فصل
وأما هديه في عقد الذمة وأخذ الجزية فإنه لم يأخذ من أحد من الكفار جزية إلا بعد نزول ( سورة براءة ) في السنة الثامنة من الهجرة فلما نزلت آية الجزية أخذها من المجوس وأخذها من أهل الكتاب وأخذها من النصارى وبعث معاذا رضي الله عنه إلى اليمن فعقد لمن لم يسلم من يهودها الذمة وضرب عليهم الجزية ولم يأخذها من يهود خيبر فظن بعض الغالطين المخطئين أن هذا حكم مختص بأهل خيبر وأنه لا يؤخذ منهم جزية وإن أخذت من سائر أهل الكتاب وهذا من عدم فقهه في السير والمغازي فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم قاتلهم وصالحهم على أن يقرهم في الأرض ما شاء ولم تكن الجزية نزلت بعد فسبق عقد صلحهم وإقرارهم في أرض خيبر نزول الجزية ثم أمره الله سبحانه وتعالى أن يقاتل أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية فلم يدخل في هذا يهود خيبر إذ ذاك لأن العقد كان قديما بينه وبينهم على إقرارهم وأن يكونوا عمالا في الأرض بالشطر فلم يطالبهم بشئ غير ذلك وطالب سواهم من أهل الكتاب ممن لم يكن بينه وبينهم عقد كعقدهم بالجزية كنصارى نجران ويهود اليمن وغيرهم فلما أجلاهم عمر إلى الشام تغير ذلك العقد الذي تضمن إقرارهم في أرض خيبر وصار لهم حكم غيرهم ببن أهل الكتاب
ولما كان فى بعض الدول التي خفيت فيها السنة وأعلامها أظهر طائفة منهم كتابا قد عتقوه وزوروه وفيه : أن النبي صلى الله عليه و سلم أسقط عن يهود خيبر الجزية وفيه : شهادة علي بن أبي طالب وسعد بن معاذ وجماعة من الصحابة رضى الله عنهم فراج ذلك على من جهل سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم ومغازيه وسيره وتوهموا بل ظنوا صحته فجروا على حكم هذا الكتاب المزور حتى ألقي إلى شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - وطلب منه أن يعين على تنفيذه والعمل عليه فبصق عليه واستدل على كذبه بعشرة أوجه :
منها : أن فيه شهادة سعد بن معاذ وسعد توفي قبل خيبر قطعا
ومنها : أن في الكتاب أنه أسقط عنهم الجزية والجزية لم تكن نزلت بعد ولا يعرفها الصحابة حينئذ فإن نزولها كان عام تبوك بعد خيبر بثلاثة أعوام
ومنها : أنه أسقط عنهم الكلف والسخر وهذا محال فلم يكن فى زمانه كلف ولا سخر تؤخذ منهم ولا من غيرهم وقد أعاذه الله وأعاذ أصحابه من أخذ الكلف والسخر وإنما هي من وضع الملوك الظلمة واستمر الأمر عليها
ومنها : أن هذا الكتاب لم يذكره أحد من أهل العلم على اختلاف أصنافهم فلم يذكره أحد من أهل المغازي والسير ولا أحد من أهل الحديث والسنة ولا أحد من أهل الفقه والإفتاء ولا أحد من أهل التفسير ولا أظهروه فى زمان السلف لعلمهم أنهم إن زوروا مثل ذلك عرفوا كذبه وبطلانه فلما استخفوا بعض الدول في وقت فتنة وخفاء بعض السنة زوروا ذلك وعتقوه وأظهروه وساعدهم على ذلك طمع بعض الخائنين لله ولرسوله ولم يستمر لهم ذلك حتى كشف الله أمره وبين خلفاء الرسل بطلانه وكذبه (3/137)
فصل
فلما نزلت آية الجزية أخذها صلى الله عليه و سلم من ثلاث طوائف : من المجوس واليهود والنصارى ولم يأخذها من عباد الأصنام فقيل : لا يجوز أخذها من كافر غير هؤلاء ومن دان بدينهم اقتداء بأخذه وتركه وقيل : بل تؤخذ من أهل الكتاب وغيرهم من الكفار كعبدة الأصنام من عجم دون العرب والأول : قول الشافعي رحمه الله وأحمد في إحدى روايتيه والثاني : قول أبي حنيفة وأحمد رحمهما الله في الرواية الأخرى
وأصحاب القول الثاني : يقولون : إنما لم يأخذها من مشركي العرب لأنها إنما نزل فرضها بعد أن أسلمت دارة العرب ولم يبق فيها مشرك فإنها نزلت بعد فتح مكة ودخول العرب في دين الله أفواجا فلم يبق بأرض العرب مشرك ولهذا غزا بعد الفتح تبوك وكانوا نصارى ولو كان بأرض العرب مشركون لكانوا يلونه وكانوا أولى بالغزو من الأبعدين
ومن تأمل السير وأيام الإسلام علم أن الأمر كذلك فلم تؤخذ منهم الجزية لعدم من يؤخذ منه لا لأنهم ليسوا من أهلها قالوا : وقد أخذها من المجوس وليسوا بأهل كتاب ولا يصح أنه كان لهم كتاب ورفع وهو حديث لا يثبت مثله ولا يصح سنده
ولا فرق بين عباد النار وعباد الأصنام بل أهل الأوثان أقرب حالا من عباد النار وكان فيهم من التمسك بدين إبراهيم ما لم يكن في عباد النار بل عباد النار أعداء إبراهيم الخليل فإذا أخذت منهم الجزية فأخذها من عباد الأصنام أولى وعلى ذلك تدل سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم كما ثبت عنه في صحيح مسلم أنه قال : إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى خلال ثلاث فأيتهن أجابوك إليها فاقبل منهم وكف عنهم ثم أمره أن يدعوهم الى الإسلام أو الجزية أو يقاتلهم
وقال المغيرة لعامل كسرى : أمرنا نبينا أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله أو تؤدوا الجزية
وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لقريش : [ هل لكم في كلمة تدين لكم بها العرب وتؤدي العجم إليكم بها الجزية ] قالوا : ما هي ؟ قال : [ لا إله إلا الله ] (3/139)
فصل
ولما كان في مرجعه من تبوك أخذت خيله أكيدر دومة فصالحه على الجزية وحقن له دمه
وصالح أهل نجران من النصارى على ألفي حلة النصف في صفر والبقية في رجب يؤدونها إلى المسلمين وعارية ثلاثين درعا وثلاثين فرسا وثلاثين بعيرا وثلاثين من كل صنف من أصناف السلاح يغزون بها والمسلمون ضامنون لها حتى يردوها عليهم إن كان باليمن كيد أو غدرة على ألا تهدم لهم بيعة ولا يخرج لهم قس ولا يفتنوا عن دينهم ما لم يحدثوا حدثا أو يأكلوا الربا
وفي هذا دليل على انتقاض عهد الذمة بإحداث الحدث وأكل الربا إذا كان مشروطا عليهم
ولما وجه معاذا إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل محتلم دينارا أو قيمته من المعافري وهي ثياب تكون باليمن
وفى هذا دليل على أن الجزية غير مقدرة الجنس ولا القدر بل يجوز أن تكون ثيابا وذهبا وحللا وتزيد وتنقص بحسب حاجة المسلمين واحتمال من تؤخذ منه ورحاله في الميسرة وما عنده من المال
ولم يفرق رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا خلفاؤه في الجزية بين العرب والعجم بل أخذها رسول الله صلى الله عليه و سلم من نصارى العرب وأخذها من مجوس هجر وكانوا عربا فإن العرب أمة ليس لها في الأصل كتاب وكانت كل طائفة منهم تدين بدين من جاورها من الأمم فكانت عرب البحرين مجوسا لمجاورتها فارس وتنوخ وبهرة وبنو تغلب نصارى لمجاورتهم للروم وكانت قبائل من اليمن يهود لمجاورتهم ليهود اليمن فأجرى رسول الله صلى الله عليه و سلم أحكام الجزية ولم يعتبر آباءهم ولا متى دخلوا في دين أهل الكتاب : هل كان دخولهم قبل النسخ والتبديل أو بعده ومن أين يعرفون ذلك وكيف ينضبط وما الذي دل عليه ؟ وقد ثبت في السير والمغازي أن من الأنصار من تهود أبناؤهم بعد النسخ بشريعة عيسى وأراد آباؤهم إكراههم على الإسلام فأنزل الله تعالى : { لا إكراه في الدين } ( البقرة : 256 ) وفي قوله لمعاذ : [ خذ من كل حالم دينارا ] دليل على أنها لا تؤخذ من صبي ولا امرأة
فإن قيل : فكيف تصنعون بالحديث الذي رواه عبد الرزاق في مصنفه وأبو عبيد في الأموال أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر معاذ بن جبل : أن يأخذ من اليمن الجزية من كل حالم أو حالمة زاد أبو عبيد : عبدا أو أمة دينارا أو قيمته من المعافري فهذا فيه أخذها من الرجل والمرأة والحر والرقيق ؟ قيل : هذا لا يصح وصله وهو منقطع وهذه الزيادة مختلف فيها لم يذكرها سائر الرواة ولعلها من تفسير بعض الرواة
وقد روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم هذا الحديث فاقتصروا على قوله : أمره أن يأخذ من حالم دينارا ولم يذكروا هذه الزيادة وأكثر من أخذ منهم النبى صلى الله عليه و سلم الجزية العرب من النصارى واليهود والمجوس ولم يكشف عن أحد منهم متى دخل في دينه وكان يعتبرهم بأديانهم لا بآبائهم (3/140)
فصل
فى ترتيب سياق هديه مع الكفار والمنافقين من حين بعث إلى حين لقي الله عز و جل
أول ما أوحى إليه ربه تبارك وتعالى : أن يقرأ باسم ربه الذي خلق وذلك أول نبوته فأمره أن يقرأ في نفسه ولم يأمره إذ ذاك بتبليغ ثم أنزل عليه { يا أيها المدثر * قم فأنذر } ( المدثر : 1 ، 2 ) فنبأه بقوله : ( اقرأ ) وأرسله بـ { يا أيها المدثر } ثم أمره أن ينذر عشيرته الأقربين ثم أنذر قومه ثم أنذر من حولهم من العرب ثم أنذر العرب قاطبة ثم أنذر العالمين فأقام بضع عشرة سنة بعد نبوته ينذر بالدعوة بغير قتال ولا جزية ويؤمر بالكف والصبر والصفح
ثم أذن له في الهجرة وأذن له في القتال ثم أمره أن يقاتل من قاتله ويكف عمن اعتزله ولم يقاتله ثم أمره بقتال المشركين حتى يكون الدين كله لله ثم كان الكفار معه بعد الأمر بالجهاد ثلاثة أقسام : أهل صلح وهدنة وأهل حرب وأهل ذمة فأمر بأن يتم لأهل العهد والصلح عهدهم وأن يوفي لهم به ما استقاموا على العهد فإن خاف منهم خيانة نبذ إليهم عهدهم ولم يقاتلهم حتى يعلمهم بنقض العهد وأمر أن يقاتل من نقض عهده ولما نزلت ( سورة براءة ) نزلت ببيان حكم هذه الأقسام كلها فأمره فيها أن يقاتل عدوه من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية أو يدخلوا في الإسلام وأمره فيها بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم فجاهد الكفار بالسيف والسنان والمنافقين بالحجة واللسان
وأمره فيها بالبراءة من عهود الكفار ونبذ عهودهم إليهم وجعل أهل العهد في ذلك ثلاثة أقسام : قسما أمره بقتالهم وهم الذين نقضوا عهده ولم يستقيموا له فحاربهم وظهر عليهم وقسما لهم عهد مؤقت لم ينقضوه ولم يظاهروا عليه فأمره أن يتم لهم عهدهم إلى مدتهم وقسما لم يكن لهم عهد ولم يحاربوه أو كان لهم عهد مطلق فأمر أن يؤجلهم أربعة أشهر فإذا انسلخت قاتلهم وهي الأشهر الأربعة المذكورة في قوله : { فسيحوا في الأرض أربعة أشهر } ( التوبة : 2 ) وهي الحرم المذكورة في قوله : { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين } ( التوبة : 5 ) فالحرم هاهنا : هي أشهر التسيير أولها يوم الأذان وهو اليوم العاشر من ذي الحجة وهو يوم الحج الأكبر الذي وقع فيه التأذين بذلك وآخرها العاشر من ربيع الآخر وليست هي الأربعة المذكورة فى قوله : { إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم } ( التوبة : 36 ) فإن تلك واحد فرد وثلاثة سرد : رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم ولم يسير المشركين فى هذه الأربعة فإن هذا لا يمكن لأنها غير متوالية وهو إنما أجلهم أربعة أشهر ثم أمره بعد انسلاخها أن يقاتلهم فقتل الناقض لعهده وأجل من لا عهد له أو له عهد مطلق أربعة أشهر وأمره أن يتم للموفي بعهده عهده إلى مدته فأسلم هؤلاء كلهم ولم يقيموا على كفرهم إلى مدتهم وضرب على أهل الذمة الجزية
فاستقر أمر الكفار معه بعد نزول براءة على ثلاثة أقسام : محاربين له وأهل عهد وأهل ذمة ثم آلت حال أهل العهد والصلح إلى الإسلام فصاروا معه قسمين : محاربين وأهل ذمة والمحاربون له خائفون منه فصار أهل الأرض معه ثلاثة أقسام : مسلم مؤمن به ومسالم له آمن وخائف محارب
وأما سيرته في المنافقين فإنه أمر أن يقبل منهم علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله وأن يجاهدهم بالعلم والحجة وأمره أن يعرض عنهم ويغلظ عليهم وأن يبلغ بالقول البليغ إلى نفوسهم ونهاه أن يصلى عليهم وأن يقوم على قبورهم وأخبر أنه إن اسغفر لهم فلن يغفر الله لهم فهذه سيرته في أعدائه من الكفار والمنافقين (3/143)
فصل
وأما سيرته في أوليائه وحزبه فأمره أن يصبر نفسه مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه وألا تعدو عيناه عنهم وأمره أن يعفو عنهم ويستغفر لهم ويشاورهم في الأمر وأن يصلي عليهم
وأمره بهجر من عصاه وتخلف عنه حتى يتوب ويراجع طاعته كما هجر الثلاثة الذين خلفوا
وأمره أن يقيم الحدود على من أتى موجباتها منهم وأن يكونوا عنده فى ذلك سواء شريفهم ودنيئهم
وأمره في دفع عدوه من شياطين الإنس بأن يدفع بالتى هي أحسن فيقابل إساءة من أساء إليه بالإحسان وجهله بالحلم وظلمه بالعفو وقطيعته بالصلة وأخبره أنه إن فعل ذلك عاد عدوه كأنه ولي حميم
وأمره في دفعه عدوه من شياطين الجن بالاستعاذة بالله منهم وجمع له هذين الأمرين فى ثلاثة مواضع من القرآن : في ( سورة الأعراف ) و ( المؤمنين ) و ( سورة حم فصلت ) فقال في سورة الأعراف : { خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين * وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم } ( الأعراف : 199 ، 200 ) فأمره باتقاء شر الجاهلين بالإعراض عنهم وباتقاء شر الشيطان بالاستعاذة منه وجمع له في هذه الآية مكارم الأخلاق والشيم كلها فإن ولي الأمر له مع الرعية ثلاثة أحوال : فإنه لا بد له من حق عليهم يلزمهم القيام به وأمر يأمرهم به ولا بد من تفريط وعدوان يقع منهم في حقه فأمر بأن يأخذ من الحق الذي عليهم ما طوعت به أنفسهم وسمحت به وسهل عليهم ولم يشق وهو العفو الذي لا يلحقهم ببذله ضرر ولا مشقة وأمر أن يأمرهم بالعرف وهو المعروف الذي تعرفه العقول السليمة والفطر المستقيمة وتقر بحسنه ونفعه وإذا أمر به يأمر بالمعروف أيضا لا بالعنف والغلظة وأمره أن يقابل جهل الجاهلين منهم بالإعراض عنه دون أن يقابله بمثله فبذلك يكتفي شرهم
وقال تعالى في سورة المؤمنين : { قل رب إما تريني ما يوعدون * رب فلا تجعلني في القوم الظالمين * وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون * ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون * وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين * وأعوذ بك رب أن يحضرون } ( المؤمنون : 93 - 97 )
وقال تعالى في سورة حم فصلت : { ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم * وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم * وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم } ( فصلت : 34 ) فهذه سيرته مع أهل الأرض إنسهم وجنهم مؤمنهم وكافرهم (3/145)
فصل
في سياق مغازيه وبعوثه على وجه الاختصار
وكان أول لواء عقده رسول الله صلى الله عليه و سلم لحمزة بن عبد المطلب في شهر رمضان على رأس سبعة أشهر من مهاجره وكان لواء أبيض وكان حامله أبو مرثد كناز بن الحصين الغنوي حليف حمزة وبعثه في ثلاثين رجلا من المهاجرين خاصة يعترض عيرا لقريش جاءت من الشام وفيها أبو جهل بن هشام في ثلاثمائة رجل فبلغوا سيف البحر من ناحية العيص فالتقوا واصطفوا للقتال فمشى مجدي بن عمرو الجهني وكان حليفا للفريقين جميعا بين هؤلاء وهؤلاء حتى حجز بينهم ولم يقتتلوا (3/146)
فصل
ثم بعث عبيدة بن الحارث بن المطلب في سرية إلى بطن رابغ في شوال على رأس ثمانية أشهر من الهجرة وعقد له لواء أبيض وحمله مسطح بن أثاثة بن عبد المطلب بن عبد مناف وكانوا في ستين من المهاجرين ليس فيهم أنصاري فلقي أبا سفيان بن حرب وهو في مائتين على بطن رابغ على عشرة أميال من الجحفة وكان بينهم الرمي ولم يسلوا السيوف ولم يصطفوا للقتال وإنما كانت مناوشة وكان سعد بن أبي وقاص فيهم وهو أول من رمى بسهم في سبيل الله ثم انصرف الفريقان على حاميتهم قال ابن إسحاق : وكان على القوم عكرمة بن أبي جهل وقدم سرية عبيدة على سرية حمزة (3/147)
فصل
ثم بعث سعد بن أبي وقاص إلى الخرار في ذي القعدة على رأس تسعة أشهر وعقد له لواء أبيض وحمله المقداد بن عمرو وكانوا عشرين راكبا يعترضون عيرا لقريش وعهد أن لا يجاوز الخرار فخرجوا على أقدامهم فكانوا يكمنون بالنهار ويسيرون بالليل حتى صبحوا المكان صبيحة خمس فوجدوا العير قد مرت بالأمس (3/147)
فصل
ثم غزا بنفسه غزوة الأبواء ويقال لها : ودان وهي أول غزوة غزاها بنفسه وكانت في صفر على رأس اثني عشر شهرا من مهاجره وحمل لواءه حمزة بن عبد المطلب وكان أبيض واستخلف على المدينة سعد بن عبادة وخرج في المهاجرين خاصة يعترض عيرا لقريش فلم يلق كيدا وفي هذه الغزوة وادع مخشي بن عمرو الضمري وكان سيد بني ضمرة في زمانه على ألا يغزو بنى ضمرة ولا يغزوه ولا أن يكثروا عليه جمعا ولا يعينوا عليه عدوا وكتب بينه وبينهم كتابا وكانت غيبته خمس عشرة ليلة (3/148)
فصل
ثم غزا رسول الله صلى الله عليه و سلم بواط في شهر ربيع الأول على رأس ثلاثة عشر شهرا من مهاجره وحمل لواءه سعد بن أبي وقاص وكان أبيض واستخلف على المدينة سعد بن معاذ وخرج في مائتين من أصحابه يعترض عيرا لقريش فيها أمية بن خلف الجمحي ومائة رجل من قريش وألفان وخمسمائة بعير فبلغ بواطا وهما جبلان فرعان أصلهما واحد من جبال جهينة مما يلي طريق الشام وبين بواط والمدينة نحو أربعة برد فلم يلق كيدا فرجع (3/148)
فصل
ثم خرج على رأس ثلاثة عشر شهرا من مهاجره يطلب كرز بن جابر الفهري وحمل لواءه علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكان أبيض واستخلف على المدينة زيد بن حارثة وكان كرز قد أغار على سرح المدينة فاستاقه وكان يرعى بالحمى فطلبه رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى بلغ واديا يقال له : سفوان من ناحية بدر وفاته كرز ولم يلحقه فرجع إلى المدينة (3/149)
فصل
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم في جمادى الآخرة على رأس ستة عشر شهرا وحمل لواءه حمزة بن عبد المطلب وكان أبيض واستخلف على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي وخرج في خمسين ومائة ويقال : في مائتين من المهاجرين ولم يكره أحدا على الخروج وخرجوا على ثلاثين بعيرا يعتقبونها يعترضون عيرا لقريش ذاهبة إلى الشام وقد كان جاءه الخبر بفصولها من مكة فيها أموال لقريش فبلغ ذا العشيرة وقيل : العشيراء بالمد وقيل : العسيرة بالمهملة وهي بناحية ينبع وبين ينبع والمدينة تسعة برد فوجد العير قد فاتته بأيام وهذه هي العير التي خرج في طلبها حين رجعت من الشام وهي التي وعده الله إياها أو المقاتلة وذات الشوكة ووفى له بوعده
وفي هذه الغزوة وادع بني مدلج وحلفاءهم من بني ضمرة
قال عبد المؤمن بن خلف الحافظ : وفي هذه الغزوة كنى رسول الله صلى الله عليه و سلم عليا أبا تراب وليس كما قال فإن النبي صلى الله عليه و سلم : إنما كناه أبا تراب بعد نكاحه فاطمة وكان نكاحها بعد بدر فإنه لما دخل عليها وقال : [ أين ابن عمك ؟ ] قالت : خرج مغاضبا فجاء إلى المسجد فوجده مضطجعا فيه وقد لصق به التراب فجعل ينفضه عنه ويقول : [ اجلس أبا تراب اجلس أبا تراب ] وهو أول يوم كني فيه أبا تراب (3/149)
فصل
ثم بعث عبد الله بن جحش الأسدي إلى نخلة في رجب على رأس سبعة عشر شهرا من الهجرة في اثني عشر رجلا من المهاجرين كل اثنين يعتقبان على بعير فوصلوا إلى بطن نخلة يرصدون عيرا لقريش وفي هذه السرية سمى عبد الله بن جحش أمير المؤمنين وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم كتب له كتابا وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه ولما فتح الكتاب وجد فيه : إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف فترصد بها قريشا وتعلم لنا من أخبارهم فقال : سمعا وطاعة وأخبر أصحابه بذلك وبأنه لا يستكرههم فمن أحب الشهادة فلينهض ومن كره الموت فليرجع وأما أنا فناهض فمضوا كلهم فلما كان في أثناء الطريق أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيرا لهما كانا يعتقبانه فتخلفا في طلبه وبعد عبد الله بن جحش حتى نزل بنخلة فمرت به عير لقريش تحمل زبيبا وأدما وتجارة فيها عمرو بن الحضرمي وعثمان ونوفل : ابنا عبد الله بن المغيرة والحكم بن كيسان مولى بني المغيرة فتشاور المسلمون وقالوا : نحن في آخر يوم من رجب الشهر الحرام فإن قاتلناهم انتهكنا الشهر الحرام وإن تركناهم الليلة دخلوا الحرم ثم أجمعوا على ملاقاتهم فرمى أحدهم عمرو بن الحضرمى فقتله وأسروا عثمان والحكم وأفلت نوفل ثم قدموا بالعير والأسيرين وقد عزلوا من ذلك الخمس وهو أول خمس كان في الإسلام وأول قتيل في الإسلام وأول أسيرين في الإسلام وأنكر رسول الله صلى الله عليه و سلم عليهم ما فعلوه واشتد تعنت قريش وإنكارهم ذلك وزعموا أنهم قد وجدوا مقالا فقالوا : قد أحل محمد الشهر الحرام واشتد على المسلمين ذلك حتى أنزل الله تعالى : { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل } ( البقرة : 217 ) يقول سبحانه : هذا الذي أنكرتموه عليهم وإن كان كبيرا فما ارتكبتموه أنتم من الكفر بالله والصد عن سبيله وعن بيته وإخراج المسلمين الذين هم أهله منه والشرك الذي أنتم عليه والفتنة التي حصلت منكم به أكبر عند الله من قتالهم فى الشهر الحرام وأكثر السلف فسروا الفتنة هاهنا بالشرك كقوله تعالى : { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة } ( البقرة : 193 ) ويدل عليه قوله : { ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين } ( الأنعام : 23 ) أي : لم يكن مآل شركهم وعاقبته وآخر أمرهم إلا أن تبرؤوا منه وأنكروه
وحقيقتها : أنها الشرك الذي يدعو صاحبه إليه ويقاتل عليه ويعاقب من لم يفتتن به ولهذا يقال لهم وقت عذابهم بالنار وفتنتهم بها : { ذوقوا فتنتكم } قال ابن عباس : تكذيبكم وحقيقته : ذوقوا نهاية فتنتكم وغايتها ومصير أمرها كقوله : { ذوقوا ما كنتم تكسبون } ( الزمر : 24 ) وكما فتنوا عباده على الشرك فتنوا على النار وقيل لهم : ذوقوا فتنتكم ومنه قوله تعالى : { إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا } ( البروج : 10 ) فسرت الفتنة هاهنا بتعذيبهم المؤمنين وإحراقهم اياهم بالنار واللفظ أعم من ذلك وحقيقته : عذبوا المؤمنين ليفتتنوا عن دينهم فهذه الفتنة المضافة إلى المشركين
وأما الفتنة التي يضيفها الله سبحانه إلى نفسه أو يضيفها رسوله إليه كقوله : { وكذلك فتنا بعضهم ببعض } وقول موسى : { إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء } ( الأعراف : 155 ) فتلك بمعنى آخر وهي بمعنى الامتحان والاختبار والابتلاء من الله لعباده بالخير والشر بالنعم والمصائب فهذه لون وفتنة المشركين لون وفتنة المؤمن في ماله وولده وجاره لون آخر والفتنة التى يوقعها بين أهل الإسلام كالفتنة التي أوقعها بين أصحاب علي ومعاوية وبين أهل الجمل وصفين وبين المسلمين حتى يتقاتلوا ويتهاجروا لون آخر وهى الفتنة التي قال فيها النبي صلى الله عليه و سلم : [ ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الماشي والماشي فيها خير من الساعي ] وأحاديث الفتنة التى أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم فيها باعتزال الطائفتين هي هذه الفتنة
وقد تأتي الفتنة مرادا بها المعصية كقوله تعالى : { ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني } ( التوبة : 49 ) يقوله الجد بن قيس لما ندبه رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى تبوك يقول : ائذن لي في القعود ولا تفتني بتعرضي لبنات بنى الأصفر فإنى لا أصبر عنهن قال تعالى : { ألا في الفتنة سقطوا } ( التوبة : 49 ) أي : وقعوا في فتنة النفاق وفروا إليها من فتنة بنات الأصفر
والمقصود : أن الله سبحانه حكم بين أوليائه وأعدائه بالعدل والإنصاف ولم يبرىء أولياءه من ارتكاب الإثم بالقتال في الشهر الحرام بل أخبر أنه كبير وأن ما عليه أعداؤه المشركون أكبر وأعظم من مجرد القتال في الشهر الحرام فهم أحق بالذم والعيب والعقوبة لا سيما وأولياؤه كانوا متأولين في قتالهم ذلك أو مقصرين نوع تقصير يغفره الله لهم في جنب ما فعلوه من التوحيد والطاعات والهجرة مع رسوله وإيثار ما عند الله فهم كما قيل :
( وإذا الحبيب أتى بذنب واحد ... جاءت محاسنه بألف شفيع )
فكيف يقاس ببغيض عدو جاء بكل قبيح ولم يأت بشفيع واحد من المحاسن (3/150)
فصل
ولما كان في شعبان من هذه السنة حولت القبلة وقد تقدم ذكر ذلك (3/153)
فصل
في غزوة بدر الكبرى
فلما كان في رمضان من هذه السنة بلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم خبر العير المقبلة من الشام لقريش صحبة أبي سفيان وهي العير التي خرجوا في طلبها لما خرجت من مكة وكانوا نحو أربعين رجلا وفيها أموال عظيمة لقريش فندب رسول الله صلى الله عليه و سلم الناس للخروج إليها وأمر من كان ظهره حاضرا بالنهوض ولم يحتفل لها احتفالا بليغا لأنه خرج مسرعا في ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا ولم يكن معهم من الخيل إلا فرسان : فرس للزبير بن العوام وفرس للمقداد بن الأسود الكندي وكان معهم سبعون بعيرا يعتقب الرجلان والثلاثة على البعير الواحد فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم وعلي ومرثد بن أبي مرثد الغنوي يعتقبون بعيرا وزيد بن حارثة وابنه وكبشة موالي رسول الله صلى الله عليه و سلم يعتقبون بعيرا وأبو بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف يعتقبون بعيرا واستخلف على المدينة وعلى الصلاة ابن أم مكتوم فلما كان بالروحاء رد أبا لبابة بن عبد المنذر واستعمله على المدينة ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير والراية الواحدة إلى علي بن أبي طالب والأخرى التي للأنصار إلى سعد بن معاذ وجعل على الساقة قيس بن أبي صعصعة وسار فلما قرب من الصفراء بعث بسبس بن عمرو الجهني وعدي بن أبي الزغباء إلى بدر يتجسسان أخبار العير وأما أبو سفيان فإنه بلغه مخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم وقصده إياه فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري إلى مكة مستصرخا لقريش بالنفير إلى عيرهم ليمنعوه من محمد وأصحابه وبلغ الصريخ أهل مكة فنهضوا مسرعين وأوعبوا في الخروج فلم يتخلف من أشرافهم أحد سوى أبي لهب فإنه عوض عنه رجلا كان له عليه دين وحشدوا فيمن حولهم من قبائل العرب ولم يتخلف عنهم أحد من بطون قريش إلا بني عدي فلم يخرج معهم منهم أحد وخرجوا من ديارهم كما قال تعالى : { بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله } ( الأنفال : 47 ) وأقبلوا كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ بحدهم وحديدهم تحاده وتحاد رسوله ] وجاؤوا على حرد قادرين وعلى حمية وغضب وحنق على رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه لما يريدون من أخذ عيرهم وقتل من فيها وقد أصابوا بالأمس عمرو بن الحضرمي والعير التي كانت معه فجمعهم الله على غير ميعاد كما قال الله تعالى : { ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا } ( الأنفال : 42 )
ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم خروج قريش استشار أصحابه فتكلم المهاجرون فأحسنوا ثم استشارهم ثانيا فتكلم المهاجرون فأحسنوا ثم استشارهم ثالثا ففهمت الأنصار أنه يعنيهم فبادر سعد بن معاذ فقال : يا رسول الله ! كأنك تعرض بنا ؟ وكان إنما يعنيهم لأنهم بايعوه على أن يمنعوه من الأحمر والأسود في ديارهم فلما عزم على الخروج استشارهم ليعلم ما عندهم فقال له سعد : لعلك تخشى أن تكون الأنصار ترى حقا عليها أن لا ينصروك إلا في ديارها وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم : فاظعن حيث شئت وصل حبل من شئت واقطع حبل من شئت وخذ من أموالنا ما شئت وأعطنا ما شئت وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت وما أمرت فيه من أمر فأمرنا تبع لأمرك فوالله لئن سرت حتى تبلغ البرك من غمدان لنسيرن معك ووالله لئن استعرضت بنا هذا البحر خضناه معك وقال له المقداد : لا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ولكنا نقاتل عن يمينك وعن شمالك ومن بين يديك ومن خلفك فأشرق وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم وسر بما سمع من أصحابه وقال : [ سيروا وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين وإني قد رأيت مصارع القوم ]
فسار رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى بدر وخفض أبو سفيان فلحق بساحل البحر ولما رأى أنه قد نجا وأحرز العير كتب إلى قريش : أن ارجعوا فإنكم إنما خرجتم لتحرزوا عيركم فأتاهم الخبر وهم بالجحفة فهموا بالرجوع فقال أبو جهل : والله لا نرجع حتى نقدم بدرا فنقيم بها ونطعم من حضرنا من العرب وتخافنا العرب بعد ذلك فأشار الأخنس بن شريق عليهم بالرجوع فعصوه فرجع هو وبنو زهرة فلم يشهد بدرا زهري فاغتبطت بنو زهرة بعد برأي الأخنس فلم يزل فيهم مطاعا معظما وأرادت بنو هاشم الرجوع فاشتد عليهم أبو جهل وقال : لا تفارقنا هذه العصابة حتى نرجع فساروا وسار رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى نزل عشيا أدنى ماء من مياه بدر فقال : [ أشيروا علي في المنزل ] فقال الحباب بن المنذر : يا رسول الله ! أنا عالم بها وبقلبها إن رأيت أن نسير إلى قلب قد عرفناها فهي كثيرة الماء عذبة فننزل عليها ونسبق القوم إليها ونغور ما سواها من المياه
وسار المشركون سراعا يريدون الماء وبعث عليا وسعدا والزبير إلى بدر يلتمسون الخبر فقدموا بعبدين لقريش ورسول الله صلى الله عليه و سلم قائم يصلي فسألهما أصحابه : من أنتما ؟ قالا : نحن سقاة لقريش فكره ذلك أصحابه وودوا لو كانا لعير أبي سفيان فلما سلم رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لهما : [ أخبراني أين قريش ؟ ] قالا : وراء هذا الكثيب فقال : [ كم القوم ؟ ] فقالا : لا علم لنا فقال : [ كم ينحرون كل يوم ؟ ] فقالا : يوما عشرا ويوما تسعا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ القوم ما بين تسعمائة إلى الألف ] فأنزل الله عز و جل في تلك الليلة مطرا واحدا فكان على المشركين وابلا شديدا منعهم من التقدم وكان على المسلمين طلا طهرهم به وأذهب عنهم رجس الشيطان ووطأ به الأرض وصلب به الرمل وثبت الأقدام ومهد به المنزل وربط به على قلوبهم فسبق رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه إلى الماء فنزلوا عليه شطر الليل وصنعوا الحياض ثم غوروا ما عداها من المياه ونزل رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه على الحياض وبني لرسول الله صلى الله عليه و سلم عريش يكون فيها على تل يشرف على المعركة ومشى في موضع المعركة وجعل يشير بيده هذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان إن شاء الله فما تعدى أحد منهم موضع إشارته
فلما طلع المشركون وتراءى الجمعان قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ اللهم هذه قريش جاءت بخيلائها وفخرها جاءت تحادك وتكذب رسولك ] وقام ورفع يديه واستنصر ربه وقال : [ اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك ] فالتزمه الصديق من ورائه وقال : يا رسول الله ! أبشر فوالذي نفسي بيده لينجزن الله لك ما وعدك واستنصر المسلمون الله واستغاثوه وأخلصوا له وتضرعوا إليه فأوحى الله إلى ملائكته : { أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب } ( الأنفال : 12 ) وأوحى الله إلى رسوله { أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين } ( الأنفال : 9 ) قرىء بكسر الدال وفتحها فقيل : المعنى إنهم ردف لكم وقيل : يردف بعضهم بعضا أرسالا لم يأتوا دفعة واحدة
فإن قيل : هاهنا ذكر أنه أمدهم بألف وفي ( سورة آل عمران ) قال : { إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين * بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين } ( آل عمران : 124 ) فكيف الجمع بينهما ؟
قيل : قد اختلف في هذا الإمداد الذي بثلاثة آلاف والذي بالخمسة على قولين :
أحدهما : أنه كان يوم أحد وكان إمدادا معلقا على شرط فلما فات شرطه فات الإمداد وهذا قول الضحاك ومقاتل وإحدى الروايتين عن عكرمة
والثاني : أنه كان يوم بدر وهذا قول ابن عباس ومجاهد وقتادة
والرواية الأخرى عن عكرمة اختاره جماعة من المفسرين وحجة هؤلاء أن السياق يدل على ذلك فإنه سبحانه قال : { ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون * إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين * بلى إن تصبروا وتتقوا } ( آل عمران : 123 - 125 ) إلى أن قال : { وما جعله الله } أي : هذا الإمداد { إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به } قال هؤلاء : فلما استغاثوا أمدهم بتمام ثلاثة آلاف ثم أمدهم بتمام خمسة آلاف لما صبروا واتقوا فكان هذا التدريج ومتابعة الإمداد أحسن موقعا وأقوى لنفوسهم وأسر لها من أن يأتي به مرة واحدة وهو بمنزلة متابعة الوحي ونزوله مرة بعد مرة
وقالت الفرقة الأولى : القصة في سياق أحد وإنما أدخل ذكر بدر اعتراضا في أثنائها فإنه سبحانه قال : { وإذ غدوت من أهلك تبوء المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم * إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون } ( آل عمران : 121 ) ثم قال : { ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون } ( آل عمران : 123 ) فذكرهم نعمته عليهم لما نصرهم ببدر وهم أذلة ثم عاد إلى قصة أحد وأخبر عن قول رسوله لهم : { ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين } ثم وعدهم أنهم إن صبروا واتقوا أمدهم بخمسة آلاف فهذا من قول رسوله والإمداد الذي ببدر من قوله تعالى وهذا بخمسة آلاف وامداد بدر بألف وهذا معلق على شرط وذلك مطلق والقصة في ( سورة آل عمران ) هي قصة أحد مستوفاة مطولة وبدر ذكرت فيها اعتراضا والقصة في سورة الأنفال قصة بدر مستوفاة مطولة فالسياق في ( آل عمران ) غير السياق في الأنفال
يوضح هذا أن قوله : { ويأتوكم من فورهم هذا } ( آل عمران : 125 ) قد قال مجاهد : إنه يوم أحد وهذا يستلزم أن يكون الإمداد المذكور فيه فلا يصح قوله : إن الإمداد بهذا العدد كان يوم بدر وإتيانهم من فورهم هذا يوم أحد والله أعلم (3/153)
فصل
وبات رسول الله صلى الله عليه و سلم يصلي إلى جذع شجرة هناك وكانت ليلة الجمعة السابع عشر من رمضان في السنة الثانية فلما أصبحوا أقبلت قريش في كتائبها واصطف الفريقان فمشى حكيم بن حزام وعتبة بن ربيعة في قريش أن يرجعوا ولا يقاتلوا فأبى ذلك أبو جهل وجرى بينه وبين عتبة كلام أحفظه وأمر أبو جهل أخا عمرو بن الحضرمي أن يطلب دم أخيه عمرو فكشف عن استه وصرخ : واعمراه فحمي القوم ونشبت الحرب وعدل رسول الله صلى الله عليه و سلم الصفوف ثم رجع إلى العريش هو وأبو بكر خاصة وقام سعد بن معاذ فى قوم من الأنصار على باب العريش يحمون رسول الله صلى الله عليه و سلم
وخرج عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة يطلبون المبارزة فخرج إليهم ثلاثة من الأنصار : عبد الله بن رواحة وعوف ومعوذ ابنا عفراء فقالوا لهم : من أنتم ؟ فقالوا : من الأنصار قالوا : أكفاء كرام وإنما نريد بني عمنا فبرز إليهم علي وعبيدة بن الحارث وحمزة فقتل علي قرنه الوليد وقتل حمزة قرنه عتبة وقيل : شيبة واختلف عبيدة وقرنه ضربتين فكر علي وحمزة على قرن عبيدة فقتلاه واحتملا عبيدة وقد قطعت رجله فلم يزل ضمنا حتى مات بالصفراء
وكان علي يقسم بالله : لنزلت هذه الآية فيهم : { هذان خصمان اختصموا في ربهم } الآية ( الحج : 19 )
ثم حمي الوطيس واستدارت رحى الحرب واشتد القتال وأخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم في الدعاء والابتهال ومناشدة ربه عز و جل حتى سقط رداؤه عن منكبيه فرده عليه الصديق وقال : بغض مناشدتك ربك فإنه منجز لك ما وعدك
فأغفى رسول الله صلى الله عليه و سلم إغفاءة واحدة وأخذ القوم النعاس في حال الحرب ثم رفع رسول الله صلى الله عليه و سلم رأسه فقال : [ أبشر يا أبا بكر ! هذا جبريل على ثناياه النقع ]
وجاء النصر وأنزل الله جنده وأيد رسوله والمؤمنين ومنحهم أكتاف المشركين أسرا وقتلا فقتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين (3/160)
فصل
ولما عزموا على الخروح ذكروا ما بينهم وبين بني كنانة من الحرب فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك المدلجي وكان من أشراف بنى كنانة فقال لهم : لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم من أن تأتيكم كنانة بشئ تكرهونه فخرجوا والشيطان جار لهم لا يفارقهم فلما تعبؤوا للقتال ورأى عدو الله جند الله قد نزلت من السماء فر ونكص على عقبيه فقالوا : إلى أين يا سراقة ؟ ألم تكن قلت : إنك جار لنا لا تفارقنا ؟ فقال : إنى أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب وصدق في قوله : إني أرى ما لا ترون وكذب في قوله : إني أخاف الله وقيل : كان خوفه على نفسه أن يهلك معهم وهذا أظهر
ولما رأى المنافقون ومن في قلبه مرض قلة حزب الله وكثرة أعدائه ظنوا أن الغلبة إنما هي بالكثرة وقالوا : { غر هؤلاء دينهم } ( الأنفال : 49 ) فأخبر سبحانه أن النصر بالتوكل عليه لا بالكثرة ولا بالعدد والله عزيز لا يغالب حكيم ينصر من يستحق النصر وإن كان ضعيفا فعزته وحكمته أوجبت نصر الفئة المتوكلة عليه
ولما دنا العدو وتواجه القوم قام رسول الله صلى الله عليه و سلم في الناس فوعظهم وذكرهم بما لهم في الصبر والثبات من النصر والظفر العاجل وثواب الله الآجل وأخبرهم أن الله قد أوجب الجنة لمن استشهد في سبيله فقام عمير بن الحمام فقال : يا رسول الله جنة عرضها السماوات والأرض ؟ قال : [ نعم ]
قال : بخ بخ يا رسول الله قال : [ ما يحملك على قولك بخ بخ ؟ ] قال : لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها قال : [ فإنك من أهلها ] قال : فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن ثم قال : لئن حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتل حتى قتل فكان أول قتيل
وأخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم ملء كفه من الحصباء فرمى بها وجوه العدو فلم تترك رجلا منهم إلا ملأت عينيه وشغلوا بالتراب في أعينهم وشغل المسلمون بقتلهم فأنزل الله في شأن هذه الرمية على رسوله { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } ( الأنفال : 17 )
وقد ظن طائفة أن الآية دلت على نفي الفعل عن العبد وإثباته لله وأنه هو الفاعل حقيقة وهذا غلط منهم من وجوه عديدة مذكورة في غير هذا الموضع ومعنى الآية : أن الله سبحانه أثبت لرسوله ابتداء الرمي ونفى عنه الإيصال الذي لم يحصل برميته فالرمي يراد به الحذف والإيصال فأثبت لنبيه الحذف ونفى عنه الإيصال
وكانت الملائكة يومئذ تبادر المسلمين إلى قتل أعدائهم قال ابن عباس : بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وصوت الفارس فوقه يقول : أقدم حيزوم إذ نظر إلى المشرك أمامه مستلقيا فنظر إليه فإذا هو قد خطم أنفه وشق وجهه كضربة السوط فاخضر ذلك أجمع فجاء الأنصاري فحدث بذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ صدقت ذلك من مدد السماء الثالثة ]
وقال أبو داود المازني : إني لأتبع رجلا من المشركين لأضربه إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي فعرفت أنه قد قتله غيري
وجاء رجل من الأنصار بالعباس بن عبد المطلب أسيرا فقال العباس : إن هذا والله ما أسرني لقد أسرني رجل أجلح من أحسن الناس وجها على فرس أبلق ما أراه في القوم فقال الأنصاري : أنا أسرته يا رسول الله فقال : [ اسكت فقد أيدك الله بملك كريم ] وأسر من بني عبد المطلب ثلاثة : العباس وعقيل ونوفل بن الحارث
وذكر الطبراني في معجمه الكبير عن رفاعة بن رافع قال : لما رأى إبليس ما تفعل الملائكة بالمشركين يوم بدر أشفق أن يخلص القتل إليه فتشبث به الحارث بن هشام وهو يظنه سراقة بن مالك فوكز في صدر الحارث فألقاه ثم خرج هاربا حتى ألقى نفسه في البحر ورفع يديه وقال : اللهم إني أسألك نظرتك إياي وخاف أن يخلص إليه القتل فأقبل أبو جهل بن هشام فقال : يا معشر الناس ! لا يهزمنكم خذلان سراقة إياكم فإنه كان على ميعاد من محمد ولا يهولنكم قتل عتبة وشيبة والوليد فإنهم قد عجلوا فواللات والعزى لا نرجع حتى نقرنهم بالحبال ولا ألفين رجلا منكم قتل رجلا منهم ولكن خذوهم أخذا حتى نعرفهم سوء صنيعهم
واستفتح أبو جهل في ذلك اليوم فقال : اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا نعرفه فأحنه الغداة اللهم أينا كان أحب إليك وأرضى عندك فانصره اليوم فأنزل الله عز و جل : { إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين } ( الأنفال : 19 )
ولما وضع المسلمون أيديهم في العدو يقتلون ويأسرون وسعد بن معاذ واقف على باب الخيمة التي فيها رسول الله صلى الله عليه و سلم وهي العريش متوشحا بالسيف في ناس من الأنصار رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم في وجه سعد بن معاذ الكراهية لما يصنع الناس فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ كأنك تكره ما يصنع الناس ؟ ] قال : أجل والله كانت أول وقعة أوقعها الله بالمشركين وكان الإثخان في القتل أحب إلي من استبقاء الرجال
ولما بردت الحرب وولى القوم منهزمين قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من ينظر لنا ما صنع أبو جهل ؟ ] فانطلق ابن مسعود فوجده قد ضربه ابنا عفراء حتى برد وأخذ بلحيته فقال : أنت أبو جهل ؟ فقال : لمن الدائرة اليوم ؟ فقال : لله ولرسوله وهل أخزاك الله يا عدو الله ؟ فقال : وهل فوق رجل قتله قومه ؟ فقتله عبد الله ثم أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : قتلته : فقال : [ الله الذي لا إله إلا هو ] فرددها ثلاثا ثم قال : [ الله أكبر الحمد لله الذي صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده انطلق أرنيه ] فانطلقنا فأريته إياه فقال : [ هذا فرعون هذه الأمة ]
وأسر عبد الرحمن بن عوف أمية بن خلف وابنه عليا فأبصره بلال وكان أمية يعذبه بمكة فقال : رأس الكفر أمية بن خلف لا نجوت إن نجا ثم استوخى جماعة من الأنصار واشتد عبد الرحمن بهما يحرزهما منهم فأدركوهم فشغلهم عن أمية بابنه ففرغوا منه ثم لحقوهما فقال له عبد الرحمن : ابرك فبرك فألقى نفسه عليه فضربوه بالسيوف من تحته حتى قتلوه وأصاب بعض السيوف رجل عبد الرحمن بن عوف قال له أمية قبل ذلك : من الرجل المعلم في صدره بريشة نعامة ؟ فقال : ذلك حمزة بن عبد المطلب فقال : ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل وكان مع عبد الرحمن أدراع قد استلبها فلما رآه أمية قال له : أنا خير لك من هذه الأدراع فألقاها وأخذه فلما قتله الأنصار كان يقول : يرحم الله بلالا فجعني بأدراعي وبأسيري
وانقطع يومئذ سيف عكاشة بن محصن فأعطاه النبي صلى الله عليه و سلم جذلا من حطب فقال : [ دونك هذا ] فلما أخذه عكاشة وهزه عاد في يده سيفا طويلا شديدا أبيض فلم يزل عنده يقاتل به حتى قتل في الردة أيام أبي بكر
ولقي الزبير عبيدة بن سعيد بن العاص وهو مدجج في السلاح لا يرى منه إلا الحدق فحمل عليه الزبير بحربته فطعنه في عينه فمات فوضع رجله على الحربة ثم تمطى فكان الجهد أن نزعها وقد انثنى طرفاها قال عروة : فسأله إياها رسول الله صلى الله عليه و سلم فأعطاه إياها فلما قبض رسول الله صلى الله عليه و سلم أخذها ثم طلبها أبو بكر فأعطاه إياها فلما قبض أبو بكر سأله إياها عمر فأعطاه إياها فلما قبض عمر أخذها ثم طلبها عثمان فأعطاه إياها فلما قبض عثمان وقعت عند آل علي فطلبها عبد الله بن الزبير وكانت عنده حتى قتل
وقال رفاعة بن رافع : رميت بسهم يوم بدر ففقئت عيني فبصق فيها رسول الله صلى الله عليه و سلم ودعا لي فما آذاني منها شئ
ولما انقضت الحرب أقبل رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى وقف على القتلى فقال : [ بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم كذبتموني وصدقني الناس وخذلتموني ونصرني الناس وأخرجتموني وآواني الناس ]
ثم أمر بهم فسحبوا إلى قليب من قلب بدر فطرحوا فيه ثم وقف عليهم فقال : [ يا عتبة بن ربيعة ويا شيبة بن ربيعة ويا فلان ويا فلان هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا فإني وجدت ما وعدني ربي حقا ] فقال عمر بن الخطاب : يا رسول الله ! ما تخاطب من أقوام قد جيفوا ؟ فقال : [ والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يستطيعون الجواب ] ثم أقام رسول الله صلى الله عليه و سلم بالعرصة ثلاثا وكان إذا ظهر على قوم أقام بعرصتهم ثلاثا
ثم ارتحل مؤيدا منصورا قرير العين بنصر الله له ومعه الأسارى والمغانم فلما كان بالصفراء قسم الغنائم وضرب عنق النضر بن الحارث بن كلدة ثم لما نزل بعرق الظبية ضرب عنق عقبة بن أبي معيط
ودخل النبي صلى الله عليه و سلم المدينة مؤيدا مظفرا منصورا قد خافه كل عدو له المدينة وحولها فأسلم بشر كثير من أهل المدينة وحينئذ دخل عبد الله بن أبي المنافق وأصحابه في الإسلام ظاهرا
وجملة من حضر بدرا من المسلمين ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا من المهاجرين ستة وثمانون ومن الأوس أحد وستون ومن الخزرج مائة وسبعون وإنما قل عدد الأوس عن الخزرج وإن كانوا أشد منهم وأقوى شوكة وأصبر عند اللقاء لأن منازلهم كانت في عوالي المدينة وجاء النفير بغتة وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا يتبعنا إلا من كان ظهره حاضرا ] فاستأذنه رجال ظهورهم في علو المدينة أن يستأني بهم حتى يذهبوا إلى ظهورهم فأبى ولم يكن عزمهم على اللقاء ولا أعدوا له عدته ولا تأهبوا له أهبته ولكن جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد
واستشهد من المسلمين يومئذ أربعة عشر رجلا : ستة من المهاجرين وستة من الخزرج واثنان من الأوس وفرغ رسول الله صلى الله عليه و سلم من شأن بدر والأسارى في شوال (3/162)
فصل
ثم نهض بنفسه صلوات الله وسلامه عليه بعد فراغه بسبعة أيام إلى غزو بني سليم واستعمل على المدينة سباع بن عرفطة وقيل : ابن أم مكتوم فبلغ ماء يقال له : الكدر فأقام عليه ثلاثا ثم انصرف ولم يلق كيدا (3/169)
فصل
ولما رجع فل المشركين إلى مكة موتورين محزونين نذر أبو سفيان أن لا يمس رأسه ماء حتى يغزو رسول الله صلى الله عليه و سلم فخرج في مائتي راكب حتى أتى العريض في طرف المدينة وبات ليلة واحدة عند سلام بن مشكم اليهودي فسقاه الخمر وبطن له من خبر الناس فلما أصبح قطع أصوارا من النخل وقتل رجلا من الأنصار وحليفا له ثم كر راجعا ونذر به رسول الله صلى الله عليه و سلم فخرج في طلبه فبلغ قرقرة الكدر وفاته أبو سفيان وطرح الكفار سويقا كثيرا من أزوادهم يتخففون به فأخذها المسلمون فسميت غزوة السويق وكان ذلك بعد بدر بشهرين
فأقام رسول الله صلى الله عليه و سلم بالمدينة بقية ذي الحجة ثم غزا نجدا يريد غطفان واستعمل على المدينة عثمان بن عفان رضي الله عنه فأقام هناك صفرا كله من السنة الثالثة ثم انصرف ولم يلق حربا (3/169)
فصل
فأقام بالمدينة ربيعا الأول ثم خرج يريد قريشا واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم فبلغ بحران معدنا بالحجاز من ناحية الفرع ولم يلق حربا فأقام هنالك ربيعا الآخر وجمادى الأولى ثم انصرف إلى المدينة (3/170)
فصل
ثم غزا بني قينقاع وكانوا من يهود المدينة فنقضوا عهده فحاصرهم خمسة عشر ليلة حتى نزلوا على حكمه فشفع فيهم عبد الله بن أبي وألح عليه فأطلقهم له وهم قوم عبد الله بن سلام وكانوا سبعمائة مقاتل وكانوا صاغة وتجارا (3/170)
فصل
في قتل كعب بن الأشرف
وكان رجلا من اليهود وأمه من بني النضير وكان شديد الأذى لرسول الله صلى الله عليه و سلم وكان يشبب في أشعاره بنساء الصحابة فلما كانت وقعة بدر ذهب إلى مكة وجعل يؤلب على رسول الله صلى الله عليه و سلم وعلى المؤمنين ثم رجع إلى المدينة على تلك الحال فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من لكعب بن الأشرف فإنة قد آذى الله ورسوله ] فانتدب له محمد بن مسلمة وعباد بن بشر وأبو نائلة واسمه سلكان بن سلامة وهو أخو كعب من الرضاع والحارث بن أوس وأبو عبس بن جبر وأذن لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يقولوا ما شاؤوا من كلام يخدعونه به فذهبوا إليه في ليلة مقمرة وشيعهم رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى بقيع الغرقد فلما انتهوا إليه قدموا سلكان بن سلامة إليه فأظهر له موافقته على الانحراف عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وشكا إليه ضيق حاله فكلمه في أن يبيعه وأصحابه طعاما ويرهنونه سلاحهم فأجابهم إلى ذلك
ورجع سلكان إلى أصحابه فأخبرهم فأتوه فخرج إليهم من حصنه فتماشوا فوضعوا عليه سيوفهم ووضع محمد بن مسلمة مغولا كان معه في ثنته فقتله وصاح عدو الله صيحة شديدة أفزعت من حوله وأوقدوا النيران وجاء الوفد حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه و سلم من آخر الليل وهو قائم يصلي وجرح الحارث بن أوس ببعض سيوف أصحابه فتفل عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم فبرىء فأذن رسول الله صلى الله عليه و سلم في قتل من وجد من اليهود لنقضهم عهده ومحاربتهم الله ورسوله (3/171)
فصل
في غزوة أحد
ولما قتل الله أشراف قريش ببدر وأصيبوا بمصيبة لم يصابوا بمثلها ورأس فيهم أبو سفيان بن حرب لذهاب أكابرهم وجاء كما ذكرنا إلى أطراف المدينة في غزوة السويق ولم ينل ما في نفسه أخذ يؤلب على رسول الله صلى الله عليه و سلم وعلى المسلمين ويجمع الجموع فجمع قريبا من ثلاثة آلاف من قريش والحلفاء والأحابيش وجاؤوا بنسائهم لئلا يفروا وليحاموا عنهن ثم أقبل بهم نحو المدينة فنزل قريبا من جبل أحد بمكان يقال له : عينين وذلك في شوال من السنة الثالثة واستشار رسول الله صلى الله عليه و سلم أصحابه أيخرج إليهم أم يمكث في المدينة ؟ وكان رأيه ألا يخرجوا من المدينة وأن يتحصنوا بها فإن دخلوها قاتلهم المسلمون على أفواه الأزقة والنساء من فوق البيوت ووافقه على هذا الرأي عبد الله بن أبي وكان هو الرأي فبادر جماعة من فضلاء الصحابة ممن فاته الخروج يوم بدر وأشاروا عليه بالخروج وألحوا عليه في ذلك وأشار عبد الله بن أبي بالمقام في المدينة وتابعه على ذلك بعض الصحابة فألح أولئك على رسول الله صلى الله عليه و سلم فنهض ودخل بيته ولبس لأمته وخرج عليهم وقد انثنى عزم أولئك وقالوا : أكرهنا رسول الله صلى الله عليه و سلم على الخروج فقالوا : يا رسول الله ! إن أحببت أن تمكث في المدينة فافعل فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه ]
فخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم في ألف من الصحابة واستعمل ابن أم مكتوم على الصلاة بمن بقي في المدينة وكان رسول الله رأى رؤيا وهو بالمدينة رأى أن في سيفه ثلمة ورأى أن بقرا تذبح وأنه أدخل يده في درع حصينة فتأول الثلمة في سيفه برجل يصاب من أهل بيته وتأول البقر بنفر من أصحابه يقتلون وتأول الدرع بالمدينة
فخرج يوم الجمعة فلما صار بالشوط بين المدينة وأحد انخزل عبد الله بن أبي بنحو ثلث العسكر وقال : تخالفني وتسمع من غيري فتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر بن عبد الله يوبخهم ويحضهم على الرجوع ويقول : تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا : لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع فرجع عنهم وسبهم وسأله قوم من الأنصار أن يستعينوا بحلفائهم من يهود فأبى وسلك حرة بني حارثة وقال : من رجل يخرج بنا على القوم من كثب ؟ فخرج به بعض الأنصار حتى سلك في حائط لبعض المنافقين وكان أعمى فقام يحثو التراب في وجوه المسلمسن ويقول : لا أحل لك أن تدخل في حائطي إن كنت رسول الله فابتدره القوم ليقتلوه فقال : [ لا تقتلوه فهذا أعمى القلب أعمى البصر ]
ونفذ رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي وجعل ظهره إلى أحد ونهى الناس عن القتال حتى يأمرهم فلما أصبح يوم السبت تعبى للقتال وهو في سبعمائة فيهم خمسون فارسا واستعمل على الرماة - وكانوا خمسين - عبد الله بن جبير وأمره وأصحابه أن يلزموا مركزهم وألا يفارقوه ولو رأى الطير تتخطف العسكر وكانوا خلف الجيش وأمرهم أن ينضحوا المشركين بالنبل لئلا يأتوا المسلمين من ورائهم
فظاهر رسول الله صلى الله عليه و سلم بين درعين يومئذ وأعطى اللواء مصعب بن عمير وجعل على إحدى المجنبتين الزبير بن العوام وعلى الأخرى المنذر بن عمرو واستعرض الشباب يومئذ فرد من استصغره عن القتال وكان منهم عبد الله بن عمر وأسامة بن زيد وأسيد بن ظهير والبراء بن عازب وزيد بن أرقم وزيد بن ثابت وعرابة بن أوس وعمرو بن حزم وأجاز من رآه مطيقا وكان منهم سمرة بن جندب ورافع بن خديج ولهما خمس عشرة سنة فقيل : أجاز من أجاز لبلوغه بالسن خمس عشرة سنة ورد من رد لصغره عن سن البلوغ وقالت طائفة : إنما أجاز من أجاز لإطاقته ورد من رد لعدم إطاقته ولا تأثير للبلوغ وعدمه في ذلك قالوا : وفي بعض ألفاظ حديث ابن عمر : فلما رآني مطيقا أجازني
وتعبت قريش للقتال وهم في ثلاثة آلاف وفيهم مائتا فارس فجعلوا على ميمنتهم خالد بن الوليد وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل ودفع رسول الله صلى الله عليه و سلم سيفه إلى أبي دجانة سماك بن خرشة وكان شجاعا بطلا يختال عند الحرب
وكان أول من بدر من المشركين أبو عامر الفاسق واسمه عبد عمرو بن صيفي وكان يسمى : الراهب فسماه رسول الله صلى الله عليه و سلم الفاسق وكان رأس الأوس في الجاهلية فلما جاء الإسلام شرق به وجاهر رسول الله صلى الله عليه و سلم بالعداوة فخرج من المدينة وذهب إلى قريش يؤلبهم على رسول الله صلى الله عليه و سلم ويحضهم على قتاله ووعدهم بأن قومه إذا رأوه أطاعوه ومالوا معه فكان أول من لقي المسلمين فنادى قومه وتعرف إليهم فقالوا له : لا أنعم الله بك عينا يا فاسق فقال : لقد أصاب قومي بعدي شر ثم قاتل المسلمين قتالا شديدا وكان شعار المسلمين يومئذ أمت
وأبلى يومئذ أبو دجانة الأنصاري وطلحة بن عبيد الله وأسد الله وأسد رسوله حمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب وأنس بن النضر وسعد بن الربيع
وكانت الدولة أول النهار للمسلمين على الكفار فانهزم عدو الله وولوا مدبرين حتى انتهوا إلى نسائهم فلما رأى الرماة هزيمتهم تركوا مركزهم الذي أمرهم رسول الله صلى الله عليه و سلم بحفظه وقالوا : يا قوم الغنيمة فذكرهم أميرهم عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فلم يسمعوا وظنوا أن ليس للمشركين رجعة فذهبوا فى طلب الغنيمة وأخلو الثغر وكر فرسان المشركين فوجدوا الثغر خاليا قد خلا من الرماة فجازوا منه وتمكنوا حتى أقبل آخرهم فأحاطوا بالمسلمين فأكرم الله من أكرم منهم بالشهادة وهم سبعون وتولى الصحابة وخلص المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فجرحوا وجهه وكسروا رباعيته اليمنى وكانت السفلى وهشموا البيضة على رأسه ورموه بالحجارة حتى وقع لشقه وسقط في حفرة من الحفر التى كان أبو عامر الفاسق يكيد بها المسلمين فأخذ علي بيده واحتضنه طلحة بن عبيد الله وكان الذي تولى أذاه صلى الله عليه و سلم عمرو بن قمئة وعتبة بن أبي وقاص وقيل : إن عبد الله بن شهاب الزهري عم محمد بن مسلم بن شهاب الزهري هو الذي شجه وقتل مصعب بن عمير بين يديه فدفع اللواء إلى علي بن أبي طالب ونشبت حلقتان من حلق المغفر في وجهه فانتزعهما أبو عبيدة بن الجراح وعض عليهما حتى سقطت ثنيتاه من شدة غوصهما في وجهه وامتص مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري الدم من وجنته وأدركه المشركون يريدون ما الله حائل بينهم وبينه فحال دونه نفر من المسلمين نحو عشرة حتى قتلوا ثم جالدهم طلحة حتى أجهضهم عنه وترس أبو دجانة عليه بظهره والنبل يقع فيه وهو لا يتحرك وأصيبت يومئذ عين قتادة بن النعمان فأتى بها رسول الله صلى الله عليه و سلم فردها عليه بيده وكانت أصح عينيه وأحسنهما وصرخ الشيطان بأعلى صوته : إن محمدا قد قتل ووقع ذلك في قلوب كثير من المسلمين وفر أكثرهم وكان أمر الله قدرا مقدورا
ومر أنس بن النضر بقوم من المسلمين قد ألقوا بأيديهم فقال : ما تنتظرون ؟ فقالوا : قتل رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : ما تصنعون في الحياة بعده ؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه ثم استقبل الناس ولقي سعد بن معاذ فقال : يا سعد إني لأجد ريح الجنة من دون أحد فقاتل حتى قتل ووجد به سبعون ضربة وجرح يومئذ عبد الرحمن بن عوف نحوا من عشرين جراحة
وأقبل رسول الله صلى الله عليه و سلم نحو المسلمين وكان أول من عرفه تحت المغفر كعب بن مالك فصاح بأعلى صوته : يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله صلى الله عليه و سلم فأشار إليه أن اسكت واجتمع إليه المسلمون ونهضوا معه إلى الشعب الذي نزل فيه وفيهم أبو بكر وعمر وعلي والحارث بن الصمة الأنصاري وغيرهم فلما استندوا إلى الجبل أدرك رسول الله صلى الله عليه و سلم أبي بن خلف على جواد له يقال له : العوذ زعم عدو الله أنه يقتل عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما اقترب منه تناول رسول الله صلى الله عليه و سلم الحربة من الحارث بن الصمة فطعنه بها فجاءت في ترقوته فكر عدو الله منهزما فقال له المشركون : والله ما بك من بأس فقال : والله لو كان ما بي بأهل ذي المجاز لماتوا أجمعون وكان يعلف فرسه بمكة ويقول : أقتل عليه محمدا فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ بل أنا أقتله إن شاء الله تعالى ] فلما طعنه تذكر عدو الله قوله : أنا قاتله فأيقن بأنه مقتول من ذلك الجرح فمات منه في طريقه بسرف مرجعه إلى مكة وجاء علي إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم بماء ليشرب منه فوجده آجنا فرده وغسل عن وجهه الدم وصب على رأسه فأراد رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يعلو صخرة هنالك فلم يستطع لما به فجلس طلحة تحته حتى صعدها وحانت الصلاة فصلى بهم جالسا وصار رسول الله صلى الله عليه و سلم في ذلك اليوم تحت لواء الأنصار
وشد حنظلة الغسيل وهو حنظلة بن أبي عامر على أبي سفيان فلما تمكن منه حمل على حنظلة شداد بن الأسود فقتله وكان جنبا فإنه سمع الصيحة وهو على امرأته فقام من فوره إلى الجهاد فأخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم أصحابه أن الملائكة تغسله ثم قال : [ سلوا أهله ؟ ما شأنه ؟ ] فسألوا امرأته فأخبرتهم الخبر وجعل الفقهاء هذا حجة أن الشهيد إذا قتل جنبا يغسل اقتداء بالملائكة
وقتل المسلمون حامل لواء المشركين فرفعته لهم عمرة بنت علقمة الحارثية حتى اجتمعوا إليه وقاتلت أم عمارة وهي نسيبة بنت كعب المازنية قتالا شديدا وضربت عمرو بن قمئة بالسيف ضربات فوقته درعان كانتا عليه وضربها عمرو بالسيف فجرحها جرحا شديدا على عاتقها
وكان عمرو بن ثابت المعروف بالأصيرم من بني عبد الأشهل يأبى الإسلام فلما كان يوم أحد قذف الله الإسلام في قلبه للحسنى التي سبقت له منه فأسلم وأخذ سيفه ولحق بالنبي صلى الله عليه و سلم فقاتل فأثبت بالجراح ولم يعلم أحد بأمره فلما انجلت الحرب طاف بنو عبد الأشهل في القتلى يلتمسون قتلاهم فوجدوا الأصيرم وبه رمق يسير فقالوا : والله إن هذا الأصيرم ما جاء به لقد تركناه وإنه لمنكر لهذا الأمر ثم سألوه ما الذي جاء بك ؟ أحدب على قومك أم رغبة في الإسلام ؟ فقال : بل رغبة في الإسلام آمنت بالله ورسوله ثم قاتلت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى أصابني ما ترون ومات من وقته فذكروه لرسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ هو من أهل الجنة ] قال أبو هريرة : ولم يصل لله صلاة قط
ولما انقضت الحرب أشرف أبو سفيان على الجبل فنادى : أفيكم محمد ؟ فلم يجيبوه فقال : أفيكم ابن أبي قحافة ؟ فلم يجيبوه فقال : أفيكم عمر بن الخطاب ؟ فلم يجيبوه ولم يسأل إلا عن هؤلاء الثلاثة لعلمه وعلم قومه أن قوام الإسلام بهم فقال : أما هؤلاء فقد كفيتموهم فلم يملك عمر نفسه أن قال : يا عدو الله إن الذين ذكرتهم أحياء وقد أبقى الله لك ما يسوءك فقال : قد كان في القوم مثلة لم آمر بها ولم تسؤني ثم قال : أعل هبل فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ ألا تجيبونه ؟ ] فقالوا : ما نقول ؟ قال : [ قولوا : الله أعلى وأجل ] ثم قال : لنا العزى ولا عزى لكم قال : [ ألا تجيبونه ؟ ] قالوا : ما نقول ؟ قال : [ قولوا : الله مولانا ولا مولى لكم ]
فأمرهم بجوابه عند افتخاره بآلهته وبشركه تعظيما للتوحيد وإعلاما بعزة من عبده المسلمون وقوة جانبه وأنه لا يغلب ونحن حزبه وجنده ولم يأمرهم بإجابته حين قال : أفيكم محمد ؟ أفيكم ابن أبي قحافة ؟ أفيكم عمر ؟ بل قد روي أنه نهاهم عن إجابته وقال : لا تجيبوه لأن كلمهم لم يكن برد بعد في طلب القوم ونار غيظهم بعد متوقدة فلما قال لأصحابه : أما هؤلاء فقد كفيتموهم حمى عمر بن الخطاب واشتد غضبه وقال : كذبت يا عدو الله فكان في هذا الإعلام من الإذلال والشجاعة وعدم الجبن والتعرف إلى العدو في تلك الحال ما يؤذنهم بقوة القوم وبسالتهم وأنهم لم يهنوا ولم يضعفوا وأنه وقومه جديرون بعدم الخوف منهم وقد أبقى الله لهم ما يسوؤهم منهم وكان في الإعلام ببقاء هؤلاء الثلاثة وهلة بعد ظنه وظن قومه أنهم قد أصيبوا من المصلحة وغيظ العدو وحزبه والفت في عضده ما ليس في جوابه حين سأل عنهم واحدا واحدا فكان سؤاله عنهم ونعيهم لقومه آخر سهام العدو وكيده فصبر له النبي صلى الله عليه و سلم حتى استوفى كيده ثم انتدب له عمر فرد سهام كيده عليه وكان ترك الجواب أولا عليه أحسن وذكره ثانيا أحسن وأيضا فإن في ترك إجابته حين سأل عنهم إهانة له وتصغيرا لشأنه فلما منته نفسه موتهم وظن أنهم قد قتلوا وحصل له بذلك من الكبر والأشر ما حصل كان في جوابه إهانة له وتحقير وإذلال ولم يكن هذا مخالفا لقول النبي صلى الله عليه و سلم : لا تجيبوه فإنه إنما نهى عن إجابته حين سأل : أفيكم محمد ؟ أفيكم فلان ؟ أفيكم فلان ؟ ولم ينهه عن إجابته حين قال : أما هؤلاء فقد قتلوا وبكل حال فلا أحسن من ترك إجابته أولا ولا أحسن من إجابته ثانيا
ثم قال أبو سفيان : يوم بيوم بدر والحرب سجال فأجابه عمر فقال : لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار
وقال ابن عباس : ما نصر رسول الله صلى الله عليه و سلم في موطن نصره يوم أحد فأنكر ذلك عليه فقال : بيني وبين من ينكر كتاب الله إن الله يقول : { ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه } ( آل عمران : 152 ) قال ابن عباس : والحس : القتل ولقد كان لرسول الله صلى الله عليه و سلم ولأصحابه أول النهار حتى قتل من أصحاب المشركين سبعة أو تسعة وذكر الحديث
وأنزل الله عليهم النعاس أمنة منه في غزاة بدر وأحد والنعاس فى الحرب وعند الخوف دليل على الأمن وهو من الله وفي الصلاة ومجالس الذكر والعلم من الشيطان
وقاتلت الملائكة يوم أحد عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ففي الصحيحين : عن سعد بن أبي وقاص قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم أحد ومعه رجلان يقاتلان عنه عليهما ثياب بيض كأشد القتال ما رأيتهما قبل ولا بعد
وفي صحيح مسلم : أنه صلى الله عليه و سلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش فلما رهقوه قال : [ من يردهم عنا وله الجنة أو هو رفيقي في الجنة ] فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل ثم رهقوه فقال : [ من يردهم عنا وله الجنة أو هو رفيقي في الجنة ] فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ما أنصفنا أصحابنا ] وهذا يروى على وجهين : بسكون الفاء ونصب أصحابنا على المفعولية وفتح الفاء رفع أصحابنا على الفاعلية
ووجه النصب : أن الأنصار لما خرجوا للقتال واحدا بعد واحد حتى قتلوا ولم يخرج القرشيان قال ذلك أي : ما أنصفت قريش الأنصار
ووجه الرفع : أن يكون المراد بالأصحاب الذين فروا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى أفرد في النفر القليل فقتلوا واحدا بعد واحد فلم ينصفوا رسول الله صلى الله عليه و سلم ومن ثبت معه
وفي صحيح ابن حبان عن عائشة قالت : قال أبو بكر الصديق : لما كان يوم أحد انصرف الناس كلهم عن النبي صلى الله عليه و سلم فكنت أول من فاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم فرأيت بين يديه رجلا يقاتل عنه ويحميه قلت : كن طلحة فداك أبي وأمي كن طلحة فداك أبي وأمي فلم أنشب أن أدركني أبو عبيدة بن الجراح وإذا هو يشتد كأنه طير حتى لحقني فدفعنا إلى النبي صلى الله عليه و سلم فإذا طلحة بين يديه صريعا فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ دونكم أخاكم فقد أوجب ] وقد رمي النبي صلى الله عليه و سلم في جبينه وروي : في وجنته حتى غابت حلقة من حلق المغفر في وجنته فذهبت لأنزعها عن النبي صلى الله عليه و سلم فقال أبو عبيدة : نشدتك بالله يا أبا بكر إلا تركتني ؟ قال : فأخذ أبو عبيدة السهم بفيه فجعل ينضنضه كراهة أن يؤذي رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم استل السهم بفيه فندرت ثنية أبي عبيدة قال أبو بكر : ثم ذهبت لآخذ الآخر فقال أبو عبيدة : نشدتك بالله يا أبا بكر إلا تركتني ؟ قال : فأخذه فجعل ينضنضه حتى استله فندرت ثنية أبي عبيدة الأخرى ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ دونكم أخاكم فقد أوجب ] قال : فأقبلنا على طلحة نعالجه وقد أصابته بضعة عشر ضربة
وفي مغازي الأموي : أن المشركين صعدوا على الجبل فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لسعد : [ اجنبهم ] يقول : ارددهم فقال : كيف أجنبهم وحدي ؟ فقال : ذلك ثلاثا فأخذ سعد سهما من كنانته فرمى به رجلا فقتله قال : ثم أخذت سهمى أعرفه فرميت به آخر فقتلته ثم أخذته أعرفه فرميت به آخر فقتلته فهبطوا من مكانهم فقلت : هذا سهم مبارك فجعلته فى كنانتي فكان عند سعد حتى مات ثم كان عند بنيه
وفي الصحيحين عن أبي حازم أنه سئل عن جرح رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : والله إني لأعرف من كان يغسل جرح رسول الله صلى الله عليه و سلم ومن كان يسكب الماء وبما دووي كانت فاطمة ابنته تغسله وعلي بن أبي طالب يسكب الماء بالمجن فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة من حصير فأحرقتها فألصقتها فاستمسك الدم
وفي الصحيح : أنه كسرت رباعيته وشج في رأسه فجعل يسلت الدم عنه ويقول : [ كيف يفلح قوم شجوا وجه نبيهم وكسروا رباعيته وهو يدعوهم ] فأنزل الله عز و جل : { ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون } ( آل عمران : 128 )
ولما انهزم الناس لم ينهزم أنس بن النضر وقال : اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء يعني المسلمين وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء يعنى المشركين ثم تقدم فلقيه سعد بن معاذ فقال : أين يا أبا عمر ؟ فقال أنس : واها لريح الجنة يا سعد إني أجده دون أحد ثم مضى فقاتل القوم حتى قتل فما عرف حتى عرفته أخته ببنانه وبه بضع وثمانون ما بين طعنة برمح وضربة بسيف ورمية بسهم
وانهزم المشركون أول النهار كما تقدم فصرخ فيم إبليس ! أي عباد الله أخزاكم الله فارجعوا من الهزيمة فاجتلدوا
ونظر حذيفة إلى أبيه والمسلمون يريدون قتله وهم يظنونه من المشركين فقال : أي عباد الله ! أبي فلم يفهموا قوله حتى قتلوه فقال : يغفر الله لكم فأراد رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يديه فقال : قد تصدقت بديته على المسلمين فزاد ذلك حذيفة خيرا عند النبي صلى الله عليه و سلم
وقال زيد بن ثابت : بعثني رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم أحد أطلب سعد بن الربيع فقال لي : [ إن رأيته فأقرئه مني السلام وقل له : يقول لك رسول الله صلى الله عليه و سلم : كيف تجدك ؟ ] قال : فجعلت أطوف بين القتلى فأتيته وهو بآخر رمق وفيه سبعون ضربة ما بين طعنة برمح وضربة بسيف ورمية بسهم فقلت : يا سعد إن رسول الله صلى الله عليه و سلم يقرأ عليك السلام ويقول لك : أخبرني كيف تجدك ؟ فقال : وعلى رسول الله صلى الله عليه و سلم السلام قل له : يا رسول الله أجد ريح الجنة وقل لقومي الأنصار : لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وفيكم عين تطرف وفاضت نفسه من وقته
ومر رجل من المهاجرين برجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه فقال : يا فلان ! أشعرت أن محمدا قد قتل ؟ فقال الأنصاري : إن كان محمد قد قتل فقد بلغ فقاتلوا عن دينكم فنزل : { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل } الآية ( آل عمران : 142 ) وقال عبد الله بن عمرو بن حرام : رأيت في النوم قبل أحد مبشر بن عبد المنذر يقول لي : أنت قادم علينا في أيام فقلت : وأين أنت ؟ فقال : في الجنة نسرح فيها كيف نشاء قلت له : ألم تقتل يوم بدر ؟ قال : بلى ثم أحييت فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ هذه الشهادة يا أبا جابر ]
وقال خيثمة أبو سعد وكان ابنه استشهد مع رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم بدر : لقد أخطأتني وقعة بدر وكنت والله عليها حريصا حتى ساهمت ابني فى الخروج فخرج سهمه فرزق الشهادة وقد رأيت البارحة ابني في النوم في أحسن صورة يسرح في ثمار الجنة وأنهارها ويقول : الحق بنا ترافقنا فى الجنة فقد وجدت ما وعدني ربي حقا وقد والله يا رسول الله أصبحت مشتاقا إلى مرافقته في الجنة وقد كبر سني ورق عظمي وأحببت لقاء ربي فادع الله يا رسول الله أن يرزقني الشهادة ومرافقة سعد في الجنة فدعا له رسول الله صلى الله عليه و سلم بذلك فقتل بأحد شهيدا
وقال عبد الله بن جحش في ذلك اليوم : اللهم إني أقسم عليك أن ألقى العدو غدا فيقتلوني ثم يبقروا بطني ويجدعوا أنفي وأذني ثم تسألني : فيم ذلك فأقول فيك
وكان عمرو بن الجموح أعرج شديد العرج وكان له أربعة بنين شباب يغزون مع رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا غزا فلما توجه إلى أحد أراد أن يتوجه معه فقال له بنوه : إن الله قد جعل لك رخصة فلو قعدت ونحن نكفيك وقد وضع الله عنك الجهاد فأتى عمرو بن الجموح رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله ! إن بني هؤلاء يمنعوني أن أخرج معك ووالله إني لأرجو أن أستشهد فأطأ بعرجتي هذه في الجنة فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أما أنت فقد وضع الله عنك الجهاد ] وقال لبنيه : [ وما عليكم أن تدعوه لعل الله عز و جل أن يرزقه الشهادة ] فخرح مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فقتل يوم أحد شهيدا
وانتهى أنس بن النضر إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار وقد ألقوا بأيديهم فقال : ما يجلسكم ؟ فقالوا : قتل رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : فما تصنعون بالحياة بعده ؟ فقوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل
وأقبل أبى بن خلف عدو الله وهو مقنع في الحديد يقول : لا نجوت إن نجا محمد وكان حلف بمكة أن يقتل رسول الله صلى الله عليه و سلم فاستقبله مصعب بن عمير فقتل مصعب وأبصر رسول الله صلى الله عليه و سلم ترقوة أبي بن خلف من فرجة بين سابغة الدرع والبيضة فطعنه بحربته فوقع عن فرسه فاحتمله أصحابه وهو يخور خوار الثور فقالوا : ما أجزعك ؟ إنما هو خدش فذكر لهم قول النبي صلى الله عليه و سلم بل أنا أقتله إن شاء الله تعالى فمات برابغ
قال ابن عمر : إني لأسير ببطن رابغ بعد هوي من الليل إذا نار تأجج لي فيممتها وإذا رجل يخرج منها في سلسلة يجتذبها يصيح العطش وإذا رجل يقول : لا تسقه هذا قتيل رسول الله صلى الله عليه و سلم هذا أبي بن خلف
وقال نافع بن جبير : سمعت رجلا من المهاجرين يقول : شهدت أحدا فنظرت إلى النبل يأتي من كل ناحية ورسول الله صلى الله عليه و سلم وسطها كل ذلك يصرف عنه ولقد رأيت عبد الله بن شهاب الزهري يقول يومئذ : دلونى على محمد لا نجوت إن نجا ورسول الله صلى الله عليه و سلم إلى جنبه ما معه أحد ثم جاوزه فعاتبه في ذلك صفوان فقال : والله ما رأيته أحلف بالله إنه منا ممنوع فخرجنا أربعة فتعاهدنا وتعاقدنا على قتله فلم نخلص إلى ذلك
ولما مص مالك أبو أبي سعيد الخدري جرح رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى أنقاه قال له : مجه قال : والله لا أمجه أبدا ثم أدبر فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ من أراد أن ينظر الى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا ]
قال الزهري وعاصم بن عمر ومحمد بن يحيى بن حبان وغيرهم : كان يوم أحد يوم بلاء وتمحيص اختبر الله عز و جل به المؤمنين وأظهر به المنافقين ممن كان يظهر الإسلام بلسانه وهو مستخف بالكفر فأكرم الله فيه من أراد كرامته بالشهادة من أهل ولايته فكان مما نزل من القرآن في يوم أحد ستون آية من آل عمران أولها : { وإذ غدوت من أهلك تبوء المؤمنين مقاعد للقتال } ( آل عمران : 121 ) إلى آخر القصة (3/172)
فصل
فيما اشتملت عليه هذه الغزاة من الأحكام والفقه
منها : أن الجهاد يلزم بالشروع فيه حتى إن من لبس لأمته وشرع في أسبابه وتأهب للخروج ليس له أن يرجع عن الخروج حتى يقاتل عدوه
ومنها : أنه لا يجب على المسلمين إذا طرقهم عدوهم في ديارهم الخروج إليه بل يجوز لهم أن يلزموا ديارهم ويقاتلوهم فيها إذا كان ذلك أنصر لهم على عدوهم كما أشار به رسول الله صلى الله عليه و سلم عليهم يوم أحد
ومنها : جواز سلوك الإمام بالعسكر في بعض أملاك رعيته إذا صادف ذلك طريقه وإن لم يرض المالك
ومنها : أنه لا يأذن لمن لا يطيق القتال من الصبيان غير البالغين بل يردهم إذا خرجوا كما رد رسول الله صلى الله عليه و سلم ابن عمر ومن معه
ومنها : جواز الغزو بالنساء والاستعانة بهن في الجهاد
ومنها : جواز الانغماس في العدو كما انغمس أنس بن النضر وغيره
ومنها : أن الإمام إذا أصابته جراحة صلى بهم قاعدا وصلوا وراءه قعودا كما فعل رسول الله صلى الله عليه و سلم في هذه الغزوة واستمرت على ذلك سنته إلا حين وفاته
ومنها : جواز دعاء الرجل أن يقتل في سبيل الله وتمنيه ذلك وليس هذا من تمني الموت المنهي عنه كما قال عبد الله بن جحش : اللهم لقني من المشركين رجلا عظيما كفره شديدا حرده فأقاتله فيقتلني فيك ويسلبني ثم يجدع أنفي وأذني فإذا لقيتك فقلت : يا عبد الله بن جحش فيم جدعت ؟ قلت : فيك يارب
ومنها : أن المسلم إذا قتل نفسه فهو من أهل النار لقوله صلى الله عليه و سلم في قزمان الذي أبلى يوم أحد بلاء شديدا فلما اشتدت به الجراح نحر نفسه فقال صلى الله عليه و سلم : [ هو من أهل النار ]
ومنها : أن السنة في الشهيد أنه لا يغسل ولا يصلى عليه ولا يكفن في غير ثيابه بل يدفن فيها بدمه وكلومه إلا أن يسلبها فيكفن في غيرها
ومنها : أنه إذا كان جنبا غسل كما غسلت الملائكة حنظلة بن أبي عامر
ومنها : أن السنة في الشهداء أن يدفنوا في مصارعهم ولا ينقلوا إلى مكان آخر فإن قوما من الصحابة نقلوا قتلاهم إلى المدينة فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه و سلم بالأمر برد القتلى إلى مصارعهم قال جابر : بين أنا في النظارة إذ جاءت عمتى بأبي وخالي عادلتهما على ناضح فدخلت بهما المدينة لندفنهما في مقابرنا وجاء رجل ينادي : ألا إن رسول الله صلى الله عليه و سلم يأمركم أن ترجعوا بالقتلى فتدفنوها في مصارعها حيث قتلت قال : فرجعنا بهما فدفناهما في القتلى حيث قتلا فبينا أنا في خلافة معاوية بن أبي سفيان إذ جاءني رجل فقال : يا جابر ! والله لقد أثار أباك عمال معاوية فبدا فخرج طائفة منه قال : فأتيته فوجدته على النحو الذي تركته لم يتغير منه شئ قال : فواريته فصارت سنة في الشهداء أن يدفنوا في مصارعهم
ومنها : جواز دفن الرجلين أو الثلاثة في القبر الواحد فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يدفن الرجلين والثلاثة في القبر ويقول : [ أيهم أكثر أخذا للقرآن فإذا أشاروا إلى رجل قدمه في اللحد ]
ودفن عبد الله بن عمرو بن حرام وعمرو بن الجموح في قبر واحد لما كان بينهما من المحبة فقال : [ ادفنوا هذين المتحابين في الدنيا في قبر واحد ] ثم حفر عنهما بعد زمن طويل ويد عبد الله بن عمرو بن حرام على جرحه كما وضعها حين جرح فأميطت يده عن جرحه فانبعث الدم فردت إلى مكانها فسكن الدم
وقال جابر : رأيت أبي في حفرته حين حفر عليه كأنه نائم وما تغير من حاله قليل ولا كثير وقيل له : أفرأيت أكفانه ؟ فقال : إنما دفن في نمرة خمر وجهه وعلى رجليه الحرمل فوجدنا النمرة كما هي والحرمل على رجليه على هيئته وبين ذلك ست وأربعون سنة
وقد اختلف الفقهاء فى أمر النبى صلى الله عليه و سلم أن يدفن شهداء أحد في ثيابهم هل هو على وجه الاستحباب والأولوية أو على وجه الوجوب ؟ على قولين : الثانى أظهرهما وهو المعروف عن أبي حنيفة والأول : هو المعروف عن أصحاب الشافعي وأحمد فإن قيل : فقد روى يعقوب بن شيبة وغيره بإسناد جيد أن صفية أرسلت إلى النبي صلى الله عليه و سلم ثوبين ليكفن فيهما حمزة فكفنه في أحدهما وكفن في الآخر رجلا آخر قيل : حمزة كان الكفار قد سلبوه ومثلوا به وبقروا عن بطنه واستخرجوا كبده فلذلك كفن في كفن آخر وهذا القول في الضعف نظير قول من قال : يغسل الشهيد وسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم أولى بالاتباع
ومنها : أن شهيد المعركة لا يصلى عليه لأن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يصل على شهداء أحد ولم يعرف عنه أنه صلى على أحد ممن استشهد معه في مغازيه وكذلك خلفاؤه الراشدون ونوابهم من بعدهم
فإن قيل : فقد ثبت في الصحيحين من حديث عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه و سلم خرج يوما فصلى على أهل أحد صلاته على الميت ثم انصرف إلى المنبر
وقال ابن عباس : صلى رسول الله صلى الله عليه و سلم على قتلى أحد
قيل : أما صلاته عليهم فكانت بعد ثمان سنين من قتلهم قرب موته كالمودع لهم ويشبه هذا خروجه إلى البقيع قبل موته يستغفر لهم كالمودع للأحياء والأموات فهذه كانت توديعا منه لهم لا أنها سنة الصلاة على الميت ولو كان ذلك كذلك لم يؤخرها ثمان سنين لا سيما عند من يقول : لا يصلى على القبر أو يصلى عليه إلى شهر
ومنها : أن من عذره الله في التخلف عن الجهاد لمرض أو عرج يجوز له الخروج إليه وإن لم يجب عليه كما خرج عمرو بن الجموح وهو أعرج
ومنها : أن المسلمين إذا قتلوا واحدا منهم فى الجهاد يظنونه كافرا فعلى الإمام ديته من بيت المال لأن رسول الله صلى الله عليه و سلم أراد أن يدي اليمان أبا حذيفة فامتنع حذيفة من أخذ الدية وتصدق بها على المسلمين (3/189)
فصل
في ذكر بعض الحكم والغايات المحمودة التي كانت في وقعة أحد
وقد أشار الله - سبحانه وتعالى - إلى أمهاتها وأصولها في سورة ( آل عمران ) حيث افتتح القصة بقوله : { وإذ غدوت من أهلك تبوء المؤمنين مقاعد للقتال } ( آل عمران : 121 ) إلى تمام ستين آية
فمنها : تعريفهم سوء عاقبة المعصية والفشل والتنازع وأن الذي أصابهم إنما هو بشؤم ذلك كما قال تعالى : { ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم } ( آل عمران : 152 )
فلما ذاقوا عاقبة معصيتهم للرسول وتنازعهم وفشلهم كانوا بعد ذلك أشد حذرا ويقظة وتحرزا من أسباب الخذلان
ومنها : أن حكمة الله وسنته في رسله وأتباعهم جرت بأن يدالوا مرة ويدال عليهم أخرى لكن تكون لهم العاقبة فإنهم لو انتصروا دائما دخل معهم المؤمنون وغيرهم ولم يتميز الصادق من غيره ولو انتصر عليهم دائما لم يحصل المقصود من البعثة والرسالة فاقتضت حكمة الله أن جمع لهم بين الأمرين ليتميز من يتبعهم ويطيعهم للحق وما جاؤوا به ممن يتبعهم على الظهور والغلبة خاصة
ومنها : أن هذا من أعلام الرسل كما قال هرقل لأبي سفيان : هل قاتلتموه ؟ قال : نعم قال : كيف الحرب بينكم وبينه ؟ قال : سجال يدال علينا المرة وندال عليه الأخرى قال : كذلك الرسل تبتلى ثم تكون لهم العاقبة
ومنها : أن يتميز المؤمن الصادق من المنافق الكاذب فإن المسلمين لما أظهرهم الله على أعدائهم يوم بدر وطار لهم الصيت دخل معهم في الإسلام ظاهرا من ليس معهم فيه باطنا فاقتضت حكمة الله عز و جل أن سبب لعباده محنة ميزت بين المؤمن والمنافق فأطلع المنافقون رؤوسهم في هذه الغزوة وتكلموا بما كانوا يكتمونه وظهرت مخبآتهم وعاد تلويحهم تصريحا وانقسم الناس إلى كافر ومؤمن ومنافق انقساما ظاهرا وعرف المؤمنون أن لهم عدوا في نفس دورهم وهم معهم لا يفارقونهم فاستعدوا لهم وتحرزوا منهم قال الله تعالى : { ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء } ( آل عمران : 179 ) أي : ما كان الله ليذركم على ما أنتم عليه من التباس المؤمنين بالمنافقين حتى يميز أهل الإيمان من أهل النفاق كما ميزهم بالمحنة يوم أحد وما كان الله ليطلعكم على الغيب الذي يميز به بين هؤلاء وهؤلاء فإنهم متميزون في غيبه وعلمه وهو سبحانه يريد أن يميزهم تمييزا مشهودا فيقع معلومه الذي هو غيب شهادة وقوله : { ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء } استدراك لما نفاه من اطلاع خلقه على الغيب سوى الرسل فإنه يطلعهم على ما يشاء من غيبه كما قال : { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا * إلا من ارتضى من رسول } ( الجن : 27 ) فحظكم أنتم وسعادتكم في الإيمان بالغيب الذي يطلع عليه رسله فإن آمنتم به وأيقنتم فلكم أعظم الأجر والكرامة
ومنها : استخراج عبودية أوليائه وحزبه في السراء والضراء وفيما يحبون وما يكرهون وفي حال ظفرهم وظفر أعدائهم بهم فإذا ثبتوا على الطاعة والعبودية فيما يحبون وما يكرهون فهم عبيده حقا وليسوا كمن يعبد الله على حرف واحد من السراء والنعمة والعافية
ومنها : أنه سبحانه لو نصرهم دائما وأظفرهم بعدوهم في كل موطن وجعل لهم التمكين والقهر لأعدائهم أبدا لطغت نفوسهم وشمخت وارتفعت فلو بسط لهم النصر والظفر لكانوا في الحال التي يكونون فيها لو بسط لهم الرزق فلا يصلح عباده إلا السراء والضراء والشدة والرخاء والقبض والبسط فهو المدبر لأمر عباده كما يليق بحكمته إنه بهم خبير بصير
ومنها : أنه إذا امتحنهم بالغلبة والكسرة والهزيمة ذلوا وانكسروا وخضعوا فاستوجبوا منه العز والنصر فإن خلعة النصر إنما تكون مع ولاية الذل والانكسار قال تعالى : { ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة } ( آل عمران : 123 ) وقال : { ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا } ( التوبة : 25 ) فهو - سبحانه - إذا أراد أن يعز عبده ويجبره وينصره كسره أولا ويكون جبره له ونصره على مقدار ذله وانكساره
ومنها : أنه سبحانه هيأ لعباده المؤمنين منازل في دار كرامته لم تبلغها أعمالهم ولم يكونوا بالغيها إلا بالبلاء والمحنة فقيض لهم الأسباب التى توصلهم إليها من ابتلائه وامتحانه كما وفقهم للأعمال الصالحة التي هى من جملة أسباب وصولهم إليها
ومنها : أن النفوس تكتسب من العافية الدائمة والنصر والغنى طغيانا وركونا إلى العاجلة وذلك مرض يعوقها عن جدها فى سيرها إلى الله والدار الآخرة فإذا أراد بها ربها ومالكها وراحمها كرامته قيض لها من الابتلاء والامتحان ما يكون دواء لذلك المرض العائق عن السير الحثيث إليه فيكون ذلك البلاء والمحنة بمنزلة الطبيب يسقي العليل الدواء الكريه ويقطع منه العروق المؤلمة لاستخراح الأدواء منه ولو تركه لغلبته الأدواء حتى يكون فيها هلاكه
ومنها : أن الشهادة عنده من أعلى مراتب أوليائه والشهداء هم خواصه والمقربون من عباده وليس بعد درجة الصديقية إلا الشهادة وهو سبحانه يحب أن يتخذ من عباده شهداء تراق دماؤهم في محبته ومرضاته ويؤثرون رضاه ومحابه على نفوسهم ولا سبيل إلى نيل هذه الدرجة إلا بتقدير الأسباب المفضية إليها من تسليط العدو
ومنها : أن الله سبحانه إذا أراد أن يهلك أعداءه ويمحقهم قيض لهم الأسباب التي يستوجبون بها هلاكهم ومحقهم ومن أعظمها بعد كفرهم بغيهم وطغيانهم ومبالغتهم في أذى أوليائه ومحاربتهم وقتالهم والتسلط عليهم فيتمحص بذلك أولياؤه من ذنوبهم وعيوبهم ويزداد بذلك أعداؤه من أسباب محقهم وهلاكهم وقد ذكر سبحانه وتعالى ذلك في قوله : { ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين * إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين * وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين } ( آل عمران : 139 ، 140 ) فجمع لهم في هذا الخطاب بين تشجيعهم وتقوية نفوسهم وإحياء عزائمهم وهممهم وبين حسن التسلية وذكر الحكم الباهرة التي اقتضت إدالة الكفار عليهم فقال : { إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله } ( آل عمران : 140 ) فقد استويتم في القرح والألم وتباينتم في الرجاء والثواب كما قال : { إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون } ( النساء : 104 ) فما بالكم تهنون وتضعفون عند القرح والألم فقد أصابهم ذلك في سبيل الشيطان وأنتم أصبتم في سبيلي وابتغاء مرضاتي
ثم أخبر أنه يداول أيام هذه الحياة الدنيا بين الناس وأنها عرض حاضر يقسمها دولا بين أوليائه وأعدائه بخلاف الآخرة فإن عزها ونصرها ورجاءها خالص للذين آمنوا
ثم ذكر حكمة أخرى وهي أن يتميز المؤمنون من المنافقين فيعلمهم علم رؤية ومشاهدة بعد أن كانوا معلومين في غيبه وذلك العلم الغيبي لا يترتب عليه ثواب ولا عقاب وإنما يترتب الثواب والعقاب على المعلوم إذا صار مشاهدا واقعا في الحس
ثم ذكر حكمة أخرى وهي اتخاذه سبحانه منهم شهداء فإنه يحب الشهداء من عباده وقد أعد لهم أعلى المنازل وأفضلها وقد اتخذهم لنفسه فلا بد أن ينيلهم درجة الشهادة وقوله : { والله لا يحب الظالمين } ( آل عمران : 139 ) تنبيه لطيف الموقع جدا على كراهته وبغضه للمنافقين الذين انخذلوا عن نبيه يوم أحد فلم يشهدوه ولم يتخذ منهم شهداء لأنه لم يحبهم فأركسهم وردهم ليحرمهم ما خص به المؤمنين في ذلك اليوم وما أعطاه من استشهد منهم فثبط هؤلاء الظالمين عن الأسباب التي وفق لها أولياءه وحزبه
ثم ذكر حكمة أخرى فيما أصابهم ذلك اليوم وهو تمحيص الذين آمنوا وهو تنقيتهم وتخليصهم من الذنوب ومن آفات النفوس وأيضا فإنه خلصهم ومحصهم من المنافقين فتميزوا منهم فحصل لهم تمحيصان : تمحيص من نفوسهم وتمحيص ممن كان يظهر أنه منهم وهو عدوهم
ثم ذكر حكمة أخرى وهي محق الكافرين بطغيانهم وبغيهم وعدوانهم ثم أنكر عليهم حسبانهم وظنهم أن يدخلوا الجنة بدون الجهاد في سبيله والصبر على أذى أعدائه وإن هذا ممتنع بحيث ينكر على من ظنه وحسبه فقال : { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين } ( آل عمران : 142 ) أي : ولما يقع ذلك منكم فيعلمه فإنه لو وقع لعلمه فجازاكم عليه بالجنة فيكون الجزاء على الواقع المعلوم لا على مجرد العلم فإن الله لا يجزي العبد على مجرد علمه فيه دون أن يقع معلومه ثم وبخهم على هزيمتهم من أمر كانوا يتمنونه ويودون لقاءه فقال : { ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون } ( آل عمران : 143 )
قال ابن عباس : ولما أخبرهم الله تعالى على لسان نبيه بما فعل بشهداء بدر من الكرامة رغبوا في الشهادة فتمنوا قتالا يستشهدون فيه فيلحقون إخوانهم فأراهم الله ذلك يوم أحد وسببه لهم فلم يلبثوا أن انهزموا إلا من شاء الله منهم فأنزل الله تعالى : { ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون }
ومنها : أن وقعة أحد كانت مقدمة وإرهاصا بين يدي موت رسول الله صلى الله عليه و سلم فثبتهم ووبخهم على انقلابهم على أعقابهم أن مات رسول الله صلى الله عليه و سلم أو قتل بل الواجب له عليهم أن يثبتوا على دينه وتوحيده ويموتوا عليه أو يقتلوا فإنهم إنما يعبدون رب محمد وهو حي لا يموت فلو مات محمد أو قتل لا ينبغي لهم أن يصرفهم ذلك عن دينه وما جاء به فكل نفس ذائقة الموت وما بعث محمد صلى الله عليه و سلم ليخلد لا هو ولا هم بل ليموتوا على الإسلام والتوحيد فإن الموت لا بد منه سواء مات رسول الله صلى الله عليه و سلم أو بقي ولهذا وبخهم على رجوع من رجع منهم عن دينه لما صرخ الشيطان : إن محمدا قد قتل فقال : { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين } ( آل عمران : 144 ) والشاكرون : هم الذين عرفوا قدر النعمة فثبتوا عليها حتى ماتوا أو قتلوا فظهر أثر هذا العتاب وحكم هذا الخطاب يوم مات رسول الله صلى الله عليه و سلم وارتد من ارتد على عقبيه وثبت الشاكرون على دينهم فنصرهم الله وأعزهم وظفرهم بأعدائهم وجعل العاقبة لهم ثم أخبر سبحانه أنه جعل لكل نفس أجلا لا بد أن تستوفيه ثم تلحق به فيرد الناس كلهم حوض المنايا موردا واحدا وإن تنوعت أسبابه ويصدرون عن موقف القيامة مصادر شتى فريق في الجنة وفريق في السعير ثم أخبر سبحانه أن جماعة كثيرة من أنبيائه قتلوا وقتل معهم أتباع لهم كثيرون فما وهن من بقي منهم لما أصابهم في سبيله وما ضعفوا وما استكانوا وما وهنوا عند القتل ولا ضعفوا ولا استكانوا بل تلقوا الشهادة بالقوة والعزيمة والإقدام فلم يستشهدوا مدبرين مستكينين أذلة بل استشهدوا أعزة كراما مقبلين غير مدبرين والصحيح : أن الآية تتناول الفريقين كليهما
ثم أخبر سبحانه عما استنصرت به الأنبياء وأممهم على قومهم من اعترافهم وتوبتهم واستغفارهم وسؤالهم ربهم أن يثبت أقدامهم وأن ينصرهم على أعدائهم فقال : { وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين * فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين } ( آل عمران : 147 ) لما علم القوم أن العدو إنما يدال عليهم بذنوبهم وأن الشيطان إنما يستزلهم ويهزمهم بها وأنها نوعان : تقصير في حق أو تجاوز لحد وأن النصرة منوطة بالطاعة قالوا : ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا ثم علموا أن ربهم تبارك وتعالى إن لم يثبت أقدامهم وينصرهم لم يقدروا هم على تثبيت أقدام أنفسهم ونصرها على أعدائهم فسألوه ما يعلمون أنه بيده دونهم وأنه إن لم يثبت أقدامهم وينصرهم لم يثبتوا ولم ينتصروا فوفوا المقامين حقهما : مقام المقتضي وهو التوحيد والالتجاء إليه سبحانه ومقام إزالة المانع من النصرة وهو الذنوب والإسراف ثم حذرهم سبحانه من طاعة عدوهم وأخبر أنهم إن أطاعوهم خسروا الدنيا والآخرة وفى ذلك تعريض بالمنافقين الذين أطاعوا المشركين لما انتصروا وظفروا يوم أحد
ثم أخبر سبحانه أنه مولى المؤمنين وهو خير الناصرين فمن والاه فهو المنصور
ثم أخبرهم أنه سيلقي في قلوب أعدائهم الرعب الذي يمنعهم من الهجوم عليهم والإقدام على حربهم وأنه يؤيد حزبه بجند من الرعب ينتصرون به على أعدائهم وذلك الرعب بسبب ما في قلوبهم من الشرك بالله وعلى قدر الشرك يكون الرعب فالمشرك بالله أشد شئ خوفا ورعبا والذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بالشرك لهم الأمن والهدى والفلاح والمشرك له الخوف والضلال والشقاء
ثم أخبرهم أنه صدقهم وعده في نصرتهم على عدوهم وهو الصادق الوعد وأنهم لو استمروا على الطاعة ولزوم أمر الرسول لاستمرت نصرتهم ولكن انخلعوا عن الطاعة وفارقوا مركزهم فانخلعوا عن عصمة الطاعة ففارقتهم النصرة فصرفهم عن عدوهم عقوبة وابتلاء وتعريفا لهم بسوء عواقب المعصية وحسن عاقبة الطاعة
ثم أخبر أنه عفا عنهم بعد ذلك كله وأنه ذو فضل على عباده المؤمنين قيل للحسن : كيف يعفو عنهم وقد سلط عليهم أعداءهم حتى قتلوا منهم من قتلوا ومثلوا بهم ونالوا منهم ما نالوه ؟ فقال : لو لا عفوه عنهم لاستأصلهم ولكن بعفوه عنهم دفع عنهم عدوهم بعد أن كانوا مجمعين على استئصالهم
ثم ذكرهم بحالهم وقت الفرار مصعدين أي : جادين في الهرب والذهاب في الأرض أو صاعدين في الجبل لا يلوون على أحد من نبيهم ولا أصحابهم والرسول يدعوهم في أخراهم : إلي عباد الله أنا رسول الله فأثابهم بهذا الهرب والفرار غما بعد غم : غم الهزيمة والكسرة وغم صرخة الشيطان فيهم بأن محمدا قد قتل
وقيل : جازاكم غما بما غممتم رسوله بفراركم عنه وأسلمتموه إلى عدوه فالغم الذي حصل لكم جزاء على الغم الذي أوقعتموه بنبيه والقول الأول أظهر لوجوه :
أحدها : أن قوله : { لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم } تنبيه على حكمة هذا الغم بعد الغم وهو أن ينسيهم الحزن على ما فاتهم من الظفر وعلى ما أصابهم من الهزيمة والجراح فنسوا بذلك السبب وهذا إنما يحصل بالغم الذي يعقبه غم آخر
الثاني : أنه مطابق للواقع فإنه حصل لهم غم فوات الغنيمة ثم أعقبه غم الهزيمة ثم غم الجراح التي أصابتهم ثم غم القتل ثم غم سماعهم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد قتل ثم غم ظهور أعدائهم على الجبل فوقهم وليس المراد غمين اثنين خاصة بل غما متتابعا لتمام الابتلاء والامتحان
الثالث : أن قوله : بغم من تمام الثواب لا أنه سبب جزاء الثواب والمعنى : أثابكم غما متصلا بغم جزاء على ما وقع منهم من الهروب وإسلامهم نبيهم صلى الله عليه و سلم وأصحابه وترك استجابتهم له وهو يدعوهم ومخالفتهم له في لزوم مركزهم وتنازعهم في الأمر وفشلهم وكل واحد من هذه الأمور يوجب غما يخصه فترادفت عليهم الغموم كما ترادفت منهم سبابها وموجباتها ولولا أن تداركهم بعفوه لكان أمرا آخر ومن لطفه بهم ورأفته ورحمته أن هذه الأمور التي صدرت منهم كانت من موجبات الطباع وهي من بقايا النفوس التي تمنع من النصرة المستقرة فقيض لهم بلطفه أسبابا أخرجها من القوة إلى الفعل فترتب عليها آثارها المكروهة فعلموا حينئذ أن التوبة منها والاحتراز من أمثالها ودفعها بأضدادها أمر متعين لا يتم لهم الفلاح والنصرة الدائمة المستقرة إلا به فكانوا أشد حذرا بعدها ومعرفة بالأبواب التي دخل عليهم منها
وربما صحت الأجسام بالعلل ثم إنه تداركهم سبحانه برحمته وخفف عنهم ذلك الغم وغيبه عنهم بالنعاس الذي أنزله عليهم أمنا منه ورحمة والنعاس في الحرب علامة النصرة والأمن كما أنزله عليهم يوم بدر وأخبر أن من لم يصبه ذلك النعاس فهو ممن أهمته نفسه لا دينه ولا نبيه ولا أصحابه وأنهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية وقد فسر هذا الظن الذي لا يليق بالله بأنه سبحانه لا ينصر رسوله وأن أمره سيضمحل وأنه يسلمه للقتل وقد فسر بظنهم أن ما أصابهم لم يكن بقضائه وقدره ولا حكمة له فيه ففسر بإنكار الحكمة وإنكار القدر وإنكار أن يتم أمر رسوله ويظهره على الدين كله وهذا هو ظن السوء الذي ظنه المنافقون والمشركون به سبحانه وتعالى في ( سورة الفتح ) حيث يقول : { ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا } ( الفتح : 6 ) وإنما كان هذا ظن السوء وظن الجاهلية المنسوب إلى أهل الجهل وظن غير الحق لأنه ظن غير ما يليق بأسمائه الحسنى وصفاته العليا وذاته المبرأة من كل عيب وسوء بخلاف ما يليق بحكمته وحمده وتفرده بالربوبية والإلهية وما يليق بوعده الصادق الذي لا يخلفه وبكلمته التي سبقت لرسله أنه ينصرهم ولا يخذلهم ولجنده بأنهم هم الغالبون فمن ظن بأنه لا ينصر رسوله ولا يتم أمره ولا يؤيده ويؤيد حزبه ويعليهم ويظفرهم بأعدائه ويظهرهم عليهم وأنه لا ينصر دينه وكتابه وأنه يديل الشرك على التوحيد والباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها التوحيد والحق اضمحلالا لا يقوم بعده أبدا فقد ظن بالله ظن السوء ونسبه إلى خلاف ما يليق بكماله وجلاله وصفاته ونعوته فإن حمده وعزته وحكمته وإلهيته تأبى ذلك وتأبى أن يذل حزبه وجنده وأن تكون النصرة المستقرة والظفر الدائم لأعدائه المشركين به العادلين به فمن ظن به ذلك فما عرفه ولا عرف أسماءه ولا عرف صفاته وكماله وكذلك من أنكر أن يكون ذلك بقضائه وقدره فما عرفه ولا عرف ربوبيته وملكه وعظمته وكذلك من أنكر أن يكون قدر ما قدره من ذلك وغيره لحكمة بالغة وغاية محمودة يستحق الحمد عليها وأن ذلك إنما صدر عن مشيئة مجردة عن حكمة وغاية مطلوبة هي أحب إليه من فوتها وأن تلك الأسباب المكروهة المفضية إليها لا يخرج تقديرها عن الحكمة لإفضائها إلى ما يحب وإن كانت مكروهة له فما قدرها سدى ولا أنشأها عبثا ولا خلقها باطلا { ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار } ( ص : 27 ) وأكثر الناس يظنون بالله غير الحق ظن السوء فيما يختص بهم وفيما يفعله بغيرهم ولا يسلم عن ذلك إلا من عرف الله وعرف أسمائه وصفاته وعرف موجب حمده وحكمته فمن قنط من رحمته وأيس من روحه فقد ظن به ظن السوء
ومن جوز عليه أن يعذب أولياءه مع إحسانهم وإخلاصهم ويسوي بينهم وبين أعدائه فقد ظن به ظن السوء
ومن ظن به أن يترك خلقه سدى معطلين عن الأمر والنهي ولا يرسل إليهم رسله ولا ينزل عليهم كتبه بل يتركهم هملا كالأنعام فقد ظن به ظن السوء
ومن ظن أنه لن يجمع عبيده بعد موتهم للثواب والعقاب فى دار يجازي المحسن فيها بإحسانه والمسيء بإساءته ويبين لخلقه حقيقة ما اختلفوا فيه ويظهر للعالمين كلهم صدقه وصدق رسله وأن أعداءه كانوا هم الكاذبين فقد ظن به ظن السوء
ومن ظن أنه يضيع عليه عمله الصالح الذي عمله خالصا لوجهه الكريم على امتثال أمره ويبطله عليه بلا سبب من العبد أو أنه يعاقبه بما لا صنع فيه ولا اختيار له ولا قدرة ولا إرادة في حصوله بل يعاقبه على فعله هو سبحانه به أو ظن به أنه يجوز عليه أن يؤيد أعداءه الكاذبين عليه بالمعجزات التي يؤيد بها أنبياءه ورسله ويجريها على أيديهم يضلون بها عباده وأنه يحسن منه كل شئ حتى تعذيب من أفنى عمره في طاعته فيخلده في الجحيم أسفل السافلين وينعم من استنفد عمره في عداوته وعداوة رسله ودينه فيرفعه إلى أعلى عليين وكلا الأمرين عنده في الحسن سواء ولا يعرف امتناع أحدهما ووقوع الآخر إلا بخبر صادق وإلا فالعقل لا يقضي بقبح أحدههما وحسن الآخر فقد ظن به ظن السوء
ومن ظن به أنه أخبر عن نفسه وصفاته وأفعاله بما ظاهره باطل وتشبيه وتمثيل وترك الحق لم يخبر به وإنما رمز إليه رموزا بعيدة وأشار إليه إشارات ملغزة لم يصرح به وصرح دائما بالتشبيه والتمثيل والباطل وأراد من خلقه أن يتعبوا أذهانهم وقواهم وأفكارهم في تحريف كلامه عن مواضعه وتأويله على غير تأويله ويتطلبوا له وجوه الاحتمالات المستكرهة والتأويلات التي هي بالألغاز والأحاجي أشبه منها بالكشف والبيان وأحالهم في معرفة أسمائه وصفاته على عقولهم وآرائهم لا على كتابه بل أراد منهم أن لا يحملوا كلامه على ما يعرفون من خطابهم ولغتهم مع قدرته على أن يصرح لهم بالحق الذي ينبغي التصريح به ويريحهم من الألفاظ التي توقعهم في اعتقاد الباطل فلم يفعل بل سلك بهم خلاف طريق الهدى والبيان فقد ظن به ظن السوء فإنه إن قال : إنه غير قادر على التعبير عن الحق باللفظ الصريح الذي عبر به هو وسلفه فقد ظن بقدرته العجز وإن قال : إنه قادر ولم يبين وعدل عن البيان وعن التصريح بالحق إلى ما يوهم بل يوقع في الباطل المحال والاعتقاد الفاسد فقد ظن بحكمته ورحمته ظن السوء وظن أنه هو وسلفه عبروا عن الحق بصريحه دون الله ورسوله وأن الهدى والحق في كلامهم وعباراتهم وأما كلام الله فإنما يؤخذ من ظاهره التشبيه والتمثيل والضلال وظاهر كلام المتهوكين الحيارى هو الهدى والحق وهذا من أسوأ الظن بالله فكل هؤلاء من الظانين بالله ظن السوء ومن الظانين به غير الحق ظن الجاهلية
ومن ظن به أن يكون في ملكه ما لا يشاء ولا يقدرعلى إيجاده وتكوينه فقد ظن به ظن السوء
ومن ظن به أنه كان معطلا من الأزل إلى الأبد عن أن يفعل ولا يوصف حينئذ بالقدرة على الفعل ثم صار قادرا عليه بعد أن لم يكن قادرا فقد ظن به ظن السوء
ومن ظن به أنه لا يسمع ولا يبصر ولا يعلم الموجودات ولا عدد السماوات والأرض ولا النجوم ولا بني آدم وحركاتهم وأفعالهم ولا يعلم شيئا من الموجودات في الأعيان فقد ظن به ظن السوء
ومن ظن أنه لا سمع له ولا بصر ولا علم له ولا إرادة ولا كلام يقول به وأنه لم يكلم أحدا من الخلق ولا يتكلم أبدا ولا قال ولا يقول ولا له أمر ولا نهي يقوم به فقد ظن به ظن السوء
ومن ظن به أنه فوق سماواته على عرشه بائنا من خلقه وأن نسبة ذاته تعالى إلى عرشه كنسبتها إلى أسفل السافلين وإلى الأمكنة التي يرغب عن ذكرها وأنه أسفل كما أنه أعلى فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه
ومن ظن به أنه ليس يحب الكفر والفسوق والعصيان ويحب الفساد كما يحب الإيمان والبر والطاعة والإصلاح فقد ظن به ظن السوء
ومن ظن به أنه لا يحب ولا يرضى ولا يغضب ولا يسخط ولا يوالي ولا يعادي ولا يقرب من أحد من خلقه ولا يقرب منه أحد وأن ذوات الشياطين في القرب من ذاته كذوات الملائكة المقربين وأوليائه المفلحين فقد ظن به ظن السوء
ومن ظن أنه يسوي بين المتضادين أو يفرق بين المتساويين من كل وجه أو يحبط طاعات العمر المديد الخالصة الصواب بكبيرة واحدة تكون بعدها فيخلد فاعل تلك الطاعات في النار أبد الآبدين بتلك الكبيرة ويحبط بها جميع طاعاته ويخلده في العذاب كما يخلد من لا يؤمن به طرفة عين وقد استنفد ساعات عمره في مساخطه ومعاداة رسله ودينه فقد ظن به ظن السوء
وبالجملة فمن ظن به خلاف ما وصف به نفسه ووصفه به رسله أو عطل حقائق ما وصف به نفسه ووصفته به رسله فقد ظن به ظن السوء
ومن ظن أن له ولدا أو شريكا أو أن أحدا يشفع عنده بدون إذنه أو أن بينه وبين خلقه وسائط يرفعون حوائجهم إليه أو أنه نصب لعباده أولياء من دونه يتقربون بهم إليه ويتوسلون بهم إليه ويجعلونهم وسائط بينهم وبينه فيدعونهم ويحبونهم كحبه ويخافونهم ويرجونهم فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه
ومن ظن به أنه ينال ما عنده بمعصيته ومخالفته كما يناله بطاعته والتقرب إليه فقد ظن به خلاف حكمته وخلاف موجب أسمائه وصفاته وهو من ظن السوء
ومن ظن به أنه إذا ترك لأجله شيئا لم يعوضه خيرا منه أو من فعل لأجله شيئا لم يعطه أفضل منه فقد ظن به ظن السوء
ومن ظن به أنه يغضب على عبده ويعاقبه ويحرمه بغير جرم ولا سبب من العبد إلا بمجرد المشيئة ومحض الإرادة فقد ظن به ظن السوء
ومن ظن به أنه إذا صدقه في الرغبة والرهبة وتضرع إليه وسأله واستعان به وتوكل عليه أنه يخيبه ولا يعطيه ما سأله فقد ظن به ظن السوء وظن به خلاف ما هو أهله
ومن ظن به أنه يثيبه إذا عصاه بما يثيبه به إذا أطاعه وسأله ذلك فى دعائه فقد ظن به خلاف ما تقتضيه حكمته وحمده وخلاف ما هو أهله وما لا يفعله
ومن ظن به أنه إذا أغضبه وأسخطه وأوضع في معاصيه ثم اتخذ من دونه وليا ودعا من دونه ملكا أو بشرا حيا أو ميتا يرجو بذلك أن ينفعه عند ربه ويخلصه من عذابه فقد ظن به ظن السوء وذلك زيادة فى بعده من الله وفي عذابه
ومن ظن به أنه يسلط على رسوله محمد صلى الله عليه و سلم أعداءه تسليطا مستقرا دائما في حياته وفي مماته وابتلاه بهم لا يفارقونه فلما مات استبدوا بالأمر دون وصية وظلموا أهل بيته وسلبوهم حقهم وأذلوهم وكانت العزة والغلبة والقهر لأعدائه وأعدائهم دائما من غير جرم ولا ذنب لأوليائه وأهل الحق وهو يرى قهرهم لهم وغصبهم إياهم حقهم وتبديلهم دين نبيهم وهو يقدر على نصرة أوليائه وحزبه وجنده ولا ينصرهم ولا يديلهم بل يديل أعداءهم عليهم أبدا أو أنه لا يقدر على ذلك بل حصل هذا بغير قدرته ولا مشيئته ثم جعل المبدلين لدينه مضاجعيه في حفرته تسلم أمته عليه وعليهم كل وقت كما تظنه الرافضة فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه سواء قالوا : إنه قادر على أن ينصرهم ويجعل لهم الدولة والظفر أو أنه غير قادر على ذلك فهم قادحون في قدرته أو في حكمته وحمده وذلك من ظن السوء به ولا ريب أن الرب الذي فعل هذا بغيض إلى من ظن به ذلك غير محمود عندهم وكان الواجب أن يفعل خلاف ذلك لكن رفوا هذا الظن الفاسد بخرق أعظم منه واستجاروا من الرمضاء بالنار فقالوا : لم يكن هذا بمشيئة الله ولا له قدرة على دفعه ونصر أوليائه فإنه لا يقدر على أفعال عباده ولا هي داخلة تحت قدرته فظنوا به ظن إخوانهم المجوس والثنوية بربهم وكل مبطل وكافر ومبتدع مقهور مستذل فهو يظن بربه هذا الظن وأنه أولى بالنصر والظفر والعلو من خصومه فأكثر الخلق بل كلهم إلا من شاء الله يظنون بالله غير الحق ظن السوء فإن غالب بني آدم يعتقد أنه مبخوس الحق ناقص الحظ وأنه يستحق فوق ما أعطاه الله ولسان حاله يقول : ظلمني ربي ومنعني ما أستحقه ونفسه تشهد عليه بذلك وهو بلسانه ينكره ولا يتجاسر على التصريح به ومن فتش نفسه وتغلغل في معرفة دفائنها وطواياها رأى ذلك فيها كامنا كمون النار في الزناد فاقدح زناد من شئت ينبئك شراره عما في زناده ولو فتشت من فتشته لرأيت عنده تعتبا على القدر وملامة له واقتراحا عليه خلاف ما جرى به وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا فمستقل ومستكثر وفتش نفسك هل أنت سالم من ذلك
( فان تنج منها تنج من ذي عظيمة ... وإلا فإني لا إخالك ناجيا )
فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا الموضع وليتب إلى الله تعالى وليستغفره كل وقت من ظنه بربه ظن السوء وليظن السوء بنفسه التي هي مأوى كل سوء ومنبع كل شر المركبة على الجهل والظلم فهي أولى بظن السوء من أحكم الحاكمين وأعدل العادلين وأرحم الراحمين الغني الحميد الذي له الغنى التام والحمد التام والحكمة التامة المنزه عن كل سوء في ذاته وصفاته وأفعاله وأسمائه فذاته لها الكمال المطلق من كل وجه وصفاته كذلك وأفعاله كذلك كلها حكمة ومصلحة ورحمة وعدل وأسماؤه كلها حسنى
( فلا تظنن بربك ظن سوء ... فإن الله أولى بالجميل )
( ولا تظنن بنفسك قط خيرا ... وكيف بظالم جان جهول )
( وقل يا نفس مأوى كل سوء ... أيرجى الخير من ميت بخيل )
( وظن بنفسك السوآى تجدها ... كذاك وخيرها كالمستحيل )
( وما بك من تقى فيها وخير ... فتلك مواهب الرب الجليل )
( وليس بها ولا منها ولكن ... من الرحمن فاشكر للدليل )
والمقصود ما ساقنا إلى هذا الكلام من قوله : { وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية } ( آل عمران : 154 ) ثم أخبر عن الكلام الذي صدر عن ظنهم الباطل وهو قولهم : { هل لنا من الأمر من شيء } ( آل عمران : 154 ) وقولهم : { لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا } ( آل عمران : 154 ) فليس مقصودهم بالكلمة الأولى والثانية إثبات القدر ورد الأمر كله إلى الله ولو كان ذلك مقصودهم بالكلمة الأولى لما ذموا عليه ولما حسن الرد عليه بقوله : { قل إن الأمر كله لله } ( سورة آل عمران ) ولا كان مصدر هذا الكلام ظن الجاهلية ولهذا قال غير واحد من المفسرين : إن ظنهم الباطل ها هنا : هو التكذيب بالقدر وظنهم أن الأمر لو كان إليهم وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه تبعا لهم يسمعون منهم لما أصابهم القتل ولكان النصر والظفر لهم فأكذبهم الله عز و جل في هذا الظن الباطل الذي هو ظن الجاهلية وهو الظن المنسوب إلى أهل الجهل الذين يزعمون بعد نفاذ القضاء والقدر الذي لم يكن بد من نفاذه أنهم كانوا قادرين على دفعه وأن الأمر لو كان إليهم لما نفذ القضاء فأكذبهم الله بقوله : { قل إن الأمر كله لله } فلا يكون إلا ما سبق به قضاؤه وقدره وجرى به علمه وكتابه السابق وما شاء الله كان ولا بد شاء الناس أم أبوا وما لم يشأ لم يكن شاءه الناس أم لم يشاؤوه وما جرى عليكم من الهزيمة والقتل فبأمره الكوني الذي لا سبيل إلى دفعه سواء كان لكم من الأمر شئ أو لم يكن لكم وأنكم لو كنتم في بيوتكم وقد كتب القتل على بعضكم لخرج الذين كتب عليهم القتل من بيوتهم إلى مضاجعهم ولا بد سواء كان لهم من الأمر شئ أو لم يكن وهذا من أظهر الأشياء إبطالا لقول القدرية النفاة الذين يجوزون أن يقع ما لا يشاؤه الله وأن يشاء ما لا يقع (3/196)
فصل
ثم أخبر سبحانه عن حكمة أخرى في هذا التقدير هي ابتلاء ما في صدورهم وهو اختبار ما فيها من الإيمان والنفاق فالمؤمن لا يزداد بذلك إلا إيمانا وتسليما والمنافق ومن في قلبه مرض لا بد أن يظهر ما في قلبه على جوارحه ولسانه
ثم ذكر حكمة أخرى : وهو تمحيص ما في قلوب المؤمنين وهو تخليصه وتنقيته وتهذيبه فإن القلوب يخالطها بغلبات الطبائع وميل النفوس وحكم العادة وتزيين الشيطان واستيلاء الغفلة ما يضاد ما أودع فيها من الإيمان والإسلام والبر والتقوى فلو تركت في عافية دائمة مستمرة لم تتخلص من هذه المخالطة ولم تتمحص منه فاقتضت حكمة العزيز أن قيض لها من المحن والبلايا ما يكون كالدواء الكريه لمن عرض له داء إن لم يتداركه طبيبه بإزالته وتنقيته من جسده وإلا خيف عليه من الفساد والهلاك فكانت نعمته سبحانه عليهم بهذه الكسرة والهزيمة وقتل من قتل منهم تعادل نعمته عليهم بنصرهم وتأييدهم وظفرهم بعدوهم فله عليهم النعمة التامة في هذا وهذا
ثم أخبر سبحانه وتعالى عن تولي من تولى من المؤمنين الصادقين في ذلك اليوم وأنه بسبب كسبهم وذنوبهم فاستزلهم الشيطان بتلك الأعمال حتى تولوا فكانت أعمالهم جندا عليهم ازداد بها عدوهم قوة فإن الأعمال جند للعبد وجند عليه ولا بد فللعبد كل وقت سرية من نفسه تهزمه أو تنصره فهو يمد عدوه بأعماله من حيث يظن أنه يقاتله بها ويبعث إليه سرية تغزوه مع عدوه من حيث يظن أنه يغزو عدوه فأعمال العبد تسوقه قسرا إلى مقتضاها من الخير والشر والعبد لا يشعر أو يشعر ويتعامى ففرار الإنسان من عدوه وهو يطيقه إنما هو بجند من عمله بعثه له الشيطان واستزله به
ثم أخبر سبحانه : أنه عفا عنهم لأن هذا الفرار لم يكن عن نفاق ولا شك وإنما كان عارضا عفا الله عنه فعادت شجاعة الإيمان وثباته إلى مركزها ونصابها ثم كرر عليهم سبحانه : أن هذا الذي أصابهم إنما أتوا فيه من قبل أنفسهم وبسبب أعمالهم فقال : { أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير } ( آل عمران : 165 ) وذكر هذا بعينه فيما هو أعم من ذلك في السور المكية فقال : { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير } ( الشورى : 30 ) وقال : { ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك } ( النساء : 79 ) فالحسنة والسيئة ها هنا : النعمة والمصيبة فالنعمة من الله من بها عليك والمصيبة إنما نشأت من قبل نفسك وعملك فالأول فضله والثاني عدله والعبد يتقلب بين فضله وعدله جارعليه فضله ماض فيه حكمه عدل فيه قضاؤه وختم الآية الأولى بقوله : { إن الله على كل شيء قدير } بعد قوله : { قل هو من عند أنفسكم } إعلاما لهم بعموم قدرته مع عدله وأنه عادل قادر وفى ذلك إثبات القدر والسبب فذكر السبب وأضافه إلى نفوسهم وذكر عموم
القدرة وأضافها إلى نفسه فالأول ينفي الجبر والثاني ينفي القول بإبطال القدر فهو يشاكل قوله : { لمن شاء منكم أن يستقيم * وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين } ( التكوير : 30 )
وفي ذكر قدرته ها هنا نكتة لطيفة وهي أن هذا الأمر بيده وتحت قدرته وأنه هو الذي لو شاء لصرفه عنكم فلا تطلبوا كشف أمثاله من غيره ولا تتكلوا على سواه وكشف هذا المعنى وأوضحه كل الإيضاح بقوله : { وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله } وهو الإذن الكوني القدري لا الشرعي الديني كقوله في السحر : { وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله } ( البقرة : 102 ) ثم أخبر عن حكمة هذا التقدير وهي أن يعلم المؤمنين من المنافقين علم عيان ورؤية يتميز فيه أحد الفريقين من الآخر تمييزا ظاهرا وكان من حكمة هذا التقدير تكلم المنافقين بما في نفوسهم فسمعه المؤمنون وسمعوا رد الله عليهم وجوابه لهم وعرفوا مؤدى النفاق وما يؤول إليه وكيف يحرم صاحبه سعادة الدنيا والآخرة فيعود عليه بفساد الدنيا والآخرة فلله كم من حكمة في ضمن هذه القصة بالغة ونعمة على المؤمنين سابغة وكم فيها من تحذير وتخويف وإرشاد وتنبيه وتعريف بأسباب الخير والشر وما لهما وعاقبتهما
ثم عزى نبيه وأولياءه عمن قتل منهم في سبيله أحسن تعزية وألطفها وأدعاها إلى الرضى بما قضاه لها فقال : { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون * فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون } ( آل عمران : 169 - 170 ) فجمع لهم إلى الحياة الدائمة منزلة القرب منه وأنهم عنده وجريان الرزق المستمر عليهم وفرحهم بما آتاهم من فضله وهو فوق الرضى بل هو كمال الرضى واستبشارهم بإخوانهم الذين باجتماعهم بهم يتم سرورهم ونعيمهم واستبشارهم بما يجدد لهم كل وقت من نعمته وكرامته وذكرهم سبحانه في أثناء هذه المحنة بما هو من أعظم مننه ونعمه عليهم التي إن قابلوا بها كل محنة تنالهم وبلية تلاشت في جنب هذه المنة والنعمة ولم يبق لها أثر البتة وهي منته عليهم بإرسال رسول من أنفسهم إليهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وينقذهم من الضلال الذي كانوا فيه قبل إرساله إلى الهدى ومن الشقاء إلى الفلاح ومن الظلمة إلى النور ومن الجهل إلى العلم فكل بلية ومحنة تنال العبد بعد حصول هذا الخير العظيم له أمر يسير جدا في جنب الخير الكثير كما ينال الناس بأذى المطر في جنب ما يحصل لهم به من الخير فأعلمهم أن سبب المصيبة من عند أنفسهم ليحذروا وأنها بقضائه وقدره ليوحدوا ويتكلوا ولا يخافوا غيره وأخبرهم بما لهم فيها من الحكم لئلا يتهموه في قضائه وقدره وليتعرف إليهم بأنواع أسمائه وصفاته وسلاهم بما أعطاهم مما هو أجل قدرا وأعظم خطرا مما فاتهم من النصر والغنيمة وعزاهم عن قتلاهم بما نالوه من ثوابه وكرامته لينافسوهم فيه ولا يحزنوا عليهم فله الحمد كما هو أهله وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله (3/213)
فصل
ولما انقضت الحرب انكفأ المشركون فظن المسلمون أنهم قصدوا المدينة لإحراز الذراري والأموال فشق ذلك عليهم فقال النبي صلى الله عليه و سلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه : [ اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون وماذا يريدون فإن هم جنبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فإنهم يريدون المدينة فوالذي نفسي بيده لئن أرادوها لأسيرن إليهم ثم لأناجزنهم فيها ] قال علي : فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون فجنبوا الخيل وامتطوا الإبل ووجهوا إلى مكة ولما عزموا على الرجوع إلى مكة أشرف على المسلمين أبو سفيان ثم ناداهم : موعدكم الموسم ببدر فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ قولوا : نعم قد فعلنا ] قال أبو سفيان : فذلكم الموعد ثم انصرف هو وأصحابه فلما كان في بعض الطريق تلاوموا فيما بينهم وقال بعضهم لبعض : لم تصنعوا شيئا أصبتم شوكتهم وحدهم ثم تركتموهم وقد بقي منهم رؤوس يجمعون لكم فارجعوا حتى نستأصل شأفتهم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فنادى في الناس وندبهم إلى المسير إلى لقاء عدوهم وقال : [ لا يخرج معنا إلا من شهد القتال ] فقال له عبد الله بن أبي : أركب معك ؟ قال : لا فاستجاب له المسلمون على ما بهم من القرح الشديد والخوف وقالوا : سمعا وطاعة
واستأذنه جابر بن عبد الله وقال : يا رسول الله ! إني أحب ألا تشهد مشهدا إلا كنت معك وإنما خلفني أبي على بناته فأذن لي أسير معك فأذن له فسار رسول الله صلى الله عليه و سلم والمسلمون معه حتى بلغوا حمراء الأسد وأقبل معبد بن أبي معبد الخزاعي إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأسلم فأمره أن يلحق بأبي سفيان فيخذله فلحقه بالروحاء ولم يعلم بإسلامه فقال : ما وراءك يا معبد ؟ فقال : محمد وأصحابه قد تحرقوا عليكم وخرجوا في جمع لم يخرجوا في مثله وقد ندم من كان تخلف عنهم من أصحابهم فقال : ما تقول ؟ فقال : ما أرى أن ترتحل حتى يطلع أول الجيش من وراء هذه الأكمة فقال أبو سفيان : والله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصلهم قال : فلا تفعل فإني لك ناصح فرجعوا على أعقابهم إلى مكة ولقي أبو سفيان بعض المشركين يريد المدينة فقال : هل لك أن تبلغ محمدا رسالة وأوقر لك راحلتك زبيبا إذا أتيت إلى مكة ؟ قال : نعم قال : أبلغ محمدا أنا قد أجمعنا الكرة لنستأصله ونستأصل أصحابه فلما بلغهم قوله قالوا : { حسبنا الله ونعم الوكيل * فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم } ( آل عمران : 174 ) (3/216)
فصل
وكانت وقعة أحد يوم السبت في سابع شوال سنة ثلاث كما تقدم فرجع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المدينة فأقام بها بقية شوال وذا القعدة وذا الحجة والمحرم فلما استهل هلال المحرم بلغه أن طلحة وسلمة ابني خويلد قد سارا في قومهما ومن أطاعهما يدعوان بني أسد بن خزيمة إلى حرب رسول الله صلى الله عليه و سلم فبعث أبا سلمة وعقد له لواء وبعث معه مائة وخمسين رجلا من الأنصار والمهاجرين فأصابوا إبلا وشاء ولم يلقوا كيدا فانحدر أبو سلمة بذلك كله إلى المدينة (3/218)
فصل
فلما كان خامس المحرم بلغه أن خالد بن سفيان بن نبيح الهذلي قد جمع له الجموع فبعث إليه عبد الله بن أنيس فقتله قال عبد المؤمن بن خلف : وجاءه برأسه فوضعه بين يديه فأعطاه عصا فقال : هذه آية بيني وبينك يوم القيامة فلما حضرته الوفاة أوصى أن تجعل معه في أكفانه وكانت غيبته ثمان عشرة ليلة وقدم يوم السبت لسبع بقين من المحرم
فلما كان صفر قدم عليه قوم من عضل والقارة وذكروا أن فيهم إسلاما وسألوه أن يبعث معهم من يعلمهم الدين ويقرئهم القرآن فبعث معهم ستة نفر في قول ابن إسحاق وقال البخاري : كانوا عشرة وأمر عليهم مرثد بن أبي مرثد الغنوي وفيهم خبيب بن عدي فذهبوا معهم فلما كانوا بالرجيع وهو ماء لهذيل بناحية الحجاز غدروا بهم واستصرخوا عليهم هذيلا فجاؤوا حتى أحاطوا بهم فقتلوا عامتهم واستأسروا خبيب بن عدي وزيد بن الدثنة فذهبوا بهما وباعوهما بمكة وكانا قتلا من رؤوسهم يوم بدر فأما خبيب فمكث عندهم مسجونا ثم أجمعوا قتله فخرجوا به من الحرم إلى التنعيم فلما أجمعوا على صلبه قال : دعوني حتى أركع ركعتين فتركوه فصلاهما فلما سلم قال : والله لولا أن تقولوا إن ما بي جزع لزدت ثم قال : اللهم أحصهم عددا واقتلهم بددا ولا تبق منهم أحدا ثم قال :
( لقدأجمع الأحزاب حولي وألبوا ... قبائلهم واستجمعوا كل مجمع )
( وكلهم مبدي العداوة جاهد ... علي لأني في وثاق بمضيع )
( وقد قربوا أبناءهم ونساءهم ... وقربت من جذع طويل ممنع )
( إلى الله أشكو غربتي بعد كربتي ... وما أرصد الأحزاب لي عند مصرعي )
( فذا العرش صبرني على ما يراد بي ... فقد بضعوا لحمي وقد ياس مطمعي )
( وقد خيروني الكفر والموت دونه ... فقد ذرفت عيناي من غير مجزع )
( وما بي حذار الموت إني لميت ... وإن إلى ربي إيابي ومرجعي )
( ولست أبالي حين أقتل مسلما ... على أي شق كان في الله مضجعي )
( وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع )
( فلست بمبد للعدو تخشعا ... ولا جزعا إني إلى الله مرجعي )
فقال له أبو سفيان : أيسرك أن محمدا عندنا تضرب عنقه وإنك في أهلك فقال : لا والله ما يسرني أني في أهلي وأن محمدا في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه
وفي الصحيح : أن خبيبا أول من سن الركعتين عند القتل وقد نقل أبو عمر بن عبد البر عن الليث بن سعد أنه بلغه عن زيد بن حارثة أنه صلاهما فى قصة ذكرها وكذلك صلاهما حجر بن عدي حين أمر معاوية بقتله بأرض عذراء من أعمال دمشق
ثم صلبوا خبيبا ووكلوا به من يحرس جثته فجاء عمرو بن أمية الضمري فاحتمله بجذعه ليلا فذهب به فدفنه
ورؤي خبيب وهو أسير يأكل قطفا من العنب وما بمكة ثمرة وأما زيد بن الدثنة فابتاعه صفوان بن أمية فقتله بأبيه
وأما موسى بن عقبة فذكر سبب هذه الوقعة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث هؤلاء الرهط يتحسسون له أخبار قريش فاعترضهم بنو لحيان (3/218)
فصل
وفي هذا الشهر بعينه وهو صفر من السنة الرابعة كانت وقعة بئر معونة وملخصها أن أبا براء عامر بن مالك المدعو ملاعب الأسنة قدم على رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة فدعاه إلى الإسلام فلم يسلم ولم يبعد فقال : يا رسول الله لو بعثت أصحابك إلى أهل نجد يدعونهم إلى دينك لرجوت أن يجيبوهم فقال : إني أخاف عليهم أهل نجد فقال أبو براء : أنا جار لهم فبعث معه أربعين رجلا في قول ابن إسحاق وفي الصحيح : أنهم كانوا سبعين والذي في الصحيح : هو الصحيح وأمر عليهم المنذر بن عمرو - أحد بني ساعدة الملقب بالمعنق ليموت - وكانوا من خيار المسلمين وفضلائهم وساداتهم وقرائهم فساروا حتى نزلوا بئر معونة وهي بين أرض بني عامر وحرة بني سليم فنزلوا هناك ثم بعثوا حرام بن ملحان أخا أم سليم بكتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى عدو الله عامر بن الطفيل فلم ينظر فيه وأمر رجلا فطعنه بالحربة من خلفه فلما أنفذها فيه ورأى الدم قال : فزت ورب الكعبة ثم استنفر عدو الله لفوره بني عامر إلى قتال الباقين فلم يجيبوه لأجل جوار أبي براء فاستنفر بني سليم فأجابته عصية ورعل وذكوان فجاؤوا حتى أحاطوا بأصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فقاتلوا حتى قتلوا عن آخرهم إلا كعب بن زيد بن النجار فأنه ارتث بين القتلى فعاش حتى قتل يوم الخندق وكان عمرو بن أمية الضمري والمنذر بن عقبة بن عامر في سرح المسلمين فرأيا الطير تحوم على موضع الوقعة فنزل المنذر بن محمد فقاتل المشركين حتى قتل مع أصحابه وأسر عمرو بن أمية الضمري فلما أخبر أنه من مضر جز عامر ناصيته وأعتقه عن رقبة كانت على أمه ورجع عمرو بن أمية فلما كان بالقرقرة من صدر قناة نزل في ظل شجرة وجاء رجلان من بني كلاب فنزلا معه فلما ناما فتك بهما عمرو وهو يرى أنه قد أصاب ثأرا من أصحابه وإذا معهما عهد من رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يشعر به فلما قدم أخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم بما فعل فقال : لقد قتلت قتيلين لأدينهما
فكان هذا سبب غزوة بني النضير فإنه خرج إليهم ليعينوه في ديتهما لما بينه وبينهم من الحلف فقالوا : نعم وجلس هو وأبو بكر وعمر وعلي وطائفة من أصحابه فاجتمع اليهود وتشاوروا وقالوا : من رجل يلقي على محمد هذه الرحى فيقتله ؟ فانبعث أشقاها عمرو بن جحاش لعنه الله ونزل جبريل من عند رب العالمين على رسوله يعلمه بما هموا به فنهض رسول الله صلى الله عليه و سلم من وقته راجعا إلى المدينة ثم تجهز وخرح بنفسه لحربهم فحاصرهم ست ليال واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم وذلك في ربيع الأول
قال ابن حزم : وحينئذ حرمت الخمر ونزلوا على أن لهم ما حملت إبلهم غير السلاح ويرحلون من ديارهم فترحل أكابرهم كحيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق إلى خيبر وذهبت طائفة منهم إلى الشام وأسلم منهم رجلان فقط يامين بن عمرو وأبو سعد بن وهب فأحرزا أموالهما وقسم رسول الله صلى الله عليه و سلم أموال بني النضير بين المهاجرين الأولين خاصة لأنها كانت مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب إلا أنه أعطى أبا دجانة وسهل بن حنيف الأنصاريين لفقرهما
وفي هذه الغزوة نزلت سورة الحشر هذا الذي ذكرناه هو الصحيح عند أهل المغازي والسير
وزعم محمد بن شهاب الزهري أن غزوة بني النضير كانت بعد بدر بستة أشهر وهذا وهم منه أو غلط عليه بل الذي لا شك فيه أنها كانت بعد أحد والتي كان بعد بدر بستة أشهر : هي غزوة بني قينقاع وقريظة بعد الخندق وخيبر بعد الحديبية وكان له مع اليهود أربع غزوات أولها : غزوة بني قينقاع بعد بدر والثانية : بني النضير بعد أحد والثالثة : قريظة بعد الخندق والرابعة : خيبر بعد الحديبية (3/221)
فصل
وقنت رسول الله صلى الله عليه و سلم شهرا يدعو على الذين قتلوا القراء أصحاب بئر معونة بعد الركوع ثم تركه لما جاؤوا تائبين مسلمين (3/223)
فصل
ثم غزا رسول الله صلى الله عليه و سلم بنفسه غزوة ذات الرقاع وهي غزوة نجد فخرج فى جمادى الأولى من السنة الرابعة وقيل : في المحرم يريد محارب وبني ثعلبة بن سعد بن غطفان واستعمل على المدينة أبا ذر الغفاري وقيل : عثمان بن عفان وخرج في أربعمائة من أصحابه وقيل : سبعمائة فلقي جمعا من غطفان فتواقفوا ولم يكن بينهم قتال إلا أنه صلى بهم يومئذ صلاة الخوف هكذا قال ابن إسحاق وجماعة من أهل السير والمغازي في تاريخ هذه الغزاة وصلاة الخوف بها وتلقاه الناس عنهم وهو مشكل جدا فإنه قد صح أن المشركين حبسوا رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم الخندق عن صلاة العصر حتى غابت الشمس
وفي السنن و مسند أحمد والشافعي رحمهما الله أنهم حبسوه عن صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء فصلاهن جميعا وذلك قبل نزول صلاة الخوف والخندق بعد ذات الرقاع سنة خمس
والظاهر أن النبي صلى الله عليه و سلم أول صلاة صلاها للخوف بعسفان كما قال أبو عياش الزرقي : كنا مع النبي صلى الله عليه و سلم بعسفان فصلى بنا الظهر وعلى المشركين يومئذ خالد بن الوليد فقالوا : لقد أصبنا منهم غفلة ثم قالوا : إن لهم صلاة بعد هذه هي أحب إليهم من أموالهم وأبنائهم فنزلت صلاة الخوف بين الظهر والعصر فصلى بنا العصر ففرقنا فرقتين وذكر الحديث رواه أحمد وأهل السنن
وقال أبو هريرة : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم نازلا بين ضجنان وعسفان محاصرا للمشركين فقال المشركون : إن لهؤلاء صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأموالهم أجمعوا أمركم ثم ميلوا عليهم ميلة واحدة فجاء جبريل فأمره أن يقسم أصحابه نصفين وذكر الحديث قال الترمذي : حديث حسن صحيح
ولا خلاف بينهم أن غزوة عسفان كانت بعد الخندق وقد صح عنه أنه صلى صلاة الخوف بذات الرقاع فعلم أنها بعد الخندق وبعد عسفان ويؤيد هذا أن أبا هريرة وأبا موسى الأشعري شهدا ذات الرقاع كما في الصحيحين عن أبي موسى أنه شهد غزوة ذات الرقاع وأنهم كانوا يلفون على أرجلهم الخرق لما نقبت
وأما أبو هريرة ففي المسند و السنن أن مروان بن الحكم سأله : هل صليت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم صلاة الخوف ؟ قال : نعم قال : متى ؟ قال : عام غزوة نجد
وهذا يدل على أن غزوة ذات الرقاع بعد خيبر وأن من جعلها قبل الخندق فقد وهم وهما ظاهرا ولما لم يفطن بعضهم لهذا ادعى أن غزوة ذات الرقاع كانت مرتين فمرة قبل الخندق ومرة بعدها على عادتهم في تعديد الوقائع إذا اختلفت ألفاظها أو تاريخها ولو صح لهذا القائل ما ذكره ولا يصح لم يمكن أن يكون قد صلى بهم صلاة الخوف في المرة الأولى لما تقدم من قصة عسفان وكونها بعد الخندق ولهم أن يجيبوا عن هذا بأن تأخير يوم الخندق جائز غير منسوخ وأن في حال المسايفة يجوز تأخير الصلاة إلى أن يتمكن من فعلها وهذا أحد القولين في مذهب أحمد رحمه الله وغيره لكن لا حيلة لهم في قصة عسفان أن أول صلاة صلاها للخوف بها وأنها بعد الخندق
فالصواب تحويل غزوة ذات الرقاع من هذا الموضع إلى ما بعد الخندق بعد خيبر وإنما ذكرناها ها هنا تقليدا لأهل المغازي والسير ثم تبين لنا وهمها وبالله التوفيق
ومما يدل على أن غزوة ذات الرقاع بعد الخندق ما رواه مسلم في صحيحه عن جابر قال : أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى إذا كنا بذات الرقاع قال : كنا إذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله صلى الله عليه و سلم فجاء رجل من المشركين وسيف رسول الله صلى الله عليه و سلم معلق بالشجرة فأخذ السيف فاخترطه فذكر القصة وقال : فنودي بالصلاة فصلى بطائفة ركعتين ثم تأخروا وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين فكانت لرسول الله صلى الله عليه و سلم أربع ركعات وللقوم ركعتان
وصلاة الخوف إنما شرعت بعد الخندق بل هذا يدل على أنها بعد عسفان والله أعلم
وقد ذكروا أن قصة بيع جابر جمله من النبي صلى الله عليه و سلم كانت في غزوة ذات الرقاع وقيل : في مرجعه من تبوك ولكن في إخباره للنبي صلى الله عليه و سلم في تلك القضية أنه تزوج امرأة ثيبا تقوم على أخواته وتكفلهن إشعار بأنه بادر إلى ذلك بعد مقتل أبيه ولم يؤخر إلى عام تبوك والله أعلم
وفي مرجعهم من غزوة ذات الرقاع سبوا امرأة من المشركين فنذر زوجها ألا يرجع حتى يهريق دما في أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم فجاء ليلا وقد أرصد رسول الله صلى الله عليه و سلم رجلين ربيئة للمسلمين من العدو وهما عباد بن بشر وعمار بن ياسر فضرب عبادا وهو قائم يصلي بسهم فنزعه ولم يبطل صلاته حتى رشقه بثلاثة أسهم فلم ينصرف منها حتى سلم فأيقظ صاحبه فقال : سبحان الله هلا أنبهتني ؟ فقال : إني كنت في سورة فكرهت أن أقطعها
وقال موسى بن عقبة في مغازيه : ولا يدرى متى كانت هذه الغزوة قبل بدر أو بعدها أو فيما بين بدر وأحد أو بعد أحد
ولقد أبعد جدا إذ جوز أن تكون قبل بدر وهذا ظاهر الإحالة ولا قبل أحد ولا قبل الخندق كما تقدم بيانه (3/224)
فصل
وقد تقدم أن أبا سفيان قال عند انصرافه من أحد : موعدكم وإيانا العام القابل ببدر فلما كان شعبان وقيل : ذو القعدة من العام القابل خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم لموعده في ألف وخمسمائة وكانت الخيل عشرة أفراس وحمل لواءه علي بن أبي طالب واستخلف على المدينة عبد الله بن رواحة فانتهى إلى بدر فأقام بها ثمانية أيام ينتظر المشركين وخرج أبو سفيان بالمشركين من مكة وهم ألفان ومعهم خمسون فرسا فلما انتهوا إلى مر الظهران - على مرحلة من مكة - قال لهم أبو سفيان : إن العام عام جدب وقد رأيت أني أرجع بكم فانصرفوا راجعين وأخلفوا الموعد فسميت هذه بدر الموعد وتسمى بدر الثانية (3/226)
فصل
في غزوة دومة الجندل
وهي بضم الدال وأما دومة بالفتح فمكان آخر خرج إليها رسول الله صلى الله عليه و سلم في ربيع الأول سنة خمس وذلك أنه بلغه أن بها جمعا كثيرا يريدون أن يدنوا من المدينة وبينها وبين المدينة خمس عشرة ليلة وهي من دمشق على خمس ليال فاستعمل على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري وخرج في ألف من المسلمين ومعه دليل من بني عذرة يقال له : مذكور فلما دنا منهم إذا هم مغربون وإذا آثار النعم والشاء فهجم على ماشيتهم ورعاتهم فأصاب من أصاب وهرب من هرب وجاء الخبر أهل دومة الجندل فتفرقوا ونزل رسول الله صلى الله عليه و سلم بساحتهم فلم يجد فيها أحدا فأقام بها أياما وبث السرايا وفرق الجيوش فلم يصب منهم أحدا فرجع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المدينة ووادع في تلك الغزوة عيينة بن حصن (3/228)
فصل
في غزوة المريسيع
وكانت في شعبان سنة خمس وسببها : أنه لما بلغه صلى الله عليه و سلم أن الحارث بن أبي ضرار سيد بن المصطلق سار في قومه ومن قدر عليه من العرب يريدون حرب رسول الله صلى الله عليه و سلم فبعث بريدة بن الحصيب الأسلمي يعلم له ذلك فأتاهم ولقي الحارث بن أبي ضرار وكلمه ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبره خبرهم فندب رسول الله صلى الله عليه و سلم الناس فأسرعوا في الخروج وخرج معهم جماعة من المنافقين لم يخرجوا في غزاة قبلها واستعمل على المدينة زيد بن حارثة وقيل : أبا ذر وقيل : نميلة بن عبد الله الليثي وخرج يوم الاثنين لليلتين خلتا من شعبان وبلغ الحارث بن أبي ضرار ومن معه مسير رسول الله صلى الله عليه و سلم وقتله عينه الذي كان وجهه ليأتيه بخبره وخبر المسلمين فخافوا خوفا شديدا وتفرق عنهم من كان معهم من العرب وانتهى رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المريسيع وهو مكان الماء فضرب عليه قبته ومعه عائشة وأم سلمة فتهيؤوا للقتال وصف رسول الله صلى الله عليه و سلم أصحابه وراية المهاجرين مع أبي بكر الصديق وراية الأنصار مع سعد بن عبادة فترامو بالنبل ساعة ثم أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم أصحابه فحملوا حملة رجل واحد فكانت النصرة وانهزم المشركون وقتل من قتل منهم وسبى رسول الله صلى الله عليه و سلم النساء والذراري والنعم والشاء ولم يقتل من المسلمين إلا رجل واحد هكذا قال عبد المؤمن بن خلف في سيرته وغيره وهو وهم فإنه لم يكن بينهم قتال وإنما أغار عليهم على الماء فسبى ذراريهم وأموالهم كما في الصحيح : أغار رسول الله صلى الله عليه و سلم على بني المصطلق وهم غارون وذكر الحديث
وكان من جملة السبي جويرية بنت الحارث سيد القوم وقعت في سهم ثابت بن قيس فكاتبها فأدى عنها رسول الله صلى الله عليه و سلم وتزوجها فأعتق المسلمون بسبب هذا التزويج مائة أهل بيت من بني المصطلق قد أسلموا وقالوا : أصهار رسول الله صلى الله عليه و سلم
قال ابن سعد : وفي هذه الغزوة سقط عقد لعائشة فاحتبسوا على طلبه فنزلت آية التيمم
وذكر الطبراني في معجمه من حديث محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن عائشة قالت : ولما كان من أمر عقدي ما كان قال أهل الإفك ما قالوا فخرجت مع النبي صلى الله عليه و سلم في غزاة أخرى فسقط أيضا عقدي حتى حبس التماسه الناس ولقيت من أبي بكر ما شاء الله وقال لي : يا بنية في كل سفر تكونين عناء وبلاء وليس مع الناس ماء فأنزل الله الرخصة في التيمم وهذا يدل على أن قصة العقد التي نزل التيمم لأجلها بعد هذه الغزوة وهو الظاهر ولكن فيها كانت قصة الإفك بسبب فقد العقد والتماسه فالتبس على بعضهم إحدى القصتين بالأخرى ونحن نشير إلى قصة الإفك
وذلك أن عائشة رضي الله عنها كانت قد خرج بها رسول الله صلى الله عليه و سلم معه فى هذه الغزوة بقرعة أصابتها وكانت تلك عادته مع نسائه فلما رجعوا من الغزوة نزلوا في بعض المنازل فخرجت عائشة لحاجتها ثم رجعت ففقدت عقدا لأختها كانت أعارتها إياه فرجعت تلتمسه في الموضع الذي فقدته فيه فجاء النفر الذين كانوا يرحلون هودجها فظنوها فيه فحملوا الهودج ولا ينكرون خفته لأنها رضي الله عنها كانت فتية السن لم يغشها اللحم الذي كان يثقلها وأيضا فإن النفر لما تساعدوا على حمل الهودج لم ينكروا خفته ولو كان الذي حمله واحدا أو اثنين لم يخف عليهما الحال فرجعت عائشة إلى منازلهم وقد أصابت العقد فإذا ليس بها داع ولا مجيب فقعدت في المنزل وظنت أنهم سيفقدونها فيرجعون في طلبها والله غالب على أمره يدبر الأمر فوق عرشه كما يشاء فغلبتها عيناها فنامت فلم تستيقظ إلا بقول صفوان بن المعطل : إنا لله وإنا إليه راجعون زوجة رسول الله صلى الله عليه و سلم وكان صفوان قد عرس في أخريات الجيش لأنه كان كثير النوم كما جاء عنه في صحيح أبي حاتم وفي السنن فلما رآها عرفها وكان يراها قبل نزول الحجاب فاسترجع وأناخ راحلته فقربها إليها فركبتها وما كلمها كلمة واحدة ولم تسمع منه إلا استرجاعه ثم سار بها يقودها حتى قدم بها وقد نزل الجيش في نحر الظهيرة فلما رأى ذلك الناس تكلم كل منهم بشاكلته وما يليق به ووجد الخبيث عدو الله ابن أبي متنفسا فتنفس من كرب النفاق والحسد الذي بين ضلوعه فجعل يستحكي الإفك ويستوشيه ويشيعه ويذيعه ويجمعه ويفرقه وكان أصحابه يتقربون به إليه فلما قدموا المدينة أفاض أهل الإفك في الحديث ورسول الله صلى الله عليه و سلم ساكت لا يتكلم ثم استشار أصحابه في فراقها فأشار عليه علي رضي الله عنه أن يفارقها ويأخذ غيرها تلويحا لا تصريحا وأشار عليه أسامة وغيره بإمساكها وألا يلتفت إلى كلام الأعداء فعلي لما رأى أن ما قيل مشكوك فيه أشار بترك الشك والريبة إلى اليقين ليتخلص رسول الله صلى الله عليه و سلم من الهم والغم الذي لحقه من كلام الناس فأشار بحسم الداء وأسامة لما علم حب رسول الله صلى الله عليه و سلم لها ولأبيها وعلم من عفتها وبراءتها وحصانتها وديانتها ما هي فوق ذلك وأعظم منه وعرف من كرامة رسول الله صلى الله عليه و سلم على ربه ومنزلته عنده ودفاعه عنه أنه لا يجعل ربة بيته وحبيبته من النساء وبنت صديقه بالمنزلة التي أنزلها به أرباب الإفك وأن رسول الله صلى الله عليه و سلم أكرم على ربه وأعز عليه من أن يجعل تحته امرأة بغيا وعلم أن الصديقة حبيبة رسول الله صلى الله عليه و سلم أكرم على ربه من أن يبتليها بالفاحشة وهي تحت رسوله ومن قويت معرفته لله ومعرفته لرسوله وقدره عند الله في قلبه قال كما قال أبو أيوب وغيره من سادات الصحابة لما سمعوا ذلك : { سبحانك هذا بهتان عظيم } ( النور : 16 )
وتأمل ما في تسبيحهم لله وتنزيههم له في هذا المقام من المعرفة به وتنزيهه عما لا يليق به أن يجعل لرسوله وخليله وأكرم الخلق عليه امرأة خبيثة بغيا فمن ظن به سبحانه هذا الظن فقد ظن به ظن السوء وعرف أهل المعرفة بالله ورسوله أن المرأة الخبيثة لا تليق إلا بمثلها كما قال تعالى : { الخبيثات للخبيثين } ( النور : 26 ) فقطعوا قطعا لا يشكون فيه أن هذا بهتان عظيم وفرية ظاهرة
فإن قيل : فما بال رسول الله صلى الله عليه و سلم توقف فى أمرها وسأل عنها وبحث واستشار وهو أعرف بالله وبمنزلته عنده وبما يليق به وهلا قال : سبحانك هذا بهتان عظيم كما قاله فضلاء الصحابة ؟ فالجواب أن هذا من تمام الحكم الباهرة التي جعل الله هذه القصة سبب لها وامتحانا وابتلاء لرسوله صلى الله عليه و سلم ولجميع الأمة إلى يوم القيامة ليرفع بهذه القصة أقواما ويضع بها آخرين ويزيد الله الذين اهتدوا هدى وإيمانا ولا يزيد الظالمين إلا خسارا واقتضى تمام الامتحان والابتلاء أن حبس عن رسول الله صلى الله عليه و سلم الوحي شهرا في شأنها لا يوحى إليه في ذلك شئ لتتم حكمته التي قدرها وقضاها وتظهر على أكمل الوجوه ويزداد المؤمنون الصادقون ايمانا وثباتا على العدل والصدق وحسن الظن بالله ورسوله وأهل بيته والصديقين من عباده ويزداد المنافقون إفكا ونفاقا ويظهر لرسوله وللمؤمنين سرائرهم ولتتم العبودية المرادة من الصديقة وأبويها وتتم نعمة الله عليهم ولتشتد الفاقة والرغبة منها ومن أبويها والافتقار إلى الله والذل له وحسن الظن به والرجاء له ولينقطع رجاؤها من المخلوقين وتيأس من حصول النصرة والفرج على يد أحد من الخلق ولهذا وفت هذا المقام حقه لما قال لها أبواها : قومي إليه وقد أنزل الله عليه براءتها فقالت : والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله هو الذي أنزل براءتي
وأيضا فكان من حكمة حبس الوحي شهرا أن القضية محصت وتمحصت واستشرفت قلوب المؤمنين أعظم استشراف إلى ما يوحيه الله إلى رسوله فيها وتطلعت إلى ذلك غاية التطلع فوافى الوحي أحوج ما كان إليه رسول الله صلى الله عليه و سلم وأهل بيته والصديق وأهله وأصحابه والمؤمنون فورد عليهم ورود الغيث على الأرض أحوج ما كانت إليه فوقع منهم أعظم موقع وألطفه وسروا به أتم السرور وحصل لهم به غاية الهناء فلو أطلع الله رسوله على حقيقة الحال من أول وهلة وأنزل الوحي على الفور بذلك لفاتت هذه الحكم وأضعافها بل أضعاف أضعافها
وأيضا فإن الله سبحانه أحب أن يظهر منزلة رسوله وأهل بيته عنده وكرامتهم عليه وأن يخرج رسوله عن هذه القضية ويتولى هو بنفسه الدفاع والمنافحة عنه والرد على أعدائه وذمهم وعيبهم بأمر لا يكون له فيه عمل ولا ينسب إليه بل يكون هو وحده المتولي لذلك الثائر لرسوله وأهل بيته
وأيضا فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان هو المقصود بالأذى والتي رميت زوجته فلم يكن يليق به أن يشهد ببراءتها مع علمه أو ظنه الظن المقارب للعلم ببراءتها ولم يظن بها سوءا قط وحاشاه وحاشاها ولذلك لما استعذر من أهل الإفك قال : [ من يعذرني في رجل بلغني أذاه في أهلي والله ما علمت على أهلي إلا خيرا ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا وما كان يدخل على أهلي إلا معي ] فكان عنده من القرائن التي تشهد ببراءة الصديقة أكثر مما عند المؤمنين ولكن لكمال صبره وثباته ورفقه وحسن ظنه بربه وثقته به وفى مقام الصبر والثبات وحسن الظن بالله حقه حتى جاءه الوحي بما أقر عينه وسر قلبه وعظم قدره وظهر لأمته احتفال ربه به واعتناؤه بشأنه
ولما جاء الوحي ببراءتها أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بما صرح بالإفك فحدوا ثمانين ثمانين ولم يحد الخبيث عبد الله بن أبي مع أنه رأس أهل الإفك فقيل : لأن الحدود تخفيف عن أهلها وكفارة والخبيث ليس أهلا لذلك وقد وعده الله بالعذاب العظيم في الآخرة فيكفيه ذلك عن الحد وقيل : بل كان يستوشي الحديث ويجمعه ويحكيه ويخرجه في قوالب من لا ينسب إليه وقيل : الحد لا يثبت إلا بالإقرار أو ببينة وهو لم يقر بالقذف ولا شهد به عليه أحد فإنه إنما كان يذكره بين أصحابه ولم يشهدوا عليه ولم يكن يذكره بين المؤمنين
وقيل : حد القذف حق الآدمي لا يستوفى إلا بمطالبته وإن قيل : إنه حق لله فلا بد من مطالبة المقذوف وعائشة لم تطالب به ابن أبي
وقيل : بل ترك حده لمصلحة هي أعظم من إقامته كما ترك قتله مع ظهور نفاقه وتكلمه بما يوجب قتله مرارا وهي تأليف قومه وعدم تنفيرهم عن الإسلام فإنه كان مطاعا فيهم رئيسا عليهم فلم تؤمن إثارة الفتنة في حده ولعله ترك لهذه الوجوه كلها
فجلد مسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش وهؤلاء من المؤمنين الصادقين تطهيرا لهم وتكفيرا وترك عبد الله ابن أبي إذا فليس هو من أهل ذاك (3/229)
فصل
ومن تأمل قول الصديقة وقد نزلت براءتها فقال لها أبواها : قومي إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت : والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله علم معرفتها وقوة إيمانها وتوليتها النعمة لربها وإفراده بالحمد في ذلك المقام وتجريدها التوحيد وقوة جأشها وإدلالها ببراءة ساحتها وأنها لم تفعل ما يوجب قيامها في مقام الراغب في الصلح الطالب له وثقتها بمحبة رسول الله صلى الله عليه و سلم لها قالت ما قالت إدلالا للحبيب على حبيبه ولا سيما في مثل هذا المقام الذي هو أحسن مقامات الإدلال فوضعته موضعه ولله ما كان أحبها إليه حين قالت : لا أحمد إلا الله فإنه هو الذي أنزل براءتي ولله ذلك الثبات والرزانة منها وهو أحب شئ إليها ولا صبر لها عنه وقد تنكر قلب حبيبها لها شهرا ثم صادفت الرضى منه والإقبال فلم تبادر إلى القيام إليه والسرور برضاه وقربه مع شدة محبتها له وهذا غاية الثبات والقوة (3/236)
فصل
وفي هذه القضية أن النبي صلى الله عليه و سلم لما قال : [ من يعذرني في رجل بلغني أذاه في أهلي ؟ ] قام سعد بن معاذ أخو بني عبد الأشهل فقال : أنا أعذرك منه يا رسول الله وقد أشكل هذا على كثير من أهل العلم فإن سعد بن معاذ لا يختلف أحد من أهل العلم أنه توفي عقيب حكمه في بني قريظة عقيب الخندق وذلك سنة خمس على الصحيح وحديث الإفك لا شك أنه في غزوة بني المصطلق هذه وهي غزوة المريسيع والجمهور عندهم أنها كانت بعد الخندق سنة ست فاختلفت طرق الناس في الجواب عن هذا الإشكال فقال موسى بن عقبة : غزوة المريسيع كانت سنة أربع قبل الخندق حكاه عنه البخاري وقال الواقدي : كانت سنة خمس قال : وكانت قريظة والخندق بعدها وقال القاضي إسماعيل بن إسحاق : اختلفوا في ذلك والأولى أن تكون المريسيع قبل الخندق وعلى هذا فلا إشكال ولكن الناس على خلافه وفي حديث الإفك ما يدل على خلاف ذلك أيضا لأن عائشة قالت : إن القضية كانت بعدما أنزل الحجاب وآية الحجاب نزلت في شأن زينب بنت جحش وزينب إذ ذاك كانت تحته فإنه صلى الله عليه و سلم سألها عن عائشة فقالت : أحمي سمعي وبصري قالت عائشة : وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه و سلم
وقد ذكر أرباب التواريخ أن تزويجه بزينب كان في ذي القعدة سنة خمس وعلى هذا فلا يصح قول موسى بن عقبة وقال محمد بن إسحاق : إن غزوة بني المصطلق كانت في سنة ست بعد الخندق وذكر فيها حديث الإفك إلا أنه قال عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن عائشة فذكر الحديث فقال : فقام أسيد بن الحضير فقال : أنا أعذرك منه فرد عليه سعد بن عبادة ولم يذكر سعد بن معاذ قال أبو محمد بن حزم : وهذا هو الصحيح الذي لا شك فيه وذكر سعد بن معاذ وهم لأن سعد بن معاذ مات إثر فتح بني قريظة بلا شك وكانت في آخر ذي القعدة من السنة الرابعة وغزوة بني المصطلق فى شعبان من السنة السادسة بعد سنة وثمانية أشهر من موت سعد وكانت المقاولة بين الرجلين المذكورين بعد الرجوع من غزوة بني المصطلق بأزيد من خمسين ليلة
قلت : الصحيح : أن الخندق كان في سنة خمس كما سيأتي (3/237)
فصل
ومما وقع في حديث الإفك أن في بعض طرق البخاري عن أبي وائل عن مسروق قال : سألت أم رومان عن حديث الإفك فحدثتني قال غير واحد : وهذا غلط ظاهر فإن أم رومان ماتت على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم ونزل رسول الله صلى الله عليه و سلم في قبرها وقال : [ من سره أن ينظر إلى امرأة من الحور العين فلينظر إلى هذه ] قالوا : ولو كان مسروق قدم المدينة في حياتها وسألها للقي رسول الله صلى الله عليه و سلم وسمع منه ومسروق إنما قدم المدينة بعد موت رسول الله صلى الله عليه و سلم قالوا : وقد روى مسروق عن أم رومان حديثا غير هذا فأرسل الرواية عنها فظن بعض الرواة أنه سمع منها فحمل هذا الحديث على السماع قالوا : ولعل مسروقا قال : سئلت أم رومان فتصحفت على بعضهم : سألت لأن من الناس من يكتب الهمزة بالألف على كل حال وقال آخرون : كل هذا لا يرد الرواية الصحيحة التي أدخلها البخاري في صحيحه وقد قال إبراهيم الحربي وغيره : إن مسروقا سألها وله خمس عشرة سنة ومات وله ثمان وسبعون سنة وأم رومان أقدم من حدث عنه قالوا : وأما حديث موتها في حياة رسول الله صلى الله عليه و سلم ونزوله في قبرها فحديث لا يصح وفيه علتان تمنعان صحته إحداهما : رواية علي بن زيد بن جدعان له وهو ضعيف الحديث لا يحتج بحديثه والثانية : أنه رواه عن القاسم بن محمد عن النبي صلى الله عليه و سلم والقاسم لم يدرك زمن رسول الله صلى الله عليه و سلم فكيف يقدم هذا على حديث إسناده كالشمس يرويه البخاري في صحيحه ويقول فيه مسروق : سألت أم رومان فحدثتني وهذا يرد أن يكون اللفظ : سئلت وقد قال أبو نعيم في كتاب معرفة الصحابة : قد قيل : إن أم رومان توفيت في عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو وهم (3/238)
فصل
ومما وقع في حديث الإفك أن في بعض طرقه : أن عليا قال للنبي صلى الله عليه و سلم لما استشاره : سل الجارية تصدقك فدعا بريرة فسألها فقالت : ما علمت عليها إلا ما يعلم الصائغ على التبر أو كما قالت وقد استشكل هذا فإن بريرة إنما كاتبت وعتقت بعد هذا بمدة طويلة وكان العباس عم رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ ذاك في المدينة والعباس إنما قدم المدينة بعد الفتح ولهذا قال له النبي صلى الله عليه و سلم وقد شفع إلى بريرة : أن تراجع زوجها فأبت أن تراجعه : يا عباس ! ألا تعجب من بغض بريرة مغيثا وحبه لها
ففي قصة الإفك لم تكن بريرة عند عائشة وهذا الذي ذكروه إن كان لازما فيكون الوهم من تسميته الجارية بريرة ولم يقل له علي : سل بريرة وإنما قال : فسل الجارية تصدقك فظن بعض الرواة أنها بريرة فسماها بذلك وإن لم يلزم بأن يكون طلب مغيث لها استمر إلى بعد الفتح ولم ييأس منها زال الإشكال والله أعلم (3/239)
فصل
وفي مرجعهم من هذه الغزوة قال رأس المنافقين ابن أبي : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فبلغها زيد بن أرقم رسول الله صلى الله عليه و سلم وجاء ابن أبي يعتذر ويحلف ما قال فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم فأنزل الله تصديق زيد فى سورة المنافقين فأخذ النبي صلى الله عليه و سلم بأذنه فقال : [ أبشر فقد صدقك الله ] ثم قال : [ هذا الذي وفى لله بأذنه ] فقال له عمر : يا رسول الله ! مر عباد بن بشر فليضرب عنقه فقال : [ فكيف إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ] (3/240)
فصل
في غزوة الخندق
وكانت في سنة خمس من الهجرة في شوال على أصح القولين إذ لا خلاف أن أحدا كانت في شوال سنة ثلاث وواعد المشركون رسول الله صلى الله عليه و سلم فى العام المقبل وهو سنة أربع ثم أخلفوه لأجل جدب تلك السنة فرجعوا فلما كانت سنة خمس جاؤوا لحربه هذا قول أهل السير والمغازي
وخالفهم موسى بن عتبة وقال : بل كانت سنة أربع قال أبو محمد بن حزم : وهذا هو الصحيح الذي لا شك فيه واحتج عليه بحديث ابن عمر في الصحيحين أنه عرض على النبي صلى الله عليه و سلم يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزه ثم عرض عليه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة فأجازه
قال : فصح أنه لم يكن بينهما إلا سنة واحدة
وأجيب عن هذا بجوابين أحدهما : أن ابن عمر أخبر أن النبى صلى الله عليه و سلم رده لما استصغره عن القتال وأجازه لما وصل إلى السن التي رآه فيها مطيقا وليس في هذا ما ينفي تجاوزها بسنة أو نحوها
الثاني : أنه لعله كان يوم أحد في أول الرابعة عشرة ويوم الخندق في آخر الخامسة عشرة (3/240)
فصل
وكان سبب غزوة الخندق أن اليهود لما رأوا انتصار المشركين على المسلمين يوم أحد وعلموا بميعاد أبي سفيان لغزو المسلمين فخرج لذلك ثم رجع للعام المقبل خرج أشرافهم كسلام بن أبي الحقيق وسلام بن مشكم وكنانة بن الربيع وغيرهم إلى قريش بمكة يحرضونهم على غزو رسول الله صلى الله عليه و سلم ويؤلبونهم عليه ووعدوهم من أنفسهم بالنصر لهم فأجابتهم قريش ثم خرجوا إلى غطفان فدعوهم فاستجابوا لهم ثم طافوا في قبائل العرب يدعونهم إلى ذلك فاستجاب لهم من استجاب فخرجت قريش وقائدهم أبو سفيان في أربعة آلاف ووافتهم بنو سليم بمر الظهران وخرجت بنو أسد وفزارة وأشجع وبنو مرة وجاءت غطفان وقائدهم عيينة بن حصن وكان من وافى الخندق من الكفار عشرة آلاف
فلما سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم بمسيرهم إليه استشار الصحابة فأشار عليه سلمان الفارسي بحفر خندق يحول بين العدو وبين المدينة فأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم فبادر إليه المسلمون وعمل بنفسه فيه وبادروا هجوم الكفار عليهم وكان في حفره من آيات نبوته وأعلام رسالته ما قد تواتر الخبر به وكان حفر الخندق أمام سلع وسلع : جبل خلف ظهور المسلمين والخندق بينهم وبين الكفار
وخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم في ثلاثة آلاف من المسلمين فتحصن بالجبل من خلفه وبالخندق أمامهم
وقال ابن إسحاق : خرج في سبعمائة وهذا غلط من خروجه يوم أحد
وأمر النبي صلى الله عليه و سلم بالنساء والذراري فجعلوا في آطام المدينة واستخلف عليها ابن أم مكتوم
وانطلق حيي بن أخطب إلى بني قريظة فدنا من حصنهم فأبى كعب بن أسد أن يفتح له فلم يزل يكلمه حتى فتح له فلما دخل عليه قال : لقد جئتك بعز الدهر جئتك بقريش وغطفان وأسد على قادتها لحرب محمد قال كعب : جئتني والله بذل الدهر وبجهام قد هراق ماؤه فهو يرعد ويبرق ليس فيه شئ فلم يزل به حتى نقض العهد الذي بينه وبين رسول الله صلى الله عليه و سلم ودخل مع المشركين في محاربته فسر بذلك المشركون وشرط كعب على حيي أنه إن لم يظفروا بمحمد أن يجيء حتى يدخل معه في حصنه فيصيبه ما أصابه فأجابه إلى ذلك ووفى له به
وبلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم خبر بني قريظة ونقضهم للعهد فبعث إليهم السعدين وخوات بن جبير وعبد الله بن رواحة ليعرفوا : هل هم على عهدهم أو قد نقضوه ؟ فلما دنوا منهم فوجدوهم على أخبث ما يكون وجاهروهم بالسب والعداوة ونالوا من رسول الله صلى الله عليه و سلم فانصرفوا عنهم ولحنوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم لحنا يخبرونه أنهم قد نقضوا العهد وغدروا فعظم ذلك على المسلمين فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم عند ذلك : [ الله أكبر أبشروا يا معشر المسلمين ] واشتد البلاء ونجم النفاق واستأذن بعض بني حارثة رسول الله صلى الله عليه و سلم في الذهاب إلى المدينة وقالوا : { إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا } ( الأحزاب : 13 ) وهم بنو سلمة بالفشل ثم ثبت الله الطائفتين
وأقام المشركون محاصرين رسول الله صلى الله عليه و سلم شهرا ولم يكن بينهم قتال لأجل ما حال الله به من الخندق بينهم وبين المسلمين إلا أن فوارس من قريش منهم عمرو بن عبد ود وجماعة معه أقبلوا نحو الخندق فلما وقفوا عليه قالوا : إن هذه مكيدة ما كانت العرب تعرفها ثم تيمموا مكانا ضيقا من الخندق فاقتحموه وجالت بهم خيلهم في السبخة بين الخندق وسلع ودعوا إلى البراز فانتدب لعمرو علي بن أبي طالب رضي الله عنه فبارزه فقتله الله على يديه وكان من شجعان المشركين وأبطالهم وانهزم الباقون إلى أصحابهم وكان شعار المسلمين يومئذ حم لا ينصرون
ولما طالت هذه الحال على المسلمين أراد رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يصالح عيينة بن حصن والحارث بن عوف رئيسي غطفان على ثلث ثمار المدينة وينصرفا بقومهما وجرت المراوضة على ذلك فاستشار السعدين في ذلك فقالا : يا رسول الله ! إن كان الله أمرك بهذا فسمعا وطاعة وإن كان شيئا تصنعه لنا فلا حاجة لنا فيه لقد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قرى أو بيعا فحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك نعطيهم أموالنا ؟ والله لا نعطيهم إلا السيف فصوب رأيهما وقال : [ إنما هو شئ أصنعه لكم لما رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة ]
ثم إن الله عز و جل - وله الحمد - صنع أمرا من عنده خذل به العدو وهزم جموعهم وفل حدهم فكان مما هيأ من ذلك أن رجلا من غطفان يقال له : نعيم بن مسعود بن عامر رضي الله عنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله ! إني قد أسلمت فمرني بما شئت فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إنما أنت رجل واحد فخذل عنا ما استطعت فإن الحرب خدعة ] فذهب من فوره ذلك إلى بني قريظة وكان عشيرا لهم في الجاهلية فدخل عليهم وهم لا يعلمون بإسلامه فقال : يا بني قريظة إنكم قد حاربتم محمدا وإن قريشا إن أصابوا فرصة انتهزوها وإلا انشمروا إلى بلادهم راجعين وتركوكم ومحمدا فانتقم منكم قالوا : فما العمل يا نعيم ؟ قال : لا تقاتلوا معهم حتى يعطوكم رهائن قالوا : لقد أشرت بالرأي ثم مضى على وجهه إلى قريش فقال لهم : تعلمون ودي لكم ونصحي لكم قالوا : نعم قال : إن يهود قد ندموا على ما كان منهم من نقض عهد محمد وأصحابه وإنهم قد راسلوه أنهم يأخذون منكم رهائن يدفعونها إليه ثم يمالئونه عليكم فإن سألوكم رهائن فلا تعطوهم ثم ذهب إلى غطفان فقال لهم مثل ذلك فلما كان ليلة السبت من شوال بعثوا إلى اليهود : إنا لسنا بأرض مقام وقد هلك الكراع والخف فانهضوا بنا حتى نناجز محمدا فأرسل إليهم اليهود : إن اليوم يوم السبت وقد علمتم ما أصاب من قبلنا حين أحدثوا فيه ومع هذا فإنا لا نقاتل معكم حتى تبعثوا إلينا رهائن فلما جاءتهم رسلهم بذلك قالت قريش : صدقكم والله نعيم فبعثوا إلى يهود : إنا والله لا نرسل إليكم أحدا فاخرجوا معنا حتى نناجز محمدا فقالت قريظة : صدقكم والله نعيم فتخاذل الفريقان وأرسل الله على المشركين جندا من الريح فجعلت تقوض خيامهم ولا تدع لهم قدرا إلا كفأتها ولا طنبا إلا قلعته ولا يقر لهم قرار وجند الله من الملائكة يزلزلونهم ويلقون في قلوبهم الرعب والخوف وأرسل رسول الله صلى الله عليه و سلم حذيفة بن اليمان يأتيه بخبرهم فوجدهم على هذه الحال وقد تهيؤوا للرحيل فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبره برحيل القوم فأصبح رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد رد الله عدوه بغيظه لم ينالوا خيرا وكفاه الله قتالهم فصدق وعده وأعز جنده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده فدخل المدينة ووضع السلاح فجاءه جبريل عليه السلام وهو يغتسل في بيت أم سلمة فقال : أوضعتم السلاح إن الملائكة لم تضع بعد أسلحتها انهض إلى غزوة هؤلاء يعني بني قريظة فنادى رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة ] فخرج المسلمون سراعا وكان من أمره وأمر بني قريظة ما قدمناه واستشهد يوم الخندق ويوم قريظة نحو عشرة من المسلمين (3/241)
فصل
وقد قدمنا أن أبا رافع كان ممن ألب الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه و سلم ولم يقتل مع بني قريظة كما قتل صاحبه حيي بن أخطب ورغبت الخزرج فى قتله مساواة للأوس في قتل كعب بن الأشرف وكان الله - سبحانه وتعالى - قد جعل هذين الحيين يتصاولان بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم في الخيرات فاستأذنوه فى قتله فأذن لهم فانتدب له رجال كلهم من بني سلمة وهم عبد الله بن عتيك وهو أمير القوم وعبد الله بن أنيس وأبو قتادة الحارث بن ربعي ومسعود بن سنان وخزاعي بن أسود فساروا حتى أتوه في خيبر في دار له فنزلوا عليه ليلا فقتلوه ورجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وكلهم ادعى قتله فقال : [ أروني أسيافكم ] فلما أروه إياها قال لسيف عبد الله بن أنيس [ هذا الذي قتله أرى فيه أثر الطعام ] (3/246)
فصل
