تنبيه أهل العصر بما جاء في الاضطجاع بعد ركعتي الفجر
للشيخ عقيل المقطري اليماني
باب الاضطجاع سنة وليس بواجب
وفيه بيان ثبوت صلاة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم
للركعتين بعد الوتر والاضطجاع بعد الوتر وبعد الركعتين
قال البخاري رحمه الله تعالى في كتاب التهجد (ج3 ص43) : باب من تحدث بعد الركعتين ولم يضطجع:
حدثنا بشر بن الحكم حدثنا سفيان قال حدثني سالم أبو النضر عن أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان إذا صلى فإن كنت مستيقظة حدثني وإلا اضطجع حتى يؤذن بالصلاة ، وأخرجه أيضاً عن علي ابن عبد الله عن سفيان بنحوه (ج3 ص 44).
وأخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين من ((صحيحه)) (متن ج1 ص 511) . وأخرجه أيضاً من طريق سفيان عن زياد ابن سعد عن ابن أبي عتاب عن أبي سلمة عن عائشة عن النبي مثله.
وأخرجه أبو داود في ((سننه)) (كتاب الصلاة (ج2 ص48) ، وأخرجه ابن خزيمة في ((صحيحه)) (ج2 ص 168) . وابن أبي شيبة في ((مصنفة)) (ج2 ص 249) ، كلهم من طريق سفيان بن عيينة بهذا السياق.
وكذا البيهقي في ((سننه الكبرى)) (ج 3 ص 45), وقال عقبة ورواه مالك بن أنس خارج الموطأ عن سالم أبي النضر فذكر الحديث عقيب صلاة الليل وذكر الاضطجاع بعد ركعتين قبل ركعتي الفجر ا. هـ.
قلت: وسيأتي إن شاء الله الكلام على الاضطجاع الذي بعد الركعتين بعد صلاة الليل.
وقد أخرج أبو داود في ((سننه)) (ج2 ص48) ، كما قال البيهقي آنفاً من طريق مالك عن سالم أبي النضر عن أبي سلمه ابن عبد الرحمن عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا قضى صلاته من آخر الليل نظر فإن كنت مستيقظة حدثني وإن كنت نائمة أيقظني وصلى الركعتين ، ثم اضطجع حتى يأتيه المؤذن فيؤذنه بصلاة الصبح فيصلي ركعتين خفيفتين ثم يخرج إلى الصلاة.(1/1)
وأخرجه أيضاً الدارمي من طريق مالك بنفس سند أبي داود ولفظه: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا صلى الركعتين قبل الفجر فإن كانت له حاجة كلمني بها وإلا خرج إلى الصلاة.
وأخرجه أحمد (ج6ص35) من طريق مالك فذكر الاضطجاع بعد صلاة الليل ولم يذكر ركعتي الفجر.
وكذا أخرجه البيهقي في ((سننه الكبرى)) (ج3 ص 36) وقال عقبة: وهذا بخلاف رواية الجماعة عن أبي سلمة ا. هـ.
قلت: الجماعة منهم ابن أبي عتاب وعمرو بن علقمة وهما يرويانها (أعني الضجعة) بعد الركعتين التي بعد الوتر ولم يذكرا ركعتي الفجر.
وأخرجه عبد الرزاق في ((مصنفه)) (ج3 ص 42) باب الضجعة بعد الوتر وباب النافلة من الليل من رواية سفيان ابن عيينة عن أبي النضر أو محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن عائشة فذكر الاضطجاع بعد الوتر.
قلت: رواية مالك عن أبي النضر شاذة كما نوه إلى ذلك البيهقي آنفاً فهو يذكر الاضطجاع بعد صلاة الوتر أو بعد الركعتين التي بعد الوتر ولا يذكره بعد ركعتي الفجر وقد خالف سفيان بن عيينه فسفيان يرويه عن سالم أبي النضر يذكر الاضطجاع بعد ركعتي الفجر وكذلك يرويه عن زياد بن سعد بذكره كذلك ، ولرواية سفيان شاهد من حديث عائشة كما تقدم ، ولهذا حكمت على رواية مالك بالشذوذ.
