لا يميز ولا مخالف لهما من الصحابة
وذكر عبد الرزاق عن ابن جريج أنه أخبره عن عطاء الخراساني عن ابن عباس قال : طلق عمر بن الخطاب امرأته الأنصارية أم ابنه عاصم فلقيها تحمله بمحسر وقد فطم ومشى فأخذ بيده لينتزعه منها ونازعها إياه حتى أوجع الغلام وبكى وقال : أنا أحق بابني منك فاختصما إلى أبي بكر فقضى لها به وقال : ريحها وفراشها وحجرها خير له منك حتى يشب ويختار لنفسه ومحسر : سوق بين قباء والمدينة
وذكر عن الثوري عن عاصم عن عكرمة قال : خاصمت امرأة عمر عمر إلى أبي بكر رضي الله عنه وكان طلقها فقال أبو بكر رضي الله عنه : الأم أعطف وألطف وأرحم وأحنى وأرأف هي أحق بولدها ما لم تتزوج
وذكر عن معمر قال : سمعت الزهري يقول : إن أبا بكر قضى على عمر في ابنه مع أمه وقال : أمه أحق به ما لم تتزوج
فإن قيل : فقد اختلفت الرواية : هل كانت المنازعة وقعت بينه وبين الأم أولا ثم بينه وبين الجدة أو وقعت مرة واحدة بينه وبين إحداهما
قيل : الأمر في ذلك قريب لأنها إن كانت من الأم فواضح وإن كانت من الجدة فقضاء الصديق رضي الله عنه لها يدل على أن الأم أولى (5/390)
فصل
والولاية على الطفل نوعان : نوع يقدم فيه الأب على الأم ومن فى جهتها وهي ولاية المال والنكاح ونوع تقدم فيه الأم على الأب وهي ولاية الحضانة والرضاع وقدم كل من الأبوين فيما جعل له من ذلك لتمام مصلحة الولد وتوقف مصلحته على من يلي ذلك من أبويه وتحصل به كفايته
ولما كان النساء أعرف بالتربية وأقدر عليها وأصبر وأرأف وأفرغ لها لذلك قدمت الأم فيها على الأب
ولما كان الرجال أقوم بتحصيل مصلحة الولد والإحتياط له في البضع قدم الأب فيها على الأم فتقديم الأم في الحضانة من محاسن الشريعة والإحتياط للأطفال والنظر لهم وتقديم الأب في ولاية المال والتزويج كذلك
إذا عرف هذا فهل قدمت الأم لكون جهتها مقدمة على جهة الأبوة فى الحضانة فقدمت لأجل الأمومة أو قدمت على الاب لكون النساء أقوم بمقاصد الحضانة والتربية من الذكور فيكون تقديمها لأجل الأنوثة ؟ ففي هذا للناس قولان وهما في مذهب أحمد يظهر أثرهما في تقديم نساء العصبة على أقارب الأم أو بالعكس كأم الأم وأم الأب والأخت من الأب والأخت من الأم والخالة والعمة وخالة الأم وخالة الأب ومن يدلي من الخالات والعمات بأم ومن يدلي منهن بأب ففيه روايتان عن الإمام أحمد إحداهما تقديم أقارب الأم على أقارب الأب والثانية وهي أصح دليلا واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية : تقديم أقارب الأب وهذا هو الذي ذكره الخرقي في مختصره فقال : والأخت من الأب أحق من الأخت من الأم وأحق من الخالة وخالة الأب أحق من خالة الأم وعلى هذا فأم الأب مقدمة على أم الأم كما نص عليه أحمد في إحدى الروايتين عنه
وعلى هذه الرواية : فأقارب الأب من الرجال مقدمون على أقارب الأم والأخ للأب أحق من الأخ للأم والعم أولى من الخال هذا إن قلنا : إن لأقارب الأم من الرجال مدخلا في الحضانة وفي ذلك وجهان في مذهب أحمد والشافعي أحدهما : أنه لا حضانة إلا لرجل من العصبة محرم أو لامرأة وارثة أو مدلية بعصبة أو وارث
والثاني : أن لهم الحضانة والتفريع على هذا الوجه وهو قول أبي حنيفة وهذا يدل على رجحان جهة الأبوة على جهة الأمومة في الحضانة وأن الأم إنما قدمت لكونها أنثى لا لتقديم جهتها إذ لو كان جهتها راجحة لترجح رجالها ونساؤها على الرجال والنساء من جهة الأب ولما لم يترجح رجالها اتفاقا فكذلك النساء وما الفرق المؤثر ؟
وأيضا فإن أصول الشرع وقواعده شاهدة بتقديم أقارب الأب في الميراث وولاية النكاح وولاية الموت وغير ذلك ولم يعهد في الشرع تقديم قرابة الأم على قرابة الأب في حكم من الأحكام فمن قدمها في الحضانة فقد خرج عن موجب الدليل
فالصواب في المأخذ هو أن الأم إنما قدمت لأن النساء أرفق بالطفل وأخبر بتربيته وأصبر على ذلك وعلى هذا فالجدة أم الأب أولى من أم الأم والأخت للأب أولى من الأخت للأم والعمة أولى من الخالة كما نص عليه أحمد في إحدى الروايتين وعلى هذا فتقدم أم الأب على أب الأب كما تقدم الأم على الأب
وإذا تقرر هذا الأصل فهو أصل مطرد منضبط لا تتناقض فروعه بل إن اتفقت القرابة والدرجة واحدة قدمت الأنثى على الذكر فتقدم الأخت على الأخ والعمة على العم والخالة على الخال والجدة على الجد وأصله تقديم الأم على الأب
وإن اختلفت القرابة قدمت قرابة الأب على قرابة الأم فتقدم الأخت للأب على الأخت للأم والعمة على الخالة وعمة الأب على خالته وهلم جرا
وهذا هو الإعتبار الصحيح والقياس المطرد وهذا هو الذي قضى به سيد قضاة الإسلام شريح كما روى وكيع في مصنفه : عن الحسن بن عقبة عن سعيد بن الحارث قال : اختصم عم وخال إلى شريح في طفل فقضى به للعم فقال الخال : أنا أنفق عليه من مالي فدفعه إليه شريح
ومن سلك غير هذا المسلك لم يجد بدا من التناقض مثاله : أن الثلاثة وأحمد في إحدى روايتيه يقدمون أم الأم على أم الأب ثم قال الشافعي في ظاهر مذهبه وأحمد في المنصوص عنه : تقدم الأخت للأب على الأخت للأم فتركوا القياس وطرده أبو حنيفة والمزني وابن سريج فقالوا : تقدم الأخت للأم على الأخت للأب قالوا : لأنها تدلي بالأم والأخت للأب بالأب فلما قدمت الأم على الأب قدم من يدلي بها على من يدلي به ولكن هذا أشد تناقضا من الأول لأن أصحاب القول الأول جروا على القياس والأصول في تقديم قرابة الأب على قرابة الأم وخالفوا ذلك في أم الأم وأم الأب وهؤلاء تركوا القياس في الموضعين وقدموا القرابة التي أخرها الشرع وأخروا القرابة التي قدمها ولم يمكنهم تقديمها في كل موضع فقدموها في موضع وأخروها في غيره مع تساويهما ومن ذلك تقديم الشافعي في الجديد الخالة على العمة مع تقديمه الأخت للأب على الأخت للأم وطرد قياسه في تقديم أم الأم على أم الأب فوجب تقديم الأخت للأم والخالة على الأخت للأب والعمة وكذلك من قدم أصحاب أحمد الخالة على العمة وقدم الأخت للأب على الأخت للأم كقول القاضي وأصحابه وصاحب المغني : فقد تناقضوا
فإن قيل : الخالة تدلي بالأم والعمة تدلي بالأب فكلما قدمت الأم على الأب قدم من يدلي بها ويزيده بيانا كون الخالة أما كما قال النبي صلى الله عليه و سلم فالعمة بمنزلة الأب
قيل : قد بينا أنه لم يقدم الأم على الأب لقوة الأمومة وتقديم هذه الجهة بل لكونها أنثى فإذا وجد عمة وخالة فالمعنى الذي قدمت له الأم موجود فيهما وامتازت العمة بأنها تدلي بأقوى القرابتين وهي قرابة الأب والنبي صلى الله عليه و سلم قضى بابنة حمزة لخالتها وقال : الخالة أم حيث لم يكن لها مزاحم من أقارب الأب تساويها في درجتها
فإن قيل : فقد كان لها عمة وهي صفية بنت عبد المطلب أخت حمزة وكانت إذ ذلك موجودة في المدينة فإنها هاجرت وشهدت الخندق وقتلت رجلا من اليهود كان يطيف بالحصن الذي هي فيه وهي أول امرأة قتلت رجلا من المشركين وبقيت إلى خلافة عمر رضي الله عنه فقدم النبي صلى الله عليه و سلم الخالة عليها وهذا يدل على تقديم من في جهة الأم على من في جهة الأب
قيل : إنما يدل هذا إذا كانت صفية قد نازعت معهم وطلبت الحضانة فلم يقض لها بها بعد طلبها وقدم عليها الخالة هذا إذا كانت لم تمنع منها لعجزها عنها فإنها توفيت سنة عشرين عن ثلاث وسبعين سنة فيكون لها وقت هذه الحكومة بضع وخمسون سنة فيحتمل أنها تركتها لعجزها عنها ولم تطلبها مع قدرتها والحضانه حق للمرأة فإذا تركتها انتقلت إلى غيرها
وبالجملة : فإنما يدل الحديث على تقديم الخالة على العمة إذا ثبت أن صفية خاصمت في ابنة أخيها وطلبت كفالتها فقدم رسول الله صلى الله عليه و سلم الخالة وهذا لا سبيل إليه (5/392)
فصل
ومن ذلك أن مالكا لما قدم أم الأم على أم الأب قدم الخالة بعدها على الأب وأمه واختلف أصحابه في تقديم خالة الخالة على هؤلاء على وجهين فأحد الوجهين : تقديم خالة الخالة على الأب نفسه وعلى أمه وهذا في غاية البعد فكيف تقدم قرابة الأم وإن بعدت على الأب نفسه وعلى قرابته مع أن الأب وأقاربه أشفق على الطفل وأرعى لمصلحة من قرابة الأم ؟ فإنه ليس إليهم بحال ولا تنسب إليهم بل هو أجنبي منهم وإنما نسبه وولاؤه إلى أقارب أبيه وهم أولى به يعقلون عنه وينفقون عليه عند الجمهور ويتوارثون بالتعصيب وإن بعدت القرابة بينهم بخلاف قرابة الأم فإنه لا يثبت فيها ذلك ولا توارث فيها إلا في أمهاتها وأول درجة من فروعها وهم ولدها فكيف تقدم هذه القرابة على الأب ومن في جهته ولا سيما إذا قيل بتقديم خالة الخالة على الأب نفسه وعلى أمه فهذا القول مما تأباه أصول الشريعة وقواعدها وهذا نظير إحدى الروايتين عن أحمد في تقديم الأخت على الأم والخالة على الأب وهذا أيضا في غاية البعد ومخالفة القياس
وحجة هذا القول : أن كلتيهما تدليان بالأم المقدمة على الأب فتقدمان عليه وهذا ليس بصحيح فإن الأم لما ساوت الأب في الدرجة وامتازت عليه بكونها أقوم بالحضانة وأقدر عليها وأصبر قدمت عليه وليس كذلك الأخت من الأم والخالة مع الأب فإنهما لا يساويانه وليس أحد أقرب إلى ولده منه فكيف تقدم عليه بنت امرأته أو أختها ؟ وهل جعل الله الشفقة فيهما أكمل منه ؟
ثم اختلف أصحاب الإمام أحمد في فهم نصه هذا على ثلاثة أوجه
أحدها : إنما قدمها على الأب لأنوثتها فعلى هذا تقدم نساء الحضانة على كل رجل فتقدم خالة الخالة وإن علت وبنت الأخت على الأب
الثاني : أن الخالة والأخت للأم لم تدليا بالأب وهما من أهل الحضانة فتقدم نساء الحضانة على كل رجل إلا على من أدلين به فلا تقدمن عليه لأنهن فرعه فعلى هذا الوجه لا تقدم أم الأب على الأب ولا الأخت والعمة عليه وتقدم عليه أم الأم والخالة والأخت للأم وهذا أيضا ضعيف جدا إذ يستلزم تقديم قرابة الأم البعيدة على الأب وأمه ومعلوم أن الأب إذا قدم على الأخت للأب فتقديمه على الأخت للأم أولى لأن الأخت للأب مقدمة عليها فكيف تقدم على الأب نفسه ؟ هذا تناقض بين
الثالث : تقديم نساء الأم على الأب وأمهاته وسائر من في جهته قالوا : فعلى هذا فكل امرأة في درجة رجل تقدم عليه ويقدم من أدلى بها على من أدلى بالرجل فلما قدمت الأم على الأب وهي في درجته قدمت الأخت من الأم على الأخت من الأب وقدمت الخالة على العمة هذا تقرير ما ذكره أبو البركات بن تيمية في محرره من تنزيل نص أحمد على هذه المحامل الثلاث وهو مخالف لعامة نصوصه في تقديم الأخت للأب على الأخت للأم وعلى الخالة وتقديم خالة الأب على خالة الأم وهو الذي لم يذكر الخرقي في مختصره غيره وهو الصحيح وخرجها ابن عقيل على الروايتين في أم الأم وأم الأب ولكن نصه ما ذكره الخرقي وهذه الرواية التي حكاها صاحب المحرر ضعيفة مرجوحة فلهذا جاءت فروعها ولوازمها أضعف منها بخلاف سائر نصوصه في جادة مذهبه (5/396)
فصل
وقد ضبط بعض أصحابه هذا الباب بضابط فقال : كل عصبة فإنه يقدم على كل امرأة هي أبعد منه ويتأخر عمن هي أقرب منه وإذا تساويا فعلى وجهين فعلى هذا الضابط يقدم الأب على أمه وعلى أم الأم ومن معها ويقدم الأخ على ابنته وعلى العمة والعم على عمة الأب وتقدم أم الأب على جد الأب وفي تقديمها على أب الأب وجهان وفي تقديم الأخت للأب على الأخ للأب وجهان وفي تقديم العمة على العم وجهان
والصواب : تقديم الأنثى مع التساوي كما قدمت الأم على الأب لما استويا فلا وجه لتقديم الذكر على الأنثى مع مساواتها له وامتيازها بقوة أسباب الحضانة والتربية فيها
واختلف في بنات الإخوة والأخوات هل يقدمن على الخالات والعمات أو تقدم الخالات والعمات عليهن ؟ على وجهين مأخذهما : أن الخالة والعمة تدليان بأخوة الأم والأب وبنات الإخوة والأخوات تدلين ببنوة الأب فمن قدم بنات الإخوة راعى قوة البنوة على الأخوة وليس ذلك بجيد بل الصواب تقديم العمة والخالة لوجهين
أحدهما : أنها أقرب إلى الطفل من بنات أخيه فإن العمة أخت أبيه وابنة الأخ ابنة ابن أبيه وكذلك الخالة أخت أمه وبنت الأخت من الأم أو لأب بنت بنت أمه أو أبيه ولا ريب أن العمة والخالة أقرب إليه من هذه القرابة
الثاني : أن صاحب هذا القول إن طرد أصله لزمه ما لا قبل له به من تقديم بنت بنت الأخت وإن نزلت على الخالة التي هي أم وهذا فاسد من القول وإن خص ذلك ببنت الأخت دون من سفل منها تناقض
واختلف أصحاب أحمد أيضا في الجد والأخت للأب أيهما أولى ؟ فالمذهب : أن الجد أولى منها وحكى التناقض في المجرد وجها : أنها أولى منه وهذا يجيء على أحد التأويلات التي تأول عليها الأصحاب نص أحمد وقد تقدمت (5/397)
فصل
ومما يبين صحة الأصل المتقدم أنهم قالوا : إذا عدم الأمهات ومن في جهتهن انتقلت الحضانة إلى العصبات وقدم الأقرب فالأقرب منهم كما في الميراث فهذا جار على القياس فيقال لهم : هلا راعيتم هذا في جنس القرابة فقدمتم القرابة القوية الراجحة على الضعيفة المرجوحة كما فعلتم في العصبات ؟ وأيضا فإن الصحيح في الأخوات عندكم أنه يقدم منهن من كانت لأبوين ثم من كانت لأب ثم من كانت لأم وهذا صحيح موافق للأصول والقياس لكن إذا ضم هذا إلى قولهم بتقديم قرابة الأم على قرابة الأب جاء التناقض وتلك الفروع المشكلة المتناقضة
وأيضا فقد قالوا بتقديم أمهات الأب والجد على الخالات والأخوات للأم وهو الصواب الموافق لأصول الشرع لكنه مناقض لتقديمهم أمهات الأم على أمهات الأب ويناقض تقديم الخالة والأخت للأم على الأب كما هو إحدى الروايتين عن أحمد رحمه الله والقول القديم للشافعي ولا ريب أن القول به أطرد للأصل لكنه في غاية البعد من قياس الأصول كما تقدم ويلزمهم من طرده أيضا تقديم من كان من الأخوات لأم على من كان منهن لأب وقد التزمه أبو حنيفة والمزني وابن سريج ويلزمهم من طرده أيضا تقديم بنت الخالة على الأخت للأب وقد التزمه زفر وهو رواية عن أبي حنيفة ولكن أبو يوسف استشنع ذلك فقدم الأخت للأب كقول الجمهور رواه أبي حنيفة
ويلزمهم أيضا من طرده تقديم الخالة والأخت للأم على الجدة أم الأب وهذا في غاية البعد والوهن وقد التزمه زفر ومثل هذا من المقاييس التي حذر منها أبو حنيفة أصحابه وقال لا تأخذوا بمقاييس زفر فإنكم إن أخذتم بمقاييس زفر حرمتم الحلال وحللتم الحرام (5/398)
فصل
وقد رام بعض أصحاب أحمد ضبط هذا الباب بضابط زعم أن يتخلص به من التناقض فقال : الإعتبار في الحضانة بالولادة المتحققة وهي الأمومة ثم الولادة الظاهرة وهي الأبوة ثم الميراث قال : ولذلك تقدم الأخت من الأب على الأخت من الأم وعلى الخالة لأنها أقوى إرثا منهما قال : ثم الإدلاء فتقدم الخالة على العمة لأن الخالة تدلي بالأم والعمة تدلي بالأب فذكر أربع أسباب للحضانة مرتبة : الأمومة ثم بعدها الأبوة ثم بعدها الميراث ثم بعدها الإدلاء وهذه طريقة صاحب المستوعب وما زادته هذه الطريقة إلا تناقضا وبعدا عن قواعد الشريعة وهي من أفسد الطرق وإنما يتبين فسادها بلوازمها الباطلة فإنه إن أراد بتقديم الأمومة على الأبوة تقديم من في جهتها على الأب ومن في جهته كانت تلك اللوازم الباطلة المتقدمة من تقديم الأخت للأم وبنت الخالة على الأب وأمه وتقديم الخالة على العمة وتقديم خالة الأم على الأب وأمه وتقديم بنات الأخت من الأم على أم الأب وهذا مع مخالفته لنصوص إمامه فهو مخالف لأصول الشرع وقواعده
وإن أراد أن الأم نفسها تقدم على الأب فهذا حق لكن الشأن في مناط هذا التقديم : هل هو لكون الأم ومن في جهتها تقدم على الأب ومن في جهته أو لكونها أنثى في درجة ذكر وكل أنثى كانت في درجة ذكر قدمت عليه مع تقديم قرابة الأب على قرابة الأم ؟ وهذا هو الصواب كما تقدم وكذلك قوله : ثم الميراث إن أراد به أن المقدم في الميراث مقدم في الحضانة فصحيح وطرده تقديم قرابة الأب على قرابة الأم لانها مقدمة عليها في الميراث فتقدم الأخت على العمة والخالة وقوله : وكذلك تقديم الأخت للأب على الأخت للأم والخالة لأنها أقوى إرثا منهما فيقال : لم يكن تقديمها لأجل الإرث وقوته ولو كان لأجل ذلك لكان العصبات أحق بالحضانة من النساء فيكون العم أولى من الخالة والعمة وهذا باطل (5/399)
فصل
وقد ضبط الشيخ في المغني هذا الباب بضابط آخر فقال : فصل في بيان الأولى فالأولى من أهل الحضانة عند اجتماع الرجال والنساء وأولى الكل بها : الأم ثم أمهاتها وإن علون يقدم منهن الأقرب فالأقرب لأنهن نساء ولادتهن متحققة فهن في معنى الأم : وعن أحمد أن أم الأب وأمهاتها يقدمن على أم الأم فعلى هذه الرواية يكون الأب أولى بالتقديم لأنهن يدلين به فيكون الأب بعد الأم ثم أمهاته والأولى هي المشهورة عند أصحابنا فإن المقدم الأم ثم أمهاتها ثم الأب ثم أمهاته ثم الجد ثم أمهاته ثم جد الأب ثم أمهاته وإن كن غير وارثات لأنهن يدلين بعصبة من أهل الحضانة بخلاف أم أب الام وحكي عن أحمد رواية أخرى : أن الأخت من الأم والخالة أحق من الأب فتكون الأخت من الأبوين أحق منه ومنهما ومن جميع العصبات والأولى هي المشهورة من المذهب فإذا انقرض الآباء والأمهات انتقلت الحضانة إلى الأخوات وتقدم الأخت من الأبوين ثم الأخت من الأب ثم الأخت من الأم وتقدم الأخت على الأخ لأنها امرأة من أهل الحضانة فقدمت على من في درجتها من الرجال كالأم تقدم على الأب وأم الأب على أب الأب وكل جدة في درجة جد تقدم عليه لأنها تلي الحضانة بنفسها والرجل لا يليها بنفسه
وفيه وجه آخر : أنه يقدم عليها لأنه عصبة بنفسه والأول أولى وفي تقديم الأخت من الأبوين أو من الأب على الجد وجهان وإذا لم تكن أخت فالأخ للأبوين أولى ثم الأخ للأب ثم ابناهما ولا حضانة للأخ من الأم لما ذكرنا
فإذا عدموا صارت الحضانة للخالات على الصحيح وترتيبهن فيها كترتيب الأخوات ولا حضانة للأخوال فإذا عدموا صارت للعمات ويقدمن على الأعمام كتقديم الأخوات على الإخوة ثم للعم للأبوين ثم للعم للأب ولا حضانة للعم من الأم ثم ابناهما ثم إلى خالات الأب على قول الخرقي وعلى القول الآخر : إلى خالات الأم ثم إلى عمات الأب ولا حضانة لعمات الأم لأنهن يدلين بأب الأم ولا حضانة له وإن اجتمع شخصان أو أكثر من أهل الحضانة في درجة قدم المستحق منهم بالقرعة انتهى كلامه
وهذا خير مما قبله من الضوابط ولكن فيه تقديم أم الأم وإن علت على الأب وأمهاته فإن طرد تقديم من في جهة الام على من في جهة الأب جاءت تلك اللوازم الباطلة وهو لم يطرده وإن قدم بعض من في جهة الاب على بعض من في جهة الأم كما فعل طولب بالفرق وبمناط التقديم
وفيه إثبات الحضانة للأخت من الأم دون الأخ من الأم وهو في درجتها ومساو لها من كل وجه فإن كان ذلك لأنوثتها وهو ذكر انتقض برجال العصبة كلهم وإن كان ذلك لكونه ليس من العصبة والحضانة لا تكون لرجل إلا أن يكون من العصبة قيل : فكيف جعلتموها لنساء ذوي الأرحام مع مساوات قرابتهن لقرابة من في درجتهن من الذكور من كل وجه ؟ فإما أن تعتبروا الأنوثة فلا تجعلوما للذكر أو الميراث فلا تجعلوها لغير وارث أو القرابة فلا تمنعوا منها الأخ من الأم والخال وأبا الأم أو التعصيب فلا تعطوها لغير عصبة
فإن قلتم : بقي قسم آخر وهو قولنا وهو اعتبار التعصيب في الذكور والقرابة في النساء
قيل : هذا مخالف لباب الولايات وباب الميراث والحضانة ولاية على الطفل فإن سلكتم بها مسلك الولايات فخصوها بالأب والجد وإن سلكتم بها مسلك الميراث فلا تعطوها لغير وارث وكلاهما خلاف قولكم وقول الناس أجمعين
وفي كلامه أيضا : تقديم ابن الأخ وإن نزلت درجته على الخالة التي هي أم وهو في غاية البعد وجمهور الأصحاب إنما جعلوا أولاد الإخوة بعد أب الأب والعمات وهو الصحيح فإن الخالة أخت الأم وبها تدلي والأم مقدمة على الأب وابن الأخ إنما يدلي بالأخ الذي يدلي بالأب فكيف يقدم على الخالة وكذا العمة أخت الأب وشقيقته فكيف يقدم ابن ابنه عليها
وقد ضبط هذا الباب شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية بضابط آخر فقال : أقرب ما يضبطه باب الحضانة أن يقال : لما كانت الحضانة ولاية تعتمد الشفقة والتربية والملاطفة كان أحق الناس بما أقومهم بهذه الصفات وهم أقاربه يقدم منهم أقربهم إليه وأقومهم بصفات الحضانة فإن اجتمع منهم اثنان فصاعدا فإن استوت درجتهم قدم الأنثى على الذكر فتقدم الأم على الأب والجدة على الجد والخالة على الخال والعمة على العم والأخت على الأخ فإن كانا ذكرين أو أنثيين قدم أحدهما بالقرعة يعني مع استواء درجتها وإن اختلفت درجتهما من الطفل فإن كانوا من جهة واحدة قدم الأقرب إليه فتقدم الأخت على ابنتها والخالة على خالة الأبوين وخالة الأبوين على خالة الجد والجدة والجد أبو الأم على الأخ للأم هذا هو الصحيح لأن جهة الأبوة والأمومة في الحضانة أقوى من جهة الأخوة فيها وقيل : يقدم الأخ للأم لأنه أقوى من أب الأم في الميراث والوجهان في مذهب أحمد وفيه وجه ثالث : أنه لاحضانة للأخ من الأم بحال لأنه ليس من العصبات ولا من نساء الحضانة وكذلك الخال أيضا فإن صاحب هذا الوجه يقول : لاحضانة له و لا نزاع أن أبا الأم وأمهاته أولى من الخال وإن كانوا من جهتين كقرابة الأم وقرابة الأب مثل العمة والخالة والأخت للأب والأخت للأم وأم الأب وأم الأم وخالة الأم قدم من في جهة الأب في ذلك كله على إحدى الروايتين فيه هذا كله إذا استوت درجتهم أو كانت جهة الأب أقرب إلى الطفل وأما إذا كانت جهة الأم أقرب وقرابة الأب أبعد كأم الأم وأم أب الأب وكخالة الطفل وعمة أبيه فقد تقابل الترجيحان ولكن يقدم الأقرب إلى الطفل لقوة شفقته وحنوه على شفقة الأبعد ومن قدم قرابة الأب فإنما يقدمها مع مساواة قرابة الأم لها فأما إذا كانت أبعد منها قدمت قرابة الأم القريبة وإلا لزم من تقديم القرابة البعيدة لوازم باطلة لايقول بها أحد فبهذا الضابط يمكن حصر جميع مسائل هذا الباب وجريها على القياس الشرعي واطرادها وموافقتها لأصول الشرع فأي مسألة وردت عليك أمكن أخذها من هذا الضابط مع كونه مقتضى الدليل ومع سلامته من التناقض ومناقضة قياس الأصول وبالله التوفيق (5/400)
فصل
وقوله صلى الله عليه و سلم : [ أنت أحق به ما لم تنكحي ] فيه دليل على أن الحضانة حق للأم وقد اختلف الفقهاء هل هي للحاضن أم عليه ؟ على قولين في مذهب أحمد ومالك وينبني عليهما : هل لمن له الحضانة أن يسقطها فينزل عنها ؟ على قولين وأنه لا يجب عليه خدمة الولد أيام حضانته إلا بالأجرة إن قلنا : الحق له وإن قلنا : الحق عليه وجب خدمته مجانا وإن كان الحاضن فقيرا فله الأجره على القولين
وإذا وهبت الحضانة للأب وقلنا : الحق لها لزمت الهبة ولم ترجع فيها وإن قلنا : الحق عليها فلها العود إلى طلبها
والفرق بين هذه المسألة وبين ما لم يثبت بعد كهبة الشفعة قبل البيع حيث لا تلزم في أحد القولين : أن الهبة في الحضانة قد وجد سببها فصار بمنزلة ما قد وجد وكذلك إذا وهبت المرأة نفقتها لزوجها شهرا ألزمت الهبة ولم ترجع فيها هذا كله كلام أصحاب مالك وتفريعهم والصحيح أن الحضانة حق لها وعليها إذا احتاج الطفل إليها ولم يوجد غيرها وإن اتفقت هي وولي الطفل على نقلها إليه جاز والمقصود أن في قوله صلى اله عليه وسلم : [ أنت أحق به ] دليلا على أن الحضانة حق لها (5/403)
فصل
وقوله : ما لم تنكحي اختلف فيه : هل هو تعليل أو توقيت على قولين ينبني عليهما : ما لو تزوجت وسقطت حضانتها ثم طلقت فهل تعود الحضانة ؟ فإن قيل : اللفظ تعليل عادت الحضانة بالطلاق لأن الحكم إذا ثبت بعلة زال بزوالها وعلة سقوط الحضانة التزويج فإن طلقت زالت العلة فزال حكمها وهذا قول الأكثرين منهم : الشافعي وأحمد وأبو حنيفة
ثم اختلفوا فيما إذا كان الطلاق رجعيا هل يعود حقها بمجرده أو يتوقف عودها على انقضاء العدة ؟ على قولين وهما في مذهب أحمد والشافعي أحدهما : تعود بمجرده وهو ظاهر مذهب الشافعي والثاني : لا تعود حتى تنقضي العدة وهو قول أبي حنيفة والمزني وهذا كله تفريع على أن قوله : ما لم تنكحي تعليل وهو قول الأكثرين وقال مالك في المشهور من مذهبه : إذا تزوجت ودخل بها لم يعد حقها من الحضانة وإن طلقت قال بعض أصحابه : وهذا بناء على أن قوله : ما لم تنكحي للتوقيت أي : حقك من الحضانة مؤقت إلى حين نكاحك فإذا نكحت انقضى وقت الحضانة فلا تعود بعد انقضاء وقتها كما لو انقضى وقتها ببلوغ الطفل واستغنائه عنها وقال بعض أصحابه : يعود حقها إذا فارقها زوجها كقول الجمهور وهو قول المغيرة وابن أبي حازم قالوا : لأن المقتضي لحقها من الحضانة هو قرابتها الخاصة وإنما عارضها مانع النكاح لما يوجبه من إضاعة الطفل واشتغالها بحقوق الزوح الأجنبي منه عن مصالحه ولما فيه من تغذيته وتربيته في نعمة غير أقاربه وعليهم في ذلك منة وغضاضة فإذا انقطع النكاح بموت أو فرقة زال المانع والمقتضي قائم فترتب عليه أثره وهكذا كل من قام به من أهل الحضانة مانع منها ككفر أو رق أو فسق أو بدو فإنه لا حضانة له فإن زالت الموانع عاد حقهم من الحضانة فهكذا النكاح والفرقة
وأما النزاع في عود الحضانة بمجرد الطلاق الرجعي أو بوقفه على انقضاء العدة فمأخذه كون الرجعية زوجة في عامة الأحكام فإنه يثبت بينهما التوارث والنفقة ويصح منها الظهار والإيلاء : ويحرم أن ينكح عليها أختها أو عمتها أو خالتها أو أربعا سواها وهي زوجة فمن راعى ذلك لم تعد إليها الحضانة بمجرد الطلاق الرجعي حتى تنقضي العدة فتبين حينئذ ومن أعاد الحضانة بمجرد الطلاق قال : قد عزلها عن فراشه ولم يبق لها عليه قسم ولا لها به شغل والعلة التي سقطت الحضانة لأجلها قد زالت بالطلاق وهذا هو الذي رجحه الشيخ في المغني وهو ظاهر كلام الخرقي فإنه قال : وإذا أخذ الولد من الأم إذا تزوجت ثم طلقت رجعت على حقها من كفالته (5/404)
فصل
وقوله : ما لم تنكحي اختلف فيه : هل المراد به مجرد العقد أو العقد مع الدخول ؟ وفي ذلك وجهان أحدهما : أن بمجرد العقد تزول حضانتها وهو قول الشافعي وأبي حنيفة لأنه بالعقد يملك الزوج منافع الاستمتاع بها ويملك نفعها من حضانة الولد والثاني : أنها لا تزول إلا بالدخول وهو قول مالك فإن بالدخول يتحقق اشتغالها عن الحضانة والحديث يحتمل الأمرين والأشبه سقوط حضانتها بالعقد لأنها حينئذ صارت في مظنة الاشتغال عن الولد والتهيؤ للدخول وأخذها حينئذ في أسبابه وهذا قول الجمهور (5/406)
فصل
واختلف الناس في سقوط الحضانة بالنكاح على أربعة أقوال
أحدها : سقوطها به مطلقا سواء كان المحضون ذكرا أو أنثى وهذا مذهعب الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد في المشهور عنه قال ابن المنذر : أجمع على هذا كل من أحفظ عنه من أهل العلم وقضى به شريح
والقول الثاني : أنها لا تسقط بالتزويج بحال ولا فرق في الحضانة بين الأيم وذوات البعل وحكي هذا المذهب عن الحسن البصري وهو قول محمد ابن حزم
القول الثالث : أن الطفل إن كان بنتا لم تسقط الحضانة بنكاح أمها وإن كان ذكرا سقطت وهذه إحدى الروايتين عن أحمد رحمه الله نص عليه في رواية مهنا بن يحي الشامي فقال : إذا تزوجت الأم وابنها الصغير أخذ منها قيل له : والجارية مثل الصبي ؟ قال : لا الجارية تكون مع أمها إلى سبع سنين وعلى هذه الرواية : فهل تكون عندها إلى سبع سنين أو إلى أن تبلغ ؟ على روايتين قال ابن أبي موسى : وعن أحمد أن الأم أحق بحضانة البنت وإن تزوجت إلى أن تبلغ
والقول الرابع : أنها إذا تزوجت بنسيب من الطفل لم تسقط حضانتها ثم اختلف أصحاب هذا القول على ثلاثة أقوال أحدها : أن المشترط أن يكون الزوج نسبيا للطفل فقط وهذا ظاهر قول أصحاب أحمد الثاني : أنه يشترط أن يكون مع ذلك رحم محرم وهو قول أصحاب أبي حنيفة الثالث : أنه يشترط أن يكون بين الزوج وبين الطفل إيلاد وأن يكون جدا للطفل وهذا قول مالك وبعض أصحاب أحمد فهذا تحرير المذاهب في هذه المسألة
فأما حجة من أسقط الحضانة بالتزويج مطلقا فثلاث حجج : إحداها : حديث عمرو بن شعيب المتقدم ذكره الثانية : اتفاق الصحابة على ذلك وقد تقدم قول الصديق لعمر : هي أحق به ما لم تتزوج وموافقة عمر له على ذلك ولا مخالف له من الصحابة ألبتة وقضى به شريح والقضاة بعده إلى اليوم في سائر الأعصار والأمصار
الثالثة : ما رواه عبد الرزاق : حدثنا ابن جريج حدثنا أبو الزبير عن رجل صالح من أهل المدينة عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال : كانت امرأة من الأنصار تحت رجل من الأنصار فقتل عنها يوم أحد وله منها ولد فخطبها عم ولدها ورجل آخر إلى أبيها فأنكح الآخر فجاءت إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقالت : أنكحني أبي رجلا لا أريده وترك عم ولدي فيؤخذ مني ولدي فدعا رسول الله صلى الله عليه و سلم أباها فقال : [ أنكحت فلانا فلانة ؟ قال : نعم قال : أنت الذي لا نكاح لك اذهبي فانكحي عم ولدك ] فلم ينكر أخذ الولد منها لما تزوجت بل أنكحها عم الولد لتبقى لها الحضانة ففيه دليل على سقوط الحضانة بالنكاح وبقائها إذا تزوجت بنسيب من الطفل واعترض أبو محمد بن حزم على هذا الاستدلال بأن حديث عمرو بن شعيب صحيفة وحديث أبي سلمى هذا مرسل وفيه مجهول وهذا الاعتراضان ضعيفان فقد بينا احتجاج الأئمة بعمرو في تصحيحهم حديثه وإذا تعارض معنا في الاحتجاح برجل قول ابن حزم وقول البخاري وأحمد وابن المديني والحميدي وإسحاق بن راهويه وأمثالهم لم يلتفت إلى سواهم
وأما حديث أبي سلمة هذا فإن أبا سلمة من كبار التابعين وقد حكى القصة عن الأنصارية و لا ينكر لقاؤه لها فلا يتحقق الإرسال ولو تحقق فمرسل جيد له شواهد مرفوعة وموقوفة وليس الاعتماد عليه وحده وعنى بالمجهول الرجل الصالح الذي شهد له أبو الزبير بالصلاح ولا ريب أن هذه الشهادة لا تعرف به ولكن المجهول إذا عدله الراوي عنه الثقة ثبتت عدالته وإن كان واحدا على أصح القولين فإن التعديل من باب الإخبار والحكم لا من باب الشهادة ولا سيما التعديل في الرواية فإنه يكتفى فيه بالواحد ولا يزيد على أصل نصاب الرواية هذا مع أن أحد القولين : إن مجرد رواية العدل عن غيره تعديل له وإن لم يصرح بالتعديل كما هو إحدى الروايتين عن أحمد وأما إذا روى عنه وصرح بتعديله فقد خرح عن الجهالة التي ترد لأجلها روايته لا سيما إذا لم يكن معروفا بالرواية عن الضعفاء والمتهمين وأبو الزبير وإن كان فيه تدليس فليس معروفا بالتدليس عن المتهمين والضعفاء بل تدليسه من جنس تدليس السلف لم يكونوا يدلسون عن متهم ولا مجروح وإنما كثر هذا النوع من التدليس في المتأخرين
واحتج أبو محمد على قوله بما رواه من طريق البخاري عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس قال : قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة وليس له خادم فأخذ أبو طلحة بيدي وانطلق بي إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ يا رسول الله ! إن أنسا غلام كيس فليخدمك قال : فخدمته في السفر والحضر ] وذكر الخبر
قال أبو محمد : فهذا أنس في حضانة أمه ولها زوج وهو أبو طلحة بعلم رسول الله صلى الله عليه و سلم وهذا الاحتجاج في غاية السقوط والخبر في غاية الصحة فإن أحدا من أقارب أنس لم ينازع أمه فيه إلى النبي صلى الله عليه و سلم وهو طفل صغير لم يثغر ولم يأكل وحده ولم يشرب وحده ولم يميز وأمه مزوجة فحكم به لأمه وإنما يتم الإستدلال بهذه المقدمات كلها والنبي صلى الله عليه و سلم لما قدم المدينة كان لأنس من العمر عشر سنين فكان عند أمه فلما تزوجت أبا طلحة لم يأت أحد من أقارب أنس ينازعها في ولدها ويقول : قد تزوجت فلا حضانة لك وأنا أطلب انتزاعه منك ولا ريب أنه لا يحرم على المرأة المزوجة حضانة ابنها إذا اتفقت هي والزوج وأقارب الطفل على ذلك ولا ريب أنه لا يجب بل لا يجوز أن يفرق بين الأم وولدها إذا تزوجت من غير أن يخاصمها من له الحضانة ويطلب انتزاع الولد فالإحتجاج بهذه القصة من أبعد الإحتجاج وأبرده
ونظير هذا أيضا احتجاجهم بأن أم سلمة لما تزوجت برسول الله صلى الله عليه و سلم لم تسقط كفالتها لابنها بل استمرت على حضانتها فيا عجبا من الذي نازع أم سلمة في ولدها ورغب أن يكون في حجر النبي صلى الله عليه و سلم
واحتج لهذا القول أيضا بأن رسول الله صلى الله عليه و سلم قضى بابنة حمزة لخالتها وهي مزوجة بجعفر فلا ريب أن للناس في قصة ابنة حمزة ثلاث مآخذ أحدها : أن النكاح لا يسقط الحضانة الثاني : أن المحضونة إذا كانت بنتا فنكاح أمها لا يسقط حضانتها ويسقطها إذا كان ذكرا الثالث : أن الزوج إذا كان نسيبا من الطفل لم تسقط حضانتها وإلا سقطت فالإحتجاج بالقصة على أن النكاح لم يسقط الحضانة مطلقا لا يتم إلا بعد إطلاق ذينك الإحتمالين الآخرين (5/406)
فصل
وقضاؤه صلى الله عليه و سلم بالولد لأمه وقوله : [ أنت أحق بما لم تنكحي ] لا يستفاد منه عموم القضاء لكل أم حتى يقضي به للأم وإن كانت كافرة أو رقيقة أو فاسقة أو مسافرة فلا يصح الإحتجاج به على ذلك ولا نفيه فإذا دل دليل منفصل على اعتبار الإسلام والحرية والديانة والإقامة لم يكن ذلك تخصيصا ولا مخالفة لظاهر الحديث
وقد اشترط في الحاضن ستة شروط :
اتفاقهما في الدين فلا حضانة لكافر على مسلم لوجهين
أحدهما : أن الحاضن حريص على تربية الطفل على دينه وأن ينشأ عليه ويتربى عليه فيصب بعد كبره وعقله انتقاله عنه وقد يغيره عن فطرة الله التي فطر عليها عباده فلا يراجعها أبدا كما قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ] فلا يؤمن تهويد الحاضن وتنصيره للطفل المسلم
فإن قيل : الحديث إنما جاء في الأبوين خاصة
قيل : الحديث خرج مخرج الغالب إذ الغالب المعتاد نشوء الطفل بين أبويه فإن فقد الأبوان أو أحدهما قام ولي الطفل من أقاربه مقامهما
الوجه الثاني : أن الله سبحانه قطع الموالاة بين المسلمين والكفار وجعل المسلمين بعضهم أولياء بعض والكفار بعضهم من بعض والحضانة من أقوى أسباب الموالاة التى قطعها الله بين الفريقين وقال أهل الرأي وابن القاسم وأبو ثور : تثبت الحضانة لها مع كفرها وإسلام الولد واحتجوا بما روى النسائي في سننه من حديث عبد الحميد بن جعفر عن أبيه عن جده رافع بن سنان [ أنه أسلم وأبت امرأته أن تسلم فأتت النبي صلى الله عليه و سلم فقالت : ابنتي وهي فطيم أو يشبهه وقال رافع : ابنتي فقال النبي صلى الله عليه و سلم : اقعد ناحية وقال لها : اقعدي ناحية وقال لهما : ادعواها فمالت الصبية إلى أمها فقال النبي صلى الله عليه و سلم : اللهم اهدها فمالت إلى أبيها فأخذها ]
قالوا : ولأن الحضانة لأمرين : الرضاع وخدمة الطفل وكلاهما يجوز من الكافرة
قال الآخرون : هذا الحديث من رواية عبد الحميد بن جعفر بن عبد الله بن الحكم بن رافع بن سنان الأنصاري الأوسي وقد ضعفه إمام العلل يحيى بن سعيد القطان وكان سفيان الثوري يحمل عليه وضعف ابن المنذر الحديث وضعفه غيره وقد اضطرب في القصة فروى أن المخير كان بنتا وروى أنه كان ابنا وقال الشيخ في المغني : وأما الحديث فقد روي على غير هذا الوجه ولا يثبته أهل النقل وفي إسناده مقال قاله ابن المنذر
ثم إن الحديث قد يحتج به على صحة مذهب من اشترط الإسلام فإن الصبية لما مالت إلى أمها دعا النبي صلى الله عليه و سلم لها بالهداية فمالت إلى أبيها وهذا يدل على أن كونها مع الكافر خلاف هدى الله الذي أراده من عباده ولو استقر جعلها مع أمها لكان فيه حجة بل أبطله الله سبحانه بدعوة رسوله
ومن العجب أنهم يقولون : لا حضانة للفاسق فأي فسق أكبر من الكفر ؟ وأين الضرر المتوقع من الفاسق بنشوء الطفل على طريقته إلى الضرر المتوقع من الكافر مع أن الصواب أنه لا تشترط العدالة في الحاضن قطعا وإن شرطها أصحاب أحمد والشافعي وغيرهم واشتراطها في غاية البعد
ولو اشترط في الحاضن العدالة لضاع أطفال العالم ولعظمت المشقة على الأمة واشتد العنت ولم يزل من حين قام الإسلام إلى أن تقوم الساعة أطفال الفساق بينهم لا يتعرض لهم أحد في الدنيا مع كونهم الأكثرين ومتى وقع في الإسلام انتزاع الطفل من أبويه أو أحدهما بفسقه ؟ وهذا في الحرج والعسر - واستمرار العمل المتصل في سائر الأمصار والأعصار على خلافه - بمنزلة اشتراط العدالة في ولاية النكاح فإنه دائم الوقوع في الأمصار والأعصار والقرى والبوادي مع أن أكثر الأولياء الذين يلون ذلك فساق ولم يزل الفسق في الناس ولم يمنع النبي صلى الله عليه و سلم ولا أحد من الصحابة فاسقا من تربية ابنه وحضانته له ولا من تزويجه موليته والعادة شاهدة بأن الرجل ولو كان من الفساق فإنه يحتاط لابنته ولا يضيعها ويحرص على الخير لها بجهده وإن قدر خلاف ذلك فهو قليل بالنسبة إلى المعتاد والشارع يكتفي في ذلك بالباعث الطبيعي ولو كان الفاسق مسلوب الحضانة وولاية النكاح لكان بيان هذا للأمة من أهم الأمور واعتناء الأمة بنقله وتوارث العمل به مقدما على كثير مما نقلوه وتوارثوا العمل به فكيف يجوز عليهم تضييعه واتصال العمل بخلافه ولو كان الفسق ينافي الحضانة لكان من زنى أو شرب خمرا أو أتى كبيرة فرق بينه وبين أولاده الصغار والتمس لهم غيره والله أعلم
نعم العقل مشترط في الحضانة فلا حضانة لمجنون ولا معتوه ولا طفل لأن هؤلاء يحتاجون إلى من يحضنهم ويكفلهم فكيف يكونون كافلين لغيرهم
وأما اشتراط الحرية فلا ينتهض عليه دليل يركن القلب إليه وقد اشترطه أصحاب الأئمة الثلاثة وقال مالك في حر له ولد من أمة : إن الأم أحق به إلا أن تباع فتنتقل فيكون الأب أحق بها وهذا هو الصحيح لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لا توله والدة عن ولدها ] وقال : [ من فرق بين الوالدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة ] وقد قالوا : لا يجوز التفريق في البيع بين الأم وولدها الصغير فكيف يفرقون بينهما في الحضانة ؟ وعموم الأحاديث تمنع من التفريق مطلقا في الحضانة والبيع واستدلالهم بكون منافعها مملوكة للسيد فهي مستغرقة في خدمته فلا تفرغ لحضانة الولد ممنوع بل حق الحضانة لها تقدم به في أوقات حاجة الولد على حق السيد كما في البيع سواء وأما اشتراط خلوها من النكاح فقد تقدم
وها هنا مسألة ينبغي التنبيه عليها وهي أنا إذا أسقطنا حقها من الحضانة بالنكاح ونقلناها إلى غيرها فاتفق أنه لم يكن له سواها لم يسقط حقها من الحضانة وهي أحق به من الأجنبي الذي يدفعه القاضي إليه وتربيته في حجر أمه ورأيه أصلح من تربيته في بيت أجنبي محض لا قرابة بينهما توجب شفقته ورحمته وحنوه ومن المحال أن تأتي الشريعة بدفع مفسدة بمفسدة أعظم منها بكثير والنبي صلى الله عليه و سلم لم يحكم حكما عاما كليا : أن كل امرأة تزوجت سقطت حضانتها في جميع الأحوال حتى يكون إثبات الحضانة للأم في هذه الحالة مخالفة للنص
وأما اتحاد الدار فإن كان سفر أحدهما لحاجة ثم يعود والآخر مقيم فهو أحق به لأن السفر بالولد الطفل ولا سيما إن كان رضيعا إضرار به وتضييع له هكذا أطلقوه ولم يستثنوا سفر الحج من غيره وإن كان أحدهما منتقلا عن بلد الآخر للإقامة والبلد وطريقه مخوفان أو أحدهما فالمقيم أحق وإن كان هو وطريقه آمنين ففيه قولان وهما روايتان عن أحمد إحداهما : أن الحضانة للأب ليتمكن من تربية الولد وتأديبه وتعليمه وهو قول مالك والشافعي وقضى به شريح والثانية : أن الأم أحق وفيها قول ثالث : أن المنتقل إن كان هو الأب فالأم أحق به وإن كان الأم فإن انتقلت إلى البلد الذي كان فيه أصل النكاح فهي أحق به وإن انتقلت إلى غيره فالأب أحق وهو قول الحنفية وحكوا عن أبي حنيفة رواية أخرى : أن نقلها إن كان من بلد إلى قرية فالأب أحق وإن كان من بلد إلى بلد فهي أحق وهذه أقوال كلها كما ترى لا يقوم عليها دليل يسكن القلب إليه فالصواب النظر والإحتياط للطفل فى الأصلح له والأنفع من الإقامة أو النقلة فأيهما كان أنفع له وأصون وأحفظ روعي ولا تأثير لإقامة ولا نقلة هذا كله ما لم يرد أحدهما بالنقلة مضارة الآخر وانتزاع الولد منه فإن أراد ذلك لم يجب إليه والله الموفق (5/409)
فصل
وقوله : [ أنت أحق به ما لم تنكحي ] قيل : فيه إضمار تقديره : ما لم تنكحي ويدخل بك الزوج ويحكم الحاكم بسقوط الحضانة وهذا تعسف بعيد لا يشعر به اللفظ ولا يدل عليه بوجه ولا هو من دلالة الإقتضاء التي تتوقف صحة المعنى عليها والدخول داخل في قوله : تنكحي عند من اعتبره فهو كقوله : { حتى تنكح زوجا غيره } ومن لم يعتبره فالمراد بالنكاح عنده العقد
وأما حكم الحاكم بسقوط الحضانة فذاك إنما يحتاج إليه عند التنازع والخصومة بين المتنازعين فيكون منفذا لحكم رسول الله صلى الله عليه و سلم لا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أوقف سقوط الحضانة على حكمه بل قد حكم هو بسقوطها حكم به الحكام بعده أو لم يحكموا والذي دل عليه هذا الحكم النبوي أن الأم أحق بالطفل ما لم يوجد منها النكاح فإذا نكحت زال ذلك الإستحقاق وانتقل الحق إلى غيرها فأما إذا طلبه من له الحق وجب على خصمه أن يبذله له فإن امتنع أجبره الحاكم عليه وإن أسقط حقه أو لم يطالب به بقي على ما كان عليه أولا فهذه قاعدة عامة مستفادة من غير هذا الحديث (5/414)
فصل
وقد احتج من لا يرى التخيير بين الأبوين بظاهر هذا الحديث ووجه الإستدلال أنه قال : أنت أحق به ولو خير الطفل لم تكن هي أحق به إلا إذا اختارها كما أن الأب لا يكون أحق به إلا إذا اختاره فإن قدر : أنت أحق به إن اختارك قدر ذلك في جانب الأب والنبي صلى الله عليه و سلم جعلها أحق به مطلقا عند المنازعة وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك ونحن نذكر هذه المسألة : ومذاهب الناس فيها والإحتجاج لأقوالهم ونرجح ما وافق حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم منها (5/415)
ذكر قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه
ذكر عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء الخرساني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : طلق عمر بن الخطاب رضي الله عنه امرأته فذكر الأثر المتقدم وقال فيه : ريحها وفراشها خير له منك حتى يشب ويختار لنفسه فحكم به لأمه حين لم يكن له تمييز أن يشب ويميز ويخير حينئذ (5/415)
ذكر قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه
قال الشافعي : حدثنا ابن عيينة عن يزيد بن يزيد بن جابر عن إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر عن عبد الرحمن بن غنم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خير غلاما بين أبيه وأمه
وقال عبد الرزاق : أخبرنا ابن جريج عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال : خير عمر رضي الله عنه غلاما ما بين أبيه وأمه فاختار أمه فانطلقت به
وذكر عبد الرزاق أيضا : عن معمر عن أيوب عن إسماعيل بن عبيد الله عن عبد الرحمن بن غنم قال : اختصم إلى عمر بن الخطاب في غلام فقال : هو مع أمه حتى يعرب عنه لسانه ليختار
وذكر سعيد بن منصور عن هشيم عن خالد عن الوليد بن مسلم قال : اختصموا إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه في يتيم فخيره فاختار أمه على عمه فقال عمر : إن لطف أمك خير من خصب عمك (5/415)
ذكر قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه
قال الشافعي رحمه الله تعالى : انبأنا ابن عيينة عن يونس بن عبد الله الجرمي عن عمارة الجرمي قال : خيرني علي بين أمي وعمي ثم قال لأخ لي أصغر مني : وهذا أيضا لو بلغ مبلغ هذا لخيرته
قال الشافعي رحمه الله : قال إبراهيم : عن يونس عن عمارة عن علي مثله قال في الحديث : وكنت ابن سبع سنين أو ثمان سنين
قال يحيى القطان : حدثنا يونس بن عبد الله الجرمي حدثني عمارة ابن رويبة أنه تخاصمت فيه أمه وعمه إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : فخيرني علي ثلاثا كلهن اختار أمي ومعي أخ لي صغير فقال علي : هذا إذا بلغ مبلغ هذا خير (5/416)
ذكر قول أبي هريرة رضي الله عنه
قال أبو خيثمة زهير بن حرب : حدثنا سفيان بن عيينة عن زياد بن سعد عن هلال بن أبي ميمونة قال : شهدت أبا هريرة خير غلاما بين أبيه وأمه وقال : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم خير غلاما بين أبيه وأمه
فهذا ما ظفرت به عن الصحابة وأما الأئمة فقال حرب بن إسماعيل : سألت إسحاق بن راهويه إلى متى يكون الصبي والصبية مع الأم إذا طلقت ؟ قال : أحب إلي أن يكون مع الأم إلى سبع سنين ثم يخير قلت له : أترى التخيير ؟ قال : شديدا قلت : فأقل من سبع سنين لا يخير ؟ قال : قد قال بعضهم : إلى خمس وأنا أحب إلي سبع
وأما مذهب الإمام أحمد فإما أن يكون الطفل ذكرا أو أنثى فإن كان ذكرا فإما أن يكون ابن سبع أو دونها فإن كان له دون السبع فأمه أحق بحضانته من غير تخيير وإن كان له سبع ففيه ثلاث روايات
إحداها - وهي الصحيحة المشهورة من مذهبه - : أنه يخير وهي اختيار أصحابه فإن لم يختر واحدا منهما أقرع بينهما وكان لمن قرع وإذا اختار أحدهما ثم عاد فاختار الآخر نقل إليه وهكذا أبدا
والثانية : أن الأب أحق به من غير تخيير
والثالثة : أن الأم أحق به كما قبل السبع
وأما إذا كان أنثى فإن كان لها دون سبع سنين فأمها أحق بها من غير تخيير وإن بلغت سبعا فالمشهور من مذهبه أن الأم أحق بها إلى تسع سنين فإذا بلغت تسعا فالأب أحق بها من غير تخيير
وعنه رواية رابعة : أن الأم أحق بها حتى تبلغ ولو تزوجت الأم
وعنه رواية خامسة : أنها تخير بعد السبع كالغلام نص عليها وأكثر أصحابه إنما حكوا ذلك وجها في المذهب هذا تلخيص مذهبه وتحريره
وقال الشافعي : الأم أحق بالطفل ذكرا كان أو أنثى إلى أن يبلغا سبع سنين فإذا بلغا سبعا وهما يعقلان عقل مثلهما خير كل منهما بين أبيه وأمه وكان مع من اختار
وقال مالك وأبو حنيفة لا تخيير بحال ثم اختلفا فقال أبو حنيفة الأم أحق بالجارية حتى تبلغ وبالغلام حتى يأكل وحده ويشرب وحده ويلبس وحده ثم يكونان عند الأب ومن سوى الأبوين أحق بهما حتى يستغنيا ولا تعتبر البلوغ وقال مالك : الأم أحق بالولد ذكرا كان أو أنثى حتى يثغر هذه رواية ابن وهب وروى ابن القاسم : حتى يبلغ ولا يخير بحال
وقال الليث بن سعد : الأم أحق بالإبن حتى يبلغ ثمان سنين وبالبنت حتى تبلغ ثم الأب أحق بهما بعد ذلك
وقال الحسن بن حي : الأم أولى بالبنت حتى يكعب ثدياها وبالغلام حتى ييفع فيخيران بعد ذلك بين أبويهما الذكر والأنثى سواء
قال المخيرون في الغلام دون الجارية : قد ثبت التخيير عن النبي صلى الله عليه و سلم في الغلام من حديث أبي هريرة : وثبت عن الخلفاء الراشدين وأبي هريرة ولا يعرف لهم مخالف في الصحابة البتة ولا أنكره منكر قالوا : وهذا غاية في العدل الممكن فإن الأم إنما قدمت في حال الصغر لحاجة الولد إلى التربية والحمل والرضاع والمداراة التي لا تتهيأ لغير النساء وإلا فالأم أحد الأبوين فكيف تقدم عليه ؟ فإذا بلغ الغلام حدا يعرب فيه عن نفسه ويستغني عن الحمل والوضع وما تعانيه النساء تساوى الأبوان وزال السبب الموجب لتقديم الأم والأبوان متساويان فيه فلا يقدم أحدهما إلا بمرجح والمرجح إما من خارج وهو القرعة وإما من جهة الولد وهو اختياره وقد جاءت السنة بهذا وهذا وقد جمعهما حديث أبي هريرة فاعتبرناهما جميعا ولم ندفع أحدهما بالآخر
وقدمنا ما قدمه النبي صلى الله عليه و سلم وأخرنا ما أخره فقدم التخيير لأن القرعة إنما يصار إليها إذا تساوت الحقوق من كل وجه ولم يبق مرجح سواها وهكذا فعلنا ها هنا قدمنا أحدهما بالإختيار فإن لم يختر أو اختارهما جميعا عدلنا إلى القرعة فهذا لو لم يكن فيه موافقة السنة لكان من أحسن الأحكام وأعدلها وأقطعها للنزاع بتراضي المتنازعين
وفيه وجه آخر في مذهب أحمد والشافعي : أنه إذا لم يختر واحدا منهما كان عند الأم بلا قرعة لأن الحضانة كانت لها وإنما تنقله عنها باختياره فاذا لم يختر بقي عندها على ما كان
فإن قيل : فقد قدمتم التخيير على القرعة والحديث فيه تقديم القرعة أولا ثم التخيير وهذا أولى لأن القرعة طريق شرعي للتقديم عند تساوي المستحقين وقد تساوى الأبوان فالقياس تقديم أحدهما بالقرعة فإن أبيا القرعة لم يبق إلا اختيار الصبي فيرجح به فما بال أصحاب أحمد والشافعي قدموا التخيير على القرعة
قيل : إنما قدم التخيير لاتفاق الفاظ الحديث عليه وعمل الخلفاء الراشدين به وأما القرعة فبعض الرواة ذكرها في الحديث وبعضهم لم يذكرها وإنما كانت في بعض طرق أبي هريرة رضي الله عنه وحده فقدم التخيير عليها فإذا تعذر القضاء بالتخيير تعينت القرعة طريقا للترجيح إذا لم يبق سواها
ثم قال المخيرون للغلام والجارية : روى النسائي في سننه والإمام أحمد في مسنده من حديث رافع بن سنان رضي الله عنه أنه تنازع هو وأم في ابنتهما وأن النبي صلى الله عليه و سلم أقعده في ناحية وأقعد المرأة ناحية وأقعد الصبية بينهما وقال ادعواها فمالت إلى أمها فقال النبي صلى الله عليه و سلم : اللهم اهدها فمالت إلى أبيها فأخذها قالوا : ولو لم يرد هذا الحديث لكان حديث أبي هريرة رضي الله عنه والآثار المتقدمة حجة في تخيير الأنثى لأن كون الطفل ذكرا لا تأثير له في الحكم بل هي كالذكر في قوله صلى الله عليه و سلم : [ من وجد متاعه عند رجل قد أفلس ] وفي قوله [ من أعتق شركا له في عبد ] بل حديث الحضانة أولى بعدم اشتراط الذكورية فيه لأن لفظ الصبي ليس من كلام الشارع إنما الصحابي حكى القصة وأنها كانت في صبي فإذا نقح المناط تبين أنه لا تأثير لكونه ذكرا
قالت الحنابلة : الكلام معكم في مقامين أحدهما : استدلالكم بحديث رافع والثاني : إلغاؤكم وصف الذكورية في أحاديث التخيير
فأما الأول فالحديث قد ضعفه ابن المنذر وغيره وضعف يحيى بن سعيد والثوري عبد الحميد بن جعفر وأيضا فقد اختلف فيه على قولين أحدهما : أن المخير كان بنتا وروي : أنه كان ابنا فقال عبد الرزاق : أخبرنا سفيان عن عثمان البتي عن عبد الحميد بن سلمة عن أبيه عن جده أن أبويه اختصما إلى النبي صلى الله عليه و سلم أحدهما مسلم والآخر كافر فتوجه إلى الكافر فقال النبي صلى الله عليه و سلم : اللهم اهده فتوجه إلى المسلم فقضى له به
قال أبو الفرج ابن الجوزي : ورواية من روى أنه كان غلاما أصح قالوا : ولو سلم لكم أنه كان أنثى فأنتم لا تقولون به فإن فيه أن أحدهما كان مسلما والآخر كافرا فكيف تحتجون بما لا تقولون به
قالوا : وأيضا فلو كانا مسلمين ففي الحديث أن الطفل كان فطيما وهذا قطعا دون السبع والظاهر أنه دون الخمس وأنتم لا تخيرون من له دون السبع فظهر أنه لا يمكنكم الإستدلال بحديث رافع هذا على كل تقدير
فبقي المقام الثاني وهو إلغاء وصف الذكورة في أحاديث التخيير وغيرها فنقول : لا ريب أن من الأحكام ما يكفي فيها وصف الذكورة أو وصف الأنوثة قطعا ومنها ما لا يكفي فيه بل يعتبر فيه إما هذا وإما هذا فيلغى الوصف في كل حكم تعلق بالنوع الإنساني المشترك بين الأفراد ويعتبر وصف الذكورة في كل موضع كان له تأثير فيه كالشهادة والميراث والولاية في النكاح ويعتبر وصف الأنوثة في كل موضع يختص بالإناث أو يقدمن فيه على الذكور كالحضانة إذا استوى في الدرجة الذكر والأنثى قدمت الأنثى
بقي النظر فيما نحن فيه من شأن التخيير هل لوصف الذكورة تأثير في ذلك فيلحق بالقسم الذي تعتبر فيه أو لا تأثير له فيلحق بالقسم الذي يلغى فيه ؟ ولا سبيل إلى جعلها من القسم الملغى فيه وصف الذكورة لأن التخيير ها هنا تخيير شهوة لا تخيير رأي ومصلحة ولهذا إذا اختار غير من اختاره أولا نقل إليه فلو خيرت البنت أفضى ذلك إلى أن تكون عند الأب تارة وعند الأم أخرى فإنها كلما شاءت الإنتقال أجيبت إليه وذلك عكس ما شرع للإناث من لزوم البيوت وعدم البروز ولزوم الخدور وراء الأستار فلا يليق بها أن تمكن من خلاف ذلك وإذا كان هذا الوصف معتبرا قد شهد له بالشرع بالإعتبار لم يملك إلغاؤه
قالوا : وأيضا فإن ذلك يفضي إلى ألا يبقى الأب موكلا بحفظها ولا الأم لتنقلها بينهما وقد عرف بالعادة أن ما يتناوب الناس على حفظه ويتواكلون فيه فهو آيل إلى ضياع ومن الأمثال السائرة : لا يصلح القدر بين طباخين
قالوا : وأيضا فالعادة شاهدة بأن اختيار أحدهما يضعف رغبة الآخر فيه بالإحسان إليه وصيانته فإذا اختار أحدهما ثم انتقل إلى الآخر لم يبق أحدهما تام الرغبة في حفظه والإحسان إليه
فإن قلتم : فهذا بعينه موجود في الصبي ولم يمنع ذلك تخييره قلنا : صدقتم لكن عارضه كون القلوب مجبولة على حب البنين واختيارهم على البنات فإذا اجتمع نقص الرغبة ونقص الأنوثة وكراهة البنات في الغالب ضاعت الطفلة وصارت إلى فساد يعسر تلافيه والواقع شاهد بهذا والفقه تنزيل المشروع على الواقع وسر الفرق أن البنت تحتاج من الحفظ والصيانة فوق ما يحتاج إليه الصبي ولهذا شرع في حق الاناث من الستر والخفر ما لم يشرع مثله للذكور في اللباس وإرخاء الذيل شبرا أو أكثر وجمع نفسها في الركوع والسجود دون التجافي ولا ترفع صوتها بقراءة القرآن ولا ترمل في الطواف ولا تتجرد في الإحرام عن المخيط ولا تكشف رأسها ولا تسافر وحدها هذا كله مع كبرها ومعرفتها فكيف إذا كانت في سن الصغر وضعف العقل الذي يقبل فيه الإنخداع ؟ ولا ريب أن ترددها بين الأبوين مما يعود على المقصود بالإبطال أو يخل به أو ينقصه لأنها لا تستقر في مكان معين فكان الأصلح لها أن تجعل عند أحد الأبوين من غير تخيير كما قاله الجمهور : مالك وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق فتخييرها ليس منصوصا عليه ولا هو في معناه فيلحق به
ثم ها هنا حصل الإجتهاد في تعيين أحد الأبوين لمقامها عنده وأيهما أصلح لها فمالك وأبو حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه : عينوا الأم وهو الصحيح دليلا وأحمد رحمه الله في المشهور عنه واختيار عامة أصحابه عينوا الأب
قال من رجح الأم : قد جرت العادة بأن الأب يتصرف في المعاش والخروج ولقاء الناس والأم في خدرها مقصورة في بيتها فالبنت عندها أصون وأحفظ بلا شك وعينها عليها دائما بخلاف الأب فإنه في غالب الاوقات غائب عن البنت أو في مظنة ذلك فجعلها عند أمها أصون لها وأحفظ
قالوا : وكل مفسدة يعرض وجودها عند الأم فإنها تعرض أو أكثر منها عند الأب فإنه إذا تركها في البيت وحدها لم يأمن عليها وإن ترك عندها امرأته أو غيرها فالأم أشفق عليها وأصون لها من الأجنبية
قالوا : وأيضا فهي محتاجة إلى تعلم ما يصلح للنساء من الغزل والقيام بمصالح البيت وهذا إنما تقوم به النساء لا الرجال فهي أحوج إلى أمها لتعلمها ما يصلح للمرأة وفي دفعها إلى أبيها تعطيل هذه المصلحة وإسلامها إلى امرأة أجنبية تعلمها ذلك وترديدها بين الأم وبينه وفي ذلك تمرين لها على البروز والخروج فمصلحة البنت والأم والأب أن تكون عند أمها وهذا القول هو الذي لا نختار سواه
قال من رجح الأب : الرجال أغير على البنات من النساء فلا تستوي غيرة الرجل على ابنته وغيرة الأم أبدا وكم من أم تساعد ابنتها على ما تهواه ويحملها على ذلك ضعف عقلها وسرعة انخداعها وضعف داعي الغيرة في طبعها بخلاف الأب ولهذا المعنى وغيره جعل الشارع تزويجها إلى أبيها دون أمها ولم يجعل لأمها ولاية على بضعها البتة ولا على مالها فكان من محاسن الشريعة أن تكون عند أمها ما دامت محتاجة الى الحضانة والتربية فإذا بلغت حدا تشتهى فيه وتصلح للرجال فمن محاسن الشريعة أن تكون عند من هو أغير عليها وأحرص على مصلحتها وأصون لها من الأم
قالوا : ونحن نرى في طبيعة الأب وغيره من الرجال من الغيرة ولو مع فسقه وفجوره ما يحمل على قتل ابنته وأخته وموليته إذا رأى منها ما يريبه لشدة الغيرة ونرى في طبيعة النساء من الإنحلال والإنخداع ضد ذلك قالوا : فهذا هو الغالب على النوعين ولا عبرة بما خرج عن الغالب على أنا إذا قدمنا أحد الأبوين فلا بد أن نراعي صيانته وحفظه للطفل ولهذا قال مالك والليث : إذا لم تكن الأم في موضع حرز وتحصين أو كانت غير مرضية فللأب أخذ البنت منها وكذلك الإمام أحمد رحمه الله في الرواية المشهورة عنه فإنه يعتبر قدرته على الحفظ والصيانة فإن كان مهملا لذلك أو عاجزا عنه أو غير مرضي أو ذا دياثة والأم بخلافه فهى أحق بالبنت بلا ريب فمن قدمناه بتخيير أو قرعة أو بنفسه فإنما نقدمه إذا حصلت به مصلحة الولد ولو كانت الأم أصون من الأب وأغير منه قدمت عليه ولا التفات إلى قرعة ولا اختيار الصبي في هذه الحالة فإنه ضعيف العقل يؤثر البطالة واللعب فإذا اختار من يساعده على ذلك لم يلتفت إلى اختياره وكان عند من هو أنفع له وأخير ولا تحتمل الشريعة غير هذا والنبي صلى الله عليه و سلم قد قال : [ مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم على تركها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع ] والله تعالى يقول : { يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة } [ التحريم : 6 ] وقال الحسن : علموهم وأدبوهم وفقهوهم فإذا كانت الأم تتركه في المكتب وتعلمه القرآن والصبي يؤثر اللعب ومعاشرة أقرانه وأبوه يمكنه من ذلك فإنه أحق به بلا تخيير ولا قرعة وكذلك العكس ومتى أخل أحد الأبوين بأمر الله ورسوله في الصبي وعطله والآخر مراع له فهو أحق وأولى به
وسمعت شيخنا رحمه الله يقول : تنازع أبوان صبيا عند بعض الحكام فخيره بينهما فاختار أباه فقالت له أمه : سله لأي شئ يختار أباه فسأله فقال : أمي تبعثني كل يوم للكتاب والفقيه يضربني وأبي يتركني للعب مع الصبيان فقضى به للأم قال : أنت أحق به
قال شيخنا : وإذا ترك أحد الأبوين تعليم الصبي وأمره الذي أوجبه الله عليه فهو عاص ولا ولاية له عليه بل كل من لم يقم بالواجب في ولايته فلا ولاية له بل إما أن ترفع يده عن الولاية ويقام من يفعل الواجب وإما أن يضم إليه من يقوم معه بالواجب إذ المقصود طاعة الله ورسوله بحسب الإمكان قال شيخنا : وليس هذا الحق من جنس الميراث الذي يحصل بالرحم والنكاح والولاء سواء كان الوارث فاسقا أو صالحا بل هذا من جنس الولاية التي لا بد فيها من القدرة على الواجب والعلم به وفعله بحسب الإمكان قال : فلو قدر أن الأب تزوج امرأة لا تراعي مصلحة ابنته ولا تقوم بها وأمها أقوم بمصلحتها من تلك الضرة فالحضانة هنا للأم قطعا قال : ومما ينبغي أن يعلم أن الشارع ليس عنه نص عام في تقديم أحد الأبوين مطلقا ولا تخيير الولد بين الأبوين مطلقا والعلماء متفقون على أنه لا يتعين أحدهما مطلقا بل لا يقدم ذو العدوان والتفريط على البر العادل المحسن والله أعلم
قالت الحنفية والمالكية : الكلام معكم في مقامين أحدهما : بيان الدليل الدال على بطلان التخيير والثاني : بيان عدم الدلالة في الأحاديث التي استدللتم بها على التخيير فأما الأول : فيدل عليه قوله صلى الله عليه و سلم : [ أنت أحق به ] ولم يخيره وأما المقام الثاني : فما رويتم من أحاديث التخيير مطلقة لا تقييد فيها وأنتم لا تقولون بها على إطلاقها بل قيدتم التخيير بالسبع فما فوقها وليس في شئ من الأحاديث ما يدل على ذلك ونحن نقول : إذا صار للغلام اختيار معتبر خير بين أبويه وإنما يعتبر اختياره إذا اعتبر قوله وذلك بعد البلوغ وليس تقييدكم وقت التخيير بالسبع أولى من تقييدنا بالبلوغ بل الترجيح من جانبنا لأنه حينئذ يعتبر قوله ويدل عليه قولها : وقد سقاني من بئر أبي عنبة وهي على أميال من المدينة وغير البالغ لا يتأتى منه عادة أن يحمل الماء من هذه المسافة ويستقي من البئر سلمنا أنه ليس في الحديث ما يدل على البلوغ فليس فيه ما ينفيه والواقعة واقعة عين وليس عن الشارع نص عام في تخيير من هو دون البلوغ حتى يجب المصير إليه سلمنا أنه فيه ما ينفي البلوغ فمن أين فيه ما يقتضي التقييد بسبع كما قلتم ؟
قالت الشافعية والحنابلة ومن قال بالتخيير : لا يتأتى لكم الإحتجاج بقوله صلى الله عليه و سلم : [ أنت أحق به ما لم تنكحي ] بوجه من الوجوه فإن منكم من يقول : إذا استغنى بنفسه وأكل بنفسه وشرب بنفسه فالأب أحق به بغير تخيير ومنكم من يقول : إذا اثغر فالأب أحق به
فنقول : النبي صلى الله عليه و سلم قد حكم لها به ما لم تنكح ولم يفرق بين أن تنكح قبل بلوغ الصبي السن الذي يكون عنده أو بعده وحينئذ فالجواب يكون مشتركا بيننا وبينكم ونحن فيه على سواء فما أجبتم به أجاب به منازعوكم سواء فإن أضمرتم أضمروا وإن قيدتم قيدوا وإن خصصتم خصصوا وإذا تبين هذا فنقول : الحديث اقتضى أمرين
أحدهما : أنها لا حق لها في الولد بعد النكاح
والثاني : أنها أحق به ما لم تنكح وكونها أحق به له حالتان إحداهما : أن يكون الولد صغيرا لم يميز فهى أحق به مطلقا من غير تخيير الثاني : أن يبلغ سن التمييز فهي أحق به أيضا ولكن هذه الأولوية مشروطة بشرط والحكم إذا علق بشرط صدق إطلاقه اعتمادا على تقدير الشرط وحينئذ فهي أحق به بشرط اختياره لها وغاية هذا أنه تقييد للمطلق بالأدلة الدالة على تخييره ولو حمل على إطلاقه وليس بممكن البتة لاستلزم ذلك إبطال أحاديث التخيير وأيضا فإذا كنتم قيدتموه بأنها أحق به إذا كانت مقيمة وكانت حرة ورشيدة وغير ذلك من القيود التي لا ذكر لشئ منها في الأحاديث البتة فتقييده بالإختيار الذي دلت عليه السنة واتفق عليه الصحابة أولى
وأما حملكم أحاديث التخيير على ما بعد البلوغ فلا يصح لخمسة أوجه
أحدها : أن لفط الحديث أنه خير غلاما بين أبويه وحقيقة الغلام من لم يبلغ فحمله على البالغ إخراج له عن حقيقته إلى مجازه بغير موجب ولا قرينة صارفة
الثاني : أن البالغ لا حضانة عليه فكيف يصح أن يخير ابن أربعين سنة بين أبوين ؟ هذا من الممتنع شرعا وعادة فلا يجوز حمل الحديث عليه
الثالث : أنه لم يفهم أحد من السامعين أنهم تنازعوا في رجل كبير بالغ عاقل وأنه خير بين أبويه ولا يسبق إلى هذا فهم أحد البتة ولو فرض تخييره لكان بين ثلاثة أشياء : الأبوين والإنفراد بنفسه
الرابع : أنه لا يعقل في العادة ولا العرف ولا الشرع أن تنازع الأبوان في رجل كبير بالغ عاقل كما لا يعقل في الشرع تخيير من هذه حاله بين أبويه
الخامس : أن في بعض ألفاظ الحديث أن الولد كان صغيرا لم يبلغ ذكره النسائي وهو حديث رافع بن سنان وفيه : فجاء ابن لها صغير لم يبلغ فأجلس النبي صلى الله عليه و سلم الأب ها هنا والأم ها هنا ثم خيره
وأما قولكم : إن بئر أبي عنبة على أميال من المدينة فجوابه مطالبتكم أولا : بصحة هذا الحديث ومن ذكره وثانيا : بأن مسكن هذه المراة بعيدا عن هذه البئر وثالثا : بأن من له نحو العشر سنين لا يمكنه أن يستقي من البئر المذكور عادة وكل هذا مما لا سبيل إليه فإن العرب وأهل البوادي يستقي أولادهم الصغار من آبار هي أبعد من ذلك
وأما تقييدنا له بالسبع فلا ريب أن الحديث لا يقتضي ذلك ولا هو أمر مجمع عليه فإن للمخيرين قولين أحدهما : أنه يخير لخمس حكاه إسحاق بن راهويه ذكره عنه حرب في مسائله ويحتج لهؤلاء بأن الخمس هي السن التي يصح فيها سماع الصبي ويمكن أن يعقل فيها وقد قال محمود بن الربيع : عقلت عن النبي صلى الله عليه و سلم مجة مجها في في وأنا ابن خمس سنين والقول الثاني : أنه إنما يخير لسبع وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق رحمهم الله واحتج لهذا القول بأن التخيير يستدعي التمييز والفهم ولا ضابط له في الأطفال فضبط بمظنته وهي السبع فإنها أول سن التمييز ولهذا جعلها النبي صلى الله عليه و سلم حدا للوقت الذي يؤمر فيه الصبي بالصلاة
وقولكم : إن الأحاديث وقائع أعيان فنعم هي كذلك ولكن يمتنع حملها على تخيير الرجال البالغين كما تقدم وفي بعضها لفظ : غلام وفي بعضها لفظ : صغير لم يبلغ وبالله التوفيق (5/416)
فصل
وأما قصة بنت حمزة واختصام علي وزيد وجعفر رضي الله عنهم فيها وحكم رسول الله صلى الله عليه و سلم بها لجعفر فإن هذه الحكومة كانت عقيب فراغهم من عمرة القضاء فإنهم لما خرجوا من مكة تبعتهم ابنة حمزة تنادي يا عم يا عم فأخذ علي بيدها ثم تنازع فيها هو وجعفر وزيد وذكر كل واحد من الثلاثة ترجيحا فذكر زيد أنها ابنة أخيه للمؤاخاة التي عقدها رسول الله صلى الله عليه و سلم بينه وبين حمزة وذكر علي كونها ابنة عمه وذكر جعفر مرجحين : القرابة وكون خالتها عنده فتكون عند خالتها فاعتبر النبي صلى الله عليه و سلم مرجح جعفر دون مرجح الآخرين فحكم له وجبر كل واحد منهم وطيب قلبه بما هو أحب إليه من أخذ البنت
فأما مرجح المؤاخاة فليس بمقتض للحضانة ولكن زيدا كان وصي حمزة وكان الإخاء حينئذ يثبت به التوارث فظن زيد أنه أحق بها لذلك
وأما مرجح القرابة ها هنا وهي بنوة العم فهل يستحق بها الحضانة ؟ على قولين أحدهما : يستحق بها وهو منصوص الشافعى وقول مالك وأحمد وغيرهم لأنه عصبة وله ولاية بالقرابة فقدم على الأجانب كما يقدم عليهم في الميراث وولاية النكاح وولاية الموت ورسول الله صلى الله عليه و سلم لم ينكر على جعفر وعلي ادعاءهما حضانتها ولو لم يكن لهما ذلك لأنكر عليهما الدعوى الباطلة فإنها دعوى ما ليس لهما وهو لا يقر على باطل
والقول الثاني : أنه لا حضانة لأحد من الرجال سوى الآباء والأجداد هذا قول بعض أصحاب الشافعي وهو مخالف لنصه وللدليل فعلى قول الجمهور - وهو الصواب - إذا كان الطفل أنثى وكان ابن العم محرما لها برضاع أو نحوه كان له حضانتها وإن جاوزت السبع وإن لم يكن محرما فله حضانتها صغيرة حتى تبلغ سبعا فلا يبقى له حضانتها بل تسلم إلى محرمها أو امرأة ثقة وقال أبو البركات في محرره : لا حضانة له ما لم يكن محرما برضاع أو نحوه
فإن قيل : فالحكم بالحضانة من النبي صلى الله عليه و سلم في هذه القصة هل وقع للخالة أو لجعفر ؟