ثم خرح رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى بني لحيان بعد قريظة بستة أشهر ليغزوهم فخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم في مائتي رجل وأظهر أنه يريد الشام واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم ثم أسرع السير حتى انتهى إلى بطن غران واد من أودية بلادهم وهو بين أمج وعسفان حيث كان مصاب أصحابه فترحم عليهم ودعا لهم وسمعت بنو لحيان فهربوا في رؤوس الجبال فلم يقدر منهم على أحد فأقام يومين بأرضهم وبعث السرايا فلم يقدروا عليهم فسار إلى عسفان فبعث عشرة فوارس إلى كراع الغميم لتسمع به قريش ثم رجع إلى المدينة وكانت غيبته عنها أربع عشرة ليلة (3/246)
فصل
في سرية نجد
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم خيلا قبل نجد فجاءت بثمامة بن أثال الحنيفي سيد بي حنيفة فربطه رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى سارية من سواري المسجد ومر به فقال : [ ما عندك يا ثمامة ؟ ] فقال : يا محمد ! إن تقتل تقتل ذا دم وإن تنعم تنعم على شاكر وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت فتركه ثم مر به مرة أخرى فقال له مثل ذلك فرد عليه كما رد عليه أولا ثم مر مرة ثالثة فقال : [ أطلقوا ثمامة ] فأطلقوه فذهب إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم جاءه فأسلم وقال : والله ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إلي من وجهك فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي والله ما كان على وجه الأرض دين أبغض علي من دينك فقد أصبح دينك أحب الأديان إلي وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فبشره رسول الله صلى الله عليه و سلم وأمره أن يعتمر فلما قدم على قريش قالوا : صبوت يا ثمامة ؟ قال : لا والله ولكني أسلمت مع محمد صلى الله عليه و سلم ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه و سلم وكانت اليمامة ريف مكة فانصرف إلى بلاده ومنع الحمل إلى مكة حتى جهدت قريش فكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم يسألونه بأرحامهم أن يكتب إلى ثمامة يخلي إليهم حمل الطعام ففعل رسول الله صلى الله عليه و سلم (3/247)
فصل
في غزوة الغابة
ثم أغار عيينة بن حصن الفزاري في بني عبد الله بن غطفان على لقاح النبي صلى الله عليه و سلم التي بالغابة فاستاقها وقتل راعيها وهو رجل من عسفان واحتملوا امراته قال عبد المؤمن بن خلف : وهو ابن أبي ذر وهو غريب جدا فجاء الصريخ ونودي : يا خيل الله اركبي وكان أول ما نودي بها وركب رسول الله صلى الله عليه و سلم مقنعا في الحديد فكان أول من قدم إليه المقداد بن عمرو في الدرع والمغفر فعقد له رسول الله صلى الله عليه و سلم اللواء في رمحه وقال : [ امض حتى تلحقك الخيول إنا على أثرك ] واستخلف رسول الله ابن أم مكتوم وأدرك سلمة بن الأكوع القوم وهو على رجليه فجعل يرميهم بالنبل ويقول :
( خذها وأنا ابن الأكوع ... واليوم يوم الرضع )
حتى انتهى إلى ذي قرد وقد استنقذ منهم جميع اللقاح وثلاثين بردة قال سلمة : فلحقنا رسول الله صلى الله عليه و سلم والخيل عشاء فقلت : يا رسول الله ! إن القوم عطاش فلو بعثني في مائة رجل استنفذت ما في أيديهم من السرح وأخذت بأعناق القوم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ملكت فأسجح ] ثم قال : [ إنهم الآن ليقرون في غطفان ]
وذهب الصريخ بالمدينة إلى بني عمرو بن عوف فجاءت الأمداد ولم تزل الخيل تأتي والرجال على أقدامهم وعلى الإبل حتى انتهوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم بذي قرد
قال عبد المؤمن بن خلف : فاستنقذوا عشر لقاح وأفلت القوم بما بقي وهو عشر
قلت : وهذا غلط بين والذي في الصحيحين : أنهم استنقذوا اللقاح كلها ولفظ مسلم في صحيحه عن سلمة : حتى ما خلق الله من شئ من لقاح رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا خلفته وراء ظهري واستلبت منهم ثلاثين بردة (3/248)
فصل
وهذه الغزوة كانت بعد الحديبية وقد وهم فيها جماعة من أهل المغازي والسير فذكروا أنها كانت قبل الحديبية والدليل على صحة ما قلناه : ما رواه الإمام أحمد والحسن بن سفيان عن أبي بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا هاشم بن القاسم قال : حدثنا عكرمة بن عمار قال : حدثني إياس بن سلمة عن أبيه قال : قدمت المدينة زمن الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : خرجت أنا ورباح بفرس لطلحة أنديه مع الإبل فلما كان بغلس أغار عبد الرحمن بن عيينة على إبل رسول الله صلى الله عليه و سلم فقتل راعيها وساق القصة رواها مسلم في صحيحه بطولها
ووهم عبد المؤمن بن خلف في سيرته في ذلك وهما بينا فذكر غزاة بني لحيان بعد قريظة بستة أشهر ثم قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة لم يمكث إلا ليالي حتى أغار عبد الرحمن بن عيينة وذكر القصة والذي أغار عبد الرحمن وقيل : أبوه عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر فأين هذا من قول سلمة : قدمت المدينة زمن الحديبية ؟
وقد ذكر الواقدي عدة سرايا في سنة ست من الهجرة قبل الحديبية فقال : بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم في ربيع الأول - أو قال : الآخر - سنة ست من قدومه المدينة عكاشة بن محصن الأسدي في أربعين رجلا إلى الغمر وفيهم ثابت بن أقرم وسباع بن وهب فأجد السير ونذر القوم بهم فهربوا فنزل على مياههم وبعث الطلائع فأصابوا من دلهم على بعض ماشيتهم فوجدوا مائتي بعير فساقوها إلى المدينة
وبعث سرية أبي عبيدة بن الجراح إلى ذي القصة فساروا ليلتهم مشاة ووافوها مع الصبح فأغاروا عليهم فأعجزوهم هربا في الجبال وأصابوا رجلا واحدا فأسلم
وبعث محمد بن مسلمة في ربيع الأول في عشرة نفر سرية فكمن القوم لهم حتى ناموا فما شعروا إلا بالقوم فقتل أصحاب محمد بن مسلمة وأفلت محمد جريحا
وفي هذه السنة - وهي سنة ست - كانت سرية زيد بن حارثة بالجموم فأصاب امرأة من مزينة يقال لها : حليمة فدلتهم على محلة من محال بني سليم فأصابوا نعما وشاء وأسرى وكان في الأسرى زوج حليمة فلما قفل زيد بن حارثة بما أصاب وهب رسول الله صلى الله عليه و سلم للمزنية نفسها وزوجها
وفيها - يعني : سنة ست - كانت سرية زيد بن حارثة إلى الطرف في جمادى الأولى إلى بني ثعلبة في خمسة عشر رجلا فهربت الأعراب وخافوا أن يكون رسول الله صلى الله عليه و سلم سار إليهم فأصاب من نعمهم عشرين بعيرا وغاب أربع ليال
وفيها كانت سرية زيد بن حارثة إلى العيص في جمادى الأولى وفيها : أخذت الأموال التي كانت مع أبي العاص بن الربيع زوج زينب مرجعه من الشام وكانت أموال قريش قال ابن إسحاق : حدثني عبد الله بن محمد بن حزم قال : خرح أبو العاص بن الربيع تاجرا إلى الشام وكان رجلا مأمونا وكانت معه بضائع لقريش فأقبل قافلا فلقيته سرية لرسول الله صلى الله عليه و سلم فاستاقوا عيره وأفلت وقدموا على رسول الله صلى الله عليه و سلم بما أصابوا فقسمه بينهم وأتى أبو العاص المدينة فدخل على زينب بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم فاستجار بها وسألها أن تطلب له من رسول الله صلى الله عليه و سلم رد ماله عليه وما كان معه من أموال الناس فدعا رسول الله صلى الله عليه و سلم السرية فقال : [ إن هذا الرجل منا حيث قد علمتم وقد أصبتم له مالا ولغيره وهو فيء الله الذي أفاء عليكم فإن رأيتم أن تردوا عليه فافعلوا وإن كرهتم فأنتم وحقكم ] فقالوا : بل نرده عليه يا رسول الله فردوا عليه ما أصابو حتى إن الرجل ليأتي بالشن والرجل بالإداوة والرجل بالحبل فما تركوا قليلا أصابوه ولا كثيرا إلا ردوه عليه ثم خرج حتى قدم مكة فأدى إلى الناس بضائعهم حتى إذا فرغ قال : يا معشر قريش ! هل بقي لأحد منكم معي مال لم أرده عليه ؟ قالوا : لا فجزاك الله خيرا قد وجدناك وفيا كريما فقال : أما والله ما منعني أن أسلم قبل أن أقدم عليكم إلا تخوفا أن تظنوا أني إنما أسلمت لأذهب بأموالكم فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله
وهذا القول من الواقدي وابن إسحاق يدل على أن قصة أبي العاص كانت قبل الحديبية وإلا فبعد الهدنة لم تتعرض سرايا رسول الله صلى الله عليه و سلم لقريش ولكن زعم موسى بن عقبة أن قصة أبي العاص كانت بعد الهدنة وأن الذي أخذ الأموال أبو بصير وأصحابه ولم يكن ذلك بأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم لأنهم كانوا منحازين بسيف البحر وكانت لا تمر بهم عير لقريش إلا أخذوها هذا قول الزهري
قال موسى بن عقبة عن ابن شهاب في قصة أبي بصير : ولم يزل أبو جندل وأبو بصير وأصحابهما الذين اجتمعوا إليهما هنالك حتى مر بهم أبو العاص بن الربيع وكانت تحته زينب بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم في نفر من قريش فأخذوهم وما معهم وأسروهم ولم يقتلوا منهم أحدا لصهر رسول الله صلى الله عليه و سلم من أبي العاص وأبو العاص يومئذ مشرك وهو ابن أخت خديجة بنت خويلد لأبيها وأمها وخلوا سبيل أبي العاص فقدم المدينة على امرأته زينب فكلمها أبو العاص في أصحابه الذين أسرهم أبو جندل وأبو بصير وما أخذوا لهم فكلمت زينب رسول الله صلى الله عليه و سلم في ذلك فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قام فخطب الناس فقال : [ إنا صاهرنا أناسا وصاهرنا أبا العاص فنعم الصهر وجدناه وإنه أقبل من الشام في أصحاب له من قريش فأخذهم أبو جندل وأبو بصير وأخذوا ما كان معهم ولم يقتلوا منهم أحدا وإن زينب بنت رسول الله سألتني أن أجيرهم فهل أنتم مجيرون أبا العاص وأصحابه ؟ ] فقال الناس : نعم فلما بلغ أبا جندل وأصحابه قول رسول الله صلى الله عليه و سلم في أبي العاص وأصحابه الذين كانوا عنده من الأسرى رد إليهم كل شئ أخذ منهم حتى العقال وكتب رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى أبي جندل وأبي بصير يأمرهم أن يقدموا عليه ويأمر من معهما من المسلمين أن يرجعوا إلى بلادهم وأهليهم وألا يتعرضوا لأحد من قريش وعيرها فقدم كتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم على أبي بصير وهو في الموت فمات وهو على صدره ودفنه أبو جندل مكانه وأقبل أبو جندل على رسول الله صلى الله عليه و سلم وأمنت عير قريش وذكر باقي الحديث
وقول موسى بن عقبة : أصوب وأبو العامر إنما أسلم زمن الهدنة وقريش إنما انبسطت عيرها إلى الشام زمن الهدنة وسياق الزهري للقصة بين ظاهر أنها كانت في زمن الهدنة
قال الواقدي : وفيها أقبل دحية بن خليفة الكلبي من عند قيصر وقد أجازه بمال وكسوة فلما كان بحسمى لقيه ناس من جذام فقطعوا عليه الطريق فلم يتركوا معه شيئا فجاء رسول الله صلى الله عليه و سلم قبل أن يدخل بيته فأخبره فبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم زيد بن حارثة إلى حسمى قلت : وهذا بعد الحديبية بلا شك
قال الواقدي : وخرج علي في مائة رجل إلى فدك إلى حي من بني سعد بن بكر وذلك أنه بلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم أن بها جمعا يريدون أن يمدوا يهود خيبر فسار إليهم يسير الليل ويكمن النهار فأصاب عينا لهم فأقر له أنهم بعثوه إلى خيبر فعرضوا عليهم نصرتهم على أن يجعلوا لهم ثمر خيبر قال : وفيها سرية عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل في شعبان فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن أطاعوك فتزوج ابنة ملكهم ] فأسلم القوم وتزوج عبد الرحمن تماضر بنت الأصبغ وهي أم أبي سلمة وكان أبوها رأسهم وملكهم
قال : وكانت سرية كرز بن جابر الفهري إلى العرنيين الذين قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه و سلم واستاقوا الإبل في شوال سنة ست وكانت السرية عشرين فارسا
قلت : وهذا يدل على أنها كانت قبل الحديبية كانت في ذي القعدة كما سيأتي وقصة العرنيين في الصحيحين من حديث أنس أن رهطا من عكل وعرينة أتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم قالوا : يا رسول الله ! إنا أهل ضرع ولم نكن أهل ريف فاستوخمنا المدينة فأمر لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم بذود وأمرهم أن يخرجوا فيها فيشربوا من ألبانها وأبوالها فلما صحوا قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه و سلم واستاقوا الذود وكفروا بعد إسلامهم
وفي لفظ لمسلم : سملوا عين الراعي فبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم في طلبهم فأمر بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وتركهم في ناحية الحرة حتى ماتوا
وفي حديث أبي الزبير عن جابر فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ اللهم عم عليهم الطريق واجعلها عليهم أضيق من مسك جمل ] فعمى الله عليهم السبيل فأدركوا وذكر القصة
وفيها من الفقه جواز شرب أبوال الإبل وطهارة بول مأكول اللحم والجمع للمحارب إذا أخذ المال وقتل بين قطع يده ورجله وقتله وأنه يفعل بالجاني كما فعل فإنهم لما سملوا عين الراعي سمل أعينهم وقد ظهر بهذا أن القصة محكمة ليست منسوخة وإن كانت قبل أن تنزل الحدود والحدود نزلت بتقريرها لا بإبطالها والله أعلم (3/249)
فصل
في قصة الحديبية
قال نافع : كانت سنة ست في ذي القعدة وهذا هو الصحيح وهو قول الزهري وقتادة وموسى بن عقبة ومحمد بن إسحاق وغيرهم
وقال هشام بن عروة عن أبيه : خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى الحديبية في رمضان وكانت في شوال وهذا وهم وإنما كانت غزاة الفتح في رمضان وقد قال أبو الأسود عن عروة : إنها كانت في ذي القعدة على الصواب
وفي الصحيحين عن أنس أن النبي صلى الله عليه و سلم اعتمر أربع عمر كلهن فى ذي القعدة فذكر منها عمرة الحديبية
وكان معه ألف وخمسمائة هكذا في الصحيحين عن جابر وعنه فيهما : كانوا ألفا وأربعمائة وفيهما : عن عبد الله بن أبي أوفى : كنا ألفا وثلاثمائة قال قتادة : قلت لسعيد بن المسيب : كم كان الذين شهدوا بيعة الرضوان ؟ قال : خمس عشرة مائة قال : قلت : فإن جابر بن عبد الله قال : كانوا أربع عشرة مائة قال : يC أوهم هو حدثني أنهم كانوا خمس عشرة مائة قلت : وقد صح عن جابر القولان وصح عنه أنهم نحروا عام الحديبية سبعين بدنة البدنة عن سبعة فقيل له : كم كنتم ؟ قال : ألفا وأربعمائة بخيلنا ورجلنا يعني فارسهم وراجلهم والقلب إلى هذا أميل وهو قول البراء بن عازب ومعقل بن يسار وسلمة بن الأكوع في أصح الرواتين وقول المسيب بن حزن قال شعبة : عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن أبيه : كنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم تحت الشجرة ألفا وأربعمائة
وغلط غلطا بينا من قال : كانوا سبعمائة وعذره أنهم نحروا يومئذ سبعين بدنة والبدنة قد جاء إجزاؤها عن سبعة وعن عشرة وهذا لا يدل على ما قاله هذا القائل فإنه قد صرح بأن البدنة كانت في هذه العمرة عن سبعة فلو كانت السبعون عن جميعهم لكانوا أربعمائة وتسعين رجلا وقد قال في تمام الحديث بعينه : إنهم كانوا ألفا وأربعمائة (3/255)
فصل
فلما كانوا بذي الحليفة قلد رسول الله صلى الله عليه و سلم الهدي وأشعره وأحرم بالعمرة وبعث بين يديه عينا له من خزاعة يخبره عن قريش حتى إذا كان قريبا من عسفان أتاه عينه فقال : إني تركت كعب بن لؤي قد جمعوا لك الأحابيش وجمعوا لك جموعا وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت ومانعوك واستشار النبي صلى الله عليه و سلم أصحابه وقال : [ أترون أن نميل إلى ذراري هؤلاء الذين أعانوهم فنصيبهم فإن قعدوا قعدوا موتورين محروبين وإن يجيؤوا تكن عنقا قطعها الله أم ترون أن نؤم البيت فمن صدنا عنه قاتلناه ؟ ] فقال أبو بكر : الله ورسوله أعلم إنما جئنا معتمرين ولم نجيء لقتال أحد ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ فروحوا إذا ] فراحوا حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة فخذوا ذات اليمين ] فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة الجيش وانطلق يركض نذيرا لقريش وسار النبي صلى الله عليه و سلم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته فقال الناس : حل حل فألحت فقالوا : خلأت القصواء خلأت القصواء فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل ] ثم قال : [ والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها ] ثم زجرها فوثبت به فعدل حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء إنما يتبرضه الناس تبرضا فلم يلبثه الناس أن نزحوه فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم العطش فانتزع سهما من كنانته ثم أمرهم أن يجعلوه فيه قال : فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه
وفزعت قريش لنزوله عليهم فأحب رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يبعث إليه رجلا من أصحابه فدعا عمر بن الخطاب ليبعثه إليهم فقال : يا رسول الله ! ليس لي بمكة أحد من بني كعب يغضب لي إن أوذيت فأرسل عثمان بن عفان فإن عشيرته بها وإنه مبلغ ما أردت فدعا رسول الله صلى الله عليه و سلم عثمان بن عفان فأرسله إلى قريش وقال : [ أخبرهم أنا لم نأت لقتال وإنما جئنا عمارا وادعهم إلى الإسلام ] وأمره أن يأتي رجالا بمكة مؤمنين ونساء مؤمنات فيدخل عليهم ويبشرهم بالفتح ويخبرهم أن الله عز و جل مظهر دينه بمكة حتى لا يستخفى فيها بالإيمان فانطلق عثمان فمر على قريش ببلدح فقالوا : أين تريد ؟ فقال : بعثني رسول الله صلى الله عليه و سلم أدعوكم إلى الله وإلى الإسلام وأخبركم أنا لم نأت لقتال وإنما جئنا عمارا فقالوا : قد سمعنا ما تقول فانفذ لحاجتك وقام إليه أبان بن سعيد بن العاص فرحب به وأسرج فرسه فحمل عثمان على الفرس وأجاره وأردفه أبان حتى جاء مكة وقال المسلمون قبل أن يرجع عثمان ؟ خلص عثمان قبلنا إلى البيت وطاف به فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ما أظنه طاف بالبيت ونحن محصورون ] فقالوا : وما يمنعه يا رسول الله وقد خلص ؟ قال : [ ذاك ظني به ألا يطوف بالكعبة حتى نطوف معه ]
واختلط المسلمون بالمشركين في أمر الصلح فرمى رجل من أحد الفريقين رجلا من الفريق الآخر وكانت معركة وتراموا بالنبل والحجارة وصاح الفريقان كلاهما وارتهن كل واحد من الفريقين بمن فيهم وبلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم أن عثمان قد قتل فدعا إلى البيعة فثار المسلمون إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو تحت الشجرة فبايعوه على ألا يفروا فأخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم بيد نفسه وقال : [ هذه عن عثمان ]
ولما تمت البيعة رجع عثمان فقال له المسلمون : اشتفيت يا أبا عبد الله من الطواف بالبيت فقال : بئس ما ظننتم بي والذي نفسي بيده لو مكثت بها سنة ورسول الله صلى الله عليه و سلم مقيم بالحديبية ما طفت بها حتى يطوف بها رسول الله صلى الله عليه و سلم ولقد دعتني قريش إلى الطواف بالبيت فأبيت فقال المسلمون : رسول الله صلى الله عليه و سلم كان أعلمنا بالله وأحسننا ظنا وكان عمر آخذا بيد رسول الله صلى الله عليه و سلم للبيعة تحت الشجرة فبايعه المسلمون كلهم إلا الجد بن قيس
وكان معقل بن يسار آخذا بغصنها يرفعه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وكان أول من بايعه أبو سنان الأسدي
وبايعه سلمة بن الأكوع ثلاث مرات في أول الناس وأوسطهم وآخرهم
فبينما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من خزاعة وكانوا عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه و سلم من أهل تهامة فقال : إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحديبية معهم العوذ المطافيل وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إنا لم نجىء لقتال أحد ولكن جئنا معتمرين وإن قريشا قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم فإن شاؤوا ماددتهم ويخلوا بيني وبين الناس وإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا وإلا فقد جموا وإن هم أبوا إلا القتال فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي أو لينفذن الله أمره ]
قال بديل : سأبلغهم ما تقول فانطلق حتى أتى قريشا فقال : إنى قد جئتكم من عند هذا الرجل وقد سمعته يقول قولا فإن شئتم عرضته عليكم فقال سفهاؤهم : لا حاجة لنا أن تحدثنا عنه بشئ وقال ذوو الرأي منهم : هات ما سمعته قال : سمعته يقول : كذا وكذا فحدثهم بما قال النبي صلى الله عليه و سلم فقال عروة بن مسعود الثقفي : إن هذا قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ودعونى آته فقالوا : ائته فأتاه فجعل يكلمه فقال له النبي صلى الله عليه و سلم نحوا من قوله لبديل فقال له عروة عند ذلك : أي محمد أرأيت لو استأصلت قومك هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك ؟ وإن تكن الأخرى فوالله إني لأرى وجوها وأرى أوشابا من الناس خليقا أن يفروا ويدعوك فقال له أبو بكر : امصص بظر اللات أنحن نفر عنه وندعه قال : من ذا ؟ قالوا : أبو بكر قال : أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك وجعل يكلم النبي صلى الله عليه و سلم وكلما كلمه أخذ بلحيته والمغيرة بن شعبة عند رأس النبي صلى الله عليه و سلم ومعه السيف وعليه المغفر فكلما أهوى عروة إلى لحية النبي صلى الله عليه و سلم ضرب يده بنعل السيف وقال : أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه و سلم فرفع عروة رأسه وقال : من ذا ؟ قالوا : المغيرة بن شعبة فقال : أي غدر أو لست أسعى في غدرتك ؟ وكان المغيرة صحب قوما في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ثم جاء فأسلم فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ أما الإسلام فأقبل وأما المال فلست منه في شئ ]
ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم بعينيه فوالله ما تنخم النبي صلى الله عليه و سلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها جلده ووجهه وإذا أمرهم ابتدروا أمره وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون إليه النظر تعظيما له فرجع عروة إلى أصحابه فقال : أي قوم والله لقد وفدت على الملوك على كسرى وقيصر والنجاشي والله ما رأيت ملكا يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده وإذا أمرهم ابتدروا أمره وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون إليه النظر تعظيما له وقد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها فقال رجل من بني كنانة : دعوني آته فقالوا : ائته فما أشرف على النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ هذا فلان وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له ] فبعثوها له واستقبله القوم يلبون فلما رأى ذلك قال : سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت فرجع إلى أصحابه فقال : رأيت البدن قد قلدت وأشعرت وما أرى أن يصدوا عن البيت فقام مكرز بن حفص فقال : دعونى آته فقالوا : ائته فلما أشرف عليهم قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ هذا مكرز بن حفص وهو رجل فاجر ] فجعل يكلم رسول الله صلى الله عليه و سلم فبينا هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ قد سهل لكم من أمركم ] فقال : هات اكتب بيننا وبينكم كتابا فدعا الكاتب فقال : [ اكتب بسم الله الرحمن الرحيم ] فقال سهيل : أما الرحمن فوالله ما ندري ما هو ولكن اكتب : باسمك اللهم كما كنت تكتب فقال المسلمون : والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم فقال النبى صلى الله عليه و سلم : [ اكتب باسمك اللهم ] ثم قال : [ اكتب هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله ] فقال سهيل : فوالله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ولكن اكتب : محمد بن عبد الله فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إنى رسول الله وإن كذبتموني اكتب : محمد بن عبد الله ] فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به ] فقال سهيل : والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة ولكن ذلك من العام المقبل فكتب فقال سهيل : على أن لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا فقال المسلمون : سبحان الله كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما بينا هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده قد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين ظهور المسلمين فقال سهيل : هذا يا محمد أول ما أقاضيك عليه أن ترده إلي فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إنا لم نقض الكتاب بعد ] فقال : فوالله إذا لا أصالحك على شء أبدا فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ فأجزه لي ] قال : ما أنا بمجيزه لك قال : [ بلى فافعل ] قال : ما أنا بفاعل قال مكرز : بلى قد أجزناه فقال أبو جندل : يا معشر المسلمين أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما ألا ترون ما لقيت وكان قد عذب في الله عذابا شديدا قال عمر بن الخطاب : والله ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ فأتيت النبي صلى الله عليه و سلم فقلت يا رسول الله : ألست نبي الله حقا ؟ قال : [ بلى ] قلت : ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال : [ بلى ] فقلت : علام نعطي الدنية في ديننا إذا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبين أعدائنا ؟ فقال : [ إني رسول الله وهو ناصري ولست أعصيه ] قلت : أو لست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ؟ قال : [ بلى أفأخبرتك أنك تأتيه العام ؟ ] قلت : لا قال : [ فإنك آتيه ومطوف به ] قال : فأتيت أبا بكر فقلت له كما قلت لرسول الله صلى الله عليه و سلم ورد علي أبو بكر كما رد علي رسول الله صلى الله عليه و سلم سواء وزاد : فاستمسك بغرزه حتى تموت فوالله إنه لعلى الحق قال عمر : فعملت لذلك أعمالا
فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ قوموا فانحروا ثم احلقوا ] فوالله ما قام منهم رجل واحد حتى قال ذلك ثلاث مرات فلما لم يقم منهم أحد قام فدخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس فقالت أم سلمة : يا رسول الله : أتحب ذلك ؟ اخرج ثم لا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك فقام فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك : نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه فلما رأى الناس ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما ثم جاءه نسوة مؤمنات فأنزل الله عز و جل : { يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن } حتى بلغ : { بعصم الكوافر } ( الممتحنة : 10 ) فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك فتزوج إحداهما معاوية والأخرى صفوان بن أمية ثم رجع إلى المدينة وفي مرجعه أنزل الله عليه : { إنا فتحنا لك فتحا مبينا * ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما * وينصرك الله نصرا عزيزا } ( الفتح : 1 ، 3 ) فقال عمر : أو فتح هو يا رسول الله ؟ قال : نعم فقال الصحابة : هنيئا لك يا رسول الله فما لنا ؟ فأنزل الله عز و جل : { هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين } ( الفتح : 4 )
ولما رجع إلى المدينة جاءه أبو بصير رجل من قريش مسلما فأرسلوا في طلبه رجلين وقالوا : العهد الذي جعلت لنا فدفعه إلى الرجلين فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة فنزلوا يأكلون من تمر لهم فقال أبو بصير لأحد الرجلين : والله إني لأرى سيفك هذا جيدا فاستله الآخر فقال : أجل والله إنه لجيد لقد جربت به ثم جربت فقال أبو بصير : أرني أنظر إليه فأمكنه منه فضربه به حتى برد وفر الآخر يعدو حتى بلغ المدينة فدخل المسجد فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم حين رآه : [ لقد رأى هذا ذعرا ] فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه و سلم قال : قتل والله صاحبي وإني لمقتول فجاء أبو بصير فقال : يا نبي الله قد والله أوفى الله ذمتك وقد رددتني إليهم فأنجاني الله منهم فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد ] فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم فخرج حتى أتي سيف البحر وينفلت منهم أبو جندل بن سهيل فلحق بأبي بصير فلا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة فوالله لا يسمعون بعير لقريش خرجت إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم وأخذوا أموالهم فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه و سلم تناشده الله والرحم لما أرسل إليهم فمن أتاه منهم فهو آمن فأنزل الله عز و جل : { وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم } حتى بلغ { حمية الجاهلية } ( الفتح : 24 ) وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه نبي الله ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم وحالوا بينهم وبين البيت
قلت : في الصحيح : أن النبي صلى الله عليه و سلم توضأ ومج في بئر الحديبية من فمه فجاشت بالماء كذلك قال البراء بن عازب وسلمة بن الأكوع فى الصحيحين
وقال عروة : عن مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة أنه غرز فيها سهما من كنانته وهو في الصحيحين أيضا
وفي مغازي أبي الأسود عن عروة : توضأ في الدلو ومضمض فاه ثم مج فيه وأمر أن يصب في البئر ونزع سهما من كنانته وألقاه في البئر ودعا الله تعالى ففارت بالماء حتى جعلوا يغترفون بأيديهم منها وهم جلوس على شقها فجمع بين الأمرين وهذا أشبه والله أعلم
وفي صحيح البخاري : عن جابر قال : عطش الناس يوم الحديبية ورسول الله صلى الله عليه و سلم بين يديه ركوة يتوضأ منها إذ جهش الناس نحوه فقال : ما لكم ؟ قالوا : يا رسول الله ! ما عندنا ماء نشرب ولا ما نتوضأ إلا ما بين يديك فوضع يده في الركوة فجعل الماء يفور من بين أصابعه أمثال العيون فشربوا وتوضؤوا وكانوا خمس عشرة مائة وهذه غير قصة البئر
وفي هذه الغزوة أصابهم ليلة مطر فلما صلى النبي صلى الله عليه و سلم الصبح قال : [ أتدرون ماذا قال ربكم الليلة ؟ ] قالوا : الله ورسوله أعلم قال : [ أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر فأما من قال : مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب وأما من قال : مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب ] (3/257)
فصل
وجرى الصلح بين المسلمين وأهل مكة على وضع الحرب عشر سنين وأن يأمن الناس بعضهم من بعض وأن يرجع عنهم عامه ذلك حتى إذا كان العام المقبل قدمها وخلوا بينه وبين مكة فأقام بها ثلاثا وأن لا يدخلها إلا بسلاح الراكب والسيوف في القرب وأن من أتانا من أصحابك لم نرده عليك ومن أتاك من أصحابنا رددته علينا وأن بيننا وبينك عيبة مكفوفة وأنه لا إسلال ولا إغلال فقالوا : يا رسول الله ! نعطيهم هذا ؟ فقال : [ من أتاهم منا فأبعده الله ومن أتانا منهم فرددناه إليهم جعل الله له فرجا ومخرجا ]
وفي قصة الحديبية أنزل الله - عز و جل - فدية الأذى لمن حلق رأسه بالصيام أو الصدقة أو النسك في شأن كعب بن عجرة
وفيها دعا رسول الله صلى الله عليه و سلم للمحلقين بالمغفرة ثلاثا وللمقصرين مرة
وفيها نحروا البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة
وفيها أهدى رسول الله صلى الله عليه و سلم في جملة هديه جملا كان لأبي جهل كان فى أنفه برة من فضة ليغيظ به المشركين
وفيها أنزلت سورة الفتح ودخلت خزاعة في عقد رسول الله صلى الله عليه و سلم وعهده ودخلت بنو بكر في عقد قريش وعهدهم وكان في الشرط أن من شاء أن يدخل في عقده صلى الله عليه و سلم دخل ومن شاء أن يدخل في عقد قريش دخل
ولما رجع إلى المدينة جاءه نساء مؤمنات منهن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط فجاء أهلها يسألونها رسول الله صلى الله عليه و سلم بالشرط الذي كان بينهم فلم يرجعها إليهم ونهاه الله عز و جل عن ذلك فقيل : هذا نسخ للشرط في النساء وقيل : تخصيص للسنة بالقرآن وهو عزيز جدا وقيل : لم يقع الشرط إلا على الرجال خاصة وأراد المشركون أن يعمموه في الصنفين فأبى الله ذلك (3/266)
فصل
في بعض ما في قصة الحديبية من الفوائد الفقهية
فمنها : اعتمار النبي صلى الله عليه و سلم في أشهر الحج فإنه خرج إليها في ذي القعدة
ومنها : أن الإحرام بالعمرة من الميقات أفضل كما أن الإحرام بالحج كذلك فإنه أحرم بهما من ذي الحليفة وبينها وبين المدينة ميل أو نحوه وأما حديث [ من أحرم بعمرة من بيت المقدس غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ] وفي لفظ : [ كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ] فحديث لا يثبت وقد اضطرب فيه إسنادا ومتنا اضطرابا شديدا
ومنها : أن سوق الهدي مسنون في العمرة المفردة كما هو مسنون في القران
ومنها : أن إشعار الهدي سنة لا مثلة منهي عنها
ومنها : استحباب مغايظة أعداء الله فإن النبي صلى الله عليه و سلم أهدى في جملة هديه جملا لأبي جهل في أنفه برة من فضة يغيظ به المشركين وقد قال تعالى فى صفة النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه : { ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار } ( الفتح : 29 ) وقال عز و جل : { ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين } ( التوبة : 120 )
ومنها : أن أمير الجيش ينبغي له أن يبعث العيون أمامه نحو العدو
ومنها : أن الاستعانة بالمشرك المأمون في الجهاد جائزة عند الحاجة لأن عينه الخزاعي كان كافرا إذ ذاك وفيه من المصلحة أنه أقرب إلى اختلاطه بالعدو وأخذه أخبارهم
ومنها : استحباب مشورة الإمام رعيته وجيشه استخراجا لوجه الرأي واستطابة لنفوسهم وأمنا لعتبهم وتعرفا لمصلحة يختص بعلمها بعضهم دون بعض وامتثالا لأمر الرب في قوله تعالى : { وشاورهم في الأمر } ( آل عمران : 159 ) وقد مدح سبحانه وتعالى عباده بقوله : { وأمرهم شورى بينهم } ( الشورى : 38 )
ومنها : جواز سبي ذراري المشركين إذا انفردوا عن رجالهم قبل مقاتلة الرجال
ومنها : رد الكلام الباطل ولو نسب إلى غير مكلف فإنهم لما قالوا : خلأت القصواء يعني حرنت وألحت فلم تسر والخلاء في الإبل بكسر الخاء والمد نظير الحران في الخيل فلما نسبوا إلى الناقة ما ليس من خلقها وطبعها رد عليهم وقال : [ ما خلأت وما ذاك لها بخلق ] ثم أخبر صلى الله عليه و سلم عن سبب بروكها وأن الذي حبس الفيل عن مكة حبسها للحكمة العظيمة التي ظهرت بسبب حبسها وما جرى بعده
ومنها : أن تسمية ما يلابسه الرجل من مراكبه ونحوها سنة
ومنها : جواز الحلف بل استحبابه على الخبر الديني الذي يريد تأكيده وقد حفظ عن النبي صلى الله عليه و سلم الحلف في أكثر من ثمانين موضعا وأمره الله تعالى بالحلف على تصديق ما أخبر به في ثلاثة مواضع : في ( سورة يونس ) و ( سبأ ) و ( التغابن )
ومنها : أن المشركين وأهل البدع والفجور والبغاة والظلمة إذا طلبوا أمرا يعظمون فيه حرمة من حرمات الله تعالى أجيبوا إليه وأعطوه وأعينوا عليه وإن منعوا غيره فيعاونون على ما فيه تعظيم حرمات الله تعالى لا على كفرهم وبغيهم ويمنعون مما سوى ذلك فكل من التمس المعاونة على محبوب لله تعالى مرض له أجيب إلى ذلك كائنا من كان ما لم يترتب على إعانته على ذلك المحبوب مبغوض لله أعظم منه وهذا من أدق المواضع وأصعبها وأشقها على النفوس ولذلك ضاق عنه من الصحابة من ضاق وقال عمر ما قال حتى عمل له أعمالا بعده والصديق تلقاه بالرضى والتسليم حتى كان قلبه فيه على قلب رسول الله صلى الله عليه و سلم وأجاب عمر عما سأل عنه من ذلك بعين جواب رسول الله صلى الله عليه و سلم وذلك يدل على أن الصديق رضي الله عنه أفضل الصحابة وأكملهم وأعرفهم بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم وأعلمهم بدينه وأقومهم بمحابه وأشدهم موافقة له ولذلك لم يسأل عمر عما عرض له إلا رسول الله صلى الله عليه و سلم وصديقه خاصة دون سائر أصحابه
ومنها : أن النبي صلى الله عليه و سلم عدل ذات اليمين إلى الحديبية قال الشافعي : بعضها من الحل وبعضها من الحرم
وروى الإمام أحمد في هذه القصة أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يصلي في الحرم وهو مضطرب في الحل وفي هذا كالدلالة على أن مضاعفة الصلاة بمكة تتعلق بجميع الحرم لا يخص بها المسجد الذي هو مكان الطواف وأن قوله : [ صلاة فى المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في مسجدي ] كقوله تعالى : { فلا يقربوا المسجد الحرام } ( التوبة : 28 ) وقوله تعالى : { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام } ( الإسراء : 1 ) وكان الإسراء من بيت أم هانىء
ومنها : أن من نزل قريبا من مكة فإنه ينبغي له أن ينزل في الحل ويصلى في الحرم وكذلك كان ابن عمر يصنع
ومنها : جواز ابتداء الإمام بطلب صلح العدو إذا رأى المصلحة للمسلمين فيه ولا يتوقف ذلك على أن يكون ابتداء الطلب منهم
وفي قيام المغيرة بن شعبة على رأس رسول الله صلى الله عليه و سلم بالسيف ولم يكن عادته أن يقام على رأسه وهو قاعد سنة يقتدى بها عند قدوم رسل العدو من إظهار العز والفخر وتعظيم الإمام وطاعته ووقايته بالنفوس وهذه هي العادة الجارية عند قدوم رسل المؤمنبن على الكافرين وقدوم رسل الكافرين على المؤمنين وليس هذا من هذا النوع الذي ذمه النبي صلى الله عليه و سلم بقوله : [ من أحب أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار ] كما أن الفخر والخيلاء في الحرب ليسا من هذا النوع المذموم في غيره وفي بعث البدن في وجه الرسول الآخر دليل على استحباب إظهار شعائر الإسلام لرسل الكفار
وفي قول النبي صلى الله عليه و سلم للمغيرة : [ أما الإسلام فأقبل وأما المال فلست منه في شئ ] دليل على أن مال المشرك المعاهد معصوم وأنه لا يملك بل يرد عليه فإن المغيرة كان قد صحبهم على الأمان ثم غدر بهم وأخذ أموالهم فلم يتعرض النبي صلى الله عليه و سلم لأموالهم ولا ذب عنها ولا ضمنها لهم لأن ذلك كان قبل إسلام المغيرة
وفي قول الصديق لعروة : امصص بظر اللات دليل على جواز التصريح باسم العورة إذا كان فيه مصلحة تقتضيها تلك الحال كما أذن النبي صلى الله عليه و سلم أن يصرح لمن ادعى دعوى الجاهلية بهن أبيه ويقال له : اعضض أير أبيك ولا يكنى له فلكل مقام مقال
ومنها : احتمال قلة أدب رسول الكفار وجهله وجفوته ولا يقابل على ذلك لما فيه من المصلحة العامة ولم يقابل النبي صلى الله عليه و سلم عروة على أخذه بلحيته وقت خطابه وإن كانت تلك عادة العرب لكن الوقار والتعظيم خلاف ذلك
وكذلك لم يقابل رسول الله صلى الله عليه و سلم رسولي مسيلمة حين قالا : نشهد أنه رسول الله وقال : [ لو لا أن الرسل لا تقتل لقتلتكما ]
ومنها : طهارة النخامة سواء كانت من رأس أو صدر
ومنها : طهارة الماء المستعمل
ومنها : استحباب التفاؤل وأنه ليس من الطيرة المكروهة لقوله لما جاء سهيل : [ سهل أمركم ]
ومنها : أن المشهود عليه إذا عرف باسمه واسم أبيه أغنى ذلك عن ذكر الجد لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يزد على محمد بن عبد الله وقنع من سهيل بذكر اسمه أبيه خاصة واشتراط ذكر الجد لا أصل له ولما اشترى العداء بن خالد منه صلى الله عليه و سلم الغلام فكتب له : هذا ما اشترى العداء بن خالد بن هوذة فذكر جده فهو زيادة بيان تدل على أنه جائز لا بأس به ولا تدل على اشتراطه ولما لم يكن في الشهرة بحيث يكتفى باسمه واسم أبيه ذكر جده فيشترط ذكر الجد عند الاشتراك في الاسم واسم الأب وعند عدم الاشتراك اكتفي بذكر الاسم واسم الأب والله أعلم
ومنها : أن مصالحة المشركين ببعض ما فيه ضيم على المسلمين جائزة للمصلحة الراجحة ودفع ما هو شر منه ففيه دفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما
ومنها : أن من حلف على فعل شئ أو نذره أو وعد غيره به ولم يعين وقتا لا بلفظه ولا بنيته لم يكن على الفور بل على التراخي
ومنها : أن الحلاق نسك وأنه أفضل من التقصير وأنه نسك في العمرة كما هو نسك في الحج وأنه نسك في عمرة المحصور كما هو نسك فى عمرة غيره
ومنها : أن المحصر ينحر هديه حيث أحصر من الحل أو الحرم وأنه لا يجب عليه أن يواعد من ينحره في الحرم إذا لم يصل إليه وأنه لا يتحلل حتى يصل إلى محله بدليل قوله تعالى : { والهدي معكوفا أن يبلغ محله } ( الفتح : 25 )
ومنها : أن الموضع الذي نحر فيه الهدي كان من الحل لا من الحرم لأن الحرم كله محل الهدي
ومنها : أن المحصر لا يجب عليه القضاء لأنه صلى الله عليه و سلم أمرهم بالحلق والنحر ولم يأمر أحدا منهم بالقضاء والعمرة من العام القابل لم تكن واجبة ولا قضاء عن عمرة الإحصار فإنهم كانوا في عمرة الإحصار ألفا وأربعمائة وكانوا في عمرة القضية دون ذلك وإنما سميت عمرة القضية والقضاء لأنها العمرة التي قاضاهم عليها فأضيفت العمرة إلى مصدر فعله
ومنها : أن الأمر المطلق على الفور وإلا لم يغضب لتأخيرهم الامتثال عن وقت الأمر وقد اعتذر عن تأخيرهم الامتثال بأنهم كانوا يرجون النسخ فأخروا متأولين لذلك وهذا الاعتذار أولى أن يعتذر عنه وهو باطل فإنه صلى الله عليه و سلم لو فهم منهم ذلك لم يشتد غضبه لتأخير أمره ويقول : [ مالي لا أغضب وأنا آمر بالأمر فلا أتبع ] وإنما كان تأخيرهم من السعي المغفور لا المشكور وقد رضي الله عنهم وغفر لهم وأوجب لهم الجنة
ومنها : أن الأصل مشاركة أمته له فى الأحكام إلا ما خصه الدليل ولذلك قالت أم سلمة : اخرج ولا تكلم أحدا حتى تحلق رأسك وتنحر هديك وعلمت أن الناس سيتابعونه
فإن قيل : فكيف فعلوا ذلك اقتداء بفعله ولم يمتثلوه حين أمرهم به ؟ قيل : هذا هو السبب الذي لأجله ظن من ظن أنهم أخروا الامتثال طمعا في النسخ فلما فعل النبي صلى الله عليه و سلم ذلك علموا حينئذ أنه حكم مستقر غير منسوخ وقد تقدم فساد هذا الظن ولكن لما تغيظ عليهم وخرج ولم يكلمهم وأراهم أنه بادر إلى امتثال ما أمر به وأنه لم يؤخر كتأخيرهم وأن اتباعهم له وطاعتهم توجب اقتداءهم به بادروا حينئذ إلى الاقتداء به وامتثال أمره
ومنها : جواز صلح الكفار على رد من جاء منهم إلى المسلمين وألا يرد من ذهب من المسلمين إليهم هذا في غير النساء وأما النساء فلا يجوز اشتراط ردهن إلى الكفار وهذا موضع النسخ خاصة في هذا العقد بنص القرآن ولا سبيل إلى دعوى النسخ فى غيره بغير موجب
ومنها : أن خروج البضع من ملك الزوج متقوم ولذلك أوجب الله سبحانه رد المهر على من هاجرت امرأته وحيل بينه وبينها وعلى من ارتدت امرأته من المسلمين إذا استحق الكفار عليهم رد مهور من هاجر إليهم من أزواجهم وأخبر أن ذلك حكمه الذي حكم به بينهم ثم لم ينسخه شئ وفي إيجابه رد ما أعطى الأزواح من ذلك دليل على تقومه بالمسمى لا بمهر المثل
ومنها : أن رد من جاء من الكفار إلى الإمام لا يتناول من خروج منهم مسلما إلى غير بلد الإمام وأنه إذا جاء إلى بلد الإمام لا يجب عليه رده بدون الطلب فإن النبي صلى الله عليه و سلم لم يرد أبا بصير حين جاءه ولا أكرهه على الرجوع ولكن لما جاؤوا في طلبه مكنهم من أخذه ولم يكرهه على الرجوع
ومنها أن المعاهدين إذا تسلموه وتمكنوا منه فقتل أحدا منهم لم يضمنه بدية ولا قود ولم يضمنه الإمام بل يكون حكمه في ذلك حكم قتله لهم فى ديارهم حيث لا حكم للإمام عليهم فإن أبا بصير قتل أحد الرجلين المعاهدين بذي الحليفة وهي من حكم المدينة ولكن كان قد تسلموه وفصل عن يد الإمام وحكمه
ومنها : أن المعاهدين إذا عاهدوا الإمام فخرجت منهم طائفة فحاربتهم وغنمت أموالهم ولم يتحيزوا إلى الإمام لم يجب على الإمام دفعهم عنهم ومنعهم منهم وسواء دخلوا في عقد الإمام وعهده ودينه أو لم يدخلوا والعهد الذي كان بين النبي صلى الله عليه و سلم وبين المشركين لم يكن عهدا بين أبي بصير وأصحابه وبينهم وعلى هذا فإذا كان بين بعض ملوك المسلمين وبعض أهل الذمة من النصارى وغيرهم عهد جاز لملك آخر من ملوك المسلمين أن يغزوهم ويغنم أموالهم إذا لم يكن بينه وبينهم عهد كما أفتى به شيخ الإسلام في نصارى ملطية وسبيهم مستدلا بقصة أبي بصير مع المشركين (3/267)
فصل
في الإشارة إلى بعض الحكم التي تضمنتها هذه الهدنة
وهي أكبر وأجل من أن يحيط بها إلا الله الذي أحكم أسبابها فوقعت الغاية على الوجه الذي اقتضته حكمته وحمده
فمنها : أنها كانت مقدمة بين يدي الفتح الأعظم الذي أعز الله به رسوله وجنده ودخل الناس به في دين الله أفواجا فكانت هذه الهدنة بابا له ومفتاحا ومؤذنا بين يديه وهذه عادة الله سبحانه في الأمور العظام التي يقضيها قدرا وشرعا أن يوطىء لها بين يديها مقدمات وتوطئات تؤذن بها وتدل عليها
ومنها : أن هذه الهدنة كانت من أعظم الفتوح فإن الناس أمن بعضهم بعضا واختلط المسلمون بالكفار وبادؤوهم بالدعوة وأسمعوهم القرآن وناظروهم على الإسلام جهرة آمنين وظهر من كان مختفيا بالإسلام ودخل فيه في مدة الهدنة من شاء الله أن يدخل ولهذا سماه الله فتحا مبينا قال ابن قتيبة : قضيت لك قضاء عظيما وقال مجاهد : هو ما قضى الله له بالحديبية
وحقيقة الأمر : أن الفتح - في اللغة - فتح المغلق والصلح الذي حصل مع المشركين بالحديبية كان مسدودا مغلقا حتى فتحه الله وكان من أسباب فتحه صد رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه عن البيت وكان في الصورة الظاهرة ضيما وهضما للمسلمين وفي الباطن عزا وفتحا ونصرا وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم ينظر إلى ما وراءه من الفتح العظيم والعز والنصر من وراء ستر رقيق وكان يعطي المشركين كل ما سألوه من الشروط التي لم يحتملها أكثر أصحابه ورؤوسهم وهو صلى الله عليه و سلم يعلم ما في ضمن هذا المكروه من محبوب : { وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم } ( البقرة : 216 )
( وربما كان مكروه النفوس إلى ... محبوبها سببا ما مثله سبب )
فكان يدخل على تلك الشروط دخول واثق بنصر الله له وتأييده وأن العاقبة له وأن تلك الشروط واحتمالها هو عين النصرة وهو من أكبر الجند الذي أقامه المشترطون ونصبوه لحربهم وهم لا يشعرون فذلوا من حيث طلبوا العز وقهروا من حيث أظهروا القدرة والفخر والغلبة وعز رسول الله صلى الله عليه و سلم وعساكر الإسلام من حيث انكسروا لله واحتملوا الضيم له وفيه فدار الدور وانعكس الأمر وانقلب العز بالباطل ذلا بحق وانقلبت الكسرة لله عزا بالله وظهرت حكمة الله وآياته وتصديق وعده ونصرة رسوله على أتم الوجوه وأكملها التى لا اقتراح للعقول وراءها
ومنها : ما سببه سبحانه للمؤمنين من زيادة الإيمان والإذعان والانقياد على ما أحبوا وكرهوا وما حصل لهم في ذلك من الرضى بقضاء الله وتصديق موعوده وانتظار ما وعدوا به وشهود منة الله ونعمته عليهم بالسكينة التى أنزلها في قلوبهم أحوج ما كانوا إليها في تلك الحال التي تزعزع لها الجبال فأنزل الله عليهم من سكينته ما اطمأنت به قلوبهم وقويت به نفوسهم وازدادوا به إيمانا
ومنها : أنه سبحانه جعل هذا الحكم الذي حكم به لرسوله وللمؤمنين سببا لما ذكره من المغفرة لرسوله ما تقدم من ذنبه وما تأخر ولإتمام نعمته عليه ولهدايته الصراط المستقيم ونصره النصر العزيز ورضاه به ودخوله تحته وانشراح صدره به مع ما فيه من الضيم وإعطاء ما سألوه كان من الأسباب التى نال بها الرسول وأصحابه ذلك ولهذا ذكره الله سبحانه جزاء وغاية وإنما يكون ذلك على فعل قام بالرسول والمؤمنين عند حكمه تعالى وفتحه
وتأمل كيف وصف - سبحانه - النصر بأنه عزيز في هذا الموطن ثم ذكر إنزال السكينة في قلوب المؤمنين في هذا الموطن الذي اضطربت فيه القلوب وقلقت أشد القلق فهي أحوج ما كانت إلى السكينة فازدادوا بها إيمانا إلى إيمانهم ثم ذكر سبحانه بيعتهم لرسوله وأكدها بكونها بيعة له سبحانه وأن يده تعالى كانت فوق أيديهم إذ كانت يد رسول الله صلى الله عليه و سلم كذلك وهو رسوله ونبيه فالعقد معه عقد مع مرسله وبيعته بيعته فمن بايعه فكأنما بايع الله ويد الله فوق يده وإذا كان الحجر الأسود يمين الله في الأرض فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه فيد رسول الله صلى الله عليه و سلم أولى بهذا من الحجر الأسود ثم أخبر أن ناكث هذه البيعة إنما يعود نكثه على نفسه وأن للموفي بها أجرا عظيما فكل مؤمن فقد بايع الله على لسان رسوله بيعة على الإسلام وحقوقه فناكث وموف
ثم ذكر حال من تخلف عنه من الأعراب وظنهم أسوأ الظن بالله : أنه يخذل رسوله وأولياءه وجنده ويظفر بهم عدوهم فلن ينقلبوا إلى أهليهم وذلك من جهلهم بالله وأسمائه وصفاته وما يليق به وجهلهم برسوله وما هو أهل أن يعامله به ربه ومولاه
ثم أخبر سبحانه عن رضاه عن المؤمنين بدخولهم تحت البيعة لرسوله وأنه سبحانه علم ما في قلوبهم حينئذ من الصدق والوفاء وكمال الانقياد والطاعة وإيثار الله ورسوله على ما سواه فأنزل الله السكينة والطمأنينة والرضى فى قلوبهم وأثابهم على الرضى بحكمه والصبر لأمره فتحا قريبا ومغانم كثيرة يأخذونها وكان أول الفتح والمغانم فتح خيبر ومغانمها ثم استمرت الفتوح والمغانم إلى انقضاء الدهر
ووعدهم سبحانه مغانم كثيرة يأخذونها وأخبرهم أنه عجل لهم هذه الغنيمة وفيها قولان أحدهما : أنه الصلح الذي جرى بينهم وبين عدوهم والثاني : أنها فتح خيبر وغنائمها ثم قال : { وكف أيدي الناس عنكم } ( الفتح : 20 ) فقيل : أيدي أهل مكة أن يقاتلوهم وقيل : أيدي اليهود حين هموا بأن يغتالوا من بالمدينة بعد خروج رسول الله صلى الله عليه و سلم بمن معه من الصحابة منها وقيل : هم أهل خيبر وحلفاؤهم الذين أرادوا نصرهم من أسد وغطفان والصحيح تناول الآية للجميع
وقوله : { ولتكون آية للمؤمنين } قيل : هذه الفعلة التى فعلها بكم وهي كف أيدي أعدائكم عنكم مع كثرتهم فإنهم حينئذ كان أهل مكة ومن حولها وأهل خيبر ومن حولها وأسد وغطفان وجمهور قبائل العرب أعداء لهم وهم بينهم كالشامة فلم يصلوا إليهم بسوء فمن آيات الله سبحانه كف أيدي أعدائهم عنهم فلم يصلوا إليهم بسوء مع كثرتهم وشدة عداوتهم وتولي حراستهم وحفظهم في مشهدهم ومغيبهم وقيل : هي فتح خيبر جعلها آية لعباده المؤمنين وعلامة على ما بعدها من الفتوح فإن الله سبحانه وعدهم مغانم كثيرة وفتوحا عظيمة فعجل لهم فتح خيبر وجعلها آية لما بعدها وجزاءا لصبرهم ورضاهم يوم الحديبية وشكرانا ولهذا خص بها وبغنائمها من شهد الحديبية ثم قال : { ويهديكم صراطا مستقيما } فجمع لهم إلى النصر والظفر والغنائم الهداية فجعلهم مهديين منصورين غانمين ثم وعدهم مغانم كثيرة وفتوحا أخرى لم يكونوا ذلك الوقت قادرين عليها فقيل : هي مكة وقيل : هي فارس والروم وقيل : الفتوح التي بعد خيبر من مشارق الأرض ومغاربها
ثم أخبر سبحانه أن الكفار لو قاتلوا أولياءه لولى الكفار الأدبار غير منصورين وأن هذه سنته في عباده قبلهم ولا تبديل لسنته
فإن قيل : فقد قاتلوهم يوم أحد وانتصروا عليهم ولم يولوا الأدبار ؟
قيل : هذا وعد معلق بشرط مذكور في غير هذا الموضع وهو الصبر والتقوى وفات هذا الشرط يوم أحد بفشلهم المنافي للصبر وتنازعهم وعصيانهم المنافي للتقوى فصرفهم عن عدوهم ولم يحصل الوعد لانتفاء شرطه
ثم ذكر - سبحانه - أنه هو الذي كف أيدي بعضهم عن بعض من بعد أن أظفر المؤمنين بهم لما له في ذلك من الحكم البالغة التي منها : أنه كان فيهم رجال ونساء قد آمنوا وهم يكتمون إيمانهم لم يعلم بهم المسلمون فلو سلطكم عليهم لأصبتم أولئك بمعرة الجيش وكان يصيبكم منهم معرة العدوان والإيقاع بمن لا يستحق الإيقاع به وذكر سبحانه حصول المعرة بهم من هؤلاء المستضعفين المستخفين بهم لأنها موجب المعرة الواقعة منهم بهم وأخبر سبحانه أنهم لو زايلوهم وتميزوا منهم لعذب أعداءه عذابا أليما في الدنيا إما بالقتل والأسر وإما بغيره ولكن دفع عنهم هذا العذاب لوجود هؤلاء المؤمنين بين أظهرهم كما كان يدفع عنهم عذاب الاستئصال ورسوله بين أظهرهم
ثم أخبر سبحانه عما جعله الكفار في قلوبهم من حمية الجاهلية التي مصدرها الجهل والظلم التي لأجلها صدوا رسوله وعباده عن بيته ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم ولم يقروا لمحمد بأنه رسول الله مع تحققهم صدقه وتيقنهم صحة رسالته بالبراهين التي شاهدوها وسمعوا بها في مدة عشرين سنة وأضاف هذا الجعل إليهم وإن كان بقضائه وقدره كما يضاف إليهم سائر أفعالهم التي هي بقدرتهم وإرادتهم
ثم أخبر - سبحانه - أنه أنزل في قلب رسوله وأوليائه من السكينة ما هو مقابل لما في قلوب أعدائه من حمية الجاهلية فكانت السكينة حظ رسوله وحزبه وحمية الجاهلية حظ المشركين وجندهم ثم ألزم عباده المؤمنين كلمة التقوى وهي جنس يعم كل كلمة يتقى الله بها وأعلى نوعها كلمة الإخلاص وقد فسرت ببسم الله الرحمن الرحيم وهي الكلمة التي أبت قريش أن تلتزمها فألزمها الله أولياءه وحزبه وإنما حرمها أعداءه صيانة لها عن غير كفئها وألزمها من هو أحق بها وأهلها فوضعها في موضعها ولم يضيعها بوضعها فى غير أهلها وهو العليم بمحال تخصيصه ومواضعه
ثم أخبر سبحانه أنه صدق رسوله رؤياه في دخولهم المسجد أمنين وأنه سيكون ولا بد ولكن لم يكن قد آن وقت ذلك في هذا العام والله سبحانه علم من مصلحة تأخيره إلى وقته ما لم تعلموا أنتم فأنتم أحببتم استعجال ذلك والرب تعالى يعلم من مصلحة التأخير وحكمته ما لم تعلموه فقدم بين يدي ذلك فتحا قريبا توطئة له وتمهيدا
ثم أخبرهم بأنه هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله فقد تكفل الله لهذا الأمر بالتمام والإظهار على جميع أديان أهل الأرض ففي هذا تقوية لقلوبهم وبشارة لهم وتثبيت وأن يكونوا على ثقة من هذا الوعد الذي لا بد أن ينجزه فلا تظنوا أن ما وقع من الإغماض والقهر يوم الحديبية نصرة لعدوه ولا تخليا عن رسوله ودينه كيف وقد أرسله بدينه الحق ووعده أن يظهره على كل دين سواه
ثم ذكر - سبحانه - رسوله وحزبه الذين اختارهم له ومدحهم بأحسن المدح وذكر صفاتهم فى التوراة والأنجيل فكان في هذا أعظم البراهين على صدق من جاء بالتوراة والإنجيل والقرآن وأن هؤلاء هم المذكورون في الكتب المتقدمة بهذه الصفات المشهورة فيهم لا كما يقول الكفار عنهم : إنهم متغلبون طالبو ملك ودنيا ولهذا لما رآهم نصارى الشام وشاهدوا هديهم وسيرتهم وعدلهم وعلمهم ورحمتهم وزهدهم في الدنيا ورغبتهم في الآخرة قالوا : ما الذين صحبوا المسيح بأفضل من هؤلاء وكان هؤلاء النصارى أعرف بالصحابة وفضلهم من الرافضة أعدائهم والرافضة تصفهم بضد ما وصفهم الله به في هذه الآية وغيرها و : { من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا } ( الكهف : 17 ) (3/275)
فصل
في غزوة خيبر
قال موسى بن عقبة : ولما قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة من الحديبية مكث بها عشرين ليلة أو قريبا منها ثم خرج غازيا إلى خيبر وكان الله عز و جل وعده إياها وهو بالحديبية
وقال مالك : كان فتح خيبر في السنة السادسة والجمهور : على أنها في السابعة وقطع أبو محمد بن حزم : بأنها كانت في السادسة بلا شك ولعل الخلاف مبني على أول التاريخ هل هو شهر ربيع الأول شهر مقدمه المدينة أو من المحرم في أول السنة ؟ وللناس في هذا طريقان فالجمهور على أن التاريخ وقع من المحرم وأبو محمد بن حزم : يرى أنه من شهر ربيع الأول حين قدم وكان أول من أرخ بالهجرة يعلى بن أمية باليمن كما رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح وقيل : عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة ست عشرة من الهجرة
وقال ابن إسحاق : حدثني الزهري عن عروة عن مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة أنهما حدثاه جميعا قالا : انصرف رسول الله صلى الله عليه و سلم عام الحديبية فنزلت عليه سورة الفتح فيما بين مكة والمدينة فأعطاه الله عز و جل فيها خيبر { وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه } ( الفتح : 20 ) خيبر فقدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة في ذي الحجة فأقام بها حتى سار إلى خيبر في المحرم فنزل رسول الله صلى الله عليه و سلم بالرجيع : واد بين خيبر وغطفان فتخوف أن تمدهم غطفان فبات به حتى أصبح فغدا إليهم انتهى
واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة وقدم أبو هريرة حينئذ المدينة فوافى سباع بن عرفطة في صلاة الصبح فسمعه يقرأ في الركعة الأولى : { كهيعص } وفي الثانية { ويل للمطففين } فقال في نفسه : ويل لأبي فلان له مكيالان إذا اكتال اكتال بالوافي وإذا كال كال بالناقص فلما فرغ من صلاته أتى سباعا فزوده حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه و سلم وكلم المسلمين فأشركوه وأصحابه في سهمانهم
وقال سلمة بن الأكوع : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى خيبر فسرنا ليلا فقال رجل من القوم لعامر بن الأكوع : ألا تسمعنا من هنيهاتك وكان عامر رجلا شاعرا ؟ فنزل يحدو بالقوم يقول :
( اللهم لو لا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا )
( فاغفر فداء لك ما اقتفينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا )
( وأنزلن سكينة علينا ... إنا إذا صيح بنا أتينا )
( وبالصياح عولوا علينا ... وإن أرادوا فتنة أبينا )
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من هذا السائق ] ؟ قالوا : عامر فقال : [ رحمه الله ] : فقال رجل من القوم : وجبت يا رسول الله لو لا أمتعتنا به قال : فأتينا خيبر فحاصرناهم حتى أصابتنا مخمصة شديدة ثم إن الله تعالى فتح عليهم فلما أمسوا أوقدوا نيرانا كثيرة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ما هذه النيران على أي شئ توقدون ؟ ] قالوا : على لحم قال : [ على أي لحم ؟ ] قالوا : على لحم حمر أنسية
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أهريقوها واكسروها ] فقال رجل : يا رسول الله أو نهريقها ونغسلها ؟ فقال : [ أو ذاك ] فلما تصاف القوم خرج مرحب يخطر بسيفه وهو يقول :
( قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب )
( إذا الحروب أقبلت تلهب )
فنزل إليه عامر وهو يقول :
( قد علمت خيبر أني عامر ... شاكي السلاح بطل مغامر )
فاختلفا ضربتين فوقع سيف مرحب في ترس عامر فذهب عامر يسفل له وكان سيف عامر فيه قصر فرجع عليه ذباب سيفه فأصاب عين ركبته فمات منه فقال سلمة للنبي صلى الله عليه و سلم : زعموا أن عامرا حبط عمله فقال : [ كذب من قاله إن له أجرين وجمع بين أصبعيه أنه لجاهد مجاهد قل عربى مشى بها مثله ] (3/281)
فصل
ولما قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم خيبر صلى بها الصبح وركب المسلمون فخرج أهل خيبر بمساحيهم ومكاتلهم ولا يشعرون بل خرجوا لأرضهم فلما رأوا الجيش قالوا : محمد والله محمد والخميس ثم رجعوا هاربين إلى حصونهم فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ الله أكبر خربت خيبر الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين ]
ولما دنا النبي صلى الله عليه و سلم وأشرف عليها قال : [ قفوا ] فوقف الجيش فقال : [ اللهم رب السماوات السبع وما أظللن ورب الأرضين السبع وما أقللن ورب الشياطين وما أضللن فإنا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها وخير ما فيها ونعوذ بك من شر هذه القرية وشر أهلها وشر ما فيها أقدموا بسم الله ]
ولما كانت ليلة الدخول قال : [ لأعطين هذه الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه ] فبات الناس يدوكون أيهم يعطاها فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه و سلم كلهم يرجو أن يعطاها فقال : [ أين علي بن أبي طالب ؟ ] فقالوا : يا رسول الله ! هو يشتكي عينيه قال : [ فأرسلوا إليه ] فأتي به فبصق رسول الله صلى الله عليه و سلم في عينيه ودعا له فبرأ حتى لم يكن به وجع فأعطاه الراية فقال : يا رسول الله ! أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا ؟ قال : [ انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير من أن يكون لك حمر النعم ]
فخرج مرحب وهو يقول :
( أنا الذي سمتني أمي مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب )
( إذا الحروب أقبلت تلهب )
فبرز إليه علي وهو يقول :
( أنا الذي سمتني أمي حيدره ... كليث غابات كريه المنظره )
( أوفيهم بالصاع كيل السندره )
فضرب مرحبا ففلق هامته وكان الفتح
ولما دنا علي رضي الله عنه من حصونهم اطلع يهودي من رأس الحصن فقال : من أنت ؟ فقال : أنا علي بن أبي طالب فقال اليهودي : علوتم وما أنزل على موسى
هكذا في صحيح مسلم أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه هو الذي قتل مرحبا
وقال موسى بن عقبة : عن الزهري وأبي الأسود عن عروة ويونس بن بكير عن ابن إسحاق : حدثني عبد الله بن سهل أحد بني حارثة عن جابر بن عبد الله أن محمد بن مسلمة هو الذي قتله قال جابر في حديثه : خرج مرحب اليهودي من حصن خيبر قد جمع سلاحه وهو يرتجز ويقول : من يبارز ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من لهذا ؟ ] فقال محمد بن مسلمة : أنا له يا رسول الله أنا والله الموتور الثائر قتلوا أخي بالأمس يعني محمود بن مسلمة وكان قتل بخيبر فقال : [ قم إليه اللهم أعنه عليه ] فلما دنا أحدهما من صاحبه دخلت بينهما شجرة فجعل كل واحد منهما يلوذ بها من صاحبه كلما لاذ بها منه اقتطع صاحبه بسيفه ما دونه منها حتى برز كل واحد منهما لصاحبه وصارت بينهما كالرجل القائم ما فيها فنن ثم حمل على محمد فضربه فاتقاه بالدرقة فوقع سيفه فيها فعضت به فأمسكته وضربه محمد بن مسلمة فقتله وكذلك قال سلمة بن سلامة ومجمع بن حارثة : إن محمد بن مسلمة قتل مرحبا
قال الواقدي : وقيل : إن محمد بن مسلمة ضرب ساقي مرحب فقطعهما فقال مرحب : أجهز علي يا محمد فقال محمد : ذق الموت كما ذاقه أخي محمود وجاوزه ومر به علي رضي الله عنه فضرب عنقه وأخذ سلبه فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم في سلبه فقال محمد بن مسلمة : يا رسول الله ! ما قطعت رجليه ثم تركته إلا ليذوق الموت وكنت قادرا أن أجهز عليه فقال على رضي الله عنه : صدق ضربت عنقه بعد أن قطع رجليه فأعطى رسول الله صلى الله عليه و سلم محمد بن مسلمة سيفه ورمحه ومغفره وبيضته وكان عند آل محمد بن سلمة سيفه فيه كتاب لايدرى ما فيه حتى قرأه يهودي فإذا فيه :
( هذا سيف مرحب ... من يذقه يعطب )
ثم خرج ( بعد مرحب أخوه ) ياسر فبرز إليه الزبير فقالت صفية أمه : يا رسول الله ! يقتل ابني ؟ قال : [ بل ابنك يقتله إن شاء الله ] فقتله الزبير
قال موسى بن عقبة : ثم دخل اليهود حصنا لهم منيعا يقال له : القموص فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه و سلم قريبا من عشرين ليلة وكانت أرضا وخمة شديدة الحر فجهد المسلمون جهدا شديدا فذبحوا الحمر فنهاهم رسول الله صلى الله عليه و سلم عن أكلها وجاء عبد أسود حبشي من أهل خيبر كان في غنم لسيده فلما رأى أهل خيبر قد أخذوا السلاح سألهم ما تريدون ؟ قالوا : نقاتل هذا الذي يزعم أنه نبي فوقع في نفسه ذكر النبي صلى الله عليه و سلم فأقبل بغنمه إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : ماذا تقول وما تدعو إليه ؟ قال : [ أدعو الى الإسلام وأن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله وأن لا تعبد إلا الله ] قال العبد : فما لي إن شهدت وآمنت بالله عز و جل ؟ قال : [ لك الجنة إن مت على ذلك ] فأسلم ثم قال : يا نبي الله ! إن هذه الغنم عندي أمانة فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أخرجها من عندك وارمها بالحصباء فإن الله سيؤدي عنك أمانتك ] ففعل فرجعت الغنم إلى سيدها فعلم اليهودي أن غلامه قد أسلم فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم في الناس فوعظهم وحضهم على الجهاد فلما التقى المسلمون واليهود قتل فيمن قتل العبد الأسود فاحتمله المسلمون إلى معسكرهم فأدخل في الفسطاط فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم اطلع فى الفسطاط ثم أقبل على أصحابه وقال : [ لقد أكرم الله هذا العبد وساقه إلى خير ولقد رأيت عند رأسه اثنتين من الحور العين ولم يصل لله سجدة قط ]
قال حماد بن سلمة : عن ثابت عن أنس أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم رجل فقال : يا رسول الله ! إني رجل أسود اللون قبيح الوجه منتن الريح لا مال لي فإن قاتلت هؤلاء حتى أقتل أأدخل الجنة ؟ قال : نعم فتقدم فقاتل حتى قتل فأتى عليه النبى صلى الله عليه و سلم وهو مقتول فقال : [ لقد أحسن الله وجهك وطيب ريحك وكثر مالك ] ثم قال : [ لقد رأيت زوجتيه من الحور العين ينزعان جبته عنه يدخلان فيما بين جلده وجبته ]
وقال شداد بن الهاد : جاء رجل من الأعراب إلى النبي صلى الله عليه و سلم فآمن به واتبعه فقال : أهاجر معك فأوصى به بعض أصحابه فلما كانت غزوة خيبر غنم رسول الله صلى الله عليه و سلم شيئا فقسمه وقسم للأعرابي فأعطى أصحابه ما قسمه له وكان يرعى ظهرهم فلما جاء دفعوه إليه فقال : ما هذا ؟ قالوا : قسم قسمه لك رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخذه فجاء به إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : ما هذا يا رسول الله ؟ قال : [ قسم قسمته لك ] قال : ما على هذا اتبعتك ولكن اتبعتك على أن أرمى هاهنا وأشار إلى حلقه بسهم فأموت فأدخل الجنة فقال : [ إن تصدق الله يصدقك ] ثم نهض إلى قتال العدو فأتي به إلى النبي صلى الله عليه و سلم وهو مقتول فقال : [ أهو هو ؟ ] قالوا : نعم قال : [ صدق الله فصدقه ] فكفنه النبي صلى الله عليه و سلم في جبته ثم قدمه فصلى عليه وكان من دعائه له : [ اللهم هذا عبدك خرج مهاجرا في سبيلك قتل شهيدا وأنا عليه شهيد ]
قال الواقدي : وتحولت اليهود إلى قلعة الزبير : حصن منيع في رأس قلة فأقام رسول الله صلى الله عليه و سلم ثلاثة أيام فجاء رجل من اليهود يقال له عزال فقال : يا أبا القاسم ! إنك لو أقمت شهرا ما بالوا إن لهم شرابا وعيونا تحت الأرض يخرجون بالليل فيشربون منها ثم يرجعون إلى قلعتهم فيمتنعون منك فإن قطعت مشربهم عليهم أصحروا لك فسار رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى مائهم فقطعه عليهم فلما قطع عليهم خرجوا فقاتلوا أشد القتال وقتل من المسلمين نفر وأصيب نحو العشرة من اليهود وافتتحه رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم تحول رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى أهل الكتيبة والوطيح والسلالم حصن ابن أبي الحقيق فتحصن أهله أشد التحصن وجاءهم كل فل كان انهزم من النطاة والشق فإن خيبر كانت جانبين : الأول : الشق والنطاة وهو الذي افتتحه أولا والجانب الثاني : الكتيبة والوطيح والسلالم فجعلوا لا يخرجون من حصونهم حتى هم رسول الله صلى الله عليه و سلم أن ينصب عليهم المنجنيق فلما أيقنوا بالهلكة وقد حصرهم رسول الله صلى الله عليه و سلم أربعة عشر يوما سألوا رسول الله صلى الله عليه و سلم الصلح وأرسل ابن أبي الحقيق إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم : أنزل فأكلمك ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : نعم فنزل ابن أبي الحقيق فصالح رسول الله صلى الله عليه و سلم على حقن دماء من في حصونهم من المقاتلة وترك الذرية لهم ويخرجون من خيبر وأرضها بذراريهم ويخلون بين رسول الله صلى الله عليه و سلم وبين ما كان لهم من مال وأرض وعلى الصفراء والبيضاء والكراع والحلقة إلا ثوبا على ظهر إنسان فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ وبرئت منكم ذمة الله وذمة رسوله إن كتمتموني شيئا ] فصالحوه على ذلك
قال حماد بن سلمة : أنبأنا عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قاتل أهل خيبر حتى ألجأهم إلى قصرهم فغلب على الزرع والنخل والأرض فصالحوه على أن يجلوا منها ولهم ما حملت ركابهم ولرسول الله صلى الله عليه و سلم الصفراء والبيضاء واشترط عليهم أن لا يكتموا ولا يغيبوا شيئا فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهد فغيبوا مسكا فيه مال وحلي لحيي بن أخطب كان احتمله معه إلى خيبر حين أجليت النضير فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لعم حيي بن أخطب : [ ما فعل مسك حيي الذي جاء به من النضير ؟ ] قال : أذهبته النفقات والحروب فقال : [ العهد قريب والمال أكثر من ذلك ] فدفعه رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى الزبير فمسه بعذاب وقد كان قبل ذلك دخل خربة فقال : قد رأيت حييا يطوف في خربة ها هنا فذهبوا فطافوا فوجدوا المسك في الخربة فقتل رسول الله صلى الله عليه و سلم ابني أبي الحقيق وأحدهما زوج صفية بنت حيي بن أخطب وسبى رسول الله صلى الله عليه و سلم نساءهم وذراريهم وقسم أموالهم بالنكث الذي نكثوا وأراد أن يجليهم منها فقالوا : يا محمد ! دعنا نكون في هذه الأرض نصلحها ونقوم عليها فنحن أعلم بها منكم ولم يكن لرسول الله صلى الله عليه و سلم ولا لأصحابه غلمان يقومون عليها وكانوا لا يفرغون يقومون عليها فأعطاهم خيبر على أن لهم الشطر من كل زرع وكل ثمر ما بدا لرسول الله صلى الله عليه و سلم أن يقرهم وكان عبد الله بن رواحة يخرصه عليهم كما تقدم ولم يقتل رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد الصلح إلا ابني أبي الحقيق للنكث الذي نكثوا فإنهم شرطوا إن غيبوا أو كتموا فقد برئت منهم ذمة الله وذمة رسوله فغيبوا فقال لهم : أين المال الذي خرجتم به من المدينة حين أجليناكم ؟ قالوا : ذهب فحلفوا على ذلك فاعترف ابن عم كنانة عليهما بالمال حين دفعه رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى الزبير يعذبه فدفع رسول الله صلى الله عليه و سلم كنانة إلى محمد بن مسلمة فقتله ويقال : إن كنانة هو كان قتل أخاه محمود بن مسلمة
وسبى رسول الله صلى الله عليه و سلم صفية بنت حيي بن أخطب وابنة عمتها وكانت صفية تحت كنانة بن أبي الحقيق وكانت عروسا حديثة عهد بالدخول فأمر بلالا أن يذهب بها إلى رحله فمر بها بلال وسط القتلى فكره ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال : [ أذهبت الرحمة منك يا بلال ]
وعرض عليها رسول الله صلى الله عليه و سلم الإسلام فأسلمت فاصطفاها لنفسه وأعتقها وجعل عتقها صداقها وبنى بها في الطريق وأولم عليها ورأى بوجهها خضرة فقال : [ ما هذا ؟ ] قالت : يا رسول الله ! أرأيت قبل قدومك علينا كأن القمر زال من مكانه فسقط في حجري ولا والله ما أذكر من شأنك شيئا فقصصتها على زوجي فلطم وجهي وقال : تمنين هذا الملك الذي بالمدينة
وشك الصحابة : هل اتخذها سرية أو زوجة ؟ فقالوا : انظروا إن حجبها فهي إحدى نسائه وإلا فهي مما ملكت يمينه فلما ركب جعل ثوبه الذي ارتدى به على ظهرها ووجهها ثم شد طرفه تحته فتأخروا عنه في المسير وعلموا أنها إحدى نسائه ولما قدم ليحملها على الرحل أجلته أن تضع قدمها على فخده فوضعت ركبتها على فخذه ثم ركبت
ولما بنى بها بات أبو أيوب ليلته قائما قريبا من قبته آخذا بقائم السيف حتى أصبح فلما رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم كبر أبو أيوب حين رآه قد خرج فسأله رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ما لك يا أبا أيوب ] ؟ فقال له : أرقت ليلتي هذه يا رسول الله لما دخلت بهذه المرأة ذكرت أنك قتلت أباها وأخاها وزوجها وعامة عشيرتها فخفت أن تغتالك فضحك رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال له معروفا (3/283)
فصل
وقسم رسول الله صلى الله عليه و سلم خيبر على ستة وثلاثين سهما جمع كل سهم مائة سهم فكانت ثلاثة آلاف وستمائة سهم فكان لرسول الله صلى الله عليه و سلم وللمسلمين النصف من ذلك وهو ألف وثمانمائة سهم لرسول الله صلى الله عليه و سلم سهم كسهم أحد المسلمين وعزل النصف الآخر وهو ألف وثمانمائة سهم لنوائبه وما ينزل به من أمور المسلمين قال البيهقي : وهذا لأن خيبر فتح شطرها عنوة وشطرها صلحا فقسم ما فتح عنوة بين أهل الخمس والغانمين وعزل ما فتح صلحا لنوائبه وما يحتاج إليه من أمور المسلمين
قلت : وهذا بناء منه على أصل الشافعي رحمه الله أنه يجب قسم الأرض المفتتحة عنوة كما تقسم سائر المغانم فلما لم يجده قسم النصف من خيبر قال : إنه فتح صلحا ومن تأمل السير والمغازي حق التأمل تبين له أن خيبر إنما فتحت عنوة وأن رسول الله صلى الله عليه و سلم استولى على أرضها كلها بالسيف عنوة ولو فتح شئ منها صلحا لم يجلهم رسول الله صلى الله عليه و سلم منها فإنه لما عزم على إخراجهم منها قالوا : نحن أعلم بالأرض منكم دعونا نكون فيها ونعمرها لكم بشطر ما يخرح منها وهذا صريح جدا في أنها إنما فتحت عنوة وقد حصل بين اليهود والمسلمين بها من الحراب والمبارزة والقتل من الفريقين ما هو معلوم ولكن لما ألجئوا إلى حصنهم نزلوا على الصلح الذي بذلوه أن لرسول الله صلى الله عليه و سلم الصفراء والبيضاء والحلقة والسلاح ولهم رقابهم وذريتهم ويجلوا من الأرض فهذا كان الصلح ولم يقع بينهم صلح أن شيئا من أرض خيبر لليهود ولا جرى ذلك البتة ولو كان كذلك لم يقل : نقركم ما شئنا فكيف يقرهم في أرضهم ما شاء ؟ ولما كان عمر أجلاهم كلهم من الأرض ولم يصالحهم أيضا على أن الأرض للمسلمين وعليها خراج يؤخذ منهم هذا لم يقع فإنه لم يضرب على خيبر خراجا البتة
فالصواب الذي لا شك فيه : أنها فتحت عنوة والإمام مخير فى أرض العنوة بين قسمها ووقفها أو قسم بعضها ووقف البعض وقد فعل رسول الله صلى الله عليه و سلم الأنواع الثلاثة فقسم قريظة والنضير ولم يقسم مكة وقسم شطر خيبر وترك شطرها وقد تقدم تقرير كون مكة فتحت عنوة بما لا مدفع له
وإنما قسمت على ألف وثمانمائة سهم لأنها كانت طعمة من الله لأهل الحديبية من شهد منهم ومن غاب وكانوا ألفا وأربعمائة وكان معهم مائتا فرس لكل فرس سهمان فقسمت على ألف وثمانمائة سهم ولم يغب عن خيبر من أهل الحديبية إلا جابر بن عبد الله فقسم له رسول الله صلى الله عليه و سلم كسهم من حضرها
وقسم للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهما وكانوا ألفا وأربعمائة وفيهم مائتا فارس هذا هو الصحيح الذي لاريب فيه
وروى عبد الله العمري عن نافع عن ابن عمر أنه أعطى الفارس سهمين والراجل سهما
قال الشافعي رحمه الله : كأنه سمع نافعا يقول : للفرس سهمين وللراجل سهما فقال : للفارس وليس يشك أحد من أهل العلم في تقدم عبيد الله بن عمر على أخيه في الحفظ وقد أنبأنا الثقة من أصحابنا عن إسحاق الأزرق الواسطي عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم ضرب للفرس بسهمين وللفارس بسهم
ثم روى من حديث أبي معاوية عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أسهم للفارس ثلاثة أسهم : سهم له وسهمان لفرسه وهو في الصحيحين وكذلك رواه الثوري وأبو أسامة عن عبيد الله
قال الشافعي رحمه الله : وروى مجمع بن جارية أن النبي صلى الله عليه و سلم قسم سهام خيبر على ثمانية عشر سهما وكان الجيش ألفا وخمسمائة منهم ثلاثمائة فارس فأعطى الفارس سهمين والراجل سهما
قال الشافعي رحمه الله : ومجمع بن يعقوب يعني راوي هذا الحديث عن أبيه عن عمه عبد الرحمن بن يزيد عن عمه مجمع بن جارية شيخ لا يعرف فأخذنا في ذلك بحديث عبيد الله ولم نر له مثله خبرا يعارضه ولا يجوز رد خبر إلا بخبر مثله
قال البيهقي : والذي رواه مجمع بن يعقوب بإسناده في عدد الجيش وعدد الفرسان قد خولف فيه ففي رواية جابر وأهل المغازي : أنهم كانوا ألفا وأربعمائة وهم أهل الحديبية وفي رواية ابن عباس وصالح بن كيسان وبشير بن يسار وأهل المغازي : أن الخيل كانت مائتي فرس وكان للفرس سهمان ولصاحبه سهم ولكل راجل سهم
وقال أبو داود : حديث أبي معاوية أصح والعمل عليه وأرى الوهم فى حديث مجمع أنه قال ثلاثمائة فارس وإنما كانوا مائتي فارس
وقد روى أبو داود أيضا من حديث أبي عمرة عن أبيه قال : أتينا رسول الله صلى الله عليه و سلم أربعة نفر ومعنا فرس فأعطى كل إنسان منا سهما وأعطى الفرس سهمين وهذا الحديث في إسناده عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود وهو المسعودي وفيه ضعف وقد روي الحديث على وجه آخر فقال : أتينا رسول الله صلى الله عليه و سلم ثلاثة نفر معنا فرس فكان للفارس ثلاثة أسهم ذكره أبو داود أيضا (3/291)
فصل
وفي هذه الغزوة قدم عليه صلى الله عليه و سلم ابن عمه جعفر بن أبي طالب وأصحابه ومعهم الأشعريون عبد الله بن قيس أبو موسى وأصحابه وكان فيمن قدم معهم أسماء بنت عميس قال أبو موسى : بلغنا مخرج النبي صلى الله عليه و سلم ونحن باليمن فخرجنا مهاجرين أنا وأخوان لي أنا أصغرهما أحدهما أبو رهم والآخر أبو بردة في بضع وخمسين رجلا من قومي فركبنا سفينة فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة فوافقنا جعفر بن أبي طالب وأصحابه عنده فقال جعفر : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعثنا وأمرنا بالإقامة فأقيموا معنا فأقمنا معه حتى قدمنا جميعا فوافقنا رسول الله صلى الله عليه و سلم حين افتتح خيبر فأسهم لنا وما قسم لأحد غاب عن فتح خيبر شيئا إلا لمن شهد معه إلا لأصحاب سفينتنا مع جعفر وأصحابه قسم لهم معهم وكان ناس يقولون لنا : سبقناكم بالهجرة قال : ودخلت أسماء بنت عميس على حفصة فدخل عليها عمر فقال : من هذه ؟ قالت : أسماء فقال عمر : سبقناكم بالهجرة نحن أحق برسول الله صلى الله عليه و سلم منكم فغضبت وقالت : يا عمر ! كلا والله لقد كنتم مع رسول الله صلى الله عليه و سلم يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم وكنا في أرض البعداء البغضاء وذلك في الله وفي رسوله وايم الله لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أذكر ما قلت لرسول الله صلى الله عليه و سلم ونحن كنا نؤذى ونخاف وسأذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه و سلم والله لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد على ذلك فلما جاء النبى صلى الله عليه و سلم قالت : يا رسول الله ! إن عمر قال كذا وكذا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما قلت له ؟ قالت : قلت له : كذا وكذا فقال : [ ليس بأحق بي منكم وله ولأصحابه هجرة واحدة ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان ] وكان أبو موسى وأصحاب السفينة يأتون أسماء أرسالا يسألونها عن هذا الحديث ما من الدنيا شئ هم به أفرح ولا أعظم في أنفسهم مما قال لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم
ولما قدم جعفر على النبي صلى الله عليه و سلم تلقاه وقبل جبهته وقال : [ والله ما أدري بأيهما أفرح بفتح خيبر أم بقدوم جعفر ؟ ]
وأما ما روي في هذه القصة أن جعفرا لما نظر إلى النبي صلى الله عليه و سلم حجل يعني : مشى على رجل واحدة إعظاما لرسول الله صلى الله عليه و سلم وجعله أشباه الدباب الرقاصون أصلا لهم في الرقص فقال البيهقي وقد رواه من طريق الثوري عن أبى الزبير عن جابر : وفي إسناده إلى الثوري من لا يعرف
قلت : ولو صح لم يكن في هذا حجة على جواز التشبه بالدباب والتكسر والتخنث في المشي المنافي لهدي رسول الله صلى الله عليه و سلم فإن هذا لعله كان من عادة الحبشة تعظيما لكبرائها كضرب الجوك عند الترك ونحو ذلك فجرى جعفر على تلك العادة وفعلها مرة ثم تركها لسنة الإسلام فأين هذا من القفز والتكسر والتثني والتخنث وبالله التوفيق
قال موسى بن عقبة : كانت بنو فزارة ممن قدم على أهل خيبر ليعينوهم فراسلهم رسول الله صلى الله عليه و سلم ألا يعينوهم وأن يخرجوا عنهم ولكم من خيبر كذا وكذا فأبوا عليه فلما فتح الله عليه خيبر أتاه من كان ثم من بني فزارة فقالوا : وعدك الذي وعدتنا فقال : لكم ذو الرقيبة جبل من جبال خيبر فقالوا : إذا نقاتلك فقال : موعدكم كذا فلما سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه و سلم خرجوا هاربين
وقال الواقدي : قال أبو شييم المزني - وكان قد أسلم فحسن إسلامه - : لما نفرنا إلى أهلنا مع عيينة بن حصن رجع بنا عيينة فلما كان دون خيبر عرسنا من الليل ففزعنا فقال عيينة : أبشروا إني أرى الليلة في النوم أنني أعطيت ذا الرقيبة جبلا بخيبر قد والله أخذت برقبة محمد فلما قدمنا خيبر قدم عيينة فوجد رسول الله صلى الله عليه و سلم قد فتح خيبر فقال : يا محمد ! أعطني ما غنمت من حلفائي فإني انصرفت عنك وقد فرغنا لك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ كذبت ولكن الصياح الذي سمعت نفرك إلى أهلك ] قال : أجزني : يا محمد ؟ قال : [ لك ذو الرقيبة ] قال : وما ذو الرقيبة ؟ قال : [ الجبل الذي رأيت في النوم أنك أخذته ] فانصرف عيينة فلما رجع إلى أهله جاءه الحارث بن عوف فقال : ألم أقل لك : إنك توضع في غير شئ والله فيظهرن محمد على ما بين المشرق والمغرب يهود كانوا يخبروننا بهذا أشهد لسمعت أبا رافع سلام بن أبي الحقيق يقول : إنا نحسد محمدا على النبوة حيث خرجت من بني هارون وهو نبي مرسل ويهود لا تطاوعني على هذا ولنا منه ذبحان واحد بيثرب وآخر بخيبر قال الحارث : قلت لسلام : يملك الأرض جميعا ؟ قال : نعم والتوراة التي أنزلت على موسى وما أحب أن تعلم يهود بقولي فيه (3/294)
فصل
وفي هذه الغزاة سم رسول الله صلى الله عليه و سلم أهدت له زينب بنت الحارث اليهودية امرأة سلام بن مشكم شاة مشوية قد سمتها وسألت : أي اللحم أحب إليه ؟ فقالوا : الذراع فأكثرت من السم في الذراع فلما انتهش من ذراعها أخبره الذراع بأنه مسموم فلفظ الأكلة ثم قال : [ اجمعوا لي من ها هنا من اليهود ] فجمعوا له فقال لهم : [ إني سائلكم عن شئ فهل أنتم صادقي فيه ؟ ] قالوا : نعم يا أبا القاسم فقال لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من أبوكم ؟ ] قالوا : أبونا فلان قال : [ كذبتم أبوكم فلان ] قالوا : صدقت وبرزت قال : [ هل أنتم صادقي عن شئ إن سألتكم عنه ؟ ] قالوا : نعم يا أبا القاسم وإن كذبناك عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا ! فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من أهل النار ؟ ] فقالوا : نكون فيها يسيرا ثم تخلفوننا فيها فقال لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ اخسؤوا فيها فوالله لا نخلفكم فيها أبدا ] ثم قال : [ هل أنتم صادقي عن شئ إن سألتكم عنه ؟ ] قالوا : نعم قال : [ أجعلتم في هذه الشاة سما ؟ ] قالوا : نعم قال : [ فما حملكم على ذلك ؟ ] قالوا : أردنا إن كنت كاذبا نستريح منك وإن كنت نبيا لم يضرك
وجيء بالمرأة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت : أردت قتلك فقال : [ ما كان الله ليسلطك علي ] قالوا : ألا نقتلها ؟ قال : [ لا ] ولم يتعرض لها ولم يعاقبها واحتجم على الكاهل وأمر من أكل منها فاحتجم فمات بعضهم واختلف فى قتل المرأة فقال الزهري : أسلمت فتركها ذكره عبد الرزاق عن معمر عنه ثم قال معمر : والناس تقول : قتلها النبي صلى الله عليه و سلم
قال أبو داود : حدثنا وهب بن بقية قال : حدثنا خالد عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أهدت له يهودية بخيبر شاة مصلية وذكر القصة وقال : فمات بشر بن البراء بن معرور فأرسل إلى اليهودية : ما حملك على الذي صنعت ؟ قال جابر : فأمر بها رسول الله صلى الله عليه و سلم فقتلت
قلت : كلاهما مرسل ورواه حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة متصلا أنه قتلها لما مات بشر بن البراء
وقد وفق بين الروايتين بأنه لم يقتلها أولا فلما مات بشر قتلها
وقد اختلف : هل أكل النبي صلى الله عليه و سلم منها أو لم يأكل ؟ وأكثر الروايات أنه أكل منها وبقي بعد ذلك ثلاث سنين حتى قال في وجعه الذي مات فيه : [ ما زلت أجد من الأكلة التي أكلت من الشاة يوم خيبر فهذا أوان انقطاع الأبهر مني ]
قال الزهري : فتوفي رسول الله صلى الله عليه و سلم شهيدا
قال موسى بن عقبة وغيره : وكان بين قريش حين سمعوا بخروج رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى خيبر تراهن عظيم وتبايع فمنهم من يقول : يظهر محمد وأصحابه ومنهم يقول : يظهر الحليفان ويهود خيبر وكان الحجاج بن علاط السلمي قد أسلم وشهد فتح خيبر وكانت تحته أم شيبة أخت بني عبد الدار بن قصي وكان الحجاج مكثرا من المال كانت له معادن بأرض بني سليم فلما ظهر النبي صلى الله عليه و سلم على خيبر قال الحجاح بن علاط : إن لي ذهبا عند امرأتي وإن تعلم هي وأهلها بإسلامي فلا مال لي فأذن لي فلأسرع السير وأسبق الخبر ولأخبرن أخبارا إذا قدمت أدرأ بها عن مالي ونفسي فأذن له رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما قدم مكة قال لامراته : أخفي علي واجمعي ما كان لي عندك من مال فإني أريد أن أشتري من غنائم محمد وأصحابه فإنهم قد استبيحوا وأصيبت أموالهم وإن محمدا قد أسر وتفرق عنه أصحابه وإن اليهود قد أقسموا : لتبعثن به إلى مكة ثم لتقتلنه بقتلاهم بالمدينة وفشا ذلك بمكة واشتد على المسلمين وبلغ منهم وأظهر المشركون الفرح والسرور فبلغ العباس عم رسول الله صلى الله عليه و سلم زجلة الناس وجلبتهم وإظهارهم السرور فأراد أن يقوم ويخرج فانخزل ظهره فلم يقدر على القيام فدعا ابنا له يقال له : قثم وكان يشبه رسول الله صلى الله عليه و سلم فجعل العباس يرتجز ويرفع صوته لئلا يشمت به أعداء الله :
( حبي قثم حبي قثم ... شبيه ذي الأنف الأشم )
( نبي ربي ذي النعم ... برغم أنف من رغم )
وحشر إلى باب داره رجال كثيرون من المسلمين والمشركين منهم المظهر للفرح والسرور ومنهم الشامت المغري ومنهم من به مثل الموت من الحزن والبلاء فلما سمع المسلمون رجز العباس وتجلده طابت نفوسهم وظن المشركون أنه قد أتاه ما لم يأتهم ثم أرسل العباس غلاما له إلى الحجاج وقال له : اخل به وقل له : ويلك ما جئت به وما تقول فالذي وعد الله خير مما جئت به ؟ فلما كلمه الغلام قال له : اقرأ على أبي الفضل السلام وقل له : فليخل بي في بعض بيوته حتى آتيه فإن الخبر على ما يسره فلما بلغ العبد باب الدار قال : أبشر يا أبا الفضل فوثب العباس فرحا كأنه لم يصبه بلاء قط حتى جاءه وقبل ما بين عينيه فأخبره بقول الحجاح فأعتقه ثم قال : أخبرني قال : يقول لك الحجاح : أخل به في بعض بيوتك حتى يأتيك ظهرا فلما جاءه الحجاج وخلا به أخذ عليه لتكتمن خبري فوافقه عباس على ذلك فقال له الحجاج : جئت وقد افتتح رسول الله صلى الله عليه و سلم خيبر وغنم أموالهم وجرت فيها سهام الله وإن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد اصطفى صفية بنت حيي لنفسه وأعرس بها ولكن جئت لمالي أردت أن أجمعه وأذهب به وإني استأذنت رسول الله صلى الله عليه و سلم أن أقول فأذن لي أن أقول ما شئت فأخف علي ثلاثا ثم اذكر ما شئت قال : فجمعت له امرأته متاعه ثم انشمر راجعا فلما كان بعد ثلاث أتى العباس امرأة الحجاج فقال : ما فعل زوجك ؟ قالت : ذهب وقالت : لا يحزنك الله يا أبا الفضل لقد شق علينا الذي بلغك فقال : أجل لا يحزنني الله ولم يكن بحمد الله إلا ما أحب فتح الله على رسوله خيبر وجرت فيها سهام الله واصطفى رسول الله صلى الله عليه و سلم صفية لنفسه فإن كان لك في زوجك حاجة فالحقي به قالت : أظنك والله صادقا قال : فإني والله صادق والأمر على ما أقول لك قالت : فمن أخبرك بهذا ؟ قال : الذي أخبرك بما أخبرك ثم ذهب حتى أتى مجالس قريش فلما رأوه قالوا : هذا والله التجلد يا أبا الفضل ولا يصيبك إلا خير قال : أجل لم يصبني إلا خير والحمد لله أخبرني الحجاح بكذا وكذا وقد سألني أن أكتم عليه ثلاثا لحاجة فرد الله ما كان للمسلمين من كآبة وجزع على المشركين وخرج المسلمون من مواضعهم حتى دخلوا على العباس فأخبرهم الخبر فأشرقت وجوه المسلمين (3/297)
فصل
فيما كان في غزوة خيبر من الأحكام الفقهية
فمنها محاربة الكفار ومقاتلتهم في الأشهر الحرم فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم رجع من الحديبية في ذي الحجة فمكث بها أياما ثم سار إلى خيبر في المحرم كذلك قال الزهري عن عروة عن مروان والمسور بن مخرمة وكذلك قال الواقدي : خرج في أول سنة سبع من الهجرة ولكن في الاستدلال بذلك نظر فإن خروجه كان في أواخر المحرم لا في أوله وفتحها إنما كان في صفر وأقوى من هذا الاستدلال بيعة النبي صلى الله عليه و سلم أصحابه عند الشجرة بيعة الرضوان على القتال وألا يفروا وكانت في ذي القعدة ولكن لا دليل في ذلك لأنه إنما بايعهم على ذلك لما بلغه أنهم قد قتلوا عثمان وهم يريدون قتاله فحينئذ بايع الصحابة ولا خلاف في جواز القتال في الشهر الحرام إذا بدأ العدو إنما الخلاف أن يقاتل فيه ابتداء فالجمهور : جوزوه وقالوا : تحريم القتال فيه منسوخ وهو مذهب الأئمة الأربعة رحمهم الله
وذهب عطاء وغيره إلى أنه ثابت غير منسوخ وكان عطاء يحلف بالله : ما يحل القتال في الشهر الحرام ولا نسخ تحريمه شئ
وأقوى من هذين الاستدلالين الاستدلال بحصار النبي صلى الله عليه و سلم للطائف فإنه خرج إليها في أواخر شوال فحاصرهم بضعا وعشرين ليلة فبعضها كان في ذي القعدة فإنه فتح مكة لعشر بقين من رمضان وأقام بها بعد الفتح تسع عشرة يقصر الصلاة فخرج إلى هوازن وقد بقي من شوال عشرون يوما ففتح الله عليه هوازن وقسم غنائمها ثم ذهب منها إلى الطائف فحاصرها بضعا وعشرين ليلة وهذا يقتضي أن بعضها في ذي القعدة بلا شك
وقد قيل : إنما حاصرهم بعض عشرة ليلة قال ابن حزم : وهو الصحيح بلا شك وهذا عجيب منه فمن أين له هذا التصحيح والجزم به ؟ وفي الصحيحين عن أنس بن مالك في قصة الطائف قال : فحاصرناهم أربعين يوما فاستعصوا وتمنعوا وذكر الحديث فهذا الحصار وقع في ذي القعدة بلا ريب ومع هذا فلا دليل في القصة لأن غزو الطائف كان من تمام غزوة هوازن وهم بدأوا رسول الله صلى الله عليه و سلم بالقتال ولما انهزموا دخل ملكهم وهو مالك بن عوف النضري مع ثقيف في حصن الطائف محاربين رسول الله صلى الله عليه و سلم فكان غزوهم من تمام الغزوة التي شرع فيها والله أعلم
وقال الله تعالى في ( سورة المائدة ) وهي من آخر القرآن نزولا وليس فيها منسوخ : { يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد } ( المائدة : 2 )
وقال في سورة البقرة : { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله } ( البقرة : 217 ) فهاتان آيتان مدنيتان بينهما فى النزول نحو ثمانية أعوام وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله ناسخ لحكمهما ولا أجمعت الأمة على نسخه ومن استدل على نسخه بقوله تعالى : { وقاتلوا المشركين كافة } ( التوبة : 36 ) ونحوها من العمومات فقد استدل على النسخ بما لا يدل عليه ومن استدل عليه بأن النبي صلى الله عليه و سلم بعث أبا عامر في سرية إلى أوطاس في ذي القعدة فقد استدل بغير دليل لأن ذلك كان من تمام الغزوة التي بدأ فيها المشركون بالقتال ولم يكن ابتداء منه لقتالهم في الشهر الحرام (3/301)
فصل
ومنها : قسمة الغنائم للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهم وقد تقدم تقريره
ومنها : أنه يجوز لآحاد الجيش إذا وجد طعاما أن يأكله ولا يخمسه كما أخذ عبد الله بن المغفل جراب الشحم الذي دلي يوم خيبر واختص به بمحضر النبي صلى الله عليه و سلم
ومنها : أنه إذا لحق مدد بالجيش بعد تقضي الحرب فلا سهم له إلا بإذن الجيش ورضاهم فإن النبي صلى الله عليه و سلم كلم أصحابه في أهل السفينة حين قدموا عليه بخيبر - جعفر وأصحابه - أن يسهم لهم فأسهم لهم (3/303)
فصل
ومنها تحريم لحوم الحمر الإنسية صح عنه تحريمها يوم خيبر وصح عنه تعليل التحريم بأنها رجس وهذا مقدم على قول من قال من الصحابة : إنما حرمها لأنها كانت ظهر القوم وحمولتهم فلما قيل له : فني الظهر وأكلت الحمر حرمها وعلى قول من قال : إنما حرمها لأنها لم تخمس وعلى قول من قال : إنما حرمها لأنها كانت حول القرية وكانت تأكل العذرة وكل هذا في الصحيح لكن قول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إنها رجس ] مقدم على هذا كله لأنه من ظن الراوي وقوله بخلاف التعليل بكونها رجسا
ولا تعارض بين هذا التحريم وبين قوله تعالى : { قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به } ( الأنعام : 145 ) فإنه لم يكن قد حرم حين نزول هذه الآية من المطاعم إلا هذه الأربعة والتحريم كان يتجدد شيئا فشيئا فتحريم الحمر بعد ذلك تحريم مبتدأ لما سكت عنه النص لا أنه رافع لما أباحه القرآن ولا مخصص لعمومه فضلا عن أن يكون ناسخا والله أعلم (3/303)
فصل
ولم تحرم المتعة يوم خيبر وإنما كان تحريمها عام الفتح هذا هو الصواب وقد ظن طائفة من أهل العلم أنه حرمها يوم خيبر واحتجوا بما في الصحيحين من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل لحوم الحمر الإنسية
وفي الصحيحين أيضا : أن عليا رضي الله عنه سمع ابن عباس يلين فى متعة النساء فقال : مهلا يا ابن عباس فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عنها يوم خيبر وعن لحوم الحمر الإنسية وفي لفظ للبخاري عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل لحوم الحمر الإنسية
ولما رأى هؤلاء أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أباحها عام الفتح ثم حرمها قالوا : حرمت ثم أبيحت ثم حرمت
قال الشافعي : لا أعلم شيئا حرم ثم أبيح ثم حرم إلا المتعة قالوا : نسخت مرتين وخالفهم في ذلك آخرون وقالوا : لم تحرم إلا عام الفتح وقبل ذلك كانت مباحة قالوا : وإنما جمع علي بن أبي طالب رضي الله عنه بين الإخبار بتحريمها وتحريم الحمر الأهلية لأن ابن عباس كان يبيحهما فروى له علي تحريمهما عن النبي صلى الله عليه و سلم ردا عليه وكان تحريم الحمر يوم خيبر بلا شك وقد ذكر يوم خيبر ظرفا لتحريم الحمر وأطلق تحريم المتعة ولم يقيده بزمن كما جاء ذلك في مسند الإمام أحمد بإسناد صحيح أن رسول الله صلى الله عليه و سلم حرم لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر وحرم متعة النساء وفي لفظ : حرم متعة النساء وحرم لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر هكذا رواه سفيان بن عيينة مفصلا مميزا فظن بعض الرواة أن يوم خيبر زمن للتحريمين فقيدهما به ثم جاء بعضهم فاقتصر على أحد المحرمين وهو تحريم الحمر وقيده بالظرف فمن ها هنا نشأ الوهم
وقصة خيبر لم يكن فيها الصحابة يتمتعون باليهوديات ولا استأذنوا في ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا نقله أحد قط في هذه الغزوة ولا كان للمتعة فيها ذكر البتة لا فعلا ولا تحريما بخلاف غزاة الفتح فإن قصة المتعة كانت فيها فعلا وتحريما مشهورة وهذه الطريقة أصح الطريقتين
وفيها طريقة ثالثة : وهي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يحرمها تحريما عاما البتة بل حرمها عند الاستغناء عنها وأباحها عند الحاجة إليها وهذه كانت طريقة ابن عباس حتى كان يفتي بها ويقول : هي كالميتة والدم ولحم الخنزير تباح عند الضرورة وخشية العنت فلم يفهم عنه أكثر الناس ذلك وظنوا أنه أباحها إباحة مطلقة وشببوا في ذلك بالأشعار فلما رأى ابن عباس ذلك رجع إلى القول بالتحريم (3/304)
فصل
ومنها : جواز المساقاة والمزارعة بجزء مما يخرج من الأرض من ثمر أو زرع كما عامل رسول الله صلى الله عليه و سلم أهل خيبر على ذلك واستمر ذلك إلى حين وفاته لم ينسخ البتة واستمر عمل خلفائه الراشدين عليه وليس هذا من باب المؤاجرة في شئ بل من باب المشاركة وهو نظير المضاربة سواء فمن أباح المضاربة وحرم ذلك فقد فرق بين متماثلين (3/306)
فصل
ومنها أنه دفع إليهم الأرض على أن يعملوها من أموالهم ولم يدفع إليهم البذر ولا كان يحمل إليهم البذر من المدينة قطعا فدل على أن هديه عدم اشتراط كون البذر من رب الأرض وأنه يجوز أن يكون من العامل وهذا كان هدي خلفائه الراشدين من بعده وكما أنه هو المنقول فهو الموافق للقياس فإن الأرض بمنزلة رأس المال في القراض والبذر يجري مجرى سقي الماء ولهذا يموت في الأرض ولا يرجع إلى صاحبه ولو كان بمنزلة رأس مال المضاربة لاشترط عوده إلى صاحبه وهذا يفسد المزارعة فعلم أن القياس الصحيح هو الموافق لهدي رسول الله صلى الله عليه و سلم وخلفائه الراشدين في ذلك والله أعلم (3/306)
فصل
ومنها : خرص الثمار على رؤوس النخل وقسمتها كذلك وأن القسمة ليست بيعا
ومنها : الاكتفاء بخارص واحد وقاسم واحد
ومنها : جواز عقد المهادنة عقدا جائزا للإمام فسخه متى شاء
ومنها : جواز تعليق عقد الصلح والأمان بالشرط كما عقد لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم بشرط أن لا يغيبوا ولا يكتموا
ومنها : الأخذ في الأحكام بالقرائن والأمارات كما قال النبي صلى الله عليه و سلم لكنانة : [ المال كثير والعهد قريب ] فاستدل بهذا على كذبه في قوله : أذهبته الحروب والنفقة
ومنها : أن من كان القول قوله إذا قامت قرينة على كذبه لم يلتفت إلى قوله ونزل منزلة الخائن
ومنها : أن أهل الذمة إذا خالفوا شيئا مما شرط عليهم لم يبق لهم ذمة وحلت دماؤهم وأموالهم لأن رسول الله صلى الله عليه و سلم عقد لهؤلاء الهدنة وشرط عليهم أن لا يغيبوا ولا يكتموا فإن فعلوا حلت دماؤهم وأموالهم فلما لم يفوا بالشرط استباح دماءهم وأموالهم وبهذا اقتدى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في الشروط التي اشترطها على أهل الذمة فشرط عليهم أنهم متى خالفوا شيئا منها فقد حل له منهم ما يحل من أهل الشقاق والعداوة
ومنها : جواز نسخ الأمر قبل فعله فإن النبى صلى الله عليه و سلم أمرهم بكسر القدور ثم نسخه عنهم بالأمر بغسلها
ومنها : أن ما لا يؤكل لحمه لا يطهر بالذكاة لا جلده ولا لحمه وأن ذبيحته بمنزلة موته وأن الذكاة إنما تعمل في مأكول اللحم
ومنها : أن من أخذ من الغنيمة شيئا قبل قسمتها لم يملكه وإن كان دون حقه وأنه إنما يملكه بالقسمة ولهذا قال في صاحب الشملة التي غلها : [ إنها تشتعل عليه نارا ] وقال لصاحب الشراك الذي غله : [ شراك من نار ]
ومنها : أن الإمام مخير في أرض العنوة بين قسمتها وتركها وقسم بعضها وترك بعضها
ومنها : جواز التفاؤل بل استحبابه بما يراه أو يسمعه مما هو من أسباب ظهور الإسلام وإعلامه كما تفاءل النبي صلى الله عليه و سلم برؤية المساحي والفؤوس والمكاتل مع أهل خيبر فإن ذلك فأل في خرابها
ومنها : جواز إجلاء أهل الذمة من دار الاسلام إذا استغني عنهم كما قال النبى صلى الله عليه و سلم : [ نقركم ما أقركم الله ] وقال لكبيرهم : [ كيف بك إذا رقصت بك راحلتك نحو الشام يوما ثم يوما ] وأجلاهم عمر بعد موته صلى الله عليه و سلم وهذا مذهب محمد بن جرير الطبري وهو قول قوي يسوغ العمل به إذا رأى الإمام فيه المصلحة
ولا يقال : أهل خيبر لم تكن لهم ذمة بل كانوا أهل هدنة فهذا كلام لا حاصل تحته فإنهم كانوا أهل ذمة قد أمنوا بها على دمائهم وأموالهم أمانا مستمرا نعم لم تكن الجزية قد شرعت ونزل فرضها وكانوا أهل ذمة بغير جزية فلما نزل فرض الجزية استؤنف ضربها على من يعقد له الذمة من أهل الكتاب والمجوس فلم يكن عدم أخذ الجزية منهم لكونهم ليسوا أهل ذمة بل لأنها لم تكن نزل فرضها بعد
وأما كون العقد غير مؤبد فذاك لمدة إقرارهم في أرض خيبر لا لمدة حقن دمائهم ثم يستبيحها الإمام متى شاء فلهذا قال : نقركم ما أقره الله أو ما شئنا ولم يقل : نحقن دماءكم ما شئنا وهكذا كان عقد الذمة لقريظة والنضير عقدا مشروطا بأن لا يحاربوه ولا يظاهروا عليه ومتى فعلوا فلا ذمة لهم وكانوا أهل ذمة بلا جزية إذ لم يكن نزل فرضها إذ ذاك واستباح رسول الله صلى الله عليه و سلم سبي نسائهم وذراريهم وجعل نقض العهد ساريا في حق النساء والذرية وجعل حكم الساكت والمقر حكم الناقض والمحارب وهذا موجب هديه صلى الله عليه و سلم في أهل الذمة بعد الجزية أيضا أن يسري نقض العهد في ذريتهم ونسائهم ولكن هذا إذا كان الناقضون طائفة لهم شوكة ومنعة أما إذا كان الناقض واحدا من طائفة لم يوافقه بقيتهم فهذا لا يسري النقض إلى زوجته وأولاده كما أن من أهدر النبي صلى الله عليه و سلم دماءهم ممن كان يسبه لم يسب نساءهم وذريتهم فهدا هديه في هذا وهو الذي لا محيد عنه وبالله التوفيق
ومنها : جواز عتق الرجل أمته وجعل عتقها صداقا لها ويجعلها زوجته بغير إذنها ولا شهود ولا ولي غيره ولا لفظ إنكاح ولا تزويج كما فعل صلى الله عليه و سلم بصفية ولم يقل قط : هذا خاص بي ولا أشار إلى ذلك مع علمه باقتداء أمته به ولم يقل أحد من الصحابة : إن هذا لا يصح لغيره بل رووا القصة ونقلوها إلى الأمة ولم يمنعوهم ولا رسول الله صلى الله عليه و سلم من الاقتداء به في ذلك والله سبحانه لما خصه في النكاح بالموهوبة قال : { خالصة لك من دون المؤمنين } ( الأحزاب : 50 ) فلو كانت هذه خالصة له من دون أمته لكان هذا التخصيص أولى بالذكر لكثرة ذلك من السادات مع إمائهم بخلاف المرأة التي تهب نفسها للرجل لندرته وقلته أو مثله في الحاجة إلى البيان ولا سيما والأصل مشاركة الأمة له واقتداؤها به فكيف يسكت عن منع الاقتداء به في ذلك الموضع الذي لا يجوز مع قيام مقتضى الجواز هذا شبه المحال ولم تجتمع الأمة على عدم الاقتداء به في ذلك فيجب المصير إلى إجماعهم وبالله التوفيق
والقياس الصحيح : يقتضي جواز ذلك فإنه يملك رقبتها ومنفعة وطئها وخدمتها فله أن يسقط حقه من ملك الرقبة ويستبقي ملك المنفعة أو نوعا منها كما لو أعتق عبده وشرط عليه أن يخدمه ما عاش فإذا أخرج المالك رقبة ملكه واستثنى نوعا من منفعته لم يمنع من ذلك في عقد البيع فكيف يمنع منه في عقد النكاح ولما كانت منفعة البضع لا تستباح إلا بعقد نكاح أو ملك يمين وكان إعتاقها يزيل ملك اليمين عنها كان من ضرورة استباحة هذه المنفعة جعلها زوجة وسيدها كان يلي نكاحها وبيعها ممن شاء بغير رضاها فاستثنى لنفسه ما كان يملكه منها ولما كان من ضرورته عقد النكاح ملكه لأن بقاء ملكه المستثنى لا يتم إلا به فهذا محض القياس الصحيح الموافق للسنة الصحيحة والله أعلم
ومنها : جواز كذب الإنسان على نفسه وعلى غيره إذا لم يتضمن ضرر ذلك الغير إذا كان يتوصل بالكذب إلى حقه كما كذب الحجاج بن علاط على المسلمين حتى أخذ ماله من مكة من غير مضرة لحقت المسلمين من ذلك الكذب وأما ما نال من بمكة من المسلمين من الأذى والحزن فمفسدة يسيرة في جنب المصلحة التي حصلت بالكذب ولا سيما تكميل الفرح والسرور وزيادة الإيمان الذي حصل بالخبر الصادق بعد هذا الكذب فكان الكذب سببا في حصول هذه المصلحة الراجحة ونظير هذا الإمام والحاكم يوهم الخصم خلاف الحق ليتوصل بذلك إلى استعلام الحق كما أوهم سليمان بن داود إحدى المرأتين بشق الولد نصفين حتى توصل بذلك إلى معرفة عين الأم
ومنها : جواز بناء الرجل بامرأته في السفر وركوبها معه على دابة بين الجيش
ومنها : أن من قتل غيره بسم يقتل مثله قتل به قصاصا كما قتلت اليهودية ببشر بن البراء
ومنها : جواز الأكل من ذبائح أهل الكتاب وحل طعامهم
ومنها : قبول هدية الكافر فإن قيل : فلعل المرأة قتلت لنقض العهد لحرابها بالسم لا قصاصا قيل : لو كان قتلها لنقض العهد لقتلت من حين أقرت أنها سمت الشاة ولم يتوقف قتلها على موت الأكل منها
فإن قيل : فهلا قتلت بنقض العهد ؟ قيل : هذا حجة من قال : إن الإمام مخير في ناقض العهد كالأسير
فإن قيل : فأنتم توجبون قتله حتما كما هو منصوص أحمد وإنما القاضي أبو يعلى ومن تبعه قالوا : يخير الإمام فيه قيل : إن كانت قصة الشاة في الصلح فلا حجة فيها وإن كانت بعد الصلح فقد اختلف في نقض العهد بقتل المسلم على قولين فمن لم ير النقض به فظاهر ومن رأى النقض به فهل يتحتم قتله أو يخير فيه أو يفصل بين بعض الأسباب الناقضة وبعضها فيتحتم قتله بسبب السبب ويخير فيه إذا نقضه بحرابه ولحوقه بدار الحرب وإن نقضه بسواهما كالقتل والزنى بالمسلمة والتجسس على المسلمين وإطلاع العدو على عوراتهم ؟ فالمنصوص : تعين القتل وعلى هذا فهذه المرأة لما سمت الشاة صارت بذلك محاربة وكان قتلها مخيرا فيه فلما مات بعض المسلمين من السم قتلت حتما إما قصاصا وإما لنقض العهد بقتلها المسلم فهذا محتمل والله أعلم
واختلف في فتح خيبر : هل كان عنوة أو كان بعضها صلحا وبعضها عنوة ؟
فروى أبو داود من حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم غزا خيبر فأصبناها عنوة فجمع السبي
وقال ابن إسحاق : سألت ابن شهاب فأخبرني أن رسول الله صلى الله عليه و سلم افتتح خيبر عنوة بعد القتال
وذكر أبو داود عن ابن شهاب : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه و سلم افتتح خيبر عنوة بعد القتال ونزل من نزل من أهلها على الجلاء بعد القتال
قال ابن عبد البر : هذا هو الصحيح في أرض خيبر أنها كانت عنوة كلها مغلوبا عليها بخلاف فدك فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم قسم جميع أرضها على الغانمين لها الموجفين عليها بالخيل والركاب وهم أهل الحديبية ولم يختلف العلماء أن أرض خيبر مقسومة وإنما اختلفوا : هل تقسم الأرض إذا غنمت البلاد أو توقف ؟
فقال الكوفيون : الإمام مخير بين قسمتها كما فعل رسول الله صلى الله عليه و سلم بأرض خيبر ومن إيقافها كما فعل عمر بسواد العراق
وقال الشافعي : تقسم الأرض كلها كما قسم رسول الله صلى الله عليه و سلم خيبر لأن الأرض غنيمة كسائر أموال الكفار
وذهب مالك إلى إيقافها اتباعا لعمر لأن الأرض مخصوصة من سائر الغنيمة بما فعل عمر في جماعة من الصحابة من إيقافها لمن يأتي بعده من المسلمين وروى مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه قال : سمعت عمر يقول : لولا أن يترك آخر الناس لا شئ لهم ما افتتح المسلمون قرية إلا قسمتها سهمانا كما قسم رسول الله صلى الله عليه و سلم خيبر سهمانا
وهذا يدل على أن أرض خيبر قسمت كلها سهمانا كما قال ابن إسحاق
وأما من قال : إن خيبر كان بعضها صلحا وبعضها عنوة فقد وهم وغلط وإنما دخلت عليهم الشبهة بالحصنين اللذين أسلمهما أهلهما في حقن دمائهم فلما لم يكن أهل ذينك الحصنين من الرجال والنساء والذرية مغنومين ظن أن ذلك لصلح ولعمري إن ذلك في الرجال والنساء والذرية كضرب من الصلح ولكنهم لم يتركوا أرضهم إلا بالحصار والقتال فكان حكم أرضهما حكم سائر أرض خيبر كلها عنوة غنيمة مقسومة بين أهلها
وربما شبه على من قال : إن نصف خيبر صلح ونصفها عنوة بحديث يحيي بن سعيد عن بشير بن يسار : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قسم خيبر نصفين : نصفا له ونصفا للمسلمين
قال أبو عمر : ولو صح هذا لكان معناه أن النصف له مع سائر من وقع في ذلك النصف معه لأنها قسمت على ستة وثلاثين سهما فوقع السهم للنبي صلى الله عليه و سلم وطائفة معه في ثمانية عشر سهما ووقع سائر الناس في باقيها وكلهم ممن شهد الحديبية ثم خيبر وليست الحصون التي أسلمها أهلها بعد الحصار والقتال صلحا ولو كانت صلحا لملكها أهلها كما يملك أهل الصلح أرضهم وسائر أموالهم فالحق في هذا ما قاله ابن إسحاق دون ما قاله موسى بن عقبة وغيره عن ابن شهاب هذا أخر كلام أبي عمر
قلت : ذكر مالك عن ابن شهاب أن خيبر كان بعضها عنوة وبعضها صلحا والكتيبة أكثرها عنوة : وفيها صلح قال مالك : والكتيبة أرض خيبر وهو أربعون ألف عذق
وقال مالك : عن الزهري عن ابن المسيب : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم افتتح بعض خيبر عنوة (3/306)
فصل
ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه و سلم من خيبر إلى وادي القرى وكان بها جماعة من اليهود وقد انضاف إليهم جماعة من العرب فلما نزلوا استقبلهم يهود بالرمي وهم على غير تعبئة فقتل مدعم عبد رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال الناس : هنيئا له الجنة فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ كلا والذي نفسي بيده إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه نارا ] فلما سمع بذلك الناس جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و سلم بشراك أو شراكين فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ شراك من نار أو شراكان من نار ]
فعبأ رسول الله صلى الله عليه و سلم أصحابه للقتال وصفهم ودفع لواءه إلى سعد بن عبادة وراية إلى الحباب بن المنذر وراية إلى سهل بن حنيف وراية إلى عباد بن بشر ثم دعاهم إلى الإسلام وأخبرهم أنهم إن أسلموا أحرزوا أموالهم وحقنوا دماءهم وحسابهم على الله فبرز رجل منهم فبرز إليه الزبير بن العوام فقتله ثم برز آخر فقتله ثم برز آخر فبرز إليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقتله حتى قتل منهم أحد عشر رجلا كلما قتل منهم رجل دعا من بقي إلى الإسلام وكانت الصلاة تحضر ذلك اليوم فيصلي بأصحابه ثم يعود فيدعوهم إلى الإسلام وإلى الله ورسوله فقاتلهم حتى أمسوا وغدا عليهم فلم ترتفع الشمس قيد رمح حتى أعطوا ما بأيديهم وفتحها عنوة وغنمه الله أموالهم وأصابوا أثاثا ومتاعا كثيرا وأقام رسول الله صلى الله عليه و سلم بوادي القرى أربعة أيام وقسم ما أصاب على أصحابه بوادي القرى وترك الأرض والنخل بأيدي اليهود وعاملهم عليها فلما بلغ يهود تيماء ما واطأ عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم أهل خيبر وفدك ووادي القرى صالحوا رسول الله صلى الله عليه و سلم وأقاموا بأموالهم فلما كان زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخرج يهود خيبر وفدك ولم يخرح أهل تيماء ووادي القرى لأنهما داخلتان في أرض الشام ويرى أن ما دون وادي القرى إلى المدينة حجاز وأن ما وراء ذلك من الشام وانصرف رسول الله صلى الله عليه و سلم راجعا إلى المدينة
فلما كان ببعض الطريق سار ليله حتى إذا كان ببعض الطريق أدركهم الكرى عرس وقال لبلال : [ إكلأ لنا الليل ] ( فصلى بلال ما قدر له ونام رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه فلما تقارب الفجر استند بلال إلى راحلته مواجه الفجر ) فغلبت بلالا عيناه وهو مستند إلى راحلته فلم يستيقظ النبي صلى الله عليه و سلم ولا بلال ولا أحد من أصحابه حتى ضربتهم الشمس فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم أولهم استيقاظا ففزع رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ أي بلال ] ؟ فقال : أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك بأبي أنت وأمي يا رسول الله فاقتادوا رواحلهم شيئا حتى خرجوا من ذلك الوادي ثم قال : [ هذا واد به شيطان ] فلما جاوزه أمرهم أن ينزلوا وأن يتوضؤوا ثم صلى سنة الفجر ثم أمر بلالا فأقام الصلاة وصلى بالناس ثم انصرف إليهم وقد رأى من فزعهم وقال : [ يا أيها الناس إن الله قبض أرواحنا ولو شاء لردها إلينا في حين غير هذا فإذا رقد أحدكم عن الصلاة أو نسيها ثم فزع إليها فليصلها كما كان يصليها في وقتها ] ثم التفت رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى أبي بكر فقال : [ إن الشيطان أتى بلالا وهو قائم يصلي فأضجعه فلم يزل يهدئه كما يهدأ الصبي حتى نام ] ثم دعا رسول الله صلى الله عليه و سلم بلالا فأخبره بمثل ما أخبر به أبا بكر
وقد روي أن هذه القصة كانت في مرجعهم من الحديبية وروي أنها كانت في مرجعهم من غزوة تبوك وقد روى قصة النوم عن صلاة الصبح عمران بن حصين ولم يوقت مدتها ولا ذكر في أي غزوة كانت وكذلك رواها أبو قتادة كلاهما في قصة طويلة محفوظة
وروى مالك عن زيد بن أسلم أن ذلك كان بطريق مكة وهذا مرسل
وقد روى شعبة عن جامع بن شداد قال : سمعت عبد الرحمن بن أبي علقمة قال : سمعت عبد الله بن مسعود قال : [ أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم زمن الحديبية فقال النبي صلى الله عليه و سلم : من يكلؤنا ؟ فقال بلال : أنا ] فذكر القصة
لكن قد اضطربت الرواة في هذه القصة فقال عبد الرحمن بن مهدي عن شعبة عن جامع : إن الحارس فيها كان ابن مسعود وقال غندر عنه : إن الحارس كان بلالا واضطربت الرواية في تاريخها فقال المعتمر بن سليمان : عن شعبة عنه : إنها كانت في غزوة تبوك وقال غيره عنه : إنها كانت في مرجعهم من الحديبية فدل على وهم وقع فيها ورواية الزهري عن سعيد سالمة من ذلك وبالله التوفيق (3/313)
فصل
في فقه هذه القصة
فيها : أن من نام عن صلاة أو نسيها فوقتها حين يستيقظ أو يذكرها
وفيها : أن السنن الرواتب تقضى كما تقضى الفرائض وقد قضى رسول الله صلى الله عليه و سلم سنة الفجر معها وقضى سنة الظهر وحدها وكان هديه صلى الله عليه و سلم قضاء السنن الرواتب مع الفرائض
وفيها : أن الفائتة يؤذن لها ويقام فإن في بعض طرق هذه القصة أنه أمر بلالا فنادى بالصلاة وفي بعضها فأمر بلالا فأذن وأقام ذكره أبو داود
وفيها : قضاء الفائتة جماعة
وفيها : قضاؤها على الفور لقوله : فليصلها إذا ذكرها وإنما أخرها عن مكان معرسهم قليلا لكونه مكانا فيه شيطان فارتحل منه إلى مكان خير منه وذلك لا يفوت المبادرة إلى القضاء فإنهم في شغل الصلاة وشأنها
وفيها : تنبيهه على اجتناب الصلاة في أمكنة الشيطان كالحمام والحش بطريق الأولى فإن هذه منازله التي يأوي إليها ويسكنها فإذا كان النبي صلى الله عليه و سلم ترك المبادرة إلى الصلاة في ذلك الوادي وقال : إن به شيطانا فما الظن بمأوى الشيطان وبيته (3/316)
فصل
ولما رجع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المدينة رد المهاجرون إلى الأنصار منائحهم التي كانوا منحوهم إياها من النخيل حين صار لهم بخيبر مال ونخيل فكانت أم سليم - وهي أم أنس بن مالك - أعطت رسول الله صلى الله عليه و سلم عذاقا فأعطاهن أم أيمن مولاته وهى أم أسامة بن زيد فرد رسول الله صلى الله عليه و سلم على أم سليم عذاقها وأعطى أم أيمن مكانهن من حائطه مكان كل عذق عشرة (3/317)
فصل
وأقام رسول الله صلى الله عليه و سلم في المدينة بعد مقدمه من خيبر إلى شوال وبعث في خلال ذلك السرايا
فمنها : سرية أبي بكر الصديق رضي الله عنه إلى نجد قبل بني فزارة ومعه سلمة بن الأكوع فوقع في سهمه جارية حسناء فاستوهبها منه رسول الله صلى الله عليه و سلم وفادى بها أسرى من المسلمين كانوا بمكة
ومنها : سرية عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ثلاثين راكبا نحو هوازن فجاءهم الخبر فهربوا وجاؤوا محالهم فلم يلق منهم أحدا فانصرف راجعا إلى المدينة فقال له الدليل : هل لك في جمع من خثعم جاؤوا سائرين وقد أجدبت بلادهم ؟ فقال عمر : لم يأمرني رسول الله صلى الله عليه و سلم بهم ولم يعرض لهم
ومنها : سرية عبد الله بن رواحة في ثلاثين راكبا فيهم عبد الله بن أنيس إلى يسير بن رزام اليهودي فإنه بلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه يجمع غطفان ليغزوه بهم فأتوه بخيبر فقالوا : أرسلنا إليك رسول الله صلى الله عليه و سلم ليستعملك على خيبر فلم يزالوا - حتى تبعهم في ثلاثين رجلا مع كل رجل منهم رديف من المسلمين فلما بلغوا قرقرة نيار - وهي من خيبر على ستة أميال - ندم يسير فأهوى بيده إلى سيف عبد الله بن أنيس ففطن له عبد الله بن أنيس فزجر بعيره ثم اقتحم عن البعير يسوق القوم حتى إذا استمكن من يسير ضرب رجله فقطعها واقتحم يسير وفى يده مخرش من شوحط فضرب به وجه عبد الله فشجه مأمومة فانكفأ كل رجل من المسلمين على رديفه فقتله غير رجل من اليهود أعجزهم شدا ولم يصب من المسلمين أحد وقدموا على رسول الله صلى الله عليه و سلم فبصق فى شجة عبد الله بن أنيس فلم تقح ولم تؤذه حتى مات
ومنها : سرية بشير بن سعد الأنصاري إلى بني مرة بفدك في ثلاثين رجلا فخرج إليهم فلقي رعاء الشاء فاستاق الشاء والنعم ورجع إلى المدينة فأدركه الطلب عند الليل فباتوا يرمونهم بالنبل حتى فني نبل بشير وأصحابه فولى منهم من ولى وأصيب منهم من أصيب وقاتل بشير قتالا شديدا ورجع القوم بنعمهم وشائهم وتحامل بشير حتى انتهى إلى فدك فأقام عند يهود حتى برئت جراحه فرجع إلى المدينة ثم بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم سرية إلى الحرقة من جهينة وفيهم أسامة بن زيد فلما دنا منهم بعث الأمير الطلائع فلما رجعوا بخبرهم أقبل حتى إذا دنا منهم ليلا وقد احتلبوا وهدؤوا قام فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال : أوصيكم بتقوى الله وحده لا شريك له وأن تطيعوني ولا تعصوني ولا تخالفوا أمري فإنه لا رأي لمن لا يطاع ثم رتبهم وقال : يا فلان ! أنت وفلان ويا فلان أنت وفلان لا يفارق كل منكما صاحبه وزميله وإياكم أن يرجع أحد منكم فأقول : أين صاحبك ؟ فيقول : لا أدري فإذا كبرت فكبروا وجردوا السيوف ثم كبروا وحملوا حملة واحدة وأحاطوا بالقوم وأخذتهم سيوف الله فهم يضعونها منهم حيث شاؤوا وشعارهم : أمت أمت وخرج أسامة في أثر رجل منهم يقال له مرداس بن نهيك فلما دنا منه ولحمه بالسيف قال : لا إله إلا الله فقتله ثم استاقوا الشاء والنعم والذرية وكانت سهمانهم عشرة أبعرة لكل رجل أو عدلها من النعم فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه و سلم أخبر بما صنع أسامة فكبر ذلك عليه وقال : [ أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله ؟ ] فقال : إنما قالها متعوذا قال [ فهلا شققت عن قلبه ] ثم قال : [ من لك بلا إله إلا الله يوم القيامة ] فما زال يكرر ذلك عليه حتى تمنى أن يكون أسلم يومئذ وقال : يا رسول الله ! أعطي الله عهدا ألا أقتل رجلا يقول : لا إله إلا الله فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : بعدي فقال أسامة : بعدك (3/317)
فصل
وبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم غالب بن عبد الله الكلبي إلى بني الملوح بالكديد وأمره أن يغير عليهم
قال ابن إسحاق : فحدثني يعقوب بن عتبة عن مسلم بن عبد الله الجهنى عن جندب بن مكيث الجهني قال : كنت في سريته فمضينا حتى إذا كنا بقديد لقينا به الحارث بن مالك بن البرصاء الليثي فأخذناه فقال : إنما جئت لأسلم فقال له غالب بن عبد الله : إن كنت إنما جئت لتسلم فلا يضرك رباط يوم وليلة وإن كنت على غير ذلك استوثقنا منك فأوثقه رباطا وخلف عليه رويجلا أسود وقال له : امكث معه حتى نمر عليك فإذا عازك فاحتز رأسه فمضينا حتى أتينا بطن الكديد فنزلناه عشية بعد العصر فبعثني أصحابي إليه فعمدت إلى تل يطلعني على الحاضر فانبطحت عليه وذلك قبل غروب الشمس فخرج رجل منهم فنظر فرآني منبطحا على التل فقال لامرأته : إني لأرى سوادا على هذا التل ما رأيته في أول النهار فانظري لا تكون الكلاب اجترت بعض أوعيتك فنظرت فقالت : لا والله لا أفقد شيئا قال : فناوليني قوسي وسهمين من نبلي فناولته فرماني بسهم فوضعه في جنبي فنزعته فوضعته ولم أتحرك ثم رماني بالآخر فوضعه في رأس منكبي فنزعته فوضعته ولم أتحرك فقال لامرأته : أما والله لقد خالطه سهامي ولو كان ربيئة لتحرك فإذا أصبحت فابتغي سهمي فخذيهما لا تمضغهما الكلاب علي قال : فأمهلناهم حتى إذا راحت روائحهم واحتلبوا وسكنوا وذهبت عتمة الليل شننا عليهم الغارة فقتلنا من قتلنا واستقنا النعم فوجهنا قافلين به وخرج صريخهم إلى قومهم وخرجنا سراعا حتى نمر بالحارث بن مالك وصاحبه فانطلقنا به معنا وأتانا صريخ الناس فجاءنا ما لا قبل لنا به حتى إذا لم يكن بيننا وبينهم إلا بطن الوادي من قديد أرسل الله عز رجل من حيث شاء سيلا لا والله ما رأينا قبل ذلك مطرا فجاء بما لا يقدر أحد يقدم علي فلقد رأيتهم وقوفا ينظرون إلينا ما يقدر أحد منهم أن يقدم عليه ونحن نحدوها فذهبنا سراعا حتى أسندناها في المشلل ثم حدرناها عنه فأعجزنا القوم بما في أيدينا
وقد قيل : إن هذه السرية هي السرية التي قبلها والله أعلم (3/320)
فصل
ثم قدم حسيل بن نويرة وكان دليل النبى صلى الله عليه و سلم إلى خيبر فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : ما وراءك ؟ قالا : تركت جمعا من يمن وغطفان وحيان وقد بعث إليهم عيينة إما أن تسيروا إلينا وإما أن نسير إليكم فأرسلوا إليه أن سر إلينا وهم يريدونك أو بعض أطرافك فدعا رسول الله صلى الله عليه و سلم أبا بكر وعمر فذكر لهما ذلك فقالا جميعا : ابعث بشير بن سعد فعقد له لواء وبعث معه ثلاثمائة رجل وأمرهم أن يسيروا الليل ويكمنوا النهار وخرج معهم حسيل دليلا فساروا الليل وكمنوا النهار حتى أتوا أسفل خيبر حتى دنوا من القوم فأغاروا على سرحهم وبلغ الخبر جمعهم فتفرقوا فخرج بشير في أصحابه حتى أتى محالهم فيجدها ليس بها أحد فرجع بالنعم فلما كانوا بسلاح لقوا عينا لعيينة فقتلوه ثم لقوا جمع عيينة وعيينة لا يشعر بهم فناوشوهم ثم انكشف جمع عيينة وتبعهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فأصابوا منهم رجلين فقدموا بهما على النبي صلى الله عليه و سلم فأسلما فأرسلهما
وقال الحارث بن عوف لعيينة وقد لقيه منهزما تعدو به فرسه : قف قال : لا أقدر خلفي الطلب فقال له الحارث : أما آن لك أن تبصر بعض ما أنت عليه وأن محمدا قد وطأ البلاد وأنت توضع في غير شئ ؟ قال الحارث : فأقمت من حين زالت الشمس إلى الليل وما أرى أحدا ولا طلبوه إلا الرعب الذي دخله (3/321)
فصل
وبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم ابن أبي حدرد الأسلمي في سرية وكان من قصته ما ذكر ابن إسحاق أن رجلا من جشم بن معاوية يقال له : قيس بن رفاعة أو رفاعة بن قيس أقبل في عدد كثير حتى نزلوا بالغابة يريد أن يجمع قيسا على محاربة رسول الله صلى الله عليه و سلم وكان ذا اسم وشرف في جشم قال : فدعاني رسول الله صلى الله عليه و سلم ورجلين من المسلمين فقال : اخرجوا إلى هذا الرجل حتى تأتوا منه بخبر وعلم فقدم إلينا شارفا عجفاء فحمل عليها أحدنا فوالله ما قامت به ضعفا حتى دعمها الرجال من خلفها بأيديهم حتى استقلت وما كادت وقال : تبلغوا على هذه فخرجنا ومعنا سلاحنا من النبل والسيوف حتى إذا جئنا قريبا من الحاضر مع غروب الشمس فكمنت في ناحية وأمرت صاحبي فكمنا فى ناحية أخرى من حاضر القوم قلت لهما : إذا سمعتماني قد كبرت وشددت في ناحية العسكر فكبرا وشدا معي فوالله إنا كذلك ننتظر أن نرى غرة أو نرى شيئا وقد غشينا الليل حتى ذهبت فحمة العشاء وقد كان لهم راع قد سرح في ذلك البلد فأبطأ عليهم حتى تخوفوا عليه فقام صاحبهم رفاعة بن قيس فأخذ سيفه فجعله في عنقه وقال : والله لأتبعن أثر راعينا هذا والله لقد أصابه شر فقال نفر ممن معه : والله لا تذهب نحن نكفيك فقال : والله لا يذهب إلا أنا قالوا : فنحن معك وقال : والله لا يتبعني منكم أحد وخرج حتى يمر بي فلما أمكنني نفحته بسهم فوضعته في فؤاده فوالله ما تكلم فوثبت إليه فاحتززت رأسه ثم شددت في ناحية العسكر وكبرت وشد صاحباي فكبرا فوالله ما كان إلا النجاء ممن كان فيه : عندك عندك بكل ما قدروا عليه من نسائهم وأبنائهم وما خف معهم من أموالهم واستقنا إبلا عظيمة وغنما كثيرة فجئنا بها إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وجئت برأسه أحمله معي فأعطاني من تلك الإبل ثلاثة عشر بعيرا في صداقي فجمعت إلي أهلي وكنت قد تزوجت امرأة من قومي فأصدقتها مائتي درهم فجئت رسول الله صلى الله عليه و سلم أستعينه على نكاحي فقال : والله ما عندي ما أعينك فلبثت أياما ثم ذكر هذه السرية (3/322)
فصل
وبعث سرية إلى إضم وكان فيهم أبو قتادة ومحلم بن جثامة في نفر من المسلمين فمر بهم عامر بن الأضبط الأشجعي على قعود له معه متيع له ووطب من لبن فسلم عليهم بتحية الإسلام فأمسكوا عنه وحمل عليه محلم بن جثامة فقتله لشئ كان بينه وبينه وأخذ بعيره ومتيعه فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه و سلم أخبروه الخبر فنزل فيهم القرآن : { يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا } ( النساء : 94 ) فلما قدموا أخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم بذلك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أقتلته بعدما قال آمنت بالله ؟
ولما كان عام خيبر جاء عيينة بن بدر يطلب بدم عامر بن الأضبط الأشجعي وهو سيد قيس وكان الأقرع بن حابس يرد عن محلم وهو سيد خندف فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لقوم عامر : [ هل لكم أن تأخذوا الآن منا خمسين بعيرا وخمسين إذا رجعنا إلى المدينة ؟ ] فقال عيينة بن بدر : والله لا أدعه حتى أذيق نساءه من الحرقة مثل ما أذاق نسائي فلم يزل به حتى رضوا بالدية فجاؤوا بمحلم حتى يستغفر له رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما قام بين يديه قال : اللهم لا تغفر لمحلم وقالها ثلاثا فقام وإنه ليتلقى دموعه بطرف ثوبه
قال ابن إسحاق : وزعم قومه أنه استغفر له بعد ذلك قال ابن إسحاق : وحدثني سالم أبو النضر قال : لم يقبلوا الدية حتى قام الأقرع بن حابس فخلا بهم فقال : يا معشر قيس ! سألكم رسول الله صلى الله عليه و سلم قتيلا تتركونه ليصلح به بين الناس فمنعتموه إياه أفأمنتم أن يغضب عليكم رسول الله صلى الله عليه و سلم فيغضب الله عليكم لغضبه أو يلعنكم رسول الله صلى الله عليه و سلم فيلعنكم الله بلعنته والله لتسلمنه إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم أو لآتين بخمسين من بني تميم كلهم يشهدون أن القتيل ما صلى قط فلأطلن دمه فلما قال ذلك : أخذوا الدية (3/323)
فصل
في سرية عبد الله بن حذافة السهمي
ثبت في الصحيحين من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : نزل قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } ( النساء : 59 ) في عبد الله بن حذافة السهمي بعثه رسول الله صلى الله عليه و سلم في سرية
وثبت في الصحيحين أيضا من حديث الأعمش عن سعيد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي رضي الله عنه قال : استعمل رسول الله صلى الله عليه و سلم رجلا من الأنصار على سرية بعثهم وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا قال : فأغضبوه في شئ فقال : اجمعوا لي حطبا فجمعوا فقال : أوقدوا نارا فأوقدوا ثم قال : ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه و سلم أن تسمعوا لي وتطيعوا ؟ قالوا : بلى قال : فادخلوها قال : فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا : إنما فررنا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم من النار فسكن غضبه وطفئت النار فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه و سلم ذكروا ذلك له فقال : [ لو دخلوها ما خرجوا منها إنما الطاعة في المعروف ] وهذا هو عبد الله بن حذافة السهمي
فإن قيل : فلو دخلوها دخلوها طاعة لله ورسوله في ظنهم فكانوا متأولين مخطئين فكيف يخلدون فيها ؟ قيل : لما كان إلقاء نفوسهم في النار معصية يكونون بها قاتلي أنفسهم فهموا بالمبادرة إليها من غير اجتهاد منهم : هل هو طاعة وقربة أو معصية ؟ كانوا مقدمين على ما هو محرم عليهم ولا تسوغ طاعة ولي الأمر فيه لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق فكانت طاعة من أمرهم بدخول النار معصية لله ورسوله فكانت هذه الطاعة هي سبب العقوبة لأنها نفس المعصية فلو دخلوها لكانوا عصاة لله ورسوله وإن كانوا مطيعين لولي الأمر فلم تدفع طاعتهم لولي الأمر معصيتهم لله ورسوله لأنهم قد علموا أن من قتل نفسه فهو مستحق للوعيد والله قد نهاهم عن قتل أنفسهم فليس لهم أن يقدموا على هذا النهى طاعة لمن لا تجب طاعته إلا في المعروف
فإذا كان هذا حكم من عذب نفسه طاعة لولي الأمر فكيف من عذب مسالما لا يجوز تعذيبه طاعة لولي الأمر
وأيضا فإذا كان الصحابة المذكورون لو دخلوها لما خرجوا منها مع قصدهم طاعة الله ورسوله بذلك الدخول فكيف بمن حمله على ما لا يجوز من الطاعة الرغبة والرهبة الدنيوية
وإذا كان هؤلاء لو دخلوها لما خرجوا منها مع كونهم قصدوا طاعة الأمير وظنوا أن ذلك طاعة لله ورسوله فكيف بمن دخلها من هؤلاء الملبسين إخوان الشياطين وأوهموا الجهال أن ذلك ميراث من إبراهيم الخليل وأن النار قد تصير عليهم بردا وسلاما كما صارت على إبراهيم وخيار هؤلاء ملبوس عليه يظن أنه دخلها بحال رحماني وإنما دخلها بحال شيطاني فإذا كان لا يعلم بذلك فهو ملبوس عليه وإن كان يعلم به فهو ملبس على الناس يوهمهم أنه من أولياء الرحمن وهو من أولياء الشيطان وأكثرهم يدخلها بحال بهتاني وتحيل إنساني فهم في دخولها في الدنيا ثلاثة أصناف : ملبوس عليه وملبس ومتحيل ونار الآخرة أشد عذابا وأبقى (3/325)
فصل
في عمرة القضية
قال نافع : كانت في ذي القعدة سنة سبع وقال سليمان التيمي : لما رجع رسول الله صلى الله عليه و سلم من خيبر بعث السرايا وأقام بالمدينة حتى استهل ذو القعدة ثم نادى في الناس بالخروج
قال موسى بن عقبة : ثم خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم من العام المقبل من عام الحديبية معتمرا في ذي القعدة سنة سبع وهو الشهر الذي صده فيه المشركون عن المسجد الحرام حتى إذا بلغ يأجج وضع الأداة كلها الحجف والمجان والنبل والرماح ودخلوا بسلاح الراكب السيوف وبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم جعفر بن أبي طالب بين يديه إلى ميمونة بنت الحارث بن حزن العامرية فخطبها إليه فجعلت أمرها إلى العباس بن عبد المطلب وكانت أختها أم الفضل تحته فزوجها العباس رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم أمر أصحابه فقال : [ اكشفوا عن المناكب واسعوا في الطواف ] ليرى المشركون جلدهم وقوتهم وكان يكايدهم بكل ما استطاع فوقف أهل مكة : الرجال والنساء والصبيان ينظرون إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه وهم يطوفون بالبيت وعبد الله بن رواحة بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم يرتجز متوشحا بالسيف يقول :
( خلوا بني الكفار عن سبيله ... قد أنزل الرحمن في تنزيله )
( في صحف تتلى على رسوله ... يارب إني مؤمن بقيله )
( إني رأيت الحق في قبوله ... اليوم نضربكم على تأويله )
( ضربا يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله )
وتغيب رجال من المشركين كراهية أن ينظروا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم حنقا وغيظا فأقام رسول الله صلى الله عليه و سلم بمكة ثلاثا فلما أصبح من اليوم الرابع أتاهم سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى ورسول الله صلى الله عليه و سلم في مجلس الأنصار يتحدث مع سعد بن عبادة فصاح حويطب نناشدك الله والعقد لما خرجت من أرضنا فقد مضت الثلاث فقال سعد بن عبادة : كذبت لا أم لك ليست بأرضك ولا أرض آبائك والله لا نخرج ثم نادى رسول الله صلى الله عليه و سلم حويطبا أو سهيلا فقال : [ إني قد نكحت منكم امرأة فما يضركم أن أمكث حتى أدخل بها ونضع الطعام فنأكل وتأكلون معنا ] فقالوا : نناشدك الله والعقد إلا خرجت عنا فأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم أبا رافع فأذن بالرحيل وركب رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى نزل بطن سرف فأقام بها وخلف أبا رافع ليحمل ميمونة إليه حين يمسي فأقام حتى قدمت ميمونة ومن معها وقد لقوا أذى وعناء من سفهاء المشركين و صبيانهم فبنى بها بسرف ثم أدلج وسار حتى قدم المدينة وقدر الله أن يكون قبر ميمونة بسرف حيث بنى بها (3/327)
فصل
وأما قول ابن عباس : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم تزوج ميمونة وهو محرم وبنى بها وهو حلال فمما استدرك عليه وعد من وهمه قال سعيد بن المسيب : ووهم ابن عباس وإن كانت خالته ما تزوجها رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا بعد ما حل ذكره البخاري
وقال يزيد بن الأصم عن ميمونة : تزوجني رسول الله صلى الله عليه و سلم ونحن حلالان بسرف رواه مسلم
وقال أبو رافع : تزوج رسول الله صلى الله عليه و سلم ميمونة وهو حلال وبنى بها وهو حلال وكنت الرسول بينهما صح ذلك عنه
وقال سعيد بن المسيب : هذا عبد الله بن عباس يزعم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نكح ميمونة وهو محرم وإنما قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم مكة وكان الحل والنكاح جميعا فشبه ذلك على الناس
وقد قيل : إنه تزوجها قبل أن يحرم وفي هذا نظر إلا أن يكون وكل في العقد عليها قبل إحرامه وأظن الشافعي ذكر ذلك قولا فالأقوال ثلاثة
أحدها : أنه تزوجها بعد حله من العمرة وهو قول ميمونة نفسها السفير بينها وبين رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو أبو رافع وقول سعيد بن المسيب وجمهور أهل النقل
والثاني : أنه تزوجها وهو محرم وهو قول ابن عباس وأهل الكوفة وجماعة
والثالث : أنه تزوجها قبل أن يحرم
وقد حمل قول ابن عباس أنه تزوجها وهو محرم على أنه تزوجها فى الشهر الحرام لا في حال الإحرام قالوا : ويقال : أحرم الرجل : إذا عقد الإحرام وأحرم : إذا دخل في الشهر الحرام وإن كان حلالا بدليل قول الشاعر :
( قتلوا ابن عفان الخليفة محرما ... ورعا فلم أر مثله مقتولا )
وإنما قتلوه في المدينة حلالا في الشهر الحرام
وقد روى مسلم في صحيحه من حديث عثمان بن عفان رضى الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب
ولو قدر تعارض القول والفعل ها هنا لوجب تقديم القول لأن الفعل موافق للبراءة الأصلية والقول ناقل عنها فيكون رافعا لحكم البراءة الأصلية وهذا موافق لقاعدة الأحكام ولو قدم الفعل لكان رافعا لموجب القول والقول رافع لموجب البراءة الأصلية فيلزم تغيير الحكم مرتين وهو خلاف قاعدة الأحكام والله أعلم (3/329)
فصل
ولما أراد النبي صلى الله عليه و سلم الخروج من مكة تبعتهم ابنة حمزة تنادي : يا عم يا عم فتناولها علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأخذ بيدها وقال لفاطمة : دونك ابنة عمك فحملتها فاختصم فيها علي وزيد وجعفر فقال علي : أنا أخذتها وهي ابنة عمي وقال جعفر : ابنة عمي وخالتها تحتي وقال زيد : ابنة أخي فقضى بها رسول الله صلى الله عليه و سلم لخالتها : وقال : [ الخالة بمنزلة الأم ] وقال لعلي : [ أنت مني وأنا منك ] وقال لجعفر : [ أشبهت خلقي وخلقي ] وقال لزيد [ أنت أخونا ومولانا ] متفق على صحته
وفي هذه القصة من الفقه : أن الخالة مقدمة في الحضانة على سائر الأقارب بعد الأبوين
وأن تزوج الحاضنة بقريب من الطفل لا يسقط حضانتها نص أحمد رحمه الله تعالى في رواية عنه على أن تزويجها لا يسقط حضانتها في الجارية خاصة واحتج بقصة بنت حمزة هذه ولما كان ابن العم ليس محرما لم يفرق بينه وبين الأجنبي في ذلك وقال : تزوج الحاضنة لا يسقط حضانتها للجارية وقال الحسن البصري : لا يكون تزوجها مسقطا لحضانتها بحال ذكرا كان الولد أو أنثى وقد اختلف في سقوط الحضانة بالنكاح على أربعة أقوال
أحدها : تسقط به ذكرا كان أو أنثى وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايات عنه
والثاني : لا تسقط بحال وهو قول الحسن وابن حزم
والثالث : إن كان الطفل بنتا لم تسقط الحضانة وإن كان ذكرا سقطت وهذه رواية عن أحمد رحمه الله تعالى وقال في رواية مهنا : إذا تزوجت الأم وابنها صغير أخذ منها قيل له : والجارية مثل الصبي ؟ قال : لا الجارية تكون معها إلى سبع سنين وحكى ابن أبي موسى رواية أخرى عنه : أنها أحق بالبنت وإن تزوجت إلى أن تبلغ
والرابع : أنها إذا تزوجت بنسيب من الطفل لم تسقط حضانتها وإن تزوجت بأجنبي سقطت ثم اختلف أصحاب هذا القول على ثلاثة أقوال : أحدها : أنه يكفي كونه نسيبا فقط محرما كان أو غير محرم وهذا ظاهر كلام أصحاب أحمد وإطلاقهم
الثاني : أنه يشترط كونه مع ذلك ذا رحم محرم وهو قول الحنفية
الثالث : أنه يشترط مع ذلك أن يكون بينه وبين الطفل ولادة بأن يكون جدا للطفل وهذا قول بعض أصحاب أحمد ومالك والشافعي
وفي القصة حجة لمن قدم الخالة على العمة وقرابة الأم على قرابة الأب فإنه قضى بها لخالتها وقد كانت صفية عمتها موجودة إذ ذاك وهذا قول الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه
وعنه رواية ثانية : أن العمة مقدمة على الخالة - وهي اختيار شيخنا - وكذلك نساء الأب يقدمن على نساء الأم لأن الولاية على الطفل في الأصل للأب وإنما قدمت عليه الأم لمصلحة الطفل وكمال تربيته وشفقتها وحنوها والإناث أقوم بذلك من الرجال فإذا صار الأمر إلى النساء فقط أو الرجال فقط كانت قرابة الأب أولى من قرابة الأم كما يكون الأب أولى من كل ذكر سواه وهذا قوي جدا
ويجاب عن تقديم خالة ابنة حمزة على عمتها بأن العمة لم تطلب الحضانة والحضانة حق لها يقضى لها به بطلبه بخلاف الخالة فإن جعفرا كان نائبا عنها في طلب الحضانة ولهذا قضى بها النبي صلى الله عليه و سلم لها في غيبتها
وأيضا فكما أن لقرابة الطفل أن يمنع الحاضنة من حضانة الطفل إذا تزوجت فللزوج ان يمنعها من أخذه وتفرغها له فإذا رضي الزوج بأخذه حيث لا تسقط حضانتها لقرابته أو لكون الطفل أنثى على رواية مكنت من أخذه وإن لم يرض فالحق له والزوج ها هنا قد رضي وخاصم في القصة وصفية لم يكن منها طلب
وأيضا فابن العم له حضانة الجارية التي لا تشتهى في أحد الوجهين بل وإن كانت تشتهى فله حضانتها أيضا وتسلم إلى امرأة ثقة يختارها هو أو إلى محرمه وهذا هو المختار لأنه قريب من عصباتها وهو أولى من الأجانب والحاكم وهذه إن كانت طفلة فلا إشكال وإن كانت ممن يشتهى فقد سلمت إلى خالتها فهي وزوجها من أهل الحضانة والله أعلم
وقول زيد : ابنة أخي يريد الإخاء الذي عقده رسول الله صلى الله عليه و سلم بينه وبين حمزة لما واخى بين المهاجرين فإنه واخى بين أصحابه مرتين فواخى بين المهاجرين بعضهم مع بعض قبل الهجرة على الحق والمواساة وآخى بين أبي بكر وعمر وبين حمزة وزيد بن حارثة وبين عثمان وعبد الرحمن بن عوف وبين الزبير وابن مسعود وبين عبيدة بن الحارث وبلال وبين مصعب بن عمير وسعد بن أبي وقاص وبين أبي عبيدة وسالم مولى أبي حذيفة وبين سعيد بن زيد وطلحة بن عبيد الله والمرة الثانية : آخى بين المهاجرين والأنصار في دار أنس بن مالك بعد مقدمه المدينة (3/331)
فصل
واختلف في تسمية هذه العمرة بعمرة القضاء هل هو لكونها قضاء للعمرة التي صدوا عنها أو من المقاضاة ؟ على قولين تقدما قال الواقدي : حدثني عبد الله بن نافع عن أبيه عن ابن عمر قال : لم تكن هذه العمرة قضاء ولكن كان شرطا على المسلمين أن يعتمروا في الشهر الذي حاصرهم فيه المشركون
واختلف الفقهاء في ذلك على أربعة أقوال :
أحدها : أن من أحصر عن العمرة يلزمه الهدي والقضاء وهذا إحدى الروايات عن أحمد بل أشهرها عنه
والثاني : لا قضاء عليه وعليه الهدي وهو قول الشافعي ومالك فى ظاهر مذهبه ورواية أبي طالب عن أحمد
والثالث : يلزمه القضاء ولا هدي عليه وهو قول أبي حنيفة
والرابع : لا قضاء عليه ولا هدي وهو إحدى الروايات عن أحمد
فمن أوجب عليه القضاء والهدي احتج بأن النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه نحروا الهدي حين صدوا عن البيت ثم قضوا من قابل قالوا : والعمرة تلزم بالشروع فيها ولا يسقط الوجوب إلا بفعلها ونحر الهدي لأجل التحلل قبل تمامها وقالوا : وظاهر الآية يوجب الهدي لقوله تعالى : { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } ( البقرة : 196 )
ومن لم يوجبهما قالوا : لم يأمر النبى صلى الله عليه و سلم الذين أحصروا معه بالقضاء ولا أحدا منهم ولا وقف الحل على نحرهم الهدي بل أمرهم أن يحلقوا رؤوسهم وأمر من كان معه هدي أن ينحر هديه ومن أوجب الهدي دون القضاء احتج بقوله : { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي }
ومن أوجب القضاء دون الهدي احتج بأن العمرة تلزم بالشروع فإذا أحصر جاز له تأخيرها لعذر الإحصار فإذا زال الحصر أتى بها بالوجوب السابق ولا يوجب تخلل التحلل بين الإحرام بها أولا وبين فعلها فى وقت الإمكان شيئا وظاهر القرآن يرد هذا القول ويوجب الهدي دون القضاء لأنه جعل الهدي هو جميع ما على المحصر فدل على أنه يكتفى به منه والله أعلم (3/333)
فصل
وفي نحره صلى الله عليه و سلم لما أحصر بالحديبية دليل على أن المحصر ينحر هديه وقت حصره وهذا لا خلاف فيه إذا كان محرما بعمرة وإن كان مفردا أو قارنا ففيه قولان :
أحدهما : أن الأمر كذلك وهو الصحيح لأنه أحد النسكين فجاز الحل منه ونحر هديه وقت حصره كالعمرة لأن العمرة لا تفوت وجميع الزمان وقت لها فإذا جاز الحل منها ونحر هديها من غير خشية فواتها فالحج الذي يخشى فواته أولى وقد قال أحمد في رواية حنبل : إنه لا يحل ولا ينحر الهدي إلى يوم النحر ووجه هذا أن للهدي محل زمان ومحل مكان فإذا عجز عن محل المكان لم يسقط عنه محل الزمان لتمكنه من الإتيان بالواجب في محله الزماني وعلى هذا القول لا يجوز له التحلل قبل يوم النحر لقوله : { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله } ( البقرة : 196 ) (3/335)
فصل
وفي نحره صلى الله عليه و سلم وحله دليل على أن المحصر بالعمرة يتحلل وهذا قول الجمهور وقد روي عن مالك رحمه الله أن المعتمر لا يتحلل لأنه لا يخاف الفوت وهذا تبعد صحته عن مالك رحمه الله لأن الآية إنما نزلت في الحديبية وكان النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه كلهم محرمين بعمرة وحلوا كلهم وهذا مما لا يشك فيه أحد من أهل العلم (3/335)
فصل
وفي ذبحه صلى الله عليه و سلم بالحديبية وهي من الحل بالاتفاق دليل على أن المحصر ينحر هديه حيث أحصر من حل أو حرم وهذا قول الجمهور وأحمد ومالك والشافعي وعن أحمد رحمه الله رواية أخرى أنه ليس له نحر هديه إلا في الحرم فيبعثه إلى الحرم ويواطىء رجلا على أن ينحره في وقت يتحلل فيه وهذا يروى عن ابن مسعود رضي الله عنه وجماعة من التابعين وهو قول أبي حنيفة
وهذا إن صح عنهم فينبغي حمله على الحصر الخاص وهو أن يتعرض ظالم لجماعة أو لواحد وأما الحصر العام فالسنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم تدل على خلافه والحديبية من الحل باتفاق الناس وقد قال الشافعي : بعضها من الحل وبعضها من الحرم قلت : ومراده أن أطرافها من الحرم وإلا فهي من الحل باتفاقهم
وقد اختلف أصحاب أحمد رحمه الله في المحصر إذا قدر على أطراف الحرم هل يلزمه أن ينحر فيه ؟ فيه وجهان لهم
والصحيح : أنه لا يلزمه لأن النبي صلى الله عليه و سلم نحر هديه في موضعه مع قدرته على أطراف الحرم وقد أخبر الله سبحانه أن الهدي كان محبوسا عن بلوغ محله ونصب الهدي بوقوع فعل الصد عليه أي : صدوكم عن المسجد الحرام وصدوا الهدي عن بلوغ محله ومعلوم أن صدهم وصد الهدي استمر ذلك العام ولم يزل فلم يصلوا فيه إلى محل إحرامهم ولم يصل الهدي إلى محل نحره والله أعلم (3/335)
فصل
في غزوة مؤتة
وهي بأدنى البلقاء من أرض الشام وكانت في جمادى الأولى سنة ثمان وكان سببها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث الحارث بن عمير الأزدي أحد بني لهب بكتابه إلى الشام إلى ملك الروم أو بصرى فعرض له شرحبيل بن عمرو الغساني فأوثقه رباطا ثم قدمه فضرب عنقه ولم يقتل لرسول الله صلى الله عليه و سلم رسول غيره فاشتد ذلك عليه حين بلغه الخبر فبعث البعوث واستعمل عليهم زيد بن حارثة وقال : إن أصيب فجعفر بن أبي طالب على الناس فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة
فتجهز الناس وهم ثلاثة آلاف فلما حضر خروجهم ودع الناس أمراء رسول الله صلى الله عليه و سلم وسلموا عليهم فبكى عبد الله بن رواحة فقالوا : ما يبكيك ؟ فقال : أما والله ما بي حب الدنيا ولا صبابة بكم ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقرأ آية من كتاب الله يذكر فيها النار { وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا } ( مريم : 71 ) فلست أدري كيف لي بالصدر بعد الورود ؟ فقال المسلمون : صحبكم الله بالسلامة ودفع عنكم وردكم إلينا صالحين فقال عبد الله بن رواحة :
( لكنني أسأل الرحمن مغفرة ... وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا )
( أو طعنة بيدي حران مجهزة ... بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا )
( حتى يقال إذا مروا على جدثي ... يا أرشد الله من غاز وقد رشدا )
ثم مضوا حتى نزلوا معان فبلغ الناس أن هرقل بالبلقاء في مائة ألف من الروم وانضم اليهم من لخم وجذام وبلقين وبهراء وبلي مائة ألف فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا على معان ليلتين ينظرون في أمرهم وقالوا : نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فنخبره بعدد عدونا فإما أن يمدنا بالرجال وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له فشجع الناس عبد الله بن رواحة فقال : يا قوم : والله إن الذي تكرهون للتي خرجتم تطلبون : الشهادة وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا به الله فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين إما ظفر واما شهادة
فمضى الناس حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء لقيتهم الجموع بقرية يقال لها : مشارف فدنا العدو وانحاز المسلمون إلى مؤتة فالتقى الناس عندها فتعبى المسلمون ثم اقتتلوا والراية في يد زيد بن حارثة فلم يزل يقاتل بها حتى شاط في رماح القوم وخر صريعا وأخذها جعفر فقاتل بها حتى إذا أرهقه القتال اقتحم عن فرسه فعقرها ثم قاتل حتى قتل فكان جعفر أول من عقر فرسه فى الإسلام عند القتال فقطعت يمينه فأخذ الراية بيساره فقطعت يساره فاحتضن الراية حتى قتل وله ثلاث وثلاثون سنة ثم أخذها عبد الله بن رواحة وتقدم بها وهو على فرسه فجعل يستنزل نفسه ويتردد بعض التردد ثم نزل فأتاه ابن عم له بعرق من لحم فقال : شد بها صلبك فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت فأخذها من يده فانتهس منها نهسة ثم سمع الحطمة في ناحية الناس فقال : وأنت في الدنيا ثم ألقاه من يده ثم أخذ سيفه وتقدم فقاتل حتى قتل ثم أخذ الراية ثابت بن أقرم أخو بني عجلان فقال : يا معشر المسلمين ! اصطلحوا على رجل منكم قالوا : أنت قال : ما أنا بفاعل فاصطلح الناس على خالد بن الوليد فلما أخذ الراية دافع القوم وحاش بهم ثم انحاز بالمسلمين وانصرف بالناس
وقد ذكر ابن سعد أن الهزيمة كانت على المسلمين والذي في صحيح البخاري أن الهزيمة كانت على الروم والصحيح ما ذكره ابن إسحاق أن كل فئة انحازت عن الأخرى
وأطلع الله سبحانه على ذلك رسوله من يومهم ذلك فأخبر به أصحابه وقال : [ لقد رفعوا إلي في الجنة فيما يرى النائم على سرر من ذهب فرأيت في سرير عبد الله بن رواحة ازورارا عن سرير صاحبيه ] فقلت : عم هذا ؟ فقيل لي : مضيا وتردد عبد الله بعض التردد ثم مضى
وذكر عبد الرزاق عن ابن عيينة عن ابن جدعان عن ابن المسيب قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ مثل لي جعفر وزيد وابن رواحة في خيمة من در كل واحد منهم على سرير فرأيت زيدا وابن رواحة في أعناقهما صدود ورأيت جعفرا مستقيما ليس فيه صدود قال : فسألت أو قيل لي : إنهما حين غشيهما الموت أعرضا أو كأنهما صدا بوجوههما وأما جعفر فإنه لم يفعل ]
وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم في جعفر : [ إن الله أبدله بيديه جناحين يطير بهما في الجنة حيث شاء ]
قال أبو عمر : وروينا عن ابن عمر أنه قال : وجدنا ما بين صدر جعفر ومنكبيه وما أقبل منه تسعين جراحة ما بين ضربة بالسيف وطعنة بالرمح
وقال موسى بن عقبة : قدم يعلى بن منية على رسول الله صلى الله عليه و سلم بخبر أهل مؤتة فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن شئت فأخبرني وإن شئت أخبرتك ] قال : أخبرني يا رسول الله فأخبره صلى الله عليه و سلم خبرهم كله ووصفهم له فقال : والذي بعثك بالحق ما تركت من حديثهم حرفا واحدا لم تذكره وإن أمرهم لكما ذكرت فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الله رفع لي الأرض حتى رأيت معتركهم ]
واستشهد يومئذ : جعفر وزيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة ومسعود بن الأوس ووهب بن سعد بن أبي سرح وعباد بن قيس وحارثة بن النعمان وسراقة بن عمرو بن عطية وأبو كليب وجابر ابنا عمرو بن زيد وعامر وعمرو ابنا سعيد بن الحارث وغيرهم
قال ابن اسحاق : وحدثني عبد الله بن أبي بكر أنه حدث عن زيد بن أرقم قال : كنت يتيما لعبد الله بن رواحة في حجره فخرج بي في سفره ذلك مردفي على حقيبة رحله فوالله إنه ليسير ليلة إذ سمعته وهو ينشد :
( إذا أدنيتني وحملت رحلي ... مسيرة أربع بعد الحساء )
( فشأنك فانعمي وخلاك ذم ... ولا أرجع إلى أهلي ورائى )
( وجاء المسلمون وغادروني ... بأرض الشام مستنهى الثواء ) (3/336)
فصل
وقد وقع في الترمذي وغيره أن رسول الله صلى الله عليه و سلم دخل مكة يوم الفتح وعبد الله بن رواحة بين يديه ينشد
خلوا بني الكفار عن سبيله الأبيات
وهذا وهم فإن ابن رواحة قتل في هذه الغزوة وهي قبل الفتح بأربعة أشهر وإنما كان ينشد بين يديه شعر ابن رواحة وهذا مما لا خلاف فيه بين أهل النقل (3/340)
فصل
فى غزوة ذات السلاسل
وهي وراء وادي القرى بضم السين الأولى وفتحها لغتان وبينها وبين المدينة عشرة أيام وكانت في جمادى الآخرة سنة ثمان
قال ابن سعد : بلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم أن جمعا من قضاعة قد تجمعوا يريدون أن يدنوا إلى أطراف المدينة فدعا رسول الله صلى الله عليه و سلم عمرو بن العاص فعقد له لواء أبيض وجعل معه راية سوداء وبعثه في ثلاثمائة من سراة المهاجرين والأنصار ومعهم ثلاثون فرسا وأمره أن يستعين بمن مر به من بلي وعذرة وبلقين فسار الليل وكمن النهار فلما قرب من القوم بلغه أن لهم جمعا كثيرا فبعث رافع بن مكيث الجهني إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم يستمده فبعث إليه أبا عبيدة بن الجراح في مائتين وعقد له لواء وبعث له سراة المهاجرين والأنصار وفيهم أبو بكر وعمر وأمره أن يلحق بعمرو وأن يكونا جميعا ولا يختلفا فلما لحق به أراد أبو عبيدة أن يؤم الناس فقال عمرو : إنما قدمت علي مددا وأنا الأمير فأطاعه أبو عبيدة فكان عمرو يصلي بالناس وسار حتى وطىء بلاد قضاعة فدوخها حتى أتى إلى أقصى بلادهم ولقي في آخر ذلك جمعا فحمل عليهم المسلمون فهربوا في البلاد وتفرقوا وبعث عوف بن مالك الأشجعي بريدا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبره بقفولهم وسلامتهم وما كان في غزاتهم
وذكر ابن اسحاق نزولهم على ماء لجذام يقال له : السلسل قال : وبذلك سميت ذات السلاسل
قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن أبي عدي عن داود عن عامر قال : بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم جيش ذات السلاسل فاستعمل أبا عبيدة على المهاجرين واستعمل عمرو بن العاص على الأعراب وقال لهما : تطاوعا قال : وكانوا أمروا أن يغيروا على بكر فانطلق عمرو وأغار على قضاعة لأن بكرا أخواله قال : فانطلق المغيرة بن شعبة إلى أبي عبيدة فقال : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم استعملك علينا وإن ابن فلان قد اتبع أمر القوم فليس لك معه أمر فقال أبو عبيدة : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم أمرنا أن نتطاوع فأنا أطيع رسول الله صلى الله عليه و سلم وإن عصاه عمرو (3/340)
فصل
وفي هذه الغزوة احتلم أمير الجيش عمرو بن العاص وكانت ليلة برد فخاف على نفسه من الماء فتيمم وصلى بأصحابه الصبح فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم فقال : [ يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب ؟ ] فأخبره بالذي منعه من الاغتسال وقال : إني سمعت الله يقول : { ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما } ( النساء : 29 ) فضحك رسول الله صلى الله عليه و سلم ولم يقل شيئا وقد احتج بهذه القصة من قال : إن التيمم لا يرفع الحدث لأن النبي صلى الله عليه و سلم سماه جنبا بعد تيممه وأجاب من نازعهم في ذلك بثلاثة أجوبة :
أحدها : أن الصحابة لما شكوه قالوا : صلى بنا الصبح وهو جنب فسأله النبى صلى الله عليه و سلم عن ذلك وقال : صليت بأصحابك وأنت جنب ؟ استفهاما واستعلاما فلما أخبره بعذره وأنه تيمم للحاجة أقره على ذلك
الثاني : أن الرواية اختلفت عنه فروي عنه فيها أنه غسل مغابنه وتوضأ وضوءه للصلاة ثم صلى بهم ولم يذكر التيمم وكأن هذه الرواية أقوى من رواية التيمم قال عبد الحق وقد ذكرها وذكر رواية التيمم قبلها ثم قال : وهذا أوصل من الأول لأنه عن عبد الرحمن بن جبير المصري عن أبي القيس مولى عمرو عن عمرو والأولى التي فيها التيمم من رواية عبد الرحمن بن جبير عن عمرو بن العاص لم يذكر بينهما أبا قيس
الثالث : أن النبى صلى الله عليه و سلم أراد أن يستعلم فقه عمرو في تركه الاغتسال فقال له : صليت بأصحابك وأنت جنب ؟ فلما أخبره أنه تيمم للحاجة علم فقهه فلم ينكر عليه ويدل عليه أن ما فعله عمرو من التيمم - والله أعلم - خشية الهلاك بالبرد كما أخبر به والصلاة بالتيمم في هذه الحال جائزة غير منكر على فاعلها فعلم أنه أراد استعلام فقهه وعلمه والله أعلم (3/342)
فصل
في سرية الخبط
وكان أميرها أبا عبيدة بن الجراح وكانت في رجب سنة ثمان فيما أنبأنا به الحافظ أبو الفتح محمد بن سيد الناس في كتاب عيون الأثر له وهو عندي وهم كما سنذكره إن شاء الله تعالى
قالوا : بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم أبا عبيدة بن الجراح في ثلاثمائة رجل من المهاجرين والأنصار وفيهم عمر بن الخطاب إلى حي من جهينة بالقبلية مما يلي ساحل البحر وبينها وبين المدينة خمس ليال فأصابهم في الطريق جوع شديد فأكلوا الخبط وألقى إليهم البحر حوتا عظيما فأكلوا منه ثم انصرفوا ولم يلقوا كيدا وفي هذا نظر فإن في الصحيحين من حديث جابر قال : بعثنا رسول الله صلى الله عليه و سلم في ثلاثمائة راكب أميرنا أبو عبيدة بن الجراح نرصد عيرا لقريش فأصابنا جوع شديد حتى أكلنا الخبط فسمي جيش الخبط فنحر رجل ثلاث جزائر ثم نحر ثلاث جزائر ثم نحر ثلاث جزائر ثم إن أبا عبيدة نهاه فألقى إلينا البحر دابة يقال لها : العنبر فأكلنا منها نصف شهر وادهنا من ودكها حتى ثابت إلينا أجسامنا وصلحت وأخذ أبو عبيدة ضلعا من أضلاعه فنظر إلى أطول رجل في الجيش وأطول جمل فحمل عليه ومر تحته وتزودنا من لحمه وشائق فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكرنا له ذلك فقال : [ هو رزق أخرجه الله لكم فهل معكم من لحمه شئ تطعمونا ؟ ] فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم منه فأكل
قلت : وهذا السياق يدل على أن هذه الغزوة كانت قبل الهدنة وقبل عمرة الحديبية فإنه من حين صالح أهل مكة بالحديبية لم يكن يرصد لهم عيرا بل كان زمن أمن وهدنة الى حين الفتح ويبعد أن تكون سرية الخبط على هذا مرتين : مرة قبل الصلح ومرة بعده والله أعلم (3/343)
فصل
في فقه هذه القصة
ففيها جواز القتال في الشهر الحرام إن كان ذكر التاريخ فيها برجب محفوظا والظاهر - والله أعلم - أنه وهم غير محفوظ إذ لم يحفظ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه غزا في الشهر الحرام ولا أغار فيه ولا بعث فيه سرية وقد عير المشركون المسلمين بقتالهم في أول رجب في قصة العلاء بن الحضرمي فقالوا : استحل محمد الشهر الحرام وأنزل الله في ذلك : { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير } الآية ( البقرة : 217 ) ولم يثبت نسخ هذا بنص يجب المصير إليه ولا أجمعت الأمة على نسخه وقد استدل على تحريم القتال في الأشهر الحرم بقوله تعالى : { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } ( التوبة : 5 ) ولا حجة في هذا لأن الأشهر الحرم ها هنا هي أشهر التسيير الأربعة التي سير الله فيها المشركين في الأرض يأمنون فيها وكان أولها يوم الحج الأكبر عاشر ذي الحجة وآخرها عاشر ربيع الآخر هذا هو الصحيح في الآية لوجوه عديدة ليس هذا موضعها
وفيها : جواز أكل ورق الشجر عند المخمصة وكذلك عشب الأرض
وفيها : جواز نهي الإمام وأمير الجيش للغزاة عن نحر ظهورهم وإن احتاجوا إليه خشية أن يحتاجوا إلى ظهرهم عند لقاء عدوهم ويجب عليهم الطاعة إذا نهاهم
وفيها : جواز أكل ميتة البحر وأنها لم تدخل في قوله عز و جل : { حرمت عليكم الميتة والدم } ( المائدة : 3 ) وقد قال تعالى : { أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم } ( المائدة : 5 ) وقد صح عن أبي بكر الصديق وعبد الله بن عباس وجماعة من الصحابة أن صيد البحر ما صيد منه وطعامه ما مات فيه وفي السنن : عن ابن عمر مرفوعا وموقوفا : أحلت لنا ميتتان ودمان فأما الميتتان : فالسمك والجراد وأما الدمان : فالكبد والطحال حديث حسن وهذا الموقوف في حكم المرفوع لأن قول الصحابي أحل لنا كذا وحرم علينا ينصرف إلى إحلال النبي صلى الله عليه و سلم وتحريمه
