الباب الأول
العقيدة
الفصل الأول :
الإيمان والكفر
الفصل الثاني :
أديان وفرق وأقوال ضالة
الفصل الثالث :
السحر والسحرة
الفصل الرابع :
الحكم بغير ما أنزل الله
الفصل الخامس :
التعامل مع الكفار
الفصل السادس :
البدع والمحدثات
الفصل السابع :
التصوير الفصل الثامن :
الأنبياء عليهم السلام والأولياء
الفصل التاسع :
الجن وأحكامهم الفصل العاشر :
من فتن آخر الزمان
الفصل الحادي عشر :
القضاء والقدر الفصل الأول الإيمان والكفر
الحد بين الكفر والإسلام
ما الحد الفاصل بين الكفر والإسلام ؟ وهل من ينطق بالشهادتين ثم يأتي بأفعال تنقاضهما يدخل في عداد المسلمين رغم صلاته وصيامه ؟
الحد بين الكفر والإسلام: النطق بالشهادتين، مع الصدق والإخلاص والعمل بمقتضاهما، فمن تحقق فيه ذلك فهو مسلم مؤمن، أما من نافق فلم يصدق ولم يخلص فليس بمؤمن، وكذا من نطق بهما وأتى بما يناقضهما من الشرك، مثل من يستغيث بالأموات في الشدة أو الرخاء، ومن يؤثر الحكم بالقوانين الوضعية على الحكم بما أنزل الله تعالى، ومن يهزأ بالقرآن، أو ما ثبت من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهذا كافر وإن نطق بالشهادتين وصلى وصام.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (2/45)
أعظم نواقض الإسلام عشرة
ما نواقض الإسلام ؟
قال الشيخ محمد بن عبدالوهاب(1) رحمه الله تعالى:
اعلم أن من أعظم نواقض الإسلام عشرة؛ الأول: الشرك في عبادة الله وحده لا شريك له، والدليل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}[النِّسَاء: 48] ومنه الذبح لغير الله، كمن يذبح للجن، أو القباب.
الثاني: من جعل بينه وبين الله وسائط، يدعوهم ويسألهم الشفاعة، كفر إجماعاً.
__________
(1) …انظر: «الرسائل الشخصية» ص (212-214) .(1/1)
الثالث: من لم يكفر المشركين، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم، كفر إجماعاً.
الرابع: من اعتقد أن غير هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - أكمل من هديه، أو أن حكم غيره أحسن من حكمه، كالذين يفضلون حكم الطاغوت على حكمه، فهو كافر.
الخامس: من أبغض شيئاً مما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولو عمل به، كفر إجماعاً، والدليل قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ *}[محَمَّد] .
السادس: من استهزأ بشيء من دين الله، أو ثوابه أو عقابه كفر، والدليل قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ *لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ *}[التّوبَة: 65-66]
السابع: السحر، ومنه الصَّرْف والعَطْف(1)، فمن فعله أو رضي به كفر، والدليل قوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ}[البَقَرَة، من الآية: 102] .
الثامن: مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين، والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[المَائدة، من الآية: 51]
التاسع: من اعتقد أن بعض الناس لا يجب عليه اتباعه - صلى الله عليه وسلم -، وأنه يسعه الخروج من شريعته، كما وسع الخضر الخروج من شريعة موسى عليهما السلام، فهو كافر.
__________
(1) …يجعلون الإنسان ينعطف على زوجته أو امرأة أخرى حتى يكون كالبهيمة تقوده كما تشاء، والصرف بالعكس من ذلك؛ فيؤثر في بدن المسحور بإضعافه شيئًا فشيئًا حتى يهلك، وفي تصوره بأن يتخيل الأشياء على خلاف ما هي عليه .(1/2)
العاشر: الإعراض عن دين الله، لا يتعلمه ولا يعمل به، والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ *}[السَّجدَة].
ولا فرق في جميع هذه النواقض، بين الهازل والجاد والخائف، إلا المكره، وكلها من أعظم ما يكون خطراً، ومن أكثر ما يكون وقوعاً، فينبغي للمسلم أن يحذرها، ويخاف منها على نفسه، نعوذ بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه، وصلى الله على محمد.
الشيخ محمد بن عبدالوهاب - الدرر السنية ط/5 (10/91)
مفهوم الإيمان والكفر
ما مفهوم الإيمان والكفر ؟
الإيمان والكفر دينان متضادان، فالإيمان هو: دين الله الذي شرعه لعباده وخلق الخلق من أجله وأعد لأهله الهداية في الدنيا والأمن في الآخرة، كما قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَْمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ *}[الأنعَام]، وقال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}[البَقَرَة، من الآية: 257] .
والكفر هو: دين الشيطان، وهو ضلال في الدنيا وشقاء في الآخرة. كما قال تعالى في الكفار الذين لم يقبلوا هدى الله وأعرضوا عنه: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النَّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ *}[البَقَرَة]. وإذا كان الأمر كذلك فلابد من معرفة الدينين الإيمان والكفر.
فالإيمان هو: الدخول في دين الله عن رغبة وانقياد، وهو قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. فالعاصي بما دون الشرك لا يُسْلب اسم الإيمان بالكلية ولا يُعْطَى اسم الإيمان الكامل، فهو مؤمن ناقص الإيمان.(1/3)
وأما الكفر فهو: الامتناع من الدخول في الإسلام أو الخروج منه واختيار دين غير دين الله، إما تكبراً وعناداً، وإما حمية لدين الآباء والأجداد، وإما طمعاً في عرض عاجل من مال أو جاه أو منصب.
والكفر يكون بالتكذيب ؛ كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآْخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *}[الأعرَاف]
ويكون الكفر بالقول باللسان ؛ كما قال تعالى: {وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ}[التّوبَة، من الآية: 74]، ومن ذلك دعاء غير الله والاستغاثة بالأموات.
ويكون بالاستهزاء بالله ورسوله وكتابه؛ كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ *لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ *}[التّوبَة: 65-66].
ويكون بالاستكبار والامتناع عن طاعة الله تعالى؛ كما قال تعالى عن إبليس: {أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ}[البَقَرَة، من الآية: 34].
ويكون بالإعراض عن دين الله لا يتعلمه ولا يعمل به؛ كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ}[الأحقاف: 3]؛ فلا يتعلم التوحيد ولا يعرف ما يضاده.(1/4)
ويكون الكفر بالعمل كالذبح لغير الله والسجود لغير الله وعمل السحر وتعلُّمه وتعليمه؛ كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ *}[الأنعَام] {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ *}[الحَجّ].
فمن صرف شيئًا من هذه الاعمال لغير الله فإنه يكون مشركاً كافراً يُعَامل معاملة الكفار؛ إلا أن يتوب إلى الله.
وقال في السحر {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ}[البَقَرَة، من الآية: 102]، إلى غير ذلك من أنواع الكفر الذي يكون بالقول والفعل كما يكون بالاعتقاد والشك والتردد - كما قال تعالى: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا *وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُّ إِلَى رَبِّي لأََْجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا *قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً *}[الكهف]؛ فلا يكون الكفر بالتكذيب فقط.(1/5)
ثم إنه قد يكون الكافر كافرًا أصليًّا لم يدخل في الإسلام أصلاً. وقد يكون كافراً كفر ردَّة إذا دخل في الإسلام ثم ارتكب ناقضاً من نواقضه التي هي من أنواع الكفر؛ سواء كان جادًّا أو هازلاً أو قاصداً الطمعَ من مطامع الدنيا من الحصول على مال أو جاه أو منصب، إلا من فعل شيئاً من ذلك أو قاله مُكرهاً بقصد دفع الإكراه مع بقاء قلبه على الإيمان؛ كما قال تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِْيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ *ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآْخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ *}[النّحل].
قال شيخ الإسلام المجدد: محمد بن عبدالوهاب رحمه الله: «فلم يعذر الله من هؤلاء إلا من أُكْرِه مع كون قلبه مطمئناً بالإيمان، وأما غير هذا فقد كفر بعد إيمانه سواء فعله خوفاً أو مداراة أو مشحة بوطنه أو أهله أو عشيرته أو ماله. أو فعله على وجه المزح أو لغير ذلك من الأغراض إلا المكره - والآية تدل على هذا من جهتين:
الأولى: قوله: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ} فلم يستثن الله إلا المكره، ومعلوم أن الإنسان لا يكره إلا على العمل أو الكلام، وأما عقيدة القلب فلا يكره أحد عليها.
والثانية: قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآْخِرَةِ} فصرَّح أن هذا الكفر والعذاب لم يكن بسبب الاعتقاد أو الجهل أو البغض للدين أو محبة الكفر؛ وإنما سببه أن له حظًّا من حظوظ الدنيا فآثره على الدين». انتهى من «كشف الشبهات»(1).
__________
(1) …«كشف الشبهات» 1(/180، 181) .(1/6)
وقال رحمه الله لما ذكر نواقض الإسلام العشرة: «ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل والجاد والخائف إلا المُكره، وكلها من أعظم ما يكون خطراً وأكثر ما يكون وقوعاً، فينبغي للمسلم أن يحذرها ويخاف منها على نفسه. نعوذ بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه»(1). اهـ.
وقد وُجِدَ في هذا الزمان من المنتسبين إلى العلم من يقول: «إنه لا يكفر الإنسان مهما قال أو فعل من أنواع الكفر إلا إذا كان مكذباً في قلبه».
وعلى هذه المقولة الشنيعة يكون أبو جهل وأبو طالب وغيرهما من أصناف الكفرة مؤمنين؛ لأنهم لا يكذبون الرسول - صلى الله عليه وسلم - في قَرَارة أنفسهم وإنما يجحدون رسالته في الظاهر تكبراً وعناداً - كما قال الله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ *}[الأنعَام]، وقال فيمن قبلهم من أعداء رسالات الرسل: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ *}[النَّمل]. ومن عجيب أمر بعض من كتب أو تكلم من المعاصرين في هذه المسألة الخطيرة وتبنَّى مسألة الإرجاء الشنيع: أنهم ينسبون هذا إلى السلف ويجمعون بين المتضادات من الأقوال المختلفة ظانين أنها تؤيدهم في مسلكهم، فهم كالذي يجمع بين الضَّب والنُّون(2). ونسأل الله لنا ولهم الهداية للعلم النافع والعمل الصالح، وأن يجنبنا جميعاً القول عليه بلا علم، ويوفقنا لقول الحق والعمل به.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
الشيخ صالح الفوزان، مجلة الدعوة. العدد (16048) بتاريخ 8/3/1419هـ
__________
(1) …انظر: «مجموعة رسائل في التوحيد والإيمان» ص (387)، و«الرسائل الشخصية» ص (214).
(2) …لأن الضبَّ لا يَرِدُ الماء ولا يشربُه، والنُّون (أي: الحوت) لا يستغني عنه ولا يعيش إلا فيه .(1/7)
بطلان قول: (لا يُخَلَّد المسلم في النار ولو أشرك)
هناك من يقول: كل من يتقيد برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - واستقبل القبلة بالصلاة ولو سجد لشيخه لم يكفر ولم يسمه مشركاً، حتى قال: إن محمد بن عبدالوهاب الذي تكلم في المشركين في خلودهم في النار إذا لم يتوبوا قد أخطأ وغلط، وقال: إن المشركين في هذه الأمة يعذبهم ثم يخرجهم إلى الجنة، وقال: إن أمة محمد لم يخلد فيهم أحد في النار!
كل من آمن برسالة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وسائر ما جاء به في الشريعة إذا سجد بعد ذلك لغير الله من ولي وصاحب قبر أو شيخ طريق يعتبر كافراً مرتداً عن الإسلام مشركاً مع الله غيره في العبادة، ولو نطق بالشهادتين وقت سجوده؛ لإتيانه بما ينقض قوله من سجوده لغير الله. لكنه قد يعذر لجهله فلا تنزل به العقوبة حتى يُعلم وتقام عليه الحجة ويمهل ثلاثة أيام؛ إعذاراً إليه ليراجع نفسه، عسى أن يتوب، فإن أصرَّ على سجوده لغير الله بعد البيان قتل لردته؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: من بدَّل دِينَهُ فَاقْتُلُوه (1)، أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، عن ابن عباس رضي الله عنهما، فالبيان وإقامة الحجة للإعذار إليه قبل إنزال العقوبة به، لا ليسمى كافراً بعد البيان، فإنه يسمى: كافراَ بما حدث منه من سجوده لغير الله أو نذره قربة أو ذبحه شاة مثلاً لغير الله، وقد دلَّ الكتاب والسنَّة على أن من مات على الشرك لا يغفر له ويخلد في النار؛ لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}[النِّسَاء، من الآيتين: 48، 116]، وقوله : {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ *}[التّوبَة].
__________
(1) …البخاري (3017، 6922).(1/8)
وبالله التوفيق، وصلَّى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلَّم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (1/220)
ما الردة وبم تكون وما الذي يترتب عليها ؟
س1: يقال: إن الردة قد تكون فعلية أو قولية، فالرجاء أن تبينوا لي باختصار واضح أنواع الردة الفعلية والقولية والاعتقادية .
1:
الردة هي الكفر بعد الإسلام، وتكون بالقول، والفعل، والاعتقاد، والشك، فمن أشرك بالله، أو جحد ربوبيته أو وحدانيته أو صفة من صفاته أو بعض كتبه أو رسله، أو سب الله أو رسوله، أو جحد شيئاً من المحرمات المجمع على تحريمها أو استحله، أو جحد وجوب ركن من أركان الإسلام الخمسة، أو شك في وجوب ذلك أو في صدق محمد - صلى الله عليه وسلم - أو غيره من الأنبياء، أو شك في البعث، أو سجد لصنم أو كوكب ونحوه - فقد كفر وارتد عن دين الإسلام. وعليك بقراءة أبواب حكم الردة من كتب الفقه الإسلامي فقد اعتنوا به رحمهم الله.
وبهذا تعلم من الأمثلة السابقة الردة القولية والعملية والاعتقادية وصورة الردة في الشك.
س2 : يقال: إن الردة القولية تكون بلفظ كلمة الردة كسبّ الدين، ويقال أيضاً: إن من ارتد بهذا السب أو ما شابهه فقد بطل ما عمل قبل ذلك من صلاة وصيام وزكاة.. إلخ. أو نذر نذراً على نفسه، فهل يجب قضاء ما فات أو ما بطل بذلك السبب أو لا ؟ إن كان نعم فهل يتم قضاء الصوم بالتتابع في الأيام أم لا ؟
2 :(1/9)
سبق بيان أنواع الردة، وليس من شرط ذلك أن يقول المرتد: ارتددت عن ديني، لكن لو قال ذلك اعتبر قوله من أنواع الردة. وليس على المرتد إذا رجع إلى الإسلام أن يقضي ما ترك في حال الردة من صلاة وصوم وزكاة.. إلخ. وما عمله في إسلامه قبل الردة من الأعمال الصالحة لم يبطل بالردة إذا رجع إلى الإسلام؛ لأن الله سبحانه علق ذلك بموته على الكفر، كما قال عزّ وجلّ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ}[البَقَرَة: 161]، الآية، وقال سبحانه: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ}[البَقَرَة: 217]، الآية. أما نذره حال إسلامه فهو باق إذا كان النذر طاعة، فعليه أن يوفي به بعد الرجوع إلى الإسلام، وهكذا ما في ذمته من حق لله أو لعباده قبل أن يرتد فهو باق.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (2/3)
حكم المسلم الذي لا يؤدي الأركان العملية
الإنسان المسلم أباً وأماً ولكن رفض الصلاة والصيام وغير ذلك من شعائر الله، فهل تجوز معاملته معاملة المسلمين؛ فمثلاً أن يأكل معه المسلم وغير ذلك أم لا ؟
إذا كان حال هذا الشخص ما ذكرت من رفض الصلاة والصيام وغيرهما من شعائر الإسلام فهو كافر كفراً يخرج من الإسلام على الصحيح من قولي العلماء، يستتاب ثلاثة أيام، فإن تاب فالحمد لله وإلاَّ نفذ فيه ولي أمر المسلمين ما يوجبه الشرع من قتل المرتدين، ولا يجوز للمسلمين موالاته ولا زيارته ونحو ذلك إلاّ لنصحه وإرشاده ووعظه، عسى أن يتوب إلى الله سبحانه.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (2/22)
حكم سب ذات اللّه عز وجل وآثاره(1/10)
أنا سيدة مسلمة أعيش في الدانمارك مع زوجي المسلم ولي منه والحمد لله ثلاثة أطفال، وليكن اسمي م.م.م. رمزاً. في لحظة غضب عارمة سببت ذات الله - العلي القدير - ومنذ ذلك الحين أبى زوجي التحدث معي بحجة أنني مرتدة، وقد فسخ الله عقد نكاحي، وحرام عليه ذبيحتي، ولا أورث، ولا يصلي علي، ولا أغسل، ولا أكفن، ولا أدفن، ويغرى الكلاب على جيفتي، ومالي فيء للمسلمين. وأنا نادمة أشد الندم وهذه هي المرة الأولى في حياتي، ولي قسط طيب من الثقافة والعلم والحمد لله، وأعلم أن هذا شي فظيع الذي حدث مني - وأشار عليَّ أن أكتب لفضيلتكم في أمر توبتي - هل لي توبة ؟ وهل لي مع زوجي رجعة، وكيف ؟ أصلح الله حالكم .
لا شك أن سب ذات الله جل جلاله ردة وخروج عن دائرة الإسلام بإجماع علماء المسلمين يستحق صاحبه القتل إذا لم يتب منه؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: لا يَحِلُّ دَمُ امرئٍ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثَّيِّبُ الزاني، والنَّفْس بالنفس، والتارِكُ لدِينهِ المُفَارِق لِلجماعة(1).
وما دمت قد تبت من ذلك، وندمت على فعلك له، وعزمت ألا يخرج منك مثل ذلك الكلام السيِّئ فتوبتك صحيحة، ولزوجك الاتصال بك، واعتبار حالك معه بعد التوبة مثلها قبل أن يصدر منك ذلك؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم أقروا المرتدين على نكاحهم بعد أن عادوا للإسلام ولم يفرقوا بينهم وبين زوجاتهم، ولم يجددوا لأحد منهم نكاحاً، ولنا فيهم أسوة حسنة.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (2/2)
حكم سب الدين في حالة الغضب
ما حكم الشرع في نظركم في رجل سب الدين في حالة غضب: هل عليه كفارة ؟ وما شرط التوبة من هذا العمل حيث إني سمعت من أهل العلم يقولون : بأنك خرجت عن الإسلام في قولك هذا ويقولون بأن زوجتك حرمت عليك ؟
__________
(1) …البخاري (6878)، ومسلم (1676).(1/11)
الحكم فيمن سب الدين الإسلامي أنه يكفر ؛ فإنَّ سب الدين والاستهزاء به ردة عن الإسلام وكفر بالله عز وجل وبدينه، وقد حكى الله عن قوم استهزؤوا بدين الإسلام، حكى الله عنهم أنهم كانوا يقولون: إنما كنا نخوض ونلعب، فبين الله عزّ وجلّ أن خوضهم هذا ولعبهم استهزاء بالله وآياته ورسوله، وأنهم كفروا به فقال تعالى : {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ *لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ *}[التّوبَة: 65-66] فالاستهزاء بدين الله، أو سب دين الله، أو سب الله ورسوله، أو الاستهزاء بهما: كفر مخرج عن الملة.
ومع ذلك فإن هنالك مجالاً للتوبة منه؛ لقول الله تعالى : {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ *}[الزُّمَر: 53]؛ فإذا تاب الإنسان من أي ردة، وكانت توبة نصوحاً، واستوفت شروط التوبة الخمسة؛ فإن الله يقبل توبته.
وشروط التوبة الخمسة هي :
* الشرط الأول : الإخلاص لله بتوبته بألاّ يكون الحامل له على التوبة رياء أو سمعة، أو خوفاً من مخلوق، أو رجاء لأمر يناله من الدنيا، فإذا أخلص توبته لله وصار الحامل له عليها تقوى الله عز وجل والخوف من عقابه ورجاء ثوابه فقد أخلص لله تعالى فيها.
* الشرط الثاني : أن يندم على ما فعل من الذنب، بحيث يجد في نفسه حسرة وحزناً على ما مضى، ويراه أمراً كبيراً يجب عليه أن يتخلص منه.(1/12)
* الشرط الثالث : أن يقلع عن الذنب وعن الإصرار عليه، فإن كان ذنبه ترك واجب قام بفعله وتداركه إن أمكن، وإن كان ذنبه بإتيان محرم أقلع عنه وابتعد عنه، ومن ذلك إذا كان الذنب يتعلق بالمخلوقين فإنه يؤدي إليهم حقوقهم أو يستحلهم منها.
* الشرط الرابع : العزم على ألاّ يعود في المستقبل بأن يكون في قلبه عزم مؤكد ألاّ يعود إلى هذه المعصية التي تاب منها.
* الشرط الخامس : أن تكون التوبة في وقت القبول، فإن كانت بعد فوات وقت القبول لم تقبل. وفوات وقت القبول : عام وخاص، أما العام فإنه طلوع الشمس من مغربها، فالتوبة بعد طلوع الشمس من مغربها لا تقبل لقول الله تعالى : {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا}[الأنعَام، من الآية: 158]. وأما الخاص فهو حضور الأجل، فإذا حضر الأجل فإن التوبة لا تنفع؛ لقول الله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآْنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ}[النِّسَاء، من الآية: 18].(1/13)
أقول : إن الإنسان إذا تاب من أي ذنب - ولو كان ذلك سب الدين -فإن توبته تقبل إذا استوفت الشروط التي ذكرناها، ولكن ليعلم أن الكلمة قد تكون كفراً وردة ولكن المتكلم بها قد لا يكفر بها لوجود مانع يمنع من الحكم بكفره، فهذا الرجل الذي ذكر عن نفسه أنه سب الدين في حال غضب، نقول له : إن كان غضبك شديداً بحيث لا تدري ما تقول، ولا تدري أنت حينئذ أأنت في سماء أم في أرض؟ وتكلمت بكلام لا تستحضره ولا تعرفه، فإن هذا الكلام لا حكم له، ولا يحكم عليك بالردة؛ لأنه كلام حصل عن غير إرادة وقصد، وكل كلام حصل عن غير إرادة وقصد فإن الله سبحانه وتعالى لا يؤاخذ به؛ يقول الله تعالى في الأيمان : {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُّمُ الأَْيْمَانَ}[المَائدة: من الآية 89]؛ فإذا كان هذا المتكلم بكلمة الكفر في غضب شديد لا يدري ما يقول، ولا يعلم ماذا خرج منه فإنه لا حكم لكلامه، ولا يحكم بردته حينئذ، وإذا لم يحكم بالردة فإن الزوجة لا ينفسخ نكاحها منه، بل هي باقية في عصمته، ولكن ينبغي للإنسان إذا أحس بالغضب أن يحرص على مداواة هذا الغضب بما أوصى به النبي - صلى الله عليه وسلم - حين سأله رجل فقال له: يا رسول الله أَوْصِنِي، قال : لا تَغْضَبْ فردد مراراً قال : لا تَغْضَبْ .(1) فليحكم الضبط على نفسه، وليستعذ بالله من الشيطان الرجيم، وإذا كان قائماً فليجلس، وإذا كان جالساً فليضطجع، وإذا اشتد به الغضب فليتوضأ، فإن هذه الأمور تذهب عنه غضبه. وما أكثر الذين ندموا ندماً عظيماً على تنفيذ ما اقتضاه غضبهم ولكن بعد فوات الأوان.
الشيخ ابن عثيمين - مجموع فتاوى ورسائل (2/152)
حكم الاستهزاء بالدين لإضحاك الناس
هناك بعض الناس يمزح بكلام فيه استهزاء بالله أو الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو الدين .. فما الحكم في ذلك ؟
__________
(1) …البخاري (6116)، وغيره.(1/14)
نقول: إن هذا العمل وهو الاستهزاء بالله أو رسوله - صلى الله عليه وسلم - أو كتابه أو دينه، ولو كان على سبيل المزح، ولو كان على سبيل إضحاك القوم، نقول: إن هذا كفر ونفاق، وهو نفس الذي وقع في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - في الذين قالوا: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً، ولا أكذب ألسناً، ولا أجبن عند اللقاء - يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه القراء، فنزلت فيهم: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ}[التّوبَة: من الآية 65]؛ لأنهم جاؤوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يقولون: إنما كنا نتحدث حديث الركب، نقطع به عناء الطريق. فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لهم ما أمر الله به: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ *لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ *}[التّوبَة: 65-66]؛ فجانب الربوبية والرسالة والوحي والدين جانب محترم، لايجوز لأحد أن يعبث فيه لا باستهزاء ولا بإضحاك ولا بسخرية، فإن فعل فإنه كافر؛ لأنه يدلّ على استهانته بالله عزّ وجلّ ورسله وكتبه وشرعه. وعلى من فعل هذا أن يتوب إلى الله عزّ وجلّ مما صنع، لأن هذا من النفاق، فعليه أن يتوب إلى الله، ويستغفر ويصلح عمله، ويجعل في قلبه خشية الله عزّ وجلّ وتعظيمه وخوفه ومحبته. والله ولي التوفيق .
الشيخ ابن عثيمين - مجموع فتاوى ورسائل (2/156)
حكم من يسخر من الملتزمين
بعض الناس يسخرون بالملتزمين بدين الله ويستهزئون بهم .. فما حكم هؤلاء ؟(1/15)
هؤلاء الذين يسخرون بالملتزمين بدين الله المنفذين لأوامر الله فيهم نوع نفاق؛ لأن الله تعالى قال عن المنافقين: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ *}[التّوبَة: 79]، ثم إن كانوا يستهزئون بهم من أجل ما هم عليه من الشرع، فإن استهزاءهم بهم استهزاء بالشريعة، والاستهزاء بالشريعة كفر . أما إذا كانوا يستهزئون بهم - يعنون أشخاصهم وزيهم بقطع النظر عما هم عليه من اتباع السنة - فإنهم لايكفرون بذلك؛ لأن الإنسان قد يستهزئ بالشخص نفسه - بقطع النظر عن عمله وفعله - لكنهم على خطر عظيم، والواجب تشجيع من التزم بشريعة الله، ومعونته وتوجيهه إذا كان على نوع من الخطأ حتى يستقيم على الأمر المطلوب .
الشيخ ابن عثيمين - المجموع الثمين (1/75)
موالاة الكفار التي يكفر بها من والاهم
ماهي حدود الموالاة التي يكفر صاحبها وتخرجه من الملة، حيث نسمع أن من أكل مع المشرك أو جلس معه أو استضاء بنوره ولو برى لهم قلماً أو قدم لهم محبرة فهو مشرك، وكثيرًا ما نتعامل مع اليهود والنصارى نتيجة التواجد والمواطنة في مكان واحد، فما هي حدود الموالاة المخرجة من الملة ؟ وما هي الكتب الموضحة ذلك بالتفصيل ؟ وهل الموالاة من شروط لا إله إلاَّ الله ؟
موالاة الكفار التي يكفر بها من والاهم هي: محبتهم، ونصرتهم على المسلمين، لا مجرد التعامل معهم بالعدل، ولا مخالطتهم لدعوتهم للإسلام، ولا غشيان مجالسهم والسفر إليهم للبلاغ ونشر الإسلام.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (2/47)
حكم لبس الصليب ومتى يكفر فاعله(1/16)
اختلفنا في المسلم الذي يلبس الصليب شعار النصارى، فبعضنا حكم بكفره بدون مناقشة، والبعض الآخر قال: لا نحكم بكفره حتى نناقشه ونبين له تحريم ذلك وأنه شعار النصارى؛ فإن أصرَّ على حمله حكمنا بكفره .
التفصيل في هذا الأمر وأمثاله هو الواجب، فإذا بين له حكم لبس الصليب، وأنه شعار النصارى، ودليل على أن لابسه راض بانتسابه إليهم والرضا بما هم عليه وأصر على ذلك - حكم بكفره؛ لقوله عز وجل: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[المَائدة: 51]، والظلم إذا أطلق يراد به: الشرك الأكبر.
وفيه أيضاً إظهار لموافقة النصارى على ما زعموه من قتل عيسى عليه الصلاة والسلام، والله سبحانه قد نفى ذلك وأبطله في كتابه الكريم حيث قال عزّ وجلّ: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ}[النِّسَاء: 157].
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (2/78)
كفر تارك الصلاة
ماذا يفعل الرجل إذا أمر أهله بالصلاة ولكنهم لم يستمعوا إليه، أيسكن معهم ويخالطهم أم يخرج من البيت ؟
إذا كان الأهل لا يصلون أبداً فإنهم كفار، مرتدون، خارجون عن الإسلام، ولا يجوز أن يسكن معهم، ولكن يجب عليه أن يدعوهم ويلح ويكرر لعل الله يهديهم؛ لأن تارك الصلاة كافر - والعياذ بالله - بدليل الكتاب والسنة، وقول الصحابة، والنظر الصحيح.
- أما من القرآن: فقوله تعالى عن المشركين: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآْيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ *}[التّوبَة: 11] مفهوم الآية أنهم إذا لم يفعلوا ذلك فليسوا إخواناً لنا ولا تنتفي الأخوة الدينية بالمعاصي وإن عظمت، ولكن تنتفي عند الخروج عن الإسلام .(1/17)
- أما من السنة: فقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: إِنَّ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكَ الصَّلاةِ (1) - ثابت في صحيح مسلم - وقوله في حديث بريدة رضي الله عنه في السنن: الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلاةُ فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ(2).
- أما أقوال الصحابة: قال أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه: (لا حَظَّ فِي الإِسْلامِ لِمَنْ تَرَكَ الصَّلاةَ )(3) ، والحظ: النصيب، وهو هنا نكرة في سياق النفي فيكون عاماً لا نصيب لا قليل ولا كثير - وقال عبدالله بن شقيق: كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة(4).
* أما من جهة النظر الصحيح فيقال: هل يعقل أن رجلاً في قلبه حبة خردل من إيمان يعرف عظمة الصلاة وعناية الله بها ثم يحافظ على تركها ؟! هذا شيء لا يمكن، وقد تأملت الأدلة التي استدل بها من يقول أنه لا يكفر، فوجدتها لا تخرج عن أحوال خمسة:
1 - إِما أنها لا دليل فيها أصلاً .
2 - أو أنها قيدت بحال أو وصف يمتنع معه ترك الصلاة.
3 - أو أنها قيدت بحال يعذر فيها من ترك هذه الصلاة.
4 - أو أنها عامة فتخصص بأحاديث كفر تارك الصلاة.
5 - أو أنها ضعيفة لا تقوم بها حجة.
وإذا تبين أن تارك الصلاة كافر؛ فإنه يترتب عليه أحكام المرتدين -وليس في النصوص أن تارك الصلاة مؤمن، أو أنه يدخل الجنة، أو ينجو من النار ونحو ذلك مما يحوجنا إلى تأويل الكفر الذي حكم به على تارك الصلاة بأنه كفر نعمة أو كفر دون كفر- ومنها:
__________
(1) …مسلم (82) .
(2) …أحمد (5/346)، والترمذي (2621)، والنسائي(464)، وابن ماجه (1079). وقال الترمذي: «حسن صحيح غريب».
(3) …موطأ مالك (84) .
(4) …الترمذي (2757). وسيأتي الكلام عليه في باب الصلاة.(1/18)
أولاً: أنه لا يصح أن يزوج، فإن عقد له وهو لا يصلي فالنكاح باطل، ولا تحل له الزوجة به، لقوله تعالى عن المهاجرات: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}[المُمتَحنَة: 10]
ثانياً: أنه إذا ترك الصلاة بعد أن عقد له فإن نكاحه ينفسخ، ولا تحل له الزوجة للآية التي ذكرناها سابقاً، على حسب التفصيل المعروف عند أهل العلم بين أن يكون ذلك قبل الدخول أو بعده .
ثالثاً: أن هذا الرجل الذي لا يصلي إذا ذبح لا تؤكل ذبيحته لماذا ؟.. لأنها حرام، ولو ذبح يهودي أو نصراني فذبيحته يحل لنا أن نأكلها، فيكون - والعياذ بالله - ذبحه أخبث من ذبح اليهود والنصارى.
رابعاً: أنه لايحل أن يدخل مكة أو حدود حرمها؛ لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ *}[التّوبَة: 28].
خامساً : أنه لو مات أحد من أقاربه فلا حق له في الميراث، فلو مات رجل عن ابن له لا يصلي، الرجل مسلم يصلي والابن لا يصلي وعن ابن عم له بعيد (عاصب)، من الذي يرثه ؟ ابن عمه البعيد دون ابنه؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث أسامة رضي الله عنه: لا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ (1)؛ متفق عليه، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ(2). وهذا مثال ينطبق على جميع الورثة.
__________
(1) …البخاري (6764)، ومسلم (1614) .
(2) …البخاري (6732)، ومسلم (1615) .(1/19)
سادساً: أنه إذا مات لايغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه ولا يدفن مع المسلمين، إذاً ماذا نصنع به ؟ نخرج به إلى الصحراء ونحفر له وندفنه بثيابه لأنه لا حرمة له . وعلى هذا فلا يحل لأحد مات عنده ميت وهو يعلم أنه لا يصلي أن يقدمه للمسلمين يصلون عليه.
سابعاً: أنه يحشر يوم القيامة مع فرعون وهامان وقارون وأبيّ بن خلف، أئمة الكفر - والعياذ بالله - ولا يدخل الجنة، ولا يحل لأحد من أهله أن يدعو له بالرحمة والمغفرة، لأنه كافر لا يستحقها - لقوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ *}[التّوبَة: 113].
فالمسألة يا إخواني خطيرة جداً .. ومع الأسف فإن بعض الناس يتهاونون في الأمر، ويقرون في البيت من لا يصلي، وهذا لا يجوز . والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الشيخ ابن عثيمين - رسالة صفة صلاة النبي، ص (29 ، 30)
ما حكم من قال لأخيه الذي لا يصلي : يا كافر ؟
تشاجرت أنا وأخي في مسألة ما في حالة غضب فقلت له: ابعد عني ياكافر . . على أساس أنه كان لايصلي إلا في مناسبات كحضور الأقارب وغيرهم .. فما الحكم في ذلك ؟ وهل صحيح أنه كذلك ؟(1/20)
قد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إِنَّ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكَ الصَّلاةِ(1). وخرَّج الإمام أحمد وأهل السنن بإسناد جيد عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلاةُ فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ (2) والأحاديث الدالة على هذا المعنى كثيرة، لكن ينبغي لك في مثل هذا ألا تبادره بمثل هذا اللفظ، وأن تنصحه أولاً، وتخبره أن ترك الصلاة كفر وضلال، وأن الواجب عليه التوبة إلى الله سبحانه لعله يستفيد منك ويقبل النصيحة . . نسأل الله للجميع التوفيق للتوبة النصوح من جميع الذنوب .
الشيخ ابن باز- مجموع فتاوى (10/262)
دعاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - والاستغاثة به شرك أكبر
أرجو أن تفتونا في جماعة يتحلقون في المسجد، ويذكرون الله ويذكرون رسوله، ويأتون في أذكارهم ببعض الأشياء المنافية للتوحيد مثل قولهم بصوت واحد: وخذ بيدي يا رسول الله . يرددون ذلك ويقودهم أحدهم قائلاً: يا مفتاحاً لكنوز الله - يا كعبة لتجلي الله - أيا عرشاً لاستواء الله - ياكرسياً لتدلي الله، فاغننا يا رسول الله أنت المقصود يا حبيب الله - أنت أنت يا رسول الله . إلى غير ذلك من هذا النوع المملوء بالشركيات .
أولاً: إنَّ ذكرَ الله جماعة بصوت واحد على طريقة الصوفية بدعة، وقد ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ(3).
__________
(1) …مسلم (82) .
(2) …أحمد (5/346)، والترمذي (2621)، والنسائي (464)، ابن ماجة (1079) . وقال الترمذي: «حسن صحيح غريب».
(3) …البخاري (2697)، ومسلم (1718) .(1/21)
ثانياً: إنَّ دعاءَ غير الله والاستغاثة به لتفريج كربة أو كشف غمة شرك أكبر لا يجوز فعله ؛ لأن الدعاء والاستغاثة عبادة وقربة لله وحده، فَصَرْفُها لغيره شرك أكبر يخرج من الإسلام والعياذ بالله، قال تعالى: {وَلاَ تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ *وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ *}[يُونس]، وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا *}[الجنّ]، وقال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ *}[المؤمنون]، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على وجوب صَرْفِ العبادة لله وحده . وثبت في الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ (1) الحديث، وقال عليه الصلاة والسلام: الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ(2). والله الموفق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، (1/77)
حكم الاستغاثة بالأولياء
ما حكم الله فيمن يستغيث بالأولياء عند نزول حادث به ؟
__________
(1) …أحمد (1/293، 303، 307)، والترمذي (2516) وقال: «حسن صحيح».
(2) …أحمد (4/267 ، 271 ، 279)، وأبو داود (1479)، والترمذي (2969، 3247، 3372)، وابن ماجه (3828). وقال الترمذي: «حسن صحيح».(1/22)
من استغاث بالأولياء بعد موتهم أو في حال غيبتهم عنه فهو مشرك شركًا أكبر؛ لقوله تعالى: {وَلاَ تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ *وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ *}[يُونس: 106-107]
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (1/87)
حكم من يقول: يا محمد أو يا علي أو يا جيلاني
ما حكم قول بعض الناس: ((يا محمّدُ، أو يا علي أو ياجيلاني )) عند الشدة ؟
إذا كان يريد دعاء هؤلاء والاستعانة بهم فهو مشرك شركاً أكبر مخرجاً عن الملة، فعليه أن يتوب إلى الله عزّ وجلّ وأن يدعو الله وحده، كما قال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَْرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ *}[النَّمل]، وهو مع كونه مشركاً سفيهٌ مضيعٌ لنفسه، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ}[البَقَرَة: 130]، وقال: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لاَ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ *}[الأحقاف]
الشيخ ابن عثيمين - مجموع فتاوى ورسائل (2/163)
حكم الذبح لغير اللّه
ما حكم الذبح لغير الله ؟(1/23)
تقدم لنا في غير هذا الموضع أن توحيد العبادة هو إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة، بألا يتعبد أحد لغير الله تعالى بشيء من أنواع العبادة، ومن المعلوم أن الذبح قربة يتقرب بها الإنسان إلى ربه ؛ لأن الله تعالى أمر به في قوله: {فَصَلِّ لِرَّبِكَ وَانْحَرْ *}[الكَوثَر]، وكل قربة فهي عبادة؛ فإذا ذبح الإنسان شيئاً لغير الله تعظيماً له وتذللاً وتقرباً إليه كما يتقرب بذلك ويعظم ربه عز وجل؛ فإنه يكون مشركاً . وإذا كان مشركاً فإن الله تعالى قد بين أنه حرم على المشرك الجنة ومأواه النار .
وبناء على ذلك نقول: إن ما يفعله بعض الناس من الذبح للقبور - قبور الذين يزعمون بأنهم أولياء - شرك مخرج عن الملة، ونصيحتنا لهؤلاء: أن يتوبوا إلى الله عز وجل مما صنعوا، وإذا تابوا إلى الله وجعلوا الذبح لله وحده كما يجعلون الصلاة والصيام لله وحده، فإنه يغفر لهم ما سبق - كما قال الله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَْوَّلِينَ *}[الأنفَال]؛ بل إن الله تعالى يعطيهم فوق ذلك، فيبدل الله سيئاتهم حسنات - كما قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا *يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا *إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا *}[الفُرقان: 68-70](1/24)
فنصيحتي لهؤلاء الذين يتقربون إلى أصحاب القبور بالذبح لهم: أن يتوبوا إلى الله من ذلك، وأن يرجعوا إليه، وأن يخلصوا دينهم له سبحانه، وليبشروا إذا تابوا بالتوبة من الكريم المنان، فإن الله سبحانه وتعالى يفرح بتوبة التائبين وعودة المنيبين .
الشيخ ابن عثيمين - فتاوى العقيدة، ص: (220 ، 221)
حكم ما ذبح لغير اللّه
يوجد لدينا ناس يزورون الأولياء في قبورهم وينذرون لهم بذبائح ويذكّونها على نية نذورهم للولي، ويوزعونها بين جيران المقابر أو جيران القبة التي يزورونها. هل لحم الذبيحة التي هي باسم الولي أكلها حلال ؟ أم أن هذا من الذي ذكر الله فيها قوله العزيز: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}[المَائدة من الآية: 3] ؟
إذا كان الواقع ما ذكر فلا يجوز الأكل من هذه الذبائح؛ لأنها مما أهل لغير الله به، وهذا العمل من الشرك الأكبر؛ لقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ *}[الأنعَام]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: لَعَنَ اللهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ الله(1).
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (1/134)
حكم ما ذبح للمولد
هل يجوز أكل اللحم الذي يذبح لمولد النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيره من الموالد ؟
ما ذبح في مولد نبي أو ولي تعظيمًا له فهو مما ذبح لغير الله وذلك شرك، فلا يجوز الأكل منه، وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لَعَنَ اللهُ مَن ذَبَحَ لغيرِ الله(2).
س2 :
ما حكم من يقول إنه مسلم بالقول فقط وهو مع أهل البدع والشرك بفعله ؟ وهل يكون مسلمًا حقيقة ؟ وهل يجوز أكل ذبحه ؟
2 :
__________
(1) …مسلم (1978).
(2) …مسلم (1978).(1/25)
من نطق بالشهادتين مصدقًا بما دلتا عليه وعمل بمقتضاهما فهو مسلم مؤمن، ومن أتى بما يناقضهما من الأقوال أو الأعمال الشركية فهو كافر وإن نطق بهما وصلى وصام؛ مثل أن يستغيث بالأموات أو يذبح لهم توقيراً وتعظيمًا، ولا يجوز الأكل من ذبيحته.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (1/135)
حكم من اعتقد أن الرسول (- صلى الله عليه وسلم -) ليس ببشر وأنه يعلم الغيب
إذا مات الشخص وهو يعتقد أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليس ببشر وأنه يعلم الغيب وأن التوسل بالأولياء والأموات والأحياء قربة إلى الله عزّ وجلّ .. فهل يدخل النار ويُعَدُّ مشركاً ؟ علماً أنه لا يعلم غير هذا الاعتقاد وأنه عاش في منطقة علماؤها وأهلها كلهم يقرون بذلك؛ فما حكمه ؟ وما حكم التصدق عنه والإحسان إليه بعد موته ؟(1/26)
من مات على هذا الاعتقاد بأن يعتقد أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - ليس ببشر؛ أي: ليس من بني آدم، أو يعتقد أنه يعلم الغيب - فهذا اعتقاد كفري يعتبر صاحبه كافراً كفراً أكبر، وهكذا إذا كان يدعوه ويستغيث به أو ينذر له أو لغيره من الأنبياء والصالحين أو الجن أو الملائكة أو الأصنام ؛ لأن هذا من جنس عمل المشركين الأولين كأبي جهل وأشباهه، وهو شرك أكبر، ويسمي بعض الناس هذا النوع من الشرك توسلاً، وهو عين الشرك الأكبر . وهنا نوع ثانٍ من التوسل ليس من الشرك بل هو من البدع ووسائل الشرك؛ وهو التوسل بجاه الأنبياء والصالحين أو بحق الأنبياء والصالحين أو بذواتهم، فالواجب الحذر من النوعين جميعاً . ومن مات على النوع الأول لا يغسل ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا يدعى له، ولا يتصدق عنه؛ لقول الله عزّ وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ *}[التّوبَة].
وأما التوسل بأسماء الله وصفاته وتوحيده والإيمان به فهو توسل مشروع، ومن أسباب الإجابة؛ لقول الله عز وجل: {وَلِلَّهِ الأَْسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}[الأعرَاف: 180]، ولما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سمع من يدعو ويقول: (اللّهم إني أسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت، الفرد الصمد الذي لم يَلِد ولم يُولَد ولم يكن له كُفواً أحد)، فقال: لَقَدْ سَأَلَ اللهَ بِاسْمِهِ الأَعْظَمِ الَّذِي إِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ (1) .
__________
(1) …أبو داود (1495) واللفظ له، والترمذي (3475)، وقال: «حسن غريب»، والنسائي (1300)، وابن ماجه (3858) وآخرون. وصححه الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (1326).(1/27)
وهكذا التوسل بالأعمال الصالحة، من بر الوالدين، وأداء الأمانة، والعفة عما حرم الله ونحو ذلك، كما ورد ذلك في حديث أصحاب الغار المخرّج في الصحيحين:
وهم ثلاثة، آواهم المبيت والمطر إلى غار، فلما دخلوا فيه انحدرت عليهم صخرة من أعلى جبل، فسدت الغار عليهم، فلم يستطيعوا الخروج . فقالوا فيما بينهم: إنه لن ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تسألوا الله بصالح أعمالكم، فتوجهوا إلى الله سبحانه فسألوه ببعض أعمالهم الطيبة فقال أحدهم: اللّهم إنه كان لي أَبَوَان شيخان كبيران وكنت لا أَغْبِقُ(1) قبلهما أهلاً ولا مالاً، وإني ذات ليلة نَأَى بي طلب الشجر، فلما رُحْتُ عليهما بِغَبُوقِهِما وجدتهما نائمين، فلم أوقظهما وكرهت أن أسقي قبلهما أهلاً ومالاً، فلم أزل على ذلك حتى طلع الفجر فاستيقظا وشربا غَبُوقَهما، اللّهم إن كنت تعلم أني فعلت هذا ابتغاء وجهك فَافْرُجْ عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة شيئاً لا يستطيعون الخروج منه . أما الثاني فتوسل بعفَّتِه عن الزنى حيث كانت له ابنة عم يحبها كثيراً وأرادها في نفسها فأبت عليه، ثم أَلَمَّتْ بها حاجة شديدة فجاءت إليه تطلب منه المساعدة فأبى عليها إلا أن تُمَكِّنه من نفسها، فوافقت على هذا من أجل حاجتها، فأعطاها مائة دينار وعشرين ديناراً، فلما جلس بين رجليها قالت له: يا عبد الله اتق الله ولا تَفُضَّ الخاتم إلا بحقِّه، فخاف من الله حينئذ، وقام عنها وترك لها الذهب خوفاً من الله عز وجل . فقال اللّهم: إن كنت تعلم أني فعلت هذا ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة شيئاً لا يستطيعون الخروج منه . ثم قال الثالث: اللّهم إني استأجرت أُجَراء فأعطيت كل واحد أجرته إلا واحداً ترك أجرته فنمَّيتُها له حتى بلغت إبلاً وبقراً وغنماً ورقيقاً؛ فجاء يطلب أُجرته، فقلت له:
__________
(1) …أَغْبِقُ: من الغَبُوق؛ وهو شُرْبُ آخر النهار. أي: ما كُنْتُ أقدِّم عليهما أحدًا في شُرْب نصيبهما من اللبن.(1/28)
كُلُّ هذا من أجرتك؛ يعني الإبل والبقر والغنم والرقيق . فقال: يا عبد الله اتق الله ولا تستهزئ بي، فقلت له: إني لا أستهزئ بك، إنه كله مالك، فساقه كله. اللّهم إن كنت تعلم أني فعلت هذا ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة فخرجوا جميعاً يمشون(1).
وهذا يدل على أن التوسل بالأعمال الصالحة الطيبة أمر مشروع، وأن الله جلّ وعلا يفرج به الكربات كما جرى لهؤلاء الثلاثة . أما التوسل بجاه فلان وبحق فلان أو بذات فلان فهذا غير مشروع؛ بل هو من البدع كما تقدم، والله ولي التوفيق .
الشيخ ابن باز - مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (5/319)
من صور الغلو في النبي - صلى الله عليه وسلم -
قرأت حديثاً ما مدى صحته ؟ وهو: من كان اسمه محمداً فلا تضربه ولا تشتمه !!
هذا الحديث مكذوب وموضوع على الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وليس لذلك أصل في السنة المطهرة، وهكذا قول من قال: من سُمِّى محمداً فإنه له ذمة من محمد، ويوشك أن يدخله بذلك الجنة. وهكذا من قال: من كان اسمه محمداً فإن بيته يكون له كذا وكذا. فكل هذه الأخبار لا أساس لها من الصحة، فالاعتبار باتباع محمد، وليس باسمه - صلى الله عليه وسلم -، فكم ممن سمي محمداً وهو خبيث؛ لأنه لم يتبع محمداً ولم ينقد لشريعته، فالأسماء لا تطهر الناس، وإنما تطهرهم أعمالهم الصالحة وتقواهم لله جل وعلا، فمن تسمى بأحمد أو بمحمد أو بأبي القاسم وهو كافر أو فاسق لم ينفعه ذلك؛ بل الواجب على العبد أن يتقي الله، ويعمل بطاعة الله، ويلتزم بشريعة الله التي بعث بها نبيه محمداً، فهذا هو الذي ينفعه، وهو طريق النجاة والسلامة، أما مجرد الأسماء من دون عمل بالشرع فلا يتعلق به نجاة ولا عقاب، ولقد أخطأ البوصيري في «بُرْدَتِه» حيث قال:
فإنَّ لِي ذِمَّةً منهُ بِتَسْمِيَتِي
محمداً وهو أَوْفَى الخلق بالذِّمَم
وأخطأ خطأ أكبر من ذلك بقوله:
__________
(1) …البخاري (3465)، ومسلم (2743) بمعناه .(1/29)
يا أكرَمَ الخَلْقِ ما لِي من أَلُوذُ بِهِ
سِواكَ عند حُلُولِ الحادِثِ العَمِمِ
إن لَّمْ تَكُنْ في مَعادي آخِذاً بيدي
فَضْلاً وإلا فقُلْ يا زَلَّةَ القَدَمِ
فإن مِن جُودِكَ الدنيا وضَرَّتَها
ومن عُلومِكَ عِلْمَ اللَّوحِ والقلم
فجعل هذا المسكين لياذه في الآخرة بالرسول - صلى الله عليه وسلم - دون الله عز وجل، وذكر أنه هالك إن لم يأخذ بيده، ونسي الله سبحانه الذي بيده الضر والنفع والعطاء والمنع، وهو الذي ينجي أولياءه وأهل طاعته، وجعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو مالك الدنيا والآخرة، وأنها بعض جوده، وجعله يعلم الغيب، وأن من علومه علم ما في اللوح والقلم، وهذا كفر صريح وغلو ليس فوقه غلو، نسأل الله العافية والسلامة .
فإن كان مات على ذلك ولم يتب فقد مات على أقبح الكفر والضلال، فالواجب على كل مسلم أن يحذر هذا الغلو، وألا يغتر بالبردة وصاحبها، والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله .
الشيخ ابن باز - مجموع فتاوى ومقالات متنوعة، (6/370، 371 )
حكم الاعتقاد بوجود الرسول - صلى الله عليه وسلم - في كل مكان وعلمه الغيب
هل يوجد الرسول عليه الصلاة والسلام - في كل مكان ؟ وهل كان يعلم الغيب ؟(1/30)
قد علم من الدين بالضرورة، وبالأدلة الشرعية، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يوجد في كل مكان، وإنما يوجد جسمه في قبره فقط في المدينة المنورة، أما روحه ففي الرفيق الأعلى في الجنة، وقد دل على ذلك ما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال عند الموت: اللَّهُمَّ فِي الرَّفِيقِ الأَعْلَى (1) ثلاثاً، ثم توفي . وقد أجمع علماء الإسلام من الصحابة ومن بعدهم أنه عليه الصلاة والسلام دفن في بيت عائشة رضي الله عنها المجاور لمسجده الشريف، ولم يزل جسمه فيه إلى حين التاريخ، أما روحه وأرواح بقية الأنبياء والمرسلين وأرواح المؤمنين فكلها في الجنة، لكنها على منازل في نعيمها ودرجاتها، حسب ما خص الله به الجميع من العلم والإيمان والصبر على حمل المشاق في سبيل الدعوة إلى الحق .
__________
(1) …البخاري (4437)، ومسلم (87) - (2444) .(1/31)
أما الغيب فلا يعلمه إلا الله وحده، وإنما يعلم الرسول - صلى الله عليه وسلم - وغيره من الخلق من الغيب ما أطلعهم الله عليه مما ورد في القرآن الكريم والسنة المطهرة من بيانه لأمور الجنة والنار وأحوال القيامة وغير ذلك، مما دل عليه القرآن والأحاديث الصحيحة؛ كأخبار الدجال، وطلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة، ونزول المسيح عيسى ابن مريم في آخر الزمان، وأشباه ذلك؛ لقول الله عز وجل في سورة النمل: {قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ *}[النَّمل]، وقوله سبحانه: {قُلْ لاَ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ}[الأنعَام: 50]، وقوله سبحانه في سورة الأعراف: {قُلْ لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ *}[الأعرَاف]، والآيات في هذا المعنى كثيرة .(1/32)
وقد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث ما يدل على أنه لا يعلم الغيب: منها ما ثبت في جوابه لجبريل عليه السلام لما سأله عن السَّاعَةُ قَالَ: مَا الْمَسْؤولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنْ السَّائِلِ . ثم قال: فِي خَمْسٍ لا يَعْلَمُهُنَّ إِلاَّ اللهُ، ثُمَّ تَلا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ}[لقمَان: 34](1) الآية. ومنها: أنه عليه الصلاة والسلام لما رمى أهل الإفك عائشة رضي الله عنها بالفاحشة لم يعلم ببراءتها إلا بنزول الوحي كما في سورة النور. ومنها: أنه لما ضاع عقد عائشة رضي الله عنها في بعض الغزوات لم يعلم - صلى الله عليه وسلم - مكانه، وبعث جماعة في طلبه فلم يجدوه، فلما قام بعيرها وجدوه تحته. وهذا قليل من كثير من الأحاديث الواردة في هذا المعنى .
أما ما يظنه بعض الصوفية من علمه بالغيب وحضوره - صلى الله عليه وسلم - لديهم في أوقات احتفالهم بالمولد وغيره فهو شيء باطل لا أساس له، وإنما قادهم إليه جهلهم بالقرآن والسنة وما كان عليه السلف الصالح . فنسأل الله لنا ولجميع المسلمين العافية مما ابتلاهم به، كما نسأله سبحانه أن يهدينا وإياهم جميعاً صراطه المستقيم؛ إنه سميع مجيب .
الشيخ ابن باز - المجاهد 66/ السنة الثالثة العددان (33) و (34)- محرم / صفر 1412هـ
حكم الاعتراض على الأحكام الشرعية التي شرعها اللّه
رجل يقول إن بعض الأحكام الشرعية تحتاج إلى إعادة نظر، وإنها بحاجة إلى تعديل لكونها لا تناسب تطور هذا العصر، مثال ذلك في الميراث للذكر مثل حظ الأنثيين .. فما حكم الشرع في مثل من يقول هذا الكلام ؟
__________
(1) …البخاري (50)، ومسلم (9) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(1/33)
الأحكام التي شرعها الله لعباده وبينها في كتابه الكريم، أو على لسان رسوله الأمين، عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم، كأحكام المواريث والصلوات الخمس والزكاة والصيام، ونحو ذلك مما أوضحه الله لعباده وأجمعت عليه الأمة، ليس لأحد الاعتراض عليها ولا تغييرها ؛ لأنه تشريع محكم للأمة في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبعده إلى قيام الساعة، ومن ذلك تفضيل الذكر على الأنثى من الأولاد وأولاد البنين والأخوة للأبوين وللأب؛ لأن الله سبحانه قد أوضحه في كتابه الكريم وأجمع عليه علماء المسلمين، فالواجب العمل بذلك عن اعتقاد وإيمان، ومن زعم أن الأصلح خلافه فهو كافر، وهكذا من أجاز مخالفته يعتبر كافراً؛ لأنه معترض على الله سبحانه وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - وعلى إجماع الأمة؛ وعلى ولي الأمر أن يستتيبه إن كان مسلماً، فإن تاب وإلا وجب قتله كافراً مرتداً عن الإسلام؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ(1). نسأل الله لنا ولجميع المسلمين العافية من مضلات الفتن ومن مخالفة الشرع المطهر.
الشيخ ابن باز - مجموع فتاوى ومقالات متنوعة، (2/415)
حكم من أنكر حياة الآخرة
حكم من أنكر حياة الآخرة وزعم أن ذلك من خرافات القرون الوسطى ؟ وكيف يمكن إقناع هؤلاء المنكرين ؟
__________
(1) …البخاري (3017)، (6922).(1/34)
من أنكر حياة الآخرة، وزعم أن ذلك من خرافات القرون الوسطى فهو كافر؛ لقول الله تعالى: {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ *وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ *}[الأنعَام]، وقال تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ *الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ *وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ *إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَْوَّلِينَ *كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ *كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ *ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ *ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ *}[المطفّفِين]، وقال تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا *}[الفُرقان]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ *}[العَنكبوت].
وأما إقناع هؤلاء المنكرين ففيما يأتي:
أولاً: إن أمر البعث تواتر به النقل عن الأنبياء والمرسلين في الكتب الإلهية، والشرائع السماوية، وتلقته أممهم بالقبول، فكيف تنكرونه وأنتم تصدقون بما ينقل إليكم عن فيلسوف أو صاحب مبدأ أو فكرة، وإن لم يبلغ ما بلغه الخبر عن البعث لا في وسيلة النقل، ولا في شهادة الواقع ؟!!
ثانياً: إن أمر البعث قد شهد العقل بإمكانه، وذلك من وجوه:(1/35)
1-…كل أحد لا ينكر أن يكون مخلوقاً بعد العدم، وأنه حادث بعد أن لم يكن، فالذي خلقه وأحدثه بعد أن لم يكن قادر على إعادته بالأَوْلَى؛ كما قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}[الرُّوم: 27]، وقال تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ *}[الأنبيَاء].
2 - كل أحد لا ينكر عظمة خلق السموات والأرض لكبرهما وبديع صنعتهما، فالذي خلقهما قادر على خلق الناس وإعادتهم بالأولى؛ قال الله تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ}[غَافر: 57]، وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ *}[الأحقاف]، وقال تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ *إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ *}[يس].
3 - كل ذي بصر يشاهد الأرض مجدبة ميتة النبات، فإذا نزل المطر عليها أخصبت وحيي نباتها بعد الموت، والقادر على إحياء الأرض بعد موتها قادر على إحياء الموتى وبعثهم، قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَْرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ *}[فُصّلَت].(1/36)
ثالثاً: إن أمر البعث قد شهد الحس والواقع بإمكانه فيما أخبرنا الله تعالى به من وقائع إحياء الموتى، وقد ذكر الله تعالى من ذلك في سورة البقرة خمس حوادث منها: قوله: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ ولِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ *}[البَقَرَة].(1/37)
رابعاً: إن الحكمة تقتضي البعث بعد الموت لتجازى كل نفس بما كسبت، ولولا ذلك لكان خلق الناس عبثاً لا قيمة له، ولا حكمة منه، ولم يكن بين الإنسان وبين البهائم فرق في هذه الحياة؛ قال الله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ *فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ *}[المؤمنون]. وقال الله تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى *}[طه]. وقال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ *لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ *إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ *}[النّحل]. وقال تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ *}[التّغَابُن].
فإذا بينت هذه البراهين لمنكري البعث وأصروا على إنكارهم، فهم مكابرون معاندون، وسيعلم الذي ظلموا أي منقلب ينقلبون .
الشيخ ابن عثيمين - مجموع فتاوى ورسائل، (2/22 - 25)
حكم من يدعي أن سبب تخلف المسلمين هو تمسكهم بدينهم(1/38)
يدعي بعض ضعاف الإيمان أن سبب تخلف المسلمين هو تمسكهم بدينهم، وشبهتهم في ذلك على حدّ زعمهم: هو أن الغرب لما تخلوا عن جميع الدّيانات وتحرروا منها وصلوا إلى ما وصلوا إليه من التقدم الحضاري. وصرنا نحن مع تمسكنا بديننا تابعين لهم، لا متبوعين . وكيف الجواب عن هذه الافتراءات ؟ وربما زادوا شبهتهم بما عند الغرب من الأمطار الكثيرة، والزروع والخضرة .. فيقولون: إن هذا دليل على صحة ما هم عليه !
نقول: إن هذا السؤال ورد من سائل ضعيف الإيمان، أو مفقود الإيمان(1)، جاهل بالتاريخ ؛ غير عالم بأسباب النصر؛ فالأمة الإسلامية لما كانت متمسكة بدينها في صدر الإسلام كان لها العزة والتمكين، والقوة والسيطرة، في جميع نواحي الحياة.
بل إن بعض الناس يقول: إن الغرب لم يستفيدوا مااستفادوه من العلوم إلا مما تلقوه عن المسلمين في صدر الإسلام.
ولكن الأمة الإسلامية تخلفت كثيراً عن دينها، وابتدعت في دين الله ماليس منه عقيدةً، وقولاً، وفعلاً، وحصل بذلك التأخر الكبير والتخلّف الكثير.
__________
(1) …لعل الشيخ لا يقصد من قدم السؤال بل يقصد من أورد السائل دعواهم الكفرية. ثم إن من يقول هذا ليس ضعيف الإيمان بل كافرًا كفرًا بواحًا، نسأل الله العافية.(1/39)
ونحن نعلم علم اليقين، ونشهد الله عز وجل أننا لو رجعنا إلى ما كان عليه أسلافنا في ديننا، لكانت لنا العزة والكرامة والظهور على جميع الناس، ولهذا لما حدّث أبو سفيان هِرَقْلَ ملكَ الروم - والروم في ذلك الوقت تعتبر دولة عظمى - بما كان عليه الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه، قال: إِنْ يَكُنْ مَا تَقُولُ فِيهِ حَقًّا فَإِنَّهُ نَبِيٌّ ... وَلَيَبْلُغَنَّ مُلْكُهُ مَا تَحْتَ قَدَمَيَّ . ولما خرج أبوسفيان وأصحابه من عند هرقل قال: لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ إِنَّهُ لَيَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الأَْصْفَرِ (1) .
__________
(1) …البخاري (7)، (2941)، ومسلم (1773) . ومعنى (أَمِرَ) أي: كبُر وعظُم، و(ابن أبي كبشة) لقب انتقاص كان يطلقه الكفار على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تعييرًا له بأبيه من الرضاعة. قاتلهم الله.(1/40)
وأما ما حصل في الدول الغربية الكافرة الملحدة من التقدم في الصناعات والتكنولوجيا وغيرها، فإن ديننا لا يمنع منه، لو أننا التفتنا إليه ؛ لكن مع الأسف ضيعنا هذا وهذا . وضيعنا ديننا، وضيعنا دنيانا، وإلا فإن الدين الإسلامي لا يعارض هذا التقدم، بل قال الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ}[الأنفَال: 60] وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَْرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ *}[المُلك] وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَْرْضِ جَمِيعًا}[البَقَرَة، من الآية: 29] وقال تعالى: {وَفِي الأَْرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ}[الرّعد، من الآية: 4]. إلى غير ذلك من الآيات التي تعلن إعلاناً ظاهراً للإنسان: أن يكتسب ويعمل وينتفع؛ لكن لا على حساب الدين. فهذه الأمم الكافرة هي كافرة من الأصل، دينها الذي كانت تدعيه دين باطل فهو وإلحادها على حدّ سواء، لا فرق، فالله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِْسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ}[آل عِمرَان، من الآية: 85].(1/41)
وإن كان أهل الكتاب من اليهود والنصارى لهم بعض المزايا التي يخالفون غيرهم فيها، لكنه بالنسبة للآخرة هم وغيرهم سواء ولهذا أقسم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يَسْمَعُ به من هذه الأُمَّة يهوديٌّ ولا نصرانيٌّ، ثم لا يَتَّبِعُ ما جاء به إلا كان من أصحاب النار(1). فهم من الأصل كافرون سواء انتسبوا إلى اليهودية أو النصرانية أم لم ينتسبوا إليها !! وأما ما يحصل لهم من الأمطار وغيرها فهم يصابون بهذا ابتلاء من الله تعالى، وامتحاناً، وتُعَجَّل لهم طيباتهم في الحياة الدنيا. كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر بن الخطاب وقد رآه قد أثر في جنبه حصير، فبكى عمر. فقال: يا رسول الله .. فارس والروم يعيشون فيما يعيشون فيه من النعيم، وأنت على هذه الحال ؟! فقال: أَوَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا(2). ثم إنهم يأتيهم من القحط والبلايا والزلازل والعواصف المدمرة ما هو معلوم، وينشر دائماً في الإذاعات وفي الصحف وفي غيرها.
__________
(1) …مسلم (153) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) …البخاري (2468)، (5191) .(1/42)
ولكن هذا السائل أعمى، أعمى الله بصيرته(1)، فلم يعرف الواقع. ولم يعرف حقيقة الأمر. وإن نصيحتي له أن يتوب إلى الله عز وجل عن هذه التصورات قبل أن يفاجئه الموت، وأن يرجع إلى ربه، وأن يعلم أنه لا عزة لنا ولا كرامة ولا ظهور ولا سيادة إلا إذا رجعنا إلى دين الإسلام، رجوعاً حقيقياً، يصدقه القول والفعل. وأن يعلم أن ما عليه هؤلاء الكفار باطل، ليس بحق وأن مأواهم النار، كما أخبر الله بذلك في كتابه، وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأن هذا الإمداد الذي أمدهم الله به من النعم ما هو إلا ابتلاء، وامتحان، وتعجيل طيبات، حتى إذا هلكوا وفارقوا هذا النعيم إلى الجحيم ازدادت عليهم الحسرة، والألم والحزن. وهذا من حكمة الله عز وجل بتنعيم هؤلاء. على أنهم كما قلت: لم يسلموا من الكوارث التي تصيبهم، ومن الزلازل والقحط والعواصف، والفيضانات وغيرها .
فأسأل الله لهذا السائل الهداية والتوفيق، وأن يرده إلى الحق، وأن يبصرنا جميعاً في ديننا، إنه جواد كريم . والحمد لله رب العالمين. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين .
الشيخ ابن عثيمين - ألفاظ ومفاهيم في ميزان الشريعة، ص: (4-9) حكم من يستغل الإسلام لأغراضه الشخصية
ما قول العلماء الكرام في مَنْ يستغلون الإسلام لتحقيق أغراضهم الشخصية ؟
__________
(1) …انظر التعليق ص (66)، حاشية (1).(1/43)
الإسلام دين الحق مثلما هو معروف - ولله الحمد - كما قال الله تعالى لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - : {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا}[البَقَرَة: 119]. ودين الإسلام أرفع وأعزّ وأعلى من أن يجعله الإنسان غرضاً لوصوله إلى أغراضه الشخصية(1). وأن كل إنسان يدّعي أنه من أنصار الإسلام وحماته فإنه يجب أن تعرض أقواله على أفعاله حتى يتبين أنه صادق في ذلك؛ لأن المنافقين يقولون عن تمسكهم بالإسلام ما إذا سمعهم الرجل قال: هؤلاء هم المؤمنون؛ كما قال الله تبارك وتعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ}[المنَافِقون، من الآية: 1]، ثم قال تعالى {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ *اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *}[المنَافِقون]، إلى أن قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ *}[المنَافِقون].
__________
(1) …أي المادية الدنيوية .(1/44)
فعند المنافقين من البيان والفصاحة ما إذا سمعه الإنسان سمع لقولهم وظن أنهم على حق وصواب ، وعلى كل حال فإنه لا يجوز للإنسان أن يتمسح بالدين الإسلامي لينال مآربه(1)؛ بل عليه أن يتمسك بدين الإسلام لينال ثمراته الجليلة التي منها العزّ والتمكين في الأرض قبل ثواب الآخرة ، قال الله عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَْرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا}[النُّور: 55].
وقال الله عز وجل: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *}[النّحل].
الشيخ ابن عثيمين - مجلة الدعوة . عدد (1288) ، بتاريخ 11/10/1411هـ
حكم من لم يكفِّر الكافر
نريد معرفة حكم من لم يكفر الكافر .
من ثبت كفره وجب اعتقاد كفره والحكم عليه به، وإقامة ولي الأمر حد الردة عليه إن لم يتب، ومن لم يكفِّر من ثبت كفره فهو كافر، إلاَّ أن تكون له شبهة في ذلك، فلا بد من كشفها.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (2/93)
تكفير المُعيَّن وغير المعيَّن
هل من حق العلماء أن يقولوا على شخص ما: إنه كافر، ويتهموه بالكفر ؟
تكفير غير المعين مشروع بأن يقال: من استغاث بغير الله فيما دفعه من اختصاص الله كافر؛ كمن استغاث بنبي من الأنبياء أو ولي من الأولياء أن يشفيه أو يشفي ولده مثلاً.
__________
(1) …أي المادية الدنيوية .(1/45)
وتكفير المعين إذا أنكر معلوماً من الدين بالضرورة؛ كالصلاة، أو الزكاة، أو الصوم بعد البلاغ - واجب، وينصح، فإن تاب وإلاَّ وجب على ولي الأمر قتله كفرًا، ولو لم يشرع تكفير المعين عندما يوجد منه ما يوجب كفره ما أقيم حد على مرتد عن الإسلام.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (2/92)
حكم قتل رجال الأمن ونحوهم
انتشر بين الكثير من الشباب منشورات تفيد جواز قتل رجال الأمن وخاصة «المباحث» - وهي عبارة عن فتوى منسوبة لأحد طلاب العلم - وأنهم في حكم المرتدين .. فنرجو من فضيلتكم بيان الحكم الشرعي في ذلك والأثر المترتب على هذا الفعل الخطير .
هذا مذهب الخوارج؛ فالخوارج قتلوا علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأفضل الصحابة بعد أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فالذي قتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه ألا يقتل رجال الأمن ؟! هذا هو مذهب الخوارج، والذي أفتاهم يكون مثلهم ومنهم - نسأل الله العافية. ورجال المباحث من جنود المسلمين ويعملون على حماية الأمن.
الشيخ الفوزان - الإجابات المهمة (1/94، 95)
بيان هيئة كبار العلماء حول خطورة التسرع في التكفير والقيام بالتفجير وما ينشأ عنهما من سفك للدماء وتخريب للمنشآت
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهُداه، أما بعد:(1/46)
فقد درس مجلس هيئة كبار العلماء في دورته التاسعة والأربعين المنعقدة بالطائف ابتداءً من تاريخ 2/4/1419هـ ما يجري في كثير من البلاد الإسلامية وغيرها من التكفير والتفجير، وما ينشأ عنه من سفك الدماء، وتخريب المنشآت، ونظراً إلى خطورة هذا الأمر، وما يترتب عليه من إزهاق أرواح بريئة، وإتلاف أموال معصومة، وإخافة للناس، وزعزعة لأمنهم واستقرارهم، فقد رأى المجلس إصدار بيان يوضِّح فيه حكم ذلك نُصحاً لله ولعباده، وإبراءً للذمة وإزالة للَّبس في المفاهيم لدى مَن اشتبه عليهم الأمر في ذلك، فنقول وبالله التوفيق:
أولاً: التكفير حكم شرعي، مردّه إلى الله ورسوله، فكما أن التحليل والتحريم والإيجاب إلى الله ورسوله، فكذلك التكفير، وليس كل ما وصف بالكفر من قول أو فعل يكون كفراً أكبر مخرجاً عن الملَّة.
ولما كان مَرَدّ حكم التكفير إلى الله ورسوله؛ لم يَجُز أن نُكَفِّر إلا مَن دَلَّ الكتاب والسُّنَّة على كُفْرِه دلالة واضحة، فلا يكفي في ذلك مجرد الشبهة والظن؛ لِمَا يترتب على ذلك من الأحكام الخطيرة، وإذا كانت الحدود تُدْرَأ بالشبهات، مع أن ما يترتب عليها أقل مما يترتب على التكفير، فالتكفير أولى أن يُدْرَأ بالشبهات؛ ولذلك حذَّر النبي - صلى الله عليه وسلم - من الحكم بالتكفير على شخص ليس بكافر، فقال: أيُّما امرئٍ قال لأَخِيهِ: يا كَافِر، فقد بَاءَ بِهَا أحَدُهُمَا، إِنْ كَانَ كَمَا قَالَ وإِلاَّ رَجَعَتْ عَلَيْه(1). وقد يَرِد في الكتاب والسُّنَّة ما يُفْهم منه أن هذا القول أو العمل أو الاعتقاد كُفْر، ولا يكفَّر مَن اتصف به؛ لوجود مانع يمنع من كفره.
وهذا الحكم كغيره من الأحكام التي لا تتم إلا بوجود أسبابها وشروطها، وانتفاء موانعها كما في الإرث، سببه القرابة - مثلاً - وقد لا يرث بها لوجود مانع كاختلاف الدِّين، وهكذا الكفر يكره عليه المؤمن فلا يكفر به.
__________
(1) …البخاري (6104)، ومسلم (60) واللفظ له.(1/47)
وقد ينطق المسلم بكلمة بالكفر لغلبة فرح أو غضب أو نحوهما فلا يكفر بها لعدم القصد، كما في قصة الذي قال: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ(1).
والتسرُّع في التكفير يترتب عليه أمور خطيرة من استحلال الدم والمال، ومنع التوارث، وفسخ النكاح، وغيرها مما يترتب على الرِّدَّة، فكيف يسوغ للمؤمن أن يُقْدِم عليه لأدنى شبهة.
وإذا كان هذا في وُلاة الأمور كان أشد؛ لما يترتب عليه من التمرُّد عليهم وحمل السلاح عليهم، وإشاعة الفوضى، وسفك الدماء، وفساد العباد والبلاد، ولهذا مَنَعَ النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم مِن منابذتهم، فقال: إِلاَّ أَنْ تَرَوْا كُفْراً بَوَاحاً عِنْدَكُم فِيهِ مِنَ اللهِ بُرْهَان(2). فأفاد قوله: إِلاَّ أَنْ تَرَوْا ، أنه لا يكفي مجرد الظن والإشاعة. وأفاد قوله: كفراً أنه لا يكفي الفسوق ولو كَبُرَ، كالظلم وشرب الخمر ولعب القمار، والاستثمار المحرم. وأفاد قوله: بَوَاحاً أنه لا يكفي الكفر الذي ليس ببواح أي صريح ظاهر، وأفاد قوله: عندكم فيهِ من الله بُرْهان أنه لابد من دليل صريح، بحيث يكون صحيح الثبوت، صريح الدلالة، فلا يكفي الدليل ضعيف السند، ولا غامض الدلالة. وأفاد قوله: من الله أنه لا عبرة بقول أحد من العلماء مهما بلغت منزلته في العلم والأمانة إذا لم يكن لقوله دليل صريح صحيح من كتاب الله أو سُنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. وهذه القيود تدل على خطورة الأمر.
__________
(1) …مسلم (2747).
(2) …البخاري (7056)، ومسلم (1709) قبل (1841).(1/48)
وجملة القول: أن التسرُّع في التكفير له خطره العظيم؛ لقول الله عز وجل: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِْثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ *}[الأعرَاف: 33].
ثانياً: ما نَجَمَ عن هذا الاعتقاد الخاطئ من استباحة الدماء وانتهاك الأعراض، وسلب الأموال الخاصة والعامة، وتفجير المساكن والمركبات، وتخريب المنشآت، فهذه الأعمال وأمثالها محرَّمة شرعاً بإجماع المسلمين؛ لما في ذلك من هتك لحرمة الأنفس المعصومة، وهتك لحرمة الأموال، وهتك لحرمات الأمن والاستقرار، وحياة الناس الآمنين المطمئنين في مساكنهم ومعايشهم، وغدوهم ورواحهم، وهتك للمصالح العامة التي لا غِنى للناس في حياتهم عنها.
وقد حفظ الإسلام للمسلمين أموالهم وأعراضهم وأبدانهم، وحرَّم انتهاكها، وشدَّد في ذلك، وكان من آخر ما بلَّغ به النبي - صلى الله عليه وسلم - أمَّته فقال في خطبة حجة الوداع: إِنَّ دِمَاءَكُمْ وأَمْوَالَكُم وأَعْرَاضَكُم عَلَيْكُم حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هذا، في شَهْرِكُم هذا، في بَلَدِكُم هذا . ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: أَلاَ هَلْ بَلَّغْت ؟ اللهمَّ فَاشْهَدْ (1) متفق عليه. وقال - صلى الله عليه وسلم -: كُلُّ المُسْلِمِ عَلَى المسلم حَرَام، دَمُهُ ومَالُهُ وعِرْضُه(2). وقال عليه الصلاة والسلام: اِتَّقُوا الظُّلْمَ، فإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ القيامة(3).
__________
(1) …البخاري (67، 105، 1738، 1740، 1741، 4403، 4406، 5550، 6043، 6785، 7078، 7447)، ومسلم (1218، 1679).
(2) …مسلم (2564).
(3) …مسلم (2578)، وأحمد (2/92)، والبيهقي في «الكبرى» (11281، 20237). وقد أخرجه البخاري (2447) مختصراً بلفظ: «الظُّلم ظُلُماتٌ يومَ القيامة».(1/49)
وقد توعَّد الله سبحانه مَن قَتَلَ نفساً معصومة بأشد الوعيد، فقال سبحانه في حق المؤمن: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا *}[النِّسَاء: 93]، وقال سبحانه في حق الكافر الذي له ذمة في حكم قتل الخطأ: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}[النِّسَاء: 92]، فإذا كان الكافر الذي له أمان إذا قُتِل خطأً فيه الدية والكفارة، فكيف إذا قُتِل عمداً ؟! فإن الجريمة تكون أعظم، والإثم يكون أكبر. وقد صحَّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: مَن قَتَلَ مُعاهَداً لم يَرَحْ رائِحَةَ الجَنَّة(1).
ثالثاً: إن المجلس إذ يبيِّن حكم تكفير الناس بغير برهان من كتاب الله وسُنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وخطورة إطلاق ذلك، لِمَا يترتب عليه من شرور وآثام، فإنه يُعْلِن للعالَم أن الإسلام بريء من هذا المُعْتَقَد الخاطئ، وأن ما يجري في بعض البلدان مِن سفك للدماء البريئة، وتفجير للمساكن والمركبات والمرافق العامة والخاصة، وتخريب للمنشآت هو عمل إجرامي، والإسلام بريء منه، وهكذا كل مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر بريء منه، وإنما هو تصرُّف مِن صاحِب فكر منحرف، وعقيدة ضالَّة، فهو يحمل إثمه وجرمه، فلا يحتسب عمله على الإسلام، ولا على المسلمين المهتدين بهدي الإسلام، المعتصمين بالكتاب والسُّنَّة، المستمسكين بحبل الله المتين، وإنما هو محض إفساد وإجرام تأباه الشريعة والفطرة؛ ولهذا جاءت نصوص الشريعة قاطعة بتحريمه محذِّرة من مصاحبة أهله:
__________
(1) …البخاري (3166، 6914) بزيادة فيه.(1/50)
قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ *وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَْرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ *وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِْثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ *}[البَقَرَة: 204-206].(1/51)
والواجب على جميع المسلمين في كل مكان التواصي بالحق، والتناصُح والتعاون على البِر والتقوى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن، كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِّرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِْثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[المَائدة: 2]، وقال سبحانه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ *}[التّوبَة: 71]، وقال عزوجل: {وَالْعَصْرِ *إِنَّ الإْنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ *إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ *}[العَصر: 1-3]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: الدِّينُ النَّصِيحَةُ . قيل: لمَن يا رسول الله ؟ قال: لِلَّهِ، ولِكتابِهِ، ولرسولهِ، ولأئمَّةِ المسلمين وعامَّتِهم (1)، وقال عليه الصلاة والسلام: مَثَلُ المؤمنين في توادِّهِم وتَرَاحُمِهِم وَتَعاطُفِهم مَثَلُ الجَسَد، إذا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجسد بالسَّهَرِ والحُمَّى (2)، والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
__________
(1) …مسلم (55)، وعلقه البخاري في كتاب الإيمان، قبل حديث رقم (57).
(2) …البخاري (6011)، ومسلم (2586) واللفظ له.(1/52)
ونسأل الله سبحانه بأسمائه الحُسنى وصفاته العُلى أن يَكُفَّ البأْس عن جميع المسلمين، وأن يُوَفِّق جميع وُلاة أمور المسلمين إلى ما فيه صلاح العباد والبلاد وقمع الفساد والمفسدين، وأن ينصر بهم دينه، ويُعلي بهم كلمته، وأن يُصلِح أحوال المسلمين جميعاً في كل مكان، وأن ينصر بهم الحق، إنه وليُّ ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
هيئة كبار العلماء برئاسة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله مجلة البحوث الإسلامية - عدد (56) ص (357)
حكم الاعتداء على الوافدين والسيَّاح في البلاد الإسلامية
س1 : يظن البعض من الشباب أن مجافاة الكفار - ممن هم مستوطنون في البلاد الإسلامية أو من الوافدين إليها - من الشرع، ولذلك البعض يستحل قتلهم وسلبهم إذا رأوا منهم ما ينكرون ؟!
ج1 : «لا يجوز قتل الكافر المستوطن أو الوافد المستأمن الذي أدخلته الدولة آمنًا، ولا قتل العصاة ولا التعدي عليهم؛ بل يحالون فيما يحدث منهم من المنكرات للحكم الشرعي، وفيما تراه المحاكم الشرعية الكفاية».
س2 : ما حكم الاعتداء على الأجانب والسيَّاح والزوار في البلاد الإسلامية ؟
ج2 : «هذا لا يجوز، الاعتداء لا يجوز على أي أحد؛ سواء كانوا سياحًا أو عمالاً ؛ لأنهم مستأمنون، دخلوا بالأمان، فلا يجوز الاعتداء عليهم، ولكن تُناصح الدولة حتى تمنعهم مما لا ينبغي إظهاره، أما الاعتداء عليهم فلا يجوز، أما أفراد الناس فليس لهم أن يقتلوهم أو يضربوهم أو يؤذوهم ؛ بل عليهم أن يرفعوا الأمر إلى ولاة الأمور ؛ لأن التعدي عليهم تعد على أناس قد دخلوا بالأمان، فلا يجوز التعدي عليهم، ولكن يُرفع أمرهم إلى من يستطيع منع دخولهم أو منعهم من ذلك المنكر الظاهر.
أما نصيحتهم ودعوتهم إلى الإسلام أو إلى ترك المنكر إن كانوا مسلمين فهذا مطلوب، وتدعمه الأدلة الشرعية، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه».(1/53)
الشيخ ابن باز - كلمات مضيئة لأصحاب الفضيلة العلماء في الإرهاب (ص110- 112) - جمع : عمرو عبدالمنعم سليم
حرمة القيام بالأعمال التخريبية في البلاد الإسلامية وغير الإسلامية
هل القيام بالاغتيالات وعمل التفجيرات في المنشآت الحكومية في بلاد الكفار ضرورة وعمل جهادي ؟ جزاكم الله خيرًا .
«لا؛ هذا لا يجوز، الاغتيالات والتخريب هذا أمرٌ لا يجوز؛ لأنه يجر على المسلمين شرًا ويجر على المسلمين تقتيلاً وتشريدًا.
هذا أمر لا يجوز، إنما المشروع مع الكفار الجهاد في سبيل الله، ومقابلتهم في المعارك إذا كان عند المسلمين استطاعة يجهزون الجيوش ويغزون الكفار ويقاتلونهم كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، أما التخريب والاغتيالات فهذا يجر على المسلمين شرًا.
الرسول - صلى الله عليه وسلم - يوم كان في مكة قبل الهجرة كان مأمورًا بكف اليد : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}[النِّسَاء: 77].
مأمورًا بكف اليد عن قتال الكفار؛ لأنه ما عندهم استطاعة لقتال الكفار، ولو قتلوا أحدًا من الكفار لقتلهم الكفار عن آخرهم، واستأصلوهم عن آخرهم؛ لأنهم أقوى منهم، وهم تحت وطأتهم وشوكتهم.
فالاغتيال يسبب قتل المسلمين الموجودين في البلد مثل ما تشاهدون الآن وتسمعون، هذا ليس من أمور الدعوة، ولا هو من الجهاد في سبيل الله، هذا يجر على المسلمين شرًا، كذلك التخريب والتفجيرات، هذه تجر على المسلمين شرًا كما هو حاصل، فلما هاجر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكان عنده جيش وعنده أنصار حينئذ أمر بالجهاد، أمر بجهاد الكفار.
هل الرسول - صلى الله عليه وسلم - والصحابة يوم كانوا في مكة، هل كانوا يُقتِّلُون في الكفار ؟ أبدًا ؛ بل كانوا منهيِّين عن ذلك.(1/54)
هل كانوا يخربون أموال الكفار وهم في مكة ؟ أبدًا كانوا منهيين عن ذلك ؛ مأمورًا بالدعوة والبلاغ فقط، أما الإلزام والقتال هذا إنما كان في المدينة، لما صار للإسلام دولة».
الشيخ الفوزان - كلمات مضيئة لأصحاب الفضيلة العلماء في الإرهاب (ص113، 114) - جمع : عمرو عبدالمنعم سليم حكم من يقول: توكلت على اللّه واستجرت برسول اللّه
ما رأيكم فيمن يقول: توكلتُ على الله، واعتصمتُ بالله، واستجرتُ برسول الله ؟
أما قول القائل: آمنت بالله وتوكلت على الله واعتصمت بالله، فهذا ليس فيه بأس، وهذه حال كل مؤمن أن يكون متوكلاً على الله مؤمناً به معتصماً به.
وأما قوله: (واستجرت برسول الله - صلى الله عليه وسلم -) فإنها كلمة منكرة، والاستجارة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد موته لا تجوز . أما الاستجارة به في حياته في أمر يقدر عليه فهي جائزة؛ قال اللّه تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ}[التّوبَة، من الآية: 6]. فالاستجارة بالرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد موته شرك أكبر . وعلى من سمع أحداً يقول مثل هذا الكلام أن ينصحه، لأنه قد يكون سمعه من بعض الناس وهو لا يدري ما معناها، وأنت يا أخي إذا أخبرته وبينت له أن هذا شرك فلعل الله أن ينفعه على يدك . والله الموفق .
الشيخ ابن عثيمين - فتاوى العقيدة، ص: (217، 218)
حكم الدعوة إلى حرية الفكر
نسمع ونقرأ كلمة : (( حرية الفكر )) وهي دعوة إلى حرّية الاعتقاد؛ فما تعليقكم على ذلك ؟
تعليقنا على ذلك أن الذي يجيز أن يكون الإنسان حرّ الاعتقاد، يعتقد ما شاء من الأديان فإنه كافر؛ لأن كل من اعتقد أن أحداً يسوغ له أن يتديّن بغير دين محمد - صلى الله عليه وسلم -، فإنه كافر بالله عز وجل يستتاب، فإن تاب وإلا وجب قتله .(1/55)
والأديان ليست أفكاراً، ولكنها وحي من الله عز وجل ينزله على رسله، ليسير عباده عليه، وهذه الكلمة - أعني: كلمة (فكر) التي يقصد بها الدين - يجب أن تحذف من قواميس الكتب الإسلامية؛ لأنها تؤدي إلى هذا المعنى الفاسد، وهو أن يقال عن الإسلام: فكر، والنصرانية فكر، واليهودية فكر - وأعني بالنصرانية التي يسميها أهلها بالمسيحية - فيؤدي إلى أن تكون هذه الشرائع مجرد أفكار أرضية يعتنقها من شاء من الناس، والواقع أن الأديان السماوية أديان سماوية من عند الله عز وجل يعتقدها الإنسان على أنها وحي من الله تعبّد بها عباده، ولا يجوز أن يُطلق عليها فكر .
وخلاصة الجواب: أن من اعتقد أنه يجوز لأحد أن يتدين بما شاء وأنه حرّ فيما يتدين به فإنه كافر بالله عز وجل؛ لأن الله تعالى يقول: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِْسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ}[آل عِمرَان، من الآية: 85]، ويقول: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِْسْلاَمُ}[آل عِمرَان، من الآية: 19]. فلا يجوز لأحد أن يعتقد أن ديناً سوى الإسلام جائز، يجوز للإنسان أن يتعبد به، بل إذا اعتقد هذا فقد صرّح أهل العلم بأنه كافر كفراً مخرجاً عن الملة .
الشيخ ابن عثيمين - مجموع فتاوى ورسائل (3/99-100)
حكم من يقول: إن أصحاب الإعاقات والأمراض المزمنة مظلومون
بعض الناس يقول: إن المعوّقين وأصحاب الأمراض المزمنة مظلومون لأن من حقهم أن يعيشوا كبقية الأصحاء ولكن الزمن قسا عليهم. وما حكم الشرع في نظرك فيمن يقول هذا القول وأمثاله ؟ جزاكم الله خيراً .(1/56)
ما ذكره السائل من اعتراض بعض الناس على القضاء والقدر وأن ما أصابهم فهو ظلم، فإن هذا إذا اعتقده السائل على ظاهره كفرٌ وردة ؛ لأنه اعتراض على رب العالمين، والله سبحانه وتعالى له ملك السموات والأرض يفعل ما يشاء ولا اعتراض لأحد عليه . يحكم لا معطل لحكمه، وربما يكون هذا الذي أصاب هؤلاء المعوّقين ربما يكون خيراً لهم، فإن الإنسان إذا أُصيب بمصيبة كان خيراً له إذا صبر وإذا احتسب أجر الله، أثيب عليها، والمصائب تُكفِّر الذنوب في حد ذاتها، ثم إن صبر الإنسان واحتسب الأجر على الله صار من الصابرين، وقد قال الله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}[الزُّمَر: 10] وكذلك أيضاً يقول سبحانه وتعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَْمْوَالِ وَالأَْنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ *الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ *أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ *}[البَقَرَة].
الشيخ ابن عثيمين - عليها توقيعه
حكم قول: باسم الشعب، باسم العروبة، باسم الوطن
ما حكم هذه العبارات (( باسم الوطن، باسم الشعب، باسم العروبة )) ؟
هذه العبارات إذا كان الإنسان يقصد بذلك أنه يعبر عن العرب، أو يعبر عن أهل البلد فهذا لا بأس به، وإن قصد التبرك والاستعانة فهو نوع من الشرك، وقد يكون شركاً أكبر؛ بحسب ما يقوم في قلب صاحبه من التعظيم بما استعان به.
الشيخ ابن عثيمين - مجموع فتاوى ورسائل (3/88)
حكم العذر بالجهل في العقيدة
ما رأي سماحتكم في مسألة العذر بالجهل، وخاصة في أمر العقيدة ؟ وضحوا لنا هذا الأمر جزاكم الله خيرًا ؟(1/57)
العقيدة أهم الأمور وهي أعظم واجب، وحقيقتها: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، والإيمان بأنه سبحانه هو المستحق للعبادة، والشهادة له بذلك وهي شهادة أن لا إله إلا الله يشهد المؤمن بأنه لا معبود حق إلا الله سبحانه وتعالى، والشهادة بأن محمدًا رسول الله أرسله الله إلى الثقلين الجن والإنس، وهو خاتم الأنبياء. كل هذا لا بد منه، وهذا من صلب العقيدة، فلا بد من هذا في حق الرجال والنساء جميعًا، وهو أساس الدين وأساس الملة. كما يجب الإيمان بما أخبر الله به ورسوله من أمر القيامة، والجنة والنار، والحساب والجزاء، ونشر الصحف، وأخذها باليمين أو الشمال، ووزن الأعمال ... إلى غير ذلك مما جاءت به الآيات القرآنية والأحاديث النبوية.(1/58)
فالجهل بهذا لا يكون عذرًا؛ بل يجب عليه أن يتعلم هذا الأمر وأن يتبصر فيه، ولا يعذر بقوله إني جاهل بمثل هذه الأمور، وهو بين المسلمين وقد بلغه كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، وهذا يسمى معرضًا، ويسمى غافلاً ومتجاهلاً لهذا الأمر العظيم، فلا يعذر، كما قال الله سبحانه: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَْنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً *}[الفُرقان] وقال سبحانه: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِّنِ وَالإِْنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَْنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ *}[الأعرَاف]، وقال تعالى في أمثالهم: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ *}[الأعرَاف] إلى أمثال هذه الآيات العظيمة التي لم يعذر فيها سبحانه الظالمين بجهلهم وإعراضهم وغفلتهم.(1/59)
أما من كان بعيدًا عن المسلمين في أطراف البلاد التي ليس فيها مسلمون ولم يبلغه القرآن والسنة: فهذا معذور، وحكمه حكم أهل الفترة - إذا مات على هذه الحالة - الذين يمتحنون يوم القيامة، فمن أجاب وأطاع الأمر دخل الجنة ومن عصا دخل النار، أما المسائل التي قد تخفى في بعض الأحيان على بعض الناس كبعض أحكام الصلاة أو بعض أحكام الزكاة أو بعض أحكام الحج، هذه قد يعذر فيها بالجهل. ولا حرج في ذلك؛ لأنها تخفى على كثير من الناس وليس كل واحد يستطيع الفقه فيها، فأمر هذه المسائل أسهل. والواجب على المؤمن أن يتعلم ويتفقه في الدين ويسأل أهل العلم، كما قال الله سبحانه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}[النّحل: 43]، ويروى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال لقوم أفتوا بغير علم: أَلاَّ سَأَلُوا إذْ لَمْ يَعْلَمُوا؛ إنما شفاء العِيِّ السؤال (1)، وقال عليه الصلاة والسلام: مَن يُرِد الله به خيرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّين(2). فالواجب على الرجال والنساء من المسلمين التفقه في الدين؛ والسؤال عما أشكل عليهم، وعدم السكوت على الجهل، وعدم الإعراض، وعدم الغفلة؛ لأنهم خلقوا ليعبدوا الله ويطيعوه سبحانه وتعالى ولا سبيل إلى ذلك إلا بالعلم، والعلم لا يحصل بالغفلة والإعراض؛ بل لا بد من طلب للعلم، ولا بد من السؤال لأهل العلم حتى يتعلم الجاهل.
الشيخ ابن باز - مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (9/398)
حكم من أوصله اجتهاده إلى مخالفة أمر معلوم من الدين بالضرورة
__________
(1) …أحمد (1/330)، والدارمي (752)، وأبو داود (336، 337)، وابن ماجه (572)، والحاكم 1/178 (630، 631). وحسنه الألباني في «صحيح أبي داود» (325، 326). والعِيّ: الجَهْل .
(2) …البخاري (69)، ومسلم (1719) .(1/60)
يقول بعض متديني الشباب المعاصر: إن جميع أو غالب من يقع في الشرك في العالم الإسلامي اليوم ليس مشركًا؛ لأنه إما عالم جليل أوصله اجتهاده إلى جواز مثل الاستغاثة بغير الله؛ كما فعل السيوطي، والنبهاني وغيرهما، وهذا له أجران: أجر إذا أصاب، وواحد إذا أخطأ، وإما عامي مقلد، وهذا فعل أقصى ما يستطيع.
المخطئ المعذور من أخطأ في المسائل النظرية الاجتهادية لا من أخطأ فيما ثبت بنص صريح، ولا فيما هو معلوم من الدين بالضرورة.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (2/39)
المسلمون لا يحكمون على غيرهم بأنهم في النار إلا بشرط
أسلمت حديثًا إحدى الشابات البوذيات المثقفات بعد دراسة عميقة للإسلام استمرت سبع سنوات، وهي الآن نشطة في الدعوة للإسلام، ولقد أسلم على يديها بعض الأفراد من رجال ونساء، وفي إحدى جولاتها مع بعض الذين اهتدوا للتعريف بالإسلام والدعوة إليه في إحدى المناطق النائية وجه إليها أحد البوذيين هذا السؤال: كيف تحكمون بدخول النار لغير المسلم بينما نحن في هذه المنطقة لم نسمع عن الإسلام إلا الآن .. فهل آباؤنا في النار ؟ وما ذنبهم طالما أنكم معشر المسلمين لم تبلغوا دين الحق إلينا ؟ ولقد اتصلت بنا هذه الأخت المهتدية وتريد منا جواباً شافياً على سؤال الرجل الذي دخل في الإسلام بعد هذا اللقاء .(1/61)
المسلمون لا يحكمون على غيرهم بأنهم في النار إلَّا بشرط وهو: أن يكونوا قد بلغهم القرآن أو بيان معناه من دعاة الإسلام بلغة المدعوين؛ لقول الله عز وجل: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}[الأنعَام: 19]، وقوله سبحانه: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}[الإسرَاء: 15] فمن بلغته الدعوة الإسلامية من غير المسلمين وأصر على كفره فهو من أهل النار؛ لما تقدم من الآيتين، ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم - والذي نَفْسِي بيدِهِ لا يسمعُ بِي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرْسِلتُ به إلاَّ كان من أهل النار (1) خرجه مسلم في صحيحه. والأدلة في هذا المعنى من الآيات والأحاديث كثيرة. أما الذين لم تبلغهم الدعوة على وجه تقوم به الحجة عليهم فأمرهم إلى الله عز وجل، والأصح من أقوال أهل العلم في ذلك: أنهم يمتحنون يوم القيامة فمن أطاع الأوامر دخل الجنة ومن عصى دخل النار، وقد أوضح هذا المعنى الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره(2) لقول الله عز وجل: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}[الإسرَاء: 15]، والعلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه [طريق الهجرتين](3) في آخره تحت عنوان (طبقات المكلفين) فنرى لك مراجعة الكتابين لمزيد الفائدة.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (2/95)
حكم أهل الفترة
رجلان اختلفا في أهل الفترة؛ فقال الأول: إنهم ناجون، وقال الآخر: إنهم غير ناجين ؟
__________
(1) …أحمد (2/317، 350) و(4/396، 398)، ومسلم (153).
(2) …تفسير ابن كثير (3/29-33) .
(3) …ص (570) وما بعدها، عند الكلام على الطبقة الرابعة عشرة.(1/62)
إن من بلغته الدعوة للإسلام ممن كان قبله أو في زمنه ولم يُجِب ومات على ذلك فهو من أهل النار، ومن لم تبلغه الدعوة فإنه يمتحن يوم القيامة، كما صحت في ذلك السنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (3/363) حكم من مات ولم تبلغه دعوة الإسلام
هل من مات من النصارى وهو لم يسمع عن الدين الإسلامي من أهل النار ؟ وما الحكم إذا كان قد سمع أخبارًا غير صحيحة عن الدين الإسلامي ومات على حاله ولم يسلم بسبب ما سمع ؟(1/63)
من لم تبلغه الدعوة ولم يسمع بالإسلام أصلاً فحكمه حكم أهل الفترات الذين لم يبعث إليهم رسول ولم يصل إليهم خبر الرسالة، والصحيح فيهم أنهم يختبرون في الآخرة ؛ فروى أحمد في (المسند) عن الأسود بن سريع رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : «أربعةٌ يَحْتَجُّونَ يوم القيامة، رجل أَصَم، ورجل أحمقُ، ورجل هَرِمٌ، ورجل مات في الفترة، ... فَيَأْخُذُ مَوَاثِيقَهم لَيُطِيعُنَّ؛ فيرسل إليهم أن ادخلوا النار فلو دخلوها لكانت عليهم بَرْدًا وسلامًا»(1). وفي حديث عنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال في آخره : «فمَنْ دَخَلَهَا كانت عليه بَرْدًا وسلامًا، ومن لم يَدْخُلْهَا سُحِبَ إليها»(2) . وفي مسند أبي يعلى عن أنس مرفوعًا : «يُؤْتَى بأربعة يومَ القيامة: بالمولود وبالمَعْتُوهِ وبمَنْ مات في الفَتْرَةِ والشيخ الفَانِي، كُلُّهم يتكلم بحُجَّتِه، فيقول الرب تعالى لعُنُقٍ من النار(3): ابْرُزْ، فيقول لهم : إني كنتُ أبعثُ إلى عبادي رُسُلاً من أنفسهم، وإني رسولُ نفسِي إليكم، اُدْخُلُوا هذه. فيقولُ مَن كُتِبَ عليه الشقاء: يا ربّ أينَ ندخُلَها ومنها كُنَّا نَفِرّ ؟! ومن كُتِبَتْ عليه السعادة يمضي فَيَتَقَحَّمُ فيها مُسْرِعًا؛ فيقولُ تبارك وتعالى: أنتم لِرُسُلِي أشدُّ تكذيبًا ومعصية، فيُدخِلُ هؤلاء الجنةَ وهؤلاء النار»(4) . وقد وردت فيهم أحاديث
__________
(1) …أحمد (4/24)، وابن حبان (7357)، والطبراني في «الكبير» (841) وآخرون. وصححه الألباني في «صحيح الجامع» رقم (881)، و«السلسلة الصحيحة» رقم (1434).
(2) …أحمد (4/24) بعد الحديث السابق. وصححه الألباني في «صحيح الجامع» رقم (881)، و«السلسلة الصحيحة» رقم (1434).
(3) …أي: لقطعةٍ أو طائفة منها.
(4) …أبو يعلى في «مسنده» (4224). قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (7/216) : «رواه أبو يعلى والبزار بنحوه، وفيه ليث بن أبي سليم وهو مدلس، وبقية رجال أبي يعلى رجال الصحيح».(1/64)
ذكرها ابن كثير(1) عند قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}[الإسرَاء: 15]، وذكرها ابن القيم في (طريق الهجرتين) في طبقات المكلفين(2).
ولا شك أن دين الإسلام قد انتشر في أول ظهوره وسمع به أهل المشرق والمغرب وبلغ ما بلغه الليل والنهار؛ فلا عذر لمن سمع به وعاند ولم يقبله، ولا عذر أيضًا لمن سمع أخبارًا سيئة عن الإسلام والمسلمين؛ فإن عليه أن يبحث ويسأل، فإذا لم يفعل مع القدرة اعتبر مخلاًّ بالواجب عليه، والله أعلم.
الشيخ ابن جبرين - فتاوى وأحكام في نبي الله عيسى عليه السلام ص (79، 80) - اعتنى بها : علي العماري
حكم أبناء الكفار
ما مصير أبناء الكفار يوم القيامة ؟
الصحيح من أقوال العلماء: أن الله تعالى يمتحنهم يوم القيامة فمن أطاع فهو من أهل الجنة ومن عصى فهو من أهل النار، وفي هذا تفسير لقوله - صلى الله عليه وسلم - الله أَعْلَمُ بِمَا كانوا عَامِلِين (3)؛ جوابًا لمن سأله عن أولاد الكفار.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (3/365) حكم من توفي صغيرا
يقال : إن المولود عندما يولد يكتب على جبينه سعيد أم شقي، فما هو الحكم على من يتوفى وهو صغير لم يحظ بالسعادة ولا الشقاوة ؟
__________
(1) …انظر تفسير ابن كثير (3/29- 33).
(2) …انظر كتاب «طريق الهجرتين» ص (570) وما بعدها.
(3) …البخاري (1383، 1384، 6597، 6598)، ومسلم (2659، 2660).(1/65)
هذا حكمه في الدنيا حكم أهله، فإن كان بين المسلمين غسل وصلى عليه وله حكمهم في الآخرة، أما إن كان بين المشركين فحكمه حكمهم في الدنيا فلا يغسل ولا يصلى عليه؛ لأنه تبعهم؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيمن يقتل من أولاد المشركين: هُمْ مِنْهُم(1). أما في الآخرة فأمرهم إلى الله؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سئل عن أولاد المشركين قال: اللهُ أعلَمُ بما كانوا عَامِلِين(2).
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (3/365)
تأثير الكبائر في إيمان العبد
ما حكم ارتكاب بعض المعاصي لا سيما الكبائر ؟ وهل يؤثر ذلك في تمسك العبد بالإسلام ؟
نعم؛ يؤثر ذلك فإن ارتكاب الكبائر كالزنا وشرب الخمر وقتل النفس بغير حق وأكل الربا والغيبة والنميمة وغير ذلك من المعاصي يؤثر في توحيد الله والإيمان به ويضعفه، ولكن لا يكفر المسلم بشيء من ذلك ما لم يستحله؛ خلافاً للخوارج فإنهم يكفرون المسلم بفعل المعصية كالزنا والسرقة وعقوق الوالدين وغير ذلك من كبائر الذنوب ولو لم يستحلها، وهذا غلط عظيم من الخوارج، فأهل السنة والجماعة لا يكفرونه بذلك ولا يخلدونه في النار، ولكنهم يقولون : هو ناقص الإيمان والتوحيد، لكن لا يكفر كفراً أكبر بل يكون في إيمانه نقص وضعف .
ولهذا شرع الله في حق الزاني الحد بالجلد إذا كان بكراً يجلد مائة جلدة ويُغرَّب عاماً، وهكذا شارب المسكر يجلد ولا يقتل، وهكذا السارق تقطع يده ولا يقتل . فلو كان الزنا وشرب المسكر والسرقة توجب الكفر الأكبر لقتلوا؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ(3).
__________
(1) …البخاري (3012، 3013)، ومسلم (1745).
(2) …البخاري (1383، 1384، 6597)، ومسلم (2659، 2660).
(3) …البخاري (3017) .(1/66)
فدل ذلك على أن هذه المعاصي ليست ردة ولكنها تضعف الإيمان وتنقصه؛ فلهذا شرع الله تأديبهم بهذه الحدود ليتوبوا ويرجعوا إلى ربهم ويرتدعوا عما حرم عليهم ربهم سبحانه .
وقالت المعتزلة : إن العاصي في منزلة بين منزلتين ولكنه يخلد في النار إذا مات عليها، فخالفوا أهل السنة ووافقوا الخوارج في ذلك، وكلتا الطائفتين قد ضلت عن السبيل . والصواب هو القول الأول، وهو قول أهل السنة والجماعة، وهو أنه يكون عاصياً ضعيف الإيمان وعلى خطر عظيم من غضب الله وعقابه، ولكنه ليس بكافر الكفر الأكبر الذي هو الردة عن الإسلام، ولا يخلد في النار أيضاً خلود الكفار إذا مات على شيء منها،بل يكون تحت مشيئة الله إن شاء غفر له وإن شاء عذبه على قدر المعاصي التي مات عليها ثم يخرجه من النار . ولا يخلد فيها أبد الآباد إلا الكفار، ثم بعد مضي ما حكم الله عليه من العذاب يخرجه الله من النار إلى الجنة. وهذا قول أهل الحق، وهذا هو الذي تواترت به الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلافاً للخوارج والمعتزلة؛ والله يقول: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}[النِّسَاء: 48] فعلق سبحانه ما دون الشرك على مشيئته عز وجل .
أما من مات على الشرك الأكبر فإنه يخلد في النار، والجنة عليه حرام؛ لقول الله سبحانه : {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}[المَائدة: 72] وقال سبحانه : {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ *}[التّوبَة: 17] والآيات في هذا المعنى كثيرة .(1/67)
أما العاصي إذا دخل النار فيبقى فيها إلى ما يشاء الله، ولا يخلد خلود الكفار، ولكن قد تطول مدته . ويكون هذا خلوداً خاصاً مؤقتاً ليس مثل خلود الكفار؛ كما قال سبحانه في آية الفرقان لما ذكر المشرك والقاتل والزاني - قال سبحانه: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا *يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا *}[الفُرقان] فهو خلود مؤقت له نهاية. أما المشرك فخلوده دائم أبد الآباد؛ ولهذا قال عزّ وجل في حق المشركين في سورة البقرة : {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ}[البَقَرَة: 167]، وقال سبحانه في سورة المائدة في حق الكفرة : {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ *}[المَائدة: 37].
الشيخ ابن باز - مجلة البحوث، عدد رقم (41)، ص : (132 - 134)
بيان اللجنة الدائمة في التحذير من مذهب الإرجاء، وتحقيق النقل عن شيخ الإسلام فيه
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده .. وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما ورد إلى سماحة المفتي العام من عدد من المستفتين، المقيَّدة استفتاءاتُهم بالأمانة العامة لهيئة كبار العلماء، برقم (5411) وتاريخ 7/11/1420هـ. ورقم (1026) وتاريخ 17/2/1421هـ. ورقم (1016) وتاريخ 7/2/1421هـ. ورقم (1395) وتاريخ 8/3/1421هـ. ورقم (1650)، وتاريخ 17/3/1421هـ. ورقم (1893) وتاريخ 25/3/1421هـ. ورقم (2106) وتاريخ 7/4/1421هـ. وقد سأل المستفتون أسئلة كثيرة مضمونها:(1/68)
(ظهرت في الآونة الأخيرة فكرة الإرجاء بشكل مخيف، وانبرى لترويجها عدد كثير من الكتاب، يعتمدون على نقولات مبتورة من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية؛ مما سبب ارتباكًا عند كثير من الناس في مسمى الإيمان، حيث يحاول هؤلاء الذين ينشرون هذه الفكرة أن يُخرجوا العملَ عن مُسمَّى الإيمان، ويرون نجاة من ترك جميعَ الأعمال، وذلك مما يُسهِّل على الناس الوقوع في المنكرات وأمور الشرك وأمور الردة، إذا علموا أن الإيمان متحقّقق لهم، ولو لم يؤدوا الواجبات ويتجنُّبوا المحرمات ولو لم يعملوا بشرائع الدين بناء على هذا المذهب.
ولا شك أن هذا المذهب له خطورته على المجتمعات الإسلامية وأمور العقيدة والعبادة، فالرجاء من سماحتكم بيان حقيقة هذا المذهب، وآثاره السيئة، وبيان الحق المبنيِّ على الكتاب والسنة، وتحقيق النقل عن شيخ الإسلام، حتى يكون المسلم على بصيرة من دينه، وفقكم الله وسدد خطاكم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته).
وبعد دراسة اللجنة للاستفتاء أجابت بما يلي:
هذه المقالة المذكورة هي: مقالة المرجئة الذين يخرجون الأعمال عن مسمى الإيمان، ويقولون: الإيمان هو التصديق بالقلب، أو التصديق بالقلب والنطق باللسان فقط، وأما الأعمال فإنها عندهم شرط كمال فيه فقط وليست منه، فمن صدَّق بقلبه، ونطقَ بلسانه؛ فهو مؤمن كامل الإيمان عندهم، ولو فعل ما فعل من ترك الواجبات وفعل المحرمات، ويستحق دخول الجنة ولو لم يعمل خيرًا قط، ولزم على ذلك الضلال لوازم باطلة؛ منها: حصر الكفر بكفر التكذيب والاستحلال القلبي، ولا شك أن هذا قول باطل وضلال مبين، مخالف للكتاب والسنة، وما عليه أهل السنة والجماعة سلفًا وخلفًا، وأن هذا يفتح بابًا لأهل الشر والفساد، للانحلال من الدين، وعدم التقيد بالأوامر والنواهي، والخوف والخشية من الله سبحانه.(1/69)
ويعطل جانب الجهاد في سبيل الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويسوي بين الصالح والطالح، والمطيع والعاصي، والمستقيم على دين الله، والفاسق المتحلل من أوامر الدين ونواهيه، ما دام أن أعمالهم هذه لا تُخِل بالإيمان كما يقولون.
ولذلك اهتم أئمة الإسلام - قديمًا وحديثًا - ببيان بطلان هذا المذهب، والرد على أصحابه، وجعلوا لهذه المسألة بابًا خاصًا في كتب العقائد، بل ألفوا فيها مؤلفات مستقلة، كما فعل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وغيره.
قال شيخ الإسلام رحمه الله في «العقيدة الواسطية»(1): (ومن أصول أهل السنة والجماعة: أن الدين والإيمان قول وعمل. قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح، وأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية).
وقال في كتاب الإيمان : (ومن هذا الباب أقوال السلف وأئمة السنة في تفسير الإيمان، فتارة يقولون: هو قول وعمل، وتارة يقولون: هو قول وعمل ونية، وتارة يقولون: قول وعمل ونية واتباع السنة، وتارة يقولون: قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح، وكل هذا صحيح)(2).
وقال رحمه الله(3): (والسلف اشتد نكيرهم على المرجئة لما أخرجوا العمل من الإيمان، ولا ريب أن قولهم بتساوي إيمان الناس من أفحش الخطأ، بل لا يتساوى الناس في التصديق ولا في الحب ولا في الخشية ولا في العلم، بل يتفاضلون من وجوه كثيرة).
وقال رحمه الله(4): (وقد عدلت المرجئة في هذا الأصل عن بيان الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين لهم بإحسان، واعتمدوا على رأيهم وعلى ما تأولوه بفهمهم للغة، وهذه طريقة أهل البدع) انتهى.
__________
(1) …«العقيدة الواسطية» ص (39).
(2) …«كتاب الإيمان» ص (162).
(3) …«كتاب الإيمان الأوسط» ص (447). أو «مجموع الفتاوى» (7/555، 556).
(4) …«كتاب الإيمان» ص (113، 114).(1/70)
ومن الأدلة على أن الأعمال داخلةٌ في حقيقة الإيمان، وعلى زيادته ونقصانه بها، قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ *الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ *أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ *}[الأنفَال: 2-4]، وقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ *الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ *وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ *وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ *وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ *إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ *فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ *وَالَّذِينَ هُمْ لأَِمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ *وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ *}[المؤمنون]، وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: الإيمان بِضْعٌ وسبعونَ شُعْبَة؛ أعلاها قولُ: لا إله إلا الله. وأدْنَاها إِماطَةُ الأذى عن الطريق. والحياءُ شعبةٌ من الإيمان(1).
قال شيخ الإسلام رحمه الله في «كتاب الإيمان» أيضًا(2): (وأصل الإيمان في القلب، وهو قول القلب وعمله. وهو إقرار بالتصديق والحب والانقياد. وما كان في القلب فلا بد أن يظهر موجبه ومقتضاه على الجوارح. وإذا لم يعمل بموجبه ومقتضاه دلَّ على عدمه أو ضعفه. ولهذا كانت الأعمال الظاهرة من موجب إيمان القلب ومقتضاه، وهي تصديق لما في القلب، ودليل عليه وشاهد له، وهي شعبة من الإيمان المطلق وبعضٌ له).
__________
(1) …مسلم (35).
(2) …انظر: «مجموع الفتاوى» (7/644).(1/71)
وقال أيضًا(1): (بل كل من تأمل ما تقوله الخوارج والمرجئة في معنى الإيمان، عَلِم بالاضطرار أنه مخالف للرسول، ويعلم بالاضطرار أن طاعة الله ورسوله من تمام الإيمان، وأنه لم يكن يجعل كل من أذنب ذنبًا كافرًا. ويعلم أنه لو قُدِّرَ أن قومًا قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: نحن نؤمن بما جئتنا به بقلوبنا من غير شك، ونقرُّ بألسنتنا بالشهادتين؛ إلا أنا لا نطيعك في شيء مما أمرتَ به ونهيت عنه؛ فلا نصلي ولا نصوم ولا نحج ولا نصدق الحديث، ولا نؤدي الأمانةَ ولا نَفِي بالعهد ولا نَصِل الرحم ولا نفعل شيئًا من الخير الذي أمرتَ به، ونشرب الخمرَ، وننكح ذوات المحارم بالزنا الظاهر، ونقتل من قَدَرنا عليه من أصحابك وأمتك ونأخذ أموالهم، بل نقتلك أيضًا ونقاتلك مع أعدائك .. هل كان يتوهم عاقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول لهم: أنتم مؤمنون كاملوا الإيمان، وأنتم أهل شفاعتي يوم القيامة، ويرجَى لكم أن لا يدخل أحد منكم النار. بل كل مسلم يعلم بالاضطرار أنه يقول لهم: أنتم أكفر الناس بما جئت به، ويضربُ رقابَهم إن لم يتوبوا من ذلك) انتهى.
__________
(1) …«كتاب الإيمان» ص (272).(1/72)
وقال أيضًا(1): (فلفظ الإيمان إذا أطلق في القرآن والسنة يراد به ما يراد بلفظ البر وبلفظ التقوى وبلفظ الدين كما تقدم. فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - بيَّن أن الإيمان بضع وسبعون شعبة، أفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، فكان كل ما يحبه الله يدخل في اسم الإيمان. وكذلك لفظ البر يدخل فيه جميع ذلك إذا أُطْلق، وكذلك لفظ التقوى، وكذلك الدين أو دين الإسلام. وكذلك رُوي أنهم سألوا عن الإيمان؛ فأنزل الله هذه الآية: {لَيْسَ الْبِرُّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ...} [البَقَرَة، من الآية: 177]. إلى أن قال: (والمقصود هنا أنه لم يثبت المدح إلا على إيمانٍ معه العمل. لا على إيمان خالٍ عن عمل)(2). فهذا كلام شيخ الإسلام في الإيمان. ومن نقل عنه غير ذلك فهو كاذب عليه.
وأما ما جاء في الحديث: أن قومًا يدخلون الجنة لم يعملوا خيرًا قط؛ فليس هو عامًّا لكل من ترك العمل وهو يقدر عليه، وإنما هو خاص بأولئك لعذر مَنَعَهم من العمل، أو لغير ذلك من المعاني التي تلائم النصوص المحكمة، وما أجمع عليه السلفُ الصالحُ في هذا الباب.
هذا؛ واللجنة الدائمة إذ تبين ذلك، فإنها تنهى وتحذر من الجدال في أصول العقيدة؛ لما يترتب على ذلك من المحاذير العظيمة، وتوصي بالرجوع في ذلك إلى كتب السلف الصالح وأئمة الدين، المبنية على الكتاب والسنة وأقوال السلف، وتحذِّر من الرجوع إلى الكتب المخالفة لذلك، وإلى الكتب الحديثة الصادرة عن أناس متعالمين، لم يأخذوا العلم عن أهله ومصادره الأصيلة.
__________
(1) …المرجع السابق: ص (170) .
(2) …المرجع السابق، ص (172) .(1/73)
وقد اقتحموا القول في هذا الأصل العظيم من أصول الاعتقاد، وتبنوا مذهب المرجئة، ونسبوه ظلمًا إلى أهل السنة والجماعة، ولبَّسوا بذلك على الناس، وعززوه - عدواناً - بالنقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وغيره من أئمة السلف بالنقول المبتورة، وبمتشابه القول، وعدم رده إلى المحكم من كلامهم. وإنا ننصحهم أن يتقوا الله في أنفسهم، وأن يثوبوا إلى رشدهم ولا يصدعو الصف بهذا المذهب الضال، واللجنة - أيضًا - تحذر المسلمين من الاغترار والوقوع في شراك المخالفين لما عليه جماعة المسلمين: أهل السنة والجماعة. وفَّق الله الجميعَ للعلم النافع والعمل الصالح والفقه في الدين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - من كتاب (التحذير من الإرجاء وبعض الكتب الداعية إليه) ص (7-14) بيان اللجنة الدائمة في التحذير من كتاب «حقيقة الإيمان بين غلو الخوارج وتفريط المرجئة»
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده ..
وبعد:
فإن اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء درست ما ورد إليها من الأسئلة المقيَّدة لدى الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء برقم (802) وتاريخ 9/2/1421هـ. ورقم (1414) وتاريخ 8/3/1421هـ. ورقم (1709) وتاريخ 18/3/1421هـ. عن كتاب بعنوان: «حقيقة الإيمان بين غلو الخوارج وتفريط المرجئة». لعدنان عبدالقادر، نشر جمعية الشريعة بالكويت.(1/74)
فأفتت اللجنة - بعد الدراسة - أن هذا الكتاب ينصر مذهب المرجئة الذين يخرجون العمل عن مسمى الإيمان وحقيقته، وأنه عندهم شرط كمال، وأن المؤلف قد عزز هذا المذهب الباطل، بنقول عن أهل العلم، تصرف فيها بالبتر والتفريق وتجزئة الكلام، وتوظيف الكلام في غير محله، والغلط في العزو، كما في (ص/9) إذ عزا قولاً للإمام أحمد رحمه الله وإنما هو لأبي جعفر الباقر، وجعل عناوين لا تتفق مع ما يسوقه تحتها، منها في (ص/9) إذ قال: «أصل الإيمان في القلب فقط من نقضه كفر». وساق نصًّا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية لا يتفق مع ما ذكره، ومن النقول المبتورة بتره لكلام ابن تيمية (ص/9) عن الفتاوى (7/644، 7/377)، ونقل (ص/17) عن «عدة الصابرين» لابن القيم، وحذف ما ينقض ما ذهب إليه من الإرجاء، وفي (ص/33) حذف بعض كلام ابن تيمية من الفتاوى (11/87)، وكذا في (ص/34) من الفتاوى (7/638، 639)، وفي (ص/37) حذف من كلام ابن تيمية في الفتاوى (7/494)، وفي (ص/38) حذف تتمة كلام ابن القيم من كتاب «الصلاة» (ص/59)، وفي (ص/64) حذف تتمة كلام ابن تيمية في «الصارم المسلول» (3/967-969)، وفي (ص/67) حذف تتمة كلام ابن تيمية في «الصارم المسلول» (3/971). إلى آخر ما في هذا الكتاب من مثل هذه الطوام، مما ينصر مذهب المرجئة، وإخراجه للناس باسم مذهب أهل السنة والجماعة، لهذا فإن هذا الكتاب يجب حجبه وعدم تداوله، وننصح مؤلفه أن يراجع نفسه، وأن يتقي الله بالرجوع إلى الحق والابتعاد عن مواطن الضلالة، والله الموفق.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم ..
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - من كتاب (التحذير من الإرجاء وبعض الكتب الداعية إليه) ص (23-24)
بيان وتحذير من كتاب «ضبط الضوابط»
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .. وبعد:(1/75)
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الكتاب الموسوم بـ: (ضبط الضوابط في الإيمان ونواقضه) تأليف المدعو/ أحمد بن صالح الزهراني، فوجدته كتابًا يدعو إلى مذهب الإرجاء المذموم؛ لأنه لا يعتبر الأعمال الظاهرة داخلة في حقيقة الإيمان، وهذا خلاف ما عليه أهل السنة والجماعة: من أن الإيمان قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وعليه: فإن هذا الكتاب لا يجوز نشره وترويجه، ويجب على مؤلفه وناشره التوبة إلى الله عز وجل، ونحذر المسلمين مما احتواه هذا الكتاب من المذهب الباطل حمايةً لعقيدتهم واستبراءً لدينهم، كما نحذر من اتباع زلات العلماء فضلاً عن غيرهم من صغار الطلبة الذين لم يأخذوا العلم من أصوله المعتمدة، وفق الله الجميع للعلم النافع والعمل الصالح.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - من كتاب (التحذير من الإرجاء وبعض الكتب الداعية إليه) ص (19)
فتوى في التحذير من كتابَي «التحذير من فتنة التكفير» و«صيحة نذير»
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده .. أما بعد:
فإن اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء اطلعت على ما ورد إلى سماحة المفتي العام من بعض الناصحين من استفتاءات مقيَّدة بالأمانة العامة لهيئة كبار العلماء برقم (2928) وتاريخ 13/5/1421هـ. ورقم (2929) وتاريخ 13/5/1421هـ. بشأن كِتَابَيْ: «التحذير من فتنة التكفير» و«صيحة نذير» لجامعهما/ علي حسن الحلبي، وأنهما يدعوان إلى مذهب الإرجاء: من أن العمل ليس شرط صحة في الإيمان، وينسب ذلك إلى أهل السنة بالجماعة، ويبني هذين الكتابين على نقول محرفة عن شيخ الإسلام ابن تيمية، والحافظ ابن كثير، وغيرهما، رحم الله الجميع، ورغبة الناصحين بيان ما في هذين الكتابين ليعرف القراء الحق من الباطل ..إلخ..(1/76)
وبعد دراسة اللجنة للكتابين المذكورين، والاطلاع عليهما؛ تبيَّن للجنة أن كتاب: «التحذير من فتنة التكفير». جَمْع/ علي حسن الحلبي، فيما أضافه إلى كلام العلماء في مقدمته وحواشيه، يحتوي على ما يأتي:
1-…بناه مؤلفه على مذهب المرجئة البدعي الباطل، الذين يحصرون الكفر بكفر الجحود والتكذيب والاستحلال القلبي، كما في ص/6 حاشية/2، وص/22، وهذا خلاف ما عليه أهل السنة والجماعة: من أن الكفر يكون بالاعتقاد وبالقول وبالفعل وبالشك.
2-…تحريفه في النقل عن ابن كثير رحمه الله في: «البداية والنهاية: 13/118» حيث ذكر في حاشية ص/ 15 نقلاً عن ابن كثير: «أن جنكز خان ادعى في الياسق(1) أنه من عند الله وأن هذا هو سبب كفرهم»، وعند الرجوع إلى الموضع المذكور لم يوجد فيه ما نسبه إلى ابن كثير رحمه الله.
3-…تقوُّله على شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في ص/17 - 18 إذ نسب إليه جامع الكتاب المذكور: أن الحكمَ المبدَّل لا يكون عند شيخ الإسلام كفرًا إلا إذا كان عن معرفة واعتقاد واستحلال. وهذا محض تقوُّل على شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فهو ناشر مذهب السلف أهل السنة والجماعة ومذهبهم، كما تقدم وهذا إنما هو مذهب المرجئة.
4-…تحريفه لمراد سماحة العلامة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله في رسالته / تحكيم القوانين الوضعية، إذ زعم جامع الكتاب المذكور: أن الشيخ يشترط الاستحلال القلبي، مع أن كلام الشيخ واضح وضوح الشمس في رسالته المذكورة على جادة أهل السنة والجماعة.
__________
(1) …الياسق: عبارة عن كتاب مجموع من أحكام اقتبسها جنكيز خان من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والإسلام وغيرها، إضافةً إلى أحكام أخرى أخذها من مجرّد نظره وهواه، وجعله شريعةً ودستورًا لقومه التتار؛ فالتزموه. انظر: «تفسير ابن كثير» (2/68) بتصرف يسير.(1/77)
5- تعليقه على كلام من ذَكَر من أهل العلم بتحميل كلامهم مالا يحتمله، كما في الصفحات 108 حاشية / 1، 109 حاشة/ 21، 110 حاشية/2 .
6-…كما أن في الكتاب التهوين من الحكم بغير ما أنزل الله، وبخاصة في ص/5 ح/1، بدعوى أن العناية بتحقيق التوحيد في هذه المسألة فيه مشابهة للشيعة - الرافضة - وهذا غلط شنيع.
7- وبالاطلاع على الرسالة الثانية: «صيحة نذير»، وُجد أنها كمُسَانِد لما في الكتاب المذكور - وحاله كما ذُكِرَ -، لهذا فإن اللجنة الدائمة ترى أن هذين الكتابين: لا يجوز طبعهما ولا نشرهما ولا تداولهما؛ لما فيهما من الباطل والتحريف، وننصح كاتبهما أن يتقي الله في نفسه وفي المسلمين، وبخاصة شبابهم، وأن يجتهد في تحصيل العلم الشرعي على أيدي العلماء الموثوق بعلمهم وحُسْن معتقدهم، وأن العلم أمانةٌ لا يجوز نشره إلا على وَفْق الكتاب والسنة، وأن يقلع عن مثل هذه الآراء والمسلك المزري في تحريف كلام أهل العلم، ومعلوم أن الرجوع إلى الحق فضيلة وشرف للمسلم. والله الموفق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم..
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - من كتاب (التحذير من الإرجاء وبعض الكتب الداعية إليه) ص (26-29)
فتوى في التحذير من كتاب «إحكام التقرير في أحكام التكفير» لمراد شكري
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده .. وبعد:(1/78)
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما ورد إلى سماحة المفتي العام من المستفتي/ إبراهيم الحمداني، والمحال إلى اللجنة من الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء برقم (942) وتاريخ 1/2/1419هـ، وقد سأل المستفتي سؤالاً هذا نصه: (سماحة مفتي عام المملكة العربية السعودية الشيخ/ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز .. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد: يا سماحة الشيخ نحن في هذه البلاد/ المملكة العربية السعودية في نعم عظيمة، ومن أعظمها نعمة التوحيد، وفي مسألة التكفير نرفض مذهب الخوارج ومذهب المرجئة.
وقد وقع في يدي هذه الأيام كتاب باسم «إحكام التقرير في أحكام التكفير»، بقلم/ مراد شكري الأردني الجنسية، وقد علمتُ أنه ليس من العلماء، وليست دراسته في علوم الشريعة، وقد نشر فيه مذهب غلاة المرجئة الباطل، وهو أنه لا كفر إلا كفر التكذيب فقط. وهو - فيما نعلم - خلاف الصواب وخلاف الدليل الذي عليه أهل السنة والجماعة، والذي نشره أئمة الدعوة في هذه البلاد المباركة، وكما قرر أهل العلم: في أن الكفر يكون بالقول وبالفعل وبالاعتقاد وبالشك. نأمل إيضاح الحق حتى لا يغتر أحد بهذا الكتاب، الذي أصبح ينادي بمضمونه الجماعة المنتسبون للسلفية في الأردن، والله يتولاكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته).
وبعد دراسة اللجنة للاستفتاء أجابت بأنه:(1/79)
بعد الاطلاع على الكتاب المذكور، وُجِد أنه متضمن لما ذُكر من تقرير مذهب المرجئة، ونشره، من أنه لا كفر إلا كفر الجحود والتكذيب، وإظهار هذا المذهب المُرْدي باسم السنة والدليل، وأنه قول علماء السلف، وكل هذا جهل بالحق، وتلبيس وتضليل لعقول الناشئة، بأنه قول سلف الأمة والمحققين من علمائها، وإنما هو مذهب المرجئة الذين يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب، والإيمان عندهم: هو التصديق بالقلب، والكفر: هو التكذيب فقط، وهذا غلو في التفريط، ويقابله مذهب الخوارج الباطل الذي هو غُلُو في الإفراط في التكفير، وكلاهما مذهبان باطلان مُرْديان من مذاهب الضلال، ويترتب عليهما من اللوازم الباطلة ما هو معلوم، وقد هدى الله أهل السنة والجماعة إلى القول الحق والمذهب الصدق، والاعتقاد الوسط، بين الإفراط والتفريط: من حُرْمة عرض المسلم، وحُرمة دينه، وأنه لا يجوز تكفيره إلا بحق قام الدليلُ عليه، وأن الكفر يكون بالقول والفعل والترك والاعتقاد والشك، كما قامت على ذلك الدلائل من الكتاب والسنة.
لما تقدم: فإن هذا الكتاب لا يجوز نشره وطبعه، ولا نسبة ما فيه من الباطل إلى الدليل من الكتاب والسنة، ولا أنه مذهب أهل السنة والجماعة، وعلى كاتبه وناشره إعلان التوبة إلى الله فإن التوبة تغفر الحَوْبة، وعلى من لم ترسخ قدمهُ في العلم الشرعي أن لا يخوض في مثل هذه المسائل؛ حتى لا يحصل من الضرر وإفساد العقائد أضعاف ما كان يؤمله من النفع والإصلاح، وبالله التوفيق..
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم..
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - من كتاب (التحذير من الإرجاء وبعض الكتب الداعية إليه) ص (16-18)
استفسار عن كتب مفيدة
ما رأيكم في كتابي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : [منهاج السنة] و[شرح حديث النزول] ؟(1/80)
هذا الكتابان من خير الكتب علمًا واستدلالاً وحسن بيان وقوة في رد الباطل ونصرة الحق وسلامة في العقيدة، ولا يوجد كتاب في الرد على الرافضة - فيما نعلم - مثل كتاب [منهاج السنة]، ولا كتاب في شرح حديث النزول أكمل من كتابه في [شرح حديث النزول] فيما نعلم.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم..
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (2/175) كتب تنصح اللجنة بقراءتها في مجال العقيدة
ما الكتب المفيدة في فهم العقيدة ؟
تختلف الكتب المفيدة في فهم العقيدة وغيرها باختلاف الناس في فهمهم وثقافتهم ودرجاتهم العلمية، وعلى كل أن يسترشد في ذلك بمن حوله من العلماء الذين يعرفون حاله وقوة إدراكه وتحصيله للعلوم.
ومن الكتب النافعة في العقيدة إجمالاً [العقيدة الواسطية] بشروحها، و[شرح العقيدة الطحاوية]، و[كتاب التوحيد] للشيخ محمد بن عبدالوهاب مع شرحه [فتح المجيد]، وشرحه أيضًا [تيسير العزيز الحميد]، و[كشف الشبهات]، و[ثلاثة الأصول] كلاهما للشيخ محمد بن عبدالوهاب، و[التدمرية]، و[الحموية] كلاهما لشيخ الإسلام ابن تيمية، وكتاب [التوحيد] لابن خزيمة، والقصيدة النونية مع شرحها.
مع العلم بأن أعظم الكتب وأشرفها هو (كتاب الله العظيم) وفيه أوضح بيان للعقيدة الصحيحة وبيان بطلان ما يخالفها، فنوصيك بالإكثار من تلاوته وتدبر معانيه، ففيه الهدى والنور والدعوة إلى كل خير والتحذير من كل شر؛ كما قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}[الإسرَاء: من الآية 9]
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم..
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (2/175)
ما ينبغي فعله حيال وساوس الشيطان في العقيدة
في بعض الأحيان يأتي الشيطان للإنسان، ويوسوس في نفسه في ذات الله، وفي آياته الكونية؛ فما الذي ينبغي على الإنسان حيال ذلك ؟(1/81)
سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذا؛ ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال: جَاءَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَسَأَلُوهُ إِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، قَالَ: وَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: ذَاكَ صَرِيحُ الإِيمَانِ(1).
وفيه أيضاً عن عبد الله بن مسعود قال: سُئِلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الْوَسْوَسَةِ، قَالَ: تِلْكَ مَحْضُ الإِيمَانِ (2) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يَزَالُ النَّاسُ يَتَسَاءَلُونَ حَتَّى يُقَالَ: هَذَا خَلَقَ اللهُ الْخَلْقَ، فَمَنْ خَلَقَ اللهَ ؟ فَمَنْ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَلْيَقُلْ: آمَنْتُ بِاللهِ (3) .
وعنه أيضاً قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ كَذَا، مَنْ خَلَقَ كَذَا، حَتَّى يَقُولَ: مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ ؟ فَإِذَا بَلَغَهُ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللهِ وَلْيَنْتَهِ(4).
وعنه أيضاً قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْتِي أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ الأَرْضَ ؟ فَيَقُولُ: اللهُ، فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ اللهَ ؟ فَإِذَا أَحَسَّ أَحَدُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا فَلْيَقُلْ: آمَنْتُ بِاللهِ وَبِرُسُلِهِ (5) .
__________
(1) …مسلم (132) .
(2) …مسلم (133) .
(3) …مسلم (134) .
(4) …البخاري (3276)، ومسلم (134) [214] .
(5) …مسلم (134)، وأحمد (2/331)، (5/214) .(1/82)
وفي سنن أبي داود عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ أَحَدَنَا يَجِدُ فِي نَفْسِهِ - يُعَرِّضُ بِالشَّيْءِ - لأَنْ يَكُونَ حُمَمَةً(1) أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ؛ فَقَالَ: اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ كَيْدَهُ إِلَى الْوَسْوَسَةِ (2) .
ففي هذه الأحاديث وغيرها بيان أن هذه الأفكار التي قد تطرأ على الإنسان في الأمور الغيبية، أنها وسوسة من الشيطان ليوقعه في الشك والحيرة والعياذ بالله .
ثم إن الإنسان إذا وقع في مثل ذلك فعليه أمور، كما أرشدنا إليها النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك:
1 - الاستعاذة بالله .
2 - الانتهاء عن ذلك، والانتهاء معناه قطع هذه الوسوسة .
3 - أن يقول: آمَنْتُ بالله، وفي رواية: آمَنْتُ بالله ورُسُلِه .
فإذا خطرت لك وسوسة في ذات الله، أو في قدم العالم، أو في عدم نهايته، أو في أمور البعث، واستحالة ذلك، أو في بيان الثواب والعقاب أو ما أشبه ذلك . . فعليك أن تؤمن إيمانًا مجملاً، فالنصوص تقول: آمنت بالله، وبما جاء عن الله، وعلى مراد الله . . آمنت برسول الله وبما جاء عن رسول الله، وعلى مراد رسول الله، وما علمت منه أقول به، وماجهلت أتوقف فيه وأكل علمه إلى الله .
ولا شك أن هذه الوساوس متى تمادى فيها العبد جرّت إلى الحيرة، أو إلى الشك، وهذا مقصد الشيطان .
__________
(1) …(حُمَمَة): الحُمَمَة هي الفَحْمَة، وكل ما احترق من خشب أو عظم ونحوهما. والجمع: حُمَم.
(2) …أحمد (1/235، 340)، وأبو داود (5112)، واللفظ له، والنسائي في «الكبرى» (10503-10505)، والطبراني في «الصغير» (1090)، و«الكبير» 10/338 (10838)، وابن حبان في «صحيحه» (147، 6188). وصححه الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (4264).(1/83)
أما الذي يتمادى مع هذه الوسوسة فإنه يقع في الشك، ثم في الحيرة، ثم يتخلى في النهاية عن أمور العبادة، أما إذا قطعها منذ المرة الأولى، فإنها تنقطع إن شاء الله، مع كثرة الاستعاذة من الشيطان، وكثرة دَحْرِ الشيطان؛ لأن هذا من كيده ليوسوس به الإنسان حتى يشككه في إيمانه ودينه .
الشيخ ابن جبرين - الكنز الثمين، (1/199-201)
الفصل الثاني
أديان وفرق وأقوال ضالة
بيان من اللجنة الدائمة في حكم الدعوة إلى وحدة الأديان
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .. أما بعد :
فإن اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء استعرضت ما ورد إليها من تساؤلات وما ينشر في وسائل الإعلام من آراء ومقالات بشأن الدعوة إلى (وحدة الأديان): دين الإسلام، ودين اليهود، ودين النصارى، وما تفرع عن ذلك من دعوة إلى بناء: مسجد وكنيسة ومعبد في محيط واحد، في رحاب الجامعات والمطارات والساحات العامة، ودعوة إلى طباعة القرآن الكريم والتوراة والإنجيل في غلاف واحد، إلى غير ذلك من آثار هذه الدعوة، وما يعقد لها من مؤتمرات وندوات وجمعيات في الشرق والغرب .
وبعد التأمل والدراسة فإن اللجنة تقررما يلي:
أولاً: إن من أصول الاعتقاد في الإسلام، المعلومة من الدين بالضرورة، والتي أجمع عليها المسلمون، أنه لا يوجد على وجه الأرض دين حق سوى دين الإسلام، وأنه خاتمة الأديان، وناسخ لجميع ما قبله من الأديان والملل والشرائع، فلم يبق على وجه الأرض دين يتعبد الله به سوى الإسلام؛ قال الله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِْسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآْخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ *}[آل عِمرَان]. والإسلام بعد بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - هو ما جاء به دون ما سواه من الأديان .(1/84)
ثانياً: ومن أصول الاعتقاد في الإسلام أن كتاب الله تعالى: القرآن الكريم هو آخر كتب الله نزولاً وعهداً برب العالمين، وأنه ناسخ لكل كتاب أنزل من قبل - من التوراة والزبور والإنجيل وغيرها - ومهيمن عليها، فلم يبق كتاب منزل يُتعبَّد الله به سوى: (القرآن الكريم)؛ قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ}[المَائدة: 48].
ثالثاً: يجب الإيمان بأن (التوراة والإنجيل) قد نسخا بالقرآن الكريم، وأنه قد لحقهما التحريف والتبديل بالزيادة والنقصان - كما جاء بيان ذلك في آيات من كتاب الله الكريم منها قول الله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ}[المَائدة: 13]، وقوله جل وعلا: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيدِيهِمْ وَوَيلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ *}[البَقَرَة]، وقوله سبحانه: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ *}[آل عِمرَان: 78].(1/85)
…ولهذا فما كان منها صحيحاً فهو منسوخ بالإسلام، وما سوى ذلك فهو محرف أو مبدل . وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه غضب حين رأى مع عمر ابن الخطاب رضي الله عنه صحيفة فيها شيء من التوراة وقال عليه الصلاة والسلام: أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَابْنَ الْخَطَّابِ؟! وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً .... وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى - صلى الله عليه وسلم - كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلا أَنْ يَتَّبِعَنِي(1).
__________
(1) …أحمد (3/387)، والدارمي (435) وغيرهما. قال في «مجمع الزوائد» 1/174: «رواه أحمد وأبو يعلى والبزار، وفيه مجالد بن سعيد، ضعفه أحمد ويحيى بن سعيد وغيرهما». اهـ. وصححه العجلوني في «كشف الخفاء» 1/422 (1119) عند الكلام على حديث: «حَدّثُوا عن بني إسرائيل ولا حَرَج». ومعنى (متهوِّكون): مأخوذ من التَّهَوُّك: وهو الوقوع في الأمر بغير رَوِيَّة، وقيل: هو التحيُّر.(1/86)
رابعاً: ومن أصول الاعتقاد في الإسلام أن نبينا ورسولنا محمداً - صلى الله عليه وسلم - هو خاتم الأنبياء والمرسلين، كما قال الله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا *}[الأحزَاب]. فلم يبق رسول يجب اتباعه سوى محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولو كان أحد من أنبياء الله ورسله حياً لما وسعه إلا اتباعه - صلى الله عليه وسلم -، وأنه لا يسع أتباعهم إلا ذلك - كما قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ *}[آل عِمرَان]. ونبي الله عيسى عليه الصلاة والسلام إذا نزل في آخر الزمان يكون تابعاً لمحمد - صلى الله عليه وسلم - وحاكماً بشريعته، قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُْمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِْنْجِيلِ}[الأعرَاف: 157].
…كما أن من أصول الاعتقاد في الإسلام أن بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - عامة للناس أجمعين، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ *}[سَبَإ]. وقال سبحانه: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}[الأعرَاف: 158]، وغيرها من الآيات.(1/87)
خامساً: ومن أصول الإسلام أنه يجب اعتقاد كفر كل من لم يدخل في الإسلام من اليهود والنصارى وغيرهم وتسميته كافراً، وأنه عدو لله ورسوله والمؤمنين، وأنه من أهل النار - كما قال تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ *}[البَيّنَة]. وقال جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ *}[البَيّنَة]، وغيرها من الآيات . وثبت في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
…« وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ»(1).
…ولهذا: فمن لم يُكفّر اليهود والنصارى فهو كافر، طرداً لقاعدة الشريعة: (من لم يُكفِّر الكافر فهو كافر) .
سادساً: وأمام هذه الأصول الاعتقادية والحقائق الشرعية، فإن الدعوة إلى: (وحدة الأديان) والتقارب بينها وصهرها في قالب واحد دعوة خبيثة ماكرة، والغرض منها خلط الحق بالباطل، وهدم الإسلام وتقويض دعائمه وجرّ أهله إلى ردة شاملة، ومصداق ذلك في قول الله سبحانه: {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا}[البَقَرَة: 217]، وقوله جل وعلا: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً}[النِّسَاء: 89].
__________
(1) …مسلم (153) .(1/88)
سابعاً: وإن من آثار هذه الدعوة الآثمة إلغاء الفوارق بين الإسلام والكفر، والحق والباطل والمعروف والمنكر، وكسر حاجز النفرة بين المسلمين والكافرين، فلا ولاء ولا براء، ولا جهاد ولا قتال لإعلاء كلمة الله في أرض الله، والله جل وتقدس يقول: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآْخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ *}[التّوبَة] ويقول جلّ وعلا: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}[التّوبَة: 36].
ثامناً: إن الدعوة إلى (وحدة الأديان) إن صدرت من مسلم فهي تعتبر ردة صريحة عن دين الإسلام، لأنها تصطدم مع أصول الاعتقاد فترضى بالكفر بالله عز وجل، وتبطل صدق القرآن ونسخه لجميع ما قبله من الكتب، وتبطل نسخ الإسلام لجميع ما قبله من الشرائع والأديان، وبناء على ذلك فهي فكرة مرفوضة شرعاً، محرمة قطعاً بجميع أدلة التشريع في الإسلام من قرآن وسنة وإجماع .
تاسعاً: وتأسيساً على ما تقدم:
1- فإنه لا يجوز لمسلم يؤمن بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبياً ورسولاً الدعوة إلى هذه الفكرة الآثمة، والتشجيع عليها، وتسليكها بين المسلمين فضلاً عن الاستجابة لها، والدخول في مؤتمراتها وندواتها والانتماء إلى محافلها .
2- لا يجوز لمسلم طباعة التوراة والإنجيل منفردين، فكيف مع القرآن الكريم في غلاف واحد!! فمن فعله أودعا إليه فهو في ضلال بعيد، لما في ذلك من الجمع بين الحق (القرآن الكريم) والمحرف أو الحق المنسوخ (التوراة والإنجيل) .(1/89)
3- كما لا يجوز لمسلم الاستجابة لدعوة: (بناء مسجد وكنيسة ومعبد) في مجمع واحد، لما في ذلك من الاعتراف بدين يعبد الله به غير دين الإسلام وإنكار ظهوره على الدين كله، ودعوة مادية إلى أن الأديان ثلاثة: لأهل الأرض التدين بأي منها، وأنها على قدم التساوي، وأن الإسلام غير ناسخ لما قبله من الأديان، ولا شك أن إقرار ذلك أو اعتقاده أو الرضا به كفر وضلال؛ لأنه مخالفة صريحة للقرآن الكريم والسنة المطهرة وإجماع المسلمين، واعتراف بأن تحريفات اليهود والنصارى من عند الله، تعالى الله عن ذلك . كما أنه لا يجوز تسمية الكنائس (بيوت الله) وأن أهلها يعبدون الله فيها عبادة صحيحة مقبولة عند الله؛ لأنها عبادة على غير دين الإسلام، والله تعالى يقول: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِْسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآْخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ *}[آل عِمرَان]. بل هي: بيوت يكفر فيها بالله . نعوذ بالله من الكفر وأهله . قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى (22/162) ليست - أي: البيع والكنائس- بيوت الله، وإنما بيوت الله المساجد، بل هي بيوت يكفر فيها بالله، وإن كان قد يذكر فيها، فالبيوت بمنزلة أهلها وأهلها كفار، فهي بيوت عبادة الكفار .(1/90)
عاشراً: ومما يجب أن يعلم أن دعوة الكفار بعامة وأهل الكتاب بخاصة إلى الإسلام واجبة على المسلمين بالنصوص الصريحة من الكتاب والسنة، ولكن ذلك لا يكون إلا بطريق البيان والمجادلة بالتي هي أحسن، وعدم التنازل عن شيء من شرائع الإسلام، وذلك للوصول إلى قناعتهم بالإسلام ودخولهم فيه، أوإقامة الحجة عليهم ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة؛ قال الله تعالى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ *}[آل عِمرَان]. أما مجادلتهم واللقاء معهم ومحاورتهم لأجل النزول عند رغباتهم، وتحقيق أهدافهم، ونقض عرى الإسلام ومعاقد الإيمان - فهذا باطل يأباه الله ورسوله والمؤمنون، والله المستعان على ما يصفون . قال تعالى: {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ}[المَائدة: 49].
…وإن اللجنة إذ تقرر ذلك وتبينه للناس فإنها توصي المسلمين بعامة وأهل العلم بخاصة بتقوى الله تعالى ومراقبته، وحماية الإسلام، وصيانة عقيدة المسلمين من الضلال ودعاته، والكفر وأهله، وتحذرهم من هذه الدعوة الكفرية الضالة: (وحدة الأديان) . ومن الوقوع في حبائلها، ونعيذ بالله كل مسلم أن يكون سبباً في جلب هذه الضلالة إلى بلاد المسلمين وترويجها بينهم . نسأل الله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يعيذنا جميعاً من مضلات الفتن، وأن يجعلنا هداة مهتدين، حماة للإسلام على هدىً ونور من ربنا حتى نلقاه وهو راض عنا .
وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(1/91)
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء برقم: (19402) وتاريخ 25/1/1418هـ راجع كتاب "فتاوى وبيانات مهمة" - نشر (دار عالم الفوائد) بإذن من إدارة الإفتاء ص(7).
كفر أهل الكتاب ممن لم يؤمنوا برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -
لقد صرح القرآن الكريم بتكفير أهل الكتاب إلاَّ الذين آمنوا برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - (القرآن)، أما الذين قالوا من اليهود: إن عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، والعياذ بالله. وصرح القرآن الكريم بتكفيرهم: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ}[المَائدة: 73].
ولكن مع هذه الحجة القطعية وجدنا بعض العلماء يقولون: إن أهل الكتاب ليسوا كفارًا، وإنما كانوا أهل الكتاب فقط.. أفيدونا عن هذه المسائل .(1/92)
من قال ذلك فهو كافر؛ لتكذيبه بما جاء في القرآن والسنة من التصريح بكفرهم، قال الله تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ *}[آل عِمرَان]، وقال: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ}[المَائدة: 72]، وقال: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ}[المَائدة: 73] وقال: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ *}[التّوبَة]، وقال تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ *}[البَيّنَة]، وقال: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآْخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ *}[التّوبَة] ..... إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (2/18)
الحكم على الحركة (الماسونية)
(أ) مات رجل وأوصى أن يدفن في تابوت .. فما الحكم ؟
(ب) مات أحد المسلمين وكان عضوًا في الجماعة الماسونية، وأقيمت عليه صلاة الجنازة ثم أقيمت شعائر الماسونية بعد ذلك؛ فما حكم الإسلام في هذا الميت وفيمن أقاموا أو سمحوا بإقامة هذه الشعائر ؟
(ج) ما هي الماسونية ؟ وما حكم الإسلام فيها ؟(1/93)
(أ) لم يعرف وضع الميت في تابوت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا عهد الصحابة رضي الله عنهم، وخير للمسلمين أن يسيروا على نهجهم؛ ولذا كُره وضع الميت في تابوت سواء كانت الأرض صلبة أم رخوة أم ندية، وإذا أوصى بوضعه في تابوت لم تنفذ وصيته، وأجاز ذلك الشافعية إذا كانت الأرض رخوة أو ندية، ولا تنفذ وصيته عندهم إلًّا في مثل هذه الحالة.
(ب، ج) الماسونية: هي جمعية سرية سياسية تهدف إلى القضاء على الأديان والأخلاق الفاضلة وإحلال القوانين الوضعية والنظم غير الدينية محلها، وتسعى جهدها في إحداث انقلابات مستمرة وإحلال سلطة مكان أخرى بدعوى حرية الفكر والرأي والعقيدة. ويؤيد ذلك ما أعلنه الماسوني... في مؤتمر الطلاب الذي انعقد في 1865م في مدينة لييج التي تعتبر أحد المراكز الماسونية من قوله: «يجب أن يتغلب الإنسان على الإله، وأن يعلن الحرب عليه، وأن يخرق السموات ويمزقها كالأوراق». ويؤيده ما ذكر في المحفل الماسوني الأكبر سنة 1922م صفحة 98 ونصه: «سوف نقوي حرية الضمير في الأفراد بكل ما أوتينا من طاقة، وسوف نعلنها حربًا شعواء على العدو الحقيقي للبشرية الذي هو الدين». ويؤيده أيضاً قول الماسونيين: «إن الماسونية تتخذ من النفس الإنسانية معبودًا لها»، وقولهم: «إنا لا نكتفي بالانتصار على المتدينين ومعابدهم، إنما غايتنا الأساسية إبادتهم من الوجود». مضابط المؤتمر الماسوني العالمي سنة 1903م صفحة 102، وقولهم: «ستحل الماسونية محل الأديان وأن محافلها ستحل محل المعابد ...» إلى غير هذا مما فيه شدة عداوتهم للأديان وحربهم لها حربًا شعواء لا هوادة فيها. والجمعيات الماسونية من أقدم الجمعيات السرية التي لا تزال قائمة ولا يزال منشؤها غامضًا وغايتها غامضة على كثير من الناس، بل لا تزال غامضة على كثير من أعضائها؛ لإحكام رؤسائها ما بيتوا من مكر سيِّئ وخداع دفين ولشدة حرصهم على كتمان ما أبرموه من تخطيط، وما قصدوا(1/94)
إليه من نتائج وغايات، ولذا يدبر أكثر أمورها شفويًا. وإن أريد كتابة فكرة أو إذاعتها عرضت قبل ذلك على الرقابة الماسونية لتقرها أو تمنعها. وقد وضعت أسس الماسونية على نظريات فأخذت من مصادر عدة، أكثرها التقاليد اليهودية، ويؤيد ذلك أن النظم والتعاليم اليهودية هي التي اتخذت أساسًا لإنشاء المحفل الأكبر سنة 1717م ولوضع رسومه ورموزه، وأن الماسونيين لا يزالون يقدسون حيرام اليهودي، ويقدسون الهيكل والمعبد الذي شيده حتى اتخذوا منه نماذج للمحافل الماسونية في العالم، وأن كبار الأساتذة من اليهود لا يزالون العمود الفقري للماسونية، وهم الذين يمثلون الجمعيات اليهودية في المحافل الماسونية، وإليهم يرجع انتشار الماسونية والتعاون بين الماسونيين في العالم، وهم القوة الكامنة وراء الماسونية وإلى خواصهم تسند قيادة خلاياها السرية يدبرون أمرها ويرسمون الخطط لها ويوجهونها سرًا كما يشاؤون، ويؤيد ذلك ما جاء في مجلة (أكاسيا) الماسونية سنة 1908م عدد 66 من أنه لا يوجد محفل ماسوني خال من اليهود، وأن جميع اليهود لا تحتضن المذاهب، بل هناك المبادئ فقط، وكذلك الحال عند الماسونية، ولهذه العلة تعتبر المعابد اليهودية خليفتنا، ولذا نجد بين الماسونيين عددًا كبيرًا من اليهود. اهـ.(1/95)
ويؤيد أيضًا ما ذكر في سجلات الماسونية من قولهم: «لقد تيقن اليهود أن خير وسيلة لهدم الأديان هي الماسونية، وأن تاريخ الماسونية يشابه تاريخ اليهود في الاعتقاد ... وأن شعارهم هو نجمة داود المسدسة، ويعتبر اليهود والماسونيون أنفسهم معًا الأبناء الروحيين لبناة هيكل سليمان، وأن الماسونية التي تزيف الأديان الأخرى تفتح الباب على مصراعيه لإعلاء اليهودية وأنصارها، وقد استفاد اليهود من بساطة الشعوب وحسن نيتها، فدخلوا في الماسونية، واحتلوا فيها المراكز الممتازة، وبذلك نفثوا الروح اليهودية في المحافل الماسونية وسخروها لأغراضهم». اهـ. ومما يدل على شدة حرصهم على سريتها وبذلهم الجهد في كتمان ما يخططون لهدم الأديان، وتبييتهم المكر السيِّئ لإحداث الانقلابات السياسية ما جاء في بروتوكلات حكماء صهيون من قولهم: «وسوف نركز هذه الخلايا تحت قيادة واحدة معروفة لنا وحدنا، وستتألف هذه القيادة من علمائنا وسيكون لهذه الخلايا ممثلوها الخصوصيون، كي تحجب المكان الذي تقيم فيه قيادتنا حقيقة، وسيكون لهذه القيادة وحدها الحق في تعيين من يتكلم، وفي رسم نظام اليوم، وفي هذه الخلايا سنضع الحبائل والمصايد لكل الاشتراكيين وطبقات المجتمع الثورية وإن معظم الخطط السياسية السرية معروفة لنا وسنهديها إلى تنفيذها حالما تتشكل، ولكن الوكلاء في البوليس الدولي السري تقريباً سيكونوا أعضاء في هذه الخلايا .. وحينما تبدأ المؤامرات خلال العالم؛ فإن بدأها يعني أن واحدًا من أشد وكلائنا إخلاصًا يقوم على رأس هذه المؤامرات، وليس إلاَّ طبيعيًا أننا كنا الشعب الوحيد الذي يوجه المشروعات الماسونية ونحن الشعب الوحيد الذي يعرف أين يوجهها ونعرف الهدف الأخير لكل عمل على حين أن الأمميين - أي: غير اليهود - جاهلون بمعظم الأشياء الخاصة بالماسونية، ولا يستطيعون حتى رؤية النتائج العاجلة لما هم فاعلون ...» إلى غير ذلك مما يدل على قوة الصلة بين اليهودية(1/96)
والماسونية، ومزيد التعاون بين الطائفتين في المؤامرات الثورية وإحداث الحركات الهدامة، وعلى أن الماسونية في ظاهرها دعوة إلى الحرية في العقيدة والتسامح في الرأي، والإصلاح العام للمجتمعات، ولكنها في حقيقتها ودخيلة أمرها دعوة إلى الإباحية والانحلال وعوامل هرج ومرج وتفكك في المجتمعات، وانفصام لعرى الأمم ومعاول هدم وتقويض لصرح الشرائع ومكارم الأخلاق وإفساد وتخريب العمران. وعلى هذا فمن كان من المسلمين عضوًا في جماعة الماسونية وهو على بينة من أمرها، ومعرفة بحقيقتها ودفين أسرارها، أو أقام مراسمها وعني بشعائرها كذلك فهو كافر يستتاب فإن تاب وإلاَّ قتل وإن مات على ذلك فجزاؤه جزاء الكافرين، ومن انتسب إلى الماسونية وكان عضوًا في جماعتها وهو لا يدري عن حقيقتها ولا يعلم ما قامت عليه من كيد للإسلام والمسلمين وتبييت الشر لكل من يسعى لجمع الشمل وإصلاح الأمم، وشاركهم في الدعوة العامة، والكلمات المعسولة التي لا تتنافى حسب ظاهرها مع الإسلام فليس بكافر؛ بل هو معذور في الجملة لخفاء واقعهم عليه، ولأنه لم يشاركهم في أصول عقائدهم ولا في مقاصدهم ورسم الطريق لما يصل بهم إلى غاياتهم الممقوتة، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنما الأعمالُ بالنِّيَّات، وإنما لِكُلِّ امرئٍ ما نَوَى (1) الحديث. لكن يجب عليه أن يتبرأ منهم إذا تبين له أمرهم، ويكشف للناس عن حقيقتهم ويبذل جهده في نشر أسرارهم وما بيتوا للمسلمين من كيد وبلاء؛ ليكون ذلك فضيحة لهم ولتحبط به أعمالهم.
وينبغي للمسلم أن يحتاط لنفسه في اختيار من يتعاون معه في شؤون دينه ودنياه، وأن يكون بعيد النظر في اصطفاء الأخلاء والأصدقاء حتى يسلم من مغبة الدعايات الخلابة وسوء عاقبة الكلمات المعسولة، ولا يقع في حبائل أهل الشرك ولا في شباكهم التي نصبوها للأغرار وأرباب الهوى وضعاف العقول.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
__________
(1) …البخاري (1).(1/97)
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (2/312-315)
قرار المجمع الفقهي في حكم الانتماء للحركة الماسونية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه .. أما بعد:
نظر المجمع الفقهي في دورته الأولى، المنعقدة بمكة المكرمة في العاشر من شعبان 1398هـ . الموافق 15/7/1978م، في قضية الماسونية والمنتسبين إليها وحكم الشريعة الإسلامية في ذلك .
- وقد قام أعضاء المجمع بدراسة وافية عن هذه المنظمة الخطيرة، وطالع ما كتب عنها من قديم وجديد، وما نشر من وثائقها نفسها فيما كتبه ونشره أعضاؤها، وبعض أقطابها، من مؤلفات، ومن مقالات، في المجلات التي تنطق باسمها .
وقد تبين للمجمع بصورة لا تقبل الريب من مجموع ما اطلع عليه من كتابات ونصوص ما يلي:
1 - أن الماسونية منظمة سرية تخفي تنظيمها تارة، وتعلنه تارة، بحسب ظروف الزمان والمكان، ولكن مبادئها الحقيقية التي تقوم عليها، هي سرية في جميع الأحوال، محجوب علمها حتى على أعضائها؛ إلا خواص الخواص الذين يصلون بالتجارب العديدة إلى مراتب عليا فيها .
2 - إنها تبني صلة أعضائها بعضهم ببعض في جميع بقاع الأرض، على أساس ظاهري للتمويه على المغفلين؛ وهو الإخاء الإنساني المزعوم بين جميع الداخلين في تنظيمها دون تمييز بين مختلف العقائد والنحل والمذاهب .
3 - إنها تجذب الأشخاص إليها ممن يهمها ضمهم إلى تنظيمها، بطريق الإغراء بالمنفعة الشخصية، على أساس أن كل أخ ماسوني مجند في عون كل أخ ماسوني آخر في أي بقعة من بقاع الأرض، يعينه في حاجاته، وأهدافه، ومشكلاته، ويؤيده في الأهداف إذا كان من ذوي الطموح السياسي، ويعينه إذا وقع في مأزق من المآزق أيا كان على أساس معاونته في الحق والباطل ظالماً أو مظلوماً، وإن كانت تستر ذلك ظاهرياً بأنها تعينه على الباطل . وهذا أعظم إغراء تصطاد به الناس من مختلف المراكز الاجتماعية، وتأخذ منهم اشتراكات مالية ذات بال .(1/98)
4 - إن الدخول فيها يقوم على أساس احتفال بانتساب عضو جديد تحت مراسم رمزية إرهابية لإرهاب العضو إذا خالف تعليماتها، والأوامر التي تصدر إليه بطريق التسلسل في الرتبة .
