بحوث محكمة
حكم النصرة
دراسة لنصوص الولاء واستخراج حكم النصرة من دلالاتها
دراسة
لطف الله خوجه
الأستاذ المساعد بقسم العقيدة بجامعة أم القرى
1428هـ
مدخل: الإسلام اختيار.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، وبعدك
فكل شيء في دائرة الاختيار: فللمختار اختيار وجوده أو عدمه.. بقائه أو زواله.
ومبنى وجوده تحقق شروطه، ومبنى عدمه عدمها.. ومبنى بقائه تحقق أركانه، ومبنى زواله انتفاؤها.
وبداية تحصيل الشيء يكون باختيار الشروط وتحقيقها، ثم باختيار الأركان وتحقيقها، ثم بعد ذلك بقاؤه مرهون بالاختيار:
- إن اختار البقاء وجب عليه حفظ الشروط والأركان.
- وإن اختار إبطاله فذلك بالتفريط فيهما.
مثل على ذلك: المصلي مختار للصلاة؛ لما اختار وجودها، كان عليه تحقيق شروطها أولاً؛ كالوضوء والطهارة. فإذا اختار إيقاعها، فعليه تحقيق أركانها. لكن إن اختار ألا يحقق شروطها ولا أركانها، فلا يكون مصليا حينئذ.
* ... * ... *
من هذه المقدمة المسلّمة نعلم:
أن الشيء المختار ليس وصفا لازما وجوبا لا يزول، بل يمكن ويمكن.
فإن الوصف اللازم وجوبا شرطه: ألا يكون في دائرة الاختيار، بل في اللا اختيار؛ كالجنس، والنوع، فلا يملك تغيير الجنس، من الإنسانية إلى الحيوانية، أو النباتية. ولا النوع من ذكر إلى أنثى، أو أنثى إلى ذكر.
وإذا كان كذلك، فالإسلام أين يكون: في الاختيار أو اللا اختيار ؟.
مما يتفق عليه ولا يختلف فيه: أن الدين بمعنى التدين شيء اختياري. فهذه مسلّمة، والإسلام دين، فهو اختياري إذن.(1)وعليه فليس وصفا واجبا ثابتا لا يزول، بل يزول ويثبت، بحسب تحقق شروطه وأركانه، والدليل على هذا، قوله تعالى:
- {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} [الكهف 29].
__________
(1) * - الإسلام هنا بمعناه الخاص؛ الذي جاءت به الأنبياء، وليس المعنى العام؛ الذي هو اضطرار لكل الخلق، وسياق الكلام يدل عليه.(1/1)
- {إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا ..} [النساء137].
- {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم} [البقرة 217].
والمقصود من هذا التأصيل لمسألة الاختيار واللا اختيار: التوصل إلى أن للإسلام شروطا وأركانا، من دونهما لا يحصل ويبطل، وهدفنا منها شرط محدد بعينه هو: البراءة من دين الكافرين.
فإن هذا الشرط أو الركن، قد أجمع أهل العلم والإيمان على: أن الإسلام لا يكون ولا يصح بدونه، ويبطل. ذلك أنهم قرروا كفر من أحب دين الكفار، ونصرهم لأجل ذلك.
وبذلك يعلم: فطرة، وعقلا، وشرعا. أن الإسلام قد يزول ويبطل، ويكون سبب زواله وبطلانه موالاة الكافرين في الدين.
ولأهمية وخطورة هذا الشرط أو الركن:
- فهو شرط من حيث إن الإسلام لا يحصل إلا به، قال الله تعالى: (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله..) [المجادلة 22].(1)
- وهو ركن من حيث إن الإسلام لا يبقى إلا به، قال تعالى: {ومن يتولهم منكم فإنهم منهم} [المائدة51].
فإنه سيكون محل الدراسة في هذا البحث، ونخص منه مسألة هي أهمهما، وهي:
نصرة الكافر على المسلم.
ولما كانت هذه المسألة من الدقة، والحاجة إلى التفصيل، فقد عمدت إلى بحثها، وفحصها، لتحرير القول فيها، عسى الله تعالى بمنه وكرمه أن يأخذ بأيدينا إلى ما يحب ويرضى، ويهبنا الفهم والعلم.
وقد قسمت مباحثه إلى ما يلي:
- أولا: مقدمة في بيان حقيقة الكفر.
- ثانيا: معنى الولاء في اللغة.
- ثالثا: معنى الولاء في الاصطلاح الشرعي.
- خاتمة: وفيها النتائج المهمة المجتناة من هذا البحث.
__________
(1) * - هذه الآية تحتمل معنيين:
الأول: أنها تنفي الإيمان عمن كان مسلما، ثم وادّ من حاد الله.
والثاني: أنها تنفي حصول الإيمان ابتداء لمن وادهم.
فهي تشترط لحصول الإيمان، أو دوامه: ترك مودة المحادين. وقد استعملت أحد المعنيين في هذا السياق للمناسبة.(1/2)
والله تعالى هو المعين لكل خير، وصلى الله وسلم على خير خلقه، وعلى آله، وصحبه.
* ... * ... *
أولا: مقدمة في حقيقة الكفر.
1- أنواع الكفر
الكفر نقيض الإيمان. والنقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان. ومن المتفق عليه بين أهل السنة: أن الإيمان قول وعمل. فكذلك الكفر عندهم: قول وعمل.
وقد استدلوا على هذا التقسيم بالأدلة، كما استدلوا على تقسيم الإيمان بالأدلة.
والعقل يؤيد هذا التقسيم: فإن النقيضين لهما الأقسام والمراتب نفسها. كالليل والنهار لهما الحدود نفسها؛ بداية ونهاية، وأجزاء، ووجودا.. ويختلفان في الكنه والحقيقة.(1)
والقول متعلق بالقلب واللسان، والعمل متعلق بالقلب والجوارح. فأنواع الكفر متعلقة بهذه الأقسام الأربعة، فعلى القلب كفران: قولي، وعملي. وعلى اللسان كفر قولي، وعلى الجوارح كفر عملي.
- فأما مثل كفر القلب القولي، فالتكذيب أو الجحود.
- وأما كفر اللسان القولي، فسب الله تعالى.
- وكفر القلب العملي، بغض وكراهية دين الله تعالى.
- وكفر الجوارح العملي، التولي والإعراض.
وتلك أمثلة لأنواع الكفر، ليس استقصاءا.
* ... * ... *
2- قاعدة التلازم.
وقاعدة التلازم بين الظاهر والباطن، الذي يدل عليها:
1- النص الشرعي:كقوله صلى الله عليه وسلم: (إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب).(2)
2- والفطرة، فالإنسان مفطور على الخضوع لأحكام النفس، وتأثر النفس بأحكام الظاهر.
3- والعقل، فإنه يقضي بأن ما في النفس لا بد وأن يظهر على الجوارح، والعكس، يثبت ذلك بالتجربة وإقرار العقلاء.
هذه القاعدة تبين:
__________
(1) *- استعمال الدليل العقلي هنا لبيان: صحة المقابلة في التقسيم بين الإيمان والكفر إلى قول وعمل. ثم إن الحكم الشرعي يوافق ولا يعارض العقل، فبيان موافقته هنا زيادة برهان.
(2) - رواه البخاري في الإيمان، باب: فضل من استبرء لدينه 1/28. ومسلم في المساقاة، باب: أخذ الحلال وترك الشبهات 3/1219.(1/3)
أن الكفر الظاهر، الذي هو: قول اللسان، وعمل الجوارح. لا بد وأن يرتبط به كفر الباطن: قول القلب، وعمل القلب. بالمقابلة والمناسبة.. والعكس كذلك، كفر الباطن مع الظاهر.
ومن هذا نفهم: أن كل أنواع الكفر لها ارتباط بالباطن:
- فالكفر القلبي؛ قولا وعملا، في أصله وذاته محله الباطن.
- والكفر القولي على اللسان، والعملي على الجوارح لهما ارتباط بالباطن؛ أثرا وتبعا.
هذا الارتباط للجميع بالباطن، قد يحدث: خلطا، وتداخلا، وعدم تمييز بين الأقسام ؟. لكن تصنيف الأولين بالأصل والذات، والآخرين بالتبع والأثر: يمنع هذا الخلط، والتداخل، وعدم التمييز.
* ... * ... *
وقد يتخلف التلازم بين الظاهر والباطن، لكن هذا استثناء وليس بأصل، وله سبب ؟.
فقد يكون الكفر في الباطن قولا أو عملا، وأثره لا يبدو على الظاهر (= قول اللسان، وعمل والجوارح) لمانع مثل الخوف، وهذا هو حال المنافقين.
وقد يكون الكفر في الظاهر قولا أو عملا، لكن من دون أن يكون له أصل في الباطن (قول وعمل القلب)، لمانع من: جهل، أو إكراه، أو تأول. وهذا ظاهر في: قصة عمار بن ياسر، والذي ضيع راحلته، والذي طلب من بنيه أن يحرقوه إذا مات، ونحوهم.(1)
__________
(1) - انظر الآثار في المصادر التالية:
1. ... أثر عمار بن ياسر في تفسير ابن جرير الطبري، في تفسير قوله تعالى: {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان}، [النحل 106].
2. ... أثر المضيع راحلته في البخاري، كتاب الدعوات، باب: التوبة 5/2325 (5949)، وفي مسلم، في التوبة، باب: الحض على التوبة والفرح بها ونصه في مسلم: ( لله أشد فرحا بتوبة عبده، حين يتوب إليه، من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه، وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة، فاضطجع في ظلها، قد أيس من راحلته، فبينا هو كذلك، إذا هو بها، قائمة عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي، وأنا ربك. أخطأ من شدة الفرح).
3. ... الأثر الثالث في البخاري، كتاب الأنبياء [3/1283 (3291)]، عن أبي سعيد مرفوعا: (أن رجلا كان قبلكم، رغسه الله مالاً، فقال لبنيه لما حضر: أي أب كنت لكم ؟، قالوا: خير أب. قال: فإني لم أعمل خيرا قط، فإذا مت فأحرقوني، ثم اسحقوني، ثم ذروني في يوم عاصف. ففعلوا، فجمعه الله، فقال: ما حملك ؟، قال: مخافتك،. فتلقاه برحمته). ظن أن الله تعالى لن يقدر على جمعه، فلن يبعث.(1/4)
وإذا أطلق الكلام عن قاعدة التلازم، فالمقصود الأصل لا الاستثناء.
وإنما كان الأصل التلازم؛ لأنه يحقق: تكامل الإنسان، وانسجامه، واتصال بعضه ببعضه. أما عدم التلازم (= الاستثناء) فهو: نقص، وانفصام، وتفكك. وهو خلاف فطرة الله التي فطر الناس عليها، فالله تعالى خلق الإنسان سليما مجموعا، باطنه وظاهره غير منفصلين.
* ... * ... *
وهنا تفصيل آخر لهذا التلازم والخُلْف فيه:
حقيقة الكفر هو: انشراح الصدر بالكفر.
هذا هو أصله، وهو في القلب، كما في الآية: {ولكن من شرح بالكفر صدرا..} [النحل 106] وكل كفر في الظاهر فإنما يرجع إليه. وما على اللسان والجوارح من الكفر فهو تطبيق فعلي لهذا الانشراح.
فتخلف التطبيق الفعلي (= قولي، أو عملي) يكون:
- إما لعدم وجود الانشراح بالكفر، وهذا حال المؤمنين بالله تعالى.
- أو لوجوده، لكن لمانع من خوف يتخلف، كحال المنافقين.
ووجود التطبيق الفعلي ( = قولي، أو عملي) يكون:
- مع وجود الانشراح بالكفر. وهذا حال المرتد والكافر الأصلي.
- ومع انتفاء الانشراح بالكفر. لكن بسبب: الجهل، أو الإكراه، أو التأويل.
هذا التلازم يعني اجتماع كفرين معا، في كل ذنب هو كفر؛ قوليا أو عمليا كان، أحدهما: باطن. والآخر: ظاهر.
وهذا حين التلازم، وهو الأصل كما تقدم. أما عند تخلف التلازم، وهو الاستثناء فكفر واحد منفرد، إما بالظاهر، أو بالباطن.
* ... * ... *
3- ما الكفر ؟.
من حيث المبدأ: كل ما هو نقيض الإيمان فهو الكفر. ويمكن أن يقال: هو عدم الإيمان.
وقد تقدم أن الإيمان أربع مراتب، فكذلك الكفر، لكن بالنقيض:(1/5)
- فالكفر القولي القلبي هو: التكذيب أو الجحود.(1)ونقيضه في الإيمان: التصديق، أو الإقرار. دليله: قوله تعالى: {فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين} [الزمر 32]. وقوله: {ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون} [الأنعام33].
- والكفر القولي اللساني هو مثل: الاستهزاء بالله. ونقيضه في الإيمان: الشهادة. دل عليه قوله تعالى: {قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم ...} [التوبة 65-66] .
- والكفر العملي القلبي هو: البغض والكراهية، ونقيضه في الإيمان: المحبة. دل عليه: قوله تعالى: {ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم} [محمد 9].
- والكفر العملي على الجوارح: التولي، والإعراض. ونقيضه في الإيمان: الانقياد، والطاعة. دليله: قوله تعالى: {الذي كذب وتولى} [الليل 16].
وتلك أمثلة، وليست للحصر، والنقيض معروف من جهة: العقل، والفطرة، والشرع.
فهذه النصوص:
- إما أن يذكر فيها وصف تلك الأعمال بصريح الكفر، مثل سائر النصوص الآنفة.
- أو يأتي فيها ما يدل على أنها أعمال للكافرين، وأنهم بها دخلوا النار بعد حبوط أعمالهم.
__________
(1) - الجحود هو: التكذيب مع العلم بالصدق. والتكذيب وحده يكون مع الجهل، قال تعالى: {فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون}.(1/6)
فنخرج من ذلك: أن الكفر – ظاهرا أو باطنا - هو: العمل الموصوف بأنه كفر، أو عمل للكافرين استحقوا به دخول النار،(1)كقوله تعالى: {لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين} [الزمر 65].
* ... * ... *
وقد يرد هنا: أن طائفة من الأعمال وصفت بالكفر، وهي بالاتفاق ليست مخرجة من الملة، مثل قتال المسلم: في قوله صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)(2)؛ أي العراك.
كذلك طائفة من الأعمال جاء الوعيد في حق مرتكبيها بالخلود في النار، وحبوط العمل، كقوله: {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما} [النساء 93].
فما الذي أخرجها من هذا الحكم ؟.
الجواب: أن الذي أخرجها الصارف:
- في قوله تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما} [الحجرات 9]، فسماهم مؤمنين مع قتالهم، فعلم أن المقصود بالكفر هنا: الأصغر منه.
- وفي قوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء 48، 116] ، والقتل دون ذلك.
ويمكن بذلك أن يعرف الكفر بزيادة قيد فيه هو: أن لا يصرفه صارف. فيقال:
هو العمل أو القول - الظاهر أو الباطن- الموصوف في النص بالكفر، أو العمل من أعمال الكافرين أو قولهم جاء الوعيد فيه بالخلود في النار وحبوط العمل.. ولم يصرفه صارف إلى الأصغر.
__________
(1) * - هنا يجوز أن نقول: دخول النار. أو نقول: الخلود في النار. ولسنا ملزمين بأحد التعبيرين؛ كون السياق خالص في حق الكافرين، فما يفهم من معنى الخلود، هو نفسه المفهوم من معنى الدخول؛ أي كلاهما يفهم على وجه البقاء الأبدي في النار. إنما نحتاج إلى استعمال لفظة: "الخلود" إذا كان في سياق المقارنة بين ذنبين؛ أحدهما: كبيرة. والآخر: كفر. فنصف حينئذ بأن صاحب الكفر خالد. فهو الأدق.
(2) - رواه البخاري في الإيمان، باب: خوف المؤمن أن يحبط عمله وهو لا يشعر 1/27 (48).(1/7)
وهكذا يتحدد الكفر: متى يكون ؟، وعلى أي عمل يطلق ؟.
ويبقى تحديد متى يكون ظاهرا، ومتى يكون باطنا ؟.
وهذه مسألة لا تحتاج إلى خوض، فإن الأعمال الباطنة محدودة باللغة، وبالعرف كذلك(1).
فالمحبة عمل باطن، والصلاة عمل الظاهر..
كما أن البغض عمل باطن، وإهانة المصحف عمل ظاهر.
* ... * ... *
ثانيا: المعنى اللغوي للولاء:
أصل كلمة ولاء من ولِيَ، وفي معناه قال ابن فارس في [معجم مقاييس اللغة]:
" (ولي) الواو، واللام، والياء: أصل صحيح يدل على قرب.
- من ذلك: الوَلْيُ: القرب. يقال: تباعد بعد وَلْي؛ أي قُرب.
- وجلس مما يليني؛ أي يقاربني.
- والوَلِيُّ: المطر يجيء بعد الوَسْميّ، سمي بذلك لأنه يلي الوسمي.
- ومن الباب: الموْلى: المعتِق، والمعتَق، والصاحب، والحليف، وابن العم، والناصر، والجار؛ كل هؤلاء من الوَلْي؛ وهو القرب، وكل من ولي أمر آخر فهو وليُّه".(2)
- قال: "والباب كله راجع إلى القرب".(3)
وعند فحص هذه المعاني التي أوردها ابن فارس لمعنى هذه الكلمة "ولي" نلاحظ أنه: عرفه بالقرب. وضرب أمثلة عليه، مثل:
- الجلوس مما يلي.
- الوَلِيّ هو: المطر يلي الوسمي.
- الموْلى هو: الصاحب، الناصر، الحليف.. إلخ.
وقرر أن هذا المعنى هو أصل الكلمة، وأن كل المعاني في بابه يرجع إليه. فمدار الكلمة على "القرب"، وبهذا قال أهل اللغة، كما ذكر ذلك عنهم الأزهري في التهذيب وغيره .(4)
هذا القرب قد يكون مجردا، كالجلوس والمطر. وقد يضاف إليه معنى آخر إيجابي، وهو ما عبر عنه أهل اللغة كالفراء، والكسائي، والزجاج عندما فسروا: "الوَلاية" بالنصرة. كما في تهذيب اللغة.(5)
__________
(1) * - كونها محدودة بهذين لا ينفي أنها محددة شرعا، فهي محددة بها جميعا، والمقصود من ذكر العرف واللغة: أن لا أحد يخالف في كونها قلبية، حتى المخالف في الدين، فهي أمور معلومة فطرة.
(2) - 6/141.
(3) - 6/142.
(4) - 15/447.
(5) - 15/449.(1/8)
وفيه كذلك: "وأما قوله تعالى: {ومن يتولهم منكم فإنهم منهم} [المائدة 51]؛ معناه: يتبعهم، وينصرهم".(1)فيكون قربا متضمنا للنصرة، جاء في [لسان العرب]: "ولي: في أسماء الله تعالى: الولي هو الناصر".(2)فالله تعالى مع المؤمنين، قريب منهم، بنصرته لهم، قال تعالى: {قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى} [طه 46].
فالولاء والوَلاية متضمنة لمعنى النصرة، ولذا فسرت بها.
فهذا معنى الولاء في لغة العرب: قرب بنصرة.
والسؤال الذي يرد بعد هذا هو: هل الولاء (= القرب، والنصرة) من أعمال الظاهر، أم الباطن؟.
والجواب يتبين من أمرين:
الأول: تحديد ماهية الأعمال الباطنة، والأعمال الظاهرة.
الثاني: فحص الكلمة "ولاء"، والأمثلة المضروبة لها.
* ... * ... *
1- ماهية الأعمال الظاهرة، والباطنة.
ليست القاعدة في تحديد الماهية، أو تصنيف الأعمال إن كانت باطنة أو ظاهرة: أن يتعلق العمل بأحد هذين الجانبين دون الآخر.
كلا، بل ما من ظاهر إلا وله باطن، وما من باطن إلا وله ظاهر، وهذه قاعدة صحيحة؛ لأن الإنسان كيان واحد، فبعضه روح، وبعضه جسده، ولا يمكن الفصل بينهما، فكلاهما مؤثر في الآخر.
- قال عليه الصلاة والسلام: (إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)(3)، فهذا في أثر الباطن في الظاهر.
- وقال عليه الصلاة والسلام: (لتسوونّ صفوفكم، أو ليخالفن الله بين وجوهكم)(4)، وهذا في أثر الظاهر على الباطن.
وهذا موضع الاشتباه في تصنيف العمل !!..
__________
(1) - 15/452.
(2) - 15/400.
(3) - سبق ص 4.
(4) - رواه البخاري في الجماعة والإمامة، باب :تسوية الصفوف عند الإقامة وبعدها 1/253 (685). والمقصود بالوجه هنا: الجهة؛ أي يخالف بين مقاصدكم، وليس المقصود به هذا مجرد العضو المحسوس.(1/9)
- فمن الأعمال ما أصلها ومحلها في الباطن، كالمحبة والخوف، ثم إن لها أثرا ظاهرا(1)كالطاعة.
- ومنها ما أصلها ومحلها على الظاهر، كالصلاة، والزكاة، والجهاد، ولها جذور باطنة كالمحبة.
ولحل هذا الاشتباه فلا بد من الاستناد إلى قاعدة أخرى للتفريق والتصنيف، هي: النظر إلى أصل منشأ العمل ومحله. فالتصنيف يبنى عليها. فالحكم في معرفة محل العمل، إن كان ظاهرا، أم باطنا، هو: معرفة أصل منشئه ومحل ابتدائه، فله الحكم والوصف.
- فإن كان أصله معنويا في القلب، فهو عمل باطن.
- وإن كان أصله حسيا على الجوارح، فهو ظاهر.
وفق هذه القاعدة ننظر في هذا العمل (= الولاء)، لنقف على تحديد محلها من الباطن أو الظاهر.
* ... * ... *
2- فحص الكلمة "ولاء"، والأمثلة المضروبة لها.
إذا تقرر ما سبق، فإن كلمة "ولي"، قد فسرت بمعنى: القرب، والنصرة. وإذا أخضعنا هذا التفسير للقاعدة الآنفة، في تحديد أصل العمل ومنشئه، فإنا نلحظ أن علماء العربية فسروها:
- بالجلوس مما يلي. (وهذا أمر حسي)
- وبالمطر يلي الوسمي. (وهذا حسي.)
- وبالمولى، وهم أشخاص وطيدو الصلة. (وهم محسوسون)
- وفسروا الولاية بالنصرة، وهي عمل ظاهر محسوس أيضا، وعلى هذا اتفاق العقلاء، وأدلة الشرع:
- ففي رأي العقلاء: أن فلانا إذا نصر فلانا. فذلك إنما يكون بما هو حسي، لا معنوي.
- وفي دليل الشرع قوله تعالى: {إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم} [محمد 7]، ونصرته بالعمل؛ قولا أو فعلا، لا بالأماني والتمنيات، وهذا أصل الحكم، ولا عبرة بالعاجز، فالعجز حالة استثنائية، لها حكمها المتعلق بالضرورات.
__________
(1) * - لم أقل: أثرا لازما. لأن الكلام في الظاهر والباطن، فناسب استعمال أحدهما مقابل الآخر. وليس الكلام في اللازم وغير اللازم؛ إذ المعلوم أن اللازم منه: المنفك الذي قد يتخلف، وغير المنفك الذي لا يتخلف. والظاهر من النوع الأول، فلا يصلح حينئذ استعمال اللازم مكان الظاهر لعدم التطابق الكلي بينهما.(1/10)
- وفي قوله عليه الصلاة والسلام: (انصر أخاك ظالما أو مظلوما)، أي بعمل محسوس، بيّن ذلك جوابه صلى الله عليه وسلم لأصحابه لما سألوه: (هذا ننصره مظلوما، فكيف ننصره ظالما؟، فقال: تأخذ فوق يديه)(1)، فنصرته مظلوما عمل حسي بمنع الظالم، وليس بالقلب، ونصرته ظالما بكفه.
فعلم من هذا أن النصرة ليس عملا قلبيا من جهة الأصل، ومن جعله كذلك، فقد غالط، وأتى بما يخالف العقل، وينقض أحكام الشريعة في النصرة.
