بسم الله الرحمن الرحيم
الكتاب : رسالة في فضل الأندلس وذكر رجالها
المؤلف : أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي
دار النشر : المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت / لبنان - 1987 م
الطبعة : الثانية
تحقيق : د . إحسان عباس
[ ترقيم الشاملة موافق للمطبوع ](2/170)
"""""" صفحة رقم 171 """"""
- 5 - رسالة في فضل الأندلس وذكر رجالها ( 1
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على سيدنا محمد عبده ورسوله وعلى أصحابه الأكرمين ، وأزواجه أمهات المؤمنين ، وذريته الفاضلين الطيبين . 1 - أما بعد يا أخي يا أبا بكر ( 2 ) سلام عليك ، سلام أخ مشوق طالت بينه وبينك الأميال والفراسخ ، وكثرت الأيام والليالي ، ثم لقيك في حال سفرٍ ونقلة ، ووادَّكَ في خلال جولةٍ ورحلة ، فلم يقضِ من مجاورتك أرباً ، ولا بلغ في محاورتك مطلباً . وإني لما احتللت بك ، وجالت يدي في مكنون كتبك ، ومضمون دواوينك ، لمحت عيني في تضاعيفها درجاً فتأملته ، فإذا فيه خطاب لبعض الكتّاب من مصاقبينا في الدار ، أهل إفريقية ، ثم ممن ضمته حضرة قيروانهم ، إلى رجل أندلسي لم يعينه باسمه ، ولا ذكر بنسبه ( 3 ) ، يذكر له فيها أن علماءَ بلدنا بالأندلس ، وإن كانوا على الذروة العليا من التمكن بأفانين العلوم ، وفي الغاية القصوى من التحكم على وجوه المعارف ، فإن هِمَمَهم قد قَصَّرتْ عن تخليد مآثر بلدهم ، ومكارم ملوكهم ، ومحاسن فقهائهم ، ومناقب قضاتهم ، ومفاخر كتابهم ، وفضائل علمائهم ، ثم تعدَّى ذلك إلى أن أخلى أرباب العلوم منا من أن يكون لهم تأليف يحيي ذكرهم ، ويبقي علمهم ، بل قطع على أن كل واحد منهم قد مات فدفن علمه معه ، وحقق ظنه في ذلك ، واستدل على صحته عند نفسه ، بأن شيئاً من هذه التآليف لو كان منّا موجوداً لكان إليهم منقولاً ،(2/171)
"""""" صفحة رقم 172 """"""
وعندهم ظاهراً ، لقرب المزار وكثرة السُّفار ، وترددهم إليهم ، وتكررهم علينا . 2 - ثم لما ضمنا المجلس الحافل بأصناف الآداب ، والمشهد الآهل بأنواع العلوم ، والقصر المعمور بأنواع الفضائل ، والمنزل المحفوف بكل لطيفة وسيعة من دقيق المعاني وجليل المعالي ، قرارة المجد ومحل السؤدد ، ومحط رحال الخائفين ، وَمُلْقَى عصا التسيار ، عند الرئيس الأجل الشريف قديمه وحسبه ، الرفيع حديثُه ومكتسبه ، الذي أُجله عن كل خطة يشركه فيها من لا توازي قومته نومته ، ولا ينال حُضْرُهُ ( 1 ) هويناه ، وأربأ به عن كل مرتبةٍ يلحقه فيها من لا يسمو إلى المكارم سموه ، ولا يدنو من المعالي دنوه ، ولا يعلو في حميد الخلال علوه ، بل أكتفي من مدحه باسمه المشهور ، وأجتزي من الإطالة في تقريظه بمنتماه المذكور ، فحسبي بذينك العلمين دليلاً على سعيه المشكور وفضله المشهور ، أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن قاسم صاحب البونت ( 2 ) ، أطال الله بقاءه ، وأدام اعتلاءه ، ولا عطل الحامدين من تحليهم بحلاه ، ولا أخلى الأيام من تزينها بعلاه ، فرأيته أعزه الله تعالى حريصاً على أن يجاوب هذا المخاطب ، وراغباً في أن يبين له ما لعله قد رآه فنسي ، أو بعد عنه فخفي ، فتناولت الجواب المذكور ، بعد أن بلغني أن ذلك المخاطب قد مات ، رحمنا الله تعالى وإياه ، فلم يكن لقصده بالجواب معنى ، وقد صارت المقابر له مغنى ، فلسنا بمسمعين من في القبور ، فصرفت عنان الخطاب إليك ، إذ من قبلك صرت إلى الكتاب المجاوب عنه ، ومن لدنك وصلت إلي الرسالة المعارضة ، وفي صول كتابي على هذه الهيئة حيثما وصل كنايةٌ لمن غاب عنه من أخبار تآليف أهل بلدنا ، مثلما غاب عن هذا الباحث الأول ، ولله الأمر من قبل ومن بعد ، وإن كنت في إخباري إياك بما أرسمه في كتابي هذا ' كمهد إلى البركان نار الحباحب ' ، وباني صوىً في مهيع القصد اللاحب ، فإنك وإن كنت المقصود والمواجه فإنما المراد من أهل تلك الناحية من نأي عنهم علم ما استجلبه السائل الماضي ، وما توفيقي إلا بالله سبحانه . 3 - فأما مآثر بلدنا فقد ألف في ذلك أحمد بن محمد الرازي ( 3 ) التاريخي كتباً(2/172)
"""""" صفحة رقم 173 """"""
جمة منها كتاب ضخم ذكر فيه مسالك الأندلس ومراسيها وأمهات مدنها وأجنادها الستة ( 1 ) ، وخواص كل بلد منها ، وما فيه مما ليس في غيره ، وهو كتاب مريح مليح . وأنا أقول لو لم يكن لأندلسنا إلا ما رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بشَّر به ، ووصف أسلافنا المجاهدين فيه ، بصفات الملوك على الأسرة ، في الحديث الذي رويناه من طريق أبي حمزة أنس بن مالك أن خالته أم حرام بنت ملحان ، زوج أبي الوليد عبادة ابن الصامت ، رضي الله تعالى عنه وعنهم أجمعين ، حدثته به عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه أخبرها بذلك لكفى شرفاً بذلك ( 2 ) ، يَسُرُّ عاجله ويغبط آجله . فإن قال قائل : لعله صلوات الله تعالى عليه إنما عنى بذلك الحديث أهل صقلية وإقريطش ، وما الدليل على ما ادعيته من أنه ( صلى الله عليه وسلم ) عنى الأندلس حتماً ، ومثل هذا من التأويل لا يتساهل فيه ذو ورع دون برهان واضح وبيان لائح ، لا يحتمل التوجيه ، ولا يقبل التجريح . فالجواب ، وبالله التوفيق ، أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قد أوتي جوامع الكلم وفصل الخطاب ، وأمر بالبيان لما أوحي إليه ، وقد أخبر في ذلك الحديث المتصل سنده بالعدول عن العدول بطائفتين من أمته يركبون ثبج البحر غزاةً واحدة بعد واحدة ، فسألته أم حرام أن يدعو ربه تعالى أن يجعلها منهم ، فأخبرها ( صلى الله عليه وسلم ) ، وخبرة الحق ، بأنها من الأولين ، وهذا من أعلام نبوته ( صلى الله عليه وسلم ) ، وهو إخباره بالشيء قبل كونه ، وصح البرهان على رسالته بذلك ، وكانت من الغزاة إلى قبرس ، وخرَّتْ عن بغلتها هناك ، فتوفيت رحمها الله تعالى ، وهي أول غزاةٍ ركب فيها المسلمون البحر ، فثبت يقيناً أن الغزاة إلى قبرس هم الأولون الذين بشر بهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، وكانت أم حرام منهم ، كما أخبرت صلوات الله تعالى وسلامه عليه ، ولا سبيل أن يظن به ، وقد أوتي ما أوتي من البلاغة والبيان ، أنّه يذكر طائفتين قد سمى إحداهما أولى ، إلا والتالية لها ثانية ، فهذا من باب الإضافة وتركيب العدد ، وهذا مقتضى طبيعة صناعة المنطق ، إذ لا تكون الأولى أولى إلا لثانية ، ولا الثانية ثانية(2/173)
"""""" صفحة رقم 174 """"""
إلا لأولى ، فلا سبيل إلى ذكر ثالث بعد ثان ضرورة ، وهو ( صلى الله عليه وسلم ) إنما ذكر طائفتين ، وبشر بفئتين ، وسمّى إحداهما الأولين ، فاقتضى ذلك بالقضاء الصدق آخرين ، والآخر من الأول هو الثاني الذي أخبر ( صلى الله عليه وسلم ) أنه خير القرون بعد قرنه ، وأول القرون بكل فضل بشهادة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بأنه خير من كل قرن بعده . ثم ركب البحر بعد ذلك أيام سليمان بن عبد الملك إلى القسطنطينية ، وكان الأمير بها في تلك السفن هبيرة الفزاري ، وأما صقلية فإنها فتحت صدر أيام الأغالبة سنة 212 ، أيام قاد إليها السفن غازياً أسد بن الفرات القاضي صاحب أبي يوسف رحمه الله تعالى ، وبها مات ، وأما إقريطش فإنها فُتحت بعد الثلاث والمائتين ( 1 ) ، افتتحها أبو حفص عمر بن شعيب ( 2 ) ، المعروف بابن الغليظ ( 3 ) ، من أهل قرية بطروج ( 4 ) ، من عمل فحص البلوط ، المجاور لقرطبة من بلاد الأندلس ، وكان من فلّ الربضيين ( 5 ) ، وتداولها بنوه بعده إلى أن كان آخرهم عبد العزيز بن شعيب الذي غنمها في ايامه أرمانوس بن قسطنطين ملك الروم سنة 350 ( 6 ) ، وكان أكثر المفتتحين لها أهل الأندلس . 4 - وأما في قسم الأقاليم فإن قرطبة ، مسقط رؤوسنا ومَعَقُّ تمائمنا ، مع سُرَّ من رأى في إقليم واحد ، فلنا من الفهم والذكاء ما اقتضاه إقليمنا ، وإن كانت الأنوار لا تأتينا إلا مغربة عن مطالعها على الجزء المعمور . وذلك عند المحسنين للأحكام التي تدل عليها الكواكب ناقص من قوى دلائلها ، فلها من ذلك ، على كل حال ، حظّ يفوق حظّ أكثر البلاد ، بارتفاع أحد النيرين بها تسعين درجة ، وذلك من أدلة التمكن في العلوم ، والنفاذ فيها عند من ذكرنا ، وقد صدق ذلك الخبر ، وأبانته التجربة ، فكان أهلها من التمكن في علوم القراءات والروايات ، وحفظ كثير من الفقه ، والبصر بالنحو والشعر واللغة والخبر والطب والحساب والنجوم ، بمكان رحب الفناء ، واسع(2/174)
"""""" صفحة رقم 175 """"""
العطن ، متنائي الأقطار ، فسيح المجال . 5 - والذي نعاه علينا الكاتب المذكور ، لو كان كما ذكر ، لكنا فيه شركاء لأكثر أمهات الحواضر ، وجلائل البلاد ، ومتسعات الأعمال ، فهذه القيروان بلد المخاطب لنا ، ما أذكر أني رأيت في أخبارها تأليفاً غير ' المعرب عن أخبار المغرب ' وحاشا تآليف محمد بن يوسف الوراق ( 1 ) ، فإنه ألف للمستنصر رحمه الله تعالى في مسالك إفريقية وممالكها ديواناً ضخماً ، وفي أخبار ملوكها وحروبهم والقائمين عليهم ( 2 ) كتباً جمة ، وكذلك ألف أيضاً في أخبار تيهرت ووهران وتونس ( 3 ) وسجلماسة ونكور والبصرة ( 4 ) وغيرها تآليف حساناً . ومحمد هذا أندلسي الأصل والفرع ، آباؤه من وادي الحجارة ( 5 ) ومدفنه بقرطبة وهجرته إليها ، وإن كانت نشأته بالقيروان . 6 - ولا بد من إقامة الدليل على ما أشرت إليه هاهنا ، إذ مرادنا أن نأتي منه بالمطلب ، فيما يستأنف ، إن شاء الله تعالى ، وذلك أن جميع المؤرخين من أئمتنا السالفين والباقين ، دون محاشاة أحد ، بل قد تيقنا إجماعهم على ذلك ، متفقون على أن ينسبوا الرجل إلى مكان هجرته التي استقر بها ، ولم يرحل عنها رحيل ترك لسكناها إلى أن مات ، فإن ذكروا الكوفيين من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، صدروا بعلي وابن مسعود وحذيفة رضي الله تعالى عنهم ، وإنما سكن علي الكوفة خمسة أعوام وأشهراً ( 6 ) ، وقد بقي 58 عاماً وأشهراً بمكة والمدينة شرفهما الله تعالى ، وكذلك أيضاً أكثر أعمار من ذكرنا . وإن ذكروا البصريين بدأوا بعمران بن حصين ، وأنس بن مالك ، وهشام بن عامر ، وأبي بكرة ، وهؤلاء : مواليدهم وعامة زمن أكثرهم وأكثر مقامهم بالحجاز وتهامة والطائف ، وجمهرة أعمارهم خلت هنالك . وإن ذكروا الشاميين نوهوا بعبادة بن الصامت وأبي الدرداء وأبي عبيدة بن الجراح ومعاذ ومعاوية ، والأمر في هؤلاء كالأمر فيمن قبلهم . وكذلك في المصريين : عمرو بن العاص وخارجة بن حذافة العدوي ، وفي المكيين : عبد الله بن عباس ، وعبد الله بن الزبير ( 7 ) ، والحكم في هؤلاء كالحكم(2/175)
"""""" صفحة رقم 176 """"""
في من قصصنا . فمن هاجر إلينا من سائر البلاد ، فنحن أحقُّ به ، وهو منا بحكم جميع أولي الأمر منا ، الذين إجماعهم فرض اتباعه ، وخلافه محرم اقترافه ، ومن هاجر منا إلى غيرنا فلا حظٌ لنا فيه ، والمكان الذي اختاره أسعد به ، فكما لا ندع إسماعيل بن القاسم ( 1 ) ، فكذلك لا ننازع في محمد بن هانئ سوانا ، والعدل أولى ما حُرص عليه ، والنصف أفضل ما دُعي إليه ، بعد التفصيل الذي ليس هذا موضعه ، وعلى ما ذكرنا من الإنصاف تراضى الكل . 7 - وهذه بغداد حاضرة الدنيا ، ومعدن كل فضيلة ، والمحلة التي سبق أهلها إلى حمل ألوية المعارف ، والتدقيق في تصريف العلوم ، ورقة الأخلاق والنباهة والذكاء وحدة الأفكار ونفاذ الخواطر ، وهذه البصرة وهي عين المعمور في كل ما ذكرنا : وما أعلم في أخبار بغداد تأليفاً غير كتاب أحمد بن أبي طاهر ( 2 ) . وأما سائر التواريخ التي ألفها أهلها ، فلم يخصوا بلدتهم بها دون سائر البلاد ، ولا أعلم في أخبار البصرة غير كتاب عمر بن شبة ( 3 ) ، وكتاب لرجل من ولد الربيع بن زياد المنسوب إلى أبي سفيان ، في خطط البصرة وقطائعها ، وكتابين لرجلين من أهلها يسمى أحدهما عبد القاهر ، كريزي النسب ، [ في ] صفاتها وذكر أسواقها ومحالها وشوارعها . ولا أعلم في أخبار الكوفة غير كتاب عمر بن شبة ( 4 ) . وأما الجبال وخراسان وطبرستان وجرجان وكرمان وسجستان والسند والري وأرمينية وأذربيجان وتلك الممالك الكثيرة الضخمة فلا أعلم في شيء منها تأليفاً قصد به أخبار ملوك تلك النواحي وعلمائها وشعرائها وأطبائها ( 5 ) ، ولقد تاقت النفوس إلى أن يتصل بها تأليف في أخبار فقهاء بغداد ، وما علمناه علم ، على أنهم العلية الرؤساء والأكابر العظماء . ولو كان في شيء من ذلك تأليف لكان الحكم في الأغلب أن يبلغنا كما بلغ سائر تآليفهم ، وكما بلغنا كتاب(2/176)
"""""" صفحة رقم 177 """"""
حمزة بن الحسن الأصبهاني في أخبار أصبهان ( 1 ) ، وكتاب الموصلي وغيره في أخبار مصر ، وكما بلغنا سائر تآليفهم في أنحاء العلوم . وقد بلغنا تأليف القاضي أبي العباس محمد بن عبدون القيرواني في الشروط واعتراضه على الشافعي رحمه الله تعالى ( 2 ) ، وكذلك بلغنا رد القاضي [ عبد الله بن ] أحمد بن طالب التميمي على أبي حنيفة وتشنيعه على الشافعي ( 3 ) ، وكتب ابن عبدوس ومحمد بن سحنون ( 4 ) وغير ذلك من خوامل تآليفهم دون مشهورها . 8 - وأما جهتنا فالحكم في ذلك ما جرى به المثل السائر ' أزهد الناس في عالمٍ أهله ' . وقرأت في الإنجيل أن عيسى عليه السلام قال : ' لا يفقد النبي حرمته إلأ في بلده ' . وقد تيقنا ذلك بما لقي النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مع قريش ، وهم أوفر الناس أحلاماً ، وأصحهم عقولاً ، وأشدهم تثبتاً ، مع ما خصوا به من سكناهم أفضل البقاع ، وتغذيتهم بأكرم المياه ، حتى خص الله الأوس والخزرج بالفضيلة التي أبانهم بها عن جميع الناس ، والله يؤتي فضله من يشاء . ولا سيما أندلسنا ، فإنها خُصت من حسد أهلها للعالم الظاهر فيهم ، الماهر منهم ، واستقلالهم ، كثير ما يأتي به ، واستهجانهم حسناته ، وتتبعهم سقطاته وعثراته ، وأكثر ذلك مدة حياته ، بأضعاف ما في سائر البلاد . إن أجاد قالوا : سارقٌ مغير ، ومنتحل مدع ، وإن توسط قالوا : غثٌ بارد وضعيف ساقط ، وإن باكر الحيازة لقصب السبق قالوا : متى كان هذا ومتى تعلم وفي أي زمان قرأ ولأمه الهَبَل . وبعد ذلك إن ولجت به الأقدار أحد طريقين إما شفوفاً بائناً يعليه على نظرائه ، أو سلوكاً في غير السبيل التي عهدوها ، فهنالك حمي الوطيس على البائس ، وصار غرضاً للأقوال ، وهدفاً للمطالب ، ونصباً للتسبب إليه ، ونهباً للألسنة ، وعرضةً للتطرق إلى عرضه ، وربما نحل ما لم يقل ، وطوق ما لم يتقلد ، وألحق به ما لم يفه به ولا اعتقده قلبه ، وبالحرى ، وهو السابق المبرز إن لم يتعلق من(2/177)
