بسم الله الرحمن الرحيم
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الشيخ / أحمد فريد
الحمدُ لله الذي رضي من عباده باليسير من العمل، وتجاوز لهم عن الكثير من الزلل، وأفاض عليهم النعمةَ، وكتب على نفسه الرحمةَ، وضَّمَنَّ الكتابَ الذي كتَبه أنَّ رحمتَه سَبقتْ غضبه، دعا عبادَه إلى دار السلام، فعمهم بالدعوة حجةً منه عليهم وعدلًا، وخص بالهداية والتوفيق من شاء نعمةً منه عليهم وفضلًا، فهذا عدلُه وحكمتُه وهو العزيز الحكيم، وذلك فضله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
وأشهدُ أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة َعبدهِ وابن عبده وابن أمته، ومَنْ لا غنى به طرفة عين عن فضله ورحمته، ولا مطمع له في الفوز بالجنة والنجاة من النار إلا بعفوه ومغفرته، وأشهد أنَّ محمداً عَبْدُه ورسُولُه، أرسله رحمةً للعالمين، وقدوةً للعاملين، ومحجةً للسالكين، وحجةً على العباد أجمعين، وقد ترك أمته على الواضحة الغراء، والمحجة البيضاء، وسلك أصحابُه وأتباعُه على أثره إلى جنات النعيم، وعدل الراغبون عن هديه إلى صراط الجحيم، ليهلك منْ هلك عن بينة ويحيي منْ حيي عن بينة وإن الله لسميعٌ عليمٌ، فصلى اللهُ وملائكتُه وجميعُ عبادِه المؤمنين عليه كما وحد الله عز وجل وعرفنا به ودعا إليه وسلم تسليمًا.
أما بعدُ:(1/1)
فقد اطلعتُ على رسالة أخينا/ خالد البحر " تذكير الأتقياء بأحكام وفضائل شهر محرم وصيام عاشوراء " فألفيتُها مفيدةً في بابها، نافعةً في محرابها، ذكر فيها الأحاديث الصحيحة الواردة في فضل شهر الله المحرم، وكذا فضل صيام عاشوراء، وبين أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم هَمَّ أنْ يضم إليه تاسوعاء، ولكنه صلى الله عليه وسلم لحق بالرفيق الأعلى قبل أنْ يصوم تاسوعاء، فصار صيامُه من الثابت بالسنة القولية، وأما صيام الحادي عشر فلم يصح الحديث بضمه إلى التاسع والعاشر، إلا إذا لم يضبط بداية الشهر فيكون ذلك احتياطاً لصيام عاشوراء، وإذا كانت العلة في صيام تاسوعاء مع عاشوراء مخالفة اليهود – وهو مقصودٌ شرعي – فيمكن أنْ يقال مَنْ فاته صيام تاسوعاء فعليه بصيام الحادي عشر لمخالفة اليهود، فأسألُ الله تعالى أنْ يبارك لأخينا/خالد في عمره وعمله وقلمه، وأنْ لا تكون هذه هي آخر المصنفات، والله تعالى يمُن علينا وعليه بالطاعات، وأسباب الدرجات.
والحمدُ لله أولًا وآخرًا وظاهرًا وباطنًا.
كتبه
أحمد فريد
بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعين به ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه.
{ ّيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون } (1)
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا } (2)(1/2)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا } (3)
أما بعدُ:
فإنَّ أصدق الحديثِ كتابُ الله تعالى، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
فإنَّ الصوم من أجلِّ العبادات، وقربة من أعظم القُربات، ينبغي للمسلم أنْ يأخذ منه بحظ وافر فيصوم من السنة الأيام التي كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يحرصُ عليها ويَحثُ المسلمين على صِيَامِها، مصداقًا لقوله تعالى: { فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ } (4)
ولما جاء من حديث محمد بن مسلمة رضي الله عنه مرفوعًا: { إن لربكم في أيام دهركم نفحات فتعرضوا لها }(5)
ولقوله صلى الله عليه وسلم:{ بلغوا عني ولو آية...} الحديث (6)
وقوله عليه الصلاة والسلام: { مَنْ أحيا سنةً من سنتي فعمل بها الناسُ، كان له مثل أجر من عمل بها، لا ينقص من أجورهم شيئًا...}الحديث(1)
فالسعيدُ مَن استطاع أنْ يغتنم هذه المواسم والأوقات، وتقرب فيها إلى مولاه جلَّ في علاه بما فيها من وظائف الطاعات، التي تَحُطُ الخطيئات، وتزيد في الحسنات، وترفع الدرجات، فعسى أنْ تُصيبَه نفحةٌ من تلك النفحات، فيسعد بها سعادةً يأمن بعدها من النار وما فيها من اللفحات.
من أجل ذلك كله استعنتُ بالله عزَّ وجلَّ في إخراج هذه الورقات تذكيرًا بأمورٍ تتعلقُ بصيام عاشوراء، وفضل الصوم في شهر الله الحرام، أردنا بيانها لإخواننا وأحبتنا في الله تعالى، راجين ذخرها عند الله جلَّ وعلا، وسائلين مولانا الكريم أنْ ينفع بها الجميع في الدارين.(1/3)
وقبل الشروع في الموضوع أذكرُ للقراءِ الكرام بيانَ الرموز المستخدمة في الرسالة عِلْمًا بأني جَعلتُ ابتداءَ الرموزِ المدونة بجانب الحديث بعلامة صحيح البخاري، وبعده بعلامة صحيح مسلم، وبعده الموطأ أو المسند، وبعده بعلامة أصحاب السنن، وكان الأولى تقديم الموطأ والمسند، لأنَّ مالكًا وأحمدَ رحمة الله عليهم جميعًا أكبر الجماعة وأقدمهم، وأجلهم منزلةً وقدْرًا، ولكن لاشتهار كتابي البخاري ومسلم بالصحة، وانفرادهما بالشرط الذي لم يَنْفَرد به واحدٌ من باقي الكتب، قَدمتُهما ثم اتبعتهما علامة الموطأ ثم علامة مسند أحمد، وبعده بعلامة الترمذي، وبعده بعلامة أبي داود، وبعده بعلامة النسائي، وبعده بعلامة ابن ماجه، وإنْ تقدم أحدُ هؤلاءِ الأربعة على الآخر، فلا بأس، وأما الأحاديث التي في غير ما تقدم من كتب فأثبت بجوارها ما يناسبها من الرموز أو اسم المصنف وهي كالتالي:
خ: البخاري م: مسلم ط: الموطأ حم: أحمد ت: الترمذي
د: أبو داود ن: النسائي هـ: ابن ماجه طب: الطبراني
الأحاديث الواردة في فضلها
==========
1 - ... عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قَدِمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فسُئلوا عن ذلك فقالوا هذا اليوم الذي أظهر الله فيه موسى وبني إسرائيل على فرعون فنحن نصومه تعظيمًا له، فقال النبيُ صلى الله عليه وسلم نحن أولى بموسى منكم فأمر بصومه.