فائدة: قال أبو بكر الحميدي كان سفيان يشك في حديث أبي النضر ويضطرب فيه ، وربما شك في حديث زياد ويقول: ((تخلط علىَّ ثم قال غير مرة حديث أبي النضر كذا وحديث زياد كذا وحديث محمد بن عمرو كذا)) ا. هـ انظر ((السنن الكبرى)) للبيهقي (ج 3 ص 44).
قلت: رواية سفيان في هذا الموضع وافقت رواية أصحاب الزهري كما تقدم ، والذي ظهر لي من النصوص أنه كان للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ضجعتان الأولى بعد ركعتي الفجر والثانية بعد قيام الليل أو بعد الركعتين التي بعد الوتر والتي ثبتت عنه عليه الصلاة والسلام.(1/2)
فقال الإمام مسلم في ((صحيحه)) (ج1 ص 512): حدثنا محمد بن المثنى العنزي حدثنا محمد بن أبي عدي عن سعيد عن قتادة عن زرارة أن سعد بن هشام بن عامر أراد أن يغزو في سبيل الله فقدم المدينة فأراد أن يبيع عقاراً له بها فيجعله في السلاح والكراع ويجاهد الروم حتى يموت فلما قدم المدينة لقى أناساً من أهل المدينة فنهوه عن ذلك وأخبروه أن رهطاً ستة أرادوا ذلك في حياة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فنهاهم نبي الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقال ((أليس لكم فيَّ أسوة ؟)) فلما حدثوه بذلك راجع امرأته وقد كان طلقها وأشهد على رجعتها فأتى ابن عباس فسأله عن وتر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال ابن عباس: ألا أدلك على أعلم أهل الأرض بوتر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: من ؟ قال: عائشة فأتها فاسألها ثم ائتني بخبرها.... وفيه: أنبئيني عن وتر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقالت: كنا نعد له سواكه وطهوره فيبعثه الله ما شاء أن يبعثه من الليل فيتسوك ويتوضأ ويصلي تسع ركعات لا يجلس فيها إلا في الثامنة فيذكر الله ويحمده ويدعوه ثم ينهض ولا يسلم ثم يقوم فيصلي التاسعة ثم يقعد فيذكر الله ويحمده ويدعوه ثم يسلم تسليماً يسمعنا ثم يصلي ركعتين بعد ما يسلم وهو قاعد.... إلخ الحديث. ورواه أبو داود (ج2 ص 92- 93) وفيه ثم يضجع جنبه.
قلت: في هذا الحديث إثبات الركعتين التي بعد الوتر وإثبات الاضطجاع بعدهما.
وقال ابن خزيمة رحمه الله تعالى في ((صحيحه)) (ج2 ص 157) باب الرخصة في الصلاة بعد الوتر: نا أبو موسى محمد ابن المثنى ثنا ابن أبي عدي ، ثنا هشام و ثنا يعقوب بن إبراهيم سألت عائشة عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقلت: كان يصلي ثلاث عشرة ركعة يصلي ثمان ركعات ثم يوتر ثم يصلي ركعتين وهو جالس فإذا أراد أن يركع قام فركع ويصلي ركعتين بين الندائين. سنده صحيح.(1/3)
وانظر ((فتح الباري)) (ج3 ص42-43) حيث قال ابن حجر في شرحه لحديث عائشة ، أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم صلى العشاء ، ثم صلى ثمان ركعات ، وركعتين جالساً ، وركعتين بين الندائين ، ولم يكن يدعهما أبداً ،: وليس فيه ذكر الوتر وهو في رواية الليث ولفظه ((كان يصلي بثلاث عشرة ركعة تسعاً قائماً وركعتين وهو جالس)).