فهو عمل محسوس إذن، في كافة معانيه، وفي معناه المهم: النصرة. وبذلك يتقرر:
أن "الولاء" عمل ظاهر، في أصل تصنيفه. فهو قرب ونصرة
هكذا تقرر في لغة العرب، ومعرفة هذه النتيجة مهمة في تحديد معنى الولاء اصطلاحا، حيث بها يتحدد إن كان الولاء عملا قلبيا له ثمر ظاهر، أو عمل ظاهر له أصل باطن، فبحسب المعنى اللغوي يتعين أن "الولاء" عمل ظاهر له أصل باطن، وليس باطنا له ثمر ظاهر. وهذا التحديد مهم.
لكن هل يمكن معرفة كنه هذا الباطن المحرك لهذا الظاهر ما هو؟.
يقال: لقد ذكر أهل اللغة الموْلى، فبينوا أنه: المعتِق، والمعتَق، والصاحب، والحليف، وابن العم، والناصر، والجار. ذكرهم ابن فارس آنفا، وذكرهم الأزهري(2)، وهؤلاء يحركهم تجاه مواليهم شعور باطن لا ريب، تارة يكون: حمية (= الحليف)، وتارة رحمة (=المعتق)، وتارة محبة (=ابن العم).
وبهذا نفهم: أن الوَلْي (= القُرب) عمل ظاهر، نتج عن عمل باطن: إما رحمة، أو حمية، أو محبة ومودة، لكن يلاحظ هنا: أن الولاء (= القرب) لا يشترط فيه المحبة، فقد يكون عن محبة، وقد يكون عن سبب قلبي آخر، كالحمية، والرحمة، فليس كل الموالي وأوليائهم يحبون بعضهم:
__________
(1) - رواه البخاري في المظالم، باب: أعن أخاك ظالما أو مظلوما 2/863 (2312).
(2) - 15/451.(1/11)
فالمعتِق والمعتَق، والصاحب وصاحبه، وابن العم وابن عمه، والناصر ومن انتصر به، والحليف وحليفه، والجار وجاره. كل هؤلاء لا يلزم أن تكون علاقة الولاء والقرب بينهم ناتجة عن محبة ومودة، وهذا ظاهر بيّن، بل قد تكون عن رحمة، وقد تكون عن حمية. لكن علاقة الولاء بين المحب ومحبوبه لا شك أنها عن محبة ومودة، وتجمع إليها الرحمة، والحمية.
فالولاء عن محبة حاصلة إذن، جاء في [تهذيب اللغة]:
- "ابن الأعرابي: الولي: التابع المحب".(1)
- "قال [ابن الأعرابي]: والى فلان فلانا، إذا أحبه".(2)
لكنها ليست مطردة، وليست بلازمة، بدليل ما سبق، فلو أن الولي هو المحب ليس غير، لصح القول: إن الولاء الظاهر الذي هو النصرة، لا يكون إلا عن محبة. أما والولي وصف يطلق على سائر أولئك المذكورين، فهذا دليل ما ذكرنا من عدم انحصاره في علة واحدة، هي: المحبة.(3)
وبهذا نصل إلى تحرير معنى الولاء في كلام العرب، ويبقى تحرير معنى الولاء في اصطلاح الشارع، فإنه يستمد معناه من اللغة، والشارع يزيد عليه بالقيود والشروط، وقبل أن نذهب إلى ذلك، نعطي لمحة يسيرة عن معنى البراء، استكمالا للفائدة؛ إذ هو نقيض الولاء، وبعضهما يفسر بعضا.
* ... * ... *
أما عن البراء فقال ابن فارس في [معجم مقاييس اللغة]:
"(برأ).. التباعد من الشيء، ومزايلته، من ذلك البرء، وهو السلامة من السقم".(4)
وأهم ما يلاحظ هنا: أن معنى البراء على العكس والنقيض من معنى الولاء: هذا بمعنى القرب، وذاك بمعنى البعد. وعلى ذلك: فما قيل في متعلقات وأحكام الولاء يقال في البراء:
- فهو معنى ظاهر، متعلق بالظاهر، لا بالباطن، فإن التباعد عملية ظاهرية لا باطنية.
__________
(1) - 15/448.
(2) - 15/452.
(3) *- هذه إفادة المفردات اللغوية للكلمة، أما ما ذكره بعض أهل العلم، من أن المحبة هي أصل الولاء، فهذا إنما في المصطلح الشرعي، وسيأتي بحثه.
(4) - 1/236.(1/12)
- وله أصل باطن، هو البغض، وقد يكون عن حمية، وقد يكون عن ظلم.
- ولا يشترط في البراء البغض، بل قد يكون لسبب آخر، كما تقدم بيان ذلك في الولاء.
غير أن المعاني الموجودة في الولاء موجودة في البراء، لكن بعكسها:
- هذا قرب، وهذا بعد.
- هذا حب، وهذا بغض.
* ... * ... *
ثالثا: الولاء في الاصطلاح الشرعي:
في القرآن جملة من النصوص المعنية بقضية ولاء الكافرين، وفيها بالقطع تحديد المعنى، قال الله تعالى:
1- {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء} [المائدة 51].
2- {ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون} [المائدة 81]
3- {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة} [آل عمران 28].
4- {إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم * ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم * فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم * ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم} [محمد 24-28].
5- {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم} [النساء 97].
6- {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة} [الممتحنة 1].
هذه النصوص تتضمن جوابا لكل ما يتعلق بمسألة الولاء من مشكلات: دقيقة، أو جليلة. توضح حقيقته في الاصطلاح الشرعي،.
ولأجل الوصول إلى هذه الأجوبة المهمة: لا بد من دراستها دراسة فاحصة. نستنطق فيها الكلمات المقدسة، لنعرف ما تدل عليه، وما حقيقة الولاء الذي تنهى عنه:
ما صفته؟، وما حكمه؟. وهل يستوي الولاء لأجل الدين، والولاء لأجل الدنيا؟.
وطريق ذلك: النظر في أسباب النزول، وقول الصحابة والتابعين في الآيات ومعناها، وكذلك دراسة السياق، وما تدل عليه من أمور ظاهرة، لا يتأتى تجاوزها.
* ... * ... *
((1/13)
النص الأول)
قال الله تعالى:{ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين * فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين * ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين * يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم * إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون * ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون * يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين * وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا ذلكم بأنهم قوم لا يعقلون} [المائدة 51-58].
ذكر ابن جرير في سبب نزول هذه الآيات ثلاثة أقوال، فقال:
" اختلف أهل التأويل في المعني بهذه الآية، وإن كان مأمورا بذلك جميع المؤمنين:
- فقال بعضهم: عُني بذلك عبادة بن الصامت، وعبد الله بن أبي ابن سلول، في براءة عبادة من حلف اليهود، وفي تمسك عبد الله بن أبي ابن سلول بحلف اليهود، بعد ما ظهرت عداوتهم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وأخبره تعالى أنه إذا تولاهم، وتمسك بحلفهم، أنه منهم، في براءته من الله ورسوله، كبراءتهم منهما".(1/14)
ثم ساق سنده إلى عطية بن سعد قال: "جاء عبادة بن الصامت من بني الحارث بن الخزرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله!، إن لي موالي من يهود، كثير عددهم، وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود، وأتولى الله ورسوله. فقال عبد الله بن أبي: إني رجل أخاف الدوائر، لا أبرأ من ولاية موالي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أبي: يا أبا الحباب!، ما بخلت به من ولاية يهود على عبادة بن الصامت فهو إليك دونه. قال: قد قبلت. فأنزل الله.." فذكر الآية.
قال ابن جرير:
- " بل عني بذلك قوم من المؤمنين، كانوا هموا حين نالهم بأحد من أعدائهم من المشركين ما نالهم، أن يأخذوا من اليهود عصما، فنهاهم الله عن ذلك، وأعلمهم أن من فعل ذلك منهم، فهو منهم".
ثم ساق سنده إلى السدي قال: "لما كانت وقعة أحد، اشتد على طائفة من الناس، وتخوفوا أن يدال عليهم الكفار، فقال رجل لصاحبه: أما أنا فألحق بدهلك اليهودي، فآخذ منه أمانا وأتهود معه، فإني أخاف أن تدال علينا اليهود. وقال الآخر: أما أنا فألحق بفلان النصراني ببعض أرض الشام، فآخذ منه أمانا، وأتنصر معه. فأنزل الله تعالى ذكره ينهاهما.." فذكر الآية. قال:
- " وقال آخرون: بل عني بذلك أبو لبابة بن عبد المنذر، في إعلامه بني قريظة؛ إذ رضوا بحكم سعد: أنه الذبح".
ثم ساق سنده إلى عكرمة قال: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا لبابة بن عبد المنذر من الأوس، وهو من بني عمرو بن عوف، فبعثه إلى قريظة حين نقضت العهد، فلما أطاعوا له بالنزول، أشار إلى حلقه: الذبح، الذبح".
قال ابن جرير مقررا عموم الآية، وعدم اختصاصها بتلك الحوادث:(1/15)
" والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره نهى المؤمنين جميعا، أن يتخذوا اليهود والنصارى أنصارا وحلفاء على أهل الإيمان بالله ورسوله، وأخبر أنه من اتخذهم نصيرا، وحليفا، ووليا من دون الله ورسوله والمؤمنين، فإنه منهم في التحزب على الله ورسوله والمؤمنين، وأن الله ورسوله منه بريئان.
وقد يجوز أن تكون الآية نزلت في شأن عبادة بن الصامت وعبد الله بن أبي ابن سلول وحلفائهما من اليهود، ويجوز أن تكون نزلت في أبي لبابة بسبب فعله في بني قريظة، ويجوز أن تكون نزلت في شأن الرجلين اللذين ذكر السدي أن أحدهما هم باللحاق بدهلك اليهودي، والآخر بنصراني بالشام، ولم يصح بواحد من هذه الأقوال الثلاثة خبر، يثبت بمثله حجة، فيسلم لصحته القول بأنه كما قيل.
فإذا كان كذلك، فالصواب أن يحكم لظاهر التنزيل بالعموم على ما عم، ويجوز ما قاله أهل التأويل فيه من القول الذي لا علم عندنا بخلافه، غير أنه لا شك أن الآية نزلت في منافق كان يوالي يهود أو نصارى، خوفا على نفسه من داوئر الدهر، لأن الآية التي بعد هذه تدل على ذلك، وذلك قوله:
{فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة}". انتهى(1)
فهذه الآيات وسبب نزولها تبين حقيقة الولاء، وحقيقة حكمها، ولكي نتوصل إلى ذلك بالتفصيل الحاسم والمانع لأي خلاف: علينا النظر في الأجزاء التي تكونت منها الآيات، ودلالاتها.
* ... * ... *
1- دراسة الآيات.
تضمنت الآيات من الأمور ما يلي: خطابا، ونهيا، وتعليلات، ومثالا، وحكما.
أولا: (خطابا) توجه للمؤمنين خاصة بقوله: { يا أيها الذين آمنوا..}.
ثانيا: (نهيا) عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء بقوله: {لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء..}.
ثالثا: (تعليلات للنهي) هي في مواضع خمسة:
1- أن اليهود والنصارى يوالي بعضهم بعضا ضد المؤمنين: {بعضهم أولياء بعض..}.
__________
(1) - تفسير الطبري: جامع البيان عن آي القرآن 8/504-508.(1/16)
2- أن الله تعالى ورسوله والمؤمنين هم أولياء المؤمن: {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا}.
3- أن من تول الله ورسوله والذين آمنوا فهو غالب: {ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون}.
4- أن الذين أوتوا الكتاب والكفار يتخذون دين المؤمنين هزوا ولعبا: { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء}.
5- أن اتخاذهم أولياء يبطل محبة الله للمؤمنين، ومحبتهم لله تعالى: { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه..}، فإثبات المحبة للمتبرئين من ولاية الكافرين: نفي لها عن المتولين لهم.
رابعا: ( مثلا ) هم المنافقون، وقد وصفوا في الآيات بالذين في قلوبهم مرض، وهو وصفهم، كما قال تعالى: {في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا} [البقرة 10]، وحالهم أنهم يخالفون النهي الآنف، فيسارعون في الكفار بالولاء، متعللين خشيتهم أن تصيبهم دائرة؛ أي مصيبة من مصائب الدنيا: {فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة..} ، ثم بينت حالهم ومآلهم: {فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين}.
خامسا: (حكما) هي في مواضع خمسة:
1- أن متوليهم منهم: {ومن يتولهم منكم فإنه منهم}.
2- أنه ظالم غير مهتدٍ: {إن الله لا يهدي القوم الظالمين}.
3- أن عمله حابط: {حبطت أعمالهم}.
4- أنه خاسر: {فأصبحوا خاسرين}.
5- أنه مرتد: {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه..}.
6- أن متخذهم أولياء لا إيمان له: {أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم}، {واتقوا الله إن كنتم مؤمنين}.
بعد هذا التحليل لسياق الآيات، فإن المسائل الجديرة بالبحث مسألتان، هما:
الأولى: معرفة حقيقة وحدّ التولي ما هو ؟، وهل هو عمل ظاهر، أم باطن ؟.
الثانية: معرفة حقيقة حكم التولي: هل هو كفر، أم كبيرة..؟.
2- حقيقة الولاء في الآية.(1/17)
ابتدأت الآية بنداء المؤمنين، ناهية لهم عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء، مبينة أنهم بعضهم يوالي بعض، ثم حكمت بأن من تولاهم من المؤمنين فإنه منهم.
بعد ذلك ضربت مثلا بالذين في قلوبهم مرض، وهو وصف قرآني يطلق ويراد به المنافقون، أنهم يسارعون في اليهود والنصارى، متعللين بخشيتهم أن تصيبهم دائرة.
وفي هذا المثل المضروب حل لمعنى الولاء، وتحديد لحقيقته..!!.
حيث إنه لا أحد يزعم أن قوله تعالى: {فترى الذين يسارعون فيهم}، مستأنفة، بل هي متصلة بما قبلها، مفسرة لها، كما هو قول كافة المفسرين، ويشهد لهذا سبب النزول، كما في قصة عبد الله بن أبي ابن سلول، حيث قال: "إني رجل أخاف الدوائر، لا أبرأ من ولاية موالي".
حتى بدون شهادة السبب هذه: هي مفسرة متصلة بما قبلها، بحسب سياق الآيات.
فالمسارعة فيهم إذن، نوع من الولاء للكافرين المنهي عنه، بنص القرآن، حيث أنكر واستشنع تلبس المنافقين بهذا الوصف، وضربه مثلا، بعد أن نهى المؤمنين عن ولاء اليهود والنصارى.
يقول ابن جرير: "يقال: إن ذلك من الله تعالى ذكره خبر عن ناس من المنافقين، كانوا يوالون اليهود والنصارى، ويغشون المؤمنين، ويقولون: نخشى أن تدور دوائر – إما لليهود والنصارى، وإما لأهل الشرك، من عبدة الأوثان أو غيرهم – على أهل الإسلام، أو تنزل بهؤلاء المنافقين نازلة، فيكون بنا إليهم حاجة. وقد يجوز أن يكون ذلك كان من قول عبد الله بن أبي، ويجوز أن يكون كان من قول غيره، غير أنه لا شك أنه من قول المنافقين.(1/18)
فتأويل الكلام إذن: فترى يا محمد!، الذين في قلوبهم شك، ومرض إيمان بنبوتك، وتصديق ما جئتهم به من عند ربك: {يسارعون فيهم}؛ يعني: في اليهود والنصارى. ويعني بمسارعتهم فيهم، مسارعتهم في موالاتهم، ومصانعتهم، {يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة}، يقول هؤلاء المنافقون: إنما نسارع في موالاة هؤلاء اليهود والنصارى، خوفا من دائرة تدور علينا من عدونا. ويعني بالدائرة الدولة".(1)
فالمسارعة إذن هي: الموالاة. يفعلونها خشية من تقلب الأمور، وتغير الحال. والموالاة – كما تقدم في المبحث اللغوي – هي النصرة، من جهة الظاهر، وكان من فعل عبد الله بن أبي بن سلول أنه اتخذهم حلفاء ظاهرا، والحليف هو النصير؛ أي ينصرهم، وينصرونه، ويكون معهم في الحرب والسلم.(2)وبهذا نصل إلى تحديد معنى الولاء في المصطلح الشرعي في هذه الآيات، وهو: النصرة. وهذا معنى الحلف مع الكفار ضد المسلمين، فهذا الذي قد نهى عنه الله تعالى المؤمنين، أن يعطوها للكافرين.
وإذا تحدد معنى الولاء الشرعي أنه النصرة، يأتي الجواب على السؤال:
- إن كان هذا الولاء، في هذه الآية، عملا باطنا، أو عملا ظاهرا ؟.
فالجواب: أن الولاء هنا عمل ظاهر؛ لأن النصرة عمل ظاهر، لا خلاف فيه، فإن من لا ينصر بيده، ولسانه، وجوارحه، لا يسمى ناصرا، والنصرة القلبية وحدها لا تسمى نصرة؛ لأنها ليست نصرة في حقيقة الأمر، بل لا يعد الناس الرجل نصيرا إذا كانت نصرته قلبية فحسب.. لا تعده نصيرا إلا بما يكون منه من فعل: بلسانه، أو يده، أو جوارحه. وهكذا كانت نصرة المنافقين لليهود، شيء ظاهر، وعمل على ظاهر، وهو المسارعة، فالمسارعة ليست عملا باطنا، كما قد تبين.
ولو كانت النصرة عملا قلبيا، لكان معنى:
__________
(1) 10) - جامع البيان عن تأويل آي القرآن 8/512.
(2) 11) - انظر معنى الحليف في المبحث اللغوي.(1/19)
قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم} [محمد 7]: إن تنصروا الله بقلوبكم، أو كما قيل: تتمنوا نصرة الله.!!.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالما أو مظلوما)(1)؛ أي تمن نصرته، أو انصره بقلبك.
ولا يقول بهذا أحد من أهل العلم والمعرفة، فإن الأمر بالنصرة في هذه النصوص ما جاءت إلا بالنصرة الفعلية، لا القلبية، وهذا بين واضح.
وهذا في الأصل، أما الاستثناء فله حكمه الخاص، فمن لا يقدر على النصرة، فهذا يكفيه التمني، فيكون في حقه حيلة العاجز، لكن النصوص لم تأت لهذا، إنما أتت تخاطب القادرين على الفعل، وهذا أصل الخطاب.
ومما يدل على أن الولاء عمل ظاهر:
قوله تعالى: {فترى الذين في قلوبهم مرض..}. فهو عمل مرئي يراه المؤمنون، والرؤية لا تكون إلا لشيء ظاهر.
وقوله تعالى: {ويقول الذين آمنوا: أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم}. فإن الذين في قلوبهم مرض، كانوا مستورين، يحكم لهم بالإيمان الظاهر، ويدعون أنهم مع المؤمنين، حتى إذا أظهروا ولاءهم لليهود بالمسارعة فيهم، كُذبوا في دعواهم، فكان هذا الفعل الظاهر منهم كافيا في نفي كونهم مع المؤمنين، ولو كان الولاء لا يكون إلا بالقلب، لاحتاجوا سؤالهم: إن كانوا يسارعون فيهم حبا لدينهم ؟.
لكنهم ما سألوهم، بل حوكموا بما ظهر من حالهم.
نعم هذه النصرة لا بد لها من دافع قلبي، هي المحبة، لا شك في هذا، وهكذا كل أعمال الجوارح لابد لها من دافع قلبي، لارتباط الظاهر بالباطن، لكن ليس هذا محل البحث والنزاع، إنما هو في الأصل:
- هل الأصل في النصرة أنها عمل باطن، أم ظاهر؟.
كل الدلائل تشير إلى أنها عمل ظاهر، له أصل باطن، وبذلك فإن الولاء عمل ظاهر، له أصل باطن، وهذا ما تقرر لغة، كما سبق، وبهذا يتوافق المصطلح اللغوي والشرعي.
__________
(1) - سبق ص 11.(1/20)
والتفريق بين كون أصل العمل هل هو ظاهر، أو باطن ؟، له أثر مهم في تعلق الحكم، وهذا ما نتبينه لاحقا.
على أنه لا مانع أن يقال: إن الولاء- سواء في اللغة أو الاصطلاح - عمل ظاهر وباطن. فإنه في النتيجة لا يختلف عن القول: بأنه عمل ظاهر في أصله. إنما الممنوع أن يقال: هو عمل باطن في أصله. لأن معنى ذلك إبطال كل الدلائل اللغوية والشرعية الآنفة، من غير دليل، وهذا باطل.
* ... * ... *
3- حكم الولاء في الآيات.
بعد أن حددنا حقيقة الولاء، ومكانه من الإنسان، نمضي إلى الجواب عن السؤال التالي:
- هل الأصل في التولي الكفر أو الكبيرة..؟!.
- وإذا كان أصله الكفر، فهل يكون كفرا بإطلاق، أم في حالات؟، فما تلك الحالات إن وجدت؟.
في هذه الآيات جملة من النصوص التي تبين الحكم في المتولي الكافرين، هي:
1- {بعضهم أولياء بعض}.
2- {ومن يتولهم منكم فإنه منهم}.
3- {أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم}.
4- {حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين}.
5- {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه}.
* ... * ... *
? قوله تعالى: {بعضهم أولياء بعض}.
ففيه بيان أن يهود ينصر بعضهم بعضا، وكذا النصارى، والعلة اتفاق دينهم، وكذا اليهود مع النصارى، إذا صاروا جميعا حربا على المسلمين اتحدوا، وكانوا في هذا الولاء برءاء من المؤمنين، وهذا فيه إشارة للمؤمنين أن من تولاهم، فنصرهم، صار وليا لهم، وبرئ من المؤمنين؛ لأن البراء ضد الولاء، ومن برئ من المؤمنين، فهو برئ من الإيمان.
يقول ابن جرير:(1/21)
" عنى تعالى ذكره بذلك أن بعض اليهود أنصار بعضهم على المؤمنين، ويد واحدة على جميعهم، وأن النصارى كذلك، بعضهم أنصار بعض على من خالف دينهم وملتهم، معرفا بذلك عباده المؤمنين أن من كان لهم أو لبعضهم وليا، فإنما هو وليهم على من خالف ملتهم ودينهم من المؤمنين، كما اليهود والنصارى لهم حرب، فقال تعالى ذكره للمؤمنين: فكونوا أنتم أيضا بعضكم أولياء بعض، ولليهودي والنصراني حربا، كما هم لكم حرب، وبعضهم لبعض أولياء؛ لأن من والاهم فقد أظهر لأهل الإيمان الحرب، ومنهم البراءة، وأبان قطع ولايتهم".(1)
وهذا النص، وإن لم يكن صريحا مباشرا في الحكم على الموالي بكفر، غير أنه يشير إلى شيء من هذا، لكن الإشارة وحدها لا تكفي في تحقق هذا الوصف، بل لا بد له من برهان.
* ... * ... *
قوله تعالى: {ومن يتولهم منكم فإنه منهم}.
في تفسير قوله : { فإنه منهم }، احتمالان بحسب ما يرد في الذهن ويستشكل، لا بحسب الحقيقة:
- الأول: أن يكون المعنى على ظاهره؛ أي أن متوليهم كافر مثلهم.
- الثاني: أن يكون المعنى خلاف الظاهر؛ أي فيه شبه منهم في الأخلاق والأعمال.
فأي هذين المعنيين هو الراجح؟.
إن الاحتمال الثاني ليس غريبا؛ فقد وردت طائفة من النصوص، تحكم بأن من فعل كذا فقد كفر، وأن من فعل كذا فليس من منا، ولم يحملها على معنى الكفر الأكبر، والخروج من الملة إلا الوعيدية، من معتزلة وخوارج، وكانوا في ذلك مخالفين مبتدعين، مثل قوله صلى الله عليه وسلم:
- (لا ترجعوا بعدي كفارا، يضرب بعضكم رقاب بعض).(2)
فالمعنى مشابهين للكفار في أخلاقهم وأعمالهم التي لا رحمة فيها، ولا أخوة.
- وكقوله: (ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية).(3)
__________
(1) 12) - جامع البيان عن تأويل آي القرآن 8/508.