وفي روايةٍ: فقال لهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ما هذا اليوم الذي تصومونه فقالوا هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه وغرق فرعون وقومه فصامه موسى شكرًا فنحن نصومه، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فنحن أحق وأولى بموسى منكم فصامه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأمر بصومه. ...(1/4)
2 - ... وعن ابن عباس ( أيضًا ) رضي الله عنهما..... وسُئل عن صيام يوم عاشوراء فقال: ما علمت أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صام يومًا يَطْلُبُ فَضْلَه على الأيام إلا هذا اليوم ولا شهرًا إلا هذا الشهر يعني رمضان.
... وفي روايةٍ: ما رأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يتحرى صيامَ يومٍ فضله على غيره إلا هذا اليوم يوم عاشوراء، وهذا الشهر يعني شهر رمضان. ...
3 - ... وعنه أيضًا: حين صام رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا يا رسول الله إنه يوم تُعَظِّمه اليهود والنصارى فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فإذا كان العامُ المقبل إنْ شاء الله صمنا اليوم التاسع، قال: فلمْ يأتِ العام المقبل حتى تُوفي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم.
4 - عن الرُّبَيِّع بِنْتِ مُعَوِّذِ بن عَفْرَاء رضي الله عنها قالت: أرسل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة مَنْ كان أَصْبَحَ صائمًا فَلْيُتِمَّ صومَه، ومَنْ كان أصبح مُفْطِرًا فَلْيُتِمَّ بَقيَّةَ يَوْمِه فَكُنَّا بعد ذلك نَصُومه ونُصَوِّمُ صبياننا الصغار منهم إن شاء الله ونذهب إلى المسجد فنجعل لهم اللعبة من العهن فإذا بكى أحدُهم على الطعام أعطيناها إياه عند الإفطار.
... وفي روايةٍ: ونصنع لهم اللعبة من العهن فنذهب به معنا فإذا سألونا الطعام أعطيناهم اللعبة تلهيهم حتى يتموا صومهم.
...
5 - ... عن سلمة بن الأ كوع رضي الله عنه قال: { أمر النبيُ صلى الله عليه وسلم رجلًا من أَسْلم أنْ أذن في الناس أنَّ مَنْ كان أكل فليصم بقية يومه، ومَنْ لم يكن أكل فَلْيصُم فإنَّ اليوم يوم عاشوراء } ... ...
6 - ... عن عائشة رضي الله عنها قالت: { كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أمر بصيام يوم عاشوراء، فلما فُرِضَ رمضانُ كان من شاء صام ومن شاء أفطر }(1/5)
وفي روايةٍ: { كان يومُ عاشوراء تصومه قُريشٌ في الجاهلية، وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يصومُه في الجاهلية، فلما قدم المدينةَ صامَه وأمر بصيامه، فلما فُرضَ رمضانُ ترك عاشوراء، فمَنْ شاء صامه، ومَنْ شاء تركه }
7 - ... وعنها أيضًا قالت: {كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يأمر بصيامه قبل أن يُفْرَض رمضان فلما فُرض رمضان كان مَنْ شاء صام يوم عاشوراء ومَنْ شاء أفطر }
...
8 - ... عن جابر بن سَمُرة رضي الله عنه قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بصيام يوم عاشوراء ويحثنا عليه ويتعاهدنا عنده فلما فُرض رمضان لم يأمرنا ولم ينهنا ولم يتعاهدنا عنده. ...
9 - ... وعن أبي قتادة رضي الله عنه، في الرجل الذي أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: كيف تصوم ؟ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم .... وصيام يوم عاشوراء أحتسبُ على الله أن يكفر السنة التي قبله.
وفي روايةٍٍ: { يكفر السنة الماضية } ... ...
وفي روايةٍ للنسائي: [ صومُ يوم عاشوراء كفارةُ سنة ]
10 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:{ أفْضلُ الصيامِ بعد رمضان شهرُ اللهِ المحرم، وأفْضلُ الصلاةِ بعد الفريضة صلاةُ الليل } ...
وهذا تصريحٌ بأنَّ المحرم أفضلُ الشهورِ للصومِ نفلًا.
ما يُسْتفادُ مِنْ هذه الأحاديث وغيرها مما جاء في معناها:
***********************
* شهر محرم من الأشهر الحُرُم التي ذكرها الله تبارك وتعالى في قوله:
{ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } التوبة:36(1/6)
وقد قال النبيُ صلى الله عليه وسلم: { السنةُ اثنا عشر شهرًا منها أربعةٌ حرم ، ثلاثُ متواليات : ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجبُ مضر الذي بين جمادى وشعبان }(11)
* سُمي هذا الشهر محرمًا لتحريم القتال فيه(12) وقيل لتحريم الجنة فيه على إبليس(13)
والأول أصح.
* كان صومُ يوم عاشوراء واجبًا في الابتداء قبل أنْ يُفْرض رمضان، فلما فُرض رمضان، فمَنْ شاء صام عاشوراء ومَنْ شاء ترك، ثبت ذلك من حديث كلٍ مِن: عائشة وابن عمر ومعاوية في [الصحيحين ]، وابن مسعود وجابر بن سمرة عند [مسلم] وقيس بن سعد بن عبادة، عند [ النسائي ].