"""""" صفحة رقم 178 """"""
السلطان بحظ ، أن يسلم من المتالف ، وينجو من المخالف . فإن تعرض لتأليف غمز ولمز ، وتعرض وهمز ، واشتط عليه ، وعظم يسير خطبه ، واستشنع هين سقطه ، وذهبت محاسنه ، وسترت فضائله ، وهتف ونودي بما أغفل ، فتنكس لذلك همته ، وتكل نفسه وتبرد حميته ، وهكذا عندنا نصيب من ابتدأ يحوك شعراً ، أو يعمل رسالة ، فإنه لا يفلت من هذه الحبائل ، ولا يتخلص من هذا النصب ، إلا الناهض الفائت ، والمطفف المستولي على الأمد . 9 - وعلى ذلك ، فقد جُمع ما ظنه الظان غير مجموع ، وألفت عندنا تآليف في غاية الحسن ، لنا خطر السبق في بعضها ، فمنها : كتاب الهداية لعيسى بن دينار ( 1 ) ، وهي أرفع كتب جمعت في معناها على مذهب مالك وابن القاسم ، وأجمعها للمعاني الفقهية على المذهب ، فمنها كتاب الصلاة وكتاب البيوع وكتاب الجدار في الأقضية وكتاب النكاح والطلاق . ومن الكتب المالكية التي ألفت بالأندلس : كتاب القطني مالك بن علي ( 2 ) ، وهو رجل قرشي من بني فهر ، لقي أصحاب مالك ، وأصحاب أصحابه ، وهو كتاب حسن فيه غرائب ومستحسنات من الرسائل والمولدات . ومنها كتاب أبي إسحاق [ يحيى بن ] إبراهيم بن مزين ( 3 ) في تفسير الموطإ ، والكتب المستقصية لمعاني الموطإ وتوصيل مقطوعاته من تآليف ابن مزين أيضاً . وكتابه في رجال الموطإ وما لمالك عن كل واحد منهم من الآثار في موطإه . وفي تفسير القرآن : كتاب أبي عبد الرحمن بقي بن مخلد ( 4 ) ؛ فهو الكتاب الذي أقطع قطعاً لا أستثني فيه انه لم يؤلف في الإسلام تفسير مثله ، ولا تفسير محمد بن جرير الطبري ولا غيره . ومنها في الحديث مصنفه الكبير الذي رتبه على أسماء الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، فروى فيه عن ألف وثلاثمائة صاحب ونيف . ثم رتب حديث كل صاحب على أسماء الفقه وأبواب الأحكام ، فهو مصنف ومسند ، وما أعلم هذه الرتبة لأحدٍ قبله ، مع ثقته وضبطه وإتقانه واحتفاله في الحديث وجودة شيوخه ، فإنه روى عن مائتي رجل وأربعة وثمانين رجلاً ليس فيهم عشرة ضعفاء ، وسائرهم أعلام(2/178)
"""""" صفحة رقم 179 """"""
مشاهير ، زمنها مصنفه في فضل ( 1 ) الصحابة والتابعين ومن دونهم ، الذي أربى فيه على مصنف أبي بكر ابن أبي شيبة وصمنف عبد الرزاق بن همام ومصنف سعيد بن منصور وغيرها ، وانتظم علماً عظيماً لم يقع في شيء من هذه ، فصارت تآليف هذا الإمام الفاضل قواعد للإسلام لا نظير لها . وكان متخيراً لا يقلد أحداً ، وكان ذا خاصة من أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه [ وجارياً في مضمار أبي عبد الله البخاري وأبي الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري وأبي عبد الرحمن النسائي رحمة الله عليهم ] ( 2 ) . ومنها في أحكام القرآن : كتب ابن آمة الحجاري ( 3 ) ، وكان شافعي المذهب بصيراً بالكلام على اختياره ، وكتاب القاضي أبي الحكم منذر بن سعيد ( 4 ) وكان داودي المذهب ، قوياً على الانتصار له ، وكلاهما في أحكام القرآن غاية ، ولمنذر مصنفات : منها كتاب الإبانة عن حقائق أصول الديانة . ومنها في الحديث : مصنف أبي محمد قاسم بن أصبغ بن يوسف بن ناصح ( 5 ) ، ومصنف محمد بن عبد الملك بن أيمن ( 6 ) ، وهما مصنفان رفيعان احتويا من صحيح الحديث وغريبه على ما ليس في كثير من المصنفات ، ولقاسم بن أصبغ هذا تآليف حسان جداً ، منها أحكام القرآن على أبواب كتاب إسماعيل ( 7 ) وكلامه ، ومنها كتاب المجتبى على أبواب كتاب ابن الجارود المنتقى وهو خير منه [ انتقاء ] ( 8 ) وأنقى حديثاً وأعلى سنداً وأكثر فائدة . ومنها كتاب في فضائل قريش وكنانة ، وكتاب في الناسخ والمنسوخ ، وكتاب [ في ] غرائب حديث مالك بن أنس مما ليس في الموطإ ، ومنها كتاب التمهيد لصاحبنا أبي عمر يوسف بن عبد البر ( 9 ) ، وهو الآن في الحياة ، لم يبلغ سن الشيخوخة ، وهو كتاب لا أعلم في الكلام على فقه الحديث مثله أصلاً ، فكيف أحسن منه . ومنها كتاب(2/179)
"""""" صفحة رقم 180 """"""
الاستذكار وهو اختصار التمهيد المذكور . ولصاحبنا أبي عمر ابن عبد البر المذكور كتب لا مثل لها . منها كتابه المسمى بالكافي في الفقه على مذهب مالك وأصحابه خمسة عشر كتاباً ( 1 ) اقتصر فيه على ما بالمفتي الحاجة إليه وبوه وقربه فصار مغنياً عن التصنيفات الطوال في معناه . ومنها كتابه في الصحابة [ سماه كتاب الاستيعاب في أسماء المذكورين في الروايات والسير والمصنفات من الصحابة رضي الله عنهم والتعريف بهم وتلخيص أحوالهم ومنازلهم وعيون أخبارهم على حروف المعجم ، اثنا عشر جزءاً ] ( 2 ) ليس لأحد من المتقدمين مثله ، على كثرة ما صنفوا في ذلك ، ومنها كتاب بهجة المجالس وأنس المجالس مما يجري في المذاكرات من غرر الأبيات ونوادر الحكايات . ومنها كتاب جامع بيان العلم وفضله ، وما ينبغي في روايته ( 3 ) . ومنها كتاب شيخنا القاضي أبي الوليد عبد الله بن محمد بن يوسف بن الفرضي ( 4 ) في المختلف والمؤتلف في أسماء الرجال ، - ولم يبلغ عبد الغني الحافظ البصري في ذلك إلا كتابين ، وبلغ أبو الوليد رحمه الله تعالى نحو الثلاثين - لا أعلم مثله في فنه البتة . ومنها تاريخ أحمد بن سعيد ( 5 ) ، ما وضع في الرجال أحد مثله ، إلا ما بلغنا من تاريخ محمد بن موسى العقيلي البغدادي ، لم أره . وأحمد بن سعيد هو المتقدم في التأليف القائم في ذلك . ومنها كتب محمد بن [ أحمد بن ] يحيى بن مفرج القاضي ( 6 ) وهي كثيرة ، منها أسفار سبعة جمع فيها فقه الحسن البصري ، وكتبٌ كثيرة جمع فيها فقه الزهري . ومما يتعلق بذلك شرح الحديث لقاسم بن ثابت السرقسطي ( 7 ) فما شآه أبو عبيد إلا(2/180)
"""""" صفحة رقم 181 """"""
بتقدم العصر فقط . ومنها في الفقه الواضحة ، والمالكيون لا تمانع بينهم في فضلها واستحسانهم إياها . ومنها المستخرجة من الأسمعة وهي المعروفة ب ' العتبية ' ( 1 ) ولها عند أهل أفريقية القدر العالي والطيران الحثيث . والكتاب الذي جمعه أبو عمر أحمد بن عبد الملك بن هشام ( 2 ) الإشبيلي المعروف بابن المكوي ( 3 ) ، والقرشي أبو مروان المعيطي ( 4 ) ، في جمع أقاويل مالك ، كلها على نحو الكتاب الباهر الذي جمع فيه القاضي أبو بكر محمد بن أحمد بن الحداد المصري أقاويل الشافعي كلها . ومنها كتاب المنتخب الذي ألفه القاضي محمد بن يحيى بن عمر بن لبابة ( 5 ) ، وما رأيت لمالكي قط كتاباً أنبل منه في جمع روايات المذهب [ وتأليفها ] وشرح مستغلقها ، وتفريع وجوهها . وتآليف قاسم بن محمد ( 6 ) المعروف بصاحب الوثائق ، وكلها حسن في معناه ، وكان شافعي المذهب نظاراً ، جارياً في ميدان البغداديين . 11 - ومنها في اللغة الكتاب البارع ( 7 ) الذي ألفه إسماعيل بن القاسم يحتوي على لغة العرب ، وكتابه في المقصور والممدود والمهموز لم يؤلف مثله في بابه ، وكتاب الأفعال لمحمد بن عمر بن عبد العزيز المعروف بابن القوطية ( 8 ) ، بزيادات ابن طريف ( 9 ) ، مولى العبديين ، فلم يوضع في فنه مثله ، وكتاب جمعه أبو غالب تمام بن(2/181)
"""""" صفحة رقم 182 """"""
غالب المعروف بابن التياني في اللغة ( 1 ) ، لم يؤلف مثله اختصاراً وإكثاراً وثقة نقل ، وهو أظن في الحياة بعد . وهاهنا قصة لا ينبغي أن تخلو رسالتنا منها ، وهي : أن أبا الوليد عبد الله بن محمد بن عبد الله المعروف بابن الفرضي حدثني أن أبا الجيش مجاهداً صاحب الجزائر ودانية وجَّه إلى أبي غالب أيام غلبته على مرسية ، وأبو غالب ساكن بها ، ألف دينار أندلسية ، على أن يزيد في ترجمة الكتاب المذكور ' مما ألفه تمام بن غالب لأبي الجيش مجاهد ' فرد الدنانير وأبى من ذلك ولم يفتح في هذا باباً البتة وقال : والله لو بذل لي الدنيا على ذلك ما فعلت ، ولا استجزت الكذب ، لأني لم أجمعه له خاصة ، بل لكل طالب [ عامة ] ( 2 ) فاعجب لهمة هذا الرئيس وعلوها ، واعجب لنفس هذا العالم ونزاهتها . ومنها كتاب أحمد بن أبان بن سيد ( 3 ) في اللغة المعروف بكتاب ' العالم ' نحو مائة سفر على الأجناس ، في غاية الايعاب ، بدأ بالفلك ، وختم بالذرة ، وكتاب النوادر ( 4 ) لأبي علي إسماعيل بن القاسم وهو مُبار لكتاب الكامل لأبي العباس المبرد ، ولعمري لئن كان كتاب أبي العباس أكثر نحواً وخبراً ، فإن كتاب أبي علي أكثر لغة وشعراً . وكتاب الفصوص لصاعد بن الحسن الربعي ( 5 ) وهو جار في مضمار الكتابين المذكورين . ومن الانحاء تفسير الجرفي ( 6 ) لكتاب الكسائي حسن في معناه ، وكتاب ابن سيده في ذلك المنبوز ب ' العالم والمتعلم ' وشرح له لكتاب الأخفش ( 7 ) . 12 - ومما ألف في الشعر ( 8 ) : كتاب عبادة بن ماء السماء في أخبار شعراء(2/182)
"""""" صفحة رقم 183 """"""
الأندلس ( 1 ) ، كتاب حسن ، وكتاب الحدائق لأبي عمر أحمد بن فرج ( 2 ) ، عارض به كتاب الزهرة لأبي [ بكر ] محمد [ بن ] داود رحمه الله تعالى ، إلا أن أبا بكر إنما أدخل مائة باب ، في كل باب مائة بيت ، وأبو عمر أورد مائتي باب في كل باب مائة بيت ، ليس منها باب تكرر اسمه لأبي بكر ، ولم يورد فيه لغير أندلسي شيئاً ، وأحسن الاختيار ما شاء وأجاد ، فبلغ الغاية ، وأتى الكتاب فرداً في معناه . ومنها كتاب التشبيهات من أشعار أهل الأندلس جمعه أبو الحسن علي بن محمد بن أبي الحسين الكاتب ( 3 ) وهو حي بعد . ومما يتعلق بذلك : شرح أبي القاسم إبراهيم بن محمد الافليلي لشعر المتنبي ، وهو حسن جدّاً ( 4 ) . 13 - ومن الأخبار : تواريخ أحمد بن محمد بن موسى الرازي ( 5 ) في أخبار ملوك الأندلس وخدمتهم وغزواتهم ونكباتهم وذلك كثيراً جداً ، وكتاب له في صفة قرطبة وخططها ومنازل الأعيان بها ، على نحو ما بدأ به ابن أبي طاهر في أخبار بغداد ، وذكر منازل صحابة أبي جعفر المنصور بها . وتواريخ متفرقة رأيت منها : أخبار عمر بن حفصون القائم برية ووقائعه وسيره وحروبه . وتاريخ آخر في أخبار عبد الرحمن بن مروان الجليقي القائم بالجوف ( 6 ) . وفي أخبار بني قسي والتجيبيين وبني الطويل بالثغر ( 7 ) فقد رأيت من ذلك كتباً مصنفة في غاية الحسن ، وكتاب مجزأ في أجزاء كثيرة في أخبار رية وحصونها [ وولاتها ] وحروبها وفقهائها وشعرائها تأليف إسحاق بن سلمة بن إسحاق القيني ( 8 ) . وكتاب محمد بن الحارث الخشني في أخبار القضاة بقرطبة وسائر(2/183)
"""""" صفحة رقم 184 """"""
بلاد الأندلس ، وكتاب في أخبار الفقهاء بها ( 1 ) . وكتاب لأحمد بن محمد بن موسى في أنساب مشاهير أهل الأندلس ( 2 ) ، في خمسة أسفار ضخمة من أحسن كتابٍ في الأنساب وأوسعها ، وكتاب قاسم بن أصبغ في الأنساب في غاية الحسن والإيعاب والإيجاز ( 3 ) . وكتابه في فضائل بني أمية ( 4 ) . وكان من الثقة والجلالة بحيث اشتهر أمره وانتشر ذكره ( 5 ) ، ومنها كتب مؤلفة في أصحاب المعاقل والأجناد الستة بالأندلس . ومنها كتب كثيرة جمعت فيها أخبار شعراء الندلس للمستنصر رحمه الله تعالى ، رأيت منها أخبار شعراء البيرة في نحو عشرة أجزاء ، ومنها كتاب الطوالع في أنساب أهل الأندلس ، ومنها كتاب التاريخ الكبير في أخبار أهل الأندلس [ وملوكها ] تأليف أبي مروان ابن حيان نحو عشرة أسفار ، من أجل كتابٍ أُلف في هذا المعنى ، وهو في الحياة بعد ، لم يتجاوز الاكتهال ( 6 ) ، وكتاب المآثر العامرية لحسين بن عاصم ( 7 ) في سير ابن أبي عامر وأخباره ، وكتاب الأقشتين محمد بن هاشم النحوي في طبقات الكتاب بالأندلس ( 8 ) . وكتاب سكن بن سعيد في ذلك ( 9 ) . وكتاب أحمد بن [ محمد بن ] فرج في المنتزين والقائمين بالأندلس وأخبارهم ( 10 ) . وكتاب أخبار أطباء الأندلس لسليمان بن جلجل ( 11 ) .(2/184)
"""""" صفحة رقم 185 """"""
14 - وأمّا الطب : فكتب الوزير يحيى بن إسحاق وهي كتب رفيعة حسان ( 1 ) . وكتب محمد بن الحسن المذحجي أستاذنا رحمه الله تعالى ، وهو المعروف بابن الكتاني ، وهي كتب رفيعة حسان ( 2 ) . وكتاب التصريف [ لمن عجز عن التأليف ] لأبي القاسم خلف بن عباس الزهراوي ( 3 ) ، وقد أدركناه وشاهدناه ، ولئن قلنا إنه لم يؤلف في الطب أجمع منه ولا أحسن للقول والعمل في الطبائع ، لنصدقن . وكتب ابن الهيثم ( 4 ) في الخواص والسموم والعقاقير من أجل الكتب وأنفعها . 15 - وأما الفلسفة : فإني رأيت فيها رسائل مجموعة وعيوناً مؤلفة لسعيد بن فتحون السرقسطي المعروف بالحمار ، دالة على تمكنه من هذه الصناعة ( 5 ) ، وأما رسائل أستاذنا أبي عبد الله محمد بن الحسن المذحجي في ذلك فمشهورة متداولة وتامة الحسن فائقة الجودة عظيمة المنفعة . 16 - وأما العدد والهندسة فلم يقسم لنا في هذا العلم نفاذ ، ولا تحققنا به ، فلسنا نثق بأنفسنا في تمييز المحسن من المقصر في المؤلفين فيه من أهل بلدنا ، إلا أني سمعت من أثق بعقله ودينه من أهل العلم ممن اتفق على رسوخه فيه يقول : إنه لم يؤلف في الأزياج مثل زيج مسلمة ( 6 ) وزيج ابن السمح ( 7 ) ، وهما من أهل بلدنا . وكذلك(2/185)
