توسعة المسعى
دراسة مقارنة في تحقيق المناط
إعداد : أحمد سلامة الغرياني
ماجستير في الشريعة الإسلامية من جامعة الفاتح في ليبيا .
البريد الإلكتروني :
ahmed982eriany@yahoo.com
المقدمة
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :
فهذا البحث هو دراسة مختصرة في مسألة التوسعة الجديدة للمسعى ، حاولت فيه شرح صورة المسألة ، وتوضيح محل الخلاف فيها ، وتلخيص الأدلة التي احتج بها العلماء المجوزون لها والعلماء الذين منعوها بشكل مبسط ، مع التوضيح والتوجيه ، بقصد إثراء النقاش في المسألة وتيسير أدلتها ، حتى تكون قريبة إلى الذهن واضحة لدى الجميع ، والله أسأل أن يوفقني إلى إتمامه على الوجه الذي يرضيه ، وأن ينفع به إنه سميع مجيب .
تمهيد
في توضيح محل الخلاف في المسألة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه في حجة الوداع : انطلق ، فطف بالبيت وبين الصفا والمروة ثم أحل . ( صحيح مسلم ج2/ص896 )
وقال عليه الصلاة والسلام لأصحابه في تلك الحجة : أحلوا من إحرامكم فطوفوا بالبيت وبين الصفا والمروة وقصروا . ( رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما ج2/ص884 )
وقال عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما : أمر – النبي صلى الله عليه وسلم- أصحابه أن يطوفوا بالبيت وبين الصفا والمروة ثم يقصروا من رؤوسهم ثم يحلوا . ( صحيح البخاري ج2/ص560 )
وقالت السيدة عائشة رضي الله عنها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله " ( رواه أبو داود 2 / 179 )
وقوله عليه الصلاة والسلام في هذه الأحاديث : "بين الصفا والمروة " دليل على أنه يجب التقيد بالمنطقة المتوسطة بين الجبيلين والمحدودة بهما عرضا في أثناء السعي ؛ لأن كلمة "بين" في اللغة ظرف بمعنى وسط .(1/1)
قال في مختار الصحاح : بين : بمعنى وسط ، تقول جلس بين القوم كما تقول جلس وسط القوم بالتخفيف وهو ظرف .(ج1/ص29 )
وقال في لسان العرب : بين : صفة بمنزلة وسط وخلال . الجوهري : .. تقول جلست بين القوم كما تقول وسط القوم بالتخفيف ، وهو ظرف . ( لسان العرب لابن منظور ج13/ص62 )
وقال أيضا في مادة وسط ( ج7/ص428 ) : وأما الوسط بسكون السين فهو ظرف لا اسم ، جاء على وزن نظيره في المعنى وهو بين .
وبناء على ذلك فلا يجوز شرعا الخروج عن البينية في أثناء السعي ، ويجب التقيد بالمنطقة المتوسطة بين الجبلين المحاذية لهما .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : لو سعى في مسامتة المسعى وترك السعي بين الصفا والمروة لم يجزه . (شرح العمدة : 2/599 )
وقال ابن قدامة رحمه الله : ( يجب عليه أن يستوعب ما بين الصفا والمروة ... فإن ترك مما بينهما شيئًا ولو ذراعا لم يجزه حتى يأتي به ) (المغني ج 3 / ص 192 )
وقال الإمام الكاساني الحنفي رحمه الله : فصل : وأما ركنه ( أي السعي ) فكينونته بين الصفا والمروة . (بدائع الصنائع ج2/ص134)
وقال الحطاب المالكي رحمه الله : (وللسعي شروط ... منها كونه بين الصفا والمروة ؛ فلو سعى في غير ذلك المحل ، بأن دار من سوق الليل ، أو نزل من الصفا فدخل المسجد لم يصح سعيه).
(مواهب الجليل لشرح مختصر خليل 4/118 )
وقال النووي رحمه الله : ( فرع ) قال الشافعي والأصحاب : لا يجوز السعي في غير موضع السعي؛ فلو مرّ وراء موضع السعي في زقاق العطارين أو غيره لم يصح سعيه ؛ لأن السعي مختص بمكان فلا يجوز فعله في غيره كالطواف . ( المجموع شرح المهذب للنووي 8/102 )(1/2)
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في كتابه أضواء البيان في تفسير القرآن : اعلم أنه لا يجوز السعي في غير موضع السعي ، فلو كان يمر من وراء المسعى حتى يصل إلى الصفا والمروة من جهة أخرى لم يصح سعيه ؛ وهذا لا ينبغي أن يختلف فيه . (أضواء البيان في تفسير القرآن 5/253 )
إلا أن العلماء المجوزين للتوسعة الجديدة للمسعى والعلماء المانعين لها اختلفوا في مدى تحقق البينية والمسامتة للصفا والمروة في هذه التوسعة ، وهل هي فعلا واقعة في المجال المحصور بين الجبلين غير خارجة عن حدودهما العرضية ؟ كما يرى العلماء الذين جوزوها ، أم أنها خارجة عن الحد الشرقي للجبلين وغير متحققة فيها البينية ، كما يرى العلماء الذين منعوها ، بعد أن اتفقوا على أن التقيد بالبينية في السعي بين الجبلين واجب ، مع العلم بأن الجهة التي تمت فيها التوسعة الجديدة للمسعى هي الجهة الشرقية فقط من المسعى القديم ، أما الجهة الغربية منه فلم يتم الاستفادة منها في ذلك ، بسبب وجود المسجد الحرام فيها ، ولذلك فقد تم أخذ التوسعة كلها من الناحية الشرقية ، وهي الجهة المقابلة للجهة التي فيها المسجد الحرام .
وقبل البداية في عرض تفاصيل هذا البحث ، والتعمق في طرح المسألة ، أفضل أن أقدم بين يدي ذلك خريطة أو رسما تقريبيا قمت بإعداده لتوضيح المراحل التي مرت بها بعض المعالم الرئيسية للمنطقة المحيطة بالمسعى ، والزيادات التي حصلت في المسجد الحرام ، منذ زمن النبي عليه الصلاة والسلام إلى زمن التوسعة السعودية الأخيرة التي حصلت في المسجد الحرام قبل إضافة المسعى الجديد ، وسوف أعود للإشارة إلى هذا الرسم التقريبي عند الحاجة إليه في أثناء البحث ، لعرض أدلة العلماء المجوزين والمانعين ، دون الحاجة إلى تكرار عرضه مرة أخرى والله الموفق .
شرح بيانات الرسم التقريبي :
1 : الحجر الأسود .
2 :الركن اليماني .
3 : الركن العراقي .
4 : الركن الشامي "الغربي" .(1/3)
5 : باب العباس وكان يسمى باب بني هاشم وعليه العلم الأخضر الأول من جهة المروة .
6 : باب علي وعليه العلم الأخضر من جهة الصفا .
7 : العلم الأخضر الذي على دار العباس .
8 : العلم الأخضر الذي على ما بقي من دار ابن عباد بعد إدخال أكثرها في المسعى .
9 : دار محمد بن عباد بن جعفر التي أزيل أكثرها وجعل الوادي والمسعى مكانها . والجزء الذي بقي منها خارج المسعى يقع في أصل جبل أبي قبيس .
10 : دار خيرة بنت سباع التي كانت تطل على المسعى وأدخلها المهدي في المسجد فجعله شارعا على المسعى قبل أن يؤخر .
11 : دار الأزرق التي كانت دار خيرة في ظهرها ، جدارها وجدار المسجد واحد على يسار الداخل للمسجد من باب بني شيبة .
12 : باب السلام " باب بني شيبة"
13 : زيادة ابن الزبير للمسجد الحرام التي انتهى فيها إلى حد الوادي .
14 : زيادة أبي جعفر المنصور .
15 : الزيادة الأولى للمهدي التي جعل المسجد فيها شارعا على المسعى مكان دار خيرة بنت سباع قبل أن يؤخر المسعى .
16 : الزيادة الثانية للمهدي محل الوادي .
17 : الجزء الذي أدخل في المسجد من المسعى في عهد الخليفة المهدي رحمه الله .
...