5 - إن الأعضاء المغفلين يتركون أحراراً في ممارسة عباداتهم الدينية، وتستفيد من تكليفهم في الحدود التي يصلحون لها ويبقون في مراتب دنيا. أما الملاحدة أو المستعدون للإلحاد فترتقي مراتبهم تدريجياً، في ضوء التجارب والامتحانات المتكررة على حسب استعدادهم لخدمة مخططاتها ومبادئها الخطيرة .
6 - إنها ذات أهداف سياسية، ولها في معظم الانقلابات السياسية والعسكرية والتغييرات الخطيرة ضلع وأصابع ظاهرة أو خفية .
7 - إنها في أصلها وأساس تنظيمها يهودية الجذور، ويهودية الإدارة العليا العالمية، صهيونية النشاط .
8 - إنها في أهدافها الحقيقية السرية ضد الأديان جميعاً، لتهديمها بصورة عامة وتهدم الإسلام في نفوس أبنائه بصورة خاصة .
9 - إنها تحرص على اختيار المنتسبين إليها من ذوي المكانة المالية، أو السياسية أو الاجتماعية، أو العلمية، أو أية مكانة يمكن أن تستغل نفوذاً لأصحابها في مجتمعاتهم ولا يهمها انتساب من ليس لهم مكانة يمكن استغلالها، ولذلك تحرص كل الحرص على ضم الرؤساء والوزراء وكبار موظفي الدولة ونحوهم .
10- إنها ذات فروع تأخذ أسماء أخرى تمويهاً وتحويلاً للأنظار، لكي تستطيع ممارسة نشاطاتها تحت مختلف الأسماء إذا لقيت مقاومة لاسم الماسونية في محيط ما، وتلك الفروع المستورة بأسماء مختلفة، من أبرزها: منظمة الأُسُود، والروتاري، والليونز، إلى غير ذلك من المبادئ والنشاطات الخبيثة التي تتنافى كلياً مع قواعد الإسلام وتناقضه كلية .(1/99)
قد تبين للمجمع بصورة واضحة العلاقة الوثيقة للماسونية باليهودية الصهيونية . وبذلك استطاعت أن تسيطر على نشاطات كثير من المسؤولين في البلاد العربية في موضوع قضية فلسطين، وتحول بينهم وبين كثير من واجباتهم في هذه القضية الإسلامية العظمى، لمصلحة اليهود والصهيونية العالمية .
لذلك، ولكثير من المعلومات الأخرى التفصيلية عن نشاط الماسونية وخطورتها العظمى، وتلبيساتها الخبيثة، وأهدافها الماكرة، يقرر المجمع الفقهي اعتبار الماسونية من أخطر المنظمات الهدامة على الإسلام والمسلمين، وأن من ينتسب إليها على علم بحقيقتها وأهدافها فهو كافر بالإسلام مجانب لأهله .
والله ولي التوفيق . . .
المجمع الفقهي - فتاوى إسلامية لمجموعة من العلماء (1/115 - 117 )
دعوى انتقال الروح من إنسان إلى آخر ودعوى التطور من القرد
س 1 :
لقد قال لنا أستاذ الفلسفة: أن الروح تنتقل من إنسان إلى آخر فهل هذا صحيح ؟ وإن كان صحيحًا فكيف أن الروح هي التي تعذب وتحاسب وإن انتقلت فيحاسب الإنسان الآخر ؟
1 :(1/100)
ما ذكره لكم أستاذ الفلسفة من أن الروح تنتقل من إنسان إلى آخر ليس بصحيح، والأصل في ذلك قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ *}[الأعرَاف]، وجاء تفسير هذه الآية فيما رواه مالك في «موطئه»: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سئل عن هذه الآية: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ *}[الأعرَاف]، فقال عمر رضي الله عنه: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُسأل عنها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله تعالى خلق آدم ثم مسَحَ ظهْرَهُ بيمينهِ فاستخرَجَ منه ذُرِّيةً، فقال: خَلَقْتُ هؤلاء للجنة، وبعمَلِ أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهرَهُ فاستخرَجَ منه ذُرِّيَّةً فقال: خلقتُ هؤلاء للنار، وبعمَلِ أهل النار يعملون (1) الحديث. قال ابن عبد البر: معنى هذا الحديث قد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه ثابتة كثيرة من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعبدالله بن مسعود وعلي بن أبي طالب وأبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين وغيرهم. وقد أجمع أهل السنة والجماعة على ذلك وذكروا: أن القول بانتقال الروح من جسم إلى آخر هو قول أهل التناسخ وهم من أكفر الناس، وقولهم هذا من أبطل الباطل(2).
س 2 :
__________
(1) …أحمد (1/44) و«موطأ مالك» (898)، وأبو داود (4703)، والترمذي (3075) وقال: «حديث حسن»، والحاكم (1/27)، و(2/324، 544)، والآجري في «الشريعة» (441)، وابن منده في «الرد على الجهمية» (28).
(2) …«التمهيد» (6/6) باختلاف يسير.(1/101)
هناك من يقول إن الإنسان منذ زمن بعيد كان قردًا وتطور .. فهل هذا صحيح ؟ وهل من دليل ؟
2 :
هذا القول ليس بصحيح، والدليل على ذلك أن الله بيّن في القرآن أطوار خلق آدم، فقال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ}[آل عِمرَان، من الآية: 59]، ثم إن هذا التراب بُلَّ حتى صار طينًا لازبًا يعلق بالأيدي، فقال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِْنْسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ *}[المؤمنون]، وقال تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لاَزِبٍ}[الصَّافات، من الآية: 11]، ثم صار حمأً مسنونًا(1)، قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِْنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ *}[الحِجر]، ثم لما يبس صار صلصالاً كالفخار، قال تعالى: {خَلَقَ الإِْنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ *}[الرَّحمن]، وصوره الله على الصورة التي أرادها ونفخ فيه روحه، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ *فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ *}[الحِجر]. هذه هي الأطوار التي مرت على خلق آدم من جهة القرآن، وأما الأطوار التي مرت على خلق ذرية آدم فقال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِْنْسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ *ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ *ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ *}[المؤمنون].
__________
(1) …الحَمَأ: الطين الأسود، والمَسْنُون: المتغيِّر المُنْتِن.(1/102)
أما زوجة آدم (حواء) فقد بيّن الله تعالى أنه خلقها منه؛ فقال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً}[النِّسَاء: 1].
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (2/308، 309)
الحكم على (الدروز)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله، وآله وصحبه:
وبعد:
لقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الرسالة التي أرسلها صاحب السمو الملكي نائب وزير الداخلية إلى سماحة الرئيس العام رقم 2 س 5400 وتاريخ 15/5/1397هـ، واطلعت على ما جاء في النشرتين اللتين مع كتاب سموه من تفاصيل محاورتين مزعومتين: إحداهما جرت بين طالب درزي يدرس في الأزهر وبين من لقبه الدرزي بشيخ مشايخ الأزهر وسماه: مصطفى الرافعي، والأخرى جرت بين من نسب في المنشور إلى السنة وسمي فيه: شيخ الحق الحسيني وبين من قيل إنه أستاذ درزي يدعى: أبا حسن هاني زيدان: وبناء على طلب سموه مطالعة ذلك والإفادة كتبت ما يلي:
أولاً: نبذة عن مذهب الدروز يتبين منها حقيقة أمرهم.
ثانيًا: بيانًا مختصرًا عما جاء في المحاورتين يتبين به ما فيهما من دخل وتلبيس.
أولاً: نبذة عن مذهبهم:
أصل الدروز فرقة سرية من فرق القرامطة الباطنية يتسمون بالتقية وكتمان أمرهم على من ليس منهم، ويلبسون أحيانًا لباس التدين والزهد والورع ويظهرون الغيرة الدينية الكاذبة، ويتلونون ألوانًا عدة من الرفض والتصوف وحب آل البيت، ويزعمون أنهم حملة لواء الإصلاح بين الناس وجمع شملهم ليلبسوا على الناس ويخدعوهم عن دينهم حتى إذا سنحت لهم الفرصة وقويت شوكتهم ووجدوا من الحكام من يواليهم وينصرهم ظهروا على حقيقتهم، وأعلنوا عقائدهم وكشفوا عن مقاصدهم، وكانوا دعاة شر وفساد ومعاول هدم للديانات والعقائد والأخلاق.(1/103)
يتبين ذلك لمن تتبع تاريخهم وعرف سيرتهم من يوم وضع عبدالله بن سبأ الحميري اليهودي أصولهم وبذر بذورهم؛ فورثها لاحقهم عن سابقهم وتواصوا بها وأحكموا تطبيقها، واستمر ذلك إلى وقتنا الحاضر.
والدروز وإن كانوا فرعًا من فروع القرامطة الباطنية لهم مظاهرهم الخاصة من جهة نسبهم ونسبتهم من الهوية والزمن الذي ظهروا فيه، والظروف التي ساعدتهم على الظهور.
ونذكر فيما يلي مجمل ذلك وأمثلة له وحكم العلماء فيهم:
1-…ينسب الدروز إلى درزي وهو: أبو عبدالله محمد بن إسماعيل الدرزي، وقد يروى اسمه بلفظ عبد الله الدرزي ودروزي بن محمد، ويقال: إن محمد بن إسماعيل الدرزي هو تشتكين أو هشتكين الدرزي، وقيل: ينسبون إلى طيروز إحدى بلاد فارس، ويرى الزبيدي في التاج أن الصواب: ضبط الدرزي بفتح الدال نسبة إلى أولاد درزة وهم السفلة والخياطون والحاكة.
2-…ظهر محمد بن إسماعيل الدرزي أيام الحاكم بأمره أبي علي المنصور بن العزيز أحد ملوك العبيديين الذين حكموا مصر قريبًا من مائتي سنة وزعموا أنهم من آل البيت زورًا وبهتانًا وأنهم من نسل فاطمة رضي الله عنها.
وقد كان محمد بن إسماعيل الدرزي أولاً من الفرقة الإسماعيلية الباطنية التي تزعم أنها من أتباع محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق ثم خرج عليهم واتصل بالحاكم العبيدي ووافقه على دعواه الإلهية ودعا الناس إلى عبادته وتوحيده. وادعى أن الإله حل في علي وتدثر ناسوته وأن روح علي انتقلت إلى أولاده واحدًا بعد واحد حتى انتقلت إلى الحاكم، وقد فوض إليه الحاكم الأمور بمصر ليطيعه الناس في الدعوة، ولما انكشف أمره ثار عليه المسلمون بمصر وقتلوا ممن معه جماعة، ولما أرادوا قتله هرب واختفى عند الحاكم فأعطاه مالاً وأمره أن يخرج إلى الشام لينشر الدعوة هناك فخرج إليه ونزل بوادي تيم الله بن ثعلبة غربي دمشق؛ فدعاهم إلى تأليه الحاكم ونشر فيهم مبادئ الدروز ووزع فيهم المال فاستجابوا له.(1/104)
وقد قام بالدعوة أيضًا إلى تأليه الحاكم رجل آخر فارسي اسمه: حمزة بن علي بن أحمد الحاكمي الدرزي من كبار الباطنية؛ فقد اتصل برجال الدعوة السرية من شيعة الحاكم ودعا إلى تأليهه خفية حتى أصبح ركنًا من أركانها ثم أعلن ذلك وادعى أنه رسول الحاكم فوافقه على ذلك. ولما توفي الحاكم وتولى ابنه علي الملقب بالظاهر لإعزاز دين الله، وتبرأ من الدعوة إلى تأليه أبيه، طوردت الدعوة في مصر ففر حمزة إلى الشام وتبعه بعض من استجاب له؛ واستقر أكثرهم في المقاطعة التي سميت فيما بعد: (جبل الدروز) في سورية.
من مبادئهم:
(أ)…يقولون بالحلول؛ فهم يعتقدون أن الله حل في علي رضي الله عنه ثم حل في أولاده بعده واحدًا بعد واحد حتى حل في الحاكم العبيدي أبي علي المنصور بن العزيز، فالإلهية حلت ناسوته ويؤمنون برجعة الحاكم وأنه يغيب ويظهر.
(ب)…التقية، فهم لا يبينون حقيقة مذهبهم إلا لمن كان منهم، بل لا يفشون سرهم إلاَّ لمن أمنوه ووثقوا به من جماعتهم.
(ج)…عصمة أئمتهم، فهم يرون أن أئمتهم معصومون من الخطأ والذنوب، بل ألَّهُوهم وعبدوهم من دون الله كما فعلوا ذلك بالحاكم.
(د)…دعواهم علم الباطن، فهم يزعمون أن لنصوص الشريعة معاني باطنة هي المقصودة منها دون ظواهرها، وبنوا على هذا إلحادهم في نصوص الشريعة وتحريفهم لأخبارها وأوامرها ونواهيها.
أما إلحادهم في الأخبار فإنهم أنكروا ما لله من صفات الكمال، وأنكروا اليوم الآخر وما فيه من حساب وجزاء من جنة ونار، واستعاضوا عن ذلك بما يسمى: التقمص أو تناسخ الأرواح؛ وهو انتقال روح الإنسان أو الحيوان عند موته إلى بدن إنسان أو حيوان آخر عند بدء خلقه لتعيش فيه منعمة أو معذبة، وقالوا: دهر دائم وعالم قائم وأرحام تدفع وأرض تبلع، وأنكروا الملائكة ورسالة الرسل واتبعوا المتفلسفة المشائين أتباع أرسطو في مبادئه ونظرياته.(1/105)
وأما إلحادهم في نصوص التكليف من الأوامر والنواهي فإنهم حرفوها عن مواضعها، فقالوا: الصلاة معرفة أسرارهم لا الصلوات الخمس التي تؤدي كل يوم وليلة، والصيام كتمان أسرارهم لا الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، والحج زيارة الشيوخ المقدسين لديهم، واستحلّوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، واستحلوا نكاح الأمهات والبنات ... إلى غير ذلك من التلاعب بالنصوص وجحد ما جاء فيها مما علم بالضرورة أنه شريعة لله فرضها على عباده؛ ولذا قال فيهم أبو حامد الغزالي(1) وغيره: ظاهر مذهبهم الرفض وباطنه الكفر المحض. وهم في ذلك أشبه بأصحاب رسائل إخوان الصفا في عقائدهم وأعمالهم وطريقتهم.
(هـ)…يقولون بقول أهل الطبيعة، فيقولون: إن الطبائع مولدة للحياة، والموت ينشأ عن فناء الحرارة الغريزية كانطفاء السراج عند انتهاء الزيت إلاَّ من اعْتُبِط - أي: قتل بحادث مثلاً.
(و) النفاق في الدعوة والمخادعة فيها: فهم يظهرون التشيّع وحب آل البيت لمن يدعونه، وإذا استجاب لهم دعوه إلى الرفض وأظهروا له معايب الصحابة رضي الله عنهم وقدحوا فيهم، فإذا قبل منهم كشفوا له معايب علي رضي الله عنه وطعنوا فيه، فإذا قبل منهم ذلك انتقلوا به إلى الطعن في الأنبياء، وقالوا: إن لهم بواطن وأسرارًا تخالف ما دعوا إليه أممهم، وقالوا: إنهم كانوا أذكياء وضعوا لأممهم نواميس شرعية ليحققوا بذلك مصالح وأغراضًا دنيوية ..إلخ.
ثانيًا: الحكم عليهم:
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عما يحكم به في الدروز والنصيرية(2)، فأجاب بما يأتي:
__________
(1) …في كتابه: «فضائح الباطنية» ص (37) .
(2) …النصيرية هم من يُسمون اليوم بـ (العلويين).(1/106)
وهؤلاء الدرزية والنصيرية كفار باتفاق المسلمين، لا يحل أكل ذبائحهم ولا نكاح نسائهم، بل ولا يقرون بالجزية فإنهم مرتدون عن دين الإسلام ليسوا مسلمين ولا يهود ولا نصارى، لا يقرون بوجوب الصلوات الخمس ولا وجوب صوم رمضان ووجوب الحج، ولا تحريم ما حرم الله ورسوله من الميتة والخمر وغيرهما - وإن أظهروا الشهادتين مع هذه العقائد، فهم كفار باتفاق المسلمين، فأما (النصيرية) فهم: أتباع أبي شعيب محمد ابن نصير، وكان من الغلاة الذين يقولون: إن عليًا إله، وهم ينشدون:
أشهد أن لا إله الَّا
حَيْدَرَةُ الأَنْزَعُ(1) البَطِين
ولا حِجَاب عليه إلاَّ
محمدُ الصادق الأمين
ولا طريق إليه إلاَّ
سلمانُ(2) ذو القوة المَتِين
وأما الدرزية: فأتباع هشتكين الدرزي، وكان من موالي الحاكم يعني العبيدي أحد حكام مصر الباطنية أرسله إلى أهل وادي تيم الله بن ثعلبة فدعاهم إلى إلاهية الحاكم ويسمونه: (الباري الغلام) ويحلفون به، وهم من الإسماعيلية القائلين بأن محمد بن إسماعيل نسخ شريعة محمد بن عبدالله وهم أعظم كفراً من الغالية ، يقولون بقدم العالم وإنكار المعاد وإنكار واجبات الإسلام ومحرماته، وهم من القرامطة الباطنية الذين هم أكفر من اليهود والنصارى ومشركي العرب، وغايتهم أن يكونوا فلاسفة على مذهب أرسطو وأمثاله أو مجوسًا، وقولهم مركب من قول الفلاسفة والمجوس ويظهرون التشيع نفاقًا، والله أعلم(3).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضًا رحمه الله - ردًا على نبذ لطوائف من الدروز -:
__________
(1) …الأَنْزَع: الرجل الذي انحسر مقَدَّم شعر رأسه عن جانبي الجبهة.
(2) …المقصود به: سلمان الفارسي رضي الله عنه .
(3) …«مجموع الفتاوى» (1/161) .(1/107)
(كُفْرُ هؤلاء مما لا يختلف فيه المسلمون، بل مَنْ شَكَّ في كفرهم فهو كافر مثلهم لا هم بمنزلة أهل الكتاب ولا المشركين، بل هم الكفرة الضالون، فلا يباح أكل طعامهم، وتسبى نساؤهم وتؤخذ أموالهم؛ فإنهم زنادقة مرتدون لا تقبل توبتهم؛ بل يقتلون أينما ثقفوا ويلعنون كما وصفوا، ولا يجوز استخدامهم للحراسة والبوابة والحفاظ، ويجب قتل علمائهم وصلحائهم لئلا يضلوا غيرهم، ويحرم النوم معهم في بيوتهم ورفقتهم والمشي معهم وتشييع جنائزهم إذا علم موتها، ويحرم على ولاة أمور المسلمين إضاعة ما أمر الله من إقامة الحدود عليهم بأي شيء يراه المقيم لا المقام عليه، والله المستعان وعليه التكلان)(1).
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (2/288-292) بتصرف
حكم الطريقة التيجانية
عندنا ناس كثيرون متمسكون بالطريقة التيجانية، وأنا سمعت في برنامجكم ( نور على الدرب ) أن هذه الطريقة مبتدعة ولا يجوز اتباعها، لكن أهلي عندهم ورد الشيخ أحمد التيجاني وهي صلاة الفاتح ؛ ويقولون: إن صلاة الفاتح هي الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ فهل صلاة الفاتح هذه هي الصلاة على النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - أم لا ؟ حيث يقولون إن من كان يقرأ صلاة الفاتح وتركها يعتبر كافراً، ويقولون: إذا ما كنت تتحمل هذا وتركتها فما عليك شيء، وإذا تحملتها وتركتها تعتبر كافراً، وقد قلت لوالديّ: إن هذا لا يجوز؛ فقالا لي: أنت وهابي وشتماني، فنرجو التوجيه ؟
__________
(1) …«مجموع الفتاوى» (3/162) .(1/108)
الطريقة التيجانية لا شك أنها طريقة مبتدعة، ولا يجوز لأهل الإسلام أن يتبعوا الطرق المبتدعة لا التيجانية ولا غيرها، بل الواجب الاتباع والتمسك بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن الله يقول: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}[آل عِمرَان: 31] يعني: قل يا محمد للناس: إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم. ويقول عز وجل: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ *}[الأعرَاف: 3]، ويقول تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}[الحَشر: 7] ويقول تبارك وتعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ}[الأنعَام: 153] والسُّبُل: هي الطرق المحدثة من البدع والأهواء والشبهات والشهوات المحرمة، فالله أوجب علينا أن نتبع صراطه المستقيم، وهو ما دل عليه القرآن الكريم وما دلت عليه سنة رسوله عليه الصلاة والسلام الصحيحة الثابتة، هذا هو الطريق الذي يجب اتباعه.(1/109)
أما الطريقة التيجانية أو الشاذلية أو القادرية أو غيرها من الطرق التي أحدثها الناس - فلا يجوز اتباعها إلا ما وافق شرع الله منها أو غيرها فيعمل به؛ لأنه وافق الشرع المطهر لا لأنه من الطريقة الفلانية أو غيرها؛ للآيات السابقة ولقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآْخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا *}[الأحزَاب] وقوله عز وجل: {وَالسَّابِقُونَ الأَْوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَْنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ *}[التّوبَة]، ولقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ(1). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ(2). وقوله - صلى الله عليه وسلم - في خطبة الجمعة: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ (3)، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
__________
(1) …البخاري (2697)، ومسلم (1718) - (17).
(2) …مسلم (1718)- (18) .
(3) …مسلم (867) .(1/110)
وصلاة الفاتح هي الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - كما ذكروا، ولكن صيغة لفظها لم ترو عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ حيث قالوا فيها: اللهم صل وسلم على سيدنا محمد الفاتح لما أُغْلِق، والخاتم لما سبق، والناصر الحق بالحق. وهذا اللفظ لم ترد به الإجابة الصحيحة التي يبين فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - صفة الصلاة عليه لما سأله الصحابة عن ذلك، فالمشروع للأمة الإسلامية أن يصلوا عليه (عليه الصلاة والسلام) بالصيغة التي شرعها لهم وعلمهم إياها دون ما أحدثوه.(1/111)
من ذلك ما ثبت في الصحيحين: عن كعب بن عجرة رضي الله عنه أن الصحابة رضي الله عنهم قالوا: يا رسول الله، أمرنا الله أن نصلي عليك فكيف نصلي عليك ؟ فقال عليه الصلاة والسلام: قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ(1). ومن ذلك ما ثبت في صحيح البخاري ومسلم أيضاً من حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى أَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى أَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ(2). وفي حديث ثالث رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي مسعود الانصاري رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ فِي الْعَالَمِينَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ(3).
__________
(1) …البخاري (3370)، ومسلم (406) .
(2) …البخاري (3369)، ومسلم (407) .
(3) …مسلم (405) .(1/112)
فهذه الأحاديث وما جاء في معناها قد أوضحت صفة الصلاة عليه التي رضيها لأمته وأمرهم بها، أما صلاة الفاتح وإن صح معناها في الجملة فلا ينبغي الأخذ بها والعدول عما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيان صحة الصلاة عليه المأمور بها، مع أن كلمة:( الفاتِح لما أُغلق ) فيها إجمال قد يفسر من بعض أهل الأهواء بمعنى غير صحيح . والله ولي التوفيق .
الشيخ ابن باز - مجلة البحوث - عدد (39)، ص: (145 - 148)
الحكم على جماعة (البريلوية)
جماعة معينة في الباكستان تسمى (البريلوية) أو جماعة نواري نسبة إلى رئيسهم الحالي المعروف بنواري؛ حيث طلبت من فضيلتكم الحكم الشرعي بهم وباعتقادهم وبالصلاة خلفهم؛ ليكون ذلك بردًا وسلامًا على قلوب كثيرة لا تعرف الحقيقة. ومرة ثانية، أذكركم ببعض خرافاتهم واعتقاداتهم الشائعة:
1- الاعتقاد بأن الرسول عليه الصلاة والسلام حي.
2- الاعتقاد بأن الرسول عليه الصلاة والسلام حاضر وناظر خاصة بعد صلاة الجمعة مباشرة.
3- الاعتقاد بأن الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام الشفيع مسبقًا.
4- يعتقدون بالأولياء وأصحاب القبور ويصلون عندهم طالبين منهم قضاء الحاجة.
5- إشادة القباب وإضاءة القبور.
6- قولهم المشهور: يا رسول، يا محمد - صلى الله عليه وسلم -.
7- يسخطون بمن يجهر بالتأمين ويرفع يديه في الصلاة ويعتبرونه وهابي.
8- التعجب الشديد عند استعمال السواك عند الصلاة.
9- تقبيل الأصابع أثناء الوضوء والأذان وبعد الصلاة.
10- يردد إمامهم دائمًا بعد الصلاة .. الآية : {إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ}[الأحزَاب: 56]، وبالتالي فإن جميع المأمومين يصلون على النبي بشكل جماعي بصوت عال.
11- يتحلقون بعد صلاة الجمعة واقفين وينشدون ويمدحون بصوت مرتفع.
12- بعد ختم القرآن الكريم في تراويح شهر رمضان يطهون الطعام الكثير ويوزعونه في صحن المسجد بالإضافة إلى الحلويات.(1/113)
13- يشيدون المساجد ويهتمون بزخرفتها كثيرًا، ويكتبون فوق المحراب: يا محمد.
14- يعتبرون أنفسهم هم أصحاب السنة والعقيدة الصحيحة وغيرهم على خطأ.
15- ما الحكم الشرعي بالصلاة خلفهم ؟
علمًا بأنني طالب طب في كراتشي وأسكن بجوار المسجد والمسلطة أو المشرفة عليه تلك الجماعة البريلوية.
من هذه صفاته لا تجوز الصلاة خلفه، ولا تصح لو فعلت من عالم بحاله؛ لأن معظمها صفات كفرية وبدعية تناقض التوحيد الذي أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه وتعارض صريح القرآن، مثل قوله سبحانه: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ *}[الزُّمَر]، وقوله: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا *}[الجنّ]، وينكر عليهم البدع التي يفعلونها بأسلوب حسن فإن قبلوا فالحمد لله، وإن لم يقبلوا هَجَرَهُم وصلَّى في مساجد أهل السنة، وله في خليل الرحمن أسوة حسنة في قوله: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا *}[مَريَم].
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (2/284)
الحكم على جماعة (الأحباش)
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه .. أما بعد:
فقد ورد إلى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء أسئلة واستفسارات حول (جماعة الأحباش) والشخص الذي تنتمي إليه، المدعو: عبدالله الحبشي، القاطنة في لبنان، ولها جمعيات نشطة في بعض دول أوروبا وأمريكا وأستراليا، فاستعرضت اللجنة لذلك ما نشرته هذه الجماعة من كتب ومقالات توضح فيها اعتقادها وأفكارها ودعوتها، وبعد الاطلاع والتأمل فإن اللجنة تبين لعموم المسلمين ما يلي :(1/114)
أولاً: ثبت في [الصحيحين] من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: خَيْرُ الناسِ قَرْنِي، ثم الذين يَلُونَهُم، ثم الذين يلونهم (1)، وله ألفاظ أخر، وقال عليه الصلاة والسلام: أُوصِيكم بتقوى الله تعالى والسَّمْعِ والطاعة، وإن تَأَمَّرَ عليكم عبدٌ، وإنه من يَعِشْ منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بِسُنَّتِي وسنة الخلفاء الراشدين المَهدِيِّين، عضُّوا عليها بالنَّوَاجِذ. وإياكم ومُحْدَثَات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة (2) رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وقال: (حديث حسن صحيح).
وإن من أهم الخصال التي امتازت بها تلك القرون المفضلة وحازت بها الخيرية على جميع الناس: تحكيم الكتاب والسنة في جميع الأمور، وتقديمهما على قول كل أحد كائنًا من كان، وفهم نصوص الوحيين الشريفين حسب القواعد الشرعية واللغة العربية، وأخذ الشريعة كلها بعمومها وكلياتها، وآحادها وجزئياتها، ورد النصوص المتشابهات إلى النصوص المحكمات؛ ولهذا استقاموا على الشريعة، وعملوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، ولم يزيدوا فيها ولم ينقصوا .. وكيف يحدث منهم زيادة أو نقص في الدين وهم متمسكون بالنص المعصوم من الخطأ والزلل ؟!
__________
(1) …البخاري (2652، 3651، 6429)، ومسلم (2533).
(2) …أحمد (4/126)، وأبو داوود (4607)، والترمذي (2676).(1/115)
ثانيًا: ثم خلفت من بعدهم خلوف كثرت فيهم البدع والمحدثات، وأعجب كل ذي رأي برأيه، وهُجرت النصوص الشرعية، وأوّلت وحُرّفت لتوافق الأهواء والمشارب، فشاقوا بذلك الرسول الأمين، واتبعوا غير سبيل المؤمنين، والله سبحانه يقول: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا *}[النِّسَاء]. ومن فضل الله عز وجل على هذه الأمة أنه يقيض في كل عصر من العلماء الراسخين من يقوم في وجه كل بدعة تشوّه جمال الدين وتعكّر صفوه، وتزاحم السنة أو تقضي عليها، وهذا تحقيق لوعد الله بحفظ دينه وشرعه في قوله سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ *}[الحِجر]، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الثابت في الصحاح والسنن والمسانيد وغيرها: لا تَزَالُ طائفةٌ مِن أُمَّتِي قائمةٌ بأمرِ الله، لا يَضُرُّهم مَنْ خَذَلَهُم أو خَالَفَهُم، حتى يأتِيَ أمرُ الله وهم ظاهرون على الناس(1). وله ألفاظ أخرى.
ثالثًا: ظهرت في الربع الأخير من القرن الرابع عشر الهجري جماعة يتزعمها عبدالله الحبشي، الذي نزح من الحبشة إلى الشام بضلالته، وتنقل بين دياره حتى استقر به المقام في لبنان، وأخذ يدعو الناس إلى طريقته ويكثّر أتباعه وينشر أفكاره التي هي أخلاط من اعتقادات الجهمية والمعتزلة والقبورية والصوفية، ويتعصب لها، ويناظر من أجلها، ويطبع الكتب والصحف الداعية إليها.
والناظر فيما كتبته ونشرته هذه الطائفة يتبين له بجلاء أنهم خارجون في اعتقادهم عن جماعة المسلمين (أهل السنة والجماعة) فمن اعتقاداتهم الباطلة على سبيل المثال لا الحصر:
1- أنهم في مسألة الإيمان على مذهب أهل الإرجاء المذموم.
__________
(1) …مسلم (156، 1920، 1923).(1/116)
ومعلوم أن عقيدة المسلمين - التي كان عليها الصحابة والتابعون ومن سار على هديهم إلى يومنا هذا - أن الإيمان: قول باللسان، واعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح، فلابد أن يكون مع التصديق موافقة وانقياد وخضوع للشرع المطهر، وإلا فلا صحة لذلك الإيمان المدَّعى.
وقد تكاثرت النقول عن السلف الصالح في تقرير هذه العقيدة، ومن ذلك قول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: وكان الإجماع من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، ومن أدركناهم يقولون: الإيمان قول وعمل ونية، لا يجزئ واحد من الثلاث إلا بالآخر.
2- يجوّزون الاستغاثة والاستعاذة بالأموات ودعاءهم من دون الله تعالى.(1/117)
وهذا شرك أكبر بنص القرآن والسنة وإجماع المسلمين. وهذا الشرك هو دين المشركين الأولين من كفار قريش وغيرهم؛ كما قال الله سبحانه عنهم: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}[يُونس: 18]، وقال جل وعلا: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ *أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ *}[الزُّمَر]، وقال سبحانه: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ *قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ *}[الأنعَام]، وقال جل وعلا: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا *}[الجنّ]، وقال سبحانه: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَِجَلٍ مُسَمّىً ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ *إِنْ تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ *}[فَاطِر].(1/118)
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: الدُّعَاء هو العِبَادة (1)، أخرجه أهل السنن بإسناد صحيح. والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وهي تدل على أن المشركين الأولين يعلمون أن الله هو الخالق الرازق النافع الضار، وإنما عبدوا آلهتهم ليشفعوا لهم عند الله، ويقربوهم لديه زلفى؛ فكفّرهم سبحانه بذلك، وحكم بكفرهم وشركهم، وأمر نبيه بقتالهم حتى تكون العبادة لله وحده، كما قال سبحانه: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ}[الأنفَال: 39].
وقد صنف العلماء في ذلك كتبًا كثيرة، وأوضحوا فيها حقيقة الإسلام الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه، وبيَّنوا فيها دين أهل الجاهلية وعقائدهم وأعمالهم المخالفة لشرع الله، ومن أحسن من كتب في ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتبه الكثيرة ومن أخصرها كتابه: [قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة].
3- أن القرآن عندهم ليس كلام الله حقيقة.
__________
(1) …أحمد (4/267، 271، 276)، وأبو داوود (1479)، والترمذي (2969، 3247، 3372)، والنسائي في "الكبرى" (11464)، وابن ماجه (3828)، وقال الترمذي: «حسن صحيح».(1/119)
ومعلوم بنص القرآن والسنة وإجماع المسلمين أن الله تعالى يتكلم متى شاء، كيف شاء على الوجه اللائق بجلاله سبحانه، وأن القرآن الكريم كلام الله تعالى حقيقة حروفه ومعانيه، كما قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ}[التّوبَة، من الآية: 6]، وقال سبحانه: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا}[النِّسَاء، من الآية: 164]، وقال جل وعلا: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً}[الأنعَام، من الآية: 115]، وقال سبحانه: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[البَقَرَة، من الآية: 75]، وقال جل جلاله: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلاَمَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ}[الفَتْح، من الآية: 15]. والآيات في هذا المعنى كثيرة معلومة. وتواتر عن السلف الصالح إثبات هذه العقيدة، كما نطقت بذلك نصوص القرآن والسنة، ولله الحمد والمنة.
4- يرون وجوب تأويل النصوص الواردة في القرآن والسنة في صفات الله جل وعلا.(1/120)
وهذا خلاف ما أجمع عليه المسلمون من لدن الصحابة والتابعين ومن سار على نهجهم إلى يومنا هذا، فإنهم يعتقدون بوجوب الإيمان بما دلت عليه نصوص أسماء الله وصفاته من المعاني من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل؛ بل يؤمنون بأن الله سبحانه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. فلا ينفون عنه ما وصف به نفسه، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه، ولا يلحدون في أسمائه وآياته، ولا يكيفون ولا يمثلون صفاته بصفات خلقه؛ لأنه لا سميَّ له ولا كُفو له ولا نِدَّ. قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: آمنت بالله، وبما جاء عن الله، على مراد الله، وآمنت برسول الله، وبما جاء عن رسول الله، على مراد رسول الله. وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: نؤمن بها ونصدق ولا نرد شيئًا ونعلم أن ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - حق وصدق، ولا نرد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا نصف الله بأكثر مما وصف به نفسه.
5- ومن عقائدهم الباطلة: نفي علو الله سبحانه على خلقه.(1/121)
وعقيدة المسلمين التي دلت عليها آيات القرآن القطعية والأحاديث النبوية والفطرة السوية والعقول الصريحة أن الله جل جلاله: عالٍ على خلقه، مستوٍ على عرشه، لا يخفى عليه شيء من أمور عباده. قال الله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} في سبعة مواضع من كتابه. وقال جل شأنه: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}[فَاطِر، من الآية: 10]، وقال سبحانه: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ}[الأنعَام، من الآيتين: 18-61]، وقال جل وعلا: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}[البَقَرَة، من الآية: 255]، وقال جل وعز: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَْعْلَى *}[الأعلى]، وقال جال جلاله: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَْرْضِ مِنْ دَآبَّةٍ وَالْمَلاَئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ *يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ *}[النّحل]. وغيرها من الآيات الكريمات.
وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأحاديث الصحاح الشيء الكثير، ومنها: قصة المعراج المتواترة وتجاوز النبي - صلى الله عليه وسلم - السموات سماء سماء، حتى انتهى إلى ربه تعالى، فقربه وأدناه، وفرض عليه الصلوات خمسين صلاة، فلم يزل يتردد بين موسى عليه السلام وبين ربه تبارك وتعالى، ينزل من عند ربه إلى عند موسى فيسأله: كم فرض عليه ؟ فيخبره، فيقول: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فيصعد إلى ربه فيسأله التخفيف.(1/122)
ومنها ما في [الصحيحين] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لمَّا خلقَ الله الخَلْقَ كَتَبَ في كتاب، فهو عندَهُ فوق العرش: إنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي(1). وثبت في [الصحيحين] من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أَلاَ تَأْمَنُونِي وأنا أَمِينُ مَنْ في السماء ؟ (2)، وفي [صحيح ابن خزيمة] و[سنن أبي داود]: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: العرشُ فوق الماء، والله فوق العرش، وهو يعلمُ ما أنتم عليه (3)، وفي [صحيح مسلم] وغيره في قصة الجارية، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: أين الله ؟ قالت: في السماء، قال: مَنْ أنا ؟ قالت: أنت رسول الله، قال: أَعْتِقْهَا، فإنها مؤمنة(4).
وعلى هذه العقيدة النقية درج المسلمون: الصحابة والتابعون وتابعوهم بإحسان إلى يومنا هذا، والحمد لله. ولعظم هذه المسألة وكثرة دلائلها التي تزيد على ألف دليل أفردها أهل العلم بالتصنيف؛ كالحافظ أبي عبدالله الذهبي في كتابه: [العُلوّ للعلِيّ الغفار]، والحافظ ابن القيم في كتابه: [اجتماع الجيوش الإسلامية].
6- أنهم يتكلمون في بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بما لا يليق.
__________
(1) …البخاري (7404)، ومسلم (2751).
(2) …البخاري (4351)، ومسلم (1064).
(3) …هو من كلام عبدالله بن مسعود رضي الله عنه؛ قال في "معارج القبول" 1/154: (قال الذهبي: رواه عبدالله بن أحمد في السنة، وأبو بكر بن المنذر وأبو أحمد العسال وأبو القاسم الطبراني وأبو الشيخ وأبو القاسم اللالكائي وأبو عمرو الطلمنكي وأبو بكر البيهقي، وأبو عمر ابن عبدالبر في تواليفهم، وإسناده صحيح). ويشهد له حديث أبي داوود (4726) في كتاب السنة، وحديث الدارمي (341) في المقدمة.
(4) …مسلم (537).(1/123)
ومن ذلك تصريحهم بتفسيق معاوية رضي الله عنه، وهم بذلك يشابهون الرافضة - قبحهم الله - والواجب على المسلمين الإمساك عما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، وحفظ ألسنتهم، مع اعتقاد فضلهم، ومزية صحبتهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: لا تَسبُّوا أصحابي، فلو أنَّ أحدكم أنفق مثل أُحُدٍ ذهبًا ما بلغ مُدَّ أَحَدِهِمْ ولا نَصِيفَه (1) رواه البخاري ومسلم. ويقول الله جل وعلا: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِْيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ *}[الحَشر]. وهذا الاعتقاد السليم نحو أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - هو اعتقاد أهل السنة والجماعة على مرّ القرون، قال الإمام أبو جعفر الطحاوي رحمه الله تعالى في بيان عقيدة أهل السنة والجماعة: (ونحب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا نفرط في حب أحد منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم، وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير، وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان).
رابعًا: ومما يؤخذ على هذه الجماعة ظاهرة الشذوذ في فتاويها، ومصادمتها للنصوص الشرعية من قرآن أو سنة. ومن أمثلة ذلك:
إباحتهم القمار مع الكفار لسلب أموالهم، وتجويزهم سرقة زروعهم وحيواناتهم، بشرط أن لا تؤدي السرقة إلى فتنة!!
__________
(1) …البخاري (3673)، ومسلم (2540). والمدُّ: مكيال قديم قدره بعضهم بحوالي (675) غرام.(1/124)
وتجويزهم تعاطي الربا مع الكفار، وجواز تعامل المحتاج بأوراق اليانصيب المحرمة!! ومن مخالفاتهم الصريحة أيضًا: تجويزهم النظر إلى المرأة الأجنبية في المرآة أو على الشاشة ولو بشهوة!! وأن استدامة النظر إلى المرأة الأجنبية ليس حرامًا!! وأن نظر الرجل إلى شيء من بدن المرأة التي لا تحل له ليس بحرام!! وأن خروج المرأة متزينة متعطرة مع عدم قصدها استمالة الرجال إليها ليس بحرام!! وإباحة الاختلاط بين الرجال والنساء!! إلى غيرها من تلك الفتاوى الشاذة الخرقاء، التي فيها مناقضة للشريعة، وعدُّ ما هو من كبائر الذنوب من الأمور الجائزات المباحات. نسأل الله العافية من أسباب سخطه وعقوبته.
خامسًا: ومن أساليبهم الوقحة للتنفير من علماء الأمة الراسخين، والإقبال على كتبهم، والاعتماد على نقولهم: سبهم وتضليلهم، والحطُّ من أقدارهم؛ بل وتكفيرهم، وعلى رأس هؤلاء العلماء الإمام المجدد شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام بن تيمية رحمه الله؛ حتى إن المدعو عبدالله الحبشي ألَّف كتابًا خاصًا في هذا الإمام المصلح نسبه فيه إلى الضلال والغواية، وقوَّله ما لم يقله، وافترى عليه، فالله حسيبه، وعند الله تجتمع الخصوم.(1/125)
ومن ذلك أيضًا طعنهم في الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبدالوهاب - رحمه الله تعالى - ودعوته الإصلاحية التي قام بها في قلب جزيرة العرب، فدعا الناس إلى توحيد الله تعالى، ونبذ الإشراك به سبحانه، وإلى تعظيم نصوص القرآن والسنة والعمل بها، وإقامة السنن، وإماتة البدع. فأحيا الله به ما اندرس من معالم الدين، وأمات به ما شاء من البدع والمحدثات. وانتشرت آثار هذه الدعوة - بفضل الله ومنته - في جميع أقطار العالم الإسلامي، وهدى الله بها كثيرًا من الناس. فما كان من هذه الجماعة الضالة إلا أن صوبوا سهامهم نحو هذه الدعوة السُنّية ومن قام بها، فلفقوا الأكاذيب، وروَّجوا الشبهات، وجحدوا ما فيها من الدعوة الصريحة إلى الكتاب والسنة، فعلوا ذلك كله تنفيرًا للناس من الحق، وقصدًا للصد عن سواء السبيل، عياذًا بالله من ذلك.
ولا شك أن بغض هذه الجماعة لهؤلاء الصفوة المباركة من علماء الأمة دليل على ما تنطوي عليه قلوبهم من الغل والحقد على كل داع إلى توحيد الله تعالى، والتمسك بما كان عليه أهل القرون المفضلة من الاعتقاد والعمل، وأنهم بمعزل عن حقيقة الإسلام وجوهره.
سادسًا: وبناء على ما سبق ذكره، وغيره مما لم يذكر، فإن اللجنة تقرر ما يلي:
1-…أن جماعة الأحباش فرقة ضالة خارجة عن جماعة المسلمين (أهل السنة والجماعة) وأن الواجب عليهم الرجوع إلى الحق الذي كان عليه الصحابة والتابعون في جميع أبواب الدين في العمل والاعتقاد، وذلك خير لهم وأبقى.
2-…لا يجوز الاعتماد على فتاوى هذه الجماعة؛ لأنهم يستبيحون التدين بأقوال شاذة، بل ومخالفة لنصوص القرآن والسنة، ويعتمدون التأويلات البعيدة والفاسدة لبعض النصوص الشرعية، وكل ذلك يطرح الثقة بفتاويهم، والاعتماد عليها من عموم المسلمين.
3-…عدم الثقة بكلامهم على الأحاديث النبوية، سواء من جهة الأسانيد، أو من جهة المعاني.(1/126)
4-…يجب على المسلمين في كل مكان الحذر والتحذير من هذه الجماعة الضالة، ومن الوقوع في حبائلها تحت أي اسم أو شعار، واحتساب النصح لأتباعها والمخدوعين بها، وبيان فساد أفكارها وعقائدها.
* واللجنة إذ تقرر ذلك وتبينه للناس، تسأل الله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجنب المسلمين الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يهدي ضالَّ المسلمين، وأن يصلح أحوالهم، وأن يرد كيد الكائدين في نحورهم، وأن يكفي المسلمين شرورهم، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان...
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء كتاب (فتاوى وبيانات مهمة) - ص (39)
حكم الشيعة القائلين: إن عليًا في مرتبة النبوة وإن جبريل عليه السلام غلط والفرق بين علمائهم وعامتهم ؟
س 1 :
بماذا تحكمون على الشيعة وخاصة الذين قالوا: إن عليًا في مرتبة النبوة، وأن سيدنا جبريل غلط بنزوله على سيدنا محمد ؟
1 :
الشيعة فرق كثيرة، ومن قال منهم: أن عليًا رضي الله عنه في مرتبة النبوة وإن جبريل عليه السلام غلط فنزل على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - فهو كافر.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (2/266)
س 2 :
ما حكم عوام الروافض الإمامية الإثني عشرية ؟ وهل هناك فرق بين علماء أي فرقة من الفرق الخارجة عن الملة وبين أتباعها من حيث التكفير أو التفسيق ؟
2 :(1/127)
من شايع من العوام إمامًا من أئمة الكفر والضلال، وانتصر لسادتهم وكبرائهم بغيًا وعدوًا - حكم له بحكمهم كفرًا وفسقًا؛ قال الله تعالى: {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ} ... إلى أن قال: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ *رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا *}[الأحزَاب: 63-68]، واقرأ الآية رقم 165، 166، 167، من سورة البقرة، والآية رقم 37، 38، 39 من سورة الأعراف، والآية رقم 21، 22 من سورة إبراهيم، والآية رقم 28، 29 من سورة الفرقان، والآيات رقم 62، 63، 64 من سورة القصص والآيات رقم 31، 32، 33 من سورة سبأ، والآيات رقم 20 حتى 36 من سورة الصافات، والآيات 47 حتى 50 من سورة غافر، وغير ذلك في الكتاب والسنة كثير؛ ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاتل رؤساء المشركين وأتباعهم، وكذلك فعل أصحابه ولم يفرقوا بين السادة والأتباع.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (2/267)
حكم أكل ذبائح الرافضة
أنا من قبيلة تسكن في الحدود الشمالية ومختلطين نحن وقبائل من العراق ومذهبهم شيعة وثنية يعبدون قببًا ويسمونها بـ: الحسن والحسين وعلي وإذا قام أحدهم قال: يا علي يا حسين، وقد خالطهم البعض من قبائلنا في النكاح وفي كل الأحوال، وقد وعظتهم ولم يسمعوا وهم في القرايا والمناصيب، وأنا ما عندي أعظهم بعلم ولكن إني أكره ذلك ولا أخالطهم، وقد سمعت أن ذبحهم لا يؤكل، وهؤلاء يأكلون ذبحهم ولم يتقيدوا، ونطلب من سماحتكم توضيح الواجب نحو ما ذكرنا.(1/128)
إذا كان الواقع كما ذكرت من دعائهم عليًا والحسن والحسين ونحوهم فهم مشركون شركًا أكبر يخرج من ملة الإسلام، فلا يحل أن نزوجهم المسلمات، ولا يحل لنا أن نتزوج من نسائهم، ولا يحل لنا أن نأكل من ذبائحهم، قال الله تعالى: {وَلاَ تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَْمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ *}[البَقَرَة].
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (2/264)
حكم دعوة التقارب بين أهل السنة والطوائف المنتسبة للإسلام
ما حكم الدعوة للتقارب بين أهل السنة والجماعة وبين الطوائف الشيعية والدرزية والإسماعيلية والنصيرية وغيرها ؟
إن الدروز والنصيرية والإسماعيلية ومن حذا حذوهم من البابية والبهائية(1) قد تلاعبوا بنصوص الدين، وشرعوا لأنفسهم ما لم يأذن به الله، وسلكوا مسلك اليهود والنصارى في التحريف والتبديل، اتباعًا لهوى وتقليدًا لزعيم الفتنة الأول: عبدالله بن سبأ الحميري رأس الابتداع والإضلال والإيقاع بين جماعة المسلمين، وقد عم شره وبلاؤه وافتتن به جماعات كثيرة فكفروا بعد إسلام، وتمكنت بسببه الفرقة بين المسلمين.
__________
(1) …لعل عدم ذكر الرافضة الاثني عشرية كان سهوًا بدليل ذكر جهود القمي الرافضي في التقريب المزعوم في الفقرة الأخيرة مثالاً على استحالة هذا التقارب.(1/129)
فكانت الدعوة إلى التقارب بين هذه الطوائف وجماعة المسلمين الصادقين دعوة غير مفيدة، وكان السعي في تحقيق اللقاء بينهم وبين الصادقين من المسلمين سعيًا فاشلاً؛ لأنهم واليهود والنصارى تشابهت قلوبهم في الزيغ والإلحاد والكفر والضلال والحقد على المسلمين والكيد لهم، وإن تنوعت منازعهم ومشاربهم واختلفت مقاصدهم وأهواؤهم، فكان مثلهم في ذلك مثل اليهود والنصارى مع المسلمين.
ولأمر ما سعى جماعة من علماء الأزهر المصريين مع القُمِّي الإيراني الرافضي في أعقاب الحرب العالمية الثانية وجدّوا في التقارب المزعوم، وانخدع بذلك قلة من كبار العلماء الصادقين ممن طهرت قلوبهم ولم تعركهم الحياة، وأصدروا مجلة سموها مجلة التقريب. وسرعان ما انكشف أمرهم لمن خدع بهم فباء أمر جماعة التقريب بالفشل، ولا عجب فالقلوب متباينة والأفكار متضاربة، والعقائد متناقضة، وهيهات هيهات أن يجتمع النقيضان أو يتفق الضدان.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - جزء من فتوى (2/86، 87)
حقيقة العَلمانية
ما العَلمانية ؟ وما حكم الإسلام في أصحابها ؟(1/130)
العَلمانية مذهب جديد وحركة فاسدة، تهدف إلى فصل الدين عن الدولة والإِكْبَاب على الدنيا والانشغال بشهواتها وملذاتها، وجعلها هي الهدف الوحيد في هذه الحياة، ونسيان الدار الآخرة والغفلة عنها، وعدم الالتفات إلى الأعمال الأخروية، أو الاهتمام بها، وقد يصدق على العَلماني قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلا انْتَقَشَ (1) .
وقد دخل في هذا الوصف كل من عاب شيئاً من تعاليم الإسلام قولاً أو فعلاً؛ فمن حكّم القوانين وألغى الأحكام الشرعية، فهو عَلماني، ومن أباح المحرمات كالزنى والخمور والأغاني والمعاملات الربوية، واعتقد أن منعها ضرر على الناس، وتحَجُّر لشيء فيه مصلحة نفسية، فهو عَلماني، ومن منع أو أنكر إقامة الحدود كقتل القاتل ورجم أو جلد الزاني والشارب أو قطع السارق أو المحارب، وادعى أن إقامتها تنافي المرونة، وأن فيها بشاعة وشناعة، فقد دخل في العلمانية.
أما حكم الإسلام فيهم؛ فقد قال تعالى في وصف اليهود: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}[البَقَرَة: 85]، فمن قبل ما يناسبه من الدِّين كالأحوال الشخصية وبعض العبادات ورد ما لا تهواه نفسه؛ دخل في الآية.
__________
(1) …البخاري (2887). و(الخَمِيصَة): ثوبٌ معلَّم من خَزٍّ أو صوف. و(شِيكَ): أي دخلت شوكة في جسمه. (فلا انتقش): أي فلا أخرجها بالمِنْقَاش. وهذا دعاء عليه بعدم الرحمة إذا وقع في البلاء.(1/131)
وهكذا يقول تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ *أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآْخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *}[هُود]، فالعلمانيون هدفهم جمع الدنيا والتلذذ بالشهوات ولو محرمة ولو منعت من الواجبات، فيدخلون في هذه الآية، وفي قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاَهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا *}[الإسرَاء]، ونحو ذلك من الآيات والأحاديث .والله أعلم.
الشيخ ابن جبرين - فتاوى في التوحيد، لفضيلة. ص (39، 40)
حكم الدعوة للقومية العربية ونحوها
قال الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله :
(اِعلم أن هذه الدعوة: أعني الدعوة إلى القومية العربية، أحدثها الغربيون من النصارى، لمحاربة الإِسلام والقضاء عليه في داره، بزخرف من القول، وأنواع من الخيال، وأساليب من الخداع، فاعتنقها كثير من العرب من أعداء الإِسلام، واغترّ بها كثير من الأغمار ومن قلّدهم من الجهال، وفرح بذلك أرباب الإِلحاد وخصوم الإِسلام في كل مكان. ومن المعلوم من دين الإِسلام بالضرورة أن الدعوة إلى القومية العربية أو غيرها من القوميات، دعوة باطلة وخطأ عظيم، ومنكر ظاهر، وجاهلية وكيد سافر للإِسلام وأهله، وذلك لوجوه:
الأول: أن الدعوة إلى القومية العربية تفرّق بين المسلمين، وتفصل المسلم العجمي عن أخيه العربي، وتفرّق بين العرب أنفسهم؛ لأنهم كلهم ليسوا يرتضونها، وإنما يرضاها منهم قوم دون قوم، وكل فكرة تقسم المسلمين وتجعلهم أحزابا فكرة باطلة، تخالف مقاصد الإِسلام وما يرمي إليه، وذلك لأنه يدعو إلى الاجتماع والوئام...) إلى أن قال:(1/132)
الوجه الثاني: أن الإِسلام نهى عن دعوى الجاهلية وحذّر منها، وأبدى في ذلك وأعاد في نصوص كثيرة؛ بل قد جاءت النصوص تنهى عن جميع أخلاق الجاهلية، وأعمالهم إلا ما أقره الإِسلام من ذلك، ولا ريب أن الدعوة إلى القومية العربية من أمر الجاهلية؛ لأنها دعوة إلى غير الإِسلام، ومناصرة لغير الحق، وكم جرّت الجاهلية على أهلها من ويلات وحروب طاحنة، وقودها النفوس والأموال والأعراض، وعاقبتها تمزيق الشمل وغرس العداوة والشحناء في القلوب، والتفريق بين القبائل والشعوب. قال شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله:
(كل ما خرج عن دعوى الإِسلام والقرآن من نسب أو بلد أو جنس أو مذهب أو طريقة، فهو من عزاء الجاهلية، بل لما اختصم مهاجري وأنصاري فقال المهاجري: يا للمهاجرين، وقال الأنصاري: يا للأنصار، قال النبي - - صلى الله عليه وسلم - -: أَبِدَعْوَى الجاهلية وأنا بَيْنَ أَظْهُرِكُم؟! (1) وغضب لذلك غضبا شديدا(2). انتهى...) .. إلى أن قال:
__________
(1) …أخرجه: ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ، كما في: «الدر المنثور» 2/278، 279 . وانظر «تفسير ابن كثير» 1/390 .
(2) …«مجموع الفتاوى» (28/328، 329)، باختلاف يسير.(1/133)
الوجه الثالث: من الوجوه الدالة على بطلان الدعوة إلى القومية العربية: هو أنها سلّم إلى موالاة كفار العرب وملاحدتهم، من أبناء غير المسلمين، واتخاذهم بطانة، والاستنصار بهم على أعداء القوميين من المسلمين وغيرهم. ومعلوم ما في هذا من الفساد الكبير، والمخالفة لنصوص القرآن والسنة، الدالة على وجوب بغض الكافرين من العرب وغيرهم، ومعاداتهم وتحريم موالاتهم واتخاذهم بطانة. والنصوص في هذا المعنى كثيرة منها قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ *فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ *}[المَائدة: 51-52].(1/134)
سبحان الله ما أصدق قوله وأوضح بيانه، هؤلاء القوميون يدعون إلى التكتل حول القومية العربية مسلمها وكافرها، يقولون: نخشى أن تصيبنا دائرة، نخشى أن يعود الاستعمار إلى بلادنا، نخشى أن تسلب ثرواتنا بأيدي أعدائنا، فيوالون لأجل ذلك كل عربي من يهود ونصارى، ومجوس ووثنيين وملاحدة وغيرهم، تحت لواء القومية العربية، ويقولون: إن نظامها لا يفرق بين عربي وعربي، وإن تفرقت أديانهم، فهل هذا إلا مصادمة لكتاب الله، ومخالفة لشرع الله، وتعدٍ لحدود الله، وموالاة ومعاداة، وحب وبغض على غير دين الله ؟ فما أعظمَ ذلك من باطل، وما أسوأه من منهج. القرآن يدعو إلى موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين أينما كانوا وكيفما كانوا، وشرع القومية العربية يأبى ذلك ويخالفه: {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ}[البَقَرَة: 140]، ويقول الله سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} إلى قوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}[المُمتَحنَة: 1].(1/135)
ونظام القومية يقول: كلّهم أولياء، مسلمهم وكافرهم، والله يقول: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}[الشّورى: 13]، ويقول سبحانه: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}[المُمتَحنَة: 4]، وقال تعالى: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللَّهُ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ}[المجَادلة: 22] وشرع القومية؛ أو بعبارة أخرى شرع دعاتها يقول: اقصوا الدين عن القومية، وافصلوا الدين عن الدولة، وتكتلوا حول أنفسكم وقوميتكم، حتى تدركوا مصالحكم وتستردوا أمجادكم، وكأن الإِسلام وقف في طريقهم، وحال بينهم وبين أمجادهم، هذا والله هو الجهل والتلبيس وعكس القضية، سبحانك هذا بهتان عظيم.(1/136)
والآيات الدالة على وجوب موالاة المؤمنين، ومعاداة الكافرين، والتحذير من تولّيهم كثيرة لا تخفى على أهل القرآن، فلا ينبغي أن نطيل ذكرها. وكيف يجوز في عقل عاقل أن يكون أبو جهل، وأبو لهب، وعقبة ابن أبي معيط، والنضر بن الحارث وأضرابهم من صناديد الكفار في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعده إلى يومنا هذا، إخوانا وأولياء لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر الصحابة رضي الله عنهم، ومن سلك سبيلهم من العرب إلى يومنا هذا. هذا والله من أبطل الباطل وأعظم الجهل. وشرع القومية ونظامها يوجب هذا ويقتضيه، وإن أنكره بعض دعاتها جهلا أو تجاهلا وتلبيسا، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وقد أوجب الله على المسلمين أن يتكاتفوا ويتكتلوا تحت راية الإِسلام، وأن يكونوا جسداً واحداً، وبناء متماسكاً ضد عدوهم، ووعدهم على ذلك النصر والعز والعاقبة الحميدة، كما تقدم ذلك في كثير من الآيات...) إلى أن قال:(1/137)
وليس للمسلمين أن يوالوا الكافرين أو يستعينوا بهم على أعدائهم، فإنهم من الأعداء، ولا تؤمن غائلتهم. وقد حرم الله موالاتهم، ونهى عن اتخاذهم بطانة، وحكم على من تولاهم بأنه منهم، وأخبر أن الجميع من الظالمين، كما سبق ذلك في الآيات المحكمات، وثبت في (صحيح مسلم) عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قِبَل بدر، فلما كان بـ (حَرَّةِ الوَبَرَة)(1) أَدْرَكَهُ رجل قد كان يُذْكَرُ منه جُرْأَةٌ ونَجْدَةٌ، ففرح أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين رأوه، فلما أدركه قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: جئت لأتَّبِعَك وأُصِيب معك. قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تُؤْمِنُ بالله ورسوله ؟ قال: لا، قال: فارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِك قالت: ثم مضى حتى إذا كنا بالشجرة أدركه الرجل، فقال له كما قال أول مرة؛ فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قال أول مرة، فقال: لا قال: فارْجِعْ فلن أَسْتَعِينَ بِمُشْرِك قالت: ثم رجع فأدركه في البَيْدَاء، فقال له كما قال أول مرة: تؤمن بالله ورسوله ؟ قال: نعم، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فَانْطَلِقْ(2). فهذا الحديث الجليل، يرشدك إلى ترك الاستعانة بالمشركين، ويدل على أنه لا ينبغي للمسلمين أن يُدخلوا في جيشهم غيرهم، لا من العرب ولا من غير العرب؛ لأن الكافر عدو لا يُؤمَن.. وليعلم أعداء الله أن المسلمين ليسوا في حاجة إليهم، إذا اعتصموا بالله، وصدقوا في معاملته؛ لأن النصر بيده لا بيد غيره، وقد وعد به المؤمنين، وإن قل عددهم وعدتهم كما سبق في الآيات وكما جرى لأهل الإِسلام في صدر الإِسلام، ويدلّ على ذلك أيضاً قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ
__________
(1) …هي معرفة اليوم باسم: الحَرَّة الغربيَّة.
(2) …مسلم (1817).(1/138)
بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآْيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ *}[آل عِمرَان: 118] فانظر أيها المؤمن إلى كتاب ربك وسنة نبيك - عليه الصلاة والسلام - كيف يحاربان موالاة الكفار، والاستعانة بهم واتخاذهم بطانة، والله سبحانه أعلم بمصالح عباده، وأرحم بهم من أنفسهم، فلو كان في اتخاذهم الكفار أولياء من العرب أو غيرهم والاستعانة بهم مصلحة راجحة؛ لأذن الله فيه وأباحه لعباده، ولكن لما علم الله ما في ذلك من المفسدة الكبرى، والعواقب الوخيمة، نهى عنه وذمّ من يفعله، وأخبر في آيات أخرى أن طاعة الكفار، وخروجهم في جيش المسلمين يضرهم، ولا يزيدهم ذلك إلا خبالاً - كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ *بَلِ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ *}[آل عِمرَان]. وقال تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَْوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ *}[التّوبَة].(1/139)
فكفى بهذه الآيات تحذيراً من طاعة الكفار، والاستعانة بهم، وتنفيراً منهم، وإيضاحاً لما يترتب على ذلك من العواقب الوخيمة، عافى الله المسلمين من ذلك، وقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}[التّوبَة: 71] وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَْرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ *}[الأنفَال: 73]؛ أوضح سبحانه أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض، والكفار بعضهم أولياء بعض، فإذا لم يفعل المسلمون ذلك، واختلط الكفار بالمسلمين، وصار بعضهم أولياء بعض، حصلت الفتنة والفساد الكبير، وذلك بما يحصل في القلوب من الشكوك، والركون إلى أهل الباطل والميل إليهم، واشتباه الحق على المسلمين نتيجة امتزاجهم لبعض، كما هو الواقع اليوم من أكثر المدّعين للإِسلام حيث تولّوا الكافرين، واتخاذهم بطانة، فالتبست عليهم الأمور بسبب ذلك، حتى صاروا لايميزون بين الحق والباطل ولا بين الهدى والضلال، ولا بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، فحصل بذلك من الفساد والأضرار مالا يحصيه إلا الله سبحانه.(1/140)
- وقد احتج بعض دعاة القومية على جواز موالاة النصارى والاستعانة بهم بقوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى}[المَائدة: 82]. وزعموا أنها ترشد إلى جواز موالاة النصارى، لكونهم أقرب مودة للذين آمنوا من غيرهم، وهذا خطأ ظاهر وتأويل للقرآن بالرأي المجرد، المصادم للآيات المحكمات المتقدم ذكرها وغيرها، ولما ثبت في السنة المطهرة من التحذير من موالاة الكفار، من أهل الكتاب وغيرهم وترك الاستعانة بهم؛ وقد ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: مَنْ قال في القرآن بِرَأْيِهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ من النار(1). والواجب أن تفسر الآيات بعضها ببعض، ولا يجوز أن يفسر شيء منها بما يخالف بقيتها، وليس في هذه الآية بحمد الله ما يخالف الآيات الدالة على تحريم موالاة الكفار من النصارى وغيرهم، وإنما أُتِي هذا الداعية من سوء فهمه وتقصيره في تدبر الآيات، والنظر في معناها والاستعانة على ذلك بكلام أهل التفسير المعروفين بالعلم والأمانة والإِمامة. ومعنى هذه الآية على ما قال أهل التفسير، وعلى ما يظهر من صريح لفظها: أن النصارى أقرب مودة للمؤمنين من اليهود والمشركين، وليس معناها أنهم يوادّون المؤمنين، ولا أن المؤمنين يوادّونهم. ولو فُرض أن النصارى أحبوا المؤمنين وأظهروا مودتهم لم يجز لأهل الإِيمان أن يوادوهم ويوالوهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد نهاهم عن ذلك في الآيات السالفات؛ ومنها قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ}[المَائدة: 51].
__________
(1) …الترمذي (2950، 2951) وقال في الموضع الأول: «حسن صحيح»، وفي الموضع الثاني: «حديث حسن»، والنسائي في «الكبرى» (8084، 8085)، وأحمد في «المسند» (1/233، 269، 327) .(1/141)
وقوله تعالى: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللَّهُ وَرَسُولَهُ}[المجَادلة: 22]، ولا ريب أن النصارى من المحادّين لله ولرسوله، النابذين لشريعته، المكذبين له ولرسوله - عليه أفضل الصلاة والسلام - فكيف يجوز لمن يؤمن بالله واليوم الآخر، أن يوادّهم أو يتخذهم بطانة ؟! نعوذ بالله من الخذلان وطاعة الهوى والشيطان.
- وزعم آخر من دعاة القومية: أن الله سبحانه قد سهل في موالاة الكفار الذين لم يخرجونا من ديارنا، واحتج على ذلك بقوله تعالى: {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ *}[المُمتَحنَة]، وهذا كالذي قبله احتجاج باطل، وقول في القرآن بالرأي المجرد، وتأويل للآية على غير تأويلها. والله سبحانه حرم موالاة الكفار ونهى عن اتخاذهم بطانة في الآيات المحكمات، ولم يفصل بين أجناسهم، ولا بين من قاتلنا ومن لم يقاتلنا، فكيف يجوز لمسلم أن يقول على الله مالم يقل، وأن يأتي بتفصيل من رأيه لم يدلّ عليه كتاب ولا سنة ؟! سبحان الله ما أحلمه، وإنما معنى الآية المذكورة عند أهل العلم، الرخصة في الإِحسان إلى الكفار، والصدقة عليهم إذا كانوا مسالمين لنا، بموجب عهد أو أمان أو ذمة، وقد صح في السنة ما يدل على ذلك، كما ثبت في الصحيح: أنَّ أُمَّ أسماء بنت أبي بكر قدمت عليها في المدينة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي مُشْرِكة تريد الدنيا، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أسماءَ أن تَصِلَ أُمَّها(1)، وذلك في مدة الهدنة التي وقعت بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين أهل مكة. وصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه أعطى عمر جُبَّةً من حرير، فأهداها إلى أخٍ
__________
(1) …البخاري (2620) وأطرافه فيه، ومسلم (1003) بمعناه.(1/142)
له بمكة مشرك(1). فهذا وأشباهه من الإِحسان الذي قد يكون سبباً في الدخول في الإِسلام، والرغبة فيه، وإيثاره على ما سواه، وفي ذلك صلة للرحم، وجود على المحتاجين، وذلك ينفع المسلمين ولا يضرهم، وليس من موالاة الكفار في شيء كما لا يخفى على ذوي الألباب والأبصار.
- وللقوميين هنا شبهة: وهي أنهم يقولون: إن التكتل حول القومية العربية بدون تفرقة بين المسلم والكافر يجعل العرب وحدة قوية، وبناء شامخاً، يهابهم عدوهم ويحترم حقوقهم. وإذا انفصل المسلمون عن غيرهم من العرب، ضعفوا وطمع فيهم العدو. وشبهة أخرى وهي أنهم يقولون: إن العرب إذا اعتصموا بالإِسلام، وتجمعوا حول رايته، حقد عليهم أعداء الإِسلام، ولم يعطوهم حقوقهم، وتربصوا بهم الدوائر، خوفاً من أن يثيروها حروباً إسلامية، ليستعيدوا بها مجدهم السالف، وهذا يضرنّا ويؤخر حقوقنا ومصالحنا المتعلقة بأعدائنا، ويثير غضبهم عليها. والجواب أن يقال:
__________
(1) …البخاري (886) وأطرافه فيه، ومسلم (2068) بمعناه.(1/143)
إن اجتماع المسلمين حول الإِسلام، واعتصامهم بحبل الله، وتحكيمهم لشريعته، وانفصالهم من أعدائهم والتصريح لهم بالعداوة والبغضاء، هو سبب نصر الله لهم وحمايتهم من كيد أعدائهم، وهو وسيلة إنزال الله الرعب في قلوب الأعداء من الكافرين، حتى يهابوهم ويعطوهم حقوقهم كاملة غير منقوصة، كما حصل لأسلافهم المؤمنين؛ فقد كان بين أظهرهم من اليهود والنصارى الجمع الغفير، فلم يوالوهم ولم يستعينوا بهم، بل والوا الله وحده، واستعانوا به وحده، فحماهم وأيدهم ونصرهم على عدوهم، والقرآن والسنة شاهدان بذلك، والتاريخ الإِسلامي ناطق بذلك، قد علمه المسلم والكافر. وقد خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر إلى المشركين، وفي المدينة اليهود، فلم يستعن بهم، والمسلمون في ذلك الوقت ليسوا بالكثرة، وحاجتهم إلى الأنصار والأعوان شديدة، ومع ذلك فلم يستعن نبي الله والمسلمون باليهود، لا يوم بدر ولا يوم أُحد، مع شدة الحاجة إلى المعين في ذلك الوقت، ولاسيما يوم أحد. وفي ذلك أوضح دلالة على أنه لا ينبغي للمسلمين أن يستعينوا بأعدائهم، ولا يجوز أن يوالوهم أو يدخلوهم في جيشهم، لكونهم لا تؤمن غائلتهم، ولما في مخالطتهم من الفساد الكبير، وتغيير أخلاق المسلمين، وإلقاء الشبهة، وأسباب الشحناء والعداوة بينهم، ومن لم تسعه طريقة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وطريقة المؤمنين السابقين، فلا وسع الله عليه. وأما حقد غير المسلمين على المسلمين إذا تجمعوا حول الإِسلام، فذلك مما يرضي الله عن المؤمنين ويوجب لهم نصره، حيث أغضبوا أعداءه من أجل رضاه، ونصر دينه والحماية لشرعه. ولن يزول حقد الكفار على المسلمين، إلا إذا تركوا دينهم واتبعوا ملة أعدائهم، وصاروا في حزبهم، وذلك هو الضلال البعيد والكفر الصريح، وسبب العذاب والشقاء في الدنيا والآخرة؛ كما قال سبحانه: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}[البَقَرَة:(1/144)
120]، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ}[البَقَرَة: 120]، وقال تعالى: {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البَقَرَة: 217]، وقال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَْمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ *إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ *}[الجَاثيَة]، فأبان الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات البيّنات: أن الكفار لن يرضوا عنا حتى نتّبع ملتهم، وندع شريعتنا، وإنهم لا يزالون يقاتلونا حتى يردونا عن ديننا إن استطاعوا.
وأخبر أنه متى أطعناهم واتبعنا أهواءهم، كنا من المخلدين في النار، إذا متنا على ذلك، نسأل الله العافية من ذلك، ونعوذ بالله من موجبات غضبه وأسباب انتقامه.(1/145)
الوجه الرابع: من الوجوه الدالة على بطلان الدعوة إلى القومية العربية أن يقال: إن الدعوة إليها والتكتل حول رايتها يُفضِي بالمجتمع ولابد إلى رفض حكم القرآن؛ لأن القوميين غير المسلمين لن يرضوا تحكيم القرآن، فيوجب ذلك لزعماء القومية أن يتخذوا أحكاما وضعية تخالف حكم القرآن، حتى يستوي مجتمع القومية في تلك الأحكام. وقد صرح الكثير منهم بذلك كما سلف. وهذا هو الفساد العظيم، والكفر المستبين والردة السافرة؛ كما قال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا *}[النِّسَاء].(1/146)
وقال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ *}[المَائدة]، وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}[المَائدة، من الآية: 44]، وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[المَائدة، من الآية: 45]، وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[المَائدة، من الآية: 47]. وكل دولة لا تحكم بشرع الله، ولا تنصاع لحكم الله، ولا ترضاه فهي دولة جاهلية كافرة، ظالمة فاسقة بنص هذه الآيات المحكمات، يجب على أهل الإِسلام بغضها ومعاداتها في الله، وتحرم عليهم مودتها وموالاتها حتى تؤمن بالله وحده، وتحكّم شريعته، وترضى بذلك لها وعليها؛ كما قال عز وجل: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}[المُمتَحنَة: 4].
الشيخ ابن باز - مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (1/285-306)
بيان مهم من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية في التحذير من وسائل التنصير
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للناس أجمعين، خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا ورسولنا محمد وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .. أما بعد:(1/147)
فغير خافٍ على كل من نَوَّرَ الله بصيرته من المسلمين شدة عداوة الكافرين من اليهود والنصارى وغيرهم للمسلمين، وتحالف قواهم واجتماعها ضد المسلمين؛ ليُرْدُوهُم وليلبسوا عليهم دينهم الحق، دين الإسلام الذي بعث الله به خاتم أنبيائه ورسله محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى الناس أجمعين، وإن للكفار - في الصد عن الإسلام وتضليل المسلمين، واحتوائهم، واستعمار عقولهم، والكيد لهم - وسائل شتى، وقد نشطت دعواتهم وجمعياتهم وإرسالياتهم، وعظمت فتنتهم في زمننا هذا، فكان من وسائلهم ودعواتهم المضللة: بعث نشرة باسم: (معهد أهل الكتاب في دولة جنوب أفريقيا) تُبعث للأفراد والمؤسسات والجمعيات عبر صناديق البريد في جزيرة العرب - أصل الإسلام ومعقله الأخير - متضمنةً هذه النشرة برامج دراسية عن طريق المراسلة، وبطاقة اشتراك بدون مقابل في كتب (التوراة، والزبور، والإنجيل)، وعلى ظهر هذه النشرة مقتطفات من هذه الكتب.
هذا وإن من عاجل البشرى للمسلمين: استنكار هذا الغزو المنظم، والتحذير منه بجميع وسائله، وكان من هذه المواقف المحمودة: وصول عدد من الكتابات والمكالمات، إلى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، آملين صدور بيان يقف أمام هذه النشرات، ويحذر من هذه الدعوات الكفرية الخطيرة على المسلمين. فنقول وبالله التوفيق:(1/148)
منذ أشرقت شمس الإسلام على الأرض وأعداؤه - على اختلاف عقائدهم ومللهم - يكيدون له ليلاً ونهارًا، ويمكرون بأتباعه كلما سنحت له فرصة؛ ليخرجوا المسلمين من النور إلى الظلمات، ويُقَوِّضوا دولة الإسلام، ويضعفوا سلطانه على النفوس، ومصداق ذلك في كتاب الله تعالى إذ يقول: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ}[البَقَرَة: 105]، وقال سبحانه: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ}[البَقَرَة: 109]، وقال جل وعلا: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ *}[آل عِمرَان].
وكان من أبرز أعداء هذا الدين: (النصارى الحاقدون) الذين كانوا ولا يزالون يبذلون قصارى جهدهم وغاية وسعهم لمقاومة المد الإسلامي في أصقاع الدنيا، بل ومهاجمة الإسلام والمسلمين في عُقْر ديارهم، لا سيما في حالات الضعف التي تنتاب العالم الإسلامي كحالته الراهنة اليوم، ومن المعلوم بداهة: أن الهدف من هذا الهجوم هو: زعزعة عقيدة المسلمين وتشكيكهم في دينهم؛ تمهيدًا لإخراجهم من الإسلام، وإغرائهم باعتناق النصرانية عَبْرَ ما يُعرف خطأً بـ (التبشير)، وما هو إلا دعوة إلى (الوثنية) في النصرانية المحرفة التي ما أنزل الله بها من سلطان، ونبي الله عيسى عليه السلام منها براء.(1/149)
وقد أنفق النصارى أموالاً طائلة وجهودًا كبيرة في سبيل تحقيق أحلامهم في تنصير العالم عمومًا، والمسلمين على وجه الخصوص، ولكن حالهم كما قال الله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ *}[الأنفَال]. وقد عقدوا من أجل هذه الغاية مؤتمرات عدة: إقليمية وعالمية منذ قرن من الزمان وإلى الآن؛ توافد إليها المنصِّرون العاملون من كل مكان لتبادل الآراء والمقترحات حول أنجع الوسائل وأهم النتائج، ورسموا لذلك الخطط، ووضعوا البرامج؛ فكان من وسائلهم:
* إرسال البعثات التنصيرية إلى بلدان العالم الإسلامي، والدعوة إلى النصرانية من خلال توزيع المطبوعات من كتب ونشرات تعرِّف بالنصرانية، وترجمات للإنجيل، ومطبوعات للتشكيك في الإسلام، والهجوم عليه، وتشويه صورته أمام العالم.
* ثم اتجهوا أيضًا إلى التنصير بطرق مغلَّفة وأساليب غير مباشرة؛ ولعل من أخطر هذه الأساليب ما كان:
1- عبر التطبيب وتقديم الرعاية الصحية للإنسان: وقد ساهم في تأثير هذا الأساليب: عامل الحاجة إلى العلاج، وكثرة انتشار الأوبئة والأمراض الفتاكة في البيئات الإسلامية، خصوصًا مع مرور زمن فيه ندرة الأطباء المسلمين؛ بل فقدانهم أصلاً في بعض البلاد الإسلامية.(1/150)
2- التنصير عن طريق التعليم: وذلك إما بإنشاء المدارس والجامعات النصرانية صراحة، أو بفتح مدارس ذات صبغة تعليمية بحتة في الظاهر، وكيد نصراني في الباطن، مما جعل فئامًا من المسلمين يلقون بأبنائهم في تلك المدارس؛ رغبةً في تعلم لغة أجنبية، أو مواد خاصة أخرى، ولا تَسَلْ بعد ذلك عن حجم الفرصة التي يمنحها المسلمون للنصارى حين يهدونهم فلذات أكبادهم في سن الطفولة والمراهقة، حيث الفراغ العقلي والقابلية للتلقي؛ أيًّا كان المُلْقي !! وأيًا كان الملْقَى!!
3- التنصير عبر وسائل الإعلام: وذلك من خلال الإذاعات الموجهة للعالم الإسلامي، إضافة إلى طوفان البث المرئي عبر القنوات الفضائية في السنوات الأخيرة، فضلاً عن الصحف والمجلات والنشرات الصادرة بأعداد هائلة ... وهذه الوسائل الإعلامية المرئية والمسموعة والمقروءة كلها تشترك في دفع عجلة التنصير من خلال مسالك عدة:
أ-…الدعوة إلى النصرانية بإظهار مزاياها الموهومة والرحمة والشفقة بالعالم أجمع.
ب-…إلقاء الشبهات على المسلمين في عقيدتهم وشعائرهم وعلاقاتهم الدينية.
جـ-…نشر العري والخلاعة وتهييج الشهوات؛ بغية الوصول إلى انحلال المشاهدين، وهدم أخلاقهم، ودك عفتهم، وذهاب حيائهم، وتحويل هؤلاء المنحلين إلى عُبَّاد شهوات وطلاب متع رخيصة؛ فيسهل بعد ذلك دعوتهم إلى أي شيء، حتى لو كان إلى الردة والكفر بالله - والعياذ بالله - وذلك بعد أن خبت جذوة الإيمان في القلوب، وانهار حاجز الوازع الديني في النفوس.(1/151)
* وهناك وسائل أخرى للتنصير، يدركها الناظر ببصيرة في أحوال العالم الإسلامي، نتركها اختصارًا؛ إذ المقصود ههنا التنبيه لا الحصر، وإلا فالأمر كما قال الله عز وجل: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}[الأنفَال: 30]، وكما قال سبحانه: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ *}[التّوبَة].
* تلك مكائد المنصرين، وهذا مكرهم لإضلال المسلمين!! فما واجب المسلمين تجاه ذلك ؟ وكيف يكون التصدي لتلك الهجمات الشرسة على الإسلام والمسلمين ؟
لا شك أن المسؤولية كبيرة ومشتركة بين المسلمين، أفرادًا وجماعات، حكومات وشعوبًا؛ للوقوف أمام هذا الزحف المسموم الذي يستهدف كل فرد من أفراد هذه الأمة المسلمة، كبيرًا كان أو صغيرًا، ذكرًا أو أنثى، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ويمكننا القول فيما يجب أداؤه على سبيل الإجمال - مع التسليم بأن لكل حال وواقع ما يناسبه من الإجراءات والتدابير الشرعية - ما يلي:
1-…تأصيل العقيدة الإسلامية في نفوس المسلمين من خلال مناهج التعليم وبرامج التربية بصفة عامة، مع التركيز على ترسيخها في قلوب الناشئة خاصة؛ في المدارس ودور التعليم الرسمية والأهلية.
2-…بث الوعي الديني الصحيح في طبقات الأمة جميعًا، وشحن النفوس بالغيرة على الدين وحرماته ومقدساته.
3-…التأكيد على المنافذ التي يدخل منها النتاج التنصيري من أفلام ونشرات ومجلات وغيرها، بعدم السماح لها بالدخول، ومعاقبة كل من يخالف ذلك بالعقوبات الرادعة.
4-…تبصير الناس وتوعيتهم بمخاطر التنصير وأساليب المنصرين، وطرائقهم؛ للحذر منها، وتجنب الوقوع في شباكها.(1/152)
5-…الاهتمام بجميع الجوانب الأساسية في حياة الإنسان المسلم، ومنها: الجانب الصحي والتعليمي على وجه الخصوص؛ إذ دلت الأحداث أنهما أخطر منفذين عَبَرَ من خلالهما النصارى إلى قلوب الناس وعقولهم.
6-…أن يتمسك كل مسلم في أي مكان على وجه الأرض بدينه وعقيدته مهما كانت الظروف والأحوال، وأن يقيم شعائر الإسلام في نفسه ومن تحت يده حسب قدرته واستطاعته، وأن يكون أهل بيته محصنين تحصينًا ذاتيًا لمقاومة كل غزو ضدهم يستهدف عقيدتهم وأخلاقهم.
7-…الحذر من قبل كل فرد وأسرة من السفر إلى بلاد الكفار؛ إلا لحاجة شديدة كعلاج أو علم ضروري لا يوجد في البلاد الإسلامية، مع الاستعداد لدفع الشبهات والفتنة في الدين الموجهة للمسلمين.
8-…تنشيط التكافل الاجتماعي بين المسلمين والتعاون بينهم، فيراعي الأثرياء حقوق الفقراء، ويبسطوا أيديهم بالخيرات والمشاريع النافعة؛ لسد حاجات المسلمين، حتى لا تمتد إليهم أيدي النصارى الملوثة، مستغلة حاجتهم وفاقتهم.
وختامًا: نسأل الله الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجمع شمل المسلمين، وأن يؤلف بين قلوبهم، ويصلح ذات بينهم، ويهديهم سبل السلام، وأن يحميهم من مكائد الأعداء، ويعيذهم من شرورهم، ويجنبهم الفواحش والفتن، ما ظهر منها وما بطن، إنه أرحم الراحمين.
اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه، وارْدُد كيده في نحره، وأدِرْ عليه دائرة السوء، إنك على كل شيء قدير.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء كتاب (فتاوى وبيانات مهمة...) - ص (15)
بيان من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عن حكم فتح المدارس الأجنبية(1) في بلاد المسلمين
الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده نبينا محمد، وعلى آله وصحبه .. وبعد:
__________
(1) …وهي المسماة بالمدارس العالمية.(1/153)
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما ورد إليها من كتابات وأسئلة واستفسارات حول ظاهرة شيوع المدارس والكليات الأجنبية في بلاد المسلمين، والمراد بها: تلك المدارس التي أسست على غير تقوى من الله ورضوان، وإنما أسست على مناهج إفرنجية لا تمت إلى الإسلام ولغته وتاريخه بصلة.
ولا يخفى على كل مسلم نوّر الله بصيرته شدة عداوة اليهود والنصارى للمسلمين، وأنهم لا يزالون يكيدون للإسلام وأهله - ليلاً ونهاراً - ويعملون الخطط والشِّباك للوقيعة بالمسلمين وإخراجهم من دينهم الحق إلى شعب الغواية والضلال !! فصارعوا المسلمين بالغزو المسلّح أحقابًا من الزمن، ثم أخذوا يدسون الشبهات على العقول المسلمة في عقيدتهم وقرآنهم ونبيهم - وهو ما اصطلح عليه بالغزو الفكري أو الثقافي - حتى آلت النوبة إلى طعن المسلمين في أجيالهم وعقولهم صراحة عن طريق فتح المدارس والكليات ذات الصبغة الإلحادية من جهة، والإباحية من جهة أخرى. فنشطوا في العناية بها شكلاً ومضمونًا لجذب عدد أكبر من عامة المسلمين لإضلالهم وإغوائهم، وجدّوا في تكثيرها والدعاية لها، حتى أصبح لها في كل بلد إسلامي منارة وصوت، وتخرج فيها من أولاد المسلمين ذكورًا وإناثًا ما تتجرع الأمة بسببهم أصناف الانحلال العقدي والأخلاقي، والسعي في قذف الأمة في محاضن أعدائها، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وقد قام ثلة من علماء الأقطار الإسلامية - شكر الله سعيهم - في الشام ومصر والجزيرة العربية وغيرها ببيان خطر هذه المدارس على المسلمين، وأنها امتداد للهجمات الشرسة من أعدائهم للقضاء على الإسلام في قلوب المسلمين وحياتهم.
وامتدادًا لتلك الجهود المباركة من علماء الأمة؛ فإن اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء تقرر ما يلي:(1/154)
أولاً: فتح المدارس والكليات الأجنبية في بلاد المسلمين وسيلة من وسائل الغزو المنظم ضد المسلمين من قبل أعدائهم؛ لاسيما (المنصّرون)، وأنها خطة خبيثة كشف عن حقيقتها الغيورون على مصالح هذه الأمة، وسبق أن صدر من هذه اللجنة فتوى برقم (20096)، وتاريخ 22/12/1418هـ في التحذير من وسائل التنصير، ومنها: فتح المدارس الأجنبية في بلاد المسلمين.
ثانيًا: بناء على ما تقدم: فإنه لا يجوز للمسلمين فتح المدارس والكليات الأجنبية، ولا تشجيعها، ولا الرضا بها، ولا إدخال أولاد المسلمين فيها؛ لأنها من وسائل الهدم والتدمير للعقيدة الإسلامية والأخلاق السوية، وهذا ضرر ظاهر، وفساد محقق يجب دفعه، وسد الذرائع الموصلة إليه. ويزداد الأمر تحريمًا فتح هذه المدارس في جزيرة العرب؛ لما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: لا يَجْتَمِعُ دِينَانِ في جزيرةِ العَرَب (1)، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - أَوْصَى بإخراج الكفار منها(2).
ثالثًا: لا يجوز لمسلم بناء ولا تأجير الأماكن والمحلات للمدارس والكليات الأجنبية؛ لأن ذلك من التعاون على الإثم والعدوان، والله عز وجل يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِّرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِْثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[المَائدة: 2]، وسبق أن صدر من هذه اللجنة فتوى برقم (20262)، وتاريخ 3/3/1419هـ تقضي بتحريم ذلك.
رابعًا: يجب على جميع المسلمين - رعاةً ورعيةً - العناية بتعليم الأولاد ذكورًا وإناثًا الإسلام الحق عقيدةً وأحكامًا وأخلاقًا وآدابًا، ولا يجوز تفريغ برامج التربية والتعليم من ذلك، ولا مزاحمة دين الإسلام بغيره من العقائد والمذاهب والآراء الباطلة.
__________
(1) …موطأ مالك 2/892 (1584)، والبيهقي في «السنن الكبرى» 9/208 (18531).
(2) …البخاري (3053، 3168، 4431)، ومسلم (1637، 1767).(1/155)
خامسًا: ليعلم كل مسلم استرعاه الله رعية أن الله عز وجل سيسأله عن هذه الأمانة التي حملها؛ فإن كان أدّاها على الوجه الأكمل ونصح لها فليحمد الله، وإن كان غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه، قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ *}[الأنفَال]، وقال جل شأنه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}[التّحْريم: 6].وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - كُلُّكم رَاعٍ، وكلكم مَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِه (1)، وقال أيضًا عليه الصلاة والسلام: ما مِن عبد يَسْتَرْعِيهِ الله رَعِيَّةً، يموتُ يومَ يموت وهو غَاشٌّ لرعيَّتِه؛ إلا حَرَّمَ الله عليه الجنّة(2).
نسأل الله عز وجل أن يصلح أحوال المسلمين، وأن يبطل كيد الكائدين، وأن يتوفانا مسلمين، إنه على كل شيء قدير. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء كتاب (فتاوى وبيانات مهمة...) - ص (29)
بيان من هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية حول المؤتمر العالمي الرابع المَعْنِيِّ بالمرأة (مؤتمر بِكِّين)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين الذي أوصى بالنساء خيرًا؛ فقال: اِسْتَوْصُوا بالنساء خيرًا (3)، وقال: خَيْرُكُم خيرُكم لأَِهْلِه وأنا خيركم لأهلِي (4)، فكان بأقواله وأفعاله داعيًا إلى الرحمة وهو نبي الرحمة .. وبعد:
__________
(1) …البخاري (893) وأطرافه عنده.
(2) …البخاري (7150)، ومسلم (142) واللفظ له.
(3) …مسلم (1468).
(4) …الترمذي (3895)، وابن ماجه (1977)، وابن حبان في «صحيحه» (4177)، والبيهقي في «الكبرى» (15477)، وقال الترمذي: « حسن غريب صحيح ».(1/156)
فإن مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية قد اطلع في دورته الاستثنائية التاسعة - المعقودة في مدينة الطائف ابتداء بيوم الثلاثاء 3/4/1416هـ - على مذكرة منهاج عمل مؤتمر المرأة المقرر عقده في بكين عاصمة الصين، وتَأمَّل منهاج هذا المؤتمر وأهدافه، ورأى مناقضات بعض مواد هذا المنهاج لبعض مواده، وتعمية متعمدة، والتواء في العبارات واضحاً، والهدف منه إطلاق الرغبات من كل قيد وإفساح المجال للممارسات البعيدة عن ضوابط الأخلاق، وفطرة الله التي فطر الناس عليها، وشريعته التي شرعها لعباده، للانفلات وراء الرغبات الجنسية وإعداد الفتيات لهذه النزوات تحت ستار حرية المرأة، والرفق بالمرأة، ومشكلة المرأة.
ومعلوم أن المرأة المسلمة لا تواجهها مشكلة من حيث مكانتها في المجتمع؛ فهي أم وزوجة وأخت وبنت، كفلت لها شريعة الإسلام جميع الحقوق، وصانتها عن الابتذال والإذلال بكل معاني الصيانة والاحترام، وأعطتها من الحقوق كل ما يناسب تكوينها الذي منحها إياه خالقها؛ كما قال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[البَقَرَة: 228].(1/157)
وفضَّل الرجل عليها في أحكام كثيرة، كالإرث والشهادة وأمور أخرى؛ كما قال الله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ}[النِّسَاء: 34]، وقال سبحانه في سورة النساء أيضًا: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ}[النِّسَاء: 11]، وقال سبحانه في آخرها: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[النِّسَاء: 176]، وقال تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}[البَقَرَة: 282].
ووثيقة منهاج عمل مؤتمر المرأة فيها المصادمة الصريحة لما شرعه الله، والإلزام بنبذ كل ما جاء عن الله؛ إذا كان يخالف ما يدعو إليه هذا المؤتمر، وفي ذلك مصادمة لشرع الله، وتحطيم للأسرة، ومحادة لله ورسوله ولكافة رسله وأنبيائه، وإباحة صريحة لممارسات الزنا وغيره من الفواحش، وقضاء على ما بقي لدى الأمم من الأخلاق والقيم، وبذل لأموال طائلة في سبيل هذا الهدف الخبيث البعيد عن فطرة الله التي فطر الناس عليها وعن شرع الله الحكيم؛ مما لو بذل بعضه لإغاثة أمم منكوبة أو حماية أمم مقهورة بالظلم والعدوان لكفى، وما هذا المؤتمر إلا عقدة في سلسلة عقد سابقة ولاحقة يترتب عليها تدمير الكيان الاجتماعي السليم، أو الباقي على شيء من القيم الكريمة.(1/158)
ولكل ما تقدم فإن مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية يدعو المسلمين: حكومات وشعوبًا وعلماءً ومنظمات وجماعات وأفرادًا للتنديد بمنهاج هذا المؤتمر، والتحذير منه، ودعوة الجميع للرد على أهدافه التي تقدمت الإشارة إليها؛ إنكارًا لما أنكره الله ورسوله وحماية للمسلمين عن الوقوع فيها. والله ولي التوفيق.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه، ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية من كتاب (فتاوى وبيانات مهمة...) - ص (15)
التعريف الاصطلاحي لأهل السنة والجماعة
ما التعريف الاصطلاحي لأهل السنة والجماعة ؟ هل العلماء من مدرسة بريلوي بالهند يعتبرون من أهل السنة والجماعة ؟ ولماذا ؟
هم: من كانوا على مثل ما كان عليه محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين، فهؤلاء هم أهل السنة والجماعة.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (2/156) شرح حديث الثلاث وسبعين فرقة
ما المراد بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الأمة حيث يقول في حديث: «كلهم في النار إلاَّ واحدة» ؟ وما الواحدة ؟ وهل الاثنتان والسبعون فرقة كلهم خالدون في النار على حكم المشرك أم لا ؟
إذا قيل: أمة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، هل هذه الأمة تقال لأتباعه وغير الأتباع أو يقال لأتباعه فقط ؟(1/159)
المراد بالأمة في هذا الحديث: أمة الإجابة، وأنها تنقسم ثلاثًا وسبعين: ثنتان وسبعون منها منحرفة مبتدعة بدعًا لا تخرج بها من ملة الإسلام؛ فتعذب ببدعتها وانحرافها إلا من عفا الله عنه وغفر له، ومآلها الجنة. والفرقة الواحدة الناجية هي أهل السنة والجماعة الذين استنوا سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولزموا ما كان عليه هو وأصحابه رضي الله عنهم، وهم الذين قال فيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تزالُ طائفة من أمتي قائمةٌ على الحق ظاهِرِين لا يضرُّهم مَنْ خالَفَهُم ولا من خَذَلهم حتى يأتي أمرُ الله (1)، أما من أخرجته بدعته عن الإسلام فإنه من أمة الدعوة لا الإجابة فيخلد في النار، وهذا هو الراجح.
وقيل المراد بالأمة في هذ الحديث: أمة الدعوة، وهي عامة تشمل كل من بعث إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - من آمن منهم ومن كفر، والمراد بالواحدة: أمة الإجابة، وهي خاصة بمن آمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إيمانًا صادقًا ومات على ذلك، وهذه هي الفرقة الناجية من النار: إما بلا سابقة عذاب وإما بعد سابقة عذاب، ومآلها الجنة.
وأما الاثنتان والسبعون فرقة فهي ما عدا الفرقة الناجية وكلها كافرة مخلدة في النار.
وبهذا يتبين أن أمة الدعوة أعم من أمة الإجابة؛ فكل من كان من أمة الإجابة فهو من أمة الدعوة، وليس كل من كان من أمة الدعوة من أمة الإجابة.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (2/157)
هل الأشاعرة من أهل السنة والجماعة ؟
__________
(1) …الإمام أحمد (5/34، 269، 278، 279)، والبخاري (3639، 7311، 7459)، ومسلم (156، 1037، 1920، 1921، 1923، 1924، 1925) بألفاظ مختلفة.(1/160)
تعلمنا في المدارس أن مذهب أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته هو الإيمان بها من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، وأن لا نصرف النصوص الواردة فيها عن ظواهرها. ولكننا بعد ذلك التقينا بأناس زعموا لنا أن هناك مدرستين في مذهب أهل السنة والجماعة، المدرسة الأولى مدرسة ابن تيمية وتلاميذه رحمهم الله، والمدرسة الثانية: مدرسة الأشاعرة، والذي تعلمناه هو ما ذكره ابن تيمية وتلاميذه، أما بقية أهل السنة والجماعة من الأشاعرة والماتريدية وغيرهم فإنهم يرون أن لا مانع من تأويل صفات الله وأسمائه إذا لم يتعارض هذا التأويل مع نص شرعي، ويحتجون لذلك بما قاله ابن الجوزي رحمه الله وغيره في هذا الباب، بل إن إمام أهل السنة أحمد بن حنبل قد أول في بعض الصفات مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - : «قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن»، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «الحجر الأسود يَمينُ الله في الأرض» وقوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ}[الحَديد: 4] وغير ذلك.
والسؤال الآن: هل تقسيم أهل السنة والجماعة إلى طائفتين بهذا الشكل صحيح ؟ وما هو رأيكم فيما ذكروه من جواز التأويل إذا لم يتعارض مع نص شرعي ؟ وما هو موقفنا من العلماء الذين أوَّلُوا في الصفات مثل ابن حجر والنووي وابن الجوزي وغيرهم .. هل نعتبرهم من أئمة أهل السنة والجماعة أم ماذا ؟ وهل نقول: إنهم أخطؤوا في تأويلاتهم أم كانوا ضالين في ذلك ؟ ومن المعروف أن الأشاعرة يؤولون جميع الصفات ما عدا صفات المعاني السبعة .. فإذا وجد أحد العلماء يؤول صفتين أو ثلاثة هل يعتبر أشعريًا ؟(1/161)
أولاً: دعوى أن الإمام أحمد أَوَّل بعض نصوص الصفات؛ كحديث قُلُوب العباد بين أُصْبُعَيْنِ من أصابِع الرحمن ... (1)، وحديث الحجرُ الأسود يَمِينُ الله في الأرض ... (2)إلخ - دعوى غير صحيحة، قال الإمام أحمد بن تيمية: (وأما ما حكاه أبو حامد الغزالي عن بعض الحنبلية أن أحمد لم يتأول إلاَّ ثلاثة أشياء: الحَجَرُ الأسود يَمِينُ الله في الأرض و قلوبُ العباد بين أصْبُعَيْنِ من أَصَابِعِ الرَّحْمَن و وإني أَجِدُ نَفَسَ الرحمن مِن قِبَلِ اليَمَن (3) فهذه الحكاية كذب على أحمد، لم ينقلها أحد عنه بإسناد، ولا يعرف أحد من أصحابه نقل ذلك عنه، وهذا الحنبلي الذي ذكر عنه أبو حامد مجهول لا يعرف، لا علمه بما قال، ولا صدقه فيما قال). اهـ. من ص 398 من ج5 من [مجموع الفتاوى].
وبيان ذلك أن للتأويل ثلاثة معان:
الأول: مآل الشيء وحقيقته التي يؤول إليها، كما في قوله تعالى عن يوسف عليه السلام: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ}[يُوسُف: 100]، أي حقيقتها التي آلت إليها وقوعًا، وليس هذا مقصودًا في النصوص المذكورة في السؤال.
__________
(1) …مسلم (2654) بلفظ: « إن قلوب بني آدم كلها بين إِصبعين... ».
(2) …عزاه السيوطي في "الدر المنثور" 1/324 للجندي والأزرقي عن ابن عباس رضي الله عنهما.… وانظر: "مجموع الفتاوى" لابن تيمية: (3/43، 44)، (5/398)، (6/580)، (33/184).
(3) …الطبراني في «مسند الشاميين» 2/149 (1083) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال العراقي رحمه الله: «لم أجد له أصلاً». انظر: «كشف الخفاء» 1/251، 304 (659، 801). لكن أخرجه الإمام أحمد في «مسنده» 2/541، والطبراني «الأوسط» (4661)، من حديث أبي هريرة أيضاً؛ قال في «مجمع الزوائد» 10/56: «رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير شبيب وهو ثقة».(1/162)
الثاني: التأويل بمعنى صرف الكلام عن معناه الظاهر المتبادر منه إلى معنى خفي بعيد لقرينة، وهذا المعنى هو المصطلح عليه عند علماء الكلام وأصول الفقه، وليس متحققًا في النصوص المذكورة في السؤال؛ فإن ظاهرها مراد لم تصرف عنه؛ لأنه حق كما سيأتي شرحه في المعنى الأخير للتأويل.
الثالث: التأويل بمعنى التفسير وهو شرح معنى الكلام بما يدل عليه ظاهره ويتبادر إلى ذهن سامعه الخبير بلغة العرب وهو المقصود هنا، فإن جملة الحجرُ الأسود يَمِينُ الله في الأرض ليس ظاهرها أن الحجر صفة لله وأنه يمينه حتى يصرف عنه؛ بل معناه الظاهر منه أنه كيمينه بدليل بقية الأثر وهو جملة: فمن صَافَحَهُ فكأنما صافَحَ الله، ومن قَبَّلَهُ فكأنما قبَّلَ يمينَ الله ؛ فمن ضم أول الأثر إلى آخره تبين له أن ظاهره مراد لم يصرف عنه وأنه حق، وهذا ما يقوله أئمة السلف كالإمام أحمد وغيره منهم، وهو تأويل بمعنى التفسير لا بمعنى صرف الكلام عن ظاهره، كما زعمه المتأخرون، علمًا بأن ما ذكر لم يصح حديثًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ بل هو أثر عن ابن عباس رضي الله عنهما، وكذا القول في حديث: قُلُوب العِبَاد بين أصْبُعَيْن مِن أصَابِع الرحمن فإن ظاهره لا يدل على مماسة ولا مداخلة وإنما يدل ظاهره على إثبات أصابع للرحمن حقيقة، وقلوب للعباد حقيقة، ويدل إسناد أحد ركني الجملة إلى الآخر على كمال قدرة الرحمن وكمال تصريفه لعباده - كما يقال: فلان وقف بين يدي الملك أو في قبضة يد الملك. فإن ذلك لا يقتضي مماسة ولا مداخلة وإنما يدل ظاهره على وجود شخص وملك له يدان، ويدل ما في الكلام من إسناد على حضور شخص عند الملك وعلى تمكن الملك من تصريفه دون مماسة أو مداخلة، وكذا القول في قوله تعالى: {بِيَدِهِ الْمُلْكُ}[المُلك: 1]، وقوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا}[القَمَر: 14]، وأمثال ذلك.(1/163)
ثانيًا: تقسيم أهل السنة والجماعة إلى طائفتين بهذا الشكل غير صحيح، وبيانه: أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا أمة واحدة عقيدة وسياسة حتى إذا كانت خلافة عثمان رضي الله عنه بدرت بوادر الاختلاف في السياسة دون العقيدة، فلما قتل وبايع عليًا جماعة وبايع معاوية آخرون رضي الله عنهم وكان ما بينهم من حروب سياسية خرجت عليهم طائفة فسميت: الخوارج، ولم يختلفوا مع المسلمين في أصول الإيمان الستة ولا في الأركان الخمسة التي بني عليها الإسلام؛ وإنما اختلفوا معهم في عقد الخلافة والتكفير بكبائر الذنوب والمسح على الرجلين في الوضوء وأمثال ذلك، ثم غلت طائفة من أصحاب علي رضي الله عنه فيه حتى عبده منهم من عبده فسموا الشيعة، ثم افترق كل من الخوارج والشيعة فرقًا، ثم أنكر جماعة القدر، وكان ذلك آخر عصر الصحابة رضي الله عنهم فسموا القدرية، ثم كان الجعد بن درهم؛ فكان أول من أنكر صفات الله وتأول ما جاء فيها من نصوص الآيات والأحاديث على غير معانيها، فقتله خالد القسري، وتبعه في إنكار ذلك وتأويله تلميذه الجهم بن صفوان، واشتهر بذلك فنسبت إليه هذه المقالة الشنيعة، وعرف من قالوا بها بالجهمية، ثم ظهرت المعتزلة فتبعوا الجهمية في تأويل نصوص الصفات وسموه تنزيهًا، وتبعوا القدرية في إنكار القدر وسموه عَدْلاً، وتبعوا الخوارج في الخروج على الولاة وسموه الأمر بالمعروف إلى غير ذلك من مقالاتهم، وقد نشأ أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري على مذهبهم واعتقد مبادئهم، ثم هداه الله إلى الحق فتاب من الاعتزال ولزم طريق أهل السنة والجماعة، واجتهد في الرد على من خالفهم في أصول الإسلام رحمه الله، لكن بقيت فيه شوائب من مذهب المعتزلة كتأويل نصوص صفات الأفعال وتأثر بقول جهم بن صفوان في أفعال العباد، فقال بالجبر وسماه: كسبًا، وأمور أخرى تتبين لمن قرأ كتابه [الإبانة] الذي ألفه آخر حياته، كما يتبين مما كتبه عنه أصحابه الذين هم أعرف به من غيرهم(1/164)
وما كتبه عنه ابن تيمية في مؤلفاته، رحمهم الله.
مما تقدم يتبين أن أهل السنة والجماعة حقًا هم الذين اعتصموا بكتاب الله تعالى وسنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم - في عقائدهم وسائر أصول دينهم، ولم يعارضوا نصوصهما بالعقل أو الهوى، وتمسكوا بما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من دعائم الإيمان وأركان الإسلام فكانوا أئمة الهدى ومنار الحق ودعاة الخير والفلاح؛ كالحسن البصري وسعيد بن المسيب ومجاهد وأبي حنيفة ومالك والشافعي والأوزاعي وأحمد وإسحاق والبخاري ومن سلك سبيلهم والتزموا نهجهم عقيدة واستدلالاً.
أما هؤلاء الذين خرجوا عنهم في مسائل من أصول الدين ففيهم من السنة بقدر ما بقي لديهم مما وافقوا فيه الصحابة رضي الله عنهم وأئمة الهدى من مسائل أصول الإسلام، وفيهم من البدع والخطأ بقدر ما خالفوهم فيه من ذلك قليلاً كان أو كثيراً. وأقربهم إلى أهل السنة والجماعة أبو الحسن الأشعري ومن تبعه عقيدة واستدلالاً.
وبهذا يعرف أن ليس لأهل السنة والجماعة مدرستان، إنما هي مدرسة واحدة يقوم بنصرتها والدعوة إليها من سلك طريقهم، وابن تيمية ممن قام بذلك ووقف حياته عليه وليس هو الذي أنشأ هذه الطريقة؛ بل هو متبع لما كان عليه أئمة الهدى من الصحابة ومن تبعهم من علماء القرون الثلاثة التي شهد لها النبي - صلى الله عليه وسلم - بالخير، وكذلك مناظروه إنما قاموا بنصر مذهب من قلدوه ممن انتسب إلى أهل السنة والجماعة كأبي الحسن الأشعري وأصحابه بعد أن رجع عن الاعتزال وسلك طريق أهل السنة إلا في قليل من المسائل؛ ولذا كان أقرب إلى طريقة أهل السنة والجماعة من سائر الطوائف.(1/165)
ثالثًا: من تأول من الأشعرية ونحوهم نصوص الأسماء والصفات إنما تأولها لمنافاتها الأدلة العقلية وبعض النصوص الشرعية في زعمه، وليس الأمر كذلك فإنها ليس فيها ما ينافي العقل الصريح وليس فيها ما ينافي النصوص؛ فإن نصوص الشرع في أسماء الله وصفاته يصدق بعضها بعضاً مع كثرتها في إثبات أسماء الله وصفاته على الحقيقة وتنزيهه سبحانه عن مشابهة خلقه.
رابعًا: موقفنا من أبي بكر الباقلاني والبيهقي وأبي الفرج ابن الجوزي وأبي زكريا النووي وابن حجر وأمثالهم ممن تأول بعض صفات الله تعالى أو فوضوا في أصل معناها - أنهم في نظرنا من كبار علماء المسلمين الذين نفع الله الأمة بعلمهم؛ فرحمهم الله رحمة واسعة وجزاهم عنا خير الجزاء، وأنهم من أهل السنة فيما وافقوا فيه الصحابة رضي الله عنهم وأئمة السلف في القرون الثلاثة التي شهد لها النبي - صلى الله عليه وسلم - بالخير، وأنهم أخطؤوا فيما تأولوه من نصوص الصفات وخالفوا فيه سلف الأمة وأئمة السنة رحمهم الله؛ سواء تأولوا الصفات الذاتية وصفات الأفعال أم بعض ذلك.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (3/174-178)
حكم سب دين الجمادات
رجل يكتب على ورقة، وفي أثناء الكتابة أخطأ فى بعض الكلمات، فانزعج كثيراً من ذلك ومن شدة غضبه سب دين وسماء القلم والورقة .. فهل يعتبر سباب دين القلم أو الورقة أو الحجر أو الشجر أو الكرسي أو الكأس أو....إلخ من هذه الأشياء - هل يعتبر كفراً ؟
لا شك أن هذا السب حرام، ولو قيل إِن القلم والورقة لا يدينان بالدين الذي هو العبادات؛ لكن معلوم أن الدين واحد، وأن الله تعالى هو الذي سخر هذه الأقلام والأدوات، ويسر استعمالها، فيخاف أن السب يرجع إلى الله تعالى، فعليه التوبة والاستغفار، وعدم العودة إلى مثل هذا.
الشيخ ابن جبرين - اللؤلؤ المكين، ص (34)(1/166)
حكم من يقول: (التقوى في القلب) عندما يعاتب على تقصيره
هناك من المسلمين من يقصِّر فيما أوجبه الله عليه، فإذا عوتب في ذلك قال: إن التقوى في القلب وليست في الظاهر. ويستشهد بقوله - صلى الله عليه وسلم - : (التقوى ههنا) وأشار إلى صدره ثلاثاً .. فنرجو منكم بيان مدى صواب هذا القول ؟ جزاكم الله خيراً.
لا شك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: التَّقْوَى ههُنَا (1)؛ يعني ويشير إلى قلبه، يعني أنه إذا اتقى القلب اتقت الجوارح . وهذا ليس بدليل، أو ليس بحجة لمن يفعل المعاصي ويقول: إن التقوى ها هنا ؛ لأننا نقول له: لو اتقى ما ها هنا لاتقت الجوارح؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ؛ أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ(2).
الشيخ ابن عثيمين - فتوى عليها توقيعه
حقيقة وصف الدعاة والمتمسكين بدينهم بالتطرف والأصولية
شاع في بعض وسائل الإعلام المختلفة اتهام شباب الصحوة بالتطرف وبالأصولية .. ما رأي سماحتكم في هذا ؟
هذا على كل حال غلط جاء من الغرب والشرق، من النصارى، والشيوعيين، واليهود، وغيرهم ممن يُنَفِّر من الدعوة إلى الله عز وجل وأنصارها، أرادوا أن يظلموا الدعوة بمثل التطرف، أو الأصولية أو كذا مما يلقبونهم به.
ولا شك أن الدعوة إلى الله هي دين الرسل، وهي مذهبهم وطريقهم، وواجب على أهل العلم أن يدعوا إلى الله، وأن ينشطوا في ذلك، وعلى الشباب أن يتقوا الله، وأن يلتزموا بالحق، فلا يغلوا ولا يجفوا.
__________
(1) …مسلم (2564) .
(2) …البخاري (52)، ومسلم (1599) .(1/167)
وقد يقع من بعض الشباب جهل فيغلون في بعض الأشياء أو نقص في العلم فيجفون، لكن على جميع الشباب وعلى غيرهم من العلماء أن يتقوا الله، وأن يتحروا الحق بالدليل؛ قال الله عز وجل، وقال رسول - صلى الله عليه وسلم -، وأن يحذروا من البدعة والغلو والإفراط. كما أن عليهم أن يحذروا من الجهل أو التقصير، وليس أحد منهم معصومًا، وقد يقع من بعض الناس شيء من التقصير بالزيادة أو النقص؛ لكن ليس ذلك عيبًا للجميع، إنما هو عيب لمن وقع منه.
ولكن أعداء الله من النصارى وغيرهم، ومن سار في ركابهم جعلوا هذه وسيلة لضرب الدعوة والقضاء عليها باتهام أهلها بأنهم متطرفون أو بأنهم أصوليون.
وما معنى أصوليين ؟
وإذا كانوا أصوليين بمعنى: أنهم يتمسكون بالأصول، وبما قال الله وقال الرسول فهذا مدح وليس ذمًا، التمسك بالأصول من كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - مدح وليس بذم، وإنما الذم للتطرف أو الجفاء: إما التطرف بالغلو، وإما التطرف بالجفاء والتقصير، وهذا هو الذم.
أما الإنسان الملتزم بالأصول المعتبرة من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فهذا ليس بعيب؛ بل مدح وكمال، وهذا هو الواجب على طلبة العلم والداعين إلى الله: أن يلتزموا بالأصول من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وما عرف في أصول الفقه، وأصول العقيدة، وأصول المصطلح فيما يستدل به وما يحتج به من الأدلة، لا بد أن يكون عندهم أصول يعتمد عليها.
فضرب الدعاة(1) بأنهم أصوليون؛ هذا كلام مجمل ليس له حقيقة إلا الذم والعيب والتنفير، فالأصولية ليست ذمًا، ولكنها مدح في الحقيقة.
__________
(1) …لعل الصواب: (فوَصْفُ الدعاة)؛ فتحرّفت، طباعيًا إلى (فضَرْبُ).(1/168)
إذا كان طالب العلم يتمسك بالأصول ويعتني بها ويسهر عليها من كتاب الله، وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما قرره أهل العلم فهذا ليس بعيب، أما التطرف بالبدعة والزيادة والغلو فهو العيب، أو التطرف بالجهل أو التقصير فهذا عيب أيضًا.
فالواجب على الدعاة أن يلتزموا بالأصول الشرعية ويتمسكوا بالتوسط الذي جعلهم الله فيه، فالله جعلهم أمة وسطًا؛ فالواجب على الدعاة: أن يكونوا وسطًا بين الغالي والجافي، بين الإفراط والتفريط، وعليهم: أن يستقيموا على الحق، وأن يثبتوا عليه بأدلته الشرعية، فلا إفراط وغلو، ولا جفاء وتفريط، ولكنه الوسط الذي أمر الله به.
الشيخ ابن باز - مجموع فتاوى ومقالات متنوعة - (8/233-235)
حكم وصف الملتزمين بالأصوليين والمتطرفين
فشا في هذا العصر وصف المسلمين الملتزمين بالدين بأوصاف كالأصوليين والمتطرفين والمتزمتين ونحو ذلك .. فما رأيكم في هذا الأمر ؟
رأيي في هذا أنه لا غرابة أن يصف أهل السوء أهل الخير بالألقاب السيئة التي ينبذونهم بها؛ فقد قال الله سبحانه وتعالى في سورة المطففين: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ *وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ *وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ *وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاَءِ لَضَآلُّونَ *}[المطفّفِين]، ولا يخفى على من قرأ القرآن ما وصف أعداء الرسل رسلهم به من النبز بألقاب السوء؛ قال الله عز وجل: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ *}[الذّاريَات].(1/169)
فكل الكفار الذين أرسل إليهم الرسل يصفون الرسل بالسحر والجنون، ونبينا - صلى الله عليه وسلم - كان له من ذلك من كفار قريش وغيرهم ما هو معلوم؛ فقالوا إنه ساحر، وقالوا إنه كذاب، وقالوا إنه مجنون، وقالوا إنه شاعر. وكل هذا من أجل التنفير عنه وعن منهجه . فلا غرابة أن يصف هؤلاء البعيدون عن الإسلام من تمسك به بهذه الألقاب؛ كالتزمُّت والتشدد وما أشبهه. أما من قالوا: إنهم أصوليون؛ فقصدهم بذلك ألا يصفوهم بالإسلام؛ لأن الإسلام محبب إلى النفوس، وأما الأصوليون فهو من أصل . ومع ذلك فإننا نقول: إن كان من تمسك بالإسلام أصولياً فإننا أصوليون.
الشيخ ابن عثيمين - فتوى عليها توقيعه
حكم من يحتج على عمل المعاصي بسعةِ رحمةِ اللّه ومغفرته
ما رأيكم يا فضيلة الشيخ عندما يُنصح بعض الناس عن ترك معصية أو الإقلاع عنها يحتج بقول الله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[البَقَرَة: 192] ؟
إذا احتج بهذا، احتججنا عليه بقوله تعالى: {نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ *وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَْلِيمُ *}[الحِجر]، وبقوله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ *}[المَائدة] . فإذا أتى بآيات الرجاء، يقابل بآيات الوعيد . وليس هذا الجواب إلا جواب المتهاون. فنحن نقول له: اتق الله عز وجل وقم بما أوجب الله عليك واسأله المغفرة؛ لأنه ليس كل أحد يقوم بما أوجب الله عليه على وجهه الأكمل .
الشيخ ابن عثيمين - ألفاظ ومفاهيم في ميزان الشريعة، ص (10، 11)
حكم تسمية النصارى بالمسيحيين
ما حكم إطلاق المسيحية على النصرانية والمسيحي على النصراني ؟(1/170)
لا شك أن انتساب النصارى إلى المسيح بعد بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - انتساب غير صحيح؛ لأنه لو كان صحيحاً لآمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - فإن إيمانهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - إيمان بالميسح عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام؛ لأن الله تعالى قال: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَم يابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ *}[الصَّف]، ولم يبشرهم المسيح عيسى ابن مريم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - إلا من أجل أن يقبلوا ما جاء به؛ لأن البشارة بما لا ينفع لغو من القول لا يمكن أن تأتي من أدنى الناس عقلاً؛ فضلاً من أن تكون صدرت من عند أحد الرسل الكرام أولي العزم: عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام . وهذا الذي بشر به عيسى ابن مريم بني اسرائيل هو محمد - صلى الله عليه وسلم -. وقوله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ}[الصَّف: 6]؛ وهذا يدل على أن الرسول الذي بشر به قد جاء ولكنهم كفروا به وقالوا: هذا سحر مبين.(1/171)
فإذا كفروا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - فإن هذا كفر بعيسى ابن مريم الذي بشرهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم -؛ وحينئذ لا يصح أن ينتسبوا إليه فيقولوا إنهم مسيحيون؛ إذ لو كانوا حقيقة لآمنوا بما بشر به المسيح ابن مريم؛ لأن عيسى وغيره من الرسل قد أخذ الله عليهم العهد والميثاق أن يؤمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - - كما قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ *}[آل عِمرَان]. والذي جاء مصدقاً لما معهم هو محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ لقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ}[المَائدة: 48]
وخلاصة القول: أن نسبة النصارى إلى المسيح ابن مريم نسبة يكذبها الواقع؛ لأنهم كفروا ببشارة عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام؛ وهو محمد - صلى الله عليه وسلم -، وكفرهم به كفر بالمسيح .
الشيخ ابن عثيمين - كتاب الدعوة (5)، (2/177 - 179) حكم تقسيم الدِّين إلى لُبّ وقُشُور
ما حكم تقسيم الدين إلى قشور ولب، (مثل اللحية ) ؟(1/172)
تقسيم الدين إلى قشور ولبّ: تقسيم خاطئ، وباطل؛ فالدين كله لب، وكله نافع للعبد، وكله يقربه لله عز وجل وكله يثاب عليه المرء، وكله ينتفع به المرء، بزيادة إيمانه وإخباته لربه عز وجل؛ حتى المسائل المتعلقة باللباس والهيئات، وما أشبهها، كلها إذا فعلها الإنسان تقرباً إلى الله عز وجل واتباعاً لرسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنه يثاب على ذلك. والقشور كما نعلم لا ينتفع بها؛ بل تُرمى، وليس في الدين الإسلامي والشريعة الإسلامية ما هذا شأنه؛ بل كل الشريعة الإسلامية لب ينتفع به المرء إذا أخلص النية لله، وأحسن في اتباعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وعلى الذين يروجون هذه المقالة، أن يفكروا في الأمر تفكيراً جدياً؛ حتى يعرفوا الحق والصواب، ثم عليهم أن يتبعوه، وأن يدعوا مثل هذه التعبيرات .
صحيح أن الدين الإسلامي فيه أمور مهمة كبيرة عظيمة؛ كأركان الإسلام الخمسة، التي بينها الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله: بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَصَوْمِ رَمَضَانَ (1)، وفيه أشياء دون ذلك؛ لكنه ليس فيه قشور لا ينتفع بها الإنسان بل يرميها ويطرحها .
__________
(1) …البخاري (8)، ومسلم (16) .(1/173)
وأما بالنسبة لمسألة اللحية: فلا ريب أن إعفاءها عبادة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر به(1)، وكل ما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فهو عبادة يتقرب بها الإنسان إلى ربه بامتثاله أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم -؛ بل إنها من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وسائر إخوانه المرسلين، كما قال الله تعالى عن هارون: أنه قال لموسى: {قَالَ يَابْنَأُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي}[طه: 94]. وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن إعفاء اللحية من الفطرة التي فطر الناس عليها(2)، فإعفاؤها من العبادة، وليس من العادة، وليس من القشور كما يزعمه من يزعمه .
الشيخ ابن عثيمين - مجموع فتاوى ورسائل (3/124، 125)
ليس في الدِّين قُشُور
ما حكم الشرع فيمن يقول: إن حلق اللحية وتقصير الثوب قشور وليست أصولاً في الدين ؟ أو فيمن يضحك ممن فعل هذه الأمور ؟
هذا الكلام خطير ومنكر عظيم، وليس في الدين قشور؛ بل كله لب وصلاح وإصلاح. وينقسم إلى أصول وفروع. ومسألة اللحية وتقصير الثياب من الفروع لا من الأصول؛ لكن لا يجوز أن يسمى شيء من أمور الدين: قشوراً، ويخشى على من قال مثل هذا الكلام متنقصاً ومستهزئاً أن يرتد بذلك عن دينه - لقول الله سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ *لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ *}[التّوبَة: 65-66].
__________
(1) …البخاري (5892، 5893)، ومسلم(259) من حديث ابن عمر، ومسلم (260) من حديث أبي هريرة .
(2) …مسلم (261) من حديث عائشة رضي الله عنها.(1/174)
والرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الذي أمر بإعفاء اللحية وإرخائها وتوفيرها، وقص الشوارب وإحفائها؛ فالواجب طاعته، وتعظيم أمره ونهيه في جميع الأمور. وقد ذكر أبو محمد ابن حزم(1) إجماع العلماء على أن إعفاء اللحية وقص الشارب أمر مفترض؛ ولا شك أن السعادة والنجاة والعزة والكرامة والعاقبة الحميدة في طاعة الله ورسوله، وأن الهلاك والخسران وسوء العاقبة في معصية الله ورسوله، وهكذا رفع الملابس فوق الكعبين أمر مفترض لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: مَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ مِنْ الإِْزَارِ فَفِي النَّارِ (2)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ثَلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ... الْمُسْبِلُ، وَالْمَنَّانُ، وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ(3).
__________
(1) …انظر: كتابه «مراتب الإجماع» ص (157) .
(2) …البخاري (5787) .
(3) …مسلم (106) .(1/175)
وقال - صلى الله عليه وسلم -: لا يَنْظُرُ اللهُ إِلَى مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلاءَ (1)، فالواجب على الرجل المسلم أن يتقي الله، وأن يرفع ملابسه سواء كانت قميصاً أو إزاراً أو سراويل أو بشتاً، وألا تنزل عن الكعبين. والأفضل أن تكون ما بين نصف الساق إلى الكعب، وإذا كان الإسبال عن خيلاء كان الإثم أعظم، وإذا كان عن تساهل لا عن كبر فهو منكر وصاحبه آثم؛ لكن إثمه دون إثم المتكبر. ولا شك أن الإسبال وسيلة إلى الكبر، وإن زعم صاحبه أنه لم يفعل ذلك تكبراً، ولأن الوعيد في الأحاديث عام فلا يجوز التساهل بالأمر. وأما قصَّة الصديق رضي الله عنه وقوله للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إِنَّ أَحَدَ شِقَّيْ إِزَارِي يَسْتَرْخِي إِلا أَنْ أَتَعَاهَدَ ذَلِكَ مِنْهُ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: لَسْتَ مِمَّنْ يَصْنَعُهُ خُيَلاءَ (2)؛ فهذا في حق من كانت حاله مثل حال الصديق رضي الله عنه، يتعاهده ويحرص على ضبطه، فأما من أرخى ملابسه متعمداً فهذا يعمّه الوعيد وليس مثل الصديق. وفي إسبال الملابس مع ماتقدم من الوعيد إسراف، وتعريض لها للأوساخ والنجاسة، وتشبه بالنساء . وكل ذلك يجب على المسلم أن يصون نفسه عنه. والله ولي التوفيق، والهادي إلى سواء السبيل .
الشيخ ابن باز - مجلة الدعوة، العدد (1607) حكم العبارات التي تطلق على الميت مثل: (المغفور له)
ما العبارات التي تطلق في حق الأموات ؟ فنحن نسمع عن فلان (المغفور له ) أو ( المرحوم ) .. فهل هذه العبارات صحيحة ؟ وما التوجيه في ذلك ؟
__________
(1) …البخاري (5783)، ومسلم (2085) .
(2) …البخاري (5784) .(1/176)
المشروع في هذا أن يقال: ( غفر الله له ) أو ( رحمه الله ) ونحو ذلك إذا كان مسلماً، ولا يجوز أن يقال ( المغفور له ) أو ( المرحوم )؛ لأنه لا تجوز الشهادة لمعين بجنة أو نار أو نحو ذلك، إلا لمن شهد الله له بذلك في كتابه الكريم، أو شهد له رسوله عليه الصلاة والسلام، وهذا هو الذي ذكره أهل العلم من أهل السنة؛ فمن شهد الله له في كتابه العزيز بالنار كأبي لهب وزوجته، وهكذا من شهد له الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالجنة كأبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان وعلي وبقية العشرة رضي الله عنهم، وغيرهم ممن شهد له الرسول عليه الصلاة والسلام بالجنة كعبدالله بن سلام وعكاشة بن محصن رضي الله عنهما، أو بالنار كعمه أبي طالب وعمرو بن لحي الخزاعي وغيرهما ممن شهد له الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالنار - نعوذ بالله من ذلك - نشهد له بذلك . أما من لم يشهد له الله سبحانه ولا رسوله بجنة ولا نار فإنا لا نشهد له بذلك على التعيين، وهكذا لا نشهد لأحد معين بمغفرة أو رحمة إلا بنص من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن أهل السنة يرجون للمحسن ويخافون على المسيء، ويشهدون لأهل الإيمان عموماً بالجنة، وللكفار عموماً بالنار كما أوضح ذلك سبحانه في كتابه المبين؛ قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا}[التّوبَة: 72]، وقال تعالى فيها أيضاً: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ}[التّوبَة: 68] الآية، وذهب بعض أهل العلم إلى جواز الشهادة بالجنة أو النار لمن شهد له عدلان أو أكثر بالخير أو الشر؛ لأحاديث صحيحة وردت في ذلك.
الشيخ ابن باز - مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (5/365، 366)
حول كلمة (الولاء للوطن)(1/177)
يبالغ البعض بالقول أن كلمة الولاء للوطن من الوثنية - في بلد إسلامي يدين أهله بالولاء لله - فما ترون سماحتكم في ذلك ؟
الواجب الولاء لله ولرسوله؛ بمعنى أن يوالي العبد في الله ويعادي في الله. وقد يكون وطنه ليس بإسلامي فكيف يوالي وطنه ؟! أما إن كان وطنه إسلاميًا فعليه أن يحب له الخير ويسعى إليه لكن الولاء لله؛ لأن من كان من المسلمين مطيعًا لله فهو وليه ومن كان مخالفًا لدين الله فهو عدوه وإن كان من أهل وطنه وإن كان أخاه أو عمه أو أباه أو نحو ذلك فالموالاة في الله والمعاداة في الله.
أما الوطن فيُحَبُّ إن كان إسلاميًا، وعلى الإنسان أن يشجع على الخير في وطنه وعلى بقائه إسلاميًا وأن يسعى لاستقرار أوضاعه وأهله، وهذا هو الواجب على كل المسلمين. نسأل الله لنا ولكم ولجميع المسلمين التوفيق والهداية وصلاح النية والعمل، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
الشيخ ابن باز - مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (9/317)
حكم قول: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} عند موت شخص
ما حكم قول بعض الناس إذا مات شخص: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ *ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَةً *}[الفَجر] ؟
هذا لا يجوز أن يطلق على شخص بعينه، لأن هذه شهادة بأنه من هذا الصنف .
الشيخ ابن عثيمين - مجموع فتاوى ورسائل (3/140) حكم من يقول: (شاءت الظروف أن يحصل كذا وكذا) ونحوها
ما حكم قول: (شاءت الظروف أن يحصل كذا وكذا)، و(شاءت الأقدار كذا وكذا) ؟
قول: «شاءت الأقدار»، و«شاءت الظروف» ألفاظ منكرة؛ لأن الظروف جمع ظرف وهو الأزمان، والزمن لا مشيئة له، وكذلك الأقدار جمع قدر، والقدر لا مشيئة له؛ إنما الذي يشاء هو الله عز وجل. نعم لو قال الإنسان: (اقتضى قدر الله كذا وكذا): فلا بأس به . أما المشيئة فلا يجوز أن تضاف للأقدار؛ لأن المشيئة هي الإرادة، ولا إرادة للوصف، إنما الإرادة للموصوف .(1/178)
الشيخ ابن عثيمين - مجموع فتاوى ورسائل (3/113، 114)
حكم قول الإنسان: (أنا حُرّ) عندما يُنْصَحُ
س1: ما حكم قول الإنسان: (أنا حُرّ) عندما ينصح ؟
ج1: إذا قال ذلك رجل حُرٌّ وأراد أنه حُرّ من رِقِّ الخَلْق؛ فَنَعَمْ هو حُرّ من رِق الخلق، وأما إن أراد أنه حُرٌّ من رِق العبودية لله عز وجل فقد أساء في فهم العبودية، ولم يعرف معنى الحرية؛ لأن العبودية لغير الله هي الرق، أما عبودية المرء لربه عز وجل فهي الحرية، فإنه إن لم يذل لله ذل لغير الله، فيكون هنا خادعاً نفسه إذا قال: إنه حر؛ يعني إنه متجرد من طاعة الله، ولن يقوم بها.
س2: ما حكم قول العاصي عند الإنكار عليه: (أنا حرّ في تصرفاتي) ؟
ج2: هذا خطأ، نقول: لست حُرًّا في معصية الله؛ بل إنك إذا عصيت ربك فقد خرجت من الرق الذي تدعيه في عبودية الله إلى رِقِّ الشيطان والهوى.
الشيخ ابن عثيمين - مجموع فتاوى ورسائل (3/81) تسمية بعض الزهور بعبّاد الشمس
ما حكم تسمية بعض الزهور بـ (عبّاد الشمس)؛ لأنه يستقبل الشمس عند الشروق والغروب ؟
هذا لا يجوز؛ لأن الأشجار لا تعبد الشمس، إنما تعبدالله عز وجل - كما قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَْرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَآبُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ}[الحَجّ: 18]. وإنما يقال عبارة أخرى ليس فيها ذكر العبودية: كمُراقِبة الشمس(1)، ونحو ذلك من العبارات .
الشيخ ابن عثيمين - مجموع فتاوى ورسائل (3/114)
حكم التسمي ببعض الألفاظ التي ظاهرها المدح والتعظيم
بعض الأسر تحمل اسماً مثل: الناصر العلي الماجد الخالد وبعضهم يحمل اسم: حجة الإسلام، وأحد الأحياء اسمه: الرحمانية؛ فهل يجوز ذلك ؟
__________
(1) …أو: (دوّار الشمس) كما هو شائع.(1/179)
أما (الناصر) و(الخالد) وما أشبهها فلا بأس بها؛ لأن المراد بها: آل ناصر، آل خالد؛ لكن فيها شيئًا من الحذف للتسهيل . وأما (حجة الإسلام) فلا يصح وصف أحد به؛ لأن كل ما عدا الرسول عليه الصلاة والسلام فإن قوله ليس بحجة إلا من أمرنا باتباعهم، وهم الخلفاء الراشدون؛ لأن قولهم حجة ما لم يخالف نصاً، أو يخالف قول صحابي آخر، فإن خالف النص فالنص مقدم على قول كل أحد، وإن خالف قول صحابي آخر طلب الترجيح بين القولين. المهم أن (حجة الإسلام) لا تقال إلا لمن قوله حجة فقط، وأما من ليس قوله حجة فإنه لا يقال له حجة، وكيف يكون حجة في الإسلام وهو غير معصوم من الخطأ. أما الرحمانية التي يسمى بها بعض الأحياء فلا بأس بها.
الشيخ ابن عثيمين - كتاب الدعوة (5)، (2/176، 177)
حكم استعمال بعض الألفاظ التي ظاهرها السبّ أو القدح
ما حكم قول مثل هذه العبارات: (هذا زمان أقشر)، أو (الزمن غدار)، أو (يا خيبة الزمن الذي رأيتك فيه) ؟
هذه العبارات التي ذُكرت في السؤال تقع على وجهين:
الوجه الأول: أن تكون سباً وقدحاً في الزمن فهذا حرام، ولا يجوز؛ لأن ما حصل في الزمن فهو من الله عز وجل؛ فمن سبّه فقد سبّ الله، ولهذا قال الله تعالى في الحديث القدسي: يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ؛ يَسُبُّ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرُ، أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ(1).
والوجه الثاني: أن يقولها على سبيل الإخبار فهذا لا بأس به، ومنه قوله تعالى عن لوط، عليه الصلاة والسلام: {وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ}[هُود: 77]. أي: شديد. وكل الناس يقولون: هذا يوم شديد، وهذا يوم فيه كذا وكذا من الأمور، وليس فيه شيء .
وأما قول: (هذا الزمن غدَّار) فهذا سبّ؛ لأن الغدر صفة ذمّ ولا يجوز.
وقول: «يا خيبة اليوم الذي رأيتك فيه» إذا قصد يا خيبتي أنا: فهذا لا بأس فيه، وليس سبًّا للدهر، وإن قصد الزمن أو اليوم فهذا سَبٌّ؛ فلا يجوز .
__________
(1) …البخاري (4826)، ومسلم (2246) بألفاظ.(1/180)
الشيخ ابن عثيمين - مجموع فتاوى ورسائل (1/198، 199) حكم من يقول: (لا تَكُنْ مُتشدِّداً) إذا نُصح في ترك معصية
ما حكم من إذا نُصح في فعل يخالف الشرع بادر قائلاً: لا تكن متشدداً ومتعصباً وكن معتدلاً ؟ ونرجو بيان معنى الاعتدال .. جزاكم الله خيراً.
من نُصح عن شيء محرم في الشرع ليجتنبه أو عن ترك واجب ليقوم به ثم قال مثل هذا القول فإنه مخطىء؛ بل الواجب إذا نصحه أحد أن يشكر لمن نصحه، وأن ينظر في أمره إذا كان ما نصح عنه حقاً فليتجنب المحرم وليقم بالواجب. وأما قوله: إنك متشدد؛ فإن التشديد والتيسير والاعتدال مرجعه إلى الشرع؛ فما وافق الشرع فهو الاعتدال، وما زاد عنه فهو التشدد، وما نقص عنه فهو التساهل . فالميزان في هذا كله هو الشرع. ومعنى الاعتدال هو موافقة الشرع، فما وافق الشرع فهو الاعتدال .
الشيخ ابن عثيمين - فتوى عليها توقيعه
حكم قول: (فلان شهيد)
ما حكم قول: فلان شهيد ؟
الجواب على ذلك أن الشهادة لأحد بأنه شهيد تكون على وجهين:
أحدهما: أن تقيد بوصف مثل أن يقال: كل من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن قتل دون ماله فهو شهيد، ومن مات بالطاعون فهو شهيد ونحو ذلك: فهذا جائز كما جاءت به النصوص؛ لأنك تشهد بما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ ونعني بقولنا (جائز): أنه غير ممنوع، وإن كانت الشهادة بذلك واجبة؛ تصديقاً لخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .(1/181)
الثاني: أن تقيد الشهادة بشخص معين؛ مثل أن تقول لشخص بعينه إنه شهيد؛ فهذا لا يجوز إلا لمن شهد له النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو اتفقت الأمة على الشهادة له بذلك . وقد ترجم البخاري رحمه الله لهذا بقوله: «باب لا يقال فلان شهيد» قال في الفتح 6/90: "أي على سبيل القطع بذلك إلا إن كان بالوحي" وكأنه أشار إلى حديث عمر رضي الله عنه أنه خطب فقال: تقولون في مغازيكم: فلان شهيد، ومات فلان شهيداً ولعله قد يكون قد أَوْقَرَ(1) راحِلَتَه، ألا لا تقولوا ذلكم، ولكن قولوا كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَهُوَ شَهِيدٌ (2) . وهو حديث حسن؛ أخرجه أحمد وسعيد بن منصور وغيرهما من طريق محمد بن سيرين عن أبي العجفاء عن عمر. اهـ. كلامه.
__________
(1) …أَوْقَرَ: أي حَمَّلَ، من الوِقْر: وهو الحِمْل الذي يوضع على الدابة.
(2) …أحمد (1/40، 48)، والنسائي (3351)، وابن حبان (4620)، وسعيد بن منصور (595، 596، 597، 2547)، وعبدالرزاق في «مصنفه» (10399)، والحميدي في «مسنده» (23)، والضياء المقدسي في «المختارة» (291، 292، 294، 295)، والحاكم 2/109، 175 (2521، 2725) وصححه ووافقه الذهبي.(1/182)
ولأن الشهادة بالشيء لا تكون إلا عن علم به، وشرط كون الإنسان شهيداً أن يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، وهي نية باطنة لا سبيل إلى العلم بها، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - مشيراً إلى ذلك: مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللهِ - وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِهِ - (1)، وقال: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا يُكْلَمُ أَحَدٌ فِي سَبِيلِ اللهِ - وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ - إِلا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ(2). رواهما البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ولكن من كان ظاهره الصلاح فإننا نرجو له ذلك، ولا نشهد له به، ولا نسيء به الظن. والرجاء مرتبة بين المرتبتين، ولكننا نعامله في الدنيا بأحكام الشهداء، فإذا كان مقتولاً في الجهاد في سبيل الله دفن بدمه في ثيابه من غير صلاة عليه، وإن كان من الشهداء الآخرين فإنه يغسل ويكفن ويصلى عليه .
ولأننا لو شهدنا لأحد بعينه أنه شهيد لزم من تلك الشهادة أن نشهد له بالجنة؛ وهذا خلاف ما كان عليه أهل السنة، فإنهم لا يشهدون بالجنة إلا لمن شهد له النبي - صلى الله عليه وسلم - بالوصف أو بالشخص. وذهب آخرون منهم إلى جواز الشهادة بذلك لمن اتفقت الأمة على الثناء عليه . وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى .
وبهذا تبين أنه لا يجوز أن نشهد لشخص بعينه أنه شهيد إلا بنص أو اتفاق؛ لكن من كان ظاهره الصلاح فإننا نرجو له ذلك كما سبق، وهذا كافٍ في منقبته، وعلمه عند خالقه سبحانه وتعالى .
الشيخ ابن عثيمين - مجموع فتاوى ورسائل (3/115-117)
حكم الوطنية والحديث في السياسة
هل كون الإنسان أو المؤمن يقول (أنا وطني) حرام ؟ هل كون الإنسان يتكلم عن السياسة الخارجية أو الداخلية حرام ؟
__________
(1) …البخاري (2787) .
(2) …البخاري (2803) ومسلم (1876) بنحوه.(1/183)
المفخرة العظمى والكرامة والدرجة العليا في الانتساب إلى الإسلام وفي نصرته والجهاد في سبيل إعلاء كلمة الله، فليقل المسلم: أنا مسلم، فهذا أعظم لشأنه وأعلى لدرجته، وبالإسلام والأخوة فيه يجمع الله شمل المسلمين. والنعرة الوطنية معول هدم وتفريق لجماعة المسلمين إذا كان المقصود منها الفخر على إخوانه المسلمين غير المواطنين، أما إن كان المقصود من ذلك التعريف بأنه يحمل الجنسية الوطنية وليس من دولة أخرى فلا حرج في ذلك، وقد كتب سماحة الرئيس العام الشيخ عبدالعزيز بن باز رسالة في القومية.
ثم الكلام في السياسة الداخلية والخارجية للأمة ليس حرامًا ما دام يحقق المصلحة للإسلام والمسلمين، ولا يثير فتنًا تعود عليهم بالفرقة والفشل والخيبة والانهيار.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (2/148).
حكم من يقول: (الناس يفعلون كذا) عند تنبيهه من مخالفة الشرع
يحتج بعض الناس إذا نهي عن أمر مخالف للشريعة أو الآداب الإسلامية بقوله: ( الناس يفعلون كذا ) .
هذا ليس بحجة؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَْرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}[الأنعَام: 116]، ولقوله: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ *}[يُوسُف]؛ والحجة فيما قال الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، أو كان عليه السلف الصالح.
الشيخ ابن عثيمين - مجموع فتاوى ورسائل (3/138)
الردّ على من قال: إن معيار صحة الحديث النبوي هو العقل
كيف نرد على بدعة من قال: إذا وافق الحديث العقل فهو صحيح، وإن لم يوافقه فغير صحيح ؟
نرد عليه بأن هذا مقياس باطل، ولو حكمنا العقل في صحة الحديث لكنا ممن يتبعون أهواءهم، فبأي عقل نزن الأحاديث ؟! فقد يراه إنسان يخالف العقل ويراه آخر يوافق العقل، والعقول مختلفة ليست متفقة.(1/184)
والعقل الصحيح السالم من الشبهات والشهوات هو الذي يقبل ما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ سواء أدرك حكمته أم لم يدركها.
ومن قال بالمقولة السابقة فهو يعبد الله بهواه لا بهداه.
الشيخ ابن عثيمين - مجموع دروس فتاوى الحرم المكي (1/389) حكم مقولة: إن اللّه في كل مكان
ذكرت قصة في إحدى الإذاعات تقول: إن ولداً سأل أباه عن الله فأجاب الأب بأن الله موجود في كل مكان .. السؤال: ما الحكم الشرعي في مثل هذا الجواب ؟
هذا الجواب باطل، وهو من كلام أهل البدع من الجهمية والمعتزلة ومن سار في ركابهما، والصواب الذي عليه أهل السنة والجماعة أن الله سبحانه في السماء، فوق العرش، فوق جميع خلقه، وعلمه في كل مكان، كما دلت عليه الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وإجماع سلف الأمة؛ كما قال عز وجل: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}[الأعرَاف: 54]، وكرر ذلك سبحانه في ست آيات أخرى من كتابه العظيم .(1/185)
ومعنى الاستواء عند أهل السنة: هو العلو والارتفاع فوق العرش على الوجه الذي يليق بجلال الله سبحانه، لا يعلم كيفيته سواه، كما قال مالك رحمه الله - لما سئل عن ذلك: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة)(1) ، ومراده رحمه الله السؤال عن كيفيته . وهذا المعنى جاء عن شيخه: ربيعة بن أبي عبدالرحمن، وهو مروي عن أم سلمة رضي الله عنها، وهو قول جميع أهل السنة من الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم من أئمة الإسلام . وقد أخبر الله سبحانه في آيات أخر أنه في السماء، وأنه في العلو قال سبحانه: {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ}[غَافر: 12] وقال عز وجل: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}[فَاطِر: 10] وقال سبحانه: {وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}[البَقَرَة: 255]، وقال عز وجل: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَْرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ *أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ *}[المُلك].
ففي آيات كثيرة من كتاب الله الكريم صرّح سبحانه أنه في السماء، وأنه في العلو، وذلك موافق لما دلّت عليه آيات الاستواء . وبذلك يُعلم أن قول أهل البدع بأن الله سبحانه موجود في كل مكان من أبطل الباطل، وهو مذهب الحلولية المبتدعة الضالة؛ بل هو كفر وضلال وتكذيب لله سبحانه، وتكذيب لرسوله - صلى الله عليه وسلم - فيما صح عنه من كون ربه في السماء - مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: أَلا تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ ؟!(2). وكما جاء في أحاديث الإسراء والمعراج وغيرها..
الشيخ ابن باز - مجلة الدعوة، عدد (1288)
__________
(1) …انظر: «مجموع الفتاوى» لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (3/25، 58، 67).
(2) …البخاري (4351)، ومسلم (1064) - (144 ) .(1/186)
حكم قول: أنتم خلفاء اللّه في أرضه
وجدت في بعض الكتب عبارة: (وأنتم أيها المسلمون خلفاء الله في أرضه) .. فما حكم ذلك ؟
هذا التعبير غير صحيح من جهة معناه؛ لأن الله تعالى هو الخالق لكل شيء، المالك له، ولم يغب عن خلقه وملكه، حتى يتخذ خليفة عنه في أرضه، وإنما يجعل الله بعض الناس خلفاء لبعض في الأرض، فكلما هلك فرد أو جماعة أو أمة جعل غيرها خليفة منها يخلفها في عمارة الأرض؛ كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَْرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ}[الأنعَام: 165]، وقال تعالى: {قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَْرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ *}[الأعرَاف]، وقال: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَْرْضِ خَلِيفَةً}[البَقَرَة: 30]، أي: نوعًا من الخلق يخلف من كان قبلهم من مخلوقاته.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (1/33)
حكم قول: المادة لا تَفْنَى ولا تُسْتَحْدَثْ من عَدَم
ما حكم قول: (المادة لا تفنى ولا تزول ولم تخلق من عدم) ؟
القول بأن المادة لا تفنى وأنها لم تخلق من عدم: كُفْر؛ لا يمكن أن يقوله مؤمن، فكل شيء في السماوات والأرض سوى الله فهو مخلوق من عدم - كما قال الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}[الزُّمَر، الآية: 62]، وليس هناك شيء أزلي أبدي سوى الله.(1/187)
وأما كونها لا تفنى: فإن عنى بذلك أن كل شيء لا يفنى لذاته، فهذا أيضاً خطأ وليس بصواب؛ لأن كل شيء موجود فهو قابل للفناء، وإن أراد به أن من مخلوقات الله مالا يفنى بإرادة الله فهذا حق، فالجنة لا تفنى وما فيها من نعيم لا يفنى، وأهل الجنة لا يفنون، وأهل النار لا يفنون.
لكن هذه الكلمة المطلقة (المادة ليس لها أصل في الوجود، وليس لها أصل في البقاء) هذه على إطلاقها كلمة إلحادية. فنقول: المادة مخلوقة من عدم، فكل شيء سوى الله فالأصل فيه العدم.
أما مسألة الفناء فقد تقدم التفصيل فيها، والله الموفق.
الشيخ ابن عثيمين - ألفاظ ومفاهيم في ميزان الشريعة، ص (28)
حكم قول: دُفن في مثواه الأخير
ما حكم قولهم (دفن في مثواه الأخير) ؟
قول القائل (دفن في مثواه الأخير) حرام ولا يجوز؛ لأنك إذا قلت في مثواه الأخير فمقتضاه أن القبر آخر شيء له، وهذا يتضمن إنكار البعث، ومن المعلوم لعامة المسلمين أن القبر ليس آخر شيء، إلا عند الذين لا يؤمنون باليوم الآخر؛ فالقبر آخر شيء عندهم، أما المسلم فليس آخر شيء عنده القبر، وقد سمع أعرابي رجلا يقرأ قوله تعالى {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ *حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ *}[التّكاثُر]؛ فقال: «والله ما الزائر بمقيم»؛ لأن الذي يزور يمشي فلابد من بعث. وهذا صحيح.
لهذا يجب تجنب هذه العبارة؛ فلا يقال عن القبر إنه المثوى الأخير؛ لأن المثوى الأخير إما الجنة، وإما النار في يوم القيامة.
الشيخ ابن عثيمين - ألفاظ ومفاهيم في ميزان الشريعة، ص (29)
حكم قول: (وشاءت قدرة اللّه)
حكم قول «وشاءت قدرة الله» و«شاء القدر» ؟(1/188)
لا يصح أن نقول «شاءت قدرة الله»؛ لأن المشيئة إرادة، والقدرة معنى، والمعنى لا إرادة له، وإنما الإرادة للمريد، والمشيئة لمن يشاء، ولكننا نقول: اقتضت حكمة الله كذا وكذا، أو نقول عن الشيء إذا وقع: هذه قدرة الله؛ أي: مقدوره - كما تقول: هذا خلق الله أي مخلوقه، وأما أن نضيف أمرا يقتضي الفعل الاختياري إلى القدرة: فإن هذا لا يجوز.
ومثل ذلك قولهم: «شاء القدر كذا وكذا»، وهذا لا يجوز؛ لأن القدر والقدرة أمران معنويان ولا مشيئة لهما، وإنما المشيئة لمن هو قادر ولمن هو مقدّر. والله أعلم.
الشيخ ابن عثيمين - مجموع فتاوى ورسائل (3/114) حكم استخدام كلمة (صُدْفَة)
ما رأي فضيلتكم في استعمال كلمة (صُدفة) ؟
رأينا في هذا القول أنه لا بأس به، وهذا أمر متعارف، وأظن أن فيه أحاديث بهذا التعبير: صادَفْنا(1) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (لكن لا يحضرني الآن حديث معين في هذا الخصوص).
والمصادفة والصدفة بالنسبة لفعل الإنسان أمر واقع؛ لأن الإنسان لا يعلم الغيب، فقد يصادفه الشيء من غير شعور به ومن غير مقدمات له ولا توقّع له، لكن بالنسبة لفعل الله لا يقع هذا؛ فإن كل شيء عند الله معلوم وكل شيء عنْدهُ بمقدار، وهو - سبحانه وتعالى - لا تقع الأشياء بالنسبة إليه صدفةً أبَداً، لكن بالنسبة لي وأنا وأنت نتقابل بدون ميعاد وبدون شعور وبدون مقدمات، فهذا يقال له صدفة ولا حرج فيه، وأما بالنسبة لفعل الله فهذا أمر ممتنع ولا يجوز.
الشيخ ابن عثيمين - ألفاظ ومفاهيم في ميزان الشريعة - ص (48)
حكم استعمال تعبير (يعلم اللَّه) للتأكيد
ما حكم قول بعض الناس: (يعلم الله كذا وكذا) ؟
__________
(1) …ورد في السنة عبارة (وافَقْنَا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) وهي بمعنى (صادَفْنا)؛ انظر على سبيل المثال: «صحيح البخاري» (567، 3136)، و«صحيح مسلم» (641، 2502).(1/189)
قول (يعلم الله) هذه مسألة خطيرة، حتى رأيت في كتب الحنفية أن من قال عن شيء: يعلم الله، والأمر بخلافه صار كافراً خارجاً عن الملة، فإذا قلت: (يعلم الله أني ما فعلت هذا) وأنت فاعله؛ فمقتضى ذلك: أن الله يجهل الأمر، (يعلم الله أني ما زرت فلاناً) وأنت زائره؛ صار الله لا يعلم بما يقع، ومعلوم أن من نفى عن الله العلم فقد كفر.
ولهذا قال الشافعي رحمه الله في القدرية قال: «جادِلُوهم بالعلم فإن أنكروه كفروا، وإن أقروا به خُصِمُوا»(1) اهـ.
والحاصل: أن قول القائل (يعلم الله) إذا قالها والأمر على خلاف ما قال فإن ذلك خطير جداً، وهو حرام بلاشك. أما إذا كان مصيباً، والأمر على وفق ما قال فلا بأس بذلك؛ لأنه صادق في قوله، ولأن الله بكل شيء عليم، كما قالت الرسل في سورة يس {قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ *}[سورة يس].
الشيخ ابن عثيمين - ألفاظ ومفاهيم في ميزان الشريعة، ص (49)
حكم قول: (أنا مؤمن إن شاء اللَّه)
ما حكم قول الإنسان : أنا مؤمن إن شاء الله ؟
قول القائل: (أنا مؤمن إن شاء الله) يسمى عند العلماء: (مسألة الاستثناء في الإيمان)، وفيه تفصيل:
أولاً: إن كان الاستثناء صادراً عن شك في وجود أصل الإيمان فهذا محرم بل كفر؛ لأن الإيمان جزم والشك ينافيه.
ثانياً: إن كان صادراً عن خوف تزكية النفس والشهادة لها بتحقيق الإيمان قولاً وعملاً واعتقادًا؛ فهذا واجب خوفاً من هذا المحذور.
__________
(1) …انظر: «شرح العقيدة الطحاوية» ص (302).(1/190)
ثالثاً: إن كان المقصود من الاستثناء التبرك بذكر المشيئة، أو بيان التعليل وأن ما قام بقلبه من الإيمان بمشيئة الله؛ فهذا جائز، والتعليق على هذا الوجه - أعني بيان التعليل - لا ينافي تحقق المعلق، فإنه قد ورد التعليق على هذا الوجه في الأمور المحققة - كقوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ}[الفَتْح، من الآية: 27]، والدعاء في زيارة القبور: (وإن شاء الله بكم لاحقون).
وبهذا عرف أنه لا يصح إطلاق الحكم على الاستثناء في الإيمان، بل لابد من التفصيل السابق.
الشيخ محمد بن عثيمين - ألفاظ ومفاهيم في ميزان الشريعة، ص (10)
حكم ألقاب: (حجة اللّه، آية اللّه...)
ما حكم هذه الألقاب (حجة الله)، و(حجة الإسلام) و(آية الله) ؟
هذه الألقاب (حجة الله)، (حجة الإسلام) ألقاب حادثة لا تنبغي؛ لأنه لا حجة لله على عباده إلا الرسل.
وأما «آية الله»: فإن أريد المعنى الأعم فهو يدخل فيه كل شيء.
وفي كل شيء له آيةٌ
تدلُّ على أنه واحدُ(1)
وإن أريد أنه آية خارقة فهذا لا يكون إلا على أيدي الرسل، لكن يقال عالم، مفتي، قاضي، حاكم، إمام لمن كان مستحقاً لذلك.
الشيخ محمد بن عثيمين - ألفاظ ومفاهيم في ميزان الشريعة، ص (11)
حكم قول: اللهم إنا لا نسألك رد القضاء...
كثيراً ما نسمع في الدعاء: اللهم لا نسألك رد القضاء ولكن نسألك اللطف فيه، ما صحة هذا ؟
__________
(1) …البيت لأبي العتاهية، ونسبه بعضهم للبيد بن ربيعة.(1/191)
هذا الدعاء الذي سمعته: «اللهم إنا لا نسألك رَدَّ القضاء وإنما نسألك اللُّطف فيه» - دعاء محرم لا يجوز، وذلك لأن الدعاء يرد القضاء؛ كما جاء في الحديث: لا يَرُدُّ القَدَرَ إلا الدعاء (1)، وأيضاً كأن هذا السائل يتحدى الله يقول: اقض ما شئت ولكن الطف، والدعاء ينبغي للإنسان أن يجزم به، وأن يقول: اللهم إني أسألك أن ترحمني، اللهم إني أعوذ بك أن تعذبني، وما أشبه ذلك. أما أن يقول: لا أسألك رد القضاء .. فما الفائدة من الدعاء إذا كنت لا تسأله رد القضاء؟! والدعاء يرد القضاء؛ فقد يقضي الله القضاء ويجعل له سبباً يمنع، فالمهم أن هذا الدعاء لا يجوز، يجب على الإنسان أن يتجنبه وأن ينصح من سمعه بألا يدعو بهذا الدعاء.
الشيخ ابن عثيمين - ألفاظ ومفاهيم في ميزان الشريعة - المسألة (111)
حكم الاحتجاج بالقدر على المعاصي
ما رأيك بالذي يحتج بالقدر على فعل المعاصي ويقول: مكتوب لي شقي أم سعيد ؟
رأيي أن هذا صادق في أنه مكتوب عليه شقي أو سعيد؛ ولكن هل هو مجبر على هذا ؟ وهل يعلم أن الله كتب عليه ذلك ؟ كلنا لا ندري ما المكتوب لنا إلا بعد أن نعمل، فإذا كان لا يدري أنه يعمل عملاً سيئاً إلا بعد أن يعمل، فليقدر قبل العمل أنه قد كتب من السعداء فيعمل بعملهم.
__________
(1) …أخرجه بزيادة فيه: أحمد في "المسند" (5/280)، والترمذي (2139) وقال: (حسن غريب)، وابن أبي شيبة في "مصنفه" (29867)، والحاكم في "المستدرك" 1/670 (1814)، وصححه ووافقه الذهبي.(1/192)
ثم هذا الرجل الذي يحتج بالقدر على المعصية لا يحتج بالقدر على مصالح الدنيا، تجده يفعل كل سبب يحصل به على المقصود ولا يحتج بالقدر، وقد أبطل الله سبحانه وتعالى الاحتجاج بالقدر بقوله: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}[النِّسَاء، الآية: 165]. ولو كان القدر حجة لكان حجة قبل الرسل وبعد الرسل، وأبطل قول المشركين الذين قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا}[الأنعَام: 148].
الشيخ ابن عثيمين - ألفاظ ومفاهيم في ميزان الشريعه، ص (46)
حكم قول: شَرّ وعيش مُرّ
ما حكم قول: (شر وعيش مر) قد تقال لوصف حال الإنسان وتوضيح ما يمر به من ضائقة في العيش ؟
إن أراد بذلك السب والذم فهذا لا يجوز؛ لأن الله تعالى قال يُؤْذِيني ابْنُ آدمَ؛ يسُبُّ الدَّهْرَ وأنا الدَّهْرُ (1)، وإن أراد بذلك الخبر فلا بأس به.
الشيخ ابن عثيمين - ألفاظ ومفاهيم في ميزان الاسلام - المسألة (28)
حكم قول: الآخرة مستأخرة
ما حكم قول: الآخرة مستأخرة (أي أن يوم القيامة بعيد فلا تحمل هَمَّه) ؟
هذا القول من التسويف الذي يمليه الشيطان على الإنسان ويقول الآخرة مستأخرة، وهو في الحقيقة كذب؛ لأن الآخرة هي من حين موت الإنسان، فكل إنسان يموت فقد قامت قيامته، والإنسان لا يدري قد يصبح ولا يمسي وقد يمسي ولا يصبح، فهذه الكلمة باطلة أولاً لأنها تحمل الإنسان على التسويف وعدم التوبة، وثانياً أنها كذب؛ لأن الآخرة تبتدئ من حيث يموت الإنسان، فإنه يكون في عالم الآخرة، ولهذا قال العلماء: من مات فقد قامت قيامته.
الشيخ ابن عثيمين - ألفاظ ومفاهيم في ميزان الشريعة - المسألة (29)
الفصل الثالث
السحر والسحرة
للسِّحر حقيقة
__________
(1) …البخاري (4826، 6181، 7491)، ومسلم (2246).(1/193)
هل للسحر حقيقة ؟
للسحر حقيقة ولاشك وهو مؤثر حقيقة، لكن كونه يقلب الشيء أو يحرك الساكن أو يسكن المتحرك هذا خيال وليس حقيقة؛ انظر إلى قول الله تعالى في قصة السحرة من آل فرعون - يقول الله تعالى: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ}[الأعرَاف: 116].
كيف سحروا أعين الناس ؟ سحروا أعين الناس حين صار الناس ينظرون إلى حبال السحرة وعصيهم كأنها ثعابين تمشي - كما قال الله تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى}[طه: 66].
فالسحر في قلب الأشياء، وتحريك الساكن، أو تسكين المتحرك ليس له أثر، لكن في كونه يسحر أو يؤثر على المسحور حتى يرى الساكن متحركًا والمتحرك ساكنًا، أثره ظاهر جدًا، إذن فله حقيقة ويؤثر على بدن المسحور وحواسه وربما يهلكه .
الشيخ ابن عثيمين - المجموع الثمين (2/131، 132)
هل السِّحر حق ؟
هل السحر حق ؟
نعم؛ له حقيقة، وحقيقته أن السحرة يعبدون الشياطين ويطيعونهم وهم يساعدونهم على ما يريدون، والله تعالى قد أعطى الشياطين من القدرة ما يزاولون به أعمالاً غريبة .
الشيخ ابن جبرين - فتاوى العلاج بالقرآن والسنة - الرقى وما يتعلق بها، ص (56)
الفرق بين السحر والكهانة والتنجيم والعرافة وحكم كل منها
السحر والكهانة والتنجيم والعرافة .. هل بينهما اختلاف في المعنى ؟ وهل هي سواء في الحكم ؟
السحر: عبارة عن عزائم ورُقى وعقد يعملها السحرة بقصد التأثير على الناس بالقتل أو الأمراض أو التفريق بين الزوجين. وهو كفر وعمل خبيث، ومرض اجتماعي شنيع يجب استئصاله وإزالته وإراحة المسلمين من شره .
والكِهَانة: ادعاء علم الغيب بواسطة استخدام الجن، قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن في «فتح المجيد»:(1/194)
وأكثر ما يقع في هذا ما يخبر به الجن أولياءهم من الإنس عن الأشياء الغائبة بما يقع في الأرض من الأخبار؛ فيظنه الجاهل كشفًا وكرامة . وقد اغتر بذلك كثير من الناس يظنون المخبر بذلك عن الجن وليًا لله، وهو من أولياء الشيطان(1). انتهى .
ولا يجوز الذهاب إلى الكُهَّان؛ روى مسلم في «صحيحه» عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -: مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاةٌ أَرْبَعِينَ ليلةً (2)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاةٌ أَرْبَعِينَ يَومَاً (3)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: مَنْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ (4)، رواه أبو داود، ورواه أحمد والترمذي. وروى الأربعة والحاكم وقال: صحيح على شرطهما: مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ(5).
(قال البغوي: والعراف هو الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة، .. وقيل هو الكاهن .
__________
(1) …«فتح المجيد شرح كتاب التوحيد» ص (306) .
(2) …مسلم (2230).
