من دروس الدورة العلمية بجامع الراجحي ببريدة لعام 1425هـ
المسائل الطبية والمعاملات المالية المعاصرة
القسم الثاني
من إلقاء الشيخ
الدكتور : خالد بن علي المشيقح
اعتنى بها
أبو عبد الرزاق محمد الهوساوي سامي بن محمد البكر
نسخة مصححة ومفهرسة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شرك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً.
اللهم اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
وبعد:
فإن عنوان هذه الدروس "مسائل تتعلق بالأمور المالية والطبية" وسننتقي أهم المسائل الطبية والمالية التي يحتاج إليها الناس اليوم ويكثر السؤال عنها، فهناك مسائل كثيرة يحتاج الناس إلى تبيينها وإيضاحها ويكثر سؤالهم عنها مثل ما يتعلق بالبطاقات المصرفية، والتورق المصرفي الذي يوجد الآن على قدم وساق، ومثل ما يتعلق بالتأمين التجاري.
وأيضا من الناحية الطبية هناك مسائل يحتاجها الناس مثل ما يتعلق بمسائل الإجهاض وما هي أحواله؟ ومتى يكون جائزا؟ ومتى يكون محرما؟ ...إلخ. ومثل ما يتعلق بتضمين الطبيب إذا أخطأ، ومثل ما يتعلق بالموت الدماغي وما يتعلق برفع أجهزة الإنعاش عمن مات دماغيا ومثل ما يتعلق - أيضا - بعمليات التجميل ومتى تكون جائزة؟ ومتى تكون غير جائزة؟... إلخ.
وسنجتهد إن شاء الله تعالى في طرق هذه المسائل حسب ما يسمح به الوقت.
أولاً: الإجهاض
تم اختيار هذا الموضوع لسببين:
الأول: كثرة سؤال الناس عن حكمه.
الثاني: ترقي الطب، فإنه بسبب ترقي الطب أصبح أمر الإجهاض سهلا جدا فبإمكان الزوج أن يذهب بزوجته أو بإمكان المرأة أن تذهب بنفسها إلى الطبيب أو الطبيبة وخلال دقائق تكون قد أنزلت ما في بطنها.
تعريف الإجهاض في اللغة والاصطلاح:(1/1)
أما في اللغة: فهو إسقاط الولد بحيث لا يعيش.
وأما في الاصطلاح: فهو إسقاط المرأة جنينها بفعل منها أو من غيرها.
تاريخ الإجهاض ونشأته:
الإجهاض ثمرة من ثمرات الدعوة إلى الحد من تعداد السكان وزيادة النمو البشري وقد وجدت هذه الدعوة قديماً في أواخر القرن الثامن عشر، وكان أول من دعا إلى هذه الفكرة وهي فكرة الحد من تعداد السكان والنمو البشري هو القسيس النصراني الإنجليزي "مالثوس" وسبب قيام فكرته زعمه بأن كثرة السكان تشكل خطراً على الموارد البشرية حيث إن السكان يتزايدون بطريقة هندسية متوالية: اثنان، أربع، ثمان، ستة عشر، اثنان وثلاثون،...إلخ، وأما بالنسبة لموارد الأرض فإنها تتزايد بطريقة حسابية: اثنان، ثلاث، أربع...إلخ.
وقد لاقت هذه الدعوة رواجا، فانتشرت هذه الدعوة في أمريكا، وكانت في أول انتشارها لقيت معارضة قوية من المجتمع والدولة ثم بعد ذلك في عام 1942م تكون في أمريكا "اتحاد تنظيم الوالدية" وهو يدعو لاستخدام موانع الحمل التي منها الإجهاض وذلك حدا للنمو البشري.
ثم أصبح هذا الاتحاد عضوا في منظمة الأمم المتحدة عام 1964م وصار لهذه المنظمة فروع كثيرة في كثير من بلدان العالم حتى البلاد الإسلامية.
موقف الإسلام والديانات الأخرى من الإجهاض:
الإجهاض في الديانات قبل الإسلام يعتبر محرما، ففي الديانة اليهودية يعتبر محرما ولا يجوز وعليه عقوبة، لكن هذه العقوبة غير مقدرة.
وكذلك أيضاً في الديانة النصرانية يعتبر الإجهاض محرما وعقوبته القتل ولهذا كان في بريطانيا إلى عام 1524م عقوبة الإجهاض هي الإعدام.
ثم خففت هذه العقوبة إلى السجن المؤبد مع الأشغال الشاقة، ثم بعد ذلك خففت هذه العقوبة حتى أبيح الإجهاض في كثير من دول العالم كما ستأتي الإشارة إلى ذلك.
مثل ذلك كان في أمريكا، فقد كانت عقوبة الإجهاض هناك القتل والإعدام، ثم خفف إلى السجن المؤبد، ثم خفف إلى أن أصبح مباحاً.(1/2)
ويعتبر الاتحاد السوفيتي أول من أباح الإجهاض وذلك عام 1920م، ثم منعه عام 1935م؛ بسبب كثرة وفيات الأمهات بسبب الإجهاض؛ فإن الإجهاض يعود ضرره إلى الأم المجهضة ويسبب لها ضرراً قد يصل إلى الوفاة.
ثم بعد ذلك تبعت الاتحاد السوفيتي اليابان فأباحت الإجهاض لمن معه خمسة من الولد ثم بعد ذلك خفف فأبيح الإجهاض في الثلاثة الأشهر الأول.
إحصائيات عن الإجهاض:
* وحسب تقرير منظمة الصحة العالمية فقد بلغ عدد الأجنة الذين أجهضوا حتى عام 1984م خمسين مليوناً، وبلغ عدد الأمهات اللاتي توفين بسبب الإجهاض ما بين سبعين ومئة ألف إلى مئتي ألف.
* وفي أمريكا بلغ عدد الأجنة الذين أجهضوا ما بين عام 1973م وعام 1983م أي خلال عشر سنين خمسة عشر مليون جنينا.
* وفي مدينة نيويورك أكثر من ثلاث مئة عيادة إجهاض بعد أن أبيح الإجهاض في أمريكا كما سبق.
ومن هذه الأعداد يتبين خطورة الإجهاض حيث إنه سبب لإهلاك الأنفس، ومما لا شك فيه أن الشرائع اتفقت على حفظ الأنفس فقد جاءت الشرائع بالمحافظة على الضروريات الخمس: الدين والنفس والعرض والعقل والمال، والإجهاض إخلال مصلحة من هذه المصالح الضرورية التي اتفقت الشرائع على المحافظة عليها.
وأيضاً موقف الشريعة الإسلامية من حيث الجملة هو تحريم الإجهاض وأنه لا يجوز لأنه؛
أولاً: جاءت الشريعة -كما أسلفنا- بحفظ الضروريات الخمس.
وثانيا: أنه يصادم مقصدا مهما من مقاصد النكاح؛ فإن من مقاصد النكاح تكثير النسل ولهذا امتن الله عز وجل على بني إسرائيل بأن كثرهم قال تعالى?وجعلناكم أكثر نفيراً?(1)، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أمته بكثرة النكاح الذي من مقاصده كثرة النسل فقال ( (تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة)(1/3)
وثالثا: في الإجهاض سوء ظن بالله عز وجل فإنك تجد بعض الناس يلجأ إلى الإجهاض إما خوفا من تكاليف النفقة أو تكاليف التربية وما يتعلق بالرعاية وملاحظة الطفل ...إلخ، وهذا كله من سوء الظن بالله عز وجل والله عز وجل يقول:?وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها?(2) فموقف الشريعة الإسلامية من الإجهاض هو التحريم إلا أنه يستثنى من ذلك مسائل معدودة كما سيأتي إن شاء الله بحثه.
حكم الإجهاض من حيث التفصيل:
الإجهاض من حيث التفصيل ينقسم إلى أقسام:
القسم الأول: الإجهاض الطبيعي:
وهو عبارة عن عملية طبيعية يقوم بها الرحم لإخراج جنين لم تكتمل له عناصر الحياة.
وهذا الإجهاض يحصل للمرأة بدون إرادة منها ولا تدخل فلا يد للمرأة ولا لأجنبي فيه، وقد ثبت طبياً أن ما بين سبعين إلى ثمانين بالمئة (70% -90%) من الأجنة المجهضة طبيعياً كانت مشوهة، وهذا من رحمة الله عز وجل.
حكمه:
وحكم هذا القسم ظاهر وهو أنه لا إثم فيه ولا مؤاخذة بل ذكرنا أن مثل هذه الإجهاضات التي تقوم بها الأرحام من رحمة الله عز وجل لما ذكره الأطباء سالفاً.
القسم الثاني: الإجهاض دون ضرورة شرعية:
وهذا يقسمه العلماء إلى ثلاث حالات:
الحال الأولى: الإجهاض في مدة الأربعين .
وهذا يسأل عنه كثير من الناس فتجد بعض الناس تلد زوجته وبعد فترة تحمل فتراه يريد إنزال هذا الحمل، أو أنه يتزوج ثم تحمل زوجته قريباً فيريد إنزال هذا الحمل في فترة الأربعين.
حكمه:
اختلف فيه العلماء على قولين:
القول الأول: أنه محرم ولا يجوز.
قال به مالك واختاره جمع من المحققين كابن رجب والعز بن عبد السلام وابن الجوزي وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وهو أيضا مذهب الظاهرية.
أدلتهم:(1/4)
منها: قوله تعالى?وإذا الموؤدة سئلت ( بأي ذنب قتلت?(3) والإجهاض في مرحلة النطفة يدخل في الوأد بدليل أن النبي ( سمى العزل - وهو أن ينزل الزوج خارج الفرج سماه - وأداً خفياً، مع أن هذه النطفة لم تستقر في الرحم فإذا استقرت في الرحم فمن باب أولى أن إنزالها داخل في الوأد.
ومنها: حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي ( قال: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك...) وجهه: أنه دل على أن الله عز وجل يجمع الخلق في الأربعين وفيها يبتدئ التخليق والتصوير إلا أنه تخليقا وتصويراً خفيا.
والأطباء يجمعون على القول بما ورد في هذا الحديث، وهذا من آيات النبي ( فإذا كان التخليق والتصوير وإن كان خفيا يكون في مدة الأربعين فإنه لا يجوز الاعتداء عليه وانتهاك حرمته.
ومنها: أن إقامة الحد والقصاص واجب، وإذا ثبت أن هذه المرأة حامل فإنه لا يجوز إقامة الحد والقصاص عليها حتى تضع ما في بطنها ولو كان نطفة، فأُخر الحد الواجب والقصاص الواجب من أجل هذه النطفة، ولا يؤخر الواجب إلا لشيء محترم لا يجوز انتهاكه.
ومنها: وهو من أقوى أدلتهم ما ذكره الأطباء في الوقت الحاضر من أن أدق مراحل خلق الإنسان هي مرحلة النطفة ففيها يبدأ تكوين الجنين وفيها تنتقل الموروثات والطبائع والصفات الخلقية، والحمل يتأثر في هذه المرحلة ما لا يتأثر في المراحل التي تليها، فإذا كانت هذه أدق مرحلة وفيها تتجلى عظمة الله عز وجل وإجلاله فكيف يجوز الاعتداء وانتهاك هذه الحرمة، مع أن في انتهاك هذه الحرمة مصادمة لما جاءت به الشريعة مما سلف أن ذكرنا من حفظ الضروريات و المصادمة لأهم مقاصد النكاح.
القول الثاني: أنه جائز ولا بأس به.
قال به أكثر أهل العلم من الحنفية والشافعية والحنابلة.
أدلتهم:(1/5)
منها : قوله تعالى:?يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة?(4) وجهه من قوله:?مخلقة وغير مخلقة? فدل ذلك على أن التخليق لا يكون إلا في مرحلة المضغة فمرحلة النطفة لا تخليق فيها، فإذا لم يكن فيها تخليق فلا حرمة لها ويجوز انتهاكها.
وأجيب عنه: بأن الآية لا يستلزم منها عدم وجود التخليق قبل المضغة في حال النطفة بل التخليق موجود لأن التخليق الذي دلت عليه النصوص ينقسم إلى قسمين:
الأول: تخليق خفي وهذا دل عليه حديث ابن مسعود كما شهد له الأطباء.
الثاني: تخليق ظاهر وهو الذي دلت عليه الآية.
ومنها: حديث جابر "كنا نعزل والقرآن ينزل" فالنبي ( أقرهم على العزل فدل ذلك على أن النطفة لا حرمة لها.
وأجيب: بالفرق بين الحالين فالعزل لم تستقر فيه النطفة في الرحم ولم يحصل لها تكوين أو تخليق بخلاف حال النطفة في الرحم فإنها مستقرة فيه في مكان مكين كما قال تعالى:?ألم نخلقكم من ماء مهين ( فجعلناه في قرار مكين?(5) فإذا كانت في قرار مكين يعني ؛ في مكان حافظ لما أودع فيه فإنه لا يجوز انتهاك هذا المكان المكين الذي حفظت فيه هذه النطفة. ففرق بين مسألة العزل ومسألة استقرار النطفة في الرحم.
والقاعدة: أن الدفع أهون من الرفع . فدفع النطفة والعزل أهون من إخراجها من مكانها الذي أودعت فيه.
ومنها: قولهم: إن الجنين في حال النطفة لم تخلق وإذا كان كذلك فإنه لا يبعث يوم القيامة، فإذا كان لا يبعث فإنه لا حرمة له فيجوز انتهاكه وإسقاطه .
وأجيب: بأن هذا استدلال بمحل النزاع، ونظر في مواجهة الأثر.
الترجيح:
على هذا يكون الأقرب في مثل هذه المسألة أنه لا يجوز إسقاط النطفة بغرض التخلص من الحمل أو خشية نفقات الولد أو تربيته أو التخفف من الأولاد ونحو ذلك.(1/6)
وقد توصلت ندوة الأبحاث التي عقدت في الكويت عام 1403هـ إلى أنه لا يجوز إجهاض النطفة؛ لما سبق أن ذكر من الأدلة إلا في حال الضرورة القصوى.
وكذلك فتوى هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية عام 1407هـ : أن النطفة لا يجوز إجهاضها إلا إذا خشي على سلامة الأم كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
الحال الثانية: الإجهاض بعد الأربعين إلى نفخ الروح. وللعلماء فيه قولان:
الأول: التحريم وعدم الجواز.
قال به الذين قالوا بعدم الجواز في مدة الأربعين في حال النطفة قالوا: وعدم الجواز هنا من باب أولى، وهم المالكية والظاهرية وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن رجب والعز بن عبد السلام وابن الجوزي وكذلك الحنابلة.
الثاني: الجواز.
قال به الحنفية والشافعية.
الترجيح :
إذا كان الراجح - كما تقدم - لا يجوز الإجهاض في مرحلة النطفة ففي مرحلة العلقة ومرحلة المضغة من باب أولى أنه لا يجوز.
الحال الثالثة : الإجهاض بعد نفخ الروح .
العلماء مجمعون على أنه لا يجوز الإجهاض فإذا تم له أربعة أشهر فإنه يرسل إليه الملك كما في حديث ابن مسعود وتنفخ فيه الروح، فلا يجوز إجهاضه.