ملاحظة : كثير من الناس لديهم فهم خاطئ لبعض عبارات المؤرخين في هذه المسألة ، جعلهم يتوهمون أن الوادي هو المسعى نتيجة لتقاطعهما في محل واحد ، والحقيقة أنهما مختلفان ، فالوادي يمتد من الشرق إلى الغرب مارا بالمسعى ومتقاطعا معه ، في حين يمتد المسعى من الشمال حيث المروة إلى الجنوب حيث الصفا ، كما هو موضح في الرسم التقريبي .(1/4)
تنبيه : الأعلام الخضر الموجودة في المسعى المقصود منها هو : تحديد المنطقة التي يتقاطع فيها المسعى مع بطن الوادي الذي يشرع فيه الرمل ( أي الإسراع في المشي أثناء السعي بين الصفا والمروة ) ، حيث يوجد علمان في الجهة الشرقية وعلمان في الجهة الغربية يحددان عرض المسعى ، اثنان منهم في الجهة الجنوبية ، يقابلهما اثنان في الجهة الشمالية ، يحددان عرض الوادي الذي يشرع فيه الرمل . تم وضعهما في زمن الخليفة العباسي المهدي رحمه الله بعد تغيير المكان الأصلي لبطن الوادي الذي رمل فيه النبي صلى الله عليه وسلم ، ليدلا الساعين على المكان الأصلي له، ويحافظوا على سنة الرمل فيه .( انظر شرح العمدة لابن تيمية 2 / 464 )
وسيأتي مزيد توضيح لهذا الرسم التقريبي بإذن الله في أثناء عرض تصور المانعين للتطور التاريخي للمسعى وعلاقته بتوسعة الخليفة العباسي المهدي رحمه الله .
المطلب الأول
في بيان ما استدل به العلماء المجوزون على اتساع عرض الصفا شرقا
يرى العلماء المجوزون للتوسعة الجديدة للمسعى أن جبلي الصفا والمروة تاريخيا وجيولوجيا متسعان وممتدان شرقا بمسافة تستوعب الزيادة المضافة إلى المسعى الذي يقع بينهما ، وأن المسعى الجديد بناء على ذلك غير خارج عن الحدود العرضية للجبلين ، والبينية فيه متحققة ، وأهم ما استدلوا به على ذلك دليلان ، أحدهما تاريخي ، والآخر جيولوجي ، سأعرض لذكرهما فيما يلي في فرعين مستقلين ، على النحو التالي :
الفرع الأول : في عرض الاستدلال التاريخي للعلماء المجوزين على سعة عرض الصفا شرقا .
والفرع الثاني : في عرض الاستدلال الجيولوجي للعلماء المجوزين على سعة عرض الصفا شرقا .(1/5)
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن هناك مجموعة من الشواهد التاريخية التي ذكرها العلماء المجوزون لإثبات أن المسعى في الماضي كان أوسع وأعرض مما هو عليه الآن ، وأنه لم يكن مقصورا على المساحة المستوعبة في المسعى القديم فقط ، وقد قمت بذكر هذه الشواهد في نهاية هذا المطلب استطرادا ، ولم أفردها بفروع مستقلة ، لأنها على خلاف الاستدلال التاريخي أو الجيولوجي الذي سأذكره في هذين الفرعين لم تتضمن تحديدا تاريخيا لعرض معين للمسعى ، أو حدا واضحا له يمكن التوقف عنده ، ولم تشر للجهة التي كانت تتضمن هذا الاتساع أو الامتداد ، هل هي الجهة الشرقية التي حصلت فيها التوسعة الجديدة أم الجهة الغربية التي فيها المسجد الحرام ؟ ولذلك فقد نظرت إليها على أنها شواهد تاريخية تم ذكرها للتشكيك في ما ذهب إليه المانعون ، وليست أدلة مستقلة تفيد عرض الجبلين أو امتدادهما من الناحية الشرقية بمقدار معين .
الفرع الأول
عرض الاستدلال التاريخي للعلماء المجوزين على سعة عرض الصفا شرقا
استدل العلماء المجوزون بالحديث الذي رواه الحاكم في المستدرك عن عثمان بن الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي قال : إني لأعلم اليوم الذي وقع في نفس أبي جعفر أنه يسعى بين الصفا والمروة في حجة حجها ونحن على ظهر الدار، فيمر تحتنا لو أشاء أن آخذ قلنسوته لأخذتها ، و إنَّه لينظر إلينا من حين يهبط الوادي حتى يصعد إلى الصفا . (المستدرك) (3/574)(1/6)
قال الدكتور عويد المطرفي رحمه الله في كتابه رفع الأعلام بأدلة جواز توسيع عرض المسعى المشعر الحرام : " قوله هذا يدل صراحة على أن دار الأرقم بن أبي الأرقم التي كانوا يجلسون على ظهرها ، وأمير المؤمنين أبو جعفر يصعد إلى الصفا من تحتها ، كان موقعها على شفا الطرف الشرقي من الصفا على يمين النازل منه ، وموقع هذه الدار معروف قديماً وحديثاً لم يتغير منذ كان ، وهو الآن خارج جدار الصفا الشرقي ، يكون بعض منه في موضع المبنى اللاصق بالمسعى من الشرق - مقر إدارة جمعية تحفيظ القرآن الكريم بمكة اليوم - ، وكان يقوم على موقعه قبل التوسعة السعودية للمسعى دار الحديث ، التي كان مديرها شيخنا محمد عبد الرزاق حمزة رحمه الله ، المتوفى سنة 1392ه ، ويوم أن كانت داراَ للحديث كان بينها وبين طرف الصفا الشرقي أكثر من عشرين متراً .
( رفع الأعلام بأدلة جواز توسيع عرض المسعى المشعر الحرام للدكتور عويد بن عياد المطرفي ) ( ص15)
وتوضيح ذلك أن دار الأرقم تاريخيا في رأي الدكتور عويد المطرفي رحمه الله كانت تقع في مكان دار الحديث ، التي كانت موجودة في مكة حتى عام 1392 هجرية ، قبل أن تتم إزالتها في أعمال التوسعة السعودية للمسجد الحرام ، كما أن الحديث الذي رواه الحاكم يدل تاريخيا على امتداد الصفا إلى هذه الدار ، وموقع دار الحديث اليوم هو في الجهة الشرقية من المسعى ، يبتعد عن الحد الشرقي القديم له مسافة 20 مترا ، أي أن الصفا له امتداد شرقي بتلك المسافة .
ومن خلال تتبع رواة الحديث والتأكد من صحته يتبين لنا أن الرواية المحتج بها في إسنادها رجلان متهمان بالكذب والوضع وهما :
الحسين بن الفرج الخياط ومحمد بن عمر الواقدي .(1/7)
أما الأول فقد قال عنه الحافظ الذهبي : قال ابن معين كذاب يسرق الحديث انظر فيض القدير 2 / 17 ، وقال عنه ابن أبي حاتم الرازي في الجرح والتعديل 3 / 62 حدثنا الحسين بن الحسن قال سألت يحيى بن معين عن الحسين الخياط الذي قدم الري فقال كذاب صاحب سكر شاطر .
وأما الثاني وهو الواقدي فقد قال عنه إسحاق بن راهويه : يضع الحديث .
وقال ابن عدي في الكامل : قال معاوية قال لي أحمد بن حنبل : الواقدي كذاب .
وقال الشافعي : كتب الواقدي كذب .
وقال مسلم وغيره : متروك الحديث .
وقال أبو داود لا أنقل حديثه ما أشك أنه كان ينقل الحديث .
وقال النسائي : المعروفون بوضع الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة ابن أبي يحيى بالمدينة والواقدي ببغداد ومقاتل بن سليمان بخراسان ومحمد بن سعيد بالشام .
وقال أبو زرعة ترك الناس حديث الواقدي .
قال الذهبي : انعقد الإجماع اليوم على أنه ليس بحجة وأن حديثه في عداد الواهي .
( سير أعلام النبلاء للذهبي ج 9 / 454 - 469 )
وبذلك تكون هذه الرواية عند أهل العلم بالحديث والروايات شديدة الضعف أو موضوعة ، لا يصح الاحتجاج بها أو الاعتماد عليها ، ولعل الدكتور المطرفي رحمه الله حين احتج بها لم يطلع على ضعفها ، وما ذكره أهل العلم بالحديث في رجال إسنادها ، والعذر الذي نلتمسه له في ذلك هو أن كثيرا من كتب الحديث لا تتقيد غالبا بالصحة فيما ترويه ، وتكتفي في العادة بذكر الإسناد فقط ، فلعل الدكتور رحمه الله اكتفى بنقل هذه الرواية من بعض تلك الكتب مع الإسناد إليها ، معتمدا على ما عرف عن أصحابها من التحقيق والعلم ، ظانا أن ذلك يكفي في الاحتجاج بها ، دون أن يتأكد هو بنفسه من صحتها ، والله أعلم .(1/8)
أما بالنسبة لموقع دار الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي رضي الله عنه فلعل رأي الدكتور رحمه الله في ذلك يخالف رأي كثير من العلماء والمؤرخين ، كالإمامين الأزرقي والفاكهي رحمهما الله والعلامة الفاسي ، الذين يرون أنها كانت تقع مباشرة على الحد الشرقي للصفا المعروف والمشاهد عند نهاية المسعى القديم ( انظر أخبار مكة للفاكهي ج 3 ص 498 وأخبار مكة للأزرقي ج2/ص206 ) ، متصلة بدار القاضي محمد بن عبد الرحمن السفياني المتصلة بدورها بدار محمد بن عباد بن جعفر العائذي ، وهما داران تقعان في الجهة الشرقية من المسعى القديم متصلتان به .
