المقاصد الشرعية والأبعاد المصلحية
لنظام الوقف في ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية
إعداد
د. عبد الرحمن بن جميل بن عبد الرحمن قصاص
أستاذ مساعد بقسم الدعوة والثقافة الإسلامية
كلية الدعوة وأصول الدين - جامعة أم القرى - مكة المكرمة
ص. ب: 13090 مكة - فاكس: 5583888
ت: 0505512475 - عمل: 5563845
E: lehyani88@yahoo.com
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئاتِ أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله الله وحده، لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله،
أمّا بعد؛
فمن منن الله المنّان سبحانه وتعلى علينا أن هدانا للإيمان، وجعلنا من أتباع هذا الدين العظيم الخالد، الذي اتّسم بصفات وانفرد بخصائص؛ منها: شموله وكماله وربانيته، وأنّه صالح لكل زمان ومكان.
ومن خلال هذه الخصائص العليا نلمح شمول هذا الدين الإسلامي ليصل على كافة ما تحتاجه البشرية جمعاء اليوم وغدًا، وما احتاجته سابقًا وبالأمس.
وكانت لفروع هذا الدين مقاصد وغايات، ومصالح وأبعاد تنطلق عبرها هذه الأحكام وفق شريعة الله المبنية على الكتاب والسنة وفقه السلف الصالح رحمهم الله تعالى.
فتناولت قلمي مسطِّرًا ما فتح الله تعالى به عليَّ في إبراز خصائص ومقاصد وأبعاد نظام الوقف الإسلامي، فكان هذا البحث بعنوان:
(المقاصد الشرعية والأبعاد المصلحية لنظام الوقف في ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية).
وانضوت خطته تحت لوائه حسب التفصيل التالي:
- مقدمة.
- المبحث الأول: من خصائص نظام الوقف الإسلامي.
- المبحث الثاني: مقاصد الوقف الإسلامي وأبعاده.
- المبحث الثالث: أصول وقواعد شرعية يرجع إليها في هذا الموضوع.
- خاتمة.
هذا والله أسأل أن يجعله خالصًا لوجهه سبحانه مباركًا فيه. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه وأزواجه وذريته.
والله تعالى أعلم.
وكتب(1/1)
عبد الرحمن بن جميل قصاص
مكة المكرمة - ليلة الأربعاء 13/9/1425هـ
المبحث الأول
من خصائص نظام الوقف في الإسلام
لقد امتاز نظام الوقف الإسلامي بمميزات نالها بانتمائه إلى شريعة الله تعالى التي اصطفاها واختارها لعباده المؤمنين، فما نجده من خصائص في نظام الوقف في الإسلام إنما يمثل فرعًا وامتدادًا لأصول وجذور خصائص هذا الدين الإسلامي العظيم.
ومن هذا المنطلق أحاول في هذا المبحث تناول شيءٌ من خصائص نظام الوقف في الإسلام، وهي تدل من يراها ويسمع بها على ما وراء من بقية الخصائص التي لم أتعرض لها هنا.
فمن هذه الخصائص ما يلي:
أولاً: أن نظام الوقف في الإسلام ربّاني شرعيّ غير وضعيّ.
فشريعة الوقف وأحكامه أمر بها رب العالمين سبحانه وتعالى، وتولى شرعها للناس إكمالاً لأصول الدين وفروعه التي رضيها لنا سبحانه، وإتمامًا لنعمة الله تعالى علينا، يقول الله العليم الحكيم سبحانه: ?اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا? (المائدة: 3).
بينما لم يكن قبل الإسلام وقف لله تعالى وفي سبيله سبحانه كما هو في ظل الإسلام، قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: (لم يحبس أهل الجاهلية - فيما علمته - دارًا ولا أرضًا تبررًا بحسبها، وإنما حبس أهل الإسلام) (
1).
وصفة الربّانية تُضفي على هذا النظام أصوليته وفضله، كما أن شرعيته تنفي عنه تعرضه لأفكار البشر وآرائهم وابتداعهم. فهو نظام أصيل بذاته جاءت نصوص نبوية في تأصيله وتشريعه.
فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله ( : "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له"(2).(1/2)
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أصاب عمر بخيبر أرضًا، فأتى النبي ( فقال عليه الصلاة والسلام: "إن شئت حبّست أصلها، وتصدقت بها". فتصدق عمر أنّه لا يُباع أصلها، ولا يوهب ولا يورث، وإنما هي صدقة في الفقراء والقربى والرقاب وفي سبيل الله والضيف وابن السبيل، ولا جُناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، أو يطعم صديقًا غير متموّل فيه(3).
ثانيًا: شمول هذا النظام واتّساعه:
إن من يطالع ما كتبه الأئمة من فقهائنا رحمهم الله تعالى حول ا لوقف وأحكامه وغاياته يرى الأبواب المتعددة والمسائل ذوات العدد المتكاثرة والأمور الدقيقة والتفصيلية التي تناولوها مما يدل على شمول نظام الوقف واتّساعه جدًا؛ فهو يشمل الوقف الأهلي: الذي يوقفه المرء على نفسه وذريته وهكذا، كما يشمل الوقف الخيري: الذي يوقف على جهات البر والإحسان والمعروف، وتوجد أوقاف تجمع بينهما. كما يتسع نظام الوقف ليشمل جميع أنواع ومجالات الخير؛ الدينية والدنيوية من مساجد ومكتبات ومدارس ومعاهد وجامعات ومشفيات ومقابر ومؤسسات خيرية ومنازل وأربطة ومواقع خيرية، وثغور .. إلخ.
ولا يقتصر أداء نظام الوقف في الإسلام على المسلم وحده، بل توجد أوقاف عامة تشمل المسلم وغيره، كما وجدت أوقاف خصصت في القديم والحديث للإنفاق على غير المسلمين، وإصلاح معاشهم وإعانتهم، وتأليف قلوبهم ودعوتهم، وتعرض الفقهاء رحمهم الله تعالى لمسائل من ذلك، وخصصوا لها حيّزًا في كتبهم المتخصصة مما يدل على عناية الإسلام بغير المسلمين من جهة الوقف وأحكامه وتشريعاته(4). ووجد من الأوقاف ما شمل الحيوانات أبضًا (البهائم والطيور).