? في هذا الشهر يوم عاشوراء وهو اليوم العاشر منه، يدلُ عليه حديثُ ابن عباس رضي الله عنهما ( الحديث الثالث) وهذا هو الصواب.
قال الزين بن المنير رحمة الله تعالى عليه: الأكثر على أنَّ عاشوراء هو اليوم العاشر من شهر الله المحرم وهو مقتضى الاشتقاق والتسمية.(1)
شهرُ المحرم مُباركٌ ميمون والصومُ فيه مُضاعفٌ مسنون
وثوابُ صائمهِ لوجه إلههِ في الخُلدِ عند مَليكه مخزون
? اتفاق العلماء على أنَّ صيامَه سنة وليس بواجب، حيث كان للنبي صلى الله عليه وسلم في صيامه أربع حالات:
الحالة الأولى: أنه كان صلى الله عليه وسلم يصومه بمكة ولا يأمر الناس بالصوم، [ كما في الحديث السابع عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها]
الحالة الثانية: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة ورأى صيامَ أهل الكتاب له وتعظيمَهم له، وكان يحب موافقتهم فيما لم يُؤمر به، صامَه وأمرَ الناسَ بصيامه وأكَّد الأمر بصيامه والحث عليه حتى كانوا يُصومونه أطفالهم،[ كما في الحديث الأول عن ابن عباس، الرابع عن سلمة، الخامس عن الرُّبَيِّع- رضي الله عنهم جميعًا](1/7)
الحالة الثالثة: أنَّه لما فُرض صيامُ شهرِ رمضان ترك النبيُ صلى الله عليه وسلم أمرَ الصحابة بصيام عاشوراء وتأكيدَه فيه، وقد سبق حديثُ عائشة رضي الله عنها في ذلك [ الحديث السابع، الثامن، عن جابر بن سمرة، وفي الصحيحين عن ابن عمر- رضي الله عنهم جميعًا ]
الحالة الرابعة: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم عزم في آخر عمره على أنْ لا يصومه مفردًا بل يضُم إليه يومًا آخر مخالفةً لأهل الكتاب في صيامه،[ كما في الحديث الثالث، عن ابن عباس- رضي الله عنهما] اهـ (1)
* في الحديث الأول دليلٌ على أنَّ التوقيت كان في الأمم السابقة بالأهلة ( الشهور القمرية ) وليس بالشهور الشمسية ولا الإفرنجية، لأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأنَّ اليوم العاشر من محرم هو اليوم الذي أهلك اللهُ تعالى فيه فرعونَ وجندَه ونجى موسى عليه السلام وقومه.
* وفي الحديث الثاني جمع ابنُ عباس رضي الله عنهما بين عاشوراء ورمضان – وإنْ كان أحدُهما واجبًا والآخرُ مندوبًا – لاشتراكهما في حصول الثواب، لأنَّ معنى " يتحرى " أي يقصدُ صومَه لتحصيل ثوابه والرغبة فيه(2)
* الظاهرُ أنَّه صلى الله عليه وسلم كان يصوم يوم العاشر، ثُمَّ هَمّ بصوم التاسع فمات قبل ذلك، ثم ما هَمّ به من صوم التاسع يحتمل معناه أنه لا يقتصر عليه، بل يضيفه إلى اليوم العاشر إمَّا احتياطًا له وإما مخالفةً لليهود والنصارى وهو الأرجح وبه يُشْعِرُ بعضُ روايات مسلم.اهـ [ قاله الحافظ ابنُ حجر العسقلاني رحمة الله تعالى عليه](3)
قال الإمامُ النووي رحمة الله تعالى عليه: قال الشافعيُ وأصحابُه وأحمدُ وإسحاقُ وآخرون: [ يُستحبُ صومُ التاسع والعاشر جميعًا لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم صام العاشر ونوى صيام التاسع ](4)(1/8)
وقال الطيبي: لم يَعِشْ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى القابل، بل تُوفِي في الثاني عشر من ربيع الأول، فصار اليومُ التاسع من المحرم صومه سنة وإنْ لم يصمه لأنَّه عزم على صومه(5)
قال التوربشتي: قيل أُريد بذلك أن يَضُم إليه يومًا آخر ليكون هديُه مخالفًا لأهل الكتاب، وهذا هو الوجه لأنه وقع موقع الجواب لقولهم أنه يوم يُعظِّمه اليهود(6)
قلتُ: إما كون همه صلى الله عليه وسلم بصوم التاسع إضافةً للعاشر إمَّا احتياطًا له، وإما مخالفةً لليهود والنصارى.
فدليلُ الأول ( الاحتياط ):ما أخرجه الطبرانيُ في الكبير من حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا:
{ إنْ عشتُ إن شاءَ اللهُ إلى قابل صُمْتُ التاسعَ مخافةَ أَنْ يفوتني يومُ عاشوراء}(1)
ودليلُ الآخر ( المخالفة ): الحديث الثالث المذكور سابقًا عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وما أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (7839) ومن طريقه البيهقي 4/287 عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفًا: { صوموا اليوم التاسع والعاشر وخالفوا اليهود } وسنده صحيح.
قولُ النبي صلى الله عليه وسلم: { نحن أولى بموسى منكم } لماذا ؟
الجواب: لأنَّ التفريق بين الله ورسلهِ كفرٌ، كما أخبر بذلك المولى تبارك وتعالى في قوله { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأََعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا * وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا } (2)(1/9)
وإنَّما كان التفريقُ بين الله ورسلهِ كفرًا لأنَّه سبحانه وتعالى فرض على الناس أنْ يعبدوه بما شرع لهم على ألسنة الرسل، ولأنَّه ما من نبي إلا وقد أمر قومَه بالإيمان بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم وبجميع الأنبياء، فمَنْ كفر برسولٍ واحدٍ فقد كفر بجميع الرسل ويدل عليه قولُه تعالى: { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ } (3)، وغيرها من الآيات.