فإن قيل : فالصحابة في هذه الواقعة كانوا مضطرين ولهذا لما هموا بأكلها قالوا : إنها ميتة وقالوا : نحن رسل رسول الله صلى الله عليه و سلم ونحن مضطرون فأكلوا وهذا دليل على أنهم لو كانوا مستغنين عنها لما أكلوا منها قيل : لا ريب أنهم كانوا مضطرين ولكن هيأ الله لهم من الرزق أطيبه وأحله وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم لهم بعد أن قدموا : [ هل بقي معكم من لحمه شئ ؟ ] قالوا : نعم فأكل منه النبي صلى الله عليه و سلم وقال : [ إنما هو رزق ساقه الله لكم ] ولو كان هذا رزق مضطر لم يأكل منه رسول الله صلى الله عليه و سلم في حال الاختيار ثم لو كان أكلهم منها للضرورة فكيف ساغ لهم أن يدهنوا من ودكها وينجسوا به ثيابهم وأبدانهم وأيضا فكثير من الفقهاء لا يجوز الشبع من الميتة إنما يجوزون منها سد الرمق والسرية أكلت منها حتى ثابت إليهم أجسامهم وسمنوا وتزودوا منها
فإن قيل : إنما يتم لكم الاستدلال بهذه القصة إذا كانت تلك الدابة قد ماتت في البحر ثم ألقاها ميتة ومن المعلوم أنه كما يحتمل ذلك يحتمل أن يكون البحر قد جزر عنها وهي حية فماتت بمفارقة الماء وذلك ذكاتها وذكاة حيوان البحر ولا سبيل إلى دفع هذا الاحتمال كيف وفي بعض طرق الحديث فجزر البحر عن حوت كالظرب قيل : هذا الاحتمال مع بعده جدا فإنه يكاد يكون خرقا للعادة فإن مثل هذه الدابة إذا كانت حية إنما تكون في لجة البحر وثبجه دون ساحله وما رق منه ودنا من البر وأيضا فإنه لا يكفي ذلك في الحل لأنه إذا شك في السبب الذي مات به الحيوان هل هو سبب مبيح له أو غير مبيح ؟ لم يحل الحيوان كما قال النبي صلى الله عليه و سلم في الصيد يرمى بالسهم ثم توجد في الماء : [ وإن وجدته غريقا في الماء فلا تأكله فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك ] فلو كان الحيوان البحري حراما إذا مات في البحر لم يبح وهذا مما لا يعلم فيه خلاف بين الأئمة
وأيضا فلو لم تكن هذه النصوص مع المبيحين لكان القياس الصحيح معهم فإن الميتة إنما حرمت لاحتقان الرطوبات والفضلات والدم الخبيث فيها والذكاة لما كانت تزيل ذلك الدم والفضلات كانت سبب الحل وإلا فالموت لا يقتضي التحريم فإنه حاصل بالذكاة كما يحصل بغيرها وإذا لم يكن في الحيوان دم وفضلات تزيلها الذكاة لم يحرم بالموت ولم يشترط لحله ذكاة كالجراد ولهذا لا ينجس بالموت ما لا نفس له سائلة كالذباب والنحلة ونحوهما والسمك من هذا الضرب فإنه لو كان له دم وفضلات تحتقن بموته لم يحل لموته بغير ذكاة ولم يكن فرق بين موته في الماء وموته خارجه إذ من المعلوم أن موته في البر لا يذهب تلك الفضلات التي تحرمه عند المحرمين إذا مات في البحر ولو لم يكن في المسألة نصوص لكان هذا القياس كافيا والله أعلم (3/344)
فصل
وفيها دليل على جواز الاجتهاد في الوقائع في حياة النبي صلى الله عليه و سلم وإقراره على ذلك لكن هذا كان في حال الحاجة إلى الاجتهاد وعدم تمكنهم من مراجعة النص وقد اجتهد أبو بكر وعمر رضي الله عنهما بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم في عدة من الوقائع وأقرهما على ذلك لكن في قضايا جزئية معينة لا في أحكام عامة وشرائح كلية فإن هذا لمن يقع من أحد من الصحابة في حضوره صلى الله عليه و سلم البتة (3/347)
فصل
في الفتح الأعظم
الذي أعز الله به دينه ورسوله وجنده وحزبه الأمين واستنقذ به بلده وبيته الذي جعله هدى للعالمين من أيدي الكفار والمشركين وهو الفتح الذي استبشر به أهل السماء وضربت أطناب عزه على مناكب الجوزاء ودخل الناس به في دين الله أفواجا وأشرق به وجه الأرض ضياء وابتهاجا خرج له رسول الله صلى الله عليه و سلم بكتائب الإسلام وجنود الرحمن سنة ثمان لعشر مضين من رمضان واستعمل على المدينة أبا رهم كلثوم بن حصين الغفاري وقال ابن سعد : بل استعمل عبد الله بن أم مكتوم
وكان السبب الذي جر إليه وحدا إليه فيما ذكر إمام أهل السير والمغازي والأخبار محمد بن إسحاق بن يسار أن بني بكر بن عبد مناة ابن كنانة عدت على خزاعة وهم على ماء يقال له : الوتير : فبيتوهم وقتلوا منهم وكان الذي هاج ذلك أن رجلا من بني الحضرمي يقال له : مالك بن عباد خرج تاجرا فلما توسط أرض خزاعة عدوا عليه فقتلوه وأخذوا ماله فعدت بنو بكر على رجل من بني خزاعة فقتلوه فعدت خزاعة على بني الأسود وهم سلمى وكلثوم وذؤيب فقتلوهم بغرفة عند أنصاب الحرم هذا كله قبل المبعث فلما بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم وجاء الإسلام حجز بينهم وتشاغل الناس بشأنه فلما كان صلح الحديبية بين رسول الله صلى الله عليه و سلم وبين قريش وقع الشرط : أنه من أحب أن يدخل في عقد رسول الله صلى الله عليه و سلم وعهده فعل ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم فعل فدخلت بنو بكر في عقد قريش وعهدهم ودخلت خزاعة في عقد رسول الله صلى الله عليه و سلم وعهده فلما استمرت الهدنة اغتنمها بنو بكر من خزاعة وأرادوا أن يصيبوا منهم الثأر القديم فخرج نوفل بن معاوية الديلي في جماعة من بني بكر فبيت خزاعة وهم على الوتير فأصابوا منهم رجالا وتناوشوا واقتتلوا وأعانت قريش بني بكر بالسلاح وقاتل معهم من قريش من قاتل مستخفيا ليلا ذكر ابن سعد منهم : صفوان بن أمية وحويطب بن عبد العزى ومكرز بن حفص حتى حازوا خزاعة إلى الحرم فلما انتهوا إليه قالت بنو بكر : يا نوفل ! إنا قد دخلنا الحرم إلهك إلهك فقال كلمة عظيمة : لا إله له اليوم يا بني بكر أصيبوا ثأركم فلعمري إنكم لتسرقون في الحرم أفلا تصيبون ثأركم فيه ؟ ! فلما دخلت خزاعة مكة لجؤوا إلى دار بديل بن ورقاء الخزاعي ودار مولى لهم يقال له : رافع ويخرج عمرو بن سالم الخزاعي حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة فوقف عليه وهو جالس في المسجد بين ظهراني أصحابه فقال :
( يا رب إني ناشد محمدا ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا )
( قد كنتم ولدا وكنا والدا ... ثمت أسلمنا ولم ننزع يدا )
( فانصرهداك الله نصرا أبدا ... وادع عباد الله يأتوا مددا )
( فيهم رسول الله قد تجردا ... أبيض مثل البدر يسمو صعدا )
( إن سيم خسفا وجهه تربدا ... في فيلق كالبحر يجري مزبدا )
( إن قريشا أخلفوك الموعدا ... ونقضوا ميثاقك المؤكدا )
( وجعلوا لي في كداء رصدا ... وزعموا أن لست تدعو أحدا )
( وهم أذل وأقل عددا ... هم بيتونا بالوتيرهجدا )
( وقتلونا ركعا وسجدا )
يقول : قتلنا وقد أسلمنا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ نصرت يا عمرو بن سالم ] ثم عرضت سحابة لرسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ إن هذه السحابة لتسهل بنصر بني كعب ] ثم خرج بديل بن ورقاء في نفر من خزاعة حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبروه بما أصيب منهم وبمظاهرة قريش بني بكر عليهم ثم رجعوا إلى مكة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم للناس : [ كأنكم بأبي سفيان وقد جاء ليشد العقد ويزيد في المدة ]
ومضى بديل بن ورقاء في أصحابه حتى لقوا أبا سفيان بن حرب بعسفان وقد بعثته قريش إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ليشد العقد ويزيد في المدة وقد رهبوا الذي صنعوا فلما لقي أبو سفيان بديل بن ورقاء قال : من أين أقبلت يا بديل ؟ فظن أنه أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : سرت في خزاعة في هذا الساحل وفي بطن هذا الوادي قال : أو ما جئت محمدا ؟ قال : لا فلما راح بديل إلى مكة قال أبو سفيان : لئن كان جاء المدينة لقد علف بها النوى فأتى مبرك راحلته فأخذ من بعرها ففته فرأى فيها النوى فقال : أحلف بالله لقد جاء بديل محمدا
ثم خرج أبو سفيان حتى قدم المدينة فدخل على ابنته أم حبيبة فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه و سلم طوته عنه فقال : يا بنية ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني ؟ قالت : بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه و سلم وأنت مشرك نجس فقال : والله لقد أصابك بعدي شر
ثم خرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فكلمه فلم يزد عليه شيئا ثم ذهب إلى أبي بكر فكلمه أن يكلم له رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : ما أنا بفاعل ثم أتى عمر بن الخطاب فكلمه فقال : أنا أشفع لكم إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ فوالله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به ثم جاء فدخل على علي بن أبي طالب وعنده فاطمة وحسن غلام يدب بين يديهما فقال : يا علي إنك أمس القوم بي رحما وإني قد جئت في حاجة فلا أرجعن كما جئت خائبا اشفع لي إلى محمد فقال : ويحك يا أبا سفيان والله لقد عزم رسول الله صلى الله عليه و سلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه فالتفت إلى فاطمة فقال : هل لك أن تأمري ابنك هذا فيجير بين الناس فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر ؟ قالت : والله ما يبلغ ابني ذاك أن يجير بين الناس وما يجير أحد على رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : يا أبا الحسن إني أرى الأمور قد اشتدت علي فانصحني قال : والله ما أعلم لك شيئا يغني عنك ولكنك سيد بني كنانة فقم فأجر بين الناس ثم الحق بأرضك قال : أو ترى ذلك مغنيا عني شيئا قال : لا والله ما أظنه ولكني ما أجد لك غير ذلك فقام أبو سفيان في المسجد فقال : أيها الناس ! إني قد أجرت بين الناس ثم ركب بعيره فانطلق فلما قدم على قريش قالوا : ما وراءك ؟ قال : جئت محمدا فكلمته فوالله ما رد علي شيئا ثم جئت ابن أبي قحافة فلم أجد فيه خيرا ثم جئت عمر بن الخطاب فوجدته أعدى العدو ثم جئت عليا فوجدته ألين القوم قد أشار علي بشئ صنعته فوالله ما أدري هل يغني عني شيئا أم لا ؟ قالوا : وبم أمرك ؟ قال : أمرني أن أجير بين الناس ففعلت فقالوا : فهل أجاز ذلك محمد ؟ قال : لا قالوا : ويلك والله إن زاد الرجل على أن لعب بك قال : لا والله ما وجدت غير ذلك
وأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم الناس بالجهاز وأمر أهله أن يجهزوه فدخل أبو بكر على ابنته عائشة رضي الله عنها وهي تحرك بعض جهاز رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : أي بنية أمركن رسول الله صلى الله عليه و سلم بتجهيزه ؟ قالت : نعم فتجهز قال : فأين ترينه يريد قالت : لا والله ما أدري
ثم إن رسول الله صلى الله عليه و سلم أعلم الناس أنه سائر إلى مكة فأمرهم بالجد والتجهيز وقال : [ اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها ] فتجهز الناس
فكتب حاطب بن أبي بلتعة الى قريش كتابا يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه و سلم إليهم ثم أعطاه امرأة وجعل لها جعلا على أن تبلغه قريشا فجعلته في قرون في رأسها ثم خرجت به وأتى رسول الله صلى الله عليه و سلم الخبر من السماء بما صنع حاطب فبعث عليا والزبير وغير ابن إسحاق يقول : بعث عليا والمقداد والزبير فقال : انطلقا حتى تأتيا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب إلى قريش فانطلقا تعادى بهما خيلهما حتى وجدا المرأة بذلك المكان فاستنزلاها وقالا : معك كتاب ؟ فقالت : ما معي كتاب ففتشا رحلها فلم يجدا شيئا فقال لها علي - رضي الله عنه - : أحلف بالله ما كذب رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا كذبنا والله لتخرجن الكتاب أو لنجردنك فلما رأت الجد منه قالت : أعرض فأعرض فحلت قرون رأسها فاستخرجت الكتاب منها فدفعته إليهما فأتيا به رسول الله صلى الله عليه و سلم فإذا فيه : من حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه و سلم إليهم فدعا رسول الله صلى الله عليه و سلم حاطبا فقال : ما هذا يا حاطب ؟ فقال : لا تعجل علي يا رسول الله والله إني لمؤمن بالله ورسوله وما ارتددت ولا بدلت ولكني كنت امرءا ملصقا في قريش لست من أنفسهم ولي فيهم أهل وعشيرة وولد وليس لي فيهم قرابة يحمونهم وكان من معك لهم قرابات يحمونهم فأحببت إذ فاتني ذلك أن أتخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتي فقال عمر بن الخطاب : دعني يا رسول الله أضرب عنقه فإنه قد خان الله ورسوله وقد نافق فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إنه قد شهد بدرا وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ] فذرفت عينا عمر وقال : الله ورسوله أعلم
ثم مضى رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو صائم والناس صيام حتى إذا كانوا بالكديد - وهو الذي تسميه الناس اليوم قديدا - أفطر وأفطر الناس معه
ثم مضى حتى نزل مر الظهران وهو بطن مر ومعه عشرة آلاف وعمى الله الأخبار عن قريش فهم على وجل وارتقاب وكان أبو سفيان يخرج يتحسس الأخبار فخرج هو وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء يتحسسون الأخبار وكان العباس قد خرج قبل ذلك بأهله وعياله مسلما مهاجرا فلقي رسول الله صلى الله عليه و سلم بالجحفة وقيل : فوق ذلك وكان ممن لقيه في الطريق ابن عمه أبو سفيان بن الحارث وعبد الله بن أبي أمية لقياه بالأبواء وهما ابن عمه وابن عمته فأعرض عنهما لما كان يلقاه منهما من شدة الأذى والهجو فقالت له أم سلمة لا يكن ابن عمك وابن عمتك أشقى الناس بك وقال علي لأبي سفيان فيما حكاه أبو عمر : ائت رسول الله صلى الله عليه و سلم من قبل وجهه فقل له ما قال أخوة يوسف ليوسف : { تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين } ( يوسف : 91 ) فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن منه قولا ففعل ذلك أبو سفيان فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : { لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين } ( يوسف : 92 ) فأنشده أبو سفيان أبياتا منها :
( لعمرك إني حين أحمل راية ... لتغلب خيل اللات خيل محمد )
( لكالمدلج الحيران أظلم ليله ... فهذا أواني حين أهدى فأهتدي )
( هداني هاد غير نفسي ودلني ... على الله من طردت كل مطرد )
فضرب رسول الله صلى الله عليه و سلم صدره وقال : [ أنت طردتني كل مطرد ] وحسن اسلامه بعد ذلك
ويقال : إنه ما رفع رأسه إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم منذ أسلم حياء منه وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يحبه وشهد له بالجنة وقال : [ أرجو أن يكون خلفا من حمزة ] ولما حضرته الوفاة قال : لا تبكوا علي فوالله ما نطقت بخطيئة منذ أسلمت
فلما نزل رسول الله صلى الله عليه و سلم مر الظهران نزله عشاء فأمر الجيش فأوقدوا النيران فأوقدت عشرة آلاف نار وجعل رسول الله صلى الله عليه و سلم على الحرس عمر بن الخطاب رضي الله عنه وركب العباس بغلة رسول الله صلى الله عليه و سلم البيضاء وخرج يلتمس لعله يجد بعض الحطابة أو أحدا يخبر قريشا ليخرجوا يستأمنون رسول الله صلى الله عليه و سلم قبل أن يدخلها عنوة قال : والله إني لأسير عليها إذ سمعت كلام أبي سفيان وبديل بن ورقاء وهما يتراجعان وأبو سفيان يقول : ما رأيت كالليلة نيرانا قط ولا عسكرا قال : يقول بديل : هذه والله خزاعة حمشتها الحرب فيقول أبو سفيان : خزاعة أقل وأذل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها قال : فعرفت صوته فقلت : أبا حنظلة ! فعرف صوتي فقال : أبا الفضل ؟ قلت : نعم قال : مالك فداك أبي وأمي ؟ قال : قلت : هذا رسول الله صلى الله عليه و سلم في الناس واصباح قريش والله قال : فما الحيلة فداك أبي وأمي ؟ قلت : والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك فاركب في عجز هذه البغلة حتى آتي بك رسول الله صلى الله عليه و سلم فأستأمنه لك فركب خلفي ورجع صاحباه قال : فجئت به فكلما مررت به على نار من نيران المسلمين قالوا : من هذا ؟ فإذا رأوا بغلة رسول الله صلى الله عليه و سلم وأنا عليها قالوا : عم رسول الله صلى الله عليه و سلم على بغلته حتى مررت بنار عمر بن الخطاب فقال : من هذا ؟ وقام إلي فلما رأى أبا سفيان على عجز الدابة قال : أبو سفيان عدو الله الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد ثم خرج يشتد نحو رسول الله صلى الله عليه و سلم وركضت البغلة فسبقت فاقتحمت عن البغلة فدخلت على رسول الله صلى الله عليه و سلم ودخل عليه عمر فقال : يا رسول الله ! هذا أبو سفيان فدعني أضرب عنقه قال : قلت : يا رسول الله صلى الله عليه و سلم إني قد أجرته ثم جلست إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخذت برأسه فقلت : والله لا يناجيه الليلة أحد دوني فلما أكثر عمر في شأنه قلت : مهلا يا عمر فوالله لو كان من رجال بني عدي بن كعب ما قلت مثل هذا قال : مهلا يا عباس فوالله لإسلامك كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم وما بي إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم من إسلام الخطاب فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ اذهب به يا عباس إلى رحلك فإذا أصبحت فأتني به ] فذهبت فلما أصبحت غدوت به إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما رآه رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله ؟ ] قال : بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى شيئا بعد قال : [ ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله ؟ ] قال : بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك أما هذه فإن في النفس حتى الآن منها شيئا فقال له العباس : ويحك أسلم واشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قبل أن تضرب عنقك فأسلم وشهد شهادة الحق فقال العباس : يا رسول الله ! إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئا قال : [ نعم من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن ]
وأمر العباس أن يحبس أبا سفيان بمضيق الوادي عند خطم الجبل حتى تمر به جنود الله فيراها ففعل فمرت القبائل على راياتها كلما مرت به قبيلة قال : يا عباس من هذه ؟ فأقول : سليم قال : فيقول : ما لي ولسليم ثم تمر به القبيلة فيقول : يا عباس ! من هؤلاء ؟ فأقول : مزينة فيقول : ما لي ولمزينة حتى نفدت القبائل ما تمر به قبيلة إلا سألني عنها فإذا أخبرته بهم قال : ما لي ولبني فلان حتى مر به رسول الله صلى الله عليه و سلم في كتيبته الخضراء فيها المهاجرون والأنصار لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد قال : سبحان الله يا عباس من هؤلاء ؟ قال : قلت : هذا رسول الله صلى الله عليه و سلم في المهاجرين والأنصار قال : ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة ثم قال : والله يا أبا الفضل ! لقد أصبح ملك ابن أخيك اليوم عظيما قال : قلت يا أبا سفيان : إنها النبوة قال : فنعم إذا قال : قلت : النجاء إلى قومك
وكانت راية الأنصار مع سعد بن عبادة فلما مر بأبي سفيان قال له : اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الحرمة اليوم أذل الله قريشا
فلما حاذى رسول الله صلى الله عليه و سلم أبا سفيان قال : يا رسول الله ألم تسمع ما قال سعد ؟ قال : وما قال فقال : كذا وكذا فقال عثمان وعبد الرحمن بن عوف : يا رسول الله ! ما نأمن أن يكون له في قريش صولة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ بل اليوم يوم تعظم فيه الكعبة اليوم يوم أعز الله فيه قريشا ] ثم أرسل رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى سعد فنزع منه اللواء ودفعه إلى قيس ابنه ورأى أن اللواء لم يخرج عن سعد إذ صار إلى ابنه قال أبو عمر : وروي أن النبي صلى الله عليه و سلم لما نزع منه الراية دفعها إلى الزبير
ومضى أبو سفيان حتى إذا جاء قريشا صرخ بأعلى صوته : يا معشر قريش هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن فقامت إليه هند بنت عتبة فأخذت بشاربه فقالت : اقتلوا الحميت الدسم الأحمش الساقين قبح من طليعة قوم قال : ويلكم لا تغرنكم هذه من أنفسكم فإنه قد جاءكم ما لا قبل لكم به من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن قالوا : قاتلك الله وما تغني عنا دارك قال : ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد وسار رسول الله صلى الله عليه و سلم فدخل مكة من أعلاها وضربت له هنالك قبة وأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم خالد بن الوليد أن يدخلها من أسفلها وكان على المجنبة اليمنى وفيها أسلم وسليم وغفار ومزينة وجهينة وقبائل من قبائل العرب وكان أبو عبيدة على الرجالة والحسر وهم الذين لا سلاح معهم وقال لخالد ومن معه : إن عرض لكم أحد من قريش فاحصدوهم حصدا حتى توافوني على الصفا فما عرض لهم أحد إلا أناموه وتجمع سفهاء قريش وأخفاؤها مع عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وسهيل بن عمرو بالخندمة ليقاتلوا المسلمين وكان حماس بن قيس بن خالد أخو بني بكر يعد سلاحا قبل دخول رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت له امرأته : لماذا تعد ما أرى ؟ قال : لمحمد وأصحابه قالت : والله ما يقوم لمحمد وأصحابه شئ قال : إني والله لأرجو أن أخدمك بعضهم ثم قال :
( إن يقبلوا اليوم فمالي عله ... هذا سلاح كامل وأله )
وذو غرارين سريع السله
ثم شهد الخندمة مع صفوان وعكرمة وسهيل بن عمرو فلما لقيهم المسلمون ناوشوهم شيئا من قتال فقتل كرز بن جابر الفهري وخنيس بن خالد بن ربيعة من المسلمين وكانا في خيل خالد بن الوليد فشذا عنه فسلكا طريقا غير طريقه فقتلا جميعا وأصيب من المشركين نحو اثني عشر رجلا ثم انهزموا وانهزم حماس صاحب السلاح حتى دخل بيته فقال لامرأته : أغلقي علي بابي فقالت : وأين ما كنت تقول ؟ فقال :
( إنك لو شهدت يوم الخندمه ... إذ فر صفوان وفر عكرمه )
( واستقبلتنا بالسيوف المسلمه ... يقطعن كل ساعد وجمجمه )
( ضربا فلا نسمع إلا غمغمه ... لهم نهيت حولنا وهمهمه )
( لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه )
وقال أبو هريرة : أقبل رسول الله صلى الله عليه و سلم فدخل مكة فبعث الزبير على إحدى المجنبتين وبعث خالد بن الوليد على المجنبة الأخرى وبعث أبا عبيدة بن الجراح على الحسر وأخذوا بطن الوادي ورسول الله صلى الله عليه و سلم في كتيبته قال : وقد وبشت قريش أوباشا لها فقالوا : نقدم هؤلاء فإن كان لقريش شئ كنا معهم وإن أصيبوا أعطينا الذي سئلنا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يا أبا هريرة ؟ فقلت : لبيك رسول الله وسعديك فقال : [ اهتف لي بالأنصار ولا يأتيني إلا أنصاري ] فهتف بهم فجاؤوا فأطافوا برسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ أترون إلى أوباش قريش وأتباعهم ] ثم قال بيديه إحداهما على الأخرى : [ احصدوهم حصدا حتى توافوني بالصفا ] فانطلقنا فما يشاء أحد منا أن يقتل منهم إلا شاء وما أحد منهم وجه إلينا شيئا
وركزت راية رسول الله صلى الله عليه و سلم بالحجون عند مسجد الفتح
ثم نهض رسول الله صلى الله عليه و سلم والمهاجرون والأنصار بين يديه وخلفه وحوله حتى دخل المسجد فأقبل إلى الحجر الأسود فاستلمه ثم طاف بالبيت وفي يده قوس وحول البيت وعليه ثلاثمائة وستون صنما فجعل يطعنها بالقوس ويقول : { جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا } ( الإسراء : 81 ) { جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد } ( سبأ : 49 ) والأصنام تتساقط على وجوهها
وكان طوافه على راحلته ولم يكن محرما يومئذ فاقتصر على الطواف فلما أكمله دعا عثمان بن طلحة فأخذ منه مفتاح الكعبة فأمر بها ففتحت فدخلها فرأى فيها الصور ورأى فيها صورة إبراهيم وإسماعيل يستقسمان بالأزلام فقال : [ قاتلهم الله والله إن استقسما بها قط ]
ورأى في الكعبة حمامة من عيدان فكسرها بيده وأمر بالصور فمحيت
ثم أغلق عليه الباب وعلى أسامة وبلال فاستقبل الجدار الذي يقابل الباب حتى إذا كان بينه وبينه قدر ثلاثة أذرع وقف وصلى هناك ثم دار في البيت وكبر في نواحيه ووحد الله ثم فتح الباب وقريش قد ملأت المسجد صفوفا ينتظرون ماذا يصنع فأخذ بعضادتي الباب وهم تحته فقال : [ لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ألا كل مأثرة أو مال أو دم فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج ألا وقتل الخطأ شبه العمد السوط والعصا ففيه الدية مغلظة مائة من الإبل أربعون منها في بطونها أولادها يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء الناس من آدم وآدم من تراب ] ثم تلا هذه الآية : { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير } ( الحجرات : 13 ) ثم قال : [ يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم ؟ ] قالوا : خيرا أخ كريم وابن أخ كريم قال : [ فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته : لا تثريب عليكم اليوم اذهبوا فأنتم الطلقاء ]
ثم جلس في المسجد فقام إليه علي رضي الله عنه ومفتاح الكعبة في يده فقال : يا رسول الله ! اجمع لنا الحجابة مع السقاية صلى الله عليك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أين عثمان بن طلحة ] ؟ فدعي له فقال له : [ هاك مفتاحك يا عثمان اليوم يوم بر ووفاء ]
وذكر ابن سعد في الطبقات عن عثمان بن طلحة قال : كنا نفتح الكعبة في الجاهلية يوم الإثنين والخميس فأقبل رسول الله صلى الله عليه و سلم يوما يريد أن يدخل الكعبة مع الناس فأغلظت له ونلت منه فحلم عني ثم قال : [ يا عثمان لعلك سترى هذا المفتاح يوما بيدي أضعه حيث شئت ] فقلت : لقد هلكت قريش يومئذ وذلت فقال : [ بل عمرت وعزت يومئذ ] ودخل الكعبة فوقعت كلمته مني موقعا ظننت يومئذ أن الأمر سيصير إلى ما قال فلما كان يوم الفتح قال : [ يا عثمان ائتني بالمفتاح ] فأتيته به فأخذه مني ثم دفعه إلي وقال : [ خذوها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم يا عثمان إن الله استأمنكم على بيته فكلوا مما يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف ] قال : فلما وليت ناداني فرجعت إليه فقال : [ ألم يكن الذي قلت لك ؟ ] قال : فذكرت قوله لي بمكة قبل الهجرة : لعلك سترى هذا المفتاح بيدي أضعه حيث شئت فقلت : بلى أشهد أنك رسول الله
وذكر سعيد بن المسيب أن العباس تطاول يومئذ لأخذ المفتاح في رجال من بني هاشم فرده رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى عثمان بن طلحة
وأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بلالا أن يصعد فيؤذن على الكعبة وأبو سفيان بن حرب وعتاب بن أسيد والحارث بن هشام وأشراف قريش جلوس بفناء الكعبة فقال عتاب : لقد أكرم الله أسيدا ألا يكون سمع هذا فيسمع منه ما يغيظه فقال الحارث : أما والله لو أعلم أنه حق لاتبعته فقال أبو سفيان : أما والله لا أقول شيئا لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصباء فخرج عليهم النبى صلى الله عليه و سلم فقال لهم : [ قد علمت الذي قلتم ] ثم ذكر ذلك لهم فقال الحارث وعتاب : نشهد أنك رسول الله والله ما اطلع على هذا أحد كان معنا فنقول : أخبرك (3/347)
فصل
ثم دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم دار أم هانىء بنت أبي طالب فاغتسل وصلى ثمان ركعات في بيتها وكانت ضحى فظنها من ظنها صلاة الضحى وإنما هذه صلاة الفتح وكان أمراء الإسلام إذا فتحوا حصنا أو بلدا صلوا عقيب الفتح هذه الصلاة اقتداء برسول الله صلى الله عليه و سلم وفي القصة ما يدل على أنها بسبب الفتح شكرا لله عليه فإنها قالت : ما رأيته صلاها قبلها ولا بعدها
وأجارت أم هانىء حموين لها فقال لها رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ قد أجرنا من أجرت يا أم هانىء ] (3/361)
فصل
ولما استقر الفتح أمن رسول الله صلى الله عليه و سلم الناس كلهم إلا تسعة نفر فإنه أمر بقتلهم وإن وجدوا تحت أستار الكعبة وهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح وعكرمة بن أبي جهل وعبد العزى بن خطل والحارث بن نفيل بن وهب ومقيس بن صبابة وهبار بن الأسود وقينتان لابن خطل كانتا تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه و سلم وسارة مولاة لبعض بني عبد المطلب
فأما ابن أبي سرح فأسلم فجاء به عثمان بن عفان فاستأمن له رسول الله صلى الله عليه و سلم فقبل منه بعد أن أمسك عنه رجاء أن يقوم إليه بعض الصحابة فيقتله وكان قد أسلم قبل ذلك وهاجر ثم ارتد ورجع إلى مكة
وأما عكرمة بن أبي جهل فاستأمنت له أمرأته بعد أن فر فأمنه النبي صلى الله عليه و سلم فقدم وأسلم وحسن إسلامه
وأما ابن خطل والحارث ومقيس وإحدى القينتين فقتلوا وكان مقيس قد أسلم ثم ارتد وقتل ولحق بالمشركين وأما هبار بن الأسود فهو الذي عرض لزينب بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم حين هاجرت فنخس بها حتى سقطت على صخرة وأسقطت جنينها ففر ثم أسلم وحسن إسلامه
واستؤمن رسول الله صلى الله عليه و سلم لسارة ولإحدى القينتين فأمنهما فأسلمتا
فلما كان الغد من يوم الفتح قام رسول الله صلى الله عليه و سلم في الناس خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ومجده بما هو أهله ثم قال : [ يا أيها الناس إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة فلا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دما أو يعضد بها شجرة فإن أحد ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه و سلم فقولوا : إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم وإنما حلت لي ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس فليبلغ الشاهد الغائب ]
ولما فتح الله مكة على رسوله وهي بلده ووطنه ومولده قال الأنصار فيما بينهم : أترون رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ فتح الله عليه أرضه وبلده أن يقيم بها وهو يدعو على الصفا رافعا يديه ؟ فلما فرغ من دعائه قال : ماذا قلتم ؟ قالوا : لا شئ يا رسول الله فلم يزل بهم حتى أخبروه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ معاذ الله المحيا محياكم والممات مماتكم ]
وهم فضالة بن عمير بن الملوح أن يقتل رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو يطوف بالبيت فلما دنا منه قال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : أفضالة ؟ قال : نعم فضالة يا رسول الله قال : ماذا كنت تحدث به نفسك ؟ قال : لا شئ كنت أذكر الله فضحك النبي صلى الله عليه و سلم ثم قال : [ استغفر الله ] ثم وضع يده على صدره فسكن قلبه وكان فضالة يقول : والله ما رفع يده عن صدري حتى ما خلق الله شيئا أحب إلي منه قال فضالة : فرجعت إلى أهلي فمررت بامرأة كنت أتحدث إليها فقالت : هلم إلى الحديث فقلت : لا وانبعث فضالة يقول :
( قالت هلم إلى الحديث فقلت لا ... يأبى عليك الله والإسلام )
( لو قد رأيت محمدا وقبيله ... بالفتح يوم تكسر الأصنام )
( لرأيت دين الله أضحى بينا ... والشرك يغشى وجهه الإظلام )
وفر يومئذ صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل فأما صفوان فاستأمن له عمير بن وهب الجمحي رسول الله صلى الله عليه و سلم فأمنه وأعطاه عمامته التي دخل بها مكة فلحقه عمير وهو يريد أن يركب البحر فرده فقال : اجعلني فيه بالخيار شهرين فقال : أنت بالخيار فيه أربعة أشهر
وكانت أم حكيم بنت الحارث بن هشام تحت عكرمة بن أبي جهل فأسلمت واستأمنت له رسول الله صلى الله عليه و سلم فأمنه فلحقت به باليمن فأمنته فردته وأقرهما رسول الله صلى الله عليه و سلم هو وصفوان على نكاحهما الأول
ثم أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم تميم بن أسيد الخزاعي فجدد أنصاب الحرم
وبث رسول الله صلى الله عليه و سلم سراياه إلى الأوثان التي كانت حول الكعبة فكسرت كلها منها اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ونادى مناديه بمكة من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدع في بيته صنما إلا كسره
فبعث خالد بن الوليد إلى العزى لخمس ليال بقين من شهر رمضان ليهدمها فخرج إليها في ثلاثين فارسا من أصحابه حتى انتهوا إليها فهدمها ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبره فقال : [ هل رأيت شيئا ؟ ] قال : لا قال : [ فإنك لم تهدمها فارجع إليها فاهدمها ] فرجع خالد وهو متغيظ فجرد سيفه فخرجت إليه امرأة عجوز عريانة سوداء ناشرة الرأس فجعل السادن يصيح بها فضربها خالد فجزلها باثنتين ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبره فقال : [ نعم تلك العزى وقد أيست أن تعبد في بلادكم أبدا ] وكانت بنخلة وكانت لقريش وجميع بني كنانة وكانت أعظم أصنامهم وكان سدنتها بني شيبان
ثم بعث عمرو بن العاص إلى سواع وهو صنم لهذيل ليهدمه قال عمرو : فانتهيت إليه وعنده السادن فقال : ما تريد ؟ قلت : أمرني رسول الله صلى الله عليه و سلم أن أهدمه فقال : لا تقدر على ذلك قلت : لم ؟ قال : تمنع قلت : حتى الآن أنت على الباطل ويحك فهل يسمع أو يبصر ؟ قال : فدنوت منه فكسرته وأمرت أصحابي فهدموا بيت خزانته فلم نجد فيه شيئا ثم قلت للسادن : كيف رأيت ؟ قال : أسلمت لله
ثم بعث سعد بن زيد الأشهلي إلى مناة وكانت بالمشلل عند قديد للأوس والخزرح وغسان وغيرهم فخرج في عشرين فارسا حتى انتهى إليها وعندها سادن فقال السادن : ما تريد ؟ قلت : هدم مناة قال : أنت وذاك فأقبل سعد يمشي إليها وتخرج إليه امرأة عريانة سوداء ثائرة الرأس تدعو بالويل وتضرب صدرها فقال لها السادن : مناة دونك بعض عصاتك فضربها سعد فقتلها وأقبل إلى الصنم ومعه أصحابه فهدمه وكسروه ولم يجدوا في خزانته شيئا (3/362)
ذكر سرية خالد بن الوليد إلى بني جذيمة
قال ابن سعد : ولما رجع خالد بن الوليد من هدم العزى ورسول الله صلى الله عليه و سلم مقيم بمكة بعثه إلى بني خذيمة داعيا إلى الإسلام ولم يبعثه مقاتلا فخرج في ثلاثمائة وخمسين رجلا من المهاجرين والأنصار وبني سليم فانتهى إليهم فقال : ما أنتم ؟ قالوا : مسلمون قد صلينا وصدقنا بمحمد وبنينا المساجد في ساحتنا وأذنا فيها قال : فما بال السلاح عليكم ؟ قالوا : إن بيننا وبين قوم من العرب عداوة فخفنا أن تكونوا هم وقد قيل : إنهم قالوا صبأنا ولم يحسنوا أن يقولوا : أسلمنا قال : فضعوا السلاح فوضعوه فقال لهم : استأسروا فاستأسر القوم فأمر بعضهم فكتف بعضا وفرقهم في أصحابه فلما كان في السحر نادى خالد بن الوليد : من كان معه أسير فليضرب عنقه فأما بنو سليم فقتلوا من كان في أيديهم وأما المهاجرون والأنصار فأرسلوا أسراهم فبلغ النبي صلى الله عليه و سلم ما صنع خالد فقال : [ اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد ] وبعث عليا يودي لهم قتلاهم وما ذهب منهم
وكان بين خالد وعبد الرحمن بن عوف كلام وشر في ذلك فبلغ النبي صلى الله عليه و سلم فقال : [ مهلا يا خالد دع عنك أصحابي فوالله لو كان لك أحد ذهبا ثم أنفقته في سبيل الله ما أدركت غدوة رجل من أصحابي ولا روحته ] (3/365)
فصل
وكان حسان بن ثابت رضي الله عنه قال في عمرة الحديبية :
( عفت ذات الأصابع فالجواء ... إلى عذراء منزلها خلاء )
( ديار من بني الحسحاس قفر ... تعفيها الروامس والسماء )
( وكانت لا يزال بها أنيس ... خلال مروجها نعم وشاء )
( فدع هذا ولكن من لطيف ... يؤرقني إذا ذهب العشاء )
( لشعثاء التي قد تيمته ... فليس لقلبه منها شفاء )
( كأن خبيئة من بيت رأس ... يكون مزاجها عسل وماء )
( إذا ما الأشربات ذكرن يوما ... فهن لطيب الراح الفداء )
( نوليها الملامة إن ألمنا ... إذا ما كان مغث أو لحاء )
( ونشربها فتتركنا ملوكا ... وأسدا ما ينهنهنا اللقاء )
( عدمنا خيلنا إن لم تروها ... تثير النقع موعدها كداء )
( ينازعن الأعنة مصعدات ... على أكتافها الأسل الظماء )
( تظل جيادنا متمطرات ... تلطمهن بالخمر النساء )
( فإما تعرضوا عنا اعتمرنا ... وكان الفتح وانكشف الغطاء )
( وإلا فاصبروا لجلاد يوم ... يعز الله فيه من يشاء )
( وجبريل رسول الله فينا ... وروح القدس ليس له كفاء )
( وقال الله قد أرسلت عبدا ... يقول الحق إن نفع البلاء )
( شهدت به فقوموا صدقوه ... فقلتم لا نقوم ولا نشاء )
( وقال الله قد سيرت جندا ... هم الأنصار عرضتها اللقاء )
( لنا في كل يوم من معد ... سباب أو قتال أو هجاء )
( فنحكم بالقوافي من هجانا ... ونضرب حين تختلط الدماء )
( ألا أبلغ أبا سفيان عنى ... مغلغلة فقد برح الخفاء )
( بأن سيوفنا تركتك عبدا ... وعبد الدار سادتها الإماء )
( هجوت محمدا فأجبت عنه ... وعند الله فى ذاك الجزاء )
( أتهجوه ولست له بكفء ... فشركا لخيركما الفداء )
( هجوت مباركا برا حنيفا ... أمين الله شيمته الوفاء )
( أمن يهجو رسول الله منكم ... ويمدحه وينصره سواء )
( فإن أبي ووالده وعرضي ... لعرض محمد منكم وقاء )
( لساني صارم لا عيب فيه ... وبحري لا تكره الدلاء ) (3/366)
فصل
في الإشارة إلى ما في الغزوة من الفقه واللطائف
كانت صلح الحديبية مقدمة وتوطئة بين يدي هذا الفتح العظيم أمن الناس به وكلم بعضهم بعضا وناظره في الإسلام وتمكن من اختفى من المسلمين بمكة من إظهار دينه والدعوة إليه والمناظرة عليه ودخل بسببه بشر كثير في الإسلام ولهذا سماه الله فتحا في قوله : { إنا فتحنا لك فتحا مبينا } ( الفتح : 1 ) نزلت في شأن الحديبية فقال عمر : يا رسول الله ! أو فتح هو ؟ قال : [ نعم ] وأعاد سبحانه وتعالى ذكر كونه فتحا فقال : { لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق } إلى قوله : { فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا } ( الفتح : 27 ) وهذا شأنه - سبحانه - أن يقدم بين يدي الأمور العظيمة مقدما تكون كالمدخل إليها المنبهة عليها كما قدم بين يدي قصة المسيح وخلقه من غير أب قصة زكريا وخلق الولد له مع كونه كبيرا لا يولد لمثله وكما قدم بين يدي نسخ القبلة قصة البيت وبنائه وتعظيمه والتنويه به وذكر بانيه وتعظيمه ومدحه ووطأ قبل ذلك كله بذكر النسخ وحكمته المقتضية له وقدرته الشاملة له وهكذا ما قدم بين يدي مبعث رسوله صلى الله عليه و سلم من قصة الفيل وبشارات الكهان به وغير ذلك وكذلك الرؤيا الصالحة لرسول الله صلى الله عليه و سلم كانت مقدمة بين يدي الوحي في اليقظة وكذلك الهجرة كانت مقدمة بين يدي الأمر بالجهاد ومن تأمل أسرار الشرع والقدر رأى من ذلك ما تبهر حكمته الألباب (3/369)
فصل
وفيها : أن أهل العهد إذا حاربوا من هم في ذمة الإمام وجواره وعهده صاروا حربا له بذلك ولم يبق بينهم وبينه عهد فله أن يبيتهم في ديارهم ولا يحتاج أن يعلمهم على سواء وإنما يكون الإعلام إذا خاف منهم الخيانة فإذا تحققها صاروا نابذين لعهده (3/370)
فصل
وفيها : انتقاض عهد جميعهم بذلك ردئهم ومباشريهم إذا رضوا بذلك وأقروا عليه ولم ينكروه فإن الذين أعانوا بني بكر من قريش بعضهم لم يقاتلوا كلهم معهم ومع هذا فغزاهم رسول الله صلى الله عليه و سلم كلهم وهذا كما أنهم دخلوا في عقد الصلح تبعا ولم ينفرد كل واحد منهم بصلح إذ قد رضوا به وأقروا عليه فكذلك حكم نقضهم للعهد هذا هدي رسول الله صلى الله عليه و سلم الذي لا شك فيه كما ترى
وطرد هذا جريان هذا الحكم على ناقضي العهد من أهل الذمة إذا رضي جماعتهم به وإن لم يباشر كل واحد منهم ما ينقض عهده كما أجلى عمر يهود خيبر لما عدا بعضهم على ابنه ورموه من ظهر دار ففدعوا يده بل قد قتل رسول الله صلى الله عليه و سلم جميع مقاتلة بني قريظة ولم يسأل عن كل رجل منهم : هل نقض العهد أم لا ؟ وكذلك أجلى بني النضير كلهم وإنما كان الذي هم بالقتل رجلان وكذلك فعل ببني قينقاع حتى استوهبهم منه عبد الله بن أبي فهذه سيرته وهديه الذي لا شك فيه وقد أجمع المسلمون على أن حكم الردء حكم المباشر في الجهاد ولا يشترط في قسمة الغنيمة ولا في الثواب مباشرة كل واحد واحد القتال
وهذا حكم قطاع الطريق حكم ردئهم حكم مباشرهم لأن المباشر إنما باشر الإفساد بقوة الباقين ولولاهم ما وصل إلى ما وصل إليه وهذا هو الصواب الذي لا شك فيه وهو مذهب أحمد ومالك وأبي حنيفة وغيرهم (3/370)
فصل
وفيها : جواز صلح أهل الحرب على وضع القتال عشر سنين وهل يجوز فوق ذلك ؟ الصواب : أنه يجوز للحاجة والمصلحة الراجحة كما إذا كان بالمسلمين ضعف وعدوهم أقوى منهم وفي العقد لما زاد عن العشر مصلحة للإسلام (3/371)
فصل
وفيها : أن الإمام وغيره إذا سئل ما لا يجوز بذله أو لا يجب فسكت عن بذله لم يكن سكوته بذلا له فإن أبا سفيان سأل رسول الله صلى الله عليه و سلم تجديد العهد فسكت رسول الله صلى الله عليه و سلم ولم يجبه بشئ ولم يكن بهذا السكوت معاهدا له (3/371)
فصل
وفيها : أن رسول الكفار لا يقتل فإن أبا سفيان كان ممن جرى عليه حكم انتقاض العهد ولم يقتله رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ كان رسول قومه إليه (3/371)
فصل
وفيها : جواز تبييت الكفار ومغافضتهم في ديارهم إذا كانت قد بلغتهم الدعوة وقد كانت سرايا رسول الله صلى الله عليه و سلم يبيتون الكفار ويغيرون عليهم بإذنه بعد أن بلغتهم دعوته (3/371)
فصل
وفيها : جواز قتل الجاسوس وإن كان مسلما لأن عمر رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه و سلم قتل حاطب بن أبي بلتعة لما بعث يخبر أهل مكة بالخبر ولم يقل رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا يحل قتله إنه مسلم بل قال : [ وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم ] فأجاب بأن فيه مانعا من قتله وهو شهوده بدرا وفي الجواب بهذا كالتنبيه على جواز قتل جاسوس ليس له مثل هذا المانع وهذا مذهب مالك وأحد الوجهين في مذهب أحمد وقال الشافعي وأبو حنيفة : لا يقتل وهو ظاهر مذهب أحمد والفريقان يحتجون بقصة حاطب والصحيح : أن قتله راجع إلى رأي الإمام فإن رأى في قتله مصلحة للمسلمين قتله وإن كان استبقاؤه أصلح استبقاه والله أعلم (3/371)
فصل
وفيها : جواز تجريد المرأة كلها وتكشيفها للحاجة والمصلحة العامة فإن عليا والمقداد قالا للظعينة : لتخرجن الكتاب أو لنكشفنك وإذا جاز تجريدها لحاجتها إلى ذلك حيث تدعو إليها فتجريدها لمصلحة الإسلام والمسلمين أولى (3/372)
فصل
وفيها : أن الرجل إذا نسب المسلم إلى النفاق والكفر متأولا وغضبا لله ورسوله ودينه لا لهواه وحظه فإنه لا يكفر بذلك بل لا يأثم به بل يثاب على نيته وقصده وهذا بخلاف أهل الأهواء والبدع فإنهم يكفرون ويبدعون لمخالفة أهوائهم ونحلهم وهم أولى بذلك ممن كفروه وبدعوه (3/372)
فصل
وفيها : أن الكبيرة العظيمة مما دون الشرك قد تكفر بالحسنة الكبيرة الماحية كما وقع الجس من حاطب مكفرا بشهوده بدرا فإن ما اشتملت عليه هذه الحسنة العظيمة من المصلحة وتضمنته من محبة الله لها ورضاه بها وفرحه بها ومباهاته للملائكة بفاعلها أعظم مما اشتملت عليه سيئة الجس من المفسدة وتضمنته من بغض الله لها فغلب الأقوى على الأضعف فأزاله وأبطل مقتضاه وهذه حكمة الله في الصحة والمرض الناشئين من الحسنات والسيئات الموجبين لصحة القلب ومرضه وهي نظير حكمته تعالى في الصحة والمرض اللاحقين للبدن فإن الأقوى منهما يقهر المغلوب ويصير الحكم له حتى يذهب أثر الأضعف فهذه حكمته في خلقه وقضائه وتلك حكمته في شرعه وأمره
وهذا كما أنه ثابت في محو السيئات بالحسنات لقوله تعالى : { إن الحسنات يذهبن السيئات } ( هود : 14 ) وقوله تعالى : { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم } ( النساء : 31 ) وقوله صلى الله عليه و سلم : [ وأتبع السيئة الحسنة تمحها ] فهو ثابت في عكسه لقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى } ( البقرة : 264 ) وقوله : { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون } ( الحجرات : 2 ) وقول عائشة عن زيد بن أرقم أنه لما باع بالعينة : إنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا أن يتوب وكقوله صلى الله عليه و سلم في الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه : [ من ترك صلاة العصر حبط عمله ] إلى غير ذلك من النصوص والآثار الدالة على تدافع الحسنات والسيئات وإبطال بعضها بعضا وذهاب أثر القوي منها بما دونه وعلى هذا مبنى الموازنة والإحباط
وبالجملة فقوة الإحسان ومرض العصيان متصاولان ومتحاربان ولهذا المرض مع هذه القوة حالة تزايد وترام إلى الهلاك وحالة انحطاط وتناقص وهي خير حالات المريض وحالة وقوف وتقابل إلى أن يقهر أحدهما الآخر وإذا دخل وقت البحران وهو ساعة المناجزة فحظ القلب أحد الخطتين : إما السلامة وإما العطب وهذا البحران يكون وقت فعل الواجبات التي توجب رضى الرب تعالى ومغفرته أو توجب سخطه وعقوبته وفي الدعاء النبوي : [ أسألك موجبات رحمتك ] وقال عن طلحة يومئذ : أوجب طلحة ورفع إلى النبي صلى الله عليه و سلم رجل وقالوا : يا رسول الله إنه قد أوجب فقال : [ أعتقوا عنه ] وفي الحديث الصحيح : [ أتدرون ما الموجبتان ؟ ] قالوا : الله ورسوله أعلم قال : [ من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ومن مات يشرك بالله شيئا دخل النار ] يريد أن التوحيد والشرك رأس الموجبات وأصلها فهما بمنزلة السم القاتل قطعا والترياق المنجي قطعا
وكما أن البدن قد تعرض له أسباب رديئة لازمة توهن قوته وتضعفها فلا ينتفع معها بالأسباب الصالحة والأغذية النافعة بل تحيلها تلك المواد الفاسدة إلى طبعها وقوتها فلا يزداد بها إلا مرضا وقد تقوم به مواد صالحة وأسباب موافقة توجب قوته وتمكنه من الصحة وأسبابها فلا تكاد تضره الأسباب الفاسدة بل تحيلها تلك المواد الفاضلة إلى طبعها فهكذا مواد صحة القلب وفساده
فتأمل قوة إيمان حاطب التي حملته على شهود بدر وبذله نفسه مع رسول الله صلى الله عليه و سلم وإيثاره الله ورسوله على قومه وعشيرته وقرابته وهم بين ظهراني العدو وفي بلدهم ولم يثن ذلك عنان عزمه ولا فل من حد إيمانه ومواجهته للقتال لمن أهله وعشيرته وأقاربه عندهم فلما جاء مرض الجس برزت إليه هذه القوة وكان البحران صالحا فاندفع المرض وقام المريض كأن لم يكن به قلبة ولما رأى الطبيب قوة إيمانه قد استعلت على مرض جسه وقهرته قال لمن أراد فصده : لا يحتاح هذا العارض إلى فصاد وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم وعكس هذا ذو الخويصرة التميمي وأضرابه من الخوارج الذين بلغ اجتهادهم في الصلاة والصيام والقراءة إلى حد يحقر أحد الصحابة عمله معه كيف قال فيهم : لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد وقال : اقتلوهم فإن في قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم وقال : شر قتلى تحت أديم السماء فلم ينتفعوا بتلك الأعمال العظيمة مع تلك المواد الفاسدة المهلكة واستحالت فاسدة
وتأمل في حال إبليس لما كانت المادة المهلكة كامنة في نفسه لم ينتفع معها بما سلف من طاعاته ورجع إلى شاكلته وما هو أولى به وكذلك الذي آتاه الله أياته فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين وأضرابه وأشكاله فالمعول على السرائر والمقاصد والنيات والهمم فهي الإكسير الذي يقلب نحاس الأعمال ذهبا أو يردها خبثا وبالله التوفيق
ومن له لب وعقل يعلم قدر هذه المسألة وشدة حاجته إليها وانتفاعه بها ويطلع منها على باب عظيم من أبواب معرفة الله سبحانه وحكمته في خلقه وأمره وثوابه وعقابه وأحكام الموازنة وإيصال اللذة والألم إلى الروح والبدن في المعاش والمعاد وتفاوت المراتب في ذلك بأسباب مقتضية بالغة ممن هو قائم على كل نفس بما كسبت (3/372)
فصل
وفي هذه القصة جواز مباغتة المعاهدين إذا نقضوا العهد والإغارة عليهم وألا يعلمهم بمسيره إليهم وأما ما داموا قائمين بالوفاء بالعهد فلا يجوز ذلك حتى ينبذ إليهم على سواء (3/376)
فصل
وفيها : جواز بل استحباب كثرة المسلمين وقوتهم وشوكتهم وهيئتهم لرسل العدو إذا جاؤوا إلى الإمام كما يفعل ملوك الإسلام كما أمر النبي صلى الله عليه و سلم بإيقاد النيران ليلة الدخول إلى مكة وأمر العباس أن يحبس أبا سفيان عند خطم الجبل وهو ما تضايق منه حتى عرضت عليه عساكر الإسلام وعصابة التوحيد وجند الله وعرضت عليه خاصكية رسول الله صلى الله عليه و سلم وهم في السلاح منهم إلا الحدق ثم أرسله فأخبر قريشا بما رأى (3/376)
فصل
وفيها : جواز دخول مكة للقتال المباح بغير إحرام كما دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم والمسلمون وهذا لا خلاف فيه ولا خلاف أنه لا يدخلها من أراد الحج والعمرة إلا بإحرام واختلف فيما سوى ذلك إذا لم يكن الدخول لحاجة متكررة كالحشاش والحطاب على ثلاثة أقوال :
أحدها : لا يجوز دخولها إلا بإحرام وهذا مذهب ابن عباس رضي الله عنه وأحمد في ظاهر مذهبه والشافعي في أحد قوليه
والثاني : أنه كالحشاش والحطاب فيدخلها بغير إحرام وهذا القول الآخر للشافعي ورواية عن أحمد
والثالث : أنه إن كان داخل المواقيت جاز دخوله بغير إحرام وإن كان خارج المواقيت لم يدخل إلا بإحرام وهذا مذهب أبي حنيفة وهدي رسول الله صلى الله عليه و سلم معلوم في المجاهد ومريد النسك وأما من عداهما فلا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله أو أجمعت عليه الأمة (3/377)
فصل
وفيها البيان الصريح بأن مكة فتحت عنوة كما ذهب إليه جمهور أهل العلم ولا يعرف في ذلك خلاف إلا عن الشافعي وأحمد في أحد قوليه وسياق القصة أوضح شاهد لمن تأمله لقول الجمهور ولما استهجن أبو حامد الغزالي القول بأنها فتحت صلحا حكى قول الشافعي أنها فتحت عنوة في وسيطه وقال : هذا مذهبه
قال أصحاب الصلح : لو فتحت عنوة لقسمها رسول الله صلى الله عليه و سلم بين الغانمين كما قسم خيبر وكما قسم سائر الغنائم من المنقولات فكان يخمسها ويقسمها قالوا : ولما استأمن أبو سفيان لأهل مكة لما أسلم فأمنهم كان هذا عقد صلح معهم قالوا : ولو فتحت عنوة لملك الغانمون رباعها ودورها وكانوا أحق بها من أهلها وجاز إخراجهم منها فحيث لم يحكم رسول الله صلى الله عليه و سلم فيها بهذا الحكم بل لم يرد على المهاجرين دورهم التي أخرجوا منها وهي بأيدي الذين أخرجوهم وأقرهم على بيع الدور وشرائها وإجارتها وسكناها والانتفاع بها وهذا مناف لأحكام فتوح العنوة وقد صرح بإضافة الدور إلى أهلها فقال : [ من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن دخل داره فهو آمن ]
قال أرباب العنوة : لو كان قد صالحهم لم يكن لأمانه المقيد بدخول كل واحد داره وإغلاقه بابه وإلقائه سلاحه فائدة ولم يقاتلهم خالد بن الوليد حتى قتل منهم جماعة ولم ينكر عليه ولما قتل مقيس بن صبابة وعبد الله بن خطل ومن ذكر معهما فإن عقد الصلح لو كان قد وقع لاستثني فيه هؤلاء قطعا ولنقل هذا وهذا ولو فتحت صلحا لم يقاتلهم وقد قال : فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه و سلم فقولوا : إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم ومعلوم أن هذا الإذن المختص برسول الله صلى الله عليه و سلم إنما هو الإذن في القتال لا في الصلح فإن الإذن في الصلح عام
وأيضا فلو كان فتحها صلحا لم يقل : إن الله قد أحلها له ساعة من نهار فإنها إذا فتحت صلحا كانت باقية على حرمتها ولم تخرج بالصلح عن الحرمة وقد أخبر بأنها في تلك الساعة لم تكن حراما وأنها بعد انقضاء ساعة الحرب عادت إلى حرمتها الأولى
وأيضا فإنها لو فتحت صلحا لم يعبىء جيشه : خيالتهم ورجالتهم ميمنة وميسرة ومعهم السلاح وقال لأبي هريرة : اهتف لي بالأنصار فهتف بهم فجاؤوا فأطافوا برسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ أترون إلى أوباش قريش وأتباعهم ] ثم قال بيديه إحداهما على الأخرى : [ احصدوهم حصدا حتى توافوني على الصفا ] حتى قال أبو سفيان : يا رسول الله : أبيحت خضراء قريش لا قريش بعد اليوم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من أغلق بابه فهو آمن ] وهذا محال أن يكون مع الصلح فإن كان قد تقدم صلح - وكلا - فإنه ينتقض بدون هذا
وأيضا فكيف يكون صلحا وإنما فتحت بإيجاف الخيل والركاب ولم يحبس الله خيل رسوله وركابه عنها كما حبسها يوم صلح الحديبية فإن ذلك اليوم كان يوم الصلح حقا فإن القصواء لما بركت به قالوا : خلأت القصواء قال : [ ما خلأت وما ذاك لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل ] ثم قال : [ والله لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمة من حرمات الله إلا أعطيتهموها ]
وكذلك جرى عقد الصلح بالكتاب والشهود ومحضر ملإ من المسلمين والمشركين والمسلمون يومئذ ألف وأربعمائة فجرى مثل هذا الصلح في يوم الفتح ولا يكتب ولا يشهد عليه ولا يحضره أحد ولا ينقل كيفيته والشروط فيه هذا من الممتنع البين امتناعه وتأمل قوله : إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين كيف يفهم منه أن قهر رسوله وجنده الغالبين لأهلها أعظم من قهر الفيل الذي كان يدخلها عليهم عنوة فحبسه عنهم وسلط رسوله والمؤمنين عليهم حتى فتحوها عنوة بعد القهر وسلطان العنوة وإذلال الكفر وأهله وكان ذلك أجل قدرا وأعظم خطرا وأظهر آية وأتم نصرة وأعلى كلمة من أن يدخلهم تحت رق الصلح واقتراح العدو وشروطهم ويمنعهم سلطان العنوة وعزها وظفرها في أعظم فتح فتحه على رسوله وأعز به دينه وجعله آية للعالمين
قالوا : وأما قولكم : إنها لو فتحت عنوة لقسمت بين الغانمين فهذا مبني على أن الأرض داخلة في الغنائم التي قسمها الله سبحانه بين الغانمين بعد تخميسها وجمهور الصحابة والأئمة بعدهم على خلاف ذلك وأن الأرض ليست داخلة في الغنائم التي تجب قسمتها وهذه كانت سيرة الخلفاء الراشدين فإن بلالا وأصحابه لما طلبوا من عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يقسم بينهم الأرض التي افتتحوها عنوة وهي الشام وما حولها وقالوا له : خذ خمسها واقسمها فقال عمر : هذا غير المال ولكني أحبسه فيئا يجري عليكم وعلى المسلمين فقال بلال وأصحابه رضي الله عنهم : اقسمها بيننا فقال عمر : اللهم اكفني بلالا وذويه فما حال الحول ومنهم عين تطرف ثم وافق سائر الصحابة - رضي الله عنهم - عمر - رضي الله عنه - على ذلك وكذلك جرى في فتوح مصر والعراق وأرض فارس وسائر البلاد التي فتحت عنوة لم يقسم منها الخلفاء الراشدون قرية واحدة
ولا يصح أن يقال : إنه استطاب نفوسهم ووقفها برضاهم فإنهم قد نازعوه في ذلك وهو يأبى عليهم ودعا على بلال وأصحابه - رضي الله عنهم - وكان الذي رآه وفعله عين الصواب ومحض التوفيق إذ لو قسمت لتوارثها ورثة أولئك وأقاربهم فكانت القرية والبلد تصير إلى امراة واحدة أو صبي صغير والمقاتلة لا شئ بأيديهم فكان في ذلك أعظم الفساد وأكبره وهذا هو الذي خاف عمر رضي الله عنه منه فوفقه الله سبحانه لترك قسمة الأرض وجعلها وقفا على المقاتلة تجري عليهم فيئا حتى يغزو منها آخر المسلمين وظهرت بركة رأيه ويمنه على الإسلام وأهله ووافقه جمهور الأئمة
واختلفوا في كيفية إبقائها بلا قسمة فظاهر مذهب الإمام أحمد وأكثر نصوصه على أن الإمام مخير فيها تخيير مصلحة لا تخيير شهوة فإن كان الأصلح للمسلمين قسمتها قسمها وإن كان الأصلح أن يقفها على جماعتهم وقفها وإن كان الأصلح قسمة البعض ووقف البعض فعله فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم فعل الأقسام الثلاثة فإنه قسم أرض قريظة والنضير وترك قسمة مكة وقسم بعض خيبر وترك بعضها لما ينوبه من مصالح المسلمين
وعن أحمد رواية ثانية : أنها تصير وقفا بنفس الظهور والاستيلاء عليها من غير أن ينشىء الإمام وقفها وهي مذهب مالك
وعنه رواية ثالثة : أنه يقسمها بين الغانمين كما يقسم بينهم المنقول إلا أن يتركوا حقوقهم منها وهي مذهب الشافعي
وقال أبو حنيفة : الإمام مخير بين القسمة وبين أن يقر أربابها فيها بالخراج وبين أن يجليهم عنها وينفذ إليها قوما آخرين يضرب عليهم الخراج
وليس هذا الذي فعل عمر - رضي الله عنه - بمخالف للقرآن فإن الأرض ليست داخلة في الغنائم التي أمر الله بتخميسها وقسمتها ولهذا قال عمر : إنها غير المال ويدل عليه أن إباحة الغنائم لم تكن لغير هذه الأمة بل هو من خصائصها كما قال صلى الله عليه و سلم في الحديث المتفق على صحته : [ وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي ] وقد أحل الله سبحانه الأرض التي كانت بأيدي الكفار لمن قبلنا من أتباع الرسل إذا استولوا عليها عنوة كما أحلها لقوم موسى فلهذا قال موسى لقومه : { يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين } ( المائدة : 21 ) فموسى وقومه قاتلوا الكفار واستولوا على ديارهم وأموالهم فجمعوا الغنائم ثم نزلت النار من السماء فأكلتها وسكنوا الأرض والديار ولم تحرم عليهم فعلم أنها ليست من الغنائم وأنها لله يورثها من يشاء (3/377)
فصل
وأما مكة فإن فيها شيئا آخر يمنع من قسمتها ولو وجبت قسمة ما عداها من القرى وهي أنها لا تملك فإنها دار النسك ومتعبد الخلق وحرم الرب تعالى الذي جعله للناس سواء العاكف فيه والباد فهي وقف من الله على العالمين وهم فيها سواء ومنى مناخ من سبق قال تعالى : { إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم } ( الحج : 25 ) والمسجد الحرام هنا المراد به الحرم كله كقوله تعالى : { إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } ( التوبة : 28 ) فهذا المراد به الحرم كله وقوله سبحانه : { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى } ( الإسراء : 1 ) وفي الصحيح : إنه أسري به من بيت أم هانىء وقال تعالى : { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } ( البقرة : 196 ) وليس المراد به حضور نفس موضع الصلاة اتفاقا وإنما هو حضور الحرم والقرب منه وسياق آية الحج تدل على ذلك فإنه قال : { ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم } وهذا لا يختص بمقام الصلاة قطعا بل المراد به الحرم كله فالذي جعله للناس سواء العاكف فيه والباد هو الذي توعد من صد عنه ومن أراد الإلحاد بالظلم فيه فالحرم ومشاعره كالصفا والمروة والمسعى ومنى وعرفة ومزدلفة لا يختص بها أحد دون أحد بل هي مشتركة بين الناس إذ هي محل نسكهم ومتعبدهم فهي مسجد من الله وقفه ووضعه لخلقه ولهذا امتنع النبي صلى الله عليه و سلم أن يبنى له بيت بمنى يظله من الحر وقال : [ منى مناخ من سبق ]
ولهذا ذهب جمهور الأئمة من السلف والخلف إلى أنه لا يجوز بيع أراضي مكة ولا إجارة بيوتها هذا مذهب مجاهد وعطاء في أهل مكة ومالك في أهل المدينة وأبي حنيفة في أهل العراق وسفيان الثوري والإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه
وروى الإمام أحمد رحمه الله عن علقمة بن نضلة قال : كانت رباع مكة تدعى السوائب على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبي بكر وعمر من احتاج سكن ومن استغنى أسكن
وروى أيضا عن عبد الله بن عمر : من أكل أجور بيوت مكة فإنما يأكل في بطنه نار جهنم رواه الدارقطني مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه و سلم وفيه إن الله حرم مكة فحرام بيع رباعها وأكل ثمنها
وقال الإمام أحمد : حدثنا معمر عن ليث عن عطاء وطاووس ومجاهد أنهم قالوا : يكره أن تباع رباع مكة أو تكرى بيوتها
وذكر الإمام أحمد عن القاسم بن عبد الرحمن قال : من أكل من كراء بيوت مكة فإنما يأكل في بطنه نارا
وقال أحمد : حدثنا هشيم حدثنا حجاج عن مجاهد عن عبد الله بن عمر قال : نهى عن إجارة بيوت مكة وعن بيع رباعها وذكر عن عطاء قال : نهى عن إجارة بيوت مكة
وقال أحمد : حدثنا إسحاق بن يوسف قال : حدثنا عبد الملك قال : كتب عمر بن عبد العزيز إلى أمير أهل مكة ينهاهم عن إجارة بيوت مكة وقال : إنه حرام وحكى أحمد عن عمر أنه نهى أن يتخذ أهل مكة للدور أبوابا لينزل البادي حيث شاء وحكى عن عبد الله بن عمر عن أبيه أنه نهى أن تغلق أبواب دور مكة فنهى من لا باب لداره أن يتخذ لها بابا ومن لداره باب أن يغلقه وهذا في أيام الموسم
قال المجوزون للبيع والإجارة : الدليل على جواز ذلك كتاب الله وسنة رسوله وعمل أصحابه وخلفائه الراشدين قال الله تعالى : { للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم } ( الحشر : 8 ) وقال : { فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم } ( آل عمران : 195 ) وقال : { إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم } ( الممتحنة : 9 ) فأضاف الدور إليهم وهذه إضافة تمليك وقال النبي صلى الله عليه و سلم وقد قيل له : أين تنزل غدا بدارك بمكة ؟ فقال : [ وهل ترك لنا عقيل من رباع ] ؟ ولم يقل : إنه لا دار لي بل أقرهم على الإضافة وأخبر أن عقيلا استولى عليها ولم ينزعها من يده وإضافة دورهم إليهم في الأحاديث أكثر من أن تذكر كدار أم هانىء ودار خديجة ودار أبي أحمد بن جحش وغيرها وكانوا يتوارثونها كما يتوارثون المنقول ولهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ وهل ترك لنا عقيل من منزل ] وكان عقيل هو ورث دور أبي طالب فإنه كان كافرا ولم يرثه علي رضي الله عنه لاختلاف الدين بينهما فاستولى عقيل على الدور ولم يزالوا قبل الهجرة وبعدها بل قبل المبعث وبعده من مات ورثته داره إلى الآن وقد باع صفوان بن أمية دارا لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بأربعة آلاف درهم فاتخذها سجنا وإذا جاز البيع والميراث فالإجارة أجوز وأجوز فهذا موقف أقدام الفريقين كما ترى وحججهم في القوة والظهور لا تدفع وحجج الله وبيناته لا يبطل بعضها بعضا بل يصدق بعضها بعضا ويجب العمل بموجبها كلها والواجب اتباع الحق أين كان
فالصواب القول بموجب الأدلة من الجانبين وأن الدور تملك وتوهب وتورث وتباع ويكون نقل الملك في البناء لا في الأرض والعرصة فلو زال بناؤه لم يكن له أن يبيع الأرض وله أن يبنيها ويعيدها كما كانت وهو أحق بها يسكنها ويسكن فيها من شاء وليس له أن يعاوض على منفعة السكنى بعقد الإجارة فإن هذه المنفعة إنما يستحق أن يقدم فيها على غيره ويختص بها لسبقه وحاجته فإذا استغنى عنها لم يكن له أن يعاوض عليها كالجلوس في الرحاب والطرق الواسعة والإقامة على المعادن وغيرها من المنافع والأعيان المشتركة التي من سبق إليها فهو أحق بها ما دام ينتفع فإذا استغنى لم يكن له أن يعاوض وقد صرح أرباب هذا القول بأن البيع ونقل الملك في رباعها إنما يقع على البناء لا على الأرض ذكره أصحاب أبي حنيفة
فإن قيل : فقد منعتم الإجارة وجوزتم البيع فهل لهذا نظير في الشريعة والمعهود في الشريعة أن الإجارة أوسع من البيع فقد يمتنع البيع وتجوز الإجارة كالوقف والحر فأما العكس فلا عهد لنا به ؟ قيل : كل واحد من البيع والإجارة عقد مستقل غير مستلزم للآخر في جوازه وامتناعه وموردهما مختلف وأحكامهما مختلفة وإنما جاز البيع لأنه وارد على المحل الذي كان البائع أخص به من غيره وهو البناء وأما الإجارة فإنما ترد على المنفعة وهي مشتركة وللسابق إليها حق التقدم دون المعاوضة فلهذا أجزنا البيع دون الإجارة فإن أبيتم إلا النظير قيل : هذا المكاتب يجوز لسيده بيعه ويصير مكاتبا عند مشتريه ولا يجوز له إجارته إذ فيها إبطال منافعه وأكسابه التي ملكها بعقد الكتابة والله أعلم على أنه لا يمنع البيع وإن كانت منافع أرضها ورباعها مشتركة بين المسلمين فإنها تكون عند المشتري كذلك مشتركة المنفعة إن احتاج سكن وإن استغنى أسكن كما كانت عند البائع فليس في بيعها إبطال اشتراك المسلمين في هذه المنفعة كما أنه ليس في بيع المكاتب إبطال ملكه لمنافعه التي ملكها بعقد المكاتبة ونظير هذا جواز بيع أرض الخراج التي وقفها عمر رضي الله عنه على الصحيح الذي استقر الحال عليه من عمل الأمة قديما وحديثا فإنها تنتقل إلى المشتري خراجية كما كانت عند البائع وحق المقاتلة إنما هو في خراجها وهو لا يبطل بالبيع وقد اتفقت الأمة على أنها تورث فإن كان بطلان بيعها لكونها وقفا فكذلك ينبغي أن تكون وقفيتها مبطلة لميراثها وقد نص أحمد على جواز جعلها صداقا في النكاح فإذا جاز نقل الملك فيها بالصداق والميراث والهبة جاز البيع فيها قياسا وعملا وفقها والله أعلم (3/381)
فصل
فإذا كانت مكة قد فتحت عنوة فهل يضرب الخراج على مزارعها كسائر أرض العنوة وهل يجوز لكم أن تفعلوا ذلك أم لا ؟ قيل : في هذه المسألة قولان لأصحاب العنوة :
أحدهما : المنصوص المنصور الذي لا يجوز القول بغيره أنه لا خراج على مزارعها وإن فتحت عنوة فإنها أجل وأعظم من أن يضرب عليها الخراج لا سيما والخراج هو جزية الأرض وهو على الأرض كالجزية على الرؤوس وحرم الرب أجل قدرا وأكبر من أن تضرب عليه جزية ومكة بفتحها عادت إلى ما وضعها الله عليه من كونها حرما آمنا يشترك فيه أهل الإسلام إذ هو موضع مناسكهم ومتعبدهم وقبلة أهل الأرض
والثاني - وهو قول بعض أصحاب أحمد - أن على مزارعها الخراج كما هو على مزارع غيرها من أرض العنوة وهذا فاسد مخالف لنص أحمد رحمه الله ومذهبه ولفعل رسول الله صلى الله عليه و سلم وخلفائه الراشدين من بعده رضي الله عنهم فلا التفات إليه والله أعلم
وقد بنى بعض الأصحاب تحريم بيع رباع مكة على كونها فتحت عنوة وهذا بناء غير صحيح فإن مساكن أرض العنوة تباع قولا واحدا فظهر بطلان هذا البناء والله أعلم
وفيها : تعيين قتل الساب لرسول الله صلى الله عليه و سلم وأن قتله حد لا بد من استيفائه فإن النبي صلى الله عليه و سلم لم يؤمن مقيس بن صبابة وابن خطل والجاريتين اللتين كانتا تغنيان بهجائه مع أن نساء أهل الحرب لا يقتلن كما لا تقتل الذرية وقد أمر بقتل هاتين الجاريتين وأهدر دم أم ولد الأعمى لما قتلها سيدها لأجل سبها النبي صلى الله عليه و سلم وقتل كعب بن الأشرف اليهودي وقال : [ من لكعب فإنه قد آذى الله ورسوله ] وكان يسبه وهذا إجماع من الخلفاء الراشدين ولا يعلم لهم في الصحابة مخالف فإن الصديق - رضي الله عنه - قال لأبي برزة الأسلمي وقد هم بقتل من سبه : لم يكن هذا لأحد غير رسول الله صلى الله عليه و سلم ومر عمر - رضي الله عنه - براهب فقيل له : هذا يسب رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : لو سمعته لقتلته إنا لم نعطهم الذمة على أن يسبوا نبينا صلى الله عليه و سلم
ولا ريب أن المحاربة بسب نبينا أعظم أذية ونكاية لنا من المحاربة باليد ومنع دينار جزية في السنة فكيف ينقض عهده ويقتل بذلك دون السب وأي نسبة لمفسدة منعه دينارا في السنة إلى مفسدة منع مجاهرته بسب نبينا أقبح سب على رؤوس الأشهاد بل لا نسبة لمفسدة محاربته باليد إلى مفسدة محاربته بالسب فأولى ما انتقض به عهده وأمانه سب رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا ينتقض عهده بشئ أعظم منه إلا سبه الخالق سبحانه فهذا محض القياس ومقتضى النصوص وإجماع الخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم - وعلى هذه المسألة أكثر من أربعين دليلا
فإن قيل : فالنبي صلى الله عليه و سلم لم يقتل عبد الله بن أبي وقد قال لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولم يقتل ذا الخويصرة التميمي وقد قال له : اعدل فإنك لم تعدل ولم يقتل من قال له : يقولون : إنك تنهى عن الغي وتستخلي به ولم يقتل القائل له : إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله ولم يقتل من قال له لما حكم للزبير بتقديمه في السقي : أن كان ابن عمتك وغير هؤلاء ممن كان يبلغه عنهم أذى له وتنقص
قيل : الحق كان له فله أن يستوفيه وله أن يسقطه وليس لمن بعده أن يسقط حقه كما أن الرب تعالى له أن يستوفي حقه وله أن تسقط وليس لأحد أن يسقط حقه تعالى بعد وجوبه كيف وقد كان في ترك قتل من ذكرتم وغيرهم مصالح عظيمة في حياته زالت بعد موته من تأليف الناس وعدم تنفيرهم عنه فإنه لو بلغهم أنه يقتل أصحابه لنفروا وقد أشار إلى هذا بعينه وقال لعمر لما أشار عليه بقتل عبد الله بن أبي : [ لا يبلغ الناس أن محمدا يقتل أصحابه ]
ولا ريب أن مصلحة هذا التأليف وجمع القلوب عليه كانت أعظم عنده وأحب إليه من المصلحة الحاصلة بقتل من سبه وآذاه ولهذا لما ظهرت مصلحة القتل وترجحت جدا قتل الساب كما فعل بكعب بن الأشرف فإنه جاهر بالعداوة والسب فكان قتله أرجح من إبقائه وكذلك قتل ابن خطل ومقيس والجاريتين وأم ولد الأعمى فقتل للمصلحة الراجحة وكف للمصلحة الراجحة فإذا صار الأمر إلى نوابه وخلفائه لم يكن لهم أن يسقطوا حقه (3/385)
فصل
فيما في خطبته العظيمة ثاني يوم الفتح من أنواع العلم
فمنها قوله : [ إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس ] فهذا تحريم شرعي قدري سبق به قدره يوم خلق هذا العالم ثم ظهر به على لسان خليله إبراهيم ومحمد صلوات الله وسلامه عليهما كما في الصحيح عنه أنه صلى الله عليه و سلم قال : [ اللهم إن إبراهيهم خليلك حرم مكة وإني أحرم المدينة ] فهذا إخبار عن ظهور التحريم السابق يوم خلق السماوات والأرض على لسان إبراهيم ولهذا لم ينازع أحد من أهل الإسلام في تحريمها وإن تنازعوا في تحريم المدينة والصواب المقطوع به تحريمها إذ قد صح فيه بضعة وعشرون حديثا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم لا مطعن فيها بوجه
ومنها : قوله : [ فلا يحل لأحد أن يسفك بها دما ] هذا التحريم لسفك الدم المختص بها وهو الذي يباح في غيرها ويحرم فيها لكونها حرما كما أن تحريم عضد الشجر بها واختلاء خلائها والتقاط لقطتها هو أمر مختص بها وهو مباح في غيرها إذ الجميع في كلام واحد ونظام واحد وإلا بطلت فائدة التخصيص وهذا أنواع :
أحدها - وهو الذي ساقه أبو شريح العدوي لأجله - : أن الطائفة الممتنعة بها من مبايعة الإمام لا تقاتل لا سيما إن كان لها تأويل كما امتنع أهل مكة من مبايعة يزيد وبايعوا ابن الزبير فلم يكن قتالهم ونصب المنجنيق عليهم وإحلال حرم الله جائزا بالنص والإجماع وإنما خالف في ذلك عمرو بن سعيد الفاسق وشيعته وعارض نص رسول الله صلى الله عليه و سلم برأيه وهواه فقال : إن الحرم لا يعيد عاصيا فيقال له : هو لا يعيذ عاصيا من عذاب الله ولو لم يعذه من سفك دمه لم يكن حرما بالنسبة إلى الآدميين وكان حرما بالنسبة إلى الطير والحيوان البهيم وهو لم يزل يعيذ العصاة من عهد إبراهيم صلوات الله عليه وسلامه وقام الإسلام على ذلك وإنما لم يعذ مقيس بن صبابة وابن خطل ومن سمي معهما لأنه في تلك الساعة لم يكن حرما بل حلا فلما انقضت ساعة الحرب عاد إلى ما وضع عليه يوم خلق الله السماوات والأرض وكانت العرب في جاهليتها يرى الرجل قاتل أبيه أو ابنه في الحرم فلا يهيجه وكان ذلك بينهم خاصية الحرم التي صار بها حرما ثم جاء الإسلام فأكد ذلك وقواه وعلم النبي صلى الله عليه و سلم أن من الأمة من يتأسى به في إحلاله بالقتال والقتل فقطع الإلحاق وقال لأصحابه : [ فإن أحد ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه و سلم فقولوا : إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لك ] وعلى هذا فمن أتى حدا أو قصاصا خارج الحرم يوجب القتل ثم لجأ إليه لم يجز إقامته عليه فيه وذكر الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : لو وجدت فيه قاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه وذكر عن عبد الله بن عمر أنه قال : لو لقيت فيه قاتل عمر ما ندهته وعن ابن عباس أنه قال : لو لقيت قاتل أبي في الحرم ما هجته حتى يخرج منه وهذا قول جمهور التابعين ومن بعدهم بل لا يحفظ عن تابعي ولا صحابي خلافه وإليه ذهب أبو حنيفة ومن وافقه من أهل العراق والإمام أحمد ومن وافقه من أهل الحديث
وذهب مالك والشافعي إلى أنه يستوفى منه في الحرم كما يستوفى منه في الحل وهو اختيار ابن المنذر واحتج لهذا القول بعموم النصوص الدالة على استيفاء الحدود والقصاص في كل مكان وزمان وبأن النبي صلى الله عليه و سلم قتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة وبما يروى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إن الحرم لا يعين عاصيا ولا فارا بدم ولا بخربة ] وبأنه لو كان الحدود والقصاص فيما دون النفس لم يعذه الحرم ولم يمنعه من إقامته عليه وبأنه لو أتى فيه بما يوجب حدا أو قصاصا لم يعذه الحرم ولم يمنع من إقامته عليه فكذلك إذا أتاه خارجه ثم لجأ إليه إذ كونه حرما بالنسبة إلى عصمته لا يختلف بين الأمرين وبأنه حيوان أبيح قتله لفساده فلم يفترق الحال بين قتله لاجئا إلى الحرم وبين كونه قد أوجب ما أبيح قتله فيه كالحية والحدأة والكلب العقور ولأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم ] فنبه بقتلهن في الحل والحرم على العلة وهي فسقهن ولم يجعل التجاءهن إلى الحرم مانعا من قتلهن وكذلك فاسق بني آدم الذي قد استوجب القتل
قال الأولون : ليس في هذا ما يعارض ما ذكرنا من الأدلة ولا سيما قوله تعالى : { ومن دخله كان آمنا } ( آل عمران : 97 ) وهذا إما خبر بمعنى الأمر لاستحالة الخلف في خبره تعالى وإما خبر عن شرعه ودينه الذي شرعه في حرمه وإما إخبار عن الأمر المعهود المستمر في حرمه في الجاهلية والإسلام كما قال تعالى : { أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم } ( العنكبوت : 67 ) وقوله تعالى : { وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء } ( القصص : 57 ) وما عدا هذا من الأقوال الباطلة فلا يلتفت إليه كقول بعضهم : ومن دخله كان آمنا من النار وقول بعضهم : كان آمنا من الموت على غير الإسلام ونحو ذلك فكم ممن دخله وهو في قعر الجحيم
وأما العمومات الدالة على استيفاء الحدود والقصاص في كل زمان ومكان فيقال أولا : لا تعرض في تلك العمومات لزمان الاستيفاء ولا مكانه كما لا تعرض فيها لشروطه وعدم موانعه فإن اللفظ لا يدل عليها بوضعه ولا بتضمنه فهو مطلق بالنسبة إليها ولهذا إذا كان للحكم شرط أو مانع لم يقل : إن توقف الحكم عليه تخصيص لذلك العام فلا يقول محصل : إن قوله تعالى : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } ( النساء : 24 ) مخصوص بالمنكوحة في عدتها أو بغير إذن وليها أو بغير شهود فهكذا النصوص العامة في استيفاء الحدود والقصاص لا تعرض فيها لزمنه ولا مكانه ولا شرطه ولا مانعه ولو قدر تناول اللفظ لذلك لوجب تخصيصه بالأدلة الدالة على المنع لئلا يبطل موجبها ووجب حمل اللفظ العام على ما عداها كسائر نظائره وإذا خصصتم تلك العمومات بالحامل والمرضع والمريض الذي يرجى برؤه والحال المحرمة للاستيفاء كشدة المرض أو البرد أو الحر فما المانع من تخصيصها بهذه الأدلة ؟ وإن قلتم : ليس ذلك تخصيصا بل تقييدا لمطلقها كلنا لكم بهذا الصاع سواء بسواء
وأما قتل ابن خطل فقد تقدم أنه كان في وقت الحل والنبي صلى الله عليه و سلم قطع الإلحاق ونص على أن ذلك من خصائصه وقوله صلى الله عليه و سلم : [ وإنما أحلت لي ساعة من نهار ] صريح في أنه إنما أحل له سفك دم حلال في غير الحرم في تلك الساعة خاصة إذ لو كان حلالا في كل وقت لم يختص بتلك الساعة وهذا صريح في أن الدم الحلال في غيرها حرام فيها فيما عدا تلك الساعة وأما قوله : [ الحرم لا يعيذ عاصيا ] فهو من كلام الفاسق عمرو بن سعيد الأشدق يرد به حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم حين روى له أبو شريح الكعبي هذا الحديث كما جاء مبينا في الصحيح فكيف يقدم على قول رسول الله صلى الله عليه و سلم
وأما قولكم : لو كان الحد والقصاص فيما دون النفس لم يعذه الحرم منه فهذه المسألة فيها قولان للعلماء وهما روايتان منصوصتان عن الإمام أحمد فمن منع الاستيفاء نظر إلى عموم الأدلة العاصمة بالنسبة إلى النفس وما دونها ومن فرق قال : سفك الدم إنما ينصرف إلى القتل ولا يلزم من تحريمه في الحرم تحريم ما دونه لأن حرمة النفس أعظم والانتهاك بالقتل أشد قالوا : ولأن الحد بالجلد أو القطع يجري مجرى التأديب فلم يمنع منه كتأديب السيد عبده وظاهر هذا المذهب أنه لا فرق بين النفس وما دونها في ذلك قال أبو بكر : هذه مسألة وجدتها لحنبل عن عمه أن الحدود كلها تقام في الحرم إلا القتل قال : والعمل على أن كل جان دخل الحرم لم يقم عليه الحد حتى يخرج منه قالوا : وحينئذ فنجيبكم بالجواب المركب وهو أنه إن كان بين النفس وما دونها في ذلك فرق مؤثر بطل الإلزام وإن لم يكن بينهما فرق مؤثر سوينا بينهما في الحكم وبطل الاعتراض فتحقق بطلانه على التقديرين
قالوا : وأما قولكم : إن الحرم لا يعيذ من انتهك فيه الحرمة إذ أتى فيه ما يوجب الحد فكذلك اللاجىء إليه فهو جمع بين ما فرق الله ورسوله والصحابة بينهما فروى الإمام أحمد حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن ابن طاووس عن أبيه عن ابن عباس قال : من سرق أو قتل في الحل ثم دخل الحرم فإنه لا يجالس ولا يكلم ولا يؤوى ولكنه يناشد حتى يخرج فيؤخذ فيقام عليه الحد وإن سرق أو قتل في الحرم أقيم عليه في الحرم وذكر الأثرم عن ابن عباس أيضا : من أحدث حدثا في الحرم أقيم عليه ما أحدث فيه من شئ وقد أمر الله سبحانه بقتل من قاتل في الحرم فقال : { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم } ( البقرة : 191 )
والفرق بين اللاجىء والمنهتك فيه من وجوه :
أحدها : أن الجاني فيه هاتك لحرمته بإقدامه على الجناية فيه بخلاف من جنى خارجه ثم لجأ إليه فإنه معظم لحرمته مستشعر بها بالتجائه إليه فقياس أحدهما على الآخر باطل
الثاني : أن الجاني فيه بمنزلة المفسد الجاني على بساط الملك في داره وحرمه ومن في خارجه ثم لجأ إليه فإنه بمنزلة من جني خارج بساط السلطان وحرمه ثم دخل إلى حرمه مستجيرا
الثالث : أن الجاني في الحرم قد انتهك حرمة الله سبحانه وحرمة بيته وحرمه فهو هاتك لحرمتين بخلاف غيره
الرابع : أنه لو لم يقم الحد على الجناة في الحرم لعم الفساد وعظم الشر في حرم الله فإن أهل الحرم كغيرهم في الحاجة إلى صيانة نفوسهم وأموالهم وأعراضهم ولو لم يسرع الحد في حق من ارتكب الجرائم في الحرم لتعطلت حدود الله وعم الضرر للحرم وأهله
والخامس : أن اللاجىء إلى الحرم بمنزلة التائب المتنصل اللاجىء إلى بيت الرب تعالى المتعلق بأستاره فلا يناسب حاله ولا حال بيته وحرمه أن يهاج بخلاف المقدم على انتهاك حرمته فظهر سر الفرق وتبين أن ما قاله ابن عباس هو محض الفقه
وأما قولكم : إنه حيوان مفسد فأبيح قتله في الحل والحرم كالكلب العقور فلا يصح القياس فإن الكلب العقور طبعه الأذى فلم يحرمه الحرم ليدفع أذاه عن أهله وأما الآدمي فالأصل فيه الحرمة وحرمته عظيمة وإنما أبيح لعارض فأشبه الصائل من الحيوانات المباحة من المأكولات فإن الحرم يعصمها
وأيضا فإن حاجة أهل الحرم إلى قتل الكلب العقور والحية والحدأة كحاجة أهل الحل سواء فلو أعاذها الحرم لعظم عليهم الضرر بها (3/388)
فصل
ومنها : قوله صلى الله عليه و سلم : [ ولا يعضد بها شجر ] وفي اللفظ الآخر : [ ولا يعضد شوكها ] وفي لفظ في صحيح مسلم : [ ولا يخبط شوكها ] لا خلاف بينهم أن الشجر البري الذي لم ينبته الآدمي على اختلاف أنواعه مراد من هذا اللفظ واختلفوا فيما أنبته الآدمي من الشجر في الحرم على ثلاثة أقوال وهي في مذهب أحمد :
أحدها : أن له قلعه ولا ضمان عليه وهذا اختيار ابن عقيل وأبي الخطاب وغيرهما
والثاني : أنه ليس له قلعه وإن فعل ففيه الجزاء بكل حال وهو قول الشافعي وهو الذي ذكره ابن البناء في خصاله
الثالث : الفرق بين ما أنبته في الحل ثم غرسه في الحرم وبين ما أنبته في الحرم أولا فالأول : لا جزاء فيه والثاني : لا يقلع وفيه الجزاء بكل حال وهذا قول القاضي
وفيه قول رابع : وهو الفرق بين ما ينبت الآدمي جنسه كاللوز والجوز والنخل ونحوه وما لا ينبت الآدمي جنسه كالدوج والسلم ونحوه فالأول يجوز قلعه ولا جزاء فيه والثاني : لا يجوز وفيه الجزاء
قال صاحب المغني : والأولى الأخذ بعموم الحديث في تحريم الشجر كله إلا ما أنبت الآدمي من جنس شجرهم بالقياس على ما أنبتوه من الزرع والأهل من الحيوان فإننا إنما أخرجنا من الصيد ما كان أصله إنسيا دون ما تأنس من الوحشي كذا ها هنا وهذا تصريح منه باختيار هذا القول الرابع فصار في مذهب أحمد أربعة أقوال
والحديث ظاهر جدا في تحريم قطع الشوك والعوسج وقال الشافعي : لا يحرم قطعه لأنه يؤذي الناس بطبعه فأشبه السباع وهذا اختيار أبي الخطاب وابن عقيل وهو مروي عن عطاء ومجاهد وغيرهما
وقوله صلى الله عليه و سلم : [ لا يعضد شوكها ] وفي اللفظ الآخر : [ لا يختلى شوكها ] صريح في المنع ولا يصح قياسه على السباع العادية فإن تلك تقصد بطبعها الأذى وهذا لا يؤذي من لم يدن منه
والحديث لم يفرق بين الأخضر واليابس ولكن قد جوزوا قطع اليابس قالوا : لأنه بمنزلة الميت ولا يعرف فيه خلاف وعلى هذا فسياق الحديث يدل على أنه إنما أراد الأخضر فإنه جعله بمنزلة تنفير الصيد وليس في أخذ اليابس انتهاك حرمة الشجرة الخضراء التي تسبح بحمد ربها ولهذا غرس النبي صلى الله عليه و سلم على القبرين غصنين أخضرين وقال : [ لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا ]
وفي الحديث دليل على أنه إذا انقلعت الشجرة بنفسها أو انكسر الغصن جاز الانتفاع به لأنه لم يعضده هو وهذا لا نزاع فيه
فإن قيل : فما تقولون فيما إذا قلعها قالع ثم تركها فهل يجوز له أو لغيره أن ينتفع بها ؟ قيل : قد سئل الإمام أحمد عن هذه المسألة فقال : من شبهه بالصيد لم ينتفع بحطبها وقال : لم أسمع إذا قطعه ينتفع به وفيه وجه آخر أنه يجوز لغير القاطع الانتفاع به لأنه قطع بغير فعله فأبيح له الانتفاع به كما لو قلعته الريح وهذا بخلاف الصيد إذا قتله محرم حيث يحرم على غيره فإن قتل المحرم له جعله ميتة وقوله في اللفظ الآخر : [ ولا يخبط شوكها ] صريح أو كالصريح في تحريم قطع الورق وهذا مذهب أحمد - رحمه الله - وقال الشافعي : له أخذه ويروى عن عطاء والأول أصح لظاهر النص والقياس فإن منزلته من الشجرة منزلة ريش الطائر منه وأيضا فإن أخذ الورق ذريعة إلى يبس الأغصان فإنه لباسها ووقايتها (3/394)
فصل
وقوله صلى الله عليه و سلم : [ ولا يختلى خلاها ] لا خلاف أن المراد من ذلك ما ينبت بنفسه دون ما أنبته الآدميون ولا يدخل اليابس في الحديث بل هو للرطب خاصة فإن الخلا بالقصر : الحشيش الرطب ما دام رطبا فإذا يبس فهو حشيش وأخلت الأرض كثر خلاها واختلاء الخلى : قطعه ومنه الحديث : كان ابن عمر يختلي لفرسه أي : يقطع لها الخلى ومنه سميت المخلاة : وهي وعاء الخلى والإذخر : مستثنى بالنص وفي تخصيصه بالاستثناء دليل على إرادة العموم فيما سواه
فإن قيل : فهل يتناول الحديث الرعي أم لا ؟ قيل : هذا فيه قولان أحدهما : لا يتناوله فيجوز الرعي وهذا قول الشافعي والثاني : يتناوله بمعناه وإن لم يتناوله بلفظه فلا يجوز الرعي وهو مذهب أبي حنيفة والقولان لأصحاب أحمد
قال المحرمون : وأي فرق بين اختلائه وتقديمه للدابة وبين إرسال الدابة عليه ترعاه ؟ قال المبيحون : لما كانت عادة الهدايا أن تدخل الحرم وتكثر فيه ولم ينقل قط أنها كانت تسد أفواهها دل على جواز الرعي
قال المحرمون : الفرق بين أن يرسلها ترعى ويسلطها على ذلك وبين أن ترعى بطبعها من غير أن يسلطها صاحبها وهو لا يجب عليه أن يسد أفواهها كما لا يجب عليه أن يسد أنفه في الإحرام عن شم الطيب وإن لم يجز له أن يتعمد شمه وكذلك لا يجب عليه أن يمتنع من السير خشية أن يوطىء صيدا في طريقه وإن لم يجز له أن يقصد ذلك وكذلك نظائره فإن قيل : فهل يدخل في الحديث أخذ الكمأة والفقع وما كان مغيبا في الأرض ؟ قيل : لا يدخل فيه لأنه بمنزلة الثمرة وقد قال أحمد : يؤكل من شجر الحرم الضغابيس والعشرق (3/396)
فصل
وقوله صلى الله عليه و سلم : [ ولا ينفر صيدها ] صريح في تحريم التسبب إلى قتل الصيد واصطياده بكل سبب حتى إنه لا ينفره عن مكانه لأنه حيوان محترم في هذا المكان قد سبق إلى مكان فهو أحق به ففي هذا أن الحيوان المحترم إذا سبق إلى مكان لم يزعج عنه (3/397)
فصل
وقوله صلى الله عليه و سلم : [ ولا يلتقط ساقطتها إلا من عرفها ] وفي لفظ : [ ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد ] فيه دليل على أن لقطة الحرم لا تملك بحال وأنها لا تلتقط إلا للتعريف لا للتمليك وإلا لم يكن لتخصيص مكة بذلك فائدة أصلا وقد اختلف في ذلك فقال مالك وأبو حنيفة : لقطة الحل والحرم سواء وهذا إحدى الروايتين عن أحمد وأحد قولي الشافعي ويروى عن ابن عمر وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم وقال أحمد في الرواية الأخرى والشافعي في القول الآخر : لا يجوز التقاطها للتمليك وإنما يجوز لحفظها لصاحبها فإن التقطها عرفها أبدا حتى يأتي صاحبها وهذا قول عبد الرحمن بن مهدي وأبي عبيد وهذا هو الصحيح والحديث صريح فيه والمنشد : المعرف والناشد : الطالب ومنه قوله : إصاخة الناشد للمنشد
وقد روى أبو داود في سننه : أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن لقطة الحاج وقال ابن وهب : يعني يتركها حتى يجدها صاحبها
قال شيخنا : وهذا من خصائص مكة والفرق بينها وبين سائر الآفاق في ذلك أن الناس يتفرقون عنها إلى الأقطار المختلفة فلا يتمكن صاحب الضالة من طلبها والسؤال عنها بخلاف غيرها من البلاد (3/398)
فصل
وقوله صلى الله عليه و سلم في الخطبة : [ ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يقتل وإما أن يأخذ الدية ] فيه دليل على أن الواجب بقتل العمد لا يتعين في القصاص بل هو أحد شيئين : إما القصاص وإما الدية
وفي ذلك ثلاثة أقوال وهي روايات عن الإمام أحمد
أحدها : أن الواجب أحد شيئين إما القصاص وإما الدية والخيرة في ذلك إلى الولي بين أربعة أشياء : العفو مجانا والعفو إلى الدية والقصاص ولا خلاف في تخييره بين هذه الثلاثة والرابع : المصالحة على أكثر من الدية فيه وجهان أشهرهما مذهبا : جوازه والثاني : ليس له العفو على مال إلا الدية أو دونها وهذا أرجح دليلا فإن اختار الدية سقط القود ولم يملك طلبه بعد وهذا مذهب الشافعي وإحدى الروايتين عن مالك
والقول الثاني : أن موجبه القود عينا وأنه ليس له أن يعفو إلى الدية إلا برضى الجاني فإن عدل إلى الدية ولم يرض الجاني فقوده بحاله وهذا مذهب مالك في الرواية الأخرى وأبي حنيفة
والقول الثالث : أن موجبه القود عينا مع التخيير بينه وبين الدية وإن لم يرض الجاني فإذا عفا عن القصاص إلى الدية فرضي الجاني فلا إشكال وإن لم يرض فله العود إلى القصاص عينا فإن عفا عن القود مطلقا فإن قلنا : الواجب أحد الشيئين فله الدية وإن قلنا : الواجب القصاص عينا سقط حقه منها
فإن قيل : فما تقولون فيما لو مات القاتل ؟ قلنا : في ذلك قولان : أحدهما : تسقط الدية وهو مذهب أبي حنيفة لأن الواجب عندهم القصاص عينا وقد زال محل استيفائه بفعل الله تعالى فأشبه ما لو مات العبد الجاني فإن أرش الجناية لا ينتقل إلى ذمة السيد وهذا بخلاف تلف الرهن وموت الضامن حيث لا يسقط الحق لثبوته في ذمة الراهن والمضمون عنه فلم يسقط بتلف الوثيقة
وقال الشافعي وأحمد : تتعين الدية في تركته لأنه تعذر استيفاء القصاص من غير إسقاط فوجب الدية لئلا يذهب الورثة من الدم والدية مجانا فإن قيل : فما تقولون لو اختار القصاص ثم اختار بعده العفو إلى الدية هل له ذلك ؟ قلنا : هذا فيه وجهان أحدهما : أن له ذلك لأن القصاص أعلى فكان له الانتقال إلى الأدنى والثاني : ليس له ذلك لأنه لما اختار القصاص فقد أسقط الدية باختياره له فليس له أن يعود إليها بعد إسقاطها
فإن قيل : فكيف تجمعون بين هذا الحديث وبين قوله صلى الله عليه و سلم : [ من قتل عمدا فهو قود ]
قيل : لا تعارض بينهما بوجه فإن هذا يدل على وجوب القود بقتل العمد وقوله : [ فهو بخير النظرين ] يدل على تخييره بين استيفاء هذا الواجب له وبين أخذ بدله وهو الدية فأي تعارض ؟ ! وهذا الحديث نظير قوله تعالى : { كتب عليكم القصاص } ( البقرة : 178 ) وهذا لا ينفي تخيير المستحق له بين ما كتب له وبين بدله والله أعلم (3/399)
فصل
وقوله صلى الله عليه و سلم في الخطبة : [ إلا الاذخر ] بعد قول العباس له : إلا الاذخر يدل على مسألتين :
إحداهما : إباحة قطع الاذخر
والثانية : أنه لا يشترط في الاستثناء أن ينويه من أول الكلام ولا قبل فراغه لأن النبي صلى الله عليه و سلم لو كان ناويا لاستثناء الاذخر من أول كلامه أو قبل تمامه لم يتوقف استثناؤه له على سؤال العباس له ذلك وإعلامه أنهم لا بد لهم منه لقينهم وبيوتهم ونظير هذا استثناؤه صلى الله عليه و سلم لسهيل بن بيضاء من أسارى بدر بعد أن ذكره به ابن مسعود فقال : لا ينفلتن أحد منهم إلا بفداء أو ضربة عنق فقال ابن مسعود : إلا سهيل بن بيضاء فإني سمعته يذكر الإسلام فقال : إلا سهيل بن بيضاء ومن المعلوم أنه لم يكن قد نوى الاستثناء في الصورتين من أول كلامه
ونظيره أيضا قول الملك لسليمان لما قال : لأطوفن الليلة على مائة امرأة تلد كل امرأة غلاما يقاتل في سبيل الله فقال له الملك : قل : إن شاء الله تعالى فلم يقل فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ لو قال : إن شاء الله تعالى لقاتلوا في سبيل الله أجمعون ] وفي لفظ [ لكان دركا لحاجته ] فأخبر أن هذا الاستثناء لو وقع منه في هذه الحالة لنفعه ومن يشترط النية يقول : لا ينفعه
ونظير هذا قوله صلى الله عليه و سلم : [ والله لأغزون قريشا والله لأغزون قريشا ] ثلاثا ثم سكت ثم قال : [ إن شاء الله ] فهذا استثناء بعد سكوت وهو يتضمن إنشاء الاستثناء بعد الفراغ من الكلام والسكوت عليه وقد نص أحمد على جوازه وهو الصواب بلا ريب والمصير إلى موجب هذه الأحاديث الصحيحة الصريحة أولى وبالله التوفيق (3/400)
فصل
وفي القصة : أن رجلا من الصحابة يقال له : أبو شاه قام فقال : اكتبوا لي فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ اكتبوا لأبي شاه ] يريد خطبته ففيه دليل على كتابة العلم ونسخ النهي عن كتابة الحديث فإن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من كتب عني شيئا غير القرآن فليمحه ] وهذا كان في أول الإسلام خشية أن يختلط الوحي الذي يتلى بالوحي الذي لا يتلى ثم أذن في الكتابة لحديثه
وصح عن عبد الله بن عمرو أنه كان يكتب حديثه وكان مما كتبه صحيفة تسمى الصادقة وهي التي رواها حفيده عمرو بن شعيب عن أبيه عنه وهي من أصح الأحاديث وكان بعض أئمة أهل الحديث يجعلها في درجة أيوب عن نافع عن ابن عمر والأئمة الأربعة وغيرهم احتجوا بها (3/402)
فصل
وفي القصة : أن النبي صلى الله عليه و سلم دخل البيت وصلى فيه ولم يدخله حتى محيت الصور منه ففيه دليل على كراهة الصلاة في المكان المصور وهذا أحق بالكراهة من الصلاة في الحمام لأن كراهة الصلاة في الحمام إما لكونه مظنة النجاسة وإما لكونه بيت الشيطان وهو الصحيح وأما محل الصور فمظنة الشرك غالب شرك الأمم كان من جهة الصور والقبور (3/402)
فصل
وفي القصة : أنه دخل مكة وعليه عمامة سوداء ففيه دليل على جواز لبس السواد أحيانا ومن ثم جعل خلفاء بني العباس لبس السواد شعارا لهم ولولاتهم وقضاتهم وخطبائهم والنبي صلى الله عليه و سلم لم يلبسه لباسا راتبا ولا كان شعاره في الأعياد والجمع والمجامع العظام البتة وإنما اتفق له لبس العمامة السوداء يوم الفتح دون سائر الصحابة ولم يكن سائر لباسه يومئذ السواد بل كان لواؤه أبيض (3/402)
فصل
ومما وقع في هذه الغزوة إباحة متعة النساء ثم حرمها قبل خروجه من مكة واختلف في الوقت الذي حرمت فيه المتعة على أربعة أقوال :
أحدها : أنه يوم خيبر وهذا قول طائفة من العلماء منهم : الشافعي وغيره
والثاني : أنه عام فتح مكة وهذا قول ابن عيينة وطائفة
والثالث : أنه عام حنين وهذا في الحقيقة هو القول الثاني لاتصال غزاة حنين بالفتح
والرابع : أنه عام حجة الوداع وهو وهم من بعض الرواة سافر فيه وهمه من فتح مكة إلى حجة الوداع كما سافر وهم معاوية من عمرة الجعرانة إلى حجة الوداع حيث قال : قصرت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم بمشقص على المروة في حجته وقد تقدم في الحج وسفر الوهم من زمان إلى زمان ومن مكان إلى مكان ومن واقعة إلى واقعة كثيرا ما يعرض للحفاظ فمن دونهم
والصحيح : أن المتعة إنما حرمت عام الفتح لأنه قد ثبت في صحيح مسلم أنهم استمتعوا عام الفتح مع النبي صلى الله عليه و سلم بإذنه ولو كان التحريم زمن خيبر لزم النسخ مرتين وهذا لا عهد بمثله في الشريعة البتة ولا يقع مثله فيها وأيضا : فإن خيبر لم يكن فيها مسلمات وإنما كن يهوديات وإباحة نساء أهل الكتاب لم تكن ثبتت بعد إنما أبحن بعد ذلك في سورة المائدة بقوله : { اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } ( المائدة : 5 ) وهذا متصل بقوله : { اليوم أكملت لكم دينكم } ( المائدة : 3 ) وبقوله : { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم } ( المائدة : 3 ) وهذا كان في آخر الأمر بعد حجة الوداع أو فيها فلم تكن إباحة نساء أهل الكتاب ثابتة زمن خيبر ولا كان للمسلمين رغبة في الاستمتاع بنساء عدوهم قبل الفتح وبعد الفتح استرق من استرق منهن وصرن إماء للمسلمين
فإن قيل : فما تصنعون بما ثبت في الصحيحين من حديث علي بن أبي طالب : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل لحوم الحمر الإنسية وهذا صحيح صريح ؟
قيل : هذا الحديث قد صحت روايته بلفظين : هذا أحدهما والثاني : الاقتصار على نهي النبي صلى الله عليه و سلم عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر هذه رواية ابن عيينة عن الزهري قال قاسم بن أصبغ : قال سفيان بن عيينة : يعني أنه نهى عن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر لا عن نكاح المتعة ذكره أبو عمر وفي التمهيد : ثم قال : على هذا أكثر الناس انتهى فتوهم بعض الرواة أن يوم خيبر ظرف لتحريمهن فرواه : حرم رسول الله صلى الله عليه و سلم المتعة زمن خيبر والحمر الأهلية واقتصر بعضهم على رواية بعض الحديث فقال : حرم رسول الله صلى الله عليه و سلم المتعة زمن خيبر فجاء بالغلط البين
فإن قيل : فأي فائدة في الجمع بين التحريمين إذا لم يكونا قد وقعا في وقت واحد وأين المتعة من تحريم الحمر ؟ قيل : هذا الحديث رواه علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - محتجا به على ابن عمه عبد الله بن عباس في المسألتين فإنه كان يبيح المتعة ولحوم الحمر فناظره علي بن أبي طالب في المسألتين وروى له التحريمين وقيد تحريم الحمر بزمن خيبر وأطلق تحريم المتعة وقال : إنك امرؤ تائه إن رسول الله صلى الله عليه و سلم حرم المتعة وحرم لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر كما قاله سفيان بن عيينة وعليه أكثر الناس فروى الأمرين محتجا عليه بهما لا مقيدا لهما بيوم خيبر والله الموفق
ولكن هاهنا نظر آخر وهو أنه : هل حرمها تحريم الفواحش التي لا تباح بحال أو حرمها عند الاستغناء عنها وأباحها للمضطر ؟ هذا هو الذي نظر فيه ابن عباس وقال : أنا أبحتها للمضطر كالميتة والدم فلما توسع فيها من توسع ولم يقف عند الضرورة أمسك ابن عباس عن الإفتاء بحلها ورجع عنه وقد كان ابن مسعود يرى إباحتها ويقرأ : { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } ( المائدة : 87 ) ففي الصحيحين عنه قال : كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه و سلم وليس لنا نساء فقلنا : ألا نختصي ؟ فنهانا ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل ثم قرأ عبد الله : { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين } ( المائدة : 87 )
وقراءة عبد الله هذه الآية عقيب هذا الحديث يحتمل أمرين أحدهما : الرد على من يحرمها وأنها لو لم تكن من الطيبات لما أباحها رسول الله صلى الله عليه و سلم
والثاني : أن يكون أراد آخر هذه الآية وهو الرد على من أباحها مطلقا وأنه معتد فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم إنما رخص فيها للضرورة وعند الحاجة في الغزو وعند عدم النساء وشدة الحاجة إلى المرأة فمن رخص فيها في الحضر مع كثرة النساء وإمكان النكاح المعتاد فقد اعتدى والله لا يحب المعتدين
فإن قيل : فكيف تصنعون بما روى مسلم في صحيحه من حديث جابر وسلمة بن الأكوع قالا : خرح علينا منادي رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد أذن لكم أن تستمتعوا يعني : متعة النساء قيل : هذا كان زمن الفتح قبل التحريم ثم حرمها بعد ذلك بدليل ما رواه مسلم في صحيحه عن سلمة بن الأكوع قال : رخص لنا رسول الله صلى الله عليه و سلم عام أوطاس في المتعة ثلاثا ثم نهى عنها وعام أوطاس : هو عام الفتح لأن غزاة أوطاس متصلة بفتح مكة
فإن قيل : فما تصنعون بما رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله قال : كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبي بكر حتى نهى عنها عمر في شأن عمرو بن حريث وفيما ثبت عن عمر أنه قال : متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم أنا أنهى عنهما : متعة النساء ومتعة الحج
قيل : الناس في هذا طائفتان : طائفة تقول : إن عمر هو الذي حرمها ونهى عنا وقد أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم باتباع ما سنه الخلفاء الراشدون ولم تر هذه الطائفة تصحيح حديث سبرة بن معبد في تحريم المتعة عام الفتح فإنه من رواية عبد الملك بن الربيع بن سبرة عن أبيه عن جده وقد تكلم فيه ابن معين ولم ير البخاري إخراج حديث في صحيحه مع شدة الحاجة إليه وكونه أصلا من أصول الإسلام ولو صح عنده لم يصبر عن إخراجه والاحتجاح به قالوا : ولو صح حديث سبرة لم يخف على ابن مسعود حتى يروي أنهم فعلوها ويحتج بالآية : وأيضا ولو صح لم يقل عمر : إنها كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم وأنا أنهى عنها وأعاقب عليها بل كان يقول : إنه صلى الله عليه و سلم حرمها ونهى عنها قالوا : ولو صح لم تفعل على عهد الصديق وهو عهد خلافة النبوة حقا
والطائفة الثانية : رأت صحة حديث سبرة ولو لم يصح فقد صح حديث علي - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه و سلم حرم متعة النساء فوجب حمل حديث جابر على أن الذي أخبر عنها بفعلها لم يبلغه التحريم ولم يكن قد اشتهر حتى كان زمن عمر رضي الله عنه فلما وقع فيها النزاع ظهر تحريمها واشتهر وبهذا تأتلف الأحاديث الواردة فيها وبالله التوفيق (3/403)
فصل
وفي قصة الفتح من الفقه : جواز إجارة المرأة وأمانها للرجل والرجلين كما أجاز النبي صلى الله عليه و سلم أمان أم هانىء لحمويها
وفيها من الفقه جواز قتل المرتد الذي تغلظت ردته من غير استتابة فإن عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان قد أسلم وهاجر وكان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه و سلم ثم ارتد ولحق بمكة فلما كان يوم الفتح أتى به عثمان بن عفان رسول الله صلى الله عليه و سلم ليبايعه فأمسك عنه طويلا ثم بايعه وقال : إنما أمسكت عنه ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه فقال له رجل : هلا أومأت إلي يا رسول الله ؟ فقال : [ ما ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين ] فهذا كان قد تغلظ كفره بردته بعد إيمانه وهجرته وكتابة الوحي ثم ارتد ولحق بالمشركين يطعن على الإسلام ويعيبه وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يريد قتله فلماء جاء به عثمان بن عفان وكان أخاه من الرضاعة لم يأمر النبي صلى الله عليه و سلم بقتله حياء من عثمان ولم يبايعه ليقوم إليه بعض أصحابه فيقتله فهابوا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يقدموا على قتله بغير إذنه واستحيى رسول الله صلى الله عليه و سلم من عثمان وساعد القدر السابق لما يريد الله سبحانه بعبد الله مما ظهر منه بعد ذلك من الفتوح فبايعه وكان ممن استثنى الله بقوله : { كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين * أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين * خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون * إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم } ( آل عمران : 86 - 89 ) وقوله صلى الله عليه و سلم : [ ما ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين ] أي : أن النبي صلى الله عليه و سلم لا يخالف ظاهره باطنه ولا سره علانيته وإذا نفذ حكم الله وأمره لم يوم به بل صرح به وأعلنه وأظهره (3/407)
فصل
في غزوة حنين وتسمى غزوة أوطاس
وهما موضعان بين مكة والطائف فسميت الغزوة باسم مكانها وتسمى غزوة هوازن لأنهم الذين أتوا لقتال رسول الله صلى الله عليه و سلم
قال ابن إسحاق : ولما سمعت هوازن برسول الله صلى الله عليه و سلم وما فتح الله عليه من مكة جمعها مالك بن عوف النصري واجتمع إليه مع هوازن ثقيف كلها واجتمعت إليه مضر وجشم كلها وسعد بن بكر وناس من بني هلال وهم قليل ولم يشهدها من قيس عيلان إلا هؤلاء ولم يحضرها من هوازن كعب ولا كلاب وفي جشم دريد بن الصمة شيخ كبير ليس فيه إلا رأيه ومعرفته بالحرب وكان شجاعا مجربا وفي ثقيف سيدان لهم وفي الأحلاف قارب بن الأسود وفي بني مالك سبيع بن الحارث وأخوه أحمر بن الحارث وجماع أمر الناس إلى مالك بن عوف النصري فلما أجمع السير إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ساق مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم فلما نزل بأوطاس اجتمع إليه الناس وفيهم دريد بن الصمة فلما نزل قال : بأي واد أنتم ؟ قالوا : بأوطاس قال : نعم مجال الخيل لا حزن ضرس ولا سهل دهس مالي أسمع رغاء البعير ونهاق الحمير وبكاء الصبي ويعار الشاء ؟ قالوا : ساق مالك بن عوف مع الناس نساءهم وأموالهم وأبناءهم قال : أين مالك ؟ قيل : هذا مالك ودعي له قال : يا مالك إنك قد أصبحت رئيس قومك وإن هذا يوم كائن له ما بعده من الأيام مالي أسمع رغاء البعير ونهاق الحمير وبكاء الصغير ويعار الشاء ؟ ! قال : سقت مع الناس أبناءهم ونساءهم وأموالهم قال : ولم ؟ قال : أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله ليقاتل عنهم فقال : راعي ضأن والله وهل يرد المنهزم شئ إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك ثم قال : ما فعلت كعب وكلاب ؟ قالوا : لم يشهدها أحد منهم قال : غاب الحد والجد لو كان يوم علاء ورفعة لم تغب عنه كعب ولا كلاب ولوددت أنكم فعلتم ما فعلت كعب وكلاب فمن شهدها منكم ؟ قالوا : عمرو بن عامر وعوف بن عامر ؟ قال : ذانك الجذعان من عامر لا ينفعان ولا يضران يا مالك ! إنك لم تصنع بتقديم البيضة بيضة هوازن إلى نحور الخيل شيئا ارفعهم إلى متمنع بلادهم وعليا قومهم ثم الق الصباة على متون الخيل فإن كانت لك لحق بك من وراءك إن كانت عليك ألفاك ذلك وقد أحرزت أهلك ومالك قال : والله لا أفعل إنك قد كبرت وكبر عقلك والله لتطيعنني يا معشر هوازن أو لأتكئن على هذا السيف حتى يخرج من ظهري وكره أن يكون لدريد فيها ذكر ورأي فقالوا : أطعناك فقال دريد : هذا يوم لم أشهده ولم يفتني
( يا ليتني فيها جذع ... أخب فيها وأضع )
( أقود وطفاء الزمع ... كأنها شاة صدع )
ثم قال مالك للناس : إذا رأيتموهم فاكسروا جفون سيوفكم ثم شدوا شدة رجل واحد وبعث عيونا من رجاله فأتوه وقد تفرقت أوصالهم قال : ويلكم ما شأنكم ؟ قالوا : رأينا رجالا بيضا على خيل بلق والله ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى فوالله ما رده ذلك عن وجهه أن مضى على ما يريد
ولما سمع بهم نبي الله صلى الله عليه و سلم بعث إليهم عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي وأمره أن يدخل في الناس فيقيم فيهم حتى يعلم علمهم ثم يأتيه بخبرهم فانطلق ابن أبي حدرد فدخل فيهم حتى سمع وعلم ما قد جمعوا له من حرب رسول الله صلى الله عليه و سلم وسمع من مالك وأمر هوازن ما هم عليه ثم أقبل حتى أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبره الخبر
فلما أجمع رسول الله صلى الله عليه و سلم السير إلى هوازن ذكر له أن عند صفوان بن أمية أدراعا وسلاحا فأرسل إليه وهو يومئذ مشرك فقال : يا أبا أمية ! أعرنا سلاحك هذا نلقى فيه عدونا غدا فقال صفوان : أغصبا يا محمد ؟ قال : [ بل عارية مضمونة حتى نؤديها إليك ] فقال : ليس بهذا بأس فأعطاه مائة درع بما يكفيها من السلاح فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سأله أن يكفيهم حملها ففعل
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم معه ألفان من أهل مكة مع عشرة آلاف من أصحابه الذين خرجوا معه ففتح الله بهم مكة وكانوا اثني عشر ألفا واستعمل عتاب بن أسيد على مكة أميرا ثم مضى يريد لقاء هوازن
قال ابن إسحاق : فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن عبد الرحمن بن جابر عن أبيه جابر بن عبد الله قال : لما استقبلنا وادي حنين انحدرنا في واد من أودية تهامة أجوف حطوط إنما ننحدر فيه انحدارا قال : وفي عماية الصبح وكان القوم سبقونا إلى الوادي فكمنوا لنا في شعابه وأحنائه ومضايقه قد أجمعوا وتهيؤوا وأعدوا فوالله ما راعنا - ونحن منحطون - إلا الكتائب قد شدوا علينا شدة رجل واحد وانشمر الناس راجعين لا يلوي أحد منهم على أحد وانحاز رسول الله صلى الله عليه و سلم ذات اليمين ثم قال : [ إلى أين أيها الناس ؟ هلم إلي أنا رسول الله أنا محمد بن عبد الله ] وبقي مع رسول الله صلى الله عليه و سلم نفر من المهاجرين والأنصار وأهل بيته وفيمن ثبت معه من المهاجرين أبو بكر وعمر ومن أهل بيته علي والعباس وأبو سفيان بن الحارث وابنه والفضل بن العباس وربيعة بن الحارث وأسامة بن زيد وأيمن ابن أم أيمن وقتل يومئذ قال : ورجل من هوازن على جمل له أحمر بيده راية سوداء في رأس رمح طويل أمام هوازن وهوازن خلفه إذا أدرك طعن برمحه وإذا فاته الناس رفع رمحه لمن وراءه فاتبعوه فبينا هو كذلك إذ أهوى عليه علي بن أبي طالب ورجل من الأنصار يريدانه قال : فأتى علي من خلفه فضرب عرقوبي الجمل فوقع على عجزه ووثب الأنصاري على الرجل فضربه ضربة أطن قدمه بنصف ساقه فانجعف عن رحله قال : فاجتلد الناس قال : فوالله ما رجعت راجعة الناس من هزيمتهم حتى وجدوا الأسارى عند رسول الله صلى الله عليه و سلم
قال ابن إسحاق : ولما انهزم المسلمون ورأى من كان مع رسول الله صلى الله عليه و سلم من جفاة أهل مكة الهزيمة تكلم رجال منهم بما في أنفسهم من الضغن فقال أبو سفيان بن حرب : لا تنتهي هزيمتهم دون البحر وإن الأزلام لمعه في كنانته وصرخ جبلة بن الحنبل - وقال ابن هشام : صوابه كلدة - : ألا بطل السحر اليوم فقال له صفوان أخوه لأمه وكان بعد مشركا : اسكت فض الله فاك فوالله لأن يربني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن
وذكر ابن سعد عن شيبة بن عثمان الحجبي قال : لما كان عام الفتح دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم مكة عنوة قلت : أسير مع قريش إلى هوازن بحنين فعسى إن اختلطوا أن أصيب من محمد غرة فأثأر منه فأكون أنا الذي قمت بثأر قريش كلها وأقول : لو لم يبق من العرب والعجم أحد إلا اتبع محمدا ما تبعته أبدا وكنت مرصدا لما خرجت له لا يزداد الأمر في نفسي إلا قوة فلما اختلط الناس اقتحم رسول الله صلى الله عليه و سلم عن بغلته فأصلت السيف فدنوت أريد ما أريد منه ورفعت سيفي حتى كدت أشعره إياه فرفع لي شواظ من نار كالبرق كاد يمحشني فوضعت يدي على بصري خوفا عليه فالتفت إلي رسول الله صلى الله عليه و سلم فناداني : [ يا شيب ادن مني ] فدنوت منه فمسح صدري ثم قال : [ اللهم أعذه من الشيطان ] قال : فوالله لهو كان ساعتئذ أحب إلي من سمعي وبصري ونفسي وأذهب الله ما كان في نفسي ثم قال : ادن فقاتل فتقدمت أمامه أضرب بسيفي الله يعلم أني أحب أن أقيه بنفسي كل شئ ولو لقيت تلك الساعة أبي لو كان حيا لأوقعت به السيف فجعلت ألزمه فيمن لزمه حتى تراجع المسلمون فكروا كرة رجل واحد وقربت بغلة رسول الله صلى الله عليه و سلم فاستوى عليها وخرج في أثرهم حتى تفرقوا في كل وجه ورجع إلى معسكره فدخل خباءه فدخلت عليه ما دخل عليه أحد غيري حبا لرؤية وجهه وسرورا به فقال : [ يا شيب ! الذي أراد الله بك خير مما أردت لنفسك ] ثم حدثني بكل ما أضمرت في نفسي ما لم أكن أذكره لأحد قط قال : فقلت : فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قلت : استغفر لي فقال : [ غفر الله لك ]
وقال ابن إسحاق : وحدثني الزهري عن كثير بن العباس عن أبيه العباس بن عبد المطلب قال : إني لمع رسول الله صلى الله عليه و سلم آخذ بحكمة بغلته البيضاء قد شجرتها بها وكنت امرءا جسيما شديد الصوت قال : رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول حين رأى ما رأى من الناس : إلى أين أيها الناس ؟ قال : فلم أر الناس يلوون على شئ فقال : [ يا عباس اصرخ : يا معشر الأنصار يا معشر أصحاب السمرة ] فأجابوا : لبيك لبيك قال : فيذهب الرجل ليثني بعيره فلا يقدر على ذلك فيأخذ درعه فيقذفها في عنقه ويأخذ سيفه وقوسه وترسه ويقتحم عن بعيره ويخلي سبيله ويؤم الصوت حتى ينتهي إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى إذا اجتمع إليه منهم مائة استقبلوا الناس فاقتتلوا فكانت الدعوة أول ما كانت : يا للأنصار ثم خلصت آخرا : يا للخزرج وكانوا صبرا عند الحرب فأشرف رسول الله صلى الله عليه و سلم في ركائبه فنظر إلى مجتلد القوم وهم يجتلدون فقال : [ الآن حمي الوطيس ] وزاد غيره
( أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب )
وفي صحيح مسلم : ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم حصيات فرمى بها فى وجوه الكفار ثم قال : [ انهزموا ورب محمد ] فما هو إلا أن رماهم فما زلت أرى حدهم كليلا وأمرهم مدبرا
وفي لفظ له : إنه نزل عن البغلة ثم قبض قبضة من تراب الأرض ثم استقبل بها وجوههم وقال : [ شاهت الوجوه ] فما خلق الله منهم إنسانا إلا ملأ عينيه ترابا بتلك القبضة فولوا مدبرين
وذكر ابن إسحاق عن جبير بن مطعم قال : لقد رأيت - قبل هزيمة القوم والناس يقتتلون يوم حنين - مثل البجاد الأسود أقبل من السماء حتى سقط بيننا بين القوم فنظرت فإذا نمل أسود مبثوث قد ملأ الوادي فلم يكن إلا هزيمة القوم فلم أشك أنها الملائكة
قال ابن إسحاق : ولما انهزم المشركون أتوا الطائف ومعهم مالك بن عوف وعسكر بعضهم بأوطاس وتوجه بعضهم نحو نخلة وبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم في آثار من توجه قبل أوطاس أبا عامر الأشعري فأدرك من الناس بعض من انهزم فناوشوه القتال فرمي بسهم فقتل فأخذ الراية أبو موسى الأشعري وهو ابن أخيه فقاتلهم ففتح الله عليه فهزمهم الله وقتل قاتل أبي عامر فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ اللهم اغفر لعبيد أبي عامر وأهله واجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك ] واستغفر لأبي موسى
ومضى مالك بن عوف حتى تحصن بحصن ثقيف وأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بالسبي والغنائم أن تجمع فجمع ذلك كله ووجهوه إلى الجعرانة وكان السبي ستة آلاف رأس والإبل أربعة وعشرين ألفا والغنم أكثر من أربعين ألف شاة وأربعة آلاف أوقية فضة فاستأنى بهم رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يقدموا عليه مسلمين بضع عشرة ليلة
ثم بدأ بالأموال فقسمها وأعطى المؤلفة قلوبهم أول الناس فأعطى أبا سفيان بن حرب أربعين أوقية ومائة من الإبل فقال : ابني يزيد ؟ فقال : [ أعطوه أربعين أوقية ومائة من الإبل ] فقال : ابني معاوية ؟ قال : [ أعطوه أربعين أوقية ومائة من الإبل ] وأعطى حكيم بن حزام مائة من الإبل ثم سأله مائة أخرى فأعطاه وأعطى النضر بن الحارث بن كلدة مائة من الإبل وأعطى العلاء بن حارثة الثقفي خمسين وذكر أصحاب المائة - وأصحاب الخمسين - وأعطى العباس بن مرداس أربعين فقال في ذلك شعرا فكمل له المائة
ثم أمر زيد بن ثابت بإحصاء الغنائم والناس ثم فضها على الناس فكانت سهامهم لكل رجل أربعا من الإبل وأربعين شاة فإن كان فارسا أخذ اثني عشر بعيرا وعشرين ومائة شاة
قال ابن إسحاق : وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد عن أبي سعيد الخدري قال : لما أعطى رسول الله صلى الله عليه و سلم ما أعطى من تلك العطايا في قريش وفي قبائل العرب ولم يكن في الأنصار منها شئ وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى كثرت فيهم القالة حتى قال قائلهم : لقي والله رسول الله صلى الله عليه و سلم قومه فدخل عليه سعد بن عبادة فقال : يا رسول الله ! إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت قسمت في قومك وأعطيت عطايا عظاما في قبائل العرب ولم يكن فى هذا الحي من الأنصار منها شئ قال : فأين أنت من ذلك يا سعد قال : يا رسول الله ! ما أنا إلا من قومي قال : فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة ؟ قال : فجاء رجال من المهاجرين فتركهم فدخلوا وجاء آخرون فردهم فلما اجتمعوا أتى سعد فقال : قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار فأتاهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال : [ يا معشر الأنصار ما قالة بلغتني عنكم وجدة وجدتموها في أنفسكم ألم آتكم ضلالا فهداكم الله بي وعالة فأغناكم الله بي وأعداء فألف الله بين قلوبكم ؟ ] قالوا : الله ورسوله أمن وأفضل ثم قال : [ ألا تجيبوني يا معشر الأنصار ] ؟ قالوا : بماذا نجيبك يا رسول الله لله ولرسوله المن والفضل قال : [ أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم ولصدقتم : أتيتنا مكذبا فصدقناك ومخذولا فنصرناك وطريدا فآويناك وعائلا فآسيناك أوجدتم علي يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاء والبعير وترجعون برسول الله إلى رحالكم فوالذي نفس محمد بيده لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به ولو لا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار ولو سلك الناس شعبا وواديا وسلكت الأنصار شعبا وواديا لسلكت شعب الأنصار وواديها الأنصار شعار والناس دثار اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار ] قال : فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا : رضينا برسول الله صلى الله عليه و سلم قسما وحظا ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه و سلم وتفرقوا
وقدمت الشيماء بنت الحارث بن عبد العزى أخت رسول الله صلى الله عليه و سلم من الرضاعة فقالت : يا رسول الله ! إني أختك من الرضاعة قال : وما علامة ذلك ؟ قالت : عضة عضضتنيها في ظهري وأنا متوركتك قال : فعرف رسول الله صلى الله عليه و سلم العلامة فبسط لها رداءه وأجلسها عليه وخيرها فقال : [ إن أحببت الإقامة فعندي محببة مكرمة وإن أحببت أن أمتعك فترجعي إلى قومك ] ؟ قالت : بل تمتعني وتردني إلى قومي ففعل فزعمت بنو سعد أنه أعطاها غلاما يقال له : مكحول وجارية فزوجت إحداهما من الآخر فلم يزل فيهم من نسلهما بقية وقال أبو عمر : فأسلمت فأعطاها رسول الله صلى الله عليه و سلم ثلاثة أعبد وجارية ونعما وشاء وسماها حذافة وقال : والشيماء لقب (3/408)
فصل
وقدم وفد هوازن على رسول الله صلى الله عليه و سلم وهم أربعة عشر رجلا ورأسهم زهير بن صرد وفيهم أبو برقان عم رسول الله صلى الله عليه و سلم من الرضاعة فسألوه أن يمن عليهم بالسبي والأموال فقال : إن معي من ترون وإن أحب الحديث إلي أصدقه فأبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم ؟ قالوا : ما كنا نعدل بالأحساب شيئا فقال : إذا صليت الغداة فقوموا فقولوا : إنا نستشفع برسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المؤمنين ونستشفع بالمؤمنين إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يردوا علينا سبينا فلما صلى الغداة قاموا فقالوا ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم وسأسأل لكم الناس ] فقال المهاجرون والأنصار : ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه و سلم فقال الأقرع بن حابس : أما أنا وبنو تميم فلا وقال عيينة بن حصن : أما أنا وبنو فزارة فلا وقال العباس بن مرداس : أما أنا وبنو سليم فلا فقالت بنو سليم : ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه و سلم فقال العباس بن مرداس : وهنتموني فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن هؤلاء القوم قد جاؤوا مسلمين وقد كنت استأنيت سبيهم وقد خيرتهم فلم يعدلوا بالأبناء والنساء شيئا فمن كان عنده منهن شئ فطابت نفسه بأن يرده فسبيل ذلك ومن أحب أن يستمسك بحقه فليرد عليهم وله بكل فريضة ست فرائض من أول ما يفيء الله علينا ] فقال الناس : قد طيبنا لرسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ إنا لا نعرف من رضي منكم ممن لم يرض فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم ] فردوا عليهم نساءهم وأبناءهم
ولم يتخلف منهم أحد غير عيينة بن حصن فإنه أبى أن يرد عجوزا صارت فى يديه ثم ردها بعد ذلك وكسا رسول الله صلى الله عليه و سلم السبي قبطية قبطية (3/417)
فصل
في الإشارة إلى بعض ما تضمنته هذه الغزوة من المسائل الفقهية والنكت الحكمية
كان الله عز و جل قد وعد رسوله وهو صادق الوعد أنه إذا فتح مكة دخل الناس في دينه أفواجا ودانت له العرب بأسرها فلما تم له الفتح المبين اقتضت حكمته تعالى أن أمسك قلوب هوازن ومن تبعها عن الإسلام وأن يجمعوا ويتألبوا لحرب رسول الله صلى الله عليه و سلم والمسلمين ليظهر أمر الله وتمام إعزازه لرسوله ونصره لدينه ولتكون غنائمهم شكرانا لأهل الفتح وليظهر الله - سبحانه - رسوله وعباده وقهره لهذه الشوكة العظيمة التي لم يلق المسلمون مثلها فلا يقاومهم بعد أحد من الغرب ولغير ذلك من الحكم الباهرة التى تلوح للمتأملين وتبدو للمتوسمين
واقتضت حكمته سبحانه أن أذاق المسلمين أولا مرارة الهزيمة والكسرة مع كثرة عددهم وعددهم وقوة شوكتهم ليطامن رؤوسا رفعت بالفتح ولم تدخل بلده وحرمه كما دخله رسول الله صلى الله عليه و سلم واضعا رأسه منحنيا على فرسه حتى إن ذقنه تكاد تمس سرجه تواضعا لربه وخضوعا لعظمته واستكانة لعزته أن أحل له حرمه وبلده ولم يحل لأحد قبله ولا لأحد بعده وليبين سبحانه لمن قال : لن نغلب اليوم عن قلة أن النصر إنما هو من عنده وأنه من ينصره فلا غالب له ومن يخذله فلا ناصر له غيره وأنه سبحانه هو الذي تولى نصر رسوله ودينه لا كثرتكم التي أعجبتكم فإنها لم تغن عنكم شيئا فوليتم مدبرين فلما انكسرت قلوبهم أرسلت إليها خلع الجبر مع بريد النصر فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وقد اقتضت حكمته أن خلع النصر وجوائزه إنما تفيض على أهل الانكسار { ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين * ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون } ( القصص : 6 )
ومنها : إن الله سبحانه لما منع الجيش غنائم مكة فلم يغنموا منها ذهبا ولا فضة ولا متاعا ولا سبيا ولا أرضا كما روى أبو داود عن وهب بن منبه قال : سألت جابرا : هل غنموا يوم الفتح شيئا ؟ قال : لا وكانوا قد فتحوها بإيجاف الخيل والركاب وهم عشرة آلاف وفيهم حاجة إلى ما يحتاج إليه الجيش من أسباب القوة فحرك سبحانه قلوب المشركين لغزوهم وقذف في قلوبهم إخراج أموالهم ونعمهم وشائهم وسبيهم معهم نزلا وضيافة وكرامة لحزبه وجنده وتمم تقديره سبحانه بأن أطمعهم في الظفر وألاح لهم مبادىء النصر ليقضي الله أمرا كان مفعولا فلما أنزل الله نصره على رسوله وأوليائه وبردت الغنائم لأهلها وجرت فيها سهام الله ورسوله قيل : لا حاجة لنا في دمائكم ولا في نسائكم وذراريكم فأوحى الله سبحانه إلى قلوبهم التوبة والإنابة فجاؤوا مسلمين فقيل : إن من شكر إسلامكم وإتيانكم أن نرد عليكم نساءكم وأبناءكم وسبيكم و { إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم } ( الأنفال : 70 ) ومنها : إن الله سبحانه افتتح غزو العرب بغزوة بدر وختم غزوهم بغزوة حنين ولهذا يقرن بين هاتين الغزاتين بالذكر فيقال : بدر وحنين وإن كان بينهما سبع سنين والملائكة قاتلت بأنفسها مع المسلمين في هاتين الغزاتين والنبي صلى الله عليه و سلم رمى في وجوه المشركين بالحصباء فيهما وبهاتين الغزاتين طفئت جمرة العرب لغزو رسول الله صلى الله عليه و سلم والمسلمين فالأولى : خوفتهم وكسرت من حدهم والثانية : استفرغت قواهم واستنفدت سهامهم وأذلت جمعهم حتى لم يجدوا بدا من الدخول في دين الله
ومنها : أن الله سبحانه جبر بها أهل مكة وفرحهم بما نالوه من النصر والمغنم فكانت كالدواء لما نالهم من كسرهم وإن كان عين جبرهم وعرفهم تمام نعمته عليهم بما صرف عنهم من شر هوازن فإنه لم يكن لهم بهم طاقة وإنما نصروا عليهم بالمسلمين ولو أفردوا عنهم لأكلهم عدوهم إلى غير ذلك من الحكم التي لا يحيط بها إلا الله تعالى (3/418)
فصل
وفيها : من الفقه أن الإمام ينبغي له أن يبعث العيون ومن يدخل بين عدوه ليأتيه بخبرهم وأن الإمام إذا سمع بقصد عدوه له وفي جيشه قوة ومنعة لا يقعد ينتظرهم بل يسير إليهم كما سار رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى هوازن حتى لقيهم بحنين
ومنها : أن الإمام له أن يستعير سلاح المشركين وعدتهم لقتال عدوه كما استعار رسول الله صلى الله عليه و سلم أدراع صفوان وهو يومئذ مشرك
ومنها : أن من تمام التوكل استعمال الأسباب التي نصبها الله لمسبباتها قدرا وشرعا فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه أكمل الخلق توكلا وإنما كانوا يلقون عدوهم وهم متحصنون بأنواع السلاح ودخل رسول الله صلى الله عليه و سلم مكة والبيضة على رأسه وقد أنزل الله عليه : { والله يعصمك من الناس } ( المائدة : 67 )
وكثير ممن لا تحقيق عنده ولا رسوخ في العلم يستشكل هذا ويتكايس في الجواب تارة بأن هذا فعله تعليما للأمة وتارة بأن هذا كان قبل نزول الآية ووقعت في مصر مسألة سأل عنها بعض الأمراء وقد ذكر له حديث ذكره أبو القاسم بن عساكر في تاريخه الكبير أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان بعد أن أهدت له اليهودية الشاة المسمومة لا يأكل طعاما قدم له حتى يأكل منه من قدمه
قالوا : وفي هذا أسوة للملوك في ذلك فقال قائل : كيف يجمع بين هذا وبين قوله تعالى : { والله يعصمك من الناس } فإذا كان الله سبحانه قد ضمن له العصمة فهو يعلم أنه لا سبيل لبشر إليه
وأجاب بعضهم بأن هذا يدل على ضعف الحديث وبعضهم بأن هذا كان قبل نزول الآية فلما نزلت لم يكن ليفعل ذلك بعدها ولو تأمل هؤلاء أن ضمان الله له العصمة لا ينافي تعاطيه لأسبابها لأغناهم عن هذا التكلف فإن هذا الضمان له من ربه تبارك وتعالى لا يناقض احتراسه من الناس ولا ينافيه كما أن إخبار الله سبحانه له بأنه يظهر دينه على الدين كله ويعليه لا يناقض أمره بالقتال وإعداد العدة والقوة ورباط الخيل والأخذ بالجد والحذر والاحتراس من عدوه ومحاربته بأنواع الحرب والتورية فكان إذا أراد الغزوة ورى بغيرها وذلك لأن هذا إخبار من الله سبحانه عن عاقبة حاله ومآله بما يتعاطاه من الأسباب التي جعلها الله مفضية إلى ذلك مقتضية له وهو صلى الله عليه و سلم أعلم بربه وأتبع لأمره من أن يعطل الأسباب التي جعلها الله له بحكمته موجبة لما وعده به من النصر والظفر إظهار دينه وغلبته لعدوه وهذا كما أنه سبحانه ضمن له حياته حتى يبلغ رسالاته ويظهر دينه وهو يتعاطى أسباب الحياة من المأكل والمشرب والملبس والمسكن وهذا موضع يغلط فيه كثير من الناس حتى آل ذلك ببعضهم إلى أن ترك الدعاء وزعم أنه لا فائدة فيه لأن المسؤول إن كان قد قدر ناله ولا بد وإن لم يقدر لم ينله فأي فائدة في الاشتغال بالدعاء ؟ ثم تكايس في الجواب بأن قال : الدعاء عبادة فيقال لهذا الغالط : بقي عليك قسم آخر - وهو الحق - أنه قد قدر له مطلوبه بسبب إن تعاطاه حصل له المطلوب وإن عطل السبب فاته المطلوب والدعاء من أعظم الأسباب فى حصول المطلوب وما مثل هذا الغالط إلا مثل من يقول : وإن كان الله قد قدر لي الشبع فأنا أشبع أكلت أو لم آكل إن لم يقدر لي الشبع لم أشبع أكلت أو لم آكل فما فائدة الأكل ؟ وأمثال هذه الترهات الباطلة المنافية لحكمة الله تعالى وشرعه وبالله التوفيق (3/420)
فصل
وفيها : أن النبي صلى الله عليه و سلم شرط لصفوان في العارية الضمان فقال : [ بل عارية مضمونة ] فهل هذا إخبار عن شرعه في العارية ووصف لها بوصف شرعه الله فيها وأن حكمها الضمان كما يضمن المغصوب أو إخبار عن ضمانها بالأداء بعينها ومعناه : أني ضامن لك تأديتها وأنها لا تذهب بل أردها إليك بعينها ؟ هذا مما اختلف فيه الفقهاء
فقال الشافعي وأحمد بالأول وأنها مضمونة بالتلف وقال أبو حنيفة ومالك بالثاني وأنها مضمونة بالرد على تفصيل في مذهب مالك وهو أن العين إن كانت مما لا يغاب عليه كالحيوان والعقار لم تضمن بالتلف إلا أن يظهر كذبه وإن كانت مما يغاب عليه كالحلي ونحوه ضمنت بالتلف إلا أن يأتي ببينة تشهد على التلف وسر مذهبه أن العارية أمانة غير مضمونة كما قال أبو حنيفة إلا أنه لا يقبل قوله فيما يخالف الظاهر فلذلك فرق بين ما يغاب عليه وما لا يغاب عليه
ومأخذ المسألة أن قوله صلى الله عليه و سلم لصفوان : [ بل عارية مضمونة ] هل أراد به أنها مضمونة بالرد أو بالتلف ؟ أي : أضمنها إن تلفت أو أضمن لك ردها وهو يحتمل الأمرين وهو في ضمان الرد أظهر لثلاثة أوجه :
أحدها : أن في اللفظ الآخر : بل عارية مؤداة فهذا يبين أن قوله : مضمونة المراد به : المضمونة بالأداء
الثاني : أنه لم يسأله عن تلفها وإنما سأله هل تأخذها مني أخذ غصب تحول بيني وبينها ؟ فقال : لا بل أخذ عارية أؤديها إليك ولو كان سأله عن تلفها وقال : أخاف أن تذهب لناسب أن يقول : أنا ضامن لها إن تلفت
الثالث : أنه جعل الضمان صفة لها نفسها ولو كان ضمان تلف لكان الضمان لبدلها فلما وقع الضمان على ذاتها دل على أنه ضمان أداء
فإن قيل : ففي القصة أن بعض الدروع ضاع فعرض عليه النبي صلى الله عليه و سلم أن يضمنها فقال : أنا اليوم في الإسلام أرغب قيل : هل عرض عليه أمرا واجبا أو أمرا جائزا مستحبا الأولى فعله وهو من مكارم الأخلاق والشيم ومن محاسن الشريعة ؟ وقد يترجح الثاني بأنه عرض عليه الضمان ولو كان الضمان واجبا لم يعرضه عليه بل كان يفي له به ويقول : هذا حقك كما لو كان الذاهب بعينه موجودا فإنه لم يكن ليعرض عليه رده فتأمله (3/422)
فصل
وفيها : جواز عقر فرس العدو ومركوبه إذا كان ذلك عونا على قتله كما عقر علي - رضي الله عنه - جمل حامل راية الكفار وليس هذا من تعذيب الحيوان المنهي عنه
وفيها : عفو رسول الله صلى الله عليه و سلم عمن هم بقتله ولم يعاجله بل دعا له ومسح صدره حتى عاد كأنه ولي حميم
ومنها : ما ظهر في هذه الغزاة من معجزات النبوة وآيات الرسالة من إخباره لشيبة بما أضمر في نفسه ومن ثباته وقد تولى عنه الناس وهو يقول :
( أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب )
وقد استقبلته كتائب المشركين
ومنها : إيصال الله قبضته التي رمى بها إلى عيون أعدائه على البعد منه وبركته في تلك القبضة حتى ملأت أعين القوم إلى غير ذلك من معجزاته فيها كنزول الملائكة للقتال معه حتى رآهم العدو جهرة ورآهم بعض المسلمين
ومنها : جواز انتظار الإمام بقسم الغنائم إسلام الكفار ودخولهم في الطاعة فيرد عليهم غنائمهم وسبيهم وفي هذا دليل لمن يقول : إن الغنيمة إنما تملك بالقسمة لا بمجرد الاستيلاء عليها إذ لو ملكها المسلمون بمجرد الاستيلاء لم يستأني بهم النبي صلى الله عليه و سلم ليردها عليهم وعلى هذا فلو مات أحد من الغانمين قبل القسمة أو إحرازها بدار الإسلام رد نصيبه على بقية الغانمين دون ورثته وهذا مذهب أبي حنيفة لو مات قبل الاستيلاء لم يكن لورثته شئ ولو مات بعد القسمة فسهمه لورثته (3/423)
فصل
وهذا العطاء الذي أعطاه النبي صلى الله عليه و سلم لقريش والمؤلفة قلوبهم هل هو من أصل الغنيمة أو من الخمس أو من خمس الخمس ؟ فقال الشافعي ومالك : هو من خمس الخمس وهو سهمه صلى الله عليه و سلم الذي جعله الله له من الخمس وهو غير الصفي وغير ما يصيبه من المغنم لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يستأذن الغانمين فى تلك العطية ولو كان العطاء من أصل الغنيمة لاستأذنهم لأنهم ملكوها بحوزها والاستيلاء عليها وليس من أصل الخمس لأنه مقسوم على خمسة فهو إذن من خمس الخمس وقد نص الإمام أحمد على أن النفل يكون من أربعة أخماس الغنيمة وهذا العطاء هو من النفل نفل النبى صلى الله عليه و سلم به رؤوس القبائل والعشائر ليتألفهم به وقومهم على الإسلام فهو أولى بالجواز من تنفيل الثلث بعد الخمس والربع بعده لما فيه من تقوية الإسلام وشوكته وأهله واستجلاب عدوه إليه هكذا وقع سواء كما قال بعض هؤلاء الذي نفلهم : لقد أعطانى رسول الله صلى الله عليه و سلم وإنه لأبغض الخلق إلي فما زال يعطيني حتى إنه لأحب الخلق إلي فما ظنك بعطاء قوى الإسلام وأهله وأذل الكفر وحزبه واستجلب به قلوب رؤوس القبائل والعشائر الذين إذا غضبوا غضب لغضبهم أتباعهم وإذا رضوا رضوا لرضاهم فإذا أسلم هؤلاء لم يتخلف عنهم أحد من قومهم فلله ما أعظم موقع هذا العطاء وما أجداه وأنفعه للإسلام وأهله
ومعلوم : أن الأنفال لله ولرسوله يقسمها رسوله حيث أمره لا يتعدى الأمر فلو وضع الغنائم بأسرها في هؤلاء لمصلحة الإسلام العامة لما خرج عن الحكمة والمصلحة والعدل ولما عميت أبصار ذي الخويصرة التميمي وأضرابه عن هذه المصلحة والحكمة قال له قائلهم : اعدل فإنك لم تعدل وقال مشبهه : إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله ولعمر الله إن هؤلاء من أجهل الخلق برسوله ومعرفته بربه وطاعته له وتمام عدله وإعطائه لله ومنعه لله ولله - سبحانه - أن يقسم الغنائم كما يحب وله أن يمنعها الغانمين جملة كما منعهم غنائم مكة وقد أوجفوا عليها بخيلهم وركابهم وله أن يسلط عليها نارا من السماء تأكلها وهو في ذلك كله أعدل العادلين وأحكم الحاكمين وما فعل ما فعله من ذلك عبثا ولا قدره سدى بل هو عين المصلحة والحكمة والعدل والرحمة مصدره كمال علمه وعزته وحكمته ورحمته ولقد أتم نعمته على قوم ردهم إلى منازلهم برسوله صلى الله عليه و سلم يقودونه إلى ديارهم وأرضى من لم يعرف قدر هذه النعمة بالشاة والبعير كما يعطي الصغير ما يناسب عقله ومعرفته ويعطي العاقل اللبيب ما يناسبه وهذا فضله وليس هو سبحانه تحت حجر أحد من خلقه فيوجبون عليه بعقولهم ويحرمون ورسوله منفذ لأمره
فإن قيل : فلو دعت حاجة الإمام في وقت من الأوقات إلى مثل هذا مع عدوه هل يسوغ له ذلك ؟
قيل : الإمام نائب عن المسلمين يتصرف لمصالحهم وقيام الدين فإن تعين ذلك للدفع عن الإسلام والذب عن حوزته واستجلاب رؤوس أعدائه إليه ليأمن المسلمون شرهم ساغ له ذلك بل تعين عليه وهل تجوز الشريعة غير هذا فإنه وإن كان في الحرمان مفسدة فالمفسدة المتوقعة من فوات تأليف هذا العدو أعظم ومبنى الشريعة على دفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما وتحصيل أكمل المصلحتين بتفويت أدناهما بل بناء مصالح الدنيا والدين على هذين الأصلين وبالله التوفيق (3/424)
فصل
وفيها : أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من لم يطيب نفسه فله بكل فريضة ست فرائض من أول ما يفيء الله علينا ]
ففي هذا دليل على جواز بيع الرقيق بل الحيوان بعضه ببعض نسيئة ومتفاضلا
وفي السنن من حديث عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أمره أن يجهز جيشا فنفدت الإبل فأمره أن يأخذ على قلائص الصدقة وكان يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة
وفي السنن عن ابن عمر عنه صلى الله عليه و سلم أنه نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة ورواه الترمذي من حديث الحسن عن سمرة وصححه
وفي الترمذي من حديث الحجاج بن أرطاة عن أبي الزبير عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ الحيوان اثنان بواحد لا يصلح نسيئا ولا بأس به يدا بيد ] قال الترمذي : حديث حسن
فاختلف الناس في هذه الأحاديث على أربعة أقوال وهي روايات عن أحمد
أحدها : جواز ذلك متفاضلا ومتساويا نسيئة ويدا بيد وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي
والثاني : لا يجوز ذلك نسيئة ولا متفاضلا
والثالث : يحرم الجمع بين النساء والتفاضل ويجوز البيع مع أحدهما وهو قول مالك - رحمه الله -
والرابع : إن اتحد الجنس جاز التفاضل وحرم النساء وإن اختلف الجنس جاز التفاضل والنساء
وللناس في هذه الأحاديث والتأليف بينها ثلاثة مسالك :
أحدها : تضعيف حديث الحسن عن سمرة لأنه لم يسمع منه سوى حديثين ليس هذا منهما وتضعيف حديث الحجاح بن أرطاة
والمسلك الثاني : دعوى النسخ وإن لم يتبين المتأخر منها من المتقدم ولذلك وقع الاختلاف
والمسلك الثالث : حملها على أحوال مختلفة وهو أن النهي عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة إنما كان لأنه ذريعة إلى النسيئة في الربويات فإن البائع إذا رأى ما في هذا البيع من الربح لم تقتصر نفسه عليه بل تجره إلى بيع الربوي كذلك فسد عليهم الذريعة وأباحه يدا بيد ومنع من النساء فيه وما حرم للذريعة يباح للمصلحة الراجحة كما أباح من المزابنة العرايا للمصلحة الراجحة وأباح ما تدعو إليه الحاجة منها وكذلك بيع الحيوان بالحيوان نسيئة متفاضلا في هذه القصة وفي حديث ابن عمر إنما وقع في الجهاد وحاجة المسلمين إلى تجهيز الجيش ومعلوم أن مصلحة تجهيزه أرجح من المفسدة فى بيع الحيوان بالحيوان نسيئة والشريعة لا تعطل المصلحة الراجحة لأجل المرجوحة ونظير هذا جواز لبس الحرير في الحرب وجواز الخيلاء فيها إذ مصلحة ذلك أرجح من مفسدة لبسه ونظير ذلك لباسه القباء الحرير الذي أهداه له ملك أيلة ساعة ثم نزعه للمصلحة الراجحة في تأليفه وجبره وكان هذا بعد النهي عن لباس الحرير كما بيناه مستوفى في كتاب التخيير فيما يحل ويحرم من لباس الحرير وبينا أن هذا كان عام الوفود سنة تسع وأن النهي عن لباس الحرير كان قبل ذلك بدليل أنه نهى عمر عن لبس الحلة الحرير التي أعطاه إياها فكساها عمر أخا له مشركا بمكة وهذا كان قبل الفتح ولباسه صلى الله عليه و سلم هدية ملك أيلة كان بعد ذلك ونظير هذا نهيه صلى الله عليه و سلم عن الصلاة قبل طلوع الشمس وبع العصر سدا لذريعة التشبه بالكفار وأباح ما فيه مصلحة راجحة من قضاء الفوائت وقضاء السنن وصلاة الجنازة وتحية المسجد لأن مصلحة فعلها أرجح من مفسدة النهي والله أعلم
وفي القصة دليل على أن المتعاقدين إذا جعلا بينهما أجلا غير محدود جاز إذا اتفقنا عليه ورضيا به وقد نص أحمد على جوازه في رواية عنه في الخيار مدة غير محدودة أنه يكون جائزا حتى يقطعاه وهذا هو الراجح إذ لا محذور في ذلك ولا عذر وكل منهما قد دخل على بصيرة ورضى بموجب العقد فكلاهما فى العلم به سواء فليس لأحدهما مزية على الآخر فلا يكون ذلك ظلما (3/426)
فصل
وفي هذه الغزوة أنه قال : من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه وقاله في غزوة أخرى قبلها فاختلف الفقهاء هل هذا السلب مستحق بالشرع أو بالشرط ؟ على قولين هما روايتان عن أحمد
أحدهما : أنه له بالشرع شرطه الإمام أو لم يشرطه وهو قول الشافعي
والثاني : أنه لا يستحق إلا بشرط الإمام وهو قول أبي حنيفة وقال مالك رحمه الله : لا يستحق إلا بشرط الإمام بعد القتال فلو نص قبله لم يجز قال مالك : ولم يبلغني أن النبي صلى الله عليه و سلم قال ذلك إلا يوم حنين وإنما نفل النبى صلى الله عليه و سلم بعد أن برد القتال
ومأخذ النزاع أن النبي صلى الله عليه و سلم كان هو الإمام والحاكم والمفتي وهو الرسول فقد يقول الحكم بمنصب الرسالة فيكون شرعا عاما إلى يوم القيامة كقوله : [ من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ] وقوله : [ من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شئ وله نفقته ] وكحكمه بالشاهد واليمين وبالشفعة فيما لم يقسم
وقد يقول بمنصب الفتوى كقوله لهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان وقد شكت إليه شح زوجها وأنه لا يعطيها ما يكفيها : [ خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ] فهذه فتيا لا حكم إذ لم يدع بأبي سفيان ولم يسأله عن جواب الدعوى ولا سألها البينة
وقد يقوله بمنصب الإمامة فيكون مصلحة للأمة في ذلك الوقت وذلك المكان وعلى تلك الحال فيلزم من بعده من الأئمة مراعاة ذلك على حسب المصلحة التي راعاها النبي صلى الله عليه و سلم زمانا ومكانا وحالا ومن ها هنا تختلف الأئمة في كثير من المواضع التي فيها أثر عنه صلى الله عليه و سلم كقوله صلى الله عليه و سلم : [ من قتل قتيلا فله سلبه ] هل قاله بمنصب الإمامة فيكون حكمه متعلقا بالأئمة أو بمنصب الرسالة والنبوة فيكون شرعا عاما ؟ وكذلك قوله : [ من أحيا أرضا ميتة فهي له ] هل هو شرع عام لكل أحد أذن فيه الإمام أو لم يأذن أو هو راجع إلى الأئمة فلا يملك بالإحياء إلا بإذن الإمام ؟ على القولين فالأول : للشافعي وأحمد في ظاهر مذهبهما
والثاني : لأبي حنيفة وفرق مالك بين الفلوات الواسعة وما لا يتشاح فيه الناس وبين ما يقع فيه التشاح فاعتبر إذن الإمام في الثاني دون الأول (3/428)
فصل
وقوله صلى الله عليه و سلم : [ له عليه بينة ] دليل على مسألتين
إحداهما : أن دعوى القاتل أنه قتل هذا الكافر لا تقبل في استحقاق سلبه
الثانية : الاكتفاء في ثبوت هذه الدعوى بشاهد واحد من غير يمين لما ثبت في الصحيح عن أبي قتادة قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم عام حنين فلما التقينا كانت للمسلمين جولة فرأيت رجلا من المشركين قد علا رجلا من المسلمين فاستدرت إليه حتى أتيته من ورائه فضربته على حبل عاتقه وأقبل علي فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت ثم أدركه الموت فأرسلني فلحقت عمر بن الخطاب فقال : ما للناس ؟ فقلت : أمر الله ثم إن الناس رجعوا وجلس رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه ] قال : فقمت فقلت : من يشهد لي ؟ ثم جلست ثم قال مثل ذلك قال : فقمت فقلت : من يشهد لي ؟ ثم قال ذلك الثالثة فقمت فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما لك يا أبا قتادة ؟ فقصصت عليه القصة فقال رجل من القوم : صدق يا رسول الله وسلب ذلك القتيل عندي فأرضه من حقه فقال أبو بكر الصديق : لاها الله إذا لا يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله فيعطيك سلبه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ صدق فأعطه إياه ] فأعطاني فبعت الدرع فابتعت به مخرفا في بني سلمة فإنه لأول مال تأثلته في الإسلام
وفي المسألة ثلاثة أقوال هذا أحدها وهو وجه في مذهب أحمد والثاني : أنه لا بد من شاهد ويمين كإحدى الروايتين عن أحمد والثالث - وهو منصوص الإمام أحمد - أنه لا بد من شاهدين لأنها دعوى قتل فلا تقبل إلا بشاهدين
وفي القصة دليل على مسألة أخرى وهي أنه لا يشترط في الشهادة التلفظ بلفظ أشهد وهذا أصح الروايات عن أحمد في الدليل وإن كان الأشهر عند أصحابه الاشتراط وهي مذهب مالك قال شيخنا : ولا يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين اشتراط لفظ الشهادة وقد قال ابن عباس : شهد عندي رجال مرضيون وأرضاهم عندي عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عن الصلاة بعد العصر وبعد الصبح ومعلوم : أنهم لم يتلفظوا له بلفظ أشهد إنما كان مجرد إخبار
وفي حديث ماعز فلما شهد على نفسه أربع شهادات رجمه وإنما كان منه مجرد إخبار عن نفسه وهو إقرار وكذلك قوله تعالى : { أإنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد } ( الأنعام : 19 ) وقوله : { قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين } ( الأنعام : 130 ) وقوله : { لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا } ( النساء : 166 ) وقوله : { أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين } ( آل عمران : 81 ) وقوله : { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط } ( آل عمران : 18 ) إلى أضعاف ذلك مما ورد في القرآن والسنة من إطلاق لفظ الشهادة على الخبر المجرد عن لفظ أشهد
وقد تنازع الإمام أحمد وعلي بن المديني في الشهادة للعشرة بالجنة فقال علي : أقول : هم في الجنة ولا أقول : أشهد أنهم في الجنة فقال الإمام أحمد : متى قلت : هم في الجنة فقد شهدت وهذا تصريح منه بأنه لا يشترط فى الشهادة لفظ أشهد وحديث أبي قتادة من أبين الحجج في ذلك
فإن قيل : إخبار من كان عنده السلب إنما كان إقرارا بقوله : هو عندي وليس ذلك من الشهادة في شئ قيل : تضمن كلامه شهادة وإقرارا بقوله : صدق شهادة له بأنه قتله وقوله : هو عندي إقرار منه بأنه عنده والنبي صلى الله عليه و سلم إنما قضى بالسلب بعد البينة وكان تصديق هذا هو البينة (3/430)
فصل
وقوله صلى الله عليه و سلم : [ فله سلبه ] دليل على أن له سلبه كله غير مخمس وقد صرح بهذا في قوله لسلمة بن الأكوع لما قتل قتيلا : [ له سلبه أجمع ]
وفي المسألة ثلاثة مذاهب هذا أحدها
والثاني : أنه يخمس كالغنيمة وهذا قول الأوزاعي وأهل الشام وهو مذهب ابن عباس لدخوله في آية الغنيمة
والثالث : أن الإمام إن استكثره خمسه وإن استقله لم يخمسه وهو قول إسحاق وفعله عمر بن الخطاب فروى سعيد في سننه عن ابن سيرين أن البراء بن مالك بارز مرزبان المرازبة بالبحرين فطعنه فدق صلبه وأخذ سواريه وسلبه فلما صلى عمر الظهر أتى البراء في داره فقال : إنا كنا لا نخمس السلب وإن سلب البراء قد بلغ مالا وأنا خامسه فكان أول سلب خمس فى الإسلام سلب البراء وبلغ ثلاثين ألفا والأول : أصح فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يخمس السلب وقال : هو له أجمع ومضت على ذلك سنته وسنة الصديق بعده وما رآه عمر اجتهاد منه أداه إليه رأيه
والحديث يدل على أنه من أصل الغنيمة فإن النبي صلى الله عليه و سلم قضى به للقاتل ولم ينظر في قيمته وقدره واعتبار خروجه من خمس الخمس وقال مالك : هو من خمس الخمس ويدل على أنه يستحقه من يسهم له ومن لا يسهم له من صبي وامرأة وعبد ومشرك وقال الشافعي في أحد قوليه : لا يستحق السلب إلا من يستحق السهم لأن السهم المجمع عليه إذا لم يستحقه العبد والصبي والمرأة والمشرك فالسلب أولى والأول أصح للعموم ولأنه جار مجرى قول الإمام : من فعل كذا وكذا أو دل على حصن أو جاء برأس فله كذا مما فيه تحريض على الجهاد والسهم مستحق بالحضور وإن لم يكن منه فعل والسلب مستحق بالفعل فجرى مجرى الجعالة (3/432)
فصل
وفيه دلالة على أنه يستحق سلب جميع من قتله وإن كثروا وقد ذكر أبو داود أن أبا طلحة قتل يوم حنين عشرين رجلا فأخذ أسلابهم (3/433)
فصل
في غزوة الطائف
في شوال سنة ثمان قال ابن سعد : قالوا : ولما أراد رسول الله صلى الله عليه و سلم المسير إلى الطائف بعث الطفيل بن عمرو إلى ذي الكفين : صنم عمرو بن حممة الدوسي يهدمه وأمره أن يستمد قومه ويوافيه بالطائف فخرج سريعا إلى قومه فهدم ذا الكفين وجعل يحش النار في وجهه ويحرقه ويقول :
( يا ذا الكفين لست بن عبادكا ... ميلادنا أقدم من ميلادكا )
( إني حششت النار في فؤادكا )
وانحدر معه من قومه أربعمائة سراعا فوافوا النبي صلى الله عليه و سلم بالطائف بعد مقدمه بأربعة أيام وقدم بدبابة ومنجيق
قال ابن سعد : ولما خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم من حنين يريد الطائف قدم خالد بن الوليد على مقدمته وكانت ثقيف قد رموا حصنهم وأدخلوا فيه ما يصلح لهم لسنة فلما انهزموا من أوطاس دخلوا حصنهم وأغلقوه عليهم وتهيؤوا للقتال وسار رسول الله صلى الله عليه و سلم فنزل قريبا من حصن الطائف وعسكر هناك فرموا المسلمين بالنبل رميا شديدا كأنه رجل جراد حتى أصيب ناس من المسلمين بجراحة وقتل منهم اثنا عشر رجلا فارتفع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى موضع مسجد الطائف اليوم وكان معه من نسائه أم سلمة وزينب فضرب لهما قبتين وكان يصلي بين القبتين مدة حصار الطائف فحاصرهم ثمانية عشر يوما وقال ابن إسحاق : بضعا وعشرين ليلة
ونصب عليهم المنجنيق وهو أول ما رمي به في الإسلام
وقال ابن سعد : حدثنا قبيصة حدثنا سفيان عن ثور بن يزيد عن مكحول أن النبي صلى الله عليه و سلم نصب المنجنيق على أهل الطائف أربعين يوما
قال ابن إسحاق : حتى إذا كان يوم الشدخة عند جدار الطائف دخل نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم تحت دبابة ثم دخلوا بها إلى جدار الطائف ليحرقوه فأرسلت عليهم ثقيف سكك الحديد محماة بالنار فخرجوا من تحتها فرمتهم ثقيف بالنبل فقتلوا منهم رجالا فأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بقطع أعناب ثقيف فوقع الناس فيها يقطعون
قال ابن سعد : فسألوه أن يدعها لله وللرحم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ فإني أدعها لله وللرحم ] فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه و سلم : أيما عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حر فخرج منهم بضعة عشر رجلا منهم أبو بكرة فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه و سلم ودفع كل رجل منهم إلى رجل من المسلمين يمونه فشق ذلك على أهل الطائف مشقة شديدة
ولم يؤذن لرسول الله صلى الله عليه و سلم في فتح الطائف واستشار رسول الله صلى الله عليه و سلم نوفل بن معاوية الديلي فقال : ما ترى ؟ فقال : ثعلب في جحر إن أقمت عليه أخذته وإن تركته لم يضرك فأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم عمر بن الخطاب فأذن في الناس بالرحيل فضج الناس من ذلك وقالوا : نرحل ولم يفتح علينا الطائف ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ فاغدوا على القتال ] فغدوا فأصابت المسلمين جراحات فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إنا قافلون غدا إن شاء الله ] فسروا بذلك وأذعنوا وجعلوا يرحلون ورسول الله صلى الله عليه و سلم يضحك فلما ارتحلوا واستقلوا قال : قولوا : [ آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون ] وقيل : يا رسول الله ! ادع الله على ثقيف فقال : [ اللهم اهد ثقيفا وائت بهم ]
واستشهد مع رسول الله صلى الله عليه و سلم بالطائف جماعة ثم خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم من الطائف إلى الجعرانة ثم دخل منها محرما بعمرة فقضى عمرته ثم رجع إلى المدينة (3/433)
فصل
قال ابن إسحاق : وقدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة من تبوك في رمضان وقدم عليه في ذلك الشهر وفد ثقيف وكان من حديثهم : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما انصرف عنهم اتبع أثره عروة بن مسعود حتى أدركه قبل أن يدخل المدينة فأسلم وسأله أن يرجع إلى قومه بالإسلام فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : كما يتحدث قومك أنهم قاتلوك وعرف رسول الله صلى الله عليه و سلم أن فيهم نخوة الامتناع الذي كان منهم فقال عروة : يا رسول الله ؟ أنا أحب إليهم من أبكارهم وكان فيهم كذلك محببا مطاعا فخرج يدعو قومه إلى الإسلام رجاء ألا يخالفوه لمنزلته فيهم فلما أشرف لهم على علية له وقد دعاهم إلى الإسلام وأظهر لهم دينه رموه من كل وجه فأصابه سهم فقتله فقيل لعروة : ما ترى في دمك ؟ قال : أكرمني الله بها وشهادة ساقها الله إلي فليس في إلا ما في الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم قبل أن يرتحل عنكم فادفنوني معهم فدفنوه معهم فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال فيه : إن مثله في قومه كمثل صاحب يس في قومه
ثم أقامت ثقيف بعد قتل عروة أشهرا ثم إنهم ائتمروا بينهم ورأوا أنهم لا طاقة لهم بحرب من حولهم من العرب وقد بايعوا وأسلموا فأجمعوا أن يرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم رجلا كما أرسلوا عروة فكلموا عبد ياليل بن عمرو بن عمير وكان في سن عروة بن مسعود وعرضوا عليه ذلك فأبى أن يفعل وخشي أن يصنع به كما صنع بعروة فقال : لست بفاعل حتى ترسلوا معي رجالا فأجمعوا أن يبعثوا معه رجلين من الأحلاف وثلاثة من بني مالك فيكونون ستة فبعثوا معه الحكم بن عمرو بن وهب وشرحبيل بن غيلان ومن بني مالك عثمان بن أبي العاص وأوس بن عوف ونمير بن خرشة فخرج بهم فلما دنوا من المدينة ونزلوا قناة لقوا بها المغيرة بن شعبة فاشتد ليبشر رسول الله صلى الله عليه و سلم بقدومهم عليه فلقيه أبو بكر فقال : أقسمت عليك بالله لا تسبقني إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى أكون أنا أحدثه ففعل فدخل أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبره بقدومهم عليه ثم خرج المغيرة إلى أصحابه فروح الظهر معهم وأعلمهم كيف يحيون رسول الله صلى الله عليه و سلم فلم يفعلوا إلا بتحية الجاهلية فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه و سلم ضرب عليهم قبة في ناحية مسجده كما يزعمون
وكان خالد بن سعيد بن العاص هو الذي يمشي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى اكتتبوا كتابهم وكان خالد هو الذي كتبه وكانوا لا يأكلون طعاما يأتيهم من عند رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى يأكل منه خالد حتى أسلموا
وقد كان فيما سألوا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يدع لهم الطاغية وهي اللات لا يهدمها ثلاث سنين فأبى رسول الله صلى الله عليه و سلم عليهم فما برحوا يسألونه سنة سنة ويأبى عليهم حتى سألوه شهرا واحدا بعد قدومهم فأبى عليهم أن يدعها شيئا مسمى وإنما يريدون بذلك فيما يظهرون أن يسلموا بتركها من سفهائهم ونسائهم وذراريهم ويكرهون أن يروعوا قومهم بهدمها حتى يدخلهم الإسلام فأبى رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا أن يبعث أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة يهدمانها وقد كانوا يسألونه مع ترك الطاغية أن يعفيهم من الصلاة وأن لا يكسروا أوثانهم بأيديهم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أما كسر أوثانكم بأيديكم فسنعفيكم منه وأما الصلاة فلا خير في دين لا صلاة فيه ] فلما أسلموا وكتب لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم كتابا أمر عليهم عثمان بن أبي العاص وكان من أحدثهم سنا وذلك أنه كان من أحرصهم على التفقه في الإسلام وتعلم القرآن
فلما فرغوا من أمرهم وتوجهوا إلى بلادهم راجعين بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم معهم أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة في هدم الطاغية فخرجا مع القوم حتى إذا قدموا الطائف أراد المغيرة بن شعبة أن يقدم أبا سفيان فأبى ذلك عليه أبو سفيان فقال : ادخل أنت على قومك وأقام أبو سفيان بماله بذي الهدم فلما دخل المغيرة بن شعبة علاها يضربها بالمعول وقام دونه بنو معتب خشية أن يرمى أو يصاب كما أصيب عروة وخرج نساء ثقيف حسرا يبكين عليها ويقول أبو سفيان - والمغيرة يضربها بالفأس - : واها لك واها لك فلما هدمها المغيرة وأخذ مالها وحليها أرسل إلى أبي سفيان مجموع مالها من الذهب والفضة والجزع
وقد كان أبو مليح بن عروة وقارب بن الأسود قدما على رسول الله صلى الله عليه و سلم قبل وفد ثقيف حين قتل عروة يريدان فراق ثقيف وأن لا يجامعاهم على شئ أبدا فأسلما فقال لهما رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ توليا من شئتما ] قالا : نتولى الله ورسوله فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ وخالكما أبا سفيان بن حرب ] فقالا : وخالنا أبا سفيان
فلما أسلم أهل الطائف سأل أبو مليح رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يقضي عن أبيه عروة دينا كان عليه من مال الطاغية فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : نعم فقال له قارب بن الأسود : وعن الأسود يا رسول الله فاقضه - وعروة والأسود أخوان لأب وأم - فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الأسود مات مشركا ] فقال قارب بن الأسود : يا رسول الله ! لكن تصل مسلما ذا قرابة يعني نفسه وإنما الدين علي وأنا الذي أطلب به فأمر النبي صلى الله عليه و سلم أبا سفيان أن يقضي دين عروة والأسود من مال الطاغية ففعل
وكان كتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم الذي كتب لهم : [ بسم الله الرحمن الرحيم : من محمد النبي رسول الله إلى المؤمنين إن عضاه وج وصيده حرام لا يعضد من وجد يصنع شيئا من ذلك فإنه يجلد وتنزع ثيابه فإن تعدى ذلك فإنه يؤخذ فيبلغ به إلى النبي محمد وإن هذا أمر النبي محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم ]
فكتب خالد بن سعيد بأمر الرسول محمد بن عبد الله فلا يتعداه أحد فيظلم نفسه فيما أمر به محمد رسول الله فهذه قصة ثقيف من أولها إلى آخرها سقناها كما هي وإن تخلل بين غزوها وإسلامها غزاة تبوك وغيرها لكن آثرنا أن لا نقطع قصتهم وأن ينتظم أولها بآخرها ليقع الكلام على فقه هذه القصة وأحكامها في موضع واحد
فنقول : فيها من الفقه : جواز القتال في الأشهر الحرم ونسخ تحريم ذلك فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم خرج من المدينة إلى مكة في أواخر شهر رمضان بعد مضي ثمان عشرة ليلة منه والدليل عليه ما رواه أحمد في مسنده حدثنا إسماعيل عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي الأشعث عن شداد بن أوس أنه مر مع رسول الله صلى الله عليه و سلم زمن الفتح على رجل يحتجم بالبقيع لثمان عشرة ليلة خلت من رمضان وهو آخذ بيدي فقال : أفطر الحاجم والمحجوم وهذا أصح من قول من قال : إنه خرج لعشر خلون من رمضان وهذا الإسناد على شرط مسلم فقد روى به بعينه : إن الله كتب الإحسان على كل شئ
وأقام بمكة تسع عشرة ليلة يقصر الصلاة ثم خرج إلى هوازن فقاتلهم وفرغ منهم ثم قصد الطائف فحاصرهم بضعا وعشرين ليلة فى قول ابن إسحاق وثمان عشرة ليلة في قول ابن سعد وأربعين ليلة فى قول مكحول فإذا تأملت ذلك علمت أن بعض مدة الحصار في ذي القعدة ولا بد ولكن قد يقال : لم يبتدىء القتال إلا في شوال فلما شرع فيه لم يقطعه للشهر الحرام ولكن من أين لكم أنه صلى الله عليه و سلم ابتدأ قتالا في شهر حرام وفرق بين الابتداء والاستدامة (3/436)
فصل
ومنها : جواز غزو الرجل وأهله معه فإن النبي صلى الله عليه و سلم كان معه في هذه الغزوة أم سلمة وزينب
ومنها : جواز نصب المنجنيق على الكفار ورميهم به وإن أفضى إلى قتل من لم يقاتل من النساء والذرية
ومنها : جواز قطع شجر الكفار إذا كان ذلك يضعفهم ويغيظهم وهو أنكى فيهم
ومنها : أن العبد إذا أبق من المشركين ولحق بالمسلمين صار حرا قال سعيد بن منصور : حدثنا يزيد بن هارون عن الحجاج عن مقسم عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يعتق العبيد إذا جاؤوا قبل مواليهم
وروى سعيد بن منصور أيضا قال : قضى رسول الله صلى الله عليه و سلم في العبد وسيده قضيتين : قضى أن العبد إذا خرج من دار الحرب قبل سيده أنه حر فإن خرج سيده بعده لم يرد عليه وقضى أن السيد إذا خرج قبل العبد ثم خرج العبد رد على سيده
وعن الشعبي عن رجل من ثقيف قال : سألنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يرد علينا أبا بكرة وكان عبدا لنا أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو محاصر ثقيفا فأسلم فأبى أن يرده علينا فقال : هو طليق الله ثم طليق رسوله فلم يرده علينا
قال ابن المنذر : وهذا قول كل من يحفظ عنه من أهل العلم (3/440)
فصل
ومنها : أن الإمام إذا حاصر حصنا ولم يفتح عليه ورأى مصلحة المسلمين في الرحيل عنه لم يلزمه مصابرته وجاز له ترك مصابرته وإنما تلزم المصابرة إذا كان فيها مصلحة راجحة على مفسدتها (3/441)
فصل
ومنها : أنه أحرم من الجعرانة بعمرة وكان داخلا إلى مكة وهذه هي السنة لمن دخلها من طريق الطائف وما يليه وأما ما يفعله كثير ممن لا علم عنده من الخروج من مكة إلى الجعرانة ليحرم منها بعمرة ثم يرجع إليها فهذا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا أحد من أصحابه البتة ولا استحبه أحد من أهل العلم وإنما يفعله عوام الناس زعموا أنه اقتداء بالنبي صلى الله عليه و سلم وغلطوا فإنه إنما أحرم منها داخلا إلى مكة ولم يخرج منها إلى الجعرانة ليحرم منها فهذا لون وسنته لون وبالله التوفيق (3/441)
فصل