"""""" صفحة رقم 186 """"""
كتاب لأحمد بن نصر [ في المساحة المجهولة ] فما تقدم إلى مثله في معناه ( 1 ) . 17 - وإنما ذكرنا التآليف المستحقة للذكر ، والتي تدخل تحت الأقسام السبعة التي لا يؤلف عاقل إلا في أحدها ( 2 ) ، وهي إما شيء لم يسبق إليه يخترعه أو شيء ناقص يتمه أو شيء مستغلق يشرحه أو شيء طويل يختصره دون أن يخل بشيء من معانيه ، أو شيء متفرق يجمعه أو شيء مختلط يرتبه ، أو شيء أخطأ فيه مؤلفه يصلحه . وأما التآليف المقصرة عن مراتب غيرها فلم نلتفت إلى ذكرها ، وهي عندنا من تأليف أهل بلدنا أكثر من أن نحيط بعلمها . 18 - وأما علم الكلام فإن بلادنا وإن كانت لم تتجاذب فيها الخصوم ، ولا اختلفت فيها النحل ، فقلَّ لذلك تصرفهم في هذا الباب ، فهي على كل حال غير عرية عنه ، وقد كان فيهم قوم يذهبون إلى الاعتزال ، نظار على أصوله ، ولهم فيه تآليف منهم : خليل بن إسحاق ( 3 ) ويحيى بن السمينة ( 4 ) والحاجب موسى بن حدير ( 5 ) وأخوه الوزير صاحب المظالم أحمد ، وكان داعية إلى الاعتزال لا يستتر بذلك . 19 - ولنا على مذهبنا الذي تخيرناه من مذاهب أصحاب الحديث كتاب في هذا المعنى ( 6 ) ، وهو وإن كان صغير الجرم ، قليل عدد الورق ، يزيد على المائتين زيادة يسيرة ، فعظيم الفائدة ، لأنا أسقطنا فيه المشاغب كلها ، وأضربنا على التطويل جملة ، واقتصرنا على البراهين المنتخبة من المقدمات الصحاح الراجعة إلى شهادة الحس وبديهة العقل لها بالصحة ، ولنا فيما تحققنا به تآليف جمة ، منها ما قد تم ، ومنها ما شارف التمام ، ومنها ما قد مضى منه مصدر ، ويعين الله تعالى على باقيه ، لم نقصد به قَصْدَ(2/186)
"""""" صفحة رقم 187 """"""
مباهاةٍ فنذكرها ، ولا أردنا السمعة فنسميها ، والمراد بها ربنا جل وجهه ، وهو ولي العون فيها ، والمليّ بالمجازاة عليها ، وما كان الله تعالى فسيبدو ، وحسبنا الله ونعم الوكيل . 20 - وبلدنا هذا على بعده من ينبوع العلم ، ونأيه من محلة العلماء ، فقد ذكرنا من تآليف أهله ما إن طُلب مثلها بفارس والأهواز وديار مضر وديار ربيعة واليمن والشام ، أعوز وجود ذلك ، على قرب المسافة في هذه البلاد من العراق التي هي دار هجرة الفهم وذويه ومراد المعارف وأربابها . 21 - ونحن إذا ذكرنا أبا الأجرب جعونة بن الصمة الكلابي ( 1 ) في الشعر ، لم نباهِ إلا جريراً والفرزدق لكونه في عصرهما ، ولو أنصف لاستشهد بشعره ، فهو جار على مذهب الأوائل لا على طريقة المحدثين . وإذا سمينا بقي بن مخلد لم نسابق به إلا محمد بن إسماعيل البخاري ومسلم بن الحجاج النيسابوري وسليمان بن الأشعث السجستاني وأحمد بن شعيب النسائي ، وإذا ذكرنا قاسم بن محمد ( 2 ) لم نباهِ به إلا القفال ( ) ومحمد بن عقيل الفريابي ، وهو شريكهما في صحبة المزني أبي ( 3 ) إبراهيم والتلمذة له ، وإذا نعتنا عبد الله بن قاسم بن هلال ومنذر بن سعيد لم نجار بهما إلا أبا الحسن ابن المغلس والخلال والديباجي ورويم بن أحمد وقد شركهم عبد الله في أبي سليمان ( 4 ) وصحبته . وإذا أشرنا إلى محمد بن يحيى بن لبابة ( 5 ) وعمه محمد بن عمر وفضل بن سلمة لم ( 6 ) نناطح بهم إلا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ومحمد بن سحنون ومحمد بن عبدوس . وإذا صرحنا بذكر محمد بن يحيى الرباحي ( 7 ) وأبي عبد الله محمد بن عاصم لم يقصرا عن أكابر أصحاب محمد بن يزيد المبرد . ولو لم يكن لنا من فحول الشعراء إلا أحمد بن دراج القسطلي لما تأخر عن شأو بشار بن برد وحبيب والمتنبي ( 8 ) فكيف ولنا معه جعفر بن عثمان الحاجب وأحمد بن(2/187)
"""""" صفحة رقم 188 """"""
عبد الملك بن مروان ( 1 ) وأغلب بن شعيب ( 2 ) ومحمد بن [ مطرف بن ] شخيص ( 3 ) وأحمد بن فرج وعبد الملك بن سعيد المرادي ( 4 ) ، وكل هؤلاء فحل يهاب جانبه ، وحصان ممسوح الغرة . ولنا من البلغاء أحمد بن عبد الملك بن شهيد ( 5 ) صديقنا وصاحبنا وهو حي بعد ، لم يبلغ سن الاكتهال ، وله من التصرف في وجوه البلاغة وشعابها مقدار يكاد ينطق فيه بلسان مركب من لساني عمرو وسهل ( 6 ) . ومحمد بن عبد الله بن مسرة ( 7 ) في طريقه التي سلك فيها وإن كنا لا نرضى مذهبه ، في جماعة يكثر تعدادهم . وقد انتهى ما اقتضاه خطاب الكاتب رحمه الله تعالى من البيان ، ولم نتزيد فيما رغب فيه إلا ما دعت الضرورة إلى ذكره لتعلقه بجوابه ، والحمد لله الموفق لعلمه ، والهادي إلى الشريعة المزلفة منه والموصلة ، وصلى الله على محمد عبده ورسوله وعلى آله وصحبه وسلم وشرف وكرم . انتهت الرسالة(2/188)
"""""" صفحة رقم 189 """"""
ملحقات(2/189)
"""""" صفحة رقم 190 """"""
صفحة فارغة(2/190)
"""""" صفحة رقم 191 """"""
الملحق ( 1 ) ذكر أوقات الأمراء وأيامهم بالأندلس ( 1 ) [ ولاية الأمير عبد الرحمن بن معاوية ]
أول أمراء بني أمية بالأندلس عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان ، يُكنى أبا المُطَرِّف ، مولده بالشام سنة ثلاث عشرة ومائة ، وأُمُّه أم ولد اسمها راح ؛ هرب لما ظهرت دولة بني العباس ، ولم يزل مستتراً إلى أن دخل الأندلس سنة ثمان وثلاثين ومائة في زمن أبي جعفر المنصور ، فقامت معه اليمانية ، وحارب يوسف ابن عبد الرحمن بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع الفهري الوالي على الأندلس ( 2 ) فهزمه ، واستولى عبد الرحمن على قُرطبة يوم الأضحى من العام المذكور ، فاتصلت ولايته إلى أن مات سنة اثنتين وسبعين ومائة . كذا قال لنا أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد الفقيه : يوسف بن عبد الرحمن ابن أبي عبيدة . ورأيت في غير موضع يوسف بن عبد الرحمن بن أبي عبدة ، فالله أعلم . وكان عبد الرحمن بن معاوية من أهل العلم ، وعلى سيرة جميلة من العدل . ومن قُضاته : معاوية بن صالح الحضرمي الحمصي ( 3 ) . وله أدبٌ وشعر ، ومما أنشدونا له يتشوق إلى معاهده بالشام قوله ( 4 ) : [ من الخفيف ] أيها الرَّاكب المُيَمِّمُ أرضي . . . أقْر من بعضيَ السلام لبعضي(2/191)
"""""" صفحة رقم 192 """"""
إن جسمي ، كما علمتَ ، بأرضٍ . . . وفُؤادي ومالكيه بأَرض قُدِّر البينُ بينَنا فافترقنا . . . وطوى البينُ عن جفوني غَمضي قد قضى اللهُ بالفراق علينا . . . ( 1 ) فَعسَى باجتماعِنا سوفَ يَقْضي
ولاية الأمير هشام بن عبد الرحمن
ثم ولي بعد عبد الرحمن ابنه هشام ، يُكنى أبا الوليد ، وسنُّه حينئذٍ ثلاثون سنة ، فاتصلت ولايته سبعة أعوام إلى أن مات في صفر سنة ثمانين ومائة ، وكان حسن السيرة متحرياً ( 2 ) للعدل ، يعود المرضى ويشهد الجنائز ، أُمُّه حَوراء .
ولاية الحكم بن هشام
ثم ولي بعده ابنه الحكم ، وله اثنتان وعشرون سنة ، يُكنى أبا العاص ، أُمُّه أُمُّ ولد اسمها زُخْرُف ؛ وكان طاغياً مُسرفاً ( 3 ) ، وله آثار سوءٍ قبيحة ، وهو الذي أوقع بأهل الربض الوقعة المشهورة فقتلهم وهدم ديارهم ومساجدهم ؛ وكان الرَّبَضُ مَحلة متصلة بقصره ، فاتهمهم في بعض أمره ، ففعل بهم ذلك ، فسُمِّي الحكم الرَّبَضيّ لذلك ؛ واتصلت ولايته إلى أن مات في آخر ذي الحجة سنة ست ومائتين .
ولاية عبد الرحمن بن الحكم
ثم ولي بعده ابنه عبد الرحمن ، يُكنى أبا المطرف ، وله ثلاثون سنة ، وأُمُّه أُمُّ ولد اسمها حَلاوة ، فاتصلت ولايته إلى أن مات في صفر سنة ثمان وثلاثين ومائتين ؛ وكان وادعاً محمود السيرة .
ولاية الأمير محمد بن عبد الرحمن
ثم ولي بعده ابنه محمد يُكنى أبا عبد الله ، وأُمُّه أُمُّ ولد اسمها تهتز ؛ فاتصلت ولايته إلى أن مات في آخر صفر سنة ثلاث وسبعين ومائتين . قال لنا أبو محمد علي بن أحمد : وكان مُحباً للعلوم مؤثراً لأهل الحديث ، عارفاً ، حسن السيرة ؛ ولما دخل الأندلس أبو عبد الرحمن بقي بن مَخْلَدٍ ( 4 ) بكتاب " مُصنف "(2/192)
"""""" صفحة رقم 193 """"""
أبي بكر بن أبي شيبة وقُرئ عليه ، أنكر جماعةٌ من أهل الرأي ما فيه من الخلاف واستشنعوه ، وبسطوا العامة عليه ، ومنعوه من قراءته ، إلى أن اتصل ذلك بالأمير محمد ، فاستحضره وإياهم ، واستحضر الكتاب كله ، وجعل يتصفحه جزءا جزءاً إلى أن أتى على آخره ، وقد ظنوا أنه يوافقهم في الإنكار عليه ، ثم قال لخازن الكتب : هذا كتاب لا تستغني خزانتنا عنه ، فانظر في نسخه لنا ؛ ثم قال لبقي بن مخلد : انشر علمك ، وارو ما عندك من الحديث ، واجلس للناس حتى ينتفعوا بك . أو كما قال ، ونهاهم أن يتعرضوا له ( 1 ) .
ولاية المنذر بن محمد
ثم ولي بعده ابنه المنذر بن محمد ، ويُكنى أبا الحكم . وأُمه أم ولد اسمها أثْل ، وكان مولده في سنة تسع وعشرين ومائتين ، فاتصلت ولايته سنتين غير خمسة عشر يوماً ، ومات وهو على قلعة يقال لها بباشتر محاصراً لعمر بن حفصون : خارجي قام هناك وتحصن . وكان موته في سنة خمس وسبعين ومائتين ؛ وقد انقرض عقِبُ المنذر .
ولاية عبد الله بن محمد
فَوليَ بعده أخوه عبد الله بن محمد ، وكان مولده سنة ثلاثين ومائتين ؛ يُكنى أبا محمد . أُمُّه أُم ولد اسمها عشار ، طال عمرها إلى أن ماتت قبل موته بسنةٍ وشهر ؛ وكان وادعاً لا يشرب الخمر ، وفي أيامه امتلأت الأندلس بالفتن ، وصار في كل جهةٍ متغلب ، فلم يزل كذلك طول ولايته إلى أن مات مُستهل ربيع الأول سنة ثلاثمائة .
ولاية عبد الرحمن الناصر
ثم ولي بعده ابن ابنه عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله ، وكان والده محمد قد قتله أخوه المُطرف بن عبد الله في صدر دولة أبيهما عبد الله ، وترك ابنه عبد الرحمن(2/193)
"""""" صفحة رقم 194 """"""
هذا وهو ابن عشرين يوماً ، فولي الأمر وله اثنتان وعشرون سنة . قال لي أبو محمد عليُّ بن أحمد : وكانت ولايته من المستطرف ، لأنه كان في هذا الوقت شاباً ، وبالحضرة جماعة أكابر من أعمامه وأعمام أبيه ، وذوي القعْدُدِ في النسب من أهل بيته ، فلم يعترض معترض واستمر له الأمر ، وكان شهماً صارماً . وكلُّ من ذكرنا من الأمراء أجداده إلى عبد الرحمن بن محمد هذا ، فليس منهم أحد تسمى بإمرة المؤمنين ، وإنما كان يسلم عليهم ، ويخطب لهم بالإمارة فقط ؛ وجرى على ذلك عبد الرحمن بن محمد إلى آخر السَّنة السابعة عشرة من ولايته ، فلما بلغه ضعف الخلافة بالعراق في أيام المقتدر ، وظهور الشيعة بالقيروان ، تسمى عبد الرحمن بأمير المؤمنين ، وتلقب بالناصر لدين الله . وكان يُكنى أبا المُطَرِّف ، وأُمه أُم ولد اسمها مُزْنة ، ولم يزل منذ ولي يستنزل المتغلبين حتى استكمل إنزال جميعهم في خمس وعشرين سنةً من ولايته ، وصار جميع أقطار الأندلس في طاعته ، ثم اتصلت ولايته إلى أن مات في صدر رمضان سنة خمسين وثلاثمائة ، ولم يبلغ أحد من بني أُمية في الولاية مُدّتَه فيها .
ولاية الحكم المستنصر
ثم ولي بعده ابنه الحكم بن عبد الرحمن ، ويلقب بالمستنصر بالله ، وله إذ ولي سبعٌ واربعون سنة ، يُكنى أبا العاص ؛ أُمه أُمُّ ولد اسمها مَرجان ، وكان حسن السيرة ، جامعاً للعلوم محباً لها مكرماً لأهلها ، وجمع من الكتب في أنواعها ما لم يجمعه أحدٌ من الملوك قبله هنالك ( 1 ) ، وذلك بإرساله عنها إلى الأقطار ، واشترائه لها بأغلى الأثمان ، ونفق ذلك عليه فحُمِل إليه . وكان قد رام قطع الخمر من الأندلس وأمر بإراقتها وتشدد في ذلك ، وشاور في استئصال شجرة العنب من جميع أعماله ، فقيل له إنهم يعملونها من التين وغيره ، فتوقف عن ذلك . وفي أمره بإراقة الخمور في سائر الجهات يقول أبو عمر يوسف بن هارون الكندي ( 2 ) قصيدته المشهورة فيها ، متوجعاً لشاربها ، وإنما أوردناها تحقيقاً لما ذكرنا عنه من ذلك ، وهي قوله : [ من الوافر ](2/194)
"""""" صفحة رقم 195 """"""
بخطب الشاربين يضيق صدري . . . وترمضني بليتهم لعمري وهل هم غير عشاق أصيبوا . . . بفقد حبائبٍ ومنوا بهجر أعُشاق المُدامة إن جزعتم . . . لفرقتهم فليس مكان صبر سعى طلابكم حتى أُريقت . . . دماءً فوق وجه الأرض تجري تضوع عرفها شرقاً وغرباً . . . وطبق أفق قُرطبة بعطر فقل للمسفحين لها بسفحٍ . . . وما سكنته من ظرف بكسر وللأبواب إحراقاً إلى أن . . . تركتم أهلها سكان قفر تحريتم بذاك العدل فيها . . . بزعمكم فإن يكُ عن تَحري فإن أبا حنيفة وهو عدلٌ . . . وفر عن القضاء مسير شهر فقيه لا يدانيه فقيهٌ . . . إذا جاء القياس أتى بدر وكان من الصلاة طويل ليل . . . يقطعه بلا تغميض شفر وكان له من الشراب جارٌ . . . يواصل مغرباً فيها بفجر وكان إذا انتشى غنى بصوت ال . . . مضاع بسجنه من آل عمرو " أضاعوني وأي فتى أضاعوا . . . ( 1 ) ليومِ كريهة وسداد ثغر " فغيب صوت ذاك الجار سجنٌ . . . ولم يكن الفقيه بذاك يدري فقال ، وقد مضى ليلٌ وثانٍ . . . ولم يسمعه غنى : " ليت شعري أجاري المؤنسي ليلاً غناء . . . لخير قطع ذلك أم لشر " فقالوا إنه في سجن عيسى . . . أتاه به المحارس وهو يسري فنادى ( 2 ) بالطويلة وهي مما . . . يكون برأسه لجليل أمر ويمَّم جاره عيسى بن موسى . . . فلاقاه بإكرام وبر وقال : أحاجةٌ عَرضت فإني . . . لقاضيها ومتبعها بشكر فقال : سجنت لي جاراً يسمى . . . بعمرو قال : يطلق كل عمرو بسجني حين وافقه اسم جار ال . . . فقيه ولو سجنتهم بوتر فأطلقهم له عيسى جميعاً . . . لجارٍ لا يبيت بغير سكر فإن أحببت قل لجوار جارٍ . . . وإن أحببت قل لطلاب أجر فإن أبا حنيفة لم يَؤُبْ من . . . تطلبه تخلصه بوزر(2/195)
"""""" صفحة رقم 196 """"""
نواقعها من اجل النهي سراً . . . ( 1 ) وكم نهيٍ نواقعه بجهر وكان الحكم المستنصر مواصلاً لغزو الروم ، ومن خالفه من المحاربين ، فاتصلت ولايته إلى أن مات في صفر سنة ست وستين وثلاثمائة ؛ وقد انقرض عقبه ( 2 ) .