أما دار ابن عباد رحمه الله فقد كان أكثرها واقعا في المسعى ، إلى زمن التوسعة الثانية للخليفة العباسي المهدي رحمه الله في المسجد الحرام ، عندما هدم أكثرها وجعل المسعى والوادي فيها ، وبقي منها جزء لاصق بأصل جبل أبي قبيس ، لم يضمه للمسعى والوادي ، عليه العلم الأخضر الأول بالنسبة للنازل من الصفا ( انظر أخبار مكة للفاكهي حيث قال : دار عباد بن جعفر عند العلم الأخضر 3 / 498 ) وبالتالي فهي شارعة على المسعى قطعا .
وأما دار القاضي محمد بن عبد الرحمن السفياني رحمه الله فقد كانت مشرفة على منارة المسجد الحرام والوادي كما نص على ذلك الفاكهي ، حيث قال : " دار القاضي محمد بن عبد الرحمن السفياني مشرعة على منارة المسجد والوادي" ( 3 / 498 ) . وهو دليل على أنها كانت تطل على المسعى أيضا ، لأمور :
أولا : أن منارة المسجد الحرام كانت تطل على المسعى القديم مباشرة ، وبالتالي فكون دار القاضي كانت تطل على منارة المسجد دليل على أنها كانت تطل على المسعى أيضا .(1/9)
ثانيا : قول الفاكهي رحمه الله في كتابه أخبار مكة أنها كانت تطل على الوادي ؛ وكلمة الوادي هنا المقصود منها الوادي الجديد الذي أحدثه الخليفة العباسي المهدي رحمه الله في مكان ما أزاله من دار ابن عباد بن جعفر ، والتي نص الأزرقي والفاكهي رحمهما الله على أن المهدي جعل المسعى والوادي فيها ، حيث كانا يتقاطعان في محل الجزء المزال منها ، وبالتالي فقوله : "تطل على الوادي" دليل على أنها كانت تطل على المسعى أيضا .
ثالثا : أن دار القاضي محمد بن عبد الرحمن السفياني كانت تتصل بدار ابن عباد بن جعفر وتطل على الوادي في نفس الوقت ( انظر الأزرقي ج 2 / ص 206 ) ومعلوم من خلال كتاب الأزرقي رحمه الله أن الدار التي كانت تطل على الوادي والمتصلة بدار ابن عباد من الجهة الشرقية هي دار ابن صيفي المخزومي رحمه الله (2 / 208 ) ، ولم يشر المؤرخون لأي علاقة أو اتصال لهذه الدار ( أعني دار ابن صيفي ) بدار القاضي ، كما أن الجهة الغربية من دار ابن عباد كان فيها المسعى ، فلم يبق إلا أن تكون دار القاضي محمد بن عبد الرحمن السفياني في الجهة الجنوبية من دار ابن عباد مطلة على المسعى أيضا .(1/10)
رابعا : أن الأزرقي رحمه الله قد نص في كتابه أخبار مكة على ما يفيد أن دار القاضي محمد بن عبد الرحمن السفياني كانت تقع بين دار الأرقم المخزومي التي عند الصفا وبين الجزء الذي بقي من دار محمد بن عباد بن جعفر بعد إدخال أكثرها في المسعى ، حيث قال : " دار القاضي محمد بن عبد الرحمن من دار الأرقم إلى دار ابن روح العايذي" ( 2 / 206 ) ودار ابن روح هذه هي جزء مما تبقى من دار ابن عباد بن جعفر رحمه الله بعد إدخال أكثرها في المسعى ، أي أن هذه الدور الثلاثة ( دار ابن عباد ودار القاضي ودار الأرقم ) كانت تقع على استقامة واحدة تقريبا ، وبناء على ذلك فإنها إما أن تكون ممتدة على محاذاة المسعى القديم والجبل المعروف عند نهايته كما هو الظاهر ، أو أن تكون ممتدة مباشرة إلى الناحية الشرقية دون أي ميل ( بحيث يكون ما بقي من دار ابن عباد واقعا على الوادي الجديد والمسعى ، ويحدها من الناحية الشرقية دار القاضي محمد بن عبد الرحمن السفياني ثم دار الأرقم ) وهذا غير صحيح ، لأن الدار التي تحد ما بقي من دار ابن عباد من الناحية الشرقية هي دار ابن صيفي وليست دار القاضي محمد بن عبد الرحمن ، وإما أن تكون هذه الدور ممتدة على خط مستقيم في الجهة الجنوبية الشرقية من ما بقي من دار محمد ابن عباد ، وهو أيضا تصور غير مقبول ، لأن الوادي الذي تطل عليه كل من داري القاضي وابن عباد يمتد في الاتجاه الشمالي الشرقي منهما ، وليس في الاتجاه الجنوبي الشرقي ، ولو كانت دار القاضي في الجهة الجنوبية الشرقية مما بقي من دار ابن عباد لكانت بعيدة عن مجرى الوادي ، فلم يبق إلا الاحتمال الأول فقط ، وهو أن تكون هذه الدور الثلاثة متوازية وممتدة على محاذاة المسعى القديم وجبل الصفا المشاهد في نهايته .
وفيما يلي رسم تقريبي يبين موقع دار الأرقم بن أبي الأرقم رضي الله عنه والدور المجاورة لها على ما يفهم من كلام الإمامين الأزرقي والفاكهي رحمهما الله .(1/11)
ولمزيد من التوضيح يمكن الاطلاع على الرسم التقريبي الذي قمت بعرضه في بداية هذا البحث ، كما يمكن الاطلاع على شرح مبسط وموجز للتطور التاريخي الذي مر به المسعى وعلاقته بالتوسعة الثانية للخليفة العباسي المهدي رحمه الله في في أثناء عرض الدليل الرابع من أدلة العلماء المانعين في نهاية هذا البحث بإذن الله تعالى .
كما أن العلامة الفاسي رحمه الله في كتابيه العقد الثمين والزهور المقتطفة نص على أن دار الأرقم بن أبي الأرقم رضي الله عنه كانت تقع عند الصفا ، وتطل على باب الصفا من المسجد الحرام ، حيث قال : " دار الخيزران عند باب الصفا ، وهي دار الأرقم المخزومي " ( العقد الثمين للفاسي ج 1 / ص 98 والزهور المقتطفة في تاريخ مكة المشرفة للفاسي ص 158 ) وقال في كتابه شفاء الغرام : " الدار المشهورة بالخيزران بمكة ... عند جبل الصفا ، .. بينها وبين المسجد الحرام طريق مسلوك ، يزيد على مائة ذراع ، على مقتضى ما ذكره الأزرقي في مقدار ما بين باب المسجد المعروف بباب الصفا ، والصفا الذي هو مبدأ السعي ، وهو قرب هذه الدار ." ( شفاء الغرام للفاسي 1 / 226 ) أي أن قوله رحمه الله في هذه المسألة موافق لقول الإمام الأزرقي .
على أن بعض العلماء الذين أفتوا بعدم جواز التوسعة كالشيخ الشريف محمد بن حسين الصمداني قد ذهبوا إلى أن العلامة الفاسي رحمه الله كان يرى أن دار الأرقم بن أبي الأرقم تقع في الجهة الغربية من الصفا وليس في الجهة الشرقية منه ، واستدل الصمداني على ذلك بقول الفاسي رحمه الله : " دار الخيزران عند باب الصفا ، وهي دار الأرقم المخزومي " ، قال : "ومحل باب الصفا في القديم ليس في الجهة الشرقية من بناء المسعى من المسجد الحرام كما هو معلوم . " ( ص 61 ) ملمحا إلى أن الدار كانت في الجهة الغربية .(1/12)
وهو كلام غير دقيق ، لأن كون دار الأرقم بن أبي الأرقم رضي الله عنه عند باب الصفا لا يعني بالضرورة أن تكون في الجهة الغربية من الصفا والمسعى ، بل قد تكون في الجهة الشرقية منهما ، عند بداية المسعى ، مطلة على باب الصفا ، بحيث يكون قول الفاسي رحمه الله في ذلك موافقا لقول الأزرقي ، وهو مقتضى احتجاجه به .