الدليل: لما في ذلك من قتل النفس المعصومة وقد قال الله عز وجل ?ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق?(6)
وفي حديث ابن مسعود أن النبي ( قال: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا بإحدى ثلاث، النفس بالنفس والثيب الزاني والتارك لدينه المفارق للجماعة) وهذا الحمل في الإسلام هو تابع لخير أبويه فلا يجوز إجهاضه.
الخلاصة :
تلخص لنا في الحالة الثانية من حالات الإجهاض إذا كان لغير ضرورة شرعية أنه لا يجوز في كل مراحله الثلاثة، لا في مرحلة النطفة ولا في مرحلة ما بعد الأربعين مرحلة العلقة والمضغة ولا في مرحلة ما بعد نفخ الروح.
القسم الثالث: الإجهاض لضرورة شرعية :(1/7)
بأن يكون بقاء الجنين يسبب خطرا على حياة الأم، كأن تكون الأم مريضة بمرض من الأمراض، وبقاء هذا الجنين يسبب خطرا على حياتها بتزايد هذا المرض، مثل أن تكون مريضة بمرض القلب أو الكلى أو تكون مصابة بأمراض خبيثة كسرطان الثدي وسرطان عنق الرحم أو أمراض الدم..إلخ، المهم أن بقاء الجنين يكون خطرا على سلامة الأم.
فهل يجوز إجهاض الجنين في مثل هذه الحال من أجل سلامة الأم أو أن هذا غير جائز؟
هذا القسم فيه حالتان:
الحال الأولى: ما قبل نفخ الروح.
الفقهاء المعاصرون ذهبوا إلى جواز إجهاض الجنين إذا كان في إجهاضه سلامة للأم وبقاؤه يكون خطرا على حياتها، ومن ذلك فتوى اللجنة الدائمة في المملكة العربية السعودية عام 1416هـ فقد جاء فيها " ولا يجوز إسقاط الحمل - أي قبل نفخ الروح- حتى تقرر لجنة طبية موثوقة أن استمراره خطر على سلامة أمه بعد استنفاذ كافة الوسائل لتلافي الأخطار " .
وقد أشار الفقهاء المتقدمون إلى شيء من ذلك فقد أشار إلى ذلك بعض الشافعية لأن الشافعية يتوسعون في الإجهاض.
التعليل:
استدلوا على ذلك بأن الضرر الأشد يزال بالأخف . وقالوا: بأنه يرتكب أهون الشرين، فإجهاض الجنين فيه ضرر، وموت الأم فيه ضرر فيرتكب أخف الضررين ؛ فإجهاض الجنين أهون من هلاك الأم .
فالأصل في الإجهاض - تقدم - أنه حرام لكن لهذه القاعدة ، وقاعدة : الضرورات تبيح المحظورات أجاز الفقهاء المتأخرون هذا واشترطوا له شروطا :
1- أن يوجد مرض حقيقي يعرض حياة الأم للخطر.
2- أن يتعذر علاج هذا المرض إلا بالإجهاض.
3- أن يقرر من يوثق بقوله من الأطباء أن الإجهاض هو السبيل الوحيد لاستنقاذ الأم.
فإن توفرت هذه الشروط توجه القول بجواز إجهاض هذا الجنين.(1/8)
ولا بد من تحقق هذه الشروط لأن الأطباء في الوقت الحاضر يقررون بأنه لا يكاد يوجد مرض واحد يوجب الإجهاض فأمراض الأم يمكن أن تعالج بغير الإجهاض وذلك بسبب تقدم الطب، ولهذا ذكر الدكتور محمد البار أنه لا يوجد إلا مرض واحد الذي قد يسبب عدم الإجهاض فيه خطرا على حياة الأم وهو تسمم الحمل، أما ما عدا ذلك من الأمراض فلا حاجة فيها إلى الإجهاض لأنه بسبب تقدم الطب ممكن أن تعالج مثل هذه الأمراض.
وبهذا تعرف أن تهاون بعض الأطباء وقولهم: إن الأم مريضة وأن هذا الحمل يكون خطرا عليها فلا بد من إجهاضه أن هذا الكلام فيه نظر.
فالأصل هو تحريم الإجهاض إلا إذا توفرت هذه الشروط الشرعية مع الاحتياط والحذر.
الحال الثانية: ما بعد نفخ الروح
يعني للجنين أربعة أشهر وزيادة وبقاء هذا الجنين يسبب خطرا على أمه فإما أن نجهض الجنين ونقتله وتسلم الأم وإما أن نبقي الجنين فتموت الأم.
حكمه:
القول الأول:
العلماء في السابق يكادون يجمعون على تحريم الإجهاض حتى لو أدى ذلك إلى وفاة الأم،
وممن ذهب إليه في الوقت الحاضر الشيخ محمد ابن عثيمين رحمه الله وأنه لا يجوز قتل هذا الجنين.
أدلتهم:
منها: قالوا: إنه مما لا خلاف فيه بين العلماء أنه لا يجوز لشخص أن يقتل شخصا ولو أكره على القتل حتى ولو أدى ذلك إلى إزهاق نفسه يعني : لو أن شخصا أكره شخصا على أن يقتل زيدا من الناس أو يُقتل هو، قالوا : لا يجوز له أن يقدم على قتله ولو أدى ذلك إلى قتل هذا المكره.
فمثله أيضا المرأة فلا يجوز أن نقتل هذا الجنين لاستبقاء نفس الأم .
ومنها: قالوا: الإجماع منعقد على أن الإنسان إذا كان مضطرا وكان في مخمصة فإنه لا يجوز له أن يقتل نفسا معصومة من أجل أن يأكلها ويستبقي نفسه. فكذلك هنا لا يجوز أن نقتل هذا الجنين لكي نستبقي نفس الأم.
ومنها: ما ذكر ابن نجيم قال: إحياء نفس بنفس هذا لم يرد في الأدلة بالاستقراء استقراء الشريعة.
القول الثاني:(1/9)
ما ذهب إليه أكثر العلماء المعاصرين قالوا: إذا ثبت ثبوتا محققا وفاة الأم إن لم نجهض هذا الجنين جاز الإجهاض.
أدلتهم:
منها: قالوا : الجنين لا يسلم غالبا فإذا هلكت الأم هلك الجنين، فإما أن نجهض الجنين فتسلم الأم وإلا فإن الجنين الغالب لا يسلم لأنه إذا هلكت الأم هلك الجنين معها لأنه كجزء من أجزائها.
وأجيب : بأن هذا القول فيه نظر فإن العلماء إذا كانوا في السابق يتكلمون عما إذا ماتت المرأة وأنه يمكن السطو على بطنها وشقه واستنقاذ الجنين فما بالك اليوم فيما يتعلق بتقدم الطب، فإنه بالإمكان أن يشق بطن الأم ويخرج الجنين حتى وإن لم يكتمل له ستة أشهر فبالإمكان أن يرعى هذا الجنين حتى ينمو.
ومنها: قالوا : الجنين تابع لأمه وجزء من أجزائها وباتفاق العلماء أنه يجوز أن يقطع جزء من أجزاء الإنسان لكي يسلم باقيه فمثلا لو كان في الإنسان يد متآكلة أو رجل متآكلة ولا يسلم إلا بقطع هذا الجزء المتآكل فإننا نقطع هذا الجزء المتآكل لكي يسلم باقيه ، فمثله أيضا الجنين قالوا : هو كالجزء المتآكل نقطعه لكي تسلم الأم.
وأجيب : بأن هذا قياس مع الفارق فكل منهما نفس معصومة مستقلة.
ومنها: استدلالهم بالقواعد مثل قاعدة: المشقة تجلب التيسير. ويرتكب أهون الشرين ونحوها.
القسم الرابع: إجهاض النطفة المحرمة.
يعني : إذا كان سبب الإجهاض أخلاقيا كما لو حصل زنى وحملت المرأة بسبب هذا الزنا ، فهل يجهض الجنين أو لا يجهض ؟(1/10)
من المعروف في وقتنا الحاضر انتشار الزنا في بلاد الكفر وفي كثير من بلاد الإسلام، وسبب انتشاره ما يوجد النوم من آلات اللهو وعرض الأفلام المسلسلات التي تدعو إلى هذه الفاحشة ، فلما انتشر الزنا في بلاد الكفر اضطرت هذه البلاد إلى القول بإباحة الإجهاض فأصدرت القرارات التي تبيح الإجهاض، بل أصبح الإجهاض في بعض البلاد تجارة رابحة يروج لها في الصحف ويدعا إليها بالإعلانات، وسبق أن أشرنا أنه في مدينة نيويورك الأمريكية ما يقرب من ثلاث مئة عيادة متخصصة في إجهاض الأجنة.
حكمه:
إجهاض النطفة المحرمة له حالان:
الحال الأولى: ما قبل نفخ الروح:
اختلف الفقهاء المعاصرون فيه على ثلاثة أقوال:
القول الأول: عدم الجواز، فليس هناك حاجة للإجهاض.
دليلهم:
قصة الغامدية فإنها أتت النبي ( وهي حبلى من الزنا فلم يقم النبي ( عليها الحد حتى وضعت ، ولو كان هذا الجنين يجوز إجهاضه لأقام النبي ( حد الزنا عليها، لأنه لو أقيم عليها حد الزنا ستتلف وسيتلف الجنين، وإنما أخر النبي ( إقامة الحد عليها ولدت، مما يدل على أن هذا الحمل ولو كان قبل نفخ الروح فإن له حرمة فلا تنتهك.
القول الثاني: التفصيل: فإن كان الزنا عن إكراه جاز إجهاض الجنين الناشئ عنه قبل نفخ الروح ، وإن كان عن رضا بين الزانيين فإنه لا يجوز.
التعليل : لأنه إذا كان عن إكراه فإن المرأة تكون معذورة لأن هذا الجنين سيسبب لها ضررا وأذى ، فما دام أنها معذورة جاز إجهاضه.
القول الثالث: الجواز مطلقا : سواء كان الزنا عن إكراه أو عن رضا.
التعليل :
1_ لأن هذه النطفة محرمة، والمحرم شرعاً كالمعدوم حسا فليس لها حرمة ، وأذكر قبل سنوات أنني سألت الشيخ محمدا (يعني ابن عثيمين) رحمه الله عن إجهاض النطفة المحرمة قبل نفخ الروح، فأجاب بأنها تجهض .
2_ أيضا : فإن هذه النطفة تسبب ضررا وأذى بالنسبة للمرأة وعائلتها.
3_ وأيضا : نفس الجنين بعد ولادته سيلحقه شيء من الأذى والضرر لكونه ابن زنا.(1/11)
الترجيح :
الأقرب في هذه المسألة التفصيل فإن كانت المرأة أكرهت على الزنا أو كان الزنا عن رضا وتابت ورجعت إلى الله عز وجل فإنه يجوز إجهاض هذا الجنين ما دام قبل نفخ الروح ؛ لأن بقاءه فيه ضرر على أمه وعلى أسرته وحتى عليه هو بعد وجوده . والقواعد الشرعية أنه يرتكب أخف الضررين و أهون الشرين ، والمشقة تجلب التيسير ، مع أن هذه النطفة نطفة محرمة شرعا وما كان محرما شرعا فهو كالمعدوم حسا.
وأما إذا كان الزنا عن رضا ورغبة ولم تتب وترجع فإن الإجهاض محرم ولا يجوز .
الحال الثانية : ما كان بعد نفخ الروح .
بأن تم لهذا الجنين عشرون ومئة يوم فإن إسقاطه محرم ولا يجوز، لما في ذلك من قتل نفس معصومة ، فإن هذا الجنين لما نفخت فيه الروح أصبح نفسا معصومة لا يجوز الإقدام على قتلها .
والأضرار التي تلحق بالأم أو بالجنين بعد ولادته فإنها لا تساوي ضرر قتله فإن قتله من أكبر الكبائر والله عز وجل يقول : ? ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما ?(7) ويقول : ? ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ?(8) وتقدم حديث ( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث...)
وأيضا : فإن من مقاصد الشريعة حفظ الضروريات الخمس التي اتفقت عليها الشرائع ، ومنها ما يتعلق بحفظ النفس .
فإذا كان الإجهاض بعد نفخ الروح فإنه لا يجوز ويأثم به صاحبه ويكون أتى كبيرة من كبائر الذنوب ، ويأخذ حكم العمد في قتل الجنين ويترتب عليه ما ذكره العلماء رحمهم الله من إيجاب الدية والمعاقبة .
القسم الخامس: الإجهاض خشية تشوه الجنين .
تشوه الجنين : هو عبارة عن توقع إصابة الجنين بعاهات خلقية .
ذكر الأطباء أن التشوهات التي تحصل للأجنة ثلاثة أنواع :
النوع الأول: التشوهات التي تحصل للأجنة في الأسبوعين الأولين من الحمل.(1/12)
فإذا تعرضت الأجنة في هذين الأسبوعين لعوامل مؤثرة خارجية فإن الغالب أنها تتلف ، وأيضا الغالب أن الأرحام تقوم بإلقاء هذه الأجنة التي حصل لها هذا العيب ، وسبق أن أشرنا إلى الإجهاض الطبيعي وأنه عبارة عن عملية طبيعية يقوم بها الرحم في إسقاط الأجنة المعيبة وذكرنا أن الأطباء يقولون : إن ما بين سبعين إلى تسعين بالمئة (70%-90%) من الأجنة التي تسقط بالإجهاض الطبيعي أنها تكون مشوهة .
النوع الثاني: التشوهات التي تحصل ما بين الأسبوع الثالث إلى الثامن.
فهذه المرحلة من أدق المراحل فيما يتعلق بحدوث التشوهات للأجنة، فالجنين في هذه المرحلة يتأثر بالعوامل الخارجية وينحسر عن مساره ويخرج مشوهاً.
وقد ذكر الأطباء أن العوامل التي تؤدي إلى التأثير على الأجنة في هذه المرحلة الثانية كثيرة ، يذكرون منها : العوامل الوراثية ، وتناول الأدوية ، والمركبات الكيماوية والتعرض للإشعاعات...إلخ. فينبغي أن يحتاط للجنين من العوامل التي تؤدي إلى تعيبه في هذه المرحلة فإنه يتأثر في هذه المرحلة وأما في المرحلة السابقة فإنه لو حصل تأثر فإنه يسقط بإذن الله عز وجل في الغالب.
النوع الثالث : التشوهات التي تحصل بعد المرحلة الثانية ، ويقول الأطباء : إن الجنين غالبا لا يتأثر بالتشوهات في هذه المرحلة ولو حصل له تأثر فإنه يكون طفيفا .
الموقف الشرعي من الجنين المشوه.
الحكم الشرعي للجنين المشوه يتلخص في ثلاث نقاط:
النقطة الأولى : منع هذه التشوهات وذلك بالاحتياط للأجنة ، فتحتاط الأم ويحتاط الأب بالوقاية من المؤثرات الخارجية التي قد تؤدي إلى التأثير على الجنين ، وقد ذكرنا شيئا منها والشريعة قد جاءت بقاعدة : سد الذرائع.