ولاية هشام المؤيد
ثم ولي بعده ابنه هشام يُكنى أبا الوليد ، وأُمه أُمُّ ولد تسَّى صُبح ، وكان له إذْ ولي عشرةُ أعوام وأشهر ( 3 ) ، فلم يزل متغلباً عليه ، لا يظهر ولا ينفذ له أمر . وتغلب عليه أبو عامر مُحمد بن أبي عامر الملقب بالمنصور ، فكان يتولى جميع الأمور إلى أن مات . فصار مكانه أخوه عبد الرحمن بن محمد الملقب بالناصر ، فخلط وتسمى ولي العهد ، وبقي كذلك أربعة أشهر ، إلى أن قام عليه محمد بن هشام بن عبد الجبار يوم الثلاثاء لثمان عشرة ليلة خلت من جُمادى الآخرة سنة تسع وتسعين وثلاثمائة ، فخلع هشام بن الحكم وأسلمت الجيوش عبد الرحمن بن محمد بن أبي عامر ، فقتل وصلب . وبقي كذلك إلى أن قتل محمد بن هشام بن عبد الجبار وصُرف هشام المؤيد إلى الأمر ، وذلك يوم الأحد السابع من ذي الحجة سنة أربعمائة ، فبقي كذلك وجيوش البربر تحاصره مع سليمان بن الحكم بن سليمان ، واتصل ذلك إلى خمسٍ خلون من شوال سنة ثلاث وأربعمائة ، فدخل البربر مع سليمان قُرطبة ، وأخلوها من أهلها ، حاشا المدينة وبعض الربض الشرقي ، وقُتل هشام . وكان في طول دولته متغلباً عليه لا ينفذ له أمر وتغلب عليه في هذا الحصار واحدٌ بعد واحدٍ من العبيد ، ولم يولد له قط .
ولاية محمد بن هشام المهدي
قام محمد بن هشام بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر ، على هشام بن الحكم في جُمادى الآخرة سنة تسع وتسعين وثلاثمائة ، فخلعه وتسمى بالمهدي ، وبقي كذلك إلى أن قام عليه يوم الخميس لخمسٍ خلون من شوال سنة تسع وتسعين ، هشام بن(2/196)
"""""" صفحة رقم 197 """"""
سليمان بن الناصر مع البربر ، فحاربه بقية يومه والليلة المُقبلة ، وصبيحة اليوم الثاني ، وقام عليه عامة أهل قرطبة مع محمد بن هشام ، فانهزم البربر ، وأُسر هشام بن سليمان ، فأُتي [ به ] إلى المهدي فضرب عُنقه . واجتمع البربر عند ذلك فقدموا على أنفسهم سليمان بن الحكم بن سليمان [ بن ] الناصر ابن أخي هشام القائم المذكور ، ونهض بهم إلى الثغر ، فاستجاش بالنصارى وأتى بهم إلى باب قُرطبة ، وبرز إليه جماعة أهل قرطبة ، فلم تكن إلا ساعة حتى قتل من أهل قُرطبة نيف على عشرين ألف رجل في جبل هناك يعرف بجبل قنطيش ، وهي الوقعة المشهورة ، ذهب فيها من الخيار وأئمة المساجد والمؤذنين خلق عظيم ، واستتر محمد بن هشام المهدي أياماً ثم لحق بطُلَيْطُلَة ، وكانت الثغور كلها من طُرْطُوشة إلى الأشبونة باقيةً على طاعته ودعوته ، فاستجاش بالأفرنج ، وأتى بهم إلى قرطبة ، فبرز إليه سليمان بن الحكم مع البربر إلى موضع بقرب قرطبة على نحو بضعة عشر ميلاً يُدعى عقبة البقر ، فانهزم سليمان والبربر ، واستولى المهدي على قرطبة ، ثم خرج بعد أيام إلى قتال جُمهور البربر ، وكانوا قد صاروا بالجزيرة فالتقوا بوادي آرُ ، فكانت الهزيمة على محمد بن هشام ، وانصرف إلى قرطبة فوثب عليه العبيد مع واضح الصقلبي ، فقتلوه وصرفوا هشاماً المؤيد كما ذكرنا قبل ، فكانت مدة ولاية محمد المهدي مذ قام إلى أن قتل ستة عشر شهراً من جملتها الستة الأشهر التي كان فيها سليمان بقرطبة ، وكان هو بالثغر ؛ وكان يكنى أبا الوليد ، أمه أم ولد تسمى مُزنة ، وكان له ولد اسمه عبيد الله ، انقرض ولا عقب للمهدي ، وكان مولد المهدي في سنة ست وستين وثلاثمائة .
ولاية سليمان بن الحكم المستعين
قام سليمان بن الحكم كما ذكرنا يوم الجمعة لست خلون من شوال سنة تسع وتسعين وثلاثمائة وتلقب بالمستعين بالله ، ثم دخل قرطبة كما ذكرنا في ربيع الآخر سنة أربعمائة ، وتلقب حينئذ بالظافر بحول الله مضافاً إلى المستعين ، ثم خرج عنها في شوال سنة أربعمائة فلم يزل يجول بعساكر البربر في بلاد الأندلس ، يفسد وينهب ويقفر المدائن والقُرَى بالسيف والغارة ، لا تُبقي البربر معه على صغير ولا كبير ولا امرأة ، إلى أن دخل قرطبة في صدر شوال سنة ثلاث وأربعمائة . وكان من جملة جُنده رجلان من وَلَد الحسن بن علي بن أبي طالب ، يُسَمَّيان القاسم وعليا ابني حمود بن ميمون بن أحمد بن علي بن عبيد الله بن عمرو بن إدريس بن إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، فقودهما على المغاربة ثم ولَّى(2/197)
"""""" صفحة رقم 198 """"""
أحدهما سبتة وطنجة ، وهو علي الأصغر منهما ؛ وولي القاسم الجزيرة الخضراء ، وبين الموضعين المجاز المعروف بالزقاق ، وسعة البحر هناك اثنا عشر ميلاً . وافترق العبيد ، إذ دخل البربر مع سليمان قرطبة ، فملكوا مدناً عظيمة ، وتحصنوا فيها ، فراسلهم علي بن حمود المذكور ، وقد حدث له طمعٌ في ولاية الأندلس ، وكتب إليهم يذكر لهم أن هشام بن الحكم إذ كان محاصراً بقرطبة كتب إليه يوليه عهده ، فاستجابوا له وبايعوه ، فزحف من سبتة إلى مالقة ، وفيها عامر بن فتوح الفائقي مولى فائق ، مولى الحكم المستنصر ، فأطاع له وأدخله مالقة ، فتملكها علي بن حمود ، وأخرج عنها عامر بن فتوح ، ثم زحف بمن معه من البربر وجمهور العبيد إلى قرطبة ، فخرج إليه محمد بن سليمان في عساكر البربر ، فانهزم محمد بن سليمان ، ودخل علي بن حمود قرطبة وقتل سليمان بن الحكم صبراً ، ضرب عنقه بيده يوم الأحد لتسع بقين من المحرم سنة سبع واربعمائة ، وقتل أباه الحكم بن سليمان بن الناصر أيضاً في ذلك اليوم ، وهو شيخ كبير له اثنتان وسبعون سنة ، فكانت مدة سليمان مذ دخل قرطبة إلى أن قتل ثلاثة أعوام وثلاثة أشهر وأياماً ، وقد كان ملكها قبل ذلك ستة أشهر وأياماً ، وانقطعت دولة بني أمية في هذا الوقت وذكرهم على المنابر في جميع أقطار الأندلس ، إلى أن عاد بعد ذلك في الوقت الذي نذكره إن شاء الله . وكانت أمه أم ولد اسمها ظبية ، ومولده سنة أربع وخمسين وثلاثمائة ، وترك من الولد ولي عهده محمداً لم يعقب ، والوليد ومسلمة . وكان سليمان أديباً شاعراً ، أنشدني أبو محمد علي بن أحمد قال : أنشدني فتى من ولد إسماعيل بن إسحاق المنادي الشاعر ( 1 ) كان يكتب لأبي جعفر أحمد بن سعيد بن الدّب قال ، أنشدني أبو جعفر قال ، أنشدني أمير المؤمنين سليمان الظافر لنفسه ، قال أبو محمد : وأنشدنيها قاسم بن محمد المرواني ( 2 ) قال : أنشدنيها وليد بن محمد الكاتب لسليمان الظافر ( 3 ) : [ من الكامل ](2/198)
"""""" صفحة رقم 199 """"""
عجباً يهاب الليث حد سناني . . . وأهاب لحظ فواتر الأجفان وأقارع الأهوال لا مُتهيباً . . . منها سوى الإعراض والهجران وتملكت نفسي ثلاثٌ كالدمى . . . زُهر الوجوه نواعم الأبدان ككواكب الظلماء لحن لناظر . . . من فوق أغصان على كثبان هذي الهلال وتلك بنت المشتري . . . حُسناً وهذي أُخت غصن البان حاكمت فيهن السلو إلى الصبا . . . فقضي بسلطان على سلطاني فأبحن من قلبي الحمى وثنينني . . . في عز ملكي كالأسير العاني لا تعذلوا ملكاً تذلل للهوى . . . ذُلُّ الهوى عزٌّ وملك ثاني ما ضر أني عبدهن صبابةً . . . وبنو الزمان وهن من عبداني إن لم أُطع فيهن سلطان الهوى . . . كلفاً بهن فلست من مروان وإذا الكريم أحب أمن إلفه . . . خطب القلى وحوادث السُّلوان وإذا تجارى في الهوى أهل الهوى . . . عاش الهوى في عبطة وأمان وهذه الأبيات معارضةٌ للأبيات التي تنسب إلى هارون الرشيد ، وأنشدنيها له ( 1 ) أبو محمد عبد الله بن عثمان بن مروان العمري وهي ( 2 ) : [ من الكامل ] ملك الثلاث الآنسات عناني . . . وحللن من قلبي بكل مكان مالي تطاوعني البرية كلها . . . وأُطيعهن وهن في عصيان ما ذاك إلا أن سلطان الهوى . . . وبه قوين أعزُّ من سلطاني
ولاية علي بن حمود الناصر
تسمَّى بالخلافة وتلقب بالناصر ، ثم خالف عليه العبيد الذين كانوا بايعوه وقدموا عبد الرحمن بن محمد بن عبد الملك بن عبد الرحمن الناصر ، وسموه المرتضى ، وزحفوا إلى أغرناطة التي تغلب عليها البربر ، ثم ندموا على إقامته لما رأوا من صرامته ، وخافوا عواقب تمكنه وقدرته ، فانهزموا عنه ودسوا عليه من قتله غيلة ، وخفي أمره ، وبقي علي بن حمود بقرطبة مستمر الأمر عامين غير شهرين ، إلى أن قتله صقالبة له في الحمام سنة ثمان وأربعمائة . وكان له من الولد يحيى وإدريس .(2/199)
"""""" صفحة رقم 200 """"""
ولاية القاسم بن حمود المأمون
فولي بعده أخوه القاسم بن حمود ، وكان أسن منه بعشرة أعوام ، وتلقب بالمأمون ، وكان وادعاً أمن الناس معه ، وكان يُذكر عنه أنه يتشيع ، ولكنه لم يظهر ذلك ، ولا غير للناس عادة ولا مذهباً ، وكذلك سائر من ولي منهم بالأندلس ، فبقي القاسم كذلك إلى شهر ربيع الأول سنة اثنتي عشرة وأربعمائة ، فقام عليه ابن أخيه يحيى بن علي بن حمود بمالقة ، فهرب القاسم عن قرطبة بلا قتال وصار بإشبيلية ، وزحف ابن أخيه المذكور من مالقة بالعساكر ، فدخل دون مانع وتسمى بالخلافة ، وتلقب بالمعتلي ، فبقي كذلك إلى أن اجتمع للقاسم أمره ، واستمال البربر وزحف بهم إلى قرطبة ، فدخلها في سنة ثلاث عشرة وأربعمائة ، وهرب يحيى بن علي إلى مالقة ، فبقي القاسم بقرطبة شهوراً اضطرب أمره ، وغلب ابن أخيه يحيى على الجزيرة المعروفة بالجزيرة الخضراء ، وهي كانت معقل القاسم وبها كانت امرأته وذخائره ، وغلب ابن أخيه الثاني إدريس بن علي صاحب سبتة على طنجة ، وهي كانت عدة القاسم ليلجأ إليها إن رأى ما يخاف بالأندلس . وقام عليه جماعة أهل قرطبة في المدينة ، وأغلقوا أبوابها دونه ، فحاصرهم نيفاً وخمسين يوماً ، وأقام الجمعة في مسجد ابن أبي عثمان . ثم إن أهل قرطبة زحفوا إلى البربر ، فانهزم البربر عن القاسم ، وخرجوا من الأرباض كلها في شعبان سنة أربع عشرة وأربعمائة ، ولحقت كل طائفة من البربر ببلد غلبت عليه ، وقصد القاسم إشبيلية ، وبها كان ابناه محمد والحسن ؛ فلما عرف أهل إشبيلية خروجه عن قرطبة ومجيئه إليهم ، طردوا ابنيه ومن كان معهما من البربر وضبطوا البلد ، وقدموا على أنفسهم ثلاثة رجال من شيوخ البلد وأكابرهم ؛ وهم القاضي أبو القاسم محمد بن إسماعيل بن عباد اللخمي ، ومحمد بن يريم الألهاني ، ومحمد بن محمد بن الحسن الزُبيدي ، ومكثوا كذلك أياماً مشتركين في سياسة البلد وتدبيره ، ثم انفرد القاضي أبو القاسم ابن عباد بالأمر ، واستبد بالتدبير ، وصار الآخران في جملة الناس ، ولحق القاسم بشريش ، واجتمع البربر على تقديم ابن أخيه يحيى ، وزحفوا إلى القاسم فحصروه حتى صار في قبضة ابن أخيه يحيى ، وانفرد ابن أخيه يحيى بولاية البربر ، وبقي القاسم أسيراً عنده وعند أخيه إدريس بعده ، إلى أن مات إدريس ، فقتل القاسم خنقاً سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة ، وحمل إليه ابنه محمد بن القاسم بالجزيرة ، فدفنه هنالك ؛ فكانت ولاية القاسم مُذ تسمى بالخلافة بقرطبة إلى أن أسره ابن أخيه ستة أعوام ، ثم كان مقبوضاً عليه ست عشرة سنة عند ابني أخيه إلى أن قتل كما ذكرنا في أول سنة إحدى وثلاثين ، ومات وله ثمانون سنة ، وله من الولد محمد والحسن(2/200)
"""""" صفحة رقم 201 """"""
أُمهما أميرة بنت الحسن بن قنون بن إبراهيم بن محمد بن القاسم بن إدريس بن إدريس ابن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب .
ولاية يحيى بن علي المعتلي
اختلف في كنيته فقيل أبو إسحاق وقيل أبو محمد ، وأُمه لبونة بنت محمد بن الحسن بن القاسم المعروف بقنون بن إبراهيم بن محمد بن القاسم بن إدريس بن إدريس ابن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ؛ وكان الحسن بن قنون من كبار الملوك الحسنيين وشجعانهم ومردتهم وطغاتهم المشهورين ، فتسمى يحيى بالخلافة بقرطبة سنة ثلاث عشرة وأربعمائة كما ذكرنا ، ثم هرب عنها إلى مالقة سنة أربع عشرة كما وصفنا ، ثم سعى قوم من المفسدين في رد دعوته إلى قرطبة في سنة ست عشرة فتم لهم ذلك ، إلا أنه تأخر عن دخولها باختياره ، واستخلف عليها عبد الرحمن بن عطاف اليفرني ، فبقي الأمر كذلك إلى سنة سبع عشرة ، ثم قُطعت دعوته عن قرطبة ، وبقي يتردد عليها بالعساكر إلى أن اتفقت على طاعتهجماعة البربر ، وسلموا إليه الحصون والقلاع والمدن ، وعظُم أمره ، فصار بقرمونة محاصراً لإشبيلية طامعاً في أخذها ، فخرج يوماً وهو سكران إلى خيل ظهرت من إشبيلية بقرب قرمونة ، فلقيها وقد كمنوا له ، فلم يكن بأسرع من أن قتل ، وذلك يوم الأحد لسبع خلون من المحرم سنة سبع وعشرين وأربعمائة ، وكان له من الولد : الحسن وإدريس ، لأُمي ولد .
ولاية عبد الرحمن بن هشام المستظهر
ولما انهزم البرابر عن أهل قرطبة مع القاسم كما ذكرنا ، اتفق رأي أهل قرطبة على رد الأمر إلى بني أُمية ، فاختاروا منهم ثلاثة ، وهم : عبد الرحمن بن هشام بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر ، أخو المهدي المذكور آنفاً ، وسليمان بن المرتضى المذكور آنفاً ، ومحمد بن عبد الرحمن بن هشام القائم على المهدي بن سليمان بن الناصر ، ثم استقر الأمر لعبد الرحمن بن هشام بن عبد الجبار ، فبويع بالخلافة لثلاث عشرة ليلة خلت لرمضان سنة أربع عشرة وأربعمائة ، وله اثنتان وعشرون سنة ، وتلقب بالمستظهر ، وكان مولده سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة ، في ذي القعدة . يُكنى أبا المطرف وأمه أم ولد اسمها غاية . ثم قام أبو عبد الرحمن بن عبيد الله بن عبد الرحمن الناصر ، مع طائفة من أراذل العوام ، فقتل عبد الرحمن بن هشام ، وذلك لثلاث بقين من ذي القعدة سنة(2/201)
"""""" صفحة رقم 202 """"""
أربع عشرة المؤرخ ، ولا عقب له . وكان في غاية الأدب والبلاغة والفهم ورقة النفس ، كذا قال أبو محمد علي بن أحمد وكان خبيراً به . [ وقال الوزير أبو عامر أحمد بن عبد الملك بن شهيد : كان المستظهر رحمه الله شاعراً مطبوعاً ، ويستعمل الصناعة فيجيد ، وهو القائل في ابنة عمه ( 1 ) : [ من الطويل ] حمامة بيت العبشميين رفرفت . . . فطرت إليها من سراتهم صقرا تقل الثريا أن تكون لها يداً . . . ويرجو الصباح أن يكون لها نحرا وإني لطعان إذا الخيل أقبلت . . . جوانبها حتى جونها شقرا ومكرم ضيفي حين ينزل ساحتي . . . وجاعلُ وفري عند سائله وفرا وهي طويلة قالها أيام خطبته لابنة عمه أم الحكم بنت المستعين . قال أبو عامر : وكان يتهم في أشعاره ورسائله ، حتى كتب أمان يعلى بن أبي زيد حين وفد عليه ارتجالاً ، فعجب أهل التمييز منه ، وأما أنا فقد كنت بلوته ؛ وكان ورود يعلى فجأةً لم يبرح من مجلسه حتى ارتجل الأمان ، وأنا والله أخاف أن يزل فأجاد وزاد ؛ هذا آخر كلام أبي عامر ] ( 2 ) .
