اسم الكتاب: زاد الداعية في الحج.
اسم الكاتب: د. ابتسام بالقاسم القرني.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
لما كان للعلم أثره البالغ في زيادة تعظيم العبد لشعائر الله - التي ورد التأكيد عليها ولاسيما في مناسك الحج ، كما قال الله تعالى:{ذلك وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}؛ [ 32 - سورة الحج ] ذلك أن تعظيم طالب العلم يكون مبنياً على علم وخشية، كما قال الله تعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}. [ 28 - سورة فاطر ]
رأيت أن أجمع بعض النصوص الشرعية من الكتاب والسنة المتعلقة بعبادة الحج، وأقدمها لأخواتي الداعيات إلى الله في حملات الحج؛ حتى تكون زاداً لهن؛ إذ لا أنفع ولا أبلغ تأثيرا في قلوب الناس من نصوص الوحي، فجمعت طرفا من أقوال أهل العلم في تفسير الآيات القرآنية المتعلقة ببعض آيات الحج، مع العناية بإيراد الأقوال مجردة دون ذكر أسانيدها، وكذا شروح بض الأئمة الأعلام لبعض الأحاديث الواردة في الحج، اسأل الله أن يتقبل مني هذا العمل ويجعله خالصا لوجهه الكريم، وأرجو لمن ينتفع بهذه المادة المجموعة أن يدعو لجامعها بالقبول والتوفيق.
أولاً: الآيات القرآنية:-
الآية الأولى:-(1/1)
قال تعالى:{ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }. (196 – سورة البقرة )
1/ تفسير الطبري :-
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله تعالى : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ }
فقال بعضهم: معنى ذلك أتِمّوا الحج بمناسكه وسُننِه، وأتموا العُمْرة بحدودها وسُننِها.
- ذكر من قال ذلك عن علقمة: { وأتِمّوا الحجّ والعمرة لله } قال: هو في قراءة عبدالله: "وَأَقِيمُوا الْحَجَّ والْعُمْرَةَ إِلى الْبَيْتِ" قال: لا تجاوزُوا بالعمرة البيتَ. قال إبراهيم: فذكرت ذلك لسعيد بن جبير، فقال: كذلك قال ابن عباس. عن إبراهيم أنه قرأ: "وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت ". عن علقمة أنه قرأ: " وأقِيموا الحجَّ والعمرة إلى البيت "، عن ابن عباس: " وأتِمّوا الحج والعمرةَ لله"، يقول: من أحرَم بحجّ أو بعُمْرة فليس له أن يَحلّ حتى يُتمَّها تَمامُ الحجِّّ يوم النَّحر إذا رَمَى جَمرةَ العَقبة وزار البيت فقد حَلّ من إحرامه كُلّه، وتمامُ العمرة إذا طاف بِالبيت وبالصفَّا والمروة، فقد حَلّ.
و عن عليّ رضي الله عنه - قال: أن تحرم من دُوَيْرة أهلك.
2/تفسير السعدي:-
يستدل بقوله تعالى: { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ }على أمور:(1/2)
أحدها: وجوب الحج والعمرة، وفرضيتهما.
الثاني: وجوب إتمامهما بأركانهما، وواجباتهما، التي قد دل عليها فعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: [ خذوا عني مناسككم ] ( البدر المنير - 6/273 )
الثالث: أن فيه حجة لمن قال بوجوب العمرة.
الرابع: أن الحج والعمرة يجب إتمامهما بالشروع فيهما، ولو كانا نفلا.
الخامس: الأمر بإتقانهما وإحسانهما، وهذا قدر زائد على فعل ما يلزم لهما.
السادس: وفيه الأمر بإخلاصهما لله تعالى.
السابع: أنه لا يخرج المحرم بهما بشيء من الأشياء حتى يكملهما، إلا بما استثناه الله، وهو الحصر، فلهذا قال: { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ } أي: منعتم من الوصول إلى البيت لتكميلهما، بمرض، أو ضلالة، أو عدو، ونحو ذلك من أنواع الحصر، الذي هو المنع.
{ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } أي: فاذبحوا ما استيسر من الهدي، وهو سبع بدنة، أو سبع بقرة، أو شاة يذبحها المحصر، ويحلق ويحل من إحرامه بسبب الحصر كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لما صدهم المشركون عام الحديبية، فإن لم يجد الهدي، فليصم بدله عشرة أيام كما في المتمتع ثم يحل.
ثم قال تعالى: { وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } وهذا من محظورات الإحرام، إزالة الشعر، بحلق أو غيره، لأن المعنى واحد من الرأس، أو من البدن، لأن المقصود من ذلك، حصول الشعث والمنع من الترفه بإزالته، وهو موجود في بقية الشعر.
وقاس كثير من العلماء على إزالة الشعر، تقليم الأظفار بجامع الترفه، ويستمر المنع مما ذكر، حتى يبلغ الهدي محله، وهو يوم النحر، والأفضل أن يكون الحلق بعد النحر، كما تدل عليه الآية.(1/3)
ويستدل بهذه الآية على أن المتمتع إذا ساق الهدي، لم يتحلل من عمرته قبل يوم النحر، فإذا طاف وسعى للعمرة، أحرم بالحج، ولم يكن له إحلال بسبب سوق الهدي، وإنما منع تبارك وتعالى من ذلك، لما فيه من الذل والخضوع لله والانكسار له، والتواضع الذي هو عين مصلحة العبد، وليس عليه في ذلك من ضرر، فإذا حصل الضرر بأن كان به أذى من مرض، ينتفع بحلق رأسه له، أو قروح، أو قمل ونحو ذلك فإنه يحل له أن يحلق رأسه، ولكن يكون عليه فدية من صيام ثلاثة أيام، أو صدقة على ستة مساكين أو نسك ما يجزئ في أضحية، فهو مخير، والنسك أفضل، فالصدقة، فالصيام.
ومثل هذا، كل ما كان في معنى ذلك، من تقليم الأظفار، أو تغطية الرأس، أو لبس المخيط، أو الطيب، فإنه يجوز عند الضرورة، مع وجوب الفدية المذكورة؛ لأن القصد من الجميع، إزالة ما به يترفه.
ثم قال تعالى: { فَإِذَا أَمِنْتُمْ } أي: بأن قدرتم على البيت من غير مانع عدو وغيره، { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ } بأن توصل بها إليه، وانتفع بتمتعه بعد الفراغ منها.
{ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } أي: فعليه ما تيسر من الهدي، وهو ما يجزئ في أضحية، وهذا دم نسك، مقابلة لحصول النسكين له في سفرة واحدة، ولإنعام الله عليه بحصول الانتفاع بالمتعة بعد فراغ العمرة، وقبل الشروع في الحج، ومثلها القِران لحصول النسكين له.
ويدل مفهوم الآية، على أن المفرد للحج، ليس عليه هدي، ودلت الآية، على جواز، بل فضيلة المتعة، وعلى جواز فعلها في أشهر الحج.
{ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ } أي الهدي أو ثمنه { فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ } أول جوازها من حين الإحرام بالعمرة، وآخرها ثلاثة أيام بعد النحر، أيام رمي الجمار، والمبيت بـ "منى" ولكن الأفضل منها، أن يصوم السابع، والثامن، والتاسع، { وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } أي: فرغتم من أعمال الحج، فيجوز فعلها في مكة، وفي الطريق، وعند وصوله إلى أهله.(1/4)
{ ذَلِكَ } المذكور من وجوب الهدي على المتمتع { لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } بأن كان عند مسافة قصر فأكثر، أو بعيدا عنه عرفات، فهذا الذي يجب عليه الهدي، لحصول النسكين له في سفر واحد، وأما من كان أهله من حاضري المسجد الحرام، فليس عليه هدي لعدم الموجب لذلك.
{ وَاتَّقُوا اللَّهَ } أي: في جميع أموركم، بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، ومن ذلك، امتثالكم، لهذه المأمورات، واجتناب هذه المحظورات المذكورة في هذه الآية.
{ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } أي: لمن عصاه، وهذا هو الموجب للتقوى، فإن من خاف عقاب الله، انكف عما يوجب العقاب، كما أن من رجا ثواب الله عمل لما يوصله إلى الثواب، وأما من لم يخف العقاب، ولم يرج الثواب، اقتحم المحارم، وتجرأ على ترك الواجبات.