قيل : هذا مما اختلف فيه على قولين منشؤهما اختلاف ألفاظ الحديث في ذلك ففي صحيح البخاري من حديث البراء : فقضى بها النبي صلى الله عليه و سلم لخالتها
وعن أبي داود : من حديث رافع بن عجير عن أبيه عن علي في هذه القصة [ وأما الجارية فأقضي بها لجعفر تكون مع خالتها وإنما الخالة أم ] ثم ساقه من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى وقال : قضى بها لجعفر لأن خالتها عنده ثم ساقه من طريق إسرائيل عن أبي إسحاق عن هانئ بن هانئ وهبيرة بن يريم وقال : فقضى بها النبي صلى الله عليه و سلم لخالتها وقال : [ الخالة بمنزلة الأم ]
واستشكل كثير من الفقهاء هذا وهذا فإن القضاء إن كان لجعفر فليس محرما لها وهو وعلي في القرابة منها سواء وإن كان للخالة فهي مزوجة والحاضنة إذا تزوجت سقطت حضانتها ولما ضاق هذا على ابن حزم طعن فى القصة بجميع طرقها وقال : أما حديث البخاري فمن رواية إسرائيل وهو ضعيف وأما حديث هانئ وهبيرة فمجهولان وأما حديث ابن أبي ليلى فمرسل وأبو فروة الراوي عنه هو مسلم بن سالم الجهني ليس بالمعروف وأما حديث نافع ابن عجير فهو وأبوه مجهولان ولا حجة في مجهول قال : إلا أن هذا الخبر بكل وجه حجة على الحنفية والمالكية والشافعية لأن خالتها كانت مزوجة بجعفر وهو أجمل شاب في قريش وليس هو ذا رحم محرم من بنت حمزة قال : ونحن لا ننكر قضاءه بها لجعفر من أجل خالتها لأن ذلك أحفظ لها
قلت : وهذا من تهوره رحمه الله وإقدامه على تضعيف ما اتفقت الناس على صحته فخالفهم وحده فإن هذه القصة شهرتها في الصحاح والسنن والمسانيد والسير والتواريخ تغني عن إسنادها فكيف وقد اتفق عليها صاحب الصحيح ولم يحفظ عن أحد قبله الطعن فيها البتة وقوله : إسرائيل ضعيف فالذي غره في ذلك تضعيف علي بن المديني له ولكن أبى ذلك سائر أهل الحديث واحتجوا به ووثقوه وثبتوه قال أحمد : ثقة وتعجب من حفظه وقال أبو حاتم وهو من أتقن أصحاب أبي إسحاق ولا سيما وقد روى هذا الحديث عن أبي إسحاق وكان يحفظ حديثه كما يحفظ السورة من القرآن وروى له الجماعة كلهم محتجين به
وأما قوله : إن هانئا وهبيرة مجهولان فنعم مجهولان عنده معروفان عند أهل السنن وثقهما الحفاظ فقال النسائي هانئ بن هانئ ليس به بأس وهبيرة روى له أهل السنن الأربعة وقد وثق
وأما قوله : حديث ابن أبي ليلى وأبو فروة الراوي عنه مسلم بن مسلم الجهني ليس بالمعروف فالتعليلان باطلان فإن عبد الرحمن بن أبي ليلى روى عن علي غير حديث وعن عمر ومعاذ رضي الله عنهما والذي غر أبا محمد أن أبا داود قال : حدثنا محمد بن عيسى حدثنا سفيان عن أبي فروة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى بهذا الخبر وظن أبو محمد أن عبد الرحمن لم يذكر عليا في الرواية فرماه بالإرسال وذلك من وهمه فإن ابن أبي ليلى روى القصة عن علي فاختصرها أبو داود وذكر مكان الإحتجاج وأحال على العلم المشهور برواية عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي وهذه القصة قد رواها علي وسمعها منه أصحابه : هانئ بن هانئ وهبيرة بن يريم وعجير بن عبد يزيد وعبد الرحمن بن أبي ليلى فذكر أبو داود حديث الثلاثة الأولين لسياقهم لها بتمامها وأشار إلى حديث ابن أبي ليلى لأنه لم يتمه وذكر السند منه إليه فبطل الإرسال ثم رأيت أبا بكر الإسماعيلي قد روى هذا الحديث في مسند علي مصرحا فيه بالإتصال فقال : أخبرنا الهيثم بن خلف حدثنا عثمان بن سعيد المقري حدثنا يوسف بن عدي حدثنا سفيان عن أبي فروة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي أنه اختصم هو وجعفر وزيد وذكر الحديث
وأما قوله : إن أبا فروة ليس بالمعروف فقد عرفه سفيان بن عيينة وغيره وخرجا له في الصحيحين
وأما رمية بن نافع بن عجير وأباه بالجهالة : فنعم ولا يعرف حالهما وليسا من المشهورين بنقل العلم وإن كان نافع أشهر من أبيه لرواية ثقتين عنه : محمد بن إبراهيم التميمي وعبد الله بن علي فليس الإعتماد على روايتهما وبالله التوفيق فثبت صحة الحديث
وأما الجواب عن استشكال من استشكله فنقول وبالله التوفيق : لا إشكال سواء كان القضاء لجعفر أو للخالة فإن ابنة العم إذا لم يكن لها قرابة سوى ابن عمها جاز أن تجعل مع امرأته في بيته بل يتعين ذلك وهو أولى من الأجنبي لا سيما إن كان ابن العم مبرزا في الديانة والعفة والصيانة فإنه في هذه الحال أولى من الأجانب بلا ريب
فإن قيل : فالنبي صلى الله عليه و سلم كان ابن عمها وكان محرما لها لأن حمزة كان أخاه من الرضاعة فهلا أخذها هو ؟
قيل : رسول الله صلى الله عليه و سلم كان في شغل شاغل بأعباء الرسالة وتبليغ الوحي والدعوة إلى الله وجهاد أعداء الله عن فراغه للحضانة فلو أخذها لدفعها إلى بعض نسائه فخالتها أمس بها رحما وأقرب
وأيضا فإن المرأة من نسائه لم تكن تجيئها النوبة إلا بعد تسع ليال فإن دارت الصبية معه حيث دار كان مشقة عليها وكان فيه من بروزها وظهورها كل وقت ما لا يخفى وإن جلست في بيت إحداهن كانت لها الحضانة وهي أجنبية هذا إن كان القضاء لجعفر وإن كان للخالة - وهو الصحيح وعليه يدل الحديث الصحيح الصريح - فلا إشكال لوجوه
أحدها : أن نكاح الحاضنة لا يسقط حضانة البنت كما هو إحدى الروايتين عن أحمد وأحد قولي العلماء وحجة هذا القول الحديث وقد تقدم سر الفرق بين الذكر والأنثى
الثاني : أن نكاحها قريبا من الطفل لا يسقط حضانتها وجعفر ابن عمها
الثالث : أن الزوج إذا رضي بالحضانة وآثر كون الطفل عنده في حجره لم تسقط الحضانة هذا هو الصحيح وهو مبني على أصل وهو أن سقوط الحضانة بالنكاح هو مراعاة لحق الزوج فإنه يتنغص عليه الإستمتاع المطلوب من المرأة لحضانتها لولد غيره ويتنكد عليه عيشه مع المرأة لا يؤمن أن يحصل بينهما خلاف المودة والرحمة ولهذا كان للزوج أن يمنعها من هذا مع اشتغالها هي بحقوق الزوج فتضيع مصلحة الطفل فإذا آثر الزوج ذلك وطلبه وحرص عليه زالت المفسدة التي لأجلها سقطت الحضانة والمقتضي قائم فيترتب عليه أثره يوضحه أن سقوط الحضانة بالنكاح ليست حقا لله وإنما هي حق للزوج وللطفل وأقاربه فإذا رضي من له الحق جاز فزال الإشكال على كل تقدير وظهر أن هذا الحكم من رسول الله صلى الله عليه و سلم من أحسن الأحكام وأوضحها وأشدها موافقة للمصلحة والحكمة والرحمة والعدل وبالله التوفيق
فهده ثلاثة مدارك في الحديث للفقهاء أحدها : أن نكاح الحاضنة لا يسقط حضانتها كما قاله الحسن البصري وقضى به يحيى بن حمزة وهو مذهب أبي محمد ابن حزم
والثاني : أن نكاحها لا يسقط حضانة البنت ويسقط حضانة الإبن كما قاله أحمد في إحدى روايتيه
والثالث : أن نكاحها لقريب الطفل لا يسقط حضانتها ونكاحها للأجنبي يسقطها كما هو المشهور من مذهب أحمد
وفيه مدرك رابع لمحمد بن جرير الطبري وهو أن الحاضنة إن كانت أما والمنازع لها الأب سقطت حضانتها بالتزويج وإن كانت خالة أو غيرها من نساء الحضانة لم تسقط حضانتها بالتزويج وكذلك إن كانت أما والمنازع لها غير الأب من أقارب الطفل لم تسقط حضانتها
ونحن نذكر كلامه وما له وعليه فيه قال في تهذيب الآثار بعد ذكر حديث ابنة حمزة : فيه الدلالة الواضحة على أن قيم الصبية الصغيرة والطفل الصغير من قرابتهما من قبل أمهاتهما من النساء أحق بحضانتهما من عصباتهما من قبل الأب وإن كن ذوات أزواج غير الأب الذي هما منه وذلك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قضى بابنة حمزة لخالتها في الحضانة وقد تنازع فيها ابنا عمها علي وجعفر ومولاها وأخو أبيها الذي كان رسول الله صلى الله عليه و سلم آخى بينه وبينه وخالتها يومئذ لها زوج غير أبيها وذلك بعد مقتل حمزة وكان معلوما بذلك صحة قول من قال : لا حق لعصبة الصغير والصغيرة من قبل الأب في حضانته ما لم تبلغ حد الإختيار بل قرابتهما من النساء من قبل أمهما أحق وإن كن ذوات أزواج
فإن قال قائل : فإن كان الأمر في ذلك عندك على ما وصفت من أن أم الصغير والصغيرة وقرابتهما من النساء من قبل أمهاتهما أحق بحضانتهما وإن كن ذوات أزواج من قرابتهما من قبل الأب من الرجال الذين هم عصبتهما فهلا كانت الأم ذات الزوج كذلك مع والدهما الأدنى والأبعد كما كانت الخالة أحق بهما ؟ وإن كان لها زوج غير أبيها وإلا فما الفرق ؟
قيل : الفرق بينهما واضح وذلك لقيام الحجة بالنقل المستفيض روايته عن النبي صلى الله عليه و سلم أن الأم أحق بحضانة الأطفال إذا كانت بانت من والدهم ما لم تنكح زوجا غيره ولم يخالف في ذلك من يجوز الإعتراض به على الحجة فيما نعلمه وقد روي في ذلك خبر وإن كان في إسناده نظر فإن النقل الذي وصفت أمره دال على صحته وإن كان واهي السند ثم ساق حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : [ أنت أحق به ما لم تنكحي ] من طريق المثنى بن الصباح عنه
ثم قال : وأما إذا نازعها فيه عصبة أبيه فصحة الخبر عن النبي صلى الله عليه و سلم الذي ذكرناه أنه جعل الخالة ذات الزوج غير أبي الصبية أحق بها من بني عمها وهم عصبتها فكانت الأم أحق بأن تكون أولى منهم وإن كان لها زوج غير أبيها لأن النبي صلى الله عليه و سلم إنما جعل الخالة أولى منهم لقرابتها من الأم وإذا كان ذلك كالذي وصفنا تبين أن القول الذي قلناه في المسألتين أصل إحداهما من جهة النقل المستفيض والأخرى من جهة نقل الآحاد العدول فإذا كان كذلك فغير جائز رد حكم إحداهما إلى حكم الأخرى إذ القياس إنما يجوز استعماله فيما لا نص فيه من الأحكام فأما ما فيه نص من كتاب الله أو خبر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فلا حظ فيه للقياس
فإن قال قائل : زعمت أنك إنما أبطلت حق الأم من الحضانة إذا نكحت زوجا عن أبي الطفل وجعل الأب أولى بحضانتها منه بالنقل المستفيض فكيف يكون ذلك كما قلت ؟ وقد علمت أن الحسن البصري كان يقول : المرأة أحق بولدها وإن تزوجت وقضى بذلك يحيى بن حمزة
قيل : إن النقل المستفيض التي تلزم به الحجة في الدين عندنا ليس صفته ألا يكون له مخالف ولكن صفته أن ينقله قولا وعملا من علماء الأمة من ينتفي عنه أسباب الكذب والخطأ وقد نقل من صفته ذلك من علماء الأمة أن المرأة إذا نكحت بعد بينونتها من زوجها زوجا غيره أن الأب أولى بحضانة ابنتها منها فكان ذلك حجة لازمة غير جائز الإعتراض عليها بالرأي وهو قول من يجوز عليه الغلط في قوله انتهى كلامه (5/428)
ذكر ما في هذا الكلام من مقبول ومردود
فأما قوله : إن في الدلالة على أن قرابة الطفل من قبل أمهاته من النساء أحق بحضانته من عصابته من قبل الأب وإن كن ذوات أزواج فلا دلالة فيه على ذلك البتة بل أحد ألفاظ الحديث صريح في خلافه وهو قوله صلى الله عليه و سلم : وأما الإبنة فإني أقضي بها لجعفر وأما اللفظ الآخر فقضى بها إلى خالتها وقال : هي أم وهو اللفظ الذي احتج به أبو جعفر فلا دليل على أن قرابة الأم مطلقا أحق من قرابة الأب بل إقرار النبي صلى الله عليه و سلم عليا وجعفرا على دعوى الحضانة يدل على أن لقرابة الأب مدخلا فيها وإنما قدم الخالة لكونها أنثى من أهل الحضانة فتقديمها على قرابة الأب كتقديم الأم على الأب والحديث ليس فيه لفظ عام يدل على ما ادعاه لا من أن من كان من قرابة الأم أحق بالحضانة من العصبة من قبل الأب حتى تكون بنت الأخت للأم أحق من العم وبنت الخالة أحق من العم والعمة فأين في الحديث دلالة على هذا فضلا عن أن تكون واضحة
قوله : وكان معلوما بذلك صحة قول من قال : لا حق لعصية الصغير والصغيرة من قبل الأب في حضانته ما لم يبلغ حد الإختيار يعني : فيخير بين قرابة أبيه وأمه فيقال : ليس ذلك معلوما من الحديث ولا مظنونا وإنما دل الحديث على أن ابن العم المزوج بالخالة أولى من ابن العم الذي ليس تحته خالة الطفل ويبقى تحقيق المناط : هل كانت جهة التعصيب مقتضية للحضانة فاستوت في شخصين ؟ فرجح أحدهما بكون خالة الطفل عنده وهي من أهل الحضانة كما فهمه طائفة من أهل الحديث أو أن قرابة الأم وهي الخالة أولى بحضانة الطفل من عصبة الأب ولم تسقط حضانتها بالتزويج إما لكون الزوج لا يسقط الحضانة مطلقا كقول الحسن ومن وافقه وإما لكون المحضونة بنتا كما قاله أحمد في رواية وإما لكون الزوج قرابة الطفل كالمشهور من مذهب أحمد وإما لكون الحاضنة غير أم نازعها الأب كما قاله أبو جعفر فهذه أربعة مدارك ولكن المدرك الذي اختاره أبو جعفر ضعيف جدا فإن المعنى الذي أسقط حضانة الأم بتزويجها هو بعينه موجود في سائر نساء الحضانة والخالة غايتها أن تقوم مقام الأم وتشبه بها فلا تكون أقوى منها وكذلك سائر قرابة الأم والنبي صلى الله عليه و سلم لم يحكم حكما عاما أن سائر أقارب الأم من كن لا تسقط حضانتهن بالتزويج وإنما حكم حكما معينا لخالة ابنة حمزة بالحضانة مع كونها مزوجة بقريب من الطفل والطفل ابنة
وأما الفرق الذي فرق بين الأم وغيرها بالنقل المستفيض إلى آخره فيريد به الإجماع الذي لا ينقضه عنده مخالفة الواحد والإثنين وهذا أصل تفرد به ونازعه فيه الناس
وأما حكمه على حديث عمرو بن شعيب بأنه واه فمبني على ما وصل إليه من طريقه فإن فيه المثنى بن الصباح وهو ضعيف أو متروك ولكن الحديث قد رواه الأوزاعي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رواه أبو داود في سننه (5/435)
فصل
وفي الحديث مسلك خامس وهو أن النبي صلى الله عليه و سلم قضى بها لخالتها وإن كانت ذات زوج لأن البنت تحرم على الزوج تحريم الجمع بين المرأة وخالتها وقد نبه النبي صلى الله عليه و سلم على هذا بعينه في حديث داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس فذكر الحديث بطوله وقال فيه : [ وأنت يا جعفر أولى بها : تحتك خالتها ولا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ] وليس عن النبي صلى الله عليه و سلم نص يقتضي أن يكون الحاضن ذا رحم تحرم عليه البنت على التأبيد حتى يعترض به على هذا المسلك بل هذا مما لا تأباه قواعد الفقه وأصول الشريعة فإن الخالة ما دامت في عصمة الحاضن فبنت أختها محرمة عليه فإذا فارقها فهي مع خالتها فلا محذور في ذلك أصلا ولا ريب أن القول بهذا أخير وأصلح للبنت من دفعها إلى الحاكم يدفعها إلى أجنبي تكون عنده إذ الحاكم غير متصد للحضانة بنفسه فهل يشك أحد أن ما حكم به النبي صلى الله عليه و سلم في هذه الواقعة هو عين المصلحة والحكمة والعدل وغاية الإحتياط للبنت والنظر لها وأن كل حكم خالفه لا ينفك عن جور أو فساد لا تأتي به الشريعة فلا إشكال في حكمه صلى الله عليه و سلم والإشكال كل الإشكال فيما خالفه والله المستعان وعليه التكلان (5/437)
ذكر حكمه صلى الله عليه و سلم في النفقة على الزوجات
وأنه لم يقدرها ولا ورد عنه ما يدل على تقديرها وإنما رد الأزواج فيها إلى العرف
ثبت عنه في صحيح مسلم : [ أنه قال في خطبة حجة الوداع بمحضر الجمع العظيم قبل وفاته ببضعة وثمانين يوما : واتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف ]
وثبت عنه صلى الله عليه و سلم في الصحيحين : [ أن هندا امرأة أبي سفيان قالت له : ان أبا سفيان رجل شحيح ليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم فقال : خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ]
وفي سنن أبي داود : من حديث حكيم بن معاوية عن أبيه رضي الله عنه قال : [ أتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت : يا رسول الله ! ما تقول في نسائنا ؟ قال : أطعموهن مما تأكلون واكسوهن مما تلبسون ولا تضربوهن ولا تقبحوهن ]
وهذا الحكم من رسول الله صلى الله عليه و سلم مطابق لكتاب الله عز و جل حيث يقول تعالى : { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } [ البقرة : 233 ] والنبي صلى الله عليه و سلم جعل نفقة المرأة مثل نفقة الخادم وسوى بينهما في عدم التقدير وردهما إلى المعروف فقال : [ للملوك طعامه وكسوته بالمعروف ] فجعل نفقتهما بالمعروف ولا ريب أن نفقة الخادم غير مقدرة ولم يقل أحد بتقديرها
وصح عنه في الرقيق أنه قال : [ أطعموهم مما تأكلون وألبسوهم مما تلبسون ] رواه مسلم كما قال في الزوجة سواء
وصح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : امرأتك تقول : إما أن تطعمني وإما أن تطلقني ويقول العبد : أطعمني واستعملني ويقول الإبن أطعمني إلى من تدعني فجعل نفقة الزوجة والرقيق والولد كلها الإطعام لا التمليك
وروى النسائي هذا مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه و سلم كما سيأتي
وقال تعالى : { من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم } [ المائدة : 89 ] وصح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : الخبز والزيت وصح عن ابن عمر رضي الله عنه : الخبز والسمن والخبز والتمر ومن أفضل ما تطعمون الخبز واللحم
ففسر الصحابة إطعام الأهل بالخبز مع غيره من الآدم والله ورسوله ذكرا الإنفاق مطلقا من غير تحديد ولا تقدير ولا تقييد فوجب رده إلى العرف لو لم يرده إليه النبي صلى الله عليه و سلم فكيف وهو الذي رد ذلك إلى العرف وأرشد أمته إليه ؟ ومن المعروف أن أهل العرف إنما يتعارفون بينهم في الإنفاق على أهليهم حتى من يوجب التقدير : الخبز والإدام دون الحب والنبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه إنما كانوا ينفقون على أزواجهم كذلك دون تمليك الحب وتقديره ولأنها نفقة واجبة بالشرع فلم تقدر بالحب كنفقة الرقيق ولو كانت مقدرة لأمر النبي صلى الله عليه و سلم هندا أن تأخذ المقدر لها شرعا ولما أمرها أن تأخذ ما يكفيها من غير تقدير ورد الإجتهاد في ذلك إليها ومن المعلوم ان قدر كفايتها لا ينحصر في مدين ولا في رطلين بحيث لا يزيد عليهما ولا ينقص ولفظه لم يدل على ذلك بوجه ولا إيماء ولا إشارة وإيجاب مدين أو رطلين خبزا قد يكون أقل من الكفاية فيكون تركا للمعروف وإيجاب قدر الكفاية مما ياكل الرجل وولده ورقيقه وإن كان أقل من مد أو من رطلي خبز إنفاق بالمعروف فيكون هذا هو الواجب بالكتاب والسنة ولأن الحب يحتاج إلى طحنه وخبزه وتوابع ذلك فإن أخرجت ذلك من مالها لم تحصل الكفاية بنفقة الزوج وإن فرض عليه ذلك لها من ماله كان الواجب حبا ودراهم ولو طلبت مكان الخبز دراهم أو حبا أو دقيقا أو غيره لم يلزمه بذله ولو عرض عليها ذلك أيضا لم يلزمها قبوله لأن ذلك معاوضة فلا يجبر أحدهما على قبولها ويجوز تراضيهما على ما اتفقا عليه
والذين قدروا النفقة اختلفوا فمنهم من قدرها بالحب وهو الشافعي فقال : نفقة الفقير مد بمد النبي صلى الله عليه و سلم لأن أقل ما يدفع في الكفارة إلى الواحد مد والله سبحانه اعتبر الكفارة بالنفقة على الأهل فقال : { فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم } [ المائدة : 89 ] قال : وعلى الموسر مدان لأن أكثر ما أوجب الله سبحانه للواحد مدان في كفارة الأذى وعلى المتوسط مد ونصف نصف نفقة الموسر ونصف نفقة الفقير
وقال القاضي أبو يعلى : مقدرة بمقدار لا يختلف في القلة والكثرة والواجب رطلان من الخبز في كل يوم في حق الموسر والمعسر اعتبارا بالكفارات وإنما يختلفان في صفته وجودته لأن الموسر والمعسر سواء في قدر المأكول وما تقوم به البنية وإنما يختلفان في جودته فكذلك النفقة الواجبة
والجمهور قالوا : لا يحفظ عن أحد من الصحابة قط تقدير النفقة لا بمد ولا برطل والمحفوظ عنهم بل الذي اتصل به العمل في كل عصر ومصر ما ذكرناه
قالوا : ومن الذي سلم لكم التقدير بالمد والرطل في الكفارة والذي دل عليه القرآن والسنة أن الواجب في الكفارة الإطعام فقط لا التمليك قال تعالى في كفارة اليمين : { فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم } [ المائدة : 89 ] وقال في كفارة الظهار : { فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا } [ المجادلة : 4 ] وقال في فدية الأذى : { ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } [ البقرة : 196 ] وليس في القرآن في إطعام الكفارات غير هذا وليس في موضع
واحد منها تقدير ذلك بمد ولا رطل وصح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لمن وطئ في نهار رمضان : [ أطعم ستين مسكينا ] وكذلك قال للمظاهر ولم يحد ذلك بمد ولا رطل
فالذي دل عليه القرآن والسنة أن الواجب في الكفارات والنفقات هو الإطعام لا التمليك وهذا هو الثابت عن الصحابة رضي الله عنهم قال أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا أبو خالد عن حجاج عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي : يغديهم ويعشيهم خبزا وزيتا
وقال إسحاق عن الحارث كان علي يقول في إطعام المساكين في كفارة اليمين : يغديهم ويعشيهم خبزا وزيتا أو خبزا وسمنا
وقال ابن أبي شيبة : حدثنا يحيى بن يعلى عن ليث قال : كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول : { من أوسط ما تطعمون أهليكم } قال : الخبز والسمن والخبز والزيت والخبز واللحم
وصح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : أوسط ما يطعم الرجل أهله : الخبز واللبن والخبز والزيت والخبز والسمن ومن أفضل ما يطعم الرجل أهله : الخبز واللحم
وقال يزيد بن زريع : حدثنا يونس عن محمد بن سيرين أن أبا موسى الأشعري كفر عن يمين له مرة فأمر بجيرا أو جبيرا يطعم عنه عشرة مساكين خبزا ولحما وأمر لهم بثوب معقد أو ظهراني
وقال ابن أبي شيبة : حدثنا يحيى بن إسحاق حدثنا يحيى بن أيوب عن حميد أن أنسا رضي الله عنه مرض قبل أن يموت فلم يستطع أن يصوم وكان يجمع ثلاثين مسكينا فيطعمهم خبزا ولحما أكلة واحدة
وأما التابعون فثبت ذلك عن الاسود بن يزيد وأبي رزين وعبيدة ومحمد بن سيرين والحسن البصري وسعيد بن جبير وشريح وجابر بن زيد وطاووس والشعبي وابن بريدة والضحاك والقاسم وسالم ومحمد بن إبراهيم ومحمد بن كعب وقتادة وإبراهيم النخعي والأسانيد عنهم بذلك في أحكام القرآن لإسماعيل بن إسحاق منهم من يقول : يغدي المساكين ويعشيهم ومنهم من يقول : أكلة واحدة ومنهم من يقول : خبز ولحم خبز وزيت خبز وسمن وهذا مذهب أهل المدينة وأهل العراق وأحمد في إحدى الروايتين عنه والرواية الأخرى : أن طعام الكفارة مقدر دون نفقة الزوجات
فالأقوال ثلاثة : التقدير فيهما كقول الشافعي وحده وعدم التقدير فيهما كقول مالك وأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين والتقدير في الكفارة دون النفقة كالرواية الأخرى عنه
قال من نصر هذا القول : الفرق بين النفقة والكفارة : أن الكفارة لا تختلف باليسار والإعسار ولا هي مقدرة بالكفاية ولا أوجبها الشارع بالمعروف كنفقة الزوجة والخادم والإطعام فيها حق لله تعالى لا لآدمي معين فيرضى بالعوض عنه ولهذا لو أخرج القيمة لم يجزه وروي التقدير فيها عن الصحابة فقال القاضي إسماعيل : حدثنا حجاج بن المنهال حدثنا أبو عوانة عن منصور عن أبي وائل عن يسار بن نمير قال : قال عمر : إن ناسا يأتوني يسألوني فأحلف أني لا أعطيهم ثم يبدو لي أن أعطيهم فإذا أمرتك أن تكفر فأطعم عني عشرة مساكين لكل مسكين صاعا من تمر أو شعير أو نصف صاع من بر
حدثنا حجاج بن المنهال وسليمان بن حرب قالا : حدثنا حماد بن سلمة عن سلمة بن كهيل عن يحيى بن عباد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : يا يارفا ! اذا حلفت فحنثت فأطعم على ليميني خمسة أصوع عشرة مساكين
وقال ابن أبي شيبة : حدثنا وكيع عن ابن أبي ليلى عن عمر ابن أبي مرة عن عبد الله بن سلمة عن علي قال : كفارة اليمين : إطعام عشرة مساكين لكل مسكين نصف صاع
حدثنا عبد الرحيم وأبو خالد الأحمر عن حجاج عن قرط عن جدته عن عائشة رضي الله عنها قالت : إنا نطعم نصف صاع من بر أو صاعا من تمر في كفارة اليمين
وقال إسماعيل : حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا هشام بن أبي عبد الله حدثنا يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن زيد بن ثابت قال : يجزئ في كفارة اليمين لكل مسكين مد حنطة
حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن يزيد عن أيوب عن نافع أن ابن عمر رضي الله عنه كان إذا ذكر اليمين أعتق وإذا لم يذكرها أطعم عشرة مساكين لكل مسكين مد مد
وصح عن ابن عباس رضي الله عنهما : في كفارة اليمين مد ومعه أدمه
وأما التابعون فثبت ذلك عن سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير ومجاهد وقال : كل طعام ذكر في القرآن للمساكين فهو نصف صاع وكان يقول في كفارة الأيمان كلها : مدان لكل مسكين
وقال حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار : أدركت الناس وهم يعطون في كفاره اليمين مدا بالمد الأول وقال القاسم وسالم وأبو سلمة مد مد من بر وقال عطاء : فرقا بين عشرة ومرة قال : مد مد
قالوا : وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لكعب بن عجرة في كفارة فدية الأذى : [ أطعم ستة مساكين نصف صاع نصف صاع طعاما لكل مسكين ] فقدر رسول الله صلى الله عليه و سلم فدية الأذى فجعلنا تقديرها أصلا وعديناها إلى سائر الكفارات ثم قال من قدر طعام الزوجة : ثم رأينا النفقات والكفارات قد اشتركا في الوجوب فاعتبرنا إطعام النفقة بإطعام الكفارة ورأينا الله سبحانه قد قال في جزاء الصيد : { أو كفارة طعام مساكين } [ المائدة : 95 ] وما أجمعت الأمة أن الطعام مقدر فيها ولهذا لو عدم الطعام صام عن كل مد يوما كما أفتى به ابن عباس والناس بعده فهذا ما احتجت به هذه الطائفة على تقدير طعام الكفارة
قال الآخرون : لا حجة في أحد دون الله ورسوله وإجماع الأمة وقد أمرنا تعالى أن نرد ما تنازعنا فيه إليه وإلى رسوله وذلك خير لنا حالا وعاقبة ورأينا الله سبحانه إنما قال في الكفارة : { إطعام عشرة مساكين } و { إطعام ستين مسكينا } فعلق الأمر بالمصدر الذي هو الإطعام ولم يحد لنا جنس الطعام ولا قدره وحد لنا جنس المطعمين وقدرهم فأطلق الطعام وقيد المطعومين ورأيناه سبحانه حيث ذكر إطعام المسكين في كتابه فإنما أراد به الإطعام المعهود المتعارف كقوله تعالى : { وما أدراك ما العقبة * فك رقبة * أو إطعام في يوم ذي مسغبة * يتيما } [ البلد : 12 ] وقال : { ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا } [ الإنسان : 8 ] وكان من المعلوم يقينا أنهم لو غدوهم أو عشوهم أو أطعموهم خبزا ولحما أو خبزا ومرقا ونحوه لكانوا ممدوحين داخلين فيمن أثنى عليهم وهو سبحانه عدل عن الطعام الذي هو اسم للمأكول إلى الإطعام الذي هو مصدر صريح وهذا نص في أنه إذا أطعم المساكين ولم يملكهم فقد امتثل ما أمر به وصح في كل لغة وعرف : أنه أطعمهم
قالوا : وفي أي لغة لا يصدق لفظ الإطعام إلا بالتمليك ؟ ولما قال أنس رضي الله عنه : إن النبي صلى الله عليه و سلم أطعم الصحابة في وليمة زينب خبزا ولحما كان قد اتخذ طعاما ودعاهم إليه على عادة الولائم وكذلك قوله في وليمة صفية : [ أطعمهم حيسا ] وهذا أظهر من أن نذكر شواهده قالوا : وقد زاد ذلك إيضاحا وبيانا بقوله : { من أوسط ما تطعمون أهليكم } [ المائدة : 89 ] ومعلوم يقينا أن الرجل إنما يطعم أهله الخبز واللحم والمرق واللبن ونحو ذلك فإذا أطعم المساكين من ذلك فقد أطعمهم من أوسط ما يطعم أهله بلا شك ولهذا اتفق الصحابة رضي الله عنهم في إطعام الأهل على أنه غير مقدر كما تقدم والله سبحانه جعله أصلا لطعام الكفارة فدل بطريق الأولى على أن طعام الكفارة غير مقدر
وأما من قدر طعام الأهل فإنما أخذ من تقدير طعام الكفارة فيقال : هذا خلاف مقتضى النص فإن الله أطلق طعام الأهل وجعله أصلا لطعام الكفارة فعلم أن طعام الكفارة لا يتقدر كما لا يتقدر أصله ولا يعرف عن صحابي البتة تقدير طعام الزوجة مع عموم هذه الواقعة في كل وقت
قالوا : فأما الفروق التي ذكرتموها فليس فيها ما يستلزم تقدير طعام الكفارة وحاصلها خمسة فروق أنها لا تختلف باليسار والإعسار وأنها لا تتقدر بالكفاية ولا أوجبها الشارع بالمعروف ولا يجوز إخراج العوض عنها وهي حق لله لا تسقط بالإسقاط بخلاف نفقة الزوجة فيقال : نعم لا شك في صحة هذه الفروق ولكن من أين يستلزم وجوب تقديرها بمد ومدين ؟ بل هي إطعام واجب من جنس ما يطعم أهله ومع ثبوت هذه الأحكام لا يدل على تقديرها بوجه
وأما ما ذكرتم عن الصحابة من تقديرها فجوابه من وجهين
أحدهما : أنا قد ذكرنا عن جماعة منهم : علي وأنس وأبو موسى وابن مسعود رضي الله عنهم أنهم قالوا : يجزئ أن يغديهم ويعشيهم
الثاني : أن من روي عنهم المد والمدان لم يذكروا ذلك تقديرا وتحديدا بل تمثيلا فإن منهم من روي عنه المد وروي عنه مدان وروي عنه مكوك وروي عنه جواز التغدية والتعشية وروي عنه أكلة وروي عنه رغيف أو رغيفان فإن كان هذا اختلافا فلا حجة فيه وإن كان بحسب حال المستفتي وبحسب حال الحالف والمكفر فظاهر وإن كان ذلك على سبيل التمثيل فكذلك فعلى كل تقدير لا حجة فيه على التقديرين
قالوا : وأما الإطعام في فدية الأذى فليس من هذا الباب فإن الله سبحانه قال : { ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } [ البقرة : 196 ] والله سبحانه أطلق هذه الثلاثة ولم يقيدها وصح عن النبي صلى الله عليه و سلم تقييد الصيام بثلاثة أيام وتقييد النسك بذبح شاة وتقييد الإطعام بستة مساكين لكل مسكين نصف صاع ولم يقل سبحانه في فدية الأذى : فإطعام ستة مساكين ولكن أوجب صدقة مطلقة وصوما مطلقا ودما مطلقا فعينه النبي صلى الله عليه و سلم بالفرق والثلاثة الأيام والشاة
وأما جزاء الصيد فإنه من غير هذا الباب فإن المخرج إنما يخرج قيمة الصيد من الطعام وهي تختلف بالقلة والكثرة فإنها بدل متلف لا ينظر فيها إلى عدد المساكين وإنما ينظر فيها إلى مبلغ الطعام فيطعمه المساكين على ما يرى من إطعامهم وتفضيل بعضهم على بعض فتقدير الطعام فيها على حسب المتلف وهو يقل ويكثر وليس ما يعطاه كل مسكين مقدرا
ثم إن التقدير بالحب يستلزم أمرا باطلا بين البطلان فإنه إذا كان الواجب لها عليه شرعا الحب وأكثر الناس إنما يطعم أهله الخبز فإن جعلتم هذا معاوضة كان ربا ظاهرا وإن لم تجعلوه معاوضة فالحب ثابت لها في ذمته ولم تعتض عنه فلم تبرأ ذمته منه إلا بإسقاطها وإبرائها فإذا لم تبرئه طالبته بالحب مدة طويلة مع إنفاقه عليها كل يوم حاجتها من الخبز والأدم وإن مات أحدهما كان الحب دينا له أو عليه يؤخذ من التركة مع سعة الإنفاق عليها كل يوم
ومعلوم أن الشريعة الكاملة المشتملة على العدل والحكمة والمصلحة تأبى ذلك كل الإباء وتدفعه كل الدفع كما يدفعه العقل والعرف ولا يمكن أن يقال : إن النفقة التي في ذمته تسقط بالذي له عليها من الخبز والأدم لوجهين أحدهما : أنه لم يبعه إياها ولا اقترضه منها حتى يثبت في ذمتها بل هي معه فيه على حكم الضيف لامتناع المعاوضة عن الحب بذلك شرعا ولو قدر ثبوته في ذمتها لما أمكنت المقاصة لاختلاف الدينين جنسا والمقاصة تعتمد اتفاقهما هذا وإن قيل بأحد الوجهين : إنه لا يجوز المعاوضة على النفقة مطلقا لا بدراهم ولا بغيرها لأنه معاوضة عما لم يستقر ولم يجب فإنها إنما تجب شيئا فشيئا فإنه لا تصح المعاوضة عليها حتى تستقر بمضي الزمان فيعاوض عنها كما يعاوض عما هو مستقر في الذمة من الديون ولما لم يجد بعض أصحاب الشافعي من هذا الإشكال مخلصا قال : الصحيح أنها إذا أكلت سقطت نفقتها قال الرافعي في محرره : أولى الوجهين السقوط وصححه النووي لجريان الناس عليه في كل عصر ومصر واكتفاء الزوجة به وقال الرافعي في الشرح الكبير و الأوسط : فيه وجهان أقيسهما : أنها لا تسقط لأنه لم يوف الواجب وتطوع بما ليس بواجب وصرحوا بأن هذين الوجهين في الرشيدة التي أذن لها قيمها فإن لم يأذن لها لم تسقط وجها واحدا (5/437)
فصل
وفي حديث هند : دليل على جواز قول الرجل في غريمه ما فيه من العيوب عند شكواه وأن ذلك ليس بغيبة ونظير ذلك قول الآخر في خصمه : يا رسول الله ! إنه فاجر لا يبالي ما حلف عليه
وفيه دليل على تفرد الأب بنفقة أولاده ولا تشاركه فيها الأم وهذا إجماع من العلماء إلا قول شاذ لا يلتفت إليه أن على الأم من النفقة بقدر ميراثها وزعم صاحب هذا القول : أنه طرد القياس على كل من له ذكر وأنثى في درجة واحدة وهما وارثان فإن النفقة عليهما كما لو كان له أخ وأخت أو أم وجد أو ابن وبنت فالنفقة عليهما على قدر ميراثهما فكذلك الأب والأم
والصحيح : انفراد العصبة بالنفقة وهذا كله كما ينفرد الأب دون الأم بالإنفاق وهذا هو مقتضى قواعد الشرع فإن العصبة تنفرد بحمل العقل وولاية النكاح وولاية الموت والميراث بالولاء وقد نص الشافعي على أنه إذا اجتمع أم وجد أو أب فالنفقة على الجد وحده وهو إحدى الروايات عن أحمد وهي الصحيحة في الدليل وكذلك إن اجتمع ابن وبنت أو أم وابن أو بنت وابن ابن فقال الشافعي : النفقة في هذه المسائل الثلاث على الابن لأنه العصبة وهي إحدى الروايات عن أحمد والثانية : أنها على قدر الميراث في المسائل الثلاث وقال أبو حنيفة : النفقة في مسألة الابن والبنت عليهما نصفان لتساويهما في القرب وفي مسألة بنت وابن ابن : النفقة على البنت لأنها أقرب وفي مسألة أم وبنت على الأم الربع والباقي على البنت وهو قول أحمد وقال الشافعي : تنفرد بها البنت لأنها تكون عصبة مع أخيها والصحيح : انفراد العصبة بالإنفاق لأنه الوارث المطلق
وفيه دليل على أن نفقة الزوجة والأقارب مقدرة بالكفاية وأن ذلك بالمعروف وأن لمن له النفقة له أن يأخذها بنفسه إذا منعه إياها من هي عليه
وقد احتج بهذا على جواز الحكم على الغائب ولا دليل فيه لأن أبا سفيان كان حاضرا في البلد لم يكن مسافرا والنبي صلى الله عليه و سلم لم يسألها البينة ولا يعطى المدعي بمجرد دعواه وإنما كان هذا فتوى منه صلى الله عليه و سلم
وقد احتج به على مسألة الظفر وأن للإنسان أن يأخذ من مال غريمه إذا ظفر به بقدر حقه الذي جحده إياه ولا يدل لثلاثة أوجه أحدها : أن سبب الحق ها هنا ظاهر وهو الزوجية فلا يكون الأخذ خيانة في الظاهر فلا يتناوله قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك ] ولهذا نص أحمد على المسألتين مفرقا بينهما فمنع من الأخذ في مسألة الظفر وجوز للزوجة الأخذ وعمل بكلا الحديثين
الثاني : أنه يشق على الزوجة أن ترفعه إلى الحاكم فيلزمه بالإنفاق أوالفراق وفي ذلك مضرة عليها مع تمكنها من أخذ حقها
الثالث : أن حقها يتجدد كل يوم فليس هو حقا واحدا مستقرا يمكن أن تستدين عليه أو ترفعه إلى الحاكم بخلاف حق الدين (5/448)
فصل
وقد احتج بقصة هند هذه على أن نفقة الزوجة تسقط بمضي الزمان لأنه لم يمكنها من أخذ ما مضى لها من قدر الكفاية مع قولها : إنه لا يعطيها ما يكفيها ولا دليل فيها لأنها لم تدع به ولا طلبته وإنما استفتته : هل تأخذ في المستقبل ما يكفيها ؟ فأفتاها بذلك
وبعد فقد اختلف الناس في نفقة الزوجات والأقارب هل يسقطان بمضي الزمان كلاهما أو لا يسقطان أو تسقط نفقة الأقارب دون الزوجات ؟ على ثلاثة أقوال
أحدها : أنهما يسقطان بمضي الزمان وهذا مذهب أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن أحمد
والثاني : أنهما لا يسقطان إذا كان القريب طفلا وهذا وجه للشافعية
والثالث : تسقط نفقة القريب دون نفقة الزوجة وهذا هو المشهور من مذهب الشافعي وأحمد ومالك ثم الذين أسقطوه بمضي الزمان منهم من قال : إذا كان الحاكم قد فرضها لم تسقط وهذا قول بعض الشافعية والحنابلة ومنهم من قال : لا يؤثر فرض الحاكم في وجوبها شيئا إذا سقطت بمضي الزمان والذي ذكره أبو البركات في محرره الفرق بين نفقة الزوجة ونفقة القريب في ذلك فقال : وإذا غاب مدة ولم ينفق لزمه نفقة الماضي وعنه : لا يلزمه إلا أن يكون الحاكم قد فرضها
وأما نفقة أقاربه فلا تلزمه لما مضى وإن فرضت إلا أن يستدان عليه بإذن الحاكم وهذا هو الصواب وأنه لا تأثير لفرض الحاكم في وجوب نفقة القريب لما مضى من الزمان نقلا وتوجيها أما النقل فإنه لا يعرف عن أحمد ولا عن قدماء أصحابه استقرار نفقة القريب بمضي الزمان إذا فرضها الحاكم ولا عن الشافعي وقدماء أصحابه والمحققين لمذهبه منهم كصاحب المهذب والحاوي و الشامل و النهاية و التهذيب و البيان و الذخائر وليس في هذه الكتب إلا السقوط بدون استثناء فرض وإنما يوجد استقرارها إذا فرضها الحاكم في الوسيط و الوجيز و شرح الرافعي وفروعه وقد صرح نصر المقدسي في تهذيبه والمحاملي في العدة ومحمد بن عثمان في التمهيد والبندنيجي في المعتمد بأنها لا تستقر ولو فرضها الحاكم وعللوا السقوط بأنها تجب على وجه المواساة لإحياء النفس ولهذا لا تجب مع يسار المنفق عليه وهذا التعليل يوجب سقوطها فرضت أو لم تفرض وقال أبو المعالي : ومما يدل على ذلك أن نفقة القريب إمتاع لا تمليك وما لا يجب فيه التمليك وانتهى إلى الكفاية استحال مصيره دينا في الذمة واستبعد لهذا التعليل قول من يقول : إن نفقة الصغير تستقر بمضي الزمان وبالغ في تضعيفه من جهة أن إيجاب الكفاية مع إيجاب عوض ما مضى متناقض ثم اعتذر عن تقديرها في صورة الحمل على الأصح إذا قلنا : إن النفقة له بأن الحامل مستحقة لها أو منتفعة بها فهي كنفقة الزوجة قال : ولهذا قلنا : تتقدر ثم قال : هذا في الحمل والولد الصغير أما نفقة غيرهما فلا تصير دينا أصلا انتهى وهذا الذي قاله هؤلاء هو الصواب فإن في تصور فرض الحاكم نظرا لأنه إما أن يعتقد سقوطها بمضي الزمان أو لا فإن كان يعتقده لم يسغ له الحكم بخلافه وإلزام ما يعتقد أنه غير لازم وإن كان لا يعتقد سقوطها مع أنه لا يعرف به قائل إلا في الطفل الصغير على وجه لأصحاب الشافعي فإما أن يعني بالفرض الإيجاب أو إثبات الواجب أو تقديره أو أمرا رابعا فإن أريد به الإيجاب فهو تحصيل الحاصل ولا أثر لفرضه وكذلك إن أريد به إثبات الواجب ففرضه وعدمه سيان وإن أريد به تقدير الواجب فالتقدير إنما يؤثر في صفة الواجب من الزيادة والنقصان لا في سقوطه ولا ثبوته فلا أثر لفرضه في الواجب ألبتة هذا مع ما في التقدير من مصادمة الأدلة التي تقدمت على أن الواجب النفقة بالمعروف فيطعمهم مما يأكل ويكسوهم مما يلبس وإن أريد به أمر رابع فلا بد من بيانه لينظر فيه
فإن قيل : الأمر الرابع المراد هو عدم السقوط بمضي الزمان فهذا هو محل الحكم وهو الذي أثر فيه حكم الحاكم وتعلق به قيل : فكيف يمكن أن يعتقد السقوط ثم يلزم ويقضي بخلافه ؟ وإن اعتقد عدم السقوط فخلاف الإجماع ومعلوم أن حكم الحاكم لا يزيل الشئ عن صفته فإذا كانت صفة هذا الواجب سقوطه بمضي الزمان شرعا لم يزله حكم الحاكم عن صفته
فإن قيل : بقي قسم آخر وهو أن يعتقد الحاكم السقوط بمضي الزمان ما لم يفرض فإن فرضت استقرت فهو يحكم باستقرارها لأجل الفرض لا بنفس مضي الزمان
قيل : هذا لا يجدي شيئا فإنه إذا اعتقد سقوطها بمضى الزمان وإن هذا هو الحق والشرع لم يجز له أن يلزم بما يعتقد سقوطه وعدم ثبوته وما هذا إلا بمثابة ما لو ترافع إليه مضطر وصاحب طعام غير مضطر فقضي به للمضطر بعوضه فلم يتفق أخذه حتى زال الاضطرار ولم يعط صاحبه العوض أنه يلزمه بالعوض ويلزم صاحب الطعام ببذله له والقريب يستحق النفقة لإحياء مهجته فإذا مضى زمن الوجوب حصل مقصود الشارع من إحيائه فلا فائدة في الرجوع بما فات من سبب الإحياء ووسيلته مع حصول المقصود والاستغناء عن السبب بسبب آخر
فإن قيل : فهذا ينتقض عليكم بنفقة الزوجة فإنها تستقر بمضي الزمان ولو لم تفرض مع حصول هذا المعنى الذي ذكرتموه بعينه
قيل : النقض لا بد أن يكون بمعلوم الحكم بالنص أو الإجماع وسقوط نفقة الزوجة بمضي الزمان مسألة نزاع فأبو حنيفة وأحمد في رواية يسقطانها والشافعي وأحمد في الرواية الأخرى لا يسقطانها والذين لا يسقطونها فرقوا بينها وبين نفقة القريب بفروق
أحدها : أن نفقة القريب صلة
الثاني : أن نفقة الزوجة تجب مع اليسار والإعسار بخلاف نفقة القريب
الثالث : أن نفقة الزوجة تجب مع استغنائها بمالها ونفقة القريب لا تجب إلا مع إعساره وحاجته
الرابع : أن الصحابة رضي الله عنهم أوجبوا للزوجة نفقة ما مضى ولا يعرف عن أحد منهم قط أنه أوجب للقريب نفقة ما مضى فصح عن عمر رضي الله عنه أنه كتب إلى أمراء الأجناد في رجال غابوا عن نسائهم فأمرهم بأن ينفقوا أو يطلقوا فإن طلقوا بعثوا بنفقة ما مضى ولم يخالف عمر رضي الله عنه في ذلك منهم مخالف قال ابن المنذر رحمه الله : هذه نفقة وجبت بالكتاب والسنة والإجماع ولا يزول ما وجب بهذه الحجج إلا بمثلها
قال المسقطون : قد شكت هند إلى النبي صلى الله عليه و سلم أن أبا سفيان لا يعطيها كفايتها فأباح لها أن تأخذ في المستقبل قدر الكفاية ولم يجوز لها أخذ ما مضى وقولكم : إنها نفقة معاوضة فالمعاوضة إنما هي بالصداق وإنما النفقة لكونها في حبسه فهى عانية عنده كالأسير فهي من جملة عياله ونفقتها مواساة وإلا فكل من الزوجين يحصل له من الاستمتاع مثل ما يحصل للآخر وقد عاوضها على المهر فإذا استغنت عن نفقة ما مضى فلا وجه لإلزام الزوج به والنبي صلى الله عليه و سلم جعل نفقة الزوجة كنفقة القريب بالمعروف وكنفقة الرقيق فالأنواع الثلاثة إنما وجبت بالمعروف مواساة لإحياء نفس من هو في ملكه وحبسه ومن بينه وبينه رحم وقرابة فإذا استغنى عنها بمضي الزمان فلا وجه لإلزام الزوج بها وأي معروف في إلزامه نفقة ما مضى وحبسه على ذلك والتضييق عليه وتعذيبه بطول الحبس وتعريف الزوجة لقضاء أوطارها من الدخول والخروج وعشرة الأخدان بانقطاع زوجها عنها وغيبة نظره عليها كما هو الواقع وفي ذلك من الفساد المنتشر ما لا يعلمه إلا الله حتى إن الفروج لتعج إلى الله من حبس حماتها ومن يصونها عنها وتسييبها في أوطارها ومعاذ الله أن يأتي شرع الله لهذا الفساد الذي قد استطار شراره واستعرت ناره وإنما أمر عمر بن الخطاب الأزواج إذا طلقوا أن يبعثوا بنفقة ما مضى ولم يأمرهم إذا قدموا أن يفرضوا نفقة ما مضى ولا يعرف ذلك عن صحابي ألبتة ولا يلزم من الإلزام بالنفقة الماضية بعد الطلاق وانقطاعها بالكلية الإلزام بها إذا عاد الزوج إلى النفقة والإقامة واستقبل الزوجة بكل ما تحتاح إليه فاعتبار أحدهما بالآخر غير صحيح ونفقة الزوجة تجب يوما بيوم فهي كنفقة القريب وما مضى فقد استغنت عنه بمضي وقته فلا وجه لإلزام الزوج به وذلك منشأ العداوة والبغضاء بين الزوجين وهو ضد ما جعله الله بينهما من المودة والرحمة وهذا القول هو الصحيح المختار الذي لا تقتضي الشريعة غيره وقد صرح أصحاب الشافعي بأن كسوة الزوجة وسكنها يسقطان بمضي الزمان إذا قيل : إنهما إمتاع لا تمليك فإن لهم في ذلك وجهين (5/450)
فصل
وأما فرض الدراهم فلا أصل له فى كتاب الله تعالى ولا سنة رسوله صلى الله عليه و سلم ولا عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم ألبتة ولا التابعين ولا تابعيهم ولا نص عليه أحد من الأئمة الأربعة ولا غيرهم من أئمة الإسلام وهذه كتب الآثار والسنن وكلام الأئمة بين أظهرنا فأوجدونا من ذكر فرض الدراهم والله سبحانه أوجب نفقة الأقارب والزوجات والرقيق بالمعروف وليس من المعروف فرض الدراهم بل المعروف الذي نص عليه صاحب الشرع أن يطعمهم مما يأكل ويكسوهم مما يلبس ليس المعروف سوى هذا وفرض الدراهم على المنفق من المنكر وليست الدراهم من الواجب ولا عوضه ولا يصح الاعتياض عما لم يستقر ولم يملك فإن نفقة الأقارب والزوجات إنما تجب يوما فيوما ولو كانت مستقرة لم تصح المعاوضة عنها بغير رضى الزوج والقريب فإن الدراهم تجعل عوضا عن الواجب الأصلي وهو إما البر عند الشافعي أو الطعام المعتاد عند الجمهور فكيف يجبر على المعاوضة على ذلك بدراهم من غير رضاه ولا إجبار صاحب الشرع له على ذلك فهذا مخالف لقواعد الشرع ونصوص الأئمة ومصالح العباد ولكن إن اتفق المنفق والمنفق عليه على ذلك جاز باتفاقهما هذا مع أنه في جواز اعتياض الزوجة عن النفقة الواجبة لها نزاع معروف في مذهب الشافعي وغيره فقيل : لا تعتاض لأن نفقتها طعام ثبت في الذمة عوضا فلا تعتاض عنه قبل القبض كالمسلم فيه وعلى هذا فلا يجوز الاعتياض لا بدارهم ولا ثياب ولا شئ البتة وقيل : تعتاض بغير الخبز والدقيق فإن فالاعتياض بهما ربا هذا إذا كان الاعتياض عن الماضي فإن كان عن المستقبل لم يصح عندهم وجها واحدا لأنها بصدد السقوط فلا يعلم استقرارها (5/455)
ذكر ما روي من حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم في تمكين المرأة من فراق زوجها إذا أعسر بنفقتها
روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أفضل الصدقة ما ترك غنى ] وفي لفظ : [ ما كان عن ظهر غنى واليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول ] تقول المرأة : إما أن تطعمني وإما أن تطلقني ويقول العبد : أطعمنى واستعملني ويقول الولد : أطعمني إلى من تدعني ؟ قالوا : يا أبا هريرة سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ قال : لا هذا من كيس أبي هريرة
وذكر النسائي هذا الحديث في كتابه وقال فيه : وابدأ بمن تعول فقيل : من أعول يا رسول الله ؟ قال : امرأتك تقول : أطعمني وإلا فارقني خادمك يقول : أطعمني واستعملني ولدك يقول : أطعمني إلن من تتركني ؟ وهذا في جميع نسخ كتاب النسائي هكذا وهو عنده من حديث سعيد بن أيوب عن محمد بن عجلان عن زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه وسعيد ومحمد ثقتان
وقال الدارقطني : حدثنا أبو بكر الشافعي حدثنا محمد بن بشر بن مطر حدثنا شيبان بن فروخ حدثنا حماد بن سلمة عن عاصم عن أبي صالح عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : المرأة تقول لزوجها : أطعمني أو طلقني الحديث
وقال الدارقطني : حدثنا عثمان بن أحمد بن السماك وعبد الباقي ابن قانع وإسماعيل بن علي قالوا : أخبرنا أحمد بن علي الخزاز حدثنا إسحاق بن إبراهيم الباوردي حدثنا إسحاق بن منصور حدثنا حماد بن سلمة عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب في الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته قال : يفرق بينهما وبهذا الإسناد إلى حماد بن سلمة عن عاصم بن بهدلة عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم مثله
وقال سعيد بن منصور في سننه : حدثنا سفيان عن أبي الزناد قال : سألت سعيد بن المسيب عن الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته أيفرق بينهما ؟ قال : نعم قلت سنة ؟ قال : سنة وهذا ينصرف إلى سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم فغايته أن يكون من مراسيل سعيد بن المسيب
واختلف الفقهاء في حكم هذه المسألة على أقوال
أحدها : أنه يجبر على أن ينفق أو يطلق روى سفيان عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن ابن المسيب قال : إذا لم يجد الرجل ما ينفق على امرأته أجبر على طلاقها
الثاني : إنما يطلقها عليه الحاكم وهذا قول مالك لكنه قال : يؤجل في عدم النفقة شهرا ونحوه فإن انقضى الأجل وهي حائض أخر حتى تطهر وفي الصداقة عامين ثم يطلقها عليه الحاكم طلقة رجعية فإن أيسر في العدة فله ارتجاعها وللشافعي قولان أحدهما : أن الزوجة تخير إن شاءت أقامت معه وتبقى نفقة المعسر دينا لها في ذمته قال أصحابه : هذا إذا أمكنته من نفسها وإن لم تمكنه سقطت نفقتها وإن شاءت فسخت النكاح
والقول الثاني : ليس لها أن تفسخ لكن يرفع الزوج يده عنها لتكتسب والمذهب أنها تملك الفسخ
قالوا : وهل هو طلاق أو فسخ ؟ فيه وجهان
أحدهما : أنه طلاق فلا بد من الرفع إلى القاضي حتى يلزمه أن يطلقها أو ينفق فإن أبى طلق الحاكم عليه طلقة رجعية فإن راجعها طلق عليه ثانية فإن راجعها طلق عليه ثالثة
والثاني : أنه فسخ فلا بد من الرفع إلى الحاكم ليثبت الإعسار ثم تفسخ هي وإن اختارت المقام ثم أرادت الفسخ ملكته لأن النفقة يتجدد وجوبها كل يوم وهل تملك الفسخ في الحال أو لا تملكه إلا بعد مضي ثلاثة أيام ؟ وفيه قولان الصحيح عندهم : الثاني قالوا : فلو وجد في اليوم الثالث نفقتها وتعذر عليه نفقة اليوم الرابع فهل يجب استئناف هذا الإمهال ؟ فيه وجهان وقال حماد بن أبي سليمان : يؤجل سنة ثم يفسخ قياسا على العنين وقال عمر بن عبد العزيز : يضرب له شهر أو شهران وقال مالك : الشهر ونحوه وعن أحمد روايتان إحداهما وهي ظاهر مذهبه : أن المرأة تخير بين المقام معه وبين الفسخ فإن اختارت الفسخ رفعته إلى الحاكم فيخير الحاكم بين أن يفسخ عليه أو يجبره على الطلاق أو يأذن لها في الفسخ فإن فسخ أو أذن في الفسخ فهو فسخ لا طلاق ولا رجعة له وإن أيسر في العدة وإن أجبره على الطلاق فطلق رجعيا فله رجعتها فإن راجعها وهو معسر أو امتنع من الإنفاق عليها فطلبت الفسخ فسخ عليه ثانيا وثالثا وإن رضيت المقام معه مع عسرته ثم بدا لها الفسخ أو تزوجته عالمة بعسرته ثم اختارت الفسخ فلها ذلك
قال القاضي : وظاهر كلام أحمد : أنه ليس لها الفسخ في الموضعين ويبطل خيارها وهو قول مالك لأنها رضيت بعيبه ودخلت في العقد عالمة به فلم تملك الفسخ كما لو تزوجت عنينا عالمة بعنته وقالت بعد العقد : قد رضيت به عنينا وهذا الذي قاله القاضي : هو مقتضى المذهب والحجة
والذين قالوا : لها الفسخ - وإن رضيت بالمقام - قالوا : حقها متجدد كل يوم فيتجدد لها الفسخ بتجدد حقها قالوا : ولأن رضاها يتضمن إسقاط حقها فيما لم يجب فيه من الزمان فلم يسقط كإسقاط الشفعة قبل البيع قالوا : وكذلك لو أسقطت النفقة المستقبلة لم تسقط وكذلك لو أسقطتها قبل العقد جملة ورضيت بلا نفقة وكذلك لو أسقطت المهر قبله لم يسقط وإذا لم يسقط وجوبها لم يسقط الفسخ الثابت به والذين قالوا بالسقوط أجابوا عن ذلك بأن حقها في الجماع يتجدد ومع هذا إذا أسقطت حقها من الفسخ بالعنة سقط ولم تملك الرجوع فيه
قالوا : وقياسكم ذلك على إسقاط نفقتها قياس على أصل غير متفق عليه ولا ثابت بالدليل بل الدليل يدل على سقوط الشفعة بإسقاطها قبل البيع كما صح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه فإن باعه ولم يؤذنه فهو أحق بالبيع ] وهذا صريح في أنه إذا أسقطها قبل البيع لم يملك طلبها بعده وحينئذ فيجعل هذا أصلا لسقوط حقها من النفقة بالإسقاط ونقول : خيار لدفع الضرر فسقط بإسقاطه قبل ثبوته كالشفعة ثم ينتقض هذا العيب في العين المؤجرة فإن المستأجر إذا دخل عليه أو علم به ثم اخنار ترك الفسخ لم يكن له الفسخ بعد هذا وتجدد حقه بالإنتفاع كل وقت كتجدد حق المرأة من النفقة سواء ولا فرق وأما قوله : لو أسقطها قبل النكاح أو أسقط المهر قبله لم يسقط فليس إسقاط الحق قبل انعقاد سببه بالكلية كإسقاطه بعد انعقاد سببه هذا إن كان في المسألة إجماع وإن كان فيها خلاف فلا فرق بين الإسقاطين وسوينا بين الحكمين وإن كان بينهما فرق امتنع القياس
وعنه رواية أخرى : ليس لها الفسخ وهذا قول أبي حنيفة وصاحبيه وعلى هذا لا يلزمها تمكينه من الإستمتاع لأنه لم يسلم إليها عوضه فلم يلزمها تسليمه كما لو أعسر المشتري بثمن المبيع لم يجب تسليمه إليه وعليه تخلية سبيلها لتكتسب لها وتحصل ما تنفقه على نفسها لأن في حبسها بغير نفقة إضرارا بها
فإن قيل : فلو كانت موسرة فهلا يملك حبسها ؟ قيل قد قالوا أيضا : لا يملك حبسها لأنه إنما يملكه إذا كفاها المؤنة وأغناها عما لا بد لها منه من النفقة والكسوة ولحاجته إلى الإستمتاع الواجب له عليها فإذا انتفى هذا وهذا لم يملك حبسها وهذا قول جماعة من السلف والخلف
ذكر عبد الرزاق عن ابن جريج قال : سألت عطاء عمن لا يجد ما يصلح امرأته من النفقة ؟ قال : ليس لها إلا ما وجدت ليس لها أن يطلقها وروى حماد بن سلمة عن جماعة عن الحسن البصري أنه قال في الرجل يعجز عن نفقة امرأته : قال : تواسيه وتتقي الله وتصبر وينفق عليها ما استطاع وذكر عبد الرزاق عن معمر قال : سألت الزهري عن رجل لا يجد ما ينفق على امرأته أيفرق بينهما ؟ قال : تستأني به ولا يفرق بينهما وتلا : { لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا } [ الطلاق : 7 ] قال معمر : وبلغني عن عمر بن عبد العزيز مثل قول الزهري سواء وذكر عبد الرزاق عن سفيان الثوري في المرأة يعسر زوجها بنفقتها : قال : هي امرأة ابتليت فلتصبر ولا تأخذ بقول من فرق بينهما
قلت : عن عمر بن عبد العزيز ثلاث روايات هذه إحداها
والثانية : روى ابن وهب عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه قال : شهدت عمر بن عبد العزيز يقول لزوج امرأة شكت إليه أنه لا ينفق عليها : اضربوا له أجلا شهرا أو شهرين فإن لم ينفق عليها إلى ذلك الأجل فرقوا بينه وبينها
والثالثة : ذكر ابن وهب عن ابن لهيعة عن محمد بن عبد الرحمن أن رجلا شكى إلى عمر بن عبد العزيز بأنه أنكح ابنته رجلا لا ينفق عليها فأرسل إلى الزوج فأتى فقال : أنكحني وهو يعلم أنه ليس لي شئ فقال عمر : أنكحته وأنت تعرفه ؟ قال : نعم قال : فما الذي أصنع ؟ اذهب بأهلك
والقول بعدم التفريق مذهب أهل الظاهر كلهم وقد تناظر فيها مالك وغيره فقال مالك : أدركت الناس يقولون : إذا لم ينفق الرجل على امرأته فرق بينهما فقيل له : قد كانت الصحابة رضي الله عنهم يعسرون ويحتاجون فقال مالك : ليس الناس اليوم كذلك إنما تزوجته رجاء
ومعنى كلامه : أن نساء الصحابة رضي الله عنهم كن يردن الدار الآخرة وما عند الله ولم يكن مرادهن الدنيا فلم يكن يبالين بعسر أزواجهن لأن أزواجهن كانوا كذلك وأما النساء اليوم فإنما يتزوجن رجاء دنيا الأزواج ونفقتهم وكسوتهم فالمرأة إنما تدخل اليوم على رجاء الدنيا فصار هذا المعروف كالمشروط في العقد وكان عرف الصحابة ونسائهم كالمشروط في العقد والشرط العرفي في أصل مذهبه كاللفظي وإنما أنكر على مالك كلامه هذا من لم يفهمه ويفهم غوره
وفي المسألة مذهب آخر وهو أن الزوج إذا أعسر بالنفقة حبس حتى يجد ما ينفقه وهذا مذهب حكاه الناس عن ابن حزم وصاحب المغنى وغيرهما عن عبيد الله بن الحسن العنبري قاضي البصرة ويالله العجب ! لأي شئ يسجن ويجمع عليه بين عذاب السجن وعذاب الفقر وعذاب البعد عن أهله ؟ سبحانك هذا بهتان عظيم وما أظن من شم رائحة العلم يقول هذا
وفي المسألة مذهب آخر وهو أن المرأة تكلف الإنفاق عليه إذا كان عاجزا عن نفقة نفسه وهذا مذهب أبي محمد ابن حزم وهو خير بلا شك من مذهب العنبري قال في المحلى : فإن عجز الزوج عن نفقة نفسه وامرأته غنية كلفت النفقة عليه ولا ترجع بشئ من ذلك إن أيسر برهان ذلك قول الله عز و جل : { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك } [ البقرة : 233 ] فالزوجة وارثة فعليها النفقة بنص القرآن
ويا عجبا لأبي محمد ! لو تأمل سياق الآية لتبين له منها خلاف ما فهمه فإن الله سبحانه قال : { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } وهذا ضمير الزوجات بلا شك ثم قال : { وعلى الوارث مثل ذلك } فجعل سبحانه على وارث المولود له أو وارث الولد من رزق الوالدات وكسوتهن بالمعروف مثل ما على الموروث فأين في الآية نفقة على غير الزوجات ؟ حتى يحمل عمومها على ما ذهب إليه
واحتج من لم ير الفسخ بالإعسار بقوله تعالى : { لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها } [ الطلاق : 7 ] قالوا : وإذا لم يكلفه الله النفقة في هذه الحال فقد ترك ما لا يجب عليه ولم يأثم بتركه فلا يكون سببا للتفريق بينه وبين حبه وسكنه وتعذيبه بذلك قالوا : وقد روى مسلم في صحيحه : من حديث أبي الزبير عن جابر دخل أبو بكر وعمر رضي الله عنهما على رسول الله صلى الله عليه و سلم فوجداه جالسا حوله نساؤه واجما ساكتا فقال أبو بكر : يا رسول الله ! لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها فضحك رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال : هن حولي كما ترى يسألنني النفقة فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها كلاهما يقول : تسألن رسول الله صلى الله عليه و سلم ما ليس عنده فقلن : والله لا نسأل رسول الله صلى الله عليه و سلم شيئا أبدا ما ليس عنده ثم اعتزلهن رسول الله صلى الله عليه و سلم شهرا وذكر الحديث
قالوا : فهذا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما يضربان ابنتيهما بحضرة رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ سألاه نفقة لا يجدها ومن المحال أن يضربا طالبتين للحق ويقرهما رسول الله صلى الله عليه و سلم على ذلك فدل على أنه لا حق لهما فيما طلبتاه من النفقة في حال الإعسار وإذا كان طلبهما لها باطلا فكيف تمكن المرأة من فسخ النكاح بعدم ما ليس لها طلبه ولا يحل لها وقد أمر الله سبحانه صاحب الدين أن ينظر المعسر إلى الميسرة وغاية النفقة أن تكون دينا والمرأة مأمورة بإنظار الزوج إلى الميسرة بنص القرآن هذا إن قيل : تثبت في ذمة الزوج وإن قيل : تسقط بمضي الزمان فالفسخ أبعد وأبعد
قالوا : فالله تعالى أوجب على صاحب الحق الصبر على المعسر وندبه إلى الصدقة بترك حقه وما عدا هذين الأمرين فجور لم يبحه له ونحن نقول لهذه المرأة كما قال الله تعالى لها سواء بسواء إما أن تنظريه إلى الميسرة وإما أن تصدقي ولا حق لك فيما عدا هذين الأمرين
قالوا ولم يزل في الصحابة المعسر والموسر وكان معسروهم أضعاف أضعاف موسريهم فما مكن النبي صلى الله عليه و سلم قط امرأة واحدة من الفسخ بإعسار زوجها ولا أعلمها أن الفسخ حق لها فإن شاءت صبرت وإن شاءت فسخت وهو يشرع الأحكام عن الله تعالى بأمره فهب أن الأزواج تركن حقهن أفما كان فيهن امرأة واحدة تطالب بحقها وهؤلاء نساؤه صلى الله عليه و سلم خير نساء العالمين يطالبنه بالنفقة حتى أغضبنه وحلف ألا يدخل عليهن شهرا من شدة موجدته عليهن فلو كان من المستقر في شرعه أن المرأة تملك الفسخ بإعسار زوجها لرفع إليه ذلك ولو من امرأة واحدة وقد رفع إليه ما ضرورته دون ضرورة فقد النفقة من فقد النكاح وقالت له امرأة رفاعة : إني نكحت بعد رفاعة عبد الرحمن بن الزبير وإن ما معه مثل هدبة الثوب تريد أن يفرق بينه وبينها ومن المعلوم أن هذا كان فيهم في غاية الندرة بالنسبة إلى الإعسار فما طلبت منه امرأة واحدة أن يفرق بينه وبينها بالإعسار
قالوا : وقد جعل الله الفقر والغنى مطيتين للعباد فيفتقر الرجل الوقت ويستغني الوقت فلو كان كل من افتقر فسخت عليه امرأته لعم البلاء وتفاقم الشر وفسخت أنكحة أكثر العالم وكان الفراق بيد أكثر النساء فمن الذي لم تصبه عسرة ويعوز النفقة أحيانا
قالوا : ولو تعذر من المرأة الإستمتاع بمرض متطاول وأعسرت بالجماع لم يمكن الزوج من فسخ النكاح بل يوجبون عليه النفقة كاملة مع إعسار زوجته بالوطء فكيف يمكنونها من الفسخ باعساره عن النفقة التي غايتها أن تكون عوضا عن الإستمتاع ؟
قالوا : وأما حديث أبي هريرة فقد صرح فيه بأن قوله : امرأتك تقول : أنفق علي وإلا طلقني من كيسه لا من كلام النبي صلى الله عليه و سلم وهذا في الصحيح عنه ورواه عنه سعيد بن أبي سعيد وقال : ثم يقول أبو هريرة إذا حدث بهذا الحديث : امرأتك تقول فذكر الزيادة
وأما حديث حماد بن سلمة عن عاصم بن بهدلة عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم بمثله فأشار إلى حديث يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب في الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته قال : يفرق بينهما فحديث منكر لا يحتمل أن يكون عن النبي صلى الله عليه و سلم أصلا وأحسن أحواله أن يكون عن أبي هريرة رضي الله عنه موقوفا والظاهر : أنه روي بالمعنى وأراد قول أبي هريرة رضي الله عنه : امرأتك تقول : أطعمني أو طلقني وأما أن يكون عند أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه سئل عن الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته فقال : يفرق بينهما فوالله ما قال هذا رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا سمعه أبو هريرة ولا حدث به كيف وأبو هريرة لا يستجيز أن يروي عن النبي صلى الله عليه و سلم : امرأتك تقول : أطعمني وإلا طلقني ويقول : هذا من كيس أبي هريرة لئلا يتوهم نسبته إلى النبي صلى الله عليه و سلم
والذي تقتضيه أصول الشريعة وقواعدها في هذه المسألة أن الرجل اذا غر المرأة بأنه ذو مال فتزوجته على ذلك فظهر معدما لا شئ له أو كان ذا مال وترك الإنفاق على امرأته ولم تقدر على أخذ كفايتها من ماله بنفسها ولا بالحاكم أن لها الفسخ وإن تزوجته عالمة بعسرته أو كان موسرا ثم أصابته جائحة اجتاحت ماله فلا فسخ لها في ذلك ولم تزل الناس تصيبهم الفاقة بعد اليسار ولم ترفعهم أزواجهم إلى الحكام ليفرقوا بينهم وبينهن وبالله التوفيق
وقد قال جمهور الفقهاء : لا يثبت لها الفسخ بالإعسار بالصداق وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه وهو الصحيح من مذهب أحمد رحمه الله اختاره عامة أصحابه وهو قول كثير من أصحاب الشافعي وفصل الشيخ أبو إسحاق وأبو علي بن أبي هريرة فقالا : إن كان قبل الدخول ثبت به الفسخ وبعده لا يثبت وهو أحد الوجوه من مذهب أحمد هذا مع أنه عوض محض وهو أحق أن يوفى من ثمن المبيع كما دل عليه النص كل ما تقرر في عدم الفسخ به فمثله في النفقة وأولى
فإن قيل : في الإعسار بالنفقة من الضرر اللاحق بالزوجة ما ليس في الإعسار بالصداق فإن البنية تقوم بدونه بخلاف النفقة قيل : والبنية قد تقوم بدون نفقته بأن تنفق من مالها أو ينفق عليها ذو قرابتها أو تأكل من غزلها وبالجملة فتعيش بما تعيش به زمن العدة وتقدر زمن عسرة الزوج كله عدة
ثم الذين يجوزون لها الفسخ يقولون : لها أن تفسخ ولو كان معها القناطير المقنطرة من الذهب والفضة إذا عجز الزوج عن نفقتها وبإزاء هذا القول قول منجنيق الغرب أبي محمد ابن حزم : إنه يجب عليها أن تنفق عليه في هذه الحال فتعطيه مالها وتمكنه من نفسها ومن العجب قول العنبري بأنه يحبس
وإذا تأملت أصول الشريعة وقواعدها وما اشتملت عليه من المصالح ودرء المفاسد ودفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما وتفويت أدنى المصلحتين لتحصيل أعلاهما تبين لك القول الراجح من هذه الأقوال وبالله التوفيق (5/456)
فصل
في حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم الموافق لكتاب الله أنه لا نفقة للمبتوتة ولا سكنى
روى مسلم في صحيحه عن فاطمة بنت قيس أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة وهو غائب فأرسل إليها وكيله بشعير فسخطته فقال : والله مالك علينا من شئ فجاءت رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكرت ذلك له وما قال فقال : [ ليس لك عليه نفقة فأمرها أن تعتد في بيت أم شريك ثم قال : تلك امرأة يغشاها أصحابي اعتدي عند ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك فإذا حللت فآذنيني قالت : فلما حللت ذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباني فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه وأما معاوية فصعلوك لا مال له انكحي أسامة بن زيد فكرهته ثم قال : انكحي أسامة بن زيد فنكحته فجعل الله فيه خيرا واغتبطت ]
وفي صحيحه أيضا : عنها أنها طلقها زوجها في عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم وكان أنفق عليها نفقة دونا فلما رأت ذلك قالت : والله لأعلمن رسول الله صلى الله عليه و سلم فإن كانت لي نفقة أخذت الذي يصلحني وإن لم تكن لي نفقة لم آخذ منه شيئا قالت : فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ لا نفقة لك ولا سكنى ]
وفي صحيحه أيضا عنها أن أبا حفص بن المغيرة المخزومي طلقها ثلاثا ثم انطلق إلى اليمن فقال لها أهله : ليس لك علينا نفقة فانطلق خالد بن الوليد في نفر فأتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم في بيت ميمونة فقالوا : إن أبا حفص طلق امرأته ثلاثا فهل لها من نفقة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ليست لها نفقة وعليها العدة وأرسل إليها : أن لا تسبقيني بنفسك وأمرها أن تنتقل إلى أم شريك ثم أرسل إليها : أن أم شريك يأتيها المهاجرون الأولون فانطلقي إلى ابن أم مكتوم الأعمى فإنك إذا وضعت خمارك لم يرك فانطلقت إليه فلما انقضت عدتها أنكحها رسول الله صلى الله عليه و سلم أسامة بن زيد بن حارثة ]
وفي صحيحه أيضا عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن أبا عمرو بن حفص بن المغيرة خرج مع علي بن أبي طالب إلى اليمن فأرسل إلى امرأته فاطمة بنت قيس بتطليقة كانت بقيت من طلاقها وأمر لها الحارث بن هشام وعياش بن أبي ربيعة بنفقة فقالا لها : والله ما لك نفقة إلا أنها تكوني حاملا فأتت النبي صلى الله عليه و سلم فذكرت له قولهما فقال : لا نفقة لك فاستأذنته في الإنتقال فأذن لها فقالت : أين يا رسول الله ؟ قال : إلى ابن أم مكتوم وكان أعمى تضع ثيابها عنده ولا يراها فلما مضت عدتها أنكحها النبي صلى الله عليه و سلم أسامة بن زيد فأرسل إليها مروان قبيصة بن ذؤيب يسألها عن الحديث فحدثته به فقال مروان لم نسمع هذا الحديث إلا من امرأة سنأخذ بالعصمة التي وجدنا الناس عليها فقالت فاطمة حين بلغها قول مروان : بيني وبينكم القرآن قال الله عز و جل : { لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } إلى قوله : { لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا } [ الطلاق : 1 ] قالت : هذا لمن كان له مراجعة فأي أمر يحدث بعد الثلاث ؟ ! فكيف تقولون : لا نفقة لها إذا لم تكن حاملا فعلام تحبسونها ؟ !