النقطة الثانية : علاج هذه التشوهات فإذا أمكن علاج الجنين وهو في بطن أمه - إذا تحقق الأطباء من وجود هذه التشوهات - فإن هذا هو الواجب.(1/13)
النقطة الثالثة : الإجهاض : وهل يصار إليه أو لا يصار إليه إذا لم يتمكن الأطباء من علاج هذه التشوهات ؟
حكمه :
هذه التشوهات يقسمها الفقهاء في الوقت الحاضر إلى نوعين:
النوع الأول : التشوهات التي تصل قبل نفخ الروح.
يعني : يكتشف أن هذا الجنين قد حصلت له عيوب خلقية قبل نفخ الروح.
فهذا أكثر المعاصرين يجوزون إجهاض الجنين في هذه المرحلة لقاعدة : ارتكاب أخف الضررين ، فالإجهاض ضرر وخروجه معيباً عيباً خلقياً ضرر عليه وعلى والديه.
النوع الثاني : اكتشاف العيوب والتشوهات الخلقية بعد نفخ الروح.
فهذا لا يجوز إجهاضه ؛ لما تقدم من الأدلة على حرمة قتل النفس لأنه بعد نفخ الروح أصبح نفساً معصومة لا يجوز الإقدام على قتلها وانتهاك حرمتها .
لكن تقدم لنا أن أكثر المعاصرين يجوزون إجهاض الجنين بعد نفخ الروح إذا كان في بقائه ضرر محقق على أمه، وعلى هذا إذا كان الجنين مشوها خلقيا ومريضا ومرضه سيؤدي إلى تضرر الأم- هلاك محقق- فعلى ما سبق أن ذكرنا من الخلاف بين المتقدمين والمتأخرين في حكم الإجهاض ، فالمتقدمون لا يرون الإجهاض والمتأخرون يقولون : إن كان سيحصل هلاك محقق للأم فإنه يجهض .
( تنبيه :
ذكر بعض الأطباء : إن ما يتعلق بالعيوب التي تصيب الأجنة أنها أمور ظنية ، يعني ليست أموراً محققة ، وعليه فإنه لا يجوز للوالدين وكذلك الطبيب التسرع في الإجهاض لأن هذه أمور ظنية فالأطباء تارة يذكرون شيئاً ثم ينقضونه ، هذا الأمر الأول.
الأمر الثاني : قال : إن هذه التشوهات الغالب أنها لا تكتشف إلا بعد نفخ الروح ، فإذا كان كذلك فتقدم أنه لا يجوز الإجهاض بعد نفخ الروح إلا على قول المتأخرين الذين جوزوا الإجهاض إذا كان في بقاء الجنين ضرر محقق أو هلاك محقق للأم .
ثانيا: علامة الوفاة بين الفقهاء والأطباء
وحكم رفع أجهزة الإنعاش عن الميت دماغياً
هذا المبحث يتضمن ثلاثة مسائل :
المسألة الأولى : علامة الوفاة عند الفقهاء في السابق.(1/14)
المسألة الثانية : علامة الوفاة عند الأطباء في الوقت الحاضر.
المسألة الثالثة : حكم رفع أجهزة الإنعاش عن الميت دماغيا.
وهناك ارتباط بين المسألة الثانية والمسألة الثالثة لكن لا تلازم بينهما كما سيأتي إن شاء الله ، فلكل واحد منهما حكم مستقل.
المسألة الأولى : علامة الموت عند الفقهاء .
أولا: حقيقة الموت في الأدلة الشرعية وعند الفقهاء.
الموت يطلق ويراد به الوفاة والمنية والمنون والأجل والسام وانقطاع الوتين، فوردت له تسميات عديدة .
وحقيقة الموت في الأدلة الشرعية وعند الفقهاء ؛ " مفارقة الروح للبدن " .
والروح قال الله عز وجل في شأنها : ? ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ?(9)
فذهب بعض المفسرين : إلى أنه يتوقف في أمر الروح ولا بتكلم في شأنها ؛ لأن الله عز وجل قال : ? قل الروح من أمر ربي ?
وذهب كثير من المفسرين والعلماء : إلى الكلام عن حقيقة الروح وأنها : جسم لطيف نوراني يشتبك بالبدن كاشتباك الماء بالعود الأخضر ويتخلل البدن كتخلل الماء للتراب والطين .
وقد دلت الأدلة الشرعية - كما سلف - أن الموت هو مفارقة الروح للبدن كما في قوله تعالى : ? فنفخنا فيها من روحنا ?(10) وقوله : ? فنفخنا فيه من روحنا ?(11) فالحياة حصلت بنفخ الروح فدل ذلك على أن الموت يحصل بمفارقة الروح للبدن .(1/15)
وأما من السنة فحديث البراء بن عازب ( المشهور الذي أخرجه أحمد في المسند وقد جمعه الدارقطني في كتاب مستقل . وابن القيم في كتابه الروح بسط القول على هذا الحديث سندا ومتنا، وفيه : أنهم خرجوا مع النبي ( في جنازة رجل من الأنصار فجلس النبي ( ومعه الصحابة حول القبر حتى يُلْحَد ثم قال النبي ( في شأن قبض روح المؤمن ( فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء ، فيأخذها ملك الموت ) فدل هذا على أن الروح جسم لأنه لا يقبض إلا الجسم وكذلك أيضا قوله ( تخرج تسيل ) كل هذا يدل على أن الموت في الأدلة الشرعية وعند الفقهاء المراد به : مفارقة الروح للبدن ، وكلمات الفقهاء تتوارد على ذلك فإنك إذا رجعت إلى كتب الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة رحمهم الله تجد أنهم يعرفون الموت بأنه مفارقة الروح للبدن.
ثانيا: علامة الموت عند الفقهاء .
الفقهاء رحمهم الله بعد أن يقرروا حقيقة الموت يذكرون علامات الموت أي العلامات التي تدل على أن الروح قد فارق البدن ، وهذه العلامات تواردت كلمات العلماء عليها ويذكرونها في كتاب الجنائز وهذه العلامات ليست قطعية لكنها من قبيل الأمور الظاهرة التي يستدلون بها على مفارقة الروح للبدن وتتلخص في تسع علامات وهي :
1- توقف النفس .
2- استرخاء القدمين بعد انتصابهما ، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله أن طبيبا كان واقفا عند بابه فمر عليه بجنازة يحملونها إلى المقبرة فسأل عن شأنها ، فقيل له : إنهم يحملونها إلى المقبرة ، فقال : إن هذا الشخص لم يمت ، واستدل هذا الطبيب على ذلك بأن قدميه لا تزالان منتصبتين ، فأرجع هذا الميت وفك من أكفانه فأفاق بإذن الله عز وجل .
3- انفصال الكفين عن الذراعين ، فإنها الآن متمسكة بالذراع لكن إذا مات الميت انفصل كفه عن ذراعه فينفصل زنده .
4- ميل الأنف واعوجاجه .
5- امتداد جلدة الوجه .
6- انخساف صدغاه إلى الداخل .
7- تقلص خصيتيه إلى الأعلى مع تدلي الجلدة .(1/16)
8- برودة البدن .
9- إحداد البصر وهذا دل عليه حديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي ( قال : ( إن الروح إذا قبض تبعه البصر ) وفي حديث شداد بن أوس ( مرفوعا ( إذا حضرتم موتاكم فأغمضوا البصر ؛ فإن البصر تتبع الروح وقولوا خيرا ؛ فإنه يؤمن على ما يقول أهل الميت ) .
المسألة الثانية : علامة الموت عند الأطباء في الوقت الحاضر .
علامة الموت عند الأطباء في الوقت الحاضر هي "موت الدماغ"- كما سيأتي إن شاء الله بيان ذلك-
وأول من نبه على هذا مجموعة من الأطباء الفرنسيين عام 1959م حيث تكلموا عن موت الدماغ وأنه علامة من علامات الموت فيما أسمي بمرحلة ما بعد الإغماء ، ثم بعد ذلك في جامعة هارفارد في أمريكا عام 1967م تكلموا في هذه المسألة ثم بعد ذلك في بريطانيا اجتمعت لجنة مكونة من الكليات الملكية ووضعت ضوابط لما يسمى بموت الدماغ .
أولا: الأجزاء الرئيسية للدماغ وكيفية حدوث موت الدماغ .
يتكون الدماغ من ثلاثة أجزاء رئيسية :
1- المخ .
2- المخيخ .
3- جذع المخ .
وكل واحد من هذه الأجزاء له وظائف رئيسية إذا عرفناها استطعنا أن نعرف أي هذه الأجزاء الذي إذا مات يكون علامة على موت البدن كما هو عند الأطباء .
فالجزء الأول المخ : ووظيفته تتعلق بالتفكير والذاكرة والإحساس .
والجزء الثاني المخيخ : ووظيفته تتعلق بتوازن الجسم .
والجزء الثالث جذع المخ : وهو أهم هذه الأجزاء ووظائفه وظائف أساسية فوظائفه تتعلق بالتنفس والتحكم في القلب ونبضاته والتحكم بالدورة الدموية... إلخ.
فعند أكثر الأطباء يحصل الموت إذا أصيب جذع المخ فهذه علامة من علامات الموت عند الأطباء ، وبعض الأطباء يخالف في ذلك .(1/17)
فالمخ إذا أصيب لا يعني هذا حصول الموت لأن وظيفة المخ تتعلق بالذاكرة والإحساس والتفكير فيفوت عليه التفكير والإحساس وتفوت عليه الذاكرة فيحي كما يسميها الأطباء حياة جسدية نباتية، يتغذى ويتنفس وقلبه ينبض ، ويمكث على هذه الحال سنوات ، وقد وجد من المرضى من مكث عشر سنوات لأن جذع المخ الذي يتحكم في التنفس ونبضات القلب والدورة الدموية لا يزال حيا، لكنه فقد وعيه الكامل.
وكذلك المخيخ لو مات فإنه يفقد توازن الجسم ولا أثر له في موت الإنسان ، فالأطباء يقولون : إذا مات المخ أو المخيخ أمكن للإنسان أن يحيى حياة غير عادية يعني حياة نباتية جسدية فيفقد وعيه الكامل لكنه لا يزال يتنفس وقلبه ينبض ويتغذى .
والغالب أن موت جذع المخ هو الذي موته يكون علامة على الوفاة عند الأطباء ، والغالب أن موته أو إصابته تكون بسبب الحوادث ؛ حوادث السيارات أو القطارات أو الطائرات وما يحصل فيها من الارتطامات والاصطدام الذي يحصل في هذا الجزء من الدماغ .
وكذلك من أسباب موت جذع المخ ؛ النزيف الداخلي .
ثانيا: علامات موت جذع المخ .
ولما كان إصابة جذع المخ عند أكثر الأطباء دليلا على موت الإنسان فإن الأطباء يذكرون لموت جذع المخ علامات منها :
1- الإغماء الكامل .
2- عدم الحركة .
3- عدم التنفس وانقطاعه ولهذا يحتاج إلى أجهزة الإنعاش - وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله- .
4- عدم وجود أي انفعالات انعكاسية ، كظهور آثار الحزن أو السرور .
5- وهي من أهمها مع عدم التنفس عدم وجود نشاط كهربائي في رسم المخ بطريقة معروفة عند الأطباء ، فالأطباء يرسمون المخ فقد يوجد عند هذا المصاب شيء من الرسم الكهربائي ، قد يكون قويا وقد يكون ضعيفا وقد لا يوجد فإذا لم يوجد أي نشاط كهربائي عند رسم المخ بآلاتهم المعروفة فهذا مما يستدلون به على أن جذع المخ قد مات .
هذا بالنسبة لكلام الأطباء لكن يبقى كلام علماء الشريعة الفقهاء في الوقت الحاضر.(1/18)
ثالثا: الحكم الشرعي للموت الدماغي وهل يعد موتا أم لا ؟
كانت العلامات في السابق على نحو ما ذكرنا لكن لما ظهرت هذه العلامة وهي موت جذع المخ اختلف فيها الفقهاء ، هل هي دليل على موت الإنسان أو أنه حتى الآن لم يمت ؟ على قولين :
القول الأول : وقال به بعض الفقهاء والباحثين في الوقت الحاضر ، قالوا : إنه إذا أثبت الأطباء أن جذع المخ قد مات بالعلامات التي سبق أن أشرنا إليها فإنه يحكم على هذا الشخص بأنه قد مات.
واستدلوا على ذلك فقالوا : إن الروح هي التي تسيطر على البدن عن طريق الدماغ فإذا مات أهم جزء في الدماغ وهو جذع المخ فقدت سيطرتها على البدن فتخرج منه ويقبضها ملك الموت .
القول الثاني : وهو قول أكثر الفقهاء المعاصرين والباحثين ومنهم فضيلة الشيخ بكر أبو زيد والشيخ عبد الله البسام رحمه الله ، وكذلك أيضا فتوى وزارة الأوقاف الكويتية ، قالوا : إن موت جذع المخ لا يعني الموت ، فلا نحكم بأن هذا الشخص قد مات الآن ويترتب عليه أحكام الموت المعروفة من التوارث والإحداد وانتقال الملكية وبطلان الوكالة وما يتعلق بالوصايا...إلخ .
واستدلوا على ذلك بأدلة ، منها : قاعدة : اليقين لا يزول بالشك ، واليقين أن هذا الإنسان حي وموته مشكوك فيه ، فقد وجدت وقائع يقرر فيها موت الدماغ ثم بعد ذلك تستمر الحياة .
ومنها : قالوا : إن الشرع يتطلع لإحياء النفوس وإنقاذها وأن أحكامه لا تبنى على الشك وخصوصا ما يتعلق بالأنفس .
ومنها : قالوا : إن من أصول الشريعة المحافظة على المصالح الضرورية التي اتفقت الشرائع على المحافظة عليها، ومن ذلك حفظ النفس.
ومنها : قالوا : إن تعطل الإحساس أو توقف النفس ونحو ذلك لا يدل على فقد الحياة .
الترجيح:
هذا القول الثاني هو الصواب فلا نحكم بموته .(1/19)
لكن بقينا في المسألة الثالثة وهي رفع أجهزة الإنعاش عن هذا الشخص الذي مات جذع المخ عنده ، فقد أصبح جثة هامدة ووضعت عليه أجهزة الإنعاش وقول أكثر الفقهاء أنه لا يحكم بموته ، فهل يجوز رفع هذه الأجهزة عنه أو نقول يجب بقاء هذه الأجهزة عليه ؟
المسألة الثالثة : حكم رفع أجهزة الإنعاش عن الميت دماغيا .
سبق أن ذكرنا أن من علامات إصابة جذع المخ توقف النفس وتوقف ضربات القلب أو حدوث ضعف فيها والإغماء الكامل وعدم الحركة وعدم وجود أي انفعالات انعكاسية وعدم وجود أي نشاط كهربائي في رسم المخ كما هو معروف عند الأطباء ، فإذا حدثت هذه الأعراض فإن المصاب يُدخَل إلى ما يسمى بحجرة الإنعاش وتوضع عليه أجهزة الإنعاش .
فإذا أصيب الإنسان بصفة عامة وتوقف نفسه أو توقفت دقات قلبه بسبب إصابة في الدماغ أو اختناق أو غرق أو مواد سامة أو جلطة في القلب فإنه يدخل في غرفة الإنعاش ؛ لإنعاش ما توقف من نفسه ودقات قلبه .