فالمؤمنون آمنوا بجميع كتب الله ورسله، ولم يكذبوا بشيء من كُتُبِه، ولا كذبوا أحدًا من رسله، بل اتبعوا ما قال الله لهم { قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } (4)
فرسولُ الله صلى الله عليه وسلم أحقُ بموسى من اليهود، لأنَّ اليهود كفروا به عليه السلام، وكفروا بعيسى عليه السلام، وكفروا بمحمدٍ – صلى الله عليه وسلم - فصامه وأمر الناس بصيامه إلا أنه أمر أنْ يخالفوا اليهود الذين لا يصومون إلا اليوم العاشر، كأنْ نصوم التاسع، أو الحادي عشر، مع العاشر، أو الثلاثة.
ولهذا ذكر بعضُ أهلِ العلمِ، كابن القيم وغيرِه رحمة الله تعالى عليهم أجمعين أنَّ صيامَ عاشوراء على ثلاث مراتب، فقال: أكملها أنْ يصام قبلَه يومٌ وبعدَه يومٌ (1)
ويلي ذلك أنْ يُصَامَ التاسعُ والعاشرُ وعليه أكثرُ الأحاديث.
ويلي ذلك إفرادُ العاشرِ وحده بالصوم.(2)1 هـ
قلتُ: لَكِنْ إفرادُ العاشرِ وحدَه بالصوم فيه خلافٌ بين العلماء.
فمنهم من قال: إنَّه يُكره: وهو قولُ ابن عباس رضي الله عنهما وأبي حنيفة رحمة الله عليه.
وقال بعضُهم: إنَّه لا يُكْرَه: وهو اختيارُ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه قال: وصيام عاشوراء كفارة سنة، ولا يُكره إفراده بالصوم(3)(1/10)
ومنهم من قال: إنَّه لا يُكْرَه، ولكنه لا يحصل على الأجر التام إذا أفرده.(4)
قلتُ: الراجحُ أنه يتأكدُ استحباب أَنْ يُصَام معه التاسع، لعدة أمور:
منها: فعلُ ما أراد النبيُ صلى الله عليه وسلم أنْ يفعله، لقوله صلى الله عليه وسلم: { فإذا كان العامُ المقبلُ إن شاء اللهُ صُمْنا اليومَ التاسع }
وفي لفظٍ: { لإنْ بقيتُ إلى قابل لأصومن التاسع }(5)
وهذا آخر أمر النبي صلى الله عليه وسلم.
ومنها: وجوبُ مخالفة اليهود والنصارى، فإنهم يصومون يومَ عاشوراء فقط.
ومنها: الاحتياطُ في صومه حذرًا من الغلط في حساب الأيام، وخشية فواته كما جاء صريحًا في حديث ابن عباس رضي الله عنهما الذي أخرجه الطبراني السابق ذكره.
وعلى ذلك: فالأفضلُ مطلقًا أنْ يُصَام التاسعُ والعاشرُ هذا إذا ثبتت رؤيةُ الهلالِ لشهر الله المحرم، وأما إذا لم تثبت رؤيةُ الهلال ( فالأصلُ تمام الشهر ) فتُصامُ هذه الأيام الثلاثة " التاسع والعاشر والحادي عشر".
فقد نقل العلامة ابن قُدامة المقدسي قولَ الإمام أحمد رحمهم الله جميعًا: ( فإنْ اشتبه عليه أول الشهر صام ثلاثة أيام، وإنما يفعل ذلك ليتقن صوم التاسع والعاشر)(1)
وفي رواية الميموني قال: فإنْ اختُلِفَ في الهلال صامَ ثلاثة أيام احتياطًا، وكذلك روي عن ابن إسحاق أنَّه صام يوم عاشوراء ويومًا قبله ويومًا بعده وقال: إنما فعلتُ ذلك خشية أنْ يفوتني، وروي عن ابن سيرين أنَّه كان يصوم ثلاثة أيام عند الاختلاف في هلال الشهر احتياطًا(2)
ويُضاف إليها صيام أيام البيض [ ثالث عشر ورابع عشر وخامس عشر] ويضاف إليها [ سادس عشر ] احتياطًا لصيام الخامس عشر، اللَّهُمَّ إلا إذا رؤي الهلالُ وثبت دُخول الشهر، فلا احتياط حينئذ.
وهذا هو اللائق لا سيما مع فضيلة الصيام في شهر الله المحرم على سائر الشهور غير رمضان كما جاء في الأحاديث.(1/11)
* يتأكدُ الترغيب في صيام عاشوراء لعموم الأحاديث الواردة في ذلك، ولترغيب الرسول صلى الله عليه وسلم وأمره بصيامه وبيان أنَّه يكفر سنة كما جاء في حديث أبي قتادة [ الحديث التاسع ] وأيُ تأكيدٍ أبلغُ من هذا ؟؟؟
ثم إنه لم يخالف أهلَ الكتاب بترك صيامه، بل بصيام يوم قبله، أو يوم بعده، أو هما معًا " التاسع والحادي عشر مع العاشر "، [ بالتفصيل الذي سبق ] فبهذا تكون المخالفة لأهل الكتاب، لا بترك صيامه مخالفةً لهم وهم يصومونه، ففضلُ اليوم ثابتٌ لا سيما مع لفظة { يَطْلبُ فَضْلَه على الأيام } كما في الحديث الثاني، فيُصَامُ ويُزاد عليه للمخالفة.
ويُزاد عليه ما جاء من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: { كان يومُ عاشوراء تصومه قريشٌ في الجاهلية، وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يصومه في الجاهلية، فلما قدم المدينة صامَه وأمر بصيامه ... } الحديث [ راجع الحديث السادس ]
فهو ثابتُ الفضلِ على كل حالٍ عند أهل الكتاب وغيرهم، وهذا مما يقوي أنْ يُصام التاسعُ إضافةً إليه، ويقوي كذلك أمرَ وجوب مخالفة اليهود والنصارى.