ثالثًا: ثباته واستمراره، وعدم انقطاعه:(1/3)
يمتاز نظام الوقف الإسلامي بثباته واستقراره، ودوامه واستمراره، وعدم انقطاعه لأنه جزء من دين عظيم الثبات علامته. والوقف الأصل فيه طلب ثباته واستقراره ودوامه، فقد صحّ عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له"(5).
والوقف أدوم الصدقات؛ لأن الأصل فيه البقاء، وهو تحبيس الأصل وبقاؤه مع تسبيل الثمرة والانتفاع بالغلّة.
وما زال الفقهاء يُوصون نُظّار الأوقاف بالمحافظة على وُلّوا حتى يدوم ويثبت ويستمر، ولا ينقطع.
واختلفوا في نقل الوقف من موضع إلى آخر أو تغييره بخير منه إذا احتيج إلى ذلك على أقوال مفصّلة في كتب الفقه، وعينهم ترقب بقاء ودوام ومنفعة الوقف أينما حلّ وكان(6).
رابعًا: استقلال نظام الوقف في الإسلام:
إن لنظام الوقف الإسلامي ميزة يتميز بها؛ وهي الاستقلال عمّن أوقفه وعن ذريته وعن الراعي والرعية، فإذا حبس أحدنا مالاً أو عقارًا أو شيئًا في عداد الممتلكات العامة التي لا تخضع لجَوْر الجائرين، ولا سلطان السلاطين ولا يمكن للواقف أن يرجع لنفسه ما حبسه لله سبحانه وتعالى.
وسبب رئيس لبقاء كثير من أوقاف المسلمين والمسلمات بعموم أراضي العالم الإسلامي على مرّ الدهور والأعوام استقلالها وعدم خضوعها لأنظمة وضعية.
كما أن فَقْد كثير من عقار وأوقاف المؤمنين والمؤمنات في أمتنا الإسلامية كان سببه ولا يزال سيطرة بعض الأعداء المستعمرين على بلاد المسلمين، ومن ثَم إلغاء الوقف هنا أو هناك، مع وجود الذئاب الداخلية التي تتعدى على هذه الأوقاف شهوة وطمعًا في المال والسيطرة عليه.(1/4)
وكان من سياسة محمد علي باشا في مصر تجاه أوقاف مصر أن أخذ ما كان للمساجد من الرزق وأبدلها بشيءٍ من النقد يُسمّى (فائض رزنامة) لا يساوي جزءًا من الألف من إيرادها، وأخذ من أوقاف الجامع الأزهر ما لو بقي له اليوم لكانت غلته لا تقل عن نصف مليون جنيه أو أكثر في السنة، وقرر له بدل ذلك ما يساوي نحو أربعة آلاف جنيه في السنة آنذاك(7).
واستقلال هذه الأوقاف سبب من أسباب التمكين والعزة للمسلمين في ديارهم، والأمة القوية التي تكتفي بنفسها وذاتها عن غيرها.
خامسًا: أنه يواكب العصر ويُلبّي حاجة الأمة.
لقد تقدّم معنا أن الوقف ونظامه مستمر وثابت قائم إلى ما شاء الله تعالى من الدهور، وأن الأصل عدم زواله، وبناء على ذلك فهو موجود في كل عصر ومصر، وهو يتنوع حسب حاجة الأمة.
ففي بعض الأعصار يحتاج المسلمون إلى إقامة الأربطة والمشفيات وتعاهدها مثلاً، وفي أخرى هم بأمسِّ الحاجة إلى المدارس والكتاتيب والمعاهد وهكذا، فيسمح نظام الوقف الإسلامي بالتنوع والتنويع حسب الضرورة والحاجة.
وفي زماننا هذا مثلاً نحن بحاجة إلى إقامة جامعات وقفية(8)، ووقف عقارات على مشروع الدعوة إلى الله تعالى عبر الشبكة المعلوماتية (الإنترنت)، ووقف آخر كبير على إجراء البحوث العلمية والعملية، النظرية والتطبيقية وإنشاء صالات ودوواوين وقفية لإقامة المحاضرات والندوات فيها، ووقف أموال على فكاك الأسرى.
فنظام الوقف في الإسلام - يُراعي - مدى حاجة الأمة حسب عصرها ومصرها، والأحوال المحيطة بها سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا ولن يجمد هذا النظام عند أصناف معينة من الأوقاف خلافًا لمن رأى ذلك(9).(1/5)
وهذا الجمود يُخالف مقاصد الإسلام وأبعاده من وجوه عديدة، كما لا يوافق كثيرًا من الحكم التي شرع من أجلها الوقف والحبس، قال العلامة ابن تيمية رحمه الله تعالى: (ينبغي لمن أراد أن يوقف أن ينظر إلى ما هو أقرب إلى رضا الله ومحبته وأنفع لعباده، وأن يتحرى ما نتائجه أكثر، وعوائده أعم وأنفع) (10).
هذه بعض الخصائص الكبرى لنظام الوقف في الإسلام التي يمتاز ويُعرف بها، وهنالك مميزات أخرى صغرى وفرعية يمكن إدراجها ضمن هذه الخصائص. والله تعالى أعلم.