ومنها : استجابة الله لرسوله صلى الله عليه و سلم دعاءه لثقيف أن يهديهم ويأتي بهم وقد حاربوه وقاتلوه وقتلوا جماعة من أصحابه وقتلوا رسول رسوله الذي أرسله إليهم يدعوهم إلى الله ومع هذا كله فدعا لهم ولم يدع عليهم وهذا من كمال رأفته ورحمته ونصيحته صلوات الله وسلامه عليه (3/441)
فصل
ومنها : كمال محبة الصديق له وقصده التقرب إليه والتحبب بكل ما يمكنه ولهذا ناشد المغيرة أن يدعه هو يبشر النبي صلى الله عليه و سلم بقدوم وفد الطائف ليكون هو الذي بشره وفرحه بذلك وهذا يدل على أنه يجوز للرجل أن يسأل أخاه أن يؤثره بقربة من القرب وأنه يجوز للرجل أن يؤثر بها أخاه وقول من قال من الفقهاء لا يجوز الإيثار بالقرب لا يصح وقد آثرت عائشة عمر بن الخطاب بدفنه في بيتها جوار النبي صلى الله عليه و سلم وسألها عمر ذلك فلم تكره له السؤال ولا لها البذل وعلى هذا فإذا سأل الرجل غيره أن يؤثره بمقامه في الصف الأول لم يكره له السؤال ولا لذلك البذل ونظائره ومن تأمل سيرة الصحابة وجدهم غير كارهين لذلك ولا ممتنعين منه وهل هذا إلا كرم وسخاء وإيثار على النفس بما هو أعظم محبوباتها تفريحا لأخيه المسلم وتعظيما لقدره وإجابة له إلى ما سأله وترغيبا له في الخير وقد يكون ثواب كل واحد من هذه الخصال راجحا على تلك القربة فيكون المؤثر بها ممن تاجر فبذل قربة وأخذ أضعافها وعلى هذا فلا يمتنع أن يؤثر صاحب الماء بمائه أن يتوضأ به ويتيمم هو إذا كان لا بد من تيمم أحدهما فآثر أخاه وحاز فضيلة الإيثار وفضيلة الطهر بالتراب ولا يمنع هذا كتاب ولا سنة ولا مكارم أخلاق وعلى هذا فإذا اشتد العطش بجماعة وعاينوا التلف ومع بعضهم ماء فآثر على نفسه واستسلم للموت كان ذلك جائزا ولم يقل : إنه قاتل لنفسه ولا أنه فعل محرما بل هذا غاية الجود والسخاء كما قال تعالى : { ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } ( الحشر : 9 ) وقد جرى هذا بعينه لجماعة من الصحابة في فتوح الشام وعد ذلك من مناقبهم وفضائلهم وهل إهداء القرب المجمع عليها والمتنازع فيها إلى الميت إلا إيثار بثوابها وهو عين الإيثار بالقرب فأي فرق بين أن يؤثره بفعلها ليحرز ثوابها وبين أن يعمل ثم يؤثره بثوابها وبالله التوفيق (3/442)
فصل
ومنها : أنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت بعد القدرة على هدمها وإبطالها يوما واحدا فإنها شعائر الكفر والشرك وهي أعظم المنكرات فلا يجوز الإقرار عليها مع القدرة البتة وهذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور التي اتخذت أوثانا وطواغيت تعبد من دون الله والأحجار التي تقصد للتعظيم والتبرك والنذر والتقبيل لا يجوز إبقاء شئ منها على وجه الأرض مع القدرة على إزالته وكثير منها بمنزلة اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى أو أعظم شركا عندها وبها والله المستعان
ولم يكن أحد من أرباب هذه الطواغيت يعتقد أنها تخلق وترزق وتميت وتحيي وإنما كانوا يفعلون عندها وبها ما يفعله إخوانهم من المشركين اليوم عند طواغيتهم فاتبع هؤلاء سنن من كان قبلهم وسلكوا سبيلهم حذو القذة بالقذة وأخذوا مأخذهم شبرا بشبر وذراعا بذراع وغلب الشرك على أكثر النفوس لظهور الجهل وخفاء العلم فصار المعروف منكرا والمنكر معروفا والسنة بدعة والبدعة سنة ونشأ في ذلك الصغير وهرم عليه الكبير وطمست الأعلام واشتدت غربة الإسلام وقل العلماء وغلب السفهاء وتفاقم الأمر واشتد البأس وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ولكن لاتزال طائفة من العصابة المحمدية بالحق قائمين ولأهل الشرك والبدع مجاهدين إلى أن يرث الله سبحانه الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين (3/443)
فصل
ومنها : جواز صرف الإمام الأموال التي تصير إلى هذه المشاهد والطواغيت في الجهاد ومصالح المسلمين فيجوز للإمام بل يجب عليه أن يأخذ أموال هذه الطواغيت التي تساق إليها كلها ويصرفها على الجند والمقاتلة ومصالح الإسلام كما أخذ النبي صلى الله عليه و سلم أموال اللات وأعطاها لأبي سفيان يتألفه بها وقضى منها دين عروة والأسود وكذلك يجب عليه أن يهدم هذه المشاهد التي بنيت على القبور التي اتخذت أوثانا وله أن يقطعها للمقاتلة أو يبيعها ويستعين بأثمانها على مصالح المسلمين وكذلك الحكم في أوقافها فإن وقفها فالوقف عليها باطل وهو مال ضائع فيصرف في مصالح المسلمين فإن الوقف لايصح إلا في قربة وطاعة لله ورسوله فلا يصح الوقف على مشهد ولا قبر يسرج عليه ويعظم وينذر له ويحج إليه ويعبد من دون الله ويتخذ وثنا من دونه مما لا يخالف فيه أحد من أئمة الإسلام ومن اتبع سبيلهم (3/443)
فصل
ومنها : أن وادي وج - وهو واد بالطائف - حرم يحرم صيده وقطع شجره وقد اختلف الفقهاء في ذلك والجمهور قالوا : ليس في البقاع حرم إلا مكة والمدينة وأبو حنيفة خالفهم في حرم المدينة وقال الشافعي - رحمه الله - في أحد قوليه : وج حرم يحرم صيده وشجره واحتج لهذا القول بحديثين أحدهما هذا الذي تقدم والثاني : حديث عروة بن الزبير عن أبيه الزبير أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إن صيد وج وعضاهه حرم محرم لله ] رواه الإمام أحمد وأبو داود وهذا الحديث يعرف بمحمد بن عبد الله بن إنسان عن أبيه عن عروة قال البخاري في تاريخه لا يتابع عليه
قلت : وفي سماع عروة من أبيه نظر وإن كان قد رآه والله أعلم (3/444)
فصل
ولما قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة ودخلت سنة تسع بعث المصدقين يأخذون الصدقات من الأعراب قال ابن سعد : ثم بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم المصدقين قالوا : لما رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم هلال المحرم سنة تسع بعث المصدقين يصدقون العرب فبعث عيينة بن حصن إلى بني تميم وبعث يزيد بن الحصين إلى أسلم وغفار وبعث عباد بن بشر الأشهلي إلى سليم ومزينة وبعث رافع بن مكيث إلى جهينة وبعث عمرو بن العاص إلى بني فزارة وبعث الضحاك بن سفيان إلى بني كلاب وبعث بشر بن سفيان إلى بني كعب وبعث ابن اللتبية الأزدي إلى بني ذبيان وأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم المصدقين أن يأخذوا العفو منهم ويتوقوا كرائم أموالهم قيل : ولما قدم ابن اللتبية حاسبه وكان في هذا حجة على محاسبة العمال والأمناء فإن ظهرت خيانتهم عزلهم وولى أمينا
قال ابن إسحاق : وبعث المهاجر بن أبي أمية إلى صنعاء فخرج عليه العنسي وهو بها وبعث زياد بن لبيد إلى حضرموت وبعث عدي بن حاتم إلى طيء وبني أسد وبعث مالك بن نويرة على صدقات بني حنظلة وفرق صدقات بني سعد على رجلين فبعث الزبرقان بن بدر على ناحية وقيس بن عاصم على ناحية وبعث العلاء بن الحضرمي على البحرين وبعث عليا - رضوان الله عليه - إلى نجران ليجمع صدقاتهم ويقدم عليه بجزيتهم (3/445)
فصل
في السرايا والبعوث في سنة تسع
ذكر سرية عيينة بن حصن الفزاري إلى بني تميم وذلك في المحرم من هذه السنة بعثه إليهم في سرية ليغزوهم في خمسين فارسا ليس فيهم مهاجري ولا أنصاري فكان يسير الليل ويكمن النهار فهجم عليهم في صحراء وقد سرحوا مواشيهم فلما رأوا الجمع ولوا فأخذ منهم أحد عشر رجلا وإحدى وعشرين امرأة وثلاثين صبيا فساقهم إلى المدينة فأنزلوا في دار رملة بنت الحارث فقدم فيهم عدة من رؤسائهم عطارد بن حاجب والزبرقان بن بدر وقيس بن عاصم والأقرع بن حابس وقيس بن الحارث ونعيم بن سعد وعمرو بن الأهتم ورباح بن الحارث فلما رأوا نساءهم وذراريهم بكوا إليهم فعجلوا فجاؤوا إلى باب النبي صلى الله عليه و سلم فنادوا : يا محمد اخرج إلينا فخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم وأقام بلال الصلاة وتعلقوا برسول الله صلى الله عليه و سلم يكلمونه فوقف معهم ثم مضى فصلى الظهر ثم جلس في صحن المسجد فقدموا عطارد بن حاجب فتكلم وخطب فأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم ثابت بن قيس بن شماس فأجابهم وأنزل الله فيهم : { إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون * ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم والله غفور رحيم } ( الحجرات : 4 ، 5 ) فرد عليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم الأسرى والسبي فقام الزبرقان شاعر بني تميم فأنشد مفاخرا :
( نحن الكرام فلا حي يعادلنا ... منا الملوك وفينا تنصب البيع )
( وكم قسرنا من الأحياء كلهم ... عند النهاب وفضل العز يتبع )
( ونحن يطعم عند القحط مطعمنا ... من الشواء إذا لم يؤنس القزع )
( بما ترى الناس تأتينا سراتهم ... من كل أرض هويا ثم نصطنع )
( فننحر الكوم عبطا في أرومتنا ... للنازلين إذا ما أنزلوا شبعوا )
( فلا ترانا إلى حي نفاخرهم ... إلا استفادوا فكانوا الرأس يقتطع )
( فمن يفاخرنا في ذاك نعرفه ... فيرجع القوم والأخبار تستمع )
( إنا أبينا ولا يأبى لنا أحد ... إنا كذلك عند الفخر نرتفع )
فقام شاعر الإسلام حسان بن ثابت فأجابه على البديهة :
( إن الذوائب من فهر وإخوتهم ... قد بينوا سنة للناس تتبع )
( يرضى بها كل من كانت سريرته ... تقوى الإله وكل الخير مصطنع )
( قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم ... أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا )
( سجية تلك فيهم غير محدثة ... إن الخلائق فاعلم شرها البدع )
( إن كان في الناس سباقون بعدهم ... فكل سبق لأدنى سبقهم تبع )
( لا يرقع الناس ما أوهت أكفهم ... عند الدفاع ولا يوهون ما رقعوا )
( إن سابقوا الناس يوما فاز سبقهم ... أو وزانوا أهل مجد بالندى متعوا )
( أعفة ذكرت في الوحي عفتهم ... لا يطبعون ولا يرديهم الطمع )
( لا يبخلون على جار بفضلهم ... ولا يمسهم من مطمع طبع )
( إذا نصبنا لحي لم ندب لهم ... كما يدب إلى الوحشية الذرع )
( نسموا إذا الحرب نالتنا مخالبها ... إذا الزعانف من أظفارها خشعوا )
( لا يفخرون إذا نالوا عدوهم ... وإن أصيبوا فلا جور ولا هلع )
( كأنهم في الوغى والموت مكتنع ... أسد بحلية في أرساغها فدع )
( خذ منهم ما أتوا عفوا إذا غضبوا ... ولا يكن همك الأمر الذي منعوا )
( فإن في حربهم فاترك عداوتهم ... شرا يخاض عليه السم والسلع )
( أكرم بقوم رسول الله شيعتهم ... إذا تفاوتت الأهواء والشيع )
( أهدى لهم مدحتي قلب يوازره ... فيما أحب لسان حائك صنع )
( فإنهم أفضل الأحياء كلهم ... إن جد بالناس جد القول أو شمعوا )
فلما فرغ حسان قال الأقرع بن حابس : إن هذا الرجل لمؤتى له لخطيبه أخطب من خطيبنا ولشاعره أشعر من شاعرنا ولأصواتهم أعلى من أصواتنا ثم أسلموا فأجازهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فأحسن جوائزهم (3/446)
فصل
قال ابن إسحاق : فلما قدم وفد بني تميم دخلوا المسجد ونادوا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن اخرج إلينا يا محمد فآذى ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم من صياحهم فخرج إليهم فقالوا : جئنا لنفاخرك فأذن لشاعرنا وخطيبنا قال : نعم قد أذنت لخطيبكم فليقم فقام عطارد بن حاجب فقال : الحمد لله الذي جعلنا ملوكا الذي له الفضل علينا والذي وهب لنا أموالا عظاما نفعل فيها المعروف وجعلنا أعز أهل المشرق وأكثره عددا وأيسره عدة فمن مثلنا في الناس ؟ ألسنا رؤوس الناس وأولي فضلهم فمن فاخرنا فليعد مثل ما عددنا فلو شئنا لأكثرنا من الكلام ولكن نستحيي من الإكثار لما أعطانا أقول هذا لأن تأتوا بمثل قولنا أو أمر أفضل من أمرنا ثم جلس فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لثابت بن قيس بن شماس : قم فأجبه فقام فقال : الحمد لله الذي السماوات والأرض خلقه قضى فيهن أمره ووسع كرسيه علمه ولم يكن شئ قط إلا من فضله ثم كان من فضله أن جعلنا ملوكا واصطفى من خير خلقه رسولا أكرمه نسبا وأصدقه حديثا وأفضله حسبا فأنزل عليه كتابا وائتمنه على خلقه وكان خيرة الله من العالمين ثم دعا الناس إلى الإيمان بالله فآمن به المهاجرون من قومه ذوي رحمه أكرم الناس أحسابا وأحسنهم وجوها وخير الناس فعلا ثم كان أول الخلق إجابة واستجابة لله حين دعاه رسول الله صلى الله عليه و سلم نحن فنحن أنصار الله ووزراء رسول الله صلى الله عليه و سلم نقاتل الناس حتى يؤمنوا فمن آمن بالله ورسوله منع ماله ودمه ومن نكث جاهدناه في الله أبدا وكان قتله علينا يسيرا أقول هذا وأستغفر الله العظيم للمؤمنين والمؤمنات والسلام عليكم
ثم ذكر قيام الزبرقان وإنشاده وجواب حسان له بالأبيات المتقدمة فلما فرغ حسان من قوله قال الأقرع بن حابس : إن هذا الرجل خطيبه أخطب من خطيبنا وشاعره أشعر من شاعرنا وأقوالهم أعلى من أقوالنا ثم أجازهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فأحسن جوائزهم (3/448)
فصل
في ذكر سرية قطبة بن عامر بن حديدة إلى خثعم
وكانت في صفر سنة تسع قال ابن سعد : قالوا : بعث رسول الله قطبة بن عامر في عشرين رجلا إلى حي من خثعم بناحية تبالة وأمره أن يشن الغارة فخرجوا على عشرة أبعرة يعتقبونها فأخذوا رجلا فسألوه فاستعجم عليهم فجعل يصيح بالحاضرة ويحذرهم فضربوا عنقه ثم أقاموا حتى نام الحاضرة فشنوا عليهم الغارة فاقتتلوا قتالا شديدا حتى كثر الجرحى في الفريقين جميعا وقتل قطبة بن عامر من قتل وساقوا النعم والنساء والشاء إلى المدينة وفي القصة : أنه اجتمع القوم وركبوا في آثارهم فأرسل الله سبحانه عليهم سيلا عظيما حال بينهم وبين المسلمين فساقوا النعم والشاء والسبي وهم ينظرون لا يستطيعون أن يعبروا إليهم حتى غابوا عنهم (3/449)
فصل
ذكر سرية الضحاك بن سفيان الكلابي إلى بني كلاب في ربيع الأول سنة تسع
قالوا : بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم جيشا إلى بني كلاب وعليهم الضحاك بن سفيان بن عوف الطائي ومعه الأصيد بن سلمة فلقوهم بالزج زج لاوة فدعوهم إلى الإسلام فأبوا فقاتلوهم فهزموهم فلحق الأصيد أباه سلمة وسلمة على فرس له في غدير بالزج فدعاه إلى الإسلام وأعطاه الأمان فسبه وسب دينه فضرب الأصيد عرقوبي فرس أبيه فلما وقع الفرس على عرقوبيه ارتكز سلمة على الرمح في الماء ثم استمسك حتى جاء أحدهم فقتله ولم يقتله ابنه (3/450)
فصل
ذكر سرية علقمة بن مجزز المدلجي إلى الحبشة سنة تسع في شهر ربيع الآخر
قالوا : فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم أن ناسا من الحبشة تراياهم أهل جدة فبعث إليهم علقمة بن مجزر في ثلاثمائة فانتهى إلى جزيرة في البحر وقد خاض إليهم البحر فهربوا منه فلما رجع تعجل بعض القوم إلى أهليهم فأذن لهم فتعجل عبد الله بن حذافة السهمي فأمره على من تعجل وكانت فيه دعابة فنزلوا ببعض الطريق وأوقدوا نارا يصطلون عليها فقال : عزمت عليكم إلا تواثبتم في هذه النار فقام بعض القوم فتجهزوا حتى ظن أنهم واثبون فيها فقال : اجلسوا إنما كنت أضحك معكم فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ من أمركم يمعصية فلا تطيعوه ]
قلت : في الصحيحين عن علي بن أبي طالب قال : بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم سرية واستعمل عليهم رجلا من الأنصار وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا فأغضبوه فقال : اجمعوا لي حطبا فجمعوا فقال : أوقدوا نارا ثم قال : ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه و سلم أن تسمعوا لي ؟ قالوا : بلى قال : فادخلوها فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا : إنما فررنا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم من النار فكانوا كذلك حتى سكن غضبه وطفئت النار فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ لو دخلوها ما خرجوا منها أبدا ] وقال : [ لا طاعة في معصية الله إنما الطاعة في المعروف ]
فهذا فيه أن الأمير كان من الأنصار وأن رسول الله صلى الله عليه و سلم هو الذي أمره وأن الغضب حمله على ذلك
وقد روى الإمام أحمد في مسنده عن ابن عباس في قوله تعالى : { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } ( النساء : 99 ) قال : نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي بعثه رسول الله صلى الله عليه و سلم في سرية فإما أن يكونا واقعتين أو يكون حديث علي هو المحفوظ والله أعلم (3/450)
فصل
في ذكر سرية علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى صنم طيىء ليهدمه في هذه السنة
قالوا : وبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم علي بن أبي طالب في مائة وخمسين رجلا من الأنصار على مائة بعير وخمسين فرسا ومعه راية سوداء لواء أبيض إلى الفلس وهو صنم طيىء ليهدمه فشنوا الغارة على محلة آل حاتم مع الفجر فهدموه وملؤوا أيديهم من السبي والنعم والشاء وفي السبي أخت عدي بن حاتم وهرب عدي إلى الشام ووجدوا في خزانته ثلاثة أسياف وثلاثة أدراع فاستعمل على السبي أبو قتادة وعلى الماشية والرثة عبد الله بن عتيك وقسم الغنائم في الطريق وعزل الصفي لرسول الله صلى الله عليه و سلم ولم يقسم على آل حاتم حتى قدم بهم المدينة
قال ابن إسحاق : قال عدي بن حاتم : ما كان رجل من العرب أشد كراهية لرسول الله صلى الله عليه و سلم مني حين سمعت به صلى الله عليه و سلم وكنت امرءا شريفا وكنت نصرانيا وكنت أسير في قومي بالمرباع وكنت في نفسي على دين وكنت ملكا في قومي فلما سمعت برسول الله صلى الله عليه و سلم كرهته فقلت لغلام عربي كان لي وكان راعيا لإبلي : لا أبالك اعدد لي من إبلي أجمالا ذللا سمانا فاحبسها قريبا منى فإذا سمعت بجيش لمحمد قد وطىء هذه البلاد فآذني ففعل ثم إنه أتاني ذات غداة فقال : يا عدي : ما كنت صانعا إذا غشيتك خيل محمد فاصنعه الآن فإني قد رأيت رايات فسألت عنها فقالوا : هذه جيوش محمد قال : فقلت : فقرب إلي أجمالي فقربها فاحتملت بأهلي وولدي ثم قلت : ألحق بأهل ديني من النصارى بالشام وخلفت بنتا لحاتم في الحاضرة فلما قدمت الشام أقمت بها وتحالفني خيل رسول الله صلى الله عليه و سلم فتصيب ابنة حاتم فيمن أصابت فقدم بها على رسول الله صلى الله عليه و سلم في سبايا من طيىء وقد بلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم هربي إلى الشام فمر بها رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت : يا رسول الله غاب الوافد وانقطع الوالد وأنا عجوز كبيرة ما بي من خدمة فمن علي من الله عليك قال : [ من وافدك ؟ ] قالت : عدي بن حاتم قال : [ الذي فر من الله ورسوله ؟ ] قالت : فمن علي قال : فلما رجع ورجل إلى جنبه يرى أنه علي قال : سليه الحملان قالت : فسألته فأمر لها به قال عدي : فأتتني أختي فقالت : لقد فعل فعلة ما كان أبوك يفعلها ائته راغبا أو راهبا فقد أتاه فلان فأصاب منه وأتاه فلان فأصاب منه قال عدي : فأتيته وهو جالس في المسجد فقال القوم : هذا عدي بن حاتم وجئت بغير أمان ولا كتاب فلما دفعت إليه أخذ بيدي وقد كان قبل ذلك قال : [ إني أرجو أن يجعل الله يده في يدي ] قال : فقام لي فلقيته امرأة ومعها صبي فقالا : إن لنا إليك حاجة فقام معهما حتى قضى حاجتهما ثم أخذ بيدي حتى أتى داره فألقت له الوليدة وسادة فجلس عليها وجلست بين يديه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : [ ما يفرك أيفرك أن تقول : لا إله إلا الله فهل تعلم من إله سوى الله ؟ ] قال : قلت : لا قال : ثم تكلم ساعة ثم قال : [ إنما تفر أن يقال : الله أكبر وهل تعلم شيئا أكبر من الله ؟ ] قال : قلت : لا قال : [ فإن اليهود مغضوب عليهم وإن النصارى ضالون ] قال : فقلت : إني حنيف مسلم قال : فرأيت وجهه ينبسط فرحا قال : ثم أمرني فأنزلت عند رجل من الأنصار وجعلت أغشاه آتيه طرفي النهار قال : فبينا أنا عنده إذ جاء قوم في ثياب من الصوف من هذه النمار قال : فصلى وقام فحث عليهم ثم قال : [ يا أيها الناس ارضخوا من الفضل ولو بصاع ولو بنصف صاع ولو بقبضة ولو ببعض قبضة يقى أحدكم وجهه حر جهنم أو النار ولو بتمرة ولو بشق تمرة فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة فإن أحدكم لاقي الله وقائل له ما أقول لكم : ألم أجعل لك مالا وولدا ؟ فيقول : بلى فيقول : أين ما قدمت لنفسك فينظر قدامه وبعده وعن يمينه وعن شماله ثم لا يجد شيئا يقي به وجهه حر جهنم ليق أحدكم وجهه النار ولو بشق تمرة فإن لم يجد فبكلمة طيبة فإني لا أخاف عليكم الفاقة فإن الله ناصركم ومعطيكم حتى تسير الظعينة ما بين يثرب والحيرة وأكثر ما يخاف على مطيتها السرق ] قال : فجعلت أقول في نفسي : فأين لصوص طيىء (3/452)
فصل
ذكر قصة كعب بن زهير مع النبي صلى الله عليه و سلم
وكانت فيما بين رجوعه من الطائف وغزوة تبوك
قال ابن إسحاق : ولما قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم من الطائف كتب بجير بن زهير إلى أخيه كعب يخبره أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قتل رجالا بمكة ممن كان يهجوه ويؤذيه وأن من بقي من شعراء قريش ابن الزبعرى وهبيرة بن أبي وهب قد هربوا في كل وجه فإن كانت لك في نفسك حاجة فطر إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فإنه لا يقتل أحدا جاءه تائبا مسلما وإن أنت لم تفعل فانج إلى نجائك وكان كعب قد قال :
( ألا أبلغا عني بجيرا رسالة ... فهل لك فيما قلت ويحك هل لكا )
( فبين لنا إن كنت لست بفاعل ... على أي شئ غير ذلك دلكا )
( على خلق لم تلف أما ولا أبا ... عليه ولم تدرك عليه أخا لكا )
( فإن أنت لم تفعل فلست بآسف ... ولا قائل إما عثرت لعا لكا )
( سقاك بها المأمون كأسا روية ... فأنهلك المأمون منها وعلكا )
قال : وبعث بها إلى بجير فلما أتت بجيرا كره أن يكتمها رسول الله صلى الله عليه و سلم فأنشده إياها فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ سقاك المأمون صدق وإنه لكذوب أنا المأمون ] ولما سمع على خلق لم تلف أما ولا أبا عليه فقال : أجل قال : لم يلف عليه أباه ولا أمه ثم قال بجير لكعب :
( من مبلغ كعبا فهل لك في التي ... تلوم عليها باطلا وهي أحزم )
( إلى الله لا العزى ولا اللات وحده ... فتنجوا إذا كان النجاء وتسلم )
( لدى يوم لا ينجو وليس بمفلت ... من الناس إلا طاهر القلب مسلم )
( فدين زهير وهو لا شئ دينه ... ودين أبي سلمى علي محرم )
فلما بلغ كعبا الكتاب ضاقت به الأرض وأشفق على نفسه وأرجف به من كان في حاضره من عدوه فقال : هو مقتول فلما لم يجد من شئ بدا قال قصيدته التي يمدح فيها رسول الله صلى الله عليه و سلم وذكر خوفه وإرجاف الوشاة به من عدوه ثم خرج حتى قدم المدينة فنزل على رجل كانت بينه وبينه معرفة من جهينة كما ذكر لي فغدا به إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم حين صلى الصبح فصلى مع رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم أشار إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : هذا رسول الله فقم إليه فاستأمنه فذكر لي أنه قام إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى جلس إليه فوضع يده في يده وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يعرفه فقال : يا رسول الله ! إن كعب بن زهير قد جاء ليستأمنك تائبا مسلما فهل أنت قابل منه إن أنا جئتك به ؟ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : نعم قال : أنا يا رسول الله كعب بن زهير
قال ابن اسحاق : فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أنه وثب عليه رجل من الأنصار فقال : يا رسول الله دعني وعدو الله أضرب عنقه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ دعه عنك فقد جاء تائبا نازعا عما كان عليه ] قال : فغضب كعب على هذا الحي من الأنصار لما صنع به صاحبهم وذلك أنه لم يتكلم فيه رجل من المهاجرين إلا بخير فقال قصيدته اللامية التي يصف فيها محبوبته وناقته التي أولها :
( بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ... متيم إثرها لم يفد مكبول )
( يسعى الغواة جنابيها وقولهم ... إنك يا ابن أبي سلمى لمقتول )
( وقال كل صديق كنت آمله ... لا ألهينك إني عنك مشغول )
( فقلت خلوا طريقي لا أبا لكم ... فكل ما قدر الرحمن مفعول )
( كل ابن أنثى وإن طالت سلامته ... يوما على آلة حدباء محمول )
( نبئت أن رسول الله أوعدني ... والعفو عند رسول الله مأمول )
( مهلا هداك الذي أعطاك نافلة الـ ... قرآن فيها مواعيظ وتفصيل )
( لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم ... أذنب ولو كثرت في الأقاويل )
( لقد أقوم مقاما لو يقوم به ... أرى وأسمع ما لو يسمع الفيل )
( لظل ترعد من خوف بوادره ... إن لم يكن من رسول الله تنويل )
( حتى وضعت يميني ما أنازعها ... في كف ذي نقمات قوله القيل )
( فلهو أخوف عندي إذ أكلمه ... وقيل إنك منسوب ومسؤول )
( من ضيغم بضراء الأرض مخدره ... في بطن عثر غيل دونه غيل )
( يغدو فيلحم ضرغامين عيشهما ... لحم من الناس مغفور خراديل )
( إذ يساور قرنا لا يحل له ... أن يترك القرن إلا وهو مفلول )
( منه تظل سباع الجو نافرة ... ولا تمشى بواديه الأراجيل )
( ولا يزال بواديه أخو ثقة ... مضرج البز والدرسان مأكول )
( إن الرسول لنور يستضاء به ... مهند من سيوف الله مسلول )
( في عصبة من قريش قال قائلهم ... ببطن مكة لما أسلموا زولوا )
( زالوا فما زال أنكاس ولا كشف ... عند اللقاء ولا ميل معازيل )
( يمشون مشي الجمال الزهر يعصمهم ... ضرب إذا عرد السود التنابيل )
( شم العرانين أبطال لبوسهم ... من نسج داود في الهيجا سرابيل )
( بيض سوابغ قد شكت لها حلق ... كأنها حلق القفعاء مجدول )
( ليسوا مفاريح إن نالت رماحهم ... قوما وليسوا مجازيعا إذا نيلوا )
( لا يقع الطعـ ن إلا في نحورهم ... وما لهم عن حياض الموت تهليل )
قال ابن إسحاق : قال عاصم بن عمر بن قتادة : فلما قال كعب : إذا عرد السود التنابيل وإنما عنى معشر الأنصار لما كان صاحبنا صنع به ما صنع وخص المهاجرين بمدحته غضبت عليه الأنصار فقال بعد أن أسلم يمدح الأنصار في قصيدته التي يقول فيها :
( من سره كرم الحياة فلا يزل ... في مقنب من صالحي الأنصار )
( ورثوا المكارم كابرا عن كابر ... إن الخيار هم بنو الأخيار )
( الباذلين نفوسهم لنبيهم ... يوم الهياج وسطوة الجبار )
( والذائدين الناس عن أديانهم ... بالمشرفي وبالقنا الخطار )
( والبائعين نفوسهم لنبيهم ... للموت يوم تعانق وكرار )
( يتطهرون يرونه نسكا لهم ... بدماء من علقوا من الكفار )
( وإذا حللت ليمنعوك إليهم ... أصبحت عند معاقل الأعفار )
( قوم إذا خوت النجوم فإنهم ... للطارقين النازلين مقاري )
وكعب بن زهير من فحول الشعراء هو وأبوه وابنه عقبة وابن إبنه العوام بن عقبة ومما يستحسن لكعب قوله :
( لو كنت أعجب من شئ لأعجبنى ... سعي الفتى وهو مخبوء له القدر )
( يسعى الفتى لأمور ليس يدركها ... فالنفس واحدة والهم منتشر )
( والمرء ما عاش ممدود له أمل ... لا تنتهي العين حتى ينتهي الأثر )
ومما يستحسن له أيضا قوله في النبي صلى الله عليه و سلم :
( تحدى به الناقة الأدماء معتجرا ... للبرد كالبدر جلي ليلة الظلم )
( ففي عطافيه أو أثناء بردته ... ما يعلم الله من دين ومن كرم ) (3/455)
فصل
في غزوة تبوك
وكانت في شهر رجب سنة تسع قال ابن إسحاق : وكانت في زمن عسرة من الناس وجدب من البلاد وحين طابت الثمار والناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم ويكرهون شخوصهم على تلك الحال وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم قلما يخرج في غزوة إلا كنى عنها وورى بغيرها إلا ما كان من غزوة تبوك لبعد الشقة وشدة الزمان
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ذات يوم وهو في جهازه للجد بن قيس أحد بني سلمة : [ يا جد ! هل لك العام في جلاد بني الأصفر ؟ ] فقال : يا رسول الله أو تأذن لي ولا تفتني ؟ فوالله لقد عرف قومي أنه ما من رجل بأشد عجبا بالنساء مني وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال : [ قد أذنت لك ] ففيه نزلت الآية : { ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني } ( التوبة : 49 )
وقال قوم من المنافقين بعضهم لبعض : لا تنفروا في الحر فأنزل الله فيهم : { وقالوا لا تنفروا في الحر } الآية ( التوبة : 81 )
ثم إن رسول الله صلى الله عليه و سلم جد في سفره وأمر الناس بالجهاز وحض أهل الغنى على النفقة والحملان في سبيل الله فحمل رجال من أهل الغنى واحتسبوا وأنفق عثمان بن عفان في ذلك نفقة عظيمة لم ينفق أحد مثلها
قلت : كانت ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها وعدتها وألف دينار عينا
وذكر ابن سعد قال : بلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم أن الروم قد جمعت جموعا كثيرة بالشام وأن هرقل قد رزق أصحابه لسنة وأجلبت معه لخم وجذام وعاملة وغسان وقدموا مقدماتهم إلى البلقاء وجاء البكاؤون وهم سبعة يستحملون رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : لا أجد ما أحملكم عليه فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا أن لا يجدوا ما ينفقون وهم سالم بن عمير وعلبة بن زيد وأبو ليلى المازني وعمرو بن عنمة وسلمة بن صخر والعرباض بن سارية وفي بعض الروايات : وعبد الله بن مغفل : ومعقل بن يسار وبعضهم يقول : البكاؤون بنو مقرن السبعة وهم من مزينة وابن إسحاق : يعد فيهم عمرو بن الحمام بن الجموح
وأرسل أبا موسى أصحابه إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ليحملهم فوافاه غضبان فقال : [ والله لا أحملكم ولا أجد ما أحملكم عليه ] ثم أتاه إبل فأرسل إليهم ثم قال : [ ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم وإني والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير ] (3/460)
فصل
وقام علبة بن زيد فصلى من الليل وبكى وقال : اللهم إنك قد أمرت بالجهاد ورغبت فيه ثم لم تجعل عندي ما أتقوى به مع رسولك ولم تجعل في يد رسولك ما يحملني عليه وإني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني فيها من مال أو جسد أو عرض ثم أصبح مع الناس فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ أين المتصدق هذه الليلة ] فلم يقم إليه أحد ثم قال : [ أين المتصدق فليقم ] فقام إليه فأخبره فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ أبشر فوالذي نفس محمد بيده لقد كتبت في الزكاة المتقبلة ]
وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم فلم يعذرهم قال ابن سعد : هم اثنان وثمانون رجلا وكان عبد الله بن أبي بن سلول قد عسكر على ثنية الوداع في حلفائه من اليهود والمنافقين فكان يقال : ليس عسكره بأقل العسكرين واستخلف رسول الله صلى الله عليه و سلم على المدينة محمد بن مسلمة الأنصاري
وقال ابن هشام : سباع بن عرفظة والأول أثبت
فلما سار رسول الله صلى الله عليه و سلم تخلف عبد الله بن أبي ومن كان معه وتخلف نفر من المسلمين من غير شك ولا ارتياب منهم : كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع وأبو خيثمة السالمي وأبو ذر ثم لحقه أبو خيثمة وأبو ذر وشهدها رسول الله صلى الله عليه و سلم في ثلاثين ألفا من الناس والخيل عشرة آلاف فرس وأقام بها عشرين ليلة يقصر الصلاة وهرقل يومئذ بحمص
قال ابن إسحاق : ولما أراد رسول الله صلى الله عليه و سلم الخروج خلف علي بن أبي طالب على أهله فأرجف به المنافقون وقالوا : ما خلفه إلا استثقالا وتخففا منه فأخذ علي رضي الله عنه سلاحه ثم خرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو نازل بالجرف فقال : يا نبي الله ! زعم المنافقون أنك إنما خلفتني لأنك استثقلتني وتخففت مني فقال : [ كذبوا ولكني خلفتك لما تركت ورائي فارجع فاخلفنى في أهلي وأهلك أفلا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ؟ إلا أنه لا نبي بعدي ] فرجع علي إلى المدينة
ثم إن أبا خيثمة رجع بعد أن سار رسول الله صلى الله عليه و سلم أياما إلى أهله في يوم حار فوجد امرأتين له في عريشين لهما في حائطه قد رشت كل واحدة منهما عريشها وبردت له ماء وهيأت له فيه طعاما فلما دخل قام على باب العريش فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له فقال : رسول الله صلى الله عليه و سلم في الضح والريح والحر وأبو خيثمة في ظل بارد وطعام مهيأ وامرأة حسناء في ماله مقيم ؟ ما هذا بالنصف ثم قال : والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله صلى الله عليه و سلم فهيئا لي زادا ففعلتا ثم قدم ناضحه فارتحله ثم خرج في طلب رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى أدركه حين نزل تبوك وقد كان أدرك أبا خيثمة عمير بن وهب الجمحي فى الطريق يطلب رسول الله صلى الله عليه و سلم فترافقا حتى إذا دنوا من تبوك قال أبو خيثمة لعمير بن وهب : إن لي ذنبا فلا عليك أن تتخلف عني حتى آتي رسول الله صلى الله عليه و سلم ففعل حتى إذا دنا من رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو نازل بتبوك قال الناس : هذا راكب على الطريق مقبل فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ كن أبا خيثمة ] قالوا : يارسول الله ! هو والله أبو خيثمة فلما أناخ أقبل فسلم على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أولى لك يا أبا خيثمة ] فأخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم خبره فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم خيرا ودعا له بخير
وقد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم حين مر بالحجر بديار ثمود قال : [ لا تشربوا من مائها شيئا ولا تتوضؤوا منه للصلاة وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه الإبل ولا تأكلوا منه شيئا ولا يخرجن أحد منكم إلا ومعه صاحب له ] ففعل الناس إلا أن رجلين من بني ساعدة خرج أحدهما لحاجته وخرج الآخر في طلب بعيره فأما الذي خرج لحاجته فإنه خنق على مذهبه وأما الذي خرج في طلب بعيره فاحتملته الريح حتى طرحته بجبلي طيىء فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ ألم أنهكم أن لا يخرج أحد منكم إلا ومعه صاحبه ] ثم دعا للذي خنق على مذهبه فشفي وأما الآخر فأهدته طيىء لرسول الله صلى الله عليه و سلم حين قدم المدينة
قلت : والذي في صحيح مسلم من حديث أبي حميد : انطلقنا حتى قدمنا تبوك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ستهب عليكم الليلة ريح شديدة فلا يقم منكم أحد فمن كان له بعير فليشد عقاله ] فهبت ريح شديدة فقام رجل فحملته الريح حتى ألقته بجبلي طيىء
قال ابن هشام : بلغني عن الزهري أنه قال : لما مر رسول الله صلى الله عليه و سلم بالحجر سجى ثوبه على وجهه واستحث راحلته ثم قال : [ لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا أنفسهم إلا وأنتم باكون خوفا أن يصيبكم ما أصابهم ]
قلت : في الصحيحين من حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لا تدخلوا على هؤلاء القوم المعذبين إلا أن تكونوا باكين فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم لا يصيبكم مثل ما أصابهم ]
وفي صحيح البخاري : أنه أمرهم بإلقاء العجين وطرحه
وفي صحيح مسلم : أنه أمرهم أن يعلفوا الإبل العجين وأن يهريقوا الماء ويستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة وقد رواه البخاري أيضا وفى حفظ راويه ما لم يحفظه من روى الطرح
وذكر البيهقي أنه نادى فيهم : الصلاة جامعة فلما اجتمعوا قال : [ علام تدخلون على قوم غضب الله عليهم ] فناداه رجل فقال : نعجب منهم يا رسول الله ! فقال : [ ألا أنبئكم بما هو أعجب من ذلك ؟ رجل من أنفسكم ينبئكم بما كان قبلكم وما هو كائن بعدكم استقيموا وسددوا فإن الله عز و جل لا يعبأ بعذابكم شيئا وسيأتي الله بقوم لا يدفعون عن أنفسهم شيئا ] (3/462)
فصل
قال ابن إسحاق : وأصبح الناس ولا ماء معهم فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فدعا رسول الله صلى الله عليه و سلم فأرسل الله سبحانه سحابة فأمطرت حتى ارتوى الناس واحتملوا حاجتهم من الماء
ثم إن رسول الله صلى الله عليه و سلم سار حتى إذا كان ببعض الطريق ضلت ناقته فقال زيد بن اللصيت وكان منافقا : أليس يزعم أنه نبي ويخبركم عن خبر السماء وهو لا يدري أين ناقته ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن رجلا يقول وذكر مقالته وإني والله لا أعلم إلا ما علمني الله وقد دلني الله عليها وهي في الوادي في شعب كذا وكذا وقد حبستها شجرة بزمامها فانطلقوا حتى تأتوني بها ] فذهبوا فأتوه بها
وفي طريقه تلك خرص حديقة المرأة بعشرة أوسق
ثم مضى رسول الله صلى الله عليه و سلم فجعل يتخلف عنه الرجل فيقولون : تخلف فلان فيقول : [ دعوه فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه ]
وتلوم على أبي ذر بعيره فلما أبطأ عليه أخذ متاعه على ظهره ثم خرج يتبع أثر رسول الله صلى الله عليه و سلم ماشيا ونزل رسول الله صلى الله عليه و سلم في بعض منازله فنظر ناظر من المسلمين فقال : يا رسول الله إن هذا الرجل يمشي على الطريق وحده فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ كن أبا ذر ] فلما تأمله القوم قالوا : يا رسول الله ! والله هو أبو ذر فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ رحم الله أبا ذر يمشي وحده ويموت وحده ويبعث وحده ]
قال ابن إسحاق : فحدثني بريدة بن سفيان الأسلمي عن محمد بن كعب القرظي عن عبد الله بن مسعود قال : لما نفى عثمان أبا ذر إلى الربذة وأصابه بها قدره لم يكن معه أحد إلا امرأته وغلامه فأوصاهما : أن غسلاني وكفناني ثم ضعاني على قارعة الطريق فأول ركب يمر بكم فقولوا : هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه و سلم فأعينونا على دفنه فلما مات فعلا ذلك به ثم وضعاه على قارعة الطريق وأقبل عبد الله بن مسعود في رهط معه من أهل العراق عمارا فلم يرعهم إلا بالجنازة على ظهر الطريق قد كادت الإبل تطؤها وقام إليهم الغلام فقال : هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه و سلم فأعينونا على دفنه قال : فاستهل عبد الله يبكي ويقول : صدق رسول الله صلى الله عليه و سلم تمشي وحدك وتموت وحدك وتبعث وحدك ثم نزل هو وأصحابه فواروه ثم حدثهم عبد الله بن مسعود حديثه وما قال له رسول الله صلى الله عليه و سلم في مسيره إلى تبوك
قلت : وفي هذه القصة نظر فقد ذكر أبو حاتم بن حبان في صحيحه وغيره في قصة وفاته عن مجاهد عن إبراهيم بن الأشتر عن أبيه عن أم ذر قالت : لما حضرت أبا ذر الوفاة بكيت فقال : ما يبكيك ؟ فقلت : ما لي لا أبكي وأنت تموت بفلاة من الأرض وليس عندي ثوب يسعك كفنا ولا يدان لي في تغييبك ؟ قال : ابشري ولا تبكي فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول لنفر أنا فيهم : [ ليموتن رجل منكم بفلاة من الأرض يشهده عصابة من المسلمين ] وليس أحد من أولئك النفر إلا وقد مات في قرية وجماعة فأنا ذلك الرجل فوالله ما كذبت ولا كذبت فأبصري الطريق فقلت : أنى وقد ذهب الحاج وتقطعت الطرق ؟ ! فقال : اذهبي فتبصري قالت : فكنت أسند إلى الكثيب أتبصر ثم أرجع فأمرضه فبينا أنا وهو كذلك إذ أنا برجال على رحالهم كأنهم الرخم تخب بهم رواحلهم قالت : فأشرت إليهم فأسرعوا إلي حتى وقفوا علي فقالوا : يا أمة الله ! مالك ؟ قلت : امرؤ من المسلمين يموت تكفنونه قالوا : ومن هو ؟ قلت : أبو ذر قالوا : صاحب رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ قلت : نعم ففدوه بآبائهم وأمهاتهم وأسرعوا إليه حتى دخلوا عليه فقال لهم : أبشروا فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول لنفر أنا فيهم : [ ليموتن رجل منكم بفلاة من الأرض يشهده عصابة من المؤمنين ] وليس من أولئك النفر رجل إلا وقد هلك في جماعة والله ما كذبت ولا كذبت إنه لو كان عندي ثوب يسعني كفنا لي أو لامرأتي لم أكفن إلا في ثوب هو لي أو لها فإني أنشدكم الله أن لا يكفنني رجل منكم كان أميرا أو عريفا أو بريدا أو نقيبا وليس من أولئك النفر أحد إلا وقد قارف بعض ما قال إلا فتى من الأنصار قال : أنا يا عم أكفنك في ردائي هذا وفي ثوبين من عيبتي من غزل أمي قال : أنت فكفني فكفنه الأنصاري وقاموا عليه ودفنوه في نفر كلهم يمان
رجعنا إلى قصة تبوك وقد كان رهط من المنافقين منهم : وديعة بن ثابت أخو بني عمرو بن عوف ومنهم رجل من أشجع حليف لبني سلمة يقال له : مخشي بن حمير قال بعضهم لبعض : أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم لبعض ؟ والله لكأنا بكم غدا مقربين في الجبال إرجافا وترهيبا للمؤمنين فقال مخشي بن حمير : والله لوددت أني أقاضى على أن يضرب كل منا مائة جلدة وإنا ننفلت أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه
وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لعمار بن ياسر : [ أدرك القوم فإنهم قد احترقوا فسلهم عما قالوا ؟ فإن أنكروا فقل : بل قلتم : كذا وكذا ] فانطلق إليهم عمار فقال لهم ذلك فأتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم يعتذرون إليه فقال وديعة بن ثابت : كنا نخوض ونلعب فأنزل الله فيهم { ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب } ( التوبة : 65 ) فقال مخشي بن حمير : يا رسول الله ! قعد بي اسمي واسم أبي فكان الذي عفي عنه في هذه الآية وتسمى عبد الرحمن وسأل الله أن يقتل شهيدا لا يعلم بمكانه فقتل يوم اليمامة فلم يوجد له أثر
وذكر ابن عائذ في مغازيه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نزل تبوك في زمان قل ماؤها فيه فاغترف رسول الله صلى الله عليه و سلم غرفة بيده من ماء فمضمض بها فاه ثم بصقه فيها ففارت عينها حتى امتلأت فهى كذلك حتى الساعة
قلت : في صحيح مسلم أنه قال قبل وصوله إليها : [ إنكم ستأتون غدا إن شاء الله تعالى عين تبوك وإنكم لن تأتوها حتى يضحي النهار فمن جاءها فلا يمسن من مائها شيئا حتى آتي ] قال : فجئناها وقد سبق إليها رجلان والعين مثل الشراك تبض بشئ من ماء فسألهما رسول الله صلى الله عليه و سلم هل مسستما من مائها شيئا ؟ قالا : نعم فسبهما النبي صلى الله عليه و سلم وقال لهما ما شاء الله أن يقول ثم غرفوا من العين قليلا قليلا حتى اجتمع في شئ وغسل رسول الله صلى الله عليه و سلم فيه وجهه ويديه ثم أعاده فيها فجرت العين بماء منهمر حتى استقى الناس ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يوشك يا معاذ إن طالت بك حياة أن ترى ما ها هنا قد ملىء جنانا ] (3/466)
فصل
ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى تبوك أتاه صاحب أيلة فصالحه وأعطاه الجزية وأتاه أهل جربا وأذرح فأعطوه الجزية وكتب لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم كتابا فهو عندهم وكتب لصاحب أيلة : بسم الله الرحمن الرحيم هذا أمنة من الله ومحمد النبي رسول الله ليحنة بن رؤبة وأهل أيلة سفنهم وسيارتهم فى البر والبحر لهم ذمة الله ومحمد النبي ومن كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر فمن أحدث منهم حدثا فإنه لا يحول ماله دون نفسه وإنه لمن أخذه من الناس وإنه لا يحل أن يمنعوا ماء يردونه ولا طريقا يردونه من بحر أو بر (3/470)
فصل
في بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم خالد بن الوليد إلى أكيدر دومة
قال ابن إسحاق : ثم إن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث خالد بن الوليد إلى أكيدر دومة وهو أكيدر بن عبد الملك رجل من كندة وكان نصرانيا وكان ملكا عليها فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لخالد : [ إنك ستجده يصيد البقر ] فخرج خالد حتى إذا كان من حصنه بمنظر العين وفي ليلة مقمرة صافية وهو على سطح له ومعه امرأته فباتت البقر تحك بقرونها باب القصر فقالت له امرأته : هل رأيت مثل هذا قط ؟ قال : لا والله قالت : فمن يترك هذه ؟ قال : لا أحد فنزل فأمر بفرسه فأسرج له وركب معه نفر من أهل بيته فيهم أخ له يقال له : حسان فركبا وخرجوا معه بمطاردهم فلما خرجوا تلقتهم خيل رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخذته وقتلوا أخاه وقد كان عليه قباء من ديباج مخوص بالذهب فاستلبه خالد فبعث به إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم قبل قدومه عليه ثم إن خالدا قدم بأكيدر على رسول الله صلى الله عليه و سلم فحقن له دمه وصالحه على الجزية ثم خلى سبيله فرجع إلى قريته
وقال ابن سعد : بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم خالدا في أربعمائة وعشرين فارسا فذكر نحو ما تقدم قال : وأجار خالد أكيدر من القتل حتى يأتي به رسول الله صلى الله عليه و سلم على أن يفتح له دومة الجندل ففعل وصالحه على ألفي بعير وثمانمائة رأس وأربعمائة درع وأربعمائة رمح فعزل للنبى صلى الله عليه و سلم صفية خالصا ثم قسم الغنيمة فأخرج الخمس فكان للنبي صلى الله عليه و سلم ثم قسم ما بقي في أصحابه فصار لكل واحد منهم خمس فرائض
وذكر ابن عائذ في هذا الخبر أن أكيدر قال عن البقر : والله ما رأيتها قط أتتنا إلا البارحة ولقد كنت أضمر لها اليومين والثلاثة ولكن قدر الله
قال موسى بن عقبة : واجتمع أكيدر ويحنة عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فدعاهما إلى الإسلام فأبيا وأقرا بالجزية فقاضاهما رسول الله صلى الله عليه و سلم على قضية دومة وعلى تبوك وعلى أيلة وعلى تيماء وكتب لهما كتابا
رجعنا إلى قصة تبوك : قال ابن إسحاق : فأقام رسول الله صلى الله عليه و سلم بتبوك بضع عشرة ليلة لم يجاوزها ثم انصرف قافلا إلى المدينة وكان في الطريق ماء يخرج من وشل يروي الراكب والراكبين والثلاثة بواد يقال له : وادي المشقق فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من سبقنا إلى ذلك الماء فلا يستقين منه شيئا حتى نأتيه ] قال : فسبقه إليه نفر من المنافقين فاستقوا فلم ير فيه شيئا فقال : [ أولم أنههم أن يستقوا منه شيئا حتى آتيه ] ثم لعنهم رسول الله صلى الله عليه و سلم ودعا عليهم ثم نزل فوضع يده تحت الوشل فجعل يصب في يده ما شاء الله أن يصب ثم نضحه به ومسحه بيده ودعا رسول الله صلى الله عليه و سلم بما شاء الله أن يدعو به فانخرق من الماء - كما يقول من سمعه - ما إن له حسا كحس الصواعق فشرب الناس واستقوا حاجتهم منه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لئن بقيتم أو من بقي منكم ليسمعن بهذا الوادي وهو أخصب ما بين يديه وما خلفه ]
قلت : ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لهم : [ إنكم ستأتون غدا إن شاء الله عين تبوك وإنكم لن تأتوها حتى يضحي النهار فمن جاءها فلا يمس من مائها شيئا ] الحديث وقد تقدم
فإن كانت القصة واحدة فالمحفوظ حديث مسلم وإن كانت قصتين فهو ممكن
قال : وحدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي أن عبد الله بن مسعود كان يحدث قال : قمت من جوف الليل وأنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في غزوة تبوك فرأيت شعلة من نار في ناحية العسكر فاتبعتها أنظر إليها فإذا رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبو بكر وعمر وإذا عبد الله ذو البجادين المزني قد مات وإذا هم قد حفروا له ورسول الله صلى الله عليه و سلم في حفرته وأبو بكر وعمر يدليانه إليه وهو يقول : [ أدنيا إلي أخاكما ] فدلياه إليه فلما هيأه لشقه قال : [ اللهم إني قد أمسيت راضيا عنه فارض عنه ] قال يقول عبد الله بن مسعود : يا ليتني كنت صاحب الحفرة
وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم مرجعه من غزوة تبوك : [ إن بالمدينة لأقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم ] قالوا : يا رسول الله ! وهم بالمدينة ؟ قال : [ نعم حبسهم العذر ] (3/471)
فصل
في خطبته صلى الله عليه و سلم بتبوك وصلاته
ذكر البيهقي في الدلائل والحاكم من حديث عقبة بن عامر قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في غزوة تبوك فاسترقد رسول الله صلى الله عليه و سلم ليلة لما كان منها على ليلة فلم يستيقظ فيها حتى كانت الشمس قيد رمح قال : [ ألم أقل لك يا بلال أكلأ لنا الفجر ] فقال : يا رسول الله ! ذهب بي من النوم الذي ذهب بك فانتقل رسول الله صلى الله عليه و سلم من ذلك المنزل غير بعيد ثم صلى ثم ذهب بقية يومه وليلته فأصبح بتبوك فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال : [ أما بعد : فإن أصدق الحديث كتاب الله وأوثق العرى كلمة التقوى وخير الملل ملة إبراهيم وخير السنن سنة محمد وأشرف الحديث ذكر الله وأحسن القصص هذا القرآن وخير الأمور عوازمها وشر الأمور محدثاتها وأحسن الهدي هدي الأنبياء وأشرف الموت قتل الشهداء وأعمى العمى الضلالة بعد الهدى وخير الأعمال ما نفع ! وخير الهدى ما اتبع وشر العمى عمى القلب واليد العليا خير من اليد السفلى وما قل وكفى خير مما كثر وألهى وشر المعذرة حين يحضر الموت وشر الندامة يوم القيامة ومن الناس من لا يأتي الجمعة إلا دبرا ومنهم من لا يذكر الله إلا هجرا ومن أعظم الخطايا اللسان الكذاب وخير الغنى غنى النفس وخير الزاد التقوى ورأس الحكم مخافة الله عز و جل وخير ما وقر فى القلوب اليقين والارتياب من الكفر والنياحة من عمل الجاهلية والغلول من جثا جهنم والسكر كي من النار والشعر من إبليس والخمر جماع الإثم وشر المأكل مال اليتيم والسعيد من وعظ بغيره والشقي من شقي في بطن أمه وإنما يصير أحدكم إلى موضع أربعة أذرع والأمر إلى الآخرة وملاك العمل خواتمه وشر الروايا روايا الكذب وكل ما هو آت قريب وسباب المؤمن فسوق وقتاله كفر وأكل لحمه من معصية الله وحرمة ماله كحرمة دمه ومن يتألى على الله يكذبه ومن يغفر يغفر له ومن يعف يعف الله عنه ومن يكظم الغيظ يأجره الله ومن يصبر على الرزية يعوضه الله ومن يبتغ السمعة يسمع الله به ومن يتصبر يضعف الله له ومن يعص الله يعذبه الله ] ثم استغر ثلاثا
وذكر أبو داود في سننه من حديث ابن وهب أخبرني معاوية عن سعيد بن غزوان عن أبيه أنه نزل بتبوك وهو حاج فإذا رجل مقعد فسألته عن أمره قال : سأحدثك حديثا فلا تحدث به ما سمعت أني حى : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم نزل بتبوك إلى نخلة فقال : [ هذه قبلتنا ] ثم صلى إليها قال : فأقبلت وأنا غلام أسعى حتى مررت بينه وبينها فقال : قطع صلاتنا قطع الله أثره قال : فما قمت عليهما إلى يومي هذا
ثم ساقه أبو داود من طريق وكيع عن سعيد بن عبد العزيز عن مولى ليزيد بن نمران عن يزيد بن نمران قال : رأيت رجلا بتبوك مقعدا فقال : ممرت بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم على حمار وهو يصلي فقال : [ اللهم اقطع أثره ] فما مشيت عليهما بعد وفي هذا الإسناد والذي قبله ضعف (3/473)
فصل
في جمعه بين الصلاتين في غزوة تبوك
قال أبو داود : حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل عن عامر بن واثلة عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه و سلم كان فى غزوة تبوك إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر حتى يجمعها إلى العصر فيصليهما جميعا وإذا ارتحل قبل المغرب أخر المغرب حتى يصليها مع العشاء وإذا ارتحل بعد المغرب عجل العشاء فصلاها مع المغرب
وقال الترمذي : إذا ارتحل بعد زيغ الشمس عجل العصر إلى الظهر وصلى الظهر والعصر جميعا وقال : حديث حسن غريب وقال أبو داود : هذا حديث منكر وليس في تقديم الوقت حديث قائم
وقال أبو محمد بن حزم : لا يعلم أحد من أصحاب الحديث ليزيد بن أبي حبيب سماعا من أبي الطفيل
وقال الحاكم في حديث أبي الطفيل هذا : هو حديث رواته أئمة ثقات وهو شاذ الإسناد والمتن لا نعرف له علة نعلله بها فنظرنا فإذا الحديث موضوع وذكر عن البخاري : قلت لقتيبة بن سعيد : مع من كتبت عن الليث حديث يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل ؟ قال : كتبته مع خالد المدائني وكان خالد المدائني يدخل الأحاديث على الشيوخ ورواه أبو داود أيضا : حدثنا يزيد بن خالد بن هشام بن يزيد بن عبد الله بن موهب الرملي حدثنا مفضل بن فضالة والليث بن سعد عن هشام بن سعد عن أبي الزبير عن أبي الطفيل عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان في غزوة تبوك إذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين الظهر والعصر وفى المغرب مثل ذلك : إن غابت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين المغرب والعشاء وإن ارتحل قبل أن تغيب الشمس أخر المغرب حتى ينزل للعشاء ثم يجمع بينهما
وهشام بن سعد : ضعيف عندهم ضعفه الإمام أحمد وابن معين وأبو حاتم وأبو زرعة ويحيى بن سعيد وكان لا يحدث عنه وضعفه النسائي أيضا وقال أبو بكر البزار : لم أر أحدا توقف عن حديث هشام بن سعد ولا اعتل عليه بعلة توجب التوقف عنه وقال أبو داود : حديث المفضل والليث حديث منكر (3/475)
فصل
في رجوع النبي صلى الله عليه و سلم من تبوك وما هم المنافقون به من الكيد به وعصمة الله إياه
ذكر أبو الأسود في مغازيه عن عروة قال : ورجع رسول الله صلى الله عليه و سلم قافلا من تبوك إلى المدينة حتى إذا كان ببعض الطريق مكر برسول الله صلى الله عليه و سلم ناس من المنافقين فتآمروا أن يطرحوه من رأس عقبة في الطريق فلما بلغوا العقبة أرادوا أن يسلكوها معه فلما غشيهم رسول الله صلى الله عليه و سلم أخبر خبرهم فقال : [ من شاء منكم أن يأخذ ببطن الوادي فإنه أوسع لكم ] وأخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم العقبة وأخذ الناس ببطن الوادي إلا النفر الذين هموا بالمكر برسول الله صلى الله عليه و سلم لما سمعوا بذلك استعدوا وتلثموا وقد هموا بأمر عظيم وأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم حذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر فمشيا معه وأمر عمارا أن يأخذ بزمام الناقة وأمر حذيفة أن يسوقها فبينا هم يسيرون إذ سمعوا وكزة القوم من ورائهم قد غشوه فغضب رسول الله صلى الله عليه و سلم وأمر حذيفة أن يردهم وأبصر حذيفة غضب رسول الله صلى الله عليه و سلم فرجع ومعه محجن واستقبل وجوه رواحلهم فضربها ضربا بالمحجن وأبصر القوم وهم متلثمون ولا يشعر إلا أن ذلك فعل المسافر فأرعبهم الله سبحانه حين أبصروا حذيفة وظنوا أن مكرهم قد ظهر عليه فأسرعوا حتى خالطوا الناس وأقبل حذيفة حتى أدرك رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما أدركه قال : [ اضرب الراحلة يا حذيفة وامش أنت يا عمار ] فأسرعوا حتى استووا بأعلاها فخرجوا من العقبة ينتظرون الناس فقال النبي صلى الله عليه و سلم لحذيفة : [ هل عرفت من هؤلاء الرهط أو الركب أحدا ؟ ] قال حذيفة : عرفت راحلة فلان وفلان وقال : كانت ظلمة الليل وغشيتهم وهم متلثمون فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ هل علمتم ما كان شأن الركب وما أرادوا ؟ ] قالوا : لا والله يا رسول الله ! قال : [ فإنهم مكروا ليسيروا معي حتى إذا اطلعت في العقبة طرحوني منها ] قالوا : أولا تأمر بهم يا رسول الله إذا فنضرب أعناقهم قال : [ أكره أن يتحدث الناس ويقولوا : إن محمدا قد وضع يده في أصحابه فسماهم لهما وقال : اكتماهم ]
وقال ابن إسحاق في هذه القصة : إن الله قد أخبرني بأسمائهم وأسماء آبائهم وسأخبرك بهم إن شاء الله غدا عند وجه الصبح فانطلق حتى إذا أصبحت فأجمعهم فلما أصبح قال : ادع عبد الله بن أبي وسعد بن أبي سرح وأبا خاطر الأعرابي وعامرا وأبا عامر والجلاس بن سويد بن الصامت وهو الذي قال : لا ننتهي حتى نرمي محمدا من العقبة الليلة وإن كان محمد وأصحابه خيرا منا إنا إذا لغنم وهو الراعي ولا عقل لنا وهو العاقل وأمره أن يدعو مجمع بن حارثة ومليحا التيمي وهو الذي سرق طيب الكعبة وارتد عن الإسلام وانطلق هاربا في الأرض فلا يدرى أين ذهب وأمره أن يدعو حصن بن نمير الذي أغار على تمر الصدقة فسرقه وقال له رسول اله صلى الله عليه و سلم : [ ويحك ما حملك على هذا ؟ ] فقال : حملنى عليه أني ظننت أن الله لا يطلعك عليه فأما إذا أطلعك الله عليه وعلمته فأنا أشهد اليوم أنك رسول الله وإنى لم أؤمن بك قط قبل هذه الساعة فأقال رسول الله صلى الله عليه و سلم عثرته وعفا عنه وأمره أن يدعو طعيمة بن أبيرق وعبد الله بن عيينة وهو الذي قال لأصحابه : اسهروا هذه الليلة تسلموا الدهر كله فوالله ما لكم أمر دون أن تقتلوا هذا الرجل فدعاه فقال : [ ويحك ما كان ينفعك من قتلي لو أني قتلت ؟ ] فقاك عبد الله : فوالله يا رسول الله لا نزال بخير ما أعطاك الله النصر على عدوك إنما نحن بالله وبك فتركه رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال : ادع مرة بن الربيع وهو الذي قال : نقتل الواحد الفرد فيكون الناس عامة بقتله مطمئنين فدعاه رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ ويحك ما حملك على أن تقول الذي قلت ؟ ] فقال : يا رسول الله ! إن كنت قلت شيئا من ذلك إنك لعالم به وما قلت شيئا من ذلك فجمعهم رسول الله صلى الله عليه و سلم وهم اثنا عشر رجلا الذين حاربوا الله ورسوله وأرادوا قتله فأخبرهم رسول الله صلى الله عليه و سلم بقولهم ومنطقهم وسرهم وعلانيتهم وأطلع الله سبحانه نبيه على ذلك بعلمه ومات الاثنا عشر منافقين محاربين لله ولرسوله وذلك قوله عز و جل : { وهموا بما لم ينالوا } ( التوبة : 74 ) وكان أبو عامر رأسهم وله بنوا مسجد الضرار وهو الذي كان يقال له : الراهب فسماه رسول الله صلى الله عليه و سلم الفاسق وهو أبو حنظلة غسيل الملائكة فأرسلوا إليه فقدم عليهم فلما قدم عليهم أخزاه الله وإياهم فانهارت تلك البقعة في نار جهنم (3/477)
فصل
قلت : وفي سياق ما ذكره ابن إسحاق وهم من وجوه :
أحدها : أن النبي صلى الله عليه و سلم أسر إلى حذيفة أسماء أولئك المنافقين ولم يطلع عليهم أحدا غيره وبذلك كان يقال لحذيفة : إنه صاحب السر الذي لا يعلمه غيره ولم يكن عمر ولا غيره يعلم أسماءهم وكان إذا مات الرجل وشكوا فيه يقول عمر : انظروا فإن صلى عليه حذيفة وإلا فهو منافق منهم
الثاني : ما ذكرناه من قوله : فيهم عبد الله بن أبي وهو وهم ظاهر وقد ذكر ابن إسحاق نفسه أن عبد الله بن أبي تخلف في غزوة تبوك
الثالث : أن قوله وسعد بن أبي سرح وهم أيضا وخطأ ظاهر فإن سعد بن أبي سرح لم يعرف له إسلام البتة وإنما ابنه عبد الله كان قد أسلم وهاجر ثم ارتد ولحق بمكة حتى استأمن له عثمان النبي صلى الله عليه و سلم عام الفتح فأمنه وأسلم فحسن إسلامه ولم يظهر منه بعد ذلك شئ ينكر عليه ولم يكن مع هؤلاء الاثني عشر البتة فما أدري ما هذا الخطأ الفاحش
الرابع : قوله : وكان أبو عامر رأسهم وهذا وهم ظاهر لا يخفى على من دون ابن إسحاق بل هو نفسه قد ذكر قصة أبي عامر هذا في قصة الهجرة عن عاصم بن عمر بن قتادة أن أبا عامر لما هاجر رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المدينة خرج إلى مكة ببضعة عشر رجلا فلما افتتح رسول الله صلى الله عليه و سلم مكة خرج إلى الطائف فلما أسلم أهل الطائف خرج إلى الشام فمات بها طريدا وحيدا غريبا فأين كان الفاسق وغزوة تبوك ذهابا وإيابا (3/479)
فصل
في أمر مسجد الضرار الذي نهى الله رسوله أن يقوم فيه فهدمه صلى الله عليه و سلم
وأقبل رسول الله صلى الله عليه و سلم من تبوك حتى نزل بذي أوان وبينها وبين المدينة ساعة وكان أصحاب مسجد الضرار أتوه وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا : يا رسول الله ! إنا قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة الشاتية وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه فقال : [ إني على جناح سفر وحال شغل ولو قدمنا إن شاء الله لأتيناكم فصلينا لكم فيه ] فلما نزل بذي أوان جاءه خبر المسجد من السماء فدعا مالك بن الدخشم أخا بني سلمة بن عوف ومعن بن عدي العجلاني فقال : انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وحرقاه فخرجا مسرعين حتى أتيا بني سالم بن عوف وهم رهط مالك بن الدخشم فقال مالك لمعن : انظرني حتى أخرج إليك بنار من أهلي ودخل إلى أهله فأخذ سعفا من النخل فأشعل فيه نارا ثم خرجا يشتدان حتى دخلاه - وفيه أهله - فحرقاه وهدماه فتفرقوا عنه فأنزل الله فيه : { والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين } ( التوبة : 107 ) إلى آخر القصة
وذكر ابن إسحاق الذين بنوه وهم اثنا عشر رجلا منهم : ثعلبة بن حاطب
وذكر عثمان بن سعيد الدارمي حدثنا عبد الله بن صالح حدثني معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : { والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا } هم أناس من الأنصار ابتنوا مسجدا فقال لهم أبو عامر : ابنوا مسجدكم واستمدوا ما استطعتم من قوة ومن سلاح فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم فآتي بجند من الروم فأخرج محمدا وأصحابه فلما فرغوا من مسجدهم أتوا النبي صلى الله عليه و سلم فقالوا : إنا قد فرغنا من بناء مسجدنا فنحب أن تصلي فيه وتدعوا بالبركة فأنزل الله عز و جل : { لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم } يعني مسجد قباء : { أحق أن تقوم فيه } ( التوبة : 108 ) إلى قوله : { فانهار به في نار جهنم } ( التوبة : 109 ) يعني قواعده { لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم } يعني : الشك { إلا أن تقطع قلوبهم } يعني بالموت (3/480)
فصل
فلما دنا رسول الله صلى الله عليه و سلم من المدينة خرج الناس لتلقيه وخرج النساء والصبيان والولائد يقلن :
( طلع البدرعلينا ... من ثنيات الوداع )
( وجب الشكرعلينا ... ما دعا لله داعي )
وبعض الرواة يهم في هذا ويقول : إنما كان ذلك عند مقدمه إلى المدينة من مكة وهو وهم ظاهر لأن ثنيات الوداع إنما هي من ناحية الشام لا يراها القادم من مكة إلى المدينة ولا يمر بها إلا إذا توجه إلى الشام فلما أشرف على المدينة قال : [ هذه طابة وهذا أحد جبل يحبنا ونحبه ]
فلما دخل قال العباس : يا رسول الله ! ائذن لي أمتدحك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ قل : لا يفضض الله فاك ] فقال :
( من قبلها طبت في الظلال وفي ... مستودع حيث يخصف الورق )
( ثم هبطت البلاد لابشر ... أنت ولا مضغة ولا علق )
( بل نطفة تركب السفين وقد ... ألجم نسرا وأهله الغرق )
( تنقل من صالب إلى رحم ... إذا مضى عالم بدا طبق )
( حتى احتوى بيتك المهيمن من ... خندف عليا تحتها النطق )
( وأنت لما ولدلت أشرقت الـ ... أرض وضاءت بنورك الأفق )
( فنحن في ذلك الضياء وفي النـ ... ور وسبل الرشاد نخترق ) (3/481)
فصل
ولما دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين ثم جلس للناس فجاءه المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له وكانوا بضعة وثمانين رجلا فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه و سلم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله وجاءه كعب بن مالك فلما سلم عليه تبسم تبسم المغضب ثم قال له : تعال قال : فجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقال لي : [ ما خلفك ألم تكن قد ابتعت ظهرك ؟ ] فقلت : بلى إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن أخرج من سخطه بعذر ولقد أعطيت جدلا ولكني والله لقد علمت إن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به علي ليوشكن الله أن يسخطك علي ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه إنى لأرجو فيه عفو الله عني والله ما كان لي من عذر والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك ] فقمت وثار رجال من بني سلمة فاتبعوني يؤنبوني فقالوا لي : والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا ولقد عجزت ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم بما اعتذر إليه المخلفون فقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه و سلم لك قال : فو الله ما زالوا يؤنبوني حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي ثم قلت لهم : هل لقي هذا معي أحد ؟ قالوا : نعم رجلان قالا مثل ما قلت فقيل لهما مثل ما قيل لك فقلت : من هما ؟ قالوا : مرارة بن ربيع العامري وهلال بن أمية الواقفي فذكروا لي رجلين صالحين شهدا بدرا فيهما أسوة فمضيت حين ذكروهما لي
ونهى رسول الله صلى الله عليه و سلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تختلف عنه فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت لي الأرض فما هي بالتي أعرف فلبثنا على ذلك خمسين ليلة فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد وآتي رسول الله صلى الله عليه و سلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة فأقول في نفسي : هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا ؟ ثم أصلي قريبا منه فأسارقه النظر فإذا أقبلت على صلاتي أقبل إلي وإذا التفت نحوه أعرض عني حتى إذا طال علي ذلك من جفوة المسلمين مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس إلي فسلمت عليه فوالله ما رد علي السلام فقلت : يا أبا قتادة ! أنشدك بالله هل تعلمني أحب الله ورسوله صلى الله عليه و سلم ؟ فسكت فعدت فناشدته فسكت فعدت فناشدته فقال : الله ورسوله أعلم ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار
فبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطي من أنباط الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول : من يدل على كعب بن مالك فطفق الناس يشيرون له حتى إذا جاءني دفع إلي كتابا من ملك غسان فإذا فيه :
أما بعد : فإنه بلغني أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة فالحق بنا نواسك فقلت لما قرأتها : وهذا أيضا من البلاء فتيممت بها التنور فسجرتها حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا رسول رسول الله صلى الله عليه و سلم يأتيني فقال : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم يأمرك أن تعتزل امرأتك فقلت : أطلقها أم ماذا ؟ قال : لا ولكن اعتزلها ولا تقربها وأرسل إلى صاحبي مثل ذلك فقلت لامرأتي : الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر فجاءت امرأة هلال بن أمية فقالت : يا رسول الله ! إن هلال بن أمية شيخ صائغ ليس له خادم فهل تكره أن أخدمه قال : لا ولكن لا يقربك قالت : إنه والله لا به حركة إلى شئ والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا قال كعب : فقال لي بعض أهلي : لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه و سلم في امرأتك كما أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه فقلت : والله لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه و سلم وما يدريني ما يقول الرسول صلى الله عليه و سلم إذا أستأذنته فيها وأنا رجل شاب ولبثت بعد ذلك عشر ليال حتى كملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن كلامنا فلما صليت صلاة الفجر صبح خمسين ليلة على سطح بيت من بيوتنا بينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله تعالى قد ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت سمعت صوت صارخ أوفى على جبل سلع بأعلى صوته : يا كعب بن مالك ! أبشر فخررت ساجدا فعرفت أن قد جاء فرج من الله وآذن رسول الله صلى الله عليه و سلم بتوبة الله علينا حين صلى الفجر فذهب الناس يبشروننا وذهب قبل صاحبي مبشرون وركض إلي رجل فرسا وسعى ساع من أسلم فأوفى على ذروة الجبل وكان الصوت أسرع من الفرس فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي فكسوته إياهما ببشراه والله ما أملك غيرهما واستعرت ثوبين فلسبتهما فانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فتلقاني الناس فوجا فوجا يهنؤوني بالتوبة يقولون : ليهنك توبة الله عليك قال كعب : حتى دخلت يهرول حتى صافحني وهنأني والله ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره ولست أنساها لطلحة فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه و سلم قال وهو يبرق وجهه من السرور : [ أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك ] قال : قلت : أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله ؟ قال : [ لا بل من عند الله ] وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا سر استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر وكنا نعرف ذلك منه فلما جلست بين يديه قلت : يا رسول الله ! إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله فقال : [ أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك ] قلت : فإني أمسك سهمي الذي بخيبر فقلت : يا رسول الله ! إن الله إنما نجاني بالصدق وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقا ما بقيت فوالله ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه و سلم إلى يومي هذا ما أبلاني والله ما تعمدت بعد ذلك إلى يومى هذا كذبا وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقيت فأنزل الله تعالى على رسوله : { لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار } ( التوبة : 117 ) إلى قوله : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين } ( التوبة : 119 ) فوالله ما أنعم الله علي نعمة قط بعد أن هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدق رسول الله صلى الله عليه و سلم أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا فإن الله قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد قال : { سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم } ( التوبة : 95 ) إلى قوله : { فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين } ( التوبة : 96 )
قال كعب : وكان تخلفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه و سلم حين حلفوا له فبايعهم واستغفر لهم وأرجأ أمرنا حتى قضى الله فيه فبذلك قال الله : { وعلى الثلاثة الذين خلفوا } ( التوبة : 118 ) وليس الذي ذكر الله مما خلفنا عن الغزو وإنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه
وقال عثمان بن سعيد الدارمي : حدثنا عبد الله بن صالح حدثني معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : { وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا } ( التوبة : 102 ) قال : كانوا عشرة رهط تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في غزوة تبوك فلما حضر رسول الله صلى الله عليه و سلم أوثق سبعة منهم أنفسهم بسواري المسجد وكان يمر النبى صلى الله عليه و سلم إذا رجع في المسجد عليهم فلما رآهم قال : [ من هؤلاء الموثقون أنفسهم بالسواري ؟ ] قالوا : هذا أبو لبابة وأصحاب له تخلفوا عنك يا رسول الله أوثقوا أنفسهم حتى يطلقهم النبي صلى الله عليه و سلم ويعذرهم قال : [ وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى يكون الله هو الذي يطلقهم رغبوا عني وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين ] فلما بلغهم ذلك قالوا : نحن لا نطلق أنفسنا حتى يكون الله هو الذي يطلقنا فأنزل الله عز و جل : { وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم } وعسى من الله واجب { إنه هو التواب الرحيم } فلما نزلت أرسل إليهم النبي صلى الله عليه و سلم فأطلقهم وعذرهم فجاؤوا بأموالهم فقالوا : يا رسول الله ! هذه أموالنا فتصدق بها عنا واستغفر لنا قال : [ ما أمرت أن آخذ أموالكم ] فأنزل الله : { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم } ( التوبة : 103 ) يقول : استغفر لهم { إن صلاتك سكن لهم } فأخذ منهم الصدقة واستغفر لهم وكان ثلاثة نفر لم يوثقوا أنفسهم بالسواري فأرجئوا لا يدرون أيعذبون أم يتاب عليهم ؟ فأنزل الله تعالى : { لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار } إلى قوله : { وعلى الثلاثة الذين خلفوا } إلى قوله : { إن الله هو التواب الرحيم } تابعه عطية بن سعد (3/483)
فصل
في الإشارة إلى بعض ما تضمنته هذه الغزوة من الفقه والفوائد
فمنها : جواز القتال في الشهر الحرام إن كان خروجه في رجب محفوظا على ما قاله ابن إسحاق ولكن ها هنا أمر آخر وهو أن أهل الكتاب لم يكونوا يحرمون الشهر الحرام بخلاف العرب فإنها كانت تحرمه وقد تقدم أن فى نسخ تحريم القتال فيه قولين وذكرنا حجج الفريقين
ومنها : تصريح الإمام للرعية وإعلامهم بالأمر الذي يضرهم ستره وإخفاؤه ليتأهبوا له ويعدوا له عدته وجواز ستر غيره عنهم والكناية عنه للمصلحة
ومنها : أن الإمام إذا استنفر الجيش لزمهم النفير ولم يجز لأحد التخلف إلا بإذنه ولا يشترط في وجوب النفير تعيين كل واحد منهم بعينه بل متى استنفر الجيش لزم كل واحد منهم الخروج معه وهذا أحد المواضع الثلاثة التى يصير فيها الجهاد فرض عين والثاني : إذا حضر العدو البلد والثالث : إذا حضر بين الصفين
ومنها : وجوب الجهاد بالمال كما يجب بالنفس وهو إحدى الروايتين عن أحمد وهي الصواب الذي لا ريب فيه فإن الأمر بالجهاد بالمال شقيق الأمر بالجهاد بالنفس في القرآن وقرينه بل جاء مقدما على الجهاد بالنفس في كل موضع إلا موضعا واحدا وهذا يدل على أن الجهاد به أهم وآكد من الجهاد بالنفس ولا ريب أنه أحد الجهادين كما قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ من جهز غازيا فقد غزا ] فيجب على القادر عليه كما يجب على القادر بالبدن ولا يتم الجهاد بالبدن إلا ببذله ولا ينتصر إلا بالعدد والعدد فإن لم يقدر أن يكثر العدد وجب عليه أن يمد بالمال والعدة وإذا وجب الحج بالمال على العاجز بالبدن فوجوب الجهاد بالمال أولى وأحرى
ومنها : ما برز به عثمان بن عفان من النفقة العظيمة في هذه الغزوة وسبق به الناس فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ غفر الله لك يا عثمان ما أسررت وما أعلنت وما أخفيت وما أبديت ] ثم قال : [ ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم ] وكان قد أنفق ألف دينار وثلاثمائة بعير بعدتها وأحلاسها وأقتابها
ومنها : أن العاجز بماله لا يعذر حتى يبذل جهده ويتحقق عجزه فإن الله سبحانه إنما نفى الحرج عن هؤلاء العاجزين بعد أن أتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم ليحملهم فقال : { لا أجد ما أحملكم عليه } فرجعوا يبكون لما فاتهم من الجهاد فهذا العاجز الذي لا حرج عليه
ومنها : استخلاف الإمام - إذا سافر - رجلا من الرعية على الضعفاء والمعذورين والنساء والذرية ويكون نائبه من المجاهدين لأنه من أكبر العون لهم وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يستخلف ابن أم مكتوم فاستخلفه بضع عشرة مرة وأما في غزوة تبوك فالمعروف عند أهل الأثر أنه استخلف علي بن أبي طالب كما في الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص قال : خلف رسول الله صلى الله عليه و سلم عليا رضي الله عنه في غزوة تبوك فقال : يا رسول الله ! تخلفني مع النساء والصبيان فقال : [ أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي ] ولكن هذه كانت خلافة خاصة على أهله صلى الله عليه و سلم وأما الاستخلاف العام فكان لمحمد بن مسلمة الأنصاري ويدل على هذا أن المنافقين لما أرجفوا به وقالوا : خلفه استثقالا أخذ سلاحه ثم لحق بالنبي صلى الله عليه و سلم فأخبره فقال : [ كذبوا ولكن خلفتك لما تركت ورائي فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك ]
ومنها : جواز الخرص للرطب على رؤوس النخل وأنه من الشرع والعمل بقول الخارص وقد تقدم في غزاة خيبر وأن الإمام يجوز أن يخرص بنفسه كما خرص رسول الله صلى الله عليه و سلم حديقة المرأة
ومنها : أن الماء الذي بآبار ثمود لا يجوز شربه ولا الطبخ منه ولا العجين به ولا الطهارة به ويجوز أن يسقى البهائم إلا ما كان من بئر الناقة وكانت معلومة باقية إلى زمن رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم استمر علم الناس بها قرنا بعد قرن إلى وقتنا هذا فلا يرد الركوب بئرا غيرها وهي مطوية محكمة البناء واسعة الأرجاء آثار العتق عليها بادية لا تشتبه بغيرها
ومنها : أن من مر بديار المغضوب عليهم والمعذبين لم ينبغ له أن يدخلها ولا يقيم بها بل يسرع السير ويتقنع بثوبه حتى يجاوزها ولا يدخل عليهم إلا باكيا معتبرا
ومن هذا إسراع النبي صلى الله عليه و سلم السير في وادي محسر بين منى وعرفة فإنه المكان الذي أهلك الله فيه الفيل وأصحابه
ومنها : أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يجمع بين الصلاتين فى السفر وقد جاء جمع التقديم في هذه القصة في حديث معاذ كما تقدم وذكرنا علة الحديث
ومن أنكره ولم يجىء جمع التقديم عنه في سفر إلا هذا وصح عنه جمع التقديم بعرفة قبل دخوله إلى عرفة فإنه جمع بين الظهر والعصر في وقت الظهر فقيل : ذلك لأجل النسك كما قال أبو حينفة وقيل : لأجل السفر الطويل كما قاله الشافعي وأحمد وقيل : لأجل الشغل وهو اشثغاله بالوقوف واتصاله إلى غروب الشمس قال أحمد : يجمع للشغل وهو قول جماعة من السلف والخلف وقد تقدم
ومنها : جواز التيمم بالرمل فإن النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه قطعوا الرمال التي بين المدينة وتبوك ولم يحملوا معهم ترابا بلا شك وتلك مفاوز معطشة شكوا فيها العطش إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وقطعا كانوا يتيممون بالأرض التي هم فيها نازلون هذا كله مما لا شك فيه مع قوله صلى الله عليه و سلم : [ فحيثما أدركت رجلا من أمتي الصلاة فعنده مسجده وطهوره ]
ومنها : أنه صلى الله عليه و سلم أقام بتبوك عشرين يوما يقصر الصلاة ولم يقل للأمة : لا يقصر الرجل الصلاة إذا أقام أكثر من ذلك ولكن اتفقت إقامته هذه المدة وهذه الإقامة في حال السفر لا تخرج عن حكم السفر سواء طالت أو قصرت إذا كان غير مستوطن ولا عازم على الإقامة بذلك الموضع
وقد اختلف السلف والخلف في ذلك اختلافا كثيرا ففي صحيح البخاري عن ابن عباس قال : أقام رسول الله صلى الله عليه و سلم في بعض أسفاره تسع عشرة يصلي ركعتين فنحن إذا أقمنا تسع عشرة نصلي ركعتين وإن زدنا على ذلك أتممنا وظاهر كلام أحمد أن ابن عباس أراد مدة مقامه بمكة زمن الفتح فإنه قال : أقام رسول الله صلى الله عليه و سلم بمكة ثمان عشرة زمن الفتح لأنه أراد حنينا ولم يكن ثم أجمع المقام وهذه إقامته التي رواها ابن عباس
وقال غيره : بل أراد ابن عباس مقامه بتبوك كما قال جابر بن عبد الله : أقام النبي صلى الله عليه و سلم بتبوك عشرين يوما يقصر الصلاة رواه الإمام أحمد في مسنده
وقال عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة : أقمنا مع سعد ببعض قرى الشام أربعين ليلة يقصرها سعد ونتمها
وقال نافع : أقام ابن عمر بأذربيجان ستة أشهر يصلى ركعتين وقد حال الثلج بينه وبين الدخول
وقال حفص بن عبيد الله : أقام أنس بن مالك بالشام سنتين يصلي صلاة المسافر
وقال أنس : أقام أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم برامهرمز سبعة أشهر يقصرون الصلاة
وقال الحسن : أقمت مع عبد الرحمن بن سمرة بكابل سنتين يقصر الصلاة ولا يجمع
وقال إبراهيم : كانوا يقيمون بالري السنة وأكثر من ذلك وسجستان السنتين
فهذا هدي رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه كما ترى وهو الصواب
وأما مذاهب الناس فقال الإمام أحمد : إذا نوى إقامة أربعة أيام أتم وإن نوى دونها قصر وحمل هذه الآثار على أن رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه لم يجمعوا الإقامة البتة بل كانوا يقولون : اليوم نخرج غدا نخرج وفي هذا نظر لا يخفى فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم فتح مكة وهى ما هي وأقام فيها يؤسس قواعد الإسلام ويهدم قواعد الشرك ويمهد أمر ما حولها من العرب ومعلوم قطعا أن هذا يحتاج إلى إقامة أيام لا يتأتى في يوم واحد ولا يومين وكذلك إقامته بتبوك فإنه أقام ينتظر العدو ومن المعلوم قطعا أنه كان بينه وبينهم عدة مراحل يحتاج قطعها إلى أيام وهو يعلم أنهم لا يوافون في أربعة أيام وكذلك إقامة ابن عمر بأذربيجان ستة أشهر يقصر الصلاة من أجل الثلج ومن المعلوم أن مثل هذا الثلج لا يتحلل ويذوب في أربعة أيام بحيث تنفتح الطرق وكذلك إقامة أنس بالشام سنتين يقصر وإقامة الصحابة برامهرمز سبعة أشهر يقصرون ومن المعلوم أن مثل هذا الحصار والجهاد يعلم أنه لا ينقضي في أربعة أيام وقد قال أصحاب أحمد : إنه لو أقام لجهاد عدو أو حبس سلطان أو مرض قصر سواء غلب على ظنه انقضاء الحاجة في مدة يسيرة أو طويلة وهذا هو الصواب لكن شرطوا فيه شرطا لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا عمل الصحابة فقالوا : شرط ذلك احتمال انقضاء حاجته في المدة التي لا تقطع حكم السفر وهى ما دون الأربعة الأيام فيقال : من أين لكم هذا الشرط والنبي لما أقام زيادة على أربعة أيام يقصر الصلاة بمكة وتبوك لم يقل لهم شيئا ولم يبين لهم أنه لم يعزم على إقامة أكثر من أربعة أيام وهو يعلم أنهم يقتدون به فى صلاته ويتأسون به في قصرها في مدة إقامته فلم يقل لهم حرفا واحدا : لا تقصروا فوق إقامة أربع ليال وبيان هذا من أهم المهمات وكذلك اقتداء الصحابة به بعده ولم يقولوا لمن صلى معهم شيئا من ذلك
وقال مالك والشافعي : إن نوى إقامة أكثر من أربعة أيام أتم وإن نوى دونها قصر
وقال أبو حنيفة : إن نوى إقامة خمسة عشر يوما أتم وإن نوى دونها قصر وهو مذهب الليث بن سعد وروي عن ثلاثة من الصحابة : عمر وابنه وابن عباس وقال سعيد بن المسيب : إذا أقمت أربعا فصل أربعا وعنه كقول أبي حنيفة
وقال علي بن أبي طالب : إن أقام عشرا أتم وهو رواية عن ابن عباس
وقال الحسن : يقصر ما لم يقدم مصرا
وقالت عائشة : يقصر ما لم يضع الزاد والمزاد
والأئمة الأربعة متفقون على أنه إذا أقام لحاجة ينتظر قضاءها يقول : اليوم أخرج غدا أخرج فإنه يقصر أبدا إلا الشافعي في أحد قوليه فإنه يقصر عنده إلى سبعة عشر أو ثمانية عشر يوما ولا يقصر بعدها وقد قال ابن المنذر في إشرافه : أجمع أهل العلم أن للمسافر أن يقصر ما لم يجمع إقامة وإن أتى عليه سنون (3/488)
فصل
ومنها : جواز بل استحباب حنث الحالف فى يمينه إذا رأى غيرها خيرا منها فيكفر عن يمينه ويفعل الذي هو خير وإن شاء قدم الكفارة على الحنث وإن شاء أخرها وقد روي حديث أبي موسى هذا إلا أتيت الذي هو أخير وتحللتها وفي لفظ : إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو أخير وفي لفظ : إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني وكل هذه الألفاظ في الصحيحين وهي تقتضي عدم الترتيب
وفي السنن من حديث عبد الرحمن بن سمرة عن النبي صلى الله عليه و سلم [ اذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فكفر عن يمينك ثم ائت الذي هو خير ]
وأصله في الصحيحين فذهب أحمد ومالك والشافعي إلى جواز تقديم الكفارة على الحنث واستثنى الشافعي التكفير بالصوم فقال : لا يجوز التقديم ومنع أبو حنيفة تقديم الكفارة مطلقا (3/495)
فصل
ومنها : انعقاد اليمين في حال الغضب إذا لم يخرج بصاحبه إلى حد لا يعلم معه ما يقول وكذلك ينفذ حكمه وتصح عقوده فلو بلغ به الغضب إلى حد الإغلاق لم تنعقد يمينه ولا طلاقه قال أحمد في رواية حنبل في حديث عائشة : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ لا طلاق ولا عتاق في إغلاق ] يريد الغضب (3/495)
فصل
ومنها : قوله صلى الله عليه و سلم : [ ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم ] قد يتعلق به الجبري ولا متعلق له به وإنما هذا مثل قوله : [ والله لا أعطي أحدا شيئا ولا أمنع وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت ] فإنه عبد الله ورسوله إنما يتصرف بالأمر فإذا أمره ربه بشئ نفذه فالله هو المعطي والمانع والحامل والرسول منفذ لما أمر به وأما قوله تعالى : { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } ( الأنفال : 17 ) فالمراد به القبضة من الحصباء التي رمى بها وجوه المشركين فوصلت إلى عيون جميعهم فأثبت الله سبحانه له الرمي باعتبار النبذ والإلقاء فإنه فعله ونفاه عنه باعتبار الإيصال إلى جميع المشركين وهذا فعل الرب تعالى لا تصل إليه قدرة العبد والرمي يطلق على الحذف وهو مبدؤه وعلى الإيصال وهو نهايته (3/496)
فصل
ومنها : تركه قتل المنافقين وقد بلغه عنهم الكفر الصريح فاحتج به من قال : لا يقتل الزنديق إذا أظهر التوبة لأنهم حلفوا لرسول الله صلى الله عليه و سلم أنهم ما قالوا وهذا إذا لم يكن إنكارا فهو توبة وإقلاع وقد قال أصحابنا وغيرهم : ومن شهد عليه بالردة فشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله لم يكشف عن شئ عنه بعد وقال بعض الفقهاء إذا جحد الردة كفاه جحدها ومن لم يقبل توبة الزنديق قال : هؤلاء لم تقم عليهم بينة ورسول الله صلى الله عليه و سلم لا يحكم عليهم بعلمه والذي بلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم عنهم قولهم لم يبلغهم إياه نصاب البينة بل شهد به عليهم واحد فقط كما شهد زيد بن أرقم وحده على عبد الله بن أبي وكذلك غيره أيضا إنما شهد عليه واحد
وفي هذا الجواب نظر فإن نفاق عبد الله بن أبي وأقواله في النفاق كانت كثيرة جدا كالمتواترة عند النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه وبعضهم أقر بلسانه وقال : إنما كنا نخوض ونلعب وقد واجهه بعض الخوارج في وجهه بقوله : إنك لم تعدل والنبي صلى الله عليه و سلم لما قيل له : ألا تقتلهم ؟ لم يقل ما قامت عليهم بينة بل قال : [ لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ]
فالجواب الصحيح إذن أنه كان في ترك قتلهم في حياة النبي صلى الله عليه و سلم مصلحة تتضمن تأليف القلوب على رسول الله صلى الله عليه و سلم وجمع كلمة الناس عليه وكان في قتلهم تنفير والإسلام بعد في غربة ورسول الله صلى الله عليه و سلم أحرص شئ على تأليف الناس وأترك شئ لما ينفرهم عن الدخول في طاعته وهذا أمر كان يختص بحال حياته صلى الله عليه و سلم وكذلك ترك قتل من طعن عليه في حكمه بقوله في قصة الزبير وخصمه : أن كان ابن عمتك
وفي قسمه بقوله : إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله وقول الآخر له : إنك لم تعدل فإن هذا محض حقه له أن يستوفيه وله أن يتركه وليس للأمة بعده ترك استيفاء حقه بل يتعين عليهم استيفاؤه ولا بد ولتقرير هذه المسائل موضع آخر والغرض التنبيه والإشارة (3/496)
فصل
ومنها : أن أهل العهد والذمة إذا أحدث أحد منهم حدثا فيه ضرر على الإسلام انتقض عهده في ماله ونفسه وأنه إذا لم يقدر عليه الإمام فدمه وماله هدر وهو لمن أخذه كما قال في صلح أهل أيلة : فمن أحدث منهم حدثا فإنه لا يحول ماله دون نفسه وهو لمن أخذه من الناس وهذا لأنه بالأحداث صار محاربا حكمه حكم أهل الحرب (3/498)
فصل
ومنها : جواز الدفن بالليل كما دفن رسول الله صلى الله عليه و سلم ذا البجادين ليلا وقد سئل أحمد عنه فقال : وما بأس بذلك وقال أبو بكر : دفن ليلا وعلى دفن فاطمة ليلا وقالت عائشة : سمعنا صوت المساحي من آخر الليل فى دفن النبي صلى الله عليه و سلم انتهى ودفن عثمان وعائشة وابن مسعود ليلا
وفي الترمذي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم دخل قبرا ليلا فأسرج له سراج فأخذه من قبل القبلة وقال : [ رحمك الله إن كنت لأواها تلاء للقرآن ] قال الترمذي : حديث حسن
وفي البخاري : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سأل عن رجل فقال : [ من هذا ؟ ] قالوا : فلان دفن البارحة فصلى عليه
فإن قيل : فما تصنعون بما رواه مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه و سلم خطب يوما فذكر رجلا من أصحابه قبض فكفن في كفن غير طائل وقبر ليلا فزجر النبى صلى الله عليه و سلم أن يقبر الرجل بالليل حتى يصلى عليه إلا أن يضطر إنسان إلى ذلك ؟ قال الإمام أحمد : إليه أذهب
قيل : نقول بالحديثين بحمد الله ولا نرد أحدهما بالآخر فنكره الدفن بالليل بل نزجر عنه إلا لضرورة أو مصلحة راجحة كميت مات مع المسافرين بالليل ويتضررون بالإقامة به إلى النهار وكما إذا خيف على الميت الانفجار ونحو ذلك من الأسباب المرجحة للدفن ليلا وبالله التوفيق (3/498)
فصل
ومنها : أن الإمام إذا بعث سرية فغنمت غنيمة أوأسرت أسيرا أوفتحت حصنا كان ما حصل من ذلك لها بعد تخميسه فإن النبي صلى الله عليه و سلم قسم ما صالح عليه أكيدر من فتح دومة الجندل بين السرية الذين بعثهم مع خالد وكانوا أربعمائة وعشرين فارسا وكانت غنائمهم ألفي بعير وثمانمائة رأس فأصاب كل رجل منهم خمس فرائض وهذا بخلاف ما إذا أخرجت السرية من الجيش في حال الغزو فأصابت ذلك بقوة الجيش فإن ما أصابوا يكون غنيمة للجميع بعد الخمس والنفل وهذا كان هديه صلى الله عليه و سلم (3/499)
فصل
ومنها : قوله صلى الله عليه و سلم : [ إن بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم ] فهذه المعية هي بقلوبهم وهممهم لا كما يظنه طائفة من الجهال أنهم معهم بأبدانهم فهذا محال لأنهم قالوا له : وهم بالمدينة ؟ قال : [ وهم بالمدينة حبسهم العذر ] وكانوا معه بأرواحهم وبدار الهجرة بأشباحهم وهذا من الجهاد بالقلب وهو أحد مراتبه الأربع وهي القلب واللسان والمال والبدن وفي الحديث : [ جاهدوا المشركين بألسنتكم وقلوبكم وأموالكم ] (3/499)
فصل
ومنها : تحريق أمكنة المعصية التي يعصى الله ورسوله فيها وهدمها كما حرق رسول الله صلى الله عليه و سلم مسجد الضرار وأمر بهدمه وهو مسجد يصلى فيه ويذكر اسم الله فيه لما كان بناؤه ضرارا وتفريقا بين المؤمنين ومأوى للمنافقين وكل مكان هذا شأنه فواجب على الإمام تعطيله إما بهدم وتحريق وإما بتغيير صورته وإخراجه عما وضع له وإذا كان هذا شأن مسجد الضرار فمشاهد الشرك التي تدعو سدنتها إلى اتخاذ من فيها أندادا من دون الله أحق بالهدم وأوجب وكذلك محال المعاصي والفسوق كالحانات وبيوت الخمارين وأرباب المنكرات وقد حرق عمر بن الخطاب قرية بكمالها يباع فيها الخمر وحرق حانوت رويشد الثقفي وسماه فويسقا وحرق قصر سعد عليه لما احتجب فيه عن الرعية وهم رسول الله صلى الله عليه و سلم بتحريق بيوت تاركي حضور الجماعة والجمعة وإنما منعه من فيها من النساء والذرية الذين لا تجب عليهم كما أخبر هو عن ذلك
ومنها : أن الوقف لا يصح على غير بر ولا قربة كما لم يصح وقف هذا المسجد وعلى هذا : فيهدم المسجد إذا بني على قبر كما ينبش الميت إذا دفن فى المسجد نص على ذلك الإمام أحمد وغيره فلا يجتمع في دين الإسلام مسجد وقبر بل أيهما طرأ على الآخر منع منه وكان الحكم للسابق فلو وضعا معا لم يجز ولا يصح هذا الوقف ولا يجوز ولا تصح الصلاة في هذا المسجد لنهي رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ذلك ولعنه من اتخذ القبر مسجدا أو أوقد عليه سراجا فهذا دين الإسلام الذي بعث الله به رسوله ونبيه وغربته بين الناس كما ترى (3/500)
فصل
ومنها : جواز إنشاد الشعر للقادم فرحا وسرورا به ما لم يكن معه محرم من لهو كمزمار وشبابة وعود ولم يكن غناء يتضمن رقية الفواحش وما حرم الله فهذا لا يحرمه أحد وتعلق أرباب السماع الفسقي به كتعلق من يستحل شرب الخمر المسكر قياسا على أكل العنب وشرب العصير الذي لا يسكر ونحو هذا من القياسات التي تشبه قياس الذين قالوا : إنما البيع مثل الربا
ومنها : استماع النبي صلى الله عليه و سلم مدح المادحين له وترك الإنكار عليهم ولا يصح قياس غيره عليه في هذا لما بين المادحين والممدوحين من الفروق وقد قال : [ احثوا في وجوه المداحين التراب ]
ومنها : ما اشتملت عليه قصة الثلاثة الذين خلفوا من الحكم والفوائد الجمة فنشير إلى بعضها :
فمنها : جواز إخبار الرجل عن تفريطه وتقصيره في طاعة الله ورسوله وعن سبب ذلك وما آل إليه أمره وفي ذلك من التحذير والنصيحة وبيان طرق الخير والشر وما يترتب عليها ما هو من أهم الأمور
ومنها : جواز مدح الإنسان نفسه بما فيه من الخير إذا لم يكن على سبيل الفخر والترفع
ومنها : تسلية الإنسان نفسه عما لم يقدر له من الخير بما قدر له من نظيره أو خير منه
ومنها : أن بيعة العقبة كانت من أفضل مشاهد الصحابة حتى إن كعبا كان لا يراها دون مشهد بدر
ومنها : أن الإمام إذا رأى المصلحة في أن يستر عن رعيته بعض ما يهم به ويقصده من العدو ويوري به عنه استحب له ذلك أو يتعين بحسب المصلحة
ومنها : أن الستر والكتمان إذا تضمن مفسدة لم يجز
ومنها : أن الجيش في حياة النبي صلى الله عليه و سلم لم يكن لهم ديوان وأول من دون الديوان عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهذا من سنته التي أمر النبي صلى الله عليه و سلم باتباعها وظهرت مصلحتها وحاجة المسلمين اليها
ومنها : أن الرجل إذا حضرت له فرصة القربة والطاعة فالحزم كل الحزم في انتهازها والمبادرة إليها والعجز في تأخيرها والتسويف بها ولا سيما إذا لم يثق بقدرته وتمكنه من أسباب تحصيلها فإن العزائم والهمم سريعة الانتقاض قلما ثبتت والله سبحانه يعاقب من فتح له بابا من الخير فلم ينتهزه بأن يحول بين قلبه وإرادته فلا يمكنه بعد من إرادته عقوبة له فمن لم يستجب لله ورسوله إذا دعاه حال بينه وبين قلبه وإرادته فلا يمكنه الاستجابة بعد ذلك قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه } ( الأنفال : 24 ) وقد صرح الله سبحانه بهذا في قوله : { ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة } ( الأنعام : 110 ) وقال تعالى : { فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم } ( الصف : 5 ) وقال : { وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون } ( التوبة : 115 ) وهو كثير في القرآن
ومنها : أنه لم يكن يتخلف عن رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا أحد رجال ثلاثة إما مغموص عليه في النفاق أو رجل من أهل الأعذار أو من خلفه رسول الله صلى الله عليه و سلم واستعمله على المدينة أو خلفه لمصلحة
ومنها : أن الإمام والمطاع لا ينبغي له أن يهمل من تخلف عنه في بعض الأمور بل يذكره ليراجع الطاعة ويتوب فإن النبي صلى الله عليه و سلم قال بتبوك : [ ما فعل كعب ] ولم يذكر سواه من المخلفين استصلاحا له ومراعاة وإهمالا للقوم المنافقين
ومنها : جواز الطعن في الرجل بما يغلب على اجتهاد الطاعن حمية أو ذبا عن الله ورسوله ومن هذا طعن أهل الحديث فيمن طعنوا فيه من الرواة ومن هذا طعن ورثة الأنبياء وأهل السنة في أهل الأهواء والبدع لله لا لحظوظهم وأغراضهم
ومنها : جواز الرد على الطاعن إذا غلب على ظن الراد أنه وهم وغلط كما قال معاذ للذي طعن في كعب : بئس ما قلت والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا ولم ينكر رسول الله صلى الله عليه و سلم على واحد منهما
ومنها : أن السنة للقادم من السفر أن يدخل البلد على وضوء وأن يبدأ ببيت الله قبل بيته فيصلي فيه ركعتين ثم يجلس للمسلمين عليه ثم ينصرف إلى أهله
ومنها : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يقبل علانية من أظهر الإسلام من المنافقين ويكل سريرته إلى الله ويجري عليه حكم الظاهر ولا يعاقبه بما لم يعلم من سره
ومنها : ترك الإمام والحاكم رد السلام على من أحدث حدثا تأديبا له وزجرا لغيره فإنه صلى الله عليه و سلم لم ينقل أنه رد على كعب بل قابل سلامه بتبسم المغضب
ومنها : أن التبسم قد يكون عن الغضب كما يكون عن التعجب والسرور فإن كلا منهما يوجب انبساط دم القلب وثورانه ولهذا تظهر حمرة الوجه لسرعة ثوران الدم فيه فينشأعن ذلك السرور والغضب تعجب يتبعه ضحك وتبسم فلا يغتر المغتر بضحك القادر عليه في وجهه ولا سيما عند المعتبة كما قيل :
( إذا رأيت نيوب الليث بارزة ... فلا تظنن أن الليث مبتسم )
ومنها : معاتبة الإمام والمطاع أصحابه ومن يعز عليه ويكرم عليه فإنه عاتب الثلاثة دون سائر من تخلف عنه وقد أكثر الناس من مدح عتاب الأحبة واستلذاذه والسرور به فكيف بعتاب أحب الخلق على الإطلاق إلى المعتوب عليه ولله ما كان أحلى ذلك العتاب وما أعظم ثمرته وأجل فائدته ولله ما نال به الثلاثة من أنواع المسرات وحلاوة الرضى وخلع القبول
ومنها : توفيق الله لكعب وصاحبيه فيما جاؤوا به من الصدق ولم يخذلهم حتى كذبوا واعتذروا بغير الحق فصلحت عاجلتهم وفسدت عاقبتهم كل الفساد والصادقون تعبوا في العاجلة بعض التعب فأعقبهم صلاح العاقبة والفلاح كل الفلاح وعلى هذا قامت الدنيا والآخرة فمرارات المبادي حلاوات في العواقب وحلاوات المبادي مرارات في العواقب وقول النبي صلى الله عليه و سلم لكعب : [ أما هذا فقد صدق ] دليل ظاهر في التمسك بمفهوم اللقب عند قيام قرينة تقتضي تخصيص المذكور بالحكم كقوله تعالى : { وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين * ففهمناها سليمان } ( الأنبياء : 78 و 79 ) وقوله صلى الله عليه و سلم : [ جعلت لي الأرض مسجدا وتربتها طهورا ] وقوله في هذا الحديث : [ أما هذا فقد صدق ] وهذا مما لا يشك السامع أن المتكلم قصد تخصيصه بالحكم
وقول كعب : هل لقي هذا معي أحد ؟ فقالوا : نعم مرارة بن الربيع وهلال بن أمية فيه أن الرجل ينبغي له أن يرد حر المصيبة بروح التأسي بمن لقي مثل ما لقي وقد أرشد سبحانه إلى ذلك بقوله تعالى : { ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون } ( النساء : 104 ) وهذا هو الروح الذي منعه الله سبحانه أهل النار فيها بقوله : { ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون } ( الزخرف : 39 )
وقوله : فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا لي فيهما أسوة هذا الموضع مما عد من أوهام الزهري فإنه لا يحفظ عن أحد من أهل المغازي والسير البتة ذكر هذين الرجلين فى أهل بدر لابن إسحاق ولا موسى بن عقبة ولا الأموي ولا الواقدي ولا أحد ممن عد أهل بدر وكذلك ينبغي ألا يكونا من أهل بدر فإن النبي صلى الله عليه و سلم لم يهجر حاطبا ولا عاقبه وقد جس عليه وقال لعمر لما هم بقتله : [ وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ] وأين ذنب التخلف من ذنب الجس
قال أبو الفرج بن الجوزي : ولم أزل حريصا على كشف ذلك وتحقيقه حتى رأيت أبا بكر الأثرم قد ذكر الزهري وذكر فضله وحفظه وإتقانه وأنه لا يكاد يحفظ عليه غلط إلا فى هذا الموضع فإنه قال : إن مرارة بن الربيع وهلال بن أمية شهدا بدرا وهذا لم يقله أحد غيره والغلط لا يعصم منه إنسان (3/501)
فصل
وفي نهي النبي صلى الله عليه و سلم عن كلام هؤلاء الثلاثة من بين سائر من تخلف عنه دليل على صدقهم وكذب الباقين فأراد هجر الصادقين وتأديبهم على هذا الذنب وأما المنافقون فجرمهم أعظم من أن يقابل بالهجر فدواء هذا المرض لا يعمل فى مرض النفاق ولا فائدة فيه وهكذا يفعل الرب سبحانه بعباده في عقوبات جرائمهم فيؤدب عبده المؤمن الذي يحبه وهو كريم عنده بأدنى زلة وهفوة فلا يزال مستيقظا حذرا وأما من سقط من عينه وهان عليه فإنه يخلي بينه وبين معاصيه وكلما أحدث ذنبا أحدث له نعمة والمغرور يظن أن ذلك من كرامته عليه ولا يعلم أن ذلك عين الإهانة وأنه يريد به العذاب الشديد والعقوبة التى لا عاقبة معها كما في الحديث المشهور : [ إذا أراد الله بعبد خيرا عجل له عقوبته في الدنيا وإذا أراد بعبد شرا أمسك عنه عقوبته في الدنيا فيرد يوم القيامة بذنوبه ]
وفيه دليل أيضا على هجران الإمام والعالم والمطاع لمن فعل ما يستوجب العتب ويكون هجرانه دواء له بحيث لا يضعف عن حصول الشفاء به ولا يزيد في الكمية والكيفية عليه فيهلكه إذ المراد تأديبه لا إتلافه
وقوله : حتى تنكرت لي الأرض فما هى بالتي أعرف هذا التنكر يجده الخائف والحزين والمهموم فى الأرض وفي الشجر والنبات حتى يجده فيمن لا يعلم حاله من الناس ويجده أيضا المذنب العاصي بحسب جرمه حتى فى خلق زوجته وولده وخادمه ودابته ويجده في نفسه أيضا فتتنكر له نفسه حتى ما كأنه هو ولا كأن أهله وأصحابه ومن يشفق عليه بالذين يعرفهم وهذا سر من الله لا يخفى إلا على من هو ميت القلب وعلى حسب حياة القلب يكون إدراك هذا التنكر والوحشة وما لجرح بميت إيلام
ومن المعلوم أن هذا التنكر والوحشة كانا لأهل النفاق أعظم ولكن لموت قلوبهم لم يكونوا يشعرون به وهكذا القلب إذا استحكم مرضه واشتد ألمه بالذنوب والإجرام لم يجد هذه الوحشة والتنكر ولم يحس بها وهذه علامة الشقاوة وأنه قد أيس من عافية هذا المرض وأعيا الأطباء شفاؤه والخوف والهم مع الريبة والأمن والسرور مع البراءة من الذنب
( فما في الأرض أشجع من بريء ... ولا في الأرض أخوف من مريب )
وهذا القدر قد ينتفع به المؤمن البصير إذا ابتلي به ثم راجع فإنه ينتفع به نفعا عظيما من وجوه عديدة تفوت الحصر ولو لم يكن منها إلا استثماره من ذلك أعلام النبوة وذوقه نفس ما أخبر به الرسول فيصير تصديقه ضروريا عنده ويصير ما ناله من الشر بمعاصيه ومن الخير بطاعاته من أدلة صدق النبوة الذوقية التي لا تتطرق إليها الاحتمالات وهذا كمن أخبرك أن في هذه الطريق من المعاطب والمخاوف كيت وكيت على التفصيل فخالفته وسلكتها فرأيت عين ما أخبرك به فإنك تشهد صدقه في نفس خلافك له وأما إذا سلكت طريق الأمن وحدها ولم تجد من تلك المخاوف شيئا فإنه وإن شهد صدق المخبر بما ناله من الخير والظفر مفصلا فإن علمه بتلك يكون مجملا (3/506)
فصل
ومنها : أن هلال بن أمية ومرارة قعدا في بيوتهما وكانا يصليان في بيوتهما ولا يحضران الجماعة وهذا يدل على أن هجران المسلمين للرجل عذر يبيح له التخلف عن الجماعة أو يقال : من تمام هجرانه أنه لا يحضر جماعة المسلمين لكن يقال : فكعب كان يحضر الجماعة ولم يمنعه النبي صلى الله عليه و سلم ولا عتب عليهما على التخلف وعلى هذا فيقال : لما أمر المسلمون بهجرهم تركوا : لم يؤمروا ولم ينهوا ولم يكلموا فكان من حضر منهم الجماعة ومن تركها لم يكلم أو يقال : لعلهما ضعفا وعجزا عن الخروج ولهذا قال كعب : وكنت أنا أجلد القوم وأشبهم فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين
وقوله : وآتي رسول الله صلى الله عليه و سلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة فأقول : هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا ؟ فيه دليل على أن الرد على من يستحق الهجر غير واجب إذ لو وجب الرد لم يكن بد من إسماعه
وقوله : حتى إذا طال ذلك علي تسورت جدار حائط أبى قتادة فيه دليل على دخول الإنسان دار صاحبه وجاره إذا علم رضاه بذلك وإن لم يستأذنه
وفي قول أبي قتادة له : الله ورسوله أعلم دليل على أن هذا ليس بخطاب ولا كلام له فلو حلف لا يكلمه فقال مثل هذا الكلام جوابا له لم يحنث ولا سيما إذا لم ينو به مكالمته وهو الظاهر من حال أبي قتادة
وفي إشارة الناس إلى النبطي الذي كان يقول : من يدل على كعب بن مالك دون نطقهم له تحقيق لمقصود الهجر وإلا فلو قالوا له صريحا : ذاك كعب بن مالك لم يكن ذلك كلاما له فلا يكونون به مخالفين للنهي ولكن لفرط تحريمهم وتمسكهم بالأمر لم يذكروه له بصريح اسمه وقد يقال : إن في الحديث عنه بحضرته وهو يسمع نوع مكالمة له ولا سيما إذا جعل ذلك ذريعة إلى المقصود بكلامه وهي ذريعة قريبة فالمنع من ذلك من باب منع الحيل وسد الذرائع وهذا أفقه وأحسن
وفي مكاتبة ملك غسان له بالمصير إليه ابتلاء من الله تعالى وامتحان لإيمانه ومحبته لله ورسوله وإظهار للصحابة أنه ليس ممن ضعف إيمانه بهجر النبي صلى الله عليه و سلم والمسلمين له ولا هو ممن تحمله الرغبة في الجاه والملك مع هجران الرسول والمؤمنين له على مفارقة دينه فهذا فيه تبرئة الله له من النفاق وإظهار قوة إيمانه وصدقه لرسوله وللمسلمين ما هو تمام نعمة الله عليه ولطفه به وجبره لكسره وهذا البلاء يظهر لب الرجل وسره وما ينطوي عليه فهو كالكير الذي يخرج الخبيث من الطيب
وقوله : فتيممت بالصحيفة التنور فيه المبادرة إلى إتلاف ما يخشى منه الفساد والمضرة في الدين وأن الحازم لا ينتظر به ولا يؤخره وهذا كالعصير إذا تخمر وكالكتاب الذي يخشى منه الضرر والشر فالحزم المبادرة إلى إتلافه وإعدامه
وكانت غسان إذ ذاك - وهم ملوك عرب الشام - حربا لرسول الله صلى الله عليه و سلم وكانوا ينعلون خيولهم لمحاربته وكان هذا لما بعث شجاع بن وهب الأسدي إلى ملكهم الحارث بن أبي شمر الغساني يدعوه إلى الإسلام وكتب معه إليه قال شجاع : فانتهيت إليه وهو في غوطة دمشق وهو مشغول بتهيئة الأنزال والألطاف لقيصر وهو جاء من حمص إلى إيلياء فأقمت على بابه يومين أو ثلاثة فقلت لحاجبه : إني رسول رسول الله صلى الله عليه و سلم إليه فقال : لا تصل إليه حتى يخرج يوم كذا وكذا وجعل حاجبه - وكان روميا اسمه مري - يسألني عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وكنت أحدثه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وما يدعو إليه فيرق حتى يغلب عليه البكاء ويقول : إنى قرأت الإنجيل فأجد صفة هذا النبي بعينه فأنا أؤمن به وأصدقه فأخاف من الحارث أن يقتلني وكان يكرمني ويحسن ضيافتي وخرج الحارث يوما فجلس فوضع التاج على رأسه فأذن لي عليه فدفعت إليه كتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فقرأه ثم رمى به قال : من ينتزع مني ملكي وقال : أنا سائر إليه ولو كان باليمن جئته علي بالناس فلم تزل تعرض حتى قام وأمر بالخيول تنعل ثم قال : أخبر صاحبك بما ترى وكتب إلى قيصر يخبره خبري وما عزم عليه فكتب إليه قيصر : أن لا تسر ولا تعتبر إليه واله عنه ووافني بإيلياء فلما جاءه جواب كتابه دعاني فقال : متى تريد أن تخرج إلى صاحبك ؟ فقلت : غدا فأمر لي بمائة مثقال ذهبا ووصلني حاجبه بنفقة وكسوة وقال : اقرأ على رسول الله صلى الله عليه و سلم مني السلام فقدمت على رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبرته فقال : باد ملكه وأقرأته من حاجبه السلام وأخبرته بما قال فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ صدق ] ومات الحارث بن أبي شمر عام الفتح ففي هذه المدة أرسل ملك غسان يدعو كعبا إلى اللحاق به فأبت له سابقة الحسنى أن يرغب عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ودينه (3/507)
فصل
في أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم لهؤلاء الثلاثة أن يعتزلوا نساءهم لما مضى لهم أربعون ليلة كالبشارة بمقدمات الفرج والفتح من وجهين :
أحدهما : كلامه لهم وإرساله إليهم بعد أن كان لا يكلمهم بنفسه ولا برسوله
الثاني : من خصوصية أمرهم باعتزال النساء وفيه تنبيه وإرشاد لهم إلى الجد والاجتهاد في العبادة وشد المئزر واعتزال محل اللهو واللذة والتعوض عنه بالإقبال على العبادة وفي هذا إيذان بقرب الفرج وأنه قد بقي من العتب أمر يسير
وفقه هذه القصة أن زمن العبادات ينبغي فيه تجنب النساء كزمن الإحرام وزمن الاعتكاف وزمن الصيام فأراد النبي صلى الله عليه و سلم أن يكون آخر هذه المدة فى حق هؤلاء بمنزلة أيام الإحرام والصيام فى توفرها على العبادة ولم يأمرهم بذلك من أول المدة رحمة بهم وشفقة عليهم إذ لعلهم يضعف صبرهم عن نسائهم في جميعها فكان من اللطف بهم والرحمة أن أمروا بذلك فى آخر المدة كما يؤمر به الحاج من حين يحرم لا من حين يعزم على الحج
وقول كعب لامرأته : الحقي بأهلك دليل على أنه لم يقطع بهذه اللفظة وأمثالها طلاق ما لم ينوه والصحيح : إن لفظ الطلاق والعتاق والحرية كذلك إذا أراد به غير تسييب الزوجة وإخراج الرقيق عن ملكه لا يقع به طلاق ولا عتاق هذا هو الصواب الذي ندين الله به ولا نرتاب فيه البتة فإذا قيل له : إن غلامك فاجر أو جاريتك تزني فقال : ليس كذلك بل هو غلام عفيف حر وجارية عفيفة حرة ولم يرد بذلك حرية العتق وإنما أراد حرية العفة فإن جاريته وعبده لا يعتقان بهذا أبدا وكذا إذا قيل له : كم لغلامك عندك سنة ؟ فقال : هو عتيق عندي وأراد قدم ملكه له لم يعتق بذلك وكذلك إذا ضرب امرأته الطلق فسئل عنها فقال : هي طالق ولم يخطر بقلبه إيقاع الطلاق وإنما أراد أنها في طلق الولادة لم تطلق بهذا وليست هذه الألفاظ مع هذه القرائن صريحة إلا فيما أريد بها ودل السياق عليها فدعوى أنها صريحة في العتاق والطلاق مع هذه القرائن مكابرة ودعوى باطلة قطعا (3/510)
فصل
وفي سجود كعب حين سمع صوت المبشر دليل ظاهر أن تلك كانت عادة الصحابة وهي سجود الشكر عند النعم المتجددة والنقم المندفعة وقد سجد أبو بكر الصديق لما جاءه قتل مسيلمة الكذاب وسجد علي بن طالب لما وجد ذا الثدية مقتولا في الخوارج وسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم حين بشره جبريل أنه من صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشرا وسجد حين شفع لأمته فشفعه الله فيهم ثلاث مرات وأتاه بشير فبشره بظفر جند له على عدوهم ورأسه في حجر عائشة فقام فخر ساجدا وقال أبو بكرة : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا أتاه أمر يسره خر لله ساجدا وهي آثار صحيحة لا مطعن فيها
وفي استباق صاحب الفرس والراقي على سلع ليبشرا كعبا دليل على حرص القوم على الخير واستباقهم إليه وتنافسهم في مسرة بعضهم بعضا
وفي نزع كعب ثوبيه وإعطائهما للبشير دليل على أن إعطاء المبشرين من مكارم الأخلاق والشيم وعادة الأشراف وقد أعتق العباس غلامه لما بشره أن عند الحجاج بن علاط من الخبر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ما يسره
وفيه دليل على جواز إعطاء البشير جميع ثيابه
وفيه دليل على استحباب تهنئة من تجددت له نعمة دينية والقيام إليه إذا أقبل ومصافحته فهذه سنة مستحبة وهو جائز لمن تجددت له نعمة دنيوية وأن الأولى أن يقال له : ليهنك ما أعطاك الله وما من الله به عليك ونحو هذا الكلام فإن فيه تولية النعمة ربها والدعاء لمن نالها بالتهني بها
وفيه دليل على أن خير أيام العبد على الإطلاق وأفضلها يوم توبته إلى الله وقبول الله توبته لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك ]
فإن قيل : فكيف يكون هذا اليوم خيرا من يوم إسلامه ؟ قيل : هو مكمل ليوم إسلامه ومن تمامه فيوم إسلامه بداية سعادته ويوم توبته كمالها وتمامها والله المستعان
وفي سرور رسول الله صلى الله عليه و سلم بذلك وفرحه به واستنارة وجهه دليل على ما جعل الله فيه من كمال الشفقة على الأمة والرحمة بهم والرأفة حتى لعل فرحه كان أعظم من فرح كعب وصاحبيه
وقول كعب : يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي دليل على استحباب الصدقة عند التوبة بما قدر عليه من المال
وقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك ] دليل على أن من نذر الصدقة بكل ماله لم يلزمه إخراج جميعه بل يجوز له أن يبقي له منه بقية وقد اختلفت الرواية فى ذلك ففي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه و سلم قال له : [ أمسك عليك بعض مالك ] ولم يعين له قدرا بل أطلق ووكله إلى اجتهاده فى قدر الكفاية وهذا هو الصحيح فإن ما نقص عن كفايته وكفاية أهله لايجوز له التصدق به فنذره لا يكون طاعة فلا يجب الوفاء به وما زاد على قدر كفايته وحاجته فإخراجه والصدقة به أفضل فيجب إخراجه إذا نذره هذا قياس المذهب ومقتضى قواعد الشريعة ولهذا تقدم كفاية الرجل وكفاية أهله على أداء الواجبات المالية سواء كانت حقا لله كالكفارات والحج أو حقا للآدميين كأداء الديون فإنا نترك للمفلس ما لا بد منه من مسكن وخادم وكسوة وآلة حرفة أو ما يتجر به لمؤنته إن فقدت الحرفة ويكون حق الغرماء فيما بقي وقد نص الإمام أحمد على أن من نذر الصدقة بماله كله أجزأه ثلثه واحتج له أصحابه بما روي في قصة كعب هذه أنه قال : يا رسول الله ! إن من توبتي إلى الله ورسوله أن أخرج من مالي كله إلى الله ورسوله صدقة قال : لا قلت : فنصفه ؟ قال : لا قلت : فثلثه قال : نعم قلت : فإني أمسك سهمي الذي بخيبر رواه أبو داود وفي ثبوت هذا ما فيه فإن الصحيح في قصة كعب هذه ما رواه أصحاب الصحيح من حديث الزهري عن ولد كعب بن مالك عنه أنه قال : [ أمسك عليك بعض مالك ] من غير تعيين لقدره وهم أعلم بالقصة من غيرهم فإنهم ولده وعنه نقلوها
فإن قيل : فما تقولون فيما رواه الإمام أحمد في مسنده أن أبا لبابة بن عبد المنذر لما تاب الله عليه قال : يا رسول الله ! إن من توبتي أن أهجر دار قومي وأساكنك وأن أنخلع من مالي صدقة لله عز و جل ولرسوله فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يجزىء عنك الثلث ] قيل : هذا هو الذي احتج به أحمد لا بحديث كعب فإنه قال في رواية ابنه عبد الله : إذا نذر أن يتصدق بماله كله أو ببعضه وعليه دين أكثر مما يملكه فالذي أذهب إليه أنه يجزئه من ذلك الثلث لأن النبى صلى الله عليه و سلم أمر أبا لبابة بالثلث وأحمد أعلم بالحديث أن يحتج بحديث كعب هذا الذي فيه ذكر الثلث إذ المحفوظ في هذا الحديث أمسك عليك بعض مالك وكأن أحمد رأى تقييد إطلاق حديث كعب هذا بحديث أبي لبابة
وقوله فيمن نذر أن يتصدق بماله كله أو ببعضه وعليه دين يستغرقه : إنه يجزئه من ذلك الثلث دليل على انعقاد نذره وعليه دين يستغرق ماله ثم إذا قضى الدين أخرج مقدار ثلث ماله يوم النذر وهكذا قال في رواية ابنه عبد الله : إذا وهب ماله وقضى دينه واستفاد غيره فإنما يجب عليه إخراج ثلث ماله يوم حنثه يريد بيوم حنثه يوم نذره فينظر قدر الثلث ذلك اليوم فيخرجه بعد قضاء دينه
وقوله : أو ببعضه يريد أنه إذا نذر الصدقة بمعين من ماله أو بمقدار كألف ونحوها فيجزئه ثلثه كنذر الصدقة بجميع ماله والصحيح من مذهبه لزوم الصدقة بجميع المعين وفيه رواية أخرى أن المعين إن كان ثلث ماله فما دونه لزمه الصدقة بجميعه وإن زاد على الثلث لزمه منه بقدر الثلث وهي أصح عند أبي البركات
وبعد : فإن الحديث ليس فيه دليل على أن كعبا وأبا لبابة نذرا نذرا منجزا وإنما قالا : إن من توبتنا أن ننخلع من أموالنا وهذا ليس بصريح في النذر وإنما فيه العزم على الصدقة بأموالهما شكرا لله على قبول توبتهما فأخبر النبي صلى الله عليه و سلم أن بعض المال يجزىء من ذلك ولا يحتاجان إلى إخراجه كله وهذا كما قال لسعد وقد استأذنه أن يوصي بماله كله فأذن له في قدر الثلث
فإن قيل : هذا يدفعه أمران أحدهما : قوله : يجزئك والإجزاء إنما يستعمل في الواجب والثاني : أن منعه من الصدقة بما زاد على الثلث دليل على أنه ليس بقربة إذ الشارع لا يمنع من القرب ونذر ما ليس بقربة لا يلزم الوفاء به
قيل : أما قوله : يجزئك فهو بمعنى يكفيك فهو من الرباعي وليس من جزى عنه إذا قضى عنه يقال : أجزأني : إذا كفاني وجزى عني : إذا قضى عني وهذا هو الذي يستعمل في الواجب ومنه قوله صلى الله عليه و سلم لأبي بردة في الأضحية : [ تجزي عنك ولن تجزي عن أحد بعدك ] والكفاية تستعمل في الواجب والمستحب
وأما منعه من الصدقة بما زاد على الثلث فهو إشارة منه عليه بالأرفق به وما يحصل له به منفعة دينه ودنياه فإنه لو مكنه من إخراح ماله كله لم يصبر على الفقر والعدم كما فعل بالذي جاءه بالصرة ليتصدق بها فضربه بها ولم يقبلها منه خوفا عليه من الفقر وعدم الصبر وقد يقال - وهو أرجح إن شاء الله تعالى - : إن النبي صلى الله عليه و سلم عامل كل واحد ممن أراد الصدقة بماله بما يعلم من حاله فمكن أبا بكر الصديق من إخراج ماله كله وقال : [ ما أبقيت لأهلك ؟ ] فقال : أبقيت لهم الله ورسوله فلم ينكر عليه وأقر عمر على الصدقة بشطر ماله ومنع صاحب الصرة من التصدق بها وقال لكعب : [ أمسك عليك بعض مالك ] وهذا ليس فيه تعيين المخرج بأنه الثلث ويبعد جدا بأن يكون الممسك ضعفي المخرج في هذا اللفظ وقال لأبي لبابة : يجزئك الثلث ولا تناقض بين هذه الأخبار وعلى هذا فمن نذر الصدقة بماله كله أمسك منه ما يحتاج إليه هو وأهله ولا يحتاجون معه إلى سؤال الناس مدة حياتهم من رأس مال أو عقار أو أرض يقوم مغلها بكفايتهم وتصدق بالباقي والله أعلم
وقال ربيعة بن أبي عبد الرحمن : يتصدق منه بقدر الزكاة ويمسك الباقي وقال جابر بن زيد : إن كان ألفين فأكثر أخرج عشره وإن كان ألفا فمل دون فسبعه وإن كان خمسمائة فما دون فخمسه وقال أبو حنيفة رحمه الله : يتصدق بكل ماله الذي تجب فيه الزكاة وما لا تجب فيه الزكاة ففيه روايتان : أحدهما : يخرجه والثانية : لا يلزمه منه شئ
وقال الشافعي : تلزمه الصدقة بماله كله وقال مالك والزهري وأحمد : يتصدق بثلثه وقالت طائفة : يلزمه كفارة يمين فقط (3/511)
فصل
ومنها : عظم مقدار الصدق وتعليق سعادة الدنيا والآخرة والنجاة من شرهما به فما أنجى الله من أنجاه إلا بالصدق ولا أهلك من أهلكه إلا بالكذب وقد أمر الله سبحانه عباده المؤمنين أن يكونوا مع الصادقين فقال : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين } ( التوبة : 119 )
وقد قسم سبحانه الخلق إلى قسمين : سعداء وأشقياء فجعل السعداء هم أهل الصدق والتصديق والأشقياء هم أهل الكذب والتكذيب وهو تقسيم حاصر مطرد منعكس فالسعادة دائرة مع الصدق والتصديق والشقاوة دائرة مع الكذب والتكذيب
وأخبر سبحانه وتعالى : أنه لا ينفع العباد يوم القيامة إلا صدقهم وجعل علم المنافقين الذي تميزوا به هو الكذب في أقوالهم وأفعالهم فجميع ما نعاه عليهم أصله الكذب في القول والفعل فالصدق بريد الإيمان ودليله ومركبه وسائقه وقائده وحليته ولباسه بل هو لبه وروحه والكذب : بريد الكفر والنفاق ودليله ومركبه وسائقه وقائده وحليته ولباسه ولبه فمضادة الكذب للإيمان كمضادة الشرك للتوحيد فلا يجتمع الكذب والإيمان إلا ويطرد أحدهما صاحبه ويستقر موضعه والله سبحانه أنجى الثلاثة بصدقهم وأهلك غيرهم من المخلفين بكذبهم فما أنعم الله على عبد بعد الإسلام بنعمة أفضل من الصدق الذي هو غذاء الإسلام وحياته ولا ابتلاه ببلية أعظم من الكذب الذي هو مرض الإسلام وفساده والله المستعان
وقوله تعالى : { لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم } ( التوبة : 117 ) هذا من أعظم ما يعرف العبد قدر التوبة وفضلها عند الله وأنها غاية كمال المؤمن فإنه سبحانه أعطاهم هذا الكمال بعد آخر الغزوات بعد أن قضوا نحبهم وبذلوا نفوسهم وأموالهم وديارهم لله وكان غاية أمرهم أن تاب عليهم ولهذا جعل النبي صلى الله عليه و سلم يوم توبة كعب خير يوم مر عليه منذ ولدته أمه إلى ذلك اليوم ولا يعرف هذا حق معرفته إلا من عرف الله وعرف حقوقه عليه وعرف ما ينبغي له من عبوديته وعرف نفسه وصفاتها وأفعالها وأن الذي قام به من العبودية بالنسبة إلى حق ربه عليه كقطرة في بحر هذا إذا سلم من الآفات الظاهرة والباطنة فسبحان من لا يسع عباده غير عفوه ومغفرته وتغمده لهم بمغفرته ورحمته وليس إلا ذلك أو الهلاك فإن وضع عليهم عدله فعذب أهل سماواته وأرضه عذبهم وهو غير ظالم لهم وإن رحمهم فرحمته خير لهم من أعمالهم ولا ينجي أحدا منهم عمله (3/516)
فصل
وتأمل تكريره سبحانه توبته عليهم مرتين في أول الآية وآخرها فإنه تاب عليهم أولا بتوفيقهم للتوبة فلما تابوا تاب عليهم ثانيا بقبولها منهم وهو الذي وفقهم لفعلها وتفضل عليهم بقبولها فالخير كله منه وبه وله وفي يديه يعطيه من يشاء إحسانا وفضلا ويحرمه من يشاء حكمة وعدلا (3/518)
فصل
وقوله تعالى : { وعلى الثلاثة الذين خلفوا } ( التوبة : 118 ) قد فسرها كعب بالصواب وهو أنهم خلفوا من بين حلف لرسول الله صلى الله عليه و سلم واعتذر من المتخلفين فخلف هؤلاء الثلاثة عنهم وأرجأ أمرهم دونهم وليس ذلك تخلفهم عن الغزو لأنه لو أراد ذلك لقال : تخلفوا كما قال تعالى : { ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله } ( التوبة : 120 ) وذلك لأنهم تخلفوا بأنفسهم بخلاف تخليفهم عن أمر المتخلفين سواهم فإن الله سبحانه هو الذي خلفهم عنهم ولم يتخلفوا عنه بأنفسهم والله أعلم (3/518)
فصل
في حجة أبي بكر الصديق رضي الله عنه سنة تسع بعد مقدمه من تبوك قال ابن إسحاق : ثم أقام رسول الله صلى الله عليه و سلم منصرفه من تبوك بقية رمضان وشوالا وذا القعدة ثم بعث أبا بكر أميرا على الحج سنة تسع ليقيم للمسلمين حجهم والناس من أهل الشرك على منازلهم من حجهم فخرج أبو بكر والمؤمنون
قال ابن سعد : فخرج في ثلاثمائة رجل من المدينة وبعث معه رسول الله صلى الله عليه و سلم بعشرين بدنة قلدها وأشعرها بيده عليها ناجية بن جندب الأسلمي وساق أبو بكر خمس بدنات
قال ابن إسحاق : فنزلت براءة في نقض ما بين رسول الله صلى الله عليه و سلم وبين المشركين من العهد الذي كانوا عليه فخرج علي بن أبي طالب رضي الله عنه على ناقة رسول الله صلى الله عليه و سلم العضباء
قال ابن سعد : فلما كان بالعرج - وابن عائذ يقول : بضجنان - لحقه علي بن أبي طالب رضي الله عنه على العضباء فلما رآه أبو بكر قال : أمير أو مأمور قال : لا بل مأمور ثم مضيا
وقال ابن سعد : فقال له أبو بكر : أستعملك رسول الله صلى الله عليه و سلم على الحج ؟ قال : لا ولكن بعثني أقرأ براءة على الناس وأنبذ إلى كل ذي عهد عهده فأقام أبو بكر للناس حجهم حتى إذا كان يوم النحر قام علي بن أبي طالب فأذن في الناس عند الجمرة بالذي أمره رسول الله صلى الله عليه و سلم ونبذ إلى كل ذي عهد عهده وقال : أيها الناس ! لا يدخل الجنة كافر ولا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ومن كان له عهد عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فهو إلى مدته
وقال الحميدي : حدثنا سفيان قال : حدثني أبو إسحاق الهمداني عن زيد بن يثيع قال : سألنا عليا بأي شئ بعثت في الحجة ؟ قال : بعثت بأربع : لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة ولا يطوف بالبيت عريان ولا يجتمع مسلم وكافر في المسجد الحرام بعد عامه هذا ومن كان بينه وبين النبي صلى الله عليه و سلم عهد فعهده إلى مدته ومن لم يكن له عهد فأجله إلى أربع أشهر
وفي الصحيحين : عن أبي هريرة قال : بعثني أبو بكر في تلك الحجة فى مؤذنين بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى : ألا يحج بعد هذا العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ثم أردف النبي صلى الله عليه و سلم أبا بكر بعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما فأمره أن يؤذن ببراءة قال : فأذن معنا علي في أهل منى يوم النحر ببراءة وألا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان
وفي هذه القصة دليل على أن يوم الحج الأكبر يوم النحر واختلف فى حجة الصديق هذه هل هي التي أسقطت الفرض أو المسقطة هي حجة الوداع مع النبي صلى الله عليه و سلم ؟ على قولين : أصحهما : الثاني والقولان مبنيان على أصلين أحدهما : هل كان الحج فرض قبل عام حجة الوداع أم لا ؟ والثاني : هل كانت حجة الصديق رضي الله عنه في ذي الحجة أو وقعت في ذي القعدة من أجل النسيء الذي كان الجاهلية يؤخرون له الأشهر ويقدمونها ؟ على قولين والثاني : قول مجاهد وغيره وعلى هذا فلم يؤخر النبي صلى الله عليه و سلم الحج بعد فرضه عاما واحدا بل بادر إلى الامتثال في العام الذي فرض فيه وهذا هو اللائق بهديه وحاله صلى الله عليه و سلم وليس بيد من ادعى تقدم فرض الحج سنة ست أو سبع أو ثمان أو تسع دليل واحد وغاية ما احتج به من قال : فرض سنة ست قوله تعالى : { وأتموا الحج والعمرة لله } ( البقرة : 196 ) وهي قد نزلت بالحديبية سنة ست وهذا ليس فيه ابتداء فرض الحج وإنما فيه الأمر بإتمامه إذا شرع فيه فأين هذا من وجوب ابتدائه وآية فرض الحج وهي قوله تعالى : { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } ( آل عمران : 97 ) نزلت عام الوفود أواخر سنة تسع (3/518)
فصل
في قدوم وفود العرب وغيرهم على النبي صلى الله عليه و سلم
فقدم عليه وفد ثقيف وقد تقدم مع سياق غزوة الطائف
قال موسى بن عقبة : وأقام أبو بكر للناس حجهم وقدم عروة بن مسعود الثقفي على رسول الله صلى الله عليه و سلم فاستأذن رسول الله صلى الله عليه و سلم ليرجع إلى قومه فذكر نحو ما تقدم وقال : فقدم وفدهم وفيهم : كنانة بن عبد ياليل وهو رأسهم يومئذ وفيهم : عثمان بن أبي العاص وهو أصغر الوفد فقال المغيرة بن شعبة : يا رسول الله صلى الله عليه و سلم أنزل قومي علي فأكرمهم فإني حديث الجرح فيهم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا أمنعك أن تكرم قومك ولكن أنزلهم حيث يسمعون القرآن ] وكان من جرح المغيرة في قومه أنه كان أجيرا لثقيف وأنهم أقبلوا من مضر حتى إذا كانوا ببعض الطريق عدا عليهم وهم نيام فقتلهم ثم أقبل بأموالهم حتى أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أما الإسلام فنقبل وأما المال فلا فإنا لا نغدر ] وأبى أن يخمس ما معه وأنزل رسول الله صلى الله عليه و سلم وفد ثقيف في المسجد وبنى لهم خياما لكي يسمعوا القرآن ويروا الناس إذا صلوا وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا خطب لا يذكر نفسه فلما سمعه وفد ثقيف قالوا : يأمرنا أن نشهد أنه رسول الله ولا يشهد به في خطبته فلما بلغه قولهم قال : فإني أول من شهد أني رسول الله وكانوا يغدون إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم كل يوم ويخلفون عثمان بن أبي العاص على رحالهم لأنه أصغرهم فكان عثمان كلما رجع الوفد إليه وقالوا بالهاجرة عمد إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فسأله عن الدين واستقرأه القرآن فاختلف إليه عثمان مرارا حتى فقه في الدين وعلم وكان إذا وجد رسول الله صلى الله عليه و سلم نائما عمد إلى أبي بكر وكان يكتم ذلك من أصحابه فأعجب ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم وأحبه فمكث الوفد يختلفون إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو يدعوهم إلى الإسلام فأسلموا فقال كنانة بن عبد ياليل : هل أنت مقاضينا حتى نرجع إلى قومنا ؟ قال : [ نعم إن أنتم أقررتم بالإسلام أقاضيكم وإلا فلا قضية ولا صلح بيني وبينكم ] قال : أفرأيت الزنى فإنا قوم نغترب ولا بد لنا منه ؟ قال : [ هو عليكم حرام فإن الله عز و جل يقول : { ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا } ] ( الإسراء : 32 ) قالوا : أفرأيت الربا فإنه أموالنا كلها ؟ قال : [ لكم رؤوس أموالكم إن الله تعالى يقول : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين } ] ( البقرة : 278 ) قالوا : أفرأيت الخمر فإنه عصير أرضنا لا بد لنا منها ؟ قال : [ إن الله قد حرمها وقرأ : { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون } ] ( المائدة : 90 ) فارتفع القوم فخلا بعضهم ببعض فقالوا : ويحكم إنا نخاف إن خالفناه يوما كيوم مكة انطلقوا نكاتبه على ما سألناه فأتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا : نعم لك ما سألت أرأيت الربة ماذا نصنع فيها ؟ قال : [ اهدموها ] قالوا : هيهات لو تعلم الربة أنك تريد هدمها لقتلت أهلها فقال عمر بن الخطاب : ويحك يا ابن عبد ياليل ما أجهلك إنما الربة حجر فقالوا : إنا لم نأتك يا ابن الخطاب وقالوا لرسول الله صلى الله عليه و سلم : تول أنت هدمها فأما نحن فإنا لا نهدمها أبدا قال : [ فسأبعث إليكم من يكفيكم هدمها ] فكاتبوه فقال كنانة بن عبد ياليل : ائذن لنا قبل رسولك ثم ابعث في آثارنا فإنا أعلم بقومنا فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم وأكرمهم وحباهم وقالوا : يا رسول الله ! أمر علينا رجلا يؤمنا من قومنا فأمر عليهم عثمان بن أبي العاص لما رأى من حرصه على الإسلام وكان قد تعلم سورا من القرآن قبل أن يخرج فقال كنانة بن عبد ياليل : أنا أعلم الناس بثقيف فاكتموهم القضية وخوفوهم بالحرب والقتال وأخبروهم أن محمدا سألنا أمورا أبيناها عليه سألنا أن نهدم اللات والعزى وأن نحرم الخمر والزنى وأن نبطل أموالنا في الربا فخرجت ثقيف حين دنا منهم الوفد يتلقونهم فلما رأوهم قد ساروا العنق وقطروا الإبل وتغشوا ثيابهم كهيئة القوم قد حزنوا وكربوا ولم يرجعوا بخير فقال بعضهم لبعض : ما جاء وفدكم بخير ولا رجعوا به وترجل الوفد وقصدوا اللات ونزلوا عندها - واللات وثن كان بين ظهراني الطائف يستر ويهدى له الهدي كما يهدى لبيت الله الحرام - فقال ناس من ثقيف حين نزل الوفد إليها : إنهم لا عهد لهم برؤيتها ثم رجع كل رجل منهم إلى أهله وجاء كلا منهم خاصته من ثقيف فسألوهم ماذا جئتم به وماذا رجعتم به ؟ قالوا : أتينا رجلا فظا غليظا يأخذ من أمره ما يشاء قد ظهر بالسيف وداخ له العرب ودان له الناس فعرض علينا أمورا شدادا : هدم اللات والعزى وترك الأموال في الربا إلا رؤوس أموالكم وحرم الخمر والزنى فقالت ثقيف : والله لا نقبل هذا أبدا فقال الوفد : أصلحوا السلاح وتهيؤوا للقتال وتعبؤوا له ورموا حصنكم فمكثت ثقيف بذلك يومين أو ثلاثة يريدون القتال ثم ألقى الله عز و جل في قلوبهم الرعب وقالوا : والله ما لنا به طاقة وقد داخ له العرب كلها فارجعوا إليه فأعطوه ما سأل وصالحوه عليه فلما رأى الوفد أنهم قد رغبوا واختاروا الأمان على الخوف والحرب قال الوفد : فإنا قد قاضيناه وأعطيناه ما أحببنا وشرطنا ما أردنا ووجدناه أتقى الناس وأوفاهم وأرحمهم وأصدقهم وقد بورك لنا ولكم في مسيرنا إليه وفيما قاضيناه عليه فاقبلوا عافية الله فقالت ثقيف : فلم كتمتمونا هذا الحديث وغممتمونا أشد الغم ؟ قالوا : أردنا أن ينزع الله من قلوبكم نخوة الشيطان فأسلموا مكانهم ومكثوا أياما ثم قدم عليهم رسل رسول الله صلى الله عليه و سلم قد أمر عليهم خالد بن الوليد وفيهم المغيرة بن شعبة فلما قدموا عمدوا إلى اللات ليهدموها واستكفت ثقيف كلها الرجال والنساء والصبيان حتى خرج العواتق من الحجال لا ترى عامة ثقيف أنها مهدومة يظنون أنها ممتنعة فقام المغيرة بن شعبة فأخذ الكرزين وقال لأصحابه : والله لأضحكنكم من ثقيف فضرب بالكرزين ثم سقط يركض فارتج أهل الطائف بضجة واحدة وقالوا : أبعد الله المغيرة قتلته الربة وفرحوا حين رأوه ساقطا وقالوا : من شاء منكم فليقرب وليجتهد على هدمها فوالله لا تستطاع فوثب المغيرة بن شعبة فقال : قبحكم الله يا معشر ثقيف إنما هي لكاع حجارة ومدر فاقبلوا عافية الله واعبدوه ثم ضرب الباب فكسره ثم علا سورها وعلا الرجال معه فما زالوا يهدمونها حجرا حجرا حتى سووها بالأرض وجعل صاحب المفتاح يقول : ليغضبن الأساس فليخسفن بهم فلما سمع ذلك المغيرة قال لخالد : دعني أحفر أساسها فحفره حتى أخرجوا ترابها وانتزعوا حليها ولباسها فبهتت ثقيف فقالت عجوز منهم : أسلمها الرضاع وتركوا المصاع
وأقبل الوفد حتى دخلوا على رسول الله صلى الله عليه و سلم بحليها وكسوتها فقسمه رسول الله صلى الله عليه و سلم من يومه وحمد الله على نصرة نبيه وإعزاز دينه وقد تقدم أنه أعطاه لأبي سفيان بن حرب هذا لفظ موسى بن عقبة
وزعم ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه و سلم قدم من تبوك في رمضان وقدم عليه فى ذلك الشهر وفد ثقيف
وروينا في سنن أبي داود عن جابر قال : اشترطت ثقيف على النبي صلى الله عليه و سلم ألا صدقة عليها ولا جهاد فقال النبي صلى الله عليه و سلم بعد ذلك : [ سيتصدقون ويجاهدون إذا أسلموا ]
وروينا في سنن أبي داود الطيالسي عن عثمان بن أبي العاص أن النبي صلى الله عليه و سلم أمره أن يجعل مسجد الطائف حيث كانت طاغيتهم
وفي المغازي لمعتمر بن سليمان قال : سمعت عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي يحدث عن عثمان بن عبد الله عن عمه عمرو بن أوس عن عثمان بن أبي العاص قال : استعملني رسول الله صلى الله عليه و سلم وأنا أصغر الستة الذين وفدوا عليه من ثقيف وذلك أني كنت قرأت سورة البقرة فقلت : يا رسول الله ! إن القرآن يتفلت مني فوضع يده على صدري وقال : [ يا شيطان اخرج من صدر عثمان ] فما نسيت شيئا بعده أريد حفظه
وفي صحيح مسلم عن عثمان بن أبي العاص قلت : يا رسول الله ! إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي قال : [ ذاك شيطان يقال له : خنزب فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه واتفل عن يسارك ثلاثا ] ففعلت فأذهبه الله عني (3/521)
فصل
وفي قصة هذا الوفد من الفقه أن الرجل من أهل الحرب إذا غدر بقومه وأخذ أموالهم ثم قدم مسلما لم يتعرض له الإمام ولا لما أخذه من المال ولا يضمن ما أتلفه قبل مجيئه من نفس ولا مال كما لم يتعرض النبي صلى الله عليه و سلم لما أخذه المغيرة من أموال الثقفيين ولا ضمن ما أتلفه عليهم وقال : [ أما الإسلام فأقبل وأما المال فلست منه في شئ ]
ومنها : جواز إنزال المشرك في المسجد ولا سيما إذا كان يرجو إسلامه وتمكينه من سماع القرآن ومشاهدة أهل الإسلام وعبادتهم
ومنها : حسن سياسة الوفد وتلطفهم حتى تمكنوا من إبلاغ ثقيف ما قدموا به فتصوروا لهم بصورة المنكر لما يكرهونه الموافق لهم فيما يهوونه حتى ركنوا إليهم واطمأنوا فلما علموا أنه ليس لهم بد من الدخول في دعوة الإسلام أذعنوا فأعلمهم الوفد أنهم بذلك قد جاؤوهم ولو فاجؤوهم به من أول وهلة لما أقروا به ولا أذعنوا وهذا من أحسن الدعوة وتمام التبليغ ولا يتأتى مع ألباء الناس وعقلائهم
ومنها : أن المستحق لإمرة القوم وإمامتهم أفضلهم وأعلمهم بكتاب الله وأفقههم في دينه
ومنها : هدم مواضع الشرك التي تتخذ بيوتا للطواغيت وهدمها أحب إلى الله ورسوله وأنفع للإسلام والمسلمين من هدم الحانات والمواخير وهذا حال المشاهد المبنية على القبور التي تعبد من دون الله ويشرك بأربابها مع الله لايحل إبقاؤها في الإسلام ويجب هدمها ولا يصح وقفها ولا الوقف عليها وللإمام أن يقطعها وأوقافها لجند الإسلام ويستعين بها على مصالح المسلمين وكذلك ما فيها من الآلات والمتاع والنذور التي تساق إليها يضاهى بها الهدايا التي تساق إلى البيت الحرام للإمام أخذها كلها وصرفها في مصالح المسلمين كما أخذ النبي صلى الله عليه و سلم أموال بيوت هذه الطواغيت وصرفها في مصالح الإسلام وكان يفعل عندها ما يفعل عند هذه المشاهد سواء من النذور لها والتبرك بها والتمسح بها وتقبيلها واستلامها هذا كان شرك القوم بها ولم يكونوا يعتقدون أنها خلقت السماوات والأرض بل كان شركهم بها كشرك أهل الشرك من أرباب المشاهد بعينه
ومنها : استحباب اتخاذ المساجد مكان بيوت الطواغيت فيعبد الله وحده لا يشرك به شيئا في الأمكنة التي كان يشرك به فيها وهكذا الواجب في مثل هذه المشاهد أن تهدم وتجعل مساجد إن احتاج إليها المسلمون وإلا أقطعها الإمام هي وأوقافها للمقاتلة وغيرهم
ومنها : أن العبد إذا تعوذ بالله من الشيطان الرجيم وتفل عن يساره لم يضره ذلك ولا يقطع صلاته بل هذا من تمامها وكمالها والله أعلم (3/525)
فصل
قال ابن إسحاق : ولما افتتح رسول الله صلى الله عليه و سلم مكة وفرغ من تبوك وأسلمت ثقيف وبايعت ضربت إليه وفود العرب من كل وجه فدخلوا في دين الله أفواجا يضربون إليه من كل وجه (3/527)
فصل
وقد تقدم ذكر وفد بني تميم ووفد طيء
ذكر وفد بني عامر ودعاء النبي صلى الله عليه و سلم على عامر بن الطفيل وكفاية الله شره وشر أربد بن قيس بعد أن عصم منهما نبيه
روينا في كتاب الدلائل للبيهقي عن يزيد بن عبد الله أبي العلاء قال : [ وفد أبي في وفد بني عامر إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقالوا : أنت سيدنا وذو الطول علينا فقال : مه مه قولوا بقولكم ولا يستجرينكم الشيطان السيد الله ]
روينا عن ابن إسحاق قال : لما قدم على رسول الله صلى الله عليه و سلم وفد بني عامر فيهم عامر بن الطفيل وأربد بن قيس بن جزء بن خالد بن جعفر وجبار بن سلمى بن مالك بن جعفر وكان هؤلاء النفر رؤوساء القوم وشياطينهم فقدم عدو الله عامر بن الطفيل على رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو يريد الغدر به فقال له قومه : يا عامر ! إن الناس قد أسلموا فقال : والله لقد كنت آليت ألا أنتهى حتى تتبع العرب عقبي وأنا أتبع عقب هذا الفتى من قريش ! ثم قال لأربد : إذا قدمنا على الرجل فإني شاغل عنك وجهه فإذا فعلت ذلك فاعله بالسيف فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه و سلم قال عامر : يا محمد ! خالني قال : [ لا والله حتى تؤمن بالله وحده ] قال : يا محمد ! خالني قال : [ حتى تؤمن بالله وحده لا شريك له ] فلما أبى عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم قال له : أما والله لأملأنها عليك خيلا ورجالا فلما ولى قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ اللهم اكفني عامر بن الطفيل ] فلما خرجوا من عند رسول الله صلى الله عليه و سلم قال عامر لأربد : ويحك يا أربد أين ما كنت أمرتك به ؟ والله ما كان على وجه الأرض أخوف عندي على نفسي منك وايم الله لا أخافك بعد اليوم أبدا قال : لا أبالك لا تعجل علي فوالله ما هممت بالذي أمرتني به إلا دخلت بيني وبين الرجل أفأضربك بالسيف ؟
ثم خرجوا راجعين إلى بلادهم حتى إذا كانوا ببعض الطريق بعث الله على عامر بن الطفيل الطاعون في عنقه فقتله الله في بيت امرأة من بني سلول ثم خرج أصحابه حين رأوه حتى قدموا أرض بني عامر أتاهم قومهم فقالوا : ما وراءك يا أربد ؟ فقال : لقد دعاني إلى عبادة شئ لوددت أنه عندي فأرميه بنبلي هذه حتى أقتله فخرج بعد مقالته بيوم أو بيومين معه جمل يتبعه فأرسل الله عليه وعلى جمله صاعقة فأحرقتهما وكان أربد أخا لبيد بن ربيعة لأمه فبكى ورثاه
وفي صحيح البخاري أن عامر بن الطفيل أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : أخيرك بين ثلاث خصال : يكون لك أهل السهل ولي أهل المدر أو أكون خليفتك من بعدك أو أغزوك بغطفان بألف أشقر وألف شقراء فطعن في بيت امرأة فقال : أغدة كغدة البكر في بيت امرأة من بني فلان ائتوني بفرسي فركب فمات على ظهر فرسه (3/527)
فصل
في قدوم وفد عبد القيس
في الصحيحين من حديث ابن عباس : أن وفد عبد القيس قدموا على النبي صلى الله عليه و سلم فقال : [ ممن القوم ؟ ] فقالوا : من ربيعة فقال : [ مرحبا بالوفد غير خزايا ولا ندامى ] فقالوا : يا رسول الله ! إن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر وإنا لا نصل إليك إلا في شهر حرام فمرنا بأمر فصل نأخذ به ونأمر به من وراءنا وندخل به الجنة فقال : [ آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع : آمركم بالإيمان بالله وحده أتدرون ما الإيمان بالله ؟ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تعطوا الخمس من المغنم وأنهاكم عن أربع : عن الدباء والحنتم والنقير والمزفت فاحفظوهن وادعوا إليهن من وراءكم ] زاد مسلم : [ قالوا : يا رسول الله ما علمك بالنقير ؟ قال : بلى جذع تنقرونه ثم تلقون فيه من التمر ثم تصبون عليه الماء حتى يغلي فإذا سكن شربتموه فعسى أحدكم أن يضرب ابن عمه بالسيف وفي القوم رجل به ضربة كذلك قال : وكنت أخبؤها حياء من رسول الله صلى الله عليه و سلم ] قالوا : ففيم نشرب يا رسول الله ؟ قال : [ اشربوا في أسقية الأدم التي يلاث على أفواهها ] قالوا : يا رسول الله ! إن أرضنا كثيرة الجرذان لا تبقى فيها أسقية الأدم قال : [ وإن أكلها الجرذان ] مرتين أو ثلاثا ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لأشج عبد القيس [ إن فيك خصلتين يحبهما الله : الحلم والأناة ]
قال ابن إسحاق : قدم على رسول الله صلى الله عليه و سلم الجارود بن بشر بن المعلي وكان نصرانيا فجاء رسول الله صلى الله عليه و سلم في وفد عبد القيس فقال : يا رسول الله إنى على دين وإني تارك ديني لدينك فتضمن لي بما فيه ؟ قال : [ نعم أنا ضامن لذلك إن الذى أدعوك إليه خير من الذيى كنت عليه ] فأسلم وأسلم أصحابه ثم قال : يارسول الله ! احملنا فقال : [ والله ماعندي ما أحملكم عليه ] فقال : يا رسول الله ! إن بيننا وبين بلادنا ضوال من ضوال الناس أفنتبلغ عليها ؟ قال : [ لا تلك حرق النار ] (3/529)
فصل
ففي هذه القصة : أن الإيمان بالله هو مجموع هذه الخصال من القول والعمل كما على ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم والتابعون وتابعوهم كلهم ذكره الشافعي في المبسوط وعلى ذلك ما يقارب مائة دليل من الكتاب والسنة
وفيها : أنه لم يعد الحج في هذه الخصال وكان قدومهم في سنة تسع وهذا أحد ما يحتج به على أن الحج لم يكن فرض بعد وأنه إنما فرض في العاشرة ولو كان فرض لعده من الإيمان كما عد الصوم والصلاة والزكاة
وفيها : أنه لا يكره أن يقال : رمضان للشهر خلافا لمن كره ذلك وقال : لا يقال : إلا شهر رمضان
وفي الصحيحين : من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه
وفيها : وجوب أداء الخمس من الغنيمة وأنه من الإيمان
وفيها : النهي عن الانتباذ في هذه الأوعية وهل تحريمه باق أو منسوخ ؟ على قولين وهما روايتان عن أحمد والأكثرون على نسخه بحديث بريدة الذي رواه مسلم وقال فيه : وكنت نهيتكم عن الأوعية فانتبذوا فيما بدا لكم ولا تشربوا مسكرا ومن قال : بإحكام أحاديث النهي وأنها غير منسوخة قال : هي أحاديث تكاد تبلغ التواتر في تعددها وكثرة طرقها وحديث الإباحة فرد فلا يبلغ مقاومتها وسر المسألة أن النهي عن الأوعية المذكورة من باب سد الذرائع إذ الشراب يسرع إليه الإسكار فيها وقيل : بل النهي عنها لصلابتها وأن الشراب يسكر فيها ولا يعلم به بخلاف الظروف غير المزفتة فإن الشراب متى غلا فيها وأسكر انشقت فيعلم بأنه مسكر فعلى هذه العلة يكون الانتباذ في الحجارة والصفر أولى بالتحريم وعلى الأول لا يحرم إذ لا يسرع الإسكار إليه فيها كإسراعه في الأربعة المذكورة وعلى كلا العلتين فهو من باب سد الذريعة كالنهي أولا عن زيارة القبور سدا لذريعة الشرك فلما استقر التوحيد في نفوسهم وقوي عندهم أذن في زيارتها غير أن لا يقولوا هجرا وهكذا قد يقال فى الانتباذ في هذه الأوعية إنه فطمهم عن المسكر وأوعيته وسد الذريعة إليه إذا كانوا حديثي عهد بشربه فلما استقر تحريمه عندهم واطمأنت إليه نفوسهم أباح لهم الأوعية كلها غير أن لا يشربوا مسكرا فهذا فقه المسألة وسرها
وفيها : مدح صفتي الحلم والأناة وأن الله يحبهما وضدهما الطيش والعجلة وهما خلقان مذمومان مفسدان للأخلاق والأعمال
وفيه دليل على أن الله يحب من عبده ما جبله عليه نن خصال الخير كالذكاء والشجاعة والحلم
وفيه دليل على أن الخلق قد يحصل بالتخلق والتكلف لقوله في هذا الحديث : خلقين تخلقت بهما أو جبلني الله عليهما ؟ فقال : بل جبلت عليهما
وفيه دليل على أنه سبحانه خالق أفعال العباد وأخلاقهم كما هو خالق ذواتهم وصفاتهم فالعبد كله مخلوق ذاته وصفاته وأفعاله ومن أخرج أفعاله عن خلق الله فقد جعل فيه خالقا مع الله ولهذا شبه السلف القدرية النفاة بالمجوس وقالوا : هم مجوس هذه الأمة صح ذلك عن ابن عباس
وفيه إثبات الجبل لا الجبر لله تعالى وأنه يجبل عبده على ما يريد كما جبل الأشج على الحلم والأناة وهما فعلان ناشئان عن خلقين في النفس فهو سبحانه الذي جبل العبد على أخلاقه وأفعاله ولهذا قال الأوزاعي وغيره من أئمة السلف : نقول : إن الله جبل العباد على أعمالهم ولا نقول : جبرهم عليها وهذا من كمال علم الأئمة ودقيق نظرهم فإن الجبر أن يحمل العبد على خلاف مراده كجبر البكر الصغيرة على النكاح وجبر الحاكم من عليه الحق على أدائه والله سبحانه أقدر من أن يجبر عبده بهذا المعنى ولكنه يجبله على أن يفعل ما يشاء الرب بإرادة عبده واختياره ومشيئته فهذا لون والجبر لون
وفيها : أن الرجل لا يجوز له أن ينتفع بالضالة التي لا يجوز التقاطها كالإبل فإن النبي صلى الله عليه و سلم لم يجوز للجارود ركوب الإبل الضالة وقال : [ ضالة المسلم حرق النار ] وذلك لأنه إنما أمر بتركها وأن لا يلتقطها حفظا على ربها حتى يجدها إذا طلبها فلو جوز له ركوبها والانتفاع بها لأفضى إلى أن لا يقدر عليها ربها وأيضا تطمع فيها النفوس وتتملكها فمنع الشارع من ذلك (3/531)
فصل
في قدوم وفد بني حنيفة
قال ابن إسحاق : قدم على رسول الله صلى الله عليه و سلم وفد بني حنيفة فيهم مسيلمة الكذاب وكان منزلهم في دار امرأة من الأنصار من بني النجار فأتوا بمسيلمة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم يستر بالثياب ورسول الله صلى الله عليه و سلم جالس مع أصحابه في يده عسيب من سعف النخل فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وهم يسترونه بالثياب كلمه وسأله فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لو سألتني هذا العسيب الذي في يدي ما أعطيتك ]
قال ابن إسحاق : فقال لي شيخ من أهل اليمامة من بني حنيفة : إن حديثه كان على غير هذا زعم أن وفد بني حنيفة أتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم وخلفوا مسيلمة في رحالهم فلما أسلموا ذكروا له مكانه فقالوا : يا رسول الله ! إنا قد خلفنا صاحبا لنا في رحالنا وركابنا يحفظها لنا فأمر له رسول الله صلى الله عليه و سلم بما أمر به للقوم وقال : أما إنه ليس بشركم مكانا يعني حفظه ضيعة أصحابه وذلك الذي يريد رسول الله صلى الله عليه و سلم
ثم انصرفوا وجاؤوه بالذي أعطاه فلما قدموا اليمامة ارتد عدو الله وتنبأ وقال : إني أشركت في الأمر معه ألم يقل لكم حين ذكرتموني له : أما إنه ليس بشركم مكانا وما ذاك إلا لما كان يعلم أني قد أشركت في الأمر معه ثم جعل يسجع السجعات فيقول لهم فيما يقول مضاهاة للقرآن : لقد أنعم الله على الحبلى أخرج منها نسمة تسعى ومن بين صفاق وحشا ووضع عنهم الصلاة وأحل لهم الخمر والزنى وهو مع ذلك يشهد لرسول الله صلى الله عليه و سلم أنه نبي فأصفقت معه بنو حنيفة على ذلك
قال ابن إسحاق : وقد كان كتب لرسول الله صلى الله عليه و سلم : من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله أما بعد : فإني أشركت في الأمر معك وإن لنا نصف الأمر ولقريش نصف الأمر وليس قريش قوما يعدلون فقدم عليه رسوله بهذا الكتاب فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ بسم الله الرحمن الرحيم : من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب سلام على من اتبع الهدى أما بعد : فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ] وكان ذلك فى آخر سنة عشر
قال ابن إسحاق : فحدثني سعد بن طارق عن سلمة بن نعيم بن مسعود عن أبيه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم حين جاءه رسولا مسيلمة الكذاب بكتابه يقول لهما : [ وأنتما تقولان بمثل ما يقول ؟ ] قالا : نعم فقال : [ أما والله لو لا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما ]
وروينا في مسند أبي داود الطيالسي عن أبي وائل عن عبد الله قال : جاء ابن النواحة وابن أثال رسولين لمسيلمة الكذاب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال لهما رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ تشهدان أني رسول الله ؟ ] فقالا : نشهد أن مسيلمة رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ آمنت بالله ورسوله ولو كنت قاتلا رسولا لقتلتكما ] قال عبد الله : فمضت السنة بأن الرسل لا تقتل
وفي صحيح البخاري عن أبي رجاء العطاردي قال : لما بعث النبي صلى الله عليه و سلم فسمعنا به لحقنا بمسيلمة الكذاب فلحقنا بالنار وكنا نعبد الحجر في الجاهلية فإذا وجدنا حجرا هو أحسن منه ألقينا ذلك وأخذناه فإذا لم نجد حجرا جمعنا جثوة من تراب ثم جئنا بالشاة فحلبناها عليه ثم طفنا به وكنا إذا دخل رجب قلنا : جاء منصل الأسنة فلا ندع رمحا فيه حديدة ولا سهما فيه حديدة إلا نزعناها وألقيناها
قلت : وفي الصحيحين من حديث نافع بن جبير عن ابن عباس قال : قدم مسيلمة الكذاب على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة فجعل يقول : إن جعل لي محمد الأمر من بعده تبعته وقدمها في بشر كثير من قومه فأقبل النبي صلى الله عليه و سلم ومعه ثابت بن قيس بن شماس وفي يد النبي صلى الله عليه و سلم قطعة جريد حتى وقف على مسيلمة في أصحابه فقال : [ إن سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها ولن تعدو أمر الله فيك ولئن أدبرت ليعقرنك الله وإني أراك الذي أريت فيه ما أريت وهذا ثابت بن قيس يجيبك عني ] ثم انصرف قال ابن عباس : فسألت عن قول النبي صلى الله عليه و سلم : إنك الذي أريت فيه ما أريت فأخبرني أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ بينا أنا نائم رأيت في يدي سوارين من ذهب فأهمني شأنهما فأوحي إلي في المنام أن أنفخهما فنفختهما فطارا فأولتهما كذابين يخرجان من بعدي ] فهذان هما أحدهما العنسي صاحب صنعاء والآخر مسيلمة الكذاب صاحب اليمامة وهذا أصح من حديث ابن اسحاق المتقدم
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ بينا أنا نائم إذا أتيت بخزائن الأرض فوضع في يدي سواران من ذهب فكبرا علي وأهماني فأوحي إلي أن انفخهما فنفختهما فذهبا فأولتهما الكذابين اللذين أنا بينهما صاحب صنعاء وصاحب اليمامة ] (3/533)
فصل
في فقه هذه القصة
فيها : جواز مكاتبة الإمام لأهل الردة إذا كان لهم شوكة ويكتب لهم ولإخوانهم من الكفار : سلام على من اتبع الهدى
ومنها : أن الرسول لا يقتل ولو كان مرتدا هذه السنة
ومنها : أن للإمام أن يأتي بنفسه إلى من قدم يريد لقاءه من الكفار
ومنها : أن الإمام ينبغي له أن يستعين برجل من أهل العلم يجيب عنه أهل الاعتراض والعناد
ومنها : توكيل العالم لبعض أصحابه أن يتكلم عنه ويجيب عنه
ومنها : إن هذا الحديث من أكبر فضائل الصديق فإن النبي صلى الله عليه و سلم نفخ السوارين بروحه فطارا وكان الصديق هو ذلك الروح الذي نفخ مسيلمة وأطاره
قال الشاعر :
( فقلت له ارفعها إليك فأحيها ... بروحك واقتته لها قيتة قدرا )
ومن ها هنا دل لباس الحلي للرجل على نكد يلحقه وهم يناله وأنبأني أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن بن عبد المنعم بن نعمة بن سرور المقدسي المعروف بالشهاب العابر قال : قال لي رجل : رأيت في رجلي خلخالا فقلت له : تتخلخل رجلك بألم وكان كذلك
وقال لي آخر : رأيت كأن في أنفي حلقة ذهب وفيها حب مليح أحمر فقلت له : يقع بك رعاف شديد فجرى كذلك
وقال آخر : رأيت كلابا معلقا في شفتي قلت : يقع بك ألم يحتاح إلى الفصد في شفتك فجرى كذلك
وقال لي آخر : رأيت في يدي سوارا والناس يبصرونه فقلت له : سوء يبصره الناس في يدك فعن قليل طلع في يده طلوع ورأى ذلك آخر لم يكن يبصره الناس فقلت له : تتزوج امرأة حسنة وتكون رقيقة قلت : عبر له السوار بالمرأة لما أخفاه وستره عن الناس ووصفها بالحسن لحسن منظر الذهب وبهجته وبالرقة لشكل السوار
والحلية للرجل تنصرف على وجوه فربما دلت على تزويج العزاب لكونها من آلات التزويج وربما دلت على الإماء والسراري وعلى الغناء وعلى البنات وعلى الخدم وعلى الجهاز وذلك بحسب حال الرائي وما يليق به
قال أبو العباس العابر : وقال لي رجل : رأيت كأن في يدي سوارا منفوخا لا يراه الناس فقلت له : عندك امرأة بها مرض الاستسقاء فتأمل كيف عبر له السوار بالمرأة ثم حكم عليها بالمرض لصفرة السوار وأنه مرض الاستسقاء الذي ينتفخ معه البطن
قال : وقال لي آخر : رأيت في يدي خلخالا وقد أمسكه آخر وأنا ممسك له وأصيح عليه وأقول : اترك خلخالي فتركه فقلت له : فكان الخلخال فى يدك أملس ؟ فقال : بل كان خشنا تألمت منه مرة بعد مرة وفيه شراريف فقلته له : أمك وخالك شريفان ولست بشريف واسمك عبد القاهر وخالك لسانه نجس رديء يتكلم في عرضك ويأخذ مما في يدك قال : نعم قلت : ثم إنه يقع في يد ظالم متعد ويحتمي بك فتشد منه وتقول : خل خالي فجرى ذلك عن قليل قلت : تأمل أخذه الخال من لفظ الخلخال ثم عاد إلى اللفظ بتمامه حتى أخذ منه خل خالي وأخذ شرفه من شراريف الخلخال ودل على شرف أمه إذ هي شقيقة خاله وحكم عليه بأنه ليس بشريف إذ شرفات الخال الدالة على الشرف اشتقاقا هي في أمر خارج عن ذاته واستدل على أن لسان خاله لسان رديء يتكلم في عرضه بالألم الذي حصل له بخشونة الخلخال مرة بعد مرة فهى خشونة لسان خاله في حقه واستدل على أخذ خاله ما في يديه بتأذيه به وبأخذه من يديه في النوم بخشونته واستدل بإمساك الأجنبي للخلخال ومجاذبة الرائي على وقوع الخال في يد ظالم متعد يطلب منه ما ليس له واستدل بصياحه على المجاذب له وقوله : خل خالي على أنه يعين خاله على ظالمه وبشد منه واستدل على قهره لذلك المجاذب له وأنه القاهر يده عليه على أنه اسمه عبد القاهر وهذه كانت حال شيخنا هذا ورسوخه في علم التعبير وسمعت عليه عدة أجزاء ولم يتفق لي قراءة هذا العلم عليه لصغر السن واحترام المنية له رحمه الله تعالى (3/536)
فصل
في قدوم وفد طىء على النبي صلى الله عليه و سلم
قال ابن إسحاق : وقدم على رسول الله صلى الله عليه و سلم وفد طيىء وفيهم زيد الخيل وهو سيدهم فلما انتهوا إليه كلمهم وعرض عليهم الإسلام فأسلموا وحسن إسلامهم وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ما ذكر لي رجل من العرب بفضل ثم جائني إلا رأيته دون ما يقال فيه إلا زيد الخيل : فإنه لم يبلغ كل ما فيه ] ثم سماه : زيد الخير وقطع له فيدا وأرضين معه وكتب له بذلك فخرج من عند رسول الله صلى الله عليه و سلم راجعا إلى قومه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن ينج زيد من حمى المدينة ] فإنه قال : وقد سماها رسول الله صلى الله عليه و سلم باسم غير الحمى وغير أم ملدم فلم يثبته فلما انتهى إلى ماء من مياه نجد يقال له : فردة أصابته الحمى بها فمات فلما أحس بالموت أنشد :
( أمرتحل قومي المشارق غدوة ... وأترك في بيت بفردة منجد )
( ألا رب يوم لو مرضت لعادني ... عوائد من لم يبر منهن يجهد )
قال ابن عبد البر : وقيل : مات في آخر خلافة عمر رضي الله عنه وله ابنان مكنف وحريث أسلما وصحبا رسول الله صلى الله عليه و سلم وشهدا قتال أهل الردة مع خالد بن الوليد (3/538)
فصل
في قدوم وفد كندة على رسول الله صلى الله عليه و سلم
قال ابن إسحاق : حدثني الزهري قال : قدم الأشعث بن قيس على رسول الله صلى الله عليه و سلم في ثمانين أو ستين راكبا من كندة فدخلوا عليه صلى الله عليه و سلم مسجده قد رجلوا جممهم وتسلحوا ولبسوا جباب الحبرات مكففة بالحرير فلما دخلوا قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أولم تسلموا ؟ ] قالوا : بلى قال : [ فما بال هذا الحرير فى أعناقكم ؟ ] فشقوه ونزعوه وألقوه ثم قال الأشعث : يا رسول الله ! نحن بنو آكل المرار وأنت ابن آكل المرار فضحك رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قال : [ ناسبوا بهذا النسب ربيعة بن الحارث والعباس بن عبد المطلب ]
قال الزهري وابن إسحاق : كانا تاجرين وكانا إذا سارا في أرض العرب فسئلا من أنتما ؟ قالا : نحن بنو آكل المرار يتعززون بذلك في العرب ويدفعون به عن أنفسهم لأن بني آكل المرار من كندة كانوا ملوكا قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفو أمنا ولا ننتفي من أبينا ]
وفي المسند من حديث حماد بن سلمة عن عقيل بن طلحة عن مسلم بن هيضم عن الأشعث بن قيس قال : قدمنا على رسول الله صلى الله عليه و سلم وفد كندة ولا يرون إلا أني أفضلهم قلت : يا رسول الله ! ألستم منا ؟ قال : [ لا نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفو أمنا ولا ننتفي من أبينا ] وكان الأشعث يقول : لا أوتى برجل نفى رجلا من قريش من النضر بن كنانة إلا جلدته الحد
وفي هذا من الفقه أن من كان من ولد النضر بن كنانة فهو من قريش
وفيه : جواز إتلاف المال المحرم استعماله كثياب الحرير على الرجال وأن ذلك ليس بإضاعة
والمرار : هو شجر من شجر البوادي وآكل المرار : هو الحارث بن عمرو بن حجر بن عمرو بن معاوية بن كندة وللنبي صلى الله عليه و سلم جدة من كندة مذكورة وهى أم كلاب بن مرة وإياها أراد الأشعث
وفيه : أن من انتسب إلى غير أبيه فقد انتفى من أبيه وقفى أمه أي : رماها بالفجور
وفيها : أن كندة ليسوا من ولد النضر بن كنانة
وفيه : أن من أخرج رجلا عن نسبه المعروف جلد حد القذف (3/539)
فصل
في قدوم وفد الأشعريين وأهل اليمن
روى يزيد بن هارون عن حميد عن أنس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ يقدم قوم هم أرق منكم قلوبا ] فقدم الأشعريون فجعلوا يرتجزون :
( غدا نلقى الأحبه ... محمدا وحزبه )
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ جاء أهل اليمن هم أرق أفئدة وأضعف قلوبا والإيمان يمان والحكمة يمانية والسكينة في أهل الغنم والفخر والخيلاء في الفدادين من أهل الوبر قبل مطلع الشمس ]