(3) …لم أجده من حديث أبي هريرة بهذا اللفظ، لكن رواه الإمام أحمد عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - (5/380) وفيه: (فصدقه بما يقول) بدلاً من قوله: (فسأله عن شيء).
(4) …لم يروه أحد من هؤلاء الثلاثة بهذا اللفظ؛ بل بزيادة أو اختلاف في العبارة لا تؤثر في المعنى؛ انظر: مسند أحمد (2/429)، وأبو داود (3904)، والترمذي (135)، وابن ماجه (639). وصححه الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (3304).
(5) …مستدرك الحاكم 1/8 (15) لكنه قدم العراف على الكاهن. وصححه ووافقه الذهبي.(1/195)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: العراف اسم للكاهن والمنجم والرمَّال ونحوهم ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق)(1). انتهى .
والتنجيم: هو الاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية، وهو من أعمال الجاهلية؛ وهو شرك أكبر إذا اعتقد أن النجوم تتصرف في الكون .
الشيخ صالح الفوزان - المنتقى (2/56، 57)
حكم تعلُّم الحساب والفلك .. وهل هو من التنجيم ؟
هل يعتبر من التنجيم معرفة أمور حساب السنين والشهور والأيام ومعرفة توقيت المطر والزرع ونحو ذلك ؟
ليس هذا من التنجيم وإنما هو من العلم المباح، وقد خلق الله الشمس والقمر لمعرفة الحساب؛ قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ}[يُونس: 5]. وهذا ما يُسمى بعلم التسيير .
قال الخطابي(2): أما علم النجوم الذي يدرك من طريق المشاهدة والخبر الذي يعرف به الزوال وتعلم جهة القبلة فإنه غير داخل فيما نُهِي عنه .. والله أعلم.
وكذلك الاستدلال بالنجوم على معرفة الجهات لا بأس به، قال تعالى: {وَعَلاَمَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ *}[النّحل]، قال ابن رجب(3): وأما علم التسيير فتعلم ما يحتاج إليه للاهتداء ومعرفة القبلة والطرق - جائز عند الجمهور، وما زاد عليه لاحاجة إليه لشغله عما هو أهم منه .
قال البخاري في «صحيحه»(4): قال قتادة: خلق الله هذه النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجومًا للشياطين، وعلامات يُهتدى بها، فمن تأول فيها غير ذلك أخطأ وأضاع نصيبه وتكلف ما لا علم له به .
__________
(1) …«فتح المجيد» ص (309، 310) . وانظر: «مجموع الفتاوى» (35/173) .
(2) …انظر كتاب: «تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد» ص (393).
(3) …انظر كتاب: «تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد» ص (393).
(4) …البخاري، بعد (3198) معلّقًا.(1/196)
قال الشيخ سليمان بن عبد الله(1): هذا مأخوذ من القرآن في قوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ}[المُلك: 5]، وقوله تعالى: {وَعَلاَمَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ *}.
وقوله: {وَعَلاَمَاتٍ} أي دلالات على الجهات والبلدان .
وأما معرفة توقيت المطر فهذا لا يمكن؛ لأن معرفة وقت نزول المطر من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله. وربط نزول المطر بأحوال النجوم هذا هو الاستسقاء بالأنواء وهو من أمور الجاهلية .
وأما معرفة وقت بذار الزروع فهذا يرجع إلى معرفة الفصول؛ وهو علم يدرك بالحساب . . والله أعلم .
الشيخ صالح الفوزان - كتاب الدعوة - الفتاوى (1/47، 48)
حكم تعلُّم السحر
ما هو السحر ؟ وما حكم تعلمه ؟
السحر قال العلماء: هو في اللغة: (عبارة عن كل ما لطف وخفي سببه)؛ بحيث يكون له تأثير خفي لا يطلع عليه الناس، وهو بهذا المعنى يشمل التنجيم، والكِهانة، بل إنه يشمل التأثير بالبيان والفصاحة - كما قال - صلى الله عليه وسلم -: إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا(2). فكل شيء له أثر بطريق خفي فهو من السحر، وأما في الاصطلاح فعرفه بعضهم بأنه: (عزائم ورُقى وعُقَد تؤثر في القلوب والعقول والأبدان فتسلب العقل، وتوجد الحب والبغض فتفرق بين المرء وزوجه وتمرض البدن وتسلب تفكيره)(3) .
__________
(1) …في كتابه «تيسير العزيز الحميد»، ص (388).
(2) …البخاري (5146،5767)، ومسلم(869) .
(3) …هو بنحوه في: «الكافي» لابن قدامة (4/164).(1/197)
وتعلم السحر محرم؛ بل هو كفر إذا كانت وسيلته الإشراك بالشياطين - قال الله تبارك وتعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اُشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآْخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ *}[البَقَرَة: 102].
فتعلم هذا النوع من السحر؛ وهو الذي يكون بواسطة الإشراك بالشياطين: كفر، واستعماله أيضاً كفر وظلم وعدوان على الخلق، ولهذا يقتل الساحر: إما ردة وإما حداً؛ فإن كان سحره على وجه يكفر به فإنه يقتل ردة وكفراً، وإن كان سحره لا يصل إلى درجة الكفر فإنه يقتل حداً؛ دفعاً لشرِّه وأذاه عن المسلمين .
الشيخ ابن عثيمين - المجموع الثمين (2/130، 131)
حقيقة السحر وأنه لا يباح منه شيء
نرجو إيضاح حقيقة السحر .. وهل يباح شيء منه ؟ وهل يعتبر عمل السحر مخرجًا عن دين الإسلام ؟
السحر في اللغة: عبارة عما لطف وخفي سببه، وحقيقة السحر كما بينها الموفَّق(1) في «الكافي»(2): عبارة عن عزائم ورقى وعقد يؤثر في القلوب والأبدان فيمرض ويقتل ويفرق بين المرء وزوجه . والسحر كله حرام لا يباح شيء منه قال الله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اُشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآْخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ}[البَقَرَة: 102]، أي ليس له نصيب .
__________
(1) …موفق الدين (ابن قدامة) المقدسي (ت/620هـ).
(2) …(4/164).(1/198)
وقال الحسن: ليس له دين(1). وهذا يدل على تحريم السحر وكفر متعاطيه. وقد عَدَّهُ النبي - صلى الله عليه وسلم - من السبع الموبقات (2)، ويجب قتل الساحر، قال الإمام أحمد رحمه الله: قتل الساحر عن ثلاثة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: صح قتل الساحر عن ثلاثة من الصحابة: وهم عمر وحفصة وجندب(3) رضي الله عنهم. فعمل السحر تعلمًا وتعليماً واحترافًا؛ كفر بالله يخرج من الملة. ويجب قتل الساحر لإراحة الناس من شره إذا ثبت أنه ساحر؛ لأنه كافر، ولأن شره يتعدى إلى المجتمع.
الشيخ صالح الفوزان - المنتقى (2/59)
(تعلَّموا السِّحر ولا تَعْمَلوا به )؛ ليس بحديث صحيح ولا ضعيف
ما المقصود بقوله: (( تعلموا السحر ولا تعملوا به ))؛ لأن بعض الناس يقول: إنه حديث ضعيف ؟
يحرم تعلم السحر: سواء تعلمه للعمل به أو ليتقيه. وقد نص الله سبحانه في كتابه الكريم على أن تعلمه كفر؛ فقال تعالى: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ}[البَقَرَة: 102].
__________
(1) …انظر: «تفسير ابن كثير» (1/144).
(2) …البخاري (2766، 5764، 6857)، ومسلم (89) و(المُوبِقَات): المُهْلِكَات.
(3) …وغيرهم. انظر: «المغني» لابن قدامة (9/35)(1/199)
وقد نص النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن السحر أحد الكبائر وأمر باجتنابه فقال: اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ (1)، فذكر منها السحر، وفي السنن عند النسائي: مَنْ عَقَدَ عُقْدَةً ثُمَّ نَفَثَ فِيهَا فَقَدْ سَحَرَ، وَمَنْ سَحَرَ فَقَدْ أَشْرَكَ(2).
وأما ما ذكرت من قول (تَعَلَّمُوا السِّحر ولا تَعْمَلُوا به) فليس بحديث؛ لا صحيح ولا ضعيف فيما نعلم .
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
اللجنة الدائمة، فتاوى العلاج بالقرآن والسنة - الرقى وما يتعلق بها، ص (57) حكم سؤال السَّحَرَة والمُشَعوِذين
يوجد في بعض جهات اليمن أناس يسمون (السادة) وهؤلاء يأتون بأشياء منافية للدين مثل الشعوذة وغيرها، ويدّعون أنهم يقدرون على شفاء الناس من الأمراض المستعصية ويبرهنون على ذلك بطعن أنفسهم بالخناجر أو قطع ألسنتهم ثم إعادتها دون ضرر يلحق بهم، وهؤلاء منهم من يصلي ومنهم من لا يصلي . وكذلك يحلون لأنفسهم الزواج من غير فصيلتهم ولا يحلون لأحد الزواج من فصيلتهم، وعند دعائهم للمرضى يقولون: (يا الله يا فلان) أحد أجدادهم .
__________
(1) …البخاري (2766، 5764، 6857)، ومسلم (89) و(المُوبِقَات): المُهْلِكَات.
(2) …أخرجه بزيادة في آخره: النسائي (4079)، والطبراني في «الأوسط» (1469)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، بسند فيه لين. قال ابن مفلح في «الآداب الشرعية» (3/69): «ويتوجه أنه حديث حسن». وأخرجه بنحوه وزيادة من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه: البزار في «مسنده» 9/52 (3578). قال في «مجمع الزوائد» (5/117): «ورجاله رجال الصحيح خلا إسحاق بن الربيع وهو ثقة».(1/200)
وفي القديم كان الناس يكبرونهم ويعتبرونهم أناسًا غير عاديين وأنهم مقربون إلى الله؛ بل يسمونهم رجال الله، والآن انقسم الناس فيهم: فمنهم من يعارضهم وهم فئة الشباب وبعض المتعلمين، ومنهم من لا يزال متمسكًا بهم وهم كبار السن وغير المتعلمين، نرجو من فضيلتكم بيان الحقيقة في الموضوع ؟
هؤلاء وأشباههم من جملة المتصوفة الذين لهم أعمال منكرة وتصرفات باطلة، وهم أيضًا من جملة العرافين الذين قال فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاةٌ أَرْبَعِينَ يَوْمَاً (1)، وذلك بدعواهم علم الغيب وخدمتهم للجن وعبادتهم إياهم وتلبيسهم على الناس بما يفعلون من أنواع السحر الذي قال الله فيه في قصة موسى وفرعون: قال تعالى: {قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ *}[الأعرَاف: 116]، فلا يجوز إتيانهم ولا سؤالهم؛ لهذا الحديث الشريف ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: مَنْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - ، وفي لفظ آخر: مَنْ أَتَى عَرَّافًا أو كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ(2).
__________
(1) …مسلم (2230)، وفيه (لَيْلَةً) مكان (يومًا).
(2) …مستدرك الحاكم 1/8 (15) لكنه قدم العراف على الكاهن. وصححه ووافقه الذهبي.(1/201)
وأما دعاؤهم غير الله واستغاثتهم بغير الله أو زعمهم أن آباءهم وأسلافهم يتصرفون في الكون أو يشفون المرضى أو يجيبون الدعاء مع موتهم أو غيبتهم - فهذا كله من الكفر بالله عز وجل ومن الشرك الأكبر. فالواجب الإنكار عليهم وعدم إتيانهم وعدم سؤالهم وعدم تصديقهم؛ لأنهم قد جمعوا في هذه الأعمال بين عمل الكهنة والعرافين وبين عمل المشركين عباد غير الله والمستغيثين بغير الله، والمستعينين بغير الله من الجن والأموات وغيرهم ممن ينتسبون إليهم ويزعمون أنهم آباؤهم وأسلافهم، أو من أناس آخرين يزعمون أن لهم ولاية أو لهم كرامة؛ بل كل هذا من أعمال الشعوذة ومن أعمال الكهانة والعرافة المنكرة في الشرع المطهر .
وأما ما يقع منهم من التصرفات المنكرة من طعنهم أنفسهم بالخناجر أو قطعهم ألسنتهم: فكل هذا تمويه على الناس، وكله من أنواع السحر المحرم الذي جاءت النصوص من الكتاب والسنة بتحريمه والتحذير منه كما تقدم، فلا ينبغي للعاقل أن يغتر بذلك. وهذا من جنس ما قاله الله سبحانه وتعالى عن سحرة فرعون: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى}[طه: 66].
فهؤلاء قد جمعوا بين السحر وبين الشعوذة والكهانة والعرافة، وبين الشرك الأكبر والاستعانة بغير الله والاستغاثة بغير الله وبين دعوى علم الغيب والتصرف في علم الكون، وهذه أنواع كثيرة من الشرك الأكبر والكفر البواح، ومن أعمال الشعوذة التي حرمها الله عز وجل، ومن دعوى علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله - كما قال سبحانه: {قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ}[النَّمل: 65].
فالواجب على جميع المسلمين العارفين بحالهم الإنكار عليهم، وبيان سوء تصرفاتهم وأنها منكرة، ورفع أمرهم إلى ولاة الأمور إذا كانوا في بلاد إسلامية حتى يعاقبوهم بما يستحقون شرعًا؛ حسمًا لشرهم وحماية للمسلمين من أباطيلهم وتلبيسهم، والله ولي التوفيق .(1/202)
الشيخ ابن باز - مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (5/276 - 278)
حكم السحرة والعرَّافين ونحوهم وتصديقهم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فقد شاع بين كثير من الناس أن هناك من يتعلق بالكهان والمنجمين والسحرة والعرافين وأشباههم؛ لمعرفة المستقبل والحظ وطلب الزواج والنجاح في الامتحان وغير ذلك من الأمور التي اختص الله سبحانه وتعالى بعلمها - كما قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا *إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا *}[الجنّ: 26-27]، وقال سبحانه: {قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ}[النَّمل: 65].(1/203)
فالكهان والعرافون والسحرة وأمثالهم قد بين الله سبحانه وتعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ضلالهم وسوء عاقبتهم في الآخرة وأنهم لا يعلمون الغيب، وإنما يكذبون على الناس ويقولون على الله غير الحق وهم يعلمون؛ قال تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اُشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآْخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}[البَقَرَة: 102]، وقال سبحانه: {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى}[طه: 69]، وقال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ *فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *}[الأعرَاف].(1/204)
فهذه الآيات وأمثالها تبين خسارة الساحر وما له في الدنيا والآخرة، وأنه لا يأتي بخير وأن ما يتعلمه أو يعلمه غيره يضر صاحبه ولا ينفعه، كما نبه سبحانه أن عملهم باطل، وصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا هُنَّ ؟ قَالَ: الشِّرْكُ بِاللهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلاتِ (1) متفق على صحته .
وهذا يدل على عظم جريمة السحر؛ لأن الله قرنه بالشرك، وأخبر أنه من الموبقات وهي المهلكات، والسحر كفر لأنه لا يتوصل إليه إلا بالكفر، كما قال تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ}[البَقَرَة: 102]، وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: حَدُّ السَّاحِرِ ضَرْبَةٌ بِالسَّيْفِ(2).
__________
(1) …البخاري (2766، 5764، 6857)، ومسلم (89) و(المُوبِقَات): المُهْلِكَات.
(2) …الترمذي (1460)، والدارقطني 3/114 (112)، والطبراني في «الكبير» 2/161 (1665، 1666)، والحاكم 4/360 (8073). وصحح الترمذي وقفه على جندب بن عبدالله رضي الله عنه.(1/205)
وصح عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أمر بقتل بعض السحرة من الرجال والنساء، وهكذا صح عن جندب الخير الأزدي رضي الله عنه أحد أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قتل بعض السحرة، وصح عن حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها فقتلت، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سأل أُناس النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الكُهَّان، فقال: لَيْسُوا بِشَيْءٍ ، فقالوا: يا رسول الله .. إنهم يُحَدِّثُونا أحيانًا بشيء فيكون حقًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنَ الْحَقِّ يَخْطَفُهَا الْجِنِّيُّ فَيُقَرْقِرُهَا(1) فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ؛ فَيَخْلِطُونَ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ كَذْبَةٍ (2) رواه البخاري .
__________
(1) …فيُقَرْقِرُها: أي يُردِّدها، كَقرْقَرة الدجاجة إذا رددت صوتها.
(2) …البخاري (7561) بنحوه وزيادة.(1/206)
وقال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه عنه ابن عباس رضي الله عنهما: مَنِ اقْتَبَسَ عِلْمًا مِنَ النُّجُومِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنْ السِّحْرِ زَادَ مَا زَادَ (1)، رواه أبو داود وإسناده صحيح، وللنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: مَنْ عَقَدَ عُقْدَةً ثُمَّ نَفَثَ فِيهَا فَقَدْ سَحَرَ؛ وَمَنْ سَحَرَ فَقَدْ أَشْرَكَ، وَمَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا وُكِلَ إِلَيْهِ (2)، وهذا يدل على أن السحر شرك بالله تعالى كما تقدم؛ وذلك لأنه لا يتوصل إليه إلا بعبادة الجن والتقرب إليهم بما يطلبون من ذبح وغيره من أنواع العبادة، وعبادتهم شرك بالله عز وجل .
__________
(1) …أبو داود (3905)، وابن ماجه (3726)، وأحمد (1/311). وحسّنه الألباني في «صحيح أبي داود» (3305).
(2) …أخرجه بزيادة في آخره: النسائي (4079)، والطبراني في «الأوسط» (1469)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، بسند فيه لين. قال ابن مفلح في «الآداب الشرعية» (3/69): «ويتوجه أنه حديث حسن». وأخرجه بنحوه وزيادة من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه: البزار في «مسنده» 9/52 (3578). قال في «مجمع الزوائد» (5/117): «ورجاله رجال الصحيح خلا إسحاق بن الربيع وهو ثقة».(1/207)
فالكاهن: من يزعم أنه يعلم بعض المغيبات، وأكثر ما يكون ذلك ممن ينظرون في النجوم لمعرفة الحوادث، أو يستخدمون من يسترقون السمع من شياطين الجن، كما ورد بالحديث الذي مر ذكره. ومثل هؤلاء من يخط في الرمل أو ينظر في الفنجان أو في الكف ونحو ذلك، وكذا من يفتح الكتاب زعمًا منهم أنهم يعرفون بذلك علم الغيب؛ وهم كفار بهذا الاعتقاد، لأنهم بهذا الزعم يدعون مشاركة الله في صفة من صفاته الخاصة وهي علم الغيب، ولتكذيبهم بقوله تعالى: {قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ}[النَّمل: 65] وقوله: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ}[الأنعَام: 59] وقوله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ لاَ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ}[الأنعَام: 50] .(1/208)
ومن أتاهم وصدقهم بما يقولون من علم الغيب فهو كافر؛ لما رواه أحمد وأهل السنن من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: مَنْ أَتَى عَرَّافًا أو كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ (1)، وروى مسلم في «صحيحه» عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً (2)، وعن عمران بن حصين رضي الله عنه: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَطَيَّرَ أو تُطِيِّرَ لَهُ، أو تَكَهَّنَ أو تُكُهِّنَ لَهُ، أو سَحَرَ أو سُحِرَ لَهُ. وَمَنْ أَتَى كَاهِناً فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُوْلُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ (3) رواه البزار بإسناد جيد .
وبما ذكرنا من الأحاديث يتبين لطالب الحق أن علم النجوم وما يسمى بالطالع وقراءة الكف وقراءة الفنجان ومعرفة الخط وما أشبه ذلك مما يدعيه الكهنة والعرافون والسحرة - كلها من علوم الجاهلية التي حرمها الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، ومن أعمالهم التي جاء الإسلام بإبطالها والتحذير من فعلها أو إتيان من يتعاطاها وسؤاله عن شيء منها أو تصديقه فيما يخبر به من ذلك؛ لأنه من علم الغيب الذي استأثر الله به .
__________
(1) …لم يروه أحد من هؤلاء الثلاثة بهذا اللفظ؛ بل بزيادة أو اختلاف في العبارة لا تؤثر في المعنى؛ انظر: مسند أحمد (2/429)، وأبو داود (3904)، والترمذي (135)، وابن ماجه (639). وصححه الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (3304).
(2) …مسلم (2230).
(3) …البزار ( 9/52) من حديث عمران بن حصين، وذكره الهيثمي في «المجمع» (5/117) وقال:« رجاله رجال الصحيح؛ خلا إسحاق بن الربيع وهو ثقة».(1/209)
ونصيحتي لكل من يتعلق بهذه الأمور أن يتوب إلى الله ويستغفره، وأن يعتمد على الله وحده ويتوكل عليه في كل الأمور مع أخذه بالأسباب الشرعية والحسية المباحة، وأن يدع هذه الأمور الجاهلية ويبتعد عنها ويحذر سؤال أهلها أو تصديقهم؛ طاعة لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - وحفاظاً على دينه وعقيدته، وحذرًا من غضب الله عليه، وابتعادًا عن أسباب الشرك والكفر التي من مات عليها خسر الدنيا والآخرة .
نسأل الله العافية من ذلك، ونعوذ به سبحانه من كل ما يخالف شرعه أو يوقع في غضبه، كمانسأله سبحانه أن يوفقنا وجميع المسلمين للفقه في دينه والثبات عليه، وأن يعيذنا جميعًا من مضلات الفتن ومن شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه .
الشيخ ابن باز - مجموع فتاوى ومقالات متنوعة، (2/118-122)
حكم الكِهَانَة وإتيان الكُهّان
ما هي الكهانة ؟ وما حكم إتيان الكهان ؟
الكِهَانَة فِعَالة مأخوذة من التَّكَهُّن، وهو التخرُّص والتماس الحقيقة بأمور لا أساس لها، وكانت في الجاهلية صنعة لأقوام تتصل بهم الشياطين وتسترق السمع من السماء وتحدثهم به، ثم يأخذون الكلمة التي نقلت إليهم من السماء بواسطة هؤلاء الشياطين ويضيفون إليها ما يضيفون من القول، ثم يحدثون بها الناس فإذا وقع الشيء مطابقًا لما قالوا اغتر بهم الناس واتخذوهم مرجعًا في الحكم بينهم، وفي استنتاج ما يكون في المستقبل، ولهذا نقول: الكاهن هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل . والذي يأتي إلى الكاهن ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أن يأتي إلى الكاهن فيسأله من غير أن يصدقه، فهذا محرم، وعقوبة فاعله أن لاتقبل له صلاة أربعين يومًا؛ كما ثبت في «صحيح مسلم»: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً(1).
__________
(1) …مسلم (2230).(1/210)
القسم الثاني: أن يأتي إلى الكاهن فيسأله ويصدقه بما أخبر به، فهذا كفر بالله عز وجل؛ لأنه صدقه في دعوى علمه الغيب، وتصديق البشر في دعوى علم الغيب تكذيب - لقول الله تعالى: {قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ}[النَّمل: 65] ولهذا جاء في الحديث الصحيح: مَنْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ(1).
القسم الثالث: أن يأتي إلى الكاهن فيسأله ليبين حاله للناس، وأنها كهانة وتمويه وتضليل؛ فهذا لا بأس به، ودليل ذلك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتاه ابن صياد، فأضمر له النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئًا في نفسه، فسأله النبي - صلى الله عليه وسلم - ماذا خبأ له ؟ فقال: الدُّخ: يريد الدخان، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: اخْسَأْ فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ(2).
إذن فأحوال من يأتي إلى الكاهن ثلاثة:
الأول: أن يأتي فيسأله بدون أن يصدقه، وبدون أن يقصد بيان حاله فهذا محرم، وعقوبة فاعله أن لا تقبل له صلاة أربعين ليلة .
الثانية: أن يسأله فيصدقه، وهذا كفر بالله عز وجل، يجب على الإنسان أن يتوب منه ويرجع إلى الله عز وجل وإلا مات على الكفر .
الثالثة: أن يأتيه فيسأله ليمتحنه ويبين حاله للناس؛ فهذا لا بأس به .
الشيخ ابن عثيمين - المجموع الثمين (2/136، 137)
السحر من عمل الشيطان ومن يتعامل به مشرك
امرأة ساحرة تعمل السحر، وقد تضرر منها أناس كثير، فما الواجب نحو هذه المرأة الساحرة ؟ وعن كيفية التخلص من هذا السحر ؟
__________
(1) …لم يروه أحد من هؤلاء الثلاثة بهذا اللفظ؛ بل بزيادة أو اختلاف في العبارة لا تؤثر في المعنى؛ انظر: مسند أحمد (2/429)، وأبو داود (3904)، والترمذي (135)، وابن ماجه (639). وصححه الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (3304).
(2) …البخاري (6172، 6173) ومسلم (2930).(1/211)
السحر هو عمل شيطاني، حيث يتقرب الساحر إلى الجن بالذبح لهم، أو دعائهم من دون الله، أو ترك الصلاة، أو أكل النجاسات ونحو ذلك؛ حتى تخدمه الشياطين ومردة الجن، فيلابسون من يريده، ويقتلون ويعوقون ويعقدون الرجل عن امرأته، ويصرفون أحدهما عن الآخر ونحو ذلك .
وعلى هذا فالساحر مشرك كافر؛ لأجل تقربه إلى غير الله بهذه الأعمال الكفرية، فلذلك ورد الأمر بقتله، وثبت ذلك عن عمر بن الخطاب، وابنته حفصة، وجندب رضي الله عنهم(1).
وعلى ما ذكرنا فلا يجوز ترك هذه المرأة التي اشتهرت بعمل السحر، فإن كان لديكم بينات وقرائن، فارفعوا أمرها وبما حصل منها من الأضرار، حتى تقتل ويستريح الناس من شرها، وعلى رب الأسرة السعي في إزالة ضرر هذه المرأة، ولو كانت والدته؛ حيث إن هذا العمل كفر بالله، وضرر على عباد الله، ومتى قتلت انزجر غيرها، وامتنعوا عن مثل هذا العمل الشيطاني .
فإن امتنعوا كلهم من تغيير الحال، ورضوا عن هذه العجوز، وتركوها على هذا الأمر؛ فإنك أنت مسؤول عما تعرف عنها، فاحرص على إثبات الوقائع التي حَصَلت منها، وأثبت ما تقدر عليه من القرائن والبينات وما يعرفه عنها الجيران والأهلون، ومتى حصلت على المعلومات الكافية فارفعها إلى المحكمة الشرعية، ليجري فيها حكم الله تعالى، وهو العمل بحديث: حَدُّ السَّاحِرِ ضَرْبَةٌ بِالسَّيْفِ(2).
ولا يحق لك أن تقيم على هذه الحال التي تعاني فيها هذه الأضرار. - وبعد ذلك نوصيك:
أولاً: بالتحصن بكثرة ذكر الله وقراءة القرآن، واستعمال الأوراد في الصباح والمساء، وذلك مما يحفظك الله من الجن والسحرة .
__________
(1) …انظر: «المغني» لابن قدامة (9/35).
(2) …الترمذي (1460)، والدارقطني 3/114 (112)، والطبراني في «الكبير» 2/161 (1665، 1666)، والحاكم 4/360 (8073). وصحح الترمذي وقفه على جندب بن عبدالله رضي الله عنه.(1/212)
ثم نوصيك ثانياً: بعلاج ما أصابك بالرقية الشرعية، عن القراء المعروفين، باستعمال كلام الله وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -، والأدوية الشرعية، وهم كثيرون في البلاد، وقد نفع الله بهم من أراد الله به خيرًا، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم .
الشيخ ابن جبرين - الكنز الثمين، (1/224-227)
أقسام السحر وحكم الساحر
ما هي أقسام السحر ؟ وهل الساحر كافر ؟
السحر ينقسم إلى قسمين:
الأول: عُقَد ورُقَى؛ أي قراءات وطلاسم يتوصل بها الساحر إلى الإشراك بالشياطين فيما يريد لضرر المسحور، قال الله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ}[البَقَرَة: 102].
الثاني: أدوية وعقاقير تؤثر على بدن المسحور، وعقله، وإرادته، وميله. وهو ما يسمى عندهم بالعَطْف والصَّرْف؛ فيجعلون الإنسان ينعطف على زوجته أو امرأة أخرى حتى يكون كالبهيمة تقوده كما تشاء، والصرف بالعكس من ذلك؛ فيؤثر في بدن المسحور بإضعافه شيئًا فشيئًا حتى يهلك، وفي تصوره بأن يتخيل الأشياء على خلاف ما هي عليه .
- وكفر الساحر اختلف فيه أهل العلم: فمنهم من قال: يكفر، ومنهم من قال: لا يكفر .
ولكن التقسيم السابق الذي ذكرناه يتبين به حكم هذه المسألة: فمن كان سحره بواسطة الشياطين فإنه يكفر، ومن كان سحره بالأدوية والعقاقير فإنه لا يكفر؛ ولكنه يعتبر عاصيًا .
الشيخ ابن عثيمين - المجموع الثمين، (2/132، 133)
قتل الساحر قد يكون رِدةً وقد يكون حدًّا
هل يقتل الساحر ردة أو حَدًا ؟(1/213)
قتل الساحر قد يكون حدًّا، وقد يكون ردَّةً - بناءً على التفصيل السابق في كفر الساحر؛ فمتى حكمنا بكفره فقتله ردة، وإذا لم نحكم بكفره فقتله حد. والسحرة يجب قتلهم: سواءً قلنا بكفرهم أم لا؛ لعظم ضررهم وفظاعة أمرهم، فهم يفرقون بين المرء وزوجه، وكذلك العكس فهم قد يعطفون فيؤلفون بين الأعداء ويتوصلون بذلك إلى أغراضهم - كما لو سحر امرأة ليزني بها.
فيجب على ولي الأمر قتلهم بدون استتابة ما دام أنه حد؛ لأن الحد إذا بلغ الإمام لا يستتاب صاحبه؛ بل يقام بكل حال. أما الكفر فإنه يستتاب صاحبه، وبهذا نعرف خطأ من أدخل حكم المرتد في الحدود، وذكروا من الحدود حد الردة؛ لأن قتل المرتد ليس من الحدود لأنه إذا تاب انتفى عنه القتل، ثم إن الحدود كفارة لصاحبها وليس بكافر .
والقتل بالردة ليس بكفارة وصاحبه كافر لا يصلى عليه، ولا يغسل، ولا يدفن في مقابر المسلمين .
فالقول بقتل السحرة موافق للقواعد الشرعية؛ لأنهم يسعون في الأرض فسادًا، وفسادهم من أعظم الفساد، وإذا قُتِلوا سلم الناس من شرهم، وارتدع الناس عن تعاطي السحر .
الشيخ ابن عثيمين - المجموع الثمين، (2/133، 134) حكم الذهاب للكهنة لعمل السحر وقتل الحيوانات بالتعذيب
قبل أن أهتدي وأداوم على الصلوات في أوقاتها وقراءة القرآن الكريم ذهبت إلى إحدى الساحرات، وطلبت مني أن أخنق دجاجة لكي تعمل لي حجاباً تربطني بزوجي؛ لأنه كان يوجد دائماً مشكلات بيني وبينه. وقد خنقت الدجاجة فعلاً بيدي .. فهل علي في فعل هذا إثم ؟ وماذا أفعل حتى أخلص من هذا الخوف الذي يراودني والقلق ؟(1/214)
أولاً الذهاب إلى الساحرات حرام شديد التحريم؛ لأن السحر كفر وإضرار بعباد الله عز وجل، فالذهاب إليهم جريمة كبيرة. وما ذكرت أنك خنقت الدجاجة جريمة أخرى؛ لأن هذا فيه تعذيب للحيوان وقتل للحيوان بغير حق وتقرب إلى غير الله بهذا العمل؛ فيكون شركًا. ولكن ما دمت قد تبت إلى الله سبحانه وتعالى توبة صحيحة فما سبق منك يغفره الله سبحانه وتعالى، ولا تعودي إليه في المستقبل. والله تعالى يغفر لمن تاب .
ولا يجوز للمسلمين أن يتركوا السحرة يزاولون سحرهم بين المسلمين؛ بل يجب الإنكار عليهم، ويجب على ولاة أمور المسلمين قتلهم وإراحة المسلمين من شرهم.
الشيخ صالح الفوزان - كتاب المنتقى، (1/72، 73)
سحر الزوجة على الزوج
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز، إلى حضرة الأخ المكرم .. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
وصلني كتابكم المؤرخ ( بدون ) - وصلكم الله بهداه - وما تضمنه من الإفادة عما أصابكم عندما أردت جماع زوجتك الجديدة، وعن ذهابك للشيخ وما أفتاك به وعما عملته الزوجة القديمة من العمل الذي كان سبباً لمنعك من جماع زوجتك الجديدة، وسؤالك عن الحكم في ذلك كان معلوماً .(1/215)
إذا كانت الزوجة القديمة قد أقرت بهذا العمل أو ثبت عليها ذلك بالبينة فقد فعلت منكراً عظيماً بل كفراً وضلالاً؛ لأن عملها هذا هو السحر المحرم، والساحر كافر - كما قال الله سبحانه: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اُشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآْخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ *}[البَقَرَة: 102]، فهذه الآية الكريمة تدل على أن السحر كفر وأن الساحر كافر، والسحرة يتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم، وأن من مقاصدهم التفريق بين المرء وزوجه، وأنه لا خلاق لهم عند الله يوم القيامة - يعني: لا حظ لهم في النجاة . وفي الحديث الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا هُنَّ ؟ قَالَ: الشِّرْكُ بِاللهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلاتِ(1).
__________
(1) …البخاري (2766، 5764، 6857)، ومسلم (89) و(المُوبِقَات): المُهْلِكَات.(1/216)
أما الشيخ الذي أعطاك الدواء فالظاهر أنه ساحر كالمرأة؛ لأنه لا يطلع على أعمال السحر إلا السحرة، وهو أيضاً من العرافين والكهنة المعروفين بادعاء الغيب في كثير من الأمور، والواجب على المسلم أن يحذرهم وألا يصدقهم فيما يدعون من الغيب؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً (1) أخرجه مسلم في صحيحه، وقال - صلى الله عليه وسلم - أيضاً: ((مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ(2).
فالواجب عليك التوبة والندم على ما قد حصل منك وإخبار رئيس الهيئة ورئيس المحكمة بالشيخ المذكور وزوجتك القديمة حتى تعمل المحكمة والهيئة ما يردعهم، وإذا عرض لك مثل هذا الحادث فاسأل علماء الشرع حتى يخبروك بالعلاج الشرعي، وإذا كان الذي أصابك قد زال فالحمد لله وإلا فأخبرنا حتى نخبرك بالعلاج الشرعي، رزقنا الله وإياك الفقه في الدين والثبات عليه والسلامة مما يخالفه إنه جواد كريم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
الشيخ ابن باز - مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (2/693)
العَطْفُ والصَّرْف كلاهما حرام
س1: ما حكم التوفيق بين الزوجين بالسِّحر ؟
__________
(1) …مسلم (2230).
(2) …لم يروه أحد من هؤلاء الثلاثة بهذا اللفظ؛ بل بزيادة أو اختلاف في العبارة لا تؤثر في المعنى؛ انظر: مسند أحمد (2/429)، وأبو داود (3904)، والترمذي (135)، وابن ماجه (639). وصححه الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (3304).(1/217)
ج1: هذا محرم ولا يجوز؛ وهذا يسمى بالعَطْف، وما يحصل به التفريق يسمى بالصَّرْف وهو أيضاً مُحرَّم، وقد يكون كفراً وشركاً؛ قال الله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اُشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآْخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ}[البَقَرَة: 102].
الشيخ ابن عثيمين - المجموع الثمين (1/156)
س2: أعرض على فضيلتكم حال رجل متزوج بامرأتين، وله من كل منهما أبناء، وقد حدثت بينه وبين زوجته الثانية بعض المشكلات كادت أن تصل بينهما إلى الطلاق، إلا أن زوجته الثانية وبوَحْيٍ من والدتها وأخواتها، وحفاظًا على بيتها، وكذلك حفاظًا على أبنائها أن يتعرضوا للظلم من إخوانهم الكبار (أبناء ضَرَّتها)، أن يستحوذوا على ثروة أبيهم ويحرموا أبنائها منها؛ لأجل ذلك فقد توجهت إلى السَّحَرة والمُشعوذِين، وعملت سِحْرَ عَطْفٍ لزوجها، وحين استقام لها أمرُه، وحسنت علاقته بها، قامت بعمل السحر لأبناء ضَرَّتها ولأزواجهم وأبنائهم حتى الأطفال منهم، وذلك حسدًا منها لما رأت من نبوغهم ونجاحهم في حياتهم، وحسن علاقتهم بوالدهم، فسعت بذلك للتفريق بينهم وبين والدهم، وأشغلتهم بأنفسهم، حيث جعلت حياتهم مليئة بالأسقام والأوجاع والمشكلات، مما أثَّرَ على نفسياتهم جميعًا، وفعلت ذلك من أجل إقصائهم عن أبيهم كي يحلُوَ لها الجوّ ولأبنائها.
لقد كان الدافع وراء ذلك الحسد والكيد، وحماية أولادها الصغار من أبناء ضَرَّتها، هذا بالرغم من أن أبناء ضَرَّتها ظاهرهم الاستقامة، ولم يتعدّوا عليها أو يؤذوها بشيء، بل هم صابرون على ما تفعل بهم من أذى، مع علمهم بما تقوم به.(1/218)
وبما أنها تعلم أن هذا الذي تقوم به هو من السِّحر المحرَّم، فهي تقوم في مقابل ذلك بالإكثار من الصدقات ونوافل العبادات، كالحج وقيام الليل، وحضور مجالس الذِّكر، مُتأوِّلة أن هذه الأعمال الصالحة ستدفع عنها إثم السِّحر المحرَّم الذي تُمارِسه، بقول الله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}[هُود: 114]، وأسئلتنا هي:
1- هل يجوز للمرأة أن تسحرَ زوجها سِحْرَ عَطْفٍ لكي تحظى بِحُبِّهِ لها واستمرار العلاقة بينهما ؟ وهل هذا كما يدعي البعض من السِّحر المحمود الجائز للضرورة ؟
2- هل صحيح أنَّ مَنْ يفعل المحرَّمات ويُقيم عليها، ثم يُكثر من العبادات أن هذه العبادات تكفر له ذلك الفعل المُحرَّم ؟ وهل تُكفِّر له الأذى الذي أَلْحَقَهُ بالآخرين ؟
3 - هل يجوز للإنسان أن يؤذي الآخرين ويكيد لهم، ويقع في الحرام من أجل تأمين مستقبل أنبائه ؟
4 - ما نصيحتكم التي توجهونها لِمَنْ هذه حالُه ؟
ج2: لا شك أنَّ عملها لسِحْرٍ العَطْفِ مُحرَّم، ويؤول بصاحبِه إلى الكُفر، وذلك لأن الساحر مُشرك، حيث إنه يتقرب إلى الشياطين ومَرَدَةِ الجِنّ بما تُحِبّ، حتى يستولي ذلك الجنِّي على قلب ذلك الإنسان، فيصرفه عن بعض أهله، ويَعطفه على بعضهم أو على غيرهم، وعلى هذا فإنه يكون شِركًا وكُفرًا.(1/219)
والواجب على هذه المرأة إذا ثبت ذلك أنها تُقْتَل، إذا كانت هي التي عملت السِّحر، أو تدل على الساحر الذي عمله حتى يُقْتَل، فإنَّ حَدَّ الساحر ضَربةٌ بالسيف، وفي مثل هذه الحال إذا رأت من الزوج صُدودًا وإعراضًا فإنها تتحمَّل وتَصْبِر، ولو أدَّى إلى الطلاق، فلعله إذا نُصِحَ ووُجِّهَ يتقبل النصيحة، ويتوب إلى الله، ويعدل بين زوجتيه، ويُصلح الحال مع كل منهما، دون أن تلجأ إلى السِّحر المحرَّم، ولا تنفعها الصدقات ولا الصيام ولا قيام الليل، لأن هذه أعمال يبطلها الشرك؛ لقوله تعالى : {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الأنعَام: 88].
وأما قوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}[هُود: 114]؛ فإن المراد بالسيئات: الذنوب التي دون الكفر، بخلاف الكفر والشرك، ومنه السِّحر بالصَّرْفِ أو العَطْف، فإنه لا يُغْفَر، لقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ}[النِّسَاء: 48، 116]. وليس في السحر شيء محمودٌ جائز، بل كله كُفْرٌ وشِرْكٌ؛ لقوله تعالى: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا}[البَقَرَة: 102].
ولا يجوز لأحدٍ من المسلمين أن يؤذي غيرَه لأجل تأمين مستقبله ومستقبل أبنائه. وننصح المسلمين ذكورًا وإناثًا أن يتوبوا إلى الله ويُخلِصُوا له الدِّين، ويبتعدوا عن الحرام، وعن الجرائم والتعدِّيات، رجاءَ أن يقبل الله توبتهم. والله أعلم.
الشيخ ابن جبرين - من قوله وإملائه - 12/5/1427هـ حُجُب المحبة أو الشقاق بين الزوجين .. سحر
إمام يكتب حُجُباً فيها المحبة وسيطرة الزوجة على الزوج والتفريق بينهما؛ فهل هذا هو السحر ؟ أفيدونا مأجورين .(1/220)
الذي يكتب هذا النوع من الكتابة يكتب كتابة ليحبّب بها الزوجين بعضهما ببعض أو يفرق بين الزوجين المتحابين، هذا ساحر؛ كما قال الله تعالى في السحرة الذين يعلِّمون السحر وفي الذين يتعلمون منهم؛ قال تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ}[البَقَرَة: 102]، وهذا ما يسمى بالصرف والعطف؛ فهذا سحر .
والسحر كفر بالله عز وجل، والساحر كافر؛ لأن الله سبحانه وتعالى ذكر في كتابه أن السحر كفر؛ في قوله تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اُشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآْخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ}[البَقَرَة: 102]؛ فالأدلة دلت على أن السحر كفر، وأن تعلمه كفر، وأن الساحر كافر؛ في مواضع من هذه الآية الكريمة .
وجاء في الحديث: أن «حَدّ السَّاحِرِ ضَرْبَةٌ بِالسَّيْفِ» (1)؛ أي: إنه يُقتل مرتداً عن دين الإسلام على الصحيح .
فمثل هذا لا يصلح أن يكون إماماً في الصلاة؛ لأنه ليس على دين المسلمين، ولا يجوز الاقتداء بكافر، ولا تصح الصلاة خلفه .
__________
(1) …الترمذي (1460)، والدارقطني 3/114 (112)، والطبراني في «الكبير» 2/161 (1665، 1666)، والحاكم 4/360 (8073). وصحح الترمذي وقفه على جندب بن عبدالله رضي الله عنه.(1/221)
ويجب على ولاة أمور المسلمين الأخذ على يد هذا الساحر، وإجراء الحكم اللازم عليه؛ لئلاً يضرّ بهم وبمجتمعهم؛ لأن السحر إذا فشا بمجتمع؛ فإن هذا المجتمع ينهار، وتدخله الذلة، وتسيطر عليه الخرافة، ويسيطر عليه هؤلاء الخرافيون، والعياذ بالله .
الشيخ الفوزان - المنتقى، (1/129)
حكم مس الجن للإنس وربط الزوج عن جماع زوجته
يمرض الإنسان فيصبح يتكلم بكلام غير عادي فيقول الناس: إنه ممسوس بجن؛ هل هذا صحيح أم لا، ويأتون بحافظ القرآن فيقرأ عليه حتى يرجع إلى حالته العادية، وكذلك في الزفاف يربطون العريس بقراءة خاصة لا يستطيع أن يجامع زوجته أثناء دخوله .. هل هذا صحيح أم لا ؟
أولاً: الجن صنف من مخلوقات الله ورد ذكرهم في القرآن والسنة وهم مكلفون، مؤمنهم في الجنة وكافرهم في النار، ومس الجن للإنس أمر معلوم من الواقع، وتستعمل للعلاج من مسه الأدوية الشرعية: من الدعاء والقراءة عليه بشيء من القرآن .
ثانياً: أما قراءة شيء في ليلة الزواج بحيث يكون العريس مربوطًا عن زوجته ليلة الزفاف أو عند العقد فلا يجامعها: فهذا نوع من السحر، والسحر محرم لا يجوز تعاطيه، وقد ثبت النهي عن تعاطيه في القرآن والسنة، وأن حد الساحر القتل .
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
اللجنة الدائمة، فتاوى العلاج بالقرآن والسنة - الرقى وما يتعلق بها، ص (73) شرح كلام ابن كثير عن السحر
جاء في تفسير ابن كثير (ج1، ص 147) ما يلي :
(وأما أهل السنة فقد جوزوا أن يقدر الساحر أن يطير في الهواء ويقلب الإنسان حماراً والحمار إنسانًا، إلا أنهم قالوا: إن الله يخلق الأشياء عندما يقول الساحر تلك الرقى والكلمات المعينة؛ فأما أن يكون المؤثر في ذلك هو الفلك والنجوم فلا، خلافاً للفلاسفة والمنجمين) . فهل معنى هذا أنه يمكن أن يتسلط الساحر على إنسان فيقلبه إلى حيوان أو العكس ؟ وهل حصل مثل ذلك من قبل ؟(1/222)
هكذا ذكر ابن كثير رحمه الله وكذا ذكره قبله ابن جرير؛ فأما الطيران في الهواء والمشي على الماء فقد ذكره بعض السلف قبلهما، وهو دليل على أنه يمكن ذلك؛ حيث إن الشياطين ومردة الجن يخدمون الساحر وقد يتلبسون به. ومعلوم أن الجن لهم القدرة على التشكل بأشكال متنوعة فلا يستبعد أن يتلبسوا بإنسان ويصوّروه بصورة حمار أو طير أو وحش ونحو ذلك. وفي حكايات العامة الشيء الكثير من قلب الإنسان حيوانًا وطيرًا أو نحو ذلك؛ ولكنه لا يكون إلا بقدرة الله تعالى وإرادته الكونية القدرية - كما قال تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ}[البَقَرَة: 102]، وهذا خلافٌ لما تزعمه الفلاسفة والمعتزلة من إنكار ذلك وادعائهم أن الساحر يقدر على التخييل والشعوذة. والصحيح الأول، والله على كل شيء قدير، والله أعلم(1).
الشيخ ابن جبرين - فتوى عليها توقيعه
ثبوت سحر اليهود (للنبي - صلى الله عليه وسلم -)
هل ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سُحِر ؟
نعم؛ ثبت في الصحيحين وغيرهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سُحِر، لكن لم يؤثر عليه من الناحية التشريعية أو الوحي، إنما غاية ما هنالك أنه وصل إلى درجة يخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يكن فعله، وهذا السحر الذي وضع كان من يهودي يقال له: لبيد بن الأعصم، وضعه له(2)، ولكن الله تعالى أنجاه منه حتى جاءه الوحي بذلك وعُوِّذ بالمُعَوِّذَتَيْن - صلى الله عليه وسلم -(3). ولا يؤثر هذا السحر على مقام النبوة؛ لأنه لم يؤثر في تصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يتعلق بالوحي والعبادات .
__________
(1) …للاستزادة من هذا الموضوع، انظر «فتح الباري» (10/222) و«معارج القبول» للشيخ حافظ الحكمي (2/688).
(2) …حديث سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - أخرجه البخاري (6391)، ومسلم (2189).
(3) …البخاري (5735)، ومسلم (2192).(1/223)
وقد أنكر بعض الناس أن يكون - صلى الله عليه وسلم - سحر؛ بحجة أن هذا القول يستلزم تصديق الظالمين الذين قالوا: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُورًا}[الفُرقان: 8]، ولكن هذا لاشك أنه لا يستلزم موافقة هؤلاء الظالمين بما وصفوا به النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن أولئك يدعون أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مسحور فيما يتكلم به من الوحي وأن ما جاء به هذيان كهذيان المسحور، وأما السحر الذي وقع للرسول - صلى الله عليه وسلم - فلم يؤثر عليه في شيء من الوحي ولا في شيء من العبادات، ولا يجوز لنا أن نكذب الأخبار الصحيحة بمجرد فهم سيئ فهمه من فهمه .
الشيخ ابن عثيمين - المجموع الثمين (2/134، 135)
الطريقة التي سحر بها - صلى الله عليه وسلم - وتصرفه حيال ذلك
هل ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سُحر ؟ وإذا ثبت ذلك فكيف كان تعامله - صلى الله عليه وسلم - مع السحر ومع من سحره ؟
نعم؛ ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سحر: فعن عائشة رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سحر حتى ليخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله، وأنه قال لها ذات يوم إِنّه: أَتَاهُ مَلَكَانِ فَجَلَسَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِهِ وَالآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيْهِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلآخَرِ: مَا بَالُهُ ؟ قَالَ: مَطْبُوبٌ(1)، قَالَ: مَنْ طَبَّهُ ؟ قَالَ: لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ، قَالَ: فِيمَ ؟ قَالَ: فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ، فِي جُفِّ طَلْعَةِ ذَكَرٍ، فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ(2).
__________
(1) …مَطْبُوب: أي مسحور.
(2) …البخاري (6391)، ومسلم (2189)، وأحمد (6/57، 63، 96) واللفظ له. والجُفُّ: قشرُ الطَّلْع وغشاؤُه. وذَرْوَان: بئر في منازل بني زريق بالمدينة.(1/224)
قال الإمام ابن القيم(1): (وقد أنكر هذا طائفة من الناس وقالوا: لا يجوز هذا عليه وظنوه نقصاً وعيباً . وليس الأمر كما زعموا بل هو من جنس ما كان يؤثر فيه - صلى الله عليه وسلم - من الأسقام والأوجاع وهو مرض من الأمراض، وإصابته به كإصابته بالسم لا فرق بينهما) .
وذكر رحمه الله عن القاضي عياض أنه قال: (ولا يقدح في نبوته وأما كونه يخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يفعله فليس في هذا ما يدخل عليه داخلة في شيء من صدقه لقيام الدليل والإجماع على عصمته من هذا، وإنما هو مما يجوز طُرُوءُه عليه في أمور دنياه التي لم يبعث لسببها ولا فُضِّل من أجلها، وهو فيها عرضة للآفات كسائر البشر؛ فغير بعيد أن يخيل إليه من أمورها ما لا حقيقة له ثم ينجلي عنه كما كان)(2). انتهى .
ولما علم - صلى الله عليه وسلم - أنه قد سحر سأل الله تعالى فدله على مكان السحر فاستخرجه وأبطله فذهب ما به حتى كأنما نشط من عقال. ولم يعاقب - صلى الله عليه وسلم - من سحره؛ بل لما قالوا له: يا رسول الله: أفلا نأخذ الخبيث نقتله، قال - صلى الله عليه وسلم -: أَمَّا أَنَا فَقَدْ شَفَانِي اللهُ، وَخَشِيتُ أَنْ يُثِيرَ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ شَرًّا(3).
الشيخ الفوزان - المنتقى (2/57، 58)
الفصل الرابع
الحكم والتشريع
معنى السياسة الشرعية
ما معنى السياسة الشرعية ؟
__________
(1) …في «زاد المعاد» (4/124)، باختلاف يسير، و«الطب النبوي» ص (98، 99) .
(2) …«زاد المعاد» (4/124) .
(3) …البخاري (6391)، ومسلم (2189)، وأحمد (6/57، 63، 96). وليس فيه: «أفلا نأخذ الخبيث نقتله»؛ بل هو في «تفسير الثعلبي» (10/338)، عند تفسير سورة الفلق.(1/225)
السياسة الشرعية: هي القائمة على الكتاب والسنة، وذلك بالعدل من الراعي والسمع والطاعة من الرعية؛ كما في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَْمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} إلى قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَْمْرِ مِنْكُمْ}[النِّسَاء:58، 59].
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (23/401)
حكم فصل السياسة عن الدين
ما القول في الذين يقولون : لا سياسة في الدين، ولا دين في السياسة ؟
جاءت الشريعة الإسلامية بالسياسة الصحيحة بين الدولة الإسلامية وغيرها من الدول في السلم والحرب، وبالسياسة الصحيحة الناجحة التي يجب أن يعامل بها ولاة أمور المسلمين للأمة الإسلامية ويسوسوهم بها في دينهم ودنياهم.
أما السياسة الماكرة المكر السيئ، المبنية على الفسق والخداع والكذب ونقض العهود والمواثيق والغدر وعدم الوفاء بالوعود فلم تأت بها الشريعة الإسلامية، ومن تتبع نصوص الكتاب والسنة النبوية والسيرة العملية للنبي - صلى الله عليه وسلم - وجدها مليئة بالسياسة الصادقة العادلة مع من يواليها ومن يعاديها.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (23/401)
حكم الخروج على ولاة الأمر
س1 : هناك من يدعو الشباب وبخاصة في الإنترنت إلى خلع البيعة لولي أمر هذه البلاد وسبب ذلك : وجود البنوك الربوية وكثرة المنكرات الظاهرة في هذه البلاد؛ فما هو توجيهكم ؟ حفظكم الله.(1/226)
ج1 : توجيهنا أن هذا كلام باطل ولا يقبل؛ لأنه يدعو إلى الضلال ويدعو إلى تفريق الكلمة، وهذا يجب الإنكار عليه ويجب رفض كلامه وعدم الالتفات إليه؛ لأنه يدعو إلى باطل، ويدعو إلى منكر، ويدعو إلى شر وفتنة، ووجود المنكرات في البلد لا يقتضي كفر الحكام.
س2 : هل الخروج على الأئمة يكون بالسيف فقط ؟ أم يدخل في ذلك الطعن فيهم وتحريض الناس على منابذتهم والتظاهر ضدهم ؟
ج2 : ذكرنا هذا؛ قلنا الخروج على الأئمة يكون بالسيف وهذا أشد الخروج، ويكون بالكلام بسبهم وشتمهم والكلام فيهم في المجالس وعلى المنابر؛ هذا يهيج الناس ويحثهم على الخروج على ولي الأمر وينقص قدر الولاة عندهم، فالكلام فيه خروج.
الشيخ الفوزان - الإجابات المهمة في المشاكل المدلهمة - (1/11، 31)
هل تحكيم القوانين من الكفر الأكبر ؟
أجاب على هذا مفتي البلاد السعودية الأسبق الشيخ: محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله، فقال:
إن من الكفر الأكبر المستبين: تنزيل القانون اللعين، منزلة ما نزل به الروح الأمين، على قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - ليكون من المنذرين، بلسان عربي مبين، في الحكم به بين العالمين، والرد إليه عند تنازع المتنازعين، مناقضة ومعاندة لقول الله عز وجل: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَومِ الآْخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}[النِّسَاء: 59]، وقد نفى الله سبحانه وتعالى الإيمان عن من لم يحكموا النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما شجر بينهم نفيًا مؤكدًا بتكرار أداة النفي وبالقسم، قال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا *}[النِّسَاء].(1/227)
ولم يكتف تعالى وتقدس منهم بمجرد التحكيم للرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ حتى يضيفوا إلى ذلك عدم وجود شيء من الحرج في نفوسهم بقوله جلّ شأنه: {ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ}، والحرج الضيق؛ بل لا بد من اتساع صدورهم لذلك وسلامتها من القلق والاضطراب.
ولم يكتف تعالى أيضًا هنا بهذين الأمرين؛ حتى يضموا إليهما (التسليم) وهو كمال الانقياد لحكمه - صلى الله عليه وسلم - بحيث يتخلوا هاهنا من أي تعلق للنفس بهذا الشيء، ويسلموا ذلك إلى الحكم الحق أتم تسليم، ولهذا أكد ذلك بالمصدر المؤكد وهو قوله جل شأنه {تَسْلِيمًا} المبين أنه لا يكتفى هاهنا بالتسليم. بل لا بد من التسليم المطلق.
- إلى أن قال رحمه الله: قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}[المَائدة: 44]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[المَائدة: 45]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[المَائدة: 47].
فانظر كيف سجل الله تعالى على الحاكمين بغير ما أنزل الله بالكفر والظلم والفسوق؛ ومن الممتنع أن يسمي الله سبحانه وتعالى الحاكم بغير ما أنزل الله (كافرًا) ولا يكون كافرًا؛ بل هو كافر مطلقًا: إما كفر عمل، وإما كفر اعتقاد.
وما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية من رواية طاووس وغيره يدل أن الحاكم بغير ما أنزل الله كافر: إما كفر اعتقاد ناقل عن الملة، وإما كفر عمل لا ينقل عن الملة(1).
أما الأول: وهو كفر الاعتقاد فهو أنواع:
__________
(1) …انظر: «تفسير ابن كثير» (2/62).(1/228)
«أحدها»: أن يجحد الحاكم بغير ما أنزل الله أحقية حكم الله ورسوله، وهو معنى ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما واختاره ابن جرير أن ذلك هو جحود ما أنزل الله من الحكم الشرعي. وهذا ما لا نزاع فيه بين أهل العلم؛ فإن الأصول المتقررة المتفق عليها بينهم أن من جحد أصلاً من أصول الدين أو فرعًا مجمعًا عليه أو أنكر حرفًا مما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - قطعيًا فإنه كافر الكفر الناقل عن الملة.
الثاني: أن لا يجحد الحاكم بغير ما أنزل الله كون حكم الله ورسوله حقًا؛ لكن اعتقد أن حكم غير الرسول - صلى الله عليه وسلم - أحسن من حكمه وأتم وأشمل لما يحتاجه الناس من الحكم بينهم عند التنازع: إما مطلقًا، أو بالنسبة إلى ما استجد من الحوادث التي نشأت عن تطور الزمان وتغير الأحوال. وهذا أيضًا لا ريب أنه كفر لتفضيله أحكام المخلوقين التي هي محض زبالة الأذهان وصِرْفِ نحاتة الأفكار على حكم الحكيم الحميد.
…وحكم الله ورسوله لا يختلف في ذاته باختلاف الأزمان، وتطور الأحوال، وتجدد الحوادث؛ فإنه ما من قضية كائنة ما كانت إلا وحكمها في كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - نصًا أو ظاهرًا أو استنباطًا أو غير ذلك، علم ذلك من علمه، وجهله من جهله.(1/229)
… وليس معنى ما ذكره العلماء من تغير الفتوى بتغير الأحوال ما ظنه من قَلَّ نصيبهم أو عدم من معرفة مدارك الأحكام وعللها؛ حيث ظنوا أن معنى ذلك بحسب ما يلائم إراداتهم الشهوانية البهيمية، وأغراضهم الدنيوية، وتصوراتهم الخاطئة الوبية؛ ولهذا تجدهم يحامون عليها، ويجعلون النصوص تابعة لها، منقادة إليها،مهما أمكنهم؛ فيحرفون لذلك الكلم عن مواضعه. وحينئذ معنى تغير الفتوى بتغير الأحوال والأزمان - مراد العلماء منه ما كان مستصحبة فيه الأصول الشرعية، والعلل المرعية، والمصالح التي جنسها مراد لله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. ومن المعلوم أن أرباب القوانين الوضعية عن ذلك بمعزل، وأنهم لا يعولون إلا على ما يلائم مراداتهم كائنة ما كانت، والواقع أصدق شاهد.
الثالث: أن لا يعتقد كونه أحسن من حكم الله ورسوله، لكن اعتقد أنه مثله. فهذا كالنوعين اللذين قبله في كونه كافرًا الكفر الناقل عن الملة؛ لما يقتضيه ذلك من تسوية المخلوق بالخالق، والمناقضة والمعاندة لقوله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}[الشّورى: 11]، ونحوها من الآيات الكريمة الدالة على تفرد الرب بالكمال، وتنزيهه عن مماثلة المخلوقين في الذات والصفات والأفعال، والحكم بين الناس فيما يتنازعون فيه.
الرابع: أن لا يعتقد كون حكم الحاكم بغير ما أنزل الله مماثلاً لحكم الله ورسوله فضلاً عن أن يعتقد كونه أحسن منه؛ لكن اعتقد جواز الحكم بما يخالف حكم الله ورسوله؛ فهذا كالذي قبله يصدق عليه ما يصدق عليه؛ لاعتقاده جواز ما علم بالنصوص الصحيحة الصريحة القطعية تحريمه.(1/230)
الخامس: وهو أعظمها وأشملها وأظهرها معاندة للشرع ومكابرة لأحكامه ومشاقة لله ولرسوله ومضاهاة بالمحاكم الشرعية إعدادًا وإمدادًا وإرصادًا وتأصيلاً وتفريعًا وتشكيلاً وتنويعًا وحكمًا وإلزامًا ومراجعَ مستمدات. فكما أن للمحاكم الشرعية مراجع ومستمدات مرجعها كلها إلى كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فلهذه المحاكم مراجع هي القانون الملفق من شرائع شتى وقوانين كثيرة: كالقانون الفرنسي، والقانون الأمريكي، والقانون البريطاني، وغيرها من القوانين، ومن مذاهب بعض البدعيين المنتسبين إلى الشريعة، وغير ذلك؛ فهذه المحاكم الآن في كثير من أمصار الإسلام مهيأة مكملة مفتوحة الأبواب، والناس إليها أسراب إثر أسراب، يحكم حكامها بينهم بما يخالف حكم السنة والكتاب، من أحكام ذلك القانون، وتلزمهم به، وتقرهم عليه، وتحتمه عليهم. فأي كفر فوق هذا الكفر، وأي مناقضة لشهادة (أن محمدًا رسول الله) بعد هذه المناقضة ؟!!
…وذكر أدلة جميع ما قدمنا على وجه البسط معلومة معروفة لا يحتمل ذكرها هذا الموضع.
…فيا معشر العقلاء، ويا جماعات الأذكياء، وأولى النُّهَى - كيف ترضون أن تجري عليكم أحكام أمثالكم، وأفكار أشباهكم، أو من هم دونكم ممن يجوز عليهم الخطأ؛ بل خطؤهم أكثر من صوابهم بكثير؛ بل لا صواب في حكمهم إلا ما هو مستمد من حكم الله ورسوله نصًا أو استنباطًا، تدعونهم يحكمون في أنفسكم، ودمائكم، وأبشاركم، وأعراضكم، وفي أهاليكم من أزواجكم وذراريكم، وفي أموالكم، وسائر حقوقكم؛ ويتركون ويرفضون أن يحكموا فيكم بحكم الله ورسوله الذي لا يتطرق إليه الخطأ، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد ؟!!!(1/231)
…وخضوع الناس ورضوخهم لحكم ربهم خضوع ورضوخ لحكم من خلقهم تعالى ليعبدوه؛ فكما لا يسجد الخلق إلا لله ولا يعبدون إلا إياه ولا يعبدون المخلوق فكذلك يجب أن لا يرضخوا ولا يخضعوا أو ينقادوا إلا لحكم الحكيم العليم، الحميد الرؤوف الرحيم؛ دون حكم المخلوق الظلوم الجهول، الذي أهلكته الشكوك والشهوات والشبهات، واستولت على قلوبهم الغفلة والقسوة والظلمات. فيجب على العقلاء أن يربأوا بنفوسهم عنه لما فيه من الاستعباد لهم والتحكم فيهم بالأهواء والأغراض والأغلاط والأخطاء، فضلاً عن كونه كفرًا بنص قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}[المَائدة: 44].
السادس: ما يحكم به كثير من رؤساء العشائر والقبائل من البوادي ونحوهم من حكايات آبائهم وأجدادهم وعاداتهم التي يسمونها «سلومهم»؛ يتوارثون ذلك منهم، ويحكمون به، ويحملون على التحاكم إليه عند النزاع، بقاء على أحكام الجاهلية، وإعراضًا ورغبة عن حكم الله ورسوله، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
وأما القسم الثاني: من قسمي كفر الحاكم بغير ما أنزل الله(1). وهو الذي لا يخرج عن الملة؛ فقد تقدم أن تفسير ابن عباس رضي الله عنهما لقوله عز وجل: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}[المَائدة: 44]، قد شمل ذلك القسم، وذلك في قوله رضي الله عنه في الآية: كفر دون كفر. وقوله أيضاً: ليس بالكفر الذي تذهبون إليه(2). اهـ. وذلك أن تحمله شهوته وهواه على الحكم في القضية بغير ما أنزل الله مع اعتقاده أن حكم الله ورسوله هو الحق، واعترافه على نفسه بالخطأ ومجانبة الهدى.
__________
(1) …وهو كفر العمل.
(2) …انظر: «تفسير ابن كثير» (2/62).(1/232)
وهذا وإن لم يخرجه كفره عن الملة فإنه معصية عظمى؛ أكبر من الكبائر: كالزنا وشرب الخمر والسرقة واليمين الغموس وغيرها؛ فإن معصية سماها الله في كتابه كفرًا أعظم من معصية لم يسمها كفرًا. نسأل الله أن يجمع المسلمين على التحاكم إلى كتابه انقياداً ورضاء؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
الشيخ محمد بن إبراهيم - فتاوى ورسائل (12/284-291)
هل تراجع الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله عن آرائه في رسالته (تحكيم القوانين) ؟
ذكر الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله في رسالته (تحكيم القوانين) أن الحالات التي يكون فيها الحكم بغير ما أنزل الله تعالى كفراً أكبر؛ قوله: وهو أعظمها وأشملها وأظهرها معاندة للشرع ومكابرة لأحكامه، ومشاقة لله ورسوله، ومضاهاة بالمحاكم الشرعية إعداداً وإمداداً، وإرصاداً وتأصيلاً، وتفريعاً وتشكيلاً، وتنويعاً وحكماً وإلزاماً، ومراجع ومستندات .
فكما أن للمحاكم الشرعية مراجع ومستندات، مرجعها كلها إلى كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، فلهذه المحاكم مراجع هي: القانون الملفق من شرائع شتى، وقوانين كثيرة كالقانون الفرنسي، والقانون الأمريكي، والقانون البريطاني، وغيرها من القوانين، ومن مذاهب بعض البدعيين المنتسبين إلى الشريعة وغير ذلك .
فهذه المحاكم الآن، في كثير من أمصار الإسلام، مهيأة مكملة، مفتوحة الأبواب، والناس إليها أسراب إثر أسراب، يحكم حكامها بينهم بما يخالف حكم السنة والكتاب، من أحكام ذلك القانون وتلزمهم بها، وتقرهم عليه، وتحتمه عليهم، فأي كفر فوق هذا الكفر ؟(1)
__________
(1) …فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (12/ 289، 290) .(1/233)
وقال رحمه الله في جواب آخر: وأما الذي قيل فيه كفر دون كفر، إذا حاكم إلى غير الله مع اعتقاد أنه عاصٍ وأن حكم الله هو الحق، فهذا الذي يصدر منه المرة ونحوها، أما الذي جعل قوانين بترتيب وتخضيع فهو كفر، وإن قالوا أخطأنا وحكم الشرع أعدل(1).
والسؤال يا فضيلة الشيخ: أليس كلام الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم صحيحاً متسقاً ومنضبطاً مع قواعد أهل السنة ؟ وهل للشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى كلام آخر يخالف ما سبق إيراده ؟ فقد ذكر أحد إخواننا المصريين وهو/خالد العنبري في كتابه (الحكم بغير ما أنزل الله وأصول التكفير) أن للشيخ محمد بن إبراهيم كلاماً آخر ونسب ذلك إليكم؛ فقال في كتابه سالف الذكر ما نصه: وقد حدثني فضيلة الشيخ/ عبدالله بن عبد الرحمن آل جبرين حفظه الله أن له - أي الشيخ محمد بن إبراهيم- كلاماً آخر . . الخ ص 131 .
فنأمل منكم بسط الجواب في هذه المسائل، وجزاكم الله خيراً .
الحمد لله وحده، وبعد:
فإن شيخنا ووالدنا سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ كان شديداً قوياً في إنكار المحدثات والبدع، وكلامه المذكور من أسهل ما كان يقول في القوانين الوضعية . و قد سمعناه في التقرير يشنع ويشدد على أهل البدع، وما يتبعون فيه من مخالفة للشرع ومن وضعهم أحكاماً وسنناً يضاهئون بها حكم الله تعالى، ويبرأ من أفعالهم ويحكم بردتهم وخروجهم من الإسلام؛ حيث طعنوا في الشرع، وعطلوا حدوده، واعتقدوها وحشية كالقصاص في القتلى والقطع في السرقة ورجم الزاني وفي إباحتهم للزنى إذا كان برضا الطرفين ونحو ذلك، وكثيراً ما يتعرض لذلك في دروس الفقه والعقيدة والتوحيد .
__________
(1) …فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (12/ 280) .(1/234)
ولا أذكر أنه تراجع عن ذلك ولا أن له كلاماً يبرر فيه الحكم بغير ما أنزل الله تعالى، أو يسهل فيه في التحاكم إلى الطواغيت الذين يحكمون بغير ما أنزل الله . وقد عدهم الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله من رؤوس الطواغيت؛ فمن نقل عني أنه رجع رحمه الله عن كلامه المذكور فقد أخطأ في النقل . والمرجع في مثل هذا إلى النصوص الشرعية من الكتاب والسنة وكلام أجلة العلماء عليها؛ كما في كتاب التوحيد باب قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ}[النِّسَاء: 60] وشروحه لأئمة الدعوة رحمهم الله تعالى، وغيره من المؤلفات الصريحة. والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم .
الشيخ ابن جبرين - فتوى عليها خاتمه وتوقيعه في 14/5/1417هـ
هل يجوز التخيير في التحاكم بين المحكمة الشرعية وغيرها ؟
قال مفتي المملكة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله رادًّا على ذلك :(1/235)
وإن كانوا يخدعون عُبَّاد المادة والذين لا مبالاة لهم بسلوك الجادة بجعل تحكيمها والرجوع إليها اختياريا لا إجباريا، ولعمر الله لقد جاء صاحب هذه الكلمة شيئًا فَرِياًّ، متى كان التخيير في التحكيم إلى المتحاكمين وأن لهم تحكيم من اتفقوا على تحكيمه من حاكم شرعي وغير شرعي ؟! أوليس الله يقول: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}[النِّسَاء: 65]؛ فإن الضمير وهو الوارد في قوله: {يُحَكِّمُوكَ} المراد به: المتخاصمون، فليس الأمر إليهم في ذلك؛ بل لا يسوغ لهم أبدًا أن يرجعوا عند التنازع وينتهوا عند التخاصم إلا إلى الشرع المحمدي. والتحاكم إليه هو التحاكم إلى حملته الحاكمين به. وما أشبه هذه الكلمة السيئة المتضمنة ما تقدم بما قد اشتهر قديمًا عند بعض رؤساء القانونين من تخييرهم الخصمين عند ما يرفعان الشكاية إليهم؛ من قوله: تريد الشرع الشريف، أو القانون المنيف ؟ ما أشبه الليلة بالبارحة ؟!
فإن لم يَكُنْها أو تكُنْهُ فإنه
أخوها سَقَتْهُ أمها من لبانها(1)
أما يوقظنا ما أوقع الله بالحكومات التي استحسنت القوانين من إبادة خضراهم، والعقوبات التي جعلت بقاء ما معهم من الدين الإسلامي شذر مذر وأسماء لا حقيقة، كما جعلت دولاتهم كذلك: عوقبوا على تحكيمهم غير الشرع في بعض أمورهم؛ حتى انتهت الأحوال بهم إلى أن لا حكم بينهم في كل شيء إلا القوانين الملفقة من قوانين «جانكيز خان» وغيره من رؤوس الدول الأخرى: كالروس والإنجليز وسائر الدول الكفرية، والطوائف البعيدة عن الأصول والنصوص الشرعية.
__________
(1) …أصل البيت لأبي الأسود الدؤلي؛ لكن بلفظ:
فإِن لا يَكُنْها أو تَكُنْهُ فَإِنَّهُ
أَخُوهَا غَذَتْهُ أُمُّهُ بِلِبَانِهَا
…انظر: «خزانة الأدب» 5/323، 324، و«المزهر في علوم اللغة والأدب» 1/409، و«تاج العروس» 36/74 .(1/236)
ولا يظن أن في الشرع المحمدي أي شيء من حرج، لا في محللاته ولا في محرماته، ولا حكمه وأحكامه وأحكامه ومعاملاته؛ كما قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}[الحَجّ: 78]؛ بل هو اليسر كل اليسر، والأمر الذي لا استقامة للمسلمين ولا فلاح لهم إلا بتحكيمه. نعم؛ لا يتفق أبدًا مع أغراض المبطلين الشخصية وأرباب الهلع في اقتناص المادة بشتى الطرق الجائرة الظالمة، وليس يسر الدين أنه يتفق مع أهل الإرادات الكفرية والاعتقادات الإلحادية، والمعاملات الربوية، والحيل المحرمة الردية، وحاشاه أن يتفق مع أغراض هؤلاء، إنما يتفق مع العدل وإرادة مريدي حقوقهم لا مطمع لهم في حقوق وأموال سواهم؛ فالشرع حفظ الحقوق كائنة ما كانت لأربابها وحماها، وطهرها عن ما يريد أهل الجشع والظلم من ضم غيرها إليها.
ثم متى كانت المحاكم الشرعية معرضة عن الصلح العادل الذي لا يحرم حلالا ولا يحل حرامًا؛ بل فيما يصدر عن حكام الشريعة من فصل الخصومات قسم كبير مستنده الصلح الشرعي العادل.
ومن المعلوم أن من دار في خلده شيء من الغلط ثم استقر، أو استمالته الشهوة إلى ما لا يحل وعاود ذلك واستمر، يقوى ذلك في اعتقاده حتى تعود الشهوة شبهة، والغلط في اعتقاده صواباً فيبقى منافحاً عن غلطه، وعن الشبهة التي نشأت عن شهوته، وبهذا اصطاد الشيطان أكثر الخلق، وأمرَّ في مذاقهم الفاسد حلاوة طعم الشرع والحق.(1/237)
وأي شيء عند المسلمين سوى أصل دينهم وهو شهادة: أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله ؟ مع ما يثمره ويتفرع عليه علماً واعتقاداً وعملاً وبراءة مما يناقض ذلك ؟ فعلى المسلمين تأمل جملتي أصل الدين وما تقتضيه الأولى «شهادة أن لا إله إلا الله» من إفراد الله بالعبادة، وما تقتضيه الثانية «شهادة أن محمدًا رسول الله» من إفراد الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالمتابعة، وتحكيم ما جاء به والحكم بمقتضاه في القليل والكثير والنقير والقطمير، على الكبير والصغير والمأمور والأمير. والله يحفظكم. والسلام.
الشيخ محمد بن إبراهيم فتاوى ورسائل (12/ 255) في 15/11/1375هـ
حكم التحاكم إلى الحكومة الكافرة
نحن نعيش تحت حكومة غير مسلمة وهي تُحَكِّم القانون الوضعي؛ فهل لنا أن نرفع إليها قضايانا ؟
لا يجوز للمسلم أن يتحاكم إلى حكومة غير مسلمة؛ قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}[المَائدة: 44]، وهذا واضح ولله الحمد.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإِفتاء (1/544)
معنى الطاغوت، ومعنى إرادة التحاكم إليه
ما معنى الطاغوت عمومًا، مع الإشارة إلى تفسير ابن كثير لآية النساء: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا *}[النِّسَاء]؛ المراد هنا توضيح أمرين:
الأول: ما معنى الطاغوت عمومًا ؟ وهل يدخل - كما قال ابن كثير: طاغوت كل قوم: من يتحاكمون إليه دون الله ؟ لكي نصل إلى تكفير الحاكم والمتحاكمين إليه حال كونه لا يحكم بشرعه سبحانه.(1/238)
الثاني: معنى قوله: يريدون أن يتحاكموا، قال بعضهم: الإرادة هنا لا تحصل إلا بالباطن، ولا يعلم أحد به؛ لذا فلا يحكم بكفر المتحاكم إلا بتوافر شرط العلم بالإرادة الباطنية وهو غير حاصل، الإرادة محمولة على المعنى الظاهرة الاستدلال بحديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالرضا والمتابعة .. أي ذلك صواب ؟
أولاً: معنى الطاغوت العام: هو كل ما عُبِدَ من دون الله مطلقًا؛ تقربًا إليه بصلاة أوصيام أو نذر أو ذبيحة أو لجوء إليه فيما هو من شأن الله لكشف ضر أو جلب نفع أو تحكيمًا له بدلاً من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ونحو ذلك.
والمراد بالطاغوت في الآية: كل ما عُدل عن كتاب الله تعالى وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - إلى التحاكم إليه من نظم وقوانين وضعية أو تقاليد وعادات متوارثة أو رؤساء قبائل ليفصل بينهم بذلك، أو بما يراه زعيم الجماعة أو الكاهن. ومن ذلك يتبين: أن النظم التي وضعت ليتحاكم إليها مضاهاة لتشريع الله داخلة في معنى الطاغوت. لكن من عُبِدَ من دون الله وهو غير راض بذلك كالأنبياء والصالحين لا يسمى طاغوتًا، وإنما الطاغوت: الشيطان الذي دعاهم إلى ذلك وزينه لهم من الجن والإنس.
ثانيًا: المراد بالإرادة في قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ}[النِّسَاء: 60]: ما صحبه فعل أو قرائن وإمارات تدل على القصد والإرادة؛ بدليل ما جاء في الآية التي بعد هذه الآية {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا *}[النِّسَاء: 61]، ويدل على ذلك أيضاً: سبب النزول الذي ذكره ابن كثير(1) وغيره في تفسير هذه الآية، وكذلك المتابعة دليل الرضا؛ وبذلك يزول الإشكال القائل: إن الإرادة أمر باطن فلا يحكم على المريد إلاَّ بعلمها منه وهو غير حاصل.
__________
(1) …«تفسير ابن كثير» (1/520).(1/239)
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (1/542)
من الذي يستحق وصف الطاغوت ؟
متى نفرد شخصًا باسمه وعينه على أنه طاغوت ؟
إذا دعا إلى الشرك أو لعبادة نفسه أو ادعى شيئًا من علم الغيب أو حكم بغير ما أنزل الله متعمدًا ونحو ذلك، وقد قال ابن القيم(1) رحمه الله: الطاغوت: كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (1/543) كفر الحكومة التي تحكم بغير ما أنزل اللّه
س1: لعلكم على علم بأن حكومتنا علمانية لا تهتم بالدين، وهي تحكم البلاد على دستور اشترك في ترتيبه المسلمون والمسيحيون، هناك يرد السؤال: هل يجوز لنا أن نسمي الحكومة بحكومة إسلامية أو نقول: إنها كافرة ؟
ج1: إذا كانت تحكم بغير ما أنزل الله فالحكومة غير إسلامية.
س2: هل يلحق إثم بمن اشترك من المسلمين في ترتيب هذا الدستور ؟
ج2: إذا كان الدستور فيه شيء يخالف الإسلام فلا يجوز الاشتراك في ترتيبه، وإن لم يكن فيه شيء يخالف الإسلام فلا شيء في ذلك.
س3: هل يجوز للمسلم أن يدلي بصوته في الانتخابات ؟ وهل يجوز إدلاء صوته لصالح الكفار ؟
ج3: لا يجوز التصويت من المسلمين لصالح الكفار؛ لأن في ذلك رفعةً لهم، وإعزازًا لشأنهم، وسبيلاً لهم على المسلمين، وقد قال الله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً}[النِّسَاء: 141].
س4: هل يحرم على المسلم والنصراني المشاركة في العمل سياسيًا واجتماعيًا ؟
ج4: تجوز مشاركة المسلم للنصراني فيما لا يخالف شرائع الإسلام.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (1/546)
أحوال الحكم والحاكم بغير ما أنزل اللّه
__________
(1) …انظر كتابه: «إعلام الموقعين» (1/50).(1/240)
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله في شرح (ثلاثة الأصول)(1):
الحكم بما أنزل الله تعالى من توحيد الربوبية؛ لأنه تنفيذ لحكم الله الذي هو مقتضي ربوبيته، وكمال ملكه وتصرفه، ولهذا سمّى الله تعالى المتبوعين في غير ما أنزل الله تعالى أربابًا لمتبعيهم؛ فقال سبحانه: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهًا وَاحِدًا لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ *}[التّوبَة]. فسمّى الله تعالى المتبوعين أربابًا حيث جعلوا مشرعين مع الله تعالى، وسمى المتَّبِعين عُبّادًا حيث إنهم ذلوا لهم وأطاعوهم في مخالفة حكم الله سبحانه وتعالى.
وقد قال عدي بن حاتم رضي الله عنه لرسول الله، - صلى الله عليه وسلم -: إنهم لم يعبدوهم؛ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: بَلْ إنهم حَرَّموا عليهم الحَلاَل، وأحلُّوا لهم الحرام؛ فَاتَّبَعُوهم؛ فذلك عِبَادَتُهم إيَّاهم(2).
إذا فهمت ذلك فاعلم أن من لم يحكم بما أنزل الله، وأراد أن يكون التحاكم إلى غير الله ورسوله - وردت فيه آيات بنفي الإيمان عنه، وآيات بكفره وظلمه، وفسقه.
فأما القسم الأول:
__________
(1) …للشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله.
(2) …الترمذي (3095) وقال: « حسن غريب »، والبيهقي في "السنن الكبرى" 10/116 (20137)، والطبراني في "الكبير" 17/92 (218)، والطبري في «تفسيره» (10/114)، بنحوه.(1/241)
فمثل قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا *وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا *فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا *أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا *وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا *فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا *}[النِّسَاء]
فوصف الله تعالى هؤلاء المدعين للإيمان وهم منافقون بصفات:
الأولى: أنهم يريدون أن يكون التحاكم إلى الطاغوت، وهو كل ما خالف حكم الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن ما خالف حكم الله ورسوله فهو طغيان واعتداء على حكم من له الحكم وإليه يرجع الأمر كله؛ وهو الله - قال الله تعالى: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَْمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}[الأعرَاف: 54].
الثانية: أنهم إذا دُعُوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول صدّوا وأعرضوا.(1/242)
الثالثة: أنهم إذا أصيبوا بمصيبة بما قدمت أيديهم - ومنها أن يعثر على صنيعهم - جاؤوا يحلفون أنهم ما أرادوا إلا الإحسان والتوفيق؛ كحال من يرفض اليوم أحكام الإسلام ويحكم بالقوانين المخالفة لها زعمًا منه أن ذلك هو الإحسان الموافق لأحوال العصر.
ثم حذَّر - سبحانه - هؤلاء المدعين للإيمان المتصفين بتلك الصفات بأنه - سبحانه - يعلم ما في قلوبهم وما يكنونه من أمور تخالف ما يقولون، وأمر نبيه أن يعظهم ويقول لهم في أنفسهم قولاً بليغًا، ثم بين أن الحكمة من إرسال الرسول أن يكون هو المطاع المتبوع لا غيره من الناس مهما قويت أفكارهم واتسعت مداركهم، ثم أقسم تعالى بربوبيته لرسوله التي هي أخص أنواع الربوبية والتي تتضمن الإشارة إلى صحة رسالته - صلى الله عليه وسلم -، أقسم بها قسمًا مؤكدًا أنه لا يصح الإيمان إلا بثلاثة أمور:
الأول: أن يكون التحاكم في كل نزاع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
الثاني: أن تنشرح الصدور بحكمه،ولا يكون في النفوس حرج وضيق منه.
الثالث: أن يحصل التسليم بقبول ما حكم به وتنفيذه بدون توان أو انحراف.(1/243)
وأما القسم الثاني: فمثل قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}[المَائدة: 44]. وقوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[المَائدة: 45]، وقوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[المَائدة: 47]. وهل هذه الأوصاف الثلاثة تتنزل على موصوف واحد ؟ بمعنى أن كل من لم يحكم بما أنزل الله فهو كافر ظالم فاسق؛ لأن الله تعالى وصف الكافرين بالظلم والفسق؛ فقال تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[البَقَرَة: 254]. وقال تعالى: {إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ}[التّوبَة: 84]. فكل كافر ظالم فاسق ؟ أو هذه الأوصاف تتنزل على موصوفين بحسب الحامل لهم على عدم الحكم بما أنزل الله ؟ هذا هو الأقرب عندي، والله أعلم.
فنقول: من لم يحكم بما أنزل الله استخفافاً به، أو احتقاراً له، أو اعتقادًا أن غيره أصلح منه، وأنفع للخلق أو مثله - فهو كافر كفراً مخرجًا عن الملة، ومن هؤلاء من يضعون للناس تشريعات تخالف التشريعات الإسلامية لتكون منهاجًا يسير الناس عليه، فإنهم لم يضعوا تلك التشريعات المخالفة للشريعة الإسلامية إلا وهم يعتقدون أنها أصلح وأنفع للخلق، إذ من المعلوم بالضرورة العقلية، والجبلة الفطرية أن الإنسان لا يعدل عن منهاج إلى منهاج يخالفه إلا وهو يعتقد فضل ما عدل إليه ونقص ما عدل عنه.
- ومن لم يحكم بما أنزل الله وهو لم يستخف به، ولم يحتقره، ولم يعتقد أن غيره أصلح منه لنفسه أو نحو ذلك؛ فهذا ظالم وليس بكافر وتختلف مراتب ظلمه بحسب المحكوم به ووسائل الحكم.(1/244)
- ومن لم يحكم بما أنزل الله لا استخفافاً بحكم الله، ولا احتقارًا، ولا اعتقادًا أن غيره أصلح، وأنفع للخلق أو مثله، وإنما حكم بغيره محاباة للمحكوم له، أو مراعاة لرشوة أو غيرها من عرض الدنيا - فهذا فاسق، وليس بكافر؛ وتختلف مراتب فسقه بحسب المحكوم به ووسائل الحكم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله - فيمن اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله أنهم على وجهين:
أحدهما: أن يعلموا أنهم بدلوا دين الله فيتبعونهم على التبديل ويعتقدون تحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل الله اتباعاً لرؤسائهم مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل فهذا كفر، وقد جعله الله ورسوله شركًا.
الثاني: أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحليل الحرام وتحريم الحلال - كذا العبارة المنقولة عنه - ثابتًا لكنهم أطاعوهم في معصية الله كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاصي فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب.
وهناك فرق بين المسائل التي تعتبر تشريعًا عاماً والمسألة المعينة التي يحكم فيها القاضي بغير ما أنزل الله؛ لأن المسائل التي تعتبر تشريعًا عامًا لا يتأتى فيها التقسيم السابق وإنما هي من القسم الأول فقط؛ لأن هذا المشرع تشريعاً يخالف الإسلام إنما شرعه لاعتقاده أنه أصلح من الإسلام وأنفع للعباد كما سبقت الإشارة إليه.
وهذه المسألة - أعني مسألة الحكم بغير ما أنزل الله - من المسائل الكبرى التي ابتلي بها حكام هذا الزمان؛ فعلى المرء أن لا يتسرع في الحكم عليهم بما لا يستحقونه حتى يتبين له الحق؛ لأن المسألة خطيرة - نسأل الله تعالى أن يصلح للمسلمين ولاة أمورهم وبطانتهم - كما أن على المرء الذي آتاه الله العلم أن يبينه لهؤلاء الحكام لتقوم الحجة عليهم وتتبين المحجة؛ فيهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيّ عن بينة، ولا يحقرن نفسه عن بيانه ولا يهابن أحدًا فيه؛ فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين.(1/245)
الشيخ ابن عثيمين - مجموع فتاوى ورسائل (6/158)
الحكم بغير ما أنزل اللّه (كلمة للشيخ الفوزان)
يقول الشيخ صالح الفوزان حفظه الله:
من مقتضى الإيمان بالله تعالى وعبادته: الخضوع لحكمه والرضا بشرعه، والرجوع إلى كتابه وسنة رسوله عند الاختلاف في الأقوال، وفي العقائد وفي الخصومات، وفي الدماء والأموال، وسائر الحقوق، فإنَّ الله هو الحكم وإليه الحُكم، فيجب على الحكام أن يحكموا بما أنزل الله، ويجب على الرعية أن يتحاكموا إلى ما أنزل الله في كتابه، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ قال تعالى في حق الولاة: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَْمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}[النِّسَاء: 58].
وقال في حق الرعية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَْمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَومِ الآْخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً *}[النِّسَاء].
ثم بين أنه لا يجتمع الإيمان مع التحاكم إلى غير ما أنزل الله؛ فقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا *}[النِّسَاء]، إلى قوله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا *}[النِّسَاء].(1/246)
فنفى سبحانه - نفيًا مؤكدًا بالقسم - الإيمان عمن لم يتحاكم إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويرضى بحكمه ويسلم له، كما أنه حكم بكفر الولاة الذين لا يحكمون بما أنزل الله، وبظلمهم وفسقهم؛ قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}[المَائدة: 44]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[المَائدة: 45]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[المَائدة: 47].
ولا بد من الحكم بما أنزل الله، والتحاكم إليه في جميع موارد النزاع في الأقوال الاجتهادية بين العلماء، فلا يقبل منها إلا ما دل عليه الكتاب والسنة؛ من غير تعصب لمذهب، ولا تحيز لإمام، وفي المرافعات والخصومات في سائر الحقوق؛ لا في الأحوال الشخصية فقط، كما في بعض الدول التي تنتسب إلى الإسلام؛ فإن الإسلام كلٌّ لا يتجزأ؛ قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً}[البَقَرَة: 208]، وقال تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ}[البَقَرَة: 85].
وكذلك يجب على أتباع المذاهب والمناهج المعاصرة أن يردوا أقوال أئمتهم إلى الكتاب والسنة؛ فما وافقهما أخذوا به، وما خالفهما ردوه دون تعصب أو تحيز؛ ولا سيما في أمور العقيدة، فإن الأئمة رحمهم الله يوصون بذلك، وهذا مذهبهم جميعًا، فمن خالف ذلك فليس متبعًا لهم، وإن انتسب إليهم. وهو ممن قال الله فيهم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ}[التّوبَة: 31].(1/247)
فليست الآية خاصة بالنصارى؛ بل تتناول كل من فعل مثل فعلهم، فمن خالف ما أمر الله به ورسوله - صلى الله عليه وسلم - بأن حكم بين الناس بغير ما أنزل الله، أو طلب ذلك اتباعًا لما يهواه ويريده، فقد خلع ربقة الإسلام والإيمان من عنقه، وإن زعَمَ أنه مؤمن؛ فإن الله تعالى أنكر على من أراد ذلك، وأكذبهم في زعمهم الإيمان؛ فقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا *}[النِّسَاء]، لما في ضمن قوله: {وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ}؛ لأن الكفر بالطاغوت ركن التوحيد، كما في آية البقرة، فإذا لم يحصل هذا الركن؛ لم يكن موحدًا، والتوحيد هو أساس الإيمان الذي تصلح به جميع الأعمال، وتفسد بعدمه، كما أن ذلك بيَّنٌ في قوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}[البَقَرَة: 256].
ونفي الإيمان عمن لم يحكم بما أنزل الله؛ يدلُّ على أن تحكيم شرع الله إيمان وعقيدة، وعبادة لله يجب أن يدين بها المسلم، فلا يُحَكِّمُ شرع الله من أجل أنّ تحكيمه أصلح للناس وأضبط للأمن فقط، فإن بعض الناس يركز على هذا الجانب، وينسى الجانب الأول، والله سبحانه قد عاب على من يُحكِّمُ شرع الله لأجل مصلحة نفسه، من دون تعبُّد لله تعالى بذلك؛ فقال سبحانه: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ *وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ *}[النُّور].
فهم لا يهتمون إلا بما يَهْوَون، وما خالف هواهم أعرضوا عنه؛ لأنهم لا يتعبدون لله بالتحاكم إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -.(1/248)
حكم من حكم بغير ما أنزل الله:
قال الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}[المَائدة: 44].
في هذه الآية الكريمة: أن الحكم بغير ما أنزل الله كفر، وهذا الكفر: تارةً يكون كفراً أكبر ينقل عن الملة، وتارة يكون كفرًا أصغر لا يُخرج من الملة، وذلك بحسب حال الحاكم، فإنه إن اعتقد أن الحكم بما أنزل الله غير واجب، وأنه مخير فيه، أو استهان بحكم الله، واعتقد أن غيره من القوانين والنظم الوضعية أحسن منه أو مساويًا له، أو أنه لا يصلح لهذا الزمان، أو أراد بالحكم بغير ما أنزل الله استرضاء الكفار والمنافقين؛ فهذا كفر أكبر. وإن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله، وعلمه في هذه الواقعة وعدل عنه، مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة؛ فهذا عاص، ويسمى كافرًا كفراً أصغر. وإن جهل حكم الله فيها مع بذل جهده، واستفراغ وسعه في معرفة الحكم، وأخطأه، فهذا مخطئ له أجر على اجتهاده، وخطؤه مغفور(1). وهذا في الحكم في القضية الخاصة.
وأما الحكم في القضايا العامة فإنه يختلف، قال شيخ الإسلام ابن تيمية(2): (فإن الحاكم إذا كان دَيِّنًا؛ لكنه حكم بغير علم؛ كان من أهل النار، وإن كان عالمًا لكنه حكم بخلاف الحق الذي يعلمه؛ كان من أهل النار، وإذا حكم بلا عدل ولا علم، أوْلَى أن يكون من أهل النار. وهذا إذا حكم في قضية لشخص.
__________
(1) …«شرح الطحاوية»، ص (363 - 364)، بنحوه.
(2) …«مجموع الفتاوى»، (35/388).(1/249)
وأما إذا حكم حكمًا عامًا في دين المسلمين؛ فجعل الحق باطلاً، والباطل حقًا، والسنة بدعة، والبدعة سنة، والمعروف منكرًا، والمنكر معروفًا، ونهى عما أمر الله به ورسوله، وأمر بما نهى الله عنه ورسوله، فهذا لون آخر يحكم فيه رب العالمين، وإله المرسلين، مالك يوم الدين؛ الذي له الحمد في الأولى والآخرة: {لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[القَصَص: 88]. {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا *}[الفَتْح: 28] ).
وقال أيضًا: (لا ريب أن من لم يعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله على رسوله فهو كافر؛ فمن استحل أن يحكم بين الناس بما يراه هو عدلاً من غير اتباع لما أنزل الله؛ فهو كافر، فإنه ما من أمة إلا وهي تأمر بالحكم بالعدل، وقد يكون العدل في دينها ما يراه أكابرهم، بل كثير من المنتسبين إلى الإسلام؛ يحكمون بعاداتهم التي لم ينزلها الله، كسواليف البادية (أي عادات من سلفهم)، وكانوا الأمراء المطاعين، ويرون أن هذا هو الذي ينبغي الحكم به دون الكتاب والسنة، وهذا هو الكفر، فإن كثيرًا من الناس أسلموا؛ ولكن لا يحكمون إلا بالعادات الجارية؛ التي يأمر بها المطاعون، فهؤلاء إذا عرفوا أنه لا يجوز لهم الحكم إلا بما أنزل الله، فلم يلتزموا ذلك، بل استحلّوا أن يحكموا بخلاف ما أنزل الله فهم كفار)(1) .. انتهى.
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم: (وأما الذي قيل فيه أنه كفر دون كفر، إذا حاكم إلى غير الله مع اعتقاده أنه عاص، وأن حكم الله هو الحق، فهذا الذي يصدر منه المرة ونحوها. وأما الذي جعل قوانين بترتيب وتخضيع، فهو كفرٌ، وإن قالوا: أخطأنا وحكمُ الشرع أعدل؛ فهذا كفر ناقل عن الملة)(2).
__________
(1) …منهاج السنة النبوية (5/130).
(2) …في تقرير الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ. انظر مجموع فتاواه (12/280).(1/250)
ففرَّق رحمه الله بين الحكم الجزئي الذي لا يتكرر، وبين الحكم العام الذي هو المرجع في جميع الأحكام، أو غالبها، وقرر أن هذا الكفر ناقل عن الملة مطلقًا؛ وذلك لأن من نَحَّى الشريعة الإسلامية، وجعل القانون الوضعي بديلاً منها؛ فهذا دليل على أنه يرى أن القانون أحسن وأصلح من الشريعة، وهذا لا شك أنه كفر أكبر يُخرج من الملة ويناقض التوحيد.
الشيخ الفوزان - من كتاب (عقيدة التوحيد)، ص (116) حكم ادعاء حق التشريع والتحليل والتحريم
يقول الشيخ صالح الفوزان:
تشريع الأحكام - التي يسير عليها العباد في عبادتهم ومعاملاتهم وسائر شؤونهم، والتي تفصل النزاع بينهم وتُنهي الخصومات - حق لله تعالى رب الناس، وخالق الخلق: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَْمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}[الأعرَاف: 54].
وهو الذي يعلم ما يصلح عباده، فيشرعه لهم، فبحكم ربوبيته لهم يشرع لهم، وبحكم عبوديتهم له يتقبلون أحكامه، والمصلحة في ذلك عائدة إليهم، قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَومِ الآْخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}[النِّسَاء: 59]
وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي}[الشّورى: 10].
واستنكر سبحانه أن يتخذ العباد مشرعًا غيره؛ فقال: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}[الشّورى: 21].(1/251)
فمن قَبِل تشريعًا غير تشريع الله؛ فقد أشرك بالله تعالى، وما لم يشرعه الله ورسوله من العبادات؛ فهو بدعة، وكل بدعة ضلالة، قال - صلى الله عليه وسلم -: مَنْ أَحْدَثَ في أمْرِنا هذا ما لَيْسَ مِنْهُ فهو رَدٌّ (1)، وفي رواية: من عَمِلَ عَمَلاً ليس عَلَيْهِ أمْرُنا فهو ردّ (2) وما لم يشرعه الله ولا رسوله في السياسة والحكم بين الناس، فهو حكم الطاغوت، وحكم الجاهلية: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ *}[المَائدة].
وكذلك التحليل والتحريم، حق لله تعالى، لا يجوز لأحد أن يشاركه فيه؛ قال تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيْاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَولِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ *}[الأنعَام].
فجعل سبحانه طاعة الشياطين وأوليائهم في تحليل ما حرم الله: شركًا به سبحانه، وكذلك من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله، أو تحليل ما حَرَّمَ الله، فقد اتخذهم أربابًا من دون الله؛ لقول الله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهًا وَاحِدًا لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ *}[التّوبَة: 31].
__________
(1) …البخاري (2697)، ومسلم (4492).
(2) …علقه البخاري في كتابي البيوع والاعتصام، ووصله مسلم، برقم (4493).(1/252)
وفي الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تلا هذه الآية على عديّ بن حاتم الطائي رضي الله عنه فقال: يا رسول الله، لسنا نعبدُهم، قال - صلى الله عليه وسلم -: أليس يُحِلُّون لكم ما حَرَّم الله فتُحِلُّونَه، ويُحَرِّمُون ما أَحلَّ الله فَتُحَرِّمُونَه ؟! قال: بلى، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: فَتِلْكَ عِبَادَتُهُم(1).
فصارت طاعتهم في التحليل والتحريم من دون الله عبادة لهم وشركًا، وهو شرك أكبر ينافي التوحيد؛ الذي هو مدلول (شهادة أن لا إله إلا الله)؛ فإن من مدلولها: أن التحليل والتحريم حق لله تعالى، وإذا كان هذا فيمن أطاع العلماء والعُبَّاد في التحليل والتحريم الذي خالف شرع الله وهو يعلم هذه المخالفة، مع أنهم أقرب إلى العلم والدين، وقد يكون خطؤهم عن اجتهاد لم يصيبوا فيه الحق، وهم مأجورون عليه، فكيف بمن يطيع أحكام القوانين الوضعية التي هي من صنع الكفار والملحدين، يجلبها إلى بلاد المسلمين، ويحكم بها بينهم ؟! فلا حول ولا قوة إلا بالله.
إن هذا قد اتخذ الكفار أربابًا من دون الله، ويُشرِّعون له الأحكام، ويبيحون له الحرام، ويحكمون بين الأنام.
الشيخ الفوزان - من كتاب عقيدة التوحيد - ص (123)
بيان من اللجنة الدائمة بشأن كتاب (الحكم بغير ما أنزل اللّه وأصول التكفير) لكاتبه: خالد علي العنبري
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه .. وبعد:
__________
(1) …الترمذي (3095) وقال: « حسن غريب »، والبيهقي في "السنن الكبرى" 10/116 (20137)، والطبراني في "الكبير" 17/92 (218)، والطبري في «تفسيره» (10/114)، بنحوه.(1/253)
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على كتاب بعنوان: (الحكم بغير ما أنزل الله وأصول التكفير) لكاتبه خالد العنبري، وبعد دراسة الكتاب اتضح أنه يحتوي على إخلال بالأمانة العلمية فيما نقله عن علماء أهل السنة والجماعة، وتحريف للأدلة عن دلالاتها التي تقتضيها اللغة العربية ومقاصد الشريعة، ومن ذلك ما يلي:
1-…تحريفه لمعاني الأدلة الشرعية، والتصرف في بعض النصوص المنقولة عن أهل العلم؛ حذفًا أو تغييرًا على وجه يُفْهَم منها غير المراد أصلاً.
2-…تفسير بعض مقالات أهل العلم بما لا يوافق مقاصدهم.
3-…الكذب على أهل العلم، وذلك في نسبته للعلامة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله ما لم يقله.
4-…دعواه إجماع أهل السنة على عدم كفر من حكم بغير ما أنزل الله في التشريع العام، إلا بالاستحلال القلبي كسائر المعاصي التي دون الكفر، وهذا محض افتراء على أهل السنة؛ منشؤه الجهل أو سوء القصد، نسأل الله السلامة والعافية.
وبناءً على ما تقدم؛ فإن اللجنة ترى تحريم طبع الكتاب المذكور ونشره وبيعه ، وتذكر الكاتب بالتوبة إلى الله تعالى، ومراجعة أهل العلم الموثوقين ليتعلم منهم ويبينوا له زلاته. ونسأل الله للجميع الهداية والتوفيق والثبات على الإسلام والسنة، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - من كتاب (التحذير من الإرجاء...) ص (21، 22) - بإذن من رئاسة الإفتاء
التحذير من كتاب : (هزيمة الفكر التكفيري) لخالد العنبري
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد:
وضوح عقيدة أهل السنة:(1/254)
فإن عقيدة أهل السنة والجماعة عقيدة واضحة صافية، لا لَبْس فيها ولا غموض؛ لأنها مأخوذة من هدي كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قد دوّنت أصولها ومبانيها في كتب معتمدة توارثها الخلف عن السلف، وتدارسوها وحرروها وتواصوا بها وحثوا على التمسك بها؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: لا تَزَالُ طائفةٌ من أُمَّتي على الحقِّ ظاهِرِين، لا يَضُرُّهم مَنْ خَذَلهم ولا مَن خالَفَهم حتى يأتي أمرُ الله تبارك وتعالى (1)، وهذا أمر لا شك فيه ولا جدال حوله.
ظهور نابتة تنازع عقيدة أهل السنة في الإيمان:
إلا أنه ظهرت في الآونة الأخيرة نابتة من المتعالمين جعلت بعضَ أصول هذه العقيدة مجالاً للنقاش والأخذ والرد، ومن ذلك قضية الإيمان وإدخال الإرجاء فيه، والإرجاء - كما هو معلوم - عقيدة ضالة تريد فَصْل العمل وإخراجه عن حقيقة الإيمان؛ بحيث يصبح الإنسان مؤمنًا بدون عمل، فلا يؤثر تركه في الإيمان انتفاءً ولا انتقاصًا، وعقيدة الإرجاء عقيدة باطلة قد أنكرها العلماء وبيّنوا بطلانها وآثارها السيئة ومضاعفاتها الباطلة، وآل الأمر بهذه النابتة إلى: أن تُشَنِّع على من لا يجاريها ويوافقها على عقيدة الإرجاء، ويسمونهم بالخوارج والتكفيريين، وهذا قد يكون لجهلهم بعقيدة أهل السنة والجماعة، التي هي وسط بين مذهب الخوارج الذين يكفرون بالكبائر - التي هي دون الكفر - وهو مذهب باطل، وبين مذهب المرجئة الذين يقولون لا يضر مع الإيمان - الذي هو عندهم مجرد التصديق - لا يضر معه معصية، وإن كانت كبيرة.
__________
(1) …البخاري (7311)، ومسلم (156، 1920، 1921، 1923).(1/255)
فأهل السنّة والجماعة يقولون: إن مرتكب الكبيرة - التي هي دون الكفر - لا يكفر كما تقوله الخوارج، ولا يكون مؤمنًا كامل الإيمان كما تقوله المرجئة. بل هو عند أهل السنة مؤمن ناقص الإيمان، وهو تحت المشيئة - إن شاء الله غفر له، وإن شاء عذبه بِقَدْر ذنوبه - كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}[النِّسَاء: 48].
نقد كتاب [هزيمة الفكر التكفيري]:
وقد وصل إليّ كتاب بعنوان «هزيمة الفكر التكفيري» تأليف خالد العنبري، قال فيه: «فما زال الفكر التكفيري يمضي بقوة في أوساط شباب الأمة منذ أن اختلقته الخوارج الحرورية».
وأقول: التكفير للمرتدين ليس من تشريع الخوارج ولا غيرهم، وليس هو فكرًا - كما تقول -، وإنما هو حُكْم شرعي، حَكَمَ به الله ورسوله على من يستحقه، بارتكاب ناقضٍ من نواقض الإسلام القولية أو الاعتقادية أو الفعلية، والتي بينّها العلماءُ في باب «أحكام المرتد»، وهي مأخوذة من كتاب الله تعالى وسنّة رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ فالله قد حَكَم بالكفر على أناس بعد إيمانهم، بارتكابهم ناقضًا من نواقض الإيمان، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ *لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ *}[التّوبَة]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ}[التّوبَة: 74](1/256)
وقال عليه الصلاة والسلام: بَيْن العبدِ وبين الكُفْر تَرْكُ الصلاة (1)، وقال: فمن تَرَكها فقد كَفر (2)، وأخبر تعالى أن تَعَلُّم السحر كُفْر؛ فقال عن المَلَكَيْن اللذين يعلمان السحر: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ}[البَقَرَة: 102]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً *}[النِّسَاء].
وفرق بين من كَفَّره الله ورسوله، وكفره أهل السنَّة والجماعة - اتباعًا لكتاب الله وسنَّة رسوله - وبين من كَفَّرته الخوارج والمعتزلة ومن تبعهم بغير حق، وهذا التكفير - الذي هو بغير حق - هو الذي يسبب القلاقل والبلايا من الاغتيالات والتفجيرات. أما التكفير الذي يُبْنَى على حكم شرعي؛ فلا يترتب عليه إلا الخير ونصرة الحق على مدار الزمان، وبلادنا بحمد الله على مذهب أهل السنة والجماعة في قضية التكفير، وليس على مذهب الخوارج.
ثم قال العنبري: «فالواجب في الكفر البواح؛ وهو الكفر المجمع عليه: التكفير، والتوقف عنه إرجاء خطير».
أقول: الكفر البواح هو كما بيّنه النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما عليه برهان من الكتاب والسنَّة، والإجماع يأتي الاستدلال به بعد الاستدلال بالكتاب والسنّة. نعم؛ إذا كان الدليل محتملاً فهذا لا يجزم بأحد الاحتمالات من غير مرجَّح، أما إذا كان الدليل نصًّا فهذا هو البرهان الذي لا يُعْدَل عن القول بِمُوجبه، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: عِنْدَكم فِيهِ بُرْهَان(3).
__________
(1) …مسلم (82).
(2) …أحمد (5/346، 355)، والترمذي (2621) وقال: «حسن صحيح غريب»، والنسائي في "الكبرى" (329)، وابن ماجه (1079)، وابن حبان في "صحيحه" (1454).
(3) …البخاري (7056)، ومسلم (1709).(1/257)
والعلماءُ المعتبرون مجمعون على تكفير من كفَّره الله ورسوله، ولا يقولون بخلاف ذلك ولا عبرة بمن خالفهم.
ثم جاء في الكتاب المذكور في حاشية (ص/27): «التبديل في الحكم في اصطلاح العلماء هو: الحكم بغير ما أنزل الله، على أنه من عند الله، كمن حَكَم بالقوانين الفرنسية وقال: هي من عند الله أو من شَرْعِهِ تعالى، ولا يخفى أن الحُكَّام بغير ما أنزل الله اليوم لا يزعمون ذلك؛ بل هم يصرحون أن هذه القوانين محض نتاج عقول البشر القاصرة، والتبديل بهذا المعنى (لا بالمعنى الذي يذهب إليه أهل الغلو) كُفْر بإجماع المسلمين» كذا قال.
ونقول: هذا التبديل الذي ذكرتَ أنه كُفْر بإجماع المسلمين، هو تبديل غير موجود، وإنما هو افتراضي من عندك، لا يقول به أحد من الحكام اليوم ولا قبل اليوم، وإنما هناك استبدال هو اختيار جعل القوانين الوضعية بديلة عن الشريعة الإسلامية، وإلغاء المحاكم الشرعية، وهذا كفر - أيضًا -؛ لأنه يزيح تحكيم الشريعة الإسلامية وينحِّيها نهائيًّا، ويُحِل محلها القوانين الوضعية، فماذا يبقى للإسلام ؟!
وما فَعَل ذلك إلا لأنه يعتنقها ويراها أحسن من الشريعة، وهذا لم تَذْكره، ولم تبين حكمَه، مع أنه فَصْل للدين عن الدولة، فكأن الحكم قاصر عندك على التبديل فقط، حيث ذكرت أنه مُجْمَع على كفر من يراه. وكأنَّ قسيمه وهو: الاستبدال، فيه خلاف حسبما ذكرت، وهذا إيهام يجب بيانه.
ثم قال العنبري في رده على خصمه: إنه يدعي الإجماع على تكفير جميع من لم يحكم بغير ما أنزل الله بجحود أو بغير جحود.(1/258)
وأقول: كفر من حكم بغير ما أنزل الله لا يقتصر على الجحود؛ بل يتناول الاستبدال التام، وكذا من استحل هذا العمل في بعض الأحكام ولو لم يجحد، أو قال: إن حكم غير الله أحسن من حكم الله، أو قال: يستوي الأمران، كما نص على ذلك أهل العلم. حتى ولو قال: حكم الله أحسن ولكن يجوز الحكم بغيره؛ فهذا يكفر، مع أنه لم يجحد حكمَ الله. وكُفْرُه بالإجماع.
ثم ذكر الكاتب في آخر كتابه هذا: أن هناك فتوى لسماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله يُكَفِّر فيها من حكم بغير ما أنزل الله مطلقًا ولا يفصل فيها، ويستدل بها أصحاب التكفير على أن الشيخَ لا يفرِّق بين من حكم بغير شرع الله مستحلًّا ومن ليس كذلك، وأن الشيخ ابن باز سُئل عنها، فقال: محمد بن إبراهيم ليس بمعصوم فهو عالم من العلماء .. إلخ ما ذكر.
ولم يذكر العنبري نصَّ فتوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم التي أشار إليها، وهل قُرِئ نصها على الشيخ ابن باز أو لا ؟! ولا ذَكَر المرجع الذي فيه تغليط ابن باز لشيخه، وإنما نقل ذلك عن «مجلة الفرقان»، و«مجلة الفرقان» لم تذكر نصَّ فتوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم، ولم تذكر في أي كتب الشيخ ابن باز تغليطه لفتوى شيخه، ولعلها اعتمدت على شريط، والأشرطة لا تكفي مرجعًا يُعْتَمد عليه في نقل كلام أهل العلم؛ لأنها غير محررة، وكم من كلام في شريط لو عُرِضَ على قائله لتراجع عنه. فيجب التثبت فيما ينسب إلى أهل العلم.
هذا بعض ما ظهر لي من الملاحظات على الكتاب المذكور، وعلى غيره ممن يتكلمون ويكتبون في هذه الأصول العظيمة، التي يجب على الجميع الإمساك عن الخوض فيها، والاستغناء بكتب العقائد الصحيحة الموثوقة التي خلفها لنا أسلافنا من أهل السنَّة والجماعة، والتي تدارسها المسلمون جيلاً بعد جيل في مساجدهم ومدارسهم، وحصل الاتفاق عليها والاجتماع على مضمونها، ولسنا بحاجة إلى مؤلفات جديدة في هذا.(1/259)
وختامًا نقول: إننا بريئون من مذهب المرجئة، ومن مذهب الخوارج والمعتزلة، فمن كفَّره الله ورسوله فإننا نكفره، ولو كرهت المرجئة، ومن لم يكفره الله ولا رسوله فإننا لا نكفره، ولو كرهت الخوارج والمعتزلة. هذه عقيدتنا التي لا نتنازل عنها ولا نساوم عليها - إن شاء الله تعالى - ولا نقبل الأفكار الوافدة إلينا. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الشيخ الفوزان - مقال في مجلة (الدعوة) العدد (1749)
حكم المقارنة بين الشريعة والقانون
هل المقارنة بين الشريعة والقانون يعد انتقاصاً للشريعة ؟
إذا كانت المقارنة لقصدٍ صالحٍ كقصد بيان شمول الشريعة وارتفاع شأنها، وتفوقها على القوانين الوضعية، واحتوائها على المصالح العامة - فلا بأس بذلك؛ لما فيه من إظهار الحق، وإقناع دعاة الباطل، وبيان زيف ما يقولون في الدعوة إلى القوانين، أو الدعوة إلى أن هذا الزمن لا يصلح للشريعة أو قد مضى زمانها ... لهذا القصد الصالح الطيب، ولبيان ما يردع أولئك، ويبين بطلان ما هم عليه، ولتطمئن قلوب المؤمنين، وتثبيتها على الحق؛ ولهذا كله لا مانع من المقارنة بين الشريعة والقوانين الوضعية؛ إذا كان ذلك بواسطة أهل العلم والبصيرة المعروفين بالعقيدة الصالحة، وحسن السيرة، وسعة العلم بعلوم الشريعة ومقاصدها العظيمة.
الشيخ ابن باز - مجلة البحوث، عدد (27)
حكم دراسة القانون والمحاماة
لقد شغلتنا أمور منها: دراسة القانون بكلية الحقوق، فقد جعلت الإخوة في تضارب واختلاف الآراء في هذا الموضوع الذي أدعو المولى سبحانه وتعالى أن يوفقك في تبصير هذه الأمور وهي:
1- حكم دراسة القوانين الوضعية.
2- حكم الاشتغال في وظائف المحاماة (القضاء).(1/260)
إذا كان من يريد دراسة القوانين الوضعية لديه قوة فكرية وعلمية يميز بها الحق من الباطل، وكان لديه حصانة إسلامية يأمن معها من الانحراف عن الحق ومن الافتتان بالباطل، وقصد بتلك الدراسة المقارنة بين أحكام الإسلام وأحكام القوانين الوضعية وبيان ميزة أحكام الإسلام عليها وبيان شمولها لكل ما يحتاجه الناس في صلاح دينهم ودنياهم وكفايتها في ذلك؛ إحقاقًا للحق وإبطالاً للباطل، والرد على من استهوته القوانين الوضعية فزعم صلاحيتها وشمولها وكفايتها - إن كان كذلك فدراسته إياها جائزة، وإلاَّ فلا يجوز له دراستها، وعليه أن يستغني بدراسة الأحكام الإسلامية في كتاب الله تعالى والثابت من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ما درج عليه أئمة علماء الإسلام وطريقة سلف الأمة في دراستها والاستنباط منها.
ثانيًا: إذا كان في الاشتغال بالمحاماة أو القضاء إحقاق للحق وإبطال للباطل شرعًا ورد الحقوق إلى أربابها ونصر للمظلوم - فهو مشروع؛ لما في ذلك من التعاون على البر والتقوى، وإلاَّ فلا يجوز؛ لما فيه من التعاون على الإثم والعدوان، قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِّرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِْثْمِ وَالْعُدْوَانِ}[المَائدة: 2]
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (1/548)
الفصل الخامس
التعامل مع الكفار
موالاة الكفار(1) التي يكفر بها من والاهم
__________
(1) …سبق ذكرها في الفصل الأول وكررت في هذا الفصل لمناسبتها له.(1/261)
ما هي حدود الموالاة التي يكفر صاحبها وتخرجه من الملة ؟ حيث نسمع أن من أكل مع المشرك أو جلس معه أو استضاء بنوره ولو برى لهم قلمًا أو قدم لهم محبرة فهو مشرك، وكثيرًا ما نتعامل مع اليهود والنصارى نتيجة التواجد والمواطنة في مكان واحد، فما هي حدود الموالاة المخرجة من الملة ؟ وما هي الكتب الموضحة ذلك بالتفصيل ؟ وهل الموالاة من شروط لا إله إلاَّ الله ؟
موالاة الكفار التي يكفر بها من والاهم هي: محبتهم، ونصرتهم على المسلمين، لا مجرد التعامل معهم بالعدل، ولا مخالطتهم لدعوتهم للإسلام، ولا غشيان مجالسهم والسفر إليهم للبلاغ ونشر الإسلام.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (2/47)
معنى الولاء والبراء وكيفيته (للشيخ ابن باز)
الرجاء من فضيلتكم توضيح الولاء والبراء لمن يكون؛ وهل يجوز موالاة الكفار ؟(1/262)
الولاء والبراء معناه: محبة المؤمنين وموالاتهم، وبغض الكافرين ومعاداتهم، والبراءة منهم ومن دينهم . هذا هو الولاء والبراء؛ كما قال الله سبحانه في سورة الممتحنة: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}[المُمتَحنَة: 4] وليس معنى بغضهم وعداوتهم أن تظلمهم أو تتعدى عليهم إذا لم يكونوا محاربين؛ وإنما معناه: أن تبغضهم في قلبك وتعاديهم بقلبك ولا يكونوا أصحاباً لك، لكن لا تؤذيهم ولا تضرهم ولا تظلمهم، فإذا سلموا ترد عليهم السلام(1)، وتنصحهم وتوجههم إلى الخير - كما قال الله عز وجل: {وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}[العَنكبوت: 46].
__________
(1) …أي بما ورد وهو (وعليكم).(1/263)
وأهل الكتاب هم اليهود والنصارى وهكذا غيرهم من الكفار الذين لهم أمان أو عهد أو ذمة؛ لكن من ظلم منهم يجازى على ظلمه، وإلا فالمشروع للمؤمن الجدال بالتي هي أحسن مع المسلمين والكفار مع بغضهم في الله؛ للآية الكريمة السابقة، ولقوله سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[النّحل: 125]. فلا يتعدى عليهم ولا يظلمهم مع بغضهم ومعاداتهم في الله، ويشرع له أن يدعوهم إلى الله، ويعلمهم ويرشدهم إلى الحق؛ لعل الله يهديهم بأسبابه إلى طريق الصواب، ولا مانع من الصدقة عليهم والإحسان إليهم - لقول الله عز وجل: {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ *}[المُمتَحنَة]. ولما ثبت في الصحيحين: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أَمَر أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أن تَصِلَ أُمَّها - وهي كافرة - في حال الهدنة التي وقعت بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين أهل مكة على الحديبية(1).
الشيخ ابن باز - مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (5/246، 247) مفهوم الولاء والبراء (للشيخ ابن عثيمين)
نرجو توضيح الولاء والبراء .
__________
(1) …البخاري (3183)، ومسلم (1003)، بنحوه.(1/264)
البراء والولاء لله سبحانه أن يتبرأ الإنسان من كل ما تبرأ الله منه - كما قال سبحانه وتعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا}[المُمتَحنَة: 4]؛ وهذا مع القوم المشركين - كما قال سبحانه: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَْكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ}[التّوبَة: 3]؛ فيجب على كل مؤمن أن يتبرأ من كل مشرك وكافر . فهذا في الأشخاص .
وكذلك يجب على المسلم أن يتبرأ من كل عمل لا يرضي الله ورسوله وإن لم يكن كفراً، كالفسوق والعصيان؛ كما قال سبحانه: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِْيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ}[الحُجرَات: 7]
وإذا كان مؤمن عنده إيمان وعنده معصية، فنواليه على إيمانه، ونكرهه على معاصيه، وهذا يجري في حياتنا، فقد تأخذ الدواء كريه الطعم وأنت كاره لطعمه، وأنت مع ذلك راغب فيه؛ لأن فيه شفاء من المرض .(1/265)
وبعض الناس يكره المؤمن العاصي أكثر مما يكره الكافر، وهذا من العجب، وهو قلب للحقائق، فالكافر عدو لله ولرسوله وللمؤمنين، ويجب علينا أن نكرهه من كل قلوبنا: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ}[المُمتَحنَة: 1]، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ *فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ *}[المَائدة].
وهؤلاء الكفار لن يرضوا منك إلا اتباع ملتهم وبيع دينك: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}[البَقَرَة: 120]، {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا}[البَقَرَة: 109]؛ وهذا في كل أنواع الكفر: الجحود والإنكار والتكذيب والشرك والإلحاد . . .
أما الأعمال فنتبرأ من كل عمل محرم، ولا يجوز لنا أن نألف الأعمال المحرمة ولا أن نأخذ بها، والمؤمن العاصي نتبرأ من عمله بالمعصية؛ ولكننا نواليه ونحبه على ما معه من الإيمان .
الشيخ ابن عثيمين - مجموع دروس فتاوى الحرم المكي (3/357، 358)
حقيقة التشبُّه بالكفار وحكمه(1/266)
ما هي المشابهة المنهي عنها ؟ هل هي فيما يخصهم فقط أم فيما قد أصبح منتشراً ويفعله المسلمون والكفار وإن كان أصله وارداً من بلاد الكفر كما هو الحال في البنطلونات والحلل الافرنجية ؟ وهل إذا كان يفعله فساق المسلمين فقط دون عدولهم يصبح أيضاً من المشابهة إذا فعله عدول المسلمين ؟ ما هو حكم لبس البدل الإفرنجية على الوجه الذي يفعله غالبية الناس الآن من مسلمين وكفار ؟ هل هو مشابهة فقط ؟ وإن كان فيه مشابهة بالكفار .. فما هي درجة التحريم أو الكراهة ؟ هل هناك كراهة أيضاً؛ حيث إن البنطلون يجسم العورة ؟ إذا كان هناك كراهة فهل هي كراهة تحريمية أم تنزيهية ؟ وما العورة المقصودة بالتجسيم: هل هي العورة المغلظة أم هي والفخذ أيضاً ؟ وإن أمكن تلافي هذا الأمر (وهو تجسيم العورة المغلظة والفخذ) بقدر الإِمكان باستعمال البنطلونات الواسعة فهل تظل الكراهة موجودة ؟ وما حكم لبس البنطلونات الضيقة أو المضبوطة تماماً بحيث لا يكون فيها وسع عن الساق إلا قليلاً ؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه.. وبعد:
المراد بمشابهة الكفار المنهي عنها: مشابهتهم فيما اختصوا به من العادات وما ابتدعوه في الدين من عقائد وعبادات؛ كمشابهتهم في حلق اللحية وشد الزنار، وما اتخذوه من المواسم والأعياد والغلو في الصالحين؛ بالاستغاثة بهم والطواف حول قبورهم والذبح لهم، ودق الناقوس وتعليق الصليب في العنق أو على البيوت أو اتخاذه وشماً باليد مثلاً؛ تعظيماً له واعتقاداً لما يعتقده النصارى، ويختلف حكم مشابهتهم؛ فقد يكون كفراً كالتشبه بهم في الاستغاثة بأصحاب القبور والتبرك بالصليب واتخاذه شعاراً، وقد يكون محرماً فقط كحلق اللحية وتهنئتهم بأعيادهم. وربما أفضى التساهل في مشابهتهم المحرمة إلى الكفر - والعياذ بالله.(1/267)
أما لبس البنطلون والبدلة وأمثالهما من اللباس: فالأصل في أنواع اللباس الإِباحة؛ لأنه من أمور العادات - قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}[الأعرَاف: 32]، ويستثنى من ذلك: ما دل الدليل الشرعي على تحريمه أو كراهته؛ كالحرير للرجال والذي يصف العورة لكونه شفافاً يرى من ورائه لون الجلد، أو ككونه ضيقاً يحدد العورة؛ لأنه حينئذ في حكم كشفها وكشفها لا يجوز، وكالملابس التي هي من سيما الكفار فلا يجوز لبسها لا للرجال ولا للنساء؛ لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التشبه بهم، وكلبس الرجال ملابس النساء ولبس النساء ملابس الرجال؛ لِنَهْيِ النبي - صلى الله عليه وسلم - عن تَشَبُّه الرِّجال بالنِّساء والنساء بالرجال (1)، وليس اللباس المسمى بالبنطلون والقميص مما يختص لبسه بالكفار؛ بل هو لباس عام في المسلمين والكافرين في كثير من البلاد والدول، وإنما تنفر النفوس من لبس ذلك في بعض البلاد لعدم الإِلف، ومخالفة عادة سكانها في اللباس، وإن كان ذلك موافقاً لعادة غيرهم من المسلمين. لكن الأولى بالمسلم إذا كان في بلد لم يعتد أهلها ذلك اللباس ألا يلبسه في الصلاة، ولا في المجامع العامة، ولا في الطرقات.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء - مجلة البحوث الإسلامية (ع42/94)
في تحريم التشبه بالكفار وموالاتهم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ... وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما ورد إلى سماحة المفتي العام من المستفتي/ فضيلة مدير مركز الدعوة والإرشاد بمحافظة جدة المكلف بكتابه رقم (144/9/ج) وتاريخ 19/3/1418هـ. والمحال إلى اللجنة من الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء برقم (1723) وتاريخ 24/3/1418هـ.
__________
(1) …البخاري (5885).(1/268)
وقد سأل فضيلته سؤالاً هذا نصه: (انتشرت بين بعض الشباب ظاهرة التعلق بأعلام وشعارات بعض الدول غير المسلمة، ونراهم يُقْبِلون على شرائها واقتنائها، يطبعونها على القمص والبناطيل، والأحزمة والنظارات، والقبعات والأحذية، والمساطر والأقلام، والخواتم والساعات، ويجعلونها غطاء لمقاعد السيارات، وملصقات على الزجاج، وبعضهم يشتري العَلَم كاملاً ويفرشه على مقدمة أو مؤخرة السيارة؛ فما حكم بيع وشراء واقتناء وتعليق هذه الأعلام ؟).(1/269)
وبعد دراسة اللجنة للاستفتاء أجابت: بأن من مقاصد الشريعة الإسلامية المطهرة أن يكون المسلم متميزًا عن جميع الكفرة والفجَّار في عقيدته وأخلاقه وسلوكه وتفكيره، بل وفي مظهره ولغته أيضًا، وقطع جميع علائق المحبة والولاء والنصرة لكل كافر بالله ورسوله. وقد تكاثرت الدلائل الشرعية نصيةً واستنباطية مؤكدةً هذا الأصل الإسلامي، محذرة من نقضه أو التساهل به عن طريق المحاكاة والتشبه بالذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، فقال الله عز وجل: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَْمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ *}[الجَاثيَة]، وقال سبحانه: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ *}[البَقَرَة]، وقال جلّ وعلا: {وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ}[المَائدة: 49]، وقال جلَّ وتقدَّس: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَْمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ *}[الحَديد]. والآيات في هذا المعنى كثيرة معلومة.(1/270)
وقال عليه الصلاة والسلام - لما رأى على عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ثوبين مُعَصْفَرَيْن: إنَّ هذِهِ مِن ثِيَابِ الكفار فلا تَلْبَسْهَا (1) أخرجه مسلم في [صحيحه]. وثبت في [الصحيحين]: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خالف أهل الكتاب في سدل الشعر. وقال عليه الصلاة والسلام: خَالِفُوا المشركين، وفِّرُوا اللِّحَى وأَحْفُوا الشَّوَارِب (2) أخرجاه في [الصحيحين]. والأحاديث والآثار عن السلف الصالح في هذا الأمر كثيرة مشهورة.
ومما تقدم يُعلم أن المرء لا يكون عاملاً بحقيقة الإسلام حتى يكون ظاهره وباطنه موافقًا لأمر الله ورسوله، فيكون ولاؤه لله ولرسوله ولإخوانه المؤمنين، كما قال الله سبحانه: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ *}[المَائدة]. ويجب على المؤمن البراءة من الكفر وأهله، سواء كانوا من النصارى أو اليهود أو المجوس أو الملحدين أو غيرهم من سائر الملل والنحل المخالفة للإسلام.
__________
(1) …مسلم (2077).
(2) …البخاري (5892)، ومسلم (259).(1/271)
ومن أجل المحافظة على الأصل المتقدَّم لدى المسلم، وصيانةً لإسلامه من الزيغ والانحراف - جاءت النصوص الشرعية بتحريم التشبه بالكفار فيما هو من خصائصهم في الأقوال والأفعال والألبسة والهيئة العامة؛ لما في ذلك من الخطر على عقيدة المسلم، وخشية أن يجره ذلك إلى استحسان ما هم عليه من الكفر والضلال ، فقال عليه الصلاة والسلام: بُعِثْتُ بين يَدَيِ الساعةِ بالسَّيف حتى يُعْبَدَ اللهُ وحده لا شريك له، وجُعل رِزْقِي تحت ظِلِّ رُمحي، وجُعِلَ الذِّلَّةُ والصَّغار على مَنْ خَالَفَ أمري، ومن تشبَّهَ بقومٍ فهو منهم (1) رواه الإمام أحمد وغيره بسند جيد. وقال عليه الصلاة والسلام: ليس منا مَنْ تَشَبَّهَ بِغَيْرِنا، ولا تَشَبَّهُوا باليهود ولا بالنصارى (2) حديث حسن، رواه الترمذي وغيره.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية(3) رحمه الله تعالى - مبينًا حكمة الشريعة في تحريم التشبه بالكفار ووجوب مخالفتهم في الأمور الظاهرة كالألبسة ونحوها:
(وقد بعث الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بالحكمة التي هي سنته، وهي الشرعة والمنهاج الذي شرعه له، فكان من هذه الحكمة أن شرع له من الأعمال والأقوال ما يباين سبيل المغضوب عليهم والضالين، فأمر بمخالفتهم في الهدي الظاهر، وإن لم يظهر لكثير من الخلق في ذلك مفسدة لأمور:
__________
(1) …أحمد (2/50، 92)، وابن أبي شيبة في "مصنفه" (19401)، وعبد بن حميد في «مسنده» (848)، والطبراني في «مسند الشاميين (216)، والبيهقي في «الشعب» (1199).
(2) …الترمذي (2695) وقال: « إسناده ضعيف »، والطبراني في "الأوسط" 7/238 (7380). وحسّنه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (2194)، و"صحيح الترمذي" (2168).
(3) …في كتابه: «اقتضاء الصراط المستقيم» ص (12).(1/272)
منها: أن المشاركة في الهدي الظاهر تورث تناسبًا وتشاكلاً بين المتشابهين يقود إلى موافقة ما في الأخلاق والأعمال، وهذا أمر محسوس، فإن اللابس لثياب الجند المقاتلة مثلاً يجد من نفسه نوع تخلُّقٍ بأخلاقهم، ويصير طبعه متقاضيًا لذلك إلا أن يمنعه مانع.
ومنها: أن المخالفة في الهدي الظاهر توجب مباينة ومفارقة توجب الانقطاع عن موجبات الغضب وأسباب الضلال، والانعطاف على أهل الهدى والرضوان، وتحقق ما قطع الله من الموالاة بين جنده المفلحين وأعدائه الخاسرين.
وكلما كان القلب أتمَّ حياةً وأعرفَ بالإسلام - الذي هو الإسلام، لست أعني مجرد التوسم به ظاهرًا، أو باطنًا بمجرد الاعتقادات من حيث الجملة - كان إحساسه بمفارقة اليهود والنصارى باطنًا وظاهرًا أتم، وبُعْدُه عن أخلاقهم الموجودة في بعض المسلمين أشد.
ومنها: أن مشاركتهم في الهدي الظاهر توجب الاختلاط الظاهر، حتى يرتفع التميز ظاهرًا بين المهديين المرضيين، وبين المغضوب عليهم والضالين. إلى غير ذلك من الأسباب الحكمية.
هذا إذا لم يكن ذلك الهدي الظاهر إلا مباحًا محضًا لو تجرد عن مشابهتهم، فأما إن كان من موجبات كفرهم كان شعبة من شعب الكفر، فموافقتهم فيه موافقة في نوع من أنواع معاصيهم. فهذا أصل ينبغي أن يتفطن له). اهـ.(1/273)
وبناء على ما تقدم: فمما لا شك فيه أن من مظاهر الولاء للكفار: التشبه بهم، وارتداء ملابس تحمل شعاراتهم كالصليب ونحوه، والعناية بصورهم، وتشجيع أنديتهم الرياضية، وتعليق أعلامهم على السيارات والبيوتات والمحال التجارية، والتسمِّي باسمائهم الخاصة بهم، والدعوة إلى محبتهم وصداقتهم، والافتخار بالانتساب إليهم وإلى رؤسائهم وأعيانهم، والانبهار بأهوائهم وأفكارهم المخالفة للإسلام ... إلى آخر تلك المحن والبلايا التي وقع فيها كثير من المنتسبين للإسلام، وما دَرَوْا أنهم بصنيعهم هذا يهدمون أصلاً من أصول الإسلام في أنفسهم وفي نفوس المسلمين، ويزيدون الأمة وهنًا على وهنٍ، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
والواجب على جميع المسلمين التمسك بهدي الإسلام المستقيم، والحذر من الانحراف عنه إلى طريق المغضوب عليهم والضالين من اليهود والنصارى وسائر المشركين، والتواصي بالبر والتقوى وكل ما فيه خير وعز للإسلام والمسلمين، وترك كل ما فيه ضرر على المسلمين والإعانة عليه وترويجه ونشره. وبالله التوفيق.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (من كتاب: فتاوى وبيانات مهمة) - ص (33)
إهداء الزهور تقليد أعمى للكفار
نسأل فضيلتكم عن ظاهرة أخذت في الازدياد داخل المستشفيات، وهي دخيلة على المجتمع المسلم، حيث انتقلت إلينا من المجتمعات الغربية الكافرة، ألا وهي إهداء الزهور للمرضى؛ وقد تشترى بأثمان باهظة، فما هو رأيكم في هذه العادة ؟(1/274)
لا شك أن هذه الزهور لا فائدة فيها، ولا أهمية لها، فلا هي تشفي المريض، ولا تخفف الألم، ولا تجلب صحة، ولا تدفع الأمراض حيث هي مجرد صور مصنوعة على شكل نبات له زهور، عملته الأيدي، أو الماكينات، وبيع بثمن رفيع، ربح فيه الصانعون، وخسر فيه المشترون، فليس فيه سوى تقليد الغرب تقليداً أعمى، بدون أدنى تفكير، فإن هذه الزهور تشترى برفيع الثمن، وتبقى عند المريض ساعة أو ساعتين، أو يوماً أو يومين، ثم يرمى بها مع النفايات بدون استفادة، وكان الأولى الاحتفاظ بثمنها، وصرفه في شيء نافع من أمور الدنيا أو الدين، فعلى من رأى أحداً يشتريها أو يبيعها تنبيه من يفعل ذلك، رجاء أن يتوب ويترك هذا الشراء الذي هو خسران مبين .
الشيخ ابن جبرين - اللؤلؤ المكين، ص (58، 59)
فتوى في حكم بناء المعابد الكفرية في جزيرة العرب مثل (الكنائس)
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده .. وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما ورد إلى سماحة المفتي العام من عدد من المستفتين، المقيدة استفتاءاتهم في الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء برقم (86) وتاريخ 5/1/1421هـ. ورقم (1326، 1327، 1328) وتاريخ 2/3/1421هـ. بشأن حكم بناء المعابد الكفرية في جزيرة العرب مثل: بناء الكنائس للنصارى، والمعابد لليهود وغيرهم من الكفرة، أو أن يخصِّص صاحب شركة أو مؤسسة مكانًا للعمالة الكافرة لديه يؤدون فيه عباداتهم الكفرية.. إلخ.
وبعد دراسة اللجنة لهذه الاستفتاءات أجابت بما يلي:
كل دين غير دين الإسلام فهو كفر وضلال، وكل مكان يُعَدُّ للعبادة على غير دين الإسلام فهو بيت كفر وضلال؛ إذ لا تجوز عبادة الله إلا بما شرع سبحانه في الإسلام، وشريعة الإسلام خاتمة الشرائع: عامة للثقلين الجن والإنس، وناسخة لما قبلها، وهذا مجمع عليه بحمد الله تعالى.(1/275)
ومن زعم أن اليهود على حق، أو النصارى على حق، سواء كان منهم أو من غيرهم، فهو مكذب لكتاب الله تعالى وسنة رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - وإجماع الأمة، وهو مرتد عن الإسلام إن كان يَدَّعي الإسلام بعد إقامة الحجة عليه، إن كان مثله ممن يخفى عليه ذلك؛ قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا}[سَبَإ: 28]، وقال عز شأنه: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}[الأعرَاف: 158]، وقال سبحانه: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِْسْلاَمُ}[آل عِمرَان: 19] وقال جلّ وعلا: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِْسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ}[آل عِمرَان: 85]، وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ *}[البَيّنَة: 6]. وثبت في الصحيحين وغيرهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: كان النبي يُبْعَثُ إلى قومِه خاصَّة، وبُعِثتُ إلى الناس عامة(1).
__________
(1) …جزء من حديث أخرجه: البخاري (335، 438) واللفظ له، ومسلم (521).(1/276)
ولهذا: صار من ضروريات الدين: تحريم الكفر الذي يقتضي تحريم التعبد لله على خلاف ما جاء في شريعة الإسلام، ومنه: تحريم بناء معابد وفق شرائع منسوخة يهودية أو نصرانية أو غيرهما؛ لأن تلك المعابد - سواء كانت كنيسة أو غيرها - تعتبر معابد كفرية؛ لأن العبادات التي تؤدى فيها على خلاف شريعة الإسلام الناسخة لجميع الشرائع قبلها، والمبطلة لها، والله تعالى يقول عن الكفار وأعمالهم: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا *}[الفُرقان]. ولهذا أجمع العلماء على تحريم بناء المعابد الكفرية مثل: الكنائس في بلاد المسلمين، وأنه لا يجوز اجتماع قبلتين في بلد واحد من بلاد الإسلام، وألا يكون فيها شيء من شعائر الكفار؛ لا كنائس ولا غيرها، وأجمعوا على وجوب هدم الكنائس وغيرها من المعابد الكفرية إذا أحدثت في أرض الإسلام، ولا تجوز معارضة ولي الأمر في هدمها، بل تجب طاعته، وأجمع العلماء - رحمهم الله تعالى - على أن بناء المعابد الكفرية، ومنها: الكنائس في جزيرة العرب، أشد إثمًا وأعظم جرمًا؛ للأحاديث الصحيحة الصريحة بخصوص النهي عن اجتماع دينين في جزيرة العرب، منها قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا يَجْتَمِعُ دِينَانِ في جزيرة العرب (1) رواه الإمام مالك وغيره، وأصله في الصحيحين.
__________
(1) …«موطأ مالك» 2/892 (1584). وأصله في الصحيحين: البخاري (3053، 3168، 4431)، ومسلم (1637، 1767).(1/277)
فجزيرة العرب: حَرَمُ الإسلام، وقاعدته التي لا يجوز السماح أو الإذن لكافر باختراقها، ولا التجنس بجنسيتها، ولا التملك فيها، فضلاً عن إقامة كنيسة فيها لعبَّاد الصليب، فلا يجتمع فيها دينان إلا دينًا واحدًا هو دين الإسلام الذي بعث الله به نبيه ورسوله محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، ولا يكون فيها قبلتان إلا قبلة واحدة هي قبلة المسلمين إلى البيت العتيق، والحمد لله الذي وفَّق ولاة أمر هذه البلاد إلى صدِّ هذه المعابد الكفرية عن هذه الأرض الإسلامية الطاهرة.
وإلى الله المشتكى مما جلبه أعداء الإسلام من المعابد الكفرية من الكنائس وغيرها في كثير من بلاد المسلمين، نسأل الله أن يحفظ الإسلام من كيدهم ومكرهم.
وبهذا يُعلم أن السماح والرضا بإنشاء المعابد الكفرية، مثل الكنائس، أو تخصيص مكان لها في أي بلد من بلاد الإسلام: من أعظم الإعانة على الكفر وإظهار شعائره؛ والله عز شأنه يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِّرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِْثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[المَائدة: 2].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية(1) رحمه الله : (من اعتقد أن الكنائس بيوت الله، وأن الله يعبد فيها، أو أن ما يفعله اليهود والنصارى عبادة لله وطاعة لرسوله، أو أنه يحب ذلك أو يرضاه، أو أعانهم على فتحها وإقامة دينهم، وأن ذلك قربة أو طاعة - فهو كافر).
وقال أيضًا(2): (من اعتقد أن زيارة أهل الذمة كنائسهم قربة إلى الله فهو مرتد، وإن جهل أن ذلك محرم عُرِّف ذلك، فإن أصرَّ صار مرتدًا) انتهى.
__________
(1) …انظر: «كشاف القناع» للبهوتي (6/170).
(2) …انظر: «كشاف القناع» للبهوتي (6/170).(1/278)
عائذين بالله من الحَوْرِ بعد الكَوْرِ(1)، ومن الضلالة بعد الهداية، وليحذر المسلم أن يكون له نصيب من قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ *ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَْمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ *فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ *ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ *}[محَمَّد].
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (من كتاب: فتاوى وبيانات مهمة) - ص (28).
لماذا ميَّز الإسلام أهل الكتاب عن غيرهم من الكفار ؟
إذا كان الإسلام ناسخًا للأديان السماوية السابقة والقرآن الكريم - يقول: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِْسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآْخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ *}[آل عِمرَان]، وبيّن كذلك كفر أهل الكتاب من اليهود والنصارى بآيات كثيرة؛ فلماذا لم يعاملهم الإسلام معاملة الكفار بل أجاز لهم البقاء على أديانهم مع ثبوت تحريفها وبطلانها ؟ كما أجاز لنا الزواج منهم وأكل طعامهم ؟ وهل النصارى في هذه الأيام ينطبق عليهم وصف أهل الكتاب ولهم نفس الحكم ؟
__________
(1) …أي: من النقصان بعد الزيادة.(1/279)
أولاً: أصول الدين التي جاء بها الأنبياء واحدة، وهي دين الإسلام، قال الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِْسْلاَمُ}[آل عِمرَان: 19]، وأما فروعه وهي الشرئع فقد تختلف وهي التي تقبل النسخ، قال الله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}[المَائدة: 48]؛ وقد ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: أنا أَوْلَى الناس بعيسى ابنِ مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياء إِخْوَةٌ لِعِلاَّتٍ، أُمَّهَاتُهم شَتَّى ودِينهم واحد(1). رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود وغيرهم واللفظ للبخاري، والذي يقع فيه النسخ إنما هو الفروع لا الأصول، وقال الله تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآْخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ *إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ *وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ *أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ *}[البَقَرَة].
__________
(1) …البخاري (3443)، ومسلم (2365) وغيرهما.(1/280)
ثانيًا: أباح الله للمسلمين أن يأكلوا من طعام الذين أوتوا الكتاب؛ وهو ذبائحهم بقوله في سورة المائدة: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ}[المَائدة: 5]، فاشترط في الزواج بالكتابيات أن يكن حرائر عفيفات؛ سواء كن يهوديات أو نصرانيات، مع أن الله تعالى أخبر عن اليهود والنصارى في نفس السورة بأنهم كفار، قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ...} [المَائدة: 17]، وقال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ}[المَائدة: 18]، وقال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ *اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهًا وَاحِدًا لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ *يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ *هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ *}[التّوبَة]، وقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ}[المَائدة: 73]، ونحو ذلك في نفس السورة.(1/281)
ثالثًا: خص الله أهل الكتاب اليهود والنصارى بأكل ذبائحهم وزواج المؤمنين بالحرائر العفيفات من نسائهم، والاكتفاء بأخذ الجزية منهم - بقوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآْخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ *}[التّوبَة: 29]، خصهم بذلك؛ لأنهم أهل كتاب، وأقرب إلى المسلمين من سائر الكفار سواهم؛ ولذا فرح المؤمنون بغلبهم على الفرس، ونصرهم عليهم بعدما غلبوا، وأقرهم الله على ذلك؛ قال الله تعالى: {غُلِبَتِ الرُّومُ *فِي أَدْنَى الأَْرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ *فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَْمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ *بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ *وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ *}[الرُّوم]، ولم يجز لهم سبحانه البقاء على الكفر به، وما ارتكبوه من تحريف كتبه، وجحد رسالة نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولم يأذن لهم في ذلك، وإنما شرع لنا ترك قتالهم وعدم أسرهم إذا هم أعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، واكتفى منهم بذلك دون غيرهم من سائر الكفار، وذلك هو قول جمهور أهل العلم.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (2/298-300)
حكم تجنس المسلم بجنسية دولة حكومتها كافرة(1/282)
كثير من المسلمين الذين يقدمون إلى هذه الديار ينوون الإقامة، وكذلك يحصلون على الجنسية الأميركية؛ فهل يجوز لهم ذلك ؟ علمًا بأنها ديار كفر وشرك وانحلال .. فكيف يعطون ولاءاتهم لحكومتها بالتنازل عن جنسية بلادهم الإسلامية وقبول جنسية هذه البلاد ؟! فما حكم الإسلام في ذلك ؟ علمًا بأنهم يبررون ذلك بنشر الإسلام .
لا يجوز لمسلم أن يتجنس بجنسية بلاد حكومتها كافرة؛ لأن ذلك وسيلة إلى موالاتهم والموافقة على ما هم عليه من الباطل، أما الإقامة بدون أخذ الجنسية،فالأصل فيها: المنع؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَْرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا *إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً *}[النِّسَاء: 97-98]، ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنا بَرِيءٌ مِنْ كلِّ مُسلمٍ يُقِيمُ بين المشركين (1)، ولأحاديث أخرى في ذلك، ولإجماع المسلمين على وجوب الهجرة من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام مع الاستطاعة، لكن من أقام من أهل العلم والبصيرة في الدين بين المشركين لإبلاغهم دين الإسلام ودعوتهم إليه - فلا حرج عليه إذا لم يخش الفتنة في دينه، وكان يرجو التأثير فيهم وهدايتهم.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
__________
(1) …أبو داود (2645)، والترمذي (1604، 1605)، والطبراني في «الكبير» 2/303 (2264) من حديث جرير بن عبدالله رضي الله عنه، ورواه النسائي (4780) مرسلاً، وهو الصحيح كما قال البخاري والترمذي. انظر: المغني عن حمل الأسفار» (1790). وحسنه الألباني في «الصحيحة» (2/228)، بطرقه.(1/283)
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (2/69)
حكم استقدام الكفار إلى جزيرة العرب
بعثت أطلب خادمة لإعانة زوجتي في المنزل فأفادوا بالمراسلة أنه لا يوجد مسلمة في البلد الذي أريد الخادمة منه .. فهل يجوز أن أستقدم خادمة غير مسلمة ؟
لا يجوز استخدام خادمة غير مسلمة، ولا خادم غير مسلم، ولا سائق غير مسلم، ولا عامل غير مسلم بهذه الجزيرة العربية؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بإخراج اليهود والنصارى منها، وأمر أن لا يبقى فيها إلا مسلم(1)، وأوصى عند وفاته عليه الصلاة والسلام بإخراج جميع المشركين من هذه الجزيرة(2). ولأن استقدام الكفرة من الرجال والنساء خطر على المسلمين في عقائدهم وأخلاقهم وتربية أولادهم. فوجب منع ذلك طاعة لله سبحانه ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - وحسماً لمادة الشرك والفساد. والله ولي التوفيق.
الشيخ ابن باز - مجلة الدعوة. العدد (933)
حكم تجنس الكافر بجنسية دولة مسلمة
ما حكم تجنس الكافر بجنسية دولة مسلمة ؟
تجنس الكافر بجنسية دولة مسلمة جائز؛ إذا أمنت منه الفتنة ورجح فيه الخير، لكن لا يسمح له الإقامة بالجزيرة العربية إلاَّ إذا اعتنق الإسلام؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أَوْصَى بإخراج المشركين من جزيرة العرب(3).
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (2/74) حكم الاستغفار للمشركين
لي أجداد ماتوا على الشرك .. فهل لي أن استغفر لهم أم لا ؟
__________
(1) …روى مسلم في «صحيحه» (1767) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لَأُخْرِجَنَّ اليهود والنصارى من جزيرة العرب؛ حتى لا أَدَعَ إلا مُسْلِمًا».
(2) …البخاري (3053، 3168، 4431)، ومسلم (1637).
(3) …البخاري (3053، 3168، 4431)، ومسلم (1637).(1/284)
لا يجوز للمسلم أن يستغفر لأجداده ولا لغيرهم إذا كانوا قد ماتوا على الشرك؛ لقوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ *}[التّوبَة]
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (3/305)
حكم اتخاذ المسيحيين إخواناً
هل يمكن أن نعتبر المسيحيين إخواننا مثل المسلمين تمامًا دون تفرقة ؟
يحرم اتخاذ المسيحيين(1) إخواناً؛ قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ *}[المَائدة]، وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}[الحُجرَات: 10]، فحصر سبحانه الإخوة الحقيقية في المؤمنين، وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: المُسْلِمُ أَخُو المسلم، لا يَظْلِمُهُ، ولا يَخْذُلُه، ولا يَكْذِبُه، ولا يَحْقِرُه (2) الحديث.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (2/46)
حكم تعظيم أعياد النصارى
__________
(1) …الصحيح (النصارى). كما سماهم القرآن.
(2) …البخاري (2442، 6951)، ومسلم (2564، 2580).(1/285)
من فضلك يا شيخنا العزيز: قد دخل بيني وبين إخواني المسلمين مناقشة دين الإسلام، وهي: أن بعض المسلمين في غانا يعظمون عطلات اليهود والنصارى ويتركون عطلاتهم حتى كانوا إذا جاء وقت العيد لليهود والنصارى يعطلون المدارس الإسلامية بمناسبة عيدهم، وإن جاء عيد المسلمين لا يعطلون المدارس الإسلامية، ويقولون: إن تتبعوا عطلات اليهود والنصارى سوف يدخلون دين الإسلام. يا شيخنا العزيز، عليك أن تُفَهِّم لنا أفعالهم: هل هي صحيحة في الدين أم لا ؟
أولاً: السنة إظهار الشعائر الدينية الإسلامية بين المسلمين، وترك إظهارها مخالف لهدي الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقد ثبت عنه أنه قال: "عليكم بِسُنَّتِي وسُنَّة الخلفاء الراشدين المَهْدِيِّين، تَمَسَّكُوا بها، وعَضُّوا عليها بالنَّواجِذ" (1) الحديث.
__________
(1) …أحمد (4/126)، وأبو داوود (4607)، والترمذي (2676) وقال: « حسن صحيح »، وابن ماجه (42، 43)، وابن حبان في "صحيحه" (5)، والحاكم 1/174- 177 (329- 333) وصححه ووافقه الذهبي.(1/286)
ثانيًا: لا يجوز للمسلم أن يشارك الكفار في أعيادهم ويظهر الفرح والسرور بهذه المناسبة ويعطل الأعمال سواء كانت دينية أو دنيوية؛ لأن هذا من مشابهة أعداء الله المحرمة، ومن التعاون معهم على الباطل، وقد ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مَن تَشَبَّهَ بقومٍ فهو منهم" (1)، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِّرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِْثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[المَائدة: 2].
وننصحك بالرجوع إلى كتاب [اقتضاء الصراط المستقيم] لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فإنه مفيد جدًا في هذا الباب.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (2/47، 48)
حكم إمامة مرتكب الشرك الأكبر المنتسب للإسلام
__________
(1) …أبو داود (4031) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، والطبراني في «الأوسط» (8327) من حديث حذيفة رضي الله عنه. وأخرجه أحمد بزيادة فيه (2/50، 92) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. قال في «فيض القدير» 6/105 عن حديث ابن عمر: «... وقال السخاوي: سنده ضعيف لكن له شواهد، وقال ابن تيمية: سنده جيد، وقال ابن حجر في الفتح [10/271]: سنده حسن». اهـ.(1/287)
كنت سألتكم عن حكم صلاة من يصلي مؤتمًا بإمام من المشركين المنتسبين للإسلام، مثل الذين يذبحون للأولياء ويدعونهم وينذرون لهم ويطوفون بالقبور ويشدون لها الرحال وغير ذلك؛ لأنه كان كثيرًا ما نسأل عن هذا السؤال أثناء تجولنا في بعض البلاد الإسلامية، تكرر السؤال عنه من الإخوان أنصار السنة في السودان لدى زيارتنا للسودان هذه السنة. وقد استحسنتم أن نكتب لكم بهذا السؤال لعرضه على لجنة الفتوى حتى يبحث الجواب عليه بتفصيل وينشر. وها أنذا أكتب مذكرًا سماحتكم، راجيًا إصدار الجواب ونشره مفصلاً مع التكرم بالكتابة إلينا به. شكر الله مساعيكم وأجزل مثوبتكم.
من نذر لغير الله، أو ذبح لغير الله، أو دعا لغير الله فيما وراء الأسباب العادية: كدعائه لشفاء مريض، أو لإعطائه ذرية، أو نداء غائب لتفريج كربة، أو ميت لدفع بلاء، أو طاف بالقبور، أو شد الرحال لشيء من هذه الأمور، أو الاستغاثة بالأصنام ونحوها من الجمادات فهو مشرك شركًا أكبر؛ لا تصح صلاته في نفسه فلا يجوز الائتمام به في الصلاة، ولا تصح الصلاة وراءه لشركه.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (1/522، 523)
حكم تقديم المساعدة للمرتدين
وصلني سؤال من أحد العاملين في قسم البطاقات الشخصية ومفادة: أن من يدخل في الإسلام حديثًا يلزمه تغير اسمه، وخصوصًا إذا كان مخالفًا للإسلام، ويحدث أن يرتد بعضهم ويلزم بعد ذلك إعادة أسمائهم الأولى يوم كانوا كفارًا؛ لأنه يترتب على ذلك أحكام كثيرة منها الإسلامية، ومنها ما تفرضه ملل الكفر؛ كالميراث، والزواج، والأحوال الشخصية، وحيث إن طالب الفتوى يعمل في قسم الأحوال المدنية شعبة البطاقات؛ فهل عليه إثم إذا قام بتغير تلك الأسماء ؟ وهل يعتبر عمله هذا تأييدًا لهم على ردتهم ؟ كما أنه يحدث أنه يتلقى أوامر من رؤسائه بذلك؛ فما الحكم في الجميع ؟(1/288)
إذا علمت أن طالب التغيير منتقلٌ من الإسلام إلى الكفر فليس لك أن تساعده في ذلك في أي نوع من أنواع المساعدة، ولو أمرك رئيسك بذلك؛ لقول الله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِّرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِْثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[المَائدة: 2]، ولأن الرسول - صلى الله عليه وسلم -: لَعَنَ آكل الربا، ومُوكِلَهُ، وكَاتِبَهُ، وشَاهِدَيْه، وقال: هُمْ سَواء (1) رواه مسلم في صحيحه؛ فإذا كان من يساعد على أعمال الربا ملعونًا، فكيف بمن يساعد على إثبات الكفر وتسهيل أعمال المرتدين ؟!، ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنما الطاعةُ في المَعْرُوف (2)، لا طاعةَ لِمَخْلُوقٍ في معصيةِ الخالق(3).
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (2/31)
حكم السكن مع عائلات أميركية لتعلم لغتهم
هل يجوز السكن مع عائلات أميركية للاستفادة منهم في اللغة ؟
__________
(1) …أحمد (1/83، 87، 393، 402)، ومسلم (1598)، وغيرهما.
(2) …جزء من حديث: أخرجه البخاري (7145، 7257)، ومسلم (1840) وغيرهما.
(3) …أحمد (1/131، 409) (5/66)، وابن أبي شيبة في "مصنفه" (33717)، والطبراني في "الأوسط" (4322)، و"الكبير" (367، 381، 407، 437، 571). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 5/226:…«رواه أحمد بألفاظ، والطبراني باختصار، وفي بعض طرقه: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) ورجال أحمد رجال الصحيح ».(1/289)
خير للمسلم أن يسكن مع المسلمين؛ فإن الاختلاط بالكفار يخشى منه الفتنة، وتبلد النفس في النواحي الدينية والفتور أو الكسل عن أداء الواجب الإسلامي ونوافل الخير، فتحري المسلم العزلة عنهم ما استطاع إلى ذلك سبيلاً أحفظ لدينه وأسلم لأخلاقه. فإن اضطر أن يسكن مع عائلات فليكن مع عائلات إسلامية، وليحذر من الخلوة بنساء أجنبيات منه، ولا يجوز أن يسكن مع عائلات كافرة فيها رجال ونساء؛ فإن المعروف فيهم عري النساء وعدم المحافظة على الأعراض، وفي ذلك فتنة عظيمة، وذريعة إلى الفاحشة وفساد الأخلاق .
وليست حاجته إلى الاستفادة في اللغة من العائلات الكافرة أميركية أو غيرها بمبرر له أن يختلط بهذه العائلات، فإن لديه مندوحة للاستفادة في اللغة من الدراسة الخاصة والمحادثة مع الزملاء بها دون السكنى مع العائلات الكافرة . . . وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
اللجنة الدائمة - فتاوى إسلامية لمجموعة من العلماء الأفاضل (1/90 )
حكم السكن بين الكفار، ومتى تلزم الهجرة ؟
شخص مؤمن موحد مخلص العبادة لله وحده لا يشرك معه غيره، ومع ذلك يسكن مع جماعات الكفار، ولا يستطيع أن يجهر بدينه أو يوضح هدفه، ولا يستطيع الهجرة منها، تكلم عن حالة هذا الرجل .
إذا كان حال هذا المؤمن كما ذكرت، من عجزه عن الجهر بالتوحيد ونشر الإسلام وبيان أهدافه، وأنه يعيش بين أظهر الكفار ولا يستطيع الهجرة إلى بلد يعلن فيه دينه ويدعو إليه - فهو معذور، وعسى الله أن يعفو عنه، وعليه أن يتحين الفرصة للدعوة إلى الدين سرًا؛ فعسى الله أن يُهَيِّئ له من يستجيب له ويسانده، وعليه أيضًا أن يتحين الفرصة للخلاص والهجرة من بلاد الكفار إلى بلاد المسلمين ويجتهد في ذلك؛ ليكثر سواد المسلمين، وليتعاون معهم على إقامة شعائر الإسلام.(1/290)
أما من يقوى على الهجرة إلى بلاد الإسلام ولم يهاجر ورضي لنفسه أن يعيش في بلاد الكفار مكبوتًا أو مجاملاً على حساب دينه - فقد أساء إلى نفسه ودينه والمسلمين، وهو متوعد بأن مأواه جهنم وبئس المصير؛ قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَْرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا *إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً *فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا *}[النِّسَاء]
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (2/44، 45)
لا تجوز الإقامة في بلد يظهر فيه الشرك والكفر إلا للدعوة إلى اللّه(1)
من عبدالعزيز بن عبدالله بن باز إلى الأخ المكرم ن. م وفقه الله لما فيه رضاه، وزاده من العلم والإيمان .. آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فإشارة إلى رسالتك التي تذكر فيها أنك شاب مسلم تقيم في إيطاليا، وأن بها شبابًا من المسلمين كثيرين، وأن أغلبهم استجاب لرغبة الصليبيين في إبعادهم عن دين الإسلام وتعاليمه السامية، فأصبح أغلبهم لا يصلي، وتخلق بأخلاق سيئة، ويعمل المنكرات ويستبيحها .. إلى غير ذلك مما ذكرته في رسالتك.
__________
(1) …إجابة عن رسالة وجهها إلى سماحته مسلم يقيم في إيطاليا، وصدر الجواب في (13/10/1416هـ).(1/291)
وأفيدك بأن الإقامة في بلد يظهر فيها الشرك والكفر، ودين النصارى وغيرهم من الكفرة: لا تجوز؛ سواء كانت الإقامة بينهم للعمل أو للتجارة أو للدراسة، أو غير ذلك؛ لقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَْرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا *إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً *فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا *}[النِّسَاء].
ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنا بَرِيءٌ من كل مُسلمٍ يُقِيمُ بين أَظْهُرِ المشركين(1). وهذه الإقامة لا تصدر عن قلب عرف حقيقة الإسلام والإيمان، وعرف ما يجب من حق الله في الإسلام على المسلمين، ورضي بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيًا ورسولاً.
__________
(1) …أبو داود (2645)، والترمذي (1604، 1605)، والطبراني في «الكبير» 2/303 (2264) من حديث جرير بن عبدالله رضي الله عنه، ورواه النسائي (4780) مرسلاً، وهو الصحيح كما قال البخاري والترمذي. انظر: المغني عن حمل الأسفار» (1790). وحسنه الألباني في «الصحيحة» (2/228)، بطرقه.(1/292)
فإن الرضا بذلك يتضمن من محبة الله، وإيثار مرضاته، والغيرة لدينه، والانحياز إلى أوليائه ما يوجب البراءة التامة والتباعد كل التباعد من الكفرة وبلادهم، بل نفس الإيمان المطلق في الكتاب والسنة، لا يجتمع مع هذه المنكرات، وصح عن جرير بن عبدالله البجلي رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله بايعني واشْتَرِطْ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تَعْبُدَ الله، وتُقِيمَ الصلاة، وتُؤْتِي الزكاة، وتُنَاصِحَ المسلمين، وتُفَارِقَ المشركين (1) أخرجه أبو عبدالرحمن النسائي وصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحديث السابق، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: أنا بريءٌ مِنْ كلِّ مسلمٍ يُقِيم بين أَظْهُرِ المشركين (2) وقال عليه الصلاة والسلام: لا يَقْبَلُ اللهُ عز وجل مِنْ مشركٍ عملاً بَعْدَمَا أَسْلَم؛ أَوْ يُفَارِقَ المشركين (3) والمعنى: حتى يفارق المشركين.