وروى أبو داود في هذا الحديث بإسناد مسلم عقيب قول عياش بن أبي ربيعة والحارث بن هشام : لا نفقة لك إلا أن تكوني حاملا فاتت النبي صلى الله عليه و سلم فقال : [ لا نفقة لك إلا أن تكوني حاملا ]
وفي صحيحه أيضا عن الشعبي قال : دخلت على فاطمة بنت قيس فسألتها عن قضاء رسول الله صلى الله عليه و سلم عليها فقالت : طلقها زوجها ألبتة فخاصمته إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم في السكنى والنفقة قالت : فلم يجعل لي سكنى ولا نفقة وأمرني أن أعتد في بيت ابن أم مكتوم
وفي صحيحه عن أبي بكر بن أبي الجهم العدوي قال : سمعت فاطمة بنت قيس تقول : طلقها زوجها ثلاثا فلم يجعل لها رسول الله صلى الله عليه و سلم سكنى ولا نفقة قالت : قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إذا حللت فآذنيني ] فآذنته فخطبها معاوية وأبو جهم وأسامة بن زيد فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أما معاوية فرجل ترب لا مال له وأما أبو جهم فرجل ضراب للنساء ولكن أسامة بن زيد ] فقالت بيدها هكذا : أسامة ! أسامة ! فقال لها رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ طاعة الله وطاعة رسوله خير لك ] فتزوجته فاغتبطت
وفي صحيحه أيضا عنها قالت : أرسل إلي زوجي أبو عمرو بن حفص بن المغيرة عياش بن أبي ربيعة بطلاقي فأرسل معه بخمسة آصع تمر وخمسة آصع شعير فقلت : أما لي نفقة إلا هذا ؟ ولا أعتد في منزلكم ؟ قال : لا فشددت علي ثيابي وأتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ كم طلقك ؟ ] قلت : ثلاثا قال : [ صدق ليس لك نفقة اعتدي في بيت ابن عمك ابن أم مكتوم فإنه ضرير البصر تضعين ثوبك عنده فإذا انقضت عدتك فآذنيني ]
وروى النسائي في سننه هذا الحديث بطرقه وألفاظه وفي بعضها بإسناد صحيح لا مطعن فيه فقال لها النبى صلى الله عليه و سلم : [ إنما النفقة والسكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها الرجعة ] ورواه الدارقطني وقال : فأتت رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكرت ذلك له قالت : فلم يجعل لي سكنى ولا نفقة وقال : [ إنما السكنى والنفقة لمن يملك الرجعة ] وروى النسائي أيضا هذا اللفظ وإسنادهما صحيح (5/466)
ذكر موافقة هذا الحكم لكتاب الله عز و جل
قال الله تعالى : { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا * فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله } إلى قوله : { قد جعل الله لكل شيء قدرا } [ الطلاق : ا - 3 ] فأمر الله سبحانه الأزواج الذين لهم عند بلوغ الأجل الإمساك والتسريح بأن لا يخرجوا أزواجهم من بيوتهم وأمر أزواجهن أن لا يخرجن فدل على جواز إخراج من ليس لزوجها إمساكها بعد الطلاق فإنه سبحانه ذكر لهؤلاء المطلقات أحكاما متلازمة لا ينفك بعضها عن بعض
أحدها : أن الأزواج لا يخرجوهن من بيوتهن
والثاني : أنهن لا يخرجن من بيوت أزواجهن
والثالت : أن لأزواجهن إمساكهن بالمعروف قبل انقضاء الأجل وترك الإمساك فيسرحوهن بإحسان
والرابع : إشهاد ذوي عدل وهو إشهاد على الرجعة إما وجوبا وإما استحبابا وأشار سبحانه إلى حكمة ذلك وأنه في الرجعيات خاصة بقوله : { لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا } والأمر الذي يرجى إحداثه هاهنا : هو المراجعة هكذا قال السلف ومن بعدهم قال ابن أبي شيبة : حدثنا أبو معاوية عن داود الأودي عن الشعبي : { لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا } قال : لعلك تندم فيكون لك سبيل إلى الرجعة وقال الضحاك : { لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا } قال : لعله أن يراجعها في العدة وقاله عطاء وقتادة والحسن وقد تقدم قول فاطمة بنت قيس : أي أمر يحدث بعد الثلاث ؟ فهذا يدل على أن الطلاق المذكور : هو الرجعي الذي ثبتت فيه هذه الأحكام وأن حكمة أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين اقتضته لعل الزوج أن يندم ويزول الشر الذي نزغه الشيطان بينهما فتتبعها نفسه فيراجعها كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : لو أن الناس أخذوا بأمر الله في الطلاق ما تتبع رجل نفسه امرأة يطلقها أبدا
ثم ذكر سبحانه الأمر بإسكان هؤلاء المطلقات فقال : { أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم } [ الطلاق : 6 ] فالضمائر كلها يتحد مفسرها وأحكامها كلها متلازمة وكان قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إنما النفقة والسكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها رجعة ] مشتقا من كتاب الله عز و جل ومفسرا له وبيانا لمراد المتكلم به منه فقد تبين اتحاد قضاء رسول الله صلى الله عليه و سلم وكتاب الله عز و جل والميزان العادل معهما أيضا لا يخالفهما فإن النفقة إنما تكون للزوجة فإذا بانت منه صارت أجنبية حكمها حكم سائر الأجنبيات ولم يبق إلا مجرد اعتدادها منه وذلك لا يوجب لها نفقة كالموطوءة بشبهة أو زنى ولأن النفقة إنما تجب في مقابلة التمكن من الاستمتاع وهذا لا يمكن استمتاعه بها بعد بينونتها ولأن النفقة لو وجبت لها عليه لأجل عدتها لوجبت للمتوفى عنها من ماله ولا فرق بينهما ألبتة فإن كل واحد منهما قد بانت عنه وهي معتدة منه قد تعذر منهما الاستمتاع ولأنها لو وجبت لها السكنى لوجبت لها النفقة كما يقوله من يوجبها فأما أن تجب لها السكنى دون النفقة فالنص والقياس يدفعه وهذا قول عبد الله بن عباس وأصحابه وجابر بن عبد الله وفاطمة بنت قيس إحدى فقهاء نساء الصحابة وكانت فاطمة تناظر عليه وبه يقول أحمد بن حنبل وأصحابه وإسحاق بن راهويه وأصحابه وداود بن علي وأصحابه وسائر أهل الحديث وللفقهاء في هذه المسألة ثلاثة أقوال وهي ثلاث روايات عن أحمد : أحدها : هذا والثاني : أن لها النفقة والسكنى وهو قول عمر بن الخطاب وابن مسعود وفقهاء الكوفة والثالث : أن لها السكنى دون النفقة وهذا مذهب أهل المدينة وبه يقول مالك والشافعي (5/469)
ذكر المطاعن التي طعن بها على حديث فاطمة بنت قيس قديما وحديثا
فأولها طعن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فروى مسلم في صحيحه : عن أبي إسحاق قال : كنت مع الأسود بن يزيد جالسا في المسجد الأعظم ومعنا الشعبي فحدث الشعبي بحديث فاطمة بنت قيس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يجعل لها سكنى ولا نفقة ثم أخذ الأسود كفا من حصى فحصبه به فقال : ويلك تحدث بمثل هذا ؟ قال عمر : لا نترك كتاب الله وسنة نبينا صلى الله عليه و سلم لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسيت ؟ لها السكنى والنفقة قال الله عز و جل : { لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } قالوا : فهذا عمر يخبر أن سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم أن لها النفقة والسكنى ولا ريب أن هذا مرفوع فإن الصحابي إذا قال : من السنة كذا كان مرفوعا فكيف إذا قال : من سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ فكيف إذا كان القائل عمر بن الخطاب ؟ وإذا تعارضت رواية عمر رضي الله عنه ورواية فاطمة فرواية عمر رضي الله عنه أولى لا سيما ومعها ظاهر القرآن كما سنذكر وقال سعيد بن منصور : حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن إبراهيم قال : كان عمر بن الخطاب إذا ذكر عنده حديث فاطمة بنت قيس قال : ما كنا نغير في ديننا بشهادة امرأة (5/471)
ذكر طعن عائشة رضي الله عنها في خبر فاطمة بنت قيس
في الصحيحين : من حديث هشام بن عروة عن أبيه قال : تزوج يحيى بن سعيد بن العاص بنت عبد الرحمن بن الحكم فطلقها فأخرجها من عنده فعاب ذلك عليهم عروة فقالوا : إن فاطمة قد خرجت قال عروة : فأتيت عائشة رضي الله عنها فأخبرتها بذلك فقالت : ما لفاطمة بنت قيس خير أن تذكر هذا الحديث وقال البخاري : فانتقلها عبد الرحمن فأرسلت عائشة إلى مروان وهو أمير المدينة اتق الله وارددها إلى بيتها قال مروان : إن عبد الرحمن بن الحكم غلبني وقال القاسم بن محمد : أو ما بلغك شأن فاطمة بنت قيس ؟ قالت : لا يضرك ألا تذكر حديث فاطمة فقال مروان : إن كان بك شر فحسبك ما بين هذين من الشر
ومعنى كلامه : إن كان خروج فاطمة لما يقال من شر كان في لسانها فيكفيك ما بين يحيى بن سعيد بن العاص وبين امرأته من الشر
وفي الصحيحين : عن عروة أنه قال لعائشة رضي الله عنها : ألم تري إلى فلانة بنت الحكم طلقها زوجها ألبتة فخرجت فقالت : بئس ما صنعت فقلت : ألم تسمعي إلى قول فاطمة فقالت : أما إنه لا خير لها في ذكر ذلك
وفي حديث القاسم عن عائشة رضي الله عنها يعني : في قولها : لا سكنى لها ولا نفقة وفي صحيح البخاري : عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لفاطمة : ألا نتقي الله تعني في قولها لا سكنى لها ولا نفقة وفي صحيحه أيضا : عنها قالت : إن فاطمة كانت في مكان وحش فخيف على ناحيتها فلذلك أرخص النبي صلى الله عليه و سلم لها
وقال عبد الرزاق : عن ابن جريج أخبرني ابن شهاب عن عروة أن عائشة رضي الله عنها أنكرت ذلك على فاطمة بنت قيس تعني : انتقال المطلقة ثلاثا
وذكر القاضي إسماعيل حدثنا نصر بن علي حدثني أبي عن هارون عن محمد بن إسحاق قال : أحسبه عن محمد بن إبراهيم أن عائشة رضي الله عنها قالت لفاطمة بنت قيس : إنما أخرجك هذا اللسان (5/472)
ذكر طعن أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه و سلم وابن حبه على حديث فاطمة
روى عبد الله بن صالح كاتب الليث قال : حدثني الليث بن سعد حدثني جعفر عن ابن هرمز عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال : كان محمد بن أسامة بن زيد يقول : كان أسامة إذا ذكرت فاطمة شيئا من ذلك يعنى انتقالها في عدتها رماها بما في يده (5/473)
ذكر طعن مروان على حديث فاطمة
روى مسلم في صحيحه : من حديث الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة حديث فاطمة هذا : أنه حدث به مروان فقال مروان لم نسمع هذا إلا من امرأة سنأخذ بالعصمة التي وجدنا الناس عليها (5/473)
ذكر طعن سعيد بن المسيب
روى أبو داود في سننه : من حديث ميمون بن مهران قال : قدمت المدينة فدفعت إلى سعيد بن المسيب فقلت : فاطمة بنت قيس طلقت فخرجت من بيتها فقال سعيد : تلك امرأة فتنت الناس إنها كانت امرأة لسنة فوضعت على يدي ابن أم مكتوم الأعمى (5/474)
ذكر طعن سليمان بن سيار
روى أبو داود في سننه أيضا قال في خروج فاطمة : إنما كان من سوء الخلق (5/474)
ذكر طعن الأسود بن يزيد
تقدم حديث مسلم : أن الشعبي حدث بحديث فاطمة فأخذ الأسود كفا من حصباء فحصبه به وقال : ويلك تحدث بمثل هذا ؟ ! وقال النسائي : ويلك لم تفتي بمثل هذا ؟ قال عمر لها : إن جئت بشاهدين يشهدان أنهما سمعاه من رسول الله صلى الله عليه و سلم وإلا لم نترك كتاب ربنا لقول امرأة (5/474)
ذكر طعن أبي سلمة بن عبد الرحمن
قال الليث : حدثني عقيل عن ابن شهاب قال : أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن فذكر حديث فاطمة ثم قال فأنكر الناس عليها ما كانت تحدث من خروجها قبل أن تحل قالوا : وقد عارض رواية فاطمة صريح رواية عمر في إيجاب النفقة والسكنى فروى حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان أنه أخبر إبراهيم النخعي بحديث الشعبي عن فاطمة بنت قيس فقال له إبراهيم : إن عمر أخبر بقولها فقال : لسنا بتاركي آية من كتاب الله وقول النبي صلى الله عليه و سلم لقول امرأة لعلها أوهمت سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول : [ لها السكنى والنفقة ] ذكره أبو محمد في المحلى فهذا نص صريح يجب تقديمه على حديث فاطمة لجلالة رواته وترك إنكار الصحابة عليه وموافقته لكتاب الله (5/474)
ذكر الأجوبة عن هذه المطاعن وبيان بطلانها
وحاصلها أربعة
أحدها : أن راويتها امرأة لم تأت بشاهدين يتابعانها على حديثها
الثاني : أن روايتها تضمنت مخالفة القرآن
الثالث : أن خروجها من المنزل لم يكن لأنه لا حق لها في السكنى بلا لأذاها أهل زوجها بلسانها
الرابع : معارضة روايتها برواية أمير المؤمنين عمر بن الخطاب
ونحن نبين ما في كل واحد من هذه الأمور الأربعة بحول الله وقوته هذا مع أن في بعضها من الانقطاع وفي بعضها من الضعف وفي بعضها من البطلان ما سننبه عليه وبعضها صحيح عمن نسب إليه بلا شك
فأما المطعن الأول : وهو كون الراوي امرأة فمطعن باطل بلا شك والعلماء قاطبة على خلافة والمحتج بهذا من أتباع الأئمة أول مبطل له ومخالف له فإنهم لا يختلفون في أن السنن تؤخذ عن المرأة كما تؤخذ عن الرجل هذا وكم من سنة تلقالها الأئمة بالقبول عن امرأة واحدة من الصحابة وهذه مسانيد نساء الصحابة بأيدي الناس لا تشاء أن ترى فيها سنة تفردت بها امرأة منهن إلا رأيتها فما ذنب فاطمة بنت قيس دون نساء العالمين وقد أخذ الفاسق بحديث فريعة بنت مالك بن سنان أخت أبي سعيد في اعتداد المتوفى عنها في بيت زوجها وليست فاطمة بدونها علما وجلالة وثقة وأمانة بل هي أفقه منها بلا شك فإن فريعة لا تعرف إلا في هذا الخبر وأما شهرة فاطمة ودعاؤها من نازعها من الصحابة إلى كتاب الله ومناظرتها على ذلك فأمر مشهور وكانت أسعد بهذه المناظرة ممن خالفها كما مضى تقريره وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يختلفون في الشئ فتروي لهم إحدى أمهات المؤمنين عن النبي صلى الله عليه و سلم شيئا فيأخذون به ويرجعون إليه ويتركون ما عندهم له وإنما فضلن على فاطمة بنت قيس بكونهن أزواج رسول الله صلى الله عليه و سلم وإلا فهي من المهاجرات الأول وقد رضيها رسول الله صلى الله عليه و سلم لحبه وابن حبه أسامة بن زيد وكان الذي خطبها له وإذا شئت أن تعرف مقدار حفظها وعلمها فاعرفه من حديث الدجال الطويل الذي حدث به رسول الله صلى الله عليه و سلم على المنبر فوعته فاطمة وحفظته وأدته كما سمعته ولم ينكره عليها أحد مع طوله وغرابته فكيف بقصة جرت لها وهي سببها وخاصمت فيها وحكم فيها بكلمتين : وهي لا نفقة ولا سكنى والعادة توجب حفظ مثل هذا وذكره واحتمال النسيان فيه أمر مشترك بينها وبين من أنكر عليها فهذا عمر قد نسي تيمم الجنب وذكره عمار بن ياسر أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم لهما بالتيمم من الجنابة فلم يذكره عمر رضي الله عنه وأقام على أن الجنب لا يصلي حتى يجد الماء
ونسي قوله تعالى : { وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا } [ النساء : 20 ] حتى ذكرته به امرأة فرجع إلى قولها
ونسي قوله : { إنك ميت وإنهم ميتون } [ الزمر : 30 ] حتى ذكر به فإن كان جواز النسيان على الراوي يوجب سقوط روايته سقطت رواية عمر التي عارضتم بها خبر فاطمة وإن كان لا يوجب سقوط روايته بطلت المعارضة بذلك فهى باطلة على التقديرين ولو ردت السنن بمثل هذا لم يبق بأيدي الأمة منها إلا اليسير ثم كيف يعارض خبر فاطمة ويطعن فيه بمثل هذا من يرى قبول خبر الواحد العدل ولا يشترط للرواية نصابا وعمر رضي الله عنه أصابه في مثل هذا ما أصابه في رد خبر أبي موسى في الاستئذان حتى شهد له أبو سعيد ورد خبر المغيرة بن شعبة في إملاص المرأة حتى شهد له محمد بن مسلمة وهذا كان تثبيتا منه رضي الله عنه حتى لا يركب الناس الصعب والذلول في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وإلا فقد قبل خبر الضحاك بن سفيان الكلابي وحده وهو أعرابي وقبل لعائشة رضي الله عنها عدة أخبار تفردت بها وبالجملة فلا يقول أحد : إنه لا يقبل قول الراوي الثقة العدل حتى يشهد له شاهدان لا سيما إن كان من الصحابة (5/475)
فصل
وأما المطعن الثاني : وهو أن روايتها مخالفة للقرآن فنجيب بجوابين : مجمل ومفصل أما المجمل : فنقول : لو كانت مخالفة كما ذكرتم لكانت مخالفة لعمومه فتكون تخصيصا للعام فحكمها حكم تخصيص قوله : { يوصيكم الله في أولادكم } [ النساء : 11 ] بالكافر والرقيق والقاتل وتخصيص قوله : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } [ النساء : 24 ] بتحريم الجمع بين المرأة وعمتها وبينها وبين خالتها ونظائره فإن القرآن لم يخص البائن بأنها لا تخرج ولا تخرج وبأنها تسكن من حيث يسكن زوجها بل إما أن يعمها ويعم الرجعية وإما أن يخص الرجعية
فإن عم النوعين فالحديث مخصص لعمومه وإن خص الرجعيات وهو الصواب للسياق الذي من تدبره وتأمله قطع بأنه في الرجعيات من عدة أوجه قد أشرنا إليها فالحديث ليس مخالفا لكتاب الله بل موافق له ولو ذكر أمير المؤمنين رضي الله عنه بذلك لكان أول راجع إليه فإن الرجل كما يذهل عن النص يذهل عن دلالته وسياقه وما يقترن به مما يتبين المراد منه وكثيرا ما يذهل عن دخول الواقعة المعينة تحت النص العام واندراجه تحتها فهذا كثير جدا والتفطن له من الفهم الذي يؤتيه الله من يشاء من عباده ولقد كان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه من ذلك بالمنزلة التي لا تجهل ولا تستغرقها عبارة غير أن النسيان والذهول عرضة للإنسان وإنما الفاضل العام من إذا ذكر ذكر ورجع
فحديث فاطمة رضي الله عنها مع كتاب الله على ثلاثة أطباق لا يخرج عن واحد منها إما أن يكون تخصيصا لعامه الثاني : أن يكون بيانا لم يتناوله بل سكت عنه الثالث : أن يكون بيانا لما أريد به وموافقا لما أرشد إليه سياقه وتعليله وتنبيهه وهذا هو الصواب فهو إذن موافق له لا مخالف وهكذا ينبغي قطعا ومعاذ الله أن يحكم رسول الله صلى الله عليه و سلم بما يخالف كتاب الله تعالى أو يعارضه وقد أنكر الإمام أحمد رحمه الله هذا من قول عمر رضي الله عنه وجعل يتبسم ويقول : أين في كتاب الله إيجاب السكنى والنفقة للمطلقة ثلاثا قال الله تعالى : { لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا } [ الطلاق : 1 ] وأي أمر يحدث بعد الثلاث وقد تقدم أن قوله : { فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن } [ الطلاق : 2 ] يشهد بأن الآيات كلها في الرجعيات (5/477)
فصل
وأما المطعن الثالث : وهو أن خروجها لم يكن إلا لفحش من لسانها فما أبرده من تأويل وأسمجه فإن المرأة من خيار الصحابة رضي اله عنهم وفضلائهم ومن المهاجرات الأول وممن لا يحملها رقة الدين وقلة التقوى على فحش يوجب إخراجها من دارها وأن يمنع حقها الذي جعله الله لها ونهى عن إضاعته فيا عجبا ! كيف لم ينكر عليها النبي صلى الله عليه و سلم هذا الفحش ؟ ويقول لها : اتقي الله وكفي لسانك عن أذى أهل زوجك واستقري في مسكنك ؟ وكيف يعدل عن هذا إلى قوله : لا نفقة لك ولا سكنى إلى قوله : إنما السكنى والنفقة للمرأة إذا كان لزوجها عليها رجعة ؟ ! فيا عجبا ! كيف يترك هذا المانع الصريح الذي خرج من بين شفتي النبي صلى الله عليه و سلم ويعلل بأمر موهوم لم يعلل به رسول الله صلى الله عليه و سلم ألبتة ولا أشار إليه ولا نبه عليه ؟ هذا من المحال البين ثم لو كانت فاحشة اللسان وقد أعاذها الله من ذلك لقال لها النبي صلى الله عليه و سلم وسمعت وأطاعت : كفي لسانك حتى تنقضي عدتك وكان من دونها يسمع ويطيع لئلا تخرج من سكنه (5/479)
فصل
وأما المطعن الرابع : وهو معارضة روايتها برواية عمر رضي الله عنه فهذه المعارضة تورد من وجهين أحدهما : قوله : لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا وأن هذا من حكم المرفوع الثاني : قوله : سمعت رسول الله صلى الله عيه وسلم يقول [ لها السكنى والنفقة ]
ونحن نقول : قد أعاذ الله أمير المؤمنين من هذا الكلام الباطل الذي لا يصح عنه أبدا قال الإمام أحمد : لا يصح ذلك عن عمر وقال أبو الحسن الدارقطني : بل السنة بيد فاطمة بنت قيس قطعا ومن له إلمام بسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم يشهد شهادة الله أنه لم يكن عند عمر رضي الله عنه سنة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أن للمطلقة ثلاثا السكنى والنفقة وعمر كان أتقى لله وأحرص على تبليغ سنن رسول الله صلى الله عليه و سلم أن تكون هذه السنة عنده ثم لا يرويها أصلا ولا يبينها ولا يبلغها عن رسول الله صلى الله عليه و سلم
وأما حديث حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم عن عمر رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ لها السكنى والنفقة ] فنحن نشهد بالله شهادة نسأل عنها إذا لقيناه أن هذا كذب على عمر رضي الله عنه وكذب على رسول الله صلى الله عليه و سلم وينبغي أن لا يحمل الإنسان فرط الانتصار للمذاهب والتعصب لها على معارضة سنن رسول الله صلى الله عليه و سلم الصحيحة الصريحة بالكذب البحت فلو يكون هذا عند عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم لخرست فاطمة وذووها ولم ينبسوا بكلمة ولا دعت فاطمة إلى المناظرة ولا احتيج إلى ذكر إخراجها لبذاء لسانها ولما فات هذا الحديث أئمة الحديث والمصنفين في السنن والأحكام المنتصرين للسنن فقط لا لمذهب ولا لرجل هذا قبل أن نصل به إلى إبراهيم ولو قدر وصولنا بالحديث إلى إبراهيم لا نقطع نخاعه فإن إبراهيم لم يولد إلا بعد موت عمر رضي الله عنه بسنين فإن كان مخبر أخبر به إبراهيم عن عمر رضي الله عنه وحسنا به الظن كان قد روى له قول عمر رضي الله عنه بالمعنى وظن أن رسول الله صلى الله عليه و سلم هو الذي حكم بثبوت النفقة والسكنى للمطلقة حتى قال عمر رضي الله عنه : لا ندع كتاب ربنا لقول امرأة فقد يكون الرجل صالحا ويكون مغفلا ليس تحمل الحديث وحفظه وروايته من شأنه وبالله التوفيق
وقد تناظر في هذه المسألة ميمون بن مهران وسعيد بن المسيب فذكر له ميمون خبر فاطمة فقال سعيد : تلك امرأة فتنت الناس فقال له ميمون : لئن كانت إنما أخذت بما أفتاها به رسول الله صلى الله عليه و سلم ما فتنت الناس وإن لنا في رسول الله صلى الله عليه و سلم أسوة حسنة مع أنها أحرم الناس عليه ليس لها عليه رجعة ولا بينهما ميراث انتهى ولا يعلم أحد من الفقهاء رحمهم الله إلا ولد احتج بحديث فاطمة بنت قيس هذا وأخذ به في بعض الأحكام كمالك والشافعي وجمهور الأمة يحتجون به في سقوط نفقة المبتوتة إذا كانت حائلا والشافعي نفسه احتج به على جواز جمع الثلاث لأن في بعض ألفاظه : فطلقني ثلاثا وقد بينا أنه إنما طلقها آخر ثلاث كما أخبرت به عن نفسها واحتج به من يرى جواز نظر المرأة إلى الرجال واحتج به الأئمة كلهم على جواز خطبة الرجل على خطبة أخيه إذا لم تكن المرأة قد سكنت إلى الخاطب الأول واحتجوا به على جواز بيان ما في الرجل إذا كان على وجه النصيحة لمن استشاره أن يزوجه أو يعامله أو يسافر معه وأن ذلك ليس بغيبة واحتجوا به على جواز نكاح القرشية من غير القرشي واحتجوا به على وقوع الطلاق في حال غيبة أحد الزوجين عن الآخر وأنه لا يشترط حضوره ومواجهته به واحتجوا به على جواز التعريض بخطبة المعتدة البائن وكانت هذه الأحكام كلها حاصلة ببركة روايتها وصدق حديثها فاستنبطتها الأمة منها وعملت بها فما بال روايتها ترد في حكم واحد من أحكام هذا الحديث وتقبل فيما عداه ؟ ! فإن كانت حفظته قبلت في جميعه وإن لم تكن حفظته وجب أن لا يقبل في شئ من أحكامه وبالله التوفيق
فإن قيل : بقي عليكم شئ واحد وهو أن قوله سبحانه { أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم } [ الطلاق : 6 ] إنما هو في البوائن لا في الرجعيات بدليل قول عقبيه { ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن } [ الطلاق : 6 ] فهذا في البائن إذ لو كانت رجعية لما قيد النفقة عليها بالحمل ولكن عديم التأثير فإنها تستحقها حائلا كانت أو حاملا والظاهر : أن الضمير في أسكونهن هو والضمير في قوله : { وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن } واحد
فالجواب : أن مورد هذا السؤال إما أن يكون من الموجبين النفقة والسكنى أو ممن يوجب السكنى دون النفقة فإن كان الأول فالآية على زعمه حجة عليه لأنه سبحانه شرط في إيجاب النفقة عليهن كونهن حوامل والحكم المعلق على الشرط ينتفي عند انتفائه فدل على أن البائن الحائل لا نفقة لها
فإن قيل : فهذه دلالة على المفهوم ولا يقول بها
قيل : ليس ذلك من دلالة المفهوم بل من انتفاء الحكم عند انتفاء شرطه فلو بقي الحكم بعد انتفائه لم يكن شرطا وإن كان فمن يوجب السكنى وحدها فيقال له : ليس في الآية ضمير واحد يخص البائن بل ضمائرها نوعان : نوع يخص الرجعية قطعا كقوله : { فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف } [ الطلاق : 2 ] ونوع يحتمل أن يكون للبائن وأن يكون للرجعية وأن يكون لهما وهو قوله : { لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن } [ الطلاق : ا ] وقوله : { أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم } [ الطلاق : 6 ] فحمله على الرجعية هو المتعين لتتحد الضمائر ومفسرها فلو حمل على غيرها لزم اختلاف الضمائر ومفسرها وهو خلاف الأصل والحمل على الأصل أولى
فإن قيل : فما الفائدة في تخصيص نفقة الرجعية بكونها حاملا ؟
قيل : ليس في الآية ما يقتضي أنه لا نفقة للرجعية الحائل بل الرجعية نوعان قد بين الله حكمهما في كتابه : حائل فلها النفقة بعقد الزوجية إذ حكمها حكم الأزواج أو حامل فلها النفقة بهذه الآية إلى أن تضع حملها فتصير النفقة بعد الوضع نفقة قريب لا نفقة زوج فيخالف حالها قبل الوضع حالها بعده فإن الزوج ينفق عليها وحده إذا كانت حاملا فإذا وضعت صارت نفقتها على من تجب عليه نفقة الطفل ولا يكون حالها في حال حملها كذلك بحيث تجب نفقتها على من تجب عليه نفقة الطفل فإنه في حال حملها جزء من أجزائها فإذا انفصل كان له حكم آخر وانتقلت النفقة من حكم إلى حكم فظهرت فائدة التقييد وسر الاشتراط والله أعلم بما أراد من كلامه (5/479)
ذكر حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم الموافق لكتاب الله تعالى من وجوب النفقة للأقارب
روى أبو داود في سننه : عن كليب بن منفعة عن جده أنه أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله ! من أبر ؟ قال : [ أمك وأباك وأختك وأخاك ومولاك الذي يلي ذاك حق واجب ورحم موصولة ]
وروى النسائي عن طارق المحاربي قال : قدمت المدينة فإذا رسول الله صلى الله عليه و سلم قائم على المنبر يخطب الناس وهو يقول : [ يد المعطي العليا وابدأ بمن تعول : أمك وأباك وأختك وأخاك ثم أدناك أدناك ]
وفي الصحيحين : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : [ جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله ! من أحق الناس بحسن صحابتي ؟ قال : أمك قال : ثم من ؟ قال : أمك قال : ثم من ؟ قال : أمك قال : ثم من ؟ قال : أبوك ثم أدناك أدناك ]
وفي الترمذي عن معاوية القشيري رضي الله عنه [ قال : قلت : يا رسول الله ! من أبر ؟ قال : أمك قلت : ثم من ؟ قال : أمك قلت : ثم من ؟ قال : أمك قلت : ثم من ؟ قال : أباك ثم الأقرب فالأقرب ]
وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم لهند : [ خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ]
وفي سننن أبي داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إن أطيب ما أكلتم من كسبكم وإن أولادكم من كسبكم فكلوه هنيئا ] ورواه أيضا من حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعا
وروى النسائي من حديث جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ابدأ بنفسك فتصدق عليها فإن فضل شئ فلأهلك فإن فضل عن أهلك شئ فلذي قرابتك فإن فضل عن ذي قرابتك فهكذا وهكذا ]
وهذا كله تفسير لقوله تعالى : { واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى } [ النساء : 36 ] وقوله تعالى : { وآت ذا القربى حقه } [ الإسراء : 26 ] فجعل سبحانه حق ذي القربى يلي حق الوالدين كما جعله النبي صلى الله عليه و سلم سواء بسواء وأخبر سبحانه : أن لذي القربى حقا على قرابته وأمر بإتيانه إياه فإن لم يكن ذلك حق النفقة فلا ندري أي حق هو وأمر تعالى بالإحسان إلى ذي القربى ومن أعظم الإساءة أن يراه يموت جوعا وعريا وهو قادر على سد خلته وستر عورته ولا يطعمه لقمة ولا يستر له عورة إلا بأن يقرضه ذلك في ذمته وهذا الحكم من النبي صلى الله عليه و سلم مطابق لكتاب الله تعالى حيث يقول : { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك } [ البقرة : 233 ] فأوجب سبحانه وتعالى على الوارث مثل ما أوجب على المولود له وبمثل هذا الحكم حكم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فروى سفيان بن عيينة عن ابن جريج عن عمرو بن شعيب عن سعيد بن المسيب أن عمر رضي الله عنه حبس عصبة صبي على أن ينفقوا عليه الرجال دون النساء
وقال عبد الرزاق : حدثنا ابن جريج أخبرني عمرو بن شعيب أن ابن المسيب أخبره أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقف بني عم على منفوس كلالة بالنفقة عليه مثل العاقلة فقالوا : لا مال له فقال : ولو وقوفهم بالنفقة عليه كهيئة العقل قال ابن المديني : قوله : ولو أي : ولو لم يكن له مال
وذكر ابن أبي شيبة عن أبي خالد الأحمر عن حجاج عن عمرو عن سعيد بن المسيب قال : جاء ولي يتيم إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : أنفق عليه ثم قال : لو لم أجد إلا أقضى عشيرته لفرضت عليهم وحكم بمثل ذلك أيضا زيد بن ثابت
قال ابن أبي شيبة : حدثنا حميد بن عبد الرحمن عن حسن عن مطرف عن إسماعيل عن الحسن عن زيد بن ثابت قال : إذا كان أم وعم فعلى الأم بقدر ميراثها وعلى العم بقدر ميراثه ولا يعرف لعمر وزيد مخالف في الصحابة البتة
وقال ابن جريج : قلت لعطاء : { وعلى الوارث مثل ذلك } [ البقرة : 233 ] قال : على ورثة اليتيم أن ينفقوا عليه كما يرثونه قلت له : أيحبس وارث المولود إن لم يكن للمولود مال ؟ قال : أفيدعه يموت ؟ وقال الحسن : { وعلى الوارث مثل ذلك } قال : على الرجل الذي يرث أن ينفق عليه حتى يستغني وبهذا فسر الآية جمهور السلف منهم : قتادة ومجاهد والضحاك وزيد بن أسلم وشريح القاضي وقبيصة بن ذؤيب وعبد الله بن عتبة بن مسعود وإبراهيم النخعي والشعبي وأصحاب ابن مسعود ومن بعدهم : سفيان الثوري وعبد الرزاق وأبو حنيفة وأصحابه ومن بعدهم : أحمد وإسحاق وداود وأصحابهم
وقد اختلف الفقهاء في حكم هذه المسألة على عدة أقوال
أحدها : أنه لا يجبر أحد على نفقة أحد من أقاربه وإنما ذلك بر وصلة وهذا مذهب يعزى إلى الشعبي قال عبد بن حميد الكشي : حدثنا قبيصة عن سفيان الثوري عن أشعث عن الشعبي قال : ما رأيت أحدا أجبر أحدا على أحد يعني على نفقته وفي إثبات هذا المذهب بهذا الكلام نظر والشعبي أفقه من هذا والظاهر أنه أراد : أن الناس كانوا أتقى لله من أن يحتاج الغني أن يجبره الحاكم على الإنفاق على قريبه المحتاج فكان الناس يكتفون بإيجاب الشرع عن إيجاب الحاكم أو إجباره
المذهب الثاني : أنه يجب عليه النفقة على أبيه الأدنى وأمه التي ولدته خاصة فهذان الأبوان يجبر الذكر والأنثى من الولد على النفقة عليهما إذا كانا فقيرين فأما نفقة الأولاد فالرجل يجبر على نفقة ابنه الأدنى حتى يبلغ فقط وعلى نفقة بنته الدنيا حتى تزوج ولا يجبر على نفقة ابن ابنه ولا بنت ابنه وإن سفلا ولا تجبر الأم على نفقة ابنها وابنتها ولو كانا في غاية الحاجة والأم في غاية الغنى ولا تجب على أحد النفقة على ابن ابن ولا جد ولا أخ ولا أخت ولا عم ولا عمة ولا خال ولا خالة ولا أحد من الأقارب البتة سوى ما ذكرنا وتجب النفقة مع اتحاد الدين واختلافه حيث وجبت وهذا مذهب مالك وهو أضيق المذاهب في النفقات
المذهب الثالث : أنه تجب نفقة عمودي النسب خاصة دون من عداهم مع اتفاق الدين ويسار المنفق وقدرته وحاجة المنفق عليه وعجزه عن الكسب بصغر أو جنون أو زمانة إن كان من العمود الأسفل وإن كان من العمود الأعلى : فهل يشترط عجزهم عن الكسب ؟ على قولين ومنهم من طرد القولين أيضا في العمود الأسفل فإذا بلغ الولد صحيحا سقطت نفقته ذكرا كان أو أنثى وهذا مذهب الشافعي وهو أوسع من مذهب مالك
المذهب الرابع : أن النفقة تجب على كل ذي رحم محرم لذي رحمه فإن كان من الأولاد وأولادهم أو الآباء والأجداد وجبت نفقتهم مع اتحاد الدين واختلافه وإن كان من غيرهم لم تجب إلا مع اتحاد الدين فلا يجب على المسلم أن ينفق على ذي رحمه الكافر ثم إنما تجب النفقة بشرط قدرة المنفق وحاجة المنفق عليه فإن كان صغيرا اعتبر فقره فقط وإن كان كبيرا فإن كان أنثى فكذلك وإن كان ذكرا فلا بد مع فقره من عماه أو زمانته فإن كان صحيحا بصيرا لم تجب نفقته وهي مرتبة عنده على الميراث إلا في نفقة الولد فإنها على أبيه خاصة على المشهور من مذهبه
وروي عن الحسن بن زياد اللؤلؤي : أنها على أبويه خاصة بقدر ميراثهما طردا للقياس وهذا مذهب أبي حنيفة وهو أوسع من مذهب الشافعي
المذهب الخامس : أن القريب إن كان من عمودي النسب وجبت نفقته مطلقا سواء كان وارثا أو غير وارث وهل يشترط اتحاد الدين بينهم ؟ على روايتين وعنه رواية أخرى : أنه لا تجب نفقتهم إلا بشرط أن يرثهم بفرض أو تعصيب كسائر الأقارب وإن كان من غير عمودي النسب وجبت نفقتهم بشرط أن يكون بينه وبينهم توارث ثم هل يشترط أن يكون التوارث من الجانبين أو يكفي أن يكون من أحدهما ؟ على روايتين وهل يشترط ثبوت التوارث في الحال أو أن يكون من أهل الميراث في الجملة ؟ على روايتين : فإن كان الأقارب من ذوي الأرحام الذين لا يرثون فلا نفقة لهم على المنصوص عنه وخرج بعض أصحابه وجوبها عليهم من مذهبه من توارثهم ولا بد عنده من اتحاد الدين بين المنفق والمنفق عليه حيث وجبت النفقة إلا في عمودي النسب في إحدى الروايتين فإن كان الميراث بغير القرابة كالولاء وجبت النفقة به في ظاهر مذهبه على الوارث دون الموروث وإذا لزمته نفقة رجل لزمته نفقة زوجته في ظاهر مذهبه وعنه : لا تلزمه وعنه : تلزمه في عمودي النسب خاصة دون من عداهم وعنه : تلزمه لزوجة الأب خاصة ويلزمه إعفاف عمودي نسبه بتزويج أو تسر إذا طلبوا ذلك
قال القاضي أبو يعلى : وكذلك يجيء في كل من لزمته نفقته : أخ أو عم أو غيرهما يلزمه إعفافه لأن أحمد رحمه الله قد نص في العبد يلزمه أن يزوجه إذا طلب ذلك وإلا بيع عليه وإذا لزمه إعفاف رجل لزمه نفقة زوجته لأنه لا تمكن من الإعفاف إلا بذلك وهذه غير المسألة المتقدمة وهو وجوب الإنفاق على زوجة المنفق عليه ولهذه مأخذ ولتلك مأخذ وهذا مذهب الإمام أحمد وهو أوسع من مذهب أبي حنيفة وإن كان مذهب أبي حنيفة أوسع منه من وجه آخر حيث يوجب النفقة على ذوي الأرحام وهو الصحيح في الدليل وهو الذي تقتضيه أصول أحمد ونصوصه وقواعد الشرع وصلة الرحم التي أمر الله أن توصل وحرم الجنة على كل قاطع رحم فالنفقة تستحق بشيئين : بالميراث بكتاب الله وبالرحم بسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد تقدم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حبس عصبة صبي أن ينفقوا عليه وكانوا بني عمه وتقدم قول زيد بن ثابت : إذا كان عم وأم فعلى العم بقدر ميراثه وعلى الأم بقدر ميراثها فإنه لا مخالف لهما في الصحابة البتة وهو قول جمهور السلف وعليه يدل قوله تعالى : { وآت ذا القربى حقه } [ الإسراء : 26 ] وقوله تعالى : { وبالوالدين إحسانا وبذي القربى } [ النساء : 36 ] وقد أوجب النبي صلى الله عليه و سلم العطية للأقارب وصرح بأنسابهم فقال : [ وأختك وأخاك ثم أدناك فأدناك حق واجب ورحم موصولة ]
فإن قيل : فالمراد بذلك البر والصلة دون الوجوب
قيل : يرد هذا أنه سبحانه أمر به وسماه حقا وأضافه إليه بقوله : ( حقه ) وأخبر النبي صلى الله عليه و سلم بأنه حق وأنه واجب وبعض هذا ينادي على الوجوب جهارا
فإن قيل : المراد بحقه ترك قطيعته
فالجواب : من وجهين أحدهما : أن يقال : فأي قطيعة أعظم من أن يراه يتلظى جوعا وعطشا ويتأذى غاية الأذى بالحر والبرد ولا يطعمه لقمة ولا يسقيه جرعة ولا يكسوه ما يستر عورته ويقيه الحر والبرد ويسكنه تحت سقف يظله هذا وهو أخوه ابن أمه وأبيه أو عمه صنو أبيه أو خالته التي هي أمه إنما يجب عليه من ذلك ما يجب بذله للأجنبي البعيد بأن يعاوضه على ذلك في الذمة إلى أن يوسر ثم يسترجع به عليه هذا مع كونه في غاية اليسار والجدة وسعة الأموال فإن لم تكن هذه قطيعة فإنا لا ندري ما هي القطيعة المحرمة والصلة التي أمر الله بها وحرم الجنة على قاطعها
الوجه الثاني : أن يقال : فما هذه الصلة الواجبة التي نادت عليها النصوص وبالغت في إيجابها وذمت قاطعها ؟ فأي قدر زائد فيها على حق الأجنبي حتى تعقله القلوب وتخبر به الألسنة وتعم به الجوارح ؟ أهو السلام عليه إذا لقيه وعيادته إذا مرض وتشميته إذا عطس وإجابته إذا دعاه وإنكم لا توجبون شيئا من ذلك إلا ما يجب نظيره للأجنبي على الأجنبي ؟ وإن كانت هذه الصلة ترك ضربه وسبه وأذاه والإزراء به ونحو ذلك فهذا حق يجب لكل مسلم على كل مسلم بل للذمي البعيد على المسلم فما خصوصية صلة الرحم الواجبة ؟ ولهذا كان بعض فضلاء المتأخرين يقول : أعياني أن أعرف صلة الرحم الواجبة ولما أورد الناس هذا على أصحاب مالك وقالوا لهم : ما معنى صلة الرحم عندكم ؟ صنف بعضهم في صلة الرحم كتابا كبيرا وأوعب فيه من الآثار المرفوعة والموقوفة وذكر جنس الصلة وأنواعها وأقسامها ومع هذا فلم يتخلص من هذا الإلزام فإن الصلة معروفة يعرفها الخاص والعام والآثار فيها أشهر من العلم ولكن ما الصلة التي تختص بها الرحم وتجب له الرحمة ولا تشاركه فيها الأجنبي ؟ فلا يمكنكم أن تعينوا وجوب شئ إلا وكانت النفقة أوجب منه ولا يمكنكم أن تذكروا مسقطا لوجوب النفقة إلا وكان ما عداها أولى بالسقوط منه والنبي صلى الله عليه و سلم قد قرن حق الأخ والأخت بالأب والأم فقال : [ أمك وأباك وأختك وأخاك ثم أدناك فأدناك ] فما الذي نسخ هذا وما الذي جعل أوله للوجوب وآخره للإستحباب ؟ وإذا عرف هذا فليس من بر الوالدين أن يدع الرجل أباه يكنس الكنف ويكاري على الحمر ويوقد في أتون الحمام ويحمل للناس على رأسه ما يتقوت بأجرته وهو في غاية الغنى واليسار وسعة ذات اليد وليس من بر أمه أن يدعها تخدم الناس وتغسل ثيابهم وتسقي لهم الماء ونحو ذلك ولا يصونها بما ينفقه عليها ويقول : الأبوان مكتسبان صحيحان وليسا بزمنين ولا أعميين فيالله العجب : أين شرط الله ورسوله في بر الوالدين وصلة الرحم أن يكون أحدهم زمنا أو أعمى وليست صلة الرحم ولا بر الوالدين موقوفة على ذلك شرعا ولا لغة ولا عرفا وبالله التوفيق (5/483)
ذكر حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم في الرضاعة وما يحرم بها وما لا يحرم وحكمه في القدر المحرم منها وحكمه في إرضاع الكبير هل له تأثير أم لا ؟
ثبت في الصحيحين : من حديث عائشة رضي الله عنها عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إن الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة ]
وثبت فيهما : من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه و سلم أريد على ابنة حمزة فقال : [ إنها لا تحل لي إنها ابنة أخي من الرضاعة ويحرم من الرضاعة ما يحرم من الرحم ]
وثبت فيهما : أنه قال لعائشة رضى الله عنهما : [ ائذني لأفلح أخي أبي القعيس فإنه عمك ] وكانت امرأته أرضعت عائشة رضي الله عنها
وبهذا أجاب ابن عباس لما سئل عن رجل له جاريتان أرضعت إحداهما جارية والأخرى غلاما : أيحل للغلام أن يتزوج الجارية ؟ قال : لا اللقاح واحد
وثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا تحرم المصة والمصتان ]
وفي رواية : [ لا تحرم الإملاجة والإملاجتان ]
وفي لفظ له : أن رجلا قال : يا رسول الله هل تحرم الرضعة الواحدة ؟ قال : لا
وثبت في صحيحه أيضا : عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان فيما نزل من القرآن : عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات فتوفي رسول الله صلى الله عليه و سلم وهن فيما يقرأ من القرآن
وثبت في الصحيحين : من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إنما الرضاعة من المجاعة ]
وثبت في جامع الترمذي : من حديث أم سلمة رضى الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لا يحرم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام ] وقال الترمذي : حديث صحيح
وفي سنن الدارقطني بإسناد صحيح عن ابن عباس يرفعه : [ لا رضاع إلا ما كان في الحولين ]
وفي سنن أبي داود : من حديث ابن مسعود يرفعه : [ لا يحرم من الرضاع إلا ما أنبت اللحم وأنشر العظم ]
وثبت في صحيح مسلم : عن عائشة رضي الله عنها قالت : جاءت سهلة بنت سهيل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقالت : يا رسول الله ! إني أرى في وجه أبي حذيفة من خول سالم وهو حليفه فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ أرضعيه تحرم عليه ]
وفي رواية له عنها قالت : [ جاءت سهلة بنت سهيل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت : يا رسول الله ! إني أرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم وهو حليفه فقال النبي صلى الله عليه و سلم : أرضعيه فقالت : وكيف أرضعه وهو رجل كبير فتبسم رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال : قد علمت أنه كبير ]
وفي لفظ لمسلم : أن أم سلمة رضي الله عنها قالت لعائشة رضي الله عنها : إنه يدخل عليك الغلام الأيفع الذي ما أحب أن يدخل علي فقالت عائشة رضي الله عنها : أما لك في رسول الله صلى الله عليه و سلم أسوة ؟ إن أمرأة أبي حذيفة قالت : يا رسول الله ! إن سالما يدخل علي وهو رجل وفي نفس أبي حذيفة منه شئ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ أرضعيه حتى يدخل عليك ] وساقه أبو داود في سننه سياقه تامة مطولة فرواه من حديث الزهري عن عروة عن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس كان تبنى سالما وأنكحه ابنة أخيه هندا بنت الوليد بن عتبة وهو مولى لامرأة من الأنصار كما تبنى رسول الله صلى اله عليه وسلم زيدا وكان من تبنى رجلا في الجاهلية دعاه الناس إليه وورث ميراثه حتى أنزل الله تعالى في ذلك : { ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم } [ الأحزاب : 5 ] فردوا إلى آبائهم فمن لم يعلم له أب كان مولى وأخا في الدين فجاءت سهلة بنت سهيل بن عمرو القرشي ثم العامري وهي امرأة أبي حذيفة فقالت : يا رسول الله ! إنا كنا نرى سالما ولدا وكان يأوي معي ومع أبي حذيفة في بيت واحد ويراني فضلا وقد أنزل الله تعالى فيهم ما قد علمت فكيف ترى فيه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أرضعيه فأرضعته خمس رضعات فكان بمنزلة ولدها من الرضاعة فبذلك كانت عائشة رضي الله عنها تأمر بنات إخوتها وبنات أخواتها أن يرضعن من أحبت عائشة رضي الله عنها أن يراها ويدخل عليها وإن كان كبيرا خمس رضعات ثم يدخل عليها وأبت ذلك أم سلمة وسائر أزواج النبي صلى الله عليه و سلم أن يدخلن عليهن أحدا بتلك الرضاعة من الناس حتى يرضع في المهد وقلن لعائشة : والله ما ندري لعلها كانت رخصة من النبي صلى الله عليه و سلم لسالم دون الناس
فتضمنت هذه السنن الثابتة أحكاما عديدة بعضها متفق عليه بين الأمة وفي بعضها نزاع
الحكم الأول : قوله صلى الله عليه و سلم : [ الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة ] وهذا الحكم متفق عليه بين الأمة حتى عند من قال : إن الزيادة على النص نسخ والقرآن لا ينسخ بالسنة فإنه اضطر إلى قبول هذا الحكم وإن كان زائدا على ما في القرآن سواء سماه نسخا أو لم يسمه كما اضطر إلى تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وبينها وبين خالتها مع أنه زيادة على نص القرآن وذكرها هذا مع حديث أبي القعيس في تحريم لبن الفحل على أن المرضعة والزوج صاحب اللبن قد صارا أبوين للطفل وصار الطفل ولدا لهما فانتشرت الحرمة من هذه الجهات الثلاث فأولاد الطفل وإن نزلوا أولاد ولدهما وأولاد كل واحد من المرضعة والزوج من الآخر ومن غيره إخوته وأخواته من الجهات الثلاث فأولاد أحدهما من الآخر إخوته وأخواته لأبيه وأمه وأولاد الزوج من غيرها إخوته وأخواته من أبيه وأولاد المرضعة من غيره إخوته وأخواته لأمه وصار آباؤها أجداده وجداته وصار إخوة المرأة وأخواتها أخواله وخالاته وإخوة صاحب اللبن وأخواته أعمامه وعماته فحرمة الرضاع تنتشر من هذه الجهات الثلاث فقط
ولا يتعدى التحريم إلى غير المرتضع ممن هو في درجته من إخوته وأخواته فيباح لأخيه نكاح من أرضعت أخاه وبناتها وأمهاتها ويباح لأخته نكاح صاحب اللبن وأباه وبنيه وكذلك لا ينتشر إلى من فوقه من آبائه وأمهاته ومن في درجته من أعمامه وعماته وأخواله وخالاته فلأبي المرتضع من النسب وأجداده أن ينكحوا أم الطفل من الرضاع وأمهاتها وأخواتها وبناتها وأن ينكحوا أمهات صاحب اللبن وأخواته وبناته إذ نظير هذا من النسب حلال فللأخ من الأب أن يتزوج أخت أخيه من الأم وللأخ من الأم أن ينكح أخت أخيه من الأب وكذلك ينكح الرجل أم ابنه من النسب وأختها وأما أمها وبنتها فإنما حرمتا بالمصاهرة
وهل يحرم نظير المصاهرة بالرضاع فيحرم عليه أم امرأته من الرضاع وبنتها من الرضاعة وامرأة ابنه من الرضاعة أو يحرم الجمع بين الأختين من الرضاعة أو بين المرأة وعمتها وبينها وبين خالتها من الرضاعة ؟ فحرمه الأئمة الاربعة وأتباعهم وتوقف فيه شيخنا وقال : إن كان قد قال أحد بعدم التحريم فهو أقوى
قال المحرمون : تحريم هذا يدخل في قوله صلى الله عليه و سلم : [ يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ] فأجرى الرضاعة مجرى النسب وشبهها به فثبت تنزيل ولد الرضاعة وأبي الرضاعة منزلة ولد النسب وأبيه فما ثبت للنسب من التحريم ثبت للرضاعة فإذا حرمت امرأة الأب والإبن وأم المرأة وابنتها من النسب حرمن بالرضاعة وإذا حرم الجمع بين أختي النسب حرم بين أختي الرضاعة هذا تقدير احتجاجهم على التحريم قال شيخ الإسلام : الله سبحانه حرم سبعا بالنسب وسبعا بالصهر كذا قال ابن عباس قال : ومعلوم أن تحريم الرضاعة لا يسقى صهرا وإنما يحرم منه ما يحرم من النسب والنبي صلى الله عليه و سلم قال : [ يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة ] وفي رواية : [ ما يحرم من النسب ] ولم يقل : وما يحرم بالمصاهرة ولا ذكره الله سبحانه في كتابه كما ذكر تحريم الصهر ولا ذكر تحريم الجمع في الرضاع كما ذكره في النسب والصهر قسيم النسب وشقيقه قال الله تعالى : { وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا } [ الفرقان : 54 ] فالعلاقة بين الناس بالنسب والصهر وهما سببا التحريم والرضاع فرع على النسب ولا تعقل المصاهرة إلا بين الأنساب والله تعالى إنما حرم الجمع بين الأختين وبين المرأة وعمتها وبينها وبين خالتها لئلا يفضي إلى قطيعة الرحم المحرمة ومعلوم أن الأختين من الرضاع ليس بينهما رحم محرمة في غير النكاح ولا ترتب على ما بينهما من أخوة الرضاع حكم قط غير تحريم أحدهما على الآخر فلا يعتق عليه بالملك ولا يرثه ولا يستحق النفقة عليه ولا يثبت له عليه ولاية النكاح ولا الموت ولا يعقل عنه ولا يدخل في الوصية والوقف على أقاربه وذوي رحمه ولا يحرم التفريق بين الأم وولدها الصغير من الرضاعة ويحرم من النسب والتفريق بينهما في الملك كالجمع بينهما في النكاح سواء ولو ملك شيئا من المحرمات بالرضاع لم يعتق عليه بالملك وإذا حرمت على الرجل أمه وبنته وأخته وعمته وخالته من الرضاعة لم يلزم أن يحرم عليه أم امرأته التي أرضعت امرأته فإنه لا نسب بينه وبينها ولا مصاهرة ولا رضاع والرضاعة إذا جعلت كالنسب في حكم لا يلزم أن تكون مثله في كل حكم بل ما افترقا فيه من الأحكام أضاف ما اجتمعا فيه منها وقد ثبت جواز الجمع بين اللتين بينهما مصاهرة محرمة كما جمع عبد الله بن جعفر بين امرأة علي وابنته من غيرها وإن كان بينهما تحريم يمنع جواز نكاح أحدهما للآخر لو كان ذكرا فهذا نظير الأختين من الرضاعة سواء لأن سبب تحريم النكاح بينهما في أنفسهما ليس بينهما وبين الأجنبي منهما الذي لا رضاع بينه وبينهما ولا صهر وهذا مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم
واحتج أحمد بأن عبد الله بن جعفر جمع بين امراة علي وابنته ولم ينكر ذلك أحد قال البخاري : وجمع الحسن بن الحسن بن علي بين بنتي عم في ليلة وجمع عبد الله بن جعفر بين امرأة علي وابنته وقال ابن شبرمة : لا بأس به وكرهه الحسن مرة ثم قال : لا بأس به وكرهه جابر بن زيد للقطيعة وليس فيه تحريم لقوله عز و جل : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } [ النساء : 24 ] هذا كلام البخاري
وبالجملة : فثبوت أحكام النسب من وجه لا يستلزم ثبوتها من كل وجه أو من وجه آخر فهؤلاء نساء النبي صلى الله عليه و سلم هن أمهات المؤمنين في التحريم والحرمة فقط لا في المحرمية فليس لأحد أن يخلو بهن ولا ينظر إليهن بل قد أمرهن الله بالإحتجاب عمن حرم عليه نكاحهن من غير أقاربهن ومن بينهن وبينه رضاع فقال تعالى : { وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب } [ الأحزاب : 53 ] ثم هذا الحكم لا يتعدى إلى أقاربهن البتة فليس بناتهن أخوات المؤمنين يحرمن على رجالهم ولا بنوهن إخوة لهم يحرم عليهن بناتهن ولا أخواتهن وإخواتهن خالات وأخوالا بل هن حلال للمسلمين باتفاق المسلمين وقد كانت أم الفضل أخت ميمونة زوج رسول الله صلى الله عليه و سلم تحت العباس وكانت أسماء بنت أبي بكر أخت عائشة رضي الله عنها تحت الزبير وكانت أم عائشة رضي الله عنها تحت أبي بكر وأم حفصة تحت عمر رضي الله عنه وليس لرجل أن يتزوج أمه وقد تزوج عبد الله بن عمر وإخوته وأولاد أبي بكر وأولاد أبي سفيان من المؤمنات ولو كانوا أخوالا لهن لم يجز أن ينكحوهن فلم تنتشر الحرمة من أمهات المؤمنين إلى أقاربهن وإلا لزم من ثبوت حكم من أحكام النسب بين الأمة وبينهن ثبوت غيره من الأحكام
ومما يدل على ذلك أيضا قوله تعالى في المحرمات : { وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم } [ النساء : 23 ]
ومعلوم أن لفظ الإبن إذا أطلق لم يدخل فيه ابن الرضاع فكيف إذا قيد بكونه ابن صلب وقصد إخراج ابن التبني بهذا لا يمنع إخراح ابن الرضاع ويوجب دخوله وقد ثبت في الصحيح : أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر سهلة بنت سهيل أن ترضع سالما مولى أبي حذيفة ليصير محرما لها فأرضعته بلبن أبي حذيفة زوجها وصار ابنها ومحرمها بنص رسول الله صلى الله عليه و سلم سواء كان هذا الحكم مختصا بسالم أو عاما كما قالته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فبقي سالم محرما لها لكونها أرضعته وصارت أمه ولم يصر محرما لها لكونها امرأة أبيه من الرضاعة فإن هذا لا تأثير فيه لرضاعة سهلة له بل لو أرضعته جارية له أو امرأة أخرى صارت سهلة امرأة أبيه وإنما التأثير لكونه ولدها نفسها وقد علل بهذا في الحديث نفسه ولفظه : فقال النبي صلى الله عليه و سلم : أرضعيه فأرضعته خمس رضعات وكان بمنزلة ولدها من الرضاعة ولا يمكن دعوى الإجماع في هذه المسألة ومن ادعاه فهو كاذب فإن سعيد بن المسيب وأبا سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار وعطاء بن يسار وأبا قلابة لم يكونوا يثبتون التحريم بلبن
الفحل وهو مروي عن الزبير وجماعة من الصحابة كما سيأتي إن شاء الله تعالى وكانوا يرون أن التحريم إنما هو من قبل الأمهات فقط فهؤلاء إذا لم يجعلوا المرتضع من لبن الفحل ولدا له فأن لا يحرموا عليه امرأته ولا على الرضيع امرأة الفحل بطريق الأولى فعلى قول هؤلاء فلا يحرم على المرأة أبو زوجها من الرضاعة ولا ابنه من الرضاعة
فإن قيل : هؤلاء لم يثبتوا البنوة بين المرتضع وبين الفحل فلم تثبت المصاهرة لأنها فرع ثبوت بنوة الرضاع فإذا لم تثبت له لم يثبت فرعها وأما من أثبت بنوة الرضاع من جهة الفحل كما دلت عليه السنة الصحيحة الصريحة وقال به جمهور أهل الإسلام فإنه تثبت المصاهرة بهذه البنوة فهل قال أحد ممن ذهب إلى التحريم بلبن الفحل : إن زوجة أيه وابنه من الرضاعة لا تحرم ؟
قيل : المقصود أن في تحريم هذه نزاعا وأنه ليس مجمعا عليه وبقي النظر في مأخذه هل هو إلغاء لبن الفحل وأنه لا تأثير له أو إلغاء المصاهرة من جهة الرضاع وأنه لا تأثير لها وإنما التأثير لمصاهرة النسب ؟
ولا شك أن المأخذ الأول باطل لثبوت السنة الصريحة بالتحريم بلبن الفحل وقد بينا أنه لا يلزم من القول بالتحريم به إثبات المصاهرة به إلا بالقياس وقد تقدم أن الفارق بين الأصل والفرع أضعاف أضعاف الجامع وأنه لا يلزم من ثبوت حكم من أحكام النسب ثبوت حكم آخر
ويدل على هذا أيضا أنه سبحانه لم يجعل أم الرضاع وأخت الرضاعة داخلة تحت أمهاتنا وأخواتنا فإنه سبحانه قال : { حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم } [ النساء : 23 ] ثم قال : { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة } [ النساء : 23 ] فدل على أن لفظ أمهاتنا عند الإطلاق : إنما يراد به الأم من النسب وإذا ثبت هذا فقوله تعالى : { وأمهات نسائكم } مثل قوله : { وأمهاتكم } إنما هن أمهات نسائنا من النسب فلا يتناول أمهاتهن من الرضاعة ولو أريد تحريمهن لقال : وأمهاتهن اللاتي أرضعنهن كما ذكر ذلك في أمهاتنا وقد بينا أن قوله : [ يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب ] إنما يدل على أن من حرم على الرجل من النسب حرم عليه نظيره من الرضاعة ولا يدل على أن من حرم عليه بالصهر أو بالجمع حرم عليه نظيره من الرضاعة بل يدل مفهومه على خلاف ذلك مع عموم قوله : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } [ النساء : 24 ]
ومما يدل على أن تحريم امرأة أبيه وابنه من الرضاعة ليس مسألة إجماع أنه قد ثبت عن جماعة من السلف جواز نكاح بنت امرأته إذا لم تكن في حجره كما صح عن مالك بن أوس بن الحدثان النصري قال : كانت عندي امرأة وقد ولدت لي فتوفيت فوجدت عليها فلقيت علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال لي : مالك ؟ قلت : توفيت المرأة قال : لها ابنة ؟ قلت : نعم قال : كانت في حجرك ؟ قلت : لا هي في الطائف قال : فانكحها قلت : فأين قوله تعالى : { وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم } [ النساء : 23 ] قال : إنها لم تكن في حجرك وإنما ذلك إذا كانت في حجرك
وصح عن إبراهيم بن ميسرة أن رجلا من بني سواءة يقال له : عبيد الله بن معبد أثنى عليه خيرا أخبره أن أباه أو جده كان قد نكح امرأة ذات ولد من غيره ثم اصطحبا ما شاء الله ثم نكح امرأة شابة فقال : أحد بني الأولى قد نكحت على أمنا وكبرت واستغنيت عنها بامرأة شابة فطلقها قال : لا والله إلا أن تنكحني ابنتك قال : فطلقها وأنكحه ابنته ولم تكن في حجره هي ولا أبوها قال : فجئت سفيان بن عبد الله فقلت : استفت لي عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : لتحجن معي فأدخلني على عمر رضي الله عنه بمنى فقصصت عليه الخبر فقال عمر : لا بأس بذلك فاذهب فسل فلانا ثم تعال فأخبرني قال : ولا أراه إلا عليا قال : فسألته فقال : لا بأس بذلك وهذا مذهب أهل الظاهر فإذا كان عمر وعلي رضي الله عنهما ومن يقول بقولهما قد أباحا الربيبة إذا لم تكن في حجر الزوج مع أنها ابنة امرأته من النسب فكيف يحرمان عليه ابنتها من الرضاع وهذه ثلاثة قيود ذكرها الله سبحانه وتعالى في تحريمها أن تكون في حجره وأن تكون من امرأته وأن يكون قد دخل بأمها فكيف يحرم عليه مجرد ابنتها من الرضاعة وليست في حجره ولا هي ربيبته لغة فإن الربيبة بنت الزوجة والربيب ابنها باتفاق الناس وسميا ربيبا وربيبة لأن زوج أمهما يربهما في العادة وأما من أرضعتهما امرأته بغير لبنه ولم يربهما قط ولا كانت في حجره فدخولها في هذا النص في غاية البعد لفظا ومعنى وقد أشار النبي صلى الله عليه و سلم بتحريم الربيبة بكونها في الحجر ففي صحيح البخاري من حديث الزهري عن عروة [ أن زينب بنت أم سلمة أخبرته أن أم حبيبة بنت أبي سفيان قالت : يا رسول الله ! أخبرت أنك تخطب بنت أبي سلمة فقال : بنت أم سلمة ؟ قالت : نعم فقال : إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري لما حلت لي ] وهذا يدل على اعتباره صلى الله عليه و سلم القيد الذي قيده الله في التحريم وهو أن تكون في حجر الزوج
ونظير هذا سواء أن يقال في زوجة ابن الصلب إذا كانت محرمة برضاع : لو لم تكن حليلة ابني الذي لصلبي لما حلت لي سواء ولا فرق بينهما وبالله التوفيق (5/491)
فصل
الحكم الثاني : المستفاد من هذه السنة أن لبن الفحل يحرم وأن التحريم ينتشر منه كما ينتشر من المرأة وهذا هو الحق الذي لا يجوز أن يقال بغيره وإن خالف فيه من خالف من الصحابة ومن بعدهم فسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم أحق أن تتبع ويترك ما خالفها لأجلها ولا تترك هي لأجل قول أحد كائنا من كان ولو تركت السنن لخلاف من خالفها لعدم بلوغها له أو لتأويلها أو غير ذلك لترك سنن كثيرة جدا وتركت الحجة إلى غيرها وقول من يجب اتباعه إلى قول من لا يجب اتباعه وقول المعصوم إلى قول غير المعصوم وهذه بلية نسأل الله العافية منها وأن لا نلقاه بها يوم القيامة
قال الأعمش : كان عمارة وإبراهيم وأصحابنا لا يرون بلبن الفحل بأسا حتى أتاهم الحكم بن عتيبة بخبر أبي القعيس يعني : فتركوا قولهم ورجعوا عنه وهكذا يصنع أهل العلم إذا أتتهم السنة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم رجعوا إليها وتركوا قولهم بغيرها
قال الذين لا يحرمون بلبن الفحل : إنما ذكر الله سبحانه في كتابه التحريم بالرضاعة من جهة الأم فقال : { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة } [ النساء : 23 ] واللام : للعهد ترجع إلى الرضاعة المذكورة وهي رضاعة الأم وقد قال الله تعالى : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } [ النساء : 24 ] فلو أثبتنا التحريم بالحديث لكنا قد نسخنا القرآن بالسنة وهذا - على أصل من يقول : الزيادة على النص نسخ - ألزم قالوا : وهؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم هم أعلم الأمة بسنته وكانوا لا يرون التحريم به فصح عن أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة أن أمة زينب بنت أم سلمة أم المؤمنين أرضعتها أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنه امرأة الزبير بن العوام قالت زينب : وكان الزبير يدخل علي وأنا أمتشط فيأخذ بقرن من قرون رأسي ويقول : أقبلي علي فحدثيني أرى أنه أبي
وما ولد منه : فهم إخوتي ثم إن عبد الله بن الزبير أرسل إلي يخطب أم كلثوم ابنتي على حمزة بن الزبير وكان حمزة للكلبية فقالت لرسوله : وهل تحل له ؟ وإنما هي ابنة أخته فقال عبد الله : إنما أردت بهذا المنع من قبلك أما ما ولدت أسماء فهم إخوتك وما كان من غير أسماء فليسوا لك بإخوة فأرسلي فاسألي عن هذا فأرسلت فسألت وأصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم متوافرون فقالوا لها إن الرضاعة من قبل الرجل لا تحرم شيئا فأنكحيها إياه فلم تزل عنده حتى هلك عنها
قالوا : ولم ينكر ذلك الصحابة رضي الله عنهم قالوا : ومن المعلوم أن الرضاعة من جهة المرأة لا من الرجل
قال الجمهور : ليس فيما ذكرتم ما يعارض السنة الصحيحة الصريحة فلا يجوز العدول عنها أما القرآن فإنه بين أمرين : إما أن يتناول الأخت من الأب من الرضاعة فيكون دالا على تحريمها وإما أن لا يتناولها فيكون ساكتا عنها فيكون تحريم السنة لها تحريما مبتدءا ومخصصا لعموم قوله : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } [ النساء : 24 ] والظاهر يتناول لفظ الأخت لها فإنه سبحانه عمم لفظ الأخوات من الرضاعة فدخل فيه كل من أطلق عليها أخته ولا يجوز أن يقال : إن أخته من أبيه من الرضاعة ليست أختا له فإن النبي صلى الله عليه و سلم قال لعائشة رضي الله عنها : ائذني لأفلح فإنه عمك فأثبت العمومة بينها وبينه بلبن الفحل وحده فإذا ثبتت العمومة بين المرتضعة وبين أخي صاحب اللبن فثبوت الأخوة بينها وبين ابنه بطريق الأولى أو مثله
فالسنة بينت مراد الكتاب لا أنها خالفته وغايتها أن تكون أثبتت تحريم ما سكت عنه أو تخصيص ما لم يرد عمومه
وأما قولكم : إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يرون التحريم بذلك فدعوى باطلة على جميع الصحابة فقد صح عن علي رضي الله عنه إثبات التحريم به وذكر البخاري في صحيحه أن ابن عباس سئل عن رجل كانت له امرأتان أرضعت إحداهما جارية والأخرى غلاما أيحل أن ينكحها ؟ فقال ابن عباس : لا اللقاح واحد وهذا الأثر الذي استدللتم به صريح عن الزبير أنه كان يعتقد أن زينب ابنته بتلك الرضاعة وهذه عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها كانت تفتي : أن لبن الفحل ينشر الحرمة فلم يبق بأيديكم إلا عبد الله بن الزبير وأين يقع من هؤلاء
وأما الذين سألتم فأفتوها بالحل فمجهولون غير مسمين ولم يقل الراوي : فسألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وهم متوافرون بل لعلها أرسلت فسألت من لم تبلغه السنة الصحيحة منهم فأفتاها بما أفتاها به عبد الله بن الزبير ولم يكن الصحابة إذ ذاك متوافرين بالمدينة بل كان معظمهم وأكابرهم بالشام والعراق ومصر
وأما قولكم : إن الرضاعة إنما هي من جهة الأم فالجواب أن يقال : إنما اللبن للأب الذي ثار بوطئه والأم وعاء له وبالله التوفيق
فإن قيل : فهل تثبت أبوة صاحب اللبن وإن لم تثبت أمومة المرضعة أو ثبوث أبوته فرع على ثبوت أمومة المرضعة ؟
قيل : هذا الأصل فيه قولان للفقهاء وهما وجهان في مذهب أحمد والشافعي وعليه مسأله من له أربع زوجات فأرضعن طفلة كل واحد منهن رضعتين فإنهن لا يصرن أما لها لأن كل واحدة منهن لم ترضعها خمس رضعات وهل يصير الزوج أبا للطفلة ؟ فيه وجهان أحدهما : لا يصير أبا كما لم تصير المرضعات أمهات والثاني وهو الأصح : يصير أبا لكون الولد ارتضع من لبنه خمس رضعات ولبن الفحل أصل بنفسه غير متفرع على أمومة المرضعة فإن الأبوة إنما تثبت بحصول الإرتضاع من لبنه لا لكون المرضعة أمه ولا يجيء هذا على أصلي أبي حنيفة ومالك فإن عندهما قليل الرضاع وكثيره محرم فالزوجات الأربع أمهات للمرتضع فإذا قلنا بثبوت الأبوة وهو الصحيح حرمت المرضعات على الطفل لأنه ربيبهن وهن موطوءات أبيه فهو ابن بعلهن وإن قلنا : لا تثبت الأبوة لم يحرمن عليه بهذا الرضاع
وعلى هذه المسألة : ما لو كان لرجل خمس بنات فأرضعن طفلا كل واحدة رضعة لم يصرن أمهات له وهل يصير الرجل جدا له وأولاده الذين هم إخوة المرضعات أخوالا له وخالات ؟ على وجهين أحدهما : يصير جدا وأخوهن خالا لأنه قد كمل المرتضع خمس رضعات من لبن بناته فصار جدا كما لو كان المرتضع بنتا واحدة وإذا صار جدا كان أولاده الذين هم إخوة البنات أخوالا وخالات لأنهن إخوة من كمل له منهن خمس رضعات فنزلوا بالنسبة إليه منزلة أم واحدة والآخر لا يصير جدا ولا أخواتهن خالات لأن كونه جدا فرع على كون ابنته أما وكون أخيها خالا فرع على كون أخته أما ولم يثبت الأصل فلا يثبت فرعه وهذا الوجه أصح في هذه المسألة بخلاف التي قبلها فإن ثبوت الأبوة فيها لا يستلزم ثبوت الأمومة على الصحيح والفرق بينهما : أن الفرعية متحققة في هذه المسألة بين المرضعات وأبيهن فإنهن بناته واللبن ليس له فالتحريم هنا بين المرضعة وابنها فإذا لم تكن أما لم يكن أبوها جدا بخلاف تلك فإن التحريم بين المرتضع وبين صاحب اللبن فسواء ثبتت أمومة المرضعة أو لا فعلى هذا إذا قلنا : يصير أخوهن خالا فهل تكون كل واحدة منهن خالة له ؟ فيه وجهان : أحدهما : لا تكون خالة لأنه لم يرتضع من لبن أخواتها خمس رضعات فلا تثبت الخؤولة والثاني : تثبت لأنه قد اجتمع من اللبن المحرم خمس رضعات وكان ما ارتضع منها ومن أخواتها مثبتا للخؤولة ولا تثبت أمومة واحدة منهن إذ لم يرتضع منها خمس رضعات ولا يستبعد ثبوت خؤولة بلا أمومة كما ثبت في لبن الفحل أبوة بلا أمومة وهذا ضعيف والفرق بينهما : أن الخؤولة فرع محض على الأمومة فإذا لم يثبت الأصل فكيف يثبت فرعه ؟ بخلاف الأبوة والأمومة فإنهما أصلان لا يلزم من انتفاء أحدهما انتفاء الآخر
وعلى هذا مسألة ما لو كان لرجل أم وأخت وابنة وزوجة ابن فأرضعن طفلة كل واحدة منهن رضعة لم تصر واحدة منهن أمها وهل تحرم على الرجل ؟ على وجهين : أوجههما : ما تقدم والتحريم هاهنا بعيد فإن هذا اللبن الذي كمل للطفل لا يجعل الرجل أبا له ولا جدا ولا أخا ولا خالا والله أعلم (5/502)
فصل
وقد دل التحريم بلبن الفحل على تحريم المخلوقة من ماء الزاني دلالة الأولى والأحرى لأنه إذا حرم عليه أن ينكح من قد تغذت بلبن ثار بوطئه فكيف يحل له أن ينكح من قد خلق من نفس مائه بوطئه ؟ وكيف يحرم الشارغ بنته من الرضاع لما فيها من لبن كان وطء الرجل سببا فيه ثم يبيح له نكاح من خلقت بنفس وطئه ومائه ؟ هذا من المستحيل فإن البعضية التي بينه وبين المخلوقة من مائه أكمل وأتم من البعضية التي بينه وبين من تغذت بلبنه فإن بنت الرضاغ فيها جزء ما من البعضية والمخلوقة من مائه كاسمها مخلوقة من مائه فنصفها أو أكثرها بعضه قطعا والشطر الآخر للأم وهذا قول جمهور المسلمين ولا يعرف في الصحابة من أباحها ونص الإمام أحمد رحمه الله على أن من تزوجها قتل بالسيف محصنا كان أو غيره وإذا كانت بنته من الرضاعة بنتا في حكمين فقط : الحرمة والمحرمية وتخلف سائر أحكام البنت عنها لم تخرجها عن التحريم وتوجب حلها فكذا بنته من الزنى تكون بنتا في التحريم وتخلف أحكام البنت عنها لا يوجب حلها والله سبحانه خاطب العرب بما تعقله لغاتها ولفظ البنت لفظ لغوي لم ينقله الشارع عن موضعه الأصلي كلفظ الصلاة والإيمان ونحوهما فيحمل على موضوعه اللغوي حتى يثبت نقل الشارع له عنه إلى غيره فلفظ البنت كلفظ الأخ والعم والخال ألفاظ باقية على موضوعاتها اللغوية وقد ثبت في الصحيح أن الله تعالى أنطق ابن الراعي الزاني بقوله : أبي فلان الراعي وهذا الإنطاق لا يحتمل الكذب وأجمعت الأمة على تحريم أمه عليه وخلقه من مائها وماء الزاني خلق واحد وإثمهما فيه سواء وكونه بعضا له مثل كونه بعضا لها وانقطاع الإرث بين الزاني والبنت لا يوجب جواز نكاحها ثم من العجب كيف يحرم صاحب هذا القول أن يستمني الإنسان بيده ويقول : هو نكاح ليده ويجوز للإنسان أن ينكح بعضه ثم يجوز له أن يستفرش بعضه الذي خلقه الله من مائه وأخرجه من صلبه كما يستفرش الأجنبية (5/506)
فصل
والحكم الثالث : أنه لا تحرم المصة والمصتان كما نص عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا يحرم إلا خمس رضعات وهذا موضع اختلف فيه العلماء فأثبتت طائفة من السلف والخلف التحريم بقليل الرضاع وكثيره وهذا يروى عن علي وابن عباس وهو قول سعيد بن المسيب والحسن والزهري وقتادة والحكم وحماد والأوزاعي والثوري وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وزعم الليث بن سعد أن المسلمين أجمعوا على أن قليل الرضاع وكثيره يحرم في المهد ما يفطر به الصائم وهذا رواية عن الإمام أحمد رحمه الله وقالت طائفة أخرى : لا يثبت التحريم بأقل من ثلاث رضعات وهذا قول أبي ثور وأبي عبيد وابن المنذر وداود بن علي وهو رواية ثانية عن أحمد
وقالت طائفة أخرى : لا يثبت بأقل من خمس رضعات وهذا قول عبد الله بن مسعود وعبد الله بن الزبير وعطاء وطاووس وهو إحدى الروايات الثلاث عن عائشة رضي الله عنها والرواية الثانية عنها : أنه لا يحرم أقل من سبع والثالثة : لا يحرم أقل من عشر والقول بالخمس مذهب الشافعي وأحمد في ظاهر مذهبه وهو قول ابن حزم وخالف داود في هذه المسألة
فحجة الأولين أنه سبحانه علق التحريم باسم الرضاعة فحيث وجد اسمها وجد حكمها والنبي صلى الله عليه و سلم قال : [ يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب ] وهذا موافق لإطلاق القرآن
وثبت في الصحيحين عن عقبة بن الحارث أنه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب فجاءت أمة سوداء فقالت : قد أرضعتكما فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم فأعرض عني قال : فتنحيت فذكرت ذلك له قال : [ وكيف وقد زعمت أنها قد أرضعتكما فنهاه عنها ] ولم يسأل عن عدد الرضاع قالوا : ولأنه فعل يتعلق به التحريم فاستوى قليله وكثيره كالوطء الموحب له قالوا : ولأن إنشاز العظم وإنبات اللحم يحصل بقليله وكثيره قالوا : ولأن أصحاب العدد قد اختلفت أقوالهم في الرضعة وحقيقتها واضطربت أشد الإضطراب وما كان هكذا لم يجعله الشارع نصابا لعدم ضبطه والعلم به
قال أصحاب الثلاث : قد ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا تحرم المصة والمصتان ] وعن أم الفضل بنت الحارث قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا تحرم الإملاجة والإملاجتان ] وفي حديث آخر : [ أن رجلا قال : يا رسول الله ! هل تحرم الرضعة الواحدة ؟ قال : لا ] وهذه أحاديث صحيحة صريحة رواه مسلم في صحيحه فلا يجوز العدول عنها فأثبتنا التحريم بالثلاث لعموم الآية ونفينا التحريم بما دونها بصريح السنة قالوا : ولأن ما يعتبر فيه العدد والتكرار تعتبر فيه الثلاث قالوا : ولأنها أول مراتب الجمع وقد اعتبرها الشارع في مواضع كثيرة جدا
قال أصحاب الخمس : الحجة لنا ما تقدم في أول الفصل من الأحاديث الصحيحة الصريحة وقد أخبرت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم توفي والأمر على ذلك قالوا : ويكفي في هذا قول النبي صلى الله عليه و سلم لسهلة بنت سهيل : [ أرضعي سالما خمس رضعات تحرمي عليه ] قالوا : وعائشة أعلم الأمة بحكم هذه المسألة هي ونساء النبي صلى الله عليه و سلم وكانت عائشة رضي الله عنها إذا أرادت أن يدخل عليها أحد أمرت إحدى بنات إخوتها أو أخواتها فأرضعته خمس رضعات قالوا : ونفي التحريم بالرضعة والرضعتين صريح في عدم تعليق التحريم بقليل الرضاع وكثيره وهي ثلاث أحاديث صحيحة صريحة بعضها خرج جوابا للسائل وبعضها تأسيس حكم مبتدأ قالوا : وإذا علقنا التحريم بالخمس لم نكن قد خالفنا شيئا من النصوص التي استدللتم بها وإنما نكون قد قيدنا مطلقها بالخمس وتقييد المطلق بيان لا نسخ ولا تخصيص
وأما من علق التحريم بالقليل والكثير فإنه يخالف أحاديث نفي التحريم بالرضعة والرضعتين وأما صاحب الثلاث فإنه وإن لم يخالفها فهو مخالف لأحاديث الخمس
قال من لم يقيده بالخمس : حديث الخمس لم تنقله عائشة رضي الله عنها نقل الأخبار فيحتج به وإنما نقلته نقل القرآن والقرآن إنما يثبت بالتواتر والأمة لم تنقل ذلك قرآنا فلا يكون قرآنا وإذا لم يكن قرآنا ولا خبرا امتنع إثبات الحكم به
قال أصحاب الخمس : الكلام فيما نقل من القرآن آحادا في فصلين أحدهما : كونه من القرآن والثاني : وجوب العمل به ولا ريب أنهما حكمان متغايران فإن الأول يوجب انعقاد الصلاة به وتحريم مسه على المحدث وقراءته على الجنب وغير ذلك من أحكام القرآن فإذا انتفت هذه الأحكام لعدم التواتر لم يلزم انتفاء العمل به فإنه يكفي فيه الظن وقد احتج كل واحد من الأئمة الأربعة به في موضع فاحتج به الشافعي وأحمد في هذا الموضع واحتج به أبو حنيفة في وجوب التتابع في صيام الكفارة بقراءة ابن مسعود فصيام ثلاثة أيام متتابعات واحتج به مالك والصحابة قبله في فرض الواحد من ولد الأم أنه السدس بقراءة أبي وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت من أم فلكل واحد منهما السدس فالناس كلهم احتجوا بهذه القراءة ولا مستند للإجماع سواها
قالوا : وأما قولكم إما أن يكون نقله قرآنا أو خبرا قلنا : بل قرآنا صريحا قولكم : فكان يجب نقله متواترا قلنا : حتى إذا نسخ لفظه أو بقي أما الأول فممنوع والثاني مسلم وغاية ما في الأمر أنه قرآن نسخ لفظه وبقي حكمه فيكون له حكم قوله : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما مما اكتفي بنقله آحادا وحكمه ثابت وهذا مما لا جواب عنه وفي المسألة مذهبان آخران ضعيفان
أحدهما : أن التحريم لا يثبت بأقل من سبع كما سئل طاووس عن قول من يقول : لا يحرم من الرضاع دون سبع رضعات فقال : قد كان ذلك ثم حدث بعد ذلك أمر جاء بالتحريم المرة الواحدة تحرم وهذا المذهب لا دليل عليه
الثاني : التحريم إنما يثبت بعشر رضعات وهذا يروى عن حفصة وعائشة رضي الله عنهما
وفيها مذهب آخر وهو الفرق بين أزواج النبي صلى الله عليه و سلم وغيرهن قال طاووس : كان لأزواج النبي صلى الله عليه و سلم رضعات محرمات ولسائر الناس رضعات معلومات ثم ترك ذلك بعد وقد تبين الصحيح من هذه الاقوال وبالله التوفيق (5/507)
فصل
فإن قيل : ما هي الرضعة التي تنفصل من أختها وما حدها ؟ قيل : الرضعة فعلة من الرضاع فهي مرة منه بلا شك كضربة وجلسة وأكلة فمتى التقم الثدي فامتص منه ثم تركه باختياره من غير عارض كان ذلك رضعة لأن الشرع ورد بذلك مطلقا فحمل على العرف والعرف هذا والقطع العارض لتنفس أو استراحة يسيرة أو لشئ يلهيه ثم يعود عن قرب لا يخرجه عن كونه رضعة واحدة كما أن الأكل إذا قطع أكلته بذلك ثم عاد عن قريب لم يكن ذلك أكلتين بل واحدة هذا مذهب الشافعي ولهم فيما إذا قطعت المرضعة عليه ثم أعادته وجهان أحدهما : أنها رضعة واحدة ولو قطعته مرارا حتى يقطع باختياره قالوا : لأن الإعتبار بفعله لا بفعل المرضعة ولهذا لو ارتضع منها وهي نائمة حسبت رضعة فإذا قطعت عليه لم يعتد به كما لو شرع في أكلة واحدة أمره بها الطبيب فجاء شخص فقطعها عليه ثم عاد فإنها أكلة واحدة
والوجه الثاني : أنها رضعة أخرى لأن الرضاع يصح من المرتضع ومن المرضعة ولهذا لو أجرته وهو نائم احتسب رضعة
ولهم فيما إذا انتقل من ثدي المرأة إلى ثدي غيرها وجهان أحدهما : لا يعتد بواحد منهما لأنه انتقل من إحداهما إلى الأخرى قبل تمام الرضعة فلم تتم الرضعة من إحداهما ولهذا لو انتقل من ثدي المرأة إلى ثديها الآخر كانا رضعة واحدة
والثاني : أنه يحتسب من كل واحد منهما رضعة لأنه ارتضع وقطعه باختياره من شخصين
وأما مذهب الإمام أحمد رحمه الله فقال صاحب المغني : إذا قطع قطعا بينا باختياره كان ذلك رضعة فإن عاد كان رضعة أخرى فأما إن قطع لضيق نفس أو للإنتقال من ثدي إلى ثدي أو لشئ يلهيه أو قطعت عليه المرضعة نظرنا فإن لم يعد قريبا فهي رضعة وإن عاد في الحال ففيه وجهان أحدهما : أن الأولى رضعة فإذا عاد فهي رضعة أخرى قال : وهذا اختيار أبي بكر وظاهر كلام أحمد في رواية حنبل فإنه قال : أما ترى الصبي يرتضع من الثدي فإذا أدركه النفس أمسك عن الثدي ليتنفس أو ليستريح فإذا فعل ذلك فهي رضعة قال الشيخ : وذلك أن الأولى رضعة لو لم يعد فكانت رضعة وإن عاد كما لو قطع باختياره والوجه الآخر أن جميع ذلك رضعة وهو مذهب الشافعي إلا فيما إذا قطعت عليه المرضعة ففيه وجهان لأنه لو حلف : لا أكلت اليوم إلا أكلة واحدة فاستدام الأكل زمنا أو انقطع لشرب ماء أو انتقال من لون إلى لون أو انتظار لما يحمل إليه من الطعام لم يعد إلا أكلة واحدة فكذا هاهنا والأول أصح لأن اليسير من السعوط والوجور رضعة فكذا هذا
قلت وكلام أحمد يحتمل أمرين أحدهما : ما ذكره الشيخ ويكون قوله : فهي رضعة عائدا إلى الرضعة الثانية الثاني : أن يكون المجموع رضعة فيكون قوله : فهي رضعة عائدا إلى الأول والثاني وهذا أظهر محتمليه لأنه استدل بقطعه للتنفس أو الإستراحة على كونها رضعة واحدة ومعلوم أن هذا الإستدلال أليق بكون الثانية مع الأولى واحدة من كون الثانية رضعة مستقلة فتأمله
وأما قياس الشيخ له على يسير السعوط والوجور فالفرق بينهما أن ذلك مستقل ليس تابعا لرضعة قبله ولا هو من تمامها فيقال : رضعة بخلاف مسألتنا فإن الثانية تابعة للأولى وهي من تمامها فافترقا (5/511)
فصل
والحكم الرابع : أن الرضاع الذي يتعلق به التحريم ما كان قبل الفطام في زمن الإرتضاع المعتاد وقد اختلف الفقهاء في ذلك فقال الشافعي وأحمد وأبو يوسف ومحمد : هو ما كان في الحولين ولا يحرم ما كان بعدهما وصح ذلك عن عمر وابن مسعود وأبي هريرة وابن عباس وابن عمر وروي عن سعيد بن المسيب والشعبي وابن شبرمة وهو قول سفيان وإسحاق وأبي عبيد وابن حزم وابن المنذر وداود وجمهور أصحابه
وقالت طائفة : الرضاع المحرم ما كان قبل الفطام ولم يحدوه بزمن صح ذلك عن أم سلمة وابن عباس وروي عن علي ولم يصح عنه وهو قول الزهري والحسن وقتادة وعكرمة والأوزاعي قال الاوزاعي : إن فطم وله عام واحد واستمر فطامه ثم رضع في الحولين لم يحرم هذا الرضاع شيئا فإن تمادى رضاعه ولم يفطم فما كان في الحولين فإنه يحرم وما كان بعدهما فإنه لا يحرم وإن تمادى الرضاع وقالت طائفة : الرضاع المحرم ما كان في الصغر ولم يوقته هؤلاء بوقت وروي هذا عن ابن عمر وابن المسيب وأزواج رسول الله صلى الله عليه و سلم خلا عائشة رضي الله عنها وقال أبو حنيفة وزفر : ثلاثون شهرا وعن أبي حنيفة رواية أخرى كقول أبي يوسف ومحمد وقال مالك في المشهور من مذهبه : يحرم في الحولين وما قاربهما ولا حرمة له بعد ذلك ثم روي عنه اعتبار أيام يسيرة وروي عنه شهران وروي شهر ونحوه وروى عنه الوليد بن مسلم وغيره : أن ما كان بعد الحولين من رضاع بشهر أو شهرين أو ثلاثة أشهر فإنه عندي من الحولين وهذا هو المشهور عند كثير من أصحابه والذي رواه عنه أصحاب الموطأ وكان يقرأ عليه إلى أن مات قوله فيه : وما كان من الرضاع بعد الحولين كان قليله وكثيره لا يحرم شيئا إنما هو بمنزلة الطعام هذا لفظه وقال : إذا فصل الصبي قبل الحولين واستغنى بالطعام عن الرضاع فما ارتضع بعد ذلك لم يكن للرضاع حرمة وقال الحسن بن صالح وابن أبي ذئب وجماعة من أهل الكوفة : مدة الرضاع المحرم ثلاث سنين فما زاد عليها لم يحرم وقال عمر بن عبد العزيز : مدته إلى سبع سنين وكان يزيد بن هارون يحكيه عنه كالمتعجب من قوله وروي عنه خلاف هذا وحكى عنه ربيعة أن مدته حولان واثنا عشر يوما
وقالت طائفة من السلف والخلف : يحرم رضاع الكبير ولو أنه شيخ فروى مالك عن ابن شهاب أنه سئل عن رضاع الكبير فقال : أخبرني عروة بن الزبير بحديث أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم سهلة بنت سهيل برضاع سالم ففعلت وكانت تراه ابنا لها قال عروة : فأخذت بذلك عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها فيمن كانت تحب أن يدخل عليها من الرجال فكانت تأمر أختها أم كلثوم وبنات أخيها يرضعن من أحبت أن يدخل عليها من الرجال
وقال عبد الرزاق : حدثنا ابن جريج قال : سمعت عطاء بن أبي رباح وسأله رجل فقال : سقتني امرأة من لبنها بعد ما كنت رجلا كبيرا أفأنكحها ؟ قال عطاء : لا تنكحها فقلت له : وذلك رأيك ؟ قال : نعم كانت عائشة رضي الله عنها تأمر بذلك بنات أخيها وهذا قول ثابت عن عائشة رضي الله عنها ويروى عن علي وعروة بن الزبير وعطاء بن أبي رباح وهو قول الليث بن سعد وأبي محمد ابن حزم قال : ورضاع الكبير ولو أنه شيخ يحرم كما يحرم رضاع الصغير ولا فرق فهذه مذاهب الناس في هذه المسألة
ولنذكر مناظرة أصحاب الحولين والقائلين برضاع الكبير فإنهما طرفان وسائر الأقوال متقاربة
قال أصحاب الحولين : قال الله تعالى : { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة } [ البقرة : 233 ] قالوا : فجعل تمام الرضاعة حولين فدل على أنه لا حكم لما بعدهما فلا يتعلق به التحريم قالوا : وهذه المدة هي مدة المجاعة التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه و سلم وقصر الرضاعة المحرمة عليها قالوا : وهذه مدة الثدي الذي قال فيها : [ لا رضاع إلا ما كان في الثدي ] أي في زمن الثدي وهذه لغة معروفة عند العرب فإن العرب يقولون : فلان مات في الثدي أي : في زمن الرضاع قبل الفطام ومنه الحديث المشهور : [ إن إبراهيم مات في الثدي وإن له مرضعا في الجنة تتم رضاعه ] يعني إبراهيم ابنه صلوات الله وسلامه عليه قالوا : وأكد ذلك بقوله : [ لا رضاع إلا ما فتق الأمعاء ] وكان في الثدي قبل الفطام فهذه ثلاثة أوصاف للرضاع المحرم ومعلوم أن رضاع الشيخ الكبير عار من الثلاثة
قالوا : وأصرح من هذا حديث ابن عباس : [ لا رضاع إلا ما كان في الحولين ]
قالوا : وأكده أيضا حديث ابن مسعود : [ لا يحرم من الرضاعة إلا ما أنبت اللحم وأنشز العظم ] ورضاع الكبير لا ينبت لحما ولا ينشز عظما
قالوا : ولو كان رضاع الكبير محرما لما قال النبي صلى الله عليه و سلم لعائشة - وقد تغير وجهه وكره دخول أخيها من الرضاعة عليها لما رآه كبيرا : - [ انظرن من إخوانكن ] فلو حرم رضاع الكبير لم يكن فرق بينه وبين الصغير ولما كره ذلك وقال : انظرن من إخوانكن ثم قال : فإنما الرضاعة من المجاعة وتحت هذا من المعنى خشية أن يكون قد ارتضع في غير زمن الرضاع وهو زمن المجاعة فلا ينشر الحرمة فلا يكون أخا
قالوا : وأما حديث سهلة في رضاع سالم فهذا كان في أول الهجرة لأن قصته كانت عقيب نزول قوله تعالى : { ادعوهم لآبائهم } [ الأحزاب : 5 ] وهي نزلت في أول الهجرة
وأما أحاديث اشتراط الصغر وأن يكون في الثدي قبل الفطام فهي من رواية ابن عباس وأبي هريرة وابن عباس إنما قدم المدينة قبل الفتح وأبو هريرة إنما أسلم عام فتح خيبر بلا شك كلاهما قدم المدينة بعد قصة سالم في رضاعه من امرأة أبي حذيفة
قال المثبتون للتحريم برضاع الشيوخ : قد صح عن النبي صلى الله عليه و سلم صحة لا يمتري فيها أحد أنه أمر سهلة بنت سهيل أن ترضع سالما مولى أبي حذيفة وكان كبيرا ذا لحية وقال : [ أرضعيه تحرمي عليه ] ثم ساقوا الحديث وطرقه وألفاظه وهي صحيحة صريحة بلا شك ثم قالوا : فهذه الأخبار ترفع الإشكال وتبين مراد الله عز و جل في الآيات المذكورات أن الرضاعة التي تتم بتمام الحولين أو بتراضي الأبوين قبل الحولين إذا رأيا في ذلك صلاحا للرضيع إنما هي الموجبة للنفقة على المرأة المرضعة والتي يجبر عليها الأبوان أحبا أم كرها ولقد كان في الآية كفاية من هذا لأنه تعالى قال : { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } [ البقرة : 233 ] فأمر الله تعالى الوالدات بإرضاع المولود عامين وليس في هذا تحريم للرضاعة بعد ذلك ولا أن التحريم ينقطع بتمام الحولين وكان قوله تعالى : { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة } [ النساء : 233 ] ولم يقل في حولين ولا في وقت دون وقت زائدا على الآيات الأخر وعمومها لا يجوز تخصيصه إلا بنص يبين أنه تخصيص له لا بظن ولا محتمل لا بيان فيه وكانت هذه الآثار يعني التي فيها التحريم برضاع الكبير قد جاءت مجيء التواتر رواها نساء النبي صلى الله عليه و سلم وسهلة بنت سهيل وهي من المهاجرات وزينب بنت أم سلمة وهي ربيبة النبي صلى الله عليه و سلم ورواها من التابعين : القاسم بن محمد وعروة بن الزبير وحميد بن نافع ورواها عن هؤلاء : الزهري وابن أبي مليكة وعبد الرحمن بن القاسم ويحيى بن سعيد الأنصاري وربيعة ثم رواها عن هؤلاء : أيوب السختياني وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة وشعبة ومالك وابن جريج وشعيب ويونس وجعفر بن ربيعة ومعمر وسليمان بن بلال وغيرهم ثم رواها عن هؤلاء الجم الغفير والعدد الكثير فهي نقل كافة لا يختلف مؤالف ولا مخالف في صحتها فلم يبق من الإعتراض إلا قول القائل : كان ذلك خاصا بسالم كما قال بعض أزواج رسول الله صلى الله عليه و سلم ومن تبعهن في ذلك فليعلم من تعلق بهذا أنه ظن ممن ظن ذلك منهن رضي الله عنهن هكذا في الحديث أنهن قلن : ما نرى هذا إلا خاصا بسالم وما ندري لعلها كانت رخصة لسالم فإذا هو ظن بلا شك فإن الظن لا يعارض به السنن الثابتة قال الله تعالى : { إن الظن لا يغني من الحق شيئا } [ يونس : 36 ] وشتان بين احتجاح أم سلمة رضي الله عنها بظنها وبين احتجاح عائشة رضي الله عنها بالسنة الثابتة ولهذا لما قالت لها عائشة : أما لك في رسول الله صلى الله عليه و سلم أسوة حسنة سكتت أم سلمة ولم تنطق بحرف وهذا إما رجوع إلى مذهب عائشة وإما انقطاع في يدها
قالوا : وقول سهلة لرسول الله صلى الله عليه و سلم : كيف أرضعه وهو رحل كبير ؟ بيان جلي أنه بعد نزول الآيات المذكورات
قالوا : ونعلم يقينا أنه لو كان ذلك خاصا بسالم لقطع النبي صلى الله عليه و سلم الإلحاق ونص على أنه ليس لأحد بعده كما بين لأبي بردة بن نيار أن جذعته تجزئ عنه ولا تجزئ عن أحد بعده وأين يقع ذبح جذعة أضحية من هذا الحكم العظيم المتعلق به حل الفرج وتحريمه وثبوت المحرمية والخلوة بالمرأة والسفر بها ؟ فمعلوم قطعا أن هذا أولى ببيان التخصيص لو كان خاصا قالوا : وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إنما الرضاعة من المجاعة ] حجة لنا لأن شرب الكبير للبن يؤتر في دفع مجاعته قطعا كما يؤثر في الصغير أو قريبا منه
فإن قلتم : فما فائدة ذكره إذا كان الكبير والصغير فيه سواء ؟ قلنا : فائدته إبطال تعلق التحريم بالقطرة من اللبن أو المصة الواحدة التي لا تغني من جوع ولا تنبت لحما ولا تنشز عظما
قالوا : وقوله صلى الله عليه و سلم : [ لا رضاع إلا ما كان في الحولين وكان في الثدي قبل الفطام ] ليس بأبلغ من قوله صلى الله عليه و سلم : [ لا ربا إلا في النسيئة ] [ وإنما الربا في النسيئة ] ولم يمنع ذلك ثبوت ربا الفضل بالأدلة الدالة عليه فكذا هذا
فأحاديث رسول الله صلى الله عليه و سلم وسننه الثابتة كلها حق يجب اتباعها ولا يضرب بعضها ببعض بل تستعمل كلا منها على وجهه قالوا : ومما يدل على ذلك أن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأفقه نساء الأمة هي التي روت هذا وهذا فهي التي روت : إنما الرضاعة من المجاعة وروت حديث سهلة وأخذت به فلو كان عندها حديث إنما الرضاعة من المجاعة مخالفا لحديث سهلة لما ذهبت إليه وتركت حديثا واجهها به رسول الله صلى الله عليه و سلم وتغير وجهه وكره الرجل الذي رآه عندها وقالت : هو أخي
قالوا : وقد صح عنها أنها كانت تدخل عليها الكبير إذا أرضعته في حال كبره أخت من أخواتها الرضاع المحرم ونحن نشهد بشهادة الله ونقطع قطعا نلقاه به يوم القيامة أن أم المؤمنين لم تكن لتبيح ستر رسول الله صلى الله عليه و سلم بحيث ينتهكه من لا يحل له انتهاكه ولم يكن الله عز و جل ليبيح ذلك على يد الصديقة بنت الصديق المبرأة من فوق سبع سماوات وقد عصم الله سبحانه ذلك الجناب الكريم والحمى المنيع والشرف الرفيع أتم عصمة وصانه أعظم صيانة وتولى صيانته وحمايته والذب عنه بنفسه ووحيه وكلامه قالوا : فنحن نوقن ونقطع ونبت الشهادة لله بأن فعل عائشة رضي الله عنها هو الحق وأن رضاع الكبير يقع به من التحريم والمحرمية ما يقع برضاع الصغير ويكفينا أمنا أفقه نساء الأمة على الإطلاق وقد كانت تناظر في ذلك نساءه صلى الله عليه و سلم ولا يجبنها بغير قولهن : ما أحد داخل علينا بتلك الرضاعة ويكفينا في ذلك أنه مذهب ابن عم نبينا وأعلم أهل الأرض على الإطلاق حين كان خليفة ومذهب الليث بن سعد الذي شهد له الشافعي بأنه كان أفقه من مالك إلا أنه ضيعه أصحابه ومذهب عطاء بن أبي رباح ذكره عبد الرزاق عن ابن جريج عنه وذكر مالك عن الزهري أنه سئل عن رضاع الكبير فاحتج بحديث سهلة بنت سهيل في قصة سالم مولى أبي حذيفة وقال عبد الرزاق : وأخبرني ابن جريج قال : أخبرني عبد الكريم أن سالم بن أبي جعد المولى الأشجعي أخبره أن أباه أخبره أنه سأل علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال : أردت أن أتزوج امرأة قد سقتني من لبنها وأنا كبير تداويت به فقال له علي : لا تنكحها ونهاه عنها
فهؤلاء سلفنا في هذه المسألة وتلك نصوصنا كالشمس صحة وصراحة قالوا : وأصرح أحاديثكم حديث أم سلمة ترفعه : [ لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام ] فما أصرحه لو كان سليما من العلة لكن هذا حديث منقطع لأنه من رواية فاطمة بنت المنذر عن أم سلمة ولم تسمع منها شيئا لأنها كانت أسن من زوجها هشام باثني عشر عاما فكان مولده في سنة ستين ومولد فاطمة في سنة ثمان وأربعين وماتت أم سلمة سنة تسع وخمسين وفاطمة صغيرة لم تبلغها فكيف تحفظ عنها ولم تسمع من خالة أبيها شيئا وهي في حجرها كما حصل سماعها من جدتها أسماء بنت أبي بكر ؟
قالوا : وإذا نظر العالم المنصف في هذا القول ووازن بينه وبين قول من يحد مدة الرضاع المحرم بخمسة وعشرين شهرا أو ستة وعشرين شهرا أو سبعة وعشرين شهرا أو ثلاثين شهرا من تلك الأقوال التي لا دليل عليها من كتاب الله أو سنة رسوله ولا قول أحد من الصحابة تبين له فضل ما بين القولين فهذا منتهى أقدام الطائفتين في هذه المسألة ولعل الواقف عليها لم يكن يخطر له أن هذا القول تنتهي قوته إلى هذا الحد وأنه ليس بأيدي أصحابه قدرة على تقديره وتصحيحه فاجلس أيها العالم المنصف مجلس الحكم بين هذين المتنازعين وافصل بينهما بالحجة والبيان لا بالتقليد وقال فلان
واختلف القائلون بالحولين في حديث سهلة هذا على ثلاثة مسالك أحدها : أنه منسوخ وهذا مسلك كثير منهم ولم يأتوا على النسخ بحجة سوى الدعوى فإنهم لا يمكنهم إثبات التاريخ المعلوم التأخر بينه وبين تلك الأحاديث ولو قلب أصحاب هذا القول عليهم الدعوى وادعوا نسخ تلك الأحاديث بحديث سهلة لكانت نظير دعواهم
وأما قولهم : إنها كانت في أول الهجرة وحين نزول قوله تعالى : { ادعوهم لآبائهم } [ الأحزاب : 5 ] ورواية ابن عباس رضي الله عنه وأبي هريرة بعد ذلك فجوابه من وجوه
أحدها : أنهما لم يصرحا بسماعه من النبي صلى الله عليه و سلم بل لم يسمع منه ابن عباس إلا دون العشرين حديثا وسائرها عن الصحابة رضي الله عنهم
الثاني : أن نساء النبي صلى الله عليه و سلم لم تحتج واحدة منهن بل ولا غيرهن على عائشة رضي الله عنها بذلك بل سلكن في الحديث بتخصيصه بسالم وعدم إلحاق غيره به
الثالث : أن عائشة رضي الله عنها نفسها روت هذا وهذا فلو كان حديث سهلة منسوخا لكانت عائشة رضي الله عنها قد أخذت به وتركت الناسخ أو خفي عليها تقدمه مع كونها هي الراوية له وكلاهما ممتنع وفي غاية البعد
الرابع : أن عائشة رضي الله عنها ابتليت بالمسألة وكانت تعمل بها وتناظر عليها وتدعو إليها صواحباتها فلها بها مزيد اعتناء فكيف يكون هذا حكما منسوخا قد بطل كونه من الدين جملة ويخفى عليها ذلك ويخفى على نساء النبي صلى الله عليه و سلم فلا تذكره لها واحدة منهن
المسلك الثانى : أنه مخصوص بسالم دون من عداه وهذا مسلك أم سلمة ومن معها من نساء النبي صلى الله عليه و سلم ومن تبعهن وهذا المسلك أقوى مما قبله فإن أصحابه قالوا مما يبين اختصاصه بسالم أن فيه : أن سهلة سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد نزول آية الحجاب وهي تقتضي أنه لا يحل للمرأة أن تبدي زينتها إلا لمن ذكر في الآية وسمي فيها ولا يخص من عموم من عداهم أحد إلا بدليل قالوا : والمرأة إذا أرضعت أجنبيا فقد أبدت زينتها له فلا يجوز ذلك تمسكا بعموم الآية فعلمنا أن إبداء سهلة زينتها لسالم خاص به قالوا : وإذا أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم واحدا من الأمة بأمر أو أباح له شيئا أو نهاه عن شئ وليس في الشريعة ما يعارضه ثبت ذلك في حق غيره من الأمة ما لم ينص على تخصيصه وأما إذا أمر الناس بأمر أو نهاهم عن شئ ثم أمر واحدا من الأمة بخلاف ما أمر به الناس أو أطلق له ما نهاهم عنه فإن ذلك يكون خاصا به وحده ولا نقول في هذا الموضع : إن أمره للواحد أمر للجميع وإباحته للواحد إباحة للجميع لأن ذلك يؤدي إلى إسقاط الأمر الأول والنهي الأول بل نقول : إنه خاص بذلك الواحد لتتفق النصوص وتأتلف ولا يعارض بعضها بعضا فحرم الله في كتابه أن تبدي المرأة زينتها لغير محرم وأباح رسول الله صلى الله عليه و سلم لسهلة أن تبدي زينتها لسالم وهو غير محرم عند إبداء الزينة قطعا فيكون ذلك رخصة خاصة بسالم مستثناة من عموم التحريم ولا نقول : إن حكمها عام فيبطل حكم الآية المحرمة
قالوا : ويتعين هذا المسلك لأنا لو لم نسلكه لزمنا أحد مسلكين ولا بد منهما إما نسخ هذا الحديث بالأحاديث الدالة على اعتبار الصغر في التحريم وإما نسخها به ولا سبيل إلى واحد من الأمرين لعدم العلم بالتاريخ ولعدم تحقق المعارضة ولإمكان العمل بالأحاديث كلها فإنا إذا حملنا حديث سهلة على الرخصة الخاصة والأحاديث الأخر على عمومها فيما عدا سالما لم تتعارض ولم ينسخ بعضها بعضا وعمل بجميعها
قالوا : وإذا كان النبي صلى الله عليه و سلم قد بين أن الرضاع إنما يكون في الحولين وأنه إنما يكون في الثدي وإنما يكون قبل الفطام كان ذلك ما يدل على أن حديث سهلة على الخصوص سواء تقدم أو تأخر فلا ينحصر بيان الخصوص في قوله هذا لك وحدك حتى يتعين طريقا
قالوا : وأما تفسير حديث [ إنما الرضاعة من المجاعة ] بما ذكرتموه ففي غاية البعد من اللفظ ولا تتبادر إليه أفهام المخاطبين بل القول في معناه ما قاله أبو عبيد والناس قال أبو عبيد : قوله : [ إنما الرضاعة من المجاعة ] يقول : إن الذي إذا جاع كان طعامه الذي يشبعه اللبن إنما هو الصبي الرضيع فأما الذي شبعه من جوعه الطعام فإن رضاعه ليس برضاع ومعنى الحديث : إنما الرضاع في الحولين قبل الفطام هذا تفسير أبي عبيد والناس وهو الذي يتبادر فهمه من الحديث إلى الأذهان حتى لو احتمل الحديث التفسيرين على السواء لكان هذا المعنى أولى به لمساعدة سائر الاحاديث لهذا المعنى وكشفها له وإيضاحها ومما يبين أن غير هذا التفسير خطأ وأنه لا يصح أن يراد به رضاعة الكبير أن لفظة [ المجاعة ] إنما تدل على رضاعة الصغير فهي تثبت رضاعة المجاعة وتنفي غيرها ومعلوم يقينا أنه إنما أراد مجاعة اللبن لا مجاعة الخبز واللحم فهذا لا يخطر ببال المتكلم ولا السامع فلو جعلنا حكم الرضاعة عاما لم يبق لنا ما ينفي ويثبت وسياق قوله : لما رأى الرجل الكبير فقال : [ إنما الرضاعة من المجاعة ] يبين المراد وأنه إنما يحرم رضاعة من يجوع إلى لبن المرأة والسياق ينزل اللفظ منزلة الصريح فتغير وجهه الكريم صلوات الله وسلامه عليه وكراهته لذلك الرجل وقوله : [ انظرن من إخوانكن ] إنما هو للتحفظ في الرضاعة وأنها لا تحرم كل وقت وإنما تحرم وقتا دون وقت ولا يفهم أحد من هذا أنما الرضاعة ما كان عددها خمسا فيعبر عن هذا المعنى بقوله من المجاعة وهذا ضد البيان الذي كان عليه صلى الله عليه و سلم
وقولكم : إن الرضاعة تطرد الجوع عن الكبير كما تطرد الجوع عن الصغير كلام باطل فإنه لا يعهد ذو لحية قط يشبعه رضاع المرأة ويطرد عنه الجوع بخلاف الصغير فإنه ليس له ما يقوم مقام اللبن فهو يطرد عنه الجوع فالكبير ليس ذا مجاعة إلى اللبن أصلا والذي يوضح هذا أنه صلى الله عليه و سلم لم يرد حقيقة المجاعة وإنما أراد مظنتها وزمنها ولا شك أنه الصغر فإن أبيتم إلا الظاهرية وأنه أراد حقيقتها لزمكم أن لا يحرم رضاع الكبير إلا إذا ارتضع وهو جائع فلو ارتضع وهو شبعان لم يؤثر شيئا
وأما حديث الستر المصون والحرمة العظيمة والحمى المنيع فB أم المؤمنين فإنها وإن رأت أن هذا الرضاع يثبت المحرمية فسائر أزواج النبي صلى الله عليه و سلم يخالفنها في ذلك ولا يرين دخول هذا الستر المصون والحمى الرفيع بهذه الرضاعة فهي مسألة اجتهاد وأحد الحزبين مأجور أجرا واحدا والآخر مأجور أجرين وأسعدهما بالأجرين من أصاب حكم الله ورسوله في هذه الواقعة فكل من المدخل للستر المصون بهذه الرضاعة والمانع من الدخول فائز بالأجر مجتهد في مرضاة الله وطاعة رسوله وتنفيذ حكمه ولهما أسوة بالنبيين الكريمين - داود وسليمان اللذين أثنى الله عليهما بالحكمة والحكم وخص بفهم الحكومة أحدهما (5/513)
فصل
وأما ردكم لحديث أم سلمة فتعسف بارد فلا يلزم انقطاع الحديث من أجل أن فاطمة بنت المنذر لقيت أم سلمة صغيرة فقد يعقل الصغير جدا أشياء ويحفظها وقد عقل محمود بن الربيع المجة وهو ابن سبع سنين ويعقل أصغر منه وقد قلتم : إن فاطمة كانت وقت وفاة أم سلمة بنت إحدى عشرة سنة وهذا سن جيد لا سيما للمرأة فإنها تصلح فيه للزوج فمن هي في حد الزواج كيف يقال : إنها لا تعقل ما تسمع ولا تدري ما تحدث به ؟ هذا هو الباطل الذي لا ترد به السنن مع أن أم سلمة كانت مصادقة لجدتها أسماء وكانت دارهما واحدة فنشأت فاطمة هذه في حجر جدتها أسماء مع خالة أبيها عائشة رضي الله عنها وأم سلمة وماتت عائشة رضي الله عنها سنة سبع وخمسين وقيل : سنة ثمان وخمسين وقد يمكن سماع فاطمة منها وأما جدتها أسماء فماتت سنة ثلاث وسبعين وفاطمة إذ ذاك بنت خمس وعشرين سنة فلذلك كثر سماعها منها وقد أفتت أم سلمة بمثل الحديث الذي روته أسماء فقال أبو عبيد : حدثنا أبو معاوية عن هشام بن عروة عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن أم سلمة أنها سئلت ما يحرم من الرضاع ؟ فقالت : ما كان في الثدي قبل الفطام فروت الحديث وأفتت بموجبه
وأفتى به عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما رواه الدارقطني من حديث سفيان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال : سمعت عمر يقول : لا رضاع إلا في الحولين في الصغر
وأفتى به ابنه عبد الله رضي الله عنه فقال مالك رحمه الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما : أنه كان يقول : لا رضاعة إلا لمن أرضع في الصغر ولا رضاعة لكبير
وأفتى به ابن عباس رضي الله عنهما فقال أبو عبيد : حدثنا عبد الرحمن عن سفيان الثوري عن عاصم الأحول عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لا رضاع بعد فطام
وتناظر فى هذه المسألة عبد الله بن مسعود وأبو موسى فأفتى ابن مسعود بأنه لا يحرم إلا في الصغر فرجع إليه أبو موسى فذكر الدارقطني أن ابن مسعود قال لأبي موسى : أنت تفتي بكذا وكذا وقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا رضاع إلا ما شد العظم وأنبت اللحم ]
وقد روى أبو داود : حدثنا محمد بن سليمان الأنباري حدثنا وكيع حدثنا سليمان بن المغيرة عن أبي موسى الهلالي عن أبيه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا يحرم من الرضاع إلا ما أنبت اللحم وأنشز العظم ]
ثم أفتى بذلك كما ذكره عبد الرزاق عن الثوري حدثنا أبو بكر بن عياش عن أبي حصين عن أبي عطية الوادعي قال : جاء رجل إلى أبي موسى فقال : إن امرأتي ورم ثديها فمصصته فدخل حلقي شئ سبقني فشدد عليه أبو موسى فأتى عبد الله بن مسعود فقال : سألت أحدا غيري ؟ قال : نعم أبا موسى فشدد علي فأتى أبا موسى فقال : أرضيع هذا ؟ فقال أبو موسى : لا تسألوني ما دام هذا الحبر بين أظهركم فهذه روايته وفتواه
وأما علي بن أبي طالب فذكر عبد الرزاق عن الثوري عن جويبر عن الضحاك عن النزال بن سبرة عن علي : لا رضاع بعد الفصال
وهذا خلاف رواية عبد الكريم عن سالم بن أبي الجعد عن أبيه عنه لكن جويبر لا يحتج بحديثه وعبد الكريم أقوى منه (5/524)
فصل
المسلك الثالث : أن حديث سهلة ليس بمنسوخ ولا مخصوص ولا عام في حق كل أحد وإنما هو رخصة للحاجة لمن لا يستغني عن دخوله على المرأة ويشق احتجابها عنه كحال سالم مع امرأة أبي حذيفة فمثل هذا الكبير إذا أرضعته للحاجة أثر رضاعه وأما من عداه فلا يؤثر إلا رضاع الصغير وهذا مسلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى والأحاديث النافية للرضاع في الكبير إما مطلقة فتقيد بحديث سهلة أو عامة في الأحوال فتخصيص هذه الحال من عمومها وهذا أولى من النسخ ودعوى التخصيص بشخص بعينه وأقرب إلى العمل بجميع الأحاديث من الجانبين وقواعد الشرع تشهد له والله الموفق (5/527)
ذكر حكمه صلى الله عليه و سلم في العدد
هذا الباب قد تولى الله - سبحانه - بيانه في كتابه أتم بيان وأوضحه وأجمعه بحيث لا تشذ عنه معتدة فذكر أربعة أنواع من العدد وهي جملة أنواعها
النوع الأول : عدة الحامل بوضع الحمل مطلقا بائنة كانت أو رجعية مفارقة في الحياة أو متوفى عنها فقال : { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } [ الطلاق : 4 ] وهذا فيه عموم من ثلاث جهات
أحدها : عموم المخبر عنه وهو أولات الأحمال فإنه يتناول جميعهن
الثاني : عموم الأجل فإنه أضافه إليهن وإضافة اسم الجمع إلى المعرفة يعم فجعل وضع الحمل جميع أجلهن فلو كان لبعضهن أجل غيره لم يكن جميع أجلهن
الثالث : أن المبتدأ والخبر معرفتان أما المبتدأ : فظاهر وأما الخبر - وهو قوله تعالى : { أن يضعن حملهن } [ الطلاق : 4 ] ففي تأويل مصدر مضاف أي أجلهن وضع حملهن والمبتدأ والخبر إذا كانا معرفتين اقتضى ذلك حصر الثاني في الأول كقوله : { يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد } [ فاطر : 15 ] وبهذا احتج جمهور الصحابة على أن الحامل المتوفى عنها زوجها عدتها وضع حملها ولو وضعته والزوج على المغتسل كما أفتى به النبي صلى الله عليه و سلم لسبيعة الأسلمية وكان هذا الحكم والفتوى منه مشتقا من كتاب الله مطابقا له (5/527)
فصل
النوع الثاني : عدة المطلقة التي تحيض وهي ثلاثة قروء كما قال الله تعالى : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } [ البقرة : 228 ]
النوع الثالث : عدة التي لا حيض لها وهي نوعان : صغيرة لا تحيض وكبيرة قد يئست من الحيض فبين الله سبحانه عدة النوعين بقوله : { واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن } [ الطلاق : 4 ] أي : فعدتهن كذلك
النوع الرابع : المتوفى عنها زوجها فبين عدتها - سبحانه - بقوله : { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا } [ البقرة : 234 ] فهذا يتناول المدخول بها وغيرها والصغيرة والكبيرة ولا تدخل فيه الحامل لأنها خرجت بقوله : { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } فجعل وضع حملهن جميع أجلهن وحصره فيه بخلاف قوله في المتوفى عنهن : { يتربصن } فإنه فعل مطلق لا عموم له وأيضا فإن قوله : { أجلهن أن يضعن حملهن } [ الطلاق : 4 ] متأخر في النزول عن قوله : { يتربصن } وأيضا فإن قوله : { يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا } [ البقرة : 234 ] في غير الحامل بالإتفاق فإنها لو تمادى حملها فوق ذلك تربصته فعمومها مخصوص اتفاقا وقوله : { أجلهن أن يضعن حملهن } [ الطلاق : 4 ] غير مخصوص بالإتفاق هذا لو لم تأت السنة الصحيحة بذلك ووقعت الحوالة على القرآن فكيف والسنة الصحيحة موافقة لذلك مقررة له
فهذه أصول العدد في كتاب الله مفصلة مبينة ولكن اختلف في فهم المراد من القرآن ودلالته في مواضع من ذلك وقد دلت السنة بحمد الله على مراد الله منها ونحن نذكرها ونذكر أولى المعاني وأشبهها بها ودلالة السنة عليها
فمن ذلك اختلاف السلف في المتوفى عنها إذا كانت حاملا فقال علي وابن عباس وجماعة من الصحابة : أبعد الأجلين من وضع الحمل أو أربعة أشهر وعشرا وهذا أحد القولين في مذهب مالك رحمه الله اختاره سحنون قال الإمام أحمد في رواية أبي طالب عنه : علي بن أبي طالب وابن عباس يقولان في المعتدة الحامل : أبعد الأجلين وعن ابن مسعود يقول : من شاء باهلته إن سورة النساء القصرى نزلت بعد وحديث سبيعة يقضي بينهم [ إذا وضعت فقد حلت ] وابن مسعود يتأول القرآن : { أجلهن أن يضعن حملهن } [ الطلاق : 4 ] هي في المتوفى عنها والمطلقة مثلها إذا وضعت فقد حلت وانقضت عدتها ولا تنقضي عدة الحامل إذا أسقطت حتى يتبين خلقه فإذا بان له يد أو رجل عتقت به الأمة وتنقضي به العدة وإذا ولدت ولدا وفي بطنها آخر لم تنقض العدة حتى تلد الآخر ولا تغيب عن منزلها الذي أصيب فيه زوجها أربعة أشهر وعشرا إذا لم تكن حاملا والعدة من يوم يموت أو يطلق هذا كلام أحمد
وقد تناظر في هذه المسألة : ابن عباس وأبو هريرة رضي الله عنهما فقال أبو هريرة : عدتها وضع الحمل وقال ابن عباس : تعتد أقصى الأجلين فحكما أم سلمة رضي الله عنها فحكمت لأبي هريرة واحتجت بحديث سبيعة
وقد قيل : إن ابن عباس رجع
وقال جمهور الصحابة ومن بعدهم والأئمة الأربعة : إن عدتها وضع الحمل ولو كان الزوج على مغتسله فوضعت حلت
قال أصحاب الأجلين : هذه قد تناولها عمومان وقد أمكن دخولها في كليهما فلا تخرج من عدتها بيقين حتى تأتي بأقصى الأجلين قالوا : ولا يمكن تخصيص عموم إحداهما بخصوص الأخرى لأن كل آية عامة من وجه خاصة من وجه قالوا : فإذا أمكن دخول بعض الصور في عموم الآيتين يعني إعمالا للعموم في مقتضاه
فإذا اعتدت أقصى الأجلين دخل أدناهما في أقصاهما
والجمهور أجابوا عن هذا بثلاثة أجوبة
أحدها : أن صريح السنة يدل على اعتبار الحمل فقط كما في الصحيحين : أن سبيعة الأسلمية توفي عنها زوجها وهي حبلى فوضعت فأرادت أن تنكح فقال لها أبو السنابل : ما أنت بناكحة حتى تعتدي آخر الاجلين فسألت النبي صلى الله عليه و سلم فقال : [ كذب أبو السنابل قد حللت فانكحي من شئت ]
الثاني أن قوله : { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } [ الطلاق : 4 ] نزلت بعد قوله : { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا } [ البقرة : 234 ] وهذا جواب عبد الله بن مسعود كما في صحيح البخاري عنه : أتجعلون عليها التغليظ ولا تجعلون لها الرخصة أشهد لنزلت سورة النساء القصرى بعد الطولى : { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } [ الطلاق : 4 ]
وهذا الجواب يحتاج إلى تقرير فإن ظاهره أن آية الطلاق مقدمة على آية البقرة لتأخرها عنها فكانت ناسخة لها ولكن النسخ عند الصحابة والسلف أعم منه عند المتأخرين فانهم يريدون به ثلاثة معان
أحدها : رفع الحكم الثابت بخطاب
الثاني : رفع دلالة الظاهر إما بتخصيص وإما بتقييد وهو مما قبله
الثالث : بيان المراد باللفط الذي بيانه من خارج وهذا أعم من المعنيين الأولين فابن مسعود رضي الله عنه أشار بتأخر نزول سورة الطلاق إلى أن آية الإعتداد بوضع الحمل ناسخة لآية البقرة إن كان عمومها مرادا أو مخصصة لها إن لم يكن عمومها مرادا أو مبينة للمراد منها أو مقيدة لإطلاقها وهذا من كمال فقهه رضي الله عنه ورسوخه في العلم ومما يبين أن أصول الفقه سجية للقوم وطبيعة لا يتكلفونها كما أن العربية والمعاني والبيان وتوابعها لهم كذلك فمن بعدهم فإنما يجهد نفسه ليتعلق بغبارهم وأنى له ؟ !