كما أنها لو كانت في الجهة الغربية من الصفا لما كان للفاسي أن يجزم في كتابه شفاء الغرام بأن بينها وبين باب الصفا في المسجد الحرام ما يزيد على مائة ذراع ، معتمدا على تحديد الأزرقي رحمه الله للمسافة التي بين باب المسجد ووسط الصفا بمائة ذراع واثني عشر ذراعا ونصف ، فلو كانت دار الأرقم في الجهة الغربية من الصفا لكانت المسافة بين باب الصفا وجدار الدار الموالي للمسجد أقل من مائة ذراع ، والله أعلم .
رأي الشيخ محمد طاهر الكردي رحمه الله في موقع دار الأرقم بن أبي
الأرقم رضي الله عنه :
يرى الشيخ الكردي رحمه الله أن دار الأرقم رضي الله عنه كانت تقع في الجهة الشرقية من الصفا ، غير متصلة به ، وتبتعد عنه بمسافة ستة وثلاثين مترا باستقامة خط المشي ، أو بمسافة ثمانية وأربعين مترا إذا انعطفنا إليها من ناحية الحارة التي كانت بها قبل هدمها في التوسعة السعودية . ( التاريخ القويم لمكة وبيت الله الكريم للشيخ محمد طاهر الكردي ج 2 / ص 88 ) ، ولكنه في أثناء وصفه لهذه الدار عاد فخالف القياس الذي ذكره أولا في المسافة التي تفصل بينها وبين الصفا ، فقال : " محل دار الأرقم هو موضعه اليوم الذي عند الصفا ، بينهما نحو ثلاثين ذراعا ." وهو تناقض واضح ، وعلى كل فإنه رحمه الله في أثناء وصفه لموقع هذه الدار قد نص على أنها كانت تبتعد عن الصفا بالمقدار الذي ذكره ، بمعنى أنها كانت غير متصلة به ، فلا يصح الاستدلال بها كحد شرقي للصفا بناء على ذلك .
تحقيق في نسبة القول - بدخول دار الأرقم بن أبي الأرقم في المسجد الحرام –(1/13)
لابن كثير :
لابد من الإشارة هنا إلى خطأ وقع فيه كثير من المؤرخين كالعلامة الفاسي رحمه الله في كتابه شفاء الغرام والشيخ محمد طاهر الكردي في كتابه ( التاريخ القويم ) أثناء ذكرهم لموقع دار الأرقم بن الأرقم المخزومي رضي الله عنه ، عندما نسبوا للإمام ابن كثير القول بأن دار الأرقم رضي الله عنه كانت قد أدخلت في المسجد الحرام في أثناء زيادة الخليفة العباسي المهدي ، حيث قال الشيخ محمد طاهر الكردي رحمه الله في كتابه التاريخ القويم :"ومن الغريب أن يظن العلامة ابن كثير صاحب التفسير الشهير بأن هذه الدار دخلت في توسعة المسجد الحرام ، فقد قال في تاريخه المسمى البداية والنهاية (ج10/ص164 ) : " وقد اشترت ( أي الخيزران) الدار المشهورة بها بمكة المعروفة بدار الخيزران فزادتها في المسجد الحرام " قال الشيخ محمد طاهر الكردي : فهذا الظن في غير محله ، وقد وهم ابن كثر رحمه الله تعالى " ( التاريخ القويم 2 / 88 )
وقال العلامة الفاسي رحمه الله في كتابه شفاء الغرام : " فأما قول الحافظ عماد الدين بن كثير في تاريخه .. أن الخيزران أم المؤمنين خرجت إلى مكة ، فأقامت بها حتى شهدت الحج ، وقد اشترت الدار المشهورة لها بمكة المشرفة المعروفة بدار الخيزران ، فزادتها في المسجد الحرام فهو غير مستقيم ، لأن الدار المشهورة بالخيزران بمكة إنما هي عند جبل الصفا ، بينها وبين المسجد الحرام طريق مسلوك يزيد على مائة ذراع " (شفاء الغرام للفاسي 1 / 226 )(1/14)
وهو قول غير صحيح ، وخطأ واضح ، وقع فيه هؤلاء العلماء رحمهم الله نتيجة لأنهم لم يطلعوا على نص آخر لابن كثير في كتابه البداية والنهاية ، أثناء ذكره لترجمة الأرقم بن أبي الأرقم رضي الله عنه ، حيث قال : " ذكر من توفى من الأعيان فى هذه السنة : الأرقم بن أبى الأرقم ... وكانت داره كهفا للمسليمن ، يأوى إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أسلم من قريش ، وكانت عند الصفا ، وقد صارت فيما بعد ذلك للمهدى ، فوهبها لامرأته الخيزران ، أم موسى الهادى وهارون الرشيد ، فبنتها وجددتها ، فعرفت بها ، ثم صارت لغيرها . " ( البداية والنهاية ج8/ص71 )
وهو دليل على أنها دار أخرى ، غير تلك الدار التي أدخلتها الخيزران في المسجد الحرام ، وذلك من عدة وجوه :
الوجه الأول : قوله في هذا النص التي يتحدث عن دار الأرقم " ثم صارت لغيرها "، في حين ذكر في النص الذي نقله الفاسي والشيخ محمد طاهر الكردي رحمهما الله أنها - أي الخيزران - " زادتها في المسجد الحرام ". ( البداية والنهاية لابن كثير ج 10 / ص 164 )
الوجه الثاني : قوله في هذا النص " وقد صارت فيما بعد ذلك للمهدى ، فوهبها لامرأته الخيزران" أما في النص الذي استدل به الفاسي رحمه الله فقد قال : " وقد اشترت الدار المعروفة بها بمكة ، المعروفة بدار الخيزران"(1/15)
الوجه الثالث وهو الأهم : أن ابن كثير رحمه الله لم يصرح بأن الدار التي أدخلتها الخيزران في المسجد هي دار الأرقم ، إنما قال " الدار المشهورة بها بمكة المعروفة بدار الخيزران"، ومعلوم أن الخيزران رحمها الله قد اشترت دورا كثيرة بمكة ، اشتهرت أكثر من دار منها باسم دار الخيزران ، منها دار الأرقم المخزومي رضي الله عنه ، حيث قال الأزرقي رحمه الله في كتابه أخبار مكة : " دار الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي التي عند الصفا يقال لها دار الخيزران " ( ج 2 / ص 184 ) ، وقال الفاكهي رحمه الله : " وربع آل أرقم بن أبي الأرقم ... الدار التي عند الصفا يقال لها : دار الخيزران " ( أخبار مكة للفاكهي (5/387 )
إلا أنها لم تكن الدار الوحيدة التي اشتهرت بهذا الاسم ، بدليل قول الإمام الفاكهي رحمه الله في كتابه أخبار مكة أثناء ذكره للدور التي تستقبل المسجد الحرام من الجانب الشرقي : " ثم دار الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي دبر دار أحمد بن إسماعيل بن علي على الصفا ، ثم دار صيتة مولاة العباسية ، ثم دار الخيزران لولد موسى أمير المؤمنين ." ( أخبار مكة للفاكهي 3 / 498 )
الفرع الثاني
عرض الاستدلال الجيولوجي للعلماء المجوزين على سعة عرض الصفا شرقا
قال الدكتور أسامة البار المدير السابق لمعهد أبحاث الحج في مكة المكرمة في لقاء معه أجرته مجلة الدعوة السعودية بتاريخ 26 ربيع الأول سنة 1429هـ : إنه تأكد لنا جغرافياً وجيولوجياً أن مشعر المروة امتداده شرقاً لا يقل عن 25 متر ، ... و الخرائط الجيولوجية أثبتت وجود امتداد شرعي لجبلي الصفا والمروة 32 متراً من جدار المسعى القديم ، ... ثم قال : وتتبعنا الخرائط الجيولوجية التي أثبت وجود امتداد شرقي لجبلي الصفا والمروة لا يقل عن 22 متراً من جدار المسعى القديم ، ولكن احتياطاً قمنا بدراسة جيولوجية ، وتم حفر نقاط من جدار المسعى القديم خارجاً في اتجاه الشرق .(1/16)
قال : وأخذنا الحفر ( 5 أمتار ) ثم كل ( 3 أمتار ) إلى أن وصلنا إلي الوادي ، وتبينا من حرم الوادي ، ثم عدنا مرة أخرى ، وأيضاً حفرنا في داخل مشعر المروة ( الجبل الظاهر ) ، وتمت مقارنة عينات الصخور المأخوذة من كافة الآبار التجريبية ( عينات عشوائية ) ، وتم مقارنتها ، وثبت أن هذه الصخور كلها من مصدر واحد ، ثم التأكد جيولوجياً وجغرافياً من أن مشعر المروة يمكن ثبوت امتداده شرقاً بما لا يقل عن 25 مترا .