ولاية محمد بن عبد الرحمن المستكفي
وولي محمد بن عبد الرحمن المذكور ، وله ثمان وأربعون سنة وأشهر ، لأن مولده في سنة ست وستين وثلاثمائة ، وكنيته أبو عبد الرحمن ، وأُمه أُم ولد اسمها حوراء ، وكان أبوه قد قتله محمد بن أبي عامر في أول دولة هشام المؤيد لسعيه في القايم وطلبه للأمر ؛ وكان محمد بن عبد الرحمن هذا قد تلقب بالمستكفي ، فولي ستة عشر شهراً وأياماً إلى أن خلع ورجع الأمر إلى يحيى بن علي الحسني ، وهرب المستكفي ، فلما صار بقريةٍ يقال لها شمُونْت ( 3 ) من أعمال مدينة سالم جلس ليأكل ، وكان معه عبد الرحمن بن محمد بن السليم من ولد سعيد بن المنذر القائد المشهور أيام عبد الرحمن الناصر ، فكره التمادي معه ، وأخذ شيئاً من البيش ( 4 ) وهو كثير في ذلك البلد ، فدهن له به دجاجة ، فلما أكلها مات لوقته ، فقبره هنالك . وكان هذا المستكفي في غاية(2/202)
"""""" صفحة رقم 203 """"""
التخلف وله في ذلك أخبار يقبح ذكرها ، وكان متغلباً عليه طول مدته لا ينفذ له أمر ، ولا عقب له .
ولاية هشام بن محمد المعتد
ولما قطعت دعوة يحيى بن علي الحسني من قرطبة سنة سبع عشرة كما ذكرنا ، أجمع رأي أهل قرطبة على رد الأمر إلى بني أمية ، وكان عميدهم في ذلك الوزير أبو الحزم جهور بن محمد بن جهور بن عبيد الله بن محمد بن الغمر بن يحيى بن عبد الغفار بن أبي عبدة ، وقد كان ذهب كل من كان ينافس في الرياسة ويخب في الفتنة بقرطبة ، فراسل جمهور ومن معه من أهل الثغور والمتغلبين هنالك على الأمور ، وداخلهم في هذا ، فاتفقوا بعد مدة طويلة على تقديم أبي بكر هشام بن محمد بن عبد الملك بن عبد الرحمن الناصر وهو أخو المرتضى المذكور ؛ قيل : كان مقيماً بالبونت عند أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن قاسم ( 1 ) المتغلب بها ، فبايعوه في شهر ربيع الأول سنة ثمان عشرة وأربعمائة ، وتلقب بالمعتد بالله ، وكان مولده سنة أربع وستين وثلاثمائة ، وكان أسن من أخيه المرتضى بأربعة أعوام ؛ وأمه أم ولد اسمها عاتب ، فبقي متردداً في الثغور ثلاثة أعوام غير شهرين ، ودارت هنالك فتن كثيرة ، واضطراب شديد بين الرؤساء بها إلى اتفق أمرهم على أن يصير إلى قرطبة قصبة الملك ، فصار ودخلها يوم منى ثامن ذي الحجة سنة عشرين وأربعمائة ، ولم يبق إلا يسيراً حتى قامت عليه فرقةٌ من الجند فخلع ، وجرت أمور يكثر شرحها ، وانقطعت الدعوة الأموية من يومئذ فيها ، واستولى على قرطبة جهور بن محمد المذكور آنفاً ، وكان من وزراء الدولة العامرية ، قديم الرياسة ، موصوفاً بالدهاء والعقل ، لم يدخل في أمور الفتن قبل ذلك ، وكان يتصاون عنها . فلما خلا له الجو وأمكنته الفرصة وثب عليها فتولى أمرها واستضلع بحمايتها ، ولم ينتقل إلى رُتبة الإمارة ظاهراً ، بل دبرها تدبيراً لم يسبق إليه ، وجعل نفسه ممسكاً للموضع إلى أن يجيء مستحق يتفق عليه ، فيسلم إليه . ورتب البوابين والحشم على أبواب تلك القصور على ما كانت عليه أيام الدولة ، ولم يتحول عن داره إليها ، وجعل ما يرتفع من الأموال السلطانية بأيدي رجال رتبهم لذلك ، وهو المشرف عليه ، وصير أهل الأسواق جنداً ، وجعل أرزاقهم(2/203)
"""""" صفحة رقم 204 """"""
رؤوس أموال [ تكون بأيديهم محصلة عليهم يأخذون ربحها فقط ورؤوس الأموال ] ( 1 ) باقيةٌ محفوظةٌ يؤخذون بها ، ويراعون في الوقت بعد الوقت كيف حفظهم لها . وفرق السلاح عليهم وأمرهم بتفرقته في الدكاكين وفي البيوت ، حتى إذا دهم أمرٌ في ليل أو نهار كان سلاح كل واحدٍ معه . وكان يشهد الجنائز ويعود المرضى ، جارياً في طريقة الصالحين ، وهو مع ذلك يدبر الأمور تدبير السلاطين المتغلبين ، وكان مأموناً وقرطبة في أيامه حرماً ( 2 ) يأمن فيه كل خائف من غيره ، إلى أن مات في صفر سنة خمس وثلاثين واربعمائة . وتولى أمرها بعده ابن أبو الوليد محمد بن جهور على هذا التدبير إلى أن مات ، فغلب عليها بعد أمور جرت هنالك الأمير الملقب بالمأمون صاحب طُليطلة ، ودبرها مدة يسيرة ومات فيها ، ثم غلب عليها صاحب إشبيلية الأمير الظافر ابن عباد ، فهي الآن بيده على ما بلغنا ( 3 ) . وبقي هشام بن المعتد معتقلاً ، ثم هرب ولحق بابن هود بلا ردة ، فأقام هنالك إلى أن مات سنة سبع وعشرين وأربعمائة ، ولا عقب له ، وانقطعت دولة بني مروان جملة ، إلا أن إشبيلية ومن كان على رأيهم من أهل تلك البلاد ، لما ضيق عليهم يحيى بن علي الحسني وخافوا أمره ، أظهروا أن هشام بن الحكم المؤيد حي ، وأنهم ظفروا به فبايعوه وأظهروا دعوته ، وتابعهم أكثر أهل الأندلس . وبقي الأمر كذلك إلى حدود الخمسين وأربعمائة ( 4 ) ، فإنهم أظهروا موت هشام المؤيد الذي ذكروا أنه وصل إليهم ، وحصل عندهم ، وانقطعت الخطبة لبني أمية من جميع أقطار الأندلس من حينئذ وإلا الآن . وأما الحسنيُّون فإنه لما قتل يحيى بن علي كما ذكرنا لسبع خلون من المحرم سنة سبع وعشرين ، رجع أبو جعفر أحمد بن أبي موسى المعروف بابن بقنة ، و " نجا " الخادم الصقلبي ، وهما مدبرا دولة الحسنيين ، فأتيا مالقة وهي دار مملكتهم ، فخاطبا أخاه إدريس بن علي ، وكان بسبتة وكان يمتلك معها طنجة ، واستدعياه فأتى إلى مالقة ، وبايعاه بالخلافة على أن يجعل حسن بن يحيى المقتول مكانه بسبتة ، ولم يبايعا واحداً من ابني يحيى وهما : إدريس وحسن لصغرهما ، فأجابهما إلى ذلك ، ونهض " نجا "(2/204)
"""""" صفحة رقم 205 """"""
مع حسن هذا إلى سبتة وطنجة ، وكان حسن أصغر ابني يحيى ، ولكنه كان أشدهما ، وتلقب إدريس بالمتأيد ، فبقي كذلك إلى سنة ثلاثين ، أو إحدى وثلاثين ، فتحركت فتن . وحدث للقاضي أبي القاسم محمد بن إسماعيل بن عباد صاحب إشبيلية أملٌ في التغلب على تلك البلاد ، فأخرج ابنه إسماعيل في عسكر مع من أجابه من قبائل البربر ، ونهض إلى قرمونة ( 1 ) فحاصرها ، ثم نهض إلى أشونة ( 2 ) وأستجة ( 3 ) فأخذهما وكانتا بيد محمد بن عبد الله البرزالي ( 4 ) صاحب قرمونة ، فاستصرخ محمد بن عبد الله بإدريس بن علي الحسني وبصنهاجة ، فأمده صاحب صنهاجة بنفسه ، وأمده إدريس بعسكر يقوده ابن بقنة مدبر دولته ، فاجتمعوا مع ابن عبد الله ، ثم غلبت عليهم هيبة إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن عباد قائد عسكر القاضي أبيه فافترقوا ، وانصرف كل واحد منهم راجعاً إلى بلده ، فبلغ ذلك إسماعيل بن محمد فقوي أمله ، ونهض بعسكره قاصداً طريق صاحب صنهاجة من بينهم ، وركض ركضاً شديداً في اتباعه ، فلما قرب منه وأيقن صاحب صنهاجة بأنه سيلحقه ، وجه إلى ابن بقنة يسترجعه ، وإنما كان فارقه قبل ذلك بساعة فرجع إليه ، والتقت العساكر ، فما كان إلا أن تراءت ، وولى عسكر ابن عباد منهزماً وأسلموه ، فكان إسماعيل أول مقتول ، وحمل رأسه إلى إدريس بن علي ، وقد كان أيقن بالهلاك ، وزال عن مالقة إلى جبل بباشتر متحصناً به ، وهو مريض مُدنف ، فلم يعش إلا يومين ومات . وترك من الولد : يحيى قُتل بعده ، ومحمداً الملقب بالمهدي ، وحسناً المعروف بالسامي وكان ابن هو أكبر بنيه اسمه علي مات في حياة أبيه ، وترك ابناً اسمه عبد الله أخرجه عمه ونفاه لما ولي . وقد كان يحيى ابن علي المذكور قبل قد اعتقل ابني عمه محمداً والحسن ابني القاسم بن حمود بالجزيرة ، وكان الموكل بهما رجل من المغاربة يعرف بأبي الحجاج ، فحين وصل إليه خبر قتل يحيى جمع من كان في الجزيرة من المغاربة والسودان ، وأخرج محمداً والحسن ، وقال : هذان سيداكم ، فسارع جميعهم إلى الطاعة لهما ، لشدة ميل أبيهما إلى السودان قديماً وإيثاره لهم ، وانفرد محمد بالأمر وملك الجزيرة ، إلا أنه لم يتسمَّ(2/205)
"""""" صفحة رقم 206 """"""
بالخلافة ، وبقي معه أخوه حسن مدة ، إلى أن حدث له رأي في التنسك ، فلبس الصوف وتبرأ عن الدنيا ، وخرج إلى الحج مع أخته فاطمة بنت القاسم زوجة يحيى بن علي المعتلي . فلما مات إدريس ، كما ذكرنا ، رام ابن بقنة ضبط الأمر لولده يحيى ابن إدريس المعروف بحيون ، ثم لم يجسر على ذلك الجسر التام ، وتخير وتردد ، ولما وصل خبر قتل إسماعيل بن عباد وموت إدريس بن علي إلى " نجا " الصقلبي بسبتة ، استخلف عليها من وثق به من الصقالبة ، وركب البحر هو وحسن بن يحيى إلى مالقة ليرتب الأمر له ، فلما وصلا إلى مرسى مالقة خارت قوى ابن بقنة ، وهرب إلى حصن قمارش على ثمانية عشر ميلاً من مالقة . ودخل حسن و " نجا " مالقة ، واجتمع إليهما من بها من البربر ، فبايعوا حسن بن يحيى بالخلافة ، وتسمى المستنصر ، ثم خاطب ابن بقنة وأمنه ؛ فلما رجع إليه قبض عليه وقتله ، وقتل ابن عمه يحيى ابن إدريس ، ورجع " نجا " إلى سبتة وطنجة ، وترك مع حسن رجلاً كان من التجار يعرف بالسطيفي كان " نجا " شديد الثقة به ، فبقي الأمر كذلك نحواً من عامين ، وكان حسن بن يحيى متزوجاً بابنة عمه إدريس ، فقيل إنها سمته أسفاً على أخيها ، فلما مات احتاط السطيفي على الأمر ، واعتقل إدريس ابن يحيى ، وكتب إلى " نجا " بالخبر ، وكان لحسن ابنٌ صغير عند " نجا " ، فقيل إنه اغتاله أيضاً وقتله ، والله أعلم . ولم يُعْقِب حسن بن يحيى ، واستخلف " نجا " على سبتة وطنجة من وثق به من الصقالبة عند وصول الخبر إليه ، وركب البحر إلى مالقة ، فلما وصل إليها زاد في الاحتياط على إدريس بن يحيى ، وأكد اعتقاله ، وعزم على محو أمر الحسنيين ، وأن يضبط تلك البلاد لنفسه ، فدعا البربر الذين كانوا جُند البلد ، وكشف الأمر إليهم علانية ، ووعدهم بالإحسان ، فلم يجدوا من مساعدته بداً في الظاهر ، وعظم ذلك في أنفسهم باطناً ، ثم جمع عسكره ونهض إلى الجزيرة ليستأصل محمد بن القاسم ، فحاربهما أياماً ، ثم أحس بفتور نية من معه ، فرأى أن يرجع إلى مالقة ، فإذا رجع إليها ، [ و ] حصل فيها نفى من خاف غائلته منهم واستصلح سائرهم ، واستدعى الصقالبة من حيث ما أمكنه ليقوى بهم على غيرهم وأحس البربر بهذا منه فاغتالوه في الطريق قبل أن يصل إلى مالقة ، فقُتل وهو على دابته في مضيق صار فيه ، وقد تقدمه إليه الذي أراد الفتك به ( 1 ) ، وفر من كان معه من الصقالبة بأنفسهم ، ثم تقدم فارسان(2/206)
"""""" صفحة رقم 207 """"""
من الذين غدروا به يركضان حتى وردا مالقة ودخلا وهما يقولان : البشرى البشرى ، فلما وصلا إلى السطيفي وضعا سيوفهما عليه فقتلاه ( 1 ) ، ثم وافيا العسكر ، فاستخرجوا إدريس بن يحيى من محبسه ، فقدموه وبايعوه بالخلافة ، وتسمى بالعالي ، فظهرت منه أمورٌ متناقضة ، منها أنه كان أرحم الناس قلباً ، كثير الصدقة ، يتصدق كل يوم جمعة بخمسمائة دينار ، ورد كل مطرود عن وطنه إلى أوطانهم ، ورد عليهم ضياعهم وأملاكهم ، ولم يسع بغياً في أحد من الرعية ، وكان أديب اللقاء حسن المجلس ، يقول من الشعر الأبيات الحسان ، ومع هذا فكان لا يصحب ولا يقرب إلا كل ساقط نذل ، ولا يحجب حُرَمَهُ عنهم ، وكلُّ من طلب منه حصناً من حصون بلاده ممن يجاوره من صنهاجة أو بني يفرن أعطاهم إياه ، وكتب إليه أمير صنهاجة في أن يسلم إليه وزيره ومدبر أمره وصاحب أبيه وجده ، موسى بن عفان السبتي ، فلما أخبره بأن الصنهاجي طلبه منه وأنه لا بد له من تسليمه إليه ، قال له موسى بن عفان " افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين " ، فبعث به إلى الصنهاجي فقتله وكان قد اعتقل ابني عمه محمداً وحسناً ابني إدريس في حصن يعرف بأيرش ، فلما رأى ثقته الذي في الحصن اضطراب آرائه خالف عليه ، وقدم ابن عمه محمد بن إدريس ، فلما بلغ ذلك السودان المرتبين في قصبة مالقة ، نادوا بدعوة ابن عمه محمد بن إدريس ، وراسلوه في المجيء إليهم ، وامتنعوا بالقصبة ، فاجتمعت العامة إلى إدريس بن يحيى واستأذنوه في حرب القصبة والدفاع عنه ، ولو أذن لهم ما ثبت السودان ساعة من النهار ، فأبى وقال : الزموا منازلكم ودعوني ، فتفرقوا عنه ، وجاء ابن عمه فسلم إليه ، وبويع بالخلافة وتسمى المهدي ( 2 ) ، وولى أخاه عهده ، وسماه السامي . واعتقل ابن عمه إدريس العالي في الحصن الذي كان هو معتقلاً فيه ، وظهرت في محمد بن إدريس هذا رجلةٌ وجرأة شديدة هابه بها جميع البرابر ، وأشفقوا منه ، وراسلوا المرتب في الحصن الذي كان فيه إدريس بن يحيى واستمالوه ، فأجابهم وقام بدعوته . وكان إدريس بن يحيى هذا أول ولايته بعد قتل " نجا " قد ولى سبتة وطنجة رجلين برغواطيين من عبيد أبيه يسميان رزق الله وسُكات ( 3 ) ، فلما خلع كما ذكرنا بقيا حافظين لمكانهما ، فلما قام كما ذكرنا في حصن أيرش ، لم يظهر محمد بن إدريس(2/207)
"""""" صفحة رقم 208 """"""
مبالاةً بذلك ، بل ثبت ثباتاً شديداً ، وكانت والدته تشد منه وتقوي مُنته وتُشرف على الحرب بنفسها وتحسن إلى من أبلى ، فلما رأى البربر شدة عزمه وثباته ، فت ذلك في أعضادهم ، وانحلوا عن إدريس بن يحيى ، ورأوا أن يبعثوا إلى سبتة وطنجة إلى البرغواطيين اللذين ذكرنا ، وقد كان جعل ابنه عندهما في حضانتهما ، فلما وصل إليهما أظهرا تعطيمه ومخاطبته بالخلافة ، الا أن الأمر كله لهما دونه ، فتوصل إليه قوم من أكابر البربر وقالوا له : إن هذي العبدين قد غلبا عليك ، وقد حالا بينك وبين أمرك ، فأذن لنا نكفك أمرهما ، فأبى ، ثم أخبرهما بذلك فنفيا أولئك القوم ، وأخرجا إدريس بن يحيى عن أنفسهما إلى الأندلس ، وتمسكا بولده لصغره إلا أنهما في كل ذلك يخطبان لإدريس بالخلافة . ثم إن محمد بن إدريس أنكر من أخيه الملقب بالسامي أمراً فنفاه إلى العدوة ، فصار في جبال غُمارة وهي بلاد تنقاد لهؤلاء الحسنيين ، وأهلها يعظمونهم جداً . ثم إن البرابر خاطبوا محمد بن القاسم بالجزيرة ، واجتمعوا إليه ووعدوه بالنصر ، فاستفزه الطمع وخرج إليهم ، فبايعوه بالخلافة وتسمى بالمهدي ، فصار الأمر في غاية الأُخلوقة والفضيحة ( 1 ) ؛ أربعة كلهم يسمى بأمير المؤمنين في رقعة من الأرض مقدارها ثلاثون فرسخاً في مثلها ، فأقاموا معه أياماً ثم افترقوا عنه إلى بلادهم ، ورجع خاسئاً إلى الجزيرة ، ومات إلى أيام ، وقيل إنه مات غماً . وترك نحو ثمانية ذكور ؛ فتولى أمر الجزيرة ابنه القاسم بن محمد بن القاسم ، إلا أنه لم يتسم الخلافة ، وبقي محمد بن إدريس بمالقة إلى أن مات سنة خمس وأربعين وأربعمائة ؛ وكان إدريس بن يحيى المعروف بالعالي عند بني يفرن بتاكرنا ، فلما توفي محمد بن إدريس ردته العامة إلى مالقة واستولى عليها . [ قال الحميدي ] : هذا آخر ما استفدنا أكثره من شيخنا أبي محمد علي بن أحمد رحمه الله ، وعلمناه نحن ، من جُمل أخبار من ذكرنا من ملوك تلك البلاد إلى وقت خروجنا منها ( 2 ) .(2/208)