الثالث : أنه لو لم تأت السنة الصريحة باعتبار الحمل ولم تكن آية الطلاق متأخرة لكان تقديمها هو الواجب لما قررناه أولا من جهات العموم الثلاثة فيها وإطلاق قوله { يتربصن } وقد كانت الحوالة على هذا الفهم ممكنة ولكن لغموضه ودقته على كثير من الناس أحيل في ذلك الحكم على بيان السنة وبالله التوفيق (5/528)
فصل
ودل قوله سبحانه : { أجلهن أن يضعن حملهن } [ الطلاق : 4 ] على أنها إذا كانت حاملا بتوأمين لم تنقض العدة حتى تضعهما جميعا ودلت على أن من عليها الإستبراء فعدتها وضع الحمل أيضا ودلت على أن العدة تنقضي بوضعه على أي صفة كان حيا أو ميتا تام الخلقة أو ناقصها نفخ فيه الروح أو لم ينفخ ودل قوله : { يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا } [ البقرة : 234 ] على الإكتفاء بذلك وإن لم تحض وهذا قول الجمهور وقال مالك : إذا كان عادتها أن تحيض في كل سنة مرة فتوفي عنها زوجها لم تنقض عدتها حتى تحيض حيضتها فتبرأ من عدتها فإن لم تحض انتظرت تمام تسعة أشهر من يوم وفاته وعنه رواية ثانية : كقول الجمهور أنه تعتد أربعة أشهر وعشرا ولا تنتظر حيضها (5/532)
فصل
ومن ذلك اختلافهم في الأقراء هل هي الحيض أو الأطهار ؟ فقال أكابر الصحابة : إنها الحيض هذا قول أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وأبي موسى وعبادة بن الصامت وأبي الدرداء وابن عباس ومعاذ بن جبل رضي الله عنهم وهو قول أصحاب عبد الله بن مسعود كلهم كعلقمة والأسود وإبراهيم وشريح وقول الشعبي والحسن وقتادة وقول أصحاب ابن عباس سعيد بن جبير وطاووس وهو قول سعيد بن المسيب وهو قول أئمة الحديث : كإسحاق بن إبراهيم وأبي عبيد القاسم والإمام أحمد رحمه الله فإنه رجع إلى القول به واستقر مذهبه عليه فليس له مذهب سواه وكان يقول : إنها الأطهار فقال في رواية الأثرم : رأيت الأحاديث عمن قال : القروء الحيض تختلف والأحاديث عمن قال : إنه أحق بها حتى تدخل في الحيضة الثالثة أحاديث صحاح قوية وهذا النص وحده هو الذي ظفر به أبو عمر بن عبد البر فقال : رجع أحمد إلى أن الاقراء : الأطهار وليس كما قال : بل كان يقول هذا أولا ثم توقف فيه فقال في رواية الأثرم أيضا : قد كنت أقول الأطهار ثم وقفت كقول الأكابر ثم جزم أنها الحيض وصرح بالرجوع عن الأطهار فقال في رواية ابن هانئ كنت أقول : إنها الأطهار وأنا اليوم أذهب إلى أن الأقراء الحيض قال القاضي أبو يعلى : وهذا هو الصحيح عن أحمد رحمه الله وإليه ذهب أصحابنا ورجع عن قوله بالأطهار ثم ذكر نص رجوعه من رواية ابن هانئ كما تقدم وهو قول أئمة أهل الرأي كأبي حنيفة وأصحابه
وقالت طائفة : الأقراء : الأطهار وهذا قول عائشة أم المؤمنين وزيد بن ثابت وعبد الله بن عمر
ويروى عن الفقهاء السبعة وأبان بن عثمان والزهري وعامة فقهاء المدينة وبه قال مالك والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه
وعلى هذا القول فمتى طلقها في أثناء طهر فهل تحتسب ببقيته قرءا ؟ على ثلاثة أقوال
أحدها : تحتسب به وهو المشهور
والثاني : لا تحتسب به وهو قول الزهري كما لا تحتسب ببقية الحيضة عند من يقول : القرء : الحيض اتفاقا
والثالث : إن كان قد جامعها في ذلك الطهر لم تحتسب ببقيته وإلا احتسبت وهذا قول أبي عبيد فإذا طعنت في الحيضة الثالثة أو الرابعة على قول الزهري انقضت عدتها وعلى قول الأول لا تنقضي العدة حتى تنقضي الحيضة الثالثة
وهل يقف انقضاء عدتها على اغتسالها منها ؟ على ثلاثة أقوال أحدها : لا تنقضي عدتها حتى تغتسل وهذا هو المشهور عن أكابر الصحابة قال الإمام أحمد : وعمر وعلي وابن مسعود يقولون : له رجعتها قبل أن تغتسل من الحيضة الثالثة انتهى وروي ذلك عن أبي بكر الصديق وعثمان بن عفان وأبي موسى وعبادة وأبي الدرداء ومعاذ بن جبل رضي الله عنهم كما في مصنف وكيع عن عيسى الخياط عن الشعبي عن ثلاثة عشر من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم الخير فالخير منهم : أبو بكر وعمر وابن عباس : أنه أحق بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة
وفي مصنفه أيضا عن محمد بن راشد عن مكحول عن معاذ بن جبل وأبي الدرداء مثله
وفي مصنف عبد الرزاق : عن معمر عن زيد بن رفيع عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود قال : أرسل عثمان إلى أبي بن كعب في ذلك فقال أبي بن كعب : أرى أنه أحق بها حتى تغتسل من حيضتها الثالثة وتحل لها الصلاة قال :
فما أعلم عثمان إلا أخذ بذلك
وفي مصنفه أيضا : عن عمر بن راشد عن يحيى بن أبي كثير أن عبادة بن الصامت قال : لا تبين حتى تغتسل من الحيضة الثالثة وتحل لها الصلاة
فهؤلاء بضعة عشر من الصحابة وهو قول سعيد بن المسيب وسفيان الثوري وإسحاق بن راهويه قال شريك : له الرجعة وإن فرطت في الغسل عشرين سنة وهذا إحدى الروايات عن الإمام أحمد رحمه الله
والثاني : أنها تنقضي بمجرد طهرها من الحيضة الثالثة ولا تقف على الغسل وهذا قول سعيد بن جبير والأوزاعي والشافعي في قوله القديم حيث كان يقول : الأقراء : الحيض وهو إحدى الروايات عن الإمام أحمد اختارها أبو الخطاب
والثالث : أنها في عدتها بعد انقطاع الدم ولزوجها رجعتها حتى يمضي عليها وقت الصلاة التي طهرت في وقتها وهذا قول الثوري والرواية الثالثة عن أحمد : حكاها أبو بكر عنه وهو قول أبي حنيفة رحمه الله لكن إذا انقطع الدم لأقل الحيض وإن انقطع الدم لأكثره انقضت العدة عنها بمجرد انقطاعه
وأما من قال : إنها الأطهار اختلفوا في موضعين أحدهما : هل يشترط كون الطهر مسبوقا بدم قبله أو لا يشترط ذلك ؟ على قولين لهم وهما وجهان في مذهب الشافعي وأحمد أحدهما : يحتسب لأنه طهر بعده حيض فكان قرءا كما لو كان قبله حيض والثاني : لا يحتسب وهو ظاهر نص الشافعي في الجديد لأنها لا تسمى من ذوات الأقراء إلا إذا رأت الدم
الموضع الثاني : هل تنقضي العدة بالطعن في الحيضة الثالثة أو لا تنقضي حتى تحيض يوما وليلة ؟ على وجهين لأصحاب أحمد وهما قولان منصوصان للشافعي ولأصحابه وجه ثالث : إن حاضت للعادة انقضت العدة بالطعن في الحيضة وإن حاضت لغير العادة بأن كانت عادتها ترى الدم في عاشر الشهر فرأته في أوله لم تنقض حتى يمضي عليها يوم وليلة ثم اختلفوا : هل يكون هذا الدم محسوبا من العدة ؟ على وجهين تظهر فائدتهما في رجعتها في وقته فهذا تقرير مذاهب الناس في الأقراء
قال من نص : إنها الحيض : الدليل عليه وجوه
أحدها : أن قوله تعالى : { يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } [ البقرة : 228 ] إما أن يراد به الأطهار فقط أو الحيض فقط أو مجموعهما والثالث : محال إجماعا حتى عند من يحمل اللفظ المشترك على معنييه وإذا تعين حمله على أحدهما فالحيض أولى به لوجوه
أحدها : أنها لو كانت الأطهار فالمعتدة بها يكفيها قرآن ولحظة من الثالث وإطلاق الثلاثة على هذا مجاز بعيد لنصية الثلاثة في العدد المخصوص
فإن قلتم : بعض الطهر المطلق فيه عندنا قرء كامل قيل : جوابه من ثلاثة أوجه
أحدها : أن هذا مختلف فيه كما تقدم فلم تجمع الأمة على أن بعض القرء قرء قط فدعوى هذا يفتقر إلى دليل
الثاني : أن هذا دعوى مذهبية أوجب حمل الآية عليها إلزام كون الأقراء الأطهار والدعاوي المذهبية لا يفسر بها القرآن وتحمل عليها اللغة ولا يعقل في اللغة قط أن اللحظة من الطهر تسمى قرءا كاملا ولا اجتمعت الأمة على ذلك فدعواه لا تثبت نقلا ولا إجماعا وإنما هو مجرد الحمل ولا ريب أن الحمل شئ والوضع شئ آخر وإنما يفيد ثبوت الوضع لغة أو شرعا أو عرفا
الثالث : أن القرء إما أن يكون اسما لمجموع الطهر كما يكون اسما لمجموع الحيضة أو لبعضه أو مشتركا بين الأمرين اشتراكا لفظيا أو اشتراكا معنويا والأقسام الثلاثة باطلة فتعين الأول أما بطلان وضعه لبعض الطهر فلأنه يلزم أن يكون الطهر الواحد عدة أقراء ويكون استعمال لفظ القرء فيه مجازا وأما بطلان الإشتراك المعنوي فمن وجهين أحدهما : أنه يلزم أن يصدق على الطهر الواحد أنه عدة أقراء حقيقة والثاني : أن نظيره - وهو الحيض - لا يسمى جزؤه قرءا اتفاقا ووضع القرء لهما لغة لا يختلف وهذا لا خفاء به
فإن قيل : نختار من هذه الأقسام أن يكون مشتركا بين كله وجزئه اشتراكا لفظيا ويحمل المشترك على معنييه فإنه أحفظ وبه تحصل البراءة بيقين قيل : الجواب من وجهين أحدهما : أنه لا يصح اشتراكه كما تقدم الثاني : أنه لو صح اشتراكه لم يجز حمله على مجموع معنييه أما على قول من لا يجوز حمل المشترك على معنييه فظاهر وأما من يجوز حمله عليهما فإنما يجوزونه إذا دل الدليل على إرادتهما معا فإذا لم يدل الدليل وقفوه حتى يقوم الدليل على إرادة أحدهما أو إرادتهما وحكى المتأخرون عن الشافعي والقاضي أبي بكر أنه إذا تجرد عن القرائن وجب حمله على معنييه كالإسم العام لأنه أحوط إذ ليس أحدهما أولى به من الآخر ولا سبيل إلى معنى ثالث وتعطيله غير ممكن ويمتنع تأخير البيان عن وقت الحاجة فإذا جاء وقت العمل ولم يتبين أن أحدهما هو المقصود بعينه علم أن الحقيقة غير مرادة إذ لو أريدت لبينت فتعين المجاز وهو مجموع المعنيين ومن يقول : إن الحمل عليهما بالحقيقة يقول : لما لم يتبين أن المراد أحدهما عالم أنه أراد كليهما
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : في هذه الحكاية عن الشافعي والقاضي نظر أما القاضي فمن أصله الوقف في صيغ العموم وأنه لا يجوز حملها على الإستغراق إلا بدليل فمن يقف في ألفاظ العموم كيف يجزم في الألفاظ المشتركة بالإستغراق من غير دليل ؟ وإنما الذي ذكره في كتبه إحالة الإشتراك رأسا وما يدعى فيه الإشتراك فهو عنده من قبيل المتواطئ وأما الشافعي فمنصبه في العلم أجل من أن يقول مثل هذا وإنما استنبط هذا من قوله : إذا أوصى لمواليه تناول المولى من فوق ومن أسفل وهذا قد يكون قاله لاعتقاده أن المولى من الأسماء المتواطئة وأن موضعه القدر المشترك بينهما فإنه من الأسماء المتضايقه كقوله من كنت مولاه فعلي مولاه ولا يلزم من هذا أن يحكى عنه قاعدة عامة في الأسماء التي ليس من معانيها قدر مشترك أن تحمل عند الإطلاق على جميع معانيها ثم الذي يدل على فساد هذا الخمول وجوه
أحدها : أن استعمال اللفظ في معنييه إنما هو مجاز إذ وضعه لكل واحد منهما على سبيل الإنفراد هو الحقيقة واللفظ المطلق لا يجوز حمله على المجاز بل يجب حمله على حقيقته
الثاني : أنه لو قدر أنه موضوع لهما منفردين ولكل واحد منهما مجتمعين فإنه يكون له حينئذ ثلاثة مفاهيم فالحمل على أحد مفاهيمه دون غيره بغير موجب ممتنع
الثالث : أنه حينئذ يستحيل حمله على جميع معانيه إذ حمله على هذا وحده وعليهما معا مستلزم للجمع بين النقيضين فيستحيل حمله على جميع معانيه وحمله عليهما معا حمل له على بعض مفهوماته فحمله على جميعها يبطل حمله على جميعها
الرابع : أن هاهنا أمورا أحدها : هذه الحقيقة وحدها والثاني : الحقيقة الأخرى وحدها والثالث : مجموعهما والرابع : مجاز هذه وحدها والخامس : مجاز الأخرى وحدها والسادس : مجازهما معا والسابع : الحقيقة وحدها مع مجازها والثامن : الحقيقة مع مجاز الأخرى والتاسع : الحقيقة الواحدة مع مجازهما والعاشر : الحقيقة الأخرى مع مجازها والحادي عشر : مع مجاز الأخرى والثاني عشر : مع مجازهما فهذه اثنا عشر محملا بعضها على سبيل الحقيقة وبعضها على سبيل المجاز فتعيين معنى واحد مجازي دون سائر المجازات والحقائق ترجيح من غير مرجح وهو ممتنع
الخامس : أنه لو وجب حمله على المعنيين جميعا لصار من صيغ العموم لأن حكم الإسم العام وجوب حمله على جميع مفرداته عند التخصيص ولو كان كذلك لجاز استثناء أحد المعنيين منه ولسبق إلى الذهن عند الإطلاق العموم وكان المستعمل له في أحد معنييه بمنزلة المستعمل للإسم العام في بعض معانيه فيكون متجوزا في خطابه غير متكلم بالحيضة وأن يكون من استعمله في معنييه غير محتاج إلى دليل وإنما يحتاج إليه من المعنى الآخر ولوجب أن يفهم منه الشمول قبل البحث عن التخصيص عند من يقول بذلك في صيغ العموم ولا ينفي الإجمال عنه إذ يصير بمنزلة سائر الألفاظ العامة وهذا باطل قطعا وأحكام الأسماء المشتركة لا تفارق أحكام الأسماء العامة وهذا مما يعلم بالإضطرار من اللغة ولكانت الأمة قد أجمعت في هذه الآية على حملها على خلاف ظاهرها ومطلقها إذ لم يصر أحد منهم على الطهر والحيض معا وبهذا يتبين بطلان قولهم : حملهم عليهما أحوط فإنه لو قدر حمل الآية على ثلاثة من الحيض والأطهار لكان فيه خروج عن الإحتياط
وإن قيل : فحمله على ثلاثة من كل منهما فهو خلاف نص القرآن إذ تصير الأقراء ستة
قولهم : إما أن يحمل على أحدهما بعينه أو عليهما إلى آخره قلنا : مثل هذا لا يجوز أن يعرى عن دلالة تبين المراد منه كما في الأسماء المجملة وإن خفيت الدلالة على بعض المجتهدين فلا يلزم أن تكون خفية عن مجموع الأمة وهذا هو الجواب عن الوجه الثالث فالكلام إذا لم يكن مطلقه يدل على المعنى المراد فلا بد من بيان المراد وإذا تعين أن المراد بالقرء في الآية أحدهما لا كلاهما فإرادة الحيض أولى لوجوه منها : ما تقدم الثاني : أن استعمال القرء في الحيض أظهر منه في الطهر فإنهم يذكرونه تفسيرا للفظه ثم يردفونه بقولهم : وقيل أو قال فلان أو يقال : على الطهر أو وهو أيضا الطهر فيجعلون تفسيره بالحيض كالمستقر المعلوم المستفيض وتفسيره بالطهر قول قيل وهاك حكاية ألفاظهم
قال الجوهري : القرء بالفتح : الحيض والجمع أقراء وقروء
وفي الحديث : [ لا صلاة أيام أقرائك ]
والقرء أيضا : الطهر وهو من الأضداد
وقال أبو عبيد : الأقراء : الحيض ثم قال : الأقراء الأطهار وقال الكسائي والفراء : أقرأت المرأة : إذا حاضت
وقال ابن فارس : القروء : أوقات يكون للطهر مرة وللحيض مرة والواحد قرء ويقال : القرء : وهو الطهر ثم قال : وقوم يذهبون إلى أن القرء الحيض فحكى قول من جعله مشتركا بين أوقات الطهر والحيض وقول من جعله لأوقات الطهر وقول من جعله لأوقات الحيض وكأنه لم يختر واحدا منهما بل جعله لأوقاتهما قال : وأقرأت المرأة إذا خرجت من حيض إلى طهر ومن طهر إلى حيض وهذا يدل على أنه لا بد من مسمى الحيض في حقيقته يوضحه أن من قال : أوقات الطهر تسمى قروءا فإنما يريد أوقات الطهر التي يحتوشها الدم وإلا فالصغيرة والآيسة لا يقال لزمن طهرهما أقراء ولا هما من ذوات الأقراء باتفاق أهل اللغة
الدليل الثاني : أن لفظ القرء لم يستعمل في كلام الشارع إلا للحيض ولم يجئ عنه في موضع واحد استعماله للطهر فحمله في الآية على المعهود المعروف من خطاب الشارع أولى بل متعين فإنه صلى الله عليه و سلم قال للمستحاضة [ دعي الصلاة أيام أقرائك ] وهو صلى الله عليه و سلم المعبر عن الله تعالى وبلغة قومه نزل القرآن فإذا ورد المشترك في كلامه على أحد معنييه وجب حمله في سائر كلامه عليه إذا لم تثبت إرادة الآخر في شئ من كلامه البتة ويصير هو لغة القرآن التي خوطبنا بها وإن كان له معنى آخر في كلام غيره ويصير هذا المعنى الحقيقة الشرعية في تخصيص المشترك بأحد معنييه كما يخص المتواطئ بأحد أفراده بل هذا أولى لأن أغلب أسباب الإشتراك تسمية أحد القبيلتين الشئ باسم وتسمية الأخرى بذلك الإسم مسمى آخر ثم تشيع الإستعمالات بل قال المبرد وغيره : لا يقع الإشتراك في اللغة إلا بهذا الوجه خاصة والواضع لم يضع لفظا مشتركا البتة فإذا ثبت استعمال الشارع لفظ القروء في الحيض علم أن هذا لغته فيتعين حمله على ما في كلامه ويوضح ذلك ما في سياق الآية من قوله { ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن } [ البقرة : 228 ] وهذا هو الحيض والحمل عند عامة المفسرين والمخلوق في الرحم إنما هو الحيض الوجودي ولهذا قال السلف والخلف : هو الحمل والحيض وقال بعضهم : الحمل وبعضهم : الحيض ولم يقل أحد قط : إنه الطهر ولهذا لم ينقله من عني بجمع أقوال أهل التفسير كابن الجوزي وغيره وأيضا فقد قال سبحانه : { واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن } [ الطلاق : 4 ] فجعل كل شهر بإزاء حيضة وعلق الحكم بعدم الحيض لا بعدم الطهر من الحيض وأيضا فحديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان ] رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي وقال : غريب لا نعرفه إلا من حديث ظاهر بن أسلم ومظاهر لا يعرف له في العلم غير هذا الحديث وفي لفظ للدارقطني فيه : [ طلاق العبد ثنتان ] وروى ابن ماجه من حديث عطية العوفي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ طلاق الأمة اثنتان وعدتها حيضتان ] وأيضا : قال ابن ماجه في سننه : حدثنا علي بن محمد حدثنا وكيع عن سفيان عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة رضي الله عنها قالت : أمرت بريرة أن تعتد ثلاث حيض
وفي المسند : عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه و سلم خير بريرة فاختارت نفسها وأمرها أن تعتد عدة الحرة وقد فسر عدة الحرة بثلاث حيض في حديث عائشة رضي الله عنها فإن قيل : فمذهب عائشة رضى الله عنها أن الأقراء : الأطهار ؟ قيل : ليس هذا بأول حديث خالفه راويه فأخذ بروايته دون رأيه وأيضا ففي حديث الربيع بنت معوذ أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر امرأة ثابت بن قيس بن شماس لما اختلعت من زوجها أن تتربص حيضة واحدة وتلحق بأهلها رواه النسائي
وفي سنن أبي داود عن ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت من زوجها فأمرها النبي صلى الله عليه و سلم أن تعتد بحيضة
وفي الترمذي : أن الربيع بنت معوذ اختلعت على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فأمرها النبي صلى الله عليه و سلم أو أمرت أن تعتد بحيضة قال الترمذي : حديث الربيع الصحيح أنها أمرت أن تعتد بحيضة وأيضا فإن الإستبراء لهو عدة الأمة وقد ثبت عن أبي سعيد : أن النبي صلى الله عليه و سلم قال في سبايا أوطاس : [ لا توطأ حامل حتى تضع ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة ] رواه أحمد وأبو داود
فإن قيل : لا نسلم أن استبراء الأمة بالحيضة وإنما هو بالطهر الذي هو قبل الحيضة كذلك قال ابن عبد البر وقال : قولهم : إن استبراء الأمة حيضة بإجماع ليس كما ظنوا بل جائز لها عندنا أن تنكح إذا دخلت في الحيضة واستيقنت أن دمها دم حيض كذلك قال إسماعيل بن إسحاق ليحيى بن أكثم حين أدخل عليه في مناظرته إياه
قلنا : هذا يرده قوله صلى الله عليه و سلم : [ لا توطأ الحامل حتى تضع ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة ]
وأيضا فالمقصود الأصلي من العدة إنما هو استبراء الرحم وإن كان لها فوائد أخر ولشرف الحرة المنكوحة وخطرها جعل العلم الدال على براءة رحمها ثلاثة أقراء فلو كان القرء : هو الطهر لم تحصل بالقرء الأول دلالة فإنه لو جامعها في الطهر ثم طلقها ثم حاضت كان ذلك قرءا محسوبا من الأقراء عند من يقول : الأقراء الأطهار ومعلوم : أن هذا لم يدل على شئ وإنما الذي يدل على البراءة الحيض الحاصل بعد الطلاق ولو طلقها في طهر لم يصبها فيه فإنما يعلم هنا براءة الرحم بالحيض الموجود قبل الطلاق والعدة لا تكون قبل الطلاق لأنها حكمه والحكم لا يسبق سببه فإذا كان الطهر الموجود بعد الطلاق لا دلالة له على البراءة أصلا لم يجز إدخاله في العدد الدالة على براءة الرحم وكان مثله كمثل شاهد غير مقبول ولا يجوز تعليق الحكم بشهادة شاهد لا شهادة له يوضحه أن العدة في المنكوحات كالإستبراء في المملوكات
وقد ثبت بصريح السنة أن الإستبراء بالحيض لا بالطهر فكذلك العدة إذ لا فرق بينهما إلا بتعدد العدة والإكتفاء بالإستبراء بقرء واحد وهذا لا يوجب اختلافهما في حقيقة القرء وإنما يختلفان في القدر المعتبر منهما ولهذا قال الشافعي في أصح القولين عنه : إن استبراء الأمة يكون بالحيض وفرق أصحابه بين البابين بأن العدة وجبت قضاء لحق الزوج فاختصت بأزمان حقه وهي أزمان الطهر وبأنها تتكرر فتعلم معها البراءة بتوسط الحيض بخلاف الإستبراء فإنه لا يتكرر والمقصود منه مجرد البراءة فاكتفى فيه بحيضة وقال في القول الآخر : تستبرأ بطهر طردا لأصله في العدد وعلى هذا فهل تحتسب ببعض الطهر ؟ على وجهين لأصحابه فإذا احتسبت به فلا بد من ضم حيضة كاملة إليه فإذا طعنت في الطهر الثاني حلت وإن لم تحتسب به فلا بد من ضم طهر كامل إليه ولا تحتسب ببعض الطهر عنده قرءا قولا واحدا
والمقصود : أن الجمهور على أن عدة الإستبراء حيضة لا طهر وهذا الإستبراء في حق الأمة كالعدة في حق الحرة قالوا : بل الإعتداد في حق الحرة بالحيض أولى من الأمة من وجهين
أحدهما : أن الإحتياط في حقها ثابت بتكرير القرء ثلاث استبراءات فهكذا ينبغي أن يكون الإعتداد في حقها بالحيض الذي هو أحوط من الطهر فإنها لا تحتسب ببقية الحيضة قرءا وتحتسب ببقية الطهر قرءا
الثاني : أن استبراء الأمة فرع على عدة الحرة وهي الثابتة بنص القرآن والإستبراء إنما ثبت بالسنة فإذا كان قد احتاط له الشارع بأن جعله بالحيض فاستبراء الحرة أولى فعدة الحرة استبراء لها واستبراء الأمة عدة لها
وأيضا فالأدلة والعلامات والحدود والغايات إنما تحصل بالأمور الظاهرة المتميزة عن غيرها والطهر هو الأمر الأصلي ولهذا متى كان مستمرا مستصحبا لم يكن له حكم يفرد به في الشريعة وإنما الأمر المتميز هو الحيض فإن المرأة إذا حاضت تغيرت أحكامها من بلوغها وتحريم العبادات عليها من الصلاة والصوم والطواف واللبث في المسجد وغير ذلك من الأحكام
ثم إذا انقطع الدم واغتسلت فلم تتغير أحكامها بتجدد الطهر لكن لزوال المغير الذى هو الحيض فإنها تعود بعد الطهر إلى ما كانت عليه قبل الحيض من غير أن يجدد لها الطهر حكما والقرء أمر يغير أحكام المرأة وهذا التغيير إنما يحصل بالحيض دون الطهر فهذا الوجه دال على فساد قول من يحتسب بالطهر الذي قبل الحيضة قرءا فيما إذا طلقت قبل أن تحيض ثم حاضت فإن من اعتد بهذا الطهر قرءا جعل شيئا ليس له حكم في الشريعة
قرءا من الأقراء وهذا فاسد (5/532)
فصل
قال من جعل الأقراء الأطهار : الكلام معكم فى مقامين
أحدهما : بيان الدليل على أنها الأطهار
الثاني : في الجواب عن أدلتكم
أما المقام الأول : فقوله تعالى : { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن } [ الطلاق : 1 ] ووجه الإستدلال به : أن اللام هي لام الوقت أي : فطلقوهن في وقت عدتهن كما في قوله تعالى : { ونضع الموازين القسط ليوم القيامة } [ الأنبياء : 47 ] أي : في يوم القيامة وقوله : { أقم الصلاة لدلوك الشمس } [ الإسراء : 78 ] أي : وقت الدلوك وتقول العرب : جئتك لثلاث بقين من الشهر أي : في ثلاث بقين منه وقد فسر النبى صلى الله عليه و سلم هذه الآية بهذا التفسير ففي الصحيحين : عن ابن عمر رضي الله عنه : أنه لما طلق امرأته وهي حائض أمره النبي صلى الله عليه و سلم أن يراجعها ثم يطلقها وهي طاهر قبل أن يمسها ثم قال : [ فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء ] فبين النبي صلى الله عليه و سلم أن العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء هي الطهر الذي بعد الحيضة ولو كان القرء هو الحيض كان قد طلقها قبل العدة لا في العدة وكان ذلك تطويلا عليها وهو غير جائز كما لو طلقها في الحيض
قال الشافعي : قال الله تعالى : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } [ البقرة : 228 ] فالأقراء عندنا - والله أعلم - الأطهار فإن قال قائل : ما دل على أنها الأطهار وقد قال غيركم : الحيض ؟ قيل : له دلالتان إحداهما : الكتاب الذي دلت عليه السنة والأخرى : اللسان فإن قال : وما الكتاب ؟ قيل : قال الله تبارك وتعالى : { إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن } [ الطلاق : 1 ] وأخبرنا مالك : عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه أنه طلق امرأته وهي حائض في عهد النبي صلى الله عليه و سلم فسأل عمر رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء ]
أخبرنا مسلم وسعيد بن سالم عن ابن جريج عن أبي الزبير أنه سمع ابن عمر يذكر طلاق امرأته حائضا فقال : قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إذا طهرت فليطلق أو يمسك ] وتلا النبي صلى الله عليه و سلم : { إذا طلقتم النساء فطلقوهن } لقبل أو في قبل عدتهن [ الطلاق : 1 ] قال الشافعي رحمه الله : أنا شككت فأخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الله عز و جل : أن العدة الطهر دون الحيض وقرأ : { فطلقوهن لعدتهن } وهو أن يطلقها طاهرا لأنها حينئذ تستقبل عدتها ولو طلقت حائضا لم تكن مستقبلة عدتها إلا بعد الحيض
فإن قال : فما اللسان ؟ قيل : القرء : اسم وضع لمعنى فلما كان الحيض دما يرخيه الرحم فيخرج والطهر دما يحتبس فلا يخرج وكان معروفا من لسان العرب أن القرء : الحبس تقول العرب : هو يقري الماء في حوضه وفي سقائه وتقول العرب : هو يقري الطعام في شدقه يعني : يحبسه في شدقه وتقول العرب : إذا حبس الرجل الشئ قرأه يعني : خبأه وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : تقرى في صحافها أي : تحبس في صحافها
قال الشافعي : أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها انتقلت حفصة بنت عبد الرحمن حين دخلت في الدم من الحيضة الثالثة قال ابن شهاب : فذكر ذلك لعمرة بنت عبد الرحمن فقالت : صدق عروة وقد جادلها في ذلك ناس وقالوا : إن الله تعالى يقول : { ثلاثة قروء } فقالت عائشة رضي الله عنها : صدقتم وهل تدرون ما الأقراء ؟ الأقراء : الأطهار أخبرنا مالك عن ابن شهاب قال : سمعت أبا بكر بن عبد الرحمن يقول : ما أدركت أحدا من فقهائنا إلا وهو يقول هذا يريد الذي قالت عائشة رضي الله عنها قال الشافعي رحمه الله : وأخبرنا سفيان عن الزهري عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها : إذا طعنت المطلقة في الدم من الحيضة الثالثة فقد برئت منه
وأخبرنا مالك رحمه الله عن نافع وزيد بن أسلم عن سليمان بن يسار أن الأحوص - يعني ابن حكيم - هلك بالشام حين دخلت امرأته في الحيضة الثالثة وقد كان طلقها فكتب معاوية إلى زيد بن ثابت يسأله عن ذلك ؟ فكتب إليه زيد : إنها إذا دخلت في الدم من الحيضة الثالثة فقد برئت منه وبرئ منها ولا ترثه ولا يرثها
وأخبرنا سفيان عن الزهري قال : حدثني سليمان بن يسار عن زيد بن ثابت قال : إذا طعنت المرأة في الحيضة الثالثة فقد برئت
وفي حديث سعيد بن أبي عروبة عن رجل عن سليمان بن يسار أن عثمان بن عفان وابن عمر قالا : إذا دخلت في الحيضة الثالثة فلا رجعة له عليها
وأخبرنا مالك : عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : إذا طلق الرجل امرأته فدخلت في الدم من الحيضة الثالثة فقد برئت منه ولا ترثه ولا يرثها
أخبرنا مالك رحمه الله أنه بلغه عن القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وأبي بكر بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار وابن شهاب أنهم كانوا يقولون : إذا دخلت المطلقة في الدم من الحيضة الثالثة فقد بانت منه ولا ميراث بينهما زاد غير الشافعي عن مالك رحمهما الله : ولا رجعة له عليها قال مالك : وذلك الأمر الذي أدركت عليه أهل العلم ببلدنا
قال الشافعي رحمه الله : ولا بعد أن تكون الأقراء الأطهار كما قالت عائشة رضي الله عنها والنساء بهذا أعلم لأنه فيهن لا في الرجال أو الحيض فإذا جاءت بثلاث حيض حلت ولا نجد في كتاب الله للغسل معنى ولستم تقولون بواحد من القولين يعني : أن الذين قالوا : إنها الحيض قالوا : وهو أحق برجعتها حتى تغتسل من الحيضة الثالثة كما قاله علي وابن مسعود وأبو موسى وهو قول عمر بن الخطاب أيضا فقال الشافعي : فقيل لهم يعني للعراقيين : لم تقولوا بقول من احتججتم بقوله ورويتم هذا عنه ولا بقول أحد من السلف علمناه ؟ فإن قال قائل : أين خالفناهم ؟ قلنا : قالوا : حتى تغتسل وتحل لها الصلاة وقلتم : إن فرطت في الغسل حتى يذهب وقت الصلاة حلت وهي لم تغتسل ولم تحل لها الصلاة انتهى كلام الشافعي رحمه الله
قالوا : ويدل على أنها الأطهار في اللسان قول الأعشى :
( أفي كل عام أنت جاشم غزوة ... تشد لأقصاها عزيم عزائكا )
( مورثة عزا وفي الحي رفعة ... لما ضاع فيها من قروء نسائكا )
فالقروء في البيت : الأطهار لأنه ضيع أطهارهن في غزاته وآثرها عليهن
قالوا : ولأن الطهر أسبق إلى الوجود من الحيض فكان أولى بالإسم قالوا : فهذا أحد المقامين
وأما المقام الآخر وهو الجواب عن أدلتكم : فنجيبكم بجوابين مجمل ومفصل
أما المجمل فنقول : من أنزل عليه القرآن فهو أعلم بتفسيره وبمراد المتكلم به من كل أحد سواه وقد فسر النبي صلى الله عليه و سلم العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء بالأطهار فلا التفات بعد ذلك إلى شئ خالفه بل كل تفسير يخالف هذا
فباطل قالوا : وأعلم الأمة بهذه المسألة أزواج رسول الله صلى الله عليه و سلم وأعلمهن بها عائشة رضي الله عنها لأنها فيهن لا في الرجال ولأن الله تعالى جعل قولهن في ذلك مقبولا في وجود الحيض والحمل لأنه لا يعلم إلا من جهتين فدل على أنهن أعلم بذلك من الرجال فإذا قالت أم المؤمنين رضي الله عنها : إن الأقراء الأطهار
( فقد قالت حذام فصدقوها ... فإن القول ما قالت حذام )
قالوا : وأما الجواب المفصل فنفرد كل واحد من أدلتكم بجواب خاص فهاكم الأجوبة
أما قولكم : إما أن يراد بالأقراء في الآية الأطهار فقط أو الحيض فقط أو مجموعهما إلى آخره
فجوابه أن نقول : الأطهار فقط لما ذكرنا من الدلالة قولكم النص اقتضى ثلاثة إلى آخره قلنا : عنه جوابان
أحدهما : أن بقية الطهر عندنا قرء كامل فما اعتدت إلا بثلاث كوامل
الثاني : أن العرب توقع اسم الجمع على اثنين وبعض الثالث كقوله تعالى : { الحج أشهر معلومات } [ البقرة : 197 ] فإنها شوال وذو العقدة وعشر من ذي الحجة أو تسع أو ثلاثة عشر ويقولون : لفلان ثلاث عشرة سنة إذا دخل في السنة الثالثة عشر فإذا كان هذا معروفا في لغتهم وقد دل الدليل عليه وجب المصير إليه
وأما قولكم : إن استعمال القرء في الحيض أظهر منه في الطهر فمقابل بقول منازعيكم
قولكم : إن أهل اللغة يصدرون كتبهم بأن القرء هو الحيض فيذكرونه تفسيرا للفظ ثم يردفونه بقولهم : بقيل أو وقال بعضهم : هو الطهر
قلنا : أهل اللغة يحكون أن له مسميين في اللغة ويصرحون بأنه يقال على هذا وعلى هذا ومنهم من يجعله في الحيض أظهر ومنهم من يحكي إطلاقه عليهما من غير ترجيح فالجوهري : رجح الحيض والشافعي من أئمة اللغة وقد رجح أنه الطهر وقال أبو عبيد : القرء يصلح للطهر والحيض وقال الزجاج : أخبرني من أثق به عن يونس أن القرء عنده يصلح للطهر والحيض وقال أبو عمرو بن العلاء : القرء الوقت وهو يصلح للحيض ويصلح للطهر وإذا كانت هذه نصوص أهل اللغة فكيف يحتجون بقولهم : إن الأقراء الحيض ؟
قولكم : إن من جعله الطهر فإنه يريد أوقات الطهر التي يحتوشها الدم وإلا فالصغيرة والآيسة ليستا من ذوات الأقراء وعنه جوابان
أحدهما : المنع بل إذا طلقت الصغيرة التي لم تحض ثم حاضت فإنها تعتد بالطهر الذي طلقت فيه قرءا على أصح الوجهين عندنا لأنه طهر بعده حيض وكان قرءا كما لو كان قبله حيض
الثاني : إنا وإن سلمنا ذلك فإن هذا يدل على أن الطهر لا يسمى قرءا حتى يحتوشه دمان وكذلك نقول : فالدم شرط في تسميته قرءا وهذا لا يدل على أن مسماه الحيض وهذا كالكأس الذي لا يقال على الإناء إلى بشرط كون الشراب فيه وإلا فهو زجاجة أو قدح والمائدة التي لا تقال للخوان إلا إذا كان عليه طعام وإلا فهو خوان والكوز الذي لا يقال لمسماه : إلا إذا كان ذا عروة وإلا فهو كوب والقلم الذي يشترط في صحة إطلاقه على القصبة كونها مبرية وبدون البري فهو أنبوب أو قصبة والخاتم شرط إطلاقه أن يكون ذا فص منه أو من غيره وإلا فهو فتخة والفرو شرط إطلاقه على مسماه الصوف وإلا فهو جلد والريطة شرط إطلاقها على مسماها أن تكون قطعة واحدة فإن كانت ملفقة من قطعتين فهي ملاءة والحلة شرط إطلاقها أن تكون ثوبين إزار ورداء وإلا فهو ثوب والأريكة لا تقال على السرير إلا إذا كان عليه حجلة وهي التي تسمى بشخانة وخركاه وإلا فهو سرير واللطيمة لا تقال للجمال إلا إذا كان فيها طيب وإلا فهي عير والنفق لا يقال إلا لما له منفذ وإلا فهو سرب والعهن لا يقال للصوف إلا إذا كان مصبوغا وإلا فهو صوف والخدر لا يقال إلا لما اشتمل على المرأة وإلا فهو ستر والمحجن لا يقال للعصا إلا إذا كان محنية الرأس وإلا فهي عصا والركية لا تقال على البئر إلا بشرط كون الماء فيها والا فهي بئر والوقود لا يقال للحطب إلا إذا كانت النار فيه وإلا فهو حطب ولا يقال للتراب ثرى إلا بشرط نداوته وإلا فهو تراب ولا يقال للرسالة : مغلغلة إلا إذا حملت من بلد إلى بلد وإلا فهي رسالة ولا يقال للأرض قراح إلا إذا هيئت للزراعة ولا يقال لهروب العبد : إباق إلا إذا كان هروبه من غير خوف ولا جوع ولا جهد وإلا فهو هروب والريق لا يقال له رضاب إلا إذا كان في الفم فإذا فارقه فهو بصاق وبساق والشجاع لا يقال له : كمي إلا إذا كان شاكي السلاح وإلا فهو بطل وفي تسميته بطلا قولان أحدهما : لأنه تبطل شجاعته قرنه وضربه وطعنه والثاني : لأنه تبطل شجاعة الشجعان عنده فعلى الأول فهو فعل بمعنى فاعل وعلى الثاني فعل بمعنى مفعول وهو قياس اللغة والبعير لا يقال له : راوية إلا بشرط حمله للماء والطبق لا يسمى مهدى إلا أن يكون عليه هدية والمرأة لا تسمى ظعينة إلا بشرط كونها في الهودج هذا في الأصل وإلا فقد تسمى المرأة ظعينة وإن لم تكن في هودج ومنه في الحديث : [ فمرت ظعن يجرين ] والدلو لا يقال له : سجل إلا ما دام فيه ماء ولا يقال لها : ذنوب إلا إذا امتلأت به والسرير لا يقال له : نعش إلا إذا كان عليه ميت والعظم لا يقال له : عرق إلا إذا اشتمل عليه لحم والخيط لا يسمى سمطا إلا إذا كان فيه خرز ولا يقال للحبل : قرن إلا إذا قرن فيه اثنان فصاعدا والقوم لا يسمون رفقة الا إذا انضموا في مجلس واحد وسير واحد فإذا تفرقوا زال هذا الإسم ولم يزل عنهم اسم الرفيق والحجارة لا تسمى رضفا إلا إذا حميت بالشمس أو بالنار والشمس لا يقال لها : غزالة إلا عند ارتفاع النهار والثوب لا يسمى مطرفا إلا إذا كان في طرفيه علمان والمجلس لا يقال له : النادي إلا إذا كان أهله فيه والمرأة لا يقال لها : عاتق إلا إذا كانت في بيت أبويها ولا يسمى الماء الملح أجاجا إلا إذا كان مع ملوحته مرا ولا يقال للسير : إهطاع إلا إذا كان معه خوف ولا يقال للفرس : محجل إلا إذا كان البياض في قوائمها كلها أو أكثرها وهذا باب طويل لو تقصيناه فكذلك لا يقال للطهر : قرء إلا إذا كان قبله دم وبعده دم فأين في هذا ما يدل على أنه حيض ؟
قالوا : وأما قولكم : إنه لم يجئ في كلام الشارع إلا للحيض فنحن نمنع مجيئه في كلام الشارع للحيض البتة فضلا عن الحصر قالوا : إنه قال للمستحاضة : [ دعي الصلاة أيام أقرائك ] فقد أجاب الشافعي عنه في كتاب حرملة بما فيه شفاء وهذا لفظه قال : وزعم إبراهيم بن إسماعيل بن علية أن الأقراء : الحيض واحتج بحديث سفيان عن أيوب عن سليمان بن يسار عن أم سلمة رضي الله عنها : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال في امرأة استحيضت : [ تدع الصلاة أيام أقرائها ] قال الشافعي رحمه الله : وما حدث بهذا سفيان قط إنما قال سفيان عن أيوب عن سليمان بن يسار عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ تدع الصلاة عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن ] أو قال : [ أيام أقرائها ] الشك من أيوب لا يدري قال : هذا أو هذا فجعله هو حديثا على ناحية ما يريد فليس هذا بصدق وقد أخبرنا مالك عن نافع عن سليمان بن يسار عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لتنظر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها ثم لتدع الصلاة ثم لتغتسل ولتصل ] ونافع أحفظ عن سليمان من أيوب وهو يقول : بمثل أحد معنيي أيوب اللذين رواهما انتهى كلامه قالوا : وأما الإستدلال بقوله تعالى : { ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن } [ البقرة : 228 ] وأنه الحيض أو الحبل أو كلاهما فلا ريب أن الحيض داخل في ذلك ولكن تحريم كتمانه لا يدل على أن القروء المذكورة في الآية هي الحيض فإنها إذا كانت الأطهار فإنها تنقضي بالطعن في الحيضة الرابعة أو الثالثة فإذا أرادت كتمان انقضاء العدة لأجل النفقة أو غيرها قالت : لم أحض فتنقضي عدتي وهي كاذبة وقد حاضت وانقضت عدتها وحينئذ فتكون دلالة الآية على أن القروء الأطهار أظهر ونحن نقنع باتفاق الدلالة بها وإن أبيتم إلا الإستدلال فهو من جانبنا أظهر فإن أكثر المفسرين قالوا : الحيض والولادة فإذا كانت العدة تنقضي بظهور الولادة فهكذا تنقضي بظهور الحيض تسوية بينهما في إتيان المرأة على كل واحد منهما
وأما استدلالكم بقوله تعالى : { واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر } [ الطلاق : 4 ] فجعل كل شهر بإزاء حيضة فليس هذا بصريح في أن القروء هي الحيض بل غاية الآية أنه جعل اليأس من الحيض شرطا في الإعتداد بالأشهر فما دامت حائضا لا تنتقل إلى عدة الآيسات وذلك أن الأقراء التي هي الأطهار عندنا لا توجد إلا مع الحيض لا تكون بدونه فمن أين يلزم أن تكون هي الحيض ؟
وأما استدلالكم بحديث عائشة رضي الله عنها : [ طلاق الأمة طلقتان وقرؤها حيضتان ] فهو حديث لو استدللنا به لم تقبلوا ذلك منا فإنه حديث ضعيف معلول قال الترمذي : غريب لا نعرفه إلا من حديث مظاهر بن أسلم ومظاهر لا يعرف له في العلم غير هذا الحديث انتهى ومظاهر بن أسلم هذا قال فيه أبو حاتم الرازي : منكر الحديث وقال يحيى بن معين : ليس بشئ مع أنه لا يعرف وضعفه أبو عاصم أيضا وقال أبو داود : هذا حديث مجهول وقال الخطابي : أهل الحديث ضعفوا هذا الحديث وقال البيهقي : لو كان ثابتا لقلنا به إلا أنا لا نثبت حديثا يرويه من تجهل عدالته وقال الدارقطني : الصحيح عن القاسم بخلاف هذا ثم روى عن زيد بن أسلم قال : سئل القاسم عن الأمة كم تطلق ؟ قال : طلاقها ثنتان وعدتها حيضتان قال : فقيل له : هل بلغك عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في هذا ؟ فقال : لا وقال البخاري في تاريخه : مظاهر بن أسلم عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها يرفعه : [ طلاق الأمة طلقتان وعدتها حيضتان ] قال أبو عاصم : أخبرنا ابن جريج عن مظاهر ثم لقيت مظاهرا فحدثنا به وكان أبو عاصم يضعف مظاهرا وقال يحيى بن سليمان : حدثنا ابن وهب قال : حدثني أسامة بن زيد بن أسلم أنه كان جالسا عند أبيه فأتاه رسول الأمير فقال : إن الأمير يقول لك : كم عدة الأمة ؟ فقال : عدة الأمة حيضتان وطلاق الحر الأمة ثلاث وطلاق العبد الحرة تطليقتان وعدة الحرة ثلاث حيض ثم قال للرسول : أين تذهب ؟ قال : أمرني أن أسأل القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله قال : فأقسم عليك إلا رجعت إلي فأخبرتني ما يقولان فذهب ورجع إلى أبي فأخبره أنهما قالا كما قال وقالا له : قل له : إن هذا ليس في كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم ولكن عمل به المسلمون
وقال أبو القاسم بن عساكر في أطرافه : فدل ذلك على أن الحديث المرفوع غير محفوظ
وأما استدلالكم بحديث ابن عمر مرفوعا [ طلاق الأمة ثنتان وعدتها حيضتان ] فهو من رواية عطية بن سعد العوفي وقد ضعفه غير واحد من الأئمة قال الدارقطني : والصحيح عن ابن عمر رضي الله عنه ما رواه سالم ونافع من قوله وروى الدارقطني أيضا عن سالم ونافع أن ابن عمر كان يقول : طلاق العبد الحرة تطليقتان وعدتها ثلاثة قروء وطلاق الحر الأمة تطليقتان وعدتها عدة الأمة حيضتان
قالوا : والثابت بلا شك عن ابن عمر رضي الله عنه أن الاقراء : الأطهار
قال الشافعي رحمه الله : أخبرنا مالك رحمه الله عن نافع عن ابن عمر قال : إذا طلق الرجل امرأته فدخلت في الدم من الحيضة الثالثة فقد برئت منه ولا ترثه ولا يرثها
قالوا : فهذا الحديث مداره على ابن عمر وعائشة ومذهبهما بلا شك أن الأقراء : الأطهار فكيف يكون عندهما عن النبي صلى الله عليه و سلم خلاف ذلك ولا يذهبان إليه ؟ قالوا : وهذا بعينه هو الجواب عن حديث عائشة الآخر : أمرت بريرة أن تعتد ثلاث حيض قالوا : وقد روي هذا الحديث بثلاثة ألفاظ : أمرت أن تعتد وأمرت أن تعتد عدة الحرة وأمرت أن تعتد ثلاث حيض فلعل رواية من روى ثلاث حيض محمولة على المعنى ومن العجب أن يكون عند عائشة رضي الله عنها هذا وهي تقول : الأقراء : الأطهار وأعجب منه أن يكون هذا الحديث بهذا السند المشهور الذي كلهم أئمة ولا يخرجه أصحاب الصحيح ولا المساند ولا من اعتنى بأحاديث الأحكام وجمعها ولا الأئمة الأربعة وكيف يصبر عن إخراج هذا الحديث من هو مضطر إليه ولا سيما بهذا السند المعروف الذي هو كالشمس شهرة ولا شك أن بريرة أمرت أن تعتد وأما أنها أمرت بثلاث حيض فهذا لو صح لم نعده إلى غيره ولبادرنا إليه قالوا : وأمما استدلالكم بشأن الإستبراء فلا ريب أن الصحيح كونه بحيضة وهو ظاهر النص الصحيح فلا وجه للإشتغال بالتعلل بالقول : إنها تستبرأ بالطهر فإنه خلاف ظاهر نص الرسول صلى الله عليه و سلم وخلاف القول الصحيح من قول
الشافعي وخلاف قول الجمهور من الأمة فالوجه العدول إلى الفرق بين البابين فنقول : الفرق بينهما ما تقدم أن العدة وجبت قضاء لحق الزوج فاختصت بزمان حقه وهو الطهر بأنها تتكرر فيعلم منها البراءة بواسطة الحيض بخلاف الإستبراء
قولكم : لو كانت الأقراء الأطهار لم تحصل بالقرء الأول دلالة لأنه لو جامعها ثم طلقها فيه حسبت بقيته قرءا ومعلوم قطعا أن هذا الطهر لا يدل على شئ
فجوابه أنها إذا طهرت بعد طهرين كاملين صحت دلالته بانضمامه إليهما
قولكم : إن الحدود والعلامات والأدلة إنما تحصل بالأمور الظاهرة إلى آخره
جوابه أن الطهر إذا احتوشه دمان كان كذلك وإذا لم يكن قبله دم ولا بعده دم فهذا لا يعتد به البتة
قالوا : ويزيد ما ذهبنا إليه قوة أن القرء هو الجمع وزمان الطهر أولى به فإنه حينئذ يجتمع الحيض وإنما يخرج بعد جمعه قالوا : وإدخال التاء في ( ثلاثة قروء ) يدل على أن القرء مذكر وهو الطهر فلو كان الحيض لكان بغير تاء لأن واحدها حيضة
فهذا ما احتج به أرباب هذا القول استدلالا وجوابا وهذا موضع لا يمكن فيه التوسط بين الفريقين إذ لا توسط بين القولين فلا بد من التحيز إلى أحد الفئتين ونحن متحيزون في هذه المسألة إلى أكابر الصحابة وقائلون فيها بقولهم : إن القرء الحيض وقد تقدم الإستدلال على صحة هذا القول فنحجب عما عارض به أرباب القول الآخر ليتبين ما رجحناه وبالله التوفيق
فنقول : أما استدلالكم بقوله تعالى : { فطلقوهن لعدتهن } [ الطلاق : 1 ] فهو إلى أن يكون حجة عليكم أقرب منه إلى أن يكون حجة لكم فإن المراد طلاقها قبل العدة ضرورة إذ لا يمكن حمل الآية على الطلاق في العدة فإن هذا - مع تضمنه لكون اللام للظرفية بمعنى - في - فاسد معنى إذ لا يمكن إيقاع الطلاق في العدة فإنه سببها والسبب يتقدم الحكم وإذا تقرر ذلك فمن قال : الأقراء الحيض فقد عمل بالآية وطلق قبل العدة
فإن قلتم : ومن قال : إنها الأطهار فالعدة تتعقب الطلاق فقد طلق قبل العدة قلنا : فبطل احتجاجكم حينئذ وصح أن المراد الطلاق قبل العدة لا فيها وكلا الأمرين يصح أن يراد بالآية لكن إرادة الحيض أرجح وبيانه أن العدة فعلة مما تعد يعني معدودة لأنها تعد وتحصى كقوله : { وأحصوا العدة } [ الطلاق : 1 ] والطهر الذي قبل الحيضة مما يعد ويحصى فهو من العدة وليس الكلام فيه إنما الكلام في أمر آخر وهو دخوله في مسمى القروء الثلاثة المذكورة في الآية أم لا ؟ فلو كان النص : فطلقوهن لقروئهن لكان فيه تعلق فهنا أمران قوله تعالى : { يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } [ البقرة : 228 ] والثاني : قوله : { فطلقوهن لعدتهن } [ الطلاق : 1 ] ولا ريب أن القائل : افعل كذا لثلاث بقين من الشهر إنما يكون المأمور ممتثلا إذا فعله قبل مجيء الثلاث وكذلك إذا قال : فعلته لثلاث مضين من الشهر إنما يصدق إذا فعله بعد مضي الثلاث وهو بخلاف حرف الظرف الذي هو في فإنه إذا قال : فعلته في ثلاث بتين كان الفعل واقعا في نفس الثلاث وهاهنا نكتة حسنة وهي أنهم يقولون : فعلته لثلاث ليال خلون أو بقين من الشهر وفعلته في الثاني أو الثالث من الشهر أو في ثانيه أو ثالثه فمتى أرادوا مضي الزمان أو استقباله أتوا باللام ومتى أرادوا وقوع الفعل فيه أتوا بفي وسر ذلك أنهم إذا أرادوا مضي زمن الفعل أو استقباله أتوا بالعلامة الدالة على اختصاص العدد الذي يلفظون به بما مضى أو بما يستقبل وإذا أرادوا وقوع الفعل في ذلك الزمان أتوا بالأداة المعينة له وهي أداة في وهذا خير من قول كثير من النحاة : إن اللام تكون بمعنى قبل في قولهم : كتبته لثلاث بقين وقوله : { فطلقوهن لعدتهن } [ الطلاق : 1 ] وبمعنى بعد كقولهم : لثلاث خلون وبمعنى في : كقوله تعالى : { ونضع الموازين القسط ليوم القيامة } [ الأنبياء : 47 ] وقوله : { فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه } [ آل عمران : 25 ] والتحقيق أن اللام على بابها للإختصاص بالوقت المذكور كأنهم جعلوا الفعل للزمان المذكور اتساعا لاختصاصه به فكأنه له فتأمله
وفرق آخر : وهو أنك إذا أتيت باللام لم يكن الزمان المذكور بعده إلا ماضيا أو منتظرا ومتى أتيت بفي لم يكن الزمان المجرور بها إلا مقارنا للفعل وإذا تقرر هذا من قواعد العربية فقوله تعالى : { فطلقوهن لعدتهن } [ الطلاق : 1 ] معناه : لاستقبال عدتهن لا فيها وإذا كانت العدة التي يطلق لها النساء مستقبلة بعد الطلاق فالمستقبل بعدها إنما هو الحيض فإن الطاهر لا تستقبل الطهر إذ هي فيه وإنما تستقبل الحيض بعد حالها التي هي فيها هذا المعروف لغة وعقلا وعرفا فإنه لا يقال لمن هو في عافية : هو مستقبل العافية ولا لمن هو في أمن : هو مستقبل الأمن ولا لمن هو في قبض مغله وإحرازه : هو مستقبل المغل وإنما المعهود لغة وعرفا أن يستقبل الشئ من هو على حال ضده وهذا أظهر من أن نكثر شواهده
فإن قيل : فيلزم من هذا أن يكون من طلق في الحيض مطلقا للعدة عند من يقول : الأقراء الأطهار لأنها تستقبل طهرها بعد حالها التي هي فيها قلنا : نعم يلزمهم ذلك فإنه لو كان أول العدة التي تطلق لها المرأة هو الطهر لكان إذا طلقها في أثناء الحيض مطلقا للعدة لأنها تستقبل الطهر بعد ذلك الطلاق
فإن قيل : اللام بمعنى في والمعنى : فطلقوهن في عدتهن وهذا إنما يمكن إذا طلقها في الطهر بخلاف ما إذا طلقها في الحيض قيل : الجواب من وجهين
أحدهما : أن الأصل عدم الإشتراك في الحروف والأصل إفراد كل حرف بمعناه فدعوى خلاف ذلك مردودة بالأصل
الثاني : أنه يلزم منه أن يكون بعض العدة ظرفا لزمن الطلاق فيكون الطلاق واقعا في نفس العدة ضرورة صحة الظرفية كما إذا قلت : فعلته في يوم الخميس بل الغالب في الإستعمال من هذا أن يكون بعض الظرف سابقا على الفعل ولا ريب في امتناع هذا فإن العدة تتعقب الطلاق ولا تقارنه ولا تتقدم عليه
قالوا : ولو سلمنا أن اللام بمعنى في وساعد على ذلك قراءة ابن عمر رضي الله عنه وغيره : ( فطلقوهن في قبل عدتهن ) فإنه لا يلزم من ذلك أن يكون القرء : هو الطهر فإن القرء حينئذ يكون هو الحيض وهو المعدود والمحسوب وما قبله من الطهر يدخل في حكمه تبعا وضمنا لوجهين
أحدهما : أن من ضرورة الحيض أن يتقدمه طهر فإذا قيل : تربصي ثلاث حيض وهي في أثناء الطهر كان ذلك الطهر من مدة التربص كما لو قيل لرجل : أقم هاهنا ثلاثة أيام وهو في أثناء ليلة فإنه يدخل بقية تلك الليلة في اليوم الذي يليها كما تدخل ليلة اليومين الآخرين في يوميهما ولو قيل له في النهار : أقم ثلاث ليال دخل تمام ذلك النهار تبعا لليلة التي تليه
الثاني : أن الحيض إنما يتم باجتماع الدم في الرحم قبله فكان الطهر مقدمة وسببا لوجود الحيض فإذا علق الحكم بالحيض فكل لوازمه ما لا يوجد الحيض إلا بوجوده وبهذا يظهر أن هذا أبلغ من الأيام والليالي فإن الليل والنهار متلازمان وليس أحدهما سببا لوجود الآخر وهاهنا الطهر سبب لاجتماع الدم في الرحم فقوله سبحانه وتعالى : { لعدتهن } أي : لاستقبال العدة التي تتربصها وهي تتربص ثلاث حيض بالأطهار التي قبلها فإذا طلقت في أثناء الطهر فقد طلقت في الوقت الذي تستقبل فيه العدة المحسوبة وتلك العدة هي الحيض بما قبلها من الأطهار بخلاف ما لو طلقت في أثناء حيضة فإنها لم تطلق لعدة تحسبها لأن بقية ذلك الحيض ليس هو العدة التي تعتد بها المرأة أصلا ولا تبعا لأصل وإنما تسمى عدة لأنها تحبس فيها عن الأزواج إذا عرف هذا فقوله : { ونضع الموازين القسط ليوم القيامة } [ الأنبياء : 47 ) يجوز أن تكون اللام لام التعليل أي : لأجل يوم القيامة وقد قيل : إن القسط منصوب على أنه مفعول له أي : نضعها لأجل القسط وقد استوفى شروط نصبه وأما قوله تعالى : { أقم الصلاة لدلوك الشمس } [ الإسراء : 78 ] فليست اللام بمعنى في قطعا بل قيل : إنها لام التعليل أي : لأجل دلوك الشمس وقيل : إنها بمعنى بعد فإنه ليس المراد إقامتها وقت الدلوك سواء فسر بالزوال أو الغروب وإنما يؤمر بالصلاة بعده ويستحيل حمل آية العدة على ذلك وهكذا يستحيل حمل آية العدة عليه إذ يصير المعنى : فطلقوهن بعد عدتهن فلم يبق الا أن يكون المعنى : فطلقوهن لاستقبال عدتهن ومعلوم أنها إذا طلقت طاهرا استقبلت العدة بالحيض ولو كانت الأقراء الأطهار لكانت السنة أن تطلق حائضا لتستقبل العدة بالأطهار فبين النبي صلى الله عليه و سلم أن العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء هي أن تطلق طاهرا لتستقبل عدتها بعد الطلاق
فإن قيل : فإذا جعلنا الأقراء : الأطهار استقبلت عدتها بعد الطلاق بلا فصل ومن جعلها الحيض لم تستقبلها على قوله حتى ينقضي الطهر
قيل : كلام الرب تبارك وتعالى لا بد أن يحمل على فائدة مستقلة وحمل الآية على معنى : فطلقوهن طلاقا تكون العدة بعده لا فائدة فيه وهذا بخلاف ما إذا كان المعنى : فطلقوهن طلاقا يستقبلن فيه العدة لا يستقبلن فيه طهرا لا تعتد به فإنها إذا طلقت حائضا استقبلت طهرا لا تعتد به فلم تطلق لاستقبال العدة ويوضحه قراءة من قرأ : فطلقوهن في قبل عدتهن وقبل العدة : هو الوقت الذي يكون بين يدي العدة تستعجل به كقبل الحائض يوضحه أنه لو أريد ما ذكروه لقيل : في أول عدتهن فالفرق بين بين قبل الشئ وأوله
وأما قولكم : لو كانت القروء هي الحيض لكان قد طلقها قبل العدة قلنا : أجل وهذا هو الواجب عقلا وشرعا فإن العدة لا تفارق الطلاق ولا تسبقه بل يجب تأخرها عنه
قولكم : وكان ذلك تطويلا عليها كما لو طلقها في الحيض قيل : هذا مبني على أن العلة في تحريم طلاق الحائض خشية التطويل عليها وكثير من الفقهاء لا يرضون هذا التعليل ويفسدونه بأنها لو رضيت بالطلاق فيه واختارت التطويل لم يبح له ولو كان ذلك لأجل التطويل لم تبح له برضاها كما يباح إسقاط الرجعة الذي هو حق المطلق بتراضيهما بإسقاطها بالعوض اتفاقا وبدونه في أحد القولين وهذا هو مذهب أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن أحمد ومالك ويقولون : إنما حرم طلاقها في الحيض لأنه طلقها في وقت رغبة عنها ولو سلمنا أن التحريم لأجل التطويل عليها فالتطويل المضر أن يطلقها حائضا فتنتظر مضي الحيضة والطهر الذي يليها ثم تأخذ في العدة فلا تكون مستقبلة لعدتها بالطلاق وأما إذا طلقت ظاهرا فإنها تستقبل العدة عقيب انقضاء الطهر فلا يتحقق التطويل
وقولكم : إن القرء مشتق من الجمع وإنما يجمع الحيض في زمن الطهر عنه ثلاثة أجوبة
أحدها : أن هذا ممنوع والذي هو مشتق من الجمع إنما هو من باب الياء من المعتل من قرى يقري كقضى يقضي والقرء من المهموز بنات الهمز من قرأ يقرأ كنحر ينحر وهما أصلان مختلفان فإنهم يقولون : قريت الماء في الحوض أقريه أي : جمعته ومنه سميت القرية ومنه قرية النمل : للبيت الذي تجتمع فيه لأنه يقريها أي : يضمها ويجمعها وأما المهموز فإنه من الظهور والخروج على وجه التوقيت والتحديد ومنه قراءة القرآن لأن قارئه يظهره ويخرجه مقدارا محدودا لا يزيد ولا ينقص ويدل عليه قوله : { إن علينا جمعه وقرآنه } [ القيامة : 17 ] ففرق بين الجمع والقرآن ولو كانا واحدا لكان تكريرا محضا ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما : { فإذا قرأناه فاتبع قرآنه } [ القيامة : 18 ] فإذا بيناه فجعل قراءته نفس إظهاره وبيانه لا كما زعم أبو عبيدة أن القرآن مشتق من الجمع ومنه قولهم : ما قرأت هذه الناقة سلى قط وما قرأت جنينا هو من هذا الباب أي ما ولدته وأخرجته وأظهرته ومنه : فلان يقرؤك السلام ويقرأ عليك السلام هو من الظهور والبيان ومنه قولهم : قرأت المرأة حيضة أو حيضتين أي : حاضتهما لأن الحيض ظهور ما كان كامنا كظهور الجنين ومنه : قروء الثريا وقروء الريح : وهو الوقت الذي يظهر المطر والريح فإنهما يظهران في وقت مخصوص وقد ذكر هذا الإشتقاق المصنفون في كتب الإشتقاق وذكره أبو عمرو وغيره ولا ريب أن هذا المعنى فى الحيض أظهر منه في الطهر
قولكم : إن عائشة رضي الله عنها قالت : القروء : الأطهار والنساء أعلم بهذا من الرجال
فالجواب أن يقال : من جعل النساء أعلم بمراد الله من كتابه وأفهم لمعناه من أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وأبي الدرداء رضي الله عنهم وأكابر أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ ! فنزول ذلك في شأنهن لا يدل على أنهن أعلم به من الرجال وإلا كانت كل آية نزلت في النساء تكون النساء أعلم بها من الرجال ويجب على الرجال تقليدهن في معناها وحكمها فيكن أعلم من الرجال بآية الرضاع وآية الحيض وتحريم وطء الحائض وآية عدة المتوفى عنها وآية الحمل والفصال ومدتهما وآية تحريم إبداء الزينة إلا لمن ذكر فيها وغير ذلك من الآيات التي تتعلق بهن وفي شأنهن نزلت ويجب على الرجال تقليدهن في حكم هذه الآيات ومعناها وهذا لا سبيل إليه البتة وكيف ومدار العلم بالوحي على الفهم والمعرفة ووفور العقل والرجال أحق بهذا من النساء وأوفر نصيبا منه بل لا يكاد يختلف الرجال والنساء في مسألة إلا والصواب في جانب الرجال وكيف يقال : إذا اختلفت عائشة وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود في مسألة : إن الأخذ بقول عائشة رضي الله عنها أولى وهل الأولى إلا قول فيه خليفتان راشدان ؟ وإن كان الصديق معهما كما حكي عنه فذلك القول مما لا يعدوه الصواب البتة فإن النقل عن عمر وعلي ثابت وأما عن الصديق ففيه غرابة ويكفينا قول جماعة من الصحابة فيهم مثل : عمر وعلي وابن مسعود وأبي الدرداء وأبي موسى فكيف نقدم قول أم المؤمنين وفهمها على أمثال هؤلاء ؟
ثم يقال : فهذه عائشة رضي الله عنها ترى رضاع الكبير ينشر الحرمة ويثبت المحرمية ومعها جماعة من الصحابة رضي الله عنهم وقد خالفها غيرها من الصحابة وهي روت حديث التحريم به فهلا قلتم : النساء أعلم بهذا من الرجال ورجحتم قولها على قول من خالفها ؟
ونقول لأصحاب مالك رحمه الله : وهذه عائشة رضي الله عنها لا ترى التحريم إلا بخمس رضعات ومعها جماعة من الصحابة وروت فيه حديثين فهلا قلتم : النساء أعلم بهذا من الرجال وقدمتم قولها على قول من خالفها ؟
فإن قلتم : هذا حكم يتعدى إلى الرجال فيستوي النساء معهم فيه قيل : ويتعدى حكم العدة مثله إلى الرجال فيجب أن يستوي النساء معهم فيه وهذا لا خفاء به ثم يرجح قول الرجال في هذه المسألة بأن رسول الله صلى الله عليه و سلم شهد لواحد من هذا الحزب بأن الله ضرب الحق على لسانه وقلبه وقد وافق ربه تبارك وتعالى في عدة مواضع قال فيها قولا فنزل القرآن بمثل ما قال وأعطاه النبي صلى الله عليه و سلم فضل إنائه في النوم وأوله بالعلم وشهد له بأنه محدث ملهم فإذا لم يكن بد من التقليد فتقليده أولى وإن كانت الحجة هي التي تفصل بين المتنازعين فتحكيمها هو الواجب
قولكم : إن من قال : إن الأقراء الحيض لا يقولون بقول علي وابن مسعود ولا بقول عائشة فإن عليا يقول : هو أحق برجعتها ما لم تغتسل وأنتم لا تقولون بواحد من القولين فهذا غايته أن يكون تناقضا ممن لا يقول بذلك كأصحاب أبي حنيفة وتلك شكاة ظاهر عنك عارها عمن يقول بقول علي وهو الإمام أحمد وأصحابه كما تقدم حكاية ذلك فإن العدة تبقى عنده إلى أن تغتسل كما قاله علي ومن وافقه ونحن نعتذر عمن يقول : الأقراء الحيض في ذلك ولا يقول : هو أحق بها ما لم تغتسل فإنه وافق من يقول : الأقراء الحيض في ذلك وخالفه في توقف انقضائها على الغسل لمعارض أوجب له مخالفته كما يفعله سائر الفقهاء ولو ذهبنا نعد ما تصرفتم فيه هذا التصرف بعينه فإن كان هذا المعارض صحيحا لم يكن تناقضا منهم وإن لم يكن صحيحا لم يكن ضعيف قولهم في إحدى المسألتين عندهم بمانع لهم من موافقتهم لهم في المسألة الأخرى فإن موافقة أكابر الصحابة وفيهم من فيهم من الخلفاء الراشدين في معظم قولهم خير وأولى من مخالفتهم في قولهم جميعه وإلغائه بحيث لا يعتبر البتة
قالوا : ثم لم نخالفهم في توقف انقضائها على الغسل بل قلنا : لا تنقضي حتى تغتسل أو يمضي عليها وقت صلاة فوافقناهم في قولهم بالغسل وزدنا عليهم انقضاءها بمضي وقت الصلاة لأنها صارت في حكم الطاهرات بدليل استقرار الصلاة في ذمتها فأين المخالفة الصريحة للخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم
وقولكم : لا نجد في كتاب الله للغسل معنى فيقال : كتاب الله تعالى لم يتعرض للغسل بنفي ولا إثبات وإنما علق الحل والبينونة بانقضاء الأجل
وقد اختلف السلف والخلف فيما ينقضي به الأجل فقيل : بانقطاع الحيض وقيل : بالغسل أو مضي صلاة أو انقطاعه لأكثره وقيل : بالطعن في الحيضة الثالثة وحجة من وقفه على الغسل قضاء الخلفاء الراشدين قال الإمام أحمد : عمر وعلي وابن مسعود يقولون : حتى تغتسل من الحيضة الثالثة قالوا : وهم أعلم بكتاب الله وحدود ما أنزل على رسوله وقد روي هذا المذهب عن أبي بكر الصديق وعثمان بن عفان وأبي موسى وعبادة وأبي الدرداء حكاه صاحب المغني وغيره عنهم ومن هاهنا قيل : إن مذهب الصديق ومن ذكر معه أن الأقراء : الحيض
قالوا : وهذا القول له حظ وافر من الفقه فإن المرأة إذا انقطع حيضها صارت في حكم الطاهرات من وجه وفي حكم الحيض من وجه والوجوه التي هي فيها في حكم الحيض أكثر من الوجوه التي هي فيها في حكم الطاهرات فإنها في حكم الطاهرات في صحة الصيام ووجوب الصلاة وفي حكم الحيض في تحريم قراءة القرآن عند من حرمه على الحائض واللبث في المسجد والطواف بالبيت وتحريم الوطء وتحريم الطلاق في أحد القولين فاحتاط الخلفاء الراشدون وأكابر الصحابة للنكاح ولم يخرجوها منه بعد ثبوته إلا بقيد لا ريب فيه وهو ثبوت حكم الطاهرات في حقها من كل وجه إزالة لليقين بيقين مثله إذ ليس جعلها حائضا في تلك الأحكام أولى من جعلها حائضا في بقاء الزوجية وثبوت الرجعة وهذا من أدق الفقه وألطفه مأخذا
قالوا : وأما قول الأعشى :
( لما ضاع فيها من قروء نسائكا ... )
فغايته استعمال القروء في الطهر ونحن لا ننكره
قولكم : إن الطهر أسبق من الحيض فكان أولى بالإسم فترجيح طريف جدا فمن أين يكون أولى بالإسم إذا كان سابقا في الوجود ؟ ثم ذلك السابق لا يسمى قرءا ما لم يسبقه دم عند جمهور من يقول : الأقراء الأطهار وهل يقال في كل لفظ مشترك : إن أسبق معانيه إلى الوجود أحق به فيكون عسعس من قوله : { والليل إذا عسعس } [ التكوير : 17 ] أولى بكونه لإقبال الليل لسبقه في الوجود فإن الظلام سابق على الضياء
وأما قولكم : إن النبي صلى الله عليه و سلم فسر القروء بالأطهار فلعمر الله لو كان الأمر كذلك لما سبقتمونا إلى القول بأنها الأطهار ولبادرنا إلى هذا القول اعتقادا وعملا وهل المعول إلا على تفسيره وبيانه :
( تقول سليمى لو أقمتم بأرضنا ... ولم تدر أني للمقام أطوف )
فقد بينا من صريح كلامه ومعناه ما يدل على تفسيره للقروء بالحيض وفي ذلك كفاية (5/546)
فصل
في الأجوبة عن اعتراضكم على أدلتنا
قولكم في الإعتراض على الإستدلال بقوله : ثلاثة قروء فإنه يقتضي أن تكون كوامل أي : بقية الطهر قرء كامل فهذا ترجمة المذهب والشأن في كونه قرءا في لسان الشارع أو في اللغة فكيف تستدلون علينا بالمذهب مع منازعة غيركم لكم فيه ممن يقول : الأقراء : الأطهار كما تقدم ؟ ولكن أوجدونا في لسان الشارع أو في لغة العرب أن اللحظة من الطهر تسمى قرءا كاملا وغاية ما عندكم أن بعض من قال : القروء الأطهار لا كلهم يقولون : بقية القرء المطلق فيه قرء وكان ماذا ؟ ! كيف وهذا الجزء يبن الطهر بعض طهر بلا ريب ؟ فإذا كان مسمى القرء في الآية هو الطهر وجب أن يكون هذا بعض قرء يقينا أو يكون القرء مشتركا بين الجميع والبعض وقد تقدم إبطال ذلك وأنه لم لقل به أحد
قولكم : إن العرب توقع اسم الجمع على اثنين وبعض الثالث جوابه من وجوه
أحدها : أن هذا إن وقع فإنما يقع في أسماء الجموع التي هي ظواهر في مسماها وأما صيغ العدد التي هي نصوص في مسماها فكلا ولما ولم ترد صيغة العدد إلا مسبوقة بمسماها كقوله : { إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله } [ التوبة : 36 ] وقوله : { ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا } [ الكهف : 25 ] وقوله : { فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة } [ البقرة : 196 ] وقوله : { سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما } [ الحاقة : 7 ] ونظائره مما لا يراد به في موضع واحد دون مسماه من العدد وقوله : { ثلاثة قروء } اسم عدد ليس بصيغة جمع فلا يصح إلحاقه بأشهر معلومات لوجهين
أحدهما : أن اسم العدد نص في مسماه لا يقبل التخصيص المنفصل بخلاف الإسم العام فإنه يقبل التخصيص المنفصل فلا يلزم من التوسع في الإسم الظاهر التوسع في الإسم الذي هو نص فيما يتناوله
الثاني : أن اسم الجمع يصح استعماله في اثنين فقط مجازا عند الأكثرين وحقيقة عنهد بعضهم فصحة استعماله في اثنين وبعض الثالث أولى بخلاف الثلاثة ولهذا لما قال الله تعالى : { فإن كان له إخوة فلأمه السدس } [ النساء : 11 ] حمله الجمهور على أخوين ولما قال : { فشهادة أحدهم أربع شهادات } [ النور : 6 ] لم يحملها أحد على ما دون الأربع
والجواب الثاني : أنه وإن صح استعمال الجمع في اثنين وبعض الثالث إلا أنه مجاز والحقيقة أن يكون المعنى على رفق اللفظ وإذا دار اللفظ بين حقيقته ومجازه فالحقيقة أولى به
الجواب الثالث : أنه إنما جاء الجمع في اثنين وبعض الثالث في أسماء الأيام والشهور والأعوام خاصة لأن التاريخ إنما يكون في أثناء هذه الأزمنة فتارة يدخلون السنة الناقصة في التاريخ وتارة لا يدخلونها وكذلك الأيام وقد توسعوا في ذلك ما لم يتوسعوا في غيره فأطلقوا الليالي وأرادوا الأيام معها تارة وبدونها أخرى وبالعكس
الجواب الرابع : أن هذا التجوز جاء في جمع القلة وهو قوله : { الحج أشهر معلومات } [ البقرة : 197 ] وقوله : { ثلاثة قروء } جمع كثرة وكان من الممكن أن يقال : ثلاثة أقراء إذ هو الأغلب على الكلام بل هو الحقيقة عند أكثر النحاة والعدول عن صيغة القلة إلى صيغة الكثرة لا بد له من فائدة ونفي التجوز في هذا الجمع يصلح أن يكون فائدة ولا يظهر غيرها فوجب اعتبارها
الجواب الخامس : أن اسم الجمع إنما يطلق على اثنين وبعض الثالث فيما يقبل التبعيض وهو اليوم والشهر والعام ونحو ذلك دون ما لا يقبله والحيض والطهر لا يتبعضان ولهذا جعلت عدة الأمة ذات الأقراء قرءين كاملين بالإتفاق ولو أمكن تنصيف القرء لجعلت قرءا ونصفا هذا مع قيام المقتضي للتبعيض فأن لا يجوز التبعيض مع قيام المقتضي للتكميل أولى وسر المسألة أن القرء ليس لبعضه حكم في الشرع
الجواب السادس : أنه سبحانه قال في الآيسة والصغيرة : { فعدتهن ثلاثة أشهر } ثم اتفقت الأمة على أنها ثلاثة كوامل وهي بدل عن الحيض فتكميل المبدل أولى
قولكم : إن أهل اللغة يصرحون بأن له مسميين : الحيض والطهر لا ننازعكم فيه ولكن حمله على الحيض أولى للوجوه التي ذكرناها والمشترك إذا اقترن به قرائن ترجح أحد معانيه وجب الحمل على الراجح
قولكم : إن الطهر الذي لم يسبقه دم قرء على الأصح فهذا ترجيح وتفسير للفظه بالمذهب وإلا فلا يعرف في لغة العرب قط أن طهر بنت أربع سنين يسمى قرءا ولا تسمى من ذوات الأقراء لا لغة ولا عرفا ولا شرعا فثبت أن الدم داخل في مسمى القرء ولا يكون قرءا إلا مع وجوده
قولكم : إن الدم شرط للتسمية كالكأس والقلم وغيرهما من الألفاظ المذكورة تنظير فاسد فإن مسمى تلك الألفاظ حقيقة واحدة مشروطة بشروط والقرء مشترك بين الطهر والحيض يقال : على كل منهما حقيقة فالحيض مسماه حقيقة لا أنه شرط في استعماله في أحد مسمييه فافترقا
قولكم : لم يجئ في لسان الشارع للحيض قلنا قد بينا مجيئه في كلامه للحيض بل لم يجئ في كلامه للطهر البتة في موضع واحد وقد تقدم أن سفيان بن عيينة روى عن أيوب عن سليمان بن يسار عن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه و سلم في المستحاضة [ تدغ الصلاة أيام أقرائها ]
قولكم : إن الشافعي قال : ما حدث بهذا سفيان قط جوابه أن الشافعي لم يسمع سفيان يحدث به فقال بموجب ما سمعه من سفيان أو عنه من قوله : لتنظر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر وقد سمعه من سفيان من لا يستراب بحفظه وصدقه وعدالته وثبت في السنن من حديث فاطمة بنت أبي حبيش أنها سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم فشكت إليه الدم فقال لها رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إنما ذلك عرق فانظري فإذا أتى قرؤك فلا تصلي وإذا مر قرؤك فتطهري ثم صلي ما بين القرء إلى القرء ] رواه أبو داود بإسناد صحيح فذكر فيه لفظ القرء أربع مرات في كل ذلك يريد به الحيض لا الطهر وكذلك إسناد الذي قبله وقد صححه جماعة من الحفاظ
وأما حديث سفيان الذي قال فيه : لتنظر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر فلا تعارض بينه وبين اللفظ الذي احتججنا به بوجه ما حتى يطلب ترجيح أحدهما على الآخر بل أحد اللفظين يجري من الآخر مجرى التفسير والبيان وهذا يدل على أن القرء اسم لتلك الليالي والأيام فإنه إن كانا جميعا لفظ رسول الله صلى الله عليه و سلم - وهو الظاهر - فظاهر وإن كان قد روي بالمعنى فلو لا أن معنى أحد اللفظين معنى الآخر لغة وشرعا لم يحل للراوي أن يبدل لفظ رسول الله صلى الله عليه و سلم بما لا يقوم مقامه ولا يسوغ له أن يبدل اللفظ بما يوافق مذهبه ولا يكون مرادفا للفظ رسول الله صلى الله عليه و سلم لا سيما والراوي لذلك من لا يدفع عن الإمامة والصدق والورع وهو أيوب السختياني وهو أجل من نافع وأعلم
وقد روى عثمان بن سعد الكاتب حدثنا ابن أبي مليكة قال : جاءت خالتي فاطمة بنت أبي حبيش إلى عائشة رضي الله عنها فقالت : إني أخاف أن أقع في النار أدع الصلاة السنة والسنتين قالت : انتظري حتى يجيء رسول الله صلى الله عليه و سلم فجاء فقالت عائشة رضي الله عنها : هذه فاطمة تقول : كذا وكذا قال : [ قولي لها فلتدع الصلاة في كل شهر أيام قرئها ] قال الحاكم : هذا حديث صحيح وعثمان بن سعد الكاتب بصري ثقة عزيز الحديث يجمع حديثه قال البيهقي : وتكلم فيه غير واحد وفيه : أنه تابعه الحجاج بن أرطاة عن ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها
وفي المسند : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لفاطمة : [ إذا أقبلت أيام أقرائك فأمسكي عليك ] الحديث
وفي سنن أبي داود من حديث عدي بن ثابت عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه و سلم في المستحاضة [ تدع الصلاة أيام أقرائها ثم تغتسل وتصلي ]