? كان الصحابةُ رضي الله عنهم جميعًا يعرفون فضل عاشوراء فيصومونه ولا يتركونه [ و رمضان قد فُرض صيامُه ] بل ولمعرفة فضله كانوا يُصَوِّمون صبيانهم الصغار [ الذين لا صوم عليهم في الفرض أصلًا ] يرجون بذلك فضل هذا اليوم تأسيًا وإقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك واضحٌ جلي من الحديث الرابع [ حديث الرُّبَيِّع بنت مُعَوِذ رضي الله عنها ]
فانظر إلى قولها: [ فكنا بعد ذلك نصومه ونصوم صبياننا الصغار منهم ](1/12)
فقولها: [ بعد ذلك ] دالٌ على استمرارهم على صيامه، فإنَّ المحرم لم يمض على الصحابة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة إلا مرة واحدة قبل فرضية رمضان، فإنَّ رمضان فُرض في السنة الثانية من الهجرة بلا خلاف في ذلك، وقبله كان المحرم في سنة ثنتين، وأمَّا المحرم في أول سنة للهجرة فلم يكونوا [ ومعهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ] بالمدينة، إذ الهجرة كانت في شهر ربيع الأول على الصحيح ثم إنَّ الرُّبَيِّع رضي الله عنها قد بينت باللفظ [ بعد ذلك ]
فما معنى هذه اللفظة ؟ أنها – لا شك – تعني بعد أول عام أرسل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى قرى الأنصار غداةَ عاشوراء يَأمُر من كان صائمًا أنْ يتم صومه، ويَأمُر من أصبح مُفطرًا أنْ يتم بقية يومه، { فكنا بعد ذلك نصومه ونصوم صبياننا الصغار } وهي رضي الله عنها ما روت الحديث إلا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتأمل هذا يرحمك الله يتضح لك ما فيه، فتغنم.
* من معرفتهم بفضل عاشوراء أنهم كانوا يُصَوِّمون صبيانَهم الصغار الذين لا يجبُ عليهم الصومُ أصلًا، ثم إنَّ الصغار يواجهون المشاق ويبكون جوعًا فيصبرونهم ويعطونهم { اللعبة من العهن } ويعللونهم بها رجاءَ أنْ يتموا صوم عاشوراء، ويلهونهم { باللعُب } حتى يتموا صومهم.
* في تعويد الصحابة رضي الله عنهم جميعًا صبيانَهم الصغار على الصوم الدليل الواضح على أنه يجب إظهار بعض الشعائر في المجتمع، حتى عند غير المكلفين، حتى يتربى لديهم صدقُ الانتماء لهذا الدين الحنيف وأهله.
فلنعم القوم هم أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم. فتشبهوا إنْ لم تكونوا مثلهم ... إنَّ التشبه بالرجال فلاح
ولنعم التربية التي كانوا يُربون عليها أولادهم.(1/13)
ولنعم مناهج التربية التي ربوا عليها " منهج الصوم العبادي " الذي قال الله تعالى فيه كما جاء في الحديث القدسي الذي أخرجه البخاريُ وغَيرُه: { الصيامُ لي وأنا أجزي به } فهلا أخذنا به ؟ !!!
* في الحديث الأخير، حديث أبي هريرة رضي الله عنه، التصريحُ بأنَّ أفضل صيام التطوع صوم شهر المحرم، وهذا يدلُ على أنَّ الأعمال الصالحة إذا وقع فعلُها في وقت شريف تضاعف أجرها، لأنَّ من صام يومًا في سبيل الله باعد النار عن وجهه سبعين خريفًا، والأحاديثُ الواردة في ذلك كثيرةٌ مشهورة، فإذا وقع صيامُ اليوم في وقت شريف كانت المباعدةُ عن النار أعظم، ومن الوقت الشريف الذي يُضاعف فيه أجور الأعمال الصالحة شهر الله المحرم.
ومما يؤكد أيضًا أفضلية الصوم فيه ما أخرجه الإمام الترمذيُ وحسنه من حديث علي رضي الله عنه: { أنه سمع رجلًا يسألُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو قاعدٌ فقال: يا رسول الله أي شهر تأمرني أنْ أصوم بعد شهر رمضان ؟ فقال: {إن كنت صائمًا بعد شهر رمضان فصُم المحرم فإنَّه شهرُ الله }
وقد أشكل ذلك على بعض أهل العلم، وقالوا: بل شهر شعبان أفضل، فإنَّه جاء في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها: { ما كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يصوم في شهر ما كان يصوم في شعبان، كان يصومه إلا قليلًا }
وإنَّه لم يُحفَظْ عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه كان يصوم شهر المحرم، لكنه حث على صيامه بقوله:{ إنه أفضل الصيام بعد رمضان }
وقد أجاب الإمام النووي رحمة الله تعالى عليه عن ذلك بجوابين فقال:
الأول: لعله إنما علم فضله في آخر حياته.
الثاني: لعله كان يعرض فيه أعذار من سفر أو مرض أو غيرهما(1)
قلتُ: الصوابُ أنَّ الفضل ثابتٌ لكلِ شهرٍ بوجهٍ يختلفُ عن الآخر، وأنَّ إكثار النبي صلى الله عليه وسلم من الصوم في شهر شعبان يرجعُ إلى سببين فيما أعلم:
الأول: أنَّه لما سُئل عليه الصلاة والسلام عن صيامه، فأجاب بقوله:(1/14)
{ شعبانُ بين رجب ورمضان، يَغْفُل الناسُ عنه، تُرفع فيه أعمال العباد، فأحب أنْ لا يُرفع عملي إلا وأنا صائم } أخرجه النسائي والبيهقي في شعب الإيمان عن أسامة رضي الله عنه.(2)
الثاني: أنَّه يعقبه شهرُ رمضان، وصومُ رمضان مفترض، وكان صلى الله عليه وسلم يصوم بعد رمضان ستة أيام من شوال(3)
فيكون هذا الصوم الذي في شعبان وشوال شبيهًا بالسنن والرواتب التي تكون قبل الفريضة وبعدها.