وأما الضجعة التي بعد الوتر: فقال البخاري رحمه الله تعالى في كتاب الوضوء (ج 1 ص 287) : حدثنا إسماعيل قال: حدثني مالك عن مخرمة بن سليمان عن كريب مولى ابن عباس أن عبد الله بن عباس أخبره أنه بات ليلة عند ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ــ وهي خالته ــ فاضطجعت في عرض الوسادة ، واضطجع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأهله في طولها. فنام رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حتى إذا انتصف الليل ، أو قبله بقليل ، أو بعده بقليل ، استيقظ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فجلس يمسح النوم عن وجهه بيده ، ثم قرأ العشر الآيات الخواتيم من سورة آل عمران ، ثم قام إلى شن معلقة فتوضأ منها فأحسن وضوءه ، ثم قام يصلي قال ابن عباس: فقمت فصنعت مثل ما صنع ، ثم ذهبت ، فقمت إلى جنبه فوضع يده اليمنى على رأسي ، وأخذ بأذني اليمنى يفتلها فصلى ركعتين ، ثم ركعتين ، ثم ركعتين ، ثم ركعتين ، ثم ركعتين ، ثم ركعتين ثم أوتر ، ثم اضطجع حتى أتاه المؤذن ، فقام فصلى ركعتين خفيفتين ، ثم خرج فصلى الصبح.
وأخرجه أيضاً (ج1 ص 287) ، (ج2 ص 477) , (ج3 ص 71) ، (ج8 ص 236-237) من طريق مالك عن مخرمة بن سليمان عن كريب مولى ابن عباس عن ابن عباس.(1/4)
ورواه مسلم (ج1 ص 526-527) وذكر الاضطجاع بعد الوتر أيضاً ، وأبو داود (ج1 ص100) بذكره كذلك ، والنسائي (ج3 ص 210 – 211 ) حديث رقم (1620) ، وابن ماجة (ج1 ص 433) ومالك (ج1 ص 368) مع ((شرح الزرقاني)) وأحمد (ج1 ص 242) جميعاً بذكره كذلك. ورواه أيضاً أحمد (ج1 ص 358) ولم يذكر الاضطجاع بالمرة.
وأخرجه ابن خزيمة (ج2 ص157-158) من طريق أحمد بن المقدام العجلي نابشر ــ يعني ابن المفضل ــ ثنا أبو سلمه عن أبي نضرة عن ابن عباس قال: زرت خالتي ميمونة ، فوافقت ليلة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقام رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بسحر طويل ، فأسبغ الوضوء ، ثم قام يصلي ، فقمت فتوضأت ، ثم قمت إلى جنبه فلما علم أني أريد الصلاة معه أخذ بيدي فحولني عن يمينه ، فأوتر بتسع أو سبع ، ثم صلى ركعتين ووضع حنبه حتى سمعت ضفيزه ، ثم أقيمت الصلاة فانطلق فصلى)) ومعنى ضفيزه أي غطيطه (انظر لسان العرب) . قال أبو بكر: هاتان الركعتان اللتان ذكرهما ابن عباس في هذا الخبر يحتمل أن يكون أراد الركعتين التي كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يصليهما بعد الوتر كما أخبرت عائشة ، ويحتمل أن يكون أراد بهما ركعتي الفجر اللتين كان يصليهما قبل صلاة الفريضة.
قلت: الأمر كما يقول ابن خزيمة كله محتمل والله أعلم.
قال ابن القيم في ((زاد المعاد)) (ج1 ص 82) : ومنهم من أنكر فعل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لها وقال الصحيح أن اضطجاعه كان بعد الوتر ، وقبل ركعتي الفجر كما هو مصرح به في حديث ابن عباس.
قلت: وقد تقدم الرد عليهم فلله الحمد والمنة.(1/5)
وقال الحافظ ابن حجر في ((فتح الباري)) (ج3 ص44) : تقدم في أول أبواب الوتر في حديث ابن عباس ، أن اضطجاعه صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقع بعد الوتر قبل صلاة الفجر ، ولا يعارض ذلك حديث عائشة لأن المراد به نومه صلى الله عليه وعلى آله وسلم بين صلاة الليل وصلاة الفجر وغايته أنه تلك الليلة لم يضطجع بين ركعتي الفجر وصلاة الصبح فيستفاد منه عدم الوجوب أيضاً. ا. هـ.