(2) - رواه البخاري في العلم، باب: الإنصات للعلماء 1/56 (121).
(3) - رواه البخاري في الجنائز، باب: ليس منا من شق الجيوب 1/435 (1232).(1/22)
أي ليس على طريقتنا، وسنّتنا، وهدينا.(1)
فهل هذا المعنى مراد في الآية:
أن من تولاهم، فنصرهم على إخوانه المؤمنين، فهو منهم في سنتهم، وطريقتهم في تولي أعدائهم على إخوانهم.. لا على معنى أنه منهم في دينهم وملتهم؟.
ظاهر الآية: أنه منهم في دينهم وملتهم. لسبب هو: اختلاف مناط الحكم في هذه الآية عنها في النصوص السابقة وأمثالها؛ فإن المناط هنا: متعلق بقضية أصلية في الدين، لا يصح بدونها، هي: الولاء. وأما مناط الحكم في تلك النصوص فمتعلق بقضية أخلاقية، هي: الضرب، والفخر بالحسب، والطعن في النسب. والفرق بينهما معروف، فمسائل الأخلاق لا تكفير فيها، بل غايتها التفسيق.
لذا لم يقل أحد من أهل السنة: أن من اعتقد بقلبه قتال وضرب المسلم، أو اعتقد الفخر بنسبه، والطعن في نسب غيره، أنه يكفر بذلك. لكنهم جميعا اتفقوا على أن من اعتقد بقلبه ولاء (= محبة دين) الكافرين، أنه يكفر بذلك.
فقياس أحدهما على الآخر لا يصح إذن.(2)
فالظاهر المراد بالآية هو: أن من تولاهم، فإنه منهم في دينهم وملتهم. وليس في النص نفسه ما يصرف هذا الظاهر إلى معنى آخر.
__________
(1) 13) – انظر: الإيمان لأبي عبيد ص93، والفتاوى 7/525.
(2) * -إذا اعترض معترض هنا فقال: إذا اعتقد حل قتاله. ألا يدخله في الكفر؟، فهذه مسألة أخلاقية كفر بها. فالجواب: أن الاعتقاد بحلّية قتال المسلم، على وجه تحليل ما حرم الله تعالى، منازعة لحكم الله تعالى، والنزول بالذات منزلة المشرع، يخرج بالعمل من دائرة العمل المجرد إلى دائرة الاستحلال؛ الذي هو محض الكفر الاعتقادي، وهو أمر يكفر به حتى لو لم يقاتل.
لكن المقصود بقولنا: "مسائل الأخلاق لا تكفير فيها"؛ أي مجرد إرادة ومحبة القتال والفخر ونحو ذلك، وفي المقابل مجرد حب دين الكافرين هو كفر أكبر.. فهذا فرق ما بينهما.(1/23)
فهذا المعنى الظاهر مراد ومقصود، ولا يمكن صرفه إلا بنص آخر يضارعه قوة، يكون مورده في باب الولاء، يبين ويوضح: أن التولي ليس بكفر في أصله.
كما أن نصوص الضرب ودعوى الجاهلية، إنما صرفت عن ظاهرها، بنصوص أخرى أثبتت الإيمان لمن وقع فيها، كقوله تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتلوا فأصلحوا بينهما} [الحجرات9].
فهل توجد نصوص في باب الولاء، تصرف هذا الظاهر للآية كليا، وتبين أن المعنى ليس على ظاهره؟.
إن وجدت صرفت، وإلا فلا، وهذا ما سيتبين لاحقا، لكن إلى هذا الحد لا يوجد، فنحن ندرس دلالة هذا المقطع من الآية، ولا نجد فيه ما يصرف هذا الظاهر، بل نجد فيه ما يؤيده، كما بينا آنفا، ونجد كذلك فيما يتلوه من مقاطع، ما يؤيد ما دل عليه في نفسه، كما سيتبين لاحقا.
إذن هذا النص: صريح فيمن تولى الكافرين: أنه من دينهم وملتهم؛ أي كافر مثلهم.
وما قررته آنفا لا إشكال فيه عند أهل العلم بالتفسير، فإنهم عامتهم فسر قوله: {فإنه منهم}؛ على معنى: أنه مثلهم في الكفر. ليس بمعنى موافقتهم في أخلاقهم وأعمالهم.(1)
أما خلافهم فجاء من جهة أخرى:
هل كان كفرهم لأجل مطلق التولي، أم للتولي رغبة في دينهم؟.
- فبعضهم كفر بمطلق التولي، سواء رغبة في دينهم أو طمعا في الدنيا.
- وبعضهم قيد الكفر بما كان عن رغبة في دينهم.
والحاصل أن أحدا لم ينازع في أصل دلالة النص على الكفر، وهذا هو المطلوب؛ لأنهم لو نازعوا لقالوا: لا يدل على الكفر أصلا، بل هو كدعوى الجاهلية، وقتال المؤمنين. لكنهم ما قالوا ذلك.
__________
(1) * -إلا ما كان من ابن الجوزي، فإنه نقل في تفسيره: "زاد المسير" الآية كلاما محتملا، وتبعه عليه أبو حيان في: "البحر المحيط"، وهو قوله: "ومن يتولهم في العهد، فإنه منهم في مخالفة الأمر". ولو حملناه على معنى موافقتهم في أخلاقهم، فإنه قول منفرد مخالف لأقوال سائر المفسرين؛ الذين فسروها بمعنى الموافقة في الدين.(1/24)
وهذا ما ذهب إليه ابن تيمية، من أن معنى: {منهم}؛ أي في الكفر، قال في اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم:
"وهذا الحديث [يقصد حديث: (من تشبه بقوم فهو منهم)] أقل أحواله يقتضي تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم، كما في قوله: {ومن يتولهم منكم فإنه منهم}، وهو نظير ما سنذكره عن عبد الله بن عمرو أنه قال: (من بنى بأرض المشركين، وصنع نيروزهم، ومهرجانهم، وتشبه بهم حتى يموت: حشر معهم يوم القيامة).
- فقد يحمل على: التشبه المطلق. فإنه يوجب الكفر، ويقتضي تحريم أبعاض ذلك.
- وقد يحمل على أنه منهم في القدر المشترك؛ الذي شابههم فيه: فإن كان كفرا، أو معصية، أو شعارا لها. كان حكمه كذلك".(1)
فإن قيل: ألا يحمل كلامه على العكس؛ أن الآية كالحديث تحتمل المعنيين: الكفر، وما دونه؟.
فيقال: كلا. فسياق كلامه في الحديث، فلما ذكر من معناه: "أنه منهم في الكفر" استدل على ذلك بالآية، فقال: "وإن كان ظاهره [أي الحديث] كفر المتشبه بهم، كما في قوله: {ومن يتولهم منكم فإنهم منهم}".
ثم إنه رجع إلى الحديث لتفصيل معناه.. فهو لم يسق الآية، ولم يأت بها إلا لأنها نص محكم عنده دال على الكفر، وليثبت بها: أن الحديث يحتمل الإشارة إلى الكفر. لتشابه الجملتين.
فهذا أصل: أن قضية الولاء والبراء من أصول الدين، الذي لا يكون إلا بها، وليست من مسائل الفقه والشريعة، ولذا شأنها أجل، والتحرز فيها آكد، وتحقيق وتحرير مسائلها من أهم الواجبات.
ثمة سبب آخر يدعو إلى القول بأن هذا النص دال على الكفر الصريح، وهو:
__________
(1) * - 2/241-242.(1/25)
أن تولي الكافرين هو: نصرتهم على المؤمنين، حتى لو دال الأمر عليهم. ولا يفعل ذلك مختارا، قاصدا، من غير إكراه معتبر شرعا، إلا من رضي دينهم، فلا يتصور أن يقفز مسلم إلى صف الكفار، فيقاتل معهم، أو يفعل أي فعل فيه تسلط الكافرين على المسلمين، من دون أن يكره على ذلك، ثم يكون في قلبه حب وإيمان للإسلام، ما فعل ذلك إلا لرضاه بالكفر، وسخطه على الإسلام، وقد أشار ابن جرير إلى هذا المعنى، فقال:
- " فإن من تولاهم ونصرهم على المؤمنين، فهو من أهل دينهم وملتهم، فإنه لا يتولى متول أحدا إلا وهو به، وبدينه، وما هو عليه راض، وإذا رضيه ورضي دينه، فقد عادى ما خالفه وسخطه، وصار حكمه حكمهم".(1)
فهذا الربط صحيح، وهو منهج أهل السنة في الربط بين الظاهر والباطن، وهو يخالف مذهب المرجئة في الفصل بينهما، وافتراض إيمان باطن، بدون إيمان ظاهر؛ ولأجله أخرجوا العمل من مسمى الإيمان، فرد عليهم ابن تيمية فقرر: أنه من المحال أن يكون في القلب إيمان وحب لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، مع وجود القدرة، وعدم المانع، ثم لا يكون له أثر من عمل وطاعة، حيث الإنسان كيان مركب من روح وجسد، باطن وظاهر، لا ينفك أحدهما عن الآخر.(2)
لكن المرجئة افترضوا إيمانا بلا عمل، مع القدرة، والخلو من الموانع..!!.
__________
(1) 14) – جامع البيان عن تأويل آي القرآن 8/508.
(2) 15) - انظر: الفتاوى 7/527،575،611، 616.(1/26)
وليس هذا محل الكلام عن هذه المسألة، إنما المقصود أن ما في القلب من حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم مانع من ولاء الكافرين بالنصرة، فهذا الإيمان في القلب، يظهر على الجوارح عملا، هو: نصرة المؤمنين، وترك نصرة أهل الكفر على المؤمنين. والترك عمل كما هو معروف، كما قال تعالى: {كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون}. فإذا جاء أحد فنصرهم على المؤمنين قاصدا، مع علمه: أن الدولة ستكون للكافر. فهذا دليل رضاه بدينهم، ودليل سخطه على الإسلام؛ ولذا كان كافرا.
هكذا يقرر ابن جرير، فكلامه صريح في هذا المعنى: أنه يرى التولي الظاهر، دليل تولي الباطن، يقول:
- "فإنه لا يتولى متول أحدا إلا وهو به، وبدينه، وما هو عليه راض".
خلاصة القول: أن هذا النص يقضي بأن معنى قوله: {منهم}؛ أي في الكفر، من جهتين:
- من جهة المناط، حيث إن المناط متعلق بأصل في الدين، لا يصح بدونه، هو: الولاء.
- من جهة التلازم، بين الظاهر والباطن، فالإيمان في الباطن مانع من ولاء الكافرين.
* ... * ... *
قوله تعالى: {أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم}.
يقول ابن جرير في معنى هذا المقطع:
"ويقول المؤمنون: أهؤلاء الذين حلفوا لنا بالله جهد أيمانهم كذبا، إنهم لمعنا؟!"(1)
هؤلاء المشار إليهم هم الموالون لليهود، وهم المنافقون، كانوا يحلفون بالله جهد أيمانهم: أنهم مع المؤمنين. لكن مسارعتهم في اليهود بينت ولاءهم لمن..؟، فظهر كذبهم في أيمانهم.
فالآية تشير إلى ظهور كفرهم، حيث لم يعودوا مع المؤمنين، من حين ظهور ولائهم لليهود، فهذا دليل على أن الموالي للكافرين يفقد صلته بالمؤمنين، فلا يعود معهم، وهذا المعنى واضح في كفره، وخروجه من الإيمان، وانتقاله إلى الصف المقابل.
* ... * ... *
قوله تعالى: {حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين}.
__________
(1) 16) - جامع البيان 8/517.(1/27)
قال ابن جرير: "يقول: ذهبت أعمالهم التي عملوها في الدنيا باطلا، لا ثواب لها ولا أجر؛ لأنهم عملوها على غير يقين منهم بأنها عليهم لله فرض واجب، ولا على صحة إيمان بالله ورسوله وإنما كانوا يعملونها ليدفعوا المؤمنين بها عن أنفسهم، وأموالهم، وذراريهم. فأحبط الله أجرها، إذ لم تكن له. {فأصبحوا خاسرين}، يقول: فأصبح هؤلاء المنافقون عند مجيء أمر الله بإدالة المؤمنين على أهل الكفر، قد وكسوا في شرائهم الدنيا بالآخرة، وخابت صفقتهم، وهلكوا".(1)
هذا الحكم متعلق بمن والى الكافرين، وفيه القضاء بحبوط العمل، والخسارة، وكل ذلك فيه إشارة إلى كفر الموالي، وذلك من ثلاثة أوجه:
الأول: أنه في حق المنافقين. وهم كافرون في حقيقتهم، وفي هذه الآية حكم بكفرهم لولائهم.
الثاني: أن الوصف بحبوط العمل يأتي في حق من ارتكب ناقضا، ويأتي فيما دونه.
الثالث: أن الوصف بالخسارة كذلك يأتي في حق من ارتكب ناقضا، وفيما دونه.
قال ابن تيمية: "إن الله لم يجعل شيئا يحبط جميع الحسنات إلا الكفر، كما أنه لم يجعل شيئا يحبط جميع السيئات إلا التوبة، والمعتزلة مع الخوارج يجعلون الكبائر محبطة لجميع الحسنات حتى الإيمان.
- قال تعالى: {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة، وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}، فعلق حبوط العمل بالموت على الكفر، وقد ثبت أن هذا ليس بكافر، والمعلق بشرط يعدم عند عدمه.
- وقال تعالى: {ومن يكفر الإيمان فقد حبط عمله} [المائدة 5].
- وقال تعالى لما ذكر الأنبياء: {ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم * ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون} [الأنعام 87-88].
- وقال: {لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين} [الزمر65]، مطابق لقوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به} [النساء 48، 116].
__________
(1) 17) - جامع البيان 8/517.(1/28)
فإن الإشراك إذا لم يغفر، وأنه موجب للخلود في النار، لزم من ذلك حبوط حسنات صاحبه.
ولما ذكر سائر الذنوب غير الكفر لم يعلق بها حبوط جميع الأعمال.
- وقوله: {ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم} [محمد28]؛ لأن ذلك كفر.
وقوله: {لا ترفعوا أصواتكم فقول صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} [الحجرات 2]؛ لأن ذلك قد يتضمن الكفر، فيقتضي الحبوط، وصاحبه لا يدري، كراهية أن يحبط، أو خشية أن يحبط، فنهاهم عن ذلك؛ لأنه يفضي إلى الكفر المقتضي للحبوط".(1)
وقال ابن القيم: "والحبوط نوعان: عام، وخاص.
- فالعام: حبوط الحسنات كلها بالردة، والسيئات كلها بالتوبة.
- والخاص: حبوط السيئات والحسنات بعضها ببعض. وهذا حبوط مقيد جزئي، وقد تقدم دلالة القرآن والسنة والآثار وأقوال الأئمة عليه، ولما كان الكفر والإيمان كل منهما يبطل الآخر ويذهبه: كانت شعبه كل منهما لها تأثير في إذهاب بعض شعب الآخر. فإن عظمت الشعبة أذهبت في مقابلها شعبا كثيرة.
وتأمل قول أم المؤمنين في مستحل العينة: (إنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم). كيف قويت هذه الشعبة التي آذن الله فاعلها بحربه وحرب رسوله على إبطال محاربة الكفار، فأبطل الحراب المكروه المحبوب، كما يبطل محاربة أعدائه التي يحبها محاربته التي يبغضها"(2).
والمقصود من كلامهما: أنه يتضمن أن الحبوط منه ما يدل على الكفر. وهذا المطلوب.
فإنه لم يبق إلا البحث عن المرجحات؛ التي ترجح أحد الاحتمالين، والمرجح هنا – بحسب النص ذاته – السياق؛ قبل وبعد.
فإنه ذكر قبل: أنه في حق المنافقين؛ الذين هم كافرون. وأن متولي الكافرين كافر مثلهمٍ.
وذكر بعد: أن اتخاذهم أولياء ردة، ولا يفعله مؤمن.
__________
(1) 18) - الفتاوى 7/493-494.
(2) * - كتاب الصلاة ص66(1/29)
فكل هذه مرجحات ظاهرة واضحة في حمل الحبوط والخسارة على معنى الكفر؛ أي حبطت أعمالهم جميعها، وخسروا جميع ما قدموا.
وهذا النص وإن لم يكن وحده يدل دلالة صريحة على هذا المعنى، إلا أنها قوية ومعتبرة، فإذا ما أضيفت إلى دلالات أخرى بالقوة نفسها والاعتبار: فإنه لا يسع الباحث أن يتغاضى عن الحكم بها: أن هذا العمل، وهو نصرة الكافر، من الكفر العملي.
فكيف وهناك أدلة صريحة محكمة ؟.
* ... * ... *
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه}.
هذا النص في سياق الآيات نفسها، قد أعقبت ذكر النهي عن ولاء اليهود والنصارى، ومسارعة المنافقين فيهم، والتشنيع عليهم بذلك، والحكم بحبوط أعمالهم وخسارتهم، بعد ذلك رجعت الآيات مخاطبة المؤمنين محذرة لهم من الردة عن الدين، ثم عادت تارة أخرى إلى النهي عن اتخاذ الكافرين أولياء، فهو نص في السياق نفسه، وفي السياق ذكر ظهور كفر المنافقين من السر إلى العلن بوقوعهم في ولاء اليهود، بعمل ظاهر هو: المسارعة فيهم.
إذن النص فيه تحذير المؤمنين، من أن وقوعهم فيما وقع فيه المنافقون، من المسارعة: ردة عن الدين. لامعنى لإيراد هذا الوعيد في هذا الموضع إلا هذا، وبذلك يكون نصا آخر على كفر المتولي.
وهذا مبني على قاعدة: ترابط الآيات والسور، في معانيها وتناسبها في السياق، وأن كل آية تنفذ إلى ما بعدها بصلة، وكل تالية تتلقى ما قبلها.
وبمثل هذا يحصل التدبر في القرآن، كما أمر به: {ليدبروا آياته..}، [ص~29]، وهو من الإحكام الذي أخبر به تعالى في قوله: {كتاب أحكمت آياته ثم فصلت} [هود 2]، وقد ذهب العلماء إلى البحث في تناسب السور، ليس الآيات فحسب. وانظر مقدمة كتاب: "نظم الدرر في تناسب الآيات والسور" للبقاعي، تعرف قدر هذا الفن القرآني.
فإذا كان كذلك فلا يزعمن زاعم: أن هذه الآيات المرادة بالبحث، لا علاقة لها بما قبلها وبما بعدها. فهذا يناقض ماسبق من علاقة مسلمة ظاهرة.
* ... * ... *(1/30)
وهكذا نجد هذه المقاطع في هذه الآيات تدل دلالة صريحة على: كفر المتولي للكافرين:
- في حكمها أن متوليهم منهم.
- وحكمها أنه خارج صف المؤمنين.
- وأنه حابط العمل، خاسر.
- وأنه مرتد عن دينه.
وكان هذا الكفر واقعا بعمل ظاهر، هو النصرة، كما تبين سابقا. وبذلك نكون وقفنا على حقيقة الولاء، وحكمه في هذه الآيات الكريمات، كل ذلك بتفصيل وتحرير. فالولاء:
- عمل ظاهر في أصله، له ارتباط أكيد بالباطن، كسائر أعمال الجوارح.
- وحكمه في أصله كفر أكبر مخرج من الملة، وهذا ما أصّلت له هذه الآيات.
هنا نأتي إلى نتيجة من النتائج المهمة، المستفادة من معرفة جهة تعلق الوصف، فبعد أن حددنا جهة تعلق الولاء بأنه الظاهر، فذلك له أثر مهم في تعلق الحكم:
- فالحكم بأن الولاء عمل باطن؛ يلزم عنه عدم الحكم على الفعل بمجرده: أنه كفر. إلا إذا اقترن به استحلال ينبئ بحقيقة كفر الباطن. وإلا فهو كبيرة، فلا يحكم بكفر من وقع فيه إذا لم يفصح عن باطنه، بإعلانه الاستحلال؛ أي بالتصريح أنه يرغب في دينهم، وأنه والاهم لأجله.
- والحكم بأن الولاء عمل ظاهر؛ يلزم عنه الحكم التكفير بمجرد الفعل، ولا يشترط فيه الاستحلال، فيكون كفرا ظاهرا، يدل على كفر باطن.
وإذا تبين من خلال المعنى اللغوي والاصطلاحي أنه عمل ظاهر، فإن الحكم المترتب عليه هو: أن كل من والى الكافرين؛ أي نصرهم على المؤمنين، فقد وقع في الكفر، ليست الكبيرة، ولا يلزم البحث في باطنه، ليعلم هل كان توليه رغبة في دينهم؟، بل يكفي مجرد الفعل لبيان حقيقة الحكم.
لكن يبقى تحديد معنى النصرة: هل المقصود به مطلق النصرة، أو النصرة المطلقة، أو شيء منها؟.
فإن من النصرة ما لا يختلف عليه الناس، كأن يقاتل مع الكافرين ضد المسلمين. ومنها ما يطلق عليها وصف النصرة، لكنها لا تبلغ أن تكون مثل الأولى، مثل أن يكاتبهم، يعلمهم بعزم المسلمين على غزوهم. فالنصرة نفسها على مراتب، فهل كلها كفر، أم بعضها دون بعض؟.(1/31)
هذه المسألة تحتاج إلى تحرير، لكن الذي توصلنا إليه حتى الآن، من خلال هذه الآيات:
- أن الولاء هو النصرة.
- وأن النصرة عمل ظاهر في أصله لا باطن.
- وأنه كفر مخرج من الملة.
- وأن الولاء كذلك هو المحبة، لكنه عمل باطن
* ... * ... *
(النص الثاني)
قال الله تعالى:{ لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون * كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون * ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون * ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون } [المائدة 78-81].
في هذا النص تقريران متعلقان بمسألة الولاء هما: حكم، وعلة.
فأما الحكم من وجهين:
الأول: أن من تولى الكافرين فقد كفر وفسق، واستحق اللعن وسخط الله عليه، والخلود في العذاب.
الثاني: أن الإيمان بالله والنبي صلى الله عليه وسلم وما أنزل إليه، ينافي اتخاذ الكافرين أولياء، بحيث لا يجتمعان.
وأما العلة: فالعصيان، والعدوان، وترك التناهي عن المنكر، وتولي الذين كفروا.
ومقام الفحص والتحرير في هذا النص، يقتضي منا أن نبحث في المسائل التالية:
- المسألة الأولى: ما حقيقة التولي في هذا النص؟، وهل هو أمر باطن، أم ظاهر؟.
- المسألة الثانية: هل السخط الإلهي، والحكم بالخلود في العذاب، دليل صريح على الكفر الأكبر.
- المسألة الثالثة: هل يتعارض الإيمان بالله والنبي وما أنزل إليه، مع اتخاذ الكافرين أولياء؟.
الجواب على هذه المسائل يحدد ما ترمي إليه الآية من معاني متعلقة بمسألة الولاء:
* ... * ... *
1- حقيقة التولي.(1/32)
الرؤية إنما تكون لشيء ظاهر، أما الخفي فإنه لا يرى، فأعمال الباطن لا ترى، وأعمال الظاهر مرئية معلومة. فإذا تقرر هذا: فإن النص ذكر ولاية هؤلاء اليهود للذين كفروا، وقضى أنها مرئية، يراها كل من يراهم..!!، يراها في مسارعتهم في الذين كفروا بالنصرة، وهي حقيقة الولاء كما تقدم. وهذا مثل مسارعة المنافقين، كذلك كانت مرئية، يراها كل من كان يراهم، وهذه مقارنة بين النصين:
- {ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا..}.
- {فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم..}.
وبهذا يثبت أنها ولاية ظاهرة لا باطنة، كانوا يظهرون بها، يراهم الناس وهم متلبسون بها، وليست خفية باطنة، لا تعرف إلا بإعلان الرضا عن دينهم..!!.
قال ابن جرير: "يقول تعالى ذكره: ترى يا محمد!، كثيرا من بني إسرائيل: {يتولون الذين كفروا}. يقول: يتولون المشركين عبدة الأوثان، ويعادون أولياء الله ورسله".(1)
وقال: " {ما اتخذوهم أولياء}. يقول: ما اتخذوهم أصحابا وأنصار من دون المؤمنين"(2).