(مجلة الدعوة السعودية في عددها (2137) الصادر بتاريخ 26 ربيع الأول 1429هـ )
ويقول الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان في بحثه : توسعة المسعى عزيمة لا رخصة تحت عنوان : تقرير هيئة المساحة الجيولوجية :
قدمت هيئة المساحة الجيولوجية السعودية خريطة جيولوجية لمنطقة المسعى ، تم إعدادها قبل عشرين عاما موضحا عليها الامتدادات السطحية لجبلي الصفا والمروة قبل مشروع التوسعة السعودية الأولى _ مرفق نسخة الخريطة _ حيث أثبتت :
أن جبل الصفا لسان من جبل أبي قبيس ، وأن لديه امتدادا سطحيا بالناحية الشرقية مسامتًا للمشعر بما يقارب 30 مترا .
أن جبل المروة يمتد امتدادا سطحيا مسامتا للمشعر الحالي بما يقارب 31 مترا".
وقد أرفقت في تقريرها الخرائط المتنوعة تحت العناوين التالية :
... مواقع الحفر لمجسات الصخور في المنطقة الممتدة شرق المروة .
خارطة تبين الامتداد الشرقي لمحلة المروة قبل هدميات 1373 هجرية
( توسعة المسعى عزيمة لا رخصة للدكتور عبد الوهاب أبو سليمان ص 22 )
ويلاحظ القارئ لما كتب في موضوع التوسعة من الناحية الجيولوجية أن هناك مجموعة من النقاط التي يمكن إثارتها حول الدراسة والتقرير الجيولوجي المقدم لمعهد أبحاث الحج في مكة المكرمة تتمثل فيما يلي :(1/17)
أولا : عدم نشر التقرير والدراسة المعدة في ذلك ، والاكتفاء بنشر التوصيات النهائية له من خلال بحث الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان ، مما يجعل الصورة المستفادة منه غير مكتملة ، ويجعلنا عاجزين عن الاعتماد عليه في إصدار الحكم المناسب ، بسبب عدم ذكر المعايير العلمية المتبعة في الوصول إلى النتائج التي أوصى بها التقرير.
ثانيا : كلام الدكتور أسامة البار في لقائه مع مجلة الدعوة السعودية يشير إلى أن الدراسة الجيولوجية التي أخذت فيها عينات الصخور إنما كانت للامتداد الشرقي لجبل المروة ، وأنه ليس هناك دراسة جيولوجية بهذا المعنى لجبل الصفا ، بل إنه قد اكتفي في إثبات الامتداد الشرقي للصفا بالخريطة الجيولوجية القديمة ، حيث قال : " وتتبعنا الخرائط الجيولوجية التي أثبت وجود امتداد شرقي لجبلي الصفا والمروة لا يقل عن 22 متراً من جدار المسعى القديم ، ولكن احتياطاً قمنا بدراسة جيولوجية ، وتم حفر نقاط من جدار المسعى القديم خارجاً في اتجاه الشرق ."
وكلامه هذا يبين وجود فرق بين الدراسة الجيولوجية والخريطة الجيولوجية .
ثم قال : " وأخذنا الحفر ( 5 أمتار ) ثم كل ( 3 أمتار ) إلى أن وصلنا إلي الوادي ، وتبينا من حرم الوادي ، ثم عدنا مرة أخرى ، وأيضاً حفرنا في داخل مشعر المروة ( الجبل الظاهر ) ، وتمت مقارنة عينات الصخور المأخوذة من كافة الآبار التجريبية ( عينات عشوائية ) ، وتم مقارنتها ، وثبت أن هذه الصخور كلها من مصدر واحد ."(1/18)
وهو كلام واضح في أن الحفر وأخذ العينات إنما تم القيام به في جبل المروة والمنطقة الشرقية منه فقط ، حيث قال إنه بمقارنة عينات الصخور المأخوذة تبين أنها كلها ترجع إلى مصدر واحد ، أي أنها كلها كانت من جبل المروة ، ولم تأخذ عينات من جبل الصفا ، ثم قال معقبا على حديثه عن الدراسة الجيولوجية :" ثم التأكد جيولوجياً وجغرافياً من أن مشعر المروة يمكن ثبوت امتداده شرقاً بما لا يقل عن 25 مترا " ، أما جبل الصفا فلم تشمله هذه
الدراسة ، وإنما أثبت امتداده الشرقي بالخريطة الجيولوجية فقط .
وانظر أيضا لما ذكره الدكتور جعفر السبحاني فيما نقله عنه الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان في كتابه توسعة المسعى عزيمة لا رخصة ، حيث قال : " أكدت الدراسات التاريخية والجغرافية والجيولوجية التي قامت بها اللجان المشرفة على توسعة المسعى أن هناك امتدادا سطحيا لجبل المروة لا يقل يقينا عن 25 مترا من الناحية الشرقية ، وهذا ما ثبت بعد دراسة عينات الصخور التي أخذت من الناحية الشرقية لجبل المروة ، والتي ظهرت مشابهتها لصخور المروة " . ( الحج في الشريعة الغراء لجعفر السبحاني 5 / 592 نقلا عن بحث الدكتور عبد الوهاب بو سليمان ص 66 )
كما أنه من المثير للانتباه أيضا أن توصيات تقرير هيئة المساحة الجيولوجية تضمنت صورا للآبار والمجسات المحفورة في منطقة المروة والعينات التي أخذت منها ، ولم تنشر صورا في المقابل تدل على حصول شيء من ذلك في جبل الصفا ( انظر توصيات تقرير هيئة المساحة في بحث الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان ص 22 )
والسؤال الذي يطرح نفسه هو : لماذا لم يتم القيام بهذه الدراسة الجيولوجية لجبل الصفا أيضا ، كما تم القيام بذلك في جبل المروة .(1/19)
ثالثا : اعتمد تقرير هيئة المساحة في توصياته على الخريطة الجيولوجية فقط لإثبات وجود امتدادات شرقية للصفا والمروة ، ولم يشر إلى الدراسة الجيولوجية التي أخذت فيها العينات من جبل المروة ، ولم يعتمد عليها في إثبات ذلك ، حيث جاء في بحث الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان ما يلي : قدمت هيئة المساحة الجيولوجية السعودية خريطة جيولوجية لمنطقة المسعى ، تم إعدادها قبل عشرين عاما موضحا عليها الامتدادات السطحية لجبلي الصفا والمروة قبل مشروع التوسعة السعودية الأولى حيث أثبتت :
أن جبل الصفا لسان من جبل أبي قبيس ، وأن لديه امتدادا سطحيا بالناحية الشرقية مسامتًا للمشعر بما يقارب 30 مترا .
أن جبل المروة يمتد امتدادا سطحيا مسامتا للمشعر الحالي بما يقارب 31 مترا".
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا أيضا : لماذا تم الاعتماد على الخريطة فقط ولم يتم الاعتماد على نتائج الدراسة الجيولوجية في إثبات الامتداد الشرقي لجبل المروة ؟ وهل كانت نتائج تلك الدراسة غير مفيدة في إثبات ذلك الامتداد ؟ وهل هذا هو السبب في الاكتفاء بالخريطة الجيولوجية لإثبات ذلك ؟
رابعا : ذكر تقرير دراسة الامتداد الشرقي لجبلي الصفا والمروة أن الخريطة الجيولوجية أثبتت وجود امتداد للصفا إلى 30 مترا من الناحية الشرقية ، وامتداد آخر للمروة إلى 31 مترا في الجهة الشرقية كذلك ، والمتأمل في الخريطة المنشورة يكتشف عدم دقة ذلك لأمور :
أ : الامتداد الشرقي الموجود في الخريطة لجبل الصفا يمتد لمسافة تزيد على 30 مترا بكثير ، حتى إن المطلع على الخريطة لو أجرى مقارنة بسيطة بين هذا الامتداد وبين طول أقصر ضلع من أضلاع المسجد الحرام الذي لا يقل عن 108 أمتار لوجد أن طول ذلك الامتداد قريب منه ، مما يدل على أن هذه البقعة أكبر بكثير من الامتداد المذكور للجبل في تقرير هيئة المساحة .(1/20)
ب : من الواضح للمتأمل في الخريطة أن الامتداد الشرقي الموجود فيها للصفا بالنسبة للمسعى القديم يزيد بكثير عن الامتداد الشرقي الموجود فيها للمروة بالنسبة للمسعى ، حتى إنه يكاد يصل إلى ضعف الامتداد الموجود فيها للمروة ، رغم أن التقرير ذكر أن امتداد الصفا الشرقي من المسعى 30 مترا فقط ، وامتداد المروة 31 مترا .