ونقل الشوكاني عن النووي رحمه الله تعالى كما في ((نيل الأوطار)) (ج3 ص26): ويحتمل أن يكون الاضطجاع قبلهما هو نومه صلى الله عليه وعلى آله وسلم بين صلاة الليل وصلاة الفجر. ا. هـ.
قلت: بالنسبة لنومه هذا قال البخاري رحمه الله (ج3 ص 16) باب من نام عند السحر: حدثنا علي بن عبد الله قال: حدثنا سفيان قال: حدثنا عمرو بن دينار أن عمرو بن أوس أخبره أن عبد الله بن عمرو ابن العاص رضي الله عنهما أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال له: ((أحب الصلاة إلى الله صلاة داود عليه السلام ، وأحب الصيام إلى الله صيام داود ، وكان ينام نصف الليل ، ويقوم ثلثه ، وينام سدسه ، ويصوم يوماً ويفطر يوماً)).
وأخرجه أيضاً في تسعة عشر موضعاً من ((صحيحه)).
وأخرجه مسلم (ج1 ص 816) وابن ماجة (ج1 ص 546) حديث رقم (1712) وأحمد (ج2 ص160).
ومما يحتمل نومه أو اضطجاعه صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعد الوتر ما ثبت أيضاً من حديث عائشة في البخاري (ج3 ص 32) ، قال رحمه الله: حدثنا أبو الوليد حدثنا شعبة ــ وحدثني سليمان قال: حدثني شعبة ــ عن أبي إسحاق عن الأسود قال: سألت عائشة رضي الله عنها كيف صلاة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالليل ؟
قالت: كان ينام أوله ، ويقوم آخره ، فيصلي ، ثم يرجع إلى فراشه ، فإذا أذن المؤذن وثب ، فإن كانت به حاجة اغتسل وإلا توضأ وخرج.(1/6)
وأخرجه مسلم (ج1 ص510) والنسائي (ج3 ص 320) وغيرهم وقد تقدم...باب الأمر بالاضطجاع بعد ركعتي الفجر وبيان شذوذ حديث أبي هريرة بالأمر به قال الإمام أبو داود رحمه الله تعالى في كتاب الصلاة (ج2 ص 47) باب الاضطجاع بعدها ــ أي ركعتي الفجر: حدثنا مسدد وأبو كامل وعبيد الله بن عمر عن ميسرة قالوا: حدثنا عبد الواحد حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((إذا صلى أحدكم الركعتين قبل الصبح فليضطجع على يمينه)) فقال له مروان بن الحكم: أما يجزئ أحدنا ممشاه إلى المسجد حتى يضطجع على يمينه ؟ قال عبيد الله في حديثه: قال: لا قال فبلغ ذلك ابن عمر فقال: أكثر أبو هريرة على نفسه ، قال: فقيل لا بن عمر: هل تنكر شيئاً مما يقول ؟ قال: لا ولكنه اجترأ وجبنا ، قال: فبلغ ذلك أبا هريرة قال: فما ذنبي إن كنت حفظت ونسوا.
وأخرجه الترمذي في ((جامعه)) (ج2 ص 281) ، باب ما جاء في الاضطجاع بعد ركعتي الفجر ، من طريق عبد الواحد بن زياد حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر فليضطجع على يمينه)).
وقال: حسن صحيح غريب من هذا الوجه.
قلت: قال الشيخ أحمد شاكر: وقال النووي في ((شرح مسلم)) : إسناده على شرط الشيخين ، وقال في ((رياض لصالحين)): إسناده صحيح ، وقال زكريا الأنصاري في ((فتح العلام)) : إسناده على شرط الشيخين.
قال: وهو كما قالا.