فابن جرير يرى أن ولايتهم كانت ظاهرة معلومة، ولذا فسرها بالصحبة والنصرة.
والمقصود بالرؤية هنا: الظهور مقابل الخفاء، والعلم مقابل الجهل. لا مجرد النظر بالعين، فقد يسمع بموالاتهم سماعا من الثقات، فتكون بذلك في معنى رؤيتهم لها. فموالاة المنافقين لم تكن خفية تحتاج إلى إقرار منهم، ولو كانت كذلك لتعذرت رؤيتها؛ أي العلم بها.
* ... * ... *
2- علاقة السخط والخلود بالكفر.
عند النظر في النصوص: نجد أن الحكم بالسخط:
- جاء لاتصاف بعمل كفري، وذلك كقوله تعالى: {ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم}.
- وجاء كذلك لتلبس بكبيرة، كقوله صلى الله عليه وسلم: (من التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس)(3).
__________
(1) 19) - جامع البيان 8/592.
(2) 20) - جامع البيان 8/593.
(3) - رواه الترمذي في الزهد، باب 49، صححه الألباني في تخريج الطحاوية ص268.(1/33)
ومثله الحكم بالخلود في العذاب جاء للأمرين:
- جاء لاتصاف بعمل كفري، كقوله تعالى: {وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم ولهم عذاب أليم} [التوبة 68].
- وجاء لتلبس بكبيرة، كقوله تعالى: {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له جهنم وساءت مصيرا} [النساء 93].
فإذا كان كذلك فهذا العمل لا يخرج عن أحد ذنبين: إما الكفر، وإما الكبيرة.
لكن أيهما المراد شرعا؟.
إذا صار النص محتملا لجأنا إلى المرجحات، وهكذا كل متشابه يحمل ويفهم في ضوء المحكم، وهذا سبيل الراسخين في العلم، كما في قوله تعالى:
{هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب} [آل عمران 7].
وهنا مرجحان، يرجحان أن الحكم بالسخط، والخلود في العذاب تعلق بعمل كفري:
المرجح الأول:
لدينا في الآيات نفسها ما يؤيد الحكم بالكفر، كما هو الظاهر، وهو قوله تعالى في أول الآيات:
{لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون}، فالحكم بكفرهم هنا جلي، لا وجه لادعاء غير ذلك؛ فالآية تتحدث عن اليهود، وعن الذين كفروا منهم، وكفرهم هذا استحقوه بعصيانهم، وعدوانهم: {كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه}، { يتولون الذين كفروا}.
فهما ذنبان تلبسوا بهما: ترك النهي عن المنكر، وولاء الكافرين. والذي لا يختلف فيه أحد: أن ترك النهي عن المنكر – هذا العمل الظاهر المجرد - ليس من الكفر في شيء، بل غايته أن يكون كبيرة، فلم يبق إلا ولاء الكافرين، فهو إذن الذنب الذي به كفروا، ولا احتمال غير هذا.(1/34)
يؤكد هذا السياق نفسه، حيث حكم بقوله: {لبئس ما كانوا يفعلون}، في تركهم التناهي عن المنكر، وهذا وصف يستعمل حتى في الكبيرة، أما في التولي فعقب بحكمه فقال: {لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون}، فزاد على وصف: {لبئس}، السخط، والخلود في العذاب.
فهذا الحكم بكفرهم جزاء توليهم الكافرين في أول الآيات: مرجح يدل على أن سخط الله عليهم، والحكم بتخليدهم في العذاب، إنما كان لاتصافهم بعمل كفري.
المرجح الآخر:
أن النصوص القرآنية المخبرة بسخط الله تعالى أكثر استعمالا في الاتصاف بعمل كفري، منه في الاتصاف بفعل كبيرة، فقد ورد ذكر السخط في القرآن في ثلاثة مواضع:
- الموضع الأول: قوله تعالى: {أفمن اتبع رضوان الله كما باء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير} [آل عمران 162]، وهذا في سياق المقارنة بين المؤمنين والكافرين، في سورة آل عمران، حين ذكر قصة معركة أحد، وما كان من الفريقين.
- الموضع الثاني: قوله تعالى: {ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم}، وهذه الآية في المنافقين، وفي سورة محمد [28].
- الموضع الثالث: الآية التي نحن بصدد الكلام عنها، قوله تعالى: {.. أن سخط الله عليهم..}.
فالموضعان الأولان لا شك أنهما في الكافرين، والثالث فيهم أظهر من غيرهم، فحمله عليهم أولى.
وفي النصوص النبوية ما يدل على أن السخط يستعمل فيما دون الكفر، وعليه فإن السياق هو الذي يحدد، فإن كان الكفر فهو كفر، وإلا فلا. والسياق هنا في الكفر.(1/35)
وأما نصوص التخليد في العذاب، فإن عامتها، وجلها، وسوادها نزلت في الكافرين، وتكفي نظرة واحدة في المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم لكلمة: "خالد" لنرى النصوص الكثيرة جدا، والتي ليس لها وجه تحمل عليه، إلا حملها على الكافرين، فأما ورودها في أصحاب الكبائر، فلا تكاد تذكر لقلتها، فلا يعرف في الكتاب موضع فيه هذا الحكم، متعلقا بمن فعل كبيرة، إلا في آية قتل المؤمن.
فعلى ماذا يدل هذا التوجه القرآني؟.
من هذا التوجه القرآني نستنتج: أن الوصف بالخلود في النار، لا يأتي عادة إلا في حق الكافر.
وهذا الاستنتاج موافق لظاهر النصوص، فظاهرها: دخول النار، وعدم الخروج منها. ولا يصح صرف هذا الظاهر إلا بنص ظاهر يضارعه في القوة، وهذا تماما ما حصل في آية القتل، حيث صرف عن ظاهره بقوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء 48، 116]. فعلم أن كل ذنب تحت المشيئة، سوى الشرك، إذا مات الإنسان، ولما كان القتل دون الشرك، كان تحت المشيئة.
فإذا ورد نص فيه الحكم بالتخليد في النار، فدلالته محكمة على أنه تعلق بعمل كفر، إلا إذا صرفه صارف إلى عمل دون الكفر. وحينئذ فلا إشكال، ومن هنا نتوصل لنتيجة في مسألتنا هذه، هي:
أن حكمه تعالى فيمن والى الكافرين بقوله: { أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون}، هو على ظاهره، حكم بالكفر عليهم، فهذا ظاهره، وكذا سائر الآيات التي فيها الحكم بالتخليد، هذا ظاهرها، ولم يختلف العلماء في أنها تدل على الكفر، لوضوحها في أنها نزلت في الكافرين.
والسؤال هنا: هل ثمة صارف لظاهر هذه الآية، عن الحكم بالكفر إلى الحكم بما دونه؟.
إلى هذا الحين لم يتبين لنا شيء في هذا، بل دلالتها محكمة على كفر المتولي، خاصة إذا ما تذكرنا ما ورد في أولها من وصف صريح بالكفر، لأجل توليهم الذين كفروا، ومع ذلك: لننتظر، لعله يبدو لنا فيما بعد، ما لا ندري به الآن.
* ... * ... *(1/36)
3- الإيمان بالله والنبي وما أنزل إليه، واتخاذ الكافرين أولياء.
الإيمان على مراتب:
- فمنه أصل، لا يصح الإيمان إلا به، فتاركه كافر، كالتصديق، والشهادتين.
- ومنه واجب، لا يجبر الإيمان إلا به، فتاركه آثم، كالخوف من الله تعالى.(1)
- ومنه مستحب، لا يكمل الإيمان إلا به، فتاركه مفرط، كالنوافل.
فأي هذه الإيمانات مراد في الآية؟.
ففي الآية شرط وجوابه:
- فالشرط: لو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه.
- وجوابه: ما اتخذوا الكافرين أولياء.
وفي الجملة الشرطية: إذا وجد الشرط، وجد المشروط (= جوابه). والمعنى: من كان يؤمن بالله والنبي وما أنزل إليه: لا يتخذ الكافرين أولياء. فالمعنى واضح في التحريم، لكن الذي يحتاج إلى إيضاح هو: حد هذا الإيمان المذكور هنا: هل هو الأصل؟، أم الواجب؟، أم المستحب؟.
فأما المستحب فلا محل له، فلا أحد من المسلمين يزعم: أن ترك ولاية الكافر من مستحبات الطاعات، التي يثاب فاعلها، ولا يعاقب تاركها؛ وذلك أنه قد تقرر في نصوص كثيرة تحريم ولاية الكافر، فليس في هذا خلاف، سواء اعتبرت كبيرة، أو كفرا.
وأما الواجب، فيكون المعنى أن من اتخذهم أولياء فهو آثم، مستحق العقوبة؛ أي مرتكب لكبيرة، لكن الخلاف هاهنا؟، هل التولي كفر، أم كبيرة؟، فقد تقدم أن اتفاق الأمة على: أن التولي القلبي كفر. إنما الخلاف في التولي الظاهر، والذي يكون للدنيا. وعند الترجيح:
- فإن ما تقدم من أدلة في جواب المسألة السابقة، يرجح القول بأن الإيمان هنا ليس هو الإيمان الواجب، بل الأصل.
__________
(1) * - هل من الخوف ما هو أصل، لا يصح الإيمان إلا به ؟..لو أن إنسانا قال: أنا أحب الله ولا أخافه، كما يقول المتصوفة، فهل يكفر بقوله هذا ؟.
الذي يظهر أن منزلة الخوف ليس كالتصديق في الأصلية؛ فإدراجه ضمن الواجب أظهر. والله أعلم(1/37)
- كما أن نفي الإيمان: بالله، والنبي، وما أنزل إليه، وهو القرآن. عمن تولاهم، وهذه أصول الدين، لا يمكن أن تنفى هذه الأمور كلها مجتمعة، لأجل التفريط في واجب، إنما تنفى لأجل هتك أصل من الأصول.
فالمراد بالإيمان هنا إذن: أصل الإيمان. والمعنى: أنهم لو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه، الإيمان الصحيح المتقبل، ما اتخذوهم أولياء، لكن لا إيمان لهم ألبتة؛ ولذا استساغوا هذا الفعل.
وقد فهم العلماء هذا المعنى من الآية، لم يفهموا منه إيمانا واجبا، قال ابن جرير:
"يقول تعالى ذكره: ولو كان هؤلاء الذين يتولون الذين كفروا من بني إسرائيل: {يؤمنون بالله والنبي}. يقول : يصدقون الله، ويقرون به، ويوحدونه، ويصدقون نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، بأنه لله نبي مبعوث، ورسول مرسل، {وما أنزل إليه}، يقول: ويقرون بما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله من آي الفرقان، {ما اتخذوهم أولياء}. يقول: ما اتخذوهم أصحابا وأنصارا من دون المؤمنين، {ولكن كثيرا منهم فاسقون}. يقول: ولكن كثيرا منهم أهل خروج عن طاعة الله إلى معصيته، وأهل استحلال لما حرم الله عليهم من القول والفعل".(1)
فألفاظه لا تحتمل إلا معنى زوال أصل الإيمان مع تولي الكافرين، حيث نفى عنهم: تصديق الله، والإقرار به، وتوحيده. كما نفى عنهم: تصديق النبي صلى الله عليه وسلم، وببعثته، ورسالته. كما نفى عنهم: الإقرار بما نزل من القرآن.
أيضا فإنه وصف عملهم بأنه استحلال، وهو كفر عند الجميع.
فهل يمكن بعد كل هذا، أن يحمل كلامه على زوال الإيمان الواجب؟!.
__________
(1) 21) - جامع البيان 8/593.(1/38)
يقول ابن تيمية: "فذكر جملة شرطية، تقتضي أنه إذا وجد الشرط، وجد المشروط بحرف (لو) التي تقتضي مع الشرط انتفاء المشروط، فقال: {ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء}، فدل على أن الإيمان المذكور ينفي اتخاذهم أولياء ويضاده، ولا يجتمع الإيمان واتخاذهم أولياء في القلب، ودل ذلك: على أن من اتخذهم أولياء ما فعل الإيمان الواجب من الإيمان بالله وما أنزل إليه.
ومثله قوله تعالى: {لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء، بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم} [المائدة 51]، فإنه أخبر في تلك الآيات: أن متوليهم لا يكون مؤمنا. وهنا أن متوليهم منهم؛ فالقرآن يصدق بعضه بعضا".(1)
__________
(1) 22) - الفتاوى 7/17-18. وقال في اقتضاء الصراط المستقيم 1/490 في قوله: {ولو كانوا يؤمنون بالله..}: "فبين سبحانه وتعالى أن الإيمان بالله والنبي وما أنزل إليه: مستلزم لعدم ولايتهم، فثبوت ولايتهم يوجب عدم الإيمان؛ لأن عدم اللازم يقتضي عدم الملزوم، وقال سبحانه: {لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم والآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه}، [المجادلة22]، فأخبر أنه لا يوجد مؤمن يواد كافرا؛ فمن واد الكفار فليس بمؤمن".
وقال في الفتاوى 18/272: "ولهذا ينفي الله الإيمان عمن انتفت عنه لوازمه؛ فإن انتفاء اللازم يقتضي انتفاء الملزوم، كقوله تعالى: {ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء}، وقوله: { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله}. الآية ونحوها، فالظاهر والباطن متلازمان، لا يكون الظاهر مستقيما إلا مع استقامة الباطن، وإذا استقام الباطن فلا بد أن يستقيم الظاهر".
ألفاظه هذه صريحة في نفي أصل الإيمان عمن اتخذ الكافرين أولياء؛ لأنه جعله من قبيل اللازم والملزوم، فإن انتفاء اللازم انتفاء لجميع أفراد الملزوم لا يبقى منه شيء، وهذا هو انتفاء الأصل، بخلاف الواجب فإنه يبقي ينفي شيئا ويبقي شيئا، والمستحب من باب أولى.(1/39)
أخيرا: محصل هذه الدراسة هي الأجوبة المتحصلة على الأسئلة الواردة في البدء، فقد تبين فيها:
- أن حقيقة التولي في هذا النص عمل ظاهر في أصله.
- أن السخط الإلهي والحكم بالخلود في العذاب دليل صريح على كفر المتولي.
- أن الإيمان بالله والنبي وما أنزل إليه واتخاذ الكافرين أولياء متعارضان.
* ... * ... *
(النص الثالث)
قال الله تعالى:{ لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير} [آل عمران 28].
الآية تضمنت أربعة أمور: نهيا، ووصفا، وحكما، واستثناءا، وكان سبب نزولها ما يلي:
* ... * ... *
قال ابن الجوزي في زاد المسير: في سبب نزولها أربعة أقوال:
"أحدها: أن عبادة بن الصامت كان له حلفاء من اليهود، فقال يوم الأحزاب: يا رسول الله!، معي خمسمائة من اليهود، وقد رأيت أن أستظهر بهم على العدو. فنزلت هذه الآية، رواه الضحاك عن ابن عباس.
والثاني: أنها نزلت في عبد الله بن أبي وأصحابه من المنافقين، كانوا يتولون اليهود، ويأتونهم بالأخبار، يرجون لهم الظفر من النبي صلى الله عليه وسلم، فنهى الله المؤمنين عن مثل فعلهم، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والثالث: أن قوما من اليهود، كانوا يباطنون نفرا من الأنصار، ليفتنوهم عن دينهم، فنهاهم قوم من المسلمين عن ذلك، وقالوا: اجتنبوا هؤلاء اليهود، فأبوا، فنزلت هذه الآية. روي عن ابن عباس أيضا.
والرابع: أنها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وغيره، كانوا يظهرون المودة لكفار مكة، فنهاهم الله عز وجل عن ذلك، هذا قول المقاتلين: ابن سليمان، وابن حيان".(1)
ومن سبب النزول يظهر أن النهي والحكم تعلق بعمل ظاهر، وليس بعمل باطن فحسب، فلم تأت الآية للتنقيب عما في نفوسهم، إنما شيء أظهروه فحكم عليهم به.
* ... * ... *
1- النهي قوله: { لا يتخذ}.
__________
(1) 23) - زاد المسير في علم التفسير 1/301-302.(1/40)
والأصل فيه أنه للتحريم، حتى يأتي ما يصرفه.
ولا أحد من المسلمين يقول في هذا الموضع: إن النهي للكراهية.
بل متفقون على أنه للتحريم؛ لأنه لا صارف له، ولأن تحريم ولاء الكافر محل إجماع. إنما الخلاف في مرتبة التحريم: هل هو كفر، أو كبيرة؟.
وهو مبنى على التفريق بين الولاء للدنيا، وللدين.
* ... * ... *
2- الوصف: {أولياء}.
قد تقدم تعريف الولاء، فهل النهي عن هذا الوصف، في هذا الموضع، نهي عن عمل باطن، أم ظاهر؟.
سياق الآية يدل على أنه نهي عن عمل ظاهر - هذا أصله - وباطن من باب أولى لأمرين:
الأول: ذكر الفعل، قال: {ومن يفعل}، والأصل في الفعل أنه عمل ظاهر، ولا يطلق على الباطن إلا مقيدا به، فيقال: فعل الباطن. أما عند الإطلاق: فالفعل عمل الظاهر.(1)
ثم إنه لا يمنع من دلالته على النهي من فعل الباطن، بل هو دال من طريق أولى؛ لأنه إذا منع من ولاية الظاهر، فالباطن أولى باتفاق، وإنما المقصود هنا إبطال الحصر لمعنى الآية في ولاية الباطن.
الثاني: ذكر الاتقاء: {إلا أن تتقوا منهم تقاة}، أي أن يتقي المؤمن الكافر بفعل شيء يصرف به عن نفسه شره، فهذا عمل ظاهر لا شك؛ لأنه إنما يتقيهم بقوله أو بفعله، فيكون ظاهره موالاتهم، فإذا أذن الشارع بهذه الموالاة الظاهرة على سبيل التقية حال الإكراه، فهذا دليل على أنه إنما نهى عن موالاتهم ظاهرا، حال الخلو من الإكراه، والنهي عن موالاة الباطن دلالته أولى.
قال ابن جرير: "إلا أن تكونوا في سلطانهم، فتخافوهم على أنفسكم، فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم.."(2)
__________
(1) * - إن قال قائل هنا: ما تقول في عمل القلب وهو من الفعل والعمل، كما قال تعالى: {إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا} ؟.
فالجواب: نعم هو كذلك، وقولي أعلى لا ينافي هذا، فإني قلت: الأصل في الفعل أنه للظاهر، ولا يأتي للباطن إلا مقيدا. ولم أقل لا يكون الفعل إلا ظاهرا.
(2) * - جامع البيان 5/315.(1/41)
فإظهار الولاية باللسان هو التقية، وهو عمل ظاهر وليس باطنا.
* ... * ... *
3- الحكم: {فليس من الله في شيء}.
وهو يحتمل معنى الكفر، أو تغليظ الذنب بما دون الكفر.
فما أداة الترجيح بين الاحتمالين، لمعرفة على ما يدل؟. ... ... ... ... ...
أداة الترجيح: ألفاظ هذا النص: النفي {ليس}، والعموم {شيء}. ومعلوم عند أهل العربية:
"أن النكرة في سياق النفي تعم".
والمعنى: أن الله تعالى بريء منه البراءة الكاملة، والصلة بينه وبين الله تعالى منقطعة، متى ما كانت ولايته للكافرين من دون المؤمنين؛ أي بالإضرار بهم. فهذا معنى من دون المؤمنين.
يقول محمد الطاهر ابن عاشور: "نهى الله المؤمنين – بعد ما بين لهم بغي المخالفين وإعراضهم – أن يتخذوا الكفار أولياء من دون المؤمنين؛ لأن اتخاذهم أولياء – بعد أن سفّه الآخرون دينهم، وسفّهوا أحلامهم في اتباعه – يعدّ ضعفا في الدين، وتصويبا للمعتدين".
قال: "وقوله: {من دون المؤمنين} (من) لتأكيد الظرفية. والمعنى: مباعدين المؤمنين في الولاية، وهو تقييد للنهي بحسب الظاهر، فيكون المنهي عنه اتخاذ الكافرين أولياء دون المؤمنين؛ أي ولاية المؤمن الكفار التي تنافي ولايته المؤمنين، وذلك عندما يكون في تولي الكافرين إضرار بالمؤمنين.
وأصل القيود أن تكون للاحتراز، ويدل لذلك قوله بعده: {ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء}؛ لأنه نفي لوصلة من يفعل ذلك بجانب الله تعالى في جميع الأحوال.
والعرب تقول: (أنت مني، وأنا منك) في معنى شدة الاتصال، حتى كأن أحدهما جزء من الآخر، أو مبتدأ منه، ويقولون في الانفصال والقطيعة: لست مني، ولست منك، قال النابغة:
فإني لست منك ولست مني(1/42)
فقوله: {في شيء} تصريح بعموم النفي في جميع الأحوال، لرفع احتمال تأويل نفي الاتصال بأغلب الأحوال؛ فالمعنى: أن فاعل ذلك مقطوع الانتماء إلى الله. وهذا ينادي على أن المنهي عنه هنا ضرب من ضروب الكفر، وهو الحال الذي كان عليها المنافقون، وكانوا يظنون ترويجها على المؤمنين، ففضحهم الله تعالى، ولذلك قيل: إن هذه الآية نزلت في المنافقين.(1)
ومما يدل على ذلك أنها نظير الآية الأخرى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا * إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار} [النساء 144-145].
وقيل: لا مفهوم لقوله: {من دون المؤمنين}؛ لأن آيات كثيرة دلت على النهي عن ولاية الكافرين مطلقا: كقوله: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض}، وقوله: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكفار من قبلكم والكفار أولياء}، وإلى هذا الوجه مال الفخر".(2)
__________
(1) * - قوله: "وهذا ينادي على أن المنهي عنه هنا ضرب من ضروب الكفر، وهو الحال الذي كان عليه المنافقون.." قاطع في أن ابن عاشور يقرر أن الموالاة كفر، وهذا يرفع النزاع عن قوله السابق لهذا، الذي فيه: "لأن اتخاذهم أولياء.. يعد ضعفا في الدين، وتصويبا للمعتدين".. فقد يفهم منه: أنه يقرر عدم كفر الموالاة. وهو كلام محتمل، بل أقرب لذلك، لكن كلامه هذا الأخير فاصل.
فإذا قيل: لم لا يحمل هذا الثاني على الأول ؟.
فالجواب: لأن هذا صريح، والأول ليس كذلك، فالضعف في الدين قد يوقع في الكفر. ولأن السياق واحد، ختم بحكمه بكفر الموالاة، فكلامه الأخير مفسر لما سبقه.
(2) 24) - التحرير والتنوير 3/217.(1/43)
يقصد بقوله: "مطلقا"؛ أي سواء أضرت بالمؤمنين – هذا هو معنى قوله تعالى: {من دون ا لمؤمنين}؛ أي ولاية الكافرين بما يضر المؤمنين - أو لم تضر، فهو محرم وكفر. فولاية الكفار:
- إما أن تكون ممنوعة من دون قيد "الإضرار بالمؤمنين"، ومن فعل شيئا منها فقد بريء الله منه، وكفر؛ لأن ثمة علل أخرى للمنع، هي: ولاية الكافرين بعضهم لبعض، وأنهم يهزءون بالدين.
- وإما أن تكون ممنوعة بقيد "الإضرار بالمؤمنين"، فحينئذ يعمل بمفهوم قوله: {من دون المؤمنين}. فيكون كفرا في حال الإضرار بالمؤمنين؛ لأنه لا يجتمع الإيمان وتولي الكافرين.
فهذا الضابط في كفر المتولي للكافرين؛ أعني: الولاء الذي فيه إضرار بالمؤمنين. معتبر، من جهة أن هذا الفعل بهذه الصورة، موجب لفساد أصل الإيمان في القلوب، بتسلط الكافرين، وهم كما قال تعالى عنهم: {ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواءا} [النساء89]. فمتوليهم بما فيه إضرار يعرض إيمان المؤمنين للهتك والإفساد، ولا يفعل ذلك عامدا متعمدا إلا من هان إيمانه على نفسه، هذا هو الأصل، ولا يعترض عليه بحالات استثنائية، لها ظرفها الخاص. وإلا لما صحت قاعدة؛ إذ لا تخلو من استثناء.