أمَّا صيامُ شهر المحرم فإنه يكون بعد الفريضة كما هو واضح جلي في الحديثين المتقدمين، حديث أبي هريرة وحديث علي رضي الله عنهما، والإنسانُ يعتريه النقص والتقصير في العبادة، فكان من رحمة الله وحكمته أنْ جعل للفرائض ما يماثلها من التطوع، وذلك من أجل سد وترقيع الخلل الذي يقع فيها من وجه، ومن أجل زيادة الأجر والثواب للعاملين من وجه آخر.
وقد جاء في الحديث:{ انظروا هل لعبدي من تَطُوِّع؟ فَيُكَمَّلُ بها ما انْتَقص من الفريضة }(4)
قال الحافظُ ابنُ رجب رحمة الله تعالى عليه:[ أفضل التطوع ما كان قريبًا من رمضان قبله وبعده، وذلك يلتحق بصيام رمضان لقربه منه، وتكون منزلته من الصيام بمنزلة السنن الرواتب مع الفرائض قبلها وبعدها، فيلتحق بالفرائض في الفضل وهي تكملة لنقص الفرائض، وكذلك صيام ما قبل رمضان وبعده، فكما أن السنن الرواتب أفضل من التطوع المطلق بالصلاة، فكذلك صيام ما قبل رمضان وبعده أفضل من صيام ما بَعُدَ منه، ويكون قوله صلى الله عليه وسلم: { أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم } محمولًا على التطوع المطلق بالصيام، فأمَّا ما قبل رمضان وبعده فإنه يلتحق به في الفضل، كما أنَّ قولَه في تمام الحديث: { وأفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل } إنما أُريد به تفضيل قيام الليل على التطوع المطلق دون السنن الرواتب عند جمهور العلماء خلافًا لبعض الشافعية والله أعلم ](1)(1/15)
* سمى النبيُّ صلى الله عليه وسلم المُحرم شهر الله، وإضافته إلى الله تدل على شرفه وفضله، فإن الله تعالى لا يضيف إليه إلاَّ خواصّ مخلوقاته، كما نسب محمدًا وإبراهيمَ وإسحاقَ ويعقوبَ وغيرَهم من الأنبياء- عليهم جميعًا الصلاةُ والسلام- إلى عبوديته، ونسب إليه بيته وناقته.
ولما كان هذا الشهر مختصًا بإضافته إلى الله تعالى، كان الصيامُ من بين الأعمال مضافًا إلى الله تعالى فإنه له من بين الأعمال ناسَبَ أَنْ يختص هذا الشهرُ المضاف إلى الله بالعمل المضاف إلى الله بالعمل المضاف إليه المختص به وهو الصيام.اهـ(2)
ولكن حيث ثبت إنه صلواتُ ربي وسلامُه عليه لم يَصُمْ شهرًا كاملًا إلا رمضان، كما ورد في حديث عبد الله بن شقيق العقيلي قال:{ سألتُ عائشةَ عن صوم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالت: كان يصوم حتى نقولَ: قد صامَ، قد صامَ، ويُفْطِرُ حتى نقولَ: قد أفطر، قد أفطر،وما رأيتُه صام شهراً كاملاً منذ قدم المدينةَ، إلا أنْ يكون رمضان }(3)
وفي روايةٍ قالت: { ما علمتُه صام شهرًا كُلَّه إلا رمضانَ، ولا أفطره كُلَّه حتى يَصُومَ منه، حتى مضى لسبيله}(4)
فلا بد من حمل الحديث على الحث والترغيب في الإكثار من التطوع بالصيام في شهر الله المحرم.
قال الحافظُ ابنُ رجب رحمة الله تعالى عليه: ولما كانت الأشهر الحرم أفضل الأشهر بعد رمضان أو مطلقًا، وكان صيامها كلها مندوبًا إليه كما أمر النبيُ صلى الله عليه وسلم، وكان بعضها ختام السنة الهلالية، وبعضها مفتاحًا لها، فمَنْ صام شهر ذي الحجة سوى الأيام المحرم صيامها منه وصام المحرم فقد ختم السنة بالطاعة وافتتحها بالطاعة، فيُرجى أنْ تُكتب له سنته كلها طاعة، فإنَّ مَنْ كان أول عمله طاعة وآخره طاعة فهو في حكم من استغرق بالطاعة ما بين العملين.اهـ (1)(1/16)
? من فضل الله علينا أنْ أعطانا بصيام يوم واحد تكفير ذنوب سنة كاملة - والله ذو الفضل العظيم – وكلنا يا أخي المسلم مذنب ومقصر، ألا فلنغتنم فضل صيام عاشوراء ليكفر لنا ذنوب سنة مضت، ولنستقبل صفحة جديدة بيضاء نقية ونحن في مستهل عام هجري جديد، عسى الله أن يغفر لنا ما قد سلف، وأنْ يعيننا على أنْ نحسن فيما بقي، وأنْ نرقى ومعنا أمتنا في مدارج الكمال والظفر والفلاح ويكون لنا العز في الدنيا والفلاح في الآخرة، وقد ذكر بعضُ أهل العلم أنَّ الحكمة في زيادة صوم عرفة في التكفير عن صوم عاشوراء أنَّه من شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وصوم عاشوراء من شريعة كليم الرحمن موسى عليه السلام، وشريعةُ نبينا محمد خليل الرحمن صلى الله عليه وسلم أفضل كما هو معلوم.
قال ابنُ القيم رحمة الله تعالى عليه: فإنْ قيل: لم كان عاشوراء يكفر سنة، ويوم عرفة يكفر سنتين؟
قيل: فيه وجهان:
أحدهما: أنَّ يوم عرفة في شهر حرام وقبله شهرٌ حرامٌ وبعده شهرٌ حرامٌ، بخلاف عاشوراء.
الثاني: أنَّ صوم يوم عرفة من خصائص شرعنا، بخلاف عاشوراء، فضوعف ببركات المصطفى صلى الله عليه وسلم.(2)
قلت: قد ورد في حديث أبي قتادة رضي الله عنه قوله صلى الله عليه وسلم:{ صومُ يومِ عرفةَ يُكفِّرُ سنتين، ماضيةً ومُستقبلةً... الحديث}(3)
وقد استشكل تكفيره السنة الآتية، لأنَّ التكفير التغطية، ولا تكون إلا لشيء قد وقع.