وقال أحمد شاكر أيضاً في ((تعليقه على الترمذي)) (ج2 ص282): فرط في هذه المسألة رجلان: ابن حزم ، إذ زعم أن هذه الضجعة واجبة ، وشرط في صحة صلاة الفجر ، وابن تيمية في الرد عليه حتى زعم أن حديث الباب باطل ، وليس بصحيح وأن الصحيح الفعل لا الأمر بها لأن ابن حزم يتمسك بلفظ الحديث وظاهره وأن الأمر للوجوب.(1/7)
قال: وقد قلنا في حواشي ((المحلى)) ما نصه: أفرط ابن حزم في التغالي جداً في هذه المسألة ، وقال قولاً لم يسبقه إليه أحد ولا ينصره فيه أي دليل ، فالأحاديث الواردة في الاضطجاع بعد ركعتي الفجر ظاهر منها أن المراد بها أن يستريح المصلي بعد طول صلاة الليل لينشط لفريضة الصلاة ، ثم لو سلمنا له أن الحديث الذي فيه الأمر بالضجعة يدل على وجوبها: فمن أين يخلص له الوجوب معناه الشرطية وأن من لم يضطجع لم تجزئه صلاة الغداة ؟
اللهم غفراً وما كل واجب شرط ثم إن عائشة روت ما يدل على أن هذه الضجعة إنما هي استراحة لانتظار الصلاة فقط وذكر حديث عائشة ((... فإن كنت مستيقظة حدثني وإلا اضطجع)) قال: وهو صريح في المعنى الذي قلناه أو كالصريح. قلت: لي وقفتان: الأولى عند قوله (أفرط ابن تيمية) فأقول إن كلام ابن تيمية رحمه الله هو التحقيق في هذه المسألة وسيأتي برهان ذلك إن شاء الله تعالى.
والثانية عند قوله: (المراد بها أن يستريح المصلي بعد طول صلاة الليل لينشط) . فأقول: هذا تأويل منه رحمه الله تعالى ، وكأنه أخذه من تأويل عائشة لذلك.وسيأتي أنه لم يثبت عنها. فهذا التأويل يحتاج إلى دليل.
وقال النووي رحمه الله تعالى في (المجموع) (ج3 ص 482) بعد ذكره لحديث أبي هريرة في الأمر بالاضطجاع:
صحيح رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم. ا. هـ.
قلت: رواه أيضاً ابن خزيمة في (صحيحه) (ج2 ص 167) ، من طريق عبد الواحد أيضاً ، ورواه أحمد أيضاً (ج2 ص 415) ، من طريقه , وابن حبان كذلك (موارد الضمآن) (ص161-162).(1/8)
والبيهقي في ((سننه الكبرى)) (ج3 ص 45) ، وقال عقبة: وهذا يحتمل المراد به الإباحة ، فقد رواه محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي صالح عن أبي هريرة حكاية عن فعل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا خبراً عن قوله ثم أسند الحديث. قلت: وأخرج الحديث حكاية عن فعله أيضاً ابن ماجة (ج1 ص 387) . وقال البيهقي عقبه: وهذا أولى أن يكون محفوظاً لموافقته سائر الروايات عن عائشة وابن عباس.
قلت: رواية الأعمش تعتبر شاذة كما أشار إليه البيهقي.
قال الشوكاني رحمه الله في ((نيل الأوطار) ) (ج3 ص 25) بعد ذكره لكلام البيهقي: (كونه من فعله أولى أن يكون محفوظاً) ونقله عنه أبو الطيب شمس الحق العظيم آبادي كما في رسالته ((إعلام أهل العصر)) والجواب عن هذا الجواب أن وروده من فعله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، لا ينافي كونه ورد من قوله فيكون عند أبي هريرة حديثان حديث الأمر به وحديث ثبوته من فعله على أن الكل يفيد ثبوت أصل الشرعية فيرد نفي النافين.
وذكر أبو الطيب أيضاً أن من الأجوبة التي ذكروها أن ابن عمر لما سمع أبا هريرة يروي حديث الأمر به قال أكثر أبو هريرة على نفسة.... إلخ.