وروينا عن يزيد بن هارون أنبأنا ابن أبي ذئب عن الحارث بن عبد الرحمن عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فى سفر فقال : [ أتاكم أهل اليمن كأنهم السحاب هم خيار من في الأرض ] فقال رجل من الأنصار : إلا نحن يا رسول الله فسكت ثم قال : إلا نحن يا رسول الله فسكت ثم قال : [ إلا أنتم ] كلمة ضعيفة
وفي صحيح البخاري : أن نفرا من بني تميم جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ أبشروا يا بني تميم ] فقالوا : بشرتنا فأعطنا فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم وجاء نفر من أهل اليمن فقال : [ اقبلوا البشرى إذ لم يقبلها بنو تميم ] قالوا : قد قبلنا ثم قالوا : يا رسول الله جئنا لنتفقه في الدين ونسألك عن أول هذا الأمر فقال : [ كان الله ولم يكن شئ غيره وكان عرشه على الماء وكتب فى الذكر كل شئ ] (3/541)
فصل
في قدوم وفد الأزد على رسول الله صلى الله عليه و سلم
قال ابن إسحاق : وقدم على رسول الله صلى الله عليه و سلم صرد بن عبد الله الأزدي فأسلم وحسن إسلامه في وفد من الأزد فأمره رسول الله صلى الله عليه و سلم على من أسلم من قومه وأمره أن يجاهد بمن أسلم من كان يليه من أهل الشرك من قبائل اليمن فخرج صرد يسير بأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى نزل بجرش وهي يومئذ مدينة مغلقة وبها قبائل من قبائل اليمن وقد ضوت إليهم خثعم فدخلوها معهم حين سمعوا بمسير المسلمين إليهم فحاصروهم فيها قريبا من شهر وامتنعوا فيها فرجع عنهم قافلا حتى إذا كان في جبل لهم يقال له : شكر ظن أهل جرش أنه إنما ولى عنهم منهزما فخرجوا في طلبه حتى إذا أدركوه عطف عليهم فقاتلهم فقتلهم قتلا شديدا وقد كان أهل جرش بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم رجلين منهم يرتادان وينظران فبينا هما عند رسول الله صلى الله عليه و سلم عشية بعد العصر إذ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ بأي بلاد الله شكر ؟ ] فقام الجرشيان فقالا : يا رسول الله ! ببلادنا جبل يقال له : كشر وكذلك تسميه أهل جرش فقال : [ إنه ليس بكشر ولكنه شكر ] قالا : فما شأنه يا رسول الله ؟ قال : فقال : [ إن بدن الله لتنحر عنده الآن ] قال : فجلس الرجلان إلى أبي بكر وإلى عثمان فقالا لهما : ويحكما إن رسول الله صلى الله عليه و سلم لينعى لكما قومكما فقوما إليه فاسألاه أن يدعو الله أن يرفع عن قومكما فقاما إليه فسألاه ذلك فقال : [ اللهم ارفع عنهم ] فخرجا من عند رسول الله صلى الله عليه و سلم راجعين إلى قومهما فوجدا قومهما أصيبوا في اليوم الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم ما قال وفي الساعة التي ذكر فيها ما ذكر فخرج وفد جرش حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه و سلم فأسلموا وحمى لهم حمى حول قريتهم (3/542)
فصل
في قدوم وفد بني الحارث بن كعب على رسول الله صلى الله عليه و سلم
قال ابن إسحاق : ثم بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم خالد بن الوليد في شهر ربيع الآخر أو فى جمادى الأولى سنة عشر إلى بني الحارث بن كعب بنجران وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام قبل أن يقاتلهم ثلاثا فإن استجابوا فاقبل منهم وإن لم يفعلوا فقاتلهم فخرج خالد حتى قدم عليهم فبعث الركبان يضربون فى كل وجه ويدعون إلى الإسلام ويقولون : أيها الناس أسلموا لتسلموا فأسلم الناس ودخلوا فيما دعوا إليه فأقام فيهم خالد يعلمهم الإسلام وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم بذلك فكتب له رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يقبل ويقبل معه وفدهم فأقبل وأقبل معه وفدهم فيهم : قيس بن الحصين ذي الغصة ويزيد بن عبد المدان ويزيد بن المحجل وعبد الله بن قراد وشداد بن عبد الله وقال لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ بم كنتم تغلبون من قاتلكم في الجاهلية ] ؟ قالوا : لم نكن نغلب أحدا قال : [ بلى ] قالوا : كنا نجتمع ولا نتفرق ولا نبدأ أحدا بظلم قال : [ صدقتم ] وأمر عليهم قيس بن الحصين فرجعوا إلى قومهم في بقية من شوال أو من ذي القعدة فلم يمكثوا إلا أربعة أشهر حتى توفي رسول الله صلى الله عليه و سلم (3/543)
فصل
في قدوم وفد همدان عليه صلى الله عليه و سلم
وقدم عليه وفد همدان منهم : مالك بن النمط ومالك بن أيفع وضمام بن مالك وعمرو بن مالك فلقوا رسول الله صلى الله عليه و سلم مرجعه من تبوك وعليهم مقطعات الحبرات والعمائم العدنية على الرواحل المهرية والأرحبية ومالك بن النمط يرتجز بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم ويقول :
( إليك جاوزن سواد الريف ... في هبوات الصيف الخريف )
( مخطمات بحبال الليف )
وذكروا له كلاما حسنا فصيحا فكتب لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم كتابا أقطعهم فيه ما سألوه وأمر عليهم مالك بن النمط واستعمله على من أسلم من قومه وأمره بقتال ثقيف وكان لا يخرج لهم سرح إلا أغاروا عليه
وقد روى البيهقي بإسناد صحيح من حديث أبي إسحاق عن البراء أن النبي صلى الله عليه و سلم بعث خالد بن الوليد إلى أهل اليمن يدعوهم إلى الإسلام قال البراء : فكنت فيمن خرج مع خالد بن الوليد فأقمنا ستة أشهر يدعوهم إلى الإسلام فلم يجيبوه ثم إن النبي صلى الله عليه و سلم بعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأمره أن يقفل خالدا إلا رجلا ممن كان مع خالد أحب أن يعقب مع علي رضي الله عنه فليعقب معه قال البراء : فكنت فيمن عقب مع علي فلما دنونا من القوم خرجوا إلينا فصلى بنا علي رضي الله عنه ثم صفنا صفا واحدا ثم تقدم بين أيدينا وقرأ عليهم كتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فأسلمت همدان جميعا فكتب علي رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم بإسلامهم فلما قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم الكتاب خر ساجدا ثم رفع رأسه فقال : [ السلام على همدان السلام على همدان ] وأصل الحديث في صحيح البخاري
وهذا أصح مما تقدم ولم تكن همدان أن تقاتل ثقيفا ولا تغير على سرحهم فإن همدان باليمن وثقيفا بالطائف (3/544)
فصل
في قدوم وفد مزينة على رسول الله صلى الله عليه و سلم
روينا من طريق البيهقي عن النعمان بن مقرن قال : قدمنا على رسول الله صلى الله عليه و سلم أربعمائة رجل من مزينة فلما أردنا أن ننصرف قال : [ يا عمر ! زود القوم ] فقال : ما عندي إلا شئ من تمر ما أظنه يقع من القوم موقعا قال : [ انطلق فزودهم ] قال : فانطلق بهم عمر فأدخلهم منزله ثم أصعدهم إلى علية فلما دخلنا إذا فيها من التمر مثل الجمل الأورق فأخذ القوم منه حاجتهم قال النعمان : فكنت في آخر من خرج فنظرت فما أفقد موضع تمرة من مكانها (3/545)
فصل
في قدوم وفد دوس على رسول الله صلى الله عليه و سلم قبل ذلك بخيبر
قال ابن إسحاق : كان الطفيل بن عمرو الدوسي يحدث أنه قدم مكة ورسول الله صلى الله عليه و سلم بها فمشى إليه رجال من قريش وكان الطفيل رجلا شريفا شاعرا لبيبا قالوا له : إنك قدمت بلادنا وإن هذا الرجل - وهو الذي بين أظهرنا - فرق جماعتنا وشتت أمرنا وإنما قوله كالسحر يفرق بين المرء وابنه وبين المرء وأخيه وبين المرء وزوجه وإنما نخشى عليك وعلى قومك ما قد حل علينا فلا تكلمه ولا تسمع منه قال : فوالله ما زالوا بي حتى أجمعت أن لا أسمع منه شيئا ولا أكلمه حتى حشوت في أذني حين غدوت إلى المسجد كرسفا فرقا من أن يبلغني شئ من قوله قال : فغدوت إلى المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه و سلم قائم يصلي عند الكعبة فقمت قريبا منه فأبى الله إلا أن يسمعني بعض قوله فسمعت كلاما حسنا فقلت في نفسي : واثكل أمياه والله إني لرجل لبيب شاعر ما يخفى علي الحسن من القبيح فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول ؟ فإن كان ما يقول حسنا قبلت وإن كان قبيحا تركت قال : فمكثت حتى انصرف رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى بيته فتبعته حتى إذا دخل بيته دخلت عليه فقلت : يا محمد ! إن قومك قد قالوا لي : كذا وكذا فوالله ما برحوا يخوفوني أمرك حتى سددت أذني بكرسف لئلا أسمع قولك ثم أبى الله إلا أن يسمعنيه فسمعت قولا حسنا فاعرض علي أمرك فعرض علي رسول الله صلى الله عليه و سلم الإسلام وتلى علي القرآن فلا والله ما سمعت قولا قط أحسن منه ولا أمرا أعدل منه فأسلمت وشهدت شهادة الحق وقلت : يا نبي الله إني امرؤ مطاع في قومي وإنى راجع إليهم فداعيهم إلى الإسلام فادع الله لي أن يجعل لي آية تكون عونا لي عليهم فيما أدعوهم إليه فقال : [ اللهم اجعل له آية ] قال : فخرجت إلى قومي حتى إذا كنت بثنية تطلعني على الحاضر وقع نور بين عيني مثل المصباح قلت : اللهم في غير وجهي إني أخشى أن يظنوا أنها مثلة وقعت في وجهي لفراقي دينهم قال : فتحول فوقع في رأس سوطي كالقنديل المعلق وأنا أنهبط إليهم من الثنية حتى جئتهم وأصبحت فيهم فلما نزلت أتاني أبي وكان شيخا كبيرا فقلت : إليك عني يا أبت فلست مني ولست منك قال : لم يا بني ؟ قلت : قد أسلمت وتابعت دين محمد قال : يا بني فديني دينك قال : فقلت : اذهب فاغتسل وطهر ثيابك ثم تعال حتى أعلمك ما علمت قال : فذهب فاغتسل وطهر ثيابه ثم جاء فعرضت عليه الإسلام فأسلم ثم أتتني صاحبتي فقلت لها : إليك عني فلست منك ولست مني قالت : لم بأبي أنت وأمي ؟ ! قلت : فرق الإسلام بيني وبينك أسلمت وتابعت دين محمد قالت : فديني دينك قال : قلت : فاذهبي فاغتسلي ففعلت ثم جاءت فعرضت عليها الإسلام فأسلمت ثم دعوت دوسا إلى الإسلام فأبطؤوا علي فجئت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت : يا
رسول الله ! إنه قد غلبني على دوس الزنى فادع الله عليهم فقال : [ اللهم اهد دوسا ] ثم قال : [ ارجع إلى قومك فادعهم إلى الله وارفق بهم ] فرجعت إليهم فلم أزل بأرض دوس أدعوهم إلى الله ثم قدمت على رسول الله صلى الله عليه و سلم ورسول الله صلى الله عليه و سلم بخيبر فنزلت المدينة بسبعين أو ثمانين بيتا من دوس ثم لحقنا رسول الله صلى الله عليه و سلم بخيبر فأسهم لنا مع المسلمين
قال ابن إسحاق : فلما قبض رسول الله صلى الله عليه و سلم وارتدت العرب خرج الطفيل مع المسلمين حتى فرغوا من طليحة ثم سار مع المسلمين إلى اليمامة ومعه ابنه عمرو بن الطفيل فقال لأصحابه : إني قد رأيت رؤيا فاعبروها لي : رأيت أن رأسي قد حلق وأنه قد خرج من فمي طائر وأن امرأة لقيتني فأدخلتني في فرجها ورأيت أن ابني يطلبني طلبا حثيثا ثم رأيته حبس عني قالوا : خيرا رأيت قال : أما والله إني قد أولتها قالوا : وما أولتها ؟ قال : أما حلق رأسي فوضعه وأما الطائر الذي خرج من فمي فروحي وأما المرأة التى أدخلتني في فرجها فالأرض تحفر فأغيب فيها وأما طلب ابني إياي وحبسه عني فإنى أراه سيجهد لأن يصيبه من الشهادة ما أصابني فقتل الطفيل شهيدا باليمامة وجرح ابنه عمرو جرحا شديدا ثم قتل عام اليرموك شهيدا في زمن عمر رضي الله عنه (3/546)
فصل
في فقه هذه القصة
فيها : أن عادة المسلمين كانت غسل الإسلام قبل دخولهم فيه وقد صح أمر النبي صلى الله عليه و سلم به وأصح الأقوال : وجوبه على من أجنب في حال كفره ومن لم يجنب
وفيها : أنه لا ينبغي للعاقل أن يقلد الناس في المدح والذم ولا سيما تقليد من يمدح بهوى ويذم بهوى فكم حال هذا التقليد بين القلوب وبين الهدى ولم ينج منه إلا من سبقت له من الله الحسنى
ومنها : أن المدد إذا لحق بالجيش قبل انقضاء الحرب أسهم لهم
ومنها : وقوع كرامات الأولياء وأنها إنما تكون لحاجة في الدين أو لمنفعة للإسلام والمسلمين فهذه هي الأحوال الرحمانية سببها متابعة الرسول ونتيجتها إظهار الحق وكسر الباطل والأحوال الشيطانية ضدها سببا ونتيجة
ومنها : التأني والصبر في الدعوة إلى الله وأن لا يعجل بالعقوبة والدعاء على العصاة وأما تعبيره حلق رأسه بوضعه فهذا لأن حلق الرأس وضع شعره على الأرض وهو لا يدل بمجرده على وضع رأسه فإنه دال على خلاص من هم أو مرض أو شدة لمن يليق به ذلك وعلى فقر ونكد وزوال رياسة وجاه لمن لا يليق به ذلك ولكن في منام الطفيل قرائن اقتضت أنه وضع رأسه منها أنه كان في الجهاد ومقاتلة العدو ذي الشوكة والبأس
ومنها : أنه دخل في بطن المرأة التي رآها وهي الأرض التي هي بمنزلة أمه ورأى أنه قد دخل في الموضع الذي خرج منه وهذا هو إعادته إلى الأرض كما قال تعالى : { منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم } ( طه : 55 ) فأول المرأة بالأرض إذ كلاهما محل الوطء وأول دخوله في فرجها بعوده إليها كما خلق منها وأول الطائر الذي خرج من فيه بروحه فإنها كالطائر المحبوس في البدن فإذا خرجت منه كانت كالطائر الذي فارق حبسه فذهب حيث شاء ولهذا أخبر النبى صلى الله عليه و سلم : [ أن نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة ] وهذا هو الطائر الذي رؤي داخلا في قبر ابن عباس لما دفن وسمع قارىء يقرأ : { يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية } ( الحجر : 27 ) وعلى حسب بياض هذا الطائر وسواده وحسنه وقبحه تكون الروح ولهذا كانت أرواح آل فرعون فى صورة طيور سود ترد النار بكرة وعشية وأول طلب ابنه له باجتهاده في أن يلحق به في الشهادة وحبسه عنه هو مدة حياته بين وقعة اليمامة واليرموك والله أعلم (3/548)
فصل
في قدوم وفد نجران عليه صلى الله عليه و سلم
قال ابن إسحاق : وفد على رسول الله صلى الله عليه و سلم وفد نصارى نجران بالمدينة فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير قال : لما قدم وفد نجران على رسول الله صلى الله عليه و سلم دخلوا عليه مسجده بعد صلاة العصر فحانت صلاتهم فقاموا يصلون في مسجده فأراد الناس منعهم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ دعوهم ] فاستقبلوا المشرق فصلوا صلاتهم
قال : وحدثني يزيد بن سفيان عن ابن البيلماني عن كرز بن علقمة قال : قدم على رسول الله صلى الله عليه و سلم وفد نصارى نجران ستون راكبا منهم : أربعة وعشرون رجلا من أشرافهم والأربعة والعشرون منهم ثلاثة نفر إليهم يؤول أمرهم : العاقب أمير القوم وذو رأيهم وصاحب مشورتهم والذي لا يصدرون إلا عن رأيه وأمره واسمه عبد المسيح والسيد : ثمالهم صاحب رحلهم ومجتمعهم واسمه الأيهم وأبو حارثة بن علقمة أخو بني بكر بن وائل أسقفهم وحبرهم وإمامهم وصاحب مدراسهم
وكان أبو حارثة قد شرف فيهم ودرس كتبهم وكانت ملوك الروم من أهل النصرانية قد شرفوه ومولوه وأخدموه وبنوا له الكنائس وبسطوا عليه الكرامات لما يبلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم
فلما وجهوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم من نجران جلس أبو حارثة على بغلة له موجها إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وإلى جنبه أخ له يقال له : كرز بن علقمة يسايره إذ عثرت بغلة أبي حارثة فقال له كرز : تعس الأبعد يريد رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال له أبو حارثة : بل أنت تعست فقال : ولم يا أخي ؟ فقال : والله إنه النبي الأمى الذي كنا ننتظره فقال له كرز : فما يمنعك من اتباعه وأنت تعلم هذا ؟ فقال : ما صنع بنا هؤلاء القوم : شرفونا ومولونا وأكرمونا وقد أبوا إلا خلافه ولو فعلت نزعوا منا كل ما ترى فأضمر عليها منه أخوه كرز بن علقمة حتى أسلم بعد ذلك
قال ابن إسحاق : وحدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال : حدثني سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس قال : اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فتنازعوا عنده فقالت الأحبار : ما كان إبراهيم إلا يهوديا وقالت النصارى : ما كان إلا نصرانيا فأنزل الله عز و جل فيهم : { يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون * ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون * ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين * إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين } ( آل عمران : 65 ، 66 ) فقال رجل من الأحبار : أتريد منا يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى بن مريم ؟ وقال رجل من نصارى نجران : أو ذلك تريد يا محمد وإليه تدعونا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ معاذ الله أن أعبد غير الله أو آمر بعبادة غيره ما بذلك بعثني ولا أمرني ] فأنزل الله عز و جل في ذلك : { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون * ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون } ( آل عمران : 79 ) ثم ذكر ما أخذ عليهم وعلى آبائهم من الميثاق بتصديقه وإقرارهم به على أنفسهم فقال : { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين } إلى قوله : { من الشاهدين } ( آل عمران : 81 )
وحدثني محمد بن سهل بن أبي أمامة قال : لما قدم وفد نجران على رسول الله صلى الله عليه و سلم يسألونه عن عيسى بن مريم نزل فيهم فاتحة آل عمران إلى رأس الثمانين منها
وروينا عن أبي عبد الله الحاكم عن الأصم عن أحمد بن عبد الجبار عن يونس بن بكير عن سلمة بن عبد يسوع عن أبيه عن جده - قال يونس وكان نصرانيا فأسلم - : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم كتب إلى أهل نجران باسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب : [ أما بعد فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد فإن أبيتم فالجزية فإن أبيتم فقد آذنتكم بحرب والسلام ] ! فلما أتى الأسقف الكتاب فقرأه فظع به وذعر به ذعرا شديدا فبعث إلى رجل من أهل نجران يقال له : شرحبيل بن وداعة وكان من همدان ولم يكن أحد يدعى إذا نزل معضلة قبله لا الأيهم ولا السيد ولا العاقب فدفع الأسقف كتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم إليه فقرأه فقال الأسقف : يا أبا مريم ! ما رأيك ؟ فقال شرحبيل : قد علمت ما وعد الله إبراهيم في ذرية إسماعيل من النبوة فما يؤمن أن يكون هذا هو ذلك الرجل ليس لي في النبوة رأي لو كان من أهل نجران يقال له : عبد الله بن شرحبيل وهو من ذي أصبح من حمير فاجلس فتنحى شرحبيل فجلس ناحية فبعث الأسقف إلى رجل من أهل نجران يقال له عبد الله بن شرحبيل وهو من ذي أصبح من حمير فأقرأه الكتاب وسأله عن الرأي فيه فقال له مثل قول شرحبيل فقال له الأسقف : تنح فاجلس فتنحى فجلس ناحية فبعث الأسقف إلى رجل من أهل نجران يقال له : جبار بن فيض من بني الحارث بن كعب فأقرأه الكتاب وسأله عن الرأي فيه فقال له مثل قول شرحبيل وعبد الله فأمره الأسقف فتنحى فلما اجتمع الرأي منهم على تلك المقالة جميعا أمر الأسقف بالناقوس فضرب به ورفعت المسوح في الصوامع وكذلك كانوا يفعلون إذا فزعوا بالنهار وإذا كان فزعهم بالليل ضرب الناقوس ورفعت النيران في الصوامع فاجتمع - حين ضرب بالناقوس ورفعت المسوح - أهل الوادي أعلاه وأسفله وطول الوادي مسيرة يوم للراكب السريع وفيه ثلاث وسبعون قرية وعشرون ومائة ألف مقاتل فقرأ عليهم كتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وسألهم عن الرأي فيه فاجتمع رأي أهل الوادي منهم على أن يبعثوا شرحبيل بن وداعة الهمدانى وعبد الله بن شرحبيل وجبار بن فيض الحارثي فيأتوهم بخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم
فانطلق الوفد حتى إذا كانوا بالمدينة وضعوا ثياب السفر عنهم ولبسوا حللا لهم يجرونها من الحبرة وخواتيم الذهب ثم انطلقوا حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم فسلموا عليه فلم يرد عليهم السلام وتصدوا لكلامه نهارا طويلا فلم يكلمهم وعليهم تلك الحلل والخواتيم الذهب فانطلقوا يتبعون عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وكانا معرفة لهم كانا يخرجان العير في الجاهلية إلى نجران فيشترى لهما من برها وثمرها وذرتها فوجدوهما في ناس من الأنصار والمهاجرين في مجلس فقالوا : يا عثمان ويا عبد الرحمن إن نبيكم كتب إلينا بكتاب فأقبلنا مجيبين له فأتيناه فسلمنا عليه فلم يرد علينا سلامنا وتصدينا لكلامه نهارا طويلا فأعيانا أن يكلمنا فما الرأي منكما أنعود ؟ فقالا لعلي بن أبي طالب وهو في القوم : ما ترى يا أبا الحسن في هؤلاء القوم ؟ فقال علي لعثمان وعبد الرحمن رضي الله عنهما : أرى أن يضعوا حللهم هذه وخواتيمهم ويلبسوا ثياب سفرهم ثم يأتوا إليه ففعل الوفد ذلك فوضعوا حللهم وخواتيمهم ثم عادوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فسلموا عليه فرد سلامهم ثم سألهم وسألوه فلم تزل به وبهم المسألة حتى قالوا له : ما تقول في عيسى عليه السلام ؟ فإنا نرجع إلى قومنا ونحن نصارى فيسرنا إن كنت نبيا أن نعلم ما تقول فيه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ما عندي فيه شئ يومي هذا فأقيموا حتى أخبركم بما يقال لي فى عيسى عليه السلام ] فأصبح الغد وقد أنزل الله عز و جل : { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون * الحق من ربك فلا تكن من الممترين * فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين } ( آل عمران : 59 - 61 ) فأبوا أن يقروا بذلك فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه و سلم الغد بعدما أخبرهم الخبر أقبل مشتملا على الحسن والحسين رضي الله عنهما في خميل له وفاطمة رضي الله عنها تمشي عند ظهره للمباهلة وله يومئذ عدة نسوة فقال شرحبيل لصاحبيه : يا عبد الله بن شرحبيل ويا جبار بن فيض قد علمتما أن الوادي إذا اجتمع أعلاه وأسفله لم يردوا ولم يصدروا إلا عن رأيي وإني والله أرى أمرا مقبلا وأرى والله إن كان هذا الرجل ملكا مبعوثا فكنا أول العرب طعن في عينه ورد عليه أمره لا يذهب لنا من صدره ولا من صدور قومه حتى يصيبونا بجائحة وإنا أدنى العرب منهم جوارا وإن كان هذا الرجل نبيا مرسلا فلاعناه فلا يبقى على وجه الأرض منا شعرة ولا ظفر إلا هلك فقال له صاحباه : فما الرأي فقد وضعتك الأمور على ذراع فهات رأيك ؟ فقال : رأيي أن أحكمه فإنى أرى رجلا لا يحكم شططا أبدا فقالا له : أنت وذاك
فلقي شرحبيل رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : إني قد رأيت خيرا من ملاعنتك فقال : وما هو ؟ قال شرحبيل : حكمك اليوم إلى الليل وليلتك إلى الصباح فمهما حكمت فينا فهو جائز
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لعل ورائك أحدا يثرب عليك ] فقال له شرحبيل : سل صاحبي فسألهما فقالا : ما يرد الوادي ولا يصدر إلا عن رأي شرحبيل فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ كافر ] أو قال : [ جاحد موفق ]
فرجع رسول الله صلى الله عليه و سلم ولم يلاعنهم حتى إذا كان من الغد أتوه فكتب لهم في الكتاب :
[ بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما كتب محمد النبي رسول الله لنجران إذ كان عليهم حكمه في كل ثمرة وفي كل صفراء وبيضاء وسوداء ورقيق فأفضل عليهم وترك ذلك كله على ألفي حلة في كل رجب ألف حلة وفي كل صفر ألف حلة وكل حلة أوقية ما زادت على الخراج أو نقصت على الأواقي فبحساب وما قضوا من دروع أو خيل أو ركاب أو عرض أخذ منهم بحساب وعلى نجران مثواة رسلي ومتعتهم بها عشرين فدونه ولا يحبس رسول فوق شهر وعليهم عارية ثلاثين درعا وثلاثين فرسا وثلاثين بعيرا إذا كان كيد باليمن ومغدرة وما هلك مما أعاروا رسولي من دروع أو خيل أو ركاب فهو ضمان على رسولي حتى يؤديه إليهم ولنجران وحسبها جوار الله وذمة محمد النبي على أنفسهم وملتهم وأرضهم وأموالهم وغائبهم وشاهدهم وعشيرتهم وتبعهم وأن لا يغيروا مما كانوا عليه ولا يغير حق من حقوقهم ولا ملتهم ولا يغير أسقف من أسقفيته ولا راهب من رهبانيته ولا وافه عن وفهيته وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير وليس عليهم ريبة ولا دم جاهلية ولا يحشرون ولا يعشرون ولا يطأ أرضهم جيش ومن سأل منهم حقا فبينهم النصف غير ظالمين ولا مظلومين ومن أكل ربا من ذي قبل فذمتي منه بريئة ولا يؤخذ رجل منهم بظلم آخر وعلى ما في هذه الصحيفة جوار الله وذمة محمد النبي رسول الله حتى يأتي الله بأمره ما نصحوا وأصلحوا فيما عليهم غير منقلبين بظلم ] شهد أبو سفيان بن حرب وغيلان بن عمرو ومالك بن عوف والأقرع بن حابس الحنظلي والمغيرة بن شعبة وكتب : حتى إذا قبضوا كتابهم انصرفوا إلى نجران فتلقاهم الأسقف ووجوه نجران على مسيرة ليلة ومع الأسقف أخ له من أمه وهو ابن عمه من النسب يقال له : بشر بن معاوية وكنيته أبو علقمة فدفع الوفد كتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى الأسقف فبينا هو يقرؤه وأبو علقمة معه وهما يسيران إذ كبت ببشر ناقته فتعس بشر غير أنه لا يكني عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال له الأسقف عند ذلك : قد تعست والله نبيا مرسلا فقال بشر : لا جرم والله لا أحل عنها عقدا حتى آتيه فضرب وجه ناقته نحو المدينة وثنى الأسقف ناقته عليه فقال له : إفهم عني إنما قلت هذا لتبلغ عني العرب مخافة أن يقولوا : إنا أخذنا حمقة أو نخعنا لهذا الرجل بما لم تنخع به العرب ونحن أعزهم وأجمعهم دارا فقال له بشر : لا والله لا أقيلك ما خرج من رأسك أبدا فضرب بشر ناقته وهو مول ظهره للأسقف وهو يقول :
( إليك تعدو قلقا وضينها ... معترضا فى بطنها جنينها )
( مخالفا دين النصارى دينها )
حتى أتى النبي صلى الله عليه و سلم ولم يزل مع النبي صلى الله عليه و سلم حتى استشهد أبو علقمة بعد ذلك
ودخل الوفد نجران فأتى الراهب ابن أبي شمر الزبيدي وهو في صومعة له فقال له : إن نبيا قد بعث بتهامة وإنه كتب إلى الأسقف فأجمع أهل الوادي أن يسيروا إليه شرحبيل بن وداعة وعبد الله بن شرحبيل وجبار بن فيض فيأتونهم بخبره فساروا حتى أتوه فدعاهم إلى المباهلة فكرهوا ملاعنته وحكمه شرحبيل فحكم عليهم حكما وكتب لهم كتابا ثم أقبل الوفد بالكتاب حتى دفعوه إلى الأسقف فبينا الأسقف يقرؤه وبشر معه حتى كبت ببشر ناقته فتعسه فشهد الأسقف أنه نبي مرسل فانصرف أبو علقمة نحوه يريد الإسلام فقال الراهب : أنزلوني وإلا رميت بنفسي من هذه الصومعة فأنزلوه فانطلق الراهب بهدية إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم منها هذا البرد الذي يلبسه الخلفاء والقعب والعصا وأقام الراهب بعد ذلك يسمع كيف ينزل الوحي والسنن والفرائض والحدود وأبى الله للراهب الإسلام فلم يسلم واستأذن رسول الله صلى الله عليه و سلم في الرجعة إلى قومه وقال : إن لي حاجة ومعادا إن شاء الله تعالى فرجع إلى قومه فلم يعد حتى قبض رسول الله صلى الله عليه و سلم
وإن الأسقف أبا الحارث أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم ومعه السيد والعاقب ووجوه قومه وأقاموا عنده يستمعون ما ينزل الله عليه فكتب للأسقف هذا الكتاب وللأساقفة بنجران بعده : [ بسم الله الرحمن الرحيم من محمد النبي إلى الأسقف أبي الحارث وأساقفة نجران وكهنتهم ورهبانهم وأهل بيعهم ورقيقهم وملتهم وسوقتهم وعلى كل ما تحت أيديهم من قليل وكثير جوار الله ورسوله لا يغير أسقف من أسقفته ولا راهب من رهبانيته ولا كاهن من كهانته ولا يغير حق من حقوقهم ولا سلطانهم ولا مما كانوا عليه على ذلك جوار الله ورسوله أبدا ما نصحوا وأصلحوا عليهم غير منقلبين بظالم ولا ظالمين ] وكتب المغيرة بن شعبة فلما قبض الأسقف الكتاب استأذن في الانصراف إلى قومه ومن معه فأذن لهم فانصرفوا
وروى البيهقي بإسناد صحيح إلى ابن مسعود أن السيد والعاقب أتيا رسول الله صلى الله عليه و سلم فأراد أن يلاعنهما فقال أحدهما لصاحبه : لا تلاعنه فوالله إن كان نبيا فلاعنته لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا قالوا له : نعطيك ما سألت فابعث معنا رجلا أمينا ولا تبعث معنا إلا أمينا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لأبعثن معكم رجلا أمينا حق أمين ] فاستشرف لها أصحابه فقال : [ قم يا أبا عبيدة بن الجراح ] فلما قام قال : [ هذا أمين هذه الأمة ]
ورواه البخاري في صحيحه من حديث حذيفة بنحوه
وفي صحيح مسلم من حديث المغيرة بن شعبة قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى نجران فقالوا فيما قالوا : أرأيت ما يقرؤون ( يا أخت هارون ) وقد كان بين عيسى وموسى ما قد علمتم قال : فأتيت النبي صلى الله عليه و سلم فأخبرته قال : [ أفلا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون - بأسماء أنبيائهم والصالحين الذين كانوا قبلهم ]
وروينا عن يونس بن بكير عن ابن إسحاق قال : وبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم علي بن أبي طالب إلى أهل نجران ليجمع صدقاتهم ويقدم عليه بجزيتهم (3/549)
فصل
في فقه هذه القصة
ففيها : جواز دخول أهل الكتاب مساجد المسلمين
وفيها : تمكين أهل الكتاب من صلاتهم بحضرة المسلمين وفى مساجدهم أيضا إذا كان ذلك عارضا ولا يمكنون من اعتياد ذلك
وفيها : أن إقرار الكاهن الكتابي لرسول الله صلى الله عليه و سلم بأنه نبي لا يدخله فى الإسلام ما لم يلتزم طاعته ومتابعته فإذا تمسك بدينه بعد هذا الإقرار لا يكون ردة منه ونظير هذا قول الحبرين له وقد سألاه عن ثلاث مسائل فلما أجابهما قالا : نشهد أنك نبي قال : [ فما يمنعكما من اتباعي ؟ ] قالا : نخاف أن تقتلنا اليهود ولم يلزمهما بذلك الإسلام ونظير ذلك شهادة عمه أبي طالب له بأنه صادق وأن دينه من خير أديان البرية دينا ولم تدخله هذه الشهادة في الإسلام
ومن تأمل ما في السير والأخبار الثابثة من شهادة كثير من أهل الكتاب والمشركين له صلى الله عليه و سلم بالرسالة وأنه صادق فلم تدخلهم هذه الشهادة في الإسلام علم أن الإسلام أمر وراء ذلك وأنه ليس هو المعرفة فقط ولا المعرفة والإقرار فقط بل المعرفة والإقرار والانقياد والتزام طاعته ودينه ظاهرا وباطنا
وقد اختلف أئمة الإسلام في الكافر إذا قال : أشهد أن محمدا رسول الله ولم يزد هل يحكم بإسلامه بذلك ؟ على ثلاثة أقوال وهي ثلاث روايات عن الإمام أحمد إحداها : يحكم بإسلامه بذلك والثانية : لا يحكم بإسلامه حتى يأتي بشهادة أن لا إله إلا الله والثالثة : أنه إذا كان مقرا بالتوحيد حكم بإسلامه وإن لم يكن مقرا لم يحكم بإسلامه حتى يأتي به وليس هذا موضع استيفاء هذه المسألة وإنما أشرنا إليه إشارة وأهل الكتابين مجمعون على أن نبيا يخرج فى آخر الزمان وهم ينتظرونه ولا يشك علماؤهم في أنه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب وإنما يمنعهم من الدخول في الإسلام رئاستهم على قومهم وخضوعهم لهم وما ينالونه منهم من المال والجاه
ومنها : جواز مجادلة أهل الكتاب ومناظرتهم بل استحباب ذلك بل وجوبه إذا ظهرت مصلحته من إسلام من يرجى إسلامه منهم وإقامة الحجة عليهم ولا يهرب من مجادلتهم إلا عاجز عن إقامة الحجة فليول ذلك إلى أهله وليخل بين المطي وحاديها والقوس وباريها ولولا خشية الإطالة لذكرنا من الحجج التي تلزم أهل الكتابين الإقرار بأنه رسول الله بما في كتبهم وبما يعتقدونه بما لا يمكنهم دفعه ما يزيد على مائة طريق ونرجو من الله سبحانه إفرادها بمصنف مستقل
ودار بيني وبين بعض علمائهم مناظرة في ذلك فقلت له في أثناء الكلام : ولا يتم لكم القدح في نبوة نبينا صلى الله عليه و سلم إلا بالطعن في الرب تعالى والقدح فيه ونسبته إلى أعظم الظلم والسفه والفساد تعالى الله عن ذلك فقال : كيف يلزمنا ذلك ؟ قلت : بل أبلغ من ذلك لا يتم لكم ذلك إلا بجحوده وإنكار وجوده تعالى وبيان ذلك أنه إذا كان محمد عندكم ليس بنبي صادق وهو بزعمكم ملك ظالم فقد تهيأ له أن يفتري على الله ويتقول عليه ما لم يقله ثم يتم له ذلك ويستمر حتى يحلل ويحرم ويفرض الفرائض ويشرع الشرائع وينسخ الملل ويضرب الرقاب ويقتل أتباع الرسل وهم أهل الحق ويسبي نساءهم وأولادهم ويغنم أموالهم وديارهم ويتم له ذلك حتى يفتح الأرض وينسب ذلك كله إلى أمر الله تعالى له به ومحبته له والرب تعالى يشاهده وما يفعل بأهل الحق وأتباع الرسل وهو مستمر في الافتراء عليه ثلاثا وعشرين سنة وهو مع ذلك كله يؤيده وينصره ويعلي أمره ويمكن له من أسباب النصر الخارجة عن عادة البشر وأعجب من ذلك أنه يجيب دعواته ويهلك أعداءه من غير فعل منه نفسه ولا سبب بل تارة بدعائه وتارة يستأصلهم سبحانه من غير دعاء منه صلى الله عليه و سلم ومع ذلك يقضي له كل حاجة سأله إياها ويعده كل وعد جميل ثم ينجز له وعده على أتم الوجوه وأهنئها وأكملها هذا وهو عندكم في غاية الكذب والافتراء والظلم فإنه لا أكذب ممن كذب على الله واستمر على ذلك ولا أظلم ممن أبطل شرائع أنبيائه ورسله وسعى في رفعها من الأرض وتبديلها بما يريد هو وقتل أولياءه وحزبه وأتباع رسله واستمرت نصرته عليهم دائما والله تعالى في ذلك كله يقره ولا يأخذ منه باليمين ولا يقطع منه الوتين وهو يخبر عن ربه أنه أوحى إليه أنه لا { أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله } ( الأنعام : 93 ) فيلزمكم معاشر من كذبه أحد أمرين لا بد لكم منهما :
إما أن تقولوا : لا صانع للعالم ولا مدبر ولو كان للعالم صانع مدبر قدير حكيم لأخذ على يديه ولقابله أعظم مقابلة وجعله نكالا للظالمين إذ لا يليق بالملوك غير هذا فكيف بملك السماوات والأرض وأحكم الحاكمين ؟
الثاني : نسبة الرب إلى ما لا يليق به من الجور والسفه والظلم وإضلال الخلق دائما أبد الآباد لا بل نصرة الكاذب والتمكين له من الأرض وإجابة دعواته وقيام أمره من بعده وإعلاء كلماته دائما وإظهار دعوته والشهادة له بالنبوة قرنا بعد قرن على رؤوس الأشهاد في كل مجمع وناد فأين هذا من فعل أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين فلقد قدحتم فى رب العالمين أعظم قدح وطعنتم فيه أشد طعن وأنكرتموه بالكلية ونحن لا ننكر أن كثيرا من الكذابين قام في الوجود وظهرت له شوكة ولكن لم يتم له أمره ولم تطل مدته بل سلط عليه رسله وأتباعهم فمحقوا أثره وقطعوا دابره واستأصلوا شأفته هذه سنته في عباده منذ قامت الدنيا وإلى أن يرث الأرض ومن عليها فلما سمع مني هذا الكلام قال : معاذ الله أن نقول : إنه ظالم أو كاذب بل كل منصف من أهل الكتاب يقر بأن من سلك طريقه واقتفى أثره فهو من أهل النجاة والسعادة في الأخرى قلت له : فكيف يكون سالك طريق الكذاب ومقتفي أثره بزعمكم من أهل النجاة والسعادة ؟ فلم يجد بدا من الاعتراف برسالته ولكن لم يرسل إليهم قلت : فقد لزمك تصديقه ولا بد وهو قد تواترت عنه الأخبار بأنه رسول رب العالمين إلى الناس أجمعين كتابيهم وأميهم ودعا أهل الكتاب إلى دينه وقاتل من لم يدخل في دينه منهم حتى أقروا بالصغار والجزية فبهت الكافر ونهض من فوره
والمقصود : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يزل في جدال الكفار على اختلاف مللهم ونحلهم إلى أن توفي وكذلك أصحابه من بعده وقد أمره الله سبحانه بجدالهم بالتي هي أحسن في السورة المكية والمدنية وأمره أن يدعوهم بعد ظهور الحجة إلى المباهلة وبهذا قام الدين وإنما جعل السيف ناصرا للحجة وأعدل السيوف سيف ينصر حجج الله وبيناته وهو سيف رسوله وأمته (3/557)
فصل
ومنها : أن من عظم مخلوقا فوق منزلته التي يستحقها بحيث أخرجه عن منزلة العبودية المحضة فقد أشرك بالله وعبد مع الله غيره وذلك مخالف لجميع دعوة الرسل وأما قوله : أنه صلى الله عليه و سلم كتب إلى نجران باسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب فلا أظن ذلك محفوظا وقد كتب إلى هرقل : بسم الله الرحمن الرحيم وهذه كانت سنته في كتبه إلى الملوك كما سيأتي إن شاء الله تعالى وقد وقع في هذه الرواية هذا وقال ذلك قبل أن ينزل عليه : { طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين } ( النمل : 1 ) وذلك غلط على غلط فإن هذه السورة مكية باتفاق وكتابه إلى نجران بعد مرجعه من تبوك
وفيها : جواز إهانة رسل الكفار وترك كلامهم إذا ظهر منهم التعاظم والتكبر فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يكلم الرسل ولم يرد السلام عليهم حتى لبسوا ثياب سفرهم وألقوا حللهم وحلاهم
ومنها : أن السنة في مجادلة أهل الباطل إذا قامت عليهم حجة الله ولم يرجعوا بل أصروا على العناد أن يدعوهم إلى المباهلة وقد أمر الله سبحانه بذلك رسوله ولم يقل : إن ذلك ليس لأمتك من بعدك ودعا إليه ابن عمه عبد الله بن عباس لمن أنكر عليه بعض مسائل الفروع ولم ينكر عليه الصحابة ودعا إليه الأوزاعي سفيان الثوري في مسألة رفع اليدين ولم ينكر عليه ذلك وهذا من تمام الحجة
ومنها : جواز صلح أهل الكتاب على ما يريد الإمام من الأموال ومن الثياب وغيرها ويجري ذلك مجرى ضرب الجزية عليهم فلا يحتاج إلى أن يفرد كل واحد منهم بجزية بل يكون ذلك المال جزية عليهم يقتسمونها كما أحبوا ولما بعث معاذا إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل حالم دينارا أو عدله معافريا والفرق بين الموضعين أن أهل نجران لم يكن فيهم مسلم وكانوا أهل صلح وأما اليمن فكانت دار الإسلام وكان فيهم يهود فأمره أن يضرب الجزية على كل واحد منهم والفقهاء يخصون الجزية بهذا القسم دون الأول وكلاهما جزية فإنه مال مأخوذ من الكفار على وجه الصغار في كل عام
ومنها : جواز ثبوت الحلل في الذمة كما تثبت في الدية أيضا وعلى هذا يجوز ثبوتها في الذمة بعقد السلم وبالضمان وبالتلف كما تثبت فيها بعقد الصداق والخلع
ومنها : أنه يجوز معاوضتهم على ما صالحوا عليه من المال بغيره من أموالهم بحسابه
ومنها : اشتراط الإمام على الكفار أن يؤووا رسله ويكرموهم ويضيفوهم أياما معدودة
ومنها : جواز اشتراطه عليهم عارية ما يحتاج المسلمون إليه من سلاح أو متاع أو حيوان وأن تلك العارية مضمونة لكن هل هي مضمونة بالشرط أو بالشرع ؟ هذا محتمل وقد تقدم الكلام عليه في غزوة حنين وقد صرح ها هنا بأنها مضمونة بالرد ولم يتعرض لضمان التلف
ومنها : أن الإمام لا يقر أهل الكتاب على المعاملات الربوية لأنها حرام في دينهم وهذا كما لا يقرهم على السكر ولا على اللواط والزنى بل يحدهم على ذلك
ومنها : أنه لا يجوز أن يؤخذ رجل من الكفار بظلم آخر كما لا يجوز ذلك في حق المسلمين وكلاهما ظلم
ومنها : أن عقد العهد والذمة مشروط بنصح أهل العهد والذمة وإصلاحهم فإذا غشوا المسلمين وأفسدوا في دينهم فلا عهد لهم ولا ذمة وبهذا أفتينا نحن وغيرنا في انتقاض عهدهم لما حرقوا الحريق العظيم في دمشق حتى سرى إلى الجامع وبانتقاض عهد من واطأهم وأعانهم بوجه ما بل ومن علم ذلك ولم يرفعه إلى ولي الأمر فإن هذا من أعظم الغش والضرر بالإسلام والمسلمين
ومنها : بعث الإمام الرجل إلى أهل الهدنة في مصلحة الإسلام وأنه ينبغي أن يكون أمينا وهو الذي لا غرض له ولا هوى وإنما مراده مجرد مرضاة الله ورسوله لا يشوبها بغيرها فهذا هو الأمين حق الأمين كحال أبي عبيدة بن الجراح
ومنها : مناظرة أهل الكتاب وجوابهم عما سألوه عنه فإن أشكل على المسؤول سأل أهك العلم
ومنها : أن الكلام عند الإطلاق يحمل على ظاهره حتى يقوم دليل على خلافه وإلا لم يشكل على المغيرة قوله تعالى : { يا أخت هارون } هذا وليس في الآية ما يدل على أنه هارون بن عمران حتى يلزم الإشكال بل المورد ضم إلى هذا أنه هارون بن عمران ولم يكتف بذلك حتى ضم إليه أنه أخو موسى بن عمران ومعلوم أنه لا يدل اللفظ على شئ من ذلك فإيراده إيراد فاسد وهو إما من سوء الفهم أو فساد القصد
وأما قول ابن إسحاق : أن النبي صلى الله عليه و سلم بعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى أهل نجران ليجمع صدقاتهم ويقدم عليه بجزيتهم فقد يظن أنه كلام متناقض لأن الصدقة والجزية لا تجتمعان وأشكل منه ما ذكره هو وغيره أن النبي صلى الله عليه و سلم بعث خالد بن الوليد في شهر ربيع الآخر أو جمادى الأولى سنة عشر إلى بني الحارث بن كعب بنجران وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام قبل أن يقاتلهم ثلاثا فإن استجابوا فاقبل منهم وإن لم يفعلوا فقاتلهم فخرج خالد حتى قدم عليهم فبعث الركاب يضربون في كل وجه ويدعون إلى الإسلام فأسلم الناس ودخلوا فيما دعوا إليه فأقام فيهم خالد يعلمهم الإسلام وكتب بذلك إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يقبل ويقبل إليه بوفدهم وقد تقدم أنهم وفدوا على رسول الله صلى الله عليه و سلم فصالحهم على ألفي حلة وكتب لهم كتاب أمن وأن لا يغيروا عن دينهم ولا يحشروا ولا يعشروا وجواب هذا : أن أهل نجران كانوا صنفين : نصارى وأميين فصالح النصارى على ما تقدم وأما الأميون منهم فبعث إليهم خالد بن الوليد فأسلموا وقدم وفدهم على النبى صلى الله عليه و سلم وهم الذي قال لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ بم كنتم تغلبون من قاتلكم في الجاهلية ؟ ] قالوا : كنا نجتمع ولا نتفرق ولا نبدأ أحدا بظلم قال : [ صدقتم ] وأمر عليهم قيس بن الحصين وهؤلاء هم بنو الحارث بن كعب فقوله : بعث عليا إلى أهل نجران ليأتيه بصدقاتهم أو جزيتهم أراد به الطائفتين من أهل نجران صدقات من أسلم منهم وجزية النصارى (3/561)
فصل
في قدوم رسول فروة بن عمرو الجذامي ملك عرب الروم
قال ابن إسحاق : وبعث فروة بن عمرو الجذامي إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم رسولا بإسلامه وأهدى له بغلة بيضاء وكان فروة عاملا للروم على من يليهم من العرب وكان منزله معان وما حوله من أرض الشام فلما بلغ الروم ذلك من إسلامه طلبوه حتى أخذوه فحبسوه عندهم فلما اجتمعت الروم لصلبه على ماء لهم يقال له : عفراء بفلسطين قال :
( ألا هل أتى سلمى بأن حليلها ... على ماء عفرا فوق إحدى الرواحل )
( على ناقة لم يضرب الفحل أمها ... مشذبة أطرافها بالمناجل )
قال ابن إسحاق : وزعم الزهري أنهم لما قدموه ليقتلوه قال :
( بلغ سراة المسلمين بأنني ... سلم لربي أعظمي ومقامي )
ثم ضربوا عنقه وصلبوه على ذلك الماء يC تعالى (3/564)
فصل
في قدوم وفد بني سعد بن بكر على رسول الله صلى الله عليه و سلم
قال ابن إسحاق : حدثني محمد بن الوليد بن نويفع عن كريب مولى ابن عباس عن ابن عباس قال : بعثت بنو سعد بن بكر ضمام بن ثعلبة وافدا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقدم عليه فأناخ بعيره على باب المسجد فعقله ثم دخل على رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو في المسجد جالس في أصحابه فقال : أيكم ابن عبد المطلب ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أنا ابن عبد المطلب ] فقال : محمد ؟ فقال : [ نعم ] فقال : يا ابن عبد المطلب ! إني سائلك ومغلظ عليك في المسألة فلا تجدن في نفسك فقال : [ لا أجد في نفسي فسل عما بدا لك ] فقال : أنشدك الله إلهك وإله أهلك وإله من كان قبلك وإله من هو كائن بعدك آلله بعثك إلينا رسولا ؟ قال : [ اللهم نعم ] قال : فأنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك وإله من هو كائن بعدك آلله أمرك أن نعبده لا نشرك به شيئا وأن نخلع هذه الأنداد التي كان آباؤنا يعبدون ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ اللهم نعم ] ثم جعل يذكر فرائض الإسلام فريضة فريضة : الصلاة والزكاة والصيام والحج وفرائض الإسلام كلها ينشده عند كل فريضة كما نشده في التي قبلها حتى إذا فرغ قال : فإني أشهد أن لا إله الا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وسأؤدي هذه الفرائض وأجتنب ما نهيتني عنه لا أزيد ولا أنقص ثم انصرف راجعا إلى بعيره فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم حين ولى : [ إن يصدق ذو العقيصتين يدخل الجنة ] وكان ضمام رجلا جلدا أشعر ذا غديرتين ثم أتى بعيره فأطلق عقاله ثم خرج حتى قدم على قومه فاجتمعوا عليه وكان أول ما تكلم به أن قال : بئست اللات والعزى فقالوا : مه يا ضمام اتق البرص والجنون والجذام قال : ويلكم إنهما ما يضران ولا ينفعان إن الله قد بعث رسولا وأنزل عليه كتابا استنقذكم به مما كنتم فيه وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وإني قد جئتكم من عنده بما أمركم به ونهاكم عنه فوالله ما أمسى من ذلك اليوم في حاضرته رجل ولا امرأة إلا مسلما
قال ابن إسحاق : فما سمعنا بوافد قوم أفضل من ضمام بن ثعلبة والقصة في الصحيحين من حديث أنس بنحو هذه
وذكر الحج في هذه القصة يدل على أن قدوم ضمام كان بعد فرض الحج وهذا بعيد فالظاهر أن هذه اللفظة مدرجة من كلام بعض الرواة والله أعلم (3/565)
فصل
في قدوم طارق بن عبد الله وقومه على رسول الله صلى الله عليه و سلم
روينا في ذلك لأبي بكر البيهقي عن جامع بن شداد قال : حدثني رجل يقال له : طارق بن عبد الله قال : إني لقائم بسوق المجاز إذ أقبل رجل عليه جبة له وهو يقول : يا أيها الناس قولوا : لا إله إلا الله تفلحوا ورجل يتبعه يرميه بالحجارة يقول : يا أيها الناس ! لا تصدقوه فإنه كذاب فقلت : من هذا ؟ فقالوا : هذا غلام من بني هاشم الذي يزعم أنه رسول الله قال : قلت : من هذا الذي يفعل به هذا ؟ قالوا : هذا عمه عبد العزى قال : فلما أسلم الناس وهاجروا خرجنا من الربذة نريد المدينة نمتار من تمرها فلما دنونا من حيطانها ونخلها قلنا : لو نزلنا فلبسنا ثيابا غير هذه فإذا رجل في طمرين له فسلم وقال : من أين أقبل القوم ؟ قلنا : من الربذة قال : وأين تريدون ؟ قلنا : نريد هذه المدينة قال : ما حاجتكم فيها ؟ قلنا : نمتار من تمرها قال : ومعنا ظعينة لنا ومعنا جمل أحمر مخطوم فقال : أتبيعون جملكم هذا ؟ قالوا : نعم بكذا وكذا صاعا من تمر قال : فما استوضعنا مما قلنا شيئا فأخذ بخطام الجمل فانطلق فلما توارى عنا بحيطان المدينة ونخلها قلنا : ما صنعنا والله ما بعنا جملنا ممن نعرف ولا أخذنا له ثمنا قال : تقول المرأة التي معنا : والله لقد رأيت رجلا كأن وجهه شقة القمر ليلة البدر أنا ضامنة لثمن جملكم
وفي رواية ابن إسحاق قالت الظعينة : فلا تلاوموا فلقد رأيت وجه رجل لا يغدر بكم ما رأيت شيئا أشبه بالقمر ليلة البدر من وجهه فبينما هم كذلك إذ أقبل رجل فقال : أنا رسول رسول الله صلى الله عليه و سلم إليكم هذا تمركم فكلوا واشبعوا واكتالوا واستوفوا فأكلنا حتى شبعنا واكتلنا واستوفينا ثم دخلنا المدينة فدخلنا المسجد فإذا هو قائم على المنبر يخطب الناس فأدركنا من خطبته وهو يقول : [ تصدقوا فإن الصدقة خير لكم اليد العليا خير من اليد السفلى أمك وأباك وأختك وأخاك وأدناك أدناك ] إذ أقبل رجل من بني يربوع أو قال : من الأنصار فقال : يا رسول الله ! لنا في هؤلاء دماء في الجاهلية فقال : [ إن أما لا تجني على ولد ] ثلاث مرات (3/566)
فصل
في قدوم وفد تجيب
وقدم عليه صلى الله عليه و سلم وفد تجيب وهم من السكون ثلاثة عشر رجلا قد ساقوا معهم صدقات أموالهم التى فرض الله عليهم فسر رسول الله صلى الله عليه و سلم بهم وأكرم منزلهم وقالوا : يا رسول الله ! سقنا إليك حق الله في أموالنا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ردوها فاقسموها على فقرائكم ] قالوا : يا رسول الله ! ما قدمنا عليك إلا بما فضل عن فقرائنا فقال أبو بكر : يا رسول الله ! ما وفد من العرب بمثل ما وفد به هذا الحي من تجيب فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الهدى بيد الله عز و جل فمن أراد به خيرا شرح صدره للإيمان ] وسألوا رسول الله صلى الله عليه و سلم أشياء فكتب لهم بها وجعلوا يسألونه عن القرآن والسنن فازداد رسول الله صلى الله عليه و سلم بهم رغبة وأمر بلالا أن يحسن ضيافتهم فأقاموا أياما ولم يطيلوا اللبث فقيل لهم : ما يعجبكم ؟ فقالوا : نرجع إلى من وراءنا فنخبرهم برؤيتنا رسول الله صلى الله عليه و سلم وكلامنا إياه وما رد علينا ثم جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم يودعونه فأرسل إليهم بلالا فأجازهم بأرفع ما كان يجيز به الوفود قال : [ هل بقي منكم أحد ؟ ] قالوا : نعم غلام خلفناه على رحالنا هو أحدثنا سنا قال : [ أرسلوه إلينا ] فلما رجعوا إلى رحالهم قالوا للغلام : انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فاقض حاجتك منه فإنا قد قضينا حوائجنا منه وودعناه فأقبل الغلام حتى أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله ! إني امرؤ من بني أبذى يقول : من الرهط الذين أتوك آنفا ققضيت حوائجهم فاقض حاجتي يا رسول الله قال : [ وما حاجتك ؟ ] قال : إن حاجتى ليست كحاجة أصحابي وإن كانوا قدموا راغبين في الإسلام وساقوا ما ساقوا من صدقاتهم وإني والله ما أعملني من بلادي إلا أن تسأل الله عز و جل أن يغفر لي ويرحمني وأن يجعل غناي في قلبي فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم وأقبل إلى الغلام : [ اللهم اغفر له وارحمه واجعل غناه في قلبه ] ثم أمر له بمثل ما أمر به لرجل من أصحابه فانطلقوا راجعين إلى أهليهم ثم وافوا رسول الله صلى الله عليه و سلم في الموسم بمنى سنة عشر فقالوا : نحن بنو أبذى فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ما فعل الغلام الذي أتاني معكم ؟ ] قالوا : يا رسول الله ! ما رأينا مثله قط ولا حدثنا بأقنع منه بما رزقه الله لو أن الناس اقتسموا الدنيا ما نظر نحوها ولا التفت إليها فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ الحمد لله إني لأرجو أن يموت جميعا ] فقال رجل منهم : أو ليس يموت الرجل جميعا يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ تشعب أهواؤه وهمومه في أودية الدنيا فلعل أجله أن يدركه في بعض تلك الأودية فلا يبالي الله عز و جل في أيها هلك ] قالوا : فعاش ذلك الغلام فينا على أفضل حال وأزهده في الدنيا وأقنعه بما رزق فلما توفي رسول الله صلى الله عليه و سلم ورجع من رجع من أهل اليمن عن الإسلام قام في قومه فذكرهم الله والإسلام فلم يرجع منهم أحد وجعل أبو بكر الصديق يذكره ويسأل عنه حتى بلغه حاله وما قام به فكتب إلى زياد بن لبيد يوصيه به خيرا (3/568)
فصل
في قدوم وفد بني سعد هذيم من قضاعة
قال الواقدي عن أبي النعمان عن أبيه من بني سعد هذيم : قدمت على رسول الله صلى الله عليه و سلم وافدا في نفر من قومي وقد أوطأ رسول الله صلى الله عليه و سلم البلاد غلبة وأداخ العرب والناس صنفان : إما داخل في الإسلام راغب فيه وإما خائف من السيف فنزلنا ناحية من المدينة ثم خرجنا نؤم المسجد حتى انتهينا إلى بابه فنجد رسول الله صلى الله عليه و سلم يصلي على جنازة في المسجد فقمنا ناحية ولم ندخل مع الناس في صلاتهم حتى نلقى رسول الله صلى الله عليه و سلم ونبايعه ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه و سلم فنظر إلينا فدعا بنا فقال : [ من أنتم ؟ ] فقلنا : من بني سعد هذيم فقال : [ أمسلمون أنتم ؟ ] قلنا : نعم قال : [ فهلا صليتم على أخيكم ؟ ] قلنا : يا رسول الله ! ظننا أن ذلك لا يجوز لنا حتى نبايعك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أين ما أسلمتم فأنتم مسلمون ] قالوا : فأسلمنا وبايعنا رسول الله صلى الله عليه و سلم على الإسلام ثم انصرفنا إلى رحالنا قد خلفنا عليها أصغرنا فبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم في طلبنا فأتي بنا إليه فتقدم صاحبنا إليه فبايعه على الإسلام فقلنا : يا رسول الله ! إنه أصغرنا وإنه خادمنا فقال : [ أصغر القوم خادمهم بارك الله عليه ] قال : فكان والله خيرنا وأقرأنا للقرآن لدعاء رسول الله صلى الله عليه و سلم له ثم أمره رسول الله صلى الله عليه و سلم علينا فكان يؤمنا ولما أردنا الانصراف أمر بلالا فأجازنا بأواق من فضة لكل رجل منا فرجعنا إلى قومنا فرزقهم الله الإسلام (3/569)
فصل
في قدوم وفد بني فزارة
قال أبو الربيع بن سالم في كتاب الاكتفاء : ولما رجع رسول الله صلى الله عليه و سلم من تبوك قدم عليه وفد بني فزارة بضعة عشر رجلا فيهم خارجة بن حصن والحر بن قيس ابن أخي عيينة بن حصن وهو أصغرهم فنزلوا في دار رملة بنت الحارث وجاؤوا رسول الله صلى الله عليه و سلم مقرين بالإسلام وهم مسنتون على ركاب عجاف فسألهم رسول الله صلى الله عليه و سلم عن بلادهم فقال أحدهم : يا رسول الله ! أسنت بلادنا وهلكت مواشينا وأجدب جنابنا وغرث عيالنا فادع لنا ربك يغيثنا واشفع لنا إلى ربك وليشفع لنا ربك إليك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ سبحان الله ويلك هذا إنما شفعت إلى ربي عز و جل فمن الذي يشفع ربنا إليه ؟ لا إله إلا هو العظيم وسع كرسيه السماوات والأرض فهي تئط من عظمته وجلاله كما يئط الرحل الجديد ] وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الله عز و جل ليضحك من شغفكم وأزلكم وقرب غياثكم ] فقال الأعرابي : يا رسول الله ! ويضحك ربنا عز و جل ؟ قال : [ نعم ] فقال الأعرابي : لن نعدم من رب يضحك خيرا فضحك النبي صلى الله عليه و سلم من قوله وصعد المنبر فتكلم بكلمات وكان لا يرفع يديه في شئ من الدعاء إلا رفع الاستسقاء فرفع يديه حتى رؤي بياض إبطيه وكان مما حفظ من دعائه [ اللهم اسق بلادك وبهائمك وانشر رحمتك وأحي بلدك الميت اللهم اسقنا غيثا مغيثا مريئا مريعا طبقا واسعا عاجلا غير آجل نافعا غير ضار اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا هدم ولا غرق ولا محق اللهم اسقنا الغيث وانصرنا على الأعداء ] (3/570)
فصل
في قدوم وفد بني أسد
وقدم عليه صلى الله عليه و سلم وفد بني أسد عشرة رهط فيهم وابصة بن معبد وطلحة بن خويلد ورسول الله صلى الله عليه و سلم جالس مع أصحابه في المسجد فتكلموا فقال متكلمهم : يا رسول الله ! إنا شهدنا أن الله وحده لا شريك له وأنك عبده ورسوله وجئناك يا رسول الله ولم تبعث إليا بعثا ونحن لمن ورائنا قال محمد بن كعب القرظي : فأنزل الله على رسوله : { يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين } ( الحجرات : 17 ) وكان مما سألوا رسول الله صلى الله عليه و سلم عنه يومئذ العيافة والكهانة وضرب الحصى فنهاهم رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ذلك كله فقالوا : يا رسول الله ! إن هذه أمور كنا نفعلها في الجاهلية أرأيت خصلة بقيت ؟ قال : [ وما هي ] قالوا : الخط قال : [ علمه نبي من الأنبياء فمن صادف مثل علمه علم ] (3/572)
فصل
في قدوم وفد بهراء
ذكر الواقدي عن كريمة بنت المقداد قالت : سمعت أمي ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب تقول : قدم وفد بهراء من اليمن على رسول الله صلى الله عليه و سلم وهم ثلاثة عشر رجلا فأقبلوا يقودون رواحلهم حتى انتهوا إلى باب المقداد ونحن في منازلنا ببني حديلة فخرج إليهم المقداد فرحب بهم فأنزلهم وجاءهم بجفنة من حيس قد كنا هيأناها قبل أن يحلوا لنجلس عليها فحملها المقداد وكان كريما على الطعام فأكلوا منها حتى نهلوا وردت إلينا القصعة وفيها أكل فجمعنا تلك الأكل في قصعة صغيرة ثم بعثنا بها إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم مع سدرة مولاتي فوجدته في بيت أم سلمة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ضباعة أرسلت بهذا ؟ ] قالت سدرة : نعم يا رسول الله قال : [ ضعي ] ثم قال : [ ما فعل ضيف أبي معبد ؟ ] قلت : عندنا قالت : فأصاب منها رسول الله صلى الله عليه و سلم أكلا هو ومن معه في البيت حتى نهلوا وأكلت معهم سدرة ثم قال : [ اذهبي بما بقي إلى ضيفكم ] قالت سدرة : فرجعت بما بقي في القصعة إلى مولاتي قالت : فأكل منها الضيف ما أقاموا نرددها عليهم وما تغيض حتى جعل القوم يقولون : يا أبا معبد ! إنك لتنهلنا من أحب الطعام إلينا ما كنا نقدر على مثل هذا إلا في الحين وقد ذكر لنا أن الطعام ببلادكم إنما هو العلقة أو نحوه ونحن عندك في الشبع فأخبرهم أبو معبد بخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه أكل منها أكلا وردها فهذه بركة أصابع رسول الله صلى الله عليه و سلم فجعل القوم يقولون : نشهد أنه رسول الله وازدادوا يقينا وذلك الذي أراد رسول الله صلى الله عليه و سلم فتعلموا الفرائض وأقاموا أياما ثم جاؤوا رسول الله صلى الله عليه و سلم يودعونه وأمر لهم بجوائزهم وانصرفوا إلى أهليهم (3/573)
فصل
في قدوم وفد عذرة
وقدم على رسول الله صلى الله عليه و سلم وفد عذرة في صفر سنة تسع إثنا عشر رجلا فيهم جمرة بن النعمان فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من القوم ] ؟ فقال متكلمهم : من لا تنكره نحن بنو عذرة إخوة قصي لأمه نحن الذين عضدوا قصيا وأزاحوا من بطن مكة خزاعة وبني بكر ولنا قرابات وأرحام قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : مرحبا بكم وأهلا ما أعرفني بكم فأسلموا وبشرهم رسول الله صلى الله عليه و سلم بفتح الشام وهرب هرقل إلى ممتنع من بلاده ونهاهم رسول الله صلى الله عليه و سلم عن سؤال الكاهنة وعن الذبائح التي كانوا يذبحونها وأخبرهم أن ليس عليهم إلا الأضحية فأقاموا أياما بدار رملة ثم انصرفوا وقد أجيزوا (3/574)
فصل
في قدوم وفد بلي
وقدم عليه وفد بلي في ربيع الأول من سنة تسع فأنزلهم رويفع بن ثابت البلوي عنده وقدم بهم على رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال : هؤلاء قومي فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ مرحبا بك وبقومك ] فأسلموا وقال لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ الحمد لله الذي هداكم للإسلام فكل من مات على غير الإسلام فهو فى النار ] فقال له أبو الضبيب شيخ الوفد : يا رسول الله ! إن لي رغبة في الضيافة فهل لي في ذلك أجر ؟ قال : [ نعم وكل معروف صنعته إلى غني أو فقير فهو صدقة ] قال : يا رسول الله ! ما وقت الضيافة ؟ قال : [ ثلاثة أيام فما كان بعد ذلك فهو صدقة ولا يحل للضيف أن يقيم عندك فيحرجك ] قال : يا رسول الله أرأيت الضالة من الغنم أجدها في الفلاة من الأرض ؟ قال : [ هي لك أو لأخيك أو للذئب ] قال : فالبعير ؟ قال : [ مالك وله دعه حتى يجده صاحبه ] قال رويفع : ثم قاموا فرجعوا إلى منزلي فإذا رسول الله صلى الله عليه و سلم يأتي منزلي يحمل تمرا فقال : [ استعن بهذا التمر ] وكانوا يأكلون منه ومن غيره فأقاموا ثلاثة ثم ودعوا رسول الله صلى الله عليه و سلم وأجازهم ورجعوا إلى بلادهم (3/574)
فصل
في هذه القصة من الفقه : أن للضيف حقا على من نزل به وهو ثلاث مراتب : حق واجب وتمام مستحب وصدقة من الصدقات فالحق الواجب يوم وليلة وقد ذكر النبي صلى الله عليه و سلم المراتب الثلاثة في الحديث المتفق على صحته من حديث أبي شريح الخزاعي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته ] قالوا : وما جائزته يا رسول الله ؟ قال : [ يومه وليلته والضيافة ثلاثة أيام فما كان وراء ذلك فهو صدقة ولا يحل له أن يثوي عنده حتى يحرجه ]
وفيه : جواز التقاط الغنم وأن الشاة إذا لم يأت صاحبها فهي ملك الملتقط واستدل بهذا بعض أصحابنا على أن الشاة ونحوها مما يجوز التقاطه يخير الملتقط بين أكله في الحال وعليه قيمته وبين بيعه وحفظ ثمنه وبين تركه والإنفاق عليه من ماله وهل يرجع به ؟ على وجهين لأنه صلى الله عليه و سلم جعلها له إلا أن يظهر صاحبها وإذا كانت له خير بين هذه الثلاثة فإذا ظهر صاحبها دفعها إليه أو قيمتها وأما متقدمو أصحاب أحمد فعلى خلاف هذا قال أبو الحسين : لا يتصرف فيها قبل الحول رواية واحدة قال : وإن قلنا : يأخذ ما لا يستقل بنفسه كالغنم فإنه لا يتصرف بأكل ولا غيره رواية واحدة وكذلك قال ابن عقيل ونص أحمد في رواية أبي طالب في الشاة : يعرفها سنة فإن جاء صاحبها ردها إليه وكذلك قال الشريفان : لا يملك الشاة قبل الحول رواية واحدة وقال أبو بكر : وضالة الغنم إذا أخذها يعرفها سنة وهو الواجب فإذا مضت السنة ولم يعرف صاحبها كانت له والأول أفقه وأقرب إلى مصلحة الملتقط والمالك إذ قد يكون تعريفها سنة مستلزما لتغريم مالكها أضعاف قيمتها إن قلنا : يرجع عليه بنفقتها وإن قلنا : لا يرجع استلزم تغريم الملتقط ذلك وإن قيل : يدعها ولا يلتقطها كانت للذئب وتلفت والشارع لا يأمر بضياع المال
فإن قيل : فهذا الذي رجحتموه مخالف لنصوص أحمد وأقوال أصحابه وللدليل أيضا
أما مخالفة نصوص أحمد فمما تقدم حكايته في رواية أبي طالب ونص أيضا في روايته في مضطر وجد شاة مذبوحة وشاة ميتة قال : يأكل من الميتة ولا يأكل من المذبوحة الميتة أحلت والمذبوحة لها صاحب قد ذبحها يريد أن يعرفها ويطلب صاحبها فإذا أوجب إبقاء المذبوحة على حالها فإبقاء الشاة الحية بطريق الأولى وأما مخالفة كلام الأصحاب فقد تقدم وأما مخالفة الدليل ففى حديث عبد الله بن عمرو : يا رسول الله ! كيف ترى في ضالة الغنم ؟ فقال : [ هي لك أو لأخيك أو للذئب احبس على أخيك ضالته ] وفي لفظ : [ رد على أخيك ضالته ] وهذا يمنع البيع والذبح
قيل : ليس في نص أحمد أكثر من التعريف ومن يقول : إنه مخير بين أكلها وبيعها وحفظها لا يقول بسقوط التعريف بل يعرفها مع ذلك وقد عرف شيتها وعلامتها فإن ظهر صاحبها أعطاه القيمة فقول أحمد : يعرفها أعم من تعريفها وهي باقية أو تعريفها وهي مضمونة في الذمة لمصلحة صاحبها وملتقطها ولا سيما إذا التقطها في السفر فإن في إيجاب تعريفها سنة من الحرج والمشقة ما لا يرضى به الشارع وفي تركها من تعريضها للإضاعة والهلاك ما ينافي أمره بأخذها وإخباره أنه إن لم يأخذها كانت للذئب فيتعين ولا بد : إما بيعها وحفظ ثمنها وإما أكلها وضمان قيمتها أو مثلها
وأما مخالفة الأصحاب فالذي اختار التخيير من أكبر أئمة الأصحاب ومن يقاس بشيوخ المذهب الكبار الأجلاء وهو أبو محمد المقدسي قدس الله روحه ولقد أحسن في اختياره التخيير كل الإحسان
وأما مخالفة الدليل فأين في الدليل الشرعي المنع من التصرف في الشاة الملتقطة في المفازة وفي السفر بالبيع والأكل وإيجاب تعريفها والإنفاق عليها سنة مع الرجوع بالإنفاق أو مع عدمه ؟ هذا ما لا تأتي به شريعة فضلا أن يقوم عليه دليل وقوله صلى الله عليه و سلم : [ احبس على أخيك ضالته ] صريح في أن المراد به أن لا يستأثر بها دونه ويزيل حقه فإذا كان بيعها وحفظها ثمنها خيرا له من تعريفها سنة والإنفاق عليها وتغريم صاحبها أضعاف قيمتها كان حبسها وردها عليه هو بالتخيير الذي يكون له فيه الحظ والحديث يقتضيه بفحواه وقوته وهذا ظاهر وبالله التوفيق
ومنها : أن البعير لا يجوز التقاطه اللهم إلا أن يكون فلوا صغيرا لا يمتنع من الذئب ونحوه فحكمه حكم الشاة بتنبيه النص ودلالته (3/575)
فصل
في قدوم وفد ذي مرة
وقدم على رسول الله صلى الله عليه و سلم وفد ذي مرة ثلاثة عشر رجلا رأسهم الحارث بن عوف فقالوا : يا رسول الله ! إنا قومك وعشيرتك نحن قوم من بني لؤي بن غالب فتبسم رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال للحارث : أين تركت أهلك ؟ قال : بسلاح وما والاها قال : وكيف البلاد ؟ قال : والله إنا لمسنتون ما في المال مخ فادع الله لنا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ اللهم اسقهم الغيث ] فأقاموا أياما ثم أرادوا الإنصراف إلى بلادهم فجاؤوا رسول الله صلى الله عليه و سلم مودعين له فأمر بلالا أن يجيزهم فأجازهم بعشر أواق فضة وفضل الحارث بن عوف أعطاه اثنتي عشرة أوقية ورجعوا إلى بلادهم فوجدوا البلاد مطيرة فسألوا : متى مطرت ؟ فإذا هو ذلك اليوم الذي دعا رسول الله صلى الله عليه و سلم فيه وأخصبت بعد ذلك بلادهم (3/577)
فصل
في قدوم وفد خولان
وقدم عليه صلى الله عليه و سلم في شهر شعبان سنة عشر وفد خولان وهم عشرة فقالوا : يا رسول الله ! نحن على من وراءنا من قومنا ونحن مؤمنون بالله عز و جل ومصدقون برسوله وقد ضربنا إليك آباط الإبل وركبنا حزون الأرض وسهولها والمنة لله ولرسوله علينا وقدمنا زائرين لك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أما ما ذكرتم من مسيركم إلي فإن لكم بكل خطوة خطاها بعير أحدكم حسنة وأما قولكم : زائرين لك فإنه من زارني بالمدينة كان في جواري يوم القيامة ] قالوا : يا رسول الله ! هذا السفر الذي لا توى عليه ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ما فعل عم أنس ] - وهو صنم خولان الذي كانوا يعبدونه - قالوا : أبشر بدلنا الله به ما جئت به وقد بقيت منا بقايا - من شيخ كبير وعجوز كبيرة - متمسكون به ولو قدمنا عليه لهدمناه إن شاء الله فقد كنا منه في غرور وفتنة فقال لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ وما أعظم ما رأيتم من فتنته ؟ ] قالوا : لقد رأيتنا أسنتنا حتى أكلنا الرمة فجمعنا ما قدرنا عليه وابتعنا به مائة ثور ونحرناها لعم أنس قربانا فى غداة واحدة وتركناها تردها السباع ونحن أحوج إليها من السباع فجاءنا الغيث من ساعتنا ولقد رأينا العشب يواري الرجال ويقول قائلنا : أنعم علينا عم أنس وذكروا لرسول الله صلى الله عليه و سلم ما كانوا يقسمون لصنمهم هذا من أنعامهم وحروثهم وأنهم كانوا يجعلون من ذلك جزءا له وجزءا لله بزعمهم قالوا : كنا نزرع الزرع فنجعل له وسطه فنسميه له ونسمي زرعا آخر حجرة لله فإذا مالت الريح فالذي سميناه لله جعلناه لعم أنس وإذا مالت الريح فالذي جعلناه لعم أنس لم نجعله لله فذكر لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم أن الله أنزل علي في ذلك : { وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا } ( الأنعام : 136 ) قالوا : وكنا نتحاكم إليه فيتكلم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ تلك الشياطين تكلمهم ] وسألوه عن فرائض الدين فأخبرهم وأمرهم بالوفاء بالعهد وأداء الأمانة وحسن الجوار لمن جاوروا وأن لا يظلموا أحدا قال : [ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ] ثم ودعوه بعد أيام وأجازهم فرجعوا إلى قومهم فلم يحلوا عقدة حتى هدموا عم أنس (3/578)
فصل
في قدوم وفد محارب
وقدم على رسول الله صلى الله عليه و سلم وفد محارب عام حجة الوداع وهم كانوا أغلظ العرب وأفظهم على رسول الله صلى الله عليه و سلم في تلك المواسم أيام عرضه نفسه على القبائل يدعوهم إلى الله فجاء رسول الله صلى الله عليه و سلم منهم عشرة نائبين عمن وراءهم من قومهم فأسلموا وكان بلال يأتيهم بغداء وعشاء إلى أن جلسوا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم يوما من الظهر إلى العصر فعرف رجلا منهم فأمده النظر فلما رآه المحاربي يديم النظر إليه قال : كأنك يا رسول الله توهمني ؟ قال : [ لقد رأيتك ] قال المحاربي : أي والله لقد رأيتني وكلمتني وكلمتك بأقبح الكلام ورددتك بأقبح الرد بعكاظ وأنت تطوف على الناس فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ نعم ] ثم قال المحاربي : يا رسول الله ! ما كان في أصحابي أشد عليك يومئذ ولا أبعد عن الإسلام مني فأحمد الله الذي أبقاني حتى صدقت بك ولقد مات أولئك النفر الذين كانوا معي على دينهم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن هذه القلوب بيد الله عز و جل ] فقال المحاربي : يا رسول الله ! استغفر لي من مراجعتي إياك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الإسلام يجب ما كان قبله من الكفر ] ثم انصرفوا إلى أهليهم (3/579)
فصل
في قدوم وفد صداء في سنة ثمان
وقدم عليه صلى الله عليه و سلم وفد صداء وذلك أنه لما انصرف من الجعرانة بعث بعوثا وهيأ بعثا استعمل عليه قيس بن سعد بن عبادة وعقد له لواء أبيض ودفع إليه راية سوداء وعسكر بناحية قناة في أربعمائة من المسلمين وأمره أن يطأ ناحية من اليمن كان فيها صداء فقدم على رسول الله صلى الله عليه و سلم رجل منهم وعلم بالجيش فأتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله ! جئتك وافدا على من ورائي فاردد الجيش وأنا لك بقومي فرد رسول الله صلى الله عليه و سلم قيس بن سعد من صدر قناة وخرج الصدائي إلى قومه فقدم على رسول الله صلى الله عليه و سلم خمسة عشر رجلا منهم فقال سعد بن عبادة : يا رسول الله ! دعهم ينزلوا علي فنزلوا عليه فحياهم وأكرمهم وكساهم ثم راح بهم إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فبايعوه على الإسلام فقالوا : نحن لك على من وراءنا من قومنا فرجعوا إلى قومهم ففشا فيهم الإسلام فوافى رسول الله صلى الله عليه و سلم منهم مائة رجل في حجة الوداع ذكر هذا الواقدي عن بعض بني المصطلق وذكر من حديث زياد بن الحارث الصدائي أنه الذي قدم على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال له : اردد الجيش وأنا لك بقومي فردهم قال : وقدم وفد قومي عليه فقال لي : يا أخا صداء إنك لمطاع في قومك ؟ قال : قلت : بل يا رسول الله من الله عز و جل ومن رسوله وكان زياد هذا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في بعض أسفاره قال : فاعتشى رسول الله صلى الله عليه و سلم أي سار ليلا واعتشينا معه وكنت رجلا قويا قال : فجعل أصحابه يتفرقون عنه ولزمت غرزه فلما كان في السحر قال : [ أذن يا أخا صداء ] فأذنت على راحلتي ثم سرنا حتى ذهبنا فنزل لحاجته ثم رجع فقال : يا أخا صداء هل معك ماء ؟ قلت : معي شئ في إداوتي فقال : [ هاته ] فجئت به فقال : [ صب ] فصببت ما في الإداوة في القعب فجعل أصحابه يتلاحقون ثم وضع كفه على الإناء فرأيت بين كل أصبعين من أصابعه عينا تفور ثم قال : [ يا أخا صداء لو لا أني أستحيي من ربي عز و جل لسقينا واستقينا ] ثم توضأ وقال : [ أذن في أصحابي من كانت له حاجة بالوضوء فليرد ] قال : فوردوا من آخرهم ثم جاء بلال يقيم فقال : [ إن أخا صداء أذن ومن أذن فهو يقيم ] فأقمت ثم تقدم رسول الله صلى الله عليه و سلم فصلى بنا وكنت سألته قبل أن يؤمرني على قومي ويكتب لي بذلك كتابا ففعل فلما فرغ من صلاته قام رجل يتشكى من عامله فقال : يا رسول الله ! إنه أخذنا بذحول كانت بيننا وبينه في الجاهلية فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا خير في الإمارة لرجل مسلم ] ثم قام آخر فقال : يا رسول الله ! أعطني من الصدقة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الله لم يكل قسمتها إلى ملك مقرب ولا نبي مرسل حتى جزأها ثمانية أجزاء فإن كنت جزءا منها أعطيتك وإن كنت غنيا عنها فإنما هي صداع في الرأس وداء في البطن ] فقلت في نفسي : هاتان خصلتان حين سألت الإمارة وأنا رجل مسلم وسألته من الصدقة وأنا غني عنها فقلت : يا رسول الله ! هذان كتاباك فاقبلهما فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ولم ؟ ] فقلت : إني سمعتك تقول : لا خير في الإمارة لرجل مسلم وأنا مسلم وسمعتك تقول : من سأل من الصدقة وهو غني عنها فإنما هي صداع في الرأس وداء في البطن وأنا غني فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أما إن الذي قلت كما قلت ] فقبلهما رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قال لي : [ دلني على رجل من قومك أستعمله ] فدللته على رجل منهم فاستعمله قلت : يا رسول الله ! إن لنا بئرا إذا كان الشتاء كفانا ماؤها وإذا كان الصيف قل علينا فتفرقنا على المياه والإسلام اليوم فينا قليل ونحن نخاف فادع الله عز و جل لنا في بئرنا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ناولني سبع حصيات ] فناولته فعركهن بيده ثم دفعهن إلي وقال : [ إذا انتهيت إليها فألق فيها حصاة حصاة وسم الله ] قال : ففعلت فما أدركنا لها قعرا حتى الساعة (3/580)
فصل
في فقه هذه القصة
ففيها : استحباب عقد الألوية والرايات للجيش واستحباب كون اللواء أبيض وجواز كون الراية سوداء من غير كراهة
وفيها : قبول خبر الواحد فإن النبي صلى الله عليه و سلم رد الجيش من أجل خبر الصدائي وحده
وفيها : جواز سير الليل كله في السفر إلى الأذان فإن قوله : اعتشى أي : سار عشية ولا يقال لما بعد نصف الليل
وفيها : جواز الأذان على الراحلة
وفيها : طلب الإمام الماء من أحد رعيته للوضوء وليس ذلك من السؤال
وفيها : أنه لا يتيمم حتى يطلب الماء فيعوزه
وفيها : المعجزة الظاهرة بفوران الماء من بين أصابعه لما وضعها فيه أمده الله به وكثره حتى جعل يفور من خلال الأصابع الكريمة والجهال تظن أنه كان يشق الأصابع ويخرج من خلال اللحم والدم وليس كذلك وإنما بوضعه أصابعه فيه حلت فيه البركة من الله والمدد فجعل يفور حتى خرج من بين الأصابع وقد جرى له هذا مرارا عديدة بمشهد أصحابه
وفيها : أن السنة أن يتولى الإقامة من تولى الأذان ويجوز أن يؤذن واحد ويقيم آخر كما ثبتت في قصة عبد الله بن زيد أنه لما رأى الأذان وأخبر به النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ألقه على بلال ] فألقاه عليه ثم أراد بلال أن يقيم فقال عبد الله بن زيد : يا رسول الله ! أنا رأيت أريد أن أقيم قال : [ فأقم ] فأقام هو وأذن بلال ذكره الإمام أحمد رحمه الله
وفيها : جواز تأمير الإمام وتوليته لمن سأله ذلك إذا رآه كفئا ولا يكون سؤاله مانعا من توليته ولا يناقض هذا قوله في الحديث الآخر : [ إنا لن نولي على عملنا من أراده ] فإن الصدائي إنما سأله أن يؤمره على قومه خاصة وكان مطاعا فيهم محببا إليهم وكان مقصوده إصلاحهم ودعاءهم إلى الإسلام فرأى النبي صلى الله عليه و سلم أن مصلحة قومه في توليته فأجابه إليها ورأى أن ذلك السائل إنما سأله الولاية لحظ نفسه ومصلحته هو فمنعه منها فولى للمصلحة ومنع للمصلحة فكانت توليته لله ومنعه لله
وفيها : جواز شكاية العمال الظلمة ورفعهم إلى الإمام والقدح فيهم بظلمهم وأن ترك الولاية خير للمسلم من الدخول فيها وأن الرجل إذا ذكر أنه من أهل الصدقة أعطي منها بقوله ما لم يظهر منه خلافه
ومنها : أن الشخص الواحد يجوز أن يكون وحده صنفا من الأصناف لقوله : إن الله جزأها ثمانية أجزاء فإن كنت جزءا منها أعطيتك
ومنها : جواز إقالة الإمام لولاية من ولاه إذا سأله ذلك
ومنها : استشارة الإمام لذي الرأي من أصحابه فيمن يوليه
ومنها : جواز الوضوء بالماء المبارك وأن بركته لا توجب كراهة الوضوء منه وعلى هذا فلا يكره الوضوء من ماء زمزم ولا من الماء الذي يجري على ظهر الكعبة والله أعلم (3/582)
فصل
في قدوم وفد غسان
وقدموا في شهر رمضان سنة عشر وهم ثلاثة نفر فأسلموا وقالوا : لا ندري أيتبعنا قومنا أم لا ؟ وهم يحبون بقاء ملكهم وقرب قيصر فأجازهم رسول الله صلى الله عليه و سلم بجوائز وانصرفوا راجعين فقدموا على قومهم فلم يستجيبوا لهم وكتموا إسلامهم حتى مات منهم رجلان على الإسلام وأدرك الثالث منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه عام اليرموك فلقي أبا عبيدة فأخبره بإسلامه فكان يكرمه (3/584)
فصل
في قدوم وفد سلامان
وقدم عليه صلى الله عليه و سلم وفد سلامان سبعة نفر فيهم حبيب بن عمرو فأسلموا
قال حبيب : فقلت : أي رسول الله ! ما أفضل الأعمال ؟ قال : [ الصلاة في وقتها ] ثم ذكر حديثا طويلا وصلوا معه يومئذ الظهر والعصر قال : فكانت صلاة العصر أخف من القيام في الظهر ثم شكوا إليه جدب بلادهم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم بيده : [ اللهم اسقهم الغيث في دارهم ] فقلت : يا رسول الله ! ارفع يديك فإنه أكثر وأطيب فتبسم رسول الله صلى الله عليه و سلم ورفع يديه حتى رأيت بياض إبطيه ثم قام وقمنا عنه فأقمنا ثلاثا وضيافته تجري علينا ثم ودعناه وأمر لنا بجوائز فأعطينا خمس أواقي لكل رجل منا واعتذر إلينا بلال وقال : ليس عندنا اليوم مال فقلنا : ما أكثر هذا وأطيبه ثم رحلنا إلى بلادنا فوجدناها قد مطرت في اليوم الذي دعا فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم في تلك الساعة قال الواقدي : وكان مقدمهم في شوال سنة عشر (3/585)
فصل
في قدوم وفد بني عبس
وقدم عليه وفد بني عبس فقالوا : يا رسول الله ! قدم علينا قراؤنا فأخبرونا أنه لا إسلام لمن لا هجرة له ولنا أموال ومواش وهى معايشنا فإن كان لا إسلام لمن لا هجرة له فلا خير في أموالنا بعناها وهاجرنا من آخرنا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ اتقوا الله حيث كنتم فلن يلتكم الله من أعمالكم شيئا ] وسألهم رسول الله صلى الله عليه و سلم عن خالد بن سنان هل له عقب ؟ فأخبروه أنه لا عقب له كانت له ابنة فانقرضت وأنشأ رسول الله صلى الله عليه و سلم يحدث أصحابه عن خالد بن سنان فقال : نبي ضيعه قومه (3/585)
فصل
في قدوم وفد غامد
قال الواقدي : وقدم على رسول الله صلى الله عليه و سلم وفد غامد سنة عشر وهم عشرة فنزلوا ببقيع الغرقد وهو يومئذ أثل وطرفاء ثم انطلقوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وخلفوا عند رحلهم أحدثهم سنا فنام عنه وأتى سارق فسرق عيبة لأحدهم فيها أثواب له وانتهى القوم إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فسلموا عليه وأقروا له بالإسلام وكتب لهم كتابا فيه شرائع من شرائع الإسلام وقال لهم : [ من خلفتم في رحالكم ؟ ] فقالوا : أحدثنا يا رسول الله قال : [ فإنه قد نام عن متاعكم حتى أتى آت فأخذ عيبة أحدكم ] فقال أحد القوم : يا رسول الله ! ما لأحد من القوم عيبة غيري فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ فقد أخذت وردت إلى موضعها ] فخرج القوم سراعا حتى أتوا رحلهم فوجدوا صاحبهم فسألوه عما أخبرهم رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : فزعت من نومي ففقدت العيبة فقمت في طلبها فإذا رجل قد كان قاعدا فلما رآني فثار يعدو مني فانتهيت إلى حيث انتهى فإذا أثر حفر وإذا هو قد غيب العيبة فاستخرجتها فقالوا : نشهد أنه رسول الله فإنه قد أخبرنا بأخذها وأنها قد ردت فرجعوا إلى النبي صلى الله عليه و سلم فأخبروه وجاء الغلام الذي خلفوه فأسلم وأمر النبي صلى الله عليه و سلم أبي بن كعب فعلمهم قرآنا وأجازهم كما كان يجيز الوفود وانصرفوا (3/586)
فصل
في قدوم وفد الأزد على رسول الله صلى الله عليه و سلم
ذكر أبو نعيم في كتاب معرفة الصحابة والحافظ أبو موسى المديني من حديث أحمد بن أبي الحواري قال : سمعت أبا سليمان الداراني قال : حدثني علقمة بن يزيد بن سويد الأزدي قال : حدثني أبي عن جدي سويد بن الحارث قال : وفدت سابع سبعة من قومي على رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما دخلنا عليه وكلمناه أعجبه ما رأى من سمتنا وزينا فقال : [ ما أنتم ؟ ] قلنا : مؤمنون فتبسم رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال : [ إن لكل قول حقيقة فما حقيقة قولكم وإيمانكم ؟ ] قلنا : خمس عشرة خصلة خمس منها أمرتنا بها رسلك أن نؤمن بها وخمس أمرتنا أن نعمل بها وخمس تخلقنا بها في الجاهلية فنحن عليها الآن إلا أن تكره منها شيئا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ وما الخمس التي أمرتكم بها رسلي أن تؤمنوا بها ] ؟ قلنا : أمرتنا أن نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت قال : [ وما الخمس التي أمرتكم أن تعملوا بها ] ؟ قلنا : أمرتنا أن نقول : لا إله إلا الله ونقيم الصلاة ونؤتي الزكاة ونصوم رمضان ونحج البيت الحرام من استطاع إليه سبيلا فقال : [ وما الخمس التي تخلقتم بها في الجاهلية ؟ ] قالوا : الشكر عند الرخاء والصبر عند البلاء والرضى بمر القضاء والصدق في مواطن اللقاء وترك الشماتة بالأعداء فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ حكماء علماء كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء ] ثم قال : [ وأنا أزيدكم خمسا فتتم لكم عشرون خصلة إن كنتم كما تقولون فلا تجمعوا ما لا تأكلون ولا تبنوا ما لا تسكنون ولا تنافسوا في شئ أنتم عنه غدا تزولون واتقوا الله الذي إليه ترجعون وعليه تعرضون وارغبوا فيما عليه تقدمون وفيه تخلدون ] فانصرف القوم من عند رسول الله صلى الله عليه و سلم وحفظوا وصيته وعملوا بها (3/587)
فصل
في قدوم وفد بني المنتفق على رسول الله صلى الله عليه و سلم
روينا عن عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل في مسند أبيه قال : كتب إلي إبراهيم بن حمزة بن محمد بن حمزة بن مصعب بن الزبير الزبيري : كتبت إليك بهذا الحديث وقد عرضته وسمعته على ما كتبت به إليك فحدث بذلك عني قال : حدثني عبد الرحمن بن المغيرة الحزامي قال : حدثنا عبد الرحمن بن عياش السمعي الأنصاري عن دلهم بن الأسود بن عبد الله بن حاجب بن عامر بن المنتفق العقيلي عن أبيه عن عمه لقيط بن عامر قال دلهم : وحدثنيه أيضا أبي الأسود بن عبد الله عن عاصم بن لقيط أن لقيط بن عامر خرج وافدا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ومعه صاحب له يقال له : نهيك بن عاصم بن مالك بن المنتفق قال لقيط : فخرجت أنا وصاحبي حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه و سلم فوافيناه حين انصرف من صلاة الغداة فقام في الناس خطيبا فقال : [ أيها الناس ألا إني قد خبأت لكم صوتي منذ أربعة أيام ألا لتسمعوا اليوم ألا فهل من امرىء بعثه قومه ] ؟ فقالوا له : اعلم لنا ما يقول رسول الله صلى الله عليه و سلم [ ألا ثم رجل لعله يلهيه حديث نفسه أو حديث صاحبه أو يلهيه ضال ألا إني مسؤول هل بلغت ألا اسمعوا تعيشوا ألا اجلسوا ] فجلس الناس وقمت أنا وصاحبي حتى إذا فرغ لنا فؤاده ونظره قلت : يا رسول الله ما عندك من علم الغيب ؟ فضحك : لعمر الله علم أني أبتغي السقطة فقال : [ ضن ربك بمفاتيح خمس من الغيب لا يعلمها إلا الله ] وأشار بيده فقلت : ما هن يا رسول الله ؟ قال : [ علم المنية قد علم متى منية أحدكم ولا تعلمونه وعلم المني حين يكون في الرحم قد علمه وما تعلمونه وعلم ما في غد قد علم ما أنت طاعم ولا تعلمه وعلم يوم الغيث يشرف عليكم أزلين مشفقين فيظل يضحك قد علم أن غوثكم إلى قريب ] قال لقيط : فقلت : لن نعدم من رب يضحك خيرا يا رسول الله قال : [ وعلم يوم الساعة ] قلنا : يا رسول الله ! علمنا مما تعلم الناس وتعلم فإنا من قبيل لا يصدقون تصديقنا أحدا من مذحج التي تربو علينا وخثعم التي توالينا وعشيرتنا التي نحن منها قال : [ تلبثون ما لبثتم ثم يتوفى نبيكم ثم تلبثون ما لبثتم ثم تبعث الصائحة فلعمر إلهك ما تدع على ظهرها شيئا إلا مات والملائكة الذين مع ربك فأصبح ربك عز و جل يطوف في الأرض وخلت عليه البلاد فأرسل ربك السماء تهضب من عند العرش فلعمر إلهك ما تدع على ظهرها من مصرع قتيل ولا مدفن ميت إلا شقت القبر عنه حتى تخلفه من عند رأسه فيستوي جالسا فيقول ربك : مهيم لما كان فيه يقول : يا رب أمس اليوم لعهده بالحياة يحسبه حديثا بأهله ] فقلت : يا رسول الله ! فكيف يجمعنا بعد ما تمزقنا الرياح والبلى والسباع ؟ قال : [ أنبئك بمثل ذلك في آلاء الله : الأرض أشرفت عليها وهي في مدرة بالية ] فقلت : لا تحيى أبدا [ ثم أرسل الله عليها السماء فلم تلبث عليك إلا أياما حتى أشرفت عليها وهي شربة واحدة ولعمر إلهك لهو أقدر على أن يجمعكم من الماء على أن يجمع نبات الأرض فتخرجون من الأصواء ومن مصارعكم فتنظرون إليه وينظر إليهكم ] قال : قلت : يا رسول الله ! كيف ونحن ملء الأرض وهو شخص واحد ينظر إلينا وننظر إليه ؟ قال : [ أنبئك بمثل هذا في آلاء الله : الشمس والقمر آية منه صغيرة ترونهما ويريانكم ساعة واحدة ولا تضارون في رؤيتهما ] ولعمر إلهك لهو أقدر على أن يراكم وترونه من أن تروا نورهما ويريانكم لا تضارون في رؤيتهما قلت : يا رسول الله ! فما يفعل بنا ربنا إذا لقيناه ؟ قال : [ تعرضون عليه بادية له صفحاتكم لا يخفى عليه منكم خافية فيأخذ ربك عز و جل بيده غرفة من ماء فينضح بها قبلكم فلعمر إلهك ما يخطيء وجه أحد منكم منها قطرة فأما المسلم فتدع وجهه مثل الريطة البيضاء وأما الكافر فتنضحه أو قال : فتخطمه بمثل الحمم الأسود ألا ثم ينصرف نبيكم ويفترق على أثره الصالحون فيسلكون جسرا من النار يطأ أحدكم الجمرة يقول : حس يقول ربك عز و جل أو أنه ألا فتطلعون على حوض نبيكم على أظمأ - والله - ناهلة عليها قط رأيتها فلعمر إلهك ما يبسط أحد منكم يده إلا وقع عليها قدح يطهره من الطوف والبول والأذى وتخنس الشمس والقمر فلا ترون منهما واحدا ] قال : قلت : يا رسول الله ! فبم نبصر ؟ قال : [ بمثل بصرك ساعتك هذه وذلك قبل طلوع الشمس في يوم أشرقت الأرض وواجهت به الجبال ] قال : قلت : يا رسول الله ! فبم نجزى من سيئاتنا وحسناتنا ؟ قال صلى الله عليه و سلم : [ الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها إلا أن يعفو ] قال قلت : يا رسول الله ! ما الجنة وما النار ؟ قال : [ لعمر إلهك إن النار لها سبعة أبواب ما منها بابان إلا يسير الراكب بينهما سبعين عاما وإن الجنة لها ثمانية أبواب ما منها بابان إلا يسير الراكب بينهما سبعين عاما ] قلت : يا رسول الله ! فعلام نطلع من الجنة ؟ قال : [ على أنهار من عسل مصفى وأنهار من خمر ما بها صداع ولا ندامة وأنهار من لبن ما يتغير طعمه وماء غير آسن وفاكهة ولعمر إلهك ما تعلمون وخير من مثله معه وأزواج مطهرة ] قلت : يا رسول الله ! أولنا فيها أزواح أو منهن مصلحات ؟ قال : [ المصلحات للصالحين ] وفي لفظ : [ الصالحات للصالحين تلذونهن ويلذونكم مثل لذاتكم في الدنيا غير أن لا توالد ] قال لقيط : فقلت : يا رسول الله ! أقصى ما نحن بالغون ومنتهون إليه ؟ فلم يجبه النبي صلى الله عليه و سلم قال : قلت : يا رسول الله ! علام أبايعك ؟ فبسط النبي صلى الله عليه و سلم يده وقال : [ على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وزيال المشرك وأن لا تشرك بالله إلها غيره ] قال : قلت : يا رسول الله ! وإن لنا ما بين المشرق والمغرب فقبض رسول الله صلى الله عليه و سلم يده وظن أني مشترط ما لا يعطينيه قال : قلت : نحل منها حيث شئنا ولا يجني امرؤ إلا على نفسه فبسط يده وقال : [ لك ذلك تحل حيث شئت ولا يجني عليك إلا نفسك ] قال : فانصرفنا عنه ثم قال : [ ها إن ذين ها إن ذين - مرتين - لعمر إلهك من أتقى الناس في الأولى والآخرة ] فقال له كعب بن الخدرية أحد بني بكر بن كلاب : من هم يا رسول الله ؟ قال : [ بنو المنتفق بنو المنتفق بنو المنتفق أهل ذلك منهم ] قال : فانصرفنا وأقبلت عليه فقلت : يا رسول الله ! هل لأحد ممن مضى من خير في جاهليتهم ؟ فقال رجل من عرض قريش : والله إن أباك المنتفق لفي النار قال : فكأنه وقع حر بين جلد وجهي ولحمه مما قال لأبي على رؤوس الناس فهممت أن أقول : وأبوك يا رسول الله ؟ ثم إذا الأخرى أجمل فقلت : يا رسول الله ! وأهلك ؟ قال : [ وأهلي لعمر الله حيث ما أتيت على قبر عامري أو قرشي من مشرك قل : أرسلني إليك محمد فأبشرك بما يسوؤك تجر على وجهك وبطنك في النار ] قال : قلت : يا رسول الله ! وما فعل بهم ذلك وقد كانوا على عمل لا يحسنون إلا إياه وكانوا يحسبون أنهم مصلحون ؟ قال صلى الله عليه و سلم : [ ذلك بأن الله بعث في آخر كل سبع أمم نبيا فمن عصى نبيه كان من الضالين ومن أطاع نبيه كان من المهتدين ]
هذا حديث كبير جليل تنادي جلالته وفخامته وعظمته على أنه قد خرج من مشكاة النبوة لا يعرف إلا من حديث عبد الرحمن بن المغيرة بن عبد الرحمن المدني رواه عنه إبراهيم بن حمزة الزبيري وهما من كبار علماء المدينة ثقتان محتج بهما في الصحيح احتج بهما إمام أهل الحديث محمد بن إسماعيل البخاري ورواه أئمة أهل السنة في كتبهم وتلقوه بالقبول وقابلوه بالتسليم والانقياد ولم يطعن أحد منهم فيه ولا في أحد من رواته
فممن رواه : الإمام ابن الإمام أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن حنبل فى مسند أبيه وفي كتاب السنة وقال : كتب إلي إبراهيم بن حمزة بن محمد بن حمزة بن مصعب بن الزبير الزبيري : كتبت إليك بهذا الحديث وقد عرضته وسمعته على ما كتبت به إليك فحدث به عني
ومنهم : الحافظ الجليل أبو بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم النبيل فى كتاب السنة له
ومنهم : الحافظ أبو أحمد محمد بن أحمد بن إبراهيم بن سليمان العسال في كتاب المعرفة
ومنهم : حافظ زمانه ومحدث أوانه أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني في كثير من كتبه
ومنهم : الحافظ أبو محمد عبد الله بن محمد بن حيان أبو الشيخ الأصبهانى في كتاب السنة
ومنهم : الحافظ بن الحافظ أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن مندة حافظ أصبهان
ومنهم : الحافظ أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه
ومنهم : حافظ عصره أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن إسحاق الأصبهاني وجماعة من الحفاظ سواهم يطول ذكرهم
وقال ابن مندة : روى هذا الحديث محمد بن إسحاق الصنعاني وعبد الله بن أحمد بن حنبل وغيرهما وقد رواه بالعراق بمجمع العلماء وأهل الدين جماعة من الأئمة منهم أبو زرعة الرازي وأبو حاتم وأبو عبد الله محمد بن إسماعيل ولم ينكره أحد ولم يتكلم في إسناده بل رووه على سبيل القبول والتسليم ولا ينكر هذا الحديث إلا جاحد أو جاهل أو مخالف للكتاب والسنة وهذا كلام أبي عبد الله بن مندة
وقوله : تهضب : أي تمطر والأصواء : القبور والشربة - بفتح الراء - الحوض الذي يجتمع فيه الماء وبالسكون والياء : الحنظلة يريد أن الماء قد كثر فمن حيث شئت تشرب وعلى رواية السكون والياء : يكون قد شبه الأرض بخضرتها بالنبات بخضرة الحنظلة واستوائها
وقوله : حس : كلمة يقولها الإنسان إذا أصابه على غفلة ما يحرقه أو يؤلمه قال الأصمعي : وهي مثل أوه وقوله : يقول ربك عز و جل : أو أنه قال ابن قتيبة : فيه قولان : أحدهما : أن يكون أنه بمعنى نعم والآخر : أن يكون الخبر محذوفا كأنه قال : أنتم كذلك أو أنه على ما يقول والطوف : الغائط وفي الحديث : لا يصل أحدكم وهو يدافع الطوف والبول والجسر : الصراط وقوله : فيقول ربك مهيم : أي : ما شأنك وما أمرك وفيم كنت
وقوله : يشرف عليكم أزلين : الأزل - بسكون الزاي - الشدة والأزل على وزن كتف : هو الذي قد أصابه الأزل واشتد به حتى كاد يقنط
وقوله : فيظل يضحك هو من صفات أفعاله سبحانه وتعالى التي لا يشبهه فيها شئ من مخلوقاته كصفات ذاته وقد وردت هذه الصفة في أحاديث كثيرة لا سبيل إلى ردها كما لا سبيل إلى تشبيهها وتحريفها وكذلك فأصبح ربك يطوف في الأرض هو من صفات فعله كقوله { وجاء ربك والملك } { هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك } وينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا و يدنو عشية عرفة فيباهي بأهل الموقف الملائكة والكلام في الجميع صراط واحد مستقيم إثبات بلا تمثيل وتنزيه بلا تحريف ولا تعطيل
وقوله : والملائكة الذين عند ربك : لا أعلم موت الملائكة جاء في حديث صريح إلا هذا وحديث إسماعيل بن رافع الطويل وهو حديث الصور وقد يستدل عليه بقوله تعالى : { ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله } ( الزمر : 68 )
وقوله : فلعمر إلهك هو قسم بحياة الرب جل جلاله وفيه دليل على جواز الإقسام بصفاته وانعقاد اليمين بها وأنها قديمة وأنه يطلق عليه منها أسماء المصادر ويوصف بها وذلك قدر زائد على مجرد الأسماء وأن الأسماء الحسنى مشتقة من هذه المصادر دالة عليها
وقوله : ثم تجىء الصائحة : هي صيحة البعث ونفخته
وقوله : حتى يخلفه من عند رأسه : هو من أخلف الزرع : إذا نبت بعد حصاده شبه النشأة الآخرة بعد الموت بإخلاف الزرع بعد ما حصد وتلك الخلفة من عند رأسه كما ينبت الزرع
وقوله : فيستوي جالسا : هذا عند تمام خلقته وكمال حياته ثم يقوم بعد جلوسه قائما ثم يساق إلى موقف القيامة إما راكبا وإما ماشيا
وقوله : يقول : يا رب أمس اليوم استقلال لمدة لبثه في الأرض كأنه لبث فيها يوما فقال : أمس أو بعض يوم فقال : اليوم يحسب أنه حديث عهد بأهله وأنه إنما فارقهم أمس أو اليوم
وقوله : كيف يجمعنا بعد ما تمزقنا الرياح والبلى والسباع ؟ وإقرار رسول الله صلى الله عليه و سلم له على هذا السؤال رد على من زعم أن القوم لم يكونوا يخوضون في دقائق المسائل ولم يكونوا يفهمون حقائق الإيمان بل كانوا مشغولين بالعمليات وأن أفراخ الصابئة والمجوس من الجهمية والمعتزلة والقدرية أعرف منهم بالعلميات
وفيه دليل على أنه كانوا يوردون على رسول الله صلى الله عليه و سلم ما يشكل عليهم من الأسئلة والشبهات فيجيبهم عنها بما يثلج صدورهم وقد أورد عليه صلى الله عليه و سلم الأسئلة أعداؤه وأصحابه أعداؤه : للتعنت والمغالبة وأصحابه : للفهم والبيان وزيادة الإيمان وهو يجيب كلا عن سؤاله إلا ما لا جواب عنه كسؤاله عن وقت الساعة وفي هذا السؤال دليل على أنه سبحانه يجمع أجزاء العبد بعدما فرقها وينشئها نشأة أخرى ويخلقه خلقا جديدا كما سماه في كتابه كذلك في موضعين منه وقوله : أنبئك بمثل ذلك في آلاء الله آلاؤه : نعمه وآياته التي تعرف بها إلى عباده
وفيه : إثبات القياس في أدلة التوحيد والمعاد والقرآن مملوء منه
وفيه : أن حكم الشئ حكم نظيره وأنه سبحانه إذا كان قادرا على شئ فكيف تعجز قدرته عن نظيره ومثله ؟ فقد قرر الله سبحانه أدلة المعاد في كتابه أحسن تقرير وأبينه وأبلغه وأوصله إلى العقول والفطر فأبى أعداؤه الجاحدون إلا تكذيبا له وتعجيزا له وطعنا في حكمته تعالى عما يقولون علوا كبيرا
وقوله في الأرض : أشرفت عليها وهي مدرة بالية هو كقوله تعالى : { يحيي الأرض بعد موتها } ( الروم : 19 ) وقوله : { ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت } ( فصلت : 39 ) ونظائره في القرآن كثيرة
وقوله : فتنظرون إليه وينظر إليكم فيه إثبات صفة النظر لله عز و جل وإثبات رؤيته في الآخرة
وقوله : كيف ونحن ملء الأرض وهو شخص واحد قد جاء هذا في هذا الحديث وفي قوله في حديث آخر : لا شخص أغير من الله والمخاطبون بهذا قوم عرب يعلمون المراد منه ولا يقع في قلوبهم تشبيهه سبحانه بالأشخاص بل هم أشرف عقولا وأصح أذهانا وأسلم قلوبا من ذلك وحقق صلى الله عليه و سلم وقوع الرؤية عيانا برؤية الشمس والقمر تحقيقا لها ونفيا لتوهم المجاز الذي يظنه المعطلون
وقوله : فيأخذ ربك بيده غرفة من الماء فينضح بها قبلكم فيه إثبات صفة اليد له سبحانه بقوله وإثبات الفعل الذي هو النضح والريطة : الملاءة والحمم : جمع حممة وهي الفحمة
وقوله : ثم ينصرف نبيكم هذا انصراف من موقف القيامة إلى الجنة
وقوله : ويفرق على أثره الصالحون : أي يفزعون ويمضون على أثره
وقوله : فتطلعون على حوض نبيكم : ظاهر هذا أن الحوض من وراء الجسر فكأنهم لا يصلون إليه حتى يقطعوا الجسر وللسلف في ذلك قولان حكاهما القرطبي في تذكرته والغزالي وغلطا من قال : إنه بعد الجسر وقد روى البخاري : عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ بينا أنا قائم على الحوض إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال لهم : هلم فقلت : إلى أين ؟ فقال : إلى النار والله قلت : ما شأنهم ؟ قال : إنهم ارتدوا على أدبارهم فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم ] قال : فهذا الحديث مع صحته أدل دليل على أن الحوض يكون في الموقف قبل الصراط لأن الصراط إنما هو جسر ممدود على جهنم فمن جازه سلم من النار
قلت : وليس بين أحاديث رسول الله صلى الله عليه و سلم تعارض ولا تناقض ولا اختلاف وحديثه كله يصدق بعضه بعضا وأصحاب هذا القول إن أرادوا أن الحوض لا يرى ولا يوصل إليه إلا بعد قطع الصراط فحديث أبي هريرة هذا وغيره يرد قولهم وإن أرادوا أن المؤمنين إذا جازوا الصراط وقطعوه بدا لهم الحوض فشربوا منه فهذا يدل عليه حديث لقيط هذا وهو لا يناقض كونه قبل الصراط فإن قوله : طوله شهر وعرضه شهر فإذا كان بهذا الطول والسعة فما الذي يحيل امتداده إلى وراء الجسر فيرده المؤمنون قبل الصراط وبعده فهذا في حيز الإمكان ووقوعه موقوف على خبر الصادق والله أعلم
وقوله : - والله على أظمأ - ناهلة قط : الناهلة : العطاش الواردون الماء أي : يردونه أظمأ ما هم إليه وهذا يناسب أن يكون بعد الصراط فإنه جسر النار ؟ وقد وردوها كلهم فلما قطعوه اشتد ظمؤهم إلى الماء فوردوا حوضه صلى الله عليه و سلم كما وردوه في موقف القيامة
وقوله : تخنس الشمس والقمر : أي : تختفيان فتحتبسان ولا يريان والاختناس : التواري والاختفاء ومنه : قول أبي هريرة : فانخنست منه
وقوله : ما بين البابين مسيرة سبعين عاما يحتمل أن يريد به أن ما بين الباب والباب هذا المقدار ويحتمل أن يريد بالبابين المصراعين ولا يناقض هذا ما جاء من تقديره بأربعين عاما لوجهين : أحدهما : إنه لم يصرح فيه راويه بالرفع بل قال : ولقد ذكر لنا أن ما بين المصراعين مسيرة أربعين عاما والثاني : إن المسافة تختلف باختلاف سرعة السير فيها وبطئه والله أعلم
وقوله : في خمر الجنة أنه ما بها صداع ولا ندامة تعريض بخمر الدنيا وما يلحقها من صداع الرأس والندامة على ذهاب العقل والمال وحصول الشر الذي يوجبه زوال العقل والماء غير الآسن : هو الذي لم يتغير بطول مكثه
وقوله في نساء أهل الجنة : غير أن لا توالد : قد اختلف الناس هل تلد نساء أهل الجنة ؟ على قولين فقالت طائفة : لا يكون فيها حبل ولا ولادة واحتجت هذه الطائفة بهذا الحديث وبحديث آخر أظنه في المسند وفيه : غير أن لا مني ولا منية وأثبتت طائفة من السلف الولادة في الجنة واحتجت بما رواه الترمذي في جامعه من حديث أبي الصديق الناجي عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ المؤمن إذا اشتهى الولد في الجنة كان حمله ووضعه وسنه في ساعة كما يشتهي ] قال الترمذي : حسن غريب ورواه ابن ماجه
قالت الطائفة الأولى : هذا لا يدل على وقوع الولادة في الجنة فإنه علقه بالشرط فقال : إذا اشتهى ولكنه لا يشتهي وهذا تأويل إسحاق بن راهويه حكاه البخاري عنه قالوا : والجنة دار جزاء على الأعمال وهؤلاء ليسوا من أهل الجزاء قالوا : والجنة دار خلود لا موت فيها فلو توالد فيها أهلها على الدوام والأبد لما وسعتهم وإنما وسعتهم الدنيا بالموت
وأجابت الطائفة الأخرى عن ذلك كله وقالت : إذا إنما تكون لمحقق الوقوع لا المشكوك فيه وقد صح أنه سبحانه ينشئ للجنة خلقا يسكنهم إياها بلا عمل منهم قالوا : وأطفال المسلمين أيضا فيها بغير عمل وأما حديث سعتها : فلو رزق كل واحد منهم عشرة آلاف من الولد وسعتهم فإن أدناهم من ينظر في ملكه مسيرة ألفي عام
وقوله : يا رسول الله ! أقصى ما نحن بالغون ومنتهون إليه لاجواب لهذه المسألة لأنه إن أراد أقصى مدة الدنيا وانتهائها فلا يعلمه إلا الله وإن أراد : أقصى ما نحن منتهون إليه بعد دخول الجنة والنار فلا تعلم نفس أقصى ما ينتهي إليه من ذلك وإن كان الانتهاء إلى نعيم وجحيم ولهذا لم يجبه النبي صلى الله عليه و سلم
وقوله في عقد البيعة : وزيال المشرك : أي : مفارقته ومعاداته فلا يجاوره ولا يواليه كما جاء في الحديث الذي في السنن : لاتراءى ناراهما يعني المسلمين والمشركين
وقوله : حيثما مررت بقبر كافر فقل : أرسلني إليك محمد : هذا إرسال تقريع وتوبيخ لا تبليغ أمر ونهي وفيه دليل على سماع أصحاب أهل القبور كلام الأحياء وخطابهم لهم ودليل على أن من مات مشركا فهو في النار وإن مات قبل البعثة لأن المشركين كانوا قد غيروا الحنيفية دين إبراهيم واستبدلوا بها الشرك وارتكبوه وليس معهم حجة من الله به وقبحه والوعيد عليه بالنار لم يزل معلوما من دين الرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم وأخبار عقوبات الله لأهله متداولة بين الأمم قرنا بعد قرن فلله الحجة البالغة على المشركين في كل وقت ولو لم يكن إلا ما فطر عباده عليه من توحيد ربوبيته المستلزم لتوحيد إلهيته وأنه يستحيل في كل فطرة وعقل أن يكون معه إله آخر وإن كان سبحانه لا يعذب بمقتضى هذه الفطرة وحدها فلم تزل دعوة الرسل إلى التوحيد في الأرض معلومة لأهلها فالمشرك يستحق العذاب بمخالفته دعوة الرسل والله أعلم (3/588)
فصل
في قدوم وفد النخع على رسول الله صلى الله عليه و سلم
وقدم عليه وفد النخع وهم آخر الوفود قدوما عليه في نصف المحرم سنة إحدى عشرة في مائتي رجل فنزلوا دار الأضياف ثم جاؤوا رسول الله صلى الله عليه و سلم مقرين بالإسلام وقد كانوا بايعوا معاذ بن جبل فقال رجل منهم يقال له : زرارة بن عمرو : يا رسول الله ! إني رأيت في سفري هذا عجبا قال : وما رأيت ؟ قال : رأيت أتانا تركتها في الحي كأنها ولدت جديا أسفع أحوى فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ هل تركت أمة لك مصرة على حمل ] ؟ قال : نعم قال : [ فإنها قد ولدت غلاما وهو ابنك ] قال : يا رسول الله ! فما باله أسفع أحوى ؟ فقال : [ ادن مني ] فدنا منه فقال : [ هل بك من برص تكتمه ؟ ] قال : والذى بعثك بالحق ما علم به أحد ولا اطلع عليه غيرك قال : يا رسول الله ! ورأيت النعمان بن المنذر عليه قرطان مدملجان ومسكتان قال : [ ذلك ملك العرب رجع إلى أحسن زيه وبهجته ] قال : يا رسول الله ! ورأيت عجوزا شمطاء قد خرجت من الأرض قال : [ تلك بقية الدنيا ] قال : ورأيت نارا خرجت من الأرض فحالت بيني وبين ابن لي يقال له : عمرو وهي تقول : لظى لظى بصير وأعمى أطعموني آكلكم أهلكم ومالكم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ تلك فتنة تكون في آخر الزمان ] قال : يا رسول الله ! وما الفنتة ؟ قال : [ يقتل الناس إمامهم ويشتجرون اشتجار أطباق الرأس ] وخالف رسول الله صلى الله عليه و سلم بين أصابعه - يحسب المسيء فيها أنه محسن - [ ويكون دم المؤمن عند المؤمن فيها أحلى من شرب الماء إن مات ابنك أدركت الفتنة وإن مت أنت أدركها ابنك ] فقال : يا رسول الله ! ادع الله أن لا أدركها فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ اللهم لا يدركها ] فمات وبقي ابنه وكان ممن خلع عثمان (3/599)
فصل
ذكر هديه صلى الله عليه و سلم في مكاتباته إلى الملوك وغيرهم
ثبت في الصحيحين عنه صلى الله عليه و سلم أنه كتب إلى هرقل : [ بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى أما بعد : فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ]
وكتب إلى كسرى : [ بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله أدعوك بدعاية الله فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين أسلم تسلم فإن أبيت فعليك إثم المجوس ] فلما قرىء عليه الكتاب مزقه فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ مزق الله ملكه ]
وكتب إلى النجاشي : [ بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى النجاشي ملك الحبشة أسلم أنت فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن وأشهد أن عيسى ابن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة فحملت بعيسى فخلقه الله من روحه ونفخه كما خلق آدم بيده وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له والموالاة على طاعته وأن تتبعني وتؤمن بالذي جاءني فإني رسول الله وإني أدعوك وجنودك إلى الله عز و جل وقد بلغت ونصحت فاقبلوا نصيحتي والسلام على من اتبع الهدى ] وبعث بالكتاب مع عمرو بن أمية الضمري فقال ابن إسحاق : إن عمرا قال له : يا أصحمة ! إن علي القول وعليك الاستماع إنك كأنك في الرقة علينا وكأنا في الثقة بك منك لأنا لم نظن بك خيرا قط إلا نلناه ولم نخفك على شئ قط إلا أمناه وقد أخذنا الحجة عليك من فيك الإنجيل بيننا وبينك شاهد لا يرد وقاض لا يجور وفي ذلك موقع الحز وإصابة المفصل وإلا فأنت في هذا النبي الأمي كاليهود في عيسى ابن مريم وقد فرق النبي صلى الله عليه و سلم رسله إلى الناس فرجاك لما لم يرجهم له وأمنك على ما خافهم عليه بخير سالف وأجر منتظر فقال النجاشي : أشهد بالله أنه النبى الأمي الذي ينتظره أهل الكتاب وأن بشارة موسى براكب الحمار كبشارة عيسى براكب الجمل وأن العيان ليس بأشفى من الخبر ثم كتب النجاشى جواب كتاب النبى صلى الله عليه و سلم :
بسم الله الرحمن الرحيم إلى محمد رسول الله من النجاشي أصحمة سلام عليك يا نبي الله من الله ورحمة الله وبركاته الله الذي لا إله إلا هو أما بعد : فقد بلغنى كتابك يا رسول الله فيما ذكرت من أمر عيسى فورب السماء والأرض إن عيسى لا يزيد على ما ذكرت ثفروقا إنه كما ذكرت وقد عرفنا ما بعثت به إلينا وقد قربنا ابن عمك وأصحابه فأشهد أنك رسول الله صادقا مصدقا وقد بايعتك وبايعت ابن عمك وأسلمت على يديه لله رب العالمين والثفروق : علاقة ما بين النواة والقشر
وتوفي النجاشي سنة تسع وأخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم بموته ذلك اليوم فخرج بالناس إلى المصلى فصلى عليه وكبر أربعا
قلت : وهذا وهم - والله أعلم - وقد خلط راويه ولم يميز بين النجاشي الذي صلى عليه وهو الذي آمن به وأكرم أصحابه وبين النجاشي الذى كتب إليه يدعوه فهما اثنان وقد جاء ذلك مبينا في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كتب إلى النجاشي وليس بالذي صلى عليه (3/600)
فصل
وكتب إلى المقوقس ملك مصر والإسكندرية : [ بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى المقوقس عظيم القبط سلام على من اتبع الهدي أما بعد : فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإن عليك إثم القبط ] { يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون } ( آل عمران : 64 ) وبعث به مع حاطب بن أبي بلتعة فلما دخل عليه قال له : إنه كان قبلك رجل يزعم أنه الرب الأعلى فأخذه الله نكال الآخرة والأولى فانتقم به ثم انتقم منه فاعتبر بغيرك ولا يعتبر غيرك بك فقال : إن لنا دينا لن ندعه إلا لما هو خير منه فقال حاطب : ندعوك إلى دين الله وهو الإسلام الكافي به الله فقد ما سواه إن هذا النبي دعا الناس فكان أشدهم عليه قريش وأعداهم له اليهود وأقربهم منه النصارى ولعمري ما بشارة موسى بعيسى إلا كبشارة عيسى بمحمد وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلا كدعائك أهل التوارة إلى الإنجيل وكل نبي أدرك قوما فهم من أمته فالحق عليهم أن يطيعوه وأنت ممن أدركه هذا النبى ولسنا ننهاك عن دين المسيح ولكنا نأمرك به فقال المقوقس : إني قد نظرت في أمر هذا النبي فوجدته لا يأمر بمزهود فيه ولا ينهى عن مرغوب فيه ولم أجده بالساحر الضال ولا الكاهن الكاذب ووجدت معه آية النبوة بإخراج الخبء والإخبار بالنجوى وسأنظر وأخذ كتاب النبي صلى الله عليه و سلم فجعله في حق من عاج وختم عليه ودفعه إلى جارية له ثم دعا كاتبا له يكتب بالعربية فكتب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم : بسم الله الرحمن الرحيم لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط سلام عليك أما بعد : فقد قرأت كتابك وفهمت ما ذكرت فيه وما تدعو إليه وقد علمت أن نبيا بقي وكنت أظن أنه يخرج بالشام وقد أكرمت رسولك وبعثت إليك بجاريتين لهما مكان في القبط عظيم وبكسوة وأهديت إليك بغلة لتركبها والسلام عليك ولم يزد على هذا ولم يسلم والجاريتان مارية وسيرين والبغلة دلدل بقيت إلى زمن معاوية (3/603)
فصل
وكتب إلى المنذر بن ساوى فذكر الواقدي بإسناده عن عكرمة قال : وجدت هذا الكتاب في كتب ابن عباس بعد موته فنسخته فإذا فيه : بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى وكتب إليه كتابا يدعوه فيه إلى الإسلام فكتب المنذر إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم : أما بعد : يا رسول الله فإني قرأت كتابك على أهل البحرين فمنهم من أحب الإسلام وأعجبه ودخل فيه ومنهم من كرهه وبأرضي مجوس ويهود فأحدث إلي في ذلك أمرك فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى المنذر بن ساوى سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله أما بعد فإني أذكرك الله عز و جل فإنه من ينصح فإنما ينصح لنفسه وإنه من يطع رسلي ويتبع أمرهم فقد أطاعني ومن نصح لهم فقد نصح لي وإن رسلي قد أثنوا عليك خيرا وإني قد شفعتك في قومك فاترك للمسلمين ما أسلموا عليه وعفوت عن أهل الذنوب فاقبل منهم وإنك مهما تصلح فلن نعزلك عن عملك ومن أقام على يهودية أو مجوسية فعليه الجزية ] (3/604)
فصل
وكتب إلى ملك عمان كتابا وبعثه مع عمرو بن العاص :
[ بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الله إلى جيفر وعبد ابني الجلندى سلام على من اتبع الهدى أما بعد : فإني أدعوكما بدعاية الإسلام أسلما تسلما فإني رسول الله إلى الناس كافة لأنذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين فإنكما إن أقررتما بالإسلام وليتكما وإن أبيتما أن تقرا بالإسلام فإن ملككما زائل عنكما وخيلي تحل بساحتكما وتظهر نبوتي على ملككما ] وكتب أبي بن كعب وختم الكتاب
قال عمرو : فخرجت حتى انتهيت إلى عمان فلما قدمتها عمدت إلى عبد وكان أحلم الرجلين وأسهلهما خلقا فقلت : إني رسول رسول الله صلى الله عليه و سلم إليك وإلى أخيك فقال : أخي المقدم علي بالسن والملك وأنا أوصلك إليه حتى يقرأ كتابك ثم قال : وما تدعو إليه ؟ قلت : أدعوك إلى الله وحده لا شريك له وتخلع ما عبد من دونه وتشهد أن محمدا عبده ورسوله قال : يا عمرو إنك ابن سيد قومك فكيف صنع أبوك فإن لنا فيه قدوة ؟ قلت : مات ولم يؤمن بمحمد صلى الله عليه و سلم ووددت أنه كان أسلم وصدق به وقد كنت أنا على مثل رأيه حتى هداني الله للإسلام قال : فمتى تبعته ؟ قلت : قريبا فسألني أين كان إسلامك ؟ قلت : عند النجاشي وأخبرته أن النجاشي قد أسلم قال : فكيف صنع قومه بملكه ؟ فقلت : أقروه واتبعوه قال : والأساقفة والرهبان تبعوه ؟ قلت : نعم قال : انظر يا عمرو ما تقول إنه ليس من خصلة في رجل أفضح له من الكذب قلت : ما كذبت وما نستحله في ديننا ثم قال : ما أرى هرقل علم بإسلام النجاشي قلت : بلى قال : بأي شئ علمت ذلك ؟ قلت : كان النجاشي يخرج له خرجا فلما أسلم وصدق بمحمد صلى الله عليه و سلم قال : لا والله لو سألني درهما واحدا ما أعطيته فبلغ هرقل قوله فقال له يناق أخوه : أتدع عبدك لايخرج لك خرجا ويدين دينا محدثا ؟ قال هرقل : رجل رغب في دين فاختاره لنفسه ما أصنع به والله لولا الضن بملكي لصنعت كما صنع قال : انظر ما تقول يا عمرو قلت : والله صدقتك قال عبد : فأخبرني ما الذي يأمر به وينهى عنه ؟ قلت : يأمر بطاعة الله عز و جل وينهى عن معصيته ويأمر بالبر وصلة الرحم وينهى عن الظلم والعدوان وعن الزنى وعن الخمر وعن عبادة الحجر والوثن والصليب قال : ما أحسن هذا الذي يدعو إليه لو كان أخي يتابعني عليه لركبنا حتى نؤمن بمحمد ونصدق به ولكن أخي أضن بملكه من أن يدعه ويصير ذنبا قلت : إنه إن أسلم ملكه رسول الله صلى الله عليه و سلم على قومه فأخذ الصدقة من غنيهم فردها على فقيرهم قال : إن هذا لخلق حسن ؟ وما الصدقة ؟ فأخبرته بما فرض رسول الله صلى الله عليه و سلم من الصدقات في الأموال حتى انتهيت إلى الإبل قال : يا عمرو : وتؤخذ من سوائم مواشينا التي ترعى الشجر وترد المياه ؟ فقلت : نعم فقال : والله ما أرى قومي في بعد دارهم وكثرة عددهم يطيعون بهذا قال : فمكثت ببابه أياما وهو يصل إلى أخيه فيخبره كل خبري ثم إنه دعاني يوما فدخلت عليه فأخذ أعوانه بضبعي فقال : دعوه فأرسلت فذهبت لأجلس فأبوا أن يدعوني أجلس فنظرت إليه فقال : تكلم بحاجتك فدفعت إليه الكتاب مختوما ففض خاتمه وقرأ حتى انتهى إلى آخره ثم دفعه إلى أخيه فقرأه مثل قراءته إلا أني رأيت أخاه أرق منه قال : ألا تخبرني عن قريش كيف صنعت ؟ فقلت : تبعوه إما راغب في الدين وإما مقهور بالسيف قال : ومن معه ؟ قلت : الناس قد رغبوا في الإسلام واختاروه على غيره وعرفوا بعقولهم مع هدى الله إياهم أنهم كانوا في ضلال فما أعلم أحدا بقي غيرك في هذه الحرجة وأنت إن لم تسلم اليوم وتتبعه يوطئك الخيل ويبيد خضراءك فأسلم تسلم ويستعملك على قومك ولا تدخل عليك الخيل والرجال قال : دعني يومي هذا وارجع إلي غدا فرجعت إلى أخيه فقال : يا عمرو ! إني لأرجو أن يسلم إن لم يضن بملكه حتى إذا كان الغد أتيت إليه فأبى أن يأذن لي فانصرفت إلى أخيه فأخبرته إني لم أصل إليه فأوصلني إليه فقال : إني فكرت فيما دعوتني إليه فإذا أنا أضعف العرب إن ملكت رجلا ما في يدي وهو لا تبلغ خيله هاهنا وإن بلغت خيله ألفت قتالا ليس كقتال من لاقى قلت : وأنا خارج غدا فلما أيقن بمخرجي خلا به أخوه فقال : ما نحن فيما قد ظهر عليه وكل من أرسل إليه قد أجابه فأصبح فأرسل إلي فأجاب إلى الإسلام هو وأخوه جميعا وصدقا النبي صلى الله عليه و سلم وخليا بيني وبين الصدقة وبين الحكم فيما بينهم وكانا لي عونا على من خالفني (3/605)
فصل
وكتب النبي صلى الله عليه و سلم إلى صاحب اليمامة هوذة بن علي وأرسل به مع سليط بن عمرو العامري : [ بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هوذة بن علي سلام على من اتبع الهدى واعلم أن دينى سيظهر إلى منتهى الخف والحافر فأسلم تسلم وأجعل لك ما تحت يديك ] فلما قدم عليه سليط بكتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم مختوما أنزله وحياه واقترأ عليه الكتاب فرد ردا دون رد وكتب إلى النبي صلى الله عليه و سلم ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله والعرب تهاب مكاني فاجعل إلي بعض الأمر أتبعك وأجاز سليطا بجائزة وكساه أثوابا من نسج هجر فقدم بذلك كله على النبي صلى الله عليه و سلم فأخبره وقرأ النبي صلى الله عليه و سلم كتابه فقال : لو سألني سيابة من الأرض ما فعلت باد وباد ما في يديه فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه و سلم من الفتح جاءه جبريل عليه السلام بأن هوذة قد مات فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ أما إن اليمامة سيخرج بها كذاب يتنبأ يقتل بعدي ] فقال قائل : يا رسول الله من يقتله ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أنت وصاحبك ] فكان كذلك
وذكر الواقدي : أن أركون دمشق عظيم من عظماء النصارى كان عند هوذة فسأله عن النبي صلى الله عليه و سلم فقال : جاءني كتابه يدعوني إلى الإسلام فلم أجبه قال الأركون : لم لا تجيبه ؟ قال : ضننت بديني وأنا ملك قومي وإن تبعته لم أملك قال : بلى والله لئن تبعته ليملكنك فإن الخيرة لك فى اتباعه وإنه للنبي العربي الذي بشر به عيسى بن مريم وإنه لمكتوب عندنا في الإنجيل : محمد رسول الله (3/607)
فصل
في كتابه إلى الحارث بن أبي شمر الغساني
وكان بدمشق بغوطتها فكتب إليه كتابا مع شجاع بن وهب مرجعه من الحديبية : بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى الحارث بن أبي شمر : سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله وصدق وإني أدعوك إلى أن تؤمن بالله وحده لا شريك له يبقى لك ملكك وقد تقدم ذلك
بعونه تعالى تم طبع الجزء الثالث من زاد المعاد في هدي خير العباد ويليه الجزء الرابع وأوله فصل في الطب النبوي (3/608)
فصل
الطب النبوي
وقد أتينا على جمل من هديه صلى الله عليه و سلم في المغازي والسير والبعوث والسرايا والرسائل والكتب التي كتب بها إلى الملوك ونوابهم
ونحن نتبع ذلك بذكر فصول نافعة في هديه في الطب الذي تطبب به ووصفه لغيره ونبين ما فيه من الحكمة التي تعجز عقول أكثر الأطباء عن الوصول إليها وأن نسبة طبهم إليها كنسبة طب العجائز إلى طبهم فنقول وبالله المستعان ومنه نستمد الحول والقوة :
المرض : نوعان : مرض القلوب ومرض الأبدان وهما مذكوران في القرآن
ومرض القلوب : نوعان : مرض شبهة وشك ومرض شهوة وغي وكلاهما في القرآن قال تعالى في مرض الشبهة : { في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا } [ البقرة : 110 ] وقال تعالى : { وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا } [ المدثر : 31 ] وقال تعالى في حق من دعي إلى تحكيم القرآن والسنة فأبى وأعرض : { وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون * وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين * أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون } [ النور : 48 و 49 ] فهذا مرض الشبهات والشكوك
وأما مرض الشهوات فقال تعالى : { يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض } [ الأحزاب : 32 ] فهذا مرض شهوة الزنى والله أعلم (4/5)
فصل
وأما مرض الأبدان فقال تعالى : { ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج } [ النور : 61 ] وذكر مرض البدن في الحج والصوم والوضوء لسر بديع يبين لك عظمة القرآن والإستغناء به لمن فهمه وعقله عن سواه وذلك أن قواعد طب الأبدان ثلاثة : حفظ الصحة والحمية عن المؤذي واستفراغ المواد الفاسدة فذكر سبحانه هذه الأصول الثلاثة في هذه المواضع الثلاثة
فقال في آية الصوم : { فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } [ البقرة : 184 ] فأباح الفطر للمريض لعذر المرض وللمسافر طلبا لحفظ صحته وقوته لئلا يذهبها الصوم في السفر لاجتماع شدة الحركة وما يوجبه من التحليل وعدم الغذاء الذي يخلف ما تحلل فتخور القوة وتضعف فأباح للمسافر الفطر حفظا لصحته وقوته عما يضعفها
وقال في آية الحج : { فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } [ البقرة : 196 ) فأباح للمريض ومن به أذى من رأسه من قمل أو حكة أو غيرهما أن يحلق رأسه في الإحرام استفراغا لمادة الأبخرة الرديئة التي أوجبت له الأذى في رأسه باحتقانها تحت الشعر فإذا حلق رأسه تفتحت المسام فخرجت تلك الأبخرة منها فهذا الإستفراغ يقاس عليه كل استفراغ يؤذي انحباسه
والأشياء التي يؤذي انحباسها ومدافعتها عشرة : الدم إذا هاج والمني إذا تبيغ والبول والغائط والريح والقئ والعطاس والنوم والجوع والعطش وكل واحد من هذه العشرة يوجب حبسه داء من الأدواء بحسبه
وقد نبه سبحانه باستفراغ أدناها وهو البخار المحتقن في الرأس على استفراغ ما هو أصعب منه كما هي طريقة القرآن التنبيه بالأدنى على الأعلى
وأما الحمية : فقال تعالى في آية الوضوء : { وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا } [ النساء : 43 ) فأباح للمريض العدول عن الماء إلى التراب حمية له أن يصيب جسده ما يؤذيه وهذا تنبيه على الحمية عن كل مؤذ له من داخل أو خارج فقد أرشد - سبحانه - عباده إلى أصول الطب ومجامع قواعده ونحن نذكر هدي رسول الله صلى الله عليه و سلم في ذلك ونبين أن هديه فيه أكمل هدي
فأما طب القلوب فمسلم إلى الرسل صلوات الله وسلامه عليهم ولا سبيل إلى حصوله إلا من جهتهم وعلى أيديهم فإن صلاح القلوب أن تكون عارفة بربها وفاطرها وبأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه وأن تكون مؤثرة لمرضاته ومحابه متجنبة لمناهيه ومساخطه ولا صحة لها ولا حياة البتة إلا بذلك ولا سبيل إلى تلقيه إلا من جهة الرسل وما يظن من حصول صحة
القلب بدون اتباعهم فغلط ممن يظن ذلك وإنما ذلك حياة نفسه البهيمية الشهوانية وصحتها وقوتها وحياة قلبه وصحته وقوته عن ذلك بمعزل ومن لم يميز بين هذا وهذا فليبك على حياة قلبه فإنه من الأموات وعلى نوره فإنه منغمس في بحار الظلمات (4/6)
فصل
وأما طب الأبدان : فإنه نوعان :
نوع قد فطر الله عليه الحيوان ناطقه وبهيمه فهذا لا يحتاج فيه إلى معالجة طبيب كطب الجوع والعطش والبرد والتعب بأضدادها وما يزيلها
والثاني : ما يحتاج إلى فكر وتأمل كدفع الأمراض المتشابهة الحادثة في المزاج بحيث يخرج بها عن الإعتدال إما إلى حرارة أو برودة أو يبوسة أو رطوبة أو ما يتركب من اثنين منها وهي نوعان : إما مادية وإما كيفية أعني إما أن يكون بانصباب مادة أو بحدوث كيفية والفرق بينهما أن أمراض الكيفية تكون بعد زوال المواد التي أوجبتها فتزول موادها ويبقى أثرها كيفية في المزاج
وأمراض المادة أسبابها معها تمدها وإذا كان سبب المرض معه فالنظر في السبب ينبغي أن يقع أولا ثم في المرض ثانيا ثم في الدواء ثالثا أو الأمراض الآلية وهي التي تخرج العضو عن هيئته إما في شكل أو تجويف أو مجرى أو خشونة أو ملاسة أو عدد أو عظم أو وضع فإن هذه الأعضاء إذا تألفت وكان منها البدن سمي تألفها اتصالا والخروج عن الإعتدال فيه يسمى تفرق الإتصال أو الأمراض العامة التي تعم المتشابهة والآلية
والأمراض المتشابهة : هي التي يخرج بها المزاج عن الإعتدال وهذا الخروج يسمى مرضا بعد أن يضر بالفعل إضرارا محسوسا
وهي على ثمانية أضرب : أربعة بسيطة وأربعة مركبة فالبسيطة : البارد والحار والرطب واليابس والمركبة : الحار الرطب والحار اليابس والبارد الرطب والبارد اليابس وهي إما أن تكون بانصباب مادة أو بغير انصباب مادة وإن لم يضر المرض بالفعل يسمى خروجا عن الإعتدال صحة
وللبدن ثلاثة أحوال : حال طبيعية وحال خارجة عن الطبيعية وحال متوسطة بين الأمرين فالأولى : بها يكون البدن صحيحا والثانية : بها يكون مريضا والحال الثالثة : هي متوسطة بين الحالتين فإن الضد لا ينتقل إلى ضده إلا بمتوسط وسبب خروج البدن عن طبيعته إما من داخله لأنه مركب من الحار والبارد والرطب واليابس وإما من خارج فلأن ما يلقاه قد يكون موافقا وقد يكون غير موافق والضرر الذي يلحق الإنسان قد يكون من سوء المزاج بخروجه عن الإعتدال وقد يكون من فساد في العضو وقد يكون من ضعف في القوى أو الأرواح الحاملة لها ويرجع ذلك إلى زيادة ما الإعتدال في عدم زيادته أو نقصان ما الإعتدال في عدم نقصانه أو تفرق ما الإعتدال في اتصاله أو اتصال ما الإعتدال في تفرقه أو امتداد ما الإعتدال في انقباضه أو خروج ذي وضع وشكل عن وضعه وشكله بحيث يخرجه عن اعتداله
فالطبيب : هو الذي يفرق ما يضر بالإنسان جمعه أو يجمع فيه ما يضره تفرقه أو ينقص منه ما يضره زيادته أو يزيد فيه ما يضره نقصه فيجلب الصحة المفقودة أو يحفظها بالشكل والشبه ويدفع العلة الموجودة بالضد والنقيض ويخرجها أو يدفعها بما يمنع من حصولها بالحمية وسترى هذا كله في هدي رسول الله صلى الله عليه و سلم شافيا كافيا بحول الله وقوته وفضله ومعونته (4/7)
فصل
فكان من هديه صلى الله عليه و سلم فعل التداوي في نفسه والأمر به لمن أصابه مرض من أهله وأصحابه ولكن لم يكن من هديه ولا هدي أصحابه استعمال هذه الأدوية المركبة التي تسمى أقرباذين بل كان غالب أدويتهم بالمفردات وربما أضافوا إلى المفرد ما يعاونه أو يكسر سورته وهذا غالب طب الأمم على اختلاف أجناسها من العرب والترك وأهل البوادي قاطبة وإنما عني بالمركبات الروم واليونانيون وأكثر طب الهند بالمفردات
وقد اتفق الأطباء على أنه متى أمكن التداوي بالغذاء لا يعدل عنه إلى الدواء ومتى أمكن بالبسيط لا يعدل عنه إلى المركب
قالوا : وكل داء قدر على دفعه بالأغذية والحمية لم يحاول دفعه بالأدوية
قالوا : ولا ينبغي للطبيب أن يولع بسقي الأدوية فإن الدواء إذا لم يجد في البدن داء يحلله أو وجد داء لا يوافقه أو وجد ما يوافقه فزادت كميته عليه أو كيفيته تشبث بالصحة وعبث بها وأرباب التجارب من الأطباء طبهم بالمفردات غالبا وهم أحد فرق الطب الثلاث
والتحقيق في ذلك أن الأدوية من جنس الأغذية فالأمة والطائفة التي غالب أغذيتها المفردات أمراضها قليلة جدا وطبها بالمفردات وأهل المدن الذين غلبت عليهم الأغذية المركبة يحتاجون إلى الأدوية المركبة وسبب ذلك أن أمراضهم في الغالب مركبة فالأدوية المركبة أنفع لها وأمراض أهل البوادي والصحاري مفردة فيكفي في مداواتها الأدوية المفردة فهذا برهان بحسب الصناعة الطبية
ونحن نقول : إن ها هنا أمرا آخر نسبة طب الأطباء إليه كنسبة طب الطرقية والعجائز إلى طبهم وقد اعترف به حذاقهم وأئمتهم فإن ما عندهم من العلم بالطب منهم من يقول : هو قياس ومنهم من يقول : هو تجربة ومنهم من يقول : هو إلهامات ومنامات وحدس صائب ومنهم من يقول : أخذ كثير منه من الحيوانات البهيمية كما نشاهد السنانير إذا أكلت ذوات السموم تعمد إلى السراج فتلغ في الزيت تتداوى به وكما رؤيت الحيات إذا خرجت من بطون الأرض وقد عشيت أبصارها تأتي إلى ورق الرازيانج فتمر عيونها عليها وكما عهد من الطير الذي يحتقن بماء البحر عند انحباس طبعه وأمثال ذلك مما ذكر في مبادئ الطب
وأين يقع هذا وأمثاله من الوحي الذي يوحيه الله إلى رسوله بما ينفعه ويضره فنسبة ما عندهم من الطب إلى هذا الوحي كنسبة ما عندهم من العلوم إلى ما جاءت به الأنبياء بل ها هنا من الأدوية التي تشفي من الأمراض ما لم يهتد إليها عقول أكابر الأطباء ولم تصل إليها علومهم وتجاربهم وأقيستهم من الأدوية القلبية والروحانية وقوة القلب واعتماده على الله والتوكل عليه والإلتجاء إليه والإنطراح والإنكسار بين يديه والتذلل له والصدقة والدعاء والتوبة والإستغفار والإحسان إلى الخلق وإغاثة الملهوف والتفريج عن المكروب فإن هذه الأدوية قد جربتها الأمم على اختلاف أديانها ومللها فوجدوا لها من التأثير في الشفاء ما لا يصل إليه علم أعلم الأطباء ولا تجربته ولا قياسه
وقد جربنا نحن وغيرنا من هذا أمورا كثيرة ورأيناها تفعل ما لا تفعل الأدوية الحسية بل تصير الأدوية الحسية عندها بمنزلة أدوية الطرقية عند الأطباء وهذا جار على قانون الحكمة الإلهية ليس خارجا عنها ولكن الأسباب متنوعة فإن القلب متى اتصل برب العالمين وخالق الداء والدواء ومدبر الطبيعة ومصرفها على ما يشاء كانت له أدوية أخرى غير الأدوية التي يعانيها القلب البعيد منه المعرض عنه وقد علم أن الأرواح متى قويت وقويت النفس والطبيعة تعاونا على دفع الداء وقهره فكيف ينكر لمن قويت طبيعته ونفسه وفرحت بقربها من بارئها وأنسها به وحبها له وتنعمها بذكره وانصراف قواها كلها إليه وجمعها عليه واستعانتها به وتوكلها عليه أن يكون ذلك لها من أكبر الأدوية وأن توجب لها هذه القوة دفع الألم بالكلية ولا ينكر هذا إلا أجهل الناس وأغلظهم حجابا وأكثفهم نفسا وأبعدهم عن الله وعن حقيقة الإنسانية وسنذكر إن شاء الله السبب الذي به أزالت قراءة الفاتحة داء اللدغة عن اللديغ التي رقي بها فقام حتى كأن ما به قلبة
فهذان نوعان من الطب النبوي نحن بحول الله نتكلم عليهما بحسب الجهد والطاقة ومبلغ علومنا القاصرة ومعارفنا المتلاشية جدا وبضاعتنا المزجاة ولكنا نستوهب من بيده الخير كله ونستمد من فضله فإنه العزيز الوهاب (4/9)
فصل
روى مسلم في صحيحه : من حديث أبى الزبير عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله عز و جل ]
وفي الصحيحين : عن عطاء عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء ]
وفي مسند الإمام أحمد : من حديث زياد بن علاقة عن أسامة بن شريك قال : كنت عند النبي صلى الله عليه و سلم وجاءت الأعراب فقالوا : يا رسول الله ! أنتداوى ؟ فقال : [ نعم يا عباد الله تداووا فإن الله عز و جل لم يضع داء إلا وضع له شفاء غير داء واحد قالوا : ما هو ؟ قال : الهرم ]
وفي لفظ : [ إن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء علمه من علمه وجهله من جهله ]
وفي المسند : من حديث ابن مسعود يرفعه : [ إن الله عز و جل لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء علمه من علمه وجهله من جهله ] وفي المسند و السنن : عن أبي خزامة قال : قلت : يا رسول الله ! أرأيت رقى نسترقيها ودواء نتداوى به وتقاة نتقيها هل ترد من قدر الله شيئا ؟ فقال : [ هي من قدر الله ]
فقد تضمنت هذه الأحاديث إثبات الأسباب والمسببات وإبطال قول من أنكرها ويجوز أن يكون قوله : [ لكل داء دواء ] على عمومه حتى يتناول الأدواء القاتلة والأدواء التي لا يمكن لطبيب أن يبرئها ويكون الله عز و جل قد جعل لها أدوية تبرئها ولكن طوى علمها عن البشر ولم يجعل لهم إليه سبيلا لأنه لا علم للخلق إلا ما علمهم الله ولهذا علق النبي صلى الله عليه و سلم الشفاء على مصادفة الدواء للداء فإنه لا شئ من المخلوقات إلا له ضد وكل داء له ضد من الدواء يعالج بضده فعلق النبي صلى الله عليه و سلم البرء بموافقة الداء للدواء وهذا قدر زائد على مجرد وجوده فإن الدواء متى جاوز درجة الداء في الكيفية أو زاد في الكمية على ما ينبغي نقله إلى داء آخر ومتى قصر عنها لم يف بمقاومته وكان العلاج قاصرا ومتى لم يقع المداوي على الدواء أو لم يقع الدواء على الداء لم يحصل الشفاء ومتى لم يكن الزمان صالحا لذلك الدواء لم ينفع ومتى كان البدن غير قابل له أو القوة عاجزة عن حمله أو ثم مانع يمنع من تأثيره لم يحصل البرء لعدم المصادفة ومتى تمت المصادفة حصل البرء بإذن الله ولا بد وهذا أحسن المحملين في الحديث
والثاني : أن يكون من العام المراد به الخاص لا سيما والداخل في اللفظ أضعاف أضعاف الخارج منه وهذا يستعمل في كل لسان ويكون المراد أن الله لم يضع داء يقبل الدواء إلا وضع له دواء فلا يدخل في هذا الأدواء التي لا تقبل الدواء وهذا كقوله تعالى في الريح التي سلطها على قوم عاد : { تدمر كل شيء بأمر ربها } [ الأحقاف : 25 ] أي كل شئ يقبل التدمير ومن شأن الريح أن تدمره ونظائره كثيرة
ومن تأمل خلق الأضداد في هذا العالم ومقاومة بعضها لبعض ودفع بعضها ببعض وتسليط بعضها على بعض تبين له كمال قدرة الرب تعالى وحكمته وإتقانه ما صنعه وتفرده بالربوبية والوحدانية والقهر وأن كل ما سواه فله ما يضاده ويمانعه كما أنه الغني بذاته وكل ما سواه محتاج بذاته
وفي الأحاديث الصحيحة الأمر بالتداوي وأنه لا ينافي التوكل كما لا ينافيه دفع داء الجوع والعطش والحر والبرد بأضدادها بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدرا وشرعا وأن تعطيلها يقدح في نفس التوكل كما يقدح في الأمر والحكمة ويضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى في التوكل فإن تركها عجزا ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه ودفع ما يضره في دينه ودنياه ولا بد مع هذا الإعتماد من مباشرة الأسباب وإلا كان معطلا للحكمة والشرع فلا يجعل العبد عجزه توكلا ولا توكله عجزا
وفيها رد على من أنكر التداوي وقال : إن كان الشفاء قد قدر فالتداوي لا يفيد وإن لم يكن قد قدر فكذلك وأيضا فإن المرض حصل بقدر الله وقدر الله لا يدفع ولا يرد وهذا السؤال هو الذي أورده الأعراب على رسول الله صلى الله عليه و سلم وأما أفاضل الصحابة فأعلم بالله وحكمته وصفاته من أن يوردوا مثل هذا وقد أجابهم النبي صلى الله عليه و سلم بما شفى وكفى فقال : هذه الأدوية والرقى والتقى هي من قدر الله فما خرج شئ عن قدره بل يرد قدره بقدره وهذا الرد من قدره فلا سبيل إلى الخروج عن قدره بوجه ما وهذا كرد قدر الجوع والعطش والحر والبرد بأضدادها وكرد قدر العدو بالجهاد وكل من قدر الله : الدافع والمدفوع والدفع
ويقال لمورد هذا السؤال : هذا يوجب عليك أن لا تباشر سببا من الأسباب التي تجلب بها منفعة أو تدفع بها مضرة لأن المنفعة والمضرة إن قدرتا لم يكن بد من وقوعهما وإن لم تقدرا لم يكن سبيل إلى وقوعهما وفي ذلك خراب الدين والدنيا وفساد العالم وهذا لا يقوله إلا دافع للحق معاند له فيذكر القدر ليدفع حجة المحق عليه كالمشركين الذين قالوا : { لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا } [ الأنعام : 148 ] و { لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا } [ النحل : 35 ] فهذا قالوه دفعا لحجة الله عليهم بالرسل
وجواب هذا السائل أن يقال : بقي قسم ثالث لم تذكره هو أن الله قدر كذا وكذا بهذا السبب فإن أتيت بالسبب حصل المسبب وإلا فلا فإن قال : إن كان قدر لي السبب فعلته وإن لم يقدره لي لم أتمكن من فعله
قيل : فهل تقبل هذا الإحتجاج من عبدك وولدك وأجيرك إذا احتج به عليك فيما أمرته به ونهيته عنه فخالفك ؟ فإن قبلته فلا تلم من عصاك وأخذ مالك وقذف عرضك وضيع حقوقك وإن لم تقبله فكيف يكون مقبولا منك في دفع حقوق الله عليك وقد روي في أثر إسرائيلي : أن إبراهيم الخليل قال : يا رب ممن الداء ؟ قال : مني قال : فممن الدواء ؟ قال : مني قال : فما بال الطبيب ؟ قال : رجل أرسل الدواء على يديه
وفي قوله صلى الله عليه و سلم : [ لكل داء دواء ] تقوية لنفس المريض والطبيب وحث على طلب ذلك الدواء والتفتيش عليه فإن المريض إذا استشعرت نفسه أن لدائه دواء يزيله تعلق قلبه بروح الرجاء وبردت عنده حرارة اليأس وانفتح له باب الرجاء ومتى قويت نفسه انبعثت حرارته الغريزية وكان ذلك سببها لقوة الأرواح الحيوانية والنفسانية والطبيعية ومتى قويت هذه الأرواح قويت القوى التي هي حاملة لها فقهرت المرض ودفعته
وكذلك الطبيب إذا علم أن لهذا الداء دواء أمكنه طلبه والتفتيش عليه وأمراض الأبدان على وزان أمراض القلوب وما جعل الله للقلب مرضا إلا جعل له شفاء بضده فإن علمه صاحب الداء واستعمله وصادف داء قلبه أبرأه بإذن الله تعالى (4/12)
فصل
في هديه صلى الله عليه و سلم في الإحتماء من التخم والزيادة في الأكل على قدر الحاجة والقانون الذي ينبغي مراعاته في الأكل والشرب
في المسند وغيره : عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه فإن كان لا بد فاعلا فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه ]
الأمراض نوعان : أمراض مادية تكون عن زيادة مادة أفرطت في البدن حتى أضرت بأفعاله الطبيعية وهي الأمراض الأكثرية وسببها إدخال الطعام على البدن قبل هضم الأول والزيادة في القدر الذي يحتاج إليه البدن وتناول الأغذية القليلة النفع البطيئة الهضم والإكثار من الأغذية المختلفة التراكيب المتنوعة فإذا ملأ الآدمي بطنه من هذه الأغذية واعتاد ذلك أورثته أمراضا متنوعة منها بطيء الزوال وسريعه فإذا توسط في الغذاء وتناول منه قدر الحاجة وكان معتدلا في كميته وكيفيته كان انتفاع البدن به أكثر من انتفاعه بالغذاء الكثير
ومراتب الغذاء ثلاثة : أحدها : مرتبة الحاجة والثانية : مرتبة الكفاية والثالثة : مرتبة الفضلة فأخبر النبي صلى الله عليه و سلم : أنه يكفيه لقيمات يقمن صلبه فلا تسقط قوته ولا تضف معها فإن تجاوزها فليأكل في ثلث بطنه ويدع الثلث الآخر للماء والثالث للنفس وهذا من أنفع ما للبدن والقلب فإن البطن إذا امتلأ من الطعام ضاق عن الشراب فإذا ورد عليه الشراب ضاق عن النفس وعرض له الكرب والتعب بحمله بمنزلة حامل الحمل الثقيل هذا إلى ما يلزم ذلك من فساد القلب وكسل الجوارح عن الطاعات وتحركها في الشهوات التي يستلزمها الشبع فامتلاء البطن من الطعام مضر للقلب والبدن
هذا إذا كان دائما أو أكثريا وأما إذا كان في الأحيان فلا بأس به فقد شرب أبو هريرة بحضرة النبي صلى الله عليه و سلم من اللبن حتى قال : والذي بعثك بالحق لا أجد له مسلكا وأكل الصحابة بحضرته مرارا حتى شبعوا
والشبع المفرط يضعف القوى والبدن وإن أخصبه وإنما يقوى البدن بحسب ما يقبل من الغذاء لا بحسب كثرته
ولما كان في الإنسان جزء أرضي وجزء هوائي وجزء مائي قسم النبي صلى الله عليه و سلم طعامه وشرابه ونفسه على الأجزاء الثلاثة
فإن قيل : فأين حظ الجزء الناري ؟
قيل : هذه مسألة تكلم فيها الأطباء وقالوا : إن في البدن جزءا ناريا بالفعل وهو أحد أركانه واسطقساته
ونازعهم في ذلك آخرون من العقلاء من الأطباء وغيرهم وقالوا : ليس في البدن جزء ناري بالفعل واستدلوا بوجوه :
أحدها : أن ذلك الجزء الناري إما أن يدعى أنه نزل عن الأثير واختلط بهذه الأجزاء المائية والأرضية أو يقال : إنه تولد فيها وتكون والأول مستبعد لوجهين أحدهما : أن النار بالطبع صاعدة فلو نزلت لكانت بقاسر من مركزها إلى هذا العالم الثاني : أن تلك الأجزاء النارية لا بد في نزولها أن تعبر على كرة الزمهرير التي هي في غاية البرد ونحن نشاهد في هذا العالم أن النار العظيمة تنطفئ بالماء القليل فتلك الأجزاء الصغيرة عند مرورها بكرة الزمهرير التي هي في غاية البرد ونهاية العظم أولى بالإنطفاء
وأما الثاني : - وهو أن يقال : إنها تكونت ها هنا - فهو أبعد وأبعد لأن الجسم الذي صار نارا بعد أن لم يكن كذلك قد كان قبل صيرورته إما أرضا وإما ماء وإما هواء لانحصار الأركان في هذه الأربعة وهذا الذي قد صار نارا أولا كان مختلطا بأحد هذه الأجسام ومتصلا بها والجسم الذي لا يكون نارا إذا اختلط بأجسام عظيمة ليست بنار ولا واحد منها لا يكون مستعدا لأن ينقلب نارا لأنه في نفسه ليس بنار والأجسام المختلطة باردة فكيف يكون مستعدا لانقلابه نارا ؟
فإن قلتم : لم لا تكون هناك أجزاء نارية تقلب هذه الأجسام وتجعلها نارا بسبب مخالطتها إياها ؟
قلنا : الكلام في حصول تلك الأجزاء النارية كالكلام في الأول فإن قلتم : إنا نرى من رش الماء على النورة المطفأة تنفصل منها نار وإذا وقع شعاع الشمس على البلورة ظهرت النار منها وإذا ضربنا الحجر على الحديد ظهرت النار وكل هذه النارية حدثت عند الإختلاط وذلك يبطل ما قررتموه في القسم الأول أيضا
قال المنكرون : نحن لا ننكر أن تكون المصاكة الشديدة محدثة للنار كما في ضرب الحجارة على الحديد أو تكون قوة تسخين الشمس محدثة للنار كما في البلورة لكنا نستبعد ذلك جدا في أجرام النبات والحيوان إذ ليس في أجرامها من الإصطكاك ما يوجب حدوث النار ولا فيها من الصفاء والصقال ما يبلغ إلى حد البلورة كيف وشعاع الشمس يقع على ظاهرها فلا تتولد النار
البتة فالشعاع الذي يصل إلى باطنها كيف يولد النار ؟
الوجه الثاني : في أصل المسألة : أن الأطباء مجمعون على أن الشراب العتيق في غاية السخونة بالطبع فلو كانت تلك السخونة بسبب الأجزاء النارية لكانت محالا إذ تلك الأجزاء النارية مع حقارتها كيف يعقل بقاؤها في الأجزاء المائية الغالبة دهرا طويلا بحيث لا تنطفئ مع أنا نرى النار العظيمة تطفأ بالماء القليل
الوجه الثالث : أنه لو كان في الحيوان والنبات جزء ناري بالفعل لكان مغلوبا بالجزء المائي الذي فيه وكان الجزء الناري مقهورا به وغلبة بعض الطبائع والعناصر على بعض يقتضي انقلاب طبيعة المغلوب إلى طبيعة الغالب فكان يلزم بالضرورة انقلاب تلك الأجزاء النارية القليلة جدا إلى طبيعة الماء الذي هو ضد النار
الوجه الرابع : أن الله سبحانه وتعالى ذكر خلق الإنسان في كتابه في مواضع متعددة يخبر في بعضها أنه خلقه من ماء وفي بعضها أنه خلقه من تراب وفي بعضها أنه خلقه من المركب منهما وهو الطين وفي بعضها أنه خلقه من صلصال كالفخار وهو الطين الذي ضربته الشمس والريح حتى صار صلصالا كالفخار ولم يخبر في موضع واحد أنه خلقه من نار بل جعل ذلك خاصية إبليس وثبت في صحيح مسلم : عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم ] وهذا صريح في أنه خلق مما وصفه الله في كتابه فقط ولم يصف لنا سبحانه أنه خلقه من نار ولا أن في مادته شيئا من النار
الوجه الخامس : أن غاية ما يستدلون به ما يشاهدون من الحرارة في أبدان الحيوان وهي دليل على الأجزاء النارية وهذا لا يدل فإن أسباب الحرارة أعم من النار فإنها تكون عن النار تارة وعن الحركة أخرى وعن انعكاس الأشعة وعن سخونة الهواء وعن مجاورة النار وذلك بواسطة سخونة الهواء أيضا وتكون عن أسباب أخر فلا يلزم من الحرارة النار
قال أصحاب النار : من المعلوم أن التراب والماء إذا اختلطا فلا بد لهما من حرارة تقتضي طبخهما وامتزاجهما وإلا كان كل منهما غير ممازج للآخر ولا متحدا به وكذلك إذا ألقينا البذر في الطين بحيث لا يصل إليه الهواء ولا الشمس فسد فلا يخلو إما أن يحصل في المركب جسم منضج طابخ بالطبع أو لا فإن حصل فهو الجزء الناري وإن لم يحصل لم يكن المركب مسخنا بطبعه بل إن سخن كان التسخين عرضيا فإذا زال التسخين العرضي لم يكن الشيء حارا في طبعه ولا في كيفيته وكان باردا مطلقا لكن من الأغذية والأدوية ما يكون حارا بالطبع فعلمنا أن حرارتها إنما كانت لأن فيها جوهرا ناريا
وأيضا فلو لم يكن في البدن جزء مسخن لوجب أن يكون في نهاية البرد لأن الطبيعة إذا كانت مقتضية للبرد وكانت خالية عن المعاون والمعارض وجب انتهاء البرد إلى أقصى الغاية ولو كان كذلك لما حصل لها الإحساس بالبرد لأن البرد الواصل إليه إذا كان في الغاية كان مثله والشئ لا ينفعل عن مثله وإذا لم ينفعل عنه لم يحس به وإذا لم يحس به لم يتألم عنه وإن كان دونه فعدم الإنفعال يكون أولى فلو لم يكن في البدن جزء مسخن بالطبع لما انفعل عن البرد ولا تألم به قالوا : وأدلتكم إنما تبطل قول من يقول : الأجزاء النارية باقية في هذه المركبات على حالها وطبيعتها النارية ونحن لا نقول بذلك بل نقول : إن صورتها النوعية تفسد عند الإمتزاج
قال الآخرون : لم لا يجوز أن يقال : إن الأرض والماء والهواء إذا اختلطت فالحرارة المنضجة الطابخة لها هي حرارة الشمس وسائر الكواكب ثم ذلك المركب عند كمال نضجه مستعد لقبول الهيئة التركيبية بواسطة السخونة نباتا كان أو حيوانا أو معدنا وما المانع أن تلك السخونة والحرارة التي في المركبات هي بسبب خواص وقوى يحدثها الله تعالى عند ذلك الإمتزاج لا من أجزاء نارية بالفعل ؟ ولا سبيل لكم إلى إبطال هذا الإمكان البتة وقد اعترف جماعة من فضلاء الأطباء بذلك
وأما حديث إحساس البدن بالبرد فنقول : هذا يدل على أن في البدن حرارة وتسخينا ومن ينكر ذلك ؟ لكن ما الدليل على انحصار المسخن في النار فإنه وإن كان كل نار مسخنا فإن هذه القضية لا تنعكس كلية بل عكسها الصادق بعض المسخن نار
وأما قولكم بفساد صورة النار النوعية فأكثر الأطباء على بقاء صورتها النوعية والقول بفسادها قول فاسد قد اعترف بفساده أفضل متأخريكم في كتابه المسمى بالشفا وبرهن على بقاء الأركان أجمع على طبائعها في المركبات وبالله التوفيق (4/16)
فصل
وكان علاجه صلى الله عليه و سلم للمرض ثلاثة أنواع
أحدها : بالأدوية الطبيعية
والثاني : بالأدوية الإلهية
والثالث : بالمركب من الأمرين
ونحن نذكر الأنواع الثلاثة من هديه صلى الله عليه و سلم فنبدأ بذكر الأدوية الطبيعية التي وصفها واستعملها ثم نذكر الأدوية الإلهية ثم المركبة
وهذا إنما نشير إليه إشارة فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم إنما بعث هاديا وداعيا إلى الله وإلى جنته ومعرفا بالله ومبينا للأمة مواقع رضاه وآمرا لهم بها ومواقع سخطه وناهيا لهم عنها ومخبرهم أخبار الأنبياء والرسل وأحوالهم مع أممهم
وأخبار تخليق العالم وأمر المبدأ والمعاد وكيفية شقاوة النفوس وسعادتها وأسباب ذلك
وأما طب الأبدان : فجاء من تكميل شريعته ومقصودا لغيره بحيث إنما يستعمل عند الحاجة إليه فإذا قدر على الإستغناء عنه كان صرف الهمم والقوى إلى علاج القلوب والأرواح وحفظ صحتها ودفع أسقامها وحميتها مما يفسدها هو المقصود بالقصد الأول وإصلاح البدن بدون إصلاح القلب لا ينفع وفساد البدن مع إصلاح القلب مضرته يسيرة جدا وهي مضرة زائلة تعقبها المنفعة الدائمة التامة وبالله التوفيق (4/22)
ذكر القسم الأول وهو العلاج بالأدوية الطبيعية
فصل
في هديه في علاج الحمى
ثبت في الصحيحين : عن نافع عن ابن عمر أن النبى صلى الله عليه و سلم قال : [ إنما الحمى أو شدة الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء ]
وقد أشكل هذا الحديث على كثير من جهلة الأطباء ورأوه منافيا لدواء الحمى وعلاجها ونحن نبين بحول الله وقوته وجهه وفقهه فنقول : خطاب النبي صلى الله عليه و سلم نوعان : عام لأهل الأرض وخاص ببعضهم فالأول : كعامة خطابه والثاني : كقوله : [ لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ولا تستدبروها ولكن شرقوا أو غربوا ] فهذا ليس بخطاب لأهل المشرق والمغرب ولا العراق ولكن لأهل المدينة وما على سمتها كالشام وغيرها وكذلك قوله : [ ما بين المشرق والمغرب قبلة ]
وإذا عرف هذا فخطابه في هذا الحديث خاص بأهل الحجاز وما والاهم إذ كان أكثر الحميات التي تعرض لهم من نوع الحمى اليومية العرضية الحادثة عن شدة حرارة الشمس وهذه ينفعها الماء البارد شربا واغتسالا فإن الحمى حرارة غريبة تشتعل في القلب وتنبث منه بتوسط الروح والدم في الشرايين والعروق إلى جميع البدن فتشتعل فيه اشتعالا يضر بالأفعال الطبيعية وهي تنقسم إلى قسمين : عرضية : وهي الحادثة إما عن الورم أو الحركة أو إصابة حرارة الشمس أو القيظ الشديد ونحو ذلك
ومرضية : وهي ثلاثة أنواع وهي لا تكون إلا في مادة أولى ثم منها يسخن جميع البدن فإن كان مبدأ تعلقها بالروح سميت حمى يوم لأنها في الغالب تزول في يوم ونهايتها ثلاثة أيام وإن كان مبدأ تعلقها بالأخلاط سميت عفنية وهي أربعة أصناف : صفراوية وسوداوية وبلغمية ودموية وإن كان مبدأ تعلقها بالأعضاء الصلبة الأصلية سميت حمى دق وتحت هذه الأنواع أصناف كثيرة
وقد ينتفع البدن بالحمى انتفاعا عظيما لا يبلغه الدواء وكثيرا ما يكون حمى يوم وحمى العفن سببا لإنضاج مواد غليظة لم تكن تنضج بدونها وسببا لتفتح سدد لم يكن تصل إليها الأدوية المفتحة
وأما الرمد الحديث والمتقادم فإنها تبرئ أكثر أنواعه برءا عجيبا سريعا وتنفع من الفالج واللقوة والتشنج الإمتلائي وكثيرا من الأمراض الحادثة عن الفضول الغليظة
وقال لي بعض فضلاء الأطباء : إن كثيرا من الأمراض نستبشر فيها بالحمى كما يستبشر المريض بالعافية فتكون الحمى فيه أنفع من شرب الدواء بكثير فإنها تنضج من الأخلاط والمواد الفاسدة ما يضر بالبدن فإذا أنضجتها صادفها الدواء متهيئة للخروج بنضاجها فأخرجها فكانت سببا للشفاء
وإذا عرف هذا فيجوز أن يكون مراد الحديث من أقسام الحميات العرضية فإنها تسكن على المكان بالإنغماس في الماء البارد وسقي الماء البارد المثلوج ولا يحتاج صاحبها مع ذلك إلى علاج آخر فإنها مجرد كيفية حارة متعلقة بالروح فيكفي في زوالها مجرد وصول كيفية باردة تسكنها وتخمد لهبها من غير حاجة إلى استفراغ مادة أو انتظار نضج
ويجوز أن يراد به جميع أنواع الحميات وقد اعترف فاضل الأطباء جالينوس : بأن الماء البارد ينفع فيها قال في المقالة العاشرة من كتاب حيلة البرء : ولو أن رجلا شابا حسن اللحم خصب البدن في وقت القيظ وفي وقت منتهى الحمى وليس في أحشائه ورم استحم بماء بارد أو سبح فيه لانتفع بذلك قال : ونحن نأمر بذلك لا توقف
وقال الرازي في كتابه الكبير : إذا كانت القوة قوية والحمى حادة جدا والنضج بين ولا ورم في الجوف ولا فتق ينفع الماء البارد شربا وإن كان العليل خصب البدن والزمان حار وكان معتادا لاستعمال الماء البارد من خارج فليؤذن فيه
وقوله : [ الحمى من فيح جهنم ] هو شدة لهبها وانتشارها ونظيره : قوله : [ شدة الحر من فيح جهنم ] وفيه وجهان
أحدهما : أن ذلك أنموذج ورقيقة اشتقت من جهنم ليستدل بها العباد عليها ويعتبروا بها ثم إن الله سبحانه قدر ظهورها بأسباب تقتضيها كما أن الروح والفرح و السرور واللذة من نعيم الجنة أظهرها الله في هذه الدار عبرة ودلالة وقدر ظهورها بأسباب توجبها
والثاني : أن يكون المراد التشبيه فشبه شدة الحمى ولهبها بفيح جهنم وشبه شدة الحر به أيضا تنبيها للنفوس على شدة عذاب النار وأن هذه الحرارة العظيمة مشبهة بفيحها وهو ما يصيب من قرب منها من حرها
وقوله : فأبردوها روي بوجهين : بقطع الهمزة وفتحها رباعي : من أبرد الشئ : إذا صيره باردا مثل أسخنه : إذا صيره سخنا
والثاني : بهمزة الوصل مضمومة من برد الشئ يبرده وهو أفصح لغة واستعمالا والرباعي لغة رديئة عندهم قال :
( إذا وجدت لهيب الحب في كبدي ... أقبلت نحو سقاء القوم أبترد )
( هبني بردت ببرد الماء ظاهره ... فمن لنار علي الأحشاء تتقد )
وقوله : بالماء فيه قولان أحدهما : أنه كل ماء وهو الصحيح والثاني : أنه ماء زمزم واحتج أصحاب هذا القول بما رواه البخاري في صحيحه عن أبي جمرة نصر بن عمران الضبعي قال : كنت أجالس ابن عباس بمكة فأخذتني الحمى فقال : أبردها عنك بماء زمزم فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إن الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء أو قال : بماء زمزم ] وراوي هذا قد شك فيه ولو جزم به لكان أمرا لأهل مكة بماء زمزم إذ هو متيسر عندهم ولغيرهم بما عندهم من الماء
ثم اختلف من قال : إنه على عمومه هل المراد به الصدقة بالماء أو استعماله ؟ على قولين والصحيح أنه استعمال وأظن أن الذي حمل من قال : المراد الصدقة به أنه أشكل عليه استعمال الماء البارد في الحمى ولم يفهم وجهه مع أن لقوله وجها حسنا وهو أن الجزاء من جنس العمل فكما أخمد لهيب العطش عن الظمآن بالماء البارد أخمد الله لهيب الحمى عنه جزاء وفاقا ولكن هذا يؤخذ من فقه الحديث وإشارته وأما المراد به فاستعماله
وقد ذكر أبو نعيم وغيره من حديث أنس يرفعه : [ إذا حم أحدكم فليرش عليه الماء البارد ثلاث ليال من السحر ]
وفي سنن ابن ماجه عن أبي هريرة يرفعه : [ الحمى كير من كير جهنم فنحوها عنكم بالماء البارد ]
وفي المسند وغيره من حديث الحسن عن سمرة يرفعه : [ الحمى قطعة من النار فأبردوها عنكم بالماء البارد ] وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا حم دعا بقربة من ماء فأفرغها على رأسه فاغتسل
وفي السنن : من حديث أبي هريرة قال : ذكرت الحمى عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فسبها رجل فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا تسبها فإنها تنفي الذنوب كما تنفي النار خبث الحديد ]
لما كانت الحمى يتبعها حمية عن الأغذية الرديئة وتناول الأغذية والأدوية النافعة وفي ذلك إعانة على تنقية البدن ونفي أخباثه وفضوله وتصفيته من مواده الرديئة وتفعل فيه كما تفعل النار في الحديد في نفي خبثه وتصفية جوهره كانت أشبه الأشياء بنار الكير التي تصفي جوهر الحديد وهذا القدر هو المعلوم عند أطباء الأبدان
وأما تصفيتها القلب من وسخه ودرنه وإخراجها خبائثه فأمر يعلمه أطباء القلوب ويجدونه كما أخبرهم به نبيهم رسول الله صلى الله عليه و سلم ولكن مرض القلب إذا صار مأيوسا من برئه لم ينفع فيه هذا العلاج
فالحمى تنفع البدن والقلب وما كان بهذه المثابة فسبه ظلم وعدوان وذكرت مرة وأنا محموم قول بعض الشعراء يسبها :
( زارت مكفرة الذنوب وودعت ... تبا لها من زائر ومودع )
( قالت وقد عزمت على ترحالها ... ماذا تريد فقلت أن لا ترجعي )
فقلت : تبا له إذ سب ما نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن سبه ولو قال :
( زارت مكفرة الذنوب لصبها ... أهلا بها من زائر ومودع )
( قالت وقد عزمت على ترحالها ... ماذا تريد فقلت : أن لا تقلعي )
لكان أولى به ولأقلعت عنه فأقلعت عني سريعا وقد روي في أثر لا أعرف حاله حمى يوم كفارة سنة وفيه قولان أحدهما : أن الحمى تدخل في كل الأعضاء والمفاصل وعدتها ثلاثمائة وستون مفصلا فتكفر عنه - بعدد كل مفصل - ذنوب يوم والثاني : أنها تؤثر في البدن تأثيرا لا يزول بالكلية إلى سنة كما قيل في قوله صلى الله عليه و سلم : [ من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين يوما ] : إن أثر الخمر يبقى في جوف العبد وعروقه وأعضائه أربعين يوما والله أعلم
قال أبو هريرة : ما من مرض يصيبني أحب إلي من الحمى لأنها تدخل في كل عضو مني وإن الله سبحانه يعطي كل عضو حظه من الأجر
وقد روى الترمذي في جامعه من حديث رافع بن خديج يرفعه : [ إذا أصابت أحدكم الحمى - وإن الحمى قطعة من النار - فليطفئها بالماء البارد ويستقبل نهرا جاريا فليستقبل جرية الماء بعد الفجر وقبل طلوع الشمس وليقل : بسم الله اللهم اشف عبدك وصدق رسولك وينغمس فيه ثلاث غمسات ثلاثة أيام فان برئ والإ ففى خمس فإن لم يبرأ في خمس فسبع فإن لم يبرأ في سبع فتسع فإنها لا تكاد تجاوز تسعا بإذن الله ]
قلت : وهو ينفع فعله في فصل الصيف في البلاد الحارة على الشرائط التي تقدمت فإن الماء في ذلك الوقت أبرد ما يكون لبعده عن ملاقاة الشمس ووفور القوى في ذلك الوقت لما أفادها النوم والسكون وبرد الهواء فتجتمع فيه قوة القوى وقوة الدواء وهو الماء البارد على حرارة الحمى العرضية أو الغب الخالصة أعني التي لا ورم معها ولا شئ من الأعراض الرديئة والمواد الفاسدة فيطفئها بإذن الله لا سيما في أحد الأيام المذكورة في الحديث وهي الأيام التي يقع فيها بحران الأمراض الحادة كثيرا سيما في البلاد المذكورة لرقة أخلاط سكانها وسرعة انفعالهم عن الدواء النافع (4/23)
فصل
في هديه في علاج استطلاق البطن
في الصحيحين : من حديث أبي المتوكل عن أبي سعيد الخدري [ أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : إن أخي يشتكي بطنه : وفي رواية : استطلق بطنه فقال : اسقه عسلا فذهب ثم رجع فقال : قد سقيته فلم يغن عنه شيئا وفي لفظ : فلم يزده إلا استطلاقا مرتين أو ثلاثا كل ذلك يقول له : اسقه عسلا فقال له في الثالثة أو الرابعة : صدق الله وكذب بطن أخيك ]
وفي صحيح مسلم في لفظ له : [ إن أخي عرب بطنه ] أي فسد هضمه واعتلت معدته والاسم العرب بفتح الراء والذرب أيضا
والعسل فيه منافع عظيمة فإنه جلاء للأوساخ التي في العروق والأمعاء وغيرها محلل للرطوبات أكلا وطلاء نافع للمشايخ وأصحاب البلغم ومن كان مزاجه باردا رطبا وهو مغذ ملين للطبيعة حافظ لقوى المعاجين ولما استودع فيه مذهب لكيفيات الأدوية الكريهة منق للكبد والصدر مدر للبول موافق للسعال الكائن عن البلغم وإذا شرب حارا بدهن الورد نفع من نهش
الهوام وشرب الأفيون وإن شرب وحده ممزوجا بماء نفع من عضة الكلب الكلب وأكل الفطر القتال وإذا جعل فيه اللحم الطري حفظ طراوته ثلاثة أشهر وكذلك إن جعل فيه القثاء والخيار والقرع والباذنجان ويحفظ كثيرا من الفاكهة ستة أشهر ويحفظ جثة الموتى ويسمى الحافظ الأمين وإذا لطخ به البدن المقمل والشعر قتل قمله وصئبانه وطول الشعر وحسنه ونعمه وإن اكتحل به جلا ظلمة البصر وإن استن به بيض الأسنان وصقلها وحفظ صحتها وصحة اللثة ويفتح أفواه العروق ويدر الطمث ولعقه على الريق يذهب البلغم ويغسل خمل المعدة ويدفع الفضلات عنها ويسخنها تسخينا معتدلا ويفتح سددها ويفعل ذلك بالكبد والكلى والمثانة وهو أقل ضررا لسدد الكبد والطحال من كل حلو
وهو مع هذا كله مأمون الغائلة قليل المضار مضر بالعرض للصفراويين ودفعها بالخل ونحوه فيعود حينئذ نافعا له جدا
وهو غذاء مع الأغذية ودواء مع الأدوية وشراب مع الأشربة وحلو مع الحلوى وطلاء مع الأطلية ومفرح مع المفرحات فما خلق لنا شئ فى في معناه أفضل منه ولا مثله ولا قريبا منه ولم يكن معول القدماء إلا عليه وأكثر كتب القدماء لا ذكر فيها للسكر البتة ولا يعرفونه فإنه حديث العهد حدث قريبا وكان النبي صلى الله عليه و سلم يشربه بالماء على الريق وفي ذلك سر بديع في حفظ الصحة لا يدركه إلا الفطن الفاضل وسنذكر ذلك إن شاء الله عند ذكر هديه في حفظ الصحة
وفي سنن ابن ماجه مرفوعا من حديث أبي هريرة [ من لعق العسل ثلاث غدوات كل شهر لم يصبه عظيم من البلاء ] وفي أثر آخر : [ عليكم بالشفاءين : العسل والقرآن ] فجمع بين الطب البشري والإلهي وبين طب الأبدان وطب الأرواح وبين الدواء الأرضي والدواء السمائي
إذا عرف هذا فهذا الذي وصف له النبي صلى الله عليه و سلم العسل كان استطلاق بطنه عن تخمة أصابته عن امتلاء فأمره بشرب العسل لدفع الفضول المجتمعة في نواحي المعدة والأمعاء فإن العسل فيه جلاء ودفع للفضول وكان قد أصاب المعدة أخلاط لزجة تمنع استقرار الغذاء فيها للزوجتها فإن المعدة لها خمل كخمل القطيفة فإذا علقت بها الأخلاط اللزجة أفسدتها وأفسدت الغذاء فدواؤها بما يجلوها من تلك الأخلاط والعسل جلاء والعسل من أحسن ما عولج به هذا الداء لا سيما إن مزج بالماء الحار
وفي تكرار سقيه العسل معنى طبي بديع وهو أن الدواء يجب أن يكون له مقدار وكمية بحسب حال الداء إن قصر عنه لم يزله بالكلية وإن جاوزه أوهى القوى فأحدث ضررا آخر فلما أمره أن يسقيه العسل سقاه مقدارا لا يفي بمقاومة الداء ولا يبلغ الغرض فلما أخبره علم أن الذي سقاه لا يبلغ مقدار الحاجة فلما تكرر ترداده إلى النبي صلى الله عليه و سلم أكد عليه المعاودة ليصل إلى المقدار المقاوم للداء فلما تكررت الشربات بحسب مادة الداء برأ بإذن الله واعتبار مقادير الأدوية وكيفياتها ومقدار قوة المرض مرض من أكبر قواعد الطب
وفي قوله صلى الله عليه و سلم : [ صدق الله وكذب بطن أخيك ] إشارة إلى تحقيق نفع هذا الدواء وأن بقاء الداء ليس لقصور الدواء في نفسه ولكن لكذب البطن و كثرة المادة الفاسدة فيه فأمره بتكرار الدواء لكثرة المادة
وليس طبه صلى الله عليه و سلم كطب الأطباء فإن طب النبي صلى الله عليه و سلم متيقن قطعي إلهي صادر عن الوحي ومشكاة النبوة وكمال العقل وطب غيره أكثره حدس وظنون وتجارب ولا ينكر عدم انتفاع كثير من المرضى بطب النبوة فإنه إنما ينتفع به من تلقاه بالقبول واعتقاد الشفاء به وكمال التلقي له بالإيمان والإذعان فهذا القرآن الذي هو شفاء لما في الصدور - إن لم يتلق هذا التلقي - لم يحصل به شفاء الصدور من أدوائها بل لا يزيد المنافقين إلا رجسا إلى رجسهم ومرضا إلى مرضهم وأين يقع طب الأبدان منه فطب النبوة لا يناسب إلا الأبدان الطبية كما أن شفاء القرآن لا يناسب إلا الأرواح الطبية والقلوب الحية فإعراض الناس عن طب النبوة كإعراضهم عن طب الإستشفاء بالقرآن الذي هو الشفاء النافع وليس ذلك لقصور فى الدواء ولكن لخبث الطبيعة وفساد المحل وعدم قبوله والله الموفق (4/30)
فصل
وقد اختلف الناس في قوله تعالى : { يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس } [ النحل : 69 ] هل الضمير في فيه راجع إلى الشراب أو راجع إلى القرآن ؟ على قولين : الصحيح : رجوعه إلى الشراب وهو قول ابن مسعود وابن عباس والحسن وقتادة والأكثرين فإنه هو المذكور والكلام سيق لأجله ولا ذكر للقرآن فى الآية وهذا الحديث الصحيح وهو قوله : صدق الله كالصريح فيه والله تعالى أعلم (4/34)