وأجيب: بأنَّ المرادَ يُكفرهُ بعدَ وقوعِه، أو المراد أنَّه يَلْطف به فلا يأتي بذنب فيها بسبب صيامه ذلك اليوم.
قال الإمامُ النوويُ رحمة الله تعالى عليه: فإنْ لم تكن صغائر كفر من الكبائر، وإنْ لم تكن كبائر كان زيادة في رفع الدرجات.اهـ (1)(1/17)
* على المسلم أنْ لا يتكل على صيام هذا اليوم مع مقارفته للكبائر إذ الواجب التوبة من جميع الذنوب قال ابن القيم رحمة الله تعالى عليه: [ وكاغترار بعضهم على صوم يوم عاشوراء أو يوم عرفة حتى يقول بعضهم: يوم عاشوراء يكفر ذنوب العام كلها ويبقى صوم عرفة زيادة في الأجر ولم يدر هذا المغتر أنَّ صوم رمضان والصلوات الخمس أعظم وأجل من صيام يوم عرفة ويوم عاشوراء وهي إنما تكفر ما بينهما إذا اجتنبت الكبائر فرمضان إلى رمضان والجمعة إلى الجمعة لا يقويا على تكفير الصغائر إلا مع انضمام ترك الكبائر إليها فيقوي مجموع الأمرين على تكفير الصغائر فكيف يكفر صوم تطوع كل كبيرة عملها العبد وهو مصر عليها غير تائب منها هذا محال على أنه لا يمتنع أن يكون صوم يوم عرفة ويوم عاشوراء يكفر لجميع ذنوب العام على عمومه ويكون من نصوص الوعد التي لها شروط وموانع ويكون إصراره على الكبائر مانعا من التكفير فإذا لم يصر على الكبائر تساعد الصوم وعدم الإصرار وتعاونًا على عموم التكفير كما كان رمضان والصلوات الخمس مع اجتناب الكبائر متساعدين متعاونين على تكفير الصغائر مع أنه سبحانه قد قال إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم فعلم أنَّ جعل الشيء سببًا للتكفير لا يمنع أنْ يتساعد هو وسببٌ آخر على التكفير ويكون التكفير مع اجتماع السببين أقوى وأتم منه مع انفراد أحدهما وكلما قويت أسبابُ التكفير كان أقوى وأتم وأشمل ] ا.هـ (2)
ويجب التنبه إلى أنَّ أمر العبادة قائم على الإتباع، فلا يجوز إحداث عبادات لم تشرع، كما لا يجوز تخصيص عاشوراء ولا غيره من الأزمان الفاضلة بعبادات لم ينص عليها الشارع الحكيم في ذلك الزمن، أما الأنبياءُ ـ عليهم الصلاة والسلام ـ فعباداتهم شرعٌ معصومٌ مبني على وحي الله عزَّ وجلَّ إليهم.
ثم اقتفاء آثار الأنبياء وتحقيق الاهتداء بهديهم والاجتهاد في تطبيق سنتهم هو الشكر بعينه.(1/18)
وأختمُ بذكر بعض البدع التي أُحدثت في هذا اليوم
**************
? من الأحداث المُنْكَرة: ما يفعله بعضُ أهل الأهواء في يوم عاشوراء، من: التّعَطُّشِ والحُزْن والتَّفَجُّع وغير ذلك من الأمور المنكرة المحدثة، التي لم يَشْرَعْها اللهُ سبحانه وتعالى ولا رسولُه صلى الله عليه وسلم، ولا أحدٌ من السلف، لا من أهل البيت ولا من غيرهم، رضي الله تعالى عنهم جميعًا، وإنما كانت مصيبة، وقعت في الزمن الأول، بقتل الحسين بن علي-رضي الله عنهما- يجب أنْ تُتَلقى بما تُتَلقى به المصائب من الاسترجاع المشروع، والصبر الجميل، دون الجزع والتفجع وتعذيب النفوس، الذي أحدثه أهلُ البدع في هذا اليوم، وضموا إلى ذلك من الكذب والوقيعة في الصحابة البرآء أُمور أُخرى، مما يكرهه اللهُ سبحانه وتعالى ورسولُه صلى الله عليه وسلم.
* كان مقتل الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما في يوم عاشوراء من شهر المحرم على المشهور،(1) فانقسم الناس إلى طائفتين:
طائفة تتخذ يوم عاشوراء يوم مأتم وحزن ونياحة، وتظهر فيه شعار الجاهلية من لطم الخدود، وشق الجيوب، والتعزي بعزاء الجاهلية ... وإنشاد قصائد للحزن، ورواية الأخبار التي فيها كذب كثير، والصدق فيها ليس فيه إلا تجديد الحزن والتعصب، وإثارة الشحناء والحرب، وإلقاء الفتن بين أهل الإسلام، والتوسل بذلك إلى سب السابقين الأولين ... وشر هؤلاء وضررهم على أهل الإسلام لا يحصيه الرجل الفصيح في الكلام.(2)
وطائفة أخرى من الجهال تمذهبت بمذهب أهل السنة، قصدوا غيظ الطائفة الأولى، وقابلوا الفاسد بالفاسد، والكذب بالكذب، والبدعة بالبدعة، فوضعوا الأحاديث في فضائل عاشوراء، والأحاديث في شعائر الفرح والسرور يوم عاشوراء.(3)
والطائفتان مبتدعتان خارجتان عن السنة. ونحن براء من الفريقين، فأهل السنة يفعلون في هذا اليوم ما أمر به النبيُ صلى الله عليه وسلم من الصوم، ويجتنبون ما أمر به الشيطان من البدع. (1)(1/19)
قلتُ: نخلصُ من هذا إلى أنَّ اتخاذ أيام المصائب مآتم، ليس من دين الإسلام البتة، بل هو إلى الجاهلية أقرب، ثم هم فَوَّتوا على أنفسهم صوم هذا اليوم، مع ما فيه من الفضل.