قلت: هذا الكلام فيما لو ثبت الأمر بالاضطجاع ولكنه قد تفرد به عبد الواحد بن زياد عن الأعمش ، وفي روايته عن الأعمش مقال , قال الحافظ في التهذيب: وقال صالح ابن أحمد بن علي بن المديني سمعت يحيى بن سعيد يقول: ما رأيت عبد الواحد بن زياد يطلب حديثاً قط بالبصرة ولا بالكوفة ، وكنا نجلس على بابه يوم الجمعة بعد الصلاة أذاكره حديث الأعمش فلا يعرف منه حرفاً. ثم قال: وقال أبو داود: ثقة عمد إلى أحاديث كان يرسلها الأعمش فوصلها.
وقال الذهبي في ((ميزان الاعتدال)) مثل هذا الكلام وعد هذا الحديث من مناكيره.(1/9)
وقال ابن القيم في ((زاد المعاد)) (ج1 ص82) : وقال أبو طالب: قلت لأحمد: حدثنا أبو الصلت عن أبي كريب عن أبي سهيل عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، أنه اضطجع بعد ركعتي الفجر قال: شعبة لا يرفعه. قلت: فإن لم يضطجع عليه شيء , قال: لا , عائشة ترويه وابن عمر ينكره , وقال الخلال وأنبأنا المروزي أن أبا عبد الله (يعني الإمام أحمد) قال: حديث أبي هريرة ليس بذلك قلت: إن الأعمش يحدث به عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: عبد الواحد وحده يحدث به. ا. هـ.
وقال ابن القيم أيضاً في ((الزاد)) (ج1 ص 82) : وذكر الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، أنه قال: ((إذا صلى أحدكم الركعتين قبل صلاة الصبح فليضطجع على جنبه الأيمن)) قال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب ، وسمعت ابن تيمية يقول: هذا باطل وليس بصحيح ، وإنما الصحيح عنه الفعل لا الأمر بها والأمر تفرد به عبد الواحد بن زياد وغلط فيه. ا. هـ.
وقال الصنعاني في ((سبل السلام)) (ج2 ص 7) في الكلام على حديث أبي هريرة: قال ابن تيمية: ليس بصحيح لأنه تفرد به عبد الواحد بن زياد وفي حفظه مقال وقال المصنف (يعني ابن حجر) : والحق أن تقوم به الحجة إلا أنه صرف عن الوجوب ما ورد من عدم مداومته صلى الله عليه وعلى آله وسلم على فعلها.
وقال الشوكاني في (نيل الأوطار) (ج3 ص 25): إن حديث أبي هريرة من رواية عبد الواحد بن زياد عن الأعمش ، وقد تكلم فيه بسبب ذلك يحيى بن سعيد القطان وأبو داود وذكر الكلام الذي نقلناه من التهذيب والميزان ، ثم قال: وهذا من روايته عن الأعمش ، وقد رواه الأعمش بصيغة العنعنة وهو مدلس ا. هـ.
قلت: سيأتي عنه أنه يميل إلى تصحيحه والقول بوجوب الاضطجاع استناداً على حديث عبد الواحد هذا ، وأما عنعنة الأعمش عن أبي صالح فلا تضر كما قال الذهبي في ((ميزان الاعتدال)).(1/10)
ولقد جعل السيوطي رحمه الله تعالى حديث عبد الواحد هذا من أمثلة الشاذ في المتن فقال في ((تدريب الراوي)) (ج1 ص 235): ومن أمثلة الشاذ في المتن ما رواه أبو داود والترمذي من حديث عبد الواحد بن زياد عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعاً: ((إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر فليضطجع عن يمينه)) قال البيهقي: خالف عبد الواحد العدد الكثير في هذا فإن الناس إنما رووه من فعل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا من قوله ، وانفرد عبد الواحد من بين ثقات أصحاب الأعمش بهذا اللفظ. ا. هـ كلامه.
تنبيه: قال ابن حزم رحمه الله تعالى في كتابه ((المحلى)) (ج3 ص 196) : مسألة: كل من ركع ركعتي الفجر لم تجزه صلاة الصبح إلا بأن يضطجع على شقه الأيمن بين سلامه من ركعتي الفجر وبين تكبيره لصلاة الصبح ، وسواء عندنا ترك الضجعة عمداً أو ناسياً وسواء صلاها في وقتها أو صلاها قاضياً لها من نسيان أو عمد نوم. فإن لم يصلِ ركعتي الفجر لم يلزمه أن يضطجع ، فإن عجز عن الضجعة على اليمين لخوف أو مرض أو غير ذلك أشار إلى ذلك حسب طاقته فقط.