__________
(1) …النسائي (4180، 4182)، وأحمد (4/358، 360، 365)، والطبراني في «الكبير» 2/314-317 (2306، 2308، 2315، 2316، 2318)، وآخرون. وصححه الألباني في «صحيح سنن النسائي» (3892، 3893).
(2) …أبو داود (2645)، والترمذي (1604، 1605)، والطبراني في «الكبير» 2/303 (2264) من حديث جرير بن عبدالله رضي الله عنه، ورواه النسائي (4780) مرسلاً، وهو الصحيح كما قال البخاري والترمذي. انظر: المغني عن حمل الأسفار» (1790). وحسنه الألباني في «الصحيحة» (2/228)، بطرقه.
(3) …النسائي (2569)، وابن ماجه (2536)، وأحمد (5/4). وحسنه الألباني في «صحيح النسائي» (2408) و«صحيح ابن ماجه» (2055).(1/293)
وقد صرح أهل العلم بالنهي عن ذلك، والتحذير منه، ووجوب الهجرة مع القدرة، اللهم إلا رجل عنده علم وبصيرة، فيذهب إلى هناك للدعوة إلى الله، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وشرح محاسن الإسلام لهم، وقد دلت آية سورة براءة -: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ *}[التّوبَة] - على أن قصد أحد الأغراض الدنيوية ليس بعذر شرعي؛ بل فاعله فاسق متوعد بعدم الهداية إذا كانت هذه الأمور أو بعضها أحب إليه من الله ورسوله، ومن الجهاد في سبيل الله.
وأي خير يبقى مع مشاهدة الشرك وغيره من المنكرات والسكوت عليها، بل وفعلها؛ كما حصل ذلك من بعض من ذكرت من المنتسبين للإسلام. وإن زعم المقيم من المسلمين بينهم أن له أغراضًا من الأغراض الدنيوية، كالدراسة، أو التجارة، أو التكسب، فذلك لا يزيده إلا مقتًا.
وقد جاء في كتاب الله سبحانه وتعالى الوعيد الشديد والتهديد الأكيد على مجرد ترك الهجرة؛ كما في آيات سورة النساء المتقدم ذكرها، وهي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ...} [النِّسَاء: 97] وما بعدها. فكيف بمن يسافر إلى بلاد الكفرة، ويرضى الإقامة في بلادهم ؟! وكما سبق أن ذكرت أن العلماء رحمهم الله تعالى حرموا الإقامة والقدوم إلى بلاد يعجز فيها المسلم عن إظهار دينه، والمقيم للدراسة أو للتجارة أو للتكسب، والمستوطن؛ حكمهم وما يقال فيهم حكم المستوطن لا فرق، إذا كانوا لا يستطيعون إظهار دينهم، وهم يقدرون على الهجرة.(1/294)
وأما دعوى بغضهم وكراهتهم مع الإقامة في ديارهم فذلك لا يكفي، وإنما حرم السفر والإقامة فيها لوجوه؛ منها:
1-…أن إظهار الدين على الوجه الذي تبرأ به الذمة متعذر وغير حاصل.
2-…نصوص العلماء رحمهم الله تعالى، وظاهر كلامهم وصريح إشاراتهم أن من لم يعرف دينه بأدلته وبراهينه، ويستطيع المدافعة عنه، ويدفع شبه الكافرين، لا يباح له السفر إليهم.
3-…من شروط السفر إلى بلادهم: أمن الفتنة بقهرهم وسلطانهم وشبهاتهم وزخرفتهم، وأمن التشبه بهم والتأثر بفعلهم.
4-…أن سد الذرائع وقطع الوسائل الموصلة إلى الشرك من أكبر أصول الدين وقواعده؛ ولا شك أن ما ذكرته في رسالتك مما يصدر عن الشباب المسلمين الذين استوطنوا هذه البلاد هو من ثمرات بقائهم في بلاد الكفر، والواجب عليهم الثبات على دينهم والعمل به، وإظهاره، واتباع أوامره، والبعد عن نواهيه، والدعوة إليه، حتى يستطعيوا الهجرة من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام.
والله المسؤول أن يصلح أحوالكم جميعًا، وأن يمنحكم الفقه في دينه والثبات عليه، وأن يعينكم على الهجرة من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام، وأن يوفقنا وإياكم وجميع المسلمين لكل ما يحبه ويرضاه، وأن يعيذنا وإياكم وسائر المسلمين من مضلات الفتن ومن نزغات الشيطان، وأن يعيننا جميعاً على كل خير، وأن ينصر دينه، ويعلي كلمته، وأن يصلح ولاة أمور المسلمين ويمنحهم الفقه في دينه، وأن يوفقهم لتحكيم شريعة الله في بلادهم، والتحاكم إليها، والرضا بها، والحذر مما يخالفها، إنه ولي ذلك والقادر عليه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
الشيخ ابن باز - مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (9/402)
حكم الإقامة بين المشركين ومعنى إظهار الدين(1)
__________
(1) …نشر في مجلة الدعوة، العدد 1511 في 11/5/1416هـ.(1/295)
نحن طلبة مسلمون ندرس في أمريكا لفترات تتراوح ما بين ستة أشهر وأربع سنوات، وجئنا للدراسة هنا بمحض إرادتنا - أي لسنا مبتعثين من أي جهة - والدراسة هنا في أمريكا لا تختلف عن الدراسة في بلادنا سوى بالحصول على اللغة الإنجليزية، فما حكم جلوسنا في هذه البلاد للدراسة ؟ جزاكم الله خيرًا.
من كان منكم لديه علم وبصيرة بدين الله يمكنه أن يدعو إلى الله ويعلم الناس الخير ويدفع الشبهة عن نفسه ويظهر دينه بين من لديه من الكفار: فلا حرج عليه؛ لأن إقامته والحال ما ذكر وتزوده من العلم الذي يحتاج إليه ينفعه وينفع غيره، وقد يهدي الله على يديه جمعًا غفيرًا إذا اجتهد في الدعوة وصبر وأخلص النية لله سبحانه وتعالى، أما من ليس عنده علم وبصيرة، أو ليس عنده صبر على الدعوة، أو يخاف على نفسه الوقوع في ما حرم الله، أو لا يستطيع إظهار دينه بالدعوة إلى توحيد الله والتحذير من الشرك به وبيان ذلك لمن حوله فلا تجوز له الإقامة بين أظهر المشركين؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنا بريءٌ من كُلِّ مسلم يُقِيمُ بين أَظْهُرِ المشركين (1)، ولما عليه من الخطر في هذه الإقامة، والله ولي التوفيق.
الشيخ ابن باز - مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (9/401) شروط الإقامة في بلاد الكفار
ما حكم الإقامة في بلاد الكفار ؟
__________
(1) …أبو داود (2645)، والترمذي (1604، 1605)، والطبراني في «الكبير» 2/303 (2264) من حديث جرير بن عبدالله رضي الله عنه، ورواه النسائي (4780) مرسلاً، وهو الصحيح كما قال البخاري والترمذي. انظر: المغني عن حمل الأسفار» (1790). وحسنه الألباني في «الصحيحة» (2/228)، بطرقه.(1/296)
الإقامة في بلاد الكفار خطر عظيم على دين المسلم وأخلاقه وسلوكه وآدابه . وقد شاهدنا - وغيرنا - انحراف كثير ممن أقاموا هناك فرجعوا بغير ما ذهبوا به؛ رجعوا فساقاً، وبعضهم رجع مرتداً عن دينه وكافراً به وبسائر الأديان - والعياذ بالله - حتى صاروا إلى الجحود المطلق والاستهزاء بالدين وأهله السابقين منهم واللاحقين، ولهذا كان ينبغي، بل يتعين التحفظ من ذلك، ووضع الشروط التي تمنع من الهوي في تلك المهالك، فالإقامة في بلاد الكفر لابد فيها من شرطين أساسيين:
* الشرط الأول: أمن المقيم على دينه، بحيث يكون عنده من العلم والإيمان وقوة العزيمة ما يطمئنه على الثبات على دينه، والحذر من الانحراف والزيغ، وأن يكون مضمراً لعداوة الكافرين وبغضهم، مبتعداً عن موالاتهم ومحبتهم مما ينافي الإيمان .
… قال الله تعالى: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللَّهُ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ}[المجَادلة: 22]، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ *فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ *}[المَائدة].(1/297)
…وثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن من أحب قوماً فهو منهم «الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ»(1).
…ومحبة أعداء الله من أعظم ما يكون خطراً على المسلم؛ لأن محبتهم تستلزم موافقتهم واتباعهم، أو على الأقل عدم الإنكار عليهم، ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ما معناه: «من أحَبَّ قوماً فهو منهم»(2) .
*…الشرط الثاني: أن يتمكن من إظهار دينه؛ بحيث يقوم بشعائر الإسلام بدون ممانع، فلا يمنع من إقامة الصلاة والجمعة والجماعات إن كان معه من يصلي جماعة ومن يقيم الجمعة، ولا يمنع من الزكاة والصيام والحج وغيرها من شعائر الدين . فإن كان لا يتمكن من ذلك لم تجز الإقامة لوجوب الهجرة حينئذ .
__________
(1) …البخاري (6168)، ومسلم (2640) من حديث ابن مسعود، والبخاري (6170)، ومسلم (2641) من حديث أبي موسى . وبمعناه: البخاري (6171)، ومسلم (2639) من حديث أنس.
(2) …الطبراني في «الكبير» 3/19 (2519) من حديث أبي قرصافة رضي الله عنه بلفظ: «من أحب قومًا حشره الله في زمرتهم». قال في «مجمع الزوائد» (10/281): «وفيه من لم أعرفه».
- وأخرجه ابن عدي في «الكامل» 1/303 (129) من حديث جابر رضي الله عنه - وفيه إسماعيل ابن يحيى التميمي وهو ضعيف - بلفظ: «من أحب قومًا على أعمالهم حُشر يوم القيامة في زمرتهم ...» الحديث.(1/298)
…قال في [المغني] (ص 457 ج8) في الكلام على أقسام الناس في الهجرة: (أحدها: من تجب عليه وهو من يقدر عليها ولا يمكنه إظهار دينه، ولا يمكنه إقامة واجبات دينه مع المقام بين الكفار، فهذا تجب عليه الهجرة؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَْرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا *}[النِّسَاء]؛ وهذا وعيد شديد يدل على الوجوب، ولأن القيام بواجب دينه واجب على من قدر عليه، والهجرة من ضرورة الواجب وتتمته، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب)(1) .
… وبعد تمام هذين الشرطين الأساسيين تنقسم الإقامة في دار الكفر إلى أقسام:
* القسم الأول: أن يقيم للدعوة إلى الإسلام والترغيب فيه، فهذا نوع من الجهاد، فهي فرض كفاية على من قدر عليها بشرط أن تتحقق الدعوة، وأن لا يوجد من يمنع منها أو من الاستجابة إليها؛ لأن الدعوة إلى الإسلام من واجبات الدين وهي طريقة المرسلين، وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتبليغ عنه في كل زمان ومكان فقال - صلى الله عليه وسلم -: بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً(2).
__________
(1) …«المغني» لابن قدامة (9/236).
(2) …البخاري (3461) .(1/299)
* القسم الثاني: أن يقيم لدراسة أحوال الكافرين، والتعرف على ما هم عليه من فساد العقيدة وبطلان التعبد وانحلال الأخلاق وفوضوية السلوك ليحذر الناس من الاغترار بهم، ويبين للمعجبين بهم حقيقة حالهم، وهذه الإقامة نوع من الجهاد أيضاً؛ لما يترتب عليها من التحذير من الكفر وأهله المتضمن للترغيب في الإسلام وهديه؛ لأن فساد الكفر دليل على صلاح الإسلام، كما قيل: وبضدها تتبين الأشياء. لكن لابد من شرط أن يتحقق مراده بدون مفسدة أعظم منه، فإن لم يتحقق مراده بأن منع من نشر ما هم عليه والتحذير منه فلا فائدة من إقامته، وإن تحقق مراده مع مفسدة أعظم مثل أن يقابلوا فعله بسب الإسلام ورسول الإسلام وأئمة الإسلام - وجب الكف؛ لقوله تعالى: {وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *}[الأنعَام].
…ويشبه هذا أن يقيم في بلاد الكفر ليكون عيناً للمسلمين، ليعرف ما يدبرونه للمسلمين من المكايد فيحذرهم المسلمون؛ كما أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - حذيفة بن اليمان رضي الله عنه إلى المشركين في غزوة الخندق ليعرف خبرهم.
* القسم الثالث: أن يقيم لحاجة الدولة المسلمة وتنظيم علاقاتها مع دولة الكفر كموظفي السفارات؛ فحكمها حكم ما أقام من أجله. فالملحق الثقافي مثلاً يقيم ليرعى شؤون الطلبة ويراقبهم ويحملهم على التزام دين الإسلام وأخلاقه وآدابه، فيحصل بإقامته مصلحة كبيرة ويندرئ بها شر كبير.
* القسم الرابع: أن يقيم لحاجة خاصة مباحة كالتجارة والعلاج فتباح الإقامة بقدر الحاجة، وقد نص أهل العلم رحمهم الله على جواز دخول بلاد الكفار للتجارة وأثروا ذلك عن بعض الصحابة رضي الله عنهم.(1/300)
* القسم الخامس: أن يقيم للدراسة، وهي من جنس ما قبلها؛ إقامة لحاجة لكنها أخطر منها وأشد فتكاً بدين المقيم وأخلاقه، فإن الطالب يشعر بدنو مرتبته وعلو مرتبة معلميه، فيحصل من ذلك تعظيمهم والاقتناع بآرائهم وأفكارهم وسلوكهم فيقلدهم إلا من شاء عصمته وهم قليل، ثم إن الطالب يشعر بحاجته إلى معلمه فيؤدي ذلك إلى التودد إليه ومداهنته فيما هو عليه من الانحراف والضلال. والطالب في مقر تعلمه له زملاء يتخذ منهم أصدقاء يحبهم ويتولاهم ويكتسب منهم، ومن أجل خطر هذا القسم وجب التحفظ فيه أكثر مما قبله؛ فيشترط فيه بالإضافة إلى الشرطين الأساسيين شروط:
الشرط الأول: أن يكون الطالب على مستوى كبير من النضوج العقلي الذي يميز به بين النافع والضار وينظر به إلى المستقبل البعيد؛ فأما بعث الأحداث "الصغار السن" وذوي العقول الصغيرة فهو خطر عظيم على دينهم، وخلقهم، وسلوكهم. ثم هو خطر على أمتهم التي سيرجعون إليها وينفثون فيها من السموم التي نهلوها من أولئك الكفار كما شهد ويشهد به الواقع، فإن كثيراً من أولئك المبعوثين رجعوا بغير ما ذهبوا به، رجعوا منحرفين في ديانتهم، وأخلاقهم، وسلوكهم، وحصل عليهم وعلى مجتمعهم من الضرر في هذه الأمور ما هو معلوم مشاهد، وما مثل بعث هؤلاء إلا كمثل تقديم النعاج للكلاب الضارية.
الشرط الثاني: أن يكون عند الطالب من علم الشريعة ما يتمكن به من التمييز بين الحق والباطل، ومقارعة الباطل بالحق لئلا ينخدع بما هم عليه من الباطل فيظنه حقاً أو يلتبس عليه أو يعجز عن دفعه؛ وفي الدعاء المأثور: «اللهمَّ أَرنِي الحقَّ حقًّا وارْزُقْنِي اتِّبَاعَه، وأَرِنِي الباطِلَ باطلاً وارْزُقْني اجْتِنَابَه، ولا تَجْعَلْهُ مُلْتَبِساً عليَّ فأَضِلّ»(1).
__________
(1) …عزاه بنحوه في «إحياء علوم الدين» (4/401) لأبي بكر الصديق رضي الله عنه.(1/301)
الشرط الثالث: أن يكون عند الطالب دين يحميه ويتحصن به من الكفر والفسوق، فضعيف الدين لا يسلم مع الإقامة هناك إلا أن يشاء الله؛ وذلك لقوة المهاجم وضعف المقاوم. فأسباب الكفر والفسوق هناك قوية وكثيرة متنوعة؛ فإذا صادفت محلاً ضعيف المقاومة عملت عملها.
الشرط الرابع: أن تدعو الحاجة إلى العلم الذي أقام من أجله؛ بأن يكون في تعلمه مصلحة للمسلمين ولا يوجد له نظير في المدارس في بلادهم، فإن كان من فضول العلم الذي لا مصلحة فيه للمسلمين، أو كان في البلاد الإسلامية من المدارس نظيره - لم يجز أن يقيم في بلاد الكفر من أجله؛ لما في الإقامة من الخطر على الدين والأخلاق، وإضاعة الأموال الكثيرة بدون فائدة.(1/302)
القسم السادس: أن يقيم للسكن وهذا أخطر مما قبله وأعظم؛ لما يترتب عليه من المفاسد بالاختلاط التام بأهل الكفر وشعوره بأنه مواطن ملتزم بما تقتضيه الوطنية من مودة، وموالاة، وتكثير لسواد الكفار، ويتربى أهله بين أهل الكفر فيأخذون من أخلاقهم وعاداتهم، وربما قلدوهم في العقيدة والتعبد؛ ولذلك جاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «مَنْ جامَعَ المُشركَ وسَكَنَ مَعَهُ فَإِنَّهُ مِثْلُه» (1)، وهذا الحديث وإن كان ضعيف السند لكن له وجهة من النظر فإن المساكنة تدعو إلى المشاكلة، وعن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبدالله رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أنا بريءٌ مِنْ كُلِّ مسلمٍ يُقيم بين أَظْهُرِ المشركين، قالوا: يا رسول الله ولِمَ ؟ قال: لا تَرَاءَى نَارَاهُما» (2) رواه أبو داود والترمذي، وأكثر الرواة رووه مرسلاً عن قيس بن أبي حازم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال الترمذي: سمعت محمداً - يعني البخاري - يقول: الصحيح حديث قيس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسل. اهـ. وكيف تطيب نفس مؤمن أن يسكن في بلاد كفار تعلن فيها شعائر الكفر ويكون الحكم فيها لغير الله ورسوله وهو يشاهد ذلك بعينه ويسمعه بأذنيه ويرضى به ؟! بل ينتسب إلى تلك البلاد ويسكن فيها بأهله وأولاده، ويطمئن إليها كما يطمئن إلى بلاد المسلمين، مع ما في ذلك من الخطر العظيم عليه وعلى أهله وأولاده في دينهم وأخلاقهم.
__________
(1) …أبو داود (2787) من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه. وصححه الألباني في «صحيح سنن أبي داود» برقم (2420).
(2) …أبو داود (2645)، والترمذي (1604، 1605)، والطبراني في «الكبير» 2/303 (2264) من حديث جرير بن عبدالله رضي الله عنه، ورواه النسائي (4780) مرسلاً، وهو الصحيح كما قال البخاري والترمذي. انظر: المغني عن حمل الأسفار» (1790). وحسنه الألباني في «الصحيحة» (2/228)، بطرقه.(1/303)
هذا ما توصلنا إليه في حكم الإقامة في بلاد الكفر؛ نسأل الله أن يكون موافقاً للحق والصواب.
الشيخ ابن عثيمين - مجموع فتاوى ورسائل (3/25)
معنى شرط (إظهار الدِّين) للإقامة في بلاد الكفار
ما معنى شرط (إظهار الدين) للإقامة في بلاد الكفار ؟
قال الشيخ (حمد بن علي بن عتيق(1) رحمه الله:
وأما المسألة الرابعة: وهي مسألة إظهار الدين، فإن كثيراً من الناس قد ظن أنه إذا قدر على أن يتلفظ بالشهادتين، وأن يصلي الصلوات الخمس، ولا يرد عن(2) المسجد، فقد أظهر دينه وإن كان مع ذلك بين المشركين، أو في أماكن المرتدين، وقد غلطوا في ذلك أقبح الغلط.
فاعلم أن الكفر له أنواع وأقسام تتعدد بتعدد المكفّرات، وقد تقدم بعض ذلك، وكل طائفة من طوائف الكفران، اشتهر عندها نوع منه، ولا يكون المسلم مظهرًا لدينه حتى يخالف كل طائفة بما اشتهر عندها، ويصرح لها بعداوته والبراءة منه؛ فمن كان كفره بالشرك، فإظهار الدين عنده التصريح بالتوحيد، والنهي عن الشرك والتحذير منه. ومن كان كفره بجحد الرسالة، فإظهار الدين عنده: التصريح بأن محمدًا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والدعوة إلى اتِّباعه، ومن كان كفره بترك الصلاة، فإظهار الدين عنده: فعل الصلاة والأمر بها. ومن كان كفره بموالاة المشركين والدخول في طاعتهم، فإظهار الدين عنده: التصريح بعداوته والبراءة منه ومن المشركين.
وبالجملة فلا يكون مظهرًا لدينه إلا من صرح لمن ساكنه من كل كافر ببراءته منه، وأظهر له عداوته لهذا الشيء الذي صار به كافراً، وبراءته منه. ولهذا قال المشركون للنبي - صلى الله عليه وسلم -: عاب ديننا، وسفَّه أحلامنا، وشتم آلهتنا.
__________
(1) …من كبار أئمة الدعوة السلفية التجديدية في نجد.
(2) …هكذا في المصدر (عن)، ولعلها تحرَّفت عن (على) أو (إلى).(1/304)
وقال الله تعالى: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ *وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ *وَلاَ تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ *}[يُونس]؛ فأمر الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يقول لهم: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ..} إلى آخره، أي: إذا شككتم في الدين الذي أنا عليه، فدينكم الذي أنتم عليه أنا بريء منه، وقد أمرني ربي أن أكون من المؤمنين الذين هم أعداؤكم، ونهاني أن أكون من المشركين الذين هم أولياؤكم.
وقال تعالى: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ *لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ *وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ *وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُّمْ *وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ *لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ *}[الكافِرون]؛ فأمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول للكفار: دينكم الذي أنتم عليه أنا بريء منه، وديني الذي أنا عليه أنتم براء منه. والمراد: التصريح لهم بأنهم على الكفر، وأنه بريء منهم ومن دينهم.
فمن كان متَّبعًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - [فعليه] أن يقول ذلك، ولا يكون مظهرًا لدينه إلا بذلك. ولهذا لما عمل الصحابة بذلك، وآذاهم المشركون، أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالهجرة إلى الحبشة، ولو وجد لهم رخصة في السكوت عن المشركين لما أمرهم [بالهجرة] إلى بلد الغربة.(1/305)
وفي السيرة(1): أن خالد بن الوليد رضي الله عنه لما وصل إلى العِرْض(2) في مسيره إلى أهل اليمامة لما ارتدّوا، قدَّم مائتي فارس وقال: من أصبتم من الناس فخذوه فأخذوا (مُجَّاعة) في ثلاثة وعشرين رجلاً من قومه، فلما وصل إلى خالد قال له: يا خالد! لقد علمت أني قدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حياته فبايعته على الإسلام، وأنا اليوم على ما كنت عليه أمس، فإن يك كذَّابًا قد خرج فينا، فإن الله يقول: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}[الأنعَام: 164]، فقال: يا مجاعة! تركت اليوم ما كنت عليه أمس، وكان رضاك بأمر هذا الكذّاب وسكوتك عنه وأنت أعز أهل اليمامة - وقد بلغك مسيري-؛ إقرارًا له ورضاءً بما جاء به، فهلاَّ [أبديت] عذرًا وتكلمت فيمن تكلم ؟! فقد تكلم ثُمَامة(3) فرد وأنكر، وتكلم اليشكري(4).
فإن قلت: أخاف قومي، فهلاَّ عمدت إليَّ أو بعثت إليَّ رسولاً ؟! فقال: إن رأيت يا ابن المغيرة أن تعفو عن هذا كله ؟ فقال: قد عفوت عن دمك، ولكن في نفسي حرج من تركك. انتهى.
وسيأتي في ذكر الهجرة قول أولاد الشيخ: إنَّ الرَّجل إذا كان في بلد كفر، وكان يقدر على إظهار دينه حتى يتبرأ من أهل الكفر الذي هو بين أظهرهم، ويصرح لهم بأنهم كفار، وأنه عدوّ لهم، فإن لم يحصل ذلك؛ لم يكن إظهار الدين حاصلاً.
من كتاب (سبيل النجاة والفكاك..) للشيخ حمد بن علي بن عتيق ضمن (مجموعة التوحيد): نشر بشير عيون - ص (366-369)
توضيح اشتراط (إظهار الدين) للإقامة في دار الكفر
ما معنى اشتراط (إظهار الدين) للإقامة في دار الكفر ؟
__________
(1) …انظر: «مختصر السيرة» للشيخ محمد بن عبدالوهاب (1/280، 281) بزيادة فيه.
(2) …وهو وادي اليمامة. انظر: «معجم البلدان» (4/102).
(3) …ثُمَامة بن أثال بن النعمان الحنفي، أبو أمامة اليمامي رضي الله عنه.
(4) …هو: عُمير بن ضابئ اليشكُري، كان سيدًا من سادات أهل اليمامة. ولما ارتدوا كان يكتم إسلامه.(1/306)
قال الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله الراجحي في حديثه عن أهم المنكرات:
ومنها السفر إلى بلاد المشركين، والإقامة فيها: وذلك من كبائر الذنوب لما ورد من الوعيد على ذلك كما في حديث سمرة رضي الله عنه: مَنْ جَامَعَ المُشْرِكَ وسَكَنَ معه فإنَّه مِثْلُه (1)، والحكم قد أنيط وعلق بالمشتق وهو المساكنة والمجامعة، وتعليق الحكم بالمشتق يؤذن بالعلّية كما هو معروف في الأصول، وقال - صلى الله عليه وسلم -: أنا بريءٌ من كُلِّ مسلمٍ يُقِيمُ بين المشركين، لا تَرَاءَى نَارَاهُما (2)؛ وذلك لما يخاف في القدوم على المشركين من المخاطرة بالدين، ولا يجوز السفر إلا بشروط قررها العلماء رحمهم الله تعالى أخذًا من النصوص؛ وهي:
1-…أن يقدر على إظهار دينه والإعلان به، وذلك يستلزم أن يكون عارفًا بدينه بأدلته وبراهينه المتواترة في الكتاب والسنة، حتى يتأتى منه الإظهار لدينه، ولا يكفي في إظهار الدين فعل الصلوات فقط؛ بل لابد من تكفير المشركين وعيب دينهم، والطعن عليهم، والبراءة منهم، والتحفظ من موادتهم والركون إليهم، واعتزالهم.
2-…أن يأمن من الفتنة في دينه؛ فإن خاف بإظهار دينه الفتنة بقهرهم وسلطانهم، أو بشبهات زخرفهم وأقوالهم، لم يبح له القدوم إليهم والمخاطرة بدينه.
3-…أن لا يوالي المشركين؛ بأن يداهنهم أو يلين الكلام لهم. والموالاة كبيرة من كبائر الذنوب، ويمثل العلماء لذلك برفع السوط لهم، وبري القلم، وبلّ الدواة وما أشبه ذلك؛ كإظهار البشر والبشاشة.
__________
(1) …أبو داود (2787) من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه. وصححه الألباني في «صحيح سنن أبي داود» برقم (2420).
(2) …أبو داود (2645)، والترمذي (1604، 1605)، والطبراني في «الكبير» 2/303 (2264) من حديث جرير بن عبدالله رضي الله عنه، ورواه النسائي (4780) مرسلاً، وهو الصحيح كما قال البخاري والترمذي. انظر: المغني عن حمل الأسفار» (1790). وحسنه الألباني في «الصحيحة» (2/228)، بطرقه.(1/307)
أما التولي فهو كفر يخرج من الملة، وذلك يكون بمحبتهم أو إعانتهم بالنصرة أو بالمال أو بالبدن أو بالرأي، أو أظهر الموافقة لهم على دينهم خوفًا منهم ومداراة لهم ومداهنة لدفع شرهم، وإن كان يكره دينهم ويبغضهم ويحب الإسلام والمسلمين، ويستثنى من ذلك المكره وهو الذي يستولي عليه المشركون فيقولون له: اكفر وإلا قتلناك أو فعلنا بك كذا، أو يأخذونه فيعذبونه حتى يوافقهم، فيجوز له الموافقة باللسان مع طمأنينة القلب بالإيمان - كما قال تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِْيمَانِ}[النّحل: 106]، وقد أجمع العلماء على أن من تكلم بالكفر هازلاً أنه يكفر، فكيف بمن أظهر الكفر خوفًا أو طمعًا ؟! وأدلة ذلك كثيرة في الكتاب والسنة(1).
الشيخ عبدالعزيز الراجحي - القول المبين الأظهر في الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ص (72، 73)
حكم السفر إلى بلاد الكفار لأجل السياحة
ما حكم السفر إلى بلاد الكفار ؟ وحكم السفر للسياحة ؟
السفر إلى بلاد الكفار لا يجوز إلا بثلاثة شروط:
* الشرط الأول: أن يكون عند الإنسان علم يدفع به الشبهات .
* الشرط الثاني: أن يكون عنده دين يمنعه من الشهوات .
* الشرط الثالث: أن يكون محتاجاً إلى ذلك.
فإن لم تتم هذه الشروط فإنه لا يجوز السفر إلى بلاد الكفار؛ لما في ذلك من الفتنة أو خوف الفتنة، وفيه إضاعة المال، لأن الإنسان ينفق أموالاً كثيرة في هذه الأسفار، وفيه أيضاً تنمية لاقتصاد الكفار . أما إذا دعت الحاجة إلى ذلك لعلاج، أو تلقي علم لا يوجد في بلده، وكان عنده علم ودين على ما وصفنا فهذا لا بأس به .
__________
(1) …انظر: «الدرر السنية في الأجوبة النجدية» (7/ 57، 58، 145، 154، 196، 201) .(1/308)
وأما السفر للسياحة في بلاد الكفار فهذا ليس بحاجة، وبإمكانه أن يذهب إلى بلاد إسلامية يحافظ أهلها على شعائر الإسلام، وبلادنا الآن والحمد لله أصبحت بلاداً سياحية في بعض المناطق، فبإمكانه أن يذهب إليها، ويقضي زمن إجازته فيها.
الشيخ ابن عثيمين - المجموع الثمين (1/49، 50)
السفر إلى بلاد الغرب لأجل السياحة ليس بمسوغٍ شرعي
أذهب لرحلة كل عام في الخارج (اليونان - النمسا) أنا وزوجتي وطفلتي ونقضي فترة أسبوعين في البحر والجزر اليونانية الجميلة والحدائق كنوع من الفسحة البريئة؛ هل يجوز ذلك ؟ مع العلم أنني أحافظ على الصلاة أنا وزوجتي - زوجتي لا تكشف عن جسدها - لا نأكل إلا الفواكه، لا نحتك بالأجانب ورؤية عوراتهم، أفيدونا بذلك.
لا يجوز السفر لبلاد أهل الشرك إلا لمسوغ شرعي، وليس قصد الفسحة مسوغاً للسفر؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنا بريءٌ مِنْ كُلِّ مسلمٍ يُقِيمُ بين أَظْهُرِ المشركين (1) رواه أبو داود.
ولذلك ننصحك بعدم الذهاب لتلك البلاد ونحوها للغرض المذكور؛ لما في ذلك من التعرض للفتن، والإقامة بين أظهر الكفار، وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: أنا بريء مِنْ كُلِّ مسلمٍ يُقِيمُ بين المشركين (2)، وجاء في هذا المعنى أحاديث أخرى.
__________
(1) …أبو داود (2645)، والترمذي (1604، 1605)، والطبراني في «الكبير» 2/303 (2264) من حديث جرير بن عبدالله رضي الله عنه، ورواه النسائي (4780) مرسلاً، وهو الصحيح كما قال البخاري والترمذي. انظر: المغني عن حمل الأسفار» (1790). وحسنه الألباني في «الصحيحة» (2/228)، بطرقه.
(2) …أبو داود (2645)، والترمذي (1604، 1605)، والطبراني في «الكبير» 2/303 (2264) من حديث جرير بن عبدالله رضي الله عنه، ورواه النسائي (4780) مرسلاً، وهو الصحيح كما قال البخاري والترمذي. انظر: المغني عن حمل الأسفار» (1790). وحسنه الألباني في «الصحيحة» (2/228)، بطرقه.(1/309)
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (2/68)
حكم السفر لأجل الدراسة في بلاد الكفار
أنا شاب سعودي حصلت لي بعثة في أمريكا للدراسة في أحد التخصصات العامة، وهذا التخصص يدرس في جامعتي التي ابتعثت منها، وأفيدكم بأن الدراسة في الخارج يختلط فيها الطلاب والطالبات في الفصول، والطالبات يلبسن البنطال الضيق (الجنز)، وبعضهن يلبسن ملابس إلى أنصاف الفخذين وأخريات إلى الركبتين، مع مظاهر الزينة على الوجه والتطيب وتقلد الصليب، وهذه المناظر الفاتنة نشاهدها في الطرقات والأسواق والأماكن العامة، وحالي وحال كثير من الشباب هناك أننا نجالس الطلاب والطالبات من يهود ونصارى في المدارس ونتكلم معهم ونبتسم أمامهم ونلين معهم الكلام والعبارات، وقد نصحني بعض الإخوة بعدم السفر لخطورته على الدين والأخلاق، وخطورته على الزوجة أيضاً والأبناء، لما ذكر آنفاً من التعود على مشاهدة المنكرات والأوضاع الأخلاقية المزرية هناك، وقرؤوا عليَّ آية النساء: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ}[النِّسَاء: 97] . وقالوا ( إن ابن كثير رحمه الله قال: إن المقيم بديار الكفار ظالم لنفسه ومرتكب حراماً بالإجماع وبنص هذه الآية ما لم يكن مظهراً لدينه). اهـ.(1/310)
وقالوا: إن إظهار الدين ليس بأداء الصلاة والصوم وإنما هو ملة إبراهيم عليه السلام، وهو أن تتبرأ منهم وما هم عليه من الكفر، والتصريح بالبراءة منهم وأنهم ليسوا على حق، وأنهم على الباطل، ويصرح بعداوته لهم، وقالوا: إن الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى ذكر في السيرة أنه لا يستقيم للإنسان إسلام ولو وحد الله وترك الشرك إلا بعداوة الكافرين وبغضهم والتصريح لهم بالعداوة، وذكروا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ)). وحديث ((لا يَقْبَلُ اللهُ مِنْ مُشْرِكٍ أَشْرَكَ بَعْدَ مَا أَسْلَمَ عَمَلاً حَتَّى يُفَارِقَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ)). وقالوا إن جريراً رضي الله عنه اشترط عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - عند مبايعته على الإسلام مفارقته المشركين.
وأنا الآن محتار، وسؤالي: ما حكم السفر والدراسة هناك ؟ وما إظهار الدين الذي يجوز معه السفر للخارج وتبرأ به الذمة ؟ وهل على أهل زوجتي إثم في السماح لها بالسفر معي مع علمهم بما يحصل هناك ؟ أو يجب عليهم منعها من السفر ؟ أرجو إفادتي والتفصيل في هذا الأمر الهام الذي يهم كثيراً من شباب المسلمين.(1/311)
إذا كان الواقع كما ذكر من أن التخصص الذي تدرسه موجود في بلدك الإسلامي، وأن الدراسة في الخارج مشتملة على مفاسد كثيرة في الدين والأخلاق وعلى الزوجة والأولاد؛ فإنه لا يجوز لك السفر لهذه الدراسة؛ لأنها ليست من الضرورات مع وجودها في بلدك الإسلامي، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث كثيرة في التحذير من الإقامة في بلاد الكفار من غير مسوغ شرعي - كقوله - صلى الله عليه وسلم -: أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ(1). وغيره من الأحاديث . وما وقع فيه بعض المسلمين من السفر إلى بلاد الكفار من غير ضرورة هو من التساهل الذي لا يجوز في دين الله، وهو من إيثار الدنيا على الآخرة؛ وقد قال جل وعلا: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا *وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى *}[الأعلى]، وقال سبحانه: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآْخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى}[النِّسَاء: 77]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: مَنْ كَانَ هَمُّهُ الآخِرَةَ جَمَعَ اللهُ شَمْلَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ. وَمَنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ الدُّنْيَا فَرَّقَ اللهُ عَلَيْهِ ضَيْعَتَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إِلا مَا كُتِبَ لَهُ(2)
__________
(1) …أبو داود (2645)، والترمذي (1604، 1605)، والطبراني في «الكبير» 2/303 (2264) من حديث جرير بن عبدالله رضي الله عنه، ورواه النسائي (4780) مرسلاً، وهو الصحيح كما قال البخاري والترمذي. انظر: المغني عن حمل الأسفار» (1790). وحسنه الألباني في «الصحيحة» (2/228)، بطرقه.
(2) …أحمد (5/183)، وابن ماجه (4105)، والطبراني في «الأوسط» (7271)، و«الكبير» 5/154 (4925)، وابن حبان (680) من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه. وفي الباب عن أنس وأبي الدرداء وابن عباس رضي الله عنهم. قال البوصيري في «مصباح الزجاجة» 4/212: «هذا إسناد صحيح رجاله ثقات». وقال المنذري في «الترغيب والترهيب» 4/56، 57 (4788): «رواه ابن ماجه ورواته ثقات، والطبراني ... في حديث لا بأس به».(1/312)
. وبالله التوفيق . وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - فتوى رقم (20968) وتاريخ 3/6/1420هـ
السفر إلى بلاد الكفر أو الفسق لقضاء شهر العسل
كثير من الناس ابتلي بالأسفار خارج الدول الإسلامية التي لا تبالي بارتكاب المعصية فيها، ولا سيما أولئك الذين يسافرون من أجل ما يسمونه شهر العسل . أرجو من سماحة الشيخ أن يتفضل بنصيحة إلى أبنائه وإخوانه المسلمين وإلى ولاة الأمر لكي يتنبهوا لهذا الموضوع ؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فلا ريب أن السفر إلى بلاد الكفر فيه خطر عظيم؛ ليس فقط في وقت الزواج وما يسمى بشهر العسل؛ وفي غيره من الأوقات.(1/313)
فالواجب على المؤمن أن يتقي الله ويحذر أسباب الخطر، فالسفر إلى بلاد المشركين، وإلى البلاد التي فيها الحرية وعدم إنكار المنكر: فيه خطر عظيم على دينه وأخلاقه، وعلى دين زوجته أيضاً إذا كانت معه، فالواجب على جميع شبابنا، وعلى جميع إخواننا، ترك هذا السفر، وصرف النظر عنه، والبقاء في بلادهم وقت الزواج وفي غيره، لعل الله - جل وعلا - يكفيهم شر نزغات الشيطان. أما السفر إلى تلك البلاد التي فيها الكفر والضلال، والحرية وانتشار الفساد، من الزنى وشرب الخمر و أنواع الكفر والضلال: ففيه خطر عظيم على الرجل والمرأة، وكم من صالح سافر ورجع فاسداً، وكم من مسلم رجع كافراً، فخطر هذا السفر عظيم؛ وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ (1) وقال - صلى الله عليه وسلم -: لا يَقْبَلُ اللهُ مِنْ مُشْرِكٍ أَشْرَكَ بَعْدَ مَا أَسْلَمَ عَمَلاً أَوْ يُفَارِقَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ (2) والمعنى: حتى يفارق المشركين، فالواجب الحذر من السفر إلى بلادهم: لا في شهر العسل ولا في غيره. وقد صرح أهل العلم بالنهي عن ذلك والتحذير منه؛ اللّهم إلا رجلاً عنده علم وبصيرة فيذهب إلى هناك للدعوة إلى الله، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وشرح محاسن الإسلام لهم، وتعليم المسلمين هناك أحكام دينهم، مع تبصيرهم وتوجيههم إلى أنواع الخير. فهذا وأمثاله يرجى له الأجر الكبير والخير
__________
(1) …أبو داود (2645)، والترمذي (1604، 1605)، والطبراني في «الكبير» 2/303 (2264) من حديث جرير بن عبدالله رضي الله عنه، ورواه النسائي (4780) مرسلاً، وهو الصحيح كما قال البخاري والترمذي. انظر: المغني عن حمل الأسفار» (1790). وحسنه الألباني في «الصحيحة» (2/228)، بطرقه.
(2) …النسائي (2569)، وابن ماجه (2536)، وأحمد (5/4). وحسنه الألباني في «صحيح النسائي» (2408) و«صحيح ابن ماجه» (2055).(1/314)
العظيم، وهو في الغالب لا خطر عليه لما عنده من العلم والتقوى والبصيرة، فإن خاف على دينه الفتنة فليس له السفر إلى بلاد المشركين حفاظاً على دينه وطلباً للسلامة من أسباب الفتنة والردة. أما الذهاب من أجل الشهوات، وقضاء الأوطار الدنيوية في بلاد الكفر، في أوروبا أو غيرها، فهذا لا يجوز؛ لما فيه من الخطر الكبير والعواقب الوخيمة والمخالفة للأحاديث الصحيحة التي أسلفنا بعضها، نسأل الله السلامة والعافية، وهكذا السفر الى بلاد الشرك من أجل السياحة أو التجارة أو زيارة بعض الناس أو ماأشبه ذلك: فكله لا يجوز، لما فيه من الخطر العظيم والمخالفة لسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - الناهية عن ذلك.
فنصيحتي لكل مسلم هو الحذر من السفر إلى بلاد الكفر وإلى كل بلاد فيها الحرية الظاهرة والفساد الظاهر وعدم إنكار المنكر، وأن يبقى في بلاده التي فيها السلامة، وفيها قلة المنكرات، فإنه خير له وأسلم وأحفظ لدينه .
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .
الشيخ ابن باز - مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (3/1066)
على الأب منع ابنه من السفر إلى بلاد الكفر
إذا علم الأب أن ابنه سيسافر إلى الخارج بعد زواجه .. فهل يجب عليه أن يمنعه ؟
يجب على الأب أن يمنع ابنه من السفر إلى الخارج - إذا كان سفره لمجرد النزهة - إذا كان يقدر على منعه؛ لما في السفر من الضرر على دينه وعلى نفسه. وإذا كان لا يستطيع منعه فعليه بمناصحته وعدم إمداده بالمال؛ لأن في ذلك إعانة له على الإثم والعدوان.
الشيخ الفوزان - مجلة الدعوة - عدد (1745) 6/ ربيع الأول/ 1421هـ - ص(57)
على والد الزوجة منعها من السفر إلى بلاد الكفر
إذا علم والد الزوجة أن زوج ابنته سيسافر بها بعد الزواج مباشرة للخارج .. فهل يجب عليه أن يمنعها ؟ وهل تجب عليها طاعة والدها بعدم السفر أم طاعة زوجها بالسفر إلى الخارج للنزهة والترفيه ؟(1/315)
لأبي الزوجة أن يمنعها من السفر إلى الخارج مع زوجها - إذا كان السفر لمجرد النزهة، وعلى الزوجة ألا تطيع زوجها في ذلك السفر؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
الشيخ الفوزان - مجلة الدعوة - عدد (1745) 6/ ربيع الأول/ 1421هـ - ص (57)
لولي المرأة اشتراط عدم السفر بها إلى بلاد الكفر
هل ترون أن على كل ولي الاشتراط عند عقد زواج ابنته ألا يسافر بها زوجها إلى الخارج؛ لكثرة انتشار هذه الفتنة والإعجاب بالدول الغربية الكافرة أو غيرها من الدول التي لا تُحكِّم الشريعة ؟
نعم؛ لولي المرأة أن يشترط عند عقد نكاحها ألا يسافر بها إلى الخارج لمجرد النزهة؛ لأن هذا الشرط من مصلحتها.
الشيخ الفوزان - مجلة الدعوة - عدد (1745) 6/ ربيع الأول/ 1421هـ - ص (57)
مشروعية هجر العائدين من النزهة في بلاد الكفر
هل يشرع للمسلم إجابة دعوة الوليمة التي تُقام للعائدين من الخارج بعد قضاء الإجازات أو أيام ما بعد الزواج؛ حيث يُستقبلون بالولائم أم لا تُجاب الدعوة لكونهم قادمين من سفر لا يجوز ؟
لا يُستحسن إجابة الدعوة للوليمة التي تُقام للقادم من سفر محرَّم؛ لما في ذلك من تشجيعه والرضا بفعله؛ بل ينبغي هجره زجراً له ولأمثاله.
الشيخ الفوزان - مجلة الدعوة - عدد (1745) 6/ ربيع الأول/ 1421هـ - ص (57)
موقف الكفار من المسلمين وكيفية التعامل معهم
تعلمون - حفظكم الله تعالى - ما يتعرض له إخوة لنا في شتى بقاع الأرض من التعذيب والتشريد والتقتيل وهتك الأعراض ... ومن ذلك ما جرى ويجري لإخواننا في الهند على يد الهندوس - عليهم من الله ما يستحقون - والتي كان من آخرها ما هز مشاعر المسلمين في العالم أجمع بهدم المسجد البابري ... وهم يزيد كيدهم يوماً بعد يوم، ونحن نرى في بلادنا الكثير من هذه الطائفة مستقدمين للعمل فيها .. فما هو الحكم في استقدامهم ؟ بل وفي استقدام كل من هو على ملّة الكفر إلى هذه الجزيرة ؟
أفتونا سددكم الله وبارك فيكم.(1/316)
إن الكفرة والمشركين في كل زمان ومكان يكيدون للإسلام وأهله ويبذلون قصارى جهدهم في إذلال المسلمين وإهانتهم والقضاء على معالم الدين؛ حيث علموا أن الاسلام قضى على أديانهم الباطلة وحاربهم وأباح قتلهم واستولى على بلادهم ورقابهم؛ فلذلك نصبوا العداء لجميع المسلمين في كل مكان؛ فكان من الواجب على أهل الاسلام أن يأخذوا حذرهم وأن يتفطنوا لكل كافر وأن يجتمعوا جميعاً على إذلال الكفر وأهله، ولا يجوز إكرامهم ولا رفع أعلامهم ولا استخدامهم بما فيه إعزاز لهم مع وجود المسلمين الذين يقومون مقامهم. ثم بعد هذه الحادثة التي ذكرت في السؤال على المسلمين في كل بلاد أن يقاطعوا هذه الفئة من الهندوس والسيخ ونحوهم من الكفرة وأن يقطعوا الصلة بهم ويردوا إليهم الجلاة والعمالة التي تعمل في بلاد المسلمين حتى لا يعينوا الكفر على الاسلام؛ وذلك من الجهاد في إظهار الإسلام وإذلال الكفار، والله أعلم. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. في 15/6/1413هـ.
الشيخ ابن جبرين - فتوى بخطه وعليها توقيعه.
حكم بدء الكافر بالسلام
نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بدء الكفار بالسلام؛ فهل هذا النهي يقتصر على قول: (السلام عليكم ورحمة الله) لهم ؟ أم هو نهي يشمل كل مبادأة بالتحية ؟ وهل يجوز لي أن أبدأ جاري النصراني بغير قول: السلام عليكم ورحمة الله، كأن أقول له: صباح الخير، كيف حالك (Good Morning): صباح الخير بالإنجليزية ؟ وجزاكم الله عنا وعن المسلمين خيرًا .(1/317)
لا يجوز بداءة الكفار بالسلام؛ لما ثبت من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لاَ تَبْدَؤُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى بِالسَّلاَمِ، فَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي طَرِيقٍ فَاضْطَرُّوهُ إِلَى أَضْيَقِه (1) رواه مسلم، وفي حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ (2) رواه البخاري ومسلم.
فيرد عليهم بما دل عليه الحديث؛ وهو أن يقال: (وعليكم). ولا بأس أن يقول للكافر ابتداء: كيف حالك، كيف أصبحت، كيف أمسيت، ونحو ذلك إذاا دعت الحاجة إلى ذلك، صرح بذلك جمع من أهل العلم منهم: أبو العباس شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (3/212)
حكم بدء اليهود والنصارى بالسلام وكيفية اضطرارهم لأضيق الطرق
ورد في الحديث الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال: ((لا تَبْدَؤوا الْيَهُودَ وَلا النَّصَارَى بِالسَّلامِ، فَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي طَرِيقٍ فَاضْطَرُّوهُ إِلَى أَضْيَقِهِ))(3) ، أليس في العمل بهذا تنفير من الدخول في الإسلام ؟
__________
(1) …أحمد (2/346، 444، 459)، ومسلم (2167)، وأبو داود (5205)، والترمذي (2701).
(2) …البخاري (6258، 6926)، ومسلم (2163).
(3) …أحمد (2/346، 444، 459)، ومسلم (2167)، وأبو داود (5205)، والترمذي (2701).(1/318)
يجب أن نعلم أن أسَدَّ الدعاة في الدعوة إلى الله هو النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأن أحسن المرشدين إلى الله هو النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإذا علمنا ذلك فإن أي فهم نفهمه من كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - يكون مجانباً للحكمة يجب علينا أن نتهم هذا الفهم، وأن نعلم أن فهمنا لكلام النبي - صلى الله عليه وسلم - خطأ؛ لكن ليس معنى ذلك أن نقيس أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - بما ندركه من عقولنا، وأفهامنا؛ لأن عقولنا وأفهامنا قاصرة؛ لكن هناك قواعد عامة في الشريعة يرجع إليها في المسائل الخاصة الفردية .
فالنبي عليه الصلاة والسلام، يقول: "لا تَبْدَؤوا الْيَهُودَ وَلا النَّصَارَى بِالسَّلامِ، فَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي طَرِيقٍ فَاضْطَرُّوهُ إِلَى أَضْيَقِهِ" والمعنى: لا تتوسعوا لهم إذا قابلوكم حتى يكون لهم السعة ويكون الضيق عليكم؛ بل استمروا في اتجاهكم وسيركم، واجعلوا الضيق إن كان هناك ضيق على هؤلاء. ومن المعلوم أن هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس إذا رأى الكافر ذهب يزحمه إلى الجدار حتى يرصه على الجدار، ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل هذا باليهود في المدينة ولا أصحابه يفعلونه بعد فتوح الأمصار .
فالمعنى: أنكم كما لا تبدؤونهم بالسلام لا تفسحوا لهم، فإذا لقوكم فلا تتفرقوا حتى يعبروا؛ بل استمروا على ما أنتم عليه، واجعلوا الضيق عليهم إن كان في الطريق ضيق. وليس في الحديث تنفير عن الإسلام؛ بل فيه إظهار لعزة المسلم، وأنه لا يذل لأحد إلا لربه عز وجل.
الشيخ ابن عثيمين - مجموعة فتاوى ورسائل (3/38، 39)
حكم السلام على الكافر بدءًا وردّاً
س1: في هذه الأيام ونتيجة للاحتكاك مع الغرب والشرق وغالبهم من الكفار على اختلاف مللهم نراهم يرددون تحية الإسلام علينا حينما نقابلهم في أي مكان؛ فماذا يجب علينا تجاههم ؟(1/319)
ج1: ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا تَبْدَؤوا الْيَهُودَ وَلا النَّصَارَى بِالسَّلامِ؛ فَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي طَرِيقٍ فَاضْطَرُّوهُ إِلَى أَضْيَقِهِ" (1)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ" (2) وأهل الكتاب هم اليهود والنصارى. وحكم بقية الكفار حكم اليهود والنصارى في هذا الأمر؛ لعدم الدليل على الفرق فيما نعلم .
فلا يبدأ الكافر بالسلام مطلقاً، ومتى بدأ هو بالسلام وجب الرد عليه بقولنا: وعليكم؛ امتثالاً لأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ولا مانع من أن يقال له بعد ذلك: كيف حالك ؟ وكيف أولادك ؟ كما أجاز ذلك بعض أهل العلم ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ ولا سيما إذا اقتضت المصلحة الإسلامية ذلك: كترغيبه في الإسلام وإيناسه بذلك؛ ليقبل الدعوة، ويصغي لها - لقول الله عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[النّحل: 125]، وقوله سبحانه: {وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}[العَنكبوت: 46].
الشيخ ابن باز - فتاوى إسلامية (1/118)
س2: هل يجوز لنا أن نبدأ الكفار بالسلام ؟ وكيف نرد عليهم إذا سلموا علينا ؟
__________
(1) …أحمد (2/346، 444، 459)، ومسلم (2167)، وأبو داود (5205)، والترمذي (2701).
(2) …البخاري (6258، 6926)، ومسلم (2163).(1/320)
ج2: إن هؤلاء الذين يأتوننا من الشرق ومن الغرب ممن ليسوا مسلمين لا يحل لنا أن نبدأهم بالسلام؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تَبْدَؤُوا الْيَهُودَ وَلا النَّصَارَى بِالسَّلامِ" (1)، وإذا سلموا علينا فإننا نرد عليهم بمثل ما سلموا علينا به - لقوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}[النِّسَاء: 86] وسلامهم علينا بالتحية الإسلامية (السلام عليكم) لا يخلو من حالين:
الحال الأولى: أن يفصحوا باللام فيقولوا: (السلام عليكم)؛ فلنا أن نقول:
عليكم السلام، ولنا أن نقول: وعليكم .
الحال الثانية: إذا لم يفصحوا باللام؛ مثل أن يقولوا: (السام عليكم)؛ فإننا نقول: وعليكم، فقط؛ وذلك لأن اليهود كانوا يأتون إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيسلمون عليه بقولهم: السام عليكم، غير مفصحين باللام، والسام: هو الموت؛ يريدون الدعاء على النبي - صلى الله عليه وسلم - بالموت، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نقول لهم: وعَليكُم (2) فإذا كانوا قالوا: السام عليكم؛ فإننا نقول: وعليكم؛ يعني: أنتم أيضاً عليكم السام . هذا هو ما دلت عليه السنة .
وأما أن نبدأهم نحن بالسلام فإن هذا قد نهانا عنه نبينا - صلى الله عليه وسلم - .
الشيخ ابن عثيمين - المجموع الثمين: (2/97، 98)
لمن يقال: (السلام على من اتبع الهدى) ؟
حكم السلام على المسلم بهذه الصيغة: (السلام على من اتبع الهدى) ؟ وكيف يسلم الإنسان على أهل محل فيهم المسلم والكافر ؟
__________
(1) …أحمد (2/346، 444، 459)، ومسلم (2167)، وأبو داود (5205)، والترمذي (2701).
(2) …البخاري (6258، 6926)، ومسلم (2163).(1/321)
لا يجوز أن يسلم الإنسان على المسلم بقوله: (السلام على من اتَّبَع الهُدى)؛ لأن هذه الصيغة إنما قالها الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين كتب إلى غير المسلمين، وأخوك المسلم قل له: (السلام عليكم)، أما أن تقول: (السلام على من اتبع الهدى) فمقتضى هذا أن أخاك هذا ليس ممن اتبع الهدى.
وإذا كانوا مسلمين ونصارى فإنه يسلم عليهم بالسلام المعتاد؛ يقول: (السلام عليكم)، يقصد بذلك المسلمين .
الشيخ ابن عثيمين - مجموع فتاوى ورسائل (3/35) حكم وصف الكفار بالصدق والأمانة وحسن العمل
ما حكم وصف الكفار بالصدق والأمانة وحسن العمل ؟
هذه الأخلاق إن صحت - مع أن فيهم الكذب والغدر والخيانة والسطو أكثر مما يوجد في بعض البلاد الإسلامية وهذا معلوم؛ لكن إذا صحت هذه - فإنها أخلاق يدعو إليها الإسلام، والمسلمون أولى أن يقوموا بها ليكسبوا بذلك حسن الأخلاق مع الأجر والثواب . أما الكفار فإنهم لا يقصدون بها إلا أمراً مادياً فيصدقون في المعاملة لجلب الناس إليهم .
لكن المسلم إذا تخلق بمثل هذه الأمور فهو يريد بالإضافة إلى الأمر المادي أمراً شرعياً؛ وهو تحقيق الإيمان والثواب من الله عز وجل. وهذا هو الفارق بين المسلم والكافر .
أما ما زعم من الصدق في دول الكفر شرقية كانت أم غربية: فهذا إن صح فإنما هو نزر قليل من الخير في جانب كثير من الشر، ولو لم يكن من ذلك إلا أنهم أنكروا حَقَّ مَنْ حَقُّه أعظم الحقوق؛ وهو الله عز وجل: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}[لقمَان: 13]. فهؤلاء مهما عملوا من الخير فإنه نزر قليل مغمور في جانب سيئاتهم، وكفرهم، وظلمهم فلا خير فيهم .
الشيخ ابن عثيمين - مجموع فتاوى ورسائل (3/23، 24)
حكم تهنئة النصارى بأعيادهم(1/322)
ما حكم الإسلام في تهنئة النصارى في أعيادهم؛ لأنه عندي خالي جاره نصراني يهنئه في الأفراح وفي الأعياد، وهو أيضًا يهنئ خالي في فرح أو عيد وكل مناسبة، هل هذا جائز: تهنئة المسلم للنصراني والنصراني للمسلم في أعيادهم وأفراحهم ؟ أفتوني جزاكم الله خيرًا.
لا يجوز للمسلم تهنئة النصارى بأعيادهم؛ لأن في ذلك تعاونًا على الإثم وقد نهينا عنه - قال تعالى: {وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِْثْمِ وَالْعُدْوَانِ}[المَائدة: 2]، كما أن فيه توددًا إليهم وطلبًا لمحبتهم وإشعارًا بالرضى عنهم وعن شعائرهم وهذا لا يجوز؛ بل الواجب إظهار العداوة لهم وتبيين بغضهم؛ لأنهم يحادون الله جل وعلا ويشركون معه غيره ويجعلون له صاحبة وولدًا - قال تعالى: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللَّهُ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِْيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ}[المجَادلة: 22]، وقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}[المُمتَحنَة: 4].
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (3/313)
التهنئة بعيد الكريسماس(1/323)
حكم تهنئة الكفار بعيد الكريسماس ؟ وكيف نرد عليهم إذا هنؤونا بها ؟ وهل يجوز الذهاب إلى أماكن الحفلات التي يقيمونها بهذه المناسبة ؟ وهل يأثم الإنسان إذا فعل شيئاً مما ذكر بغير قصد ؟ وإنما فعله إما مجاملة أو حياء أو إحراجاً أو غير ذلك من الأسباب ؟ وهل يجوز التشبه بهم في ذلك ؟
تهنئة الكفار بعيد الكريسماس أو غيره من أعيادهم الدينية حرام بالاتفاق؛ كما نقل ذلك ابن القيم رحمه الله في كتابه (أحكام أهل الذمة) (1)، حيث قال:
وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق، مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم، فيقول: عيد مبارك عليك، أو: تهنأ بهذا العيد ونحوه، فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات، وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب؛ بل ذلك أعظم إثماً عند الله، وأشد مقتاً من التهنئة بشرب الخمر وقتل النفس، وارتكاب الفرج الحرام ونحوه، وكثير ممن لا قدر للدين عنده يقع في ذلك . ولا يدري قبح ما فعل، فمن هنأ عبداً بمعصية أو بدعة أو كفر فقد تعرض لمقت الله وسخطه. انتهى كلامه رحمه الله .
وإنما كانت تهنئة الكفار بأعيادهم الدينية حراماً وبهذه المثابة التي ذكرها ابن القيم؛ لأن فيها إقراراً لما هم عليه من شعائر الكفر، ورضىً به لهم، وإن كان هو لا يرضى بهذا الكفر لنفسه، لكن يحرم على المسلم أن يرضى بشعائر الكفر أو يهنئ بها غيره، لأن الله تعالى لا يرضى بذلك، كما قال الله تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ}[الزُّمَر: 7]، وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِْسْلاَمَ دِينًا}[المَائدة: 3]. وتهنئتهم بذلك حرام - سواء كانوا مشاركين للشخص في العمل أم لا .
__________
(1) …«أحكام أهل الذمة» (1/441).(1/324)
وإذا هنَّؤونا بأعيادهم فإننا لا نجيبهم على ذلك؛ لأنها ليست بأعياد لنا، ولأنها أعياد لا يرضاها الله تعالى؛ لأنها إما مبتدعة في دينهم، وإما مشروعة، لكن نسخت بدين الإسلام الذي بعث الله به محمداً - صلى الله عليه وسلم - إلى جميع الخلق، وقال فيه: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِْسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآْخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ *}[آل عِمرَان].
وإجابة المسلم دعوتهم بهذه المناسبة حرام؛ لأن هذا أعظم من تهنئتهم بها لما في ذلك من مشاركتهم فيها .
وكذلك يحرم على المسلمين التشبه بالكفار بإقامة الحفلات بهذه المناسبة، أو تبادل الهدايا أو توزيع الحلوى، أو أطباق الطعام، أو تعطيل الأعمال ونحو ذلك؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ(1). قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه: (اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم)(2): «مشابهتهم في بعض أعيادهم توجب سرور قلوبهم بما هم عليه من الباطل، ... وربما أطمعهم ذلك في انتهاز الفرص واستذلال الضعفاء». انتهى كلامه رحمه الله .
ومن فعل شيئاً من ذلك فهو آثم؛ سواء فعله مجاملة أو تودداً أو حياء أو لغير ذلك من الأسباب؛ لأنه من المداهنة في دين الله، ومن أسباب تقوية نفوس الكفار وفخرهم بدينهم .
والله المسؤول أن يعز المسلمين بدينهم، ويرزقهم الثبات عليه، وينصرهم على أعدائهم، إنه قوي عزيز .
الشيخ ابن عثيمين - مجموع فتاوى ورسائل (3/44)
__________
(1) …أبو داود (4031) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، والطبراني في «الأوسط» (8327) من حديث حذيفة رضي الله عنه. وأخرجه أحمد بزيادة فيه (2/50، 92) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. قال في «فيض القدير» 6/105 عن حديث ابن عمر: «... وقال السخاوي: سنده ضعيف لكن له شواهد، وقال ابن تيمية: سنده جيد، وقال ابن حجر في الفتح [10/271]: سنده حسن». اهـ.
(2) …«اقتضاء الصراط المستقيم»، ص (219).(1/325)
تهنئة الكافر بالوصول
هل يجوز لي أن أذهب إلى قس لأهنئه بسلامة الوصول والعودة ؟
لا يجوز الذهاب إلى أحد من الكفار عند قدومه للتهنئة بوصوله والسلام عليه؛ لأنه ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: لا تَبْدَؤوا الْيَهُودَ وَلا النَّصَارَى بِالسَّلامِ، فَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي طَرِيقٍ فَاضْطَرُّوهُ إِلَى أَضْيَقِهِ (1) . وأما ذهاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، لليهودي الذي كان مريضاً فإن هذا اليهودي كان غلاماً يخدم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما مرض عاده النبي - صلى الله عليه وسلم - ليعرض عليه الإسلام فعرضه عليه فأسلم . فأين هذا الذي يعوده ليعرض عليه الإسلام من شخص زار قساً ليهنئه بسلامة الوصول ويرفع معنويته ؟ لا يمكن أن يقيس هذا على ذاك إلا جاهل أو صاحب هوى .
الشيخ ابن عثيمين - مجموع فتاو ورسائل (3/47)
تمكين النصارى من كتب فيها آيات قرآنية
هل يجوز لي أن أضع بين أيدي النصارى كتباً تشمل على آيات كريمة تثبت وحدانية الله تعالى مكتوبة بالعربية ومترجمة معانيها إلى اللغة الإنجليزية ؟
نعم؛ يجوز أن تضع بين أيديهم كتباً تشتمل على آيات من القرآن للاستدلال بها على الأحكام: التوحيد وغيره، سواء أكانت باللغة العربية أم مترجماً معناها، بل تشكر على ذلك؛ لأن وضعها أمامهم أو إعارتها لهم ليطلعوا عليها نوع من أنواع البلاغ والدعوة إلى الله، وفاعله مأجور إذا أخلص في ذلك .
فتاوى اللجنة الدائمة (2/75)
هل يجوز إرسال المصحف بالبريد إلى بلاد الكفار ؟
__________
(1) …أحمد (2/346، 444، 459)، ومسلم (2167)، وأبو داود (5205)، والترمذي (2701).(1/326)
أنا مسؤول عن بريد الموسم، ويوجد في هذه البلدة المغتربون وغيرهم، فيأتون أحياناً بظروف وفي داخل الظروف مصحف متوسط الحجم، ويريدون إرسالها إلى بلاد غير عربية والغالب على أهلها الكفر ... فهل يجوز إرسال القرآن الكريم إلى هذه البلاد مع العلم أنه ورد في البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما : ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ ))(1).
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على محمد وعلى آله وصحبه، وبعد:
إذا كان المرسل إليه المصحف مسلماً فلا حرج في إرساله سواء كان البلد عربياً أو غير عربي وسواء كان أهلها مسلمين أم غير مسلمين؛ لأنه والحال ما ذكر لا تناله أيدي الكفار؛ لأنه لم يرسل إليهم ولا خطر عليه منهم، إلا إذا كان البلد الذي فيه المسلم المرسل إليه المصحف بلداً حربياً، أو لا يؤمن على المصحف من أخذ الكفار له من يد المرسل إليه أو من موزع البريد، فإنه يمنع إرسال المصحف إليه عملاً بالحديث الصحيح المذكور في السؤال.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، فتوى رقم (3497)
حكم مس الكافر لترجمة القرآن
يوجد لدي ترجمة لمعاني القرآن الكريم باللغة الإنجليزية؛ فهل يجوز أن يمسها الكافر ؟
لا حرج أن يمس الكافر ترجمة معاني القرآن الكريم باللغة الإنجليزية، أو غيرها من اللغات؛ لأن الترجمة تفسير لمعاني القرآن، فإذا مسها الكافر، أو من ليس على طهارة فلا حرج في ذلك؛ لأن الترجمة ليس لها حكم القرآن وإنما لها حكم التفسير، وكتب التفسير لا حرج أن يمسها الكافر ومن ليس على طهارة، وهكذا كتب الحديث والفقه واللغة العربية . والله ولي التوفيق .
الشيخ ابن باز - مجلة البحوث الإسلامية - عدد (45) ص (115)
حكم دخول غير المسلم للمساجد ودخول المسلم معابد الكفار
__________
(1) …البخاري (2990)، ومسلم (1869) .(1/327)
س1: ما حكم دخول غير المسلم مسجدًا أو مصلى للمسلمين سواء لحضور الصلاة أو للاستماع إلى محاضرة ؟
ج1: سبق أن صدر منا جواب بالفتوى رقم (2922) هذا نصها: (يحرم على المسلمين أن يمكنوا أي كافر من دخول المسجد الحرام وما حوله من الحرم كله؛ لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}[التّوبَة: 28]، أما غيره من المساجد فقال بعض الفقهاء: يجوز؛ لعدم وجود ما يدل على منعه، وقال بعضهم: لا يجوز قياسًا على المسجد الحرام، والصواب: جوازه لمصلحة شرعية، ولحاجة تدعو إلى ذلك كسماع ما قد يدعوه للدخول في الإسلام، أو حاجته إلى الشرب من ماء في المسجد.
س2: ما حكم دخول المسلم إلى الكنيسة سواء لحضور صلاتهم أو الاستماع إلى محاضرة.
ج2: لا يجوز للمسلم الدخول على الكفار في معابدهم؛ لما فيه من تكثير سوادهم، ولما روى البيهقي بإسناد صحيح عن عمر رضي الله عنه قال: ... ولا تَدْخُلُوا على المشركين في كنائِسِهم ومعابِدِهم فإن السَّخْطَةَ تنزل عليهم (1) لكن إذا كان لمصلحة شرعية أو لدعوتهم إلى الله ونحو ذلك فلا بأس.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
فتاوى اللجنة الدائمة، للبحوث العلمية والإفتاء (2/76، 77)
الصلاة في بيوت النصارى
أحياناً يحين وقت الصلاة وأنا في بيت أحدهم(2) فآخذ سجادتي الخاصة وأصلي أمامهم .. فهل صلاتي صحيحة، لكونها في بيت من بيوتهم ؟
نعم؛ تصح صلاتك - زادك الله حرصاً على طاعته - وخاصة أداء الصلوات الخمس في أوقاتها. والواجب أن تحرص على أدائها في جماعة، وتعمر بها المساجد ما استطعت إلى ذلك سبيلاً .
__________
(1) …البيهقي في «السنن الكبرى» (9/234) (18640)، وعبدالرزاق في «المصنف» (1609)، وانظر «اقتضاء الصراط المستقيم» لشيخ الإسلام (1/182، 199)، وكذا «مجموع الفتاوى» (25/325).
(2) …يعني: أحد النصارى.(1/328)
فتاوى اللجنة الدائمة (2/76)
حكم قول: أخي أو صديقي أو الضحك لغير المسلمين لطلب المودة
ما حكم قول: ( أخي) لغير المسلم ؟ وكذلك قول: صديق ورفيق ؟ وحكم الضحك إلى الكفار لطلب المودة ؟
أما قول: (يا أخي) لغير المسلم فهذا حرام، ولا يجوز إلا أن يكون أخاً من النسب أو الرضاع؛ وذلك لأنه إذا انتفت أخوة النسب والرضاع لم يبق إلا أخوة الدين، والكافر ليس أخاً للمؤمن في دينه، وتذكر قول نبي الله تعالى نوح عليه السلام: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ *قَال يانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ *}[هُود: 45-46].
وأما قول: ( صديق رفيق ) ونحوهما؛ فإن كانت كلمة عابرة يقصد بها نداء من جهل اسمه منهم فهذا لا بأس به، وإن قصد بها معناها تودداً وتقرباً منهم فقد قال الله تعالى: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللَّهُ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ}[المجَادلة: 22] . فكل كلمات التلطف التي يقصد بها الموادة لا يجوز للمؤمن أن يخاطب بها أحداً من الكفار .
وكذلك الضحك إليهم لطلب الموادة بينهم كما علمت من الآية الكريمة.
الشيخ ابن عثيمين - فتاوى العقيدة ص (253، 254) حكم من يعمل مع الكفار
شخص يعمل مع الكفار فبماذا تنصحونه ؟(1/329)
ننصح هذا الأخ الذي يعمل مع الكفار: أن يطلب عملاً ليس فيه أحد من أعداء الله ورسوله ممن يدينون بغير الإسلام، فإذا تيسر فهذا هو الذي ينبغي، وإن لم يتيسر فلا حرج عليه؛ لأنه في عمله وهم في عملهم، ولكن بشرط ألا يكون في قلبه مودة لهم ومحبة وموالاة، وأن يلتزم ما جاء به الشرع فيما يتعلق بالسلام عليهم ورد السلام ونحو هذا . وكذلك أيضاً لا يشيع جنائزهم ولا يحضرها، ولا يشهد أعيادهم، ولا يهنئهم بها .
الشيخ ابن عثيمين - فتاوى العقيدة، ص (255)
حكم مخالطة الكفار ومعاملتهم باللين طمعاً في إسلامهم
ما حكم مخالطة الكفار ومعاملتهم بالرفق واللين طمعاً في إسلامهم ؟
لا شك أن المسلم يجب عليه أن يبغض أعداء الله ويتبرأ منهم؛ لأن هذه هي طريقة الرسل وأتباعهم - قال الله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}[المُمتَحنَة: 4]، وقال تعالى: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللَّهُ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِْيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ}[المجَادلة: 22].
وعلى هذا لا يحل لمسلم أن يقع في قلبه محبة ومودة لأعداء الله الذين هم أعداء له في الواقع . وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ}[المُمتَحنَة: 1].(1/330)
أما كون المسلم يعاملهم بالرفق واللين طمعاً في إسلامهم وإيمانهم فهذا لا بأس به؛ لأنه من باب التأليف على الإسلام، ولكن إذا يئس منهم عاملهم بما يستحقون أن يعاملهم به . وهذا مفصل في كتب أهل العلم ولا سيما كتاب: ( أحكام أهل الذمة ) لابن القيم رحمه الله .
الشيخ ابن عثيمين - مجموع فتاوى ورسائل (3/31).
حكم مقولة: (الغربيون لا يكرهون الإسلام)
ما رأيك فيمن يعتقد أن الغربيين لا يكرهون الإسلام وأهله وإنما يسيرون حسب مصالحهم؛ فإن وافقت مصالحهم مصالحنا كانوا معنا، وإن خالفت مصالحهم مصالحنا أصبحوا علينا ؟
الذي أرى أن هذه نظرة خاطئة، ودليل ذلك: أن الغربيين يساعدون الرجال الذين يخرجون في البلاد الإسلامية لينشروا دين النصارى، ولو كانوا لا يكرهون الإسلام ما ساعدوا هؤلاء على نشر دعوتهم الباطلة . ولا شك أيضاً أن كثيراً منهم ولا سيما الزعماء مادّيّون، يعني لا تهمهم الأديان إنما تهمهم المصالح؛ فهم يتبعون مصالحهم المادية فقط، لكن مع ذلك لا نرى أنهم يحبون الإسلام؛ بل نرى أنهم يكرهون الإسلام، بدليل تمكينهم لدعاة النصرانية من السعي في أراضي المسلمين ومساعدتهم في هذا.
الشيخ ابن عثيمين - فتوى عليها توقيعه
كيف نستفيد مما عند الكفار دون الوقوع في المحظور ؟
كيف نستفيد مما عند الكفار دون الوقوع في المحظور ؟ وهل للمصالح المرسلة دخل في ذلك ؟
الذي يفعله أعداء الله وأعداؤنا - وهم الكفار - ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
*…القسم الأول: عبادات .
*…القسم الثاني: عادات .
*…القسم الثالث: صناعات وأعمال .
* أما العبادات: فمن المعلوم أنه لا يجوز لأي مسلم أن يتشبه بهم في عباداتهم، ومن تشبه بهم في عباداتهم فإنه على خطر عظيم، فقد يكون ذلك مؤدياً إلى كفره وخروجه من الإسلام .(1/331)
* وأما العادات: كاللباس وغيره فإنه يحرم أن يتشبه بهم؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ"(1).
* وأما الصناعات والحرف: التي فيها مصالح عامة فلا حرج أن نتعلم مما صنعوه ونستفيد منه، وليس هذا من باب التشبه؛ ولكنه من باب المشاركة في الأعمال النافعة التي لا يعد من قام بها متشبهاً بهم .
وأما قول السائل: وهل للمصالح المرسلة دخل في ذلك ؟
فنقول: إن المصالح المرسلة لا ينبغي أن تجعل دليلاً مستقلاً؛ بل نقول: هذه المصالح المرسلة إن تحققنا أنها مصلحة فقد شهد لها الشرع بالصحة والقبول وتكون من الشرع، وإن شهد لها بالبطلان فإنها ليست مصالح مرسلة ولو زعم فاعلها أنها مصالح مرسلة . وإن كان لا هذا ولا هذا فإنها ترجع إلى الأصل: إن كانت من العبادات فالأصل في العبادات الحظر، وإن كانت من غير العبادات فالأصل فيها الحل، وبذا يتبين أن المصالح المرسلة ليست دليلاً مستقلاً .
الشيخ ابن عثيمين - مجموع فتاوى ورسائل (3/40)
الفصل السادس
البدع والمحدثات
ما المراد بالبدع ؟ وما البدعة الحسنة والبدعة السيئة ؟
اختلف علماؤنا في البدعة، فقال بعضهم: البدعة منها ما هو حسن ومنها ما هو قبيح .. فهل هذا صحيح ؟
__________
(1) …أبو داود (4031) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، والطبراني في «الأوسط» (8327) من حديث حذيفة رضي الله عنه. وأخرجه أحمد بزيادة فيه (2/50، 92) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. قال في «فيض القدير» 6/105 عن حديث ابن عمر: «... وقال السخاوي: سنده ضعيف لكن له شواهد، وقال ابن تيمية: سنده جيد، وقال ابن حجر في الفتح [10/271]: سنده حسن». اهـ.(1/332)
البدعة: هي كل ما أحدث على غير مثال سابق، ثم منها ما يتعلق بالمعاملات وشؤون الدينا؛ كاختراع آلات النقل من طائرات وسيارات وقاطرات، وأجهزة الكهرباء، وأدوات الطهي، والمكيفات التي تستعمل للتدفئة والتبريد، وآلات الحرب من قنابل وغواصات ودبابات.. إلى غير ذلك مما يرجع إلى مصالح العباد في دنياهم؛ فهذه في نفسها لا حرج فيها ولا إثم في اختراعها. أما بالنسبة للمقصد من اختراعها وما تستعمل فيه: فإن قصد بها خير واستعين بها فيه فهي خير، وإن قصد بها شر من تخريب وتدمير وإفساد في الأرض واستعين بها في ذلك فهي شر وبلاء.
وقد تكون البدعة في الدين عقيدة أو عبادة قولية أو فعلية؛ كبدعة نفي القدر، وبناء المساجد على القبور، وإقامة القباب على القبور، وقراءة القرآن عندها للأموات، والاحتفال بالموالد إحياء لذكرى الصالحين والوجهاء، والاستغاثة بغير الله والطواف حول المزارات، فهذه وأمثالها كلها ضلال؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إيَّاكُم ومُحْدَثَات الأُمُورِ؛ فإنَّ كُلَّ مُحْدَثةٍ بِدْعَةٌ، وكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَة" (1)، لكن منها ما هو شرك أكبر يخرج من الإسلام؛ كالاستغاثة بغير الله فيما هو من وراء الأسباب العادية، والذبح والنذر لغير الله ... إلى أمثال ذلك مما هو عبادة مختصة بالله. ومنها ما هو ذريعة إلى الشرك؛ كالتوسل إلى الله بجاه الصالحين، والحلف بغير الله، وقول الشخص: (ما شاء الله وشئت)، ولا تنقسم البدع في العبادات إلى الأحكام الخمسة كما زعم بعض الناس؛ لعموم حديث: كل بدعة ضلالة .
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (2/321)
هل البدعة في العبادات فقط ؟
__________
(1) …أبو داوود (4607)، والترمذي (2676) بنحوه، وقال: «حسن صحيح». وابن ماجه (42). وأخرجه النسائي (1578) بزيادة: «وكل ضلالة في النار». وصححه الألباني في «صحيح أبي داود» (3851).(1/333)
متى يوصف العمل بأنه بدعة في الشرع المطهر، وهل إطلاق البدعة يكون في أبواب العبادات فقط أم يشمل العبادات والمعاملات ؟
البدعة في الشرع المطهر: هي كل عبادة أحدثها الناس ليس لها أصل في الكتاب ولا في السنة؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ" (1)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ"(2).
وتطلق البدعة في اللغة العربية على كل محدَث على غير مثال سابق، لكن لا يتعلق بها حكم المنع إذا لم تكن من البدع في الدين. أما في المعاملات: فما وافق الشرع منها فهو عقد شرعي، وما خالفه فهو عقد باطل، ولا يسمى بدعة في الشرع؛ لأنه ليس من العبادة .
الشيخ ابن باز - مجلة الدعوة، تاريخ 7/11/1410هـ، عدد (1244) ضوابط البدعة
ما معنى البدعة ؟ وما ضابطها ؟ وهل هناك بدعة حسنة ؟ وما معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (( مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلامِ سُنَّةً حَسَنَةً )) ؟ وجزاكم الله خيراً .
__________
(1) …البخاري (2697)، ومسلم (1718) .
(2) …علقه البخاري في البيوع وفي الاعتصام، ووصله مسلم برقم (1718) - (18).(1/334)
البدعة شرعاً: ضابطها التعبد لله بما لم يشرعه الله، وإن شئت فقل: التعبد لله تعالى بما ليس عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا خلفاؤه الراشدون. فالتعريف الأول مأخوذ من قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}[الشّورى: 21]، والتعريف الثاني مأخوذ من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَالأُمُورَ الْمُحْدَثَاتِ(1). فكل من تعبد لله بشيء لم يشرعه الله أو بشيء لم يكن عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه الراشدون فهو مبتدع؛ سواء كان ذلك التعبد فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته، أو فيما يتعلق بأحكامه وشرعه.
أما الأمور العادية التي تتبع العادة والعرف فهذه لا تسمى بدعة في الدين وإن كانت تسمى بدعة في اللغة، ولكن ليست بدعة في الدين، وليست هي التي حذر منها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وليس في الدين بدعة حسنة أبداً، والسنة الحسنة هي التي توافق الشرع، وهذه تشمل أن يبدأ الإنسان بالسنة؛ أي يبدأ العمل بها أو يتّبعُها بعد تركها أو يفعل شيئاً يسنه يكون وسيلة لأمر متعبد به؛ فهذه ثلاثة أشياء:
__________
(1) …أحمد (4/126)، وأبو داوود (4607)، والترمذي (2676) وقال: « حسن صحيح »، وابن ماجه (42، 43)، وابن حبان في "صحيحه" (5)، والحاكم 1/174- 177 (329- 333) وصححه ووافقه الذهبي.(1/335)
الأول: إطلاق السنة على من ابتدأ العمل وهذا سبب الحديث؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - حث على التصدق على القوم الذين قدموا عليه - صلى الله عليه وسلم -، وهم في حال صعبة جداً، فحث على التصدق، فجاء رجل من الأنصار بصُرَّةٍ من فضة(1) قد أثقلت يده، فوضعها في حجر النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا" (2) ؛ فهذا الرجل سن سنة ابتداء عمل لا ابتداء شرع.
الثاني: السنة التي تركت ثم فعلها إنسان فأحياها، فهذا يقال عنه: سنها بمعنى أحياها، وإن كان لم يشرعها من عنده.
الثالث: أن يفعل شيئاً وسيلة لأمر مشروع؛ مثل بناء المدارس وطبع الكتب، فهذا لا يتعبد لله بذاته، ولكن لأنه وسيلة لغيره . فكل هذا داخل في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا" وهذا مبسوط في غير هذا الموضع .
الشيخ ابن عثيمين - المجموع الثمين (1/29، 30)
ما حقيقة البِدَع ؟
ما البدع ؟
__________
(1) …في «مسند الإمام أحمد» (4/360): (بصُرَّةٍ من ذهب تملأ ما بين أصابعه).
(2) …مسلم في الزكاة والعلم (1017).(1/336)
البدعة: قال فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ، وَكُلَّ ضَلالَةٍ فِي النَّارِ"(1). وإذا كان كذلك فإن البدع سواء كانت ابتدائية أم استمرارية يأثم من تلبس بها؛ لأنها كما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: في النار أعني: أن الضلالة هذه تكون سبباً للتعذيب في النار، وإذا كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - حذر أمته من البدع فمقتضى ذلك أنها مفسدة محضة؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عمم ولم يخصص - قال: "كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ" .
ثم إن البدع في الحقيقة هي انتقاد غير مباشر للشريعة الإسلامية؛ لأن معناها أو مقتضاها أن الشريعة لم تتم، وأن هذا المبتدع أتمها بما أحدث من العبادة التي يتقرب بها إلى الله كما زعم.
فعليه نقول: كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، والواجب الحذر من البدع كلها، وألا يتعبد الإنسان إلا بما شرعه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، ليكون إمامه حقيقة؛ لأن من سلك سبيل بدعة فقد جعل المبتدع إماماً له في هذه البدعة دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والله ولي التوفيق .
الشيخ ابن عثيمين - المجموع الثمين (1/28، 29)
حكم تحية العلم في الجيش
ما حكم تحية العلم في الجيش وتعظيم الضابط وحلق اللحية فيه ؟
__________
(1) …أبو داوود (4607)، والترمذي (2676) بنحوه، وقال: «حسن صحيح». وابن ماجه (42). وأخرجه النسائي (1578) بزيادة: «وكل ضلالة في النار». وصححه الألباني في «صحيح أبي داود» (3851).(1/337)
لا تجوز تحية العلم؛ بل هي بدعة محدثة، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ" (1)، وأما تعظيم الضباط باحترامهم وإنزالهم منازلهم فجائز، أما الغلو في ذلك فممنوع سواء كانوا ضباطاً أم غير ضباط . وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (1/150)
حكم بعض الأنظمة العسكرية
أفيدوني عن حكم من يعمل بالجيش المصري وهذا مصدر رزقه، وتفرض عليه نظم الجيش وقوانينه أن يعظم بعضنا بعضاً كما تفعله الأعاجم، وأن نلقي التحية بكيفية ليست بالتي أمرنا بها الله ورسوله، وأن نعظم علم الدولة ونحكم ونحتكم فيما بيننا بشريعة غير شريعة الله - قوانين عسكرية - ؟
لا يجوز تحية العلم، ويجب الحكم بشريعة الإسلام والتحاكم إليها، ولا يجوز للمسلم أن يحيي الزعماء أو الرؤساء تحية الأعاجم؛ لما ورد من النهي عن التشبه بهم، ولما في ذلك من الغلو في تعظيمهم .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (1/150)
تعظيم السلام أو العلم الوطني
هل يجوز الوقوف تعظيماً لأي سلام وطني، أو علم وطني ؟
لا يجوز للمسلم القيام إعظاماً لأي علم وطني، أو سلام وطني؛ بل هو من البدع المنكرة التي لم تكن في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا في عهد خلفائه الراشدين رضي الله عنهم، وهي منافية لكمال التوحيد الواجب وإخلاص التعظيم لله وحده، وذريعة إلى الشرك، وفيها مشابهة للكفار وتقليد لهم في عاداتهم القبيحة، ومجاراة لهم في غلوهم في رؤسائهم ومراسيمهم، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مشابهتهم أو التشبه بهم . وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (1/149)
حكم تحية العلم في المدارس
__________
(1) …البخاري (2697)، ومسلم (1718) .(1/338)
ما حكم وضع اليد على الرأس تحية للعلم كما يفعل في المدارس ؟
نرى أن ذلك بدعة، وأن تحية المسلمين هي السلام، فالإشارة باليد تحية النصارى، كما ورد، فالإشارة باليد، أو الإشارة بالرأس، سلام أو تحية اليهود أو النصارى.
أما تحية المسلم فهي أن يقول: السلام عليكم .. وإن كان المسلم بعيدًا عنك فإن لك أن تشير برأسك مع تلفظك بالسلام .. تقول السلام عليكم، وتحرك رأسك، أو يدك علامة على أنك فطنت له، وسلمت عليه، فتجمع بين الأمرين، السلام الذي هو سنة المسلمين، والإشارة: التي هي علامة على أنك فطنت وسلمت.
ولا تكون الإشارة هي السلام فقط؛ فالتحية للعلم إذا كان العلم هو أحد الأعلام التي تنشر كاللواء، أو نحوه - فهذا لا يجوز؛ وذلك لأنه جماد، والتحية فيها شيء من التعظيم، والتعظيم لا يجوز للمخلوق، فما بالك بالجماد الذي لا ينفع ولا يسمع؟! وإذا كان هذا تعبيرًا عن التعظيم لهذا الجماد كان ذلك من الشرك.
وإن أراد بالعلم الشخص الذي يحمله، أو العامل ونحوه.. فتكون التحية بالسلام لا بغيره.
الشيخ ابن جبرين - من كتاب: البدع والمحدثات ومالا أصل له، ص (245)
حكم الاحتفال بالموالد
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداه .. أما بعد:
فقد اطلعت على كلمة نشرتها جريدة المدينة بعددها الصادر في يوم الاثنين الموافق 28/ 12/ 1410هـ مضمونها: أن الأخ جمال محمد القاضي رأى في برنامج أبناء الإسلام الذي يبث من التلفاز السعودي حلقة تشتمل على الاحتفال بعيد الميلاد . ويسأل جمال: هل عيد الميلاد يجيزه الإسلام ؟.. إلخ .(1/339)
لا ريب أن الله سبحانه وتعالى شرع للمسلمين عيدين يجتمعون فيهما للذكر والصلاة، وهما: عيد الفطر والأضحى؛ بدلاً من أعياد الجاهلية، وشرع أعياداً تشتمل على أنواع من الذكر والعبادة كيوم الجمعة ويوم عرفة وأيام التشريق، ولم يشرع لنا سبحانه وتعالى عيداً للميلاد: لا ميلاد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا غيره، بل قد دلت الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة على أن الاحتفال بالموالد من البدع المحدثة في الدين، ومن التشبه بأعداء الله من اليهود والنصارى وغيرهم.(1/340)
فالواجب على أهل الإسلام ترك ذلك والحذر منه، وإنكاره على من فعله، وعدم نشر أو بث ما يشجع على ذلك، أو يوهم إباحته في الإذاعة أو الصحافة أو التلفاز؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: "مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ" (1)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ" (2)؛ أخرجه مسلم في صحيحه، وعلقه البخاري جازماً به، وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول في خطبة الجمعة: "أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ"(3). والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. وفي مسند أحمد بإسناد جيد عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ" (4)، وفي الصحيحين عن أبي سعيد رضي الله عنه: عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: "لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ؛ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ. قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ .. الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى ؟ قَالَ: فَمَنْ"
__________
(1) …البخاري (2697)، ومسلم (1718) .
(2) …علقه البخاري في البيوع وفي الاعتصام، ووصله مسلم برقم (1718) - (18).
(3) …مسلم (867) .
(4) …أبو داود (4031) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، والطبراني في «الأوسط» (8327) من حديث حذيفة رضي الله عنه. وأخرجه أحمد بزيادة فيه (2/50، 92) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. قال في «فيض القدير» 6/105 عن حديث ابن عمر: «... وقال السخاوي: سنده ضعيف لكن له شواهد، وقال ابن تيمية: سنده جيد، وقال ابن حجر في الفتح [10/271]: سنده حسن». اهـ.(1/341)
؟!(1).
وفي هذا المعنى أحاديث أخرى كلها تدل على وجوب الحذر من مشابهة أعداء الله في أعيادهم وغيرها، وأشرف الخلق وأفضلهم نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - لم يحتفل بمولده في حياته، ولم يحتفل به أصحابه بعده رضي الله عنهم، ولا التابعون لهم بإحسان في القرون الثلاثة المفضلة، ولو كان الاحتفال بمولده - صلى الله عليه وسلم - أو مولد غيره خيراً لسبقنا إليه أولئك الأخيار، ولعلّمه النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته وحثهم عليه أو فعله بنفسه، فلما لم يقع شيء من ذلك علمنا أن الاحتفال بالموالد من البدع المحدثة في الدين التي يجب تركها والحذر منها امتثالاً لأمر الله سبحانه وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وذكر بعض أهل العلم: أن أول من أحدث الاحتفال بالموالد هم الشيعة الفاطميون في المائة الرابعة، ثم تبعهم بعض المنتسبين إلى السنة في هذه البدعة جهلاً وتقليداً لهم ولليهود والنصارى، ثم انتشرت هذه البدعة في الناس، والواجب على علماء المسلمين بيان حكم الله في هذه البدع، وإنكارها، والتحذير منها؛ لما يترتب على وجودها من الفساد الكبير وانتشار البدع واختفاء السنن، ولما في ذلك من التشبه بأعداء الله من اليهود والنصارى وغيرهم من أصناف الكفرة الذين يعتادون مثل هذه الاحتفالات، وقد كتب أهل العلم في ذلك قديماً وحديثاً، وبينوا حكم الله في هذه البدع فجزاهم الله خيراً، وجعلنا من أتباعهم بإحسان.
__________
(1) …البخاري (7320)، ومسلم (2669) .(1/342)
وهذه الكلمة الموجزة أردنا بها التنبيه للقراء على هذه البدعة ليكونوا على بينة، وقد كتبت في ذلك كتابة مطولة نشرت في الصحف المحلية وغيرها غير مرة، ولا ريب أن الواجب على المسؤولين في حكومتنا وفي وزارة الإعلام بوجه أخص وعلى جميع المسؤولين في الدول الإسلامية منع نشر هذه البدع والدعوة إليها أو نشر ما يوهم الناس إباحتها؛ أداءً لواجب النصح لله ولعباده، وقياماً بما أوجب الله من إنكار المنكر، ومساهمة في إصلاح أوضاع المسلمين وتطهيرها مما يخالف الشرع المطهر.
والله المسؤول بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يصلح أحوال المسلمين، وأن يوفقهم للتمسك بكتابه وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، والحذر من كل ما يخالفهما، وأن يصلح قادتهم ويوفقهم لتحكيم شريعة الله في عباده، ومحاربة ما خالفها، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه .
الشيخ ابن باز - مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (4/81) حكم الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه.(1/343)
أما بعد: فلا ريب أن الإسراء والمعراج من آيات الله العظيمة الدالة على صدق رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - وعلى عظم منزلته عند الله عز وجل، كما أنها من الدلائل على قدرة الله الباهرة، وعلى علوه سبحانه وتعالى على جميع خلقه . قال الله سبحانه وتعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ *}[الإسرَاء]، وتواتر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه عرج به إلى السماء، وفتحت له أبوابها حتى جاوز السماء السابعة، فكلمه ربه سبحانه بما أراد، وفرض عليه الصلوات الخمس، وكان الله سبحانه فرضها أولاً خمسين صلاة، فلم يزل نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - يراجعه ويسأله التخفيف، حتى جعلها خمساً في الفرض، وخمسين في الأجر؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها، فللّه الحمد والشكر على جميع نعمه.
وهذه الليلة التي حصل فيها الإسراء والمعراج، لم يأت في الأحاديث الصحيحة تعيينها لا في رجب ولا غيره، وكل ما ورد في تعيينها فهو غير ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عند أهل العلم بالحديث، ولله الحكمة البالغة في إنساء الناس لها. ولو ثبت تعييناً، لم يجز للمسلمين أن يخصوها بشيء من العبادات، ولم يجز لهم أن يحتفلوا بها؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم لم يحتفلوا بها، ولم يخصوها بشيء، ولو كان الاحتفال بها أمراً مشروعاً لبينه الرسول - صلى الله عليه وسلم - للأمة: إما بالقول وإما بالفعل، ولو وقع شيء من ذلك لعُرف واشتهر، ونقله الصحابة رضي الله عنهم إلينا، فقد نقلوا عن نبيهم - صلى الله عليه وسلم - كل شيء تحتاجه الأمة، ولم يُفرطوا في شيء من الدين؛ بل هم السابقون إلى كل خير، فلو كان الاحتفال بهذه الليلة مشروعاً لكانوا أسبق الناس إليه.(1/344)
والنبي - صلى الله عليه وسلم - هو أنصح الناس للناس، وقد بلّغ الرسالة غاية البلاغ، وأدى الأمانة، فلو كان تعظيم هذه الليلة والاحتفال بها من دين الله لم يغفله النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يكتمه، فلما لم يقع شيء من ذلك؛ علم أن الاحتفال بها، وتعظيمها ليسا من الإسلام في شيء، وقد أكمل الله لهذه الأمة دينها، وأتم عليها النعمة، وأنكر على من شرع في الدين ما لم يأذن به الله؛ قال سبحانه وتعالى في كتابه المبين من سورة المائدة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}[المَائدة: 3]، وقال عز وجل في سورة الشورى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ *}[الشّورى]، وثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأحاديث الصحيحة التحذير من البدع، والتصريح بأنها ضلالة؛ تنبيهاً للأمة على عظم خطرها، وتنفيراً لهم من اقترافها؛ ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ"(1) .
__________
(1) …البخاري (2697)، ومسلم (1718) .(1/345)
وفي رواية لمسلم: "مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ"(1)، وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في خطبته يوم الجمعة: "أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ" (2)؛ زاد النسائي بسند جيد: وَكُلُّ ضَلالَةٍ فِي النَّارِ(3). وفي السنن عن العرباض بن سارية رضي الله عنه أنه قال: صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الْفَجْرَ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ لَهَا الأَعْيُنُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ. قُلْنَا أَوْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ؛ كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَأَوْصِنَا. قَالَ: أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ؛ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا؛ فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ يَرَى بَعْدِي اخْتِلافًا كَثِيرًا؛ فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ (4)، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
__________
(1) …علقه البخاري في البيوع وفي الاعتصام، ووصله مسلم برقم (1718) - (18).
(2) …مسلم (867) .
(3) …النسائي (1579) .
(4) …أبو داوود (4607)، والترمذي (2676) بنحوه، وقال: «حسن صحيح». وابن ماجه (42). وأخرجه النسائي (1578) بزيادة: «وكل ضلالة في النار». وصححه الألباني في «صحيح أبي داود» (3851).(1/346)
وقد ثبت عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن السلف الصالح بعدهم: التحذير من البدع والترهيب منها؛ وما ذاك إلا لأنها زيادة في الدين، وشرع لم يأذن به الله، وتشبه بأعداء الله من اليهود، والنصارى في زيادتهم في دينهم، وابتداعهم فيه مالم يأذن به الله، ولأن لازمها التنقص للدين الإسلامي، واتهامه بعدم الكمال، ومعلوم ما في هذا من الفساد العظيم، والمنكر الشنيع، والمصادمة لقول الله عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}[المَائدة: 3]، والمخالفة الصريحة لأحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام المحذرة من البدع والمنفرة منها.
وأرجو أن يكون فيما ذكرناه من الأدلة كفاية، ومقنع لطالب الحق، في إنكار هذه البدعة، أعني بدعة الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج، والتحذير منها، وإنها ليست من دين الإسلام في شيء.
ولما أوجب الله من النصح للمسلمين، وبيان ما شرع الله لهم من الدين، وتحريم كتمان العلم: رأيت تنبيه إخواني المسلمين على هذه البدعة، التي قد فشت في كثير من الأمصار، حتى ظنها بعض الناس من الدين. والله المسؤول أن يصلح أحوال المسلمين جميعاً، ويمنحهم الفقه في الدين، ويوفقنا وإياهم للتمسك بالحق والثبات عليه، وترك ما خالفه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه .
الشيخ ابن باز - كتاب: التحذير من البدع، ص (16 - 20) حكم الاحتفال باليوم الوطني وغيره(1/347)
أنا إمام أحد المساجد في جدة، وقد ألقيت خطبة في بعث الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وذكرت فيها أن الاحتفال بمولد الرسول بدعة من البدع المستحدثة في الدين، وفي الأسبوع الثاني كانت الخطبة في أسبوع المساجد وكان عنوان الخطبة: عمارة المساجد، وذكرت فيها العناية بالمساجد وتعميرها وفرشها مستنبطًا ذلك من كتاب وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وبعد الصلاة تقدم إلي أحد المصلين قائلاً: يا عمي الشيخ، تحدثت إلينا في الأسبوع الماضي عن مولد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وذكرت أن الاحتفال به بدعة، أحب أن أسألك سؤالاً: فقلت له: تفضل، أجيبك حسب الاستطاعة، فقال: ما هو حكم الشرع في الاحتفال بمولد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وبعيد مولد الأطفال، وعيد الأم، وأسبوع الشجرة، وأسبوع المرور، واليوم الوطني للمملكة، وأسبوع المساجد أليست بدعة ؟ فلماذا تحاربون الاحتفال بمولد الرسول مع العلم أنه أعظم رجل عرفته البشرية جمعاء وهو أحق وأهل لذلك ولا تنكرون على هذه الاحتفالات الأخرى؛ بل تشجعونها وخاصة أنتم أيها السعوديون ؟
فبينت له ذلك مستعينًا بالله وقلت له: المقصود من أسبوع المساجد حث المسلمين على نظافتها والعناية بها، فقال لي: انظر إلى الشوارع آيات الله مكتوبة على الورق والقماش ويمزعها الهواء وترمي في الطرقات وأماكن القاذورات أليس هذا حرامًا، وخاصة في أسبوع المساجد، انظر يا عمي الشيخ إلى هذه القطعة من القماش مكتوب عليها: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ}[التّوبَة: 18]، مرمية في الحديقة ويصب عليها وايت النفايات، إنا لله وإنا إليه راجعون .. إنني أنقل لكم كلام الشخص حرفيًا حسب ما تكلم به علي، وفعلاً أخذت القطعة المكتوبة عليها وغسلتها وأحرقتها.(1/348)
فقال لي: يا عمي الشيخ أنا لا أريد منك شيئًا، إنما الذي أرجوه أن تتكلموا أنتم يا خطباء المساجد وأصحاب الكلمة المسموعة، ولكن أنتم يا خطباء السعودية لا تستطيعون ذلك، إذا قالت الحكومة: هذا حرام، قلتم: حرام، وإذا قالت: هذا حلال، قلتم: حلال، وأنت أول واحد تقول لي: هذا عمل خير وتشجيع المسلمين إلى فعل الخير، أنا لا يمكن أقنع بهذا الكلام إلاَّ بفتوى شرعية من كبار العلماء ولا تنس يا شيخ إن الساكت على الحق شيطان أخرس والسلام عليك. انتهى.
لذا أرجو الفتوى الشرعية في الأعياد المذكورة بالصفحة الأولى مفصلة وبالدليل لكل موضوع على حدة (والله يحفظكم).
أولاً: العيد اسم لما يعود من الاجتماع على وجه معتاد؛ إما بعود السنة أو الشهر أو الأسبوع أو نحو ذلك، فالعيد يجمع أمورًا منها: يوم عائد كيوم عيد الفطر ويوم الجمعة، ومنها: الاجتماع في ذلك اليوم، ومنها: الأعمال التي يقام بها في ذلك اليوم من عبادات وعادات.(1/349)
ثانيًا: ما كان من ذلك مقصودًا به التنسك والتقرب أو التعظيم كسبًا للأجر، أو كان فيه تشبه بأهل الجاهلية أو نحوهم من طوائف الكفار فهو بدعة محدثة ممنوعة؛ داخلة في عموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - "مَنْ أَحْدَثَ في أَمْرِنَا هذا ما لَيْسَ مِنْهُ فهو رَدّ" (1) رواه البخاري ومسلم؛ مثال ذلك: الاحتفال بعيد المولد، وعيد الأم، والعيد الوطني؛ لما في الأول من إحداث عبادة لم يأذن بها الله، ولما في ذلك التشبه بالنصارى ونحوهم من الكفرة، ولما في الثاني والثالث من التشبه بالكفار، وما كان المقصود منه تنظيم الأعمال مثلاً لمصلحة الأمة وضبط أمورها؛ كأسبوع المرور، وتنظيم مواعيد الدراسة، والاجتماع بالموظفين للعمل ونحو ذلك مما لا يفضي به إلى التقرب والعبادة والتعظيم بالأصالة - فهو من البدع العادية التي لا يشملها قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أَحْدَثَ في أمْرِنَا هذا ما ليس منه فهو رَدّ" ؛ فلا حرج فيه، بل يكون مشروعًا.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (3/59-61)
حكم الاحتفال بعيد الميلاد
ما حكم الاحتفال بمرور سنة أو سنتين مثلاً أو أكثر أو أقل من السنين لولادة الشخص، وهو ما يسمى بعيد الميلاد.. أو إطفاء الشمعة .. ؟ وما حكم حضور ولائم هذه الاحتفالات ؟ وهل إذا دعي الشخص إليها يجيب الدعوة أم لا ؟ .. أفيدونا أثابكم الله.
__________
(1) …البخاري (2697)، ومسلم (1718).(1/350)
قد دلت الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة على أن الاحتفال بالموالد من البدع المحدثة في الدين ولا أصل لها في الشرع المطهر، ولا تجوز إجابة الدعوة إليها؛ لما في ذلك من تأييد للبدع والتشجيع عليها.. وقد قال الله سبحانه وتعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}[الشّورى: 21]، وقال سبحانه: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَْمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ *إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ *}[الجَاثيَة]، وقال سبحانه: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ *}[الأعرَاف].
وصح عن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: "مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ" (1) وقال - صلى الله عليه وسلم -: "خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ"(2).. والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
__________
(1) …مسلم (1718) - (18)، وعلقه البخاري في كتابي البيوع والاعتصام .
(2) …مسلم (867) .(1/351)
ثم إن هذه الاحتفالات مع كونها بدعة منكرة لا أصل لها في الشرع هي مع ذلك فيها تشبه باليهود والنصارى؛ لاحتفالهم بالمواليد وقد قال - صلى الله عليه وسلم -، محذراً من سنتهم وطريقتهم: "لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ؛ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ. قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ .. الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى ؟ قَالَ فَمَنْ" ؟!(1).. ومعنى قوله: "فَمَنْ .." أي: هم المعنيون بهذا الكلام . وقال - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ"(2). والأحاديث في هذا المعنى معلومة كثيرة . وفق الله الجميع لما يرضيه .
الشيخ ابن باز - مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (4/283) حكم الاحتفال بعيد الحُبّ (للشيخ ابن عثيمين)
قد انتشر في الآونة الأخيرة الاحتفال بعيد الحب - خاصة بين الطالبات - وهو عيد من أعياد النصارى، ويكون الزي كاملاً باللون الأحمر ( الملبس والحذاء ) ويتبادلن الزهور الحمراء ... نأمل من فضيلتكم بيان حكم الاحتفال بمثل هذا العيد، وما توجيهكم للمسلمين لمثل هذه الأمور ؟ والله يحفظكم ويرعاكم .
الاحتفال بعيد الحب لا يجوز؛ لوجوه:
أولاً : أنه عيد بِدعي لا أساس له في الشريعة .
ثانياً: أنه يدعو إلى العشق والغرام .
ثالثاً: أنه يدعو إلى اشتغال القلب بمثل هذه الأمور التافهة المخالفة لهدي السلف الصالح رضي الله عنهم .
__________
(1) …البخاري (3456)، ومسلم (2669).
(2) …أبو داود (4031) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، والطبراني في «الأوسط» (8327) من حديث حذيفة رضي الله عنه. وأخرجه أحمد بزيادة فيه (2/50، 92) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. قال في «فيض القدير» 6/105 عن حديث ابن عمر: «... وقال السخاوي: سنده ضعيف لكن له شواهد، وقال ابن تيمية: سنده جيد، وقال ابن حجر في الفتح [10/271]: سنده حسن». اهـ.(1/352)
فلا يحل أن يحدث في هذا اليوم شيء من شعائر العيد؛ سواء كان في المآكل أو المشارب أو الملابس أو التهادي أو غير ذلك .
وعلى المسلم أن يكون عزيزاً بدينه، وأن لا يكون إمَّعةً يتبع كل ناعق. أسأل الله تعالى أن يعيذ المسلمين من كل الفتن، ما ظهر منها وما بطن، وأن يتولانا بتوليه وتوفيقه .
فتوى للشيخ ابن عثيمين - بتاريخ 5/11/1420هـ - عليها توقيعه
حكم الاحتفال بعيد الحُبّ (اللجنة الدائمة)
يحتفل بعض الناس في اليوم الرابع عشر من شهر فبراير (14/2) من كل سنة ميلادية بيوم الحب ( فالنتين داي ) ويتهادون الورود الحمراء، ويلبسون اللون الأحمر، ويهنئون بعضهم، وتقوم بعض محلات الحلويات بصنع حلويات باللون الأحمر، ويرسم عليها قلوب، وتعمل بعض المحلات إعلانات على بضائعها التي تخص هذا اليوم .. فما هو رأيكم:
أ ولاً: الاحتفال بهذا اليوم ؟
ثانياً: الشراء من المحلات في هذا اليوم ؟
ثالثاً: بيع أصحاب المحلات ( غير المحتفلة ) لمن يحتفل ببعض ما يهدى في هذا اليوم ؟ وجزاكم الله خيراً .(1/353)
دلت الأدلة الصريحة من الكتاب والسنة - وعلى ذلك أجمع سلف الأمة - أن الأعياد في الإسلام اثنان فقط هما: عيد الفطر وعيد الأضحى، وما عداهما من الأعياد؛ سواء كانت متعلقة بشخص أو جماعة أو حدث أو أي معنى من المعاني - فهي أعياد مبتدعة؛ لا يجوز لأهل الإسلام فعلها ولا إقرارها ولا إظهار الفرح بها ولا الإعانة عليها بشيء؛ لأن ذلك من تعدي حدود الله، ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه، وإذا انضاف إلى العيد المخترع كونه من أعياد الكفار فهذا إثم إلى إثم؛ لأن في ذلك تشبهاً بهم ونوع موالاة لهم؛ وقد نهى الله سبحانه المؤمنين عن التشبه بهم وعن موالاتهم في كتابه العزيز، وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ"(1). وعيد الحب هو من جنس ما ذكر؛ لأنه من الأعياد الوثنية النصرانية، فلا يحل لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يفعله أو أن يقره أو أن يهنئ؛ بل الواجب تركه واجتنابه استجابة لله ورسوله، وبعداً عن أسباب سخط الله وعقوبته، كما يحرم على المسلم الإعانة على هذا العيد أو غيره من الأعياد المحرمة بأي شيء: من أكل أو شرب أو بيع أو شراء أو صناعة أو هدية أو مراسلة أو إعلان أو غير ذلك؛ لأن ذلك كله من التعاون على الإثم والعدوان ومعصية الله والرسول، والله جل وعلا يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِّرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِْثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[المَائدة: 2].
__________
(1) …أبو داود (4031) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، والطبراني في «الأوسط» (8327) من حديث حذيفة رضي الله عنه. وأخرجه أحمد بزيادة فيه (2/50، 92) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. قال في «فيض القدير» 6/105 عن حديث ابن عمر: «... وقال السخاوي: سنده ضعيف لكن له شواهد، وقال ابن تيمية: سنده جيد، وقال ابن حجر في الفتح [10/271]: سنده حسن». اهـ.(1/354)
ويجب على المسلم الاعتصام بالكتاب والسنة في جميع أحواله؛ لا سيما في أوقات الفتن وكثرة الفساد، وعليه أن يكون فطناً حذراً من الوقوع في ضلالات المغضوب عليهم والضالين والفاسقين الذين لا يرجون لله وقاراً ولا يرفعون بالإسلام رأساً، وعلى المسلم أن يلجأ إلى الله تعالى بطلب هدايته والثبات عليها؛ فإنه لا هادي إلا الله ولا مثبت إلا هو سبحانه.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم ...
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، فتوى رقم (21203) بتاريخ 22/11/1420هـ
حكم الاحتفال بعيد الأم
نحن في كل سنة يقام عندنا عيد خاص يسمى (عيد الأم) وهو في (21 مارس) فيحتفل فيه جميع الناس؛ فهل هذا حلال أو حرام ؟ وعلينا الاحتفال به وتقديم الهدايا. أم لا ؟
إن كل الأعياد التي تخالف الأعياد الشرعية: كلها أعياد بدع حادثة ما كانت معروفة في عهد السلف الصالح، وربما يكون منشؤها من غير المسلمين أيضاً، فيكون فيها مع البدعة مشابهة أعداء الله سبحانه وتعالى. والأعياد الشرعية معروفة عند أهل الإسلام: وهي عيد الفطر وعيد الأضحى وعيد الأسبوع. وليس في الإسلام أعياد سوى هذه الأعياد الثلاثة. وكل أعياد أحدثت سوى ذلك فإنها مردودة على محدثيها، وباطلة في شريعة الله سبحانه وتعالى - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ" (1)؛ أي: مردود عليه غير مقبول عند الله، وفي لفظ: "مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ"(2). وإذا تبين ذلك فإنه لا يجوز في العيد الذي ذكرت السائلة والتي سمته عيد الأم - لا يجوز فيه إحداث شيء من شعائر العيد، كإظهار الفرح والسرور وتقديم الهدايا وما أشبه ذلك.
__________
(1) …البخاري (2697)، ومسلم (1718) .
(2) …علقه البخاري في البيوع وفي الاعتصام، ووصله مسلم برقم (1718) - (18).(1/355)
والواجب على المسلم أن يعتز بدينه ويفتخر به، وأن يقتصر على ما حدّه الله ورسوله في هذا الدين القيم الذي ارتضاه الله تعالى لعباده؛ فلا يزيد فيه ولا ينقص منه، والذي ينبغي للمسلم أيضاً ألا يكون إمّعة، يتبع كل ناعق؛ بل ينبغي أن يُكوِّن شخصيته بمقتضى شريعة الله سبحانه وتعالى حتى يكون متبوعاً لا تابعاً، وحتى يكون أسوة لا متأسياً؛ لأن شريعة الله - والحمد لله - كاملة من جميع الوجوه؛ كما قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِْسْلاَمَ دِينًا}[المَائدة: 3].
والأم أحق من أن يحتفى بها يوماً واحداً في السنة؛ بل الأم لها الحق على أولادها أن يرعوها، وأن يعتنوا بها، وأن يقوموا بطاعتها في غير معصية الله عز وجل في كل زمان وفي كل مكان.
الشيخ ابن عثيمين - نور على الدرب - مكتبة الضياء - ص (34 ، 35)
حكم الاحتفال بعام (2000م) النصراني وغيره
نرى في هذه الأيام ما تبثه وسائل الإعلام من رصد الأحداث والإجراءات، بمناسبة حلول عام 2000 الميلادي وبداية الألف الثالثة والكفار من اليهود والنصارى وغيرهم يبتهجون بذلك ويعلقون على هذه المناسبة آمالاً، والسؤال يا سماحة الشيخ: إن بعض من ينتسب للإسلام صاروا يهتمون بذلك، ويعدونها مناسبة سعيدة فيربطون زواجهم أو أعمالهم بها، أو يقومون بوضع دعاية لتلك المناسبة على محلاتهم أو شركاتهم وغير ذلك، مما يسوء المسلم .. فما حكم الشرع في تعظيم هذه المناسبة والاحتفاء بها وتبادل التهاني من أجلها، شفهياً أو بطبع البطاقات . . إلخ ؟ وجزاكم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء ؟
وجاء في سؤال آخر: يستعد اليهود والنصارى لحلول عام 2000 حسب تاريخهم، بشكل غير عادي لترويج خططهم ومعتقداتهم في العالم وبالأخص بالدول الإسلامية.(1/356)
وقد تأثر بعض المسلمين بهذه الدعاية فأخذوا يعدون لها العدة، ومنهم من أعلن عن تخفيض على بضاعته بهذه المناسبة، ويخشى أن يتطور الأمر إلى عقيدة المسلمين في موالاتهم لغير المسلمين .
نأمل بيان حكم مجاراة المسلمين للكفار في مناسباتهم والدعاية لها والاحتفال بها، وحكم تعطيل الأعمال في بعض المؤسسات والشركات بهذه المناسبة .
وهل فعل شيء من هذه الأمور وما شابهها، أو الرضا بها يؤثر على عقيدة المسلم ؟
إن أعظم نعمة أنعم الله بها على عباده هي نعمة الإسلام والهداية إلى صراطه المستقيم، ومن رحمته سبحانه أن فرض على عباده المؤمنين أن يسألوه هدايته في صلواتهم، فيسألوه حصول الهداية للصراط المستقيم والثبات عليها. ووصف سبحانه هذا الصراط بأنه صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وليس صراط المنحرفين عنه من اليهود والنصارى وسائر الكفرة والمشركين .
إذا علم هذا: فالواجب على المسلم معرفة قدر نعمة الله عليه فيقوم بشكر الله سبحانه قولاً وعملاً واعتقاداً، وعليه أن يحرس هذه النعمة ويحوطها ويعمل الأسباب التي تحفظها من الزوال.(1/357)
وإن الناظر من أهل البصيرة في دين الله في عالم اليوم الذي التبس فيه الحق بالباطل على كثير من الناس؛ ليرى بوضوح جهود أعداء الإسلام في طمس حقائقه، وإطفاء نوره، ومحاولة إبعاد المسلمين عنه، وقطع صلتهم به، بكل وسيلة ممكنة، فضلاً عن تشويه صورته، وإلصاق التهم والأكاذيب به، لصد البشر جميعاً عن سبيل الله والإيمان بما أنزله على رسوله محمد بن عبدالله - صلى الله عليه وسلم -؛ ومصداق ذلك في قول الله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ}[البَقَرَة: 109]، وقوله سبحانه: {وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ *}[آل عِمرَان]، وقوله جل وعلا: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ *}[آل عِمرَان]، وقوله عز وجل: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ *}[آل عِمرَان]، وغيرها من الآيات . ولكن ومع ذلك كله فالله عز وجل وعد بحفظ دينه وكتابه - فقال جل وعلا: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ *}[الحِجر]. فالحمد لله كثيراً. وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه لا تَزَالُ طائفةٌ من أُمَّتِه على الحقِّ ظاهِرِين لا يَضُرُّهم مَنْ خَذَلَهُم، وَلاَ مَنْ خَالَفَهُمْ حتى تَقُومَ السَّاعة(1). فالحمد لله كثيراً، ونسأله سبحانه - وهو القريب المجيب - أن يجعلنا وإخواننا المسلمين منهم، إنه جواد كريم .
__________
(1) …مسلم (1920، 1921، 1923) وما بعده، بمعناه.(1/358)
هذا . . واللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - وهي تسمع وترى الاستعداد الكبير والاهتمام البالغ، من طوائف اليهود والنصارى ومن تأثر بهم ممن ينتسب للإسلام بمناسبة تمام عام ألفين، واستقبال الألفية الثالثة بالحساب الإفرنجي - لا يسعها إلا النصح والبيان لعموم المسلمين عن حقيقة هذه المناسبة، وحكم الشرع المطهر فيها ليكون المسلمون على بصيرة من دينهم، ويحذروا من الانحراف إلى ضلالات المغضوب عليهم والضالين.
فنقول:
أولاً: إن اليهود والنصارى يعلقون على هذه الألفية أحداثاً وآلاماً وآمالاً يجزمون بتحققها أو يكادون؛ لأنها ناتجة عن بحوث ودراسات كما زعموا، كما يربطون بعضاً من قضايا عقائدهم بهذه الألفية، زاعمين أنها مما جاءت في كتبهم المحرفة . . والواجب على المسلم ألا يلتفت إليها ولا يركن إليها؛ بل يستغني بكتاب ربه سبحانه وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - عما سواهما . وأما النظريات والآراء المخالفة لهما فلا تعدو كونها وهماً .
ثانياً: لا تخلو هذه المناسبة وأشباهها من لبس الحق بالباطل، والدعوة إلى الكفر والضلال والإباحية والإلحاد، وظهور ما هو منكر شرعاً ومن ذلك: الدعوة إلى وحدة الأديان، وتسوية الإسلام بغيره من الملل والنحل الباطلة، والتبرك بالصليب، وإظهار شعائر الكفر النصرانية واليهودية ونحو ذلك من الأفعال والأقوال التي تتضمن: إما كون الشريعة النصرانية واليهودية المبدلتين المنسوختين موصلة إلى الله، وإما استحسان بعض ما فيهما مما يخالف دين الإسلام أو غير ذلك مما هو كفر بالله وبرسوله وبالإسلام بإجماع الأمة، هذا فضلاً عن كونه وسيلة من وسائل تغريب المسلمين عن دينهم .(1/359)
ثالثاً: استفاضت الأدلة من الكتاب والسنة والآثار الصحيحة في النهي عن مشابهة الكفار فيما هو من خصائصهم، ومن ذلك مشابهتهم في أعيادهم واحتفالاتهم بها. والعيد: اسم جنس يدخل فيه كل يوم يعود ويتكرر؛ يعظمه الكفار أو مكان للكفار لهم فيه اجتماع ديني، وكل عمل يحدثونه في هذه الأمكنة والأزمنة فهو من أعيادهم، فليس النهي عن خصوص أعيادهم؛ بل كل ما يعظمونه من الأوقات والأمكنة التي لا أصل لها في دين الإسلام، وما يحدثونه فيها من الأعمال يدخل في ذلك، وكذلك ما قبله وما بعده من الأيام التي هي كالحريم له - كما نبه على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى .
…ومما جاء في النهي عن خصوص المشابهة في الأعياد قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا *}[الفُرقان]؛ في ذكر صفات عباد الله المؤمنين. فقد فسرها جماعة من السلف كابن سيرين ومجاهد والربيع بن أنس(1): بأن الزور هو أعياد الكفار. وثبت عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما؛ فقال: ما هَذَانِ اليَوْمَانِ ؟ قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ قَدْ أَبْدَلَكُمْ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا: يَوْمَ الأَضْحَى وَيَوْمَ الْفِطْرِ"(2).
__________
(1) …انظر: «تفسير ابن كثير» (3/329، 330).
(2) …أحمد في «مسنده» (3/103، 178، 235، 250)، وأبو داود (1134)، والنسائي (1556)، والحاكم 1/294 (1091) وصححه ووافقه الذهبي.(1/360)
…وصح عن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه أنه قال: نذر رجل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينحر إبلاً بِبُوانَة(1)، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «إِنِّي نَذَرْتُ أَنْ أَنْحَرَ إِبِلاً بِبُوَانَةَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: هَلْ كَانَ فِيهَا وَثَنٌ مِنْ أَوْثَانِ الْجَاهِلِيَّةِ يُعْبَدُ ؟ قَالُوا: لا. قَالَ: هَلْ كَانَ فِيهَا عِيدٌ مِنْ أَعْيَادِهِمْ ؟ قَالُوا: لا. قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: أَوْفِ بِنَذْرِكَ؛ فَإِنَّهُ لا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ، وَلا فِيمَا لا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ »(2).
…وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ( لا تَدْخُلُوا على المشركين في كنائِسِهم يومَ عِيدِهِم فإن السَّخْطَةَ تَنزلُ عليهم )(3) ، وقال أيضاً: (اِجْتَنِبُوا أعداءَ الله في عِيدِهم)(4).
…وعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: (مَن بَنَى بِبلادِ الأعاجِم فصنع نَيْرُوزَهُم ومَهْرَجَانَهُم وتَشبَّهَ بهم حتى يَمُوت وهو كذلك؛ حُشِرَ معهم يوم القيامة)(5).
رابعاً: وينهى أيضاً عن أعياد الكفار لاعتبارات كثيرة منها:
- أن مشابهتهم في بعض أعيادهم يوجب سرور قلوبهم وانشراح صدورهم بما هم عليه من الباطل .
__________
(1) …بُوَانَة: هضبة وراء ينبع قريبة من ساحل البحر. (معجم البلدان 1/505).
(2) …أبو داود (3313). وصححه الألباني في «صحيح أبي داود» (2834).
(3) …البيهقي في "السنن الكبرى" (18640). وانظر: "مجموع الفتاوى" (25/325) وَ"الآداب الشرعية" لابن مفلح (3/417) حيث صحّحا الحديث.
(4) …البيهقي في "السنن الكبرى" (18641)، والبخاري في «التاريخ الكبير» (1804).
(5) …البيهقي في «السنن الكبرى» (18642)، وصحح إسناده: ابن تيمية في «اقتضاء الصراط المستقيم» (1/200)، وابن القيم في «أحكام أهل الذمة» (3/1248).(1/361)
- والمشابهة والمشاكلة في الأمور الظاهرة توجب مشابهة ومشاكلة في الأمور الباطنة من العقائد الفاسدة على وجه المسارقة والتدرج الخفي .
- ومن أعظم المفاسد أيضاً الحاصلة في ذلك: أن مشابهة الكفار في الظاهر تورث نوع مودة ومحبة وموالاة في الباطن، والمحبة والموالاة لهم تنافي الإيمان - كما قال تعالى: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللَّهُ وَرَسُولَهُ}[المَائدة].
خامساً: بناء على ما تقدم فلا يجوز لمسلم - يؤمن بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبياً ورسولاً - أن يقيم احتفالات لأعياد لا أصل لها في دين الإسلام، ومنها الألفية المزعومة، ولا يجوز أيضاً حضورها ولا المشاركة فيها ولا الإعانة عليها بأي شيء كان؛ لأنها إثم ومجاوزة لحدود الله؛ والله تعالى يقول: {وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِْثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[المَائدة: 2].
سادساً: لا يجوز لمسلم التعاون مع الكفار بأي وجه من وجوه التعاون في أعيادهم، ومن ذلك: إشهار أعيادهم وإعلانها، ومنها الألفية المذكورة، ولا الدعوة إليها بأي وسيلة: سواء كانت الدعوة عن طريق وسائل الإعلام، أو نصب الساعات واللوحات الرقمية، أو صناعة الملابس والأغراض التذكارية، أو طبع البطاقات أو الكراسات المدرسية، أوعمل التخفيضات التجارية والجوائز المادية من أجلها، أو الأنشطة الرياضية، أو نشر شعار خاص بها .(1/362)
سابعاً: لا يجوز لمسلم اعتبار أعياد الكفار ومنها الألفية المذكورة ونحوها مناسبات سعيدة وأوقاتاً مباركة: فتعطل فيها الأعمال وتجرى فيها عقود الزواج أو ابتداء الأعمال التجارية أوافتتاح المشاريع وغيرها، ولا يجوز أن يعتقد في هذه الأيام ميزة على غيرها؛ لأن هذه الأيام كغيرها من الأيام ولأن هذا من الاعتقاد الفاسد الذي لا يغير من حقيقتها شيئاً؛ بل إن هذا الاعتقاد فيها هو إثم على إثم نسأل الله العافية والسلامة .
ثامناً: لا يجوز لمسلم التهنئة بأعياد الكفر؛ لأن ذلك نوع رضا بما هم عليه من الباطل وإدخال للسرور عليهم، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق؛ مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم فيقول: عيد مبارك عليك، أوتهنأ بهذا العيد ونحوه، فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات، وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب؛ بل ذلك أعظم إثماً عند الله، وأشد مقتاً من التهنئة بشرب الخمر وقتل النفس وارتكاب الفرج الحرام ونحوه . وكثير من لا قدر للدين عنده يقع في ذلك ولا يدري قبح ما فعل، فمن هنأ عبداً بمعصية أو بدعة أو كفر فقد تعرض لمقت الله وسخطه)(1). اهـ .
تاسعاً: شرف للمسلمين التزامهم بتاريخ هجرة نبيهم محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي أجمع عليه الصحابة رضي الله عنهم وأرّخوا به بدون احتفال، وتوارثه المسلمون من بعدهم منذ أربعة عشر قرناً إلى يومنا هذا؛ لذا فلا يجوز لمسلم التولي عن التاريخ الهجري والأخذ بغيره من تواريخ أمم الأرض: كالتاريخ الميلادي؛ فإنه من استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير . هذا، ونوصي جميع إخواننا المسلمين بتقوى الله حق التقوى، وبالعمل بطاعته والبعد عن معاصيه، والتواصي بذلك والصبر عليه .
__________
(1) …«أحكام أهل الذمة» (1/441).(1/363)
…وليجتهد كل مؤمن ناصح لنفسه، حريص على نجاتها من غضب الله ولعنته في الدنيا والآخرة - في تحقيق العلم والإيمان، وليتخذ الله هادياً ونصيراً وحاكماً وولياً؛ فإنه نعم المولى ونعم النصير، وكفى بربك هادياً ونصيراً، وليدع بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ" (1)، والحمد لله رب العالمين .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - برقم (21049) وتاريخ 12/8/1420هـ
حكم افتتاح المساجد بالاحتفال والاجتماع
ما حكم افتتاح المساجد بالاحتفال والاجتماع لذلك والإشادة به ؟
__________
(1) …مسلم (770) .(1/364)
افتتاح المساجد يكون بالصلاة فيها وعمارتها بذكر الله، من تلاوة القرآن والتسبيح والتحميد والتهليل وتعليم العلوم الشرعية ووسائلها ونحو ذلك مما فيه رفع شأنها، قال الله تعالى: [النُّور].{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآْصَالِ *رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَْبْصَارُ *لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ *} بهذا ونحوه من النصائح والمواعظ والمشورة كان يعمرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وتبعه في هذا الخلفاء الراشدون وسائر صحابته وأئمة الهدى من بعده رضي الله عنهم ورحمهم، والخير كل الخير في الاهتداء بهديهم في الوقوف عندما قاموا به في افتتاح المساجد، وعمارتها بما عمروها به من العبادات وما في معناها من شعائر الإسلام.(1/365)
ولم يثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - ولا عمن اتبعه من أئمة الهدى أنهم افتتحوا مسجداً بالاحتفال وبالدعوة إلى مثل ما يدعو إليه الناس اليوم؛ من الاجتماع من البلاد عند تمام بنائه للإشادة به، ولو كان ذلك مما يُحمد لكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسبق الناس إليه، ولسنَّهُ لأمته، ولتبعه عليه خلفاؤه الراشدون وأئمة الهدى من بعده، ولو حصل ذلك لنُقل. وعلى هذا فلا ينبغي مثل هذه الاحتفالات، ولا يُستجاب للدعوة إليها ولا يُتعاون على إقامتها بدفع مال أو غيره. فإنَّ الخير في اتباع من سلف، والشر في ابتداع من خلف، وليس في دعوة بعض الصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بيته ليصلي في مكان منه ركعتين - كي يتخذه صاحبه مصلى يصلي فيه ما قدر له من النوافل - دليل على ما عُرف اليوم من الاحتفال لافتتاح المساجد؛ فإنه لم يدعُه إلى احتفال، بل لصلاة، ولم يسافر لأجل تلك الصلاة، ثم السفر إلى ذلك الاحتفال أو للصلاة في ذلك المسجد داخل في عموم النهي عن شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة المعروفة؛ فينبغي العدول عن تلك العادة المُحدثة، والاكتفاء في شؤون المساجد وغيرها بما كان عليه العمل في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأتباعه أئمة الهدى رحمهم الله، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة - من كتاب فتاوى إسلامية، جمع محمد المسند (1/18)، وكتاب البدع والمحدثات، جمع حمود المطر، ص (233)
حكم التوسل وأقسامه
ما حكم التوسل ؟ وما أقسامه ؟
التوسل: اتخاذ الوسيلة،والوسيلة كل ما يوصل إلى المقصود، فهي من الوصل؛ لأن الصاد والسين يتناوبان، كما يقال: صراط وسراط، وبصطة وبسطة .(1/366)
والتوسل في دعاء الله تعالى أن يقرن الداعي بدعائه ما يكون سبباً في قبول دعائه، ولابد من دليل على كون هذا الشيء سبباً للقبول، ولا يعلم ذلك إلا من طريق الشرع؛ فمن جعل شيئاً من الأمور وسيلة له في قبول دعائه بدون دليل من الشرع فقد قال على الله ما لا يعلم، إذ كيف يدري أن ما جعله وسيلة مما يرضاه الله تعالى ويكون سبباً في قبول دعائه ؟! والدعاء من العبادة، والعبادة موقوفة على مجيء الشرع بها . وقد أنكر الله تعالى على من اتبع شرعاً بدون إذنه، وجعله من الشرك - فقال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}[الشّورى: 21]، وقال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهًا وَاحِدًا لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ *}[التّوبَة].
والتوسل في دعاء الله تعالى قسمان:
القسم الأول: أن يكون بوسيلة جاءت بها الشريعة، وهو أنواع:(1/367)
الأول: التوسل بأسماء الله تعالى وصفاته وأفعاله، فيتوسل إلى الله تعالى بالاسم المقتضي لمطلوبه، أو بالصفة المقتضية له أو بالفعل المقتضي. قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَْسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}[الأعرَاف: 180]، فيقول: اللّهم يارحيم ارحمني، ويا غفور اغفر لي، ونحو ذلك، وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ، وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ أَحْيِنِي مَا عَلِمْتَ الْحَيَاةَ خَيْرًا لِي(1). وعلّم أمته أن يقولوا في الصلاة عليه: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ(2).
الثاني: التوسل إلى الله تعالى بالإيمان به وطاعته - كقوله عن أولي الألباب: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَْبْرَارِ *}[آل عِمرَان].
وقوله: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ *}[المؤمنون].
وقوله عن الحواريين: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ *}[آل عِمرَان].
__________
(1) …أحمد (4/264)، وأبو يعلى (1624) والنسائي (1305، 1306)، وابن أبي شيبة (29346)، وابن حبان (1971)، والحاكم 1/524 (1923) وصححه ووافقه الذهبي.
(2) …الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وردت في الصحيح بألفاظ مختلفة عن غير واحد من الصحابة، انظر منها: صحيح البخاري (3369)، ومسلم (407) من حديث أبي حميد الساعدي، والبخاري (3370)، ومسلم (406) من حديث كعب بن عجرة، والبخاري في التفسير (4798) من حديث أبي سعيد، ومسلم (405) من حديث أبي مسعود .(1/368)
الثالث: أن يتوسل إلى الله بذكر حال الداعي المبيِّنة لاضطراره وحاجته - كقول موسى عليه الصلاة والسلام: {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ *}[القَصَص].
الرابع: أن يتوسل إلى الله بدعاء مَنْ تُرْجَى إجابته، كطلب الصحابة رضي الله عنهم من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو الله لهم، مثل قول الرجل الذي دخل يوم الجمعة والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب فقال: اُدْعُ اللهَ أنْ يُغِيثَنا(1)، وقول عكاشة بن محصن رضي الله عنه للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "اُدْعُ اللهَ أنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُم"(2).
__________
(1) …البخاري (1013)، ومسلم (897) .
(2) …البخاري (5752)، ومسلم في الإيمان (220) من حديث ابن عباس . والبخاري (5811)، ومسلم (216) من حديث أبي هريرة . ومسلم (218) من حديث عمران بن حصين.(1/369)
وهذا إنما يكون في حياة الداعي أما بعد موته فلا يجوز؛ لأنه لا عمل له فقد انتقل إلى دار الجزاء، ولذلك لما أَجْدَبَ الناسُ في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يطلبوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يَسْتَسْقِيَ لهم؛ بل استسقى عمر بالعباس عَمِّ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال له: قُمْ فاسْتَسْقِ، فقام العباس فَدَعَا(1). وأما ما يروى عن العتبي أن أعرابياً جاء إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: السلام عليك يا رسول الله، سمعت الله يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا *}[النِّسَاء]، وقد جئتك مستغفراً من ذنوبي مستشفعاً بك إلى ربي . . وذكر تمام القصة فهذه كذبة لا تصح، والآية ليس فيها دليل لذلك؛ لأن الله يقول: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} ولم يقل: إذا ظلموا أنفسهم . و{إِذْ} لما مضى لا للمستقبل، والآية في قوم تحاكموا أو أرادوا التحاكم إلى غير الله ورسوله - كما يدل على ذلك سياقها السابق واللاحق .
القسم الثاني: أن يكون التوسل بوسيلة لم يأت بها الشرع وهي نوعان:
أحدهما: أن يكون بوسيلة أبطلها الشرع؛ كتوسل المشركين بآلهتهم، وبطلان هذا ظاهر .
__________
(1) …البخاري (1010، 3710)؛ بمعناه، وعبدالرزاق في «مصنفه» (4913).(1/370)
الثاني : أن يكون بوسيلة سكت عنها الشرع، وهذا محرم، وهو نوع من الشرك؛ مثل أن يتوسل بجاه شخص ذي جاه عند الله فيقول: أسألك بجاه نبيك؛ فلا يجوز ذلك؛ لأنه إثبات لسبب لم يعتبره الشرع، ولأن جاه ذي الجاه ليس له أثر في قبول الدعاء؛ لأنه لا يتعلق بالداعي ولا بالمدعو، وإنما هو من شأن ذي الجاه وحده، فليس بنافع لك في حصول مطلوبك أو دفع مكروبك، ووسيلة الشيء ما كان موصلاً إليه، والتوسل بالشيء إلى ما لا يوصل إليه نوع من العبث؛ فلا يليق أن تتخذه فيما بينك وبين ربك . والله الموفق .
الشيخ ابن عثيمين - فتاوى العقيدة، ص (267 - 270 )
حكم التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم -
ما حكم التوسل بسيد الأنبياء - صلى الله عليه وسلم - ؟ وهل هناك أدلة على تحريمه ؟
التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم -(1) فيه تفصيل، فإن كان ذلك باتباعه ومحبته وطاعة أوامره وترك نواهيه والإخلاص لله في العبادة؛ فهذا هو الإسلام، وهو دين الله الذي بعث به أنبياءه، وهو الواجب على كل مكلف . . وهو الوسيلة للسعادة في الدنيا والآخرة.
أما التوسل بدعائه والاستغاثة به وطلبه النصر على الأعداء والشفاء للمرضى - فهذا هو الشرك الأكبر، وهو دين أبي جهل وأشباهه من عبدة الأوثان، وهكذا فِعْلُ ذلك مع غيره من الأنبياء والأولياء أو الجن أو الملائكة أو الأشجار أو الأحجار أو الأصنام .
وهناك نوع ثالث يسمى التوسل؛ وهو التوسل بجاهه أو بحقه أو بذاته؛ مثل أن يقول الإنسان: (أسألك يا الله بنبيك، أو جاه نبيك، أو حق نبيك، أو جاه الأنبياء، أو حق الأنبياء، أو جاه الأولياء والصالحين، وأمثال ذلك)؛ فهذا بدعة ومن وسائل الشرك، ولا يجوز فعله معه ولا مع غيره؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يشرع ذلك، والعبادات توقيفية لا يجوز منها إلا ما دل عليه الشرع المطهر .
__________
(1) …يعني بعد موته - صلى الله عليه وسلم -.(1/371)
وأما توسل الأعمى به في حياته ( فهو توسل به ) ليدعو له ويشفع له إلى الله في إعادة بصره إليه، وليس توسلاً بالذات أو الجاه أو الحق كما يعلم ذلك من سياق الحديث(1)، وكما أوضح ذلك علماء السنة في شرح الحديث .
وقد بسط الكلام في ذلك شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله في كتبه الكثيرة المفيدة، ومنها كتابه المسمى: «القاعدة الجليلة في التوسل والوسيلة» ، وهو كتاب مفيد جدير بالاطلاع عليه والاستفادة منه .
وهذا الحكم جائز مع غيره - صلى الله عليه وسلم - من الأحياء؛ كأن تقول لأخيك، أو أبيك، أو من تظن فيه الخير: اُدْعُ الله لي أن يشفيني من مرضي، أو يردّ علي بصري، أو يرزقني الذرية الصالحة، أو نحو ذلك - بإجماع أهل العلم . والله ولي التوفيق .
الشيخ ابن باز - مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (5/322، 323)
حكم التوسل بالأولياء وشرح حديث العباس رضي الله عنه
__________
(1) …المقصود به حديث عثمان بن حنيف رضي الله عنه: «أَنَّ رَجُلا ضَرِيرَ الْبَصَرِ أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: ادْعُ الله أَنْ يُعَافِيَنِي. قَالَ: إِنْ شِئْتَ دَعَوْتُ لَكَ وَإِنْ شِئْتَ أَخَّرْتُ ذَاكَ فَهُوَ خَيْرٌ. فَقَالَ: ادْعُهُ فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ فَيُحْسِنَ وُضُوءَهُ فَيُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ وَيَدْعُوَ بِهَذَا الدُّعَاءِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ، يَا مُحَمَّدُ إِنِّي تَوَجَّهْتُ بِكَ إِلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي هَذِهِ فَتُقْضَى لِي، اللَّهُمَّ شَفِّعْهُ فِيَّ» رواه أحمد (4/138)، وفي طبعة الرسالة (28/478) قال الأرناؤوط: «إسناده صحيح ورجاله ثقات»، والترمذي (3578)، والنسائي في «عمل اليوم والليلة» (658-660)، وابن ماجه (1385).(1/372)
هل هذا الحديث صحيح ؟ وهل يدل على جواز التوسل بجاه الأولياء ؟ الحديث هو: عن أنس بن مالك رضي الله عنه : (( أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه كَانَ إِذَا قَحَطُوا اسْتَسْقَى بِالْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؛ فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا، وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا. قَالَ: فَيُسْقَوْنَ))(1).
هذا الحديث الذي أشار إليه السائل حديث صحيح، رواه البخاري، لكن من تأمله وجد أنه دليل على عدم التوسل بجاه النبي - صلى الله عليه وسلم - أو غيره، وذلك أن التوسل هو اتخاذ وسيلة، والوسيلة هي الشيء الموصل إلى المقصود، والوسيلة المذكورة في هذا الحديث: نتوسَّلُ إليك بنبِيِّنا فَتَسْقِينا، وإنا نتوسل إليك بعَمِّ نبينا فَاسْقِنَا(2) المراد بها: التوسل إلى الله تعالى بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ كما قال الرجل: يا رسول الله، هَلَكَتِ الأَمْوَالُ وانْقَطَعَتِ السُّبُلُ؛ فادْعُ اللهَ يُغِيثُنَا(3). ولأن عمر قال للعباس: قُمْ يا عباس فَادْعُ الله، فَدَعَا. ولو كان هذا من باب التوسل بالجاه لكان عمر رضي الله عنه يتوسل بجاه النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يتوسل بالعباس رضي الله عنه، لأن جاه النبي - صلى الله عليه وسلم - عند الله أعظم من جاه العباس وغيره.
والحاصل: أن التوسل إلى الله تعالى بدعاء من ترجى فيه إجابة الدعاء لصلاحه لا بأس به؛ فقد كان الصحابة رضي الله عنهم يتوسلون إلى الله تعالى بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم، وكذلك عمر توسل بدعاء العباس بن عبدالمطلب رضي الله عنه .
__________
(1) …البخاري (1010) .
(2) …البخاري (1010) .
(3) …البخاري (1014)، ومسلم (897) .(1/373)
فلا بأس إذا رأيت رجلاً صالحاً حرياً بالإجابة؛ لكون طعامه وشرابه وملبسه ومسكنه حلالاً، وكونه معروفاً بالعبادة والتقوى؛ لا بأس أن تسأله أن يدعو الله لك بما تحب؛ بشرط ألاّ يحصل في ذلك غرور لهذا الشخص الذي طلب منه الدعاء، فإن حصل منه غرور بذلك فإنه لا يحل لك أن تقتله وتهلكه بهذا الطلب منه؛ لأن ذلك يضره .
كما أنني أيضاً أقول: إن هذا جائز، ولكنني لا أحبذه، وأرى أن الإنسان يسأل الله تعالى بنفسه دون أن يجعل له واسطة بينه وبين الله، وأن ذلك أقوى في الرجاء وأقرب إلى الخشية، كما أنني أيضاً أرغب من أن الإنسان إذا طلب من أخيه الذي ترجى إجابة دعائه أن يدعو له أن ينوي بذلك الإحسان إليه؛ أي إلى هذا الداعي دون دفع حاجة هذا المدعو له؛ لأنه إذا طلبه من أجل دفع حاجته صار كسؤال المال وشبهه المذموم، أما إذا قصد بذلك نفع أخيه بالإحسان إليه، والإحسان إلى المسلم يثاب عليه المرء كما هو معروف - كان هذا أولى وأحسن . والله ولي التوفيق .
الشيخ ابن عثيمين - فتاوى العقيدة، ص (283 ، 284)
حكم توجيه الرسائل إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وغيره بعد وفاتهم
كثيراً ما نجد رسائل على أستار الكعبة على عنوانها جملة تقول: (إلى المولى عز وجل ، إلى الله الكريم) وبداخل الرسالة ما يلي: (يا حبيب الله نتمنى زيارة بيتك والقرب منه، نتمنى الصلاة في حرمك الشريف، وأرجوك يا حبيب الله أن تقبل طلبنا هذا، وأن تقربنا منك مع حرمي وزوجي، لأكون بقربك أسعد، والصلاة عليك يا حبيب الله) (خادمك المطيع علوية بنت عائشة) فما رأيكم فيمن كتبها واعتقدها ؟(1/374)
هذه الرسالة موجهة من علوية بنت عائشة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - - فيما يظهر - وهذه الرسالة تتضمن دعاء غير الله عز وجل، ودعاء غير الله عز وجل شرك أكبر مخرج عن الملة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نفسه لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، ولا يملك لغيره نفعاً ولا ضراً، قال الله تعالى: {قُلْ لاَ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ}[الأنعَام، من الآية: 50].
فهو - صلى الله عليه وسلم - ليس عنده خزائن الله فيعطيها من شاء، ولا يعلم الغيب؛ فيحذر ما يأتي به الغيب، وهو ليس بملك، بل هو بشر؛ بل هو عبد من عباد الله - صلى الله عليه وسلم -، فهو متبع لما أوحى إليه، بل إن وصفه - صلى الله عليه وسلم - بالعبودية إنما جاء في مقام الإكرام له كمقام إنزال القرآن، ومقام الإسراء، والدفاع عنه.
على كل حال فإن هذه الرسالة وما أشبهها شرك أكبر مخرج عن الملة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يملك لهذه المرأة ولا لغيرها أن يدفع ضرراً أو يجلب نفعاً؛ {قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ رَشَدًا *}[الجنّ]. وهو - صلى الله عليه وسلم - جمع عشيرته الأقربين وسار يناديهم بأسمائهم: لا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللهِ شَيْئًا(1). فعلى هذه المرأة أن تتوب إلى الله عز وجل، وأن تجعل دعاءها إلى الله سبحانه، فهو الذي يكشف السوء، وهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه.
__________
(1) …البخاري (2753)، ومسلم (206) .(1/375)
وفي كلامها نقطة نحب أن نعلق عليها؛ وهي قولها في الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (يا حبيب الله)، فهو حبيب الله لا شك، ولكن هناك وصف أعلى من ذلك وهو (خليل الله) فالرسول - صلى الله عليه وسلم - خليل الله، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ اتَّخَذَنِي خَلِيلاً كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً (1)، ولهذا فمن وصفه بالمحبة فقط، فقد نزله عن رتبته؛ لأن الخُلَّة أعظم من المحبة وأعلى.
فكل المؤمنين أحباء الله، ولكن الرسول عليه الصلاة والسلام في مقام أعلى من ذلك؛ وهي الخلة، لذلك نقول إن محمداً رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خليل الله. وهذا أعلى من قولنا: إنه حبيب الله.
الشيخ ابن عثيمين - فتاوى العقيدة، ص (396، 397)
حكم إضاءة مقامات الأولياء والنذر لذلك
ما حكم إضاءة مقامات الأولياء والنذر لذلك ؟
__________
(1) …مسلم (532) .(1/376)
إضاءة مقامات الأولياء والأنبياء - والتي يريد بها السائل قبورهم - هذه الإضاءة محرمة، وقد ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن فاعليها(1)؛ فلا يجوز أن تضاء هذه القبور، وفاعل ذلك ملعون على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فعلى هذا إذا نذر الإنسان إضاءة هذا القبر فإن نذره محرم، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلا يَعْصِهِ(2). فلا يجوز له أن يفي بهذا النذر. ولكن هل يجب عليه أن يكفر كفارة يمين لعدم وفائه بنذره أو لا يجب ؟ هذا محل خلاف بين أهل العلم . والاحتياط أن يُكفِّر كفارة يمين عن عدم وفائه بهذا النذر . والله أعلم .
الشيخ ابن عثيمين - فتاوى العقيدة، ص (28)
هل المشايخ يشفعون ويجب اتباعهم مطلقًا ؟
من سوداني مقيم في الأنبار يقول: في بلدنا طوائف متفرقة كل طائفة تتبع شيخاً يرشدها ويعلمها أشياء، ويعتقدون أنهم يشفعون لهم عند الله يوم القيامة، ومن لم يتبع هؤلاء المشايخ يعد ضائعاً في الدنيا والآخرة؛ فهل علينا اتباع هؤلاء أو نخالفهم ؟ أفيدونا بارك الله فيكم .
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداه .. أما بعد:
__________
(1) …في حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لَعَنَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زَائِرات القبور، والمتَّخِذِين عليها المسَاجِد والسُّرُج)؛ أخرجه: أحمد (1/229، 287، 324، 337)، وأبو داود (3236)، والترمذي (320)، وقال: «حديث حسن»، والنسائي (2045)، وابن حبان (3179، 3180)، وغيرهم.
(2) …البخاري (6696) .(1/377)
فيذكر السائل أن لديهم مشايخ يتبعونهم، وأن من ليس له شيخ فهو ضائع في الدنيا والآخرة إذا لم يطع هذا الشيخ . والجواب عن هذا: أن هذا غلط ومنكر لا يجوز اتخاذه ولا اعتقاده، وهذا واقع فيه كثير من الصوفية، يرون أن مشايخهم هم القادة، وأن الواجب اتباعهم مطلقاً، وهذا غلط عظيم وجهل كبير، وليس في الدنيا أحد يجب اتباعه والأخذ بقوله سوى رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ فهو المتَّبَع عليه الصلاة والسلام . أما العلماء فكل واحد يخطئ ويصيب، فلا يجوز اتباع قول أحد من الناس كائناً من كان إلا إذا وافق شريعة الله، وإن كان عالماً كبيراً، فقوله لا يجب اتباعه إلا إذا كان موافقاً لشرع الله الذي جاء به محمد عليه الصلاة والسلام؛ لا الصوفية ولا غير الصوفية، واعتقاد الصوفية في هؤلاء المشايخ أمر باطل وغلط، فالواجب عليهم التوبة إلى الله من ذلك، وأن يتبعوا محمداً - صلى الله عليه وسلم - فيما جاء به من الهدى؛ قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ *}[آل عِمرَان]، المعنى: قل يا أيها الرسول للناس: إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ... والمراد هو محمد - صلى الله عليه وسلم -، والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء الناس المدعين لمحبة الله: إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله . وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}[الحَشر: 7]، وقال سبحانه: {وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ *}[النُّور].(1/378)
فالطاعة الواجبة هي طاعة الله ورسوله، ولا يجوز طاعة أحد من الناس بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا إذا وافق قوله شريعة الله، فكل واحد يخطئ ويصيب ما عدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن الله عصمه وحفظه فيما يبلغه للناس من شرع الله عز وجل، قال تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى *مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى *وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى *إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى *}[النّجْم]، فعلينا جميعاً أن نتبع ما جاء به عليه الصلاة والسلام، وأن نعتصم بدين الله ونحافظ عليه، وألاّ نغتر بقول الرجال، وألاّ نأخذ بأخطائهم، بل يجب أن تعرض أقوال الناس وآراؤهم على كتاب الله وسنة رسوله؛ فما وافق الكتاب والسنة أو أحدهما قُبل وإلا فلا؛ قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَْمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَومِ الآْخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً *}[النِّسَاء]، وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ}[الشّورى: 10]، وقال عز وجل: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ *}[الأنعَام]. فتقليد المشايخ واتباع آرائهم بغير علم وبصيرة ذلك أمر لا يجوز عند جميع العلماء؛ بل منكر بإجماع أهل السنة والجماعة، لكن ما وافق الحق من أقوال العلماء أخذ به؛ لأنه وافق الحق، لا لأنه قول فلان . وما خالف الحق من أقوال العلماء أو مشايخ الصوفية أو غيرهم وجب رده، وعدم الأخذ به؛ لكونه خالف الحق لا لكونه قول فلان أو فلان .
الشيخ ابن باز - مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (5/383-385)
حقيقة التصوف(1/379)
ما حقيقة التصوف ؟ وهل في التصوف جوانب حسنة وجوانب سيئة ؟ وهل التصوف مفصول عن الفقه ؟
أرجو من فضيلتكم التحدث إلي عن الحضرة النبوية التي توجد في المفهوم الصوفي، وهل هي حقيقة ؟.
عندي في السودان بعض رجال المتصوفة يستدلون على بناء القباب على الميت بالقبة المشيدة على قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ؛ ما حكم الدين في ذلك ؟
ما هي حقيقة هذه الأسماء: الفوتى والقطبي ورجال الكون في المفهوم الصوفي ؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه.. وبعد:
أولاً: اقرأ في ذلك كتاب (مدارج السالكين) لابن قيم الجوزية وكتاب (هذه هي الصوفية) لعبد الرحمن الوكيل فيما يتعلق بمسائل التصوف.
ثانيًا: ليس في إقامة القبة على قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة لمن يتعلل بذلك في بناء قباب على قبور الأولياء والصالحين؛ لأن إقامة القبة على قبره لم تكن بوصية منه ولا من عمل أصحابه رضي الله عنهم ولا من التابعين ولا أحد من أئمة الهدى في القرون الأولى التي شهد لها النبي - صلى الله عليه وسلم - بالخير؛ إنما كان ذلك من أهل البدع، وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ (1)، وثبت عن علي رضي الله عنه أنه قال لأبي الهياج: أَلا أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: أَنْ لا تَدَعَ تِمْثَالاً إِلا طَمَسْتَهُ، وَلا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلا سَوَّيْتَهُ (2)؛ فإذا لم يثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - بناء قبة على قبره ولم يثبت ذلك عن أئمة الخير؛ بل ثبت عنه ما يبطل ذلك - لم يكن لمسلم أن يتعلق بما أحدثه المبتدعة من بناء قبة على قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
__________
(1) …البخاري (2697)، ومسلم (1718) .
(2) …مسلم (969) .(1/380)
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (2/182)
حكم من ليس له شيخ مُعيَّن
شائع لدى بعض الناس أن الذي ليس له شيخ شيخه الشيطان .. فبماذا توجهونهم سماحة الشيخ ؟
هذا غلط عامي، وجهل من بعض الصوفية ليرغبوا الناس في الاتصال بهم وتقليدهم في بدعهم وضلالاتهم، فإن الإنسان إذا تفقه في دينه بحضور الحلقات العلمية والدينية، أو بتدبر القرآن أو السنة واستفاد من ذلك فلا يقال قد اجتهد في طلب العلم؛ بل يقال: حصل له خير كثير، وينبغي لطالب العلم الاتصال بالعلماء المعروفين بحسن العقيدة والسيرة يسألهم عما أشكل عليه؛ لأنه إذا كان لا يسأل أهل العلم قد يغلط كثيراً وتلتبس عليه الأمور، أما إذا حضر الحلقات العلمية وسمع الوعظ من أهل العلم فإنه بذلك يحصل له خير كثير وفوائد جمة؛ وإن لم يكن له شيخ معين .
ولا شك أن الذي يحضر حلقات العلم، ويسمع خطب الجمعة وخطب الأعياد والمحاضرات التي تعرض في المساجد - شيوخه كثيرون، وإن لم ينتسب إلى واحد معين يقلده ويتبع رأيه .
الشيخ ابن باز - مجلة البحوث، عدد (39)، ص (133)
حكم من يطلب من مريديه تذكره عند الهم بالمعصية
قال شيخ لمريده الذي يريد أن يدرس في أوروبا وهو يودعه: يا بني إذا سولت لك نفسك بالمعصية هناك فتذكر شيخك؛ يصرف الله عنك هذا السوء وهذه الفاحشة؛ فهل هذا شرك بالله ؟
هذا منكر عظيم وشرك بالله جلّ وعلا؛ لأنه فزع إلى الشيخ لينقذه من هذا الشيء، والواجب أن يقول: فاذكر الله، واسأل ربك العون والتوفيق واعتصم به، وأما أن يوصيه بأن يذكر شيخه فهذا من أخطاء غلاة الصوفية يوجهون مريديهم وتلاميذهم إلى أن يعبدوهم من دون الله، ويلجؤوا إليهم، ويتوكلوا عليهم في قضاء الحاجات وتفريج الكروب، وهذا من الشرك الأكبر. نعوذ بالله من ذلك . فالواجب على هذا الشخص أن يتقي الله، وأن يفزع إليه سبحانه فيما يهمه، ويسأله العون والتوفيق، لا إلى شيخه الذي علمه أن يفزع إليه، والله المستعان .(1/381)
الشيخ ابن باز - مجلة البحوث عدد (39) ص (149، 150)
حكم السفر إلى بعض المشايخ لأخذ بعض الطرق الصوفية أو تقديم القرابين
عندنا في السودان شيخ له أتباع كثيرون يتفانون في خدمته وطاعته والسفر إليه معتقدين أنه من أولياء الله، فيأخذون منه الطريقة السمانية الصوفية، وتوجد فيه قبة كبيرة لوالده يتبرك بها هؤلاء الأتباع، ويضعون فيها ما تجود به أنفسهم من النذور، ويضمون إلى ذلك الذكر بضرب الدفوف والطبول والأشعار، وفي هذا العام أمرهم شيخهم بزيارة قبر شيخ آخر، فسافروا رجالاً ونساء في مائة سيارة .. فكيف توجهونهم ؟
هذا منكر عظيم وشر كبير، فإن السفر إلى زيارة القبور منكر، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تَشُدُّوا الرِّحَالَ إِلا إِلَى ثَلاثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِي هَذَا، وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَالْمَسْجِدِ الأَقْصَى(1). ثم إن التقرب لأصحاب القبور بالنذور أو الذبائح أو الصلوات أو بالدعاء والاستغاثة بهم - كله شرك بالله عز وجل. فلا يجوز لمسلم أن يدعو صاحب قبر ولو كان عظيماً كالرسل عليهم الصلاة والسلام، ولا يجوز أن يستغاث بهم - كما لا يجوز أن يستغاث بالأصنام ولا بالأشجار ولا بالكواكب . أما لعبهم بالدفوف والطبول وتقربهم بذلك إلى الله سبحانه فهو من البدع المنكرة، وكثير من الصوفية يتعبدون بذلك فكله منكر وبدعة، وليس مما شرعه الله، وإنما يشرع الدف للنساء في العرس خاصة إظهارا للنكاح، وليعلم أنه نكاح وليس بسفاح.
__________
(1) …البخاري (1197)، ومسلم (1397) .(1/382)
كذلك من البدع ووسائل الشرك البناء على القبور، واتخاذها مساجد؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن تجصيص القبور والبناء عليها والقعود عليها؛ كما روى الإمام مسلم في الصحيح عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ، وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ (1)، وقال عليه الصلاة والسلام: لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؛ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ(2). فيجب أن تكون القبور مكشوفة ليس عليها بناء، ولا يجوز التبرك بها ولا التمسح بها، كما لا يجوز دعاء أهلها والاستغاثة بهم، ولا النذر لهم ولا الذبح لهم؛ فكل هذا من عمل الجاهلية.
__________
(1) …مسلم (970) .
(2) …البخاري (1330)، ومسلم (529) .(1/383)
فالواجب على أهل الإسلام الحذر من ذلك، والواجب على أهل العلم أن ينصحوا هذا الشيخ، وأن يعلموه أن هذا العمل عمل باطل ومنكر، وأن ترغيبه للناس في الاستعانة بالأموات ودعوتهم من دون الله أن هذا من الشرك الأكبر، والعياذ بالله، ويجب على المسلمين أن لا يقلدوه ولا يتبعوه ولا يغتروا به، فالعبادة حق الله وحده وهو الذي يدعى ويرجى - قال الله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا *}[الجنّ]، وقال سبحانه: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ *}[المؤمنون]، فسماهم كفرة بدعوتهم غير الله من الجن والملائكة وأصحاب القبور والكواكب أو الأصنام، كل هؤلاء دعوتهم مع الله شرك أكبر؛ يقول الله تعالى: {وَلاَ تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ *}[يُونس]. يعني: المشركين، وعلى جميع من يستطيع إنكار هذا المنكر أن يساهم في ذلك، وعلى الدولة إن كانت مسلمة أن تمنع ذلك، وأن تعلم الناس ما شرع الله لهم وأوجبه عليهم من أمر الدين؛ حتى يزول هذا الشرك.
الشيخ ابن باز - مجلة البحوث عدد (39) ص (143 - 145)
الطرق الصوفية وأورادها
حكم الطرق الصوفية والأوراد التي نظموها ورتبوها قبل صلاة الفجر وبعد صلاة المغرب، وحكم من زعم أنه رأى النبي يقظة وسلّم عليه بقوله: السلام عليك يا عين العيون وروح الأرواح ؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه ... وبعد:
الطرق والأوراد التي ذكرتها طرق وأوراد محدثة مبتدعة، ومن جملتها طريقة التيجانية والكتانية، ولا يشرع من أورادهم إلا ما وافق الكتاب والسنة الصحيحة .(1/384)
وأما ما ذكر في السؤال أن بعض الناس دخل على الكتاني فرأى النبي - صلى الله عليه وسلم - بجواره يقظة وقال: السلام عليك يا عين العيون ... إلخ؛ فهذا باطل لا أصل له، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يرى بعد موته يقظة، ولا يخرج من قبره إلا يوم القيامة - كما قال الله سبحانه: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ *ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ *}[المؤمنون]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ(1).
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (2/184)
حكم اتخاذ صورة للقبر النبوي في المسجد
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله وآله، وبعد: فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على كتاب معالي وزير العدل المحال إليها من الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء برقم 1437 وتاريخ 17/8/1392هـ والمشتمل على ما تضمنه خطاب رئيس المؤسسة الثقافية في سيلان من الاستفتاء عما يفعله بعض المصلين في جامع الحنفي في كولمبو: من أنهم يقفون في الجانب الأيمن من المسجد وأمامهم صورة لقبر الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ثم يتلون الصلاة عليه. ويطلب رئيس المؤسسة الثقافية هناك بيان الفتوى الشرعية في هذه المسألة ومعرفة حكمها.
وبعد دراسة اللجنة للاستفتاء أجابت بما يلي:
__________
(1) …مسلم (2278) بنحوه.(1/385)
إن إدخال صورة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - في مسجد ما أو إحداثها فيه بدعة منكرة، والمثول عندها والوقوف أمامها بدعة أخرى منكرة أيضًا؛ حدا الناس إليها غلوهم في الصالحين، وأوقعهم فيها تجاوزهم الحد في تعظيم الأنبياء والمرسلين . وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الغلو في الدين؛ فقال: "إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ؛ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالْغُلُوِّ فِي الدِّينِ" (1)، ولم يعهد هذا العمل عن الصحابة ومن بعدهم من خير القرون رضي الله عنهم مع تفرقهم في البلاد وبعدهم عن المدينة المنورة، وقد كانوا أعظم منا حبًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأكثر تقديرًا وأحرص على الخير وأتبع للدين، فلو كان هذا العمل مشروعًا لما تركوه ولا أهملوه؛ بل هو ذريعة إلى الشرك الأكبر والعياذ بالله . لذلك حذروه وصانوا أنفسهم عن الوقوع فيه، فعلينا معشر المسلمين أن نقفوا آثارهم، ونسلك سبيلهم، فإن الخير في اتباع من سلف، والشر في ابتداع من خلف .
وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة تحذير النبي - صلى الله عليه وسلم - من اتخاذ القبور مساجد، وذلك ببنائها عليها أو الصلاة عندها أو دفن الأموات فيها؛ خشية من الغلو في الصالحين وتجاوز الحد في تقديرهم فيفضي بهم ذلك إلى دعائهم من دون الله والاستعانة بهم في الشدائد، ودعا النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه ألا يجعل قبره وثنًا يعبد، ولعن اليهود والنصارى لاتخاذهم قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، تحذيرًا للمسلمين من أن يصنعوا مثل صنيعهم فيقعوا في مثل ما وقعوا فيه من البدع والوثنية.
__________
(1) …أحمد (1/215)، وابن ماجه (3029)، والنسائي (3057)، وابن أبي شيبة (13909)، وابن خزيمة (2867)، وابن حبان (3871)، والحاكم 1/466 (1711) وصححه ووافقه الذهبي.(1/386)
هذا وإن تصوير قبور الصالحين في المساجد أو تعليقها على جدرانها أو اتخاذ الصالحين فيها في حكم دفنهم في المساجد أو بنائها على قبورهم، فإنها جميعها ذريعة إلى الوثنية الجاهلية ومدعاة إلى عبادة غير الله. وذرائع الشر مما يجب على المسلمين سد بابها؛ حماية لعقيدة التوحيد وصيانة لهم من الوقوع في مهاوي الضلال. .
روى البخاري ومسلم: أن أم سلمة وأم حبيبة رضي الله عنهما ذكرتا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كنيسة رأتاها بأرض الحبشة وما فيها من الصور؛ فقال: "أُولَئِكِ إِذَا كَانَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكِ الصُّوَرَ؛ أُولَئِكِ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللهِ"(1).
ولهما عن عائشة رضي الله عنها قالت: لَمَّا نُزِلَ بِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً لَهُ عَلَى وَجْهِهِ فَإِذَا اغْتَمَّ كَشَفَهَا عَنْ وَجْهِهِ فَقَالَ - وَهُوَ كَذَلِكَ-: لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ؛ يُحَذِّرُ مِثْلَ مَا صَنَعُوا (2)، ولولا ذلك أُبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدًا. وفي صحيح مسلم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَلا وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ، أَلا فَلا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، إِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ"(3).
__________
(1) …البخاري (427)، ومسلم (528) .
(2) …البخاري (435)، ومسلم (531) . والخَمِيصَة: ثوبُ حرير أو صوف مُعَلَّم.
(3) …مسلم في المساجد (532) .(1/387)
وروى مالك في الموطأ: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "اللَّهُمَّ لا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ، اشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ" (1)، وروى أبوداود في سننه: عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا، وَلا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدًا، وَصَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّ صَلاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُمْ"(2).
فأمر - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة عليه حيثما كنا، وأخبر أن صلاتنا تبلغه أينما كنا حين صلاتنا عليه؛ دون أن يكون أمامنا قبره أو صورة قبره، فإحداث تلك الصور ووضعها في المساجد من البدع المنكرة التي تفضي إلى الشرك والعياذ بالله. فيجب على علماء المسلمين أن ينكروا ذلك على فاعليه، وعلى أولي الأمر والشأن أن يزيلوا صورة القبور من المساجد؛ قضاء على الفتنة وحماية لحمى التوحيد.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، (1/302-304)
حكم السفر بقصد زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -
بعض الناس يذهب إلى المدينة لقصد زيارة القبر النبوي؛ فما حكم هذا العمل ؟
لا يجوز هذا القصد؛ وإنما يجوز السفر إلى المدينة لقصد الصلاة في المسجد النبوي، فهو أحد المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال، والصلاة فيه بألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام.
__________
(1) …أخرجه مرسلاً: مالك في «الموطأ» 1/172 (416)، وابن أبي شيبة (7544، 11819)، وعبدالرزاق في «مصنفه» (1587). وأخرجه موصولاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أحمد (2/246).
(2) …أبو داود (2042)، وأحمد (2/367)، والطبراني في الأوسط (8030). وفي الباب عن علي رضي الله عنه. وصححه الألباني في «صحيح أبي داود» (1796).(1/388)
وقد ورد النهي عن شد الرحال لغير المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى(1)، فيدخل في النهي سائر البقاع والقبور؛ فلا تقصد للصلاة فيها، أو التبرك بها، أو التعبد فيها.
وأما الأمر بزيارة القبور، فإن الحكمة فيه تذكر الآخرة، وهو يحصل بقبور أي بلد، فإنها لا تخلو قرية غالبًا من وجود مقابر بفنائها، فزيارة تلك القبور تذكر الآخرة، وينتفع الأموات بالدعاء لهم.
فأما القبر النبوي؛ فقد ورد النهي عن اتخاذه عيدًا؛ أي تكرار زيارته كما يتكرر العيد، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا، وَلا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدًا وَصَلُّوا عَلَيَّ؛ فَإِنَّ صَلاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُمْ" (2)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إِلا رَدَّ اللهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلامَ" (3)؛ فيعم ذلك المسلِّم من قريب أو بعيد.
__________
(1) …البخاري (1197)، ومسلم (1397) .
(2) …أبو داود (2042)، وأحمد (2/367)، والطبراني في الأوسط (8030). وفي الباب عن علي رضي الله عنه. وصححه الألباني في «صحيح أبي داود» (1796).
(3) …أحمد (2/527)، وأبو داود (2041) والطبراني في «الأوسط» (3092)، والبيهقي في «الكبرى» (3092)، قال ابن حجر في «الفتح» 6/488: «ورواته ثقات». وحسَّنه الألباني في «صحيح أبي داود» (1795). وانظر: «مجموع الفتاوى» 1/233، 234، و«الصارم المنكي» ص 203 .(1/389)
وأما الأحاديث التي في فضل قبره عليه الصلاة والسلام؛ فكلها ضعيفة أو موضوعة، مثل قوله: مَنْ زَارَنِي بَعْدَ مَمَاتِي فكأَنَّمَا زارني فِي حَياتي (1)، وقوله: مَنْ زَارَ قَبْرِي أو قال: من زَارَنِي كُنْتُ له شفيعًا أو شهيدًا (2)، وقوله: مَنْ زَارَ قبري وجَبَتْ لَهُ شَفَاعَتِي (3)، وقوله: من حَجَّ ولم يَزُرْنِي فَقَدْ جَفَانِي (4)، وكلها باطلة لا أصل لها، وقد بين العلماء بطلانها، كما في الرد على الأخنائي لشيخ الإسلام ابن تيمية، والرد على السبكي لابن عبد الهادي، والرد على النبهاني للألوسي، ولا يغتر بمن يروج هذه الأحاديث ويترجمها .
ولا يفهم أن منع زيارته حَطٌّ من قدره؛ فإن محبته عليه الصلاة والسلام ثابتة في قلوب أتباعه، ولا ينقصها بعدهم عن قبره . والله أعلم.
الشيخ ابن جبرين - فتاوى في التوحيد، ص (23 - 25)
كشف شبهة وجود قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد
كيف نجيب عُبَّاد القبور الذين يحتجون بدفن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد النبوي ؟
الجواب عن ذلك من وجوه:
الوجه الأول: أن المسجد لم يبن على القبر؛ بل بني في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
الوجه الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يدفن في المسجد حتى يقال: إن هذا من دفن الصالحين في المسجد؛ بل دفن - صلى الله عليه وسلم - في بيته .
__________
(1) …الدار قطني (2/278)، والبيهقي في «الكبرى» (10054)، وابن عدي في الكامل (2/382) . وانظر السلسلة الضعيفة (47)، ( 1021) .
(2) …الطيالسي في «مسنده» (65، 1322)، والبيهقي في «الكبرى» 5/245 (10053). وانظر: إرواء الغليل (1127) .
(3) …الدار قطني (2/278)، وابن عدي في «الكامل» (6/351)، والبيهقي في «الشعب» (4159).
(4) …ابن عدي في الكامل (7/14) . وانظر «الضعيفة» (45) .(1/390)
الوجه الثالث: أن إدخال بيوت الرسول - صلى الله عليه وسلم - - ومنها بيت عائشة رضي الله عنها مع المسجد - ليس باتفاق الصحابة؛ بل بعد أن انقرض أكثرهم، وذلك في عام أربعة وتسعين هجرية تقريباً، فليس مما أجازه الصحابة؛ بل إن بعضهم خالف في ذلك، وممن خالف أيضاً: سعيد بن المسيب، من التابعين .
الوجه الرابع: أن القبر ليس في المسجد حتى بعد إدخاله؛ لأنه في حجرة مستقلة عن المسجد فليس المسجد مبنياً عليه، ولهذا جعل هذا المكان محفوظاً ومحوطاً بثلاثة جدران، وجعل الجدار في زاوية منحرفة عن القبلة أي أنه مثلث، والركن في الزاوية الشمالية حيث لا يستقبله الإنسان إذا صلى؛ لأنه منحرف، وبهذا يبطل احتجاج أهل القبور بهذه الشبهة .
الشيخ ابن عثيمين - مجموع فتاوى ورسائل (2/232، 233)
زيارة المساجد الأثرية بالمدينة النبوية
أولاً: ما حكم الشريعة الإسلامية فيمن يأتي المدينة المنورة ليصلي في المسجد النبوي الشريف ثم يذهب إلى مسجد قباء ومسجد القبلتين ومسجد الجمعة ومساجد المصلَّى: (مسجد الغمامة، ومسجد الصديق، ومسجد علي رضي الله عنهما )، وغيرها من المساجد الأثرية، وبعد دخوله فيها يصلي ركعتي التحية .. فهل يجوز له ذلك أم لا ؟
ثانيًا: بعد ما يصل الزائر في المسجد النبوي الشريف: هل له أن ينتهز الفرصة للذهاب إلى المساجد الأثرية بالمدينة النبوية بنية الاطلاع والتأمل في تاريخ السلف الصالح والدراسة التطبيقية للمعلومات التي قرأها في كتب التفسير والحديث والتاريخ تجاه الغزوات ومساكن القبائل من الأنصار. أرجو الإفادة .
وبعد دراسة اللجنة للاستفتاء أجابت بما يلي: إن الجواب على هذين السؤالين يقتضي البيان في التفصيل الآتي:
أولاً: باستقراء المساجد الموجودة في مدينة النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة المنورة - حرسها الله تعالى - تبين أنها على أنواع هي:(1/391)
النوع الأول: مسجد في مدينة النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبتت له فضيلة بخصوصه، وهي مسجدان لا غير:
أحدهما: مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو داخل من باب أولى في قول الله تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ}[التّوبَة: 108]. وهو ثاني المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال، كما ثبتت السنة بذلك، وثبت أيضًا في السنة الصحيحة الصريحة: أن صلاةً فيه خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صلاةٍ فيما سِوَاهُ إلا المسجدَ الحَرام(1).
ثانيهما: مسجد قباء، وقد نزل فيه قول الله تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى}[التّوبَة: 108].
وفي حديث أسيد بن حضير الأنصاري رضي الله عنه: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: صلاةٌ في مسجِدِ قُبَاءٍ كَعُمْرَة (2) رواه الترمذي وابن ماجه وغيرهما. وعن سهل بن حنيف رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَنْ تَطَهَّرَ في بَيْتِهِ ثم أَتَى مَسْجِدَ قُبَاءٍ فصلَّى فيه صلاةً كان لَهُ كأَجْرِ عُمْرَة (3) رواه أحمد والنسائي وابن ماجه وغيرهم، وهذا لفظ ابن ماجه.
النوع الثاني: مساجد المسلمين العامة في مدينة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهذه لها ما لعموم المساجد، ولا يثبت لها فضل يخصها.
__________
(1) …البخاري (1190)، ومسلم (1394، 1395، 1396).
(2) …الترمذي (324)، وابن ماجه (1411)، وابن حبان في "صحيحه" (1627). وقال الترمذي: « حسن غريب ».
(3) …أحمد (3/487)، والنسائي (699)، وابن ماجه (1412). وابن أبي شيبة (7530)، والطبراني في "الكبير" 6/75 (5560، 5561)، والحاكم 3/13 (4279) وصححه ووافقه الذهبي.(1/392)
النوع الثالث: مسجد بُني في جهة كان النبي - صلى الله عليه وسلم - صلَّى فيها، أو أنه هو عين المكان الذي صلى فيه تلك الصلاة، مثل مسجد بني سالم، ومصلى العيد، فهذه لم يثبت لها فضيلة تخصها، ولم يرد ترغيب في قصدها وصلاة ركعتين فيها.
النوع الرابع: مساجد بدعية محدثة نُسبت إلى عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - وعصر الخلفاء الراشدين، واتخذت مزارًا؛ مثال المساجد السبعة، ومسجد في جبل أحد، وغيرها، فهذه مساجد لا أصل لها في الشرع المطهر، ولا يجوز قصدها لعبادة ولا لغيرها؛ بل هو بدعة ظاهرة.(1/393)
والأصل الشرعي أن لا نعبد إلا الله، وألا نعبد الله إلا بما شرع على لسان نبيه ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأنه بالرجوع إلى كتاب وسنة رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - وكلام سلف الأمة الذين تلقوا هذا الدين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبلَّغوه لنا عنه، وحذَّرونا من البدع؛ امتثالاً لأمر البشير النذير عليه الصلاة والسلام؛ حيث يقول في الحديث الصحيح: "مَنْ عَمِلَ عملاً ليس عليه أَمْرُنَا فهو رَدّ" (1)، وفي لفظ: "من أَحْدَثَ في أَمْرِنَا هذا ما لَيْسَ مِنْهُ فهو رَدٌّ" (2)، وقال عليه السلام: "عليكم بسُنَّتِي وسُنَّةِ الخُلَفاءِ الرَّاشِدينَ مِنْ بَعدي، عَضُّوا عليها بالنَّوَاجِذ، وإيَّاكم ومُحْدَثاتِ الأُمور، فإنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَة" (3)، وقال: "اِقْتَدُوا باللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي: أَبِي بَكْرٍ، وعُمَر" (4)
__________
(1) …البخاري (2697)، ومسلم (4492).
(2) …علقه البخاري في كتابي البيوع والاعتصام، ووصله مسلم (1718) - (18).
(3) …أحمد (4/126)، وأبو داوود (4607)، والترمذي (2676) وقال: « حسن صحيح »، وابن ماجه (42، 43)، وابن حبان (5)، والحاكم 1/174- 177 (329- 333) وصححه ووافقه الذهبي.
(4) …أخرجه من حديث حذيفة رضي الله عنه: أحمد (5/382)، والترمذي (3662)، وابن ماجه (97)، وابن أبي شيبة في «مصنفه» (31942)، والطبراني في «الأوسط» 4/140 (3816)، قال في «مجمع الزوائد» 9/295: «وفيه يحيى بن عبدالحميد الحماني وهو ضعيف»، وأخرجه أيضًا: الحاكم 3/75-80 (4451- 4455) وصححه ووافقه الذهبي. وصححه الألباني في «صحيح الترمذي» (2895، 2896) و«صحيح ابن ماجه» (80).
-… وأخرجه من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه: الطبراني في «مسند الشاميين» (913)، وابن عساكر، كما في «الدر المنثور» 2/23، قال في «مجمع الزوائد» 9/53: «وفيه من لم أعرفهم».
-… وأخرجه من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: الترمذي (3805)، والطبراني في «الكبير» 9/72 (8426)، والحاكم 3/80 (4456). وصححه الألباني في «صحيح الترمذي» (2992).(1/394)
، وقال عليه السلام - عندما طلب منه بعض الصحابة أن يجعل لهم شجرة يتبرَّكون بها ويعلقون بها أسلحتهم - قال: الله أكبر، إنها السَّنن قُلْتُم، والذي نفسي بيدِه كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}[الأعرَاف: 138](1).
وقال - صلى الله عليه وسلم -: اِفْتَرَقَتِ اليهودُ على إِحْدَى وسبعين فِرقةً، وافترقت النصارى على ثِنْتَيْنِ وسبعين فرقة، وستفترِقُ هذه الأُمَّة على ثلاثٍ وسبعين فرقة، كُلُّها في النارِ إلا واحدةٌ قيل: من هي يا رسول الله ؟ قال: مَنْ كان عَلَى مِثْلِ مَا أنا عَلَيْهِ اليَوْمَ وأصحابي(2).
ونقل ابن وضاح (ص 9) في كتابه [البدع والنهي عنها] بسنده، عن ابن مسعود رضي الله عنه: أن عمرو بن عتبة وأصحابًا له بنوا مسجدًا بظهر الكوفة، فأمر عبدالله بذلك المسجد فهُدِم، ثم بلغه أنهم يجتمعون في ناحية من مسجد الكوفة يسبحون تسبيحًا معلومًا، ويهلِّلون تهليلاً ويكبرون، قال: فلبس برنسًا ثم انطلق فجلس إليهم، فلما عرف ما يقولون، رفع البرنس عن رأسه، ثم قال: أنا أبو عبدالرحمن، ثم قال: لقد فَضَلْتم أصحاب محمد علمًا، أو لقد جئتم ببدعة ظلمًا. إلخ. وحَذَّر هو وغيره من الابتداع وحثوا الناس على اتباع من سلف.
__________
(1) …أحمد (5/218)، والترمذي (2180) وقال: « حسن صحيح»، وابن أبي شيبة (37375)، وابن حبان في "صحيحه" (6702)، والطبراني في "المعجم الكبير" 3/244، 17/21، قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/24: « رواه الطبراني وفيه كثير بن عبدالله وقد ضعفه الجمهور وحسَّن الترمذي حديثه ».
(2) …أخرجه بتمامه وباختصار عند بعضهم: أبو داوود (4596، 4597)، وابن ماجه (3992)، وأحمد (2/332)، وابن حبان (6247)، والطبراني في "الصغير" (724)، و"الأوسط" (4886، 7840)، والحاكم 1/6، 128، 129 (10، 441-444)، وصححه الألباني في «صحيح أبي داود» (3842).(1/395)
وثبت أن عمر رضي الله عنه قطع الشجرة التي بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بيعة الرضوان تحتها؛ لما رأى بعض الناس رضي الله عنه يذهبون إليها، ولما رأى الناس يذهبون مذهبًا سأل عنهم، فقيل له: يذهبون يصلون في مكان صلى فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في طريق الحج - غضب وقال: إنما هلك من كان قبلكم بتتبع آثار أنبيائهم. اهـ(1).
ومعلوم أن الهدف من بناء المساجد جمع الناس فيها للعبادة، وهو اجتماع مقصود في الشريعة، ووجود المساجد السبعة في مكان واحد لا يحقق هذا الغرض؛ بل هو مدعاة للافتراق المنافي لمقاصد الشريعة، وهي لم تبن للاجتماع؛ لأنها متقاربة جدًا، وإنما بنيت للتبرك بالصلاة فيها والدعاء، وهذا ابتداع واضح. أما أصل هذه المساجد بهذه التسمية - أي: المساجد السبعة - فليس له سند تاريخي على الإطلاق، وإنما ذكر (ابن زَبالة) مسجد الفتح، وهو رجل كذاب رماه بذلك أئمة الحديث مات في آخر المائة الثانية(2)، ثم جاء بعده (ابن شبَّه) المؤرخ وذكره(3)، ومعلوم أن المؤرخين لا يهتمون بالسند وصحته، وإنما ينقلون ما يبلغهم ويجعلون العُهدة على من حدثهم، كما قال ذلك الحافظ الإمام ابن جرير في [تاريخه](4).
أما الثبوت الشرعي لهذه التسمية أو لمسجد واحد منها فلم يعرف بسند صحيح، وقد اعتنى الصحابة بنقل أقوال الرسول عليه السلام وأفعاله، بل نقلوا كل شيء رأوا النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله حتى قضاء الحاجة، ونقلوا إتيان النبي - صلى الله عليه وسلم - لمسجد قباء كل أسبوع، وصلاته على شهداء أحد قبل وفاته كالمودع لهم، إلى غير ذلك مما امتلأت به كتب السنة.
__________
(1) …انظر: «مجموع الفتاوى» (27/171) .
(2) …انظر: «تقريب التهذيب» (5815).
(3) …في كتابه: «أخبار المدينة النبوية» (1/60-62).
(4) …«تاريخ الطبري» (1/13)، بنحوه.(1/396)
أما هذه المساجد فقد بحث الحفاظ والمؤرخون عن أصول تسميتها؛ فقال العلامة السمهودي رحمه الله(1): لم أقف في ذلك كله على أصل، وقال بعد كلام آخر: مع أني لم أقف على أصل في هذه التسمية ولا في نسبة المسجدين المتقدمين في كلام المطري.
أما شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فيقول(2): والمقصود هنا أن الصحابة والتابعين لهم بإحسان لم يبنوا قط على شيء من آثار الأنبياء مثل مكان نزل فيه أو صلى فيه أو فعل فيه شيئًا من ذلك لم يكونوا يقصدون بناء مسجد لأجل آثار الأنبياء والصالحين؛ بل إن أئمتهم كعمر بن الخطاب وغيره ينهون عن قصد الصلاة في مكان صلى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اتفاقًا لا قصدًا ...، وذكر أن عمر وسائر الصحابة من الخلفاء الراشدين عثمان وعلي وسائر العشرة وغيرهم مثل ابن مسعود ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب لا يقصدون الصلاة في تلك الآثار.
ثم ذكر شيخ الإسلام أن في المدينة مساجد كثيرة وأنه ليس في قصدها فضيلة سوى مسجد قباء، وأن ما أحدث في الإسلام من المساجد والمشاهد على القبور والآثار - من البدع المحدثة في الإسلام من فعل من لم يعرف شريعة الإسلام، وما بعث الله به محمدًا - صلى الله عليه وسلم - من كمال التوحيد وإخلاص الدين لله وسدّ أبواب الشرك التي يفتحها الشيطان لبني آدم(3). اهـ.
__________
(1) …في كتابه: «خلاصة الوفا بأخبار دار المصطفى - صلى الله عليه وسلم -» (2/306)، باختلاف يسير.
(2) …«مجموع الفتاوى» (17/466)، بنحوه.
(3) …«مجموع الفتاوى» (4/469، 497)، بنحوه.(1/397)
وقد ذكر الشاطبي في كتابه [الاعتصام](1): أن عمر رضي الله عنه لما رأى أناسًا يذهبون للصلاة في موضع صلى فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: إنما هلك من كان قبلكم بهذا يتبعون آثار أنبيائهم، فاتخذوها كنائس وبِيَعَا. وقال أيضًا(2): قال ابن وضاح: وقد كان مالك يكره كل بدعة وإن كانت في خير؛ لئلا يتخذ سنة ما ليس بسنة، أويعد مشروعًا ما ليس معروفًا. اهـ.
وقال الشاطبي أيضًا رحمه الله: وسئل ابن كنانة عن الآثار التي تركوا في المدينة، فقال: أثبت ما عندنا قباء(3) ...إلخ. وقد ثبت أن عمر رضي الله عنه قطع الشجرة التي رأى الناس يذهبون للصلاة عندها؛ خوفًا عليهم من الفتنة(4). وقد ذكر عمر بن شبَّه في [أخبار المدينة] وبعده العيني في [شرح البخاري] مساجد كثيرة ولكن لم يذكروا المساجد السبعة بهذا الاسم.
__________
(1) …«الاعتصام» (1/346) .
(2) …«الاعتصام» (1/347)، بتصرف.
(3) …«الاعتصام» (1/347) .
(4) …«الاعتصام» (1/346)، بنحوه.(1/398)
وبهذا العَرْض الموجز يعلم أنه لم يثبت بالنقل وجود مساجد سبعة؛ بل ولا ما يسمَّى بمسجد الفتح، والذي اعتنى به أبو الهيجاء وزير العبيديين المعروف مذهبهم. وحيث أن هذه المساجد صارت مقصودة من كثير من الناس لزيارتها والصلاة فيها والتبرك بها ويضلَّل بسببها كثير من الوافدين لزيارة مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام - فقصدها بدعة ظاهرة، وإبقاؤها يتعارض مع مقاصد الشريعة وأوامر المبعوث بإخلاص العبادة لله، وتقضي بإزالتها سنةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ حيث قال: "مَنْ عَمِلَ عملاً ليس عليه أَمْرُنا فهو رَدّ" (1)، فتجب إزالتها؛ درءًا للفتنة، وسدًّا لذريعة الشرك، وحفاظًا على عقيدة المسلمين الصافية، وحمايةً لجناب التوحيد، اقتداءً بالخليفة الراشد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ حيث قطع شجرة الحديبية لما رأى الناس يذهبون إليها خوفًا عليهم من الفتنة، وبيَّن أن الأمم السابقة هلكت بتتبعها آثار الأنبياء التي لم يؤمروا بها؛ لأن ذلك تشريع لم يأذن به الله. انتهى.
ثانيًا: ومما تقدم يُعلم أن توجه الناس إلى هذه المساجد السبعة وغيرها من المساجد المحدثة، لمعرفة الآثار، أو للتعبد والتمسح بجدرانها ومحاريبها والتبرك بها: بدعة ونوع من أنواع الشرك، شبيه بعمل الكفار في الجاهلية الأولى بأصنامهم، فيجب على كل مسلم ناصح لنفسه ترك هذا العمل، ونصح إخوانه المسلمين بتركه.
__________
(1) …البخاري (2697)، ومسلم (4492).(1/399)
ثالثًا: وبهذا يعلم أن ما يقوم به بعض ضعفاء النفوس من التغرير بالحجاج والزوار وحملهم بالأجرة إلى هذه الأماكن البدعية كالمساجد السبعة هو عمل محرم، وما يأخذ في مقابله من المال كسب حرام، فيتعين على فاعله تركه: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا *وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا *}[الطّلاَق: 2-3]. والله الموفق.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء،…من كتاب: (فتاوى وبيانات مهمة) ص (82)
حكم إحياء الآثار الإسلامية
ما حكم الإسلام في إحياء الآثار الإسلامية لأخذ العبرة مثل: (( غار ثور وغار حراء وخيمتي أم معبد ))، وتعبيد الطرق للوصول لتلك الآثار ليعرف جهاده - صلى الله عليه وسلم - ويتأسى به ؟
إن العناية بالآثار على وجه الاحترام والتعظيم يؤدي إلى الشرك بالله عز وجل؛ لأن النفوس ضعيفة ومجبولة على التعلق بما تظن أنه يفيدها، والشرك بالله أنواعه كثيرة غالب الناس لا يدركها، والذي يقف عند هذه الآثار يتضح له كيف يتمسح الجاهل بترابها ويصلي عندها، ويدعو من نسبت إليه؛ ظناً منه أن ذلك قربة إلى الله وسبب لحصول الشفاء، ويعين على هذا كثير من دعاة الضلال، ويزينون زيارتها حتى يحصل بسبب ذلك الكسب المادي، وليس هناك غالباً من يخبر زوارها بأن المقصود العبرة فقط؛ بل الغالب العكس .(1/400)
وروي في الترمذي وغيره بإسناد صحيح: عن أبي واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حنين، ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سِدْرَة يعكفون عندها، ويَنُوطُون(1) بها أسلحتهم، يقال لها ذات أَنْواط، فمررنا بسدرة فقلنا: يَا رَسُولَ اللهِ: اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: سُبْحَانَ اللهِ، هَذَا كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى: (اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ. وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَرْكَبُنَّ سُنَّةَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ (2) فشبه قولهم: (اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط) بقول بني إسرائيل: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة؛ فدل ذلك على أن الاعتبار بالمعاني والمقاصد لا بمجرد الألفاظ .
ولو كان إحياء هذه الآثار أو زيارتها أمراً مشروعاً لفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أمر بذلك أو فعله أصحابه أو أرشدوا إليه، وهم أعلم الناس بشريعة الله، وأحبهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فلم يحفظ عنه ولا عنهم أنهم زاروا غار حراء أو غار ثور، ولم يحفظ أنهم عرجوا على موضع خيمتي أم معبد، ولا محل شجرة البيعة؛ بل لما رأى عمر رضي الله عنه بعض الناس يذهب إلى الشجرة التي بويع النبي - صلى الله عليه وسلم - تحتها أمر بقطعها(3)؛ خوفاً على الناس من الغلو فيها والشرك، فشكر له المسلمون ذلك،وعدوه من مناقبه رضي الله عنه.
__________
(1) …يَنُوطون: أي يُعَلِّقُون بها أسلحتهم للبركة، وكانت تُعبد من دون الله.
(2) …أحمد (5/218)، والترمذي (2180) وقال: «حسن صحيح»، والنسائي في «الكبرى» (11185)، وابن حبان (6702)، وغيرهم.
(3) …«الاعتصام» (1/346)، بنحوه.(1/401)
فعلم بذلك أن زيارة تلك الآثار وتمهيد الطرق إليها أمر مبتدع لا أصل له في شرع الله. والواجب على علماء المسلمين وولاة أمورهم أن يسدوا الذرائع المفضية إلى الشرك؛ حماية لجناب التوحيد . وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم .
الشيخ ابن باز - مجلة المجاهد: السنة الرابعة، العددان: (37)، (38)
حكم الحلف بغير اللّه
ما حكم الحلف بغير الله: هل هو شرك أو لا ؟
الحلف بغير الله - من ملك أو نبي أو ولي أو مخلوق ما من المخلوقات - محرَّم؛ لما ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما: عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنه أدرك عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ركب وعمر يحلف بأبيه؛ فناداهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَلاَ إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يَنْهاكم أن تَحْلِفُوا بآبائِكُم، فمَنْ كان حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بالله أو لِيَصْمُتْ" (1)، وفي رواية أخرى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ كان حَالِفًا فلا يَحْلِفْ إلاَّ بالله" ، وكانت قريش تحلف بآبائها فقال: "لا تَحْلِفُوا بآبائكم" (2)، رواهما مسلم وغيره، فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الحلف بغير الله، والأصل في النهي التحريم؛ بل ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه سماه: شركًا، روى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ حَلَفَ بشَيْءٍ دُونَ اللهِ فَقَدْ أَشْرَك" (3)، رواه أحمد بسند صحيح. ورواه الترمذي وحسنه، وصححه الحاكم: عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من حَلَفَ بِغَيْرِ الله فقد كَفَر أو أَشْرَك" (4)
__________
(1) …البخاري (2679، 6108، 6646)، ومسلم (1646).
(2) …البخاري (3836)، ومسلم (1646).
(3) …أحمد (1/47)، وعبدالرزاق في «مصنفه» (15926)، والحاكم 1/52 (167، 168)، والضياء المقدسي في «المختارة» (205، 207) بإسناد صحيح.
(4) …أحمد (2/125)، وأبو عوانة في «مسنده» (5967)، والترمذي (1535) وقال: «حديث حسن»، والبيهقي في «الكبرى» (19614)، والحاكم 4/297 (7814) وصححه ووافقه الذهبي.(1/402)
، وقد حمل العلماء ذلك على الشرك الأصغر، وقالوا: إنه كفر دون الكفر الأكبر المخرج عن الملة - والعياذ بالله - فهو من أكبر الكبائر، ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه: (لَأَنْ أَحْلِفَ باللهِ كاذبًا أَحَبُّ إليَّ مِنْ أنْ أحلف بغيرِهِ صادقًا)،(1) ويؤيد ذلك ما رواه أبو هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: مَنْ حَلَفَ منكم فقال في حَلِفِهِ: باللاَّتِ والعُزَّى فليقُلْ: لا إله إلا الله، ومن قال لأخيه: تَعَالَ أُقَامِرْكَ فَلْيَتَصَدَّقْ (2) رواه مسلم وغيره، فأمر - صلى الله عليه وسلم - من حلف من المسلمين باللات والعزى أن يقول بعد ذلك: (لا إله إلا الله)، لمنافاة الحلف بغير الله كمال التوحيد الواجب؛ وذلك لما فيه من إعظام غير الله بما هو مختص بالله وهو الحلف به، وما ورد في بعض الأحاديث من الحلف بالآباء فهو قبل النهي عن ذلك - جريًا على ما كان معتادًا في العرب في الجاهلية.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (1/226، 227)
حكم من يُسَمِّي بـ(عبد الرسول) و(عبد النبي)
نسمع أن هناك أناساً سمّوا أبناءهم بعبدالرسول وعبدالنبي وعبدالحسن .. فما التوجيه ؟
__________
(1) …عبدالرزاق في «مصنفه» (15929) عن ابن مسعود أو ابن عمر. وانظر: «مجموع الفتاوى» لشيخ الإسلام ابن تيمية (1/81).
(2) …البخاري (4860) وأطرافه عنده، ومسلم (1647).(1/403)
التعبيد لا يجوز إلا لله سبحانه، قال أبو محمد بن حزم - الإمام المشهور(1)-: اتفقوا (العلماء) على تحريم كل اسم معبد لغير الله كعبد العُزَّى، وعبد هُبل، وعبد عمرو، وعبدالكعبة وما أشبه ذلك، حاشا عبدالمطلب. (انتهى) . ولا يجوز التسمية بالتعبيد لغير الله: كعبد النبي وعبد الكعبة وعبد علي وعبد الحسن وعبد الحسين ونحو ذلك، أما عبد المحسن فلا بأس به؛ لأن المحسن من أسماء الله سبحانه وتعالى .
وأحب الأسماء إلى الله عبدالله وعبد الرحمن، وأصدقها حارث وهمام؛ كما روي عن ابن عمر مرفوعاً: أَحَبُّ الأَسْمَاءِ إِلَى اللهِ تَعَالَى: عَبْدُ اللهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ (2)، وفي رواية الطبراني عن ابن مسعود قال - صلى الله عليه وسلم -: أحَبُّ الأسماء إلى الله ما تُعُبِّدَ لَه، وأَصْدَقُ الأسماء همَّام وحارِث(3).
الشيخ ابن باز - مجلة البحوث، عدد (42) حكم تصغير الأسماء المعبّدة أو قلبها
كثيراً ما نسمع من عاميِّ ومتعلم تصغير الأسماء المعبّدة، أو قلبها إلى أسماء تنافي الاسم الأوّل، فهل فيه من بأس ؟ وذلك نحو (عبدالله) تجعل : (عبيد) و(عبّود) و(العبدي) وبكسر العين وسكون الباء، وفي (عبدالرحمن) : (دحيم) بالتخفيف والتشديد، وفي (عبدالعزيز) : (عزيز) و(عزُّوز) وما أشبه ذلك، أمّا في (محمد) : (محيميد، وحمداً، والحمدي) وما أشبهه.
__________
(1) …في كتابه: «مراتب الإجماع» ص (154) .
(2) …مسلم (2132)، وأبو داود (4949) .
(3) …الطبراني في الأوسط (698)، وفي الكبير (9922) مختصراً . قال الهيثمي في «المجمع» (9/50)، "رواه الطبراني في الأوسط والكبير، وفيه محمد بن محصن العكاشي: وهو متروك".(1/404)
لا بأس بالتصغير في الأسماء المعبّدة وغيرها، ولا أعلم أن أحداً من أهل العلم منعه؛ وهو كثير في الأحاديث والآثار: كأُنيس وحميد وعبيد وأشباه ذلك. لكن إذا فعل ذلك مع من يكرهه فالأظهر تحريم ذلك ؛ لأنه حينئذٍ من جنس التنابز بالألقاب الذي نهى الله عنه في كتابه الكريم - إلا أن يكون لا يُعرف إلا بذلك فلا بأس ؛ كما صرّح به أئمة الحديث في رجال : كالأعمش والأعرج، ونحوهما.
الشيخ ابن باز - فتاوى إسلامية، جمع : محمد المسند (4/403)
حكم قول: "صدق اللّه العظيم" عند انتهاء قراءة القرآن
إنني كثيرًا ما أسمع من يقول: إن (صدق الله العظيم) عند الانتهاء من قراءة القرآن بدعة، وقال بعض الناس: إنها جائزة، واستدلوا بقوله تعالى: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا}[آل عِمرَان: 95]، وكذلك قال لي بعض المثقفين: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يوقف القارىء قال له: حسبك، ولا يقول: صدق الله العظيم، وسؤالي هو: هل قول: صدق الله العظيم جائز عند الانتهاء من قراءة القرآن الكريم . أرجو أن تتفضلوا بالتفصيل في هذا ؟
اعتاد الكثير من الناس أن يقولوا (صدق الله العظيم) عند الانتهاء من قراءة القرآن الكريم، وهذا لا أصل له، ولا ينبغي اعتياده؛ بل هو على القاعدة الشرعية من قبيل البدع إذا اعتقد قائله أنه سنة، فينبغي ترك ذلك، وأن لا يعتاده؛ لعدم الدليل. وأما قوله تعالى: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ}[آل عِمرَان: 95] فليس في هذا الشأن، وإنما أمره الله عز وجل أن يبين لهم صدق الله فيما بينه في كتبه العظيمة من التوراة وغيرها، وأنه صادق فيما بينه لعباده في كتابه العظيم القرآن، ولكن ليس هذا دليلاً على أنه مستحب أن يقول ذلك بعد قراءة القرآن أو بعد قراءة آيات أو قراءة سورة؛ لأن ذلك ليس ثابتًا ولا معروفًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن صحابته رضوان الله عليهم .(1/405)
ولما قرأ ابن مسعود على النبي - صلى الله عليه وسلم - أول سورة النساء حتى بلغ قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا *}[النِّسَاء]، قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: حَسْبُكَ قال ابن مسعود: فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ (1) عليه الصلاة والسلام؛ أي: يبكي لما تذكر هذا المقام العظيم يوم القيامة المذكور في الآية؛ وهي قوله سبحانه: {عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا}، أي على أمته عليه الصلاة والسلام، ولم ينقل أحد من أهل العلم فيما نعلم عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (صدق الله العظيم) بعد ما قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: حَسْبُكَ . والمقصود أن ختم القرآن بقول القارىء (صدق الله العظيم) ليس له أصل في الشرع المطهر، أما إذا فعلها الإنسان بعض الأحيان لأسباب اقتضت ذلك: فلا بأس به.
الشيخ ابن باز - مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (7/329 - 331 )
هل السُّبْحَة بدعة ؟
يقول الحديث: (( كل بدعة ضلالة )) يعني ليس هناك بدعة غير ضلالة، وليس هناك بدعة حسنة، بل كل بدعة ضلالة .. السؤال: هل السبحة تعتبر بدعة؟ وهل هي بدعة حسنة أم بدعة ضلالة ؟
السبحة ليست بدعة دينية؛ وذلك لأن الإنسان لا يقصد التعبد لله بها، وإنما يقصد ضبط عدد التسبيح الذي يقوله أو التهليل أو التحميد أو التكبير، فهي وسيلة وليست مقصودة.
…ولكن الأفضل منها أن يعقد الإنسان التسبيح بأنامله؛ أي: بأصابعه:
*…لأنهنّ مُسْتَنْطَقَات - كما أرشد إلى ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -(2).
__________
(1) …البخاري (5050) .
(2) …أحمد (6/370)، وأبو داود (1501)، والترمذي (3583)، وابن حبان (842)، والحاكم 1/547 (2007) وسكت عنه، وصححه الذهبي. وحسنه الألباني في «صحيح أبي داود» (1329).(1/406)
* ولأنّ عدَّ التسبيح ونحوه بالمسبحة يؤدي إلى غفلة الإنسان؛ فإننا نشاهد كثيراً من أولئك الذين يستعملون المسبحة فنجدهم يسبحون وأعينهم تدور هنا وهناك؛ لأنهم قد جعلوا عدد الحبات على قدر ما يريدون تسبيحه أو تهليله أو تحميده أو تكبيره، فتجد الإنسان منهم يعد هذه الحبات بيده وهو غافل القلب يلتفت يميناً وشمالاً، بخلاف ما إذا كان يعدها بالأصابع، فإن ذلك أحضر لقلبه غالباً.
* الشيء الثالث: أن استعمال المسبحة قد يدخله الرياء؛ فإننا نجد كثيراً من الناس الذين يحبون كثرة التسبيح يعلقون في أعناقهم مسابح طويلة كثيرة الخرزات، وكأن لسان حالهم يقول: انظروا إلينا فإننا نسبح الله بقدر هذه الخرزات . وأنا أستغفر الله أن أتهمهم بهذا لكنه يخشى منه.
فهذه ثلاثة أمور كلها تقضي بأن يجتنب الإنسان التسبيح بالمسبحة، وأن يسبح الله سبحانه وتعالى بأنامله.(1/407)
ثم إن الأَولى أن يكون عقد التسبيح بالأنامل في اليد اليمنى؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعقد التسبيح بيمينه، واليمنى خير من اليسرى بلا شك، ولهذا كان الأيمن مفضلاً على الأيسر . ونهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يأكل الرجل بشماله أويشرب بشماله، وأمر أن يأكل الإنسان بيمينه؛ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يَا غُلامُ سَمِّ اللهَ وَكُلْ بِيَمِينِكَ وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ (1) وقال: إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَأْكُلْ بِيَمِينِهِ، وَإِذَا شَرِبَ فَلْيَشْرَبْ بِيَمِينِهِ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ (2) فاليد اليمنى أولى بالتسبيح من اليد اليسرى؛ اتباعاً للسنة وأخذاً باليمين؛ فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجبه التيمن في تنعُّله وترجُّله(3) وطهوره وفي شأنه كله . وعلى هذا فإن التسبيح بالمسبحة لا يعد بدعة في الدين؛ لأن المراد بالبدعة المنهي عنها هي البدعة في الدين، وتسبيح المسبحة إنما هي وسيلة لضبط العدد، وهي وسيلة مرجوحة مفضولة، والأفضل منها أن يكون عدّ التسبيح بالأصابع.
الشيخ ابن عثيمين - نور على الدرب (الحلقة الثانية) - ص (68)
خرافة لحفظ البكارة
ظاهرة منتشرة عند بعض الناس: تتمثل في أن الأم تقوم بجرح أعلى ركبة ابنتها بموسى الحلاقة ثلاثة خطوط متجاورة وتضع على الدم النازف قطعة سكر، وتأمر ابنتها بأكلها وقول بعض الكلمات؛ مدعية هذه الأم أن هذه الفعلة تحفظ لابنتها بكارتها وتمنع وصول أي معتدٍ إليها (وهناك طرق أخرى لهذه الفعلة ) .. فماحكم الشريعة الإسلامية في هذا العمل ؟
__________
(1) …البخاري (5376)، ومسلم (2022) .
(2) …مسلم (2020) .
(3) …الترجُّل والتَّرْجِيل: تَسريح الشعر وتنظيفه وتَحْسِينُه. (النهاية لابن الأثير 2/186).(1/408)
هذا العمل منكر، وهو خرافة لا أصل لها، ولايجوز فعلها؛ بل يجب تركها والحذر منها، والقول بأنها تحفظ على البنت بكارتها أمر باطل من وحي الشيطان لا أساس له في الشرع المطهر، فيجب التواصي بتركه والحذر من فعله، ويجب على أهل العلم بيان ذلك والتحذير منه؛ لأنهم المبلغون عن الله سبحانه وعن رسوله - صلى الله عليه وسلم -، والله المستعان .
الشيخ ابن باز - مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (6/394)
حكم المداومة على المصافحة بعد الصلاة
ما حكم الشرع في المصافحة عقب الصلاة: هل هي بدعة أم سنة ؟ وبيان أدلة الحكم.
المصافحة عقب الصلاة بصفة دائمة لا نعلم لها أصلاً؛ بل هي بدعة، وقد ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ"(1). وفي رواية "مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ"(2). وقد صدرت فتوى في ذلك.
الشيخ ابن باز - فتاوى إسلامية - دار الأرقم، ص (179)
حكم تقبيل المصحف
ما حكم تقبيل القرآن ؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
لا نعلم دليلاً على مشروعية تقبيل القرآن الكريم، وهو أنزل لتلاوته وتدبره وتعظيمه والعمل به .
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة - مجلة البحوث الإسلامية (45/96) حكم الوقوف دقيقة مع الصمت تحية للأموات
هل يجوز وقوف دقيقة مثلاً مع الصمت تحية للشهداء؛ حيث إنه عندما تبدأ حفلة معينة يقف الناس دقيقة مع الصمت حدادًا أو تشريفًا لأرواح الشهداء ؟
__________
(1) …علقه البخاري في البيوع والاعتصام، ووصله مسلم (1718).
(2) …البخاري (2697)، ومسلم (1718) .(1/409)
ما يفعله بعض الناس من الوقوف زمنًا مع الصمت تحية للشهداء أو الوجهاء أو تشريفًا وتكريمًا لأرواحهم وحدادًا عليهم - من المنكرات والبدع المحدثة التي لم تكن في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا في عهد أصحابه ولا السلف الصالح، ولا تتفق مع آداب التوحيد وإخلاص التعظيم لله؛ بل اتبع فيها بعض جهلة المسلمين بدينهم من ابتدعها من الكفار، وقلدوهم في عاداتهم القبيحة وغلوِّهم في رؤسائهم ووجهائهم أحياءً وأمواتًا، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التشبه بهم.
والذي عرف في الإسلام من حقوق أهله: الدعاء لأموات المسلمين والصدقة عنهم وذكر محاسنهم والكف عن مساويهم .. إلى كثير من الآداب التي بينها الإسلام وحث المسلم على مراعاتها مع إخوانه أحياءً وأمواتًا، وليس منها الوقوف حدادًا مع الصمت تحية للشهداء أو الوجهاء؛ بل هذا مما تأباه أصول الإسلام.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (2/146، 147)
حكم قص الشريط للافتتاح
اعتاد بعض الناس عند عمل معارض، أو افتتاح مشاريع بعمل شريط يقص عند الاحتفال، وبعض المسلمين يسبقه بالبسملة، والسؤال بالبركة من الله في نجاح المشروع؛ فهل هذه العادة مرتبطة ببعض العادات القديمة بين المسلمين ؟ أم هي مجرد تقليد ؟ وهل توجد ظروف مشابهة بقص الشريط في العهود الإسلامية تختص بالافتتاحات الإسلامية ؟(1/410)
لا أعرف أصلاً لهذه العادة، ولا فائدة فيها، ولم تكن من عمل المسلمين في سابق الزمان؛ وإنما هو مجرد تقليد للبلاد الأجنبية، وإنما جاء الإسلام بالاستخارة في الأمور قبل البدء في العمل، والدعاء بالبركة، وكثرة الخير والتوفيق من الله تعالى في نجاح ذلك المشروع وفلاحه، ثم بعد ذلك عليه أن ينصح فيه ويخلص في عمله، ويسوي بين القريب والبعيد، ويتجنب الغش والظلم والمخادعة، ويقوم بالأمانة وإنجاز الأعمال، ويحتسب في ذلك الأجر من الله تعالى ونفع المسلمين، ويقوم بحق الله عز وجل من أداء العبادات وفعل القربات، وترك المحرمات.
فمتى حصل ذلك رُجِيَ له النماء والنجاح، واشتهر بذلك بين الناس، ورغبوا في معاملته، وحصل له ربح كبير، وخير كثير، والله الموفق.
الشيخ ابن جبرين - فتاوى إسلامية - جمع محمد المسند (1/125). - ومن كتاب: البدع والمحدثات وما لا أصل له، جمع: حمود المطر، ص (583)
الفصل السابع
التصوير والمصورون
حكم التصوير في الإسلام
ما حكم التصوير في الإسلام ؟
الأصل في تصوير كل ما فيه روح من الإنسان وسائر الحيوانات أنه حرام؛ سواء كانت الصور مجسمة أم رسومًا على ورق أو قماش أو جدران ونحوها أم كانت صورًا شمسية؛ لما ثبت في الأحاديث الصحيحة من النهي عن ذلك وتوعد فاعله بالعذاب الأليم؛ ولأنها عهد في جنسها أنه ذريعة إلى الشرك بالله بالمثول أمامها والخضوع لها والتقرب إليها وإعظامها إعظامًا لا يليق إلاَّ بالله تعالى، ولما فيها من مضاهاة خلق الله، ولما في بعضها من الفتن - كصور الممثلات والنساء العاريات، ومن يسمين ملكات الجمال، وأشباه ذلك.(1/411)
ومن الأحاديث التي وردت في تحريمها - وذلك على أنها من الكبائر - حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الذين يَصْنَعُونَ هذه الصُّوَر يُعَذَّبُونَ يومَ القيامة، ويُقال لهم: أَحْيُوا ما خَلَقْتُم" (1) رواه البخاري ومسلم، وحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنَّ أشَدَّ الناسِ عذابًا يوم القيامة المُصَوِّرُون" (2) رواه البخاري ومسلم، وحديث أبو هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: قال الله تعالى: "ومَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يخلُق كخَلْقِي فَلْيَخْلُقوا ذَرَّةً أَوْ لِيَخْلُقوا حَبَّةً أَوْ لِيَخْلُقُوا شَعِيرَة" (3) رواه البخاري ومسلم، وحديث عائشة رضي الله عنها قالت: (قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من سفر وقد سترت سَهْوَةً لي بِقِرَام فيه تماثيل، فلما رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلون وجهه، وقال: يا عائشة، أَشَدُّ الناس عذابًا عند الله يومَ القيامة الذين يُضَاهِئُونَ بِخَلْقِ الله فقطعناه فجعلنا منه وِسَادة أو وسادتين)(4) رواه البخاري ومسلم، - القِرَام: الستر، والسَّهْوَة: الطاق النافذة في الحائط - وحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: مَنْ صَوَّرَ صُورَةً في الدنيا كُلِّفَ أن يَنْفُخَ فيها الرُّوحَ يوم القيامة، ولَيْسَ بِنَافِخ (5) رواه البخاري ومسلم، وحديثه أيضًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: كُلُّ مُصوِّرٍ في النار يُجْعَلُ لَهُ بكل صورةٍ صَوَّرَها نَفْسًا فتُعذِّبُه في جهنَّم ، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (فإِنْ
__________
(1) …البخاري (5951)، ومسلم (2108).
(2) …البخاري (5950)، ومسلم (2109).
(3) …البخاري (5953، 7559)، ومسلم (2111).
(4) …البخاري (5954)، ومسلم (2107) واللفظ له.
(5) …البخاري (5963)، ومسلم (2110).(1/412)
كُنْتَ لا بُدَّ فاعلاً فَاصْنَعِ الشَّجَرَ وَمَا لا نَفْسَ لَهُ)(1) ؛ رواه البخاري ومسلم.
فدل عموم هذه الأحاديث على تحريم تصوير كل ما فيه روح مطلقًا، أما ما لا روح فيه من الشجر والبحار والجبال ونحوها فيجوز تصويرها كما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما، ولم يعرف عن الصحابة من أنكره عليه، ولما فهم من قوله في أحاديث الوعيد: أَحْيُوا ما خَلَقْتُم وقوله فيها: كُلِّفَ أن يَنْفُخَ فيها الرُّوحَ ولَيْسَ بِنَافِخ .
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (1/455-457)
أحكام بعض أنواع الصُّوَر
مسألة التصوير - يا فضيلة الشيخ - يخطئ كثير من الناس في فهم ما تريد فيه ومسألة النية و.. و... ؟
التصوير باليد على شكل المثال، هذا لا شك في تحريمه إذا كان التصوير للحيوان - كما لو صَنَع من الجبس أو غيره صورة أسد أو صورة فرس أو ما أشبه ذلك؛ هذا حرام وفاعله داخل في لعنة الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ في حديث أبي جحيفة رضي الله عنه: أنه لَعَنَ المُصَوِّرِين(2)، وأخبر: أنهم أشَدُّ الناسِ عذابًا يوم القيامة(3)، في هذه الصورة التمثالية المحققة لأنها جسم ذو أعضاء ورأس فهو مُضاه لخلق الله تمامًا.
__________
(1) …البخاري (2225)، ومسلم (2110) واللفظ له.
(2) …البخاري (5347)، وأطرافه في (2086).
(3) …البخاري (5950)، ومسلم (2109).(1/413)
واختلف العلماء في صورة ملوّنة(1) ليس لها جسم: هل تدخل في الحديث أو لا تدخل ؟ فمنهم من قال: إنها داخلة، ومنهم من قال: إنها غير داخلة، فالصحيح أنها داخلة في لعن المصورين؛ لأن مسلمًا روى من حديث أبي الهيّاج عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال له: ألا أَبْعَثُكَ على ما بَعَثَنِي عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ أنْ لاَ تَدَعَ صُورةً إلا طَمَسْتَها ولا قَبْرًا مُشْرِفًا إلا سَوَّيْتَه (2)، وفي لفظ: أنْ لاَ تَدَعَ تِمْثالاً إلا طَمَسْتَهُ (3)، ولأن النبي عليه الصلاة والسلام، لما رأى النُّمْرُقَة(4) التي فيها صور عُرفت الكراهية في وجهه ولم يدخل البيت، وقال: "إنَّ أهْلَ هذه الصُّورَة يُعَذَّبُونَ، يُقال: أَحْيُوا ما خَلَقْتُم"(5).
فهاهنا شيئان:
الشيء الأول: الصورة على تمثال مجسم، هذه حرام لا شك فيها.
الشيء الثاني: الصورة بالتلوين باليد، فهذه مختلف فيها، والصحيح: أنها حرام، وداخلة في اللعن.
الشيء الثالث: التصوير بالآلات الحديثة، فهذه الكميرات نوعان: نوع تحتاج إلى تحميض وتعديل باليد، فهذه للتحريم أقرب؛ لأن الإنسان له فيها عمل بيده، ونوع فوري لا يحتاج الإنسان فيه إلى عمل، فهذا لا يدخل في التصوير المحرم؛ لأن الرجل لم يصور حقيقة، والتصوير تفعّل من: (صوّر الشيء) أي: جعله على صورة معينة، وأنا لم أعمل شيئًا غاية ما هناك أنني سلطت أضواء معينة على جسم فانطبع فيها هذا الجسم، ولهذا يحدث هذا التصوير من الرجل الأعمى، ومن الإنسان وهو في ظلمة وليس له فيه أي عمل.
__________
(1) …يقصد الشيخ بالتلوين: التخطيط؛ كما يأتي بعد أسطر.
(2) …مسلم (969).
(3) …مسلم (969).
(4) …النُّمْرُقَة: هي الوِسَادة.
(5) …البخاري (5957)، ومسلم (2107) - (96).(1/414)
لكن يخفى على بعض الناس، الفرقُ بين التصوير وبين اقتناء الصورة فيظن أنهما متلازمان وليس كذلك، ولهذا فرق الفقهاء بينهما، فقالوا: يحرم التصوير واستعمال ما فيه الصورة؛ فجعلوا التصوير شيئًا وجعلوا استعمال ما فيه صورة شيئًا آخر.
فنقول: اقتناء الصورة لا يجوز إلا للضرورة. أو إذا كانت الصورة لا يُعبؤ بها كما يوجد في الكراتين وفي عُلب بعض المشروبات، فهذا لا يُعبأ به وليس مقصودًا، ولكن الشيء المقصود الذي يُحفظ؛ هذا لا يجوز إلا للضرورة وعلى هذا فما يفعله بعض الناس الآن من التصوير للذكرى واقتناء ذلك ليتذكره، ليتذكر أولاده وهم صغار، ليتذكر رحلة قام بها مع أصحابه، فإن هذا لا يجوز؛ لأن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه صورة.
قد يقول بعض الناس: إن هذا تناقض، كيف تقول في الأول عند التقاط الصورة، إن هذا ليس بتصوير ثم تقول: اقتناء هذا يحرم إلا لحاجة.
فنقول: لا تناقض؛ لأن الصورة موجودة الآن، ولو بالآلة موجودة؛ فيقال: هذه صورة لا تقتنها، والدليل على هذا: أن الرجل يقابل المرآة - مثلاً - فإذا قابل المرآة قيل: هذا - أي: الذي في المرآة - صورة مع أنها ما تبقى، فالصورة أعم من كونها مصورة باليد أو مصورة بالآلة، وعموم الحديث: لا تَدخلُ الملائكةُ بيتًا فيه صورة (1) يشمل هذا وهذا.
الشيخ ابن عثيمين - كتيب (لقاء الباب المفتوح) - (2/33-38)
حكم الصور غير المجسَّمة
فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين - حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد،،
__________
(1) …البخاري (3226)، ومسلم (2106).(1/415)
لقد كثر عرض الصور الكبيرة والصغيرة في المحلات التجارية؛ وهي صور إما لممثلين عالميين أو أناس مشهورين؛ وذلك للتعريف بنوع أو أصناف من البضائع كالعطورات وغيرها. وعند إنكارنا لهذا المنكر. يجيبنا أصحاب المحلات بأن هذه الصور غير مجسمة وهذا يعني أنها ليست محرمة وهي ليست تقليداً لخلق الله باعتبارها بدون ظل، ويقولون أنهم قد اطلعوا على فتوى لفضيلتكم بجريدة «المسلمون» مفادها: أن التصوير المجسم هو الحرام وغير ذلك فلا.
نرجو من فضيلتكم توضيح ذلك. وجزاكم الله خيراً
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بسم الله الرحمن الرحيم
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
من نسب إلينا أن المحرم من الصور هو المجسم، وأن غير ذلك غير حرام - فقد كذب علينا، ونحن نرى أنه لا يجوز لبس ما فيه صورة؛ سواء كان من لباس الصغار أو من لباس الكبار، وأنه لا يجوز اقتناء الصور للذكرى أو غيرها إلا ما دعت الضرورة أو الحاجة إليه مثل التابعية والرخصة.
والله الموفق.
الشيخ ابن عثيمين - كتبه في 11/6/1412هـ (بخطه رحمه الله )
حكم التصوير بآلة الكاميرا ومشاهدة التلفزيون
س :
هل يجوز التصوير بالكاميرا (آلة التصوير) ؟ وهل يجوز التصوير بالتليفزيون ؟ وهل يجوز مشاهدة التلفزيون وخاصة في الأخبار ؟
:
لا يجوز تصوير ذوات الأرواح بالكاميرا أو غيرها من آلات التصوير، ولا اقتناء صور ذوات الأرواح ولا الإِبقاء عليها إلاَّ لضرورة: كالصور التي تكون بالتابعية أو جواز السفر، فيجوز تصويرها والإِبقاء عليها للضرورة إليها.(1/416)
وأما التلفزيون فآلة لا يتعلق بها في نفسها حكم؛ وإنما يتعلق الحكم باستعمالها، فإن استعملت في محرم كالغناء الماجن وإظهار صور فاتنة وتهريج وكذب وافتراء وإلحاد وقلب للحقائق وإثارة للفتن إلى أمثال ذلك: فذلك حرام، وإن استعمل في الخير كقراءة القرآن وإبانة الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإلى أمثال ذلك: فذلك جائز، وإن استعمل فيهما فالحكم: التحريم؛ إن تساوى الأمران أو غلب جانب الشر فيه.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (1/458) حكم اقتناء التلفزيون ومشاهدته
قال الشيخ ابن باز رحمه الله: وأما التلفزيون فهو آلة خطيرة وأضرارها عظيمة كالسينما أو أشد، وقد علمنا عنه من الرسائل المؤلفة في شأنه ومن كلام العارفين به في البلاد العربية وغيرها ما يدل على خطورته وكثرة أضراره بالعقيدة والأخلاق وأحوال المجتمع؛ وما ذلك إلا لما يبث فيه من تمثيل الأخلاق السافلة، والمرائي الفاتنة والصور الخليعة، وشبه العاريات والخطب الهدامة، والمقالات الكفرية، والترغيب في مشابهة الكفار في أخلاقهم وأزيائهم وتعظيم كبرائهم وزعمائهم والزهد في أخلاق المسلمين وأزيائهم، والاحتقار لعلماء المسلمين وأبطال الإسلام وتمثيلهم بالصور المنفرة منهم والمقتضية لاحتقارهم والإعراض عن سيرتهم، وبيان طرق المكر والاحتيال والسلب والنهب والسرقة وحياكة المؤامرات والعدوان على الناس.
ولا شك أن ما كان بهذه المثابة وترتبت عليه هذه المفاسد يجب منعه والحذر منه وسد الأبواب المفضية إليه، فإذا أنكره الإخوان المتطوعون وحذروا منه فلا لوم عليهم في ذلك؛ لأن ذلك من النصح لله ولعباده.(1/417)
ومن ظن أن هذه الآلة تسلم من هذه الشرور ولا يبث فيها إلا الصالح العام إذا روقبت فقد أبعد النجعة وغلط غلطاً كبيراً؛ لأن الرقيب يغفل، ولأن الغالب على الناس اليوم هو التقليد للخارج والتأسي بما يفعل فيه، ولأنه قل أن توجد رقابة تؤدي ما أسند إليها، ولاسيما في هذا العصر الذي مال فيه أكثر الناس إلى اللهو والباطل، وإلى ما يصد عن الهدى، والواقع شاهد بذلك كما في الإذاعة والتلفزيون... وصلى الله على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه.
الشيخ ابن باز - مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (3/227)
شبهات حول تحريم التصوير الضوئي وصور التلفاز
تثار شبهات حول تحريم التصوير الفوتوغرافي (الشمسي)، نرجو من فضيلتكم ردًا مفصلاً عليها:
(أ) يقولون: التصوير الفوتوغرافي ليس تقليدًا لخلق الله؛ بل هو انطباع ظل الشخص على الفيلم وليس للإنسان دخل في تشكيل الصورة.
(ب) يقولون: إن التصوير كالمرآة إذا نظر الإنسان إليها؛ فلو فرض أن الصورة ثابتة في المرآة .. هل يحرم ذلك ؟
(ج) يقولون: إن الذي يبيح التلفزيون إذا لم يكن فيه ما يحرم رؤيته لابد وأن يبيح الصور؛ لأن التلفاز هو عبارة عن مجموعة صور يتم تحريكها بسرعة توهم المشاهد لها أنها تتحرك.
(د) يقولون: إنه لو حرم التصوير لما جاز تصوير لأصل جواز السفر الذي يحج به المقيم في مصر مثلاً؛ لأنه لا يسرق الإنسان لكي يحج، وكذلك لا يتصور لكي يحج، ولا يتصور لصناعة البطاقة الشخصية وغير ذلك من الضروريات.(1/418)
الذي يظهر للجنة أن تصوير ذوات الأرواح لا يجوز؛ للأدلة الثابتة في ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذه الأدلة عامة فيمن اتخذ ذلك مهنة يكتسب بها أو لمن لم يتخذها مهنة وسواء كان تصويرها نقشًا بيده أو عكسًا بالاستديو أو غيرها من الآلات؛ نعم إذا دعت الضرورة إلى أخذ صورة: كالتصوير من أجل التابعية وجواز السفر وتصوير المجرمين؛ لضبطهم ومعرفتهم ليقبض عليهم إذا أحدثوا جريمة ولجؤوا إلى الفرار، ونحو هذا مما لا بد منه فإنه يجوز، وأما إدخال صور ذوات الأرواح في البيوت: فإن كانت ممتهنة تداس بالأقدام ونحو ذلك فليس في وجودها في المنزل محذور شرعي وإن كانت موجودة في جواز وتابعية أو نحو ذلك جاز إدخالها في البيوت وحملها للحاجة، وإذا كان المحتفظ بالصور من أجل التعظيم فهذا لا يجوز، ويختلف الحكم من جهة كونه شركًا أكبر أو معصية بالنظر؛ لاختلاف ما يقوم في قلب هذا الشخص الذي أدخلها، وإذا أدخلها واحتفظ بها من أجل تذكر صاحبها فهذا لا يجوز؛ لأن الأصل هو منعها، ولا يجوز تصويرها وإدخالها إلاَّ لغرض شرعي، وهذا ليس من الأغراض الشرعية. وأما ما يوجد في المجلات من الصور الخليعة فهذه لا يجوز شراؤها ولا إدخالها في البيت؛ لما في ذلك من المفاسد التي تربو على المصلحة المقصودة من مصلحة الذكرى - إن كانت هناك مصلحة - وإلاَّ فالأمر أعظم تحريمًا؛ وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الحلالَ بَيِّنٌ وإن الحرام بيّن، وبينهما أمور مُشْتَبِهَات لا يعلمها كثيرٌ من الناس، فمن اتَّقَى الشُّبُهَات فقد اسْتَبْرَأَ لدِينهِ وعِرْضِه، ومَنْ وَقَعَ في الشبهات وَقَعَ في الحرام كالراعي يَرْعَى حول الحِمَى يُوشِكُ أن يَرْتَعَ فيه، ألا وإن لكل مَلِكٍ حِمًى ألا وإن حمى الله مَحَارِمُه" (1)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "دَعْ ما يَرِيبُكَ إلى ما لا يَرِيبُك" (2)
__________
(1) …مسلم (1599).
(2) …النسائي (5714)، والترمذي (2518) بزيادة فيه، وقال: « حسن صحيح »، والحاكم 2/13، 4/99 (2169، 2170، 7046) وصححه في الموضع الأول ووافقه الذهبي.(1/419)
، وقال - صلى الله عليه وسلم - لرجل جاء يسأله عن البر: "البِرُّ: ما اطْمَأَنَّتْ إليه النَّفْسُ واطمَأَنَّ إليه القلب، والإِثْمُ: ما حَاكَ في النفس وتردَّدَ في الصَّدْر، وإنْ أَفْتَاك الناسُ وأَفْتوك"(1).
وليس التصوير الشمسي كارتسام صورة من وقف أمام المرآة فيها؛ فإنها خيال يزول بانصراف الشخص عن المرآة، والصور الشمسية ثابتة بعد انصراف الشخص عن آلة التصوير؛ يفتتن بها في العقيدة وبجمالها في الأخلاق، وينتفع بها فيما تقضي به الضرورة أحيانًا من وضعها في جواز السفر أو دفتر التابعية أو بطاقة الإقامة أو رخصة قيادة السيارات مثلاً.
وليس التصوير الشمسي مجرد انطباع؛ بل عمل بآلة ينشأ عنه الانطباع فهو مضاهاة لخلق الله بهذه الصناعة الآلية. ثم النهي عن التصوير عام؛ لما فيه من مضاهاة خلق الله والخطر على العقيدة والأخلاق دون نظر إلى الآلة والطريقة التي يكون بها التصوير.
أما التلفزيون؛ فيحرم ما فيه من غناء وموسيقى وتصوير وعرض صور ونحو ذلك من المنكرات، ويباح ما فيه من محاضرات إسلامية ونشرات تجارية أو سياسية ونحو ذلك مما لم يرد في الشرع منعه، وإذا غلب شره على خيره كان الحكم للغالب.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (1/462، 463)
التَّصوير باليد وبآلة التَّصوير
أرجو من فضيلتكم بيان حكم التَّصوير: ما كان منه باليد، وما كان بآلة التَّصوير، وما حكم تعليق الصُّور على الجدران ؟ وما حكم اقتنائها لغير حاجة إلا للذِّكرى فقط ؟
__________
(1) …أحمد (4/227، 228)، والدارمي (2533)، وأبو يعلى في «مسنده» (1586، 1587). وأبو نعيم في «الحلية» (2/24)، (6/255). وحسّنه النووي في «الأذكار» (1/326)، و"رياض الصالحين» (1/130)، والمنذري في «الترغيب والترهيب» (2/351) .(1/420)
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين، التَّصوير باليد حرام، بل هو من كبائر الذنوب؛ لأنَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - لعن المصوِّرين (1)، واللَّعن لا يكون إلا على كبيرة من كبائر الذُّنوب، وسواء رسم الصورة يختبر إبداعه، أو رسمها للتوضيح للطلاب، أو لغير ذلك فإنَّه حرام، لكن لو رسم أجزاءً من البدن، كاليد وحدها أو الرأس وحده؛ فهذا لا بأس به. وأما التقاط الصورة بالآلة الفوتوغرافية الفورية التي لا تحتاج إلى عمل بيد فإن هذا لا بأس به لأنَّه لا يدخل في التصوير، ولكن يبقى النظر: ما هو الغرض من هذا الالتقاط ؟ إذا كان الغرض من هذا الالتقاط هو أن يقتنيها الإنسان ولو للذِّكرى صار ذلك الالتقاط حراماً؛ وذلك لأن الوسائل لها أحكام المقاصد، واقتناء الصور للذكرى محرَّم؛ لأنَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أنَّ الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة، وهذا يدل على تحريم اقتناء الصور في البيوت. وأما تعليق الصور على الجدران فإنه محرَّم ولا يجوز، والملائكة لا تدخل بيتاً فيه صور .
الشيخ ابن عثيمين - فتوى عليها توقيعه
حكم تصوير المحاضرات بجهاز الفيديو
ما حكم تصوير المحاضرات بجهاز الفيديو للاستفادة منها في أماكن أخرى لتعم الفائدة ؟
__________
(1) …البخاري (5347)، وأطرافه في (2086).(1/421)
هذا محل نظر، وتسجيلها بالأشرطة أمر مطلوب ولا يحتاج معها إلى الصورة، ولكن الصورة قد يحتاج إليها بعض الأحيان حتى يعرف ويتحقق أن المتكلم فلان، فالصورة توضح المتكلم، وقد يكون ذلك لأسباب أخرى، فأنا عندي في هذا توقف، من أجل ما ورد من الأحاديث في حكم التصوير لذوات الأرواح وشدة الوعيد في ذلك . وإن كان جماعة من إخواني أهل العلم رأوا أنه لا بأس بذلك للمصلحة العامة، ولكن أنا عندي بعض التوقف في مثل هذا لعظم الخطر في التصوير، ولما جاء فيه من الأحاديث الثابتة في الصحيحين وغيرهما في بيان: أن أشدَّ الناس عذاباً يوم القيامة المُصوِّرون، وأحاديث لعن المصورين ، إلى غير ذلك من الأحاديث(1). والله ولي التوفيق .
الشيخ ابن باز - مجلة البحوث، عدد (42) ص (161) أحكام أنواع معاصرة من التصوير
س 1 : هل كان التحريم في الفن بإطلاق أو لوقت معين ؟
ج1: ما كان من الفن نحتاً أو تصويراً لذوات الأرواح فهو مُحَرَّم على الإطلاق في كل وقت من الأوقات، إلاَّ ما دعت إليه ضرورة: كصورة لجواز سفر، أو لحفيظة نفوس، أو لمشبوهين ليتعرف عليهم أو لاختبار أو تعيين في عمل، أو نحو ذلك مما يدفع به الغش أو يحفظ به الأمن؛ فيرخص فيه بقدر الضرورة.
س2: ما موقف الإسلام من إقامة التماثيل لشتى الأغراض ؟
ج2: إقامة التماثيل لأي غرض من الأغراض مُحَرَّمَة؛ سواء كان ذلك لتخليد ذكرى الملوك وقادة الجيوش والوجهاء والمصلحين؛ أم كان رمزًا للعقل والشجاعة: كتمثال أبي الهول، أم لغير ذلك من الأغراض؛ لعموم الأحاديث الصحيحة الواردة في المنع من ذلك؛ ولأنه ذريعة إلى الشرك كما جرى لقوم نوح عليه السلام.
س3 : ما موقف الإسلام من الأنصاب ونصب الجندي المجهول ؟
__________
(1) …البخاري (5950)، ومسلم (2109). البخاري (5347)، وأطرافه في (2086).(1/422)
ج3: إقامة الأنصاب لمعروفين من الوجهاء أو من لهم شأن في بناء الدولة علميًا أو اقتصادياً أو سياسيًا وإقامة نصب لما يسمى بـ: الجندي المجهول - هو من أعمال الجاهلية، وضرب من الغلو فيه ولذلك نجدهم يقيمون حفلات الذكرى حول هذه الأنصاب عند المناسبات ويضعون عليها الزهور تكريمًا لها، وهذا شبيه بالوثنية الأولى، وذريعة إلى الشرك الأكبر والعياذ بالله، فيجب القضاء على هذه التقاليد محافظة على عقيدة التوحيد، ومنعًا للإسراف دون جدوى، وبعدًا عن مجاراة الكفار ومشابهتهم في عاداتهم وتقاليدهم التي لا خير فيها، بل تفضي إلى شر مستطير.
س4: ما الموقف الإسلامي من النحت والتصوير الكلاسيكي والفن التجريدي ؟
ج4: مدار التحريم في التصوير: كونه تصويرًا لذوات الأرواح؛ سواء كان نحتًا أم تلوينًا في جدار أو قماش أو ورق أم كان نسيجًا، وسواء كان بريشة أم بقلم أم بجهاز، وسواء كان للشيء على طبيعته أم دخله الخيال فَصُغِّر أو كُبِّرَ أو جُمِّل أو شُوِّه أو جُعِلَ خطوطًا تمثل الهيكل العظمي. فمناط التحريم: كون ما صور من ذوات الأرواح ولو كالصور الخيالية التي تجعل لمن يمثل القدامى من الفراعنة وقادة الحروب الصليبية وجنودها وكصورة عيسى ومريم عليهما السلام المقامتين في الكنائس .. إلخ؛ وذلك لعموم النصوص، ولما فيها من المضاهاة، ولكونها ذريعة إلى الشرك.
س5: ما موقف الفنانين إزاء أحاديث التحريم ؟(1/423)
ج5: قد ينكرونها ولكنها ثابتة في دواوين السنة ثبوتًا لا ريبة فيه، وقد يتأولونها أو يدعون تخصيصها بزمن أو بنوع منها ولا سبيل إلى ذلك لعمومها وصراحتها، وقد يرون أنه حدث من الدواعي ما يقتضي الترخيص فيها، والواقع يشهد أن الفنانين ليس لديهم من الدواعي سوى فن الجمال وإشباع الرغبة والاستجابة للعاطفة والهوى والخيال والقصد إلى اتخاذ هذا الفن طريقاً إلى كسب المال، إلى أمثال ذلك مما لا ينهض سببًا للترخيص فيها مع قيام موجب المنع منها من النص، وكونها ذريعة لأكبر الكبائر.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (1/478، 479)
حكم رفع صور الملوك والوجهاء وغيرهم
ما حكم تعليق الصور في الحيطان، وخصوصًا صور الوجهاء من الملوك والعلماء والصالحين؛ لأن النفوس تميل إلى تعظيمها ؟
تصوير ذوات الأرواح وتعليق صورها حرام؛ سواء كانت صورًا مجسمة أو غير مجسمة، وسواء كانت للوجهاء من الملوك والعلماء والصالحين أم كانت لغيرهم؛ لعموم الأحاديث الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، ومنها قوله - صلى الله عليه وسلم - لعلي رضي الله عنه: لا تَدَعْ صورة إلاّ طَمَسْتَها، ولا قبرًا مُشْرِفًا إلاّ سَوَّيْتَه (1) رواه مسلم في صحيحه.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (1/486، 487)
حكم تعليق الصُّور على الجدران
ما حكم تعليق الصور على الجدران ؟
__________
(1) …مسلم (969).(1/424)
تعليق الصُّور على الجدران - ولا سيما الكبيرة منها - حرام؛ حتى وإن لم يخرج إلا بعض الجسم والرَّأس . وقصد التَّعظيم فيها ظاهر، وأصل الشِّرك هو هذا الغلو؛ كما جاء ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنَّه قال في أصنام قوم نوح التي يعبدونها: (إنَّها كانت أسماء رجال صالحين صَوَّرُوا صُوَرَهُم ليتذكَّروا العبادة، ثم طَالَ عليهم الأَمَدُ فعَبَدُوهُم)(1) .
الشيخ ابن عثيمين - المجموع الثمين، (1/201، 202)
حكم الفرش التي عليها نقش الصليب
ما رأيكم في الصليب ؟ وكيف إذا كان معمولاً على السجاد الذي يصلى عليه وفرش بعض المساجد الذي عليه السيفان والنخلة ومنقوش عليه الصلبان .. فكيف الصلاة على هذه الصلبان ؟
صنع الصليب حرام؛ سواء كان مجسمًا أم نقشاً أم رسمًا أو غير ذلك على جدار أو فرش أو غير ذلك، ولا يجوز إدخاله مسجدًا ولا بيوتًا ولا دور تعليم من مدارس ومعاهد ونحو ذلك. ولا يجوز الإبقاء؛ بل يجب القضاء عليه وإزالته بما يذهب بمعالمه من كسر ومحو وطمس وغير ذلك. ولا يجوز بيعه ولا الصلاة عليه.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (3/315)
حكم تصوير المرأة، وحدود لباسها الشرعي
هل صورة وجه المرأة في جواز السفر وغيره عورة أم لا ؟ وهل يصح للمرأة إذا امتنعت من التصوير أن تستنيب من يحج عنها، والسبب منع الجواز أم لا ؟ وإلى أين حد لباس المرأة في الكتاب والسنة المحمدية ؟
ليس لها أن تسمح بتصوير وجهها لا في الجواز ولا غيره؛ لأنه عورة، ولأن وجود صورتها في الجواز وغيره من أسباب الفتنة بها، لكن إذا لم تتمكن من السفر إلى الحج إلاَّ بذلك رخص لها في الصورة لأداء فريضة الحج، ولم يجز لها أن تستنيب من يحج عنها.
__________
(1) …البخاري (4920) بمعناه.(1/425)
والمرأة كلها عورة في ظاهر أدلة الكتاب والسنة، فالواجب عليها ستر جميع بدنها عن غير محارمها؛ لقول الله تعالى: {ولاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ...} [النُّور: 31]، وقوله سبحانه: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ}[الأحزَاب: 53].
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (1/495، 496) حكم تصوير السجينات لإثبات شخصياتهن
فقد ورد خطاب مدير شرطة العاصمة السري رقم (2598/س2) المؤرخ (14/12/1398هـ) المرفق صورته والمبني على خطاب مدير سجون مكة السري رقم (1834/م/ك/23) في (10/12/1398هـ) المتضمن بأن مدير سجون مكة المكرمة كثيرًا ما يعاني من متاعب ومشاكل بسجن النساء وبالذات من ناحية تطبيق أسمائهن من واقع مذكرات التوقيف؛ حيث يتعذر عليه معرفة مذكرة توقيفها نتيجة انتحال السجينة اسم غير اسمها وطلبه تصويرهن وبعث الصورة مع مذكرة التوقيف ليكون بهذا الشكل قضى على هذه المشاكل والمتاعب، ويطلب تصوير كافة النزيلات بالسجن ووضع صورهن على مذكرات توقيفهن ليسهل التعرّف عليهنَّ.(1/426)
تصوير ذوات الأرواح حرام لا يجوز تعاطيه، ولا سيما تصوير النساء؛ لأنهن عورة يجب سترها وفتنة يخشى على الرجال منها؛ لما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: قال الله تعالى: ومَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذَهَبَ يخلُق كَخَلْقِي، فَلْيَخْلُقوا ذرةً أو لِيَخْلُقُوا حَبَّةً أو لِيَخْلُقُوا شَعِيرة (1)، ولما ثبت عنه قوله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: أشَدُّ الناس عذاباً يوم القيامة الذين يُضَاهُون بِخَلْقِ الله (2)، وغير ذلك من الأحاديث الصحيحة الدالة على تحريم التصوير ولعن المصورين والأمر بطمس الصور.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (1/484)
حكم تصوير غسل الميت بالفيديو للموعظة ومشاهدته
هل يجوز النظر إلى شريط الفيديو الذي يصور طريقة تغسيل وتكفين ودفن الميت بقصد الاتعاظ وإحياء الغفلة ؟ ويصاحب هذه الصورة أرجوزة مطلعها: ليس الغريب غريب الشام واليمن... إلخ ؟
لا شك أن إحياء القلوب بالمواعظ من الأمور المطلوبة، ولكن المواعظ بالأمور المحرمة لا تفيد، ولا يمكن الإصلاح بالأمر المحرم.
__________
(1) …البخاري (5953، 7559)، ومسلم (3111).
(2) …البخاري (5954)، ومسلم (2107).(1/427)
وإنما تكون المواعظ من كتاب الله عز وجل، وبما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي ذلك خير وكفاية - لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ *}[يُونس]. فمواعظ القرآن كافية لكل ذي قلب؛ كما قال سبحانه وتعالى في سورة (ق) - لما ذكر المواعظ العظيمة من ابتداء خلق الإنسان إلى انتهاء جزائه بالثواب أو العقاب - قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ *}[ق]. أما ما ذكره السائل عن ظهور الميت والغاسل يغسله وترنم من حوله بهذه الأبيات السالفة الذكر:
ليس الغريبُ غريبَ الشام واليمنِ
إن الغريب غريب اللَّحد والكَفَنِ(1)
فهذا أمر لا يصح أن يكون طريقا للموعظة، وعلى هذا فليتجنب، وليأت ببدله بما هو من كتاب الله جل وعلا، وما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ففيهما الشفاء والنور. والله الموفق.
الشيخ ابن عثيمين - مجموع فتاوى ورسائل (17/425)
حكم ما يسمى بأفلام الكارتون الإسلامية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده.. وبعد:
__________
(1) …قائل هذا البيت: زين العابدين علي بن الحسين رضي الله عنهما.(1/428)
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما ورد إلى سماحة المفتي العام من المستفتي/ عبدالرحمن بن محمد الفارس. والمحال إلى اللجنة من الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء برقم (5463) وتاريخ 2/9/1418هـ. وقد سأل المستفتي سؤالا هذا نصه: (ما حكم مشاهدة وشراء أفلام الكارتون الإسلامية (الرسوم المتحركة) ؟ فهي تعرض قصصاً هادفة ونافعة للأطفال مثل حثهم على بر الوالدين والصدق والأمانه وأهمية الصلاة ونحو ذلك، والمراد منها أن تكون بديلاً عن جهاز التلفاز الذي عمّت به البلوى. والإشكال أنها تعرض صوراً لآدميين ولحيوانات مرسومة باليد؛ فهل تجوز مشاهدتها ؟ أفتونا مأجورين).
وبعد دراسة اللجنة للاستفتاء أجابت بأنه لا يجوز بيع ولا شراء ولا استعمال أفلام الكرتون لما تشتمل عليه من الصور المحرمة، وتربية الأطفال تكون بالطرق الشرعية من التعليم والتأديب والأمر بالصلاة والرعاية الكريمة. وفق الله الجميع لما فيه الخير والصلاح.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم...
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، الفتوى رقم (19933) في 9/11/1418هـ
حكم التصوير لأجل الدعوة
يرى بعض العلماء في بريطانيا أخذ صور المصلين في حالة الجماعة وصور الأطفال حين يقرأون القرآن؛ لأن هذه الصور إذا نشرت في المجلات والجرائد قد يتأثر بها غير المسلمين ويرغبون في تعرف الإسلام والمسلمين.(1/429)
تصوير ذوات الأرواح حرام؛ سواء كانت الصور لإنسان أم حيوان آخر، وسواء كانت لمصلٍ أم قارئ قرآن أم غيرهما؛ لما ثبت في تحريم ذلك من الأحاديث الصحيحة، ولا يجوز نشر الصور في الجرائد والمجلات والرسائل ولو كانت للمسلمين أو المتوضئين أو قراء القرآن رجاءَ نشر الإسلام والترغيب في معرفته والدخول فيه؛ لأنه لا يجوز اتخاذ المحرمات وسيلة للبلاغ ونشر الإسلام، ووسائل البلاغ المشروعة كثيرة فلا يعدل عنها إلى غيرها مما حرمه الله، والواقع من التصوير في الدول الإسلامية ليس حجة على جوازه؛ بل ذلك منكر، للأدلة الصحيحة في ذلك فينبغي إنكار التصوير عملاً بالأدلة.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (1/484، 485)
لا يطاع أحد في فعل التصوير
إنني مدير مدرسة ابتدائية بجنوب شمران، ومكلف من قبل مرجعي بعمل صور للطلبة أثناء الرحلة المدرسية والكشافة، وصور لبعض المناطق لعرضها في المدرسة، وكما علمنا وسمعنا أن البيت الذي بداخله صورة لا تدخله الملائكة - ما دامت الصورة في البيت - وأنا في هذا العمل مكلف وأكلف من يعمل الصور وأعطيه كلفة تلك الصور من الفلوس التي أتسلمها من مرجعي ولا أصور أنا بنفسي .. فعلى من يقع الإثم ؟
لا شك أن تصوير كل ما فيه روح حرام، بل من الكبائر؛ لما ورد في ذلك من الوعيد الشديد في نصوص السنة، ولما فيه من التشبه بالله في خلقه الأحياء، ولأنه وسيلة إلى الفتنة وذريعة إلى الشرك في كثير من الأحوال، والإثم يعم من باشر التصوير ومن كلفه به وكل من أعانه عليه أو تسبب فيه؛ لأنهم متعاونون على الإثم، وقد نهى الله عن ذلك بقوله: {وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِْثْمِ وَالْعُدْوَانِ}[المَائدة: 2]
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (1/454)
ما الصور التي تُخرِج الملائكة ؟(1/430)
لقد بلغنا من بعض الناس أن الصور حرام، وأن الملائكة لا تدخل البيت الذي توجد به الصور .. هل هذا صحيح ؟ وهل القصد من هذه الصور المحرمة المصورة كهيئة الآدمي أو حيوان يعني المجسمة أم هي تشمل جميع التصاوير كالصورة الموجودة في الحفيظة والموجودة في الفلوس ؟ إذا كان التحريم يشمل هذا كله فما هو الحل من إخلاء البيت من هذه كلها ؟ أفيدونا جزاكم الله خير الجزاء.
نعم؛ إن صور جميع الأحياء من آدمي أو حيوان مُحَرَّمَة - سواء كانت مجسمة أم رسوماً وألوانًا في ورق ونحوه أم نسيجًا في قماش أو صورًا شمسية. والملائكة لا تدخل بيتًا فيه صورة؛ لعموم الأحاديث الصحيحة التي دلت على ذلك، ويرخص فيما دعت إليه الضرورة كصور المجرمين والمشبوهين لضبطهم، والصور التي تدخل في جوازات السفر وحفائظ النفوس؛ لشدة الضرورة إلى ذلك، ونرجو ألا تكون هذه وأمثالها مانعة من دخول الملائكة البيت لضرورة حفظها وحملها، والله المستعان. وهكذا الصور التي تمتهن كالتي في الفراش والوسائد نرجو أنها لا تمنع من دخول الملائكة، ومن الأحاديث الواردة في ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: إِنَّ أَصْحَابَ هذه الصُّوَر يُعذَّبُون يوم القيامة، ويُقالُ لهم: أَحْيُوا ما خَلَقْتُم (1) رواه البخاري، وروى أيضًا عن أبي جحيفة رضي الله عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: لَعَنَ آكِلَ الرِّبا ومُوكِلَهُ، ولَعَنَ المُصَوِّر(2).
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (1/496، 197)
حكم الصلاة مع وجود الصور
س 1 : هل يجوز للمسلم أن يصلي في بيت جدرانه مسترة بصورة الحيوانات الإنسانية وغيرها ؟
س2 : هل يجوز للمسلم أن يصلي بثوب صُوِّرَ عليه الحيوان ؟
__________
(1) …البخاري (5951)، ومسلم (2107).
(2) …البخاري (2086، 2238).(1/431)
ج1: تصوير ذوات الأرواح حرام، وجعل صور ذوات الأرواح في الحيطان ونحوها حرام كذلك. والصلاة في المكان الذي فيه تلك الصور غير جائزة إلاَّ للضرورة، وهكذا الصلاة في الملابس التي تشتمل على صور لحيوان لا تجوز، لكن لو فعله صحت مع التحريم، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه لما رأى سترًا عند عائشة رضي الله عنها فيه تصاوير غضب وهَتَكَهُ، وقال: إِنَّ أصحابَ هذه الصُّوَر يُعذَّبُون يوم القيامة، ويُقالُ: أَحْيُوا ما خَلَقْتُم (1) رواه مسلم وصححه.
ج2: حكم تصوير ذوات الأرواح تَقَدَّم، وصلاة من صلى في ثوب فيه صورة ذات روح غير جائز لكنها صحيحة، كما تقدم.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (1/486)
حكم الصور في النقود .. وهل يُدخل بها المساجد ؟
هناك أمور تقلقني كثيرًا ومنها: مسألة الصور التي على النقود فقد ابتلينا بها ودخلت المساجد في جيوبنا .. فهل دخولها إلى المساجد مما يسبب هرب الملائكة عنها فيحرم إدخالها ؟ وهل تعتبر من الأشياء الممتهنة ولا تمنع الصور الممتهنة دخول الملائكة إلى البيوت ؟
صور النقود لست متسببًا فيها، وأنت مضطر إلى تملكها وحفظها في بيتك أو حملها معك للانتفاع بها - بيعًا وشراءً وهبة وصدقة وتسديد دين ونحو ذلك من المصالح المشروعة - فلا حرج عليك، وليست ممتهنة؛ بل مصونة تبعًا لصيانة ما هي فيه من النقد، وإنما ارتفع الحرج عنك من أجل الضرورة.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (1/485)
حكم الصور في المجلات والكتب الدراسية
ما موقف المسلم من الصور التوضيحية التي في الكتب الدراسية، والكتب العلمية والمجلات الإسلامية النافعة، مع أنه لا بد من وجود هذه الصور للتوضيح وتقريب الفهم ؟
__________
(1) …البخاري (2479) وأطرافه عنده، ومسلم (2107).(1/432)
تصوير ذوات الأرواح حرام مطلقًا؛ لعموم الأحاديث التي وردت في ذلك وليست ضرورية للتوضيح في الدراسة؛ بل هي من الأمور الكمالية لزيادة الإيضاح، وهناك غيرها من وسائل الإيضاح يمكن الاستغناء بها عن الصور في تفهيم الطلاب والقراء، وقد مضى على الناس قرون وهم في غنى عنها في التعليم والإيضاح وصاروا مع ذلك أقوى منا علمًا وأكثر تحصيلاً، وما ضرهم ترك الصور في دراستهم، ولا نقص من فهمهم لما أرادوا ولا من وقتهم وفلسفتهم في إدراك العلوم وتحصيلها، وعلى هذا لا يجوز لنا أن نرتكب ما حرم الله من التصوير لظننا أنه ضرورة، وليس بضرورة؛ لشهادة الواقع بالاستغناء عنه قرونًا طويلة.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (1/471)
حكم الصور للتعليم
بالنسبة يا شيخ لصور الحيوانات - جزاك الله خيرًا - لتعليم الأطفال بداية الحروف الهجائية: يكون كل حيوان تحته حرف - يعني جيم يحط جمل - وهذا فيه فائدة لتعليم الصغار .. فما أدري عن الحكم ؟
لا بأس من أن يبين للطلبة هذه الحروف بشرط أن يقطع رأسه؛ يجعله بعيرًا بدون رأس.
الشيخ ابن عثيمين - لقاء الباب المفتوح (5/66)
حكم الصور في وسائل الإيضاح
ما حكم الإسلام في الرسم على السبورة رسومًا تخطيطية في عملية التعليم ؟ مع العلم أن الرسم عبارة عن أشكال حيوانات ونباتات وحشرات في مادة التاريخ الطبيعي (الأحياء)، وقد تكون هذه الرسومات مهمة في عملية التعليم وهذه الرسومات غير مجسمة مع معرفة أهمية هذا العلم في الطب والزراعة.
ما كان من ذلك صورًا لذوات الأرواح كالحشرات وسائر الأحياء فلا يجوز؛ ولو كان رسمًا على السبورة والأوراق، ولو كان القصد منه المساعدة على التعليم لعدم الضرورة إليه؛ لعموم الأدلة في ذلك، وما لم يكن من ذوات الأرواح جاز رسمه للتعليم وغيره.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(1/433)
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (1/471، 472)
رسم ما له روح
في بعض المدارس يطلب من الطالب أن يرسم صورة لذات روح، أو يعطى مثلاً بعض دجاجة، ويقال أكمل الباقي، وأحياناً يطلب منه أن يقص هذه الصورة ويلزقها على الورق، أو يعطى صورة فيطلب منه تلوينها .. فما رأيكم في هذا -حفظكم الله- ؟
الذي أرى في هذا أنه حرام يجب منعه، وأن المسؤولين عن التعليم يلزمهم أداء الأمانة في هذا الباب، ومنع هذه الأشياء، وإذا كانوا يريدون أن يثبتوا ذكاء الطالب بإمكانهم أن يقولوا: اصنع صورة سيارة أو شجرة، أو ما أشبه ذلك، مما يحيط به علمه، ويحصل بذلك معرفة مدى ذكائه وفطنته وتطبيقه للأمور، وهذا مما ابتلي به الناس بواسطة الشيطان، وإلا فلا فرق بلاشك في إجادة الرسم والتخطيط بين أن يخطط الإنسان صورة شجرة أو سيارة أو قصر أو إنسان .
فالذي أرى أنه يجب على المسؤولين منع هذه الأشياء، وإذا ابتلي الطالب، ولابد فليصور حيواناً ليس له رأس .
الشيخ ابن عثيمين - فتاوى العقيدة - ص (686، 687)
حكم الصور داخل الكتب
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((إن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه صورة أو تمثال أو كلب))(1) ؛ فهل يدخل فيها الصور التي في داخل الكتب مع العلم أن الغلاف ليس به صور ؟
تدخل في عموم الحديث وإن لم تكن على الغلاف، ولا تدخل في عمومه إذا أزيل رأس الصورة أو طمس.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (1/477)
حكم حمل المجلات المصورة، وإدخالها إلى المساجد
ما حكم اصطحاب الجرائد اليومية والمجلات التي تحتوي على صور ؟ وما الحكم في اصطحابها إلى المسجد وقراءتها ؟
__________
(1) …البخاري (3225)، ومسلم (2106) من حديث أبي طلحة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا تَدْخُل الملائكةُ بيتًا فيه كلبٌ ولا صُورَةُ تَمَاثيل». واللفظ للبخاري.(1/434)
يجوز اصطحابها إذا طمست رؤوسها، وخير لك في المسجد أن تقرأ القرآن فتنتفع، وتكون قدوة لغيرك في الخير.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (1/476)
حكم الصور على العلب والقوارير
شراء قوارير الأطياب والشامبو وغير ذلك مما يوجد عليها صور .. فما قولكم في ذلك ؟
هو لا شك أن الصور الموجودة على قوارير الأطياب أو الشامبو أو ما أشبه ذلك؛ لا شك أنها صورة خليعة فاسدة يُقصد بها فتنة الناس، ولكن كيف نتخلص منها ؟ إذا كنا سنشتري الشامبو لأجل الانتفاع به فكيف نتخلص ؟ أرى أن مثل هذه إذا ابتُلِيتَ بها: اطمس وجهها ودعها تبقى عندك، وإن كان الذي في البيت لا يأبه بها ولا يهتم بها فهي من جنس الصور المهانة.
الشيخ ابن عثيمين - لقاء الباب المفتوح (2/38)
حكم لبس الثياب التي فيها صور
ما حكم لبس الثياب التي فيها صور ؟
لا يجوز للإنسان أن يلبس ثياباً فيها صورة حيوان أو إنسان، ولا يجوز أيضاً أن يلبس غترة أو شماغاً أو ما أشبه ذلك وفيه صورة إنسان أو حيوان ونحو ذلك؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبت عنه أنَّه قال: "لا تَدْخُلُ الْمَلائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ" (1)؛ ولهذا لا نرى لأحد أن يقتني الصُّور للذكرى كما يقولون، وأنَّ مَن عنده صور الذكرى فإن الواجب عليه أن يتلفها؛سواء كان قد وضعها على الجدار، أو وضعها في ألبوم أو في غير ذلك؛ لأن بقاءها يقتضي حرمان أهل البيت من دخول الملائكة بيتهم . وهذا الحديث الذي أشرت إليه قد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . والله أعلم .
الشيخ ابن عثيمين - المجموع الثمين: (1/199)
حكم إلباس الصبي الثياب التي فيها صور لذوات الأرواح
حكم إلباس الصبي الثياب التي فيها صور لذوات الأرواح ؟
__________
(1) …البخاري (3226)، ومسلم (2106) .(1/435)
يقول أهل العلم: إنه يحرم إلباس الصبي ما يحرم إلباسه الكبير، وما كان فيه صور فإلباسه الكبير حرام؛ فيكون إلباسه الصغير حراماً أيضاً، وهو كذلك، والذي ينبغي للمسلمين أن يقاطعوا مثل هذه الثياب وهذه الأحذية حتى لا يدخل علينا أهل الشر والفساد من هذه النواحي، وهي إذا قوطعت فلن يجدوا سبيلاً إلى إيصالها إلى هذه البلاد وتهوين أمرها بينهم .
الشيخ ابن عثيمين - مجموعة فتاوى ورسائل (2/275)
حكم التصوير للذكرى
ما حكم الصور التي آخذها لنفسي ومع أصدقائي ؟
التصوير الشمسي للأحياء من إنسان أو حيوان والاحتفاظ بهذه الصور حرام؛ بل هو من الكبائر؛ لما ورد في ذلك من الأحاديث الصحيحة المتضمنة للوعيد الشديد والمنذرة بالعذاب الأليم للمصوِّرين ومن اقتنى هذه الصور، ولما في ذلك من مضاهاة خلق الله؛ ولأنه قد يكون ذريعة إلى الشرك كصور العظماء والصالحين، أو باباً من أبواب الفتنة كصور الجميلات والممثلين والممثلات والكاسيات العاريات.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (1/480) حكم الصور العائلية
ما حكم التصوير بالكاميرا صوراً عائلية وما شابهها من أجل الذكرى والتسلية فقط لا غير ؟
تصوير الأحياء حرام؛ بل من كبائر الذنوب؛ سواء اتخذ المصور ذلك مهنة له أم لم يتخذها مهنة، وسواء كان التصوير نقشًا أم رسمًا بالقلم ونحوه أم عكسًا بالكاميرا ونحوها من الآلات، أم نحتًا لأحجار ونحوها.. إلخ، وسواء كان ذلك للذكرى أم لغيرها؛ للأحاديث الواردة في ذلك، وهي عامة في أنواع التصوير والصور للأحياء، ولا يستثنى من ذلك إلا ما دعت إليه الضرورة.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (1/480، 481)
حكم الصور التذكارية وصور المجلات(1/436)
ما حكم الصور الموجودة في الجرائد والمجلات الإسلامية التي نشتريها ؟ وكذلك حكم الصور التذكارية غير المعلقة في الحائط؛ هل يجوز اقتناؤها والاحتفاظ بها ؟
لا يجوز اقتناء الصور التذكارية، بل يجب إتلافها؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي رضي الله عنه: "ألاَّ تَدَعَ صُورةً إلاَّ طَمَسْتَها، ولا قَبْرًا مُشْرِفًا إلاَّ سَوَّيْتَه" (1) رواه الإمام مسلم في صحيحه، لكن ما وجد من الصور في كتاب أو مجلة أو جريدة وأنت محتاج إلى اقتنائه فاطمس الصور؛ ولو وجهها وأَبْقِهِ عندك للحاجة.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (1/483) حكم تصوير حفلات الزفاف
إليكم كلمتي التالية: مما اصطلح عليه الناس هذه العادة التي عهدناها من قريب ومن عام 1390هـ تقريبًا أن حفل الزفاف يترتب من زف الزوج مع الزوجة وتلقط لهم صور عديدة ويصور أهل الزوج والزوجة وتقسم هذه الصور على الأقارب والأصدقاء بنية التكريم، وهذه العادة لا يصح الزفاف إلاَّ بها، ونادرًا ما تجد في المائة واحدًا أو لا تجد، والعقل السليم ينكر هذه العادة؛ فما هو رأي الدين ؟ أفيدونا - أفادكم الله - في الإذاعة أو على صفحات الجريدة أو مجلة الدعوة، وإذا كان على صفحات المجلة يكون أبلغ حجة قائمة في التحريم أو التحليل، والله يحفظكم.
__________
(1) …مسلم (969).(1/437)
ما ذكرته من تصوير الزوج والزوجة وأسرتيهما في حفل الزفاف مُحَرَّمٌ، وهو من عادات الزفاف السيئة؛ وذلك لأن تصوير ذوات الأرواح حرام مطلقًا ومن كبائر الذنوب، والأصل في تصوير كل ما فيه روح من الإنسان وسائر الحيوانات أنه حرام سواء كانت الصورة مجسمة أم رسوماً على ورق أو قماش أو جدران ونحوها أم كانت صورًا شمسية؛ لما ثبت في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من النهي عن ذلك ولعن فاعله وتوعده بالعذاب الأليم؛ ولأنها عهد في جنسها أنه ذريعة إلى الشرك بالله بالمثول أمامها والخضوع لها والتقرب إليها وإعظامها إعظامًا لا يليق إلاَّ بالله تعالى، ولما فيها من مضاهاة خلق الله، ولما في بعضها من الفتن كصور الممثلات والنساء العاريات ومن يسمين ملكات الجمال وأشباه ذلك.(1/438)
ومن الأحاديث التي وردت في تحريمها ودلت على أنها من الكبائر: حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الذين يَصْنَعُونَ هذه الصُّوَر يُعَذَّبُونَ يوم القيامة، ويُقالُ لهم: أَحْيُوا ما خَلَقْتُم (1) رواه البخاري ومسلم، وحديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إنَّ أشَدَّ الناسِ عذابًا يوم القيامة المُصَوِّرُون (2) رواه البخاري ومسلم، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: قال الله تعالى: ومَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي، فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً أو لِيَخْلُقُوا حَبَّةً أو ليخلقوا شَعِيرة (3) رواه البخاري ومسلم، وحديث عائشة رضي الله عنها قالت: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من سفر وقد سترت سَهْوَةً لي بِقِرامٍ فيه تماثيل، فلما رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلَوَّن وجهه وقال: يا عائشة، أشدُّ الناس عذابًا عند الله يوم القيامة الذين يُضَاهُونَ بِخَلْقِ الله فقطعناه فجعلنا منه وسادة أو وسادتين(4). رواه البخاري ومسلم - القِرَام: الستر، السَّهْوَة: الطاق النافذة في الحائط - وحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: مَنْ صَوَّرَ صُورَةً في الدنيا كُلِّفَ أنْ يَنْفُخَ فيها الرُّوحَ يوم القيامة وليس بِنَافِخ (5) رواه البخاري ومسلم، وحديثه أيضًا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: كُلُّ مُصوِّرٍ في النار يُجْعَلُ له بِكُلِّ صُورَةٍ صَوَّرَها نَفْسًا فَتُعَذِّبُه في جهنَّم ، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (فإن كنت لا بد فاعلاً
__________
(1) …البخاري (5951)، ومسلم (2108).
(2) …البخاري (5950)، ومسلم (2109).
(3) …البخاري (5953، 7559)، ومسلم (3111).
(4) …البخاري برقم (5954)، ومسلم (2107).
(5) …البخاري (5963)، ومسلم (2110).(1/439)
فاصنع الشجر وما لا روح فيه)(1) رواه البخاري ومسلم، وحديث أبي جحيفة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أنه لَعَنَ آكل الرِّبا ومُوكِلَهُ ولَعَنَ المُصَوِّر)(2) رواه الإمام البخاري في صحيحه؛ فدل عموم هذه الأحاديث على تحريم تصوير كل ما فيه روح مطلقًا، أما ما لا روح فيه من الشجر والبحار والجبال ونحوها فيجوز تصويرها كما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما، ولم يعرف من الصحابة من أنكره عليه، ولما فهم من قوله في أحاديث الوعيد: أَحْيُوا ما خَلَقْتُم ، وقوله فيهما: كُلِّفَ أن يَنْفُخَ فيها الروح وليس بنَافِخ .
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (1/481-483)
حكم اقتناء لعب الأطفال المجسَّمة
لقد تعددت الأقوال والفتاوى حول لعب الأطفال، فما الحكم في العرائس والحيوانات المجسمة ؟ هناك من أجاز اقتناءها بشرط إهانتها وعدم الاهتمام بها، وهناك من حرمها كلية .. فما هو الحكم الصحيح ؟ وما هو حكم استخدام البطاقات التي عليها صور لتعليم الأطفال الحروف والأرقام، وكيفية الوضوء والصلاة ؟ أفيدوني أفادكم الله..
لا يجوز اقتناء الصور لذوات الأرواح؛ إلا الصور الضرورية: كصورة حفيظة النفوس والبطاقة الشخصية ورخصة القيادة، وما عداها من الصور فلا يجوز اقتناؤها للعب الأطفال أو لأجل تعليمهم، لعمومات النهي عن التصوير واستعماله، وهناك لعب للأطفال كثيرة من غير الصور، وهناك وسائل لتعليمهم غير الصور.
__________
(1) …البخاري (2225)، ومسلم (2110) واللفظ له إلا في عبارة (ما لا روح فيه) فهي عند البخاري بنحوه.
(2) …البخاري (2086، 2238).(1/440)
ومن أجاز اقتناء الصور للعب الأطفال فقوله مرجوح؛ لأنه يعتمد على حديث لُعَب عائشة رضي الله عنها يوم أن كانت صغيرة(1). وحديث عائشة رضي الله عنها قيل: إنه منسوخ بالأحاديث التي تحرم التصوير . وقيل: إن الصور المذكورة فيه ليست على شكل الصورة الموجودة الآن، وإنما كانت من الخرق والعيدان المعروفة في وقتهم ولا تمثل شكل الحيوان كما تمثله الصور المعروفة الآن. وهذا هو الراجح، والله أعلم . والصورة المعروفة الآن تمثل الحيوان بدقة؛ بل منها ما يتحرك كحركة الحيوان .
الشيخ الفوزان - كتاب الدعوة (8) - ص (23، 24) حكم التماثيل التي توضع في البيت للزينة
ما حكم التماثيل التي توضع في المنازل للزينة فقط وليس لعبادتها ... ؟
لا يجوز تعليق التصاوير ولا الحيوانات المحنطة في المنازل ولا في المكاتب ولا في المجالس؛ لعموم الأحاديث الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الدالة على تحريم تعليق الصور وإقامة التماثيل في البيوت وغيرها؛ لأن ذلك وسيلة للشرك بالله، ولأن في ذلك مضاهاة لخلق الله، وتشبهاً بأعداء الله، ولما في تعليق الحيوانات المحنطة من المفسدة، وقد جاءت الشريعة الإسلامية الكاملة بسد الذرائع المفضية إلى الشرك أو المعاصي، وقد وقع الشرك في قوم نوح عليه السلام بأسباب تصوير خمسة من الصالحين في زمانهم، ونصب صورهم في مجالسهم، كما بين الله سبحانه ذلك في كتابه المبين؛ حيث قال سبحانه: {وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدًّا وَلاَ سُوَاعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا *وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلاَلاً *}[نُوح]. فوجب الحذر من مشابهة هؤلاء في عملهم المنكر الذي وقع بسببه الشرك .
__________
(1) …البخاري (6130) .(1/441)
وقد صحَّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: لا تَدَعْ تِمْثَالاً إِلا طَمَسْتَهُ وَلا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلا سَوَّيْتَهُ (1) أخرجه مسلم في صحيحه، وقال - صلى الله عليه وسلم -: أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُصَوِّرُونَ (2) متفق على صحته . والأحاديث في ذلك كثيرة، والله ولي التوفيق .
الشيخ ابن باز - كتاب الدعوة (1) ص (18، 19)
حكم هواية التصوير والنحت
أنا طالب في الصف الأول الثانوي وكنت أحب الرسم منذ طفولتي وعشقت الرسم بصورة لم يتخيلها أحد، والآن قد علمت أن الرسم يغضب الله ولكني متعلق بالرسم جدًا وليس الرسم فقط؛ بل أحب النحت فإني أنحت الوجوه، وكم حاولت كثيرًا أن أترك الرسم والنحت ولكن الشيطان كان يزين إليَّ الرسم .. وأنا أرجو من سيادتكم أن تدلني على الطريق الذي أسلكه كيما أترك الرسم والنحت.
التصوير والنحت لذوات الأرواح محرم؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لعن المصوِّرين(3)؛ وقال: إنهم أَشَدُّ الناس عذابًا يوم القيامة(4).
وننصحك أن تملأ وقت فراغك بما يعود عليك بالفائدة: من القراءة أو التجارة ونحوهما من الأعمال النافعة التي تحول بينك وبين الاشتغال بالأعمال المحرمة.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (1/477، 478)
حكم المال المكتسب من التصوير
والدي - هداه الله - يرتزق من الصور الفوتغرافية؛ فأريد معرفة هل هذا المال الذي يأتي من هذا العمل حلال أم حرام(5) ؟
__________
(1) …مسلم (969)، وفي رواية له: « ولا صُورةً إلا طَمَسْتَها ».
(2) …البخاري (5950)، ومسلم (2109).
(3) …البخاري (5962).
(4) …البخاري (5950)، ومسلم (2109).
(5) …تضمن السؤال الاستفهام عن المقصود بلَعْن المصِّورين في الحديث؛ وقمت بحذفه لأن الجواب أغفل ذلك.(1/442)
تصوير ذوات الأرواح حرام، والكسب به حرام، فإن علم ما اكتسب من التصوير بعينه حرم الانتفاع به، وإن اختلط بغيره ولم يتميز جاز الأكل منه على الراجح من أقوال العلماء.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (1/489) حكم المتاجرة بالتماثيل
هل يصح للمسلم أن يبيع التماثيل ويجعلها بضاعة له ويعيش من ذلك ؟
لا يجوز للمسلم أن يبيع التماثيل أو يتجر فيها؛ لما ثبت في الأحاديث الصحيحة من تحريم تصوير ذوات الأرواح وإقامة التماثيل لها مطلقًا والإبقاء عليها، ولا شك أن في الاتجار فيها ترويجاً لها وإعانة على تصويرها ونصبها في البيوت والنوادي ونحوها.
وإذا كان ذلك محرمًا فالكسب من إنشائها وبيعها حرام لا يجوز للمسلم أن يعيش منه بأكل أو غيره، وعليه إن وقع في ذلك أن يتخلص منه ويتوب إلى الله تعالى عسى أن يتوب عليه؛ قال تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى *}[طه].
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (1/489)
مسألة صنع التَّماثيل
ما حكم صنع التَّماثيل ؟ والله يحفظكم ويرعاكم .
صنع التَّماثيل المجسمة إن كانت من ذوات الأرواح فهي محرَّمة لا تجوز؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبت عنه أنَّه لَعَنَ المصوِّرين(1)، وثبت أيضاً عنه أنه قال: قال الله عز وجل: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ خَلْقًا كَخَلْقِي (2) وهذا محرَّم .
أمَّا إذا كانت التَّماثيل ليست من ذوات الأرواح فإنَّه لا بأس بها، وكسبها حلال؛ لأنَّها من العمل المباح . والله الموفق .
الشيخ ابن عثيمين - رسالة صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ص (28)
حكم صنع العرائس من قبل الأطفال أو الكبار
__________
(1) …البخاري (5962).
(2) …البخاري (7559)، ومسلم (2111) .(1/443)
هل هناك فرق بين أن يصنع الأطفال تلك اللعب، وبين أن نصنعها نحن لهم أو نشتريها لهم ؟
أنا أرى أن صنعها على وجه يضاهي خلق الله حرام؛ لأن هذا من التصوير الذي لا شك في تحريمه، لكن إذا جاءتنا من النصارى أو غيرهم من غير المسلمين فإن اقتناءها كما قلت أولاً .
لكن بالنسبة للشراء: بدلاً من أن نشتريها ينبغي أن نشتري أشياء ليست فيها صور كالدراجات أو السيارات أو الرافعات وما أشبهها .
أما مسألة القطن والذي ما تبين له صورة - على الرغم مما هناك من أنه أعضاء ورأس ورقبة ولكن ليس فيه عيون ولا أنف - فما فيه بأس؛ لأن هذا لا يضاهي خلق الله .
الشيخ ابن عثيمين - فتاوى العقيدة، ص (685)
حكم اتخاذ التصوير وظيفة
لقد اطلعت على [صحيح البخاري] وقرأت قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : "كل مُصوِّر في النار"؛ إنني أعمل في التصوير منذ ثماني عشرة سنة في التصوير الفوتوغرافي الذي يطلق عليه التصوير الشمسي: كتصوير الإنسان والحيوانات وغيرها من الكائنات. وأنا أعمل الآن في قسم التصوير في المصانع الحربية لإخراج الصور التي تحتاجها المصانع في النشرات وغيرها، وقد توقفت عند هذا الحديث وأخافني كثيرًا؛ لذا أرجو من سماحتكم إفتائي عن ذلك، علماً أن مصدر رزقي منذ ثماني عشرة سنة وحتى الآن هو دخلي من التصوير.
أولاً: تصوير ذوات الأرواح من إنسان أو حيوان حرام إلاَّ ما ألجأت إليه الضرورة كصورة توضع في حفيظة النفوس، أو في جواز سفر لمن اضطر إلى السفر، أو صور المجرمين وأصحاب الحوادث الذين فيهم خطر على الأمن للتعريف بهم معونة على ضبطهم وقت الحاجة إلى ذلك.
ثانيًا: طرق الكسب الحلال كثيرة، فعلى المسلم أن يسلك سبيلها؛ بعدًا عما حرم الله، وتجنبًا لمواطن الريبة، يسر الله أمرنا وأمرك، وهيأ للجميع طريق الهداية والرشاد، أما ما مضى فنرجو أن يعفو الله عنه، ونوصيك بالتوبة النصوح.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(1/444)
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (1/498)
حكم إعادة تصوير الصور بآلة تصوير المستندات
لدي ماكينة تصوير المستندات وكثيرًا ما يعرض عليّ تصوير الحفائظ والرخص وما في حكمها بمعنى: أنني إذا صورت الحفيظة صوَّرت الصورة .. فهل إذا صورت الصورة التي بالحفيظة وغيرها هل عليّ بذلك شيء لحديث النهي عن التصوير ؟ علمًا بأنني موظف وقائم بعمل التصوير، فأرجو إعطائي حكم تصوير الصورة أو بعضها مع الدليل.
تصوير كل ما فيه روح من إنسان أو أنعام أو دواب أو طيور أو نحو ذلك حرام؛ سواء كان ذلك مجسمًا أم غير مجسم، وسواء كانت الصورة كاملة أم للوجه والرأس فقط، وكذا إعادة تصوير الصورة إلاَّ إذا كانت هناك ضرورة كالصورة لجواز السفر أو التابعية، ولا يجوز اتخاذ التصوير مهنة يكسب منها المسلم.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (1/497)
حكم بيع آلات التصوير الضوئي
رجل مسلم عنده آلة تصوير (كاميرا) وقد هداه الله إلى معرفة الحق في حكم التصوير، فهل عليه وزر إن تخلص منها بالبيع؛ حيث إنها ما زالت جديدة، وحيث إنه محتاج إلى ثمنها في حياته ؟
تصوير ذوات الأرواح حرام مطلقًا إلاَّ لضرورة كصورة لجواز سفر مثلاً، فبيع آلة التصوير لمن يستعملها في التصوير المحرم حرام، وبيعها لمن يستعملها في تصوير ما تدعو إليه الضرورة من ذوات الأرواح أو تصوير غير ذوات الأرواح جائز.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (1/490)
جواز التصوير للضرورة(1/445)
مضمونه: أن الناس في حاجة إلى وضع صورة في البطاقات الشخصية وحفائظ النفوس ورخص قيادة السيارات وفي الضمان الاجتماعي وفي استمارات الاختبار بالمدارس والجامعات وفي جوازات السفر ونحو ذلك؛ فهل يجوز التصوير لمثل ذلك للضرورة ؟ وإن لم يكن جائزاً فماذا يعمل من يشتغل في وظيفة: أينفصل منها أم يبقى فيها ؟
التصوير محرم؛ لما ثبت في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من لعن المصورين وإخباره بأنهم أشد الناس عذابًا؛ وذلك لكونه ذريعة إلى الشرك، ولما فيه من مضاهاة خلق الله، لكن إذا اضطر إليه الإنسان لوضع الصورة في حفيظة نفوس أو جواز سفر أو استمارة اختبار أو إقامة أو نحو ذلك رخص له فيه بقدر الضرورة إن لم يجد مخلصاً من ذلك، وإن كان في وظيفة ولم يجد له بداً منها أو كان عمله لمصلحة عامة لا تقوم إلاَّ به رُخِّص له فيه للضرورة؛ لقول الله عز وجل: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}[الأنعَام: 119].
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (1/494)
تحريم اتخاذ الحيوانات المحنَّطة
هناك بعض الطيور كالحمام والصقور المحنطة والتي تباع في الأسواق للمنظر أو كالتحفة، وبما أن هذه الطيور من خلق الله ولا يوجد بها أي تغير؛ لذلك نرغب من سماحتكم: ما هو الحكم فيمن يضعها في منزله ؟
لا يعتبر ذلك من التصوير، ولا من مضاهاة خلق الله، ولا من اقتناء الصور التي ورد النهي عنها في الأحاديث، ولكن اتخاذها لمجرد أن تكون تحفة في المنازل فيه ضياع للمال إن كانت مأكولة اللحم، وإتلاف حيوان ينتفع به إن كان من جنس الصقور دون فائدة مشروعة من وراء ذلك، مع ما في نفقات التحنيط من إسراف وكونه ذريعة إلى اتخاذ التماثيل في البيوت ونحوها فيمنع ذلك.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(1/446)
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (1/493، 494)
الفصل الثامن
الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والأولياء
حال النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد موته
س1: أكان النبي - صلى الله عليه وسلم - حياً في قبره الشريف بإعادة الروح في الجسد والبدن بحياة دنيوية حسية ؟ أو حيًا في أعلى عليين بحياة أخروية برزخية بلا تكليف ؟
ج1: إن نبينا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - حي في قبره حياة برزخية يحصل بها التنعم في قبره بما أعده الله له من النعيم؛ جزاءً له على أعماله العظيمة الطيبة التي قام بها في دنياه، عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام، ولم تعد إليه روحه ليصير حيًا كما كان في دنياه، ولم تتصل به وهو في قبره اتصالاً يجعله حياً كحياته يوم القيامة؛ بل هي حياة بزرخية وسط بين حياته في الدنيا وحياته في الآخرة. وبذلك يعلم أنه قد مات كما مات غيره ممن سبقه من الأنبياء وغيرهم، قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ *}[الأنبيَاء]، وقال: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ *وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِْكْرَامِ *}[الرَّحمن]، وقال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ *}[الزُّمَر]، إلى أمثال ذلك من الآيات الدالة على أن الله قد توفاه إليه؛ ولأن الصحابة رضي الله عنهم قد غسلوه وكفنوه وصلوا عليه ودفنوه، ولو كان حيًا حياته الدنيوية ما فعلوا به ما يفعل بغيره من الأموات.
ولأن فاطمة رضي الله عنها قد طلبت إرثها من أبيها - صلى الله عليه وسلم - لاعتقادها بموته، ولم يخالفها في ذلك الاعتقاد أحد من الصحابة؛ بل أجابها أبو بكر رضي الله عنه: (بأنَّ الأنبياءَ لا يُورَثُون)(1).
__________
(1) …هو حديث نبوي؛ أخرجه بهذا اللفظ: الدارقطني في «العلل» 1/231 (34). وأصله في الصحيحين: البخاري (3093)، ومسلم (1757 - 1761) بلفظ: (لا نُورَثُ، ما تَرَكْنَا صَدَقَة).(1/447)
ولأن الصحابة رضي الله عنهم قد اجتمعوا لاختيار خليفة للمسلمين يخلفه، وتم ذلك بعقد الخلافة لأبي بكر رضي الله عنه، ولو كان حيًا كحياته في ديناه لما فعلوا ذلك، فهو إجماع منهم على موته.
ولأن الفتن والمشاكل لما كثرت في عهد عثمان وعلي رضي الله عنهما وقبل ذلك وبعده لم يذهبوا إلى قبره لاستشارته أو سؤاله في المخرج من تلك الفتن والمشاكل وطريقة حلها، ولو كان حيًا كحياته في دنياه لما أهملوا ذلك وهم في ضرورة إلى من ينقذهم مما أحاط بهم من البلاء.
أما روحه فهي في أعلى عليين لكونه أفضل الخلق، وأعطاه الله الوسيلة وهي أعلى منزلة في الجنة، عليه الصلاة والسلام.
س2: هل يسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - كل دعاء ونداء عند قبره الشريف أو صلوات خاصة حين يصلي عليه - كما في الحديث ((من صلى عليَّ عند قبري سمعته ....)) إلى آخر الحديث. أهذا الحديث صحيح أو ضعيف أو موضوع على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟(1/448)
ج2: الأصل أن الأموات عمومًا لا يسمعون نداء الأحياء من بني آدم ولا دعاءهم - كما قال تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ}[فَاطِر: 22]، ولم يثبت في الكتاب ولا في السنة الصحيحة ما يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يسمع كل دعاء أو نداء من البشر حتى يكون ذلك خصوصية له؛ وإنما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه يبلغه صلاة وسلام من يصلي ويسلم عليه فقط: سواء كان من يصلي عليه عند قبره أو بعيدًا عنه كلاهما سواء في ذلك؛ لما ثبت عن علي بن الحسين بن علي رضي الله عنهم: أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيدخل فيها فيدعو فنهاه وقال: ألا أحدثكم حديثاً سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا، ولا بُيُوتكم قُبورًا، وصَلُّوا عليَّ فإن تَسْلِيمَكُم يَبْلُغُنِي أَيْنَ كُنْتُم"(1).
__________
(1) …أبو داود (2042)، وأحمد (2/367)، والطبراني في الأوسط (8030). وفي الباب عن علي رضي الله عنه. وصححه الألباني في «صحيح أبي داود» (1796). بلفظٍ قريب منه. وانظر: «الصارم المنكي» ص (392) .(1/449)
أما حديث: مَنْ صلَّى عليَّ عند قَبرِي سَمِعْتُهُ، ومَنْ صلَّى عليَّ بعيدًا بُلِّغْتُه فهو حديث ضعيف عند أهل العلم، قال ابن تيمية: «هذا حديث موضوع على الأعمش بإجماعهم»(1)، وأما ما رواه أبو داود بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ما مِنْ أحدٍ يُسَلِّمُ عليَّ إلاَّ رَدَّ الله عليَّ رُوحِي حتى أَرُدَّ عليه السلام(2): فليس بصريح أنه يسمع سلام المسلم بل يحتمل أنه يرد عليه إذا بلغته الملائكة ذلك، ولو فرضنا سماعه سلام المسلم لم يلزم منه أن يلحق به غيره من الدعاء والنداء.
س3: نداء ودعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في كل حاجة والاستعانة به في المصائب والنوائب من قريب - أعني عند قبره الشريف - أو من بعيد، أشرك قبيح أم لا ؟
__________
(1) …«مجموع الفتاوى» (27/241).
(2) …أحمد (2/527)، وأبو داود (2041) والطبراني في «الأوسط» (3092)، والبيهقي في «الكبرى» (3092)، قال ابن حجر في «الفتح» 6/488: «ورواته ثقات». وحسَّنه الألباني في «صحيح أبي داود» (1795). وانظر: «مجموع الفتاوى» 1/233، 234، و«الصارم المنكي» ص 203. وانظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (1/233، 234) .(1/450)
ج3: دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ونداؤه والاستعانة به بعد موته في قضاء الحاجات وكشف الكربات شرك أكبر يخرج من ملة الإسلام؛ سواء كان ذلك عند قبره أم بعيدًا عنه، كأن يقول: يا رسول الله اشفني أو رد غائبي أو نحو ذلك؛ لعموم قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا *}[الجنّ]، وقوله عز وجل: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ *}[المؤمنون]، وقوله عز وجل: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَِجَلٍ مُسَمّىً ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ *إِنْ تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ *}[فَاطِر]
س4: أي صلوات أفضل عند قبره الشريف، أعني: الصلاة والسلام عليك يا رسول الله، أو: اللهم صَلّ على محمد وعلى آل محمد بصيغة الطلب ؟ وهل ينظر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الرجل الذي يصلي عليه عند قبره الشريف ؟ وهل أخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - يده من قبره الشريف لأحد من الصحابة العظام أو الأولياء الكرام لجواب السلام ؟(1/451)
ج4: (أ) لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - - فيما نعلم - صيغة معينة في الصلاة والسلام عليه عند قبره، فيجوز أن يقال عند زيارته: الصلاة والسلام عليك يا رسول الله، فإن معناها: الطلب والإنشاء وإن كان اللفظ خبرًا، ويجوز أن يصلي عليه بالصلاة الإبراهيمية فيقول: اللهم صلى على محمد، والأفضل أن يسلم عليه بصيغة الخبر، كما يسلم على بقية القبور، ولأن ابن عمر رضي الله عنهما كان إذا زاره يقول: (السلامُ عليكَ يا رسولَ الله، السلام عليكَ يا أبَا بَكْرٍ، السلام عليكَ يا أَبَتَاهُ) ثم ينصرف(1).
(ب) لم يثبت في كتاب ولا سنة صحيحة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يرى من زار قبره، والأصل عدم الرؤية حتى يثبت ذلك بدليل من الكتاب أو السنة.
(ج) الأصل في الميت نبيًا أو غيره أنه لا يتحرك في قبره بمدِّ يدٍ أو غيرها، فما قيل من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخرج يده لبعض من سلم عليه غير صحيح، بل هو وهم وخيال لا أساس له من الصحة.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (3/167-171) الإسراء والمعراج كانا بالروح والجسد معاً
س 1 :
هل كان معراج الرسول - صلى الله عليه وسلم - من المسجد الأقصى إلى السماء روحاً وجسماً معاً ؟ أو روحاً فقط ؟ وما هو الدليل ؟
1 :
__________
(1) …عبدالرزاق في «مصنفه» (6724)، وابن أبي شيبة (11793)، والجهضمي في «فضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -» (100)، والبيهقي في «الكبرى» (1749). وانظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (24/329) .(1/452)
قول أهل السنة والجماعة أنه عليه الصلاة والسلام أسري به من المسجد الحرام ليلاً إلى المسجد الأقصى روحاً وجسداً؛ لقوله سبحانه وتعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى}[الإِسرَاء، من الآية: 1]، فإن كلمة (عبدِهِ) اسم للروح والجسد جميعاً، وعرج به كذلك من المسجد الأقصى إلى السماء عليه الصلاة والسلام روحاً وجسداً؛ لثبوت ذلك بأحاديث كثيرة ذكرها ابن كثير وغيره عند تفسيره للآية.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (3/267)
س 2 :
هل الإِسراء والمعراج كان في حالة يقظة الرسول - صلى الله عليه وسلم - أم لا ؟ وهل رأى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ربه بعينيه ؟
2 :
الإِسراء والمعراج حصل كل منهما ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقظان، كما جاءت بذلك الأدلة الشرعية، ولم ير عليه الصلاة والسلام ربه بعينيه، وهو قول جمهور أهل السنة والجماعة.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (3/266، 267)
اعتقاد المسلم في عيسى (عليه السلام)
هل عيسى حي أو ميت في نظر القرآن الكريم والسنة المطهرة ؟(1/453)
ذهب أهل السنة والجماعة إلى أن المسيح عيسى عليه الصلاة والسلام لم يزل حيًا، وأن الله رفعه إلى السماء، وأنه سينزل آخر الزمان عدلاً يحكم بشريعة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ويدعو إلى ما جاء به من الحق، وعلى ذلك دلت نصوص القرآن والأحاديث الصحيحة، قال الله تعالى - في فرية اليهود والرد عليها: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا *بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا *}[النِّسَاء]؛ فأنكر سبحانه على اليهود زعمهم أنهم قتلوه أو صلبوه، وأخبر أنه رفعه إليه رحمة به وتكريمًا له، وجعل ذلك آية من آياته التي يؤتيها من شاء من رسله، وما أكثر آيات الله في عيسى ابن مريم عليه السلام أولاً وآخراً، ومقتضى الإضراب في قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا *}[النِّسَاء]، فأخبر سبحانه بأن جميع أهل الكتاب سوف يؤمنون بعيسى عليه السلام قبل موته، أي: موت عيسى عليه السلام، وذلك عند نزوله آخر الزمان حكمًا عدلاً داعيًا إلى الإسلام، كما سيجيء بيانه في حديث نزوله، وهذا المعنى هو المتعين؛ فإن الكلام سيق لبيان موقف اليهود من عيسى عليه السلام وصنيعهم معه ولبيان سنة الله في إنجائه ورد كيد أعدائه، فيتعين رجوع الضميرين المجرورين إلى عيسى عليه السلام رعاية لسياق الكلام، وتوحيدًا لمرجع الضميرين. وثبت في الحديث الصحيح عن أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: والذي نَفْسي بِيَدِهِ لَيُوشِكَنَّ أن يَنْزِلَ فيكمُ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا مُقْسِطًا،(1/454)
فَيَكْسِرَ الصليب، ويَقْتُلَ الخِنْزِير، ويَضَعَ الجِزْيَةَ، ويَفِيضَ المالُ حتى لا يَقْبَلَهُ أَحَد ؛ قال أبو هريرة رضي الله عنه: اقرؤوا إن شئتم: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ...} [النِّسَاء: 159](1) الآية. وفي رواية عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: كَيْفَ أنتُم إذا نَزَل فيكمُ ابْنُ مريمَ وإِمامُكُم منكم (2)، وثبت في الصحيح أيضًا: أن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا تزالُ طائفةٌ من أُمَّتِي يُقاتلون على الحقِّ ظَاهِرين إلى يوم القيامة قال: فَيَنْزِلُ عيسى ابْنُ مريمَ - صلى الله عليه وسلم - فيقول أميرُهُم: تعالَ صَلِّ لَنَا، فيقول: لا، إنَّ بعضَكُم على بعضٍ أُمَراء؛ تَكْرِمَةَ اللهِ هذه الأُمَّة(3). فدلت الأحاديث على نزوله آخر الزمان، وعلى أنه يحكم بشريعة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وعلى أن إمام هذه الأمة في الصلاة وغيرها أيام نزول عيسى عليه السلام من هذه الأمة، وعلى ذلك لا تكون هناك منافاة بين نزوله وبين ختم النبوة بنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - حيث لم يأت عيسى عليه السلام برسالة جديدة، ولله الحكم أولاً وآخرًا يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، ولا معقب لحكمه، وهو العزيز الحكيم.
__________
(1) …البخاري (3448)، ومسلم (155).
(2) …البخاري (3449)، ومسلم (155).
(3) …مسلم (156).(1/455)
فمن زعم أن عيسى - عليه الصلاة والسلام - صلب أو قتل فهو كافر؛ لمخالفته لصريح القرآن، ولما ثبت من الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن قال من المسلمين: إن الله تعالى أمات عيسى - عليه الصلاة والسلام - موتًا حقيقيًا، ثم رفعه إليه حينما كاد له اليهود وعزموا على صلبه وقتله؛ فقد شذ عن جماعة المسلمين وضل عن سواء السبيل؛ لمخالفته ظواهر نصوص القرآن والسنة الصحيحة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، والذي حداهم إلى هذا فهمهم الخاطئ لقوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا}[آل عِمرَان، من الآية: 55]، حيث فسر التوفي بالإماتة؛ فخالف بذلك ما صح عن السلف من تفسيره بقبض الله إياه من الأرض ورفعه إليه حيًا وتخليصه بذلك من الذين كفروا؛ جمعًا بين نصوص الكتاب والسنة الصحيحة على رفعه حيًا وعلى نزوله آخر الزمان وإيمان أهل الكتاب جميعاً وغيرهم به. وما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما من تفسير التوفي هنا بالإماتة فغير صحيح لانقطاع سنده إذ هو من رواية علي بن أبي طلحة عنه، وعلي لم يسمع منه ولم يره، وإنما روى عنه بواسطة، ولم يصح أيضًا ما روي عن وهب بن منبه اليماني من تفسير التوفي بالإماتة؛ لأنه من رواية ابن إسحاق عمن لا يتهم عن وهب، ففيه عنعنة ابن إسحاق وهو مدلس، وفيه مجهول، ثم هذا التفسير لا يزيد عن كونه احتمالاً في معنى التوفي، فإنه قد فسر بأن الله قد قبضه من الأرض بدنًا وروحًا ورفعه إليه حيًا، وفسر بأنه أنامه ثم رفعه، وبأنه يميته بعد رفعه ونزوله آخر الزمان، إذ الواو لا تقتضي الترتيب، وإنما تقتضي جمع الأمرين له فقط، وإذا اختلفت الأقوال في معنى الآية وجب المصير إلى القول الذي يوافق ظواهر الأدلة الأخرى؛ جمعا بين الأدلة، وردًا للمتشابه منها إلى المحكم، كما هو شأن الراسخين في العلم دون أهل الزيغ الذين يتبعون ما(1/456)
تشابه من التنزيل ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله.
وكذلك القول في اختلافهم في تفسير قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَْلْبَابِ *}[آل عِمرَان]، ثم إن من يقول بإماتة الله لعيسى عليه السلام حين كاد له اليهود إما أن يعترف بنزول عيسى عليه السلام آخر الزمان عملاً بما ورد من الأحاديث الصحيحة في ذلك وإما أن ينكر نزوله، فإن اعترف به لزمه أن يثبت لعيسى عليه السلام موتًا ثم حياة في الدنيا ثم موتا عند الكيد والرفع ثم حياة ثم موتاً بعد النزول ثم حياة عند البعث، وهذا مخالف بلا دليل لقوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ *}[البَقَرَة]، ولقوله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ *}[غَافر]، وإن أنكر نزوله بعد رفعه كان رادًا للأحاديث الصحيحة المتلقاة بالقبول عند علماء المسلمين الشاهدة شهادة صريحة بنزوله ودعوته إلى الحق وحكمه به وقتله الخنزير وكسره الصليب .. إلخ ما ثبت من أحواله بعد نزوله، وكلا الأمرين لا مخلص منه إلا بالقول بما قال به أهل السنة والجماعة من إنجاء الله عيسى عليه السلام من كيد اليهود ورفعه إليه بدنًا وروحًا، وإنزاله آخر الزمان حكمًا عدلاً.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(1/457)
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (3/219-222)
أسئلة حول الخضر عليه السلام
س 1 : هل الخضر عليه السلام حارس في الأنهار والصحاري ؟ وهل يعين كل من ضل عن الطريق إذا ناداه ؟
ج1 : الصحيح من أقوال العلماء أن الخضر عليه السلام توفي قبل إرسال الله لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - - لقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ *}[الأنبيَاء]، وعلى تقدير أنه بقي حياً حتى لقي نبينا محمداً - صلى الله عليه وسلم - فقد دلت السنة على وفاته بعد وفاة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - بمدة محدودة، بينها - صلى الله عليه وسلم - بقوله فيما ثبت عنه: "أَرَأَيْتَكُم لَيْلَتَكُم هذِه ؟ فإنَّه على رأسِ مائة سَنَة لا يَبْقَى على وَجْهِ الأرض مِمَّنْ هو عليها اليومَ أَحَد" (1)، وعلى هذا يكون شأنه شأن الأموات لا يسمع نداء من ناداه، ولا يجيب من دعاه، ولا يهدي من ضل عن الطريق إذا استهداه. وعلى تقدير أنه حي إلى اليوم فهو غائب، شأنه شأن غيره من الغائبين لا يجوز دعاؤه ولا الاستنجاد به في شدة أو رخاء؛ لعموم قوله تعالى: {فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا}[الجنّ: 18]، وما جاء في معناه من الآيات.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (3/208، 209)
س 2 : هل الخضر نبي أو رجل صالح ؟
__________
(1) …أحمد (2/88، 121، 131)، والبخاري (116، 564، 601)، ومسلم (2537) وغيرهم.(1/458)
ج2 : الصحيح: أن الخضر عليه السلام نبي؛ لما ذكره الله تعالى في سورة الكهف من قصته مع موسى عليهما السلام فإن فيها أنه خرق سفينة كانت لمساكين يعملون في البحر، وقتل غلامًا لم يرتكب جريمة، وأقام جدارًا ليتيمين بلا أجر في قرية أبى أهلها إطعامهما، وأنكر موسى عليه السلام كل ذلك عليه فبين له السبب أخيرًا، ثم ختمت القصة بأن كل ذلك كان منه بوحي من الله؛ وذلك فيما أخبر الله عنه من قوله: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا}[الكهف: 82].
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (3/211، 212)
حكم تمثيل الأنبياء والصحابة والتابعين
ما حكم تمثيل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والصحابة والتابعين رضي الله عنهم ؟ وتمثيل الأنبياء وأتباعهم من جانب والكفار من جانب آخر ؟
أولاً: إن المشاهد في التمثيليات التي تقام والمعهود فيها طابع اللهو وزخرفة القول والتصنع في الحركات ونحو ذلك؛ مما يلفت النظر ويستميل نفوس الحاضرين ويستولي على مشاعرهم ولو أدى ذلك إلى لَيٍّ في كلام من يمثله، أو تحريف له أو زيادة فيه، وهذا مما لا يليق في نفسه فضلاً عن أنه يقع تمثيلاً من شخص أو جماعة للأنبياء وصحابتهم وأتباعهم فيما يصدر عنهم من أقوال في الدعوة والبلاغ، وما يقومون به من عبادة وجهاد أداء للواجب ونصرة للإسلام.
ثانيًا: إن الذين يشتغلون بالتمثيل يغلب عليهم عدم تحري الصدق وعدم التحلي بالأخلاق الإسلامية الفاضلة، وفيهم جرأة على المجازفة وعدم مبالاة بالانزلاق إلى ما لا يليق ما دام في ذلك تحقيق لغرضه من استهواء الناس وكسب للمادة ومظهر نجاح في نظر السواد الأعظم من المتفرجين، فإذا قاموا بتمثيل الصحابة ونحوهم أفضى ذلك إلى السخرية والاستهزاء بهم والنيل من كرامتهم والحط من قدرهم، وقضى على مالهم من هيبة ووقار في نفوس المسلمين.(1/459)
ثالثاً: إذا قدِّر أن التمثيلية لجانبين، جانب الكافرين كفرعون وأبي جهل ومن على شاكلتهما، وجانب المؤمنين كموسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام وأتباعهم - فإن من يمثل الكافرين سيقوم مقامهم ويتكلم بألسنتهم فينطق بكلمات الكفر ويوجه السباب والشتائم للأنبياء ويرميهم بالكذب والسحر والجنون.. إلخ، ويسفه أحلام الأنبياء وأتباعهم ويبهتهم بكل ما تُسوِّله له نفسه من الشر والبهتان مما جرى من فرعون وأبي جهل وأضرابهما مع الأنبياء وأتباعهم لا على وجه الحكاية عنهم؛ بل على وجه النطق بما نطقوا به من الكفر والضلال؛ هذا إذا لم يزيدوا من عند أنفسهم ما يكسب الموقف بشاعة ويزيده نكراً وبهتاناً وإلا كانت جريمة التمثيل أشد وبلاؤها أعظم؛ وذلك مما يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه من الكفر وفساد المجتمع ونقيصة الأنبياء والصالحين.
رابعاً: دعوى أن هذا العرض التمثيلي لما جرى بين المسلمين والكافرين طريق من طرق البلاغ الناجح والدعوة المؤثرة والاعتبار بالتاريخ - دعوى يردها الواقع، وعلى تقدير صحتها فشرها يطغى على خيرها. ومفسدتها تربو على مصلحتها؛ وما كان كذلك يجب منعه والقضاء على التفكير فيه.
خامسًا: وسائل البلاغ والدعوة إلى الإسلام ونشره بين الناس كثيرة، وقد رسمها الأنبياء لأممهم وآتت ثمارها يانعة؛ نصرة للإسلام، وعزة للمسلمين، وقد أثبت ذلك واقع التاريخ فلنسلك ذلك الصراط المستقيم؛ صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ولنكتف بذلك عما هو إلى اللعب وإشباع الرغبة والهوى أقرب منه إلى الجد وعلو الهمة، ولله الأمر كله من قبل ومن بعد، وهو أحكم الحاكمين.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (3/197، 198)
موقف المسلم من الصحابة الكرام رضي الله عنهم(1/460)
س 1: إن كثيراً من الأتراك المسلمين يلعنون معاوية وابنه يزيد على الدوام .. فهل هم محقون في لعنتهم أم لا ؟
ج1: أما معاوية رضي الله عنه فهو أحد أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأحد كتاب الوحي، وأصحابه رضي الله عنهم خير المؤمنين، وقد ورد النهي عن سبهم، ومن باب أَوْلَى النهي عن لعنهم؛ فثبت في الصحيحين أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "خَيْرُ الناس قَرْنِي، ثم الذين يَلُونَهُم، ثم الذين يلونهم" (1)، وثبت في الصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تَسُبُّوا أصحابي، فوالذي نَفْسِي بِيَدِه لو أَنْفَقَ أَحَدُكُم مِثْلَ أُحُدٍ ذهبًا ما بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِم ولا نَصِيفَه"(2).
وقد روي بإسناد جيد في شأن معاوية رضي الله عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اللهُمَّ عَلِّمْهُ الكتابَ والحِسابَ، وَقِهِ سُوءَ العذاب" (3) ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله(4).
إذا علم ذلك فمن أصول أهل السنة والجماعة في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
__________
(1) …البخاري (2651، 2652، 3650، 3651، 6428، 6429، 6658، 6695)، ومسلم (2533، 2534) وغيرهما.
(2) …البخاري (3673)، ومسلم (2540، 2541)، وأحمد (3/11، 54، 63)، وآخرون.
والمدّ: مكيال قديم، قدّروه حديثا بحوالي (675) غرام.
(3) …أحمد في «المسند» (4/127)، وفي «فضائل الصحابة» (1748، 1749)، والأخير مرسل، والبزار والطبراني كما في «مجمع الزوائد» (9/356)، وقال: (وفيه الحارث بن زياد ولم أجد من وثقه ..)، وعزاه للطبراني أيضاً في الصفحة نفسها مرسلاً، وقال الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (3/120): (له شاهد قوي من حديث عبدالرحمن بن أبي عميرة). وأخرجه البخاري في «التاريخ الكبير» (1405)، وابن حبان في «صحيحه» (7210).
(4) …انظر: «مجموع الفتاوى» (35/64) .(1/461)
(أ)…من لعن أحدًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سواء كان معاوية أو غيره رضي الله عنهم جميعا: فإنه يستحق العقوبة البليغة باتفاق المسلمين، وتنازعوا: هل يعاقب بالقتل أو ما دون القتل؟
(ب)…سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ كما وصفهم الله به في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِْيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ *}[الحَشر].(1/462)
(ج)…ويقولون: إن الآثار المروية في مساويهم منها ما هو كذب ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغير عن وجهه، والصحيح منها هم فيه معذرون: إما مجتهدون مصيبون فلهم أجران، وإما مجتهدون مخطئون لهم أجر واحد، والخطأ مغفور لهم. وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره؛ بل تجوز عليهم الذنوب في الجملة ولهم من الحسنات والسوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر؛ حتى إنه يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم؛ لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم، وقد ثبت بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنهم خير القرون، وأن المد من أحدهم ونصيفه إذا تصدق به كان أفضل من جبل ذهبا ممن بعدهم كما سبق بيان ذلك. ثم إذا كان قد صدر من أحدهم ذنب فيكون قد تاب منه أو أتى بحسنات تمحوه أو غفر له بفضل سابقته أو بشفاعة محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي هم أحق الناس بشفاعته، أو ابتلي ببلاء في الدنيا كفر به عنه، فإذا كان هذا في الذنوب المحققة فكيف بالأمور التي كانوا فيها مجتهدين ؟! إن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطؤوا فلهم أجر واحد، والخطأ مغفور لهم. ثم القدر الذي ينكر من فعل بعضهم قليل مغمور في جانب فضائل القوم ومحاسنهم: من الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله والهجرة والنصرة والعلم النافع والعمل الصالح.(1/463)
(د)…ويقولون: يجب الاقتصاد والاعتدال في أمر الصحابة والإمساك عما شجر بينهم فلا يقال بالعصمة لطائفة والتأثيم لأخرى؛ بخلاف أهل البدع من الشيعة والخوارج الذين غلوا من الجانبين: طائفة عصَّمت، وطائفة أثَّمت؛ فتولَّد بينهم من البدع ما سبوا له السلف، بل فسقوهم وكفروهم إلاَّ قليلاً - كما كفرت الخوارج علياً وعثمان رضي الله عنهما واستحلّوا قتالهم، وهم الذين قال فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: "تَمْرُقُ مَارِقةٌ على حِين فِرقةٍ من المسلمين تَقْتُلها أَوْلَى الطائفتين بالحقِّ" (1)، فقتلهم علي رضي الله عنه؛ وهم المارقة الذين خرجوا على علي رضي الله عنه وكَفَّروا كل من تولاه. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحسن بن علي رضي الله عنهما: "إنَّ ابْنِي هذا سَيِّد، وسَيُصْلِحُ اللهُ بِه بين فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ من المسلمين" (2)، فأصلح به بين شيعة علي ومعاوية رضي الله عنهما، فدل على أنه فعل ما أحبه الله ورسوله، وأن الفئتين ليسوا مثل الخوارج الذين أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتالهم؛ ولهذا فرح علي رضي الله عنه بقتاله للخوارج وحزن لقتال صفين والجمل وأظهر الكآبة والألم،كما يجب تبرئة الفريقين والترحّم على قتلاهما؛ لأن ذلك من الأمور المتفق عليها، وأن كل واحدة من الطائفتين مؤمنة؛ وقد شهد لها القرآن بأن قتال المؤمنين لا يخرجهم عن الإيمان - فقال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} الآية [الحُجرَات: 9]. والحديث المروي: (إذا اقْتَتَلَ خَلِيفَتَانِ فَأَحَدُهُمَا مَلْعُون) كذِبٌ مفترى لم يروه أحد من أهل العلم بالحديث(3).
__________
(1) …أحمد (3/32، 48)، ومسلم (1065)، وأبو داود (4667)، وآخرون.
(2) …أحمد (5/37، 44، 49، 51)، والبخاري (2704، 3629، 3746، 7109) وغيرهما.
(3) …انظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية رحمه الله (35/72) .(1/464)
… ومعاوية رضي الله عنه لم يدّع الخلافة ولم يبايع له بها حين قاتل عليًا رضي الله عنه، ولم يقاتل عليًا على أنه خليفة ولا أنه يستحق الخلافة، ولا كان هو وأصحابه يرون ابتداء علي بالقتال؛ بل لما رأى علي رضي الله عنه أنه يجب عليهم مبايعته وطاعته - إذ لا يكون للناس خليفتان وأن هؤلاء خارجون عن طاعته - رأى أن يقاتلهم حتى يؤدوا الواجب وتحصل الطاعة والجماعة، وهم قالوا: إن ذلك لا يجب عليهم حتى يؤخذ حق عثمان رضي الله عنه من الذين خرجوا عليه وقتلوه ممن هم في جيش علي رضي الله عنه.(1/465)
وأما يزيد بن معاوية فالناس فيه طرفان ووسط، وأعدل الأقوال الثلاثة فيه أنه كان ملكًا من ملوك المسلمين له حسنات وسيئات ولم يولد إلاَّ في خلافة عثمان رضي الله عنه، ولم يكن كافرًا ولكن جرى بسببه ما جرى من مصرع الحسين رضي الله عنه وفعل ما فعل بأهل الحرة، ولم يكن صاحبًا ولا من أولياء الله الصالحين. قال شيخ الإسلام ابن تيمية(1) رحمه الله: وهذا قول عامة أهل العقل والعلم والسنة والجماعة، وأما بالنسبة للعنه فالناس فيه ثلاثة فرق: فرقة لعنته، وفرقة أحبته، وفرقة لا تسبه ولا تحبه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وهذا هو المنصوص عن الإمام أحمد وعليه المقتصدون من أصحابه وغيرهم من جميع المسلمين، وهذا القول الوسط مبني على أنه لم يثبت فسقه الذي يقتضي لعنه، أو بناء على أن الفاسق المعين لا يلعن بخصوصه إما تحريماً وإما تنزيهاً؛ فقد ثبت في صحيح البخاري: عن عمر في قصة عبدالله بن حمار(2) الذي تكرر منه شرب الخمر، وجلده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - لما لعنه بعض الصحابة قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَلْعَنْهُ، فإنه يُحِبُّ اللهَ ورسوله" (3)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "لَعْنُ المؤمنِ كقَتْلِه" (4) متفق عليه.
__________
(1) …«مجموع الفتاوى» (3/409 - 414) و(4/443، 484 - 506)، بنحوه مطولاً.
(2) …الصواب أن يقال: عبدالله، وكان يلقب (حمارًا). انظر: «البخاري» (6780)، و«الإصابة» لابن حجر 2/117 (1815).
(3) …البخاري (6780)، وأبو يعلى الموصلي في «مسنده» (176، 177)، وعبد الرزاق في «مصنفه» (13552، 17082)، والبزار في «مسنده» (269)، وآخرون.
(4) …البخاري (6047، 6105، 6652)، ومسلم (110).(1/466)
وهذا كما أن نصوص الوعيد عامة في أكل أموال اليتامى والزنا والسرقة فلا يشهد بها على معين بأنه من أصحاب النار؛ لجواز تخلف المقتضى عن المقتضي لمعارض راجح: إما توبته، وإما حسنات، وإما مصائب مكفرة، وإما شفاعة مقبولة، وغير ذلك من المكفرات للذنوب هذا بالنسبة لمنع سبه ولعنته.
وأما بالنسبة لترك المحبة فلأنه لم يصدر منه من الأعمال الصالحة ما يوجب محبته، فبقي واحدًا من الملوك السلاطين، ومحبة أشخاص هذا النوع ليست مشروعة؛ ولأنه صدر عنه ما يقتضي فسقه وظلمه في سيرته، وفي أمر الحسين رضي الله عنه وأمر أهل الحرة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (3/282-285)
س2: كيف نعامل الرجل الذي يسب الأصحاب الثلاثة ؟(1/467)
ج2: صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خير هذه الأمة وقد أثنى الله عليهم في كتابه؛ قال الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَْوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَْنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ *}[التّوبَة]، وقال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا *}[الفَتْح]، إلى غير هذا من الآيات التي أثنى الله فيها على الصحابة ووعدهم بدخول الجنة، وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم من هؤلاء السابقين، وممن بايع تحت الشجرة؛ فقد بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - نفسه لعثمان رضي الله عنه فكانت شهادة له وثقة منه به، وكانت أقوى من بيعة غيره للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد أثنى عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث كثيرة إجمالاً وتفصيلاً؛ وخاصة أبا بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، وبشر هؤلاء بالجنة في جماعة آخرين من الصحابة، وحذر من سبهم - فقال: "لا تسبُّوا أصحابي، فإنَّ أَحَدَكُمْ لو أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذهبًا ما أَدْرَكَ مُدَّ أحدِهم ولا نَصِيفَه" (1) رواه مسلم في صحيحه من طريق أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما.
__________
(1) …البخاري (3673)، ومسلم (2540، 2541)، وأحمد (3/11، 54، 63)، وآخرون.
والمدّ: مكيال قديم، قدّروه حديثا بحوالي (675) غرام.(1/468)
فمن سب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو شتمهم - وخاصة الثلاثة أبا بكر وعمر وعثمان المسؤول عنهم - فقد خالف كتاب الله وسنة رسوله وعارضهما بذمه إياهم، وكان محرومًا من المغفرة التي وعدها الله من جاء بعدهم واستغفر لهم، ودعا الله ألا يجعل في قلبه غلاً على المؤمنين(1). ومن أجل ذمه لهؤلاء الثلاثة وأمثالهم يجب نصحه وتنبيهه لفضلهم وتعريفه بدرجاتهم وما لهم من قدم صدق في الإسلام؛ فإن تاب فهو من إخواننا في الدينّ، وإن تمادي في سبهم وجب الأخذ على يده؛ مع مراعاة السياسة الشرعية في الإنكار بقدر الإمكان، ومن عجز عن الإنكار بلسانه ويده: فبِقلبِه وهذا هو أضعف الإيمان، كما ثبت في الحديث الصحيح(2).
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (3/286، 287)
كرامات الأولياء
هل للأولياء كرامة ؟ وهل لهم أن يتصرفوا في عالم الملكوت في السموات والأرض ؟ وهل يشفعون وهم في البرزخ لأهل الدنيا أم لا ؟
__________
(1) …انظر: الآية [10] من سورة الحشر.
(2) …مسلم (49).(1/469)
الكرامة: أمر خارق للعادة يظهره الله تعالى على يد عبد من عباده الصالحين، حيًا أو ميتًا؛ إكرامًا له فيدفع به عنه ضراً أو يحقق له نفعا أو ينصر به حقاً، وذلك الأمر لا يملك العبد الصالح أن يأتي به إذا أراد - كما أن النبي لا يملك أن يأتي بالمعجزة من عند نفسه؛ بل كل ذلك إلى الله وحده، قال الله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآْيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ *}[العَنكبوت]، ولا يملك الصالحون أن يتصرفوا في ملكوت السموات والأرض إلاّ بقدر ما آتاهم الله من الأسباب كسائر البشر - من زرع وبناء وتجارة ونحو ذلك مما هو من جنس أعمال البشر - بإذن الله تعالى، ولا يملكون أن يشفعوا وهم في البرزخ لأحد من الخلق أحياءً وأمواتًا؛ قال الله تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا}[الزُّمَر: 44]، وقال: {وَلاَ يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ *}[الزّخرُف]، وقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}[البَقَرَة: 255]، ومن اعتقد في أنهم يتصرفون في الكون أو يعلمون الغيب فهو كافر؛ لقول الله عز وجل: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ *}[المَائدة]، وقوله سبحانه: {قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ}[النَّمل: 65]، وقوله سبحانه آمراً نبيه - صلى الله عليه وسلم - بما يزيل اللبس ويوضح الحق: {قُلْ لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ *}[الأعرَاف].(1/470)
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (1/388)
الفصل التاسع
الجن وأحكامهم
حكم من ينكر وجود الجن ودخولهم في الإنس
في عصرنا الحاضر كثر حديث الناس عن تلبس الجن بالإنس ودخولهم فيهم، ومن الناس من ينكر ذلك؛ بل إن البعض ينكر الجن إطلاقاً .. فهل لهذا تأثير على عقيدة المسلم ؟ وهل ورد ما يلزم بالإيمان بالجن ؟ ثم ما الفرق بينهم وبين الملائكة ؟
إنكار وجود الجن كفر وردة عن الإسلام؛ لأنه إنكار لما تواتر في الكتاب والسنة من الأخبار عن وجودهم، فالإيمان بوجودهم من الإيمان بالغيب؛ لأننا لا نراهم وإنما نعتمد في إثبات وجودهم على الخبر الصادق؛ قال تعالى في إبليس وجنوده: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ}[الأعرَاف: 27].
أما إنكار دخولهم في الإنس فلا يقتضي الكفر؛ لكنه خطأ وتكذيب لما ثبت في الأدلة الشرعية والواقع المتكرر وجوده. لكن لخفاء هذه المسألة لا يُكَفَّر المخالف فيها ولكن يُخَطَّأ؛ لأنه لا يعتمد في إنكار ذلك على دليل وإنما يعتمد على عقله وإدراكه؛ والعقل لا يتخذ مقياسًا في الأمور الغيبية، وكذلك لا يكون العقل مقدمًا على أدلة الشرع إلا عند أهل الضلال.
- والفرق بين الجن والملائكة من وجوه:
الوجه الأول: من وجهة أصل الخلقة؛ فالجن خلقوا من نار السموم والملائكة خلقوا من نور .
الوجه الثاني: أن الملائكة عباد مطيعون لله مقربون مكرمون - كما قال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ *لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ *}[الأنبيَاء]، وقال تعالى: {لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}[التّحْريم: 6].(1/471)
أما الجن: فمنهم المؤمن ومنهم الكافر - كما قال تعالى إخبارًا عنهم: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ}[الجنّ: 14]، ومنهم المطيع ومنهم العاصي؛ قال تعالى: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا *}[الجنّ]، إلى غير ذلك من الآيات .
الشيخ الفوزان - المنتقى (2/59، 60)
حقيقة الجن وتأثيرهم وعلاج ذلك
هل للجن حقيقة ؟ وهل لهم تأثير ؟ وما علاج ذلك ؟
أما حقيقة حياة الجن فالله أعلم بها، ولكننا نعلم أن الجن أجسام حقيقية، وأنهم خلقوا من النار، وأنهم يأكلون ويشربون ويتزاوجون ولهم ذرية - كما قال الله تعالى في الشيطان: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ}[الكهف: 50]، وأنهم مكلفون بالعبادات؛ فقد أرسل إليهم النبي عليه الصلاة والسلام، وحضروا واستمعوا القرآن الكريم - كما قال الله تعالى: {قُلْ أُوْحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا *يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا *}[الجنّ]، وكما قال تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ *قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ *}[الأحقاف: 29-30]، إلى آخر الآيات .(1/472)
وثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه - قال للجن الذين وفدوا إليه وسألوه الزاد - قال: لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ يَقَعُ فِي أَيْدِيكُمْ أَوْفَرَ مَا يَكُونُ لَحْمًا (1)، وهم - أعني الجن - يشاركون الإنسان إذا أكل ولم يذكر اسم الله على أكله؛ ولهذا كانت التسمية على الأكل واجبة، وكذلك على الشرب كما أمر بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -(2) .
وعليه فإن الجن حقيقة واقعة، وإنكارهم تكذيب للقرآن الكريم وكفر بالله عز وجل، وهم يؤمرون وينهون ويدخل كفارهم النار - كما قال الله تعالى: {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِْنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا}[الأعرَاف: 38]، ومؤمنهم يدخل الجنة أيضًا؛ لقوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ *فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ *ذَوَاتَا أَفْنَانٍ *فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ *}[الرَّحمن]، والخطاب للجن والإنس، ولقوله تعالى: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِْنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ *}[الأنعَام]، إلى غير ذلك من الآيات والنصوص الدالة على أنهم مكلفون: يدخلون الجنة إذا آمنوا، ويدخلون النار إذا لم يؤمنوا .
__________
(1) …مسلم (450).
(2) …حيث قال - صلى الله عليه وسلم - لعمر بن أبي سلمة: (( ياغلام، سَمِّ الله، .. )) الحديث . أخرجه البخاري (5376)، ومسلم (2022).(1/473)
أما تأثيرهم على الإنس فإنه واقع أيضاً؛ فإنهم يؤثرون على الإنس: إما أن يدخلوا في جسد الإنسان فيصرع ويتألم، وإما أن يؤثروا عليه بالترويع والإيحاش وما أشبه ذلك. والعلاج من تأثيرهم بالأوراد الشرعية: مثل (قراءة آية الكرسي) [البقرة: 255 ]؛ فإن (من قرأ آية الكرسي في ليلةٍ لم يَزَلْ عليه من الله حافِظ ولا يَقْرَبُه شيطانٌ حتى يُصْبِح)(1) .
الشيخ ابن عثيمين - فتاوى العلاج بالقرآن والسنة - الرقى وما يتعلق بها، ص (67 - 69)
مسألة دخول الجني في الإنسي (ومخاطبة الجني لابن باز رحمه الله )
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
__________
(1) …البخاري (2311، 2375) بمعناه.(1/474)
فقد نشرت بعض الصحف المحلية وغيرها (في شعبان عام 1407هـ) أحاديث مختصرة ومطولة عما حصل من إعلان بعض الجن - الذي تلبس ببعض المسلمات في الرياض - إسلامه عندي بعد أن أعلنه عند الأخ عبد الله بن مشرف العمري المقيم في الرياض؛ بعدما قرأ المذكور على المصابة وخاطب الجني وذكره بالله ووعظه وأخبره أن الظلم حرام وكبيرة عظيمة ودعاه إلى الخروج منها، واقتنع الجني بالدعوة وأعلن إسلامه عند عبد الله المذكور، ثم رغب عبد الله المذكور وأولياء المرأة أن يحضروا عندي بالمرأة حتى أسمع إعلان إسلام الجني فحضروا عندي؛ فسألته عن أسباب دخوله فيها فأخبرني بالأسباب ونطق بلسان المرأة؛ لكنه كلام رجل وليس كلام امرأة، وهي في الكرسي الذي بجواري وأخوها وأختها وعبد الله بن مشرف المذكور وبعض المشايخ يشهدون ذلك ويسمعون كلام الجني، وقد أعلن إسلامه صريحًا وأخبر أنه هندي بوذي الديانة؛ فنصحته وأوصيته بتقوى الله وأن يخرج من هذه المرأة ويبتعد عن ظلمها فأجابني إلى ذلك؛ وقال: أنا مقتنع بالإسلام، وأوصيته أن يدعو قومه للإسلام بعدما هداه الله له فوعد خيرًا وغادر المرأة، وكان آخر كلمة قالها: السلام عليكم. ثم تكلمت المرأة بلسانها المعتاد وشعرت بسلامتها وراحتها من تعبه .