فصل
فى هديه في الطاعون وعلاجه والاحتراز منه
في الصحيحين عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه أنه سمعه يسأل أسامة بن زيد : ماذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه و سلم في الطاعون ؟ فقال أسامة : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ الطاعون رجز أرسل على طائفة من بني إسرائيل وعلى من كان قبلكم فإذا سمعتم به بأرض فلا تدخلوا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها فرارا منه ]
وفي الصحيحين أيضا : عن حفصة بنت سيرين قالت : قال أنس بن مالك : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ الطاعون شهادة لكل مسلم ]
الطاعون - من حيث اللغة - نوع من الوباء قاله صاحب الصحاح وهو عند أهل الطب : ورم رديء قتال يخرج معه تلهب شديد مؤلم جدا يتجاوز المقدار في ذلك ويصير ما حوله في الأكثر أسود أو أخضر أو أكمد ويؤول أمره إلى التقرح سريعا وفي الأكثر يحدث في ثلاثة مواضع : في الإبط وخلف الأذن والأرنبة وفي اللحوم الرخوة
وفي أثر عن عائشة أنها قالت للنبي صلى الله عليه و سلم : الطعن قد عرفناه فما الطاعون ؟ قال : [ غدة كغدة البعير يخرج في المراق والإبط ]
قال الأطباء : إذا وقع الخراج في اللحوم الرخوة والمغابن وخلف الأذن والأرنبة وكان من جنس فاسد سمي طاعونا وسببه دم رديء مائل إلى العفونة والفساد مستحيل إلى جوهر سمي يفسد العضو ويغير ما يليه وربما رشح دما وصديدا ويؤدي إلى القلب كيفية رديئة فيحدث القئ والخفقان والغشي وهذا الإسم وإن كان يعم كل ورم يؤدي إلى القلب كيفية رديئة حتى يصير لذلك قتالا فإنه يختص به الحادث في اللحم الغددي لأنه لردائته لا يقبله من الأعضاء إلا ما كان أضعف بالطبع وأردؤه ما حدث في الإبط وخلف الأذن لقربهما من الأعضاء التي هي أرأس وأسلمه الأحمر ثم الأصفر والذي إلى السواد فلا يفلت منه أحد
ولما كان الطاعون يكثر في الوباء وفي البلاد الوبيئة عبر عنه بالوباء كما قال الخليل : الوباء : الطاعون وقيل : هو كل مرض يعم والتحقيق أن بين الوباء والطاعون عمومأ وخصوصا فكل طاعون وباء وليس كل وباء طاعونا وكذلك الأمراض العامة أعم من الطاعون فإنه واحد منها والطواعين خراجات وقروح وأورام رديئة حادثة في المواضع المتقدم ذكرها
قلت : هذه القروح والأورام والجراحات هي آثار الطاعون وليست نفسه ولكن الأطباء لما لم تدرك منه إلا الأثر الظاهر جعلوه نفس الطاعون
والطاعون يعبر به عن ثلاثة أمور :
أحدها : هذا الأثر الظاهر وهو الذي ذكره الأطباء
والثاني : الموت الحادث عنه وهو المراد بالحديث الصحيح في قوله : [ الطاعون شهادة لكل مسلم ]
والثالث : السبب الفاعل لهذا الداء وقد ورد في الحديث الصحيح : [ أنه بقية رجز أرسل على بني إسرائيل ] وورد فيه [ أنه وخز الجن ] وجاء أنه دعوة نبي
وهذه العلل والأسباب ليس عند الأطباء ما يدفعها كما ليس عندهم ما يدل عليها والرسل تخبر بالأمور الغائبة وهذه الآثار التي أدركوها من أمر الطاعون ليس معهم ما ينفي أن تكون بتوسط الأرواح فإن تأثير الأرواح في الطبيعة وأمراضها وهلاكها أمر لا ينكره إلا من هو أجهل الناس بالأرواح وتأثيراتها وانفعال الأجسام وطبائعها عنها والله سبحانه قد يجعل لهذه الأرواح تصرفا في أجسام بني آدم عند حدوث الوباء وفساد الهواء كما يجعل لها تصرفا عند بعض المواد الرديئة التي تحدث للنفوس هيئة رديئة ولا سيما عند هيجان الدم والمرة السوداء وعند هيجان المني فإن الأرواح الشيطانية تتمكن من فعلها بصاحب هذه العوارض ما لا تتمكن من غيره ما لم يدفعها دافع أقوى من هذه الأسباب من الذكر والدعاء والإبتهال والتضرع والصدقة وقراءة القرآن فإنه يستنزل بذلك من الأرواح الملكية ما يقهر هذه الأرواح الخبيثة ويبطل شرها ويدفع تأثيرها وقد جربنا نحن وغيرنا هذا مرارا لا يحصيها إلا الله ورأينا لاستنزال هذه الأرواح الطيبة واستجلاب قربها تأثيرا عظيما في تقوية الطبيعة ودفع المواد الرديئة وهذا يكون قبل استحكامها وتمكنها ولا يكاد ينخرم فمن وفقه الله بادر عند إحساسه بأسباب الشر إلى هذه الأسباب التي تدفعها عنه وهي له من أنفع الدواء وإذا أراد الله عز و جل إنفاذ قضائه وقدره أغفل قلب العبد عن معرفتها وتصؤرها وإرادتها فلا يشعر بها ولا يريدها ليقضي الله فيه أمرا كان مفعولا
وسنزيد هذا المعنى إن شاء الله تعالى إيضاحا وبيانا عند الكلام على التداوي بالرقى والعوذ النبوية والأذكار والدعوات وفعل الخيرات ونبين أن نسبة طب الأطباء إلى هذا الطب النبوي كنسبة طب الطرقية والعجائز إلى طبهم كما اعترف به حذاقهم وأئمتهم ونبين أن الطبيعة الإنسانية أشد شئ انفعالا عن الأرواح وأن قوى العوذ والرقى والدعوات فوق قوى الأدوية حتى إنها تبطل قوى السموم القاتلة
والمقصود : أن فساد الهواء جزء من أجزاء السبب التام والعلة الفاعلة للطاعون فإن فساد جوهر الهواء الموجب لحدوث الوباء وفساده يكون لاستحالة جوهره إلى الرداءة لغلبة إحدى الكيفيات الرديئة عليه كالعفونة والنتن والسمية في أي وقت كان من أوقات السنة وإن كان أكثر حدوثه في أواخر الصيف وفي الخريف غالبا لكثرة اجتماع الفضلات المرارية الحادة وغيرها في
فصل الصيف وعدم تحللها في آخره وفي الخريف لبرد الجو وردغة الأبخرة والفضلات التي كانت تتحلل في زمن الصيف فتحصر فتسخن وتعفن فتحدث الأمراض العفنة ولا سيما إذا صادفت البدن مستعدا قابلا رهلا قليل الحركة كثير المواد فهذا لا يكاد يفلت من العطب
وأصح الفصول فيه فصل الربيع قال بقراط : إن في الخريف أشد ما تكون من الأمراض وأقتل وأما الربيع فأصح الأوقات كلها وأقلها موتا وقد جرت عادة الصيادلة ومجهزي الموتى أنهم يستدينون ويتسلفون في الربيع والصيف على فصل الخريف فهو ربيعهم وهم أشوق شئ إليه وأفرح بقدومه وقد روي في حديث : [ إذا طلع النجم ارتفعت العاهة عن كل بلد ] وفسر بطلوع الثريا وفسر بطلوع النبات زمن الربيع ومنه { والنجم والشجر يسجدان } [ الرحمن : 7 ] فإن كمال طلوعه وتمامه يكون في فصل الربيع وهو الفصل الذي ترتفع فيه الآفات
أما الثريا فالأمراض تكثر وقت طلوعها مع الفجر وسقوطها
قال التميمي في كتاب مادة البقاء : أشد أوقات السنة فسادا وأعظمها بلية على الأجساد وقتان أحدهما : وقت سقوط الثريا للمغيب عند طلوع الفجر
والثاني : وقت طلوعها من المشرق قبل طلوع الشمس على العالم بمنزلة من منازل القمر وهو وقت تصرم فصل الربيع وانقضائه غير أن الفساد الكائن عند طلوعها أقل ضررا من الفساد الكائن عند سقوطها
وقال أبو محمد بن قتيبة : يقال : ما طلعت الثريا ولا نأت إلا بعاهة في الناس والإبل وغروبها أعوه من طلوعها
وفي الحديث قول ثالث - ولعله أولى الأقوال به - أن المراد بالنجم : الثريا وبالعاهة : الآفة التي تلحق الزروع والثمار في فصل الشتاء وصدر فصل الربيع فحصل الأمن عليها عند طلوع الثريا في الوقت المذكور ولذلك نهى صلى الله عليه و سلم عن بيع الثمرة وشرائها قبل أن يبدو صلاحها والمقصود : الكلام على هديه صلى الله عليه و سلم عند وقوع الطاعون (4/34)
فصل
وقد جمع النبي صلى الله عليه و سلم للأمة في نهجه عن الدخول إلى الأرض التي هو بها ونهيه عن الخروج منها بعد وقوعه كمال التحرز منه فإن في الدخول في الأرض التي هو بها تعرضا للبلاء وموافاة له في محل سلطانه وإعانة للإنسان على نفسه وهذا مخالف للشرع والعقل بل تجنب الدخول إلى أرضه من باب الحمية التي أرشد الله سبحانه إليها وهي حمية عن الأمكنة والأهوية المؤذية
وأما نهيه عن الخروج من بلده ففيه معنيان :
أحدهما : حمل النفوس على الثقة بالله والتوكل عليه والصبر على أقضيته والرضى بها
والثاني : ما قاله أئمة الطب : أنه يجب على كل محترز من الوباء أن يخرج عن بدنه الرطوبات الفضلية ويقلل الغذاء ويميل إلى التدبير المجفف من كل وجه إلا الرياضة والحمام فإنهما مما يجب أن يحذرا لأن البدن لا يخلو غالبا من فضل رديء كامن فيه فتثيره الرياضة والحمام ويخلطانه بالكيموس الجيد وذلك يجلب علة عظيمة بل يجب عند وقوع الطاعون السكون والدعة وتسكين هيجان الأخلاط ولا يمكن الخروج من أرض الوباء والسفر منها إلا بحركة شديدة وهي مضرة جدا هذا كلام أفضل الأطباء المتأخرين فظهر المعنى الطبي من الحديث النبوي وما فيه من علاج القلب والبدن وصلاحهما
فإن قيل : ففي قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا تخرجوا فرارا منه ] ما يبطل أن يكون أراد هذا المعنى الذي ذكرتموه وأنه لا يمنع الخروج لعارض ولا يحبس مسافرا عن سفره ؟ قيل : لم يقل أحد طبيب ولا غيره إن الناس يتركون حركاتهم عند
الطواعين ويصيرون بمنزلة الجمادات وإنما ينبغي فيه التقلل من الحركة بحسب الإمكان والفار منه لا موجب لحركته إلا مجرد الفرار منه ودعته وسكونه أنفع لقلبه وبدنه وأقرب إلى توكله على الله تعالى واستسلامه لقضائه وأما من لا يستغني عن الحركة كالصناع والأجراء والمسافرين والبرد و غيرهم فلا يقال لهم : اتركوا حركاتكم جملة وإن أمروا أن يتركوا منها ما لا حاجة لهم إليه كحركة المسافر فارا منه والله تعالى أعلم
وفي المنع من الدخول إلى الأرض التي قد وقع بها عدة حكم :
أحدها : تجنب الأسباب المؤذية والبعد منها
الثاني : الأخذ بالعافية التي هي مادة المعاش والمعاد
الثالث : أن لا يستنشقوا الهواء الذي قد عفن وفسد فيمرضون
الرابع : أن لا يجاوروا المرضى الذين قد مرضوا بذلك فيحصل لهم بمجاورتهم من جنس أمراضهم
وفي سنن أبي داود مرفوعا : [ إن من القرف التلف ]
قال ابن قتيبة : القرف مداناة الوباء ومداناة المرضى
الخامس : حمية النفوس عن الطيرة والعدوى فإنها تتأثر بهما فإن الطيرة على من تطير بها وبالجملة ففي النهي عن الدخول في أرضه الأمر بالحذر والحمية والنهي عن التعرض لأسباب التلف وفي النهي عن الفرار منه الأمر بالتوكل والتسليم والتفويض فالأول : تأديب وتعليم والثاني : تفويض وتسليم
وفي الصحيح : أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرغ لقيه أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام فاختلفوا فقال لابن عباس : ادع لي المهاجرين الأولين قال : فدعوتهم فاستشارهم وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام فاختلفوا فقال له بعضهم : خرجت لأمر فلا نرى أن ترجع عنه وقال آخرون : معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فلا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء فقال عمر : ارتفعوا عني ثم قال : ادع لي
الأنصار فدعوتهم له فاستشارهم فسلكوا سبيل المهاجرين واختلفوا كاختلافهم فتال : ارتفعوا عني ثم قال : ادع لى من ها هنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح فدعوتهم له فلم يختلف عليه منهم رجلان قالوا : نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء فأذن عمر في الناس إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه فقال أبو عبيدة بن الجراح : يا أمير المؤمنين ! أفرارا من قدر الله تعالى ؟ قال : لو غيرك قالها يا أبا عبيدة نعم نفر من قدر الله تعالى إلى قدر الله تعالى أرأيت لو كان لك إبل فهبطت واديا له عدوتان إحداهما - خصبة والأخرى جدبة ألست إن رعيتها الخصبة رعيتها بقدر الله تعالى وإن رعيتها الجدبة رعيتها بقدر الله تعالى ؟ قال : فجاء عبد الرحمن بن عوف وكان متغيبا في بعض حاجاته فقال : إن عندي في هذا علما سمعت من رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ إذا كان بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه وإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه ] (4/39)
فصل
في هديه في داء الإستسقاء وعلاجه
في الصحيحين : من حديث أنس بن مالك قال : قدم رهط من عرينة وعكل على النبي صلى الله عليه و سلم فاجتووا المدينة فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : [ لو خرجتم إلى إبل الصدقة فشربتم من أبوالها وألبانها ففعلوا فلما صحوا عمدوا إلى الرعاة فقتلوهم واستاقوا الإبل وحاربو الله ورسوله فبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم في آثارهم فأخذوا فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وألقاهم في الشمس حتى ماتوا ]
والدليل على أن هذا المرض كان الإستسقاء ما رواه مسلم في صحيحه في هذا الحديث أنهم قالوا : إنا اجتوينا المدينة فعظمت بطوننا وارتهشت أعضاؤنا وذكر تمام الحديث
والجوى : داء من أدواء الجوف - والإستسقاء : مرض مادي سببه مادة غريبة باردة تتخلل الأعضاء فتربو لها إما الأعضاء الظاهرة كلها وإما المواضع الخالية من النواحي التي فيها تدبير الغذاء والأخلاط وأقسامه ثلاثة : لحمي وهو أصعبها وزقي وطبلي
ولما كانت الأدوية المحتاج إليها فى علاجه هي الأدوية الجالبة التي فيها إطلاق معتدل وإدرار بحسب الحاجة وهذه الأمور موجودة في أبوال الإبل وألبانها أمرهم النبي صلى الله عليه و سلم بشربها فإن في لبن اللقاح جلاء وتليينا وإدرارا وتلطيفا وتفتيحا للسدد إذ كان أكثر رعيها الشيح والقيصوم والبابونج والأقحوان والإذخر وغير ذلك من الأدوية النافعة للإستسقاء
وهذا المرض لا يكون إلا مع آفة في الكبد خاصة أو مع مشاركة وأكثرها عن السدد فيها ولبن اللقاح العربية نافع من السدد لما فيه من التفتيح والمنافع المذكورة
قال الرازي : لبن اللقاح يشفي أوجاع الكبد وفساد المزاج وقال الإسرائيلي : لبن اللقاح أرق الألبان وأكثرها مائية وحدة وأقلها غذاء فلذلك صار أقواها على تلطيف الفضول وإطلاق البطن وتفتيح السدد ويدل على ذلك ملوحته اليسيرة التي فيه لإفراط حرارة حيوانية بالطبع ولذلك صار أخص الألبان بتطرية الكبد وتفتيح سددها وتحليل صلابة الطحال إذا كان حديثا والنفع من الإستسقاء خاصة إذا استعمل لحرارته التي يخرج بها من الضرع مع بول الفصيل وهو حار كما يخرج من الحيوان فإن ذلك مما يزيد في ملوحته وتقطيعه الفضول وإطلاقه البطن فإن تعذر انحداره وإطلاقه البطن وجب أن يطلق بدواء مسهل
قال صاحب القانون : ولا يلتفت إلى ما يقال : من أن طبيعة اللبن مضادة لعلاج الإستسقاء قال : واعلم أن لبن النوق دواء نافع لما فيه من الجلاء برفق وما فيه من خاصية وأن هذا اللبن شديد المنفعة فلو أن إنسانا أقام عليه بدل الماء والطعام شفي به وقد جرب ذلك في قوم دفعوا إلى بلاد العرب فقادتهم الضرورة إلى ذلك فعوفوا وأنفع الأبوال : بول الجمل الأعرابي وهو النجيب انتهى
وفي القصة : دليل على التداوي والتطبب وعلى طهارة بول مأكول اللحم فإن التداوي بالمحرمات غير جائز ولم يؤمروا مع قرب عهدهم بالإسلام بغسل أفواههم وما أصابته ثيابهم من أبوالها للصلاة وتأخير البيان لا يجوز عن وقت الحاجة
وعلى مقاتلة الجاني بمثل ما فعل فإن هؤلاء قتلوا الراعي وسملوا عينيه ثبت ذلك في صحيح مسلم
وعلى قتل الجماعة وأخذ أطرافهم بالواحد
وعلى أنه إذا اجتمع في حق الجاني حد وقصاص استوفيا معا فإن النبي صلى الله عليه و سلم قطع أيديهم وأرجلهم حدا لله على حرابهم وقتلهم لقتلهم الراعي
وعلى أن المحارب إذا أخذ المال وقتل قطعت يده ورجله في مقام واحد وقتل
وعلى أن الجنايات إذا تعددت تغلظت عقوباتها فإن هؤلاء ارتدوا بعد إسلامهم وقتلوا النفس ومثلوا بالمقتول وأخذوا المال وجاهروا بالمحاربة
وعلى أن حكم ردء المحاربين حكم مباشرهم فإنه من المعلوم أن كل واحد منهم لم يباشر القتل بنفسه ولا سأل النبي صلى الله عليه و سلم عن ذلك
وعلى أن قتل الغيلة يوجب قتل القاتل حدا فلا يسقطه العفو ولا تعتبر فيه المكافأة وهذا مذهب أهل المدينة وأحد الوجهين فى مذهب أحمد اختاره شيخنا وأفتى به (4/42)
فصل
في هديه في علاج الجرح
في الصحيحين : [ عن أبي حازم أنه سمع سهل بن سعد يسأل عما دووي به جرح رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم أحد فقال : جرح وجهه وكسرت رباعيته وهشمت البيضة على رأسه وكانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم تغسل الدم وكان علي بن أبي طالب يسكب عليها بالمجن فلما رأت فاطمة الدم لا يزيد إلا كثرة أخذت قطعة حصير فأحرقتها حتى إذا صارت رمادا ألصقته بالجرح فاستمسك الدم ] برماد الحصير المعمول من البردي وله فعل قوي في حبس الدم لأن فيه تجفيفا قويا وقلة لذع فإن الأدوية القوية التجفيف إذا كان فيها لذع هيجت الدم وجلبته وهذا الرماد إذا نفخ وحده أو مع الخل في أنف الراعف قطع رعافه
وقال صاحب القانون : البردي ينفع من النزف ويمنعه ويذر على الجراحات الطرية فيدملها والقرطاس المصري كان قديما يعمل منه ومزاجه بارد يابس ورماده نافع من أكلة الفم ويحبس نفث الدم ويمنع القروح الخبيثة أن تسعى (4/45)
فصل
في هديه في العلاج بشرب العسل والحجامة والكي
في صحيح البخاري : عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ الشفاء في ثلاث : شربة عسل وشرطة محجم وكية نار وأنا أنهى أمتي عن الكي ]
قال أبو عبد الله المازري : الأمراض الإمتلائية : إما أن تكون دموية أو صفراوية أو بلغمية أو سوداوية فإن كانت دموية فشفاؤها إخراج الدم وإن كانت من الأقسام الثلاثة الباقية فشفاؤها بالإسهال الذي يليق بكل خلط منها وكأنه صلى الله عليه و سلم بالعسل على المسهلات وبالحجامة على الفصد وقد قال بعض الناس : إن الفصد يدخل في قوله : شرطة محجم فإذا أعيا الدواء فآخر الطب الكي فذكره صلى الله عليه و سلم في الأدوية لأنه يستعمل عند غلبة الطباع لقوى الأدوية وحيث لا ينفع الدواء المشروب وقوله : وأنا أنهى أمتي عن الكي وفي الحديث الآخر : وما أحب أن أكتوي إشارة إلى أن يؤخر العلاج به حتى تدفع الضرورة إليه ولا يعجل التداوي به لما فيه من استعجال الألم الشديد في دفع ألم قد يكون أضعف من ألم الكي انتهى كلامه
وقال بعض الأطباء : الأمراض المزاجية : إما أن تكون بمادة أو بغير مادة والمادية منها : إما حارة أو باردة أو رطبة أو يابسة أو ما تركب منها وهذه الكيفيات الأربع منها كيفيتان فاعلتان : وهما الحرارة والبرودة وكيفيتان منفعلتان وهما الرطوبة واليبوسة ويلزم من غلبة إحدى الكيفيتين الفاعلتين استصحاب كيفية منفعلة معها وكذلك كان لكل واحد من الأخلاط الموجودة في البدن وسائر المركبات كيفيتان : فاعلة ومنفعلة
فحصل من ذلك أن أصل الأمراض المزاجية هي التابعة لأقوى كيفيات الأخلاط التي هي الحرارة والبرودة فجاء كلام النبوة في أصل معالجة الأمراض التي هي الحارة والباردة على طريق التمثيل فإن كان المرض حارا عالجناه بإخراج الدم بالفصد كان أو بالحجامة لأن في ذلك استفراغا للمادة وتبريدا للمزاج وإن كان باردا عالجناه بالتسخين وذلك موجود في العسل فإن كان يحتاج مع ذلك إلى استفراغ المادة الباردة فالعسل أيضا يفعل في ذلك لما فيه من الإنضاج والتقطيع والتلطيف والجلاء والتليين فيحصل بذلك استفراغ تلك المادة برفق وأمن من نكاية المسهلات القوية
وأما الكي : فلأن كل واحد من الأمراض المادية إما أن يكون حادا فيكون سريع الإفضاء لأحد الطرفين فلا يحتاج إليه فيه وإما أن يكون مزمنا وأفضل علاجه بعد الإستفراغ الكي في الأعضاء التي يجوز فيها الكي لأنه لا يكون مزمنا إلا عن مادة باردة غليظة قد رسخت في العضو وأفسدت مزاجه وأحالت جميع ما يصل إليه إلى مشابهة جوهرها فيشتعل في ذلك العضو فيستخرج بالكي تلك المادة من ذلك المكان الذي هو فيه بإفناء الجزء الناري الموجود بالكي لتلك المادة
فتعلمنا بهذا الحديث الشريف أخذ معالجة الأمراض المادية جميعها كما استنبطنا معالجة الأمراض الساذجة من قوله صلى الله عليه و سلم : [ إن شدة الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء ] (4/46)
فصل
وأما الحجامة ففي سنن ابن ماجه من حديث جبارة بن المغلس - وهو ضعيف - عن كثير بن سليم قال : سمعت أنس بن مالك يقول : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ما مررت ليلة أسري بي بملإ إلا قالوا : يا محمد ! مر أمتك بالحجامة ]
وروى الترمذي في جامعه من حديث ابن عباس هذا الحديث : وقال فيه : [ عليك بالحجامة يا محمد ]
وفي الصحيحين : من حديث طاووس عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم : [ احتجم وأعطى الحجام أجره ]
وفي الصحيحين أيضا عن حميد الطويل عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم حجمه أبو طيبة فأمر له بصاعين من طعام وكلم مواليه فخففوا عنه من ضريبته وقال : [ خير ما تداويتم به الحجامة ]
وفي جامع الترمذي عن عباد بن منصور قال : سمعت عكرمة يقول : كان لابن عباس غلمة ثلاثة حجامون فكان اثنان يغلان عليه وعلى أهله وواحد لحجمه وحجم أهله قال : وقال ابن عباس : قال نبي الله صلى الله عليه و سلم : [ نعم العبد الحجام يذهب بالدم ويخف الصلب ويجلو البصر ] وقال : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم حيث عرج به ما مر على ملإ من الملائكه إلا قالوا : [ عليك بالحجامة ] وقال : [ إن خير ما تحتجمون فيه يوم سبع عشرة ويوم تسع عشرة ويوم إحدى وعشرين ] وقال : [ إن خير ما تداويتم به السعوط واللدود والحجامة والمشي ] وإن رسول الله صلى الله عليه و سلم لد فقال : [ من لدني ؟ فكلهم أمسكوا فقال : لا يبقى أحد في البيت إلا لد إلا العباس ] قال : هذا حديث غريب ورواه ابن ماجه (4/48)
فصل
وأما منافع الحجامة : فإنها تنقي سطح البدن أكثر من الفصد والفصد لأعماق البدن أفضل والحجامة تستخرج الدم من نواحي الجلد
قلت : والتحقيق في أمرها وأمر الفصد أنهما يختلفان باختلاف الزمان والمكان والأسنان والأمزجة فالبلاد الحارة والأزمنة الحارة والأمزجة الحارة التي دم أصحابها في غاية النضج الحجامة فيها أنفع من الفصد بكثير فإن الدم ينضج ويرق ويخرج إلى سطح الجسد الداخل فتخرج الحجامة ما لا يخرجه الفصد ولذلك كانت أنفع للصبيان من الفصد ولمن لا يقوى على الفصد وقد نص الأطباء على أن البلاد الحارة الحجامة فيها أنفع وأفضل من الفصد وتستحب في وسط الشهر وبعد وسطه وبالجملة في الربع الثالث من أرباع الشهر لأن الدم في أول الشهر لم يكن بعد قد هاج وتبيغ وفي آخره يكون قد سكن وأما في وسطه وبعيده فيكون في نهاية التزيد
قال صاحب القانون : ويؤمر باستعمال الحجامة لا في أول الشهر لأن الأخلاط لا تكون قد تحركت وهاجت ولا في آخره لأنها تكون قد نقصت بل في وسط الشهر حين تكون الأخلاط هائجة بالغة في تزايدها لتزيد النور في جرم القمر وقد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ خير ما تداويتم به الحجامة والفصد ] وفي حديث : [ خير الدواء الحجامة والفصد ] انتهى
وقوله صلى الله عليه و سلم : [ خير ما تداويتم به الحجامة ] إشارة إلى أهل الحجاز والبلاد الحارة لأن دماءهم رقيقة وهي أميل الى ظاهر أبدانهم لجذب الحرارة الخارجة لها إلى سطح الجسد واجتماعها في نواحي الجلد ولأن مسام أبدانهم واسعة وقواهم متخلخلة ففي الفصد لهم خطر والحجامة تفرق اتصالي إرادي يتبعه استفراغ كلي من العروق وخاصة العروق التي لا تفصد كثيرا ولفصد كل واحد منها نفع خاص ففصد الباسليق : ينفع من حرارة الكبد والطحال والأورام الكائنة فيهما من الدم وينفع من أورام الرئة وينفع من الشوصة وذات الجنب وجميع الأمراض الدموية العارضة من أسفل الركبة إلى الورك
وفصد الأكحل : ينفع من الإمتلاء العارض في جميع البدن إذا كان دمويا وكذلك إذا كان الدم قد فسد في جميع البدن
وفصد القيفال : ينفع من العلل العارضة في الرأس والرقبة من كثرة الدم أو فساده
وفصد الودجين : ينفع من وجع الطحال والربو والبهر ووجع الجبين
والحجامة على الكاهل : تنفع من وجع المنكب والحلق
والحجامة على الأخدعين تنفع من أمراض الرأس وأجزائه كالوجه والأسنان والأذنين والعينين والأنف والحلق إذا كان حدوث ذلك عن كثرة الدم أو فساده أو عنهما جميعا قال أنس رضي الله تعالى عنه : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يحتجم في الأخدعين والكاهل
وفي الصحيحين عنه : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يحتجم ثلاثا : واحدة على كاهله واثنتين على الأخدعين
وفي الصحيح : عنه أنه احتجم وهو محرم في رأسه لصداع كان به
وفي سنن ابن ماجه عن علي نزل جبريل على النبي صلى الله عليه و سلم بحجامة الأخدعين والكاهل
وفي سنن أبي داود من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه و سلم : [ احتجم في وركه من وثء كان به ] (4/49)
فصل
واختلف الأطباء فى الحجامة على نقرة القفا وهى القمحدوة
وذكر أبو نعيم في كتاب الطب النبوي حديثا مرفوعا [ عليكم بالحجامة في جوزة القمحدوة فإنها تشفي من خمسة أدواء ] ذكر منها الجذام
وفي حديث آخر : [ عليكم بالحجامة في جوزة القمحدوة فإنها شفاء من اثنين وسبعين داء ]
فطائفة منهم استحسنته وقالت : إنها تنفع من جحظ العين والنتوء العارض فيها وكثير من أمراضها ومن ثقل الحاجبين والجفن وتنفع من جربه وروي أن أحمد بن حنبل احتاج إليها فاحتجم في جانبي قفاه ولم يحتجم في النقرة وممن كرهها صاحب القانون وقال : إنها تورث النسيان حقا كما قال سيدنا ومولانا وصاحب شريعتنا محمد صلى الله عليه و سلم فإن مؤخر الدماغ موضع الحفط والحجامة تذهبه انتهى كلامه
ورد عليه آخرون وقالوا : الحديث لا يثبت وإن ثبث فالحجامة إنما تضعف مؤخر الدماغ إذا استعملت لغير ضرورة فأما إذا استعملت لغلبة الدم عليه فإنها نافعة له طبا وشرعا فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه احتجم في عدة أماكن من قفاه بحسب ما اقتضاه الحال في ذلك واحتجم في غير القفا بحسب ما دعت إليه حاجته (4/52)
فصل
والحجامة تحت الذقن تنفع من وجع الأسنان والوجه والحلقوم إذا استعملت في وقتها وتنقي الرأس والفكين والحجامة على ظهر القدم تنوب عن فصد الصافن وهو عرق عظيم عند الكعب وتنفع من قروح الفخذين والساقين وانقطاع الطمث والحكة العارضة في الإنثيين والحجامة في أسفل الصدر نافعة من دماميل الفخذ وجربه وبثوره ومن النقرس والبواسير والفيل وحكة الظهر (4/53)
فصل
في هديه في أوقات الحجامة
روى الترمذي في جامعه : من حديث ابن عباس يرفعه : [ إن خير ما تحتجمون في يوم سابع عشرة أو تاسع عشرة ويوم إحدى وعشرين ]
وفيه [ عن أنس كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يحتجم في الأخدعين والكاهل وكان يحتجم لسبعة عشر وتسعة عشر وفي إحدى وعشرين ]
وفي سنن ابن ماجه عن أنس مرفوعا : [ من أراد الحجامة فليتحر سبعة عشر أو تسعة عشر أو إحدى وعشرين لا يتبيغ بأحدكم الدم فيقتله ]
وفي سنن أبي داود من حديث أبي هريرة مرفوعا : [ من احتجم لسبع عشرة أو تسع عشرة أو إحدى وعشرين كانت شفاء من كل داء ] وهذا معناه من كل داء سببه غلبة الدم
وهذه الأحاديث موافقة لما أجمع عليه الأطباء أن الحجامة في النصف الثاني وما يليه من الربع الثالث من أرباعه أنفع من أوله وآخره وإذا استعملت عند الحاجة إليها نفعت أي وقت كان من أول الشهر وآخره
قال الخلال : أخبرني عصمة بن عصام قال : حدثنا حنبل قال : كان أبو عبد الله أحمد بن حنبل يحتجم أي وقت هاج به الدم وأي ساعة كانت
وقال صاحب القانون : أوقاتها في النهار : الساعة الثانية أو الثالثة ويجب توقيها بعد الحمام إلا فيمن دمه غليط فيجب أن يستحم ثم يستجم ساعة ثم يحتجم انتهى
وتكره عندهم الحجامة على الشبع فإنها ربما أورثت سددا وأمراضا رديئة لا سيما إذا كان الغذاء رديئا غليظا وفي أثر : [ الحجامة على الريق دواء وعلى الشبع داء وفي سبعة عشر من الشهر شفاء ]
واختيار هذه الأوقات للحجامة فيما إذا كانت على سبيل الإحتياط والتحرز من الأذى وحفظا للصحة وأما في مداواة الأمراض فحيثما وجد الإحتياح إليها وجب استعمالها وفي قوله : [ لا يتبيغ بأحدكم الدم فيقتله ] دلالة على ذلك يعني لئلا يتبيغ فحذف حرف الجر مع ( أن ) ثم حذفت ( أن ) والتبيغ : الهيج وهو مقلوب البغي وهو بمعناه فإنه بغي الدم وهيجانه وقد تقدم أن الإمام أحمد كان يحتجم أي وقت احتاج من الشهر (4/53)
فصل
وأما اختيار أيام الأسبوع للحجامة فقال الخلال في جامعه : أخبرنا حرب بن إسماعيل قال : قلت لأحمد : تكره الحجامة في شء من الأيام ؟ قال : قد جاء في الأربعاء والسبت
وفيه : عن الحسين بن حسان أنه سأل أبا عبد الله عن الحجامة : أي يوم تكره ؟ فقال : في يوم السبت ويوم الأربعاء ويقولون : يوم الجمعة
وروى الخلال عن أبي سلمة وأبي سعيد المقبري عن أبي هريرة مرفوعا : [ من احتجم يوم الأربعاء أو يوم السبت فأصابه بياض أو برص فلا يلومن إلا نفسه ]
وقال الخلال : أخبرنا محمد بن علي بن جعفر أن يعقوب بن بختان حدثهم قال : سئل أحمد عن النورة والحجامة يوم السبت ويوم الأربعاء ؟ فكرهها وقال : بلغني عن رجل أنه تنور واحتجم يعني يوم الأربعاء فأصابه البرص قلت له : كأنه تهاون بالحديث ؟ قال : نعم
وفي كتاب الأفراد للدارقطني من حديث نافع قال : قال لي عبد الله بن عمر : تبيغ بي الدم فابغ لي حجاما ولا يكن صبيا ولا شيخا كببرا فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ الحجامة تزيد الحافظ حفظا والعاقل عقلا فاحتجموا على اسم الله تعالى ولا تحتجموا الخميس والجمعة والسبت والأحد واحتجموا الإثنين وما كان من جذام ولا برص إلا نزل يوم الأربعاء ] قال الدارقطني : تفرد به زياد بن يحيى وقد رواه أيوب عن نافع وقال فيه : [ واحتجموا يوم الإثنين والثلاثاء ولا تحتجموا يوم الأربعاء ]
وقد روى أبو داود في سننه من حديث أبي بكرة أنه كان يكره الحجامة يوم الثلاثاء وقال : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ يوم الثلاثاء يوم الدم وفيه ساعة لا يرقأ فيها الدم ] (4/55)
فصل
وفي ضمن هذه الأحاديث المتقدمة استحباب التداوي واستحباب الحجامة وأنها تكون في الموضع الذي يقتضيه الحال وجواز احتجام المحرم وإن آل إلى قطع شئ من الشعر فإن ذلك جائز وفي وجوب الفدية عليه نظر ولا يقوى الوجوب وجواز احتجام الصائم فإن في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ احتجم وهو صائم ] ولكن هل يفطر بذلك أم لا ؟ مسألة أخرى الصواب : الفطر بالحجامة لصحته عن رسول الله صلى الله عليه و سلم من غير معارض وأصح ما يعارض به حديث حجامته وهو صائم ولكن لا يدل على عدم الفطر إلا بعد أربعة أمور أحدها : أن الصوم كان فرضا الثاني : أنه كان مقيما الثالث : أنه لم يكن به مرض احتاج معه إلى الحجامة الرابع : أن هذا الحديث متأخر عن قوله : [ أفطر الحاجم والمحجوم ]
فإذا ثبتت هذه المقدمات الأربع أمكن الإستدلال بفعله صلى الله عليه و سلم على بقاء الصوم مع الحجامة وإلا فما المانع أن يكون الصوم نفلا يجوز الخروج منه بالحجامة وغيرها أو من رمضان لكنه في السفر أو من رمضان في الحضر لكن دعت الحاجة إليها كما تدعو حاجة من به مرض إلى الفطر أو يكون فرضا من رمضان في الحضر من غير حاجة إليها لكنه مبقى على الأصل وقوله : [ أفطر الحاجم والمحجوم ] ناقل ومتأخر فيتعين المصير إليه ولا سبيل إلى إثبات واحدة من هذه المقدمات الأربع فكيف بإثباتها كلها
وفيها دليل على استئجار الطبيب وغيره من غير عقد إجازة بل يعطيه أجرة المثل أو ما يرضيه
وفيها دليل على جواز التكسب بصناعة الحجامة وإن كان لا يطيب للحر أكل أجرته من غير تحريم عليه فإن النبي صلى الله عليه و سلم أعطاه أجره ولم يمنعه من أكله وتسميته إياه خبيثا كتسميته للثوم والبصل خبيثين ولم يلزم من ذلك تحريمهما
وفيها دليل على جواز ضرب الرجل الخراج على عبده كل يوم شيئا معلوما بقدر طاقته وأن العبد أن يتصرف فيما زاد على خراجه ولو منع من التصرف لكان كسبه كله خراجا ولم يكن لتقديره فائدة بل ما زاد على خراجه فهو تمليك من سيده له يتصرف فيه كما أراد والله أعلم (4/56)
فصل
في هديه صلى الله عليه و سلم في قطع العروق والكي
ثبت في الصحيح من حديث جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه و سلم بعث إلى أبي بن كعب طبيبا فقطع له عرقا وكواه عليه
ولما رمي سعد بن معاذ في أكحله حسمه النبي صلى الله عليه و سلم ثم ورمت فحسمه الثانية والحسم : هو الكي
وفي طريق آخر : أن النبي صلى الله عليه و سلم كوى سعد بن معاذ في أكحله بمشقص ثم حسمه سعد بن معاذ أو غيره من أصحابه
وفي لفظ آخر : أن رجلا من الأنصار رمي في أكحله بمشقص فأمر النبي صلى الله عليه و سلم به فكوي
وقال أبو عبيد : وقد أتي النبي صلى الله عليه و سلم برجل نعت له الكي فقال : [ اكووه وارضفوه ] قال أبو عبيد : الرضف : الحجارة تسخن ثم يكمد بها
وقال الفضل بن دكين : حدثنا سفيان عن أبي الزبير عن جابر أن النبي صلى الله عليه و سلم كواه في أكحله
وفي صحيح البخاري من حديث أنس أنه كوي من ذات الجنب والنبى صلى الله عليه و سلم حي
وفي الترمذي عن أنس أن النبي صلى الله عليه و سلم : [ كوى أسعد بن زرارة من الشوكة ] وقد تقدم الحديث المتفق عليه وفيه [ وما أحب أن أكتوي ] وفي لفظ آخر : [ وأنا أنهى أمتي عن الكي ]
وفي جامع الترمذي وغيره عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن الكي قال : فابتلينا فاكتوينا فما أفلحنا ولا أنجحنا وفي لفظ : نهينا عن الكي وقال : فما أفلحن ولا أنجحن
قال الخطابي : إنما كوى سعدا ليرقأ الدم من جرحه وخاف عليه أن ينزف فيهلك والكي مستعمل في هذا الباب كما يكوى من تقطع يده أو رجله
وأما النهي عن الكي فهو أن يكتوي طلبا للشفاء وكانوا يعتقدون أنه متى لم يكتو هلك فنهاهم عنه لأجل هذه النية
وقيل : إنما نهى عنه عمران بن حصين خاصة لأنه كان به ناصور وكان موضعه خطرا فنهاه عن كيه فيشبه أن يكون النهي منصرفا إلى الموضع المخوف منه والله أعلم
وقال ابن قتيبة : الكي جنسان : كي الصحيح لئلا يعتل فهذا الذي قيل فيه : لم يتوكل من اكتوى لأنه يريد أن يدفع القدر عن نفسه
والثاني : كي الجرح إذا نغل والعضو إذا قطع ففي هذا الشفاء
وأما إذا كان الكي للتداوي الذي يجوز أن ينجع ويجوز أن لا ينجع فإنه إلى الكراهة أقرب انتهى
وثبت في الصحيح في حديث السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب [ أنهم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون ]
فقد تضمنت أحاديث الكي أربعة أنواع أحدها : فعله والثاني : عدم محبته له والثالث : الثناء على من تركه والرابع : النهي عنه ولا تعارض بينها بحمد الله تعالى فإن فعله يدل على جوازه وعدم محبته له لا يدل على المنع منه وأما الثناء على تاركه فيدل على أن تركه أولى وأفضل وأما النهي عنه فعلى سبيل الإختيار والكراهة أو عن النوع الذي لا يحتاج إليه بل يفعل خوفا من حدوث الداء والله أعلم (4/58)
فصل
في هديه صلى الله عليه و سلم في علاج الصرع
أخرجا في الصحيحين من حديث عطاء بن أبي رباح قال : قال ابن عباس : ألا أريك امرأة من أهل الجنة ؟ قلت : بلى قال : هذه المرأة السوداء أتت النبي صلى الله عليه و سلم فقالت : إني أصرع وإني أتكشف فادع الله لي فقال : [ إن شئت صبرت ولك الجنة وإن شئت دعوت الله لك أن يعافيك فقالت : أصبر قالت : فإني أتكشف فادع الله أن لا أتكشف فدعا لها ]
قلت : الصرع صرعان : صرع من الأرواح الخبيثة الأرضية وصرع من الأخلاط الرديئة والثاني : هو الذي يتكلم فيه الأطباء في سببه وعلاجه
وأما صرع الأرواح فأئمتهم وعقلاؤهم يعترفون به ولا يدفعونه ويعترفون بأن علاجه بمقابلة الأرواح الشريفة الخيرة العلوية لتلك الأرواح الشريرة الخبيثة فتدافع آثارها وتعارض أفعالها وتبطلها وقد نص على ذلك بقراط في بعض كتبه فذكر بعض علاج الصرع وقال : هذا إنما ينفع من الصرع الذي سببه الأخلاط والمادة وأما الصرع الذي يكون من الأرواح فلا ينفع فيه هذا العلاج
وأما جهلة الأطباء وسقطهم وسفلتهم ومن يعتقد بالزندقة فضيلة فأولئك ينكرون صرع الأرواح ولا يقرون بأنها تؤثر في بدن المصروع وليس معهم إلا الجهل وإلا فليس في الصناعة الطبية ما يدفع ذلك والحس والوجود شاهد به وإحالتهم ذلك على غلبة بعض الأخلاط هو صادق في بعض أقسامه لا في كلها
وقدماء الأطباء كانوا يسمون هذا الصرع : المرض الإلهي وقالوا : إنه من الأرواح وأما جالينوس وغيره فتأولوا عليهم هذه التسمية وقالوا : إنما سموه بالمرض الإلهي لكون هذه العلة تحدث في الرأس فنضر بالجزء الإلهي الطاهر الذي مسكنه الدماغ
وهذا التأويل نشأ لهم من جهلهم بهذه الأرواح وأحكامها وتأثيراتها وجاءت زنادقة الأطباء فلم يثبتوا إلا صرع الأخلاط وحده
ومن له عقل ومعرفة بهذه الأرواح وتأثيراتها يضحك من جهل هؤلاء وضعف عقولهم
وعلاج هذا النوع يكون بأمرين : أمر من جهة المصروع وأمر من جهة المعالج فالذي من جهة المصروع يكون بقوة نفسه وصدق توجهه إلى فاطر هذه الأرواح وبارئها والتعوذ الصحيح الذي قد تواطأ عليه القلب واللسان فإن هذا نوع محاربة والمحارب لا يتم له الإنتصاف من عدوه بالسلاح إلا بأمرين : أن يكون السلاح صحيحا في نفسه جيدا وأن يكون الساعد قويا فمتى تخلف أحدهما لم يغن السلاح كثير طائل فكيف إذا عدم الأمران جميعا : يكون القلب خرابا من التوحيد والتوكل والتقوى والتوجه ولا سلاح له
والثاني : من جهة المعالج بأن يكون فيه هذان الأمران أيضا حتى إن من المعالجين من يكتفي بقوله : اخرج منه أو بقول : بسم الله أو بقول لا حول ولا قوة إلا بالله والنبى صلى الله عليه و سلم كان يقول : [ اخرج عدو الله أنا رسول الله ]
وشاهدت شيخنا يرسل إلى المصروع من يخاطب الروح التي فيه ويقول : قال لك الشيخ : اخرجي فإن هذا لا يحل لك فيفيق المصروع وربما خاطبها بنفسه وربما كانت الروح ماردة فيخرجها بالضرب فيفيق المصروع ولا يحس بألم وقد شاهدنا نحن وغيرنا منه ذلك مرارا
وكان كثيرا ما يقرأ في أذن المصروع : { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون } [ المؤمنون : 115 ]
وحدثني أنه قرأها مرة في أذن المصروع فقالت الروح : نعم ومد بها صوته قال : فأخذت له عصا وضربته بها في عروق عنقه حتى كلت يداي من الضرب ولم يشك الحاضرون أنه يموت لذلك الضرب ففي أثناء الضرب قالت : أنا أحبه فقلت لها : هو لا يحبك قالت : أنا أريد أن أحج به فقلت لها : هو لا يريد أن يحج معك فقالت : أنا أدعه كرامة لك قال : قلت : لا ولكن طاعة لله ولرسوله قالت : فأنا أخرج منه قال : فقعد المصروع يلتفت يمينا وشمالا وقال : ما جاء بي إلى حضرة الشيخ قالوا له : وهذا الضرب كله ؟ فقال : وعلى أي شئ يضربني الشيخ ولم أذنب ولم يشعر بأنه وقع به ضرب البتة
وكان يعالج بآية الكرسي وكان يأمر بكثرة قراءتها المصروع ومن يعالجه بها وبقراءة المعوذتين
وبالجملة فهذا النوع من الصرع وعلاجه لا ينكره إلا قليل الحظ من العلم والعقل والمعرفة وأكثر تسلط الأرواح الخبيثة على أهله تكون من جهة قلة دينهم وخراب قلوبهم وألسنتهم من حقائق الذكر والتعاويذ والتحصنات النبوية والايمانية فتلقى الروح الخبيثة الرجل أعزل لا سلاح معه وربما كان عريانا فيؤثر فيه هذا
ولو كشف الغطاء لرأيت أكثر النفوس البشرية صرعى هذه الأرواح الخبيثة وهي في أسرها وقبضتها تسوقها حيث شاءت ولا يمكنها الإمتناع عنها ولا مخالفتها وبها الصرع الأعظم الذي لا يفيق صاحبه إلا عند المفارقة والمعاينة فهناك يتحقق أنه كان هو المصروع حقيقة وبالله المستعان
وعلاج هذا الصرع باقتران العقل الصحيح إلى الإيمان بما جاءت به الرسل وأن تكون الجنة والنار نصب عينيه وقبلة قلبه ويستحضر أهل الدنيا وحلول المثلات والآفات بهم ووقوعها خلال ديارهم كمواقع القطر وهم صرعى لا يفيقون وما أشد داء هذا الصرع ولكن لما عمت البلية به بحيث لا يرى إلا مصروعا لم يصر مستغربا ولا مستنكرا بل صار لكثرة المصروعين عين المستنكر المستغرب خلافه
فإذا أراد الله بعبد خيرا أفاق من هذه الصرعة ونظر إلى أبناء الدنيا مصروعين حوله يمينا وشمالا على اختلاف طبقاتهم فمنهم من أطبق به الجنون ومنهم من يفيق أحيانا قليلة ويعود إلى جنونه ومنهم من يفيق مرة ويجن أخرى فإذا أفاق عمل عمل أهل الإفاقة والعقل ثم يعاوده الصرع فيقع في التخبط (4/60)
فصل
وأما صرع الأخلاط فهو علة تمنع الأعضاء النفسية من الأفعال والحركة والإنتصاب منعا غير تام وسببه خلط غليظ لزج يسد منافذ بطون الدماغ سدة غير تامة فيمتنع نفوذ الحس والحركة فيه وفي الأعضاء نفوذا تاما من غير انقطاع بالكلية وقد تكون لأسباب أخر كريح غليظ يحتبس في منافذ الروح أو بخار رديء يرتفع إليه من بعض الأعضاء أو كيفية لاذعة فينقبض الدماغ لدفع المؤذي فيتبعه تشنج في جميع الأعضاء ولا يمكن أن يبقى الإنسان معه منتصبا بل يسقط ويظهر في فيه الزبد غالبا
وهذه العلة تعد من جملة الأمراض الحادة باعتبار وقت وجوده المؤلم خاصة وقد تعد من جملة الأمراض المزمنة باعتبار طول مكثها وعسر برئها لا سيما إن تجاوز في السن خمسا وعشرين سنة وهذه العلة في دماغه وخاصة في جوهره فإن صرع هؤلاء يكون لازما قال أبقراط : إن الصرع يبقى في هؤلاء حتى يموتوا
إذا عرف هذا فهذه المرأة التي جاء الحديث أنها كانت تصرع وتتكشف يجوز أن يكون صرعها من هذا النوع فوعدها النبى صلى الله عليه و سلم الجنة بصبرها على هذا المرض ودعا لها أن لا تتكشف وخيرها بين الصبر والجنة وبين الدعاء لها
بالشفاء من غير ضمان فاختارت الصبر والجنة
وفي ذلك دليل على جواز ترك المعالجة والتداوي وأن علاج الأرواح بالدعوات والتوجه إلى الله يفعل ما لا يناله علاج الأطباء وأن تأثيره وفعله وثأثر الطبيعة عنه وانفعالها أعظم من تأثير الأدوية البدنية وانفعال الطبيعة عنها وقد جربنا هذا مرارا نحن وغيرنا وعقلاء الأطباء معترفون بأن لفعل القوى النفسية وانفعالاتها في شفاء الأمراض عجائب وما على الصناعة الطبية أضر من زنادقة القوم وسفلتهم وجهالهم والظاهر : أن صرع هذه المرأة كان من هذا النوع ويجوز أن يكون من جهة الأرواح ويكون رسول الله صلى الله عليه و سلم قد خيرها بين الصبر على ذلك مع الجنة وبين الدعاء لها بالشفاء فاختارت الصبر والستر والله أعلم (4/64)
فصل
في هديه صلى الله عليه و سلم في علاج عرق النسا
روى ابن ماجه في سننه من حديث محمد بن سيرين عن أنس بن مالك قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ دواء عرق النسا ألية شاة أعرابية تذاب ثم تجزأ ثلاثة أجزاء ثم يشرب على الريق في كل يوم جزء ]
عرق النساء : وجع يبتدئ من مفصل الورك وينزل من خلف على الفخذ وربما على الكعب وكلما طالت مدته زاد نزوله وتهزل معه الرجل والفخذ وهذا الحديث فيه معنى لغوي ومعنى طبي فأما المعنى اللغوي فدليل على جواز تسمية هذا المرض بعرق النسا خلافا لمن منع هذه التسمية وقال : النسا هو العرق نفسه فيكون من باب إضافة الشئ إلى نفسه وهو ممتنع وجواب هذا القائل من وجهين أحدهما : أن العرق أعم من النسا فهو من باب إضافة العام إلى الخاص نحو : كل الدراهم أو بعضها
الثاني : أن النسا : هو المرض الحال بالعرق والإضافة فيه من باب إضافة الشئ إلى محله وموضعه قيل : وسمي بذلك لأن ألمه ينسي ما سواه وهذا العرق ممتد من مفصل الورك وينتهي إلى آخر القدم وراء الكعب من الجانب الوحشي فيما بين عظم الساق والوتر
وأما المعنى الطبي : فقد تقدم أن كلام رسول الله صلى الله عليه و سلم نوعان : أحدهما : عام بحسب الأزمان والأماكن والأشخاص والأحوال
والثاني : خاص بحسب هذه الأمور أو بضعها وهذا من هذا القسم فإن هذا خطاب للعرب وأهل الحجاز ومن جاورهم ولا سيما أعراب البوادي فإن هذا العلاج من أنفع العلاج لهم فإن هذا المرض يحدث من يبس وقد يحدث من مادة غليظة لزجة فعلاجها بالإسهال والألية فيها الخاصيتان : الإنضاج والتليين ففيها الإنضاج والإخراج وهذا المرض يحتاج علاجه إلى هذين الأمرين وفي تعيين الشاة الأعرابية لقلة فضولها وصغر مقدارها ولطف جوهرها وخاصية مرعاها لأنها ترعى أعشاب البر الحارة كالشيح والقيصوم ونحوهما وهذه النباتات إذا تغذى بها الحيوان صار في لحمه من طبعها بعد أن يلطفها تغذيه بها ويكسبها مزاجا ألطف منها ولا سيما الألية وظهور فعل هذه النباتات في اللبن أقوى منه في اللحم ولكن الخاصية التي في الألية من الإنضاج والتليين لا توجد في اللبن وهذا كما تقدم أن أدوية غالب الأمم والبوادي هي الأدوية المفردة وعليه أطباء الهند
وأما الروم واليونان فيعتنون بالمركبة وهم متفقون كلهم على أن من مهارة الطبيب أن يداوي بالغذاء فإن عجز فبالمفرد فإن عجز فبما كان أقل تركيبا
وقد تقدم أن غالب عادات العرب وأهل البوادي الأمراض البسيطة فالأدوية البسيطة تناسبها وهذا لبساطة أغذيتهم في الغالب وأما الأمراض المركبة فغالبا ما تحدث عن تركيب الأغذية وتنوعها واختلافها فاختيرت لها الأدوية المركبة والله تعالى أعلم (4/65)
فصل
في هديه صلى الله عليه و سلم في علاج يبس الطبع واحتياجه إلى ما يمشيه ويلينه
روى الترمذي في جامعه وابن ماجه في سننه من حديث أسماء بنت عميس قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ بماذا كنت تستمشين ؟ قالت : بالشبرم قال : حار جار قالت : ثم استمشيت بالسنا فقال : لو كان شئ يشفي من الموت لكان السنا ]
وفي سنن ابن ماجه عن إبراهيم بن أبي عبلة قال : سمعت عبد الله بن أم حرام وكان قد صلى مع رسول الله صلى الله وسلم القبلتين يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ عليكم بالسنا والسنوت فإن فيهما شفاء من كل داء إلا السام قيل : يا رسول الله ! وما السام ؟ قال : الموت ]
قوله : بماذا كنت تستمشين ؟ أي : تلينين الطبع حتى يمشي ولا يصير بمنزلة الواقف فيؤذي باحتباس النجو ولهذا سمي الدواء المسهل مشيا على وزن فعيل وقيل : لأن المسهول يكثر المشي والإختلاف للحاجة وقد روي : بماذا تستشفين ؟ فقالت : بالشبرم وهو من جملة الأدوية اليتوعية وهو قشر عرق شجرة وهو حار يابس في الدرجة الرابعة وأجوده المائل إلى الحمرة الخفيف الرقيق الذي يشبه الجلد الملفوف وبالجملة فهو من الأدوية التي أوصى الأطباء بترك استعمالها لخطرها وفرط إسهالها
وقوله صلى الله عليه و سلم : حار جار ويروى : حار يار قال أبو عبيد : وأكثر كلامهم بالياء قلت : وفيه قولان أحدهما : أن الحار الجار بالجيم : الشديد الإسهال فوصفه بالحرارة وشدة الإسهال وكذلك هو قاله أبو حنيفة الدينوري
والثاني - وهو الصواب - أن هذا من الإتباع الذي يقصد به تأكيد الأول ويكون بين التأكيد اللفظي والمعنوي ولهذا يراعون فيه إتباعه في أكثر حروفه كقولهم : حسن بسن أي : كامل الحسن وقولهم : حسن قسن بالقاف ومنه شيطان ليطان وحار جار مع أن في الجار معنى آخر وهو الذي يجر الشئ الذي يصيبه من شدة حرارته وجذبه له كأنه ينزعه ويسلخه ويار : إما لغة في جار كقولهم : صهري وصهريج والصهاري والصهاريج وإما إتباع مستقل
وأما السنا ففيه لغتان : المد والقصر وهو نبت حجازي أفضله المكي وهو دواء شريف مأمون الغائلة قريب من الإعتدال حار يابس فى الدرجة الأولى يسهل الصفراء والسوداء ويقوي جرم القلب وهذه فضيلة شريفة فيه وخاصيته النفع من الوسواس السوداوي ومن الشقاق العارض في البدن ويفتح العضل وينفع من انتشار الشعر ومن القمل والصداع العتيق والجرب والبثور والحكة والصرع وشرب مائه مطبوخا أصلح من شربه مدقوقا ومقدار الشربة منه ثلاثة دراهم ومن مائه خمسة دراهم وإن طبخ معه شئ من زهر البنفسج والزبيب الأحمر المنزوع العجم كان أصلح
قال الرازي : السناء والشاهترج يسهلان الأخلاط المحترقة وينفعان من الجرب والحكة والشربة من كل واحد منهما من أربعة دراهم إلى سبعة دراهم
وأما السنوت ففيه ثمانية أقوال أحدها : أنه العسل والثاني : أنه رب عكة السمن يخرج خططا سوداء على السمن حكاهما عمرو بن بكر السكسكي الثالث : أنه حب يشبه الكمون وليس به قاله ابن الأعرابي
الرابع : أنه الكمون الكرماني الخامس : أنه الرازيانج حكاهما أبو حنيفة الدينوري عن بعض الأعراب السادس : أنه الشبت السابع : أنه التمر حكاهما أبو بكر بن السنى الحافظ الثامن : أنه العسل الذي يكون في زقاق السمن حكاه عبد اللطيف البغدادي قال بعض الأطباء : وهذا أجدر بالمعنى وأقرب إلى الصواب أي : يخلط السناء مدقوقا بالعسل المخالط للسمن ثم يلعق فيكون أصلح من استعماله مفردا لما في العسل والسمن من إصلاح السنا وإعانته له على الإسهال والله أعلم
وقد روى الترمذي وغيره من حديث ابن عباس يرفعه : [ إن خير ما تداويتم به السعوط واللدود والحجامة والمشي ] والمشي : هو الذي يمشي الطبع ويلينه ويسهل خروج الخارج (4/67)
فصل
في هديه صلى الله عليه و سلم في علاج حكة الجسم وما يولد القمل
في الصحيحين من حديث قتادة [ عن أنس بن مالك قال : رخص رسول الله صلى الله عليه و سلم لعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام رضي الله تعالى عنهما في لبس الحرير لحكة كانت بهما ]
وفي رواية : [ ن عبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام رضي الله تعالى عنهما شكوا القمل إلى النبي صلى الله عليه و سلم في غزاة لهما فرخص لهما في قمص الحرير ورأيته عليهما ]
هذا الحديث يتعلق به أمران : أحدهما : فقهي والآخر طبي
فأما الفقهي : فالذي استقرت عليه سنته صلى الله عليه و سلم إباحة الحرير للنساء مطلقا وتحريمه على الرجال إلا لحاجة ومصلحة راجحة فالحاجة إما من شدة البرد ولا يجد غيره أو لا يجد سترة سواه ومنها : لباسه للجرب والمرض والحكة وكثرة القمل كما دل عليه حديث أنس هذا الصحيح
والجواز : أصح الروايتين عن الإمام أحمد وأصح قولي الشافعي إذ الأصل عدم التخصيص والرخصة إذا ثبتت في حق بعض الأمة لمعنى تعدت إلى كل من وجد فيه ذلك المعنى إذ الحكم يعم بعموم سببه
ومن منع منه قال : أحاديث التحريم عامة وأحاديث الرخصة يحتمل اختصاصها بعبد الرحمن بن عوف والزبير ويحتمل تعديها إلى غيرهما وإذا احتمل الأمران كان الأخذ بالعموم أولى ولهذا قال بعض الرواة في هذا الحديث : فلا أدري أبلغت الرخصة من بعدهما أم لا ؟
والصحيح : عموم الرخصة فإنه عرف خطاب الشرع في ذلك ما لم يصرح بالتخصيص وعدم إلحاق غير من رخص له أولا به كقوله لأبي بردة في تضحيته بالجذعة من المعز : [ تجزيك ولن تجزي عن أحد بعدك ] وكقوله تعالى لنبيه صلى الله عليه و سلم في نكاح من وهبت نفسها له : { خالصة لك من دون المؤمنين } [ الأحزاب : 50 ]
وتحريم الحرير : إنما كان سدا للذريعة ولهذا أبيح للنساء وللحاجة والمصلحة الراجحة وهذه قاعدة ما حرم لسد الذرائع فإنه يباح عند الحاجة والمصلحة الراجحة كما حرم النظر سدا لذريعة الفعل وأبيح منه ما تدعو إليه الحاجة والمصلحة الراجحة وكما حرم التنفل بالصلاة في أوقات النهي سدا لذريعة المشابهة الصورية بعباد الشمس وأبيحت للمصلحة الراجحة وكما حرم ربا الفضل سدا لذريقة ربا النسيئة وأبيح منه ما تدعو إليه الحاجة من العرايا وقد أشبعنا الكلام فيما يحل ويحرم من لباس الحرير في كتاب التحبير لما يحل ويحرم من لباس الحرير (4/70)
فصل
وأما الأمر الطبي : فهو أن الحرير من الأدوية المتخذة من الحيوان ولذلك يعد في الأدوية الحيوانية لأن مخرجه من الحيوان وهو كثير المنافع جليل الموقع ومن خاصيته تقوية القلب وتفريحه والنفع من كثير من أمراضه ومن غلبة المرة السوداء والأدواء الحادثة عنها وهو مقو للبصر إذا اكتحل به والخام منه - وهو المستعمل في صناعة الطب - حار يابس في الدرجة الأولى وقيل : حار رطب فيها : وقيل : معتدل وإذا اتخذ منه ملبوس كان معتدل الحرارة في مزاجه مسخنا للبدن وربما برد البدن بتسمينه إياه
قال الرازي : الإبريسم أسخن من الكتان وأبرد من القطن يربى اللحم وكل لباس خشن فإنه يهزل ويصلب البشرة وبالعكس
قلت : والملابس ثلاثة أقسام : قسم يسخن البدن ويدفئه وقسم يدفئه ولا يسخنه وقسم لا يسخنه ولا يدفئه وليس هناك ما يسخنه ولا يدفئه إذ ما يسخنه فهو أولى بتدفئته فملابس الأوبار والأصواف تسخن وتدفئ و ملابس الكتان والحرير والقطن تدفئ ولا تسخن فثياب الكتان باردة يابسة وثياب الصوف حارة يابسة وثياب القطن معتدلة الحرارة وثياب الحرير ألين من القطن وأقل حرارة منه
قال صاحب المنهاج : ولبسه لا يسخن كالقطن بل هو معتدل كل لباس أملس صقيل فإنه أقل إسخانا للبدن وأقل عونا في تحلل ما يتحلل منه وأحرى أن يلبس في الصيف وفي البلاد الحارة
ولما كانت ثياب الحرير كذلك وليس فيها شئ من اليبس والخشونة الكائين في غيرها صارت نافعة من الحكة إذ الحكة لا تكون إلا عن حرارة ويبس وخشونة فلذلك رخص رسول الله صلى الله عليه و سلم للزبير وعبد الرحمن في لباس الحرير لمداواة الحكة وثياب الحرير أبعد عن تولد القمل فيها إذ كان مزاجها مخالفا لمزاج ما يتولد منه القمل
وأما القسم الذي لا يدفئ ولا يسخن فالمتخذ من الحديد والرصاص والخشب والتراب ونحوها فإن قيل : فإذا كان لباس الحرير أعدل اللباس وأوفقه للبدن فلماذا حرمته الشريعة الكاملة الفاضلة التي أباحت الطيبات وحرمت الخبائث ؟
قيل : هذا السؤال يجيب عنه كل طائفة من طوائف المسلمين بجواب فمنكرو الحكم والتعليل لما رفعت قاعدة التعليل من أصلها لم يحتاجوا إلى جواب عن هذا السؤال
ومثبتو التعليل والحكم - وهم الأكثرون - منهم من يجيب عن هذا بأن الشريعة حرمته لتصبر النفوس عنه وتتركه لله فتثاب على ذلك لا سيما ولها عوض عنه بغيره
ومنهم من يجيب عنه بأنه خلق في الأصل للنساء كالحلية بالذهب فحرم على الرجال لما فيه من مفسدة تشبه الرجال بالنساء ومنهم من قال : حرم لما يورثه من الفخر والخيلاء والعجب ومنهم من قال : حرم لما يورثه بملامسته للبدن من الأنوثة والتخنث وضد الشهامة والرجولة فإن لبسه يكسب القلب صفة من صفات الإناث ولهذا لا تكاد تجد من يلبسه في الأكثر إلا وعلى شمائله من التخنث والتأنث والرخاوة ما لا يخفى حتى لو كان من أشهم الناس وأكثرهم فحولية ورجولية فلا بد أن ينقصه لبس الحرير منها وإن لم يذهبها ومن غلظت طباعه وكثفت عن فهم هذا فليسلم للشارع الحكيم ولهذا كان أصح القولين : أنه يحرم على الولي أن يلبسه الصبي لما ينشأ عليه من صفات أهل التأنيث
وقد روى النسائي من حديث أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إن الله أحل لإناث أمتي الحرير والذهب وحرمه على ذكورها ] وفي لفظ : [ حرم لباس الحرير والذهب على ذكور أمتي وأحل لإناثهم ]
وفي صحيح البخاري عن حذيفة قال : نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن لبس الحرير والديباج وأن يجلس عليه وقال : [ هو لهم في الدنيا ولكم في الآخرة ] (4/72)
فصل
في هديه صلى الله عليه و سلم في علاج ذات الجنب
روى الترمذي في جامعه من حديث زيد بن أرقم أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ تداووا من ذات الجنب بالقسط البحري والزيت ]
وذات الجنب عند الأطباء نوعان : حقيقي وغير حقيقي فالحقيقي : ورم حار يعرض في نواحي الجنب في الغشاء المستبطن للأضلاع وغير الحقيقى : ألم يشبهه يعرض في نواحي الجنب عن رياح غليظة مؤذية تحتقن بين الصفاقات فتحدث وجعا قريبا من وجع ذات الجنب الحقيقي إلا أن الوجع في هذا القسم ممدود وفي الحقيقي ناخس
قال صاحب القانون : قد يعرض في الجنب والصفاقات والعضل التي في الصدر والأضلاع ونواحيها أورام مؤذية جدا موجعة تسمى شوصة وبرساما وذات الجنب وقد تكون أيضا أوجاعا في هذه الأعضاء ليست من ورم ولكن من رياح غليظة فيظن أنها من هذه العلة ولا تكون منها قال : واعلم أن كل وجع في الجنب قد يسمى ذات الجنب اشتقاقا من مكان الألم لأن
معنى ذات الجنب صاحبة الجنب والغرض به ها هنا وجع الجنب فإذا عرض في الجنب ألم عن أي سبب كان نسب إليه وعليه حمل كلام بقراط في قوله : إن أصحاب ذات الجنب ينتفعون بالحمام قيل : المراد به كل من به وجع جنب أو وجع رئة من سوء مزاج أو من أخلاط غليظة أو لذاعة من غير ورم ولا حمى
قال بعض الأطباء : وأما معنى ذات الجنب في لغة اليونان فهو ورم الجنب الحار وكذلك ورم كل واحد من الأعضاء الباطنة وإنما سمي ذات الجنب ورم ذلك العضو إذا كان ورما حارا فقط
ويلزم ذات الجنب الحقيقي خمسة أعراض : وهي الحمى والسعال والوجع الناخس وضيق النفس والنبض المنشاري
والعلاج الموجود في الحديث ليس هو لهذا القسم لكن للقسم الثاني الكائن عن الريح الغليظة فإن القسط البحري - وهو العود الهندي على ما جاء مفسرا في أحاديث أخر - صنف من القسط إذا دق دقا ناعما وخلط بالزيت المسخن ودلك به مكان الريح المذكور أو لعق كان دواء موافقا لذلك نافعا له محللا لمادته مذهبا لها مقويا للأعضاء الباطنة مفتحا للسدد والعود المذكور في منافعه كذلك
قال المسبحي : العود : حار يابس قابض يحبس البطن ويقوي الأعضاء الباطنة ويطرد الريح ويفتح السدد نافع من ذات الجنب ويذهب فضل الرطوبة والعود المذكور جيد للدماغ قال : ويجوز أن ينفع القسط من ذات الجنب الحقيقية أيضا إذا كان حدوثها عن مادة بلغمية لا سيما في وقت انحطاط العلة والله أعلم
وذات الجنب : من الأمراض الخطرة وفي الحديث الصحيح : عن أم سلمة أنها قالت : بدأ رسول الله صلى الله عليه و سلم بمرضه في بيت ميمونة وكان كلما خف عليه خرج وصلى بالناس وكان كلما وجد ثقلا قال : [ مروا أبا بكر فليصل بالناس ] واشتد شكواه حتى غمر عليه من شدة الوجع فاجتمع عنده نساؤه وعمه العباس وأم الفضل بنت الحارث وأسماء بنت عميس فتشاوروا في لده فلدوه وهو مغمور فلما أفاق قال : [ من فعل بي هذا هذا من عمل نساء جئن من ها هنا وأشار بيده إلى أرض الحبشة وكانت أم سلمة وأسماء لدتاه فقالوا : يا رسول الله ! خشينا أن يكون بك ذات الجنب قال : فبم لددتموني ؟ قالوا : بالعود الهندي وشئ من ورس وقطرات من زيت فقال : ما كان الله ليقذفني بذلك الداء ثم قال : عزمت عليكم أن لا يبقى في البيت أحد إلا لد إلا عمي العباس ]
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : لددنا رسول الله صلى الله عليه و سلم فأشار أن لا تلدوني فقلنا : كراهية المريض للدواء فلما أفاق قال : [ ألم أنهكم أن تلدوني لا يبقى منكم أحد إلا لد غير عمي العباس فإنه لم يشهدكم ]
قال أبو عبيد عن الأصمعي : اللدود : ما يسقى الإنسان في أحد شقي الفم أخذ من لديدي الوادي وهما جانباه وأما الوجور : فهو في وسط الفم
قلت : واللدود - بالفتح : - هو الدواء الذي يلد به والسعوط : ما أدخل من أنفه
وفي هذا الحديث من الفقه معاقبة الجاني بمثل ما فعل سواء إذا لم يكن فعله محرما لحق الله وهذا هو الصواب المقطوع به لبضعة عشر دليلا قد ذكرناها في موضع آخر وهو منصوص أحمد وهو ثابت عن الخلفاء الراشدين وترجمة المسألة بالقصاص في اللطمة والضربة وفيها عدة أحاديث لا معارض لها البتة فيتعين القول بها (4/74)
فصل
في هديه صلى الله عليه و سلم في علاج الصداع والشقيقة
روى ابن ماجه في سننه حديثا في صحته نظر : أن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا صدع غلف رأسه بالحناء ويقول : [ إنه نافع بإذن الله من الصداع ]
والصداع : ألم في بعض أجزاء الرأس أو كله فما كان منه في أحد شقي الرأس لازما يسمى شقيقة وإن كان شاملا لجميعه لازما يسمى بيضة وخودة تشبيها ببيضة السلاح التي تشتمل على الرأس كله وربما كان في مؤخر الرأس أو في مقدمه
وأنواعه كثيرة وأسبابه مختلفة وحقيقة الصداع سخونة الرأس واحتماؤه لما دار فيه من البخار يطلب النفوذ من الرأس فلا يجد منفذا فيصدعه كما يصدع الوعي إذا حمي ما فيه وطلب النفوذ فكل شئ رطب إذا حمي طلب مكانا أوسع من مكانه الذي كان فيه فإذا عرض هذا البخار في الرأس كله بحيث لا يمكنه التفشي والتحلل وجال في الرأس سمي السدر
والصداع يكون عن أسباب عديدة :
أحدها : من غلبة واحد من الطبائع الأربعة
والخامس : يكون من قروح تكون في المعدة فيألم الرأس لذلك الورم لاتصال العصب المنحدر من الرأس بالمعدة
والسادس : من ريح غليظة تكون في المعدة فتصعد إلى الرأس فتصدعه
والسابع : يكون من ورم في عروق المعدة فيألم الرأس بألم المعدة للإتصال الذي بينهما
والثامن : صداع يحصل عن امتلاء المعدة من الطعام ثم ينحدر ويبقى بعضه نيئا فيصدع الرأس ويثقله
والتاسع : يعرض بعد الجماع لتخلخل الجسم فيصل إليه من حر الهواء أكثر من قدره
والعاشر : صداع يحصل بعد القئ والإستفراغ إما لغلبة اليبس وإما لتصاعد الأبخرة من المعدة إليه
والحادي عشر : صداع يعرض عن شدة الحر وسخونة الهواء
والثاني عشر : ما يعرض عن شدة البرد وتكاثف الأبخرة في الرأس وعدم تحللها
والثالث عشر : ما يحدث من السهر وعدم النوم
والرابع عشر : ما يحدث من ضغط الرأس وحمل الشئ الثقيل عليه
والخامس عشر : ما يحدث من كثرة الكلام فتضعف قوة الدماغ لأجله
والسادس عشر : ما يحدث من كثرة الحركة والرياضة المفرطة
والسابع عشر : ما يحدث من الأعراض النفسانية كالهموم والغموم والأحزان والوساوس والأفكار الرديئة
والثامن عشر : ما يحدث من شدة الجوع فإن الأبخرة لا تجد ما تعمل فيه فتكثر وتتصاعد إلى الدماغ فتؤلمه
والتاسع عشر : ما يحدث عن ورم في صفاق الدماغ ويجد صاحبه كأنه يضرب بالمطارق على رأسه
والعشرون : ما يحدث بسبب الحمى لاشتعال حرارتها فيه فيتألم والله أعلم (4/78)
فصل
وسبب صداع الشقيقة مادة في شرايين الرأس وحدها حاصلة فيها أو مرتقية إليها فيقبلها الجانب الأضعف من جانبيه وتلك المادة إما بخارية وإما أخلاط حارة أو باردة وعلامتها الخاصة بها ضربان الشرايين وخاصة في الدموي وإذا ضبطت بالعصائب ومنعت من الضربان سكن الوجع
وقد ذكر أبو نعيم في كتاب الطب النبوي له : أن هذا النواع كان يصيب النبي صلى الله عليه و سلم فيمكث اليوم واليومين ولا يخرج
وفيه : عن ابن عباس قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد عصب رأسه بعصابة
وفي الصحيح أنه قال في مرض موته : [ وارأساه ] وكان يعصب رأسه في مرضه وعصب الرأس ينفع في وجع الشقيقة وغيرها من أوجاع الرأس (4/80)
فصل
وعلاجه يختلف باختلاف أنواعه وأسبابه فمنه ما علاجه بالإستفراغ ومنه ما علاجه بتناول الغذاء ومنه ما علاجه بالسكون والدعة ومنه ما علاجه بالضمادات ومنه ما علاجه بالتبريد ومنه ما علاجه بالتسخين ومنه ما علاجه بأن يجتنب سماع الأصوات والحركات
إذا عرف هذا فعلاج الصداع في هذا الحديث بالحناء هو جزئي لا كلي وهو علاج نوع من أنواعه فإن الصداع إذا كان من حرارة ملهبة ولم يكن من مادة يجب استفراغها نفع فيه الحناء نفعا ظاهرا وإذا دق وضمدت به الجبهة مع الخل سكن الصداع وفيه قوة موافقة للعصب إذا ضمد به سكنت أوجاعه وهذا لا يختص بوجع الرأس بل يعم الأعضاء وفيه قبض تشد به الأعضاء وإذا ضمد به موضع الورم الحار والملتهب سكنه
وقد روى البخاري في تاريخه وأبو داود في السنن أن رسول الله صلى الله عليه و سلم ما شكى إليه أحد وجعا في رأسه إلا قال له : [ احتجم ] ولا شكى إليه وجعا في رجليه إلا قال له : [ اختضب بالحناء ]
وفي الترمذي : عن سلمى أم رافع خادمة النبي صلى الله عليه و سلم قالت : كان لا يصيب النبي صلى الله عليه و سلم قرحة ولا شوكة إلا وضع عليها الحناء (4/81)
فصل
والحناء بارد في الأولى يابس في الثانية وقوة شجر الحناء وأغصانها مركبة من قوة محللة اكتسبتها من جوهر فيها مائي حار باعتدال ومن قوة قابضة اكتسبتها من جوهر فيها أرضي بارد
ومن منافعه أنه محلل نافع من حرق النار وفيه قوة موافقة للعصب إذا ضمد به وينفع إذا مضغ من قروح الفم والسلاق العارض فيه ويبرئ القلاع الحادث في أفواه الصبيان والضماد به ينفع من الأورام الحارة الملهبة ويفعل في الجراحات فهل دم الأخوين وإذا خلط نوره مع الشمع المصفى ودهن الورد ينفع من أوجاع الجنب
ومن خواصه أنه إذا بدأ الخدري يخرج بصبي فخضبت أسافل رجليه بحناء فإنه يؤمن على عينيه أن يخرج فيها شئ منه وهذا صحيح مجرب لا شك فيه وإذا جعل نوره بين طي ثياب الصوف طيبها ومنع السوس عنها وإذا نقع ورقه في ماء يغمره ثم عصر وشرب من صفوه أربعين يوما كل يوم عشرون درهما مع عشرة دراهم سكر ويغذى عليه بلحم الضأن الصغير فإنه ينفع من ابتداء الجذام بخاصية فيه عجيبة
وحكي أن رجلا تشققت أظافير أصابع يده وأنه بذل لمن يبرئه مالا فلم يجد فوصفت له امرأة أن يشرب عشرة أيام حناء فلم يقدم عليه ثم نقعه بماء وشربه فبرأ ورجعت أظافيره إلى حسنها
والحناء إذا ألزمت به الأظفار معجونا حسنها ونفعها وإذا عجن بالسمن وضمد به بقايا الأورام الحارة التي ترشح ماء أصفر نفعها ونفع من الجرب المتقرح المزمن منفعة بليغة وهو ينبت الشعر ويقويه ويحسنه ويقوي الرأس وينفع من النفاطات والبثور العارضة في الساقين والرجلين وسائر البدن (4/82)
فصل
في هديه صلى الله عليه و سلم في معالجة المرضى بترك إعطائهم ما يكرهونه من الطعام والشراب وأنهم لا يكرهون على تناولهما
روى الترمذي في جامعه وابن ماجه عن عقبة بن عامر الجهني قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا تكرهوا مرضاكم على الطعام والشراب فإن الله عز و جل يطعمهم ويسقيهم ]
قال بعض فضلاء الأطباء : ما أغزر فوائد هذه الكلمة النبوية المشتملة على حكم إلهية لا سيما للأطباء ولمن يعالج المرضى وذلك أن المريض إذا عاف الطعام أو الشراب فذلك لاشتغال الطبيعة بمجاهدة المرض أو لسقوط شهوته أو نقصانها لضعف الحرارة الغريزية أو خمودها وكيفما كان فلا يجوز حينئذ إعطاء الغذاء في هذه الحالة
واعلم أن الجوع إنا هو طلب الأعضاء للغذاء لتخلف الطبيعة به عليها عوض ما يتحلل منها فتجذب الأعضاء القصوى من الأعضاء الدنيا حتى ينتهي الجذب الى المعدة فيحس الإنسان بالجوع فيطلب الغذاء وإذا وجد المرض اشتغلت الطبيعة بمادته وإنضاجها وإخراجها عن طلب الغذاء أو الشراب فإذا أكره المريض على استعمال شئ من ذلك تعطلت به الطبيعة عن فعلها واشتغلت بهضمه وتدبيره عن إنضاج مادة المرض ودفعه فيكون ذلك سببا لضرر المريض ولا سيما في أوقات البحران أو ضعف الحار الغريزي أو خموده فيكون ذلك زيادة في البلية وتعجيل النازلة المتوقعة ولا ينبغي أن يستعمل في هذا الوقت والحال إلا ما يحفظ عليه قوته ويقويها من غير استعمال مزعج للطبيعة البتة وذلك يكون بما لطف قوامه من الأشربة والأغذية واعتدل مزاجه كشراب اللينوفر والتفاح والورد الطري وما أشبه ذلك ومن الأغذية مرق الفراريج المعتدلة الطيبة فقط وإنعاش قواه بالأراييح العطرة الموافقة والأخبار السارة فإن الطبيب خادم الطبيعة ومعينها لا معيقها
واعلم أن الدم الجيد هو المغذي للبدن وأن البلغم دم فج قد نضج بعض النضج فإذا كان بعض المرضى في بدنه بلغم كثير وعدم الغذاء عطفت الطبيعة عليه وطبخته وأنضجته وصيرته دما وغذت به الأعضاء واكتفت به عما سواه والطبيعة هي القوة التي وكلها الله سبحانه بتدبير البدن وحفظه وصحته وحراسته مدة حياته
واعلم أنه قد يحتاج في الندرة إلى إجبار المريض على الطعام والشراب وذلك في الأمراض التي يكون معها اختلاط العقل وعلى هذا فيكون الحديث من العام المخصوص أو من المطلق الذي قد دل على تقييده دليل ومعنى الحديث : أن المريض قد يعيش بلا غذاء أياما لا يعيش الصحيح في مثلها
وفي قوله صلى الله عليه و سلم : [ فإن الله يطعمهم ويسقيهم ] معنى لطيف زائد على ما ذكره الأطباء لا يعرفه إلا من له عناية بأحكام القلوب والأرواح وتأثيرها في طبيعة البدن وانفعال الطبيعة عنها كما تنفعل هي كثيرا عن الطبيعة ونحن نشير إليه إشارة فنقول : النفس إذا حصل لها ما يشغلها من محبوب أو مكروه أو مخوف اشتغلت به عن طلب الغذاء والشراب فلا تحس بجوع ولا عطش بل ولا حر ولا برد بل تشتغل به عن الإحساس المؤلم الشديد الألم فلا تحس به وما من أحد إلا وقد وجد في نفسه ذلك أو شيئا منه وإذا اشتغلت النفس بما دهمها وورد عليها لم تحس بألم الجوع فإن كان الوارد مفرحا قوي التفريح قام لها مقام الغذاء فشبعت به وانتعشت قواها وتضاعفت وجرت الدموية في الجسد حتى تظهر في سطحه فيشرق وجهه وتظهر دمويته فإن الفرح يوجب انبساط دم القلب فينبعث في العروق فتمتلئ به فلا تطلب الأعضاء حظها من الغذاء المعتاد لاشتغالها بما هو أحب إليها وإلى الطبيعة منه والطبيعة إذا ظفرت بما تحب آثرته على ما هو دونه
وإن كان الوارد مؤلما أو محزنا أو مخوفا اشتغلت بمحاربته وققاومته ومدافعته عن طلب الغذاء فهي في حال حربها في شغل عن طلب الطعام والشراب فإن ظفرت في هذا الحرب انتعشت قواها وأخلفت عليها نظير ما فاتها من قوة الطعام والشراب وإن كانت مغلوبة مقهورة انحطت قواها بحسب ما حصل لها من ذلك وإن كانت الحرب بينها وبين هذا العدو سجالا فالقوة تظهر تارة وتختفي أخرى وبالجملة فالحرب بينهما على مثال الحرب الخارج بين العدوين المتقاتلين والنصر للغالب والمغلوب إما قتيل وإما جريح وإما أسير
فالمريض : له مدد من الله تعالى يغذيه به زائدا على ما ذكره الأطباء من تغذيته بالدم وهذا المدد بحسب ضعفه وانكساره وانطراحه بين يدي ربه عز و جل فيحصل له من ذلك ما يوجب له قربا من ربه فإن العبد أقرب ما يكون من ربه إذا انكسر قلبه ورحمة ربه عندئذ قريبة منه فإن كان وليا له حصل له من الأغذية القلبية ما تقوى به قوى طبيعته وتنتعش به قواه أعظم من قوتها وانتعاشها بالأغذية البدنية وكلما قوي إيمانه وحبه لربه وأنسه به وفرحه به وقوي يقينه بربه واشتد شوقه إليه ورضاه به وعنه وجد في نفسه من هذه القوة ما لا يعبر عنه ولا يدركه وصف طبيب ولا يناله علمه
ومن غلظ طبعه وكثفت نفسه عن فهم هذا والتصديق به فلينظر حال كثير من عشاق الصور الذين قد امتلأت قلوبهم بحب ما يعشقونه من صورة أو جاه أو مال أو علم وقد شاهد الناس من هذا عجائب في أنفسهم وفي غيرهم
وقد ثبت في الصحيح : عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه كان يواصل في الصيام الأيام ذوات العدد وينهى أصحابه عن الوصال ويقول : [ لست كهيئتكم إني أظل يطعمني ربي ويسقيني ]
ومعلوم أن هذا الطعام والشراب ليس هو الطعام الذي يأكله الإنسان بفمه وإلا لم يكن مواصلا ولم يتحقق الفرق بل لم يكن صائما فإنه قال : [ أظل يطعمني ربي ويسقيني ]
وأيضا فإنه فرق بينه وبينهم في نفس الوصال وأنه يقدر منه على ما لا يقدرون عليه فلو كان يأكل ويشرب بفمه لم يقل لست كهيئتكم وإنما فهم هذا من الحديث من قل نصيبه من غذاء الأرواح والقلوب وتأثيره في القوة وإنعاشها واغتذائها به فوق تأثير الغذاء الجسماني والله الموفق (4/83)
فصل
في هديه صلى الله عليه و سلم في علاج العذرة وفي العلاج بالسعوط
ثبت عنه في الصحيحين أنه قال : [ خير ما تداويتم به الحجامة والقسط البحري ولا تعذبوا صبيانكم بالغمز من العذرة ]
وفي السنن و المسند عنه من حديث جابر بن عبد الله قال : [ دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم على عائشة وعندها صبي يسيل منخراه دما فقال : ما هذا ؟ فقالوا : به العذرة أو وجع في رأسه فقال : ويلكن لا تقتلن أولادكن أيما امرأة أصاب ولدها عذرة أو وجع في رأسه فلتأخذ قسطا هنديا فلتحكه بماء ثم تسعطه إياه ] فأمرت عائشة رضي الله عنها فصنع ذلك بالصبي فبرأ
قال أبو عبيد عن أبي عبيدة : العذرة : تهيج في الحلق من الدم فإذا عولج منه قيل : قد عذر به فهو معذور انتهى وقيل : العذرة : قرحة تخرج فيما بين الأذن والحلق وتعرض للصبيان غالبا
وأما نفع السعوط منها بالقسط المحكوك فلأن العذرة مادتها دم يغلب عليه البلغم لكن تولده في أبدان الصبيان أكثر وفي القسط تجفيف يشد اللهاة ويرفعها إلى مكانها وقد يكون نفعه في هذا الداء بالخاصية وقد ينفع في الأدواء الحارة والأدوية الحارة بالذات تارة وبالعرض أخرى
وقد ذكر صاحب القانون في معالجة سقوط اللهاة : القسط مع الشب اليماني وبزر المرو
والقسط البحري المذكور في الحديث : هو العود الهندي وهو الأبيض منه وهو حلو وفيه منافع عديدة وكانوا يعالجون أولادهم بغمز اللهاة وبالعلاق وهو شئ يعلقونه على الصبيان فنهاهم النبي صلى الله عليه و سلم عن ذلك وأرشدهم إلى ما هو أنفع للأطفال وأسهل عليهم
والسعوط : ما يصب في الأنف وقد يكون بأدوية مفردة ومركبة تدق وتنخل وتعجن وتجفف ثم تحل عند الحاجة ويسعط بها في أنف الإنسان وهو مستلق على ظهره وبين كتفيه ما يرفعهما لتنخفض رأسه فيتمكن السعوط من الوصول إلى دماغه ويستخرج ما فيه من الداء بالعطاس وقد مدح النبي صلى الله عليه و سلم التداوي بالسعوط فيما يحتاج إليه فيه
وذكر أبو داود في سننه أن النبي صلى الله عليه و سلم استعط (4/87)
فصل
في هديه صلى الله عليه و سلم في علاج المفؤود
روى أبو داود في سننه من حديث مجاهد عن سعد قال : مرضت مرضا فأتاني رسول الله صلى الله عليه و سلم يعودني فوضع يده بين ثديي حتى وجدت بردها على فؤادي وقال لي : [ إنك رجل مفؤود فأت الحارث بن كلدة من ثقيف فإنه رجل يتطبب فليأخذ سبع تمرات من عجوة المدينة فليجأهن بنواهن ثم ليلدك بهن ]
المفؤود : الذي أصيب فؤاده فهو يشتكيه كالمبطون الذي يشتكي بطنه
واللدود : ما يسقاه الإنسان من أحد جانبي الفم
وفي التمر خاصية عجيبة لهذا الداء ولا سيما تمر المدينة ولا سيما العجوة منه وفي كونها سبعا خاصية أخرى تدرك بالوحي وفي الصحيحين : من حديث عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من تصبح بسبع تمرات من تمر العالية لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر ]
وفي لفظ : [ من أكل سبع تمرات مما بين لابتيها حين يصبح لم يضره سم حتى يمسي ]
والتمر حار في الثانية يابس في الأولى وقيل : رطب فيها وقيل : معتدل وهو غذاء فاضل حافظ للصحة لا سيما لمن اعتاد الغذاء به كأهل المدينة وغيرهم وهو من أفضل الأغذية في البلاد الباردة والحارة التي حرارتها في الدرجة الثانية وهو لهم أنفع منه لأهل البلاد الباردة لبرودة بواطن سكانها وحرارة بواطن سكان البلاد الباردة ولذلك يكثر أهل الحجاز واليمن والطائف وما يليهم من البلاد المشابهة لها من الأغذية الحارة ما لا يتأتى لغيرهم كالتمر والعسل وشاهدناهم يضعون في أطعمتهم من الفلفل والزنجبيل فوق ما يضعه غيرهم نحو عشرة أضعاف أو أكثر ويأكلون الزنجبيل كما يأكل غيرهم الحلوى ولقد شاهدت من يتنقل به منهم كما يتنقل بالنقل ويوافقهم ذلك ولا يضرهم لبرودة أجوافهم وخروج الحرارة إلى ظاهر الجسد كما تشاهد مياه الآبار تبرد في الصيف وتسخن في الشتاء وكذلك تنضج المعدة من الأغذية الغليظة في الشتاء ما لا تنضجه في الصيف
وأما أهل المدينة فالتمر لهم يكاد أن يكون بمنزلة الحنطة لغيرهم وهو قوتهم ومادتهم وتمر العالية من أجود أصناف تمرهم فإنه متين الجسم لذيذ الطعم صادق الحلاوة والتمر يدخل في الأغذية والأدوية والفاكهة وهو يوافق أكثر الأبدان مقو للحار الغريزي ولا يتولد عنه من الفضلات الرديئة ما يتولد عن غيره من الأغذية والفاكهة بل يمنع لمن اعتاده من تعفن الأخلاط وفسادها
وهذا الحديث من الخطاب الذي أريد به الخاص كأهل المدينة ومن جاورهم ولا ريب أن للأمكنة اختصاصا بنفع كثير من الأدوية في ذلك المكان دون غيره فيكون الدواء الذي قد ينبت في هذا المكان نافعا من الداء ولا يوجد فيه ذلك النفع إذا نبت في مكان غيره لتأثير نفس التربة أو الهواء أو هما جميعا فإن للأرض خواص وطبائع يقارب اختلافها اختلاف طبائع الإنسان وكثير من النبات يكون في بعض البلاد غذاء مأكولا وفي بعضها سما قاتلا ورب أدوية لقوم أغذية لآخرين وأدوية لقوم من أمراض هي أدوية للآخرين في أمراض سواها وأدوية لأهل بلد لا تناسب غيرهم ولا تنفعهم
وأما خاصية السبع فإنها قد وقعت قدرا وشرعا فخلق الله عز و جل السماوات سبعا والأرضين سبعا والأيام سبعا والإنسان كمل خلقه في سبعة أطوار وشرع الله سبحانه لعباده الطواف سبعا والسعي بين الصفا والمروة سبعا ورمي الجمار سبعا سبعا وتكبيرات العيدين سبعا في الأولى وقال صلى الله عليه و سلم : [ مروهم بالصلاة لسبع ] : [ وإذا صار للغلام سبع سنين خير بين أبويه ] في رواية وفي رواية أخرى : [ أبوه أحق به من أمه ] وفي ثالثة : [ أمه أحق به ] وأمر النبي صلى الله عليه و سلم في مرضه أن يصب عليه من سبع قرب وسخر الله الريح على قوم عاد سبع ليال ودعا النبي صلى الله عليه و سلم أن يعينه الله على قومه بسبع كسبع يوسف ومثل الله سبحانه ما يضاعف به صدقة المتصدق بحبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والسنابل التي رآها صاحب يوسف سبعا والسنين التي زرعوها دأبا سبعا وتضاعف الصدقة إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ويدخل الجنة من هذه الأمة بغير حساب سبعون ألفا
فلا ريب أن لهذا العدد خاصية ليست لغيره والسبعة جمعت معاني العدد كله وخواصه فإن العدد شفع ووتر والشفع : أول وثان والوتر : كذلك فهذه أربع مراتب : شفع أول وثان ووتر أول وثان ولا تجتمع هذه المراتب في أقل من سبعة وهي عدد كامل جامع لمراتب العدد الأربعة أعني الشفع والوتر والأوائل والثواني ونغني بالوتر الأول الثلاثة وبالثاني الخمسة وبالشفع الأول الإثنين وبالثاني الأربعة وللأطباء اعتناء عظيم بالسبعة ولا سيما في البحارين وقد قال بقراط : كل شئ من هذا العالم فهو مقدر على سبعة أجزاء والنجوم سبعة والأيام سبعة وأسنان الناس سبعة أولها طفل إلى سبع ثم صبي إلى أربع عشرة ثم مراهق ثم شاب ثم كهل ثم شيخ ثم هرم إلى منتهى العمر والله تعالى أعلم بحكمته وشرعه وقدره في تخصيص هذا العدد هل هو لهذا المعنى أو لغيره ؟
ونفع هذا العدد من هذا التمر من هذا البلد من هذه البقعة بعينها من السم والسحر بحيث تمنع إصابته من الخواص التي لو قالها بقراط وجالينوس وغيرهما من الأطباء لتلقاها عنهم الأطباء بالقبول والإذعان والإنقياد مع أن القائل إنما معه الحدس والتخمين والظن فمن كلامه كله يقين وقطع وبرهان ووحي أولى أن تتلقى أقواله بالقبول والتسليم وترك الإعتراض وأدوية السموم تارة تكون بالكيفية وتارة تكون بالخاصية كخواص كثير من الأحجار والجواهر واليواقيت والله أعلم (4/88)
فصل
ويجوز نفع التمر المذكور في بعض السموم فيكون الحديث من العام المخصوص ويجوز نفعه لخاصية تلك البلد وتلك التربة الخاصة من كل سم ولكن ها هنا أمر لا بد من بيانه وهو أن من شرط انتفاع العليل بالدواء قبوله واعتقاد النفع به فتقبله الطبيعة فتستعين به على دفع العلة حتى إن كثيرا من المعالجات ينفع بالإعتقاد وحسن القبول وكمال التلقي وقد شاهد الناس من ذلك عجائب وهذا لأن الطبيعة يشتد قبولها له وتفرح النفس به فتنتعش القوة ويقوى سلطان الطبيعة وينبعث الحار الغريزي فيساعد على دفع المؤذي وبالعكس يكون كثير من الأدوية نافعا لتلك العلة فيقطع عمله سوء اعتقاد العليل فيه وعدم أخذ الطبيعة له بالقبول فلا يجدي عليها شيئا واعتبر هذا بأعظم الأدوية والأشفية وأنفعها للقلوب والأبدان والمعاش والمعاد والدنيا والآخرة وهو القرآن الذي هو شفاء من كل داء كيف لا ينفع القلوب التي لا تعتقد فيه الشفاء والنفع بل لا يزيدها إلا مرضا إلى مرضها وليس لشفاء القلوب دواء قط أنفع من القرآن فإنه شفاؤها التام الكامل الذي لا يغادر فيها سقما إلا أبرأه ويحفظ عليها صحتها المطلقة ويحميها الحمية التامة من كل مؤذ ومضر ومع هذا فإعراض أكثر القلوب عنه وعدم اعتقادها الجازم الذي لا ريب فيه أنه كذلك وعدم استعماله والعدول عنه إلى الأدوية التي ركبها بنو جنسها حال بينها وبين الشفاء به وغلبت العوائد واشتد الإعراض وتمكنت العلل والأدواء المزمنة من القلوب وتربى المرضى والاطباء على علاج بني جنسهم وما وضعه لهم شيوخهم ومن يعظمونه ويحسنون به ظنونهم فعظم المصاب واستحكم الداء وتركبت أمراض وعلل أعيا عليهم علاجها وكلما عالجوها بتلك العلاجات الحادثة تفاقم أمرها وقويت ولسان الحال ينادي عليهم :
( ومن العجائب والعجائب جمة ... قرب الشفاء وما إليه وصول )
( كالعيس في البيداء يقتلها الظما ... والماء فوق ظهورها محمول ) (4/92)
فصل
في هديه صلى الله عليه و سلم في دفع ضرر الأغذية والفاكهة وإصلاحها بما يدفع ضررها ويقوي نفعها
ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن جعفر قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يأكل الرطب بالقثاء
والرطب : حار رطب في الثانية يقوي المعدة الباردة ويوافقها ويزيد في الباه ولكنه سريع التعفن معطش معكر للدم مصدع مولد للسدد ووجع المثانة ومضر بالأسنان والقثاء بارد رطب في الثانية مسكن للعطش منعش للقوى بشمه لما فيه من العطرية مطفئ لحرارة المعدة الملتهبة وإذا جفف بزره ودق واستحلب بالماء وشرب سكن العطش وأدر البول ونفع من وجع المثانة وإذا دق ونخل ودلك به الأسنان جلاها وإذا دق ورقه وعمل منه ضماد مع الميبختج نفع من عضة الكلب الكلب
وبالجملة : فهذا حار وهذا بارد وفي كل منهما صلاح للآخر وإزالة لأكثر ضرره ومقاومة كل كيفية بضدها ودفع سورتها بالأخرى وهذا أصل العلاج كله وهو أصل في حفظ الصحة بل علم الطب كله يستفاد من هذا وفي استعمال ذلك وأمثاله في الأغذية والأدوية إصلاح لها وتعديل ودفع لما فيها من الكيفيات المضرة لما يقابلها وفي ذلك عون على صحة البدن وقوته وخصبه قالت عائشة رضي الله عنها : سمنوني بكل شئ فلم أسمن فسمنوني بالقثاء والرطب فسمنت
وبالجملة : فدفع ضرر البارد بالحار والحار بالبارد والرطب باليابس واليابس بالرطب وتعديل أحدهما بالآخر من أبلغ أنواع العلاجات وحفظ الصحة ونظير هذا ما تقدم من أمره بالسنا والسنوت وهو العسل الذي فيه شئ من السمن يصلح به السنا ويعدله فصلوات الله وسلامه على من بعث بعمارة القلوب والأبدان وبمصالح الدنيا والآخرة (4/93)
فصل
في هديه صلى الله عليه و سلم في الحمية
الدواء كله شيئان : حمية وحفظ صحة فإذا وقع التخليط احتيج إلى الإستفراغ الموافق وكذلك مدار الطب كله على هذه القواعد الثلاثة والحمية : حميتان : حمية عما يجلب المرض وحمية عما يزيده فيقف على حاله فالأول : حمية الأصحاء والثانية : حمية المرضى فإن المريض إذا احتمى وقف مرضه عن التزايد وأخذت القوى في دفعه والأصل في الحمية قوله تعالى : { وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا } [ النساء : 43 ، المائدة : 6 ] فحمى المريض من استعمال الماء لأنه يضره
وفي سنن ابن ماجه وغيره عن أم المنذر بنت قيس الأنصارية قالت : [ دخل علي رسول الله صلى الله عليه و سلم ومعه علي وعلي ناقه من مرض ولنا دوالي معلقة فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم يأكل منها وقام علي يأكل منها فطفق رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول لعلي : إنك ناقة حتى كف قالت : وصنعت شعيرا وسلقا فجئت به فقال النبي صلى الله عليه و سلم لعلي : من هذا أصب فإنه أنفع لك ] وفي لفظ فقال : [ من هذا فأصب فإنه أوفق لك ]
وفي سنن ابن ماجه أيضا عن صهيب قال : [ قدمت على النبي صلى الله عليه و سلم وبين يديه خبز وتمر فقال : ادن فكل فأخذت تمرا فأكلت فقال : أتأكل تمرا وبك رمد ؟ فقلت : يا رسول الله ! أمضع من الناحية الأخرى فتبسم رسول الله صلى الله عليه و سلم ]
وفي حديث محفوظ عنه صلى الله عليه و سلم : [ إن الله إذا أحب عبدا حماه من الدنيا كما يحمي أحدكم مريضه عن الطعام والشراب ] وفي لفظ : [ إن الله يحمي عبده المؤمن من الدنيا ]
وأما الحديث الدائر على ألسنة كثير من الناس : الحمية رأس الدواء والمعدة بيت الداء وعودوا كل جسم ما اعتاد فهذا الحديث إنما هو من كلام الحارث بن كلدة طبيب العرب ولا يصح رفعه إلى النبي صلى الله عليه و سلم قاله غير واحد من أئمة الحديث ويذكر عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ أن المعدة حوض البدن والعروق إليها واردة فإذا صحت المعدة صدرت العروق بالصحة وإذا سقمت المعدة صدرت العروق بالسقم ]
وقال الحارث : رأس الطب الحمية والحمية عندهم للصحيح في المضرة بمنزلة التخليط للمريض والناقه وأنفع ما تكون الحمية للناقه من المرض فإن طبيعته لم ترجع بعد إلى قوتها والقوة الهاضمة ضعيفة والطبيعة قابلة والأعضاء مستعدة فتخليطه يوجب انتكاسها وهو أصعب من ابتداء مرضه
واعلم أن في رفع النبي صلى الله عليه و سلم لعلي من الأكل من الدوالي وهو ناقه أحسن التدبير فان الدوالي أقناء من الرطب تعلق في البيت للأكل بمنزلة عناقيد العنب والفاكهة تضر بالناقه من المرض لسرعة استحالتها وضعف الطبيعة عن دفعها فإنها لم تتمكن بعد من قوتها وهي مشغولة بدفع آثار العلة وإزالتها من البدن
وفي الرطب خاصة نوع ثقل على المعدة فتشتغل بمعالجته وإصلاحه عما هي بصدده من إزالة المرض وآثاره فإما أن تقف تلك البقية وإما أن تتزايد فلما وضح بين يديه السلق والشعير أمره أن يصيب منه فإنه من أنفع الأغذية للناقه فإن في ماء الشعير من التبريد والتغذية والتلطيف والتليين وتقوية الطبيعة ما هو أصلح للناقه ولا سيما إذا طبخ بأصول السلق فهذا من أوفق الغذاء لمن في معدته ضعف ولا يتولد عنه من الأخلاط ما يخاف منه
وقال زيد بن أسلم : حمى عمر رضي الله عنه مريضا له حتى إنه من شدة ما حماه كان يمص النوى
وبالجملة : فالحمية من أنفع الأدوية قبل الداء فتمنع حصوله وإذا حصل فتمنع تزايده وانتشاره (4/94)
فصل
ومما ينبغي أن يعلم أن كثيرا مما يحمى عنه العليل والناقه والصحيح إذا اشتدت الشهوة إليه ومالت إليه الطبيعة فتناول منه الشئ اليسير الذي لا تعجز الطبيعة عن هضمه لم يضره تناوله بل ربما انتفع به فإن الطبيعة والمعدة تتلقيانه بالقبول والمحبة فيصلحان ما يخشى من ضرره وقد يكون أنفع من تناول ما تكرهه الطبيعة وتدفعه من الدواء ولهذا أقر النبي صلى الله عليه و سلم صهيبا وهو أرمد على تناول التمرات اليسيرة وعلم أنها لا تضره ومن هذا ما يروى عن علي أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو أرمد وبين يدي النبي صلى الله عليه و سلم تمر يأكله فقال : [ يا علي ! تشتهيه ؟ ورمى إليه بتمرة ثم بأخرى حتى رمى إليه سبعا ثم قال : حسبك يا علي ]
ومن هذا ما رواه ابن ماجه في سننه من حديث عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم عاد رجلا فقال له : [ ما تشتهي ؟ فقال : أشتهي خبز بر وفي لفظ : أشتهي كعكا فقال النبي صلى الله عليه و سلم : من كان عنده خبز بر فيبعث إلى أخيه ثم قال : إذا اشتهى مريض أحدكم شيئا فليطعمه ]
ففي هذا الحديث سر طبي لطيف فإن المريض إذا تناول ما يشتهيه عن جوع صادق طبيعي وكان فيه ضرر ما كان أنفع وأقل ضررا مما لا يشتهيه وإن كان نافعا في نفسه فإن صدق شهوته ومحبة الطبيعة يدفع ضرره وبغض الطبيعة وكراهتها للنافع قد يجلب لها منه ضررا وبالجملة : فاللذيذ المشتهى تقبل الطبيعة عليه بعناية فتهضمه على أحمد الوجوه سيما عند انبعاث النفس إليه بصدق الشهوة وصحة القوة والله أعلم (4/97)
فصل
في هديه صلى الله عليه و سلم في علاج الرمد بالسكون والدعة وترك الحركة والحمية مما يهيج الرمد
وقد تقدم أن النبي صلى الله عليه و سلم حمى صهيبا من التمر وأنكر عليه أكله وهو أرمد وحمى عليا من الرطب لما أصابه الرمد
وذكر أبو نعيم في كتاب الطب النبوي : أنه صلى الله عليه و سلم كان إذا رمدت عين امرأة من نسائه لم يأتها حتى تبرأ عينها
الرمد : ورم حار يعرض في الطبقة الملتحمة من العين وهو بياضها الظاهر وسببه انصباب أحد الأخلاط الأربعة أو ريح حارة تكثر كميتها في الرأس والبدن فينبعث منها قسط إلى جوهر العين أو ضربة تصيب العين فترسل الطبيعة إليها من الدم والروح مقدارا كثيرا تروم بذلك شفاءها مما عرض لها ولأجل ذلك يرم العضو المضروب والقياس يوجب ضده
واعلم أنه كما يرتفع من الأرض إلى الجو بخاران أحدهما : حار يابس والآخر : حار رطب فينعقدان سحابا متراكما ويمنعان أبصارنا من إدراك السماء فكذلك يرتفع من قعر المعدة إلى منتهاها مثل ذلك فيمنعان النظر ويتولد عنهما علل شتى فإن قويت الطبيعة على ذلك ودفعته إلى الخياشيم أحدث الزكام وإن دفعته إلى اللهاة والمنخرين أحدث الخناق وإن دفعته إلى الجنب أحدث الشوصة وإن دفعته إلى الصدر أحدث النزلة وإن انحدر إلى القلب أحدث الخبطة وإن دفعته إلى العين أحدث رمدا وإن انحدر إلى الجوف أحدث السيلان وإن دفعته إلى منازل الدماغ أحدث النسيان وإن ترطبت أوعية الدماغ منه وامتلأت به عروقه أحدث النوم الشديد ولذلك كان النوم رطبا والسهر يابسا وإن طلب البخار النفوذ من الرأس فلم يقدر عليه أعقبه الصداع والسهر وإن مال البخار إلى أحد شقي الرأس أعقبه الشقيقة وإن ملك قمة الرأس ووسط الهامة أعقبه داء البيضة وإن برد منه حجاب الدماغ أو سخن أو ترطب وهاجت منه أرياح أحدث العطاس وإن أهاج الرطوبة البلغمية فيه حتى غلب الحار الغريزي أحدث الإغماء والسكات وإن أهاج المرة السوداء حتى أظلم هواء الدماغ أحدث الوسواس وإن فاض ذلك إلى مجاري العصب أحدث الصرع الطبيعي وإن ترطبت مجامع عصب الرأس وفاض ذلك في مجاريه أعقبه الفالج وإن كان البخار من مرة صفراء ملتهبة محمية للدماغ أحدث البرسام فإن شركه الصدر في ذلك كان سرساما فافهم هذا الفصل
والمقصود : أن أخلاط البدن والرأس تكون متحركة هائجة في حال الرمد والجماع مما يزيد حركتها وثورانها فإنه حركة كلية للبدن والروح والطبيعة فأما البدن فيسخن بالحركة لا محالة والنفس تشتد حركتها طلبا للذة واستكمالها والروح تتحرك تبعا لحركة النفس والبدن فإن أول تعلق الروح من البدن بالقلب ومنه ينشأ الروح وتنبث في الأعضاء وأما حركة الطبيعة فلأجل أن ترسل ما يجب إرساله من المني على المقدار الذي يجب إرساله
وبالجملة : فالجماع حركة كلية عامة يتحرك فيها البدن وقواه وطبيعته وأخلاطه والروح والنفس فكل حركة فهى مثيرة للأخلاط مرققة لها توجب دفعها وسيلانها إلى الأعضاء الضعيفة والعين في حال رمدها أضعف ما تكون فأضر ما عليها حركة الجماع
قال بقراط في كتاب الفصول : وقد يدل ركوب السفن أن الحركة تثور الأبدان هذا مع أن في الرمد منافع كثيرة منها ما يستدعيه من الحمية والإستفراغ وتنقية الرأس والبدن من فضلاتهما وعفوناتهما والكف عما يؤذي النفس والبدن من الغضب والهم والحزن والحركات العنيفة والأعمال الشاقة وفي أثر سلفي : لا تكرهوا الرمد فإنه يقطع عروق العمى
ومن أسباب علاجه ملازمة السكون والراحة وترك مس العين والإشتغال بها فإن أضداد ذلك يوجب انصباب المواد إليها وقد قال بعض السلف : مثل أصحاب محمد مثل العين ودواء العين ترك مسها وقد روي في حديث مرفوع الله أعلم به : [ علاج الرمد تقطير الماء البارد في العين ] وهو من أنفع الأدوية للرمد الحار فإن الماء دواء بارد يستعان به على إطفاء حرارة الرمد إذا كان حارا ولهذا قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لامرأته زينب وقد اشتكت عينها : لو فعلت كما فعل رسول الله صلى الله عليه و سلم كان خيرا لك وأجدر أن تشفي تنضحين في عينك الماء ثم تقولين : [ أذهب البأس رب الناس واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما ] وهذا مما تقدم مرارا أنه خاص ببعض البلاد وبعض أوجاع العين فلا يجعل كلام النبوة الجزئي الخاص كليا عاما ولا الكلي العام جزئيا خاصا فيقع من الخطأ وخلاف الصواب ما يقع والله أعلم (4/98)
فصل
في هديه صلى الله عليه و سلم في علاج الخدران الكلي الذي يجمد معه البدن
ذكر أبو عبيد في غريب الحديث من حديث أبي عثمان النهدي : أن قوما مروا بشجرة فأكلوا منها فكأنما مرت بهم ريح فأجمدتهم فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ قرسوا الماء في الشنان وصبوا عليهم فيما بين الأذانين ] ثم قال أبوعبيد : قرسوا : يعني بردوا وقول الناس : قد قرس البرد إنما هو من هذا بالسين ليس بالصاد والشنان : الأسقية والقرب الخلقان يقال للسقاء : شن وللقربة : شنة وإنما ذكر الشنان دون الجدد لأنها أشد تبريدا للماء وقوله : بين الأذانين يعني أذان الفجر والإقامة فسمى الإقامة أذانا انتهى كلامه
قال بعض الأطباء : وهذا العلاج من النبي صلى الله عليه و سلم من أفضل علاج هذا الداء إذا كان وقوعه بالحجاز وهي بلاد حارة يابسة والحار الغريزي ضعيف في بواطن سكانها وصب الماء البارد عليهم في الوقت المذكور - وهو أبرد أوقات اليوم - يوجب جمع الحار الغريزي المنتشر في البدن الحامل لجميع قواه فيقوي القوة الدافعة ويجتمع من أقطار البدن إلى باطنه الذي هو محل ذاك الداء ويستظهر بباقي القوى على دفع المرض المذكور فيدفعه بإذن الله عز و جل ولو أن بقراط أو جالينوس أو غيرهما وصف هذا الدواء لهذا الداء لخضعت له الأطباء وعجبوا من كمال معرفته (4/101)
فصل
في هديه صلى الله عليه و سلم في إصلاح الطعام الذي يقع فيه الذباب وإرشاده إلى دفع مضرات السموم بأضدادها
في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فامقلوه فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء ]
وفي سنن ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ أحد جناحي الذباب سم والآخر شفاء فإذا وقع في الطعام فامقلوه فإنه يقدم السم ويؤخر الشفاء ]
هذا الحديث فيه أمران : أمر فقهي وأمر طبي فأما الفقهي فهو دليل ظاهر الدلالة جدا على أن الذباب إذا مات في ماء أو مائع فإنه لا ينجسه وهذا قول جمهور العلماء ولا يعرف في السلف مخالف في ذلك ووجه الإستدلال به أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر بمقله وهو غمسه في الطعام ومعلوم أنه يموت من ذلك ولا سيما إذا كان الطعام حارا فلو كان ينجسه لكان أمرا بإفساد الطعام وهو صلى الله عليه و سلم إنما أمر بإصلاحه ثم عدي هذا الحكم إلى كل ما لا نفس له سائلة كالنحلة والزنبور والعنكبوت وأشباه ذلك إذ الحكم يعم بعموم علته وينتفي لانتفاء سببه فلما كان سجب التنجيس هو الدم المحتقن في الحيوان بموته وكان ذلك مفقودا فيما لا دم له سائل انتفى الحكم بالتنجيس لانتفاء علته
ثم قال من لم يحكم بنجاسة عظم الميتة : إذا كان هذا ثابتا في الحيوان الكامل مع ما فيه من الرطوبات والفضلات وعدم الصلابة فثبوته في العظم الذي هو أبعد عن الرطوبات والفضلات واحتقان الدم أولى وهذا في غاية القوة فالمصير إليه أولى
وأول من حفظ عنه في الإسلام أنه تكلم بهذه اللفظة فقال : ما لا نفس له سائلة إبراهيم النخعي وعنه تلقاها الفقهاء - والنفس في اللغة : يعبر بها عن الدم ومنه نفست المرأة - بفتح النون - إذا حاضت ونفست - بضمها - إذا ولدت
وأما المعنى الطبي فقال أبو عبيد : معنى امقلوه : اغمسوه ليخرج الشفاء منه كما خرج الداء يقال للرجلين : هما يتماقلان إذا تغاطا في الماء
واعلم أن في الذباب عندهم قوة سمية يدل عليها الورم والحكة العارضة عن لسعه وهي بمنزلة السلاح فإذا سقط فيما يؤذيه اتقاه بسلاحه فأمر النبي صلى الله عليه و سلم أن يقابل تلك السمية بما أودعه الله سبحانه في جناحه الآخر من الشفاء فيغمس كله في الماء والطعام فيقابل المادة السمية المادة النافعة فيزول ضررها وهذا طب لا يهتدي إليه كبار الأطباء وأئمتهم بل هو خارج من مشكاة النبوة ومع هذا فالطبيب العالم العارف الموفق يخضع لهذا العلاج ويقر لمن جاء به بأنه أكمل الخلق على الإطلاق وأنه مؤيد بوحي إلهي خارج عن القوى البشرية
وقد ذكر غير واحد من الأطباء أن لسع الزنبور والعقرب إذا دلك موضعه بالذباب نفع منه نفعا بينا وسكنه وما ذاك إلا للمادة التي فيه من الشفاء وإذا دلك به الورم الذي يخرج في شعر العين المسمى شعرة بعد قطع رؤوس الذباب أبرأه (4/101)
فصل
في هديه صلى الله عليه و سلم في علاج البثرة
ذكر ابن السني في كتابه عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه و سلم قالت : [ دخل علي رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد خرج في أصبعي بثرة فقال : عندك ذريرة ؟ قلت : نعم قال : ضعيها عليها وقولي : اللهم مصغر الكبير ومكبر الصغير صغر ما بي ]
الذريرة : دواء هندي يتخذ من قصب الذريرة وهي حارة يابسة تنفع من أورام المعدة والكبد والإستسقاء وتقوي القلب لطيبها وفي الصحيحين عن عائشة أنها قالت : طيبت رسول الله صلى الله عليه و سلم بيدي بذريرة في حجة الوداع للحل والإحرام
والبثرة : خراج صغير يكون عن مادة حارة تدفعها الطبيعة فتسترق مكانا من الجسد تخرج منه فهي محتاجة إلى ما ينضجها ويخرجها والذريرة أحد ما يفعل بها ذلك فإن فيها إنضاجا وإخراجا مع طيب رائحتها مع أن فيها تبريدا للنارية التي في تلك المادة وكذلك قال صاحب القانون : إنه لا أفضل لحرق النار من الذريرة بدهن الورد والخل (4/103)
فصل
في هديه صلى الله عليه و سلم في علاج الأورام والخرجات التي تبرأ بالبط والبزل
يذكر عن علي أنه قال : دخلت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم على رجل يعوذه بظهره ورم فقالوا : يا رسول الله ! بهذه مدة قال : بطوا عنه قال علي : فما برحت حتى بطت والنبي صلى الله عليه و سلم شاهد
ويذكر عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر طبيبا أن يبط بطن رجل أجوى البطن فقيل : يا رسول الله : هل ينفع الطب ؟ قال : [ الذي أنزل الداء أنزل الشفاء فيما شاء ]
الورم : مادة في حجم العضو لفضل مادة غير طبيعية تنصب إليه ويوجد في أجناس الأمراض كلها والمواد التي تكون عنها من الأخلاط الأربعة والمائية والريح وإذا اجتمع الورم سمي خراجا وكل ورم حار يؤول أمره إلى أحد ثلاثة أشياء : إما تحلل وإما جمع مدة وإما استحالة إلى الصلابة فإن كانت القوة قوية استولت على مادة الورم وحللته وهي أصلح الحالات التي يؤول حال الورم إليها وإن كانت دون ذلك أنضجت المادة وأحالتها مدة بيضاء وفتحت لها مكانا أسالتها منه وإن نقصت عن ذلك أحالت المادة مدة غير مستحكمة النضج وعجزت عن فتح مكان في العضو تدفعها منه فيخاف على العضو الفساد بطول لبثها فيه فيحتاج حينئذ إلى إعانة الطبيب بالبط أو غيره لإخراج تلك المادة الرديئة المفسدة للعضو
وفي البط فائدتان : إحداهما : إخراج المادة الرديئة المفسدة
والثانية : منع اجتماع مادة أخرى إليها تقويها
وأما قوله في الحديث الثاني : [ إنه أمر طبيبا أن يبط بطن رجل أجوى البطن ] فالجوى يقال على معان منها : الماء المنتن الذي يكون في البطن يحدث عنه الإستسقاء
وقد اختلف الأطباء في بزله لخروج هذه المادة فمنعته طائفة منهم لخطره وبعد السلامة معه وجوزته طائفة أخرى وقالت : لا علاج له سواه وهذا عندهم إنما هو في الإستسقاء الزقي فإنه كما تقدم ثلاثة أنواع : طبلي وهو الذي ينتفخ معه البطن بمادة ريحية إذا ضربت عليه سمع له صوت كصوت الطبل ولحمي : وهو الذي يربو معه لحم جميع البدن بمادة بلغمية تفشو مع الدم في الأعضاء وهو أصعب من الأول وزقي : وهو الذي يجتمع معه في البطن الأسفل مادة رديئة يسمع لها عند الحركة خضخضة كخضخضة الماء في الزق وهو أردأ أنواعه عند الأكثرين من الأطباء وقالت طائفة : أردأ أنواعه اللحمي لعموم الآفة به
ومن جملة علاج الزقي إخراج ذلك بالبزل ويكون ذلك بمنزلة فصد العروق لإخراج الدم الفاسد لكنه خطر كما تقدم وإن ثبت هذا الحديث فهو دليل على جواز بزله والله أعلم (4/104)
فصل
في هديه صلى الله عليه و سلم في علاج المرضى بتطييب نفوسهم وتقوية قلوبهم
روى ابن ماجه في سننه من حديث أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إذا دخلتم على المريض فنفسوا له في الأجل فإن ذلك لا يرد شيئا وهو يطيب نفس المريض ]
وفي هذا الحديث نوع شريف جدا من أشرف أنواع العلاج وهو الإرشاد إلى ما يطيب نفس العليل من الكلام الذي تقوى به الطبيعة وتنتعش به القوة وينبعث به الحار الغريزي فيتساعد على دفع العلة أو تخفيفها الذي هو غاية تأثير الطبيب
وتفريح نفس المريض وتطييب قلبه وإدخال ما يسره عليه له تأثير عجيب في شفاء علته وخفتها فإن الأرواح والقوى تقوى بذلك فتساعد الطبيعة على دفع المؤذي وقد شاهد الناس كثيرا من المرضى تنتعش قواه بعيادة من يحبونه ويعظمونه ورؤيتهم لهم ولطفهم بهم ومكالمتهم إياهم وهذا أحد فوائد عيادة المرضى التي تتعلق بهم فإن فيها أربعة أنواع من الفوائد : نوع يرجع إلى المريض ونوع يعود على العائد ونوع يعود على أهل المريض ونوع يعود على العامة
وقد تقدم في هديه صلى الله عليه و سلم أنه كان يسأل المريض عن شكواه وكيف يجده ويسأله عما يشتهيه ويضع يده على جبهته وربما وضعها بين ثدييه ويدعو له ويصف له ما ينفعه في علته وربما توضأ وصب على المريض من وضوئه وربما كان يقول للمريض : [ لا بأس طهور إن شاء الله ] وهذا من كمال اللطف وحسن العلاج والتدبير (4/106)
فصل
في هديه صلى الله عليه و سلم في علاج الأبدان بما اعتادته من الأدوية والأغذية دون ما لم تعتده
هذا أصل عظيم من أصول العلاج وأنفع شئ فيه وإذا أخطأه الطبيب أضر المريض من حيث يظن أنه ينفعه ولا يعدل عنه إلى ما يجده من الأدوية في كتب الطب إلا طبيب جاهل فإن ملاءمة الأدوية والأغذية للأبدان بحسب استعدادها وقبولها وهؤلاء أهل البوادي والأكارون وغيرهم لا ينجع فيهم شراب اللينوفر والورد الطري ولا المغلي ولا يؤثر في طباعهم شيئا بل عامة أدوية أهل الحضر وأهل الرفاهية لا تجدي علهم والتجربة شاهدة بذلك ومن تأمل ما ذكرناه من العلاج انبوي رآه كله موافقا لعادة العليل وأرضه وما نشأ عليه فهذا أصل عظيم من أصول العلاج يجب الإعتناء به وقد صرح به أفاضل أهل الطب حتى قال طبيب العرب بل أطبهم الحارث بن كلدة وكان فيهم كابقراط في قومه : الحمية رأس الدواء والمعدة بيت الداء وعودوا كل بدن ما اعتاد وفي لفظ عنه : الأزم دواء والأزم : الإمساك عن الأكل يعني به الجوع وهو من أكبر الأدوية في شفاء الأمراض الإمتلائية كلها بحيث إنه أفضل في علاجها من المستفرغات إذا لم يخف من كثرة الإمتلاء وهيجان الأخلاط وحدتها أو غليانها
وقوله : المعدة بيت الداء المعدة : عضو عصبي مجوف كالقرعة في شكلها مركب من ثلاث طبقات مؤلفة من شظايا دقيقة عصبية تسمى الليف ويحيط بها لحم وليف إحدى الطبقات بالطول والأخرى بالعرض والثالثة بالورب وفم المعدة أكثر عصبا وقعرها أكثر لحما وفي باطنها خمل وهي محصورة في وسط البطن وأميل إلى الجانب الأيمن قليلا خلقت على هذه الصفة لحكمة لطيفة من الخالق الحكيم سبحانه وهي بيت الداء وكانت محلا للهضم الأول وفيها ينضج الغذاء وينحدر منها بعد ذلك إلى الكبد والأمعاء ويتخلف منه فيها فضلات قد عجزت القوة الهاضمة عن تمام هضمها إما لكثرة الغذاء أو لردائته أو لسوء ترتيب في استعماله أو لمجموع ذلك وهذه الأشياء بعضها مما لا يتخلص الإنسان منه غالبا فتكون المعدة بيت الداء لذلك وكأنه يشير بذلك إلى الحث على تقليل الغذاء ومنع النفس من اتباع الشهوات والتحرز عن الفضلات
وأما العادة فلأنها كالطبيعة للإنسان ولذلك يقال : العادة طبع ثان وهي قوة عظيمة في البدن حتى إن أمرا واحدا إذا قيس إلى أبدان مختلفة العادات كان مختلف النسبة إليها وإن كانت تلك الأبدان متفقة في الوجوه الأخرى مثال ذلك أبدان ثلاثة حارة المزاج في سن الشباب أحدها : عود تناول الأشياء الحارة والثاني : عود تناول الأشياء الباردة والثالث : عود تناول الأشياء المتوسطة فإن الأول متى تناول عسلا لم يضر به والثاني : متى تناوله أضر به والثالث : يضر به قليلا فالعادة ركن عظيم في حفظ الصحة ومعالجة الأمراض ولذلك جاء العلاج النبوي بإجراء كل بدن على عادته في استعمال الأغذية والأدوية وغير ذلك (4/107)
فصل
في هديه صلى الله عليه و سلم في تغذية المريض بألطف ما اعتاده من الأغذية
في الصحيحين من حديث عروة عن عائشة أنها كانت إذا مات الميت من أهلها واجتمع لذلك النساء ثم تفرقن إلى أهلهن أمرت ببرمة من تلبينة فطبخت وصنعت ثريدا ثم صبت التلبينة عليه ثم قالت : كلوا منها فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ التلبينة مجمة لفؤاد المريض تذهب ببعض الحزن ]
وفي السنن من حديث عائشة أيضا قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ عليكم بالبغيض النافع التلبين ] قالت : وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا اشتكى أحد من أهله لم تزل البرمة على النار حتى ينتهي أحد طرفيه يعني يبرأ أو يموت
وعنها : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا قيل له : إن فلانا وجع لا يطعم الطعام قال : [ عليكم بالتلبينة فحسوه إياها ] ويقول : [ والذي نفسي بيده إنها تغسل بطن أحدكم كما تغسل إحداكن وجهها من الوسخ ]
التلبين : هو الحساء الرقيق الذي هو في قوام اللبن ومنه اشتق إسمه قال الهروي : سميت تلبينة لشبهها باللبن لبياضها ورقتها وهذا الغذاء هو النافع للعليل وهو الرقيق النضيج لا الغليظ النيء وإذا شئت أن تعرف فضل التلبينة فاعرف فضل ماء الشعير بل هي ماء الشعير لهم فإنها حساء متخذ من دقيق الشعير بنخالته والفرق بينها وبين ماء الشعير أنه يطبخ صحاحا والتلبينة تطبخ منه مطحونا وهي أنفع منه لخروج خاصية الشعير بالطحن وقد تقدم أن للعادات تأثيرا في الإنتفاع بالأدوية والأغذية وكانت عادة القوم أن يتخذوا ماء الشعير منه مطحونا لا صحاحا وهو أكثر تغذية وأقوى فعلا وأعظم جلاء وإنما اتخذه أطباء المدن منه صحاحا ليكون أرق وألطف فلا يثقل على طبيعة المريض وهذا بحسب طبائع أهل المدن ورخاوتها وثقل ماء الشعير المطحون عليها والمقصود : أن ماء الشعير مطبوخا صحاحا ينفذ سريعا ويجلو جلاء ظاهرا ويغذي غذاء لطيفا وإذا شرب حارا كان جلاؤه أقوى ونفوذه أسرع وإنماؤه للحرارة الغريزية أكثر وتلميسه لسطوح المعدة أوفق
وقوله صلى الله عليه و سلم فيها : [ مجمة لفؤاد المريض ] يروى بوجهين بفتح الميم والجيم وبضم الميم وكسر الجيم والأول : أشهر ومعناه : أنها مريحة له أي : تريحه وتسكنه من الإجمام وهو الراحة وقوله : [ تذهب ببعض الحزن ] هذا - والله أعلم - لأن الغم والحزن يبردان المزاج ويضعفان الحرارة الغريزية لميل الروح الحامل لها إلى جهة القلب الذي هو منشؤها وهذا الحساء يقوي الحرارة الغريزية بزيادته في مادتها فتزيل أكثر ما عرض له من الغم والحزن
وقد يقال - وهو أقرب - : إنها تذهب ببعض الحزن بخاصية فيها من جنس خواص الأغذية المفرحة فإن من الأغذية ما يفرح بالخاصية والله أعلم
وقد يقال : إن قوى الحزين تضعف باستيلاء اليبس على أعضائه وعلى معدته خاصة لتقليل الغذاء وهذا الحساء يرطبها ويقويها ويغذيها ويفعل مثل ذلك بفؤاد المريض لكن المريض كثيرا ما يجتمع في معدته خلط مراري أو بلغمي أو صديدي وهذا الحساء يجلو ذلك عن المعدة ويسروه ويحدره ويميعه ويعدل كيفيته ويكسر سورته فيريحها ولا سيما لمن عادته الإغتذاء بخبز الشعير وهي عادة أهل المدينة إذ ذاك وكان هو غالب قوتهم وكانت الحنطة عزيزة عندهم والله أعلم (4/109)
فصل
في هديه صلى الله عليه و سلم في علاج السم الذي أصابه بخيبر من اليهود
ذكر عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك : [ أن امرأة يهودية أهدت إلى النبي صلى الله عليه و سلم شاة مصلية بخيبر فقال : ما هذه ؟ قالت : هدية وحذرت أن تقول : من الصدقة فلا يأكل منها فأكل النبي صلى الله عليه و سلم وأكل الصحابة ثم قال : أمسكوا ثم قال للمرأة : هل سممت هذه الشاة ؟ قالت : من أخبرك بهذا ؟ قال : هذا العظم لساقها وهو في يده ؟ قالت : نعم قال : لم ؟ قالت : أردت إن كنت كاذبا أن يستريح منك الناس وإن كنت نبيا لم يضرك قال : فاحتجم النبي صلى الله عليه و سلم ثلاثة على الكاهل وأمر أصحابه أن يحتجموا فاحتجموا فمات بعضهم ]
وفي طريق أخرى : واحتجم رسول الله صلى الله عليه و سلم على كاهله من أجل الذي أكل من الشاة حجمه أبو هند بالقرن والشفرة وهو مولى لبي بياضة من الأنصار وبقي بعد ذلك ثلاث سنين حتى كان وجعه الذي توفي فيه فقال : [ ما زلت أجد من الأكلة التي أكلت من الشاة يوم خيبر حتى كان هذا أوان انقطاع الأبهر مني ] فتوفي رسول الله صلى الله عليه و سلم شهيدا قاله موسى بن عقبة
معالجة السم تكون بالإستفراغات وبالأدوية التي تعارض فعل السم وتبطله إما بكيفياتها وإما بخواصها فمن عدم الدواء فليبادر إلى الإستفراغ الكلي وأنفعه الحجامة ولا سيما إذا كان البلد حارا والزمان حارا فإن القوة السمية تسري إلى الدم فتنبعث في العروق والمجاري حتى تصل إلى القلب فيكون الهلاك فالدم هو المنفذ الموصل للسم إلى القلب والأعضاء فإذا بادر المسموم وأخرج الدم خرجت معه تلك الكيفية السمية التي خالطته فإن كان استفراغا تاما لم يضره السم بل إما أن يذهب وإما أن يضعف فتقوى عليه الطبيعة فتبطل فعله أو تضعفه
ولما احتجم النبي صلى الله عليه و سلم احتجم في الكاهل وهو أقرب المواضع التي يمكن فيها الحجامة إلى القلب فخرجت الماده السمية مع الدم لا خروجا كليا بل بقي أثرها مع ضعفه لما يريد الله سبحانه من تكميل مراتب الفضل كلها له فلما أراد الله إكرامه بالشهادة ظهر تأثير ذلك الأثر الكامن من السم ليقضي الله أمرا كان مفعولا وظهر سر قوله تعالى لأعدائه من اليهود : { أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون } [ البقرة : 87 ] فجاء بلفظ كذبتم بالماضي الذي قد وقع منه وتحقق وجاء بلفظ : تقتلون بالمستقبل الذي يتوقعونه وينتظرونه والله أعلم (4/111)
فصل
في هديه صلى الله عليه و سلم في علاج السحر الذي سحرته اليهود به
قد أنكر هذا طائفة من الناس وقالوا : لا يجوز هذا عليه وظنوه نقصا وعيبا وليس الأمر كما زعموا بل هو من جنس ما كان يعتريه صلى الله عليه و سلم من الأسقام والأوجاع وهو مرض من الأمراض وإصابته به كإصابته بالسم لا فرق بينهما وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : سحر رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى إن كان ليخيل إليه أنه يأتي نساءه ولم يأتهن وذلك أشد ما يكون من السحر
قال القاضي عياض : والسحر مرض من الأمراض وعارض من العلل يجوز عليه صلى الله عليه و سلم كأنواع الأمراض مما لا ينكر ولا يقدح في نبوته وأما كونه يخيل إليه أنه فعل الشئ ولم يفعله فليس في هذا ما يدخل عليه داخلة في شئ من صدقة لقيام الدليل والإجماع على عصمته من هذا وإنما هذا فيما يجوز طروه عليه في أمر دنياه التي لم يبعث لسببها ولا فضل من أجلها وهو فيها عرضة للآفات كسائر البشر فغير بعيد أنه يخيل إليه من أمورها ما لا حقيقة له ثم ينجلي عنه كما كان
والمقصود : ذكر هديه في علاج هذا المرض وقد روي عنه فيه نوعان :
أحدهما - وهو أبلغهما - : استخراجه وإبطاله كما صح عنه صلى الله عليه و سلم أنه سأل ربه سبحانه في ذلك فدل عليه فاستخرجه من بئر فكان في مشط ومشاطة وجف طلعة ذكر فلما استخرجه ذهب ما به حتى كأنما أنشط من عقال فهذا من أبلغ ما يعالج به المطبوب وهذا بمنزلة إزالة المادة الخبيثة وقلعها من الجسد بالإستفراغ
والنوع الثانى : الإستفراغ في المحل الذي يصل إليه أذى السحر فإن للسحر تأثيرا في الطبيعة وهيجان أخلاطها وتشويش مزاجها فإذا ظهر أثره في عضو وأمكن استفراغ المادة الرديئة من ذلك العضو نفع جدا
وقد ذكر أبو عبيد في كتاب غريب الحديث له بإسناده عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن النبي صلى الله عليه و سلم احتجم على رأسه بقرن حين طب قال أبو عبيد : معنى طب : أي سحر
وقد أشكل هذا على من قل علمه وقال : ما للحجامة والسحر وما الرابطة بين هذا الداء وهذا الدواء ولو وجد هذا القائل أبقراط أو ابن سينا أو غيرهما قد نص على هذا العلاج لتلقاه بالقبول والتسليم وقال : قد نص عليه من لا يشك في معرفته وفضله
فاعلم أن مادة السحر الذي أصيب به صلى الله عليه و سلم انتهت إلى رأسه إلى إحدى قواه التي فيه بحيث كان يخيل إليه أنه يفعل الشئ ولم يفعله وهذا تصرف من الساحر في الطبيعة والمادة الدموية بحيث غلبت تلك المادة على البطن المقدم منه فغيرت مزاجه عن طبيعته الأصلية
والسحر : هو مركب من تأثيرات الأرواح الخبيثة وانفعال القوى الطبيعية عنها وهو أشد ما يكون من السحر ولا سيما في الموضع الذي انتهى السحر إليه واستعمال الحجامة على ذلك المكان الذي تضررت أفعاله بالسحر من أنفع المعالجة إذا استعملت على القانون الذي ينبغي
قال أبقراط : الأشياء التي ينبغي أن تستفرغ يجب أن تستفرغ من المواضع التي هي إليها أميل بالأشياء التي تصلح لاستفراغها
وقالت طائفة من الناس : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما أصيب بهذا الداء وكان يخيل إليه أنه فعل الشئ ولم يفعله ظن أن ذلك عن مادة دموية أو غيرها مالت إلى جهة الدماغ وغلبت على البطن المقدم منه فأزالت مزاجه عن الحالة الطبيعية له وكان استعمال الحجامة إذ ذاك من أبلغ الأدوية وأنفع المعالجة فاحتجم وكان ذلك قبل أن يوحى إليه أن ذلك من السحر فلما جاءه الوحي من الله تعالى وأخبره أنه قد سحر عدل إلى العلاج الحقيقي وهو استخراج السحر وإبطاله فسأل الله سبحانه فدله على مكانه فاستخرجه فقام كأنما أنشط من عقال وكان غاية هذا السحر فيه إنما هو في جسده وظاهر جوارحه لا على عقله وقلبه ولذلك لم يكن يعتقد صحة ما يخيل إليه من إتيان النساء بل يعلم أنه خيال لا حقيقة له ومثل هذا قد يحدث من بعض الأمراض والله أعلم (4/113)
فصل
ومن أنفع علاجات السحر الأدوية الإلهية بل هي أدويته النافعة بالذات فإنه من تأثيرات الأرواح الخبيثة السفلية ودفع تأثيرها يكون بما يعارضها ويقاومها من الأذكار والآيات والدعوات التي تبطل فعلها وتأثيرها وكلما كانت أقوى وأشد كانت أبلغ في القشرة وذلك بمنزلة التقاء جيشين مع كل واحد منهما عدته وسلاحه فأيهما غلب الآخر قهره وكان الحكم له فالقلب إذا كان ممتلئا من الله مغمورا بذكره وله من التوجهات والدعوات والأذكار والتعوذات ورد لا يخل به يطابق فيه قلبه لسانه كان هذا من أعظم الأسباب التي تمنع إصابة السحر له ومن أعظم العلاجات له بعد ما يصيبه
وعند السحرة : أن سحرهم إنما يتم تأثيره في القلوب الضعيفة المنفعلة والنفوس الشهوانية التي هي معلقة بالسفليات ولهذا فإن غالب ما يؤثر في النساء والصبيان والجهال وأهل البوادي ومن ضعف حظه من الدين والتوكل والتوحيد ومن لا نصيب له من الأوراد الإلهية والدعوات والتعوذات النبوية
وبالجملة : فسلطان تأثيره في القلوب الضعيفة المنفعلة التي يكون ميلها إلى السفليات قالوا : والمسحور هو الذي يعين على نفسه فإنا نجد قلبه متعلقا بشئ كثير الإلتفات إليه فيتسلط على قلبه بما فيه من الميل والإلتفات والأرواح الخبيثة إنما تتسلط على أرواح تلقاها مستعدة لتسلطها عليها بميلها إلى ما يناسب تلك الأرواح الخبيثة وبفراغها من القوة الإلهية وعدم أخذها للعدة التي تحاربها بها فتجدها فارغة لا عدة معها وفيها ميل إلى ما يناسبها فتتسلط عليها ويتمكن تأثيرها فيها بالسحر وغيره والله أعلم (4/116)
فصل
في هديه صلى الله عليه و سلم في الإستفراغ بالقئ
روى الترمذي في جامعه عن معدان بن أبي طلحة عن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه و سلم قاء فتوضأ فلقيت ثوبان في مسجد دمشق فذكرت له ذلك فقال : صدق أنا صببت له وضوءه قال الترمذي : وهذا أصح شئ في الباب
القئ : أحد الإستفراغات الخمسة التي هي أصول الإستفراغ وهي الإسهال والقئ وإخراج الدم وخروج الأبخرة والعرق وقد جاءت بها السنة
فأما الإسهال : فقد مر في حديث [ خير ما تداويتم به المشي ] وفي حديث [ السنا ]
وأما إخراج الدم فقد تقدم في أحاديث الحجامة
وأما استفراغ الأبخرة فذكره عقب هذا الفصل إن شاء الله
وأما الإستفراغ بالعرق فلا يكون غالبا بالقصد بل بدفع الطبيعة له إلى ظاهر الجسد فيصادف المسام مفتحة فيخرج منها
والقئ استفراغ من أعلا المعدة والحقنة من أسفلها والدواء من أعلاها وأسفلها والقئ : نوعان : نوع بالغلبة والهيجان ونوع بالإستدعاء والطلب فأما الأول : فلا يسوغ حبسه ودفعه إلا إذا أفرط وخيف منه التلف فيقطع بالأشياء التي تمسكه وأما الثاني : فأنفعه عند الحاجة إذا روعي زمانه وشروطه التي تذكر
وأسباب القئ عشرة
أحدها : غلبة المرة الصفراء وطفوها على رأس المعدة فتطلب الصعود
الثاني : من غلبة بلغم لزج قد تحرك في المعدة واحتاج إلى الخروج
الثالث : أن يكون من ضعف المعدة في ذاتها فلا تهضم الطعام فتقذفه إلى جهة فوق
الرابع : أن يخالطها خلط رديء ينصب إليها فيسيء هضمها ويضعف فعلها
الخامس : أن يكون من زيادة المأكول أو المشروب على القدر الذي تحتمله المعدة فتعجز عن إمساكه فتطلب دفعه وقذفه
السادس : أن يكون من عدم موافقة المأكول والمشروب لها وكراهتها له فتطلب دفعه وقذفه
السابع : أن يحصل فيها ما يثور الطعام بكيفيته وطبيعته فتقذف به
الثامن : القرف وهو موجب غثيان النفس وتهوعها
التاسع : من الأعراض النفسانية كالهم الشديد والغم والحزن وغلبة اشتغال الطبيعة والقوى الطبيعية به واهتمامها بوروده عن تدبير البدن وإصلاح الغذاء وإنضاجه وهضمه فتقذفه المعدة وقد يكون لأجل تحرك الأخلاط عند تخبط النفس فإن كل واحد من النفس والبدن ينفعل عن صاحبه ويؤثر في كيفيته
العاشر : نقل الطبيعة بأن يرى من يتقيأ فيغلبه هو القئ من غير استدعاء فإن الطبيعة نقالة
وأخبرني بعض حذاق الأطباء قال : كان لي ابن أخت حذق في الكحل فجلس كحالا فكان إذا فتح عين الرجل ورأى الرمد وكحله رمد هو وتكرر ذلك منه فترك الجلوس قلت له : فما سبب ذلك ؟ قال : نقل الطبيعة فإنها نقالة قال : وأعرف آخر كان رأى خراجا في موضع من جسم رجل يحكه فحك هو ذلك الموضع فخرجت فيه خراجة قلت : وكل هذا لا بد فيه من
استعداد الطبيعة وتكون المادة ساكنة فيها غير متحركة فتتحرك لسبب من هذه الأسباب فهذه أسباب لتحرك المادة لا أنها هي الموجبة لهذا العارض (4/117)
فصل
ولما كانت الأخلاط فى البلاد الحارة والأزمنة الحارة ترق وتنجذب إلى فوق كان القئ فيها أنفع ولما كانت في الأزمنة الباردة والبلاد الباردة تغلظ ويصعب جذبها إلى فوق كان استفراغها بالإسهال أنفع
وإزالة الأخلاط ودفعها تكون بالجذب والإستفراغ والجذب يكون من أبعد الطرق والإستفراغ من أقربها والفرق بينهما أن المادة إذا كانت عاملة في الإنصباب أو الترقي لم تستقر بعد فهي محتاجة إلى الجذب فإن كانت متصاعدة جذبت من أسفل وإن كانت منصبة جذبت من فوق وأما إذا اسقرت في موضعها استفرغت من أقرب الطرق إليها فمتى أضرت المادة بالأعضاء العليا اجتذبت من أسفل ومتى أضرت بالأعضاء السفلى اجتذبت من فوق ومتى استقرت استفرغت من أقرب مكان إليها ولهذا احتج النبي صلى الله عليه و سلم على كاهله تارة وفي رأسه أخرى وعلى ظهر قدمه تارة فكان يستفرغ مادة الدم المؤذي من أقرب مكان إليه والله أعلم (4/119)
فصل
والقئ ينقي المعدة ويقويها ويحد البصر ويزيل ثقل الرأس وينفع قروح الكلى والمثانة والامراض المزمنة كالجذام والإستسقاء والفالج والرعشة وينفع اليرقان
ويبنغي أن يستعمله الصحيح في الشهر مرتين متواليتين من غير حفظ دور ليتدارك الثاني ما قصر عنه الأول وينقي الفضلات التي انصبت بسببه والإكثار منه يضر المعدة ويجعلها قابلة للفضول ويضر بالأسنان والبصر والسمع وربما صدع عرقا ويجب أن يجتنبه من به ورم في الحلق أو ضعف في الصدر أو دقيق الرقبة أو مستعد لنفث الدم أو عسر الإجابة له
وأما ما يفعله كثير ممن يسيء التدبير وهو أن يمتلئ من الطعام ثم يقذفه ففيه آفات عديدة منها : أنه يعجل الهرم ويوقع في أمراض رديئة ويجعل القئ له عادة والقئ مع اليبوسة وضف الأحشاء وهزال المراق أو ضعف المستقيء خطر
وأحمد أوقاته الصيف والربيع دون الشتاء والخريف وينبغي عند القئ أن يعصب العينين ويقمط البطن ويغسل الوجه بماء بارد عند الفراغ وان يشرب عقيبه شراب التفاح مع يسير من مصطكى وماء الورد ينفعه نفعا بينا
والقئ يستفرغ من أعلى المعدة ويجذب من أسفل والإسهال بالعكس قال أبقراط : وينبغي أن يكون الإستفراغ في الصيف من فوق أكثر من الإستفراغ بالدواء وفي الشتاء من أسفل (4/120)
فصل
في هديه صلى الله عليه و سلم في الإرشاد إلى معالجة أحذق الطبيبين
ذكر مالك في موطئه : عن زيد بن أسلم أن رجلا في زمان رسول الله صلى الله عليه و سلم أصابه جرح فاحتقن الجرح الدم وأن الرجل دعا رجلين من بني أنمار فنظرا إليه فزعما أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لهما : [ أيكما أطب ؟ فقال : أوفي الطب خير يا رسول الله ؟ فقال : أنزل الدواء الذي أنزل الداء ]
ففي هذا الحديث أنه ينبغي الإستعانة في كل علم وصناعة بأحذق من فيها فالأحذق فإنه إلى الإصابة أقرب
وهكذا يجب على المستفتي أن يستعين على ما نزل به بالأعلم فالأعلم لأنه أقرب إصابة ممن هو دونه
وكذلك من خفيت عليه القبلة فإنه يقلد أعلم من يجده وعلى هذا فطر الله عباده كما أن المسافر في البر والبحر إنما سكون نفسه وطمأنينته إلى أحذق الدليلين وأخبرهما وله يقصد وعليه يعتمد فقد اتفقت على هذا الشريعة والفطرة والفعل
وقوله صلى الله عليه و سلم : [ أنزل الدواء الذي أنزل الداء ] قد جاء مثله عنه في أحاديث كثيرة فمنها ما رواه عمرو بن دينار عن هلال بن يساف قال : [ دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم على مريض يعوده فقال : أرسلوا إلى طبيب فقال قائل : وأنت تقول ذلك يا رسول الله ؟ قال : نعم إن الله عز و جل لم ينزل داء إلا أنزل له دواء ]
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة يرفعه : [ ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء ] وقد تقدم هذا الحديث وغيره
واختلف في معنى أنزل الداء والدواء فقالت طائفة : إنزاله إعلام العباد به وليس بشئ فإن النبي صلى الله عليه و سلم أخبر بعموم الإنزال لكل داء ودوائه وأكثر الخلق لا يعملون ذلك ولهذا قال : [ علمه من علمه وجهله من جهله ]
وقالت طائفة : إنزالهما : خلقهما ووضعهما في الأرض كما في الحديث الآخر : [ إن الله لم يضع داء إلا وضع له دواء ] وهذا وإن كان أقرب في الذي قبله فلفظة الإنزال أخص من لفظة الخلق والوضع فلا ينبغي إسقاط خصوصية اللفظة بلا موجب
وقالت طائفة : إنزالهما بواسطة الملائكة الموكلين بمباشرة الخلق من داء ودواء وغير ذلك فإن الملائكة موكلة بأمر هذا العالم وأمر النوع الإنساني من حين سقوطه في رحم أمه إلى حين موته فإنزال الداء والدواء مع الملائكة وهذا أقرب من الوجهين قبله
وقالت طائفة : إن عامة الأدواء والأدوية هي بواسطة إنزال الغيث من السماء الذي تتولد به الأغذية والأقوات والأدوية والأدواء وآلات ذلك كله وأسبابه ومكملاته وما كان منها من المعادن العلوية فهي تنزل من الجبال وما كان منها من الأودية والأنهار والثمار فداخل في اللفظ على طريق التغليب والإكتفاء عن الفعلين بفعل واحد يتضمنهما وهو معروف من لغة العرب بل وغيرها من الأمم كقول الشاعر :
( علفتها تبنا وماء باردا ... حتى غدت همالة عيناها )
وقول الآخر :
( ورأيت زوجك قد غدا ... متقلدا سيفا ورمحا )
وقول الآخر :
( إذا ما الغانيات برزن يوما ... وزججن الحواجب والعيونا )
وهذا أحسن مما قبله من الوجوه والله أعلم
وهذا من تمام حكمة الرب عز و جل وتمام ربوبيته فإنه كما ابتلى عباده بالأدواء أعانهم عليها بما يسره لهم من الأدوية وكما ابتلاهم بالذنوب أعانهم عليها بالتوبة والحسنات الماحية والمصائب المكفرة وكما ابتلاهم بالأرواح الخبيثة من الشياطين أعانهم عليها بجند من الأرواح الطيبة وهم الملائكة وكما ابتلاهم بالشهوات أعانهم على قضائها بما يسره لهم شرعا وقدرا من المشتهيات اللذيذة النافعة فما ابتلاكم سبحانه بشئ إلا أعطاهم ما يستعينون به على ذلك البلاء ويدفعونه به ويبقى التفاوت بينهم في العلم بذلك والعلم بطريق حصوله والتوصل إليه وبالله المستعان (4/121)
فصل
في هديه صلى الله عليه و سلم في تضمين من طب الناس وهو جاهل بالطب
روى أبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من تطبب ولم يعلم منه الطب قبل ذلك فهو ضامن ]
هذا الحديث يتعلق به ثلاثة أمور : أمر لغوي وأمر فقهي وأمر طبي
فأما اللغوي : فالطب بكسر الطاء في لغة العرب يقال : على معان منها الإصلاح يقال : طببته : إذا أصلحته ويقال : له طب بالأمور أي : لطف وسياسة قال الشاعر :
( وإذا تغير من تميم أمرها ... كنت الطبيب لها برأي ثاقب )
ومنها : الحذق قال الجوهري : كل حاذق طبيب عند العرب قال أبو عبيد : أصل الطب : الحذق بالأشياء والمهارة بها يقال للرجل : طب وطبيب : إذا كان كذلك وإن كان في غير علاج المريض وقال غيره : رجل طبيب : أي حاذق سمي طبيبا لحذقه وفطنته قال علقمة :
( فإن تسألوني بالنساء فإنني ... خبير بأدواء النساء طبيب )
( إذا شاب رأس المرء أو قل ماله ... فليس له من ودهن نصيب )
وقا ل عنترة :
( إن تغد في دوني القناع فإنني ... طب بأخذ الفارس المستلئم )
أي : إن ترخي عني قناعك وتستري وجهك رغبة عني فإني خبير حاذق بأخذ الفارس الذي قد لبس لأمة حربه
ومنها : العادة يقال : ليس ذاك بطبي أي : عادتي قال فروة بن مسيك :
( فما إن طبنا جبن ولكن ... منايانا ودولة آخرينا )
وقال أحمد بن الحسين المتنبي :
( وما التيه طبي فيهم غير أنني ... بغيض إلي الجاهل المتعاقل )
ومنها : السحر يقال : رجل مطبوب أي : مسحور وفي الصحيح في حديث عائشة لما سحرت يهود رسول الله صلى الله عليه و سلم وجلس الملكان عند رأسه وعند رجليه فقال أحدهما : ما بال الرجل ؟ قال الآخر : مطبوب قال : من طبه ؟ قال : فلان اليهودي
قال أبو عبيد : إنما قالوا للمسحور : مطبوب لأنهم كنوا بالطب عن السحر كما كنوا عن اللديغ فقالوا : سليم تفاولا بالسلامة وكما كنوا بالمفازة عن الفلاة المهلكة التي لا ماء فيها فقالوا : مفازة تفاؤلا بالفوز من الهلاك ويقال : الطب لنفس الداء قال ابن أبي الأسلت :
( ألا من مبلغ حسان عني ... أسحر كان طبك أم جنون )
وأما قول الحماسي :
( فإن كنت مطبوبا فلا زلت هكذا ... وإن كنت مسحورا فلا برئ السحر )
فإنه أراد بالمطبوب الذي قد سحر وأراد بالمسحور : العليل بالمرض
قال الجوهري : ويقال للعليل : مسحور وأنشد البيت ومعناه : إن كان هذا الذي قد عراني منك ومن حبك أسأل الله دوامه ولا أريد زواله سواء كان سحرا أو مرضا
والطب : مثلث الطاء فالمفتوح الطاء : هو العالم بالأمور وكذلك الطبيب يقال له : طب أيضا والطب : بكسر الطاء : فعل الطبيب والطب بضم الطاء : اسم موضع قاله ابن السيد وأنشد :
( فقلت هل انهلتم بطب ركابكم ... بجائزة الماء التي طاب طينها )
وقوله صلى الله عليه و سلم : من تطبب ولم يقل : من طب لأن لفظ التفعل يدل على تكلف الشئ والدخول فيه بعسر وكلفه وأنه ليس من أهله كتحلم وتشجع وتصبر ونظائرها وكذلك بنوا تكلف على هذا الوزن قال الشاعر :
وقيس عيلان ومن تقيسا وأما الأمر الشرعي فإيجاب الضمان على الطبيب الجاهل فإذا تعاطى علم الطب وعمله ولم يتقدم له به معرفة فقد هجم بجهله على إتلاف الأنفس وأقدم بالتهور على ما لم يعلمه فيكون قد غرر بالعليل فيلزمه الضمان لذلك وهذا إجماع من أهل العلم
قال الخطابي : لا أعلم خلافا في أن المعالج إذا تعدى فتلف المريض كان ضامنا والمتعاطي علما أو عملا لا يعرفه متعد فإذا تولد من فعله التلف ضمن الدية وسقط عنه القود لأنه لا يستبد بذلك بدون إذن المريض وجناية المتطبب في قول عامة الفقهاء على عاقلته
قلت : الأقسام خمسة : أحدها : طبيب حاذق أعطى الصنعة حقها ولم تجن يده فتولد من فعله المأذون فيه من جهة الشارع ومن جهة من يطبه تلف العضو أو النفس أو ذهاب صفة فهذا لا ضمان عليه اتفاقا فإنها سراية مأذون فيه وهذا كما إذا ختن الصبي في وقت وسنه قابل للختان وأعطى الصنعة حقها فتلف العضو أو الصبي لم يضمن وكذلك إذا بط من عاقل أو غيره ما ينبغي بطه في وقته على الوجه الذي ينبغي فتلف به لم يضمن وهكذا سراية كل مأذون فيه لم يتعد الفاعل في سببها كسراية الحد بالإتفاق وسراية القصاص عند الجمهور خلافا لأبي حنيفة في إيجابه الضمان بها وسراية التعزير وضرب الرجل امرأته والمعلم الصبي والمستأجر الدابة خلافا لأبي حنيفة والشافعي في إيجابهما الضمان في ذلك واستثنى الشافعي ضرب الدابة
وقاعدة الباب إجماعا ونزاعا : أن سراية الجناية مضمونة بالإتفاق وسراية الواجب مهدرة بالإتفاق وما بينهما ففيه النزاع فأبو حنيفة أوجب ضمانه مطلقا وأحمد ومالك أهدرا ضمانه وفرق الشافعي بين المقدر فأهدر ضمانه وبين غير المقدر فأوجب ضمانه فأبو حنيفة نظر إلى أن الإذن في الفعل إنما وقع مشروطا بالسلامة وأحمد ومالك نظرا إلى أن الإذن أسقط الضمان والشافعي نظر إلى أن المقدر لا يمكن النقصان منه فهو بمنزلة النص وأما غير المقدر كالتعزيرات والتأديبات فاجتهادية فإذا تلف بها ضمن لأنه في مظنة العدوان (4/124)
فصل
القسم الثاني : متطبب جاهل باشرت يده من يطبه فتلف به فهذا إن علم المجني عليه أنه جاهل لا علم له وأذن له في طبه لم يضمن ولا تخالف هذه الصورة ظاهر الحديث فإن السياق وقوة الكلام يدل على أنه غر العليل وأوهمه أنه طبيب وليس كذلك وإن ظن المريض أنه طبيب وأذن له في طبه لأجل معرفته ضمن الطبيب ما جنت يده وكذلك إن وصف له دواء يستعمله والعليل يظن أنه وصفه لمعرفته وحذقه فتلف به ضمنه والحديث ظاهر فيه أو صريح (4/129)
فصل
القسم الثالث : طبيب حاذق أذن له وأعطى الصنعة حقها لكنه أخطأت يده وتعدت إلى عضو صحيح فأتلفه مثل : أن سبقت يد الخاتن إلى الكمرة فهذا يضمن لأنها جناية خطأ ثم إن كانت الثلث فما زاد فهو على عاقلته فإن لم تكن عاقلة فهل تكون الدية في ماله أو في بيت المال ؟ على قولين هما روايتان عن أحمد وقيل : إن كان الطبيب ذميا ففي ماله وإن كان مسلما ففيه الروايتان فإن لم يكن بيت مال أو تعذر تحميله فهل تسقط الدية أو تجب في مال الجاني ؟ فيه وجهان أشهرهما : سقوطها (4/129)
فصل
القسم الرابع : الطبيب الحاذق الماهر بصناعته اجتهد فوصف للمريض دواء فأخطأ في اجتهاده فقتله فهذا يخرج على روايتين : إحداهما : أن دية المريض في بيت المال والثانية : أنها على عاقلة الطبيب وقد نص عليهما الإمام أحمد في خطإ الإمام والحاكم (4/129)
فصل
القسم الخامس : طبيب حاذق أعطى الصنعة حقها فقطع سلعة من رجل أو صبي أو مجنون بغير إذنه أو إذن وليه أو ختن صبيا بغير إذن وليه فتلف فقال أصحابنا : يضمن لأنه تولد من فعل غير مأذون فيه وإن أذن له البالغ أو ولي الصبي والمجنون لم يضمن ويحتمل أن لا يضمن مطلقا لأنه محسن وما على المحسنين من سبيل وأيضا فإنه إن كان متعديا فلا أثر لإذن الولي في إسقاط الضمان وإن لم يكن متعديا فلا وجه لضمانه فإن قلت : هو متعد عند عدم الإذن غير متعد عند الإذن قلت : العدوان وعدمه إنما يرجع إلى فعله هو فلا أثر للإذن وعدمه فيه وهذا موضع نظر (4/130)
فصل
والطبيب في هذا الحديث يتناول من يطب بوصفه وقوله وهو الذي يخص باسم الطبائعي وبمروده وهو الكحال وبمبضعه ومراهمه وهو الجرائحي وبموساه وهو الخاتن وبريشته وهو الفاصد وبمحاجمه ومشرطه وهو الحجام وبخلعه ووصله ورباطه وهو المجبر وبمكواته وناره وهو الكواء وبقربته وهو الحاقن وسواء كان طبه لحيوان بهيم أو إنسان فاسم الطبيب يطلق لغة على هؤلاء كلهم كما تقدم وتخصيص الناس له ببعض أنواع الأطباء عرف حادث كتخصيص لفظ الدابة بما يخصها به كل قوم (4/130)
فصل
والطبيب الحاذق : هو الذي يراعي في علاجه عشرين أمرا : أحدها : النظر في نوع المرض من أي الأمراض هو ؟
الثاني : النظر في سببه من أي شئ حدث والعلة الفاعلة التي كانت سبب حدوثه ما هي ؟
الثالث : قوة المريض وهل هي مقاومة للمرض أو أضعف منه ؟ فإن كانت مقاومة للمرض مستظهرة عليه تركها والمرض ولم يحرك بالدواء ساكنا
الرابع : مزاج البدن الطبيعي ما هو ؟
الخامس : المزاج الحادث على غير المجرى الطبيعي
السادس : سن المريض
السابع : عادته
الثامن : الوقت الحاضر من فصول السنة وما يليق به
التاسع : بلد المريض وتربته
العاشر : حال الهواء في وقت المرض
الحادي عشر : النظر في الدواء المضاد لتلك العلة
الثاني عشر : النظر في قوة الدواء ودرجته والموازنة بينها وبين قوة المريض
الثالث عشر : ألا يكون كل قصده إزالة تلك العلة فقط بل إزالتها على وجه يأمن معه حدوث أصعب منها فمتى كان إزالتها لا يأمن معها حدوث علة أخرى أصعب منها أبقاها على حالها وتلطيفها هو الواجب وهذا كمرض أفواه العروق فإنه متى عولج بقطعه وحبسه خيف حدوث ما هو أصعب منه
الرابع عشر : أن يعالج بالأسهل فالأسهل فلا ينتقل من العلاج بالغذاء إلى الدواء إلا عند تعذره ولا ينتقل إلى الدواء المركب إلا عند تعذر الدواء البسيط فمن حذق الطبيب علاجه بالأغذية بدل الأدوية وبالأدوية البسيطة بدل المركبة
الخامس عشر : أن ينظر في العلة هل هي مما يمكن علاجها أو لا ؟ فإن لم يمكن علاجها حفظ صناعته وحرمته ولا يحمله الطمع على علاج لا يفيد شيئا وإن أمكن علاجها نظر هل يمكن زوالها أم لا ؟ فإن علم أنه لا يمكن زوالها نظر هل يمكن تخفيفها وتقليلها أم لا ؟ فإن لم يكن تقليلها ورأى أن غاية الإمكان إيقافها وقطع زيادتها قصد بالعلاج ذلك وأعان القوة وأضعف المادة
السادس عشر : ألا يتعرض للخلط قبل نضجه باستفراغ بل يقصد إنضاجه فإذا تم نضجه بادر إلى استفراغه
السابع عشر : أن يكون له خبرة باعتلال القلوب والأرواح وأدويتها وذلك أصل عظيم في علاج الأبدان فإن انفعال البدن وطبيعته عن النفس والقلب أمر مشهود والطبيب إذا كان عارفا بأمراض القلب والروح وعلاجهما كان هو الطبيب الكامل والذي لا خبرة له بذلك وإن كان حاذقا في علاج الطبيعة وأحوال البدن نصف طبيب وكل طبيب لا يداوي العليل بتفقد قلبه وصلاحه وتقوية روحه وقواه بالصدقة وفعل الخير والإحسان والإقبال على الله والدار الآخرة فليس بطبيب بل متطبب قاصر ومن أعظم علاجات المرض فعل الخير والإحسان والذكر والدعاء والتضرع والإبتهال إلى الله والتوبة ولهذه الأمور تأثير في دفع العلل وحصول الشفاء أعظم من الأدوية الطبيعية ولكن بحسب استعداد النفس وقبولها وعقيدتها في ذلك ونفعه
الثامن عشر : التلطف بالمريض والرفق به كالتلطف بالصبي
التاسع عشر : أن يستعمل أنواع العلاجات الطبيعية والإلهية والعلاج بالتخييل فإن لحذاق الأطباء في التخييل أمورا عجيبة لا يصل إليها الدواء فالطبيب الحاذق يستعين على المرض بكل معين
العشرون : - وهو ملاك أمر الطبيب - أن يجعل علاجه وتدبيره دائرا على ستة أركان : حفظ الصحة الموجودة ورد الصحة المفقودة بحسب الإمكان وإزالة العلة أو تقليلها بحسب الإمكان واحتمال أدنى المفسدتين لإزالة أعظمهما وتفويت أدنى المصلحتين لتحصيل أعظمهما فعلى هذه الأصول الستة مدار العلاج وكل طبيب لا تكون هذه أخيته التي يرجع إليها فليس بطبيب والله أعلم (4/130)
فصل
ولما كان للمرض أربعة أحوال : ابتداء وصعود وانتهاء وانحطاط تعين على الطبيب مراعاة كل حال من أحوال المرض بما يناسبها ويليق بها ويستعمل في كل حال ما يجب استعماله فيها فإذا رأى في ابتداء المرض أن الطبيعة محتاجة إلى ما يحرك الفضلات ويستفرغها لنضجها بادر إليه فإن فاته تحريك الطبيعة في ابتداء المرض لعائق منع من ذلك أو لضعف القوة وعدم احتمالها للإستفراغ أو لبرودة الفصل أو لتفريط وقع فينبغي أن يحذر كل الحذر أن يفعل ذلك في صعود المرض لأنه إن فعله تحيرت الطبيعة لاشتغالها بالدواء وتخلت عن تدبير المرض ومقاومته بالكلية ومثاله : أن يجيء إلى فارس مشغول بمواقعة عدوه فيشغله عنه بأمر آخر ولكن الواجب في هذه الحال أن يعين الطبيعة على حفظ القوة ما أمكنه
فإذا انتهى المرض ووقف وسكن أخذ في استفراغه واستئصال أسبابه فإذا أخذ في الإنحطاط كان أولى بذلك ومثال هذا مثال العدو إذا انتهت قوته وفرغ سلاحه كان أخذه سهلا فإذا ولى وأخذ في الهرب كان أسهل أخذا وحدته وشوكته إنما هي في ابتدائه وحال استفراغه وسمعة قوته فهكذا الداء والدواء سواء (4/133)
فصل
ومن حذق الطبيب أنه حيث أمكن التدبير بالأسهل فلا يعدل إلى الأصعب ويتدرج من الأضعف إلى الأقوى إلا أن يخاف فوت القوة حينئذ فيجب أن يبتدئ بالأقوى ولا يقيم في المعالجة على حال واحدة فتألفها الطبيعة ويقل انفعالها عنه ولا تجسر على الأدوية القوية في الفصول القوية وقد تقدم أنه إذا أمكنه العلاج بالغذاء فلا يعالج بالدواء وإذا أشكل عليه المرض أحار هو أم بارد ؟ فلا يقدم حتى يتبين له ولا يجربه بما يخاف عاقبته ولا بأس بتجربته بما لا يضر أثره
وإذا اجتمعت أمراض بدأ بما تخصه واحدة من ثلاث خصال : إحداها : أن يكون برء الآخر موقوفا على برئه كالورم والقرحة فإنه يبدأ بالورم
الثانية : أن يكون أحدها سببا للآخر كالسدة والحمى العفنة فإنه يبدأ بإزالة السبب
الثالثة : أن يكون أحدهما أهم من الآخر كالحاد والمزمن فيبدأ بالحاد ومع هذا فلا يغفل عن الآخر وإذا اجتمع المرض والعرض بدأ بالمرض إلا أن يكون العرض أقوى كالقولنج فيسكن الوجع أولا ثم يعالج السدة وإذا أمكنه أن يعتاض عن المعالجة بالإستفراغ بالجوع أو الصوم أو النوم لم يستفرغه وكل صحة أراد حفظها حفظها بالمثل أو الشبه وإن أراد نقلها إلى ما هو أفضل منها نقلها بالضد (4/133)
فصل
في هديه صلى الله عليه و سلم في التحرز من الأدواء المعدية بطبعها وإرشاده الأصحاء إلى مجانبة أهلها
ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله أنه كان في وفد ثقيف رجل مجذوم فأرسل إليه النبي صلى الله عليه و سلم : [ ارجع فقد بايعناك ]
وروى البخاري في صحيحه تعليقا من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ فر من المجذوم كما تفر من الأسد ]
وفي سنن ابن ماجه من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لا تديموا النظر إلى المجذومين ]
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا يوردن ممرض على مصح ]
ويذكر عنه صلى الله عليه و سلم : [ كلم المجذوم وبيك وبينه قيد رمح أو رمحين ]
الجذام : علة رديئة تحدث من انتشار المرة السوداء في البدن كله فيفسد مزاج الأعضاء وهيئتها وشكلها وربما فسد في آخره اتصالها حتى تتأكل الأعضاء وتسقط ويسمى داء الأسد
وفي هذه التسمية ثلاثة أقوال للأطباء : أحدها : أنها لكثرة ما تعتري الأسد
والثاني : لأن هذه العلة تجهم وجه صاحبها وتجعله في سحنة الأسد
والثالث : أنه يفترس من يقربه أو يدنو منه بدائه افتراس الأسد
وهذه العلة عند الأطباء من العلل المعدية المتوارثة ومقارب المجذوم وصاحب السل يسقم برائحته فالنبي صلى الله عليه و سلم لكمال شفقته على الأمة ونصحه لهم نهاهم عن الأسباب التي تعرضهم لوصول العيب والفساد إلى أجسامهم وقلوبهم ولا ريب أنه قد يكون في البدن تهيؤ واستعداد كامن لقبول هذا الداء وقد تكون الطبيعة سريعة الإنفعال قابلة للإكتساب من أبدان من تجاوره وتخالطه فإنها نقالة وقد يكون خوفها من ذلك ووهمها من أكبر أسباب إصابة تلك العلة لها فإن الوهم فعال مستول على القوى والطبائع وقد تصل رائحة العليل إلى الصحيح فتسقمه وهذا معاين في بعض الأمراض والرائحة أحد أسباب العدوى ومع هذا كله فلا بد من وجود استعداد البدن وقبوله لذلك الداء وقد تزوج النبي صلى الله عليه و سلم امرأة فلما أراد الدخول بها وجد بكشحها بياضا فقال : [ الحقي بأهلك ]
وقد ظن طائفة من الناس أن هذه الأحاديث معارضة بأحاديث أخر تبطلها وتناقضها فمنها : ما رواه الترمذي من حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أخذ بيد رجل مجذوم فأدخلها معه في القصعة وقال : [ كل بسم الله ثقة بالله وتوكلا عليه ] ورواه ابن ماجه
وبما ثبت في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا عدوى ولا طيرة ]
ونحن نقول : لا تعارض بحمد الله بين أحاديثه الصحيحة فإذا وقع التعارض فإما أن يكون أحد الحديثين ليس من كلامه صلى الله عليه و سلم وقد غلط فيه بعض الرواة مع كونه ثقة ثبتا فالثقة يغلظ أو يكون أحد الحديثين ناسخا للآخر إذا كان مما يقبل النسخ أو يكون التعارض في فهم السامع لا في نفس كلامه صلى الله عليه و سلم فلا بد من وجه من هذه الوجوه الثلاثة
وأما حديثان صحيحان صريحان متناقضان من كل وجه ليس أحدهما ناسخا للآخر فهذا لا يوجد أصلا ومعاذ الله أن يوجد في كلام الصادق المصدوق الذي لا يخرج من بين شفتيه إلا الحق والآفة من التقصير في معرفة المنقول والتمييز بين صحيحه ومعلوله أو من القصور في فهم مراده صلى الله عليه و سلم وحمل كلامه على غير ما عناه به أو منهما معا ومن ها هنا وقع من الإختلاف والفساد ما وقع وبالله التوفيق
قال ابن قتيبة في كتاب اختلاف الحديث له حكاية عن أعداء الحديث وأهله قالوا : حديثان متناقضان رويتم عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا عدوى ولا طيرة ] وقيل له : إن النقبة تقع بمشفر البعير فيجرب لذلك الإبل قال : [ فما أعدى الأول ] ثم رويتم [ لا يورد ذو عاهة على مصح وفر من المجدوم فرارك من الأسد ] وأتاه رجل مجذوم ليبايعه بيعة الإسلام فأرسل إليه البيعة وأمره بالإنصراف ولم يأذن له وقال : [ الشؤم في المرأة والدار والدابة ] قالوا : وهذا كله مختلف لا يشبه بعضه بعضا
قال أبو محمد : ونحن نقول : إنه ليس في هذا اختلاف ولكل معنى منها وقت وموضع فإذا وضع موضعه زال الإختلاف
والعدوى جنسان : أحدهما : عدوى الجذام فإن المجذوم تشتد رائحته حتى يسقم من أطال مجالسته ومحادثته وكذلك المرأة تكون تحت المجذوم فتضاجعه في شعار واحد فيوصل إليها الأذى وربما جذمت وكذلك ولده ينزعون في الكبر إليه وكذلك من كان به سل ودق ونقب والأطباء تأمر أن لا يجالس المسلول ولا المجذوم ولا يريدون بذلك معنى العدوى وإنما يريدون به معنى تغير الرائحة وأنها قد تسقم من أطال اشتمامها والأطباء أبعد الناس عن الايمان بيمن وشؤم وكذلك النقبة تكون بالبعير - وهو جرب رطب - فإذا خالط الإبل أو حاكها وأوى في مباركها وصل إليها بالماء الذي يسيل منه وبالنطف نحو ما به فهذا هو المعنى الذي قال فيه النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا يورد ذو عاهة على مصح ] كره أن يخالط المعيوه الصحيح لئلا يناله من نطفه وحكته نحو مما به
قال : وأما الجنس الآخر من العدوى فهو الطاعون ينزل ببلد فيخرج منه خوف العدوى وقد قال صلى الله عليه و سلم : [ إذا وقع ببلد وأنتم به فلا تخرجوا منه وإذا كان ببلد فلا تدخلوه ] يريد بقوله : لا تخرجوا من البلد إذا كان فيه كأنكم تظنون أن الفرار من قدر الله ينجيكم من الله ويريد إذا كان ببلد فلا تدخلوه أي : مقامكم في الموضع الذي لا طاعون فيه أسكن لقلوبكم وأطيب لعيشكم ومن ذلك المرأة تعرف بالشؤم أو الدار فينال الرجل مكروه أو جائحة فيقول : أعدتني بشؤمها فهذا هو العدوى الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا عدوى ]
وقالت فرقة أخرى : بل الأمر باجتناب المجذوم والفرار منه على الإستحباب والإختيار والإرشاد وأما الأكل معه ففعله لبيان الجواز وأن هذا ليس بحرام
وقالت فرقة أخرى : بل الخطاب بهذين الخطابين جزئي لا كلي فكل واحد خاطبه النبي صلى الله عليه و سلم بما يليق بحاله فبعض الناس يكون قوي الإيمان قوي التوكل تدفع قوة توكله قوة العدوى كما تدفع قوة الطبيعة قوة العلة فتبطلها وبعض الناس لا يقوى على ذلك فخاطبه بالإحتياط والأخذ بالتحفظ وكذلك هو صلى الله عليه و سلم فعل الحالتين معا لتقتدي به الأمة فيهما فيأخذ من قوي من أمته بطريقة التوكل والقوة والثقة بالله ويأخذ من ضعف منهم بطريقة التحفظ والإحتياط وهما طريقان صحيحان أحدهما : للمؤمن القوي والآخر للمؤمن الضعيف فتكون لكل واحد من الطائفتين حجة وقدوة بحسب حالهم وما يناسبهم وهذا كما أنه صلى الله عليه و سلم كوى وأثنى على تارك الكي وقرن تركه بالتوكل وترك الطيرة ولهذا نظائر كثيرة وهذه طريقة لطيفة حسنة جدا من أعطاها حقها ورزق فقه
نفسه فيها أزالت عنه تعارضا كثيرا يظنه بالسنة الصحيحة
وذهبت فرقة أخرى إلى أن الأمر بالفرار منه ومجانبته لأمر طبيعي وهو انتقال الداء منه بواسطة الملامسة والمخالطة والرائحة إلى الصحيح وهذا يكون مع تكرير المخالطة والملامسة له وأما أكله معه مقدارا يسيرا من الزمان لمصلحة راجحة فلا بأس به ولا تحصل العدوى من مرة واحدة ولحظة واحدة فنهى سدا للذريعة وحماية للصحة وخالطه مخالطة ما للحاجة والمصلحة فلا تعارض بين الأمرين
وقالت طائفة أخرى : يجوز أن يكون هذا المجذوم الذي أكل معه به من الجذام أمر يسير لا يعدي مثله وليس الجذمى كلهم سواء ولا العدوى حاصلة من جميعهم بل منهم من لا تضر مخالطته ولا تعدي وهو من أصابه من ذلك شئ يسير ثم وقف واستمر على حاله ولم يعد بقية جسمه فهو أن لا يعدي غيره أولى وأحرى
وقالت فرقة أخرى : إن الجاهلية كانت تعتقد أن الأمراض المعدية تعدي بطبعها من غير إضافة إلى الله سبحانه فأبطل النبي صلى الله عليه و سلم اعتقادهم ذلك وأكل مع المجذوم ليبين لهم أن الله سبحانه هو الذي يمرض ويشفي ونهى عن القرب منه ليتبين لهم أن هذا من الأسباب التي جعلها الله مفضية إلى مسبباتها ففي نهيه إثبات الأسباب وفي فعله بيان أنها لا تستقل بشئ بل الرب سبحانه إن شاء سلبها قواها فلا تؤثر شيئا وإن شاء أبقى عليها قواها فأثرت
وقالت فرقة أخرى : بل هذه الأحاديث فيها الناسخ والمنسوخ فينظر في تاريخها فإن علم المتأخر منها حكم بأنه الناسخ وإلا توقفنا فيها
وقالت فرقة أخرى : بل بعضها محفوظ وبعضها غير محفوظ وتكلمت في حديث لا عدوى وقالت : قد كان أبو هريرة يرويه أولا ثم شك فيه فتركه وراجعوه فيه وقالوا : سمعناك تحدث به فأبى أن يحدث به
قال أبو سلمة : فلا أدري أنسي أبو هريرة أم نسخ أحد الحديثين الآخر ؟
وأما حديث جابر : أن النبي صلى الله عليه و سلم أخذ بيد مجذوم فأدخلها معه في القصعة فحديث لا يثبت ولا يصح وغاية ما قال فيه الترمذي : إنه غريب لم يصححه ولم يحسنه وقد قال شعبة وغيره : اتقوا هذه الغرائب قال الترمذي : ويروى هذا من فعل عمر وهو أثبت فهذا شأن هذين الحديثين اللذين عورض بهما أحاديث النهي أحدهما : رجع أبو هريرة عن التحديث به وأنكره والثاني : لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم والله أعلم وقد أشبعنا الكلام في هذه المسألة في كتاب المفتاح بأطول من هذا وبالله التوفيق (4/134)
فصل
في هديه صلى الله عليه و سلم في المنع من التداوي بالمحرمات
روى أبو داود في سننه من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الله أنزل الداء والدواء وجعل لكل داء دواء فتداووا ولا تداووا بالمحرم ]
وذكر البخاري في صحيحه عن ابن مسعود : إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم
وفي السنن : عن أبي هريرة قال : نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الدواء الخبيث
وفي صحيح مسلم عن طارق بن سويد الجعفي أنه سأل النبي صلى الله عليه و سلم عن الخمر فنهاه أو كره أن يصنعها فقال : إنما أصنعها للدواء فقال : [ إنه ليس بدواء ولكنه داء ]
وفي السنن أنه صلى الله عليه و سلم سئل عن الخمر يجعل في الدواء فقال : [ إنها داء وليست بالدواء ] رواه أبو داود والترمذي
وفي صحيح مسلم عن طارق بن سويد الحضرمي قال : [ قلت : يا رسول الله ! إن بأرضنا أعنابا نعتصرها فنشرب منها قال : لا فراجعته قلت : إنا تستشفي للمريض قال : إن ذلك ليس بشفاء ولكنه داء ]
وفي سنن النسائي أن طبيبا ذكر ضفدعا في دواء عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فنهاه عن قتلها
ويذكر عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من تداوى بالخمر فلا شفاه الله ]
المعالجة بالمحرمات قبيحة عقلا وشرعا أما الشرع فما ذكرنا من هذه الأحاديث وغيرها وأما العقل فهو أن الله سبحانه إنما حرمه لخبثه فإنه لم يحرم على هذه الأمة طيبا عقوبة لها كما حرمه على بني إسرائيل بقوله : { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم } [ النساء : 160 ] وإنما حرم على هذه الأمة ما حرم لخبثه ولحريمه له حمية لهم وصيانة عن تناوله
فلا يناسب أن يطلب به الشفاء من الأسقام والعلل فإنه وإن أثر في إزالتها لكنه يعقب سقما أعظم منه في القلب بقوة الخبث الذي فيه فيكون المداوى به قد سعى في إزالة سقم البدن بسقم القلب
وأيضا فإن تحريمه يقتضي تجنبه والبعد عنه بكل طريق وفي اتخاذه دواء حض على الترغيب فيه وملابسته وهذا ضد مقصود الشارع وأيضا فإنه داء كما نص عليه صاحب الشريعة فلا يجوز أن يتخذ دواء
وأيضا فإنه يكسب الطبيعة والروح صفة الخبث لأن الطبيعة تنفعل عن كيفية الدواء انفعالا بينا فإذا كانت كيفيته خبيثة اكتسبت الطبيعة منه خبثا فكيف إذا كان خبيثا في ذاته ولهذا حرم الله سبحانه على عباده الأغذية والأشربة والملابس الخبيثة لما تكسب النفس من هيئة الخبث وصفته
وأيضا فإن في إباحة التداوي به ولا سيما إذا كانت النفوس تميل إليه ذريعة إلى تناوله للشهوة واللذة لا سيما إذا عرفت النفوس أنه نافع لها مزيل لأسقامها جالب لشفائها فهذا أحب شئ إليها والشارع سد الذريعة إلى تناوله بكل ممكن ولا ريب أن بين سد الذريعة إلى تناوله وفتح الذريعة إلى تأوله تناقضا وتعارضا
وأيضا فإن في هذا الدواء المحرم من الأدواء ما يزيد على ما يظن فيه من الشفاء ولنفرض الكلام في أم الخبائث التي ما جعل الله لنا فيها شفاء قط فإنها شديدة المضرة بالدماغ الذي هو مركز العقل عند الأطباء وكثير من الفقهاء والمتكلمين قال أبقراط في أثناء كلامه في الأمراض الحادة : ضرر الخمرة بالرأس شديد لأنه يسرع الإرتفاع إليه ويرتفع بارتفاعه الأخلاط التي تعلو في البدن وهو كذلك يضر بالذهن
وقال صاحب الكامل : إن خاصية الشراب الإضرار بالدماغ والعصب وأما غيره من الأدوية المحرمة فنوعان :
أحدهما : تعافه النفس ولا تنبعث لمساعدته الطبيعة على دفع المرض به كالسموم ولحوم الأفاعي وغيرها من المستقذرات فيبقى كلا على الطبيعة مثقلا لها فيصير حينئذ داء لا دواء
والثاني : ما لا تعافه النفس كالشراب الذي تستعمله الحوامل مثلا فهذا ضرره أكثر من نفعه والعقل يقضي بتحريم ذلك فالعقل والفطرة مطابق للشرع في ذلك
وها هنا سر لطيف في كون المحرمات لا يستشفى بها فإن شرط الشفاء بالدواء تلقيه بالقبول واعتقاد منفعته وما جعل الله فيه من بركة الشفاء فإن النافع هو المبارك وأنفع الأشياء وأبركها المبارك من الناس أينما كان هو الذي ينتفع به حيث حل ومعلوم أن اعتقاد المسلم تحريم هذه العين مما يحول بينه وبين اعتقاد بركتها ومنفعتها وبين حسن ظنه بها وتلقيه طبعه لها بالقبول بل كلما كان العبد أعظم إيمانا كان أكره لها وأسوأ اعتقادا فيها وطبعه أكره شئ لها فإذا تناولها في هذه الحال كانت داء له لا دواء إلا أن يزول اعتقاد الخبث فيها وسوء الظن والكراهة لها بالمحبة وهذا ينافي الإيمان فلا يتناولها المؤمن قط إلا على وجه داء والله أعلم (4/141)
فصل
في هديه صلى الله عليه و سلم في علاج القمل الذي في الرأس وإزالته
في الصحيحين عن كعب بن عجرة قال : كان بي أذى من رأسي فحملت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم والقمل يتناثر على وجهي فقال : [ ما كنت أرى الجهد قد بلغ بك ما أرى ] وفي رواية : فأمره أن يحلق رأسه وأن يطعم فرقا بين ستة أو يهدي شاة أو يصوم ثلاثة أيام
القمل يتولد في الرأس والبدن من شيئين : خارج عن البدن وداخل فيه فالخارج : الوسخ والدنر المتراكم في سطح الجسد والثاني من خلط رديء عفن تدفعه الطبيعة بين الجلد واللحم فيتعفن بالرطوبة الدموية في البشرة بعد خروجها من المسام فيكون منه القمل وأكثر ما يكون ذلك بعد العلل والأسقام وبسبب الأوساخ وإنما كان في رؤوس الصبيان أكثر لكثرة رطوباتهم وتعاطيهم الاسباب التي تولد القمل ولذلك حلق النبي صلى الله عليه و سلم رؤوس بني جعفر
ومن أكبر علاجه حلق الرأس لتنفتح مسام الأبخرة فتتصاعد الأبخرة الرديئة فتضعف مادة الخلط ويبنغي أن يطلى الرأس بعد ذلك بالأدوية التي تقتل القمل وتمنع تولده
وحلق الرأس ثلاثة أنواع : أحدها : نسك وقربة والثاني : بدعة وشرك والثالث : حاجة ودواء فالأول : الحلق في أحد النسكين الحج أو العمرة والثاني : حلق الرأس لغير الله سبحانه كما يحلقها المريدون لشيوخهم فيقول أحدهم : أنا حلقت رأسي لفلان وأنت حلقته لفلان وهذا بمنزلة أن يقول : سجدت لفلان فإن حلق الرأس خضوع وعبودية وذل ولهذا كان من تمام الحج حتى إنه عند الشافعي ركن من أركانه لا يتم إلا به فإنه وضع النواصي بين يدي ربها خضوعا لعظمته وتذللا لعزته وهو من أبلغ أنواع العبودية ولهذا كانت العرب إذا أرادت إذلال الأسير منهم وعتقه حلقوا رأسه وأطلقوه فجاء شيوخ الضلال والمزاحمون للربوبية الذين أساس مشيختهم على الشرك والبدعة فأرادوا من مريديهم أن يتعبدوا لهم فزينوا لهم حلق رؤوسهم لهم كما زينوا لهم السجود لهم وسموه بغير اسمه وقالوا : هو وضع الرأس بين يدي الشيخ ولعمر الله إن السجود لله هو وضع الرأس بين يديه سبحانه وزينوا لهم أن ينذروا لهم ويتوبوا لهم ويحلفوا بأسمائهم وهذا هو اتخاذهم أربابا وآلهة من دون الله قال تعالى : { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون * ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون } [ آل عمران : 79 - 80 ]
وأشرف العبودية عبودية الصلاة وقد تقاسمها الشيوخ والمتشبهون بالعلماء والجبابرة فأخذ الشيوخ منها أشرف ما فيها وهو السجود وأخذ المتشبهون بالعلماء منها الركوع فإذا لقي بعضهم بعضا ركع له كما يركع المصلي لربه سواء وأخذ الجبابرة منهم القيام فيقوم الأحرار والعبيد على رؤوسهم عبودية لهم وهم جلوس وقد نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن هذه الأمور الثلاثة على التفصيل فتعاطيها مخالفة صريحة له فنهى عن السجود لغير الله وقال : [ لا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد ] وأنكر على معاذ لما سجد له وقال : مه
وتحريم هذا معلوم من دينه بالضرورة وتجويز من جوزه لغير الله مراغمة لله ورسوله وهو من أبلغ أنواع العبودية فإذا جوز هذا المشرك هذا النوع للبشر فقد جوز العبودية لغير الله وقد صح أنه قيل له : الرجل يلقى أخاه أينحني له ؟ قال : لا قيل : أيلتزمه ويقبله قال : لا قيل : أيصافحه ؟ قال : نعم
وأيضا : فالإنحناء عند التحية سجود ومنه قوله تعالى : { وادخلوا الباب سجدا } [ البقرة : 58 ] أي منحنين وإلا فلا يمكن الدخول على الجباه وصح عنه النهي عن القيام وهو جالس كما تعظم الأعاجم بعضها بعضا حتى منع من ذلك في الصلاة وأمرهم إذا صلى جالسا أن يصلوا جلوسا وهم أصحاء لا عذر لهم لئلا يقوموا على رأسه وهو جالس مع أن قيامهم لله فكيف إذا كان القيام تعظيما وعبودية لغيره سبحانه
والمقصود : أن النفوس الجاهلة الضالة أسقطت عبودية الله سبحانه وأشركت فيها من تعظمه من الخلق فسجدت لغير الله وركعت له وقامت بين يديه قيام الصلاة وحلفت بغيره ونذرت لغيره وحلقت لغيره وذبحت لغيره وطافت لغير بيته وعظمته بالحب والخوف والرجاء والطاعة كما يعظم الخالق بل أشد وسوت من تعبده من المخلوقين برب العالمين وهؤلاء هم المضادون لدعوة الرسل وهم الذين بربهم يعدلون وهم الذين يقولون - وهم في النار مع آلهتهم يختصمون - : { تالله إن كنا لفي ضلال مبين * إذ نسويكم برب العالمين } [ الشعراء : 98 ] وهم الذين قال فيهم : { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله } [ البقرة : 165 ] وهذا كله من الشرك والله لا يغفر أن يشرك به فهذا فصل معترض في هديه في حلق الرأس ولعله أهم مما قصد الكلام فيه والله الموفق (4/145)
فصل
فصول في هديه صلى الله عليه و سلم في العلاج بالأدوية الروحانية الإلهية المفردة والمركبة منها ومن الأدوية الطبيعية
فصل
في هديه صلى الله عليه و سلم في علاج المصاب بالعين
روى مسلم في صحيحه عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ العين حق ولو كان شئ سابق القدر لسبقته العين ]
وفي صحيحه أيضا عن أنس أن النبي صلى الله عليه و سلم رخص في الرقية من الحمة والعين والنملة
وفي الصحيحين من حديث أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ العين حق ]
وفي سنن أبي داود عن عائشة رضى الله عنها قالت : كان يؤمر العائن فيتوضأ ثم يغتسل منه المعين
وفي الصحيحين عن عائشة قالت : أمرني النبي صلى الله عليه و سلم أو أمر أن نسترقي من العين
وذكر الترمذي من حديث سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عروة بن عامر عن عبيد بن رفاعة الزرقي أن أسماء بنت عميس قالت : يا رسول الله ! إن بني جعفر تصيبهم العين أفأسترقي لهم ؟ فقال : [ نعم فلو كان شئ يسبق القضاء لسبقته العين ] قال الترمذي : حديث حسن صحيح
وروى مالك رحمه الله : عن ابن شهاب عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال : [ رأى عامر بن ربيعة سهل بن حنيف يغتسل فقال : والله ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبأة ! قال : فلبط سهل فأتى رسول الله صلى الله عليه و سلم عامرا فتغيظ عليه وقال : علام يقتل أحدكم أخاه ألا بركت اغتسل له فغسل له عامر وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخلة إزاره في قدح ثم صب عليه فراح مع الناس ]
وروى مالك رحمه الله أيضا عن محمد بن أبي أمامة بن سهل عن أبيه هذا الحديث وقال فيه : [ إن العين حق توضأ له ] فتوضأ له
وذكر عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاووس عن أبيه مرفوعا [ العين حق ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين وإذا استغسل أحدكم فليغتسل ] ووصله صحيح