وإذا تأملنا عامة الذنوب الكفرية العملية، كالحكم بغير ما أنزل الله تعالى، وسب الله تعالى، والاستهزاء به وبدينه وبرسوله، وإهانة المصحف(1): وجدنا علة كونها كفرا: أنها مفضية إلى هتك الإيمان في نفس وقلب صاحبها ( كمن استهزأ بالدين مازحا قاصدا)، إن لم تكن هي نفسها هتكا ومحوا للإيمان.
فكيف يكون الحال بمن سعى، بقصد وعمد، في تسليط الكافرين على المؤمنين، مع علمه بما يحدث عن ذلك، من فتنتهم عن دينهم ؟.
__________
(1) * - هذه ذنوب أصلها أنها كفر أكبر، وإن وجد في بعضها حالات هي فيها أصغر؛ كبعض أنواع من الحكم بغير ما أنزل الله تعالى.(1/44)
هل يدفع عنه الكفر: أن غرضه الدنيا. مع أنه قد علم أن الحكم بغير ما أنزل الله هو كفر، ولو كان الغرض الدنيا، وكذا الاستهزاء، والسب، والإهانة ؟.
ومع إعمال هذا الضابط يمكن فهم إذن الشارع ببر غير المحاربين من الكافرين والقسط إليهم، كما في قوله تعالى: { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين} [الممتحنة 8].
وكذا محبة الزوجة الكتابية، وإسداء المعروف إلى الأبوين والإخوة إذا كانوا كفارا، فكل هذا ليس فيه إضرار بالمؤمنين، بل هو مع الإحسان دعوة وبلاغ.
والمقصود: أن الحكم في هذا النص تعلق بعمل ظاهر، سواء كان ولاء بقيد الإضرار بالمؤمنين، أو من دونه. وكما رأينا فإن ابن عاشور يذهب إلى أن الآية حاكمة بالكفر على هذا المتولي، في قوله:
" فاعل ذلك مقطوع الانتماء إلى الله. وهذا ينادي على أن المنهي عنه هنا ضرب من ضروب الكفر".
وقد قال بهذا المعنى جمع من المفسرين، منهم من صرح، ومنهم من قارب، هم:
1- ابن جرير قال: " ومعنى ذلك: لا تتخذوا أيها المؤمنون الكفار ظهرا وأنصارا، توالونهم على دينهم، وتظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين، وتدلونهم على عوراتهم، فإنه من يفعل ذلك: {فليس من الله في شيء}، يعني بذلك: فقد برئ من الله، وبرئ الله منه بارتداده عن دينه، ودخوله في الكفر".(1)
__________
(1) 25) - جامع البيان 5/315.(1/45)
2- أبو حيان الأندلسي قال: "هذا يدل على المبالغة في ترك الموالاة؛ إذ نفى عن متوليهم أن يكون في شيء من الله، وفي الكلام مضاف محذوف؛ أي فليس من ولاية الله في شيء، وقيل: من دينه. وقيل: من عبادته. وقيل: من حزبه. وخبر {ليس} هو ما استقلت به الفائدة، وهي {في شيء}. و {من الله} في موضع نصب على الحال؛ لأنه لو تأخر لكان صفة لشيء، والتقدير {فليس في شيء من ولاية الله}، و {ومن} تبعيضية، نفي ولاية الله عمن اتخذ عدوه وليا؛ لأن الولايتين متنافيتان".(1)
3- ابن كثير قال: " {ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء}، أي من يرتكب نهي الله في هذا، فقد برئ من الله، كما قال: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا}[النساء 144].، وقال: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم} [المائدة 51]، الآية: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة} [الممتحنة 1]، إلى أن قال: {ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل}، وقال تعالى بعد ذكر موالاة المؤمنين للمؤمنين من المهاجرين والأنصار والأعراب: {والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير} [الأنفال 73]".(2)
4- قال ابن الجوزي: "ومعنى {فليس من الله في شيء}، أي: فالله بريء منه".(3)
5- قال البغوي:"{ومن يفعل ذلك}؛ أي موالاة الكفار في نقل الأخبار إليهم، وإظهارهم على عورة المسلمين، {فليس من الله في شيء}؛ أي ليس من دين الله في شيء".(4)
فهذه الجملة: "فقد بريء من الله" ونحوها، هي في التأويل القرآني دليل على القطيعة التامة، والتي تعني الكفر، وقد دل على مثل هذا قوله تعالى:
{
__________
(1) 26) - البحر المحيط 2/441.
(2) 27) - تفسير ابن كثير 2/23.
(3) 28) - زاد المسير 1/302.
(4) 29) - تفسير البغوي 1/224.(1/46)
وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله} [التوبة3].
فهذه البراءة من الله تعالى هو قطيعة كاملة؛ لما كانوا عليه من الشرك، ولا يمكن تفسيرها ببراءة ناقصة، وكذا فإن المتولي قد وصف بالوصف ذاته، لكن على جهة مقابلة؛ أنه بريء من الله، فيكون المعنى كالأول: براءة كاملة. وهذا من تفسير القرآن بالقرآن.
وهؤلاء المفسرون المشتغلون بالتفسير هم على علم بمثل هذه التفسيرات القرآنية، ومعاني مثل هذه الجمل الكلمات؛ لذا يمكن حمل كلامهم على الكفر الأكبر.
فأما ابن جرير فكلامه صريح، لا يحتاج إلى تأويل، ومثله أبو حيان، وأما البغوي وابن الجوزي وابن كثير فالأغلب أنهم يجرون مع المعنى القرآني، وحمل كلامهم على هذا هو المتوجه.
لكن بعض المفسرين ذهبوا إلى غير هذا المعنى، فجعلوها براءة ناقصة، غير دالة على الكفر:
فقال ابن عطية: "قوله: {فليس من الله في شيء}، معناه: في شيء مرضي على الكمال والصواب، وهذا كما قال النبي عليه السلام: (من غشنا فليس منا)(1)، وفي الكلام حذف مضاف تقديره: فليس من التقرب إلى الله، أو التزلف، ونحو من هذا، وقوله: {في شيء} هو موضع نصب على الحال من الضمير، الذي في قوله: {ليس من الله}".(2)
قال أبو حيان معترضا عليه هذا الاستدلال بتوجيه وصف الحكم في النص من الكفر إلى ما دون:
"هو كلام مضطرب؛ لأن تقديره: فليس من التقرب إلى الله. يقتضي أن لا يكون من الله خبرا لـ{ليس}؛ إذ لا يستقل، فقوله: {في شيء}، هو موضع نصب على الحال، يقتضي أن لا يكون خبرا، فيبقى {ليس} على قوله لا يكون لها خبر، وذلك لا يجوز.
وتشبيهه بقوله عليه السلام: (من غشنا فليس منا) ليس بجيد، لما بيناه من الفرق بين بيت النابغة بينه وبين الآية".(3)
__________
(1) - رواه مسلم في الإيمان، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من غشنا فليس منا) 1/99 (101).
(2) 30) - المحرر الوجيز 1/419.
(3) 31) - البحر المحيط 2/441.(1/47)
وبيانه هو ما سبق نقله آنفا قوله: "وتشبيه من شبه الآية ببيت النابغة:
إذا حاولت في أسد فجورا ... فإني لست منك ولست مني
ليس بجيد؛ لأن منك ومني خبر: ليس. وتستقل به الفائدة، وفي الآية الخبر قوله: {في شيء}، فليس البيت كالآية".
وقد سبق لابن عاشور أن استدل بالبيت نفسه على توجيه حكم النص إلى الكفر، غير أنه لم يكن الدليل الوحيد، بل استند كذلك إلى عموم النفي، وانتفاء الدليل المعين لا يلزم منه انتفاء المدلول المعين؛ إذ قد يثبت بدليل غيره.
* ... * ... *
4- الاستثناء: {إلا أن تتقوا منهم تقاة}.
وهذا حال الإكراه، إذا أكره المؤمن على إظهار ولائه للكفار؛ بتهديد أو أذى، فله ذلك:
كما حصل من عمار بن ياسر رضي الله عنه لما أكره على قول كلمة الكفر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (كيف تجد قلبك؟، قال: مطمئنا بالإيمان. قال: فإن عادوا فعد).
وأنزل الله تعالى قوله: {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين}.(1)
وكما حصل لمن أكره من المؤمنين المستخفين بإسلامهم بمكة، ولم يقدروا على الهجرة، فأخرجتهم قريشا في بدر، فقاتلوا مع المشركين إخوانهم المسلمين، فلما أسروا عفا النبي صلى الله عليه وسلم عنهم، كسهل بن بيضاء، حيث أخرجته قريشا كرها، وشهد له ابن مسعود بالإسلام، فأطلق.(2)
وبالعموم فحال الإكراه محل تسامح الشارع، فحيث تحقق فلا يؤاخذ الواقع فيه، وتحققه يكون: بوقوع ضرر على النفس من هلاك ونحوه، وعلى الأهل والأولاد، أما ذهاب المال فلا.
قال ابن جرير:
__________
(1) - أخرجه ابن جرير بسنده في جامع البيان، سورة النحل آية 106، 14/374-375.
(2) - انظر قصة سهل بن بيضاء في: الطبقات لابن سعد 4/161، والجرح والتعديل لابن أبي حاتم 4/194، وفي الإصابة لابن حجر 3/137.(1/48)
" ومعنى ذلك: "لا تتخذوا أيها المؤمنون الكفار ظهرا وأنصارا، توالونهم على دينهم، وتظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين، وتدلونهم على عوراتهم، فإنه من يفعل ذلك: {فليس من الله في شيء}، يعني بذلك: فقد برئ من الله، وبرئ الله منه بارتداده عن دينه، ودخوله في الكفر، {إلا أن تتقوا منهم تقاة}، إلا أن تكونوا في سلطانهم، فتخافوهم على أنفسكم، فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم، وتضمروا لهم العداوة، ولا تشايعوهم على ما هم عليه من الكفر، ولا تعينوهم على مسلم بفعل.
كما حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثنى معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس قوله: {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين}، قال: نهى الله سبحانه المؤمنين أن يلاطفوا الكفار، أو يتخذوهم وليجة من دون المؤمنين، إلا أن يكون الكفار عليهم ظاهرين، فيظهروا لهم اللطف، ويخالفوهم في الدين، وذلك قوله: {إلا أن تتقوا منهم تقاة}".(1)
* ... * ... *
والمحصلة من دارسة هذا النص:
- تبين أن النهي والحكم في الآية تعلقا بعمل ظاهر، وليس بعمل باطن فحسب، فولاية الباطن كفر في كل حال، لا يختلف عليه أحد، إنما الآية دلت على أمر فوق ذلك هو: موالاة الظاهر.
- وأنه عمل كفر، وهذا دلالة قوله تعالى: {فليس من الله في شيء}.
* ... * ... *
(النص الرابع)
قال الله تعالى:{ إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم * ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم * فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم * ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم } [محمد 25-28].
في هذا النص: فئة مذكورة، حالها، وحكمها:
* ... * ... *
فأما الفئة فهم:المنافقون. وعلى ذلك أدلة، منها:
أولا: سياق الآيات قبل وبعد يدل عليهم:
__________
(1) 32) - جامع البيان 4/315.(1/49)
فأما قبل، فمن قوله تعالى: {ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم} [16].
إلى قوله تعالى: {ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم * طاعة وقول معروف فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم * فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم * أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم * أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها * إن ارتدوا على أدبارهم..}.
وأما بعد، فقوله تعالى: {أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم * ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم} [19] .
ثانيا: أنهم وصفوا بالردة، وهذا حال المنافقين، الذين كاد النور أن يداخل قلوبهم، واقتربوا منه، فأسلموا ظاهرا، ومنهم من كان له إيمان ضعيف، لكنهم ارتدوا بعد ذلك، بأفعال أتوا بها، من مثل ولاء الكافرين، والمسارعة فيهم خشية الدوائر. كما ذكر المفسرون في قوله تعالى: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون} [البقرة 17].
ثالثا: بهذا قال ابن عباس والضحاك: "هم أهل النفاق"، كما روى عنهم ابن جرير بسنده. وقال: "وهذه الصفة بصفة أهل النفاق عندنا، أشبه منها بصفة أهل الكتاب، وذلك أن الله جل ثناؤه، أخبر أن ردتهم كانت بقيلهم للذين كرهوا ما نزل الله: {سنطيعكم في بعض الأمر}، ولو كانت من صفة أهل الكتاب لكان في وصفهم بالتكذيب محمد صلى الله عليه وسلم الكفاية، من الخبر عنهم بأنهم ارتدوا من أجل قيلهم ما قالوا".(1)
* ... * ... *
وأما حالها: فطاعتها للمشركين في بعض الأمر، واتباعها ما أسخط الله، وكرهها رضوانه.
__________
(1) 33) - جامع البيان 21/218.(1/50)
والعلة: أن الشيطان سول لها؛ أي زين لها. وكان طريق الوقوع فيها هو: قولها سرا: {والله يعلم إسرارهم}، للمشركين الكارهين لما أنزل الله تعالى: {سنطيعكم في بعض الأمر}، من ذلك ترك القتال مع النبي صلى الله عليه وسلم.
قال البغوي في تفسيره:
"{إن الذين ارتدوا على أدبارهم}، رجعوا كفارا، {من بعد ما تبين لهم الهدى}. قال قتادة: هم كفار أهل الكتاب، كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم، بعدما عرفوه، وجدوا نعته في كتابهم، وقال ابن عباس والضحاك والسدي: هم المنافقون. {الشيطان سول لهم}، زين لهم القبيح".
قال: "{ذلك بأنهم}، يعني المنافقين أو اليهود، {قالوا للذين كرهوا ما نزل الله}، وهم المشركون: {سنطيعكم في بعض الأمر}، في التعاون على عداوة محمد صلى الله عليه وسلم، والقعود عن الجهاد، وكانوا يقولون سرا فأخبر الله تعالى عنهم، {والله يعلم إسرارهم}".(1)
* ... * ... *
وأما حكمها: فالكفر، والردة، وتعذيب الملائكة لها، وحبوط الأعمال.
فقد ترتب على هذه الطاعة، وهو نوع من الولاء: كفرها: وتبين ذلك:
- من الحكم بردتها: {إن الذين ارتدوا..}.
- تعذيب الملائكة لها، بالضرب على الوجوه والأدبار: {يضربون وجوههم وأدبارهم}، وهذه العقوبة عادة ما تحل بقوم كافرين، كما حصل في معركة بدر.
- حبوط أعمالها، أي بطلانها وفسادها، وهو وصف يطلق عادة على من استحق الخلود في النار.
فهذا النص يفيد: كفر من فعل هذا الفعل وهو: طاعة الكافرين، بعداوة المؤمنين، والقعود عن قتال الكافرين توهينا لجانب المؤمنين.
فالحكم بالكفر هنا ترتب على الفعل الظاهر، ولم يتطرق إلى البواطن، بل هذا الظاهر كشف ما في الباطن، والمقصود: أن مجرد هذا الفعل، الذي هو ظاهر وليس بباطن، كان كافيا لهذا الحكم.
* ... * ... *
(النص الخامس)
__________
(1) 34) - تفسير البغوي 4/166.(1/51)
قال الله تعالى:{ إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جنهم وساءت مصيرا * إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا * فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا} [النساء97-99] .
تتحدث الآية عن قوم يسكنون أرضا، يستضعفون فيها، فلا يقدرون على إقامة دينهم، وفي قدرتهم الهجرة إلى مكان آمن، لكنهم لا يفعلون، فتتوفاهم الملائكة على هذا الحال، فيسألونهم عن تفريطهم في الواجبات، ووقوعهم في المنهيات، فيعتذرون بالاستضعاف، فيرد عليهم بأن الأرض واسعة، فلم تركوا الهجرة إلى أرض يأمنون فيها، ويقيمون دينهم؟!.
فلا يقبل عذرهم، إذ كانوا قادرين على الهجرة، مفرطين بالبقاء، فيحكم عليهم بدخول النار.
ثم يستثنى منهم المستضعفين من: الرجال، والنساء، والولدان. الذين ما وجدوا سبيلا للخروج والهجرة، إما لعدم تمكينهم من ذلك، أو لضعفهم عن تحمل مشقة ذلك، بسبب ضعف في البدن، أو قلة في المال، فهؤلاء معذورون، معفو عنهم.
هذا ما يؤديه ظاهر الآية من معنى..
ثم إنه ورد في سبب نزولها ما فيه تحديد هؤلاء القوم، وما المنهي الذي قارفوه، حتى استحقوا هذا الحكم القاسي، والعذاب الدائم:
فقد ذكر المفسرون أن قوما أسلموا بمكة، ولم يهاجروا، فكانوا يستخفون بإسلامهم، فمنهم القوي القادر على الهجرة، غير أنه آثر البقاء لمصلحة أو نحوها، ومنهم الضعيف الذي لم يجد سبيلا.
فلما كان يوم بدر أخرجتهم قريش إلى قتال المسلمين، فخرجوا كارهين، غير قادرين على الامتناع خوفا على أنفسهم، وأموالهم، فقتل منهم من قتل، ونجى منهم من نجى، فاستغفر لهم المسلمون، وكانوا يعرفون بأعيانهم، فنزلت الآية تبين أن من كان منهم قادرا فليس بمعذور، هو هالك، ومن كان مستضعفا فهو المعذور الناجي.
قال ابن جرير في التفسير:(1/52)
"يعني جل ثناؤه بقوله: {إن الذين توفاهم الملائكة}: إن الذين تقبض أرواحهم الملائكة، {ظالمي أنفسهم}، يعني: مكسبي أنفسهم غضب الله وسخطه، وقد بينا معنى الظلم فيما مضى قبل، {قالوا فيم كنتم}، يقول: قالت الملائكة لهم: فيم كنتم؟، في أي شيء كنتم من دينكم؟، {قالوا كنا مستضعفين في الأرض}، يعني؛ قال الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم: كنا مستضعفين في الأرض، يستضعفنا أهل الشرك بالله في أرضنا وبلادنا، بكثرة عددهم وقوتهم، فيمنعونا من الإيمان بالله، واتباع نبيه عليه السلام. معذرة ضعيفة، وحجة واهية.
{قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها}؛ يعني قالت لهم الملائكة الذين يتوفونهم: { ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها}، يقول: فتخرجوا من أرضكم ودوركم، وتفارقوا من يمنعكم بها من الإيمان بالله، واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم إلى الأرض التي يمنعكم أهلها، من سلطان أهل الشرك بالله، فتوحدوا الله فيها، فتعبدوه، وتتبعوا نبيه صلى الله عليه وسلم.
يقول جل ثناؤه: {فأولئك مأواهم جهنم}؛ أي فهؤلاء الذين وصفت لكم صفتهم، الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم، {مأواهم جهنم}، يقول: مصيرهم في الآخرة جهنم، وهي مسكنهم، {وساء مصيرا}، يعني: وساءت جهنم لأهلها الذين صاروا إليها مصيرا، ومسكنا، ومأوى.
ثم استثنى جل ثناؤه المستضعفين، الذين استضعفهم المشركون من: الرجال، والنساء، والولدان. وهم العجزة عن الهجرة، بالعسرة، وقلة الحيلة، وسوء البصر والمعرفة بالطريق من أرضهم؛ أرض الشرك إلى أرض الإسلام، من القوم الذين أخبر الله جل ثناؤه أن مأواهم جهنم: أن تكون جهنم مأواهم. للعذر الذي هم فيه، على ما بينه تعالى ذكره".(1/53)
قال: "وذكر أن هاتين الآيتين، والتي بعدهما نزلت في أقوام من أهل مكة، كانوا قد أسلموا، وآمنوا بالله ورسوله، وتخلفوا عن الهجرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين هاجر، وعرض بعضهم على الفتنة فافتتن، وشهد مع المشركين حرب المسلمين، فأبى الله قبول معذرتهم التي اعتذروا بها، التي بينها في قوله خبرا عنهم: {قالوا كنا مستضعفين في الأرض}".(1)
* ... * ... *
1- أسباب النزول.
وفيما يلي مجمل الأقوال التي ذكرها في الآية، وقد ساقها بإسناده إلى:
1- عكرمة قال: " كان ناس من أهل مكة أسلموا، فمن مات منهم بها هلك، قال الله: {فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا * إلا المستضعفين من الرجال والنساء}، إلى قوله: {عفوا غفورا}، قال ابن عباس: أنا منهم، وأمي منهم. قال عكرمة: وكان العباس منهم".
2- ابن عباس قال: "كان قوم من أهل مكة أسلموا، وكانوا يستخفون بالإسلام، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم، فأصيب بعضهم، فقال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا. فاستغفروا لهم، فنزلت: {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم}، إلى آخر الآية، قال: فكتب إلى من بقي بمكة من المسلمين بهذه الآية، لا عذر لهم. قال: فخرجوا، فلحقهم المشركون، فأعطوهم الفتنة، فنزلت فيهم هذه الآية: {ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله} [العنكبوت10]، إلى آخر الآية، فكتب المسلمون إليهم بذلك، فخرجوا، وأيسوا من كل خير، ثم نزلت فيهم: {ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم} [النحل110]، فكتبوا إليهم بذلك: إن الله قد جعل لكم مخرجا، فخرجوا، فأدركهم المشركون، فقاتلوهم حتى نجا من نجا، وقتل من قتل".
__________
(1) 35) - جامع البيان 7/379-391.(1/54)
3- ابن عباس أيضا قال: "إن ناسا مسلمين كانوا مع المشركين، يكثرون سواد المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم، فيأتي السهم يرمى، فيصيب أحدهم، فيقتله، أو يضرب فيقتل، فأنزل الله فيهم: {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم}، حتى بلغ: {فتهاجروا فيها}".
4- ابن عباس قال: "فهم قوم تخلفوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وتركوا أن يخرجوا معه، فمن مات منهم قبل أن يلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم ضربت الملائكة وجهه ودبره".(1)
5- عكرمة قال: "نزلت في: قيس بن الفاكه بن المغيرة، والحارث بن زمعة بن الأسود بن أسد، وقيس بن الوليد بن المغيرة، وأبي العاص بن منبه بن الحجاج، وعلي بن أمية بن خلف. قال: لما خرج المشركون من قريش وأتباعهم لمنع أبي سفيان بن حرب، وعير قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأن يطلبوا ما نيل منهم يوم نخلة، خرجوا معهم بشباب كارهين، كانوا قد أسلموا واجتمعوا ببدر على غير موعد، فقتلوا ببدر كفارا، ورجعوا عن الإسلام، وهم هؤلاء الذين سميناهم".
6- السدي قال: "لما أسر العباس وعقيل ونوفل، قال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس: (افد نفسك وابن أخيك)، قال: يا رسول الله! ألم نصل قبلتك، ونشهد شهادتك؟!، قال: يا عباس! إنكم خاصمتم، فخصمتم)، ثم تلا عليه هذه الآية: {ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا}، فيوم نزلت هذه الآية كان من أسلم، ولم يهاجر فهو كافر، حتى يهاجر، إلا المستضعفين الذين: {لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا}، حيلة في المال، والسبيل: الطريق إلى المدينة، قال ابن عباس: كنت أنا منهم من الولدان".
__________
(1) - رواه البخاري بنحوه قريبا، في تفسير سورة النساء، والفتن، باب: من كره أن يكثر سواد الفتن والظلم.(1/55)
7- عكرمة قال: "كان ناس بمكة قد شهدوا أن لا إله إلا الله، فلما خرج المشركون إلى بدر خرجوا معهم، فقتلوا، فنزلت فيهم: {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم}، إلى قوله: {فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا}، فكتب بها المسلمون الذين بالمدينة إلى المسلمين الذين بمكة، قال: فخرج ناس من المسلمين حتى إذا كانوا ببعض الطريق طلبهم المشركون فأدركوهم، فمنهم من أعطى الفتنة، فأنزل الله فيهم: {ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله} [العنكبوت 10]، فكتب بها المسلمون الذين بالمدينة إلى المسلمين الذين بمكة، وأنزل الله في أولئك الذين أعطوا الفتنة: {ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا} [النحل 110] ".