***
الآية الثانية(1/5)
قال تعالى : { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَ اتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202) }. ( سورة البقرة )
1/ تفسير ابن كثير:-
اختلف أهل العربية في قوله: { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ }.
1- قال بعضهم: [ تقديره ] الحج حَجُّ أشهر معلومات، فعلى هذا التقدير يكون الإحرام بالحج فيها أكمل من الإحرام به فيما عداها، وإن كان ذاك صحيحا، والقول بصحة الإحرام بالحج في جميع السّنَةِ مذهبُ مالك، وأبي حنيفة، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن رَاهويه، وبه يقول إبراهيم النخَعي، والثوري، والليث بن سعد. واحْتَجّ لهم :
أ- بقوله تعالى: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ }. ( البقرة: 189 )
ب - وبأنه أحد النسكين. فصح الإحرام به في جميع السَّنَةِ كالعمرة.(1/6)
2- وذهب الشافعي، رحمه الله، إلى أنه لا يصح الإحرام بالحج إلا في أشهره فلو أحرم به قبلها لم ينعقد إحرامه به، وهل ينعقد عُمْرة ؟! فيه قولان عنه، والقول بأنه لا يصح الإحرام بالحج إلا في أشهره مَرْويّ عن ابن عباس، وجابر، وبه يقول عطاء، وطاوس، ومجاهد، رحمهم الله.
والدليل عليه : * قوله تعالى: { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } وظاهره التقدير الآخر الذي ذهب إليه النحاة، وهو أن: وقت الحج أشهر مَعْلُومات، فخصصه بها من بين سائر شهور السنة، فدلّ على أنه لا يصح قبلها، كميقات الصلاة.
* قال الشافعي،عن ابن عباس، أنه قال: لا ينبغي لأحد أن يُحْرِم بالحج إلا في شهور الحج، من أجل قول الله: { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } وقال ابن خزيمة في صحيحه: عن ابن عباس، قال: لا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج، فإن من سنة الحج أن يحرم بالحج في أشهر الحج. وهذا إسناد صحيح، وقول الصحابي: "من السنة كذا" في حكم المرفوع عند الأكثرين، ولا سيما قول ابن عباس تفسيرا للقرآن، وهو ترجمانه.
* وقد ورد فيه حديث مرفوع، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [ لا ينبغي لأحد أن يحرم بالحج إلا في أشهر الحج ].وإسناده لا بأس به. لكن رواه الشافعي، والبيهقي من طُرق، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يسأل: أيُهَلّ بالحج قبل أشهر الحج ؟ فقال: لا، وهذا الموقوف أصحّ وأثبت من المرفوع، ويبقى حينئذ مذهب صحابي، يتقوّى بقول ابن عباس: " من السنة أن لا يحرم بالحج إلا في أشهره ". والله أعلم.
وقوله: { أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ }. فيها قولان:-(1/7)
الأول :- قال البخاري: قال ابن عمر: هي شوال، وذو القَعْدة، وعشر من ذي الحجة ، وهذا الذي علقه البخاري عنه بصيغة الجزم رواه ابن جرير موصولا، عن ابن عمر: { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } قال: شوال، وذو القعدة وعشر من ذي الحجة. إسناد صحيح، وقد رواه الحاكم أيضًا في مستدركه، عن نافع، عن ابن عمر فذكره وقال: على شرط الشيخين .
قلت: وهو مَرْويّ عن عُمَر، وعليّ، وابن مسعود، وعبد الله بن الزبير، وابن عباس، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، وإبراهيم النخعي، والشعبي، والحسن، وابن سيرين، ومكحول، وقتادة، والضحاك بن مزاحم، والربيع بن أنس، ومقاتل بن حَيّان، وهو مذهب الشافعي، وأبي حنيفة، وأحمد بن حنبل، وأبي يوسف، وأبي ثَوْر، رحمهم الله. واختار هذا القول ابن جرير، قال: وصح إطلاق الجمع على شهرين وبعض الثالث للتغليب، كما تقول العرب: "زرته العام، ورأيته اليوم". وإنما وقع ذلك في بعض العام واليوم. قال الله تعالى: { فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } [البقرة: 203] وإنما تعجل في يوم ونصف.
الثاني:- وقال الإمام مالك بن أنس [والشافعي في القديم] :هي شوال وذو القعدة وذو الحجة بكماله، وهو رواية عَن ابن عُمَر أيضًا؛ قال ابن جرير:عن ابن عمر قال: شوال وذو القعدة وذو الحجة.(1/8)
وقال ابن أبي حاتم في تفسيره: قلت لنافع: أسمعت عبد الله بن عُمَر يسمي شُهُور الحج؟ قال: نعم، كان عبد الله يسمي: "شوال وذو القعدة وذو الحجة". قال ابن جريج: وقال ذلك ابن شُهاب، وعطاء، وجابر بن عبد الله صاحب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا إسناد صحيح إلى ابن جريج، وقد حُكي هذا أيضًا عن طاوس، ومجاهد، وعروة بن الزبير، والربيع بن أنس، وقتادة. وجاء فيه حديث مرفوع، ولكنه موضوع، رواه الحافظ بن مَرْدويه، من طريق حُصَين بن مخارق –وهو متهم بالوضع – عن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ الحج أشهر معلومات: شوال وذو القعدة وذو الحجة ]، وهذا كما رأيت لا يَصح رفعه، والله أعلم.
وفائدة مذهب مالك: أنَّه إلى آخر ذي الحجة، بمعنى أنه مختص بالحج، فيكره الاعتمار في بقية ذي الحجة، لا أنه يصح الحج بعد ليلة النحر.
وقال ابن أبي حاتم: ، قال عبد الله: الحج أشهر معلومات، ليس فيها عمرة، وهذا إسناد صحيح.
قال ابن جرير: إنما أراد من ذَهَب إلى أن أشهر الحج شوال وذو القعدة وذو الحجة أنّ هذه الأشهر ليست أشهر العمرة، إنما هي للحج، وإن كان عمل الحج قد انقضى بانقضاء أيام منى، كما قال محمد بن سيرين: ما أحد مِن أهل العلم يَشُكّ في أن عمرة في غير أشهر الحجّ أفضل من عمرة في أشهر الحج، وقال ابن عون: سألت القاسم بن محمد، عن العمرة في أشهر الحج، فقال: كانوا لا يرونها تامة.
قلت: وقد ثبت عن عمر وعثمان، رضي الله عنهما، أنهما كانا يحبان الاعتمار في غير أشهر الحج، وينهيان عن ذلك في أشهر الحج، والله أعلم.
وقوله: { فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ } أي: أوجب بإحرامه حَجًّا. فيه دلالة على لزوم الإحرام بالحج والمضي فيه. قال ابن جرير: أجمعوا على أن المراد من الفَرْض هاهنا الإيجاب والإلزام.(1/9)
عن ابن عباس: { فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ } يقول: من أحرم بحَجّ أو عمرة. وقال عطاء: الفرضُ الإحرامُ، وكذا قال إبراهيم، والضحاك، وغيرهم.
وعن ابن عباس: أنه قال { فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ } فلا ينبغي أن يلبي بالحج ثم يقيم بأرض. قال ابن أبي حاتم: ورَوُي عن ابن مسعود، وابن عباس، وابن الزبير، ومجاهد، وعطاء، وإبراهيم النخَعي، وعكرمة، والضحاك، وقتادة، وسفيان الثوري، والزهري، ومقاتل بن حَيّان –نحو ذلك.
وقال طاوس، والقاسمُ بن محمد: هو التلبية.
وقوله: { فَلا رَفَثَ } أي: من أحرم بالحج أو العمرة، فليجتنب الرفث، وهو الجماع، كما قال تعالى: { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ } [البقرة: 187]، وكذلك يحرم تعاطي دواعيه من المباشرة والتقبيل ونحو ذلك، وكذا التكلم به بحضرة النساء.
قال ابن جرير: أن نافعا أخبره: أن عبد الله بن عمر كان يقول: الرفثُ إتيانُ النساء، والتكلم بذلك: الرجالُ والنساء إذا ذكروا ذلك بأفواههم.
عن ابن عباس: أنه كان يحدو –وهو محرم –وهو يقول:
وَهُنَّ يَمْشينَ بنَا هَمِيسَا ... إنْ يَصْدُق الطَّيْرُ نَنَلْ لَميسَا ...