وفي سننه أيضا : أن فاطمة بنت أبي حبيش سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم فشكت إليه الدم فقال لها رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إنما ذلك عرق فانظري فإذا أتى قرؤك فلا تصلي فإذا مر قرؤك فتطهري ثم صلي ما بين القرء إلى القرء ] وقد تقدم
قال أبو داود : وروى قتادة عن عروة عن زينب عن أم سلمة رضي الله عنها أن أم حبيبة بنت جحش رضي الله عنها استحيضت فأمرها النبي صلى الله عليه و سلم أن تدع الصلاة أيام أقرائها
وتعليل هذه الأحاديث بأن هذا من تغيير الرواة رووه بالمعنى لا يلتفت إليه ولا يعرج عليه فلو كانت من جانب من عللها لأعاد ذكرها وأبداه وشنع على من خالفها
وأما قولكم : إن الله سبحانه وتعالى جعل اليأس من الحيض شرطا في الإعتداد بالأشهر فمن أين يلزم أن تكون القروء هي الحيض ؟ قلنا : لأنه جعل الأشهر الثلاثة بدلا عن الأقراء الثلاثة وقال : { واللائي يئسن من المحيض من نسائكم } [ الطلاق : 4 ] فنقلهن إلى الأشهر عند تعذر مبدلهن وهو الحيض فدل على أن الاشهر بدل عن الحيض الذي يئسن منه لا عن الطهر وهذا واضح
قولكم : حديث عائشة رضي الله عنها معلول بمظاهر بن أسلم ومخالفة عائشة له فنحن إنما احتججنا عليكم بما استدللتم به علينا في كون الطلاق بالنساء لا بالرجال فكل من صنف من أصحابكم في طريق الخلاف أو استدل على أن طلاق العبد طلقتان احتج علينا بهذا الحديث وقال : جعل النبي صلى الله عليه و سلم طلاق العبد تطليقتين فاعتبر الطلاق بالرجال لا بالنساء واعتبر العدة بالنساء فقال : وعدة الأمة حيضتان فيا سبحان الله يكون الحديث سليما من العلل إذا كان حجة لكم فإذا احتج به منازعوكم عليكم اعتورته العلل المختلفة فما أشبهه بقول القائل :
( يكون أجاجا دونكم فإذا انتهى ... إليكم تلقى نشركم فيطيب )
فنحن إنما كلنا لكم بالصاع الذي كلتم به بخسا ببخس وإيفاء بإيفاء ولا ريب أن مظاهرا ممن لا يحتج به لكن لا يمتنع أن يعتضد بحديثه ويقوى به والدليل غيره
وأما تعليله بخلاف عائشة رضي الله عنها له فأين ذلك من تقريركم أن مخالفة الراوي لا توجب رد حديثه وأن الإعتبار بما رواه لا بما رآه وتكثركم من الأمثلة التي أخذ الناس فيها بالرواية دون مخالفة راويها لها كما أخذوا برواية ابن عباس المتضمنة لبقاء النكاح مع بيع الزوجة وتركوا رأيه بأن بيع الأمة طلاقها وغير ذلك
وأما ردكم لحديث ابن عمر رضي الله عنه : [ طلاق الأمة طلقتان وقرؤها حيضتان ] بعطية العوفي فهو وإن ضعفه أكثر أهل الحديث فقد احتمل الناس حديثه وخرجوه في السنن وقال يحيى بن معين في رواية عباس الدوري عنه : صالح الحديث وقال أبو أحمد بن عدي رحمه الله : روى عنه جماعة من الثقات وهو مع ضعفه يكتب حديثه فيعتضد به وإن لم يعتمد عليه وحده
وأما ردكم الحديث بأن ابن عمر مذهبه : أن القروء الأطهار فلا ريب أن هذا يورث شبهة في الحديث ولكن ليس هذا بأول حديث خالفه راويه فكان الإعتبار بما رواه لا بما ذهب إليه وهذا هو الجواب عن ردكم لحديث عائشة رضي الله عنها بمذهبها ولا يعترض على الأحاديث بمخالفة الرواة لها
وأما ردكم لحديث المختلعة وأمرها أن تعتد بحيضة فإنا لا نقول به فللناس في هذه المسألة قولان وهما روايتان عن أحمد أحدهما : أن عدتها ثلاث حيض كقول الشافعي ومالك وأبي حنيفة والثاني : أن عدتها حيضة وهو قول أمير المؤمنين عثمان بن عفان وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وهو مذهب أبان بن عثمان وبه يقول إسحاق بن راهويه وابن المنذر وهذا هو الصحيح في الدليل والأحاديث الواردة فيه لا معارض لها والقياس يقتضيه حكما وسنبين هذه المسألة عند ذكر حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم في عدة المختلعة
قالوا : ومخالفتنا لحديث اعتداد المختلعة بحيضة في بعض ما اقتضاه من جواز الإعتداد بحيضة لا يكون عذرا لكم في مخالفة ما اقتضاه من أن القروء الحيض فنحن وإن خالفناه في حكم فقد وافقناه في الحكم الآخر وهو أن القرء الحيض وأنتم خالفتموه في الأمرين جميعا هذا مع أن من يقول : الأقراء الحيض ويقول : المختلعة تعتد بحيضة قد سلم من هذه المطالبة فماذا تردون به قوله ؟
وأما قولكم في الفرق بين الإستبراء والعدة : إن العدة وجبت قضاء لحق الزوج فاختصت بزمان حقه كلام لا تحقيق وراءه فإن حقه في جنس الإستمتاع في زمن الحيض والطهر وليس حقه مختصا بزمن الطهر ولا العدة مختصة بزمن الطهر دون الحيض وكلا الوقتين محسوب من العدة وعدم تكرر الإستبراء لا يمنع أن يكون طهرا محتوشا بدمين كقرء المطلقة فتبين أن الفرق غير طائل
قولكم : إن انضمام قرءين إلى الطهر الذي جامع فيه يجعله علما جوابه أن هذا يفضي إلى أن تكون العدة قرءين حسب فإن ذلك الذي جامع فيه لا دلالة له على البراءة البتة وإنما الدال القرآن بعده وهذا خلاف موجب النص وهذا لا يلزم من جعل الأقراء الحيض فإن الحيضة وحدها علم ولهذا اكتفي بها في استبراء الإماء
قولكم : إن القرء هو الجمع والحيض يجتمع في زمان الطهر فقد تقدم جوابه وأن ذلك في المعتل لا في المهموز
قولكم : دخول التاء في ثلاثة يدل على أن واحدها مذكر وهو الطهر جوابه أن واحد القروء قرء وهو مذكر فأتى بالتاء مراعاة للفظه وإن كان مسماه حيضة وهذا كما يقال : جاءني ثلاثة أنفس وهن نساء باعتبار اللفظ والله أعلم (5/569)
فصل
وقد احتج بعموم آيات العدد الثلاث من يرى أن عدة الحرة والأمة سواء قال أبو محمد ابن حزم : وعدة الأمة المتزوجة من الطلاق والوفاة كعدة الحرة سواء بسواء ولا فرق لأن الله تعالى علمنا العدد في الكتاب فقال : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } [ البقرة : 228 ] وقال : { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا } [ البقرة : 234 ] وقال الله تعالى : { واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } [ الطلاق : 4 ] وقد علم الله تعالى إذ أباح لنا زواج الإماء أنه يكون عليهن العدد المذكورات وما فرق عز و جل بين حرة ولا أمة في ذلك وما كان ربك نسيا
وثبت عمن سلف مثل قولنا : قال محمد بن سيرين رحمه الله : ما أرى عدة الأمة إلا كعدة الحرة إلا أن يكون مضت في ذلك سنة فالسنة أحق أن تتبع قال : وقد ذكر أحمد بن حنبل أن قول مكحول : إن عدة الأمة في كل شئ كعدة الحرة وهو قول أبي سليمان وجميع أصحابنا هذا كلامه وقد خالفهم في ذلك جمهور الأمة فقالوا : عدتها نصف عدة الحرة هذا قول فقهاء المدينة : سعيد بن المسيب والقاسم وسالم وزيد بن أسلم وعبد الله بن عتبة والزهري ومالك وفقهاء أهل مكة : كعطاء بن أبي رباح ومسلم بن خالد وغيرهما وفقهاء البصرة : كقتادة وفقهاء الكوفة كالثوري وأبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله وفقهاء الحديث كأحمد وإسحاق والشافعي وأبي ثور رحمهم الله وغيرهم وسلفهم في ذلك الخليفتان الراشدان : عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما صح ذلك عنهما وهو قول عبد الله بن عمر رضي الله عنه كما رواه مالك عن نافع عنه : عدة الأمة حيضتان وعدة الحرة ثلاث حيض وهو قول زيد بن ثابت كما رواه الزهري عن قبيصة بن ذؤيب عن زيد بن ثابت : عدة الأمة حيضتان وعدة الحرة ثلاث حيض وروى حماد بن زيد عن عمرو بن أوس الثقفي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : لو استطعت أن أجعل عدة الأمة حيضة ونصفا لفعلت فقال له رجل : يا أمير المؤمنين ! فاجعلها شهرا ونصفا
وقال عبد الرزاق : حدثنا ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : جعل لها عمر رضي الله عنه حيضتين يعني : الأمة المطلقة
وروى عبد الرزاق أيضا : عن ابن عيينة عن محمد بن عبد الرحمن عن سليمان بن يسار عن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن عمر رضي الله عنه : ينكح العبد اثنتين ويطلق تطليقتين وتعتد الأمة حيضتين فإن لم تحض فشهرين أو قال : فشهرا ونصفا
وذكر عبد الرزاق أيضا : عن معمر عن المغيرة عن إبراهيم النخعي عن ابن مسعود قال : يكون عليها نصف العذاب ولا يكون لها نصف الرخصة
وقال ابن وهب : أخبرني رجال من أهل العلم : أن نافعا وابن قسيط ويحيى بن سعيد وربيعة وغير واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم والتابعين قالوا : عدة الأمة حيضتان قالوا : ولم يزل هذا عمل المسلمين
قال ابن وهب : أخبرني هشام بن سعد عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم قال : عدة الأمة حيضتان
قال القاسم : مع أن هذا ليس في كتاب الله عز و جل ولا نعلمه سنة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ولكن قد مضى أمر الناس على هذا وقد تقدم هذا الحديث بعينه وقول القاسم وسالم فيه لرسول الأمير قل له : إن هذا ليس في كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم ولكن عمل به المسلمون قالوا : ولو لم يكن في المسألة إلا قول عمر وابن مسعود وزيد بن ثابت وعبد الله بن عمر لكفى به
وفي قول ابن مسعود رضي الله عنه : تجعلون عليها نصف العذاب ولا تجعلون لها نصف الرخصة دليل على اعتبار الصحابة للأقيسة والمعاني وإلحاق النظير بالنظير
ولما كان هذا الأثر مخالفا لقول الظاهرية في الأصل والفرع طعن ابن حزم فيه وقال : لا يصح عن ابن مسعود : قال : وهذا بعيد على رجل من عرض الناس فكيف عن مثل ابن مسعود ؟ وإنما جرأه على الطعن فيه أنه من رواية إبراهيم النخعي عنه رواه عبد الرزاق عن معمر عن المغيرة عن إبراهيم وإبراهيم لم يسمع من عبد الله ولكن الواسطة بينه وبينه أصحاب عبد الله كعلقمة ونحوه وقد قال إبراهيم : إذا قلت : قال عبد الله فقد حدثني به غير واحد عنه وإذا قلت : قال فلان عنه فهو عمن سميت أو كما قال ومن المعلوم : أن بين إبراهيم وعبد الله أئمة ثقات لم يسم قط متهما ولا مجروحا ولا مجهولا فشيوخه الذين أخذ عنهم عن عبد الله أئمة أجلاء نبلاء وكانوا كما قيل : سرج الكوفة وكل من له ذوق في الحديث إذا قال إبراهيم : قال عبد الله لم يتوقف في ثبوته عنه وإن كان غيره ممن في طبقته لو قال : قال عبد الله لا يحصل لنا الثبت بقوله فإبراهيم عن عبد الله نظير ابن المسيب عن عمر ونظير مالك عن ابن عمر فإن الوسائط بين هؤلاء وبين الصحابة رضي الله عنهم إذا سموهم وجدوا من أجل الناس وأوثقهم وأصدقهم ولا يسمون سواهم البتة ودع ابن مسعود في هذه المسألة فكيف يخالف عمر وزيدا وابن عمر وهم أعلم بكتاب الله وسنة رسوله ويخالف عمل المسلمين لا إلى قول صاحب البتة ولا إلى حديث صحيح ولا حسن بل إلى عموم أمره ظاهر عند جميع الأمة ليس هو مما تخفى دلالته ولا موضعه حتى يظفر به الواحد والإثنان دون سائر الناس هذا من أبين المحال
ولو ذهبنا نذكر الآثار عن التابعين بتنصيف عدة الأمة لطالت جدا ثم إذا تأملت سياق الآيات التي فيها ذكر العدد وجدتها لا تتناول الإماء وإنما تتناول الحرائر فإنه سبحانه قال : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف } [ البقرة : 228 ] إلى أن قال : { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به } [ البقرة : 229 ] وهذا في حق الحرائر دون الإماء فإن افتداء الأمة إلى سيدها لا إليها ثم قال : { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا } [ البقرة : 230 ] فجعل ذلك إليهما والتراجع المذكور في حق الأمة وهو العقد إنما هو إلى سيدها لا إليها بخلاف الحرة فإنه إليها بإذن وليها وكذلك قوله سبحانه في عدة الوفاة { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف } [ البقرة : 234 ] وهذا إنما هو في حق الحرة وأما الأمة فلا فعل لها في نفسها البتة فهذا في العدة الأصلية وأما عدة الأشهر ففرع وبدل وأما عدة وضع الحمل فيستويان فيها كما ذهب إليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم والتابعون وعمل به المسلمون وهو محض الفقه وموافق لكتاب الله في تنصيف الحد عليها ولا يعرف في الصحابة مخالف في ذلك وفهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الله أولى من فهم من شذ عنهم من المتأخرين وبالله التوفيق
ولا تعرف التسوية بين الحرة والأمة في العدة عن أحد من السلف إلا عن محمد بن سيرين ومكحول فأما ابن سيرين فلم يجزم بذلك وأخبر به عن رأيه وعلق القول به على عدم سنة تتبع وأما قول مكحول فلم يذكر له سندا وإنما حكاه عنه أحمد رحمه الله وهو لا يقبل عند أهل الظاهر ولا يصح فلم يبق معكم أحد من السلف إلا رأي ابن سيرين وحده المعلق على عدم سنة متبعة ولا ريب أن سنة عمر بن الخطاب رضى الله عنه في ذلك متبعة ولم يخالفه في ذلك أحد من الصحابة رضي الله عنهم والله أعلم
فإن قيل : كيف تدعون إجماع الصحابة وجماهير الأمة وقد صح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن عدة الأمة التي لم تبلغ ثلاثة أشهر وصح ذلك عن عمر بن عبد العزيز ومجاهد والحسن وربيعة والليث بن سعد والزهري وبكر بن الأشج ومالك وأصحابه وأحمد بن حنبل في إحدى الروايات عنه
ومعلوم أن الأشهر في حق الآيسة والصغيرة بدل عن الأقراء الثلاث فدل على أن بدلها في حقها ثلاثة
فالجواب : أن القائلين بهذا هم بأنفسهم القائلون : إن عدتها حيضتان وقد أفتوا بهذا وهذا ولهم في الإعتداد بالأشهر ثلاثة أقوال وهي للشافعي وهي ثلاث روايات عن أحمد فأكثر الروايات عنه أنها شهران رواه عنه جماعة من أصحابه وهو إحدى الروايتين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذكرها الأثرم وغيره عنه
وحجة هذا القول : أن عدتها بالأقراء حيضتان فجعل كل شهر مكان حيضة
والقول الثاني : أن عدتها شهر ونصف نقلها عنه الأثرم والميموني وهذا قول علي بن أبي طالب وابن عمر وابن المسيب وأبي حنيفة والشافعي في أحد أقواله وحجته : أن التنصيف في الأشهر ممكن فتنصفت بخلاف القروء ونظير هذا : أن المحرم إذا وجب عليه في جزاء الصيد نصف مد أخرجه فإن أراد الصيام مكانه لم يجزه إلا صوم يوم كامل
والقول الثالث : أن عدتها ثلاثة أشهر كوامل وهو إحدى الروايتين عن عمر رضي الله عنه وقول ثالث للشافعي : وهو فيمن ذكرتموه
والفرق عند هؤلاء بين اعتدادها بالأقراء وبين اعتدادها بالشهور أن الإعتبار بالشهور للعلم ببراءة رحمها وهو لا يحصل بدون ثلاثة أشهر في حق الحرة والأمة جميعا لأن الحمل يكون نطفة أربعين يوما ثم علقة أربعين ثم مضغة أربعين وهو الطور الثالث الذي يمكن أن يظهر فيه الحمل وهو بالنسبة إلى الحرة والأمة سواء بخلاف الأقراء فإن الحيضة الواحدة علم ظاهر على الإستبراء ولهذا اكتفي بها في حق المملوكة فإذا زوجت فقد أخذت شبها من الحرائر وصارت أشرف من ملك اليمين فجعلت عدتها بين العدتين
قال الشيخ في المغني : ومن رد هذا القول قال : هو مخالف لإجماع الصحابة لأنهم اختلفوا على القولين الأولين ومتى اختلفوا على قولين لم يجز إحداث قول ثالث لأنه يفضي إلى تخطئتهم وخروج الحق عن قول جميعهم قلت : وليس في هذا إحداث قول ثالث بل هو إحدى الروايتين عن عمر ذكره ابن وهب وغيره وقال به من التابعين من ذكرناهم وغيرهم (5/577)
فصل
وأما عدة الآيسة والتي لم تحض فقد بينها سبحانه في كتابه فقال : { واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن } [ الطلاق : 4 ] وقد اضطرب الناس في حد الإياس اضطرابا شديدا فمنهم من حده بخمسين سنة وقال : لا تحيض المرأة بعد الخمسين وهذا قول إسحاق ورواية عن أحمد رحمه الله واحتج أرباب هذا القول بقول عائشة رضي الله عنها : إذا بلغت خمسين سنة خرجت من حد الحيض وحده طائفة بستين سنة وقالوا : لا تحيض بعد الستين وهذه رواية ثانية عن أحمد وعنه رواية ثالثة : الفرق بين نساء العرب وغيرهم فحده ستون في نساء العرب وخمسون في نساء العجم وعنه رواية رابعة : أن ما بين الخمسين والستين دم مشكوك فيه تصوم وتصلي وتقضي الصوم المفروض وهذه اختيار الخرقي وعنه رواية خامسة : أن الدم إن عاود بعد الخمسين وتكرر فهو حيض وإلا فلا
وأما الشافعي رحمه الله فلا نص له في تقدير الإياس بمدة وله قولان بعد أحدهما : أنه يعرف بيأس أقاربها والثاني : أنه يعتبر بيأس جميع النساء فعلى القول الأول : هل المعتبر جميع أقاربها أو نساء عصباتها أو نساء بلدها خاصة ؟ فيه ثلاثة أوجه ثم إذا قيل : يعتبر بالأقارب فاختلفت عادتهن فهل يعتبر بأقل عادة منهن أو بأكثرهن عادة أو بأقصر امرأة في العالم عادة ؟ على ثلاثة أوجه والقول الثاني للشافعي رحمه الله : أن المعتبر جميع النساء ثم اختلف أصحابه : هل لذلك حد أم لا ؟ على وجهين : أحدهما : ليس له حد وهو ظاهر نصه والثاني : له حد ثم اختلفوا فيه على وجهين أحدهما : أنه ستون سنة قاله أبو العباس بن القاص والشيخ أبو حامد والثاني : اثنان وستون سنة قاله الشيخ أبو إسحاق في المهذب وابن الصباغ في الشامل
وأما أصحاب مالك رحمه الله فلم يحدوا سن الإياس بحد البتة
وقال آخرون منهم شيخ الإسلام ابن تيمية : اليأس يختلف باختلاف النساء وليس له حد يتفق فيه النساء والمراد بالآية أن يأس كل امرأة من نفسها لأن اليأس ضد الرجاء فإذا كانت المرأة قد يئست من الحيض ولم ترجه فهي آيسة وإن كان لها أربعون أو نحوها وغيرها لا تيأس منه وإن كان لها خمسون
وقد ذكر الزبير بن بكار : أن بعضهم قال : لا تلد لخمسين سنة إلا عربية ولا تلد لستين سنة إلا قرشية وقال : إن هند بنت أبي عبيدة بن عبد الله بن ربيعة ولدت موسى بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم ولها ستون سنة وقد صح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في امرأة طلقت فحاضت حيضة أو حيضتين ثم يرتفع حيضها لا تدري ما رفعه أنها تتربص تسعة أشهر فإن استبان بها حمل وإلا اعتدت ثلاثة أشهر وقد وافقه الأكثرون على هذا منهم مالك وأحمد والشافعي في القديم قالوا : تتربص غالب مدة الحمل ثم تعتد عدة الآيسة ثم تحل للأزواج ولو كانت بنت ثلاثين سنة أو أربعين وهذا يقتضي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن وافقه من السلف والخلف تكون المرأة آيسة عندهم قبل الخمسين وقبل الأربعين وأن اليأس عندهم ليس وقتا محدودا للنساء بل مثل هذه تكون آيسة وإن كانت بنت ثلاثين وغيرها لا تكون آيسة وإن بلغت خمسين وإذا كانوا فيمن ارتفع حيضها ولا تدري ما رفعه جعلوها آيسة بعد تسعة أشهر فالتي تدري ما رفعه إما بدواء يعلم أنه لا يعود معه وإما بعادة مستقرة لها من أهلها وأقاربها أولى أن تكون آيسة وإن لم تبلغ الخمسين وهذا بخلاف ما إذا ارتفع لمرض أو رضاع أو حمل فإن هذه ليست آيسة فإن ذلك يزول
فالمراتب ثلاثة أحدها : أن ترتفع ليأس معلوم متيقن بأن تنقطع عاما بعد عام ويتكرر انقطاعه أعواما متتابعة ثم يطلق بعد ذلك فهذه تتربص ثلاثة أشهر بنص القرآن سواء كانت بنت أربعين أو أقل أو أكثر وهي أولى بالتربص بثلاثة أشهر من التي حكم فيها الصحابة والجمهور بتربصها تسعة أشهر ثم ثلاثة فإن تلك كانت تحيض وطلقت وهي حائض ثم ارتفع حيضها بعد طلاقها لا تدري ما رفعه فإذا حكم فيها بحكم الآيسات بعد انقضاء غالب مدة الحمل فكيف بهذه ؟ ولهذا قال القاضي إسماعيل في أحكام القرآن : إذا كان الله سبحانه قد ذكر اليأس مع الريبة فقال تعالى : { واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر } [ الطلاق : 4 ] ثم جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لفظ موافق لظاهر القرآن لأنه قال : أيما امرأة طلقت فحاضت حيضة أو حيضتين ثم ارتفعت حيضتها لا تدري ما رفعها فإنها تنتظر تسعة أشهر ثم تعتد ثلاثة أشهر فلما كانت لا تدري ما الذي رفع الحيضة كان موضع الإرتياب فحكم فيها بهذا الحكم وكان اتباع ذلك ألزم وأولى من قول من يقول : إن الرجل يطلق امرأته تطليقة أو تطليقتين فيرتفع حيضها وهي شابة : أنها تبقى ثلاثين سنة معتدة وإن جاءت بولد لأكثر من سنتين لم يلزمه فخالف ما كان من إجماع المسلمين الذي مضوا لأنهم كانوا مجمعين على أن الولد يلحق بالأب ما دامت المرأة في عدتها فكيف يجوز أن يقول قائل : إن الرجل يطلق امرأته تطليقة أو تطليقتين ويكون بينها وبين زوجها أحكام الزوجات ما دامت في عدتها من الموارثة وغيرها ؟ فإن جاءت بولد لم يلحقه وظاهر عدة الطلاق أنها جعلت من الدخول الذي يكون منه الولد فكيف تكون المرأة معتدة والولد لا يلزم ؟
قلت : هذا إلزام منه لأبي حنيفة فإن عنده أقصر مدة الحمل سنتان والمرتابة في أثناء عدتها لا تزال في عدة حتى تبلغ سن الإياس فتعتد به وهو يلزم الشافعي في قوله الجديد سواء إلا أن مدة الحمل عنده أربع سنين فإذا جاءت به بعدها لم يلحقه وهي في عدتها منه قال القاضي إسماعيل واليأس يكون بعضه أكثر من بعض وكذلك القنوط وكذلك الرجاء وكذلك الظن ومثل هذا يتسع الكلام فيه فإذا قيل منه شئ أنزل على قدر ما يظهر من المعنى فيه فمن ذلك أن الإنسان يقول : قد يئست من مريضي إذا كان الأغلب عنده أنه لا يبرأ ويئست من غائبي إذا كان الأغلب عنده أنه لا يقدم ولو قال : إذا مات غائبه أو مات مريضه : قد يئست منه لكان الكلام عند الناس على غير وجهه إلا أن يتبين معنى ما قصد له في كلامه مثل أن يقول : كنت وجلا في مرضه مخافة أن يموت فلما مات وقع اليأس فينصرف الكلام على هذا وما أشبهه إلا أن أكثر ما يلفظ باليأس إنما يكون فيما هو الأغلب عند اليأس أنه لا يكون وليس واحد من اليائس والطامع يعلم يقينا أن ذلك الشئ يكون أو لا يكون وقال الله تعالى : { والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة } [ النور : 60 ] والرجاء ضد اليأس والقاعدة من النساء قد يمكن أن تزوج غير أن الأغلب عند الناس فيها أن الأزواج لا يرغبون فيها وقال الله تعالى : { وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا } [ الشورى : 28 ] والقنوط شبه اليأس وليس يعلمون يقينا أن المطر لا يكون ولكن اليأس دخلهم حين تطاول إبطاؤه وقال الله تعالى : { حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا } [ يوسف : 110 ] فلما ذكر أن الرسل هم الذين استيأسوا كان فيه دليل على أنهم دخل قلوبهم يأس من غير يقين استيقنوه لأن اليقين في ذلك إنما يأتيهم من عند الله كما قال في قصة نوح : { وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون } [ هود : 36 ] وقال الله تعالى في قصة إخوة يوسف : { فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا } [ يوسف : 80 ] فدل الظاهر على أن يأسهم ليس بيقين وقد حدثنا ابن أبي أويس حدثنا مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول في خطبته : تعلمن أيها الناس : أن الطمع فقر وأن اليأس غنى وأن المرء إذا يئس من شئ استغنى عنه فجعل عمر اليأس بإزاء الطمع وسمعت أحمد بن المعدل ينشد شعرا لرجل من القدماء يصف ناقة :
( صفراء من تلد بني العباس ... صيرتها كالظبي في الكناس )
( تدر أن تسمع بالإبساس ... فالنفس بين طمع وياس )
فجعل الطمع بإزاء اليأس
وحدثنا سليمان بن حرب حدثنا جرير بن حازم عن الأعمش عن سلام بن شرحبيل قال : سمع حبة بن خالد وسواء بن خالد أنهما أتيا النبي صلى الله عليه و سلم قالا : علمنا شيئا ثم قال : [ لا تيأسا من الخير ما تهزهزت رؤوسكما فإن كل عبد يولد أحمر ليس عليه قشرة ثم يرزقه الله ويعطيه ]
وحدثنا علي بن عبد الله حدثنا ابن عيينة قال : قال هشام بن عبد الملك لأبي حازم : يا أبا حازم ما مالك قال : خير مال ثقتي بالله ويأسي مما في أيدي الناس قال : وهذا أكثر من أن يحصى انتهى
قال شيخنا : وليس للنساء في ذلك عادة مستمرة بل فيهن من لا تحيض وإن بلغت وفيهن من تحيض حيضا يسيرا يتباعد ما بين أقرائها حتى تحيض في السنة مرة ولهذا اتفق العلماء على أن أكثر الطهر بين الحيضتين لا حد له وغالب النساء يحضن كل شهر مرة ويحضن ربع الشهر ويكون طهرهن ثلاثة أرباعه ومنهن من تطهر الشهور المتعددة لقلة رطوبتها ومنهن من يسرع إليها الجفاف فينقطع حيضها وتيأس منه وإن كان لها دون الخمسين بل والأربعين ومنهن من لا يسرع إليها الجفاف فتجاوز الخمسين وهي تحيض قال : وليس في الكتاب ولا السنة تحديد اليأس بوقت ولو كان المراد بالآيسة من المحيض من لها خمسون سنة أو ستون سنة أو غير ذلك لقيل : واللائي يبلغن من السن كذا وكذا ولم يقل : يئسن وأيضا فقد ثبت عن الصحابة رضي الله عنهم أنهم جعلوا من ارتفع حيضها قبل ذلك يائسة كما تقدم والوجود مختلف في وقت يأسهن غير متفق وأيضا فإنه سبحانه قال : { واللائي يئسن } ولو كان له وقت محدود لكانت المرأة وغيرها سواء في معرفة يأسهن وهو سبحانه قد خص النساء بأنهن اللائي يئسن كما خصهن بقوله : { واللائي لم يحضن } فالتي تحيض هي التي تيأس وهذا بخلاف الإرتياب فإنه سبحانه قال : { إن ارتبتم } ولم يقل : إن ارتبن أي : إن ارتبتم في حكمهن وشككتم فيه فهو هذا لا هذا الذي عليه جماعة أهل التفسير كما روى ابن أبي حاتم في تفسيره من حديث جرير وموسى بن أعين واللفظ له عن مطرف بن طريف عن عمرو بن سالم عن أبي بن كعب قال : قلت : يا رسول الله ! إن ناسا بالمدينة يقولون في عدد النساء ما لم يذكر الله في القرآن الصغار والكبار وأولات الأحمال فأنزل الله سبحانه في هذه السورة { واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } [ الطلاق : 4 ] فأجل إحداهن أن تضع حملها فإذا وضعت فقد قضت عدتها ولفظ جرير : قلت : يا رسول الله ! إن ناسا من أهل المدينة لما نزلت هذه الآية التي في البقرة في عدة النساء قالوا : لقد بقي من عدد النساء عدد لم يذكرن في القرآن الصغار والكبار التي قد انقطع عنها الحيض وذوات الحمل قال : فأنزلت التي في النساء القصرى { واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم } [ الطلاق : 4 ] ثم روي عن سعيد بن جبير في قوله : { واللائي يئسن من المحيض من نسائكم } يعني الآيسة العجوز التي لا تحيض أو المرأة التي قعدت عن الحيضة فليست هذه من القروء في شئ وفي قوله : { إن ارتبتم } في الآية يعني إن شككتم فعدتهن ثلاثة أشهر وعن مجاهد : { إن ارتبتم } لم تعلموا عدة التي قعدت عن الحيض أو التي لم تحض فعدتهن ثلاثة أشهر فقوله تعالى : { إن ارتبتم } يعني : إن سألتم عن حكمهن ولم تعلموا حكمهن وشككتم فيه فقد بيناه لكم فهو بيان لنعمته على من طلب عليه ذلك ليزول ما عنده من الشك والريب بخلاف المعرض عن طلب العلم وأيضا فإن النساء لا يستوين في ابتداء الحيض بل منهن من تحيض لعشر أو اثنتي عشرة أو خمس عشرة أو أكثر من ذلك فكذلك لا يستوين في آخر سن الحيض الذي هو سن اليأس والوجود شاهد بذلك وأيضا فإنهم تنازعوا فيمن بلغت ولم تحض هل تعتد بثلاثة أشهر أو بالحول كالتي ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه ؟ وفيه روايتان عن أحمد
قلت : والجمهور على أنها تعتد بثلاثة أشهر ولم يجعلوا للصغر الموجب للإعتداد بها حدا فكذلك يجب أن لا يكون للكبر الموجب للإعتداد بالشهور حدا وهو ظاهر ولله الحمد (5/583)
فصل
وأما عدة الوفاة فتجب بالموت سواء دخل بها أو لم يدخل اتفاقا كما دل عليه عموم القرآن والسنة واتفقوا على أنهما يتوارثان قبل الدخول وعلى أن الصداق يستمر إذا كان مسمى لأن الموت لما كان انتهاء العقد استقرت به الأحكام فتوارثا واستقر المهر ووجبت العدة
واختلفوا في مسألتين إحداهما : وجوب مهر المثل إذا لم يكن مسمى فأوجبه أحمد وأبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه ولم يوجبه مالك والشافعي في القول الآخر وقضى بوجوبه رسول الله صلى الله عليه و سلم كما جاء في السنة الصحيحة الصريحة من حديث بروع بنت واشق وقد تقدم ولو لم ترد به السنة لكان هو محض القياس لأن الموت أجري مجرى الدخول في تقرير المسمى ووجوب العدة
والمسألة الثانية : هل يثبت تحريم الربيبة بموت الأم كما يثبت بالدخول بها ؟ وفيه قولان للصحابة وهما روايتان عن أحمد
والمقصود : أن العدة فيه ليست للعلم ببراءة الرحم فإنها تجب قبل الدخول بخلاف عدة الطلاق
وقد اضطرب الناس في حكمة عدة الوفاة وغيرها فقيل : هي لبراءة الرحم وأورد على هذا القول وجوه كثيرة
منها : وجوبها قبل الدخول في الوفاة ومنها : أنها ثلاثة قروء وبراءة الرحم يكفي فيها حيضة كما في المستبرأة ومنها : وجوب ثلاثة أشهر في حق من يقطع ببراءة رحمها لصغرها أو كبرها
ومن الناس من يقول : هو تعبد لا يعقل معناه وهذا فاسد لوجهين
أحدهما : أنه ليس في الشريعة حكم إلا وله حكمة وإن لم يعقلها كثير من الناس أو أكثرهم
الثاني : أن العدد ليست من العبادات المحضة بل فيها من المصالح رعاية حق الزوجين والولد والناكح
قال شيخنا : والصواب أن يقال : أما عدة الوفاة فهي حرم لانقضاء النكاح ورعاية لحق الزوج ولهذا تحد المتوفى عنها في عدة الوفاة رعاية لحق الزوج فجعلت العدة حريما لحق هذا العقد الذي له خطر وشأن فيحصل بهذه فصل بين نكاح الأول ونكاح الثاني ولا يتصل الناكحان ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما عظم حقه حرم نساؤه بعده وبهذا اختص الرسول لأن أزواجه في الدنيا هن أزواجه في الآخرة بخلاف غيره فإنه لو حرم على المرأة أن تتزوج بغير زوجها تضررت المتوفى عنها وربما كان الثاني خيرا لها من الأول ولكن لو تأيمت على أولاد الأول لكانت محمودة على ذلك مستحبا لها وفي الحديث : [ أنا وامرأة سفعاء الخدين كهاتين يوم القيامة وأومأ بالوسطى والسبابة امرأة آمت من زوجها ذات منصب وجمال وحبست نفسها على يتامى لها حتى بانوا أو ماتوا ] وإذا كان المقتضي لتحريمها قائما فلا أقل من مدة تتربصها وقد كانت في الجاهلية تتربص سنة فخففها الله سبحانه بأربعة أشهر وعشر وقيل لسعيد بن المسيب : ما بال العشر ؟ قال : فيها ينفخ الروح فيحصل بهذه المدة براءة الرحم حيث يحتاج إليه وقضاء حق الزوج اذا لم يحتج إلى ذلك (5/589)
فصل
وأما عدة الطلاق فهي التي أشكلت فإنه لا يمكن تعليلها بذلك لأنها إنما تجب بعد المسيس ولأن الطلاق قطع للنكاح ولهذا يتنصف فيه المسمى ويسقط فيه مهر المثل
فيقال : والله الموفق للصواب - عدة الطلاق وجبت ليتمكن الزوج فيها من الرجعة ففيها حق للزوج وحق لله وحق للولد وحق للناكح الثاني فحق الزوج ليتمكن من الرجعة في العدة وحق الله لوجوب ملازمتها المنزل كما نص عليه سبحانه وهو منصوص أحمد ومذهب أبي حنيفة وحق الولد لئلا يضيع نسبه ولا يدرى لأي الواطئين وحق المرأة لما لها من النفقة زمن العدة لكونها زوجة ترث وتورث ويدل على أن العدة حق للزوج قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها } [ الأحزاب : 49 ] فقوله : فما لكم عليهن من عدة دليل على أن العدة للرجل على المرأة وأيضا فإنه سبحانه قال : { وبعولتهن أحق بردهن في ذلك } [ البقرة : 228 ] فجعل الزوج أحق بردها في العدة وهذا حق له فإذا
كانت العدة ثلاثة قروء أو ثلاثة أشهر طالت مدة التربص لينظر في أمره : هل يمسكها أو يسرحها كما جعل سبحانه للمؤلي تربص أربعة أشهر لينظر في أمره : هل يمسك ويفيء أو يطلق وكان تخيير المطلق كتخيير المؤلي لكن المؤلي جعل له أربعة أشهر كما جعل مدة التسيير أربعة أشهر لينظروا في أمرهم
ومما يبين ذلك أنه سبحانه قال : { وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف } [ البقرة : 231 ] وبلوغ الأجل : هو الوصول والإنتهاء إليه وبلوغ الأجل في هذه الآية مجاوزته وفي قوله { فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف } مقاربته ومشارفته ثم فيه قولان أحدهما : أنه حد من الزمان وهو الطعن في الحيضة الثالثة أو انقطاع الدم منها أو من الرابعة وعلى هذا فلا يكون مقدورا لها وقيل : بل هو فعلها وهو الإغتسال كما قاله جمهور الصحابة وهذا كما أنه بالإغتسال يحل للزوج وطؤها ويحل لها أن تمكنه من نفسها فالإغتسال عندهم شرط في النكاح
الذي هو العقد وفي النكاح الذي هو الوطء
وللناس في ذلك أربعة أقوال
أحدهما : أنه ليس شرطا لا في هذا ولا في هذا كما يقوله من يقول من أهل الظاهر
والثاني : أنه شرط فيهما كما قاله أحمد وجمهور الصحابة كما تقدم حكايته عنهم والثالث : أنه شرط في نكاح الوطء لا في نكاح العقد كما قاله مالك والشافعي والرابع : أنه شرط فيهما أو ما يقوم مقامه وهو الحكم بالطهر بمضي وقت صلاة وانقطاعه لأكثره كما يقوله أبو حنيفة فإذا ارتجعها قبل غسلها كان غسلها لأجل وطئه لها وإلا كان لأجل حلها لغيره وبالإغتسال يتحقق كمال الحيض وتمامه كما قال الله تعالى : { ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فاتوهن من حيث أمركم الله }
[ البقرة : 222 ] والله سبحانه أمرها أن تتربص ثلاثة قروء فإذا مضت الثلاثة فقد بلغت أجلها وهو سبحانه لم يقل : إنها عقيب القرءين تبين من الزوج خير الزوج عند بلوغ الأجل بين الإمساك والتسريح فظاهر القرآن كما فهمه الصحابة رضي الله عنهم أنه عند انقضاء القروء الثلاثة يخير الزوج بين الإمساك بالمعروف أو التسريح بالإحسان وعلى هذا فيكون بلوغ الأجل في القرآن واحدا لا يكون قسمين بل يكون باستيفاء المدة واستكمالها وهذا كقوله تعالى إخبارا عن أهل النار : { وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا } [ الأنعام : 128 ] وقوله : { فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف } [ البقرة : 234 ] وإنما حمل من قال : إن بلوغ الأجل هو مقارنته أنها بعد أن تحل للخطاب لا يبقى الزوج أحق برجعتها وإنما يكون أحق بها ما لم تحل لغيره فإذا حل لغيره أن يتزوج بها صار هو خاطبا من الخطاب ومنشأ هذا ظن أنها ببلوغ الأجل تحل لغيره والقرآن لم يدل على هذا بل القرآن جعل عليها أن تتربص ثلاثة قروء وذكر أنها إذا بلغت أجلها فإما أن تمسك بمعروف وإما أن تسرح بإحسان وقد ذكر سبحانه هذا الإمساك أو التسريح عقيب الطلاق فقال : { الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } [ البقرة : 229 ] ثم قال : { وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن } [ البقرة : 232 ] وهذا هو تزوجها بزوجها الأول المطلق الذي كان أحق بها فالنهي عن عضلهن مؤكد لحق الزوج وليس في القرآن أنها بعد بلوغ الأجل تحل للخطاب بل فيه أنه في هذه الحال إما أن يمسك بمعروف أو يسرح بإحسان فإن سرح بإحسان حلت حينئذ للخطاب وعلى هذا فدلالة القرآن بينة أنها إذا بلغت أجلها وهو انقضاء ثلاثة قروء بانقطاع الدم فإما أن يمسكها قبل أن تغتسل فتغتسل عنده وإما أن يسرحها فتغتسل وتنكح من شاءت وبهذا يعرف قدر فهم الصحابة رضي الله عنهم وأن من بعدهم إنما يكون غاية اجتهاده أن يفهم ما فهموه ويعرف ما قالوه
فإن قيل : فإذا كان له أن يرتجعها في جميع هذه المدة ما لم تغتسل فلم قيد التخيير ببلوغ الأجل ؟ قيل : ليتبين أنها في مدة العدة كانت متربصة لأجل حق الزوج والتربص : الإنتظار وكانت منتظرة هل يمسكها أو يسرحها ؟ وهذا التخيير ثابت له من أول المدة إلى آخرها كما خير المؤلي بين الفيئة وعدم الطلاق وهنا لما خيره عند بلوغ الأجل كان تخييره قبله أولى وأحرى لكن التسريح بإحسان إنما يمكن إذا بلغت الأجل وقبل ذلك هي في العدة
وقد قيل : إن تسريحها بإحسان مؤثر فيها حين تنقضي العدة ولكن ظاهر القرآن يدل على خلاف ذلك فإنه سبحانه جعل التسريح بإحسان عند بلوغ الأجل ومعلوم أن هذا الترك ثابت من أول المدة فالصواب أن التسريح إرسالها إلى أهلها بعد بلوغ الأجل ورفع يده عنها فإنه كان يملك حبسها مدة العدة فإذا بلغت أجلها فحينئذ إن أمسكها كان له حبسها وإن لم يمسكها كان عليه أن يسرحها بإحسان ويدل على هذا قوله تعالى في المطلقة قبل المسيس : { فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا } [ الأحزاب : 49 ] فأمر بالسراح الجميل ولا عدة فعلم أن تخلية سبيلها إرسالها كما يقال : سرح الماء والناقة : إذا مكنها من الذهاب وبهذا الإطلاق والسراح يكون قد تم تطليقها وتخليتها وقبل ذلك لم يكن الإطلاق تاما وقبل ذلك كان له أن يمسكها وأن يسرحها وكان مع كونه مطلقا قد جعل أحق بها من غيره مدة التربص وجعل التربص ثلاثة قروء لأجله ويؤيد هذا أشياء
أحدها : أن الشارع جعل عدة المختلعة حيضة كما ثبتت به السنة وأقر به عثمان بن عفان وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم وحكاه أبو جعفر النحاس في ناسخه ومنسوخه إجماع الصحابة وهو مذهب إسحاق وأحمد بن حنبل في أصح الروايتين عنه دليلا كما سيأتي تقرير المسألة عن قرب إن شاء الله تعالى فلما لم يكن على المختلعة رجعة لم يكن عليها عدة بل استبراء بحيضة لأنها لما افتدت منه وبانت ملكت نفسها فلم يكن أحق بإمساكها فلا معنى لتطويل العدة عليها بل المقصود العلم ببراءة رحمها فيكفي مجرد الإستبراء
والثاني : أن المهاجرة من دار الحرب قد جاءت السنة بأنها إنما تستبرأ بحيضة ثم تزوج كما سيأتي
الثالث : أن الله سبحانه لم يشرع لها طلاقا بائنا بعد الدخول إلا الثالثة وكل طلاق في القرآن سواها فرجعي وهو سبحانه إنما ذكر القروء الثلاثة في هذا الطلاق الذي شرعه لهذه الحكمة وأما المفتدية فليس افتداؤها طلاقا بل خلعا غير محسوب من الثلاث والمشروع فيه حيضة
فإن قيل : فهذا ينتقض عليكم بصورتين
إحداهما : بمن استوفت عدد طلاقها فإنها تعتد ثلاثة قروء ولا يتمكن زوجها من رجعتها
الثانية : بالمخيرة إذا عتقت تحت حر أو عبد فإن عدتها ثلاثة قروء بالسنة كما في السنن من حديث عائشة رضي الله عنها : أمرت بريرة أن تعتد عدة الحرة
وفي سنن ابن ماجه : أمرت أن تعتد ثلاث حيض ولا رجعة لزوجها عليها
فالجواب : أن الطلاق المحرم للزوجة لا يجب فيه التربص لأجل رجعة الزوج بل جعل حريما للنكاح وعقوبة للزوج بتطويل مدة تحريمها عليه فإنه لو سوغ لها أن تتزوج بعد مجرد الإستبراء بحيضة لأمكن أن يتزوجها الثاني ويطلقها بسرعة إما على قصد التحليل أو بدونه فكان تيسير عودها إلى المطلق والشارع حرمها عليه بعد الثالثة عفوية له لأن الطلاق الذي أبغض الحلال إلى الله إنما أباح منه قدر الحاجة وهو الثلاث وحرم المرأة بعد الثالثة حتى تنكح زوجا غيره وكان من تمام الحكمة أنها لا تنكح حتى تتربص ثلاثة قروء وهذا لا ضرر عليها به فإنها في كل مرة من الطلاق لا تنكح حتى تتربص ثلاثة قروء فكان التربص هناك نظرا في مصلحته لما لم يوقع الثلاث المحرمة
وهنا التربص بالثلاث من تمام عقوبته فإنه عوقب بثلاثة أشياء : أن حرمت عليه حبيبته وجعل تربصها ثلاثة قروء ولم يجز أن تعود إليه حتى يحظى بها غيره حظوة الزوج الراغب بزوجته المرغوب فيها وفي كل من ذلك عقوبة مؤلمة على إيقاع البغيض إلى الله المكروه له فإذا علم أنه بعد الثالثة لا تحل له إلا بعد تربص وتزوج بزوج آخر وأن الأمر بيد ذلك الزوج ولا بد أن تذوق عسيلته ويذوق عسيلتها علم أن المقصود أن ييأس منها فلا تعود إليه إلا باختيارها لا باختياره ومعلوم أن الزوج الثاني إذا كان قد نكح نكاح رغبة وهو النكاح الذي شرعه الله لعباده وجعله سببا لمصالحهم في المعاش والمعاد وسببا لحصول الرحمة والوداد فإنه لا يطلقها لأجل الأول بل يمسك امرأته فلا يصير لأحد من الناس اختيار في عودها إليه فإذا اتفق فراق الثاني لها بموت أو طلاق كما يفترق الزوجان اللذان هما زوجان أبيح للمطلق الأول نكاحها كما يباح للرجل نكاح مطلقة الرجل ابتداء وهذا أمر لم يحرمه الله سبحانه في الشريعة الكاملة المهيمنة على جميع الشرائع بخلاف الشريعتين قبلنا فإنه في شريعة التوراة قد قيل : إنها متى تزوجت بزوج آخر لم تحل للأول أبدا وفي شريعة الإنجيل قد قيل : إنه ليس له أن يطلقها البتة فجاءت هذه الشريعة الكاملة الفاضلة على أكمل الوجوه وأحسنها وأصلحها للخلق ولهذا لما كان التحليل مباينا للشرائع كلها والعقل والفطرة ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ لعن المحلل والمحلل له ] ولعنه صلى الله عليه و سلم لهما إما خبر عن الله تعالى بوقوع لعنته عليهما أو دعاء عليهما باللعنة وهذا يدل على تحريمه وأنه من الكبائر والمقصود : أن إيجاب القروء الثلاث في هذا الطلاق من تمام تأكيد تحريمها على الأول على أنه ليس في المسألة إجماع فذهب ابن اللبان الفرضي صاحب
الإيجاز وغيره إلى أن المطلقة ثلاثا ليس عليها غير استبراء بحيضة ذكره عنه أبو الحسين بن القاضي أبي يعلى فقال : مسألة : إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا بعد الدخول فعدتها ثلاثة أقراء إن كانت من ذوات الأقراء وقال ابن اللبان : عليها الإستبراء بحيضة دليلنا قوله تعالى : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } ولم يقف شيخ الإسلام على هذا القول وعلق تسويغه على ثبوت الحلاف فقال : إن كان فيه نزاع كان القول بأنه ليس عليها ولا على المعتقة المخيرة إلا الإستبراء قولا متوجها ثم قال : ولازم هذا القول : أن الآيسة لا تحتاج إلى عدة بعد الطلقة الثالثة قال : وهذا لا نعلم أحدا قاله
وقد ذكر الخلاف أبو الحسين فقال : مسألة : إذا طلق الرجل زوجته ثلاثا وكانت ممن لا تحيض لصغر أو هرم فعدتها ثلاثة أشهر خلافا لابن اللبان أنه لا عدة عليها دليلنا : قوله تعالى : { واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن }
قال شيخنا : وإذا مضت السنة بأن على هذه ثلاثة أقراء لم يجز مخالفتها ولو لم يجمع عليها فكيف إذا كان مع السنة
إجماع ؟ قال : وقوله صلى الله عليه و سلم لفاطمة بنت قيس : اعتدي قد فهم منه العلماء أنها تعتد ثلاثة قروء فإن الإستبراء قد يسمى عدة قلت : كما في حديث أبي سعيد في سبايا أوطاس أنه فسر قوله تعالى : { والمحصنات من النساء } بالسبايا ثم قال : أي : فهن لكم حلال إذا انقضت عدتهن فجعل الإستبراء عدة قال : فأما حديث عاثشة رضي الله عنها : أمرت بريرة أن تعتد ثلاث حيض فحديث منكر فإن مذهب عائشة رضي الله عنها أن الأقراء الأطهار قلت : ومن جعل أن عدة المختلعة حيضة فبطريق الأولى تكون عدة الفسوخ كلها عنده حيضة لأن الخلع الذي هو شقيق الطلاق وأشبه به لا يجب فيه الإعتداد عنده بثلاثة قروء فالفسخ أولى وأحرى من وجوه
أحدها : أن كثيرا من الفقهاء يجعل الخلع طلاقا ينقص به عدده بخلاف الفسخ لرضاع ونحوه
الثاني : أن أبا ثور ومن وافقه يقولون : إن الزوج إذا رد العوض ورضيت المرأة برده وراجعها فلهما ذلك بخلاف الفسخ
الثالث : أن الخلع يمكن فيه رجوع المرأة إلى زوجها في عدتها بعقد جديد بخلاف الفسخ لرضاع أو عدد أو محرمية حيث لا تمكن عودها إليه فهذه بطريق الأولى يكفيها استبراء بحيضة ويكون المقصود مجرد العلم ببراءة رحمها كالمسبية والمهاجرة والمختلعة والزانية على أصح القولين فيهما دليلا وهما روايتان عن أحمد (5/591)
فصل
ومما يبين الفرق بين عدة الرجعية والبائن أن عدة الرجعية لأجل الزوج وللمرأة فيها النفقة والسكنى باتفاق المسلمين ولكن سكناها هل هي كسكنى الزوجة فيجوز أن ينقلها المطلق حيث شاء أم يتعين عليها المنزل فلا تخرج ولا تخرج ؟ فيه قولان وهذا الثاني هو المنصوص عن أحمد وأبي حنيفة وعليه يدل القرآن والأول : قول الشافعي وهو قول بعض أصحاب أحمد
والصواب : ما جاء به القرآن فإن سكنى الرجعية من جنس سكنى المتوفى عنها ولو تراضيا بإسقاطها لم يجز كما أن العدة فيها كذلك بخلاف البائن فإنها لا سكنى لها ولا عليها فالزوج له أن يخرجها ولها أن تخرج كما قال النبي صلى الله عليه و سلم لفاطمة بنت قيس : [ لا نفقة لك ولا سكنى ]
وأما الرجعة : فهل هي حق للزوج يملك إسقاطها بأن يطلقها واحدة بائنة أم هي حق لله فلا يملك إسقاطها ؟ ولو قال : أنت طالق طلقة بائنة وقعت رجعية أم هي حق لهما فإن تراضيا بالخلع بلا عوض وقع طلاقا بائنا ولا رجعة فيه ؟ فيه ثلاثة أقوال
فالأول : مذهب أبي حنيفة وإحدى الروايات عن أحمد
والثاني : مذهب الشافعي والرواية الثانية عن أحمد
والثالث : مذهب مالك والرواية الثالثة عن أحمد
والصواب : أن الرجعة حق لله تعالى ليس لهما أن يتفقا على إسقاطها وليس له أن يطلقها طلقة بائنة ولو رضيت الزوجة كما أنه ليس لهما أن يتراضيا بفسخ النكاح بلا عوض بالإتفاق
فإن قيل : فكيف يجوز الخلع بغير عوض في أحد القولين في مذهب مالك وأحمد وهل هذا إلا اتفاق من الزوجين على فسخ النكاح بغير عوض ؟ قيل : إنما يجوز أحمد في إحدى الروايتين الخلع بلا عوض إذا كان طلاقا فأما إذا كان فسخا فلا يجوز بالإتفاق قاله شيخنا رحمه الله قال : ولو جاز هذا لجاز أن يتفقا على أن يبينها مرة بعد مرة من غير أن ينقص عدد الطلاق ويكون الأمر إليهما إذا أرادا أن يجعلا الفرقة بين الثلاث جعلاها وإن أرادا لم يجعلاها من الثلاث ويلزم من هذا إذا قالت : فادني بلا طلاق أن يبينها بلا طلاق ويكون مخيرا إذا سألته إن شاء أن يجعله رجعيا وإن شاء أن يجعله بائنا وهذا ممتنع فإن مضمونه أنه يخير إن شاء أن يحرمها بعد المرة الثالثة وإن شاء لم يحرمها ويمتنع أن يخير الرجل بين أن يجعل الشئ حلالا وأن يجعله حراما ولكن إنما يخير بين مباحين له وله أن يباشر أسباب الحل وأسباب التحريم وليس له إنشاء نفس التحليل والتحريم والله سبحانه إنما شرع له الطلاق واحدة بعد واحدة ولم يشرع له إيقاعه مرة واحدة لئلا يندم وتزول نزغة الشيطان التي حملته على الطلاق فتتبع نفسه المرأة فلا يجد إليها سبيلا فلو ملكه الشارع أن يطلقها طلقة بائنة ابتداء لكان هذا المحذور بعينه موجودا والشريعة المشتملة على مصالح العباد تأبى ذلك فإنه يبقى الأمر بيدها إن شاءت راجعته وإن شاءت فلا والله سبحانه جعل الطلاق بيد الزوج لا بيد المرأة رحمة منه وإحسانا ومراعاة لمصلحة الزوجين
نعم له أن يملكها أمرها باختياره فيخيرها بجن القيام معه وفراقها وأما أن يخرج الأمر عن يد الزوج بالكلية إليها فهذا لا يمكن فليس له أن يسقط حقه من الرجعة ولا يملك ذلك فإن الشارع إنما يملك العبد ما ينفعه ملكه ولا يتضرر به ولهذا لم يملكه أكثر من ثلاث ولا ملكه جمع الثلاث ولا ملكه الطلاق في زمن الحيض والطهر المواقع فيه ولا ملكه نكاح أكثر من أربع ولا ملك المرأة الطلاق وقد نهى سبحانه الرجال : أن يؤتوا السفهاء أموالهم التي جعل الله لهم قياما فكيف يجعلون أمر الأبضاع إليهن في الطلاق والرجعة فكما لا يكون الطلاق بيدها لا تكون الرجعة بيدها فإن شاءت راجعته وإن شاءت فلا فتبقى الرجعة موقوفة على اختيارها وإذا كان لا يملك الطلاق البائن فلأن لا يملك الطلاق المحرم ابتداء أولى وأحرى لأن الندم في الطلاق المحرم أقوى منه في البائن فمن قال : إنه لا يملك الإبانة ولو أتى بها لم تبن كما هو قول فقهاء الحديث لزمه أن يقول : إنه لا يملك الثلاث المحرمة ابتداء بطريق الأول والأحرى وأن له رجعتها وإن أوقعها كان له رجعتها وإن قال : أنت طالق واحدة بائنة فإذا كان لا يملك إسقاط الرجعة فكيف يملك إثبات التحريم الذي لا تعود بعده إلا بزوج وإصابة ؟
فإن قيل : فلازم هذا أنه لا يملكه ولو بعد اثنتين قلنا : ليس ذلك بلازم فإن الله سبحانه ملكه الطلاق على وجه معين وهو أن يطلق واحدة ويكون أحق برجعتها ما لم تنقض عدتها ثم إن شاء طلق الثانية كذلك ويبقى له واحدة وأخبر أنه إن أوقعها حرمت عليه ولا تعود إليه إلا أن تتزوج غيره ويصيبها ويفارقها فهذا هو الذي ملكه إياه لم يملكه أن يحرمها ابتداء تحريما تاما من غير تقدم تطليقتين وبالله التوفيق (5/598)
فصل
قد ذكرنا حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم في المختلعة أنها تعتد بحيضة وأن هذا مذهب عثمان بن عفان وابن عباس وإسحاق بن راهويه وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه اختارها شيخنا ونحن نذكر الأحاديث بذلك بإسنادها
قال النسائي في سننه الكبير : باب في عدة المختلعة أخبرني أبو علي محمد بن يحيى المروزي حدثنا شاذان عبد العزيز بن عثمان أخو عبدان حدثنا أبي حدثنا علي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير قال : أخبرني محمد بن عبد الرحمن أن ربيع بنت معوذ بن عفراء أخبرته أن ثابت بن قيس بن شماس ضرب امرأته فكسر يدها وهي جميلة بنت عبد الله بن أبي فجاء أخوها يشتكيه إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأرسل رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى ثابت فقال : [ خذ الذي لها عليك وخل سبيلها ] فقال : نعم فأمرها رسول الله صلى الله عليه و سلم أن تتربص حيضة واحدة وتلحق بأهلها
أخبرنا عبيد الله بن سعد بن إبراهيم بن سعد قال : حدثني عمي قال : أخبرنا أبي عن ابن إسحاق قال : حدثني عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت عن ربيع بنت معوذ قال : قلت لها : حدثيني حديثك قالت : اختلعت من زوجي ثم جئت عثمان فسالت ماذا علي من العدة قال : لا عدة عليك إلا أن يكون حديث عهد بك فتمكثين حتى تحيضي حيضة قالت : وإنما تبع في ذلك قضاء رسول الله صلى الله عليه و سلم في مريم المغالية كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس فاختلعت منه
وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت منه فجعل رسول الله صلى الله عليه و سلم عدتها حيضة رواه أبو داود عن محمد بن عبد الرحيم البزاز عن علي بن بحر القطان عن هشام بن يوسف عن معمر عن عمرو بن مسلم عن عكرمة ورواه الترمذي : عن محمد بن عبد الرحيم بهذا السند بعينه وقال : حديث حسن غريب
وهذا كما أنه موجب السنة وقضاء رسول الله صلى الله عليه و سلم وموافق لأقوال الصحابة فهو مقتضى القياس فإنه استبراء لمجرد العلم ببراءة الرحم فكفت فيه حيضة كالمسبية والأمة المستبرأة والحرة والمهاجرة والزانية إذا أرادت أن تنكح
وقد تقدم أن الشارع من تمام حكمته جعل عدة الرجعية ثلاثة قروء لمصلحة المطلق والمرأة ليطول زمان الرجعة وقد تقدم النقص على هذه الحكمة والجواب عنه (5/601)
ذكر حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم باعتداد المتوفى عنها في منزلها الذي توفي زوجها وهي فيه وإنه غير مخالف لحكمه
بخروج المبتوتة واعتدادها حيث شاءت
ثبت في السنن : عن زينب بنت كعب بن عجرة عن الفريعة بنت مالك أخت أبي سعيد الخدري أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة فإن زوجها خرج في طلب أعبد له أبقوا حتى إذا كانوا بطرف القدوم لحقهم فقتلوه فسألت رسول الله صلى الله عليه و سلم أن أرجع إلى أهلي فإن لم يتركني في مسكن يملكه ولا نفقة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ نعم فخرجت حتى إذا كنت في الحجرة أو في المسجد دعاني أو أمر بي فدعيت له فقال : كيف قلت ؟ فرددت عليه القصة التي ذكرت من شأن زوجي قالت : فقال : امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله ] قالت : فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا قالت : فلما كان عثمان أرسل إلي فسألني عن ذلك فأخبرته فقضى به واتبعه
قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح وقال أبو عمر بن عبد البر : هذا حديث مشهور معروف عند علماء الحجاز والعراق وقال أبو محمد بن حزم : هذا الحديث لا يثبت فإن زينب هذه مجهولة لم يرو حديثها غير سعد بن إسحاق كعب وهو غير مشهور بالعدالة ومالك رحمه الله وغيره يقول فيه : سعد بن إسحاق وسفيان يقول : سعيد وما قاله أبو محمد غير صحيح فالحديث حديث صحيح مشهور في الحجاز والعراق وأدخله مالك في موطئه واحتج به وبنى عليه مذهبه
وأما قوله : إن زينب بنت كعب مجهولة فنعم مجهولة عنده فكان ماذا ؟ وزينب هذه من التابعيات وهي امرأة أبي سعيد روى عنها سعد بن إسحاق بن كعب وليس بسعيد وقد ذكرها ابن حبان في كتاب الثقات والذي غر أبا محمد قول علي بن المديني : لم يرو عنها غير سعد بن إسحاق وقد روينا في مسند الإمام أحمد : حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن ابن إسحاق حدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر بن حزم عن سليمان بن محمد بن كعب بن عجرة عن عمته زينب بنت كعب بن عجرة وكانت عند أبي سعيد الخدري عن أبي سعيد قال : اشتكى الناس عليا رضي الله عنه فقام النبي صلى الله عليه و سلم خطيبا فسمعته يقول : [ يا أيها الناس لا تشكوا عليا فوالله إنه لأخشن في ذات الله أو في سبيل الله ] فهذه امرأة تابعية كانت تحت صحابي وروى عنها الثقات ولم يطعن فيها بحرف واحتج الأئمة بحديثها وصححوه
وأما قوله : إن سعد بن إسحاق غير مشهور بالعدالة فقد قال إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين : ثقة وقال النسائي أيضا والدارقطني أيضا : ثقة وقال أبو حاتم : صالح وذكره ابن حبان في كتاب الثقات وقد روى عنه الناس : حماد بن زيد وسفيان الثوري وعبد العزيز الدراوردي وابن جريج ومالك بن أنس ويحيى بن سعيد الأنصاري والزهري وهو أكبر منه وحاتم بن إسماعيل وداود بن قيس وخلق سواهم من الأئمة ولم يعلم فيه قدح ولا جرح البتة ومثل هذا يحتج به اتفاقا
وقد اختلف الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم في حكم هذه المسألة فروى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تفتي المتوفى عنها بالخروج في عدتها وخرجت بأختها أم كلثوم حين قتل عنها طلحة بن عبيد الله إلى مكة في عمرة
ومن طريق عبد الرزاق : أخبرنا ابن جريج أخبرني عطاء عن ابن عباس أنه قال : إنما قال الله عز و جل : تعتد أربعة أشهر وعشرا ولم يقل : تعتد في بيتها فتعتد حيث شاءت وهذا الحديث سمعه عطاء من ابن عباس فإن علي بن المديني : قال : حدثنا سفيان بن عيينة عن ابن جريج عن عطاء قال : سمعت ابن عباس يقول : قال الله تعالى : { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا } ولم يقل : يعتددن في بيوتهن تعتد حيث شاءت قال سفيان : قاله لنا ابن جريج كما أخبرنا
وقال عبد الرزاق : حدثنا ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : تعتد المتوفى عنها حيث شاءت
وقال عبد الرزاق عن الثوري عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان يرحل المتوفى عنهن في عدتهن
وذكر عبد الرزاق أيضا عن محمد بن مسلم عن عمرو بن دينار عن طاووس وعطاء قالا جميعا : المبتوتة والمتوفي عنها تحجان وتعتمران وتنتقلان وتبيتان
وذكر أيضا عن ابن جريج عن عطاء قال : لا يضر المتوفى عنها أين اعتدت
وقال ابن عيينة : عن عمرو بن دينار عن عطاء وأبي الشعثاء قالا جميعا : المتوفى عنها تخرج في عدتها حيث شاءت
وذكر ابن أبي شيبة حدثنا عبد الوهاب الثقفي عن حبيب المعلم قال : سألت عطاء عن المطلقة ثلاثا والمتوفى عنها أتحجان في عدتهما ؟ قال : نعم وكان الحسن يقول بمثل ذلك
وقال ابن وهب : أخبرني ابن لهيعة عن حنين بن أبي حكيم أن امرأة مزاحم لما توفي عنها زوجها بخناصرة سألت عمر بن عبد العزيز أأمكث حتى تنقضي عدتي ؟ فقال لها : بل الحقي بقرارك ودار أبيك فاعتدي فيها
قال ابن وهب : وأخبرني يحيى بن أيوب عن يحيى بن سعيد الأنصاري أنه قال في رجل توفي بالإسكندرية ومعه امرأته وله بها دار وله بالفسطاط دار فقال : إن أحبت أن تعتد حيث توفي زوجها فلتعتد وإن أحبت أن ترجع إلى دار زوجها وقراره بالفسطاط فتعتد فيها فلترجع
قال ابن وهب : وأخبرني عمرو بن الحارث عن بكير بن الأشج قال : سألت سالم بن عبد الله بن عمر عن المرأة يخرج بها زوجها إلى بلد فيتوفى ؟ قال : تعتد حيث توفي عنها زوجها أو ترجع إلى بيت زوجها حتى تنقضي عدتها وهذا مذهب أهل الظاهر كلهم
ولأصحاب هذا القول حجتان احتج بهما ابن عباس وقد حكينا إحداهما وهي : أن الله سبحانه إنما أمرها باعتداد أربعة أشهر وعشر ولم يأمرها بمكان معين
والثانية : ما رواه أبو داود : حدثنا أحمد بن محمد المروزي حدثنا موسى بن مسعود حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح قال : قال عطاء : قال ابن عباس : نسخت هذه الآية عدتها عند أهلها فتعتد حيث شاءت وهو قول الله عز و جل { غير إخراج } قال عطاء : إن شاءت اعتدت عند أهله وسكنت في وصيتها وإن شاءت خرجت لقول الله عز و جل : { فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن } قال عطاء : ثم جاء الميراث فنسخ السكنى تعتد حيث شاءت
وقالت طائفة ثانية من الصحابة والتابعين ومن بعدهم : تعتد في منزلها التي توفي زوجها وهي فيه قال وكيع : حدثنا الثوري عن منصور عن مجاهد عن سعيد بن المسيب أن عمر رد نسوة من ذي الحليفة حاجات أو معتمرات توفي عنهن أزواجهن
وقال عبد الرزاق : حدثنا ابن جريج أخبرنا حميد الأعرج عن مجاهد قال : كان عمر وعثمان يرجعانهن حاجات ومعتمرات من الجحفة وذي الحليفة
وذكر عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن يوسف بن ماهك عن أمه مسيكة أن امراة متوفى عنها زارت أهلها في عدتها فضربها الطلق فأتوا عثمان فقال : احملوها إلى بيتها وهي تطلق
وذكر أيضا عن معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر أنه كانت له ابنة تعتد من وفاة زوجها وكانت تأتيهم بالنهار فتتحدث إليهم فإذا كان الليل أمرها أن ترجع إلى بيتها
وقال ابن أبي شيبة : حدثنا وكيع عن علي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان أن عمر رخص للمتوفى عنها أن تأتي أهلها بياض يومها وأن زيد بن ثابت لم يرخص لها إلا في بياض يومها أو ليلها
وذكر عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن منصور بن المعتمر عن إبراهيم النخعي عن علقمة قال : سأل ابن مسعود نساء من همدان نعي إليهن أزواجهن فقلن : إنا نستوحش فقال ابن مسعود : تجتمعن بالنهار ثم ترجع كل امرأة منكن إلى بيتها بالليل
وذكر الحجاج بن المنهال حدثنا أبو عوانة عن منصور عن إبراهيم أن امرأة بعثت إلى أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها : إن أبي مريض وأنا في عدة أفآتيه أمرضه ؟ قالت : نعم ولكن بيتي أحد طرفي الليل في بيتك
وقال سعيد بن منصور : حدثثا هشيم أنبأنا إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي أنه سئل عن المتوفى عنها : أتخرج في عدتها ؟ فقال : كان أكثر أصحاب ابن مسعود أشد شئ في ذلك يقولون : لا تخرج وكان الشيخ - يعني علي بن أبي طالب رضي الله عنه - يرحلها
وقال حماد بن سلمة : أخبرنا هشام بن عروة أن أباه قال : المتوفى عنها زوجها تعتد في بيتها إلا أن ينتوي أهلها فتنتوي معهم
وقال سعيد بن منصور : حدثنا هشيم أخبرنا يحيى بن سعيد هو الأنصاري أن القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وسعيد بن المسيب قالوا في المتوفى عنها : لا تبرح حتى تنقضي عدتها
وذكر أيضا عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عطاء وجابر كلاهما قال في المتوفى عنها : لا تخرج
وذكر وكيع عن الحسن بن صالح عن المغيرة عن إبراهيم في المتوفى عنها : لا بأس أن تخرج بالنهار ولا تبيت عن بيتها
وذكر حماد بن زيد عن أيوب السختياني عن محمد بن سيرين أن امرأة توفي عنها زوجها وهي مريضة فنقلها أهلها ثم سألوا فكلهم يأمرهم أن ترد إلى بيت زوجها قال ابن سيرين : فرددناها في نمط وهذا قول الإمام أحمد ومالك والشافعي وأبي حنيفة رحمهم الله وأصحابهم والأوزاعي وأبي عبيد وإسحاق
قال أبو عمر بن عبد البر : وبه يقول جماعة فقهاء الأمصار بالحجاز والشام والعراق ومصر
وحجة هؤلاء حديث الفريعة بنت مالك وقد تلقاه عثمان بن عفان رضي الله عنه بالقبول وقضى به بمحضر المهاجرين والأنصار وتلقاه أهل المدينة والحجاز والشام والعراق ومصر بالقبول ولم يعلم أن أحدا منهم طعن فيه ولا في رواته وهذا مالك مع تحريه وتشدده في الرواية وقوله للسائل له عن رجل : أثقة هو ؟ فقال : لو كان ثقة لرأيته في كتبي : قد أدخله في موطئه وبنى عليه مذهبه
قالوا : ونحن لا ننكر النزاع بين السلف في المسألة ولكن السنة تفصل بين المتنازعين قال أبو عمر بن عبد البر : أما السنة فثابتة بحمد الله وأما الإجماع فسمتغنى عنه مع السنة لأن الإختلاف إذا نزل في مسألة كانت الحجة في قول من وافقته السنة
وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن الزهري قال : أخذ المترخصون في المتوفى عنها بقول عائشة رضي الله عنها وأخذ أهل العزم والورع بقول ابن عمر
فإن قيل : فهل ملازمة المنزل حق عليها أو حق لها ؟ قيل : بل هو حق عليها إذا تركه لها الورثة ولم يكن عليها فيه ضرر أو كان المسكن لها فلو حولها الوراث أو طلبوا منها الأجرة لم يلزمها السكن وجاز لها التحول
ثم اختلف أصحاب هذا القول : هل لها أن تتحول حيث شاءت أو يلزمها التحول إلى أقرب المساكن إلى مسكن الوفاة ؟ على قولين فإن خافت هدما أو غرقا أو عدوا أو نحو ذلك أو حولها صاحب المنزل لكونه عارية رجع فيها أو بإجارة انقضت مدتها أو منعها السكنى تعديا أو امتنع من إجارته أو طلب به أكثر من أجر المثل أو لم تجد ما تكتري به أو لم تجد إلا من مالها فلها أن تنتقل لأنها حال عذر ولا يلزمها بذل أجر المسكن وإنما الواجب عليها فعل السكنى لا تحصيل المسكن وإذا تعذرت السكنى سقطت وهذا قول أحمد والشافعي
فإن قيل : فهل الإسكان حق على الورثة تقدم الزوجة به على الغرماء وعلى الميراث أم لا حق لها في التركة سوى الميراث ؟ قيل : هذا موضوع اختلف فيه فقال الإمام أحمد : إن كانت حائلا فلا سكنى لها في التركة ولكن عليها ملازمة المنزل إذا بذل لها كما تقدم وإن كانت حاملا ففيه روايتان إحداهما أن الحكم كذلك والثاني : أن لها السكنى حق ثابت في المال تقدم به على الورثة والغرماء ويكون من رأس المال لا تباع الدار فى دينه بيعا يمنعها سكناها حتى تنقضي عدتها وإن تعذر ذلك فعلى الوارث أن يكتري لها سكنا من مال الميت فإن لم يفعل أجبره الحاكم وليس لها أن تنتقل عنه إلا لضرورة
وإن اتفق الوارث والمرأة على نقلها عنه لم يجز لأنه يتعلق بهذه السكنى حق الله تعالى فلم يجز اتفاقهما على إبطالها بخلاف سكنى النكاح فإنها حق لله تعالى لأنها وجبت من حقوق العدة والعدة فيها حق للزوجين والصحيح المنصوص : أن سكنى الرجعية كذلك ولا يجوز اتفاقهما على إبطالها هذا مقتضى نص الآية وهو منصوص أحمد وعنه رواية ثالثة : أن للمتوفى عنها السكنى بكل حال حاملا كانت أو حائلا فصار في مذهبه ثلات روايات : وجوبها للحامل والحائل وإسقاطها في حقهما ووجوبها للحامل دون الحائل هذا تحصيل مذهب أحمد في سكنى المتوفى عنها
وأما مذهب مالك فإيجاب السكنى لها حاملا كانت أو حائلا وإيجاب السكنى عليها مدة العدة قال أبو عمر : فإذا كان المسكن بكراء ؟ فقال مالك : هي أحق بسكناه من الورثة والغرماء وهو من رأس مال المتوفى إلا أن يكون فيه عقد لزوجها وأراد أهل المسكن إخراجها وإذا كان المسكن لزوجها لم يبع في دينه حتى تنقضي عدتها انتهى كلامه
وقال غيره من أصحاب مالك : هي أحق بالسكنى من الورثة والغرماء إذا كان الملك للميت أو كان قد أدى كراءه وإن لم يكن قد أدى ففي التهذيب : لا سكنى لها في مال الميت وان كان موسرا وروى محمد عن مالك : الكراء لازم للميت في ماله ولا تكون الزوجة أحق به وتحاص الورثة في السكنى وللورثة إخراجها إلا أن تحب أن تسكن في حصتها وتؤدي كراء حصتهم
وأما مذهب الشافعي : فإن له في سكنى المتوفى عنها قولين أحدهما : لها السكنى حاملا كانت أو حائلا والثاني : لا سكنى لها حاملا كانت أو حائلا ويجب عنده ملازمتها للمسكن في العدة بائنا كانت أو متوفى عنها وملازمة البائن للمنزل عنده آكد من ملازمة المتوفى عنها فإنه يجوز للمتوفى عنها الخروج نهارا لقضاء حوائجها ولا يجوز ذلك في البائن في أحد قوليه وهو القديم ولا يوجبه في الرجعية بل يستحبه
وأما أحمد فعنده ملازمة المتوفى عنها آكد من الرجعية ولا يوجبه في البائن وأورد أصحاب الشافعي رحمه الله على نصه بوجوب ملازمة المنزل على المتوفى عنها مع نصه في أحد القولين على أنه لا سكنى لها سؤالا وقالوا : كيف يجتمع النصان وأجابوا بجوابين أحدهما : أنه لا تجب عليها ملازمة المسكن على ذلك القول لكن لو ألزم الوارث أجرة المسكن وجبت عليها الملازمة حينئذ وأطلق أكثر أصحابه الجواب هكذا
والثاني : أن ملازمة المنزل واجبة عليها ما لم يكن عليها فيه ضرر بأن تطالب بالأجرة أو يخرجها الوارث أو المالك فتسقط حينئذ وأما أصحاب أبي حنيفة فقالوا : لا يجوز للمطلقة الرجعية ولا للبائن الخروج من بيتها ليلا ولا نهارا وأما المتوفى عنها فتخرج نهارا وبعض الليل ولكن لا تبيت في منزلها قالوا : والفرق أن المطلقة نفقتها في مال زوجها فلا يجوز لها الخروج كالزوجة بخلاف المتوفى عنها فإنها لا نفقة لها فلا بد أن تخرج بالنهار لإصلاح حالها قالوا : وعليها أن تعتد في المنزل الذي يضاف إليها بالسكنى حال وقوع الفرقة قالوا : فإن كان نصيبها من دار الميت لا يكفيها أو أخرجها الورثة من نصيبهم انتقلت لأن هذا عذر والكون في بيتها عبادة والعبادة تسقط بالعذر قالوا : فإن عجزت عن كراء البيت الذي هي فيه لكثرته فلها أن تنتقل إلى بيت أقل كراء منه وهذا من كلامهم يدل على أن أجرة السكن عليها وإنما يسقط السكن عنها لعجزها عن أجرته ولهذا صرحوا بأنها تسكن في نصيبها من التركة إن كفاها وهذا لأنه لا سكنى عندهم للمتوفى عنها حاملا كانت أو حائلا وإنما عليها أن تلزم مسكنها الذي توفي زوجها وهي فيه ليلا لا نهارا فإن بذله لها الورثة وإلا كانت الأجرة عليها فهذا تحرير مذاهب الناس في هذه المسألة ومأخذ الخلاف فيها وبالله التوفيق
ولقد أصاب فريعة بنت مالك في هذا الحديث نظير ما أصاب فاطمة بنت قيس في حديثها فقال بعض المنازعين في هذه المسألة : لا ندع كتاب ربنا لقول امرأة فإن الله سبحانه إنما أمرها بالإعتداد أربعة أشهر وعشرا ولم يأمرها بالمنزل وقد أنكرت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وجوب المنزل وأفتت المتوفى عنها بالإعتداد حيث شاءت كما أنكرت حديث فاطمة بنت قيس وأوجبت السكنى للمطلقة
وقال بعض من نازغ في حديث الفريعة : قد قتل من الصحابة رضي الله عنهم على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم خلق كثير يوم أحد ويوم بئر معونة ويوم مؤتة وغيرها واعتد أزواجهم بعدهم فلو كان كل امرأة منهن تلازم منزلها زمن العدة لكان ذلك من أظهر الأشياء وأبينها بحيث لا يخفى على من هو دون ابن عباس وعائشة فكيف خفي هذا عليهما وعلى غيرهما من الصحابة الذين حكى أقوالهم مع استمرار العمل به استمرارا شائعا هذا من أبعد الأشياء ثم لو كانت السنة جارية بذلك لم تأت الفريعة تستأذنه صلى الله عليه و سلم أن تلحق بأهلها ولما أذن لها في ذلك ثم يأمر بردها بعد ذهابها ويأمرها بأن تمكث في بيتها فلو كان ذلك أمرا مستمرا ثابتا لكان قد نسخ بإذنه لها في اللحاق بأهلها ثم نسخ ذلك الإذن بأمره لها بالمكث في بيتها فيفضي إلى تغيير الحكم مرتين وهذا لا عهد لنا به في الشريعة في موضع متيقن
قال الآخرون : ليس في هذا ما يوجب رد هذه السنة الصحيحة الصريحة التي تلقاها أمير المؤمنين عثمان بن عفان وأكابر الصحابة بالقبول ونفذها عثمان وحكم بها ولو كنا لا نقبل رواية النساء عن النبي صلى الله عليه و سلم لذهبت سنن كثيرة من سنن الإسلام لا يعرف أنه رواها عنه إلا النساء وهذا كتاب الله ليس فيه ما ينبغي وجوب الإعتداد في المنزل حتى تكون السنة مخالفة له بل غايتها أن تكون بيانا لحكم سكت عنه الكتاب ومثل هذا لا ترد به السنن وهذا الذي حذر منه رسول الله صلى الله عليه و سلم بعينه أن تترك السنة إذا لم يكن نظير حكمها في الكتاب
وأما ترك أم المؤمنين رضي الله عنها لحديث الفريعة فلعله لم يبلغها ولو بلغها فلعلها تأولته ولو لم تتأوله فلعله قام عندها معارض له وبكل حال فالقائلون به في تركهم لتركها لهذا الحديث أعذر من التاركين له لترك أم المؤمنين له فبين التركين فرق عظيم
وأما من قتل مع النبي صلى الله عليه و سلم ومن مات في حياته فلم يأت قط أن نساءهم كن يعتددن حيث شئن ولم يأت عنهن ما يخالف حكم حديث فريعة البتة فلا يجوز ترك السنة الثابتة لأمر لا يعلم كيف كان ولو علم أنهن كن يعتددن حيث شئن ولم يأت عنهن ما يخالف حكم حديث الفريعة فلعل ذلك قبل استقرار هذا الحكم وثبوته حيث كان الأصل براءة الذمة وعدم الوجوب