"""""" صفحة رقم 209 """"""
الملحق ( 2 ) [ ذكر أوقات الحكام من بني إسرائيل ]
( 1 ) قال أبو محمد رضي الله عنه : دخل بنو إسرائيل الأردن وفلسطين والغور مع يوشع بن نون مدبر أمرهم عليه السلام إثر موت موسى عليه السلام ، ومع يوشع العازار ابن هارون عليه السلام صاحب السرادق بما فيه ، وعنده التوراة لا عند أحد غيره بإقرارهم . فدبر يوشع عليه السلام أمرهم في استقامة ، وألزمهم للدين إحدى وثلاثين سنة مذ مات موسى عليه السلام إلى أن مات يوشع . ثم دبرهم فنحاس بن العازار ابن هارون ، وهو صاحب السرادق والكوهن الأكبر ، والتوراة عنده لا عند أحد غيره خمساً وعشرين سنة في استقامة والتزام للدين ، ثم مات وطائفة منهم عظيمة يزعمون أنه حي إلى اليوم وثلاثة أنفس إليه ، وهم الياس النبي الهاروني عليه السلام ، ولكيصيدق بن فالج بن عابر بن أرفخشاذ بن سام بن نوح عليه السلام ، والعبد الذي بعثه إبراهيم عليه السلام ليزوج إسحاق عليه السلام رفقة بنت بتوئيل بن ناخور أخي إبراهيم عليه السلام . فلما انقضت المدة المذكورة لفنحاس بن العازار كفر بنو إسرائيل وارتدوا كلهم وعبدوا الأوثان علانية ، فملكهم كذلك ملك صور وصيدا مدة ثمانية أعوام على الكفر . ثم دبر أمرهم عثنيال ( 2 ) بن قناز بن أخي كالب بن يفنة بن يهوذا أربعين سنة على الإيمان ، ثم مات ، فكفر بنو إسرائيل كلهم وارتدوا وعبدوا الأوثان علانية ، فملكهم كذلك عجلون ملك بني موآب ثمان عشرة سنة على الكفر . ثم دبر أمرهم أهود بن قارا ( 3 ) ، قيل إنه من سبط أفرايم ، وقيل من سبط بنيامين . واختلف أيضاً في مدة رياسته ، فقيل ثمانون سنة ، وقيل خمس وخمسون سنة ، على الإيمان إلى أن مات .(2/209)
"""""" صفحة رقم 210 """"""
ثم دبرهم سمعان ( 1 ) بن عنات من سبط أشار خمساً وعشرين سنة على الإيمان . ثم مات فكفر بنو إسرائيل كلهم وعبدوا الأوثان جهاراً . فملكهم كذلك يابين ( 2 ) الكنعاني عشرين سنة على الكفر . ثم دبرت أمرهم دبورا النبية من سبط يهوذا ، وكان زوجها رجلاً يسمى الفيدوت ( 3 ) من سبط أفرايم إلى أن ماتت وهم على الإيمان ، فكان مدة تدبيرها لهم أربعين سنة . فلما ماتت كفر بنو إسرائيل كلهم وارتدوا وعبدوا الأوثان جهاراً . فملكهم عوزيب وزاب ( 4 ) ملكا بني مدين سبع سنين على الكفر . ثم دبر أمرهم جدعون بن يوآش من سبط أرايم ، وقيل بل من سبط منشا وهم يصفون أنه كان نبياً ، وكان له واحد وسبعون أبناً ذكوراً . فملكهم على الإيمان أربعين سنة . ثم مات وولي ابنه أبو ملك ( 5 ) بن جدعون وكان فاسقاً خبيث السيرة ، فارتد جميع بني إسرائيل وكفروا وعبدوا الأوثان جهاراً ، وأعانه أخواله من أهل نابلس من بني إسرائيل من سبط يوسف بتسعين دينراً ( 6 ) من بيت بعل الصنم ومضوا معه ، فقتل جميع إخوته حاشا واحداً منهم أفلت ، وبقي كذلك ثلاث سنين إلى أن قتل . ودبرهم بعده تولع بن قواة ( 7 ) من سبط يساخر ، ولم نجد بياناً هل كان على الإيمان أو على الكفر ، خمساً وعشرين سنة ، ثم مات . ثم دبر أمرهم يائير ( 8 ) بن جلعاد من سبط منشا اثنين وعشرين عاماً على الإيمان إلى أن مات ، وكان له اثنان وثلاثون ولداً ذكوراً قد ولي كلُّ واحد منهم مدينة من مدائن بني إسرائيل ، فارتد بنو إسرائيل كلهم بعد موته وعبدوا الأوثان جهاراً . وملكهم بنو عمون ثلاث عشرة سنة متصلة على الكفر . ثم قام فيهم رجل من سبط منشا اسمه يفتاح ( 9 ) بن جلعاد . ولا يختلفون في أنه(2/210)
"""""" صفحة رقم 211 """"""
كان ابن زانية وكان فاسقاً خبيث السيرة ، نذر إن أظفره الله بعدوه أن يقرب لله سبحانه وتعالى أول من يلقاه من منزله فأول من لقيه ابنته ولم يكن له ولد غيرها فوفى بنذره وذبحها قرباناً . وكان في عصره نبي فلم يلتفت إليه . وأنه قتل من بني أفرايم اثنين وأربعين ألف رجل . فملكهم ست سنين ثم مات . فوليهم بعده أبصان من سبط يهوذا من سكان بيت لحم وكان له ثلاثون ابناً ذكوراً ، فوليهم سبع سنين وقيل ست سنين ثم مات . والأظهر من حاله على ما توجبه أخبارهم الاستقامة . ووليهم بعده أيلون من سبط زبلون عشر سنين إلى أن مات . وولي بعده عبدون بن هلال ( 1 ) من سبط أفرايم ثماني سنين على الإيمان . وكان له أربعون ولداً ذكوراً . فلما مات ارتد بنو إسرائيل كلهم وكفروا وعبدوا الأوثان جهاراً ، فملكهم الفلسطينيون ، وهم الكنعانيون وغيرهم ، أربعين سنة على الكفر . ثم دبرهم شمشون بن مانوح ( 2 ) من سبط داني ، وكان مذكوراً عندهم بالفسق واتباع الزواني . فدبرهم عشرين سنة وينسبون إليه المعجزات ، ثم أسر ومات ، فدبر بنو إسرائيل بعضهم بعضاً في سلامة وإيمان أربعين سنة بلا رئيس يجمعهم . ثم دبرهم الكاهن الهاروني على الإيمان عشرين سنة إلى أن مات . ثم دبرهم شمويل بن القانة ( 3 ) النبي من سبط أفرايم ، قيل عشرين سنة وقيل أربعين سنة ، كل ذلك في كتبهم ، على الإيمان . وذكروا أنه كان له ابنان توآل وأبيا ( 4 ) يجوران في الحكم ويظلمان الناس . وعند ذلك رغبوا إلى شمويل أن يجعل لهم ملكاً . فولى عليهم شاول الدباغ ابن قيش بن أبيئيل بن شارو بن بكورات بن أفيح ( 5 ) بن خس بن سبط بنيامين ، وهو طالوت ، فوليهم عشرين سنة ، وهو أول ملك كان لهم ويصفونه بالنبوة وبالفسق والظلم والمعاصي معاً ، وأنه قتل من بني هارون نيفاً وثمانين إنساناً ، وقتل نساءهم(2/211)
"""""" صفحة رقم 212 """"""
وأطفالهم لأنهم أطعموا داود عليه السلام خبزاً فقط . فاعلموا الآن أنه كان مذ دخلوا الأرض المقدسة إثر موت موسى عليه السلام إلى ولاية أول ملك لهم - وهو شاول المذكور - سبع ردات فارقوا فيها الإيمان وأعلنوا بعبادة الأصنام . فأولها بقوا فيها ثمانية أعوام ، والثانية ثمانية عشر عاماً ، والثالثة عشرين عاماً ، والرابعة سبعة أعوام ، والخامسة ثلاثة أعوام وربما أكثر ، والسادسة ثمانية عشر عاماً ، والسابعة اربعين عاماً . فتأملوا أي كتاب يبقى مع تمادي الكفر ورفض الإيمان هذه المدد الطوال في بلد صغير مقدار ثلاثة أيام في مثلها فقط . ليس على دينهم واتباع كتابهم أحد على ظهر الأرض غيرهم . ثم مات شاول المذكور مقتولاً وولي أمرهم داود عليه السلام وهم ينسبون إليه الزنا علانية بأم سليمان عليه السلام ، وأنها ولدت منه من الزنا ابناً مات قبل ولادة سليمان ، فعلى من يضيف هذا إلى الأنبياء عليهم السلام ألف ألف لعنة . وينسبون إليه أنه قتل جميع أولاد شاول لذنب أبيهم ، حاشا صغيراً مقعداً كان فيهم فقط . وكانت مدته عليه السلام أربعين سنة . ثم ولي سليمان عليه السلام ، وقد وصفوه بما ذكرنا قبل وذكروا عنه أن نفقته فرضها على الأسباط لطل سبط شهر من السنة ، وأن جنده كانوا اثني عشر ألف فارس على الخيل وأربعين ألفاً على الرمك خلافاً لما في التوراة أن لا يكثروا من الخيل . وهو الذي بنى الهيكل في بيت المقدس وجعل فيه السرادق والمذبح والمنارة الآن والقربان والتوراة والتابوت وسكينة بني هارون ، فكانت ولايته أربعين سنة . ثم مات عليه السلام فافترق أمر بني إسرائيل فصار بنو يهوذا وبنو بنيامين لبني سليمان بن داود عليه السلام في بيت المقدس ، وصار ملك الأسباط العشرة الباقية إلى ملك آخر منهم يسكن بنابلس على ثمانية عشر ميلاً من بيت المقدس . وبقوا كذلك إلى ابتداء إدبار أمرهم على ما نبين إن شاء الله تعالى . فنذكر بحول الله تعالى وقوته أسماء ملوك بني سليمان عليه السلام وأديانهم . ثم نذكر ملوك الأسباط العشرة وبالله عز وجل نتأيد ليرى كل واحد كيف كانت حال التوراة والديانة في أيام دولتهم . قال أبو محمد رضي الله عنه : ولي إثر موت سليمان بن داود عليه السلام ابنه رحبعام بن سليمان وله ست عشرة(2/212)
"""""" صفحة رقم 213 """"""
سنة ، وكانت ولايته سبعة عشر عاماً فأعلن الكفر طول ولايته وعبد الأوثان جهاراً هو وجميع رعيته وجنده بلا خلاف منهم . ويقولون إن جنده كانوا مائة ألف وعشرين الف مقاتل ، وفي ايامه غزا ملك مصر ( 1 ) في سبعة آلاف فارس وخمسة عشر ألف راجل ( 2 ) إلى بيت المقدس فأخذها عنوة بالسيف ، وهرب رحبعام ، وانتهب ملك مصر المدينة والقصر والهيكل وأخذ كل ما فيها ورجع إلى مصر سالماً غانماً . ثم مات رحبعام على الكفر فولي مكانه ابنه أبيا وله ثمان عشرة سنة . فبقي على الكفر هو وجنده ورعيته وعلى عبادة الأوثان علانية ، وكانت ولايته ست سنين . ويقولون قتل من الأسباط العشرة في حروبه معهم خمسمائة ألف إنسان . ثم ولي بعد موته ابنه آسا بن أبيا وله عشر سنين ، وكان مؤمناً فهدم بيوت الأوثان وأظهر الإيمان ، وبقي في ولايته إحدى وأربعين سنة على الإيمان ، وذكروا أن جنده كانوا ثلاثمائة ألف مقاتل من بني يهوذا ، واثنين وخمسين ألفاً من بني بنيامين . ومات وولي بعده ابنه يهوشافاط بن آسا وهو ابن خمس وثلاثين سنة ، فكانت ولايته خمساً وعشرين سنة وذكروا عنه أنه كان على الإيمان إلى أن مات . فولى ابنه يهورام بن يهوشافاط ، ولم نجد أمر سيرته ودينه ( 3 ) إلا أنه كان مؤالفاً لعبادة الأوثان من ملوك سائر الأسباط ، وولي وله اثنان وثلاثون سنة ، وكانت ولايته ثمانية أعوام . ومات فولي مكانه ابنه أخزيا وله اثنان وعشرون سنة ، فأظهر الكفر وعبادة الأصنام في جميع رعيته ، وكانت ولايته سنة . وقتل فوليت أمه عثليا بنت عمري ملك العشرة الأسباط ، فتمادت على أشد ما يكون من الكفر وعبادة الأوثان ، وقتلت الأطفال ، وأمرت بإعلان الزنا في البيت المقدس وجميع عملها ، وعهدت أن لا تمنع امرأة ممن أراد الزنا معها ، وعهدت أن لا ينكر ذلك أحد ، فبقيت كذلك ست سنين إلى أن قتلت . فولي ابن ابنها يوآش بن أخزيا وله سبع سنين ، فاتصلت ولايته أربعين سنة ، وأعلن الكفر وعبادة الأوثان ، وقتل زكريا النبي عليه السلام بالحجارة . ثم قتل غلمانه .(2/213)
"""""" صفحة رقم 214 """"""
فولي بعده ابنه أمصيا بن يوآش وله خمس وعشرون سنة . فأعلن الكفر وعبادة الأوثان هو وجميع رعيته ، فبقي كذلك إلى أن قتل وهو على الكفر ، وكانت ولايته تسعاً وعشرين سنة . وفي ايامه انتهب ملوك الأسباط العشرة البيت المقدس وأغاروا على كل ما فيه مرتين . ثم ولي بعده عُزيا بن أمصيا وله ست عشرة سنة ، فأعلن الكفر وعبادة الأوثان هو وجميع رعيته إلى أن مات ، وكانت ولايته اثنتين وخمسين سنة ، وهو قتل عاموص النبي عليه السلام الداوودي . فولي بعده ابنه يوثام بن عزيا وله خمس وعشرون سنة ، ولم نجد له سيرة ( 1 ) ، وكانت ولايته ست عشرة سنة . فمات فولي مكانه ابنه آحاز بن يوثام وله عشرون سنة ، فعلن الكفر وعبادة الأوثان ، وكانت ولايته ست عشرة سنة ، فأعلن الكفر وعبادة الأوثان إلى أن مات . فولي بعده ابنه حزقيا بن آحاز وله خمس وعشرون سنة ، وكانت ولايته تسعاً وعشرين سنة ، فأظهر الإيمان وهدم بيوت الأوثان وقتل خدمتهما ، وبقي على الإيمان إلى أن مات هو وجميع رعيته . وفي السنة السابعة من ولايته انقطع ملك العشرة الأسباط من بني إسرائيل ، وغلب عليهم سليمان الأعسر ( 2 ) ملك الموصل ، وسباهم ونقلهم إلى آمد وبلاد الجزيرة ، وسكن في بلاد الأسباط العشرة أهل آمد والجزيرة . فأظهروا دين السامرة الذين هناك إلى اليوم . ثم مات حزقيا وولي بعده ابنه منشا بن حزقيا وله ثنتا عشرة سنة . ففي السنة الثالثة من ملكه أظهر الكفر وبنى بيوت الأوثان وأظهر عبادتها وجميع أهل مملكته ، وقتل شعيا النبي ، قيل نشره بالمنشار من رأسه إلى مخرجه ، وقيل قتله بالحجارة وأحرقه بالنار . والعجب كله أنهم يصفون في بعض كتبهم بأن الله أوحى إليه مع ملك من الملائكة ، وأن ملك بابل كان أسره وحمله إلى بلده وأدخله في تَوْرِ نحاس وأوقد النار تحته ، فدعا الله فأرسل إليه ملكاً فأخرجه من التور ورده إلى بيت المقدس ، وأنه تمادى مع ذلك كله على كفره حتى مات ، وكانت ولايته خمساً وخمسين سنة . فقولوا يا معشر السامعين : بلد تُعْلن فيه عبادة الأوثان ، وتبنى هياكلها ، ويقتل من وجد فيه(2/214)
"""""" صفحة رقم 215 """"""
من الأنبياء ، كيف يجوز أن يبقى فيه كتاب الله سالماً أم كيف يمكن هذا فلما مات منشا ولي مكانه ابنه آمون بن منشا وهو ابن اثنين وعشرين عاماً ، فكانت ولايته سنتين على الكفر وعبادة الأوثان إلى أن مات . فولي مكانه ابنه يوشيا بن آمون وهو ابن ثمان سنين ، ففي السنة الثالثة من ملكه أعلن الإيمان ، وكسر الأصنام وأحرقها واستأصل هياكلها ، وقتل خدامها ولم يزل على الإيمان إلى أن قتل ، قتله ملك مصر . وفي أيامه أخذ إرميا النبي السرادق والتابوت والنار وأخفاها حيث لا يدري أحد لعلمه بفوت ذهاب أمرهم . ثم ولي بعده ابنه يهوياحوز ( 1 ) بن يوشيا وهو ابن ثلاث وعشرين سنة ، فرد الكفر وأعلن عبادة الأوثان ، وأخذ التوراة من الكاهن الهاروني وبشر منها أسماء الله حيث وجدها ، وكانت ولايته ثلاثة أشهر ، وأسره ملك مصر . فولي مكانه يهوياقيم بن يوشيا أخوه وهو ابن خمس وعشرين سنة ، فأعلن الكفر وبنى بيوت الأوثان ، هو وجميع أهل مملكته ، وقطع الدين جملة ، وأخذ التوراة من الهاروني فأحرقها بالنار وقطع أثرها ، وكانت ولايته إحدى عشرة سنة . ومات فولي مكانه ابنه يهوياكين بن يهوياقيم وتلقب يحنيا وهو ابن ثمان عشرة سنة ، فأقام على الكفر وأعلن عبادة الأوثان ، وكانت ولايته ثلاثة أشهر ، وأسره بختنصر . فولي مكانه عمه متنيا بن يوشيا ، وتلقب صدقيا ، وهو ابن إحدى وعشرين سنة ، فثبت على الكفر وأعلن عبادة الأوثان هو وجميع أهل مملكته ، وكانت ولايته إحدى عشرة سنة . وأسره بختنصر وهدم البيت والمدينة واستأصل جميع بني إسرائيل وأخلى البلد منهم ، وحملهم مسبيين إلى بلاد بابل . وهو آخر ملوك بني إسرائيل وبني سليمان جملة . فهذه كانت صفة ملوك بني سليمان بن داود عليهما السلام . فاعلموا الآن أن التوراة لم تكن من أول دولتهم إلى انقضائها إلا عند الهاروني الكوهن الأكبر وحده في الهيكل فقط ، وأما ملوك الأسباط العشرة فلم يكن فيهم مؤمن قط ولا واحد فما فوقه ، بل كانوا كلهم معلنين بعبادة الأوثان مخيفين للأنبياء مانعين القصد إلى بيت المقدس ، لم يكن فيهم نبي قط إلا مقتولاً أو هارباً مخافاً . فإن قيل :(2/215)