المبحث الثاني
مقاصد الوقف الإسلامي وأبعاده
إن الحديث عن مقاصد وغايات الوقف الإسلامي الشرعية، وأبعاده ومراميه المصلحية، لا بد أن ينطلق من حيث نظرة الإسلام العامة والخاصة إلى الوقف ونظامه، ومن حيث مراعاة خصائصه أولاً، ثم معرفة مدى حاجة الناس ومصالحهم على اختلافهم وتنوع أحوالهم. فيُحفظ - بإذن الله تعالى وفضله - بمقاصد الوقف وأبعاده في الإسلام النظام الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والسياسي والسلوكي. وإن هذه المقاصد والأبعاد لتنبثق من بوتقة المقاصد الشرعية الكبرى للإسلام التي ترعى حقّ الله تعالى أولاً، ثم حقوق العباد والبلاد وما حولنا ممّا خلق الله تعالى لنا ولغيرنا. وهذه المقاصد على كثرتها تحمل نظرًا إلى البعد الإنساني والدولي، والعناية بغير المسلمين وإعانتهم، ومن مقاصد الوقف الإسلامي وأبعاده ما يلي:
1- تحقيق عبودية الله تبارك وتعالى.
يقول الله السميع العليم سبحانه وتعالى: ?إياك نعبد وإياك نستعين? (الفاتحة: 5)، وقال الله البصير سبحانه: ?وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون? (الذاريات: 56)، ويقول الله علاّم الغيوب سبحانه: ?واعبد ربك حتى يأتيك اليقين? (الحجر: 99).(1/6)
إن مقصد تحقيق عبودية الله تعالى من تشريع نظام الوقف والعمل به - أعظم المقاصد الشرعية الواردة فيه، وهو سلسلة وعِقْد التشريعات الإسلامية التي من أعظم أهدافها ومقاصدها التعبد الحقّ لله وحده سبحانه وتعالى.
ولقد حثّ الشارع الحكيم على القيام بالأحباس والأوقاف، وهي عبارة عن مال يخرج منه صاحبه، فيجعله في سبيل الله دائمًا، ليس له أن يرجع فيه، لأنه استقل عنه.
فيخرج الإنسان طَوْعًا من أعز ما يملك تعبدًا لله تعالى، فيكون عبدًا لله سبحانه حقًا، بل وربما كان هذا الوقف أمامه شاخصًا شامخًا يدرّ الأرباح فلا يندم ولا يتمنى أنه لو لم يفعل لكان هو المنتفع به الآن.
كما أن من أهم شروط الجهة الموقوف عليها أن تكون جهة بر وخير يتقرب العبد فيها إلى الله تعالى(11). وهذا من التعبد لله تعالى، فلا يجتهد في وقف ماله على أي جهة حتى يتأكد من خيريتها ومنفعتها للأمة.
2- القيام بمهمة الاستخلاف في الأرض وإعمارها:
يقول الله العلي العظيم سبحانه: ?وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم? (النور: 55)، وقال الله الأحد الواحد سبحانه: ?آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه? (الحديد: 7)، وقال الله العليم سبحانه: ?وإلى ثمود أخاهم صالحًا قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب? (هود عليه الصلاة والسلام: 61).
(إن الحضارة وعمارة الأرض ذات صلة وثيقة بلا إله إلاّ الله، والمنهج المنزل من عند الله ليحكم الحياة. إن المفهوم الإسلامي للحضارة هو مفهوم العبادة) (12).
(وهذا الجانب من العمارة يحتاج إلى كدح ذهني وعضلي لتحقيقه، يحتاج إلى معرفة خواص المادة والسنن الربانية التي يُجري الله بها هذا الكون، ثم استخدام هذه المعرفة في المجال التطبيقي) (13).(1/7)
ومن تأمّل نظام الوقف في الإسلام وجده ذا غاية عظيمة، ومقصد نبيل رفيع نحو القيام بمهمة الاستخلاف في الأرض وإعمارها. كيف لا، والأوقاف والأحباس أنواع شتى مما يعمره الإنسان في الأرض. وما قام به هذا الواقف من وقف بعض ماله يمضي في هدى الاستخلاف في الأرض وإعمارها.
فحفر الآبار وبناء الدُّور النافعة وإقامة المشروعات الخيرية التعليمية أو الصحية أو الاجتماعية أو .. إلخ. لهي جزء مهم جدًا من هذه المهمة وتحقيق لهذا المقصد الكبير.
3- إقامة مورد اقتصادي ثابت شامل مستقل فاعل:
(تكمن أهمية الوقف في أنه مورد اقتصادي فاعل، يسهم في تلبية حاجات المسلمين [وغيرهم] (14) الضرورية والحاجية [التحسينية] (15) من الإطعام والتعليم والدعوة من خلال بناء المساجد والمدارس والمعاهد، وإنشاء المشفيات وغير ذلك) (16).
وإقامة هذا المورد العظيم بأفرعه وأصنافه في سائر بلاد المسلمين وغيرهم يسعى إليه الإسلام؛ لتكتفي الأمة المسلمة بما ليدها من موارد اقتصادية بدل أن تستدين من غيرها، أو تنتظر إحسان غيرها عليها، بل إن الأمة الإسلامية بأفرادها وجماعاتها حين تضع هذا المقصد أمام ناظريها، وترسم له الخطط الاستراتيجية السبعية(17) تستطيع - بإذن الله تعالى وفضله - الاكتفاء ذاتيًا في المراحل الأولى، ثم تصبح من الدول ذات الإنفاق والإحسان على غيرها مسلمين كانوا أو غير ذلك.
ولا يهم أن تكون للدولة مجرد موارد اقتصادية فقط، بل لا بد أن تكون هذه الموارد ثابتة شاملة مستقلة فاعلة، كما هو الحال والشأن بالأوقاف والأحباس.
ولقد عاشت الأمة المسلمة قرونًا وعقودًا سابقة لديها الدخل الكبير، والموازنات العالية دائمًا بسبب كثرة الأوقاف.
يقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: (بلغني أن أكثر من ثمانين رجلاً من الصحابة من الأنصار وقفوا)(18).(1/8)
وقال رحمه الله تعالى: (وأكثر دور مكة وقف) (19)، ويلاحظ هذا منذ أوائل الإسلام، فإن الإمام الشافعي عاش ما بين (150هـ) إلى (240هـ).