ثم عادت إلي بعد شهر أو أكثر مع أخويها وخالها وأختها وأخبرتني أنها في خير وعافية، وأنه لم يعد إليها والحمد لله، وسألتها عما كانت تشعر به حين وجوده بها فأجابت: بأنها كانت تشعر بأفكار رديئة مخالفة للشرع وتشعر بميول إلى الدين البوذي والاطلاع على الكتب المؤلفة فيه، ثم بعد ما سلمها الله منه زالت عنها هذه الأفكار المنحرفة .(1/475)
وقد بلغني عن فضيلة الشيخ الطنطاوي أنه أنكر حدوث مثل هذا الأمر؛ وذكر أنه تدجيل وكذب، وأنه يمكن أن يكون كلاماً مسجلاً مع المرأة ولم تكن نطقت بذلك. وقد طلبت الشريط الذي سجل فيه كلامه وعلمت منه ما ذكر وقد عجبت كثيراً من تجويزه أن يكون ذلك مسجلاً؛ مع أني سألت الجني عدة أسئلة وأجاب عنها؛ فكيف يظن عاقل أن المسجل يسأل ويجيب ؟! هذا من أقبح الغلط ومن تجويز الباطل. وزعم أيضاً في كلمته أن إسلام الجني على يد الإنسي يخالف قول الله تعالى في قصة سليمان عليه السلام: {وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَ يَنْبَغِي لأَِحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}[ص: 35].
ولا شك أن هذا غلط منه أيضاً - هداه الله - وفهم باطل؛ فليس في إسلام الجني على يد الإنسي ما يخالف دعوة سليمان عليه السلام، فقد أسلم جمع غفير من الجن على يد النبي - صلى الله عليه وسلم - .(1/476)
وقد أوضح الله ذلك في سورة الأحقاف وسورة الجن، وثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إِنَّ الشَّيْطَانَ عَرَضَ لِي فَشَدَّ عَلَيَّ لِيَقْطَعَ الصَّلاةَ عَلَيَّ فَأَمْكَنَنِي اللهُ مِنْهُ فَذَعَتُّهُ(1)، وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أُوثِقَهُ إِلَى سَارِيَةٍ حَتَّى تُصْبِحُوا فَتَنْظُرُوا إِلَيْهِ فَذَكَرْتُ قَوْلَ سُلَيْمَانَ عليهم السلام: رَبِّ هَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي؛ فَرَدَّهُ اللهُ خَاسِيًا" هذا لفظ البخاري(2)، ولفظ مسلم(3): "إِنَّ عِفْرِيتًا مِنْ الْجِنِّ جَعَلَ يَفْتِكُ عَلَيَّ الْبَارِحَةَ لِيَقْطَعَ عَلَيَّ الصَّلاةَ، وَإِنَّ اللهَ أَمْكَنَنِي مِنْهُ فَذَعَتُّهُ؛ فَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَرْبِطَهُ إِلَى جَنْبِ سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ حَتَّى تُصْبِحُوا تَنْظُرُونَ إِلَيْهِ أَجْمَعُونَ - أَوْ كُلُّكُمْ - ثُمَّ ذَكَرْتُ قَوْلَ أَخِي سُلَيْمَانَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي؛ فَرَدَّهُ اللهُ خَاسِئًا" .
__________
(1) …ذَعَتُّهُ: خنقتُه.
(2) …البخاري (1210)، وأطرافه في (461).
(3) …مسلم (541) .(1/477)
وروى النسائي على شرط البخاري عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي فأتاه الشيطان فأخذه فصرعه فخنقه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: حتى وجدتُ بَرْدَ لِسانِه على يَدِي، لَوْلاَ دعوةُ سُليمانَ لأَصْبَحَ مُوثَقًا حتى يَراهُ الناسُ(1). ورواه أحمد وأبو داود من حديث أبي سعيد رضي الله عنه وفيه: "فَأَهْوَيْتُ بِيَدِي فَمَا زِلْتُ أَخْنُقُهُ حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ لُعَابِهِ بَيْنَ إِصْبَعَيَّ هَاتَيْنِ الإِْبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا"(2).
__________
(1) …ابن حبان (2350)، والنسائي في "الكبرى" (11439)، والطبراني في «الأسط» (8219).
(2) …أحمد في المسند (3/82) واللفظ له، وعبد بن حميد في «مسنده» (946). قال الهيثمي في «المجمع» (2/87): «رواه أحمد ورجاله ثقات».(1/478)
وخرج البخاري في صحيحه تعليقاً مجزوماً به عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنه قال: وَكَّلَنِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ؛ فَأَتَانِي آتٍ فَجَعَلَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ فَأَخَذْتُهُ وَقُلْتُ: وَاللهِ لأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: إِنِّي مُحْتَاجٌ وَعَلَيَّ عِيَالٌ وَلِي حَاجَةٌ شَدِيدَةٌ؛ قَالَ: فَخَلَّيْتُ عَنْهُ فَأَصْبَحْتُ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ الْبَارِحَةَ ؟ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ شَكَا حَاجَةً شَدِيدَةً وَعِيَالاً فَرَحِمْتُهُ فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ. قَالَ: أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ وَسَيَعُودُ؛ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ سَيَعُودُ لِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: إِنَّهُ سَيَعُودُ؛ فَرَصَدْتُهُ فَجَاءَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ فَأَخَذْتُهُ فَقُلْتُ: لأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. قَالَ: دَعْنِي فَإِنِّي مُحْتَاجٌ وَعَلَيَّ عِيَالٌ لا أَعُودُ فَرَحِمْتُهُ فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، فَأَصْبَحْتُ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ شَكَا حَاجَةً شَدِيدَةً وَعِيَالاً فَرَحِمْتُهُ فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ. قَالَ: أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ وَسَيَعُودُ، فَرَصَدْتُهُ الثَّالِثَةَ فَجَاءَ يَحْثُو مِنْ الطَّعَامِ فَأَخَذْتُهُ فَقُلْتُ: لأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللهِ، وَهَذَا آخِرُ ثَلاثِ مَرَّاتٍ أَنَّكَ تَزْعُمُ لا تَعُودُ ثُمَّ تَعُودُ. قَالَ: دَعْنِي أُعَلِّمْكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللهُ بِهَا. قُلْتُ: مَا هُوَ ؟ قَالَ: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ: {اللهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ(1/479)
الْقَيُّومُ} حَتَّى تَخْتِمَ الآيَةَ؛ فَإِنَّكَ لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنْ اللهِ حَافِظٌ، وَلا يَقْرَبَنَّكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ. فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ؛ فَأَصْبَحْتُ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ الْبَارِحَةَ ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ زَعَمَ أَنَّهُ يُعَلِّمُنِي كَلِمَاتٍ يَنْفَعُنِي اللهُ بِهَا فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ؛ قَالَ مَا هِيَ ؟ قُلْتُ: قَالَ لِي: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ مِنْ أَوَّلِهَا حَتَّى تَخْتِمَ الآيَةَ: {اللهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} وَقَالَ لِي: لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنْ اللهِ حَافِظٌ، وَلا يَقْرَبَكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ - وَكَانُوا أَحْرَصَ شَيْءٍ عَلَى الْخَيْرِ - فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ. تَعْلَمُ مَنْ تُخَاطِبُ مُنْذُ ثَلاثِ لَيَالٍ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ؟ قَالَ: لا. قَالَ: ذَاكَ شَيْطَانٌ(1).
وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح الذي رواه الشيخان عن صفية رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ(2).
__________
(1) …أخرجه البخاري معلقاً في الوكالة، باب إذا وكل رجلاً فترك الوكيل شيئاً فأجازه الموكل .
(2) …البخاري (7171)، ومسلم (2175).(1/480)
وروى الإمام أحمد رحمه الله في المسند بإسناد صحيح: أن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه قال: يا رسول الله حال الشيطان بيني وبين صلاتي وبين قراءتي، قال: ذَاكَ شَيْطَانٌ يُقَالُ لَهُ خِنْزَبٌ، فَإِذَا أَحْسَسْتَهُ فَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنْهُ، وَاتْفِلْ عَلَى يَسَارِكَ ثَلاثًا ، قال: فَفَعَلْتُ ذَاكَ فأذْهَبَهُ اللهُ عز وجل عنِّي (1)، كما ثبت في الأحاديث الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن كل إنسان معه قرين من الملائكة وقرين من الشياطين؛ حتى النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أن الله أعانه عليه فأسلم؛ فلا يأمره إلا بخير(2).
وقد دل كتاب الله عز وجل وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وإجماع الأمة على جواز دخول الجني بالإنسي وصرعه إياه؛ فكيف يجوز لمن ينتسب إلى العلم أن ينكر ذلك بغير علم ولا هدى بل تقليداً لبعض أهل البدع المخالفين لأهل السنة والجماعة ؟! فالله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وأنا أذكر لك أيها القارئ ما تيسر من كلام أهل العلم في ذلك إن شاء الله:
بيان كلام المفسرين - رحمهم الله - في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ}[البَقَرَة: 275]:
- قال أبو جعفر بن جرير(3) رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ}[البَقَرَة: 275]، ما نصه:
يعني بذلك يتخبله الشيطان في الدنيا؛ وهو الذي يتخبطه فيصرعه {مِنَ الْمَسِّ} يعني من الجنون.
__________
(1) …أحمد (4/216)، ومسلم (2203).
(2) …مسلم (2814).
(3) …«تفسير الطبري» (3/101 - 103)، بنحوه.(1/481)
- وقال البغوي(1) رحمه الله في تفسير الآية المذكورة ما نصه: {لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ}: أي الجنون، يقال: مُسَّ الرجل فهو ممسوس إذا كان مجنونًا . اهـ .
- وقال ابن كثير(2) رحمه الله في تفسير الآية المذكورة ما نصه:
{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ}[البَقَرَة: 275]: أي لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه وتخبط الشيطان له؛ وذلك أنه يقوم قيامًا منكرًا، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: آكِلُ الرِّبَا يُبْعَثُ يَوْمَ القِيَامَةِ مَجْنُونًا يُخْنَق، رواه ابن أبي حاتم، قال: وروي عن عوف بن مالك وسعيد بن جبير والسدي والربيع بن أنس وقتادة ومقاتل بن حيان نحو ذلك. انتهى المقصود من كلامه رحمه الله .
- وقال القرطبي رحمه الله في تفسيره(3) على قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ}[البَقَرَة: 275]:
في هذه الآية دليل على فساد إنكار من أنكر الصرع من جهة الجن، وزعم أنه من فعل الطبائع، وأن الشيطان لا يسلك في الإنسان ولا يكون منه مس. اهـ.
__________
(1) …«معالم التنزيل» (1/261) .
(2) …«تفسير القرآن العظيم» (1/327) .
(3) …«أحكام القرآن» (3/355) .(1/482)
وكلام المفسرين في هذا المعنى كثير، من أراده وجده، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه (إيضاح الدلالة في عموم الرسالة للثقلين) الموجود في «مجموع الفتاوى» ج19 ص 9 - 65، ما نصه بعد كلام سبق: ولهذا أنكر طائفة من المعتزلة كالجبائي وأبي بكر الرازي وغيرهما دخول الجن في بدن المصروع، ولم ينكروا وجود الجن؛ إذ لم يكن ظهوره هذا في المنقول عن الرسول كظهورات هذا وإن كانوا مخطئين في ذلك، ولهذا ذكر الأشعري في مقالات أهل السنة والجماعة أنهم يقولون إن الجني يدخل في بدن المصروع كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ}[البَقَرَة: 275].
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: قلت لأبي: إن قوماً يزعمون أن الجني لا يدخل في بدن الإنسي!! فقال: يا بني يكذبون هو ذا يتكلم على لسانه. وهذا مبسوط في موضعه.(1/483)
وقال(1) أيضاً رحمه الله في ج24 من «الفتاوى» ص 276 - 277 ما نصه: وجود الجن ثابت بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - واتفاق سلف الأمة وأئمتها، وكذلك دخول الجني في بدن الإنسان ثابت باتفاق أئمة أهل السنة والجماعة؛ قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ}[البَقَرَة: 275]، وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ (2)، وقال عبدالله ابن الإمام أحمد بن حنبل: قلت لأبي: إن أقواماً يقولون إن الجني لا يدخل بدن المصروع فقال: يا بني يكذبون، هو ذا يتكلم على لسانه. وهذا الذي قاله أمر مشهور، فإنه يصرع الرجل فيتكلم بلسان لا يعرف معناه، ويضرب على بدنه ضربًا عظيمًا لو ضرب به جمل لأثر به أثراً عظيماً؛ والمصروع مع هذا لا يحس بالضرب ولا بالكلام الذي يقوله، وقد يجر المصروع غير المصروع ويجر البساط الذي يجلس عليه ويحول الآلات وينقل من مكان، ويجري غير ذلك من الأمور من شاهدها أفادته علمًا ضروريًا بأن الناطق على لسان الإنسي والمحرك لهذه الأجسام جنس آخر غير الإنسان .
وليس في أئمة المسلمين من ينكر دخول الجني في بدن المصروع ومن أنكر ذلك وادعى أن الشرع يكذب ذلك فقد كذب على الشرع وليس في الأدلة الشرعية ما ينفي ذلك . ا هـ.
- وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه (زاد المعاد في هدي خير العباد) ج4 ص 66، 69 ما نصه: الصرع صرعان: صرع من الأرواح الخبيثة الأرضية، وصرع من الأخلاط الرديئة. والثاني هو الذي يتكلم فيه الأطباء في سببه وعلاجه .
__________
(1) …أي: ابن تيمية رحمه الله .
(2) …البخاري (7171)، ومسلم (2175).(1/484)
وأما صرع الأرواح: فأئمتهم وعقلاؤهم يعترفون به، ولا يدفعونه، ويعترفون بأن علاجه بمقابلة الأرواح الشريفة الخيرة العلوية لتلك الأرواح الشريرة الخبيثة، فتدافع آثارها، وتعارض أفعالها وتبطلها، وقد نص على ذلك بقراط في بعض كتبه، فذكر بعض علاج الصرع، وقال: هذا إنما ينفع من الصرع الذي سببه الأخلاط والمادة، وأما الصرع الذي يكون من الأرواح فلا ينفع فيه هذا العلاج .
وأما جهلة الأطباء وسقطهم وسفلتهم ومن يعتقد بالزندقة فضيلة فأولئك ينكرون صرع الأرواح، ولا يقرون بأنها تؤثر في بدن المصروع وليس معهم إلا الجهل؛ وإلا فليس في الصناعة الطبية ما يدفع ذلك والحس والوجود شاهد به، وإحالتهم ذلك على غلبة بعض الأخلاط هو صادق في بعض أقسامه لا في كلها .
إلى أن قال: وجاءت زنادقة الأطباء فلم يثبتوا إلا صرع الأخلاط وحده. ومن له عقل ومعرفة بهذه الأرواح وتأثيراتها يضحك من جهل هؤلاء وضعف عقولهم .
وعلاج هذا النوع يكون بأمرين:
- أمر من جهة المصروع وأمر من جهة المعالج؛ فمن جهة المصروع يكون بقوة نفسية، وصدق توجهه إلى فاطر هذه الأرواح وبارئها، والتعوذ الصحيح الذي قد تواطأ عليه القلب واللسان؛ فإن هذا نوع محاربة، والمحارب لا يتم له الانتصاف من عدوه بالسلاح إلا بأمرين: أن يكون السلاح صحيحاً في نفسه جيدًا، وأن يكون الساعد قويًا فمتى تخلف أحدهما لم يعن السلاح كثير طائل، فكيف إذا عدم الأمران جميعاً، يكون القلب خراباً من التوحيد والتوكل والتقوى والتوجه، ولا سلاح له .(1/485)
- والثاني من جهة المعالج: بأن يكون فيه هذان الأمران أيضاً، حتى إن من المعالجين من يكتفي بقوله: اخرج منه، أو يقول: (بسم الله) أو يقول: (لا حول ولا قوة إلا بالله) والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: "اخْرُجْ عَدُوَّ اللهِ أَنَا رَسُولُ اللهِ"(1).
وشاهدت شيخنا يرسل إلى المصروع من يخاطب الروح التي فيه، ويقول: قال لك الشيخ: اخرجي فإن هذا لا يحل لك؛ فيفيق المصروع. وربما خاطبها بنفسه، وربما كانت الروح ماردة فيخرجها بالضرب فيفيق المصروع ولا يحس بألم . وقد شاهدنا نحن وغيرنا منه ذلك مراراً إلى أن قال: وبالجملة فهذا النوع من الصرع وعلاجه لا ينكره إلا قليل الحظ من العلم والعقل والمعرفة، وأكثر تسلط الأرواح الخبيثة على أهله تكون من جهة قلة دينهم وخراب قلوبهم وألسنتهم من حقائق الذكر والتعاويذ والتحصنات النبوية والإيمانية؛ فتلقى الروح الخبيثة الرجل أعزل لا سلاح معه وربما كان عريانًا فيؤثر فيه هذا . . انتهى المقصود من كلامه رحمه الله .
وبما ذكرناه من الأدلة الشرعية وإجماع أهل العلم من أهل السنة والجماعة على جواز دخول الجني بالإنسي - يتبين للقراء بطلان قول من أنكر ذلك، وخطأ فضيلة الشيخ علي الطنطاوي في إنكاره ذلك .
وقد وعد في كلمته أن يرجع إلى الحق متى أرشد إليه؛ فعليه أن يرجع إلى الصواب بعد قراءته ما ذكرناه. نسأل الله لنا وله الهداية والتوفيق.
__________
(1) …أحمد (4/171، 172)، والطبراني في «الكبير» 22/264 (679)، والحاكم (2/617)، 618 (4232)، وقال: «صحيح الإسناد»، ووافقه الذهبي. وانظر: «مجمع الزوائد» (9/6).(1/486)
ومما ذكرنا أيضاً يعلم أن ما نقلته «صحيفة الندوة» في عددها الصادر في (14/10/1407هـ ص 8) عن الدكتور محمد عرفان من أن كلمة (جنون) اختفت من القاموس الطبي، وزعمه أن دخول الجني في الإنسي ونطقه على لسانه أنه مفهوم علمي خاطئ مائة في المائة. كل ذلك باطل نشأ عن قلة العلم بالأمور الشرعية وبما قرره أهل العلم من أهل السنة والجماعة، وإذا خفي هذا الأمر على كثير من الأطباء لم يكن ذلك حجة على عدم وجوده؛ بل يدل ذلك على جهلهم العظيم بما علمه غيرهم من العلماء المعروفين بالصدق والأمانة والبصيرة بأمر الدين؛ بل هو إجماع من أهل السنة والجماعة - كما نقل ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية عن جميع أهل العلم، ونقل عن أبي الحسن الأشعري أنه نقل ذلك عن أهل السنة والجماعة، ونقل ذلك أيضًا عن أبي الحسن العلامة أبو عبد الله محمد بن عبد الله الشبلي الحنفي المتوفى سنة 799هـ في كتابه (آكام المرجان في غرائب الأخبار وأحكام الجان) في الباب الحادي والخمسين من كتابه المذكور .
وقد سبق في كلام ابن القيم رحمه الله: أن أئمة الأطباء وعقلاءهم يعترفون به ولا يدفعونه وإنما أنكر ذلك جهلة الأطباء وسقطهم وسفلتهم وزنادقتهم. فاعلم ذلك أيها القارئ، وتمسك بما ذكرناه من الحق، ولا تغتر بجهلة الأطباء وغيرهم ولا بمن يتكلم في هذا الأمر بغير علم ولا بصيرة؛ بل بالتقليد لجهلة الأطباء وبعض أهل البدع من المعتزلة وغيرهم، والله المستعان .
تنبيه:
قد دل ما ذكرناه من الأحاديث الصحيحة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن كلام أهل العلم: على أن مخاطبة الجني ووعظه وتذكيره ودعوته للإسلام وإجابته إلى ذلك - ليس مخالفًا لما دل عليه قوله تعالى عن سليمان عليه الصلاة والسلام في سورة - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَ يَنْبَغِي لأَِحَدٍ مِنْ بَعْدِي}[ص: 35].(1/487)
وهكذا أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر وضربه إذا امتنع من الخروج كل ذلك لا يخالف الآية المذكورة؛ بل ذلك واجب من باب دفع الصائل ونصر المظلوم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - كما يفعل ذلك مع الإنسي، وقد سبق في الحديث الصحيح: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذَعَتَ(1) الشيطان حتى سال لعابه على يده الشريفة - صلى الله عليه وسلم - وقال: لولا دَعوةُ أخي سليمان لأَصْبَحَ موثقًا حتى يَرَاهُ الناس (2)، وفي رواية لمسلم من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إِنَّ عَدُوَّ اللهِ إِبْلِيسَ جَاءَ بِشِهَابٍ مِنْ نَارٍ لِيَجْعَلَهُ فِي وَجْهِي فَقُلْتُ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنْكَ، (ثَلاثَ مَرَّاتٍ). ثُمَّ قُلْتُ: أَلْعَنُكَ بِلَعْنَةِ اللهِ التَّامَّةِ؛ فَلَمْ يَسْتَأْخِرْ. (ثَلاثَ مَرَّاتٍ). ثُمَّ أَرَدْتُ أَخْذَهُ، وَاللهِ لَوْلا دَعْوَةُ أَخِينَا سُلَيْمَانَ عليهما السلام لأَصْبَحَ مُوثَقًا يَلْعَبُ بِهِ وِلْدَانُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ (3)، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وهكذا كلام أهل العلم .
وأرجو أن يكون فيما ذكرناه كفاية ومقنع لطالب الحق وأسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يوفقنا وسائر المسلمين للفقه في دينه والثبات عليه وأن يمن علينا جميعًا بإصابة الحق في الأقوال والأعمال وأن يعيذنا وجميع المسلمين من القول عليه بغير علم ومن إنكار ما لم نحط به علمًا إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه وأتباعه بإحسان .
الشيخ ابن باز - رسالتان له في : مسألة دخول الجني في بدن المصروع، ص (4)، والعلاج عن طريق السحر، ص (26)
حكم دخول الجني في الإنسي
هل هناك دليل على أن الجن يدخلون الإنس ؟
__________
(1) …ذَعَتَ: أي خَنَقَ.
(2) …ابن حبان (2350)، والنسائي في "الكبرى" (11439)، والطبراني في «الأسط» (8219).
(3) …مسلم (542).(1/488)
نعم؛ هناك دليل من الكتاب والسنة، على أن الجن يدخلون الإنس، فمن القرآن الكريم قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ}[البَقَرَة: 275].
قال ابن كثير(1) رحمه الله: لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه، وتخبط الشيطان له .
ومن السنة قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ" (2) .
وقال الأشعري في «مقالات أهل السنة والجماعة»(3): إنهم - أي أهل السنة - يقولون: إن الجني يدخل في بدن المصروع، واستدل بالآية السابقة.
وقال عبد الله بن الإمام أحمد: قلت لأبي: إن قومًا يزعمون أن الجني لا يدخل في بدن الإنسي، قال: يا بني، يكذبون هو ذا يتكلّم على لسانه(4).
وقد جاءت أحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رواها الإمام أحمد والبيهقي، أنه أتي بصبي مجنون فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اُخْرُجْ عَدُوَّ اللهِ، أَنَا رَسُولُ اللهِ" (5)، فبرِئ الصبي .
فأنت ترى أن في هذه المسألة دليلاً من القرآن الكريم ودليلين من السنة، وأنه قول أهل السنة والجماعة وقول أئمة السلف، والواقع يشهد به، ومع هذا لا ننكر أن يكون للجنون سبب آخر: من توتر الأعصاب واختلال المخ وغير ذلك .
الشيخ ابن عثيمين - الفتاوى الاجتماعية، (4/67، 68)
الطرق التي يؤذي بها الجني الإنسي وكيفية الوقاية منها
هل للجن تأثير على الإنس ؟ وما طريق الوقاية منهم ؟
__________
(1) …تفسير ابن كثير (1/327).
(2) …البخاري (7171)، ومسلم (2175).
(3) …المعروف بـ:«مقالات الإسلاميين».
(4) …انظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية رحمه الله (19/12).
(5) …أحمد (4/171، 172)، والطبراني في «الكبير» 22/264 (679)، والحاكم (2/617)، 618 (4232)، وقال: «صحيح الإسناد»، ووافقه الذهبي. وانظر: «مجمع الزوائد» (9/6).(1/489)
لا شك أن الجن لهم تأثير على الإنس بالأذية التي قد تصل إلى القتل، وربما يؤذونه برمي الحجارة، وربما يروعون الإنسان إلى غير ذلك من الأشياء التي ثبتت بها السنة ودل عليها الواقع؛ فقد ثبت أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أذن لبعض أصحابه أن يذهب إلى أهله في إحدى الغزوات - وأظنها غزوة الخندق - وكان شابًا حديث عهد بعرس، فلما وصل إلى بيته وإذا امرأته على الباب فأنكر عليها ذلك فقالت له: ادخل فدخل فإذا حية ملتوية على الفراش وكان معه رمح فوخزها بالرمح حتى ماتت وفي الحال - أي الزمن الذي ماتت فيه الحية - مات الرجل؛ فلا يدري أيهما أسبق موتًا الحية أم الرجل ؟ فلما بلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن قتل الحيَّات التي تكون في البيوت إلا الأَبْتَر وذا الطُّفْيَتَيْن(1)، وقال: إِنَّ بِالْمَدِينَةِ جِنًّا قَدْ أَسْلَمُوا؛ فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهُمْ شَيْئًا فَآذِنُوهُ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ؛ فَإِنْ بَدَا لَكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فَاقْتُلُوهُ فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ(2).
وهذا دليل على أن الجن قد يعتدون على الإنس وأنهم يؤذونهم، كما أن الواقع شاهد بذلك، فإنه قد تواترت الأخبار واستفاضت بأن الإنسان قد يأتي إلى الخربة فيُرمَى بالحجارة وهو لا يرى أحدًا من الإنس في هذه الخربة، وقد يسمع أصواتًا وقد يسمع حفيفًا كحفيف الأشجار، وما أشبه ذلك مما يستوحش به ويتأذى به .
__________
(1) …البخاري (3297، 3308، 3309، 3311). والأَبْتَر: الحيَّة القصيرة الذنب أو مقطوعه، وذُو الطُّفْيَتَيْن: حيَّة لها على ظهرها خطّان أبيضان أو أسودان يُشَبَّها بالخُوصَتَيْن.
(2) …مسلم (2236).(1/490)
وكذلك أيضاً قد يدخل الجني إلى جسد الآدمي إما بعشق أو لقصد الإيذاء أو لسبب آخر من الأسباب، ويشير إلى هذا قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ}[البَقَرَة: 275]. وفي هذا النوع قد يتحدث الجني من باطن الإنسي نفسه ويخاطب من يقرأ عليه آيات من القرآن الكريم، وربما يأخذ القارئ عليه عهدًا ألا يعود، إلى غير ذلك من الأمور الكثيرة التي استفاضت بها الأخبار وانتشرت بين الناس.
وعلى هذا فإن الوقاية المانعة من شر الجن أن يقرأ الإنسان ما جاءت به السنة مما يتحصن به منهم مثل: آية الكرسي؛ فإن آية الكرسي إذا قَرَأَها الإنسان في لَيْلَةٍ لَمْ يَزَلْ عَلَيْهِ مِنَ اللهِ حَافِظٌ، وَلاَ يَقْرَبُهُ شَيْطَانٌ حَتَّى يُصْبِح(1)، والله الحافظ.
الشيخ ابن عثيمين، - فتاوى العلاج بالقرآن والسنة - الرقى وما يتعلق بها ص (65، 66)
الجني والإنسي كل منهما قد يؤذي الآخر ويقتله عمداً وخطأ
__________
(1) …البخاري (2311، 2375) بمعناه.(1/491)
هل الحديث التالي ليس بحجة على تمليك الجن سلطانًا على البشر ؟ عن أبي السائب قال: دخلنا على أبي سعيد الخدري رضي الله عنه فبينما نحن جلوس إذ سمعنا تحت سريره حركة فنظرنا فإذا فيه حية؛ فوثبت لأقتلها وأبو سعيد يصلي فأشار إليّ أن أجلس فجلست فلما انصرف أشار إلى بيت في الدار فقال: أترى هذا البيت ؟ فقلت: نعم، فقال: كان فيه فتى منا حديث عهد بعرس قال: فخرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الخندق فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنصاف النهار فيرجع إلى أهله؛ فاستأذنه يومًا فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "خُذْ عَلَيْكَ سِلاحَكَ فَإِنِّي أَخْشَى عَلَيْكَ قُرَيْظَةَ"، فأخذ الرجل سلاحه ثم رجع فإذا امرأته بين البابين قائمة فأهوى إليها بالرمح ليطعنها وأصابته غيرة، فقالت له: اكفُفْ عليك رمحك وادخل البيت حتى تنظر ما الذي أخرجني؛ فدخل فإذا بحية عظيمة منطوية على الفراش فأهوى إليها بالرمح فانتظمها به ثم خرج فركزه في الدار؛ فاضطربت عليه؛ فما يُدرى أيهما كان أسرع موتًا الحية أم الفتى إلخ . . رواه مسلم في الصحيح(1). وروي في «مشكاة المصابيح»، باب ما يحل أكله وما يُحرم .
أولاً: الحديث صحيح من جهة سنده ومتنه .
ثانيًا: الناس خُلِق أبوهم آدم من طين ثم صار بشرًا سويًا وتناسل منه أولاده، والجن خلقوا من نار، ثم صاروا أحياء منهم الذكور ومنهم الإناث. وكل من الجن والإنس قد أرسل إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: فمنهم من آمن ومنهم من كفر، والإنسي قد يؤذي الجني وهو يعلم أو لا يعلم، والجني قد يؤذي الإنسي ويصرعه أو يقتله، كما أن الإنسي قد يؤذي الإنسي ويضره، والجني قد يؤذي الجني .
__________
(1) …مسلم (2236)، باختلافٍ يسير.(1/492)
ومن نفى ذلك عن الجن وهو لم يحط علمًا بأحوالهم فقد نفى ما ليس له به علم وخالف ما ورد فيهم من آيات القرآن؛ فقد قال تعالى: {خَلَقَ الإِْنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ *}[الرَّحمن]، وقال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِْنْسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ *}[المؤمنون].
وخاطبهم الله تعالى كالإنس في قوله: {وَخَلَقَ الْجَآنَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ *}[الرَّحمن]، وبقوله: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِْنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضِ فَانْفُذُوا لاَ تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ *}[الرَّحمن].
وسخر سبحانه الجن على اختلاف حالهم لنبيه سليمان عليه السلام، قال تعالى: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ *وَالشَّيْاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ *وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَْصْفَادِ *}[ص]، وقال تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ *}[سَبَإ]، وقال: {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ}[الأنبيَاء: 82].(1/493)
وقال تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ *قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ *يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ *وَمَنْ لاَ يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَْرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ *}[الأحقاف]، وقال: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِْنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِْنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ *وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ *}[الأنعَام].(1/494)
واقرأ الآيات من سورة الجن في تفصيل أحوالهم وأعمالهم وجزاء من آمن منهم ومن كفر؛ فلا عجب أن يتمكن جني من إنسي وأن يصيبه بأذى، كما يتمكن الإنسي من الجني ويصيبه بما يضره إذا تمثل الجني بصورة حيوان مثلاً - كما في الحديث المذكور في السؤال، وكما في الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إِنَّ عِفْرِيتًا مِنَ الْجِنِّ تَفَلَّتَ الْبَارِحَةَ لِيَقْطَعَ عَلَيَّ صَلاتِي فَأَمْكَنَنِي اللهُ مِنْهُ، فَأَخَذْتُهُ فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْبُطَهُ عَلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ حَتَّى تَنْظُرُوا إِلَيْهِ كُلُّكُمْ، فَذَكَرْتُ دَعْوَةَ أَخِي سُلَيْمَانَ: رَبِّ هَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي؛ فَرَدَدْتُهُ خَاسِئًا(1).
وبالجملة: فكل من الجن والإنس إما مؤمن وإما كافر وطيب أو خبيث ونافع لغيره أو مؤذ له ضار به؛ كل بإذن الله عز وجل كما تقدم .
وأخيرًا فعالم الجن وأحوالهم غيبي بالنسبة للإنس لا يعلمون منها إلا ما جاء في كتاب الله تعالى أو صح من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فيجب الإيمان بما ثبت في ذلك بالكتاب والسنة دون استغراب أو استنكار، والسكوت عما عداه؛ لأن الخوض نفيًا أو إثباتًا قول بغير علم؛ وقد نهى الله تعالى عن ذلك بقوله سبحانه: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً *}[الإسرَاء].
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
اللجنة الدائمة - مجلة البحوث الإسلامية - عدد (27) ص (71 - 74) اختطاف الجن للإنس
لقد سمعت قصصاً كثيرة عن اختطاف الجن للإنس، وقد قرأت قصة مفادها: أن رجلاً من الأنصار رضي الله عنه خرج يصلي العشاء فسَبَتْهُ الجن وفقد أعواماً .. فهل هذا الأمر ممكن - أعني اختطاف الجن للإنس ؟
__________
(1) …البخاري (3423)، ومسلم (541).(1/495)
يمكن ذلك؛ فقد اشتهر أن سعد بن عبادة رضي الله عنه قتلته الجن لمّا بال في جحر فيه منزلهم، فقالوا:
نحن قتلنا سيد الخزرج
سَعْدَ بْنَ عُبَاده
ورمينَاهُ بسهمٍ
نحن لم نُخْطِئ فُؤَادَه(1)
ووقع فى زمن عمر رضي الله عنه: أن رجلاً اختطفته الجن، وبقي أربع سنين، ثم جاء وأخبر أن جِنًّا من المشركين اختطفوه، فبقي عندهم أسيراً، فغزاهم جن مسلمون فهزموهم، وردوه إلى أهله. ذكر ذلك في «منار السبيل»(2) وغيره، والله أعلم .
الشيخ ابن جبرين - اللؤلؤ المكين، ص (14)
دعاء الجن والشياطين شرك
ما حكم التنذير، وهو دعاء الجن والشياطين على شخص ما ليعملا به عملاً مكروهاً ؟ كأن يقال: خذوه اذهبوا به انفروا به، بقصد أو بغير قصد ؟ وما حكم من دعا بهذا القول ؟ حيث قد سمعت قول أحدهم: إنه من دعا الجن لم تقبل له صلاة ولا صيام ولا يقبر في مقابر المسلمين ولا تتبع جنازته ولا يصلى عليه إذا مات ؟
__________
(1) …انظر "سير أعلام النبلاء" (1/277) .
(2) …"منار السبيل" ص (459). وقصة الرجل المخطوف رواها البيهقي في «السنن الكبرى» (15347)، وصحح إسنادها الألباني في "الإرواء" 6/150 (1709).(1/496)
الاستعانة بالجن واللجوء إليهم في قضاء الحاجات من الإضرار بأحد أو نفعه: شرك في العبادة؛ لأنه نوع من الاستمتاع بالجني بإجابته سؤاله وقضائه حوائجه في نظير استمتاع الجني بتعظيم الإنسي له ولجوئه إليه واستعانته به في تحقيق رغبته، قال الله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِْنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِْنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ *وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ *}[الأنعَام]، وقال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِْنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا *}[الجنّ]، فاستعانة الإنسي بالجني في إنزال ضرر بغيره واستعانته به في حفظه من شر من يخاف شره - كله شرك. ومن كان هذا شأنه فلا صلاة له ولا صيام؛ لقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[الزُّمَر: 65]، ومن عرف عنه ذلك لا يصلى عليه إذا مات ولا تتبع جنازته ولا يدفن في مقابر المسلمين.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (1/407، 408)
محمد - صلى الله عليه وسلم - رسولٌ للإنس والجن
هل أرسل رسول إلى الجن قبل سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام ؟ وهل خلقوا قبل الإنس وما هي شريعتهم ؟(1/497)
أرسل الله محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى جميع الثقلين: الإنس، والجن؛ قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا}[سَبَإ: 28]، وقال تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}[الأنعَام: 19]، وقال تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ *قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ *يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ *وَمَنْ لاَ يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَْرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ *}[الأحقاف]، وقال تعالى: {قُلْ أُوْحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا *يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا *}[الجنّ].
فهذه الآيات وما جاء في معناها دالة على عموم رسالته - صلى الله عليه وسلم - للإنس والجن، وأن شريعة الجن هي الشريعة الإسلامية. وأما كونهم خلقوا قبل الإنس أو بعدهم فلا أثر له بالنسبة لتكليفهم بالشريعة الإسلامية. وأما كونهم قد أرسل إليهم رسول خاص بهم فلا نعلم ذلك.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (3/265)
الجن وجزاؤهم في الآخرة(1/498)
هل مؤمنو الجن سيدخلون الجنة ؟ وإذا كانت الجن مخلوقة من النار فكيف يعذب كافرهم بالنار ؟
لا شك أن مؤمني الجن يثابون في الآخرة بما يناسبهم، وأن كفارهم يعاقبون؛ كما قال تعالى - حكاية عن الجن: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا *وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا *}[الجنّ]. وكونهم مخلوقين من النار، لا يمنع تعذيبهم بالنار؛ فإن نار الآخرة أحرّ من نار الدنيا بسبعين ضعفاً(1)، ويمكن أن لهم ناراً خاصة يعذبون فيها، فأمر الآخرة مخالف لأمر الدنيا .
الشيخ ابن جبرين - اللؤلؤ المكين، ص (9) حكم الاستعانة بالجن في معرفة المغيَّبات والتنويم المغناطيسي
ما حكم الإسلام في الذي يستعين بالجن في معرفة المغيبات كضرب المندل ؟ وما حكم الإسلام في التنويم المغناطيسي ؟ وبه تقوى قدرة المنوِّم على الإيحاء بالمنوِّم وبالتالي السيطرة عليه وجعله يترك محرمًا أو يشفى من مرض عصبي أو يقوم بالعمل الذي يطلب المنوِّم ؟
__________
(1) …ورد ذلك في حديث عند: البخاري (3265)، ومسلم (2843).(1/499)
أولاً: علم المغيبات من اختصاص الله تعالى فلا يعلمها أحد من خلقه؛ لا جني ولاغيره إلا ما أوحى الله به إلى من شاء من ملائكته أو رسله - قال الله تعالى: {قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ}[النَّمل: 65]، وقال تعالى في شأن نبيه سليمان عليه السلام ومن سخره له من الجن: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَآبَّةُ الأَْرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ *}[سَبَأ]، وقال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا *إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا *}[الجنّ].
وثبت عن النواس بن سمعان رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أرادَ الله تعالى أن يُوحِيَ بالأمرِ تَكَلَّمَ بالوَحْي أَخَذَتِ السموات منه رَجْفَةٌ أو قال: رِعْدَةٌ شديدةٌ خوفًا من الله عز وجل؛ فإذا سَمِعَ ذلك أهل السموات صُعِقُوا وخَرُّوا لله سُجَّدًا؛ فيكون أولُ مَنْ يرفع رأسَهُ جبريلُ فيُكلِّمُه اللهُ مِنْ وَحْيِهِ بما أراد، ثم يَمُرُّ جبريل بالملائكة كلما مَرَّ بسماءٍ قال ملائكَتُها: ماذا قال ربُّنا يا جبريل ؟ فيقول جبريل: قال الحقَّ وهو العَلِيُّ الكبير؛ فيقولون كلُّهم مِثْلَ ما قال جبريل. فَيَنْتَهِي جبريل بالوحيِ إلى حيثُ أمرَهُ الله عز وجل(1).
__________
(1) …ابن أبي عاصم في «السنة» (515)، وابن خزيمة في «التوحيد»: (1/349)، والطبراني في «مسند الشاميين» (591). والبيهقي في «الأسماء والصفات» 1/511 (435) .(1/500)
وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إِذَا قَضَى اللهُ الأمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتِ الْمَلائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ؛ فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ ؟ قَالُوا لِلَّذِي قَالَ: الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ؛ فَيَسْمَعُهَا مُسْتَرِقُ السَّمْعِ - وَمُسْتَرِقُ السَّمْعِ هَكَذَا بَعْضُهُ فَوْقَ بَعْضٍ؛ وَوَصَفَ سُفْيَانُ(1) بِكَفِّهِ فَحَرَفَهَا وَبَدَّدَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ - فَيَسْمَعُ الْكَلِمَةَ فَيُلْقِيهَا إِلَى مَنْ تَحْتَهُ ثُمَّ يُلْقِيهَا الآخَرُ إِلَى مَنْ تَحْتَهُ حَتَّى يُلْقِيَهَا عَلَى لِسَانِ السَّاحِرِ أَوْ الْكَاهِنِ؛ فَرُبَّمَا أَدْرَكَ الشِّهَابُ قَبْلَ أَنْ يُلْقِيَهَا وَرُبَّمَا أَلْقَاهَا قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُ؛ فَيَكْذِبُ مَعَهَا مِائَةَ كذْبَةٍ؛ فَيُقَالُ: أَلَيْسَ قَدْ قَالَ لَنَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا؛ فَيُصَدَّقُ بِتِلْكَ الْكَلِمَةِ الَّتِي سَمِعَ مِنَ السَّمَاءِ(2).
__________
(1) …هو سفيان بن عيينة رحمه الله، أحد الرواة في سند هذا الحديث.
(2) …البخاري (4800).(2/1)
وعلى هذا لا يجوز الاستعانة بالجن وغيرهم من المخلوقات في معرفة المغيبات: لا بدعائهم والتزلف إليهم ولا بضرب مَنْدَل(1) أو غيره؛ بل ذلك شرك؛ لأنه نوع من العبادة، وقد أعلم الله عباده أن يخصوه بها فيقولوا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ *}[الفَاتِحَة]؛ وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لابن عباس رضي الله عنهما: إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ (2) الحديث.
ثانياً: التنويم المغناطيسي ضرب من ضروب الكهانة باستخدام جني؛ حتى يسلطه المنوِّم على المنوَّم فيتكلم بلسانه ويكسبه قوة على بعض الأعمال بالسيطرة عليه إن صدق مع المنوِّم وكان طوعًا له مقابل ما يتقرب به المنوِّم إليه، ويجعل ذلك الجني المنوَّم طوع إرادة المنوِّم بما يطلبه منه من الأعمال أو الأخبار بمساعدة الجني له إن صدق ذلك الجني مع المنوِّم. وعلى ذلك يكون استغلال التنويم المغناطيسي واتخاذه طريقًا أو وسيلة للدلالة على مكانة سرقة أو ضالة أو علاج مريض أو القيام بأي عمل آخر بواسطة المنوِّم - غير جائز؛ بل هو شرك؛ لما تقدم، ولأنه التجاء إلى غير الله فيما هو من وراء الأسباب العادية التي جعلها سبحانه إلى المخلوقات وأباحها لهم .
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة - مجلة البحوث الإسلامية - عدد (30) ص (78 - 81)
حكم ما يُسمَّى بعلم تحضير الأرواح والتنويم المغناطيسي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه .. أما بعد:
__________
(1) …المَنْدَل: ضَرْبٌ من الكهانة يستدل به على الضائع أو المسروق. «المعجم الوسيط».
(2) …أحمد (1/293، 303، 307)، والترمذي (2516)، وقال: « حسن صحيح »، والطبراني في «الأوسط» (5417)، و«الكبير» (11243، 11416، 11560، 12988)، وأبو يعلى في «مسنده» (2556)، والبيهقي في «شعب الإيمان» (195، 1074، 10000).(2/2)
فلقد شاع بين كثير من الناس من الكتَّاب وغيرهم ما يسمى بعلم تحضير الأرواح، وزعموا أنهم يستحضرون أرواح الموتى بطريقة اخترعها المشتغلون بهذه الشعوذة يسألونها عن أخبار الموتى من نعيم وعذاب وغير ذلك من الشؤون التي يظن أن عند الموتى علمًا بها في حياتهم، ولقد تأملت هذا الموضوع كثيرًا فاتضح لي أنه علم باطل وأنه شعوذة شيطانية يراد منها إفساد العقائد والأخلاق والتلبيس على المسلمين والتوصل إلى دعوى علم الغيب في أشياء كثيرة؛ ولهذا رأيت أن أكتب في ذلك كلمة موجزة لإيضاح الحق والنصح للأمة وكشف التلبيس عن الناس .
فأقول: لا ريب أن هذه المسألة مثل جميع المسائل يجب ردها إلى كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ فما أثبتاه أو أحدهما أثبتناه، وما نفياه أو أحدهما نفيناه - كما قال الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَْمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَومِ الآْخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً *}[النِّسَاء].
ومسألة الروح من الأمور الغيبية التي اختص الله سبحانه وتعالى بعلمها ومعرفة كنهها؛ فلا يصح الخوض فيها إلا بدليل شرعي - قال الله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا *إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا *}[الجنّ]، وقال سبحانه في سورة النمل: {قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ}[النَّمل: 65].(2/3)
وقد اختلف العلماء رحمهم الله في المراد بالروح في قوله تعالى في سورة الإسراء: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً *}[الإسرَاء]، فقال بعضهم: إنه الروح الذي في الأبدان؛ وعلى هذا فالآية دليل على أن الروح أمر من أمر الله لا يعلم الناس عنه شيئًا إلا ما علمهم الله إياه؛ لأن ذلك أمر من الأمور التي اختص الله سبحانه بعلمها وحجب ذلك عن الخلق .
قد دل القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن أرواح الموتى تبقى بعد موت الأبدان؛ ومما يدل على ذلك قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَْنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُْخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً}[الزُّمَر: 42].(2/4)
وثبت أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ يَوْمَ بَدْرٍ بِأَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ رَجُلاً مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ فَقُذِفُوا فِي طَوِيٍّ(1) مِنْ أَطْوَاءِ بَدْرٍ خَبِيثٍ مُخْبِثٍ. وَكَانَ إِذَا ظَهَرَ عَلَى قَوْمٍ أَقَامَ بِالْعَرْصَةِ(2) ثَلاثَ لَيَالٍ؛ فَلَمَّا كَانَ بِبَدْرٍ الْيَوْمَ الثَّالِثَ أَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ فَشُدَّ عَلَيْهَا رَحْلُهَا ثُمَّ مَشَى وَاتَّبَعَهُ أَصْحَابُهُ وَقَالُوا: مَا نُرَى يَنْطَلِقُ إِلا لِبَعْضِ حَاجَتِهِ، حَتَّى قَامَ عَلَى شَفَةِ الرَّكِيِّ(3) فَجَعَلَ يُنَادِيهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ: يَا فُلانُ بْنَ فُلانٍ وَيَا فُلانُ بْنَ فُلانٍ .. أَيَسُرُّكُمْ أَنَّكُمْ أَطَعْتُمُ اللهَ وَرَسُولَهُ؛ فَإِنَّا قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا ؟ قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ .. مَا تُكَلِّمُ مِنْ أَجْسَادٍ لا أَرْوَاحَ لَهَا؛ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ .. مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ؛ وَلَكِنَّهُمْ لا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُجِيبُوا(4).
وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم -: أن الميت يَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِ المُشَيِّعِين له إذا انصرفوا عنه(5).
__________
(1) …الطَّوِيُّ: هي البئر المَطْوِيَّة بالحجارة.
(2) …العَرْصَة: كل مَوْضِع واسعٍ لا بناء فيه.
(3) …الرَّكِيُّ: جنس للرَّكِيَّة؛ وهي البئر، وجمعها: رَكَايَا.
(4) …البخاري (3976). وقوله: «ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوا» زيادة عند النسائي (2075) .
(5) …البخاري (1374)، ومسلم (2870).(2/5)
قال العلامة ابن القيم(1) رحمه الله: والسلف مجمعون على، هذا وقد تواترت الآثار عنهم بأن الميت يعرف زيارة الحي له ويستبشر به. ونقل ابن القيم أن ابن عباس رضي الله عنهما قال - في تفسير قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَْنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُْخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً}[الزُّمَر: 42]: بلغني أن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام فيتساءلون بينهم؛ فيمسك الله أرواح الموتى ويرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها(2).
ثم قال ابن القيم رحمه الله: وقد دل على التقاء أرواح الأحياء والأموات أن الحي يرى الميت في منامه فيستخبره ويخبره الميت بما لا يعلم الحي فيصادف خبره كما أخبره(3).
فهذا هو الذي عليه السلف من أن أرواح الأموات باقية إلى ما شاء الله وتسمع، ولكن لم يثبت أنها تتصل بالأحياء في غير المنام .
كما أنه لا صحة لما يدعيه المشعوذون من قدرتهم على تحضير أرواح من يشاؤون من الأموات ويكلمونها ويسألونها؛ فهذه ادعاءات باطلة ليس لها ما يؤيدها من النقل ولا من العقل؛ بل إن الله سبحانه وتعالى هو العالم بهذه الأرواح والمتصرف فيها وهو القادر على ردها إلى أجسامها متى شاء ذلك؛ فهو المتصرف وحده في ملكه وخلقه لا ينازعه منازع، أما من يدعي غير ذلك فهو يدعي ما ليس له به علم ويكذب على الناس فيما يروجه من أخبار الأرواح: إما لكسب مال، أو لإثبات قدرته على ما لا يقدر عليه غيره، أو للتلبيس على الناس لإفساد الدين والعقيدة.
__________
(1) …في كتابه «الروح» ص (5) .
(2) …في كتابه «الروح»، ص (20) .
(3) …في كتابه «الروح», ص (21) .(2/6)
وما يدعيه هؤلاء الدجالون من تحضير الأرواح إنما هي أرواح شياطين يخدمها بعبادتها وتحقيق مطالبها، وتخدمه بما يطلب منها كذبًا وزورًا في انتحالها أسماء من يدعونه من الأموات - كما قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِْنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ *وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآْخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ *}[الأنعَام]، وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِْنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِْنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ *}[الأنعَام].(2/7)
وذكر علماء التفسير أن استمتاع الجن بالإنس بعبادتهم إياهم بالذبائح والنذور والدعاء، وأن استمتاع الإنس بالجن في قضاء حوائجهم التي يطلبونها منهم وإخبارهم ببعض المغيبات التي يطلع عليها الجن في بعض الجهات النائية أو يسترقونها من السمع، أو يكذبون وهو الأكثر. ولو فرضنا أن هؤلاء الإنس لا يتقربون إلى الأرواح التي يستحضرونها بشيء من العبادة فإن ذلك لا يوجب حِلَّ ذلك وإباحته؛ لأن سؤال الشياطين والعرافين والكهنة والمنجمين ممنوع شرعًا، وتصديقهم فيما يخبرون به أعظم تحريمًا وأكبر إثمًا؛ بل هو من شعب الكفر - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً (1)، وفي مسند أحمد والسنن: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: مَنْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ(2).
وقد جاء في هذا المعنى أحاديث وآثار كثيرة، ولا شك أن هذه الأرواح التي يستحضرونها بزعمهم داخلة فيما منع منه النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنها من جنس الأرواح التي تقترن بالكهان والعرافين من أصناف الشياطين فيكون لها حكمها؛ فلا يجوز سؤالها ولا استحضارها ولا تصديقها؛ بل كل ذلك محرم ومنكر بل وباطل - لما سمعت من الأحاديث والآثار في ذلك، ولأن ما ينقلونه عن هذه الأرواح يعتبر من علم الغيب؛ وقد قال الله سبحانه: {قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ}[النَّمل: 65].
__________
(1) …مسلم (2230).
(2) …أحمد (2/429)، وأبو داود (3904)، والترمذي (135)، وابن ماجه (639)، مع اختلاف بينهم في الألفاظ والزيادات. وصححه الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (3304).(2/8)
وقد تكون هذه الأرواح هي الشياطين المقترنة بالأموات الذين طلبوا أرواحهم فتخبر بما تعلمه من حال الميت في حياته مدعية أنها روح الميت الذي كانت مقترنة به؛ فلا يجوز تصديقها ولا استحضارها ولا سؤالها - كما تقدم الدليل على ذلك، وما يحضره ليس إلا الشياطين والجن يستخدمهم مقابل ما يتقرب به إليهم من العبادة التي لا يجوز صرفها لغير الله؛ فيصل بذلك إلى حد الشرك الأكبر الذي يخرج صاحبه من الملة. نعوذ بالله من ذلك.
ولقد أصدرت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في دار الإفتاء السعودية فتوى عن التنويم المغناطيسي الذي هو أحد أنواع تحضير الأرواح هذا نصها:
(التنويم المغناطيسي ضرب من ضروب الكهانة؛ باستخدام جني يسلطه المنوِّم على المنوَّم فيتكلم بلسانه ويكسبه قوة على بعض الأعمال بسيطرته عليه إن صدق مع المنوَّم وكان طوعًا له مقابل ما يتقرب به المنوَّم إليه، ويجعل ذلك الجني المنوَّم طوع إرادة المنوِّم؛ يقوم بما يطلبه منه من الأعمال بمساعدة الجني له إن صدق ذلك الجني مع المنوِّم. وعلى ذلك يكون استغلال التنويم المغناطيسي واتخاذه طريقًا أو وسيلة للدلالة على مكان سرقة أو ضالة أو علاج مريض أو القيام بأي عمل آخر بواسطة المنوم: غير جائز؛ بل هو شرك؛ لما تقدم، ولأنه التجاء إلى غير الله فيما هو من وراء الأسباب العادية التي جعلها الله سبحانه إلى المخلوقات وأباحها لهم) انتهى كلام اللجنة .(2/9)
وممن كشف حقيقة هذه الدعوى الباطلة: الدكتور محمد محمد حسين في كتابه: الروحية الحديثة حقيقتها وأهدافها ، وكان ممن خدع بهذه الشعوذة زمنًا طويلاً ثم هداه الله إلى الحق وكشف زيف تلك الدعوى بعد أن توغل فيها ولم يجد فيها سوى الخرافات والدجل، وقد ذكر أن المشتغلين بتحضير الأرواح يسلكون طرقًا مختلفة: منهم المبتدئون الذين يعتمدون على كوب صغير أو فنجان ينتقل بين حروف قد رسمت فوق منضدة وتتكون إجابات الأرواح المستحضرة حسب زعمهم - من مجموع الحروف بحسب ترتيب تنقله فيها. ومنهم من يعتمد على طريقة السلة يوضع في طرفها قلم يكتب الإجابات على أسئلة السائلين، ومنهم من يعتمد على وسيط كوسيط التنويم المغناطيسي .
وذكر أنه يشك في مدعي تحضير الأرواح؛ وأن وراءهم من يدفعهم بدليل الدعاية التي عملت لهم فتسابقت إلى تتبع أخبارهم ونشر ادعاءاتهم صحف ومجلات لم تكن من قبل تنشط لشيء يمس الروح أو الحياة الآخرة ولم تكن في يوم من الأيام داعية إلى الدين أو الإيمان بالله، وذكر أنهم يهتمون بإحياء الدعوة الفرعونية وغيرها من الدعوات الجاهلية. كما ذكر أن الذين روجوا لأصل هذه الفكرة هم أناس فقدوا عزيزًا عليهم فيغرون أنفسهم بالأوهام، وأن أشهر من روج لهذه البدعة المسمى أوليفر لودج الذي فقد ابنه في الحرب العالمية الأولى، ومثله مؤسس الروحية في مصر أحمد فهمي أبو الخير الذي مات ابنه عام 1937م، وكان رزق به بعد طول انتظار .(2/10)
وذكر الدكتور محمد محمد حسين أنه مارس هذه البدعة؛ فبدأ بطريقة الفنجان والمنضدة فلم يجد فيها ما يبعث على الاقتناع، وانتهى إلى مرحلة الوسيط وحاول مشاهدة ما يدعونه من تجسيد الروح أو الصوت المباشر ويرونه دليل دعواهم فلم ينجح هو ولا غيره؛ لأنه لا وجود لذلك في حقيقة الأمر وإنما هي ألاعيب محكمة تقوم على حيل خفية بارعة ترمي إلى هدم الأديان، وأصبحت الصهيونية العالمية الهدامة ليست بعيدة عنها، ولما لم يقتنع بتلك الأفكار الفاسدة وكشف حقيقتها انسحب منها وعزم على توضيح الحقيقة للناس ويقول إن هؤلاء المنحرفين لا يزالون بالناس حتى يستلوا من صدورهم الإيمان وما استقر في نفوسهم من عقيدة ويسلمونهم إلى خليط مضطرب من الظنون والأوهام، ومدعو تحضير الأرواح لا يثبتون للرسل صلوات الله وسلامه عليهم إلا صفة الوساطة الروحية - كما قال زعيمهم آرثر فندلاي في كتابه: (على حافة العالم الأثيري) عن الأنبياء: هم وسطاء في درجة عالية من درجات الوساطة، والمعجزات التي جرت على أيديهم ليست إلا ظواهر روحية كالظواهر التي تحدث في حجرة تحضير الأرواح .
ويقول الدكتور حسين: إنهم إذا فشلوا في تحضير الأرواح قالوا: الوسيط غير ناجح أو مجهد، أو إن شهود الجلسة غير متوافقين، أو إن بينهم من حضر إلى الاجتماع شاكًا أو متحديًا .
ومن بين مزاعمهم الباطلة: أنهم زعموا أن جبريل عليه السلام يحضر جلساتهم ويباركها، قبحهم الله. انتهى المقصود من كلام الدكتور محمد محمد حسين.
ومما ذكرناه في أول الجواب وما ذكرته اللجنة والدكتور محمد محمد حسين في التنويم المغناطيسي: يتضح بطلان ما يدعيه محادثو الأرواح من كونهم يحضرون أرواح الموتى ويسألونهم عما أرادوه، ويعلم أن هذه كلها أعمال شيطانية وشعوذة باطلة داخلة فيما حذر منه النبي - صلى الله عليه وسلم - من سؤال الكهنة والعرافين وأصحاب التنجيم ونحوهم.(2/11)
والواجب على المسؤولين في الدول الإسلامية منع هذا الباطل والقضاء عليه وعقوبة من يتعاطاه حتى يكف عنه، كما أن الواجب على رؤساء تحرير الصحف الإسلامية أن لا ينقلوا هذا الباطل وأن لا يدنسوا به صحفهم، وإذا كان لابد من نقل فليكن نقل الرد والتزييف والإبطال والتحذير من ألاعيب الشياطين من الإنس والجن ومكرهم وخداعهم وتلبيسهم على الناس. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وهو المسؤول سبحانه أن يصلح أحوال المسلمين ويمنحهم الفقه في الدين ويعيذهم من خداع المجرمين وتلبيس أولياء الشياطين، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
الشيخ ابن باز - مجموع فتاوى ومقالات متنوعة، (3/309-316)
حكم وضع المصحف بجوار الطفل لحمايته من الجن
ما رأي فضيلتكم في امرأة تضع المصحف بجانب طفلها الصغير بقصد حمايته من الجن - عند انشغالها وتركه وحده ؟
هذا لا يجوز؛ لأن فيه إهانة للمصحف الشريف، ولأنه عمل غير مشروع.
الشيخ الفوزان - المنتقى، (2/150) حكم من يحضِّر الجن لاستخراج كنوز مدفونة
هناك من يحضر الجن بطلاسم يقولها ويجعلهم يخرجون له كنوزًا مدفونة في أرض القرية منذ زمن بعيد .. فما حكم هذا العمل ؟
هذا العمل ليس بجائز؛ فإن هذه الطلاسم التي يحضرون بها الجن ويستخدمونهم بها لا تخلو من شرك في الغالب، والشرك أمره خطير - قال الله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}[المَائدة: 72]، والذي يذهب إليهم يغريهم ويغرّهم، يغريهم بأنفسهم وأنهم على حق، ويغرهم بما يعطيهم من الأموال.(2/12)
فالواجب مقاطعة هؤلاء وأن يدع الإنسان الذهاب إليهم وأن يحذر إخوانه المسلمين من الذهاب إليهم. والغالب في أمثال هؤلاء أنهم يحتالون على الناس ويبتزون أموالهم بغير حق ويقولون القول تخرصًا، ثم إن وافق القدر أخذوا ينشرونه بين الناس ويقولون: نحن قلنا وصار كذا ونحن قلنا وصار كذا، وإن لم يوافق ادعوا دعاوى باطلة أنها هي التي منعت هذا الشيء.
وإني أوجه النصيحة إلى من ابتلي بهذا الأمر وأقول لهم: احذروا أن تمتطوا الكذب على الناس والشرك بالله عز وجل وأخذ أموال الناس بالباطل؛ فإن أمد الدنيا قريب والحساب يوم القيامة عسير، وعليكم أن تتوبوا إلى الله تعالى من هذا العمل، وأن تصححوا أعمالكم وتطيبوا أموالكم، والله الموفق.
الشيخ ابن عثيمين - فتاوى العلاج بالقرآن والسنة - الرقى وما يتعلق بها، ص (70، 71)
هل يتزاوج الإنس والجن ويولد لهم ؟
هناك قول مشهور بين الناس عن بعض القبائل التي لديها فراسة وقدرة على تقصي الآثار ومعرفة أصحابها؛ وقيل ذلك لأن أحد أجدادهم قد تزوج من الجن وهذا هو سبب اكتسابهم هذه القدرة، فما مدى صحة ذلك ؟
هذا غير صحيح، ولا أعرف أن الإنسان يتولد بين إنسي وجني؛ حيث إن الجن ليس لهم أجسام وإنما هم أرواح هوائية وإن كانوا يقدرون على التشكل بأشكال منوعة، فأما هؤلاء الذين يعرفون الآثار والأشباه فهم من أهل الفراسة وقوة الذكاء والمعرفة والفطنة والتجربة؛ وقد جعل الله تعالى فروقًا بين الآثار ومواطئ الأقدام؛ كما جعل فروقًا ظاهرة بين الناس في الطول والقصر والسواد والبياض والصغر والكبر، فأنت ترى مائة ألف من البشر لا تجد فيهم اثنين متشابهين في كل الصفات، فهذا هو السبب الذي به يميز هؤلاء بين الناس ويعرفون الآثار والأشباه، والله أعلم .
الشيخ ابن الجبرين - فتوى عليها توقيعه
للجن دوابّ تخصهم كما للإنسان(2/13)
جاء في الحديث عن طعام الجن قوله - صلى الله عليه وسلم - لهم: ((لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ يَقَعُ فِي أَيْدِيكُمْ أَوْفَرَ مَا يَكُونُ لَحْمًا، وَكُلُّ بَعْرَةٍ عَلَفٌ لِدَوَابِّكُمْ)). ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للصحابة: ((فَلا تَسْتَنْجُوا بِهِمَا فَإِنَّهُمَا طَعَامُ إِخْوَانِكُمْ))(1) .. فهل يعني هذا أن للجن دوابًا تخصهم ؟ وما هي حقيقة تلك الدواب ؟
نعم؛ هذا يدل على أن للجن دوابًا كما أن للإنس دوابًا، وقد تكون مركوبة كالإبل والخيل أو محلوبة كالغنم والبقر، وقد تتمثل بصور دواب الإنس أو الوحش كالظباء والوعول والمركوبات ونحوها، وكثيرًا ما تختفي عن أبصار الإنس؛ حيث إنها من جنس الجن الذين هم أجسام خفيفة يروننا ولا نراهم، ودل الحديث أنهم كالإنس يأكلون ويشربون وكذا دوابهم تأكل وتشرب وتتغذى، فمن غذائها بعر دواب الإنس وروثها تكون علفًا لدواب الجن لذلك نهينا عن الاستنجاء بها، والله أعلم .
الشيخ ابن الجبرين - فتوى عليها توقيعه
الفصل العاشر
من فتن آخر الزمان
فتنة المشرق
ما هي الفتنة التي يقولها عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث: عن عبدالله بن عمر: أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - وهو مستقبل المشرق - يقول: ((ألا إن الفتنة هاهنا، ألا إن الفتنة هاهنا، من حيث يطلع قرن الشيطان)) ؟
المراد بالفتنة هنا: الكفر، وجاء في رواية مسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: رَأْسُ الكُفْرِ نَحْوَ المَشْرِق (2)، قال: الإِيجي: قوله: رأس الكفر أي: معظمه في المشرق. انتهى.
__________
(1) …مسلم (450) .
(2) …البخاري (3301)، ومسلم (52).(2/14)
ونقل عن القاضي عياض ما نصه: قيل: يعني بالمشرق: فارس؛ لأنها حينئذ دار مُعْظَمِه، وَرُدَّ بقوله في بقية الحديث (أهل الوَبَر)، وفارس ليسوا بأهل الوبر، وقيل: يعني نجدًا مسكن ربيعة ومضر، وهي مشرق؛ لقوله في حديث ابن عمر رضي الله عنهما حين قال - صلى الله عليه وسلم -: اللهم بَارِكْ لنا في يَمَنِنَا وشَامِنَا قالوا: وفي نَجْدِنا يا رسول الله، قال: هُنَالِكَ الزَّلازِلُ والطَّاعُون، وبِهَا يَطْلُعُ قَرْنُ الشيطان (1)، وفي الآخر حين قال: اللهم اشْدُدْ وَطْأَتَكَ على مُضَرَ (2)، وأهل المشرق يومئذٍ من مضر مخالفون له، ولدعائه على مضر في غير موطن، ويقول حذيفة رضي الله عنه: لا تَدَعُ مُضرُ عبداً للهِ إلاَّ فَتَنُوهُ وقَتَلُوهُ(3)، وكذا قال لهم حذيفة - حين دخلوا على عثمان رضي الله عنه وملؤوا الحجرة والبيت: لا تَبْرَحُ ظُلْمَةُ مُضَرَ لكلِّ عبدٍ للهِ مُؤمنٍ فَتَفْتِنُهُ فَتَقْتُلُهُ(4)، وقيل: يعني: ما وقع بالعراق في الصدر الأول من الفتنة الشديدة؛ كيوم الجمل، وصفين، وحروراء، وفتن بني أمية، وخروج دعاة بني العباس، وارتجاج الأرض فتنة، وكل ذلك كان بشرق نجد والعراق، وجاء في حديث الخوارج: يَخْرُجُ قومٌ مِنَ المَشرق(5). والكفر على هذا كفر نعمة، وقيل: يعني: الكفر حقيقة ورأسه الدجال؛ لأنه يخرج من المشرق. انتهى.
__________
(1) …البخاري (1037، 7094).
(2) …البخاري (1006، 6393)، ومسلم (675).
(3) …أحمد (5/395)، وابن أبي شيبة (37402)، والبزار (2797).قال في «مجمع الزوائد» (7/313): «رواه أحمد بأسانيد والبزار من طرق، .. وأحد أسانيد أحمد وأحد أسانيد البزار رجاله رجال الصحيح».
(4) …البزار في «مسنده» (2797)، والحاكم في «المستدرك» 4/470 (8451)، وصححه ووافقه الذهبي.
(5) …مسلم (1068) بنحوه .(2/15)
وقال النووي في شرح مسلم على قوله - صلى الله عليه وسلم -: حَيْثُ يَطلُعُ قَرْنَا الشيطان في رَبِيعَةَ ومُضَرَ(1): وأما قرنا الشيطان: فجانبا رأسه، وقيل: هما جمعاه اللذان يغريهما بإضلال الناس، وقيل: شيعتاه من الكفار، والمراد بذلك: اختصاص المشرق بمزيد من تسلط الشيطان ومن الكفر - كما قال في الحديث الآخر: رأسُ الكُفْر نَحْوَ المشرق ، وكان ذلك في عهده - صلى الله عليه وسلم - حين قال ذلك، ويكون حين يخرج الدجال من المشرق، وهو فيما بين ذلك منشأ الفتن العظيمة، ومثار الكفرة التُّرك الغاشمة العاتية الشديدة البأس.(2) انتهى.
والظاهر أن الحديث يعم جميع المشرق الأدنى والأقصى والأوسط، ومن ذلك فتنة مسيلمة وفتنة المرتدين من ربيعة ومضر وغيرهما في الجزيرة العربية.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (3/93، 94) ما يُفعل وقت الفتن
هل هذا الزمان هو المقصود من قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما سأله صحابي: ماذا أفعل عندما تكثر الفتن والفرقة ؟ فقال له ردًا على سؤاله: ((اعتزل الناس اجلس في بيتك))، وفي [الصحيح] في كتاب الفتن، باب (كيف الحال إذا لم يكن خليفة) الحديث فيما معناه: أنه - صلى الله عليه وسلم - أمرهم عند نزول النوازل بالاعتزال، وقال: ((ولو أن تعضّ على أصل شجرة)): نرجو توضيح هذا الحديث، وأقوال العلماء فيه.
__________
(1) …البخاري (3302، 4387، 5303)، ومسلم (51).
(2) …صحيح مسلم بشرح النووي (2/34) .(2/16)
في الصحيحين، وغيرهما، واللفظ للبخاري: عن أبي إدريس الخولاني: أنه سمع حذيفة بن اليمان رضي الله عنه يقول: كان الناس يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر ؟ قال: نعم ، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير ؟ قال: نَعَم؛ وفيه دَخَن (1) قلت: وما دَخَنُهُ ؟ قال: قوم يَهْدُونَ بغير هَدْيِي تَعْرِفُ منهم وتُنْكِر قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر ؟ قال: نعم؛ دُعاةٌ على أبواب جهنم مَنْ أَجَابَهُم إليها قَذَفُوهُ فيها قلت: يا رسول الله، صِفْهُم لنا، قال: هُمْ من جِلْدَتِنا ويتكلَّمُون بألسِنَتِنَا قلت: فما تأمُرُني إن أدركني ذلك ؟ قال: تَلْزَمُ جَمَاعةَ المسلمين وإِمَامَهُم قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام ؟ قال: فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الفِرَقَ كُلَّها ولو أن تَعُضَّ بأَصْلِ شَجَرَةٍ، حتى يُدْرِكَكَ الموت وأنت على ذلك(2).
والزمن ليس خاصًا بهذا الزمان، وإنما هو عام في كل زمان ومكان؛ من عهد الصحابة رضي الله عنهم زمن الفتنة والخروج على عثمان رضي الله عنه.
__________
(1) …معنى (وفيه دَخَنٌ): أي كَدَر، تشبيهًا له بدُخان الحطب، والمعنى: لا يكون ذلك الخير خالصاً بل فيه كَدَر، ولا تصفو القلوب بعضها لبعض؛ بل فيها حقد وفساد واختلاف. انظر: «شرح النووي على مسلم» (2/236، 237)، و«فتح الباري» (13/36).
(2) …البخاري (3606، 7084)، ومسلم (1847).(2/17)
والمراد من اعتزال الناس زمن الفرقة: ما ذكره الحافظ ابن حجر رحمه الله في «الفتح» عن الطبري أنه قال: متى لم يكن للناس إمام فافترق الناس أحزاباً فلا يتبع أحدًا في الفرقة، ويعتزل الجميع إن استطاع ذلك خشية من الوقوع في الشر(1). ومتى وجد جماعة مستقيمة على الحق لزمه الانضمام إليها وتكثير سوادها والتعاون معها على الحق؛ لأنها - والحال ما ذكر - هي جماعة المسلمين بالنسبة إلى ذلك الرجل وذلك المكان.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (3/95، 96)
المسيح الدجال
سمعنا سابقًا عن قصة فتنة الدجال أنه يأمر السماء أن تمطر ويأمر الأرض أن تنبت أو تحمل ويطلع الكنوز من الأرض، وأنه يقتل رجلاً ويحيا بعد، ويقول من يُدَرِّسوننا: ما هو صحيح فعل الدجال، قمرة يقمر بها أعين الناس، فأفيدونا عن الصحيح ؟
ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن المسيح الدجال سيظهر آخر الزمان، وأنه يقول للسماء: أمطري، فتمطر، ويقول للأرض: أنبتي، فتنبت، وأنه يقتل رجلاً مؤمنًا، ثم يقول له: قم، فيقوم، ويقول له: (أنا ربك، فيقول له: كذبت؛ بل أنت الأعور الكذاب الذي حدثنا عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والله ما ازددت فيك إلاَّ بصيرة، وأنه يريد قتله بعد ذلك فلا يسلط عليه، وأنه يدعي الإلهية، وقد بَيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - له ثلاث علامات تدل على كذبه في دعوة الإلهية، الأولى: أنه أعور العين اليمنى، والله تعالى ليس بأعور، الثانية: أنه مكتوب بين عينيه كافر، يقرؤه كل مؤمن قارئ وغير قارئ، والثالثة: أنه يرى في الدنيا، والله تعالى لا يراه أحد حتى يموت.
__________
(1) …«فتح الباري» (13/37).(2/18)
يدل على ذلك ما جاء في حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه عند مسلم: في باب ذكر فتنة الدجال من قوله - صلى الله عليه وسلم -: فَيَأْتِي على القوم فَيَدْعُوهُم فيُؤْمِنُونَ به ويسْتَجِيبُونَ لَهُ فَيَأْمُرُ السماء فتُمْطِرُ والأرض فَتُنْبِت .. إلى قوله - صلى الله عليه وسلم - عنه: ثم يَدْعُو رجلاً مُمْتَلِئًا شبابًا فَيَضْرِبُهُ بالسيفِ فَيَقْطَعُهُ جَزْلَتَيْنِ رَمْيَةَ الْغَرَضِ ثم يدعُوهُ فيُقْبِلُ ويَتَهَلَّلُ وَجْهُهُ وَيَضْحَك (1)، وفي رواية أخرى لمسلم، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: قوله - صلى الله عليه وسلم -: فَيَخْرُجُ إليه يومئذٍ رجلٌ هو خَيْرِ الناس أو مِنْ خَيْرِ الناس فيقول له: أَشْهَدُ أنك الدجال الذي أَخْبَرَنَا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثه، فيقول الدجال: أرأيتم إن قَتَلْتُ هذا ثم أَحْيَيْتُهُ أَتَشُكُّونَ في الأمر ؟ فيقولون: لا، فَيَقْتُلُه، ثم يُحْيِيهِ، فيقول حين يُحْيِيه: والله ما كنتُ قبل قَطُّ أشدَّ بصيرةً مني الآن، قال: فيريدُ الدجالُ أن يَقْتُلَهُ، فلا يُسلَّطُ عليه (2)، وعند مسلم أيضًا: أنَّ مع الدجال ماءٌ ونارٌ؛ فنارُهُ ماءٌ باردٌ، وماؤهُ نارٌ، فلا تَهْلِكُوا (3)، وهذا الأخير هو الذي يقال فيه: أنه تخييل (قَمْرَةٌ)(4) ، وما عداه مما ذكر من أحداثه ليست تخييلاً؛ بل حقيقة واقعة أجراها الله على يده لتكون فتنة يتميز بها الطيب من الخبيث مع إقامة الحجة على كذبه فيما يدعيه من الإلهية، قال مسلم رحمه الله: حدثنا أبو خيثمة زهير بن حرب، ثنا الوليد بن مسلم، ثني
__________
(1) …مسلم (2937). ومعنى (جَزْلَتَيْن): أي قِطْعَتين. ومعنى (رَميةَ الغَرَض): الغَرَض: الهَدَف؛ أي: أن الضربة تُصيبه إصابة هادفةً لا تخطئ. أو أن المعنى: بُعْدُ ما بين القطعتين بقدر رمية السهم إلى الهدف.
(2) …مسلم (2938).
(3) …البخاري (7130)، ومسلم (2934).
(4) …أي: غلبة السحر على العينين أو خدعه إياها.(2/19)
عبدالرحمن بن يزيد بن جابر، ثني يحيى بن جابر الطائي قاضي حمص، ثني عبدالرحمن بن جبير، عن أبيه جبير بن نفير الحضرمي، أنه سمع النواس بن سمعان الكلابي.
وحدثني محمد بن مهران الرازي بالسند نفسه في حديث النواس: فيأتي على القوم فيدعوهم فيؤمنون به، ويستجيبون له فيأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت؛ فَتَرُوحُ عليهم سَارِحَتُهُم أَطْوَلَ ما كانت ذُرًى، وأَسْبَغَهُ ضُروعًا، وأَمَدَّهُ خَوَاصِر، ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردُّونَ عليه قَوْلَه؛ فينصرف عنهم فيصبحون مُمْحِلِين ليس بأيديهم شيء من أموالهم ... - وفيه: ثم يدعو رجلاً ممتلئًا شبابًا فيضربه بالسيف فيقطعه جَزْلَتَيْنِ رَمْيَةَ الغَرَضِ، ثم يدعوه فَيُقْبِلُ ويتهلَّلُ وجهه ويضحك ... (1)إلخ.
وفي رواية أخرى لمسلم: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: فيخرج إليه يومئذٍ رجل هو خَيْرُ الناس، أو مِنْ خَيرِ الناس، فيقول له: أشهدُ أنَّكَ الدجال الذي حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثه؛ فيقولُ الدجال: أرأيتُم إن قتلتُ هذا ثم أَحْيَيْتُه أتشكُّونَ في الأمر ؟ فيقولون: لا، قال: فيقتله ثم يُحْيِيهِ، فيقول حين يُحْيِيهِ: والله ما كنتُ قبل قَطُّ أشَدَّ بصيرةً مني الآن، قال: فيريد الدجال أن يقتلَهُ فلا يُسَلَّطُ عليه(2). اهـ. من باب ذكر الدجال من كتاب الفتن (ج 8) .
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (3/102-104)
انتصار المسلمين على اليهود قادم بإذن الله
هل هذا الحديث صحيح: (إنه سيأتي يوم ينتصر المسلمون على اليهود، حتى الحجر الذي يختفي فيه يهودي يتكلم وينادي بأنه تحتي يهودي فاقتله) ؟
__________
(1) …مسلم (2937).
(2) …مسلم (2938).(2/20)
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: تُقَاتِلُكُم اليهود فتُسَلَّطون عليهم، ثم يقول الحَجَر: يا مُسلم، هذا يهودي ورائي فَاقْتُلْهُ (1) رواه البخاري، وعن ابن عمر أيضاً رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: تقاتلكم اليهود فَتُسَلَّطُونَ عليهم حتى يقول الحجر: يا مسلم، هذا يهودي ورائي فَاقْتُلْه رواه أحمد(2)، والترمذي(3) وقال: (هذا حديث حسن صحيح). وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ينزل الدجال في هذه السَّبَخَة بِمَرِّ قَنَاة، فيكون أكثر من يخرج إليه النساء حتى إن الرجل لَيَرْجِعُ إلى حَمِيمِهِ وإلى أمه وابنته وأخته وعمته يُوثِقُها رباطاً مَخافةَ أن تخرج إليه، ثم يسلِّط الله المسلمين عليه فيقتلونه ويقتلون شِيعَتَهُ؛ حتى إن اليهودي ليختبئ تحت شجرة أو حجر فيقول الحجر أو الشجرة للمسلم: هذا يهودي تَحْتِي فَاقْتُلْه (4) رواه أحمد في مسنده، وكذا رواه ابن ماجه، عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في شأن المسيح الدجال.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (3/90، 91)
الفصل الحادي عشر
القضاء والقدر والتعليل
معنى القدر
ما معنى القدر مع تفصيل شامل ؟
__________
(1) …البخاري (3593)، وبألفاظ أخر: (2925، 3593)، ومسلم (2921، 2922).
(2) …"المسند" (2/121، 131، 135، 149).
(3) …«سنن الترمذي» (2236).
(4) …أحمد (2/67)، وبألفاظ (3/191)، و(4/338)، وابن ماجه (4077)، والطبراني في "الكبير" 12/307 (13197). قال في "مجمع الزوائد" 7/347: (رواه أحمد والطبراني في الأوسط وفيه ابن إسحاق وهو مدلس).(2/21)
معناه: أن الله سبحانه وتعالى علم الأشياء كلها قبل وجودها، وكتبها عنده، وشاء ما وجد منها، وخلق ما أراد خلقه، وهذه هي مراتب القدر الأربع التي يجب الإيمان بها، ولا يكون العبد مؤمنًا بالقدر على الكمال حتى يكون مؤمنًا بها، كما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه أجاب جبريل عليه السلام لما سأله عن الإيمان - قال: أن تُؤْمِنَ بالله وملائكتِه وكُتبِه ورسُولِه واليومِ الآخِرِ وتؤمن بالقَدَرِ خيرِه وشرِّه(1). رواه مسلم في صحيحه. وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال له: إنَّكَ لَنْ تَجِدَ طَعْمَ الإيمانِ حتى تُؤْمِنَ بالقَدَرِ، وتَعْلمَ أنَّما أصابَكَ لَمْ يكُن لِيُخْطِئَكَ، وما أَخْطَأك لم يَكُنْ لِيُصِيبَك (2) الحديث، وقد أوضح هذا المعنى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في [العقيدة الواسطية]، فنوصيك بمراجعتها وحفظها.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (3/374) هل الإنسان مُخيَّر أو مسيَّر ؟
هل الإنسان مخير أو مسير ؟
__________
(1) …مسلم (8).
(2) …أخرجه بنحوه وزيادة عند بعضهم: أحمد (5/182، 185، 189، 317)، وابن أبي شيبة في «مسنده» (130) وإسناده حسن صحيح، كما قال محققه، وأبو داوود (4700)، وابن ماجه (77)، والبيهقي في «السنن الكبرى» 10/204 (20664)، والضياء المقدسي في «المختارة» 8/274 (336)، وابن حبان في «صحيحه» (727). وصححه الألباني في «صحيح أبي داوود» (3933).(2/22)
نقول: الإنسان مسير ومخير؛ وذلك أن الله تعالى قدر عليه ما يقع منه وما يفعله، وهو مع ذلك أعطاه قدرة واستطاعة بها يزاول الأعمال ويختار ما يفعله مما يثاب عليه أو يعاقب، والله تعالى قادرٌ على أن يرده إلى الهدى، ودليل ذلك قوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ *وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ *}[الزُّمَر: 36-37]، وفي الحديث:
اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ (1)، وقرأ قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى *وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى *فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى *}[الليْل]؛ فأثبت له عملاً وهو العطاء والتقوى والتصديق، وأخبر بأن الله تعالى هو الذي يسره أي أعانه وقواه، فلو شاء لأضله وسلط عليه من يصرفه عن الحق، فهو الذي يهدي من يشاء، ويضل من يشاء .
ومذهب أهل السنة: أن ما يقع من المعاصي والمخالفات كلها بإرادة الله تعالى، الإرادة الكونية القدرية بمعنى أن الله خلقها وأوجدها(2) مع أنه يكرهها، ولا يحب أهلها بل يعاقبهم عليها، فتنسب إلى العبد الذي عملها وباشرها، ويوصف بأنه مذنب وكافر وفاجر وفاسق، ومع هذا فإن الله تعالى هو الذي قدرها وكونها، فلو شاء لهدى الناس جميعاً، فللّه الحكمة في خلقه وأمره، فلا يكون في ملكه ما لا يريد .
وقد ذهب المعتزلة إلى إنكار قدرة الله تعالى على أفعال العباد؛ بل عندهم العبد هو الذي يَضِلُّ ويهتَدِي، فقدرته أقوى من قدرة الرب .
وخالفهم الجبرية، فبالغوا في إثبات قدرة الرب، وسلبوا العبد قدرته واختياره وجعلوه مقسوراً لا حركة له ولا اختيار .
__________
(1) …البخاري (4949)، ومسلم (2649).
(2) …أي: خلق أسبابها، وهذا لا يعني إجبار العبد عليها، ولهذا فهو يحاسبه ويعاقبه على فعلها عدلاً منه سبحانه؛ لأنه ارتكبها باختياره.(2/23)
وتوسَّط أهل السنة فقالوا: إن للعباد قُدرة على أعمالهم، ولهم إرادة تمكنهم من فعلها، والله تعالى خالقهم وخالق قدرتهم وإرادتهم، حتى لا تبطل شريعة الله، وأمره ونهيه، ولا يُنْفَى فعله وعمومُ قدرته لكل شيء . والله أعلم .
الشيخ ابن جبرين - فتاوى في التوحيد، ص (52، 53)
في الأسباب والمُسبَّبات
هناك من ينسب شدة البرد أو الحر للعوامل المناخية أو لطبقة الأوزون أو لدوران الكرة الأرضية .. فهل يصح هذا التأويل ؟
لا شك أن شدة الحر وشدة البرد لها أسباب طبيعية معلومة، ووجودها بأسبابها من تمام حكمة الله عز وجل، وبيان أن سبحانه وتعالى خلق الخلق على أكمل نظام، وهناك أسباب مجهولة لا نعلمها نحن: مثل قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ: يَا رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا؛ فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، فَهُوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْحَرِّ وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ (1)؛ وهذا سبب غير معلوم، لا يعلم إلا بطريق الوحي .
ولا حرج على الإنسان أن يضيف الشيء إلى سبب معلوم حساً أو شرعاً، لكن بعد ثبوت أنه سبب حقيقي، وإن كان سبباً وهمياً أو كان سبباً مبنياً على نظريات لا أساس لها فإنه لا يجوز اعتمادها؛ لأن إثبات الوقائع أو الحوادث إلى أسباب غير معلومة - لا عن طريق الشرع ولا عن طريق الحس - يدخل في ما نهى الله عنه في قوله: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً *}[الإسرَاء].
الشيخ ابن عثيمين - كتاب الدعوة (4) (1/12 ، 13 )
حكم التعلُّق بالأسباب
ما حكم التعلق بالأسباب ؟
التعلق بالأسباب أقسام:
__________
(1) …البخاري (537) ، ومسلم (617) .(2/24)
*…القسم الأول: ما ينافي التوحيد في أصله، وهو أن يتعلق الإنسان بشيء لا يمكن أن يكون له تأثير، ويعتمد عليه اعتماداً كاملاً معرضاً عن الله: مثل تعلق عبّاد القبور بمن فيها عند حلول المصائب . وهذا شرك أكبر مخرج عن الملة . وحكم الفاعل ما ذكره الله تعالى بقوله: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}[المَائدة، من الآية: 72].
*…القسم الثاني: أن يعتمد على سبب شرعي صحيح مع غفلته عن المسبِّب وهو الله تعالى، فهذا نوع من الشرك، ولكن لا يخرج من الملة؛ لأنه اعتمد على السبب ونسي المسبب وهو الله تعالى .
*…القسم الثالث: أن يتعلق بالسبب تعلقاً مجرداً لكونه سبباً فقط مع اعتماده الأصلي على الله، فيعتقد أن هذا السبب من الله، وأن الله لو شاء قطعه ولو شاء لأبقاه وأنه لا أثر للسبب في مشيئة الله عز وجل، فهذا لا ينافي التوحيد لا أصلاً ولا كمالاً .
ومع وجود الأسباب الشرعية الصحيحة، ينبغي للإنسان ألا يُعَلِّقَ نفسه بالسبب بل يعلقها بالله، فالموظف الذي يتعلق قلبه بمرتبه تعلقاً كاملاً مع الغفلة عن المسبب وهو الله؛ فهذا نوع من الشرك، أما إذا اعتقد أن المرتب سبب والمسبب هو الله سبحانه وتعالى فهذا لا ينافي التوكل . والرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يأخذ بالأسباب مع اعتماده على المسبب وهو الله عز وجل .
الشيخ ابن عثيمين - فتاوى العقيدة، ص (303، 304)
نَعم .. الذنوب سبب المصائب
بعض الناس يستعجل في بيان الحكمة من بعض الأحداث المعينة فيقول مثلاً: أراد الله من هذه المحن في هذا الوقت كذا وكذا، أو امتنع المطر لكثرة الذنوب، أو حصل الزلزال الفلاني ليختبر الله أولئك .. أليس في ذلك قول على الله بغير علم ويقين؛ لأننا لا نعلم حقيقة مراد الله من ذلك ؟(2/25)
لا حرج أن يعلل الإنسان ما يصيب الناس من زلازل ومحن وفقر بما جعله الله تعالى علة وسبباً . فالذنوب مثلاً بين الله في كتابه أنها سبب للشر والفساد؛ قال الله تبارك وتعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ}[الرُّوم، من الآية: 41]، وقال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ *}[الشّورى]، وقال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ}[آل عِمرَان، من الآية: 165].
فالنصوص في هذا كثيرة مشهورة؛ فلا حرج أن يعلل الإنسان هذه المصائب بما جعله الله تعالى علة وسبباً، وإن كان هناك أسباب أخرى لا نعرفها . فإذا عللنا بما جعله الله علة فإننا لن نكون قائلين على الله بلا علم؛ بل قائلين على الله بما أعلمنا هو سبحانه وتعالى عن نفسه بأن هذه المصائب سببها ذنوبنا وأفعالنا وما كسبت أيدينا .
الشيخ ابن عثيمين - كتاب الدعوة (5) - (2/143/144)
حكم الرِّضا بالقدر
ما حكم الرضا بالقدر ؟ نفع الله بكم وبعلومكم .
الرضا بالقدر واجب؛ لأنه من تمام الرضا بربوبية الله، فيجب على كل مؤمن أن يرضى بقضاء الله . ولكن المقضي هو الذي فيه التفصيل؛ فالمقضي غير القضاء: لأن القضاء فعل الله، والمقضي مفعول الله، فالقضاء الذي هو فعل الله يجب أن نرضى به، ولا يجوز أبداً أن نسخطه بأي حال من الأحوال .
وأما المقضي فعلى أقسام:
* القسم الأول: ما يجب الرضا به .
* القسم الثاني: ما يحرم الرضا به .
* القسم الثالث: ما يستحب الرضا به .(2/26)
فمثلاً المعاصي من مقضيات الله، ويحرم الرضا بالمعاصي وإن كانت واقعة بقضاء الله، فمن نظر إلى المعاصي من حيث القضاء الذي هو فعل الله يجب أن يرضى وأن يقول: إن الله تعالى حكيم، ولولا أن حكمته اقتضت هذا ما وقع . وأما من حيث المقضي - وهو معصية الله - فيجب ألاّ ترضى به، والواجب أن تسعى لإزالة هذه المعصية منك أو من غيرك .
وقسم من المقضي يجب الرضا به مثل الواجب شرعاً؛ لأن الله حكم به كوناً وحكم به شرعاً، فيجب الرضا به من حيث القضاء ومن حيث المقضي.
وقسم ثالث يستحب الرضا به ويجب الصبر عليه، وهو ما يقع من المصائب، فما يقع من المصائب «يستحب» الرضا به عند أكثر أهل العلم ولا يجب، لكن يجب الصبر عليه .
والفرق بين الصبر والرضا: أن الصبر يكون الإنسان فيه كارهاً للواقع لكنه لا يأتي بما يخالف الشرع وينافي الصبر، والراضي لا يكون كارهاً للواقع فيكون ما وقع وما لم يقع عنده سواء . فهذا هو الفرق بين الرضا والصبر؛ ولهذا قال الجمهور: إن الصبر واجب، والرضا مستحب .
الشيخ ابن عثيمين - فتاوى المرأة المسلمة - ترتيب: أشرف عبد المقصود، (1/60، 61)
حكم التسخط من المصائب
ما حكم من يتسخط إذا نزلت به مصيبة ؟
الناس حال المصيبة على مراتب أربع:
* المرتبة الأولى: التسخط وهو على أنواع :
* النوع الأول:
أن يكون بالقلب؛ كأن يسخط على ربه، ويغتاظ مما قدره الله عليه؛ فهذا حرام، وقد يؤدي إلى الكفر، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآْخِرَةَ}[الحَجّ، من الآية: 11].
* النوع الثاني:
أن يكون باللسان؛ كالدعاء بالويل والثبور وما أشبه ذلك، وهذا حرام .
* النوع الثالث:
أن يكون بالجوارح؛ كلطم الخدود، وشق الجيوب، ونتف الشعور وما أشبه ذلك، وكل هذا حرام مناف للصبر الواجب .(2/27)
* المرتبة الثانية: الصبر، وهو كما قال الشاعر:
والصبرُ مثلُ اسمه مرٌّ مذاقَتُهُ
لَكِنْ عواقُبُه أحلى من العَسَلِ(1)
فيرى أن هذا الشيء ثقيل عليه لكنه يتحمله، وهو يكره وقوعه ولكن يحميه إيمانه من السخط، فليس وقوعه وعدمه سواء عنده . وهذا واجب؛ لأن الله تعالى أمر بالصبر فقال: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[الأنفَال، من الآية: 46]
* المرتبة الثالثة: الرضا، بأن يرضى الإنسان بالمصيبة بحيث يكون وجودها وعدمها سواء فلا يشق عليه وجودها، ولا يتحمل لها حملاً ثقيلاً، وهذه مستحبة وليست بواجبة، على القول الراجح، والفرق بينها وبين المرتبة التي قبلها ظاهر؛ لأن المصيبة وعدمها سواء في الرضا عند هذا، أما التي قبلها فالمصيبة صعبة عليه لكن صبر عليها .
* المرتبة الرابعة: الشكر، وهو أعلى المراتب، وذلك بأن يشكر الله على ما أصابه من مصيبة؛ حيث عرف أن هذه المصيبة سبب لتكفير سيئاته، وربما لزيادة حسناته - قال - صلى الله عليه وسلم -: "مَا مِنْ مُصِيبَةٍ تُصِيبُ الْمُسْلِمَ إِلاَّ كَفَّرَ اللهُ بِهَا عَنْهُ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا"(2).
الشيخ ابن عثيمين - مجموع فتاوى ورسائل (2/109-111)
حكم سَبِّ الدَّهْر
ما حكم سب الدهر ؟
سب الدهر ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أن يقصد الخبر المحض دون اللوم، فهذا جائز: مثل أن يقول: تعبنا من شدة حر هذا اليوم، أو برده، وما أشبه ذلك؛ لأن الأعمال بالنيات، واللفظ صالح لمجرد الخبر .
__________
(1) …البيت للشاعر (كشَاجِم)؛ من شعراء سيف الدولة الحمداني ووالده، والمذكور في «ديوانه» ص (275): (في كُلِّ نائبةٍ) بدل (مُرٌّ مذاقته). وذكره بتمامه: ابن القيم رحمه الله في: «مدارج السالكين» (2/158) من غير عزوٍ لأحد.
(2) …البخاري (5640)، ومسلم (2572) .(2/28)
القسم الثاني: أن يسب الدهر على أنه هو الفاعل؛ كأن يقصد بسبه الدهر أن الدهر هو الذي يقلِّب الأمور إلى الخير أو الشر، فهذا شرك أكبر؛ لأنه اعتقد أن مع الله خالقاً حيث نسب الحوادث إلى غير الله .
القسم الثالث: أن يسب الدهر وهو يعتقد أن الفاعل هو الله، ولكن يسبه لأنه محل هذه الأمور المكروهة، فهذا محرم؛ لأنه مناف للصبر الواجب، وليس بكفر؛ لأنه ما سب الله مباشرة، ولو سب الله مباشرة لكان كافراً .
الشيخ ابن عثيمين - مجموع فتاوى ورسائل (1/197،198)
حكم التشاؤم من الدّار
شخص سكن في دار فأصابته الأمراض وكثير من المصائب مما جعله يتشاءم هو وأهله من هذه الدار .. فهل يجوز له تركها لهذا السبب ؟
ربما يكون بعض المنازل أو بعض المركوبات أو بعض الزوجات مشؤومًا؛ يجعل الله بحكمته مع مصاحبته إما ضررًا أو فوات منفعة أو نحو ذلك، وعلى هذا فلا بأس ببيع هذا البيت والانتقال إلى بيت غيره، ولعل الله أن يجعل الخير فيما ينتقل إليه. وقد ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: الشُّؤْمُ فِي ثَلاثَةٍ: فِي الْفَرَسِ وَالْمَرْأَةِ وَالدَّارِ(1).
فبعض المركوبات يكون فيها شؤم، وبعض الزوجات يكون فيهن شؤم، وبعض البيوت يكون فيها شؤم؛ فإذا رأى الإنسان ذلك فليعلم أنه بتقدير الله عز وجل، وأن الله سبحانه وتعالى بحكمته قدر ذلك لينتقل الإنسان إلى محل آخر. والله أعلم .
الشيخ ابن عثيمين - المجموع الثمين ، (1/70، 71)
الحكمة من إيجاد الملائكة الكرام الكاتبين
ما الحكمة من إيجاد الكرام الكاتبين مع أن الله يعلم كل شيء ؟
__________
(1) …البخاري (2858)، وأطرافه في (2099)، ومسلم (2225)، بألفاظ متقاربة.(2/29)
نقول في مثل هذه الأمور إننا قد ندرك حكمتها وقد لا ندرك، فإن كثيراً من الأشياء لا نعلم حكمتها - قال الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً *}[الإسرَاء]، فإن هذه المخلوقات لو سألنا سائل: ما الحكمة أن الله جعل الإبل على هذا الوجه، وجعل الخيل على هذا الوجه، وجعل الحمير على هذا الوجه، وجعل الآدمي على هذا الوجه، وما أشبه ذلك ؟ لو سألنا عن الحكمة في هذه الأمور ما علمناها، ولو سئلنا ما الحكمة في أن الله عز وجل جعل صلاة الظهر أربعاً وصلاة العصر أربعاً والمغرب ثلاثاً وصلاة العشاء أربعاً وما أشبه ذلك ؟ ما استطعنا أن نعلم الحكمة في ذلك. وبهذا علمنا أن كثيراً من الأمور الكونية وكثيراً من الأمور الشرعية تخفى علينا حكمتها، وإذا كان كذلك فإنا نقول: إن التماسنا للحكمة في بعض الأشياء المخلوقة أو المشروعة: إن منّ الله علينا بالوصول إليها فذاك زيادة فضل وخير وعلم، وإن لم نصل إليها فإن ذلك لا ينقصنا شيئاً .
ثم نعود إلى جواب السؤال وهو: ما الحكمة في أن الله عز وجل وكّل بنا كراماً كاتبين يعلمون ما نفعل ؟
فالحكمة في ذلك بيان أن الله سبحانه وتعالى نظّم الأشياء وقدّرها وأحكمها إحكاماً متقناً؛ حتى إنه سبحانه وتعالى جعل على أفعال بني آدم وأقوالهم كراماً كاتبين موكلين بهم يكتبون ما يفعلون مع أنه سبحانه وتعالى عالم بما يفعلون قبل أن يفعلوه، ولكن كل هذا من أجل بيان كمال عناية الله عز وجل بالإنسان وكمال حفظه تبارك وتعالى، وأن هذا الكون منظم أحسن نظام ومحكم أحسن إحكام . والله عليم حكيم.
الشيخ ابن عثيمين - فتاوى العقيدة، ص (347، 348)
الباب الثاني
الفتيا والاجتهاد شروط الاجتهاد والفُتْيَا
متى يحق للشاب أن يجتهد ويفتي ؟(2/30)
إن الاجتهاد في المسائل له شروط، وليس يحق لكل فرد أن يفتي ويقول فى المسائل إلا بعلم وأهلية، وقدرة على معرفة الأدلة، وما يكون منها نصاً أو ظاهراً، والصحيح والضعيف، والناسخ والمنسوخ، والمنطوق والمفهوم، والخاص والعام، والمطلق والمقيَّد، والمجمل والمبيَّن. ولا بد من طول ممارسة، ومعرفة بأقسام الفقه وأماكن البحث، وآراء العلماء والفقهاء، وحفظ النصوص أو فهمها.
ولا شك أن التصدي للفتيا من غير أهلية ذنب كبير، وقول بلا علم، وقد توعد الله على ذلك بقوله تعالى: {وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ *}[النّحل]، وفي الحديث مَنْ أُفْتِيَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ إِثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ(1).
وعلى طالب العلم أن لا يتسرع في الفتيا، ولا يقول في المسألة إلا بعد أن يعرف مصدر ما يقول ودليله ومن قال به قبله، فإن لم يكن أهلاً لذلك فليعط القوس باريها، وليقتصر على ما يعرف، ويعمل بما حصل عليه، ويواصل التعلم والتفقه حتى يحصل على حالة يكون فيها أهلاً للاجتهاد، والله الهادي إلى الصواب .
الشيخ ابن جبرين - اللؤلؤ المكين، ص (72، 73) الاجتهاد وشروط المجتهد
ما حكم الاجتهاد في الإسلام ؟ وما شروط المجتهد ؟
__________
(1) …أحمد (2/321، 365)، وأبو داود (3657) واللفظ له، وابن ماجه (53)، والحاكم 1/126 (436) وصححه ووافقه الذهبي. وقال الألباني في «صحيح أبي داود» (3105): «حسن».(2/31)
الاجتهاد في الإسلام: هو بذل الجهد لإدراك حكم شرعي من أدلته الشرعية، وهو واجب على من كان قادراً عليه؛ لأن الله عز وجل يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}[النّحل: 43، سورة الأنبياء، من الآية: 7]، والقادر على الاجتهاد يمكنه معرفة الحق بنفسه، ولكن لا بد أن يكون ذا سعة في العلم واطلاع على النصوص الشرعية، وعلى الأصول المرعية، وعلى أقوال أهل العلم؛ لئلا يقع فيما يخالف ذلك، فإن من الناس طلبة علم - الذين لم يدركوا من العلوم إلا الشيء اليسير - من ينصّب نفسه مجتهداً، فتجده يعمل بأحاديث عامة لها ما يخصصها، أو يعمل بأحاديث منسوخة لا يعلم ناسخها، أو يعمل بأحاديث أجمع العلماء على أنها على خلاف ظاهرها، ولا يدري عن إجماع العلماء؛ ومثل هذا على خطر عظيم. فالمجتهد لا بد أن يكون عنده علم بالأدلة الشرعية وعنده علم بالأصول التي إذا عرفها استطاع أن يستنبط الأحكام من أدلتها، وعلم بما عليه العلماء بأن لا يخالف الإجماع وهو لا يدري؛ فإذا كانت هذه الشروط في حقه موجودة متوافرة فإنه يجتهد . ويمكن أن يتجزأ الاجتهاد: بأن يجتهد الإنسان في مسألة من مسائل العلم فيبحثها ويحققها ويكون مجتهداً فيها، أو في باب من أبواب العلم كأبواب الطهارة مثلاً؛ يبحثه ويحققه ويكون مجتهداً فيه .
الشيخ ابن عثيمين - فتوى عليها توقيعه
باب الاجتهاد والفُتْيَا مفتوح لأهله
هل يعتبر باب الاجتهاد في الأحكام الإسلامية مفتوحاً لكل إنسان، أو هناك شروط لابد أن تتوفر في المجتهد ؟ وهل يجوز لأي إنسان أن يفتي برأيه دون معرفته بالدليل الواضح ؟ وما درجة الحديث القائل: «أَجْرَؤُكُمْ عَلَى الْفُتْيَا أَجْرَؤُكُمْ عَلَى النَّارِ» أو مامعناه ؟(2/32)
باب الاجتهاد في معرفة الأحكام الشرعية لا يزال مفتوحاً لمن كان أهلاً لذلك؛ بأن يكون عالماً بما يحتاجه في مسألته التي يجتهد فيها من الآيات والأحاديث، قادراً على فهمهما والاستدلال بهما على مطلوبه، وعالماً بدرجة ما يستدل به من الأحاديث، وبمواضع الإجماع في المسائل التي يبحثها حتى لا يخرج على إجماع المسلمين في حكمه فيها، عارفاً من اللغة العربية القدر الذي يتمكن به من فهم النصوص ليتأتى له الاستدلال بها والاستنباط منها. وليس للإنسان أن يقول في الدين برأيه، أو يفتي الناس بغير علم؛ بل عليه أن يسترشد بالدليل الشرعي، ثم بأقوال أهل العلم، ونظرهم في الأدلة، وطريقتهم في الاستدلال بها والاستنباط، ثم يتكلم أو يفتي بما اقتنع به ورضيه لنفسه ديناً.
أما حديث: أَجْرَؤُكُمْ عَلَى الْفُتْيَا أَجْرَؤُكُمْ عَلَى النَّارِ (1)؛ فقد رواه عبد الله ابن عبد الرحمن الدارمي في «سننه»: عن عبيدالله بن أبي جعفر المصري مرسلاً؛ لأن عبيدالله المذكور تابعي وليس بصحابي. وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (5/17)
من الذي عليه أن يجتهد ولا يُقلِّد ؟
لقد ظهر بين الشباب ظاهرة؛ ألا وهي أنهم يقولون لا نتبع شيئًا من المذاهب الأربعة؛ بل نجتهد مثلهم، ونعمل مثلما عملوا، ولا نرجع إلى اجتهادهم؛ فما رأيكم في هذا ؟ وما نصيحتك لهؤلاء ؟
__________
(1) …الدارمي (157) . وقال الألباني في «الضعيفة» برقم (1814): (قلت وهذا إسناد ضعيف لإعضاله؛ فإن عبيدالله هذا من أتباع التابعين مات سنة (136هـ)، فبينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - واسطتان أو أكثر).(2/33)
هذا الكلام قد يستنكر بالنسبة لبعض الناس، ولكن معناه في الحقيقة لمن تأهل صحيح، فلا يجب على الناس أن يقلدوا أحدًا، ومن قال: إنه يجب تقليد الأئمة الأربعة، فقد غلط؛ إذ لا يجب تقليدهم، ولكن يستعان بكلامهم، وكلام غيرهم، من أئمة العلم وينظر في كتبهم رحمهم الله، وما ذكروا من أدلة، ويستفيد من ذلك طالب العلم الموفق.
أما القاصر فإنه ليس أهلاً لأن يجتهد، وإنما عليه أن يسأل أهل الفقه، ويتفقه في الدين، ويعمل بما يرشدونه إليه؛ حتى يتأهل، ويفهم الطريق التي سلكها العلماء، ويعرف الأحاديث الصحيحة والضعيفة، والوسائل لذلك في مصطلح الحديث، ومعرفة أصول الفقه، وما قرره العلماء في ذلك، حتى يستفيد من هذه الأشياء، ويستطيع الترجيح فيما تنازع فيه الناس، أما ما أجمع عليه العلماء فأمره ظاهر، وليس لأحد مخالفته، وإنما النظر فيما تنازع فيه العلماء.
والواجب في ذلك رد مسائل النزاع إلى الله ورسوله؛ كما قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَومِ الآْخِرِ}[النِّسَاء، من الآية: 59]، وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ}[الشّورى، من الآية: 10].
أما أن يجتهد وهو لا يستطيع ذلك، فهذا من الأغلاط الكبيرة، ولكن يسعى بالهمة العالية، في طلب العلم، ويجتهد ويتبصّر، ويسلك مسالك أهل العلم.
فهذه هي طرق العلم في دراسة الحديث، وأصوله، والفقه وأصوله، واللغة العربية وقواعدها، والسيرة النبوية، والتاريخ الإسلامي.
فيستعين بهذه الأمور، على ترجيح الراجح في مسائل الخلاف، مع الترحم على أهل العلم، ومع السير على منهجهم الطيب، والاستعانة بكلامهم وكتبهم الطيبة، وما أوضحوه من أدلة وبراهين، في تأييد ما ذهبوا إليه، وتزييف ما ردّوه.(2/34)
وبذلك يوفق طالب العلم لمعرفة الحق، إذا أخلص لله، وبذل وسعه في طلب الحق، ولم يتكبر.. والله سبحانه ولي التوفيق.
الشيخ ابن باز - مجلة البحوث الإسلامية (47)، ص (160، 161)
مِنْ أدب التفقُّه في دين الله
الملاحظ والمشاهد من بعض الأشخاص بأنهم يسألون هذا الفقيه في مسألة شخصية أو في مسألة ما، ثم يذهب إلى عالم آخر ويسأله نفس المسألة .. هل لفضيلة الشيخ صالح تعليق على ذلك ؟
نعم؛ هذا واقع، وهذا أمر لا يجوز، وهو أن الإنسان يسأل عدة علماء عن مسألة واحدة، بل عليه أن يجتهد في اختيار العالم الذي يثق في علمه ودينه فيسأله ويكتفي به. ولا يذهب ليسأل آخر؛ لأنه سيقع في اضطراب ويقع في حيرة؛ لأن الناس يختلفون كما ذكرنا، والمسألة اجتهادية، فعلى السائل العامي أن يختار من العلماء من يثق بعمله ودينه، ويسأله ويعمل بما يقول، ولا يحتاج إلى أنه يذهب ويسأل آخر وآخر لئلا يقع في الحيرة والارتباك ... هذا هو المطلوب ... أما إن كان عنده الاستعداد لمعرفة الراجح بنفسه فهذا لا يجوز له الاقتصار على السؤال؛ بل عليه أن يبحث هو عن الجواب في كلام أهل العلم، ومن خلال الأدلة، حتى يتوصل إلى ما يترجح عنده.
الشيخ الفوزان - التفقه في دين الله - سلسلة لقاءات الشيخ الفوزان (1/21، 22) - إعداد: عبدالكريم المقرن، وحمود المطر هل يفتي من ينقل عن العلماء بدون دليل ؟
أنا طالب علم، كثيرًا ما توجه إليّ المسائل عن أمر من الأمور؛ سواء في العبادة أو غيرها، فأعرف الإجابة جيدًا، إما عن سماع أحد المشايخ، أو في الفتاوى، ولكن يصعب عليّ استحضار الدليل الصحيح، فقد يصعب عليّ ترجيحه؛ فبماذا توجهون طلبة العلم في ذلك ؟
لا تُفْتِ إلا على بصيرة، وأرشدهم إلى غيرك، ممن تظن في البلد أنه خير منك، وأعلم بالحق، وإلا فقل: أمهلوني حتى أراجع الأدلة، وانظر في المسألة، فإذا اطمأننت إلى الصواب بالأدلة، فأفتهم بما ظهر لك من الحق.(2/35)
وأوصي المدرسين لأجل هذا السؤال وغيره: أن يعنوا بتوجيه الطلبة إلى هذا الأمر العظيم، وأن يحثوهم على التثبت في الأمور، وعدم العجلة في الفتوى، والجزم في المسائل إلا على بصيرة، وأن يكونوا قدوة لهم في ذلك بالتوقف عما يشكل، والوعد بالنظر فيه بعد يوم أو يومين، أو في الدرس الآتي، حتى يتعود الطالب ذلك من الأستاذ، بعدم العجلة في الفتيا والحكم، إلا بعد التثبت والوقوف على الدليل، والطمأنينة إلى أن الحق ما يقوله الأستاذ، ولا حرج أن يؤجل إلى وقت آخر حتى يراجع الدليل، وحتى يراجع كلام أهل العلم في ذلك.
فقد أفتى مالك رحمه الله في مسائل قليلة، وردّ مسائل كثيرة، قال: لا أدري. وهكذا غيره من أهل العلم.
فطالب العلم من مناقبه أن لا يعجل، وأن يقول: لا أدري فيما يجهل.
والمدرسون عليهم واجب عظيم، بأن يكونوا قدوة صالحة، في أخلاقهم وأعمالهم للطلبة، ومن الأخلاق الكريمة أن يعوَّد الطالب على كلمة: لا أدري، وتأجيل المسائل، حتى يفهم دليلها، وحتى يعرف حكمها، مع التحذير من الفتيا بغير علم، والجرأة عليها . . والله الموفق .
الشيخ ابن باز - مجلة البحوث الإسلامية (47)، ص (173 - 174) هل يشترط أن تكون الفتوى جماعية ؟
ما رأيكم في المقولة التي تقول: إن أمور العصر تعقدت وأصبحت متشابكة؛ لذلك لابد أن تخرج الفتيا من فريق متكامل يضم كافة المختصين بجوانب المشكلة أو الحالة ومن بينهم الفقيه ؟
إن الفتوى ينبغي أن تتركز على الأدلة الشرعية، وإذا صدرت الفتوى عن جماعة كانت أكمل وأفضل للوصول إلى الحق، لكن هذا لا يمنع العالم أن يفتي بما يعلمه من الشرع المطهر.
الشيخ ابن باز - مجلة البحوث الإسلامية عدد (32) ص (117)
أسباب اختلاف الأئمة الأربعة
ما سبب اختلاف الأئمة مالك والشافعي وأحمد بن حنبل رحمهم الله تعالى ؟(2/36)
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه.. وبعد: أسباب اختلاف الفقهاء الأئمة الأربعة وغيرهم كثيرة، وقد أُلِّف فيها كتب منها: (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) لشيخ الإسلام ابن تيمية، و(التمهيد في تخريج الفروع على الأصول) لعبدالرحيم الأسنوي، و(الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف) لوليّ الله الدهلوي، و(أسباب اختلاف الفقهاء) لعلي الخفيف، و(الإنصاف في التنبيه على الأسباب التي أوجبت الخلاف) لعبدالله بن سيد، و(بداية المجتهد) لابن رشد؛ فإنه يذكر في المسائل محل الوفاق ثم يذكر محل الخلاف ويبين منشأه، ومع ذلك نذكر لك بعض هذه الأسباب:-
1-…اشتراك اللفظ بين معنيين فأكثر؛ كالقروء في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ}[البَقَرَة، من الآية: 228] فالقروء تطلق على المحيض وعلى الأطهار؛ فذهب بعضهم إلى أن المطلقة تعتد بالأطهار، وذهب آخرون إلى أنها تعتد بالحيض، وكل له أدلة تعين المعنى الذي اختاره.
2-…تعارض الأدلة؛ فيختلف نظر الفقهاء في الترجيح أو الجمع بينها، مثل: حديث النهي عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وحديث نهي من دخل المسجد عن الجلوس حتى يصلي ركعتين تحية للمسجد؛ فاختلف الفقهاء في تطبيق ذلك على من دخل المسجد في وقت نهي عن الصلاة فيه، فمنهم من قدم أحاديث النهي عن الصلاة ومنهم من قدم حديث تحية المسجد، ولكل أدلة في ترجيح ما اختاره.
- ومنها: أن يبلغ الحديث أحدهم دون الآخر، ومنها: الاختلاف في النسخ. والفتوى لا تتسع لتفصيل مثل هذا فارجع إلى ما تقدم ذكره من الكتب إن كنت متعلماً لتستفيد منها.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (5/22)
حول اختلاف العلماء في الفتوى
متى يكون الخلاف في الدين معتبراً ؟ وهل يكون الخلاف في كل مسألة أم له مواضع معينة ؟ نرجو بيان ذلك .(2/37)
أولاً: اعلم أن خلاف علماء الأمة الإسلامية إذا كان صادراً عن اجتهاد فإنه لا يضر من لم يوفق للصواب؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ (1)، ولكن من تبين له الحق وجب عليه اتباعه بكل حال .
والاختلاف الذي يقع بين علماء الأمة الإسلامية لا يجوز أن يكون سبباً لاختلاف القلوب؛ لأن اختلاف القلوب يحصل فيه مفاسد عظيمة كبيرة - كما قال تعالى: {وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[الأنفال، من الآية: 46]، والخلاف المعتبر بين العلماء والذي ينقل ويذكر هو الخلاف الذي له حظ من النظر؛ أما خلاف العامة الذين لا يفهمون ولا يفقهون فلا اعتراف به . ولهذا يجب على العامي أن يرجع إلى أهل العلم - كما قال الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}[النّحل، من الآية: 43]، وأما قول السائل: هل يكون في كل مسألة ؟ فليس كذلك، الخلاف قد يكون في بعض المسائل، وبعض المسائل مجمع عليها ليس فيها خلاف - ولله الحمد. ولكن في بعض المسائل التي يختلف فيها الاجتهاد أو يكون بعض الناس أعلم من بعض في الاطلاع على نصوص الكتاب والسنة: هي التي يكون فيها الخلاف. أما المسائل الأصيلة الأصلية فإنها يقل فيها الخلاف .
الشيخ ابن عثيمين - فتوى عليها توقيعه
الموقف من الخلافات بين الأحزاب والجماعات
ما هو موقف المسلم من الخلافات المذهبية المنتشرة بين الأحزاب والجماعات ؟
الواجب عليه أن يلزم الحق الذي يدل عليه كتاب الله وسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأن يوالي على ذلك ويعادي على ذلك، وكل حزب أو مذهب يخالف الحق يجب عليه البراءة منه وعدم الموافقة عليه .
__________
(1) …البخاري (7352) .(2/38)
فدين الله واحد، وهو الصراط المستقيم، وهو عبادة الله وحده واتباع رسوله محمد عليه الصلاة والسلام.
فالواجب على كل مسلم أن يلزم هذا الحق، وأن يستقيم عليه؛ وهو طاعة الله واتباع شريعته التي جاء بها نبيه محمد عليه الصلاة والسلام، مع الإخلاص لله في ذلك، وعدم صرف شيء من العبادة لغيره سبحانه وتعالى، فكل مذهب يخالف ذلك وكل حزب لايدين بهذه العقيدة يجب أن يبتعد عنه، وأن يتبرأ منه، وأن يدعو أهله إلى الحق بالأدلة الشرعية، مع الرفق وتحري الأسلوب المفيد، ويبصرهم بالحق .
الشيخ ابن باز - مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (5/157، 158)
ما الموقف الصحيح من اختلاف العلماء ؟
أنا طالب في السنوات الأولى من كلية الشريعة، وكثيرًا ما يرد علينا مسائل مختلف فيها، وقد يكون الراجح في بعض هذه المسائل مخالفًا لبعض أقوال العلماء الآن، أو نأخذ المسائل ولكن لا شيء يرجح منها، فنصبح في حيرة من أمرنا؛ فماذا نفعل في حكم المسألة المختلف عليها أو عندما نُسأل من عامة الناس ؟ جزاكم الله خيرًا .
هذا السؤال الذي أورده السائل لا يحصل لطالب الشريعة فقط؛ بل هو عام لكل أحد، إذا رأى اختلاف العلماء حول فتوى فإنه يقف حيران؛ ولكن الحقيقة أن لا حيرة في ذلك؛ لأن الإنسان إذا اختلفت عليه الفتيا فإنه يتبع من يراه أقرب إلى الحق؛ لغزارة علمه، وقوة إيمانه، كما أن الإنسان إذا كان مريضًا ثم اختلف عليه طبيبان فإنه يأخذ بقول من يرى أنه أرجح لما وصفه له من دواء. وإن تساوى عنده الأمران؛ أي: لم يرجح أحد العالمين المختلفين؛ فقال بعض العلماء إنه يتبع القول (الأَشَدّ لأنه أَحْوَط)، وقال بعض العلماء: يتبع الأَيْسَر؛ لأنه الأصل في الشريعة الإسلامية، وقيل: يخير بين هذا وهذا.(2/39)
والراجح: أنه يتبع (الأيسر)؛ لأن هذا موافق ليسر الدين الإسلامي - لقول الله تبارك وتعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البَقَرَة، من الآية: 185]، وقوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}[الحَجّ، من الآية: 78]، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - يَسِّرُوا وَلا تُعَسِّرُوا (1)؛ ولأن الأصل براءة الذمة حتى يثبت ما يرفع هذا الأصل، وهذه القاعدة لمن لا يستطيع أن يتوصل إلى معرفة الحق بنفسه، فإن كان يستطيع ذلك كطالب العلم الذي يستطيع أن يقرأ ما قيل في هذه المسألة فيرجح ما يراه راجحًا بالأدلة الشرعية عنده؛ فإنه في هذه الحال لابد أن يبحث ويقرأ ليعرف ما هو أصح من هذه الأقوال التي اختلف فيها العلماء.
الشيخ ابن عثيمين - كتاب الدعوة (5)، ص (45 - 47)
وجوب رجوع المفتي عن خطئه
إذا سئل شخص عن مسألة فأفتى فيها، وبعد مدة تبيّن له أن ما أفتى به غير صحيح، فماذا عليه أن يفعل ؟
عليه أن يرجع إلى الصواب، ويفتي بالحق، ويقول أخطأت - كما قال عمر رضي الله عنه: (الحق قديم) (2)؛ فعليه أن يرجع إلى الصواب، ويفتي بالحق، ويقول: أخطأت في المسألة الأولى: أفتيت بكذا وكذا، ثم اتضح لي أنها خطأ، والصواب كذا وكذا .
ولا بأس عليه في ذلك؛ بل هذا هو الواجب عليه.
فالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو رأس المفتين - لما سأله الناس عن التلقيح؛ وهو تأبير النخل - قال: مَا أَظُنُّ يُغْنِي ذَلِكَ شَيْئًا ، ثم أخبروه بأنه يضره؛ فقال: إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنًّا فَلا تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ، وَلَكِنْ إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ اللهِ شَيْئًا فَخُذُوا بِهِ؛ فَإِنِّي لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ (3)، وأمرهم أن يرجعوا إلى التلقيح.
__________
(1) …البخاري (69) .
(2) …سنن الدارقطني (4/206، 207)، والبيهقي في «الكبرى» (20159، 20324).
(3) …مسلم (2361) بنحوه .(2/40)
كذلك عمر رضي الله عنه: أفتى بإسقاط الإخوة في مسألة المشرّكة(1)، ثم أفتى بالتشريك بناء على ما ترجح لديه في ذلك.
فالرجوع إلى ما يعتقد العالم أنه الصواب والحق، أمر معروف، وهو طريق أهل العلم والإيمان، ولا حرج في ذلك، ولا نقص، بل ذلك يدل على فضله، وقوة إيمانه، حيث رجع إلى الصواب، وترك الخطأ.
ولو قال بعض الناس، أو بعض الجهلة: إن هذا عيب، فهذا ليس بشيء، الصواب أنه فضل، وأنه منقبة وليس بنقص.
الشيخ ابن باز - مجلة البحوث الإسلامية (47)، ص (172 ، 173)
إذا سبَّبَ العمل بالفتوى ضررًا بغير حق .. فمن المسؤول ؟
إذا أخذ أحد عامة المسلمين بفتيا أحد العلماء المعتبرين في بلده، وعمل بمقتضاها وترتب على ذلك العمل أمر ما .. فهل يحق للقاضي مؤاخذته على ذلك العمل الذي كان معتمدًا فيه على فتوى العالم ؟
لابد أن ينظر في الأمر الذي ترتب على ذلك العمل؛ فإن كان يضر بالغير ويتأذى منه أحد(2) فإن العتاب على المفتي الذي تسرع بالفتوى بدون علم ونتج عن ذلك هذه المضرة، فالقاضي يؤاخذ المفتي؛ لأنه أفتى بغير تثبت، ويحذره من التسرع في الفتيا؛ لما في ذلك من المضرة ولو كان المفتي لم يلزم بالعمل بفتواه. وإن كان العامل أخطأ في العمل وخالف الفتوى وحصل ضرر على الغير(3) فالعتاب على المستفتي الذي غَيَّرَ الفتيا وخالف ما قال له المفتي. وإن كان ذلك الأمر لا يضر بأحد وإنما يبطل به العمل فلا مؤاخذة على المفتي ولا المستفتي؛ إلا أن العمل يبطل ويلزم إعادته إن كان واجباً .
الشيخ ابن جبرين - فتوى عليها توقيعه هل يجب العمل بفتوى المفتي ؟
إذا احتكمنا لمفتي - مثل مفتي الديار السعودية - في مسألة فقهية، ولم نطمئن لهذه الفتوى، فكل إنسان يخطئ ويصيب، فهل تعتبر هذه الفتوى حجة عليّ ؟ وإذا لم أعمل بها فهل أصبح في حكم العاصي ؟
__________
(1) …هي من مسائل علم الفرائض والمواريث.
(2) …أي: بغير حق.
(3) …هي من مسائل علم الفرائض والمواريث.(2/41)
إذا أراد شخص أن يسأل فإنه يسأل أوثق من يمكنه الحصول عليه من أهل العلم؛ فإذا أفتاه فإنه يعمل بالفتوى، إلا إذا كان طالب علم، وعلم أن هذه الفتوى تخالف نصاً من كتاب أو سنةً أو إجماعاً فإنه لا يعمل بها، وعليه أن يلتمس الحق بدليله.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (12/92)
حكم التنقل بين المذاهب الفقهية ؟
هل يجوز للمسلم أن ينتقل من مذهب لآخر ؟ مثل أن يتبع المذهب المالكي مرة، والمذهب الحنبلي مرة أخرى، ثم يعود إلى المالكي.
يجب على المسلم أن يعمل بما دل عليه الدليل، من الكتاب والسنة؛ سواء وافق المذهب الذي ينتسب إليه أو لم يوافقه؛ لقول الله عز وجل: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَومِ الآْخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}[النِّسَاء، من الآية: 59]. ولا يجوز له أن ينتقل من مذهب إلى مذهب لمجرد هواه؛ للآية المذكورة، ولقوله سبحانه: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ}[10] من سورة الشورى.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (12/96)
الباب الثالث
العلم والتعليم مكانة أهل العلم وفضلهم
ما هي مكانة وفضل أهل العلم في الإسلام ؟(2/42)
مكانة أهل العلم أعظم مكانة؛ لأنهم ورثوا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولهذا يجب عليهم من بيان العلم والدعوة إلى الله ما لا يجب على غيرهم، وهم في الأرض كالنجوم في السماء، يهدون الخلق الضالين التائهين ويبينون لهم الحق، ويحذرونهم من الشر، ولذلك كانوا في الأرض كالغيث يصيب الأرض القاحلة فتنبت بإذن الله . ويجب على أهل العلم من العمل والأخلاق والآداب ما لا يجب على غيرهم؛ لأنهم أسوة وقدوة فكانوا أحق الناس وأولى الناس بالتزام الشرع في آدابه وأخلاقه .
الشيخ ابن عثيمين - فتوى عليها توقيعه
وجوب النية الصحيحة لطلب العلم
مما يشاع بين طلاب العلم وخاصة في الكليات والمؤسسات العلمية قولهم: العلم ذهب مع أهله، وأنه لا يوجد أحد يتعلم في المؤسسات العلمية إلا من أجل الشهادات والدنيا، فبماذا يرد عليهم ؟ وما الحكم إذا اجتمع قصد الدنيا والشهادة مع نية طلب العلم لنفع نفسه ومجتمعه ؟
هذا الكلام ليس بصحيح، ولا ينبغي أن يقال هذا الكلام وأمثاله، «ومَنْ قال: هَلَكَ النَّاسُ فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ»(1).
ولكن ينبغي التشجيع والتحريض على طلب العلم، والتفرغ لذلك، والصبر والمصابرة على ذلك، وحسن الظن بطلبة العلم، إلا من علم منه خلاف ذلك.
ولما حضرت المَنِيَّةُ معاذًا رضي الله عنه - فيما يذكر - أوصى من حوله بطلب العلم، وقال: (إن العلم والإيمان، مكانهما، من أرادهما وجدهما) يعني: مكانهما في كتاب الله العظيم، وسنة رسوله الأمين - صلى الله عليه وسلم -، وإنما العالم يقبض بعلمه.. فالعلم يقبض بموت العلماء، لكن لا تزال - بحمد الله - طائفة على الحق منصورة.
__________
(1) …حديث نبوي؛ كما في «صحيح مسلم» (2623) وغيره.(2/43)
ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: إِنَّ اللهَ لا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤوسًا جُهَّالاً فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا(1).
وهذا هو الذي يخاف منه، يخاف أن يتقدم للإفتاء والتعليم الجهلة، فيَضلون ويُضلون، وهذا الكلام الذي يقال: ذهب العلم، ولم يبق إلا كذا وكذا، يخشى منه التثبيط لبعض الناس، وإن كان الحازم والبصير لا يثبطه ذلك؛ بل يدفعه إلى طلب العلم، حتى يسد الثغرة.
والفاهم المخلص، والصادق البصير بمثل هذا الكلام لا يثبطه ذلك؛ بل يتقدم ويجتهد، ويثابر ويتعلم ويسارع، لشدة الحاجة للعلم، وليسد الثغرة التي زعمها هؤلاء القائلون: إنه لم يبق أحد، والحاصل أنه وإن نقص العلم، وذهب أكثر أهله، فإنه ولله الحمد لا تزال طائفة على الحق منصورة . كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ(2).
فعلينا أن نجتهد في طلب العلم، وأن نشجّع عليه، وأن نحرص على سدّ الثغرة، والقيام بالواجب في مصرنا وغيره؛ عملاً بالأدلة الشرعية المرغبة في ذلك، وحرصًا على نفع المسلمين، وتعليمهم، كما ينبغي أن نشجع على الإخلاص، والصدق في طلب العلم.
__________
(1) …البخاري (100) .
(2) …مسلم (1290) .(2/44)
من أراد الشهادة ليتقوى بها على تبليغ العلم، والدعوة إلى الخير، فقد أحسن في ذلك، وإن أراد المال ليتقوى به، فلا بأس أن يدرس، ليتعلم وينال الشهادة، التي يستعين بها على نشر العلم، وأن يقبل منه هذا العلم، وأن يأخذ المال الذي يعينه على ذلك. فإنه لولا الله سبحانه ثم المال، لم يستطع الكثير من الناس التعلّم وتبليغ الدعوة، فالمال يساعد المسلم على طلب العلم، وعلى قضاء حاجته، وعلى تبليغه للناس، ولما ولي عمر رضي الله عنه أعمالاً، أعطاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليها مالاً، قال: أعطه من هو أفقر مني؛ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: خُذْهُ فَتَمَوَّلْهُ أَوْ تَصَدَّقْ بِهِ، وَمَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلا سَائِلٍ فَخُذْهُ، وَمَا لا فَلا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ(1).
وأعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - المؤلفة قلوبهم، ورغبهم حتى دخلوا في دين الله أفواجًا، ولو كان حرامًا لم يعطهم؛ بل أعطاهم قبل الفتح وبعده.
وفي يوم الفتح أعطى بعض الناس على مئة من الإبل، وكان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، عليه الصلاة والسلام؛ ترغيبًا في الإسلام ودعوة إليه.
وقد جعل الله سبحانه للمؤلفة قلوبهم حقًا في الزكاة؛ جعل في بيت المال حقًا لهم ولغيرهم من المدرسين والقضاة، وغيرهم من المسلمين، والله ولي التوفيق.
الشيخ ابن باز - مجلة البحوث (47)، ص (157 - 160)
البداية تكون بكتب السلف ثم بكتب المعاصرين
ما رأي فضيلتكم فيمن ينفّر من قراءة كتب الدعاة المعاصرين ويرى الاقتصار على كتب السلف الأخيار وأخذ المنهج منها ؟ ثم ما هي النظرة الصحيحة أو الجامعة لكتب السلف رحمهم الله، وكتب الدعاة المعاصرين والمفكرين ؟
__________
(1) …البخاري (1473)، ومسلم (1045) .(2/45)
أرى أن أخذ الدعوة من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فوق كل شيء.. وهذا رأينا جميعًا بلا شك.. ثم يلي ذلك ما ورد عن الخلفاء الراشدين وعن الصحابة وعن أئمة الإسلام فيمن سلف.
أما ما يتكلم به المتأخرون والمعاصرون فإنه يتناول أشياء حدثت هم بها أدرى، فإذا اتخذ الإنسان من كتبهم ما ينتفع به في هذه الناحية فقد أخذ بحظ وافر، ونحن نعلم أن المعاصرين إنما أخذوا ما أخذوا من العلم ممن سبق فلنأخذ نحن مما أخذوا منه .. ولكن أمورًا قد استجدت هم بها أبصر منا، ثم إنها لم تكن معلومة لدى السلف بأعيانها، ولهذا أرى أن يجمع الإنسان بين الحسنيين، فيعتمد أولاً على كتاب الله وسنّة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وثانيًا على كلام السلف الصالح من الخلفاء الراشدين والصحابة وأئمة المسلمين، ثم على ما كتبه المعاصرون الذين يكتبون عن أشياء حدثت في زمانهم لم تكن معلومة بأعيانها عند السلف.
الشيخ ابن عثيمين - كتاب الدعوة (5)، ص (65، 66)
حكم جمع الكتب دون قراءتها
أنا رجل - ولله الحمد - لدي العديد من الكتب النافعة والمفيدة والمراجع لكنني لا أقرؤها بل أختار منها البعض .. هل يلحقني إثم في جمع هذه الكتب عندي في البيت مع العلم أن بعض الناس يأخذون من عندي بعض الكتب يستفيدون منها ثم يرجعونها ؟
ليس على المسلم حرج في جمع الكتب المفيدة وحفظها لديه في مكتبة لمراجعتها والاستفادة منها، ولتقديمها لمن يزوره من أهل العلم ليستفيدوا منها، ولا حرج عليه إذا لم يراجع الكثير منها . أما إعارتها إلى الثقات الذين يستفيدون منها فذلك مشروع وقربى لله سبحانه؛ لما فيه من إعانة على تحصيل العلم؛ ولأن ذلك داخل في قوله سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِّرِّ وَالتَّقْوَى}[المَائدة: 2]، وفي قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ(1) .
__________
(1) …مسلم (2699) .(2/46)
الشيخ ابن باز - فتاوى هيئة كبار العلماء (2 /969)
واجب المُعلِّم والمُعلِّمة
ما الواجب على المعلم والمعلمة تجاه الطالب الذي يدرس تحت أيديهم ؟ الرجاء توجيه نصيحة لهم؛ لأن فيهم من يهتم بإنهاء المقرر فقط .
المشروع في حق المعلم والمعلمة أداء الأمانة في تعليم العلم، وأن ينويا بذلك وجه الله سبحانه وتعالى، والإحسان إلى المتعلمين، وأن يجتهدا غاية الاجتهاد في إيصال العلم إلى الطلبة بجميع الوسائل، وأن يجتهدا في توجيه الطلبة للبحث بأنفسهم حتى يكون لهم ملكة تعينهم على معرفة استنباط الأحكام من الأدلة والترجيح بينها.
وأما إتمام المقرر دون أن يكون راسخاً في أذهان الطلبة - فهذا وإن كان بعض الأساتذة يضطرون إليه لكون النظام يحتم ذلك - فإني أرى أن كون الطالب يفهم ويرسخ العلم في قلبه خير من مراعاة إتمام المقرر .
ولكن يجب على المعلم والمعلمة إذا رأيا أن المقرر طويل، وأنه لا يمكن إنهاؤه في المدة المقررة للدراسة ولا سيما مع كثرة الإجازات، فإن عليهما أن يرفعا الأمر للمسؤولين في تلك الجهة لدراسته، وأنا أعتقد أن الجهات المسؤولة لا تريد إلا الخير إن شاء الله، وأنها سوف تنظر بجد في هذه المشكلة التي تشغل بال كثير من الناس.
الشيخ ابن عثيمين - كتاب الدعوة (5) (2/59 - 60)
أسلوب الموجِّه التربوي مع المدرِّسين
بعض الموجهين يستعمل أسلوباً عنيفًا لاذعًا وحِدَّةً مع المدرس فيبدأ معه بذكر مَثَالِبِه(1)، ويجرحه ويسيء الكلام معه، ويتقصى كل سلبياته، وأحياناً يبالغ في ذلك، ثم يذكر إيجابيته ومحاسنه .. فهل هذا هو الأسلوب التربوي المفيد أم على العكس من ذلك ؟ نرجوا الإفاضة في الإجابة على هذا السؤال لأهميته.
__________
(1) …مَثَالِبه: أي عيوبه.(2/47)
الموجِّه هو الذي يتفقد أحوال المدرسين ويتابعهم في دروسهم ويأخذ فكرة عن كل واحد في الغالب، ولابد أن يكون عنده تعليمات من قبل الوزارة والرئاسة التي بعث من قبلها. ثم إن الموجه أحياناً يتمسك بطريقة واحدة ويرى أن على كل مدرس الالتزام بها والتقيد بما جاء في تلك التعليمات؛ فتراه يلاحظ على أكثر المدرسين ما رسمه في ذاكرته، وأرى أن هذا غير سديد؛ وذلك أن المدرس قد تدرَّب على العمل وفكر في طرق التعليم وباشر إلقاء الدروس مدة طويلة أو قصيرة، وعرف الأساليب المفيدة والوسائل التي توصل تلك المعلومات إلى أذهان الطلاب، وعرف كيف يجتذب أفهامهم ؟ وكيف يلفت انتباههم ؟ فالموجه عليه أن يشجعه على ما يستعمله من أسباب التفهيم، وأن يأخذ هذه الأفكار من المدرس ويرشد إليها الآخرين، وأن يبين له الملاحظات ويسأله عن عذره فيها، ويقبل اعتذاره إذا أخل بشيء من التعليمات العامة لسبب أو لمناسبة، وتكون تلك الملاحظات سراً بينه وبين المدرس؛ لكن إذا لاحظ أن من المدرسين من يتساهل كثيراً ولا يهتم بهذه الأمانة ولا يعمل بالتعليمات ويصر ويستمر على هذا الإهمال - فإن على الموجه أن يشدد في الإنكار عليه ويبين له الأخطاء التي ارتكبها وما أخل به من الواجبات. فمتى لم يتقبل فعلى الموجه أن يرشد مدير المدرسة إلى نصحه وتوجيهه أو السعى في نقله من هذا العمل إلى غيره؛ حتى تحصل الفائدة المطلوبة، والله أعلم.
الشيخ ابن جبرين - الأجوبة الفقهية على الأسئلة التعليمية والتربوية، ص (13) - إعداد: عبدالعزيز المسيند
حكم خروج المدير من العمل لأغراضه الشخصية
ما حكم خروج مدير المدرسة لغرض شخصي بدون أن ينسق مع مرجعه ؟(2/48)
لا يجوز له ذلك؛ إلا إذا أناب وكيلاً عنه ممن يوثق بعلمه وإيمانه وأمانته؛ حتى لا يختل العمل؛ وذلك أن المدير هو المرجع في ما يرد على المدرسة من الخطابات والطلبات، وهو مكلف بمراقبة المدرسين وتنظيمهم وملاحظة من تأخر أو أخل بعمله أو تخلف لعذر أو نحوه؛ فعليه الحضور أول الوقت، ثم عليه الحرص على الترتيب والتنظيم، وأن لا يخرج لغرض شخصي إلا بعد أن يوكل من فيه الكفاية من نائب أو وكيل أو مراقب أو مدرس متفرغ. وإن احتاج إلى غيبة طويلة فلا بد من إذن رسمي من مرجعه الذي يوكل غيره ليدير المدرسة وأهلها حتى يرجع من مغيبه، والله أعلم.
الشيخ ابن جبرين - الأجوبة الفقهية على الأسئلة التعليمية والتربوية، ص (27) - إعداد: عبدالعزيز المسيند
حكم استعمال المدرس الحاسب الآلي في أغراضه الشخصية
يوجد في بعض المدارس جهاز الحاسب الآلي «الكمبيوتر»؛ إلا أن بعض المدرسين يستعمله في أغراضه الخاصة والتي ليس لها علاقة بالعمل البتة .. فما حكم ذلك ؟
يتسامح في استعمال بعض الآلات والأدوات التي في المكاتب والمدارس الحكومية؛ إذا كان الاستعمال للحاجة ولا يؤثر على تلك الآلات والأجهزة: كآلة تصوير المستندات والأوراق وآلة النسخ وأبواك المكاتب والأقلام والمحابر؛ وذلك أنها لا تتأثر بالعمل اليسير من العامل؛ كاتصاله بأهله بواسطة الهاتف، وكذا كتابة خطاب وأخذ أوراق مظاريف للعادة.
فأما الحاسب الآلي فينظر في تأثره بهذا الاستعمال؛ فإن كان ذلك كثيراً بحيث يتحمل نفقة كثيرة في مصروفه في الكهرباء أو الأدوات - فلا يجوز هذا الاستعمال إلا بإذن المسؤول العام من تلك الإدارة. أما إن كانت تكلفته يسيره فإنه لا يضره ويكون مما يتسامح فيه كغيره من الأدوات الرخيصة، والله أعلم.
الشيخ ابن جبرين - الأجوبة الفقهية على الأسئلة التعليمية والتربوية، ص (63) - إعداد: عبدالعزيز المسيند
حكم الإسلام في التعليم المختلط(2/49)
ما هو موقف الإسلام من التعليم في جامعات بعض الدول الإسلامية ؟ حيث يوجد بها من الفجور والفسق والكفر الكثير؛ ففيها الفتيات العاريات تماماً والشباب المنحل المنحرف الضال، والاختلاط العلني وبشكل فاضح وفاحش لا يرضاه الإسلام بل يشجع ذلك هيئة التدريس في الجامعات، وبعض الكليات في هذه الجامعات لا يوجد بها حتى المسجد لكي يسجد فيه لله وحده، وفرض الزي الرسمي وهو زي المشركين من أوروبا، ولا يسمح لأي طالب بدخول الامتحان بدون هذا الزي - مثل القميص والعمامة؛ لأن هذا عندهم تأخر وجهل .. فما الحكم ؟
أولاً: تعلم العلوم النافعة من فروض الكفاية، فيجب على الأمة وخاصة ولاة أمورها أن يهيئوا جماعة منها رجالاً ونساء لتعلم ما تحتاج إليه من أنواع العلوم، وتيسر لهم طريقه حتى تنهض بالأمة في المحافظة على ثقافتها وعلاج مرضاها، وتجنبها مواطن الخطر، فإن تم ذلك برئت الذمة، ورجي الثواب، وإلا خشي وقوع البلاء، وحقت كلمة العذاب.
ثانياً: اختلاط الطلاب بالطالبات والمدرسين بالمدرسات في دور التعليم محرم؛ لما يفضي إليه من الفتنة وإثارة الشهوة والوقوع في الفاحشة، ويتضاعف الإثم، وتعظم الجريمة، إذا كشفت المدرسات أو التلميذات شيئاً من عوراتهن، أو لبسن ملابس شفافة تشف عما وراءها، أو لبسن ملابس ضيقة تحدد أعضاءهن، أو داعبن الطلاب أو الأساتذة ومزحن معهم أو نحو ذلك مما يفضي إلى انتهاك الحرمات والفوضى في الأعراض.(2/50)
فعلى ولاة الأمور أن يخصصوا للطلاب معاهد ومدارس وكليات وكذا الطالبات؛ محافظة على الدين، ومنعاً لانتهاك الحرمات والأعراض والفوضى في الحياة الجنسية. وبذلك يتمكن ذوو الغيرة والدين من الانتظام في سلك التعليم والتعلم دون حرج أو مضايقات. وإذا لم يقم ولاة الأمور بواجبهم، ولم يتم فصل الذكور عن الإناث في دور التعليم، ولا الأخذ على أيدي الكاسيات العاريات: لم يجز الانضمام في سلك هؤلاء إلا إذا رأى الشخص من نفسه القدرة على تقليل المنكر، وتخفيف الشر ببذل النصح والتعاون في ذلك مع أمثاله من الزملاء والأساتذة، وأمن على نفسه من الفتنة.
اللجنة الدائمة - فتاوى إسلامية، (3/103)
حكم التعليم المختلط وشروط التوبة
شاب يقول: إنه من أسرة غنية يدرس في مدرسة مختلطة؛ مما ساعده على إقامة علاقات شائنة مع الجنس الآخر، وقد غرق في المعاصي؛ فماذا يفعل حتى يقلع عما هو فيه ؟ وهل له من توبة ؟ وما شروط هذه التوبة ؟
في هذا السؤال مسألتان:
الأولى: ما ينبغي أن نوجهه للمسؤولين في الدول الإسلامية حيث مكّنوا شعوبهم من الدراسة في مدارس مختلطة؛ لأن هذا الوضع مخالف للشريعة الإسلامية وما ينبغي أن يكون عليه المسلمون.
وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: خَيْرُ صُفُوفِ النساءِ آخِرُها، وشَرُّها أَوَّلُها (1)؛ وذلك لأن الصف الأول قريب من الرجال، والصف الآخر بعيد منهم، فإذا كان التباعد بين الرجال والنساء وعدم الاختلاط بينهم مرغباً فيه حتى في أماكن العبادة: كالصلاة؛ التي يشعر المصلي بها بأنه بين يدي ربه بعيداً عما يتعلق بالدنيا، فما بالك إذا كان الاختلاط في المدارس ؟! أفلا يكون التباعد وترك الاختلاط أولى ؟! إن اختلاط الرجال بالنساء لفتنة كبرى زيّنها أعداؤنا حتى وقع فيها الكثير منا.
__________
(1) …مسلم (440) بزيادة في أوله.(2/51)
وفي صحيح البخاري(1): عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذا سَلَّم قام النساء حين يَقْضِي تَسْلِيمَهُ وهو يَمْكُثُ في مَقامِه يسيراً قبل أنْ يَقوم). قال(2): نرى - والله أعلم - أن ذلك كان لكي ينصرف النساء قبل أن يدركهن الرجال.
إن على المسؤولين في الدول الإسلامية أن يولوا هذا الأمر عنايتهم، وأن يحموا شعوبهم من أسباب الشر والفتنة؛ فإن الله تعالى سوف يسألهم عمن ولاهم عليه. وليعلموا أنهم متى أطاعوا الله تعالى وحكَّموا شرعه في كل قليل وكثير من أمورهم فإن الله تعالى سيجمع القلوب عليهم ويملؤها محبة ونصحاً لهم، وييسر لهم أمورهم وتدين لهم شعوبهم بالولاء والطاعة.
ولتفكر الأمة الإسلامية حكاماً ومحكومين بما حصل من الشر والفساد في ذلك الاختلاط، وأجلى مثال لذلك وأكبر شاهد ما ذكره هذا السائل من العلاقات الشائنة التي يحاول الآن التخلص من آثارها وآثامها.
إن فتنة الاختلاط يمكن القضاء عليها بصدق النية والعزيمة الأكيدة على الإصلاح؛ وذلك بإنشاء مدارس ومعاهد وكليات وجامعات تختص بالنساء ولا يشاركهن فيها الرجال.
__________
(1) …البخاري (837، 849، 850، 870).
(2) …القائل هو: ابن شهاب الزهري رحمه الله.(2/52)
وإذا كان النساء شقائق الرجال فلهن الحق في تعلم ما ينفعهن كما الرجال، لكن لهم علينا أن يكون حقل تعليمهن في منأى عن حقل تعليم الرجال، وفي صحيح البخاري: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (جاءت امرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله، ذَهَب الرجال بِحَدِيثِكَ؛ فَاجْعَلْ لنا مِنْ نَفْسِكَ يوماً نَأْتِيَكَ فيه تُعَلِّمُنَا مما عَلَّمَك الله، قال: «اِجْتَمِعْنَ في يومِ كَذَا وكَذَا في مكانِ كَذَا وكَذَا»؛ فاجْتَمَعْنَ فأتاهُنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعلَّمَهُنّ مما علَّمه الله)(1). الحديث. وهو ظاهر في إفراد النساء للتعليم في مكان خاص؛ إذ لم يقل لهن: ألا تحضرن مع الرجال. أسأل الله تعالى أن يوفق المسلمين عموماً للسير على ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه؛ لينالوا بذلك العزة والكرامة في الدنيا والآخرة.
أما المسألة الثانية: فهي سؤال السائل الذي ذكر عن نفسه أنه غارق في المعاصي بإقامة العلاقات الشائنة بالجنس الآخر، ماذا يفعل وهل له من توبة وما شروطها، فإني أبشره أن باب التوبة مفتوح لكل تائب، وأن الله يحب التوابين ويغفر الذنوب جميعاً لمن تاب منها؛ قال الله تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ *}[الزُّمَر].
__________
(1) …البخاري (730)، وأطرافه في (101)، ومسلم (2633).(2/53)
فإذا تبت عن هذا العمل الذي جرى منك فإن الله تعالى يبدّل سيئاتك حسنات، يقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا *يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا *إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا *وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا *}[الفُرقان].
وأما شروط التوبة فهي خمس:
الشرط الأول: أن تكون التوبة خالصة لله عز وجل؛ لا رياء فيها ولا خشية أحد من المخلوقين، وإنما تكون ابتغاء مرضاة الله تعالى لأن كل عمل يتقرب به الإنسان إلى ربه غير مخلص له فيه فإنه حابط باطل، قال الله تعالى في الحديث القدسي: أنا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عن الشِّرك؛ مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ فيهِ أحداً غيرِي تَرَكْتُهُ وشِرْكَه(1).
والشرط الثاني: أن يندم على ما فعله من الذنب ويتأثر، ويرى نفسه خاطئاً في ذلك حتى يشعر أنه محتاج لمغفرة الله وعفوه.
الشرط الثالث: الإقلاع عن الذنب إن كان متلبساً به؛ لأنه لا توبة مع الإصرار على الذنب، فلو قال المذنب: إني تائب من الذنب، وهو يمارسه: لعُدَّ ذلك من الاستهزاء بالله عز وجل. إنك لو خاطبت أحداً من المخلوقين وقلت له: إنني نادم على ما بدر مني لك من سوء الأدب - وأنت تمارس سوء الأدب معه - فكأنك تستهزئ به، والرب عز وجل أعظم وأجلّ من أن تدّعي أنك تبت من معصيته، وأنت مصرٌّ عليها.
الشرط الرابع: العزم على ألا يعود إلى المعصية في المستقبل.
__________
(1) …مسلم (2985).(2/54)
الشرط الخامس: أن تكون التوبة في وقتها الذي تقبل فيه من التائب؛ بأن تكون قبل أن يعاين الإنسان الموت وقبل أن تطلع الشمس من مغربها؛ فإن كانت بعد طلوع الشمس من مغربها لن تنفع؛ لقوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلاَئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ *}[الأنعَام]. وهذا البعض هو طلوع الشمس من مغربها، كذلك عند حضور الموت؛ لأن الله تعالى قال: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآْنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا *}[النِّسَاء].
هذه الشروط الخمسة إن تحققت فيك فإن توبتك مقبولة؛ إن شاء الله.
الشيخ ابن عثيمين - فتاوى إسلامية، (3/99)
الرد على دعاة التعليم المختلط
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد:
فقد اطلعتُ على ما نشرته جريدة السياسة الصادرة يوم 24/7/1404هـ بعددها (5644) منسوباً إلى مدير جامعة صنعاء: عبدالعزيز المقالح - الذي زعم فيه أن المطالبة بعزل الطالبات عن الطلاب مخالفة للشريعة، وقد استدل على جواز الاختلاط: بأن المسلمين من عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - كانوا يؤدون الصلاة في مسجد واحد، الرجل والمرأة وقال: (ولذلك فإن التعليم لا بدّ أن يكون في مكان واحد)، وقد استغربت صدور هذا الكلام من مدير لجامعة إسلامية في بلد إسلامي يُطلب منه أن يوجه شعبه من الرجال والنساء إلى ما فيه السعادة والنجاة في الدنيا والآخرة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله.(2/55)
ولا شك أن هذا الكلام فيه جناية عظيمة على الشريعة الإسلامية؛ لأن الشريعة لم تدع إلى الاختلاط حتى تكون المطالبة بمنعه مخالفة لها، بل هي تمنعه وتشدد في ذلك - كما قال الله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُْولَى}[الأحزَاب: 33]، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَِزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا *}[الأحزَاب]، وقال سبحانه: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زَينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ولاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ}[النُّور، من الآية: 31] إلى أن قال سبحانه: {وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[النُّور، من الآية: 31].(2/56)
وقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ}[الأحزَاب: 53]، وفي هذه الآيات الكريمات الدلالة الظاهرة على شرعية لزوم النساء لبيوتهن حذراً من الفتنة بهن، إلا من حاجة تدعو إلى الخروج، ثم حذرهن - سبحانه - من التبرج تبرج الجاهلية، وهو إظهار محاسنهن ومفاتنهن بين الرجال، وقد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: ما تركتُ بعدي فتنةً أضرَّ على الرجال من النساء (1) متفق عليه من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه، وخرجه مسلم في صحيحه: عن أسامة وسعيد ابن زيد بن عمرو بن نفيل رضي الله عنهما جميعاً، وفي صحيح مسلم: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إنَّ الدنيا حُلْوَةٌ خَضِرَة وإنَّ الله مُسْتَخْلِفَكُم فيها فنَاظِرٌ كَيْفَ تعملون، فَاتَّقُوا الدنيا واتقوا النساءَ، فإنَّ أَوَّلَ فِتْنَةَ بني إِسرائيلَ كانت في النِّساء(2). ولقد صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن الفتنة بهن عظيمة، ولاسيما في هذا العصر الذي خلع فيه أكثرهن الحجاب، وتبرجن فيه تبرج الجاهلية، وكثرت بسبب ذلك الفواحش والمنكرات وعزوف الكثير من الشباب والفتيات عما شرع الله من الزواج في كثير من البلاد، وقد بيَّن الله سبحانه أن الحجاب أطهر لقلوب الجميع؛ فدلَّ ذلك على أن زواله أقرب إلى نجاسة قلوب الجميع؛ وانحرافهم عن طريق الحق.
__________
(1) …البخاري (5096)، ومسلم (2740، 2741).
(2) …مسلم (2742)، وفيه: (فينظر) بدل (فناظر).(2/57)
ومعلوم أن جلوس الطالبة مع الطالب في كرسي الدراسة من أعظم أسباب الفتنة، ومن أسباب ترك الحجاب الذي شرعه الله للمؤمنات ونهاهن عن أن يبدين زينتهن لغير من بيّنهم الله سبحانه في الآية السابقة من سورة النور، ومن زعم أن الأمر بالحجاب خاص بأمهات المؤمنين فقد أَبْعَدَ النُّجْعَة(1)، وخالف الأدلة الكثيرة الدالة على التعميم، وخالف قوله تعالى: {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ}[الأحزَاب، من الآية: 53]، فإنه لا يجوز أن يقال: إن الحجاب أطهر لقلوب أمهات المؤمنين ورجال الصحابة دون من بعدهم، ولا شك أن من بعدهم أحوج إلى الحجاب من أمهات المؤمنين ورجال الصحابة رضي الله عنهم؛ لما بينهم من الفرق العظيم في قوة الإيمان والبصيرة بالحق؛ فإن الصحابة رضي الله عنهم رجالاً ونساء ومنهن أمهات المؤمنين هم خير الناس بعد الأنبياء وأفضل القرون بنص الرسول - صلى الله عليه وسلم - المخرَّج في الصحيحين. فإذا كان الحجاب أطهر لقلوبهم فمن بعدهم أحوج إلى هذه الطهارة، وأشد افتقاراً إليها ممن قبلهم، ولأن النصوص الواردة في الكتاب والسنة لا يجوز أن يخص بها أحد من الأمة إلا بدليل صحيح يدل على التخصيص؛ فهي عامة لجميع الأمة في عهده - صلى الله عليه وسلم - وبعده إلى يوم القيامة، لأنه - سبحانه - بعث رسوله - صلى الله عليه وسلم - إلى الثقلين في عصره وبعده إلى يوم القيامة - كما قال عز وجل: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}[الأعرَاف، من الآية: 158]، وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا}[سَبَإ، من الآية: 28]. وهكذا القرآن الكريم لم ينزل لأهل عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما
__________
(1) …النُّجْعَة في الأصل: الذهاب في طلب الكلإ ومساقط الغيث. ثم استعملت - كما في هذا الموضع وأمثاله - فيمن أخطأ وذهب في تعليله أو استنباطه أو زعمه مذهبًا بعيدًا.(2/58)
أنزل لهم ولمن بعدهم ممن يبلغه كتاب الله - كما قال تعالى: {هَذَا بَلاَغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الأَْلْبَابِ *}[إبراهيم]. وقال عز وجل: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}[19: الأنعَام]. وكان النساء في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يختلطن بالرجال - لا في المساجد ولا في الأسواق - الاختلاط الذي ينهى عنه المصلحون اليوم ويرشد القرآن والسنة وعلماء الأمة إلى التحذير منه حذراً من فتنته؛ بل كان النساء في مسجده - صلى الله عليه وسلم - يصلين خلف الرجال في صفوف متأخرة عن الرجال، وكان يقول - صلى الله عليه وسلم -: خيرُ صُفُوفِ الرجال أوَّلُها وشرُّها آخرُها، وخير صفوف النساء آخرُها وشرُّها أولها (1) حذراً من افتتان آخر صفوف الرجال بأول صفوف النساء. وكان الرجال في عهده - صلى الله عليه وسلم - يؤمرون بالتريث في الانصراف حتى يمضي النساء ويخرجن من المسجد لئلا يختلط بهن الرجال في أبواب المساجد مع ما هم عليه جميعاً رجالاً ونساء من الإيمان والتقوى؛ فكيف بحال من بعدهم ؟! وكانت النساء ينهين أن يتحققن الطريق ويؤمرن بلزوم حافات الطريق حذراً من الاحتكاك بالرجال، والفتنة بمماسّة بعضهم بعضاً عند السير في الطريق، وأمر الله سبحانه نساء المؤمنين أن يدنين عليهن من جلابيبهن حتى يغطين به زينتهن حذراً من الفتنة بهن، ونهاهنّ سبحانه عن إبداء زينتهن لغير من سمى الله سبحانه في كتابه العظيم؛ حسماً لأسباب الفتنة وترغيباً في أسباب العفة والبعد عن مظاهر الفساد والاختلاط؛ فكيف يسوغ لمدير جامعة صنعاء - هداه الله وألهمه رشده بعد هذا كله - أن يدعو إلى الاختلاط ويزعم أن الإسلام دعا إليه، وأن الحرم الجامعي كالمسجد، وأن ساعات الدراسة كساعات الصلاة ؟! ومعلوم أن الفرق عظيم، والبون شاسع،
__________
(1) …مسلم (440) بزيادة في أوله.(2/59)
لمن عقل من الله أمره ونهيه، وعرف حكمته - سبحانه - في تشريعه لعباده، وما بين في كتابه العظيم من الأحكام في شأن الرجال والنساء. وكيف يجوز لمؤمن أن يقول إن جلوس الطالبة بحذاء الطالب في كرسي الدراسة مثل جلوسها مع أخواتها في صفوفهن خلف الرجال! هذا لا يقوله من له أدنى مسكة من إيمان وبصيره يعقل ما يقول، هذا لو سلمنا وجود الحجاب الشرعي، فكيف إذا كان جلوسها مع الطالب في كرسي الدراسة، مع التبرج وإظهار المحاسن والنظرات الفاتنة والأحاديث التي تجر إلى فتنة ؟! فالله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله، قال الله عز وجل: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَْبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}[الحَجّ، من الآية: 46].(2/60)
- أما قوله: (والواقع أن المسلمين منذ عهد الرسول كانوا يؤدون الصلاة في مسجد واحد الرجل والمرأة، ولذلك فإن التعليم لا بد أن يكون في مكان واحد) فالجواب عن ذلك: أن يقال هذا صحيح، لكن كان النساء في مؤخرة المساجد مع الحجاب والعناية والتحفظ مما يسبب الفتنة، والرجال في مقدم المسجد، فيسمعن المواعظ والخطب ويشاركن في الصلاة ويتعلمن أحكام دينهن مما يسمعن ويشاهدن، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - في يوم العيد يذهب إليهن بعد ما يعظ الرجال فيعظهن ويذكرهن لبعدهن عن سماع خطبته، وهذا كله لا إشكال فيه ولا حرج فيه؛ وإنما الإشكال في قول مدير جامعة صنعاء هداه الله وأصلح قلبه وفّقهه في دينه: (ولذلك فإن التعليم لا بد أن يكون في مكان واحد)؛ فكيف يجوز له أن يشبه التعليم في عصرنا بصلاة النساء خلف الرجال في مسجد واحد، مع أن الفرق شاسع بين واقع التعليم المعروف اليوم وبين واقع صلاة النساء خلف الرجال في عهده - صلى الله عليه وسلم - ؟! ولهذا دعا المصلحون إلى إفراد النساء عن الرجال في دور التعليم، وأن يكنّ على حدة والشباب على حدة؛ حتى يتمكنَّ من تلقي العلم من المدرسات بكل راحة من غير حجاب ولا مشقة؛ لأن زمن التعليم يطول بخلاف زمن الصلاة، ولأن تلقي العلوم من المدرسات في محل خاص أصون للجميع وأبعد لهن من أسباب الفتنة، وأسلم للشباب من الفتنة بهن، ولأن انفراد الشباب في دور التعليم عن الفتيات مع كونه أسلم لهم من الفتنة فهو أقرب إلى عنايتهم بدروسهم وشغلهم بها، وحسن الاستماع إلى الأساتذة وتلقي العلم عنهم بعيدين عن ملاحظة الفتيات والانشغال بهن، وتبادل النظرات المسمومة والكلمات الداعية إلى الفجور.
- وأما زعمه - أصلحه الله - أن الدعوة إلى عزل الطالبات عن الطلبة تزمّت ومخالفة للشريعة، فهي دعوى غير مسلّمة؛ بل ذلك هو عين النصح لله ولعباده والحيطة لدينه والعمل بما سبق من الآيات القرآنية والحديثين الشريفين.(2/61)
ونصيحتي لمدير جامعة صنعاء أن يتقي الله عز وجل وأن يتوب إليه - سبحانه - مما صدر منه، وأن يرجع إلى الصواب والحق؛ فإن الرجوع إلى ذلك هو عين الفضيلة والدليل على تحري طالب العلم للحق والإنصاف. والله المسؤول - سبحانه - أن يهدينا جميعاً سبيل الرشاد، وأن يعيذنا وسائر المسلمين من القول عليه بغير علم، ومن مضلات الفتن ونزغات الشيطان، كما أسأله سبحانه أن يوفق علماء المسلمين وقادتهم في كل مكان لما فيه صلاح البلاد والعباد في المعاش والمعاد، وأن يهدي الجميع صراطه المستقيم؛ إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
الشيخ ابن باز - فتاوى إسلامية (3/94)
حكم الالتحاق بالجامعات المختلطة للدعوة إلى اللّه
هل يجوز للرجل أن يدرس في جامعة يختلط فيها الرجال والنساء في قاعة واحدة علماً بأن الطالب له دور في الدعوة إلى الله ؟
الذي أراه أنه لا يجوز للإنسان رجلاً كان أو امرأة أن يدرس بمدارس مختلطة؛ وذلك لما فيه من الخطر العظيم على عفته ونزاهته وأخلاقه؛ فإن الإنسان مهما كان من النزاهة والأخلاق والبراءة إذا كان إلى جانبه في الكرسي الذي هو فيه امرأة - ولا سيما إذا كانت جميلة ومتبرجة - لا يكاد يسلم من الفتنة والشر. وكل ما أدى إلى الفتنة والشر فإنه حرام ولا يجوز. فنسأل الله - سبحانه وتعالى - لإخواننا المسلمين أن يعصمهم من مثل هذه الأمور التي لا تعود إلى شبابهم إلا بالشر والفتنة والفساد. حتى وإن لم يجد إلا هذه الجامعة يترك الدراسة إلى بلد آخر ليس فيه هذا الاختلاط، فأنا لا أرى جواز هذا وربما غيري يرى شيئاً آخر.