فهل يجوز رفع أجهزة الإنعاش عن هذا المريض إذا تحققنا موت جذع المخ عنده ؟
أولا : ما هي آلات الإنعاش عند الأطباء ؟
آلات الإنعاش عند الأطباء كالتالي :
1- المنفسة : وهي عبارة عن جهاز يقوم بعمل الجهاز التنفسي بتحريك القفص الصدري فيحدث للمريض ما يسمى بالشهيق والزفير .
2- مانع الذبذبات : وهو جهاز من أجهزة إنعاش القلب يقوم بإعطاء القلب صدمات كهربائية لإعادة ما ضعف من دقات القلب أو ما انقطع منها .
3- جهاز منظم ضربات القلب : وهو من أجهزة إنعاش القلب يحتاج إليه حيثما تكون ضربات القلب بطيئة بحيث لا يصل الدم إلى الدماغ بكمية كافية ، أو أن الدم بسبب بطئ ضربات القلب ينقطع عن الدماغ لمدة دقيقة أو ثوان .
4- مجموعة العقاقير والأدوية : معروفة عند الأطباء .
ثانياً: ما حكم رفع أجهزة الإنعاش عن الميت دماغيا ؟(1/20)
إذا كان المريض عليه هذه الأجهزة وتوفرت علامات موت جذع المخ عنده فهل يجوز رفع هذه الأجهزة عنه ؛ فإن تنفسه أصبح آليا وأصبحت نبضات القلب صناعية وليست حقيقة ؟
اختلف الفقهاء في الوقت الحاضر في هذه المسألة على قولين :
القول الأول :
عدم الجواز، وهو اختيار الشيخ عبد العزيز ابن باز رحمه الله تعالى ، فإنه لا يرى رفع الأجهزة عن هذا الشخص الذي ذكر الأطباء أن جذع المخ قد مات عنده .
ويستدل لهذا القول بما تقدم أن ذكرنا من الأدلة الدالة على حفظ النفس وأن الشريعة جاءت بحفظ الضروريات الخمس كما في قول الله عز وجل :? ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما?(12) وقوله سبحانه : ? ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ?(13)
القول الثاني:
جواز رفع هذه الأجهزة عن هذا الشخص الذي أصبح الآن يتنفس تنفسا آليا صناعياً لا حقيقة لتنفسه فأصبح كالجثة التي ينفخ فيها هذا الهواء .
وهذا هو قول أكثر الفقهاء المعاصرين .
واستدلوا على ذلك بأدلة منها : أن بقاء هذه الأجهزة على مثل هذا المريض لا حاجة إليه ، لأن هذه الأجهزة أصبحت هي التي تعمل بالبدن .
وأيضا : قالوا : هذه الآلات تطيل عليه ما يؤلمه من حالة النزع والاحتضار .
وأيضا : قالوا : هذه الأجهزة تسبب زيادة تألم أقاربه وذويه ، فتجدهم يتألمون لحاله ويحزنون لما صار إليه .
وأيضا : قالوا : هذه الأجهزة وهذه الغرفة المجهزة وراءها تكاليف باهضة ولا طائل تحتها فتجد أنها تكون لأناس محدودين ، فلو أنه أُتي بشخص آخر تُستنقذ حياته بحيث يكون وجوده في هذا المكان فيه فائدة . بخلاف هذا الشخص الذي مهما طال به الزمن فإنه لا فائدة من بقاء هذه الأجهزة عليه .
الترجيح:
هذا القول الثاني هو الأقرب لكن يشترط لذلك أن يقرر من يوثق بقوله أن حالة هذا المريض ميؤوس منها بسبب موت ما يسمى بجذع المخ فإن كان الطبيب شاكا في حاله أو حاله غير ميؤوس منها فإنه لا يجوز رفع الأجهزة عنه .
( تنبيه :(1/21)
في بلاد الخارج تجد أنهم يحكمون على هذا الشخص الذي مات جذع المخ عنده بأنه قد مات ؛ لأن هذا هو كلام الأطباء وهو علامة عند أكثر الأطباء على أنه مات فيحكمون بأنه مات ثم بعد ذلك يقومون بالسطو عليه ، فيؤخذ قلبه وكبده وكليتيه...إلخ ، ومثل هذا لا يجوز في الشريعة لأننا ذكرنا أن الصواب أن موت جذع المخ ليس موتا ، وعليه لا يجوز التعرض له ما دامت أجهزة الإنعاش عليه حتى ولو كان جذع مخه ميتا.
ثالثا: مسألة تضمين الطبيب
هذه المسألة تكلم عليها العلماء في الزمن السابق ، وكذلك تكلم عليها العلماء في الوقت الحاضر وعقد لها شيء من المؤتمرات والندوات وكثر فيها الكتابات ، لأن الطب الآن بسبب كثرة الناس وترقي الطب أصبح الناس يحتاجون إليه كثيرا ، وأصبح يرد على عيادة الطبيب كثير من المرضى وقد يقوم بإجراء عمليات يوميا أو أسبوعيا ، فقد يحدث من هؤلاء الأطباء شيء من الأخطاء ، وقد تكون هذه الأخطاء مقرونة بالتعدي والتفريط وقد لا تكون كذلك ، فسنذكر - إن شاء الله تعالى - الحالات التي يضمَّن فيها الطبيب والحالات التي لا يضمَّن فيها ، وقبل ذلك نذكر تعريف الضمان .
تعريف الضمان :
الضمان في اللغة : يطلق على معان منها : الالتزام . ومنها : الكفالة بالشيء وعلى الشيء . ومنها : التغريم .
وأما في اصطلاح الفقهاء : فيطلق على ضمان المال والتزامه بعقد أو بغير عقد . ويطلق أيضا على ما أوجبه الشارع بسبب الاعتداءات كالكفارات ونحوها .
والمراد بتضمين الطبيب هنا : تضمينه ما حصل من تلف تحت يده سواء كان هذا التلف لنفس أو عضو أو منفعة .
تعريف الطبيب :
والطبيب عرفه العلماء بتعريفات منها :-
- أنه العالم بالطب .
- وقيل : هو الذي يعالج المرضى .
- وقيل : هو الذي يعرف العلة ودواءها وكيفية المداواة . وهذا القول هو الأقرب .
أحوال تضمين الطبيب :(1/22)
الحال الأولى : أن يكون الطبيب حاذقا قد أعطى صنعة الطب حقها ، وألا تجني يده يعني : لا تتعدى يده ما أذن له فيه .
ومعنى ( كونه حاذقا ) : أن يكون مكتسبا لعلم الطب ، وعلم الطب - كما ذكر العلماء - قد يكتسب بالأمور التجريبية وقد يكتسب بالأمور النظرية وقد يكتسب بكل منهما .
حكمها : هذه بالاتفاق أنه لا ضمان عليه .
المثال : طبيب حاذق عرف مهنة الطب ، أراد أن يجري عملية واحتاج أن يشق البطن بمقدار 1سم ، وشقه كذلك ولم تتعد يده ، فلم تتجاوز يده ما أذن له في ذلك ، فقد شق ما يرى أنه يحتاج إليه ثم حصل تلف للنفس أو لعضو من الأعضاء أو منفعة من المنافع تحت يده فالعلماء يقولون : لا ضمان عليه لكن لا بد من توفر هذين الأمرين :
الأمر الأول : أن يكون حاذقا ، عارفا بالطب .
الأمر الثاني : ألا تجني يده فلا تتعدى ما أذن لها فيه .
مسألة: بم يكون حذق الطبيب ؟
تكلم ابن القيم رحمه الله تعالى عن حذق الطبيب وذكر أن الطبيب لا يكون حاذقا إلا بواحد وعشرين أمرا : فلا بد أن ينظر في نوع المرض ، وسبب حدوثه ، وقوة المريض ، وهل له مقاومة للمرض أو ليست له مقاومة ؟ وأن ينظر إلى مزاج البدن الطبيعي ما هو؟ والمزاج الحادث ، وما سن المريض وعادته ؟ و الوقت الحاضر من فصول السنة ، وما بلد المريض ، وتربته ؟ ...إلخ ، وهذا مما يدل على أن العلماء رحمهم الله يشددون في حذق الطبيب .
ومثل هذه الأشياء بسبب ترقي الطب وتقدمه قد نقول : بأنها تختلف .
أدلتهم على هذا الحكم :
- استدلوا بحديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي ( قال : ( من تطبب وهو لا يعلم منه طب فهو ضامن ) أخرجه أبو داود وابن ماجه والحاكم وصححه .
- وأيضا بما ورد عن عمر وعلي رضي الله تعالى عنهما : أن من تطبب على أحد من المسلمين ولم يكن بالطب معروفا فأصاب نفسا فما دونها فعليه دية ما أصاب .(1/23)
ويفهم من هذا الحديث وآثار الصحابة رضي الله عنهم أنه إذا كان جاهلا فإنه يضمن هذا هو منطوق الحديث والآثار ، ومفهومها : أنه إذا كان عالما فإنه لا ضمان عليه .
- وأيضا القاعدة الشرعية : أن ما ترتب على المأذون فإنه غير مضمون . فهذا الطبيب قد أذن له بالعلاج فما ترتب على هذا المأذون فإنه غير مضمون .
- وأيضا هذا المريض أمانة بيد الطبيب ، والأمين لا يضمن إلا بالتعدي أو التفريط .
الحال الثانية : ألا يكون الطبيب حاذقا بل يكون متطببا جاهلا ولا يعلم المريض بعدم حذقه ، وقد يكون الطبيب حاذقا في مرض غير حاذق في مرض آخر فيقدم على العلاج في هذا المرض وهو غير حاذق فيه والمريض لا يعلم ، فقام بالمداواة فتلف تحت يده نفس أو عضو أو منفعة .
حكمها : هذا يضمن بالإجماع .
الدليل على ذلك :
- ما تقدم من الأدلة السابقة كما في قول الله عز وجل : ? فلا عدوان إلا على الظالمين ?(14) وهذا ظالم ، فكونه يباشر مداواة هذا المرض وهو لا يعلمه يعد هذا ظالما .
- وكذلك حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي ( قال : ( من تطبب وهو لا يعلم منه طب فهو ضامن ) .
- وكذلك ما أسلفنا من الآثار عن عمر وعلي رضي الله عنهما .
الحال الثالثة : أن يكون الطبيب جاهلا والمريض يعلم أنه جاهل .
حكمها :
اختلف فيها العلماء على قولين :
القول الأول :
وهو قول أكثر أهل العلم أنه ضامن فيلحقون هذه المسألة بالمسألة التي قبلها حتى ولو كان المريض يعلم بأنه جاهل ، فكون الطبيب يقدم على العلاج وهو جاهل فإنه يضمن .
الدليل على ذلك :
- استدلوا بالأدلة السابقة فالله عز وجل يقول : ? فلا عدوان إلا على الظالمين ? وهذا ظالم ، لكونه أقدم على المعالجة وهو جاهل لا يعلم .
- وتقدم حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وأثر عن عمر وعلي رضي الله عنهم .
القول الثاني :
ذهب إليه ابن القيم رحمه الله تعالى أنه لا يضمن .
والدليل على ذلك :(1/24)
حديث عبد الله بن عمرو نفسه ، ففيه قوله : ( وهو لا يعلم منه طب ) فدل ذلك على أنه إذا كان المريض يعلم حاله فإنه لا ضمان عليه .
الترجيح :
الأقرب في هذه المسألة هو قول الجمهور من أهل العلم وأما ما ذهب إليه ابن القيم ، فقوله ( ( وهو لا يعلم منه طب ) لا يلزم أن نجعله بالنسبة للمريض وإنما يكون بالنسبة لنفس الطبيب فيعلم من نفسه أنه غير طبيب وأنه لا يحسن الطب .
وأيضا لأن المريض ليس له أن يأذن للطبيب الجاهل أن يداويه لأن فاقد الشيء لا يعطيه فهذا البدن ملك لله عز وجل لا يملك أن يتصرف فيه في غير ما أذن له فيه شرعا . وعلى هذا لو أراد أن يقطع إصبعا من أصابعه أو أن يجرح نفسه فهذا محرم ولا يجوز ، فدل على أن إذن المريض لهذا الطبيب الجاهل أن يعالجه إذن في غير محله .
فالصواب : أنه يضمن ، لكن إذا قلنا بالضمان فإنه تؤخذ منه هذه الدية التي حصلت ولا تعطى لهذا المريض وإنما الأقرب أن تصرف في بيت المال أو يتصدق بها على الفقراء .
الحال الرابعة : أن يكون الطبيب حاذقا وقد أذن له وأعطى الصنعة حقها ، لكنه أخطأ .
وفرق بين هذه المسألة والمسألة في الحال الأولى ، ففي الحال الأولى تلف تحت يده من تلف وهو لم يخطئ ويده لم تجن لكن في هذه المسألة أخطأ.
مثاله: بدلا من أن يعطي جرعة من المخدر بمقدار معين زاد خطأ فتلف تحت يده نفس أو عضو أو منفعة .
مثال آخر : بدلا من أن يكون مقدار القطع في العملية مقدار 2سم ، زاد فقطع 3سم ، فتلف تحت يده .
أو أن يقطع في غير محل القطع مثلا ، فالقطع في الرجل اليمنى فقطع من الرجل اليسرى .
أو أن المصور بالأشعة زاد في قدر الجرعة الإشعاعية وهكذا . المهم أن هذا الطبيب أخطأ .
وهذه الحال الرابعة هي التي يكثر حولها أخطاء الأطباء .
وهذه يقسمها العلماء إلى قسمين :
القسم الأول : أن يكون هناك تعد أو تفريط من الطبيب .(1/25)
وضابط التعدي : " فعل ما لا يجوز " ، كأن يزيد في جرعة المخدر أو في كمية الدواء تهاوناً منه .
وضابط التفريط : " ترك ما يجب " ، كما لو لم يشخص حالة المريض كما ينبغي .
حكمه :
الحكم فيما إذا تعدى أو فرط أنه يضمن بالاتفاق .
الدليل : قوله تعالى: ? فلا عدوان إلا على الظالمين ? وهذا الطبيب ظالم لكونه تعدى أو فرط فيضمن .
وكذا ما تقدم من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما مرفوعا : ( من تطبب وهو لا يعلم منه طب فهو ضامن ) فإذا كان الجاهل يضمن فكذلك من باب أولى أن يضمن المتعدي أو المفرط .
وكذلك أيضا ما تقدم من الآثار عن الصحابة .
القسم الثاني : أن لا يتعدى الطبيب ولا يفرط .
فهو لم يفعل شيئا لا يجوز ، وأيضا لم يترك شيئاً وجب عليه ، بل اجتهد وفعل الواجب عليه .
مثاله : طبيب شق الجرح لإجراء العملية لكن يده تحركت فزاد في الشق ، أو في أثناء إعطاء جرعة المخدر ، قدَّر الجرعة كما هو الواجب لكن يده تحركت فزاد .
فهو الآن لم يتعد ولم يفرط لكن خرج شيء من ذلك عن إرادته .
حكمه :
الحكم في هذه الحال اختلف فيها أهل العلم هل يضمن الطبيب أو لا ؟ على قولين :
القول الأول :
وبه قال الإمام مالك أنه لا ضمان عليه .