وقال الرحالة ابن بطوطة رحمه الله تعالى: (الأوقاف في دمشق لا تحصر أنواعها ومصارفها لكثرتها) (20)، ثم فصّل الحديث عن هذه الأوقاف وأنواعها، وابن بطوطة رحمه الله تعالى عاد من رحلته التي كتب فيها هذا عن دمشق سنة (754هـ) بعد أن استغرقت ثلاثين سنة، ومرّ بدمشق مرتين في أوائل رحلته؛ مرة قبل (730هـ) ومرة بعدها(21).
انظر إلى هذه النصوص كيف ترى أن كثيرًا من بلاد الإسلام كانت تعتمد على الأوقاف والأحباس في بعض مواردها الاقتصادية.
فمن الحكم والمقاصد العظيمة (إيجاد مصدر تمويلي دائم لتحقيق مصالح خاصة ومنافع عامة، وعلى أساس هذه الحكمة يمكن وصف الوقف بأنه وعاء يصب فيه خيرات العباد، ومنبع يفيض بالخيرات على البلاد والعباد، وهي من أموال المسلمين وممتلكاتهم التي حصلوا عليها بطرق الحلال الطيّب) (22).
4- تمكين الأمة الإسلامية في الأرض، ونصرها:
يقول الله تبارك وتعالى: ?ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز. الذين إن مكنّاهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور? (الحج: 40، 41)، وقال الله الحفيظ سبحانه: ?وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم الأرض الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنًا يعبدونني لا يشركون بي شيئًا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون? (النور: 55).(1/9)
وهذا المقصد الشرعي من سنن الله تعالى في الكون، فيُسخِّر الله سبحانه أفرادًا وجماعاتٍ من هذه الأمة لحبس بعض أموالهم في سبيل الله تعالى وقفًا على ما يدعم ويقوي ويرفع من شأنها؛ فمن مجالات الوقف التي تدعم التمكين والنصر العلمي والعملي: نشرُ العلم ودورُه وكتبه والاهتمام بطلبة العلم والعلماء، وإقامة مراكز الدعوة إلى الله تعالى في نواحي الأرض وكفالة الدعاة ودعم المشاريع الدعوية المتعددة، وإصلاح الثغور، وإمداد الجيوش وإطعام الجنود والمجاهدين وإمدادهم بما يحتاجونه وإغناؤهم عن غيرهم من المستعمرين أو الغالبين.
(ولا نكون مبالغين إذا قلنا: إن ظهور هذه المؤسسة الوقفية وانتشارها داخل المجتمعات الإسلامية [وغيرها] (23) كفيلٌ - بعد الله تعالى - بأن تقوم المؤسسات الإسلامية الأخرى) (24).
ومن هذا الباب لا بد أن نفقه لِمَ يُصرّ العدو علينا بإسقاط كثير من الأوقاف، وتحجيمها، والحدّ من قدراتها، أو السيطرة عليها؛ لأنهم - في الحقيقة - أدركوا أهميتها في تحقيق هذا المقصد الشرعي والبُعْد المصلحي، والله المستعان.
هـ - تحقيق التكامل والتكافل الاجتماعي، ومفهوم الأمة الواحدة:
يقول الله البصير سبحانه: ?إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون? (الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: 92)، وقال الله القدير سبحانه: ?وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون? (المؤمنون: 52).
وصحّ عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى" (25).(1/10)
إننا أبناء هذه الأمة الإسلامية نفتخر ونعتز بتكافلنا مع بعضنا، وتكافلنا فيما بيننا، ونسعى حثيثًا إلى تحقيق وإتمام مفهوم الأمة الواحدة بوسائل شتى، وخطوات متعددة، ومن أبرزها ما يكون من خلال نظام الوقف في الإسلام بوقف كثير من الأموال والعقارات على ما يحتاجه الناس في أزمنتنا هذه؛ كوقف الأربطة والدّور على الأيتام والأرامل وطلاب العلم وفقراء الأشراف وكبار السن والمغتربين، وإقامة المشاريع الصحية؛ كمراكز علاجات السرطانات والأورام، ومشفيات للمعاقين (ذوي الاحتياجات الخاصة)، ومراكز صحية متنقلة لعلاج مرض العمى المؤقت ونحوه، ومراكز مساعدة لبيع الدواء المخفّض، ومكاتب الإعانة المرضى المحتاجين إلى العلاج ببلدان بعيدة.
لقد رأينا جميعًا بأم أعييننا كيف ضمّت كثير من هذه المؤسسات أُناسًا مشردين في دول العالم الإسلامي فآوتهم وأطعمتهم وكستهم وعلّمتهم بفضل الله تبارك وتعالى.
إنه لشعور عميق لدينا لدى هؤلاء وأولئك أننا أمة واحدة، يكفل بعضنا بعضًا، ونتكافل بهذا أو ذاك فيما بيننا.
5- هداية العالمين، ودعوتهم إلى الإسلام:
قال الله العظيم الحليم سبحانه: ?تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرًا? (الفرقان: 1)، ويقول الله العلي الغفار سبحانه: ?ادعو إلى سبيل بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن? (النحل: 125)، وقال المولى سبحانه: ?قل هذه سبيلي أدعو على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا المشركين? (يوسف عليه الصلاة والسلام: 108)(1/11)
إن من المقاصد لنظام الوقف في الإسلام التي تُخفي على بعض المسلمين والواقفين أموالهم في سبيل الله تعالى هداية العالمين والحرص على ذلك، ودعوة غير المسلمين إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة في سائر أنحاء المعمورة؛ وذلك بإقامة المشاريع الدعوية المتتابعة من مخيمات ومراكز وأنشطة ومكاتب دعوية، وإرسال دعاة إلى بلدان نائية، وإقامة جولات دعوية ميدانية، وطبع الكتب الإسلامية باللغات الحية والنشرات والمطويات والعناية بطبع ونشر المصاحف وترجماتها باللغات المتداولة وبناء المساجد والجوامع وإنشاء المراكز الإسلامية الملحقة بالمساجد في دول ليس فيها مسلمون كُثُر.