قال الزهري : يؤمر الرجل العائن بقدح فيدخل كفه فيه فيتمضمض ثم يمجه في القدح ويغسل وجهه في القدح ثم يدخل يده اليسرى فيصب على ركبته اليمنى في القدح ثم يدخل يده اليمنى فيصب على ركبته اليسرى ثم يغسل داخلة إزاره ولا يوضع القدح في الأرض ثم يصب على رأس الرجل الذي تصيبه العين من خلفه صبة واحدة
والعين : عينان : عين إنسية وعين جنية فقد صح عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه و سلم رأى في بيتها جارية في وجهها سفعة فقال : [ استرقوا لها فإن بها النظرة ]
قال الحسين بن مسعود الفراء : وقوله : سفعة أي نظرة يعني : من الجن يقول : بها عين أصابتها من نظر الجن أنفذ من أسنة الرماح
ويذكر عن جابر يرفعه : [ إن العين لتدخل الرجل القبر والجمل القدر ]
وعن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يتعوذ من الجان ومن عين الإنسان
فأبطلت طائفة ممن قل نصيبهم من السمع والعقل أمر العين وقالوا : إنما ذلك أوهام لا حقيقة له وهؤلاء من أجهل الناس بالسمع والعقل ومن أغلظهم حجابا وأكثفهم طباعا وأبعدهم معرفة عن الأرواح والنفوس وصفاتها وأفعالها وتأثيراتها وعقلاء الأمم على اختلاف مللهم ونحلهم لا تدفع أمر العين ولا تنكره وإن اختلفوا في سببه وجهة تأثير العين
فقالت طائفة : إن العائن إذا تكيفت نفسه بالكيفية الرديئة انبعث من عينه قوة سمية تتصل بالمعين فيتضرر قالوا : ولا يستنكر هذا كما لا يستنكر انبعاث قوة سمية من الأفعى تتصل بالإنسان فيهلك وهذا أمر قد اشتهر عن نوع من الأفاعي أنها إذا وقع بصرها على الإنسان هلك فكذلك العائن
وقالت فرقة أخرى : لا يستبعد أن ينبعث من عين بعض الناس جواهر لطيفة غير مرئية فتتصل بالمعين وتتخلل مسام جسمه فيحصل له الضرر
وقالت فرقة أخرى : قد أجرى الله العادة بخلق ما يشاء من الضرر عند مقابلة عين العائن لمن يعينه من غير أن يكون منه قوة ولا سبب ولا تأثير أصلا وهذا مذهب منكري الأسباب والقوى والتأثيرات في العالم وهؤلاء قد سدوا على أنفسهم باب العلل والتأثيرات والأسباب وخالفوا العقلاء أجمعين
ولا ريب أن الله سبحانه خلق في الأجسام والأرواح قوى وطبائع مختلفة وجعل في كثير منها خواص وكيفيات مؤثرة ولا يمكن لعاقل إنكار تأثير الأرواح في الأجسام فإنه أمر مشاهد محسوس وأنت ترى الوجه كيف يحمر حمرة شديدة إذا نظر إليه من يحتشمه ويستحي منه ويصفر صفرة شديدة عند نظر من يخافه إليه وقد شاهد الناس من يسقم من النظر وتضعف قواه وهذا كله بواسطة تأثير الأرواح ولشدة ارتباطها بالعين ينسب الفعل إليها وليست هي الفاعلة وإنما التأثير للروح والأرواح مختلفة في طبائعها وقواها وكيفياتها وخواصها فروح الحاسد مؤذية للمحسود أذى بينا ولهذا أمر الله - سبحانه - رسوله أن يستعيذ به من شره وتأثير الحاسد في أذى المحسود أمر لا ينكره إلا من هو خارج عن حقيقة الإنسانية وهو أصل الإصابة بالعين فإن النفس الخبيثة الحاسدة تتكيف بكيفية خبيثة وتقابل المحسود فتؤثر فيه بتلك الخاصية وأشبه الأشياء بهذا الأفعى فإن السم كامن فيها بالقوة فإذا قابلت عدوها انبعثت منها
قوة غضبية وتكيفت بكيفية خبيثة مؤذية فمنها ما تشد كيفيتها وتقوى حتى تؤثر في إسقاط الجنين ومنها ما تؤثر في طمس البصر كما قال النبي صلى الله عليه و سلم في الأبتر وذي الطفيتين من الحيات : [ إنهما يلتمسان البصر ويسقطان الحبل ]
ومنها ما تؤثر في الإنسان كيفيتها بمجرد الرؤية من غير اتصال به لشدة خبث تلك النفس وكيفيتها الخبيثة المؤثرة والتأثير غير موقوف على الإتصالات الجسمية كما يظنه من قل علمه ومعرفته بالطبيعة والشريعة بل التأثير يكون تارة بالإتصال وتارة بالمقابلة وتارة بالرؤية وتارة بتوجه الروح نحو من يؤثر فيه وتارة بالأدعية والرقى والتعوذات وتارة بالوهم والتخيل ونفس العائن لا يتوقف تأثيرها على الرؤية بل قد يكون أعمى فيوصف له الشئ فتؤثر نفسه فيه وإن لم يره وكثير من العائنين يؤثر في المعين بالوصف من غير رؤية وقد قال تعالى لنبيه : { وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر } [ القلم : 51 ] وقال : { قل أعوذ برب الفلق * من شر ما خلق * ومن شر غاسق إذا وقب * ومن شر النفاثات في العقد * ومن شر حاسد إذا حسد } فكل عائن حاسد وليس كل حاسد عائنا فلما كان الحاسد أعم من العائن كانت الإستعاذة منه استعاذة من العائن وهي سهام تخرج من نفس الحاسد والعائن نحو المحسود والمعين تصيبه تارة وتخطئه تارة فإن صادفته مكشوفا لا وقاية عليه أثرت فيه ولا بد وإن صادفته حذرا شاكي السلاح لا منفذ فيه للسهام لم تؤثر فيه وربما ردت السهام على صاحبها وهذا بمثابة الرمي الحسي سواء فهذا من النفوس والأرواح وذلك من الأجسام والأشباح وأصله من إعجاب العائن بالشئ ثم تتبعه كيفية نفسه الخبيثة ثم تستعين على تنفيذ سمها بنظرة إلى المعين وقد يعين الرجل نفسه وقد يعين بغير إرادته بل بطبعه وهذا أردأ ما يكون من النوع الإنساني وقد قال أصحابنا وغيرهم من الفقهاء : إن من عرف بذلك حبسه الإمام وأجرى له ما ينفق عليه إلى الموت وهذا هو الصواب قطعا (4/149)
فصل
والمقصود : العلاج النبوي لهذه العلة وهو أنواع وقد روى أبو داود في سننه عن سهل بن حنيف قال : مررنا بسيل فدخلت فاغتسلت فيه فخرجت محموما فنمي ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ مروا أبا ثابت يتعوذ قال : فقلت : يا سيدي ! والرقى صالحة ؟ فقال : لا رقية إلا في نفس أو حمة أو لدغة ]
والنفس : العين يقال : أصابت فلانا نفس أي : عين والنافس : العائن واللدغة - بدال مهملة وغين معجمة - وهي ضربة العقرب ونحوها
فمن التعوذات والرقى الإكثار من قراءة المعوذتين وفاتحة الكتاب وآية الكرسي ومنها التعوذات النبوية
نحو : أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق
ونحو : أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة
ونحو : أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاورهن بر ولا فاجر من شر ما خلق وذرأ وبرأ ومن شر ما ينزل من السماء ومن شر ما يعرج فيها ومن شر ما ذرأ في الأرض ومن شر ما يخرج منها ومن شر فتن الليل والنهار ومن شر طوارق الليل إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن
ومنها : أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه ومن شر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون
ومنها : اللهم إني أعوذ بوجهك الكريم وكلماتك التامات من شر ما أنت آخذ بناصيته اللهم أنت تكشف المأثم والمغرم اللهم إنه لا يهزم جندك ولا يخلف وعدك سبحانك وبحمدك
ومنها : أعوذ بوجه الله العظيم الذي لا شئ أعظم منه وبكلماته التامات التي لا يجاورهن بر لا فاجر وأسماء الله الحسنى ما علمت منها وما لم أعلم من شر ما خلق وذرأ وبرأ ومن شر كل ذي شر لا أطيق شره ومن شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته إن ربي على صراط مستقيم
ومنها : اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت عليك توكلت وأنت رب العرش العظيم ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن لا حول ولا قوة إلا بالله أعلم أن الله على كل شئ قدير وأن الله قد أحاط بكل شئ علما وأحصى كل شئ عددا اللهم إني أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم
وإن شاء قال : تحصنت بالله الذي لا إله إلا هو إلهي وإله كل شئ واعتصمت بربي ورب كل شئ وتوكلت على الحي الذي لا يموت واستدفعت الشر بلا حول ولا قوة إلا بالله حسبي الله ونعم الوكيل حسبي الرب من العباد حسبي الخالق من المخلوق حسبي الرازق من المرزوق حسبي الذي هو حسبي حسبي الذي بيده ملكوت كل شئ وهو يجير ولا يجار عليه
حسبي الله وكفى سمع الله لمن دعا ليس وراء الله مرمى حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم
ومن جرب هذه الدعوات والعوذ عرف مقدار منفعتها وشدة الحاجة إليها وهي تمنع وصول أثر العائن وتدفعه بعد وصوله بحسب قوة إيمان قائلها وقوة نفسه واستعداده وقوة توكله وثبات قلبه فإنها سلاح والسلاح بضاربه (4/154)
فصل
وإذا كان العائن يخشى ضرر عينه وإصابتها للمعين فليدفع شرها بقوله : اللهم بارك عليه كما قال النبي صلى الله عليه و سلم لعامر بن ربيعة لما عان سهل بن حنيف : [ ألا بركت ] أي : قلت : اللهم بارك عليه
ومما يدفع به إصابة العين قول : ما شاء الله لا قوة إلا بالله روى هشام بن عروة عن أبيه أنه كان إذا رأى شيئا يعجبه أو دخل حائطا من حيطانه قال : ما شاء الله لا قوة إلا بالله
ومنها رقية جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه و سلم التي رواها مسلم في صحيحه [ باسم الله أرقيك من كل شئ يؤذيك من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك باسم الله أرقيك ]
ورأى جماعة من السلف أن تكتب له الآيات من القرآن ثم يشربها قال مجاهد : لا بأس أن يكتب القرآن ويغسله ويسقيه المريض ومثله عن أبي قلابة ويذكر عن ابن عباس : أنه أمر أن يكتب لامرأة تعسر عليها ولادها أثر من القرآن ثم يغسل وتسقى وقال أيوب : رأيت أبا قلابة كتب كتابا من القرآن ثم غسله بماء وسقاه رجلا كان به وجع (4/156)
فصل
ومنها : أن يؤمر العائن بغسل مغابنه وأطرافه وداخلة إزاره وفيه قولان أحدهما : أنه فرجه والثاني : أنه طرف إزاره الداخل الذي يلي جسده من الجانب الأيمن ثم يصب على رأس المعين من خلفه بغتة وهذا مما لا يناله علاج الأطباء ولا ينتفع به من أنكره أو سخر منه أو شك فيه أو فعله مجربا لا يعتقد أن ذلك ينفعه
وإذا كان في الطبيعة خواص لا تعرف الأطباء عللها البتة بل هي عندهم خارجة عن قياس الطبيعة تفعل بالخاصية فما الذي ينكره زنادقتهم وجهلتهم من الخواص الشرعية هذا مع أن في المعالجة بهذا الإستغسال ما تشهد له العقول الصحيحة وتقر لمناسبته فاعلم أن ترياق سم الحية في لحمها وأن علاج تأثير النفس الغضبية في تسكين غضبها وإطفاء ناره بوضع يدك عليه والمسح عليه وتسكين غضبه وذلك بمنزلة رجل معه شعلة من نار وقد أراد أن يقذفك بها فصببت عليها الماء وهي في يده حتى طفئت ولذلك أمر العائن أن يقول : اللهم بارك عليه ليدفع تلك الكيفية الخبيثة بالدعاء الذي هو إحسان إلى المعين فإن دواء الشئ بضده ولما كانت هذه الكيفية الخبيثة تظهر في المواضع الرقيقة من الجسد لأنها تطلب النفوذ فلا تجد أرق من المغابن وداخلة الإزار ولا سيما إن كان كناية عن الفرج فإذا غسلت بالماء بطل تأثيرها وعملها وأيضا فهذه المواضع للأرواح الشيطانية بها اختصاص
والمقصود : أن غسلها بالماء يطفئ تلك النارية ويذهب بتلك السمية
وفيه أمر آخر وهو وصول أثر الغسل إلى القلب من أرق المواضع وأسرعها تنفيذا فيطفئ تلك النارية والسمية بالماء فيشفى المعين وهذا كما أن ذوات السموم إذا قتلت بعد لسعها خف أثر اللسعة عن الملسوع ووجد راحة فإن أنفسها تمد أذاها بعد لسعها وتوصله إلى الملسوع فإذا قتلت خف الألم وهذا مشاهد وإن كان من أسبابه فرح الملسوع واشتفاء نفسه بقتل عدوه فتقوى الطبيعة على الألم فتدفعه
وبالجملة : غسل العائن يذهب تلك الكيفية التي ظهرت منه وإنما ينفع غسله عند تكيف نفسه بتلك الكيفية
فإن قيل : فقد ظهرت مناسبة الغسل فما مناسبة صب ذلك الماء على المعين ؟ قيل : هو في غاية المناسبة فإن ذلك الماء ماء طفئ به تلك النارية وأبطل تلك الكيفية الرديئة من الفاعل فكما طفئت به النارية القائمة بالفاعل طفئت به وأبطلت عن المحل المتأثر بعد ملابسته للمؤثر العائن والماء الذي يطفأ به الحديد يدخل في أدوية عدة طبيعية ذكرها الأطباء فهذا الذي طفئ به
نارية العائن لا يستنكر أن يدخل في دواء يناسب هذا الداء وبالجملة : فطب الطبائعية وعلاجهم بالنسبة إلى العلاج النبوي كطب الطرقية بالنسبة إلى طبهم بل أقل فإن التفاوت الذي بينهم وبين الأنبياء أعظم وأعظم من التفاوت الذي بينهم وبين الطرقية بما لا يدرك الإنسان مقدراه فقد ظهر لك عقد الإخاء الذي بين الحكمة والشرع وعدم مناقضة أحدهما للآخر والله يهدي من يشاء إلى الصواب ويفتح لمن أدام قرع باب التوفيق منه كل باب وله النعمة السابغة والحجة البالغة (4/157)
فصل
ومن علاج ذلك أيضا والإحتراز منه ستر محاسن من يخاف عليه العين بما يردها عنه كما ذكر البغوي في كتاب شرح السنة : أن عثمان رضي الله عنه رأى صبيا مليحا فقال : دسموا نونته لئلا تصيبه العين ثم قال في تفسيره : ومعنى : دسموا
نونته : أي : سودوا نونته والنونة : النقرة التي تكون في ذقن الصبي الصغير
وقال الخطابي في غريب الحديث له عن عثمان : إنه رأى صبيا تأخذه العين فقال : دسموا نونته فقال أبو عمرو : سألت أحمد بن يحيى عنه فقال : أراد بالنونة : النقرة التي في ذقنه والتدسيم : التسويد أراد : سودوا ذلك الموضع من ذقنه ليرد العين قال : ومن هذا حديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خطب ذات يوم وعلى رأسه عمامة دسماء أي : سوداء أراد الإستشهاد على اللفظة ومن هذا أخذ الشاعر قوله :
( ما كان أحوج ذا الكمال إلى ... عيب يوقيه من العين ) (4/159)
فصل
ومن الرقى التي ترد العين ما ذكر عن أبي عبد الله الساجي أنه كان في بعض أسفاره للحج أو الغزو على ناقة فارهة وكان في الرفقة رجل عائن قلما نظر إلى شئ إلا أتلفه فقيل لأبي عبد الله : إحفظ ناقتك من العائن فقال : ليس له إلى ناقتي سبيل فأخبر العائن بقوله فتحين غيبة أبي عبد الله فجاء إلى رحله فنظر إلى الناقة فاضطربت وسقطت فجاء أبو عبد الله فأخبر أن العائن قد عانها وهي كما ترى فقال : دلوني عليه فدل فوقف عليه وقال : بسم الله حبس حابس وحجر يابس وشهاب قابس رددت عين العائن عليه وعلى أحب الناس إليه { فارجع البصر هل ترى من فطور * ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير } [ الملك : 3 ، 4 ] فخرجت حدقتا العائن وقامت الناقة لا بأس بها (4/160)
فصل
في هديه صلى الله عليه و سلم في العلاج العام لكل شكوى بالرقية الإلهية
روى أبو داود في سننه من حديث أبي الدرداء قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ من اشتكى منكم شيئا أو اشتكاه أخ له فليقل : ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك أمرك في السماء والأرض كما رحمتك في السماء فاجعل رحمتك في الأرض واغفر لنا حوبنا وخطايانا أنت رب الطيبين أنزل رحمة من رحمتك وشفاء من شفائك على هذا الوجع فيبرأ بإذن الله ]
وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري [ أن جبريل - عليه السلام - أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا محمد ! أشتكيت ؟ فقال : نعم فقال جبريل - عليه السلام - : باسم الله أرقيك من كل شئ يؤذيك من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك باسم الله أرقيك ]
فإن قيل : فما تقولون في الحديث الذي رواه أبو داود : [ لا رقية إلا من عين أو حمة ] والحمة : ذوات السموم كلها
فالجواب أنه صلى الله عليه و سلم لم يرد به نفي جواز الرقية في غيرها بل المراد به : لا رقية أولى وأنفع منها في العين والحمة ويدل عليه سياق الحديث فإن سهل بن حنيف قال له لما أصابته العين : أوفي الرقى خير ؟ فقال : [ لا رقية إلا في نقس أو حمة ] ويدل عليه سائر أحاديث الرقى العامة والخاصة وقد روى أبو داود من حديث أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا رقية إلا من عين أو حمة أو دم يرقأ ]
وفي صحيح مسلم عنه أيضا : رخص رسول الله صلى الله عليه و سلم في الرقية من العين والحمة والنملة (4/160)
فصل
في هديه صلى الله عليه و سلم في رقية اللديغ بالفاتحة
أخرجا في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري قال : انطلق نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم في سفرة سافروها حتى نزلوا على حي من أحياء العرب فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم فلدغ سيد ذلك الحي فسعوا له بكل شئ لا ينفعه شئ فقال بعضهم : لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا لعلهم أن يكون عند بعضهم شئ فأتوهم فقالوا : يا أيها الرهط ! إن سيدنا لدغ وسعينا له بكل شئ لا ينفعه فهل عند أحد منكم من شئ ؟ فقال بعضهم : نعم والله إني لأرقي ولكن استضفناكم فلم تضيفونا فما أنا براق حتى تجعلوا لنا جعلا فصالحوهم على قطيع من الغنم فانطلق يتفل عليه ويقرأ : الحمد لله رب العالمين فكأنما أنشط من عقال فانطلق يمشي وما به قلبة قال : فأوفوهم جعلهم الذي صالحوهم عليه فقال بعضهم : اقتسموا فقال الذي رقى : لا تفعلوا حتى نأتي رسول الله صلى الله عليه و سلم فنذكر له الذي كان فننظر ما يأمرنا فقدموا على رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكروا له ذلك فقال : [ وما يدريك أنها رقية ؟ ثم قال : قد أصبتم اقسموا واضربوا لي معكم سهما ]
وقد روى ابن ماجه في سننه من حديث علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ خير الدواء القرآن ]
ومن المعلوم أن بعض الكلام له خواص ومنافع مجربة فما الظن بكلام رب العالمين الذي فضله على كل كلام كفضل الله على خلقه الذي هو الشفاء التام والعصمة النافعة والنور الهادي والرحمة العامة الذي لو أنزل على جبل لتصدع من عظمته وجلالته قال تعالى : { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين } [ الإسراء : 82 ] و من ها هنا لبيان الجنس لا للتبعيض هذا أصح القولين كقوله تعالى : { وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما } [ الفتح : 129 ] وكلهم من الذين آمنوا وعملوا الصالحات فما الظن بفاتحة الكتاب التي لم ينزل في القرآن ولا في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور مثلها المتضمنة لجميع معاني كتب الله المشتملة على ذكر أصول أسماء الرب - تعالى - ومجامعها وهي الله والرب والرحمن وإثبات المعاد وذكر التوحيدين : توحيد الربوبية وتوحيد الإلهية وذكر الإفتقار إلى الرب سبحانه في طلب الإعانة وطلب الهداية وتخصيصه سبحانه بذلك وذكر أفضل الدعاء على الإطلاق وأنفعه وأفرضه وما العباد أحوج شئ إليه وهو الهداية إلى صراطه المستقيم المتضمن كمال معرفته وتوحيده وعبادته - بفعل ما أمر به واجتناب ما نهى عنه والإستقامة عليه إلى الممات ويتضمن ذكر أصناف الخلائق وانقسامهم إلى منعم عليه بمعرفة الحق والعمل به ومحبته وإيثاره ومغضوب عليه بعدوله عن الحق بعد معرفته له وضال بعدم معرفته له وهؤلاء أقسام الخليقة مع تضمنها لإثبات القدر والشرع والأسماء والصفات والمعاد والنبوات وتزكية النفوس وإصلاح القلوب وذكر عدل الله وإحسانه والرد على جميع أهل البدع والباطل كما ذكرنا ذلك في كتابنا الكبير مدارج السالكين في شرحها وحقيق بسورة هذا بعض شأنها أن يستشفى بها من الأدواء ويرقى بها اللديغ
وبالجملة فما تضمنته الفاتحة من إخلاص العبودية والثناء على الله وتفويض الأمر كله إليه والإستعانة به والتوكل عليه وسؤاله مجامع النعم كلها وهي الهداية التي تجلب النعم وتدفع النقم من أعظم الأدوية الشافية الكافية
وقد قيل : إن موضع الرقية منها : { إياك نعبد وإياك نستعين } ولا ريب أن هاتين الكلمتين من أقوى أجزاء هذا الدواء فإن فيهما من عموم التفويض والتوكل والإلتجاء والإستعانة والإفتقار والطلب والجمع بين أعلى الغايات وهي عبادة الرب وحده وأشرف الوسائل وهي الإستعانة به على عبادته ما ليس في غيرها ولقد مر بي وقت بمكة سقمت فيه وفقدت الطبيب والدواء فكنت أتعالج بها آخذ شربة من ماء زمزم وأقرؤها عليها مرارا ثم أشربه فوجدت بذلك البرء التام ثم صرت أعتمد ذلك عند كثير من الأوجاع فأنتفع بها غاية الإنتفاع (4/162)
فصل
وفي تأثير الرقى بالفاتحة وغيرها في علاج ذوات السموم سر بديع فإن ذوات السموم أثرت بكيفيات نفوسها الخبيثة كما تقدم وسلاحها حماتها التي تلدغ بها وهي لا تلدغ حتى تغضب فإذا غضبت ثار فيها السم فتقذفه بآلتها وقد جعل الله سبحانه لكل داء دواء ولكل شئ ضدا ونفس الراقي تفعل في نفس المرقي فيقع بين نفسيهما فعل وانفعال كما يقع بين الداء والدواء فتقوى نفس الراقي وقوته بالرقية على ذلك الداء فيدفعه بإذن الله ومدار تأثير الأدوية والأدواء على الفعل والإنفعال وهو كما يقع بين الداء والدواء الطبيعيين يقع بين الداء والدواء الروحانيين والروحاني والطبيعي وفي النفث والتفل استعانة بتلك الرطوبة والهواء والنفس المباشر للرقية والذكر والدعاء فإن الرقية تخرج من قلب الراقي وفمه فإذا صاحبها شئ من أجزاء باطنه من الريق والهواء والنفس كانت أتم تأثيرا وأقوى فعلا ونفوذا ويحصل بالإزدواج بينهما كيفية موثرة شبيهة بالكيفية الحادثة عند تركيب الأدوية
وبالجملة : فنفس الراقي تقابل تلك النفوس الخبيثة وتزيد بكيفية نفسه
وتستعين بالرقية وبالنفث على إزالة ذلك الأثر وكلما كانت كيفية نفس الراقي أقوى كانت الرقية أتم واستعانته بنفثه كاستعانة تلك النفوس الرديئة بلسعها
وفي النفث سر آخر فإنه مما تستعين به الأرواح الطيبة والخبيثة ولهذا تفعله السحرة كما يفعله أهل الإيمان قال تعالى : { ومن شر النفاثات في العقد } وذلك لأن النفس تتكيف بكيفية الغضب والمحاربة وترسل أنفاسها سهاما لها وتمدها بالنفث والتفل الذي معه شئ من الريق مصاحب لكيفية مؤثرة والسواحر تستعين بالنفث استعانة بينة وإن لم تتصل بجسم المسحور
بل تنفث على العقدة وتعقدها وتتكلم بالسحر فيعمل ذلك في المسحور بتوسط الأرواح السفلية الخبيثة فتقابلها الروح الزكية الطيبة بكيفية الدفع والتكلم بالرقية وتستعين بالنفث فأيهما قوي كان الحكم له ومقابلة الأرواح بعضها لبعض ومحاربتها وآلتها من جنس مقابلة الأجسام ومحاربتها وآلتها سواء بل الأصل في المحاربة والتقابل للأرواح والأجسام آلتها وجندها ولكن من غلب عليه الحس لا يشعر بتأثيرات الأرواح وأفعالها وانفعالاتها لاستيلاء سلطان الحس عليه وبعده من عالم الأرواح وأحكامها وأفعالها
والمقصود : أن الروح إذا كانت قوية وتكيفت بمعاني الفاتحة واستعانت بالنفث والتفل قابلت ذلك الأثر الذي حصل من النفوس الخبيثة فأزالته والله أعلم (4/164)
فصل
في هديه صلى الله عليه و سلم في علاج لدغة العقرب بالرقية
روى ابن أبي شيبة في مسنده من حديث عبد الله بن مسعود قال : بينا رسول الله صلى الله عليه و سلم يصلي إذ سجد فلدغته عقرب في إصبعه فانصرف رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال : [ لعن الله العقرب ما تدع نبيا ولا غيره ] قال : ثم دعا بإناء فيه ماء وملح فجعل يضع موضع اللدغة في الماء والملح ويقرأ { قل هو الله أحد } والمعوذتين حتى سكنت
ففي هذا الحديث العلاج بالدواء المركب من الأمرين : الطبيعي والإلهي فإن في سورة الإخلاص من كمال التوحيد العلمي الإعتقادي وإثبات الأحدية لله المستلزمة نفي كل شركة عنه وإثبات الصمدية المستلزمة لإثبات كل كمال له مع كون الخلائق تصمد إليه في حوائجها أي : تقصده الخليقة وتتوجه إليه علويها وسفليها ونفي الوالد والولد والكفء عنه المتضمن لنفي
الأصل والفرع والنظير والمماثل مما اختصت به وصارت تعدل ثلث القرآن ففي اسمه الصمد إثبات كل الكمال وفي نفي الكفء التنزيه عن الشبيه والمثال وفي الأحد نفي كل شريك لذي الجلال وهذه الأصول الثلاثة هي مجامع التوحيد
وفي المعوذتين الإستعاذة من كل مكروه جملة وتفصيلا فإن الإستعاذة من شر ما خلق تعم كل شر يستعاذ منه سواء كان في الأجسام أو الأرواح والإستعاذة من شر الغاسق وهو الليل وآيته وهو القمر إذا غاب تتضمن الإستعاذة من شر ما ينتشر فيه من الأرواح الخبيثة التي كان نور النهار يحول بينها وبين الإنتشار فلما أظلم الليل عليها وغاب القمر انتشرت وعاثت
والإستعاذة من شر النفاثات في العقد تتضمن الإستعاذة من شر السواحر وسحرهن
والإستعاذة من شر الحاسد تتضمن الإستعاذة من النفوس الخبيثة المؤذية بحسدها ونظرها
والسورة الثانية : تتضمن الإستعاذة من شر شياطين الإنس والجن فقد جمعت السورتان الإستعاذة من كل شر ولهما شأن عظيم في الإحتراس والتحصن من الشرور قبل وقوعها ولهذا أوصى النبي صلى الله عليه و سلم عقبة بن عامر بقراءتهما عقب كل صلاة ذكره الترمذي في جامعه وفي هذا سر عظيم في استدفاع
الشرور من الصلاة إلى الصلاة وقال : ما تعوذ المتعوذون بمثلهما وقد ذكر أنه صلى الله عليه و سلم سحر في إحدى عشرة عقدة وأن جبريل نزل عليه بهما فجعل كلما قرأ آية منهما انحلت عقدة حتى انحلت العقد كلها وكأنما أنشط من عقال
وأما العلاج الطبيعي فيه فإن في الملح نفعا لكثير من السموم ولا سيما لدغة العقرب قال صاحب القانون : يضمد به مع بزر الكتان للسع العقرب وذكره غيره أيضا وفي الملح من القوة الجاذبة المحللة ما يجذب السموم ويحللها ولما كان في لسعها قوة نارية تحتاج إلى تبريد وجذب وإخراج جمع بين الماء المبرد لنار اللسعة والملح الذي فيه جذب وإخراج وهذا أتم ما يكون من العلاج وأيسره وأسهله وفيه تنبيه على أن علاج هذا الداء بالتبريد والجذب والإخراج والله أعلم
وقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله ! ما لقيت من عقرب لدغتني البارحة فقال : [ أما لو قلت حين أمسيت : أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم تضرك ]
واعلم أن الأدوية الطبيعية الإلهية تنفع من الداء بعد حصوله وتمنع من وقوعه وإن وقع لم يقع وقوعا مضرا وإن كان مؤذيا والأدوية الطبيعية إنما تنفع بعد حصول الداء فالتعوذات والأذكار إما أن تمنع وقوع هذه الأسباب وإما أن تحول بينها وبين كمال تأثيرها بحسب كمال التعوذ وقوته وضعفه فالرقى والعوذ تستعمل لحفظ الصحة ولازالة المرض أما الأول : فكما في الصحيحين من حديث عائشة كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا أوى إلى فراشه نفث في كفيه { قل هو الله أحد } والمعوذتين ثم يمسح بهما وجهه وما بلغت يده من جسده
وكما في حديث عوذة أبي الدرداء المرفوع [ اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت عليك توكلت وأنت رب العرش العظيم ] وقد تقدم وفيه : من قالها أول نهاره لم تصبه مصيبة حتى يمسي ومن قالها آخر نهاره لم تصبه مصيبة حتى يصبح
وكما في الصحيحين : [ من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه ]
وكما في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ من نزل منزلا فقال : أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شئ حتى يرتحل من منزله ذلك ]
وكما في سنن أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان في السفر يقول بالليل : [ يا أرض ربي وربك الله أعوذ بالله من شرك وشر ما فيك وشر ما يدب عليك أعوذ بالله من أسد وأسود ومن الحية والعقرب ومن ساكن البلد ومن والد وما ولد ]
وأما الثاني : فكما تقدم من الرقية بالفاتحة والرقية للعقرب وغيرها مما يأتي (4/165)
فصل
في هديه صلى الله عليه و سلم في رقية النملة
قد تقدم من حديث أنس الذي في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه و سلم رخص في الرقية من الحمة والعين والنملة
وفي سنن أبي داود عن الشفاء بنت عبد الله دخل علي رسول الله صلى الله عليه و سلم وأنا عند حفصة فقال : [ ألا تعلمين هذه رقية النملة كما علمتيها الكتابة ]
النملة : قروح تخرج في الجنين وهو داء معروف وسمي نملة لأن صاحبه يحس في مكانه كأن نملة تدب عليه وتعضه وأصنافها ثلاثة قال ابن قتيبة وغيره : كان المجوس يزعمون أن ولد الرجل من أخته إذا خط على النملة شفى صاحبها ومنه قول الشاعر :
( ولاعيب فينا غير عرف لمعشر ... كرام وأنا لا نخط على النمل )
وروى الخلال : أن الشفاء بنت عبد الله كانت ترقي في الجاهلية من النملة فلما هاجرت إلى النبي صلى الله عليه و سلم وكانت قد بايعته بمكة قالت : يا رسول الله ! إني كنت أرقي في الجاهلية من النملة وإني أريد أن أعرضها عليك فعرضت عليه
فقالت : بسم الله ضلت حتى تعود من أفواهها ولا تضر أحدا اللهم اكشف البأس رب الناس قال : ترقي بها على عود سبع مرات وتقصد مكانا نظيفا وتدلكه على حجر بخل خمر حاذق وتطليه على النملة وفي الحديث : دليل على جواز تعليم النساء الكتابة (4/169)
فصل
في هديه صلى الله عليه و سلم في رقية الحية
قد تقدم قوله : [ لا رقية إلا في عين أو حمة ] الحمة : بضم الحاء وفتح الميم وتخفيفها وفي سنن ابن ماجه من حديث عائشة : رخص رسول الله صلى الله عليه و سلم في الرقية من الحية والعقرب ويذكر عن ابن شهاب الزهري قال : لدغ بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم حية فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ هل من راق ؟ فقالوا : يا رسول الله ! إن آل حزم كانوا يرقون رقية الحية فلما نهيت عن الرقى تركوها فقال : ادعو عمارة بن حزم فدعوه فعرض عليه رقاه فقال : لا بأس بها فأذن له فيها فرقاه ] (4/170)
فصل
في هديه صلى الله عليه و سلم في رقية القرحة والجرح
أخرجا في الصحيحين عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا اشتكى الإنسان أو كانت به قرحة أو جرح قال بأصبعه : هكذا ووضع سفيان سبابته بالأرض ثم رفعها وقال : [ بسم الله تربة أرضنا بريقة بعضنا يشفى سقيمنا بإذن ربنا ]
هذا من العلاج الميسر النافع المركب وهي معالجة لطيفة يعالج بها القروح والجراحات الطرية لا سيما عند عدم غيرها من الأدوية إذ كانت موجودة بكل أرض وقد علم أن طبيعة التراب الخالص بادرة يابسة مجففة لرطوبات القروح والجراحات التي تمنع الطبيعة من جودة فعلها وسرعة اندمالها لا سيما في البلاد الحارة وأصحاب الأمزجة الحارة فإن القروح والجراحات يتبعها في أكثر الأمر سوء مزاج حار فيجتمع حرارة البلد والمزاج والجراح وطبيعة التراب الخالص باردة يابسة أشد من برودة جميع الأدوية المفردة الباردة فتقابل برودة التراب حرارة المرض لا سيما إن كان التراب قد غسل وجفف ويتبعها أيضا كثرة الرطوبات الرديئة والسيلان والتراب مجفف لها مزيل لشدة يبسه وتجفيفه للرطوبة الرديئة المانعة من برئها ويحصل به - مع ذلك - تعديل مزاج العضو العليل ومتى اعتدل مزاج العضو قويت قواه المدبرة ودفعت عنه الألم بإذن الله
ومعنى الحديث : أنه يأخذ من ريق نفسه على أصبعه السبابة ثم يضعها على التراب فيعلق بها منه شئ فيمسح به على الجرح ويقول هذا الكلام لما فيه من بركة ذكر اسم الله وتفويض الأمر إليه والتوكل عليه فينضم أحد العلاجين إلى الآخر فيقوى التأثير
وهل المراد بقوله : تربة أرضنا جميع الأرض أو أرض المدينة خاصة ؟ فيه قولان ولا ريب أن من التربة ما تكون فيه خاصية ينفع بخاصيته من أدواء كثيرة ويشفي به أسقاما رديئة قال جالينوس : رأيت بالإسكندرية مطحولين ومستسقين كثيرا يستعملون طين مصر ويطلون به على سوقهم وأفخاذهم وسواعدهم وظهورهم وأضلاعهم فينتفعون به منفعة بينة قال : وعلى هذا النحو فقد ينفع هذا الطلاء للأورام العفنة والمترهلة الرخوة قال : وإني لأعرف قوما ترهلت أبدانهم كلها من كثرة استفراغ الدم من أسفل انتفعوا بهذا الطين نفعا بينا وقوما آخرين شفوا به أوجاعا مزمنة كانت متمكنة في بعض الأعضاء تمكنا شديدا فبرأت وذهبت أصلا وقال صاحب الكتاب المسيحي : قوة الطين المجلوب من كنوس - وهي جزيرة المصطكى - قوة تجلو وتغسل وتنبت اللحم في القروح وتختم القروح انتهى
وإذا كان هذا في هذه التربات فما الظن بأطيب تربة على وجه الأرض وأبركها وقد خالطت ريق رسول الله صلى الله عليه و سلم وقارنت رقيته باسم ربه وتفويض الأمر إليه وقد تقدم أن قوى الرقية وتأثيرها بحسب الراقي وانفعال المرقي عن رقيته وهذا أمر لا ينكره طبيب فاضل عاقل مسلم فإن انتفى أحد الأوصاف فليقل ما شاء (4/170)
فصل
في هديه صلى الله عليه و سلم في علاج الوجع بالرقية
روى مسلم في صحيحه عن عثمان بن أبي العاص أنه شكى إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وجعا يجده في جسده منذ أسلم فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ ضع يدك على الذي تألم من جسدك وقل : بسم الله ثلاثا وقل سبع مرات : أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر ] ففي هذا العلاج من ذكر الله والتفويض إليه والإستعاذة بعزته وقدرته من شر الألم ما يذهب به وتكراره ليكون أنجع وأبلغ كتكرار الدواء لأخراج المادة وفي السبع خاصية لا توجد في غيرها وفي الصحيحين : أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يعوذ بعض أهله يمسح بيده اليمنى ويقول : [ اللهم رب الناس أذهب الباس واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما ] ففي هذه الرقية توسل إلى الله بكمال ربوبيته وكمال رحمته بالشفاء وأنه وحده الشافى وأنه لا شفاء إلا شفاؤه فتضمنت التوسل إليه بتوحيده وإحسانه وربوبيته (4/172)
فصل
في هديه صلى الله عليه و سلم في علاج حر المصيبة وحزنها
قال تعالى : { وبشر الصابرين * الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون } [ البقرة : 155 ] وفي المسند عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ ما من أحد تصيبه مصيبة فيقول : إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرا منها إلا أجاره الله في مصيبته وأخلف له خيرا منها ]
وهذه الكلمة من أبلغ علاج المصاب وأنفعه له في عاجلته وآجلته فإنها تتضمن أصلين عظيمين إذا تحقق العبد بمعرفتهما تسلى عن مصيبته
أحدهما : أن العبد وأهله وماله ملك لله عز و جل حقيقة وقد جعله عند العبد عارية فإذا أخذه منه فهو كالمعير يأخذ متاعه من المستعير وأيضا فإنه محفوف بعدمين : عدم قبله وعدم بعده وملك العبد له متعة معارة في زمن يسير وأيضا فإنه ليس الذي أوجده عن عدمه حتى يكون ملكه حقيقة ولا هو الذي يحفظه من الآفات بعد وجوده ولا يبقي عليه وجوده فليس له فيه تأثير ولا ملك حقيقي وأيضا فإنه متصرف فيه بالأمر تصرف العبد المأمور المنهي لا تصرف الملاك ولهذا لا يباح له من التصرفات فيه إلا ما وافق أمر مالكه الحقيقي
والثاني : أن مصير العبد ومرجعه إلى الله مولاه الحق ولا بد أن يخلف الدنيا وراء ظهره ويجيء ربه فردا كما خلقه أول مرة بلا أهل ولا مال ولا عشيرة ولكن بالحسنات والسيئات فإذا كانت هذه بداية العبد وما خوله ونهايته فكيف يفرح بموجود أو يأسى على مفقود ففكره في مبدئه ومعاده من أعظم علاج هذا الداء ومن علاجه أن يعلم علم اليقين أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه قال تعالى : { ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير * لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور } [ الحديد : 22 ]
ومن علاجه أن ينظر إلى ما أصيب به فيجد ربه قد أبقى عليه مثله أو أفضل منه وادخر له - إن صبر ورضي - ما هو أعظم من فوات تلك المصيبة بأضعاف مضاعفة وأنه لو شاء لجعلها أعظم مما هي
ومن علاجه أن يطفئ نار مصيبته ببرد التأسي بأهل المصائب وليعلم أنه في كل واد بنو سعد ولينظر يمنة فهل يرى إلا محنة ؟ ثم ليعطف يسرة فهل يرى إلا حسرة ؟ وأنه لو فتش العالم لم ير فيهم إلا مبتلى إما بفوات محبوب أو حصول مكروه وأن شرور الدنيا أحلام نوم أو كظل زائل إن أضحكت قليلا أبكت كثيرا وإن سرت يوما ساءت دهرا وإن متعت قليلا منعت طويلا وما ملأت دارا خيرة إلا ملأتها عبرة ولا سرته بيوم سرور إلا خبأت له يوم شرور قال ابن مسعود - رضي الله عنه - : لكل فرحة ترحة وما ملئ بيت فرحا إلا ملئ ترحا وقال ابن سيرين : ما كان ضحك قط إلا كان من بعده بكاء
وقالت هند بنت النعمان : لقد رأيتنا ونحن من أعز الناس وأشدهم ملكا ثم لم تغب الشمس حتى رأيتنا ونحن أقل الناس وأنه حق على الله ألا يملأ دارا خيرة إلا ملأها عبرة
وسألها رجل أن تحدثه عن أمرها فقالت : أصبحنا ذا صباح وما في العرب أحد إلا يرجونا ثم أمسينا وما في العرب أحد إلا يرحمنا
وبكت أختها حرقة بنت النعمان يوما وهي في عزها فقيل لها : ما يبكيك لعل أحدا آذاك ؟ قالت : لا ولكن رأيت غضارة في أهلي وقلما امتلأت دار سرورا إلا امتلأت حزنا
قال إسحاق بن طلحة : دخلت عليها يوما فقلت لها : كيف رأيت عبرات الملوك ؟ فقالت : ما نحن فيه اليوم خير مما كنا فيه الأمس إنا نجد في الكتب أنه ليس من أهل بيت يعيشون في خيرة إلا سيعقبون بعدها عبرة وأن الدهر لم يظهر لقوم بيوم يحبونه إلا بطن لهم بيوم يكرهونه ثم قالت :
( فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا ... إذا نحن فيهم سوقة نتنصف )
( فأف لدنيا لا يدوم نعيمها ... تقلب تارات بنا وتصرف )
ومن علاجها أن يعلم أن الجزع لا يردها بل يضاعفها وهو في الحقيقة من تزايد المرض
ومن علاجها أن يعلم أن فوت ثواب الصبر والتسليم وهو الصلاة والرحمة والهداية التي ضمنها الله على الصبر والإسترجاع أعظم من المصيبة في الحقيقة
ومن علاجها أن يعلم أن الجزع يشمت عدوه ويسوء صديقه ويغضب ربه ويسر شيطانه ويحبط أجره ويضعف نفسه وإذا صبر واحتسب أنضى شيطانه ورده خاسئا وأرضى ربه وسر صديقه وساء عدوه وحمل عن إخوانه وعزاهم هو قبل أن يعزوه فهذا هو الثبات والكمال الأعظم لا لطم الخدود وشق الجيوب والدعاء بالويل والثبور والسخط على المقدور
ومن علاجها : أن يعلم أن ما يعقبه الصبر والإحتساب من اللذة والمسرة أضعاف ما كان يحصل له ببقاء ما أصيب به لو بقي عليه ويكفيه من ذلك بيت الحمد الذي يبنى له في الجنة على حمده لربه واسترجاعه فلينظر : أي المصيبتين أعظم ؟ : مصيبة العاجلة أو مصيبة فوات بيت الحمد في جنة الخلد وفي الترمذي مرفوعا : [ يود ناس يوم القيامة أن جلودهم كانت تقرض بالمقاريض في الدنيا لما يرون من ثواب أهل البلاء ]
وقال بعض السلف : لو لا مصائب الدنيا لوردنا القيام مفاليس
ومن علاجها : أن يروح قلبه بروح رجاء الخلف من الله فإنه من كل شئ عوض إلا الله فما منه عوض كما قيل :
( من كل شئ إذا ضيعته عوض ... وما من الله إن ضيعته عوض )
ومن علاجها : أن يعلم أن حظه من المصيبة ما تحدثه له فمن رضي فله الرضى ومن سخط فله السخط فحظك منها ما أحدثته لك فاختر خير الحظوظ أو شرها فإن أحدثت له سخطا وكفرا كتب في ديوان الهالكين وإن أحدثت له جزعا وتفريطا في ترك واجب أو فعل محرم كتب في ديوان المفرطين وإن أحدثت له شكاية وعدم صبر كتب في ديوان المغبونين وإن أحدثت له اعتراضا على الله وقدحا في حكمته فقد قرع باب الزندقة أو ولجه وإن أحدثت له صبرا وثباتا لله كتب في ديوان الصابرين وإن أحدثت له الرضى عن الله كتب في ديوان الراضين وإن أحدثت له الحمد والشكر كتب في ديوان الشاكرين وكان تحت لواء الحمد مع الحمادين وإن أحدثت له محبة واشتياقا إلى لقاء ربه كتب في ديوان المحبين المخلصين
وفي مسند الإمام أحمد والترمذي من حديث محمود بن لبيد يرفعه : [ إن الله إذا أحب قوما ابتلاهم فمن رضي فله الرضى ومن سخط فله السخط ] زاد أحمد : [ ومن جزع فله الجزع ]
ومن علاجها : أن يعلم أنه وإن بلغ في الجزع غايته فآخر أمره إلى صبر الإضطرار وهو غير محمود ولا مثاب قال بعض الحكماء : العاقل يفعل في أول يوم من المصيبة ما يفعله الجاهل بعد أيام ومن لم يصبر صبر الكرام سلا سلو البهائم وفي الصحيح مرفوعا : [ الصبر عند الصدمة الأولى ] وقال الأشعث بن قيس : إنك إن صبرت إيمانا واحتسابا وإلا سلوت سلو البهائم
ومن علاجها : أن يعلم أن أنفع الأدوية له موافقة ربه وإلهه فيما أحبه ورضيه له وأن خاصية المحبة وسرها موافقة المحبوب فمن ادعى محبة محبوب ثم سخط ما يحبه وأحب ما يسخطه فقد شهد على نفسه بكذبه وتمقت إلى محبوبه
وقال أبو الدرداء : أن الله إذا قضى قضاء أحب أن يرضى به وكان عمران بن حصين يقول في علته : أحبه إلي أحبه إليه وكذلك قال أبو العالية
وهذا دواء وعلاج لا يعمل إلا مع المحبين ولا يمكن كل أحد أن يتعالج به
ومن علاجها : أن يوازن بين أعظم اللذتين والمتعتين وأدومهما : لذة تمتعه بما أصيب به ولذة تمتعه بثواب الله له فإن ظهر له الرجحان فآثر الراجح فليحمد الله على توفيقه وإن آثر المرجوح من كل وجه فليعلم أن مصيبته في عقله وقلبه ودينه أعظم من مصيبته التي أصيب بها في دنياه
ومن علاجها أن يعلم أن الذي ابتلاه بها أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين وأنه سبحانه لم يرسل إليه البلاء ليهلكه به ولا ليعذبه به ولا ليجتاحه وإنما افتقده به ليمتحن صبره ورضاه عنه وإيمانه وليسمع تضرعه وابتهاله وليراه طريحا ببابه لائذا بجنابه مكسور القلب بين يديه رافعا قصص الشكوى إليه
قال الشيخ عبد القادر : يا بني ! إن المصيبة ما جاءت لتهلكك وإنما جاءت لتمتحن صبرك وإيمانك يا بني ! القدر سبع والسبع لا يأكل الميتة
والمقصود : أن المصيبة كير العبد الذي يسبك به حاصله فإما أن يخرج ذهبا أحمر وإما أن يخرج خبثا كله كما قيل :
( سبكناه ونحسبه لجينا ... فأبدى الكير عن خبث الحديد )
فإن لم ينفعه هذا الكير في الدنيا فبين يديه الكير الأعظم فإذا علم العبد أن إدخاله كير الدنيا ومسبكها خير له من ذلك الكير والمسبك وأنه لا بد من أحد الكيرين فليعلم قدر نعمة الله عليه في الكير العاجل
ومن علاجها : أن يعلم أنه لو لا محن الدنيا ومصائبها لأصاب العبد - من أدواء الكبر والعجب والفرعنة وقسوة القلب - ما هو سبب هلاكه عاجلا وآجلا فمن رحمة أرحم الراحمين أن يتفقده في الأحيان بأنواع من أدوية المصائب تكون حمية له من هذه الأدواء وحفظا لصحة عبوديته واستفراغا للمواد الفاسدة الرديئة المهلكة منه فسبحان من يرحم ببلائه ويبتلي بنعمائه كما قيل :
( قد ينعم بالبلوى وإن عظمت ... ويبتلي الله بعض القوم بالنعم )
فلو لا أنه - سبحانه - يداوي عباده بأدوية المحن والإبتلاء لطغوا وبغوا وعتوا والله - سبحانه - إذا أراد بعبد خيرا سقاه دواء من الإبتلاء والإمتحان على قدر حاله يستفرغ به من الأدواء المهلكة حتى إذا هذبه ونقاه وصفاه أهله لأشرف مراتب الدنيا وهي عبوديته وأرفع ثواب الآخرة وهو رؤيته وقربه
ومن علاجها : أن يعلم أن مرارة الدنيا هي بعينها حلاوة الآخرة يقلبها الله سبحانه كذلك وحلاوة الدنيا بعينها مرارة الآخرة ولأن ينتقل من مرارة منقطعة إلى حلاوة دائمة خير له من عكس ذلك فإن خفي عليك هذا فانظر إلى قول الصادق المصدوق : [ حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات ]
وفي هذا المقام تفاوتت عقول الخلائق وظهرت حقائق الرجال فأكثرهم آثر الحلاوة المنقطعة على الحلاوة الدائمة التي لا تزول ولم يحتمل مرارة ساعة لحلاوة الأبد ولا ذل ساعة لعز الأبد ولا محنة ساعة لعافية الأبد فإن الحاضر عنده شهادة والمنتظر غيب والإيمان ضعيف وسلطان الشهوة حاكم فتولد من ذلك إيثار العاجلة ورفض الآخرة وهذا حال النظر الواقع على ظواهر الأمور وأوائلها ومبادئها وأما النظر الثاقب الذي يخرق حجب العاجلة ويجاوزه إلى العواقب والغايات فله شأن آخر
فادع نفسك إلى ما أعد الله لأوليائه وأهل طاعته من النعيم المقيم والسعادة الأبدية والفوز الأكبر وما أعد لأهل البطالة والإضاعة من الخزي والعقاب والحسرات الدائمة ثم اختر أي القسمين أليق بك وكل يعمل على شاكلته وكل أحد يصبو إلى ما يناسبه وما هو الأولى به ولا تستطل هذا العلاج فشدة الحاجة إليه من الطبيب والعليل دعت إلى بسطه وبالله التوفيق (4/173)
فصل
في هديه صلى الله عليه و سلم في علاج الكرب والهم والغم والحزن
أخرجا في الصحيحين من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يقول عند الكرب : [ لا إله إلا الله العظيم الحليم لا إله إلا الله رب العرش العظيم لا إله إلا الله رب السماوات السبع ورب الأرض رب العرش الكريم ]
وفي جامع الترمذي عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان إذا حزبه أمر قال : [ يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث ]
وفيه : عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا أهمه الأمر رفع طرفه إلى السماء فقال : [ سبحان الله العظيم ] وإذا اجتهد في الدعاء قال : [ يا حي يا قيوم ]
وفي سنن أبي داود عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ دعوات المكروب : اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت ]
وفيها أيضا عن أسماء بنت عميس قالت : قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ألا أعلمك كلمات تقوليهن عند الكرب أو في الكرب : الله ربى لا أشرك به شيئا ] وفي رواية أنها تقال سبع مرات
وفي مسند الإمام أحمد عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ما أصاب عبدا هم ولا حزن فقال : اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك : أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي إلا أذهب الله حزنه وهمه وأبدله مكانه فرحا ]
وفي الترمذي عن سعد بن أبي وقاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ دعوة ذي النون إذ دعا ربه وهو في بطن الحوت : لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين لم يدع بها رجل مسلم في شئ قط إلا استجيب له ]
وفي رواية [ إني لأعلم كلمة لا يقولها مكروب إلا فرج الله عنه : كلمة أخي يونس ]
وفي سنن أبي داود عن أبي سعيد الخدري قال : دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم ذات يوم المسجد فإذا هو برجل من الأنصار يقال له : أبو أمامة فقال : [ يا أبا أمامة مالي أراك في المسجد في غير وقت الصلاة ؟ فقال : هموم لزمتني وديون يا رسول الله فقال : ألا أعلمك كلاما إذا أنت قلته أذهب الله عز و جل همك وقضى دينك ؟ قال : قلت : بلى يا رسول الله قال : قل إذا أصبحت وإذا أمسيت : اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن وأعوذ بك من العجز والكسل وأعوذ بك من الجبن والبخل وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال ] قال : ففعلت ذلك فأذهب الله عز و جل همى وقضى عني ديني
وفي سنن أبي داود عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من لزم الإستغفار جعل الله له من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا ورزقه من حيث لا يحتسب ]
وفي المسند أن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة وقد قال تعالى : { واستعينوا بالصبر والصلاة } [ البقرة : 45 ]
وفي السنن : [ عليكم بالجهاد فإنه باب من أبواب الجنة يدفع الله به عن النفوس الهم والغم ]
ويذكر عن ابن عباس عن النبي صلى الله علي وسلم : [ من كثرت همومه وغمومه فليكثر من قول : لا حول ولا قوة إلا بالله ]
وثبت في الصحيحين [ أنها كنز من كنوز الجنة ]
وفي الترمذي : [ أنها باب من أبواب الجنة ]
هذه الأدوية تتضمن خمسة عشر نوعا من الدواء فإن لم تقو على إذهاب داء الهم والغم والحزن فهو داء قد استحكم وتمكنت أسبابه ويحتاج إلى استفراغ كلي
الأول : توحيد الربوبية
الثاني : توحيد الإلهية
الثالث : التوحيد العلمى الإعتقادي
الرابع : تنزيه الرب تعالى عن أن يظلم عبده أو يأخذه بلا سبب من العبد يوجب ذلك
الخامس : اعتراف العبد بأنه هو الظالم
السادس : التوسل إلى الرب تعالى بأحب الأشياء وهو أسماؤه وصفاته ومن أجمعها لمعاني الأسماء والصفات : الحي القيوم
السابع : الإستعانة به وحده
الثامن : إقرار العبد له بالرجاء
التاسع : تحقيق التوكل عليه والتفويض إليه والإعتراف له بأن ناصيته في يده يصرفه كيف يشاء وأنه ماض فيه حكمه عدل فيه قضاؤه
العاشر : أن يرتع قلبه في رياض القرآن ويجعله لقلبه كالربيع للحيوان وأن يستضيء به في ظلمات الشبهات واللهوات وأن يتسلى به عن كل فائت ويتعزى به عن كل مصيبة ويستشفي به من أدواء صدره فيكون جلاء حزنه وشفاء همه وغمه
الحادي عشر : الإستغفار
الثاني عشر : التوبة
الثالث عشر : الجهاد
الرابع عشر : الصلاة
الخامس عشر : البراءة من الحول والقوة وتفويضهما إلى من هما بيده (4/180)
فصل
في بيان جهة تأثير هذه الأدوية في هذه الأمراض
خلق الله - سبحانه - ابن آدم وأعضاءه وجعل لكل عضو منها كمالا إذا فقده أحس بالألم وجعل لملكها وهو القلب كمالا إذا فقده حضرته أسقامه وآلامه من الهموم والغموم والأحزان
فإذا فقدت العين ما خلقت له من قوة الإبصار وفقدت الأذن ما خلقت له من قوة السمع واللسان ما خلق له من قوة الكلام فقدت كمالها
والقلب : خلق لمعرفة فاطره ومحبته وتوحيده والسرور به والإبتهاج بحبه والرضى عنه والتوكل عليه والحب فيه والبغض فيه والموالاة فيه والمعاداة فيه ودوام ذكره وأن يكون أحب إليه من كل ما سواه وارجي عنده من كل ما سواه وأجل في قلبه من كل ما سواه ولا نعيم له ولا سرور ولا لذة بل ولا حياة إلا بذلك وهذا له بمنزلة الغذاء والصحة والحياة فإذا فقد غذاءه وصحته وحياته فالهموم والغموم والأحزان مسارعة من كل صوب إليه ورهن مقيم عليه
ومن أعظم أدوائه : الشرك والذنوب والغفلة والإستهانة بمحابه ومراضيه وترك التفويض إليه وقلة الإعتماد عليه والركون إلى ما سواه والسخط بمقدوره والشك في وعده ووعيده
وإذا تأملت أمراض القلب وجدت هذه الأمور وأمثالها هي أسبابها لا سبب لها سواها فدواؤه الذي لا دواء له سواه ما تضمنته هذه العلاجات النبوية من الأمور المضادة لهذه الأدواء فإن المرض يزال بالضد والصحة تحفظ بالمثل فصحته تحفظ بهذه الأمور النبوية وأمراضه بأضدادها
فالتوحيد : يفتح للعبد باب الخير والسرور واللذة والفرح والإبتهاج والتوبة استفراغ للأخلاط والمواد الفاسدة التي هي سبب أسقامه وحمية له من التخليط فهي تغلق عنه باب الشرور فيفتح له باب السعادة والخير بالتوحيد ويغلق باب الشرور بالتوبة والإستغفار
قال بعض المتقدمين من أئمة الطب : من أراد عافية الجسم فليقلل من الطعام والشراب ومن أراد عافية القلب فليترك الآثام وقال ثابت بن قرة : راحة الجسم في قلة الطعام وراحة الروح في قلة الآثام وراحة اللسان في قلة الكلام
والذنوب للقلب بمنزلة السموم إن لم تهلكه أضعفته ولا بد وإذا ضعفت قوته لم يقدر على مقاومة الأمراض قال طبيب القلوب عبد الله بن المبارك
( رأيت الذنوب تميت القلوب ... وقد يورث الذل إدمانها )
( وترك الذنوب حياة القلوب ... وخير لنفسك عصيانها )
فالهوى أكبر أدوائها ومخالفته أعظم أدويتها والنفس في الأصل خلقت جاهلة ظالمة فهي لجهلها تظن شفاءها في اتباع هواها وإنما فيه تلفها وعطبها ولظلمها لا تقبل من الطبيب الناصح بل تضع الداء موضع الدواء فتعتمده وتضع الدواء موضع الداء فتجتنبه فيتولد من بين إيثارها للداء واجتنابها للدواء أنواع من الأسقام والعلل التي تعيي الأطباء ويتعذر معها الشفاء والمصيبة العظمى أنها تركب ذلك على القدر فتبرئ نفسها وتلوم ربها بلسان الحال دائما ويقوى اللوم حتى يصرح به اللسان
وإذا وصل العليل إلى هذه الحال فلا يطمع في برئه إلا أن تتداركه رحمة من ربه فيحييه حياة جديدة ويرزقه طريقة حميدة فلهذا كان حديث ابن عباس في دعاء الكرب مشتملا على توحيد الإلهية والربوبية ووصف الرب سبحانه بالعظمة والحلم وهاتان الصفتان مستلزمتان لكمال القدرة والرحمة والإحسان والتجاوز ووصفه بكمال ربوبيته للعالم العلوي والسفلي والعرش الذي هو سقف المخلوقات وأعظمها والربوبية التامة تستلزم توحيده وأنه الذي لا تنبغي العبادة والحب والخوف والرجاء والإجلال والطاعة إلا له وعظمته المطلقة تستلزم إثبات كل كمال له وسلب كل نقص وتمثيل عنه وحلمه يستلزم كمال رحمته وإحسانه إلى خلقه
فعلم القلب ومعرفته بذلك توجب محبته وإجلاله وتوحيده فيحصل له من الإبتهاج واللذة والسرور ما يدفع عنه ألم الكرب والهم والغم وأنت تجد المريض إذا ورد عليه ما يسره ويفرحه ويقوي نفسه كيف تقوى الطبيعة على دفع المرض الحسي فحصول هذا الشفاء للقلب أولى وأحرى
ثم إذا قابلت بين ضيق الكرب وسعة هذه الأوصاف التي تضمنها دعاء الكرب وجدته في غاية المناسبة لتفريج هذا الضيق وخروج القلب منه إلى سعة البهجة والسرور وهذه الأمور إنما يصدق بها من أشرقت فيه أنوارها وباشر قلبه حقائقها
وفي تأثير قوله : يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث في دفع هذا الداء مناسبة بديعة فإن صفة الحياة متضمنة لجميع صفات الكمال مستلزمة لها وصفة القيومية متضمنة لجميع صفات الأفعال ولهذا كان اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى : هو اسم الحي القيوم والحياة التامة تضاد جميع الأسقام والآلام ولهذا لما كملت حياة أهل الجنة لم يلحقهم هم ولا غم ولا حزن ولا شئ من الآفات ونقصان الحياة تضر بالأفعال وتنافي القيومة فكمال القيومية لكمال الحياة فالحي المطلق التام الحياة لا تفوته صفة الكمال البتة والقيوم لا يتعذر عليه فعل ممكن البتة فالتوسل بصفة الحياة القيومية له تأثير في إزالة ما يضاد الحياة ويضر بالأفعال
ونظير هذا توسل النبي صلى الله عليه و سلم إلى ربه بربوبيته لجبريل وميكائيل وإسرافيل أن يهديه لما اختلف فيه من الحق بإذنه فإن حياة القلب بالهداية وقد وكل الله سبحانه هؤلاء الأملاك الثلاثة بالحياة فجبريل موكل بالوحي الذي هو حياة القلوب وميكائيل بالقطر الذي هو حياة الأبدان والحيوان وإسرافيل بالنفخ في الصور الذي هو سبب حياة العالم وعود الأرواح إلى أجسادها فالتوسل إليه سبحانه بربوبية هذه الأرواح العظيمة الموكلة بالحياة له تأثير في حصول المطلوب
والمقصود : أن لاسم الحي القيوم تأثيرا خاصا في إجابة الدعوات وكشف الكربات وفي السنن و صحيح أبي حاتم مرفوعا : [ اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين { وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم } [ البقرة : 163 ] وفاتحة آل عمران { الم * الله لا إله إلا هو الحي القيوم } ] قال الترمذي : حديث صحيح
وفي السنن و صحيح ابن حبان أيضا : من حديث أنس أن رجلا دعا فقال : اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ لقد دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى ]
ولهذا كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا اجتهد في الدعاء قال : [ يا حي يا قيوم ]
وفي قوله : [ اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت ] من تحقيق الرجاء لمن الخير كله بيديه والإعتماد عليه وحده وتفويض الأمر إليه والتضرع إليه أن يتولى إصلاح شأنه ولا يكله إلى نفسه والتوسل إليه بتوحيده مما له تأثير قوي في دفع هذا الداء وكذلك قوله : [ الله ربي لا أشرك به شيئا ]
وأما حديث ابن مسعود : [ اللهم إني عبدك ابن عبدك ] ففيه من المعارف الإلهية وأسرار العبودية ما لا يتسع له كتاب فإنه يتضمن الإعتراف بعبوديته وعبودية آبائه وأمهاته وأن ناصيته بيده يصرفها كيف يشاء فلا يملك العبد دونه لنفسه نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا لأن من ناصيته بيد غيره فليس إليه شئ من أمره بل هو عان في قبضته ذليل تحت سلطان قهره
وقوله : [ ماض في حكمك عدل في قضائك ] متضمن لأصلين عظيمين عليهما مدار التوحيد
أحدهما : إثبات القدر وأن أحكام الرب تعالى نافذة في عبده ماضية فيه لا انفكاك له عنها ولا حيلة له في دفعها
والثاني : أنه - سبحانه - عدل في هذه الأحكام غير ظالم لعبده بل لا يخرج فيها عن موجب العدل والإحسان فإن الظلم سببه حاجة الظالم أو جهله أو سفهه فيستحيل صدوره ممن هو بكل شئ عليم ومن هو غني عن كل شئ وكل شئ فقير إليه ومن هو أحكم الحاكمين فلا تخرج ذرة من مقدوراته عن حكمته وحمده كما لم تخرج عن قدرته ومشيئته فحكمته نافذة حيث نفذت مشيئته وقدرته ولهذا قال نبي الله هود صلى الله على نبينا وعليه وسلم وقد خوفه قومه بآلهتهم : { إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون * من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون * إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم } [ هود : 54 - 57 ] أي : مع كونه سبحانه آخذا بنواصي خلقه وتصريفهم كما يشاء فهو على صراط مستقيم لا يتصرف فيهم إلا بالعدل والحكمة والإحسان والرحمة فقوله : ماض في حكمك مطابق لقوله : ( ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها ) وقوله : عدل في قضاؤك مطابق لقوله : إن ربي على صراط مستقيم ثم توسل إلى ربه بأسمائه التي سمى بها نفسه ما علم العباد منها وما لم يعلموا ومنها : ما استأثره في علم الغيب عنده فلم يطلع عليه ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا وهذه الوسيلة أعظم الوسائل وأحبها إلى الله وأقربها تحصيلا للمطلوب
ثم سأله أن يجعل القرآن لقلبه كالربيع الذي يرتع فيه الحيوان وكذلك القرآن ربيع القلوب وأن يجعله شفاء همه وغمه فيكون له بمنزلة الدواء الذي يستأصل الداء ويعيد البدن إلى صحته واعتداله وأن يجعله لحزنه كالجلاء الذي يجلو الطبوع والأصدية وغيرها فأحرى بهذا العلاج إذا صدق العليل في استعماله أن يزيل عنه داءه ويعقبه شفاء تاما وصحة وعافية والله الموفق
وأما دعوة ذي النون : فإن فيها من كمال التوحيد والتنزيه للرب تعالى واعتراف العبد بظلمه وذنبه ما هو من أبلغ أدوية الكرب والهم والغم وأبلغ الوسائل إلى الله - سبحانه - في قضاء الحوائج فإن التوحيد والتنزيه يتضمنان إثبات كل كمال الله وسلب كل نقص وعيب وتمثيل عنه والإعتراف بالظلم يتضمن إيمان العبد بالشرع والثواب والعقاب ويوجب انكساره ورجوعه إلى الله واستقالته عثرته والإعتراف بعبوديته وافتقاره إلى ربه فها هنا أربعة أمور قد وقع التوسل بها : التوحيد والتنزيه والعبودية والإعتراف
وأما حديث أبي أمامة : [ اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن ] فقد تضمن الإستعاذة من ثمانية أشياء كل اثنين منها قرينان مزدوجان فالهم والحزن أخوان والعجز والكسل أخوان والجبن والبخل أخوان وضلع الدين وغلبة الرجال أخوان فإن المكروه المؤلم إذا ورد على القلب فإما أن يكون سببه أمرا ماضيا فيوجب له الحزن وإن كان أمرا متوقعا في المستقبل أوجب الهم وتخلف العبد عن مصالحه وتفويتها عليه إما أن يكون من عدم القدرة وهو العجز أو من عدم الإرادة وهو الكسل وحبس خيره ونفعه عن نفسه وعن بني جنسه إما أن يكون منع نفعه ببدنه فهو الجبن أو بماله فهو البخل وقهر الناس له إما بحق فهو ضلع الدين أو بباطل فهو غلبة الرجال فقد تضمن الحديث الإستعاذة من كل شر وأما تأثير الإستغفار في دفع الهم والغم والضيق فلما اشترك في العلم به أهل الملل وعقلاء كل أمة أن المعاصي والفساد توجب الهم والغم والخوف والحزن وضيق الصدر وأمراض القلب حتى إن أهلها إذا قضوا منها أوطارهم وسئمتها نفوسهم ارتكبوها دفعا لما يجدونه في صدورهم من الضيق والهم والغم كما قال شيخ الفسوق :
( وكأس شربت على لذة ... وأخرى تداويت منها بها )
وإذا كان هذا تأثير الذنوب والآثام في القلوب فلا دواء لها إلا التوبة والإستغفار
وأما الصلاة فشأنها في تفريح القلب وتقويته وشرحه وابتهاجه ولذته أكبر شأن وفيها من اتصال القلب والروح بالله وقربه والتنعم بذكره والإبتهاج بمناجاته والوقوف بين يديه واستعمال جميع البدن وقواه وآلاته في عبوديته وإعطاء كل عضو حظه منها واشتغاله عن التعلق بالخلق وملابستهم ومحاوراتهم وانجذاب قوى قلبه وجوارحه إلى ربه وفاطره وراحته من عدوه حالة الصلاة ما صارت به من أكبر الأدوية والمفرحات والأغذية التي لا تلائم إلا القلوب الصحيحة وأما القلوب العليلة فهي كالأبدان لا تناسبها إلا الأغذية الفاضلة
فالصلاة من أكبر العون على تحصيل مصالح الدنيا والآخرة ودفع مفاسد الدنيا والآخرة وهي منهاة عن الإثم ودافعة لأدواء القلوب ومطردة للداء عن الجسد ومنورة للقلب ومبيضة للوجه ومنشطة للجوارح والنفس وجالبة للرزق ودافعة للظلم ومنزلة للرحمة وكاشفة للغمة ونافعة من كثير من أوجاع البطن وقد روى ابن ماجه في سننه من حديث مجاهد عن أبي هريرة قال : رآني رسول الله صلى الله عليه و سلم وأنا نائم أشكو من وجع بطني فقال لي : [ يا أبا هريرة أشكمت درد ؟ قال : قلت : نعم يا رسول الله قال : قم فصل فإن في الصلاة شفاء ] وقد روي هذا الحديث موقوفا على أبي هريرة وأنه هو الذي قال ذلك لمجاهد وهو أشبه ومعنى هذه اللفظة بالفارسي : أيوجعك بطنك ؟
فإن لم ينشرح صدر زنديق الأطباء بهذا العلاج فيخاطب بصناعة الطب ويقال له : الصلاة رياضة النفس والبدن جميعا إذ كانت تشتمل على حركات وأوضاع مختلفة من الإنتصاب والركوع والسجود والتورك والإنتقالات وغيرها من الأوضاع التي يتحرك معها أكثر المفاصل وينغمز معها أكثر الأعضاء الباطنة كالمعدة والأمعاء وسائر آلات النفس والغذاء فما ينكر أن يكون في هذه الحركات تقوية وتحليل للمواد ولا سيما بواسطة قوة النفس وانشراحها في الصلاة فتقوى الطبيعة فيندفع الألم ولكن داء الزندقة والإعراض عما جاءت به الرسل والتعوض عنه بالإلحاد داء ليس له دواء إلا نار تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى
وأما تأثير الجهاد في دفع الهم والغم فأمر معلوم بالوجدان فإن النفس متى تركت صائل الباطل وصولته واستيلاءه اشتد همها وغمها وكربها وخوفها فإذا جاهدته لله أبدل الله ذلك الهم والحزن فرحا ونشاطا وقوة كما قال تعالى : { قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين * ويذهب غيظ قلوبهم } [ التوبة : 14 ، 15 ] فلا شئ أذهب لجوى القلب وغمه وهمه وحزنه من الجهاد والله المستعان
وأما تأثير لا حول ولا قوة إلا بالله في دفع هذا الداء فلما فيها من كمال التفويض والتبري من الحول والقوة إلا به وتسليم الأمر كله له وعدم منازعته في شئ منه وعموم ذلك لكل تحول من حال إلى حال في العالم العلوي والسفلي والقوة على ذلك التحول وأن ذلك كله بالله وحده فلا يقوم لهذه الكلمة شئ وفي بعض الآثار : إنه ما ينزل ملك من السماء ولا يصعد إليها إلا بلا حول ولا قوة إلا بالله ولها تأثير عجيب في طرد الشيطان والله المستعان (4/185)
فصل
في هديه صلى الله عليه و سلم في علاج الفزع والأرق المانع من النوم
روى الترمذي في جامعه عن بريدة قال : شكى خالد إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله ! ما أنام الليل من الأرق فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إذا أويت إلى فراشك فقل : اللهم رب السماوات السبع وما أظلت ورب الأرضين وما أقلت ورب الشياطين وما أضلت كن لي جارا من شر خلقك كلهم جميعا أن يفرط علي أحد منهم أو يبغي علي عز جارك وجل ثناؤك ولا إله غيرك ]
وفيه أيضا : عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يعلمهم من الفزع : [ أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه وشر عباده ومن همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون ] قال : وكان عبد الله بن عمرو يعلمهن من عقل من بنيه ومن لم يعقل كتبه فأعلقه عليه ولا يخفى مناسبة هذه العوذة لعلاج هذا الداء (4/193)
فصل
في هديه صلى الله عليه و سلم في علاج داء الحريق وإطفائه
يذكر عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إذا رأيتم الحريق فكبروا فإن التكبير يطفئه ] لما كان الحريق سببه النار وهي مادة الشيطان التي خلق منها وكان فيه من الفساد العام ما يناسب الشيطان بمادته وفعله كان للشيطان إعانة عليه وتنفيذ له وكانت النار تطلب بطبعها العلو والفساد وهذان الأمران وهما العلو في الأرض والفساد هما هدي الشيطان وإليهما يدعو وبهما يهلك بني آدم فالنار والشيطان كل منهما يريد العلو في الأرض والفساد وكبرياء الرب - عز و جل - تقمع الشيطان وفعله
ولهذا كان تكبير الله - عز و جل - له أثر في إطفاء الحريق فإن كبرياء الله - عز و جل - لا يقوم لها شئ فإذا كبر المسلم ربه أثر تكبيره في خمود النار وخمود الشيطان التي هي مادته فيطفئ الحريق وقد جربنا نحن وغيرنا هذا فوجدناه كذلك والله أعلم (4/194)
فصل
في هديه صلى الله عليه و سلم في حفظ الصحة
لما كان اعتدال البدن وصحته وبقاؤه إنما هو بواسطة الرطوبة المقاومة للحرارة فالرطوبة مادته والحرارة تنضجها وتدفع فضلاتها وتصلحها وتلطفها وإلا أفسدت البدن ولم يمكن قيامه وكذلك الرطوبة هي غذاء الحرارة فلو لا الرطوبة لأحرقت البدن وأيبسته وأفسدته فقوام كل واحدة منهما بصاحبتها وقوام البدن بهما جميعا وكل منهما مادة للأخرى فالحرارة
مادة للرطوبة تحفظها وتمنعها من الفساد والإستحالة والرطوبة مادة للحرارة تغذوها وتحملها ومتى مالت إحداهما إلى الزيادة على الأخرى حصل لمزاج البدن الإنحراف بحسب ذلك فالحرارة دائما تحلل الرطوبة فيحتاج البدن إلى ما به يخلف عليه ما حللته الحرارة - لضرورة بقائه - وهو الطعام والشراب ومتى زاد على مقدار التحلل ضعفت الحرارة عن تحليل فضلاته فاستحالت
مواد رديئة فعاثت في البدن وأفسدت فحصلت الأمراض المتنوعة بحسب تنوع موادها وقبول الأعضاء واستعدادها وهذا كله مستفاد من قوله تعالى : { وكلوا واشربوا ولا تسرفوا } [ الأعراف : 31 ] فأرشد عباده إلى إدخال ما يقيم البدن من الطعام والشراب عوض ما تحلل منه وأن يكون بقدر ما ينتفع به البدن في الكمية والكيفية فمتى جاوز ذلك كان إسرافا وكلاهما مانع من الصحة جالب للمرض أعني عدم الأكل والشرب أو الإسراف فيه
فحفظ الصحة كله في هاتين الكلمتين الإلهيتين ولا ريب أن البدن دائما في التحلل والإستخلاف وكلما كثر التحلل ضعفت الحرارة لفناء مادتها فإن كثرة التحلل تفني الرطوبة وهي مادة الحرارة وإذا ضعفت الحرارة ضعف الهضم ولا يزال كذلك حتى تفنى الرطوبة وتنطفئ الحرارة جملة فيستكمل العبد الأجل الذي كتب الله له أن يصل إليه
فغاية علاج الإنسان لنفسه ولغيره حراسة البدن إلى أن يصل إلى هذه الحالة لا أنه يستلزم بقاء الحرارة والرطوبة اللتين بقاء الشباب والصحة والقوة بهما فإن هذا مما لم يحصل لبشر في هذه الدار وإنما غاية الطبيب أن يحمي الرطوبة عن مفسداتها من العفونة وغيره ويحمي الحرارة عن مضعفاتها ويعدل بينهما بالعدل في التدبير الذي به قام بدن الإنسان كما أن به قامت السماوات والأرض وسائر المخلوقات إنما قوامها بالعدل ومن تأمل هدي النبي صلى الله عليه و سلم وجده أفضل هدي يمكن حفظ الصحة به فإن حفظها موقوف على حسن تدبير المطعم والمشرب والملبس والمسكن والهواء والنوم واليقظة والحركة والسكون والمنكح والإستفراغ والإحتباس فإذا حصلت هذه على الوجه المعتدل الموافق الملائم للبدن والبلد والسن والعادة كان أقرب إلى دوام الصحة أو غلبتها إلى انقضاء الأجل
ولما كانت الصحة والعافية من أجل نعم الله على عبده وأجزل عطاياه وأوفر منحه بل العافية المطلقة أجل النعم على الإطلاق فحقيق لمن رزق حظا من التوفيق مراعاتها وحفظها وحمايتها عما يضادها وقد روى البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة والفراغ ]
وفي الترمذي وغيره من حديث عبيد الله بن محصن الأنصاري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من أصبح معافى في جسده آمنا في سربه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا ]
وفي الترمذي أيضا من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة من النعيم أن يقال له : ألم نصح لك جسمك ونروك من الماء البارد ]
ومن ها هنا قال من قال من السلف في قوله تعالى : { ثم لتسألن يومئذ عن النعيم } [ التكاثر : 8 ] قال : عن الصحة
وفي مسند الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه و سلم قال للعباس : [ يا عباس يا عم رسول الله ! سل الله العافية في الدنيا والآخرة ]
وفيه عن أبي بكر الصديق قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ سلوا الله اليقين والمعافاة فما أوتي أحد بعد اليقين خيرا من العافية ] فجمع بين عافيتي الدين والدنيا ولا يتم صلاح العبد في الدارين إلا باليقين والعافية فاليقين يدفع عنه عقوبات الآخرة والعافية تدفع عنه أمراض الدنيا في قلبه وبدنه
وفي سنن النسائي من حديث أبي هريرة يرفعه : [ سلوا الله العفو والعافية والمعافاة فما أوتي أحد بعد يقين خيرا من معافاة ] وهذه الثلاثة تتضمن إزالة الشرور الماضية بالعفو والحاضرة بالعافية والمستقبلة بالمعافاة فإنها تتضمن المداومة والإستمرار على العافية
وفي الترمذي مرفوعا : [ ما سئل الله شيئا أحب إليه من العافية ]
وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى : عن أبي الدرداء قلت : يا رسول الله ! لأن أعافى فأشكر أحب إلي من أن أبتلى فأصبر فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ورسول الله يحب معك العافية ]
ويذكر عن ابن عباس [ أن أعرابيا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال له : ما أسأل الله بعد الصلوات الخمس ؟ فقال : سل الله العافية فأعاد عليه فقال له في الثالثة : سل الله العافية في الدنيا والآخرة ]
وإذا كان هذا شأن العافية والصحة فنذكر من هديه صلى الله عليه و سلم في مراعاة هذه الأمور ما يتبين لمن نظر فيه أنه أكمل هدي على الإطلاق ينال به حفظ صحة البدن والقلب وحياة الدنيا والآخرة والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله (4/195)
فصل
فأما المطعم والمشرب فلم يكن من عادته صلى الله عليه و سلم حبس النفس على نوع واحد من الأغذية لا يتعداه إلى ما سواه فإن ذلك يضر بالطبيعة جدا وقد يتعذر عليها أحيانا فإن لم يتناول غيره ضعف أو هلك وإن تناول غيره لم تقبله الطبيعة واستضر به فقصرها على نوع واحد دائما - ولو أنه أفضل الأغذية - خطر مضر
بل كان يأكل ما جرت عادة أهل بلده بأكله من اللحم والفاكهة والخبز والتمر وغيره مما ذكرناه في هديه في المأكول فعليك بمراجعته هناك
وإذا كان في أحد الطعامين كيفية تحتاج إلى كسر وتعديل كسرها وعدلها بضدها إن أمكن كتعديل حرارة الرطب بالبطيخ وإن لم يجد ذلك تناوله على حاجة وداعية من النفس من غير إسراف فلا تتضرر به الطبيعة
وكان إذا عافت نفسه الطعام لم يأكله ولم يحملها إياه على كره وهذا أصل عظيم في حفظ الصحة فمتى أكل الإنسان ما تعافه نفسه ولا يشتهيه كان تضرره به أكثر من انتفاعه قال أبو هريرة : ما عاب رسول الله صلى الله عليه و سلم طعاما قط
إن اشتهاه أكله وإلا تركه ولم يأكل منه ولما قدم إليه الضب المشوي لم يأكل منه فقيل له : أهو حرام ؟ قال : [ لا ولكن لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه ] فراعى عادته وشهوته فلما لم يكن يعتاد أكله بأرضه وكانت نفسه لا تشتهيه أمسك عنه ولم يمنع من أكله من يشتهيه ومن عادته أكله
وكان يحب اللحم وأحبه إليه الذراع ومقدم الشاة ولذلك سم فيه وفي الصحيحين : أتي رسول الله صلى الله عليه و سلم بلحم فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه
وذكر أبو عبيدة وغيره عن ضباعة بنت الزبير أنها ذبحت في بيتها شاة فأرسل إليها رسول الله صلى الله عليه و سلم أن أطعمينا من شاتكم فقالت للرسول : ما بقي عندنا إلا الرقبة وإني لأستحي أن أرسل بها إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فرجع الرسول فأخبره فقال : [ ارجع إليها فقل لها : أرسلي بها فإنها هادية الشاة وأقرب إلى الخير وأبعدها من الأذى ]
ولا ريب أن أخف لحم الشاة لحم الرقبة ولحم الذراع والعضد وهو أخف على المعدة وأسرغ انهضاما وفي هذا مراعاة الأغذية التي تجمع ثلاثة أوصاف أحدها : كثرة نفعها وتأثيرها في القوى الثاني : خفتها على المعدة وعدم ثقلها عليها الثالث : سرعة هضمها وهذا أفضل ما يكون من الغذاء والتغذي باليسير من هذا أنفع من الكثير من غيره
وكان يحب الحلواء والعسل وهذه الثلاثة - أعني : اللحم والعسل والحلواء - من أفضل الأغذية وأنفعها للبدن والكبد والأعضاء وللإغتذاء بها نفع عظيم في حفظ الصحة والقوة ولا ينفر منها إلا من به علة وآفة
وكان يأكل الخبز مأدوما ما وجد له إداما فتارة يأدمه باللحم ويقول : [ هو سيد طعام أهل الدنيا والآخرة ] رواه ابن ماجه وغيره وتارة بالبطيخ وتارة بالتمر فإنه وضع تمرة على كسرة شعير وقال : [ هذا إدام هذه ] وفي هذا من تدبير الغذاء أن خبز الشعير بارد يابس والتمر حار رطب على أصح القولين فأدم خبز الشعير به من أحسن التدبير لا سيما لمن تلك عادتهم كأهل المدينة وتارة بالخل ويقول : [ نعم الأدام الخل ] وهذا ثناء عليه بحسب مقتضى الحال الحاضر لا تفضيل له على غيره كما يظن الجهال وسبب الحديث أنه دخل على أهله يوما فقدموا له خبزا فقال : [ هل عندكم من إدام ؟ قالوا : ما عندنا إلا خل فقال : نعم الأدام الخل ]
والمقصود : أن أكل الخبز مأدوما من أسباب حفظ الصحة بخلاف الإقتصار على أحدهما وحده وسمي الأدم أدما : لإصلاحه الخبز وجعله ملائما لحفظ الصحة ومنه قوله في إباحته للخاطب النظر : إنه أحرى أن يؤدم بينهما أي أقرب إلى الإلتئام والموافقة فإن الزوج يدخل على بصيرة فلا يندم
وكان يأكل من فاكهة بلده عند مجيئها ولا يحتمي عنها وهذا أيضا من أكبر أسباب حفظ الصحة فإن الله سبحانه بحكمته جعل في كل بلدة من الفاكهة ما ينتفع به أهلها في وقته فيكون تناوله من أسباب صحتهم وعافيتهم ويغني عن كثير من الأدوية وقل من احتمى عن فاكهة بلده خشية السقم إلا وهو من أسقم الناس جسما وأبعدهم من الصحة والقوة
وما في تلك الفاكهة من الرطوبات فحرارة الفصل والأرض وحرارة المعدة تنضجها وتدفع شرها إذا لم يسرف في تناولها ولم يحمل مها الطبيعة فوق ما تحتمله ولم يفسد بها الغذاء قبل هضمه ولا أفسدها بشرب الماء عليها وتناول الغذاء بعد التحلي منها فإن القولنج كثيرا ما يحدث عند ذلك فمن أكل منها ما ينبغي في الوقت الذي ينبغي على الوجه الذي ينبغي كانت له دواء نافعا (4/198)
فصل
في هديه صلى الله عليه و سلم في هيئة الجلوس للأكل
صح عنه أنه قال : [ لا آكل متكئا ] وقال : [ إنما أجلس كما يجلس العبد وآكل كما يأكل العبد ]
وروى ابن ماجه في سننه أنه نهى أن يأكل الرجل وهو منبطح على وجهه
وقد فسر الإتكاء بالتربع وفسر بالإتكاء على الشئ وهو الإعتماد عليه وفسر بالإتكاء على الجنب والأنواع الثلاثة من الإتكاء فنوع منها يضر بالأكل وهو الإتكاء على الجنب فإنه يمنع مجرى الطعام الطبيعي عن هيئته ويعوقه عن سرعة نفوذه إلى المعدة ويضغط المعدة فلا يستحكم فتحها للغذاء وأيضا فإنها تميل ولا تبقى منتصبة فلا يصل الغذاء إليها بسهولة
وأما النوعان الآخران : فمن جلوس الجبابرة المنافي للعبودية ولهذا قال : [ آكل كما يأكل العبد ] وكان يأكل وهو مقع ويذكر عنه أنه كان يجلس للأكل متوركا على ركبتيه ويضع بطن قدمه اليسرى على ظهر قدمه اليمنى تواضعا لربه عز و جل وأدبا بين يديه واحتراما للطعام وللمؤاكل فهذه الهيئة أنفع هيئات الأكل وأفضلها لأن الأعضاء كلها تكون على وضعها الطبيعي الذي خلقها الله سبحانه عليه مع ما فيها من الهيئة الأدبية وأجود ما اغتذى الإنسان إذا كانت أعضاؤه على وضعها الطبيعي ولا يكون كذلك إلا إذا كان الإنسان منتصبا الإنتصاب الطبيعي وأردأ الجلسات للأكل الإتكاء على الجنب لما تقدم من أن المريء وأعضاء الإزدراد تضيق عند هذه الهيئة والمعدة لا تبقى على وضعها الطبيعي لأنها تنعصر مما يلي البطن بالأرض ومما يلي الظهر بالحجاب الفاصل بين آلات الغذاء وآلات التنفس
وإن كان المراد بالإتكاء الإعتماد على الوسائد والوطاء الذي تحت الجالس فيكون المعنى أني إذا أكلت لم أقعد متكئا على الأوطية والوسائد كفعل الجبابرة ومن يريد الإكثار من الطعام لكني آكل بلغة كما يأكل العبد (4/202)
فصل
وكان يأكل بأصابعه الثلاث وهذا أنفع ما يكون من الأكلات فإن الأكل بأصبع أو أصبعين لا يستلذ به الآكل ولا يمريه ولا يشبعه إلا بعد طول ولا تفرح آلات الطعام والمعدة بما ينالها في كل أكلة فتأخذها على إغماض كما يأخذ الرجل حقه حبة أو حبتين أو نحو ذلك فلا يلتذ بأخذه ولا يسر به والأكل بالخمسة والراحة يوجب ازدحام الطعام على آلاته وعلى المعدة وربما انسدت الآلات فمات وتغصب الآلات على دفعه والمعدة على احتماله ولا يجد له لذة ولا استمراء فأنفع الأكل أكله صلى الله عليه و سلم وأكل من اقتدى به بالأصابع الثلاث (4/203)
فصل
ومن تدبر أغذيته صلى الله عليه و سلم وما كان يأكله وجده لم يجمع قط بين لبن وسمك ولا بين لبن وحامض ولا بين غذاءين حارين ولا باردين ولا لزجين ولا قابضين ولا مسهلين ولا غليظين ولا مرخيين ولا مستحيلين إلى خلط واحد ولا بين مختلفين كقابض ومسهل وسريع الهضم وبطيئه ولا بين شوي وطبيخ ولا بين طري وقديد ولا بين لبن وبيض ولا بين لحم ولبن ولم يكن يأكل طعاما في وقت شدة حرارته ولا طبيخا بائتا يسخن له بالغد ولا شيئا من الأطعمة العفنة والمالحة كالكوامخ والمخللات والملوحات وكل هذه الأنواع ضار مولد لأنواع من الخروج عن الصحة والإعتدال
وكان يصلح ضرر بعض الإغذية ببعض إذا وجد إليه سبيلا فيكسر حرارة هذا ببرودة هذا ويبوسة هذا برطوبة هذا كما فعل في القثاء والرطب وكما كان يأكل التمر بالسمن وهو الحيس ويشرب نقيع التمر يلطف بك كيموسات الأغذية الشديدة
وكان يأمر بالعشاء ولو بكف من تمر ويقول : [ ترك العشاء مهرمة ] ذكره الترمذي في جامعه وابن ماجه في سننه وذكر أبو نعيم عنه أنه كان ينهي عن النوم على الأكل ويذكر أنه يقسي القلب ولهذا في وصايا الأطباء لمن أراد حفظ الصحة : أن يمشي بعد العشاء خطوات ولو مائة خطوة ولا ينام عقبه فإنه مضر جدا وقال مسلموهم : أو يصلي عقيبه ليستقر الغذاء بقعر المعدة فيسهل هضمه ويجود بذلك
ولم يكن من هديه أن يشرب على طعامه فيفسده ولا سيما إن كان الماء حارا أو باردا فإنه رديء جدا قال الشاعر :
( لا تكن عند أكل سخن وبرد ... ودخول الحمام تشرب ماء )
( فإذا ما اجتنبت ذلك حقا ... لم تخف ما حييت في الجوف داء )
ويكره شرب الماء عقيب الرياضة والتعب وعقيب الجماع وعقيب الطعام وقبله وعقيب أكل الفاكهة وإن كان الشرب عقيب بعضها أسهل من بعض وعقب الحمام وعند الإنتباه من النوم فهذا كله مناف لحفظ الصحة ولا اعتبار بالعوائد فإنها طبائع ثوان (4/204)
فصل
وأما هديه في الشراب فمن أكمل هدي يحفظ به الصحة فإنه كان يشرب العسل الممزوج بالماء البارد وفي هذا من حفظ الصحة ما لا يهتدي إلى معرفته إلا أفاضل الأطباء فإن شربه ولعقه على الريق يذيب البلغم ويغسل خمل المعدة ويجلو لزوجتها ويدفع عنها الفضلات ويسخنها باعتدال ويفتح سددها ويفعل مثل ذلك بالكبد والكلى والمثانة وهو أنفع للمعدة من كل حلو دخلها وإنما يضر بالعرض لصاحب الصفراء لحدته وحدة الصفراء فربما هيجها ودفع مضرته لهم بالخل فيعود حينئذ لهم نافعا جدا وشربه أنفع من كثير من الأشربة المتخذة من السكر أو أكثرها ولا سيما لن لمن يعتد هذه الأشربة ولا ألفها طبعه فإنه إذا شربها لا تلائمه ملاءمة العسل ولا قريبا منه والمحكم في ذلك العادة فإنها تهدم أصولا وتبني أصولا
وأما الشراب إذا جمع وصفي الحلاوة والبرودة فمن أنفع شئ للبدن ومن أكبر أسباب حفظ الصحة وللأرواح والقوى والكبد والقلب عشق شديد له واستمداد منه وإذا كان فيه الوصفان حصلت به التغذية وتنفيذ الطعام إلى الأعضاء وإيصاله إليها أتم تنفيذ
والماء البارد رطب يقمع الحرارة ويحفظ على البدن رطوباته الأصلية ويرد عليه بدل ما تحلل منها ويرقق الغذاء وينفذه في العروق
واختلف الأطباء : هل يغذي البدن ؟ على قولين : فأثبتت طائفة التغذية به بناء على ما يشاهدونه من النمو والزيادة والقوة في البدن به ولا سيما عند شدة الحاجة إليه
قالوا : وبين الحيوان والنبات قدر مشترك من وجوه عديدة منها : النمو والإغتذاء والإعتدال وفي النبات قوة حس تناسبه ولهذا كان غذاء النبات بالماء فما ينكر أن يكون للحيوان به نوع غذاء وأن يكون جزءا من غذائه التام
قالوا : ونحن لا ننكر أن قوة الغذاء ومعظمه في الطعام وإنما أنكرنا أن لا يكون للماء تغذية البتة قالوا : وأيضا الطعام إنما يغذي بما فيه من المائية ولولاها لما حصلت به التغذية
قالوا : ولأن الماء مادة حياة الحيوان والنبات ولا ريب أن ما كان أقرب إلى مادة الشئ حصلت به التغذية فكيف إذا كانت مادته الأصلية قال الله تعالى : { وجعلنا من الماء كل شيء حي } [ الأنبياء : 30 ] فكيف ننكر حصول التغذية بما هو مادة الحياة على الإطلاق ؟
قالوا : وقد رأينا العطشان إذا حصل له الري بالماء البارد تراجعت إليه قواه ونشاطه وحركته وصبر عن الطعام وانتفع بالقدر اليسير منه ورأينا العطشان لا ينتفع بالقدر الكثير من الطعام ولا يجد به القوة والإغتذاء ونحن لا ننكر أن الماء ينفذ الغذاء إلى أجزاء البدن وإلى جميع الأعضاء وأنه لا يتم أمر الغذاء إلا به وإنما ننكر على من سلب قوة التغذية عنه البتة ويكاد قوله عندنا يدخل في إنكار الأمور الوجدانية
وأنكرت طائفة أخرى حصول التغذية به واحتجت بأمور يرجع حاصلها إلى عدم الإكتفاء به وأنه لا يقوم مقام الطعام وأنه لا يزيد في نمو الأعضاء ولا يخلف عليها بدل ما حللته الحرارة ونحو ذلك مما لاينكره أصحاب التغذية فإنهم يجعلون تغذيته بحسب جوهره ولطافته ورقته وتغذية كل شئ بحسبه وقد شوهد الهواء الرطب البارد اللين اللذيذ يغذي بحسبه والرائحة الطيبة تغذي نوعا من الغذاء فتغدية الماء أظهر وأظهر
والمقصود : أنه إذا كان باردا وخالطه ما يحليه كالعسل أو الزبيب أو التمر أو السكر كان من أنفع ما يدخل البدن وحفظ عليه صحته فلهذا كان أحب الشراب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم البارد الحلو والماء الفاتر ينفخ ويفعل ضد هذه الأشياء
ولما كان الماء البائت أنفع من الذي يشرب وقت استقائه قال النبي صلى الله عليه و سلم وقد دخل إلى حائط أبي الهيثم بن التيهان : [ هل من ماء بات في شنة ؟ فأتاه به فشرب منه ] رواه البخاري ولفظه : [ إن كان عندك ماء بات في شنة وإلا كرعنا ]
والماء البائت بمنزلة العجين الخمير والذي شرب لوقته بمنزلة الفطير وأيضا فإن الأجزاء الترابية والأرضية تفارقه إذا بات وقد ذكر أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يستعذب له الماء ويختار البائت منه وقالت عائشة : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يستقى له الماء العذب من بئر السقيا
والماء الذي في القرب والشنان ألذ من الذي يكون في آنية الفخار والأحجار وغيرهما ولا سيما أسقية الأدم ولهذا التمس النبي صلى الله عليه و سلم ماء بات في شنة دون غيرها من الأواني وفي الماء إذا وضع في الشنان وقرب الأدم خاصة لطيفة لما فيها من المسام المنفتحة التي يرشح منها الماء ولهذا كان الماء في الفخار الذي يرشح ألذ منه وأبرد في الذي لا يرشح فصلاة الله وسلامه على أكمل الخلق وأشرفهم نفسا وأفضلهم هديا في كل شئ لقد دل أمته على أفضل الأمور وأنفعها لهم في القلوب والأبدان والدنيا والآخرة
قالت عائشة : كان أحب الشراب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم الحلو البارد وهذا يحتمل أن يريد به الماء العذب كمياه العيون والآبار الحلوة فإنه كان يستعذب له الماء ويحتمل أن يريد به الماء الممزوج بالعسل أو الذي نقع فيه التمر أو الزبيب وقد يقال - وهو الأظهر - : يعمهما جميعا
وقوله في الحديث الصحيح : [ إن كان عندك ماء بات في شن وإلا كرعنا ] فيه دليل على جواز الكرع وهو الشرب بالفم من الحوض والمقراة ونحوها وهذه - والله أعلم - واقعة عين دعت الحاجة فيها إلى الكرع بالفم أو قاله مبينا لجوازه فإن من الناس من يكرهه والأطباء تكاد تحرمه ويقولون : إنه يضر بالمعدة وقد روي في حديث لا أدري ما حاله عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه و سلم نهانا أن نشرب على بطوننا وهو الكرع ونهانا أن نغترف باليد الواحدة وقال : [ لا يلغ أحدكم كما يلغ الكلب ولا يشرب بالليل من إناء حتى يختبره إلا أن يكون مخمرا ]
وحديث البخاري أصح من هذا وإن صح فلا تعارض بينهما إذ لعل الشرب باليد لم يكن يمكن حينئذ فقال : وإلا كرعنا والشرب بالفم إنما يضر إذا انكب الشارب على وجهه وبطنه كالذي يشرب من النهر والغدير فأما إذا شرب منتصبا بفمه من حوض مرتفع ونحوه فلا فرق بين أن يشرب بيده أو بفمه (4/205)
فصل
وكان من هديه الشرب قاعدا هذا كان هديه المعتاد وصح عنه أنه عن الشرب قائما وصح عنه أنه أمر الذي شرب قائما أن يستقيء وصح عنه أنه شرب قائما
قالت طائفة : هذا ناسخ للنهي وقالت طائفة : بل مبين أن النهي ليس للتحريم بل للإرشاد وترك الأولى وقالت طائفة : لا تعارض بينهما أصلا فإنه إنما شرب قائما للحاجة فإنه جاء إلى زمزم وهم يستقون منها فاستقى فناولوه الدلو فشرب وهو قائم وهذا كان موضع حاجة
وللشرب قائما آفات عديدة منها : أنه لا يحصل به الري التام ولا يستقر في المعدة حى يقسمه الكبد على الاعضاء وينزل بسرعة وحدة إلى المعدة فيخشى منه أن يبرد حرارتها ويشوشها ويسرع النفوذ إلى أسفل البدن بغير تدريج وكل هذا يضر بالشارب وأما إذا فعله نادرا أو لحاجة لم يضره ولا يعترض بالعوائد على هذا فإن العوائد طبائع ثوان ولها أحكام أخرى وهي بمنزلة الخارج عن القياس عند الفقهاء (4/209)
فصل
وفي صحيح مسلم من حديث أنس بن مالك قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يتنفس في الشراب ثلاثا ويقول : [ إنه أروى وأمرأ وأبرأ ]
الشراب في لسان الشارع وحملة الشرع : هو الماء ومعنى تنفسه في الشراب : إبانته القدح عن فيه وتنفسه خارجه ثم يعود إلى الشراب كما جاء مصرحا به في الحديث الآخر : [ إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في القدح ولكن ليبن الإناء عن فيه ]
وفي هذا الشرب حكم جمة وفوائد مهمة وقد نبه صلى الله عليه و سلم على مجامعها بقوله : [ إنه أروى وأمرأ وأبرأ ] فأروى : أشد ريا وأبلغه وأنفعه وأبرأ : أفعل من البرء وهو الشفاء أي يبرئ من شدة العطش ودائه لتردده على المعدة الملتهبة دفعات فتسكن الدفعة الثانية ما عجزت الأولى عن تسكينه والثالثة ما عجزت الثانية عنه وأيضا فإنه أسلم لحرارة المعدة وأبقى عليها من أن يهجم عليها البارد وهلة واحدة ونهلة واحدة
وأيضا فإنه لا يروي لمصادفته لحرارة العطش لحظة ثم يقلع عنها ولما تكسر سورتها وحدتها وإن انكسرت لم تبطل بالكلية بخلاف كسرها على التمهل والتدريج
وأيضا فإنه أسلم عاقبة وآمن غائلة من تناول جميع ما يروي دفعة واحدة فإنه يخاف منه أن يطفئ الحرارة الغريزية بشدة برده وكثرة كميته أو يضعفها فيؤدي ذلك إلى فساد مزاج المعدة والكبد والى أمراض رديئة خصوصا في سكان البلاد الحارة كالحجاز واليمن ونحوهما أو في الأزمنة الحارة كشدة الصيف فإن الشرب وهلة واحدة مخوف عليهم جدا فإن الحار الغريزي ضعيف في بواطن أهلها وفي تلك الأزمنة الحارة
وقوله : وأمرأ : هو أفعل من مريء الطعام والشراب في بدنه : إذا دخله وخالطه بسهولة ولذة ونفع ومنه : { فكلوه هنيئا مريئا } [ النساء : 4 ] هنيئا في عاقبته مريئا في مذاقه وقيل : معناه أنه أسرع انحدارا عن المريء لسهولته وخفته عليه بخلاف الكثير فإنه لا يسهل على المريء انحداره
ومن آفات الشرب نهلة واحدة أنه يخاف منه الشرق بأن ينسد مجرى الشراب لكثرة الوارد عليه فيغص به فإذا تنفس رويدا ثم شرب أمن من ذلك
ومن فوائده : أن الشارب إذا شرب أول مرة تصاعد البخار الدخاني الحار الذي كان على القلب والكبد لورود الماء البارد عليه فأخرجته الطبيعة عنها فإذا شرب مرة واحدة اتفق نزول الماء البارد وصعود البخار فيتدافعان ويتعالجان ومن ذلك يحدث الشرق والغصة ولا يتهنأ الشارب بالماء ولا يمرئه ولا يتم ريه وقد روى عبد الله بن المبارك والبيهقي وغيرهما عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ إذا شرب أحدكم فليمص الماء مصا ولا يعب عبا فإنه من الكباد ]
والكباد - بضم الكاف وتخفيف الباء - هو وجع الكبد وقد علم بالتجربة أن ورود الماء جملة واحدة على الكبد يؤلمها ويضعف حرارتها وسبب ذلك المضادة التي بين حرارتها وبين ما ورد عليها من كيفية المبرود وكميته ولو ورد بالتدريج شيئا فشيئا لم يضاد حرارتها ولم يضعفها وهذا مثاله صب الماء البارد على القدر وهي تفور لا يضرها صبه قليلا قليلا وقد روى الترمذي في جامعه عنه صلى الله عليه و سلم : [ لا تشربوا نفسا واحدا كشرب البعير ولكن اشربوا مثنى وثلاث وسموا إذا أنتم شربتم واحمدوا إذا أنتم فرغتم ]
وللتسمية في أول الطعام والشراب وحمد الله في اخره تأثير عجيب في نفعه واستمرائه ودفع مضرته
قال الإمام أحمد : إذا جمع الطعام أربعا فقد كمل : إذا ذكر اسم الله في أوله وحمد الله في آخره وكثرت عليه الأيدي وكان من حل (4/210)
فصل
وقد روى مسلم في صحيحه : من حديث جابر بن عبد الله قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ غطوا الإناء وأوكوا السقاء فإن في السنة ليلة ينزل فيها وباء لا يمر بإناء ليس عليه غطاء أو سقاء ليس عليه وكاء إلا وقع فيه من ذلك الداء ] وهذا مما لا تناله علوم الأطباء ومعارفهم وقد عرفه من عرفه عقلاء الناس بالتجربة قال الليث بن سعد أحد رواة الحديث : الأعاجم عندنا يتقون تلك الليلة في السنة في كانون الأول منها
وصح عنه أنه أمر بتخمير الإناء ولو أن يعرض عليه عودا وفي عرض العود عليه من الحكمة أنه لا ينسى تخميره بل يعتاده حتى بالعود وفيه : أنه ربما أراد الدبيب أن يسقط فيه فيمر على العود فيكون العود جسرا له يمنعه من السقوط فيه
وصح عنه : أنه أمر عند إيكاء الإناء بذكر اسم الله فإن ذكر اسم الله عند تخمير الإناء يطرد عنه الشيطان وإيكاؤه يطرد عنه الهوام ولذلك أمر بذكر اسم الله في هذين الموضعين لهذين المعنيين
وروى البخاري فى صحيحه من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عن الشرب من في السقاء
وفي هذا آداب عديدة منها : أن تردد أنفاس الشارب فيه يكسبه زهومة ورائحة كريهة يعاف لأجلها
ومنها : أنه ربما غلب الداخل إلى جوفه من الماء فتضرر به
ومنها : أنه ربما كان فيه حيوان لا يشعر به فيؤذيه
ومنها : أن الماء ربما كان فيه قذاة أو غيرها لا يراها عند الشرب فتلج جوفه
ومنها : أن الشرب كذلك يملأ البطن من الهواء فيضيق عن أخذ حظه من الماء أو يزاحمه أو يؤذيه ولغير ذلك من الحكم
فإن قيل : فما تصنعون بما في جامع الترمذي : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم دعا بإداوة يوم أحد فقال : [ اخنث فم الإداوة ] ثم شرب منها من فيها ؟ قلنا : نكتفي فيه بقول الترمذي : هذا حديث ليس إسناده بصحيح وعبد الله بن عمر العمري يضعف من قبل حفظه ولا أدري سمع من عيسى أو لا انتهى يريد عيسى بن عبد الله الذي رواه عنه عن رجل من الأنصار (4/213)
فصل
وفي سنن أبي داود من حديث أبى سعيد الخدري قال : [ نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الشرب من ثلمة القدح وأن ينفخ في الشراب ] وهذا من الآداب التي تتم بها مصلحة الشارب فإن الشرب من ثلمة القدح فيه عدة مفاسد :
أحدها : أن ما يكون على وجه الماء من قذى أو غيره يجتمع إلى الثلمة بخلاف الجانب الصحيح
الثاني : أنه ربما شوش على الشارب ولم يتمكن من حسن الشرب من الثلمة
الثالث : أن الوسخ والزهومة تجتمع في الثلمة ولا يصل إليها الغسل كما يصل إلى الجانب الصحيح
الرابع : أن الثلمة محل العيب في القدح وهي أردأ مكان فيه فينبغي تجنبه وقصد الجانب الصحيح فإن الرديء من كل شئ لا خير فيه ورأى بعض السلف رجلا يشتري حاجة رديئة فقال : لا تفعل أما علمت أن الله نزع البركة من كل رديء
الخامس : أنه ربما كان في الثلمة شق أو تحديد يجرح فم الشارب ولغير هذه من المفاسد
وأما النفخ في الشراب فإنه يكسبه من فم النافخ رائحة كريهة يعاف لأجلها ولا سيما إن كان متغير الفم وبالجملة : فأنفاس النافخ تخالطه ولهذا جمع رسول الله صلى الله عليه و سلم بين النهي عن التنفس في الإناء والنفخ فيه في الحديث الذي رواه الترمذي وصححه عن ابن عباس رضي الله عنه قال : نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يتنفس في الإناء أو ينفخ فيه
فإن قيل : فما تصنعون بما في الصحيحين من حديث أنس [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يتنفس في الإناء ثلاثا ] ؟ قيل : نقابله بالقبول والتسليم ولا معارضة بينه وبين الأول فإن معناه أنه كان يتنفس في شربه ثلاثا وذكر الإناء لأنه آلة الشرب وهذا كما جاء في الحديث الصحيح : أن إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه و سلم مات في الثدي أي : في مدة الرضاع (4/215)
فصل
وكان صلى الله عليه و سلم يشرب اللبن خالصا تارة ومشوبا بالماء أخرى وفي شرب اللبن الحلو في تلك البلاد الحارة خالصا ومشوبا نفع عظيم في حفظ الصحة وترطيب البدن وري الكبد ولا سيما اللبن الذي ترعى دوابه الشيح والقيصوم والخزامى وما أشبهها فإن لبنها غذاء مع الأغذية وشراب مع الأشربة ودواء مع الأدوية وفي جامع الترمذي عنه صلى الله عليه و سلم : [ إذا أكل أحدكم طعاما فليقل : اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيرا منه وإذا سقي لبنا فليقل : اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه فإنه ليس شئ يجزئ من الطعام والشراب إلا اللبن ] قال الترمذي : هذا حديث حسن (4/216)
فصل
وثبت في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه و سلم كان ينبذ له أول الليل ويشربه إذا أصبح يومه ذلك والليلة التي تجيء والغد والليلة الأخرى والغد إلى العصر فإن بقي منه شئ سقاه الخادم أو أمر به فصب وهذا النبيذ : هو ما يطرح فيه تمر
يحليه وهو يدخل في الغذاء والشراب وله نفع عظيم في زيادة القوة وحفظ الصحة ولم يكن يشربه بعد ثلاث خوفا من تغيره إلى الإسكار (4/217)
فصل
في تدبيره لأمر الملبس
وكان من أتم الهدي وأنفعه للبدن وأخفه عليه وأيسره لبسا وخلعا وكان أكثر لبسه الأردية والأزر وهي أخف على البدن من غيرها وكان يلبس القميص بل كان أحب الثياب إليه وكان هديه في لبسه لما يلبسه أنفع شئ للبدن فإنه لم يكن يطيل أكمامه ويوسعها بل كانت كم قميصه إلى الرسغ لا يجاوز اليد فتشق على لابسها وتمنعه خفة الحركة والبطش ولا تقصر عن هذه فتبرز للحر والبرد وكان ذيل قميصه وإزاره إلى أنصاف الساقين لم يتجاوز الكعبين فيؤذي الماشي ويؤوده ويجعله كالمقيد ولم يقصر عن عضلة ساقيه فتنكشف ويتأذى بالحر والبرد ولم تكن عمامته بالكبيرة التي تؤذي الرأس حملها ويضعفه ويجعله عرضة للضعف والآفات كما يشاهد من حال أصحابها ولا بالصغيرة التي تقصر عن وقاية الرأس من الحر والبرد بل وسطا بين ذلك وكان يدخلها تحت حنكه وفي ذلك فوائد عديدة : فإنها تقي العنق الحر والبرد وهو أثبت لها ولا سيما عند ركوب الخيل والإبل والكر والفر وكثير من الناس اتخذ الكلاليب عوضا عن الحنك ويا بعد ما بينهما في النفع والزينة وأنت إذا تأملت هذه اللبسة وجدتها من أنفع اللبسات وأبلغها في حفظ صحة البدن وقوته وأبعدها من التكلف والمشقة على البدن
وكان يلبس الخفاف في السفر دائما أو أغلب أحواله لحاجة الرجلين إلى ما يقيهما من الحر والبرد وفي الحضر أحيانا
وكان أحب ألوان الثياب إليه البياض والحبرة وهي البرود المحبرة ولم يكن من هديه لبس الأحمر ولا الأسود ولا المصبغ ولا المصقول وأما الحلة الحمراء التي لبسها فهي الرداء اليماني الذي فيه سواد وحمرة وبياض كالحلة الخضراء فقد لبس هذه وهذه وقد تقدم تقرير ذلك وتغليط من زعم أنه لبس الأحمر القاني بما فيه كفاية (4/217)
فصل
في تدبيره لأمر المسكن
لما علم صلى الله عليه و سلم أنه على ظهر سير وأن الدنيا مرحلة مسافر ينزل فيها مدة عمره ثم ينتقل عنها إلى الآخرة لم يكن من هديه وهدي أصحابه ومن تبعه الإعتناء بالمساكن وتشييدها وتعليتها وزخرفتها وتوسيعها بل كانت من أحسن منازل المسافر تقي الحر والبرد وتستر عن العيون وتمنع من ولوج الدواب ولا يخاف سقوطها لفرط ثقلها ولا تعشش فيها الهوام لسعتها ولا تعتور عليها الأهوية والرياح المؤذية لارتفاعها وليست تحت الأرض فتؤذي ساكنها ولا في غاية الإرتفاع عليها بل وسط وتلك أعدل المساكن وأنفعها وأقلها حرا وبردا ولا تضيق عن ساكنها فينحصر ولا تفضل عنه بغير منفعة ولا فائدة فتأوي الهوام في خلوها ولم يكن فيها كنف تؤذي ساكنها برائحتها بل رائحتها من أطيب الروائح لأنه كان يحب الطيب ولا يزال عنده وريحه هو من أطيب الرائحة وعرقه من أطيب الطيب ولم يكن في الدار كنيف تظهر رائحته ولا ريب أن هذه من أعدل المساكن وأنفعها وأوفقها للبدن وحفظ صحته (4/218)
فصل
في تدبيره لأمر النوم واليقظة
من تدبر نومه ويقظته صلى الله عليه و سلم وجده أعدل نوم وأنفعه للبدن والأعضاء والقوى فإنه كان ينام أول الليل ويستيقظ في أول النصف الثاني فيقوم ويستاك ويتوضأ ويصلي ما كتب الله له فيأخذ البدن والأعضاء والقوى حظها من النوم والراحة وحظها من الرياضة مع وفور الأجر وهذا غاية صلاح القلب والبدن والدنيا والآخرة
ولم يكن يأخذ من النوم فوق القدر المحتاج إليه ولا يمنع نفسه من القدر المحتاج إليه منه وكان يفعله على أكمل الوجوه فينام إذا دعته الحاجة إلى النوم على شقه الأيمن ذاكرا الله حتى تغلبه عيناه غير ممتلئ البدن من الطعام والشراب ولا مباشر بجنبه الأرض ولا متخذ للفرش المرتفعة بل له ضجاع من أدم حشوه ليف وكان يضطجع على الوسادة ويضع يده تحت خده أحيانا ونحن نذكر فصلا في النوم والنافع منه والضار فنقول :
النوم حالة للبدن يتبعها غور الحرارة الغريزية والقوى إلى باطن البدن لطلب الراحة وهو نوعان : طبيعي وغير طبيعي فالطبيعي : إمساك القوى النفسانية عن أفعالها وهي قوى الحس والحركة الإرادية ومتى أمسكت هذه القوى عن تحريك البدن استرخى واجتمعت الرطوبات والأبخرة التي كانت تتحلل وتتفرق بالحركات واليقظة في الدماغ الذي هو مبدأ هذه القوى فيتخدر ويسترخي وذلك النوم الطبيعي
وأما النوم غير الطبيعي فيكون لعرض أو مرض وذلك بأن تستولي الرطوبات على الدماغ استيلاء لا تقدر اليقظة على تفريقها أو تصعد أبخرة رطبة كثيرة كما يكون عقيب الإمتلاء من الطعام والشراب فتثقل الدماغ وترخيه فيتخدر ويقع إمساك القوى النفسانية عن أفعالها فيكون النوم
وللنوم فائدتان جليلتان إحداهما : سكون الجوارح وراحتها مما يعرض لها من التعب فيريح الحواس من نصب اليقظة ويزيل الإعياء والكلال
والثانية : هضم الغذاء ونضج الأخلاط لأن الحرارة الغريزية في وقت النوم تغور إلى باطن البدن فتعين على ذلك ولهذا يبرد ظاهره ويحتاج النائم إلى فضل دثار
وأنفع النوم : أن ينام على الشق الأيمن ليستقر الطعام بهذه الهيئة في المعدة استقرارا حسنا فإن المعدة أميل إلى الجانب الايسر قليلا ثم يتحول إلى الشق الأيسر قليلا ليسرع الهضم بذلك لاستمالة المعدة على الكبد ثم يستقر نومه على الجانب الأيمن ليكون الغذاء أسرع انحدارا عن المعدة فيكون النوم على الجانب الأيمن بداءة نومه ونهايته وكثرة النوم على الجانب الأيسر مضار بالقلب بسبب ميل الأعضاء إليه فتنصب إليه المواد
وأردأ النوم النوم على الظهر ولا يضر الاستلقاء عليه للراحة من غير نوم واردأ منه أن ينام منبطحا على وجهه وفي المسند و سنن ابن ماجه عن أبي أمامة قال : مر النبي صلى الله عليه و سلم على رجل نائم في المسجد منبطح على وجهه فضربه برجله وقال : [ قم أو اقعد فإنها نومة جهنمية ]
قال أبقراط في كتاب التقدمة : وأما نوم المريض على بطنه من غير أن يكون عادته في صحته جرت بذلك يدل على اختلاط عقل وعلى ألم في نواحي البطن قال الشراح لكتابه : لأنه خالف العادة الجيدة إلى هيئة رديئة من غير سبب ظاهر ولا باطن
والنوم المعتدل ممكن للقوى الطبيعية من أفعالها مريح للقوة النفسانية مكثر من جوهر حاملها حتى إنه ربما عاد بإرخائه مانعا من تحلل الأرواح
ونوم النهار رديء يورث الأمراض الرطوبية والنوازل ويفسد اللون ويورث الطحال ويرخي العصب ويكسل ويضعف الشهوة إلا في الصيف وقت الهاجرة وأردؤه نوم أول النهار وأردأ منه النوم آخره بعد العصر ورأى عبد الله بن عباس ابنا له نائما نومة الصبحة فقال له : قم أتنام في الساعة التي تقسم فيها الأرزاق ؟
وقيل : نوم النهار ثلاثة : خلق وحرق وحمق فالخلق : نومة الهاجرة وهي خلق رسول الله صلى الله عليه و سلم والخرق : نومة الضحى تشغل عن أمر الدنيا والآخرة والحمق : نومة العصر قال بعض السلف : من نام بعد العصر فاختلس عقله فلا يلومن إلا نفسه وقال الشاعر :
( ألا إن نومات الضحى تورث الفتى ... خبالا ونومات العصير جنون )
ونوم الصبحة يمنع الرزق لأن ذلك وقت تطلب فيه الخليقة أرزاقها وهو وقت قسمة الأرزاق فنومه حرمان إلا لعارض أو ضرورة وهو مضر جدا بالبدن لإرخائه البدن وإفساده للفضلات التي ينبغي تحليلها بالرياضة فيحدث تكسرا وعيا وضعفا وإن كان قبل التبرز والحركة والرياضة وإشغال المعدة بشئ فذلك الداء العضال المولد لأنواع من الأدواء
والنوم في الشمس يثير الداء الدفين ونوم الانسان بعضه في الشمس وبعضه في الظل رديء وقد روى أبو داود في سننه من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إذا كان أحدكم في الشمس فقلص عنه الظل فصار بعضه في الشمس وبعضه في الظل فليقم ]
وفي سنن ابن ماجه وغيره من حديث بريدة بن الحصيب أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى أن يقعد الرجل بين الظل والشمس وهذا تنبيه على منع النوم بينهما
وفي الصحيحين عن البراء بن عازب أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضجع على شقك الأسمن ثم قل : اللهم أني أسلمت نفسي إليك ووجهت وجهي إليك وفوضت أمري اليك وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت واجعلهن آخر كلامك فإن مت من ليلتك مت على الفطرة ]
وفي صحيح البخاري عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان إذا صلى ركعتي الفجر - يعني سنتها - اضطجع على شقه الأيمن
وقد قيل : إن الحكمة في النوم على الجانب الأيمن أن لا يستغرق النائم في نومه لأن القلب فيه ميل إلى جهة اليسار فإذا نام على جنبه الأيمن طلب القلب مستقره من الجانب الأيسر وذلك يمنع من استقرار النائم واستثقاله في نومه بخلاف قراره في النوم على اليسار فإنه مستقره فيحصل بذلك الدعة التامة فيستغرق الإنسان في نومه ويستثقل فيفوته مصالح دينه ودنياه
ولما كان النائم بمنزلة الميت والنوم أخو الموت - ولهذا يستحيل على الحي الذي لا يموت وأهل الجنة لا ينامون فيها - كان النائم محتاجا إلى من يحرس نفسه ويحفظها مما يعرض لها من الآفات ويحرس بدنه أيضا من طوارق الآفات وكان ربه وفاطره تعالى هو المتولي لذلك وحده علم النبي صلى الله عليه و سلم النائم أن يقول كلمات التفويض والإلتجاء والرغبة والرهبة ليستدعي بها كمال حفظ الله له وحراسته لنفسه وبدنه وأرشده مع ذلك إلى أن يستذكر الإيمان وينام عليه ويجعل التكلم به آخر كلامه فإنه ربما توفاه الله في منامه فإذا كان الإيمان آخر كلامه دخل الجنة فتضمن هذا الهدي في المنام مصالح القلب والبدن والروح في النوم واليقظة والدنيا والآخرة فصلوات الله وسلامه على من نالت به أمته كل خير
وقوله : أسلمت نفسي إليك أي : جعلتها مسلمة لك تسليم العبد المملوك نفسه إلى سيده ومالكه وتوجيه وجهه إليه يتضمن إقباله بالكلية على ربه وإخلاص القصد والإرادة له وإقراره بالخضوع والذل والإنقياد قال تعالى : { فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن } [ سورة آل عمران الآية : 20 ] وذكر الوجه إذ هو أشرف ما في الإنسان ومجمع الحواس وأيضا ففيه معنى التوجه والقصد من قوله :
( استغفر الله ذنبا لست محصيه ... رب العباد إليه الوجه والعمل )
وتفويض الأمر إليه رده إلى الله سبحانه وذلك يوجب سكون القلب وطمأنيته والرضى بما يقضيه ويختاره له مما يحبه ويرضاه والتفويض من أشرف مقامات العبودية ولا علة فيه وهو من مقامات الخاصة خلافا لزاعمي خلاف ذلك
وإلجاء الظهر إليه سبحانه يتضمن قوة الإعتماد عليه والثقة به والسكون إليه والتوكل عليه فإن من أسند ظهره إلى ركن وثيق لم يخف السقوط
ولما كان للقلب قوتان : قوة الطلب وهي الرغبة وقوة الهرب وهي الرهبة وكان العبد طالبا لمصالحه هاربا من مضاره جمع الأمرين في هذا التفويض والتوجه فقال : رغبة ورهبة إليك ثم أثنى على ربه بأنه لا ملجأ للعبد سواه ولا منجا له منه غيره فهو الذي يلجأ إليه العبد لينجيه من نفسه كما في الحديث الآخر : [ أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك ] فهو سبحانه الذي يعيذ عبده وينجيه من بأسه الذي هو بمشيئته وقدرته فمنه البلاء ومنه الإعانة ومنه ما يطلب النجاة منه وإليه الإلتجاء في النجاة فهو الذي يلجأ إليه في أن ينجي مما منه ويستعاذ به مما منه فهو رب كل شئ ولا يكون شئ إلا بمشيئته : { وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو } [ سورة الأنعام الآية : 17 ] { قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة } [ سورة الأحزاب الآية : 17 ] ثم ختم الدعاء بالإقرار بالايمان بكتابه ورسوله الذي هو ملاك النجاة والفوز في الدنيا والآخرة فهذا هديه في نومه
( لو لم يقل إني رسول لكا ... ن شاهد في هديه ينطق ) (4/219)
فصل
وأما هديه في يقظته فكان يستيقظ إذا صاح الصارخ وهو الديك فيحمد الله تعالى ويكبره ويهلله ويدعوه ثم يستاك ثم يقوم إلى وضوئه ثم يقف للصلاة بين يدي ربه مناجيا له بكلامه مثنيا عليه راجيا له راغبا راهبا فأي حفظ لصحة القلب والبدن والروح والقوى ولنعيم الدنيا والآخرة فوق هذا (4/225)
فصل
وأما تدبير الحركة والسكون وهو الرياضة فذكر منها فصلا يعلم منه مطابقة هديه في ذلك لأكمل أنواعه وأحمدها وأصوبها فنقول :
من المعلوم افتقار البدن في بقائه إلى الغذاء والشراب ولا يصير الغذاء بجملته جزءا من البدن بل لا بد أن يبقى منه عند كل هضم بقية ما إذا كثرت على ممر الزمان اجتمع منها شئ له كمية وكيفية فيضر بكميته بأن يسد ويثقل البدن ويوجب أمراض الإحتباس وإن استفرغ تأذى البدن بالأدوية لأن أكثرها سمية ولا تخلو من إخراج الصالح المنتفع به ويضر بكيفيته بأن يسخن بنفسه أو بالعفن أو يبرد بنفسه أو يضعف الحرارة الغريزية عن إنضاجه
وسدد الفضلات لا محالة ضارة تركت أو استفرغت والحركة أقوى الأسباب في منع تولدها فإنها تسخن الأعضاء وتسيل فضلاتها فلا تجتمع على طول الزمان وتعود البدن الخفة والنشاط وتجعله قابلا للغذاء وتصلب المفاصل وتقوي الأوتار والرباطات وتؤمن جميع الأمراض المادية وأكثر الأمراض المزاجية إذا استعمل القدر المعتدل منها في وقته وكان باقي التدبير صوابا
ووقت الرياضة بعد انحدار الغذاء وكمال الهضم والرياضة المعتدلة هي التي تحمر فيها البشرة وتربو ويتندى بها البدن وأما التي يلزمها سيلان العرق فمفرطة وأي عضو كثرت رياضته قوي وخصوصا على نوع تلك الرياضة بل كل قوة فهذا شأنها فإن من استكثر من الحفظ قويت حافظته ومن استكثر من الفكر قويت قوته المفكرة ولكل عضو رياضة تخصه فللصدر القراءة فليبتدئ فيها من الخفية إلى الجهر بتدريج ورياضة السمع بسمع الأصوات والكلام بالتدريج فينتقل من الأخف إلى الأثقل وكذلك رياضة اللسان في الكلام وكذلك رياضة البصر وكذلك رياضة المشي بالتدريج شيئا فشيئا
وأما ركوب الخيل ورمي النشاب والصراع والمسابقة على الأقدام فرياضة للبدن كله وهي قالعة لأمراض مزمنة كالجذام والإستسقاء والقولنج
ورياضة النفوس بالتعلم والتأدب والفرح والسرور والصبر والثبات والإقدام والسماحة وفعل الخير ونحو ذلك مما ترتاض به النفوس ومن أعظم رياضتها : الصبر والحب والشجاعة والإحسان فلا تزال ترتاض بذلك شيئا فشيئا حتى تصير لها هذه الصفات هيئات راسخة وملكات ثابتة
وأنت إذا تأملت هديه صلى الله عليه و سلم في ذلك وجدته أكمل هدي حافظ للصحة والقوى ونافع في المعاش والمعاد
ولا ريب أن الصلاة نفسها فيها من حفظ صحة البدن وإذابة أخلاطه وفضلاته ما هو من أنفع شئ له سوى ما فيها من حفظ صحة الإيمان وسعادة الدنيا والآخرة وكذلك قيام الليل من أنفع أسباب حفظ الصحة ومن أمنع الأمور لكثير من الأمراض المزمنة ومن أنشط شئ للبدن والروح والقلب كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد يضرب على كل عقدة : عليك ليل طويل فارقد فإن هو استيقظ فذكر الله انحلت عقدة فإن توضأ انحلت عقدة ثانية فإن صلى انحلت عقده كلها فأصبح نشيطا طيب النفس وإلا أصبح خبيث النفس كسلان ]
وفي الصوم الشرعي من أسباب حفط الصحة ورياضة البدن والنفس ما لا يدفعه صحيح الفطرة
وأما الجهاد وما فيه من الحركات الكلية التي هي من أعظم أسباب القوة وحفط الصحة وصلابة القلب والبدن ودفع فضلاتهما وزوال الهم والغم والحزن فأمر إنما يعرفه من له منه نصيب وكذلك الحج وفعل المناسك وكذلك المسابقة على الخيل وبالنصال والمشي في الحوائج وإلى الإخوان وقضاء حقوقهم وعيادة مرضاهم وتشييع جنائزهم والمشي إلى المساجد للجمعات والجماعات وحركة الوضوء والإغتسال وغير ذلك
وهذا أقل ما فيه الرياضة المعينة على حفظ الصحة ودفع الفضلات وأما ما شرع له من التوصل به إلى خيرات الدنيا والآخرة ودفع شرورهما فأمر وراء ذلك
فعلمت أن هديه فوق كل هدي في طب الأبدان والقلوب وحفظ صحتها ودفع أسقامهما ولا مزيد على ذلك لمن قد أحضر رشده وبالله التوفيق (4/225)
فصل
وأما الجماع والباه فكان هديه فيه أكمل هدي يحفظ به الصحة وتتم به اللذة وسرور النفس ويحصل به مقاصده التي وضع لأجلها فإن الجماع وضع في الأصل لثلاثة أمور هي مقاصده الأصلية :
أحدها : حفظ النسل ودوام النوع إلى أن تتكامل العدة التي قدر الله بروزها إلى هذا العالم
الثاني : إخراج الماء الذي يضر احتباسه واحتقانه بجملة البدن
الثالث : قضاء الوطر ونيل اللذة والتمتع بالنعمة وهذه وحدها هي الفائدة التي في الجنة إذ لا تناسل هناك ولا احتقان يستفرغه الإنزال
وفضلاء الأطباء : يرون أن الجماع من أحد أسباب حفظ الصحة قال جالينوس : الغالب على جوهر المني النار والهواء ومزاجه حار رطب لأن كونه من الدم الصافي الذي تغتذي به الأعضاء الأصلية وإذا ثبت فضل المني فاعلم أنه لا ينبغي إخراجه إلا في طلب النسل أو إخراح المحتقن منه فإنه إذا دام احتقانه أحدث أمراضا رديئة منها : الوسواس والجنون والصرع وغير ذلك وقد يبرئ استعماله من هذه الأمراض كثيرا فإنه إذا طال احتباسه فسد واستحال إلى كيفية سمية توجب أمراضا رديئة كما ذكرنا ولذلك تدفعه الطبيعة بالإحتلام إذا كثر عندها من غير جماع
وقال بعض السلف : ينبغي للرجل أن يتعاهد من نفسه ثلاثا : أن لا يدع المشي فإن احتاج إليه يوما قدر عليه وينبغي أن لا يدع الأكل فإن أمعاءه تضيق وينبغي أن لا يدع الجماع فإن البئر إذا لم تنزح ذهب ماؤها وقال محمد بن زكريا : من ترك الجماع مدة طويلة ضعفت قوى أعصابه وانسدت مجاريها وتقلص ذكره قال : ورأيت جماعة تركوه لنوع من التقشف فبردت أبدانهم وعسرت حركاتهم ووقعت عليهم كآبة بلا سبب وقلت شهواتهم وهضمهم انتهى
ومن منافعه : غض البصر وكف النفس والقدرة على العفة عن الحرام وتحصيل ذلك للمرأة فهو ينفع نفسه في دنياه وأخراه وينفع المرأة ولذلك كان صلى الله عليه و سلم يتعاهده ويحبه ويقول : [ حبب إلي من دنياكم : النساء والطيب ]
وفي كتاب الزهد للإمام أحمد في هذا الحديث زيادة لطيفة وهي : أصبر عن الطعام والشراب ولا أصبر عنهن
وحث على التزويج أمته فقال : [ تزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم ]
وقال ابن عباس : خير هذه الأمة أكثرها نساء
وقال : [ إني أتزوج النساء وأنام وأقوم وأصوم وأفطر فمن رغب عن سنتي فليس مني ]
وقال : [ يا معشر الشباب ! من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحفظ للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء ]
ولما تزوج جابر ثيبا قال له : [ هلا بكرا تلاعبها وتلاعبك ]
وروى ابن ماجه في سننه : من حديث أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من أراد أن يلقى الله طاهرا مطهرا فليتزوج الحرائر ]
وفي سننه أيضا من حديث ابن عباس يرفعه قال : [ لم نر للمتحابين مثل النكاح ]
وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ الدنيا متاع وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة ]
وكان صلى الله عليه و سلم يحرض أمته على نكاح الأبكار الحسان وذوات الدين وفي سنن النسائي عن أبي هريرة قال : سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم : أي النساء خير ؟ قال : [ التي تسره إذا نظر وتطيعه إذا أمر ولا تخالفه فيما يكره في نفسها وماله ]
وفي الصحيحين عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ تنكح المرأة لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك ]
وكان يحث على نكاح الولود ويكره المرأة التي لا تلد كما في سنن أبي داود عن معقل بن يسار [ أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : إني أصبت امرأة ذات حسب وجمال وإنها لا تلد أفأتزوجها ؟ قال : لا ثم أتاه الثانية فنهاه ثم أتاه الثالثة فقال : تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم ]
وفي الترمذي عنه مرفوعا : [ أربع من سنن المرسلين : النكاح والسواك والتعطر والحناء ] روي في الجامع بالنون والياء وسمعت أبا الحجاج الحافظ يقول : الصواب : أنه الختان وسقطت النون من الحاشية وكذلك رواه المحاملي عن شيخ أبي عيسى الترمذي
ومما ينبغي تقديمه على الجماع ملاعبة المرأة وتقبيلها ومص لسانها وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يلاعب أهله ويقبلها
وروى أبو داود في سننه [ أنه صلى الله عليه و سلم كان يقبل عائشة ويمص لسانها ]
ويذكر عن جابر بن عبد الله قال : [ نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن المواقعة قبل الملاعبة ]
وكان صلى الله عليه و سلم ربما جامع نساءه كلهن بغسل واحد وربما اغتسل عند كل واحدة منهن فروى مسلم في صحيحه عن أنس [ أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يطوف على نسائه بغسل واحد ]
وروى أبو داود في سننه عن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم طاف على نسائه في ليلة فاغتسل عند كل امرأة منهن غسلا فقلت : يا رسول الله ! لو اغتسلت غسلا واحدا فقال : [ هذا أزكى وأطهر وأطيب ]
وشرع للمجامع إذا أراد العود قبل الغسل الوضوء بين الجماعين كما روى مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ ]
وفي الغسل والوضوء بعد الوطء من النشاط وطيب النفس وإخلاف بعض ما تحلل بالجماع وكمال الطهر والنظافة واجتماع الحار الغريزي إلى داخل البدن بعد انتشاره بالجماع وحصول النظافة التي يحبها الله ويبغض خلافها ما هو من أحسن التدبير في الجماع وحفظ الصحة والقوى فيه (4/228)
فصل
وأنفع الجماع : ما حصل بعد الهضم وعند اعتدال البدن في حره وبرده ويبوسته ورطوبته وخلائه وامتلائه وضرره عند امتلاء البدن أسهل وأقل من ضرره عند خلوه وكذلك ضرره عند كثرة الرطوبة أقل منه عند اليبوسة وعند حرارته أقل منه عند برودته وإنما ينبغي أن يجامع إذا اشتدت الشهوة وحصل الإنتشار التام الذي ليس عن تكلف ولا فكر في صورة ولا نظر متتابع ولا ينبغي أن يستدعي شهوة الجماع ويتكلفها ويحمل نفسه عليها وليبادر إليه إذا هاجت به كثرة المني واشتد شبقه وليحذر جماع العجوز والصغيرة التي لا يوطأ مثلها والتي لا شهوة لها والمريضة والقبيحة المنظر والبغيضة فوطء هؤلاء يوهن القوى ويضعف الجماع بالخاصية وغلط من قال من الأطباء : إن جماع الثيب أنفع من جماع البكر وأحفظ للصحة وهذا من القياس الفاسد حتى ربما حذر منه بعضهم وهو مخالف لما عليه عقلاء الناس ولما اتفقت عليه الطبيعة والشريعة
وفي جماع البكر من الخاصية وكمال التعلق بينها وبين مجامعها وامتلاء قلبها من محبته وعدم تقسيم هواها بينه وبين غيره ما ليس للثيب وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم لجابر : [ هلا تزوجت بكرا ] وقد جعل الله سبحانه من كمال نساء أهل الجنة من الحور العين أنهن لم يطمثهن أحد قبل من جعلن له من أهل الجنة [ وقالت عائشة للنبي صلى الله عليه و سلم : أرأيت لو مررت بشجرة قد أرتع فيها وشجرة لم يرتع فيها ففي أيهما كنت ترتع بعيرك ؟ قال : في التي لم يرتع فيها ]
تريد أنه لم يأخذ بكرا غيرها
وجماع المرأة المحبوبة في النفس يقل إضعافه للبدن مع كثرة استفراغه للمني وجماع البغيضة يحل البدن ويوهن القوى مع قلة استفراغه وجماع الحائض حرام طبعا وشرعا فإنه مضر جدا والأطباء قاطبة تحذر منه
وأحسن أشكال الجماع أن يعلو الرجل المرأة مستفرشا لها بعد الملاعبة والقبلة وبهذا سميت المرأة فراشا كما قال صلى الله عليه و سلم : [ الولد للفراش ] وهذا من تمام قوامية الرجل على المرأة كما قال تعالى : { الرجال قوامون على النساء } [ النساء : 34 ] وكما قيل :
( إذا رمتها كانت فراشا يقلني ... وعند فراغي خادم يتملق )
وقد قال تعالى : { هن لباس لكم وأنتم لباس لهن } [ البقرة : 187 ] وأكمل اللباس وأسبغه على هذه الحال فإن فراش الرجل لباس له وكذلك لحاف المرأة لباس لها فهذا الشكل الفاضل مأخوذ من هذه الآية وبه يحسن موقع استعارة اللباس من كل من الزوجين للآخر وفيه وجه آخر وهو أنها تنعطف عليه أحيانا فتكون عليه كاللباس قال الشاعر :
( إذا ما الضجيع ثنى جيدها ... تثنت فكانت عليه لباسا )
وأردأ أشكاله أن تعلوه المرأة ويجامعها على ظهره وهو خلاف الشكل الطبيعي الذي طبع الله عليه الرجل والمرأة بل نوع الذكر والأنثى وفيه من المفاسد أن المني يتعسر خروجه كله فربما بقي في العضو منه فيتعفن ويفسد فيضر وأيضا : فربما سال إلى الذكر رطوبات من الفرج وأيضا فإن الرحم لا يتمكن من الإشتمال على الماء واجتماعه فيه وانضمامه عليه لتخليق الولد وأيضا : فإن المرأة مفعول بها طبعا وشرعا وإذا كانت فاعلة خالفت مقتضى الطبع والشرع وكان أهل الكتاب إنما يأتون النساء على جنوبهن على حرف ويقولون : هو أيسر للمرأة
وكانت قريش والأنصار تشرح النساء على أقفائهن فعابت اليهود عليهم ذلك فأنزل الله عز و جل : { نساؤكم حرث لكم فاتوا حرثكم أنى شئتم } [ البقرة : 223 ]
وفي الصحيحين عن جابر قال : كانت اليهود تقول : إذا أتى الرجل امرأته من دبرها في قبلها كان الولد أحول فأنزل الله عز و جل : { نساؤكم حرث لكم فاتوا حرثكم أنى شئتم } وفي لفظ لمسلم : [ إن شاء مجبية وإن شاء غير مجبية غير أن ذلك في صمام واحد ]
والمجبية : المنكبة على وجهها والصمام الواحد : الفرج وهو موضع الحرث والولد
وأما الدبر : فلم يبح قط على لسان نبي من الأنبياء ومن نسب إلى بعض السلف إباحة وطء الزوجة في دبرها فقد غلط عليه وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ملعون من أتى المرأة في دبرها ]
وفي لفظ لأحمد وابن ماجه : [ لا ينظر الله إلى رجل جامع امرأته في دبرها ]
وفي لفظ للترمذي وأحمد : [ من أتى حائضا أو امرأة في دبرها أو كاهنا فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه و سلم ]
وفي لفظ للبيهقي : [ من أتى شيئا من الرجال والنساء في الأدبار فقد كفر ]
وفي مصنف وكيع : حدثني زمعة بن صالح عن ابن طاووس عن أبيه عن عمرو بن دينار عن عبد الله بن يزيد قال : قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الله لا يستحيي من الحق لا تأتوا النساء فى أعجازهن ] وقال مرة : [ في أدبارهن ]
وفي الترمذي : عن علي بن طلق قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا تأتوا النساء في أعجازهن فإن الله لا يستحي من الحق ]
وفي الكامل لابن عدي : من حديثه عن المحاملي عن سعيد بن يحيى الأموي قال : حدثنا محمد بن حمزة عن زيد بن رفيع عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود يرفعه : [ لا تأتوا النساء في أعجازهن ]
وروينا في حديث الحسن بن علي الجوهري عن أبي ذر مرفوعا : [ من أتى الرجال أو النساء في أدبارهن فقد كفر ]
وروى إسماعيل بن عياش عن سهيل بن أبي صالح عن محمد بن المنكدر عن جابر يرفعه : [ استحيوا من الله فإن الله لا يستحيي من الحق لا تأتوا النساء في حشوشهن ] ورواه الدارقطني من هذه الطريق ولفظه : [ إن الله لا يستحيي من الحق لا يحل مأتاك النساء في حشوشهن ]
وقال البغوي : حدثنا هدبه حدثنا همام قال : سئل قتادة عن الذي يأتي امرأته في دبرها ؟ فقال : حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ تلك اللوطية الصغرى ]
وقال أحمد في مسنده : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا همام أخبرنا عن قتادة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده فذكره
وفي المسند أيضا : عن ابن عباس أنزلت هذه الآية : { نساؤكم حرث لكم } في أناس من الأنصار أتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم فسألوه فقال : [ ائتها على كل حال إذا كان في الفرج ]
وفي المسند أيضا : عن ابن عباس قال : جاء عمر بن الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ يا رسول الله هلكت فقال : وما الذي أهلكك ؟ قال : حولت رحلي البارحة قال : فلم يرد عليه شيئا فأوحى الله إلى رسوله : { نساؤكم حرث لكم فاتوا حرثكم أنى شئتم } أقبل وأدبر واتق الحيضة والدبر ]
وفي الترمذي : عن ابن عباس مرفوعا : [ لا ينظر الله إلى رجل أتى رجلا أو امرأة في الدبر ]
وروينا من حديث أبي علي الحسن بن الحسين بن دوما عن البراء بن عازب يرفعه : [ كفر بالله العظيم عشرة من هذه الأمة : القاتل والساحر والديوث وناكح المرأة في دبرها ومانع الزكاة ومن وجد سعة فمات ولم يحج وشارب الخمر والساعي في الفتن وبائع السلاح من أهل الحرب ومن نكح ذات محرم منه ]
وقال عبد الله بن وهب : حدثنا عبد الله بن لهيعة عن مشرح بن هاعان عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ ملعون من يأتي النساء في محاشهن يعني : أدبارهن ]
وفي مسند الحارث بن أبي أسامة من حديث أبي هريرة وابن عباس قالا : خطبنا رسول الله صلى الله عليه و سلم قبل وفاته وهي آخر خطبة خطبها بالمدينة حتى لحق بالله عز و جل وعظنا فيها وقال : [ من نكح امرأة في دبرها أو رجلا أو صبيا حشر يوم القيامة وريحه أنتن من الجيفة يتأذى به الناس حتى يدخل النار وأحبط الله أجره ولا يقبل منه صرفا ولا عدلا ويدخل في تابوت من نار ويشد عليه مسامير من نار ] قال أبو هريرة : هذا لمن لم يتب
وذكر أبو نعيم الأصبهاني من حديث خزيمة بن ثابت يرفعه [ إن الله لا يستحي من الحق لا تأتوا النساء في أعجازهن ]
وقال الشافعي : أخبرني عمي محمد بن علي بن شافع قال : أخبرني عبد الله بن علي بن السائب عن عمرو بن أحيحة بن الجلاح عن خزيمة بن ثابت [ أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه و سلم عن إتيان النساء في أدبارهن فقال : حلال فلما ولى دعاه فقال : كيف قلت في أي الخربتين أو في أي الخرزتين أو في أي الخصفتين أمن دبرها في قبلها ؟ فنعم أم من دبرها في دبرها فلا إن الله لا يستحي من الحق لا تأتوا النساء في أدبارهن ]
قال الربيع : فقيل للشافعي : فما تقول ؟ فقال : عمي ثقة وعبد الله بن علي ثقة وقد أثنى على الانصاري خيرا يعني عمرو بن الجلاح وخزيمة ممن لا يشك في ثقته فلست أرخص فيه بل أنهى عنه
قلت : ومن ها هنا نشأ الغلط على من نقل عنه الإباحه من السلف والأئمة فإنهم أباحوا أن يكون الدبر طريقا إلى الوطء في الفرج فيطأ من الدبر لا في الدبر فاشتبه على السامع من بـ في ولم يظن بينهما فرقا فهذا الذي أباحه السلف والأئمة فغلط عليهم الغالط أقبح الغلط وأفحشه
وقد قال تعالى : { فاتوهن من حيث أمركم الله } قال مجاهد : سألت ابن عباس عن قوله تعالى : { فاتوهن من حيث أمركم الله } فقال : تأتيها من حيث أمرت أن تعتزلها يعني في الحيض وقال علي بن أبي طلحة عنه يقول : في الفرج ولا تعده إلى غيره
وقد دلت الآية على تحريم الوطء في دبرها من وجهين : أحدهما : أنه أباح إتيانها في الحرث وهو موضع الولد لا في الحش الذي هو موضع الأذى وموضع الحرث هو المراد من قوله : { من حيث أمركم الله } الآية قال : { فاتوا حرثكم أنى شئتم } وإتيانها في قبلها من دبرها مستفاد من الآية أيضا لانه قال : أنى شئتم أي : من أين شئتم من أمام أو من خلف قال ابن عباس : فأتوا حرثكم يعني : الفرج
وإذا كان الله حرم الوطء في الفرج لأجل الأذى العارض فما الظن بالحش الذي هو محل الأذى اللازم مع زيادة المفسدة بالتعرض لانقطاع النسل والذريعة القريبة جدا من أدبار النساء إلى أدبار الصبيان
وأيضا : فللمرأة حق على الزوج في الوطء ووطؤها في دبرها يفوت حقها ولا يقضي وطرها ولا يحصل مقصودها
وأيضا : فإن الدبر لم يتهيأ لهذا العمل ولم يخلق له وإنما الذي هيئ له الفرج فالعادلون عنه إلى الدبر خارجون عن حكمة الله وشرعه جميعا
وأيضا : فإن ذلك مضر بالرجل ولهذا ينهى عنه عقلاء الأطباء من الفلاسفة وغيرهم لان للفرج خاصية في اجتذاب الماء المحتقن وراحة الرجل منه والوطء في الدبر لا يعين على اجتذاب جميع الماء ولا يخرج كل المحتقن لمخالفته للأمر الطبيعي
وأيضا : يضر من وجه آخر وهو إحواجه إلى حركات متعبة جدا لمخالفته للطبيعة
وأيضا فإنه محل القذر والنجو فيستقبله الرجل بوجهه ويلابسه
وأيضا : فإنه يضر بالمرأة جدا لأنه وارد غريب بعيد عن الطباع منافر لها غاية المنافرة
وأيضا : فإنه يحدث الهم والغم والنفرة عن الفاعل والمفعول
وأيضا : فإنه يسود الوجه ويظلم الصدر ويطمس نور القلب ويكسر الوجه وحشة تصير عليه كالسماء يعرفها من له أدنى فراسة
وأيضا : فإنه يوجب النفرة والتباغض الشديد والتقاطع بين الفاعل والمفعول ولا بد
وأيضا فإنه يفسد حال الفاعل والمفعول فسادا لا يكاد يرجى بعده صلاح إلا أن يشاء الله بالتوبة النصوح
وأيضا : فإنه يذهب بالمحاسن منهما ويكسوهما ضدها كما يذهب بالمودة بينهما ويبدلهما بها تباغضا وتلاعنا
وأيضا : فإنه من أكبر أسباب زوال النعم وحلول النقم فإنه يوجب اللعنة والمقت من الله وإعراضه عن فاعله وعدم نظره إليه فأي خير يرجوه بعد هذا وأي شر يأمنه وكيف حياة عبد قد حلت عليه لعنة الله ومقته وأعرض عنه بوجهه ولم ينظر إليه
وأيضا : فإنه يذهب بالحياء جملة والحياء هو حياة القلوب فإذا فقدها القلب استحسن القبيح واستقبح الحسن وحينئذ فقد استحكم فساده
وأيضا : فإنه يحيل الطباع عما ركبها الله ويخرج الإنسان عن طبعه إلى طبع لم يركب الله عليه شيئا من الحيوان بل هو طبع منكوس وإذا نكس الطبع انتكس القلب والعمل والهدى فيستطيب حينئذ الخبيث من الأعمال والهيئات ويفسد حاله وعمله وكلامه بغير اختياره
وأيضا : فإنه يورث من الوقاحة والجرأة ما لا يورثه سواه
وأيضا : فإنه يورث من المهانة والسفال والحقارة ما لا يورثه غيره
وأيضا : فإنه يكسو العبد من حلة المقت والبغضاء وازدراء الناس له واحتقارهم إياه واستصغارهم له ما هو مشاهد بالحس فصلاة الله وسلامه على من سعادة الدنيا والآخرة في هديه واتباع ما جاء به وهلاك الدنيا والآخرة في مخالفة هديه وما جاء به (4/233)
فصل
والجماع الضار : نوعان : ضار شرعا وضار طبعا فالضار شرعا : المحرم وهو مراتب بعضها أشد من بعض والتحريم العارض منه أخف من اللازم كتحريم الاحرام والصيام والإعتكاف وتحريم المظاهر منها قبل التكفير وتحريم وطء الحائض ونحو ذلك ولهذا لا حد في هذا الجماع
وأما اللازم : فنوعان نوع لا سبيل إلى حله البتة كذوات المحارم فهذا من أضر الجماع وهو يوجب القتل حدا عند طائفة من العلماء كأحمد بن حنبل رحمه الله وغيره وفيه حديث مرفوع ثابت
والثاني : ما يمكن أن يكون حلالا كالأجنبية فإن كانت ذات زوج ففي وطئها حقان حق لله وحق للزوج فإن كانت مكرهة ففيه ثلاثة حقوق وإن كان لها أهل وأقارب يلحقهم العار بذلك صار فيه أربعة حقوق فإن كانت ذات محرم منه صار فيه خمسة حقوق فمضرة هذا النوع بحسب درجاته في التحريم
وأما الضار طبعا فنوعان أيضا : نوع ضار بكيفيته كما تقدم ونوع ضار بكميته كالإكثار منه فإنه يسقط القوة ويضر بالعصب ويحدث الرعشة والفالج والتشنج ويضعف البصر وسائر القوى ويطفئ الحرارة الغريزية ويوسع المجاري ويجعلها مستعدة للفضلات المؤذية
وأنفع أوقاته ما كان بعد انهضام الغذاء في المعدة وفي زمان معتدل لا على جوع فإنه يضعف الحار الغريزي ولا على شبع فإنه يوجب أمراضا شديدة ولا على تعب ولا إثر حمام ولا استفراغ ولا انفعال نفساني كالغم والهم والحزن وشدة الفرح
وأجود أوقاته بعد هزيع من الليل إذا صادف انهضام الطعام ثم يغتسل أو يتوضأ وينام عليه وينام عقبه فتراجع إليه قواه وليحذر الحركة والرياضة عقبه فإنها مضرة جدا (4/242)
فصل
في هديه صلى الله عليه و سلم في علاج العشق
هذا مرض من أمراض القلب مخالف لسائر الأمراض في ذاته وأسبابه وعلاجه وإذا تمكن واستحكم عز على الأطباء دواؤه وأعيى العليل داؤه وإنما حكاه الله سبحانه في كتابه عن طائفتين من الناس : من النساء وعشاق الصبيان المردان فحكاه عن امرأة العزيز في شأن يوسف وحكاه عن قوم لوط فقال تعالى إخبارا عنهم لما جاءت الملائكة لوطا : { وجاء أهل المدينة يستبشرون * قال إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون * واتقوا الله ولا تخزون * قالوا أولم ننهك عن العالمين * قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين * لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون } [ الحجر : 68 ، 73 ]
وأما ما زعمه بعض من لم يقدر رسول الله صلى الله عليه و سلم حق قدره أنه ابتلي به في شأن زينب بنت جحش وأنه رآها فقال : سبحان مقلب القلوب وأخذت بقلبه وجعل يقول لزيد بن حارثة : أمسكها حتى أنزل الله عليه : { وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه } [ الأحزاب : 37 ] فظن هذا الزاعم أن ذلك في شأن العشق وصنف بعضهم كتابا في العشق وذكر فيه عشق الأنبياء وذكر هذه الواقعة وهذا من جهل هذا القائل بالقرآن وبالرسل وتحميله كلام الله ما لا يحتمله ونسبته رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى ما برأه الله منه فإن زينب بنت جحش كانت تحت زيد بن حارثة وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم قد تبناه وكان يدعى زيد بن محمد وكانت زينب فيها شمم وترفع عليه فشاور رسول الله صلى الله عليه و سلم في طلاقها فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : أمسك عليك زوجك واتق الله وأخفى في نفسه أن يتزوجها إن طلقها زيد وكان يخشى من قالة الناس أنه تزوج امرأة ابنه لأن زيدا كان يدعى ابنه فهذا هو الذي أخفاه في نفسه وهذه هي الخشية من الناس التي وقعت له ولهذا ذكر سبحانه هذه الآية يعدد فيها نعمه عليه لا يعاتبه فيها وأعلمه أنه لا ينبغي له أن يخشى الناس فيما أحل الله له وأن الله أحق أن يخشاه فلا يتحرج ما أحله له لأجل قول الناس ثم أخبره أنه سبحانه زوجه إياها بعد قضاء زيد وطره منها لتقتدي أمته به في ذلك ويتزوج الرجل بامرأة ابنه من التبني لا امرأة ابنه لصلبه ولهذا قال في آية التحريم : { وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم } [ النساء : 23 ] وقال في هذه السورة : { ما كان محمد أبا أحد من رجالكم } [ الأحزاب : 40 ] وقال في أولها : { وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم } [ الأحزاب : 4 ] فتأمل هذا الذب عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ودفع طعن الطاعنين عنه وبالله التوفيق
نعم كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يحب نساءه وكان أحبهن إليه عائشة رضي الله عنها ولم تكن تبلغ محبته لها ولا لأحد سوى ربه نهاية الحب بل صح أنه قال : [ لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ] وفي لفظ : [ وإن صاحبكم خليل الرحمن ] (4/244)
فصل
وعشق الصور إنما تبتلى به القلوب الفارغة من محبة الله تعالى المعرضة عنه المتعوضة بغيره عنه فإذا امتلأ القلب من محبة الله والشوق إلى لقائه دفع ذلك عنه مرض عشق الصور ولهذا قال تعالى في حق يوسف : { كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين } [ يوسف : 24 ] فدل على أن الإخلاص سبب لدفع العشق وما يترتب عليه من السوء والفحشاء التي هي ثمرته ونتيجته فصرف المسبب صرف لسببه ولهذا قال بعض السلف : العشق حركة قلب فارغ يعني فارغا مما سوى معشوقه قال تعالى : { وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به } [ القصص : 11 ] أي : فارغا من كل شئ إلا من موسى لفرط محبتها له وتعلق قلبها به
والعشق مركب من أمرين : استحسان للمعشوق وطمع في الوصول إليه فمتى انتفى أحدهما انتفى العشق وقد أعيت علة العشق على كثير من العقلاء وتكلم فيها بعضهم بكلام يرغب عن ذكره إلى الصواب
فنقول : قد استقرت حكمة الله - عز و جل - في خلقه وأمره على وقوع التناسب والتآلف بين الأشباه وانجذاب الشئ إلى موافقه ومجانسه بالطبع وهروبه من مخالفه ونفرته عنه بالطبع فسر التمازج والإتصال في العالم العلوي والسفلي إنما هو التناسب والتشاكل والتوافق وسر التباين والإنفصال إنما هو بعدم التشاكل والتناسب وعلى ذلك قام الخلق والأمر فالمثل إلى مثله مائل وإليه صائر والضد عن ضده هارب ومنه نافر وقد قال تعالى : { هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها } [ الأعراف : 189 ] فجعل سبحانه علة سكون الرجل إلى امرأته كونها من جنسه وجوهره فعلة السكون المذكور - وهو الحب - كونها منه فدل على أن العلة ليست بحسن الصورة ولا الموافقة في القصد والإرادة ولا في الخلق والهدي وإن كانت هذه أيضا من أسباب السكون والمحبة
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف ] وفي مسند الإمام أحمد وغيره في سبب هذا الحديث : أن امرأة بمكة كانت تضحك الناس فجاءت إلى المدينة فنزلت على امرأة تضحك الناس فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ الأرواح جنود مجندة ] الحديث
وقد استقرت شريعته سبحانه أن حكم الشئ حكم مثله فلا تفرق شريعته بين متماثلين أبدا ولا تجمع بين متضادين ومن ظن خلاف ذلك فإما لقلة علمه بالشريعة وإما لتقصيره في معرفة التماثل والإختلاف وإما لنسبته إلى شريعته ما لم ينزل به سلطانا بل يكون من آراء الرجال فبحكمته وعدله ظهر خلقه وشرعه وبالعدل والميزان قام الخلق والشرع وهو التسوية بين
المتماثلين والتفريق بين المختلفين
وهذا كما أنه ثابت في الدنيا فهو كذلك يوم القيامة قال تعالى : { احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون * من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم } [ الصافات : 22 ]
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبعده الإمام أحمد رحمه الله : أزواجهم أشباههم ونظراؤهم
وقال تعالى : { وإذا النفوس زوجت } [ التكوير : 7 ] أي : قرن كل صاحب عمل بشكله ونظيره فقرن بين المتحابين في الله في الجنة وقرن بين المتحابين في طاعة الشيطان في الجحيم فالمرء مع من أحب شاء أو أبى وفي مستدرك الحاكم وغيره عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا يحب المرء قوما إلا حشر معهم ]
والمحبة أنواع متعددة : فأفضلها وأجلها : المحبة في الله ولله وهي تستلزم محبة ما أحب الله وتستلزم محبة الله ورسوله
ومنها محبة الإتفاق في طريقة أو دين أو مذهب أو نحلة أو قرابة أو صناعة أو مراد ما
ومنها : محبة لنيل غرض من المحبوب إما من جاهه أو من ماله أو من تعليمه وإرشاده أو قضاء وطر منه وهذه هي المحبة العرضية التي تزول بزوال موجبها فإن من ودك لأمر ولى عنك عند انقضائه
وأما محبة المشاكلة والمناسبة التي بين المحب والمحبوب فمحبة لازمة لا تزول إلا لعارض يزيلها ومحبة العشق من هذا النوع فإنها استحسان روحاني وامتزاج نفساني ولا يعرض في شئ من أنواع المحبة من الوسواس والنحول وشغل البال والتلف ما يعرض من العشق
فإن قيل : فإذا كان سبب العشق ما ذكرتم من الإتصال والتناسب الروحاني فما باله لا يكون دائما من الطرفين بل تجده كثيرا من طرف العاشق وحده فلو كان سببه الإتصال النفسي والإمتزاج الروحاني لكانت المحبة مشتركة بينهما
فالجواب : أن السبب قد يتخلف عنه مسببه لفوات شرط أو لوجود مانع وتخلف المحبة من الجانب الآخر لا بد أن يكون لأحد ثلاثة أسباب :
الأولى : علة في المحبة وأنها محبة عرضية لا ذاتية ولا يجب الإشتراك في المحبة العرضية بل قد يلزمها نفرة من المحبوب
الثاني : مانع يقوم بالمحب يمنع محبة محبوب له إما في خلقه أو في خلقه أو هديه أو فعله أو هيئته أو غير ذلك
الثالث : مانع يقوم بالمحبوب يمنع مشاركته للمحب في محبته ولو لا ذلك المانع لقام به من المحبة لمحبه مثل ما قام بالآخر فإذا انتفت هذه الموانع وكانت المحبة ذاتية فلا يكون قط إلا من الجانبين ولو لا مانع الكبر والحسد والرياسة والمعاداة في الكفار لكانت الرسل أحب إليهم من أنفسهم وأهليهم وأموالهم ولما زال هذا المانع من قلوب أتباعهم كانت محبتهم لهم فوق محبة الأنفس والأهل والمال (4/246)
فصل
والمقصود : أن العشق لما كان مرضا من الأمراض كان قابلا للعلاج وله أنواع من العلاج فإن كان مما للعاشق سبيل إلى وصل محبوبه شرعا وقدرا فهو علاجه كما ثبت في الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء ] فدل المحب على علاجين : أصلي وبدلي وأمره بالأصلي وهو العلاج الذي وضع لهذا الداء فلا ينبغي العدول عنه إلى غيره ما وجد إليه سبيلا
وروى ابن ماجه في سننه عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لم نر للمتحابين مثل النكاح ] وهذا هو المعنى الذي أشار إليه سبحانه عقيب إحلال النساء حرائرهن وإمائهن عند الحاجة بقوله : { يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا } [ النساء : 28 ] فذكر تخفيفه في هذا الموضع وإخباره عن ضعف الإنسان يدل على ضعفه عن احتمال هذه الشهوة وأنه - سبحانه - خفف عنه أمرها بما أباحه له من أطايب النساء مثنى وثلاث ورباع وأباح له ما شاء مما ملكت يمينه ثم أباح له أن يتزوج بالإماء إن احتاج إلى ذلك علاجا لهذه الشهوة وتخفيفا عن هذا الخلق الضعيف ورحمة به (4/250)
فصل
وإن كان لا سبيل للعاشق إلى وصال معشوقه قدرا أو شرعا أو هو ممتنع عليه من الجهتين وهو الداء العضال فمن علاجه إشعار نفسه اليأس منه فإن النفس متى يئست من الشئ استراحت منه ولم تلتفت إليه فإن لم يزل مرض العشق مع اليأس فقد انحرف الطبع انحرافا شديدا فينتقل إلى علاج آخر وهو علاج عقله بأن يعلم بأن تعلق القلب بما لا مطمع في حصوله نوع من الجنون وصاحبه بمنزلة من يعشق الشمس وروحه متعلقة بالصعود إليها والدوران معها في فلكها وهذا معدود عند جميع العقلاء في زمرة المجانين
وإن كان الوصال متعذرا شرعا لا قدرا فعلاجه بأن ينزله منزلة المتعذر قدرا إذ ما لم يأذن فيه الله فعلاج العبد ونجاته موقوف على اجتنابه فليشعر نفسه أنه معدوم ممتنع لا سبيل له إليه وأنه بمنزلة سائر المحالات فإن لم تجبه النفس الأمارة فليتركه لأحد أمرين : إما خشية وإما فوات محبوب هو أحب إليه وأنفع له وخير له منه وأدوم لذة وسرورا فإن العاقل متى وازن بين نيل محبوب سريع الزوال بفوات محبوب أعظم منه وأدوم وأنفع وألذ أو بالعكس ظهر له التفاوت فلا تبع لذة الأبد التي لا خطر لها بلذة ساعة تنقلب آلاما وحقيقتها أنها أحلام نائم أو خيال لا ثبات له فتذهب اللذة وتبقى التبعة وتزول الشهوة وتبقى الشقوة
الثاني : حصول مكروه أشق عليه من فوات هذا المحبوب بل يجتمع له الأمران أعني : فوات ما هو أحب إليه من هذا المحبوب وحصول ما هو أكره إليه من فوات هذا المحبوب فإذا تيقن أن في إعطاء النفس حظها من هذا المحبوب هذين الأمرين هان عليه تركه ورأى أن صبره على فوته أسهل من صبره عليهما بكثير فعقله ودينه ومروءته وإنسانيته تأمره باحتمال الضرر اليسير الذي ينقلب سريعا لذة وسرورا وفرحا لدفع هذين الضررين العظيمين وجهله وهواه وظلمه وطيشه وخفته يأمره بإيثار هذا المحبوب العاجل بما فيه جالبا عليه ما جلب والمعصوم من عصمه الله
فإن لم تقبل نفسه هذا الدواء ولم تطاوعه لهذه المعالجة فلينظر ما تجلب عليه هذه الشهوة من مفاسد عاجلته وما تمنعه من مصالحها فإنها أجلب شئ لمفاسد الدنيا وأعظم شئ تعطيلا لمصالحها فإنها تحول بين العبد وبين رشده الذي هو ملاك أمره وقوام مصالحه
فإن لم تقبل نفسه هذا الدواء فليتذكر قبائح المحبوب وما يدعوه إلى النفرة عنه فإنه إن طلبها وتأملها وجدها أضعاف محاسنه التي تدعو إلى حبه وليسأل جيرانه عما خفي عليه منها فإنها المحاسن كما هي داعية الحب والإرادة فالمساوئ داعية البغض والنفس فليوازن بين الداعيين وليحب أسبقهما وأقربهما منها بابا ولا يكن ممن غره لون جمال على جسم أبرص مجذوم وليجاوز بصره حسن الصورة إلى قبح الفعل وليعبر من حسن المنظر والجسم إلى قبح المخبر والقلب
فإن عجزت عنه هذه الأدوية كلها لم يبق له إلا صدق اللجأ إلى من يجيب المضطر إذا دعاه وليطرح نفسه بين يديه على بابه مستغيثا به متضرعا متذللا مستكينا فمتى وفق لذلك فقد قرع باب التوفيق فليعف وليكتم ولا يشبب بذكر المحبوب ولا يفضحه بين الناس ويعرضه للأذى فإنه يكون ظالما معتديا
ولا يغتر بالحديث الموضوع على رسول الله صلى الله عليه و سلم الذي رواه سويد بن سعيد عن علي بن مسهر عن أبي يحيى القتات عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه و سلم ورواه عن أبي مسهر أيضا عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عن النبي صلى الله عليه و سلم ورواه الزبير بن بكار عن عبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون عن عبد العزيز بن أبي حازم عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من عشق فعف فمات فهو شهيد ] وفي رواية : [ من عشق وكتم وعف وصبر غفر الله له وأدخله الجنة ]
فإن هذا الحديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا يجوز أن يكون من كلامه فإن الشهادة درجة عالية عند الله مقرونة بدرجة الصديقية ولها أعمال وأحوال هي شرط في حصولها وهي نوعان : عامة وخاصة فالخاصة : الشهادة في سبيل الله
والعامة خمس مذكورة في الصحيح ليس العشق واحدا منها
وكيف يكون العشق الذي هو شرك في المحبة وفراغ القلب عن الله وتمليك القلب والروح والحب لغيره تنال به درجة الشهادة هذا من المحال فإن إفساد عشق الصور للقلب فوق كل إفساد بل هو خمر الروح الذي يسكرها ويصدها عن ذكر الله وحبه والتلذذ بمناجاته والأنس به ويوجب عبودية القلب لغيره فإن قلب العاشق متلذذ لمعشوقه بل العشق لب العبودية فإنها كمال الذل والحب والخضوع والتعظيم فكيف يكون تعبد القلب لغير الله مما تنال به درجة أفاضل الموحدين وساداتهم وخواص الأولياء فلو كان إسناد هذا الحديث كالشمس كان غلطا ووهما ولا يحفظ عن رسول الله صلى الله عليه و سلم لفظ العشق في حديث صحيح البتة
ثم إن العشق منه حلال ومنه حرام فكيف يظن بالنبي صلى الله عليه و سلم أنه يحكم على كل عاشق يكتم ويعف بأنه شهيد فترى من يعشق امرأة غيره أو يعشق المردان والبغايا ينال بعشقه درجة الشهداء وهل هذا إلا حلاف المعلوم من دينه صلى الله عليه و سلم بالضرورة ؟ وكيف والعشق مرض من الأمراض التي جعل الله سبحانه لها الأدوية شرعا وقدرا والتداوي منه إما واجب إن كان عشقا حراما وإما مستحب
وأنت إذا تأملت الأمراض والآفات التي حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم لأصحابها بالشهادة وجدتها من الأمراض التي لا علاج لها كالمطعون والمبطون والمجنوب والغريق وموت المرأة يقتلها ولدها في بطنها فإن هذه بلايا من الله لا صنع للعبد فيها ولا علاج لها وليست أسبابها محرمة ولا يترتب عليها من فساد القلب وتعبده لغير الله ما يترتب على العشق فإن لم يكف هذا في إبطال نسبة هذا الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلد أئمة الحديث العالمين به وبعلله فإنه لا يحفظ عن إمام واحد منهم قط أنه شهد له بصحة بل ولا بحسن كيف وقد أنكروا على سويد هذا الحديث ورموه لأجله بالعظائم واستحل بعضهم غزوه لأجله قال أبو أحمد بن عدي في كامله : هذا الحديث أحد ما أنكر على سويد وكذلك قال البيهقي : إنه مما أنكر عليه وكذلك قال ابن طاهر في الذخيرة وذكره الحاكم في تاريخ نيسابور وقال : أنا أتعجب من هذا الحديث فإنه لم يحدث به عن غير سويد وهو ثقة وذكره أبو الفرج ابن الجوزي في كتاب الموضوعات وكان أبو بكر الأزرق يرفعه أولا عن سويد فعوتب فيه فأسقط النبي صلى الله عليه و سلم وكان لا يجاوز به ابن عباس رضي الله عنهما
ومن المصائب التي لا تحتمل جعل هذا الحديث من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه و سلم ومن له أدنى إلمام بالحديث وعلله لا يحتمل هذا البتة ولا يحتمل أن يكون من حديث الماجشون عن ابن أبي حازم عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا وفي صحته موقوفا على ابن عباس نظر وقد رمى الناس سويد بن سعيد راوي هذا الحديث بالعظائم وأنكره عليه يحيى بن معين وقال : هو ساقط كذاب لو كان لي فرس ورمح كنت أغزوه وقال الإمام أحمد : متروك الحديث وقال النسائي : ليس بثقة وقال البخاري : كان قد عمي فيلقن ما ليس من حديثه وقال ابن حبان : يأتي بالمعضلات عن الثقات يجب مجانبة ما روى انتهى وأحسن ما قيل فيه قول أبي حاتم الرازي : إنه صدوق في التدليس ثم قول الدارقطني : هو ثقة غير أنه لما كبر كان ربما قرئ عليه حديث فيه بعض النكار فيجيزه انتهى وعيب على مسلم إخراج حديثه وهذه حاله ولكن مسلم روى من حديثه ما تابعه عليه غيره ولم ينفرد به ولم يكن منكرا ولا شاذا بخلاف هذا الحديث والله أعلم (4/251)
فصل
في هديه صلى الله عليه و سلم في حفظ الصحة بالطيب
لما كانت الرائحة الطيبة غذاء الروح والروح مطية القوى والقوى تزداد بالطيب وهو ينفع الدماغ والقلب وسائر الأعضاء الباطنية ويفرح القلب ويسر النفس ويبسط الروح وهو أصدق شئ للروح وأشده ملاءمة لها وبينه وبين الروح الطيبة نسبة قريبة كان أحد المحبوبين من الدنيا إلى أطيب الطيبين صلوات الله عليه وسلامه
وفي صحيح البخاري أنه صلى الله عليه و سلم كان لا يرد الطيب
وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه و سلم : [ من عرض عليه ريحان فلا يرده فإنه طيب الريح خفيف المحمل ]
وفي سنن أبي داود والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ من عرض عليه طيب فلا يرده فإنه خفيف المحمل طيب الرائحة ]
وفي مسند البزار : عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إن الله طيب يجب الطيب نظيف يحب النظافة كريم يحب الكرم جواد يحب الجود فنظفوا أفناءكم وساحاتكم ولا تشبهوا باليهود يجمعون الأكب في دورهم ] الأكب : الزبالة
وذكر ابن أبي شيبة أنه صلى الله عليه و سلم كان له سكة يتطيب منها
وصح عنه أنه قال : [ إن لله حقا على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام وإن كان له طيب أن يمس منه ] وفي الطيب من الخاصية أن الملائكة تحبه والشياطين تنفر عنه وأحب شئ إلى الشياطين الرائحة المنتنة الكريهة فالأرواح الطيبة تحب الرائحة الطيبة والأرواح الخبيثة تحب الرائحة الخبيثة وكل روح تميل إلى ما يناسبها فالخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبيون للطيبات وهذا وإن كان في النساء والرجال فإنه يتناول الأعمال والأقوال والمطاعم والمشارب والملابس والروائح إما بعموم لفظه أو بعموم معناه (4/256)
فصل
في هديه صلى الله عليه و سلم في حفظ صحة العين
روى أبو داود في سننه عن عبد الرحمن بن النعمان بن معبد بن هوذة الأنصاري عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أمر بالإثمد المروح عند النوم وقال : [ ليتقه الصائم ] قال أبو عبيد : المروح : المطيب بالمسك
وفي سنن ابن ماجه وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كانت للنبي صلى الله عليه و سلم مكحلة يكتحل منها ثلاثا في كل عين
وفي الترمذي : عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا اكتحل يجعل في اليمنى ثلاثا يبتدىء بها ويختم بها وفي اليسرى ثنتين
وقد روى أبو داود عنه صلى الله عليه و سلم : [ من اكتحل فليوتر ] فهل الوتر بالنسبة إلى العينين كلتيهما فيكون في هذه ثلاث وفي هذه ثنتان واليمنى أولى بالإبتداء والتفضيل أو هو بالنسبة إلى كل عين فيكون في هذه ثلاث وفي هذه ثلاث وهما قولان في مذهب أحمد وغيره
وفي الكحل حفظ لصحة العين وتقوية للنور الباصر وجلاء لها وتلطيف للمادة الرديئة واستخراج لها مع الزينة في بعض أنواعه وله عند النوم مزيد فضل لاشتمالها على الكحل وسكونها عقيبه عن الحركة المضرة بها وخدمة الطبيعة لها وللإثمد من ذلك خاصية
وفي سنن ابن ماجه عن سالم عن أبيه يرفعه : [ عليكم بالإثمد فإنه يجلو البصر وينبت الشعر ]
وفي كتاب أبي نعيم : [ فإنه منبتة للشعر مذهبة للقذى مصفاة للبصر ]
وفي سنن ابن ماجه أيضا : عن ابن عباس - رضي الله عنهما - يرفعه : [ خير أكحالكم الإثمد يجلو البصر وينبت الشعر ] (4/257)
فصل
في ذكر شئ من الأدوية والأغذية المفردة التي جاءت على لسانه صلى الله عليه و سلم مرتبة على حروف المعجم
حرف الهمزة
إثمد : هو حجر الكحل الأسود يؤتى به من أصبهان وهو أفضله ويؤتى به من جهة المغرب أيضا وأجوده السريع التفتيت الذي لفتاته بصيص وداخله أملس ليس فيه شئ من الأوساخ
ومزاجه بارد يابس ينفع العين ويقويها ويشد أعصابها ويحفظ صحتها ويذهب اللحم الزائد في القروح ويدملها وينقي أوساخها ويجلوها ويذهب الصداع إذا اكتحل به مع العسل المائي الرقيق وإذا دق وخلط ببعض الشحوم الطرية ولطخ على حرق النار لم تعرض فيه خشكريشة ونفع من التنفط الحادث بسببه وهو أجود أكحال العين لا سيما للمشايخ والذين قد ضعفت أبصارهم إذا جعل معه شئ من المسك
أترج : ثبت في الصحيح : عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة طعمها طيب وريحها طيب ]
في الأترج منافع كثيرة وهو مركب من أربعة أشياء : قشر ولحم وحمض وبزر ولكل واحد منها مزاج يخصه فقشره حار يابس ولحمه حار رطب وحمضه بارد يابس وبزره حار يابس
ومن منافع قشره : أنه إذا جعل في الثياب منع السوس ورائحته تصلح فساد الهواء والوباء ويطيب النكهة إذا أمسكه في الفم ويحلل الرياح وإذا جعل في الطعام كالأبازير أعان على الهضم قال صاحب القانون : وعصارة قشره تنفع من نهش الأفاعي شربا وقشره ضمادا وحراقة قشره طلاء جيد للبرص انتهى
وأما لحمه : فملطف لحرارة المعدة نافع لأصحاب المرة الصفراء قامع للبخارات الحارة وقال الغافقي : أكل لحمه ينفع البواسير انتهى
وأما حمضه : فقابض كاسر للصفراء ومسكن للخفقان الحار نافع من اليرقان شربا واكتحالا قاطع للقئ الصفراوي مشه للطعام عاقل للطبيعة نافع من الإسهال الصفراوي وعصارة حمضه يسكن غلمة النساء وينفع طلاء من الكلف ويذهب بالقوباء ويستدل على ذلك من فعله في الحبر إذا وقع في الثياب قلعه وله قوة تلطف وتقطع وتبرد وتطفئ حرارة الكبد وتقوي المعدة وتمنع حدة المرة الصفراء وتزيل الغم العارض منها وتسكن العطش
وأما بزره : فله قوة محللة مجففة وقال ابن ماسويه : خاصية حبه النفع من السموم القاتلة إذا شرب منه وزن مثقال مقشرا بماء فاتر وطلاء مطبوخ 0 وإن دق ووضع على موضع اللسعة نفع وهو ملين للطبيعة مطيب للنكهة وأكثر هذا الفعل موجود في قشره وقال غيره : خاصية حبه النفع من لسعات العقارب إذا شرب منه وزن مثقالين مقشرا بماء فاتر وكذلك إذا دق ووضع على موضع اللدغة وقال غيره : حبه يصلح للسموم كلها وهو نافع من لدغ الهوام كلها
وذكر أن بعض الأكاسرة غضب على قوم من الأطباء فأمر بحبسهم وخيرهم أدما لا يزيد لهم عليه فاختاروا الأترج فقيل لهم : لم اخترتموه على غيره ؟ فقالوا : لأنه في العاجل ريحان ومنظره مفرح وقشره طيب الرائحة ولحمه فاكهة وحمضه أدم وحبه ترياق وفيه دهن
وحقيق بشئ هذه منافعه أن يشبه به خلاصة الوجود وهو المؤمن الذي يقرأ القرآن وكان بعض السلف يحب النظر إليه لما في منظره من التفريح
أرز : فيه حديثان باطلان موضوعان على رسول الله صلى الله عليه و سلم أحدهما : أنه [ لو كان رجلا لكان حليما ] الثاني : [ كل شئ أخرجته الأرض ففيه داء وشفاء إلا الأرز فإنه شفاء لا داء فيه ] ذكرناهما تنبيها وتحذيرا من نسبتهما إليه صلى الله عليه و سلم
وبعد فهو حار يابس وهو أغذى الحبوب بعد الحنطة وأحمدها خلطا يشد البطن شدا يسيرا ويقوي المعدة ويدبغها ويمكث فيها وأطباء الهند تزعم أنه أحمد الأغذية وأنفعها إذا طبخ بألبان البقر وله تأثير في خصب البدن وزيادة المني وكثرة التغذية وتصفية اللون
أرز : بفتح الهمزة وسكون الراء : وهو الصنوبر ذكره النبي صلى الله عليه و سلم في قوله : [ مثل المؤمن مثل الخامة من الزرع تفيئها الرياح تقيمها مرة وتميلها أخرى ومثل المنافق مثل الأرزة لا تزال قائمة على أصلها حتى يكون انجعافها مرة واحدة ] وحبه حار رطب وفيه إنضاج وتليين وتحليل ولذع يذهب بنقعه في الماء وهو عسر الهضم وفيه تغذية كثيرة وهو جيد للسعال ولتنقية رطوبات الرئة ويزيد في المني ويولد مغصا وترياقه حب الرمان المر
إذخر : ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال في مكة : [ لا يختلى خلاها فقال له العباس رضي الله عنه : إلا الإذخر يا رسول الله فإنه لقينهم ولبيوتهم فقال : إلا الإذخر ]
والإذخر حار في الثانية يابس في الأولى لطيف مفتح للسدد وأفواه العروق يدر البول والطمث ويفتت الحصى ويحلل الأورام الصلبة في المعدة والكبد والكليتين شربا وضمادا وأصله يقوي عمود الأسنان والمعدة ويسكن الغثيان ويعقل البطن (4/260)
حرف الباء
بطيخ : روى أبو داود والترمذي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه كان يأكل البطيخ بالرطب يقول : [ نكسر حر هذا ببرد هذا وبرد هذا بحر هذا ]
وفي البطيخ عدة أحاديث لا يصح منها شئ غير هذا الحديث الواحد والمراد به الأخضر وهو بارد رطب وفيه جلاء وهو أسرع انحدارا عن المعدة من القثاء والخيار وهو سريع الإستحالة إلى أي خلط كان صادفه في المعدة وإذا كان آكله محرورا انتفع به جدا وإن كان مبرودا دفع ضرره بيسير من الزنجيل ونحوه وينبغي أكله قبل الطعام ويتبع به وإلا غثى وقيأ وقال بعض الأطباء : إنه قبل الطعام يغسل البطن غسلا ويذهب بالداء أصلا
بلح : روى النسائي وابن ماجه في سننهما : من هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ كلوا البلح بالتمر فإن الشيطان إذا نظر إلى ابن آدم يأكل البلح بالتمر يقول : بقي ابن آدم حتى أكل الحديث بالعتيق ] وفي رواية : [ كلوا البلح بالتمر فإن الشيطان يحزن إذا رأى ابن آدم يأكله يقول : عاش ابن آدم حتى أكل الجديد بالخلق ] رواه البزار في مسنده وهذا لفظه
قلت : الباء في الحديث بمعنى : مع أي : كلوا هذا مع هذا قال بعض أطباء الإسلام : إنما أمر النبي صلى الله عليه و سلم بأكل البلح بالتمر ولم يأمر بأكل البسر مع التمر لأن البلح بارد يابس والتمر حار رطب ففي كل منهما إصلاح للآخر وليس كذلك البسر مع التمر فإن كل واحد منهما حار وإن كانت حرارة التمر أكثر ولا ينبغي من جهة الطب الجمع بين حارين أو باردين كما تقدم وفي هذا الحديث : التنبيه على صحة أصل صناعة الطب ومراعاة التدبير الذي يصلح في دفع كيفيات الأغذية والأدوية بعضها ببعض ومراعاة القانون الطبي الذي تحفظ به الصحة
وفي البلح برودة ويبوسة وهو ينفع الفم واللثة والمعدة وهو رديء للصدر والرئة بالخشونة التي فيه بطيء في المعدة يسير التغذية وهو للنخلة كالحصرم لشجرة العنب وهما جميعا يولدان رياحا وقراقر ونفخا ولا سيما إذا شرب عليهما الماء ودفع مضرتهما بالتمر أو بالعسل والزبد
بسر : ثبت في الصحيح : أن أبا الهيثم بن التيهان لما ضافه النبي صلى الله عليه و سلم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما جاءهم بعذق - وهو من النخلة كالعنقود من العنب - فقال له : [ هلا انتقيت لنا من رطبه فقال : أحببت أن تنتقوا من بسره ورطبه ]
البسر : حار يابس ويبسه أكثر من حره ينشف الرطوبة ويدبغ المعدة ويحبس البطن وينفع اللثة والفم وأنفعه ما كان هشا وحلوا وكثرة أكله وأكل البلح يحدث السدد في الأحشاء
بيض : ذكر البيهقي في شعب الإيمان أثرا مرفوعا : أن نبيا من الأنبياء شكى إلى الله سبحانه الضعف فأمره بأكل البيض وفي ثبوته نظر ويختار من البيض الحديث على العتيق وبيض الدجاج على سائر بيض الطير وهو معتدل يميل إلى البرودة قليلا
قال صاحب القانون : ومحه : حار رطب يولد دما صحيحا محمودا ويغذي غذاءا يسيرا ويسرع الإنحدار من المعدة إذا كان رخوا وقال غيره : مح البيض : مسكن للألم مملس للحلق وقصبة الرئة نافع للحلق والسعال وقروح الرئة والكلى والمثانة مذهب للخشونة لا سيما إذا أخذ بدهن اللوز الحلو ومنضج لما في الصدر ملين له مسهل لخشونة الحلق وبياضه إذا قطر في العين الوارمة ورما حارا برده وسكن الوجع وإذا لطخ به حرق النار أو ما يعرض له لم يدعه يتنفط وإذا لطخ به الوجع منع الإحتراق العارض من الشمس واذا خلط بالكندر ولطخ على الجبهة نفع من النزلة
وذكره صاحب القانون في الأدوية القلبية ثم قال : وهو - وإن لم يكن من الأدوية المطلقة - فإنه مما له مدخل في تقوية القلب جدا أعني الصفرة وهي تجمع ثلاثة معان : سرعة الإستحالة إلى الدم وقلة الفضلة وكون الدم المتولد منه مجانسا للدم الذي يغذو القلب خفيفا مندفعا إليه بسرعة ولذلك هو أوفق ما يتلافى به عادية الأمراض المحللة لجوهر الروح
بصل : روى أبو داود في سننه : عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت عن البصل فقالت : إن آخر طعام أكله رسول الله صلى الله عليه و سلم كان فيه بصل