"""""" صفحة رقم 216 """"""
أليس قد قتل الياس جميع أنبياء بابل لأجل الوثن الذي كان يعبده الملك ، والنخلة التي كانت تعبدها بني إسرائيل وهم ثمانمائة وثمانون رجلاً قلنا : إنما كان بإقرار كتبهم في مشهد واحد ، ثم هرب من وقته وطلبته امرأة الملك لتقتله وما أبصره أحد . فأول ملوك الأسباط العشرة يربعام بن ناباط ( 1 ) الأفرايمي ، وليهم إثر موت سليمان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فعمل من حينه عجلين من ذهب وقال : هذان إلاهكم اللذان خلصاكم من مصر ، وبنى لهما هيكلين ، وجعل لهما سدنة من غير بني لاوي ، وعبدهما هو وجميع أهل مملكته ، ومنعهم من المسير إلى بيت المقدس ، وهو كان شريعتهم لا شريعة لهم غير القصد إليه والقربان فيه . فملك أربعاً وعشرين سنة . ثم مات وولي ابنه ناداب بن يربعام على الكفر المعلن سنتين ، ثم قتل هو وجميع أهل بيته . وولي بعشابن آخيا ( 2 ) من بني يساخر على عبادة الأوثان علانية أربعاً وعشرين سنة . وولي ولده أيلا بن بعشا على الكفر وعبادة الأوثان سنتين إلى أن قام عليه رجل من قواده اسمه زمري ، فقتله وجميع أهل بيته . وولي زمري سبعة أيام ، فقتله وأحرق عليه داره ، وافترق أمرهم على رجلين ، أحدهما يسمى تبني بن جينة ، والآخر عمري ، فبقيا كذلك اثنتي عشر عاماً . ثم مات تبني وانفرد بملكهم عمري فبقي كذلك ثمانية أعوام على الكفر وعبادة الأوثان إلى أن مات . وولي بعده ابنه آخاب بن عمري على أشد ما يكون من الكفر وعبادة الأوثان إحدى وعشرين سنة . وفي أيامه كان إلياس النبي عليه السلام هارباً عنه في الفلوات وعن امرأته بنت ملك صيدا . وهما يطلبانه للقتل . ثم مات آخاب وولي ابنه أحزيا بن آخاب على الكفر وعبادة الأوثان ثلاث سنين . ثم مات وولي مكانه أخوه يهورام بن آخاب على الكفر وعبادة الأوثان اثنتي عشرة سنة إلى أن قتل هو وجميع أهل بيته . وفي ايامه كان اليسع عليه السلام . وولي مكانه ياهو [ بن يهوشافاط ] بني نمشي من سبط منشا فكان أقلهم كفراً ،(2/216)
"""""" صفحة رقم 217 """"""
هدم هياكل بعل ( 1 ) الوثن وقتل سدنته ، إلا أنه لم ينقض قط عبادة الأوثان بل ترك الناس عليها ولم يظهر الإيمان . فولي كذلك ثماني وعشرين سنة ومات . وولي مكانه ابنه يهوياحاز ( 2 ) بن ياهو سبع عشرة سنة ، فبنى بيوت الأوثان ، وأعلن عبادتها هو ورعيته إلى أن مات . وفي كتبهم أن أمر الأسباط العشرة ضعف في أيامه ، حتى لم يكن معه من الجند إلا خمسون فارساً وعشرة آلاف راجل فقط ، لأن ملك دمشق غلب عليهم وقتلهم . وولي مكانه ابنه يوآش ( 3 ) بن يهوياحاز ست عشرة سنة على أشد من كفر أبيه ، وأخذ في عبادة الأوثان ، وهو الذي غزا بيت المقدس وأغار عليه وعلى الهيكل وأخذ كل ما فيه ، وهدم من سور المدينة أربعمائة ذراع ، وهرب عنه ملك يهوذا . ثم مات وولي مكانه ابنه زخريا بن ياربعام بن يوآش بن يهوياحاز بن ياهو بن نمشي ستة أشهر على الكفر وعبادة الأوثان ، إلى أن قتل هو وجميع أهل بيته . وولي مكانه شلوم بن يابيش ( 4 ) من سبط نفتالي فملك شهراً واحداً على الكفر وعبادة الأوثان . ثم قتل وولي مكانه بعده مناحيم بن جادي ( 5 ) من سبط يساخر عشرين سنة على عبادة الأوثان والكفر ومات . وولي مكانه ابنه فقحيا ( 6 ) بن مناحيم على الكفر وعبادة الأوثان سنتين إلى أن قتل هو وجميع أهل بيته . وولي مكانه فاقح بن رمليا ( 7 ) من سبط داني ، فملك ثماني وعشرين سنة على الكفر وعبادة الأوثان إلى أن قتل هو وجميع أهل بيته . وفي أيامه أجلى تغلث فلاسر ( 8 ) ملك(2/217)
"""""" صفحة رقم 218 """"""
الجزير ، بني رؤوبين وبني جاد ونصف سبط منشا من بلادهم بالغور ، وحملهم إلى بلاده وسكن بلادهم قوماً من بلاده . ثم ولي مكانه هوشيع بن أيلا من سبط جاد على الكفر وعبادة الأوثان سبع سنين ، إلى أن أسره كما ذكرنا سليمان الأعسر ملك الموصل وحمله والتسعة الأسباط ونصف سبط منشا إلى بلاد أسرى ، وسكن بلادهم قوماً من أهل بلاده ، وهم السامرية إلى اليوم ، وهوشيع هذا آخر ملوك الأسباط العشرة . وانقضى أمرهم ، فبقايا المنقولين من آمد والجزيرة إلى بلاد بني إسرائيل هم الذين ينكرون التوراة جملة ، وعندهم توراة أخرى غير هذه التي عند اليهود ، ولا يؤمنون بنبي بعد موسى عليه السلام ، ولا يقولون بفضل بيت المقدس ولا يعرفونه ، ويقولون إن المدينة المقدسة هي نابلس ، فأمر توراة أولئك أضعف من توراة هؤلاء ، لأنهم لا يرجعون فيها إلى نبي أصلاً ، ولا كانوا هنالك أيام دولة بني إسرائيل ، وإنما عملها لهم رؤساهم أيضاً . فقد صح يقيناً أن جميع أسباط بني إسرائيل حاشا سبط يهوذا وبنيامين ومن كان بينهم من بني هارون بعد سليمان عليه السلام ، مدة مائتي عام وواحد وسبعين عاماً ، لم يظهر فيهم قط إيمان ولا يوماً واحداً فما فوقه ، وإنما كانوا عباد أوثان ولم يكن قط فيهم نبي إلا مخاف ، ولا كان للتوراة عندهم لا ذكر ولا رسم ولا أثر ، ولا كان عندهم شيء من شرائعها أصلاً ، مضى على ذلك جميع عامتهم وجميع ملوكهم وهم عشرون ملكاً قد سميناهم إلى أن أجلوا ودخلوا في الأمم وتدينوا بدين الصابئين الذين كانوا بينهم متملكين .(2/218)
"""""" صفحة رقم 219 """"""
الملحق ( 3 ) شذرات من الروايات التاريخية
- 1 - حدثني أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب الفارسي الفقيه وأملاه عليَّ بالأندلس قال : حدثنا أبو البركات محمد بن عبد الواحد الزُبيري ( 1 ) قال ، حدثني أبو علي حسن بن الأشكري ( 2 ) المصري قال : كنت من جُلاس تميم بن أبي تميم ، وممن يخف عليه جداً ، قال : فأرسل إلى بغداذ فابتيعت له جارية فائقة الغناء ، فلما وصلت إليه دعا جلساءه ، قال : وكنت فيهم ، ثم مدت الستارة وأمرها بالغناء ، فغنت ( 3 ) [ من الكامل ] : وبدا له من بعد ما اندمل الهوى . . . برقٌ تألق موهناً لمعانه يبدو كحاشية الرداء ودونه . . . صعب الذرى متمنعٌ أركانه فالنار ما اشتملت عليه ضلوعه . . . والماء ما سمحت ( 4 ) به أجفانه قال : فأحسنت ما شاءت ، وطرب تميم وكل من حضر ، ثم غنت ( 5 ) : [ من الطويل ] ستسليك عما فات دولة مفضل . . . أوائله محمودة وأواخره ثنى الله عطفيه وألف شخصه . . . على البر مُذ شُدت عليه مآزره قال : فطرب تميم ومن حضر طرباً شديداً ، قال : ثم غنت ( 6 ) : بمن البسيط ] أستودع الله في بغداذ لي قمراً . . . بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه(2/219)
"""""" صفحة رقم 220 """"""
قال : فاشتد طرب تميم وأفرط جداً ، ثم قال لها : تمني ما شئت ، فلك مناك ، فقالت : أتمنى عافية الأمير وسعادته ، فقال : والله لا بد لك أن تتمني ، فقالت : على الوفاء أيها الأمير بما أتمنى فقال : نعم ، فقالت : أتمنى أن أغني هذه النوبة ببغداذ ، قال فاستنقع لو تميم وتغير وجهه ، وتكدر المجلس ، وقام وقمنا . قال ابن الأشكري : فلحقني بعض خدمه وقال لي : أرجع فالأمير يدعوك ، فرجعت فوجدته جالساً ينتظرني ، فسلمت وقمت بين يديه فقال : ويحك أرأيت ما امتحنا به فقلت : نعم أيها الأمير . فقال لا بد من الوفاء لها ، وما أثق في هذا بغيرك ، فتأهب لتحملها إلى بغداذ ، فإذا غنت هنالك فاصرفها . فقلت : سمعاً وطاعة . قال : ثم قمت وتأهبت ، وأمرها بالتأهب وأصحبها جارية له سوداء تعادلها وتخدمها ، وأمر بناقة ومحمل فأدخلت فيه ، وجعلها معي . وصرت إلى مكة مع القافلة ، فقضينا حجنا ، ثم دخلنا في قافلة العراق وسرنا ، فلما وردنا " القادسية " أتتني السوداء عنها ، فقالت : تقول لك سيدتي : أين نحن فقلت لها : نحن نزول القادسية ، فانصرفت إليها وأخبرتها ، فلم أنشب أن سمعت صوتها قد ارتفع بالغناء ( 1 ) : [ من الكامل المجزوء ] لما وردنا ( 2 ) القادسية حي . . . ث مجتمع الرفاق وشممت من أرض الحجا . . . ز شميم أنفاس العراق أيقنت لي ولمن أُح . . . ب بجمع شمل واتفاق وضحكت من فرح اللقا . . . ء كما بكيت من الفراق فتصايح الناس من أقطار القافلة : أعيدي بالله قال : فما سمع لها كلمة . قال : ثم نزلنا " الياسرية " ، وبينها وبين بغداذ نحو خمسة أميال ، في بساتين متصلة ينزل الناس بها ، يبيتون ليلتهم ، ثم يبكرون لدخول بغداذ . فلما كان قرب الصباح إذ أنا بالسوداء قد أتتني مذعورة ، فقلت : ما لك فقالت : إن سيدتي ليست بحاضرة ، فقلت ويلك وأين هي قالت : والله ما أدري ، قال : فلم أحس لها أثراً بعد ، ودخلت بغداذ وقضيت حوائجي بها ، وانصرفت إلى تميم فأخبرته خبرها ، فعظم ذلك عليه واغتم له ، ثم ما زال بعد ذلك ذاكراً لها واجماً عليها . - 2 - قال لنا أبو محمد علي بن أحمد : كان أبو بكر محمد بن معاوية المعروف بابن(2/220)
"""""" صفحة رقم 221 """"""
الأحمر ( 1 ) مُكثراً ثقة جليلاً ، ولم أزل أسمع المشايخ يقولون : إن سبب خروجه إلى المشرق كان أنه خرجت بأنفه أو ببعض جسده قرحة ، فلم يجد لها بالأندلس مداوياً ، وعظم عليه أمرها ، وقيل له : ربما ترقت وتفشغت فأدت إلى الهلاك ، فأسرع الخروج إلى المشرق . فقيل له لا دواء لها إلا بالهند ، وأنه وصل إلى الهند فأراها بعض أهل الطب هنالك ، فقال له : أُداويها على إن تم برؤك وصح شفاؤك ، قاسمتك جميع مالك ، فقال : رضيت ، فداواه . فلما أفاق دعاه إلى بيته وأخرج إليه جميع ماله وقال له : دونك المقاسمة المشروطة ، فقال له الطبيب الهندي : أليست نفسك طيبةً بذلك قال : بلى والله قال : فوالله لا أرزؤك شيئاً من مالك ، ولكن آخذ هذا [ الشيء ] لشيءٍ استحسنه من آلات بيته . وقال له : إنما جربتك بقولي وأردت أن أعرف قيمة نفسك عندك ، ولو أبيت ما داويتك إلا بجميع مالك ، ولو لم تداوها لهلكت ، فإنها قد كانت قاربت الخطر . فحمد الله عز وجل وانصرف ، واشتغل في رجوعه بطلب العلم وروايات الكتب ، فحصل له علم جمٌّ وبورك فيه . - 3 - حدثني أبو محمد علي بن أحمد ( 2 ) قال : حدثني أبو الوليد يونس بن عبد الله القاضي قال : لما أراد الحكم المستنصر غزو الروم سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة ، تقدم إلى والدي بالكون في صحبته ، فاعتذر بضعف في جسمه ، فقال المستنصر لأحمد بن نصر : قل له إن ضمن لي أن يؤلف في أشعار خلفائنا بالمشرق والأندلس مثل كتاب الصولي في أشعار خلفاء بني العباس أعفيته من الغزاة . فخرج أحمد بن نصر إليه بذلك فقال : أنا أفعل ذلك لأمير المؤمنين إن شاء الله . قال ، فقال المستنصر : إن شاء أن يكون تأليفه له في منزله فذلك إليه ، وإن شاء في دار الملك قال المطلة على النهر فذلك له . قال : فسأل أبي أن يكون ذلك في دار الملك وقال : أنا رجل مورود في منزلي ، وانفرادي في دار الملك لهذه الخدمة أقطع لكل شغل ، فأُجيب إلى ذلك . وكمل الكتاب في مجلد صالح ، وخرج به أحمد بن نصر إلى الحكم المستنصر فلقيه بالمجلد(2/221)
"""""" صفحة رقم 222 """"""
بطليطلة فسر الحكم به . قال أبو الوليد ابن الصفار : وفي تلك السنة مات أبي - يعني سنة اثنتين وخمسين . وأنشدني له أبو محمد علي بن أحمد : [ من الطويل ] أتوا حسبة أن قيل جدَّ نحوله . . . فلم يبق من لحم عليه ولا عظم فعادوا قميصاً في فراش فلم يروا . . . ولا لمسوا شيئاً يدلُّ على جسم طواه الهوى في ثوب سقم من الضنى . . . فليس بمحسوس بعينٍ ولا وهم - 4 - وأخبرني أبو محمد علي بن أحمد قال ( 1 ) : أخبرني القاضي أبو الوليد يونس بن عبد الله ( 2 ) عن أبيه ، أنه شاهد قاضي الجماعة محمد بن أبي عيسى ( 3 ) في دار رجلٍ من بني جدير مع أخيه أبي عيسى في ناحية مقابر قريش وقد خرجوا لحضور جنازة ، وجارية للحديري تغنيهم هذه الأبيات : [ من الكامل ] طابت بطيب لثاتك الأقداح . . . وزهت بحمرة خدك التفاح وإذا الربيع تنسمت أرواحه . . . طابت بطيب نسيمك الأرواح وإذا الحنادس ألبست ظلماءها . . . فضياء وجهك في الدُّجى المصباح قال : وكتبها قاضي الجماعة في يده ثم خرجوا . قال : فلقد رأيته يكبر للصلاة على الجنازة ، والأبيات مكتوبة على باطن كفه . - 5 - حدثني أبو محمد علي بن أحمد قال ( 4 ) : حدثني خلف بن عثمان المعروف بابن اللجام ( 5 ) قال : حدثني يحيى بن هذيل ( 6 ) أن أول تعرضه للشعر إنما كان لأنه حضر جنازة أحمد بن محمد بن عبد ربه ، قال : وأنا يومئذ في أوان الشبيبة . قال : فرأيت فيها من الجمع العظيم وتكاثر الناس شيئاً راعني ، فقلت : لمن هذه الجنازة فقيل لي(2/222)
"""""" صفحة رقم 223 """"""