الدليل على ذلك :
- قوله تعالى : ? فلا عدوان إلا على الظالمين ? وهذا الطبيب ما دام حاذقا في صنعته ، فلا ضمان عليه وهو الآن لم يتعد ولم يفرط فهو غير ظالم .
- وكذلك حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما مرفوعا : ( من تطبب وهو لا يعلم منه طب فهو ضامن ) وهذا يعلم منه طب ولم يتعد ولم يفرط لكن خرج ذلك عن إرادته .
- وكذلك قالوا : هذا الطبيب مؤتمن على بدن الطبيب ومقتضى الأمانة عدم التفريط ، لأن الأمين لا يضمن إلا بالتعدي أو التفريط .(1/26)
فلو أن شخصاً استأجر سيارة ثم تلفت هذه السيارة فإنه لا يضمنها لأنه أمين إلا إذا تعدى كما لو استأجرها على أن يستعملها داخل البلد ثم خرج بها خارج البلد فيضمن ، وكذا لو فرط كما لو ترك السيارة مفتوحة حتى سرقت وكان الواجب عليه أن يقفلها أو أن يحفظها داخل بيته فهنا يضمن.
فالأمين في الأموال لا يضمن شيئا إلا إذا تعدى أو فرط فكذلك أيضا في الأبدان لا يضمن إلا إذا تعدى أو فرط .
القول الثاني :
وهو قول الجمهور من أهل العلم أنه يضمن حتى وإن لم يتعد ولم يفرط .
الدليل على ذلك :
- قوله تعالى : ? وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله ?(15) فالقتل هنا حصل خطأ ومع ذلك أو جب الله عز وجل الدية والكفارة .
- وأيضا استدلوا على ذلك بأن جناية الطبيب إتلاف وإتلاف حقوق الآدميين يستوي فيه العمد والخطأ ، إذ إن حقوق الآدميين مبنية على المشاحة فلو أن شخصا أتلف سيارة شخص خطأ بصدمة حدثت منه غفلة فإنه يضمن .
الترجيح :
الأقرب في هذه المسألة عدم الضمان ، وفرق بين تضمين شخص كان غافلا في القيادة حتى صدم شخصا وأتلف عضوا من أعضائه أو منفعة من منافعه ، وبين تضمين الطبيب لأن الطبيب مؤتمن على بدن هذا المريض فلا ضمان عليه والأمين لا يضمن إلا بالتعدي أو التفريط ، وهنا لم يحصل منه تعد ولا تفريط ، وأما ذلك الذي غفل فأتلف سيارة أو ثوبا فإنه غير مؤتمن على ما أتلف فيضمن .
الخلاصة :
تلخص لنا في الحالة الرابعة أنه إذا كان الطبيب حاذقا لكنه أخطأ فإن كان خطؤه بتعد أو تفريط فإنه يضمن ، وإن كان خطؤه بغير تعد ولا تفريط فإنه لا ضمان عليه .
مسألة : الجمهور الذين قالوا : بتضمين الطبيب في هذه الحال الرابعة اختلفوا هل الضمان يكون في ماله أو على عاقلته على قولين :
القول الأول :
وهو قول أكثرهم أن الضمان يكون على العاقلة إذا أتلف نفسا أو عضوا أو منفعة وكان الإتلاف ثلث الدية فما فوق .(1/27)
الدليل :
- ما تقدم من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما ، فضمان الطبيب في حال عدم التعدي والتفريط من قبيل الخطأ فإذا كان كذلك فإن العاقلة تحمل الخطأ كما ورد في حديث أبي هريرة ( في الصحيح .
- وكذلك ورد عن عمر( أن ختَّانة كانت في المدينة ختنت جارية فماتت فجعل عمر ديتها على عاقلتها . أخرجه عبد الرزاق في مصنفه ، وابن أبي شيبة وإسناده صحيح .
القول الثاني :
أن الضمان يكون في مال الطبيب ، وهذا ذكره بعض المالكية وقالوا : بأنه يروى عن عمر وعلى رضي الله عنهما .
أما الرواية عن عمر ( فقد ورد عنه أنه : ضمن رجلا كان يختن الصبيان فختن صبيا فمات فضمنه .
وقد أجيب عنه بجوابين :
الأول : أن هذا الأثر معارض لما تقدم عنه من أنه جعل الضمان على العاقلة .
والجواب الثاني : أن معنى ضمنه يعني ألزمه الضمان ولا يلزم أن يتحمل القاتل خطأ الضمان على نفسه وإنما هو على عاقلته .
وأما أثر علي ( في قصة المرأة التي خفضت - يعني ختنت - جارية فهلكت الجارية فضمنها .
فهذا أخرجه ابن أبي شيبة وهو ضعيف لا يثبت .
وعلى هذا يكون الضمان على عاقلة الطبيب .
الحال الخامسة : إذا كانت مداواة الطبيب بلا إذن من المريض أو وليه .
حكمها :
وهذه الحالة يقسمها العلماء رحمهم الله إلى قسمين :
القسم الأول :
أن يكون الطبيب غير متبرع بأن يكون مستأجرا فإذا كان كذلك فلا بد من رضا المريض وأهليته للإذن بأن يكون بالغا عاقلا ، فإن لم يكن أهلا للإذن فلا بد من إذن وليه ؛ لأن عقد الإجارة يعتبر فيه الرضا لقوله تعالى : ? ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ?(16) والإجارة تجارة .
وكذلك يعتبر فيه أهلية العاقد ، فلا يصح عقد الإجارة من الصبي أو المجنون ؛ لأنه محجور عليهما في تصرفاتهما .
وعلى هذا إذا كان الطبيب مستأجرا وداوى غير المكلف بلا إذن وليه ، أو داوى المكلف بلا إذنه فإنه يضمن وهذا باتفاق الأئمة الأربعة .(1/28)
القسم الثاني :
أن يكون الطبيب متبرعا غير مستأجر ، فداوى المريض بلا إذنه أو داوى الصغير أو المجنون بلا إذن وليه فهل يضمن لو حصل تحت يده تلف أو لا يضمن ؟
فيه قولان لأهل العلم :
القول الأول :
و به قال ابن حزم وابن القيم : أنه لا ضمان عليه .
الدليل على ذلك :
- قوله تعالى : ? ما على المحسنين من سبيل ?(17) وهذا محسن .
- وأيضا لأمره ( بالمداواة فقال : ( تداووا فإن الله لم يضع داءا إلا ووضع له شفاء ) والطبيب امتثل أمر الشارع فالشارع قد أذن له بالمداواة .
القول الثاني :
وهو قول الجمهور من أهل العلم : أنه إذا داوى المريض حتى ولو كان متبرعا ثم تلف تحت يده نفس أو عضو أو منفعة فإنه يضمن .
الدليل على ذلك :
- أنه إذا داوى المكلف بغير إذنه أو إذن ولي غير المكلف فإنه يعتبر متعديا . وإذا كان متعديا فإن عليه الضمان .
وناقش ابن القيم هذا وقال : التعدي إنما يكون في فعل الطبيب يعني فعل الطبيب في نفس المداواة ، هل فيه تعد أو ليس فيه تعد ؟ هذا الذي ينظر فيه ، أما الأذن وعدمه فلا يظهر فيه التعدي ؛ لأنه الآن أحسن إلى هذا المصاب .
الترجيح :
و القول الأول هو الأقرب ؛ لأن الطبيب محسن في هذه الحال.
( تنبيه :
عند الجمهور من أهل العلم أنه لا بد من إذن المكلف في المداواة أو إذن ولي غير المكلف ، واستثنوا من هذا الشرط مسألتين :
المسألة الأولى : إذا تعذر استئذان المريض أو تعذر استئذان وليه وفي تأخير المداواة ضرر على المريض فلا يشترط الإذن في هذه الحالة ؛ لأن الشرع أمر بذلك فقال تعالى : ? وتعاونوا على البر والتقوى ?(18) وقال سبحانه : ? ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما ?(19) وقال النبي ( ( انصر أخاك ظالما أو مظلوم ا) .
فإذا تعذر استئذان هذا المريض لكونه مغمى عليه ويطول إغماؤه وفي ذلك ضرر عليه فإنه يعالج .(1/29)
وكذلك إذا كان ولي غير المكلف بعيدا وانتظار إذنه يسبب ضررا على هذا المصاب فإنه يعالج ويسقط الإذن في هذه الحال .
المسألة الثانية : إذا كان المرض من الأمراض المتعدية فإنه لا يعتبر المريض في الإذن بل يداوى وإن لم يأذن إذا كان مكلفا أو يأذن وليه إذا كان غير مكلف ؛ لأن الله عز وجل قال : ? ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ?(20).
وأيضا من القواعد الفقهية : لا ضرر ولا ضرار . وقاعدة : الضرر يزال .
رابعاً: البطاقات المصرفية
الكلام على البطاقات المصرفية يكون من خلال المسائل التالية :
المسألة الأولى : تعريفها .
البطاقة في اللغة : الرقعة أو الورقة الصغير يكتب فيها الشيء ، وقد وردت في السنة كما في حديث البطاقة المشهور ( أنه يؤتى يوم القيامة برجل وعليه سجلات مثل مد البصر فتوضع في كفة ، ثم يؤتى ببطاقة كتب عليها لا إله إلا الله فتوضع في الكفة الأخرى فتطيش تلك السجلات ) .
وأما المصرف : فهو المكان الذي يتم فيه الصرف - والصرف : بيع نقد بنقد - وتقدم لنا في الدروس السابقة حين تكلمنا عن الودائع البنكية أن الأولى استعمال لفظة المصرف بدلا من البنك لأن لفظة البنك ليست عربية .
وأما تعريف البطاقات المصرفية في الاصطلاح : فهي آلة دفع وسحب نقدي يصدرها بنك تجاري أو مؤسسة مالية تمكن حاملها من الشراء بالأجل على ذمة مصدرها أو من ماله ومن الحصول على النقد اقتراضا من مصدرها أو من غيره بضمانه أو سحبا من الحساب الجاري ، وتمكنه من خدمات أخرى خاصة .
هذا التعريف أشمل ما قيل فيما يتعلق بالبطاقات المصرفية .
شرح التعريف :
" آلة دفع " : هذا عندما تذهب إلى المحل التجاري وتشتري فإن ثمن المبيع تدفعه عن طريق هذه البطاقة .
" سحب نقدي " : وهذا ظاهر عندما تسحب من آلة الصرف بهذه البطاقات ، بطاقة فيزا الذهبية أو الفضية أو بطاقة الحساب الجاري .(1/30)
" على ذمة مصدره ا" : مصدرها هو البنك التجاري ، فهذه البطاقة تمكن حاملها وهو العميل الذي أخذها من البنك أن يشتري بالأجل ؛ لأن العميل إما أن يكون له حساب يغطي ما قام بسحبه فهذا يؤخذ من حسابه وإما ألا يكون له حساب يغطي فهذا البنك يقرضه فهو يشتري الآن بالأجل والذي يقوم بإقراضه هو نفس مصدر هذه البطاقة وهو البنك .
" أو من ماله " : هذا فيما يتعلق بالحساب الجاري ، إذا كان في رصيده شيء فيسحب منه .
" ومن الحصول على النقد اقتراضا من مصدرها أو من غيره " يعني : تستطيع أن تأخذ- تقترض - بهذه البطاقة من البنك الذي أصدرها لك ، فمثلا : بنك الراجحي تستطيع أن تقترض منه ويحدد لك المبلغ الذي يمكن أن تقترضه مثلا البطاقة الفضية تستطيع أن تقترض بها ثمانية آلاف ريال ، والبطاقة الذهبية تستطيع أن تقترض بها إلى كذا وكذا ، وهكذا .
وكذلك تستطيع بهذه البطاقة التي أصدرها بنك الراجحي أن تسحب من بنك آخر ، و الراجحي يضمنك عند البنك الآخر ، أنه يسدد عنك هذا القرض الذي سحبته من البنك الآخر .
" أو سحبا من الحساب الجاري " هذا إذا كان عندك مال في حسابك الجاري .
" وتمكنه من الحصول على خدمات خاصة " يعني هذه البطاقات تمكن حاملها من الحصول على خدمات خاصة كتسديد الفواتير والاستعلام عن السقف الائتماني والاستئجار...إلخ .
المسألة الثانية : وظائف البطاقات المصرفية .
للبطاقات المصرفية وظيفتان أساسيتان :
الأولى : وهي الأقوى شراء السلع ، والحصول على الخدمات ، بحيث تذهب إلى المحلات التجارية دون أن تحمل نقدا وتشتري ما تريد .
الثانية : الحصول على النقد ، وليست في الأهمية كالأولى .(1/31)
وهناك وظائف أخرى ثانوية تتمكن من الإفادة منها بهذه البطاقات مثل خدمات الاستعلام عن الرصيد ، وطلب كشف حساب مختصر ، والاستعلام عن السقف الائتماني ، فمثلا : قال لك البنك في البطاقة الفضية : لك إلى ثمانية آلاف ريال ، فاستخدمت بواسطة البطاقة كذا وكذا من الريالات فتريد أن تستعلم عما بقي لك من السقف الائتماني الذي جعل لك ، فتستطيع عن طريق البطاقة الحصول على هذه الخدمة ، ومن تلك الخدمات تسديد الفواتير...إلخ .
المسألة الثالثة : أطراف البطاقة .
البطاقة لها أطراف متعددة :
1- المصدر - وهو البنك - والحامل - وهو العميل لدى هذا البنك - والعلاقة بينهما تكون في حال السحب النقدي سواء كان ذلك بالبطاقة الائتمانية ، أو ببطاقة الحساب الجاري -الصراف الآلي-
2- المصدر والحامل والقابل - وهو التاجر - وهذه العلاقة تكون في حال شراء السلع والحصول على الخدمات .
المسألة الرابعة : أنواع البطاقات المصرفية .
النوع الأول : البطاقات الائتمانية .
والائتمان : هو قدرة الشخص على الحصول على حاجاته قبل دفع الثمن بناء على الثقة بوفائه في الدفع ، مثل بطاقة فيزا .
والبطاقات الائتمانية هذه يقسمونها إلى قسمين :
القسم الأول :
بطاقات الائتمان المحدود : يعني محدود بأجل معين ويتم سداد الدين دفعة واحدة .
فمثلا : في بطاقة فيزا تستطيع أن تقترض حسب ما يضعه لك البنك حسب البطاقات وأنواع البطاقات ، فهناك بطاقات ذهبية وهناك بطاقات فضية ، في البطاقة الفضية كذا وكذا من الريالات ، والبطاقات الذهبية كذا وكذا ، هذا من حيث السحب ، وأما التسديد فالبنك جعل لك فترة تقوم فيها بالتسديد وهذه الفترة في الغالب قدرها أربعون يوما ، فالبنك يمهلك إذا سحبت منه سواء عن طريق السحب النقدي أو عن طريق الشراء يجعل لك فترة قدرها أربعون يوما فيؤجل عليك السداد إلى هذه الفترة .
القسم الثاني :(1/32)
بطاقات الائتمان المفتوح ، وهذه يكون الأجل فيها مفتوحا ويتم سداد الدين على شكل أقساط.