الشيخ ابن عثيمين - فتاوى إسلامية (3/103)
حكم التدريس في المدارس المختلطة
هل الأستاذ الذي يدرّس في قسم مختلط بنات وذكور أو بنات فقط ولكنهن في سن المراهقة يأثم إذا نظر إليهن ؟(2/62)
يجب على الرجل أن يغض بصره عن النظر إلى النساء؛ قال تعالى {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ *}[النُّور]، وأخرج الإمام مسلم وأبوداود وغيرهما: عن جرير ابن عبدالله رضي الله عنه قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نظر الفَجْأَة فقال: اِصْرِفْ نَظَرَك (1)، واللفظ لأبي داود. ولا يجوز الاختلاط بين الذكور والإناث في التعليم؛ لأن ذلك من وسائل وقوع الفاحشة بينهم.
اللجنة الدائمة - فتاوى إسلامية، (3/106)
خطورة تعليم النساء للبنين في المرحلة الابتدائية
لسماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله :
__________
(1) …مسلم (2159)، وأبو داود (2148).(2/63)
اطلعتُ على ما نشرته صحيفة المدينة عدد (3898) وتاريخ 30/2/1397هـ بقلم من سمت نفسها ((نورة بنت .... )) تحت عنوان (وجهاً لوجه)، وخلاصة القول: أن نورة المذكورة ضمها مجلس مع جماعة من النساء بحضرة عميدة كلية التربية بجدة فائزة الدباغ ونسبت نورة المذكورة إلى فائزة استغرابها عدم قيام المعلمات بتعليم أولادنا الذكور في المرحلة الابتدائية ولو إلى الصف الخامس، وأيدتها نورة المذكورة للأسباب المنوه عنها في مقالها، وإني مع شكري لفائزة ونورة وزميلاتهما على اهتمامهن بموضوع تعليم أولادنا الصغار وحرصهن على مصلحتهم - أرى من واجبي التنبيه على ما في هذا الاقتراح من الأضرار والعواقب الوخيمة .. وذلك أن تولي النساء لتعليم الصبيان في المرحلة الابتدائية يفضي إلى اختلاطهن بالمراهقين والبالغين من الأولاد الذكور؛ لأن بعض الأولاد لا يلتحق بالمرحلة الابتدائية إلا وهو مراهق وقد يكون بعضهم بالغاً، ولأن الصبي إذا بلغ العشر يعتبر مراهقاً ويميل بطبعه إلى النساء، لأن مثله يمكن أن يتزوج ويفعل ما يفعله الرجال. وهناك أمر آخر وهو أن تعليم النساء للصبيان في المرحلة الابتدائية يفضي إلى الاختلاط ثم يمتد ذلك إلى المراحل الأخرى، فهو فتح لباب الاختلاط في جميع المراحل بلا شك، ومعلوم ما يترتب على اختلاط التعليم من المفاسد الكثيرة والعواقب الوخيمة التي أدركها من فعل هذا النوع من التعليم في البلاد الأخرى. فكل من له أدنى علم بالأدلة الشرعية وبواقع الأمة في هذا العصر من ذوي البصيرة الإسلامية على بنينا وبناتنا يدرك ذلك بلا شك، وأعتقد أن هذا الاقتراح مما ألقاه الشيطان أو بعض نوابه على لسان فائزة ونورة المذكورتين وهو بلا شك مما يسر أعداءنا وأعداء الإسلام ومما يدعون إليه سراً وجهراً.(2/64)
ولذا فإني أرى أن من الواجب قفل هذا الباب بغاية الإحكام وأن يبقى أولادنا الذكور تحت تعليم الرجال في جميع المراحل. كما يبقى تعليم بناتنا تحت تعليم المعلمات من النساء في جميع المراحل؛ وبذلك نحتاط لديننا وبنينا وبناتنا، ونقطع خط الرجعة على أعدائنا. وحسبنا من المعلمات المحترمات أن يبذلن وسعهن، بكل إخلاص وصدق وصبر في تعليم بناتنا وعلى الرجال أن يقوموا بكل إخلاص وصدق وصبر على تعليم أبنائنا في جميع المراحل. ومن المعلوم أن الرجال أصبر على تعليم البنين وأقوى عليه وأفرغ له من المعلمات في جميع مراحل التعليم، كما أن من المعلوم أن البنين في المرحلة الابتدائية وما فوقها يهابون المعلم الذكر ويحترمونه ويصغون إلى ما يقول أكثر وأكمل مما لو كان القائم بالتعليم من النساء؛ مع ما في ذلك كله من تربية البنين في هذه المرحلة على أخلاق الرجال وشهامتهم وصبرهم وقوتهم، وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: مُرُوا أولادَكُم بالصلاة لِسَبْعٍ، واضْرِبُوهُم عليها لِعَشْر، وفرِّقُوا بينهم في المَضَاجِع (1) [رواه أحمد]. وهذا الحديث الشريف يدل على ما ذكرناه من الخطر العظيم في اختلاط البنين والبنات في جميع المراحل. والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة وواقع الأمة كثيرة لا نرى ذكرها هنا طلباً للاختصار. وفي علم حكومتنا وفقها الله وعلم معالي وزير المعارف وعلم سماحة الرئيس العام لتعليم البنات وحكمتهم جميعاً وفقهم الله ما يغني عن البسط في هذا المقام. وأسأل الله أن يوفقنا لكل ما فيه صلاح الأمة ونجاتها وصلاحنا، وصلاح شبابنا وفتياتنا وسعادتهم في الدنيا والآخرة؛ إنه سميع قريب. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
__________
(1) …أحمد (2/180، 187)، وابن أبي شيبة في «مصنفه» (3482)، وأبو داوود (495)، والحاكم 1/197 (708). ووصفه الألباني في "صحيح أبي داوود" (466) بالحسن والصحة.(2/65)
الشيخ ابن باز - فتاوى إسلامية، (3/106) حكم فتح المدارس الأجنبية(1) في بلاد المسلمين
الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده؛ نبينا محمد وعلى آله وصحبه .. وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما ورد إليها من كتابات وأسئلة واستفسارات حول ظاهرة شيوع المدارس والكليات الأجنبية في بلاد المسلمين؛ والمراد بها: تلك المدارس التي أسست على غير تقوى من الله ورضوان؛ وإنما أسست على مناهج إفرنجية لا تمت إلى الإسلام ولغته وتاريخه بصلة.
ولا يخفى على كل مسلم نوّر الله بصيرته شدة عداوة اليهود والنصارى للمسلمين وأنهم لا يزالون يكيدون للإسلام وأهله ليلا ونهاراً، ويعملون الخطط والشباك للوقعية بالمسلمين وإخراجهم من دينهم الحق إلى شعب الغواية والضلال !! فصارعوا المسلمين بالغزو المسلّح أحقابًا من الزمن، ثم أخذوا يدسون الشبهات على العقول المسلمة في عقيدتهم وقرآنهم ونبيهم؛ وهو ما اصطلح عليه بالغزو الفكري أو الثقافي حتى آلت النوبة إلى طعن المسلمين في أجيالهم وعقولهم صراحة عن طريق فتح المدارس والكليات ذات الصبغة الإلحادية من جهة والإباحية من جهة أخرى، فنشطوا في العناية بها شكلا ومضموناً لجذب عدد أكبر من عامة المسلمين لإضلالهم وإغوائهم وجدّوا في تكثيرها والدعاية لها حتى أصبح لها في كل بلد إسلامي منارة وصوت وتخرج فيها من أولاد المسلمين ذكوراً وإناثًا ما تتجرع الأمة بسببهم أصناف الانحلال العقدي والأخلاقي والسعي في قذف الأمة في محاضن أعدائها وحسبنا الله ونعم الوكيل، وقد قام ثلة من علماء الأقطار الإسلامية - شكر الله سعيهم - في الشام ومصر والجزيرة العربية وغيرها ببيان خطر هذه المدارس على المسلمين وأنها امتداد للهجمات الشرسة من أعدائهم للقضاء على الإسلام في قلوب المسلمين وحياتهم.
__________
(1) …وهي المسماة بالمدارس العالمية.(2/66)
وامتداداً لتلك الجهود المباركة من علماء الأمة فإن اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء تقرر ما يلي:
أولاً: فتح المدارس والكليات الأجنبية في بلاد المسلمين وسيلة من وسائل الغزو المنظم ضد المسلمين من قبل أعدائهم لا سيما «المنصّرون» وأنها خطة خبيثة كشف عن حقيقتها الغيورون على مصالح هذه الأمة، وسبق أن صدر من هذه اللجنة فتوى برقم (20096) وتاريخ 22/12/1418هـ في التحذير من وسائل التنصير ومنها: فتح المدارس الأجنبية في بلاد المسلمين.
ثانيًا: بناء على ما تقدم فإنه لا يجوز للمسلمين فتح المدارس والكليات الأجنبية ولا تشجيعها ولا الرضا بها ولا إدخال أولاد المسلمين فيها؛ لأنها من وسائل الهدم والتدمير للعقيدة الإسلامية والأخلاق السوية، وهذا ضرر ظاهر وفساد محقق يجب دفعه وسد الذرائع الموصلة إليه، ويزداد الأمر تحريماً فتح هذه المدارس في جزيرة العرب؛ لما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: لا يَجْتَمِعُ دِينَانِ في جَزِيرَة العَرَب ،(1) ولأنه - صلى الله عليه وسلم - أوصى بإخراج الكفار منها(2).
ثالثاً: لا يجوز لمسلم بناء ولا تأجير الأماكن والمحلات للمدارس والكليات الأجنبية؛ لأن ذلك من التعاون على الإثم والعدوان، والله عز وجل يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِّرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِْثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[المَائدة، من الآية: 2]، وسبق أن صدر من هذه اللجنة فتوى برقم (20262) وتاريخ 3/3/1419هـ تقضي بتحريم ذلك.
__________
(1) …«موطأ مالك» 2/892 (1584).
(2) …البخاري (3053، 3168، 4431)، ومسلم (1637).(2/67)
رابعًا: يجب على جميع المسلمين رعاةً ورعيةً العناية بتعليم الأولاد - ذكوراً وإناثًا - الإسلام الحق عقيدةً وأحكامًا وأخلاقًا وأدباً، ولا يجوز تفريغ برامج التربية والتعليم من ذلك، ولا مزاحمة دين الإسلام بغيره من العقائد والمذاهب والآراء الباطلة.
خامساً: ليعلم كل مسلم استرعاه الله رعية: أن الله عز وجل سيسأله عن هذه الأمانة التي حملها؛ فإن كان أداها على الوجه الأكمل ونصح لها فليحمد الله، وإن كان غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه، قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ *}[الأنفَال]، وقال جل شأنه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}[التّحْريم: 6]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: كُلُّكُم رَاعٍ وكُلُّكُم مَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِه (1) ، وقال أيضاً عليه الصلاة والسلام: ما مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعَيهِ الله رَعِيَّةً، يموتُ يومَ يموتُ وهُو غاشٌ لِرَعِيَّتِهِ إلا حَرَّم اللهُ عليهِ الجنة(2).
نسال الله عز وجل أن يصلح أحوال المسلمين، وأن يبطل كيد الكائدين، وأن يتوفانا مسلمين؛ إنه على كل شيء قدير، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء كتاب (فتاوى وبيانات مهمة) ص(29) حكم الغش في اختبار اللغة الإنجليزية
هل يجوز الغش في الاختبارات وخصوصاً في مادة اللغة الإنجليزية التي لا فائدة منها للطلاب ؟
__________
(1) …البخاري (893)، ومسلم (1829).
(2) …مسلم (142)، وبنحوه: البخاري (7150).(2/68)
لا يجوز الغش في الامتحانات؛ لأنه غش؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا(1). وفيه ضرر عمومي للأمة كلها؛ لأن الطلبة لو اعتادوا الغش كان مستواهم العلمي ضعيفاً، وأصبحت الأمة غير ذات ثقافة ومحتاجة إلى غيرها؛ ولأصبحت حياة الأمة ليست حياة جد، ولا فرق في هذا بين اللغة الإنجليزية وغيرها؛ لأن كل مادة من المنهج قد طولب بها الدارس.
وقول السائل إنه لا فائدة منها ليس صحيحاً على وجه الإطلاق؛ بل قد يكون منها فائدة عظيمة؛ أرأيت لو كنت تريد أن تدعو إلى الإسلام قوماً لا يعرفون إلا اللغة الإنجليزية .. أفلا تكون هنا فائدة اللغة الإنجليزية عظيمة جداً ؟! وما أكثر المواقف التي نتمنى أن يكون معنا فيها لغة نستطيع أن نتفاهم مع مخاطبينا بها.
الشيخ ابن عثيمين - كتاب الدعوة (5) - (2/61)
حكم تسهيل نجاح الطلاب غير المستحقين لذلك
بعض مدراء المدارس يحرص على أن تظهر نتيجة مدرسته في الامتحان النهائي جيدة بأي طريقة كانت؛ حتى تظهر سمعة المدرسة بين المدارس. فإذا أكمل كثير من الطلاب ورسب بعضهم ضاق به ذرعاً؛ فنجده يتودد المدرس ويلاحقه بل ويضغط عليه أحياناً ليساعد الطالب المكمل أو الراسب بدرجة أو أكثر؛ علماً بأن ذلك الطالب المكمل أو الراسب لا يستحق ولا نصف درجة إطلاقاً .. فهل يجوز للمدير أن يتخذ ذلك الأسلوب مع المدرس لينجح الطالب وهو لا يستحق النجاح ؟
__________
(1) …مسلم (101) .(2/69)
الواجب على المدير أن يحث المدرسين على التعليم النافع، وعلى بذل الجهد للطلاب وحثهم على الإقبال والتقبل والتفهم، وتفقد أحوال التلاميذ وشحذ هممهم، وتشجعيهم على الفهم والإدراك والمواظبة وحسن السيرة والسلوك وحضور البال وقت الإلقاء، والاهتمام بالحفظ والاستعداد قبل دخول الفصل، والبحث مع المدرس عن الإشكال، وحث المعلم على النصح والتوجيه للطلاب، وتشجيع من يفهم أن يتفوق فيهم، ومنح الجوائز المناسبة للسابقين فيهم، واختيار المدرسين المخلصين من ذوي الكفاءة والأهلية بحيث يكون له الأثر في إيصال المعلومات إلى أذهان الطلاب؛ فبذلك ونحوه تنجح المدرسة وتتفوق على غيرها في النتيجة الطيبة والسمعة الحسنة؛ يكتسب المدير فيها والمدرسون لسان الصدق والذكرى الحسنة بين المدارس الأخرى التي هي دونها في العناية. فأما مع الإهمال والغفلة عن التربية الحسنة ثم عند الإمتحان يأمر المصححين بالتساهل والتغاضي عن الأخطاء، والزيادة في الدرجات لمن لا يستحق ذلك - فإن هذا لا يجوز؛ حيث إن هذه الامتحانات يقصد منها معرفة ذوي الكفاءة والنباهة الذين أقبلوا على التعلم برغبة ومحبة وصدق واهتمام، والذي هم أهل أن يتولوا المناصب الحساسة التي تهم الأمة وتنفع المجتمع وتخدم مصالح الدولة وتعود عليها بالفائدة الطيبة، ويعرف أهل الإهمال والإعراض والإكباب على الملاهي والبطالات وأهل البلادة والفَهَاهَة(1) وضعف الإدراك وقلة الفهم ممن لا يصلح لتولي الولايات المهمة.
__________
(1) …الفَهَاهَة: العجز والكسل والبلادة وعدم الإفصاح عن الكلام.(2/70)
فعلى هذا أرى أن على المدير والمدرسين عند الامتحان إعطاء كل ذي حق حقه، وعدم المحاباة أوالميل مع البعض وإعطائهم ما لا يستحقونه ولو بدرجة أو درجتين؛ وذلك هو العدل والإنصاف وإعطاء كل طالب ما يستحقه. وهذا هو السر في إخفاء أسماء الطلاب والاكتفاء بالأرقام السرية؛ مخافة أن بعض المدرسين يتحاملون على بعض من يريدون نقصه، أو يتغاضون عن بعض الهفوات ممن يميلون إليه. فالعدل هو الواجب - لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِْحْسَانِ}[النّحل: 90]، والله أعلم.
الشيخ ابن جبرين - الأجوبة الفقهية على الأسئلة التعليمية والتربوية، ص (19-20) - إعداد: عبدالعزيز المسيند
حكم ضرب الطلاب والطالبات للتأديب
ما حكم ضرب الطالبات لغرض التعليم والحث على أداء الواجبات المطلوبة منهن لتعويدهن على عدم التهاون فيها ؟
لا بأس في ذلك؛ فالمعلم والمعلمة والوالد كل منهم عليه أن يلاحظ الأولاد، وأن يؤدب من يستحق التأديب إذا قصر في واجبه حتى يعتاد الأخلاق الفاضلة، وحتى يستقيم على ما ينبغي من العمل الصالح . ولهذا ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: مُرُوا أَوْلادَكُمْ بِالصَّلاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ (1)؛ فالذكر يضرب والأنثى كذلك إذا بلغ كل منهم العشر وقصر في الصلاة، ويؤدب حتى يستقيم على الصلاة، وهكذا الواجبات الأخرى في التعليم وشؤون البيت وغير ذلك، فالواجب على أولياء الصغار من الذكور والإناث أن يعتنوا بتوجيههم وتأديبهم، لكن يكون الضرب خفيفاً لا خطر فيه، ولكن يحصل به المقصود .
الشيخ ابن باز - مجلة البحوث عدد (37) ص (171)
__________
(1) …أحمد (2/180، 187)، وابن أبي شيبة في «مصنفه» (3482)، وأبو داوود (495)، والحاكم 1/197 (708). ووصفه الألباني في "صحيح أبي داوود" (466) بالحسن والصحة.(2/71)
حكم تكليف الطلاب بإحضار أشياء غالية الثمن
بعض المدرسين يكلفون الطلاب بإحضار مجسمات ولوحات خشبية وصحائف وأقلام وأقمشة وغير ذلك بتكاليف باهظة؛ مما يسبب الحرج لكثير من الأسر الذين ظروفهم المادية لا تسمح بذلك. ويقال كذلك بالنسبة للمدرسات عندما يكلفن الطالبات بذلك .. فهل من نصيحة حول هذا الأمر ؟
لا شك أن الكثير من أولياء أمور الطلاب فقراء ضعفاء يعوزهم الحصول على الغذاء والقوت الضروري لأولادهم وقضاء الحاجات المنزلية. فمن الواجب على المدرسين الرفق بهم والسعي معهم في تخفيف المُؤْنَة وإيصال المساعدات المالية بأي وسيلة إليهم؛ فإن: المؤمِنُ للمؤمِنِ كالبُنْيان يَشُدُّ بعضُهُ بَعضًا(1).
فمتى بدت حاجة المدرس إلى صحائف أو أقلام أو أقمشة للإعلانات أو أدوات للنشاط فعليه أن يتبرع بتكلفتها، أو يحث إخوانه المدرسين على المساهمة فيها، أو يطلب من أهل الخير والثروة وأهل الصدقات والتبرعات؛ فإن تعذر ذلك عرضها على الطلاب عموماً للمساهمة في إحضارها حسب القدرة؛ فمن كان منهم ذا جِدَة وسعة أحضر منها ما تيسر، ومن قُدِرَ عليه رزقه فلا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها.
__________
(1) …البخاري (481، 2446، 6026)، ومسلم (2585).(2/72)
فننصح مدراء المدارس وأعضاء هيئة التدريس رجالاً ونساء أن يرفقوا بالضعفاء وأن يرحموهم ولا يكلفوهم ما يعجزهم، وأن يقوموا بما يحتاجونه في مصلحة النشاط والأعمال اليدوية والإعلانات والصحف الحائطية؛ وذلك لعلمهم بأن أولياء الطلاب قد يكونون من الفقراء المعوزين. فمتى جاء ولد أحدهم وقال: إن المدرس طلب مني إحضار قماش أو شراء صحيفة أو أدوات، ثم ألح على أهله وشدد عليهم في الطلب وذكر أن المدرس لا يقبل منه عذراً وأنه سوف يتأخر أو ينفصل إن لم يأت بما طلب منه - فلا تسأل عما يقع فيه أهله من الحرج والضيق؛ بحيث يتكففون الناس أو يبيعون بعض أمتعتهم أو يقترضون ليحلوا هذه الأزمة؛ فكم يدعون على المدرس أو المدرسة ويظهرون التظلم والإضرار. فعلى المدرس ملاحظة ذلك والنظر والتفكر فيما لو كان مثل أحدهم؛ فيحب للناس ما يحب لنفسه.
الشيخ ابن جبرين - الأجوبة الفقهية على الأسئلة التعليمية والتربوية - ص (46،47) - إعداد: عبدالعزيز المسيند
حكم التصفيق والقيام للمعلم
في بعض المدارس إذا أحسن التلميذ في شيء ما فإن زملاءه يصفقون له، كما أن التلاميذ يقومون للمدير أو المدرس إذا دخل الفصل .. فما حكم ذلك ؟(2/73)
التصفيق مكروه كراهة شديدة، وهو من زي الجاهلية، ومن صفات النساء؛ قال الله عز وجل في وصف الكفار: {وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً}[الأنفَال: 35]، قال المفسرون رحمهم الله: المكاء الصفير، والتصدية التصفيق . وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إِذَا نَابَكُمْ فِي الصَّلاةِ شَيْءٌ فَلْيُسَبِّحِ الرِّجَالُ وَلْيُصَفِّقْ النِّسَاءُ (1)، وفي لفظ آخر: التَّسْبِيحُ لِلرِّجَالِ وَالتَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ (2)، وهكذا القيام للأستاذ من الطلبة وهم في أماكنهم مكروه كراهة شديدة؛ لقول أنس رضي الله عنه عن الصحابة رضي الله عنهم: (ما كان أحدٌ أحَبَّ إليهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانوا لا يقومون لَهُ إذا دَخَلَ؛ لِمَا يعلمون مِنْ كَرَاهَتِهِ لذلك)(3). لكن إذا قام طالب أو غيره لمقابلة الداخل والسلام عليه ومصافحته، فلا بأس بذلك؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - للصحابة رضي الله عنهم: قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ (4)؛ يعني بذلك: سعد بن معاذ رضي الله عنه - لما جاء للحكم في بني قريظة - وكان - صلى الله عليه وسلم - يقوم لابنته فاطمة رضي الله عنها إذا دخلت عليه ويأخذ بيدها ويقبلها، وكانت رضي الله عنها إذا دخل عليها عليه الصلاة والسلام قامت إليه وأخذت بيده وقبلته .
__________
(1) …البخاري (1218)، ومسلم (421)، وأحمد (5/332) واللفظ له.
(2) …البخاري (1203، 1204) ومسلم (422).
(3) …أحمد (3/132)، والترمذي (2754) وقال: «حسن صحيح غريب»، والضياء في «المختارة» (1958)، وابن أبي شيبة في «مصنفه» (25583).
(4) …البخاري (3043)، ومسلم (1768) .(2/74)
ولما تاب الله سبحانه على الثلاثة الذين خلفوا وهم كعب بن مالك الأنصاري رضي الله عنه، وصاحباه، وجاء كعب إلى المسجد، والنبي - صلى الله عليه وسلم - جالس في أصحابه، قام إليه طلحة بن عبيدالله رضي الله عنه، وصافحه وهنأه بالتوبة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - ينظر ولم ينكر ذلك عليه . والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، والله ولي التوفيق.
الشيخ ابن باز - مجلة الدعوة - عدد (1325)
القادر على التعلُّم لا يُعْذَر بالجهل
قرأت كتاب: (الجواب المفيد في حكم جاهل التوحيد)، وكتاب آخر اسمه: (سعة رحمة رب العالمين)، والكتابان يدور حديثهما حول مسألة العذر بالجهل، ولكن طرأ في ذهني سؤال لم أجد إجابته بالتفصيل، في أي من الكتابين، وهو: هل يعذر بالجهل من عنده المقدرة على التعلم ولم يتعلم ؟ وما هي حدود عدم القدرة على التعلم ؟
لا يعذر بالجهل من عنده القدرة على تعلم ما هو واجب عليه من ضروريات الدين ولم يتعلم.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (12/84)
العلم الواجب في العقيدة وغيرها
ما الذي يجب على المسلم علمه من العقيدة حتى يكون مسلماً حقاً ؟(2/75)
المسلمون يتفاوتون في مقدرتهم العقلية وفي فراغهم ومشاغلهم الحيوية وفي تيسر طرق التعلم وصعوبتها؛ فيجب على مسلم ما لا يجب على الآخر، وأقل ما يجب من ذلك على كل مكلف: الإِيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والإِيمان بالقدر: خيره وشره، حُلْوِه ومُرِّه، وفهم معنى ذلك إجمالاً، والنطق بـ(شهادة أن لا إله إلاَّ الله وأن محمداً رسول الله) وفهم معناها ولو إجمالاً، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة بالنسبة للأغنياء، وصوم رمضان، وحج البيت الحرام لمن استطاع إليه سبيلاً، ثم معرفة حكم ما يبتلى به من النوازل؛ ليقدم على ما يجوز منها ويجتنب ما لا يجوز منها، مع الحذر من كل ما حرم الله على عباده. وأَكْثِرْ من تلاوة القرآن الكريم مع قراءة بعض الكتب السلفية: كـ [شرح الطحاوية] لابن أبي العز، و[زاد المعاد] لابن القيم ونحوها لتزداد علماً في ذلك.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (3/182).
طريق العلم الصحيحة: أَخْذُهُ من العلماء
هل حقيقة إن العلم لا يؤخذ إلا من أفواه العلماء؛ مشافهة في مجالس الدرس ؟ أم أنه يؤخذ أيضاً من مظانه الأخرى: (الكتب والأشرطة السمعية)، دون التلقي المباشر من المشايخ والعلماء - يعني بطريقة عصامية ؟
يجب أخذ العلم عن طريق العلماء العاملين، لا عن مجرد الكتب والأشرطة؛ لأن العلماء يوضحون الغامض، ويشرحون المشْكِل، ويوجهون إلى الفهم الصحيح، والكتب والأشرطة العلمية مجرد وسائل يستعان بها على طلب العلم، إذا كانت كتباً وأشرطة موثوقة، صادرة عن علماء، لكن لا يقتصر عليها.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (12/97).
حكم تبيين أخطاء العلماء وآدابه(2/76)
ما حكم تتبع عورات العلماء، بدعوى التحذير من زلاتهم، ولفت نظر الناس إليها ؟ مع العلم أن هذا العمل يقوم به طلبة العلم، ويحذرون العوام من الناس، وممن يحذرونهم من علماء أجلاء أحياناً: كالسيوطي (بدعوى إنه أشعري)، وغيره كثير.
العلماء ليسوا معصومين من الخطأ - كما في الحديث: إِذَا اجْتَهَدَ الحَاكِم فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَان، وإذا اجْتَهَد فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِد (1)، ولا ينقص ذلك من قدرهم مادام قصدهم التوصل إلى الحق، ولا تجوز الوقيعة في أعراضهم من أجل ذلك، وبيان الحق والتنبيه على الخطأ واجب، مع احترام العلماء ومعرفة قدرهم. إلا ما كان مبتدعاً أو مخالفاً في العقيدة، فإنه يُحذَّر منه إن كان حياً، ومن كتبه التي فيها أخطاء؛ لئلا يتأثر بذلك الجهال، لا سيما إذا كان داعية ضلال؛ لأن هذا من بيان الحق والنصيحة للخلق، وليس الهدف منه النيل من الأشخاص، والعلماء الكبار - مثل السيوطي وغيره - ينبه على أخطائهم، ويستفاد من علمهم، ولهم فضائل تغطي على ما عندهم من أخطاء، لكن الخطأ لا يقبل منهم ولا من غيرهم.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (12/98) موقف المسلم من خلاف العلماء
عندما نقرأ في كتب الفقه نجد كثيراً من المسائل فيها أكثر من قول، فما هو موقف طالب العلم من ذلك ؟ وما موقفه إذا ذكرت المسألة بلا دليل ؟
إذا كان طالب العلم أهلاً للترجيح، وعنده مقدرة على اختيار ما يراه بدليله؛ جاز له ذلك، وإذا لم يكن أهلاً لذلك سأل من يثق بعلمه.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (12/93)
حكم تعلم تجويد القرآن الكريم
__________
(1) …البخاري (7352)، ومسلم (1716) بلفظ: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب...، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ ...».(2/77)
ما حكم الشريعة الإسلامية فيمن لا يحسن قراءة القرآن الكريم بأحكامه ؟ وزيادة التوضيح: لم أجد أين أتعلم هذه الأحكام.
اجتهد في البحث عمن يعلمك أحكام تجويد القرآن مادمت ترغب في ذلك، فإن لم تجد كفاك أن تقرأ القرآن على من يحكم تلاوته ويحسن قراءته؛ ليدربك على حسن التلاوة، فإن لم تجد فاستمع لقراءة القرآن في إذاعة القرآن الكريم في المملكة العربية السعودية، وحاكهم في التلاوة حتى يستقيم لسانك وتحسن قراءتك، وليس بواجب أن تعرف الأحكام النظرية، كالفرق بين الإدغام بغنة وبغير غنة، والإظهار والإخفاء، وأنواع المد ونحو ذلك؛ بل يكفيك التجويد العملي، وهو استقامة اللسان في التلاوة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (12/105، 106) حكم حفظ القرآن الكريم
هل حفظ القرآن الكريم فرض ؟
حفظ القرآن الكريم فرض كفاية، ولا يجب على كل فرد من الأمة، وحفظه من أفضل القربات، وفيه فضل عظيم إذا عمل المسلم بما فيه وأقام حدوده وأحكامه.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (12/90)
العلوم الشرعية أفضل العلوم
إن أحد إخواني في حيرة، ويتعلق الأمر بدراسته؛ حيث هو مجتهد جداً في الرياضيات والفيزياء، ولكنه يريد أن يدرس العلم الشرعي بالجامعة العام المقبل إن شاء الله، وقال لي بأنه إذا واصل في اختصاصه - يعني الرياضيات والفيزياء - فإنه سينشغل عن التبحر في علوم الشرع، وهو في أخذٍ ورَدٍّ: في أي الطريقين يكون النجاح حليفه؛ لأنه يريد خدمة دينه والدعوة إليه. فبماذا تنصحونه - جزاكم الله خيراً - في هذا الموضوع الذي احترت فيه أنا أيضاً ؟ مع العلم بأنه يريد أن يستخير الله في ذلك، ولكنه يقول: بأن العلم الدنيوي فرض كفائي، والدعوة إلى الله خير منه، من كل الوجوه، فبصِّرونا - حفظكم الله تعالى - في هذا الأمر.(2/78)
بإمكان أخيك أن يواصل دراسته في التخصص المذكور، ويدرس العلوم الشرعية على أحد العلماء، أو يلتحق بعدما يفرغ من دراسته بأحد المعاهد والكليات الشرعية؛ ليتعلم أمور دينه، ويتفقه في الشريعة، وإن خاف أن تشغله العلوم الرياضية إذا استمر فيها عن العلوم الشرعية فلينصرف عنها، وليشتغل بدراسة العلوم الشرعية؛ لكونها أهم وأعظم نفعاً، ولأنه مخلوق ليعبد ربه على بصيرة، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالله ثم بالعناية بدراسة العلوم الشرعية. يسر الله أمره وبارك في علومه وأوقاته.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (12/102، 103)
طباعة الكتب الشرعية من العلم الذي يُنتفعُ بِه
هل طباعة الكتب الشرعية الصحيحة ينتفع بها الإنسان بعد موته، ويدخل في العلم الذي ينتفع به كما جاء في الحديث ؟
طباعة الكتب المفيدة التي ينتفع بها الناس في أمور دينهم ودنياهم هي من الأعمال الصالحة التي يثاب الإنسان عليها في حياته، ويبقى أجرها ويجري نفعها له بعد مماته، ويدخل في عموم قوله - صلى الله عليه وسلم - - فيما صح عنه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا مَاتَ الإنسانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلا من ثلاثةٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أو عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ (1) رواه الإمام مسلم في«صحيحه» والترمذي والنسائي والإمام أحمد.
وكل من ساهم في إخراج هذا العلم النافع يحصل على هذا الثواب العظيم؛ سواء كان مؤلفاً له، أو معلماً، أو ناشراً له بين الناس، أو مخرجاً، أو مساهماً في طباعته، كل بحسب جهده ومشاركته في ذلك.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - فتوى رقم (26002)
حكم دراسة العلم الشرعي
هل دراسة العلم الشرعي فرض ؟
__________
(1) …مسلم (1631).(2/79)
العلم الشرعي على قسمين: منه ما هو فرض على كل مسلم ومسلمة، وهو معرفة ما يصحح به الإنسان عقيدته وعبادته، وما لا يسعه جهله، كمعرفة التوحيد وضده الشرك، ومعرفة أصول الإيمان وأركان الإسلام، ومعرفة أحكام الصلاة وكيفية الوضوء والطهارة من الجنابة ونحو ذلك، وعلى هذا المعنى فُسِّر الحديث المشهور: طَلَبُ العِلم فَرِيضةٌ على كُلِّ مُسْلِمٍ(1).
والقسم الآخر: فرض كفاية، وهو معرفة سائر أبواب العلم والدين، وتفصيلات المسائل وأدلتها؛ فإذا قام به البعض سقط الإثم عن باقي الأمة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (12/90)
حكم ترك العلم الشرعي خوفاً من عدم العمل
يعلم الجميع أن العلم الشرعي مقرون بالعمل .. فما رأي الشرع في الشخص الذي يتوقف عن طلب العلم بدعوى تقصيره في العمل ؟ هل هو محق أم يتوجب عليه التعلم حتى ولو كان حاله كما ذكر؛ لعلّ عَمَله ينميه عِلْمُه ؟
__________
(1) …ابن ماجه (224)، والطبراني في "الصغير" (22، 61)، و"الأوسط" (9، 2008، 2030، 2462، 4096، 5908، 8381، 8567، 8833)، و"الكبير" 10/195 (10439)، وآخرون من طرق كثيرة كلها ضعيفة؛ لكنها تصل بمجموعها رتبة الحسن. وانظر: "فيض القدير" للمناوي 4/267، 268 (5264- 5268).(2/80)
ترك طلب العلم خشية التقصير في العمل خداع من الشيطان ليضل بني آدم، والواجب على المسلم طلب العلم النافع والعمل الصالح؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: طَلَبُ العِلم فَرِيضةٌ على كُلِّ مُسْلِمٍ (1)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: مَنْ سَلَكَ طريقاً يَلْتَمِسُ فيه عِلْماً سهَّلَ الله لَهُ بِهِ طريقاً إلى الجَنَّة(2). وما عرف التخذيل عن طلب العلم بهذه الحجة الداحضة إلا من قبل الصوفية الضُّلاَّل، فالواجب عدم الالتفات لهذا التخذيل، والإقبال على طلب العلم النافع.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (12/97).
حكم تعلم اللغة الأجنبية
هل تعلم اللغة الإنجليزية حرام أم حلال ؟
إذا كان هناك حاجة دينية أو دنيوية إلى تعلم اللغة الإنجليزية، أو غيرها من اللغات الأجنبية؛ فلا مانع من تعلمها، أما إذا لم يكن حاجة فإنه يكره تعلمها.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (12/133).
حكم تعلم القوانين الوضعية
__________
(1) …ابن ماجه (224)، والطبراني في "الصغير" (22، 61)، و"الأوسط" (9، 2008، 2030، 2462، 4096، 5908، 8381، 8567، 8833)، و"الكبير" 10/195 (10439)، وآخرون من طرق كثيرة كلها ضعيفة؛ لكنها تصل بمجموعها رتبة الحسن. وانظر: "فيض القدير" للمناوي 4/267، 268 (5264- 5268).
(2) …مسلم (2699) بزيادة فيه.(2/81)
ما حكم تعلم القوانين الوضعية ومحاولة تطبيقها، مع الاعتراف بأن شرع الله أفضل منه ؟ وما حكم تدريس تلك القوانين والفلسفة والمنطق وعلم النفس ؟ حيث تحتوي على باطل كثير؛ كالخوض في ذات الله وصفاته وأسمائه، وفي التحليل والتحريم، وتحتوي على دراسة العقيدة الشيوعية، والوجودية، والإباحية، فما حكم المدرس والطالب ؟ وخاصة إذا كانت مقررة على مستوى الدولة، والطالب والمدرس ليسا من طلاب العلم الشرعي، بل هم من عوام المسلمين، الذين لو شُكِّكوا قد يشكون، فإذا قيل لهم: هذا خطأ، قالوا: ماذا نفعل هذا باب للرزق وهذا طلب للعلم.
لا يجوز تعلم القوانين الوضعية لتطبيقها؛ مادامت مخالفة لشرع الله، وتجوز دراستها وتعلمها لبيان ما فيها من دَخَلٍ وانحراف عن الحق، ولبيان ما في الإسلام من العدل والاستقامة والصلاح، وما فيه من غنىً وكفاية لمصالح العباد. ولا يجوز لمسلم أن يدرس الفلسفة والقوانين الوضعية ونحوهما إذا كان لا يقوى على تمييز حقها من باطلها؛ خشية الفتنة والانحراف عن الصراط المستقيم، ويجوز لمن يهضمها ويقوى على فهمها بعد دراسة الكتاب والسنة؛ ليميز خبيثها من طيبها، وليحق الحق ويبطل الباطل؛ ما لم يشغله ذلك عما هو أوجب منه شرعاً.
وبهذا يُعلم أنه لا يجوز تعميم تعليم ذلك في دور العلم ومعاهده؛ بل يكون لمن تأهل له من الخواص؛ ليقوموا بواجبهم الإسلامي من نصرة الحق ودحض الباطل.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (12/ 134، 135)
حكم قراءة كتب الضلال(2/82)
كثيراً ما نسمع ببعض الكتب: مثل ابن سيناء، وكتاب أبي معشر الفلكي، وشموس الأنوار، وكتاب الرحمة، وما أشبهها .. هل هذه الكتب لها أساس من الصحة ؟ وهل صحيح ما يعتقد الناس منهم؛ كاستخراج الجن والعزائم وكتابة الحروز وما أشبه ذلك ؟ وإذا كان ذلك صحيحاً فهل يجوز للشخص أن يتخذ ذلك حرفة، ويقول للناس بواسطة تلك الكتب: أنت مريض يوم كذا في وقت كذا، وأنت مريض عند مشيك للماء، وأنت مريض ساعة كذا، وهذا مريض عند هيجان الريح، وهذا مريض عند مسه للندى، وما أشبه ذلك ؟ وإذا كان ذلك صحيحاً فهل يجوز أن يستخدمه الشخص، ويتخذه حرفة له، ويأكل من الناس أموالاً على ذلك ؟
ما ذكر من الكتب لا يجوز لك أن تعمل بما فيها من الشعوذة واستخدام الجن، ولا أن تتخذ ذلك حرفة لك، ولا يجوز أن تعتقد ما جاء فيها؛ فإن فيها شركيات، وبدعاً وخرافات ودعوى علم الغيب، وعلم الغيب من اختصاص الله؛ فلا يعلم الغيب إلا هو سبحانه، وقد يُطْلِع على بعض الغيب من شاء من رسله، ويجب عليك أن تجتنبها.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (12/132)
حكم تصوير فقرات الحفل المسرحي بكاميرا الفيديو ونحوها
عندما يقام حفل مسرحي في المدرسة يقوم أحد المدرسين أو أحد الطلاب بتصوير كل فقرات الحفل أو بعضها في فيلم متحرك. وفقرات الحفل متنوعة ما بين أناشيد وكلمات وتمثيل ولقاءات مع الطلاب أو مع بعض المدرسين ونحو ذلك .. فما حكم التصوير والحال ما ذكر ؟(2/83)
تجدد خلاف في التصوير سيما بآلة الكاميرا؛ فمنعه مشايخنا الأقدمون، وكتب في منعه مطلقًا: سماحة شيخنا ابن إبراهيم، ثم سماحة الشيخ ابن باز والشيخ حمود التويجري وغيرهم، وقد اعتبروا الجميع سواء وحكموا بالمنع؛ لعموم الأدلة التي فيها «لَعْنُ المُصوِّرين» (1)، وأن كُلُّ مصوِّر في النار (2)، وأنه يقال لهم: أَحْيُوا ما خَلَقْتُم (3)، ويكلف أن يَنْفُخَ فيها الرُّوح (4) ونحو ذلك.
ثم بعض المتأخرين تساهلوا في أمرها بعد أن تمكنت وانتشرت وعمت بها البلوى، وملأت الدور والأماكن، وطفحت بها الصحف والمجلات والمؤلفات، وحملها الجميع في الحفائظ والجوازات والبطاقات الشخصية، ولمسوا فيها فائدة محسوسة، وأنها شبه ضرورية في التنقل والأسفار، وأنه لا يقصد بها مضاهاة خلق الله تعالى ولا تصور للتعظيم.
ثم في حفظ هذه الأنشطة فائدة: وهي الاستفادة منها بعد ذلك والاحتفاظ بتلك الأناشيد والكلمات المفيدة والتماثيل الهادفة واللقاءات مع الطلاب أو الزوار، وحفظ تلك الأفكار. وكون التصوير ليس عملياً كما كان سابقاً ولا محذور فيه، ولا يقصد به مضاهاة خلق الله تعالى؛ وإنما يقصد الاحتفاظ بتلك الخطب أو المقالات للذكرى والفائدة؛ فلعله مع هذه المبررات يصبح مباحاً إذا خلى من المحذورات وصور النساء المتبرجات ونحو ذلك، والله أعلم.
الشيخ ابن جبرين - الأجوبة الفقهية على الأسئلة التعليمية والتربوية، ص (145) - إعداد: عبدالعزيز المسيند
تحريم استخدام الموسيقا والمعازف في التعليم
__________
(1) …البخاري (2086) وأطرافه فيه.
(2) …مسلم (2110).
(3) …البخاري (2105، 3224، 5181، 5951، 5957، 5961، 7557، 7558)، ومسلم (2107، 2108).
(4) …البخاري (2225، 5963، 7042)، ومسلم (2110).(2/84)
إنا نعيش في إنجلترا، وندرِّس بمدارس أهلية أيام العطلة مبادئ الإسلام، واللغة العربية لأطفال القادمين من الهند والباكستان واليمن... إلخ، إلى تلك البلاد، وهؤلاء الأطفال يتلقون بالمدارس الرسمية جميع علومهم بالموسيقى والصور؛ للتشويق والإعانة على الفهم وحضور الفكر؛ فإذا جاؤوا إلى مدارسنا الإسلامية أيام عطلتهم؛ لتلقي العلوم الإسلامية واللغة العربية ولم يجدوا هذه المشوقات نفروا .. فهل يجوز لنا استخدام المعازف في الأناشيد الإسلامية لهؤلاء الأطفال، كما يجوز لهم اللعب بالصور والتماثيل؛ ترغيباً لهم واستمالة لقلوبهم حتى يقبلوا على هذه المدارس الإسلامية لتعلم دينهم ؟
لا يجوز استخدام المعازف ولا غيرها من آلات اللهو؛ لا في الأناشيد الإسلامية، ولا في غيرها ولا في التعليم ولا في غيره؛ لقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ}[لقمَان، من الآية: 6]، ولما روى البخاري عن عبدالرحمن بن غنم الأشعري قال: حدثني أبو عامر أو أبو مالك الأشعري، والله ما كذبني، سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: لَيَكُونَنَّ من أمتي أَقْوَامٌ يستَحِلُّون الحِرَ والحرِيرَ والخَمْرَ والمَعَازِف، ولينزِلَنَّ أقوامٌ إلى جَنْبِ عَلَمٍ، يَرُوحُ عليهم بسَارِحَةٍ لهم، يَأْتِيهِمْ لِحَاجَةٍ فيقولون: اِرْجِعْ إلينا غداً، فَيُبَيِّتُهُمُ الله ويَضَعُ العَلَمَ، ويَمْسَخُ آخَرِين قِرَدةً وخَنَازيرَ إلى يومِ القِيَامة(1)
__________
(1) …البخاري (5590) (تعليقاً)، وأبو داود (4039) (مختصراً)، وابن حبان (6754)، والطبراني في «الكبير» 3/282 (3417)، والبيهقي في «الكبرى» (5895، 20777).
…وقد وصل هذا الحديث: الحافظ ابن حجر في كتابه «تغليق التعليق على صحيح البخاري» (5/17) وما بعدها.
… وانظر فتح الباري (10/51) برقم (5590)، وتهذيب سنن أبي داود، لابن القيم (5/270- 272).
…ومعنى (الحِرَ): الفَرْج؛ يعني: الزِّنا. ومعنى (عَلَم): هو الجبل العالي، وقيل: رأس الجبل. ومعنى (بسَارِحة): السَّارِحَة هي الماشية. انظر: «فتح الباري» (1/55)(2/85)
. لكن ينبغي ترغيبهم بالأناشيد الطيبة التي لا محذور فيها شرعاً، وبالجوائز المناسبة وبغير ذلك من أنواع الترغيب والتشجيع التي لا محذور فيها. والله سبحانه ما حرم شيئاً على عباده إلا يسَّر لهم من الحلال ما يغنيهم عنه - كما قال سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا}[الطّلاَق، من الآية: 2]، وقال سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا}[الطّلاَق، من الآية: 4].
ونسأل الله للجميع التوفيق لما فيه رضاه وصلاح أمر عباده.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (12/184 - 186)
الباب الرابع
النية والطهارة وسنن الفطرة
الفصل الأول :
النية والإخلاص
الفصل الثاني :
أقسام المياه
الفصل الثالث :
إزالة النجاسة
الفصل الرابع :
سنن الفطرة
الفصل الخامس :
آداب قضاء الحاجة
الفصل السادس :
الاستنجاء والاستجمار
الفصل السابع :
كيفية الوضوء
الفصل الثامن :
المسح على الخفين
الفصل التاسع :
نواقض الوضوء
الفصل العاشر :
الغسل من الجنابة
الفصل الحادي عشر :
التيمم
الفصل الأول
النية والإخلاص
حكم التلفظ بالنية
ما حكم التلفظ بالنية في الصلاة والوضوء ؟
حكم ذلك أنه بدعة؛ لأنه لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه، فوجب تركه، والنية محلها القلب، فلا حاجة مطلقاً إلى التلفظ بالنية. والله ولي التوفيق .
الشيخ ابن باز - فتاوى المرأة، ص (29)
معنى الإخلاص
ما معنى الإخلاص ؟ وإذا أراد العبد بعبادته شيئاً آخر فما الحكم ؟
الإخلاص لله تعالى معناه: (أن يقصد المرء بعبادته التقرب إلى الله سبحانه وتعالى [وحده] والتوصل إلى دار كرامته).
وإذا أراد العبد بعبادته شيئاً آخر ففيه تفصيل، حسب الأقسام التالية:(2/86)
القسم الأول: أن يريد التقرب إلى غير الله تعالى في هذه العبادة ونيل الثناء عليها من المخلوقين، فهذا يحبط العمل، وهو من الشرك . وفي الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: قال الله تعالى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ(1).
القسم الثاني: أن يقصد بها الوصول إلى غرض دنيوي كالرئاسة والجاه، والمال؛ دون التقرب بها إلى الله تعالى - فهذا عمله حابط لا يقربه إلى الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ *أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآْخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *}[هُود].
والفرق بين هذا والذي قبله، أن الأول قصد أن يُثنَى عليه من قبل أنه عابد لله تعالى، وأما هذا الثاني فلم يقصد أن يثنى عليه من قبل أنه عابد لله، ولا يهمه أن يثني الناس عليه بذلك .
القسم الثالث: أن يقصد بها التقرب إلى الله تعالى والغرض الدنيوي الحاصل بها؛ مثل أن يقصد مع نية التعبد لله تعالى بالطهارة تنشيط الجسم وإزالة فضلاته، وبالحج مشاهدة المشاعر والحجاج، فهذا ينقص أجر الإخلاص، ولكن إن كان الأغلب عليه نية التعبد فقد فاته كمال الأجر، ولكن لا يضره ذلك باقتراف إثم أو وزر؛ لقوله تعالى في الحجاج: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ...} [البَقَرَة، من الآية: 198].
__________
(1) …مسلم (2985) .(2/87)
وإن كان الأغلب عليه نية غير التعبد فليس له ثواب في الآخرة، وإنما ثوابه ما حصله في الدنيا، وأخشى أن يأثم بذلك لأنه جعل العبادة التي هي أعلى الغايات وسيلة للدنيا الحقيرة، فهو كمن قال الله فيهم: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ *}[التّوبَة].
وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ: رَجُلٌ يُرِيدُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَهُوَ يَبْتَغِي عَرَضًا مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: لا أَجْرَ لَهُ ، فأعاد ثلاثاً والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا أَجْرَ لَهُ (1)، وفي الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: مَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ(2).
وإن تساوى عنده الأمران فلم تغلب نية التعبد ولا نية غير التعبد فمحل نظر، والأقرب أنه لا ثواب له؛ كمن عمل لله تعالى ولغيره.
والفرق بين هذا القسم والذي قبله: أن غرض غير التعبد في القسم السابق حاصل بالضرورة، فإرادته إرادة حاصلة بعمله بالضرورة، وكأنه أراد ما يقتضيه العمل من أمر الدنيا.
- فإن قيل: ما هو الميزان لكون مقصوده في هذا القسم أغلبه التعبد أو غير التعبد ؟
- قلنا: الميزان أنه إذا كان لا يهتم بما سوى العبادة؛ حصل أم لم يحصل: فقد دل على أن الأغلب نية التعبد، والعكس بالعكس.
__________
(1) …أحمد (2/290، 366)، وأبو داود (2516)، وفي إسناده يزيد بن مكرز وهو مجهول. وانظر تعليق أحمد شاكر على «المسند» (7887) .
(2) …البخاري (1)، ومسلم (1907) .(2/88)
وعلى كل حال فإن النية التي هي قول القلب أمرها عظيم، وشأنها خطير؛ فقد ترتقي بالعبد إلى درجة الصديقين، وقد ترده إلى أسفل السافلين. قال بعض السلف: (ما جاهدت نفسي على شيء مجاهدتها على الإخلاص). فنسأل الله لنا ولكم الإخلاص في النية، والصلاح في العمل .
الشيخ ابن عثيمين - مجموع فتاوى ورسائل (1/98-100)
حكم الرياء
ما حكم الرياء ؟
الرياء من الشرك الأصغر؛ لأن الإنسان أشرك في عبادته أحداً غير الله، وقد يصل إلى الشرك الأكبر، وقد مثل ابن القيم(1) رحمه الله للشرك الأصغر (بيسير الرياء)؛ وهذا يدل على أن كثير الرياء قد يصل إلى الشرك الأكبر.
قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا *}[الكهف]، والعمل الصالح ما كان صواباً خالصاً، والخالص ما قصد به وجه الله، والصواب: ما كان على شريعة الله . فما قصد به غير الله فليس بصالح، وما خرج عن شريعة الله فليس بصالح، ويكون مردوداً على فاعله؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ (2)، وقال: إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى (3) الحديث . قال بعض العلماء: هذان الحديثان ميزان الأعمال؛ فحديث النية ميزان الأعمال الباطنة، والحديث الآخر ميزان الأعمال الظاهرة.
الشيخ ابن عثيمين - فتاوى العقيدة، ص 199 - 200
أثر الرياء في العبادة
ما حكم العبادة إذا اتصل بها الرياء ؟
حكم العبادة إذا اتصل بها الرياء أن يقال: اتصال الرياء على ثلاثة أوجه:
__________
(1) …في «إغاثة اللهفان» (1/59).
(2) …مسلم (1718) - (18). وعلقه البخاري في كتابي البيوع والاعتصام.
(3) …البخاري (1)، ومسلم (1907) .(2/89)
*…الوجه الأول: أن يكون الباعث على العبادة مراءاة الناس من الأصل؛ كمن قام يصلي لله مراءاة الناس، من أجل أن يمدحه الناس على صلاته، فهذا مبطل للعبادة.
*…الوجه الثاني: أن يكون مشاركاً للعبادة في أثنائها: بمعنى أن يكون الحامل له في أول أمره الإخلاص لله، ثم طرأ الرياء في أثناء العبادة، فهذه العبادة لا تخلو من حالين:
* الحال الأولى: ألا يرتبط أول العبادة بآخرها فأولها صحيح بكل حال، وآخرها باطل. مثال ذلك رجل عنده مائة ريال يريد أن يتصدق بها فتصدق بخمسين منها صدقة خالصة، ثم طرأ عليه الرياء في الخمسين الباقية، فالأولى صدقة صحيحة مقبولة، والخمسون الباقية صدقة باطلة لاختلاط الرياء فيها بالإخلاص.
* الحال الثانية: أن يرتبط أول العبادة بآخرها فلا يخلو الإنسان حينئذ من أمرين:
*…الأمر الأول: أن يدافع الرياء ولا يسكن إليه؛ بل يعرض عنه ويكرهه، فإنه لا يؤثر شيئاً - لقوله - صلى الله عليه وسلم -: إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَتَكَلَّمْ(1).
*…الأمر الثاني: أن يطمئن إلى هذا الرياء ولا يدافعه، فحينئذ تبطل جميع العبادة؛ لأن أولها مرتبط بآخرها . مثال ذلك: أن يبتدئ الصلاة مخلصاً بها لله تعالى، ثم يطرأ عليها الرياء في الركعة الثانية فتبطل الصلاة كلها لارتباط أولها بآخرها .
__________
(1) …البخاري (5269)، ومسلم (127) .(2/90)
*…الوجه الثالث: أن يطرأ الرياء بعد انتهاء العبادة؛ فإنه لا يؤثر عليها ولا يبطلها؛ لأنها تمت صحيحة فلا تفسد بحدوث الرياء بعد ذلك، وليس من الرياء أن يفرح الإنسان بعلم الناس بعبادته(1)؛ لأن هذا إنما طرأ بعد الفراغ من العبادة، وليس من الرياء أن يُسَرَّ الإنسان بفعل الطاعة؛ لأن ذلك دليل إيمانه - قال النبي عليه الصلاة والسلام: مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ فَذَلِكُمُ الْمُؤْمِنُ (2)، وقد سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال: تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ(3).
الشيخ ابن عثيمين - فتاوى العقيدة، ص (200، 201)
الفصل الثاني أقسام المياه
قاعدة في المياه
ما هو القول الراجح في مسألة المياه ؟ الرجاء الإفادة بالتوضيح.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه.. وبعد: الأصل في الماء الطهارة؛ فإذا تغير لونه أو طعمه أو ريحه بنجاسة فهو نجس - سواء كان قليلاً أو كثيراً، وإذا لم تغيره النجاسة فهو طهور؛ لكن إذا كان قليلاً جداً فينبغي عدم التطهر به؛ احتياطاً وخروجاً من الخلاف، وعملاً بحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: إِذَا وَلَغَ الكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيُرِقْهُ (4) الحديث.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (5/69)
__________
(1) …ما لم يسع إلى ذلك أو يتطلع إلى جزاء مادي أو معنوي منهم.
(2) …أخرجه من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أحمد (1/18، 26)، والترمذي (2165)، وقال: «حسن صحيح غريب»، والنسائي في «الكبرى» (9226)، وابن حبان (7254)، والحاكم 1/114، 115 (387-390) وصححه ووافقه الذهبي. وفي الباب عن أبي أمامة وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما.
(3) …مسلم (2642) . ولفظه: «أرأيتَ الرجلَ يَعْمَلُ العملَ من الخير، ويَحْمَدُهُ الناسَ عليه ؟ فقال: «تلك عاجِلُ بُشْرَى المؤمن».
(4) …مسلم (279).(2/91)
حكم مياه المجاري المنقاة
ماذا يقول العلماء الكرام في الماء المستعمل في المراحيض والحمامات، ومع هذا الماء العذرة والبول، ويروح هذا الماء إلى مكينة وتتغير الرائحة الكريهة من هذا الماء ويختلط مع هذا الماء بالأدوية، ويختلط مع هذه الماء الطاهر ويرجع هذا الماء إلى المراحيض والحمامات ثانياً وإلى المطعم .. هل يجوز استعمال هذا الماء في الوضوء والاغتسال من جهة الشرع أم لا ؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه.. وبعد: لقد درس هذا الموضوع من قبل مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية وصدر فيه قرار هذا مضمونه: (اطلع المجلس على البحث المعد في ذلك من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، كما اطلع المجلس على خطاب معالي وزير الزراعة والمياه رقم 1/ 1299 وتاريخ 30/ 5/ 1398هـ، وبعد البحث والمداولة والمناقشة قرر المجلس ما يلي:
- بناءً على ما ذكره أهل العلم من أن الماء الكثير المتغير بنجاسة يطهر إذا زال تغيره بنفسه أو بإضافة ماء طهور إليه أو زال تغيره بطول مكث أو تأثير الشمس ومرور الرياح عليه أو نحو ذلك لزوال الحكم بزوال علته.(2/92)
وحيث أن المياه المتنجسة يمكن التخلص من نجاستها بعدة وسائل، وحيث أن تنقيتها وتخليصها مما طرأ عليها من النجاسات بواسطة الطرق الفنية الحديثة لأعمال التنقية يعتبر من أحسن وسائل الترشيح والتطهير؛ حيث يبذل الكثير من الأسباب المادية لتخليص هذه المياه من النجاسات - كما يشهد ذلك ويقرره الخبراء المختصون بذلك ممن لا يتطرق الشك إليهم في عملهم وخبرتهم وتجاربهم. لذلك فإن المجلس يرى طهارتها بعد تنقيتها التنقية الكاملة بحيث تعود إلى خلقتها الأولى لا يرى فيها تغير بنجاسة في طعم ولا لون ولا ريح. ويجوز استعمالها في إزالة الأحداث والأخباث وتحصل الطهارة بها منها، كما يجوز شربها إلا إذا كانت هناك أضرار صحية تنشأ عن استعمالها فيمتنع ذلك؛ محافظة على النفس وتفادياً للضرر لا لنجاستها.
والمجلس إذ يقرر ذلك يستحسن الاستغناء عنها في استعمالها للشرب متى وُجد إلى ذلك سبيل؛ احتياطاً للصحة واتقاءً للضرر، وتنزهاً عما تستقذره النفوس وتنفر منه الطباع.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (5/79) الفصل الثالث إزالة النجاسة
تطهير الأرض المفروشة
استعمل كثير من الناس الكماليات في فرش حجر المنزل؛ فهل إذا بال الطفل مثلاً على الفرشة على مختلف سنه يكفي صب الماء وتطهر من النجاسة - نظراً إلى أن الفرشة قد تكون كبيرة وقد تكون لاصقة بالأرض، أو تكون مثبتاً عليها دواليب كبيرة وسرر - أو لا ؟(2/93)
الحمد لله، وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه .. وبعد: إذا كان من بال على هذه الفرشة ونحوها غلاماً لم يأكل الطعام - كفى في تطهيرها رش الماء عليها حتى يعم موضع النجاسة منها، ولا يجب عصرها ولا غسلها، وإن كان قد أكل الطعام أو كان جارية سواء أكلت الطعام أم لا، فلا بد لتطهيرها من الغسل، ويكفي صب الماء على موضع النجاسة، ولا يجب نزع الفرشة ولا عصرها كالنجاسة على الأرض، لما ثبت في الصحيحين: عن أنس رضي الله عنه: أن أعرابياً بَالَ في المسجد فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُصَبَّ على بَوْلِهِ دَلْوٌ من الماء(1).
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (5/364)
حكم الدم
ما حكم الدم من حيث الطهارة والنجاسة ؟
الذي يتبين من النصوص - فيما نراه في طهارة الدم ونجاسته - ما يلي:
أ - الدم السائل من حيوان ميتته نجسة، فهذا نجس كما تدل عليه الآية الكريمة.
ب -…دم الحيض، وهو نجس كما يدل عليه حديثا عائشة وأسماء رضي الله عنهما.
جـ -…الدم السائل من بني آدم، وظاهر النصوص وجوب تطهيره إلا ما يشق التحرز منه كدم الجرح المستمر، وإن كان يمكن أن يعارض هذا الظاهر بما أشرنا إليه عند الكلام على غسل جرح النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبأن أجزاء الآدمي إذا قُطعت كانت طاهرة عند أكثر أهل العلم، فالدم من باب أولى، لكن الاحتياط التطهر منه لظاهر النصوص، واتقاء الشبهات التي من اتقاها استبرأ لدينه وعرضه.
__________
(1) …البخاري (6025، 6128)، ومسلم (284). وهو مذكورٌ هنا بالمعنى.(2/94)
د -…دم السمك وهو طاهر؛ لأنه إذا كانت ميتته طاهرة كان ذلك دليلاً على طهارته؛ فإن تحريم الميتة من أجل بقاء الدم فيها - بدليل قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما أَنْهَرَ الدَّمَ وذُكِرَ اسم الله عليه فَكُلْ» (1)؛ فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - سبب الحِلّ أمرين:
…- أحدهما: إنهار الدم.
…- الثاني: ذكر اسم الله تعالى.
…الأول: حسي، والثاني: معنوي.
هـ -…دم الذباب والبعوض وشبهه؛ لأن ميتته طاهرة كما دل عليه حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الأمر بِغَمْسِه إذا وقع في الشراب(2) ، ومن الشراب ما هو حار يموت به، وهذا دليل على طهارة دمه لما سبق من علة تحريم الميتة.
و -…الدم الباقي بعد خروج النفس من حيوان مُذكَّى؛ لأنه كسائر أجزاء البهيمة؛ وأجزاؤها حلال طاهرة بالتذكية الشرعية، فكذلك الدم كدم القلب والكبد والطحال.
هذا ما ظهر لنا، ونسأل الله تعالى أن يهدينا جميعاً صراطه المستقيم. والحمد لله رب العالمين.
الشيخ ابن عثيمين - مجموع فتاوى ورسائل (11/266)
نجاسة الكافر معنوية
لدينا امرأة خادمة نصرانية .. فهل يجوز أن تغسل الثياب وتكون طاهرة ؟ وهل نلبسها أم لا ؟ ثم إذا أهدت إلينا شيئاً بعد عودتها من السفر فهل نقبله أم لا ؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه.. وبعد: يجوز لكم لبس ما غسلته أو كوته من الثياب. وعليكم أن تدعوها إلى الإسلام لعل الله أن يهديها على يديكم، ولا مانع من قبولكم ما أهدته من المباح، وأن تكافئوها عليها. وينبغي إبعادها إن لم تسلم واستبدالها بمسلمة، ولا سيما في الجزيرة العربية؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوصى بإخراج الكفار منها(3). والحديث المذكور يعم اليهود والنصارى وغيرهما من الكفار.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
__________
(1) …البخاري (2488) وأطرافه عنده، ومسلم (1968).
(2) …البخاري (3320، 5782).
(3) …البخاري (3053، 3168، 4431)، ومسلم (1637).(2/95)
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (5/376، 377)
حكم المذي وكيفية تطهيره
لا حياء في الدين؛ فأنا رجل مذَّاء (أي كثير المذي)، وعندما أتوضأ أقوم بغسل ما أتوقع أنه لامسه المذي؛ فينتابني الشك بأن هناك أماكن ربما لم تنظف .. هل صلاتي صحيحة وأنا مجرد شاك ؟ ولست متأكداً كذلك من المذي مثل البول: من لم يتنزه عنه هل عليه إثم وعقاب ؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه.. وبعد: الأصل طهارة البدن والثوب، والشك الطارئ لا أثر له؛ فإذا غسلت المحل الذي يغلب على ظنك أن المذي أصابه فإنك تصلي ولا شيء عليك، وأما المذي فإنه نجس؛ فإذا خرج منك مذي وجب غسل الذكر من أصله والأنثيين، ونضح ما أصابه المذي من الثوب والبدن؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أَمَر علياً بغَسلِ الذَّكَر والأُنْثَيين والوضوء من المَذْيِ، وأمر بِنَضْحِ ما أصاب الثوب من ذلك(1).
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (5/382)
حكم لعاب الكلب
س1: هل لعاب الكلب نجس ؟
ج1: الكلب كله نجس ومن ذلك لعابه، ولذلك يغسل الإناء بعد شُربه فيه سبع مرات إحداهن بالتراب(2)؛ مما يدل على أنه نجس العين.
الشيخ ابن جبرين - فتوى عليها توقيعه - في 14/10/1423هـ
س2: هل يجب غسل ما صَادَهُ الكلب ؟
__________
(1) …أحمد (1/124، 126، 145)، وأبو داود (206-211). وصححه الألباني؛ كما في «صحيح سنن أبي داود» (190-196). والأُنْثَيان: هما الخِصْيَتَان.
(2) …ورد ذلك في حديث أخرجه: البخاري (172)، وليس فيه ذكر التراب، ومسلم (279، 280).(2/96)
ج2: ذكر بعض العلماء أنه يغسل؛ لورود الحديث بغسل الإناء إذا شرب منه الكلب، وتكرار الغسل إلى سبع مرات(1) لنجاسة ريقه؛ فيلحق ريقه الذي يكون على الصيد بسائر النجاسات كبوله ونحوه - مع أن الغالب أن ريقه يكون على جلد الصيد الذي يسلخ عن اللحم ولا ينتفع به إلا بعد غسله أو دبغه؛ مع أن الأدلة لم تدل على ذكر الغسل اكتفاء بالمعتاد من أنه لا يأكل إلا بعد غسله وطبخه ونحو ذلك.
الشيخ ابن جبرين - من قوله وإملائه، في: 19/1/1424هـ
صفة تطهير ما أصيب بلعاب الكلب
س1: إذا أصاب لعاب الكلب جسم الإنسان فما الحكم ؟ وكيف يطهر ؟
ج1: يلزم غسل لعاب الكلب وأثره؛ سواء على الملابس أو على البدن أو على الفرش، ويكرر الغسل إلى أن يزول أثر نجاسته، ولا يشترط التراب إلا في الإناء.
س2: جسم الكلب هو نجس ؟ وما الحكم إذا مسه الإنسان بيده أو بثوبه ؟
ج2: لا شك أن الكلب نجس بجميع أجزائه؛ لكن إذا مسه الإنسان بيده وهو يابس فإن نجاسته لا تتعدى إلى اليد أو إلى الثوب، ولا يلزم غسل ما مس ظهره أو بطنه أو رأسه حال كونه يابساً، لكن لو ابتل جلده بماء أو مطر ثم تقاطر على فراش أو ثوب وعلم ذلك المكان، فإنه يغسل كغسل سائر النجاسات من غير تحديد بعدد الغسلات.
الشيخ ابن جبرين - فتوى عليها توقيعه - في 14/10/1423هـ
العلة في تحريم اتخاذ الكلاب
ما هي العلة في تحريم تربية الكلاب ؟
أولاً: أنها نجسة نجاسة عينية؛ ولذلك تغسل الأواني بعد شربها منها، وثانيها: أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب، وثالثاً: أنها ترعب الناس بنباحها وعدوها ومطاردتها لمن مر حولها، ويعفى عن كلاب الصيد أو الحراسة للغنم أو للحرث؛ للحاجة الماسة. والله أعلم.
الشيخ ابن جبرين - فتوى عليها توقيعه - في 14/10/1423هـ
الفصل الرابع سنن الفطرة
حكم الختان
ما حكم الختان في حق الرجال والنساء ؟
__________
(1) …ورد ذلك في حديث أخرجه: البخاري (172)، وليس فيه ذكر التراب، ومسلم (279، 280).(2/97)
حكم الختان محل خلاف، وأقرب الأقوال: أن الختان واجب في حق الرجال، سنة في حق النساء، ووجه التفريق بينهما: أن الختان في حق الرجال فيه مصلحة تعود إلى شرط من شروط الصلاة وفي الطهارة؛ لأنه إذا بقيت القلفة، فإن البول إذا خرج من ثقب الحشفة بقي وتجمع في القلفة وصار سبباً إما لاحتراق أو التهاب، أو لكونه كلما تحرك خرج منه شيء فيتنجس بذلك.
وأما المرأة فإن غاية ما فيه من الفائدة أنه يقلل من غُلمتها - أي شهوتها - وهذا طلبُ كمال، وليس من باب إزالة الأذى.
واشترط العلماء لوجوب الختان، ألا يخاف على نفسه فإن خاف على نفسه من الهلاك أو المرض، فإنه لا يجب، لأن الواجبات لا تجب مع العجز، أو مع خوف التلف، أو الضرر.
ودليل وجوب الختان في حق الرجال:
أولاً:…أنه وردت أحاديث متعددة بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر من أسلم أن يختتن، والأصل في الأمر الوجوب.
ثانياً:…أن الختان ميزة بين المسلمين والنصارى، حتى كان المسلمون يعرفون قتلاهم في المعارك بالختان، فقالوا: الختان ميزة؛ وإذا كان ميزة فهو واجب لوجوب التمييز بين الكافر والمسلم؛ ولهذا حرم التشبه بالكفار - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ))(1).
ثالثاً:…أن الختان قطع شيء من البدن، وقطع شيء من البدن حرام؛ والحرام لا يُستباح إلا لشيء واجب. فعلى هذا يكون الختان واجباً.
__________
(1) …أحمد بزيادة فيه (2/ 50، 92)، وأبو داود (4031)، والطبراني في «الأوسط» (8327)، وهو حديث حسن بشواهده. انظر: «فتح الباري» (10/271)، و«فيض القدير» للمناوي 6/105 (8593).(2/98)
رابعاً:…أن الختان يقوم به ولي اليتيم وهو اعتداء عليه واعتداء على ماله؛ لأنه سيعطي الخاتن أجره، فلولا أنه واجب لم يجز الاعتداء على بدنه. وهذه الأدلة الأثرية والنظرية تدلّ على وجوب الختان في حق الرجال، أما المرأة ففي وجوبه عليها نظر؛ فأظهر الأقوال أنه واجب على الرجال دون النساء، وهناك حديث ضعيف وهو: الخِتَانُ سُنَّةٌ في حَقِّ الرِّجال مَكْرُمَةٌ في حَقِّ النساء(1). فلو صح هذا الحديث لكان فاصلاً.
الشيخ ابن عثيمين - مجموع فتاوى ورسائل (11/117)
هل الختان شرط للدخول في الإسلام ؟
هل الختان شرط من شروط صحة الإسلام ؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه.. وبعد: الختان من سنن الفطرة في حق الرجال وفي حق النساء، وينبغي للدعاة إلى الله سبحانه الإغضاء عن الكلام في الختان عند دعوة الكفار إلى الإسلام - إذا كان ذلك ينفره من الدخول في الإسلام - فإن الإسلام والعبادة تصح من غير المختون، وبعدما يستقر الإسلام في قلبه يشعر بمشروعية الختان.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (5/116)
السن المناسب للختان
ما هو الوقت المفضل والمناسب في ختان الأولاد: أفي سن الرضاع أم في سن البلوغ ؟
الحمد لله، وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه.. وبعد: ليس للختان وقت محدود فيما نعلم من الشرع المطهر؛ ولكن كلما كان في الصغر فهو أولى وأسهل على الطفل والطفلة. ومن ذلك يعلم أنه لا حرج في الختان في سن الرضاع.
__________
(1) …لكن له شواهد عدة: انظر: «مسند أحمد» (5/75)، و«مصنف ابن أبي شيبة» (26468)، و«المعجم الكبير» للطبراني (7112، 7113، 11590، 12009، 12828)، و«السنن الكبرى» للبيهقي 8/324، 325 (17343-17346). وحسن إسناد حديث أحمد: الملا علي القاري في «مرقاة المفاتيح» (8/272)، وليس في الحديث لفظ: (حق).(2/99)
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (5/123، 124)
وقت حلق العانة وغيرها من سنن الفطرة
هل على المرأة حلق شعر العانة بعد كل حيضة ؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه.. وبعد: إزالة شعر العانة بنتف أو نورة أو حلق أو قص من سنن الفطرة التي حث الإسلام عليها ورغب فيها، ولكنه لم يحدد ذلك بعد كل حيضة؛ فقد روى أحمد والبخاري ومسلم وأصحاب السنن: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: خَمْسٌ من الفِطْرَة: الاستِحْدَادُ، والخِتَانُ، وقَصُّ الشَّارِب، وَنَتْفُ الإِبْطِ، وَتَقْلِيمُ الأَظْفَارِ (1)، وثبت عن أنس رضي الله عنه أنه قال: وَقَّتَ لَنَا في قَصِّ الشَّارِبِ وتَقْلِيمِ الأَظْفَارِ ونَتْفِ الإِبْطِ وحَلْقِ العَانَةِ: أَلاَّ نَتْرُكَ أكثرَ مِنْ أربعينَ لَيْلَةً (2)، رواه مسلم وابن ماجه ورواه أحمد والترمذي والنسائي وأبو داود وقالوا: وقَّتَ لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (5/127، 128)
حكم حلق اللِّحْية أو بعضها
أرجو من فضيلتكم بيان حكم حلق اللحية، أو أخذ شيء منها، وما هي حدود اللحية الشرعية ؟
__________
(1) …البخاري (5889، 5891، 6297)، ومسلم (257).
(2) …أحمد (3/122، 203، 255)، ومسلم (258)، وأبو داود (4200)، والنسائي (14)، والترمذي (2759)، وابن ماجه (295) .(2/100)
حلق اللحية محرَّم؛لأنه معصية للرسول - صلى الله عليه وسلم -، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أَعْفُوا اللِّحَى وَأَحْفُوا الشَّوَارِبَ (1) ولأنه خروج عن هدي المرسلين إلى هدي المجوس والمشركين، وحدُّ اللحية كما ذكره أهل اللغة: هي شعر الوجه واللحيين والخدين، بمعنى أن كل ما على الخدين وعلى اللحيين والذقن فهو من اللحية، وأخذ شيء منها داخل في المعصية أيضاً؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: أَعْفُوا اللِّحَى ، وأَرْخُوا اللِّحَى ، ووَفِّرُوا اللِّحَى ، وأَوْفُوا اللِّحَى ... وهذا يدل على أنه لا يجوز أخذ شيء منها؛ لكن المعاصي تتفاوت، فالحلق أعظم من أخذ شيء منها، لأنه أعظم وأبين مخالفة من أخذ شيء منها .
الشيخ ابن عثيمين - رسالة في صفة صلاة النبي، ص (31)
حكم إعفاء اللِّحْية
هل تربية اللحية واجبة أو جائزة ؟ وهل حلقها ذنب أو إخلال بالدين ؟ وهل حلقها جائز مع تربية الشنب ؟
__________
(1) …البخاري (5892، 5893)، ومسلم (259، 260) بألفاظ متقاربة.(2/101)
عن هذه الأسئلة: نقول: صحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين: من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ أَحْفُوا الشَّوَارِبَ وَأَوْفُوا اللِّحَى (1)، وفي صحيح مسلم: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: جُزُّوا الشَّوَارِبَ وَأَرْخُوا اللِّحَى، خَالِفُوا الْمَجُوسَ(2). وخرَّج النسائي في سننه بإسناد صحيح عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَنْ لَمْ يَأْخُذْ مِنْ شَارِبِهِ فَلَيْسَ مِنَّا (3) قال العلامة الكبير والحافظ الشهير أبو محمد بن حزم(4): اتفق العلماء على أن قص الشارب وإعفاء اللحية فرض .اهـ .
__________
(1) …البخاري (5892، 5893 )، ومسلم (259)، واللفظ له.
(2) …مسلم (260) .
(3) …النسائي (13، 5047)، والترمذي (2761) وقال: «حسن صحيح».
(4) …في كتابه: «المحلَّى» (2/220) بنحوه.(2/102)
والأحاديث في هذا الباب، وكلام أهل العلم فيما يتعلق بإحفاء الشوارب وتوفير اللحى وإكرامها وإرخائها كثير، لا يتيسر استقصاء الكثير منه في هذه الرسالة . ومما تقدم من الأحاديث، وما نقله ابن حزم من الإجماع يعلم الجواب عن الأسئلة الثلاثة. وخلاصته: أن تربية اللحية وتوفيرها وإرخاءَها فرض لا يجوز تركه؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر بذلك، وأمره على الوجوب - كما قال الله عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}[الحَشر: 7]، وهكذا قص الشارب واجب، وإحفاؤه أفضل، أما توفيره أو اتخاذ الشنبات فذلك لا يجوز؛ لأنه يخالف قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: قُصُّوا الشَّوَارِبَ (1)، أَحْفُوا الشَّوَارِبَ ، جُزُّوا الشَّوَارِبَ ، مَنْ لَمْ يَأْخُذْ مِنْ شَارِبِهِ فَلَيْسَ مِنَّا ، وهذه الألفاظ الأربعة كلها جاءت في الأحاديث الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي اللفظ الأخير وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: مَنْ لَمْ يَأْخُذْ مِنْ شَارِبِهِ فَلَيْسَ مِنَّا وعيد شديد وتحذير أكيد، وذلك يوجب للمسلم الحذر مما نهى الله عنه ورسوله، والمبادرة إلى امتثال ما أمر الله به ورسوله .
__________
(1) …أحمد (2/229) بإسنادٍ حسن، والطبراني في «الأوسط» (9426)، و«الكبير» (11335، 11724).(2/103)
ومن ذلك يعلم أيضاً أن إعفاء الشارب واتخاذ الشنبات ذنب من الذنوب ومعصية من المعاصي. وهكذا حلق اللحية وتقصيرها من جملة الذنوب والمعاصي التي تنقص الإيمان وتضعفه، ويخشى منها حلول غضب الله ونقمته . وفي الأحاديث المذكورة آنفاً الدلالة على أن إطالة الشوارب وحلق اللحى وتقصيرها من مشابهة المجوس والمشركين. وقد علم أن التشبه بهم منكر لا يجوز فعله؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ(1). وأرجو أن يكون في هذا الجواب كفاية ومقنع.
والله ولي التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
الشيخ ابن باز - مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (3/362، 363)
ما المراد باللِّحْية ؟
ما المراد باللحية ؟
حد اللحية من العظمين الناتئين بحذاء صماخي الأذنين إلى آخر الوجه، ومنها الشعر النابت على الخدين.
قال في (القاموس المحيط) ص387 جـ4: «اللِّحية بالكسر: شعر الخدين والذقن». وعلى هذا فمن قال: إن الشعر الذي على الخدين ليس من اللحية فعليه أن يثبت ذلك.
الشيخ ابن عثيمين - مجموع فتاوى ورسائل (11/124)
هل العارِضَان من اللِّحية ؟
هل العارضان من اللحية ؟
__________
(1) …أحمد بزيادة فيه (2/ 50، 92)، وأبو داود (4031)، والطبراني في «الأوسط» (8327)، وهو حديث حسن بشواهده. انظر: «فتح الباري» (10/271)، و«فيض القدير» للمناوي 6/105 (8593).(2/104)
نعم؛ العارضان من اللحية؛ لأن هذا هو مقتضى اللغة التي جاء بها الشرع؛ قال الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ *}[يُوسُف]، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُْمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}[الجُمُعَة، من الآية: 2]، وبهذا عُلم أن ما جاء في القرآن والسنة فالمراد به ما يدل عليه بمقتضى اللغة العربية، إلا أن يكون له مدلول شرعي فيحمل عليه، مثل: الصلاة؛ هي في اللغة العربية: الدعاء، لكنها في الشرع تلك العبادة المعلومة، فإذا ذكرت في الكتاب والسنة حُملتْ على مدلولها الشرعي إلا أن يمنع من ذلك مانع.
وعلى هذا فإن اللحية لم يجعل لها الشرع مدلولاً شرعياً خاصًّا فتحمل على مدلولها اللغوي، وهي في اللغة اسم للشعر النابت على اللحيين والخدين؛ من العظم الناتئ حذاء صماخ الأذن إلى العظم المحاذي له من الجانب الآخر.
قال في القاموس: «الِّلحية بالكسر: شعر الخدين والذقن».
وهكذا قال في (فتح الباري) ص35 جـ10 ط السلفية: «هي اسم لما نبت على الخدين والذقن».
وبهذا تبين أن العارضين من اللحية، فعلى المؤمن أن يصبر ويصابر على طاعة الله ورسوله، وإن كان غريباً في بني جنسه فطوبى للغرباء. وليعلم أن الحق إنما يوزن بكتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ لا يوزن بما كان عليه الناس مما خالف الكتاب والسنة، فنسأل الله تعالى أن يثبتنا وإخواننا المسلمين على الحق.
الشيخ ابن عثيمين - مجموع فتاوى ورسائل (11/124)
حكم صبغ اللِّحية بالسواد (للشيخ ابن عثيمين)
نرى كثيراً من المسلمين يصبغون لحاهم بالسواد ويقولون: إن النهي عنه لم يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإنما هو مدرج من كلام بعض الرواة، وإن صح فإنما المراد به ما قصد به التدليس؛ أما ما قصد به الجمال فلا .. فما مدى صحة ذلك ؟(2/105)
النهي عن صبغ الشيب بالسواد ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما(1): رواه مسلم وأبو داود، ودعوى الإدراج غير مقبولة إلا بدليل، لأن الأصل عدمه، وقد روى أبو داود والنسائي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يكونُ قومٌ يَخْضِبُون في آخر الزمان بالسَّوَادِ كَحَوَاصِلِ الحَمَامِ لا يَرِيحُونَ رائحَةَ الجنة(2). قال ابن مفلح(3) - أحد تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيمية -: «إسناده جيد». وهذا الحديث يقتضي تحريم صبغ الشيب بالسواد، وأنه من كبائر الذنوب والحكمة في ذلك - والله أعلم - ما فيه من مضادة الحكمة في خلق الله تعالى بتجميله على خلاف الطبيعة، فيكون كالوَشْم والوَشْر والنَّمْص والوَصْل، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لَعَنَ الوَاصِلَةَ والمُسْتَوْصِلَة والوَاشِمَة والمُسْتَوْشِمَة، ولَعَنَ المُتَنَمِّصَاتِ والمُتَفِّلجاتِ لِلْحُسْنِ، المُغَيِّراتِ لِخَلْقِ اللهِ تعالى(4).
وأما دعوى أن النهي عن الصبغ بالسواد من أجل التدليس: فغير مقبولة أيضاً؛ لأن النهي عام، والظاهر أن الحكمة ما أشرنا إليه.
__________
(1) …مسلم (2102)، وأبو داود (4204)، وابن حبان (5471)، والنسائي في «الكبرى» (9347)، وابن ماجه (3624)، وأحمد (3/316، 322، 338) .
(2) …أحمد (1/273)، وأبو داود (4212)، والنسائي (5075)، والطبراني في «الكبير» (12254). وصححه الألباني؛ كما في «صحيح سنن أبي داود» (3548).
(3) …في «الآداب الشرعية» (3/335).
(4) …البخاري (4886) وأطرافه فيه، وَ(5931 - 5948)، ومسلم (2122-2126). و(الوَصْل): هو وَصْلُ المرأة شعرَها بشعرٍ آخر، و(الوَشْم): هو غَرْز الجلد بإبرةٍ ثم حَشْوُهُ بكُحْلٍ أو نيلٍ؛ فيزرقّ أثره أو يَخْضَرّ. و(النَّمْص): نَتْفُ شعر الوجه أو الجبين. و(التفَلُّج): هو عمل فُرْجَة في الأسنان بين الثنايا والرَّبَاعيات؛ رغبةً في التحسين.(2/106)
وإذا كان هذا حكم الصبغ الأسود، فإن في الحلال غنى عنه؛ وذلك بأن يصبغ بالحِنَّاء والكَتَم أو بصبغ يكون بين الأسود والأحمر؛ فيحصل المقصود بتغيير الشيب إلى صبغ حلال، وما أغلق باب يضر الناس إلا فتح لهم من الخير أبواب - ولله الحمد.
وما روي عن بعض الصحابة من أنهم كانوا يخضِبون بالسواد: فإنه لا يدفع به ما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن الحجة فيما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن خالفه من الصحابة، فمن بعدهم: فإنه يلتمس له العذر حيث يستحق ذلك، والله تعالى إنما يسأل الناس يوم القيامة عن إجابتهم الرسل، قال الله تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ *}[القَصَص].
الشيخ ابن عثيمين - مجموع فتاوى ورسائل (11/123)
حكم صبغ اللِّحية بالسواد (للجنة الدائمة)
هل يجوز صبغ اللحية بالسواد ؟(2/107)
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه.. وبعد: لا يجوز أن يصبغ الرجل لحيته بالسواد؛ لورود الأمر باجتنابه والنهي عن فعله: فقد روى أبو داود بسنده عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: (أُتِيَ بأبي قُحافة يوم فتح مكة ورأسه ولحيته كالثَّغَامَة(1) بياضاً فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: غَيِّرُوا هذا الشَّيْب وجَنِّبُوهُ السَّوَاد )(2) ؛ وقد أخرجه مسلم والنسائي وابن ماجه، وروى أحمد وأبو داود والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يكون قومٌ يَخْضِبُون في آخر الزمان بالسَّوَاد كحَوَاصِلِ الحَمَام لا يَرِيحُونَ رائِحَةَ الجنة (3)؛ لكن يستحب تغيير الشيب بغير السواد لحديث جابر رضي الله عنه المذكور.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية (5/166)
حكم الصلاة وراء حليق اللِّحية
رجل حالق لحيته خطيب في الجامع .. هل ترون أن نصلي وراءه ؟ بيِّنُوا تؤجروا .
__________
(1) …الثَّغَامَة: نَبْتٌ أبيضُ الزّهر والثَّمر؛ يُشبَّه به الشَّيْب.
(2) …مسلم (2102)، وأبو داود (4204)، وابن حبان (5471)، والنسائي في «الكبرى» (9347)، وابن ماجه (3624)، وأحمد (3/316، 322، 338) .
(3) …أحمد (1/273)، وأبو داود (4212)، والنسائي (5075)، والطبراني في «الكبير» (12254). وصححه الألباني؛ كما في «صحيح سنن أبي داود» (3548).(2/108)
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه.. وبعد: حلق اللحية حرام؛ لما رواه أحمد والبخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: خَالِفُوا المشركين؛ وَفِّرُوا اللِّحَى وأَحْفُوا الشَّوَارِب (1)، ولما رواه أحمد ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: جُزُّوا الشوارب وأَرْخُوا اللِّحَى، خَالِفُوا المَجُوس (2)، والإصرار على حلقها من الكبائر فيجب نصح حالقها والإنكار عليه، ويتأكد ذلك إذا كان في مركز قيادي ديني، وعلى هذا إن كان إماماً لمسجد ولم ينتصح وجب عزله إن تيسر ذلك ولم تحدث فتنة؛ وإلا وجبت الصلاة وراء غيره من أهل الصلاح على من تيسر له ذلك؛ زجراً له وإنكاراً عليه إن لم يترتب على ذلك فتنة، وإن لم يتيسر الصلاة وراء غيره شرعت الصلاة وراءه؛ تحقيقاً لمصلحة الجماعة، وإن خيف من الصلاة وراء غيره حدوث فتنة صلى وراءه؛ درءاً للفتنة وارتكاباً لأخف الضررين.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (5/139)
متى يوصف حَالِقُ اللِّحية بالفسق ؟
ما الحكم أن تقول لحالق اللحية: إنه فاسق ؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه.. وبعد: هذا القول صدق، وخاصة فيمن يصرّ على حلقها، لكن مواجهة من يحلقها بذلك قبل النصح والبيان ليس من سياسة الدعوة إلى الخير والنهي عن المنكر؛ لأنه ينفر من سماع البيان وقبول النصح، فعلى الداعية إلى الحق أن يترفق أولاً في نصحه وإرشاده، وإذا أبى أن يقبل النصح وأصر على المعصية فلا مانع من وصفه بالفسق.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (5/146، 147)
حكم اتِّخاذ حَلْقِ اللِّحية مهنة
__________
(1) …البخاري (5892) واللفظ له، ومسلم (259).
(2) …مسلم (260).(2/109)
أنا مسلم ملتزم مطلق لحيتي أملك صالون حلاقة للرجال، وهذه مهنتي منذ صغري وليس لي أي مهنة أخرى أستطيع أن أعيش منها، ثم إنني في هذه المهنة أحلق اللحية للزبائن .. فهل أنا أرتكب وزراً وما حكم الدين في ذلك ؟ وفي هذه المهنة أعمل بالاستشوار لكي أفرد شعر الزبائن .. فما حكم الدين في ذلك ؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه.. وبعد: أولاً: يحرم على المسلم أن يحلق لحيته؛ للأدلة الصحيحة على تحريم حلقها، ويحرم على غيره أن يحلقها له؛ لما في ذلك من التعاون على الإثم، وقد نهى الله عن ذلك بقوله: {وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِْثْمِ وَالْعُدْوَانِ}[المَائدة: 2].
ثانياً: يجوز لك أن تمشط شعر الرجل وتبسطه وتدهنه وتعطره، ولا يجوز لك ذلك بالنسبة للنساء غير محارمك.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (5/145)
حكم إطالة الأظافر
ما حكم الشرع فيمن يطيل أظافره كلها أو بعضها ؟(2/110)
تطويل الأظافر مكروه إن لم يكن محرمًا؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقَّت في تقليم الأظافر ألا تترك فوق أربعين يومًا(1). ومن الغرائب أن هؤلاء الذين يدّعون المدنية والحضارة يبقون هذه الأظافر مع أنها تحمل الأوساخ والأقذار، وتوجب أن يكون الإنسان متشبهًا بالحيوان؛ ولهذا قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللهِ فَكُلْ؛ لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفُرَ ... أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ، وَأَمَّا الظُّفُرُ فَمُدَى الْحَبَشَةِ (2)، يعني: أنهم يتخذون الأظافر سكاكين يذبحون بها ويقطعون بها اللحم أو غير ذلك؛ فهذا من هدي هؤلاء الذين أشبه ما يكونون بالبهائم.
الشيخ ابن عثيمين - كتاب الدعوة، (5) - (2/79، 80)
حكم حلق شعر الإبطين أو قَصّه
ما حكم حلق شعر الإبطين أو قصه لمن لا يقوى على نتفه ؟ أفتونا مأجورين .
لا بأس بذلك؛ فإن القصد إزالته لئلا يعلق به العرق والوسخ، ويحصل منه النَّتْنُ والصُّنَان المضر لمن شَمَّهُ بخبث رائحته، وحيث أنه يقع في موضع رقيق، فإن الأصل نتفه، وذلك سهل ومعتاد؛ لا يشق ولا يستصعب، فإن لم يَقْوَ على النتف جاز القص بالمقراض، والإزالة بالنُّورَة(3)، والحلق بالمُوسَى ونحوه، والله أعلم .
الشيخ ابن جبرين - من قوله وإملائه
حكم إطالة شعر رأس الرجل
ما تقول في قوم يطيلون شعورهم ؟
__________
(1) …أحمد (3/122، 203، 255)، ومسلم (258)، وأبو داود (4200)، والنسائي (14)، والترمذي (2759)، وابن ماجه (295) .
(2) …البخاري (3488) وأطرافه عنده، ومسلم (1968). والمُدَى جمع مُدْيَة، وهي: السكّين أو الشَّفْرةُ الكبيرة.
(3) …النُّورة: حجر الكِلْس وأخلاط من أملاح الكالسيوم والباريون؛ تستعمل لإزالة الشعر. (المعجم الوسيط).(2/111)
التقليد في الأمور النافعة التي لم يرد الشرع بالنهي عنها أمر جائز، وأما التقليد في الأمور الضارة أو التي منع الشرع منها من العادات فهذا أمر لا يجوز، فهؤلاء الذين يطولون شعورهم نقول لهم: هذا خلاف العادة المتبعة في زمننا هذا، واتخاذ شعر الرأس مختلف فيه: هل هو من السنن المطلوب فعلها ؟ أو هو من العادات التي يتمشى فيها الإنسان على ما اعتاده الناس في وقته ؟
والراجح عندي: أن هذا من العادات التي يتمشى فيها الإنسان على ما جرى عليه الناس في وقته؛ فإذا كان من عادة الناس اتخاذ الشعر وتطويله فإنه يفعل، وإذا كان من عادة الناس حلق الشعر أو تقصيره فإنه يفعل.
ولكن البلية كل البلية أن هؤلاء الذين يعفون شعور رؤوسهم لا يعفون شعور لحاهم، ثم هم يزعمون أنهم يقتدون بالرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهم في ذلك غير صادقين؛ فهم يتبعون أهواءهم. ويدل على عدم صدقهم في اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم -: أنك تجدهم قد أضاعوا شيئاً من دينهم هو من الواجبات كإعفاء اللحية مثلاً، فهم لا يعفون لحاهم وقد أمروا بإعفائها، وكتهاونهم في الصلاة وفي غيرها من الواجبات الأخرى؛ مما يدلك على أن صنيعهم في إعفاء شعورهم ليس المقصود به التقرب إلى الله ولا اتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ وإنما هي عادة استحسنوها فأرادوها ففعلوها.
الشيخ ابن عثيمين - مجموع فتاوى ورسائل (11/119)
حكم جعل شعر الرأس بعضه أطول من بعض
ما حكم من ترك بعض شعر الرأس أطول من بعض (التواليت) ؟(2/112)
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه.. وبعد: روى أبو داود عن عبدالله بن عمر رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن القزع وقال: احْلِقُوهُ كُلَّهُ أَوِ اتْرُكُوهُ كُلَّه(1). قال في «شرح الإقناع»(2): فيدخل في القزع حلق مواضع من جوانب الرأس أو أن يحلق وسطه ويترك جوانبه؛ كما تفعله عامة النصارى، أو حلق جوانبه وترك وسطه كما يفعله كثير من السفهاء، وأن يحلق مقدمه ويترك مؤخره .. وسئل أحمد عن حلق القفا فقال: (هو من فعل المجوس، ومن تَشَبَّهَ بقوم فهو منهم).
وبهذا يعلم أنه لا يجوز ترك بعض شعر الرأس أطول من بعض.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (5/176)
حكم القزع (حلق بعض الرأس وترك بعضه)
ما حكم القزع ؟
القَزَعُ هو حلق بعض الرأس وترك بعضه، وهو أنواع:
النوع الأول: أن يحلق بعضه غير مرتب؛ فيحلق مثلاً من الجانب الأيمن ومن الناصية ومن الجانب الأيسر.
النوع الثاني: أن يحلق وسطه ويدع جانبيه.
النوع الثالث: أن يحلق جوانبه ويدع وسطه، قال ابن القيم رحمه الله كما يفعله السُّفْل.
النوع الرابع: أن يحلق الناصية فقط ويدع الباقي.
__________
(1) …أحمد (2/88)، وأبو داود (4195)، والنسائي (5048)، وابن حبان في «صحيحه» (5508). قال النووي في «شرح مسلم» 7/167: «بإسناد على شرط البخاري ومسلم».
(2) …«كشاف القناع» للبهوتي (1/79، 80) بنحوه وزيادة.(2/113)
والقزع كله مكروه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى صبيًّا حَلَقَ بعض رأسه فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، أن يُحْلَقَ كلُّه أو يُترَك كلُّه(1)، لكن إذا كان قزعاً مشبهاً للكفار فإنه يكون محرماً، لأن التشبه بالكفار محرم، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: مَنْ تَشَبَّهَ بقومٍ فهو منهم(2).
الشيخ ابن عثيمين - مجموع فتاوى ورسائل (11/118) صفة تطبيق سنة السواك
أسمع من يقول: إن السواك داخل المسجد لا يجوز.. فعل هذا صحيح ؟
الحمدلله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه.. وبعد: السواك سنة، ويتأكد كلما دعت الحاجة إليه من وضوء وصلاة وقراءة قرآن وتَغَيُّرِ فَمٍ ونحو ذلك، ويجوز فعله داخل المسجد وخارجه؛ لعدم وجود نص يمنع منه داخل المسجد مع وجود الداعي إليه، ولعموم حديث: لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ علَى أُمَّتِي لأَمَرْتُهُم بالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ صَلاَة (3)، إلا أنه ينبغي ألا يبالغ فيه إلى درجة التقايئ وهو في المسجد؛ خشية أن يخرج منه قيء أو دم يلوث المسجد.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (5/109)
دفع شبهة عن السواك
رجل يرى أن السواك أمام الناس - وما يتبع ذلك من التفل والبصق لإخراج الريق أمامهم بشكل دائم - عمل غير لائق وتشمئز منه النفس السوية، فما رأيكم فيما يقول ؟ وما هي الصفة الصحيحة للسواك ؟
__________
(1) …أحمد (2/88)، وأبو داود (4195)، والنسائي (5048)، وابن حبان في «صحيحه» (5508). قال النووي في «شرح مسلم» 7/167: «بإسناد على شرط البخاري ومسلم».
(2) …أبو داود (4031)، والطبراني في «الأوسط» (8327)، وأحمد بزيادة فيه (5114، 5115، 5667). وهو حديث حسن بشواهده. انظر: «فتح الباري» (10/271)، و«فيض القدير» للمناوي 6/105 (8593).
(3) …البخاري (887)، ومسلم (252).(2/114)
السواك سنة ويجوز أمام الناس، ولا يلزم منه إخراج الريق، ولا يحتاج معه إلى البصاق بشكل دائم؛ فلا بأس باستعماله أمام الناس ولو أنكر ذلك من أنكره، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستاك إذا قام إلى الصلاة وإذا قام من النوم، وإذا احتاج إلى السواك، وقال - صلى الله عليه وسلم -: لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ علَى أُمَّتِي لأَمَرْتُهُم بالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلاَةٍ(1).
والصفة الصحيحة للتسوُّك: أن يلين طرف السواك بعد مضغه وإصلاحه، ثم يدلك به أسنانه، والمختار أن يستاك عرضاً يبدأ بجانب فمه الأيمن، ويمر السواك على أسنانه وعلى اللثة واللسان، وكيفما استعمله جاز. والله أعلم.
الشيخ ابن جبرين فتوى عليها توقيعه - في 13/10/1423هـ
حكم استعمال الفرشاة والمعجون
هل استعمال الفرشة للأسنان مع المعجون جائز أم لا علماً؛ أنه لا يكتفي به عن السواك ؟
الحمدلله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه.. وبعد: يجوز تنظيف الأسنان بالفرشة مع المعجون.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (5/111)
الفصل الخامس آداب قضاء الحاجة
حكم الحمّام المعلَّق (المبولة)
يوجد لدينا في العمل وعلى حائط داخل دورة المياه ما يسمى (الحمّام المعلّق)؛ يأتي إليه بعض الإخوان الذين يلبسون البنطلونات ويبول الواحد منهم وهو واقف، فكيف يضمن أن البول لا يصيب بنطلونه ؟! وفي يوم من الأيام نصحت شخصاً ما، فقال: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم ينه عن ذلك .. أرجو النصح والإرشاد.
يجوز للشخص البول وهو واقف إذا تحرز من رشاش البول على بدنه وثيابه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بَالَ وهو واقف في بعض المرات(2) ؛ لا سيما إذا كان يحتاج إلى ذلك لضيق ملابسه أو لآفة في جسمه؛ إلا أنه يكره من غير حاجة.
__________
(1) …البخاري (887)، ومسلم (252).
(2) …البخاري (224)، ومسلم (273) .(2/115)
الشيخ الفوزان - كتاب الدعوة (8) (3/46)
حكم الوضوء والشرب والبول قائماً
ما حكم الوضوء أو الشرب أو البول حالة القيام ؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه.. وبعد: يتوضأ المسلم حسبما يتيسر له قاعداً أو قائماً، وله أن يشرب قائماً وقاعداً، والأفضل أن يشرب قاعداً. وهكذا له البول قائماً إذا دعت الحاجة إليه، ولم ير عورته أحد، ولم يخش من عود رشاش البول عليه، والبول جالس أفضل؛ لأنه هو الغالب من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (5/202)
الفصل السادس الاستنجاء والاستجمار
هل يلزم الاستنجاء قبل كل وضوء ؟
هل يلزم الإنسان أن يستنجي كل مرة يريد أن يتوضأ فيها ؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه.. وبعد: لا يلزمه الاستنجاء كلما أراد أن يتوضأ إنما يلزمه الاستنجاء بغسل قُبُله إذا خرج منه بول ونحوه، ويغسل دبره إذا خرج غائط ثم يتوضأ للصلاة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (5/102)
هل يكفي الاستجمار عن الاستنجاء ؟
نستعمل في بريطانيا المناديل والأوراق في الاستنجاء في الحمامات .. فهل يجب استعمال الماء بعد استعمال المناديل أو لا ؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه.. وبعد: يجوز استعمال المناديل والأوراق ونحوهما في الاستجمار، وتجزئ إذا أنقت ونظفت المحل من قُبُل أو دبر، والأفضل أن يكون استعمال ما يستجمر به وتراً، ويجب ألاّ ينقص عن ثلاث مسحات، ولا يجب استعمال الماء بعده؛ لكنه سنة.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (5/107) الفصل السابع كيفية الوضوء
كيفية الوضوء الكامل
إذا توضأ الإنسان ونسي فرضاً فما العمل ؟(2/116)
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه.. وبعد: المشروع للمتوضئ أن يتوضأ وضوءاً كاملاً: مرتباً ومتوالياً كوضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فقد ثبت عن حمران مولى عثمان: أن عثمان بن عفان رضي الله عنه دعا بوضوء فأفرغ على يديه من إنائه فغسلهما ثلاث مرات، ثم أدخل يمينه في الوضوء ثم تمضمض واستنشق واستنثر، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ويديه إلى المرفقين ثلاثاً، ثم مسح برأسه، ثم غسل كلتا رجليه ثلاثاً، ثم قال: (رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ نحو وضوئي هذا ثم قال: مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هذا ثم صَلَّى ركعتين لا يُحَدِّثُ فيهما نَفْسَهُ غَفَرَ الله لهُ ما تقدَّمَ من ذنبِه )(1) متفق عليه. فمن ترك فرضاً من فروض الوضوء المذكوره كغسل الوجه أو اليدين بطل وضوءه.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (5/230)
صفة وضوء فاقد الأعضاء
رجل مقطوعة يده إلى العضد .. كيف يتم غسلها للصلاة ؟ وهل الحكم يختلف إذا كانت المقطوعة رجله إلى الركبة ؟
حيث أمر الله بغسل اليدين والرجلين وحدد منتهى الغسل؛ فقد عرف من ذلك: أن الصلاة لا تصح إلا بتمام الطهارة التي منها غسل الأعضاء المذكورة، وأما المقطوع فإن بقي شيء من المفروض كبعض الذراع أو القدم لزم غسل ما بقي؛ وإن لم يبق من المفروض شيء: فقد ذكر الفقهاء أنه يغسل رأس العضد أو رأس الساق؛ حتى يصدق عليه أنه غسل مسمى اليدين والرجلين.
الشيخ ابن جبرين - جامع الفتاوى الطبية، ص (328)…جمع وترتيب : د. عبدالعزيز بن فهد بن عبدالمحسن
حكم الأذكار أثناء الوضوء
هل ثبت في الشرع دعاء أثناء الوضوء أو لا ؟
__________
(1) …البخاري (159، 164)، ومسلم (226).(2/117)
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه.. وبعد: لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعاء أثناء الوضوء عند غسل الأعضاء أو مسحها، وما ذكر من الأدعية في ذلك مبتدع لا أصل له، وإنما المعروف شرعاً التسمية أوله، والنطق بالشهادتين بعده، وقول: اللهُمَّ اجْعَلْنِي من التوَّابِين واجعلني من المُتَطَهِّرِين (1) بعد الشهادتين.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (5/205)
حكم الاستنشاق في الوضوء
قمت لصلاة الفجر متأخراً والناس في المساجد يصلون، وتوضأت وذهبت إلى المسجد فلحقت الصلاة معهم؛ ولكن عندما كنت في الركعة الثانية تذكرت أنني لم أستنشق فقط .. فما حكم صلاتي ؟
الحمد لله، وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه.. وبعد: الاستنشاق واجب في الوضوء؛ لما ثبت من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمره بقوله: مَنْ توضَّأَ فَلْيَسْتَنْثِرْ (2)، وقوله: من توضَّأَ فَلْيَسْتَنْشِقْ (3) ومن لم يستنشق فوضوءه غير صحيح، والواجب عليك إعادة الوضوء والصلاة المذكورة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (5/209)
متى تُخَلَّل اللِّحية ؟
هل معنى تخليل اللحية في الوضوء هو وجوب وصول الماء إلى بشرة اللحية ؟
__________
(1) …الترمذي (55)، والطبراني في «الأوسط» (4895)، وصححه الألباني في «صحيح الترمذي» (48)، وأصله في «صحيح مسلم» برقم (234).
(2) …البخاري (161، 162، 3295)، ومسلم (237، 238).
(3) …مسلم برقم (237).(2/118)
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه.. وبعد: يجب غسل ظاهر اللحية الكثيفة ولا يجب غسل باطنها ولا البشرة التي تحته؛ ولكن يشرع تخليلها، قال النووي(1) رحمه الله تعالى: لا خلاف في وجوب غسل اللحية الكثيفة، ولا يجب غسل باطنها ولا البشرة التي تحته اتفاقاً، وهو مذهب جماهير العلماء من الصحابه والتابعين ومن بعدهم. وقال ابن رشد: (هذا أمر لا أعلم فيه خلافاً) انتهى. وأما اللحية الخفيفة التي تبين منها البشرة فإنه يجب غسل باطنها وظاهرها.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (5/206، 207)
الفصل الثامن المسح على الخفين
شروط المسح
ما شروط المسح على الخفين ؟
يُشترط للمسح على الخفين أربعة شروط:
الشرط الأول: أن يكون لابساً لهما على طهارة. ودليل ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - للمغيرة بن شعبة رضي الله عنه: دَعْهُمَا فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُما طَاهِرَتَيْن(2).
الشرط الثاني: أن تكون الخُفَّان أو الجَوَارِب طاهرة، فإن كانت نجسة فإنه لا يجوز المسح عليها، ودليل ذلك: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى ذات يوم بأصحابه وعليه نعلان فخلعهما في أثناء صلاته، وأخبر أن جبريل عليه السلام أخبره بأن فيهما أذى أو قذراً، وهذا يدل على أنه لا تجوز الصلاة فيما فيه نجاسة، ولأن النجس إذا مُسح عليه بالماء تلوث الماسح بالنجاسة.
__________
(1) …في «المجموع» (1/434)، بنحوه مختصرًا.
(2) …البخاري (5799)، ومسلم (274).(2/119)
الشرط الثالث: أن يكون مسحهما في الحدث الأصغر لا في الجنابة أو ما يوجب الغسل، ودليل ذلك: حديث صفوان بن عسال رضي الله عنه قال: أَمَرَنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كُنَّا سَفْراً أن لا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثلاثةَ أيامٍ ولَيَالِيهِنَّ، إلا مِنْ جَنَابةٍ؛ ولكن مِن غائطٍ وبولٍ ونَومٍ(1). فيشترط أن يكون المسح في الحدث الأصغر، ولا يجوز المسح في الحدث الأكبر لهذا الحديث الذي ذكرناه.
الشرط الرابع: أن يكون المسح في الوقت المحدد شرعاً؛ وهو يوم وليلة للمقيم، وثلاثة أيام بلياليها للمسافر، لحديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: جَعَلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - للمُقِيم يوماً وليلةً، وللمسافرِ ثلاثةَ أيامٍ ولَيَالِيهِن(2). يعني في المسح على الخفين، أخرجه مسلم. فهذه هي الشروط التي تُشترط للمسح على الخفين، وهناك شروط أخرى ذكرها بعضُ أهل العلم، وفي بعضها نظر.
الشيخ ابن عثيمين - مجموع فتاوى ورسائل (11/164)
المسح على الجَوَارِب المُخَرَّقة والشَّفَّافَة
ما حكم المسح على الجوارب إذا كان بها ثقوب أو شفافة ؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه.. وبعد: يجوز المسح عليها في وضوء بدلاً من غسل الرجلين؛ إذا كان لبسهما على طهارة ما لم تتسع الثقوب عرفاً أو تزيد الشفافية حتى تكون الرِّجْلان في حكم العَارِيَتَيْن يرى ما وراءها من حمرة أو سواد مثلاً.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (5/246)
هل يشترط في الخف ستر محل الفرض ؟
ما تقول فيما اشترطه بعض العلماء من كون الجورب والخف ساترين لمحل الفرض ؟
__________
(1) …أحمد (4/239، 240)، والترمذي (96، 3535)، والنسائي (126، 127)، وابن ماجه (478)، وابن حبان (1100، 1320، 1321)، وقال الترمذي: «حسن صحيح».
(2) …مسلم (276) وغيره.(2/120)
هذا الشرط ليس بصحيح؛ لأنه لا دليل عليه، فإن اسم الخف أو الجورب ما دام باقياً فإنه يجوز المسح عليه؛ لأن السنة جاءت بالمسح على الخف على وجه مطلق، وما أطلقه الشارع فإنه ليس لأحد أن يقيده إلا إذا كان لديه نص من الشارع أو إجماع أو قياس صحيح؛ وبناء على ذلك فإنه يجوز المسح على الخف المخرق ويجوز المسح على الخف الخفيف، لأن كثيراً من الصحابة كانوا فقراء، وغالب الفقراء لا تخلو خِفافهم من خروق(1)، فإذا كان هذا غالباً أو كثيراً في قوم في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولم يُنّبه عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم -: دلّ ذلك على أنه ليس بشرط، ولأنه ليس المقصود من الخف ستر البشرة، وإنما المقصود من الخف أن يكون مدفئاً للرجل، ونافعاً لها، وإنما أجيز المسح على الخف، لأن نزعه يشق، وهذا لا فرق فيه بين الجورب الخفيف والجورب الثقيل، ولا بين الجورب المخرق والجورب السليم، والمهم أنه ما دام اسم الخف باقياً، فإن المسح عليه جائز لما سبق من الدليل.
الشيخ ابن عثيمين - مجموع فتاوى ورسائل (11/165)
حكم المسح على الحذاء الطويل المصنوع من الجلد
ما حكم رجل توضأ وضوءاً تاماً ثم لبس شراباً وفوقه حذاء طويل من الجلد يصل إلى ما دون الركبة ؟ وهو الحذاء الذي يلبسه من يمارس رياضة الفروسية، ثم إنه بعد لبسه لذلك الحذاء انتقض وضُوءُه، وحين أراد أن يتوضأ مسح على ذلك الحذاء ولم يخلعه حيث أنه لبسه على طهارة، وعندما ذهب إلى المسجد وأراد الدخول إليه لأداء الصلاة خلع الحذاء خشية أن يتسخ سجاد المسجد بالأتربة العالقة به، وبعد أن صلى خرج من المسجد ولبس حذاءه؛ فهل يصح له المسح عليه بعد ذلك ؟
__________
(1) …انظر: «مجموع الفتاوى» لشيخ الإسلام ابن تيمية (21/212).(2/121)
في هذه الحالة يكون المسح على الجورب؛ فإذا توضأ ووصل إلى رجليه: خلع الحذاء الطويل ومسح على الجورب ثم لبس الحذاء ثم خلعه عند دخوله إلى المسجد، وصار الحذاء بمنزلة النعل التي يلبسها ثم يخلعها. أما إذا خلعه بعد أن مسح عليه: فإنه يبطل مسحه، وعليه في هذه الحال أن يعيد الوضوء ويمسح على الشراب، ويعيد الصلاة التي صلاها على تلك الصفة. والله أعلم.
الشيخ ابن جبرين - من قوله وإملائه - في 21/8/1423هـ
صفة المسح ومبطلاته
ما هي كيفية المسح على الخفين ؟ وماهي مبطلات المسح ؟
المسح هو أن تبل يديك وتمسح على كل خف بيد، تبدأ من رؤوس الأصابع إلى الساق، وتمر أصابع يديك على جوانب الخف أو الجورب حتى يعم المسح أكثره، ولا يشرع مسح أسفله ولا عقبيه، وإن مسح كل جورب أو خف بيديه؛ أي الأيمن بيديه كليهما ثم يبلهما ويمسح بهما الأيسر جاز.
ومبطلات المسح: تمام المدة، أو ظهور بعض محل الفرض، أو خلعهما ولو قبل المدة؛ فيستأنف الطهارة.
الشيخ ابن جبرين - فتوى عليها توقيعه - في 21/8/1423هـ
حكم غسل اليمنى وإدخالها الخف قبل غسل اليسرى
ما الحكم إذا غسل الرجل رجله اليمنى ثم يلبس بعد ذلك الجورب قبل أن يغسل رجله اليسرى ؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه.. وبعد: ليس لك المسح عليهما؛ لأنك أدخلت الأولى قبل تمام الطهارة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (5/247) خلع الخف أو الجورب هل ينقض الوضوء والمسح عليهما ؟
س1:
إذا خلع الإِنسان خفيه بعد أن مسح عليهما .. فهل تبطل طهارته ؟(2/122)
ج1: إذا خلع الخف أو الجورب بعد أن مسح عليه فلا تبطل طهارته على القول الصحيح؛ لكن يبطل مسحه دون طهارته، فإذا أرجعها مرة أخرى وانتقض وضُوءُه، فلابد أن يخلع الخف ويغسل رجليه، والمهم أن نعلم أنه لابد أن يلبس الخف على طهارة غسل فيها الرِّجل على ما علمنا من كلام أهل العلم. ولأن هذا الرَّجل لمّا مسح على الخف تمت طهارته بمقتضى دليل شرعي، وما ثبت بمقتضى دليل شرعي فإنه لا ينتقض إلا بدليل شرعي، وعلى هذا فلا ينتقض وضُوءُه إذا خلع خفيه؛ بل يبقى على طهارته إلى وجود ناقض من نواقض الوضوء المعروفة. ولكن لو أعاد الخف بعد ذلك وأراد أن يمسح عليه في المستقبل فلا، على ما أعلمه من كلام أهل العلم.
الشيخ ابن عثيمين - مجموع فتاوى ورسائل(11/179)
س2: رجل توضأ وضوءاً تاماً ثم لبس جورباً، ثم بعد مدة من الزمن وقبل أن ينتقض وضُوءُه، خلع ذلك الجورب ولبس آخر، ثم انتقض وضُوءُه بعد ذلك، فهل يصح له المسح على الجورب ؟
ج2: يجوز له المسح على الجورب الثاني؛ لأنه لبسه على طهارة قد غسل فيها قدميه وقبل أن ينتقض وضُوءُه، فهو في هذه الحال لا يزال على الطهارة الأولى، فله أن يغير الجوارب، أو يلبس فوقها غيرها، وكذلك له أن يخلعها ويصلي بدون جوارب، حيث أنه لا يزال على طهارة، أما لو كان تغييرها بعد انتقاض الوضوء الأول والمسح على الخفاف أو الجوارب: فإنه إذا خلعها بطل وضُوءُه، حيث تبقى قدماه مكشوفتين وهو غير غاسل لهما، فيكون كالذي ترك غسل قدميه حتى يبست أعضاؤه، فهو في هذه الحال لابد أن يعيد الوضوء ويغسل القدمين.
الشيخ ابن جبرين من قوله وإملائه - في 21/8/1423
س3: رجل توضأ وضوءاً تاماً ثم لبس جورباً، ثم بعد مدة من الزمن انتقض وضوؤه، فتوضأ ومسح على الجورب، وقبل أن ينتقض وضوؤه الثاني خلع ذلك الجورب ولبس آخر، ثم انتقض وضوؤه بعد ذلك.. فهل يصح له المسح على الجورب ؟(2/123)
ج3: نرى في هذه الحال أنه قد بطل وضوؤه الثاني، حيث خلع ذلك الجورب، فهو بخلعه له تكون رجلاه باديتين غير مغسولتين، وقد خلع الحائل الذي مسح عليه فانتقض وضوؤه، ولا يقاس على من مسح رأسه ثم حلقه، فإن الشعر من جملة البدن، لا يمكن إعادته بعد حلقه، ولو جره أحد لتألم صاحبه، فمسحه يعتبر مسحاً لشيء متصل بالبدن، كبشرة الوجه واليدين والقدمين، بخلاف الخفاف والجوارب، فإنها شيء غير متصل بالبدن، فهي كالعمامة والقميص الذي يلبس ويخلع.
الشيخ ابن جبرين من قوله وإملائه - في 21/8/1423هـ
خلع الخف هل ينقض الوضوء ؟
إذا لبس رجل خفين ومسح عليهما وقتي الصبح والظهر ووقت العصر وبعد ما مسح عليهما لصلاة العصر خلعهما فهل ينتقض وضوءه أم يبقى على طهارته ؟ أرجو الإفادة مع ذكر الدليل؛ لأنه قد قال بعض الاخوان أنه لا ينتقض وضوءه، ولم يذكر على ما قال دليلاً مقنعاً .
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه.. وبعد: هذه المسألة لم يرد فيها نص صريح، فهي نظرية للاجتهاد فيها مجال، ولذا اختلف فيها العلماء(1):
فقال النخعي والزهري ومكحول والأوزاعي وإسحاق والشافعي وأحمد في أحد قوليهم: (ينتقض وضوءه؛ لأن الوضوء بطل في بعض الأعضاء فبطل في جميعها كما لو أحدث).
وقال أبو حنيفة: (يجزئه غسل قدميه) وهو القول الآخر للشافعي ورواية أخرى عن أحمد رحمهم الله؛ لأنه لو صلى بلا غسل قدميه لكان مصلياً بقدمين غير مغسولتين ولا ممسوح على خفين هما فيهما حال الصلاة.
وقال إبراهيم النخعي في رواية عنه؛ (لا ينتقض وضوءه بنزعهما ولا يجب عليه غسل رجليه بل يصلي دون أن يجدد وضوءاً أو غسل رجليه) وبه قال ابن حزم وجماعة؛ لأن الأصل أنه كان متوضئاً ولم يطرأ عليه حدث ينقض وضوءه، والأصل البقاء على ما كان حتى يثبت دليل ينقل عنه. والأول أرجح وأحوط وهو انتقاض الوضوء.
__________
(1) …انظر: «المغني» لابن قدامة (1/177) وما بعدها.(2/124)
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (5/251، 252)
متى تبدأ مدة المسح ؟
متى تبدأ مدة المسح على الخفين: هل هي من اللبس أم من الحدث ؟ أفتونا مأجورين .
في ذلك خلاف، والمختار الذي عليه الفقهاء من الأصحاب أنه يبدأ من الحدث بعد اللبس، والقول الثاني أنها من أول مسح بعد اللبس، فمثلاً: إذا لبسهما وقت الظهر متطهراً فمسحها وقت العصر تجديداً قبل أن يحدث ومسح للمغرب وللعشاء قبل الحدث، وانتقض وضوءه نصف الليل، فعلى القول المختار تبدأ المدة من الحدث، وتمتد إلى نصف الليل من اليوم الثاني، وعلى القول الثاني تبدأ المدة من العصر الذي مسح فيه وهو على طُهْر - عملاً بظاهر الحديث وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: يَمْسَحُ المُقِيمُ يوماً ولَيْلَة(1). والقول الأول المختار، وهو أيسر. والله أعلم.
الشيخ ابن جبرين - فتوى عليها توقيعه - في 21/8/1423هـ
انتهاء مدة المسح هل ينقض الوضوء ؟
هل إذا تمت المدة ينتقض الوضوء ؟
__________
(1) …ابن خزيمة في «صحيحه» (194)، والنسائي (128)، وابن أبي شيبة (1866)، وأبو يعلى (264)، والبيهقي في «الكبرى» (1206). وصححه الألباني في «صحيح النسائي» (124، 125). وأصله في «صحيح مسلم» (276).(2/125)
لا ينتقض الوضوء بانتهاء المدة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما وقَّت مدة المسح لا انتهاء الطهارة، فليس الموقَّت الطهارة حتى نقول إذا تمت مدة المسح انتقضت، بل الموقت المسح، فنحن نقول: إذا تمت المدة لا تمسح، لكن قبل تمام المدة إذا مسحت وأنت على طهارة فإن طهارتك هذه قد تمت بمقتضى دليل شرعي، وما تم بمقتضى دليل شرعي فلا ينتقض إلا بمقتضى دليل شرعي، ولا دليل على ذلك، والأصل بقاء الطهارة وعدم النقض، وفي مسألة النقض أصل أصَّله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الرَّجُل يخيّل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة؛ فقال: لا يَنْصَرِفْ حتى يَسْمَعَ صوتاً أو يَجِدَ رِيحاً(1). فلم يوجب النبي - صلى الله عليه وسلم - الوضوء إلا على من تيقَّن سبب وجوبه، ولا فرق بين كون سبب الوجوب مشكوكاً فيه من حيث الواقع كما في الحديث، أو من حيث الحكم الشرعي، فإن في كلٍ جهالة: هذا جاهل بالواقع هل حصل أو لم يحصل ؟ وهذا جاهل بالشرع هل يوجب أوْ لا ؟ فإذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لاَ يَنْصَرِفْ حتى يَسْمَعَ صوتاً أو يَجِدَ رِيحاً ؛ عُلم أنه لا ينتقض الوضوء إلا باليقين؛ وهنا لا يقين فتبقى الطهارة.
الشيخ ابن عثيمين - مجموع فتاوى ورسائل (11/179)
الفصل التاسع نواقض الوضوء
مَسُّ الذَّكَرِ هل ينقض الوضوء ؟
س1: اختلف العلماء في نقض الوضوء، من مس ذكره واحتج من قال بعدم النقض بحديث: ((ما هو إلا بضعة منك))؛ فما الراجح من القولين ؟
__________
(1) …البخاري (137، 177، 2056)، ومسلم (361، 362).(2/126)
ج1: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه.. وبعد: الراجح من أقوال العلماء في هذه المسألة قول الجمهور، وهو نقض وضوء مَن مَسَّ ذَكَره؛ لأن حديث: ما هُوَ إلا بِضْعَةٌ مِنْكَ (1) ضعيف، لا يقوى على معارضة الأحاديث الصحيحة الدالة على أن من مس ذكره فعليه الوضوء. والأصل: أن الأمر للوجوب، وعلى تقدير عدم ضعفه فهو منسوخ بحديث: مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأ(2).
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (5/264)
س2: إذا مسَّ الإِنسان ذكره أثناء الغسل هل ينتقض وضُوءُه ؟
ج2: المشهور من المذهب أن مسَّ الذكر ناقضٌ للوضوء، وعلى هذا فإذا مسَّ ذكره أثناء غسله لزمه الوضوء بعد ذلك؛ سواء تعمد مسَّ ذكره أم لا.
والقول الثاني: أن مسَّ الذكر ليس بناقض للوضوء، وإنما يستحب الوضوء منه استحباباً، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو أقرب إلى الصواب؛ لا سيما إذا كان عن غير عمد لكن الوضوء أحوط.
الشيخ ابن عثيمين - مجموع فتاوى ورسائل (11/203)
س3: هل مس الذكر يفسد الوضوء ؟ سمعت أنه لا يفسد الوضوء .. هل هذا صحيح ؟
ج3:
__________
(1) …أحمد (4/22)، وأبو داود (182)، والنسائي (165)، والترمذي (85)، وابن ماجه (483)، وابن حبان (119، 1120).
(2) …أحمد (2/223) وَ(6/406)، وأبو داود (181)، والترمذي (82)، والنسائي (445-448)، وابن ماجه (479)، وابن حبان (1116)، وقال الترمذي: «حسن صحيح».(2/127)
ورد حديثان فى مس الذكر: أحدهما فيه أنه ينقض الوضوء(1) والثاني أنه غير ناقض(2) والعمل على أنه ناقض للاحتياط، وعمل بعض الصحابة عليه، فإن لم يتوضأ بعده متأوِّلاً صَحَّتْ صلاتُهُ، فإن كان مَسَّهُ لإثارة الشهوة فالنقض أرجحُ، والله أعلم .
الشيخ ابن جبرين - اللؤلؤ المكين، ص 76، 77
هل مَسُّ المرأة ينقض الوضوء ؟
الإنسان لا يستطيع أن يستغني عن أخذ وإعطاء شيء طوال يومه إلى زوجته؛ فإذا لمس المتوضئ يد زوجته فهل ينتقض وضُوءُه ؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه.. وبعد: إذا مس الرجل المرأة مباشرة ففيه خلاف بين أهل العلم: هل ينتقض وضُوءُه أم لا ؟ والأرجح: أنه لا ينقض الوضوء؛ سواء كان مسه إياها بشهوة أو بدونها؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَبَّل بعض نسائه ولم يتوضأ؛ ولأن هذا مما تعم به البلوى، فلو كان ناقضاً لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) …حديث بسرة بنت صفوان ترفعه: «من مَسَّ ذكره فليتوضأ»: تقدم تخريجه في الفتوى السابقة.
(2) …حديث قيس بن طلق عن أبيه رضي الله عنه، قال: قدمنا على نبي الله فجاء رجل كأنه بدوي فقال: «يانبي الله ما ترى في مس الرجل ذكره بعد ما يتوضأ ؟ فقال: هل هو إلا مضغة منه» أو قال «بضعة منه»: رواه أحمد (4/22)، وأبو داود (182)، والترمذي (85)، وابن ماجه (483). قال البيهقي: يكفي في ترجيح حديث بسرة على حديث طلق أن حديث طلق لم يخرجه الشيخان ولم يحتجا بأحد من رواته، وحديث بسرة قد احتجا بجميع رواته إلا أنهما لم يخرجاه للاختلاف فيه على عروة وعلى هشام بن عروة، وهذا الاختلاف لا يمنع من الحكم بصحته وإن نزل عن شرط الشيخين . ا هـ. وقال أبو داود: قلت لأحمد: حديث بسرة ليس بصحيح ؟ قال: بل هو صحيح. انظر: «التلخيص الحبير» (1/122، 125).(2/128)
وأما قوله سبحانه في سورة النساء والمائدة: {أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ}[النساء: 43، المَائدة: 6] فالمراد به: الجماع؛ في أصح قولي العلماء.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (5/266)
القبلة لا تنقض الوضوء
زوجي يقبلني دائماً وهو ذاهب إلى خارج البيت؛ حتى وإن كان خارجاً للصلاة في المسجد، وأشعر أحياناً أنه يقبلني بشهوة .. فما الحكم الشرعي في وضوئه ؟.
عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَبَّلَ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلاةِ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ(1).
هذا الحديث فيه بيان حكم مس المرأة وتقبيلها: هل ينقض الوضوء أم لا ينقض الوضوء ؟ . والعلماء رحمهم الله اختلفوا في ذلك: فمنهم من قال: إن مسست المرأة انتقض الوضوء بكل حال، ومنهم من قال: إن مسستها بشهوة انتقض الوضوء وإلا فلا، ومنهم من قال: إنه لا ينقض الوضوء مطلقاً، وهذا القول هو الراجح.
يعنى أن الرجل إذا قبّل زوجته أو مس يدها أو ضمها ولم ينزل ولم يحدث - فإن وضوءه لا يفسد لا هو ولا هي؛ وذلك لأن الأصل بقاء الوضوء على ما كان عليه، حتى يقوم دليل على أنه انتقض، ولم يرد في كتاب الله ولا في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دليل على أن مس المرأة ينقض الوضوء. وعلى هذا يكون مس المرأة ولو بدون حائل ولو بشهوة وتقبيلها وضمها، كل ذلك لا ينقض الوضوء.. والله أعلم.
الشيخ ابن عثيمين - فتاوى المرأة، ص (20)
الشك لا ينقض اليقين في الطهارة أو عدمها
__________
(1) …البخاري، (30، 2545)، ومسلم (1616) بلفظ: (ما يغلبهم). وأما بلفظ: (ما لا يطيقون)؛ فقد أخرجه عبدالرزاق في «مصنفه» (17934، 17966). وصححه الألباني؛ في «صحيح سنن أبي داود» (164، 165).(2/129)
هل يؤثر شك المتوضئ في الحدث من بول أو غائط أو ريح؛ حيث إن عدم تأكده ناتج عن طول مدة بقاء الطهارة ؟ أم أنه إذا كان الأصل الطهارة فلا يلتفت إلى الشك إلا مع تيقن الحدث وكذلك العكس ؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه.. وبعد: إذا كان الإنسان متطهراً ثم شك في طُرُوء الحدث عليه فلا تأثير لشكه في طُرُوء الحدث على الطهارة السابقة، وإذا كان محدثاً ثم شك هل تطهر أو لا فهو محدث ولا أثر لهذا الشك؛ لأن اليقين لا يرفع بالشك؛ لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يثبت ما يرفعه؛ ولحديث (شكى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة فقال: لا يَنْصَرِفْ حتى يسمعَ صوتاً أو يَجِدَ رِيحاً(1) رواه الجماعة إلا الترمذي، ولحديث: إذا وَجَدَ أحدكم في بَطْنِه شيئاً فأَشْكَلَ عَلَيْه: أَخَرَجَ منهُ شيءٌ أَمْ لاَ ؟ فلا يَخْرُجَنَّ من المسجدِ حتى يَسْمَعَ صَوتاً أو يَجِدَ رِيحاً (2) رواه مسلم والترمذي.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (5/280، 281) ما الذي ينقض الوضوء من الإبل ؟
سمعنا خلافاً في شحوم الإبل وأحشائها ومصرانها؛ ففيه من يقول: إنها تلحق بلحومها ولا دليل على الاستثناء، وفيه من يقول: إن الحديث ينص على اللحوم دون غيرها ولا وضوء عن الشحوم والأحشاء .. فما هو الصحيح في ذلك ؟ وهل ولد الناقة إذا ولد وذبح قبل أن يرضع اللبن هل يلحق باللحوم أم بالأحشاء والمصارين ؟
__________
(1) …البخاري (137، 177، 2056)، ومسلم (361، 362).
(2) …مسلم (362)، والترمذي (75) بنحوه.(2/130)
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه.. وبعد: لا ينتقض الوضوء إلا باللحم؛ حسب ما جاء في الحديث الصحيح وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: تَوَضَّؤُوا مِنْ لُحُوم الإِبل (1)، ويلحق بذلك الولد الصغير من الإبل وإن لم يشرب اللبن؛ لعموم الحديث.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (5/276)
ما أثر المذي في الطهارة ؟
حينما يكون بينه وبين زوجته ملاعبة أو تقبيل أو لمس بشهوة فإنه يجد في سرواله رطوبة من ذكره بعد انتشاره ثم ارتخائه؛ ويسأل عن الآثار المترتبة على ذلك من حيث الطهارة وصحة الصوم من عدمه ؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه.. وبعد: لم يذكر السائل في سؤاله أنه يحس بالمني يخرج من أثر ملاعبة زوجته وإنما ذكر أنه يجد رطوبة في سرواله؛ فيظهر - والله أعلم - أن ما وجده مَذْي وليس مَنِيًّا، والمذي نجس يوجب غسل الذكر والأُنْثَيَيْن(2)، ونضح ما أصاب الثوب من ذلك، ويتعين على صاحبه الوضوء الشرعي بعد غسل الذكر والأنثيين، ولا يفسد به الصوم على الصحيح من أقوال أهل العلم، ولا يجب به غسل. أما إن كان الخارج منياً فيجب الغسل ويفسد الصوم به، وهو طاهر إلا أنه مستقذر؛ ويشرع غسل البقعة التي يصيبها من الثوب أو السروال. ويشرع للصائم أن يحتاط لصومه بترك ما يثير شهوته من ملاعبة ونحوها.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (5/260)
هل ينتقض وضوء من خرج منه دم؟ وهل هو نجس ؟
الدم الخارج من الإِنسان هل هو نجس ؟ وهل هو ناقض للوضوء ؟
__________
(1) …مسلم برقم (360) وغيره. وأخرجه باللفظ المذكور: أحمد (4/352)، والطبراني في «الأوسط» (7407)، و«الكبير» (558، 6713).
(2) …الأُنْثَيَان: هما الخِصْيَتان.(2/131)
الدم الخارج من الإِنسان إن كان من السبيلين القُبُل أو الدُّبر، فهو نجس وناقض للوضوء قلَّ أم كثر؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أمر النساء بغسل دم الحيض(1) مطلقاً، وهذا دليل على نجاسته، وأنه لا يُعفى عن يسيره، وهو كذلك فهو نجس لا يُعفى عن يسيره وناقض للوضوء قليله وكثيره.
وأما الدم الخارج من بقية البدن: من الأنف أو من السِّن أو من جرح أو ما أشبه ذلك، فإنه لا ينقض الوضوء قلَّ أو كثر، هذا هو القول الراجح أنه لا ينقض الوضوء شيء خارج من غير السبيلين من البدن سواء من الأنف أو من السن أو من غيره وسواء كان قليلاً أو كثيراً، لأنه لا دليل على انتقاض الوضوء به، والأصل بقاء الطهارة حتى يقوم دليل على انتقاضها.
وأما نجاسته فالمشهور عند أهل العلم أنه نجس وأنه يجب غسله إلا أنه يُعفى عن يسيره لمشقة التحرُّز منه. والله أعلم.
الشيخ ابن عثيمين - مجموع فتاوى ورسائل (11/200) هل ينقض الوضوء خروج الدم ؟
أرجو العلم عن الدم .. هل هو مبطل للصلاة ؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه.. وبعد: لا نعلم دليلاً شرعياً يدل على أن خروج الدم من غير الفرج من نواقض الوضوء، والأصل أنه ليس ناقضًا. والعبادات مبناها على التوقيف فلا يجوز لأحد أن يقول هذه العبادة مشروعة إلا بدليل، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى نقض الوضوء بخروج الدم الكثير عرفاً من غير الفرج، فإذا توضأ من خرج منه ذلك - احتياطاً وخروجاً من الخلاف - فهو حسن؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: دَعْ ما يَرِيبُكَ إلى ما لا يَرِيبُك(2). وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (5/261)
حكم قراءة القرآن للمُحدِث
__________
(1) …البخاري (228، 306، 331)، ومسلم (333).
(2) …النسائي (5714)، والترمذي (2518)، والحاكم 2/13 و4/99، (2169، 2170، 7046). وقال الترمذي: «حسن صحيح».(2/132)
ما حكم من يقرأ القرآن وهو على غير وضوء: سواء كانت قراءة عن ظهر قلب أو من المصحف ؟
يجوز للإنسان أن يقرأ القرآن على غير وضوء إذا كانت القراءة حفظاً عن ظهر قلب؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يحبسه عن القراءة إلا الجنابة؛ فكان يقرأ متوضئاً وغير متوضئ .
أما المصحف فلا يجوز لمن عليه حدث أن يمسه - لا الحدث الأصغر ولا الحدث الأكبر؛ قال الله تعالى: {لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ *}[الواقِعَة]؛ أي: المطهرون من الأحداث والأنجاس ومن الشرك.
وفي الحديث: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الكتاب الذي كتبه إلى عامله عمرو بن حزم رضي الله عنه قال: لا يَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلا طَاهِرٌ(1). وهذا باتفاق الأئمة أنه لا يجوز للمحدث حدثاً أصغر أو أكبر أن يمس المصحف إلا من وراء حائل؛ كأن يكون المصحف في صندوق أو كيس أو يمسه من وراء ثوب أو من وراء كُمِّه.
الشيخ الفوزان - تدبر القرآن، ص (44)
الفصل العاشر الغُسل من الجنابة
مُوجِبات الغسل
ما هي موجبات الغسل ؟
موجبات الغسل منها:
الأول: إنزال المني بشهوة يقظة أو مناماً؛ لكنه في المنام يجب عليه الغُسْل، وإن لم يحس بالشَّهوة؛ لأن النائم قد يحتلم ولا يحس بنفسه، فإذا خرج منه المني بشهوة وجب عليه الغسل بكل حال.
__________
(1) …«موطأ مالك» 1/199 (469)، والدارمي (2183) .(2/133)
الثاني: الجماع، فإذا جامع الرجل زوجته، وجب عليه الغُسل بأن يولج الحشفة في فرجها، فإذا أولج في فرجها الحشفة أو ما زاد، فعليه الغسل؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الأول: الماءُ مِنَ الماءِ (1)؛ يعني: أن الغسل يجب من الإنزال، وقوله عن الثاني: إذا جَلَسَ بين شُعَبِهَا الأَرْبَعِ ثم جَهَدَهَا فقد وَجَبَ الغُسْلُ (2) وإن لم يُنْزِل، وهذه المسألة - أعني الجماع بدون إنزال - يخفى حكمها على كثير من الناس، حتى إن بعض الناس تمضي عليه الأسابيع والشهور وهو يجامع زوجته بدون إنزال ولا يغتسل جهلاً منه، وهذا أمر له خطورته، فالواجب أن يعلم الإنسان حدود ما أنزل الله على رسوله؛ فإن الإِنسان إذا جامع زوجته وإن لم ينزل وجب عليه الغسل وعليها، للحديث الذي ذكرناه آنفاً.
الثالث: من موجبات الغسل خروج دم الحيض والنفاس، فإن المرأة إذا حاضت ثم طَهُرت، وجب عليها الغسل - لقوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}[البَقَرَة، من الآية: 222]، ولأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - المستحاضة إذا جلست قدْرَ حَيضِها أن تغتسل، والنّفساء مثلها، فيجب عليها أن تغتسل.
وصفة الغسل من الحيض والنَفاس كصفة الغسل من الجنابة، إلا أن بعض أهل العلم استحب في غسل الحائض أن تغتسل بالسِّدْْر؛ لأن ذلك أبلغ في نظافتها وتطهيرها.
__________
(1) …مسلم (343).
(2) …مسلم (348).(2/134)
وذكر بعض العلماء أيضاً من موجبات الغسل: الموت؛ مُستدلين بقوله - صلى الله عليه وسلم - للنساء اللاتي يغسلن ابنته: اِغْسِلْنَها ثلاثاً أو خَمْساً أو سَبْعاً أو أكثرَ من ذلك إِنْ رَأَيْتُنَّ ذلك (1)، وبقوله - صلى الله عليه وسلم - في الرَّجل الذي وقَصتْهُ راحلته بعرفة وهو محرم: اِغْسِلُوهُ بماءٍ وسِدْرٍ وكفٍّنُوهُ في ثَوْبَيْه(2). فقالوا: إن الموت موجب للغسل، ولكن الوجوب هنا يتعلق بالحي لأن الميت انقطع تكليفُه بموته، ولكن على الأحياء أن يغسلوا موتاهم لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، بذلك.
الشيخ ابن عثيمين - مجموع فتاوى ورسائل (11/218)
كيفية غُسْل الجنابة
هل يجب على المحتلم الغسل كغسل الجنابة ؟ وما كيفية غسل الجنابة ؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه.. وبعد: يجب عليه غسل الجنابة إذا أنزل باحتلامه، أما كيفية غسل الجنابة فيجزئه أن يعم جسمه بالماء، ولكن الأفضل أن يزيل عن نفسه الأذى، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يخلل شعر رأسه، ثم يصب ثلاث غرفات من الماء على رأسه ثم يفيض الماء على سائر جسده.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (5/306)
هل يكفي الاستحمام عن الوضوء ؟
هل الاستحمام يكفي عن الوضوء ؟
__________
(1) …البخاري (1253، 1254، 1258)، ومسلم (939).
(2) …البخاري (1265) وأطرافه عنده، ومسلم (1206).(2/135)
الاستحمام - إن كان عن جنابة - فإنه يكفي عن الوضوء؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا}[المَائدة: 6]. فإذا كان على الإِنسان جنابة وانغمس في بركة أو في نهر أو ما أشبه ذلك، ونوى بذلك رفع الجنابة وتمضمض واستنشق، فإنه يرتفع الحدَث عنه الأصغر والأكبر؛ لأن الله تعالى لم يُوجب عند الجنابة سوى أنْ نَطهَّر، أي: أن نَعُمَّ جميع البدن بالماء غسلاً، وإن كان الأفضل أنَّ المُغتسِلَ من الجنابة يتوضأ أولاً؛ حيثُ كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يغسل فَرْجَه بعد أن يغسل كفَّيه ثم يتوضأ وضوءَه للصلاةِ، ثم يُفيض الماء على رأسه، فإذا ظنَّ أنه أَرْوَى بشرتَه أفاض عليه ثلاث مرات، ثم يغسل باقي جسده.
أمّا إذا كان الاستحمام لتنظُّفٍ أو لتبرُّدٍ، فإنه لا يكفي عن الوضوء؛ لأن ذلك ليس من العبادة، وإنما هو من الأمور العادية، وإن كان الشرع يأمر بالنظافة لكن النظافة لا على هذا الوجه؛ بل النظافة مطلقاً في أي شيء يحصل فيه التنظيف. وعلى كل حال إذا كان الاستحمام للتبرد أو للنظافة فإنه لا يجزئ عن الوضوء. والله أعلم.
الشيخ ابن عثيمين - مجموع فتاوى ورسائل (11/228)
وجوب المضمضة والاستنشاق في الغسل
إذا اغتسل الإِنسان ولم يتمضمض ولم يستنشق فهل يصح غسله ؟
لا يصح الغسل بدون المضمضة والاستنشاق؛ لأن قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا}[المَائدة، من الآية: 6] يشمل البدن كلَّه، وداخل الفم وداخل الأنف من البدن الذي يجب تطهيرهُ؛ ولهذا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمضمضة والاستنشاق في الوضوء، لدخولهما في قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}[المَائدة، من الآية: 6]؛ فإذا كانا داخِلَيْن في غسل الوجه - والوجه مما يجب تطهيره وغسله في الطهارة الكبرى - كان واجباً على مَن اغتسل من الجنابة أن يتمضمض ويستنشق.
الشيخ ابن عثيمين - مجموع فتاوى ورسائل (11/229)
هل يمس الجنب شريط القرآن المسجل ؟(2/136)
كما نعلم أن القرآن الكريم له حرمته لا يمسه إلا المطهرون؛ فما رأيك في الشريط المسجل عليه قرآن كريم للرجل أو المرأة إذا كان عليهما جنابة أو المرأة إذا كانت حائضاً: هل يجوز لمس أو حمل الشريط الذي فيه قرآن كريم ؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
لا حرج في حمل أو لمس الشريط المسجل عليه القرآن لمن كان عليه جنابة ونحوها .
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (4/73)
الفصل الحادي عشر التيمم
كيفية التيمم
هل المتيمم إذا مسح على يده إلى أين يصل المسح: إلى الكوعين أم إلى المرفقين ؟ وكم عدد الأوقات يصلي بالتيمم الواحد ؟ وكم عدد الضربات في التيمم ؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه.. وبعد: يمسح كفيه كل واحدة بالأخرى من أطراف الأصابع إلى مفصل الكف من الذراع، والمفصل الذي يلي الكف داخل في المسح لا إلى المرفقين. ويصلي بتيممه ما لم يجد الماء أو يحصل منه ناقض للوضوء. والأفضل في التيمم: أن يضرب الأرض ضربة واحدة بيديه ثم يمسح بهما وجهه وكفيه؛ لما ثبت في الصحيحين من حديث عمار رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إنما كان يَكفيكَ أن تَضربَ بِيَدَيْكَ الأرضَ ضَرْبَةً واحدةً، ثم تَمْسَحَ بهما وجهكَ وَكَفَّيْك(1).
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (5/354)
هل يجوز التيمم خوفاً من البرد ؟
من أصبح جنُباً في وقت بارد فهل يتيمم ؟
__________
(1) …البخاري (347)، ومسلم (368)، وليس في كلامه - صلى الله عليه وسلم - عبارة: (ضربة واحدة)؛ بل هي من فعله - صلى الله عليه وسلم -؛ كما في «صحيح مسلم».(2/137)
إذا كان الإِنسان جُنباً فإن عليه أن يغتسل؛ لقول الله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا}[المَائدة: 6]. فإن كانت الليلة باردة ولا يستطيع أن يغتسل بالماء البارد، فإنه يجب عليه أن يُسخِّنه إذا كان يمكنه ذلك، فإن كان لا يمكنه أن يسخنه لعدم وجود ما يسخّن به الماء، فإنه في هذه الحال يتيمم عن الجنابة ويصلي؛ لقول الله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[المَائدة: 6] وإذا تيمم عن الجنابة، فإنه يكون طاهراً بذلك ويبقى على طهارته حتى يجد الماء، فإذا وجد الماء وجب عليه أن يغتسل؛ لما ثبت في صحيح البخاري: من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه الطويل، وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً مُعتزلاً لم يصلِّ في القوم، قال: ما مَنَعَكَ ؟ قال: أصابتني جنابة ولا ماء، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: عليكَ بالصَّعيدِ فإنَّه يَكْفِيك . ثم حضر الماءُ بعد ذلك فأعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - ماءً وقال: أَفْرِغْهُ على نَفْسِك(1). فدلَّ هذا على أن المتيمِّم إذا وجد الماء، وجب عليه أن يتطهر به؛ سواءً كان ذلك عن جنابة أو عن حدث أصغر، والمتيمم إذا تيمم عن جنابة، فإنه يكون طاهراً منها حتى يحصل له جنابة أخرى، أو يجد الماء، وعلى هذا فلا يُعيد تيممه عن الجنابة لكل وقت، وإنما يتيمم بعد تيمُّمه من الجنابة يتيمم عن الحدث الأَصغر إلاّ إن يُجنب.
الشيخ ابن عثيمين - مجموع فتاوى ورسائل (11/240)
كيف يتيمم من لم يجد التراب ؟
__________
(1) …البخاري (344)، وبنحوه: مسلم (682).(2/138)
المريض لا يجد التراب .. فهل يتيمم على الجدار، وكذلك الفرش أم لا ؟
الجدار من الصَّعيد الطَّيب، فإذا كان الجدار مبنياً من الصعيد؛ سواء كان حجراً أو كان مَدَراً - لَبِناً من الطين -: فإنه يجوز التيمم عليه. أما إذا كان الجدار مكسواً بالأَخشاب أو (بالبُوية) فهذا إن كان عليه تراب - غبار - فإنه يتيمَّم به ولا حرج، ويكون كالذي يتيمم على الأرض، لأن التراب من مادة الأرض، أمّا إذا لم يكن عليه تراب، فإنه ليس من الصعيد في شيء، فلا يتيمم عليه.
وبالنسبة للفرش نقول: إن كان فيها غبار فليتيمم عليها، وإلا فلا يتيمم عليها؛ لأنها ليست من الصعيد.
الشيخ ابن عثيمين - مجموع فتاوى ورسائل (11/240)
هل تصلَّى الفريضة بتيمُّم النافلة ؟
إذا تيمم الإِنسان لنافلة، فهل يصلي بذلك التيمم الفريضة ؟
جواب هذا السؤال يتضح مما سبق: وهو أن التيمم رافع للحدث، فحينئذٍ له أن يصلي الفريضة وإن كان تيمم لنافلة؛ كما لو توضَّأ لنافلة جازَ له أن يُصلي بذلك الوضوء الفريضة، ولا يجب إعادة التيمم إذا خرج الوقت، ما لم يوجد ناقض.
الشيخ ابن عثيمين - مجموع فتاوى ورسائل (11/240)
إذا وجد المتيمم الماء أثناء الصلاة أو بعدها
ما الحكم إذا وَجَد المتيمم الماء في أثناء الصلاة أو بعدها ؟
إذا وجد المتيمم الماء في الصلاة، فهذه المسألة محل خلاف بين أهل العلم:
- فمنهم من قال: إن التيمم لا يَبْطُل بوجود الماء حينئذٍ؛ لأنه شرع في الصلاة على وجه مأذون فيه شرعاً، فلا يخرج منها إلا بدليل شرعي.(2/139)
- ومنهم من قال: إنه يبطل التيمم بوجود الماء في الصلاة، واستدلوا بعموم قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً}[النِّسَاء من الآية: 43]. وهذا قد وجد الماء فيبطل تيممه، وإذا بطل التيمم بطلت الصلاة، وعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: فإذا وَجَدَ الماءَ فلْيتَّقِ اللهَ وَلْيُمِسَّهُ بَشَرَتَه(1). ولأن التيمم بدل عن طهارة الماء عند فقده، فإذا وجد الماء زالت البدلية فيزول حكمها، فحينئذٍ يخرج من الصلاة ويتوضأ ويستأنف الصلاة من جديد.
والذي يظهر لي - والعلم عند الله تعالى - أن القول الثاني أقرب للصواب.
أما إذا وجد الماء بعد الصلاة، فإنه لا يلزمه أن يعيد الصلاة؛ لما رواه أبو داود وغيره: في قصة الرجلين اللّذين تيمما ثم صليا وبعد صلاتهما وجدا الماء في الوقت، فأما أحدهما فلم يُعد الصلاة وأما الآخر فتوضأ وأعاد الصلاة، فلما قَدِما أخبرا النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فقال عليه الصلاة والسلام للذي لم يُعِد: أَصَبْتَ السُّنَّة ، وقال للذي أعاد: لكَ الأجرُ مرَّتين(2).
فإن قال قائل: أنا أريد الأجر مرتين!!
قلنا: إنك إذا علمت بالسنة فخالفتها فليس لك الأجر مرتين؛ بل تكون مبتدعاً، والذي في الحديث لم يعلم بالسنة، فهو مجتهد فصار له أجر العملين: العمل الأول والثاني.
__________
(1) …أحمد (5/155، 180)، وأبو داود (332،333)، والترمذي (124) وقال: «حسن صحيح»، والبزار (3973) واللفظ له، قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» 1/261: «ورجاله رجال الصحيح».
(2) …أبو داود (338)، والدارمي (744)، والطبراني في «الأوسط» (1842)، 7922)، والحاكم 1/178 (632) وصححه ووافقه الذهبي. وصححه الألباني في «صحيح أبي داود» (327).(2/140)
فإن قيل: المجتهد إذا أخطأ فليس له إلا أجر واحد - كما جاء في الحديث: إذا حَكَمَ الحاكمُ فاجْتَهَدَ فأصابَ فلَهُ أجران، وإن أَخْطَأ فَلَهُ أَجرٌ(1). فكيف كان لهذا المخطئ في إعادة الصلاة الأجر مرتين ؟!
فالجواب: أن هذا عمل عملين بخلاف الحاكم المخطئ، فإنه لم يعمل إلا عملاً واحداً فلم يحكم مرتين.
بهذا يتبين لنا أن موافقة السنة أفضل من كثرة العمل؛ فإذا قال قائل مثلاً: أنا أريد أن أُطِيل ركعتي الفجر(2) لفضل الوقت، وكثرة العمل، قلنا له: لم تصب؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يُخَفِّفُ ركعتي الفجر(3) كما جاء ذلك في حديث عائشة رضي الله عنها. ومثال ذلك أيضاً لو قال: أريد أن أطيل ركعتي الطواف، قلنا: لم تصب السنة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخففهما. وهذه فائدة مهمة على طالب العلم أن يعيها. والله الموفق.
الشيخ ابن عثيمين - مجموع فتاوى ورسائل (11/242)
هل يُصلِّي المتيمم في أول الوقت أو في آخره ؟
هل الأفضل للإِنسان إذا لم يجد الماء أن يؤخر الصلاة إلى آخر الوقت، رجاء وجود الماء ؟ أو يتيمم ويصلي في أول الوقت ؟
هذا فيه تفصيل:
أولاً: يترجَّح تأخير الصلاة إلى آخر الوقت في حالين:
الأول: إذا علم وجود الماء، فالأفضل أن يؤخر الصلاة ولا يقال بالوجوب؛ لأن علمه بذلك ليس أمراً مؤكَّداً، لأنه قد يتخلف المعلوم.
الثاني: إذا ترجح عنده وجود الماء، فيؤخر الصلاة؛ لأن في ذلك محافظة على شرط من شروط الصلاة، وهو الطهارة بالماء، وفي الصلاة أول الوقت محافظة على فضيلة فقط، وعلى هذا يكون التأخير والطهارة بالماء أفضل.
ثانياً: يترجح تقديم الصلاة في أول وقتها في ثلاث حالات:
الأولى: إذا علم أنه لن يجد الماء.
الثاني: إذا ترجَّح أنه لن يجد الماء.
الثالثة: إذا تردد فلم يترجح عنده شيء.
__________
(1) …البخاري (7352)، ومسلم (4487).
(2) …المقصود بهما: ركعتي سنة الفجر.
(3) …البخاري (1170)، ومسلم (724).(2/141)
الشيخ ابن عثيمين - مجموع فتاوى ورسائل (11/242)
الباب الخامس
الصلاة
الفصل الأول :
الأذان والإقامة
الفصل الثاني :
حكم تارك الصلاة
الفصل الثالث :
مواقيت الصلاة
الفصل الرابع :
صلاة الجماعة
الفصل الخامس :
الإمامة الفصل السادس :
المساجد الفصل السابع :
سنن الصلاة والنوافل
الفصل الثامن :
من مناهي الصلاة
الفصل التاسع :
صلاة أهل الأعذار
الفصل العاشر :
صلاة الجمعة
الفصل الحادي عشر :
أحكام العيدين
الفصل الثاني عشر:
صلوات الكسوف والخسوف والاستسقاء
الفصل الأول
الأذان والإقامة
حكم الصلاة بلا أذان
يؤدون صلاتهم بدون الأذان فما الحكم ؟
لا يجوز أن يؤدوا صلاتهم بدون أذان؛ لأن الأذان فرض كفاية على المسلمين في كل بلد، وهكذا المسافرون عليهم أن يؤذنوا للصلاة كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل في أسفاره، وكما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لمالك بن الحويرث رضي الله عنه لما أستأذنه هو وأصحابه في الرجوع إلى بلادهم: "إذا حَضَرَتِ الصلاةُ فَلْيُؤذِّنْ لَكُم أحدكُم وليَؤُمّكُم أَكْبرُكُم" (1) متفق على صحته، فإذا تركه أهل البلد أثموا جميعاً. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يُغِيرَ على قوم انتظر حتى يصبح، فإن سمع أذاناً كَفَّ عنهم وإلا أغار عليهم، لكنه ليس بشرط صحة في الصلاة، فلو صلوا بدون أذان صحت صلاتهم.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (6/ 55، 56)
هل يلزم المنفرد أن يُؤذِّن ويجهر بالقراءة ؟
__________
(1) …البخاري (628) وأطرافه عنده، ومسلم (674).(2/142)
الصلوات الجهرية: المغرب، العشاء، الفجر، مثلاً المصلي منفرداً في بيته أو في مكان آخر، هل الأفضل له أن يجهر بالفاتحة والسور الأخرى في الركعتين الأوليين ؟ أو يقرأ ذلك سراً ؟ كذلك هل للمصلي منفرداً أو معه واحد أو اثنان مثلاً أن يؤذن و يقيم عند حضور الصلاة في السفر أو الحضر، عند فوات الصلاة مع الجماعة، أو إذا كانت المساجد بعيدة عنهم ؟ أفيدونا جزاكم الله خيراً.
لا حاجة للمنفرد أن يجهر بالقراءة؛ لأن القصد أن يسمع نفسه ويتلفظ بالقراءة، وسواء في صلاة الليل أو النهار، وإنما يشرع الجهر للإمام ليسمع المأمومين، ويستفيدوا من سماع القرآن، فكثيراً ما يكون فيهم الجهلة والأميون، فمع تكرار سماع القرآن يفهمون كلام الله، ويحفظون منه ما تيسر، وخص الليل بالجهر؛ لأنه وقت الفراغ، وانقطاع الأشغال، وراحة القلب وتقبله .
فأما الأذان فلا يشرع إلا في المساجد العامة التي يُعَيِّنُ فيها إمام ومؤذِّن، ويشرع لمن يصلي في خارج البلد،كالمسافر، والراعي الذي لا يسمع الأذان، فأما من يصلي في داخل البلد كالمعذور في المنزل، ومن فاتته الصلاة فلا داعي لأذانه(1).
الشيخ ابن جبرين - اللؤلؤ المكين، ص (124)
في أيِّ أذانَي الفجر يكون ( التَّثْوِيب )(2) ؟
ما المانع من الإتيان بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم في التثويب في الأذان الأول للفجر - كما جاء في سنن النسائي وابن خزيمة والبيهقي(3) ؟
__________
(1) …لكن تشرع له الإقامة.
(2) …التثويب: قول (الصلاة خيرٌ من النوم) في أذان الفجر.
(3) …«صحيح ابن خزيمة» (385)، والترمذي (198)، والنسائي (647) والدارمي (1192)، والدارقطني (1/243)، والبيهقي في «الكبرى» (1831-1836، 1840).(2/143)
نعم؛ ينبغي الإتيان بالتثويب في الأذان الأول للفجر امتثالاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم. وواضح من الحديث أنه الأذان الذي يكون عند طلوع الفجر الصادق، وسمي أولاً بالنسبة للإقامة؛ فإنها أذان شرعاً، كما في حديث: "بينَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صلاة" (1)، وليس المراد بالأذان الأول ما ينادى به قبل ظهور الفجر الصادق؛ فإنه شرع ليلاً ليستيقظ النائم وليرجع القائم وليس أذاناً للإعلام بالفجر، ومن تدبر أحاديث التثويب لم يفهم منها إلا أن التثويب في أذان الإعلام بوقت الفجر؛ لا الأذان الذي يكون ليلاً قبيل الفجر.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (6/61)
حكم جهر المُؤذِّن بالذِّكْر بعد الأذان
ما حكم قول المؤذن بعد الأذان الشرعي هذه العبارة: (الصلاة والسلام عليك يا أول خلق الله وخاتم رسله) ؟
__________
(1) …البخاري (624، 627)، ومسلم (838).(2/144)
لا نعلم دليلاً من الكتاب ولا من السنة يدل على مشروعية هذا الدعاء بعد الأذان. والخير كله في اتباع هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، والشر كله في مخالفة هديه صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مَن عَمِلَ عملاً لَيْسَ عليه أَمْرُنا فهو رَدّ"(1). ولكن يشرع بعد الأذان للمؤذن وغيره أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يقول: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا سَمِعتُم المؤذِّنَ فقُولُوا مثلَ ما يقول، ثم صَلُّوا عَلَيَّ فإنه مَنْ صَلَّى عليَّ صلاةً واحدةً صَلَّى الله عَلَيْهِ بها عشرًا، ثم سَلُوا اللهَ لِي الوَسِيلةَ فإنها مَنْزِلَةٌ في الجنةِ لا تَنْبَغِي إلا لِعَبْدٍ مِن عبادِ الله وأرجُو أنْ أكونَ أنا هُو، فَمَنْ سَأَلَ لِيَ الوسيلةَ حَلَّتْ لهُ الشَّفَاعة" (2) رواه مسلم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: مَنْ قال حين يَسمعُ النِّداء: "اللهم ربَّ هذه الدعوةِ التامَّة والصلاةِ القائمةِ آتِ محمداً الوسيلةَ والفضيلةَ، وابْعَثْهُ مقاماً محموداً الذي وَعَدْتَهُ - حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يومَ القيامة" (3) رواه البخاري في صحيحه، وزاد البيهقي في آخره بإسناد صحيح: "إنكَ لا تُخْلِفُ المِيعاد"(4). لكن يقولها المؤذن وغيره بصوت هادئ، ولا يرفع صوته بذلك، لعدم نقل الجهر به كما تقدم.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (6/101، 102)
الذِّكْر بين الإقامة وتكبيرة الإحرام
ما الذي يُسَنُّ فعله بين الإقامة وتكبيرة الإحرام ؟
__________
(1) …علقه البخاري في كتابي البيوع والاعتصام، ووصله مسلم (1718).
(2) …مسلم (384).
(3) …البخاري (614، 4719).
(4) …البيهقي في «السنن الكبرى» (1790).(2/145)
السُّنة: أن المستمع للإقامة يقول كما يقول المقيم؛ لأنها أذان ثان فتجاب كما يجاب الأذان، ويقول المستمع عند قول المقيم: (حَيَّ على الصلاة، حَيَّ على الفلاح): لا حول ولا قوة إلا بالله، ويقول عند قوله: (قد قامت الصلاة) مثل قوله، ولا يقول: أقامها الله وأدامها؛ لأن الحديث في ذلك ضعيف، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا سَمِعتُم المؤذِّن فقُولُوا مِثْلَ ما يَقُول" (1)، وهذا يعم الأذان والإقامة؛ لأن كلاً منهما يسمى أذاناً. ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بعد قول المقيم: (لا إله إلا الله) ويقول: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة... إلخ كما يقول بعد الأذان، ولا نعلم دليلاً يصح يدل على استحباب ذكر شيء من الأدعية بين انتهاء الإقامة وقبل تكبيرة الإحرام سوى ما ذكر.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (6/89، 90)
الفصل الثاني
حكم تارك الصلاة
حكم تارك الصلاة عمداً
أخي الأكبر لا يؤدي الصلاة .. هل أَصِله أو لا علماً بأنه أخي من أبي فقط ؟
__________
(1) …مسلم (384).(2/146)
الذي يترك الصلاة متعمداً كافر كفراً أكبر؛ في أصح قولي العلماء إذا كان مقراً بوجوبها، فإن كان جاحداً لوجوبها فهو كافر عند جميع أهل العلم - لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ" (1)، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكَ الصَّلاةِ" (2)، ولقوله عليه الصلاة والسلام: "الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ الصَّلاةُ؛ فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ" (3)، ولأن الجاحد لوجوبها مكذب لله ولرسوله ولإجماع أهل العلم والإيمان، فكان كفره أكبر وأعظم من كفر تاركها تهاوناً.