لشاعر البلد ، فوقع في نفسي الرَّغبة في الشعر ، واشتغل فكري بذلك ، وانصرفت إلى منزلي . فلما أخذت مضجعي من الليل أُريت كأني على باب دار فيقال لي : هذه دار الحسن بن هانئ ، فكنت أقرع الباب فيخرج إلي الحسن فيفتح الباب وينظرني بعين حولاء ثم ينصرف . قال : فاستيقظت من ساعتي وقمت سحراً إلى المفسر فقصصتها عليه فقال : سيكون محلك من قول الشعر بمقدار ما كان يتحول إليك من عين الحسن . قال لي أبو محمد : مات أبو بكر ابن هذيل سنة خمس أو ست وثمانين وثلاثمائة ، وهو ابن ست وثمانين ، وكان قد بلغ من الأدب والشعر مبلغاً مشهوراً ، ومن مستحسن شعره ( 1 ) : [ من الكامل ] لم يرحلوا إلا وفوق رحالهم . . . ( 2 ) غيمٌ حكى غبش الظلام المقبل وعلت مطارفهم ( 3 ) مجاجات الندى . . . فكأنما مطرت بدر مرسل لما تحركت ( 4 ) الحمول تناثرت . . . من فوقهم في الأرض تحت الأرجل ( 5 ) - 6 - أخبرني أبو محمد علي بن أحمد قال ( 6 ) ، أخبرني أبو الحسن علي بن محمد بن أبي الحسين ( 7 ) قال ، وجدت بخط أبي قال : أمرنا الحكم المستنصر بالله ، رحمه الله ، بمقابلة كتاب " العين " للخليل بن أحمد مع أبي علي إسماعيل بن القاسم البغداذي ، وابني سيد ( 8 ) في دار الملك التي بقصر قرطبة : وأحضر من الكتاب نسخاً كثيرة في جملتها نسخة القاضي منذر بن سعيد التي رواها بمصر عن ابن ولاد . فمر لنا صور من الكتاب بالمقابلة . فدخل علينا الحكم في بعض الأيام فسألنا عن النسخ ، فقلنا نحن : أما نسخة القاضي التي كتبها بخطه فهي أشد النسخ تصحيفاً وخطأ وتبديلا ، فسألنا عما نذكره من ذلك فأنشدناه أبياتاً مكسورة وأسمعناه ألفاظاً مصحفة ولغات مبدلة ، فعجب(2/223)
"""""" صفحة رقم 224 """"""
من ذلك وسأل أبا علي فقال له نحو ذلك ، واتصل المجلس بالقاضي فكتب إلى الحكم المستنصر رقعة وفيها : [ من الوافر ] جزى الله الخليل الخير عنا . . . بأفضل ما جزى فهو المجازي وما خطا الخليل سوى المغيلي . . . وعضروطين في ربض الطراز فصار القوم زرية كل زار . . . وسخرياً وهزأة كل هاز فلما دخلنا على المستنصر قال لنا : أما القاضي فقد هجاكم ، وناولنا الرقعة بخط يد القاضي ، وكانت تحت شيء بين يديه ، فقرأناها وقلنا : مولانا نجل مجلسك الكريم عن انتقاص أحدٍ فيه ، لا سيما مثل القاضي في سنه ومنصبه ، وإن أحب مولانا أن يقف على حقيقة ما أدركناه ، فليحضره ، وليحضر الأستاذ الأستاذ أبا علي ، ثم نتكلم على كل كلمة أدركناها عليه ، فقال : قد ابتدأكما والبادي أظلم ، وليس على من انتصر لوم . قال أبي : فمددت يدي إلى الدواة وكتبت بين يديه : [ من الوافر ] هلم فقد دعوت إلى البراز . . . وقد ناجزت قرناً ذا نجاز ولا تمش الضراء فقد أثرت ال . . . أسود الغلب تخطر باحتفاز وأصحر للقاء تكن صريعاً . . . لماضي الحد مصقول جراز رويت عن الخليل الوهم جهراً . . . لجهل بالكلام وبالمجاز دعوت له بخير ثم أنحت . . . يداك على مفاخره العزاز تهدمها وتجعل ما علاها . . . أسافلها ستجزيك الجوازي جزى الله الإمام العدل عنا . . . جزاء الخير فهو له مجازي به وريت زناد العلم قدماً . . . وشرف طالبيه باعتزاز وجلى عن كتاب العين دجناً . . . وإظلاماً بنور ذي امتياز بأستاذ اللغات أبي علي . . . وأحداثٍ بناحية " الطراز " بهم صح الكتاب وصيروه . . . من التصحيف في ظل احتراز وأسقطنا نحن منها أبياتاً تجاوز الحد فيها . قال : ثم أنشدتها المستنصر بالله فضحك وقال : قد انتصرت وزدت ، وأمر بها فختمت ، ثم وجه بها إلى القاضي ، فلم يسمع له بعد ذلك كلمة .(2/224)
"""""" صفحة رقم 225 """"""
- 7 - أخبرني أبو محمد علي بن أحمد ( 1 ) قال : أخبرني غير واحد من أصحابنا عن أبي عبد الله الفهري اللغوي ( 2 ) قال : دعاني يوماً رجل من إخواني إلى حضور عرس له في أيام الشبيبة والطلب ، فحضرت مع جماعة من أهل الأدب ، وأحضر جماعة من الملهين وفيهم ابن مقيم الزامر ، وكان طيب المجلس صاحب نوادر ، فلما اطمأن المجلس واستمر السرور بأهله ، انحرف ابن مقيم إلينا وأقبل علينا ، فقال : يا معشر أهل الإعراب واللغة والآداب ، ويا أصحاب أبي علي البغداذي ، أريد أن أسألكم عن مسألة حتى أرى مقدار علمكم ، وسعة جمعكم ، فقلنا له : هات بالله قل وأعد يا طيب الخبر ، فقال : بماذا تُسمى الدُّويبة السوداء التي تكون في الباقلاء عند أهل اللغة العلماء فرجعنا إلى أنفسنا نفكر ، فو الله ما عرفنا ما نقول فيها ولا مرت بأُذننا قط ، وبهتنا ، ثم قلنا له : ما نعرف ، فقال : سبحان الله ما هذا وأنتم الضابطون للناس لغتهم بزعمكم فقلنا له : أفدنا ما عندك . فقال : نعم ، هذه تسمى البيقران . قال الفهري : فتصورت والله في ذهني ، وقلت : فيعلان من بقر يبقر يوشك أن يكون هذا وعددتها فائدة ، فبينا نحن بعد مدة عند أبي علي إذ سألنا عن هذه المسألة بعينها . قال الفهري : فأسرعت الإجابة ثقةً بما جرى فقلت : تسمى البيقران ، فقال : من أين تقول هذا فأخبرته بالمشهد الذي جرى فيها ، والحال في استفادتها ، فقال : إنا لله ، رجعت تأخذ اللغة من أهل الزَّمْر ، لقد ساءني مكانك ، وجعل يؤنِّبُني ، ثم قال : هي الدّفْنِس ، والدّنِفس . قال الفهري يطيب الحكاية : فتركت روايتي عن ابن مقيم لروايتي عن أبي علي . - 8 - وأخبرني [ أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد الفقيه ] ( 3 ) أن المنصور أبا عامر لما فتح شَنْت ياقب ( 4 ) أو غيرها من القلاع الحصينة التي يقال إن أحداً لم يصل إليها قبله ، استدعي أبو عمر أحمد بن محمد بن دَرّاج ( 5 ) وأبو مروان عبد الملك بن إدريس(2/225)
"""""" صفحة رقم 226 """"""
المعروف بابن الجزيري ( 1 ) ، وأُمرا بإنشاء كُتب الفتح إلى الحضرة وإلى سائر الأعمال ، فأما ابن الجزيري فقال : سمعاً وطاعة ، وأما ابن دراج فقال : لا يتم لي ذلك في أقل من يومين أو ثلاثة ، وكان معروفاً بالتنقيح والتجويد والتؤدة . فخرج الأمر إلى ابن الجزيري بالشروع في ذلك ، فجلس في ظل السُّرادق ولم يبرح حتى أكمل الكتب في ذلك . وقيل لابن دراج افعل ذلك على اختيارك فقد فسح لك فيه . ثم جاء بعد ذلك بنسخة الفتح ، وقد وصف الغزاة من أولها إلى آخرها ، ومشاهد القتال ، وكيفية الحال ، بأحسن وصف وأبدع رصف ، فاستحسنت ووقع الإعجاب بها ، ولم تزل منقولة متداولة إلى الآن ، وما بقي من نسخ ابن الجزيري في ذلك الفتح على كثرتها عينٌ ولا أثر . - 9 - وحدثني أبو محمد عل بن أحمد بن سعيد ( 2 ) قال : أخبرني هشام بن محمد ابن هشام بن محمد بن عثمان المعروف بابن البشتني ، من آل الوزير أبي الحسن جعفر بن عثمان المصحفي ، عن الوزير أبي رحمه الله أنه كان بين يدي المنصور أبي عامر محمد بن أبي عامر في بعض مجالسه للعامة ، فرفعت إليه رقعة استعطاف لأم رجل مسجون كان ابن أبي عامر حنقاً عليه لجرم استعظمه منه ، فلما قرأها اشتد غضبه وقال : ذكرتني والله به ، وأخذ القلم يوقع ، وأراد أن يكتب : يُصلب ، فكتب : يطلق ، ورمى الكتاب إلى الوزير . قال : فأخذ أبوك القلم وتناول رقعة وجعل يكتب بمقتضى التوقيع إلى صاحب الشُّرط ، فقال له ابن أبي عامر ما هذا الذي تكتب قال : بإطلاق فلان ، قال : فحرد قوال : من أمر بهذا فناوله التوقيع ، فلما رآه قال : وهمت ، والله ليصلبن ، ثم خط ما كتب ، واراد أن يكتب : يُصلب ، فكتب : يُطلق . قال : فأخذ والدك الرقعة ، فلما رأى التوقيع تمادى على ما بدأ به من الأمر بإطلاقه ، ونظر إليه المنصور متمادياً على الكتاب ، فقال : ما تكتب قال : بإطلاق الرجل ، فغضب غضباً أشد من الأول ، وقال : من أمر بهذا فناوله الرقعة ، فرأى خطه ، فخط على ما كتب ، وأراد أن يكتب : يصلب ، فكتب : يطلق ، فأخذ والدك الكتاب فنظر ما وقع به ، ثم تمادى فيما كان بدأ به ، فقال له : ماذا تكتب فقال : بإطلاق الرجل ، وهذا الخط ثالثاً بذلك ، فلما رآه عجب وقال : نعم يُطلق على رغمي ،(2/226)
"""""" صفحة رقم 227 """"""
فمن أراد الله إطلاقه لا أقدر أنا على منعه ، أو كما قال . - 10 - أحمد بن أبي بكر بن الحسن الزُّبيدي أبو القاسم ( 1 ) : من أهل الأدب والفضل ، ولي قضاء إشبيلية بعد أبيه . قال لي أبو محمد علي بن الوزير أبي عمر أحمد بن سعيد بن حزم : إلا أنه كان شديد العجب ؛ فأخبرني ابن عمي أبو عمر أحمد بن عبد الرحمن ( 2 ) قال : كتب أبو القاسم ابن الزبيدي إلى الوزير أبيك كتاباً يرغب فيه إليه ان بُحسن العناية به في بعض الأمور ، وكتب في آخر الكتاب ( 3 ) : [ من الطويل ] ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى . . . عدواً له ما من صداقته بد قال ابن عمي : فأخبرني عمي ، يعني الوزير أبا عمر ، وقال : فحولت الكتاب ووقعت على ظهره ولم أزد : ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى . . . صديقاً له ما من عداوته بُدُّ - 11 - أخبرني أبو محمد علي بن أحمد ( 4 ) قال : أخبرني أبو عمرو البراء بن عبد الملك الباجي ( 5 ) قال : لما ورد أبو الفتوح الجرجاني ( 6 ) الأندلس كان أول من لقي من ملوكها الأمير الموفق أبو الجيش مجاهد العامري فأكرمه ، وبالغ في بره ، فسأله يوماً عن رفيق له ، من هذا معك فقال : رفيقان شتى ألف الدهر بيننا
وقد يتلقى الشتى فيأتلفان
قال أبو محمد : ثم لقيت بعد ذلك أبا الفتوح ، فأخبرني عن بعض شيوخه أن
ابن الأعرابي رأى في مجلسه رجلين يتحدثان فقال لأحدهما : من أين أنت ؟ فقال : من(2/227)
"""""" صفحة رقم 228 """"""
اسبيجاب ( 1 ) ، وقال للآخر من أين أنت قال : من الأندلس ؛ فعجب ابن الأعرابي وأنشد البيت المتقدم ؛ ثم أنشدني تمامها : [ من الطويل ] نزلنا على قيسية يمنية . . . لها نسبٌ في الصالحين هجان فقالت وارخت جانب الستر دوننا . . . لأية أرض أم من الرجلان فقلت لها : أما رفيقي فقومه . . . تميم ، وأما أسرتي فيمان رفيقان شتى ألف الدهر بيننا . . . وقد يلتقي الشتى فيأتلفان وأخبرني عنه أبو محمد علي بن أحمد قال : أخبرني علي بن حمزة مضيف المتنبي ، قال : وعنده نزل المتنبي ببغداذ ، أن القصيدة التي أولها : هذي برزت لنا فهجت رسيسا . . . قالها في محمد بن زريق الناظر في زوامل ابن الزيات صاحب طرسوس وأنه وصله عليها بعشرة دراهم فقيل له : إن شعره حسن فقال : ما أدري أحسن هو أم قبيح ولكن أزيده لقولكم عشرة دراهم ، فكانت صلته عليها عشرين درهماً . - 12 - أخبرنا أبو محمد علي بن أحمد قال ( 2 ) : حدثني أبو الفتوح ثابت بن محمد الجرجاني ، قال : كنت مع أبي الجيش مجاهد أيام غزاته سردانية ، فدخل بالمراكب في مرسى نهاه عنه أبو خروب ، رئيس البحريين ، فلم يقبل منه . فلما حصل في ذلك المرسى هبت ريح فجعلت تقذف مراكب المسلمين مركباً مركباً إلى الريف ، والروم وقوف لا شغل لهم إلا الأسر والقتل للمسلمين ، فكلما سقط مركب بين أيديهم جعل مجاهد يبكي بأعلى صوته لا يقدر هو ولا غيره على أكثر ، لارتجاج البحر وزيادة الريح . قال : فيقبل علينا أبو خروب وينشد ( 3 ) : [ من الطويل ] بكا دوبلٌ لا أرقأَ الله عينه . . . ألا إنما يبكي من الذُّلِّ دَوْبلُ ثم يقول : قد كنت حذرته من الدخول هاهنا فلم يقبل ، قال : فَبِجُرَيعة الذّقن ما تخلصنا في يسير من الركب . هذا آخر خبر ثابت بن محمد .(2/228)
"""""" صفحة رقم 229 """"""
- 13 - سمعت الفقيه الحافظ أبا محمد علي بن أحمد يقول ( 1 ) : " مذهبان انتشرا في بدء أمرهما بالرياسة والسلطان : مذهب أبي حنيفة ، فإنه لما ولي قضاء القضاة أبو يوسف كانت القضاة من قبله ، فكان لا يولي قضاء البلاد من أقصى المشرق إلى أقصى أعمال إفريقية إلا أصحابه والمنتمين إلى مذهبه ، ومذهب مالك بن أنس عندنا فإن يحيى بن يحيى ( 2 ) كان مكيناً عند السلطان ، مقبول القول في القضاة ، فكان لا يلي قاضٍ في أقطارنا إلا بمشورته واختياره ، ولا يشير إلا بأصحابه ومن كان على مذهبه ، والناس سراع إلى الدنيا والرياسة ، فأقبلوا على ما يرجون بلوغ أغراضهم به . على أن يحيى بن يحيى لم يلِ قضاء قط ولا أجاب إليه ، وكان ذلك زائداً في جلالته عندهم ، وداعياً إلى قبول رأيه لديهم ، وكذلك جرى الأمر في أفريقية لما ولي القضاء بها سحنون بن سعيد ، ثم نشأ الناس على ما أنشر " . - 14 - قال لنا أبو محمد علي بن أحمد ( 3 ) : توفي أبو عامر ابن شهيد ضحى يوم الجمعة آخر يوم من جُمادى الأولى ، سنة ست وعشرين واربعمائة بقرطبة ، ودفن يوم السبت ثاني يوم وفاته في مقبرة أم سلمة ، وصلى عليه جهور بن محمد بن جهور أبو الحزم ، وكان حين وفاته حامل لواء الشعر والبلاغة ، لم يخلف لنفسه نظيراً في هذين العلمين جملة . مولده سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة ، ولم يعقب وانقرض عقب الوزير [ أبيه ] بموته . وكان جواداً لا يليق شيئاً ولا يأسى على فائت ، عزيز النفس مائلاً إلى الهزل . وكان له من علم الطب نصيب وافر ، وكانت علة أبي عامر ضيق النفس والنفخ ، ومات في ذهنه وهو يدعو الله عز وجل ، ويشهد شهادة التوحيد والإسلام . وكان أوصى أن يصلي عليه أبو عمر الحصار الرجل الصالح ، فتغيب إذ دعي ، وأوصى أن يسن عليه التراب دون لبن ولا خشب فأغفل ذلك .(2/229)
"""""" صفحة رقم 230 """"""
- 15 - أخبرني أبو محمد علي بن أحمد قال ( 1 ) : بات عندي أبو بكر إبراهيم بن يحيى [ الطبني ] ( 2 ) في ليلة مطيرة ، فاستدعيت ابن عمه أبا مروان عبد الملك بن زيادة الله ( 3 ) بهذين البيتين : [ من السريع ] صنواك في ربعي فثلثهما . . . غيث السواري وأبو بكر صلني بلقياك التي أبتغي . . . أصلك بالحمد وبالشكر وأنشدني له من قصيدة طويلة في مدح أبي العاص حكم بن سعيد بن حكم القيسي ، وزير دولة المعتد ( 4 ) ، قال أبو محمد : وسمعته ينشده إياها ومنها : [ من الكامل ] إن الرسوم إذا اعتبرت نواطق . . . فسل الربوع تجبك عند سؤالها يأبى الفناء يرى فناءً عامراً . . . شطر ثاني قد أجملت جمل ولكن ضيعت . . . شطر ثاني - 16 - أخبر الإمام أبو محمد ابن حزم ( 5 ) أن [ محمد بن المظفر عبد الملك العامري ] ( 6 ) لما أيقن بالموت دق جوهراً عظيماً كانت قيمته ما لا نهاية له ، لئلا يتمتع به أحد بعده ، فانقضى أمره على هذه السبيل .(2/230)