قال أبو العالية فقلت: تَكَلّمُ بالرفث وأنت محرم؟! قال: إنما الرفث ما قيل عند النساء .
قال عطاء بن أبي رباح: الرفثُ: الجماع، وما دونه من قول الفحش، وكذا قال عمرو بن دينار. وقال عطاء: كانوا يكرهون العَرَابة، وهو التعريض بذكر الجماع وهو مُحْرِم.
وقال طاوس: هو أن تقُول للمرأة: إذا حَلَلْت أصبتُك. وكذا قال أبو العالية.
وعن ابن عباس: الرفث: غِشْيان النساء والقُبَل والغَمْز، وأن يُعَرّض لهَا بالفحش من الكلام، ونحو ذلك.(1/10)
وقال ابن عباس أيضًا وابن عمر: الرفثُ: غشيانُ النساء، وكذا قال سعيدُ بن جُبَير، وعكرمة، ومجاهد، وإبراهيم، وأبو العالية، وعطاء، ومكحول، وعطاء بن يسار، وعطية، وإبراهيم النَّخَعي، والربيع، والزهري، والسدي، ومالك بن أنس، ومقاتل بن حَيَّان، وعبد الكريم بن مالك، والحسن، وقتادة والضحاك، وغيرهم.
وقوله: { وَلا فُسُوقَ }.
1- عن ابن عباس: هي المعاصي، وكذا قال عطاء، ومجاهد، وطاوس، وعكرمة، وسعيد بن جُبَير، ومحمد بن كعب، والحسن، وقتادة، وإبراهيم النخعي، والزهري، ومكحول، وابن أبان، والربيع بن أنس، وعطاء بن يسار، وعطاء الخراساني، ومقاتل بن حيان.
عن ابن عمر قال: الفسوق: ما أصيبَ من معاصي الله به صَيْد أو غيره، وعن عبد الله بن عمر كان يقول: الفسوق إتيان معاصي الله في الحرم.
2- وقال آخرون: الفسوقُ هاهنا السباب، قاله ابن عباس، وابن عمر، وابن الزبير، ومجاهد، والسدي، وإبراهيم والحسن، وقد يتمسك لهؤلاء بما ثبت في الصحيح "سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر".
3- قال الضحاك: الفسوق: التنابز بالألقاب.
والذين قالوا: الفسوق هاهنا هو جميع المعاصي، معهم الصواب، كما نهى تعالى عن الظلم في الأشهر الحرم، وإن كان في جميع السنة منهيًا عنه، إلا أنه في الأشهر الحرم آكَدُ؛ ولهذا قال: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ }، [التوبة: 36] وقال في الحرم: { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ }. [الحج: 25].
واختار ابن جرير أن الفسوق هاهنا: هو ارتكاب ما نُهي عنه في الإحرام، من قتل الصيد، وحَلْق الشعر، وقَلْم الأظفار، ونحو ذلك، كما تقدم عن ابن عمر، وما ذكرناه أولى، والله أعلم، وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي حازم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه" .(1/11)
وقوله: { وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } فيه قولان:-
أحدهما:- ولا مجادلة في وقت الحج وفي مناسكه، وقد بينه الله أتَمّ بيان ووضحه أكمل إيضاح. كما قال وَكِيع، عن العلاء بن عبد الكريم: سمعت مجاهدًا يقول: { وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } قد بين الله أشهر الحَج، فليس فيه جدال بين الناس.
وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد: { وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } قال: لا شهر يُنْسَأ، ولا جدال في الحج، قد تَبَيَّن، ثم ذكر كيفية ما كان المشركون يصنعون في النسيء الذي ذمهم الله به.
وقال الثوري، عن عبد العزيز بن رُفَيع، عن مجاهد في قوله: { وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } قال: قد استقام الحج، فلا جدَال فيه. وكذا قال السدي.
عن ابن عباس: { وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } قال: المراء في الحج.
قال مالك: قال الله تعالى: { وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } فالجدال في الحج –والله أعلم –أنّ قريشًا كانت تقف عند المشعر الحرام بالمزدلفة، وكانت العرب، وغيرهم يقفون بعَرفَة، وكانوا يتجادلون، يقول هؤلاء: نحن أصوب. ويقول هؤلاء: نحن أصوب. فهذا فيما نرى، والله أعلم.
عن القاسم بن محمد أنه قال: الجِدَال في الحج أن يقول بعضهم: الحجّ غدًا. ويقول بعضهم: اليوم.
وقد اختار ابن جرير مضمونَ هذه الأقوال، وهو قطع التنازع في مناسك الحج.
والقول الثاني:- أن المراد بالجدال هاهنا: المخاصمة.
عن عبد الله –هو ابن مسعود –في قوله: { وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } قال: أنْ تماري صاحبك حتى تغضبه. عن ابن عباس عن "الجدال" قال: المراء، تماري صاحبك حتى تغضبه، وكذا قال أبو العالية، وعطاء ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وجابر بن زيد، وعطاء الخراساني، و مكحول، وعمرو بن دينار، و السدي، والضحاك، والربيع بن أنس، وإبراهيم النَّخَعي، وعطاء بن يسار، والحسن، وقتادة، والزهري، ومقاتل بن حيّان.(1/12)
عن ابن عباس: { وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } قال الجدال: المراء والملاحاة، حتى تغضب أخاك وصاحبك، فنهى الله عن ذلك.
وقال إبراهيم النخعي: { وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } قال: كانوا يكرهون الجدال، و عن ابن عمر، قال: الجدال: السباب والمنازعة، وكذا ابن عمر كان يقول: الجدال في الحج: السباب، و المراء، والخصومات، وروي عن ابن الزبير، والحسن، وإبراهيم، وطاوس، ومحمد بن كعب، قالوا: الجدال المراء. عن عكرمة: { وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } والجدال الغضب، أن تُغْضب عليك مسلمًا، إلا أن تستعتب مملوكًا فتُغْضبه من غير أن تضربه، فلا بأس عليك، إن شاء الله.
إنّ أسماء بنت أبي بكر قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حُجّاجًا، حتى إذا كنا بالعَرْج نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلست عائشةُ إلى جنب رسول الله، وجلستُ إلى جَنْب أبي، وكانت زِمَالة أبي بكر وزِمَالة رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدة مع غلام أبي بكر، فجلس أبو بكر ينتظره إلى أن يطلع عليه، فأطْلَعَ وليس معه بعيره، فقال: أين بعيرك؟ فقال: أضللتُه البارحة. فقال أبو بكر: بعير واحد تُضلَّه؟ فطفق يضربه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسم ويقول: [ انظروا إلى هذا المُحْرِم ما يصنع؟ ]. وهكذا أخرجه أبو داود، وابن ماجة. ومن هذا الحديث حكى بعضُهم عن بعض السلف أنه قال: من تمام الحج ضَرْبُ الجمال، ولكن يستفاد من قول النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي بكر: [ انظروا إلى هذا المُحْرِم ما يصنع؟ ] – كهيئة الإنكار اللطيف – أن الأولى تركُ ذلك، والله أعلم.
عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ من قضَى نُسُكَه وسلِم المسلمون من لسانه ويده، غفر له ما تقدم من ذنبه ]. [ ابن عدي : 8/46 ](1/13)
وقوله: { وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ } لما نهاهم عن إتيان القبيح قولا وفعْلا حَثَّهم على فعل الجميل، وأخبرهم أنه عالم به، وسيجزيهم عليه أوفرَ الجزاء يوم القيامة.
وقوله: { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى }، عن ابن عباس: كان أناس يخرجون من أهليهم ليست معهم أزْودة، يقولون: نَحُجُّ بيت الله ولا يطعمنا.. فقال الله: تزودوا ما يكف وجوهكم عن الناس.
عن عكرمة: قال: إن ناسًا كانوا يحجون بغير زاد، فأنزل الله: { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى }
وكذا عن ابن عيينة.
2/ تفسير السعدي:-
أخبر تعالى أن { الْحَجَّ } واقع في { أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } عند المخاطبين، مشهورات، بحيث لا تحتاج إلى تخصيص، كما احتاج الصيام إلى تعيين شهره، وكما بين تعالى أوقات الصلوات الخمس.
وأما الحج فقد كان من ملة إبراهيم، التي لم تزل مستمرة في ذريته معروفة بينهم.