8- قتادة قال: "حدثنا أن هذه الآية نزلت في أناس تكلموا بالإسلام من أهل مكة، فخرجوا مع عدو الله أبي جهل، فقتلوا يوم بدر، فاعتذروا بغير عذر، فأبى الله أن يقبل ذلك منهم".
9- الضحاك قال: "هم أناس من المنافقين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يخرجوا معه إلى المدينة، وخرجوا مع مشركي قريش إلى بدر، فأصيبوا يومئذ فيمن أصيب، فأنزل الله عز وجل فيهم هذه الآية".(1/56)
10- قال ابن جرير: "حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سألته؛ يعني ابن زيد، عن قول الله: {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم}، فقرأ حتى بلغ: {إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان}، فقال: لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم وظهر، ونبع الإيمان نبع النفاق معه، فأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجال، فقالوا: يا رسول الله! لولا أنا نخاف هؤلاء القوم يعذبوننا، ويفعلون بنا ويفعلون: لأسلمنا. لكننا نشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله. فكانوا يقولون له ذلك، فلما كان يوم بدر قام المشركون، فقالوا: لايتخلف عنا أحد إلا هدمنا داره، واستبحنا ماله. فخرج أولئك الذين كانوا يقولون ذلك القول للنبي صلى الله عليه وسلم معهم، فقتلت طائفة منهم، وأسرت طائفة، قال: فأما الذين قتلوا فهم الذين قال الله: {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم}، الآية كلها: {ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها}، وتتركوا هؤلاء الذين كانوا يستضعفونكم: {فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا}، قال: ثم عذر الله أهل الصدق، فقال: {إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا}، يتوجهون له ولو خرجوا لهلكوا، أولئك عسى الله أن يعفو عنهم، وإقامتهم بين ظهراني المشركين، وقال الذين أسروا: يا رسول الله!، إنك تعلم أنا كنا نأتيك، فنشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وأن هؤلاء القوم أخرجونا معهم خوفا، فقال الله: { يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم}: صنيعكم الذي صنعتم؛ خروجكم مع المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم: {وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل}، خرجوا مع المشركين: {فأمكن منهم والله عليم حكيم}".(1/57)
(1)
* ... * ... *
2- دلالات الأسباب.
تلك هي الآثار التي أوردها ابن جرير بأسانيدها في سبب نزول هذه الآيات، وقد دلت على ما يلي:
1- على نزولها في قوم مسلمين، لم يهاجروا: إما مع القدرة، وإما عجزا.
2- أن المشركين أخرجوا هؤلاء المسلمين كرها يوم بدر، فكانوا في صفهم ضد المسلمين.
3- أن منهم من قتل، ومنهم من أسر.
4- أن المسلمين استغفروا لمن قتل منهم، فنزلت: {إن الذين توفاهم..}.
5- أن الذين قتلوا اعتذروا لربهم، في تركهم الهجرة: أنهم كانوا مستضعفين، لا يقدرون على إظهار دينهم، ولا الامتناع من القتال مع الكافرين ضد إخوانهم المسلمين. فلم يقبل عذرهم؛ إذ كانوا قادرين على الهجرة، ولم يفعلوا.
6- أن عدم قبول اعتذارهم، تجلى في الحكم عليهم في الآخرة: بأن مأواهم جهنم.
7- أنه لم يعذر إلا من كان عاجزا عن الهجرة، كالرجال الضعفاء، والنساء، والولدان.
8- أن المسلمين كتبوا لمن بقي منهم بمكة أن يهاجروا إليهم، فمنهم من خرج وهاجر.
9- أن من أسر منهم ولم يقتل: أخبرهم النبي صلى عليه وسلم أنهم إن كان صادقين في دعواهم الإسلام، فإن الله تعالى يعطيهم خيرا مما أخذ منهم، من الفداء.
__________
(1) * - لم أبحث في أسانيد هذه الروايات؛ لأن الحكم في المسألة ليس مبنيا على ثبوت الروايات من عدمها، وإنما على مجمل النصوص وما يظهر من معناها، وما يدل عليه السياق، وإنما سقتها لبيان ما ورد في كتب التفسير في سبب نزول الآية، مع عدم المنكر بتضعيف أو رد، ولا شك أن المعنى الظاهر والسياق له دور كبير في معرفة المعنى، كيف إذا وافقته الآثار الكثيرة، وليس واحدا، ثم إن البخاري روى في صحيحه في تفسير سورة النساء، قول ابن عباس في الآية، وهو في المعنى نفسه، كما تقدم ص 60، فكان ذلك كافيا من جهة ثبوت المعنى بالآثار، يضاف إلى ذلك موافقة معنى هذه الآية لتفسير الآيات الأخرى.(1/58)
10- أن طائفة من الأقوال تقرر كفر التارك للهجرة، وهو قادر عليها، حتى استعمله المشركون في قتال المسلمين؛ أنه تسبب في ذلك بنفسه، وهذا بيّن فيما يلي:
- في القول رقم (4) قول ابن عباس: "ضرب الملائكة وجهه ودبره".
- في رقم (5) قول عكرمة: "فقتلوا ببدر كفارا، ورجعوا عن الإسلام".
- في رقم (6) قول السدي: "فيوم نزلت هذه الآية كان من أسلم ولم يهاجر فهو كافر".
فالآية تقرر تحريم البقاء بين أظهر الكافرين، إذا كان البقاء يجلب أمرين:
الأول: عدم القدرة على إظهار الشعائر.
الثاني: تكثير سواد الكافرين وقتال المسلمين، وهو في ظاهره ولاء للكافرين.
ولا تقبل عذر المعتذر من المقيمين بين ظهراني الكافرين، إلا أن يكون عاجزا عن الهجرة، لسبب شرعي، كما تقدم، من: ضعف، وقلة حيلة، وقلة ذات يد. ونحو ذلك.
والمفهوم أن كل ذلك من أجل تحقيق الدين والقيام به، باعتبار أن المقام في بلاد الكفار يمنع من ذلك، فتجب الهجرة حينئذ لبلاد المسلمين، لكن اختلف إذا هذا الحال: فصار المسلم قادرا على تحقيق دينه، والقيام به في بلاد الكفار، ولا تلزمه نصرتهم.
فمقتضى النصوص، والنظر في عللها تدل على اختلاف الحكم في مثل هذا الحال.
وما تقدم أمر لا اختلاف فيه، لكن الخلاف قد يقع في نوع ومرتبة الحكم.. فهؤلاء الذين أقاموا، ولم يهاجروا مع قدرتهم، وقاتلوا مع المشركين فقتلوا: هل أتوا كفرا، أم كبيرة؟.
جاءت الآية بوصفين هما ذم في حقهم، هما:
الأول: {ظالمي أنفسهم}، وهو وصف يستعمل في الذنوب، لكن لا يلزم منه الكفر، لقوله تعالى: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومن سابق بالخيرات بإذن الله ذلك الفضل الكبير جنات عدن يدخلونها ..}.
فأخبر أن من المصطفين من عباده: الظالم لنفسه. ووعده بالجنة، وهم أهل الكبائر، مآلهم إلى الجنة.(1/59)
الثاني: {مأواهم جهنم وساءت مصيرا}، هذا الوصف غالبا ما استعمل في القرآن في حق الكافرين والمنافقين، الخالدين في النار، فمن ذلك قوله تعالى:
1- {أفمن اتبع رضوان الله كما باء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير} [آل عمران 162]، وهذه الآية في المقارنة بين المؤمنين والكافرين، يدل عليه أنها في سياق ذكر معركة أحد، في سورة آل عمران.
2- {لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد * متاع قليل ثم مأواهم جنهم وبئس المهاد} [آل عمران 196-197] .
3- {يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا * أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا * والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا..} [النساء 120-122].
4- {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير} [التوبة73، التحريم9].
5- {سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون} [التوبة 95] .
6- {للذين استجابوا لربهم الحسنى والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به أولئك لهم سوء الحساب ومأواهم جهنم وبئس المهاد} [الرعد 18].
7- {ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا} [الفتح 6].
8- {ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير} [الأنفال 16].(1/60)
فكل هذه المواضع ورد هذا الوصف فيها في حق الكافرين والمنافقين، إلا الموضع الأخير، وهذا يدل على أن هذا هو الغالب، وهو الأصل الذي يصار إليه، ولا يصح أن تعارض المواضع كلها على غلبتها بموضع واحد ( سبعة مواضع مقابل واحد)(1)له ظرفه ومعناه الخاص، كما تقدم في تقرير ابن تيمية عن الحبوط، والقاعدة فيه بنحو القاعدة في الحكم بجهنم، قال:
"إن الله لم يجعل شيئا يحبط جميع الحسنات إلا الكفر، كما أنه لم يجعل شيئا يحبط جميع السيئات إلا التوبة، والمعتزلة مع الخوارج يجعلون الكبائر محبطة لجميع الحسنات حتى الإيمان.
- قال تعالى: {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة، وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} [البقرة 217، فعلق حبوط العمل بالموت على الكفر، وقد ثبت أن هذا ليس بكافر، والمعلق بشرط يعدم عند عدمه.
- وقال تعالى: {ومن يكفر الإيمان فقد حبط عمله} [المائدة 5].
- وقال تعالى لما ذكر الأنبياء: {ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم * ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون} [الأنعام 87-88].
- وقال: {لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين} [الزمر65]، مطابق لقوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به} [النساء 48، 116].
فإن الإشراك إذا لم يغفر، وأنه موجب للخلود في النار، لزم من ذلك حبوط حسنات صاحبه.
ولما ذكر سائر الذنوب غير الكفر لم يعلق بها حبوط جميع الأعمال.
- وقوله: {ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم} [محمد28]؛ لأن ذلك كفر.
__________
(1) * - كثرة النصوص وغلبتها في المعنى الواحد لا شك مرجح، ومسلك شرعي للترجيح، وما ثبت الإجماع إلا بهذا، ولا حجية لقول الجمهور إلا به، فإذا كانت النصوص الأكثر تقرر حكما غير نص واحد، هل يمكن تجاوزها؟.(1/61)
وقوله: {لا ترفعوا أصواتكم فقول صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} [الحجرات 2]؛ لأن ذلك قد يتضمن الكفر، فيقتضي الحبوط، وصاحبه لا يدري، كراهية أن يحبط، أو خشية أن يحبط، فنهاهم عن ذلك؛ لأنه يفضي إلى الكفر المقتضي للحبوط".(1)
فهذا ما يقتضيه الأصل.. لكن لو قيل:
الأصل في مثل هذه الأحوال الأخذ بالأحوط، والأدنى من الذنوب، وهو الحكم بأنها كبيرة؛ لأن الخطأ في العفو خير من الخطأ في العقوبة، فيكون حينئذ، بحسب هذا النص، ذنب القتال مع الكافرين كبيرة، إذا كان عن إكراه، سببه التفريط في الهجرة؛ أي لولا البقاء وعدم الهجرة، لما حصل إكراه بالقتال مع الكافرين.
يقال هذا كان يصح، لو لم يعارض بمثل تلك المواضع الكثيرة، فلو كان نصين أو ثلاثة، لربما صدق هذا الإيراد، أما سبعة مقابل واحد، فحمل جميعها على هذا الواحد، مع كونها كلها قطعية الدلالة والثبوت، ففيه نظر !!.فإن تكاثر النصوص من المرجحات، خصوصا إذا استوت في قوة الدلالة.
كما يشكل على هذا ما ورد عن الصحابة والتابعين في سبب النزول:
- ابن عباس قال: "فهم قوم تخلفوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وتركوا أن يخرجوا معه، فمن مات منهم قبل أن يلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم ضربت الملائكة وجهه ودبره".
- عكرمة قال: "لما خرج المشركون من قريش وأتباعهم لمنع أبي سفيان بن حرب، وعير قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأن يطلبوا ما نيل منهم يوم نخلة، خرجوا معهم بشباب كارهين، كانوا قد أسلموا واجتمعوا ببدر على غير موعد، فقتلوا ببدر كفارا، ورجعوا عن الإسلام، وهم هؤلاء الذين سميناهم".
- وكذا ما نقله السدي: "فيوم نزلت هذه الآية كان من أسلم، ولم يهاجر فهو كافر".
فظاهر هذه النصوص، مع ما غلب من معنى الوصف بأنه مأواهم جهنم وساءت مصيرا: هو الكفر.
__________
(1) 36) - ص 32.(1/62)
لكن مع ذلك، فهذا لا يلغي كليا أن يأخذ هذا النص الحكم النادر، فيكون حاله كحال التولي يوم الزحف، فإن النص مع حكمه على المتولي بجهنم، إلا أنه ليس بكفر بل كبيرة، لكن بشرط وجود صارف يصرف، ولعل الإكراه صارف.
نعم قد يقال: هو إكراه تسببوا هم فيه، بتركهم الهجرة.
لكن في النهاية هم ما قاتلوا إلا عن كراهية، وودوا لو سلموا، فقلوبهم لا تضمر سوءا، ولا حبا لدين الكافرين، كحال الذي أكره دون سبب منه، فقلوبهم مؤمنة، وهذا يكفي في دفع الكفر عنهم.
غير أن الإشكال يعود مرة أخرى: فكيف إذن حكم عليهم بمثل هذا الحكم الشديد، المناسب للكافرين، والذي يأتي عادة في حقهم ؟.
فالجواب: لأن الفعل شنيع، وهو قتال المؤمنين، ولأنهم تسببوا فيه، فهذا كمثل القاتل، فإنه فعل جرما شنيعا، فاستحق أحكام الكافرين، لكن دفع عنه الكفر بنصوص أخرى.
وهكذا هنا يدفع عنه الكفر بنصوص أخرى، التي فيها عذر المكره، وأما أنهم تسببوا فقد جاءهم من الوعيد ما فيه مزدجر، حتى ينتهوا ويعلم غيرهم أن الذنب عظيم، فهو من باب الوعيد، لكن بين يديه موانع يمنع من تنفيذه.
كما أنه يمكن أن يحمل على الذين أخرجوا كارهين، ثم ما لبثوا في القتال أن انشرحت صدورهم بقتال المؤمنين، فخرجوا من الإيمان إلى الكفر.
حاصل الكلام: أن الحكم متردد بين الكفر والكبيرة، وشبهة كونه كفرا أكبر حاضرة بقوة، وكونه كبيرة له حظ من النظر والاعتبار.
فإذا كان هذا حال هذا الموالي الكافرين بقتال المؤمنين؛ مع كونه مكرها، لكنه لما تسبب فيه، صار هذا حاله.. فكيف بمن عمد إلى قتال المؤمنين بنفسه طائعا، مختارا، قاصدا يبتغي بذلك عرض الدنيا ؟.
وفي كل حال، فإن الحكم – سواء كان كفرا أو كبيرة – فإنه قد تعلق بعمل ظاهر هو النصرة بالقتال مع الكافرين، وهذا ليس عملا باطنا.
* ... * ... *
(النص السادس)(1/63)
قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل} [الممتحنة 1].
هذا النص يتضمن: نهي المؤمنين عن اتخاذ عدو الله تعالى وعدوهم، وهم الكفار: أولياء. وقد تقدم معنى الولاية: أنها المحبة، والنصرة. وذلك بإلقاء المودة إليهم، والإسرار بها، مع علم الله تعالى بالخفي والمعلن من أحوال الناس، وعلل هذا النهي بما يلي:
1- أنهم أعداء الله تعالى، وأعداء لهم.
2- أنهم كفروا بما جاءهم من الحق.
3- أنهم أخرجوهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم من ديارهم، لإيمانهم بالله تعالى.
4- أن هذه المودة لا تتلاءم مع كونهم خرجوا جهادا في سبيل الله وابتغاء مرضاته.
ثم حكم على هذا الصنيع: بأن من فعله فقد ضل سواء السبيل.
هذا المعنى مجملا، وقد ذكر أهل التفسير أنها نزلت في حاطب، لما راسل المشركين بعزم النبي صلى الله عليه وسلم على غزوهم، فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآيات تنهى عن ذلك.
روى البخاري في صحيحه بسنده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال:
(بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم والزبير وأبا مرثد، وكلنا فارس، قال: انطلقوا حتى تأتوا روضة حاج – قال أبو سلمة: هكذا قال أبو عوانة: حاج – فإن فيها امرأة معها صحيفة من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين، فأتوني بها.
فانطلقنا على أفراسنا، حتى أدركناها حيث قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم تسير على بعير لها، وكان كتب إلى أهل مكة بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فقلنا: أين الكتاب الذي معك؟، قالت: ما معي كتاب.(1/64)
فأنخنا بها بعيرها، فابتغينا في رحلها فما وجدنا شيئا. فقال صاحباي: ما نرى معها كتابا. قال: فقلت: لقد علمنا ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم حلف علي: والذي يحلف به لتخرجن الكتاب، أو لأجردنك. فأهوت إلى حجزتها، وهي محتجزة بكساء، فأخرجت الصحيفة، فأتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال عمر: يا رسول الله!، قد خان الله ورسوله والمؤمنين، دعني فأضرب عنقه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا حاطب ما حملك على ما صنعت؟.
قال: يا رسول الله!، ما لي أن لا أكون مؤمنا بالله ورسوله، ولكني أردت أن يكون لي عند القوم يد يدفع بها عن أهلي وما لي، وليس من أصحابك أحد إلا له هنالك من قومه من يدفع الله به عن أهله وماله.
قال: صدق، لا تقولوا له إلا خيرا.
قال: فعاد عمر، فقال: يا رسول الله!، قد خان الله ورسوله والمؤمنين، دعني فلأضرب عنقه.
قال: أوليس من أهل بدر؟، وما يدريك لعل الله اطلع عليهم، فقال: اعملوا ما شئتم قد أوجبت لكم الجنة.
فاغرورقت عيناه فقال: الله ورسوله أعلم).(1)
وفي رواية قال حاطب: (وما فعلت ذلك كفرا، ولا ارتدادا عن ديني).(2)
والمسائل الجديرة بالنظر والبحث في هذه الحادثة المفسرة للآية ما يلي:
* ... * ... *
1- معنى المودة في الآية.
أن صنيع حاطب رضي الله عنه كان مراسلة وكتابة، فما بدر منه عمل ظاهر، لكن باطنه كان خالصا، ليس فيه محبة لدين الكفار، ومع هذا سمى الله تعالى فعله هذا: مودة. في موضعين من الآية، مع أن المودة عمل قلبي، فدل هذا على أن اتخاذ الكافرين أولياء بعمل ظاهر يسمى مودة:
إما باعتبار أنه مودة، بقطع النظر عن الباطن: هل فيه مودة أم لا؟، ففعله فعل أهل المودة، كمن قتل فهو قاتل، بقطع النظر هذا أراد القتل أم لا؟.
__________
(1) 38) - كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب: ما جاء في المتأولين 12/303.
(2) 39) - كتاب التفسير، باب: { لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء} 8/633.(1/65)
وإما باعتبار أن الظاهر دليل مودة الباطن.
لكنه في حق حاطب رضي الله عنه بالاعتبار الأول، بنص الحديث، وتصديق النبي صلى الله عليه وسلم له، وهذا يفيد في شيء مهم هو: أن ولاء الكافرين بفعل ظاهر هو: النصرة. يسمى مودة، ولو لم يكن عن مودة قلبية؛ أي محبة لدينهم، وهذا بناء على الأصل المقرر: ارتباط الظاهر بالباطن. وهذا الأصل هو الغالب على الأحوال، فيحكم به، والاستثناء لا حكم له.
وعلى ذلك فما يطلق من حكم في حق المودة القلبية، يطلق مثلها في المودة الظاهرة، فإن قيل: هذا كفر. فهذا كفر مثله:
- من جهة أن المودة الظاهرة تنبئ عن مودة الباطن.
- أو من جهة أن هذا العمل الظاهر عمل الكفار، ولو سلم الباطن منه.
ولما كان الأمر يحتمل الأمرين: استفصل النبي صلى الله عليه وسلم من حاطب. وهكذا كل من وقع في هذا الفعل من موالاة الكفار: يستفصل حاله من قبل الحاكم، لمعرفة إن كان سبب ذلك حب دينهم أو للدنيا، فإن كان للدين ثبت الكفر، وإن كان لمجرد الدنيا، ليس قصد الإضرار بالدين: عذر.
فهذا الاستفصال عن الحامل غير معتاد في فعل الكبيرة، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يسأل ماعزا أو الغامدية، أو التي سرقت، أو الذي شرب الخمر عن الحامل لهذا العمل؛ لأن العبرة بالعمل نفسه، فمن أتاه عالما غير جاهل: استحق العقوبة، فإن كان ولا بد من سؤال فعن العلم والجهل، لا عن الحامل.
لكن الاستفصال عن القصد والنية في الأعمال الكفرية له معنى؛ لأن الحكم بالكفر على المعين لايثبت إلا بثبوت الشروط وانتفاء الموانع، ومن ذلك معرفة أن الحامل هو محبة دينهم.
* ... * ... *
2- حكم ما أتى به حاطب.
هل ما أتى به كفر أكبر، أم كفر أصغر، في منزلة الكبيرة؟.
لمعرفة ذلك علينا النظر والتأمل في بعض ما ورد في القصة من كلمات:
- قال حاطب: (ما فعلت ذلك كفرا، ولا ارتدادا عن ديني).(1/66)
في هذا دلالة على أن المستقر عند الصحابة وحاطب منهم: كفر من نصر الكافرين. ولذا بادر حاطب بنفي هذه التهمة بالأخص عن نفسه.
والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكذب قول حاطب: أنه لم يفعله كفرا ولا ردة.
فلو كان الذنب كبيرة، لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ليسكت عنه من غير تصحيح لمرتبة الذنب، ولَخَطّأَهُ في قوله، كما خَطّأَهُ في فعله، خاصة والمقام مقام بيان، والبيان هنا من أوجب الواجبات؛ لأن إطلاق وصف الكفر على عمل، وليس هو كذلك، يفضي إلى تغيير أحكام الله تعالى، وما يترتب عليه من مفاسد لا تخفى.
فهل يتصور أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ليتركه يطلق هذا الحكم، دون أن يكون منه تصحيح واضح، وهو الذي كان ينهى عن نعت من كان معه بالنفاق ؟!.
- تصديق النبي صلى الله عليه وسلم له، حيث قال: (إنه قد صدقكم).
والتصديق هنا وإن كان بالأصالة متوجها إلى نفي أن يكون فعل ذلك كفرا، فهو يفيد كذلك: موافقته حاطبا على اعتقاده: أن هذا الصنيع منه كفر في حقيقته.
- قول عمر رضي الله عنه: (دعني يا رسول الله، فأضرب عنقه).
في هذا دلالة أخرى على أن المستقر لدى الصحابة: أن هذا الفعل من أفعال المنافقين، وأن من أظهر ذلك فقد أظهر كفرا، يستحق به القتل.(1/67)
يبين هذا ما جاء عند الطبري: (فقال: أليس قد شهد بدرا؟، قال: بلى، ولكنه نكث، وظاهر أعداءك عليك)،(1)فهذا يدل على أن عمر قدر فعله أنه كفر. وقد جاء في بعض الروايات التصريح بهذا، قال ابن حجر في الفتح: "وفي حديث ابن عباس: (قال عمر: فاخترطت سيفي وقلت: يا رسول الله!، أمكني منه فإنه قد كفر)".(2)
ويؤكده: أن أحدا من الصحابة لم يعترض على عمر إنكاره، ووصفه لحاطب بالنفاق.
* ... * ... *
لكن يشكل على هذا الترجيح: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وما يدريك؟!، لعل الله عز وجل اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، قد غفرت لكم).
ووجه الإشكال: أن الكفر والشرك ذنبان لا يغفران بالحسنات، مهما بلغت، إلا بالتوبة، لقوله تعالى: {لئن أشركت ليحبطن عملك}، وهذا نص يفيد حبوط عموم الحسنات، فشهود بدر لا يكفّر الكفر والشرك الأكبر، فلو أن حاطبا مرتكب كفرا بمصانعته الكفار، لما نفعه شهود بدر، وإنما نفعه لكون ما فعله كبيرة، تغفر بالحسنات الكبيرة الماحية.