واستدل بحديث أبي هريرة الذي فيه الأمر بالاضطجاع وهو من طريق عبد الواحد بن زياد عن الأعمش. وتقدم الكلام عليه وبيان علته.
وقال (ص199): وحكم الناسي ههنا كحكم العامد ، لأن من نسى عملاً مفترضاً من الصلاة فعليه أن يأتي به لأنه لم يأت بالصلاة كما أمر إلا أن يأتي نص بسقوط ذلك عنه.
وإنما يكون النسيان بخلاف العمد في حكمين: أحدهما سقوط الإثم جملة هنا وفي كل مكان ، والثاني من زاد عملاً لا يجوز له ناسياً وكان قد أوفى جميع عمله الذي أمر به فإن هذا قد عمل ما أمر وكان ما زاد بالنسيان لغواً لا حكم له.(1/11)
فإن أدرك إعادة الصلاة في الوقت لزمه أن يضطجع ويعيد الفريضة وإن لم يقدر على ذلك إلا بعد خروج الوقت لم يقدر على الإعادة لما ذكرنا قبل ولا يجزئه أن يأتي بالضجعة بعد الصلاة لأنه ليس ذلك موضعاً ولا يجزئ عمل شيء في غير مكانه ولا في غير زمانه ولا بخلاف ما أمر به لأن هذا كله هو غير العمل المأمور به على هذه الأحوال وبالله التوفيق. ا. هـ
قلت: رحم الله ابن حزم فهذه هفوة منه وكما قال القائل: ((لكل جواد كبوة ولكل عالم هفوة)) وتقدم كلام الشيخ أحمد شاكر رحمه الله.
وقال ابن القيم في ((زاد المعاد)) (ج1 ص82) : وأما ابن حزم ومن تابعه فإنهم يوجبون هذه الضجعة ويبطل ابن حزم صلاة من لم يضطجعها بهذا الحديث (يعني حديث أبي هريرة) وهذا مما تفرد به عن الأمة ورأيت مجلداً لبعض أصحابه (ذكر المناوي ــ بضم الميم ــ صاحب ((فيض القدير)) أن هذا المجلد لابن حزم انظر (ج1 ص 390) قد نصر فيه هذا المذهب إلى أن قال: وقد غلا في هذه الضجعة طائفتان وتوسط فيها طائفة ثالثة فأوجبها جماعة من أهل الظاهر وأبطلوا الصلاة بتركها كابن حزم ومن وافقه وكرهها جماعة من الفقهاء وسموها بدعة.
وتوسط فيها مالك وغيره فلم يروا بها بأساً لمن فعلها راحة وكرهوها لمن فعلها استناناً واستحبها طائفة على الإطلاق. ا. هـ.
قلت: والأخير هو الحق إن شاء الله وهو الذي تدعمه الأدلة ، وكما قال القائل ((قطعت جهيزة قول كل خطيب)) فحديث عبد الواحد كما عرفت معل ولا حجة لمن تعلق به فالحمد لله.(1/12)
وقال ابن حجر رحمه الله في ((فتح الباري)) (ج3 ص 43 – 44) عند ترجمة البخاري ((باب من تحدث بعد الركعتين ولم يضطجع)) : وأشار بهذه الترجمة إلى أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يكن يداوم عليها وبذلك احتج الأئمة وحملوا الأمر الوارد بذلك في حديث أبي هريرة عند أبي داود وغيره على الاستحباب وأفرط ابن حزم فقال: يجب على كل أحد وجعله شرطاً لصحة صلاة الصبح ورد عليه العلماء. ا. هـ ملخصاً.
وقال المناوي في ((فيض القدير)) (ج5 ص 148) : وأفرط ابن حزم فأخذه بظاهرة فأوجب الاضطجاع على كل أحد وجعله شرطاً لصحة صلاة الصبح. اهـ.(1/13)