وهذه حسب علمي أنه لا يعمل بها عندنا الآن لكن يعمل بالقسم الأول .
النوع الثاني : بطاقات الحساب الجاري .
وهذه البطاقات تتيح لحاملها السحب النقدي من الحساب الجاري لحاملها مباشرة بواسطة أجهزة الصراف الآلي ، كما أنها تتيح له شراء السلع والخدمات وتخصم هذه المبالغ من الحساب الجاري مباشرة بواسطة نقاط البيع الالكترونية .
المسألة الخامسة : كيفية شراء السلع بالبطاقات الائتمانية .
بالنسبة لبطاقات السحب الجاري أمرها ظاهر لكن فيما يتعلق بالشراء بالبطاقات الائتمانية ، وفائدة البطاقات الائتمانية - كما تقدم -
إما أن يكون سحبا نقديا فهذا أمره ظاهر ، فإذا كان معك بطاقة فيزا فإن البنك يمكِّنك من أن تقترض كذا وكذا .
وإما أن يكون شراء للسلع والكلام هنا فيه فإن شراء السلع عن طريق هذه البطاقات الائتمانية ( فيزا ) له طرق ، أشهرها الطريقة الالكترونية ، وهذه الطريقة تمر بخطوات .
الخطوة الأولى :
يمرر البائع هذه البطاقة على جهاز التفويض الالكتروني المرتبط هاتفيا بمركز البطاقات في البنك ، ثم بعد ذلك تجري عملية استصدار التفويض بطريقة الكترونية خلال ثوان معدودة حيث يأتي الرد إما بالقبول أو بالرفض .
الخطوة الثانية :
فإذا جاء الأمر بالرفض فالمسألة ظاهرة ، وأما إذا جاء الأمر بالموافقة فالجهاز يطبع ورقة - فاتورة - من ثلاث نسخ يوقع العميل عليها ويحتفظ بواحدة .
الخطوة الثالثة :
يرسل التاجر الفواتير التي حصلت عن طريق البيع بجهاز التفويض الالكتروني إلى البنك الذي يتعامل معه ويودعها عند البنك كإيداعه للشيكات المسحوبة ليضعها في حسابه .
الخطوة الرابعة :(1/33)
إذا كان العميل له حساب يغطي هذه الفواتير فإن البنك يقوم بإيداع مبلغ هذه الفواتير في حساب التاجر من حساب العميل حامل البطاقة بعد خصم النسبة المتفق عليها بين البنك والتاجر ؛ فإن البنك - كما سيأتي - يستفيد حيث يتفق مع المحلات التجارية أنه إذا حصل شراء بهذه البطاقة التي أصدرها فله نسبة كذا وكذا .
فمثلا : بنك الراجحي إذا أصدر هذه البطاقة ثم أنت اشتريت بهذه البطاقة فإن بنك الراجحي يحسب على التاجر نسبة وهذه النسبة متفق عليها بينهما تتراوح ما بين واحد إلى سبعة بالمئة ( 1%-7% ) ، فبنك الراجحي هنا استفاد بأخذ هذه النسبة .
وكذلك أيضا البنك يأخذ نسبة أخرى من المنظمة العالمية الراعية لهذه البطاقات ( منظمة فيزا ) وسيأتي إن شاء الله ما هي فوائد منظمة فيزا العالمية من هذه البطاقة مع أنها تبذل لكل البنوك التي تكون تحتها نسبا معينة .
بعد إيداع مبلغ الفواتير في حساب التاجر وبعد خصم النسبة المتفق عليها يقوم البنك بإرسال هذه الفواتير إلى المنظمة العالمية الراعية لهذه البطاقات ( منظمة فيزا ) لأنه كما ذكرنا يستفيد منها نسبا معينة .
الخطوة الخامسة :(1/34)
أما إذا كان رصيد العميل حامل البطاقة لا يغطي الفواتير فإن البنك يقوم بتسديد هذه الفواتير وإيداع المبالغ في حساب التاجر ثم يرسل هذه الفواتير إلى المنظمة العالمية فيزا ، فإذا مضت الفترة المحددة وهي أربعون يوما ولم يقم العميل بإيداع ما يغطي هذه الفواتير فإن المنظمة العالمية الراعية تقوم بتحويل المبلغ من حساب البنك المصدر للبطاقة إلى حساب بنك التاجر بعد خصم النسبة المستحقة لمصدر البطاقة ، حيث إن فيزا تعطي البنك المصدر للبطاقة نسبة كذا وكذا عن كل عملية ، فلو أن المال المستحق مثلا ألف ريال ، فإن للبنك المصدر للبطاقة مثلا نسبة اثنين ونصف بالمئة ( 2.5% ) وتساوي هنا خمسة وعشرون ريالا ، فالمنظمة العالمية فيزا تقوم بخصم هذه النسبة للبنك المصدر للبطاقة ، ثم تقوم بتحويل المبلغ من حساب البنك المصدر للبطاقة إلى حساب بنك التاجر بقدر 975ريالاً .
إذا كان البنك غير إسلامي فإن العميل إذا مضت الفترة وهي أربعون يوما ولم يسدد المبلغ فإن البنك يحسب عليه فوائد ربوية هذه الفوائد الربوية تستفيد منها منظمة فيزا العالمية .
فائدة : أشهر الشبكات التي ترعى هذه البطاقات شبكة فيزا نت التابعة لمنظمة فيزا العالمية ، وهي أكبر شبكة كمبيوتر حيث يتعامل معها (19000) تسعة عشر ألف مصرفا ، ويستخدمها أكثر من 423 مليون شخص عبر 12 مليون موقع يقبل بطاقة فيزا ، بالإضافة إلى ربع مليون نافذة صرف نقدي مباشر .
المسألة السادسة : منافع البطاقات المصرفية .
أولاً : منافع البنوك :
تعتبر هذه البطاقات مصدرا من مصادر ربح البنك ؛ لأن البنك يتقاضى أجورا لإصدارها ، وأجورا لتجديدها ، ويأخذ أيضا نسبة من المنظمة الراعية لهذه البطاقات ، وكذلك أيضا يأخذ نسبة من التاجر كما تقدم .
كما أن البطاقات تعطي البنك سمعة لدى عملائه لتوفير هذه الخدمة .
وأيضا في غير البنوك الإسلامية يأخذ البنك فوائد ربوية .
ثانيا : منافع قابل البطاقة (التاجر) :(1/35)
تعتبر هذه البطاقات بالنسبة لقابلها وهو التاجر من أهم الأمور التي تزيد عدد زبائنه وتزيد مبيعاته ، حيث دلت الدراسات الاقتصادية أن المشتري بالبطاقة ينفق أكثر ممن يشتري بالدفع نقدا بواقع ثمانية عشر بالمئة ( 18% ) لأن الشراء بالأجل أهون على نفس المشتري من الشراء الفوري .
ثالثا : منافع حامل البطاقة ( العميل ) :
فائدة البطاقة لحاملها فائدة أمنية معنوية فهو بدلا من أن يحمل النقود معه يستطيع عن طريق هذه البطاقة أن يشتري ما يحتاج إليه .
وكذلك أيضا يستفيد القدرة على الشراء بالأجل وهذا الأجل كما ذكرنا أنه محدد بأربعين يوما.
كما أنه أيضا يحصل على الأولوية في الحجز في الطيران والدخول لصالات النخبة في المطارات والأماكن العامة .
رابعا : منافع المنظمة العالمية الراعية لهذه البطاقات :
فائدتها من الفوائد الربوية ، فالعميل إذا لم يسدد خلال الفترة المضروبة له فإن البنك إذا لم يكن إسلاميا سوف يحسب عليه فوائد ربوية ، هذه المنظمة العالمية تقوم بالاستفادة من هذه الفوائد الربوية.
أما إن كان البنك إسلاميا فإنه لكي يتجنب الفوائد الربوية على العميل فإنه إذا قاربت الأربعين يوما على الانقضاء ولم يسدد العميل فإن البنك يقوم بتغطية حسابه .
كما أن البنوك تضع نسبا من المال عند هذه المنظمة ، فتستفيد منها .
المسألة السابعة : التكييف الفقهي لعقد الائتمان .
اختلف الفقهاء المعاصرون في التكييف الفقهي لعقد الائتمان على أقوال كثيرة لأن فهم هذا التكييف هو الذي يترتب عليه الحكم من الجواز أو الحرمة ، والمقام لا يتسع لسرد هذه الأقوال وذكر وجهات النظر فيها لكن أقرب شيء هو ما ذهب إليه بعض الباحثين من أن المسألة لا تخلو من ثلاث حالات :
الحال الأولى :
في حال شراء السلع والخدمات ، فإن عقد الائتمان في هذه الحال عبارة عن " عقد ضمان يؤول إلى قرض " .
فالبنك أعطاك البطاقة وأنت تذهب تشتري أو تستفيد من خدمات هذه البطاقة .(1/36)
" عقد ضمان " : فكأن البنك يقول للتاجر أنا ضامن لحامل هذه البطاقة أعطه بكذا وكذا.
" يؤول إلى قرض " : يعني إذا لم يكن لديه رصيد فأنا أقرضه وأسدد عنه ، فهذا عقد ضمان يؤول إلى القرض .
الحال الثانية :
في حال السحب النقدي من غير مصدر البطاقة .
فهذا أيضا التكييف الفقهي له " عقد ضمان يؤول إلى قرض " فمثلا : مصدر البطاقة هو بنك الراجحي مثلا ، حامل البطاقة أخذها وذهب إلى البنك الأهلي وسحب منه فالراجحي الآن يقول للأهلي : أعطه وأنا أضمنه وإذا لم يكن عنده شيء فأنا أقرضه وأسدد لك .
الحال الثالثة :
في حال السحب النقدي من مصدر البطاقة .
التكييف الفقهي له أنه " وعد بالقرض يؤول إلى القرض " فبنك الراجحي حين أعطاك البطاقة يعدك بأنه يقرضك ووضع لك سقف ائتماني لك أن تسحب ألف أو ألفين وهكذا . فإذا سحبت من الراجحي وليس لديك رصيد فهذا قرض .
الخلاصة :
خلاصة هذه الحالات أن مصدر البطاقة يقول لحاملها : إن جئتني أعدك بالقرض وإن ذهبت لغيري ضمنتك .
المسألة الثامنة : التكييف الفقهي لعملية الشراء .
يعني الحامل لهذه البطاقة إذا ذهب إلى محل تجاري واشترى منه فما كيفية هذا العقد عند الفقهاء ؟
اختلف فيه المتأخرون والخلاصة في ذلك أن عملية الشراء لها حالان :
الحال الأولى :
أن يكون قابل البطاقة - وهو التاجر - متعاملا مع مصدرها - وهو البنك - فكل من حامل البطاقة وقابلها يتعاملان مع بنك واحد .
هذه الحال اختلف فيها المعاصرون على أقوال كثيرة نشير إلى أهمها :
القول الأول :(1/37)
قالوا : إن مصدر البطاقة وهو البنك محصل للدين الذي لقابل البطاقة ، فالتاجر يريد من هذا العميل الذي أخذ منه سلعا يريد منه دينا ، فقام البنك بتحصيل هذا الدين الذي له ؛ لأنه كما تقدم في كيفية الشراء سيقوم التاجر ببعث الفواتير إلى البنك ثم بعد ذلك يقوم البنك بإيداع هذه الفواتير في حساب التاجر ، فعليه يكون قابل البطاقة هو الموكل ومصدرها هو الوكيل ، والخدمات التي يقوم بها مصدر البطاقة مماثلة للخدمات التي تقدمها مكاتب تحصيل الديون .
وهذا التخريج ضعيف ، والدليل على ضعفه عدة أمور منها :
1- أن مصدر البطاقة يسدد الدين لقابلها قبل أن يحصله من العميل فقد يتأخر العميل عن تغطية حسابه لعدة أيام ، فهذا يدل على عدم صحة هذا التكييف .
2- أنه إذا لم يسدد حامل البطاقة الدين فإذا قلنا : إن البنك محصل للدين فليس عليه غرم ، لكن الواقع يخالف ذلك لأن البنك يغرم حيث يقوم بتسديد الفواتير في حساب التاجر .
3- أن التاجر لا يعطي العميل حتى يصدر تفويضا من البنك ، ولو كان البنك محصلا فما الفائدة من التفويض منه .
القول الثاني :
قالوا : إنه عقد حوالة ، فمصدر البطاقة محال عليه وحاملها محيل وقابلها محال ، فالعميل حين اشترى بالبطاقة أحال التاجر على البنك لكي يأخذ حقه .
وهذا التكييف أيضا ضعيف .
لأن عقد الحوالة في الشريعة : هو نقل الدين من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه ، وهذا ينافي حقيقة العقد في البطاقة من وجهين :
الأول : أن المحال عليه - وهو مصدر البطاقة - ليس مدينا للمحيل - وهو حاملها - فالعميل لا يطلب البنك شيئا ، و الحوالة نقل الدين من ذمة إلى ذمة ، فلا بد أن يكون المحال عليه مدينا للمحيل ، وهنا البنك ليس مدينا للمحيل .
الثاني : أن المحيل - حامل البطاقة - لا يبرأ من الدين بمجرد الحوالة ، وأما في الحوالة الشرعية فإنه يبرأ بمجرد الحوالة .(1/38)
مثاله : زيد يريد من عمرو ألف ريال وبكر يريد من زيد ألف ريال فزيد حول بكرا على عمرو فإنه يبرأ .
أما هنا في مسألة البطاقة ؛ المحيل لا يبرأ ، فهو أحال التاجر إلى البنك لكنه لا تبرأ ذمته بالحوالة .
القول الثالث :
أن مصدر البطاقة ضامن لحاملها ، لأن مقتضى الضمان وجوب الدين في ذمة الضامن والمضمون عنه ، ذمة الضامن الذي هو البنك وذمة المضمون عنه الذي العميل .
لكن في البطاقات اشترط الضامن أن قابل البطاقة - الذي هو التاجر - لا يطالب المضمون عنه الذي هو العميل ، وإنما يطالبه هو .
وهذا التخريج هو الأقرب .
الحال الثانية :
ألا يكون قابل البطاقة متعاملا مع مصدرها ، فالتاجر له بنك غير البنك المصدر للبطاقة ، فمثلا : التاجر يتعامل مع بنك الأهلي ، ومصدر البطاقة هو بنك الراجحي .
وتكييف هذه الحال الفقهي :
عبارة عن تحصيل الدين ، فبنك التاجر يتولى تحصيل الدين من البنك المصدر للبطاقة ، حيث يقوم بنك التاجر بالرجوع إلى البنك المصدر للبطاقة ويأخذ منه قيمة الفواتير إذا كان حساب العميل يغطي ، وأما إذا كان لا يغطي فبعد مرور المدة المحددة فإن منظمة فيزا العالمية تتدخل في ذلك وتقوم بالسحب من حساب البنك المصدر إلى حساب بنك التاجر .
المسألة التاسعة : التكييف الفقهي لعملية السحب النقدي .
هذه المسألة تحتها حالان :
الحال الأولى : أن يسحب حامل البطاقة من المصدر مباشرة .