وقد ذكر عبد الرزاق عن ابن جريج عن عبد الله بن كثير قال : قال مجاهد : استشهد رجال يوم أحد فجاء نساؤهم إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلن : إنا نستوحش يا رسول الله بالليل فنبيت عند إحدانا حتى إذا أصبحنا تبددنا في
بيوتنا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ تحدثن عند إحداكن ما بدا لكن فإذا أردتن النوم فلتؤب كل امرأة إلى بيتها ] وهذا وإن كان مرسلا فالظاهر أن مجاهدا إما أن يكون سمعه من تابعي ثقة أو من صحابي والتابعون لم يكن الكذب معروفا فيهم وهم ثاني القرون المفضلة وقد شاهدوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وأخذوا العلم عنهم وهم خير الأمة بعدهم فلا يظن بهم الكذب على رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا الرواية عن الكذابين ولا سيما العالم منهم إذا جزم على رسول الله صلى الله عليه و سلم بالرواية وشهد له بالحديث فقال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم وفعل رسول الله صلى الله عليه و سلم وأمر ونهى فيبعد كل البعد أن يقدم على ذلك مع كون الواسطة بينه وبين رسول الله صلى الله عليه و سلم كذابا أو مجهولا وهذا بخلاف مراسيل من بعدهم فكلما تأخرت القرون ساء الظن بالمراسيل ولم يشهد بها على رسول الله صلى الله عليه و سلم وبالجملة فليس الإعتماد على هذا المرسل وحده وبالله التوفيق (5/603)
ذكر حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم في إحداد المعتدة نفيا وإثباتا
ثبت في الصحيحين : عن حميد بن نافع عن زينب بنت أبي سلمة أنها أخبرته هذه الأحاديث الثلاثة قالت زينب : دخلت على أم حبيبة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه و سلم حين توفي أبوها أبو سفيان فدعت أم حبيبة رضي الله عنها بطيب فيه صفرة خلوق أو غيره فدهنت منه جارية ثم مست بعارضيها ثم قالت : والله مالي بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول على المنبر : [ لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا ]
قالت زينب : ثم دخلت على زينب بنت جحش حين توفي أخوها فدعت بطيب فمست منه ثم قالت : والله مالي بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول على المنبر : [ لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا ]
قالت زينت : وسمعت أمي أم سلمة رضي الله عنها تقول : [ جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت : يا رسول الله : إن بنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفتكحلها ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا مرتين أو ثلاثا كل ذلك يقول : لا ثم قال : إنما هي أربعة أشهر وعشرا وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول ]
فقالت زينب : كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشا ولبست شر ثيابها ولم تمس طيبا ولا شيئا حتى يمر بها سنة ثم تؤتى بدابة حمار أو شاة أو طير فتفتض به فقلما تفتض بشئ إلا مات ثم تخرج فتعطى بعرة فترمي بها ثم تراجع بعد ما شاءت من طيب أو غيره قال مالك تفتض : تمسح به جلدها
وفي الصحيحين : عن أم سلمة رضي الله عنها أن امرأة توفي عنها زوجها فخافوا على عينها فأتوا النبي صلى الله عليه و سلم فاستأذنوه في الكحل فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ قد كانت إحداكن تكون في شر ثيابها أو في شر أحلاسها في بيتها حولا فإذا مر كلب رمت ببعرة فخرجت أفلا أربعة أشهر وعشرا ]
وفي الصحيحين عن أم عطية الأنصارية رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لا تحد المرأة على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا ولا تلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب ولا تكتحل ولا تمس طيبا إلا إذا طهرت نبذة من قسط أو أظفار ]
وفي سنن أبي داود : من حديث الحسن بن مسلم عن صفية بنت شيبة عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب ولا الممشقة ولا الحلي ولا تكتحل ولا تختضب ]
وفي سننه أيضا : من حديث ابن وهب أخبرني مخرمة عن أبيه قال : سمعت المغيرة بن الضحاك يقول : أخبرتني أم حكيم بنت أسيد عن أمها أن زوجها توفي وكانت تشتكي عينيها فتكتحل بالجلاء قال أحمد بن صالح رحمه الله : الصواب : بكحل الجلاء فأرسلت مولاة لها إلى أم سلمة رضي الله عنها فسألتها عن كحل الجلاء فقالت : لا تكتحلي به إلا من أمر لا بد منه يشتد عليك فتكتحلين بالليل وتمسحينه بالنهار ثم قالت عند ذلك أم سلمة : دخل علي رسول الله صلى الله عليه و سلم حين توفي أبو سلمة وقد جعلت على عيني صبرا فقال : [ ما هذا يا أم سلمة ؟ فقلت : إنما هو صبر يا رسول الله ليس فيه طيب فقال : إنه يشب الوجه فلا تجعليه إلا بالليل وتنزعيه بالنهار ولا تمتشطي بالطيب ولا بالحناء فإنه خضاب قالت : قلت : بأي شئ أمتشط يا رسول الله ؟ قال : بالسدر تغلفين به رأسك ]
وقد تضمنت هذه السنة أحكاما عديدة أحدها : أنه لا يجوز الإحداد على ميت فوق ثلاثة أيام كائنا من كان إلا الزوج وحده
وتضمن الحديث الفرق بين الإحدادين من وجهين
أحدهما : من جهة الوجوب والجواز فإن الإحداد على الزوج واجب وعلى غيره جائز
الثاني : من مقدار مدة الإحداد فالإحداد على الزوج عزيمة وعلى غيره رخصة وأجمعت الأمة على وجوبه على المتوفى عنها زوجها إلا ما حكي عن الحسن والحكم بن عتيبة أما الحسن فروى حماد بن سلمة عن حميد عنه أن المطلقة ثلاثا والمتوفى عنها زوجها تكتحلان وتمتشطان وتتطيبان وتختضبان وتنتقلان وتصنعان ما شاءتا وأما الحكم : فذكر عنه شعبة : أن المتوفى عنها لا تحد
قال ابن حزم : واحتج أهل هذه المقالة ثم ساق من طريق أبي الحسن محمد بن عبد السلام حدثنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة حدثنا الحكم بن عتيبة عن عبد الله بن شداد بن الهاد أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لامرأة جعفر بن أبي طالب : [ إذا كان ثلاثة أيام فالبسي ما شئت أو إذا كان بعد ثلاثة أيام ] شعبة شك
ومن طريق حماد بن سلمة حدثنا الحجاج بن أرطاة عن الحسن بن سعد عن عبد الله بن شداد أن أسماء بنت عميس
استأذنت النبي صلى الله عليه و سلم أن تبكي على جعفر وهي امرأته فأذن لها ثلاثة أيام ثم بعث إليها بعد ثلاثة أيام أن
تطهري واكتحلي
قالوا : وهذا ناسخ لأحاديث الإحداد لأنه بعدها فإن أم سلمة رضي الله عنها روت حديث الإحداد وأنه صلى الله عليه و سلم أمرها به إثر موت أبي سلمة ولا خلاف أن موت أبي سلمة كان قبل موت جعفر رضي الله عنهما
وأجاب الناس عن ذلك بأن هذا حديث منقطع فإن عبد الله بن شداد بن الهاد لم يسمع من رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا رآه فكيف يقدم حديثه على الأحاديث الصحيحة المسندة التي لا مطعن فيها ؟ وفي الحديث الثاني : الحجاج بن أرطاة ولا يعارض بحديثه حديث الأئمة الأثبات الذين هم فرسان الحديث (5/615)
فصل
الحكم الثاني : أن الإحداد تابع للعدة بالشهور أما الحامل فإذا انقضى حملها سقط وجوب الإحداد عنها اتفاقا فإن لها أن تتزوج وتتجمل وتتطيب لزوجها وتتزين له ما شاءت
فإن قيل : فإذا زادت مدة الحمل على أربعة أشهر وعشر فهل يسقط وجوب الإحداد أم يستمر إلى حين الوضع ؟ قيل : بل يستمر الإحداد إلى حين الوضع فإنه من توابع العدة ولهذا قيد بمدتها وهو حكم من أحكام العدة وواجب من واجباتها فكان معها وجودا وعدما (5/619)
فصل
الحكم الثالث : أن الإحداد تستوي فيه جميع الزوجات المسلمة والكافرة والحرة والأمة والصغيرة والكبيرة وهذا قول الجمهور : أحمد والشافعي ومالك إلا أن أشهب وابن نافع قالا : لا إحداد على الذمية ورواه أشهب عن مالك وهو قول أبي حنيفة ولا إحداد عنده على الصغيرة
واحتج أرباب هذا القول بأن النبي صلى الله عليه و سلم جعل الإحداد من أحكام من يؤمن بالله واليوم الآخر فلا تدخل فيه
الكافرة ولأنها غير مكلفة بأحكام الفروع
قالوا : وعدوله عن اللفظ العام المطلق إلى الخاص المقيد بالإيمان يقتضي أن هذا من أحكام الإيمان ولوازمه وواجباته فكأنه قال : من التزم الإيمان فهذا من شرائعه وواجباته
والتحقيق أن نفي حل الفعل عن المؤمنين لا يقتضي نفي حكمه عن الكفار ولا إثبات لهم أيضا وإنما يقتضي أن من التزم الإيمان وشرائعه فهذا لا يحل له ويجب على كل حال أن يلزم الإيمان وشرائعه ولكن لا يلزمه الشارع شرائع الإيمان إلا بعد دخوله فيه وهذا كما لو قيل : لا يحل لمؤمن أن يترك الصلاة والحج والزكاة فهذا لا يدل على أن ذلك حل للكافر وهذا كما قال في لباس الحرير : [ لا ينبغي هذا للمتقين ] فلا يدل أنه ينبغي لغيرهم وكذا قوله : [ لا ينبغي للمؤمن أن يكون لعانا ]
وسر المسألة : أن شرائع الحلال والحرام والإيجاب إنما شرعت لمن التزم أصل الإيمان ومن لم يلتزمه وخلي بينه وبين دينه فإنه يخلى بينه وبين شرائع الدين الذي التزمه كما خلي بينه وبين أصله ما لم يحاكم إلينا وهذه القاعدة متفق عليها بين العلماء ولكن عذر الذين أوجبوا الإحداد على الذمية أنه يتعلق به حق الزوج المسلم وكان منه إلزامها به كأصل العدة ولهذا لا يلزمونها به في عدتها من الذمي ولا يتعرض لها فيها فصار هذا كعقودهم مع المسلمين فإنهم يلزمون فيها بأحكام الإسلام وإن لم يتعرض لعقودهم مع بعضهم بعضا ومن ينازعهم في ذلك يقولون : الإحداد حق لله تعالى ولهذا لو اتفقت هي والأولياء والمتوفى على سقوطه بأن أوصاها بتركه لم يسقط ولزمها الإتيان به فهو جار مجرى العبادات وليست الذمية من أهلها فهذا سر المسألة (5/620)
فصل
الحكم الرابع : أن الإحداد لا يجب على الأمة ولا أم الولد إذا مات سيدهما لأنهما ليسا بزوجين قال ابن المنذر : لا أعلمهم يختلفون في ذلك
فإن قيل : فهل لهما أن تحدا ثلاثة أيام ؟ قيل : نعم لهما ذلك فإن النص إنما حرم الإحداد فوق الثلاث على غير الزوج وأوجبه أربعة أشهر وعشرا على الزوج فدخلت الأمة وأم الولد فيمن يحل لهن الإحداد لا فيمن يحرم عليهن ولا فيمن يجب
فإن قيل : فهل يجب على المعتدة من طلاق أو وطء شبهة أو زنى أو استبراء إحداد ؟
قلنا : هذا هو الحكم الخامس الذي دلت عليه السنة أنه لا إحداد على واحدة من هؤلاء لأن السنة أثبتت ونفت فخصت بالإحداد الواجب الزوجات وبالجائز غيرهن على الأموات خاصة وما عداهما فهو داخل في حكم التحريم على الأموات فمن أين لكم دخوله في الإحداد على المطلقة البائن ؟ وقد قال سعيد بن المسيب وأبو عبيد وأبو ثور وأبو حنيفة وأصحابه والإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه اختارها الخرقي : إن البائن يجب عليها الإحداد وهو مخص القياس لأنها معتدة بائن من نكاح فلزمها الإحداد كالمتوفى عنها لأنهما اشتركا في العدة واختلفا في سببها ولأن العدة تحرم النكاح فحرمت دواعيه قالوا : ولا ريب أن الإحداد معقول المعنى وهو أن إظهار الزينة والطيب والحلي مما يدعو المرأة إلى الرجال ويدعو الرجال إليها : فلا يؤمن أن تكذب في انقضاء عدتها استعجالا لذلك فمنعت من دواعي ذلك وسدت إليه الذريعة هذا مع أن الكذب في عدة الوفاة يتعذر غالبا بظهور موت الزوج وكون العدة أياما معدودة بخلاف عدة الطلاق فإنها بالأقراء وهي لا تعلم إلا من جهتها فكان الإحتياط لها أولى
قيل : قد أنكر الله سبحانه وتعالى على من حرم زينته التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق وهذا يدل على أنه لا يجوز أن يحرم من الزينة إلا ما حرمه الله ورسوله والله سبحانه قد حرم على لسان رسوله صلى الله عليه و سلم زينة الإحداد على المتوفى عنها مدة العدة وأباح رسوله الإحداد بتركها على غير الزوج فلا يجوز تحريم غير ما حرمه بل هو على أصل الإباحة وليس الإحداد من لوازم العدة ولا توابعها ولهذا لا يجب على الموطوءة بشبهة ولا المزني بها ولا المستبرأة ولا الرجعية اتفاقا وهذا القياس أولى من قياسها على المتوفى عنها لما بين العدتين من القروء قدرا أو سببا وحكما فإلحاق عدة الأقراء بالأقراء أولى من إلحاق عدة الأقراء بعدة الوفاة وليس المقصود من الإحداد على الزوج الميت مجرد ما ذكرتم من طلب الإستعجال فإن العدة فيه لم تكن لمجرد العلم ببراءة الرحم ولهذا تجب قبل الدخول وإنما هو من تعظيم هذا العقد وإظهار خطره وشرفه وأنه عند الله بمكان فجعلت العدة حريما له وجعل الإحداد من تمام هذا المقصود وتأكده ومزيد الإعتناء به حتى جعلت الزوجة أولى بفعله على زوجها من أبيها وابنها وأخيها وسائر أقاربها وهذا من تعظيم هذا العقد وتشريفه وتأكد الفرق بينه وبين السفاح من جميع أحكامه ولهذا شرع في ابتدائه إعلانه والإشهاد عليه والضرب بالدف لتحقق المضادة بينه وبين السفاح وشرع في آخره وانتهائه من العدة والإحداد ما لم يشرع في غيره (5/621)
فصل
الحكم السادس في الخصال التي تجتنبها الحادة وهي التي دل عليها النص دون الآراء والأقوال التي لا دليل عليها وهي أربعة
أحدها : الطيب بقوله في الحديث الصحيح : [ لا تمس طيبا ] ولا خلاف في تحريمه عند من أوجب الإحداد ولهذا لما خرجت أم حبيبة رضي الله عنها من إحدادها على أبيها أبي سفيان دعت بطيب فدهنت منه جارية ثم مست بعارضيها ثم ذكرت الحديث ويدخل في الطيب : المسك والعنبر والكافور والند والغالية والزباد والذريرة والبخور والأدهان المطيبة كدهن البان والورد والبنفسج والياسمين والمياه المعتصرة من الأدهان الطيبة كماء الورد وماء القرنفل وماء زهر النارنج فهدا كل طيب ولا يدخل فيه الزيت ولا الشيرج ولا السمن ولا تمنع من الأدهان بشئ من ذلك (5/623)
فصل
الحكم السابع : وهي ثلاثة أنواع أحدها : الزينة في بدنها فيحرم عليها الخضاب والنقش والتطريف والحمرة والإسفيداج فإن النبي صلى الله عليه و سلم نص على الخضاب منبها به على هذه الأنواع التي هي أكثر زينة منه وأعظم فتنة وأشد مضادة لمقصود الإحداد ومنها : الكحل والنهي عنه ثابت بالنص بالصريح الصحيح
ثم قال طائفة من أهل العلم من السلف والخلف : منهم أبو محمد بن حزم : لا تكتحل ولو ذهبت عيناها لا ليلا ولا نهارا ويساعد قولهم حديث أم سلمة المتفق عليه : أن امرأة توفي عنها زوجها فخافوا على عينها فأتوا النبي صلى الله عليه و سلم فاستأذنوه في الكحل فما أذن فيه بل قال : لا مرتين أو ثلاثا ثم ذكر لهم ما كانوا يفعلونه في الجاهلية من الإحداد البليغ سنة ويصبرن على ذلك أفلا يصبرن أربعة أشهر وعشرا ولا ريب أن الكحل من أبلغ الزينة فهو كالطيب أو أشد منه وقال بعض الشافعية : للسوداء أن تكتحل وهذا تصرف مخالف للنص والمعنى وأحكام رسول الله صلى الله عليه و سلم لا تفرق بين السود والبيض كما لا تفرق بين الطوال والقصار ومثل هذا القياس بالرأي الفاسد الذي اشتد نكير السلف له وذمهم إياه
وأما جمهور العلماء كمالك وأحمد وأبي حنيفة والشافعي وأصحابهم فقالوا : إن اضطرت إلى الكحل بالإثمد تداويا لا زينة فلها أن تكتحل به ليلا وتمسحه نهارا وحجتهم : حديث أم سلمة المتقدم رضي الله عنها فإنها قالت في كحل الجلاء : لا تكتحل إلا لما لا بد منه يشتد عليك فتكتحلين بالليل وتغسلينه بالنهار ومن حجتهم : حديث أم سلمة رضي الله عنها الآخر : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم دخل عليها وقد جعلت عليها صبرا فقال : [ ما هذا يا أم سلمة ؟ فقلت : صبر يا رسول الله ليس فيه طيب فقال : إنه يشب الوجه فقال : لا تجعليه إلا بالليل وتنزعيه بالنهار ] وهما حديث واحد فرقه الرواة وأدخل مالك هذا القدر منه في موطئه بلاغا وذكر أبو عمر في التمهيد له طرقا يشد بعضها بعضا ويكفي احتجاج مالك به وأدخله أهل السنن في كتبهم واحتج به الأئمة وأقل درجاته أن يكون حسنا ولكن حديثها هذا مخالف في الظاهر لحديثها المسند المتفق عليه فإنه يدل على المتوفى عنها لا تكتحل بحال فإن النبي صلى الله عليه و سلم لم يأذن للمشتكية عينها في الكحل لا ليلا ولا نهارا ولا من ضرورة ولا غيرها وقال : لا مرتين أو ثلاثا ولم يقل : إلا أن تضطر وقد ذكر مالك عن نافع عن صفبة ابنة عبيد أنها اشتكت عينها وهي حاد على زوجها عبد الله بن عمر فلم تكتحل حتى كادت عيناها ترمصان
قال أبو عمر : وهذا عندي وإن كان ظاهره مخالفا لحديثها الآخر لما فيه من إباحته بالليل وقوله في الحديث الآخر : لا مرتين أو ثلاثا على الإطلاق أن ترتيب الحديثين والله أعلم على أن الشكاة التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا لم تبلغ - والله أعلم - منها مبلغا لا بد لها فيه من الكحل فلذلك نهاها ولو كانت محتاجة مضطرة تخاف ذهاب بصرها لأباح لها ذلك كما فعل بالتي قال لها : [ اجعليه بالليل وامسحيه بالنهار ] والنظر يشهد لهذا التأويل لأن الضرورات تنقل المحظورات إلى حال المباح في الأصول ولهذا جعل مالك فتوى أم سلمة رضي الله عنها تفسيرا للحديث المسند في الكحل لأن أم سلمة رضي الله عنها روته وما كانت لتخالفه إذا صح عندها وهي أعلم بتأويله ومخرجه والنظر يشهد لذلك لأن المضطر إلى شئ لا يحكم له بحكم المرفه المتزين بالزينة وليس الدواء والتداوي من الزينة في شئ وإنما نهيت الحادة عن الزينة لا عن التداوي وأم سلمة رضي الله عنها أعلم بما روت مع صحته في النظر وعليه أهل الفقه وبه قال مالك والشافعي وأكثر الفقهاء
وقد ذكر مالك رحمه الله في موطئه أنه بلغه عن سالم بن عبد الله وسليمان بن يسار أنهما كانا يقولان في المرأة يتوفى عنها زوجها : إنها إذا خشيت على بصرها من رمد بعينها أو شكوى أصابتها أنها تكتحل وتتداوى بالكحل وإن كان فيه طيب قال أبو عمر : لأن القصد إلى التداوي لا إلى التطيب والأعمال بالنيات
وقال الشافعي رحمه الله الصبر يصفر فيكون زينة وليس بطيب وهو كحل الجلاء فأذنت أم سلمة رضي الله عنها للمرأة بالليل حيث لا ترى وتمسحه بالنهار حيث يرى وكذلك ما أشبهه
وقال أبو محمد بن قدامة في المغني : وإنما تمنع الحادة من الكحل بالإثمد لأنه الذي تحصل به الزينة فأما الكحل بالتوتيا والعنزروت ونحوهما فلا بأس به لأنه لا زينة فيه بل يقبح العين ويزيدها مرها قال : ولا تمنع من جعل الصبر على غير وجهها من بدنها لأنه إنما منع منه في الوجه لأنه يصفره فيشبه الخضاب فلهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم : إنه يشب الوجه
قال : ولا تمنع من تقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق الشعر المندوب إلى حلقه ولا من الإغتسال بالسدر والإمتشاط به لحديث أم سلمة رضي الله عنها ولأنه يراد للتنظيف لا للتطيب وقال إبراهيم بن هانئ النيسابوري في مسائله قيل لأبي عبد الله المتوفى عنها تكتحل بالإثمد ؟ قال : لا ولكن إذا أرادت اكتحلت بالصبر إذا خافت على عينها واشتكت شكوى شديدة (5/623)
فصل
النوع الثاني : زينة الثياب فيحرم عليها ما نهاها عنه النبي صلى الله عليه و سلم وما هو أولى بالمنع منه وما هو مثله وقد صح عنه أنه قال : [ ولا تلبس ثوبا مصبوغا ] وهذا يعم المعصفر والمزعفر وسائر المصبوغ بالأحمر والأصفر والأخضر والأزرق الصافي وكل ما يصبغ للتحسين والتزيين وفي اللفظ الآخر : [ ولا تلبس المعصفر من الثياب ولا الممشق ]
وههنا نوعان آخران أحدهما : مأذون فيه وهو ما نسج من الثياب على وجهه ولم يدخل فيه صبغ من خز أو قز أو قطن أو كتان أو صوف أو وبر أو شعر أو صبغ غزله ونسج مع غيره كالبرود
والثاني : ما لا يراد بصبغه الزينة مثل السواد وما صيغ لتقبيح أو ليستر الوسخ فهذا لا يمنع منه
قال الشافعي رحمه الله : في الثياب زينتان إحداهما : جمال الثياب على اللابسين والسترة للعورة فالثياب زينة لمن يلبسها وإنما نهيت الحادة عن زينة بدنها ولم تنه عن ستر عورتها فلا بأس أن تلبس كل ثوب من البياض لأن البياض ليس بمزين وكذلك الصوف والوبر وكل ما ينسج على وجهه ولم يدخل عليه صبغ من خز أو غيره وكذلك كل صبغ لم يرد به تزيين الثوب مثل السواد وما صبغ لتقبيحه أو لنفي الوسخ عنه فأما ما كان من زينة أو وشي في ثوبه أو غيره فلا تلبسه الحادة وذلك لكل حرة أو أمة كبيرة أو صغيرة مسلمة أو ذمية انتهى كلامه
قال أبو عمر : وقول الشافعي رحمه الله في هذا الباب نحو قول مالك وقال أبو حنيفة : لا تلبس ثوب عصب ولا خز وإن لم يكن مصبوغا إذا أرادت به الزينة وإن لم ترد بلبس الثوب المصبوغ الزينة فلا بأس أن تلبسه وإذا اشتكت عينها اكتحلت بالأسود وغيره وإن لم تشتك عينها لم تكتحل (5/626)
فصل
وأما الإمام أحمد رحمه الله فقال في رواية أبي طالب : ولا تتزين المعتدة ولا تتطيب بشئ من الطيب ولا تكتحل بكحل زينة وتدهن بدهن ليس فيه طيب ولا تقرب مسكا ولا زعفرانا للطيب والمطلقة واحدة أو اثنتين تتزين وتتشوف لعله أن يراجعها
وقال أبو داود في مسائله : سمعت أحمد قال : المتوفى عنها زوجها والمطلقة ثلاثا والمحرمة يجتنبن الطيب والزينة
وقال حرب في مسائله : سألت أحمد رحمه الله قلت : المتوفى عنها زوجها والمطلقة هل تلبسان البرد ليس بحرير ؟ فقال : لا تتطيب المتوفى عنها ولا تتزين بزينة وشدد في الطيب إلا أن يكون قليلا عند طهرها ثم قال : وشبهت المطلقة ثلاثا بالمتوفى عنها لأنه ليس لزوجها عليها رجعة ثم ساق حرب بإسناده إلى أم سلمة قال : المتوفى عنها لا تلبس المعصفر من الثياب ولا تختضب ولا تكتحل ولا تتطيب ولا تمتشط بطيب
وقال إبراهيم بن هانئ النيسابوري في مسائله : سألت أبا عبد الله عن المرأة تنتقب في عدتها أو تدهن في عدتها ؟ قال : لا بأس به وإنما كره للمتوفى عنها زوجها أن تتزين وقال أبو عبد الله : كل دهن فيه طيب فلا تدهن به فقد دار كلام الإمام أحمد والشافعي وأبي حنيفة رحمهم الله على أن الممنوع منه من الثياب ما كان من لباس الزينة من أي نوع كان وهذا هو الصواب قطعا فإن المعنى الذي منعت من المعصفر والممشق لأجله مفهوم والنبي صلى الله عليه و سلم خصه بالذكر مع المصبوغ تنبيها على ما هو مثله وأولى بالمنع فإذا كان الأبيض والبرود المحبرة الرفيعة الغالية الأثمان مما يراد للزينة لارتفاعهما وتناهي جودتهما كان أولى بالمنع من الثوب المصبوغ وكل من عقل عن الله ورسوله لم يسترب في ذلك لا كما قال أبو محمد بن حزم : إنها تجتنب الثياب المصبغة فقط ومباح لها أن تلبس بعد ما شاءت من حرير أبيض وأصفر من لونه الذي لم يصبغ وصوف البحر الذي هو لونه وغير ذلك ومباح لها أن تلبس المنسوج بالذهب والحلي كله من الذهب والفضة والجوهر والياقوت والزمرد وغير ذلك فهي خمسة أشياء تجتنبها فقط وهي : الكحل كله لضرورة أو لغير ضرورة ولو ذهبت عيناها لا ليلا ولا نهارا وتجتنب فرضا كل ثوب مصبوغ مما يلبس في الرأس والجسد أو على شئ منه سواء في ذلك السواد والخضرة والحمرة والصفرة وغير ذلك إلا العصب وحده وهي ثياب موشاة تعمل في اليمن فهو مباح لها وتجتنب أيضا : فرضا الخضاب كله جملة وتجتنب الإمتشاط حاشا التسريح بالمشط فقط فهو حلال لها وتجتنب أيضا : فرضا الطيب كله ولا تقرب شيئا حاشا شيئا من قسط أو أظفار عند طهرها فقط فهذه الخمسة التي ذكرها حكينا كلامه فيها بنصه
وليس بعجيب منه تحريم لبس ثوب أسود عليها من الزينة في شئ وإباحة ثوب يتقد ذهبا ولؤلؤا وجوهرا ولا تحريم المصبوغ الغليظ لحمل الوسخ وإباحة الحرير الذي يأخذ بالعيون حسنه وبهاؤه ورواؤه وإنما العجب منه أن يقول : هذا دين الله في نفس الأمر وأنه لا يحل لأحد خلافه وأعجب من هذا إقدامه على خلاف الحديث الصحيح في نهيه صلى الله عليه و سلم لها عن لباس الحلي وأعجب من هذا أنه ذكر الخبر بذلك ثم قال : ولا يصح ذلك لأنه من رواية إبراهيم بن طهمان وهو ضعيف ولو صح لقلنا به فلله ما لقي إبراهيم بن طهمان من أبي محمد بن حزم وهو من الحفاظ الأثبات الثقات الذين اتفق الأئمة الستة على إخراج حديثه واتفق أصحاب الصحيح وفيهم الشيخان على الإحتجاج بحديثه وشهد له الأئمة بالثقة والصدق ولم يحفظ عن أحد منهم فيه جرح ولا خدش ولا يحفظ عن أحد من المحدثين قط تعليل حديث رواه ولا تضعيفه به وقرىء على شيخنا أبي الحجاج الحافظ في التهذيب وأنا أسمع : قال : إبراهيم بن طهمان بن سعيد الخراساني أبو سعيد الهروي ولد بهراة وسكن نيسابور وقدم بغداد وحدث بها ثم سكن بمكة حتى مات بها ثم ذكر عمن روى ومن روى عنه ثم قال : قال نوح بن عمرو بن المروزي عن سفيان بن عبد الملك عن ابن المبارك : صحيح الحديث وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه وأبي حاتم : ثقة وقال : عبد الله بن أحمد بن حنبل عن يحيى بن معين : لا بأس به وكذلك قال العجلي وقال أبو حاتم : صدوق حسن الحديث وقال عثمان بن سعيد الدارمي : كان ثقة في الحديث ثم لم تزل الأئمة يشتهون حديثه ويرغبون فيه ويوثقونه وقال أبو داود : ثقة وقال إسحاق بن راهويه : كان صحيح الحديث حسن الرواية كثير السماع ما كان بخراسان أكثر حديثا منه وهو ثقة وروى له الجماعة وقال يحيى بن أكثم القاضي : كان من أنبل من حدث بخراسان والعراق والحجاز وأوثقهم وأوسعهم علما وقال المسعودي : سمعت مالك بن سليمان يقول : مات إيراهيم بن طهمان سنة ثمان وستين ومائة بمكة ولم يخلف مثله
وقد أفتى الصحابة رضي الله عنهم بما هو مطابق لهذه النصوص وكاشف عن معناها ومقصودها فصح عن ابن عمر أنه قال : لا تكتحل ولا تتطيب ولا تختضب ولا تلبس المعصفر ولا ثوبا مصبوغا ولا بردا ولا تتزين بحلي ولا تلبس شيئا تريد به الزينة ولا تكتحل بكحل تريد به الزينة إلا أن تشتكي عينها
وصح عنه من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر : ولا تمس المتوفى عنها طيبا ولا تختضب ولا تكتحل ولا تلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب تتجلبب به
وصح عن أم عطية : لا تلبس الثياب المصبغة إلا العصب ولا تمس طيبا إلا أدنى الطيب بالقسط والأظفار ولا تكتحل بكحل زينة
وصح عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : تجتنب الطيب والزينة
وصح عن أم سلمة رضي الله عنها : لا تلبس من الثياب المصبغة شيئا ولا تكتحل ولا تلبس حليا ولا تختضب ولا تتطيب
وقالت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها : لا تلبس معصفرا ولا تقرب طيبا ولا تكتحل ولا تلبس حليا وتلبس إن شاءت ثياب العصب (5/627)
فصل
وأما النقاب فقال الخرقي في مختصره : وتجتنب الزوجة المتوفى عنها زوجها الطيب والزينة والبيتوتة في غير منزلها والكحل بالإثمد والنقاب
ولم أجد بهذا نصا عن أحمد
وقد قال إسحاق بن هانئ في مسائله : سألت أبا عبد الله عن المرأة تنتقب في عدتها أو تدهن في عدتها ؟ قال : لا بأس به وإنما كره للمتوفى عنها زوجها أن تتزين ولكن قد قال أبو داود في مسائله عن المتوفى عنها زوجها والمطلقة ثلاثا والمحرمة : تجتنبن الطيب والزينة فجعل المتوفى عنها بمنزلة المحرمة فيما تجتنبه فظاهر هذا أنها تجتنب النقاب فلعل أبا القاسم أخذ من نصه هذا - والله أعلم - وبهذا علله أبو محمد في المغني فقال : فصل الثالث : فيما تجتنبه الحادة النقاب وما في معناه مثل البرقع ونحوه لأن المعتدة مشبهة بالمحرمة والمحرمة تمتنع من ذلك وإذا احتاجت إلى ستر وجهها سدلت عليه كما تفعل المحرمة (5/630)
فصل
فإن قيل : فما تقولون في الثوب إذا صبغ عزله ثم نسج هل لها لبسه ؟ قيل : فيه وجهان وهما احتمالان في المغنى أحدهما : يحرم لبسه لأنه أحسن وأرفع ولأنه مصبوغ للحسن فأشبه ما صبغ بعد نسجه والثاني : لا يحرم لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم في حديث أم سلمة رضي الله عنها : [ إلا ثوب عصب ] وهو ما صبغ غزله قبل نسجه ذكره القاضي قال الشيخ : والاول أصح وأما العصب : فالصحيح : أنه نبت تصبغ به الثياب قال السهيلي : الورس والعصب نبتان باليمن لا ينبتان إلا به فأرخص النبي صلى الله عليه و سلم للحادة في لبس ما يصبغ بالعصب لأنه في معنى ما يصبغ لغير تحسين كالأحمر والأصفر فلا معنى لتجويز لبسه مع حصول الزينة بصبغه كحصولها بما صبغ بعد نسجه والله أعلم (5/631)
ذكر حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم في الإستبراء
ثبت في صحيح مسلم : من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم حنين بعث جيشا إلى أوطاس فلقي عدوا فقاتلوهم فظهروا عليهم وأصابوا سبايا فكأن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم تحرجوا من غشيانهن من أجل أزواجهن من المشركين فأنزل الله عز و جل في ذلك : { والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم } [ النساء : 24 ] أي : فهن لكم حلال إذا انقضت عدتهن
وفي صحيحه أيضا : من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبى صلى الله عليه و سلم مر بامرأة مجح على باب فسطاط فقال : لعله يريد أن يلم بها فقالوا : نعم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لقد هممت أن ألعنه لعنا يدخل معه قبره كيف يورثه وهو لا يحل له كيف يستخدمه وهو لا يحل له ]
وفي الترمذي : من حديث عرباض بن سارية أن النبي صلى الله عليه و سلم حرم وطء السبايا حتى يضعن ما في بطونهن
وفي المسند و سنن أبي داود : من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال في سبايا أوطاس : [ لا توطأ حامل حتى تضع ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة ]
وفي الترمذي : من حديث رويفع بن ثابت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقي ماءه ولد غيره ] قال الترمذي : حديث حسن
ولأبي داود من حديثه أيضا : [ لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقع على امرأة من السبي حتى يستبرئها ]
ولأحمد : [ من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا ينكحن ثيبا من السبايا حتى تحيض ]
وذكر البخاري في صحيحه : قال ابن عمر : إذا وهبت الوليدة التي توطأ أو بيعت أو عتقت فلتستبرأ بحيضة ولا تستبرأ العذراء
وذكر عبد الرزاق عن معمر عن عمرو بن مسلم عن طاووس : أرسل رسول الله صلى الله عليه و سلم مناديا في بعض مغازيه : [ لا يقعن رجل على حامل ولا حائل حتى تحيض ]
وذكر عن سفيان الثوري : عن زكريا عن الشعبي قال : أصاب المسلمون سبايا يوم أوطاس فأمرهم رسول الله صلى الله عليه و سلم أن لا يقعوا على حامل حتى تضع ولا على غير حامل حتى تحيض (5/631)
فصل
فتضمنت هذه السنن أحكاما عديدة
أحدها : أنه لا يجوز وطء المسمية حتى يعلم براءة رحمها فإن كانت حاملا فبوضع حملها وإن كانت حائلا فبأن تحيض حيضة فإن لم تكن من ذوات الحيض فلا نص فيها واختلف فيها وفي البكر وفي التي يعلم براءة رحمها بأن حاضت عند البائع ثم باعها عقيب الحيض ولم يطأها ولم يخرجها عن ملكه أو كانت عند امرأة وهي مصونة فانتقلت عنها إلى رجل فأوجب الشافعي وأبو حنيفة وأحمد الإستبراء في ذلك كله أخذا بعموم الأحاديث واعتبارا بالعدة حيث تجب مع العلم ببراءة الرحم واحتجاجا بآثار الصحابة كما ذكر عبد الرزاق : حدثنا ابن جريج قال : قال عطاء : تداول ثلاثة من التجار جارية فولدت فدعا عمر بن الخطاب رضي الله عنه القافة فألحقوا ولدها بأحدهم ثم قال عمر رضي الله عنه : من ابتاع جارية قد بلغت المحيض فليتربص بها حتى تحيض فإن كانت لم تحض فليتربص بها خمسا وأربعين ليلة
قالوا : وقد أوجب الله العدة على من يئست من المحيض وعلى من لم تبلغ سن المحيض وجعلها ثلاثة أشهر والإستبراء عدة الأمة فيجب على الآيسة ومن لم تبلغ سن المحيض
وقال آخرون : المقصود من الإستبراء العلم ببراءة الرحم فحيث تيقن المالك براءة رحم الأمة فله وطؤها ولا استبراء عليه كما رواه عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه قال : إذا كانت الأمة عذراء لم يستبرئها إن شاء وذكره البخاري في صحيحه عنه
وذكر حماد بن سلمة حدثنا علي بن زيد عن أيوب بن عبد الله اللخمي عن ابن عمر قال : وقعت في سهمي جارية يوم جلولاء كأن عنقها إبريق فضة قال ابن عمر : فما ملكت نفسي أن جعلت أقبلها والناس ينظرون
ومذهب مالك إلى هذا يرجع وهاك قاعدته وفروعها : قال أبو عبد الله المازري وقد عقد قاعدة لباب الإستبراء فنذكرها بلفظها
والقول الجامع في ذلك : أن كل أمة أمن عليها الحمل فلا يلزم فيها الإستبراء وكل من غلب على الظن كونها حاملا أو شك في حملها أو تردد فيه فالإستبراء لازم فيها وكل من غلب الظن ببراءة رحمها لكنه مع الظن الغالب يجوز حصوله فإن المذهب على قولين في ثبوت الإستبراء وسقوطه
ثم خرج على ذلك الفروع المختلفة فيها كاستبراء الصغيرة التي تطيق الوطء والآيسة وفيه روايتان عن مالك قال صاحب الجواهر : ويجب في الصغيرة إذا كانت ممن قارب سن الحمل كبنت ثلاث عشرة أو أربع عشرة وفي إيجاب الإستبراء إذا كانت ممن تطيق الوطء ولا يحمل مثلها كبنت تسع وعشر روايتان أثبته في رواية ابن القاسم ونفاه في رواية ابن عبد الحكم وإن كانت ممن لا يطيق الوطء فلا استبراء فيها قال : ويجب الإستبراء فيمن جاوزت سن الحيض ولم تبلغ سن الآيسة مثل ابنة الأربعين والخمسين وأما التي قعدت عن المحيض ويئست عنه فهل يجب فيها الإستبراء أو لا يجب ؟ روايتان لابن القاسم وابن عبد الحكم قال المازري : ووجه استبراء الصغيرة التي تطيق الوطء والآيسة أنه يمكن فيهما الحمل على الندور أو لحماية الذريعة لئلا يدعى في مواضع الإمكان أن لا إمكان
قال : ومن ذلك استبراء الأمة خوفا أن تكون زنت وهو المعبر عنه بالإستبراء لسوء الظن وفيه قولان والنفي لأشهب
قال : ومن ذلك استبراء الأمة الوخش فيه قولان الغالب : عدم وطء السادات لهن وإن كان يقع في النادر
ومن ذلك استبراء من باعها مجبوب أو امرأة أو ذو محرم ففي وجوبه روايتان عن مالك
ومن ذلك استبراء المكاتبة إذا كانت تتصرف ثم عجزت فرجعت إلى سيدها فابن القاسم يثبت الإستبراء وأشهب ينفيه
ومن ذلك استبراء البكر قال أبو الحسن اللخمي : هو مستحب على وجه الإحتياط غير واجب وقال غيره من أصحاب مالك : هو واجب
ومن ذلك إذا استبرأ البائع الأمة وعلم المشتري أنه قد استبرأها فإنه يجزئ استبراء البائع عن استبراء المشتري
ومن ذلك إذا أودعه أمة فحاضت عند المودع حيضة ثم استبرأها لم يحتح إلى استبراء ثان وأجزأت تلك الحيضة عن استبرائها وهذا بشرط أن لا تخرج ولا يكون سيدها يدخل عليها
ومن ذلك أن يشتريها من زوجته أو ولد له صغير في عياله وقد حاضت عند البائع فابن القاسم يقول : إن كانت لا تخرج أجزأه ذلك وأشهب يقول : إن كان مع المشتري في دار وهو الذاب عنها والناظر في أمرها أجزأه ذلك سواء كانت تخرج أو لا تخرج
ومن ذلك إن كان سيد الأمة غائبا فحين قدم اشتراها منه رجل قبل أن تخرج أو خرجت وهي حائض فاشتراها قبل أن تطهر فلا استبراء عليه
ومن ذلك إذا بيعت وهي حائض في أول حيضتها فالمشهور من مذهبه أن ذلك يكون استبراء لها لا يحتاج إلى حيضة مستأنفة
ومن ذلك الشريك يشتري نصيب شريكه من الجارية وهي تحت يد المشترى منهما وقد حاضت في يده فلا استبراء عليه
وهذه الفروع كلها من مذهبه تنبيك عن مأخذه في الإستبراء وأنه إنما يجب حيث لا يعلم ولا يظن براءة الرحم فإن علمت أو ظنت فلا استبراء وقد قال أبو العباس بن سريج وأبو العباس بن تيمية : إنه لا يجب استبراء البكر كما صح عن ابن عمر رضي الله عنهما وبقولهم نقول وليس عن النبي صلى الله عليه و سلم نص عام في وجوب استبراء كل من تجدد له عليها ملك على أي حالة كانت وإنما نهى عن وطء السبايا حتى تضع حواملهن وتحيض حوائلهن
فإن قيل : فعمومه يقتضي تحريم وطء أبكارهن قبل الإستبراء كما يمتنع وطء الثيب ؟
قيل : نعم وغايته أنه عموم أو إطلاق ظهر القصد منه فيخص أو يقيد عند انتفاء موجب الإستبراء ويخص أيضا بمفهوم قوله صلى الله عليه و سلم في حديث رويفع : [ من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا ينكح ثيبا من السبايا حتى تحيض ] ويخص أيضا بمذهب الصحابي ولا يعلم له مخالف
وفي صحيح البخاري : من حديث بريدة قال : بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم عليا رضي الله عنه إلى خالد يعني باليمين ليقبض الخمس فاصطفى علي منها سبية فأصبح وقد اغتسل فقلت لخالد : أما ترى إلى هذا ؟ وفي رواية : فقال
خالد لبريدة : ألا ترى ما صنع هذا ؟ قال بريدة : وكنت أبغض عليا رضي الله عنه فلما قدمنا إلى النبي صلى الله عليه و سلم ذكرت ذلك له فقال : [ يا بريدة أتبغض عليا ؟ قلت : نعم قال : لا تبغضه فإن له في الخمس أكثر من ذلك ]
فهذه الجاربة إما أن تكون بكرا فلم ير علي وجوب استبرائها وإما أن تكون في آخر حيضها فاكتفى بالحيضة قبل تملكه لها وبكل حال فلا بد أن يكون تحقق براءة رحمها بحيث أغناه عن الإستبراء
فإذا تأملت قول النبي صلى الله عليه و سلم حق التأمل وجدت قوله : [ ولا تؤطأ حامل حتى تضع ولا غير ذات حمل حتى تحيض ] ظهر لك منه أن المراد بغير ذات الحمل من يجوز أن تكون حاملا وأن لا تكون فيمسك عن وطئها مخافة الحمل لأنه لا علم له بما اشتمل عليه رحمها وهذا قاله في المسبيات لعدم علم السابي بحالهن
وعلى هذا فكل من ملك أمة لا يعلم حالها قبل الملك هل اشتمل رحمها على حمل أم لا ؟ لم يطأها حتى يستبرئها بحيضة هذا أمر معقول وليس بتعبد محض لا معنى له فلا معنى لاستبراء العذراء والصغيرة التي لا يحمل مثلها والتي اشتراها من امرأته وهي في بيته لا تخرج أصلا ونحوها ممن يعلم براءة رحمها فكذلك إذا زنت المرأة وأرادت أن تتزوج استبرأها بحيضة ثم تزوجت وكذلك إذا زنت وهي مزوجة أمسك عنها زوجها حتى تحيض حيضة وكذلك أم الولد إذا مات عنها سيدها اعتدت بحيضة
قال عبد الله بن أحمد : سألت أبي كم عدة أم الولد إذا توفي عنها مولاها أو أعتقها ؟ قال : عدتها حيضة وإنما هي أمة في كل أحوالها إن جنت فعلى سيدها قيمتها وإن جني عليها فعلى الجاني ما نقص بن قيمتها وإن ماتت فما تركت من شئ فلسيدها وإن أصابت حدا فحد أمة وإن زوجها سيدها فما ولدت فهم بمنزلتها يعتقون بعتقها ويرقون برقها
وقد اختلف الناس قي عدتها فقال بعض الناس : أربعة أشهر وعشرا فهذه عدة الحرة وهذه عدة أمة خرجت من الرق إلى الحرية فيلزم من قال : أربعة أشهر وعشرا أن يورثها وأن يجعل حكمها حكم الحرة لأنه قد أقامها في العدة مقام الحرة وقال بعض الناس : عدتها ثلاث حيض وهذا قول ليس له وجه إنما تعتد ثلاث حيض المطلقة وليست هي بمطلقة ولا حرة وإنما ذكر الله العدة فقال : { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا } [ البقرة : 234 ] وليست أم الولد بحرة ولا زوجة فتعتد بأربعة أشهر وعشر قال : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } وإنما هي أمة خرجت من الرق إلى الحرية وهذا لفظ أحمد رحمه الله
وكذلك قال في رواية صالح : تعتد أم الولد إذا توفي عنها مولاها أو أعتقها حيضة وإنما هي أمة في كل أحوالها
وقال في رواية محمد بن العباس : عدة أم الولد أربعة أشهر وعشر إذا توفي عنها سيدها
وقال الشيخ في المغني : وحكى أبو الخطاب رواية ثالثة عن أحمد : أنها تعتد بشهرين وخمسة أيام قال : ولم أجد هذه الرواية عن أحمد رحمه الله في الجامع ولا أظنها صحيحة عن أحمد رحمه الله وروي ذلك عن عطاء وطاووس وقتادة لأنها حين الموت أمة فكانت عدتها عدة الأمة كما لو مات رجل عن زوجته الأمة فعتقت بعد موته فليست هذه رواية إسحاق بن منصور عن أحمد
قال أبو بكر عبد العزيز في زاد المسافر : باب القول في عدة أم الولد من الطلاق والوفاة قال أبو عبد الله في رواية ابن القاسم : إذا مات السيد وهي عند زوج فلا عدة عليها كيف تعتد وهي مع زوجها ؟ وقال في رواية مهنا : إذا أعتق أم الولد فلا يتزوج أختها حتى تخرج من عدتها وقال في رواية إسحاق بن منصور : وعدة أم الولد عدة الأمة في الوفاة والطلاق والفرقة انتهى كلامه
وحجة من قال : عدتها أربعة أشهر وعشر ما رواه أبو داود عن عمرو بن العاص أنه قال : لا تفسدوا علينا سنة نبينا محمد صلى الله عليه و سلم عدة أم الولد إذا توفي عنها سيدها أربعة أشهر وعشر : وهذا قول السعيدين ومحمد بن سيرين ومجاهد وعمر بن عبد العزيز وخلاس بن عمرو والزهري والأوزاعي وإسحاق قالوا : لأنها حرة تعتد للوفاة فكانت عدتها أربعة أشهر وعشرا كالزوجة الحرة
وقال عطاء والنخعي والثوري وأبو حنيفة وأصحابه : تعتد بثلاث حيض وحكي عن علي وابن مسعود قالوا : لأنها لا بد لها من عدة وليست زوجة فتدخل في آية الأزواج المتوفى عنهن ولا أمة فتدخل في نصوص استبراء الإماء بحيضة فهي أشبه شئ بالمطلقة فتعتد بثلاثة أقراء
والصواب من هذه الأقوال : أنها تستبرأ بحيضة وهو قول عثمان بن عفان وعائشة وعبد الله بن عمر والحسن والشعبي والقاسم بن محمد وأبي قلابة ومكحول ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل في أشهر الروايات عنه وهو قول أبي عبيد وأبي ثور وابن المنذر فإن هذا إنما هو لمجرد الإستبراء لزوال الملك عن الرقبة فكان حيضة واحدة في حق من تحيض كسائر استبراءات المعتقات والمملوكات والمسبيات وأما حديث عمرو بن العاص فقال ابن المنذر : ضعف أحمد وأبو عبيد حديث عمرو بن العاص وقال محمد بن موسى : سألت أبا عبد الله عن حديث عمرو بن العاص فقال : لا يصح وقال الميموني : رأيت أبا عبد الله يعجب من حديث عمرو بن العاص هذا ثم قال : أين سنه رسول الله صلى الله عليه و سلم في هذا ؟ وقال : أربعة أشهر وعشرا إنما هي عدة الحرة من النكاح وإنما هذه أمة خرجت من الرق إلى الحرية ويلزم من قال بهذا أن يورثها وليس لقول من قال : تعتد ثلاث حيض وجه إنما تعتد بذلك المطلقة انتهى كلامه
وقال المنذري : في إسناد حديث عمرو مطر بن طهمان أبو رجاء الوراق وقد ضعفه غير واحد وأخبرنا شيخنا أبو الحجاج الحافظ في كتاب التهذيب قال أبو طالب : سألت أحمد بن حنبل عن مطر الوراق فقال : كان يحيى بن سعيد يضعف حديثه عن عطاء وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل : سألت أبي عن مطر الوراق قال : كان يحيى بن سعيد يشبه حديث مطر الوراق بابن أبي ليلى في سوء الحفظ قال عبد الله : فسألت أبي عنه ؟ فقال : ما أقربه من ابن أبي ليلى في عطاء خاصة وقال : مطر في عطاء : ضعيف الحديث قال عبد الله : قلت ليحيى بن معين : مطر الوراق ؟ فقال : ضعيف في حديث عطاء بن أبي رباح وقال النسائي : ليس بالقوي وبعد فهو ثقة قال أبو حاتم الرازي : صالح الحديث وذكره ابن حبان في كتاب الثقات واحتج به مسلم فلا وجه لضعف الحديث به
وإنما علة الحديث أنه من رواية قبيصة بن ذؤيب عن عمرو بن العاص رضي الله عنه ولم يسمع منه قاله الدارقطني وله علة أخرى وهي أنه موقوف لم يقل : لا تلبسوا علينا سنة نبينا قال الدارقطني : والصواب : لا تلبسوا علينا ديننا موقوف وله علة أخرى وهي اضطراب الحديث واختلافه عن عمرو على ثلاثة أوجه أحدها : هذا والثاني : عدة أم الولد عدة الحرة والثالث : عدتها إذا توفي عنها سيدها أربعة أشهر وعشرا فإذا أعتقت فعدتها ثلاث حيض والأقاويل الثلاثة عنه ذكرها البيهقي قال الإمام أحمد : هذا حديث منكر حكاه البيهقي عنه وقد روى خلاس عن علي مثل رواية قبيصة عن عمرو أن عدة أم الولد أربعة أشهر وعشر ولكن خلاس بن عمرو قد تكلم في حديثه فقال أيوب : لا يروى عنه فإنه صحفي وكان مغيرة لا يعبأ بحديثه وقال أحمد : روايته عن علي يقال : إنه كتاب وقال البيهقي : روايات خلاس عن علي ضعيفة عند أهل العلم بالحديث فقال : هي من صحيفة ومع ذلك فقد روى مالك عن نافع عن ابن عمر في أم الولد يتوفى عنها سيدها قال : تعتد بحيضة فإن ثبت عن علي وعمرو ما روي عنهما فهي مسألة نزاع بين الصحابة والدليل هو الحاكم وليس مع من جعلها أربعة أشهر وعشرا إلا التعلق بعموم المعنى إذ لم يكن معهم لفظ عام ولكن شرط عموم المعنى تساوي الأفراد في المعنى الذي ثبت الحكم لأجله فما لم يعلم ذلك لا يتحقق الإلحاق والذين ألحقوا أم الولد بالزوجة رأوا أن الشبه الذي بين أم الولد وبين الزوجة أقوى من الشبه الذي بينها وبين الأمة من جهة أنها بالموت صارت حرة فلزمتها العدة مع حريتها بخلاف الأمة ولأن المعنى الذي جعلت له عدة الزوجة أربعة أشهر وعشرا موجود في أم الولد وهو أدنى الأوقات الذي يتيقن فيها خلق الولد وهذا لا يفترق الحال فيه بين الزوجة وأم الولد والشريعة لا تفرق بين متماثلين ومنازعوهم يقولون : أم الولد أحكامها أحكام الإماء لا أحكام الزوجات ولهذا لم تدخل في قوله : { ولكم نصف ما ترك أزواجكم } [ النساء : 12 ] وغيرها فكيف تدخل في قوله : { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا } [ البقرة : 234 ] ؟ قالوا : والعدة لم تجعل أربعة أشهر وعشرا لأجل مجرد براءة الرحم فإنها تجب على من يتيقن براءة رحمها وتجب قبل الدخول والخلوة فهي من حريم عقد النكاح وتمامه
وأما استبراء الأمة فالمقصود منه العلم ببراءة رحمها وهذا يكفي فيه حيضة ولهذا لم يجعل استبراؤها ثلاثة قروء كما جعلت عدة الحرة كذلك تطويلا لزمان الرجعة ونظرا للزوج وهذا المعنى مقصود في المستبرأة فلا نص يقتضي إلحاقها بالزوجات ولا معنى فأولى الأمور بها أن يشرع لها ما شرعه صاحب الشرع في المسبيات والمملوكات ولا تتعداه وبالله التوفيق (5/633)
فصل
الحكم الثاني : أنه لا يحصل الإستبراء بطهر البتة بل لا بد من حيضة وهذا قول الجمهور وهو الصواب وقال أصحاب مالك والشافعي في قول له : يحصل بطهر كامل ومتى طعنت في الحيضة تم استبراؤها بناء على قولهما : إن الأقراء : الأطهار ولكن يرد هذا قول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة ] وقال رويفع بن ثابت : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول يوم حنين : [ من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يطأ جارية من السبي حتى يستبرئها بحيضة ] رواه الإمام أحمد وعنده فيه ثلاثة ألفاظ : هذا أحدها
الثاني : نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن لا توطأ الأمة حتى تحيض وعن الحبالى حتى تضعن
الثالث : [ من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا ينكحن ثيبا من السبايا حتى تحيض ] فعلق الحل في ذلك كله بالحيض وحده لا بالطهر فلا يجوز إلغاء ما اعتبره واعتبار ما ألغاه ولا تعويل على ما خالف نصه وهو مقتضى القياس المحض فإن الواجب هو الإستبراء والذي يدل على البراءة هو الحيض فأما الطهر فلا دلالة فيه على البراءة فلا يجوز أن يعول في الإستبراء على ما لا دلالة له فيه عليه دون ما يدل عليه وبناؤهم هذا على أن الأقراء هي الأطهار بناء على الخلاف للخلاف وليس بحجة ولا شبهة ثم لم يمكنهم بناء هذا على ذاك حتى خالفوه فجعلوا الطهر الذي طلقها فيه قرءا ولم يجعلوا طهر المستبرأة التي تجدد عليها الملك فيه أو مات سيدها فيه قرءا وحتى خالفوا الحديث أيضا كما تبين وحتى خالفوا المعنى كما بيناه ولم يمكنهم هذا البناء إلا بعد هذه الأنواع الثلاثة من المخالفة وغاية ما قالوا : أن بعض الحيضة المقترن بالطهر يدل على البراءة فيقال لهم : فيكون الإعتماد عليكم حينئذ على بعض الحيضة وليس ذلك قرءا عند أحد ؟ فإن قالوا : هو اعتماد على بعض حيضة وطهر قلنا : هذا قول ثالث في مسمى القروء ولا يعرف وهو أن تكون حقيقته مركبة من حيض وطهر
فإن قالوا : بل هو اسم للطهر بشرط الحيض فإذا انتفى الشرط انتفى المشروط قلنا : هذا إنما يمكن لو علق الشارع الإستبراء بقرء فأما مع تصريحه على التعليق بحيضة فلا (5/642)
فصل
الحكم الثالث : أنه لا يحصل ببعض حيضة في يد المشتري اكتفاء بها قال صاحب الجواهر : فإن بيعت الأمة في آخر أيام حيضها لم يكن ما بقي من أيام حيضها استبراء لها من غير خلاف وإن بيعت وهي في أول حيضتها فالمشهور من المذهب أن ذلك يكون استبراء لها
وقد احتج من نازع مالكا بهذا الحديث فإنه علق الحل بحيضة فلا بد من تمامها ولا دليل فيه على بطلان قوله فإنه لا بد من الحيضة بالإتفاق ولكن النزاع في أمر آخر وهو أنه هل يشترط أن يكون جميع الحيضة وهي في ملكه أو يكفي أن يكون معظمها في ملكه فهذا لا ينفيه الحديث ولا يثبته ولكن لمنازعيه أن يقولوا : لما اتفقنا على أنه لا يكفي أن يكون بعضها في ملك المشتري وبعضها في ملك البائع إذا كان أكثرها عند البائع علم أن الحيضة المعتبرة أن تكون وهي عند المشتري ولهذا لو حاضت عند البائع لم يكن ذلك كافيا في الإستبراء
ومن قال بقول مالك يجيب عن هذا بأنها إذا حاضت قبل البيع وهي مودعة عند المشتري ثم باعها عقيب الحيضة ولم تخرج من بيته اكتفي بتلك الحيضة ولم يجب على المشتري استبراء ثان وهذا أحد القولين في مذهب مالك كما تقدم فهو يجوز أن يكون الإستبراء واقعا قبل البيع في صور منها هذه
ومنها إذا وضعت للإستبراء عند ثالث فاستبرأها ثم بيعت بعده قال في الجواهر : ولا يجزئ الإستبراء قبل البيع إلا في حالات منها أن تكون تحت يده للإستبراء أو بالوديعة فتحيض عنده ثم يشتريها حينئذ أو بعد أيام وهي لا تخرج ولا يدخل عليها سيدها
ومنها : أن يشتريها ممن هو ساكن معه من زوجته أو ولد له صغير في عياله وقد حاضت فابن القاسم يقول : إن كانت لا تخرج أجزأه ذلك وقال أشهب : إن كانت معه في دار وهو الذاب عنها والناظر في أمرها فهو استبراء سواء كانت تخرج أو لا تخرج ومنها : إذا كان سيدها غائبا فحين قدم استبرأها قبل أن تخرج أو خرجت وهي حائض فاشتراها منه قبل أن تطهر
ومنها : الشريك يشتري نصيب شريكه من الجارية وهي تحت يد المشتري منهما وقد حاضت في يده وقد تقدمت هذه المسائل فهذه وما في معناها تضمنت الإستبراء قبل البيع واكتفى به مالك عن استبراء ثان
فإن قيل : فكيف يجتمع قوله هذا وقوله : إن الحيضة إذا وجد معظمها عند البائع لم يكن استبراءا ؟ قيل : لا تناقض بينهما وهذه لها موضع وهذه لها موضع فكل موضع يحتاج فيه المشتري إلى استبراء مستقل لا يجزئ إلا حيضة لم يوجد معظمها عند البائع وكل موضع لا يحتاج فيه إلى استبراء مستقل لا يحتاج فيه إلى حيضة ولا بعضها ولا اعتبار بالإستبراء قبل البيع كهذه الصور ونحوها (5/644)
فصل
الحكم الرابع : أنها إذا كانت حاملا فاستبراؤها بوضع الحمل وهذا كما أنه حكم النص فهو مجمع عليه بين الأمة (5/645)
فصل
الحكم الخامس : أنه لا يجوز وطؤها قبل وضع حملها أي حمل كان سواء كان يلحق بالواطئ كحمل الزوجة والمملوكة والموطوءة بشبهة أو لا يلحق به كحمل الزانية فلا يحل وطء حامل من غير الواطئ البتة كما صرح به النص وكذلك قوله صلى الله عليه و سلم : [ من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقي ماءه زرع غيره ] وهذا يعم الزرع الطيب والخبيث ولأن صيانة ماء الواطئ عن الماء الخبيث حتى لا يختلط به أولى من صيانته عن الماء الطيب ولأن حمل الزاني
وإن كان لا حرمة له ولا لمائه فحمل هذا الواطئ وماؤه محترم فلا يجوز له خلطه بغيره ولأن هذا مخالف لسنة الله في تمييز الخبيث من الطيب وتخليصه منه وإلحاق كل قسم بمجانسه ومشاكله
والذي يقضي منه العجب تجويز من جوز من الفقهاء الأربعة العقد على الزانية قبل استبرائها ووطئها عقيب العقد فتكون الليلة عند الزاني وقد علقت منه والليلة التي تليها فراشا للزوج
ومن تأمل كمال هذه الشريعة علم أنها تأبى ذلك كل الإباء وتمنع منه كل المنع
ومن محاسن مذهب الإمام أحمد أن حرم نكاحها بالكلية حتى تتوب ويرتفع عنها اسم الزانية والبغي والفاجرة فهو رحمه الله لا يجوز أن يكون الرجل زوج بغي ومنازعوه يجوزون ذلك وهو أسعد منهم في هذه المسألة بالأدلة كلها من النصوص والآثار والمعاني والقياس والمصلحة والحكمة وتحريم ما رآه المسلمون قبيحا والناس إذا بالغوا في سب الرجل صرحوا له بالزاي والقاف فكيف تجوز الشريعة مثل هذا مع ما فيه من تعرضه لإفساد فراشه وتعليق أولاد عليه من غيره وتعرضه للإسم المذموم عند جميع الأمم ؟ وقياس قول من جوز العقد على الزانية ووطئها قبل استبرائها حتى لو كانت حاملا أن لا يوجب استبراء الأمة إذا كانتما حاملا من الزنى بل يطؤها عقيب ملكها وهو مخالف لصريح السنة فإن أوجب استبراءها نقض قوله بجواز وطء الزانية قبل استبرائها وإن لم يوجب استبراءها خالف النصوص ولا ينفعه الفرق بينهما بأن الزوج لا استبراء عليه بخلاف السيد فإن الزوج إنما لم يجب عليه الإستبراء لأنه لم يعقد على معتدة ولا حامل من غيره بخلاف السيد ثم إن الشارع إنما حرم الوطء بل العقد في العدة خشية إمكان الحمل فيكون واطئا حاملا من غيره وساقيا ماءه لزرع غيره مع احتمال أن لا يكون كذلك فكيف إذا تحقق حملها
وغاية ما يقال : إن ولد الزانية ليس لاحقا بالواطئ الأول فإن الولد للفراش وفذا لا يجوز إقدامه على خلط مائه ونسبه بغيره وإن لم يلحق بالواطئ الأول فصيانة مائه ونسبه عن نسب لا يلحق بواضعه لصيانته عن نسب يلحق به
والمقصود : أن الشرع حرم وطء الأمة الحامل حتى تضع سواء كان حملها محرما أو غير محرم وقد فرق النبي صلى الله عليه و سلم بين الرجل والمرأة التي تزوج بها فوجدها حبلى وجلدها الحد وقضى لها بالصداق وهذا صريح في بطلان العقد على الحامل من الزنى وصح عنه أنه مر بامرأة مجح على باب فسطاط فقال : [ لعل سيدها يريد أن يلم بها ؟ قالوا : نعم قال : لقد هممت أن ألعنه لعنا يدخل معه قبره كيف يستخدمه وهو لا يحل له كيف يورثه وهو لا يحل له ؟ ! ]
فجعل سبب همه بلعنته وطأه للأمة الحامل ولم يستفصل عن حملها هل هو لاحق بالواطئ أم غير لاحق به ؟ وقوله : كيف يستخدمه وهو لا يحل له أي : كيف يجعله عبدا له يستخدمه وذلك لا يحل فإن ماء هذا الواطئ يزيد في خلق الحمل فيكون بعضه منه قال الإمام أحمد يزيد وطؤه في سمعه وبصره
وقوله : كيف يورثه وهو لا يحل له سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول فيه : أي : كيف يجعله تركة موروثة عنه فإنه يعتقده عبده فيجعله تركة تورث عنه ولا يحل له ذلك لأن ماءه زاد في خلقه ففيه جزء منه
وقال غيره : المعنى : كيف يورثه على أنه ابنه ولا يحل له ذلك لأن الحمل من غيره وهو بوطئه يريد أن يجعله منه فيورثه ماله وهذا يرده أول الحديث وهو قوله : كيف يستعبده ؟ أي : كيف يجعله عبده ؟ وهذا إنما يدل على المعنى الأول وعلى القولين فهو صريح في تحريم وطء الحامل من غيره سواء كان الحمل من زنى أو من غيره وأن فاعل ذلك جدير باللعن بل قد صرح جماعة من الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم : بأن الرجل إذا ملك زوجته الامة لم يطأها حتى يستبرئها خشية أن تكون حاملا منه في صلب النكاح فيكون على ولده الولاء لموالي أمه بخلاف ما علقت به في ملكه فإنه لا ولاء عليه وهذا كله احتياط لولده : هل هو صريح الحرية لا ولاء عليه أو عليه ولاء ؟ فكيف إذا كانت حاملا من غيره ؟ (5/645)
فصل
الحكم السادس : استنبط من قوله : [ لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة ] أن الحامل لا تحيض وأن ما تراه من الدم يكون دم فساد بمنزلة الإستحاضة تصوم وتصلي وتطوف بالبيت وتقرأ القران وهذه مسألة اختلف فيها الفقهاء فذهب عطاء والحسن وعكرمة ومكحول وجابر بن زيد ومحمد بن المنكدر والشعبي والنخعي والحكم وحماد والزهري وأبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي وأبو عبيد وأبو ثور وابن المنذر والإمام أحمد في المشهور من مذهبه والشافعي في أحد قوليه : إلى أنه ليس دم حيض
وقال قتادة وربيعة ومالك والليث بن سعد وعبد الرحمن بن مهدي وإسحاق بن راهويه : إنه دم حيض وقد ذكره البيهقى في سننه وقال إسحاق بن راهويه : قال لي أحمد بن حنبل : ما تقول في الحامل ترى الدم ؟ فقلت : تصلي
واحتججت بخبر عطاء عن عائشة رضي الله عنها قال : فقال أحمد بن حنبل أين أنت عن خبر المدنيين خبر أم علقمة مولاة عائشة رضي الله عنها ؟ فإنه أصح قال إسحاق : فرجعت إلى قول أحمد وهو كالتصريح من أحمد بأن دم الحامل دم حيض وهو الذي فهمه إسحاق عنه والخبر الذي أشار إليه أحمد وهو ما رويناه من طريق البيهقي أخبرنا الحاكم حدثنا أبو بكر بن إسحاق حدثنا أحمد بن إبراهيم حدثنا ابن بكير حدثنا الليث عن بكير بن عبد الله عن أم علقمة مولاة عائشة أن عائشة رضي الله عنها سئلت عن الحامل ترى الدم فقالت : لا تصلي قال البيهقي : ورويناه عن أنس بن مالك
وروينا عن عمر بن الخطاب ما يدل على ذلك وروينا عن عائشة رضي الله عنها أنها أنشدت لرسول الله صلى الله عليه و سلم بيت أبي كبير الهذلي :
( ومبرأ من كل غبر حيضة ... وفساد مرضعة وداء مغيل )
قال : وفي هذا دليل على ابتداء الحمل في حال الحيض حيث لم ينكر الشعر
قال : وروينا عن مطر عن عطاء عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : الحبلى لا تحيض إذا رأت الدم صلت قال : وكان يحيى القطان ينكر هذه الرواية ويضعف رواية ابن أبي ليلى ومطر عن عطاء
قال : وروى محمد بن راشد عن سليمان بن موسى عن عطاء عن عائشة رضي الله عنها نحو رواية مطر فإن كانت محفوظة فيشبه أن تكون عائشة كانت تراها لا تحيض ثم كانت تراها تحيض فرجعت إلى ما رواه المدنيون والله أعلم
قال المانعون من كون دم الحامل دم حيض : قد قسم النبي صلى الله عليه و سلم الإماء قسمين : حاملا وجعل عدتها وضع الحمل وحائلا فجعل عدتها حيضة فكانت الحيضة علما على براءة رحمها فلو كان الحيض يجامع الحمل لما كانت الحيضة علما على عدمه قالوا : ولذلك جعل عدة المطلقة ثلاثة أقراء يكون دليلا على عدم حملها فلو جامع الحمل الحيض لم يكن دليلا على عدمه : قالوا : وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين طلق ابنه امرأته وهي حائض : [ مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تظهر ثم إن شاء أمسكها بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء ]
ووجه الإستدلال به أن طلاق الحامل ليس ببدعة في زمن الدم وغيره إجماعا فلو كانت تحيض لكان طلاقها فيه وفي طهرها بعد المسيس بدعة عملا بعموم الخبر قالوا : وروى مسلم في صحيحه من حديث ابن عمر أيضا [ مره فليراجعها ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا ] وهذا يدل على أن ما تراه من الدم لا يكون حيضا فإنه جعل الطلاق في وقته نظير الطلاق في وقت الطهر سواء فلو كان ما تراه من الدم حيضا لكان لها حالان حال طهر وحال حيض ولم يجز طلاقها في حال حيضها فإنه يكون بدعة قالوا : وقد روى أحمد في مسنده من حديث رويفع عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لا يحل لأحد أن يسقي ماءه زرغ غيره ولا يقع على أمة حتى تحيض أو يتبين حملها ] فجعل وجود الحيض علما على براءة الرحم من الحمل قالوا : وقد روي عن علي أنه قال : إن الله رفع الحيض عن الحبلى وجعل الدم مما تغيض الأرحام
وقال ابن عباس رضي الله عنه : إن الله رفع الحيض عن الحبلى وجعل الدم رزقا للولد رواهما أبو حفص بن شاهين
قالوا : وروى الأثرم والدارقطني بإسنادهما عن عائشة رضي الله عنها في الحامل ترى الدم فقالت : الحامل لا تحيض وتغتسل وتصلي
وقولها : وتغتسل بطريق الندب لكونها مستحاضة قالوا : ولا يعرف عن غيرهم خلافهم لكن عائشة قد ثبت عنها أنها قالت : الحامل لا تصلي وهذا محمول على ما تراه قريبا من الولادة باليومين ونحوهما وأنه نفاس جمعا بين قوليها قالوا : ولأنه دم لا تنقضي به العدة فلم يكن حيضا كالإستحاضة
وحديث عائشة رضي الله عنها يدل على أن الحائض قد تحبل ونحن نقول بذلك لكنه يقطع حيضها ويرفعه قالوا : ولأن الله سبحانه آجرى العادة بانقلاب دم الطمث لبنا غداء للولد فالخارج وقت الحمل يكون غيره فهو دم فساد
قال المحيضون : لا نزاع أن الحامل قد ترى الدم على عادتها لا سيما في أول حملها وإنما النزاع في حكم هذا الدم لا في وجوده وقد كان حيضا قبل الحمل بالإتفاق فنحن نستصحب حكمه حتى يأتي ما يرفعه بيقين قالوا : والحكم إذا ثبت في محل فالأصل بقاؤه حتى يأتي ما يرفعه فالأول استصحاب لحكم الإجماع في محل النزاع والثاني استصحاب للحكم الثابت في المحل حتى يتحقق ما يرفعه والفرق بينهما ظاهر قالوا : وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إذا كان دم الحيض فإنه أسود يعرف ] وهذا أسود يعرف فكان حيضا
قالوا : وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ أليست إحداكن إذا حاضت لم تصم ولم تصل ؟ ] وحيض المرأة خروج دمها في أوقات معلومة من الشهر لغة وشرعا وهذا كذلك لغة والأصل في الأسماء تقريرها لا تغييرها
قالوا : ولأن الدم الخارج من الفرج الذي رتب الشارع عليه الأحكام قسمان : حيض واستحاضة ولم يجعل لهما ثالثا وهذا ليس باستحاضة فإن الإستحاضة الدم المطبق والزائد على أكثر الحيض أو الخارج عن العادة وهذا ليس واحدا منها فبطل أن يكون استحاضة فهو حيض قالوا : ولا يمكنكم إثبات قسم ثالث في هذا المحل وجعله دم فساد فإن هذا لا يثبت إلا بنص أو إجماع أو دليل يجب المصير إليه وهو منتف قالوا : وقد رد النبي صلى الله عليه و سلم المستحاضة إلى عادتها وقال : [ اجلسي قدر الأيام التي كنت تحيضين ] فدل على أن عادة النساء معتبرة في وصف الدم وحكمه فإذا جرى دم الحامل على عادتها المعتادة ووقتها من غير زيادة ولا نقصان ولا انتقال دلت عادتها على أنه حيض ووجب تحكيم عادتها وتقديمها على الفساد الخارج عن العبادة قالوا : وأعلم الأمة بهذه المسألة نساء النبي صلى الله عليه و سلم وأعلمهن عائشة وقد صح عنها من رواية أهل المدينة أنها لا تصلي وقد شهد له الإمام أحمد بأنه أصح من الرواية الأخرى عنها ولذلك رجع إليه إسحاق وأخبر أنه قول أحمد بن حنبل قالوا : ولا تعرف صحة الآثار بخلاف ذلك عمن ذكرتم من الصحابة ولو صحت فهي مسألة نزاع بين الصحابة ولا دليل يفصل
قالوا : ولأن عدم مجامعة الحيض للحمل إما أن يعلم بالحس أو بالشرع وكلاهما منتف أما الأول : فظاهر وأما الثاني : فليس عن صاحب الشرع ما يدل على أنهما لا يجتمعان
وأما قولكم : إنه جعله دليلا على براءة الرحم من الحمل في العدة والإستبراء قلنا : جعل دليلا ظاهرا أو قطعيا الأول : صحيح والثاني : باطل فإنه لو كان دليلا قطعيا لما تخلف عنه مدلوله ولكانت أول مدة الحمل من حين انقطاع الحيض وهذا لم يقله أحد بل أول المدة من حين الوطء ولو حاضت بعده عدة حيض فلو وطئها ثم جاءت بولد لأكثر من ستة أشهر من حين الوطء ولأقل منها من حين انقطاع الحيض لحقه النسب اتفاقا فعلم أنه أمارة ظاهرة قد يتخلف عنها مدلولها تخلف المطر عن الغيم الرطب وبهذا يخرج الجواب عما استدللتم به من السنة فإنا بها قائلون وإلى حكمها صائرون وهي الحكم بين المتنازعين والنبي صلى الله عليه و سلم قسم النساء إلى قسمين : حامل فعدتها وضع حملها وحائل فعدتها بالحيض ونحن قائلون بموجب هذا غير منازعين فيه ولكن أين فيه ما يدل على أن ما تراه الحامل من الدم على عادتها تصوم معه وتصلي ؟ هذا أمر آخر لا تعرض للحديث به وهذا يقول القائلون : بأن دمها دم حيض هذه العبارة بعينها ولا يعد هذا تناقضا ولا خللا في العبارة
قالوا : وهكذا قوله في شأن عبد الله بن عمر رضي الله عنه : [ مره فليراجعها ثم ليطلقها طاهرا قبل أن يمسها ] إنما فيه إباحة الطلاق إذا كانت حائلا بشرطين : الطهر وعدم المسيس فأين في هذا التعرض لحكم الدم الذي تراه على حملها ؟
وقولكم : إن الحامل لو كانت تحيض لكان طلاقها في زمن الدم بدعة وقد اتفق الناس على أن طلاق الحامل ليس ببدعة وإن رأت الدم ؟
قلنا : إن النبي صلى الله عليه و سلم قسم أحوال المرأة التي يريد طلاقها إلى حال حمل وحال خلو عنه وجوز طلاق الحامل مطلقا من غير استثناء وأما غير ذات الحمل فإنما أباح طلاقها بالشرطين المذكورين وليس في هذا ما يدل على أن دم الحامل دم فساد بل على أن الحامل تخالف غيرها في الطلاق وأن غيرها إنما تطلق طاهرا غير مصابة ولا يشترط في الحامل شئ من هذا بل تطلق عقيب الإصابة وتطلق وإن رأت الدم فكما لا يحرم طلاقها عقيب إصابتها لا يحرم حال حيضها وهذا الذي تقتضيه حكمة الشارع في وقت الطلاق إذنا ومنعا فإن المرأة متى استبان حملها كان المطلق على بصيرة من أمره ولم يعرض له من الندم ما يعرض لهن كلهن بعد الجماع ولا يشعر بحملها فليس ما منع منه نظير ما أذن فيه لا شرعا ولا واقعا ولا اعتبارا ولا سيما من علل المنع من الطلاق في الحيض بتطويل العدة فهذا لا أثر له في الحامل
قالوا : وأما قولكم : إنه لو كان حيضا لانقضت به العدة فهذا لا يلزم لأن الله سبحانه جعل عدة الحامل بوضع الحمل وعدة الحائل بالأقراء ولا يمكن انقضاء عدة الحامل بالأقراء لإفضاء ذلك إلى أن يملكها الثاني ويتزوجها وهي حامل من غيره فيسقي ماءه زرع غيره
قالوا : وإذا كنتم سلمتم لنا أن الحائض قد تحبل وحملتم على ذلك حديث عائشة رضي الله عنها ولا يمكنكم منع ذلك لشهادة الحس به فقد أعطيتم أن الحيض والحبل يجتمعان فبطل استدلالكم من رأسه لأن مداره على أن الحيض لا يجامع الحبل
فإن قلتم : نحن إنما جوزنا ورود الحمل على الحيض وكلامنا في عكسه وهو ورود الحيض على الحمل وبينهما فرق
قيل : إذا كانا متنافيين لا يجتمعان فأي فرق بين ورود هذا على هذا وعكسه ؟
وأما قولكم : إن الله سبحانه أجرى العادة بانقلاب دم الطمث لبنا يتغذى به الولد ولهذا لا تحيض المراضع قلنا : وهذا من أكبر حجتنا عليكم فإن هذا الإنقلاب والتغذية باللبن إنما يستحكم بعد الوضع وهو زمن سلطان اللبن وارتضاع المولود وقد أجرى الله العادة بأن المرضع لا تحيض ومع هذا فلو رأت دما في وقت عادتها لحكم له بحكم الحيض بالإتفاق فلأن يحكم له بحكم الحيض في الحال التي لم يستحكم فيها انقلابه ولا تغذى الطفل به أولى وأحرى قالوا : وهب أن هذا كما تقولون فهذا إنما يكون عند احتياج الطفل إلى التغذية باللبن وهذا بعد أن ينفخ فيه الروح فأما قبل ذلك فإنه لا ينقلب لبنا لعدم حاجة الحمل إليه
وأيضا فإنه لا يستحيل كله لبنا بل يستحيل بعضه ويخرج الباقي وهذا القول هو الراجح كما تراه نقلا ودليلا والله المستعان
فإن قيل : فهل تمنعون من الإستمتاع بالمستبرأة بغير الوطء في الموضع الذي يجب فيه الإستبراء ؟ قيل : أما إذا كانت صغيرة لا يوطأ مثلها فهذه لا تحرم قبلتها ولا مباشرتها وهذا منصوص أحمد فى إحدى الروايتين عنه اختارها أبو محمد المقدسي وشيخنا وغيرهما فإنه قال : إن كانت صغيرة بأي شئ تستبرأ إذا كانت رضيعة ؟ وقال في رواية أخرى : تستبرأ بحيضة إن كانت تحيض وإلا ثلاثة أشهر إن كانت ممن توطأ وتحبل قال أبو محمد : فظاهر هذا أنه لا يجب استبراؤها ولا تحرم مباشرتها وهذا اختيار ابن أبي موسى وقول مالك وهو الصحيح لأن سبب الإباحة متحقق وليس على تحريمها دليل فإنه لا نص فيها ولا معنى نص فإن تحريم مباشرة الكبيرة إنما كان لكونه داعيا إلى الوطء المحرم أو خشية أن تكون أم ولد لغيره ولا يتوهم هذا في هذه فوجب العمل بمقتضى الإباحة انتهى كلامه (5/648)
فصل
وإن كانت ممن يوطأ مثلها فإن كانت بكرا وقلنا : لا يجب استبراؤها فظاهر وإن قلنا : يجب استبراؤها فقال أصحابنا : تحرم قبلتها ومباشرتها وعندي أنه لا يحرم ولو قلنا بوجوب استبرائها لأنه لا يلزم من تحريم الوطء تحريم دواعيه كما في حق الصائم لا سيما وهم إنما حرموا تحريم مباشرتها لأنها قد تكون حاملا فيكون مستمتعا بأمة الغير هكذا عللوا تحريم المباشرة ثم قالوا : ولهذا لا يحرم الإستمتاع بالمسبية بغير الوطء قبل الإستبراء في إحدى الروايتين لأنها لا يتوهم فيها انفساخ الملك لأنه قد استقر بالسبي فلم يبق لمنع الإستمتاع بالقبلة وغيرها من البكر معنى وإن كانت ثيبا فقال أصحاب أحمد والشافعي وغيرهم : يحرم الإستمتاع بها قبل الإستبراء قالوا : لأنه استبراء يحرم الوطء فحرم الإستمتاع بها قبل الإستبراء كالعدة ولأنه لا يأمن كونها حاملا فتكون أم ولد والبيع باطل فيكون مستمتعا بأم ولد غيره قالوا : ولهذا فارق وطء تحريم الحائض والصائم