ملاحظة هامة
هناك مجموعة من الشواهد التاريخية التي ذكرها العلماء المجوزون للتشكيك فيما ذهب إليه المانعون من أن عرض الصفا تاريخيا هو المقدار المستوعب في المسعى القديم فقط ، وإثبات أن المسعى في الماضي كان أوسع وأعرض مما هو عليه الآن ، إلا أنهم في أثناء ذكرهم لهذه الشواهد لم يأتوا بشيء يدل على مقدار معين لعرض المسعى في الماضي ، ولا بحد واضح له يمكن التوقف عنده ، ولم يذكروا شيئا يدل على الجهة التي كان فيها هذا الامتداد أو الاتساع ، هل هي الجهة الشرقية ( التي تمت فيها التوسعة الجديدة ) أم الجهة الغربية (التي فيها المسجد الحرام ) ؟ وبالتالي فهي في الحقيقة عبارة عن مناقشة لمذهب العلماء المانعين للتشكيك فيه ، وليست أدلة على الجواز ، بحيث يمكن أن يستفاد منها في إثبات وجود امتداد شرقي للمسعى بمقدار معين ، وهذه الشواهد التاريخية هي :
1 : ما ذكره الدكتور سلمان بن فهد العودة حيث قال :
إن النبي صلى الله عليه وسلم عندما حج حجة الوداع كان معه أزيد من مائة ألف من الصحابة ، وهؤلاء إذا سعوا بين الصفا والمروة فلا شك أنهم سينتشرون في الوادي في مساحة هي أوسع من المسعى الحالي ، ولم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاهم عن تجاوز حد معين، ولم يكن هناك بناء أو جدار يحجزهم . ( بحث في المسعى الجديد ص 2 سلمان بن فهد العودة )(1/21)
إلا أن المتتبع لتاريخ مكة المكرمة والمسجد الحرام يعلم من خلال قراءة الكتب والمصادر التاريخية المهتمة بذلك أن جزءا كبيرا من بيوت أهل مكة ومنازلهم في الماضي كانت تقع في مقابلة الواجهات المختلفة للمسجد الحرام ، وأنه من الخطأ توهم أن البقعة المقابلة للواجهة الشرقية من المسجد الحرام ( أي المسعى) كانت فناء واسعا أو واديا رحبا يسعى فيه الناس دون تحديد أو ضيق ، أو أنها كانت تكفي لسعي مائة ألف رجل وامرأة بعضهم راكب في وقت واحد ، إلا إذا كان ذلك من باب خرق العادة والإعجاز الإلهي ، وهو أمر غير مستبعد طبعا ، بالذات في زمن النبوة ؛ لكن الثابت تاريخيا أن غالبية دور أهل مكة منذ زمن النبي عليه الصلاة والسلام كانت متراصة في مقابلة الواجهة الشرقية من المسجد الحرام ، من جهتي المسعى ، كما هو الحال مع بقية الواجهات الأخرى له ، حيث كانت هناك دور تفصل بين المسجد الحرام والمسعى ، وهي الدور التي أدخلت في المسجد الحرام في زيادة الخليفة العباسي المهدي رحمه الله الأولى ، تقابلها دور تطل على المسعى من الناحية الشرقية ، مثل دار العباس التي عليها العلم الأخضر الأول بالنسبة للمقبل من المروة ، والذي يمثل الحد الشرقي للمسعى القديم ، بل إن بعضا منها كان واقعا في أرض المسعى نفسها ، ولذلك تمت إزالته في التوسعة الثانية للمهدي ، وهي دار محمد بن عباد بن جعفر رحمه الله . قال عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما : السعي من دار ابن عباد إلى زقاق بني حسين . رواه البخاري وقال الأزرقي رحمه الله ( 2 / 15) : قال ابن جريج أخبرني نافع قال : فينزل ابن عمر من الصفا فيمشي حتى إذا جاء باب دار بني عباد سعى حتى ينتهي إلى الزقاق الذي يسلك إلى المسجد ، الذي بين دار ابن أبي حسين ودار ابنة قرظة .
وقال أيضا : فاشترى [أي المهدي] جميع ما كان بين المسعى والمسجد من الدور فهدمها ووضع المسجد على ما هو اليوم شارعا على المسعى . (2/137 )(1/22)
وقال ( 2/ 195 ) : وللعباس بن عبد المطلب أيضا الدار التي بين الصفا والمروة التي بيد ولد موسى بن عيسى التي إلى جنب الدار التي بيد جعفر بن سليمان، ودار العباس هي الدار المنقوشة التي عندها العلم الذي يسعى منه من جاء من المروة إلى الصفا بأصلها، ويزعمون أنها كانت لهاشم بن عبد مناف .
وقال أيضا ( 2 / 206 ) : ومن حق آل عايذ دار عباد بن جعفر بن رفاعة بن أمية بن عايذ في أصل جبل أبي قبيس ، من دار القاضي محمد بن عبد الرحمن السفياني إلى دار ابن صيفي ، التي صارت ليحيى بن خالد بن برمك ، إلى منارة المسجد الحرام الشارعة على المسعى، وكان بابها ، عند المنارة ومن عند بابها كان يسعى من اقبل من الصفا يريد المروة .
وانظر أيضا ما ذكره الأرزرقي عن دار الخطاب بن نفيل ودار جبير بن مطعم وربع آل الأزهر وآل قارظ القاريين وآل أنمار ودار مخرمة بن نوفل وغيرها ( تاريخ مكة 2 / 195 : 207 )
فهذه النصوص وغيرها تدل على أن المسعى القديم كان منذ زمن النبي عليه الصلاة والسلام محاطا بالدور من الجانبين ، ومحددا بها ، ولم يكن مجالا رحبا يمكن معه الالتباس في الخروج عن البينية .
2 : ما ذكره الدكتور سلمان بن فهد العودة أيضا من أن المسعى لم يكن قبل التوسعة السعودية مستقيمًا، بل كان منحنيًا متقوسًا ، كما يعرف ذلك من رسومات وصور المسعى قبل التوسعة ، ومنها الرسوم التي في الرحلات الحجازية ، وخريطة هيئة المساحة المصرية لعام (1948م) والتي تظهر الميلان الواضح ، مع أن المسعى القديم مستقيم غير منحنٍ ، وهذا يدل على إدخال بعض الأجزاء التي كانت خارجة عنه إليه ، أو إخراج بعض ما كان فيه خارجًا عنه . ( بحث في المسعى الجديد ص 2 سلمان بن فهد العودة )(1/23)
والذي ينبغي ذكره هنا والتنبيه عليه هو أن العلماء المانعين لا ينكرون حصول تغير في عرض المسعى في زمن الخليفة العباسي المهدي رحمه الله أدى إلى انحنائه وعدم استقامته ، وذلك بسبب أخذ الخليفة لجزء من المسعى مما يلي الركن الجنوبي الشرقي من المسجد الحرام وإدخاله في المسجد ، مع القيام بهدم أكثر دار ابن عباد بن جعفر وجعل المسعى والوادي فيها ، كما نص على ذلك الأزرقي والفاكهي رحمهما الله ، وترك جزءا منها بسبب وقوعه في أصل جبل أبي قبيس . انظر ( أخبار مكة للأزرقي الجزء 1 ص 138 ، 139 و الجزء 2 / 206 ) وانظر أيضا ( أخبار مكة للفاكهي ج 3 ص 467 و ج 5 ص 385 ) وهذا يؤيد أن المسعى في الماضي كان أوسع مما هو عليه
الآن ، لكن من الجهة الغربية ، وهي جهة المسجد الحرام ، وليس الجهة الشرقية ، وسيأتي مزيد توضيح لذلك من خلال شرح التطور التاريخي للمسعى في أدلة المانعين .