والمراد بالأشهر المعلومات عند جمهور العلماء: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة، فهي التي يقع فيها الإحرام بالحج غالبا.
{ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ } أي: أحرم به، لأن الشروع فيه يصيره فرضا، ولو كان نفلا.
واستدل بهذه الآية الشافعي ومن تابعه، على أنه لا يجوز الإحرام بالحج قبل أشهره، قلت لو قيل: إن فيها دلالة لقول الجمهور، بصحة الإحرام [بالحج] قبل أشهره لكان قريبا، فإن قوله: { فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ } دليل على أن الفرض قد يقع في الأشهر المذكورة وقد لا يقع فيها، وإلا لم يقيده.
وقوله: { فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } أي: يجب أن تعظموا الإحرام بالحج، وخصوصا الواقع في أشهره، وتصونوه عن كل ما يفسده أو ينقصه، من الرفث وهو الجماع ومقدماته الفعلية والقولية، خصوصا عند النساء بحضرتهن.
والفسوق وهو: جميع المعاصي، ومنها محظورات الإحرام.(1/14)
والجدال وهو: المماراة والمنازعة والمخاصمة، لكونها تثير الشر، وتوقع العداوة.
والمقصود من الحج، الذل والانكسار لله، والتقرب إليه بما أمكن من القربات، والتنزه عن مقارفة السيئات، فإنه بذلك يكون مبرورا والمبرور، ليس له جزاء إلا الجنة، وهذه الأشياء وإن كانت ممنوعة في كل مكان وزمان، فإنها يتغلظ المنع عنها في الحج.
وأعلم أنه لا يتم التقرب إلى الله بترك المعاصي حتى يفعل الأوامر، ولهذا قال تعالى: { وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ } أتى بـ "من "لتنصيص على العموم، فكل خير وقربة وعبادة، داخل في ذلك، أي: فإن الله به عليم، وهذا يتضمن غاية الحث على أفعال الخير، وخصوصا في تلك البقاع الشريفة والحرمات المنيفة، فإنه ينبغي تدارك ما أمكن تداركه فيها، من صلاة، وصيام، وصدقة، وطواف، وإحسان قولي وفعلي.
ثم أمر تعالى بالتزود لهذا السفر المبارك، فإن التزود فيه الاستغناء عن المخلوقين، والكف عن أموالهم، سؤالا واستشرافا، وفي الإكثار منه نفع وإعانة للمسافرين، وزيادة قربة لرب العالمين، وهذا الزاد الذي المراد منه إقامة البنية بلغة ومتاع.
وأما الزاد الحقيقي المستمر نفعه لصاحبه، في دنياه، وأخراه، فهو زاد التقوى الذي هو زاد إلى دار القرار، وهو الموصل لأكمل لذة، وأجل نعيم دائم أبدا، ومن ترك هذا الزاد، فهو المنقطع به الذي هو عرضة لكل شر، وممنوع من الوصول إلى دار المتقين؛ فهذا مدح للتقوى.
ثم أمر بها أولي الألباب فقال: { و َاتَّقُونِ يَا أُولِي الألْبَابِ } أي: يا أهل العقول الرزينة، اتقوا ربكم الذي تقواه أعظم ما تأمر به العقول، وتركها دليل على الجهل، وفساد الرأي.(1/15)
أمر تعالى بالتقوى، أخبر تعالى أن ابتغاء فضل الله بالتكسب في مواسم الحج وغيره، ليس فيه حرج إذا لم يشغل عما يجب إذا كان المقصود هو الحج، وكان الكسب حلالا منسوبا إلى فضل الله، لا منسوبا إلى حذق العبد، والوقوف مع السبب، ونسيان المسبب، فإن هذا هو الحرج بعينه.
وفي قوله: { فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } دلالة على أمور:-
أحدها: الوقوف بعرفة، وأنه كان معروفا أنه ركن من أركان الحج، فالإفاضة من عرفات، لا تكون إلا بعد الوقوف.
الثاني: الأمر بذكر الله عند المشعر الحرام، وهو المزدلفة، وذلك أيضا معروف، يكون ليلة النحر بائتا بها، وبعد صلاة الفجر، يقف في المزدلفة داعيا، حتى يسفر جدا، ويدخل في ذكر الله عنده، إيقاع الفرائض والنوافل فيه.
الثالث: أن الوقوف بمزدلفة، متأخر عن الوقوف بعرفة، كما تدل عليه الفاء والترتيب.
الرابع، والخامس: أن عرفات ومزدلفة، كلاهما من مشاعر الحج المقصود فعلها، وإظهارها.
السادس: أن مزدلفة في الحرم، كما قيده بالحرام.
السابع: أن عرفة في الحل، كما هو مفهوم التقييد بـ "مزدلفة ".
{ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ } أي: اذكروا الله تعالى كما منّ عليكم بالهداية بعد الضلال، وكما علمكم ما لم تكونوا تعلمون، فهذه من أكبر النعم، التي يجب شكرها ومقابلتها بذكر المنعم بالقلب واللسان.
{ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ } أي: ثم أفيضوا من مزدلفة من حيث أفاض الناس، من لدن إبراهيم عليه السلام إلى الآن، والمقصود من هذه الإفاضة كان معروفا عندهم، وهو رمي الجمار، وذبح الهدايا، والطواف، والسعي، والمبيت بـ "منى "ليالي التشريق وتكميل باقي المناسك.(1/16)
ولما كانت [هذه] الإفاضة، يقصد بها ما ذكر، والمذكورات آخر المناسك، أمر تعالى عند الفراغ منها باستغفاره والإكثار من ذكره، فالاستغفار للخلل الواقع من العبد، في أداء عبادته وتقصيره فيها، وذكر الله شكر الله على إنعامه عليه بالتوفيق لهذه العبادة العظيمة والمنة الجسيمة.
وهكذا ينبغي للعبد، كلما فرغ من عبادة، أن يستغفر الله عن التقصير، ويشكره على التوفيق، لا كمن يرى أنه قد أكمل العبادة، ومن بها على ربه، وجعلت له محلا ومنزلة رفيعة، فهذا حقيق بالمقت، ورد الفعل، كما أن الأول، حقيق بالقبول والتوفيق لأعمال أخر.
ثم أخبر تعالى عن أحوال الخلق، وأن الجميع يسألونه مطالبهم، و يستدفعونه ما يضرهم، ولكن مقاصدهم تختلف، فمنهم:-
{ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا } أي: يسأله من مطالب الدنيا ما هو من شهواته، وليس له في الآخرة من نصيب، لرغبته عنها، وقصر همته على الدنيا، ومنهم من يدعو الله لمصلحة الدارين، ويفتقر إليه في مهمات دينه ودنياه، وكل من هؤلاء وهؤلاء، لهم نصيب من كسبهم وعملهم، وسيجازيهم تعالى على حسب أعمالهم، و هماتهم و نياتهم، جزاء دائرا بين العدل والفضل، يحمد عليه أكمل حمد وأتمه، وفي هذه الآية دليل على أن الله يجيب دعوة كل داع، مسلما أو كافرا، أو فاسقا، ولكن ليست إجابته دعاء من دعاه، دليلا على محبته له وقربه منه، إلا في مطالب الآخرة ومهمات الدين.
والحسنة المطلوبة في الدنيا يدخل فيها كل ما يحسن وقعه عند العبد، من رزق هنيء واسع حلال، وزوجة صالحة، وولد تقر به العين، وراحة، وعلم نافع، وعمل صالح، ونحو ذلك، من المطالب المحبوبة والمباحة.
وحسنة الآخرة: هي السلامة من العقوبات، في القبر، والموقف، والنار، وحصول رضا الله، والفوز بالنعيم المقيم، والقرب من الرب الرحيم، فصار هذا الدعاء، أجمع دعاء وأكمله، وأولاه بالإيثار، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من الدعاء به، والحث عليه.(1/17)
{ وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ }.
يأمر تعالى بذكره في الأيام المعدودات، وهي أيام التشريق الثلاثة بعد العيد، لمزيتها وشرفها، وكون بقية أحكام المناسك تفعل بها، ولكون الناس أضيافا لله فيها، ولهذا حرم صيامها، فالذكر فيها مزية ليست لغيرها، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أيام التشريق، أيام أكل وشرب، وذكر الله ". [ حديث مرسل – رواه يحيى بن معين – الاستذكار - 3/536 ]
ويدخل في ذكر الله فيها، ذكره عند رمي الجمار، وعند الذبح، والذكر المقيد عقب الفرائض، بل قال بعض العلماء: إنه يستحب فيها التكبير المطلق، كالعشر.
{ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ } أي: خرج من "منى "ونفر منها قبل غروب شمس اليوم الثاني { فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ } بأن بات بها ليلة الثالث ورمى من الغد { فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } وهذا تخفيف من الله تعالى على عباده، في إباحة كلا الأمرين، ولكن من المعلوم أنه إذا أبيح كلا الأمرين، فالمتأخر أفضل؛ لأنه أكثر عبادة.
ولما كان نفي الحرج قد يفهم منه نفي الحرج في ذلك المذكور وفي غيره، والحاصل أن الحرج منفي عن المتقدم، والمتأخر فقط قيده بقوله: { لِمَنِ اتَّقَى } أي: اتقى الله في جميع أموره، وأحوال الحج، فمن اتقى الله في كل شيء، حصل له نفي الحرج في كل شيء، ومن اتقاه في شيء دون شيء، كان الجزاء من جنس العمل.
{ وَاتَّقُوا اللَّهَ } بامتثال أوامره واجتناب معاصيه، { وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } فمجازيكم بأعمالكم، فمن اتقاه، وجد جزاء التقوى عنده، ومن لم يتقه، عاقبه أشد العقوبة، فالعلم بالجزاء من أعظم الدواعي لتقوى الله، فلهذا حث تعالى على العلم بذلك.
***
الآية الثالثة:-(1/18)
قال تعالى :{ إن الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ } [ البقرة 158 ]
تفسير السعدي:
يخبر تعالى أن الصفا والمروة وهما معروفان { مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } أي أعلام دينه الظاهرة، التي تعبد الله بها عباده، وإذ كانا من شعائر الله، فقد أمر الله بتعظيم شعائره فقال: { وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ } فدل مجموع النصين أنهما من شعائر الله، وأن تعظيم شعائره، من تقوى القلوب، والتقوى واجبة على كل مكلف، وذلك يدل على أن السعي بهما فرض لازم للحج والعمرة، كما عليه الجمهور، ودلت عليه الأحاديث النبوية وفعله النبي صلى الله عليه وسلم وقال: [ خذوا عني مناسككم ].
{ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } هذا دفع لوهم من توهم وتحرج من المسلمين عن الطواف بينهما، لكونهما في الجاهلية تعبد عندهما الأصنام، فنفى تعالى الجناح لدفع هذا الوهم، لا لأنه غير لازم.
ودل تقييد نفي الجناح فيمن تطوف بهما في الحج والعمرة، أنه لا يتطوع بالسعي مفردا إلا مع انضمامه لحج أو عمرة، بخلاف الطواف بالبيت، فإنه يشرع مع العمرة والحج، وهو عبادة مفردة.
فأما السعي والوقوف بعرفة ومزدلفة، ورمي الجمار فإنها تتبع النسك، فلو فعلت غير تابعة للنسك، كانت بدعة، لأن البدعة نوعان: نوع يتعبد لله بعبادة، لم يشرعها أصلا ونوع يتعبد له بعبادة قد شرعها على صفة مخصوصة، فتفعل على غير تلك الصفة، وهذا منه.(1/19)
وقوله: { وَمَنْ تَطَوَّعَ } أي: فعل طاعة مخلصا بها لله تعالى { خَيْرًا } من حج وعمرة، وطواف، وصلاة، وصوم وغير ذلك { فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ } فدل هذا، على أنه كلما ازداد العبد من طاعة الله، ازداد خيره وكماله، ودرجته عند الله، لزيادة إيمانه.
ودل تقييد التطوع بالخير، أن من تطوع بالبدع، التي لم يشرعها الله ولا رسوله، أنه لا يحصل له إلا العناء، وليس بخير له، بل قد يكون شرا له إن كان متعمدا عالما بعدم مشروعية العمل.
{ فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ } الشاكر والشكور، من أسماء الله تعالى، الذي يقبل من عباده اليسير من العمل، ويجازيهم عليه، العظيم من الأجر، الذي إذا قام عبده بأوامره، وامتثل طاعته، أعانه على ذلك، وأثنى عليه ومدحه، وجازاه في قلبه نورا وإيمانا وسعة، وفي بدنه قوة ونشاطا، وفي جميع أحواله زيادة بركة ونماء، وفي أعماله زيادة توفيق.
ثم بعد ذلك، يقدم على الثواب الآجل عند ربه كاملا موفرا، لم تنقصه هذه الأمور.
ومن شكره لعبده، أن من ترك شيئا لله أعاضه الله خيرا منه، ومن تقرب منه شبرا، تقرب منه ذراعا، ومن تقرب منه ذراعا، تقرب منه باعا، ومن أتاه يمشي، أتاه هرولة، ومن عامله، ربح عليه أضعافا مضاعفة.
ومع أنه شاكر، فهو عليم بمن يستحق الثواب الكامل، بحسب نيته وإيمانه وتقواه، ممن ليس كذلك، عليم بأعمال العباد، فلا يضيعها، بل يجدونها أوفر ما كانت، على حسب نياتهم التي اطلع عليها العليم الحكيم.
***
الآية الرابعة:-(1/20)
قال تعالى :{ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَ الْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35) وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) ] (سورة الحج)
1/ تفسير الطبري:
قوله تعالى: { ذَلِكَ } أي: هذا الذي ذكرت لكم أيها الناس وأمرتكم به من اجتناب الرجس من الأوثان واجتناب قول الزور، حنفاء لله، وتعظيم شعائر الله، وهو استحسان البُدن و استسمانها وأداء مناسك الحجّ على ما أمر الله جلّ ثناؤه، من تقوى قلوبكم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
عن ابن عباس، في قوله:{ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فإنَّها مِنْ تَقْوَى القُلوبِ } قال: استعظامها، واستحسانها، و استسمانها. عن مجاهد، في قوله:{ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ } قال: الاستسمان والاستعظام.
2/ تفسير البغوي:-(1/21)
{ ذَلِكَ } يعني: الذي ذكرت من اجتناب الرجس وقول الزور، { وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ }.
أ - قال ابن عباس "شعائر الله" البدن والهدي، وأصلها من الإشعار، وهو إعلامها ليعرف أنها هدي، وتعظيمها: استسمانها واستحسانها.
ب - وقيل "شعائر الله" أعلام دينه، { فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ }، أي: فإن تعظيمها من تقوى القلوب.
{ لَكُمْ فِيهَا } أي: في البدن قبل تسميتها للهدي، { مَنَافِعُ } في درها ونسلها وأصوافها وأوبارها وركوب ظهورها، { إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } وهو أن يسميها ويوجبها هديا، فإذا فعل ذلك لم يكن له شيء من منافعها، هذا قول مجاهد، وقول قتادة والضحاك، ورواه مقسم عن ابن عباس.
وقيل: معناه لكم في الهدايا منافع بعد إيجابها وتسميتها هديا بأن تركبوها وتشربوا ألبانها عند الحاجة "إلى أجل مسمى"، يعني: إلى أن تنحروها، وهو قول عطاء بن أبي رباح.
واختلف أهل العلم في ركوب الهدي:-
أ - فقال قوم: يجوز له ركوبها والحمل عليها غير مضر بها، وهو قول مالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، لما روي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدنة فقال له : [ اركبها ]، فقال يا رسول الله إنها بدنة، فقال: [ اركبها ويلك، في الثانية أو الثالثة ]، وكذلك قال له: [ اشرب لبنها بعدما فضل عن ري ولدها ].
ب - وقال أصحاب الرأي: لا يركبها.
3/تفسير ابن عاشور:-
الشعائر : جمع شعيرة : المَعْلم الواضح مشتقة من الشعور . وشعائر الله : لقب لمناسك الحجّ ، جمع شعيرة بمعنى : مُشعِرة بصيغة اسم الفاعل أي معلمة بما عينه الله .(1/22)
فمضمون جملة { ومن يعظم شعائر الله } الخ . . . أخص من مضمون جملة { ومن يعظم حرمات الله } [ الحج : 30 ] وذكر الأخص بعد الأعم للاهتمام . أو بمعنى مشعر بها فتكون شعيرة فعيلة بمعنى مفعولة؛ لأنها تجعل ليشعر بها الرائي، وتقدم ذكرها في قوله تعالى : { إن الصفا والمروة من شعائر الله }[ سورة البقرة : 158 ] .