وقد رأيتُ بأم عيني في كثير من الدول الإسلامية والعربية والأجنبية التي زرتها الدور البارز الذي يقوم به نظام الوقف في دعم الدعوة الإسلامية، وتحقيق مقصد وهداية الناس والمؤلفة قلوبهم، ومن ثم إقبال الناس على دين الله أفواجًا وأفرادًا.
وإنه لدور عظيم يؤمل من جميع المسلمين القادرين أن يُوقفوا من خلال أموالهم وعزيز ممتلكاتهم على هذا المقصد البالغ الأهمية.
6- نشر العلم بين الناس وحفظه، والعناية بالمنتسبين إليه:
قال الله تبارك وتعالى: ?يرفع الله الذين آمنوا منكم والذي أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير? (المجادلة: 11)، وقال النبي ( : "طلب العلم فريضة على كل مسلم" (26)، وقال ربنا الحكيم سبحانه: ?إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور? (فاطر: 28).
لقد ازدهر العلم ونمت مكتسباته في العالم الإسلامي منذ الزمن القديم، وقدّم العالم الإسلام للشرق والغرب العلماء في شتى المجالات العلمية والعملية، الدينية والدنيوية، النظرية والتطبيقية، وانتشرت كنوز العلم في أرفف مكتبات العالم العربي والإسلامي والغربي.(1/12)
ولقد ساهم الوقف بشكل خاص في بناء أركان الثقافة الإسلامية المتنوعة على امتداد العصور و الديار الإسلامية، وظهر دور كبير للمسلمين الواقفين في بناء دُور المكتبات الخاصة والعامة والملحقة بالمدارس والمشفيات والمساجد والمقابر والمزارات ... إلخ.
بالإضافة إلى تشييد المدارس وتعيين المدرسين فيها، والإنفاق على طلبة العلم والعلماء، كما كان لبناء المساجد دور في التعليم بإيجاد حلقات علمية ثابتة بها.
وأدرك هذا المقصد النبيل كثير من فئات المجتمع الإسلامي وطبقاته، فشارك في حبس الأموال ووقفها على نشر العلم وحفظه والعناية بأهله قطاع عريض من الخلفاء والسلاطين والحكام والولاة والأمراء والأثرياء والعلماء والوزراء، وبعض عامة الناس. ومما يدل على هذا انتشارُ المدارس والمعاهد والمكتبات وسكنات طلبة العلم والعلماء في أنحاء العالم الإسلامي وحواضره، بل حتى القرى النائية في بعض البلدان لم تخلُ من ذلك(27).
فكان هذا بحق مقصدًا شرعيًا عظيمًا من مقاصد نظام الوقف في الإسلام.
7- إغاثة الملهوف، وإعانة المحتاج من سائر الخلق:
يقول الله الحق سبحانه: ?وأحسنوا إن الله يحب المحسنين? (البقرة: 195)، وقال الله عز وجل: ?إن الله لا يضيع أجر المحسنين? (التوبة: 120)، وقال الله السميع سبحانه في وصف أهل الجنة: ?ويطعمون الطعام على حبه مسكينًا ويتيمًا وأسيرًا. إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورًا? (الإنسان: 8، 9).(1/13)
ويقول الله الغني سبحانه: ?فلا اقتحم العقبة. وما أدراك ما العقبة. فكّ رقبة. أو إطعام في يوم ذي مسغبة. يتيمًا ذا مقربة. أو مسكينًا ذا متربة. ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالحقّ وتواصوا بالمرحمة. أولئك أصحاب الميمنة? (البلد: 11 - 18)، وقالت الصحاببة الجليلة أم المؤمنين خديجة بنت خويلد في وصف النبي ( : (كلا، والله ما يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحقّ) (28).
إن نظام الوقف الإسلامي يقوم من أساسه على مقصد الإحسان بمفهومه الإسلامي العام، فيشمل الإحسان إلى المسلم وغيره، وإلى الصغير والكبير، والذكر والأنثى، والقصي والداني. ومن وجوه الإحسان: إغاثة الملهوف، وإعانة المحتاج، وكَسْب المعدوم، وتفريج الكرب، وفك الأثير، وإطعام الجامع، ورعاية اليتيم، وإمداد المتضرر بالكوارث بالطعام والشراب والفراش والخيام واللباس وبالطب والهندسة والآلات.
إن منظر تدفق الإعانات للمحتاجين ورؤية مشهد إغاثة الملهوفين، والمشاركة في ذلك مقصد شرعي لكثير من الأوقاف والأحباس الشرعية، وهو يدل على الإحسان والرحمة التي يمتاز بها الإسلام، ويقصد إليها.
فكم من هؤلاء أو أولئك من جُبر قلبه، وكانت عوائد الوقف سببًا في إنقاذهم بعد الله تعالى(29).
هذه أبرز عيوم المقاصد الشرعية، وأهم رؤوس الأبعاد المصلحية للوقف الإسلامي، وتلتحق بها أهداف فرعية لم أذكرها يمكن أن تنتمي إلى ما سبق بيانه وعرضه من هذه المقاصد الكبرى. والله تعالى أعلم.
المبحث الثالث
أصول وقواعد شرعية يرجع إليها في هذا الموضوع(1/14)
بعد الجولتين السابقتين مع شيءٍ من خصائص نظام الوقف في الإسلام، ثم الحديث عن مقاصد الوقف الإسلامي وأبعاده وصلت إلى هنا؛ لأرفق إلى ما سبق بعضًا من الأصول الإسلامية الثابتة، والقواعد الشرعية الراسخة التي ترعى نظام الوقف في الإسلام، وتضبط مقاصده وأبعاده، وهي لازمة للاعتناء بها، وذكرها وتدارسها إكمالاً لما تقدمها من الخصائص والمقاصد والأبعاد.
ولن أستطيع هنا أن أوفي جميع الأصول والقواعد الشرعية التي يرجع إليها في هذا الموضوع؛ بيد أنني أُجمل بعضًا منها، لعلها تدل على غيرها.