المطلب الثاني
عرض استدلال العلماء المانعين على أن التوسعة الجديدة
للمسعى خارجة عن الحدود العرضية للصفا والمروة
يرى العلماء المانعون أن التوسعة الجديدة للمسعى خارجة عن الحد الشرقي لجبلي الصفا والمروة ، و لا تتحقق فيها البينية ولا المسامتة ( أي المحاذاة ) لهما ، واستدلوا على ذلك بأربعة أدلة ، وهي :
الدليل الأول : أن الأصل في العبادات هو المنع والتوقف حتى تثبت
المشروعية بدليل قوي يفيد غلبة الظن .(1/24)
والسعي بين الصفا والمروة عبادة ، يجب التوقف فيها على ما ثبت بدليل قطعي أو ظني ، ولا يجوز إثبات المشروعية للسعي في مكان ما دون وجود أدلة قوية تفيد القطع أو غلبة الظن بأن هذا المكان هو المكان المقصود شرعا للسعي فيه ، ولا يكفي في إثبات ذلك مجرد أدلة تفيد الاحتمال فقط ، كالأدلة التي احتج بها العلماء المجوزون ، خاصة مع وجود شواهد وأدلة تاريخية تعارضها ، وما دام الأمر كذلك فإن الأصل هو المنع ، ووجوب التقيد بالمسعى القديم الذي ثبت بالتواتر والإجماع والشواهد التاريخية ، حتى تثبت الزيادة الجديدة بدليل قوي - كالدليل الذي ثبت به المسعى القديم مثلا - أو على الأقل دليل يفيد غلبة الظن وليس مجرد الاحتمال .
( قاعدة الأصل في العبادات هو المنع والتوقف : انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية ج29/ص17 والموافقات للشاطبي ج 2 / ص 300 ونيل الأوطار للشوكاني 2 / 20 و فتح الباري لابن حجر العسقلاني 3 / 54 و شرح الزرقاني على الموطأ 1 / 434 )
الدليل الثاني : قاعدة الأخذ بالأقل المتيقن ، وطرح الزيادة التي فيها شك .
وهو فرع من القاعدة الكلية التي تقول : اليقين لا يزول بالشك ، ويعبر عنها غالبا بقاعدة إلغاء الشك ، قال الإمام السيوطي رحمه الله في كتابه الأشباه والنظائر : اعلم أن هذه القاعدة تدخل في جميع أبواب الفقه ، والمسائل المخرجة عليها تبلغ ثلاثة أرباع الفقه وأكثر . ( الأشباه والنظائر للسيوطي ص 56 )
وقال عليه الصلاة والسلام فيمن عرض له الشك في شيء من صلاته : " فليطرح الشك ، وليبن
على ما استيقن " . ( رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري )
وحقيقة هذه القاعدة - كما قال ابن السمعاني : أن يختلف المختلفون في شيء مقدر بالاجتهاد على أقاويل ، فيؤخذ بأقلها عند إعواز الدليل . قال الزركشي رحمه الله : أي إذا لم يدل على الزيادة دليل .(1/25)
فهي عبارة عن الأخذ بالأقل المحقق وطرح المشكوك فيه فيما أصله البراءة ، والأخذ بما يخرج عن العهدة بيقين فيما أصله اشتغال الذمة . ( البحر المحيط في أصول الفقه للزركشي 4 / 338 وقواطع الأدلة في الأصول للسمعاني 3 / 82 )
قال صاحب كتاب تأسيس النظر : الدلالة في المقادير التي لا يسوغ الاجتهاد في إثبات أصلها متى اتفقت في الأقل واضطربت في الزيادة يؤخذ بالأقل فيما وقع الشك في إثباته وبالأكثر فيما وقع الشك في إسقاطه .
( تأسيس النظر للدبوسي ص 151 )
وفي مسألة التوسعة الجديدة للمسعى اتفقت الدلالة على إثبات الجزء القديم منه ، واضطربت في إثبات الزيادة التي تمت إضافتها إليه ، فيؤخذ بالأقل المتيقن المتفق على ثبوته ، ويطرح ما حصل الشك في إثباته ، وهو الزيادة الجديدة .
الدليل الثالث :
شهادة 6 من كبار العلماء بعضهم من أهل مكة بناء على طلب من مفتي المملكة في حينه الشيخ محمد بن إبراهيم آل شيخ رحمه الله عام 1378 هجري بأن عرض الصفا لا يتجاوز 16 مترا فقط .
حيث ذكر الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله في بعض فتاويه أنه قامت لجنة مكونة من الشيخ عبد الملك بن إبراهيم والشيخ عبد الله بن جاسر والشيخ عبد الله بن دهيش والشيخ علوي مالكي والشيخ محمد الحركان والشيخ يحيى أمان بحضور صالح قزاز وعبد الله بن سعيد مندوبي الشيخ محمد بن لادن بذرع الصفا كاملا ، بما في ذلك ما زاد على العقود الثلاثة القديمة - وجاء في تقرير اللجنة :
" وبالنظر لكون الصفا شرعًا هو الصخرات الملساء التي تقع في سفح جبل أبي قبيس ، ولكون الصخرات المذكورة لا تزال موجودة للآن وبادية للعيان ، ولكون العقود الثلاثة القديمة لم تستوعب كامل الصخرات عرضًا. فقد رأت اللجنة أنه لا مانع شرعًا من توسيع المصعد المذكور بقدر عرض الصفا .(1/26)
وبناء على ذلك فقد جرى ذرع عرض الصفا ابتداء من الطرف الغربي للصخرات إلى نهاية محاذاة الطرف الشرقي للصخرات المذكورة في مسامتة موضع العقود القديمة ، فظهر أن العرض المذكور يبلغ ستة عشر مترًا ، وعليه فلا مانع من توسعة المصعد المذكور في حدود العرض المذكور " (فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم 5/141)
الدليل الرابع :
ما ذكره كثير من العلماء والمؤرخين كالإمامين الأزرقي والفاكهي رحمهما الله أثناء وصفهم للتوسعة الثانية للخليفة العباسي المهدي رحمه الله في المسجد الحرام ، حيث قالوا : إن جبل أبي قبيس المتصل بالصفا من الناحية الشرقية يمتد غربا إلى الحدود الشرقية للمسعى القديم ، وبناء على ذلك فإن الجبل الموجود في الجهة الشرقية من المسعى هو جبل أبي قبيس ، ولا توجد امتدادات للصفا في الجهة الشرقية من الحد القديم للمسعى .(1/27)
ولتيسير فهم التطور التاريخي للمسعى والمسجد الحرام من خلال ما ذكره هؤلاء العلماء رحمهم الله ، وعلاقة ذلك بتحديد عرض جبل الصفا والحد الشرقي له ، يمكن الرجوع للرسم التقريبي الذي سبق عرضه في مقدمة هذا البحث ، والذي قمت بإعداده لشرح التوسعات المتكررة للمسجد الحرام منذ زمن النبي عليه الصلاة والسلام إلى زمن التوسعة السعودية الأخيرة للمسجد الحرام التي كانت قبل إضافة التوسعة الجديدة للمسعى ، ويوضح ذلك الرسم علاقة توسعة الخليفة العباسي المهدي رحمه الله للمسجد الحرام بالمسعى من الناحية الشرقية ، وعلاقتها بالوادي ( وادي إبراهيم ) من الناحية الجنوبية ، ولعله يفسر ما ذكروه في ذلك ، أو على الأقل يساعد في فهمه ، كما يوضح أيضا موقع بعض الدور التي كانت بين المسجد الحرام والمسعى ، والتي أدخلت في المسجد الحرام في التوسعة الأولى للخليفة العباسي المهدي رحمه الله ، كدار الأزرق بن أبي الأزرق ودار خيرة بنت سباع ، ويوضح أيضا مكان دار محمد بن عباد بن جعفر التي كان جزء منها داخلا في المسعى جنوبي الوادي ، ثم أزيلت وجعل الوادي ومسعى الناس فيها في التوسعة الثانية للخليفة المهدي رحمه الله في المسجد الحرام .