وثبت عنه في الصحيحين أنه منع آكله من دخول المسجد
والبصل : حار في الثالثة وفيه رطوبة فضلية ينفع من تغير المياه ويدفع ريح السموم ويفتق الشهوة ويقوي المعدة ويهيج الباه ويزيد في المني ويحسن اللون ويقطع البلغم ويجلو المعدة وبزره يذهب البهق ويدلك به حول داء الثعلب فينفع جدا وهو بالملح يقلع الثآليل وإذا شمه من شرب دواء مسهلا منعه من القئ والغثيان وأذهب رائحة ذلك الدواء وإذا استعط بمائه نقى الرأس ويقطر في الأذن لثقل السمع والطنين والقيح والماء الحادث في الأذنين وينفع من الماء النازل في العينين اكتحالا يكتحل ببزره مع العسل لبياض العين والمطبوخ منه كثير الغذاء ينفع من اليرقان والسعال وخشونة الصدر ويدر البول ويلين الطبع وينفع من عضة الكلب غير الكلب إذا نطل عيها ماؤه بملح وسذاب وإذا احتمل فتح أفواه البواسير
وأما ضرره : فإنه يورث الشقيقة ويصدع الرأس ويولد أرياحا ويظلم البصر وكثرة أكله تورث النسيان ويفسد العقل ويغير رائحة الفم والنكهة ويؤذي الجليس والملائكة وإماتته طبخا تذهب بهذه المضرات منه
وفي السنن : أنه صلى الله عليه و سلم أمر آكله وآكل الثوم أن يميتهما طبخا ويذهب رائحته مضغ ورق السذاب عليه
باذنجان : في الحديث الموضوع المختلق على رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ الباذنجان لما أكل له ] وهذا الكلام مما يستقبح نسبته إلى آحاد العقلاء فضلا عن الانبياء وبعد : فهو نوعان : أبيض وأسود وفيه خلاف هل هو بارد أو حار ؟ والصحيح : أنه حار وهو مولد للسوداء والبواسير والسدد والسرطان والجذام ويفسد اللون ويسوده ويضر بنتن الفم والأبيض منه المستطيل عار من ذلك (4/263)
حرف التاء
تمر : ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه و سلم : [ من تصبح بسبع تمرات وفي لفظ : من تمر العالية لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر ] وثبت عنه أنه قال : [ بيت لا تمر فيه جياع أهله ] وثبت عنه أكل التمر بالزبد وأكل التمر بالخبز وأكله مفردا
وهو حار في الثانية وهل هو رطب في الأولى أو يابس فيها ؟ على قولين وهو مقو للكبد ملين للطبع يزيد في الباه ولا سيما مع حب الصنوبر ويبرئ من خشونة الحلق ومن لم يعتده كأهل البلاد الباردة فإنه يورث لهم السدد ويؤذي الأسنان ويهيج الصداع ودفع ضرره باللوز والخشخاش وهو من أكثر الثمار تغذية للبدن بما فيه من الجوهر الحار الرطب وأكله على الريق يقتل الدود فإنه مع حرارته فيه قوة ترياقية فإذا أديم استعماله على الريق خفف مادة الدود وأضعفه وقلله أو قتله وهو فاكهة وغذاء ودواء وشراب وحلوى
تين : لما لم يكن التين بأرض الحجاز والمدينة لم يأت له ذكر في السنة فإن أرضه تنافي أرض النخل ولكن قد أقسم الله به في كتابه لكثرة منافعه وفوائده والصحيح : أن المقسم به : هو التين المعروف
وهو حار وفي رطوبته ويبوسته قولان وأجوده : الأبيض الناضج القشر يجلو رمل الكلى والمثانة ويؤمن من السموم وهو أغذى من جميع الفواكه وينفع خشونة الحلق والصدر وقصبة الرئة ويغسل الكبد والطحال وينقي الخلط البلغمي من المعدة ويغذو البدن غذاء جيدا إلا أنه يولد القمل إذا أكثر منه جدا
ويابسه يغذو وينفع العصب وهو مع الجوز واللوز محمود قال جالينوس : وإذا أكل مع الجوز والسذاب قبل أخذ السم القاتل نفع وحفظ من الضرر
ويذكر عن أبي الدرداء : أهدي إلى النبي صلى الله عليه و سلم طبق من تين فقال : [ كلوا و أكل منه وقال : لو قلت : إن فاكهة نزلت من الجنة قلت : هذه لأن فاكهة الجنة بلا عجم فكلوا منها فإنها تقطع البواسير وتنفع من النقرس ] وفي ثبوت هذا نظر
واللحم منه أجود ويعطش المحرورين ويسكن العطش الكائن عن البلغم المالح وينفع السعال المزمن ويدر البول ويفتح سدد الكبد والطحال ويوافق الكلى والمثانة ولأكله على الريق منفعة عجيبة في تفتيح مجاري الغذاء وخصوصا باللوز والجوز وأكله مع الأغذية الغليظة رديء جدا والتوت الأبيض قريب منه لكنه أقل تغذية وأضر بالمعدة
تلبينة : قد تقدم إنها ماء الشعير المطحون وذكرنا منافعها وأنها أنفع لأهل الحجاز من ماء الشعير الصحيح (4/267)
حرف الثاء
ثلج : ثبت في الصحيح : عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد ]
وفي هذا الحديث من الفقه : أن الداء يداوى بضده فان في الخطايا من الحرارة والحريق ما يضاده الثلج والبرد والماء البارد ولا يقال : إن الماء الحار أبلغ في إزالة الوسخ لأن في الماء البارد من تصليب الجسم وتقويته ما ليس في الحار والخطايا توجب أثرين : التدنيس والإرخاء فالمطلوب مداواتها بما ينظف القلب ويصلبه فذكر الماء البارد والثلج والبرد إشارة إلى هذين الأمرين
وبعد فالثلج بارد على الأصح وغلط من قال : حار وشبهته تولد الحيوان فيه وهذا لا يدل على حرارته فإنه يتولد في الفواكه الباردة وفي الخل وأما تعطيشه فلتهييجه الحرارة لا لحرارته في نفسه ويضر المعدة والعصب وإذا كان وجع الأسنان من حرارة مفرطة سكنها
ثوم : هو قريب من البصل وفي الحديث : [ من أكلهما فليمتهما طبخا ] وأهدي إليه طعام فيه ثوم فأرسل به إلى أبي أيوب الأنصاري فقال : يا رسول الله تكرهه وترسل به إلي ؟ فقال : [ إني أناجي من لا تناجي ]
وبعد فهو حار يابس في الرابعة يسخن تسخينا قويا ويجفف تجفيفا بالغا نافع للمبرودين ولمن مزاجه بلغمي ولمن أشرف على الوقوع في الفالج وهو مجفف للمني مفتح للسدد محلل للرياح الغليظة هاضم للطعام قاطع للعطش مطلق للبطن مدر للبول يقوم في لسع الهوام وجميع الأورام الباردة مقام الترياق وإذا دق وعمل منه ضماد على نهش الحيات أو على لسع العقارب نفعها وجذب السموم منها ويسخن البدن ويزيد في حرارته ويقطع البلغم ويحلل النفخ ويصفي الحلق ويحفظ صحة أكثر الأبدان وينفع من تغير المياه والسعال المزمن ويؤكل نيئا ومطبوخا ومشويا وينفع من وجع الصدر من البرد ويخرج العلق من الحلق وإذا دق مع الخل والملح والعسل ثم وضع على الضرس المتأكل فتته وأسقطه وعلى الضرس الوجع سكن وجعه وإن دق منه مقدار درهمين وأخذ مع ماء العسل أخرج البلغم والدود وإذا طلي بالعسل على البهق نفع
ومن مضاره : أنه يصدع ويضر الدماغ والعينين ويضعف البصر والباه ويعطش ويهيج الصفراء ويجيف رائحة الفم ويذهب رائحته أن يمضع عليه ورق السذاب
ثريد : ثبت في الصحيحين عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ]
والثريد وإن كان مركبا فإنه مركب من خبز ولحم فالخبز أفضل الأقوات واللحم سيد الإدام فإذا اجتمعا لم يكن بعدهما غاية
وتنازع الناس أيهما أفضل ؟ والصواب أن الحاجة إلى الخبز أكثر وأعم واللحم أجل وأفضل وهو أشبه بجوهر البدن من كل ما عداه وهو طعام أهل الجنة وقد قال تعالى لمن طلب البقل والقثاء والفوم والعدس والبصل : { أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير } [ البقرة : 62 ] وكثير من السلف على أن الفوم الحنطة وعلى هذا فالآية نص على أن اللحم خير من الحنطة (4/269)
حرف الجيم
جمار : قلب النخل ثبت في الصحيحين : عن عبد الله بن عمر قال : بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه و سلم جلوس إذ أتي بجمار نخلة فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن من الشجر شجرة مثل الرجل المسلم لا يسقط ورقها الحديث ] والجمار : بارد يابس في الأولى يختم القروح وينفع من نفث الدم واستطلاق البطن وغلبة المرة الصفراء وثائرة الدم وليس برديء الكيموس ويغذو غذاء يسيرا وهو بطيء الهضم وشجرته كلها منافع ولهذا مثلها النبي صلى الله عليه و سلم بالرجل المسلم لكثرة خيره ومنافعه
جبن : في السنن عن عبد الله بن عمر قال : [ أتي النبي صلى الله عليه و سلم بجبنة في تبوك فدعا بسكين وسمى وقطع ] رواه أبو داود وأكله الصحابة رضي الله عنهم بالشام والعراق والرطب منه غير المملوح جيد للمعدة هين السلوك في الأعضاء يزيد في اللحم ويلين البطن تليينا معتدلا والمملوح أقل غذاء من الرطب وهو رديء للمعدة مؤذ للأمعاء والعتيق يعقل البطن وكذا المشوي وينفع القروح ويمنع الإسهال
وهو بارد رطب فإن استعمل مشويا كان أصلح لمزاجه فإن النار تصلحه وتعدله وتلطف جوهره وتطيب طعمه ورائحته والعتيق المالح حار يابس وشيه يصلحه أيضا بتلطيف جوهره وكسر حرافته لما تجذبه النار منه من الأجزاء الحارة اليابسة المناسبة لها والمملح منه يهزل ويولد حصاة الكلى والمثانة وهو رديء للمعدة وخلطه بالملطفات أردأ بسبب تنفيذها له إلى المعدة (4/271)
حرف الحاء
حناء : قد تقدمت الأحاديث في فضله وذكر منافعه فأغنى عن إعادته
حبة السوداء : ثبت في الصحيحين : من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ عليكم بهذه الحبة السوداء فإن فيها شفاء من كل داء إلا السام ] والسام : الموت
الحبة السوداء : هي الشونيز في لغة الفرس وهي الكمون الأسود وتسمى الكمون الهندي قال الحربي عن الحسن : إنها الخردل وحكى الهروي : أنها الحبة الخضراء ثمرة البطم وكلاهما وهم والصواب : أنها الشونيز
وهي كثيرة المنافع جدا وقوله : [ شفاء من كل داء ] مثل قوله تعالى : { تدمر كل شيء بأمر ربها } [ الأحقاف : 25 ] أي : كل شئ يقبل التدمير ونظائره وهي نافعة من جميع الأمراض الباردة وتدخل في الأمراض الحارة اليابسة بالعرض فتوصل قوى الأدوية الباردة الرطبة إليها بسرعة تنفيذها إذا أخذ يسيرها
وقد نص صاحب القانون وغيره على الزعفران في قرص الكافور لسرعة تنفيذه وإيصاله قوته وله نظائر يعرفها حذاق الصناعة ولا تستبعد منفعة الحار في أمراض حارة بالخاصية فإنك تجد ذلك في أدوية كثيرة منها : الأنزروت وما يركب معه من أدوية الرمد كالسكر وغيره من المفردات الحارة والرمد ورم حار باتفاق الأطباء وكذلك نفع الكبريت الحار جدا من الجرب
والشونيز حار يابس في الثالثة مذهب للنفخ مخرح لحب القرع نافع من البرص وحمى الربع : والبلغمية مفتح للسدد ومحلل للرياح مجفف لبلة المعدة ورطوبتها وإن دق وعجن بالعسل وشرب بالماء الحار أذاب الحصاة التي تكون في الكليتين والمثانة ويدر البول والحيض واللبن إذا أديم شربه أياما وان سخن بالخل وطلي على البطن قتل حب القرع فإن عجن بماء الحنظل الرطب أو المطبوخ كان فعله في إخراج الدود أقوى ويجلو ويقطع ويحلل ويشفي من الزكام البارد إذا دق وصير في خرقة واشتم دائما أذهبه
ودهنه نافع لداء الحية ومن الثآليل والخيلان وإذا شرب منه مثقال بماء نفعع من البهر وضيق النفس والضماد به ينفع من الصداع البارد واذا نقع منه سبع حبات عددا في لبن امرأة وسعط به صاحب اليرقان نفعه نفعا بليغا
وإذا طبخ بخل وتمضمض به نفع من وجع الأسنان عن برد وإذا استعط به مسحوقا نفع من ابتداء الماء العارض في العين وإن ضمد به مع الخل قلع البثور والجرب المتقرح وحلل الأورام البلغمية المزمنة والأورام الصلبة وينفع من اللقوة إذا تسعط بدهنه وإذا شرب منه مقدار نصف مثقال إلى مثقال نفع من لسع الرتيلاء وإن سحق ناعما وخلط بدهن الحبة الخضراء وقطر منه في الأذن ثلاث قطرات نفع من البرد العارض فيها والريح والسدد
وإن قلي ثم دق ناعما ثم نقع في زيت وقطر في الأنف ثلاث قطرات أو أربع نفع من الزكام العارض معه عطاس كثير
وإذا أحرق وخلط بشمع مذاب بدهن السوسن أو دهن الحناء وطلي به القروح الخارجة من الساقين بعد غسلها بالخل نفعها وأزال القروح
وإذا سحق بخل وطلي به البرص والبهق الأسود والحزاز الغليظ نفعها وأبرأها
وإذا سحق ناعما واستف منه كل يوم درهمين بماء بارد من عضه كلب كلب قبل أن يفرغ من الماء نفعه نفعا بليغا وأمن على نفسه من الهلاك وإذا استعط بدهنه نفع من الفالج والكزاز وقطع موادهما وإذا دخن به طرد الهوام
وإذا أذيب الأنزروت بماء ولطخ على داخل الحلقة ثم ذر عليها الشونيز كان من الذرورات الجيدة العجيبة النفع من البواسير ومنافعه أضعاف ما ذكرنا والشربة منه درهمان وزعم قوم أن الإكثار منه قاتل
حرير : قد تقدم أن النبي صلى الله عليه و سلم أباحه للزبير ولعبد الرحمن بن عوف من حكة كانت بهما وتقدم منافعه ومزاجه فلا حاجة إلى إعادته
حرف : قال أبو حنيفة الدينوري : هذا هو الحب الذي يتداوى به وهو الثفاء الذي جاء فيه الخبر عن النبي صلى الله عليه و سلم ونباته يقال له : الحرف وتسميه العامة : الرشاد وقال أبو عبيد : الثفاء : هو الحرف
قلت : والحديث الذي أشار إليه ما رواه أبو عبيد وغيره من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ ماذا في الأمرين من الشفاء ؟ الصبر والثفاء ] رواه أبو داود في المراسيل
وقوته في الحرارة واليبوسة في الدرجة الثالثة وهو يسخن ويلين البطن ويخرج الدود وحب القرع ويحلل أورام الطحال ويحرك شهوة الجماع ويجلو الجرب المتقرح والقوباء
وإدا ضمد به مع العسل حلل ورم الطحال وإذا طبخ مع الحناء أخرج الفضول التي في الصدر وشربه ينفع من نهش الهوام ولسعها وإذا دخن به في موضع طرد الهوام عنه ويمسك الشعر المتساقط وإذا خلط بسويق الشعير والخل وتضمد به نفع من عرق النسا وحلل الأورام الحارة في آخرها
وإذا تضمد به مع الماء والملح أنضج الدماميل وينفع من الإسترخاء في جميع الاعضاء ويزيد في الباه ويشهي الطعام وينفع الربو وعسر التنفس وغلظ الطحال وينقي الرئة ويدر الطمث وينفع من عرق النساء ووجع حق الورك مما يخرج من الفضول إذا شرب أو احتقن به ويجلو ما في الصدر والرئة من البلغم اللزج
وإن شرب منه بعد سحقه وزن خمسة دراهم بالماء الحار أسهل الطبيعة وحلل الرياح ونفع من وجع القولنج البارد السبب وإذا سحق وشرب نفع من البرص
وإن لطخ عليه وعلى البهق الأبيض بالخل نفع منهما وينفع من الصداع الحادث من البرد والبلغم وإن قلي وشرب عقل الطبع لا سيما إذا لم يسحق لتحلل لزوجته بالقلي وإذا غسل بمائه الرأس نشاه من الاوساخ والرطوبات اللزجة
قال جالينوس : قوته مثل قوة بزر الخردل ولذلك قد يسخن به أوجاع الورك المعروفة بالنسا وأوجاع الرأس وكل واحد من العلل التي تحتاج إلى التسخين كما يسخن بزر الخردل وقد يخلط أيضا في أدوية يسقاها أصحاب الربو من طريق أن الأمر فيه معلوم أنه يقطع الأخلاط الغليظة تقطيعا قويا كما يقطعها بزر الخردل لأنه شبيه به في كل شئ
حلبة : يذكر عن النبي صلى الله عليه و سلم [ أنه عاد سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه بمكة فقال : ادعوا له طبيبا فدعي الحارث بن كلدة فنظر إليه فقال : ليس عليه بأس فاتخذوا له فريقة وهي الحلبة مع تمر عجوة رطب يطبخان فيحساهما ففعل ذلك فبرئ ]
وقوة الحلبة من الحرارة في الدرجة الثانية ومن اليبوسة في الأولى وإذا طبخت بالماء لينت الحلق والصدر والبطن وتسكن السعال والخشونة والربو وعسر النفس وتزيد في الباه وهي جيدة للريح والبلغم والبواسير محدرة الكيموسات المرتبكة في الأمعاء وتحلل البلغم اللزج من الصدر وتنفع من الدبيلات وأمراض الرئة وتستعمل لهذه الأدواء في الأحشاء مع السمن والفانيذ
وإذا شربت مع وزن خمسة دراهم فوة أدرت الحيض وإذا طبخت وغسل بها الشعر جعدته وأذهبت الحزاز
ودقيقها إذا خلط بالنطرون والخل وضمد به حلل ورم الطحال وقد تجلس المرأة في الماء الذي طبخت فيه الحلبة فتنتفع به من وجع الرحم العارض من ورم فيه وإذا ضمد به الأورام الصلبة القليلة الحرارة نفعتها وحللتها وإذا شرب ماؤها نفع من المغص العارض من الرياح وأزلق الأمعاء
وإذا أكلت مطبوخة بالتمر أو العسل أو التين على الريق حللت البلغم اللزج العارض في الصدر والمعدة ونفعت من السعال المتطاول منه
وهي نافعة من الحصر مطلقة للبطن وإذا وضعت على الظفر المتشنج أصلحته ودهنها ينفع إذا خلط بالشمع من الشقاق العارض من البرد ومنافعها أضعاف ما ذكرنا
ويذكر عن القاسم بن عبد الرحمن أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ استشفوا بالحلبة ] وقال بعض الأطباء : لو علم الناس منافعها لاشتروها بوزنها ذهبا (4/272)
حرف الخاء
خبز : ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفؤها الجبار كما يكفؤ أحدكم خبزته في السفر نزلا لأهل الجنة ]
وروى أبو داود في سننه : من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان أحب الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم الثريد من الخبز والثريد من الحيس
وروى أبو داود في سننه أيضا من حديث ابن عمر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ وددت أن عندي خبزة بيضاء من برة سمراء ملبقة بسمن ولبن فقام رجل من القوم فاتخذه فجاء به فقال : في أي شئ كان هذا السمن ؟ فقال : في عكة ضب فقال : ارفعه ]
وذكر البيهقي من حديث عائشة رضي الله عنها ترفعه : [ أكرموا الخبز ومن كرامته أن لا ينتظر به الإدام ] والموقوف أشبه فلا يثبت رفعه ولا رفع ما قبله
وأما حديث النهى عن قطع الخبز بالسكين فباطل لا أصل له عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وإنما المروي : النهي عن قطع اللحم بالسكين ولا يصح أيضا
قال مهنا : سألت أحمد عن حديث أبي معشر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا تقطعوا اللحم بالسكين فإن ذلك من فعل الأعاجم ] فقال : ليس بصحيح ولا يعرف هذا وحديث عمرو بن أمية خلاف هذا وحديث المغيرة - يعني بحديث عمرو بن أمية - : كان النبي صلى الله عليه و سلم يحتز من لحم الشاة وبحديث المغيرة أنه لما أضافه أمر بجنب فشوي ثم أخذ الشفرة فجعل يحز (4/278)
فصل
وأحمد أنواع الخبز أجودها اختمارا وعجنا ثم خبز التنور أجود أصنافه وبعده خبز الفرن ثم خبز الملة في المرتبة الثالثة وأجوده ما اتخذ من الحنطة الحديثة
وأكثر أنواعه تغذية خبز السميد وهو أبطؤها هضما لقلة نخالته ويتلوه خبز الحوارى ثم الخشكار
وأحمد أوقات أكله في آخر اليوم الذي خبز فيه واللين منه أكثر تليينا وغذاء وترطيبا وأسرع انحدارا واليابس بخلافه
ومزاج الخبز من البر حار في وسط الدرجة الثانية وقريب من الإعتدال في الرطوبة واليبوسة واليبس يغلب على ما جففته النار منه والرطوبة على ضده
وفي خبز الحنطة خاصية وهو أنه يسمن سريعا وخبز القطائف يولد خلطا غليظا والفتيت نفاخ بطيء الهضم والمعمول باللبن مسدد كثير الغذاء بطىء الإنحدار
وخبز الشعير بارد يابس في الأولى وهو أقل غذاء من خبز الحنطة
خل : روى مسلم في صحيحه : عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سأل أهله الإدام فقالوا : ما عندنا إلا خل فدعا به وجعل يأكل ويقول : [ نعم الإدام الخل نعم الإدام الخل ]
وفي سنن ابن ماجه عن أم سعد رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ نعم الإدام الخل اللهم بارك في الخل فإنه كان إدام الأنبياء قبلي ولم يفتقر بيت فيه الخل ]
الخل : مركب من الحرارة والبرودة أغلب عليه وهو يابس في الثالثة قوي التجفيف يمنع من انصباب المواد ويلطف الطبيعة وخل الخمر ينفع المعدة الصلبة ويقمع الصفراء ويدفع ضرر الأدوية القتالة ويحلل اللبن والدم إذا جمدا في الجوف وينفع الطحال ويدبغ المعدة ويعقل البطن ويقطع العطش ويمنع الورم حيث يريد أن يحدث ويعين على الهضم ويضاد البلغم ويلطف الأغذية الغليظة ويرق الدم
وإذا شرب بالملح نفع من أكل الفطر القتال وإذا احتسي قطع العلق المتعلق بأصل الحنك وإذا تمضمض به مسخنا نفع من وجع الأسنان وقوى اللثة
وهو نافع للداحس إذا طلي به والنملة والأورام الحارة وحرق النار وهو مشه للأكل مطيب للمعدة صالح للشباب وفي الصيف لسكان البلاد الحارة
خلال : فيه حديثان لا يثبتان أحدهما : يروى من حديث أبي أيوب الأنصاري يرفعه : [ يا حبذا المتخللون من الطعام إنه ليس شئ أشد على الملك من بقية تبقى في الفم من الطعام ] وفيه واصل بن السائب قال البخاري والرازي : منكر الحديث وقال النسائي والأزدي : متروك الحديث
الثاني : يروى من حديث ابن عباس قال عبد الله بن أحمد : سألت أبي عن شيخ روى عنه صالح الوحاظي يقال له : محمد بن عبد الملك الأنصاري حدثنا عطاء عن ابن عباس قال : نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يتخلل بالليط والآس وقال : [ إنهما يسقيان عروق الجذام ] فقال أبي : رأيت محمد بن عبد الملك - وكان أعمى - يضع الحديث ويكذب
وبعد : فالخلال نافع للثة والأسنان حافظ لصحتها نافع من تغير النكهة وأجوده ما اتخذ من عيدان الأخلة وخشب الزيتون والخلاف والتخلل بالقصب والآس والريحان والباذروج مضر (4/279)
حرف الدال
دهن : روى الترمذي في كتاب الشمائل من حديث أنس بن مالك رضي الله عنهما قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يكثر دهن رأسه وتسريح لحيته ويكثر القناع كأن ثوبه ثوب زيات
الدهن يسد مسام البدن ويمنع ما يتحلل منه وإذا استعمل به بعد الإغتسال بالماء الحار حسن البدن ورطبه وإن دهن به الشعر حسنه وطوله ونفع من الحصبة ودفع أكثر الآفات عنه
وفي الترمذي : من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا : [ كلوا الزيت وادهنوا به ] وسيأتي إن شاء الله تعالى
والدهن في البلاد الحارة كالحجاز ونحوه من آكد أسباب حفظ الصحة وإصلاح البدن وهو كالضروري لهم وأما البلاد الباردة فلا يحتاج إليه أهلها والإلحاح به في الرأس فيه خطر بالبصر
وأنفع الأدهان البسيطة : الزيت ثم السمن ثم الشيرج
وأما المركبة : فمنها بارد رطب كدهن البنفسج ينفع من الصداع الحار وينوم أصحاب السهر ويرطب الدماغ وينفع من الشقاق وغلبة اليبس والجفاف ويطلى به الجرب والحكة اليابسة فينفعها ويسهل حركة المفاصل ويصلح لأصحاب الأمزجة الحارة في زمن الصيف وفيه حديثان باطلان موضوعان على رسول الله صلى الله عليه و سلم أحدهما : [ فضل دهن البنفسج على سائر الأدهان كفضلي على سائر الناس ]
والثاني : [ فضل دهن البنفسج على سائر الأدهان كفضل الإسلام على سائر الأديان ]
ومنها : حار رطب كدهن البان ولس دهن زهره بل دهن يستخرج من حب أبيض أغبر نحو الفستق كثير الدهنية والدسم ينفع من صلابة العصب ويلينه وينفع من البرش والنمش والكلف والبهق ويسهل بلغما غليظا ويلين الأوتار اليابسة ويسخن العصب وقد روي فيه حديث باطل مختلق لا أصل له : [ ادهنوا بالبان فإنه أحظى لكم عند نسائكم ] ومن منافعه أنه يجلو الأسنان ويكسبها بهجة وينقيها من الصدأ ومن مسح به وجهه وأطرافه لم يصبه حصى ولا شقاق وإذا دهن به حقوه ومذاكيره وما والاها نفع من برد الكليتين وتقطير البول (4/282)
حرف الذال
ذريرة : ثبت في الصحيحين : عن عائشة رضي الله عنها قالت : طيبت رسول الله صلى الله عليه و سلم بيدي بذريرة في حجة الوداع لحله وإحرامه تقدم الكلام في الذريرة ومنافعها وما هيتها فلا حاجة لإعادته
ذباب : تقدم في حديث أبي هريرة المتفق عليه في أمره صلى الله عليه و سلم بغمس الذباب في الطعام إذا سقط فيه لأجل الشفاء الذي في جناحه وهو كالترياق للسم الذي في الجناح الآخر وذكرنا منافع الذباب هناك
ذهب : روى أبو داود والترمذي : [ أن النبي صلى الله عليه و سلم رخص لعرفجة بن أسعد لما قطع أنفه يوم الكلاب واتخذ أنفا من ورق فأنتن عليه فأمره النبي صلى الله عليه و سلم أن يتخذ أنفا من ذهب ] وليس لعرفجة عندهم غير هذا الحديث الواحد
الذهب : زينة الدنيا وطلسم الوجود ومفرح النفوس ومقوي الظهور وسر الله في أرضه ومزاجه في سائر الكيفيات وفيه حرارة لطيفة تدخل في سائر المعجونات اللطيفة والمفرحات وهو أعدل المعادن على الإطلاق وأشرفها
ومن خواصه أنه إذا دفن في الأرض لم يضره التراب ولم ينقصه شيئا وبرادته إذا خلطت بالأدوية نفعت من ضعف القلب والرجفان العارض من السوداء وينفع من حديث النفس والحزن والغم والفزع والعشق ويسمن البدن ويقويه ويذهب الصفار ويحسن اللون وينفع من الجذام وجميع الأوجاع والأمراض السوداوية ويدخل بخاصية في أدوية داء الثعلب وداء الحية شربا وطلاء ويجلو العين ويقويها وينفع من كثير من أمراضها ويقوي جميع الأعضاء
وإمساكه في الفم يزيل البخر ومن كان به مرض يحتاج إلى الكي وكوي به لم يتنفط موضعه ويبرأ سريعا وإن اتخذ منه ميلا واكتحل به قوى العين وجلاها وإذا اتخذ منه خاتم فصه منه وأحمي وكوي به قوادم أجنحة الحمام ألفت أبراجها ولم تنتقل عنها
وله خاصية عجيبة في تقوية النفوس لأجلها أبيح في الحرب والسلاح منه ما أبيح وقد روى الترمذي من حديث مزيدة العصري رضي الله عنه قال : دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم الفتح وعلى سيفه ذهب وفضة
وهو معشوق النفوس التي متى ظفرت به سلاها عن غيره من محبوبات الدنيا قال تعالى : { زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث } [ آل عمران : 14 ]
وفي الصحيحين : عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ لو كان لابن آدم واد من ذهب لابتغى إليه ثانيا ولو كان له ثان لابتغى إليه ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب ]
هذا وإنه أعظم حائل بين الخليقة وبين فوزها الأكبر يوم معادها وأعظم شئ عصي الله به وبه قطعت الأرحام وأريقت الدماء واستحلت المحارم ومنعت الحقوق وتظالم العباد وهو المرغب في الدنيا وعاجلها والمزهد في الآخرة وما أعده الله لأوليائه فيها فكم أميت به من حق وأحيي به من باطل ونصر به ظالم وقهر به مظلوم وما أحسن ما قال فيه الحريري :
( تبا له من خادع مماذق ... أصفر ذي وجهين كالمنافق )
( يبدو بوصفين لعين الرامق ... زينة معشوق ولون عاشق )
( وحبه عند ذوي الحقائق ... يدعو إلى ارتكاب سخط الخالق )
( لولاه لم تقطع يمين السارق ... ولا بدت مظلمة من فاسق )
( ولا اشمأز باخل من طارق ... ولا اشتكى الممطول مطل العائق )
( ولا استعيذ من حسود راشق ... وشر ما فيه من الخلائق )
( أن ليس يغني عنك في المضايق ... إلا إذا فر فرار الآبق ) (4/283)
حرف الراء
رطب : قال الله تعالى لمريم : { وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا * فكلي واشربي وقري عينا } [ مريم : 25 ]
وفي الصحيحين عن عبد الله بن جعفر قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يأكل القثاء بالرطب
وفي سنن أبي داود عن أنس قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يفطر على رطبات قبل أن يصلي فإن لم تكن رطبات فتمرات فإن لم تكن تمرات حسا حسوات من ماء
طبع الرطب طبع المياه حار رطب يقوي المعدة الباردة ويوافقها ويزيد في الباه ويخصب البدن ويوافق أصحاب الأمزجة الباردة ويغذو غذاء كثيرا
وهو من أعظم الفاكهة موافقة لأهل المدينة وغيرها من البلاد التي هو فاكهتهم فيها وأنفعها للبدن وإن كان من لم يعتده يسرع التعفن في جسده ويتولد عنه دم ليس بمحمود ويحدث في إكثاره منه صداع وسوداء ويؤذي أسنانه وإصلاحه بالسكنجبين ونحوه
وفي فطر النبي صلى الله عليه و سلم من الصوم عليه أو على التمر أو الماء تدبير لطيف جدا فإن الصوم يخلي المعدة من الغذاء فلا تجد الكبد فيها ما تجذبه وترسله إلى القوى والأعضاء والحلو أسرع شئ وصولا إلى الكبد وأحبه إليها ولا سيما إن كان رطبا فيشتد قبولها له فتنتفع به هي والقوى فإن لم يكن فالتمر لحلاوته وتغذيته فإن لم يكن فحسوات الماء تطفئ لهيب المعدة وحرارة الصوم فتتنبه بعده للطعام وتأخذه بشهوة
ريحان : قال تعالى : { فأما إن كان من المقربين * فروح وريحان وجنة نعيم } [ الواقعة : 88 ] وقال تعالى : { والحب ذو العصف والريحان } [ الرحمن : 12 ]
وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ من عرض عليه ريحان فلا يرده فإنه خفيف المحمل طيب الرائحة ]
وفي سنن ابن ماجه : من حديث أسامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ ألا مشمر للجنة فإن الجنة لا خطر لها هي ورب الكعبة نور يتلألأ وريحانة تهتز وقصر مشيد ونهر مطرد وثمرة نضيجة وزوجة حسناء جميلة وحلل كثيرة في مقام أبدا في حبرة ونضرة في دور عالية سليمة بهتة قالوا : نعم يا رسول الله نحن المشمرون لها قال : قولوا : إن شاء الله تعالى فقال القوم : إن شاء الله ]
الريحان كل نبت طيب الريح فكل أهل بلد يخصونه بشئ من ذلك فأهل الغرب يخصونه بالآس وهو الذي يعرفه العرب من الريحان وأهل العراق والشام يخصونه بالحبق
فأما الآس فمزاجه بارد في الأولى يابس في الثانية وهو مع ذلك مركب من قوى متضادة والأكثر فيه الجوهر الأرضي البارد وفيه شئ حار لطيف وهو يجفف تجفيفا قويا وأجزاؤه متقاربة القوة وهي قوة قابضة حابسة من داخل وخارج معا
وهو قاطع للإسهال الصفراوي دافع للبخار الحار الرطب إذا شم مفرح للقلب تفريحا شديدا وشمه مانع للوباء وكذلك افتراشه في البيت
ويبرئ الأورام الحادثة في الحالبين إذا وضع عليها وإذا دق ورقه وهو غض وضرب بالخل ووضع على الرأس قطع الرعاف وإذا سحق ورقه اليابس وذر على القروح ذوات الرطوبة نفعها ويقوي الأعضاء الواعية إذا ضمد به وينفع داء الداحس وإذا ذر على البثور والقروح التي في اليدين والرجلين نفعها
وإذا دلك به البدن قطع العرق ونشف الرطوبات الفضلية وأذهب نتن الإبط وإذا جلس في طبيخه نفع من خراريج المقعدة والرحم ومن استرخاء المفاصل وإذا صب على كسور العظام التي لم تلتحم نفعها
ويجلو قشور الرأس وقروحه الرطبة وبثوره ويمسك الشعر المتساقط ويسوده وإذا دق ورقه وصب عليه ماء يسير وخلط به شئ من زيت أو دهن الورد وضمد به وافق القروح الرطبة والنملة والحمرة والأورام الحادة والشرى والبواسير
وحبه نافع من نفث الدم العارض في الصدر والرئة دابغ للمعدة وليس بضار للصدر ولا الرئة لجلاوته وخاصيته النفع من استطلاق البطن مع السعال وذلك نادر في الأدوية وهو مدر للبول نافع من لذغ المثانة وعض الرتيلاء ولسع العقارب والتخلل بعرقه مضر فليحذر
وأما الريحان الفارسي الذي يسمى الحبق فحار في أحد القولين ينفع شمه من الصداع الحار إذا رش عليه الماء ويبرد ويرطب بالعرض وبارد في الاخر وهل هو رطب أو يابس ؟ على قولين والصحيح : أن فيه من الطبائع الأربع ويجلب النوم وبزره حابس للإسهال الصفراوي ومسكن للمغص مقو للقلب نافع للأمراض السوداوية
رمان : قال تعالى : { فيهما فاكهة ونخل ورمان } [ الرحمن : 68 ] ويذكر عن ابن عباس موقوفا ومرفوعا : [ ما من رمان من رمانكم هذا إلا وهو ملقح بحبة من رمان الجنة ] والموقوف أشبه وذكر حرب وغيره عن علي أنه قال : كلوا الرمان بشحمه فإنه دباغ المعدة
حلو الرمان حار رطب جيد للمعدة مقو لها بما فيه من قبض لطيف نافع للحلق والصدر والرئة جيد للسعال ماؤه ملين للبطن يغذو البدن غذاءا فاضلا يسيرا سريع التحلل لرقته ولطافته ويولد حرارة يسيرة في المعدة وريحا ولذلك يعين على الباه ولا يصلح للمحمومين وله خاصية عجيبة إذا أكل بالخبز يمنعه من الفساد في المعدة
وحامضه بارد يابس قابض لطيف ينفع المعدة الملتهبة ويدر البول أكثر من غيره من الرمان ويسكن الصفراء ويقطع الإسهال ويمنع القئ ويلطف الفضول
ويطفئ حرارة الكبد ويقوي الأعضاء نافع من الخفقان الصفراوي والآلام العارضة للقلب وفم المعدة ويقوي المعدة ويدفع الفضول عنها ويطفئ المرة الصفراء والدم
وإذا استخرج ماؤه بشحمه وطبخ بيسير من العسل حتى يصير كالمرهم واكتحل به قطع الصفرة من العين ونقاها من الرطوبات الغليظة وإذا لطخ على اللثة نفع من الأكلة العارضة لها وإن استخرج ماؤهما بشحمهما أطلق البطن وأحدر الرطوبات العفنة المرية ونفع من حميات الغب المتطاولة
وأما الرمان المز فمتوسط طبعا وفعلا بين النوعين وهذا أميل إلى لطافة الحامض قليلا وحب الرمان مع العسل طلاء للداحس والقروح الخبيثة وأقماعه للجراحات قالوا : ومن ابتلع ثلاثة من جنبذ الرمان في كل سنة أمن من الرمد سنته كلها (4/286)
حرف الزاي
زيت : قال تعالى : { يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار } [ النور : 35 ] وفي الترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ كلوا الزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة ]
وللبيهقي وابن ماجه أيضا : عن ابن عمر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ائتدموا بالزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة ]
الزيت حار رطب في الأولى وغلط من قال : يابس والزيت بحسب زيتونه فالمعتصر من النضيج أعدله وأجوده ومن الفج فيه برودة ويبوسة ومن الزيتون الأحمر متوسط بين الزيتين ومن الأسود يسخن ويرطب باعتدال وينفع من السموم ويطلق البطن ويخرج الدود والعتيق منه أشد تسخينا وتحليلا وما استخرج منه بالماء فهو أقل حرارة وألطف وأبلغ في النفع وجميع أصنافه ملينة للبشرة وتبطئ الشيب
وماء الزيتون المالح يمنع من تنفط حرق النار ويشد اللثة وورقه ينفع من الحمرة والنملة والقروح الوسخة والشرى ويمنع العرق ومنافعه أضعاف ما ذكرنا
زبد : روى أبو داود في سننه عن ابني بسر السلميين رضي الله عنهما قالا : دخل علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقدمنا له زبدا وتمرا وكان يحب الزبد والتمر
الزبد حار رطب فيه منافع كثيرة منها الإنضاج والتحليل ويبرئ الأورام التي تكون إلى جانب الأذنين والحالبين وأورام الفم وسائر الأورام التي تعرض في أبدان النساء والصبيان إذا استعمل وحده وإذا لعق منه نفع في نفث الدم الذي يكون من الرئة وأنضج الأورام العارضة فيها
وهو ملين للطبيعة والعصب والأورام الصلبة العارضة من المرة السوداء والبلغم نافع من اليبس العارض في البدن واذا طلي به على منابت أسنان الطفل كان معينا على نباتها وطلوعها وهو نافع من السعال العارض من البرد واليبس ويذهب القوباء والخشونة التي في البدن ويلين الطبيعة ولكنه يضعف شهوة الطعام ويذهب بوخامته الحلو كالعسل والتمر وفي جمعه صلى الله عليه و سلم بين التمر وبينه من الحكمة إصلاح كل منهما بالآخر
زبيب : روي فيه حديثان لا يصحان أحدهما : [ نعم الطعام الزبيب يطيب النكهة ويذيب البلغم ] والثاني : [ نعم الطعام الزبيب يذهب النصب ويشد العصب ويطفئ الغضب ويصفي اللون ويطيب النكهة ] وهذا أيضا لا يصح فيه شئ عن رسول الله صلى الله عليه و سلم
وبعد : فأجود الزبيب ما كبر جسمه وسمن شحمه ولحمه ورق قشره ونزع عجمه وصغر حبه
وجرم الزبيب حار رطب في الأولى وحبه بارد يابس وهو كالعنب المتخذ منه : الحلو منه الحار والحامض قابض بارد والأبيض أشد قبضا من غيره واذا أكل لحمه وافق قصبة الرئة ونفع من السعال ووجع الكلى والمثانة ويقوي المعدة ويلين البطن
والحلو اللحم أكثر غذاء من العنب وأقل غذاء من التين اليابس وله قوة منضجة هاضمة قابضة محللة باعتدال وهو بالجملة يقوي المعدة والكبد والطحال نافع من وجع الحلق والصدر والرئة والكلى والمثانة وأعدله أن يؤكل بغير عجمه
وهو يغذي غذاء صالحا ولا يسدد كما يفعل التمر وإذا أكل منه بعجمه كان أكثر نفعا للمعدة والكبد والطحال وإذا لصق لحمه على الأظافير المتحركة
أسرع قلعها والحلو منه وما لا عجم له نافع لأصحاب الرطوبات والبلغم وهو يخصب الكبد وينفعها بخاصيه
وفيه نفع للحفظ : قال الزهري : من أحب أن يحفظ الحديث فليأكل الزبيب وكان المنصور يذكر عن جده عبد الله بن عباس : عجمه داء ولحمه دواء
زنجبيل : قال تعالى : { ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا } [ الإنسان : 17 ] وذكر أبو نعيم في كتاب الطب النبوي من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : أهدى ملك الروم إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم جرة زنجبيل فأطعم كل إنسان قطعة وأطعمني قطعة
الزنجبيل حار في الثانية رطب في الأولى مسخن معين على هضم الطعام ملين للبطن تليينا معتدلا نافع من سدد الكبد العارضة عن البرد والرطوبة ومن ظلمة البصر الحادثة عن الرطوبة أكلا واكتحالا معين على الجماع وهو محلل للرياح الغليظة الحادثة في الأمعاء والمعدة
وبالجملة فهو صالح للكبد والمعدة الباردتي المزاج وإذا أخذ منه مع السكر وزن درهمين بالماء الحار أسهل فضولا لزجة لعابية ويقع في المعجونات التي تحلل البلغم وتذيبه
والمزي منه حار يابس يهيج الجماع ويزيد في المني ويسخن المعدة والكبد ويعين على الإستمراء وينشف البلغم الغالب على البدن ويزيد في الحفظ ويوافق برد الكبد والمعدة ويزيل بلتها الحادثة عن أكل الفاكهة ويطيب النكهة ويدفع به ضرر الأطعمة الغليظة الباردة (4/290)
حرف السين
سنا : قد تقدم وتقدم سنوت أيضا وفيه سبعة أقوال أحدها : أنه العسل
الثاني : أنه رب عكة السمن يخرج خططا سوداء على السمن الثالث : أنه حب يشبه الكمون وليس بكمون الرابع : الكمون الكرماني الخامس : أنه الشبت السادس : أنه التمر السابع : أنه الرازيانج
سفرجل : روى ابن ماجه في سننه : من حديث إسماعيل بن محمد الطلحي عن نقيب بن حاجب عن أبي سعيد عن عبد الملك الزبيري عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه قال : دخلت على النبي صلى الله عليه و سلم وبيده سفرجلة فقال : [ دونكها يا طلحة فإنها تجم الفؤاد ]
ورواه النسائي من طريق آخر وقال : أتيت النبي صلى الله عليه و سلم وهو في جماعة من أصحابه وبيده سفرجلة يقلبها فلما جلست إليه دحا بها إلي ثم قال : [ دونكها أبا ذر فإنها تشد القلب وتطيب النفس وتذهب بطخاء الصدر ]
وقد روي في السفرجل أحاديث أخر هذا أمثلها ولا تصح
والسفرجل بارد يابس ويختلف في ذلك باختلاف طعمه وكله بارد قابض جيد للمعدة والحلو منه أقل برودة ويبسا وأميل إلى الإعتدال والحامض أشد قبضا ويبسا وبرودة وكله يسكن العطس والقئ ويدر البول ويعقل الطبع وينفع من قرحة الأمعاء ونفث الدم والهيضة وينفع من الغثيان ويمنع من تصاعد الأبخرة إذا استعمل بعد الطعام وحراقة أغصانه وورقه المغسولة كالتوتياء في فعلها
وهو قبل الطعام يقبض وبعده يلين الطبع ويسرع بانحدار الثفل والإكثار منه مضر بالعصب مولد للقولنج ويطفئ المرة الصفراء المتولدة في المعدة
وإن شوي كان أقل لخشونته وأخف وإذا قور وسطه ونزع حبه وجعل فيه العسل وطين جرمه بالعجين وأودع الرماد الحار نفع نفعا حسنا
وأجود ما أكل مشويا أو مطبوخا بالعسل وحبه ينفع من خشونة الحلق وقصبة الرئة وكثير من الأمراض ودهنه يمنع العرق ويقوي المعدة والمربى منه يقوي المعدة والكبد ويشد القلب ويطيب النفس
ومعنى تجم الفؤاد : تريحه وقيل : تفتحه وتوسعه من جمام الماء وهو اتساعه وكثرته والطخاء للقلب مثل الغيم على السماء قال أبو عبيد : الطخاء ثقل وغشي تقول : ما في السماء طخاء أي : سحاب وظلمة
سواك : في الصحيحين عنه صلى الله عليه و سلم : [ لو لا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة ]
وفيهما : أنه صلى الله عليه و سلم كان إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك
وفي صحيح البخاري تعليقا عنه صلى الله عليه و سلم : [ السواك مطهرة للفم مرضاة للرب ]
وفي صحيح مسلم : أنه صلى الله عليه و سلم كان إذا دخل بيته بدأ بالسواك
والأحاديث فيه كثيرة وصح عنه من حديث أنه استاك عند موته بسواك عبد الرحمن بن أبي بكر وصح عنه أنه قال : [ أكثرت عليكم في السواك ]
وأصلح ما اتخذ السواك من خشب الأراك ونحوه ولا ينبغي أن يؤخذ من شجرة مجهولة فربما كانت سما وينبغي القصد في استعماله فإن بالغ فيه فربما أذهب طلاوة الأسنان وصقالتها وهيأها لقبول الأبخرة المتصاعدة من المعدة والأوساخ ومتى استعمل باعتدال جلا الأسنان وقوى العمود وأطلق اللسان ومنع الحفر وطيب النكهة ونقى الدماغ وشهى الطعام
وأجود ما استعمل مبلولا بماء الورد ومن أنفعه أصول الجوز قال صاحب التيسير : زعموا أنه إذا استاك به المستاك كل خامس من الأيام نقى الرأس وصفى الحواس وأحد الذهن
وفي السواك عدة منافع : يطيب الفم ويشد اللثة ويقطع البلغم ويجلو البصر ويذهب بالحفر ويصح المعدة ويصفي الصوت ويعين على هضم الطعام ويسهل مجاري الكلام وينشط للقراءة والذكر والصلاة ويطرد النوم ويرضي الرب ويعجب الملائكة ويكثر الحسنات
ويستحب كل وقت ويتأكد عند الصلاة والوضوء والإنتباه من النوم وتغيير رائحة الفم ويستحب للمفطر والصائم في كل وقت لعموم الأحاديث فيه ولحاجة الصائم إليه ولأنه مرضاة للرب ومرضاته مطلوبة في الصوم أشد من طلبها في الفطر ولأنه مطهرة للفم والطهور للصائم من أفضل أعماله
وفي السنن : عن عامر بن ربيعة رضي الله عنه قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم ما لا أحصي يستاك وهو صائم وقال البخاري : قال ابن عمر : يستاك أول النهار وآخره
وأجمع الناس على أن الصائم يتمضمض وجوبا واستحبابا والمضمضة أبلغ من السواك وليس لله غرض في التقرب إليه بالرائحة الكريهة ولا هي من جنس ما شرع التعبد به وإنما ذكر طيب الخلوف عند الله يوم القيامة حثا منه على الصوم لا حثا على إبقاء الرائحة بل الصائم أحوج إلى السواك من المفطر
وأيضا فإن رضوان الله أكبر من استطابته لخلوف فم الصائم
وأيضا فإن محبته للسواك أعظم من محبته لبقاء خلوف فم الصائم
وأيضا فإن السواك لا يمنع طيب الخلوف الذي يزيله السواك عند الله يوم القيامة بل يأتي الصائم يوم القيامة وخلوف فمه أطيب من المسك علامة على صيامه ولو أزاله بالسواك كما أن الجريح يأتي يوم القيامة ولون دم جرحه لون الدم وريحه ريح المسك وهو مأمور بإزالته في الدنيا
وأيضا فإن الخلوف لا يزول بالسواك فإن سببه قائم وهو خلو المعدة عن الطعام وإنما يزول أثره وهو المنعقد على الأسنان واللثة
وأيضا فإن النبي صلى الله عليه و سلم علم أمته ما يستحب لهم في الصيام وما يكره لهم ولم يجعل السواك من القسم المكروه وهو يعلم أنهم يفعلونه وقد حضهم عليه بأبلغ ألفاظ العموم والشمول وهم يشاهدونه يستاك وهو صائم مرارا كثيرة تفوت الإحصاء ويعلم أنهم يقتدون به ولم يقل لهم يوما من الدهر : لا تستاكوا بعد الزوال وتأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع والله أعلم
سمن : روى محمد بن جرير الطبري بإسناده من حديث صهيب يرفعه : [ عليكم بألبان البقر فإنها شفاء وسمنها دواء ولحومها داء ] رواه عن أحمد بن الحسن الترمذي حدثنا محمد بن موسى النسائي حدثنا دفاع بن دغفل السدوسي عن عبد الحميد بن صيفي بن صهيب عن أبيه عن جده ولا يثبت ما في هذا الإسناد
والسمن حار رطب في الأولى وفيه جلاء يسير ولطافة وتفشية الأورام الحادثة من الأبدان الناعمة وهو أقوى من الزبد في الإنضاج والتليين وذكر جالينوس : أنه أبرأ به الأورام الحادثة في الأذن وفي الأرنبة وإذا دلك به موضع الأسنان نبتت سريعا وإذا خلط مع عسل ولوز مر جلا ما في الصدر والرئة والكيموسات الغليظة اللزجة إلا أنه ضار بالمعدة سيما إذا كان مزاج صاحبها بلغميا
وأما سمن البقر والمعز فإنه إذا شرب مع العسل نفع من شرب السم القاتل ومن لدغ الحيات والعقارب وفي كتاب ابن السني عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : لم يستشف الناس بشئ أفضل من السمن
سمك : روى الإمام أحمد بن حنبل وابن ماجه في سننه : من حديث عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ أحلت لنا ميتتان ودمان : السمك والجراد والكبد والطحال ]
أصناف السمك كثيرة وأجوده ما لذ طعمه وطاب ريحه وتوسط مقداره وكان رقيق القشر ولم يكن صلب اللحم ولا يابسه وكان في ماء عذب حار على الحصباء ويغتذي بالنبات لا الأقذار وأصلح أماكنه ما كان في نهر جيد الماء وكان يأوي إلى الأماكن الصخرية ثم الرملية والمياه الجارية العذبة التي لا قذر فيها ولا حمأة الكثيرة الإضطراب والتموج المكشوفة للشمس والرياح
والسمك البحري فاضل محمود لطيف والطري منه بارد رطب عسر الإنهضام يولد بلغما كثيرا إلا البحري وما جرى مجراه فانه يولد خلطا محمودا وهو يخصب البدن ويزيد في المني ويصلح الأمزجة الحارة
وأما المالح فأجوده ما كان قريب العهد بالتملح وهو حار يابس وكلما تقادم عهده ازداد حره ويبسه والسلور منه كثير اللزوجة ويسمى الجري واليهود لا تأكله وإذا أكل طريا كان ملينا للبطن وإذا ملح وعتق وأكل صفى قصبة الرئة وجود الصوت وإذا دق ووضع من خارج أخرج السلى والفضول من عمق البدن من طريق أن له قوة جاذبة
وماء ملح الجري المالح إذا جلس فيه من كانت به قرحة الأمعاء في ابتداء العلة وافقه بجذبه المواد إلى ظاهر البدن واذا احتقن به أبرأ من عرق النسا
وأبرد ما في السمك ما قرب من مؤخرها والطري السمين منه يخصب البدن لحمه وودكه وفي الصحيحين : من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : بعثنا النبي صلى الله عليه و سلم في ثلاثمائة راكب وأميرنا أبو عبيدة بن الجراح فأتينا الساحل فأصابنا جوع شديد حتى أكلنا الخبط فألقى لنا البحر حوتا يقال لها : عنبر فأكلنا منه نصف شهر وائتدمنا بودكه حتى ثابت أجسامنا فأخذ أبو جميدة ضلعا من أضلاعه وحمل رجلا على بعيره ونصبه فمر تحته
سلق : روى الترمذي وأبو داود عن أم المنذر قالت : [ دخل علي رسول الله صلى الله عليه و سلم ومعه علي رضي الله عنه ولنا دوال معلقة قالت : فجعل رسول الله صلى الله عليه و سلم يأكل وعلي معه يأكل فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : مه يا علي فإنك ناقه قالت : فجعلت لهم سلقا وشعيرا فقال النبي صلى الله عليه و سلم : يا علي فأصب من هذا فإنه أوفق لك ] قال الترمذي : حديث حسن غريب
السلق حار يابس في الأولى وقيل : رطب فيها وقيل : مركب منهما وفيه برودة ملطفة وتحليل وتفتيح وفي الأسود منه قبض ونفع من داء الثعلب والكلف والحزاز والثآليل إذا طلي بمائه ويقتل القمل ويطلى به القوباء مع العسل ويفتح سدد الكبد والطحال وأسوده يعقل البطن ولا سيما مع العدس وهما رديئان والأبيض : يلين مع العدس ويحقن بمائه للإسهال وينفع من القولنج مع المري والتوابل وهو قليل الغذاء رديء الكيموس يحرق الدم ويصلحه الخل والخردل والإكثار منه يولد القبض والنفخ (4/293)
حرف الشين
شونيز : هو الحبة السوداء وقد تقدم في حرف الحاء
شبرم : روى الترمذي وابن ماجه في سننهما : من حديث أسماء بن عميس قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :
[ بماذا كنت تستمشين ؟ قالت : بالشبرم قال : حار جار ]
الشبرم شجر صغير وكبير كقامة الرجل وأرجح له قضبان حمر ملمعة ببياض وفي رؤوس قضبانه جمة من ورق وله نور صغار أصفر إلى البياض يسقط ويخلفه مراود صغار فيها حب صغير مثل البطم قي قدره أحمر اللون ولها عروق عليها قشور حمر والمستعمل منه قشر عروقه ولبن قضبانه
وهو حار يابس في الدرجة الرابعة ويسهل السوداء والكيموسات الغليظة والماء الأصفر والبلغم مكرب مغث والإكثار منه يقتل وينبغي إذا استعمل أن ينقع في اللبن الحليب يوما وليلة ويغير عليها اللبن في اليوم مرتين أو ثلاثا ويخرج ويجفف في الظل ويخلط معه الورود والكثيراء ويشرب بماء العسل أو عصير العنب والشربة منه ما بين أربع دوانق على
حسب القوة قال حنين : أما لبن الشبرم فلا خير فيه ولا أرى شربه البتة فقد قتل به أطباء الطرقات كثيرا من الناس
شعير : روى ابن ماجه : من حديث عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا أخذ أحدا من أهله الوعك أمر بالحساء من الشعير فصنع ثم أمرهم فحسوا منه ثم يقول : [ إنه ليرتو فؤاد الحزين ويسرو فؤاد السقيم كما تسروا إحداكن الوسخ بالماء عن وجهها ] ومعنى يرتوه : يشده ويقويه ويسرو يكشف ويزيل
وقد تقدم أن هذا هو ماء الشعير المغلي وهو أكثر غذاء من سويقه وهو نافع للسعال وخشونة الحلق صالح لقمع حدة الفضول مدر للبول جلاء لما في المعدة قاطع للعطس مطفئ للحرارة وفيه قوة يجلو بها ويلطف ويحلل
وصفته : أن يؤخذ من الشعير الجيد المرضوض مقدار ومن الماء الصافي العذب خمسة أمثاله ويلقى في قدر نظيف ويطبخ بنار معتدلة إلى أن يبقى منه خمساه ويصفى ويستعمل منه مقدار الحاجة محلا
شواء : قال الله تعالى في ضيافة خليله إبراهيم عليه السلام لأضيافه : { فما لبث أن جاء بعجل حنيذ } [ هود : 69 ] والحنيذ : المشوي على الرضف وهي الحجارة المحماة
وفي الترمذي : عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قربت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم جنبا مشويا فأكل منه ثم قام إلى الصلاة ولم يتوضأ قال الترمذي : حديث صحيح
وفيه أيضا : عن عبد الله بن الحارث قال : أكلنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم شواء في المسجد وفيه أيضا : عن المغيرة بن شعبة قال : ضفت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم ذات ليلة فأمر بجنب فشوي ثم أخذ الشفرة فجعل يحز لي بها منه قال فجاء بلال يؤذن للصلاة فألقى الشفرة فقال : [ ما له تربت يداه ]
أنفع الشواء شواء الضأن الحولي ثم العجل اللطيف السمين وهو حار رطب إلى اليبوسة كثير التوليد للسوداء وهو من أغذية الأقوياء والأصحاء والمرتاضين والمطبوخ أنفع وأخف على المعدة وأرطب منه ومن المطجن
وأردؤه المشوي في الشمس والمشوي على الجمر خير من المشوي باللهب وهو الحنيذ
شحم : ثبت في المسند : عن أنس ان يهوديا أضاف رسول الله صلى الله عليه و سلم فقدم له خبز شعير وإهالة سنخة والإهالة : الشحم المذاب والألية والسنخة : المتغيرة
وثبت في الصحيح : عن عبد الله بن مغفل قال : دلي جراب من شحم يوم خيبر فالتزمته وقلت : والله لا أعطي أحدا منه شيئا فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه و سلم يضحك ولم يقل شيئا
أجود الشحم ما كان من حيوان مكتمل وهو حار رطب وهو أقل رطوبة من السمن ولهذا لو أذيب الشحم والسمن كان الشحم أسرع جمودا وهو ينفع من خشونة الحلق ويرخي ويعفن ويدفع ضرره بالليمون المملوح والزنجبيل وشحم المعز أقبض الشحوم وشحم التيوس أشد تحليلا وينفع من قروح الأمعاء وشحم العنز أقوى في ذلك ويحتقن به للسحج والزحير (4/301)
حرف الصاد
صلاة : قال الله تعالى : { واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين } [ البقرة : 45 ] وقال : { يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين } [ البقرة : 153 ] وقال تعالى : { وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى } [ طه : 132 ]
وفي السنن : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة
وقدم تقدم ذكر الإستشفاء بالصلاة من عامة الأوجاع قبل استحكامها
والصلاة مجلبة للرزق حافظة للصحة دافعة للاذى مطردة للأدواء مقوية للقلب مبيضة للوجه مفرحة للنفس مذهبة للكسل منشطة للجوارح ممدة للقوى شارحة للصدر مغذية للروح منورة للقلب حافظة للنعمة دافعة للنقمة جالبة للحركة مبعدة من الشيطان مقربة من الرحمن
وبالجملة : فلها تأثير عجيب في حفظ صحة البدن والقلب وقواهما ودفع المواد الرديئة عنهما وما ابتلي رجلان بعاهة أو داء أو محنة أو بلية إلا كان حظ المصلي منهما أقل وعاقبته أسلم
وللصلاة تأثير عجيب في دفع شرور الدنيا ولا سيما إذا أعطيت حقها من التكميل ظاهرا وباطنا فما استدفعت شرور الدنيا والآخرة ولا استجلبت مصالحهما بمثل الصلاة وسر ذلك أن الصلاة صلة بالله عز و جل وعلى قدر صلة العبد بربه عز و جل تفتح عليه من الخيرات أبوابها وتقطع عنه من الشرور أسبابها وتفيض عليه مواد التوفيق من ربه عز و جل والعافية والصحة والغنيمة والغنى والراحة والنعيم والأفراح والمسرات كلها محضرة لديه ومسارعة إليه
صبر : [ الصبر نصف الإيمان ] فإنه ماهية مركبة من صبر وشكر كما قال بعض السلف : الإيمان نصفان : نصف صبر ونصف شكر قال تعالى : { إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور } [ إبراهيم : 5 ] والصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد وهو ثلاثة أنواع : صبر على فرائض الله فلا يضيعها وصبر عن محارمه فلا يرتكبها وصبر على أقضيته وأقداره فلا يتسخطها ومن استكمل هذه المراتب الثلاث استكمل الصبر ولذة الدنيا والآخرة ونعيمها والفوز والظفر فيهما لا يصل إليه أحد إلا على جسر الصبر كما لا يصل أحد إلى الجنة إلا على الصراط قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : خير عيش أدركناه بالصبر وإذا تأملت مراتب الكمال المكتسب في العالم رأيتها كلها منوطة بالصبر وإذا تأملت النقصان الذي يذم صاحبه عليه ويدخل تحت قدرته رأيته كله من عدم الصبر فالشجاعة والعفة والجود والإيثار كله صبر ساعة
( فالصبر طلسم على كنز العلى ... من حل ذا الطلسم فاز بكنزه )
وأكثر أسقام البدن والقلب إنما تنشأ من عدم الصبر فما حفظت صحة القلوب والأبدان والأرواح بمثل الصبر فهو الفاروق الأكبر والترياق الأعظم ولو لم يكن فيه إلا معية الله مع أهله فإن الله مع الصابرين ومحبته لهم فإن الله يحب الصابرين ونصره لأهله فإن النصر مع الصبر وإنه خير لأهله { ولئن صبرتم لهو خير للصابرين } [ النحل : 126 ] وإنه سبب الفلاح : { يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون } [ آل عمران : 200 ]
صبر : روى أبو داود في كتاب المراسيل من حديث قيس بن رافع القيسي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ ماذا في الأمرين من الشفاء ؟ الصبر والثفاء ] وفي السنن لأبي داود : من حديث أم سلمة قالت : [ دخل علي رسول الله صلى الله عليه و سلم حين توفي أبو سلمة وقد جعلت علي صبرا فقال : ماذا يا أم سلمة ؟ فقلت : إنما هو صبر يا رسول الله ليس فيه طيب قال : إنه يشب الوجه فلا تجعليه إلا بالليل ] ونهى عنه بالنهار
الصبر كثير المنافع لا سيما الهندي منه ينقي الفضول الصفراوية التي في الدماغ وأعصاب البصر وإذا طلي على الجبهة والصدغ بدهن الورد نفع من الصداع وينفع من قروح الأنف والفم ويسهل السوداء والماليخوليا
والصبر الفارسي يذكي العقل ويمد الفؤاد وينقي الفضول الصفراوية والبلغمية من المعدة إذا شرب منه ملعقتان بماء ويرد الشهوة الباطلة والفاسدة وإذا شرب في البرد خيف أن يسهل دما
صوم : الصوم جنة من أدواء الروح والقلب والبدن منافعه تفوت الإحصاء وله تأثير عجيب في حفظ الصحة وإذابة الفضلات وحبس النفس عن تناول مؤذياتها ولا سيما إذا كان باعتدال وقصد في أفضل أوقاته شرعا وحاجة البدن إليه طبعا
ثم إن فيه من إراحة القوى والأعضاء ما يحفظ عليها قواها وفيه خاصية تقتضي إيثاره وهي تفريحه للقلب عاجلا وآجلا وهو أنفع شئ لأصحاب الأمزجة الباردة والرطبة وله تأثير عظيم في حفظ صحتهم
وهو يدخل في الأدوية الروحانية والطبيعية وإذا راعى الصائم فيه ما ينبغي مراعاته طبعا وشرعا عظم انتفاع قلبه وبدنه به وحبس عنه المواد الغريبة الفاسدة التي هو مستعد لها وأزال المواد الرديئة الحاصلة بحسب كماله ونقصانه ويحفظ الصائم مما ينبغي أن يتحفظ منه ويعينه على قيامه بمقصود الصوم وسره وعلته الغائية فإن القصد منه أمر آخر وراء ترك الطعام والشراب وباعتبار ذلك الأمر اختص من بين الأعمال بأنه لله سبحانه ولما كان وقاية وجنة بين العبد وبين ما يؤذي قلبه وبدنه عاجلا وآجلا قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون } [ البقرة : 183 ] فأحد مقصودي الصيام الجنة والوقاية وهي حمية عظيمة النفع والمقصود الآخر : اجتماع القلب والهم على الله تعالى وتوفير قوى النفس على محابه وطاعته وقد تقدم الكلام في بعض أسرار الصوم عند ذكر هديه صلى الله عليه و سلم فيه (4/304)
حرف الضاد
ضب : ثبت في الصحيحين : من حديث ابن عباس [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سئل عنه لما قدم إليه وامتنع من أكله : أحرام هو ؟ فقال : لا ولكن لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه وأكل بين يديه وعلى مائدته وهو ينظر ]
وفي الصحيحين : من حديث ابن عمر رضي الله عنهما عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا أحله ولا أحرمه ]
وهو حار يابس يقوي شهوة الجماع وإذا دق ووضع على موضع الشوكة اجتذبها
ضفدع : قال الإمام أحمد : الضفدع لا يحل في الدواء نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن قتلها يريد الحديث الذي رواه في مسنده من حديث عثمان بن عبد الرحمن رضي الله عنه أن طبيبا ذكر ضفدعا في دواء عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فنهاه عن قتلها
قال صاحب القانون : من أكل من دم الضفدع أو جرمه ورم بدنه وكمد لونه وقذف المني حتى يموت ولذلك ترك الأطباء استعماله خوفا من ضرره وهي نوعان : مائية وترابية والترابية يقتل أكلها (4/307)
حرف الطاء
طيب : ثبت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ حبب إلي من دنياكم : النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة ]
وكان صلى الله عليه و سلم يكثر التطيب وتشتد عليه الرائحة الكريهة وتشق عليه والطيب غذاء الروح التي هي مطية القوى تتضاعف وتزيد بالطيب كما تزيد بالغذاء والشراب والدعة والسرور ومعاشرة الأحبة وحدوث الأمور المحبوبة وغيبة من تسر غيبته ويثقل على الروح مشاهدته كالثقلاء والبغضاء فإن معاشرتهم توهن القوى وتجلب الهم والغم وهي للروح بمنزلة الحمى للبدن وبمنزلة الرائحة الكريهة ولهذا كان مما حبب الله سبحانه الصحابة بنهيهم عن التخلق بهذا الخلق في معاشرة رسول الله صلى الله عليه و سلم لتأذيه بذلك فقال : { إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق } [ الأحزاب : 53 ]
والمقصود أن الطيب كان من أحب الأشياء إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وله تأثير في حفظ الصحة ودفع كثير من الآلام وأسبابها بسبب قوة الطبيعة به
طين : ورد في أحاديث موضوعة لا يصح منها شئ مثل حديث [ من أكل الطين فقد أعان على قتل نفسه ] ومثل حديث : [ يا حميراء لا تأكلي الطين فإنه يعصم البطن ويصفر اللون ويذهب بهاء الوجه ]
وكل حديث في الطين فإنه لا يصح ولا أصل له عن رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا أنه رديء مؤذ يسد مجاري العروق وهو بارد يابس قوي التجفيف ويمنع استطلاق البطن ويوجب نفث الدم وقروح الفم
طلح : قال تعالى : { وطلح منضود } [ الواقعة : 29 ] قال أكثر المفسرين هو الموز والمنضود : هو الذي قد نضد بعضه على بعض كالمشط وقيل : الطلح : الشجر ذو الشوك نضد مكان كل شوكة ثمرة فثمره قد نضد بعضه إلى بعض فهو مثل الموز وهذا القول أصح ويكون من ذكر الموز من السلف أراد التمثيل لا التخصيص والله أعلم
وهو حار رطب أجوده النضيج الحلو ينفع من خشونة الصدر والرئة والسعال وقروح الكليتين والمثانة ويدر البول ويزيد في المني ويحرك الشهوة للجماع ويلين البطن ويؤكل قبل الطعام ويضر المعدة ويزيد في الصفراء والبلغم ودفع ضرره بالسكر أو العسل
طلع : قال تعالى : { والنخل باسقات لها طلع نضيد } [ ق : 10 ] وقال تعالى : { ونخل طلعها هضيم } [ الشعراء : 148 ]
طلع النخل : ما يبدو من ثمرته في أول ظهوره وقشره يسمى الكفرى والنضيد : المنضود الذي قد نضد بعضه على بعض وإنما يقال له : نضيد ما دام في كفراه فإذا انفتح فليس بنضيد
وأما الهضيم : فهو المنضم بعضه إلى بعض فهو كالنضيد أيضا وذلك يكون قبل تشقق الكفرى منه
والطلع نوعان : ذكر وأنثى والتلقيح هو أن يؤخذ من الذكر وهو مثل دقيق الحنطة فيجعل في الأنثى وهو التأبير فيكون ذلك بمنزلة اللقاح بين الذكر والأنثى وقد روى مسلم في صحيحه : عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه قال : مررت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في نخل فرأى قوما يلقحون فقال : [ ما يصنع هؤلاء ؟ قالوا : يأخذون من الذكر فيجعلونه في الأنثى قال : ما أظن ذلك يغني شيئا فبلغهم فتركوه فلم يصلح فقال النبي صلى الله عليه و سلم : إنما هو ظن فإن كان يغني شيئا فاصنعوه فإنما أنا بشر مثلكم وإن الظن يخطئ ويصيب ولكن ما قلت لكم عن الله عز و جل فلن أكذب على الله ] انتهى
طلع النخل ينفع من الباه ويزيد في المباضعة ودقيق طلعه إذا تحملت به المرأة قبل الجماع أعان على الحبل إعانة بالغة وهو في البرودة واليبوسة في الدرجة الثانية يقوي المعدة ويجففها ويسكن ثائرة الدم مع غلظة وبطء هضم
ولا يحتمله إلا أصحاب الأمزجة الحارة ومن أكثر منه فإنه ينبغي أن يأخذ عليه شيئا من الجوارشات الحارة وهو يعقل الطبع ويقوي الأحشاء والجمار يجري مجراه وكذلك البلح والبسر والإكثار منه يضر بالمعدة والصدر وربما أورث القولنج وإصلاحه بالسمن أو بما تقدم ذكره (4/308)
حرف العين
عنب : في الغيلانيات من حديث حبيب بن يسار ع [ ن ابن عباس رضي الله عنه قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يأكل العنب خرطا ] قال أبو جعفر العقيلي : لا أصل لهذا الحديث قلت : وفيه داود ابن عبد الجبار أبو سليم الكوفي قال يحيى بن معين : كان يكذب
ويذكر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه كان يحب العنب والبطيخ
وقد ذكر الله سبحانه العنب في ستة مواضع من كتابه في جملة نعمه التي أنعم بها على عباده في هذه الدار وفي الجنة وهو من أفضل الفواكه وأكثرها منافع وهو يؤكل رطبا ويابسا وأخضر ويانعا وهو فاكهة مع الفواكه وقوت مع الأقوات وأدم مع الإدام ودواء مع الأدوية وشراب مع الأشربة وطبعه طبع الحبات : الحرارة والرطوبة وجيده الكبار المائي والأبيض أحمد من الأسود إذا تساويا في الحلاوة والمتروك بعد قطفه يومين أو ثلاثة أحمد من المقطوف في يومه فإنه منفخ مطلق للبطن والمعلق حتى يضمر قشره جيد للغذاء مقو للبدن وغذاؤه كغذاء التين والزبيب وإذا ألقي عجم العنب كان أكثر تليينا للطبيعة والإكثار منه مصدع للرأس ودفع مضرته بالرمان المز
ومنفعة العنب يسهل الطبع ويسمن ويغذو جيده غذاء حسنا وهو أحد الفواكه الثلاث التي هي ملوك الفواكه هو والرطب والتين
عسل : قد تقدم ذكر منافعه قال ابن جريج : قال الزهري : عليك بالعسل فإنه جيد للحفظ وأجوده أصفاه وأبيضه وألينه حدة وأصدقه حلاوة وما يؤخذ من الجبال والشجر له فضل على ما يؤخذ من الخلايا وهو بحسب مرعى نحله
عجوة : في الصحيحين : من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من تصبح بسبع تمرات عجوة لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر ]
وفي سنن النسائي وابن ماجه : من حديث جابر وأبي سعيد رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ العجوة من الجنة وهي شفاء من السم والكمأة من المن وماؤها شفاء للعين ]
وقد قيل : إن هذا في عجوة المدينة وفي أحد أصناف التمر بها ومن أنفع تمر الحجاز على الإطلاق وهو صنف كريم ملذذ متين للجسم والقوة من ألين التمر وأطيبه وألذه وقد تقدم ذكر التمر وطبعه ومنافعه في حرف التاء والكلام على دفع العجوة للسم والسحر فلا حاجة لإعادته
عنبر : تقدم في الصحيحين من حديث جابر في قصة أبي عبيدة وأكلهم من العنبر شهرا وأنهم تزودوا لحمه وشائق إلى المدينة وأرسلوا منه إلى النبي صلى الله عليه و سلم وهو أحد ما يدل على أن إباحة ما في البحر لا يختص بالسمك وعلى أن ميتته حلال واعترض على ذلك بأن البحر ألقاه حيا ثم جزر عنه الماء فمات وهذا حلال فإن موته بسبب مفارقته للماء وهذا لا يصح فإنهم إنما وجدوه ميتا بالساحل ولم يشاهدوه قد خرج عنه حيا ثم جزر عنه الماء
وأيضا : فلو كان حيا لما ألقاه البحر إلى ساحله فإنه من المعلوم أن البحر إنما يقذف إلى ساحله الميت من حيواناته لا الحي منها
وأيضا : فلو قدر احتمال ما ذكروه لم يجز أن يكون شرطا في الإباحة فإنه لا يباح الشئ مع الشك في سبب إباحته ولهذا منع النبي صلى الله عليه و سلم من أكل الصيد إذا وجده الصائد غريقا في الماء للشك في سبب موته هل هو الآلة أم الماء ؟
وأما العنبر الذي هو أحد أنواع الطيب فهو من أفخر أنواعه بعد المسك وأخطأ من قدمه على المسك وجعله سيد أنواع الطيب وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال في المسك : [ هو أطيب الطيب ] وسيأتي إن شاء إلله تعالى ذكر الخصائص والمنافع التي خص بها المسك حتى إنه طيب الجنة والكثبان التي هي مقاعد الصديقين هناك من مسك لا من عنبر
والذي غير هذا القائل أنه لا يدخله التغير على طول الزمان فهو كالذهب وهذا يدل على أنه أفضل من المسك فإنه بهذه الخاصية الواحدة لا يقاوم ما في المسك من الخواص
وبعد فضروبه كثيرة وألوانه مختلفة فمنه الأبيض والأشهب والأحمر والأصفر والأخضر والأزرق والأسود وذو الألوان وأجوده : الأشهب ثم الأزرق ثم الأصفر وأردؤه : الأسود وقد اختلف الناس في عنصره فقالت طائفة : هو نبات ينبت في قعر البحر فيبتلعه بعض دوابه فإذا ثملت منه قذفته رجيعا فيقذفه البحر إلى ساحله وقيل : طل ينزل من السماء في جزائر البحر فتلقيه الأمواج إلى الساحل وقيل : روث دابة بحرية تشبه البقرة وقيل : بل هو جفاء من جفاء البحر أي : زبد
وقال صاحب القانون : هو فيما يظن ينبع من عين في البحر والذي يقال : إنه زبد البحر أو روث دابة بعيد انتهى
ومزاجه حار يابس مقو للقلب والدماغ والحواس وأعضاء البدن نافع من الفالج واللقوة والأمراض البلغمية وأوجاع المعدة الباردة والرياح الغليظة ومن السدد إذا شرب أو طلي به من خارج وإذا تبخر به نفع من الزكام والصداع والشقيقة الباردة
عود : العود الهندي نوعان أحدهما : يستعمل في الأدوية وهو الكست ويقال له : القسط وسيأتي في حرف القاف الثاني : يستعمل في الطيب ويقال له : الألوة وقد روى مسلم في صحيحه : عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يستجمر بالألوة غير مطراة وبكافور يطرح معها ويقول : هكذا كان يستجمر رسول الله صلى الله عليه و سلم وثبت عنه في صفة نعيم أهل الجنة [ مجامرهم الألوة ] والمجامر : جمع مجمر وهو ما يتجمر به من عود وغيره وهو أنواع : أجودها الهندي ثم الصيني ثم القماري ثم المندلي وأجوده : الأسود والأزرق الصلب الرزين الدسم وأقله جودة : ما خف وطفا على الماء ويقال : إنه شجر يقطع ويدفن في الأرض سنة فتأكل الأرض منه ما لا ينفع ويبقى عود الطيب لا تعمل فيه الأرض شيئا ويتعفن منه قشره وما لا طيب فيه
وهو حار يابس في الثالثة يفتح السدد ويكسر الرياح ويذهب بفضل الرطوبة ويقوي الأحشاء والقلب ويفرحه وينفع الدماغ ويقوي الحواس ويحبس البطن وينفع من سلس البول الحادث عن برد المثانة
قال ابن سمجون : العود ضروب كثيرة يجمعها اسم الألوة ويستعمل من داخل وخارج ويتجمر به مفردا ومع غيره وفي الخلط للكافور به عند التجمير معنى طبي وهو إصلاح كل منهما بالآخر وفي التجمر مراعاة جوهر الهواء وإصلاحه فإنه أحد الأشياء الستة الضرورية التى في صلاحها صلاح الأبدان
عدس : قد ورد في أحاديث كلها باطلة على رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يقل شيئا منها كحديث : [ إنه قدس على لسان سبعين نبيا ] وحديث [ إنه يرق القلب ويغزر الدمعة وإنه مأكول الصالحين ] وأرفع شئ جاء فيه وأصحه أنه شهوة اليهود التي قدموها على المن والسلوى وهو قرين الثوم والبصل في الذكر
وطبعه طبع المؤنث بارد يابس وفيه قوتان متضادتان إحداهما : يعقل الطبيعة والأخرى : يطلق وقشره حار يابس في الثالثة حريف مطلق للبطن وترياقه في قشره ولهذا كان صحاحه أنفع من مطحونه وأخف على المعدة وأقل ضررا فإن لبه بطيء الهضم لبرودته ويبوسته وهو مولد للسوداء ويضر بالماليخوليا ضررا بينا ويضر بالأعصاب والبصر
وهو غليظ الدم وينبغي أن يتجنبه أصحاب السوداء وإكثارهم منه يولد لهم أدواء رديئة كالوسواس والجذام وحمى الربع ويقلل ضرره السلق والإسفاناخ واكثار الدهن وأردأ ما أكل بالنمكسود وليتجنب خلط الحلاوة به فإنه يورث سددا كبدية وإدمانه يظلم البصر لشدة تجفيفه ويعسر البول ويوجب الأورام الباردة والرياح الغليظة وأجوده الأبيض السمين السريع النضج
وأما ما يظنه الجهال أنه كان سماط الخليل الذي يقدمه لأضيافه فكذب مفترى وإنما حكى الله عنه الضيافة بالشواء وهو العجل الحنيذ
وذكر البيهقي عن إسحاق قال : سئل ابن المبارك عن الحديث الذي جاء في العدس أنه قدس على لسان سبعين نبيا فقال : ولا على لسان نبي واحد وإنه لمؤذ منفخ من حدثكم به ؟ قالوا : سلم بن سالم فقال : عمن ؟ قالوا : عنك قال : وعني أيضا ! ! ؟ (4/311)
حرف الغين
غيث : مذكور في القرآن في عدة مواضع وهو لذيذ الإسم على السمع والمسمى على الروح والبدن تبتهج الأسماع بذكره والقلوب بوروده وماؤه أفضل المياه وألطفها وأنفعها وأعظمها بركة ولا سيما إذا كان من سحاب راعد واجتمع في مستنقعات الجبال وهو أرطب من سائر المياه لأنه لم تطل مدته على الأرض فيكتسب من يبوستها ولم يخالطه جوهر يابس ولذلك يتغير ويتعفن سريعا للطافته وسرعة انفعاله وهل الغيث الربيعي ألطف من الشتوي أو بالعكس ؟ فيه قولان
قال من رجح الغيث الشتوي : حرارة الشمس تكون حينئذ أقل فلا تجتذب من ماء البحر إلا ألطفه والجو صاف وهو خال من الأبخرة الدخانية الغبار المخالط للماء وكل هذا يوجب لطفه وصفاءه وخلوه من مخالط
قال من رجح الربيعي : الحرارة توجب تحلل الأبخرة الغليظة وتوجب رقة الهواء ولطافته فيخف بذلك الماء وتقل أجزاؤه الأرضية وتصادف وقت حياة النبات والأشجار وطيب الهواء
وذكر الشافعي رحمه الله عن أنس بن مالك رضي الله عنهما قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فأصابنا مطر فحسر رسول الله صلى الله عليه و سلم ثوبه وقال : [ إنه حديث عهد بربه ] وقد تقدم في هديه في الإستسقاء ذكر استمطاره صلى الله عليه و سلم وتبركه بماء الغيث عند أول مجيئه (4/317)
حرف الفاء
فاتحة الكتاب : وأم القرآن والسبع المثاني والشفاء التام والدواء النافع والرقية التامة ومفتاح الغنى والفلاح وحافظة القوة ودافعة الهم والغم والخوف والحزن لمن عرف مقدارها وأعطاها حقها وأحسن تنزيلها على دائه وعرف وجه الإستشفاء والتداوي بها والسر الذي لأجله كانت كذلك
ولما وقع بعض الصحابة على ذلك رقى بها اللديغ فبرأ لوقته فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : [ وما أدراك أنها رقية ]
ومن ساعده التوفيق وأعين بنور البصيرة حتى وقف على أسرار هذه السورة وما اشتملت عليه من التوحيد ومعرفة الذات والأسماء والصفات والأفعال وإثبات الشرع والقدر والمعاد وتجريد توحيد الربوبية والإلهية وكمال التوكل والتفويض إلى من له الأمر كله وله الحمد كله وبيده الخير كله وإليه يرجع الأمر كله والإفتقار إليه في طلب الهداية التي هي أصل سعادة الدارين وعلم ارتباط معانيها بجلب مصالحهما ودفع مفاسدهما وأن العاقبة المطلقة التامة والنعمة الكاملة منوطة بها موقوفة على التحقق بها أغنته عن كثير من الأدوية والرقى واستفتح بها من الخير أبوابه ودفع بها من الشر أسبابه
وهذا أمر يحتاج استحداث فطرة أخرى وعقل آخر وإيمان آخر وتالله لا تجد مقالة فاسدة ولا بدعة باطلة إلا وفاتحة الكتاب متضمنة لردها وإبطالها بأقرب الطرق وأصحها وأوضحها ولا تجد بابا من أبواب المعارف الإلهية وأعمال القلوب وأدويتها من عللها وأسقامها إلا وفي فاتحة الكتاب مفتاحه وموضع الدلالة عليه ولا منزلا من منازل السائرين إلى رب العالمين إلا وبدايته
ونهايته فيها
ولعمر الله إن شأنها لأعظم من ذلك وهي فوق ذلك وما تحقق عبد بها واعتصم بها وعقل عمن تكلم بها وأنزلها شفاء تاما وعصمة بالغة ونورا مبينا وفهمها وفهم لوازمها كما ينبغى ووقع في بدعة ولا شرك ولا أصابه مرض من أمراض القلوب إلا لماما غير مستقر
هذا وإنما المفتاح الأعظم لكنوز الأرض كما أنها المفتاح لكنوز الجنة ولكن ليس كل واحد يحسن الفتح بهذا المفتاح ولو أن طلاب الكنوز وقفوا على سر هذه السورة وتحققوا بمعانيها وركبوا لهذا المفتاح أسنانا وأحسنوا الفتح به لوصلوا إلى تناول الكنوز من غير معاوق ولا ممانع
ولم نقل هذا مجازفة ولا استعارة بل حقيقة ولكن لله تعالى حكمة بالغة في إخفاء هذا السر عن نفوس أكثر العالمين كما له حكمة بالغة في إخفاء كنوز الأرض عنهم والكنوز المحجوبة قد استخدم عليها أرواح خبيثة شيطانية تحول بين الإنس وبينها ولا تقهرها إلا أرواح علوية شريفة غالبة لها بحالها الإيماني معها أسلحة لا تقوم لها الشياطين وأكثر نفوس الناس ليست بهذه المثابة فلا تقاوم تلك الأرواح ولا يقهرها ولا ينال من سلبها شيئا فإن من قتل قتيلا فله سلبه
فاغية : هي نور الحناء وهي من أطيب الرياحين وقد روى البيهقي في كتابه شعب الإيمان من حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه يرفعه : [ سيد الرياحين في الدنيا والآخرة الفاغية ] وروى فيه أيضا عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : [ كان أحب الرياحين إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم الفاغية ] والله أعلم بحال هذين الحديثين فلا نشهد على رسول الله صلى الله عليه و سلم بما لا نعلم صحته
وهي معتدلة في الحر واليبس فيها بعض القبض وإذا وضعت بين طي ثياب الصوف حفظها من السوس وتدخل في مراهم الفالج والتصدد ودهنها يحلل الأعضاء ويلين العصب
فضة : ثبت أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان خاتمه من فضة وفصه منه وكانت قبيعة سيفه فضة ولم يصح عنه في المنع من لباس الفضة والتحلي بها شئ البتة كما صح عنه المنع من الشرب في آنيتها وباب الآنية أضيق من باب اللباس والتحلي ولهذا تباح للنساء لباسا وحلية ما يحرم عليهن استعمال آنية فلا يلزم من تحريم الآنية تحريم اللباس والحلية
وفي السنن عنه : [ وأما الفضة فالعبوا بها لعبا ] فالمنع يحتاج إلى دليل يبينه إما نص أو إجماع فإن ثبت أحدهما وإلا ففي القلب من تحريم ذلك على الرجال شئ والنبي صلى صلى الله عليه و سلم أمسك بيده ذهبا وبالأخرى حريرا وقال : [ هذان حرام على ذكور أمتي حل لإناثهم ]
والفضة سر من أسرار الله في الأرض وطلسم الحاجات وإحسان أهل الدنيا بينهم وصاحبها مرموق بالعيون بينهم معظم في النفوس مصدر في المجالس لا تغلق دونه الأبواب ولا تمل مجالسته ولا معاشرته ولا يستثقل مكانه تشير الأصابع إليه وتعقد العيون نطاقها عليه إن قال سمع قوله وإن شفع قبلت شفاعته وإن شهد زكيت شهادته وإن خطب فكفء لا يعاب وإن كان ذا شيبة بيضاء فهي أجمل عليه من حلية الشباب
وهي من الأدوية المفرحة النافعة من الهم والغم والحزن وضعف القلب وخفقانه وتدخل في المعاجين الكبار وتجتذب بخاصيتها ما يتولد في القلب من الأخلاط الفاسدة خصوصا إذا أضيفت إلى العسل المصفى والزعفران
ومزاجها إلى اليبوسة والبرودة ويتولد عنها من الحرارة والرطوبة ما يتولد والجنان التي أعدها الله عز و جل لأوليائه يوم يلقونه أربع : جنتان من ذهب وجنتان من فضة آنيتهما وحليتهما وما فيهما وقد ثبت عنه في الصحيح من حديث أم سلمة أنه قال : [ الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم ]
وصح عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافهما فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة ]
فقيل : علة التحريم تضييق النقود فإنها إذا اتخذت أواني فاتت الحكمة التي وضعت لأجلها من قيام مصالح بني آدم وقيل : العلة الفخر والخيلاء وقيل : العلة كسر قلوب الفقراء والمساكين إذا رأوها وعاينوها
وهذه العلل فيها ما فيها فإن التعليل بتضييق النقود يمنع من التحلي بها وجعلها سبائك ونحوها مما ليس بآنية ولا نقد والفخر والخيلاء حرام بأي شئ كان وكسر قلوب المساكين لا ضابط له فإن قلوبهم تنكسر بالدور الواسعة والحدائق المعجبة والمراكب الفارهة والملابس الفاخرة والأطعمة اللذيذة وغير ذلك من المباحات وكل هذه علل منتقضة إذ توجد العلة ويتخلف معلولها
فالصواب أن العلة - والله أعلم - ما يكسب استعمالها القلب من الهيئة والحالة المنافية للعبودية منافاة ظاهرة ولهذا علل النبي صلى الله عليه و سلم بأنها للكفار في الدنيا إذ ليس لهم نصيب من العبودية التي ينالون بها في الآخرة نعيمها فلا يصلح استعمالها لعبيد الله في الدنيا وإنما يستعملها من خرج عن عبوديته ورضي بالدنيا وعاجلها من الآخرة (4/318)
حرف القاف
قرآن : قال الله تعالى : { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين } [ الإسراء : 82 ] والصحيح : أن من ها هنا لبيان الجنس لا للتبعيض وقال تعالى : { يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور } [ يونس : 57 ]
فالقرآن هو الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبدنية وأدواء الدنيا والآخرة وما كل أحد يؤهل ولا يوفق للإستشفاء به وإذا أحسن العليل التداوي به ووضعه على دائه بصدق وإيمان وقبول تام واعتقاد جازم واستيفاء شروطه لم يقاومه الداء أبدا
وكيف تقاوم الأدواء كلام رب الأرض والسماء الذي لو نزل على الجبال لصدعها أو على الأرض لقطعها فما من مرض من أمراض القلوب والأبدان إلا وفي القرآن سبيل الدلالة على دوائه وسببه والحمية منه لمن رزقه الله فهما في كتابه وقد تقدم في أول الكلام على الطب بيان إرشاد القرآن العظيم إلى أصوله ومجامعه التي هي حفظ الصحة والحمية واستفراغ المؤذي والإستدلال بذلك على سائر أفراد هذه الأنواع
وأما الأدوية القلبية فإنه يذكرها مفصلة ويذكر أسباب أدوائها وعلاجها قال : { أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم } [ العنكبوت : 51 ] فمن لم يشفه القرآن فلا شفاه الله ومن لم يكفه فلا كفاه الله
قثاء : في السنن : من حديث عبد الله بن جعفر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يأكل القثاء بالرطب ورواه الترمذي وغيره
القثاء بارد رطب في الدرجة الثانية مطفئ لحرارة المعدة الملتهبة بطيء الفساد فيها نافع من وجع المثانة ورائحته تنفع من الغشي وبزره يدر البول وورقه إذا اتخذ ضمادا نفع من عضة الكلب وهو بطيء الإنحدار عن المعدة وبرده مضر ببعضها فينبغي أن يستعمل معه ما يصلحه ويكسر برودته ورطوبته كما فعل رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ أكله بالرطب فإذا أكل بتمر أو زبيب أو عسل عدله
قسط وكست : بمعنى واحد وفي الصحيحين : من حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم [ خير ما تداويتم به الحجامة والقسط البحري ]
وفي المسند : من حديث أم قيس عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ عليكم بهذا العود الهندي فإن فيه سبعة أشفية منها ذات الجنب ]
القسط : نوعان إحداهما : الأبيض الذي يقال له : البحري والآخر الهندي وهو أشدهما حرا والأبيض ألينهما ومنافعهما كثيرة جدا
وهما حاران يابسان في الثالثة ينشفان البلغم قاطعان للزكام وإذا شربا نفعا من ضعف الكبد والمعدة ومن بردهما ومن حمى الدور والربع وقطعا وجع الجنب ونفعا من السموم وإذا طلي به الوجه معجونا بالماء والعسل قلع الكلف وقال جالينوس : ينفع من الكزاز ووجع الجبين ويقتل حب القرع
وقد خفي على جهال الأطباء نفعه من وجع ذات الجنب فأنكروه ولو ظفر هذا الجاهل بهذا النقل عن جالينوس لنزله منزلة النص كيف وقد نص كثير من الأطباء المتقدمين على أن القسط يصلح للنوع البلغمي من ذات الجنب ذكره الخطابي عن محمد بن الجهم وقد تقدم أن طب الأطباء بالنسبة إلى طب الأنبياء أقل من نسبة طب الطرقية والعجائز إلى طب الأطباء وأن بين ما يلقى بالوحي وبين ما يلقى بالتجربة والقياس من الفرق أعظم مما بين القدم والفرق
ولو أن هؤلاء الجهال وجدوا دواء منصوصا عن بعض اليهود والنصارى والمشركين من الأطباء لتلقوه بالقبول والتسليم ولم يتوقفوا على تجربته
نعم نحن لا ننكر أن للعادة تأثيرا في الإنتفاع بالدواء وعدمه فمن اعتاد دواء وغذاء كان أنفع له وأوفق ممن لم يعتده بل ربما لم ينتفع به من لم يعتده
وكلام فضلاء الأطباء وإن كان مطلقا فهو بحسب الأمزجة والأزمنة والأماكن والعوائد وإذا كان التقييد بذلك لا يقدح في كلامهم ومعارفهم فكيف يقدح في كلام الصادق المصدوق ولكن نفوس البشر مركبة على الجهل والظلم إلا من أيده الله بروح الإيمان ونور بصيرته بنور الهدى
قصب السكر : جاء في بعض ألفاظ السنة الصحيحة في الحوض [ ماؤه أحلى من السكر ] ولا أعرف السكر في الحديث إلا في هذا الموضع
والسكر حادث لم يتكلم فيه متقدمو الأطباء ولا كانوا يعرفونه ولا يصفونه في الأشربة وإنما يعرفون العسل ويدخلونه في الأدوية وقصب السكر حار رطب ينفع من السعال ويجلو الرطوبة والمثانة وقصبة الرئة وهو أشد تليينا من السكر وفيه معونة على القئ ويدر البول ويزيد في الباه قال عفان بن مسلم الصفار : من مص قصب السكر بعد طعامه لم يزل يومه أجمع في سرور انتهى وهو ينفع من خشونة الصدر والحلق إذا شوي ويولد رياحا دفعها بأن يقشر ويغسل بماء حار والسكر حار رطب على الأصح وقيل : بارد وأجوده : الأبيض الشفاف الطبرزد وعتيقه ألطف من جديده وإذا طبخ ونزعت رغوته سكن العطش والسعال وهو يضر المعدة التي تتولد فيها الصفراء لاستحالته إليها ودفع ضرره بماء الليمون أو النارنج أو الرمان اللفان
وبعض الناس يفضله على العسل لقلة حرارته ولينه وهذا تحامل منه على العسل فإن منافع العسل أضعاف منافع السكر وقد جعله الله شفاء ودواء وإداما وحلاوة وأين نفع السكر من منافع العسل : من تقوية المعدة وتليين الطبع وإحداد البصر وجلاء ظلمته ودفع الخوانيق بالغرغرة به وإبرائه من الفالج واللقوة ومن جميع العلل الباردة التي تحدث في جميع البدن من الرطوبات فيجذبها من قعر البدن ومن جميع البدن وحفظ صحته وتسمينه وتسخينه والزيادة في الباه والتحليل والجلاء وفتح أفواه العروق وتنقية المعى وإحدار الدود ومنع التخم وغيره من العفن والأدم النافع وموافقة من غلب عليه البلغم والمشايخ وأهل الأمزجة الباردة وبالجملة : فلا شئ أنفع منه للبدن وفي العلاج وعجز الأدوية وحفظ قواها وتقوية المعدة إلى أضعاف هذه المنافع فأين للسكر مثل هذه المنافع والخصائص أو قريب منها ؟ (4/322)
حرف الكاف
كتاب للحمى : قال المروزي : بلغ أبا عبد الله أني حممت فكتب لي من الحمى رقعة فيها : بسم الله الرحمن الرحيم بسم الله وبالله محمد رسول الله قلنا : يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم وأرادوا به كيدا فجعلنهاهم الأخسرين اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل اشف صاحب هذا الكتاب بحولك وقوتك وجبروتك إله الحق آمين
قال المروزي : وقرأ على أبي عبد الله - وأنا أسمع - أبو المنذر عمرو بن مجمع حدثنا يونس بن حبان قال : سألت أبا جعفر محمد بن علي أن أعلق التعويذ فقال : إن كان من كتاب الله أو كلام عن نبي الله فعلقه واستشف به ما استطعت قلت : أكتب هذه من حمى الربع : باسم الله وبالله ومحمد رسول الله إلى آخره ؟ قال : أي نعم
وذكر أحمد عن عائشة رضي الله عنها وغيرها أنهم سهلوا في ذلك
قال حرب : ولم يشدد فيه أحمد بن حنبل قال أحمد : وكان ابن مسعود يكرهه كراهة شديدة جدا وقال أحمد وقد سئل عن التمائم تعلق بعد نزول البلاء ؟ قال : أرجو أن لا يكون به بأس
قال الخلال : وحدثنا عبد الله بن أحمد قال : رأيت أبي يكتب التعويذ للذي يفزع وللحمى بعد وقوع البلاء
كتاب لعسر الولادة : قال الخلال : حدثني عبد الله بن أحمد : قال رأيت أبي يكتب للمرأة إذا عسر عليها ولادتها في جام أبيض أو شئ نظيف يكتب حديث ابن عباس رضي الله عنه : لا إله إلا الله الحليم الكريم سبحان الله رب العرش العظيم الحمد لله رب العالمين : { كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ } [ الأحقاف : 35 ] { كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها } [ النازعات : 46 ]
قال الخلال : أنبانا أبو بكر المروزي أن أبا عبد الله جاءه رجل فقال : يا أبا عبد الله ! تكتب لامرأة قد عسر عليها ولدها منذ يومين ؟ فقال : قل له : يجيء بجام واسع وزعفران ورأيته يكتب لغير واحد ويذكر عن عكرمة عن ابن عباس قال : مر عيسى صلى الله على نبينا وعليه وسلم على بقرة قد اعترض ولدها في بطنها فقالت : يا كلمة الله ! ادع الله لي أن يخلصني مما أنا فيه فقال : يا خالق النفس من النفس ويا مخلص النفس من النفس ويا مخرج النفس من النفس خلصها قال : فرمت بولدها فإذا هي قائمة تشمه قال : فإذا عسر على المرأة ولدها فاكتبه لها وكل ما تقدم من الرقي فإن كتابته نافعة
ورخص جماعة من السلف في كتابة بعض القرآن وشربه وجعل ذلك الشفاء الذي جعل الله فيه
كتاب آخر لذلك : يكتب في إناء نظيف : { إذا السماء انشقت * وأذنت لربها وحقت * وإذا الأرض مدت * وألقت ما فيها وتخلت } [ الإنشقاق : 1 ، 4 ] وتشرب منه الحامل ويرش على بطنها
كتاب للرعاف : كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يكتب على جبهته : { وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر } [ هود : 44 ] وسمعته يقول : كتبتها لغير واحد فبرأ فقال : ولا يجوز كتابتها بدم الراعف كما يفعله الجهال فإن الدم نجس فقال يجوز أن يكتب به كلام الله تعالى
كتاب آخر له : خرج موسى عليه السلام برداء فوجد شعيبا فشده بردائه { يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب } [ الرعد : 39 ]
كتاب آخر للحزاز : يكتب عليه : { فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت } [ البقرة : 266 ] بحول الله وقوته
كتاب آخر له : عند اصفرار الشمس يكتب عليه : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم } [ الحديد : 28 ]
كتاب آخر للحمى المثلثة : يكتب على ثلاث ورقات لطاف : بسم الله فرت بسم الله مرت بسم الله قلت ويأخذ كل يوم ورقة ويجعلها في فمه ويبتلعها بماء
كتاب آخر لعرق النسا : بسم الله الرحمن الرحيم اللهم رب كل شئ ومليك كل شئ وخالق كل شئ أنت خلقتني وأنت خلقت النسا فلا تسلطه علي بأذى ولا تسلطني عليه بقطع واشفني شفاء لا يغادر سقما لا شافي إلا أنت
كتاب للعرق الضارب : روى الترمذي في جامعه : من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يعلمهم من الحمى ومن الأوجاع كلها أن يقولوا : [ بسم الله الكبير أعوذ بالله العظيم من شر كل عرق نعار ومن شر حر النار ]
كتاب لوجع الضرس : يكتب على الخد الذي يلي الوجع : بسم الله الرحمن الرحيم : { قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون } [ النحل : 78 ] وإن شاء كتب : { وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم } [ الأنعام : 13 ]
كتاب للخراج : يكتب عليه : { ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا * فيذرها قاعا صفصفا * لا ترى فيها عوجا ولا أمتا } [ طه : 105 ]
كمأة : ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين ] أخرجاه في الصحيحين
قال ابن الأعرابي : الكمأة : جمع واحدة كمء وهذا خلاف قياس العربية فإن ما بينه وبين واحده التاء فالواحد منه التاء وإذا حذفت كان للجمع وهل هو جمع أو اسم جمع ؟ على قولين مشهورين قالوا : ولم يخرج عن هذا إلا حرفان : كمأة وكمء وجباة وجبء وقال غير ابن الأعرابي : بل هي على القياس : الكمأة للواحد والكمء للكثير وقال غيرهما : الكمأة تكون واحدا وجمعا
واحتج أصحاب القول الأول بأنهم قد جمعوا كمئا على أكمؤ قال الشاعر :
( ولقد جنيتك أكمؤا وعساقلا ... ولقد نهيتك عن بنات الأوبر )
وهذا يدل على أن كمء مفرد وكمأة جمع
والكمأة تكون في الأرض من غير أن تزرع وسميت كمأة لاستتارها ومنه كمأ الشهادة : إذا سترها وأخفاها والكمأة مخفية تحت الأرض لا ورق لها ولا ساق ومادتها من جوهر أرضي بخاري محتقن في الأرض نحو سطحها يحتقن ببرد الشتاء وتنميه أمطار الربيع فيتولد ويندفع نحو سطح الأرض متجسدا ولذلك يقال لها : جدري الأرض تشبيها بالجدري في صورته ومادته لأن مادته رطوبة دموية فتندفع عند سن الترعرع في الغالب وفي ابتداء استيلاء الحرارة ونماء القوة
وهي مما يوجد في الربيع ويؤكل نيئا ومطبوخا وتسميها العرب : نبات الرعد لأنها تكثر بكثرته وتنفطر عنها الأرض وهي من أطعمة أهل البوادي وتكثر بأرض العرب وأجودها ما كانت أرضها رملية قليلة الماء
وهي أصناف : منها صنف قتال يضرب لونه إلى الحمرة يحدث الإختناق
وهي باردة رطبة في الدرجة الثالثة رديئة للمعدة بطيئة الهضم وإذا أدمنت أورثت القولج والسكتة والفالج ووجع المعدة وعسر البول والرطبة أقل ضررا من اليابسة ومن أكلها فليدفنها في الطين الرطب ويسلقها بالماء والملح والصعتر ويأكلها بالزيت والتوابل الحارة لأن جوهرها أرضي غليظ وغذاؤها رديء لكن فيها جوهر مائي لطيف يدل على خفتها والإكتحال بها نافع من ظلمة البصر والرمد الحار وقد اعترف فضلاء الأطباء بأن ماءها يجلو العين وممن ذكره المسيحي وصاحب القانون وغيرهما
وقوله صلى الله عليه و سلم : [ الكمأة من المن ] فيه قولان :
أحدهما : أن المن الذي أنزل على بني إسرائيل لم يكن هذا الحلو فقط بل أشياء كثيرة من الله عليهم بها من النبات الذي يوجد عفوا من غير صنعة ولا علاج ولا حرث فإن المن مصدر بمعنى المفعول أي ممنون به فكل ما رزقه الله العبد عفوا بغير كسب منه ولا علاج فهو من محض وإن كانت سائر نعمه منا منه على عبده فخص منها ما لا كسب له فيه ولا صنع باسم المن فإنه من بلا واسطة العبد وجعل سبحانه قوتهم بالتيه الكمأة وهي تقوم مقام الخبز وجعل أدمهم السلوى وهو يقوم مقام اللحم وجعل حلواهم الطل الذي ينزل على الأشجار يقوم لهم مقام الحلوى فكمل عيشهم
وتأمل قوله صلى الله عليه و سلم : [ الكمأة من المن الذي أنزله الله على بني إسرائيل ] فجعلها من جملته وفردا من أفراده والترنجبين الذي يسقط على الأشجار نوع من المن ثم غلب استعمال المن عليه عرفا حادثا
والقول الثاني : أنه شبه الكمأة بالمن المنزل من السماء لأنه يجمع من غير تعب ولا كلفة ولا زرع بزر ولا سقي
فإن قلت : فإن كان هذا شأن الكمأة فما بال هذا الضرر فيها ومن أين أتاها ذلك ؟ فاعلم أن الله سبحانه أتقن كل شئ صنعه وأحسن كل شئ خلقه فهو عند مبدإ خلقه بريء من الآفات والعلل تام المنفعة لما هيئ وخلق له وإنما تعرض له الآفات بعد ذلك بأمور أخر من مجاورة أو امتزاج واختلاط أو أسباب أخر تقتضي فساده فلو ترك على خلقته الأصلية من غير تعلق أسباب الفساد به لم يفسد
ومن له معرفة بأحوال العالم ومبدئه يعرف أن جميع الفساد في جوه ونباته وحيوانه وأحوال أهله حادث بعد خلقه بأسباب اقتضت حدوثه ولم تزل أعمال بني آدم ومخالفتهم للرسل تحدث لهم من الفساد العام والخاص ما يجلب عليهم من الآلام والأمراض والأسقام والطواعين والقحوط والجدوب وسلب بركات الأرض وثمارها ونباتها وسلب منافعها أو نقصانها أمورا متتابعة يتلو بعضها بعضا فإن لم يتسع علمك لهذا فاكتف بقوله تعالى : { ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس } [ الروم : 41 ] ونزل هذه الآية على أحوال العالم وطابق بين الواقع وبينها وأنت ترى كيف تحدث الآفات والعلل كل وقت في الثمار والزرع والحيوان وكيف يحدث من تلك الآفات آفات أخر متلازمة بعضها آخذ برقاب بعض وكلما أحدث الناس ظلما وفجورا أحدث لهم ربهم تبارك وتعالى من الآفات والعلل في أغذيتهم وفواكههم وأهويتهم ومياههم وأبدانهم وخلقهم وصورهم وأشكالهم وأخلاقهم من النقص والآفات ما هو موجب أعمالهم وظلمهم وفجورهم
ولقد كانت الحبوب من الحنطة وغيرها أكثر مما هي اليوم كما كانت البركة فيها أعظم وقد روى الإمام أحمد بإسناده : أنه وجد في خزائن بعض بني أمية صرة فيها حنطة أمثال نوى التمر مكتوب عليها : هذا كان ينبت أيام العدل وهذه القصة ذكرها في مسنده على أثر حديث رواه
وأكثر هذه الأمراض والآفات العامة بقية عذاب عذبت به الأمم السالفة ثم بقيت منها بقية مرصدة لمن بقيت عليه بقية من أعمالهم حكما قسطا وقضاء عدلا وقد أشار النبي صلى الله عليه و سلم إلى هذا بقوله في الطاعون : [ إنه بقية رجز أو عذاب أرسل على بني إسرائيل ]
وكذلك سلط الله سبحانه وتعالى الريح على قوم سبع ليال وثمانية أيام ثم أبقى في العالم منها بقية في تلك الأيام وفي نظيرها عظة وعبرة
وقد جعل الله سبحانه أعمال البر والفاجر مقتضيات لآثارها في هذا العالم اقتضاء لا بد منه فجعل منع الإحسان والزكاة والصدقة سببا لمنع الغيث من السماء والقحط والجدب وجعل ظلم المساكين والجنس في المكاييل والموازين وتعدي القوي على الضعيف سببا لجور الملوك والولاة الذين لا يرحمون إن استرحموا ولا يعطفون إن استعطفوا وهم في الحقيقة أعمال الرعايا ظهرت في صور ولاتهم فإن الله سبحانه بحكمته وعدله يظهر للناس أعمالهم في قوالب وصور تناسبها فتارة بقحط وجدب وتارة بعدو وتارة بولاة جائرين وتارة بأمراض عامة وتارة بهموم وآلام وغموم تحضرها نفوسهم لا ينفكون عنها وتارة بمنع بركات السماء والأرض عنهم وتارة بتسليط الشياطين عليهم تؤزهم إلى أسباب العذاب أزا لتحق عليهم الكلمة وليصير كل منهم إلى ما خلق له والعاقل يسير بصيرته بين أقطار العالم فيشاهده وينظر مواقع عدل الله وحكمته وحينئذ يتبين له أن الرسل وأتباعهم خاصة على سبيل النجاة وسائر الخلق على سبيل الهلاك سائرون وإلى دار البوار صائرون والله بالغ أمره لا معقب لحكمه ولا راد لأمره وبالله التوفيق
وقوله صلى الله عليه و سلم في الكمأة وماؤها شفاء للعين فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : أن ماءها يخلط في الأدوية التي يعالج بها العين لا أنه يستعمل وحده ذكره أبو عبيد
الثاني : أنه يستعمل بحتا بعد شيها واستقطار مائها لأن النار تلطفه وتنضجه وتذيب فضلاته ورطوبته المؤذية وتبقي المنافع
الثالث : أن المراد بمائها الماء الذي يحدث به من المطر وهو أول قطر ينزل إلى الأرض فتكون الإضافة إضافة اقتران لا إضافة جزء ذكره ابن الجوزي وهو أبعد الوجوه وأضعفها
وقيل : إن استعمل ماؤها لتبريد ما في العين فماؤها مجردا شفاء وإن كان لغير ذلك فمركب مع غيره
وقال الغافقي : ماء الكمأة أصلح الأدوية للعين إذا عجن به الإثمد واكتحل به ويقوي أجفانها ويزيد الروح الباصرة قوة وحدة ويدفع عنها نزول النوازل
كباث : في الصحيحين : من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم نجني الكباث فقال : [ عليكم بالأسود منه فإنه أطيبه ]
الكباث بفتح الكاف والباء الموحدة المخففة والثاء المثلثة - ثمر الأراك وهو بأرض الحجاز وطبعه حار يابس ومنافعه كمنافع الأراك : يقوي المعدة ويجيد الهضم ويجلو البلغم وينفع من أوجاع الظهر وكثير من الأدواء قال ابن جلجل : إذا شرب طحينه أدر البول ونقى المثانة وقال ابن رضوان : يقوي المعدة ويمسك الطبيعة
كتم : روى البخاري في صحيحه : عن عثمان بن عبد الله بن موهب قال : دخلنا على أم سلمة رضي الله عنها فأخرجت إلينا شعرا من شعر رسول الله فإذا هو مخضوب بالحناء والكتم
وفي السنن الأربعة : عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إن أحسن ما غيرتم به الشيب الحناء والكتم ]
وفي الصحيحين : عن أنس رضي الله عنه أن أبا بكر رضي الله عنه اختضب بالحناء والكتم
وفي سنن أبي داود : عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : [ مر على النبي صلى الله عليه و سلم رجل قد خضب بالحناء فقال : ما أحسن هذا ؟ فمر آخر قد خضب بالحناء والكتم فقال : هذا أحسن من هذا فمر آخر قد خضب بالصفرة فقال : هذا أحسن من هذا كله ]
قال الغافقي : الكتم نبت ينبت بالسهول ورقه قريب من ورق الزيتون يعلو فوق القامة وله ثمر قدر حب الفلفل في داخله نوى إذا رضخ اسود وإذا استخرجت عصارة ورقه وشرب منها قدر أوقية قيأ قيئا شديدا وينفع عن عضة الكلب وأصله إذا طبخ بالماء كان منه مداد يكتب به
وقال الكندي : بزر الكتم إذا اكتحل به حلل الماء النازل في العين وأبرأها
وقد ظن بعض الناس أن الكتم هو الوسمة وهي ورق النيل وهذا وهم فإن الوسمة غير الكتم قال صاحب الصحاح : الكتم بالتحريك : نبت يخلط بالوسمة يختضب به قبل : والوسمة نبات له ورق طويل يضرب لونه إلى الزرقة أكبر من ورق الخلاف يشبه ورق اللوبيا وأكبر منه يؤتى به من الحجاز واليمن
فإن قيل : قد ثبت في الصحيح عن أنس رضي الله عنه أنه قال : لم يختضب النبي صلى الله عليه و سلم
قيل : قد أجاب أحمد بن حنبل عن هذا وقال : قد شهد به غير أنس رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه و سلم أنه خضب وليس من شهد بمنزلة من لم يشهد فأحمد أثبت خضاب النبي صلى الله عليه و سلم ومعه جماعة من المحدثين ومالك أنكره
فإن قيل : فقد ثبت في صحيح مسلم النهي عن الخضاب بالسواد في شأن أبي قحافة لما أتي به ورأسه ولحيته كالثغامة بياضا فقال : [ غيروا هذا الشيب وجنبوه السواد ]
والكتم يسود الشعر
فالجواب من وجهين أحدهما : أن النهي عن التسويد البحت فأما إذا أضيف إلى الحناء شئ آخر كالكتم ونحوه فلا بأس به فإن الكتم والحناء يجعل الشعر بين الأحمر والأسود بخلاف الوسمة فإنها تجعله أسود فاحما وهذا أصح الجوابين
الجواب الثاني : أن الخضاب بالسواد المنهي عنه خضاب التدليس كخضاب شعر الجارية والمرأة الكبيرة تغر الزوج والسيد بذلك وخضاب الشعر يغر المرأة بذلك فإنه من الغش والخداع فأما إذا لم يتضمن تدليسا ولا خداعا فقد صح عن الحسن والحسين رضي الله عنهما أنهما كانا يخضبان بالسواد ذكر ذلك ابن جرير عنهما في كتاب تهذيب الآثار وذكره عن عثمان بن عفان وعبد الله بن جعفر وسعد بن أبي وقاص وعقبة بن عامر والمغيرة بن شعبة وجرير بن عبد الله وعمرو بن العاص وحكاه عن جماعة من التابعين منهم : عمرو بن عثمان وعلي بن عبد الله بن عباس وأبو سلمة بن عبد الرحمن وعبد الرحمن بن الأسود وموسى بن طلحة والزهري وأيوب وإسماعيل بن معدي كرب
وحكاه ابن الجوزي عن محارب بن دثار ويزيد وابن جريج وأبي يوسف وأبي إسحاق وابن أبي ليلى وزياد بن علاقة وغيلان بن جامع ونافع بن جبير وعمرو بن علي المقدمي والقاسم بن سلام
كرم : شجرة العنب وهي الحبلة ويكره تسميتها كرما لما روى مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا يقولن أحدكم للعنب الكرم الكرم : الرجل المسلم ] وفي رواية : [ إنما الكرم قلب المؤمن ] وفي أخرى : [ لا تقولوا : الكرم وقولوا : العنب والحبلة ]
وفي هذا معنيان :
أحدهما : أن العرب كانت تسمي شجرة العنب الكرم لكثرة منافعها وخيرها فكره النبي صلى الله عليه و سلم تسميتها باسم يهيج النفوس على محبتها ومحبة ما يتخذ منها من المسكر وهو أم الخبائث فكره أن يسمى أصله بأحسن الأسماء وأجمعها للخير
والثاني : أنه من باب قوله : [ ليس الشديد بالصرعة ] [ وليس المسكين بالطواف ] أي : أنكم تسمون شجرة العنب كرما لكثرة منافعه وقلب المؤمن أو الرجل المسلم أولى بهذا الإسم منه فإن المؤمن خير كله ونفع فهو من باب التنبيه والتعريف لما في قلب المؤمن من الخير والجود والإيمان والنور والهدى والتقوى والصفات التي يستحق بها هذا الإسم أكثر من استحقاق الحبلة له
وبعد : فقوة الحبلة باردة يابسة وورقها وعلائقها وعرموشها مبرد في آخر الدرجة الأولى وإذا دقت وضمد بها من الصداع سكنته ومن الأورام الحارة والتهاب المعدة وعصارة قضبانه إذا شربت سكنت القئ وعقلت البطن وكذلك إذا مضغت قلوبها الرطبة وعصارة ورقها تنفع من قروح الأمعاء ونفث الدم وقيئه ووجع المعدة ودمع شجره الذي يحمل على القضبان كالصمغ إذا شرب أخرج الحصاة وإذا لطخ به أبرأ القوب والجرب المتقرح وغيره وينبغي غسل العضو قبل استعمالها بالماء والنطرون وإذا تمسح بها مع الزيت حلق الشعر ورماد قضبانه إذا تضمد به مع الخل ودهن الورد والسذاب نفع من الورم العارض في الطحال وقوة دهن زهرة الكرم قابضة شبيهة بقوة دهن الورد ومنافعها كثيرة قريبة من منافع النخلة
كرفس : روي في حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من أكله ثم نام عليه نام ونكهته طيبة وينام آمنا من وجع الأضراس والأسنان ] وهذا باطل على رسول الله صلى الله عليه و سلم ولكن البستاني منه يطيب النكهة جدا وإذا علق أصله في الرقبه نفع من وجع الأسنان
وهو حار يابس وقيل : رطب مفتح لسداد الكبد والطحال وورقه رطبا ينفع المعدة والكبد الباردة ويدر البول والطمث ويفتت الحصاة وحبه أقوى في ذلك ويهيج الباه وينفع من البخر قال الرازي : وينبغي أن يجتنب أكله إذا خيف من لدغ العقارب
كراث : فيه حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم بل هو باطل موضوع : [ من أكل الكراث ثم نام عليه نام آمنا من ريح البواسير واعتزله الملك لنتن نكهته حتى يصبح ]
وهو نوعان : نبطي وشامي فالنبطي : البقل الذي يوضع على المائدة والشامي : الذي له رؤوس وهو حار يابس مصدع وإذا طبخ وأكل أو شرب ماؤه نفع من البواسير الباردة وإن سحق بزره وعجن بقطران وبخرت به الأضراس التي فيها الدود نثرها وأخرجها ويسكن الوجع العارض فيها وإذا دخنت المقعدة ببزره خفت البواسير هذا كله في الكراث النبطي
وفيه مع ذلك فساد الأسنان واللثة ويصدع ويري أحلاما رديئة ويظلم البصر وينتن النكهة وفيه إدرار للبول والطمث وتحريك للباه وهو بطيء الهضم (4/326)
حرف اللام
لحم : قال الله تعالى : { وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون } [ الطور : 22 ] وقال : { ولحم طير مما يشتهون } [ الواقعة : 21 ]
وفي سنن ابن ماجه من حديث أبي الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ سيد طعام أهل الدنيا وأهل الجنة اللحم ] ومن حديث بريدة يرفعه : [ خير الإدام في الدنيا والآخرة اللحم ]
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه و سلم : [ فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ] والثريد : الخبز واللحم قال الشاعر :
( إذا ما الخبز تأدمه بلحم ... فذاك أمانة الله الثريد )
وقال الزهري : أكل اللحم يزيد سبعين قوة وقال محمد بن واسع : اللحم يزيد في البصر ؟ ويروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : كلوا اللحم فإنة يصفي اللون ويخمص البطن ويحسن الخلق وقال نافع : كان ابن عمر إذا كان رمضان لم يفته اللحم وإذا سافر لم يفته اللحم ويذكر عن علي : من تركه أربعين ليلة ساء خلقه
وأما حديث عائشة رضي الله عنها الذي رواه أبو دواد مرفوعا : [ لا تقطعوا اللحم بالسكين فإنه من صنيع الأعاجم وانهسوه فإنه أهنأ وأمرأ ] فرده الإمام أحمد بما صح عنه صلى الله عليه و سلم من قطعه بالسكين في حديثين وقد تقدما
واللحم أجناس يختلف باختلاف أصوله وطبائعه فنذكر حكم كل جنس وطبعه ومنفعته ومضرته
لحم الضأن : حار في الثانية رطب في الأولى جيده الحولي يولد الدم المحمود القوي لمن جاد هضمه يصلح لأصحاب الأمزجة الباردة والمعتدلة ولأهل الرياضات التامة في المواضع والفصول الباردة نافع لأصحاب المرة السوداء يقوي الذهن والحفظ ولحم الهرم والعجيف رديء وكذلك لحم النعاج وأجوده : لحم الذكر الأسود منه فإنه أخف وألذ وأنفع والخصي أنفع وأجود والأحمر من الحيوان السمين أخف وأجود غذاء والجذع من المعز أقل تغذية ويطفو في المعدة
وأفضل اللحم عائذه بالعظم والأيمن أخف وأجود من الأيسر المقدم أفضل من المؤخر وكان أحب الشاة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم مقدمها وكل ما علا منه سوى الرأس كان أخف وأجود مما سفل وأعطى الفرزدق رجلا يشتري له لحما وقال له : خذ المقدم وإياك والرأس والبطن فإن الداء فيهما ولحم العنق جيد لذيذ سريع الهضم خفيف ولحم الذراع أخف اللحم وألذه وألطفه وأبعده من الأذى وأسرعه انهضاما
وفي الصحيحين : أنه كان يعجب رسول الله صلى الله عليه و سلم : ولحم الظهر كثير الغذاء يولد دما محمودا وفي سنن ابن ماجه مرفوعا : [ أطيب اللحم لحم الظهر ]
لحم المعز : قليل الحرارة يابس وخلطه المتولد منه ليس بفاضل وليس بجيد الهضم ولا محمود الغذاء ولحم التيس رديء مطلقا شديد اليبس عسر الإنهضام مولد للخلط السوداوي
قال الجاحظ : قال لي فاضل من الأطباء : يا أبا عثمان ! إياك ولحم المعز فإنه يورث الغم ويحرك السوداء ويورث النسيان ويفسد الدم وهو والله يخبل الأولاد
وقال بعض الأطباء : إنما المذموم منه المسن ولا سيما للمسنين ولا رداءة فيه لمن اعتاده وجالينوس جعل الحولي منه من الأغذية المعتدلة المعدلة للكيموس المحمود وإناثه أنفع من ذكوره
وقد روى النسائي في سننه عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ أحسنوا إلى الماعز وأميطوا عنها الأذى فإنها من دواب الجنة ] وفي ثبوت هذا الحديث نظر وحكم الأطباء عليه بالمضرة حكم جزئي ليس بكلي عام وهو بحسب المعدة الضعيفة والأمزجة الضعيفة التي لم تعتده واعتادت المأكولات اللطيفة وهؤلاء أهل الرفاهية من أهل المدن وهم القليلون من الناس
لحم الجدي : قريب إلى الإعتدال خاصة ما دام رضيعا ولم يكن قريب العهد بالولادة وهو أسرع هضما لما فيه من قوة اللبن ملين للطبع موافق لأكثر الناس في أكثر الأحوال وهو ألطف من لحم الجمل والدم المتولد عنه معتدل
لحم البقر : بارد يابس عسر الإنهضام بطيء الإنحدار يولد دما سوداويا لا يصلح إلا لأهل الكد والتعب الشديد ويورث إدمانه الأمراض السوداوية كالبهق والجرب والقوباء والجذام وداء الفيل والسرطان والوسواس وحمى الربع وكثير من الأورام وهذا لمن لم يعتده أو لم يدفع ضرره بالفلفل والثوم والدارصيني والزنجبيل ونحوه وذكره أقل برودة وأنثاه أقل يبسا ولحم العجل ولا سيما السمين من أعدل الأغذية وأطيبها وألذها وأحمدها وهو حار رطب وإذا انهضم غذى غذاء قويا
لحم الفرس : ثبت في الصحيح عن أسماء رضي الله عنها قالت : نحرنا فرسا فأكلناه على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم وثبت عنه صلى الله عليه و سلم أنه أذن في لحوم الخيل ونهى عن لحوم الحمر أخرجاه في الصحيحين
ولا يثبت عنه حديث المقدام بن معدي كرب - رضي الله عنه - أنه نهى عنه قاله أبو داود وغيره من أهل الحديث
واقترانه بالبغال والحمير في القرآن لا يدل على أن حكم لحمه حكم لحومها بوجه من الوجوه كما لا يدل على أن حكمها في السهم في الغنيمة حكم الفرس والله سبحانه يقرن في الذكر بين المتماثلات تارة وبين المختلفات وبين المتضادات وليس في قوله : { لتركبوها } [ النحل : 8 ] ما يمنع من أكلها كما ليس فيه ما يمنع من غير الركوب من وجوه الإنتفاع وإنما نص على أجل منافعها وهو الركوب والحديثان في حلها صحيحان لا معارض لهما وبعد : فلحمها حار يابس غليظ سوداوي مضر لا يصلح للأبدان اللطيفة
لحم الجمل : فرق ما بين الرافضة وأهل السنة كما أنه أحد الفروق بين اليهود وأهل الإسلام فاليهود والرافضة تذمه ولا تأكله وقد علم بالإضطرار من دين الإسلام حله وطالما أكله رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه حضرا وسفرا
ولحم الفصيل منه من ألذ اللحوم وأطيبها وأقواها غذاء وهو لمن اعتاده بمنزلة لحم الضأن لا يضرهم البتة ولا يولد لهم داء وإنما ذمه بعض الأطباء بالنسبة إلى أهل الرفاهية من أهل الحضر الذين لم يعتادوه فإن فيه حرارة ويبسا وتوليدا للسوداء وهو عسر الإنهضام وفيه قوة غير محمودة لأجلها أمر النبي صلى الله عليه و سلم بالوضوء من أكله في حديثين صحيحين لا معارض لهما ولا يصح تأويلهما بغسل اليد لأنه خلاف المعهود من الوضوء في كلامه صلى الله عليه و سلم لتفريقه بينه وبين لحم الغنم فخير بين الوضوء وتركه منها وحتم الوضوء من لحوم الإبل ولو حمل الوضوء على غسل اليد فقط لحمل على ذلك في قوله : [ من مس فرجه فليتوضأ ]
وأيضا : فإن آكلها قد لا يباشر أكلها بيده بأن يوضع في فمه فإن كان وضؤوه غسل يده فهو عبث وحمل لكلام الشارع على غير معهوده وعرفه ولا يصح معارضته بحديث : [ كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه و سلم ترك الوضوء مما مست النار ] لعدة أوجه :
أحدها : أن هذا عام والأمر بالوضوء منها خاص
الثاني : أن الجهة مختلفة فالأمر بالوضوء منها بجهة كونها لحم إبل سواء كان نيئا أو مطبوخا أو قديدا ولا تأثير للنار في الوضوء وأما ترك الوضوء مما مست النار ففيه بيان أن مس النار ليس بسبب للوضوء فأين أحدهما من الآخر ؟ هذا فيه إثبات سبب الوضوء وهو كونه لحم إبل وهذا فيه نفي لسبب الوضوء وهو كونه ممسوس النار فلا تعارض بينهما بوجه
الثالث : أن هذا ليس فيه حكاية ولفظ عام عن صاحب الشرع وإنما هو إخبار عن واقعة فعل في أمرين أحدهما : متقدم على الآخر كما جاء ذلك مباين في نفس الحديث أنهم قربوا إلى النبي صلى الله عليه و سلم لحما فأكل ثم حضرت الصلاة فتوضأ فصلى ثم قربوا إليه فأكل ثم صلى ولم يتوضأ فكان آخر الأمرين منه ترك الوضوء مما مست النار هكذا جاء الحديث فاختصره الراوي لمكان الإستدلال فأين في هذا ما يصلح لنسخ الأمر بالوضوء منه حتى لو كان لفظا عاما متأخرا مقاوما لم يصلح للنسخ ووجب تقديم الخاص عليه وهذا في غاية الظهور
لحم الضب : تقدم الحديث في حله ولحمه حار يابس يقوي شهوة الجماع
لحم الغزال : الغزال أصلح الصيد وأحمده لحما وهو حار يابس وقيل : معتدل جدا نافع للأبدان المعتدلة الصحيحة وجيده الخشف
لحم الظبي : حار يابس في الأولى مجفف للبدن صالح للأبدان الرطبة قال صاحب القانون : وأفضل لحوم الوحش لحم الظبي مع ميله إلى السوداوية
لحم الأرانب : ثبت في الصحيحين : عن أنس بن مالك قال أنفجنا أرنبا فسعوا في طلبها فأخذوها فبعث أبو طلحة بوركها إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقبله
لحم الأرنب : معتدل إلى الحرارة واليبوسة وأطيبها وركها وأحمده أكل لحمها مشويا وهو يعقل البطن ويدر البول ويفتت الحصى وأكل رؤوسها ينفع من الرعشة
لحم حمار الوحش : ثبت في الصحيحين : من حديث أبي قتادة رضي الله عنه أنهم كانوا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في بعض عمره وأنه صاد حمار وحش فأمرهم النبي صلى الله عليه و سلم بأكله وكانوا محرمين ولم يكن أبو قتادة محرما
وفي سنن ابن ماجه : عن جابر قال : أكلنا زمن خيبر الخيل وحمر الوحش
لحمه حار يابس كثير التغذية مولد دما غليظا سوداويا إلا أن شحمه نافع مع دهن القسط لوجع الظهر والريح الغليظة المرخية للكلى وشحمه جيد للكلف طلاء وبالجملة فلحوم الوحوش كلها تولد دما غليظا سوداويا وأحمده الغزال وبعده الأرنب
لحوم الأجنة : غير محمودة لاحتقان الدم فيها وليست بحرام لقوله صلى الله عليه و سلم : [ ذكاة الجنين ذكاة أمه ]
ومنع أهل العراق من أكله إلا أن يدركه حيا فيذكيه وأولوا الحديث على أن المراد به أن ذكاته كذكاة أمه قالوا : فهو حجة على التحريم وهذا فاسد فإن أول الحديث أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا : يا رسول الله ! نذبح الشاة فنجد في بطنها جنينا أفنأكله ؟ فقال : [ كلوه إن شئتم فإن ذكاته ذكاة أمه ]
وأيضا : فالقياس يقتضي حله فإنه ما دام حملا فهو جزء من أجزاء الأم فذكاتها ذكاة لجميع أجزائها وهذا هو الذي أشار إليه صاحب الشرع بقوله : ذكاته ذكاة أمه كما تكون ذكاتها ذكاة سائر أجزائها فلو لم تأت عنه السنة الصريحة بأكله لكان القياس الصحيح يقتضي حله
لحم القديد : في السنن من حديث ثوبان رضي الله عنه قال : ذبحت لرسول الله صلى الله عليه و سلم شاة ونحن مسافرون فقال : [ أصلح لحمها ] فلم أزل أطعمه منه إلى المدينة
القديد : أنفع من النمكسود ويقوي الأبدان ويحدث حكة ودفع ضرره بالأبازير الباردة الرطبة ويصلح الأمزجة الحارة والنمكسود : حار يابس مجفف جيده من السمين الرطب يضر بالقولنج ودفع مضرته طبخه باللبن والدهن ويصلح للمزاج الحار الرطب (4/340)
فصل
في لحوم الطير
قال الله تعالى : { ولحم طير مما يشتهون } [ الواقعة : 21 ]
وفي مسند البزار وغيره مرفوعا [ إنك لتنظر إلى الطير في الجنة فتشتهيه فيخر مشويا بين يديك ]
ومنه حلال ومنه حرام فالحرام : ذو المخلب كالصقر والبازي والشاهين وما يأكل الجيف كالنسر والرخم واللقلق والعقعق والغراب الأبقع والأسود الكبير وما نهي عن قتله كالهدهد والصرد وما أمر بقتله كالحدأة والغراب
والحلال أصناف كثيرة فمنه الدجاج ففي الصحيحين : من حديث موسى أن النبي صلى الله عليه و سلم أكل لحم الدجاج وهو حار رطب في الأولى خفيف على المعدة سريع الهضم جيد الخلط يزيد في الدماغ والمني ويصفي الصوت ويحسن اللون ويقوي العقل ويولد دما جيدا وهو مائل إلى الرطوبة ويقال : إن مداومة أكله تورث النقرس ولا يثبت ذلك
ولحم الديك أسخن مزاجا وأقل رطوبة والعتيق منه دواء ينفع القولنج والربو والرياح الغليظة إذا طبخ بماء القرطم والشبث وخصيها محمود الغذاء سريع الإنهضام والفراريج سريعة الهضم ملينة للطبع والدم المتولد منها دم لطيف جيد
لحم الدراج : حار يابس في الثانية خفيف لطيف سريع الإنهضام مولد للدم المعتدل والإكثار منه يحد البصر
لحم الحجل : يولد الدم الجيد سريع الإنهضام
لحم الإوز : حار يابس رديء الغذاء إذا اعتيد وليس بكثير الفضول
لحم البط : حار رطب كثير الفضول عسر الإنهضام غير موافق للمعدة
لحم الحبارى : في السنن من حديث بريه بن عمر بن سفينة عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال : أكلت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم لحم حبارى
وهو حار يابس عسر الإنهضام نافع لأصحاب الرياضة والتعب
لحم الكركي : يابس خفيف وفي حره وبرده خلاف يولد دما سوداويا ويصلح لأصحاب الكد والتعب وينبغي أن يترك بعد ذبحه يوما أو يومين ثم يؤكل
لحم العصافير والقنابر : روى النسائي في سننه : من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ما من إنسان يقتل عصفورا فما فوقه بغير حقه إلا سأله الله عز و جل عنها قيل : يا رسول الله ! وما حقه ؟ قال : تذبحه فتأكله ولا تقطع رأسه وترمي به ]
وفي سننه أيضا : عن عمرو بن الشريد عن أبيه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ من قتل عصفورا عبثا عج إلى الله يقول : يا رب إن فلانا قتلني عبثا ولم يقتلني لمنفعة ]
ولحمه حار يابس عاقل للطبيعة يزيد في الباه ومرقه يلين الطبع وينفع المفاصل وإذا أكلت أدمغتها بالزنجيبل والبصل هيجت شهوة الجماع وخلطها غير محمود
لحم الحمام : حار رطب وحشيه أقل رطوبة وفراخه أرطب خاصية وما ربي في الدور وناهضه أخف لحما وأحمد غذاء ولحم ذكورها شفاء من الإسترخاء والخدر والسكتة والرعشة وكذلك شم رائحة أنفاسها وأكل فراخها معين على النساء وهو جيد للكلى يزيد في الدم وقد روي فيها حديث باطل لا أصل له عن رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أن رجلا شكى إليه الوحدة فقال : اتخذ زوجا من الحمام ] وأجود من هذا الحديث أنه صلى الله عليه و سلم رأى رجلا يتبع حمامة فقال : شيطان يتبع شيطانة
وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه في خطبته يأمر بقتل الكلاب وذبح الحمام
لحم القطا : يابس يولد السوداء ويحبس الطبع وهو من شر الغذاء إلا أنه ينفع من الإستسقاء
لحم السمانى : حار يابس ينفع المفاصل ويضر بالكبد الحار ودفع مضرته بالخل والكسفرة وينبغي أن يجتنب من لحوم الطير ما كان في الآجام والمواضع العفنة ولحوم الطير كلها أسرع انهضاما من المواشي وأسرعها انهضاما أقلها غذاء وهي الرقاب والأجنحة وأدمغتها أحمد من أدمغة المواشي
الجراد : في الصحيحين : عن عبد الله بن أبي أوفى قال : غزونا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم سبع غزوات نأكل الجراد
وفي المسند عنه : [ أحلت لنا ميتتان ودمان : الحوت والجراد والكبد والطحال ] يروى مرفوعا وموقوفا على ابن عمر رضي الله عنه
وهو حار يابس قليل الغذاء وإدامة أكله تورث الهزال وإذا تبخر به نفع من تقطير البول وعسره وخصوصا للنساء ويتبخر به للبواسير وسمانه يشوى ويؤكل للسع العقرب وهو ضار لأصحاب الضرع رديء الخلط وفي إباحة ميتته بلا سبب قولان فالجمهور على حله وحرمه مالك ولا خلاف في إباحة ميتته إذا مات بسبب كالكبس والتحريق ونحوه (4/348)
فصل
وينبغي ألا يداوم على أكل اللحم فإنه يورث الأمراض الدموية والإمتلائية والحميات الحادة وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : إياكم واللحم فإن له ضراوة كضراوة الخمر ذكره مالك في الموطأ عنه وقال أبقراط : لا تجعلوا أجوافكم مقبرة للحيوان
اللبن : قال الله تعالى : { وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين } [ النحل : 66 ] وقال في الجنة : { فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه } [ محمد : 15 ] وفي السنن مرفوعا : [ من أطعمه الله طعاما فليقل : اللهم بارك لنا فيه وارزقنا خيرا منه ومن سقاه الله لبنا فليقل : اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه فإني لا أعلم ما يجزئ من الطعام والشراب إلا اللبن ]
اللبن : وإن كان بسيطا في الحس إلا أنه مركب في أصل الخلقة تركيبا طبيعيا من جواهر ثلاثة : الجبنية والسمنية والمائية فالجبنية : باردة رطبة مغذية للبدن والسمنية : معتدلة الحرارة والرطوبة ملائمة للبدن الإنساني الصحيح كثيرة المنافع والمائية : حارة رطبة مطلقة للطبيعة مرطبة للبدن واللبن على الإطلاق أبرد وأرطب من المعتدل
وقيل : قوته عند حلبه الحرارة والرطوبة وقيل : معتدل في الحرارة والبرودة
وأجود ما يكون اللبن حين يحلب ثم لا يزال تنقص جودته على ممر الساعات فيكون حين يحلب أقل برودة وأكثر رطوبة والحامض بالعكس ويختار اللبن بعد الولادة بأربعين يوما وأجوده ما اشتد بياضه وطاب ريحه ولذ طعمه وكان فيه حلاوة يسيرة ودسومة معتدلة واعتدل قوامه في الرقة والغلظ وحلب من حيوان فتي صحيح معتدل اللحم محمود المرعى والمشرب
وهو محمود يولد دما جيدا ويرطب البدن اليابس ويغذو غذاء حسنا وينفع من الوسواس والغم والأمراض السوداوية وإذا شرب مع العسل نقى القروح الباطنة من الأخلاط العفنة وشربه مع السكر يحسن اللون جدا والحليب يتدارك ضرر الجماع ويوافق الصدر والرئة جيد لأصحاب السل رديء للرأس والمعدة والكبد والطحال والإكثار منه مضر بالأسنان واللثة ولذلك ينبغي أن يتمضمض بعده بالماء وفي الصحيحين : أن النبي صلى الله عليه و سلم شرب لبنا ثم دعا بماء فتمضمض وقال : [ إن له دسما ] وهو رديء للمحمومين وأصحاب الصداع مؤذ للدماغ والرأس الضعيف والمداومة عليه تحدث ظلمة البصر والغشاء ووجع المفاصل وسدة الكبد والنفخ في المعدة والأحشاء وإصلاحه بالعسل والزنجبيل المربى ونحوه وهذا كله لمن لم يعتده
لبن الضأن : أغلظ الألبان وأرطبها وفيه من الدسومة والزهومة ما ليس في لبن الماعز والبقر يولد فضولا بلغميا ويحدث في الجلد بياضا إذا أدمن استعماله ولذلك ينبغي أن يشرب هذا اللبن بالماء ليكون ما نال البدن منه أقل وتسكينه للعطش أسرع وتبريده أكثر
لبن المعز : لطيف معتدل مطلق للبطن مرطب للبدن اليابس نافع من قروح الحلق والسعال اليابس ونفث الدم
واللبن المطلق أنفع المشروبات للبدن الإنساني لما اجتمع فيه من التغذية والدموية ولاعتياده حال الطفولية وموافقته للفطرة الأصلية وفي الصحيحين : [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أتي ليلة أسري به بقدح من خمر وقدح من لبن فنظر إليهما ثم أخذ اللبن فقال جبريل : الحمد لله الذي هداك للفطرة لو أخذت الخمر غوت أمتك ] والحامض منه بطيء الإستمراء خام الخلط والمعدة الحارة تهضمه وتنتفع به
لبن البقر : يغذو البدن ويخصبه ويطلق البطن باعتدال وهو من أعدل الألبان وأفضلها بين لبن الضأن ولبن المعز في الرقة والغلظ والدسم وفي السنن : من حديث عبد الله بن مسعود يرفعه : [ عليكم بألبان البقر فإنها ترم من كل الشجر ]
لبن الإبل : تقدم ذكره في أول الفصل وذكر منافعه فلا حاجة لإعادته
لبان : هو الكندر : قد ورد فيه عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ بخروا بيوتكم باللبان والصعتر ] ولا يصح عنه ولكن يروى عن علي أنه قال لرجل شكا إليه النسيان : عليك باللبان فإنه يشجع القلب ويذهب بالنسيان ويذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما أن شربه مع السكر على الريق جيد للبول والنسيان ويذكر عن أنس رضي الله عنه أنه شكا إليه رجل النسيان فقال : عليك بالكندر وانقعه من الليل فإذا أصبحت فخذ منه شربة على الريق فإنه جيد للنسيان
ولهذا سبب طبيعي ظاهر فإن النسيان إذا كان لسوء مزاج بارد رطب يغلب على الدماغ فلا يحفظ ما ينطبع فيه نفع منه اللبان وأما إذا كان النسيان لغلبة شئ عارض أمكن زواله سريعا بالمرطبات والفرق بينهما أن اليبوسي يتبعه سهر وحفظ الأمور الماضية دون الحالية والرطوبي بالعكس
وقد يحدث النسيان أشياء بالخاصية كحجامة نقرة القفا وإدمان أكل الكسفرة الرطبة والتفاح الحامض وكثرة الهم والغم والنظر في الماء الواقف والبول فيه والنظر إلى المصلوب والإكثار من قراءة ألواح القبور والمشي بين جملين مقطورين وإلقاء القمل في الحياض وأكل سؤر الفأر وأكثر هذا معروف بالتجربة
والمقصود : أن اللبان مسخن في الدرجة الثانية ومجفف في الأولى وفيه قبض يسير وهو كثير المنافع قليل المضار فمن منافعه : أن ينفع من قذف الدم ونزفه ووجع المعدة واستطلاق البطن ويهضم الطعام ويطرد الرياح ويجلو قروح العين وينبت اللحم في سائر القروح ويقوي المعدة الضعيفة ويسخنها ويجفف البلغم وينشف رطوبات الصدر ويجلو ظلمة البصر ويمنع القروح الخبيثة من الإنتشار وإذا مضغ وحده أو مع الصعتر الفارسي جلب البلغم ونفع من اعتقال اللسان ويزيد في الذهن ويذكيه وإن بخر به ماء نفع من الوباء وطيب رائحة الهواء (4/352)
حرف الميم
ماء : مادة الحياة وسيد الشراب وأحد أركان العالم بل ركنه الأصلي فإن السماوات خلقت من بخاره والأرض من زبده وقد جعل الله منه كل شئ حي
وقد اختلف فيه : هل يغذو أو ينفذ الغذاء فقط ؟ على قولين وقد تقدما وذكرنا القول الراجح ودليله
وهو بارد رطب يقمع الحرارة ويحفظ على البدن رطوباته ويرد عليه بدل ما تحلل منه ويرقق الغذاء وينفذه في العروق
وتعتبر جودة الماء من عشرة طرق :
أحدها : من لونه بأن يكون صافيا
الثاني : من رائحته بأن لا تكون له رائحة البتة
الثالث : من طعمه بأن يكون عذب الطعم حلوه كماء النيل والفرات
الرابع : من وزنه بأن يكون خفيفا رقيق القوام
الخامس : من مجراه بأن يكون طيب المجرى والمسلك
السادس : من منبعه بأن يكون بعيد المنبع
السابع : من بروزه للشمس والريح بأن لا يكون مختفيا تحت الأرض فلا تتمكن الشمس والريح من قصارته
الثامن : من حركته بأن يكون سريع الجري والحركة
التاسع : من كثرته بأن يكون له كثرة يدفع الفضلات المخالطة له
العاشر : من مصبه بأن يكون آخذا من الشمال إلى الجنوب أو من المغرب إلى المشرق
وإذا اعتبرت هذه الأوصاف لم تجدها بكمالها إلا في الأنهار الاربعة : النيل والفرات وسيحون وجيحون
وفي الصحيحين : من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ سيحان وجيحان والنيل والفرات كل من أنهار الجنة ]
وتعتبر خفة الماء من ثلاثة أوجه أحدها : سرعة قبوله للحر والبرد قال أبقراط : الماء الذي يسخن سريعا ويبرد سريعا أخف المياه الثاني : بالميزان الثالث : أن تبل قطنتان متساويتا الوزن بماءين مختلفين ثم يجففا بالغا ثم توزنا فأيتهما كانت أخف فماؤها كذلك
والماء وإن كان في الأصل باردا رطبا فإن قوته تنتقل وتتغير لأسباب عارضة توجب انتقالها فإن الماء المكشوف للشمال المستور عن الجهات الأخر يكون باردا وفيه يبس مكتسب من ريح الشمال وكذلك الحكم على سائر الجهات الأخر
والماء الذي ينبع من المعادن يكون على طبيعة ذلك المعدن ويؤثر في البدن تأثيره والماء العذب نافع للمرضى والأصحاء والبارد منه أنفع وألذ ولا ينبغي شربه على الريق ولا عقيب الجماع ولا الإنتباه من النوم ولا عقيب الحمام ولا عقيب أكل الفاكهة وقد تقدم وأما على الطعام فلا بأس به إذا اضطر إليه بل يتعين ولا يكثر منه بل يتمصصه مصا فإنه لا يضره البتة بل يقوي المعدة وينهض الشهوة ويزيل العطش
والماء الفاتر ينفخ ويفعل ضد ما ذكرناه وبائته أجود من طريه وقد تقدم والبارد ينفع من داخل أكثر من نفعه من خارج والحار بالعكس وينفع البارد من عفونة الدم وصعود الأبخرة إلى الرأس ويدفع العفونات ويوافق الأمزجة والأسنان والأزمان والأماكن الحارة ويضر على كل حالة تحتاج إلى نضج وتحليل كالزكام والأورام والشديد البرودة منه يؤذي الأسنان والإدمان عليه يحدث انفجار الدم والنزلات وأوجاع الصدر
والبارد والحار بإفراط ضاران للعصب ولأكثر الأعضاء لأن أحدهما محلل والآخر مكثف والماء الحار يسكن لذع الأخلاط الحادة ويحلل وينضج ويخرج الفضول ويرطب ويسخن ويفسد الهضم شربه ويطفو بالطعام إلى أعلى المعدة ويرخيها ولا يسرع في تسكين العطش ويذبل البدن ويؤدي إلى أمراض رديئة ويضر في أكثر الأمراض على أنه صالح للشيوخ وأصحاب الصرع والصداع البارد والرمد وأنفع ما استعمل من خارج
ولا يصح في الماء المسخن بالشمس حديث ولا أثر ولا كرهه أحد من قدماء الأطباء ولا عابوه والشديد السخونة يذيب شحم الكلى وقد تقدم الكلام على ماء الأمطار في حرف العين
ماء الثلج والبرد : ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه كان يدعو في الإستفتاح وغيره : [ اللهم اغسلني من خطاياي بماء الثلج والبرد ]
الثلج له في نفسه كيفية حادة دخانية فماؤه كذلك وقد تقدم وجه الحكمة في طلب الغسل من الخطايا بمائه لما يحتاج إليه القلب من التبريد والتصليب والتقوية ويستفاد من هذا أصل طب الأبدان والقلوب ومعالجة أدوائها بضدها
وماء البرد ألطف وألذ من ماء الثلج وأما ماء الجمد وهو الجليد فبحسب أصله
والثلج يكتسب كيفية الجبال والأرض التي يسقط عليها في الجودة والرداءة وينبغي تجنب شرب الماء المثلوج عقيب الحمام والجماع والرياضة والطعام الحار ولأصحاب السعال ووجع الصدر وضعف الكبد وأصحاب الأمزجة الباردة
ماء الآبار والقني : مياه الآبار قليلة اللطافة وماء القني المدفونة تحت الأرض ثقيل لأن أحدهما محتقن لا يخلو عن تعفن والآخر محجوب عن الهواء وينبغي ألا يشرب على الفور حتى يصمد للهواء وتأتي عليه ليلة وأردؤه ما كانت مجاريه من رصاص أو كانت بئره معطلة ولا سيما إذا كانت تربتها رديئة فهذا الماء وبيء وخيم
ماء زمزم : سيد المياه وأشرفها وأجلها قدرا وأحبها إلى النفوس وأغلاها ثمنا وأنفسها عند الناس وهو هزمة جبريل وسقيا الله إسماعيل
وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لأبي ذر وقد أقام بين الكعبة وأستارها أربعين ما بين يوم وليلة ليس له طعام غيره فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إنها طعام طعم ] وزاد غير مسلم بإسناده : [ وشفاء سقم ]
وفي سنن ابن ماجه من حديث جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال : [ ماء زمزم لما شرب له ] وقد ضعف هذا الحديث طائفة بعبد الله بن المؤمل راويه عن محمد بن المنكدر وقد روينا عن عبد الله بن المبارك أنه لما حج أتى زمزم فقال : اللهم إن ابن أبي الموالي حدثنا عن محمد بن المنكدر عن جابر رضي الله عنه عن نبيك صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ ماء زمزم لما شرب له ] وإني أشربه لظمإ يوم القيامة وابن أبي الموالي ثقة فالحديث إذا حسن وقد صححه بعضهم وجعله بعضهم موضوعا وكلا القولين فيه مجازفة
وقد جربت أنا وغيري من الإستثسفاء بماء زمزم أمورا عجيبة واستشفيت به من عدة أمراض فبرأت بإذن الله وشاهدت من يتغذى به الأيام ذوات العدد قريبا من نصف الشهر أو أكثر ولا يجد جوعا ويطوف مع الناس كأحدهم وأخبرني أنه ربما بقي عليه أربعين يوما وكان له قوة يجامع بها أهله ويصوم ويطوف مرارا
ماء النيل : أحد أنهار الجنة أصله من وراء جبال القمر في أقصى بلاد الحبشة من أمطار تجتمع هناك وسيول يمد بعضها بعضا فيسوقه الله تعالى إلى الأرض الجرز التي لا نبات لها فيخرج به زرعا تأكل منه الأنعام والأنام ولما كانت الأرض التي يسوقه إليها إبليزا صلبة إن أمطرت مطر العادة لم ترو ولم تتهيأ للنبات وإن أمطرت فوق العادة ضرت المساكن والساكن وعطلت المعايش والمصالح فأمطر البلاد البعيدة ثم ساق تلك الأمطار إلى هذه الأرض في نهر عظيم وجعل سبحانه زيادته في أوقات معلومة على قدر ري البلاد وكفايتها فإذا أروى البلاد وعمها أذن سبحانه بتناقصه وهبوطه لتتم المصلحة بالتمكن من الزرع واجتمع في هذا الماء الأمور العشرة التي تقدم ذكرها وكان من ألطف المياه وأخفها وأعذبها وأحلاها
ماء البحر : ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال في البحر : [ هو الطهور ماؤه الحل ميتته ] وقد جعله الله سبحانه ملحا أجاجا مرا زعاقا لتمام مصالح من هو على وجه الأرض من الآدميين والبهائم فإنه دائم راكد كثير الحيوان وهو يموت فيه كثيرا ولا يقبر فلو كان حلوا لأنتن من إقامته وموت حيواناته فيه وأجاف وكان الهواء المحيط بالعالم يكتسب منه ذلك وينتن ويجيف فيفسد العالم فاقتضت حكمة الرب سبحانه وتعالى أن جعله كالملاحة التي لو ألقي فيه جيف العالم كلها وأنتانه وأمواته لم تغيره شيئا ولا يتغير على مكثه من حين خلق والى أن يطوي الله العالم فهذا هو السبب الغائي الموجب لملوحته وأما الفاعلي فكون أرضه سبخة مالحة
وبعد فالإغتسال به نافع من آفات عديدة في ظاهر الجلد وشربه مضر بداخله وخارجه فإنه يطلق البطن ويهزل ويحدث حكة وجربا ونفخا وعطشا ومن اضطر إلى شربه فله طرق من العلاج يدفع بها مضرته
منها : أن يجعل في قدر ويجعل فوق القدر قصبات وعليها صوف جديد منفوش ويوقد تحت القدر حتى يرتفع بخارها إلى الصوف فإذا كثر عصره ولا يزال يفعل ذلك حتى يجتمع له ما يريد فيحصل في الصوف من البخار ما عذب ويبقى في القدر الزعاق
ومنها : أن يحفر على شاطئه حفرة واسعة يرشح ماؤه إليها ثم إلى جانبها قريبا منها أخرى ترشح هي إليها ثم ثالثة إلى أن يعذب الماء وإذا ألجأته الضرورة إلى شرب الماء الكدر فعلاجه أن يلقي فيه نوى المشمش أو قطعة من خشب الساج أو جمرا ملتهبا يطفأ فيه أو طينا أرمنيا أو سويق حنطة فإن كدرته ترسب إلى أسفل
مسك : ثبت في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ أطيب الطيب المسك ]
وفي الصحيحين : عن عائشة رضي الله عنها : كنت أطيب النبي صلى الله عليه و سلم قبل أن يحرم ويوم النحر قبل أن يطوف بالبيت بطيب فيه مسك
المسك : ملك أنواع الطيب وأشرفها وأطيبها وهو الذي تضرب به الأمثال ويشبه به غيره ولا يشبه بغيره وهو كثبان الجنة وهو حار يابس في الثانية يسر النفس ويقويها ويقوي الأعضاء الباطنة جميعها شربا وشما والظاهرة إذا وضع عليها نافع للمشايخ والمبرودين لا سيما زمن الشتاء جيد للغشي والخفقان وضعف القوة بإنعاشه للحرارة الغريزية ويجلو بياض العين وينشف رطوبتها ويفش الرياح منها ومن جميع الأعضاء ويبطل عمل السموم وينفع من نهش الأفاعي ومنافعه كثيرة جدا وهو من أقوى المفرحات
مرزنجوش : ورد فيه حديث لا نعلم صحته : [ عليكم بالمرزنجوش فإنه جيد للخشام ] والخشام : الزكام
وهو حار في الثالثة يابس في الثانية ينفع شمه من الصداع البارد والكائن عن البلغم والسوداء والزكام والرياح الغليظة ويفتح السدد الحادثة في الرأس والمنخرين ويحلل أكثر الأورام الباردة فينفع من أكثر الأورام والأوجاع الباردة الرطبة وإذا احتمل أدر الطمث وأعان على الحبل وإذا دق ورقه اليابس وكمد به أذهب آثار الدم العارض تحت العين وإذا ضمد به مع الخل نفع لسعة العقرب
ودهنه نافع لوجع الظهر والركبتين ويذهب بالإعياء ومن أدمن شمه لم ينزل في عينيه الماء وإذا استعط بمائه مع دهن اللوز المر فتح سدد المنخرين ونفع من الريح العارضة فيها وفي الرأس ملح : روى ابن ماجه في سننه : من حديث أنس يرفعه : [ سيد إدامهم الملح ] وسيد الشئ : هو الذي يصلحه ويقوم عليه وغالب الإدام إنما يصلح بالملح وفي مسند البزار مرفوعا : [ سيوشك أن تكونوا في الناس مثل الملح في الطعام ولا يصلح الطعام إلا بالملح ]
وذكر البغوي في تفسيره : عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مرفوعا : [ إن الله أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض : الحديد والنار والماء والملح ] والموقوف أشبه
الملح يصلح أجسام الناس وأطعمتهم ويصلح كل شئ يخالطه حتى الذهب والفضة وذلك أن فيه قوة تزيد الذهب صفرة والفضة بياضا وفيه جلاء وتحليل وإذهاب للرطوبات الغليظة وتنشيف لها وتقوية للأبدان ومنع من عفونتها وفسادها ونفع من الجرب المتقرح
وإذا اكتحل به قلع اللحم الزائد من العين ومحق الظفرة
والأندراني أبلغ في ذلك ويمنع القروح الخبيثة من الإنتشار ويحدر البراز وإذا دلك به بطون أصحاب الإستسقاء نفعهم وينقي الأسنان ويدفع عنها العفونة ويشد اللثة ويقويها ومنافعه كثيرة جدا (4/356)
حرف النون
نخل : مذكور في القرآن في غير موضع وفي الصحيحين : عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ أتي بجمار نخلة فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن من الشجر شجرة مثلها مثل الرجل المسلم لا يسقط ورقها أخبروني ما هي ؟ فوقع الناس في شجر البوادي فوقع في نفسي أنها النخلة فأردت أن أقول : هي النخلة ثم نظرت فإذا أنا أصغر القوم سنا فسكت فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : هي النخلة ] فذكرت ذلك لعمر فقال : لأن تكون قلتها أحب إلي من كذا وكذا
ففي هذا الحديث إلقاء العالم المسائل على أصحابه وتمرينهم واختبار ما عندهم
وفيه ضرب الأمثال والتشبيه
وفيه ما كان عليه الصحابة من الحياء من أكابرهم وإجلالهم وإمساكهم عن الكلام بين أيديهم
وفيه فرح الرجل بإصابة ولده وتوفيقه للصواب
وفيه أنه لا يكره للولد أن يجيب بما يعرف بحضرة أبيه وإن لم يعرفه الأب وليس في ذلك إساءة أدب عليه
وفيه ما تضمنه تشبيه المسلم بالنخلة من كثرة خيرها ودوام ظلها وطيب ثمرها ووجوده على الدوام
وثمرها يؤكل رطبا ويابسا وبلحا ويانعا وهو غذاء ودواء وقوت وحلوى وشراب وفاكهة وجذوعها للبناء والآلات والأواني ويتخذ من خوصها الحصر والمكاتل والأواني والمراوح وغير ذلك ومن ليفها الحبال والحشايا وغيرها ثم آخر شئ نواها علف للإبل ويدخل في الأدوية والأكحال ثم جمال ثمرتها ونباتها وحسن هيئتها وبهجة منظرها وحسن نضد ثمرها وصنعته وبهجته ومسرة النفوس عند رؤيته فرؤيتها مذكرة لفاطرها وخالقها وبديع صنعته وكمال قدرته وتمام حكمته ولا شئ أشبه بها من الرجل المؤمن إذ هو خير كله ونفع ظاهر وباطن
وهي الشجرة التي حن جذعها إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم لما فارقه شوقا إلى قربه وسماع كلامه وهي التي نزلت تحتها مريم لما ولدت عيسى عليه السلام وقد ورد في حديث في إسناده نظر : [ أكرموا عمتكم النخلة فإنها خلقت من الطين
الذي خلق منه آدم ]
وقد اختلف الناس في تفضيلها على الحبلة أو بالعكس على قولين وقد قرن الله بينهما في كتابه في غير موضع وما أقرب أحدهما من صاحبه وإن كان كل واحد منهما في محل سلطانه ومنبته والأرض التي توافقه أفضل وأنفع
نرجس : فيه حديث لا يصح : [ عليكم بشم النرجس فإن في القلب حبة الجنون والجذام والبرص لا يقطعها إلا شم النرجس ]
وهو حار يابس في الثانية وأصله يدمل القروح الغائرة إلى العصب وله قوة غسالة جالية جابذة وإذا طبخ وشرب ماؤه أو أكل مسلوقا هيج القئ وجذب الرطوبة من قعر المعدة وإذا طبخ مع الكرسنة والعسل نقى أوساخ القروح وفجر الدبيلات العسرة النضج
وزهره معتدل الحرارة لطيف ينفع الزكام البارد وفيه تحليل قوي ويفتح سدد الدماغ والمنخرين وينفع من الصداع الرطب والسوداوي ويصدع الرؤوس الحارة والمحرق منه إذا شق بصله صليبا وغرس صار مضاعفا ومن أدمن شمه في الشتاء أمن من البرسام في الصيف وينفع من أوجاع الرأس الكائنة من البلغم والمرة السوداء وفيه من العطرية ما يقوي القلب والدماغ وينفع من كثير من أمراضها وقال صاحب التيسير : شمه يذهب بصرع الصبيان
نورة : روى ابن ماجه : من حديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا اطلى بدأ بعورته فطلاها بالنورة وسائر جسده أهله وقد ورد فيها عدة أحاديث هذا أمثلها
قيل : إن أول من دخل الحمام وصنعت له النورة سليمان بن داود وأصلها : كلس جزآن وزرنيخ جزء يخلطان بالماء ويتركان في الشمس أو الحمام بقدر ما تنضج وتشتد زرقته ثم يطلى به ويجلس ساعة ريثما يعمل ولا يمس بماء ثم يغسل ويطلى مكانها بالحناء لإذهاب ناريتها
نبق : ذكر أبو نعيم في كتابه الطب النبوي مرفوعا : [ إن آدم لما أهبط إلى الأرض كان أول شئ أكل من ثمارها النبق ] وقد ذكر النبي صلى الله عليه و سلم النبق في الحديث المتفق على صحته : أنه رأى سدرة المنتهى ليلة أسري به وإذا نبقها مثل قلال هجر
والنبق : ثمر شجر السدر يعقل الطبيعة وينفع من الإسهال ويدبغ المعدة ويسكن الصفراء ويغذو البدن ويشهي الطعام ويولد بلغما وينفع الذرب الصفراوي وهو بطيء الهضم وسويقه يقوي الحشا وهو يصلح الأمزجة الصفراوية وتدفع مضرته بالشهد
واختلف فيه هل هو رطب أو يابس ؟ على قولين والصحيح : أن رطبه بارد رطب ويابسه بارد يابس (4/364)
حرف الهاء
هندبا : ورد فيها ثلاثة أحاديث لا تصح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا يثبت مثلها بل هي موضوعة أحدها : [ كلوا الهندباء ولا تنفضوه فإنه ليس يؤم من الأيام إلا وقطرات من الجنة تقطر عليه ] الثاني : [ من أكل الهندباء ثم نام عليها لم يحل
فيه سم ولا سحر ] الثالث : [ ما من ورقة من ورق الهندباء إلا وعليها قطرة من الجنة ]
وبعد فهي مستحيلة المزاج منقلبة بانقلاب فصول السنة فهي في الشتاء باردة رطبة وفي الصيف حارة يابسة وفي الربيع والخريف معتدلة وفي غالب أحوالها تميل إلى البرودة واليبس وهي قابضة مبردة جيدة للمعدة وإذا طبخت وأكلت بخل عقلت البطن وخاصة البري منها فهي أجود للمعدة وأشد قبضا وتنفع من ضعفها
وإذا تضمد بها سلبت الإلتهاب العارض في المعدة وتنفع من النقرس ومن أورام العين الحارة وإذا تضمد بورقها وأصولها نفعت من لسع العقرب وهي تقوي المعدة وتفتح السدد العارضة في الكبد وتنفع من أوجاعها حارها وباردها وتفتح سدد الطحال والعروق والأحشاء وتنقي مجاري الكلى
وأنفعها للكبد أمرها وماؤها المعتصر ينفع من اليرقان السددي ولا سيما إذا خلط به ماء الرازيانج الرطب وإذا دق ورقها ووضع على الأورام الحارة بردها وحللها ويجلو ما في المعدة ويطفئ حرارة الدم والصفراء وأصلح ما أكلت غير مغسولة ولا منفوضة لأنها متى غسلت أو نفضت فارقتها قوتها وفيها مع ذلك قوة ترياقية تنفع من جميع السموم
وإذا اكتحل بمائها نفع من العشا ويدخل ورقها في الترياق وينفع من لدغ العقرب ويقاوم أكثر السموم وإذا اعتصر ماؤها وصب عليه الزيت خلص من الأدوية القتالة وإذا اعتصر أصلها وشرب ماؤه نفع من لسع الأفاعي ولسع العقرب ولسع الزنبور ولبن أصلها يجلو بياض العين (4/368)
حرف الواو
ورس : ذكر الترمذي في جامعه : من حديث زيد بن أرقم عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه كان ينعت الزيت والورس من ذات الجنب قال قتادة : يلد به ويلد من الجانب الذي يشتكيه
وروى ابن ماجه في سننه من حديث زيد بن أرقم أيضا قال : نعت رسول الله صلى الله عليه و سلم من ذات الجنب ورسا وقسطا وزيتا يلد به
وصح عن أم سلمة رضي الله عنها قالت : كانت النفساء تقعد بعد نفاسها أربعين يوما وكانت إحدانا تطلي الورس على وجهها من الكلف
قال أبو حنيفة اللغوي : الورس يزرع زرعا وليس ببري ولست أعرفه بغير أرض العرب ولا من أرض العرب بغير بلاد اليمن
وقوته في الحرارة واليبوسة في أول الدرجة الثانية وأجوده الأحمر اللين في اليد القليل النخالة ينفع من الكلف والحكة والبثور الكائنة في سطح البدن إذا طلي به وله قوة قابضة صابغة وإذا شرب نفع من الوضح ومقدار الشربة منه وزن درهم
وهو في مزاجه ومنافعه قريب من منافع القسط البحري وإذا لطخ به على البهق والحكة والبثور والسفعة نفع منها والثوب المصبوغ بالورس يقوي على الباه
وسمة : هي ورق النيل وهي تسود الشعر وقد تقدم قريبا ذكر الخلاف في جواز الصبغ بالسواد ومن فعله (4/369)
حرف الياء
يقطين : وهو الدباء والقرع وإن كان اليقطين أعم فإنه في اللغة : كل شجر لا تقوم على ساق كالبطيخ والقثاء والخيار قال الله تعالى : { وأنبتنا عليه شجرة من يقطين } [ الصافات : 146 ]
فإن قيل : ما لا يقوم على ساق يسمى نجما لا شجرا والشجر : ما له ساق قاله أهل اللغة : فكيف قال : { شجرة من يقطين } ؟
فالجواب : أن الشجر إذا أطلق كان ما له ساق يقوم عليه وإذا قيد بشئ تقيد به فالفرق بين المطلق والمقيد في الأسماء باب مهم عظيم النفع في الفهم ومراتب اللغة
واليقطين المذكور في القرآن : هو نبات الدباء وثمره يسمى الدباء والقرع وشجرة اليقطين وقد ثبت في الصحيحين : من حديث أنس بن مالك أن خياطا دعا رسول الله صلى الله عليه و سلم لطعام صنعه قال أنس رضي الله عنه : فذهبت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فقرب إليه خبزا من شعير ومرقا فيه دباء وقديد قال أنس : فرأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يتتبع الدباء من حوالي الصحفة فلم أزل أحب الدباء من ذلك اليوم
وقال أبو طالوت : دخلت على أنس بن مالك رضي الله عنه وهو يأكل القرع ويقول : يا لك من شجرة ما أحبك إلي لحب رسول الله صلى الله عليه و سلم إياك
وفي الغيلانيات : من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يا عائشة إذا طبختم قدرا فأكثروا فيها من الدباء فإنها تشد قلب الحزين ]
اليقطين : بارد رطب يغذو غذاء يسيرا وهو سريع الإنحدار وإن لم يفسد قبل الهضم تولد منه خلط محمود ومن خاصيته أنه يتولد منه خلط محمود مجانس لما يصحبه فان أكل بالخردل تولد منه خلط حريف وبالملح خلط مالح ومع القابض قابض وإن طبخ بالسفرجل غذا البدن غذاء جيدا
وهو لطيف مائي يغذو غذاء رطبا بلغميا وينفع المحرورين ولا يلائم المبرودين ومن الغالب عليهم البلغم وماؤه يقطع العطش ويذهب الصداع الحار إذا شرب أو غسل به الرأس وهو ملين للبطن كيف استعمل ولا يتداوى المحرورون بمثله ولا أعجل منه نفعا
ومن منافعه : أنه إذا لطخ بعجين وشوي في الفرن أو التنور واستخرج ماؤه وشرب ببعض الأشربة اللطيفة سكن حرارة الحمى الملتهبة وقطع العطش وغذى غذاء حسنا وإذا شرب بترنجبين وسفرجل مربى أسهل صفراء محضة
وإذا طبخ القرع وشرب ماؤه بشئ من عسل وشئ من نطرون أحدر بلغما ومرة معا وإذا دق وعمل منه ضماد على اليافوخ نفع من الأورام الحارة في الدماغ
وإذا عصرت جرادته وخلط ماؤها بدهن الورد وقطر منها في الأذن نفعت من الأورام الحارة وجرادته نافعة من أورام العين الحارة ومن النقرس الحار وهو شديد النفع لأصحاب الأمزجة الحارة والمحمومين ومتى صادف في المعدة خلطا رديئا استحال إلى طبيعته وفسد وولد في البدن خلطا رديئا ودفع مضرته بالخل والمري
وبالجملة فهو من ألطف الأغذية وأسرعها انفعالا ويذكر عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يكثر من أكله (4/370)
فصل
وقد رأيت أن أختم الكلام في هذا الباب بفصل مختصر عظيم النفع في المحاذر والوصايا الكلية النافعة لتتم منفعة الكتاب ورأيت لابن ماسويه فصلا في كتاب المحاذير نقلته بلفظه قال :
من أكل البصل أربعين يوما وكلف فلا يلومن إلا نفسه
ومن اقتصد فأكل مالحا فأصابه بهق أو جرب فلا يلومن إلا نفسه
ومن جمع في معدته البيض والسمك فأصابه فالج أو لقوة فلا يلومن إلا نفسه
ومن دخل الحمام وهو ممتلئ فأصابه فالج فلا يلومن إلا نفسه
ومن جمع في معدته اللبن والسمك فأصابه جذام أو برص أو نقرس فلا يلومن إلا نفسه
ومن جمع في معدته اللبن والنبيذ فأصابه برص أو نقرس فلا يلومن إلا نفسه
ومن احتلم فلم يغتسل حتى وطئ اهله فولدت مجنونا أو مخبلا فلا يلومن إلا نفسه
ومن أكل بيضا مسلوقا باردا وامتلأ منه فأصابه ربو فلا يلومن إلا نفسه
ومن جامع فلم يصبر حتى يفرغ فأصابه حصاة فلا يلومن إلا نفسه
ومن نظر في المرآة ليلا فأصابه لقوة أو أصابه داء فلا يلومن إلا نفسه (4/372)
فصل
وقال ابن بختيشوع : احذر أن تجمع البيض والسمك فإنهما يورثان القولنج والبواسير ووجع الأضراس
وإدامة أكل البيض يولد الكلف في الوجه وأكل الملوحة والسمك المالح والإفتصاد بعد الحمام يولد البهق والجرب
إدامة أكل كلى الغنم يعقر المثانة الإغتسال بالماء البارد بعد أكل السمك الطري يولد الفالج
وطء المرأة الحائض يولد الجذام الجماع من غير أن يهريق الماء عقيبه يولد الحصاة طول المكث في المخرج يولد الداء الدوي
قال أبقراط : الإقلال من الضار خير من الإكثار من النافع
وقال : استديموا الصحة بترك التكاسل عن التعب وبترك الإمتلاء من الطعام والشراب
وقال بعض الحكماء : من أراد الصحة فليجود الغذاء وليأكل على نقاء وليشرب على ظمأ وليقلل من شرب الماء ويتمدد بعد الغداء ويتمش بعد العشاء ولا ينم حتى يعرض نفسه على الخلاء وليحذر دخول الحمام عقيب الإمتلاء ومرة في الصيف خير من عشر في الشتاء وأكل القديد اليابس بالليل معين على الفناء ومجامعة العجائز تهرم أعمار الأحياء وتسقم أبدان الأصحاء ويروى هذا عن علي رضي الله عنه ولا يصح عنه وإنما بعضه من كلام الحارث بن كلدة طبيب العرب وكلام غيره
وقال الحارث : من سره البقاء - ولا بقاء - فليباكر الغداء وليعجل العشاء وليخفف الرداء وليقل غشيان النساء
وقال الحارث : أربعة أشياء تهدم البدن : الجماع على البطنة ودخول الحمام على الإمتلاء وأكل القديد وجماع العجوز
ولما احتضر الحارث اجتمع إليه الناس فقالوا : مرنا بأمر ننتهي إليه من بعدك فقال : لا تتزوجوا من النساء إلا شابة ولا تأكلوا من الفاكهة إلا في أوان نضجها ولا يتعالجن أحدكم ما احتمل بدنه الداء وعليكم بتنظيف المعدة في كل شهر فإنها مذيبة للبلغم مهلكة للمرة منبتة للحم وإذا تغذى أحدكم فلينم على إثر غدائه ساعة وإذا تعشى فليمش أربعين خطوة
وقال بعض الملوك لطبيبه : لعلك لا تبقى لي فصف لي صفة آخذها عنك فقال : لا تنكح إلا شابة ولا تأكل من اللحم إلا فتيا ولا تشرب الدواء إلا من علة ولا تأت الفاكهة إلا في نضجها وأجد مضغ الطعام وإذا أكلت نهارا فلا بأس أن تنام وإذا أكلت ليلا فلا تنم حتى تمشي ولو خمسين خطوة ولا تأكلن حتى تجوع ولا تتكارهن على الجماع ولا تحبس البول وخذ من الحمام قبل أن يأخذ منك ولا تأكلن طعاما وفي معدتك طعام وإياك أن تأكل ما تعجز أسنانك عن مضغه فتعجز معدتك عن هضمه وعليك في كل أسبوع بقيئة تنقي جسمك ونعم الكنز الدم في جسدك فلا تخرجه إلا عند الحاجة إليه وعليك بدخول الحمام فإنه يخرج من الأطباق ما لا تصل الأدوية إلى إخراجه
وقال الشافعي :
أربعة تقوي البدن : أكل اللحم وشم الطيب وكثرة الغسل من غير جماع ولبس الكتان
وأربعة توهن البدن : كثرة الجماع وكثرة الهم وكثرة شرب الماء على الريق وكثرة أكل الحامض
وأربعة تقوي البصر : الجلوس حيال الكعبة والكحل عند النوم والنظر إلى الخضرة وتنظيف المجلس
وأربعة توهن البصر : النظر إلى القذر وإلى المصلوب وإلى فرج المرأة والقعود مستدبر القبلة
وأربعة تزيد في الجماع : أكل العصافير والإطريفل والفستق والخروب
وأربعة تزيد في العقل : ترك الفضول من الكلام والسواك ومجالسة الصالحين ومجالسة العلماء
وقال أفلاطون : خمس يذبن البدن وربما قتلن : قصر ذات اليد وفراق الأحبة وتجرع المغايظ ورد النصح وضحك ذوي الجهل بالعقلاء
وقال طبيب المأمون : عليك بخصال من حفظها فهو جدير أن لا يعتل إلا علة الموت : لا تأكل طعاما وفي معدتك طعام وإياك أن تأكل طعاما يتعب أضراسك في مضغه فتعجز معدتك عن هضمه وإياك وكثرة الجماع فإنه يطفئ نور الحياة وإياك ومجامعة العجوز فإنه يورث موت الفجأة وإياك والفصد إلا عند الحاجة إليه وعليك بالقئ في الصيف
ومن جوامع كلمات أبقراط قوله : كل كثير فهو معاد للطبيعة
وقيل لجالينوس : مالك لا تمرض ؟ فقال : لأني لم أجمع بين طعامين رديئين ولم أدخل طعاما على طعام ولم أحبس في المعدة طعاما تأذيت به (4/373)
فصل
وأربعة أشياء تمرض الجسم : الكلام الكثير والنوم الكثير والأكل الكثير والجماع الكثير
فالكلام الكثير : يقلل مخ الدماغ ويضعفه ويعجل الشيب
والنوم الكثير : يصفر الوجه ويعمي القلب ويهيج العين ويكسل عن العمل ويولد الرطوبات في البدن
والأكل الكثير يفسد فم المعدة ويضعف الجسم ويولد الرياح الغليظة والأدواء العسرة
والجماع الكثير : يهد البدن ويضعف القوى ويجفف رطوبات البدن ويرخي العصب ويورث السدد ويعم ضرره جميع البدن ويخص الدماغ لكثرة ما يتحلل به من الروح النفساني وإضعافه أكثر من إضعاف جميع المستفرغات ويستفرغ من جوهر الروح شيئا كثيرا
وأنفع ما يكون إذا صادف شهوة صادقة من صورة جميلة حديثة السن حلالا مع سن الشبوبية وحرارة المزاج ورطوبته وبعد العهد به وخلاء القلب من الشواغل النفسانية ولم يفرط فيه ولم يقارنه ما ينبغي تركه معه من امتلاء مفرط أو خواء أو استفراغ أو رياضة تامة أو حر مفرط أو برد مفرط فإذا راعى فيه هذه الأمور العشرة انتفع به جدا وأيها فقد فقد حصل له من الضرر بحسبه وإن فقدت كلها أو أكثرها فهو الهلاك المعجل (4/376)
فصل
والحمية المفرطة في الصحة كالتخليط في المرض والحمية المعتدلة نافعة وقال جالينوس لأصحابه : اجتنبوا ثلاثا وعليكم بأربع ولا حاجة بكم إلى طبيب : اجتنبوا الغبار والدخان والنتن وعليك بالدسم والطيب والحلوى والحمام ولا تأكلوا فوق شبعكم ولا تتخللوا بالباذروج والريحان ولا تأكلوا الجوز عند المساء ولا ينم من به زكمة على قفاه ولا يأكل من به غم حامضا ولا يسرع المشي من افتصد فإنه مخاطرة الموت ولا يتقيأ من تؤلمه عينه ولا تأكلوا في الصيف لحما كثيرا ولا ينم صاحب الحمى الباردة في الشمس ولا تقربوا الباذنجان العتيق المبزر ومن شرب كل يوم في الشتاء قدحا من ماء حار أمن من الأعلال ومن دلك جسمه في الحمام بقشور الرمان أمن من الجرب والحكة ومن أكل خمس سوسنات مع قليل مصطكى رومي وعود خام ومسك بقي طول عمره لا تضعف معدته ولا تفسد ومن أكل بزر البطيخ مع السكر نظف الحصى من معدته وزالت عنه حرقة البول (4/377)
فصل
أربعة تهدم البدن : الهم والحزن والجوع والسهر
وأربعة تفرح : النظر إلى الخضرة وإلى الماء الجاري والمحبوب والثمار
وأربعة تظلم البصر : المشي حافيا والتصبح والتمسي بوجه البغيض والثقيل والعدو وكثرة البكاء وكثرة النظر في الخط الدقيق
وأربعة تقوي الجسم : لبس الثوب الناعم ودخول الحمام المعتدل وأكل الطعام الحلو والدسم وشم الروائح الطيبة
وأربعة تيبس الوجه وتذهب ماءه وبهجته وطلاوته : الكذب والوقاحة وكثرة السؤال عن غير علم وكثرة الفجور
وأربعة تزيد في ماء الوجه وبهجته : المروءة والوفاء والكرم والتقوى
وأربعة تجلب البغضاء والمقت : الكبر والحسد والكذب والنميمة
وأربعة تجلب الرزق : قيام الليل وكثرة الإستغفار بالأسحار وتعاهد الصدقة والذكر أول النهار وآخره
وأربعة تمنع الرزق : نوم الصبحة وقلة الصلاة والكسل والخيانة
وأربعة تضر بالفهم والذهن : إدمان أكل الحامض والفواكه والنوم على القفا والهم والغم
وأربعة تزيد في الفهم : فراغ القلب وقلة التملي من الطعام والشراب وحسن تدبير الغذاء بالأشياء الحلوة والدسمة وإخراج الفضلات المثقلة للبدن
ومما يضر بالعقل : إدمان أكل البصل والباقلا والزيتون والباذنجان وكثرة الجماع والوحدة والأفكار والسكر وكثرة الضحك والغم
قال بعض أهل النظر : قطعت في ثلاث مجالس فلم أجد لذلك علة إلا أني أكثرت من أكل الباذنجان في أحد تلك الأيام ومن الزيتون في الآخر ومن الباقلا في الثالث (4/378)
فصل
قد أتينا على جملة نافعة من أجزاء الطب العلمي والعملي لعل الناظر لا يظفر بكثير منها إلا في هذا الكتاب وأريناك قرب ما بينها وبين الشريعة وأن الطب النبوي نسبة طب الطبائعيين إليه أقل من نسبة طب العجائز إلى طبهم
والأمر فوق ما ذكرناه وأعظم مما وصفناه بكثير ولكن فيما ذكرناه تنبيه باليسير على ما وراءه ومن لم يرزقه الله بصيرة على التفصيل فليعلم ما بين القوة المؤيدة بالوحي من عند الله والعلوم التي رزقها الله الأنبياء والعقول والبصائر التي منحهم الله إياها وبين ما عند غيرهم
ولعل قائلا يقول : ما لهدي الرسول صلى الله عليه و سلم وما لهذا الباب وذكر قوى الأدوية وقوانين العلاج وتدبير أمر الصحة ؟
وهذا من تقصير هذا القائل في فهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم فإن هذا وأضعافه وأضعاف أضعافه من فهم بعض ما جاء به وإرشاده إليه ودلالته عليه وحسن الفهم عن الله ورسوله من يمن الله به على من يشاء من عباده
فقد أوجدناك أصول الطب الثلاثة في القرآن وكيف تنكر أن تكون شريعة المبعوث بصلاح الدنيا والآخرة مشتملة على صلاح الأبدان كاشتمالها على صلاح القلوب وأنها مرشدة إلى حفظ صحتها ودفع آفاتها بطرق كلية قد وكل تفصيلها إلى العقل الصحيح والفطرة السليمة بطريق القياس والتنبيه والإيماء كما هو في كثير من مسائل فروع الفقه ولا تكن ممن إذا جهل شيئا عاداه
ولو رزق العبد تضلعا من كتاب الله وسنة رسوله وفهما تاما في النصوص ولوازمها لاستغنى بذلك عن كل كلام سواه ولاستنبط جميع العلوم الصحيحة منه
فمدار العلوم كلها على معرفة الله وأمره وخلقه وذلك مسلم إلى الرسل صلوات الله عليهم وسلامه فهم أعلم الخلق بالله وأمره وخلقه وحكمته في خلقه وأمره
وطب أتباعهم : أصح وأنفغ من طب غيرهم وطب أتباع خاتمهم وسيدهم وإمامهم محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه وعليهم : أكمل الطب وأصحه وأنفعه ولا يعرف هذا إلا من عرف طب الناس سواهم وطبهم ثم وازن بينهما فحينئذ يظهر له التفاوت وهم أصح الأمم عقولا وفطرا وأعظمهم علما وأقربهم في كل شئ إلى الحق لأنهم خيرة الله من الأمم كما أن رسولهم خيرته من الرسل والعلم الذي وهبهم إياه والحلم والحكمة أمر لا يدانيهم فيه غيرهم وقد روى الإمام أحمد في مسنده : من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله ] فظهر أثر كرامتها على الله سبحانه في علومهم وعقولهم وأحلامهم وفطرهم وهم الذين عرضت عليهم علوم الأمم قبلهم وعقولهم وأعمالهم ودرجاتهم فازدادوا بذلك علما وحلما وعقولا إلى ما أفاض الله سبحانه وتعالى عليهم من علمه وحلمه
ولذلك كانت الطبيعة الدموية لهم والصفراوية لليهود والبلغمية للنصارى ولذلك غلب على النصارى البلادة وقلة الفهم والفطنة وغلب على اليهود الحزن والهم والغم والصغار وغلب على المسلمين العقل والشجاعة والفهم والنجدة والفرح والسرور
وهذه أسرار وحقائق إنما يعرف مقدارها من حسن فهمه ولطف ذهنه وغزر علمه وعرف ما عند الناس وبالله التوفيق
بعونه تعالى تم الجزء الرابع
من زاد المعاد في هدي خير العباد
ويليه الجزء الخامس وأوله فصل في هديه صلى الله عليه و سلم في أقضيته وأحكامه (4/379)
فصل
في هديه صلى الله عليه و سلم في الأقضية والأنكحة والبيوع
وليس الغرض من ذلك ذكر التشريع العام وإن كانت أقضيته الخاصة تشريعا عاما وإنما الغرض ذكر هديه في الحكومات الجزئية التي فصل بها بين الخصوم وكيف كان هديه في الحكم بين الناس ونذكر مع ذلك قضايا من أحكامه الكلية (5/5)
فصل
ثبت عنه صلى الله عليه و سلم من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه و سلم حبس رجلا في تهمة قال أحمد وعلي بن المديني : هذا إسناد صحيح
وذكر ابن زياد عنه صلى الله عليه و سلم في أحكامه : أنه صلى الله عليه و سلم سجن رجلا أعتق شركا له في عبد فوجب عليه استتمام عتقه حتى باع غنيمة له (5/5)
فصل
في حكمه فيمن قتل عبده
روى الأوزاعي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا قتل عبده متعمدا فجلده النبي صلى الله عليه و سلم مائة جلدة ونفاه سنة وأمره أن يعتق رقبة ولم يقده وروى الإمام أحمد : من حديث الحسن عن سمرة رضي الله عنه عنه صلى الله عليه و سلم [ من قتل عبده قتلناه ] فإن كان هذا محفوظا وقد سمعه منه الحسن كان قتله تعزيرا إلى الإمام بحسب ما يراه من المصلحة
وأمر رجلا بملازمة غريمه كما ذكر أبو داود عن النضر بن شميل عن الهرماس بن حبيب عن أبيه [ عن جده رضي الله عنه قال : أتيت النبي صلى الله عليه و سلم بغريم لي فقال لي : الزمه ثم قال لي : يا أخا بني سهم ما تريد أن تفعل بأسيرك ؟ ] وروى أبو عبيد [ أنه صلى الله عليه و سلم أمر بقتل القاتل وصبر الصابر ] قال أبو عبيد : أي : بحبسه للموت حتى يموت
وذكر عبد الرزاق في مصنفه عن علي : يحبس الممسك في السجن حتى يموت (5/5)
فصل
في حكمه في المحاربين
حكم بقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم كما سملوا عين الرعاء وتركهم حتى ماتوا جوعا وعطشا كما فعلوا بالرعاء (5/6)
فصل
في حكمه بين القاتل وولي المقتول
ثبت في صحيح مسلم : [ عنه صلى الله عليه و سلم أن رجلا ادعى على آخر أنه قتل أخاه فاعترف فقال : دونك صاحبك فلما ولى قال : إن قتله فهو مثله فرجع فقال : إنما أخذته بأمرك فقال صلى الله عليه و سلم : أما تريد أن يبوء بإثمك وإثم صاحبك ؟ فقال بلى فخلى سبيله ]
وفي قوله : فهو مثله قولان أحدهما : أن القاتل إذا قيد منه سقط ما عليه فصار هو والمستقيد بمنزلة واحدة وهو لم يقل : إنه بمنزلته قبل القتل وإنما قال : إن قتله فهو مثله وهذا يقتضي المماثلة بعد قتله فلا إشكال في الحديث وإنما فيه التعريض لصاحب الحق بترك القود والعفو
والثاني : أنه إن كان لم يرد قتل أخيه فقتله به فهو متعد مثله إذ كان القاتل متعديا بالجناية والمقتص متعد بقتل من لم يتعمد القتل ويدل على هذا التأويل ما روى الإمام أحمد في مسنده : [ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قتل رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فرفع إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فدفعه إلى ولي المقتول فقال القاتل : يا رسول الله ! ما أردت قتله فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم للولي : أما إنه إذا كان صادقا ثم قتلته دخلت النار فخلى سبيله ] وفي كتاب ابن حبيب في هذا الحديث زيادة وهي : [ قال النبي صلى الله عليه و سلم : عمد يد وخطأ قلب ] (5/7)