فمن هذه الأصول والقواعد ما يلي:
1- يُراعى في مقصد الوقف وعند التعامل معه مصلحة الوقف، ومصلحة الناس:
وهذا الأصل يرجع إلى القاعدة الشرعية؛ وهي: أن الإسلام جاء بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها. فإن الله تعالى أمر بالإصلاح، ونهى عن الفساد، وبعث رسله عليهم الصلاة والسلام بمثل هذه القاعدة، قال الله تعالى عن موسى عليه الصلاة والسلام: ?وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين? (: 142)، وقال نبي الله تعالى شعيب عليه الصلاة والسلام: ?إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت? (هود: 88)، وقال الله الغفور سبحانه: ?فمن اتقى وأصلح فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون? (الأعراف: 35)، وقال الله العليم الخبير سبحانه عن المنافقين: ?وإذا قيل لهم لا تفسدون في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون. ألا إنهم هم المفسدون? (البقرة: 11، 12) (30).
فينظر في مقصد الواقف، ونوع الوقف، ومصارفه إلى مصلحة الوقف في الحفاظ عليه ورعايته، مع مصلحة الناس في مدى حاجتهم إلى تحقيق هذا المقصد الآن، وأهمية نوع الوقف بالنسبة إليهم، وهكذا.
وعليه فربما تستجد أنواعًا من الأوقاف والأحباس التي تُراعي إحدى المصالح الشرعية والأبعاد المستقبلية.
2- تراعى فيه إقامة فروض الأعيان والكفايات:(1/15)
إن الفروض الشرعية بقسميها العيني والكفائي مطلوب في الإسلام إقامتهما مع تقديم الأول قبل الآخر.
وفي مقاصد الوقف وأبعاده تراعى في كل وقف مدى إقامته للفروض الكفائية أو العينية. فلا يحق لأهل الإسلام أن ينكبوا على نوع وقف معيّن، بينما يدعون غيره مما قد يكون فرضيته أهم في هذا الوقت، أو في ذلك البلد.
وأغلب الأوقاف - اليوم - تقوم بفروض الكفايات، ولكن لا بد من التوازن بينها وبين غيرها، وهناك حالات تتحول فيها فروض الكفايات إلى فروض أعيان، منها: عندما لا يقوم بفروض الكفاية من يكفي(31).
ووجدت أعمال خيرية، ومشاريع إنسانية ملحّة وعاجلة لا يوجد من يدعمها ماليًا، ولا وقفًا يدرّ عليها، وفي مثل هذه الحال ينبغي أن ننظر إليها على أنه فرض عين انتقلت من كونها فرض كفاية؛ لعدم وجود من يقوم بها، أو يكفينا إياها.
3- الرحمة في تشريعه ومقاصده ومصارفه:
لقد ورد عن رسول الله ( أنه قال: "الراحمون يرحهم الله؛ ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء" (32).
ممّا لا بد مراعاته في نظام الوقف الإسلامي ومقاصده ومصارفه أنه وجد في شريعتنا ووضع في هذا العقار أو ذاك من أجل الرحمة بالخلق؛ لرفع أو دفع حاجتهم، وإعانتهم في حياتهم الدينية والدنيوية.
كما أن من الرحمة في نظام الوقف في الإسلام أنه يشمل في مصارفه المسلمين غالبًا، لكنه لا يمتنع من الصرف على غيرهم إن كان الوقف عامًا، أو يدخلون فيه أحيانًا بحكم الضرورة، أو لخلطتهم بالمسلمين في بلادهم ودُورهم فلا يميزون عنهم إلاّ إذا نص الواقف أو الحابس بذلك واشترطه؛ كمن سبّل أو أوقف بئرًا للعامة،ولم يشترط أو ينصّ على أن يكون للمسلمين فقط؛ فإنّ هذا الخير يعمّ كل إنسان أو حيوان، وهكذا.(1/16)
ومن الرحمة أيضًا في الوقف أنه شمل أيضًا الحيوان، والإنفاق عليه، والعناية به، ومن الرحمة أن يوصي الواقف - إن كان أراد وقفًا خيريًا عامًّا - أن لا يشترط شرط الإسلام فيمن تناله مصارفه، ليعم الله الانتفاع بها للمسلمين وغيرهم.
4- لا بد أن يكون الوقف وشرطه ومقصده من الطاعات التي يحبها الله تعالى ورسوله ( :
قال العلاّمة ابن تيمية رحمه الله تعالى في جواب سؤال طويل: (الأعمال لا بد أن تكون من الطاعات التي يحبها الله ورسوله [صلى الله عليه وسلم]، فإن كانت منهيًا عنها لم يجز الوقف عليها، ولا اشتراطها في الوقف باتّفاق المسلمين، وكذلك في النذر ونحوه، وهذا متفق عليه بن المسلمين في الوقف والنذر ونحو ذلك، ليس فيه نزاع بين العلماء أصلاً، ومن أصول ذلك ما أخرجه البخاري في صحيحه(33) عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله ( : "من نذر أن يطيع الله فليطعْه، ومن نذر أن يعصِ الله فلا يعصِه") (34).
5- الابتكار والإبداع في الأوقاف ومتابعتها ومصارفها بما يواكب حاجة العصر وتقدمه وفق الشريعة:
هذا الأصل مراعى في الشريعة الإسلامية، فإننا نذكر دائمًا أنها صالحة لكل زمان ومكان، ومن خصائص الوقف - كما تقدم (35)- أنه يواكب العصر، ويُلبي حاجة الأمة.
وبناء على ذلك فإن الابتكار والإبداع ما دام أنه يوافق الشريعة الإسلامية وضوابطها فإنه لازم وحتم وخصوصًا إن كان لتنمية الوقف نفسه ورعايته وتطويره، أو زيادة مصارفه أو لحراسته وحمايته.