فكل ما أمر الله به بزيارته أو بفعل يوقع فيه فهو من شعائر الله ، أي مما أشعر الله الناس وقرره وشهره، وهي معالم الحجّ: الكعبة ، والصفا والمروة، وعرفة ، والمشعر الحرام، ونحوها من معالم الحجّ .
وتطلق الشعيرة أيضاً على بدنة الهدى . قال تعالى : { والبدن جعلناها لكم من شعائر الله } [ الحج : 36 ] ؛ لأنهم يجعلون فيها شِعاراً، والشِعار العلامة بأن يطعنوا في جلد جانبها الأيمن طعناً حتى يسيل منه الدم فتكون علامة على أنها نُذرت للهدي ، فهي فعلية بمعنى مفعولة مصوغة من أشعر على غير قياس .
فعلى التفسير الأول:- تكون جملة { ومن يعظم شعائر الله } إلى آخرها عطفاً على جملة { ومن يعظم حرمات الله } [ الحج : 30 ] الخ ، وشعائر الله أخصّ من حرمات الله فعطف هذه الجملة للعناية بالشعائر .
وعلى التفسير الثاني:- للشعائر تكون جملة { ومن يعظم شعائر الله } عطفاً على جملة {ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } [ الحج : 28 ] تخصيصاً لها بالذكر بعد ذكر حرمات الله .
وضمير { فإنها } عائد إلى شعائر الله المعظمة فيكون المعنى : فإن تعظيمها من تقوى القلوب .
وقوله { فإنها من تقوى القلوب } جواب الشرط والرابط بين الشرط وجوابه هو العموم في قوله : { القلوب } فإن من جملة القلوب قلوب الذين يعظمون شعائر الله . فالتقدير : فقد حلّت التقوى قلبه بتعظيم الشعائر؛ لأنها من تقوى القلوب. أي ، لأنّ تعظيمها من تقوى القلوب وإضافة { تقوى } إلى { القلوب }؛ لأنّ تعظيم الشعائر اعتقاد قلبي ينشأ عنه العمل .(1/23)
4/ تفسير السعدي:-
أي: ذلك الذي ذكرنا لكم من تعظيم حرماته وشعائره، والمراد بالشعائر: أعلام الدين الظاهرة، ومنها المناسك كلها، كما قال تعالى: { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } ومنها الهدايا والقربان للبيت، وتقدم أن معنى تعظيمها، إجلالها، والقيام بها، وتكميلها على أكمل ما يقدر عليه العبد، ومنها الهدايا، فتعظيمها، باستحسانها واستسمانها، وأن تكون مكملة من كل وجه، فتعظيم شعائر الله صادر من تقوى القلوب، فالمعظم لها يبرهن على تقواه وصحة إيمانه؛ لأن تعظيمها تابع لتعظيم الله وإجلاله.
{ لَكُمْ فِيهَا } أي: [في] الهدايا { مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } هذا في الهدايا المسوقة، من البدن ونحوها، ينتفع بها أربابها، بالركوب، والحلب ونحو ذلك، مما لا يضرها { إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } مقدر، موقت وهو ذبحها إذا وصلت مَحِلُّهَا وهو الْبَيْتِ الْعَتِيقِ، أي: الحرم كله منى " وغيرها، فإذا ذبحت، أكلوا منها وأهدوا، وأطعموا البائس الفقير.
الآية الخامسة:-
قال تعالى :{ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) }. ( سورة الحج )
1/ تفسير الطبري:-(1/24)
{ ذلِكَ } هذا الذي أمر به من قضاء التفث والوفاء بالنذور، والطواف بالبيت العتيق، هو الفرض الواجب عليكم يا أيها الناس في حجكم. { وَمَنْ يُعَظَّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ } يقول:ومن يجتنب ما أمره الله باجتنابه في حال إحرامه تعظيما منه لحدود الله أن يواقعها وحُرمَه أن يستحلها، فهو خير له عند ربه في الآخرة.
قال مجاهد، في قوله:{ ذلكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ } قال: الحُرْمة: مكة والحجّ والعُمرة، وما نهى الله عنه من معاصيه كلها.
قال ابن زيد، في قوله:{ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ } قال: الحرمات: المَشْعَر الحرام، والبيت الحرام، والمسجد الحرام، والبلد الحرام، هؤلاء الحرمات.
2/ تفسير السعدي:
{ ذَلِكَ } الذي ذكرنا لكم من تلكم الأحكام، وما فيها من تعظيم حرمات الله وإجلالها وتكريمها؛ لأن تعظيم حرمات الله من الأمور المحبوبة لله، المقربة إليه، التي من عظمها وأجلها، أثابه الله ثوابا جزيلا وكانت خيرا له في دينه، ودنياه وأخراه عند ربه.(1/25)
وحرمات الله: كل ماله حرمة، وأمر باحترامه، بعبادة أو غيرها، كالمناسك كلها، وكالحرم والإحرام، وكالهدايا، وكالعبادات التي أمر الله العباد بالقيام بها، فتعظيمها إجلالها بالقلب، ومحبتها، وتكميل العبودية فيها، غير متهاون، ولا متكاسل، ولا متثاقل، ثم ذكر منته وإحسانه بما أحله لعباده، من بهيمة الأنعام، من إبل وبقر وغنم، وشرعها من جملة المناسك، التي يتقرب بها إليه، فعظمت منته فيها من الوجهين، { إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ } في القرآن تحريمه من قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزيرِ } الآية، ولكن الذي من رحمته بعباده، أن حرمه عليهم، ومنعهم منه، تزكية لهم، وتطهيرا من الشرك به وقول الزور، ولهذا قال: { فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ } أي: الخبث القذر { مِنَ الأوْثَانِ } أي: الأنداد، التي جعلتموها آلهة مع الله، فإنها أكبر أنواع الرجس، والظاهر أن { من } هنا ليست لبيان الجنس، كما قاله كثير من المفسرين، وإنما هي للتبعيض، وأن الرجس عام في جميع المنهيات المحرمات، فيكون منهيا عنها عموما، وعن الأوثان التي هي بعضها خصوصا، { وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ } أي: جميع الأقوال المحرمات، فإنها من قول الزور الذي هو الكذب، ومن ذلك شهادة الزور فلما نهاهم عن الشرك والرجس وقول الزور.
***
ثانياً: الأحاديث النبوية:-
الحديث الأول :-
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [ الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلاَّ الْجَنَّةُ ]. (البخاري ومسلم)
1/فتح الباري:-
قَوْله: { بَاب فَضْل الْحَجّ الْمَبْرُور }
1- قَالَ اِبْن خَالَوَيْهِ : الْمَبْرُور الْمَقْبُول.(1/26)
2- وَقَالَ غَيْره : الَّذِي لَا يُخَالِطهُ شَيْء مِنْ الْإِثْم ، وَرَجَّحَهُ النَّوَوِيّ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ : الْأَقْوَال الَّتِي ذُكِرَتْ فِي تَفْسِيره مُتَقَارِبَة الْمَعْنَى ، وَهِيَ أَنَّهُ الْحَجّ الَّذِي وُفِّيَتْ أَحْكَامه وَوَقَعَ مَوْقِعًا لِمَا طُلِبَ مِنْ الْمُكَلَّف عَلَى الْوَجْه الْأَكْمَل. وَمِنْهَا أَنَّهُ يَظْهَر بِآخِرِهِ فَإِنْ رَجَعَ خَيْرًا مِمَّا كَانَ عُرِفَ أَنَّهُ مَبْرُور .