مثلا : بنك الراجحي أعطاك هذه البطاقة وأنت سحبت منه مباشرة ، فهذه تكييفها واضح أنها قرض .
الحال الثانية : أن يسحب حامل البطاقة من غير مصدرها .
كأن تكون معه بطاقة الراجحي فيسحب من بنك الأهلي أو العكس .
فهذا " ضمان آل إلى قرض " ، فكأن الراجحي يعطيك البطاقة ويقول للبنك الآخر أنا ضامن لك أعطه وأنا أقرضه ، بحيث إن بنك الأهلي يرجع على الراجحي ويأخذ منه .
فتحصل عندنا في هذه الحال عقدان :
الأول : عقد قرض بين حاملها والبنك المسحوب منه .(1/39)
الثاني : عقد ضمان وذلك بين البنوك الأعضاء تحت هذه المنظمة العالمية ، فكل بنك يضمن عمليه عند البنك الآخر .
المسألة العاشرة : الأحكام المؤثرة في استصدار بطاقة الائتمان .
أولا : الرسوم المأخوذة من حامل البطاقة .
وهذه الرسوم أنواع :
النوع الأول :
الرسوم المقطوعة مثل رسوم الإصدار ورسوم التجديد ورسوم الاستبدال ، وهذه الرسوم تشتمل على ثلاثة أمور :
1_ التكاليف والنفقات الفعلية التي يتكبدها مصدر البطاقة في سبيل إصدارها ، فمثلا : البنك يأخذ منك في مقابل إصدار البطاقة الفضية كذا وكذا وفي مقابل البطاقة الذهبية كذا وكذا ، وهناك تكاليف على البنك فيما يتعلق بالموظفين وقيمة البطاقات .
2 _ المبلغ المأخوذ مقابل الضمان وهذا سيأتي الإشارة إليه إن شاء الله .
3_ أجور الخدمات والمنافع التي يحصل عليها حامل البطاقة فمثلا الصراف الآلي يحتاج إلى صيانة واستئجار محل وطباعة الأوراق والخطوط الهاتفية... إلخ .
حكمها :
أما التكاليف والنفقات الفعلية فيجوز للبنك أن يأخذها من العميل بشرطين :-
الشرط الأول : ألا تكون تكاليف لأمور محرمة كاحتساب الديون المعدومة ، فمثلا : عندما يصدر البنك البطاقة يطلب رسوما مئتي ريال ، مثلا ، لأي شيء ؟ . قال : مقابل أجور الموظفين والبطاقات ونحوها من التكاليف الفعلية ، ولنفرض أن هذه تعادل خمسين ريالا .
…وأيضا يقول البنك لدي في السوق ديون معدومة ، أنا أقرضت زيدا وعمراً و...إلخ نحو ألف شخص ، منهم خمسون شخصا لم يسددوا ، فهذه ديون معدومة وسوف أحسب على الذين يريدون إخراج بطاقات جديدة هذه الديون المعدومة ضمن التكاليف الفعلية .
فهذا أمر محرم شرعا ولا يجوز ، قال تعالى : ? ولا تزر وازرة وزر أخرى ? .
أو مثلا : احتساب قسط التأمين التجاري الممنوح لحامل البطاقة فهذا محرم أيضا .
الشرط الثاني : أن يتم تقدير هذه التكاليف بدقة وعدل لئلا يظلم العميل .(1/40)
وأما ما يتعلق بأجور الخدمات - أيضا - هذا لا بأس أن يأخذه البنك .
وأما ما يؤخذ مقابل الضمان فهذا لا يجوز أن يأخذه لأن الأجرة مقابل الضمان محرمة .
فمثلا : عندما أعطاك البطاقة بملغ كذا وكذا حسب من ضمنها أجورا مقابل ضمان هذا العميل عند شرائه من التاجر أو سحبه من بنك آخر .
فنقول : هذا لا يجوز لأن أخذ الأجرة على الضمان لا يجوز ، وعلى هذا فلا بد من أن تكون قيمة هذه البطاقة التي يأخذها البنك مساوية لقيمة التكاليف والخدمات فقط أما ما يتعلق بأجرة الضمان فهذا غير جائز .
وهذا هو الذي جعل بعض الباحثين الآن يحرم مثل هذه البطاقات ، لأن البنك الآن يأخذ مبلغ كذا وكذا ولو حسبنا خدمات البنك والتكاليف الفعلية نجد أنها تساوي مئة ريال مثلا ، ما زاد على ذلك يكون مقابل الضمان فحكم عليها بالتحريم .
النوع الثاني :
رسوم السحب النقدي .
عندما تأخذ بطاقة فيزا وتقوم بالسحب من الراجحي فكل عملية سحب يأخذ عليها 36 ريالا فما حكم هذه الرسوم ؟
حكمها :
هذه الرسوم فيها تفصيل : إن كانت هذه الست والثلاثون مقابل التكاليف فإن هذا جائز ولا بأس به لأنها ليست من المنفعة المحرمة في القرض بشرط أن تحتسب هذه التكاليف بدقة .
وأما إن كانت أزيد من التكاليف الفعلية ، فمثلا : التكاليف الفعلية لهذه السحبة تساوي عشرون ريالا فهو يأخذ زيادة ستة عشر ريالا فيكون هذا من قبيل القرض الذي جر نفعا فتكون محرمة .
وكما أسلفت هذا الذي جعل بعض الباحثين يحرم مثل هذه الأشياء .
ثانيا : الرسوم التي تؤخذ من قابل البطاقة .
سبق أن ذكرنا أن البنك يأخذ من التاجر رسوما عن كل عملية شراء وهذه الرسوم قد تكون مقطوعة كريال أو ريالين أو تكون بالنسبة المئوية كاثنين بالمئة فما حكم هذه الرسوم ؟
هذه الرسوم تنقسم إلى قسمين :-
القسم الأول : الرسوم المقطوعة .(1/41)
حيث يأخذ البنك على التاجر رسما مقطوعا مثلا في السنة كذا وكذا ، مقابل الخدمات كخط الهاتف وأجور نقاط البيع وأجهزته .
فنقول : هذه لا بأس بها لأنها مقابل خدمة مباحة معلومة .
القسم الثاني : الخصم من مبلغ الفاتورة .
يعني يقول البنك للتاجر : أي عملية شراء سأقوم بخصم كذا وكذا .
تكييفها الفقهي :
اختلف الفقهاء المعاصرون في تكييف هذا الخصم الذي يقوم به البنك .
القول الأول :
قول بعض الهيئات الشرعية حيث تقول : إنها من قبيل الجعالة ؛ لأن البنك مصدر البطاقة يقدم خدمات لهذا التاجر كالدعاية والإعلان .
وهذا التكييف غير صحيح ؛ فإنه لا ينطبق مع الحقيقة الموجودة ، ومما يدل على عدم صحته أن البنوك لا تقوم بالدعاية مقابل البطاقة وإنما تقوم بالدعاية للبطاقة نفسها.
القول الثاني :
قول بعض الفقهاء حيث قالوا : البنك المصدر للبطاقة يأخذ هذه النسبة مقابل الضمان ؛ لأن هذا البنك يضمن العميل فإنه يقول للتاجر : بع عليه بالثمن المؤجل وأنا ضامن له ، وإذا لم يغطي حسابه فأنا أقرضه .
الترجيح :
وهذا القول الثاني هو الصحيح وعلى هذا لا يحوز أخذ مثل هذه النسبة .
المسألة الحادية عشر : حكم البطاقات الائتمانية .
حكم البطاقات الائتمانية يتضح مما سبق فنقول :
تلخص لنا أن العقد في البطاقات الائتمانية على الصحيح إما أن يكون عقد ضمان ، وإما أن يكون عقد قرض .
وأخذ الأجرة على الضمان لا يجوز ، وأخذ الأجرة على القرض لا يجوز . وعلى هذا ينظر في الرسوم التي يأخذها البنك ، فالرسوم التي يأخذها البنك سواء كان في عقد القرض كما لو كان العميل معه بطاقة فيزا واقترض من البنك ألف ريال ، تجد أن البنك يأخذ رسوم الاستصدار ورسوم التجديد ورسوم السحب النقدي فهذا قرض ، ننظر إلى تكاليف البنك ، فإن كان البنك يأخذ زيادة على التكاليف التي يبذلها فهذا قرض جر نفعا ، وكل قرض جر نفعا فهو ربا كما ورد عن الصحابة رضي الله عنهم .(1/42)
أما إن كانت الرسوم التي يأخذها كالستة والثلاثين ريالا وما يتعلق بالرسوم المقطوعة مقابل التكاليف التي يبذلها ولا يأخذ عليها زيادة فهذا جائز ولا بأس به .
وأيضا عقد الضمان ، فحامل البطاقة عندما يشتري من التاجر فإن البنك يضمنه عند التاجر ، قلنا : أخذ الأجرة على الضمان لا يجوز وعليه ننظر إلى التكاليف التي يتكلفها البنك في مقابل استصدار هذه البطاقة ، فإذا كان ما يأخذه البنك مقابل التكاليف فهذه البطاقة جائزة ، وإن زادت هذه التكاليف فإنها تعتبر أجرة مقابل الضمان وهذا غير جائز .
( تنبيه :
هناك محظور آخر في البنوك الربوية وهو أنها تشترط على حامل البطاقة أنه إذا لم يسدد بعد فترة الأجل فإن البنك يقوم بحساب فوائد ربوية عليه .
و سبق أن أشرنا أن البنك يستفيد من هذه الفوائد الربوية وكذلك منظمة فيزا العالمية التي ترعى هذه البطاقة أيضا تستفيد من هذه الفوائد الربوية .
فالدخول في هذه البطاقة والتوقيع على هذا العقد لا يجوز حتى ولو قال العميل : سأقوم بالتسديد قبل مضي فترة الأجل ، نقول : هذا محرم ولا يجوز لأن الدخول في العقد المحرم محرم أصلا لا يجوز التوقيع عليه .
المسألة الثانية عشر : بطاقات الحساب الجاري .
السحب النقدي له حالان :
الحال الأولى : أن يكون السحب من مصدر البطاقة .
فهذا لا إشكال فيه ، مثلا : أنت معك بطاقة الصراف وتسحب من رصيدك من مصدر البطاقة ، فهذا جائز ولا بأس به .
الحال الثانية : أن يكون السحب من غير مصدر البطاقة .
مثلا : معك بطاقة الراجحي فتسحب من صراف بنك الأهلي ، وهذه ذكروا لها صورتين :-
الصورة الأولى : أن يقوم مصدر البطاقة - الراجحي - بتحويل المبلغ - عند عملية السحب - إلى البنك المسحوب منه مباشرة بطريقة الكترونية قبل أن يأخذ حامل البطاقة المبلغ من البنك المسحوب منه .(1/43)
فهذا جائز ولا بأس به ، لأنه من باب الوكالة وأخذ العوض على الوكالة جائز فإن البنك المصدر للبطاقة - الراجحي - وكّل البنك المسحوب منه - الأهلي مثلا - أن يعطي حامل البطاقة كذا وكذا من المال ، وكون الأهلي يأخذ من الراجحي في العملية الواحدة أربع ريالات مثلا فإن هذا جائز لأنه أخذ عوض على الوكالة .
الصورة الثانية : أن يقوم البنك مصدر البطاقة بتعليق المبلغ المراد سحبه ، فالراجحي مثلا لا يقوم بتحويل المبلغ فورا إلى البنك الأهلي ، وإنما يقوم بتعليقه من حساب العميل ثم بعد ذلك يأخذ العميل المبلغ من صراف الأهلي ، وبعد فترة يقوم الراجحي بتحويل هذا المبلغ المعلق إلى حساب الأهلي .
تكييف هذه الحالة : هي قرض ؛ فالأهلي أقرض العميل، و الراجحي ضامن للعميل عند الأهلي.
وقد اختلف العلماء فيها :-
- فقال بعض أهل العلم : إن كانت هذه الرسوم التي يأخذها البنك المسحوب منه في مقابل التكاليف فهذا جائز ، وإن كانت زائدة على التكاليف التي يبذلها البنك فإنها غير جائزة لأنها من القرض الذي جر نفعا .
- وهناك من يجوز مثل هذه المعاملة مطلقا .
( تنبيه :
ما سبق بيانه من حكم البطاقات الائتمانية وأن الزيادة في رسومها على تكاليفها الفعلية من باب أخذ الأجرة على الضمان في حال شراء السلع ومن باب الأجرة على القرض في حال السحب النقدي وكلاهما لا يجوز ، هذا هو الأقرب في الحكم على هذه البطاقات .
بعض الهيئات الشرعية في بعض البنوك الإسلامية لا يخرجون هذا التخريج بل يجعلون للبنك حرية التصرف في أخذ الرسوم وينظرون إلى شرط الربا فقط ، فيقولون : إن كان البنك يشترط أنك إذا لم تسدد في البطاقات الائتمانية بعد مضي مدة الأجل فعليك فائدة كذا وكذا ، فهذا ربا ولا يجوز وإن كان البنك لا يشترط فإن هذا جائز .
ولا ينظرون إلى ما يتعلق بالرسوم ونحوها وإنما يكيفونها على خلاف ما ذكرنا ، وما ذكرنا يظهر هو الأقرب .
خامسا : التورق المصرفي(1/44)
يوجد الآن في البنوك التورق المصرفي عن طريق بيع المعادن وعن طريق بيع الأسهم .
والكلام على التورق المصرفي كثير جدا لكن نشير إليه بإجمال :
كانت البنوك قبل عام 1421هـ تقريبا تقوم بالتورق عن طريق بيع السيارات فإذا جاء العميل إلى البنك يريد قرضا فإنهم يشترون له سيارة قد يكون البنك مالكا للسيارة وقد لا يكون مالكا لها وهو ما يسمونه بالمرابحة للآمر بالشراء ثم بعد ذلك يبيعها على العميل بثمن مؤجل يأخذها العميل ويبيعها على غير البنك لأنه إذا باعها على البنك أصبحت عينة ، لكن يبيعها على غير البنك بأقل من ثمنها نقدا ويأخذ الدراهم ويستفيد منها .
وفي عام 1421هـ لجأت البنوك إلى ما يسمى بالتورق المصرفي حيث يقوم البنك بكل العملية ؛ عملية الشراء وعملية البيع فما على العميل إلا أن يوقع على أوراق فيجد في حسابه بعد يوم أو يومين أو ثلاثة أيام مبلغ خمسين ألف ريال مثلا على أن يسدد البنك أقساطا قيمتها سبعون ألف ريال .
وغالبا تكون السلع التي يشتريها البنك من المعادن وإنما اختيرت المعادن لأنه يجري فيها التعامل يوميا بشكل واسع في الأسواق العالمية .
يقوم العميل بالشراء من البنك بسبعين ألف ريال مثلا مؤجلة على أقساط ثم يقوم بتوكيل البنك بأن يبيعها بأقل من ثمنها نقدا بخمسين ألف ريال مثلا ، ويضعها في حساب العميل على أن يسدد له العميل سبعين ألفا ، هذا ما يسمى بالتورق المصرفي .
متى بدأت عملية التورق المصرفي ومن أول من بدأها ؟
أول من بدأ بهذه العملية هو البنك الأهلي بما سمي بتيسير الأهلي عام 1421هـ ، ثم بعد ذلك توالت البنوك بهذه الطريقة لأن هذه الطريقة سهلة في كسب البنك وسهلة في حصول العميل على النقد .