ولا نحمد في التعامل مع التقنيات الحديثة، والأفكار الإبداعية في الأوقاف ومصارفها، بل لا بد من أن نتقدم إلى الأمام تفكيرًا وتنفيذًا(36).
خاتمة
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وبعد؛
فهذا أوان التوقف عن الترحال مع الكلمة عبر المقاصد الشرعية والأبعاد المصلحية لنظام الوقف في ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية بعد ثلاث محطات كانت مباحث ممتعة لي في هذا البحث.(1/17)
وأجدني خاتمًا إياه بأبرز النتائج والتوصيات:
النتائج:
1- يمتاز الوقف ونظامه في الإسلام بخصائص ينفرد بها، تبرِز معالِمَه.
2- كثرة المقاصد الشرعية والأبعاد المصلحية لنظام الوقف في الإسلام.
3- لا بد عند التعامل مع نظام الوقف الإسلامي من مراعاة الأصول والقواعد والثوابت الشرعية.
4- راعى نظام الوقف الإسلامي من خلال مقاصد وغاياته البعد الإنساني والدولي (العالمي).
5- يدخل في كثير من مصارف الوقف والحبس غير المسلمين سواء كانوا في بلاد المسلمين أو في بلادهم مجاورة أو بعيدة.
التوصيات:
أ- النظر الواسع إلى مقاصد نظام الوقف الإسلامي ليشمل النواحي الدينية والدنيوية.
ب- التوسع في الأبحاث العلمية والشرعية والنظرية لجعل نظام الوقف الإسلامي في الدول المعاصرة يواكب العصر وتقدمه، وتطور تقنياته وآلياته، وعدم الجمود على الوسائل والأساليب والمصارف القديمة والمكررة.
جـ - إيصال هذه المفاهيم والمقاصد والخصائص والأصول الخاصة بنظام الوقف الإسلامي إلى الغرب والشرق للتعريف بالإسلام الحقيقي، والوقف الإسلامي.
هذا، والله أسأل أن يتقبل أعمالنا، وأن يجعلنا من الصالحين المصلحين وآباءنا وأمهاتنا وأزواجنا وذرياتنا وإخواننا وأخواتنا. وصلى الله وسلم على نبيّنا محمد وآله وأصحابه وأزواجه وذريته. والله تعالى أعلم.
الهوامش
(1)……الأم للشافعي (4/52).
(2)……رواه مسلم في الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته (1631).
(3)……رواه البخاري في الشروط، باب الشروط في الوقف (737)، ومسلم في الوصية، باب الوقف (1633).
(4)…انظر على سبيل المثال لا البسط ما كتبه العلامة برهان الدين إبراهيم بن موسى أبي بكر الطرابلسي الحنفي في كتاب الجليل (الإسعاف في أحكام الأوقاف). وابن تيمية في بعض فتاواه الواردة في مجموع الفتاوى بالمجلد الحادي والثلاثين منه.
(5)……سبق تخريجه في فقرة (1) من هذا الهامش.(1/18)
(6)……انظر: المغني لابن قدامة (8/220 - 228)، ومجموع الفتاوى (31/216 - 220، 265 وما بعدها).
(7)…انظر ما كتبه الشيخ محمد عبده عام 1950م بمناسبة مرور مائة سنة على تولي محمد علي وأسرته الحكم في مصر. نقلاً عن مجلة المنار للشيخ محمد رشيد رضا..
(8)…انظر: الجامعة الوقفية الإسلامية للدكتور عبد الستار الهيتي من (ص 89) بمجلة أوقاف العدد (2) من السنة الثانية ربيع الأول 1423هـ.
(9)……انظر: المحلى لابن محمد علي بن حزم (9/178، 179).
(10)…انظر: مجموع الفتاوى (31/).
(11)…انظر: أحكام الوقف في الشرعية الإسلامية للدكتور/ محمد الكبيسي (1/396) وما بعدها.
(12)…انظر: مفاهيم يجب أن تصحح لمحمد قطب (ص 338).
(13)…المرجع السابق (ص 345، 346).
(14)…هذه عبارة رأيت من الضروري إضافتها لهذا النص المقتبس.
(15)…هذه عبارة رأيتُ من الضروري إضافتها لهذا النص المقتبس.
(16)…انظر: رسالة (الوقف أجر لا ينقطع) من إعداد مؤسسة الوقف الإسلامي (ص 4).
(17)…أُشير بـ (السبعية) إلى الخطة الاقتصادية التي نفذّها سيدنا يوسف عليه الصلاة والسلام في مرحلتين؛ سبع وسبع - هو عزيز مصر وخازن أرضها - بعد أن أوَّلها لملك مصر آنذاك، يقول الله تبارك وتعالى: ?قال تزرعون سبع سنين دأبًا فما حصدتم فذروه في سنبله غلا قليلاً مما تحصنون? (يوسف: 47، 48).
(18)…الأم للشافعي (4/53).
(19)…المرجع السابق بنفس الصفحة.
(20)…انظر: ابن بطوطة: الرحلة (ص 122).
(21)…انظر: مقدمة الرحلة لابن بطوطة للأستاذ طلال حرب (ص 8، 14).
(22)…انظر: إحياء سنة الوقف، نحو مؤسسة وقفية تمويلية تنموية لسليمان الطفيل، مقال علمي بمجلة البيان العدد (145) رمضان 1420هـ.
(23)…زيادة مني على النصّ لأهميتها.
(24)…انظر: إحياء سنة الوقف، نحو مؤسسة وقفية تمويلية تنموية لسليمان الطفيل.
(25)…رواه مسلم في البر والصلة، باب تراحم المؤمنين (2586) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما.(1/19)
(26)…رواه ابن ماجه في المقدمة، باب فضل العلماء والحث على طلب العلم (224) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (3913).
(27)…انظر: النعيمي: عبد القادر بن محمد الدمشقي. الدارس في تاريخ المدارس (1/5) وما بعدها، وساعاتي: يحيى محمود. الوقف وبُنية المكتبة العربية (وهو كتاب جيّد متخصص مميّز في بابه).