وهكذا يبدو هذا التوجيه سديدا، يفيد أن ما أتى به حاطب ليس إلا كبيرة، لولا أنه مختزل مجتزء، لا يعطي الصورة الحقيقية للحادثة..!!.
بل الصورة الحقيقة هي ما يلي:
1- أن حاطبا خابر المشركين بعزم النبي صلى الله عليه وسلم.
2- أن النبي صلى الله عليه وسلم تتحقق من الأمر، ثم استدعى حاطبا.
__________
(1) 40) - جامع البيان 22/561.
(2) - الفتح 12/309 قال بعدها: "وقد أنكر القاضي أبو بكر بن الباقلاني هذه الرواية، وقال: ليست بمعروفة. قاله في الرد على الجاحظ؛ لأنه احتج بها على تكفير العاصي، وليس لإنكار القاضي معنى؛ لأنها وردت بسند صحيح، وذكر البرقاني في مستخرجه: أن مسلما أخرجها. ورده الحميدي، والجمع بينهما: أن مسلما خرج سندها، ولم يسق لفظها". أنظر كلامه التالي، وفيه تفسير معنى قول عمر: "كفر" بما يوافَق على بعضه دون بعض.(1/68)
3- أن عمر بادر قائلا: (يا رسول الله!، قد خان الله ورسوله والمؤمنين، دعني فأضرب عنقه).
4- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحاطب: (ما حملك على ما صنعت؟).
5- أن حاطبا نفى عن نفسه الردة قائلا: (ما فعلت ذلك كفرا، ولا ارتدادا عن ديني).
6- أن النبي صلى الله عليه صدقه، وأمر الناس ألا يقولوا إلا خيرا.
7- أن عمر أعاد الطلب بضرب عنقه.
8- ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فضل حاطب بشهوده بدرا.
هكذا وردت القصة بالتفصيل، وهو تفصيل مهم للغاية، لتحديد مرتبة الذنب في هذا النص: فإنه لما كان الأصل الشرعي في مسائل التكفير: التفريق بين وصف الفعل بالكفر، ووصف الفاعل به: استفصل النبي صلى الله عليه وسلم من حاطب حاله؛ إذ قد يكون له عذر يدرء به عن نفسه الحكم بالكفر، فلما سمع منه، عرف صدقه، فصدقه، وأمر الناس ألا يقولوا إلا خيرا، فخرج الذنب من كونه كفرا إلى كونه كبيرة، بقوله صلى الله عليه وسلم: (وما يدريك؟! لعل الله اطلع..).
وكانت هذه الكبيرة تستوجب عقوبة: تعزيرا. هنا جاءت هذه الفضيلة الكبيرة، والحسنة الماحية، فكفرتها، فخرج منها معافى.
فشهود بدر كفَّر الكبيرة، وليس الكفر، لكن ذنبه صار كبيرة بعد ثبوت العذر..
ومعلوم أن من الذنوب ما يكون كفرا، لكن قد ينقلب كبيرة، بحسب الأعذار، كالحكم بغير ما أنزل الله، في أصله كفر، لكنه في بعض الأحوال يكون كبيرة، ويحتاج لمعرفة ذلك إلى استفصال وسؤال.(1)وكالطواف بالقبر هو شرك في أصله، لكنه قد يكون بدعة إذا ظن أن البقعة مباركة كالكعبة، ولم يتقرب إلى غير الله تعالى بالدعاء والعبادة.
فقد اختلفت مرتبة الحكم بالنية والقصد، وهكذا الحكم في الموالاة.
وهذا التقرير هو المفهوم من سياق البخاري لهذا الحديث في صحيحه، حيث أورده في:
(كتاب: استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب: ما جاء في المتأولين).
__________
(1) 41) - انظر رسالة تحكيم القوانين لمحمد بن إبراهيم.(1/69)
فترتيبه دال على أن موالاة حاطب بالفعل كانت ردة؛ ولأجله أورده في (استتابة المرتدين).. ثم إن حاطبا لم يرتد؛ كونه متأولا، لا يضمر في نفسه محبة دينهم؛ ولأجله جعله تحت باب: (ما جاء في المتأولين).
فهذا الحديث إذن دليل على: وجوب إقامة الحجة على من وقع في عمل كفر، بالسؤال، والأخذ بالقرائن، قبل تنزيل الحكم عليه، وليس حجة في نفي وصف الكفر عن فعل هو: نصرة الكافر لأجل الدنيا.
* ... * ... *
حصيلة الدارسة.
عند دراستنا نصوص الولاء سابقا: تبين لنا جليا: أن نصرة الكفار من الكفر العملي.
فحكمه: أنه ذنب. ونوعه: عملي. ومرتبته: الكفر.
- فأما كونه ذنبا، فهذا لا خلاف فيه بين أحد من المسلمين.
- وأما عن كونه عمليا، فهذا أمر تبين من تعليق النصوص أحكامها، بما ظهر من الموالين من عمل، أتوا به، وليس في شيء منها: تعليق الحكم بما بطن. فلو لم يظهروا موالاتهم عمليا بالنصرة، وجاهروا بذلك حتى صار محل علم الجميع، لما جاء في حقهم هذا التهديد: بحبوط العمل.. والردة.. وأنهم منهم.. وأنهم لا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه.. وأنهم ليسوا من الله في شيء.. وأنهم منافقون؛ إذ ليس من سنة القرآن الكريم أن يفصح عما في ضمائر الناس، من دون أن يبدو منهم شيء، وهكذا علّم القرآن المؤمنين به؛ أن يتجنبوا الحكم على الباطن ما لم يظهروا.
- وأما عن كونه كفرا، فهذا تبين من جملة الأوصاف التي أطلقت على من نصر الكفار:
1- بأن من تولاهم فهو منهم: {ومن يتولهم منكم فإنه منهم}.
2- أن الولاء من صفات المنافقين: {فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم}.
3- أن فاعله حابط العمل، خاسر: {حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين}.
4- أنه مرتد: {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه}.
5- أن من فعله فليس من الله في شيء: {ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء}.(1/70)
6- أنه لا يجتمع مع الإيمان بالله والنبي وما أنزل إليه: {ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء}.
مثل هذه الأوصاف المغلظة من الحكم بأنه منهم.. وحبوط العمل.. والخسران.. والردة.. وانتفاء الإيمان بالله والنبي وما أنزل إليه.. وأنه ليس من الله في شيء.. وأنه فعل أهل النفاق: لم تعهد إلا في ذنب هو كفر مخرج من الملة، ليس في كبيرة، ولو أن الكبيرة أخذت كل هذه الأوصاف، فما يبقى للكفر إذن..؟!.
وإذا أضيف إلى هذا:
1- أن الله تعالى قال: {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل.. }، فنعتهم بالكفر للذنب الذي اقترفوه، وهو: {ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا}، فهو ذنب معلوم ظاهر على الجوارح، ليس خفيا في القلب فحسب.
2- وقول حاطب: (ما فعلت ذلك كفرا، ولا ارتدادا عن ديني). وتقدم عمر بطلب ضرب عنقه بعلة أنه نافق، وسكوت النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الوصف منهما، وعدم إنكاره عليهما، فلو كان الذنب مجرد كبيرة، لكان في وصف حاطب وطلب عمر خطأ كبير، لا يجوز السكوت عليه؛ هو جَعْلُ ما حقه أن يكون كبيرة: كفرا.
كل هذه البراهين والدلائل البينات تُصعّب مهمة من يريد أن يضع هذا الذنب (=نصرة الكافر على المؤمن) في قائمة الكبائر !!!.
فلو فرضنا بأن بعضها ورد وصفا وحكما على الكبيرة، غير أن تصريح طائفة منها بالكفر، واجتماع هذه الأحكام المغلظة تغليظا شديدا: وصفا، ووعيدا. صريح للغاية في الكفر، لا يمكن التعامي عنه.
بل يقال هنا، وحق أن يقال:
لو لم يثبت هذا الذنب (= نصرة الكافر على المؤمن) في قائمة الكفر العملي، مع بالغ الوعيد فيه، تنوعا، وشدة، وصراحة، حكما على عملٍ ظاهرٍ عَلِمَه الجميع: فليس ثمة كفر عملي إذن، بل كله اعتقادي محض، وهذا هو قول المرجئة..!!.(1/71)
فالنصرة كفر، وقد تقدم بيان أن النصرة هي: الولاء الظاهر؛ أي الفعل لا الاعتقاد. فتكون النصرة حينئذ من الكفر العملي، وكل النصوص السابقة تبين أن الكفر الذي لحق بالموالين للكفار إنما كان جزاء فعل أظهروه، وعمل اقترفوه، دل على اعتقاد أضمروه، فارتباط الظاهر بالباطن هنا لازم.
* ... * ... *
1- دلالة النص، ودلالة العقل.
هذه الآيات يستدل بها على كفر المحب لدين الكافرين، وهذا الشق الأول من الموالاة.
والشق الثاني: النصرة. داخل فيها كذلك، ولا نجد ما يدل على خروجها لما يلي:
أولا: أن الآيات جاءت في الحكم على عمل ظاهر، كما ثبت آنفا. فإنه لو لم يصدر من هؤلاء المنافقين وأمثالهم عمل ظاهر من الموالاة هو: النصرة. ما نزلت فيهم الآيات.
ثانيا: أن القاعدة في نصوص الشريعة: ترك الحكم على الناس إلا إذا أظهروا ما في ضمائرهم بقول أو عمل. قال رسول الله صلى ا لله عليه وسلم لأسامة بن زيد: (أقال: لا إله إلا الله، وقتلته ؟، قال: يارسول الله!، إنما قالها خوفا من السلاح. قال: أفلا شققت عن قلبه، حتى تعلم أقالها أم لا ؟).(1)
وقصر حكم الآيات على الاعتقاد إبطال لهذه القاعدة، فكيف يحكم على بواطنهم، ولم يصدر منهم فعل كفري؟!. بل الملائم أنه حكم على عمل هو كفر ظاهر، صدر منهم: دل على كفر الباطن.
ثالثا: أن آيات الولاء والبراء كافة: إما أنها تدل على كفر فاعلها، أو لا تدل.
فإن دلت، فقد دلت على: أن النصرة عمل ظاهر، وأنه كفر. لأن ما ورد فيها إنما هي أعمال ظاهرة (= لا تتخذوا، يسارعون، يرتدد، ترى)، وجاء وصفها بالكفر صريحا.
إن لم تدل، فلن تدل حتى على: أن محبة الكافر لدينه كفر. فهل يقول بهذا أحد ؟!.
__________
(1) - رواه مسلم في الإيمان، باب: تحريم قتل الكافر بعد أن قال: لا إله إلا الله. 1/96 (158).(1/72)
فإن جرى العناد، فادعى المدعي: أن كفر الموالي بباطنه (=محبة لدين الكافرين) إنما عرف من أدلة أخرى خارجة عن آيات الولاء، كدليل عقلي، فذلك يعني: أن آيات الولاء كافة لا تدل على: كفر المحب لدين الكافرين، المبغض لدين المؤمنين. هذا مع كثرتها، وشدة وعيدها، وحكمها: أن متولي الكافرين هو منهم، وعمله حابط، وخاسر، ومرتد، وليس بمؤمن، وليس من الله في شيء. حتى احتاجت إلى دليل آخر ربما كان عقليا.!!. فهل يصح هذا عند من له فقه ونظر ؟!!.
فهذه الأوجه دلت على: أن الولاء للكافرين بالظاهر (= النصرة ) كفر عملي. كما أنه كفر عقدي؛ لأن كل كفر عملي فلا بد له من اعتقاد، هو أصله، وجذره، وباعثه.
فهذا من جهة دلالة النص، أما العقل:
فإن الولاء: محبة، ونصرة. والمحبة لدين الكفار نقيض المحبة لدين الله تعالى، فلا يجتمعان، كما لا يرتفعان. فالموالي يحب دين الكفار، فيكون كفره من هذه الجهة اعتقادي. ثم يَرْشح هذا الاعتقاد عن كفر عملي ظاهر، يظهر في صورة نصرة، فهذا هو الأصل، ثم الاستثناء أن يتخلف هذا التلازم لعائق يعوق.
فمن أحب دين الكفار فلا بد أن ينصرهم، فإن لم يفعل فلمانع، خوف كحال المنافقين.
ومن نصر الكافرين على المؤمنين بغير حق، فلا بد أنه يحبهم لدينهم، فإن لم يحبهم مع نصرته لهم، فلمانع من: جهل، أو إكراه، أو تأويل.
وبهذا يظهر: أن النصرة من الكفر العملي. والأصل أن يكون له باطن هو المحبة، والاستثناء ألا يكون له باطن، فهو خلاف الأصل، وله سبب.
* ... * ... *
لكن قد يرد سؤال هنا على التقرير الآنف يقال فيه: لم ترك الحكم بالردة على هؤلاء الموالين للكافرين بالنصرة، ما دام أنه كفر عملي، وقد ظهر منهم ؟.
لذلك أجوبة:(1/73)
الأول: أن هذا كان حال جمع المنافقين، وهم غير قليل(1)، وإقامة حد الردة عليهم، يعني قتل كثير من الذين مع المسلمين، وهذا ليس من مصلحة الدعوة، وقد ترك النبي صلى الله عليه وسلم قتل عبد الله بن أبي مع ظهور كفره، في وصفه للنبي صلى الله عليه وسلم بالأذل، ومنع حتى ولده من قتله، وعلل ذلك بقوله: ( لا يتحدث الناس أنه كان يقتل أصحابه)(2). فهذا في واحد منهم، فكيف بهم جميعا ؟.
الثاني: أنهم كانوا يتعللون بعلل تدفع عنهم الكفر الصريح، مثل أنهم يخشون على أنفسهم الموت والقتل؛ أي يجعلون من أنفسهم كحال المكره والمضطر، فيقبل منهم ظواهرهم، ويكل سرائرهم إلى الله تعالى.
لكن كل هذا لا يمنع من كون العمل كفرا لذاته (= عملي)، فعدم إيقاع الحكم به على فاعليه، لا يجعل منه ذنبا دون الكفر، بل هذا دليل على التفريق بين الفعل والفاعل، وأن الحكم على الفعل بكفر لا يلزم منه الحكم على الفاعل به، إلا بشروط معروفة، كما هي القاعدة المعروفة.
* ... * ... *
2- علاقة النصرة بالمحبة.
قد يقال: نعم هو كفر، لكن بشرط الاعتقاد، فلا تكون النصرة كفرا إلا إذا كانت عن محبة لدين الكافرين، أما إذا كانت لمجرد الدنيا فكبيرة.
فيقال: هو كذلك. وهذا أساس القضية المشكلة، في إطلاق وصف الكفر على بعض الذنوب العملية، والذي لم يفطن إليه بعض من عارض تسمية الذنوب العملية كفرا، حيث اعتقد أن القول بوجود كفر عملي: يعني وجود كفر عملي مجرد من اعتقاد باطن. وليس الأمر كذلك..!!.
فلا يوجد كفر إلا وله ظاهر وباطن، فهذا الظاهر:
- إما أن يكون كاشفا عن باطن، لم يظهر إلا بهذا العمل الظاهر.
- أو يكون محدثا متسببا لكفر طارئ على الباطن، لم يوجد من قبل.
__________
(1) * - في معركة بدر انسحب عدد قارب الثلاثمائة من الجيش، مع عبد الله بن أبي بن سلول. انظر: السيرة النبوية الصحيحة 2/381.
(2) - رواه البخاري في المناقب، باب: ما ينهى من دعوى الجاهلية 3/1296 (3330).(1/74)
أما تصور كفر عملي مجرد من أي اعتقاد باطن، لا سابقا، ولا لاحقا: فباطل، ومحال في الواقع؛ لأن الإنسان وحدة متكاملة، منسجمة ظاهره مع باطنه، وباطنه مع ظاهره، هذه هي القاعدة، وكل قاعدة لها استثناء، والاستثناء لا حكم له.
* ... * ... *
وقد يرد سؤال هنا: أنه إذا كان الكفر الظاهر له أساس من الباطن، والباطن له ثمر ظاهر، فلم هما نوعان، وما أساس التفريق بينهما؟.
فيقال: الفرق من جهتين: من جهة الأصل، ومن جهة الثمرة.
فأما من جهة الأصل:
- فالكفر الاعتقادي (= الباطن) معناه: الكفر الذي أصله ومحله القلب، فهو خفي في أصله، ثم قد يظهر على الجوارح بحسب القدرة، فيكون جليا حينئذ يعرف، وقد لا يظهر لمانع من خوف ونحوه، فيكون حينئذ خفيا، كما هو، لا يعرفه إلا المطلع على السرائر، ومثاله: كراهية دين الله تعالى.
- وأما الكفر العملي (= الظاهر) فمعناه: الكفر الذي أصله ومحله الجوارح، فهو جلي في أصله، ثم إنه يكشف عما في القلب من كفر ولا بد، ومثاله: سب الله تعالى، أو إهانة كتابه تعالى.
وأما من جهة الثمرة:
- فالكفر الاعتقادي ( = الباطن) لا سبيل إلى معرفته، إلا بقول أو فعل، ومن ثم فلا سبيل للمؤاخذة به، لا مساءلة، ولا عقوبة، كالمضمر كراهية دين الله تعالى، دون إظهار.
- والكفر العملي (= الظاهر) فسبيل معرفته حاصل بما يظهر، ومن ثم السبيل للمؤاخذة به حاصل، وذلك بإقامة الحجة أولاً، ثم العقوبة إذا ثبت الكفر في حق المعين، كحال الساب لله تعالى، أو المهين لكتابه، وكذا: نصرة الكافر على المسلم.
* ... * ... *
3- حقيقة الولاء والبراء ما كان للدين.
ما يظهر من المسلم تجاه الكافر من فعل على قسمين:
الأول: لأجل دينه. وهذا هو الولاء بالمحبة والنصرة، أو البراء بالبغض وترك النصرة. فحكمه بين الإيمان والكفر. من والاهم فقد كفر، ومن تبرأ منهم فهو المؤمن.(1/75)
والثاني: لغير الدين. مثل: المحبة للدنيا، والبر والقسط، والنكاح، والأكل من طعام الكتابي، ومجالستهم، ومعاملتهم بالتبايع، والعهود، والحلف ونحو ذلك.
فهذا الثاني في أصله مباح، بشرط ألا يضر بالدين بارتكاب محرم، فإن فقد الشرط فعلى نوعين:
- إما كفر أكبر. إذا وقعت هذه الأمور لأجل دينهم، فيكون بذلك ولاء للكافرين.
- وإما دون الكفر، إذا وقف عند حد الدنيا.
فكل هذه الأمور - التي هي لغير الدين - دلت على جوازها نصوص الوحي، فلم تنه عنها، ولم تجعلها من معاني الولا، كقوله: {إنك لا تهدي من أحببت}. [القصص56]
فدل ذلك: على خروجها عن حد الولاء في الاصطلاح الشرعي، القاصر على الولاء للدين.
- فهي في أصلها مباحة كأكل طعام الكتابي، والزواج بكتابية.
- وبعضها مستحب كالبر والقسط والإحسان إلى الضعفاء منهم.
- فإن صحبها منكر فهو محرم، بحسب نوع المنكر ومحله؛ إن كان محبة لدينهم فعل ذلك فهو كفر أكبر، وإن كان محبة للدنيا فليس بكفر.
فمجرد البر والقسط والإحسان لا يدخل في المعنى الشرعي للولاء، كغيره من الأحوال الآنفة الذكر؛ إذ هذا مختص بالمحبة والنصرة للدين.
كذلك مجرد العداوة والخصومة لا يدخل في المعنى الشرعي للبراء؛ إذ هذا مختص بالبغض والعداوة في الدين. فقد قال الله تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين * إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون} [الممتحنة 8-9].
فأمر بالبر والقسط بالكافر غير المحارب، لكن لم يجعله من الولاء، فلم يسمه به. فلما ذكر المحاربين نهى عن توليهم، وسماه باسمه "الولاء"، فدل هذا على: أن البر والقسط ليس من الولاء.(1/76)
ثم إنه نهى عن العداوة والخصومة والقتال بين المؤمنين، ولم يسمه براء، في نصوص كثيرة، لكنه سماه كذلك في حق الكافرين المحاربين:
- {فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه} [التوبة 114].
- {إذ قالوا لقومهم إنا برءاء منكم ومما تعبدون من دون الله ..} [الممتحنة 4].
إذن هما مصطلحان خالصان لا يشتبه بهما ما ليس منهما، فالمعنى محدد بالمحبة والنصرة للدين، وبغض وحرب للدين. فمحبة لغير ذلك، ونصرة لغير ذلك.. وبغض وحرب لغير ذلك.. لا يدخل فيهما.
وعليه: فكل من والى الكافرين بالمحبة والنصرة، فقد برئ من المؤمنين.. كما أن كل من برئ من الكافرين، فقد والى المؤمنين.
لا مجرد المحبة والبغض، والصداقة والعداوة للدنيا.. فهذه الأمور ليست داخلة في معنى الولاء والبراء.
* ... * ... *
4- متى يكفر الموالي للكافرين ؟.
ذلك الحكم متعلق بالفعل ذاته، لا بالفاعل، فالحكم على الفعل أنه كفر لذاته (= عملي)، لا يلزم منه تنزيل هذا الحكم على المعين، إلا بشروط وانتفاء موانع، وهو ما يسمى بإقامة الحجة.
فقد تقدم أن القاعدة والأصل هو: التلازم. لكن هذا التلازم قد يتخلف، فهاهنا استثناء، وهو المانع من تنزيل الحكم على المعين، إذا والى الكافرين بالنصرة؛ إذ قد يتخلف في حقه الأصل والقاعدة، فيكون من أهل الاستثناء لعذر كـ: إكراه، أو جهل، أو تأويل. فلا يتحقق الكفر في حقه إلا بعد ثبوت الشروط وانتفاء الموانع، كسائر الأعمال الكفرية الظاهرة.
والولاء ذو شقين: باطن هو المحبة، وظاهر هو النصرة. وقد تقدم هذا، والموالي على ثلاثة مراتب:
- الأولى: أن يوالي باطنا وظاهرا. فهذا كفر ظاهر بالاتفاق؛ لأنه ناقض للإيمان بالكلية.
- الثانية: أن يوالي باطنا لا ظاهرا. فهذا كفر باطن بالاتفاق كذلك؛ للعلة ذاتها.
- الثالثة : أن يوالي ظاهرا لا باطنا. فهذا لا يكفر بالقطع، وهو صاحب العذر.(1/77)
فالأوليتان لا خلاف عليهما، أما الثالثة ففيها نزاع، والصواب: أن الموالاة الظاهرة بالنصرة، إذا لم يقابلها موالاة باطنة، فليست بكفر. وهي حالة استثنائية خلاف القاعدة والأصل متصورة في حالات:
الأولى: حالة الجهل. فإن الجهل المطلق بحقيقة الولاء والبراء، والإسلام والكفر، وما بينهما من تناقض: موجود في أناس لا يعرفون من الإسلام إلا الشهادة وبعض الأعمال، كما في أثر حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
- ( يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب، حتى لا يدرى ما صيام، ولا صلاة، ولا نسك، و لا صدقة. وليسرى على كتاب الله في ليلة، فلا يبقى في الأرض منه آية. وتبقى طوائف من الناس؛ الشيخ الكبير والعجوز يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة: لا إله إلا الله. فنحن نقولها) قال له صلة: ما تغني عنهم: لا إله إلا الله، وهم لايدرون ما صلاة، ولا صيام، ولا نسك، ولا صدقة ؟! فأعرض عنه حذيفة، ثم ردها عليه ثلاثا، كل ذلك يعرض عنه حذيفة، ثم عليه في الثالثة فقال: يا صلة!، تنجيهم من النار. ثلاثا(1).
فقد يوقعهم هذا الحال من الجهل في نصرة الكافرين، وهم في بواطنهم خالون من محبة الكفر، يظنون أنهم غير عاصين، وربما من جهلهم أحبوا الكفر كذلك، يظنون أنه لا يتناقض مع الإسلام.
الثانية: حالة الإكراه. فيها يضطر المسلم لنصرة الكافر، إما خشية على نفسه، أو أهله الهلاك، أو ظنا منه أنه يدرء شرا أكبر عن المسلمين. وقصة عمار رضي الله عنه مثال لكفر ظاهر ليس له باطن.