فجاء البنك العربي الوطني بما يسمى بالتورق المبارك ، والبنك البريطاني السعودي بما يسمى بعملية مال ، والبنك السعودي الأمريكي بما يسمى بسامبا...إلخ .
تعريف التورق المصرفي :(1/45)
ذكر بعض الاقتصاديين أنه : " قيام المصرف بترتيب عملية التورق للمشتري بحيث يبيع سلعة على المتورق بثمن آجل ثم ينوب عنه ببيع السلعة نقدا لطرف آخر ويسلم الثمن النقدي للمتورق على أن يسدد للمصرف أكثر من هذا الثمن مؤجلا على أقساط " .
كيف تتم عملية بيع المعدن في التورق المصرفي ؟
سبق بيانها لكن نذكر ها كما في نشرات البنوك :
- يقوم المصرف بشراء السلع - وغالبا تكون هذه السلع من المعادن كالزنك والنيكل والصفيح والنحاس...- بقدر ما يحتاجه العملاء كل أسبوع .
- يتقدم العميل إلى المصرف بطلب شراء معدن كذا وكذا صفته كذا وكذا ، وإنما كان الشراء عن طريق الوصف لأن الغالب أن هذه المعادن تكون في الخارج في بريطانيا أو البحرين مثلا.
- بعد شراء العميل هذه الوحدات من المعدن يقوم العميل بتوكيل المصرف بقبض المعدن وبيعه عنه ، فالعميل يوكل المصرف بقبض المعدن من نفسه ثم ببيعه على طرف ثالث .
- يتفق المصرف مع جهات أخرى لشراء تلك السلع .
مسألة : حكم التورق .
أولا : حكم التورق غير المصرفي :-
التورق غير المصرفي المعروف عند الفقهاء : أن يشتري سلعة بثمن مؤجل ثم يبيعها على غير من اشتراها منه بأقل من ثمنها نقدا ، فمثلا : يشتري عمرو سيارة من زيد بخمسين ألف ريال مؤجلة على أقساط ثم يأخذ السيارة ويبيعها على غير زيد بأقل من ثمنها نقدا فيبيعها مثلا بأربعين ألف ريال لكي يتوسع بالثمن .
هذه المسألة اختلف العلماء السابقون في حكمها على أقوال :-
القول الأول :
الجمهور من أهل العلم على جواز هذه المعاملة ، فالأئمة الأربعة يتفقون على جواز هذه المعاملة .
وعند الحنفية والمالكية الكراهة إذا كان المتورق محتاجا للثمن .
الأدلة على جوازها كثيرة جدا من أهمها :-
1_ أن الأصل في المعاملات الحل والله عز وجل قال : ? يأيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ?(21) قالوا : و التورق نوع من البيع والمداينة الداخلة في عموم الآية .(1/46)
2_ وهو أقواها : قالوا : إن التجار يقصدون من معاملاتهم الحصول على النقد بنقود أقل ويكون المبيع - السلعة - هو الواسطة ولم يقل أحد بتحريم هذا البيع .
فمثلا : التاجر فتح البقالة بخمسين ألفاً ويقصد من ذلك أن يحصل على ستين ألفاً ، فكذلك أيضا المتورق مثله يشتري سلعة بثمن مؤجل وقصد منها أن يحصل نقد ، فيبيعها بأقل من ثمنها نقدا ويتوسع بثمنها ، فقالوا : هذا مثل هذا .
والذين لا يسلمون بمثل هذه المعاملة يقولون : فرق بين التاجر و المتورق فالتاجر يبيع لكي يربح ، وأما المتورق فإنه يبيع لكي يحصل على النقد حتى لو خسر ففرق بين الأمرين .
القول الثاني :
هناك من قيد هذه المعاملة بالحاجة فقال : إذا كان الإنسان محتاجا فلا بأس ، كأن يحتاج إلى زواج أو أن يشتري بيتا أو يسدد دينا وقد أرهقه الغرماء .
أما إن كان يسلك هذه المعاملة لكي يتزيد من أمور الدنيا أو الكماليات أو في التجارة فإن هذا غير جائز .
وشرط الحاجة هذا اشترطه الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله .
القول الثالث :
تحريم عملية التورق وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وعمر بن عبد العزيز .
واستدلوا على ذلك بأدلة كثيرة منها :-
1_ قالوا : إن الله حرم أخذ دراهم بدراهم أكثر منها إلى أجل لما في ذلك من ضرر المحتاج ، و هو ربا النسيئة الذي حرمه الشارع وأجمع عليه العلماء وهذا المعنى موجود في هذه الصورة ، فهذه الصورة خلاصتها محتاج يحتاج إلى دراهم فاشترى دراهم بدراهم إلى أجل .
2_ قاسوا هذه الصورة على بيع العينة ، فالعينة إذا اشترى السلعة بثمن مؤجل ثم باعها على من اشتراها منه بأقل من ثمنها نقدا ، العينة محرمة ، وقالوا : الصورة واحدة ، حصل دراهم بدراهم بينهما سلعة وأما التفريق بأن الذي اشترى في العينة هو البائع وأن الذي اشترى في التورق طرف ثالث كما يفرق الجمهور قالوا : هذا لا أثر له .(1/47)
وقد قرأت لمجموعة من الاقتصاديين يقولون : إن نتيجة التورق هي نتيجة الربا ولا فرق .
ولهذا حكم شيخ الإسلام ابن تيمية على هذه المعاملة فقال : " المعنى الذي لأجله حرم الربا موجود فيها بعينه - يعني في مسألة التورق - مع زيادة الكلفة بشراء السلعة والخسارة فيها ، فالشريعة لا تحرم الضرر الأدنى وتبيح ما هو أعلى منه ضررا " .
وقد ذكر ابن القيم عن شيخ الإسلام فقال : " روجع فيها كثيرا وأنا حاضر لكي يحلها فيأبى "
المهم ؛ إن كثيرا من الاقتصاديين يرون تحريم هذه المعاملة كما هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ، لكن عمل الناس اليوم على حلها . وإذا قيل : بالحل فإنه لا بد أن يقيد بالحاجة .
ثانيا : حكم التورق المصرفي :-
لما حدث هذا التورق اختلف فيه الفقهاء المعاصرون على قولين :-
القول الأول : تحريم هذا البيع .
الدليل على ذلك :
استدل أصحاب هذا القول بأدلة كثيرة حتى إن كثيرا من الاقتصاديين الإسلاميين كتبوا مؤلفات في تحريم هذه العملية ومن أدلتهم :-
1- حديث عبد الله بن عمرو ( أن النبي ( قال : ( لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ) فقوله : ( ولا شرطان في بيع ) . قالوا : إن التورق المصرفي وجد فيه أكثر من شرط ففيه يشترط المشتري الذي هو العميل شروطا :-
أ - توكيل المصرف في البيع فلو قال المصرف له : أنت تقوم بالبيع لم يقدم على هذه العملية .
ب - ألا يفسخ الوكالة .
ج - أن يشتري المشتري السلعة بأكثر من ثمنها مؤجلا يعني أن المصرف يشترط على المشتري: أنك تشتري هذه السلعة مؤجلة بأكثر من ثمنها حالة . فمثلا : المصرف اشترى هذا الحديد بخمسين ألفا يشترط على المشتري أن يشتريه بسبعين ألفا مؤجلة .
د - أن يبيعها المصرف بأقل من ثمنها نقدا .(1/48)
وقد أجاب القائلون بالجواز ومنهم اللجنة الشرعية في البنك الأهلي التجاري ، فقالوا : إن الشرطين اللذين نهى عنهما النبي( هو بيع العينة كما ذكر ابن القيم ، وعليه فهذه الشروط تكون جائزة وليست داخلة في الحديث .
وأجيب عن ذلك : بأن هذا التورق المصرفي ملحق ببيع العينة - كما سيأتي - فإلحاق التورق المصرفي ببيع العينة أقرب من إلحاقه بالتورق الذي أجازه الفقهاء لأن الصورة في التورق المصرفي قريبة من الصورة في العينة ، ففي العينة ؛ السلعة عند البائع باعها بثمن مؤجل ثم اشتراها بثمن حاضر نقدا ، فكذلك في التورق بالمصرفي ، فالمصرف هو الذي يقوم بالعملية ، فعنده السلعة يشتريها ثم بعد ذلك يبيعها على المشتري ، ثم بعد ذلك يتوكل عن المشتري ببيعها على طرف ثالث ، فيصبح دور العميل - كما أسلفنا - تحديد التمويل الذي يريد و التوقيع على أوراق ويأخذ الدراهم على أن تكون عليه بأكثر من ثمنها مؤجلة .
2- وهو من أهمها : أن التورق المصرفي يواجه نقص أسعار السلع ، فالبنك لِنَقُل : إنه يشتري السلع وأنه مالك لها . لكن لكي لا ينقص سعر السلع فيتضرر العميل يقوم البنك بالاتفاق مع شركات أخرى على أنه سيبيعها هذه السلع بكذا وكذا ، اشترى السلع بمليون ، ويتفق مع شركات أخرى على أنه سيبيعها هذه السلع بمليون .
فهنا تصرف في شيء لا يملكه ، لكي لا تنزل أسعار هذه السلع فيكون محتفظا بقيم هذه السلع لأن هدف المتورق هو الحصول على الثمن فيأتي العميل ، فيقول : أريد كذا وكذا من الحديد أو النحاس فيبيعه له ، وقد اتفق البنك مع شركات أخرى في الأسواق العالمية لكي يضمن عدم نقص الأسعار ، ثم يأخذ منه وكالة على أن يبيعها له بأقل من ثمنها نقدا . فباعها عليه بثمن مؤجل بأكثر مما اشترى به ثم يأخذ منه وكالة وقد اتفق مع شركات أخرى على أن يبيعها بكذا وكذا فيأخذ من الشركات ويحول ثمن هذه المعادن إلى حساب العميل .
وهذا يترتب عليه أمور كثيرة منها :-(1/49)
1- أن المصرف باع شيئا لا يملكه .
2- وأيضا يكون تصرف العميل في شيء غير موجود يعني صفقات اتفقت عليها هذه الشركات العالمية - كما ذكر بعض الاقتصاديين - في بيوت السمسرة وهذا الاتفاق هو البيع ، والعقود راجعة إلى أعراف الناس ، فيكون عمل العميل في غير شيء إنما هو مجرد أوراق يختمها بحيث ينزل في حسابه كذا وكذا ويلزم بكذا وكذا من النقد .
وقد اتصلت بأحد المشتغلين باللجان الشرعية في البنك الأهلي فأخبرني بأنهم يجرون هذه الخطوة ، يقومون بالاتفاق مع شركات أخرى لبيع هذه السلع .
القول الثاني : الجواز.
والدليل على ذلك أدلة منها :-
1- قالوا : إن التورق أجازه الجمهور من أهل العلم وهذا نوع من التورق .
لكن هذا غير مسلَّم بل هو إلى العينة أقرب منه إلى التورق ، لأن التورق الذي أجازه العلماء هو الذي يقبض السلعة فقد يبعها وقد ترتفع الأسعار فيبيعها بأكثر .
أما هنا فالمتورق محكوم ليس له أن يتصرف ، يعني اشترى بخمسين ألفاً فعليه سبعون ألفا سواء زادت الأسعار وارتفعت أو لا ، هذا ليس له دخل فيه لأن هذه السلع قد اتفق فيها مع شركات أخرى .
وفي هذا أيضا إضرار بنفس العميل فقد تزيد أسعار السلع ومع ذلك تكون من نصيب الشركات التي اتفق معها البنك .
2- أن الأصل في المعاملات الحل .
فيقال : صحيح أن الأصل في المعاملات الحل لكن هذه تبين تحريمها ، ولهذا صدر قرار قبل أشهر من مجمع الفقه الإسلامي بتحريم مثل هذه المعاملة ؛ التورق عن طريق المعادن .
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المحتويات
الرقم
الموضوع
الصفحة
1
المقدمة ............................................................................
1
2
أولا : الإجهاض ...................................................................
2
3
حكم الإجهاض من حيث التفضيل ..................................................
4
4(1/50)
ثانياً : علامة الوفاة بين الفقهاء والأطباء وحكم رفع أجهزة الإنعاش عن الميت دماغياً.....
15
5
المسألة الأولى: علامة الموت عند الفقهاء ..............................................
15
6
المسألة الثانية: علامة الموت عند الأطباء في الوقت الحاضر ..............................
17
7
المسألة الثالثة: حكم رفع أجهزة الإنعاش عن الميت دماغياً ..............................
20
8
ثالثاً : مسألة تضمين الطبيب ........................................................
23
9
أحوال تضمين الطبيب ..............................................................
23
10
رابعاً : البطاقات المصرفية ...........................................................
32
11
المسألة الأولى : تعريفها .............................................................
32
12
المسألة الثانيةً : وظائف البطاقات المصرفية ............................................
33
13
المسألة الثالثةً : أطراف البطاقة .......................................................
33
14
المسألة الرابعة : أنواع البطاقات المصرفية .............................................
34
15
المسألة الخامسةً : كيفية شراء السلع بالبطاقات الائتمانية ...............................
34
16
المسألة السادسةً : منافع البطاقات المصرفية ............................................
36
17
المسألة السابعةً : التكييف الفقهي لعقد الائتمان........................................
37
18
المسألة الثامنةً : التكييف الفقهي لعملية الشراء ........................................
38
19
المسألة التاسعة :التكييف الفقهي لعملية السحب النقدي ...............................
40
20
المسألة العاشرة : الأحكام المؤثرة في استصدار بطاقة الائتمان ...........................
40
21(1/51)
المسألة الحادية عشر : حكم البطاقات الائتمانية .......................................
43
22
المسألة الثانية عشر : بطاقات الحساب الجاري ........................................
44
23
خامسا : التورق المصرفي ............................................................
46
24
حكم التورق .......................................................................
47
25
أولاً : حكم التورق غير المصرفي .....................................................
47
26
ثانياً : حكم التورق المصرفي .........................................................
49
(1) …سورة الإسراء آية(6)
(2) …سورة هود آية(6)
(3) …سورة التكوير آية(8-9)
(4) …سورة الحج آية(5)
(5) …سورة المرسلات(20-21)
(6) …سورة الأنعام آية:(151)
(7) سورة النساء آية: (29)
(8) سورة الإسراء آية: (33)
(9) …سورة الإسراء آية: (85)
(10) …سورة الأنبياء آية: (91)
(11) …سورة التحريم آية: (12)
(12) …سورة النساء آية: (29)
(13) …سورة الأنعام آية:(151)
(14) …سورة البقرة آية: (193)
(15) …سورة النساء آية: (92)
(16) …سورة النساء آية: (29)
(17) …سورة التوبة آية: (91)
(18) …سورة المائدة آية: (2)
(19) …سورة النساء آية: (29)
(20) …سورة البقرة آية: (195)
(21) …سورة البقرة آية: (282)
??
??
??
??
2
المسائل الطبية والمعاملات المالية المعاصرة
14
المسائل الطبية والمعاملات المالية المعاصرة(1/52)