قال الإمام الأزرقي رحمه الله في كتابه أخبار مكة : تحت عنوان : ذكر زيادة المهدي الآخرة في شق الوادي من المسجد الحرام :(1/28)
قال جدي: لما بنى المهدي المسجد الحرام ، وزاد الزيادة الأولى ، اتسع أعلاه وأسفله وشقه الذي يلي دار الندوة الشامي ( أي الشق الشمالي ) ، وضاق شقه اليماني ( أي الجنوبي ) الذي يلي الوادي والصفا ، فكانت الكعبة في شق المسجد ( أي في الشق الجنوبي منه ولم تكن في وسطه ) ، وذلك أن الوادي كان داخلاً لاصقاً بالمسجد في بطن المسجد اليوم ، قال: وكانت الدور وبيوت الناس من ورائه في موضع الوادي اليوم ( أي أن الوادي كان لاصقا بالمسجد الحرام من الناحية الجنوبية قبل الزيادة الثانية للخليفة العباسي المهدي رحمه الله ، ولذلك كانت جميع التوسعات السابقة تتوقف عند حد الوادي من الناحية الجنوبية ، وتتوسع في الناحية الشمالية من المسجد والناحية الغربية منه ،، وقليل منها تم في الناحية الشرقية بسبب وجود المسعى فيها ، وخلف الوادي كانت تقع دور الناس ، فقام المهدي رحمه الله في توسعته الثانية بإدخال الوادي في المسجد ، وتحويل مجراه في مكان الدور بعد شرائها من أهلها وهدمها ) ، ... وكان المسعى في موضع المسجد الحرام اليوم ( أي أن المسجد في التوسعة الثانية للمهدي من الناحية الشرقية أخذ مكان المسعى القديم الذي سعى فيه النبي عليه الصلاة والسلام والصحابة رضوان الله عليهم ، حيث تم إدخاله في المسجد ) ، وكان باب دار محمد بن عباد بن جعفر عند حد ركن المسجد الحرام اليوم ، عند موضع المنارة الشارعة في نحر الوادي ، فيها علم المسعى ( أي أن المسجد وسع حتى بلغ باب دار ابن عباد التي كان المسعى أمامها ، فهدمت الدار ، وجعل المسعى فيها ، وذلك لتحقق البينية والمسامتة للصفا والمروة في الجزء الذي هدم منها ) .(1/29)
قال أبو الوليد: فلما حج المهدي أمير المؤمنين سنة أربع وستين ومائة ورأى الكعبة في شق من المسجد الحرام، كره ذلك ، وأحب أن تكون متوسطة في المسجد ، فدعا المهندسين فشاورهم في ذلك ... ثم خرج المهدي إلى العراق وخلف الأموال ، فاشتروا من الناس دورهم ... فابتدؤوا عمل ذلك في سنة سبع وستين ومائة ، واشتروا الدور وهدموها ، فهدموا أكثر دار ابن عباد بن جعفر العائذي ، وجعلوا المسعى والوادي فيها ( أي تقاطع الوادي مع المسعى فيها ) فهدموا ما كان بين الصفا والوادي من الدور، ثم حرفوا الوادي في موضع الدور .
( أخبار مكة للأزرقي الجزء 2 ص 138 ، 139 )
وقال في موطن آخر وهو يصف دور أهل مكة :
" ومن حق آل عايذ دار عباد بن جعفر بن رفاعة بن أمية بن عايذ في أصل جبل أبي قبيس ، من دار القاضي محمد بن عبد الرحمن السفياني إلى دار ابن صيفي ، التي صارت ليحيى بن خالد بن برمك ، إلى منارة المسجد الحرام الشارعة على المسعى ، وكان بابها عند المنارة ، ومن عند بابها كان يسعى من أقبل من الصفا يريد المروة ، فلما أن وسع المهدي المسجد الحرام في سنة سبع وستين ومائة وأدخل الوادي في المسجد الحرام ، أدخلت دار عباد بن جعفر هذه في الوادي ، اشتريت منهم وصيرت بطن الوادي اليوم ، إلا ما لصق منها بالجبل جبل أبي قبيس " أخبار مكة للأزرقي الجزء 2 / 206 )
وقال الفاكهي رحمه الله في أخبار مكة :(1/30)
وقد كان أمير المؤمنين المهدي أمر بعمارة المسجد الحرام والزيادة فيه في حجته الأولى ، فعمر وزيد فيه ما وصفنا ، فكان فيه تعويج ، فلما قدم في هذه السنة رأى الكعبة في شق من المسجد ، فكره ذلك ، وأحب أن تكون متوسطة في المسجد ، قال : فدعا المهندسين فشاورهم في ذلك ... فلما أراد أمير المؤمنين الشخوص إلى العراق خلف أموالا عظيمة ، فاشتروا من الناس دورهم ، وأرغبوهم ... ووضعوا أيديهم ، فهدموا الدور وبنوا المسجد ، وذلك في سنة سبع وستين ومائة ... وهدموا أكثر دار ابن عباد بن جعفر العائذي ، وجعلوا المسعى والوادي فيها ، وهدموا ما كان بين الصفا والوادي من الدور ، ثم حرفوا الوادي في موضع الدور .
( أخبار مكة للفاكهي ج 3 ص 467 )
وقال عن دار ابن عباد في موطن آخر : " ومن حق آل عائذ دار عباد بن جعفر بن رفاعة بن أمية بن عائذ في أصل جبل أبي قبيس ، بين دار القاضي محمد بن عبد الرحمن السفياني إلى دار ابن صيفي التي صارت ليحيى بن خالد بن برمك ، إلى المنارة الشارعة على المسعى ، وفيها كان ينزل سفيان الثوري إذا قدم مكة ... فدخلت هذه الدار دار ابن عباد في الوادي حين اشتريت منهم ، وما بقي منها لاصق بجبل أبي قبيس " ( أخبار مكة للفاكهي ج 5 ص 385 )(1/31)
وتوضيح ذلك أن الخليفة العباسي المهدي رحمه الله لما أراد القيام بتوسعة المسجد الحرام للمرة الثانية عام 167 هجرية كانت هناك دار تدعى دار محمد بن عباد بن جعفر في الجهة الشرقية من المسعى الذي كان يسعى فيه الناس والجنوبية من الوادي المتقاطع مع المسعى ، فقام رحمه الله بتوسيع المسجد الحرام وتأخير المسعى شرقا والوادي جنوبا بحيث صارا يتقاطعان في دار محمد بن عباد بن جعفر التي كان أكثرها واقعا في محاذاة ومسامتة جبل الصفا وتتحقق فيها البينية ، وتركوا منها جزءا لم يضموه للوادي بسبب أنه كان لاصقا بأصل جبل أبي قبيس ، فكان هذا النص التاريخي دليلا على أن جبل أبي قبيس يمتد غربا إلى الحدود الشرقية للمسعى القديم التي توقف عندها الخليفة العباسي المهدي رحمه الله ، وبالتالي لا يوجد امتداد للصفا خلفها ، والموجود هناك في الحقيقة هو جبل أبي قبيس .
ويقول الإمام أبو إسحاق الحربي رحمه الله في كتابه المناسك : " وحيال باب القاضي من طرف باب الصفا إلى منعرج الوادي جبل الصفا ، ثم الركن ركن المسجد فيه منارة ، وحيالها ( أي منارة المسجد) جبل أبي قبيس ، يتعرج خلف الصفا طرف منه " . ( كتاب المناسك لأبي إسحاق الحربي تحقيق حمد الجاسر ص 479 )
وهذا يؤكد ما ذكره الأزرقي والفاكهي رحمهما الله من أن جبل أبي قبيس يمتد للجهة الشرقية من المسعى القديم ، المحاذية والمقابلة لمنارة المسجد الحرام الشارعة على الصفا .
وهذه صورة أخرى جوية لجبل أبي قبيس تبين الحدود المتبقية منه :
الخاتمة
في نهاية هذا البحث أسأل الله سبحانه وتعالى أن أكون قد وفقت في عرض هذه المسألة وتبسيطها ، حتى يكون عونا للقراء والباحثين في تصورها وفهم أدلتها ، ومن ثم ترجيح ما يرونه أقرب إلى الحق والصواب فيها ، والله أعلم ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه .
المحتويات
المقدمة ... 2
تمهيد ... 2
في توضيح محل الخلاف في المسألة ... 2
المطلب الأول ... 3(1/32)
في بيان ما استدل به العلماء المجوزون على اتساع عرض الصفا شرقا ... 3
الفرع الأول ... 3
عرض الاستدلال التاريخي للعلماء المجوزين على سعة عرض الصفا شرقا ... 3
تحديد موقع دار الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي رضي الله عنه . ... خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة.
رأي الشيخ محمد طاهر الكردي رحمه الله في موقع دار الأرقم بن أبي ... 3
الأرقم رضي الله عنه : ... 3
تحقيق في نسبة القول - بدخول دار الأرقم بن أبي الأرقم في المسجد الحرام – ... 3
لابن كثير : ... 3
الفرع الثاني ... 3
عرض الاستدلال الجيولوجي للعلماء المجوزين على سعة عرض الصفا شرقا ... 3
ملاحظة هامة ... 3
المطلب الثاني ... 3
عرض استدلال العلماء المانعين على أن التوسعة الجديدة ... 3
للمسعى خارجة عن الحدود العرضية للصفا والمروة ... 3
الدليل الأول : أن الأصل في العبادات هو المنع والتوقف حتى تثبت ... 3
المشروعية بدليل قوي يفيد غلبة الظن . ... 3
الدليل الثاني : قاعدة الأخذ بالأقل المتيقن ، وطرح الزيادة التي فيها شك . ... 3
الدليل الثالث : ... 3
الدليل الرابع : ... 3
الخاتمة ... 3(1/33)