وَلِأَحْمَد وَالْحَاكِم مِنْ حَدِيث جَابِر " قَالُوا يَا رَسُول اللَّه مَا بِرُّ الْحَجّ ؟ قَالَ: [ إِطْعَام الطَّعَام وَإِفْشَاء السَّلَام ] " وَفِي إِسْنَاده ضَعْف ، فَلَوْ ثَبَتَ لَكَانَ هُوَ الْمُتَعَيَّن دُون غيره و أَخْرَجَ التِّرْمِذِيّ وَغَيْره مِنْ حَدِيث اِبْن مَسْعُود مَرْفُوعًا " تَابِعُوا بَيْن الْحَجّ وَالْعُمْرَة فَإِنَّ مُتَابَعَة بَيْنهمَا تَنْفِي الذُّنُوب وَالْفَقْر كَمَا يَنْفِي الْكِير خَبَث الْحَدِيد . وَلَيْسَ لِلْحَجَّةِ الْمَبْرُورَة ثَوَاب إِلَّا الْجَنَّة "
2/ شرح النووي:-
قال صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : [ وَالْحَجّ الْمَبْرُور لَيْسَ لَهُ جَزَاء إِلَّا الْجَنَّة ].
1- الْأَصَحّ الأَشْهَر : أَنَّ الْمَبْرُور هُوَ الَّذِي لَا يُخَالِطهُ إِثْم مَأْخُوذ مِنْ الْبِرّ وَهُوَ الطَّاعَة.
2- وَقِيلَ : هُوَ الْمَقْبُول ، وَمِنْ عَلَامَة الْقَبُول أَنْ يَرْجِع خَيْرًا مِمَّا كَانَ ، وَلَا يُعَاوِد الْمَعَاصِي.
3- وَقِيلَ : هُوَ الَّذِي لَا رِيَاء فِيهِ.
4- وَقِيلَ : الَّذِي لَا يُعْقِبهُ مَعْصِيَة ، وَهُمَا دَاخِلَانِ فِيمَا قَبْلهمَا.(1/27)
وَمَعْنَى ( لَيْسَ لَهُ جَزَاء إِلَّا الْجَنَّة ) : أَنَّهُ لَا يَقْتَصِر لِصَاحِبِهِ مِنْ الْجَزَاء عَلَى تَكْفِير بَعْض ذُنُوبه، بَلْ لا بُدّ أَنْ يَدْخُل الْجَنَّة. وَاَللَّه أَعْلَم. قال في موضع آخر أَحْكَامه فَفِيهِ عِظَمُ مَوْقِع الْإِسْلَام وَالْهِجْرَة وَالْحَجّ ، وَأَنَّ كُلّ وَاحِد مِنْهَا يَهْدِم مَا كَانَ قَبْله مِنْ الْمَعَاصِي.
***
الحديث الثاني:-
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كيوم وَلَدَتْهُ أُمُّهُ ]. وفي رواية [ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمّه ]. أخرجه الشيخان.
1/فتح الباري:-
الرَّفَث الْجِمَاع ، وَيُطْلَق عَلَى التَّعْرِيض بِهِ وَعَلَى الْفُحْش فِي الْقَوْل ، وَقَالَ الْأَزْهَرِيّ : الرَّفَث اِسْم جَامِع لِكُلِّ مَا يُرِيدهُ الرَّجُل مِنْ الْمَرْأَة ، وَكَانَ اِبْن عُمَر يَخُصّهُ بِمَا خُوطِبَ بِهِ النِّسَاء . وَقَالَ عِيَاض : هَذَا مِنْ قَوْل اللَّه تَعَالَى ( فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ ) وَالْجُمْهُور عَلَى أَنَّ الْمُرَاد بِهِ فِي الْآيَة الْجِمَاع اِنْتَهَى، وَاَلَّذِي يَظْهَر أَنَّ الْمُرَاد بِهِ فِي الْحَدِيث مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ ، وَإِلَيْهِ نَحَا الْقُرْطُبِيّ، وَهُوَ الْمُرَاد بِقَوْلِهِ فِي الصِّيَام " فَإِذَا كَانَ صَوْم أَحَدكُمْ فَلَا يَرْفُث ".
( فَائِدَة ) :فَاء الرَّفَث مُثَلَّثَة فِي الْمَاضِي وَالْمُضَارِع وَالْأَفْصَح الْفَتْح فِي الْمَاضِي وَالضَّمُّ فِي الْمُسْتَقْبَل وَاَللَّه أَعْلَم .(1/28)
قَوْله : [ وَلَمْ يَفْسُق ] أَيْ لَمْ يَأْتِ بِسَيِّئَةٍ وَلَا مَعْصِيَة ، وَأَغْرَبَ اِبْن الْأَعْرَابِيّ فَقَالَ : إِنَّ لَفْظ الْفِسْق لَمْ يُسْمَع فِي الْجَاهِلِيَّة وَلَا فِي أَشْعَارهمْ وَإِنَّمَا هُوَ إِسْلَامِيّ ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ كَثُرَ اِسْتِعْمَاله فِي الْقُرْآن وَحِكَايَته عَمَّنْ قَبْلَ الْإِسْلَام، وَقَالَ غَيْره : أَصْله اِنْفَسَقَتْ الرُّطَبَة إِذَا خَرَجَتْ فَسُمِّيَ الْخَارِج عَنْ الطَّاعَة فَاسِقًا .
قَوْله : [ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمّه ] أَيْ بِغَيْرِ ذَنْب ، وَظَاهِره غُفْرَان الصَّغَائِر وَالْكَبَائِر وَالتَّبِعَات، وَهُوَ مِنْ أَقْوَى الشَّوَاهِد لِحَدِيثِ الْعَبَّاس بْن مِرْدَاس الْمُصَرِّح بِذَلِكَ ، وَلَهُ شَاهِد مِنْ حَدِيث اِبْن عُمَر فِي تَفْسِير الطَّبَرِيِّ ، قَالَ الْطِيبِيُّ : الْفَاء فِي قَوْله " فَلَمْ يَرْفُث " مَعْطُوف عَلَى الشَّرْط ، وَجَوَابه رَجَعَ أَيْ صَارَ ، وَالْجَارّ وَالْمَجْرُور خَبَر لَهُ، وَيَجُوز أَنْ يَكُون حَالًا أَيْ صَارَ مُشَابِهًا لِنَفْسِهِ فِي الْبَرَاءَة عَنْ الذُّنُوب فِي يَوْم وَلَدَتْهُ أُمّه. أ ه .(1/29)
وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيِّ الْمَذْكُورَة [ رَجَعَ كَهَيْئَتِهِ يَوْم وَلَدَتْهُ أُمّه ] . وَذَكَرَ لَنَا بَعْض النَّاس أَنَّ الطِّيبِيّ أَفَادَ أَنَّ الْحَدِيث إِنَّمَا لَمْ يُذْكَر فِيهِ الْجِدَال كَمَا ذُكِرَ فِي الْآيَة عَلَى طَرِيق الِاكْتِفَاء بِذِكْرِ الْبَعْض وَتَرْكِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ مَا ذُكِرَ ، وَيَحْتَمِل أَنْ يُقَال إِنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِف بِالْقَصْدِ لِأَنَّ وُجُوده لَا يُؤَثِّر فِي تَرْك مَغْفِرَة ذُنُوب الْحَاجّ إِذَا كَانَ الْمُرَاد بِهِ الْمُجَادَلَة فِي أَحْكَام الْحَجّ فِيمَا يَظْهَر مِنْ الْأَدِلَّة ، أَوْ الْمُجَادَلَة بِطَرِيقِ التَّعْمِيم فَلَا يُؤَثِّر أَيْضًا فَإِنَّ الْفَاحِش مِنْهَا دَاخِل فِي عُمُوم الرَّفَث وَالْحَسَن مِنْهَا ظَاهِر فِي عَدَم التَّأْثِير ، وَالْمُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ لَا يُؤَثِّر أَيْضًا
وقال ابن حجر – في باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى{ فَلَا رَفَثَ }وَقَوْله [ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمّه ]- :أَيْ عَارِيًا مِنْ الذُّنُوب . وَلِلتِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيق اِبْن عُيَيْنَةَ عَنْ مَنْصُور [ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبه ] وَلِمُسْلِمٍ: [ مَنْ أَتَى هَذَا الْبَيْت ] وَهُوَ أَعَمّ مِنْ قَوْله فِي بَقِيَّة الرِّوَايَات [ مَنْ حَجَّ ] وَيَجُوز حَمْل لَفْظ حَجَّ عَلَى مَا هُوَ أَعَمّ مِنْ الْحَجّ وَالْعُمْرَة فَتُسَاوِي رِوَايَة [ مَنْ أَتَى ] مِنْ حَيْثُ إنَّ الْغَالِب أَنَّ إِتْيَانه إِنَّمَا هُوَ لِلْحَجِّ أَوْ لِلْعُمْرَةِ .