الثالثة: حالة التأول. يظن الموالي أنه لن يضر المسلمين والإسلام بنصرته الكافرين؛ لثقته بقوة المسلمين مثلا، أو ليقينه بضعف المشركين، يفعل ذلك لتحقيق مصلحة دنيوية خاصة به: حفظ ماله، أو أهله، أو نفسه، أو لزوجه الكتابية، أو عشيرته الكتابية. وهذا ظاهر في قصة حاطب.
__________
(1) - رواه ابن ماجة في الفتن، باب: ذهاب القرآن والعلم (4049) صحيح ابن ماجة 2/378 (3273).(1/78)
فالحالة الأولى والثالثة يفعلها طوعا، والثانية كرها، والإكراه عذر متفق عليه، فيبقى اثنان يقع النزاع فيهما، عند من لم ير في الجهل عذرا، وعند من لم ير طلب المصلحة الدنيوية عذرا يدفع الكفر.
والنصوص تبين: أن الله تعالى لا يؤاخذ من لم تقم عليه الحجة. كقوله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا}[الإسراء 15]، فالأصول الشرعية تأبى المؤاخذة مع الجهل، وهذا مقتضى رحمة الله تعالى.
وقصة حاطب تبين: أن نصرة الكافر لغرض دنيوي، لا للدين، ليس بكفر، مع كون العمل كفرا في أصله، لكن كونه للدنيا لا للدين، صرفه عن الكفر.
لكن هاهنا تفصيل مهم؛ هما حالتان يضطر الباحث أن يتوقف عندهما، في حالة النصرة لغرض دنيوي، هما:
- الأولى: النصرة لغرض دنيوي، لكن بشكل مطلق، فيكون ديدنا وعادة.
- الثانية: النصرة لغرض دنيوي، مع العلم بأنها تجلب الضرر البالغ على المؤمنين في دينهم، كاحتلال بلادهم، وهوان الإسلام والمسلمين.
في هاتين الحالتين:
هل يتصور أن تخلو هذه الموالاة الظاهرة (= النصرة) من موالاة باطنة (= محبة) ؟!.
هل يلزم من النصرة المطلقة زوال أصل الإيمان؛ بحب الكفر، وبغض الإسلام ؟.
* ... * ... *
النصرة المطلقة:
هي التي تكون في كل حال، وموطن، في كل دقيقة وجليلة من الأمر؛ ينصر الكافرين على المؤمنين، لا يتخلف في موطن ما، حتى لو أدى ذلك إلى احتلال البلاد، والحكم بغير ما أنزل الله، وفتنة المسلمين عن دينهم، وردة بعضهم، وعلمه بكل آثار ذ ... لك.
في هذه الحال: يزول الإيمان من بلاد الإسلام بتحكيم الطاغوت.
وفي هذه الحال: يزول إيمان بعض المسلمين المستجيبين للدعوة الكافرة.
وفي هذه الحال: يهون دين الإسلام، ويذل المسلمون.
فالمرتكب لهذا النوع من النصرة في الموالاة متسبب - بقصد وعلم - في ضياع إيمان البلاد، وبعض العباد. فهل يكفر بها ؟.
هذا وجه.. وجه آخر: قد حكى الله تعالى عن الكفار، فذكر من سبب كفرهم: أنهم يؤثرون ويقدمون الدنيا على الآخرة:(1/79)
- {وويل للكافرين من عذاب شديد * الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ويبغونها عوجا } [إبراهيم 2-3].
- {ذلك بأنهم استحبوا الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين} [النحل 107].
وهذا المتولي بهذه النصرة كذلك هو، قد آثر الدنيا على الآخرة. فأي فرق بينهما ؟.
والإيثار عموما، بغير اختصاص بالنصرة، على قسمين: مطلق، ومقيد.
- فالمطلق هو الذي يفضي إلى نقض أصل الإيمان وكله. فهو كفر؛ لأنه سيؤثر الدنيا على كل شيء، حتى ما فيه نقض عرى الإسلام، كمن يؤثر القوانين الوضعية.
- والمقيد قد يفضي إلى نقض أصل الإيمان، وقد لا يفضي، فإن أفضى فهو كفر، وإلا فلا.
فإن كان الإيثار بالنصرة، فكان هذا المتولي ينصر الكافر مطلقا، مؤثرا دنياه، فهو كافر حينئذ؛ لأنه من أسباب كفر الكافرين، ولأنه يفضي إلى نقض أصل إيمانه، بل كله.
فإذا كانت نصرته مطلقة، فإنه لن يتردد في فعل كل شيء لأجل النصرة، حتى لو كان كفرا.
وننبه هنا إلى جملة مهمة: أنه لا يستفاد من القول الآنف: "فهو كافر حينئذ"، كفر المعين؛ لأن الكلام في سياق المجهول عينه، المعلوم فعله. فهما حالتان:
- الأولى: يقال فيها: هذا الفعل كفر.
- والثانية: يقال فيها: فاعله كافر؛ أي الفاعل دون تعيين.
وفي كليهما بيان للحكم، وليس تنزيل له على معين، أما تنزيله على المعين فيكون: بإثبات الشروط، وانتفاء الموانع. أي بإقامة الحجة.
* ... * ... *
النصرة التي تحمل الضرر:
الحالة الأخرى: أن ينصرهم، مع علمه بما يترتب عليه من: احتلال بلاد المسلمين، وفتنتهم عن دينهم، وتعطيل حكم الله. وهذا هو الإضرار، الذي تقدم معناه في قوله تعالى: {فليس من الله في شيء} [آل عمران 28].
ففي هذا الحال ما حكمه ؟.
الجواب يبنى على معرفة: إن كان يمكن اجتماع الإيمان مع الإعانة - بقصد وعلم، دون إكراه - على نفي الإيمان عن الآخرين ؟.(1/80)
فهذا الموالي بنصرته الكافرين، إن كان يعلم أنه بفعله يعلي كلمة الكفر على كلمة الإسلام، حتى ينتفي الإيمان من البلاد، بتعطيل حكم الله، وينتفي عن بعض المسلمين المستجيبين لدين الكافر:
فهل يبقى لديه أصل الإيمان؛ محبة الإسلام وبغض الكفر، وهو يتسبب، عن علم وقصد، في زوال أصل الإيمان عن بلاد الإسلام، وطائفة من المسلمين ؟.
هل الغرض الدنيوي يمكن أن يكون سببا وحيدا في هذه النصرة، دون محبة الكفر، أو بغض الإسلام؟.
والمرء يحصل له الكفر بتسببه في زوال الإيمان عن نفسه عمدا واختيارا وبعلم، فكيف بمن يتسبب – بعلم، وقصد، واختيار - في زوال الإيمان من أرض الإسلام، وهوان المسلمين بالاحتلال، ويتسبب في فتنة الناس بالكفر، وردتهم وزوال إيمانهم إلا من رحم الله، كل ذلك لأجل الدنيا ؟!.
آلتسبب في زوال إيمان واحد كفر، والتسبب بعمد في زوال إيمان البلاد جميعها ثم العباد ليس بكفر؟!.
الذي لا ريب فيه: أن هذا مستحب للدنيا على الآخرة، فيكون حكمه حكم المستحب، كما في الآيات السابقة؛ فإنه قدم الدنيا على الآخرة في أمر عظيم هو: الحكم بما أنزل الله، وحفظ دين الناس وإيمانهم. فرضي بهتك كل ذلك، بتسليط الكفر على بلاد الإسلام، وردة بعض المسلمين، لأجل الدنيا. فإن الكافر إذا تسلط أزال الإيمان من البلاد، بتحكيمه القوانين الوضعية، وفتح باب الردة بدعوى الحرية.
فهذا وجه صحيح لكفر من نصر الكافر لأجل الدنيا..
وجه آخر.. أنه ربما افترض أحد أنه غير مبغض للإسلام، ولا محب للكفر. فكيف يكون كافرا ؟.
فالجواب: لكنه غير مبالٍ بالإسلام، ولا يهمه في شيء. وهذا وجه آخر للكفر، فإن هذا أقرب إلى الاعتقاد بوحدة الأديان، فلا يبالي بالإسلام حكم أو غيره، وهذه نتيجة لتلك العقيدة، التي تساوي بين الأديان، وهذا كفر بلا ريب.
ولو اعتقد فضل الإسلام، مع جواز الحكم بغير الإسلام، فهو كافر كذلك.(1/81)
هذه الإيرادات والمناقشات هي مرحلة تالية لثبوت أن ذنب النصرة كفر عملي، فحين يثبت هذا على أحد من الناس، فإنه يناقش فيها، لتقام عليه الحجة. ففي هذه المسائل إثبات أنه لا يفعل هذا إلا من كان صدره منشرحا بالكفر، بمحبة دين الكافرين.
فأما حاطب فإنه لم يكفر مع نصرته للكافرين لأمرين:
- الأول: أن غرضه الدنيا، وليس في قلبه محبة الكفر. صرح بهذا، فصدقه النبي عليه الصلاة والسلام.
- الثاني: أنه لم يظن أنه يجلب الضرر المسلمين بنصرته، لما رأى من كثرتهم، ولتيقنه أن الله ناصر نبيه صلى الله عليه وسلم، فرأى أن رسالته تنفع في حفظ ماله، ولن تضر المسلمين، ودليل هذا:
- أولا: ما جاء في رسالته، في بعض الروايات، ما يشير إلى قوة المسلمين، وضعف المشركين عن مقاومتهم، فقد كانت تخويفا وإضعافا لمعنويات المشركين.(1)
- ثانيا: فإن طعن في صحة تلك الروايات التاريخية، فهل يدعي مدع: أن حاطبا قصد الإضرار بالدين والنبي والمسلمين. ؟!.
هذا غير لائق به، كونه من السابقين، ومن أهل بدر، فلا يظن به أنه يفعل النصرة وهو على علم ويقين بضرر يجلبه على المسلمين، لا يفعل ذلك إلا منافق، وهو قد برئ من النفاق، بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي هذا المقام لا بد من التفريق بين اعتقاد وظن حاطب، والواقع.
__________
(1) - جاء في الفتح 7/521، كتاب المغازي، باب: حديث غزوة الفتح: "وذكر بعض أهل المغازي وهو (تفسير يحيى بن سلام): أن لفظ الكتاب: (أما بعد، يا معشر قريش!، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءكم بجيش كالليل، يسير كالسيل، فو الله لو جاءكم وحده لنصره الله، وأنجز له وعده، فانظروا لأنفسكم والسلام) كذا حكاه السهيلي، وروى الواقدي بسند له مرسل: أن حاطبا كتب إلى سهيل بن عمرو وصفوان بن أمية وعكرمة: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن في الناس بالغزو، ولا أراه يريد غيركم، وقد أحببت أن يكون لي عندكم يد)".(1/82)
فالواقع تقديره: أن إفشاء سر النبي صلى الله عليه وسلم خطر كبير؛ لأنه قد يفضي إلى النيل منه عليه الصلاة والسلام بالقتل ونحوه. وليس شيء أعظم من هذا.
لكن هذا التقدير لا يلزم أن يكون في ذهن حاطب، بل من الممكن أن يكون تقديره عكس ذلك تماما. فكم من أناس يفعلون أمورا كبيرة، وهم يظنونها صغيرة، والحكم ما دام متعلقا بالشخص نفسه، فيكون تقديره هو الضابط في الحكم عليه بالكفر أو بما دونه، لا تقدير الواقع.
* ... * ... *
لقد كانت نتيجة هذه الدراسة الواضحة:
1- أن الولاء ذو شقين: اعتقادي هو المحبة، وعملي هو النصرة.
2- أن الولاء بالنصرة من الكفر العملي، والولاء بالمحبة من الكفر الاعتقادي.
3- أن الولاء منه ما هو للدين، وهو كفر بالإجماع، وولاء تمحض للدنيا ليس بكفر.
4- أنه ثمة أنواع من النصرة، ظاهرها للدنيا، لكن لا يتصور إلا من موالي لدين الكافرين، مثل: النصرة المطلقة، والنصرة البالغة؛ التي تجلب على المسلمين الهوان، بعلم، وقصد، واختيار. من وجهين:
- أن هذه الحالات دالة على ولاء القلب؛ إذ لا يجتمع في قلب إنسان، حب الله ورسوله، ونية وقصد الإضرار بالإسلام، والمعاونة على هزيمته في كل موقع وموطن، حتى لو كان بالاحتلال، وعلو الكفر على الإسلام.
- أن الله تعالى حكى من أسباب كفر الكافرين: استحبابهم الدنيا على الآخرة. والموالي بهذا النوع هو مستحب للدنيا بلا ريب.
5- أن الولاء العملي (=النصرة) لا بد له من أساس اعتقادي ( = محبة دين الكافرين)، والعكس: أن الولاء الاعتقادي له ثمر وأثر ظاهر، هو الولاء العملي، ولا بد، ولا يتخلف هذا القانون إلا لعارض كالجهل، والتأول، والإكراه، والخوف.
6- أنه لا يلزم من كون النصرة كفرا عمليا: تكفير الموالي بالنصرة مطلقا. بل هي كسائر الذنوب العملية الكفرية، كالحكم بغير ما أنزل الله تعالى ونحوه، لا يقع الكفر إلا بإقامة الحجة.
والمخالفون في هذه المسألة:(1/83)
- وافقوا على النقطة الأولى (1)، وبعضهم تكلف الدعوى، فجعل النصرة عملا قلبيا.. مع ظهور محلها على الجوارح.!!.
- وخالفوا في الثانية (2) ؛ إذ جعلوا النصرة كبيرة بإطلاق، ليس منها ما هو كفر لذاته (= عملي)، مع موافقتهم على أن الولاء بالمحبة لدين الكافرين من الكفر الاعتقادي.
- كما وافقوا على تقسيم الولاء للدين والدنيا (3)، لكنهم خالفوا في دعواهم: أن كل حالات الولاء للدنيا فليست بكفر، مهما كانت صورها، حتى لو كانت مطلقة، أو جلبت الوبال على الإسلام والمسلمين بعلم، وقصد، واختيار!!، فقد تصوروا إمكانية النصرة في هذه الصور لمجرد طلب الدنيا، دون أن يكون حبا ورضا عن دين الكافرين.
- لم يدركوا أن كل ولاء فلا بد له من باطن وظاهر، فما أصله باطن فله ظاهر، وما أصله ظاهر فله باطن، إلا في حالات استثنائية؛ لذا جوزوا وفرضوا كل أنواع الولاء الظاهر خلواً من ولاء الباطن.
- اغتروا بحالات الاستثناء (= الجهل، والتأول، والإكراه)، فعظموها وجعلوها أصلا، ونقضوا بذلك ما حقه أن يكون هو الأصل (= دلالة النصوص المتعددة: أن نصرة الكافر على المسلم من الكفر العملي) أو ضارعوا، وهذا مسلك باطل؛ إذ لا يجوز إبطال المحكمات، وتغليب المتشابهات.
- وأمر آخر، وإن لم يصرحوا به، فإن طريقتهم في طرق المسألة، توحي بظنهم: بأن وضع النصرة في مرتبة الكفر العملي، يتضمن تكفير من وقع فيها بعينه، حتى بدون إقامة الحجة. ومع أنهم يدركون قاعدة: "إثبات الشروط، وانتفاء الموانع" في مسائل التكفير، وأن القول بأن هذا الفعل كفر، لا يلزم منه تكفير فاعله المعين: لكن يبدو أن النسيان يأخذ بهم بعيدا، فنقدهم يشعر بأن إنزال النصرة في مرتبة الكفر العملي، هو قول يتضمن تكفير الأعيان.. وهذا عجيب منهم ؟!!.
فقد أخطؤوا في المقدمات، كما أخطئوا في النتيجة.!!.
فنحن والمخالفون في مسألة النصرة نجتمع في أشياء، ونفترق في أشياء:
نجتمع في أن النصرة:
- ذنب عظيم، وجرم كبير.(1/84)
- وأنها إن كانت محبة لدين الكافرين فكفر أكبر، وإن كانت للدنيا متمحضة فليست بكفر، بل كبيرة من الكبائر.
- وتكفير الأعيان لا يكون إلا بشروط وانتفاء موانع.
ونفترق في:
- أننا نقول: هي كفر عملي.. وهم يقولون: هي كبيرة.
- ونقول: ثمة حالات نصرة، ظاهرها للدنيا، ولا تخلو من محبة الدين.. وهم يقولون: يجوز أن تكون كل حالات النصرة للدنيا لا للدين.
- ونقول: الأصل في النصرة أنها لا تكون إلا للدين، وهناك حالات مستثناة.. وهم يقولون: ليس ثمة أصل هنا، بل النصرة كما تكون للدين، تكون للدنيا.
- ونحن أعملنا قاعدة تلازم الظاهر والباطن.. وهم أهملوها، بفرضهم وتجويزهم كل حالات النصرة أن تكون للدنيا متمحضة، ليس منها ما هو للدين.
أمر أخير ننبه إليه: أن النصرة في هذه المباحث محددة بنصرة الكفر على الإسلام؛ أي نصرة الدولة الكافرة على المسلمة، لا مجرد نصرة كافر على مسلم في أمر هو شخصي، إنما المقصود: نصرة دين على دين.
على هذا دار البحث، وعليه جاء الحكم، والله أعلم.
* ... * ... *
المراجع
* القرآن الكريم.
* السنة النبوية..
1- صحيح البخاري، محمد بن إسماعيل البخاري، ضبطه: د. مصطفى ديب البغا. دار ابن كثير، دمشق. الطبعة الرابعة 1410هـ- 1990م.
2- صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج القشيري، عمل: محمد فؤاد عبد الباقي. دار الكتب العلمية 1413هـ- 1992م.
3- صحيح الترمذي، محمد بن عيسى بن سورة، انتقى صحيحه: ناصر الدين الألباني. مكتب التربية العربي لدول الخليج العربي، الرياض، الطبعة (1) 1408هـ- 1988م.
4- صحيح ابن ماجة، محمد بن يزيد القزويني، انتقى صحيحه: ناصر الدين الألباني، مكتب التربية العربي لدول الخليج العربي، الرياض، الطبعة الأولى 1407هـ-1986م
5- فتح الباري شرح صحيح البخاري، ابن حجر أحمد بن علي، ترقيم: محمد فؤاد عبدالباقي، إخراج: محب الدين الخطيب، دار المعرفة، بيروت.
* كتب التفسير.(1/85)
6- جامع البيان عن تأويل آي القرآن، محمد بن جرير الطبري، تحقيق: د. عبد الله التركي، بالتعاون مع مركز البحوث والدراسات العربية الإسلامية، القاهرة، الطبعة الأولى 1422هـ- 2001م.
7- تفسير البغوي، المسمى معالم التنزيل، الحسين بن مسعود البغوي، دار الكتب العلمية ط الأولى 1414هـ1993م.
8- زاد المسير في علم التفسير، عبد الرحمن بن علي ابن الجوزي ، خرج أحاديثه: أحمد شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1414هـ - 1994م.
9- المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، عبد الحق بن غالب ابن عطية ، تحقيق: عبدالسلام عبد الشافي محمد، دار الكتب العلمية الطبعة الأولى1413هـ-1993م.
10- تفسير ابن كثير، إسماعيل بن عمر ابن كثير ، تحقيق: محمد البناء، محمد عاشور، عبدالعزيز غنيم. الشعب، القاهرة.
11- البحر المحيط، أبو حيان محمد بن يوسف، تحقيق: عادل عبد الموجود، على معوض. دار الكتب العملية، الطبعة الأولى 1413هـ- 1993م.
12- التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور ، الدار التونسية، الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان.
13- نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، برهان الدين إبراهيم البقاعي، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة، ط2/1413هـ.
* كتب العقيدة.
14- الإيمان، أبو عبيد القاسم بن سلام، ضمن أربع رسائل في الإيمان، تحقيق: ناصر الدين الألباني. نشر دار الأرقم، الكويت.
15- الفتاوى، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، جمع وترتيب: عبد الرحمن بن قاسم. طبع بأمر خادم الحرمين الشريفين جلالة الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود.
16- شرح العقيدة الطحاوية، ابن أبي العز الحنفي. تحقيق: ناصر الدين الألباني. طبع المكتب الإسلامي. الطبعة التاسعة 1408- 1988.
17- رسالة تحكيم القوانين. محمد بن إبراهيم.
* كتب اللغة.
18- معجم مقاييس اللغة، أبو الحسين أحمد ابن فارس ، تحقيق: عبد السلام هارون، دار الجيل، بيروت، الطبعة الأولى 1411هـ- 1991م.(1/86)
19- تهذيب اللغة، محمد بن أحمد الأزهري ، تحقيق: عبد السلام هارون، ، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والأنباء والنشر.
20- لسان العرب، محمد بن مكرم ابن منظور، دار إحياء التراث العربي/مؤسسة التاريخ العربي، بيروت، الطبعة الثانية 1413هـ- 1993م.
* التراجم.
21- طبقات ابن سعد، أحمد بن سعد، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1410هـ-1990م.
22- الجرح والتعديل، عبد الرحمن ابن أبي حاتم، دار الكتب العلمية، بيروت.
23- الإصابة في تمييز الصحابة، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، دار الكتب العلمية، بيروت.
24- السيرة النبوية الصحيحة، أكرم ضياء العمري، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، ط1412هـ.
* ... * ... *
الفهرس
مدخل: الإسلام اختيار. ... ... ... ... ... ... ... ص
أولا: مقدمة في حقيقة الكفر. ... ... ... ... ... ... ... ص
1- أنواع الكفر.
2- قاعدة التلازم.
3- ما الكفر؟. ... ... ... ... ... ... ...
ثانيا: المعنى اللغوي. ... ... ... ... ... ... ... ... ص
1- ماهية الأعمال الظاهرة، والباطنة. ... ... ... ... ص
2- فحص الكلمة "ولا"، والأمثلة المضروبة لها. ... ... ... ص
ثالثا: الولاء في الاصطلاح الشرعي. ... ... ... ... ... ... ص
النص الأول: { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء}. ... ص
1- دراسة الآيات. ... ... ... ... ... ... ... ص
2- حقيقة الولاء في الآية. ... ... ... ... ... ... ص ...
3- حكم الولاء في الآيات. ... ... ... ... ... ... ص
النص الثاني: {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل..}. ... ... ... ... ص
1- حقيقة التولي. ... ... ... ... ... ... ...
2- علاقة السخط بالتولي. ... ... ... ... ... ... ص
3- الإيمان بالله والنبي وما أنزل إليه، واتخاذ الكافرين أولياء. ... ... ص
النص الثالث: {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء ..}. ... ... ... ... ص
1- سبب نزولها.
2- النهي قوله: {لا يتخذ..}. ... ... ... ... ... ص
3- الوصف قوله: {أولياء..}. ...
4- الحكم قوله: {فليس من الله في شيء..}.
5- الاستثناء قوله: {إلا أن تتقوا منهم تقاة}. ... ... ... ... ص
النص الرابع: {إن الذين ارتدوا على أدبارهم..}. ... ... ... ... ص
النص الخامس: {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم}. ... ... ... ص(1/87)
1- أسباب النزول. ... ... ... ... ... ... ... ص ...
2- دلالات الأسباب. ... ... ... ... ... ... ... ص
النص السادس: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدكم أولياء}. ... ص ...
1- معنى المودة في الآية. ... ... ... ... ... ... ص
2- ما حكم ما أتى به حاطب. ... ... ... ... ... ص
حصيلة الدراسة. ... ... ... ... ... ... ... ... ص
1- دلالة النص، ودلالة العقل. ... ... ... ... ... ص
2- علاقة النصرة بالمحبة. ... ... ... ... ... ... ص
3- حقيقة الولاء والبراء ما كان للدين. ... ... ... ... ص
4- متى يكفر الموالي للكافرين ؟. ... ... ... ... ... ص
- النصرة المطلقة. ... ... ... ... ... ص
- النصرة التي تحمل الضرر. ... ... ... ص
25- المراجع. ... ... ... ... ... ... ... ص
26- الفهرس. ... ... ... ... ... ... ... ص
* ... * ... *
... ... ... ...(1/88)