(28)…رواه البخاري في صحيحه (1/3) ك بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ( من حديث عائشة رضي الله عنها في قصة طويلة شهيرة.
(29)…انظر: رسالة (أجر لا ينقطع) (ص: 5).
(30)…انظر: ابن تيمية. مجموع الفتاوى (31/266).
(31)…انظر: العتيبي: غازي مرشد. فروض الكفايات وتطبيقاتها في الفقه الإسلامي.
(32)…رواه أبو داود في الأدب، باب في الرحمة (4941). والترمذي في البر والصلة، باب ما جاء في رحمة الناس (1924) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. وقال الترمذي: (هذا حديث حسن صحيح). وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (925)
(33)…رواه البخاري في الأيمان والنذور، باب النذر في الطاعة (6696).
(34)…انظر: ابن تيمية. مجموع الفتاوى (31/27).
(35)…انظر: (ص: 7) من هذا البحث.
(36)…انظر: المقال البديع الذي كتبه د. جمال الدين عطية بعنوان: (الوقف والنظم الشرعية والحديثية ذات العلاقة) من (ص 88 - 97) بمجلة أوقاف - العدد (1) السنة الأولى - شعبان 1422هـ فإنه طوّف الحديث حول الإبداع والابتكار في الوقف ومصارفه، مع التمثيل الكثير.
فهرس المراجع
*
القرآن الكريم.
* أجر لا ينقطع. إعداد: مؤسسة الوقف الإسلامي. ضمن مجموعة (تحفة الرسائل). الرياض.
* الألباني: محمد ناصر الدين. السلسلة الصحيحة. المجلد الثاني. مكتبة المعارف. الرياض. 1415هـ
* صحيح الجامع الصغير وزيادته. المكتب الإسلامي. بيروت. 1408هـ.
* البخاري: محمد بن إسماعيل. الجامع الصحيح = صحيح البخاري. دار سحنون بتونس. الطبعة الثانية.(1/20)
* ابن بطوطة: الرحلة (تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار) شرحه وكتب هوامشه: طلال حرب. دار الكتب العلمية. بيروت.
* ابن ماجه: محمد بن يزيد. سنن ابن ماجه. ت: محمد فؤاد عبد الباقي. تصوير دار الكتب العلمية. بيروت.
* الحراني: أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية. مجموع الفتاوى. جمع وترتيب: عبد الرحمن بن قاسم وابنه محمد. مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة. عام 1416هـ.
* ساعاتي: يحيى محمود. الوقف وبنية المكتبة العربية (استبطان للموروث الثقافي). مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية. الرياض. الطبعة الأولى 1408هـ.
* الشافعي: محمد بن إدريس. الأم. دار المعرفة. بيروت.
* الطرابلسي: برهان الدين إبراهيم بن موسى بن أبي بكر الحنفي. الإسعاف في أحكام الأوقاف. مطبعة هندية بالأوزبكية بمصر. طبعت سنة 1320هـ.
* الطفيل: سليمان. إحياء سنة الوقف، نحو مؤسسة وقفية تمويلية تنموية. مقال بمجلة البيان. العدد (145) رمضان 1420هـ.
* عبد الباقي: محمد فؤاد. المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم. دار الحديث بالقاهرة. الطبعة الثانية. 1408هـ.
* العتيبي: غازي مرشد. فروض الكفايات وتطبيقاتها في الفقه الإسلامي. رسالة ماجستير بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية. جامعة أم القرى. مكة.
* عطية: د. جمال الدين. الوقف والنظم الشرعية والحديثة ذات العلاقة. مقال منشور بمجلة أوقاف الكويتية. العدد (1) السنة الأولى شعبان 1422هـ.
* القشيري: مسلم بن الحجاج بن مسلم. الجامع الصحيح = صحيح مسلم. ت: محمد فؤاد عبد الباقي. تصوير دار الحديث. القاهرة.
* قطب: محمد. مفاهيم يجب أن تصحح. دار الشروق بالقاهرة. الطبعة الثامنة. 1413هـ.
* الكبيسي: د. محمد. أحكام الوقف في الشريعة الأسلامية. مطبعة الإرشاد ببغداد. 1977م.(1/21)
* مجلة أوقاف. الأمانة العامة للأوقاف بالكويت. العدد (1) السنة الأولى شعبان 1422هـ والعدد (2) من السنة الثانية ربيع الأول 1423هـ.
* مجلة البيان: يصدرها المنتدى الإسلامي بلندن. العدد (3) ربيع الآخر 1407هـ والعدد (145) رمضان 1420هـ والعدد (183) ذو القعدة 1423هـ.
* مجلة المنار. تولى تحريرها وإصدارها والإشراف عليها الشيخ محمد رشيا رضا. مصر. القاهرة.
* المقدسي: عبد الله بن أحمد بن محمد ابن قدامة. المغني. ت: د. عبد الله التركي. ود. عبد الفتاح الحلو. دار عالم الكتب بالرياض. الطبعة الثالثة سنة 1417هـ.
* النعيمي: عبد القادر بن محمد الدمشقي. الدارس في تاريخ المدارس. ت: جعفر الحسني. المجمع العلمي العربي. دمشق. 1367هـ.
* الهيتي: د. عبد الستار. الجامعة الوقفية الإسلامية. بحث محكم بمجلة أوقاف. الأمانة العامة للأوقاف بالكويت. العدد (2) من السنة الثانية ربيع الأول 1423هـ.
الفهرس
المقدمة
المبحث الأول: من خصائص نظام الوقف في الإسلام
المبحث الثاني: مقاصد الوقف الإسلامي وأبعاده.
المبحث الثالث: أصول وقواعد شرعية يرجع إليها في هذا الموضوع.
خاتمة.
الهوامش
فهرس المراجع
الفهرس
??
??
??
??
المقاصد الشرعية والأبعاد المصلحية لنظام الوقف في ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية 13(1/22)