2/ شرح النووي على مسلم:-
قالَ الْقَاضِي : هَذَا مِنْ قَوْله تَعَالَى : { فَلا رَفَث وَلا فُسُوق }.(1/30)
وَالرَّفَث :- 1- اِسْم لِلْفُحْشِ مِنْ الْقَوْل. 2- وَقِيلَ : هُوَ الْجِمَاع. وَهَذَا قَوْل الْجُمْهُور فِي الْآيَة. قَالَ اللَّه تَعَالَى: { أُحِلّ لَكُمْ لَيْلَة الصِّيَام الرَّفَث إِلَى نِسَائِكُمْ } يُقَال : رَفَث وَرَفِثَ بِفَتْحِ الْفَاء وَكَسْرِهَا ، يَرْفُث وَيَرْفِث وَيَرْفَث بِضَمِّ الْفَاء وَكَسْرهَا وَفَتْحهَا ، وَيُقَال أَيْضًا : أَرْفَثَ بِالْأَلِفِ. 3- وَقِيلَ : الرَّفَث: التَّصْرِيح بِذِكْرِ الْجِمَاع. قَالَ الأزْهَرِيّ : هِيَ جَامِعَة لِكُلِّ مَا يُرِيدهُ الرَّجُل مِنْ الْمَرْأَة ، وَكَانَ اِبْن عَبَّاس يُخَصِّصهُ بِمَا خُوطِبَ بِهِ النِّسَاء ، قَالَ : وَمَعْنَى [ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمّه ] أَيْ بِغَيْرِ ذَنْب، وَأَمَّا الْفُسُوق فَالْمَعْصِيَة . وَاَللَّه أَعْلَم.
***
الحديث الثالث:-
قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : [ تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلَيْسَ لِلْحَجَّةِ الْمَبْرُورَةِ ثَوَابٌ إِلَّا الْجَنَّةُ ]. ( يعقوب ابن الصلت:25/259 )
تحفة الاحوذي:-
[ تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ] أَيْ قَارِبُوا بَيْنَهُمَا إِمَّا بِالْقِرَانِ أَوْ بِفِعْلِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ . قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَيْ إِذَا اِعْتَمَرْتُمْ فَحُجُّوا وَإِذَا حَجَجْتُمْ فَاعْتَمِرُوا.(1/31)
[ فَإِنَّهُمَا ] أَيْ الْحَجُّ وَالِاعْتِمَارُ [ يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ ] أَيْ يُزِيلَانِهِ وَهُوَ يَحْتَمِلُ الْفَقْرَ الظَّاهِرَ بِحُصُولِ غِنَى الْيَدِ ، وَالْفَقْرَ الْبَاطِنُ بِحُصُولِ غِنَى الْقَلْبِ [ وَالذُّنُوبَ ] أَيْ يَمْحُوَانِهَا قِيلَ الْمُرَادُ بِهَا الصَّغَائِرُ وَلَكِنْ يَأْبَاهُ قَوْلُهُ [ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ ] وَهُوَ مَا يَنْفُخُ فِيهِ الْحَدَّادُ لِاشْتِعَالِ النَّارِ لِلتَّصْفِيَةِ [ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ] أَيْ وَسَخَهَا.
فائدة : ورد في فتح الباري: في بَاب وُجُوبِ الْحَجِّ وَفَضْلِهِ وَقَوْلِ اللَّهِ { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ } ( سورة آل عمران 97 ) ما يلي :-
1- تعريف الحج : أَصْل الْحَجّ فِي اللُّغَة الْقَصْد ، وَقَالَ الْخَلِيل : كَثْرَة الْقَصْد إِلَى مُعَظَّم . وَفِي الشَّرْع الْقَصْد إِلَى الْبَيْت الْحَرَام بِأَعْمَالٍ مَخْصُوصَة، وَهُوَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَة وَبِكَسْرِهَا لُغَتَانِ ، نَقَلَ الطَّبَرِيُّ أَنَّ الْكَسْر لُغَة أَهْل نَجْد وَالْفَتْح لِغَيْرِهِمْ ، وَنُقِلَ عَنْ حُسَيْن الْجُعْفِيِّ أَنَّ الْفَتْح الِاسْم وَالْكَسْر الْمَصْدَر ، وَعَنْ غَيْره عَكْسه.
2- وَوُجُوب الْحَجّ مَعْلُوم مِنْ الدِّين بِالضَّرُورَةِ . وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَكَرَّر إِلَّا لِعَارِضٍ كَالنَّذْرِ .
3- وَاخْتُلِفَ هَلْ هُوَ عَلَى الْفَوْر أَوْ التَّرَاخِي . وَهُوَ مَشْهُور .
4- وَفِي وَقْت اِبْتِدَاء فَرْضه فَقِيلَ : قَبْلَ الْهِجْرَة وَهُوَ شَاذٌّ ، وَقِيلَ بَعْدهَا .(1/32)
5- ثُمَّ اُخْتُلِفَ فِي سَنَته فَالْجُمْهُور عَلَى أَنَّهَا سَنَة سِتٍّ لِأَنَّهَا نَزَلَ فِيهَا قَوْله تَعَالَى: { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى أَنَّ الْمُرَاد بِالْإِتْمَامِ اِبْتِدَاء الْفَرْض، وَيُؤَيِّدهُ قِرَاءَة عَلْقَمَة وَمَسْرُوق وَإِبْرَاهِيم النَّخَعِيِّ بِلَفْظِ { وَأَقِيمُوا } أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ بِأَسَانِيد صَحِيحَة عَنْهُمْ ، وَقِيلَ الْمُرَاد بِالْإِتْمَامِ الْإِكْمَال بَعْدَ الشُّرُوع ، وَهَذَا يَقْتَضِي تَقَدُّم فَرْضه قَبْلَ ذَلِكَ . وَقَدْ وَقَعَ فِي قِصَّة ضِمَام ذِكْر الْأَمْر بِالْحَجِّ ، وَكَانَ قُدُومه عَلَى مَا ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ سَنَة خَمْس ، وَهَذَا يَدُلّ - إِنْ ثَبَتَ - عَلَى تَقَدُّمه عَلَى سَنَة خَمْس أَوْ وُقُوعه فِيهَا ، وَسَيَأْتِي مَزِيد بَسْط فِي الْكَلَام عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَة فِي أَوَّل الْكَلَام عَلَى الْعُمْرَة .(1/33)
6- وَأَمَّا فَضْله فَمَشْهُور وَلَا سِيَّمَا فِي الْوَعِيد عَلَى تَرْكه فِي الْآيَة ، وَسَيَأْتِي فِي بَاب مُفْرَد . وَلَكِنْ لَمْ يُورِد الْمُصَنِّف فِي الْبَاب غَيْر حَدِيث الْخَثْعَمِيَّةِ ، وَشَاهِد التَّرْجَمَة مِنْهُ خَفِيٌّ ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ إِثْبَات فَضْله مِنْ جِهَة تَأْكِيد الْأَمْر بِهِ بِحَيْثُ إنَّ الْعَاجِز عَنْ الْحَرَكَة إِلَيْهِ يَلْزَمهُ أَنْ يَسْتَنِيب غَيْره وَلَا يُعْذَر بِتَرْكِ ذَلِكَ ، وَالْمُرَاد مِنْهُ هُنَا تَفْسِير الِاسْتِطَاعَة الْمَذْكُورَة فِي الْآيَة ، وَأَنَّهَا لَا تَخْتَصّ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَة يَلِ تَتَعَلَّق بِالْمَالِ وَالْبَدَن ، لِأَنَّهَا لَوْ اِخْتَصَّتْ لَلَزِمَ الْمَعْضُوبَ أَنْ يَشُدّ عَلَى الرَّاحِلَة وَلَوْ شَقَّ عَلَيْهِ ، قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : لَا يَثْبُت الْحَدِيث الَّذِي فِيهِ ذِكْر الزَّاد وَالرَّاحِلَة ، وَالْآيَة الْكَرِيمَة عَامَّة لَيْسَتْ مُجْمَلَة فَلَا تَفْتَقِر إِلَى بَيَان ، وَكَأَنَّهُ كَلَّفَ كُلّ مُسْتَطِيع قَدَرَ بِمَالٍ أَوْ بِبَدَنٍ.(1/34)