وقال الحسن البصري : لا يحرم من المستبرأة إلا فرجها وله أن يستمتع منها بما شاء ما لم يطأ لأن النبي صلى الله عليه و سلم إنما منع من الوطء قبل الإستبراء ولم يمنع مما دونه ولا يلزم من تحريم الوطء تحريم ما دونه كالحائض والصائمة وقد قيل : إن ابن عمر قبل جاريته من السبي حين وقعت في سهمه قبل استبرائها ولمن نصر هذا القول أن يقول : الفرق بين المشتراة والمعتدة : أن المعتدة قد صارت أجنبية منه فلا يحل وطؤها ولا دواعيه بخلاف المملوكة فإن وطأها إنما يحرم قبل الإستبراء خشية اختلاط مائه بماء غيره وهذا لا يوجب تحريم الدواعي فهي أشبه بالحائض والصائمة ونظير هذا أنه لو زنت امرأته أو جاريته حرم عليه وطؤها قبل الإستبراء ولا يحرم دواعيه وكذلك المسبية كما سيأتي وأكثر ما يتوهم كونها حاملا من سيدها فينفسخ البيع فهذا بناء على تحريم بيع أمهات الأولاد على علاته ولا يلزم القائل به لأنه لما استمتع بها كانت ملكه ظاهرا وذلك يكفي في جواز الإستمتاع كما يخلو بها ويحدثها وينظر منها ما لا يباح من الأجنبية وما كان جوابكم عن هذه الأمور فهو الجواب عن القبلة والإستمتاع ولا يعلم في جواز هذا نزاع فإن المشتري لا يمنع من قبض أمته وحوزها إلى بيته وإن كان وحده قبل الإستبراء ولا يجب عليها أن تستر وجهها منه ولا يحرم عليه النظر إليها والخلوة بها والأكل معها واستخدامها والاإتفاع بمنافعها وإن لم يجز له ذلك في ملك الغير (5/655)
فصل
وإن كانت مسبية ففي جواز الإستمتاع بغير الوطء قولان للفقهاء وهما روايتان عن أحمد رحمه الله
إحداهما : أنها كغير المسبية فيحرم الإستمتاع منها بما دون الفرج وهو ظاهر كلام الخرقي لأنه قال : ومن ملك أمة لم يصبها ولم يقبلها حتى يستبرئها بعد تمام ملكه لها
والثانية : لا يحرم وهو قول ابن عمر رضي الله عنه والفرق بينها وبين المملوكة بغير السبي أن المسبية لا يتوهم فيها كونها أم ولد يل هي مملوكة له على كل حال بخلاف غيرها كما تقدم والله أعلم
فإن قيل : فهل يكون أول مدة الإستبراء من حين البيع أو من حين القبض ؟
قيل : فيه قولان وهما وجهان في مذهب أحمد رحمه الله أحدهما : من حين البيع لأن الملك ينتقل به والثاني : من حين القبض لأن القصد معرفة براءة رحمها من ماء البائع وغيره ولا يحصل ذلك مع كونها في يده وهذا على أصل الشافعي وأحمد أما على أصل مالك فيكفي عنده الإستبراء قبل البيع في المواضع التي تقدمت فإن قيل : فإن كان في البيع خيار فمتى يكون ابتداء مدة الإستبراء ؟
قيل : هذا ينبني على الخلاف في انتقال الملك في مدة الخيار فمن قال : ينتقل فابتداء المدة عنده من حين البيع ومن قال : لا ينتقل فابتداؤها عنده من حين انقطاع الخيار
فإن قيل : فما تقولون لو كان الخيار خيار عيب ؟ قبل : ابتداء المدة من حين البيع قولا واحدا لأن خيار العيب لا يمنع نقل الملك بغير خلاف والله أعلم (5/656)
فصل
فإن قيل : قد دلت السنة على استبراء الحامل بوض الحمل وعلى استبراء الحائل بحيضة فكيف سكتت عن استبراء الآيسة والتي لم تحض ولم تسكت عنهما في العدة ؟ قيل : لم تسكت عنهما بحمد الله بل بينتهما بطريق الإيماء والتنبيه فإن الله سبحانه جعل عدة الحرة ثلاثة قروء ثم جعل عدة الآيسة والتي لم تحض ثلاثة أشهر فعلم أنه سبحانه جعل في مقابلة كل قرء شهرا ولهذا أجرى سبحانه عادته الغالبة في إمائه أن المرأة تحيض في كل شهر حيضة وبينت السنة أن استبراء الأمة الحائض بحيضة فيكون الشهر قائما مقام الحيضة وهذا إحدى الروايات عن أحمد وأحد قولي الشافعي وعن أحمد رواية ثانية : أنها تستبرأ بثلاثة أشهر وهي المشهورة عنه وهو أحد قولي الشافعي ووجه هذا القول ما احتج به أحمد في رواية أحمد بن القاسم فإنه قال : قلت لأبي عبد الله : كيف جعلت ثلاثة أشهر مكان حيضة وإنما جعل الله سبحانه في القرآن مكان كل حيضة شهرا ؟
فقال أحمد : إنما قلنا : ثلاثة أشهر من أجل الحمل فإنه لا يتبين في أقل من ذلك فإن عمر بن عبد العزيز سأل عن ذلك وجمع أهل العلم والقوابل فأخبروا أن الحمل لا يتبين في أقل من ثلاثة أشهر فأعجبه ذلك ثم قال : ألا تسمع قول ابن مسعود : إن النطفة تكون أربعين يوما علقة ثم أربعين يوما مضغة بعد ذلك فإذا خرجت الثمانون صارت بعدها مضغة وهي لحم فيتبين حينئذ
قال ابن القاسم : قال لي : هذا معروف عند النساء فأما شهر فلا معنى فيه انتهى كلامه
وعنه رواية ثالثة : أنها تستبرأ بشهر ونصف فإنه قال في رواية حنبل : قال عطاء : إن كانت لا تحيض فخمسة وأربعون ليلة قال حنبل : قال عمي : لذلك أذهب لأن عدة المطلقة الآيسة كذلك انتهى كلامه
ووجه هذا القول : أنها لو طلقت وهي آيسة اعتدت بشهر ونصف في رواية فلأن تستبرأ الأمة بهذا القدر أولى
وعن أحمد رواية رابعة : أنها تستبرأ بشهرين حكاها القاضي عنه واستشكلها كثير من أصحابه حتى قال صاحب المغني : ولم أر لذلك وجها قال : ولو كان استبراؤها بشهرين لكان استبراء ذات القروء بقرءين ولم نعلم به قائلا
ووجه هذه الرواية أنها اعتبرت بالمطلقة ولو طلقت وهي أمة لكانت عدتها شهرين هذا هو المشهور عن أحمد رحمه الله واحتج فيه بقول عمر رضي الله عنه وهو الصواب لأن الأشهر قائمة مقام القروء وعدة ذات القروء قرءان فبدلهما شهران وإنما صرنا إلى استبراء ذات القرء بحيضة لأنها علم ظاهر على براءتها من الحمل ولا يحصل ذلك بشهر واحد فلا بد من مدة تظهر فيها براءتها وهي إما شهران أو ثلاثة فكانت الشهران أولى لأنها جعلت علما على البراءة في حق المطلقة ففي حق المستبرأة أولى فهذا وجه هذه الرواية
وبعد فالراجح من الدليل : الإكتفاء بشهر واحد وهو الذي دل عليه إيماء النص وتنبيهه وفي جعل مدة استبرائها ثلاثة أشهر تسوية بينها وبين الحرة وجعلها بشهرين تسوية بينها وبين المطلقة فكان أولى المدد بها شهرا فإنه البدل التام والشارع قد اعتبر نظير هذا البدل في نظير الأمة وهي الحرة واعتبره الصحابة في الأمة المطلقة فصح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : عدتها حيضتان فإن لم تكن تحيض فشهران احتج به أحمد رحمه الله وقد نص أحمد رحمه الله في أشهر الروايات عنه على أنها إذا ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه اعتدت بعشرة أشهر تسعة للحمل وشهر مكان الحيضة
وعنه رواية ثانية : تعتد بسنة هذه طريقة الشيخ أبي محمد قال : وأحمد هاهنا جعل مكان الحيضة شهرا لأن اعتبار تكرارها في الآيسة لتعلم براءتها من الحمل وقد علم براءتها منه هاهنا بمضي غالب مدته فجعل الشهر مكان الحيضة على وفق القياس وهذا هو الذي ذكره الخرقي مفرقا بين الآيسة وبين من ارتفع حيضها فقال : فإن كانت آيسة فبثلاثة أشهر وإن ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه اعتدت بتسعة أشهر للحمل وشهر مكان الحيضة
وأما الشيخ أبو البركات فجعل الخلاف في الذي ارتفع حيضها كالخلاف في الآيسة وجعل فيها الروايات الأربع بعد غالب مدة الحمل تسوية بينها وبين الآيسة فقال في محرره : والآيسة والصغيرة بمضي شهر وعنه : بمضي ثلاثة أشهر وعنه : شهرين وعنه : شهر ونصف وإن ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه فبذلك بعد تسعة أشهر
وطريقة الخرقي والشيخ أبي محمد أصح وهذا الذي اخترناه من الإكتفاء بشهر هو الذي مال إليه الشيخ في المغني فإنه قال : ووجه استبرائها بشهر أن الله جعل الشهر مكان الحيضة ولذلك اختلفت الشهور باختلاف الحيضات فكانت عدة الحرة الآيسة ثلاثة أشهر مكان الثلاثة قروء وعدة الأمة شهرين مكان القرءين وللأمة المستبرأة التي ارتفع حيضها عشرة أشهر تسعة للحمل وشهر مكان الحيضة فيجب أن يكون مكان الحيضة هنا شهر كما في حق من ارتفع حيضها
قال : فإن قيل : فقد وجدتم ما دل على البراءة وهو تربص تسعة أشهر
قلنا : وهاهنا ما يدل على البراءة وهو الإياس فاستويا (5/657)
ذكر أحكامه صلى الله عليه و سلم في البيوع
ذكر حكمه صلى الله عليه و سلم فيما يحرم بيعه
ثبت في الصحيحين : من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه و سلم يقول : [ إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام فقيل : يا رسول الله : أرأيت شحوم الميتة فإنها يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس ؟ فقال : لا هو حرام ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم عند ذلك : قاتل الله اليهود إن الله لما حرم عليهم شحومها جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه ]
وفيهما أيضا : عن ابن عباس قال : بلغ عمر رضى الله عنه أن سمرة باع خمرا فقال : قاتل الله سمرة ألم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها ]
فهذا من مسند عمر رضي الله عنه وقد رواه البيهقي والحاكم في مستدركه فجعلاه من مسند ابن عباس وفيه زيادة ولفظه : عن ابن عباس قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم في المسجد يعني الحرام فرفع بصره إلى السماء فتبسم فقال : [ لعن الله اليهود لعن الله اليهود لعن الله اليهود إن الله عز و جل حرم عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها إن الله إذا حرم على قوم أكل شئ حرم عليهم ثمنه ] وإسناده صحيح فإن البيهقي رواه عن ابن عبدان عن الصفار عن إسماعيل القاضي حدثنا مسدد حدثنا بشر بن المفضل حدثنا خالد الحذاء عن بركة أبي الوليد عن ابن عباس
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه نحوه دون قوله : [ إن الله إذا حرم أكل شي حرم ثمنه ]
فاشتملت هذه الكلمات الجوامع على تحريم ثلاثة أجناس : مشارب تفسد العقول ومطاعم تفسد الطباع وتغذي غذاء خبيثا وأعيان تفسد الأديان وتدعو إلى الفتنة والشرك
فصان بتحريم النوع الأول العقول عما يزيلها ويفسدها وبالثاني : القلوب عما يفسدها من وصول أثر الغذاء الخبيث إليها والغاذي شبيه بالمغتذي وبالثالث : الأديان عما وضع لإفسادها
فتضمن هذا التحريم صيانة العقول والقلوب والأديان
ولكن الشأن في معرفة حدود كلامه صلوات الله عليه وما يدخل فيه وما لا يدخل فيه لتستبين عموم كلماته وجمعها وتناولها لجميع الأنواع التي شملها عموم كلماته وتأويلها بجميع الأنواع التي شملها عموم لفظه ومعناه وهذه خاصية الفهم عن الله ورسوله التي تفاوت فيه العلماء ويؤتيه الله من يشاء
فأما تحريم بيع الخمر فيدخل فيه تحريم بيع كل مسكر مائعا كان أو جامدا عصيرا أو مطبوخا فيدخل فيه عصير العنب وخمر الزبيب والتمر والذرة والشعير والعسل والحنطة واللقمة الملعونة لقمة الفسق والقلب التي تحرك القلب الساكن إلى أخبث الأماكن فإن هذا كله خمر بنص رسول الله صلى الله عليه و سلم الصحيح الصريح الذي لا مطعن في سنده ولا إجمال في متنه إذ صح عنه قوله : [ كل مسكر خمر ]
وصح عن أصحابه رضي الله عنهم الذين هم أعلم الأمة بخطابه ومراده : أن الخمر ما خامر العقل فدخول هذه الأنواع تحت اسم الخمر كدخول جميع أنواع الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والزبيب تحت قوله : [ لا تبيعوا الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح إلا مثلا بمثل ]
فكما لا يجوز إخراج صنف من هذه الأصناف عن تناول اسمه له فهكذا لا يجوز إخراج صنف من أصناف المسكر عن اسم الخمر فإنه يتضمن محذورين
أحدهما : أن يخرج من كلامه ما قصد دخوله فيه
والثاني : أن يشرع لذلك النوع الذي أخرج حكم غير حكمه فيكون تغييرا لألفاظ الشارع ومعانيه فإنه إذا سمى ذلك النوع بغير الإسم الذي سماه به الشارع أزال عنه حكم ذلك المسمى وأعطاه حكما آخر ولما علم النبي صلى الله عليه و سلم أن من أمته من يبتلى بهذا كما قال : [ ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها ] قضى قضية كلية عامة لا يتطرق إليها إجمال ولا احتمال بل هي شافية كافية فقال : [ كل مسكر خمر ] هذا ولو أن أبا عبيدة والخليل وأضرابهما من أئمة اللغة ذكروا هذه الكلمة هكذا لقالوا : قد نص أئمة اللغة على أن كل مسكر خمر وقولهم حجة وسيأتي إن شاء الله تعالى عند ذكر هديه في الأطعمة والأشربة مزيد تقرير لهذا وأنه لو لم يتناوله لفظه لكان القياس الصريح الذي استوى فيه الأصل والفرع من كل وجه حاكما بالتسوية بين أنواع المسكر في تحريم البيع والشرب فالتفريق بين نوع ونوع تفريق بين متماثلين من جميع الوجوه (5/660)
فصل
وأما تحريم بيع الميتة فيدخل فيه كل ما يسمى ميتة سواء مات حتف أنفه أو ذكي ذكاة لا تفيد حله ويدخل في أبعاضها أيضا ولهذا استشكل الصحابة رضي الله عنهم تحريم بيع الشحم مع ما لهم فيه من المنفعة فأخبرهم النبي صلى الله عليه و سلم أنه حرام وإن كان فيه ما ذكروا من المنفعة وهذا موضع اختلف الناس فيه لاختلافهم في فهم مراده صلى الله عليه و سلم وهو أن قوله : لا هو حرام : هل هو عائد إلى البيع أو عائد إلى الأفعال التي سألوا عنها ؟ فقال شيخنا : هو راجع إلى البيع فإنه صلى الله عليه و سلم لما أخبرهم أن الله حرم بيع الميتة قالوا : إن في شحومها من المنافع كذا وكذا يعنون فهل ذلك مسوغ لبيعها ؟ فقال : لا هو حرام
قلت : كأنهم طلبوا تخصيص الشحوم من جملة الميتة بالجواز كما طلب العباس رضي الله عنه تخصيص الإذخر من جملة تحريم نبات الحرم بالجواز فلم يجبهم إلى ذلك فقال : لا هو حرام
وقال غيره من أصحاب أحمد وغيرهم : التحريم عائد إلى الأفعال المسؤول عنها وقال : هو حرام ولم يقل : هي لأنه أراد المذكور جميعه ويرجح قولهم عود الضمير إلى أقرب مذكور ويرجحه من جهة المعنى أن إباحة هذه الأشياء ذريعة إلى اقتناء الشحوم وبيعها ويرجحه أيضا : أن في بعض ألفاظ الحديث فقال : لا هي حرام وهذا الضمير إما أن يرجع إلى الشحوم وإما إلى هذه الأفعال وعلى التقديرين فهو حجة على تحريم الأفعال التي سألوا عنها
ويرجحه أيضا قوله في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الفأرة التي وقعت في السمن : [ إن كان جامدا فألقوها وما حولها وكلوه وإن كان مائعا فلا تقربوه ] وفي الإنتفاع به في الإستصباح وغيره قربان له ومن رجح الأول يقول : ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إنما حرم من الميتة أكلها ] وهذا صريح في أنه لا يحرم الإنتفاع بها في غير الأكل كالوقيد وسد البثوق ونحوهما قالوا : والخبيث إنما تحرم ملابسته باطنا وظاهرا كالأكل واللبس وأما الإنتفاع به من غير ملابسة فلأي شئ يحرم ؟
قالوا : ومن تأمل سياق حديث جابر علم أن السؤال إنما كان منهم عن البيع وأنهم طلبوا منه أن يرخص لهم في بيع الشحوم لما فيها من المنافع فأبى عليهم وقال : هو حرام فإنهم لو سألوه عن حكم هذه الأفعال لقالوا : أرأيت شحوم الميتة هل يجوز أن يستصبح بها الناس وتدهن بها الجلود ولم يقولوا : فإنه يفعل بها كذا وكذا فإن هذا إخبار منهم لا سؤال وهم لم يخبروه بذلك عقيب تحريم هذه الأفعال عليهم ليكون قوله : لا هو حرام صريحا في تحريمها وإنما أخبروه به عقيب تحريم بيع الميتة فكأنهم طلبوا منه أن يرخص لهم في بيع الشحوم لهذه المنافع التي ذكروها فلم يفعل ونهاية الأمر أن الحديث يحتمل الأمرين فلا يحرم ما لم يعلم أن الله ورسوله حرمه
قالوا : وقد ثبت عنه أنه نهاهم عن الإستسقاء من آبار ثمود وأباح لهم أن يطعموا ما عجنوا منه من تلك الآبار للبهائم قالوا : ومعلوم أن إيقاد النجاسة والإستصباح بها انتفاع خال عن هذه المفسدة وعن ملابستها باطنا وظاهرا فهو نفع محض لا مفسدة فيه وما كان هكذا فالشريعة لا تحرمه فإن الشريعة إنما تحرم المفاسد الحالصة أو الراجحة وطرقها وأسبابها الموصلة إليها
قالوا : وقد أجاز أحمد في إحدى الروايتين الإستصباح بشحوم الميتة إذا خالطت دهنا ظاهرا فإنه في أكثر الروايات عنه يجوز الإستصباح بالزيت النجس وطلي السفن به وهو اختيار طائفة من أصحابه منهم : الشيخ أبو محمد وغيره واحتج بأن ابن عمر أمر أن يستصبح به
وقال في رواية ابنيه : صالح وعبد الله : لا يعجبني بيع النجس ويستصبح به إذا لم يمسوه لأنه نجس وهذا يعم النجس والمتنجس ولو قدر أنه إنما أراد به المتنجس فهو صريح في القول بجواز الإستصباح بما خالطه نجاسة ميتة أو غيرها وهذا مذهب الشافعي وأي فرق بين الإستصباح بشحم الميتة إذا كان منفردا وبين الإستصباح به إذا خالطه دهن طاهر فنجسه ؟
فإن قيل : إذا كان مفردا فهو نجس العين وإذا خالطه غيره تنجس به فأمكن تطهيره بالغسل فصار كالثوب النجس ولهذا يجوز بيع الدهن المتنجس على أحد القولين دون دهن الميتة
قيل : لا ريب أن هذا هو الفرق الذي عول عليه المفرقون بينهما ولكنه ضعيف لوجهين
أحدهما : أنه لا يعرف عن الإمام أحمد ولا عن الشافعي البتة غسل الدهن النجس وليس عنهم في ذلك كلمة واحدة وإنما ذلك من فتوى بعض المنتسبين وقد روي عن مالك أنه يطهر بالغسل هذه رواية ابن نافع وابن القاسم عنه
الثاني : أن هذا الفرق وإن تأتى لأصحابه في الزيت والشيرج ونحوهما فلا يتأتى لهم في جميع الأدهان فإن منها ما لا يمكن غسله وأحمد والشافعي قد أطلقا القول بجواز الإستصباح بالدهن النجس من غير تفريق
وأيضا فإن هذا الفرق لا يفيد في دفع كونه مستعملا للخبيث والنجاسة سواء كانت عينية أو طارئة فإنه إن حرم الإستصباح به لما فيه من استعمال الخبيث فلا فرق وإن حرم لأجل دخان النجاسة فلا فرق وإن حرم لكون الإستصباح به ذريعة إلى اقتنائه فلا فرق فالفرق بين المذهبين في جواز الإستصباح بهذا دون هذا لا معنى له
وأيضا فقد جوز جمهور العلماء الإنتفاع بالسرقين النجس في عمارة الأرض للزرع والثمر والبقل مع نجاسة عينه وملابسة المستعمل له أكثر من ملابسة الموقد وظهور أثره في البقول والزروع والثمار فوق ظهور أثر الوقيد وإحالة النار أتم من إحالة الأرض والهواء والشمس للسرقين فإن كان التحريم لأجل دخان النجاسة فمن سلم أن دخان النجاسة نجس وبأي كتاب أم بأية سنة ثبت ذلك ؟ وانقلاب النجاسة إلى الدخان أتم من انقلاب عين السرقين والماء النجس ثمرا أو زرعا وهذا أمر لا يشك فيه بل معلوم بالحس والمشاهدة حتى جوز بعض أصحاب مالك وأبي حنيفة رحمهما الله بيعه فقال ابن الماجشون : لا بأس ببيع العذرة لأن ذلك من منافع الناس وقال ابن القاسم : لا بأس ببيع الزبل قال اللخمي : وهذا يدل من قوله على أنه يرى بيع العذرة وقال أشهب في الزبل : المشتري أعذر فيه من البائع يعني في اشترائه وقال ابن عبد الحكم : لم يعذر الله واحدا منهما وهما سيان في الإثم
قلت : وهذا هو الصواب وأن بيع ذلك حرام وإن جاز الإنتفاع به والمقصود : أنه لا يلزم من تحريم بيع الميتة تحريم الإنتفاع بها في غير ما حرم الله ورسوله منها كالوقيد وإطعام الصقور والبزاة وغير ذلك وقد نص مالك على جواز الإستصباح بالزيت النجس في غير المساجد وعلى جواز عمل الصابون منه وينبغي أن يعلم أن باب الإنتفاع أوسع من باب البيع فليس كل ما حرم بيعه حرم الإنتفاع به بل لا تلازم بينهما فلا يؤخذ تحريم الإنتفاع من تحريم البيع (5/664)
فصل
ويدخل في تحريم بيع الميتة بيع أجزائها التي تحلها الحياة وتفارقها بالموت كاللحم والشحم والعصب وأما الشعر والوبر والصوف فلا يدخل في ذلك لأنه ليس بميتة ولا تحله الحياة وكذلك قال جمهور أهل العلم : إن شعور الميتة وأصوافها وأوبارها طاهرة إذا كانت من حيوان طاهر هذا مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل والليث والأوزاعي والثوري وداود وابن المنذر والمزني ومن التابعين : الحسن وابن سيرين وأصحاب عبد الله بن مسعود وانفرد الشافعي بالقول بنجاستها واحتج له بأن اسم الميتة يتناولها كما يتناول سائر أجزائها بدليل الأثر والنظر أما الأثر ففي الكامل لابن عدي : من حديث ابن عمر يرفعه : [ ادفنوا الأظافر والدم والشعر فإنها ميتة ] وأما النظر فإنه متصل بالحيوان ينمو بنمائه فينجس بالموت كسائر أعضائه وبأنه شعر نابت في محل نجس فكان نجسا كشعر الخنزير وهذا لأن ارتباطه بأصله خلقة يقتضي أن يثبت له حكمه تبعا فإنه محسوب منه عرفا والشارع أجرى الأحكام فيه على وفق ذلك فأوجب غسله في الطهارة وأوجب الجزاء يأخذه من الصيد كالأعضاء وألحقه بالمرأة في النكاح والطلاق حلا وحرمة وكذلك هاهنا وبأن الشارع له تشوف إلى إصلاح الأموال وحفظها وصيانتها وعدم إضاعتها وقد قال لهم في شاة ميمونة : [ هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به ] ولو كان الشعر طاهرا لكان إرشادهم إلى أخذه أولى لأنه أقل كلفة وأسهل تناولا
قال المطهرون للشعور : قال الله تعالى : { ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين } [ النحل : 80 ] وهذا يعم أحياءها وأمواتها وفي مسند أحمد : عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس رضي الله عنه قال : مر النبي صلى الله عليه و سلم بشاة لميمونة ميتة فقال : [ ألا انتفعتم بإهابها قالوا : وكيف وهي ميتة ؟ قال : إنما حرم لحمها ] وهذا ظاهر جدا في إباحة ما سوى اللحم والشحم والكبد والطحال والألية كلها داخلة في اللحم كما دخلت في تحريم لحم الخنزير ولا ينتقض هذا بالعظم والقرن والظفر والحافر فإن الصحيح طهارة ذلك كما سنقرره عقيب هذه المسألة
قالوا : ولأنه لو أخذ حال الحياة لكان ظاهرا فلم ينجس بالموت كالبيض وعكسه الأعضاء قالوا : ولأنه لما لم ينجس بجزه في حال حياة الحيوان بالإجماع دل على أنه ليس جزءا من الحيوان وأنه لا روح فيه لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ما أبين من حي فهو ميتة ] رواه أهل السنن ولأنه لا يتألم بأخذه ولا يحس بمسه وذلك دليل عدم الحياة فيه وأما النماء فلا يدل على الحياة والحيوانية التي يتنجس الحيوان بمفارقتها فإن مجرد النماء لو دل على الحياة ونجس المحل بمفارقة هذه الحياة لتنجس الزرع بيبسه لمفارقة حياة النمو والإغتذاء له
قالوا : فالحياة نوعان : حياة حس وحركة وحياة نمو واغتذاء فالأولى : هي التي يؤثر فقدها في طهارة الحي دون الثانية
قالوا : واللحم إنما ينجس لاحتقان الرطوبات والفضلات الخبيثة فيه والشعور والأصواف بريئة من ذلك ولا ينتقض بالعظام والأظفار لما سنذكره
قالوا : والأصل في الأعيان الطهارة وإنما يطرأ عليها التنجيس باستحالتها كالرجيع المستحيل عن الغذاء وكالخمر المستحيل عن العصير وأشباهها والشعور في حال استحالتها كانت طاهرة ثم لم يعرض لها ما يوجب نجاستها بخلاف أعضاء الحيوان فإنها عرض لها ما يقتضي نجاستها وهو احتقان الفضلات الخبيثة
قالوا : وأما حديث عبد الله بن عمر ففي إسناده عبد الله بن عبد العزيز بن أبي رواد قال أبو حاتم الرازي : أحاديثه منكرة ليس محله عندي الصدق وقال علي بن الحسين بن الجنيد : لا يساوي فلسا يحدث بأحاديث كذب
وأما حديث الشاة الميتة وقوله : ألا انتفعتم بإهابها ولم يتعرض للشعر فعنه ثلاثة أجوبة
أحدها : أنه أطلق الإنتفاع بالإهاب ولم يأمرهم بإزالة ما عليه من الشعر مع أنه لا بد فيه من شعر وهو صلى الله عليه و سلم لم يقيد الإهاب المنتفع به بوجه دون وجه فدل على أن الإنتفاع به فروا وغيره مما لا يخلو من الشعر
والثاني : أنه صلى الله عليه و سلم قد أرشدهم إلى الإنتفاع بالشعر في الحديث نفسه حيث يقول : [ إنما حرم من الميتة أكلها أو لحمها ]
والثالث : أن الشعر ليس من الميتة ليتعرض له في الحديث لأنه لا يحله الموت وتعليلهم بالتبعية يبطل بجلد الميتة إذا دبغ وعليه شعر فإنه يطهر دون الشعر عندهم وتمسكهم بغسله في الطهارة يبطل بالجبيرة وتمسكهم بضمانه من الصيد يبطل بالبيض وبالحمل وأما في النكاح فإنه يتبع الجملة لاتصاله وزوال الجملة بانفصاله عنها وهاهنا لو فارق الجملة بعد أن تبعها في التنجس لم يفارقها فيه عندهم فعلم الفرق (5/668)
فصل
فإن قيل : فهل يدخل في تحريم بيعها تحريم بيع عظمها وقرنها وجلدها بعد الدباغ لشمول اسم الميتة لذلك ؟ قيل : الذي يحرم بيعه منها هو الذي يحرم أكله واستعماله كما أشار إليه النبي صلى الله عليه و سلم بقوله : [ إن الله تعالى إذا حرم شيئا حرم ثمنه ] وفي اللفظ الآخر : [ إذا حرم أكل شئ حرم ثمنه ] فنبه على أن الذي يحرم بيعه يحرم أكله
وأما الجلد إذا دبغ فقد صار عينا طاهرة ينتفع في اللبس والفرش وسائر وجوه الإستعمال فلا يمتنع جواز بيعه وقد نص الشافعي في كتابه القديم على أنه لا يجوز بيعه واختلف أصحابه فقال القفال : لا يتجه هذا إلا بتقدير قول يوافق مالكا في أنه يطهر ظاهره دون باطنه وقال بعضهم : لا يجوز بيعه وإن طهر ظاهره وباطنه على قوله الجديد فإنه جزء من الميتة حقيقة فلا يجوز بيعه كعظمها ولحمها وقال بعضهم : بل يجوز بيعه بعد الدبغ لأنه عين طاهرة ينتفع بها فجاز بيعها كالمذكى وقال بعضهم : بل هذا ينبني على أن الدبغ إزالة أو إحالة فإن قلنا : إحالة جاز بيعه لأنه قد استحال من كونه ميتة إلى عين أخرى وإن قلنا : إزالة لم يجز بيعه لأن وصف الميتة هو المحرم لبيعه وذلك باق لم يستحل
وبنوا على هذا الخلاف جواز أكله ولهم فيه ثلاثة أوجه : أكله مطلقا وتحريمه مطلقا والتفصيل بين جلد المأكول وغير المأكول فأصحاب الوجه الأول غلبوا حكم الإحالة وأصحاب الوجه الثاني غلبوا حكم الإزالة وأصحاب الوجه الثالث أجروا الدباغ مجرى الذكاة فأباحوا بها ما يباح أكله بالذكاة إذا ذكي دون غيره والقول بجواز أكله باطل مخالف لصريح السنة ولهذا لم يمكن قائله القول به إلا بعد منعه كون الجلد بعد الدبغ ميتة وهذا منع باطل فإنه جلد ميتة حقيقة وحسا وحكما ولم يحدث له حياة بالدبغ ترفع عنه اسم الميتة وكون الدبغ إحالة باطل حسا فإن الجلد لم يستحل ذاته وأجزاؤه وحقيقته بالدباغ فدعوى أن الدباغ إحالة عن حقيقة إلى حقيقة أخرى كما تحيل النار الحطب إلى الرماد والملاحة ما يلقى فيها من الميتات إلى الملح دعوى باطلة
وأما أصحاب مالك رحمه الله ففي المدونة لابن القاسم المنع من بيعها وإن دبغت وهو الذي ذكره صاحب التهذيب وقال المازري : هذا هو مقتضى القول بأنها لا تطهر بالدباغ قال : وأما إذا فرعنا على أنها تطهر بالدباغ طهارة كاملة فإنا نجيز بيعها لإباحة جملة منافعها
قلت : عن مالك في طهارة الجلد المدبوغ روايتان إحداهما : يطهر ظاهره وباطنه وبها قال وهب وعلى هذه الرواية جوز أصحابه بيعه والثانية : - وهي أشهر الروايتين عنه - أنه يطهر طهارة مخصوصة يجوز معها استعماله في اليابسات وفي الماء وحده دون سائر المائعات قال أصحابه : وعلى هذه الرواية لا يجوز بيعه ولا الصلاة فيه ولا الصلاة عليه
وأما مذهب الإمام أحمد : فإنه لا يصح عنده بيع جلد الميتة قبل دبغه وعنه في جوازه بعد الدبغ روايتان هكذا أطلقهما الأصحاب وهما عندي مبنيتان على اختلاف الرواية عنه في طهارته بعد الدباغ
وأما بيع الدهن النجس ففيه ثلاثة أوجه في مذهبه
أحدها : أنه لا يجوز بيعه
والثاني : أنه يجوز بيعه لكافر يعلم نجاسته وهو المنصوص عنه قلت : والمراد بعلم النجاسة : العلم بالسبب المنجس لا اعتقاد الكافر نجاسته
والثالث : يجوز بيعه لكافر ومسلم وخرج هذا الوجه من جواز إيقاده وخرج أيضا من طهارته بالغسل فيكون كالثوب النجس وخرج بعض أصحابه وجها ببيع السرقين النجس للوقيد من بيع الزيت النجس له وهو تخريج صحيح
وأما أصحاب أبي حنيفة فجوزوا بيع السرقين النجس إذا كان تبعا لغيره ومنعوه إذا كان مفردا (5/671)
فصل
وأما عظمها فمن لم ينجسه بالموت كأبي حنيفة وبعض أصحاب أحمد واختيار ابن وهب من أصحاب مالك فيجوز بيعه عندهم وإن اختلف مأخذ الطهارة فأصحاب أبي حنيفة قالوا : لا يدخل في الميتة ولا يتناوله اسمها ومنعوا كون الألم دليل حياته قالوا : وإنما تؤلمه لما جاوره من اللحم لا ذات العظم وحملوا قوله تعالى : { قال من يحيي العظام وهي رميم } [ يس : 78 ] على حذف مضاف أي أصحابها وغيرعم ضعف هذا المأخذ جدا وقال : العظم يألم حسا وألمه أشد من ألم اللحم ولا يصح حمل الآية على حذف مضاف لوجهين أحدهما : أنه تقدير ما لا دليل عليه فلا سبيل إليه الثاني : أن هذا التقدير يستلزم الإضراب عن جواب سؤال السائل الذي استشكل حياة العظام فإن أبي بن خلف أخذ عظما باليا ثم جاء به إلى النبي صلى الله عليه و سلم ففته في يده فقال : يا محمد ! أترى الله يحيي هذا بعد ما رم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ نعم ويبعثك ويدخلك النار ]
فمأخذ الطهارة أن سبب تنجيس الميتة منتف في العظام فلم يحكم بنجاستها ولا يصح قياسها على اللحم لأن احتقان الرطوبات والفضلات الخبيثة يختص به دون العظام كما أن ما لا نفس له سائلة لا ينجس بالموت وهو حيوان كامل لعدم سبب التنجيس فيه فالعظم أولى وهذا المأخذ أصح وأقوى من الأول وعلى هذا فيجوز بيع عظام الميتة إذا كانت من حيوان طاهر العين
وأما من رأى نجاستها فإنه لا يجوز بيعها إذ نجاستها عينية قال ابن القاسم : قال مالك : لا أرى أن تشترى عظام الميتة ولا تباع ولا أنياب الفيل ولا يتجر فيها ولا يمتشط بأمشاطها ولا يدهن بمداهنها وكيف يجعل الدهن في الميتة ويمشط لحيته بعظام الميتة وهي مبلولة وكره أن يطبخ بعظام الميتة وأجاز مطرف وابن الماجشون بيع أنياب الفيل مطلقا وأجازه ابن وهب وأصبغ إن غليت وسلقت وجعلا ذلك دباغا لها (5/673)
فصل
وأما تحريم بيع الخنزير فيتناول جملته وجميع أجزائه الظاهرة والباطنة وتأمل كيف ذكر لحمه عند تحريم الأكل إشارة إلى تحريم أكله ومعظمه اللحم فذكر اللحم تنبيها على تحريم أكله دون ما قبله بخلاف الصيد فإنه لم يقل فيه : وحرم عليكم لحم الصيد بل حرم نفس الصيد ليتناول ذلك أكله وقتله وههنا لما حرم البيع ذكر جملته ولم يخص التحريم بلحمه ليتناول بيعه حيا وميتا (5/674)
فصل
وأما تحريم بيع الأصنام فيستفاد منه تحريم بيع كل آلة متخذة للشرك على أي وجه كانت ومن أي نوع كانت صنما أو وثنا أو صليبا وكذلك الكتب المشتملة على الشرك وعبادة غير الله فهذه كلها يجب إزالتها وإعدامها وبيعها ذريعة إلى اقتنائها واتخاذها فهو أولى بتحريم البيع من كل ما عداها فإن مفسدة بيعها بحسب مفسدتها في نفسها والنبي صلى الله عليه و سلم لم يؤخر ذكرها لخفة أمرها ولكنه تدرج من الأسهل إلى ما هو أغلظ منه فإن الخمر أحسن حالا من الميتة فإنها قد تصير مالا محترما إذا قلبها الله سبحانه ابتداء خلا أو قلبها الآدمي بصنعته عند طائفة من العلماء وتضمن إذا أتلفت على الذمي عند طائفة بخلاف الميتة وإنما لم يجعل الله في أكل الميتة حدا اكتفاء بالزاجر الذي جعله الله في الطباع من كراهتها والنفرة عنها وإبعادها عنها بخلاف الخمر والخنزير أشد تحريما من الميتة ولهذا أفرده الله تعالى بالحكم عليه أنه رجس في قوله : { قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا } [ الأنعام : 145 ] فالضمير في قوله : فإنه وإن كان عوده إلى الثلاثة المذكورة باعتبار لفظ المحرم فإنه يترجح اختصاص لحم الخنزير به لثلاثة أوجه أحدها : قربه منه والثاني : تذكيره دون قوله فإنها رجس والثالث : أنه أتى بالفاء و إن تنبيها على علة التحريم لتزجر النفوس عنه ويقابل هذه العلة ما في طباع بعض الناس من استلذاذه واستطابته فنفى عنه ذلك وأخبر أنه رجس وهذا لا يحتاج إليه في الميتة والدم لأن كونهما رجسا أمر مستقر معلوم عندهم ولهذا في القرآن نظائر فتأملها ثم ذكر بعد تحريم بيع الأصنام وهو أعظم تحريما وإثما وأشد منافاة للإسلام من بيع الخمر والميتة والخنزير (5/675)
فصل
وفي قوله : إن الله إذا حرم شيئا أو حرم أكل شئ حرم ثمنه يراد به أمران أحدهما : ما هو حرام العين والإنتفاع جملة كالخمر والميتة والدم والخنزير وآلات الشرك فهذه ثمنها حرام كيفما اتفقت
والثاني : ما يباح الإنتفاع به في غير الأكل وإنما يحرم أكله كجلد الميتة بعد الدباغ وكالحمر الأهلية والبغال ونحوها مما يحرم أكله دون الإنتفاع به فهذا قد يقال : إنه لا يدخل في الحديث وإنما يدخل فيه ما هو حرام على الإطلاق وقد يقال : إنه داخل فيه ويكون تحريم ثمنه إذا بيع لأجل المنفعة التي حرمت منه فإذا بيع البغل والحمار لأكلهما حرم ثمنهما بخلاف ما إذا بيعا للركوب وغيره وإذا بيع جلد الميتة للإنتفاع به حل ثمنه وإذا بيع لأكله حرم ثمنه وطرد هذا ما قاله جمهور من الفقهاء كأحمد ومالك وأتباعهما : إنه إذا بيع العنب لمن يعصره خمرا حرم أكل ثمنه بخلاف ما إذا بيع لمن يأكله وكذلك السلاح إذا بيع لمن يقاتل به مسلما حرم أكل ثمنه وإذا بيع لمن يغزو به في سبيل الله فثمنه من الطيبات وكذلك ثياب الحرير إذا بيعت لمن يلبسها ممن يحرم عليه حرم أكل ثمنها بخلاف بيعها ممن يحل له لبسها
فإن قيل : فهل تجوزون للمسلم بيع الخمر والخنزير من الذمي لاعتقاد الذمي حلهما كما جوزتم بيعه الدهن المتنجس إذا بين حاله لاعتقاده طهارته وحله ؟ قيل : لا يجوز ذلك وثمنه حرام والفرق بينهما : أن الدهن المتنجس عين طاهرة خالطها نجاسة ويسوغ فيها النزاع وقد ذهبت طائفة من العلماء إلى أنه لا ينجس إلا بالتغير وإن تغير فذهب طائفة إلى إمكان تطهيره بالغسل بخلاف العين التي حرمها الله في كل ملة وعلى لسان كل رسول كالميتة والدم والخنزير فإن استباحته مخالفة لما أجمعت الرسل على تحريمه وإن اعتقد الكافر حله فهو كبيع الأصنام للمشركين وهذا هو الذي حرمه الله ورسوله بعينه وإلا فالمسلم لا يشتري صنما
فإن قيل : فالخمر حلال عند أهل الكتاب فجوزوا بيعها منهم
قيل : هذا هو الذي توهمه من توهمه من عمال عمر بن الخطاب رضي الله عنه حتى كتب إليهم عمر رضي الله عنه ينهاهم عنه وأمر عماله أن يولوا أهل الكتاب بيعها بأنفسهم وأن يأخذوا ما عليهم من أثمانها فقال أبو عبيد : حدثنا عبد الرحمن عن سفيان بن سعيد عن إبراهيم بن عبد الأعلى الجعفي عن سويد بن غفلة قال : بلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن ناسا يأخذون الجزية من الخنازير فقام بلال فقال : إنهم ليفعلون فقال عمر رضي الله عنه : لا تفعلوا ولوهم بيعها
قال أبو عبيد : وحدثنا الأنصاري عن إسرائيل عن إبراهيم بن عبد الأعلى عن سويد بن غفلة أن بلالا قال لعمر رضي الله عنه : إن عمالك يأخذون الخمر والخنازير في الخراج فقال : لا تأخذوا منهم ولكن ولوهم بيعها وخذوا أنتم من الثمن
قال أبو عبيد : يريد أن المسلمين كانوا يأخذون من أهل الذمة الخمر والخنازير من جزية رؤوسهم وخراج أرضهم بقيمتها ثم يتولى المسلمون بيعها فهذا الذي أنكره بلال ونهى عنه عمر ثم رخص لهم أن يأخذوا ذلك من أثمانها إذا كان أهل الذمة هم المتولين لبيعها لأن الخمر والخنازير مال من أموال أهل الذمة ولا تكون مالا للمسلمين
قال : ومما يبين ذلك حديث آخر لعمر رضي الله عنه حدثنا علي بن معبد عن عبيد الله بن عمرو عن ليث بن أبي سليم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى العمال يأمرهم بقتل الخنازير وقبض أثمانها لأهل الجزية من جزيتهم قال أبو عبيد : فهو لم يجعلها قصاصا من الجزية إلا وهو يراها من أموالهم فأما إذا مر الذمي بالخمر والخنازير على العاشر فإنه لا يطيب له أن يعشرها ولا يأخذ ثمن العشر منها وإن كان الذمي هو المتولي لبيعها أيضا وهذا ليس من الباب الأول ولا يشبهه لأن ذلك حق وجب على رقابهم وأرضيهم وأن العشر هاهنا إنما هو شئ يوضع على الخمر والخازير أنفسها
وكذلك ثمنها لا يطيب لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه ] وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أفتى في مثل هذا بغير ما أفتى به في ذاك وكذلك قال عمر بن عبد العزيز
حدثنا أبو الأسود المصري حدثنا عبد الله بن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة السبائي أن عتبة بن فرقد بعث إلى عمر بن الخطاب بأربعين ألف درهم صدقة الخمر فكتب إليه عمر رضي الله عنه : بعثت إلي بصدقة الخمر وأنت أحق بها من المهاجرين وأخبر بذلك الناس وقال : والله لا استعملتك على شئ بعدها قال : فتركه
حدثنا عبد الرحمن عن المثنى بن سعيد الضبعي قال : كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطاة أن ابعث إلي بتفصيل الأموال التي قبلك من أين دخلت ؟ فكتب إليه بذلك وصنفه له وكان فيما كتب إليه من عشر الخمر أربعة آلاف درهم قال : فلبثنا ما شاء الله ثم جاء جواب كتابه : إنك كتبت إلي تذكر من عشور الخمر أربعة آلاف درهم وإن الخمر لا يعشرها مسلم ولا يشتريها ولا يبيعها فإذا أتاك كتابي هذا فاطلب الرجل فارددها عليه فهو أولى بما كان فيها فطلب الرجل فردت عليه
قال أبو عبيد : فهذا عندي الذي عليه العمل وإن كان إبراهيم النخعي قد قال غير ذلك ثم ذكر عنه في الذمي يمر بالخمر على العاشر قال : يضاعف عليه العشور
قال أبو عبيد : وكان أبو حنيفة يقول : إذا مر على العاشر بالخمر والخنازير عشر الخمر ولم يعشر الخنازير سمعت محمد بن الحسن يحدث بذلك عنه قال أبو عبيد : وقول الخليفتين عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما أولى بالإتباع والله أعلم (5/676)
حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم في ثمن الكلب والسنور
في الصحيحين : عن أبي مسعود أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن
وفي صحيح مسلم : عن أبي الزبير قال : سألت جابرا عن ثمن الكلب والسنور فقال : زجر النبي صلى الله عليه و سلم عن ذلك
وفي سنن أبي داود : عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن ثمن الكلب والسنور
وفي صحيح مسلم : من حديث رافع بن خديج عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ شر الكسب مهر البغي وثمن الكلب وكسب الحجام ]
فتضمنت هذه السنن أربعة أمور
أحدها : تحريم بيع الكلب وذلك يتناول كل كلب صغيرا كان أو كبيرا للصيد أو للماشية أو للحرث وهذا مذهب فقهاء أهل الحديث قاطبة والنزاغ في ذلك معروف عن أصحاب مالك وأبي حنيفة فجوز أصحاب أبي حنيفة بيع الكلاب وأكل أثمانها وقال القاضي عبد الوهاب : اختلف أصحابنا في بيع ما أذن في اتخاذه من الكلاب فمنهم من قال : يكره ومنهم من قال : يحرم انتهى
وعقد بعضهم فصلا لما يصح بيعه وبنى عليه اختلافهم في بيع الكلب فقال : ما كانت منافعه كلها محرمة لم يجز بيعه إذ لا فرق بين المعدوم حسا والممنوع شرعا وما تنوعت منافعه إلى محللة ومحرمة فإن كان المقصود من العين خاصة كان الإعتبار بها والحكم تابع لها فاعتبر نوعها وصار الآخر كالمعدوم وإن توزعت في النوعين لم يصح البيع لأن ما يقابل ما حرم منها أكل مال بالباطل وما سواه من بقية الثمن يصير مجهولا
قال : وعلى هذا الأصل مسألة بيع كلب الصيد فإذا بني الخلاف فيها على هذا الأصل قيل : في الكلب من المنافع كذا وكذا وعددت جملة منافعه ثم نظر فيها فمن رأى أن جملتها محرمة منع ومن رأى جميعها محللة أجاز ومن رآها متنوعة نظر : هل المقصود المحلل أو المحرم فجعل الحكم للمقصود ومن رأى منفعة واحدة منها محرمة وهي مقصودة منع أيضا ومن التبس عليه كونها مقصودة وقف أو كره فتأمل هذا التأصيل والتفصيل وطابق بينهما يظهر لك ما فيهما من التناقض والخلل وأن بناء بيع كلب الصيد على هذا الأصل من أفسد البناء فإن قوله : من رأى أن جملة منافع كلب الصيد محرمة بعد تعديدها لم يجز بيعه فإن هذا لم يقله أحد من الناس قط وقد اتفقت الأمة على إباحة منافع كلب الصيد من الإصطياد والحراسة وهما جل منافعه ولا يقتنى إلا لذلك فمن الذي رأى منافعه كلها محرمة ولا يصح أن تراد منافعة الشرعية ؟ فإن إعارته جائزة
وقوله : ومن رأى جميعها محللة أجاز كلام فاسد أيضا فإن منافعه المذكورة محللة اتفاقا والجمهور على عدم جواز بيعه
وقوله : ومن رآها متنوعة نظر هل المقصود المحلل أو المحرم ؟ كلام لا فائدة تحته البتة فإن منفعة كلب الصيد هي الإصطياد دون الحراسة فأين التنوع وما يقدر في المنافع من التحريم يقدر مثله في الحمار والبغل ؟ وقوله : ومن رأى منفعة واحدة محرمة وهي مقصودة منع أظهر فسادا مما قبله فإن هذه المنفعة المحرمة ليست هي المقصودة من كلب الصيد وإن قدر أن مشتريه قصدها فهو كما لو قصد منفعة محرمة من سائر ما يجوز بيعه وتبين فساد هذا التأصيل وأن الأصل الصحيح هو الذي دل عليه النص الصريح الذي لا معارض له البتة من تحريم بيعه
فإن قيل : كلب الصيد مستثنى من النوع الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم بدليل ما رواه الترمذي من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن ثمن الكلب إلا كلب الصيد
وقال النسائي : أخبرني إبراهيم بن الحسن المصيصي حدثنا حجاج بن محمد عن حماد بن سلمة عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عن ثمن الكلب والسنور إلا كلب الصيد
وقال قاسم بن أصبغ : حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا ابن أبي مريم أخبرنا يحيى بن أيوب حدثنا المثنى بن الصباح عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ ثمن الكلب سحت إلا كلب صيد ]
وقال ابن وهب عمن أخبره عن ابن شهاب عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ثلاث هن سحت : حلوان الكاهن ومهر الزانية وثمن الكلب العقور ]
وقال ابن وهب : حدثني الشمر بن عبد الله بن ضميرة عن أبيه على جده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن ثمن الكلب العقور
ويدل على صحة هذا الإستثناء أيضا أن جابرا أحد من روى عن النبي صلى الله عليه و سلم النهي عن ثمن الكلب وقد رخص جابر نفسه في ثمن كلب الصيد وقول الصحابي صالح لتخصيص عموم الحديث عند من جعله حجة فكيف إذا كان معه النص باستثنائه والقياس ؟ وأيضا لأنه يباح الإنتفاع به ويصح نقل اليد فيه بالميراث والوصية والهبة وتجوز إعارته وإجارته في أحد قولي العلماء وهما وجهان للشافعية فجاز بيعه كالبغل والحمار
فالجواب : أنه لا يصح عن النبي صلى الله عليه و سلم استثناء كلب الصيد بوجه : أما حديث جابر رضي الله عنه فقال الإمام أحمد وقد سئل عنه : هذا من الحسن بن أبي جعفر وهو ضعيف وقال الدارقطني : الصواب أنه موقوف على جابر وقال الترمذي : لا يصح إسناد هذا الحديث
وقال في حديث أبي هريرة رضي الله عنه : هذا لا يصح أبو المهزم ضعيف يريد راويه عنه وقال البيهقى : روى عن النبي صلى الله عليه و سلم النهي عن ثمن الكلب جماعة منهم : ابن عباس وجابر بن عبد الله وأبو هريرة ورافع بن خديج وأبو جحيفة اللفظ مختلف والمعنى واحد والحديث الذي روي في استثناء كلب الصيد لا يصح وكأن من رواه أراد حديث النهي عن اقتنائه فشبه عليه والله أعلم
وأما حديث حماد بن سلمة عن أبي الزبير فهو الذي ضعفه الإمام أحمد رحمه الله بالحسن بن أبي جعفر وكأنه لم يقع له طريق حجاج بن محمد وهو الذي قال فيه الدارقطني : الصواب أنه موقوف وقد أعله ابن حزم بأن أبا الزبير لم يصرح فيه بالسماع من جابر وهو مدلس وليس من رواية الليث عنه وأعله البيهقي بأن أحد رواته وهم من استثناء كلب الصيد مما نهي عن اقتنائه من الكلاب فنقله إلى البيع
قلت : ومما يدل على بطلان حديث جابر هذا وأنه خلط عليه أنه صح عنه أنه قال : أربع من السحت : ضراب الفحل وثمن الكلب ومهر البغي وكسب الحجام وهذا علة أيضا للموقوف عليه من استثناء كلب الصيد فهو علة للموقوف و المرفوع
وأما حديث المثنى بن الصباح عن عطاء عن أبي هريرة رضي الله عنه فباطل لأن فيه يحيى بن أيوب وقد شهد مالك عليه بالكذب وجرحه الإمام أحمد وفيه المثنى بن الصباح وضعفه عندهم مشهور ويدل على بطلان الحديث ما رواه النسائي حدثنا الحسن بن أحمد بن حبيب حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا أسباط حدثنا الأعمش عن عطاء بن أبي رباح قال : قال أبو هريرة رضي الله عنه : أربع من السحت ضراب الفحل وثمن الكلب ومهر البغي وكسب الحجام
وأما الأثر عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه فلا يدرى من أخبر ابن وهب عن ابن شهاب ولا من أخبر ابن شهاب عن الصديق رضي الله عنه ومثل هذا لا يحتج به
وأما الأثر عن علي رضي الله عنه : ففيه ابن ضميرة في غاية الضعف ومثل هذه الآثار الساقطة المعلولة لا تقدم على الآثار التي رواها الأئمة الثقات الأثبات حتى قال بعض الحفاظ : إن نقلها نقل تواتر وقد ظهر أنه لم يصح عن صحابي خلافها البتة بل هذا جابر وأبو هريرة وابن عباس يقولون : ثمن الكلب خبيث
قال وكيع : حدثنا إسرائيل عن عبد الكريم عن قيس بن حبتر عن ابن عباس رضي الله عنهما يرفعه : [ ثمن الكلب ومهر البغي وثمن الخمر حرام ]
وهذا أقل ما فيه أن يكون قول ابن عباس
وأما قياس الكلب على البغل والحمار فمن أفسد القياس بل قياسه على الخنزير أصح من قياسه عليهما لأن الشبه الذي بينه وبين الخنزير أقرب من الشبه الذي بينه وبين البغل والحمار وله تعارض القياسان لكان القياس المؤيد بالنص الموافق له أصح وأولى من القياس المخالف له
فإن قيل : كان النهي عن ثمنها حين كان الأمر بقتلها فلما حرم قتلها وأبيح اتخاذ بعضها نسخ النهي فنسخ تحريم البيع
قيل : هذه دعوى باطلة ليس مع مدعيها لصحتها دليل ولا شبهة وليس في الأثر ما يدل على صحة هذه الدعوى البتة بوجه من الوجوه ويدل على بطلانها : أن أحاديث تحريم بيعها وأكل ثمنها مطلقة عامة كلها وأحاديث الأمر بقتلها والنهي عن اقتنائها نوعان : نوع كذلك وهو المتقدم ونوع مقيد مخصص وهو المتأخر فلو كان النهي عن بيعها مقيدا مخصوصا لجاءت به الآثار كذلك فلما جاءت عامة مطلقة علم أن عمومها وإطلاقها مراد فلا يجوز إبطاله والله أعلم (5/679)
فصل
الحكم الثاني : تحريم بيع السنور كما دل عليه الحديث الصحيح الصريح الذي رواه جابر وأفتى بموجبه كما رواه قاسم بن أصبغ حدثنا محمد بن وضاح حدثنا محمد بن آدم حدثنا عبد الله بن المبارك حدثنا حماد بن سلمة عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله أنه كره ثمن الكلب والسنور قال أبو محمد : فهذه فتيا جابر بن عبد الله أنه كره بما رواه ولا يعرف له مخالف من الصحابة وكذلك أفتى أبو هريرة رضي الله عنه وهو مذهب طاووس ومجاهد وجابر بن زيد وجميع أهل الظاهر وإحدى الروايتين عن أحمد وهي اختيار أبي بكر عبد العزيز وهو الصواب لصحة الحديث بذلك وعدم ما يعارضه فوجب القول به
قال البيهقي : ومن العلماء من حمل الحديث على أن ذلك حين كان محكوما بنجاستها فلما قال النبي صلى الله عليه و سلم :
[ الهرة ليست بنجس ] صار ذلك منسوخا في البيع ومنهم من حمله على السنور إذا توحش ومتابعة ظاهر السنة أولى ولو سمع الشافعي رحمه الله الخبر الواقع فيه لقال به إن شاء الله وإنما لا يقول به من توقف في تثبيت روايات أبي الزبير وقد تابعه أبو سفيان عن جابر على هذه الرواية من جهة عيسى بن يونس وحفص بن غياث عن الأعمش عن أبي سفيان انتهى كلامه
ومنهم من حمله على الهر الذي ليس بمملوك ولا يخفى ما في هذه المحامل من الوهن (5/685)
فصل
والحكم الثالث : مهر البغي وهو ما تأخذه الزانية في مقابلة الزنى بها فحكم رسول الله صلى الله عليه و سلم أن ذلك خبيث على أي وجه كان حرة كانت أو أمة ولا سيما فإن البغاء إنما كان على عهدهم في الإماء دون الحرائر ولهذا قالت هند : وقت البيعة : أو تزني الحرة ؟ ! ولا نزاع بين الفقهاء في أن الحرة البالغة العاقلة إذا مكنت رجلا من نفسها فزنى بها أنه لا مهر لها واختلف في مسألتين إحداهما : الحرة المكرهة والثانية : الأمة المطاوعة فأما الحرة المكرهة على الزنى ففيها أربعة أقوال وهي روايات منصوصات عن أحمد
أحدها : أن لها المهر بكرا كانت أو ثيبا سواء وطئت في قبلها أو دبرها
والثاني : أنها إن كانت ثيبا فلا مهر لها وإن كانت بكرا فلها المهر وهل يجب معه أرش البكارة ؟ على رواتين
منصوصتين وهذا القول اختيار أبي بكر
والثالث : أنها إن كانت ذات محرم فلا مهر لها وإن كانت أجنبية فلها المهر
والرابع : أن من تحرم ابنتها كالأم والبنت والأخت فلا مهر لها ومن تحل ابنتها كالعمة والخالة فلها المهر
وقال أبو حنيفة رحمه الله : لا مهر للمكرهة على الزنى بحال بكرا كانت أو ثيبا
فمن أوجب المهر قال : إن استيفاء هذه المنفعة جعل مقوما في الشرع بالمهر وإنما لم يجب للمختارة لأنها باذلة للمنفعة التي عوضها لها فلم يجب لها شئ كما لو أذنت في إتلاف عضو من أعضائها لمن أتلفه
ومن لم يوجبه قال : الشارع إنما جعل هذه المنفعة متقومة بالمهر في عقد أو شبهة عقد ولم يقومها بالمهر في الزنى البتة وقياس السفاح على النكاح من أفسد القياس قالوا : وإنما جعل الشارع في مقابلة هذا الإستمتاع الحد والعقوبة فلا يجمع بينه وبين ضمان المهر قالوا : والوجوب إنما يتلقى من الشارع من نص خطابه أو عمومه أو فحواه أو تنبيهه أو معنى نصه وليس شئ من ذلك ثابتا متحققا عنه وغاية ما يدعى قياس السفاح على النكاح ويا بعد ما بينهما قالوا : والمهر إنما هو من خصائص النكاح لفظا ومعنى ولهذا إنما يضاف إليه فيقال : مهر النكاح ولا يضاف إلى الزنى فلا يقال : مهر الزنا وإنما أطلق النبي صلى الله عليه و سلم المهر وأراد به العقد كما قال : [ إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام ] وكما قال : [ ورجل باع حرا فأكل ثمنه ] ونظائره كثيرة
والأولون يقولون : الأصل في هذه المنفعة أن تقوم بالمهر وإنما أسقطه الشارع في حق البغي وهي التي تزني باختيارها وأما المكرهة على الزنى فليست بغيا فلا يجوز إسقاط بدل منفعتها التي أكرهت على استيفائها كما لو أكره الحر على استيفاء منافعه فإنه يلزمه عوضها وعوض هذه المنفعة شرعا هو المهر فهذا مأخذ القولين
ومن فرق بين البكر والثيب رأى أن الواطئ لم يذهب على الثيب شيئا وحسبه العقوبة التي ترتبت على فعله وهذه المعصية لا يقابلها شرعا مال يلزم من أقدم عليها بخلاف البكر فإنه أزال بكارتها فلا بد من ضمان ما أزاله فكانت هذه الجناية مضمونة عليه في الجملة فضمن ما أتلفه من جزء منفعة وكانت المنفعة تابعة للجزء في الضمان كما كانت تابعة له في عدمه من البكر المطاوعة
ومن فرق بين ذوات المحارم وغيرهن رأى أن تحريمهن لما كان تحريما مستقرا وأنهن غير محل الوطء شرعا كان استيفاء هذه المنفعة منهن بمنزلة التلوط فلا يوجب مهرا وهذا قول الشعبي وهذا بخلاف تحريم المصاهرة فإنه عارض يمكن زواله
قال صاحب المغني : وهكذا ينبغي أن يكون الحكم فيمن حرمت بالرضاع لأنه طارئ أيضا ومن فرق في ذوات المحارم بين من تحرم ابنتها وبين من لا تحرم فكأنه رأى أن من لا تحرم ابنتها تحريمها أخف من تحريم الأخرى فأشبه العارض
فإن قيل : فما حكم المكرهة على الوطء في دبرها أو الأمة المطاوعة على ذلك ؟ قيل : هو أولى بعدم الوجوب فهذا كاللواط لا يجب فيه المهر اتفاقا
وقد اختلف في هذه المسألة الشيخان أبو البركات ابن تيمية وأبو محمد بن قدامة فقال أبو البركات في محرره : ويجب مهر المثل للموطوءة بشبهة والمكرهة على الزنى في قبل أو دبر وقال أبو محمد في المغني : لا يجب المهر بالوطء في الدبر ولا اللواط لأن الشرع لم يرد ببدله ولا هو إتلاف لشئ فأشبه القبلة والوطء دون الفرج وهذا القول هو الصواب قطعا فإن هذا الفعل لم يجعل له الشارع قيمة أصلا ولا قدر له مهرا بوجه من الوجوه وقياسه على وطء الفرج من أفسد القياس ولازم من قاله إيجاب المهر لمن فعلت به اللوطية من الذكور وهذا لم يقل به أحد البتة (5/686)
فصل
وأما المسألة الثانية : وهي الأمة المطاوعة فهل يجب لها المهر ؟ فيه قولان أحدهما : يجب وهو قول الشافعي وأكثر أصحاب أحمد رحمه الله قالوا : لأن هذه المنفعة لغيرها فلا يسقط بدلها مجانا كما لو أذنت في قطع طرفها والصواب المقطوع به : أنه لا مهر لها وهذه هي البغي التي نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن مهرها وأخبر أنه خبيث وحكم عليه وعلى ثمن الكلب وأجر الكاهن بحكم واحد والأمة داخلة في هذا الحكم دخولا أوليا فلا يجوز تخصيصها من عمومه لأن الإماء هن اللاتي كن يعرفن بالبغاء وفيهن وفي ساداتهن أنزل الله تعالى : { ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا } [ النور : 33 ] فكيف يجوز أن تخرج الإماء من نص أردن به قطعا ويحمل على غيرهن
وأما قولكم : إن منفعتها لسيدها ولم يأذن في استيفائها فيقال : هذه المنفعة يملك السيد استيفاءها بنفسه ويملك المعاوضة عليها بعقد النكاح أو شبهته ولا يملك المعاوضة عليها إلا إذا أذنت ولم يجعل الله ورسوله للزنى عوضا قط غير العقوبة فيفوت على السيد حتى يقضى له بل هذا تقويم مال أهدره الله ورسوله وإثبات عوض حكم الشارع بخبثه وجعله بمنزلة ثمن الكلب وأجر الكاهن وإن كان عوضا خبيثا شرعا لم يجز أن يقضي به
ولا يقال : فأجر الحجام خبيث ويقضى له به لأن منفعة الحجامة منفعة مباحة وتجوز بل يجب على مستأجره أن يوفيه أجره فأين هذا من المنفعة الخبيثة المحرمة التي عوضها بن جنسها وحكمه حكمها وإيجاب عوض في مقابلة هذه المعصية كإيجاب عوض في مقابلة اللواط إذ الشارع لم يجعل في مقابلة هذا الفعل عوضا
فإن قيل : فقد جعل في مقابلة الوطء في الفرج عوضا وهو المهر من حيث الجملة بخلاف اللواطة
قلنا : إنما جعل في مقابلته عوضا إذا استوفي بعقد أو بشبهة عقد ولم يجعل له عوضا إذا استوفي بزنى محض لا شبهة فيه وبالله التوفيق ولم يعرف في الإسلام قط أن زانيا قضي عليه بالمهر للمزني بها ولا ريب أن المسلمين يرون هذا قبيحا فهو عند الله عز و جل قبيح (5/689)
فصل
فإن قيل : فما تقولون في كسب الزانية إذا قبضته ثم تابت هل يجب عليها رد ما قبضته إلى أربابه أم يطيب لها أم تصدق به ؟
قيل : هذا ينبني على قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام وهي أن من قبض ما ليس له قبضه شرعا ثم أراد التخلص منه فإن كان المقبوض قد أخذ بغير رضى صاحبه ولا استوفى عوضه رده عليه فإن تعذر رده عليه قضى به دينا يعلمه عليه فإن تعذر ذلك رده إلى ورثته فإن تعذر ذلك تصدق به عنه فإن اختار صاحب الحق ثوابه يوم القيامة كان له وإن أبى إلا أن يأخذ من حسنات القابض استوفى منه نظير ماله وكان ثواب الصدقة للمتصدق بها كما ثبت عن الصحابة رضي اله عنهم
وإن كان المقبوض برضى الدافع وقد استوفى عوضه المحرم كمن عاوض على خمر أو خنزير أو على زنى أو فاحشة فهذا لا يجب رد العوض على الدافع لأنه أخرجه باختياره واستوفى عوضه المحرم فلا يجوز أن يجمع له بين العوض والمعوض فإن في ذلك إعانة له على الإثم والعدوان وتيسير أصحاب المعاصي عليه وماذا يريد الزاني وفاعل الفاحشة إذا علم أنه ينال غرضه ويسترد ماله فهذا مما تصان الشريعة عن الإتيان به ولا يسوغ القول به وهو يتضمن الجمع بين الظلم والفاحشة والغدر ومن أقبح القبيح أن يستوفي عوضه من المزني بها ثم يرجع فيما أعطاها قهرا وقبح هذا مستقر في فطر جميع العقلاء فلا تأتي به شريعة ولكن لا يطيب للقابض أكله بل هو خبيث كما حكم عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم ولكن خبثه لخبث مكسبه لا لظلم من أخذ منه فطريق التخلص منه وتمام التوبة بالصدقة به فإن كان محتاجا إليه فله أن يأخذ قدر حاجته ويتصدق بالباقي فهذا حكم كل كسب خبيث لخبث عوضه عينا كان أو منفعة ولا يلزم من الحكم بخبثه وجوب رده على الدافع فإن النبي صلى الله عليه و سلم حكم بخبث كسب الحجام ولا يجب رده على دافعه
فإن قيل : فالدافع ماله في مقابلة العوض المحرم دفع ما لا يجوز دفعه بل حجر عليه فيه الشارع فلم يقع قبضه موقعه بل وجود هذا القبض كعدمه فيجب رده على مالكه كما لو تبرع المريض لوارثه بشئ أو لأجنبي بزيادة على الثلث أو تبرع المحجور عليه بفلس أو سفه أو تبرع المضطر إلى قوته بذلك ونحو ذلك وسر المسألة أنه محجور عليه شرعا في هذا الدفع فيجب رده
قيل : هذا قياس فاسد لأن الدفع في هذه الصور تبرع محض لم يعاوض عليه والشارع قد منعه منه لتعلق حق غيره به أو حق نفسه المقدمة على غيره وأما ما نحن فيه فهو قد عاوض بماله على استيفاء منفعة أو استهلاك عين محرمة فقد قبض عوضا محرما وأقبض مالا محرما فاستوفى ما لا يجوز استيفاؤه وبذل فيه ما لا يجوز بذله فالقابض قبض مالا محرما والدافع استوفى عوضا محرما وقضية العدل تراد العوضين لكن قد تعذر رد أحدهما فلا يوجب رد الآخر من غير رجوع عوضه نعم لو كان الخمر قائما بعينه لم يستهلكه أو دفع إليها المال ولم يفجر بها وجب رد المال في الصورتين قطعا كما في سائر العقود الباطلة إذا لم يتصل بها القبض
فإن قيل : وأي تأثير لهذا القبض المحرم حتى جعل له حرمة ومعلوم أن قبض ما لا يجوز قبضه بمنزلة عدمه إذ الممنوع شرعا كالممنوع حسا فقابض المال قبضه بغير حق فعليه أن يرده إلى دافعه ؟
قيل : والدافع قبض العين واستوفى المنفعة بغير حق كلاهما قد اشتركا في دفع ما ليس لهما دفعه وقبضر ما ليس لهما قبضه وكلاهما عاص لله فكيف يخص أحدهما بأن يجمع له بين العوض والمعوض عنه ويفوت على الآخر العوض والمعوض
فإن قيل : هو فوت المنفعة على نفسه باختياره قيل : والآخر فوت العوض على نفسه باختياره فلا فرق بينهما وهذا واضح بحمد الله
وقد توقف شيخنا في وجوب رد عوض هذه المنفعة المحرمة على باذله أو الصدقة به في كتاب اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم وقال : الزاني ومستمع الغناء والنوح قد بذلوا هذا المال عن طيب نفوسهم فاستوفوا العوض المحرم والتحريم الذي فيه ليس لحقهم وإنما هو لحق الله تعالى وقد فاتت هذه المنفعة بالقبض والأصول تقتضي أنه إذا رد أحد العوضين رد الآخر فإذا تعذر على المستأجر رد المنفعة لم يرد عليه المال وهذا الذي استوفيت منفعته عليه ضرر في أخذ منفعته وأخذ عوضها جميعا منه بخلاف ما إذا كان العوض خمرا أو ميتة فإن تلك لا ضرر عليه في فواتها فإنها لو كانت باقية لأتلفناها عليه ومنفعة الغناء والنوح لو لم تفت لتوفرت عليه بحيث كان يتمكن من صرف تلك المنفعة في أمر آخر أعني من صرف القوة التي عمل بها ثم أورد على نفسه سؤالا فقال : فيقال على هذا فينبغي أن تقضوا بها إذا طالب بقبضها وأجاب عنه بأن قال : قيل : نحن لا نأمر بدفعها ولا بردها كعقود الكفار المحرمة فإنهم إذا أسلموا قبل القبض لم يحكم بالقبض ولو أسلموا بعد القبض لم يحكم بالرد ولكن المسلم تحرم عليه هذه الأجرة لأنه كان معتقدا لتحريمها بخلاف الكافر وذلك لأنه إذا طلب الأجرة فقلنا له : أنت فرطت حيث صرفت قوتك في عمل يحرم فلا يقضى لك بالأجرة فإذا قبضها وقال الدافع هذا المال : اقضوا لي برده فإني أقبضته إياه عوضا عن منفعة محرمة قلنا له : دفعته معاوضة رضيت بها فإذا طلبت استرجاع ما أخذ فاردد إليه ما أخذت إذا كان له في بقائه معه منفعة فهذا محتمل قال : وإن كان ظاهر القياس ردها لأنها مقبوضة بعقد فاسد انتهى
وقد نص أحمد فى رواية أبى النضر فيمن حمل خمرا أو خنزيرا أو ميتة لنصراني : أكره أكل كرائه ولكن يقضى للحمال بالكراء وإذا كان لمسلم فهو أشد كراهة فاختلف أصحابه في هذا النص على ثلاث طرق
إحداها : إجراؤه على ظاهره وأن المسألة رواية واحدة قال ابن أبي موسى : وكره أحمد أن يؤجر المسلم نفسه لحمل ميتة أو خنزير لنصراني فإن فعل قضي له بالكراء وهل يطيب له أم لا ؟ على وجهين أوجههما : أنه لا يطيب له ويتصدق به وكذا ذكر أبو الحسن الآمدي قال : إذا أجر نفسه من رجل في حمل خمر أو خنزير أو ميتة كره نص عليه وهذه كراهة تحريم لأن النبي صلى الله عليه و سلم لعن حاملها إذا ثبت ذلك فيقضى له بالكراء وغير ممتنع أن يقضى له بالكراء وإن كان محرما كإجارة الحجام انتهى فقد صرح هؤلاء بأنه يستحق الأجرة مع كونها محرمة عليه على الصحيح
الطريق الثانية : تأويل هذه الرواية بما يخالف ظاهرها وجعل المسألة رواية واحدة وهي أن هذه الإجارة لا تصح وهذه طريقة القاضي في المجرد وهي طريقة ضعيفة وقد رجع عنها في كتبه المتأخرة فإنه صنف المجرد قديما
الطريقة الثالثة : تخريج هذه المسالة على روايتين إحداهما : أن هذه الإجارة صحيحة يستحق بها الأجرة مع الكراهة للفعل والأجرة والثانية : لا تصح الإجارة ولا يستحق بها أجرة وإن حمل وهذا على قياس قوله في الخمر : لا يجوز إمساكها وتجب إراقتها قال في رواية أبي طالب إذا أسلم وله خمر أو خنازير تصب الخمر وتسرح الخنازير وقد حرما عليه وإن قتلها فلا بأس
فقد نص أحمد أنه لا يجوز إمساكها ولأنه قد نص في رواية ابن منصور : أنه يكره أن يؤاجر نفسه لنطارة كرم لنصراني لأن أصل ذلك يرجع إلى الخمر إلا أن يعلم أنه يباع لغير الخمر فقد منع من إجارة نفسه على حمل الخمر وهذه طريقة القاضي في تعليقه وعليها أكثر أصحابه والمنصور عندهم : الرواية المخرجة وهي عدم الصحة وأنه لا يستحق أجرة ولا يقضى له بها وهي مذهب مالك والشافعي وأبي يوسف ومحمد وهذا إذا استأجر على حملها إلى بيته للشرب أو لأكل الخنزير أو مطلقا فأما إذا استأجره لحملها ليريقها أو لينقل الميتة إلى الصحراء لئلا يتأذى بها فإن الإجارة تجوز حينئذ لأنه عمل مباح لكن إن كانت الأجرة جلد الميتة لم تصح واستحق أجرة المثل وإن كان قد سلخ الجلد وأخذه رده على صاحبه هذا قول شيخنا وهو مذهب مالك والظاهر : أنه مذهب الشافعي وأما مذهب أبي حنيفة رحمه الله : فمدهبه كالرواية الأولى أنه تصح الإجارة ويقضى له بالأجرة ومأخذه في ذلك أن الحمل إذا كان مطلقا لم يكن المستحق نفس حمل الخمر فذكره وعدم ذكره سواء وله أن يحمل شيئا آخر غيره كخل وزيت وهكذا قال : فيما لو أجره داره أو حانوته ليتخذها كنيسة أو ليبيع فيها الخمر قال أبو بكر الرازي : لا فرق عند أبي حيفة بين أن يشترط أن يبيع فيها الخمر أو لا يشترط وهو يعلم أنه يبيع فيه الخمر : أن الإجارة تصح لأنه لا يستحق عليه بعقد الإجارة فعل هذه الأشياء وإن شرط ذلك لأن له أن لا يبيع فيه الخمر ولا يتخذ الدار كنيسة ويستحق عليه الأجرة بالتسليم في المدة فإذا لم يستحق عليه فعل هذه الأشياء كان ذكرها وتركها سواء كما لو اكترى دارا لينام فيها أو ليسكنها فإن الأجرة تستحق عليه وإن لم يفعل ذلك وكذا يقول : فيما إذا استأجر رجلا ليحمل خمرا أو ميتة أو خنزيرا : أنه يصح لأنه لا يتعين حمل الخمر بل لو حمله بدله عصيرا استحق الأجرة فهذا التقييد عندهم لغو فهو بمنزلة الإجارة المطلقة والمطلقة عنده جائزة وإن غلب على ظنه أن المستأجر يعصي فيها كما يجوز بيع العصير لمن يتخذه خمرا ثم إنه كره بيع السلاح في الفتنة قال : لأن السلاح معمول للقتال لا يصلح لغيره وعامة الفقهاء خالفوه في المقدمة الأولى وقالوا : ليس المقيد كالمطلق بل المنفعة المعقود عليها في المستحقة فتكون هي
المقابلة بالعوض وهي منفعة محرمة وإن كان للمستأجر أن يقيم غيرها مقامها وألزموه فيما لو اكترى دارا ليتخذها مسجدا فإنه لا يستحق عليه فعل المعقود عليه ومع هذا فإنه أبطل هذه الإجارة بناء على أنها اقتضت فعل الصلاة وهي لا تستحق بعقد إجارة
ونازعه أصحاب أحمد ومالك في المقدمة الثانية وقالوا : إذا غلب على ظنه أن المستأجر ينتفع بها في محرم حرمت الإجارة لأن النبي صلى الله عليه و سلم لعن عاصر الخمر ومعتصرها والعاصر إنما يعصر عصيرا ولكن لما علم أن المعتصر يريد أن يتخذه خمرا فيعصره له استحق اللعنة
قالوا : وأيضا فإن في هذا معاونة على نفس ما يسخطه الله ويبغضه ويلعن فاعله فأصول الشرع وقواعده تقتضي تحريمه وبطلان العقد عليه وسيأتي مزيد تقرير هذا عند الكلام على حكمه صلى الله عليه و سلم بتحريم العينة وما يترتب عليها من العقوبة
قال شيخنا : والأشبه طريقة ابن موسى يعني أنه يقضى له بالأجرة وإن كانت المنفعة محرمة ولكن لا يطيب له أكلها قال : فإنها أقرب إلى مقصود أحمد وأقرب إلى القياس وذلك لأن النبي صلى الله عليه و سلم لعن عاصر الخمر ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه فالعاصر والحامل قد عاوضا على منفعة تستحق عوضا وهي ليست محرمة في نفسها وإنما حرمت بقصد المعتصر والمستحمل فهو كما لو باع عنبا وعصيرا لمن يتخذه خمرا وفات العصير والخمر في يد المشتري فإن مال البائع لا يذهب مجانا بل يقضى له بعوضه كذلك هنا المنفعة التي وفاها المؤجر لا تذهب مجانا بل يعطى بدلها فإن تحريم الإنتفاع بها إنما كان من جهة المستأجر لا من جهة المؤجر فإنه لو حملها للإراقة أو لإخراجها إلى الصحراء خشبة التأذي بها جاز ثم نحن نحرم الأجرة عليه لحق الله سبحانه لا لحق المستأجر والمشتري بخلاف من استؤجر للزنى أو التلوط أو القتل أو السرقة فإن نفس هذا العمل محرم لأجل قصد المستأجر فهو كما لو باع ميتة أو خمرا فإنه لا يقضى له بثمنها لأن نفس هذه العين محرمة وكذلك لا يقضى له بعوض هذه المنفعة المحرمة
قال شيخنا : ومثل هذه الإجارة والجعالة يعني الإجارة على حمل الخمر والميتة لا توصف بالصحة مطلقا ولا بالفساد مطلقا بل يقال : هي صحيحة بالنسبة إلى المستأجر بمعنى أنه يجب عليه العوض وفاسدة بالنسبة إلى الأجير بمعنى أنه يحرم عليه الإنتفاع بالأجر ولهذا في الشريعة نظائر قال : ولا ينافي هذا نص أحمد على كراهة نطارة كرم النصراني فإنا ننهاه عن هذا الفعل وعن عوضه ثم نقضي له بكرائه قال : ولو لم يفعل هذا لكان في هذا منفعة عظيمة للعصاة فإن كل من استأجروه على عمل يستعينون به على المعصية قد حصلوا غرضهم منه فإذا لم يعطوه شيئا ووجب أن يرد عليهم ما أخذ منهم كان ذلك أعظم العون لهم وليسوا بأهل أن يعاونوا على ذلك بخلاف من سلم إليهم عملا لا قيمة له بحال يعني كالزانية والمغني والنائحة فإن هؤلاء لا يقضى لهم بأجرة ولو قبضوا منهم المال فهل يلزمهم رده عليهم أم يتصدقون به ؟ فقد تقدم الكلام مستوفى في ذلك وبينا أن الصواب أنه لا يلزمهم رده ولا يطيب لهم أكله والله الموفق للصواب (5/690)
فصل
الحكم الخامس : حلوان الكاهن قال أبو عمر بن عبد البر : لا خلاف في حلوان الكاهن أنه ما يعطاه على كهانته وهو من أكل المال بالباطل والحلوان في أصل اللغة : العطية قال علقمة :
( فمن رجل أحلوه رحلي وناقتي ... يبلغ عني الشعر إذ مات قائله )
انتهى
وتحريم حلوان الكاهن تنبيه على تحريم حلوان المنجم والزاجر وصاحب القرعة التي هي شقيقة الأزلام وضاربة الحصا والعراف والرمال ونحوهم ممن تطلب منهم الأخبار عن المغيبات وقد نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن إتيان الكهان وأخبر أن [ من أتى عرافا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل عليه صلى الله عليه و سلم ] ولا ريب أن الإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه و سلم وبما يجيء به هؤلاء لا يجتمعان في قلب واحد وإن كان أحدهم قد يصدق أحيانا فصدقه بالنسبة إلى كذبه قليل من كثير وشيطانه الذي يأتيه بالأخبار لا بد له أن يصدقه أحيانا ليغوي به الناس ويفتنهم به
وأكثر الناس مستجيبون لهؤلاء مؤمنون بهم ولا سيما ضعفاء العقول كالسفهاء والجهال والنساء وأهل البوادي ومن لا علم لهم بحقائق الإيمان فهؤلاء هم المفتونون بهم وكثير منهم يحسن الظن بأحدهم ولو كان مشركا كافرا بالله مجاهرا بذلك ويزوره وينذر له ويلتمق دعاءه فقد رأينا وسمعنا من ذلك كثيرا وسبب هذا كله خفاء ما بعث الله به رسوله من الهدى ودين الحق على هؤلاء وأمثالهم { ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور } وقد قال الصحابة رضي الله عنهم للنبي صلى الله عليه و سلم : إن هؤلاء يحدثوننا أحيانا بالأمر فيكون كما قالوا فأخبرهم أن ذلك من جهة الشياطين يلقون إليهم الكلمة تكون حقا فيزيدون هم معها مائة كذبة فيصدقون من أجل تلك الكلمة
وأما أصحاب الملاحم فركبوا ملاحمهم من أشياء
أحدها : من أخبار الكهان
والثاني : من أخبار منقولة عن الكتب السالفة متوارثة بين أهل الكتاب
والثالث : من أمور أخبر نبينا صلى الله عليه و سلم بها جملة وتفصيلا
والرابع : من أمور أخبر بها من له كشف من الصحابة ومن بعدهم
والخامس : من منامات متواطئة على أمر كلي وجزئي فالجزئي : يذكرونه بعينه والكلي : يفصلونه بحدس وقرائن تكون حقا أو تقارب