قال الحافظُ ابنُ رجب رحمة الله تعالى عليه: [أما اتخاذه مأتمًا كما تفعله الرافضة لأجل قتل الحسين بن علي – رضي الله عنهما فيه: فهو من عمل من ضلَّ سعيه في الحياة الدنيا وهو يحسب أنه يُحْسِنُ صنعًا ولم يأمر اللهُ ولا رسولُه صلى الله عليه وسلم باتخاذ أيام مصائب الأنبياء وموتهم مأتمًا، فكيف بمَنْ دونهم } ا.هـ(2)
? لم يَرِدْ فيما يفعله بعض الناس في يوم عاشوراء من الكحل، والاغتسال، والحنّاء، والمصافحة، وطبخ الحبوب، وإظهار السرور، وغير ذلك – لم يَرِدْ في شيء من ذلك حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه، ولا استحب ذلك أحدٌ من أئمة المسلمين، ولا الأئمة الأربعة ولا غيرهم، ولا روى أهلُ الكتب المعتمدة في ذلك شيئًا، لا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة ولا التابعين، لا صحيحًا ولا ضعيفًا، لا في كتب الصحيح ولا في السنن ولا المسانيد، ولا يُعرف شيء من هذه الأحاديث على عهد القرون الفاضلة.(3)
وقال الفيروز آبادي: وباب فضائل عاشوراء ورد استحباب صيامه، وسائر الأحاديث في فضله وفضل الصلاة فيه، والإنفاق، والخضاب، والادهان، والاكتحال، وطبخ الحبوب، وغير ذلك، مجموعه موضوع ومفترى.(4)
وحديثُ التوسعة على الأهل: { مَنْ وسع على عياله وأهله يوم عاشوراء، أوسع الله عليه سائر سنته }
قال عنه الشيخُ الألباني رحمة الله تعالى عليه: طرقه كلها واهية، وبعضها أشدُّ ضعفًا من بعض.(5)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله تعالى عليه: وقد رُوي في الفضل في التوسيع فيه على العيال آثار معروفة: أعلى ما فيها حديث إبراهيم بن محمد بن المنتشر عن أبيه قال:
[ بلغنا أنه من وسَّع على أهله يوم عاشوراء وَسَّع الله عليه سائر سنته] رواه عنه ابن عيينة.(1/20)
وهذا بلاغ منقطع لا يُعرف قائله.والأشبه أنَّ هذا وضع لما ظهرت العصبية بين الناصبة والرافضة،فإن هؤلاء أعدوا يوم عاشوراء مأتمًا، فوضع أولئك فيه آثارًا تقتضي التوسع فيه واتخاذه عيدًا. وكلاهما باطل.
إلى قوله: وقد يكون سبب الغلو في تعظيمه من بعض المنتسبة لمقابلة الروافض.
فإنَّ الشيطان قصده أن يُحرِّف الخلق عن الصراط المستقيم، ولا يبالي إلى أي الشِّقَّين صاروا، فينبغي أن تُجتنب جميع هذه المحدثات.(1)
وأمَّا ما يفعلونه اليوم من أنَّ عاشوراء يختص بذبح الدجاج وغيرها، ومن لم يفعل ذلك عندهم فكأنه ما قام بحق ذلك اليوم، وكذلك طبخهم فيه الحبوب، وغير ذلك، ولم يكن السلف رضوان الله عليهم يتعرضون في هذه المواسم ولا يعرفون تعظيمها إلا بكثرة العبادة والصدقة والخير واغتنام فضيلتها، لا بالمأكول، بل كانوا يبادرون إلى زيادة الصدقة وفعل المعروف.(2)
وبذلك تعلم أنَّ الشرع لم يخص عاشوراء بعمل غير الصيام، وهذا منهج الرسول صلى الله عليه وسلم { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ والْيَوْمَ الآخِرَ وذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا } (3)
وكم فات على أولئك المنشغلين بتلك البدع من اتِّباع النبي صلى الله عليه وسلم والعمل بسنته!
فينبغي لطالب العلم وغير طالب العلم، كلُ من علم سنةً، ينبغي أنْ يبينها في كل مناسبة، ولا تقل أنا لستُ بعالم، نعم لستَ بعالم، لكن عندك علم، فينبغي للإنسان أنْ ينتهز الفرص، كلما سنحت لنشر السنة، فانشرها يكن لك أجرها، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة.
قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: { بلغوا عني ولو آية... الحديث }(1)
وقال صلى الله عليه وسلم: { مَنْ أحيا سنة من سنتي فعمل بها الناسُ كان له مثل أجر مَنْ عمل بها، لا ينقص مِنْ أجورهم شيئًا }(2)(1/21)
وهذا ما أردنا أنْ نوقف إخواننا عليه من بعض ما جاء في صيام عاشوراء وشهر المحرم وفضله، سائلين مولانا الكريم رب العرش العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يوفقنا وإخواننا المسلمين لما يحبه ويرضاه، ونسألُه سبحانه أنْ يرزقنا الإخلاص والسداد والصلاح في النية والقول والعمل في كل ما نأتي وما نذر إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.
اللَّهُمَّ اجعلنا من السابقين إلى الخيرات، الفارين من المنكرات، الآمنين في الغرفات مع الذين أنعمت عليهم ووقيتهم السيئات، اللَّهُمَّ أعذنا من مضلات الفتن، وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، اللَّهُمَّ ارزقنا شكر نعمتك وحسن عبادتك، واجعلنا من أهل طاعتك وولايتك، اللَّهُمَّ يسرْ لنا أمورنا واستُرْ عُيوبَنا وأصلح فساد قلوبنا، اللَّهُمَّ إنَّا نسألُكَ الجنةَ وما قرَّب إليها منْ قول أو عمل، ونَعُوذُ بك من النار وما قرَّب إليها منْ قولٍ أو عملٍ، اللَّهُمَّ ثبتنا على الحقِّ وتوفَّنا عليه، وآتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.(1/22)