والسادس : من استدلال بآثار علوية جعلها الله تعالى علامات وأدلة وأسبابا لحوادث أرضية لا يعلمها أكثر الناس فإن الله سبحانه لم يخلق شيئا سدى ولا عبثا وربط سبحانه العالم العلوي بالسفلي وجعل علويه مؤثرا في سفليه دون العكس فالشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته وإن كان كسوفهما لسبب شر يحدث في الأرض ولهذا شرع سبحانه تغيير الشر عند كسوفهما بما يدفع ذلك الشر المتوقع من الصلاة والذكر والدعاء والتوبة والإستغفار والعتق فإن هذه الأشياء تعارض أسباب الشر وتقاومها وتدفع موجباتها إن قويت عليها
وقد جعل الله سبحانه حركة الشمس والقمر واختلاف مطالعهما سببا للفصول التي هي سبب الحر والبرد والشتاء والصيف وما يحدث فيهما مما يليق بكل فصل منها فمن له اعتناء بحركاتهما واختلاف مطالعهما يستدل بذلك على ما يحدث في النبات والحيوان وغيرهما وهذا أمر يعرفه كثير من أهل الفلاحة والزراعة ونواتي السفن لهم استدلالات بأحوالهما وأحوال الكواكب على أسباب السلامة والعطب بن اختلاف الرياح وقوتها وعصوفها لا تكاد تختل
والأطباء لهم استدلالات بأحوال القمر والشمس على اختلاف طبيعة الإنسان وتهيئها لقبول التغير واستعدادها لأمور غريبة ونحو ذلك
وواضعو الملاحم لهم عناية شديدة بهذا وأمور متوارثة عن قدماء المنجمين ثم يستنتجون من هذا كله قياسات وأحكاما تشبه ما تقدم ونظيره وسنة الله في خلقه جارية على سنن اقتضته حكمته فحكم النظير حكم نظيره وحكم الشئ حكم مثله وهؤلاء صرفوا قوى أذهانهم إلى أحكام القضاء والقدر واعتبار بعضه ببعض والإستدلال ببعضه على بعض كما صرف أئمة الشرع قوى أذهانهم إلى أحكام الأمر والشرع واعتبار بعضه ببعض والإستدلال ببعضه على بعض والله سبحانه له الخلق والأمر ومصدر خلقه وأمره عن حكمة لا تختل ولا تتعطل ولا تنتقض ومن صرف قوى ذهنه وفكره واستنفد ساعات عمره في شئ من أحكام هذا العالم وعلمه كان له فيه من النفوذ والمعرفة والإطلاع ما ليس لغيره
ويكفي الإعتبار بفرع واحد من فروعه وهو عبارة الرؤيا فإن العبد إذا نفذ فيها وكمل اطلاعه جاء بالعجائب وقد شاهدنا نحن وغيرنا من ذلك أمورا عجيبة يحكم فيها المعبر بأحكام متلازمة صادقة سريعة وبطيئة ويقول سامعها : هذه علم غيب وإنما هي معرفة ما غاب عن غيره بأسباب انفرد هو بعلمها وخفيت على غيره والشارع صلوات الله عليه حرم من تعاطي ذلك ما مضرته راجحة على منفعته أو ما لا منفعة فيه أو ما يخشى على صاحبه أن يجره إلى الشرك وحرم بذل المال في ذلك وحرم أخذه به صيانة للأمة عما يفسد عليها الإيمان أو يخدشه بخلاف علم عبارة الرؤيا فإنه حق لا باطل لأن الرؤيا مستندة إلى الوحي المنامي وهي جزء من أجزاء النبوة ولهذا كلما كان الرائي أصدق كانت رؤياه أصدق وكلما كان المعبر أصدق وأبر وأعلم كان تعبيره أصح بخلاف الكاهن والمنجم وأضرابهما ممن لهم مدد من إخوانهم من الشياطين فإن صناعتهم لا تصح من صادق ولا بار ولا متقيد بالشريعة بل هم أشبه بالسحرة الذين كلما كان أحدهم أكذب وأفجر وأبعد عن الله ورسوله ودينه كان السحر معه أقوى وأشد تأثيرا بخلاف علم الشرع والحق فإن صاحبه كلما كان أبر وأصدق وأدين كان علمه به ونفوذه فيه أقوى وبالله التوفيق (5/696)
فصل
الحكم السادس : خبث كسب الحجام ويدخل فيه الفاصد والشارط وكل من يكون كسبه من إخراج الدم ولا يدخل فيه الطبيب ولا الكحال ولا البيطار لا في لفظه ولا في معناه وصح عن النبي صلى الله عليه و سلم [ أنه حكم بخبثه وأمر صاحبه أن يعلفه ناضحه أو رقيقه ] وصح عنه [ أنه احتجم وأعطى الحجام أجره ]
فأشكل الجمع بين هذين على كثير من الفقهاء وظنوا أن النهي عن كسبه منسوخ بإعطائه أجره وممن سلك هذا المسلك الطحاوي فقال في احتجاجه للكوفيين في إباحة بيع الكلاب وأكل أثمانها : لما أمر النبي صلى الله عليه و سلم بقتل الكلاب ثم قال : [ ما لي وللكلاب ] ثم رخص في كلب الصيد وكلب الغنم وكان بيع الكلاب إذ ذاك والإنتفاع به حراما وكان قاتله مؤديا للفرض عليه في قتله ثم نسخ ذلك وأباح الإصطياد به فصار كسائر الجوارح في جواز بيعه قال : ومثل ذلك نهيه صلى الله عليه و سلم عن كسب الحجام وقال : [ كسب الحجام خبيث ] ثم أعطى الحجام أجره وكان ذلك ناسخا لمنعه وتحريمه ونهيه انتهى كلامه
وأسهل ما في هذه الطريقة أنها دعوى مجردة لا دليل عليها فلا تقبل كيف وفي الحديث نفسه ما يبطلها فإنه صلى الله عليه و سلم أمر بقتل الكلاب ثم قال : [ ما بالهم وبال الكلاب ] ثم رخص لهم في كلب الصيد
وقال ابن عمر أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بقتل الكلاب إلا كلب الصيد أو كلب غنم أو ماشية وقال عبد الله بن مغفل : أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم بقتل الكلاب ثم قال ما بالهم وبال الكلاب ثم رخص في كلب الصيد وكلب الغنم والحديثان في الصحيح فدل على أن الرخصة في كلب الصيد وكلب الغنم وقعت بعد الأمر بقتل الكلاب فالكلب الذي أذن رسول الله صلى الله عليه و سلم في اقتنائه هو الذي حرم ثمنه وأخبر أنه خبيث دون الكلب الذي أمر بقتله فإن المأمور بقتله غير مستبقى حتى تحتاج الأمة إلى بيان حكم ثمنه ولم تجر العادة ببيعه وشرائه بخلاف الكلب المأذون في اقتنائه فإن الحاجة داعية إلى بيان حكم ثمنه أولى من حاجتهم إلى بيان ما لم تجر عادتهم ببيعه بل قد أمروا بقتله
ومما يبين هذا أنه صلى الله عليه و سلم ذكر الأربعة التي تبذل فيها الأموال عادة لحرص النفوس عليها وهي ما تأخذه الزانية والكاهن والحجام وبائع الكلب فكيف يحمل هذا على كلب لم تجر العادة ببيعه وتخرج منه الكلاب التي إنما جرت العادة ببيعها هذا من الممتنع البين امتناعه وإذا تبين هذا ظهر فساد ما شبه به من نسخ خبث أجرة الحجام بل دعوى النسخ فيها أبعد
وأما إعطاء النبي صلى الله عليه و سلم الحجام أجره فلا يعارض قوله [ كسب الحجام خبيث ] فإنه لم يقل : إن إعطاءه خبيث بل إعطاؤه إما واجب وإما مستحب وإما جائز ولكن هو خبيث بالنسبة إلى الآخذ وخبثه بالنسبة إلى أكله فهو خبيث الكسب ولم يلزم من ذلك تحريمه فقد سمى النبي صلى الله عليه و سلم الثوم والبصل خبيثين مع إباحة أكلهما ولا يلزم من إعطاء النبي صلى الله عليه و سلم الحجام أجره حل أكله فضلا عن كون أكله طيبا فإنه قال : [ إني لأعطي الرجل العطية يخرج بها يتأبطها نارا ] والنبي صلى الله عليه و سلم قد كان يعطي المؤلفة قلوبهم من مال الزكاة والفئ مع غناهم وعدم حاجتهم إليه ليبذلوا من الإسلام والطاعة ما يجب عليهم بذله بدون العطاء ولا يحل لهم توقف بذله على الأخذ بل يجب عليهم المبادرة إلى بذله بلا عوض
وهذا أصل معروف من أصول الشرع أن العقد والبذل قد يكون جائزا أو مستحبا أو واجبا من أحد الطرفين مكروها أو محرما من الطرف الآخر فيجب على الباذل أن يبذل ويحرم على الآخذ أن يأخذه
وبالجملة فخبث أجر الحجام من جنس خبث أكل الثوم والبصل لكن هذا خبيث الرائحة وهذا خبيث لكسبه
فإن قيل : فما أطيب المكاسب وأحلها ؟ قيل هذا فيه ثلاثة أقوال للفقهاء
أحدها : أنه كسب التجارة
والثاني : أنه عمل اليد في غير الصنائع الدنيئة كالحجامة ونحوها
والثالث : أنه الزراعة ولكل قول من هذه وجه من الترجيح أثرا ونظرا والراجح أن أحلها الكسب الذي جعل منه رزق رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو كسب الغانمين وما أبيح لهم على لسان الشارع وهذا الكسب قد جاء في القرآن مدحه أكثر من غيره وأثني على أهله ما لم يثن على غيرهم ولهذا اختاره الله لخير خلقه وخاتم أنبيائه ورسله حيث يقول : [ بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له وجعل رزقي تحت ظل رمحي وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري ] وهو الرزق المأخوذ بعزة وشرف وقهر لأعداء الله وجعل أحب شئ إلى الله فلا يقاومه كسب غيره والله أعلم (5/700)
فصل
في حكمه صلى الله عليه و سلم في بيع عسب الفحل وضرابه
في صحيح البخاري عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن عسب الفحل
وفي صحيح مسلم عن جابر أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن بيع ضراب الفحل وهذا الثاني تفسير للأول وسمى أجرة ضرابه بيعا إما لكون المقصود هو الماء الذي له فالثمن مبذول في مقابلة عين مائه وهو حقيقة البيع وإما أنه سمى
إجارته لذلك بيعا إذ هي عقد معاوضة وهي بيع المنافع والعادة أنهم يستأجرون الفحل للضراب وهذا هو الذي نهي عنه والعقد الوارد عليه باطل سواء كان بيعا أو إجارة وهذا قول جمهور العلماء منهم أحمد والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم
وقال أبو الوفاء بن عقيل : ويحتمل عندي الجواز لأنه عقد على منافع الفحل ونزوه على الأنثى وهي منفعة مقصودة وماء الفحل يدخل تبعا والغالب حصوله عقيب نزوه فيكون كالعقد على الظئر ليحصل اللبن في بطن الصبي وكما لو استأجر أرضا وفيها بئر ماء فإن الماء يدخل تبعا وقد يغتفر في الأتباع ما لا يغتفر في المتبوعات
وأما مالك فحكي عنه جوازه والذي ذكره أصحابه التفصيل فقال صاحب الجواهر في باب فساد العقد من جهة نهي الشارع : ومنها بيع عسب الفحل ويحمل النهي فيه على استئجار الفحل على لقاح الأنثى وهو فاسد لأنه غير مقدور على تسليمه فأما أنا يستأجره على أن ينزو عليه دفعات معلومة فذلك جائز إذ هو أمد معلوم في نفسه ومقدور على تسليمه
والصحيح تحريمه مطلقا وفساد العقد به على كل حال ويحرم على الآخر أخذ أجرة ضرابه ولا يحرم على المعطي لأنه بذل ماله في تحصيل مباح يحتاج إليه ولا يمنع من هذا كما في كسب الحجام وأجرة الكساح والنبي صلى الله عليه و سلم نهى عما يعتادونه من استئجار الفحل للضراب وسمى ذلك بيع عسبه فلا يجوز حمل كلامه على غير الواقع والمعتاد وإخلاء الواقع من البيان مع أنه الذي قصد بالنهي ومن المعلوم أنه ليس للمستأجر غرض صحيح في نزو الفحل على الأنثى الذي له دفعات معلومة وإنما غرضه نتيجة ذلك وثمرته ولأجله بذل ماله وقد علل التحريم بعدة علل
إحداها : أنه لا يقدر على تسليم المعقود عليه فأشبه إجارة الآبق فإن ذلك متعلق باختيار الفحل وشهوته
الثانية : أن المقصود هو الماء وهو مما لا يجوز إفراده بالعقد فإنه مجهول القدر والعين وهذا بخلاف إجارة الظئر فإنها احتملت بمصلحة الآدمي فلا يقاس عليها غيرها وقد يقال - والله أعلم - إن النهي عن ذلك من محاسن الشريعة وكمالها فإن مقابلة ماء الفحل بالأثمان وجعله محلا لعقود المعاوضات مما هو مستقبح ومستهجن عند العقلاء وفاعل ذلك عندهم ساقط من أعينهم في أنفسهم وقد جعل الله سبحانه فطر عباده لا سيما المسلمين ميزانا للحسن والقبيح فما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وما رآه المسلمون قبيحا فهو عند الله قبيح
ويزيد هذا بيانا أن ماء الفحل لا قيمة له ولا هو مما يعاوض عليه ولهذا لو نزا فحل الرجل على رمكة غيره فأولدها فالولد لصاحب الرمكة اتفاقا لأنه لم ينفصل عن الفحل إلا مجرد الماء وهو لا قيمة له فحرمت هذه الشريعة الكاملة المعارضة على ضرابه ليتناوله الناس بينهم مجانا لما فيه من تكثير النسل المحتاج إليه من غير إضرار بصاحب الفحل ولا نقصان من ماله فمن محاسن الشريعة إيجاب بذل هذا مجانا كما قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن من حقها إطراق فحلها وإعارة دلوها ] فهذه حقوق يضر بالناس منعها إلا بالمعاوضة فأوجبت الشريعة بذلها مجانا
فإن قيل : فإذا أهدى صاحب الأنثى إلى صاحب الفحل هدية أو ساق إليه كرامة فهل له أخذها ؟ قيل : إن كان ذلك على وجه المعاوضة والإشتراط في الباطن لم يحل له أخذه وإن لم يكن كذلك فلا بأس به قال أصحاب أحمد والشافعي : وإن أعطى صاحب الفحل هدية أو كرامة من غير إجارة جاز واحتج أصحابنا بحديث روي عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : إذا كان إكراما فلا بأس ذكره صاحب المغني ولا أعرف حال هذا الحديث ولا من خرجه وقد نص أحمد في رواية ابن القاسم على خلافه فقيل له : ألا يكون مثل الحجام يعطى وإن كان منهيا عنه ؟ فقال : لم يبلغنا أن النبي صلى الله عليه و سلم أعطى في مثل هذا شيئا كما بلغنا في الحجام
واختلف أصحابنا في حمل كلام أحمد رحمه الله على ظاهره أو تأويله فحمله القاضي على ظاهره وقال : هذا مقتضى النظر لكن ترك مقتضاه في الحجام فبقي فيما عداه على مقتضى القياس وقال أبو محمد في المغني : كلام أحمد يحمل على الورع لا على التحريم والجواز أرفق بالناس وأوفق للقياس (5/703)
ذكر حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم في المنع من بيع الماء الذي يشترك فيه الناس
ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر رضي الله عنه قال : نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن بيع فضل الماء
وفيه عنه قال : نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن بيع ضراب الفحل وعن بيع الماء والأرض لتحرث فعن ذلك نهى رسحول الله صلى الله عليه و سلم
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ ] وفي لفظ آخر [ لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به الكلأ ] وقال البخاري في بعض طرقه : [ لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به فضل الكلإ ]
وفي المسند من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من منع فضل مائه أو فضل كلئه منعة الله فضله يوم القيامة ]
وفي سنن ابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنهه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ المسلمون شركاء في الثلث : الماء والنار والكلأ وثمنه حرام ]
وفي سننه أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ المسلمون شركاء في ثلاث : الماء والنار والكلأ وثمنه حرام ]
وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ ثلاثة لا ينظر الله عز و جل إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم : رجل كان له فضل ماء بالطريق فمنعه من ابن السبيل ورجل بايع إمامه لا بيايعه إلا للدنيا فإن أعطاه منها رضي وإن لم يعطه منها سخط ورجل أقام سلعة بعد العصر فقال : والله الذي لا إله إلا غيره لقد أعطيت بها كذا وكذا فصدقه رجل ثم قرأ هذه الآية { إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا } الآية ]
وفي سنن أبي داود عن بهيسة قالت : [ استأذن أبي النبي صلى الله عليه و سلم فجعل يدنو منه ويلتزمه ثم قال : يا نبي الله ما الشئ الذي لا يحل منعه ؟ قال : الماء قال : يا نبي الله ما الشئ الذي لا يحل منعه ؟ قال الملح قال : يا نبي الله ما الشئ الذي لا يحل منعه ؟ قال : أن تفعل الخير خير لك ]
الماء خلقه الله في الأصل مشتركا بين العباد والبهائم وجعله سقيا لهم فلا يكون أحد أخص به من أحد ولو أقام عليه وتنأ عليه قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ابن السبيل أحق بالماء من التانيء عليه ذكره أبو عبيد عنه
وقال أبو هريرة : ابن السبيل أول شارب
فأما من حازه في قربته أو إنائه فذاك غير المذكور فى الحديث وهو بمنزلة سائر المباحات إذا حازها إلى ملكه ثم أراد بيعها كالحطب والكلأ والملح وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة حطب على ظهره فيبيعها فيكف الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه ] رواه البخاري
وفي الصحيحين عن علي رضي الله عنه قال : أصبت شارفا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في مغنم يوم بدر وأعطاني رسول الله صلى الله عليه و سلم شارفا آخر فأنختهما يوما عند باب رجل من الأنصار وأنا أريد أن أحمل عليهما إذخرا لأبيعه وذكر الحديث فهذا في الكلأ والحطب المباح بعد أخذه وإحرازه وكذلك السمك وسائر المباحات وليس هذا محل النهي بالضرورة ولا محل النهي أيضا بيع مياه الأنهار الكبار المشتركة بين الناس فإن هذا لا يمكن منعها والحجر عليها وإنما محل النهي صور أحدها : المياه المنتقعة من الأمطار إذا اجتمعت في أرض مباحة فهي مشتركة بين الناس وليس أحد أحق بها من أحد إلا بالتقديم لقرب أرضه كما سيأتي إن شاء الله تعالى فهذا النوع لا يحل بيعه ولا منعه ومانعه عاص مستوجب لوعيد الله ومنع فضله إذ منع فضل ما لم تعمل يداه
فإن قيل : فلو اتخذ في أرضه المملوكة له حفرة يجمع فيها الماء أو حفر بئرا فهل يملكه بذلك ويحل له بيعه ؟ قيل : لا ريب أنه أحق به من غيره ومتى كان الماء النابع في ملكه والكلأ والمعدن فوق كفايته لشربه وشرب ماشيته ودوابه لم يجب عليه بذله نص عليه أحمد وهذا لا يدخل تحت وعيد النبي صلى الله عليه و سلم فإنه إنما توعد من منع فضل الماء ولا فضل في هذا (5/706)
فصل
وما فضل منه عن حاجته وحاجة بهائمه وزرعه واحتاج إليه آدمي مثله أو بهائمه بذله بغير عوض ولكل واحد أن يتقدم إلى الماء ويشرب ويسقي ماشيته وليس لصاحب الماء منعه من ذلك ولا يلزم الشارب وساقي البهائم عوض وهل يلزمه أن يبذل له الدلو والبكرة والحبل مجانا أو له أن يأخذ أجرته ؟ على قولين وهما وجهان لأصحاب أحمد في وجوب إعارة المتاع عند الحاجة إليه أظهرهما دليلا وجوبه وهو من الماعون قال أحمد : إنما هذا في الصحاري والبرية دون البنيان يعني : أن البنيان إذا كان فيه الماء فليس لأحد الدخول إليه إلا بإذن صاحبه وهل يلزمه بذل فضل مائه لزرع غيره ؟ فيه وجهان وهما روايتان عن أحمد
أحدهما : لا يلزمه وهو مذهب الشافعي لأن الزرع لا حرمة له في نفسه ولهذا لا يجب على صاحبه سقيه بخلاف الماشية
والثاني : يلزمه بذله واحتج لهذا القول بالأحاديث المتقدمة وعمومها وبما روي عن عبد الله بن عمرو أن قيم أرضه بالوهط كتب إليه يخبره أنه سقى أرضه وفضل له من الماء فضل يطلب بثلاثين ألفا فكتب إليه عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما : أقم قلدك ثم اسق الأدنى فالأدنى فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم ينهى عن بيع فضل الماء
قالوا : وفي منعه من سقي الزرع إهلاكه وإفساده فحرم كالماشية وقولكم : لا حرمة له فلصاحبه حرمة فلا يجوز التسبب إلى إهلاك ماله ومن سلم أنه لا حرمة للزرع ؟ قال أبو محمد المقدسي : ويحتمل أن يمنع نفي الحرمة عنه فإن إضاعة المال منهي عنها وإتلافه محرم وذلك دليل على حرمته
فإن قيل : فإذا كان في أرضه أو داره بئر نابعة أو عين مستنبطة فهل تكون ملكا له تبعا لملك الأرض والدار ؟ قيل : أما نفس البئر وأرض العين فمملوكة لمالك الأرض وأما الماء ففيه قولان وهما روايتان عن أحمد ووجهان لأصحاب الشافعي
أحدهما : أنه غير مملوك لأنه يجري من تحت الأرض إلى ملكه فأشبه الجاري في النهر إلى ملكه
والثاني : أنه مملوك له قال أحمد في رجل له أرض ولآخر ماء فاشترك صاحب الأرض وصاحب الماء في الزرع : يكون بينهما ؟ فقال : لا بأس وهذا القول اختيار أبي بكر
وفي معنى الماء المعادن الجارية في الأملاك كالقار والنفط والموميا والملح وكذلك الكلأ النابت في أرضه كل ذلك يخرج على الروايتين في الماء وظاهر المذهب أن هذا الماء لا يملك وكذلك هذه الأشياء قال أحمد : لا يعجبني بيع الماء البتة وقال الأثرم : سمعت أبا عبد الله يسأل عن قوم بينهم نهر تشرب منه أرضهم لهذا يوم ولهذا يومان يتفقون عليه بالحصص فجاء يومي ولا أحتاج إليه أكريه بدراهم ؟ قال : ما أدري أما النبي صلى الله عليه و سلم فنهى عن بيع الماء قيل : إنه ليس يبيعه إنما يكريه قال : إنما احتالوا بهذا ليحسنوه فأي شئ هذا إلا البيع انتهى
وأحاديث اشتراك الناس في الماء دليل ظاهر على المنع من بيعه وهذه المسألة التي سئل عنها أحمد هي التي قد ابتلي بها الناس في أرض الشام وبساتينه وغيرها فإن الأرض والبستان يكون له حق من الشرب من نهر فيفصل عنه أو يبنيه دورا وحوانيت ويؤجر ماءه فقد توقف أحمد أولا ثم أجاب بأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن بيع الماء فلما قيل له : إن هذه إجارة قال : هذه التسمية حيلة وهي تحسين اللفظ وحقيقة العقد البيع وقواعد الشريعة تقتضي المنع من بيع هذا الماء فإنه إنما كان له حق التقديم في سقي أرضه من هذا الماء المشترك بينه وبين غيره فإذا استغنى عنه لم يجز له المعاوضة عنه وكان المحتاج إليه أولى به بعده وهذا كمن أقام على معدن فأخذ منه حاجته لم يجز له أن يبيع باقيه بعد نزعه عنه
وكذلك من سبق إلى الجلوس في رحبة أو طريق واسعة فهو أحق بها ما دام جالسا فإذا استغنى عنها وأجر مقعده لم يجز وكذلك الأرض المباحة إذا كان فيها كلأ أو عشب فسبق بدوابه إليه فهو أحق برعيه ما دامت دوابه فيه فإذا طلب الخروج منها وبيع ما فضل عنه لم يكن له ذلك وهكذا هذا الماء سواء فإنه إذا فارق أرضه لم يبق له فيه حق وصار بمنزلة الكلأ الذي لا اختصاص له به ولا هو في أرضه
فإن قيل : الفرق بينهما أن هذا الماء في نفس أرضه فهو منفعة من منافعها فملكه بملكها كسائر منافعها بخلاف ما ذكرتم من الصور فإن تلك الأعيان ليست من ملكه وإنما له حق الإنتفاع والتقديم إذا سبق خاصة
قيل : هذه النكتة التي لأجلها جوز من جوز بيعه وجعل ذلك حقا من حقوق أرضه فملك المعاوضة عليه وحده كما يملك المعاوضة عليه مع الأرض فيقال : حق أرضه في الإنتفاع لا في ملك العين التي أودعها الله فيها بوصف الإشتراك وجعل حقه في تقديم الإنتفاع على غيره في التحجر والمعاوضة فهذا القول هو الذي تقتضيه قواعد الشرع وحكمته واشتماله على مصالح العالم وعلى هذا فإذا دخل غيره بغير إذنه فأخذ منه شيئا ملكه لأنه مباح في الأصل فأشبه ما لو عشش في أرضه طائر أو حصل فيها ظبي أو نضب ماؤها عن سمك فدخل إليه فأخذه
فإن قيل : فهل له منعه من دخول ملكه وهل يجوز دخوله فى ملكه بغير إذنه ؟
قيل : قد قال بعض أصحابنا : لا يجوز له دخول ملكه لأخذ ذلك بغير إذنه وهذا لا أصل له في كلام الشارع ولا في كلام الإمام أحمد بل قد نص أحمد على جواز الرعي في أرض غير مباحة مع أن الأرض ليست مملوكة له ولا مستأجرة ودخولها لغير الرعي ممنوع منه فالصواب أنه يجوز له دخولها لأخذ ما له أخذه وقد يتعذر عليه غالبا استئذان مالكها ويكون قد احتاج إلى الشرب وسقي بهائمه ورعي الكلأ ومالك الأرض غائب فلو منعناه من دخولها إلا بإذنه كان في ذلك إضرار ببهائمه
وأيضا فإنه لا فائدة لهذا الإذن لأنه ليس لصاحب الأرض منعه من الدخول بل يجب عليه تمكينه فغاية ما يقدر أنه لم يأذن له وهذا حرام عليه شرعا لا يحل له منعه من الدخول فلا فائدة في توقف دخوله على الإذن
وأيضا فإنه إذا لم يتمكن من أخذ حقه الذي جعله له الشارع إلا بالدخول فهو مأذون فيه شرعا بل لو كان دخوله بغير إذنه لغيرة على حريمه وعلى أهله فلا يجوز له الدخول بغير إذن فأما إذا كان في الصحراء أو دار فيها بئر ولا أنيس بها فله الدخول بإذن وغيره وقد قال الله تعالى : { ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم } [ النور : 29 ] وهذا الدخول الذي رفع عنه الجناح هو الدخول بلا إذن فإنه قد منعهم قبل من الدخول لغير بيوتهم حتى يستأنوا ويسلموا على أهلها والإستئناس هنا : الإستئذان وهي في قراءة بعض السلف كذلك ثم رفع عنهم الجناح في دخول البيوت غير المسكونة لأخذ متاعهم فدل ذلك على جواز الدخول إلى بيت غيره وأرضه غير المسكونة لأخذ حقه من الماء والكلأ فهذا ظاهر القرآن وهو مقتضى نص أحمد وبالله التوفيق
فإن قيل : فما تقولون في بيع البئر والعين نفسها : هل يجوز ؟ قال الإمام أحمد : إنما نهي عن بيع فضل ماء البئر والعيون في قراره ويجوز بي البئر نفسها والعين ومشتريها أحق بمائها وهذا الذي قاله الإمام أحمد هو الذي دلت عليه السنة فإن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من يشتري بئر رومة يوسع بها على المسلمين وله الجنة ] أو كما قال فاشتراها عثمان بن عفان رضي الله عنه من يهودي بأمر النبي صلى الله عليه و سلم وسبلها للمسلمين وكان اليهودي يبيع ماءها وفي الحديث أن عثمان رضي الله عنه اشترى منه نصفها باثني عشر ألفا ثم قال لليهودي : اختر إما أن تأخذها يوما وآخذها يوما وإما أن تنصب لك عليها دلوا وأنصب عليها دلوا فاختار يوما ويوما فكان الناس يستقون منها في يوم عثمان لليومين فقال اليهودي : أفسدت علي بئري فاشتر باقيها فاشتراه بثمانية آلاف فكان في هذا حجة على صحة بيع البئر وجواز شرائها وتسبيلها وصحة بيع ما يسقى منها وجواز قسمة الماء بالمهايأة وعلى كون المالك أحق بمائها وجواز قسمة ما فيه حق وليس بمملوك
فإن قيل : فإذا كان الماء عندكم لا يملك ولكل واحد أن يستقي منه حاجته فكيف أمكن اليهودي تحجره حتى اشترى عثمان البئر وسبلها فإن قلتم : اشترى نفس البئر وكانت مملوكة ودخل الماء تبعا أشكل عليكم من وجه آخر وهو أنكم قررتم أنه يجوز للرجل دخول أرض غيره لأخذ الكلأ والماء وقضية بئر اليهودي تدل على أحد أمرين ولا بد إما ملك الماء بملك قراره وإما على أنه لا يجوز دخول الأرض لأخذ ما فيها من المباح إلا بإذن مالكها
قيل : هذا سؤال قوي وقد يتمسك به من ذهب إلى واحد من هذين المذهبين ومن منع الأمرين يجيب عنه بأن هذا كان في أول الإسلام وحين قدم النبي صلى الله عليه و سلم وقبل تقرر الأحكام وكان اليهود إذ ذاك لهم شوكة بالمدينة ولم تكن أحكام الإسلام جارية عليهم والنبي صلى الله عليه و سلم لما قدم صالحهم وأقرهم على ما بأيديهم ولم يتعرض له ثم استقرت الأحكام وزالت شوكة اليهود لعنهم الله وجرت عليهم أحكام الشريعة وسياق قصة هذه البئر ظاهر في أنها كانت حين مقدم النبي صلى الله عليه و سلم المدينة في أول الأمر (5/709)
فصل
وأما المياه الجارية فما كان نابعا من غير ملك كالأنهار الكبار وغير ذلك لم يملك بحال ولو دخل إلى أرض رجل لم يملكه بذلك وهو كالطير يدخل إلى أرضه فلا يملك بذلك ولكل واحد أخذه وصيده فإن جعل له في أرضه مصنعا أو بركة يجتمع فيها ثم يخرج منها فهو كنقع البئر سواء وفيه من النزاع ما فيه وإن كان لا يخرج منها فهو أحق به للشرب والسقي وما فضل عنه فحكمه حكم ما تقدم
وقال الشيخ في المغني : وإن كان ماء يسير في البركة لا يخرج منها فألاولى أنه يملكه بذلك على ما سنذكره في مياه الأمطار
ثم قال : فأما المصانع المتخذة لمياه الأمطار تجتمع فيها ونحوها من البرك وغيرها فالأولى أن يملك ماؤها ويصح بيعه إذا كان معلوما لأنه مباح حصله في شئ معد له فلا يجوز أخذ شئ منه إلا بإذن مالكه
وفي هذا نظر مذهبا ودليلا أما المذهب فإن أحمد قال : إنما نهى عن بيع فضل ماء البئر والعيون في قراره ومعلوم أن ماء البئر لا يفارقها فهو كالبركة التي اتخذت مقرا كالبئر سواء ولا فرق بينهما وقد تقدم من نصوص أحمد ما يدل على المنع من بيع هذا وأما الدليل فما تقدم من النصوص الخي سقناها وقوله في الحديث الذي رواه البخاري في وعيد الثلاثة [ والرجل على فضل ماء يمنعه ابن السبيل ] ولم يفرق بين أن يكون ذلك الفضل في أرضه المختصة به أو في الأرض المباحة وقوله : [ الناس شركاء في الثلث ] ولم يشترط في هذه الشركة كون مقره مشتركا وقوله وقد سئل : ما الشئ الذي لا يحل منعه ؟ فقال : الماء ولم يشترط كون مقره مباحا فهذا مقتضى الدليل في هذه المسألة أثرا ونظرا (5/715)
ذكر حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم في منع الرجل من بيع ما ليس عنده
في السنن و المسند من حديث حكيم بن حزام قال : قلت يا رسول الله يأتيني الرجل يسألني من البيع ما ليس عندي فأبيعه منه ثم أبتاعه من السوق فقال [ لا تبع ما ليس عندك ] قال الترمذي : حديث حسن
وفي السنن نحوه من حديث ابن عمرو رضي الله عنه ولفظه : [ لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك ] قال الترمذي : حديث حسن صحيح
فاتفق لفظ الحديثين على نهيه صلى الله عليه و سلم عن بيع ما ليس عنده فهذا هو المحفوظ من لفظه صلى الله عليه و سلم وهو يتضمن نوعا من الغرر فإنه إذا باعه شيئا معينا وليس في ملكه ثم مضى ليشتريه أو يسلمه له كان مترددا بين الحصول وعدمه فكان غررا يشبه القمار فنهي عنه
وقد ظن بعض الناس أنه إنما نهى عنه لكونه معدوما فقال : لا يصح بيع المعدوم وروى في ذلك حديثا أنه صلى الله عليه و سلم نهى عن بيع المعدوم وهذا الحديث لا يعرف في شئ من كتب الحديث ولا له أصل والظاهر أنه مروي بالمعنى من هذا الحديث وغلط من ظن أن معناهما واحد وأن هذا المنهي عنه في حديث حكيم وابن عمرو رضي الله عنه لا يلزم أن يكون معدوما وإن كان فهو معدوم خاص فهو كبيع حبل الحبلة وهو معدوم يتضمن غررا وترددا في حصوله
والمعدوم ثلاثة أقسام : معدوم موصوف في الذمة فهذا يجوز بيعه اتفاقا وإن كان أبو حنيفة شرط في هذا النوع أن يكون وقت العقد في الوجود من حيث الجملة وهذا هو السلم وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى
والثاني : معدوم تبع للموجود وإن كان أكثر منه وهو نوعان : نوع متفق عليه ونوع مختلف فيه فالمتفق عليه بيع الثمار بعد بدو صلاح ثمرة واحدة منها فاتفق الناس على جواز بيع ذلك الصنف الذي بدا صلاح واحدة منه وإن كانت بقية أجزاء الثمار معدومة وقت العقد ولكن جاز بيعها تبعا للموجود وقد يكون المعدوم متصلا بالموجود وقد يكون أعيانا أخر منفصلة عن الوجود لم تخلق بعد
والنوع المختلف فيه كبيع المقاثئ والمباطخ إذا طابت فهذا فيه قولان أحدهما : أنه يجوز بيعها جملة ويأخذها المشتري شيئا بعد شئ كما جرت به العادة ويجري مجرى بيع الثمرة بعد بدو صلاحها وهذا هو الصحيح من القولين الذي استقر عليه عمل الأمة ولا غنى لهم عنه ولم يأت بالمنع منه كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا أثر ولا قياس صحيح وهو مذهب مالك وأهل المدينة وأحد القولين في مذهب أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية
والذين قالوا : لا يباع إلا لقطة لقطة لا ينضبط قولهم شرعا ولا عرفا ويتعذر العمل به غالبا وإن أمكن ففي غاية العسر ويؤدي إلى التنازع والإختلاف الشديد فإن المشتري يريد أخذ الصغار والكبار ولا سيما إذا كان صغاره أطيب من كباره والبائع لا يؤثر ذلك وليس في ذلك عرف منضبط وقد تكون المقثأة كثيرة فلا يستوعب المشتري اللقطة الظاهرة حتى يحدث فيها لقطة أخرى ويختلط المبيع بغيره ويتعذر تمييزه ويتعذر أو يتعسر على صاحب المقثأة أن يحضر لها كل وقت من يشتري ما تجدد فيها ويفرده بعقد وما كان هكذا فإن الشريعة لا تأتي به فهذا غير مقدور ولا مشروع ولو ألزم الناس به لفسدت أموالهم وتعطلت مصالحهم ثم إنه يتضمن التفريق بين متماثلين من كل الوجوه فإن بدو الصلاح في المقاثئ بمنزلة بدو الصلاح في الثمار وتلاحق أجزائها كتلاحق أجزاء الثمار وجعل ما لم يخلق منها تبعا لما خلق في الصورتين واحد فالتفريق بينهما تفريق بين متماثلين
ولما رأى هؤلاء ما في بيعها لقطة لقطة من الفساد والتعذر قالوا : طريق رفع ذلك بأن يبيع أصلها معها ويقال : إذا كان بيعها جملة مفسدة عندكم وهو بيع معدوم وغرر فإن هذا لا يرتفع ببيع العروق التي لا قيمة لها وإن كان لها قيمة فيسيرة جدا بالنسبة إلى الثمن المبذول وليس للمشتري قصد في العروق ولا يدفع فيها الجملة من المال وما الذي حصل ببيع العروق معها من المصلحة لهما حتى شرط وإذا لم يكن بيع أصول الثمار شرطا في صحة بيع الثمرة المتلاحقة كالتين والتوت وهي مقصودة فكيف يكون بيع أصول المقاثئ شرطا في صحة بيعها وهي غير مقصودة والمقصود أن هذا المعدوم يجوز بيعه تبعا للموجود ولا تأثير للمعدوم وهذا كالمنافع المعقود عليها في الإجارة فإنها معدومة وهي مورد العقد لأنها لا يمكن أن تحدث دفعة واحدة والشرائع مبناها على رعاية مصالح العباد وعدم الحجر عليهم فيما لا بد لهم منه ولا تتم مصالحهم في معاشهم إلا به (5/716)
فصل
الثالث : معدوم لا يدرى يحصل أو لا يحصل ولا ثقة لبائعه بحصوله بل يكون المشتري منه على خطر فهذا الذي منع الشارع بيعه لا لكونه معدوما بل لكونه غررا فمنه صورة النهي التي تضمنها حديث حكيم بن حزام وابن عمر رضي الله عنهما فإن البائع إذا باع ما ليس في ملكه ولا له قدرة على تسليمه ليذهب ويحصله ويسلمه إلى المشتري كان ذلك شبيها بالقمار والمخاطرة من غير حاجة بهما إلى هذا العقد ولا تتوقف مصلحتهما عليه وكذلك بيع حبل الحبلة - وهو بيع حمل ما تحمل ناقته - ولا يختص هذا النهي بحمل الحمل بل لو باعه ما تحمل ناقته أو بقرته أو أمته كان من بيوع الجاهلية التي يعتادونها وقد ظن طائفة أن بيع السلم مخصوص من النهى عن بيع ما ليس عنده وليس هو كما ظنوه فإن السلم يرد على أمر مضمون في الذمة ثابت فيها مقدور على تسليمه عند محله ولا غرر في ذلك ولا خطر بل هو جعل المال في ذمة المسلم إليه يجب عليه أداؤه عند محله فهو يشبه تأجيل الثمن في ذمة المشتري فهذا شغل لذمة المشتري بالثمن المضمون وهذا شغل لذمة البائع بالمبيع المضمون فهذا لون وبيع ما ليس عنده لون ورأيت لشيخنا في هذا الحديث فصلا مفيدا وهذه سياقته
قال : للناس في هذا الحديث أقوال قيل : المراد بذلك أن يبيع السلعة المعينة التي هي مال الغير فيبيعها ثم يتملكها ويسلمها إلى المشتري والمعنى : لا تبع ما ليس عندك من الأعيان ونقل هذا التفسير عن الشافعي فإنه يجوز السلم الحال وقد لا يكون عند المسلم إليه ما باعه فحمله على بيع الأعيان ليكون بيع ما في الذمة غير داخل تحته سواء كان حالا أو مؤجلا
وقال آخرون : هذا ضعيف جدا فإن حكيم بن حزام ما كان يبيع شيئا معينا هو ملك لغيره ثم ينطلق فيشتريه منه ولا كان الذين يأتونه يقولون : نطلب عبد فلان ولا دار فلان وإنما الذي يفعله الناس أن يأتيه الطالب فيقول : أريد طعاما كذا وكذا أو ثوبا كذا وكذا أو غير ذلك فيقول : نعم أعطيك فيبيعه منه ثم يذهب فيحصله من عند غيره إذا لم يكن عنده هذا هو الذي يفعله من يفعله من الناس ولهذا قال : يأتيني فيطلب مني المبيع ليس عندي لم يقل يطلب مني ما هو مملوك لغيري فالطالب طلب الجنس لم يطلب شيئا معينا كما جرت به عادة الطالب لما يؤكل ويلبس ويركب إنما يطلب جنس ذلك ليس له غرض في ملك شخص بعينه دون ما سواه مما هو مثله أو خير منه ولهذا صار الإمام أحمد وطائفة إلى القول الثاني فقالوا : الحديث على عمومه يقتضي النهي عن بيع ما في الذمة إذا لم يكن عنده وهو يتناول النهي عن السلم إذا لم يكن عنده لكن جاءت الأحاديث بجواز السلم المؤجل فبقي هذا في السلم الحال
والقول الثالث - وهو أظهر الأقوال - : إن الحديث لم يرد به النهي عن السلم المؤجل ولا الحال مطلقا وإنما أريد به أن يبيع ما في الذمة مما ليس هو مملوكا له ولا يقدر على تسليمه ويربح فيه قبل أن يملكه ويضمنه ويقدر على تسليمه فهو نهي عن السلم الحال إذا لم يكن عند المستسلف ما باعه فليزم ذمته بشئ حال ويربح فيه وليس هو قادرا على إعطائه وإذا ذهب يشتريه فقد يحصل وقد لا يحصل فهو من نوع الغرر والمخاطرة وإذا كان السلم حالا وجب عليه تسليمه في الحال وليس بقادر على ذلك ويربح فيه على أن يملكه ويضمنه وربما أحاله على الذي ابتاع منه فلا يكون قد عمل شيئا بل أكل المال بالباطل وعلى هذا فإذا كان السلم الحال والمسلم إليه قادرا على الإعطاء فهو جائز وهو كما قال الشافعي إذا جاز المؤجل ؟ فالحال أولى بالجواز
ومما يبين أن هذا مراد النبي صلى الله عليه و سلم أن السائل إنما سأله عن بيع شئ مطلق في الذمة كما تقدم لكن إذا لم يجز بيع ذلك فبيع المعين الذي لم يملكه أولى بالمنع وإذا كان إنما سأله عن بيع شئ في الذمة فإنما سأله عن بيعه حالا فإنه قال : أبيعه ثم أذهب فأبتاعه فقال له : لا تبع ما ليس عندك فلو كان السلف الحال لا يجوز مطلقا لقال له ابتداء : لا تبع هذا سواء كان عنده أو ليس عنده فإن صاحب هذا القول يقول : بيع ما في الذمة حالا لا يجوز ولو كان عنده ما يسلمه بل إذا كان عنده فإنه لا يبيع إلا معينا لا يبيع شيئا في الذمة فلما لم ينه النبي صلى الله عليه و سلم عن ذلك مطلقا بل قال : لا تبع ما ليس عندك علم أنه صلى الله عليه و سلم فرق بين ما هو عنده ويملكه ويقدر على تسليمه وما ليس كذلك وإن كان كلاهما في الذمة
ومن تدبر هذا تبين له أن القول الثالث هو الصواب فإن قيل : إن بيع المؤجل جائز للضرورة وهو بيع المفاليس لأن البائع احتاج أن يبيع إلى أجل وليس عنده ما يبيعه الآن فأما الحال فيمكنه أن يحضر المبيع فيراه فلا حاجة إلى بيع موصوف في الذمة أو بيع عين غائبة موصوفة لا يبيع شيئا مطلقا ؟ قيل : لا نسلم أن السلم على خلاف الأصل بل تأجيل المبيع كتأجيل الثمن كلاهما من مصالح العالم
والناس لهم في مبيع الغائب ثلاثة أقوال : منهم من يجوزه مطلقا ولا يجوزه معينا موصوفا كالشافعي في المشهور عنه ومنهم من يجوزه معينا موصوفا ولا يجوزه مطلقا كأحمد وأبي حنيفة والأظهر جواز هذا وهذا ويقال للشافعي مثل ما قال هو لغيره : إذا جاز بج المطلق الموصوف في الذمة فالمعين الموصوف أولى بالجواز فإن المطلق فيه من الغرر والخطر والجهل أكثر مما في المعين فإذا جاز بيع حنطة مطلقة بالصفة فجواز بيعها معينة بالصفة أولى بل لو جاز بيع المعين بالصفة فللمشتري الخيار إذا رآه جاز أيضا كما نقل عن الصحابة وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين وقد جوز القاضي وغيره من أصحاب أحمد السلم الحال بلفظ البيع
والتحقيق : أنه لا فرق بين لفظ ولفظ فالإعتبار في العقود بحقائقها ومقاصدها لا بمجرد ألفاظها ونفس بيع الأعيان الحاضرة التي يتأخر قبضها تسمى سلفا إذا عجل له الثمن كما في المسند عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه نهى أن يسلم في الحائط بعينه إلا أن يكون قد بدا صلاحه فإذا بدا صلاحه وقال : أسلمت إليك في عشرة أوسق من تمر هذا الحائط جاز كما يجوز أن يقول : ابتعث عشرة أوسق من هذه الصبرة ولكن الثمن يتأخر قبضه إلى كمال صلاحه فإذا عجل له الثمن قيل له : سلف لأن السلف هو الذي تقدم والسالف المتقدم قال الله تعالى : { فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين } [ الزخرف : 56 ] والعرب تسمي أول الرواحل السالفة ومنه قول النبي صلى الله عليه و سلم [ ألحق بسلفنا الصالح عثمان بن مظعون ] وقول الصديق رضي الله عنه : لأقاتلنهم حتى تنفرد سالفتي وهي العنق
ولفظ السلف يتناول القرض والسلم لأن المقرض أيضا أسلف القرض أي : قدمه ومنه هذا الحديث [ لا يحل سلف وبيع ] ومنه الحديث الآخر [ أن النبي صلى الله عليه و سلم استسلف بكرا وقضى جملا رباعيا ] والذي يبيع ما ليس عنده لا يقصد إلا الربح وهو تاجر فيستلف بسعر ثم يذهب فيشتري بمثل ذلك الثمن فإنه يكون قد أتعب نفسه لغيره بلا فائدة وإنما يفعل هذا من يتوكل لغيره فيقول : أعطني فأنا أشتري لك هذه السلعة فيكون أمينا أما أنه يبيعها بثمن معين يقبضه ثم يذهب فيشتريها بمثل ذلك الثمن من غير فائدة في الحال فهذا لا يفعله عاقل نعم إذا كان هناك تاجر فقد يكون محتاجا إلى الثمن فيستسلفه وينتفع به مدة إلى أن يحصل تلك السلعة فهذا يقع في السلم المؤجل وهو الذي يسمى بيع المفاليس فإنه يكون محتاجا إلى الثمن وهو مفلس وليس عنده في الحال ما يبيعه ولكن له ما ينتظره من مغل أو غيره فيبيعه في الذمة فهذا يفعل مع الحاجة ولا يفعل بدونها إلا أن يقصد أن يتجر بالثمن في الحال أو يرى أنه يحصل به من الربح أكثر مما يفوت بالسلم فإن المستسلف يبيع السلعة في الحال بدون ما تساوي نقدا والمسلف يرى أن يشتريها الى أجل بأرخص مما يكون عند حصولها وإلا فلو علم أنها عند طرد الأصل تباع بمثل رأس مال السلم لم يسلم فيها فيذهب نفع ماله بلا فائدة وإذا قصد الأجر أقرضه ذلك قرضا ولا يجعل ذلك سلما إلا إذا ظن أنه في الحال أرخص منه وقت حلول الأجل فالسلم المؤجل في الغالب لا يكون إلا مع حاجة المستسلف إلى الثمن وأما الحال فإن كان عنده فقد يكون محتاجا إلى الثمن فيبيع ما عنده معينا تارة وموصوفا أخرى وأما إذا لم يكن عنده فإنه لا يفعله إلا إذا قصد التجارة والربح فيبيعه بسعر ويشتريه بأرخص منه
ثم هذا الذي قدره قد يحصل كما قدره وقد لا يحصل له تلك السلعة التي يسلف فيها إلا بثمن أغلى مما أسلف فيندم وإن حصلت بسعر أرخص من ذلك قدم السلف إذ كان يمكنه أن يشتريه هو بذلك الثمن فصار هذا من نوع الميسر والقمار والمخاطرة كبيع العبد الآبق والبعير الشارد يباع بدون ثمنه فإن حصل ندم البائع وإن لم يحصل ندم المشتري وكذلك بيع حبل الحبلة وبيع الملاقيح والمضامين ونحو ذلك مما قد يحصل وقد لا يحصل فبائع ما ليس عنده من جنس بائع الغرر الذي قد يحصل وقد لا يحصل وهو من جنس القمار والميسر والمخاطرة مخاطرتان : مخاطرة التجارة وهو أن يشتري السلعة بقصد أن يبيعها ويربح ويتوكل على الله في ذلك والخطر الثاني : الميسر الذي يتضمن أكل المال بالباطل فهذا الذي حرمه الله تعالى ورسوله مثل بيع الملامسة والمنابذة وحبل الحبلة والملاقيح والمضامين وبيع الثمار قبل بدو صلاحها ومن هذا النوع يكون أحدهما قد قمر الآخر وظلمه ويتظلم أحدهما من الآخر بخلاف التاجر الذي قد اشترى السلعة ثم بعد هذا نقص سعرها فهذا من الله سبحانه ليس لأحد فيه حيلة ولا يتظلم مثل هذا من البائع وبيع ما ليس عنده من قسم القمار والميسر لأنه قصد أن يربح على هذا لما باعه ما ليس عنده والمشتري لا يعلم أنه يبيعه ثم يشتري من غيره وأكثر الناس لو علموا ذلك لم يشتروا منه بل يذهبون ويشترون من حيث اشترى هو وليست هذه المخاطرة مخاطرة التجار بل مخاطرة المستعجل بالبيع قبل القدرة على التسليم فإذا اشترى التاجر السلعة وصارت عنده ملكا وقبضا فحينئذ دخل في خطر التجارة وباع بيع التجارة كما أحله الله بقوله { لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } [ النساء : 29 ] والله أعلم (5/718)
ذكر حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم في بيع الحصاة والغرر والملامسة والمنابذة
في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : [ نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر ]
وفي الصحيحين عنه [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عن الملامسة والمنابذة ] زاد مسلم : [ أما الملامسة : فأن يلمس كل منهما ثوب صاحبه بغير تأمل والمنابذة : أن ينبذ كل واحد منهما ثوبه إلى الآخر ولم ينظر واحد منهما إلى ثوب صاحبه الآخر ]
وفي الصحيحين عن أبي سعيد قال : نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن بيعتين ولبستين : نهى عن الملامسة والمنابذة في البيع والملامسة : لمس الرجل ثوب الآخر بيده بالليل أو بالنهار ولا يقلبه إلا بذلك والمنابذة : أن ينبذ الرجل إلى الرجل ثوبه وينبذ الآخر ثوبه ويكون ذلك بيعهما من غير نظر ولا تراض
أما بيع الحصاة فهو من باب إضافة المصدر إلى نوعه كبيع الخيار وبيع النسيئة ونحوهما وليس من باب إضافة المصدر إلى مفعوله كبيع الميتة والدم
والبيوع المنهي عنها ترجع إلى هذين القسمين ولهذا فسر بيع الحصاة بأن يقول : ارم هذه الحصاة فعلى أي ثوب وقعت فهو لك بدرهم وفسر بأن بيعه من أرضه قدر ما انتهت إليه رمية الحصاة وفسر بأن يقبض على كف من حصا ويقول : لي بعدد ما خرج في القبضة من الشئ المبيع أو يبيعه سلعة ويقبض على كف من الحصا ويقول : لي بكل حصاة درهم وفسر بأن يمسك أحدهما حصاة في يده ويقول : أي وقت سقطت الحصاة وجب البيع وفسر بأن يتبايعا ويقول أحدهما : إذا نبذت إليك الحصاة فقد وجب البيع وفسر بأن يعترض القطيع من الغنم فيأخذ حصاة ويقول : أي شاة أصبتها فهي لك بكذا وهذه الصور كلها فاسدة لما تتضمنه من أكل المال بالباطل ومن الغرر والخطر الذي هو شبيه بالقمار (5/724)
فصل
وأما بيع الغرر فمن إضافة المصدر إلى مفعوله كبيع الملاقيح والمضامين والغرر : هو المبيع نفسه وهو فعل بمعنى مفعول أي : مغرور به كالقبض والسلب بمعنى المقبوض والمسلوب وهذا كبيع العبد الآبق الذي لا يقدر على تسليمه والفرس الشارد والطير في الهواء وكبيع ضربة الغائص وما تحمل شجرته أو ناقته أو ما يرضى له به زيد أو يهبه له أو يورثه إياه ونحو ذلك مما لا يعلم حصوله أو لا يقدر على تسليمه أو لا يعرف حقيقته ومقداره ومنه بيع حبل الحبلة كما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عنه وهو نتاج النتاج قي أحد الأقوال والثاني : أنه أجل فكانوا يتبايعون إليه هكذا رواه مسلم وكلاهما غرر والثالث : أنه بيع حمل الكرم قبل أن يبلغ قاله المبرد قال : والحبلة : الكرم بسكون الباء وفتحها وأما ابن عمر رضي الله عنه فإنه فسره بأنه أجل كانوا يتبايعون إليه وإليه ذهب مالك والشافعي وأما أبو عبيدة ففسره ببيع نتاج النتاج وإليه ذهب أحمد ومنه بيع الملاقيح والمضامين كما ثبت في حديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن
المضامين والملاقيح قال أبو عبيد : الملاقيح ما في البطون من الأجنة والمضامين : ما في أصلاب الفحول وكانوا يبيعون الجنين في بطن الناقة وما يضربه الفحل في عام أو أعوام وأنشد
( إن المضامين التي في الصلب ... ماء الفحول في الظهور الحدب )
ومنه بيع المجر فإن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عنه قال ابن الأعرابي : المجر ما في بطن الناقة والمجر : الربا والمجر : القمار والمجر : المحاقلة والمزابنة
ومنه بيع الملامسة والمنابذة وقد جاء تفسيرهما في نفس الحديث ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه نهى عن بيعتين : الملامسة والمنابذة أما الملامسة فأن يلمس كل واحد منهما ثوب صاحبه بغير تأمل والمنابذة : أن ينبذ كل واحد منهما ثوبه إلى الآخر ولم ينظر واحد منهما إلى ثوب صاحبه هذا لفظ مسلم
وفي الصحيحين عن أبي سعيد قال : نهانا رسول الله صلى الله عليه و سلم عن بيعتين ولبستين في البيع والملامسة : لمس الرجل ثوب الآخر بيده بالليل أو بالنهار ولا يقلبه إلا بذلك والمنابذة : أن ينبذ الرجل إلى الرجل ثوبه وينبذ الآخر إليه ثوبه ويكون ذلك بيعهما من غير نظر ولا تراض
وفسرت الملامسة بأن يقول : بعتك ثوبي هذا على أنك متى لمسته فهو عليك بكذا والمنابذة بأن يقول : أي ثوب نبذته إلي فهو علي بكذا وهذا أيضا نوع من الملامسة والمنابذة وهو ظاهر كلام أحمد رحمه الله والغرر في ذلك ظاهر وليس العلة تعليق البيع شرط بل ما تضمنه من الخطر والغرر (5/725)
فصل
وليس من بيع الغرر بيع المغيبات في الأرض كاللفت والجزر والفجل والقلقاس والبصل ونحوها فإنها معلومة بالعادة يعرفها أهل الخبرة بها وظاهرها عنوان باطنها فهو كظاهر الصبرة مع باطنها ولو قدر أن في ذلك غررا فهو غرر يسير يغتفر في جنب المصلحة العامة التي لا بد للناس منها فإن ذلك غرر لا يكون موجبا للمنع فإن إجارة الحيوان والدار والحانوت مساناة لا تخلو عن غرر لأنه يعرض فيه موت الحيوان وانهدام الدار وكذا دخول الحمام وكذا الشرب من فم السقاء فإنه غير مقدر مع اختلاف الناس في قدره وكذا بيوع السلم وكذا بيع الصبرة العظيمة التي لا يعلم مكيلها وكذا بيع البيض والرمان والبطيخ والجوز واللوز والفستق وأمثال ذلك مما لا يخلو من الغرر فليس كل غرر سببا للتحريم والغرر إذا كان يسيرا أو لا يمكن الإحتراز منه لم يكن مانعا من صحة العقد فإن الغرر الحاصل في أساسات الجدران وداخل بطون الحيوان أو آخر الثمار التي بدا صلاح بعضها دون بعض لا يمكن الإحتراز منه والغرر الذي في دخول الحمام والشرب من السقاء ونحوه غرر يسير فهذان النوعان لا يمنعان البيع بخلاف الغرر الكثير الذي يمكن الإحتراز منه وهو المذكور في الأنواع التي نهى عنها رسول الله صلى الله عليه و سلم وما كان مساويا لها لا فرق بينها وبينه فهذا هو المانع من صحة العقد
فإذا عرف هذا فبيع المغيبات في الأرض انتفى عنه الأمران فإن غرره يسير ولا يمكن الإحتراز منه فإن الحقول الكبار لا يمكن بيع ما فيها من ذلك إلا وهو في الأرض فلو شرط لبيعه إخراجه دفعة واحدة كان في ذلك من المشقة وفساد الأموال ما لا يأتي به شرع وإن منع بيعه إلا شيئا فشيئا كلما أخرج شيئا باعه ففي ذلك من الحرج والمشقة وتعطيل مصالح أرباب تلك الأموال ومصالح المشتري ما لا يخفى وذلك مما لا يوجبه الشارع ولا تقوم مصالح الناس بذلك البتة حتى إن الذين يمنعون من بيعها في الأرض إذا كان لأحدهم خراج كذلك أو كان ناظرا عليه لم يجد بدا من بيعه في الأرض اضطرارا إلى ذلك وبالجملة فليس هذا من الغرر الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا نظيرا لما نهى عنه من البيوع (5/727)
فصل
وليس منه بيع المسك في فأرته بل هو نظير ما مأكوله في جوفه كالجوز واللوز والفستق وجوز الهند فإن فأرته وعاء له تصونة من الآفات وتحفظ عليه رطوبته ورائحته وبقاؤه فيها أقرب إلى صيانته من الغش والتغير والمسك الذي في الفأرة عند الناس خير من المنفوض وجرت عادة التجار ببيعه وشرائه فيها ويعرفون قدره وجنسه معرفة لا تكاد تختلف فليس من الغرر في شئ فإن الغرر هو ما تردد بين الحصول والفوات وعلى القاعدة الأخرى : هو ما طويت معرفته وجهلت عينه وأما هذا ونحوه فلا يسمى غررا لا لغة ولا شرعا ولا عرفا ومن حرم بيع شئ وادعى أنه غرر طولب بدخوله في مسمى الغرر لغة وشرعا وجواز بيع المسك في الفأرة أحد الوجهين لأصحاب الشافعي وهو الراجع دليلا والذين منعوه جعلوه مثل بيع النوى في التمر والبيض في الدجاج واللبن في الضرع والسمن في الوعاء والفرق بين النوعين ظاهر
ومنازعوهم يجعلونه مثل بيع قلب الجوز واللوز والفستق في صوانه لأنه من مصلحته ولا ريب أنه أشبه بهذا منه بالأول فلا هو مما نهى عنه الشارع ولا في معناه فلم يشمله نهيه لفظا ولا معنى
وأما بيع السمن في الوعاء ففيه تفصيل فإنه إن فتحه ورأى رأسه بحيث يدله على جنسه ووصفه جاز بيعه في السقاء لكنه يصير كبيع الصبرة التي شاهد ظاهرها وإن لم يره ولم يوصف له لم يجز بيعه لأنه غرر فإنه يختلفت جنسا ونوعا ووصفا وليس مخلوقا في وعائه كالبيض والجوز واللوز والمسك في أوعيتها فلا يصح إلحاقه بها
وأما بيع اللبن في الضرع فمنعه أصحاب أحمد والشافعي وأبي حنيفة والذي يجب فيه التفصيل فإن باع الموجود المشاهد في الضرع فهذا لا يجوز مفردا ويجوز تبعا للحيوان لأنه إذا بيع مفردا تعذر تسليم المبيع بعينه لأنه لا يعرف مقدار ما وقع عليه البيع فإنه وإن كان مشاهدا كاللبن في الظرف لكنه إذا حلبه خلفه مثله مما لم يكن في الضرع فاختلط المبيع بغيره على وجه لا يتميز وإن صح الحديث الذي رواه الطبراني في معجمه من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم [ نهى أن يباع صوف على ظهر أو لبن في ضرع ] فهذا إن شاء الله محمله وأما إن باعه آصعا معلومة من اللبن يأخذه من هذه الشاة أو باعه لبنها أياما معلومة فهذا بمنزلة بيع الثمار قبل بدو صلاحها لا يجوز وأما إن باعه لبنا مطلقا موصوفا في الذمة واشترط كونه من هذه الشاة أو البقرة فقال شيخنا : هذا جائز واحتج بما في المسند من أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى أن يسلم في حائط بعينه إلا أن يكون قد بدا صلاحه قال فإذا بدا صلاحه وقال : أسلمت إليك في عشرة أوسق من تمر هذا الحائط جاز كما يجوز أن يقول : ابتعت منك عشرة أوسق من هذه الصبرة ولكن الثمن يتأخر قبضه إلى كمال صلاحه هذا لفظه (5/728)
فصل
وأما إن أجره الشاة أو البقرة أو الناقة مدة معلومة لأخذ لبنها فى تلك المدة فهذا لا يجوزه الجمهور واختار شيخنا جوازه وحكاه قولا لبعض أهل العلم وله فيها مصنف مفرد قال : إذا استأجر غنما أو بقرا أو نوقا أيام اللبن بأجرة مسماة وعلفها على المالك أو بأجرة مسماة مع علفها على أن يأخذ اللبن جاز ذلك في أظهر قولي العلماء كما في الظئر قال : وهذا يشبه البيع ويشبه الإجارة ولهذا يذكره بعض الفقهاء في البيع وبعضهم في الإجارة لكن إذا كان اللبن يحصل بعلف المستأجر وقيامه على الغنم فإنه يشبه استئجار الشجر وإن كان المالك هو الذي يعلفها وإنما يأخذ المشتري لبنا مقدرا فهذا بيع محض وإن كان يأخذ اللبن مطلقا فهو بيع أيضا فإن صاحب اللبن يوفيه اللبن بخلاف الظئر فإنما هي تسقي الطفل وليس هذا داخلا فيما نهى عنه صلى الله عليه و سلم من بيع الغرر لأن الغرر تردد بين الوجود والعدم فنهى عن بيعه لأنه من جنس القمار الذي هو الميسر والله حرم ذلك لما فيه من أكل المال بالباطل وذلك من الظلم الذي حرمه الله تعالى وهذا إنما يكون قمارا إذا كان أحد المتعاوضين يحصل له مال والآخر قد يحصل له وقد لا يحصل فهذا الذي لا يجوز كما في بيع العبد الآبق والبعير الشارد وبيع حبل الحبلة فإن البائع يأخذ مال المشتري والمشتري قد يحصل له شئ وقد لا يحصل ولا يعرف قدر الحاصل فأما إذا كان شيئا معروفا بالعادة كمنافع الأعيان بالإجارة مثل منفعة الأرض والدابة ومثل لبن الظئر المعتاد ولبن البهائم المعتاد ومثل الثمر والزرع المعتاد فهذا كله من باب واحد وهو جائز
ثم إن حصل على الوجه المعتاد وإلا حط عن المستأجر بقدر ما فات من المنفعة المقصودة وهو مثل وضع الجائحة في البيع ومثل ما إذا تلف بعض المبيع قبل التمكن من القبض في سائر البيوع
فإن قيل : مورد عقد الإجارة إنما هو المنافع لا الأعيان ولهذا لا يصح استئجار الطعام ليأكله والماء ليشربه وأما إجارة الظئر فعلى المنفعة وهي وضع الطفل في حجرها وإلقامه ثديها واللبن يدخل ضمنا وتبعا فهو كنقع البئر في إجارة الدار ويغتفر فيما دخل ضمنا وتبعا ما لا يغتفر في الأصول والمتبوعات
قيل : الجواب عن هذا من وجوه
أحدها : منع كون عقد الإجارة لا يرد إلا على منفعة فإن هذا ليس ثابتا بالكتاب ولا بالسنة ولا بالإجماع بل الثابت عن الصحابة خلافه كما صح عن عمر رضي الله عنه أنه قبل حديقة أسيد بن حضير ثلاث سنين وأخذ الأجرة فقضى بها دينه والحديقة : هي النخل فهذه إجارة الشجر لأخذ ثمرها وهو مذهب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولا يعلم له في الصحابة
مخالف واختاره أبو الوفاء بن عقيل من أصحاب أحمد واختيار شيخنا فقولكم : إن مورد عقد الإجارة لا يكون إلا منفعة غير مسلم ولا ثابت بالدليل وغاية ما معكم قياس محل النزاع على إجارة الخبز للأكل والماء للشرب وهذا من أفسد القياس فإن الخبز تذهب عينه ولا يستخلف مثله بخلاف اللبن ونقع البئر فإنه لما كان يستخلف ويحدث شيئا فشيئا كان بمنزلة المنافع
يوضحه الوجه الثاني : وهو أن الثمر يجري مجرى المنافع والفوائد في الوقف والعارية ونحوها فيجوز أن يقف الشجرة لينتفع أهل الوقف بثمراتها كما يقف الأرض لينتفع أهل الوقف بغلتها ويجوز إعارة الشجرة كما يجوز إعارة الظهر وعارية الدار ومنيحة اللبن وهذا كله تبرع بنماء المال وفائدته فإن من دفع عقاره إلى من يسكنه فهو بمنزلة من دفع دابته إلى من يركبها وبمنزلة من دفع
شجرة إلى من يستثمرها وبمنزلة من دفع أرضه إلى من يزرعها وبمنزلة من دفع شاته إلى من يشرب لبنها فهذه الفوائد
تدخل في عقود التبرع سواء كان الأصل محبسا بالوقف أو غير محبس ويدخل أيضا في عقود المشاركات فإنه إذا دفع شاة أو بقرة أو ناقة إلى من يعمل عليها بجزء من درها ونسلها صح على أصح الروايتين عن أحمد فكذلك يدخل في العقود للإجارات
يوضحه الوجه الثالث : وهو أن الأعيان نوعان : نوع لا يستخلف شيئا فشيئا بل إذا ذهب ذهب جملة ونوع يستخلف شيئا فشيئا كلما ذهب منه شئ خلفه شئ مثله فهذا رتبة وسطى بين المنافع وبين الأعيان التي لا تستخلف فينبغي أن ينظر في شبهه بأي النوعين فيلحق به ومعلوم أن شبهه بالمنافع أقوى فإلحاقه بها أولى
يوضحه الوجه الرابع : وهو أن الله سبحانه نص فى كتابه على إجارة الظئر وسمى ما تأخذه أجرا وليس في القرآن إجارة منصوص عليها في شريعتنا إلا إجارة الظئر بقوله تعالى : { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن وأتمروا بينكم بمعروف } [ الطلاق : 6 ] قال شيخنا : وإنما ظن الظان أنها خلاف القياس حيث توهم أن الإجارة لا تكون إلا على منفعة وليس الأمر كذلك بل الإجارة تكون على كل ما يستوفى مع بقاء أصله سواء كان عينا أو منفعة كما أن هذه العين هي التي توقف وتعار فيما استوفاه الموقوف عليه والمستعير بلا عوض يستوفيه المستأجر وبالعوض فلما كان لبن الظئر مستوفى مع بقاء الأصل جازت الإجارة عليه كما جازت على المنفعة وهذا محض القياس فإن هذه الأعيان يحدثها الله شيئا بعد شئ وأصلها باق كما يحدث الله المنافع شيئا بعد شئ وأصلها باق
ويوضحه الوجه الخامس : وهو أن الأصل فى العقود وجوب الوفاء إلا ما حرمه الله ورسوله فإن المسلمين على شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا فلا يحرم من الشروط والعقود إلا ما حرمه الله ورسوله وليس مع المانعين نص بالتحريم البتة وإنما معهم قياس قد علم أن بين الأصل والفرع فيه من الفرق ما يمنع الإلحاق وأن القياس الذي مع من أجاز ذلك أقرب إلى مساواة الفرع لأصله وهذا ما لا حيلة فيه وبالله التوفيق
يوضحه الوجه السادس : وهو أن الذين منعوا هذه الإجارة لما رأوا إجارة الظئر ثابتة بالنص والإجماع والمقصود بالعقد إنما هو اللبن وهو عين تمحلوا لجوازها أمرا يعلمون هم والمرضعة والمستأجر بطلانه فقالوا : العقد إنما وقع على وضعها الطفل في حجرها وإلقامه ثديها فقط واللبن يدخل تبعا والله يعلم والعقلاء قاطبة أن الأمر ليس كذلك وأن وضع الطفل في حجرها ليس مقصودا أصلا ولا ورد عليه عقد الإجارة لا عرفا ولا حقيقة ولا شرعا ولو أرضعت الطفل وهو في حجر غيرها أو في مهده لاستحقت الأجرة ولو كان المقصود إلقام الثدي المجرد لاستؤجر له كل امرأة لها ثدي ولو لم يكن لها لبن فهذا هو القياس الفاسد حقا والفقه البارد فكيف يقال : إن إجارة الظئر على خلاف القياس ويدعى أن هذا هو القياس الصحيح
الوجه السابع : أن النبي صلى الله عليه و سلم ندب إلى منيحة العنز والشاة للبنها وحض على ذلك وذكر ثواب فاعله ومعلوم أن هذا ليس ببيع ولا هبة فإن هبة المعدوم المجهول لا تصح وإنما هو عارية الشاة للإنتفاع بلبنها كما يعيره الدابة لركوبها فهذا إباحة للإنتفاع بدرها وكلاهما في الشرع واحد وما جاز أن يستوفى بالعارية جاز أن يستوفى بالإجارة فإن موردهما واحد وإنما يختلفان في التبرع بهذا والمعاوضة على الآخر
والوجه الثامن : ما رواه حرب الكرماني في مسائله : حدثنا سعيد بن منصور حدثنا عباد بن عباد عن هشام بن عروة عن أبيه أن أسيد بن حضير توفي وعليه ستة آلاف درهم دين فدعا عمر بن الخطاب رضي الله عنه غرماءه فقبلهم أرضه سنتين وفيها الشجر والنخل وحدائق المدينة الغالب عليها النخل والأرض البيضاء فيها قليل فهذا إجارة الشجر لأخذ ثمرها ومن ادعى أن ذلك خلاف الإجماع فمن عدم علمه بل تلقاها الصحابة بالتسليم والإقرار وقد كانوا ينكرون ما هو دونها وإن فعله عمر رضي الله عنه كما أنكر عليه عمران بن حصين وغيره شأن متعة الحج ولم ينكر أحد هذه الواقعة وسنبين إن شاء الله تعالى أنها محض القياس وأن المانعين منها لا بد لهم منها وأنهم يتحيلون عليها بحيل لا تجوز
الوجه التاسع : أن المستوفى بعقد الإجارة على زرع الأرض هو عين من الأعيان وهو المغل الذي يستغله المستأجر وليس له مقصود في منفعة الأرض غير ذلك وإن كان له قصد جرى في الإنتفاع بغير الزرع فذلك تبع
فإن قيل : المعقود عليه هو منفعة شق الأرض وبذرها وفلاحتها والعين تتولد من هذه المنفعة كما لو استأجر لحفر بئر فخرج منها الماء فالمعقود عليه هو نفس العمل لا الماء
قيل : مستأجر الأرض ليس له مقصود في غير المغل والعمل وسيلة مقصودة لغيرها ليس له فيه منفعة بل هو تعب ومشقة وإنما مقصوده ما يحدثه الله من الحب بسقيه وعمله وهكذا مستأجر الشاة للبنها سواء مقصوده ما يحدثه الله من لبنها بعلفها وحفظها والقيام عليها فلا فرق بينهما البتة إلا ما لا تناط به الأحكام من الفروق الملغاة وتنظيركم بالإستئجار لحفر البئر تنظير فاسد بل نظير حفر البئر أن يستأجر أكارا لحرث أرضه ويبذرها ويسقيها ولا ريب أن تنظير إجارة الحيوان للبنه بإجارة الأرض لمغلها هو محض القياس وهو كما تقدم أصح من التنظير بإجارة الخبز للأكل
يوضحه الوجه العاشر وهو أن الغرر والخطر الذي في إجارة الأرض لحصول مغلها أعظم بكثير من الغرر الذي في إجارة الحيوان للبنه فإن الآفات والموانع التي تعرض للزرع أكثر من آفات اللبن فإذا اغتفر ذلك في إجارة الأرض فلأن يغتفر في إجارة الحيوان للبنه أولى وأحرى (5/730)
فصل
فالأقوال في العقد على اللبن في الضرع ثلاثة
أحدها : منعه بيعا وإجارة وهو مذهب أحمد والشافعي وأبي حنيفة
والثاني : جوازه بيعا وإجارة
والثالث : جوازه إجارة لا بيعا وهو اختيار شيخنا رحمه الله
وفي المنع من بيع اللبن في الضرع حديثان أحدهما حديث عمر بن فروخ وهو ضعيف عن حبيب بن الزبير عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا [ نهى أن يباع صوف على ظهر أو سمن في لبن أو لبن في ضرع ] وقد رواه أبو إسحاق عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما من قوله دون ذكر السمن رواه البيهقي وغيره
والثاني حديث رواه ابن ماجه عن هشام بن عمار حدثنا حاتم بن إسماعيل حدثنا جهضم بن عبد الله اليماني عن محمد بن إبراهيم الباهلي عن محمد بن زيد العبدي عن شهر بن حوشب عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : [ نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن شراء ما في بطون الأنعام حتى تضع وعما في ضروعها إلا بكيل أو وزن وعن شراء العبد وهو آبق وعن شراء المغانم حتى تقسم وعن شراء الصدقات حتى تقبض وعن ضربة الغائص ] ولكن هذا الإسناد لا تقوم به حجة والنهي عن شراء ما في بطون الأنعام ثابث بالنهي عن الملاقيح والمضامين والنهي عن شراء العبد الآبق وهو آبق معلوم بالنهي عن بيع الغرر والنهي عن شراء المغانم حتى تقسم داخل في النهي عن بيع ما ليس عنده فهو بيع غرر ومخاطرة وكذلك الصدقات قبل قبضها وإذا كان النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن بيع الطعام قبل قبضه مع انتقاله إلى المشتري وثبوت ملكه عليه وتعيينه له وانقطاع تعلق غيره به فالمغانم والصدقات قبل قبضها أولى بالنهي وأما ضربة الغائص فغرر ظاهر لا خفاء به
وأما بيع اللبن في الضرع فإن كان معينا لم يمكن تسليم المبيع بعينه وإن كان بيع موصوف في الذمة فهو نظير بيع عشرة أقفزة مطلقة من هذه الصبرة وهذا النوع له جهتان : جهة إطلاق وجهة تعيين ولا تنافي بينهما وقد دل على جوازه نهي النبي صلى الله عليه و سلم أن يسلم في حائط بعينه إلا أن يكون قد بدا صلاحه رواه الإمام أحمد فإذا أسلم إليه في كيل معلوم من لبن هذه الشاة وقد صارت لبونا
جاز ودخل تحت قوله [ ونهى عن بيع ما في ضروعها إلا بكيل أو وزن ] فهذا إذن لبيعه بالكيل والوزن معينا أو مطلقا لأنه لم يفصل ولم يشترط سوى الكيل والوزن ولو كان التعيين شرطا لذكره
فإن قيل فما تقولون لو باعه لبنها أياما معلومة من غير كيل ولا وزن
قيل : إن ثبت الحديث لم يجز بيعه إلا بكيل أو وزن وإن لم يثبت وكان لبنها معلوما لا يختلف بالعادة جاز بيعه أياما وجرى حكمه بالعادة مجرى كيله أو وزنه وإن كان مختلفا فمرة يزيد ومرة ينقص أو ينقطع فهذا غرر لا يجوز وهذا بخلاف الإجارة فإن اللبن يحدث على ملكه بعلفه الدابة كما يحدث الحب على ملكه بالسقي فلا غرر في ذلك نعم إن نقص اللبن عن العادة أو انقطع فهو بمنزلة نقصان المنفعة في الإجارة أو تعطيلها يثبت للمستأجر حق الفسخ أو ينقص عنه من الأجرة بقدر ما نقص عليه من المنفعة هذا قياس المذهب وقال ابن عقيل وصاحب المغني : إذا اختار الإمساك لزمته جميع الأجرة لأنه رضي بالمنفعة ناقصة فلزمه جميع العوض كما لو رضي بالمبيع معيبا والصحيح أنه يسقط عنه من الأجرة بقدر ما نقص من المنفعة لأنه إنما بذل العوض الكامل في منفعة كاملة سليمة فإذا لم تسلم له لم يلزمه جميع العوض
وقولهم : إنه رضي بالمنفعة معيبة فهو كما لو رضي بالبيع معيبا جوابه من وجهين
أحدهما : أنه إن رضي به معيبا بأن يأخذ أرشه كان له ذلك على ظاهر المذهب فرضاه بالعيب مع الأرش لا يسقط حقه
الثاني : إن قلنا : إنه لا أرش لممسك له الرد لم يلزم سقوط الأرش في الإجارة لأنه قد استوفى بعض المعقود عليه فلم يمكنه رد المنفعة كما قبضها ولأنه قد يكون عليه ضرر في رد باقي المنفعة وقد لا يتمكن من ذلك فقد لا يجد بدا من الإمساك فإلزامه بجميع الأجرة مع العيب المنقص ظاهرا ومنعه من استدراك ظلامته إلا بالفسخ ضرر عليه ولا سيما لمستأجر الزرع والغرس والبناء أو مستأجر دابة للسفر فتتعيب في الطريق فالصواب أنه لا أرش في المبيع لممسك له الرد وأنه في الإجارة له الأرش
والذي يوضح هذا أن النبي صلى الله عليه و سلم حكم بوضع الجوائح وهي أن يسقط عن مشتري الثمار من الثمرة بقدر ما أذهبت عليه الجائحة من ثمرته ويمسك الباقي بقسطه من الثمن وهذا لأن الثمار لم تستكمل صلاحها دفعة واحدة ولم تجر العادة بأخذها جملة واحدة وإنما تؤخذ شيئا فشيئا فهي بمنزلة المنافع في الإجارة سواء والنبي صلى الله عليه و سلم في المصراة خير المشتري بين الرد وبين الإمساك بلا أرش وفي الثمار جعل له الإمساك مع الأرش والفرق ما ذكرناه والإجارة أشبه ببيع الثمار وقد ظهر اعتبار هذا الشبه في وضع الشارع الجائحة قبل قبض الثمن
فإن قيل : فالمنافع لا توضع فيها الجائحة باتفاق العلماء
قيل ليس هذا من باب وضع الجوائح في المنافع ومن ظن ذلك فقد وهم قال شيخنا : وليس هذا من باب وضع الجائحة في المبيع كما في الثمر المشترى بل هو من باب تلف المنفعة المقصودة بالعقد أو فواتها وقد اتفق العلماء على أن المنفعة في الإجارة إذا تلفت قبل التمكن من استيفائها فإنه لا تجب الأجرة مثل أن يستأجر حيوانا فيموت قبل التمكن من قبضه وهو بمنزلة أن يشتري قفيزا من صبرة فتتلف الصبرة قبل القبض والتمييز فإنه من ضمان البائع بلا نزاع ولهذا لو لم يتمكن المستأجر من ازدراع الأرض لآفة حصلت لم يكن عليه الأجرة
وإن نبت الزرع ثم حصلت آفة سماوية أتلفته قبل التمكن من حصاده ففيه نزاع فطائفة ألحقته بالثمرة والمنفعة وطائفة فرقت والذين فرقوا بينه وبين الثمرة والمنفعة قالوا : الثمرة هي المعقود عليها وكذلك المنفعة وهنا الزرع ليس معقودا عليه بل المعقود عليه هو المنفعة وقد استوفاها والذين سووا بينهما قالوا المقصود بالإجارة هو الزرع فإذا حالت الآفة السماوية بينه وبين المقصود بالإجارة كان قد تلف المقصود بالعقد قبل التمكن من قبضه وإن لم يعاوض على زرع فقد عاوض على المنفعة التي يتمكن بها المستأجر من حصول الزرع فإذا حصلت الآفة السماوية المفسدة للزرع قبل التمكن من حصاده لم تسلم المنفعة المعقود عليها بل تلفت قبل التمكن من الإنتفاع ولا فرق بين تعطيل منفعة الأرض في أول المدة أو في آخرها إذا لم يتمكن من استيفاء شئ من المنفعة ومعلوم أن الآفة السماوية إذا كانت بعد الزرع مطلقا بحيث لا يتمكن من الإنتفاع بالأرض مع تلك الآفة فلا فرق بين تقدمها وتأخرها (5/735)
فصل
وأما بيع الصوف على الظهر فلو صح هذا الحديث بالنهي عنه لوجب القول به ولم تسغ مخالفته وقد اختلف الرواية فيه عن أحمد فمرة منعه ومرة أجازه بشرط جزه في الحال ووجه هذا القول أنه معلوم يمكن تسليمه فجاز بيعه كالرطبة وما يقدر من اختلاط المبيع الموجود بالحادث على ملك البائع يزول بجزه في الحال والحادث يسير جدا لا يمكن ضبطه هذا ولو قيل بعدم اشتراط جزه في الحال ويكون كالرطبة التي تؤخذ شيئا فشيئا وإن كانت تطول في زمن أخذها كان له وجه صحيح وغايته بيع معدوم لم يخلق تبعا للموجود فهو كأجزاء الثمار التي لم تخلق فإنها تتبع الموجود منها فإذا جعلا للصوف وقتا معينا يؤخذ فيه كان بمنزلة أخذ الثمرة وقت كمالها
ويوضح هذا أن الذين منعوه قاسوه على أعضاء الحيوان وقالوا : متصل بالحيوان فلم يجز إفراده بالبيع كأعضائه وهذا من أفسد القياس لأن الأعضاء لا يمكن تسليمها مع سلامة الحيوان
فإن قيل : فما الفرق بينه وبين اللبن في الضرع وقد سوغتم هذا دونه ؟ قيل : اللبن في الضرع يختلط ملك المشتري فيه بملك البائع سريعا فإن اللبن سريع الحدوث كلما حلبه در بخلاف الصوف والله أعلم وأحكم (5/739)