وعلى كلا الحالين فالواجب على ولاة الأمور من المسلمين أن يستتيبوا تارك الصلاة، فإن تاب وإلا قتل؛ للأدلة الواردة في ذلك . والواجب هجر تارك الصلاة، ومقاطعته، وعدم إجابة دعوته حتى يتوب إلى الله من ذلك، مع وجوب مناصحته، ودعوته إلى الحق، وتحذيره من العقوبات المترتبة على ترك الصلاة في الدنيا والآخرة؛ لعله يتوب، فيتوب الله عليه .
الشيخ ابن باز - كتاب الدعوة (1)، ص (93)
حكم التهاون بالصلاة أداءً وجماعة
كثير من الناس اليوم يتهاون بالصلاة، وبعضهم يتركها بالكلية .. فما حكم هؤلاء ؟ وما الواجب على المسلم تجاههم؛ وبالأخص أقاربه من والد وولد وزوجة ونحو ذلك ؟
__________
(1) …أحمد (5/231)، والترمذي (2616)، وابن ماجه (3973)، بإسنادٍ صحيح.
(2) …مسلم (82) .
(3) …أحمد (5/346) وأهل السنن: الترمذي (2621)، والنسائي (463)، وابن ماجه (1079)، وقال الترمذي: «حسن صحيح غريب».(2/147)
التهاون بالصلاة من المنكرات العظيمة ومن صفات المنافقين؛ قال الله عز وجل: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً *}[النِّسَاء]، وقال تعالى في صفتهم: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ *}[التّوبَة]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ صَلاةٌ أَثْقَلَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ مِنْ الْفَجْرِ وَالْعِشَاءِ وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا"(1).
فالواجب على كل مسلم وعلى كل مسلمة المحافظة على الصلوات الخمس في أوقاتها، وأداؤها بطمأنينة، والإقبال عليها، والخشوع فيها، وإحضار القلب؛ لقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ *الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ *}[المؤمنون].
ولما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أمر الذي أساء صلاته فلم يطمئن فيها بالإعادة. وعلى الرجال خاصة أن يحافظوا عليها في الجماعة، مع إخوانهم في بيوت الله وهي المساجد؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يَأْتِهِ فَلا صَلاةَ لَهُ إِلا مِنْ عُذْرٍ"(2).
__________
(1) …البخاري (657)، ومسلم ( 651 ) .
(2) …ابن ماجه (793)، والدار قطني (1/420)، وابن حبان (2064)، والحاكم 1/245، 246 (893-896)، بإسناد صحيح .(2/148)
قيل لابن عباس رضي الله عنهما: ما العذر ؟ قال: خوف أو مرض. وفي صحيح مسلم: عن أبي هريرة رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جاءه رجل أعمى فقال: يا رسول الله، ليس لي قائد يقودني إلى المسجد فهل لي من رخصة أن أصلي في بيتي ؟ فرخص له ثم دعاه فقال: "هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ بِالصَّلاةِ ؟ قَالَ نَعَمْ . قَالَ فَأَجِبْ"(1).
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلاةِ فَتُقَامَ، ثُمَّ آمُرَ رَجُلاً فَيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، ثُمَّ أَنْطَلِقَ مَعِي بِرِجَالٍ مَعَهُمْ حُزَمٌ مِنْ حَطَبٍ إِلَى قَوْمٍ لا يَشْهَدُونَ الصَّلاةَ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ"(2).
وهذه الأحاديث الصحيحة تدل على أن الصلاة في الجماعة في حق الرجال من أهم الواجبات، وأن المتخلف عنها يستحق العقوبة الرادعة.
نسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين جميعاً، ويمنحهم التوفيق لما يرضيه. أما تركها بالكلية - ولو في بعض الأوقات - فكفر أكبر وإن لم يجحد وجوبها في أصح قولي العلماء؛ سواء كان التارك رجلاً أو امرأة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكَ الصَّلاةِ" (3)، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلاةُ فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ"(4). مع أحاديث أخرى كثيرة في ذلك.
أما من جحد وجوبها - من الرجال أو النساء - فإنه يكفر كفراً أكبر بإجماع أهل العلم ولو صلى . فنسأل الله لنا ولجميع المسلمين العافية من ذلك؛ إنه خير مسؤول .
__________
(1) …مسلم (653).
(2) …البخاري (2420)، ومسلم (651) .
(3) …مسلم (82) .
(4) …أحمد (5/346) وأهل السنن: الترمذي (2621)، والنسائي (463)، وابن ماجه (1079)، وقال الترمذي: «حسن صحيح غريب».(2/149)
والواجب على جميع المسلمين التناصح والتواصي بالحق، والتعاون على البر والتقوى؛ ومن ذلك: نصيحة من يتخلف عن الصلاة في الجماعة أو يتهاون بها فيتركها بعض الأحيان، وتحذيره من غضب الله وعقابه. وعلى أبيه وأمه وإخوانه وأهل بيته أن ينصحوه، وأن يستمروا في ذلك حتى يهديه الله ويستقيم. وهكذا من يتهاون بها أو يتركها من النساء؛ فالواجب نصيحتهن وتحذيرهن من غضب الله وعقابه، والاستمرار في ذلك، وهجر من لم يمتثل وعقابه بالأدب المناسب مع القدرة على ذلك؛ لأن هذا كله من التعاون على البر والتقوى، ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أوجبه الله على عباده من الرجال والنساء - لقوله سبحانه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ *}[التّوبَة].
ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: "مُرُوا أَوْلادَكُمْ بِالصَّلاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ"(1). وإذا كان البنون والبنات يؤمرون بالصلاة لسبع ويضربون عليها لعشر؛ فالبالغ من باب أولى في وجوب أمره بالصلاة وضربه عليها إذا تخلف عنها، مع النصيحة المتواصلة، والتواصي بالحق والصبر عليه - لقول الله عز وجل: {وَالْعَصْرِ *إِنَّ الإْنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ *إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ *}[العَصر].
__________
(1) …أحمد (2/180، 187)، وابن أبي شيبة في «مصنفه» (3482)، وأبو داوود (495)، والحاكم 1/197 (708). ووصفه الألباني في "صحيح أبي داوود" (466) بالحسن والصحة.(2/150)
ومن ترك الصلاة بعد البلوغ، ولم يقبل النصيحة يرفع أمره إلى المحاكم الشرعية حتى تستتيبه؛ فإن تاب وإلا قتل . نسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين ويمنحهم الفقه في الدين، ويوفقهم للتعاون على البر والتقوى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتواصي بالحق والصبر عليه؛ إنه جواد كريم.
الشيخ ابن باز - فتاوى مهمة تتعلق بالصلاة، ص (21 - 27)
حكم من مات وهو تارك للصلاة والصوم
لي ابن يبلغ السابعة عشرة من عمره توفي قبل شهرين في حادث سيارة لم يكن له أي ذنب فيه، وكان ابني لا يصلي ولا يصوم شهر رمضان؛ فهل يجوز لي أنا والدته وإخوته قضاء شهر رمضان عنه ؟ وهل يثاب إذا صمت عنه يوم عاشوراء أو يوم عرفة أو يوم الاثنين والخميس ؟ وأنا أيضاً أصلي له أربع ركعات قبل صلاة الظهر وركعتين بعدها وركعتين بعد صلاة العصر والمغرب والعشاء والفجر ؟
إن الشخص إذا مات وهو لا يصلي ولا يصوم لا يعتبر مسلماً؛ لأن من ترك الصلاة متعمداً كافر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكَ الصَّلاةِ" (1)، فإذا مات على هذه الحالة ولم يتب إلى الله عز وجل فإنه لا يجوز الاستغفار له والدعاء له، وأما ما تفعلينه عنه من الصلوات فإنه لا ينفعه ولو كان مسلماً؛ لأن الصلاة لا تدخلها النيابة .
وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، فتوى رقم: (20155) في 20/10/1419هـ
حكم من يصلي أوقاتاً ويترك أخرى
شخص يصلي وينقطع مراراً عنها وهذا حاله، ما هي نصيحتكم ؟
__________
(1) …مسلم (82) .(2/151)
الواجب على كل مسلم ومسلمة تقوى الله في كل شيء، والصلاة عمود الإسلام، وهي أعظم أركان الإسلام، وأعظم الفرائض بعد الشهادتين. فالواجب على كل مسلم، وعلى كل مسلمة العناية بالصلاة والمحافظة عليها في أوقاتها، كما قال الله عز وجل: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى}[البَقَرَة: 238]، وقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ *}[البَقَرَة]، وقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ *}[النُّور]، فالصلاة أهم عمل بعد الشهادتين، من حفظها حفظ دينه ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع، ومن يفعلها تارة ويتركها تارة فهو كافر في أصح قولي العلماء - ولو لم يجحد وجوبها - لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "العَهَدُ الذي بيننا وبينهمُ الصلاةُ، فمَنْ تَرَكَها فقد كَفَر" (1)، رواه الإمام أحمد، وأهل السنن بإسناد صحيح، عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه، ولقوله عليه الصلاة والسلام: "بَيْنَ الرَّجُلِ وبين الشركِ والكُفْرِ تَرْكُ الصلاة"(2) أخرجه مسلم في صحيحه، ولأحاديث أخرى جاءت في الباب.
فالواجب على المسلمين ذكوراً وإناثاً الحذر من التهاون والتساهل بها، والواجب المحافظة عليها في الوقت، والعناية بها، والطمأنينة والخشوع، حتى تؤدى كما أمر الله.
الشيخ ابن باز - مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (10/330)
حكم من يصلي أحياناً ويترك أحياناً
من يصلي أحياناً هل يكون كافراً ؟ وكذلك الصيام ؟
__________
(1) …أحمد (5/346) وأهل السنن: الترمذي (2621)، والنسائي (463)، وابن ماجه (1079)، وقال الترمذي: «حسن صحيح غريب».
(2) …مسلم (82) .(2/152)
إن كان يفعل ذلك إنكاراً للوجوب والفرضية، أو شكًّا في الوجوب فهو كافر؛ كافر من أجل هذا؛ أي: من أجل شكه في الوجوب أو إنكاره لوجوب هذا الشيء؛ لأن فرض الصلاة والصيام معلوم بالكتاب والسنة، وبالإجماع القطعي من المسلمين، ولا ينكر فرضيته أحد من المسلمين إلا رجلاً أسلم حديثاً ولم يعرف من أحكام الإسلام شيئاً؛ فقد يخفى عليه هذا الأمر.
أما إذا كان يترك بعض الصلوات أو بعض أيام رمضان وهو مقر بوجوب الجميع فهذا فيه خلاف بالنسبة لترك الصلاة، أما الصيام فليس بكافر، فلا يكفر بترك بعض الأيام؛ بل يكون فاسقاً.
ولكن الصلاة هي التي نتكلم عنها؛ فنقول:
اختلف العلماء القائلون بتكفير تارك الصلاة: هل يكفر بترك فريضة واحدة، أو فريضتين، أو لا يكفر إلا بترك الجميع ؟(2/153)
والذي يظهر لي أنه لا يكفر إلا إذا ترك الصلاة تركاً مطلقاً؛ بمعنى أنه كان لا يصلي، ولم يعرف عنه أنه صلى وهو مستمر على ترك الصلاة. فأما إذا كان أحياناً يصلي وأحياناً لا يصلي مع إقراره بالفرضية فلا أستطيع القول بكفره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "بَيْنَ الرجُّلِ وبين الشركِ والكفرِ تَرْكُ الصلاة" (1)؛ فمن كان يصلي أحياناً لم يصدق عليه أنه ترك الصلاة، والحديث الثاني: "العَهْدُ الذي بيننا وبينهم الصلاة فَمَنْ تَرَكَها فقد كَفَرَ"(2). ولم يقل (من ترك صلاة فقد كفر)، ولم يقل: بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك صلاة؛ بل قال: ترك الصلاة ؛ فظاهره أنه لا يكفر إلا إذا كان تركها تركاً عاماً مطلقاً، وأما إذا كان يترك أحياناً ويصلي أحياناً فهو فاسق ومرتكب أمراً عظيماً، وجاني على نفسه جناية كبيرة، وليس بكافر ما دام يقر بفرضيتها وأنه عاص بتركه ما تركه من الصلوات، أما تاركها بالكلية فهو كافر مرتد عن الإسلام - ولو كان تركه إياها تهاوناً وكسلاً - كما يدل على ذلك الكتاب، والسنة، وأقوال الصحابة؛ بل حكاه عبدالله بن شقيق إجماع الصحابة، وحكى الإجماع عليه إسحاق بن راهويه.
الشيخ ابن عثيمين - مجموع فتاوى ورسائل (11/54)
كيفية معاملة الأهل التاركين للصلاة
ماذا يفعل الرجل إذا أمر أهله بالصلاة ولكنهم لم يستمعوا إليه: أيسكن معهم ويخالطهم أم يخرج من البيت ؟
إذا كان الأهل لا يصلون أبداً فإنهم كفار، مرتدون، خارجون عن الإسلام، ولا يجوز أن يسكن معهم؛ ولكن يجب عليه أن يدعوهم ويلح ويكرر لعل الله يهديهم؛ لأن تارك الصلاة كافر - والعياذ بالله - بدليل الكتاب والسنة، وقول الصحابة، والنظر الصحيح.
__________
(1) …مسلم (82) .
(2) …أحمد (5/346) وأهل السنن: الترمذي (2621)، والنسائي (463)، وابن ماجه (1079)، وقال الترمذي: «حسن صحيح غريب».(2/154)
- أما من القرآن: فقوله تعالى عن المشركين: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآْيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ *}[التّوبَة]، مفهوم الآية: أنهم إذا لم يفعلوا ذلك فليسوا إخواناً لنا، ولا تنتفي الأخوة الدينية بالمعاصي وإن عظمت، ولكن تنتفي عند الخروج عن الإسلام .
- أما من السنة: فقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكَ الصَّلاةِ" (1) - ثابت في صحيح مسلم - وقوله في حديث بريدة رضي الله عنه في السنن: "الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلاةُ فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ"(2).
- أما أقوال الصحابة: قال أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه: (لا حَظَّ فِي الإِسْلامِ لِمَنْ تَرَكَ الصَّلاةَ ) (3)، والحظ: النصيب، وهو هنا نكرة في سياق النفي فيكون عاماً: لا نصيب لا قليل ولا كثير. وقال عبدالله بن شقيق: (كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة(4).
* أما من جهة النظر الصحيح فيقال: هل يعقل أن رجلاً في قلبه حبة خردل من إيمان يعرف عظمة الصلاة وعناية الله بها ثم يحافظ على تركها ؟! هذا شيء لا يمكن. وقد تأملت الأدلة التي استدل بها من يقول أنه لا يكفر، فوجدتها لا تخرج عن أحوال خمسة:
1 - إِما أنها لا دليل فيها أصلاً .
2 - أو أنها قيدت بحال أو وصف يمتنع معه ترك الصلاة.
3 - أو أنها قيدت بحال يعذر فيها من ترك هذه الصلاة.
4 - أو أنها عامة فتخصص بأحاديث كفر تارك الصلاة.
__________
(1) …مسلم (82) .
(2) …أحمد (5/346) وأهل السنن: الترمذي (2621)، والنسائي (463)، وابن ماجه (1079)، وقال الترمذي: «حسن صحيح غريب».
(3) …«موطأ مالك» 1/39 (82).
(4) …الترمذي (2757). قال في «تحفة الأحوذي» (7/310): «أخرجه الحاكم أيضًا وصححه على شرطهما، وذكره الحافظ في التلخيص ولم يتكلم عليه».(2/155)
5 - أو أنها ضعيفة لا تقوم بها حجة.
وإذا تبين أن تارك الصلاة كافر؛ فإنه يترتب عليه أحكام المرتدين - وليس في النصوص أن تارك الصلاة مؤمن، أو أنه يدخل الجنة، أو ينجو من النار ونحو ذلك مما يحوجنا إلى تأويل الكفر الذي حكم به على تارك الصلاة بأنه كفر نعمة أو كفر دون كفر - ومنها:
أولاً: أنه لا يصح أن يزوج، فإن عقد له وهو لا يصلي فالنكاح باطل، ولا تحل له الزوجة به؛ لقوله تعالى عن المهاجرات: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}[المُمتَحنَة: 10].
ثانياً: أنه إذا ترك الصلاة بعد أن عقد له فإن نكاحه ينفسخ، ولا تحل له الزوجة للآية التي ذكرناها سابقاً، على حسب التفصيل المعروف عند أهل العلم بين أن يكون ذلك قبل الدخول أو بعده .
ثالثاً: أن هذا الرجل الذي لا يصلي إذا ذبح لا تؤكل ذبيحته .. لماذا ؟.. لأنها حرام، ولو ذبح يهودي أو نصراني فذبيحته يحل لنا أن نأكلها، فيكون - والعياذ بالله - ذبحه أخبث من ذبح اليهود والنصارى.
رابعاً: أنه لايحل أن يدخل مكة أو حدود حرمها - لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ *}[التّوبَة].(2/156)
خامساً: أنه لو مات أحد من أقاربه فلا حق له في الميراث، فلو مات رجل عن ابن له لا يصلي - الرجل مسلم يصلي والابن لا يصلي - وعن ابن عم له بعيد (عاصب)، من الذي يرثه ؟ ابن عمه البعيد دون ابنه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أسامة رضي الله عنه: "لا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ" (1) متفق عليه، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا؛ فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ" (2)، وهذا مثال ينطبق على جميع الورثة.. .
سادساً: أنه إذا مات لايغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه ولا يدفن مع المسلمين، إذاً ماذا نصنع به ؟ نخرج به إلى الصحراء ونحفر له وندفنه بثيابه؛ لأنه لا حرمة له . وعلى هذا فلا يحل لأحد مات عنده ميت وهو يعلم أنه لا يصلي أن يقدمه للمسلمين يصلون عليه.
سابعاً: أنه يحشر يوم القيامة مع فرعون وهامان وقارون وأبيّ بن خلف؛ أئمة الكفر - والعياذ بالله - ولا يدخل الجنة، ولا يحل لأحد من أهله أن يدعو له بالرحمة والمغفرة؛ لأنه كافر لا يستحقها - لقوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ *}[التّوبَة].
فالمسألة يا إخواني خطيرة جداً .. ومع الأسف فإن بعض الناس يتهاونون في الأمر، ويقرون في البيت من لا يصلي، وهذا لا يجوز . والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الشيخ ابن عثيمين - رسالة صفة صلاة النبي، ص (29، 30)، ومجموع فتاوى ورسائل (12/50)
ماذا تفعل مَنْ زوجها لا يصلي ؟
ما حكم بقاء المرأة المتزوجة من زوج لا يصلي وله أولاد منها ؟ وما حكم تزويج من لا يصلي ؟
__________
(1) …البخاري (6764)، ومسلم (1614) .
(2) …البخاري (6732)، ومسلم (1615) .(2/157)
إذا تزوجت امرأة بزوج لا يصلي مع الجماعة ولا في بيته فإن النكاح ليس بصحيح؛ لأن تارك الصلاة كافر، كما دل على ذلك الكتاب العزيز، والسنة المطهرة، وأقوال الصحابة، كما قال عبدالله بن شقيق: (كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة)(1) ، والكافر لا تحل له المرأة المسلمة - لقوله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}[المُمتَحنَة: 10].
وإذا حدث له ترك الصلاة بعد عقد النكاح فإن النكاح ينفسخ؛ إلا أن يتوب ويرجع إلى الإسلام، وبعض العلماء يقيد ذلك بانقضاء العدة فإذا انقضت العدة لم يحل له الرجوع إذا أسلم إلا بعقد جديد، وعلى المرأة أن تفارقه ولا تمكنه من نفسها حتى يتوب ويصلي، ولو كان معها أولاد منه؛ لأن الأولاد في هذه الحال لا حضانة لأبيهم فيهم.
وعلى هذا أحذر إخواني المسلمين من أن يزوجوا بناتهم ومن لهم ولاية عليهن بمن لا يصلي؛ لعظم الخطر في ذلك، ولا يحابوا في هذا الأمر قريباً ولا صديقاً. وأسأل الله الهداية للجميع، والله أعلم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. حرر في 9/10/1414هـ.
الشيخ ابن عثيمين - مجموع فتاوى ورسائل (11/56)
ماذا تفعل مَنْ زوجها لا يصلي أحياناً ؟
أنا امرأة متزوجة وزوجي لا يحافظ على الصلاة، وأحياناً يجمع بين فرضين معاً، وأحياناً يمر عليه عدة أيام دون أن يصلي وهو لا يتركها نهائياً. وأنا أنصحه وآمره بالصلاة ولكنه لا يسمع مني، وأنا عندي طفلة ولا أريد أن أهدم حياتي .. فأرشدوني جزاكم الله خيراً ؟
__________
(1) …الترمذي (2757). قال في «تحفة الأحوذي» (7/310): «أخرجه الحاكم أيضًا وصححه على شرطهما، وذكره الحافظ في التلخيص ولم يتكلم عليه».(2/158)
الذي لا يصلي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه كافر؛ يقول عليه الصلاة والسلام "بَيْنَ الرَّجُلِ وبين الشِّرك والكُفْر تَرْكُ الصلاة" (1)، ويقول صلى الله عليه وسلم: "العَهْدُ الذي بيننا وبينهمُ الصلاةُ؛ فَمَنْ تركها فَقَدْ كَفَرَ"(2) والصلاة عمود الإسلام، والصواب: أن من تركها ولو لم يجحد وجوبها كفر في أصح قولي العلماء، وحياتك معه هي الهدم، وفراقك له هو الحياة والسعادة، فمثل هذا يفارق؛ لأن البقاء معه هدم للدين وشر عظيم عليك وعلى أولادك، فالواجب عليك الخروج منه إلى أهلك أنت وطفلتك؛ لأنك أولى بالطفلة ما دامت هذه حاله، وسوف يعوضك الله خيراً منه وأفضل؛ يقول الله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا}[الطّلاَق: 2]، ويقول سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا}[الطّلاَق: 4]. فهذا الرجل لا ينبغي أن تعيشي معه؛ لتركه الصلاة وعدم مبالاته بها وعدم قبوله النصيحة، فاخرجي منه واطلبي الطلاق، والله يعطيك خيراً منه وأفضل، ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه. نسأل الله لنا وله الهداية.
الشيخ ابن باز - المجلة العربية، العدد (123) السنة (11) ص (6)
كيفية التعامل مع الزوجة التي لا تصلي
ماذا يجب على الزوج إذا كانت زوجته تصوم ولا تصلي ؟
__________
(1) …مسلم (82) .
(2) …أحمد (5/346) وأهل السنن: الترمذي (2621)، والنسائي (463)، وابن ماجه (1079)، وقال الترمذي: «حسن صحيح غريب».(2/159)
يجب على الزوج أن يفارقها؛ وذلك لأن تركها للصلاة موجب للكفر المخرج عن الملة، فتكون كافرة بترك الصلاة؛ والكافرة لا تحل للمؤمن؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}[المُمتَحنَة، من الآية: 10]، وقال تعالى: {وَلاَ تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَْمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ}[البَقَرَة، من الآية: 221]، وقال تعالى: {وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ}[المُمتَحنَة: 10]. فالواجب عليك أيها الزوج أن لا تمسك بعصمة هذه المرأة لأنها كافرة، وليس لها الحق في حضانة أولادها؛ لأنه لا ولاية لكافر على مسلم.
وإنني أقول لتلك المرأة إن صيامها لرمضان غير مقبول وليس لها منه إلا التعب والعناء؛ وذلك لأن الكافر لا يقبل منه أي عمل صالح - قال الله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا *}[الفُرقان]، وقال تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الأنعَام، من الآية: 88]، وقال سبحانه وتعالى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ}[التّوبَة، من الآية: 54]. فإذا كانت النفقات ونفعها متعدي لا تقبل .. فكيف بالعبادات الخاصة التي لا تتعدى فاعلها ؟!
والحاصل: أن تلك المرأة قد انفسخ عقد نكاحها إلا أن تتوب إلى الله وترجع إلى الإسلام وتصلي؛ فإن رجعت وصلَّت فهي زوجة له.
الشيخ ابن عثيمين - مجموع فتاوى ورسائل (12/90)
الفصل الثالث
مواقيت الصلاة
حكم تأخير العمال لصلاة الظهر والعصر إلى الليل
كثير من العمال يؤخرون صلاة الظهر والعصر إلى الليل؛ معللين ذلك بأنهم منشغلون بأعمالهم أو أن ثيابهم نجسة أو غير نظيفة .. فبماذا توجهونهم ؟(2/160)
لا يجوز للمسلم أو المسلمة تأخير الصلاة المفروضة عن وقتها؛ بل يجب على كل مسلم ومسلمة من المكلفين أن يؤدوا الصلاة في وقتها حسب الطاقة.
وليس العمل عذراً في تأخيرها، وهكذا نجاسة الثياب ووساختها كل ذلك ليس بعذر.
وأوقات الصلاة يجب أن تستثنى من العمل، وعلى العامل وقت الصلاة أن يغسل ثيابه من النجاسة أو يبدلها بثياب طاهرة . أما الوسخ فليس مانعاً من الصلاة فيها إذا لم يكن ذلك الوسخ من النجاسات، أو فيه رائحة كريهة تؤذي المصلين . فإن كان الوسخ يؤذي المصلين بنفسه أو رائحته وجب على المسلم غسله قبل الصلاة، أو إبداله بغيره من الثياب النظيفة حتى يؤدي الصلاة مع الجماعة .
ويجوز للمعذور شرعاً كالمريض والمسافر أن يجمع بين الظهر والعصر في وقت إحداهما . وبين المغرب والعشاء في وقت إحداهما؛ كما صحت بذلك السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وهكذا يجوز الجمع في المطر والوحل الذي يشق على الناس .
الشيخ ابن باز - فتاوى مهمة تتعلق بالصلاة ص (19، 20)
حكم تأخير صلاة الفجر عن وقتها
أنا شاب حريص على الصلاة، غير أني أنام متأخراً، فأُرَكِّب الساعة (المنبِّهة) على الساعة السابعة صباحاً؛ أي: بعد شروق الشمس ثم أصلي وأذهب للمحاضرات، وأحياناً في يوم الخميس أو الجمعة أستيقظ متأخراً؛ أي: قبل صلاة الظهر بقليل بساعة أو ساعتين، فأصلي الفجر عندما أستيقظ - علماً بأني أصلي أغلب الأوقات بغرفتي بالسكن ومسجد السكن الجامعي ليس بعيداً عني، وقد نبهني أحد الإخوة إلى أن ذلك لا يجوز . المرجو من سماحتكم إيضاح الحكم فيما سبق. وجزاكم الله خيراً .(2/161)
من يتعمد تركيب الساعة إلى ما بعد طلوع الشمس حتى لا يصلي فريضة الفجر في وقتها يعتبر قد تعمد تركها؛ وهو كافر بهذا عند جمع من أهل العلم - نسأل الله العافية - لتعمده ترك الصلاة . وهكذا إذا تعمد تأخير الصلاة إلى قرب الظهر ثم صلاها عند الظهر؛ أي: صلاة الفجر . أما من غلبه النوم حتى فاته الوقت فهذا لا يضره ذلك، وعليه أن يصلي إذا استيقظ، ولا حرج عليه إذا كان غلبه النوم أو تركها نسياناً، أما الإنسان الذي يتعمد تأخيرها إلى ما بعد الوقت أو يركب الساعة إلى ما بعد الوقت حتى لا يقوم في الوقت - فهذا يعتبر متعمداً للترك؛ فقد أتى منكراً عظيماً عند جميع العلماء. ولكن هل يكفر أو لا يكفر ؟ هذا فيه خلاف بين العلماء إذا كان لم يجحد وجوبها؛ فالجمهور يرون أنه لا يكفر بذلك كفراً أكبر. وذهب جمع من أهل العلم إلى أنه يكفر بذلك كفراً أكبر، وهو المنقول عن الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكَ الصَّلاةِ" (1)، ويقول صلى الله عليه وسلم: "الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ الصَّلاةُ؛ فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ"(2).
وهكذا ترك الصلاة في الجماعة منكر لا يجوز؛ الواجب على المكلف أن يصلي في المسجد؛ لما ورد في حديث ابن أم مكتوم رضي الله عنه - وهو رجل أعمى - أنه قال: يا رسول الله، ليس لي قائد يقودني إلى المسجد؛ فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرخص له فيصلي في بيته، فرخص له، فلما ولى دعاه فقال له: "هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ بِالصَّلاةِ ؟ قَالَ: نَعَمْ . قَالَ: فَأَجِبْ"(3).
__________
(1) …مسلم (82) .
(2) …أحمد (5/346) وأهل السنن: الترمذي (2621)، والنسائي (463)، وابن ماجه (1079)، وقال الترمذي: «حسن صحيح غريب».
(3) …مسلم (653) .(2/162)
فهذا أعمى ليس له قائد يلائمه، ومع هذا يأمره النبي بالصلاة في المسجد فالصحيح البصير أولى . والمقصود أنه يجب على المؤمن أن يصلي في المسجد، ولا يجوز له التساهل والصلاة في البيت مع قرب المسجد.
ومما ورد في ذلك أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يَأْتِهِ؛ فَلا صَلاةَ لَهُ إِلا مِنْ عُذْرٍ"(1).
وقد سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن العذر فقال: خوف أو مرض . وفي صحيح مسلم: عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (لقد رَأَيْتُنَا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يَتَخَلَّفُ عن الصلاة في الجماعة إلا مُنَافِقٌ أو مريض)(2).
الشيخ ابن باز - مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (10/374)
حكم من لا يصلي الفجر في وقتها لعمله المرهق
شاب ملتزم والحمد لله، ولكنه يتعب كثيراً في عمله، حتى إنه لا يستطيع أن يصلي الفجر في وقتها من شدة التعب والإرهاق .. فما حكم الشرع في نظرك فيمن هو على هذه الحال ؟ وما نصيحتكم له ؟ جزاكم الله خيراً .
الواجب عليه أن يدع العمل الذي يكون سبباً في تأخير صلاة الفجر؛ لأن الوسائل لها أحكام المقاصد إذا كان يعرف أنه لو ترك الإجهاد تمكن من صلاة الفجر، فالواجب عليه ألا يجهد نفسه لكي يصلي الفجر في وقتها مع المسلمين .
الشيخ ابن عثيمين - فتوى عليها توقيعه
الفصل الرابع
صلاة الجماعة
وجوب صلاة الجماعة
من عبدالعزيز بن عبدالله بن باز، إلى من يراه من المسلمين، وفقهم الله لما فيه رضاه، ونظمني وإياهم في سلك من خافه واتقاه - آمين.
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
أما بعد:
__________
(1) …ابن ماجه (793)، والدار قطني (1/420، 421 )، وابن حبان (2064)، والحاكم 1/245، 246، (893-896) عن ابن عباس بإسناد على شرط مسلم . انظر (الإرواء) للألباني ج2 برقم (551).
(2) …مسلم (654) بنحوه وزيادة.(2/163)
فقد بلغني أن كثيراً من الناس قد يتهاونون بأداء الصلاة في الجماعة ويحتجون بتسهيل بعض العلماء في ذلك، فوجب علي أن أبين عظم هذا الأمر وخطورته، وأنه لا ينبغي للمسلم أن يتهاون بأمر عظم الله شأنه في كتابه العظيم، وعظم شأنه رسوله الكريم عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم.
ولقد أكثر الله سبحانه من ذكر الصلاة في كتابه الكريم، وعظم شأنها، وأمر بالمحافظة عليها وأدائها في الجماعة، وأخبر أن التهاون بها والتكاسل عنها من صفات المنافقين.
فقال تعالى في كتابه المبين: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ *}[البَقَرَة].
وكيف تُعْرَفُ محافظةُ العبد عليها وتعظيمه لها وقد تخلف عن أدائها مع إخوانه وتهاون في شأنها ؟!
وقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ *}[البَقَرَة]، هذه الآية الكريمة نص في وجوب الصلاة في الجماعة، والمشاركة للمصلين في صلاتهم، ولو كان المقصود إقامتها فقط لم تظهر مناسبة واضحة في ختم الآية بقوله سبحانه: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ}[البَقَرَة، من الآية: 43]؛ لكونه قد أمر بإقامتها في أول الآية.
وقال تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ}[النِّسَاء، الآية: 102].
فأوجب سبحانه أداء الصلاة في الجماعة في حال الحرب، فكيف بحال السلم ؟! ولو كان أحد يسامح في ترك الصلاة في جماعة لكان المصافون للعدو المهدَّدون بهجومه عليهم أولى بأن يسمح لهم في ترك الجماعة، فلما لم يقع ذلك علم أن أداء الصلاة في جماعة من أهم الواجبات، وأنه لا يجوز لأحد التخلف عن ذلك .(2/164)
وفي الصحيحين: عن أبي هريرة رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلاةِ فَتُقَامَ، ثُمَّ آمُرَ رَجُلاً فَيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، ثُمَّ أَنْطَلِقَ مَعِي بِرِجَالٍ مَعَهُمْ حُزَمٌ مِنْ حَطَبٍ إِلَى قَوْمٍ لا يَشْهَدُونَ الصَّلاةَ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ"(1).
وفي صحيح مسلم: عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: (لَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْ الصَّلاةِ إِلا مُنَافِقٌ قَدْ عُلِمَ نِفَاقُهُ أَوْ مَرِيضٌ؛ إِنْ كَانَ الْمَرِيضُ لَيَمْشِي بَيْنَ رَجُلَيْنِ حَتَّى يَأْتِيَ الصَّلاةَ، وَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَنَا سُنَنَ الْهُدَى وَإِنَّ مِنْ سُنَنِ الْهُدَى الصَّلاةَ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي يُؤَذَّنُ فِيهِ)(2).
__________
(1) …البخاري (2420)، ومسلم (651) .
(2) …مسلم (654).(2/165)
وفيه أيضاً عنه قال: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ غَدًا مُسْلِمًا فَلْيُحَافِظْ عَلَى هَؤُلاءِ الصَّلَوَاتِ حَيْثُ يُنَادَى بِهِنَّ؛ فَإِنَّ اللَّهَ شَرَعَ لِنَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُنَنَ الْهُدَى وَإِنَّهُنَّ مِنْ سُنَنِ الْهُدَى وَلَوْ أَنَّكُمْ صَلَّيْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ كَمَا يُصَلِّي هَذَا الْمُتَخَلِّفُ فِي بَيْتِهِ لَتَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ، وَلَوْ تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ لَضَلَلْتُمْ. وَمَا مِنْ رَجُلٍ يَتَطَهَّرُ فَيُحْسِنُ الطُّهُورَ ثُمَّ يَعْمِدُ إِلَى مَسْجِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ إِلا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ خَطْوَةٍ يَخْطُوهَا حَسَنَةً وَيَرْفَعُهُ بِهَا دَرَجَةً وَيَحُطُّ عَنْهُ بِهَا سَيِّئَةً. وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إِلا مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النِّفَاقِ. وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يُؤْتَى بِهِ يُهَادَى بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ حَتَّى يُقَامَ فِي الصَّفِّ)(1).
وفي صحيح مسلم: أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رجلاً أعمى قال: يارسول الله ليس لي قائد يلائمني إلى المسجد؛ فهل لي رخصة أن أصلي في بيتي ؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ بِالصَّلاةِ ؟ قَالَ: نَعَمْ . قَالَ: فَأَجِبْ"(2).
والأحاديث الدالة على وجوب الصلاة في الجماعة، وعلى وجوب إقامتها في بيوت الله التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه - كثيرة جداً .
__________
(1) …مسلم (654).
(2) …مسلم (653).(2/166)
فالواجب على كل مسلم العناية بهذا الأمر، والمبادرة إليه، والتواصي به مع أبنائه وأهل بيته وجيرانه وسائر إخوانه المسلمين؛ امتثالاً لأمر الله ورسوله، وحذراً مما نهى الله عنه ورسوله، وابتعاداً عن مشابهة أهل النفاق الذين وصفهم الله بصفات ذميمة: من أخبثها تكاسلهم عن الصلاة؛ فقال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً *مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاَءِ وَلاَ إِلَى هَؤُلاَءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً *}[النِّسَاء].
ولأن التخلف عن أدائها في الجماعة من أعظم أسباب تركها بالكلية، ومعلوم أن ترك الصلاة كفر وضلال وخروج من دائرة الإسلام؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكَ الصَّلاةِ"(1). رواه مسلم في صحيحه عن جابر رضي الله عنه، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلاةُ فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ"(2). والآيات والأحاديث في تعظيم شأن الصلاة ووجوب المحافظة عليها وإقامتها كثيرة جداً .
__________
(1) …مسلم (82) .
(2) …أحمد (5/346) وأهل السنن: الترمذي (2621)، والنسائي (463)، وابن ماجه (1079)، وقال الترمذي: «حسن صحيح غريب».(2/167)
ومتى ظهر الحق واتضحت أدلته لم يجز لأحد أن يحيد عنه لقول فلان أو فلان؛ لأن الله سبحانه يقول: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَومِ الآْخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}[النِّسَاء، من الآية: 59]، ويقول سبحانه: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[النُّور: 63].
ولا يخفى ما في الصلاة في الجماعة من الفوائد الكثيرة والمصالح الجمة، ومن أوضح ذلك التعارف، والتعاون على البر والتقوى، والتواصي بالحق والصبر عليه . وتشجيع المتخلف، وتعليم الجاهل، وإغاظة أهل النفاق، والبعد عن سبيلهم، وإظهار شعائر الله بين عباده، والدعوة إليه سبحانه بالقول والعمل، إلى غير ذلك من الفوائد الكثيرة .
وفقني الله وإياكم لما فيه رضاه، وصلاح أمر الدنيا والآخرة، وأعاذنا جميعاً من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، ومن مشابهة الكفار والمنافقين، إنه جواد كريم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
الشيخ ابن باز، تبصرة وذكرى، ص (53 - 57) / وفي (مجموع فتاوى ومقالات متنوعة) (12/14)
تحريم منع السائقين ونحوهم من أداء صلاة الجماعة
ما حكم الشرع في نظركم فيمن يمنعون السائقين الذين يشتغلون عندهم في البيوت عن الصلاة في المساجد، ويأمرونهم بالصلاة في البيوت، ولا يسمح لهم بالخروج إلا إذا كانوا يريدون أن يخرجوا هم؛ أي: أهل البيت ؟(2/168)
الذي ينبغي لهؤلاء القوم الذين عندهم عمال يعملون عندهم أن يمكنوهم من صلاة الجماعة؛ لما في ذلك من الأجر والخير الكثير؛ لأن هذا من باب التعاون على البر والتقوى - وقد قال الله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِّرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِْثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[المَائدة، من الآية: 2]، ولا يحل لهم أن يمنعوهم من صلاة الجماعة؛ لأن صلاة الجماعة واجب شرعي، والواجب الشرعي مستثنى من زمن العمل عند المسلمين؛ لأن طاعة الله ورسوله مقدمة على طاعة البشر. ولكن إذا مُنِعَ هذا العاملُ من الصلاةِ جماعةً ولم يكن له مندوحة عن هذا العمل فإنه يعذر في هذه الحال؛ لأنه ممنوع منها بغير اختياره، ولو ترك العمل لَتَضَرَّرَ بذلك .
الشيخ الفوزان - نور على الدرب - الحلقة الثانية، ص (23، 24)
حكم تسوية الصفوف
أرى بعض المصلين ممن يتأخر عن الصف قليلاً، ومنهم من يضع يديه على صدره من الجانب الأيسر، فما حكم ذلك ؟ وهل في أحد المذاهب ما ينص على ذلك ؟
السنة تسوية الصفوف؛ بل قال بعض العلماء إن تسوية الصف واجبة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى رجلاً بادياً صدره قال: "لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ" (1) وهذا وعيد، ولا وعيد إلا على فعل محرم أو ترك واجب. والقول بوجوب تسوية الصفوف قول قوي، وقد ترجم البخاري رحمه الله على ذلك بقوله: باب إثم من لم يتم الصفوف(2).
وأما وضع اليد على الجانب الأيسر، فهذا لا أصل له، ولا أعلم له أساساً: لا في السنة ولا في كلام أهل العلم .
الشيخ ابن عثيمين - كتاب الدعوة (5)، ( 2/91، 92 )
صفة متابعة الإمام ومسابقته وحكمهما
ما معنى متابعة الإمام ومسابقته ؟
__________
(1) …البخاري (717)، ومسلم (436) .
(2) …البخاري في الأذان، باب (75) قبل رقم (724).(2/169)
المتابعة: أن تنتظر الإمام حتى يتم انتقاله وينقطع صوته بالتكبير ثم تتبعه، فإذا كبر للركوع تبقى قائماً حتى يفرغ من التكبير ويتم ركوعه ثم تنحني راكعاً، فإذا رفع بقيت حتى يستتم قائماً ويفرغ من التسميع، ثم ترفع بعده، وهكذا بقية الأركان. أما المسابقة فهي أن تركع قبل الإمام أو تسجد قبله، أو تبدأ بالحركة قبل حركته، وهي تبطل الصلاة أو تنقصها .
الشيخ ابن جبرين - اللؤلؤ المكين، ص (103)
حكم صلاة المنفرد خلف الصف (للشيخ ابن جبرين)
إذا دخلت المسجد للصلاة، ولا يوجد مكان في الصف الأول، هل أصلي وحدي منفرداً خلف المصلين ؟ أو أقوم بسحب أحد المصلين في الصف الأول، لأننا سمعنا أنه لا تجوز صلاة المنفرد خلف المصلين ؟
عليك الحرص على التقدم لتحصل على فضيلة الصف الأول، فإذا دخلت بعد الإقامة والصف قد كمل؛ فحاول أن تجد فرجة بين اثنين ولو بتقريب أحدهما من الآخر حتى يتسع المكان، فإن كان الصف متراصاً لا توجد هناك فرجة، فحاول أن يتأخر معك أحدهم، لكن لا تسحبه بقوة؛ بل عليك أن تكلمه بخفة، أو نحنحة، أو وضع يدك على منكبه؛ فإذا تأخر معك فله أجر؛ فقد ورد في الحديث: "لِينُوا بِأَيْدِي إِخْوَانِكُمْ" (1)، فإن امتنع ولم تجد غيره، فحاول أن تخرق الصف، وتقف بجانب الإمام عن يمينه، فإن كثرت الصفوف وصعب تخللها كلها وصليت وحدك فجاءك أحد قبل السجود: صحت صلاتك، وقد تجزئ مطلقاً إذا لم تستطع شيئاً مما ذكرنا، وتصح للضرورة - إن شاء الله تعالى - لقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}[التّغَابُن، من الآية: 16].
الشيخ ابن جبرين - فتاوى إسلامية، (1/175)
حكم صلاة المنفرد خلف الصف (للشيخ ابن عثيمين)
__________
(1) …أحمد (2/97)، (5/262)، وأبو داود (666)، والطبراني في «الكبير» 9/174 (7727)، والبيهقي في «الكبرى» (4967). وصححه الألباني في «صحيح أبي داود» (620).(2/170)
حصل نقاش بين جماعة من المصلين بأنه إذا دخل رجل متأخراً إلى المسجد فوجد أن الصلاة قد أقيمت والصف مكتمل وليس له محل في الصف؛ فهل يجوز له أن يسحب رجلاً من ذلك الصف المكتمل كي يتمكن من صلاته ؟ أو يصلي خلف الصف وحده ؟ أو ماذا يفعل ؟
هذه المسألة لها ثلاثة أوجه: إذا جاء الإنسان ووجد أن الصف قد تم:
- فإما أن يصلي وحده خلف الصف.
- وإما أن يجذب أحداً من الصف فيصلي معه.
- وإما أن يتقدم فيصلي إلى جنب الإمام الأيمن.
- وهذه الصفات الثلاث إذا دخل في الصلاة. وإما أن يدع الصلاة مع هذه الجماعة .. فما المختار من هذه الأمور الأربعة ؟
- نقول: المختار من هذه الأمور الأربعة: أن يصف وحده خلف الصف ويصلي مع الإمام؛ وذلك لأن الواجب الصلاة مع الجماعة، وفي الصف، فهذان واجبان، فإذا تعذر أحدهما - وهو المقام في الصف - بقي الآخر واجباً؛ وهو صلاة الجماعة، فحينئذ نقول: صلِّ مع الجماعة خلف الصف لتدرك فضيلة الجماعة، والوقوف في الصف في هذه الحال لا يجب عليك؛ للعجز عنه، وقد قال الله سبحانه وتعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}[التّغَابُن، من الآية: 16]. ويشهد لهذا أن المرأة تقف خلف الصف وحدها إذا لم يكن معها نساء؛ وذلك لأنه ليس لها مكان شرعاً في صف الرجال. فلما تعذر مكانها الشرعي في صف الرجال صلت وحدها.
فهذا الرجل الذي أتى المسجد والصف قد تم ولم يكن له مكان حسي في الصف سقطت عنه حينئذ المصافة، ووجبت عليه الجماعة. فليصلِّ خلف الصف، وأما أن يجذب أحدًا ليصلي معه، فهذا لا ينبغي؛ لأنه يترتب عليه ثلاثة محاذير:
المحذور الأول: فتح فرجة في الصف، وهذا خلاف ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم في الرص وسدّ الخلل بين الصفوف.
الثاني: نقل هذا المجذوب من المكان الفاضل إلى المكان المفضول. وهو نوع من الجناية عليه.
والثالث: تشويش صلاته عليه، فإن هذا المصلي إذا جذب لابد أن يكون في قلبه حركة، وهذا أيضاً من الجناية عليه.(2/171)
- والوجه الثالث أن يقف مع الإمام: فلا ينبغي له؛ لأن الإمام لابد أن يكون متميزاً عن المأمومين بالمكان، كما أنه متميز عنهم بالسبق بالأقوال والأفعال؛ فيكبر قبلهم، ويركع قبلهم، ويسجد قبلهم، فينبغي أن يكون متميزاً عنهم في المكان.
وهذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم أن الإمام يتقدم المأمومين، وهذه مناسبة ظاهرة لكونه متميزاً عنهم منفرداً بمكانه، فإذا وقف معه بعض المأمومين زالت هذه الخاصية التي لا ينبغي أن ينفرد بها إلا الإمام في الصلاة.
- أما الوجه الرابع وهو أن يدع الجماعة: فهذا لا وجه له أيضا؛ لأن الجماعة واجبة، والمصافة واجبة، فإذا عجز عن إحداهما لم تسقط الأخرى بعجزه عن الأولى.
الشيخ ابن عثيمين - مجموع فتاوى ورسائل (15/204)
من أين يبدأ الصف ؟
الصف في الصلاة من أين يبدأ ؟ هل يبدأ من خلف الإمام أم من أقصى اليمين..؟
يبدأ الصف الأول في الصلاة من خلف الإمام ممتداً إلى اليمين وإلى الشمال - لا من أقصى اليمين كما في السؤال، وهكذا الصف الثاني فما بعده.
اللجنة الدائمة - فتاوى إسلامية، (1/223)
حكم متابعة الإمام في مبنى منفصل عن المسجد
نفيدكم بأننا نصلي في جامع يزدحم فيه المصلون ولا يكفيهم مما اضطرنا إلى إقامة مبنى منفصل (بمحاذاته - على بعد متر تقريباً) حتى يستوعب جميع المصلين.
هل تجوز صلاة المصلين ؟ علماً بأنهم يصلون خلف الإمام ويسمعون صوته بالميكرفون ولكنهم لا يرونه ؟ أفيدونا حفظكم الله.
إذا ضاق المسجد بالمصلين جاز للباقين أن يخرجوا ويصلوا خارج المسجد بشرط أن لا يكونوا أمام الإمام؛ بل عن جانبيه أو خلفه ولو لم يروا الإمام، ولو لم يروا من خلفه للحاجز وهو حيطان المسجد. وإذا حصل بينهم وبين المصلين رصيف أو حائط أو بناية لم يضر ذلك إذا سمعوا صوت الإمام ولو بواسطة المكبر .
الشيخ ابن جبرين - فتوى عليها توقيعه
هل يدخل المسبوق مع الإمام في التشهد الأخير ؟(2/172)
شخص أتى إلى المسجد متأخراً، وأدرك الجماعة وهم في التشهد الأخير؛ هل يلحق بهم أم ينتظر الجماعة القادمة ؟ وإذا التحق بالجماعة في التشهد الأخير، ثم سمع جماعة جديدة؛ هل يقطع صلاته أم يتمها ؟
إذا كان الذي جاء والإمام في التشهد الأخير يعلم أنه سيجد جماعة؛ فإنه ينتظر ويصلي مع الجماعة؛ لأن القول الراجح أن الجماعة لا تدرك إلا بركعة كاملة، أما إذا كان لا يرجو وجود أحد يصلي معه؛ فإن الأفضل أن يدخل معهم، ولو في التشهد الأخير؛ لأن إدراك بعض الصلاة خير من عدم الإدراك بالكلية.
وإذا قدر أنه دخل مع الإمام لعلمه أنه لا يجد جماعة، ثم حضرت جماعة، وسمعهم يصلون؛ فلا حرج عليه أن يقطع صلاته ويذهب معهم ويصلي، أو ينويها نفلاً، ويتمها ركعتين، ثم يذهب مع هؤلاء القوم ويصلي معهم، وإن استمر على ما هو عليه فلا حرج، فله أن يفعل واحداً من هذه الأمور الثلاثة.
الشيخ ابن عثيمين - مختار من فتاوى الصلاة، ص (66)
وجوب تكبيرة الإحرام على المسبوق
إذا أدرك المأموم الإمام راكعاً فهل يكبر تكبيرتين ؟
إذا دخل الإنسان والإمام راكع ثم كبر للإحرام فليركع فوراً، وتكبيره للركوع حينئذ سنة وليس بواجب، فإن كبر للركوع فهو أفضل، وإن تركه فلا حرج عليه ثم بعد ذلك لا يخلو من حالات:
الحال الأولى:
أن يتيقن أنه وصل إلى الركوع قبل أن ينهض الإمام منه، فيكون حينئذ مدركاً للركعة وتسقط عنه الفاتحة في هذه الحال.
الحال الثانية:
أن يتيقن أن الإمام رفع من الركوع قبل أن يصل هو إلى الركوع وحينئذ تكون الركعة قد فاتته ويلزمه قضاؤها.
الحال الثالثة:(2/173)
أن يتردد ويشك هل أدرك الإمام في ركوعه أو أن الإمام رفع قبل أن يدركه في الركوع .. وفي هذه الحال يبني على غالب ظنه فإن ترجح عنده أنه أدرك الإمام في الركوع فقد أدرك الركعة، وإن ترجح عنده أنه لم يدرك الإمام في الركوع فقد فاتته الركعة، وفي هذه الحال إن كان قد فاته شيء من الصلاة فإنه يسجد للسهو بعد السلام، وإن لم يفته شيء من الصلاة بأن كانت الركعة المشكوك فيها هي الركعة الأولى وغلب على ظنه أنه أدركها فإن سجود السهو في هذه الحال يسقط عنه؛ لارتباط صلاته بصلاة الإمام، والإمام يتحمل سجود السهو عن المأموم إذا لم يفت المأموم شيء من الصلاة.
وهناك حال أخرى في حال الشك: يكون الإنسان متردداً في إدراك الإمام راكعاً بدون ترجيح، ففي هذه الحال يبني على المتيقن وهو عدم الإدراك؛ لأنه الأصل، وتكون هذه الركعة قد فاتته ويسجد للسهو قبل السلام.
وهاهنا مسألة أحب أن أنبه لها في هذه المناسبة: وهي أن كثيراً من الناس إذا دخل المسجد والإمام راكع صار يتنحنح بشدة وتتابع، وربما يتكلم: (إن الله مع الصابرين) ، وربما يخبط بقدميه وكل هذا خلاف السنة، وفيه إحداث التشويش على الإمام وعلى المأمومين، ومن الناس من إذا دخل والإمام راكع أسرع إسراعاً قبيحاً، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك؛ فقال صلى الله عليه وسلم: "إذا سَمِعتُم الإقامة فامْشُوا إلى الصلاة وعليكُم السَّكِينَةُ والوَقَار، ولا تُسرعوا، فما أدركتُم فصَلُّوا، وما فاتكم فَأَتِمُّوا"(1).
الشيخ ابن عثيمين - مجموع فتاوى ورسائل (13/67)
تحريم المرور بين يدي المسبوق
معلوم أن سترة المأموم هي سترة إمامه، ولكن إذا سلم الإمام فهل تبقى السترة للمسبوقين أو لابد من وجود سترة جديدة ؟ فقد لاحظت أن بعض الناس يمر أمام المسبوق ولا يفعل له شيئاً.. فما الحكم في ذلك ؟
__________
(1) …البخاري (636، 908)، ومسلم (602).(2/174)
إذا سلم الإمام وقام المسبوق لقضاء ما فاته فإنه يكون في هذا القضاء منفرداً حقيقة، وعليه أن يمنع من يمر بين يديه؛ لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك(1). وترك بعض الناس منع المار قد يكون عن جهل منهم بهذا، أو قد يكون عن تأويل؛ حيث إنهم ظنوا أنهم لما أدركوا الجماعة صاروا بعد انفرادهم عن الإمام بحكم الذين خلف الإمام، لكن لابد من منع المسبوق من يمرون بين يديه إذا قام لقضاء ما فاته .
الشيخ ابن عثيمين - كتاب الدعوة (5) (2/92 )
الفصل الخامس
الإمامة
حكم إمامة الرجل في سلطانه
جاء في صحيح مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يَؤُمَّنَّ الرجلُ الرجلَ في سُلْطَانِه، .. إِلاَّ بِإِذْنِه"(2) ، كما جاء عند أبي داود: أنه قال: "مَنْ زَارَ قَوْماً فلا يَؤُمَّهُم ولْيَؤُمَّهُم رَجُلٌ مِنْهُم"(3). فهل هذا الشيء على إطلاقه ؟ وهل من الأفضل إذا كان الرجل يحسن التلاوة أن يؤم المصلين في بيته مع وجود من هو أقرأ لكتاب الله منه أم يلزم تقديم الأقرأ ؟
يراد بسلطانه: ما يختص به؛ كإمام المسجد الراتب، وصاحب المنزل، فهو أحق بمسجده ومنزله، فإن أذن لذلك الزائر وقدمه في الصلاة، جاز ذلك، وإلا فالأصل ألا يتقدم أحد عليه إذا كان يحسن القراءة، ويعرف أحكام الصلاة، فإن وجد من هو أحسن وأقرأ منه فالأولى أن يقدم الأقرأ والأفضل؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يَؤُمُّ القومَ أَقْرَؤُهُم لِكِتَابِ الله"(4). والله أعلم.
الشيخ ابن جبرين - فتوى عليها توقيعه - في 2/9/1424هـ
حكم الصلاة خلف من لا يُحسن القراءة .. وحكم تصحيح قراءته
س1: إذا كان الإمام لا يحسن القراءة فهل يُصلى خلفه ؟
__________
(1) …البخاري (509، 3274)، ومسلم (505، 506).
(2) …مسلم (673).
(3) …أحمد (3/436)، (5/53)، وأبو داوود (596)، والترمذي (356) وقال: «حسن صحيح».
(4) …مسلم (673).(2/175)
ج1: إذا كان الإمام لا يلحن لحناً يحيل المعنى فإن الصلاة خلفه تصح، ولكن يُعلَّم حتى يتقن القراءة، أما إذا كان يلحن لحناً يحيل المعنى فإنه لا يُصلَّى خلفه، ولا يجوز أن يبقى إماماً في هذه الحال.
الشيخ ابن عثيمين - مجموع فتاوى ورسائل (15/159)
س2: أنا رجل أحفظ أجزاء من كتاب الله ومُجوِّد لتلاوته - والحمد لله، وقد تحضرني أحيانًا الصلاة مع أناس لا يحسنون تلاوة القرآن، وأتردد في التقدم للصلاة بهم خوفًا من الرياء، فيؤمنا أحدهم وقد يَلْحَن كثيرًا .. فهل يلحقني إثم لعدم تقدمي لإمامتهم ؟
ج2: إذا طلبك أولئك القوم أن تَؤُمَّهُم، وقد عرفت بأنهم دونك في القراءة، أو عليهم أخطاء ولحن - فإن عليك أن تتقدم بهم، ولا يجوز لك أن تعتذر في هذه الحال؛ فقد روي في حديث : "أن القوم إذا قدَّموا رجلاً وفيهم مَنْ هو أفضل منه لَمْ يَزَالوا في سَفَال"(1) . والله أعلم.
الشيخ ابن جبرين - من قوله وإملائه
س3: ما هو توجيهكم لبعض الناس الذين يشددون على بعض الأئمة عندما يسقط آية أو يلحن لحنًا لا يخل بالمعنى ؟ .. هل يجوز الإنكار في ذلك أم يكون الأمر واسعًا ؟ أفيدونا جزاكم الله خيرًا .. وما هي نصيحتكم للإمام عند حصول مثل ذلك ؟
__________
(1) …الطبراني في «الأوسط» (4582) بنحوه؛ من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. قال الهيثمي في «المجمع» (2/64): «وفيه الهيثم بن عقاب؛ قال الأزدي: لا يُعرف. قلت: ذكره ابن حبان في الثقات». اهـ. والسَّفَال والسَّفَالَة: ضد العُلو؛ بمعنى النَّذَالة.(2/176)
ج3: ننصح من خلف الإمام أن يلتزموا بالطمأنينة والسكون في الصلاة وحضور القلب فيها، ولا ينبغي التشديد في الرد على الإمام في كل كلمة يغيرها أو يسقطها - إذا كانت موجودة في بعض القراءات أو في موضع آخر من القرآن، أو لا تغير المعنى وليست متعمدة، وفي الرد عليه قطع لقراءته وتشويش عليه؛ فربما يبقى متحيرًا ولا يستطيع مواصلة القراءة. وعلى المأمومين أن يلزموا ما أمروا به من الإنصات والاستماع، للاستفادة من القراءة، وأن يعذروا الإمام في الغلط اليسير؛ فإنه من طبيعة البشر، وعلى الإمام بذل الجهد في إقامة القرآن والحروف حسب القدرة. والله أعلم.
الشيخ ابن جبرين - من قوله وإملائه
الحد الواجب لإحسان الإمام للقراءة
ما حكم الصلاة خلف إمام لا يحسن القراءة ؟ وهل الأفضل الانفراد أم الصلاة خلفه ؟
إذا أردت أن تصلي فإنك تتحرى الصلاة خلف إمام يحسن القراءة، وإذا علمت عن إمام أنه لا يحسن القراءة؛ بمعنى أنه يلحن في الفاتحة لحناً يغير المعنى: مثل قوله (إياكِ نعبد) بكسر الكاف، و(أنعمُتِ) بالضم أو الكسر؛ فلا يجوز أن تصلي خلفه، والواجب تنبيهه؛ فإن أجاب فالحمد لله، وإلا وجب عليك أن تبلغ عنه الجهة المختصة لإبداله بإمام أصلح منه.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (7/348)
حكم الصلاة خلف المبتدع
هل تجوز الصلاة خلف الإمام المبتدع ؟
إذا وجدت إماماً غير مبتدع فصل معه ولا تصل مع المبتدع، وإذا لم تجد إماماً غير المبتدع فإنك تنصحه: فإن قبل النصح جازت الصلاة خلفه، وإذا لم يقبل النصح وكانت بدعته مكفرة - كمن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره أو يذبح لغير الله فهذا شرك أكبر - لا تصح الصلاة خلفه، ولا يصح جعله إماماً، وإذا كانت بدعته غير مكفرة صحت الصلاة خلفه: مثل التلفظ بالنية؛ كقوله: نويت أن أصلي.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم(2/177)
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (7/364)
حكم إمامة الفاسق
ما حكم إمامة الرجل شارب الدخان وحالق اللحية والسفيه الذي لا تبرأ به الذمة في الجمعة والجماعة ؟
من كان إماماً للجمعة والجماعة وهو يشرب الدخان ويحلق لحيته أو هو متلبس بشيء من المعاصي فيجب نصحه والإنكار عليه، فإذا لم ينتصح وجب عزله إن تيسر ذلك ولم تحدث فتنة، وإلا شرعت الصلاة خلف غيره من أهل الصلاح لمن تيسر له ذلك، زجراً له وإنكاراً عليه؛ إن لم يترتب على ذلك فتنة، وإن لم تتيسر الصلاة خلف غيره شرعت الصلاة خلفه؛ تحقيقاً لمصلحة الجماعة. وإن خيف من الصلاة وراء غيره حدوث فتنة صَلِّ وراءه درءاً للفتنة وارتكاباً لأخف الضررين، كما صلى ابن عمر رضي الله عنهما وغيره من السلف الصالح خلف الحجاج بن يوسف وهو من أظلم الناس؛ حرصاً على جمع الكلمة، وحذراً من الفتنة والاختلاف.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (7/372، 373)
ضابط طول الصلاة وقصرها هو السنة
شكا لي بعض المأمومين من أنني أطيل الوقوف بعد الرفع من الركوع؛ لأنني أقرأ الذكر الوارد كله بعد الرفع من الركوع.. ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه.. إلخ. فهل هناك دعاء مختصر يقرأ بعد الرفع من الركوع حتى لا نشق على الناس . . ؟(2/178)
الواجب على الإمام وكل من أقيم على عمل من الأعمال أن يراعي جانب السنة فيه، وألا يخضع لأحد لمخالفة السنة، ولا بأس إذا دعت الضرورة والحاجة أحياناً أن يخفف - كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، أما في الأحوال الدائمة المستمرة فلزوم السنة هو مقتضى الإمامة . فكن ملازماً لفعل السنة، وأخبر الناس أنهم إذا صبروا على هذا نالوا ثواب الصابرين على طاعة الله، ولو ترك التخفيف وعدمه إلى أهواء الناس لتفرقت الأمة شيعاً، ولكان الوسط عند قوم تطويلاً عند آخرين، فعليك بما جاء في السنة، وهي معروفة؛ ولله الحمد .
ولهذا أنصح كل إمام يتولى إمامة المسلمين في المساجد أن يحرص على قراءة ما كتبه العلماء في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، مثل كتاب (الصلاة) لابن القيم، وهو كتاب معروف، وكذلك ما ذكره رحمه الله في كتاب (زاد المعاد في هدي خير العباد) .
الشيخ ابن عثيمين - كتاب الدعوة (5) (2/90، 91 )
تخفيف الإمام للصلاة تُحَدِّدُهُ السُّنة لا الأهواء
نحن جماعة المسجد الكبير بجامعة الملك سعود، وجميعنا تقريباً من الطلاب، ونمر بظروف متقاربة من الدراسة والاختبارات، وكثيراً ما نختلف مع إمام الجامع في قضية إطالته القراءة في الصلاة وتخفيفها، فهل أمر التخفيف الذي دعت إليه السنة أمر نسبي ؟ وما المقدار المناسب قراءته في كل صلاة، وبالأخص الصلوات الجهرية ؟
نعم؛ التخفيف أمر نسبي، بالنظر إلى صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وقراءة غيره، وما أرشد إليه في القراءة. وسبب النهي عن الإطالة قصة معاذ رضي الله عنه الذي كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء، وقد يؤخرون العشاء إلى نحو ثلاث ساعات أو ساعتين بعد الغروب، ثم يذهب إلى قومه في العوالي، ولا يصلي بهم إلا بعد ساعة.(2/179)
ثم أولئك الذين يجتمعون ويصلون معه غالبهم أهل عمل، في حروثهم وأشجارهم، ومن المعلوم أنهم يكونون قد تعبوا وسئموا طوال نهارهم، وكلّت أبدانهم، فمن المشقة الإطالة عليهم، فمعاذ رضي الله عنه كان يطيل عليهم؛ حتى إنه قرأ مرة سورة البقرة، فهم الذين رفعوا الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ونهاه، وأمره أن يرفق بهم، وأن يقرأ بهم من أواسط المفصل: إذا السماء انشقت، وإذا السماء انفطرت، و إذا الشمس كورت، والسماء ذات البروج، وسبح اسم ربك الأعلى(1)، وما أشبهها؛ فكل ذلك مما لا حرج فيه لهذه المناسبة.
أما التخفيف الزائد فإن ذلك من الخطأ، ولا دلالة في الحديث عليه، والدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم يطيل - كما قال أنس رضي الله عنه: (يَأْمُرُ بِالتَّخْفِيفِ وَيَؤُمُّنَا بِالصَّافَّاتِ) رواه النسائي عن أنس رضي الله عنه، وهو صحيح(2).
ولا شك أن هذا يبين فعله، وفعله يبين قوله: أن قراءة سورة الصافات يعتبر تخفيفاً، فكأنه يأمر بالتخفيف حتى لا يقرأ مثلا السور الطويلة كالنحل، ويوسف، والتوبة، وتكون سورة الصافات قراءة تخفيف.
__________
(1) …البخاري (700) وأطرافه عنده، مسلم (465) بنحوه.
(2) …أحمد (2/26، 40، 157)، والنسائي (827)، وابن خزيمة (1606). قال الألباني في «المشكاة» (1/355) برقم (1135): و«إسناده صحيح». وهو من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما لا من حديث أنس رضي الله عنه.(2/180)
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بهم فَيَقْرَأُ ما بين السِّتين إلى المائةِ آيةً في صلاة الفَجْرِ(1)، أي من الآيات الوسطى، ليس من الآيات القصيرة . وذلك نحو سورة الأحزاب ثلاث وسبعون آية، وكذلك الفرقان، والنمل، والعنكبوت، وما أشبهها، فهذه السور هي التي ما بين المائة والستين؛ فإذا قرأها فإن هذه هي القراءة المعتادة، وإذا كان الناس لا يتحملون رجع إلى طوال المفصل. ولا ينكر عليه إذا قرأ في صلاة الصبح من سورة ق إلى سورة المرسلات؛ هذه هي القراءة الوسط، فلا ينكر على من اقتدى بهذه الأعمال .
الشيخ ابن جبرين - اللؤلؤ المكين، ص (119، 120)
حكم صلاة المرأة في بيتها مع الإمام
س1: ما حكم صلاة النساء في بيوتهن؛ يؤدينها اقتداءً بإمام قريب على سماعهنّ بواسطة مكبر الصوت ؟ هل هي صحيحة أم يلزم إعادتها ؟
ج1: لا نرى صحة صلاة المرأة في بيتها مع الإمام، لمجرد أنها تسمع الصوت بالمكبِّر؛ لأن صوت المكبر قد يمتد مسافة بعيدة، وقد يكون البيت بعيداً عن المسجد، ودونه ودون المسجد مسافات وشوارع؛ ففي هذه الحالة لا يصح للمرأة أن تتابع الإمام وتصلى وهي خارج المسجد، وإنما تصلي لنفسها، والله تعالى أعلم.
س2: لو كان البيت قريباً من المسجد، أو ملاصقاً المسجد .. هل يجوز الاقتداء بالإمام في داخل البيت ؟
ج2: لا يجوز؛ حتى ولو كان ملاصقا المسجد ما دام أن البيت خارج المسجد وهي لا ترى الإمام، ولا ترى من خلفه.
وإنما يجوز الصلاة خلف الإمام خارج المسجد عند الضرورة؛ كما لو ضاق المسجد بالمصلين في يوم الجمعة مثلاً، وصلى بعضهم في الشارع وهو يسمع الإمام، ففي هذه الحالة تجوز الصلاة خارج المسجد للضرورة.
أما هذه المرأة فليس عليها ضرورة وهي خارج المسجد، وليست من أهل الجماعة.
الشيخ الفوزان - مجموع الفتاوى (1/346، 347) - جمع : حمود المطر - وعبدالكريم المقرن
من أحكام القنوت في رمضان
__________
(1) …مسلم (461) .(2/181)
بعض أئمة المساجد في رمضان يطيلون في الدعاء وبعضهم يقصر .. فما هو الصحيح ؟
الصحيح ألا يكون غلو ولا تقصير؛ فالإطالة التي تشق على الناس منهي عنها؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه أن معاذ بن جبل رضي الله عنه أطال الصلاة في قومه غضب عليه غضباً لم يغضب في موعظة مثله قط، وقال لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: "يَا مُعَاذُ أَفَتَّانٌ أَنْتَ" (1)؛ فالذي ينبغي: أن يقتصر على الكلمات الواردة، أو يزيد.
ولا شك في أن الإطالة شاقة على الناس وترهقهم، ولا سيما الضعفاء منهم، ومن الناس من يكون وراءه أعمال، ولا يحب أن ينصرف قبل الإمام، ويشق عليه أن يبقى مع الإمام. فنصيحتي لإخواني الأئمة أن يكونوا بين بين، كذلك ينبغي أن يترك الدعاء أحياناً؛ حتى لا يظن العامة أن الدعاء واجب .
الشيخ ابن عثيمين - كتاب الدعوة (5)، (2/198، 199)
حكم اقتداء المفترض بالمتنفل
س1: إذا كنت أصلي تحية المسجد أو التنفل ودخل علي شخص ظناً منه أني أؤدي الفريضة ودخل معي في الصلاة مباشرة .. ما الحكم وكيف أتصرف ؟
__________
(1) …البخاري (701، 705، 6106)، ومسلم (465) .(2/182)
ج1: يجوز في أصح قولي العلماء أن يأتم المفترض بالمتنفل وأن يأتم كذلك بمن أحرم وحده، ولا ينبغي لمن دخل معه أحد في الصلاة ليأتم به أن يرده، فقد ثبت أن ابن عباس رضي الله عنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي وحده ليلاً فقام عن يساره؛ فأداره عن يمينه وصلى به(1). وثبت أن معاذاً رضي الله عنه كان يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء ثم يذهب فيصلي بقومه تلك الصلاة، ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك(2)، ولأنه صلى الله عليه وسلم صلى بطائفة من أصحابه صلاة الخوف ركعتين، ثم سلم بهم، ثم صلى بالطائفة الأخرى ركعتين ثم سلم بهم(3). رواه أبو داود، وهو صلى الله عليه وسلم في الثانية متنفل.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (7/401)
س2: ماذا يفعل رجل دخل على إنسان يصلي صلاة سرية، وهو لا يعلم هل يصلي السنة أو الفرض ؟ وماذا يفعل الإمام أيضاً في حكم هذا الرجل الذي دخل عليه المسجد وهو يصلي؛ هل يشير إليه ليدخل معه في الصلاة إذا كان في صلاة فرض أو يبعده إذا كان في السنة ؟
ج2: الصحيح أنه لا يضر اختلاف نية الإمام والمأموم، وأنه يجوز للإنسان المفترض أن يصلي خلف الإنسان المتنفل؛ كما كان معاذ بن جبل رضي الله عنه يفعل ذلك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء، ثم يرجع إلى قومه، فيصلي بهم تلك الصلاة، وهي له نافلة، ولهم فريضة(4).
__________
(1) …البخاري (699)، ومسلم (763).
(2) …البخاري (700) وأطرافه عنده، مسلم (465) بنحوه.
(3) …أحمد (5/49)، وأبو داود (1248)، والنسائي (1551، 1552)، وابن خزيمة (1353)، وآخرون. وصححه الألباني في «صحيح أبي داود» (1112).
(4) …البخاري (700، 701)، ومسلم (465).(2/183)
فإذا دخل إنسان المسجد وأنت تصلي فريضة أو نافلة، وقام معك لتكونا جماعة؛ فلا حرج، ولا يلزمك أن تشير عليه بألا يدخل، فيدخل معك ويصلي ما يدركه معك، وبعد انتهاء صلاتك يقوم فيقضي ما بقي عليه؛ سواء كنت تصلي نافلة أو فريضة(1).
الشيخ ابن عثيمين - مختار من فتاوى الصلاة، ص: (66، 67)
حكم الائتمام بالمنفرد
هل يجوز الدخول في الصلاة مع مُصَلٍّ واحد قد أقام الصلاة وحده ؟
نعم؛ يجوز ذلك؛ لما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ، فَقُمْتُ أُصَلِّي مَعَهُ؛ فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ فَأَخَذَ بِرَأْسِي فَأَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ(2). والأصل في مثل هذا أنه لا فرق بين النافلة والفريضة .
اللجنة الدائمة - فتاوى إسلامية، (1/178)
حكم إطالة الإمام الركوع لانتظار المتأخر
هل يلزم الإمام الانتظار إذا سمعهم يجرون في أثناء الركوع، أو في نهاية التشهد الأخير ؟
الأفضل عدم العجلة، الأفضل أن يتأنى الإمام على وجه لا يشق على المأمومين؛ لأن مراعاة المأمومين الأولين أهم، فينبغي له أن يراعيهم. لكن إذا تأنى قليلاً حتى يدرك القادم الركوع أو السجود أو التشهد مع الإمام؛ فهذا أفضل وأولى بالإمام .
الشيخ ابن باز - فتاوى إسلامية، (1 /218)
حكم قصد الإمام لِحُسْنِ صَوْتِهِ
ما حكم تتبع الأئمة الذين في أصواتهم جمال ؟
__________
(1) …وللشيخ ابن باز فتوى مشابهة في العدد (1033) من مجلة الدعوة، وكذا للشيخ ابن جبرين في «اللؤلؤ المكين» ص (113) .
(2) …البخاري ( 699 )، ومسلم (763) .(2/184)
أرى أنه لا بأس في ذلك؛ لكن الأفضل أن يصلي الإنسان في مسجده لأجل أن يجتمع الناس حول إمامهم وفي مساجدهم، ولأجل ألا تخلو المساجد من الناس، ولأجل ألا يكثر الزحام عند المسجد الذي تكون قراءة إمامه جيدة فيحدث من هذا ارتباك، وربما يحدث أمر مكروه . ربما يأتي إنسان يتلقف امرأة خرجت من هذا المسجد الذي فيه النساء كثيرة، ومع كثرة الناس والزحام ربما يخطفها وهي لا تشعر إلا بعد مسافة، ولهذا نحن نرى أن الإنسان يبقى في مسجده؛ لما في ذلك من حماية المسجد وإقامة الجماعة فيه، واجتماع الجماعة على إمامهم والسلامة من الزحام والمشقة.
الشيخ ابن عثيمين - كتاب الدعوة (5) (2/200)
حكم السفر للصلاة خلف القارئ الخاشع
يوجد في مدينتنا قارىء جيد يخشع في صلاته ويأتي إليه الناس من مدن بعيدة كالرياض والمنطقة الشرقية والباحة وغيرها، فما الحكم في مجيء هؤلاء ؟ وهل صحيح أنهم وقعوا في النهي الوارد في الحديث: "لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلا إِلَى ثَلاثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ الأَقْصَى وَمَسْجِدِي" ؟(1) نرجو الإفادة والتوجيه. جزاكم الله خيراً .
لا نعلم حرجاً في ذلك؛ بل ذلك داخل في الرحلة لطلب العلم والتفقه في القرآن الكريم واستماعه من حسن الصوت به، وليس السفر لذلك من شد الرحال المنهي عنه . وقد ارتحل موسى عليه الصلاة والسلام رحلة عظيمة إلى الخضر عليه السلام في مجمع البحرين لطلب العلم، ولم يزل أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم يرتحلون من إقليم إلى إقليم ومن بلاد إلى بلاد لطلب العلم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ"(2).
الشيخ ابن باز - مجلة البحوث . العدد (42) ص (137، 138)
ما الحكم إذا قطع الإمام الصلاة واستخلف مسبوقاً ؟
__________
(1) …البخاري (1197).
(2) …مسلم (2699).(2/185)
إذا أحدث الإمام في الركعة الرابعة من الصلاة وأناب عنه في الإمامة مسبوقاً أدرك الصلاة في الركعة الثالثة، ما حكم من أحرم في الركعة الأولى والثانية مع الإمام الأول ؟ فهل يجوز لهم التسليم قبل الإمام الثاني ؟ أو يجوز لهم الزيادة في الصلاة اقتداء بالإمام ليسلموا معه ؟ أو ينتظرونه جالسين حتى يتم أربعاً ثم يسلمون معه في الرابعة بدون زيادة معه ولا تسليم قبله ؟ وما حكم صلاة الجميع في هذه الأحوال ؟ أرجو إفادتكم بالكتابة مع ذكر الدليل فيها. أثابكم الله في الدارين.
إذا كان واقع هؤلاء المصلين كما ذكر - وجب على من أدرك الركعة الأولى والثانية مع الإمام الأول، ألا يقوم مع الإمام الثاني حينما يقوم لإتمام صلاته، بل يجلس مكانه؛ لأنه قد صلى أربع ركعات، وهي فرضه، وليس له أن يسلم قبل إمامه؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنما جُعِلَ الإمامُ لِيُؤْتَمَّ بِه" (1) الحديث، متفق عليه، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "إني إِمامُكم فلا تَسبِقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالقيام ولا بالانصراف" (2)؛ أخرجه مسلم في صحيحه.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (7/397)
هل يكتفي المسافر بركعتين يدركهما خلف المقيم ؟
إذا كنت مسافراً إلى مكة ثم وقفت بمدينة من المدن وقد أذن العصر ثم دخلت المسجد فوجدت الإمام الراتب قد صلى ركعتين اثنتين فدخلت معه وصليت الركعتين الباقيتين معه .. فهل أسلم معه على اعتبار أني مسافر وللمسافر قصر الرباعية ؟ أو آتي بركعتين أخريين لأتم أربعاً على اعتبار قولهم: ((وإن ائتم بمن يلزمه الائتمام به أتم)) ؟
__________
(1) …البخاري (378، 688) وأطرافه فيهما، ومسلم (411، 412، 417).
(2) …أحمد (3/102، 154، 245، 290)، ومسلم (426)، وغيرهما.(2/186)
قال أصحابنا(1): (وإن ائْتَمَّ بمن يُتِمّ أتم)؛ وعلى هذا فمتى ائتم المسافر بإمام مقيم لزمه إتمام الصلاة؛ سواء أكان مسبوقاً أم غير مسبوق، ولا فرق في ذلك بين الظهر، والعصر، والعشاء، ونحن نرى هذا القول حقًّا؛ بدليل عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "فَمَا أَدْرَكْتُم فصَلُّوا وما فَاتَكُم فأَتِمُّوا"(2). ولأن المأموم صلاته مرتبطة بصلاة إمامه ومأمور بالاقتداء به؛ وهذا منه. والله أعلم.
الشيخ ابن عثيمين - مجموع فتاوى ورسائل (15/268)
الفصل السادس
المساجد
حكم إحضار الصبيان إلى المساجد
يحضر بعض المصلين إلى المسجد ومعهم صبيانهم الذين لم يبلغوا سن التمييز ، وهم لا يحسنون الصلاة ، ويصفّون مع المصلين في الصف، وبعضهم يعبث ويزعج من حوله .. فما حكم ذلك ؟ وما توجيهكم لأولياء أمور أولئك الصبيان ؟
الذي أرى أن إحضار الصبيان الذين يشوشون على المصلين لا يجوز ؛ لأن في ذلك أذيّة للمسلمين الذين يؤدون فريضة من فرائض الله، وقد سمع النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه يصلّون ويجهرون بالقراءة ؛ فقال صلى الله عليه وسلم : "لا يَجْهَرَنَّ بَعْضُكم على بَعْضٍ في القراءة" (3)، وفي حديث آخر : "لا يُؤْذِيَنَّ بَعْضُكم بعضاً" (4)، فكلّ ما فيه أذيّة للمصلّين فإنه لا يحل للإِنسان أن يفعله.
__________
(1) …انظر: «المغني» لابن قدامة (2/63).
(2) …البخاري (635، 636، 908)، ومسلم (602).
(3) …«موطأ مالك» 1/80 (177)، وأحمد (4/344)، والنسائي في «الكبرى» (8091)، والبيهقي في «الكبرى» (4480)، (من حديث البياضي رضي الله عنه). قال في «مجمع الزوائد» (2/265): «رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح».
(4) …أبو داوود (1332)، والنسائي في «الكبرى» (8092)، وعبدالرزاق في «مصنفه» (4216)، والحاكم في «المستدرك» 1/311 (1169) وصححه ووافقه الذهبي. (من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه).(2/187)
فنصيحتي لأولياء أمور هؤلاء الصبيان ألا يحضروهم إلى المسجد، وأن يسترشدوا بما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم ؛ حيث قال : "مُرُوا أَبْنَاءَكُم بالصلاة لِسَبْعٍ، واضْرِبُوهم عليها لِعَشْرٍ"(1).
كما أنني أيضاً أوجه النصيحة لأهل المسجد بأن تتسع صدورهم للصبيان الذين يشرع مجيئهم إلى المسجد، وألا يشقوا عليهم، أو يقيموهم من أماكنهم التي سبقوا إليها ؛ فإنه من سبق إلى شيء فهو أحق به؛ سواء كان صبياً أو بالغاً، فإقامة الصبيان من أماكنهم في الصف فيه :
أولاً :…إهدار لحقهم ؛ لأن من سبق إلى مالم يسبقه إليه أحد من المسلمين فهو أحق به.
ثانياً :…فيه تنفير لهم عن الحضور إلى المساجد.
وثالثاً :…فيه أن الصبي يحمل حقداً أو كراهية على الذي أقامه من المكان الذي سبق إليه.
ورابعاً :أنه يؤدي إلى اجتماع الصبيان بعضهم إلى بعض؛ فيحصل منهم من اللعب والتشويش على أهل المسجد مالم يكن ليحصل إذا كان الصبيان بين الرجال البالغين.
__________
(1) …أحمد (2/180، 187)، وأبو داوود (495)، وبنحوه مختصراً : الترمذي (407) وقال : «حسن صحيح». وقال الألباني في «صحيح أبي داوود» (466) : «حسن صحيح».(2/188)
أما ما ذكره بعض أهل العلم - من أن الصبي يقام من مكانه حتى يكون الصبيان في آخر الصف أو في آخر صف في المسجد استدلالاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم : "لِيَلِنِي مِنْكُم أُولُو الأحلامِ والنُّهَى" (1) - فإنه قول مرجوح معارض بقول النبي صلى الله عليه وسلم : "مَنْ سَبَقَ إلى ما لَمْ يَسْبِقْهُ إليه أحدٌ فهو أحقُّ به" (2)، واستدلالهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم : "لِيَلِنِي منكم أُولُوا الأحلامِ والنُّهَى" لا يتمّ ؛ لأن معنى الحديث : حث أولي الأحلام والنهى على التقدّم حتى يلوا النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنهم أقرب إلى الفقه من الصغار، وأتقن لوعي ما رأوه من النبي صلى الله عليه وسلم أو سمعوه، ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: لا يليني إلا أولو الأحلام والنهى. ولو قال : لا يلني إلا أولو الأحلام والنهى ؛ لكان القول بإقامة الصبيان من أماكنهم في الصفوف المتقدمة وجيهاً، لكن الصيغة التي جاء بها الحديث هي أمره لأولي الأحلام والنهى بأن يتقدّموا حتى يلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الشيخ ابن عثيمين -فتاوى إسلامية (2/8، 9)
ما الحكمة من إدخال قبر الرسول صلى الله عليه وسلم في المسجد ؟
من المعلوم أنه لا يجوز دفن الأموات في المساجد، وأيما مسجد فيه قبر لا تجوز الصلاة فيه، فما الحكمة من إدخال قبر الرسول صلى الله عليه وسلم وبعض صحابته في المسجد النبوي ؟
__________
(1) …مسلم (432).
(2) …أخرجه بنحوه : أبو داوود (3071)، والطبراني في «الكبير» (814)، والبيهقي في «الكبرى» (11559، 11616، 11617)، والضياء المقدسي في «المختارة» (1434). وحسنه الحافظ ابن حجر في «الإصابة» 1/67 (145).(2/189)
قد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ" (1)، وثبت عن عائشة رضي الله عنها أن أم سلمة وأم حبيبة رضي الله عنهما ذكرتا لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتاها بأرض الحبشة وما فيها من الصور فقال صلى الله عليه وسلم: "أُولَئِكَ قَوْمٌ إِذَا مَاتَ فِيهِمُ الْعَبْدُ الصَّالِحُ أَوْ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ؛ أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللهِ" (2)، وروى مسلم في صحيحه: عن جندب بن عبدالله البجلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدِ اتَّخَذَنِي خَلِيلاً كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلاً لاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلاً. أَلا وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ؛ أَلا فَلا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، إِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ"(3).
__________
(1) …البخاري (1330)، ومسلم (529) .
(2) …البخاري ( 434 )، ومسلم (528) .
(3) …مسلم (532) .(2/190)
وروى مسلم أيضاً: عن جابر رضي الله عنه قال: "نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ" (1)، فهذه الأحاديث الصحيحة وما جاء في معناها كلها تدل على تحريم اتخاذ المساجد على القبور، ولعن من فعل ذلك، كما تدل على تحريم البناء على القبور واتخاذ القباب عليها وتجصيصها؛ لأن ذلك من أسباب الشرك بها، وعبادة سكانها من دون الله، كما قد وقع ذلك قديماً وحديثاً، فالواجب على المسلمين أينما كانوا أن يحذروا مما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه، وألا يغتروا بما فعله كثير من الناس، فإن الحق هو ضالة المؤمن متى وجدها أخذها، والحق يعرف بالدليل من الكتاب والسنة لا بآراء الناس وأعمالهم، والرسول محمد صلى الله عليه وسلم وصاحباه رضي الله عنهما لم يُدْفَنُوا في المسجد وإنما دُفِنوا في بيت عائشة رضي الله عنها، ولكن لما وسع المسجد في عهد الوليد بن عبدالملك أدخل الحجرة في المسجد في آخر القرن الأول، ولا يعتبر عمله هنا في حكم الدفن في المسجد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبيه لم ينقلوا إلى أرض المسجد، وإنما أدخلت الحجرة التي هم بها في المسجد من أجل التوسعة، فلا يكون في ذلك حجة لأحد على جواز البناء على القبور، أو اتخاذ المساجد عليها، أو الدفن فيها لما ذكرته آنفاً من الأحاديث الصحيحة المانعة من ذلك، وعمل الوليد ليس فيه حجة على ما يخالف السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ولي التوفيق .
الشيخ ابن باز - مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (4/337، 338)
حكم الصلاة في مسجد فيه قبر
س1: هل تصح الصلاة في المساجد التي يوجد فيها قبور ؟
__________
(1) …مسلم (970) .(2/191)
ج1: المساجد التي فيها قبور لا يصلى فيها، ويجب أن تنبش القبور وينقل رفاتها إلى المقابر العامة، كل قبر(1) في حفرة خاصة كسائر القبور، ولا يجوز أن يبقى فيها قبور، لا قبر ولي ولا غيره؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى وحذر من ذلك، ولعن اليهود والنصارى على عملهم ذلك؛ فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ" (2)، قالت عائشة رضي الله عنها: يُحَذِّرُ ما صنعوا(3).
وقال عليه الصلاة السلام - لما أخبرته أم سلمة وأم حبيبة رضي الله عنها بكنيسة في الحبشة فيها تصاوير؛ فقال: "أُولَئِكَ قَوْمٌ إِذَا مَاتَ فِيهِمُ الْعَبْدُ الصَّالِحُ أَوْ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ؛ أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللهِ" (4)، وقال عليه الصلاة والسلام: "أَلا وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ؛ أَلا فَلا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ إِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ"(5). فنهى عن اتخاذ القبور مساجد عليه الصلاة والسلام، ولعن من فعل ذلك، وأخبر أنهم شرار الخلق . فالواجب الحذر من ذلك.
__________
(1) …يعني: رُفات كل قبر.
(2) …البخاري (1330)، ومسلم (529) .
(3) …البخاري (435، 436)، ومسلم في المساجد (531) .
(4) …البخاري (434)، ومسلم (528) .
(5) …مسلم (532) .(2/192)
ومعلوم أن من صلى عند قبر فقد اتخذه مسجداً، ومن بنى عليه مسجداً فقد اتخذه مسجداً، فالواجب أن تبعد القبور عن المساجد، وألا يجعل فيها قبور؛ امتثالاً لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم وحذراً من اللعنة التي صدرت من ربنا عز وجل لمن بنى المساجد على القبور؛ لأنه إذا صلى في مسجد فيه قبور قد يزين له الشيطان دعوة الميت، أو الاستغاثة به، أو الصلاة له، أو السجود له فيقع الشرك الأكبر، ولأن هذا من عمل اليهود والنصارى، فوجب أن نخالفهم، وأن نبتعد عن طريقهم وعن عملهم السيئ.
لكن لو كانت القبور هي القديمة ثم بني عليها المسجد، فالواجب هدمه وإزالته؛ لأنه هو المحدث، كما نص على ذلك أهل العلم؛ حسماً لأسباب الشرك وسداً لذرائعه. والله ولي التوفيق .
الشيخ ابن باز - مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (5/388، 389)
س2: ما حكم الصلاة في المسجد الذي فيه قبر ؟
ج2: إذا كان هذا المسجد مبنياً على القبر فإن الصلاة فيه محرمة ويجب هدمه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لَعَنَ اليهود والنصارى حيث اتَّخَذوا قُبورَ أنبيائهم مساجد؛ تحذيراً مما صنعوا(1).
وأما إذا كان المسجد سابقاً على القبر فإنه يجب إخراج القبر من المسجد ويدفن فيما يدفن فيه المسلمون، ولا حرج علينا في هذه الحال إذا نبشنا هذا القبر؛ لأنه دفن في مكان لا يحل أن يدفن فيه، فإن المساجد لا يحل دفن الموتى فيها.
الصلاة في المسجد إذا كان سابقاً على القبر صحيحة بشرط ألا يكون القبر في ناحية القبلة فيصلي الناس إليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة إلى القبور(2). وبالإمكان إذا لم يتمكنوا من نبش القبر أن يهدموا سور المسجد .
الشيخ ابن عثيمين - مجموع فتاوى ورسائل (2/234، 235)
حكم وضع المدخنة أمام المصلين
ما حكم وضع مدخنة البخور أمام المصلين في المسجد ؟
__________
(1) …البخاري (435، 436)، ومسلم (529 - 531) بمعناه.
(2) …مسلم (973) بلفظ: «لا تجلسوا على القبور، ولا تصلُّوا اليها».(2/193)
لا حرج في ذلك، ولا يدخل هذا فيما ذكره بعض الفقهاء من كراهة استقبال النار؛ فإن الذين قالوا بكراهة استقبال النار عللوا هذا بأنه يشبه المجوس في عبادتهم للنيران، فالمجوس لا يعبدون النار على هذا الوجه. وعلى هذا فلا حرج من وضع حامل البخور أمام المصلي، ولا من وضع الدفايات الكهربائية أمام المصلي أيضاً؛ ولا سيما إذا كانت أمام المأمومين وحدهم دون الإمام .
الشيخ ابن عثيمين - كتاب الدعوة (5)، (2/89، 90 )
حكم الصلاة بالنِّعَال في المسجد
ما حكم الصلاة بالنعال ؟ وهل وجود السجاد في المساجد الآن يمنع من الصلاة في النعال ؟
الصلاة في النعال مشروعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في نعليه (1) - كما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه: أخرجه البخاري ومسلم. وعن شداد بن أوس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خَالِفُوا اليهودَ فإنهم لا يُصَلُّونَ في نِعالهم ولا خِفَافِهِم" (2)، رواه أبو داود وله شواهد.
وأما السجاد فلا تمنع من الصلاة في النعال، لكن المهم الذي أغفله كثير من الناس هو تفقد النعال قبل دخول المسجد، وهذا خلاف ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم فقد قال: إذا جاء أحدكم إلى المسجد فَلْيَنْظُرْ: "فإِنْ رأى في نَعْلَيْهِ قَذَراً أو أذى فَلْيَمْسَحْهُ، وَلْيُصَلِّ فيهما" (3)؛ فلو عمل الناس بهذا الحديث لم يكن على السجاد ضرر إذا صلى الناس عليها في نعالهم.
الشيخ ابن عثيمين - مجموع فتاوى ورسائل (12/387)
هل مضاعفة الحسنات خاصة بمسجد الكعبة أم تشمل مساجد الحرم ؟
هل مساجد مكة فيها من الأجر كما في المسجد الحرام ؟
__________
(1) …البخاري (386، 5850)، ومسلم (555).
(2) …أبو داود (652)، والبزار (3480)، وابن حبان (2186)، والحاكم 1/260 (956) وصححه ووافقه الذهبي.
(3) …أحمد (3/20، 92)، وأبو داود (650)، والدارمي (1378)، وأبو يعلى (1194)، وابن أبي شيبة (7890)، والحاكم 1/260 (955) وصححه ووافقه الذهبي.(2/194)
لا؛ ليست مساجد مكة كالمسجد الحرام في الأجر؛ بل المضاعفة إنما تكون في المسجد الحرام نفسه القديم والزيادة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: صلاةٌ في مسجدي هذا أفضلُ من ألفِ صلاةٍ فيما سِوَاهُ إلا مسجدَ الكَعْبة(1). أخرجه مسلم. فخص الحكم بمسجد الكعبة، ومسجد الكعبة واحد، وكما أن التفضيل خاص في مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام فهو خاص بالمسجد الحرام أيضاً، ويدل لهذا أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تُشَدُّ الرِّحالُ إلا إلى ثلاثةِ مساجدَ: المسجدِ الحرام، ومسجدي هذا، والمسجدِ الأقْصَى"(2). ومعلوم أننا لو شددنا الرحال إلى مسجد من مساجد مكة غير المسجد الحرام لم يكن هذا مشروعاً بل كان منهيًّا عنه، فما يشد الرحل إليه هو الذي فيه المضاعفة؛ لكن الصلاة في مساجد مكة بل في الحرم كله أفضل من الصلاة في الحِلّ؛ ودليل ذلك: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما نزل الحديبية - والحديبية بعضها في الحل وبعضها في الحرم - كان يصلي في الحرم مع أنه نازل في الحل، وهذا يدل على أن الصلاة في الحرم أفضل، لكن لا يدل على حصول التضعيف الخاص في مسجد الكعبة.
فإن قيل: كيف تجيب عن قول الله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى}[الإسرَاء، من الآية: 1]، وقد أسري به من مكة من بيت أم هانئ رضي الله عنها ؟
__________
(1) …مسلم (1396) بنحوه.
(2) …البخاري (1189)، ومسلم (1397).(2/195)
فالجواب: أنه ثبت في صحيح البخاري أنه أسري به صلى الله عليه وسلم من الحِجر، قال: "بَيْنَا أنا نائِمٌ في الحِجْر أتاني آتٍ..." (1)إلخ الحديث، والحجر في المسجد الحرام، وعلى هذا فيكون الحديث الذي فيه أنه أسري به صلى الله عليه وسلم من بيت أم هانئ رضي الله عنها - إن صحت الرواية - يراد ابتداء الإسراء ونهايته من الحجر؛ كأنه نُبِّه وهو في بيت أم هانئ رضي الله عنها، ثم قام فنام في الحجر فأسري به من الحجر.
الشيخ ابن عثيمين - مجموع فتاوى ورسائل (12/395)
الفصل السابع
سنن الصلاة والنوافل
حكم سترة المصلي
إنني شاهدت بعض المرشدين ينصبون كل منهم أمامه في المسجد سترة لوحاً من الخشب طوله نصف متر تقريباً، ويقولون: من لم يفعل ذلك عليه إثم، فقلت لهم: وإذا لم أجد هذه السترة التي تنصبونها أمامكم، قالوا: لازم لازم.
الصلاة إلى سترة سنة في الحضر والسفر، في الفريضة والنافلة، وفي المسجد وغيره؛ لعموم حديث "إذا صَلَّى أحدُكم فَلْيُصَلِّ إلى سُتْرَةٍ وَلْيَدْنُ منها" (2) رواه أبو داود بسند جيد، ولما روى البخاري ومسلم من حديث أبي جحيفة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم "رُكِزَتْ له العَنَزَة فتقدَّم وصلَّى الظهر ركعتين يَمُرُّ بين يَدَيْهِ الحمارُ والكلبُ لا يُمْنَعُ"(3). وروى مسلم من حديث طلحة بن عبيدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا وَضَعَ أحدكم بين يَدَيْهِ مثل مُؤَخِّرَةِ الرَّحْلِ فَلْيُصَلِّ، ولا يُبَال مَنْ مَرَّ وراءَ ذلك"(4).
__________
(1) …البخاري (3887)، ومسلم (164).
(2) …أبو داود (698)، والنسائي (749)، وابن ماجه (954)، والحاكم 1/252 (922) وصححه ووافقه الذهبي.
(3) …البخاري (495) وأطرافه في (187)، ومسلم (503) واللفظ له، وأبو داود (688). و(العَنَزَة): عصَا بقدر نصف الرُّمح، أو أكبر بقليل.
(4) …مسلم (499) بنحوه، وأبو داود (587)، والترمذي (307).(2/196)
ويسن له دنوه من سترته لما في الحديث المذكور، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يبتدرون سواري المسجد ليصلوا إليها النافلة، وذلك في الحضر في المسجد، لكن لم يعرف عنهم أنهم كانوا ينصبون أمامهم ألواحاً من الخشب لتكون سترة في الصلاة بالمسجد؛ بل كانوا يصلون إلى جدار المسجد وسواريه، فينبغي عدم التكلف في ذلك، فالشريعة سمحة، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، ولأن الأمر بالسترة للاستحباب لا للوجوب؛ لما ثبت من أن النبي صلى الله عليه وسلم صلَّى بالناس بِمِنًى إلى غيرِ جِدًارٍ(1). ولم يذكر في الحديث اتخاذه سترة، ولما روى الإمام أحمد وأبو داود والنسائي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (صلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم في فَضَاءٍ وليس بين يَدَيْهِ شيء)(2).
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (7/76، 77)
قطع الراتبة إذا أقيمت الصلاة
رجل دخل المسجد لأداء سنة الظهر، فلما كبر أقيمت الصلاة .. هل يقطع الرجل صلاته أو يكملها ؟ أرجو توضيح هذه المسألة.
__________
(1) …البخاري (76، 493، 861) واللفظ له، ومسلم (504) بمعناه.
(2) …أحمد (1/224)، وأبو يعلى (2601)، والطبراني في «الأوسط» (3098) و«الكبير» 12/149 (12728)، والبيهقي في «الكبرى» (3294) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. قال في «مجمع الزوائد» 2/63: «وفيه الحجاج بن أرطاة وفيه ضعف».
-…وأخرجه بنحوه من حديث الفضل بن عباس رضي الله عنهما: أحمد (1/211، 212)، وأبو داود (718)، والنسائي (753) وأبو يعلى (6726)، والبيهقي في «الكبرى» (3322، 3323)، والدارقطني 1/369 وحسنه العراقي في «تقريب الأسانيد» 2/347 .(2/197)
إذا أقيمت الصلاة وبعض الجماعة يصلي تحية المسجد أو الراتبة: فإن المشروع له قطعها والاستعداد لصلاة الفريضة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أُقِيمَت الصلاةُ فلا صلاةَ إلا المَكْتُوبة" (1) رواه مسلم.
وذهب بعض أهل العلم إلى أنه يتمها خفيفة - لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ *}[محَمَّد]، وحملوا الحديث المذكور على مَنْ بدأ في الصلاة بعد الإقامة.
والصواب القول الأول؛ لأن الحديث المذكور يعم الحالين، ولأنه وردت أحاديث أخرى تدل على العموم وعلى أنه صلى الله عليه وسلم قال هذا الكلام لما رأى رجلاً يصلي والمؤذن يقيم الصلاة.
أما الآية الكريمة فهي عامة والحديث خاص؛ والخاص يقضي على العام ولا يخالفه كما يُعلم ذلك من أصول الفقه ومصطلح الحديث، لكن لو أقيمت الصلاة وقد ركع الركوع الثاني فإنه لا حرج في إتمامها؛ لأن الصلاة قد انتهت ولم يبق منها إلا أقل من ركعة، والله ولي التوفيق.
الشيخ ابن باز - مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (11/392)
حكم جلسة الاستراحة
هل جلسة الاستراحة عند القيام من الركعة الأولى للثانية، والقيام من الثالثة للرابعة في الصلاة واجبة ؟ أو سنة مؤكدة ؟
اتفق العلماء على أن جلوس المصلي بعد رفعه من السجدة الثانية من الركعة الأولى والثالثة وقبل نهوضه لما بعدها ليس من واجبات الصلاة، ولا من سننها المؤكدة، ثم اختلفوا بعد ذلك هل هو سنة فقط أو ليس من هيئات الصلاة أصلاً ؟ أو يفعلها من احتاج إليها لضعف من كبر سن أو مرض أو ثقل بدن ؟
- فقال الشافعي وجماعة من أهل الحديث: إنها سنة، وهي إحدى الروايتين عن الإمام أحمد؛ لما رواه البخاري وغيره من أصحاب السنن عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإذا كان في وِتْرٍ من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعداً(2).
__________
(1) …مسلم (710).
(2) …البخاري (823) .(2/198)
- ولم يرها أكثر العلماء: منهم أبو حنيفة ومالك، وهي الرواية الأخرى عن أحمد - رحمهم الله - لخلو الأحاديث الأخرى عن ذكر هذه الجلسة، واحتمال أن يكون ما ذكر في حديث مالك بن الحويرث من الجلوس كان في آخر حياته عندما ثقل بدنه صلى الله عليه وسلم، أو لسبب آخر.
- وجمعت طائفة ثالثة بين الأحاديث بحمل جلوسه صلى الله عليه وسلم على حالة الحاجة إليه؛ فقالت: إنها مشروعة عند الحاجة دون غيرها، والذي يظهر هو أنها مستحبة مطلقاً، وعدم ذكرها في الأحاديث الأخرى لا يدل على عدم استحبابها؛ بل يدل ذلك على عدم وجوبها.
ويؤيد القول باستحبابها أمران: أحدهما: أن الأصل في فعل النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان يفعلها تشريعاً ليقتدى به، والأمر الثاني: في ثبوت هذه الجلسة في حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه الذي رواه أحمد وأبو داود بإسناد جيد، وفيه: أنه وصف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في عشرة من الصحابة رضي الله عنهم فصدَّقُوه في ذلك(1).
اللجنة الدائمة - فتاوى إسلامية، (1/268، 269)
حكم قراءة الإمام من المصحف في قيام رمضان
__________
(1) …أحمد (5/424)، ومن طريقه: أبو داود (730، 963)، والترمذي (304، 305)، وابن ماجه (1061)، وابن حبان (1865-1867، 1874). وصححه الألباني في «صحيح أبو داود» (670).(2/199)
لاحظت في شهر رمضان المنصرم - وهذه أول مرة أصلي فيها التراويح بمنطقة حائل - أن الإمام يمسك بالمصحف ويقرأ فيه ثم يضعه بجانبه ثم يعاود الكَرَّة إلى أن تنتهي صلاة التراويح، كما أنه يفعل هذا في صلاة قيام الليل خلال العشر الأواخر من رمضان .. وهذه الظاهرة لفتت انتباهي فهي منتشرة في جميع مساجد حائل ولكني لم ألحظها في المدينة المنورة مثلاً عندما صليت في العام الذي قبله هناك. والذي يدور في خلدي: هل هذا العمل كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ؟ وألا يعتبر من البدع المستحدثة التي لم يفعلها أحد من الصحابة أو من التابعين ؟ ثم أليس من الأفضل قراءة سورة صغيرة من حفظ الإمام غيباً بدلاً من القراءة في المصحف ؟ ويقصد من هذه الطريقة ختم القرآن من نهاية الشهر حيث يقرأ الإمام في كل يوم جزءاً؛ فإن كان هذا الأمر جائزاً فما الدليل عليه من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ؟
لا حرج في القراءة من المصحف في قيام رمضان؛ لما في ذلك من إسماع المأمومين جميع القرآن، ولأن الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة قد دلت على شرعية قراءة القرآن في الصلاة؛ وهي تعم قراءته من المصحف وعن ظهر قلب، وقد ثبت عن عائشة رضي الله عنها: أنها أَمَرَتْ مَوْلاها ذَكْوَان أن يَؤُمَّها في قيام رمضان وكان يقرأ من المصحف. ذكره البخاري رحمه الله في صحيحه معلقاً مجزوماً به(1).
الشيخ ابن باز - من كتاب فتاوى وتنبيهات ونصائح، ص (309)
محدثات في صلاة التراويح
__________
(1) …البخاري في كتاب الجماعة والإمامة، باب إمامة العبد والمولى، بعد (691).(2/200)
ما حكم صلاة التراويح ؟ وما كيفيتها ؟ فعندنا اختلاف شديد: فمن الناس من يبدؤها فيقول: صلاة القيام أثابكم الله، ثم يصلي ركعتين ويقوم قائلاً: اللهم صل وسلم على سيدنا محمد بصوت مرتفع، يقولها الإمام ويقولها وراءه المصلون جميعاً، وعندما يصلي الركعتين الثانيتين يقرأ سورة الإخلاص والمعوذتين بصوت مرتفع وكذلك يقول وراءه المصلون، وعندما ينتهي من صلاة التروايح يقرأ مثل ذلك ثلاث مرات، وعندما نقول له هذا شيء ليس بوارد يقول لك: هذا عمل خير وبدعة حسنة، وهل في الإسلام بدعة حسنة ؟ ما رأيكم في ذلك ؟ وكيف تصلى هذه السنة جزاكم الله خيراً ؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه.. وبعد:
قول الناس: صلاة القيام أثابكم الله . وقول الإمام: اللهم صل وسلم على سيدنا محمد بصوت مرتفع، وقول المأمومين ذلك بعده، وقراءة سورة الإخلاص والمعوذتين بصوت مرتفع بعد صلاة الركعتين؛ كل هذا من البدع المحدثة، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ" (1)، وكان يقول صلى الله عليه وسلم في خطبة الجمعة: "أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ، وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ" (2)، وبذلك يعلم أن البدع كلها ضلالة كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم وليس في الإسلام بدعة حسنة .
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (2/352، 353 )
صفة سجود التلاوة
س1 : ما كيفية سجود التلاوة ؟ وكم تسليمة بها ؟ وماذا يقرأ فيها ؟
__________
(1) …البخاري (2697)، ومسلم (1718) .
(2) …مسلم (867)، وأحمد (3/310)، وابن ماجه (36) .(2/201)
ج1 : سجدة التلاوة مثل سجدة الصلاة، والأفضل أن يقوم قائماً ثم يخر ساجداً على سبعة الأعضاء ويقول: (سبحان ربي الأعلى) ثلاثاً، ثم يقول: (اللهم إني لكَ سَجَدْتُ وبك آمنتُ، ولك أسلمتُ وعليك توكلَّت، سَجَدَ وجهِي للذي خَلَقَهُ وصوَّرَهُ وشَقَّ سَمْعَهُ وبَصَرَهُ بِحَوْلِهِ وقَوَّتِهِ، تَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ)(1) ، (اللهم اكْتُبْ لِي بها أجْراً وضَعْ عنِّي بها وِزْراً واجْعَلْها لِي عِنْدك ذُخْراً، وتقَبَّلْها مِنِّي كما تَقَبَّلْتَها من عبدِكَ داوُدَ عليهِ وعلى نبينا أفضلُ الصلاةِ والسلام)(2) ، والأفضل أن يكبر إذا سجد وإذا رفع ويسلم كتسليم الصلاة، فإن لم يسلم فلا بأس. والله أعلم.
س2 : هل لسجود التلاوة تكبير عند السجود والرفع في الصلاة وخارجها ؟
__________
(1) …مسلم (771)، وأحمد (1/94، 102)، (6/30، 217)، وأبو داود (760، 1414)، والترمذي (580، 3421، 3422، 3423، 3425)، وقال: «حسن صحيح»، والنسائي (1127-1130)، وابن خزيمة (563، 673)، وابن حبان (1977، 1978)، والحاكم 1/220 (800-802)، بألفاظ متقاربة، وزيادة عند بعضهم.
(2) …الترمذي (3424) وقال: «حديث غريب»، وأبو يعلى (1069)، وابن خزيمة (562)، وابن حبان (2768)، والحاكم 1/220 (799) وصححه ووافقه الذهبي.(2/202)
ج2 : ذهب كثير من العلماء إلى أن سجود التلاوة صلاة؛ فاشترطوا له الطهارة وستر العورة واستقبال القبلة وعدم السجود في وقت نهي، وألزموا فيه بالتكبير عند السجود وعند الرفع وبالتسليم بعد ذلك كما في الصلاة. ورجح شيخ الإسلام ابن تيمية أنه ليس بصلاة، وإنما هو عبادة مطلقة؛ لأن أقل ما يسمى صلاة الركعة التامة كركعة الوتر، فعلى هذا القول: لا تشترط له شروط الصلاة ويصح في وقت النهي ولا يحتاج إلى تكبير ولا إلى تسليم، وما ورد في ذلك من التكبير محمول على الاستحباب أو لأجل الاقتداء لمن سمع القارئ يقرأ ويسجد، أو كان السجود في الصلاة الجهرية؛ لما روي: (أنه صلى الله عليه وسلم كان يُكَبِّر في كُلِّ خَفْضٍ ورَفْعٍ) (1)، فيدخل في ذلك الخفض والرفع لسجود التلاوة. وذهب كثير من المشايخ إلى الاكتفاء في الرفع من الإمام بقراءة الآية التي بعد آية السجدة، والمختار: التكبير في هذه الحالة عملاً بعموم الحديث.
س3 : هل لسجود التلاوة سلام ؟
ج3 : إذا قيل إن سجود التلاوة ليس بصلاة وسجد القارئ وحده - فلا حاجة إلى التسليم، كما لا حاجة إلى التكبير اللذين يختصان بالصلاة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "تَحْرِيمُها التَّكْبِيرُ، وتَحْلِيلُهَا التَّسْليم" (2)، وعلى القول الثاني - وهو أن سجود التلاوة صلاة - فإنه يسلم بعده بدون تشهد.
الشيخ ابن جبرين - فتوى برقم (8560) حكم أداء النوافل والسنن الرواتب في السفر
ما هي السنن النوافل التي من السنة تركها في السفر ؟ وما حكم الإتيان بالسنن الرواتب في السفر وكذلك السنن الأخرى: مثل تحية المسجد والصلاة بين الأذانين وصلاة الوتر وصلاة الضحى ؟
__________
(1) …البخاري (787)، ومسلم (392).
(2) …أحمد (1/123، 129)، وأبو داود (61، 618)، والترمذي (3، 238)، وقال: «حديث حسن»، وابن ماجه (275)، والحاكم 1/132 (457) وصححه ووافقه الذهبي.(2/203)
رُخِّص للمسافر أن يقصر الصلاة الرباعية ؛ لأن السفر عادة مظنة المشقة بحيث أنه يواصل سيره عشر ساعات أو نحوها، وذلك مما يشق عليه؛ فلأجل ذلك خفف عنه في الصلاة بقصر الرباعية والجمع بين الظهرين وبين العشائين، وأسقطت عنه الرواتب ونحوها. ولهذا لما رأى بعض الصحابة(1) قومًا يتنفلون ويصلون سُبْحَةَ الضحى - قال لهم : ( لَوْ كنتُ مُسَبِّحًا لَأَتْمَمْتُ )(2) ؛ أي: لو كنت سأتطوع لما قصرت الصلاة. فالعلة في قصر الصلاة هي المشقة؛ وهي العلة في إسقاط النوافل، فإذا خَفَّت المشقة أو عدمت فلا يحرم المسلم نفسه من التطوعات؛ كالرواتب قبل الفرائض أو بعدها، وكذلك تحية المسجد، والصلاة بين الأذان والإقامة، وقيام الليل، وصلاة الوتر، وصلاة الضحى؛ فإن الصلاة من أفضل القربات، وهي قرة العين، وسرور القلب، ونعيم البدن وغذاء الأرواح. فلا يَحْرُم الإنسان نفسه من هذه العبادة ولو كان يقصر الصلاة. ومع المشقة يندب أن يصليها على راحلته؛ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُصلِّي من الليل على راحلتِهِ أَيْنَمَا تَوَجَّهَتْ به، ويُومِئُ بالركوع والسجود(3)، ويجعل السجود أَخْفَضَ من الركوع(4)؛ وذلك لمحبته للصلاة وحرصه على الإكثار منها.
الشيخ ابن جبرين - من قوله وإملائه مراعاة ترتيب السور عند القراءة في الصلاة
س1 :
ما حكم من يقرأ السور في الصلاة منكسة ولا يراعي ترتيب السور الموجود في المصاحف؛ فيقرأ في الركعة بعد الفا تحة سورة الناس وفي الركعة الثانية بعد الفاتحة سورة الفلق ؟
__________
(1) …وهو: عبدالله بن عمر رضي الله عنهما.
(2) …مسلم (689). ومعنى (مُسَبِّحًا): أي مُتَنَفِّلاً ومُتَطَوَّعًا.
(3) …البخاري (1000، 1093 - 1100، 1104، 1105)، ومسلم (700 - 702) بنحوه.
(4) …أحمد (3/73)، وعبدالرزاق (4520)، وابن أبي شيبة في «مصنفه» (8505)، والطبراني في «الأوسط» (5600، 8554).(2/204)
ج1 : ذهب أكثر العلماء إلى أن ترتيب سور القرآن كان بالاجتهاد؛ واستدلوا بأن مصاحف الصحابة اختلف ترتيبها، وبما في الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في التهجد سورة البقرة ثم النساء ثم آل عمران(1). فعلى هذا القول لا ينكر على من قدم سورة على سورة سواء في ركعة أو ركعتين أو في التلاوة المطلقة(2)، ومع ذلك فقد أجمع المسلمون بعد عهد الصحابة على التمشي على الترتيب الموجود في المصاحف وكراهة التنكيس لها .
الشيخ ابن جبرين - فتوى عليها توقيعه
س2 : هل يأثم من فعل هذا المكروه وهو قراءة السور منكسة بدون ترتيب أثناء صلاته ؟
ج2 : نعم؛ حيث إنه خالف ترتيب مصاحف المسلمين وخالف القراء والمصلين في جميع البلاد الإسلامية؛ لكن إن كان ذلك نادراً أو فعله لبيان الجواز أو نسياناً أو جهلاً بالحكم أو كانت السورة المتقدمة أطول من التي بعدها: كقراءة سورة القدر بعد سورة البينة ونحو ذلك؛ فيعذر بهذا الاجتهاد.
الشيخ ابن جبرين - فتوى عليها توقيعه
حكم صلاتي الاستخارة والحاجة
سمعت كثيراً عن صلاة الحاجة، وصلاة الاستخارة، فكيف تكون هاتان الصلاتان ؟ وهل تقرأ سور أو آيات في كل ركعة من ركعاتهما ؟ وما هي الأدعية المأثورة فيهما ؟
__________
(1) …مسلم (772)، وغيره.
(2) …أوضح في السؤال التالي أن عدم الإنكار عليه محدد في حالات خاصة؛ كأن يكون فعله نادراً أو لبيان الجواز أو نسيانًا أو جهلاً أو كون اللاحقة أطول من السابقة.(2/205)
صلاة الاستخارة وصفتها جاءت في الحديث الشريف الذي رواه الجماعة إلا مسلماً: عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن؛ يقول: "إذا هَمَّ أحدكم بالأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ ركعتين مِنْ غَيْرِ الفريضة ثم ليَقُلْ: اللهم إني أَسْتَخِيرُك بعلمِكَ، وأسْتَقْدِرُكَ بقُدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تَقْدِرُ ولا أقدر وتَعْلَمُ ولا أعلم، وأنت علاَّم الغيوب، اللهم إِنْ كُنْتَ تعلم أن هذا الأمر خيرٌ لي في دِيني ومَعَاشي وعاقبةُ أَمْري - أو قال: عَاجِل أمري وآجِلِه - فَاقْدُرْهُ لِي ويسِّرْهُ لي، ثم بارِك لِي فيه، وإِنْ كنتَ تعلم أن هذا الأمر شرٌّ لِي في دِيني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال: عاجل أمري وآجله - فاصْرِفْهُ عني واصْرِفْنِي عنه، واقدُرْ لِي الخَيْرَ حيثُ كان، ثم أَرْضِنِي به" ، قال: "ويُسَمِّي حاجَته"(1).
أما القراءة فيها فيقرأ بالفاتحة وما تيسر بعدها من القرآن؛ سورة كاملة أو بعض سورة.
أما ما يسمى بصلاة الحاجة: فقد جاءت بأحاديث ضعيفة ومنكرة - فيما نعلم - لا تقوم بها حجة، ولا تصلح لبناء العمل عليها.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (8/160)
حكم صلاة التسبيح
هل تنصحني بفعل صلاة التسبيح ؟
صلاة التسبيح بدعة، وحديثها ليس بثابت؛ بل هو منكر، وذكره بعض أهل العلم في الموضوعات.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (8/164)
بعض العبادات يدخل بعضها في بعض
هل يجوز أن ننوي أكثر من عبادة في عبادة واحدة ؟ مثل: إذا دخل المسجد عند أذان الظهر صلى ركعتين فنوى بها تحية المسجد، وسنة الوضوء، والسنة الراتبة للظهر؛ فهل يصح ذلك ؟
__________
(1) …البخاري (1162، 6382، 7390)، وأحمد (3/344)، وغيرهما.(2/206)
هذه القاعدة مهمة وهي: «هل تتداخل العبادات ؟» فنقول: إذا كانت العبادة تبعاً لعبادة أخرى فإنه لا تداخل بينهما، هذه قاعدة، مثال ذلك: صلاة الفجر ركعتان، وسنتها ركعتان، وهذه السنة مستقلة، لكنها تابعة، يعني هي راتبة للفجر مكملة لها، فلا تقوم السنة مقام صلاة الفجر، ولا صلاة الفجر مقام السنة؛ لأن الراتبة تبعاً للفريضة، فإذا كانت العبادة تبعاً لغيرها، فإنه لا تقوم مقامها، لا التابع ولا الأصل.
مثال آخر: الجمعة لها راتبة بعدها، فهل يقتصر الإنسان على صلاة الجمعة ليستغني بها عن الراتبة التي بعدها ؟
الجواب: لا؛ لماذا ؟ لأن سنة الجمعة تابعة لها.
ثانياً: إذا كانت العبادتان مستقلتين، كل عبادة مستقلة عن الأخرى، وهي مقصودة لذاتها، فإن العبادتين لا تتداخلان، مثال ذلك: لو قال قائل: أنا سأصلي ركعتين قبل الظهر أنوي بهما الأربع ركعات؛ لأن راتبة الظهر التي قبلها أربع ركعات بتسليمتين، فلو قال: سأصلي ركعتين وأنوي بهما الأربع ركعات فهذا لا يجوز؛ لأن العبادتين هنا مستقلتان كل واحدة منفصلة عن الأخرى، وكل واحدة مقصودة لذاتها، فلا تغني إحداهما عن الأخرى.
مثال آخر: بعد العشاء سنة راتبة، وبعد السنة وتر، والوتر يجوز أن نصلي الثلاث بتسليمتين، فيصلي ركعتين ثم يصلي الوتر، فلو قال: أنا أريد أن أجعل راتبة العشاء عن الشفع والوتر وعن راتبة العشاء! فهذا لا يجوز؛ لأن كل عبادة مستقلة عن الأخرى، ومقصوده بذاتها فلا يصح.(2/207)
ثالثاً: إذا كانت إحدى العبادتين غير مقصودة لذاتها، وإنما المقصود فعل هذا النوع من العبادة فهنا يكتفى بإحداهما عن الأخرى، لكن يكتفى بالأصل عن الفرع، مثال ذلك: رجل دخل المسجد قبل أن يصلي الفجر وبعد الأذان، فهنا مطالب بأمرين: تحية المسجد، وسنة الفجر، فلو صلى الراتبة فتكفي عن تحية المسجد؛ لأن تحية المسجد غير مقصودة بذاتها، فالمقصود أن لا تجلس حتى تصلي ركعتين، فإذا صليت راتبة الفجر، صدق عليك أنك لم تجلس حتى صليت ركعتين، وحصل المقصود فإن نويت الفرع، يعني نويت التحية دون الراتبة لم تجزئ عن الراتبة؛ لأن الراتبة مقصودة لذاتها، والتحية ليست مقصودة لذاتها.
فالمقصود أن لا تجلس حتى تصلي ركعتين.
أما سؤال السائل: وهو إذا دخل المسجد عند أذان الظهر صلى ركعتين فنوى بهما تحية المسجد، وسنة الوضوء، والسنة الراتبة للظهر ؟
إذا نوى بها تحية المسجد والراتبة، فهذا يجزئ.
وأما سنة الوضوء: ننظر؛ هل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هذا ثم صَلَّى ركعتين لا يُحَدِّثُ فيهما نَفْسَهُ غُفِرَ لَهُ ما تقدَّمَ مِن ذَنْبِهِ" (1)؛ فهل مراده صلى الله عليه وسلم أنه يوجد ركعتان بعد الوضوء ؟ أو أنه يريد إذا توضأت فصل ركعتين ؟ ننظر إذا كان المقصود إذا توضأت فصل ركعتين، صارت الركعتان مقصودتين، وإذا كان المقصود أن من صلى ركعتين بعد الوضوء على أي صفة كانت الركعتان؛ فحينئذ تجزئ هاتان الركعتان عن سنة الوضوء، وتحية المسجد، وراتبة الظهر، والذي يظهر لي والعلم عند الله: أن قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ثم صَلَّى ركعتين لا يقصد بهما ركعتين لذاتيهما؛ إنما المقصود أن يصلي ركعتين ولو فريضة، وبناء على ذلك نقول: في المثال الذي ذكره السائل: إن هاتين الركعتين تجزئان عن تحية المسجد، والراتبة، وسنة الوضوء.
__________
(1) …البخاري (159)، وأطرافه فيه ومسلم (226).(2/208)
مثال آخر: رجل اغتسل يوم الجمعة من الجنابة؛ فهل يجزئه عن غسل الجمعة ؟
إذا نوى بغسله الجنابة غسل الجمعة يحصل له؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "وإنما لكُلِّ امرئٍ ما نَوَى" (1)؛ لكن إذا نوى غسل الجنابة فهل يجزئ عن غسل الجمعة ؟ ننظر هل غسل الجمعة مقصود لذاته، أو المقصود أن يتطهر الإنسان لهذا اليوم ؟ المقصود الطهارة؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لَوْ أَنَّكُمْ تَطَهَّرْتُمْ لِيَوْمِكُم هذا" (2)؛ إذن المقصود من هذا الغسل: أن يكون الإنسان نظيفاً يوم الجمعة، وهذا يحصل بغسل الجنابة، وبناء على ذلك لو اغتسل الإنسان من الجنابة يوم الجمعة أجزأه عن غسل الجمعة، وإن كان لم ينو، فإن نوى فالأمر واضح، فصار عندنا الآن ثلاث قواعد.
الشيخ ابن عثيمين - مجموع فتاوى ورسائل (14/299)
الفصل الثامن
من مناهي الصلاة
حكم الحركة في الصلاة
مشكلتي أنني كثير الحركة في الصلاة .. وقد سمعت أن هناك حديثاً معناه أن أكثر من ثلاث حركات في الصلاة تبطلها .. فما صحة هذا الحديث ؟ وما السبيل إلى التخلص من كثرة العبث في الصلاة ؟
__________
(1) …البخاري (1)، ومسلم (1907).
(2) …البخاري (902)، ومسلم (847).(2/209)
السنة للمؤمن أن يقبل على صلاته ويخشع فيها بقلبه وبدنه؛ سواء كانت فريضة أو نافلة - لقول الله سبحانه: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ *الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ *}[المؤمنون]، وعليه أن يطمئن فيها، وذلك من أهم أركانها وفرائضها لقول النبي صلى الله عليه وسلم للذي أساء في صلاته ولم يطمئن فيها: "ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ" ، فعل ذلك ثلاث مرات؛ فقال الرجل: يا رسول الله والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا؛ فعلِّمني، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاةِ فَأَسْبِغْ الْوُضُوءَ، ثُمَّ اسْتَقْبِلْ الْقِبْلَةَ فَكَبِّرْ ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلاتِكَ كُلِّهَا" (1)، وفي رواية لأبي داود قال فيها: "ثُمَّ اقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَبِمَا شَاءَ اللهُ" (2)، وهذا الحديث الصحيح يدل على أن الطمأنينة ركن في الصلاة، وفرض عظيم فيها لا تصح بدونه؛ فمن نقر صلاته فلا صلاة له، والخشوع هو لب الصلاة وروحها، فالمشروع للمؤمن أن يهتم بذلك، ويحرص عليه . أما تحديد الحركات المنافية للطمأنينة وللخشوع بثلاث حركات فليس ذلك بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ وإنما ذلك كلام بعض أهل العلم، وليس عليه دليل يعتمد.
ولكن يكره العبث في الصلاة، كتحريك الأنف واللحية والملابس والاشتغال بذلك، وإذا كثر العبث وتوالى أبطل الصلاة.. أما إن كان قليلاً عرفاً أو كان كثيراً ولكن لم يتوال فإن الصلاة لا تبطل به، ولكن يشرع للمؤمن أن يحافظ على الخشوع، ويترك العبث قليله وكثيره، حرصاً على تمام الصلاة وكمالها .
__________
(1) …البخاري (757)، ومسلم (397) .
(2) …أبو داود (859) .(2/210)
ومن الأدلة على أن العمل القليل والحركات القليلة في الصلاة لا تبطلها وهكذا العمل والحركات المتفرقة غير المتوالية: ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فتح الباب يوماً لعائشة رضي الله عنها وهو يصلي .. (1)وثبت عنه صلى الله عليه وسلم، من حديث أبي قتادة رضي الله عنه: أنه صلَّى ذاتَ يومٍ بالناس وهو حامِلٌ أُمَامَة بنت ابنته زينب رضي الله عنها؛ فكان إذا سَجَدَ وَضَعَهَا، وإذا قَامَ حَمَلَهَا(2). والله ولي التوفيق.
الشيخ ابن باز - كتاب الدعوة (1) - ص (86، 87)
كيفية إجابة الطارق أثناء الصلاة
إذا كنت أصلي ودق الجرس ولا يوجد في البيت غيري فماذا أفعل ؟
إذا كانت الصلاة نافلة فالأمر فيها واسع؛ لا مانع من قطعها ومعرفة من يطرق الباب، أما في الفريضة فلا ينبغي التعجل إلا إذا كان هناك شيء مهم يخشى فواته، وإذا أمكن التنبيه بالتسبيح من الرجل أو بالتصفيق من المرأة حتى يعلم الذي عند الباب أن الذي بداخل البيت مشغول بالصلاة كفى ذلك؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ؛ مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلاتِهِ فَلْيَقُلْ: سُبْحَانَ اللهِ"(3).
فإذا أمكن إشعار الطارق بأن الرجل في الصلاة بالتسبيح أو المرأة بالتصفيق فعل ذلك، فإن كان هذا لا ينفع للبعد وعدم سماعه فلا بأس أن يقطعها للحاجة؛ خاصة النافلة، أما الفرض فإذا كان يخشى أن الطارق لشيء مهم فلا بأس أيضاً بالقطع ثم يعيدها من أولها . والحمد لله.
الشيخ ابن باز - فتاوى المرأة، ص (59، 60)
حكم انصراف القلب عن الصلاة
__________
(1) …أحمد (6/31، 183)، وأبو داود (922)، والترمذي (601) وقال: «حسن غريب»، والنسائي (1206).
(2) …البخاري (516، 5996)، ومسلم (543).
(3) …البخاري (1218)، ومسلم (421) .(2/211)
عندما أريد أن أؤدي الصلاة أكون شاردة الذهن، وكثيرة التفكير، ولا أشعر بنفسي إلا إذا سلمت، ثم أعيدها مرة ثانية، وأجد نفسي مثل الحالة الأولى، لدرجة أنني أنسى التشهد الأول، ولا أدري كم صليت، مما يزيد اضطرابي وخوفي من الله، ثم أسجد سجود السهو .. الرجاء الإفادة ولكم جزيل الشكر.
الوساوس من الشيطان، والواجب عليك العناية بصلاتك، والإقبال عليها والطمأنينة فيها حتى تؤديها على بصيرة، وقد قال الله سبحانه: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ *الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ *}[المؤمنون]، ولما رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً لا يتم صلاته ولا يطمئن فيها أمره بالإعادة؛ وقال له: إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاةِ فَأَسْبِغْ الْوُضُوءَ ثُمَّ اسْتَقْبِلْ الْقِبْلَةَ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلاتِكَ كُلِّهَا(1). وإذا علمت أنك في الصلاة قائمة بين يدي الله تناجينه - سبحانه - فإن ذلك يدعو إلى خشوعك في الصلاة، وإقبالك عليها، وبعد الشيطان عنك، وسلامتك من وساوسه، وإذا كثر عليك الوسواس في الصلاة فانْفُثِي عن يسارك ثلاث مرات، وتَعَوَّذِي بالله من الشيطان الرجيم ثلاث مرات، فإنه يزول عنك إن شاء الله . وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه بذلك لما قال له: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ حَالَ بَيْنِي وَبَيْنَ صَلاَتِي وَقِرَاءَتِي يَلْبِسُهَا عَلَيَّ(2).
__________
(1) …البخاري (757)، ومسلم (397) .
(2) …مسلم (2203) من حديث عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه.(2/212)
وليس عليك أن تعيدي الصلاة بسبب الوسواس؛ بل عليك أن تسجدي للسهو إذا فعلت ما يوجب ذلك، مثل ترك التشهد الأول سهواً، ومثل ترك التسبيح في الركوع والسجود سهواً، وإذا شككت: هل صليت ثلاثاً أم أربعاً في الظهر مثلاً فاجعليها ثلاثاً، وأكملي الصلاة، واسجدي للسهو سجدتين قبل السلام، وإذا شككت في المغرب هل صليت اثنتين أم ثلاثاً فاجعليها اثنتين وأكملي الصلاة ثم اسجدي للسهو سجدتين قبل السلام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك .
أعاذك الله من الشيطان، ووفقك لما يرضي الله سبحانه .
الشيخ ابن باز - كتاب الدعوة (1) ص (76)
حكم لبس الثياب الخفيفة في الصلاة
كثير من الناس يصلون بثياب خفيفة تصف البشرة، ويلبسون تحت هذه الثياب سراويل قصيرة لا تتجاوز منتصف الفخذ فيشاهد منتصف الفخذ من وراء الثوب؛ فما حكم صلاة هؤلاء ؟
حكم صلاة هؤلاء حكم من صلى بغير ثوب سوى السراويل القصيرة؛ لأن الثياب الشفافة التي تصف البشرة غير ساترة ووجودها كعدمها، وبناء على ذلك فإن صلاتهم غير صحيحة على أصح قولي العلماء، وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله؛ وذلك لأنه يجب على المصلي من الرجال أن يستر ما بين السرة والركبة(1)، وهذا أدنى ما يحصل به امتثال قول الله عز وجل: {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}[الأعرَاف، من الآية: 31].
فالواجب عليهم أحد أمرين: إما أن يلبسوا سراويل تستر ما بين السرة والركبة، وإما أن يلبسوا فوق هذه السراويل القصيرة ثوباً صفيقاً لا يصف البشرة.
وهذا الفعل الذي ذكر في السؤال خطأ وخطير؛ فعليهم أن يتوبوا إلى الله تعالى منه، وأن يحرصوا على إكمال ستر ما يجب ستره في صلاتهم. نسأل الله تعالى لنا ولإخواننا المسلمين الخير والهداية والتوفيق لما يحبه ويرضاه؛ إنه جواد كريم .
الشيخ ابن عثيمين - فتاوى معاصرة، ص: (16، 17)
حكم الصلاة بالثوب الذي فيه صُوَر
__________
(1) …انظر: «المغني» لابن قدامة (1/336، 337).(2/213)
ما حكم الصلاة في الثوب الذي فيه صور ؟
لا تجوز إذا كانت ظاهرة واضحة، وعلى من وجدها في الثوب أن يغسلها، أو يمحوها، أو يطمس الوجه بالمزيل أو البوية ونحوها، وهكذا الصليب أو الكتابة باللغة الأجنبية، ونحو ذلك مما يشغل البال، أو يدخل في المنع .
الشيخ ابن جبرين - اللؤلؤ المكين، ص (114)
حكم حضور الجماعة بالرائحة الخبيثة
هناك حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مَنْ أَكَلَ الْبَصَلَ وَالثُّومَ وَالْكُرَّاثَ فَلا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا ثلاثة أيام فَإِنَّ الْمَلائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ "(1) أو كما قال صلى الله عليه وسلم .. هل معنى ذلك أن الآكل لأي من هذه الأشياء لا تجوز له الصلاة في المسجد حتى تمضي عليه تلك المدة ؟ أو يعد أكلها غير جائز لمن تلزمه صلاة الجماعة ؟
__________
(1) …البخاري (853-856)، (5451، 5452) ومسلم (563، 564) . لكن ليس فيهما قوله: (ثلاثة أيام)؛ نعم .. وردت كلمة (ثلاثاً) بعد عبارة (فلا يقربنَّ مسجدنا) آخر الحديث؛ في رواية «سنن أبي داود» (3824)، وهي من كلام الراوي لا من كلامه صلى الله عليه وسلم؛ أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كرَّرَ هذا النهي، وأعاد تلك الكلمة ثلاث مرات. والله أعلم.(2/214)
هذا الحديث وما في معناه من الأحاديث الصحيحة يدل على كراهة حضور المسلم لصلاة الجماعة مادامت الرائحة توجد منه ظاهرة تؤذي من حوله؛ سواء كان ذلك من أكل الثوم أو البصل أو الكراث أو غيرها من الأشياء المكروهة الرائحة: كالدخان حتى تذهب الرائحة .. مع العلم بأن الدخان مع قبح رائحته هو محرم؛ لأضراره الكثيرة وخبثه المعروف، وهو داخل في قوله سبحانه عن نبيه صلى الله عليه وسلم - في سورة الأعراف: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطِّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ}[الأعرَاف، من الآية: 157]، ويدل على ذلك أيضاً قوله سبحانه في سورة المائدة: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ}[المَائدة، من الآية: 4]، ومعلوم أن الدخان ليس من الطيبات؛ فعلم بذلك أنه من المحرمات على الأمة . أما التحديد بثلاثة أيام فلا أعلم له أصلاً في الأحاديث الصحيحة؛ وإنما الحكم متعلق بوجود الرائحة؛ فمتى زالت ولو قبل ثلاثة أيام زالت كراهية الحضور إلى المساجد؛ لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً. ولو قيل بتحريم حضور المساجد ما دامت الرائحة موجودة لكان قولاً قوياً؛ لأن ذلك هو الأصل في النهي؛ كما أن الأصل في الأوامر الوجوب إلا إذا دل دليل خاص على خلاف ذلك . والله ولي التوفيق.
الشيخ ابن باز - مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (12/82)
حكم الإسراع والركض لإدراك الركعة
كثير من المسلمين يحرصون على ألا يفوتهم من الصلاة شيء، فإذا أقبلوا على المسجد، وسمعوا الإمام يصلي، أخذوا يجرون ويسرعون إلى المسجد، لإدراك الصلاة؛ فما حكم هذا العمل، أو هذه الظاهرة ؟(2/215)
الإسراع والركض أمر مكروه، لا ينبغي؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم "إِذَا أَتَيْتُمُ الصَّلاةَ فَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ؛ فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا" (1)، واللفظ الآخر: "إِذَا سَمِعْتُمُ الإِقَامَةَ فَامْشُوا إِلَى الصَّلاةِ وَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ، وَلا تُسْرِعُوا؛ فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا" (2)، والسنة أنه يأتيها ماشياً خاشعاً غير عاجل. متأنياً يمشي مشي العادة بخشوع وطمأنينة حتى يصل إلى الصف، هذا هو السنة .
الشيخ ابن باز - فتاوى إسلامية، (1/218، 219 )
حكم التزام المصافحة بعد الصلاة
ما حكم المصافحة بعد الصلاة ؟ وهل هناك فرق بين صلاة الفريضة أو النافلة ؟
الأصل - في المصافحة عند اللقاء بين المسلمين - شرعيتها، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصافح أصحابه رضي الله عنهم إذا لقيهم، وكانوا إذا تلاقوا تصافحوا، قال أنس(3) رضي الله عنه والشعبي(4) رحمه الله: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا تَلاَقَوْا تَصَافَحُوا، وإذا قَدِمُوا مِنْ سَفَرٍ تَعَانَقُوا". وثبت في الصحيحين(5):
__________
(1) …البخاري (635)، ومسلم (603) .
(2) …البخاري (636)، ومسلم (602) .
(3) …الطبراني في «الأوسط» (97). قال في «مجمع الزوائد» (8/36): «ورجاله رجال الصحيح».
(4) …الطحاوي في «شرح معاني الآثار» (4/281).
(5) …البخاري (4418)، ومسلم (2769) .(2/216)
أن طلحة بن عبيد الله أحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنهم قام من حلقة النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده - عليه الصلاة والسلام - إلى كعب بن مالك رضي الله عنه لما تاب الله عليه؛ فصافحه وهَنَّأَهُ بالتوبة. وهذا أمر مشهور بين المسلمين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعده. وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ فَيَتَصَافَحَانِ إِلا تَحَاتَّتْ عَنْهُمَا ذُنُوْبُهُمَا كَمَا يَتَحَاتُّ عَنْ الشَّجَرَةِ وَرَقُهَا"(1).
ويستحب التصافح عند اللقاء في المسجد أو في الصف، وإذا لم يتصافحا قبل الصلاة تصافحا بعدها؛ تحقيقاً لهذه السنة العظيمة، ولما في ذلك من تثبيت المودة وإزالة الشحناء .
لكن إذا لم يصافحه قبل الفريضة شرع له أن يصافحه بعدها بعد الذكر المشروع. أما ما يفعله بعض الناس من المبادرة بالمصافحة بعد الفريضة من حين يسلم التسليمة الثانية فلا أعلم له أصلاً؛ بل الأظهر كراهة ذلك لعدم الدليل عليه؛ ولأن المصلي مشروع له في هذه الحال أن يبادر بالأذكار الشرعية التي كان يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم بعد السلام من صلاة الفريضة .
وأما صلاة النافلة فتشرع المصافحة بعد السلام منها إذا لم يتصافحا قبل الدخول فيها، فإن تصافحا قبل ذلك كفى .
الشيخ ابن باز - فتاوى مهمة تتعلق بالصلاة، ص (50 - 52)
حكم الصلاة بالبنطال
__________
(1) …الطبراني في «الكبير» 6/256 (6150) بنحوه من حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه بإسنادٍ حسن. وأخرج أحمد (4/289، 303)، وأبو داود (5212)، والترمذي (2727) وقال: «حسن غريب»، وابن ماجه (3703) من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه: «مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ فَيَتَصَافَحَانِ إِلا غُفِرَ لَهُمَا قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا».(2/217)
ما حكم الصلاة بالبنطال ؟ وما المقصود بأن النبي عليه الصلاة والسلام ((نهى عن لبستين، ومنها أن يصلي في سروال ليس عليه شيء غيره))(1) أخرجه ابن أبي شيبة جـ8 ص: 486 ؟
الصلاة أعني صلاة الرجل بالبنطال لا بأس بها - إذا تمكن من إقامة الصلاة من التجافي في موضعه، والاعتدال في السجود، والجلوس؛ بشرط أن لا يكون ضيقاً يصف حجم البدن، ولعل الحديث المذكور في السؤال محمول على ذلك.
الشيخ ابن عثيمين - مجموع فتاوى ورسائل (13/348)
ما تغطِّيه المرأة من بدنها في صلاتها
إذا صلت المرأة في بيتها أو في مكان خال من الناس؛ فهل يلزمها تغطية قدميها ورأسها ؟ وما الحكم إذا كان زوجها أو أخوها أو أبوها أو عمها أو خالها موجوداً عندها ؟
__________
(1) …«مصنف ابن أبي شيبة» (25218) بنحوه.(2/218)
ج: يلزم المرأة في الصلاة أن تستر جميع بدنها إلا وجهها، ولو كانت خالية، ولو كانت في داخل منزلها، ولو كانت في مكان مظلم؛ فقد روت أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله هل تصلي المرأة في الدِّرْع(1) الواحد ؟ قال: "نَعَمْ؛ إذا كَانَ سَابِغاً يُغَطِّي ظُهُورَ قَدَمَيْهَا" (2)، فاشترط أن تستر ظهور القدمين، ومثلها الكفان لابد من سترهما على الصحيح، وكذلك ستر الرأس والشعر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم "لا يَقْبَلُ اللهُ صَلاَة حَائِضٍ إلاَّ بِخِمَار" (3)، والحائض المرأة التي قد بلغت سن المحيض؛ أي: المكلفة، والخمار: ما يغطي شعر الرأس والعنق والصدر ونحوه. والله أعلم.
الشيخ ابن جبرين - فتوى عليها توقيعه - في 3/3/1424هـ
الفصل التاسع
صلاة أهل الأعذار
هل هناك فرق في الثواب بين صلاة المريض وصلاة الصحيح ؟
هل هناك فرق في الأجر بين من صلى الصلاة على كرسي يومئ بالركوع والسجود؛ إلى غير القبلة، وبين من صلاها تامة إلى القبلة ؟
__________
(1) …دِرْع المرأة: قميصها.
(2) …أبو داوود (915)، والحاكم 1/250 (915) وصححه ووافقه الذهبي. ورجَّح بعضهم وقفه على أم سلمة رضي الله عنها؛ قال ابن حجر: «وهو الصواب». انظر: «موطأ مالك» 1/142 (324)، و«سنن الدارقطني» 2/62، و«تلخيص الحبير» 1/280 (443).
(3) …أحمد (6/150، 218، 259)، وأبو داوود (641)، والترمذي (377)، وابن ماجه (655)، وابن حبان (1711)، والحاكم 1/251 (917، 918). وقال الترمذي: «حديث حسن».(2/219)
ج : لا تجوز الصلاة على كرسي أو سرير إلا لعاجز عن القيام أو الركوع والسجود؛ فإذا عجز المريض صلى على سريره جالسًا بقدر، ويومئ بالركوع والسجود إلى القبلة؛ فإن عجز صلاها لغير القبلة، وإذا صلاها على حسب حاله فأجره كامل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين : "صَلِّ قائمًا؛ فإنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فقاعدًا؛ فإنْ لَمْ تَسْتَطع فعَلَى جَنْب"(1) متفق عليه. وفي رواية : "فإن لم تستطع فَمُسْتَلْقِيًا"(2)، ومتى صلى العاجز بالإيماء على حسب قدرته - فأجره كامل؛ كأجر من صلى إلى القبلة قائمًا؛ لقول الله تعالى : {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}[البَقَرَة: 286]، وقوله تعالى : {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}[التّغَابُن: 16]. وأما إن كان قادرًا على القيام ولكنه يعجز عن الركوع والسجود لمرض في ركبتيه، فإن له أن يصلي على كرسي موجهًا إلى القبلة، ويومئ بالركوع والسجود، ويجعل السجود أقرب من الركوع، والله أعلم.
الشيخ ابن جبرين - من قوله وإملائه
حكم صلاة المرأة الكبيرة جالسة إذا عجزت عن الوقوف
أنا امرأة كبيرة السن وأعجز عن الوقوف في الصلاة .. فهل لي الجلوس إذا تعبت ؟ أم أن ذلك ينقص أجري ؟
لا بأس بالصلاة جالسة عند العجز عن القيام؛ وذلك متى حصل تعب ومشقة وإرهاق بسبب مرض أو بسبب كبر السن؛ بحيث يتضرر من القيام أو يزيد من المرض ؛ فإن ذلك مبيح للجلوس وتكون الصلاة كاملة ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : "صَلِّ قائمًا فإن لم تَسْتَطِعْ فقاعدًا، فإن لم تستطع فعَلَى جَنْب"(3)، ولقوله تعالى : {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}[التّغَابُن: 16].
__________
(1) …البخاري (1117).
(2) …«سنن الدارقطني» 2/42 (1)، و«السنن الكبرى» للبيهقي (3493).
(3) …البخاري (1117).(2/220)
أما النافلة فتجوز حال الجلوس ولو مع القدرة، لكن ليس له إلا نصف أجر القائم؛ لحديث: "صَلاةُ القَاعِد على النِّصْفِ من صلاة القَائِم"(1)؛ أي: في النافلة، والله أعلم.
الشيخ ابن جبرين - جامع الفتاوى الطبية، ص (331)…جمع : د. عبدالعزيز بن فهد بن عبدالمحسن
مدة السفر المبيحة للقصر
لقد سمعنا عن فضيلتكم فتوى قد تداولها طلبة العلم وهي مسألة القصر في السفر، والكثير من طلبة العلم يقول: إن الشيخ يقول إن قصر الصلاة في السفر غير محدد بمدة معينة. نريد أدلة ذلك بالتفصيل.
__________
(1) …البخاري، (1115، 1116) بنحوه.(2/221)
هذه المسألة - بارك الله فيك - وهي إقامة المسافر في بلد هل ينقطع بها حكم السفر أو لا ينقطع ؟ والعلماء مختلفون في هذه المسألة على أكثر من عشرين قولاً ذكرها النووي في «المجموع شرح المهذب»، وذلك أن المسألة ليس فيها نص قاطع يفصل بين المختلفين؛ لذلك ذهب شيخ الإسلام رحمه الله وجماعة من أهل العلم إلى أن المسألة ترجع إلى الاستيطان أو السفر، وأن حال الإنسان دائرة بين الاستيطان والسفر فقط، ويلحق بالاستيطان الإقامة الدائمة التي لم تحدد بعمل ولا زمن، وهذا القول هو الذي تطمئن إليه النفس، وهو الذي تدل عليه ظواهر الأدلة الشرعية؛ لأنه لا يوجد في القرآن ولا في السنة حرف واحد يدل على تحديد المدة التي تقطع حكم السفر إذا نواها الإنسان، ومن كان عنده دليل في ذلك فليسعفنا به، وأكبر دليل عندهم - عند الذين حددوا-: هو أن الرسول عليه الصلاة والسلام أقام إقامات مختلفة؛ فمنهم من أخذ بالأدنى، ومنهم من أخذ بالأعلى، ابن عباس رضي الله عنهما مثلاً قال: إذا نوى المسافر تسعة عشر يوماً أو أكثر فإنه يتمّ؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقام بمكة تسعة عشر يوماً يقصر الصلاة، فإذا أقمنا هذه التسعة عشر يوماً قصرنا وإذا زدنا أتممنا. والإمام أحمد والشافعي وأظن الإمام مالكاً أيضاً يقولون: ((إذا نوى أكثر من أربعة أيام أتم، وإذا نوى أربعة فما دونها قصر)) لكن الشافعي يقول: يوم الدخول ويوم الخروج لا يحسب، فالأيام تكون صافية أربعة، وبناء على هذا المذهب تكون الأيام ستة يوم الدخول ويوم الخروج وأربعة صافية بينهما، والإمام أحمد يحسب يوم الدخول ويوم الخروج فما هو الدليل في هذا ؟ الدليل: أن الرسول، عليه الصلاة والسلام، في حجة الوداع - وهي آخر سفرة سافرها - قدم مكة يوم الأحد الرابع من ذي الحجة ومكث بها يوم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء، وفي يوم الخميس ضحى خرج إلى منى، وقد صح عنه أنه عليه الصلاة والسلام: أنه كان في هذه(2/222)
المدة يقصر الصلاة، قال أنس رضي الله عنه: خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يعني إلى مكة في حجة الوداع؛ فلم يزل يصلي ركعتين حتى رجع إلى المدينة، فسُئل: كم أقاموا في مكة ؟ قال: أَقَمْنَا بها عشراً(1)؛ لأنه وصلها يوم الأحد الرابع من ذي الحجة وخرج في صباح الرابع عشر من ذي الحجة فتكون الأيام عشرة، أربعة قبل الخروج إلى المشاعر والباقي في المشاعر، ولكني أسألكم الآن هل هذا دليل على التحديد أو دليل على عدم التحديد ؟ هو في الحقيقة دليل على عدم التحديد لا على التحديد؛ لماذا ؟
__________
(1) …البخاري (1081)، ومسلم (693).(2/223)
- لأن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يقل: من جلس أكثر من أربعة أيام فليتم، وهو يعلم عليه الصلاة والسلام أن الناس يقدمون إلى مكة للحج قبل اليوم الرابع، يعني ليس كل الحجيج لا يقدم إلا في الرابع فما بعده، أبداً، الحجاج يقدمون في الرابع في الثالث في الثاني في الأول في آخر ذي القعدة؛ بل يمكن من شوال: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}[البَقَرَة، من الآية: 197]. أولها شوال؛ فإذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام، وهو يعلم أن الناس يقدمون قبل اليوم الرابع لم يقل للناس: من قدم قبل اليوم الرابع فليتم؛ عُلم أن الإتمام لا يلزم؛ ولهذا لما صلى بمكة عام الفتح - قال لأهلها: يا أهل مكة: "أَتِمُّوا فإنا قَوْمٌ سَفْرٌ"(1)، وكان يصلي ركعتين ويسلم، ثم يقوم أهل مكة فيتمون. فالنبي عليه الصلاة والسلام يبلغ البلاغ المبين؛ فإذا علمنا أنه أقام في مكة أربعة أيام قبل الخروج إلى منى وستة أيام بعد ذلك، وأقام في تَبُوك عشرين يوماً يَقْصُرُ الصلاة(2)، وأقام في مكة عام الفتح تسعة عشر يوماً يقصر الصلاة(3). فهذه مُدَد مختلفة ولم يتغير فيها الحكم؛ فعلم أنه لا فرق بين إقامة أربعة أيام أو أكثر؛ وحينئذ نقول: العبرة بقطع السفر أن ينوي الإنسان قطع السفر والإقامة المطلقة في هذا البلد؛ فصار من أهلها ولزمه ما يلزم المقيم، وأما إذا قال: أنا لست من أهل هذا البلد لكني أقمت لشغل فنقول: إذن أنت مسافر،
__________
(1) …أحمد (4/430، 432) وأبو داود (1229)، وابن أبي شيبة في «مصنفه» (3860، 8159)، وابن خزيمة في «صحيحه» (1643)، والطبراني «الكبير» 18/209 (517)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (5111، 5170، 5287)، وهو حديث ضعيف؛ لكن يتحسن بشواهده.
(2) …أحمد (3/295)، وأبو داود (1235)، وعبد بن حميد (1139)، وعبدالرزاق في «مصنفه» (4335)، وابن حبان (2749)، 2752)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (5260). وصححه الألباني في «صحيح أبي داود» (1094).
(3) …البخاري (1080).(2/224)
لكن مع ذلك لا نعفي هذا الرجل الذي أقام في البلد لا نعفيه من صلاة الجماعة؛ بل نلزمه بصلاة الجماعة والجمعة إلا إذا فاتته فيصلي ركعتين، كذلك أيضاً لا نرى أن يفطر رمضان ثم لا يقضيه إلا بعد رمضان الثاني؛ لا لأنه غير مسافر لكن لأنه لو ترك صيام رمضان في هذه السنة ثم في السنة الأخرى ثم في السنة الثالثة تضاعفت عليه الأيام وربما عجز وكسل، ثم إن تأكيد الفطر في السفر ليس كتأكيد القصر، القصر عند بعض العلماء واجب في السفر، ولم يُحفظ أن النبي عليه الصلاة والسلام أتم يوماً من الأيام وهو مسافر، وأما الفطر: فإن الصحابة مع الرسول عليه الصلاة والسلام يصومون ويفطرون، ولا يعيب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم. والنبي عليه الصلاة والسلام صام؛ ولما قيل له: الناس قد شق عليهم أفطر. فلهذا نقول: الصوم لهذا المسافر الذي أقام مدة طويلة لا يؤخر إلى رمضان الثاني؛ بل يصومه لئلا تتراكم عليه الأشهر فيضعف أو يتهاون.
الشيخ ابن عثيمين - لقاء الباب المفتوح (10/24)
المسافر لمدة سنتين هل يقصر الصلاة ؟
حدث نقاش بيني وبين أحد زملائي العرب في قصر الصلاة ونحن في أميركا، وربما نمكث فيها سنتين، فأنا أكمل الصلاة كأني في بلدي، وزميلي يقصر الصلاة لاعتباره نفسه مسافراً، ولو طالت المدة إلى السنتين .. فنأمل بيان حكم قصر الصلاة بالنسبة لنا، مع الدليل.(2/225)
الأصل أن المسافر بالفعل هو الذي يرخص له في قصر الرباعية؛ لقوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَْرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ}[النِّسَاء، من الآية: 101]، ولقول يعلى بن أمية: قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: (ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا)، فقال: عجبت مما عجبت منه؛ فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ"(1). ويعتبر في حكم المسافر بالفعل من أقام أربعة أيام بلياليها فأقل؛ لما ثبت من حديث جابر وابن عباس رضي الله عنهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم مكة لصبح رابعة من ذي الحجة في حجة الوداع(2)، فأقام صلى الله عليه وسلم اليوم الرابع والخامس والسادس والسابع، وصلى الفجر بالأبطح اليوم الثامن، فكان يقصر الصلاة في هذه الأيام وقد أجمع النية على إقامتها كما هو معلوم، فكل من كان مسافراً ونوى أن يقيم مدة مثل المدة التي أقامها النبي صلى الله عليه وسلم أو أقل منها، قصر الصلاة، ومن نوى الإقامة أكثر من ذلك أتم الصلاة؛ لأنه ليس في حكم المسافر.
__________
(1) …مسلم (686) .
(2) …البخاري (1085) .(2/226)
أما من أقام في سفره أكثر من أربعة أيام ولم يجمع النية على الإقامة، بل عزم على أنه متى قضيت حاجته رجع؛ كمن يقيم بمكان الجهاد لعدو، أو حبسه سلطان أو مرض مثلاً وفي نيته أنه إذا انتهى من جهاده بنصر أو صلح أو تخلص مما حبسه من مرض، أو قوة عدو، أو سلطان أو وجود آبِق(1)، أو بيع بضاعة أو نحو ذلك: فإنه يعتبر مسافراً وله قصر الصلاة الرباعية، ولو طالت المدة؛ لما ثبت من أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بمكة عام الفتح تسعة عشر يوماً يَقْصُرُ الصلاة(2)، وأقام بتبوك عشرين يوماً لجهاد النصارى، وهو يصلي بأصحابه صلاةَ قَصْرٍ(3)؛ لكونه لم يجمع نية الإقامة، بل كان على نية السفر إذا قضيت حاجته .
اللجنة الدائمة - فتاوى إسلامية، (1/274)
مسألة قَصْرُ الصلاة وجمعها .. هل هي تابعة للظروف والأحوال ؟
أنا رجل بطبيعة عملي كثير الأسفار إلى بلدان شتى، إسلامية وغير إسلامية، وكان من أهم الأمور التي تعترضني وتشق علي هو الحفاظ على الصلاة في وقتها، خصوصاً أن برنامجي اليومي يبتدئ من الصباح وحتى المساء، وغالباً يحين موعد الصلاة وأنا في موقع لا أتمكن من أدائها فيه: إما لعدم وجود مكان طاهر للصلاة فيه، أو لعدم وجود مكان نظيف مخصص للطهارة والوضوء، أو لعدم تمكني من تحديد الاتجاه الصحيح للقبلة هذا بالإضافة إلى وجود النساء السافرات، يضاف إلى ذلك أن بعض المساجد في بعض البلدان تحتضن قبوراً وأضرحة، ووجود هذه العوامل مجتمعة أو متفرقة تحول دون أداء الصلاة كما ينبغي أن تؤدى.
__________
(1) …الآبق: هو العبد إذا هرب. انظر: «النهاية» لابن الأثير (1/19)
(2) …البخاري (1080).
(3) …أحمد (3/295)، وأبو داود (1235)، وعبد بن حميد (1139)، وعبدالرزاق في «مصنفه» (4335)، وابن حبان (2749)، 2752)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (5260). وصححه الألباني في «صحيح أبي داود» (1094).(2/227)
وبما أن فترات سفري تطول وتقصر حسب طبيعة المهمة التي أسافر من أجلها، فقد يكون أيام قلائل، وقد يمتد إلى شهر أو أكثر قليلاً، وحيث إنني أتعرض للمشقة التي أوردتها أعلاه إذا ما أردت الحفاظ على أداء كل صلاة في وقتها؛ وعليه فهل يحق لي والحالة هذه الأخذ برخصة القصر والجمع فأجمع صلاتي الظهر والعصر معاً، وصلاتي المغرب والعشاء معاً، جمع تقديم أو جمع تأخير حسب ما يمليه علي الظرف الزمني الذي أنا فيه ؟ أفتونا مأجورين بجواب شاف مبين، والله يحفظكم ويرعاكم، وينفع بكم وبعلمكم الإسلام والمسلمين.(2/228)
نوصيك بالحرص على أداء الصلوات المكتوبة في مواقيتها بقدر الاستطاعة، وعدم تأخيرها عن وقتها؛ فإن ذلك من إضاعتها والسهو عنها - كما في قوله تعالى: {أَضَاعُوا الصَّلاَةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ}[مَريَم: 59]، وفي قوله: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ *}[المَاعون: 5]؛ ففي وقت العمل يمكنك أن تستأذن خمس دقائق أو عشر وتؤدي الصلاة كاملة - كما لو استأذنت لبيت الماء أو لقضاء الحاجة، فإذا كنت في مقر العمل: فعليك أن تستصحب معك سجادة تجلس عليها ثم تأخذها للصلاة عليها إذا كانت الأرض ليست طاهرة، فتصلي على تلك السجادة وتدخل بيت الماء لقضاء الحاجة وتتوضأ فيه، فإن دورات المياه ضروري وجودها في أماكن الأعمال ونحوها، وفي إمكانك أن تستصحب معك البُوصلة التي هي آلة رصد القبلة وفيها تحديد القبلة في جميع الجهات، وتبتعد عن مُقابلة النساء السافرات ونحو ذلك، وإن وجدت قبوراً في المساجد فلك أن تخرج من المسجد وتُصلي إلى جانبه أو في الطريق أو تُصلي في ذلك المسجد وتكون القبور خلف ظهرك بعيدة عن مكان المُصلى، وإذا وُجدت مشقة السفر فلك القصر والجمع على حسب ما جاء في الرُخصة للمُسافر، وتفعل الأرفق بك من جمع التقديم أو التأخير؛ فإن المشقة تجلب التيسير. أما إذا لم يكن هناك مشقة وكُنت مُقيماً مُستقراً في فُندق أو شقة تُقيم فيها عدة أيام فلا أرى لك جمعاً ولا قصراً، وعليك أن تُؤدي الصلاة على ما فرضها الله سبحانه وتعالى. والله أعلم.
الشيخ ابن جبرين - من قوله وإملائه - في 9/1/1423هـ
كيفية الصلاة في الطائرة
س1: إذا حانت الصلاة وأنا في الطائرة فكيف أصلي ؟ علمًا بأن مدة السفر تزيد على سبع ساعات؛ فقد يدركني أكثر من وقت .. وجهوني بارك الله فيكم .(2/229)
ج1: إذا كان الوقت مما يجمع مع الذي بعده؛ فإن الأول يؤخر حتى يجمع مع الذي بعده مع هبوط الطائرة - كما لو أقلعت وسط الضحى وهبطت قبل الغروب، أو أقلعت قبل الغروب وهبطت قبل الصباح؛ فبعد الهبوط تصلى الصلاتان جمع تأخير. أما إذا دخل وقت الظهر قبل الإقلاع وعُرف استمرار الطائرة في الجو عشر ساعات - فإن العصر تقدم مع الظهر جمع تقديم، وكذا المغرب تجمع معها العشاء إذا دخل وقت الأولى قبل الإقلاع. أما إِنْ خِيفَ غروب الشمس قبل صلاة الظُّهْرَين، أو طلوع الفجر قبل صلاة العِشَائَيْن، أو طلوع الشمس قبل صلاة الصبح: فإن وجد في الطائرة موضع يتسع للصلاة فيه قائمًا - لزمت الصلاة من قيام بركوع وسجود كاملين وطهارة كاملة؛ حيث يوجد بها موضع لقضاء الحاجة والوضوء. فإن لم يوجد موضع يتسع للقيام فيه وأمكن أداء الصلاة في الطريق الذي بين الكراسي بقيام وقعود وركوع وسجود - لزمه ذلك. فإذا لم يتسع أو كثر الركاب وضاق بهم - لزمهم أن يصلوا وهم في مجالسهم؛ يومئون بالركوع والسجود، ويجعلون السجود أخفض من الركوع؛ لقوله تعالى : {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}[التّغَابُن: 16]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : "إذا أَمَرْتُكُم بأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُم"(1) ؛ وخوفًا من خروج الوقت المحدد للصلاة. والله أعلم.
س2: إذا كنت مسافراً في طائرة وحان وقت الصلاة أيجوز أن نصلي في الطائرة أم لا ؟
ج2: الحمد لله: إذا حان وقت الصلاة والطائرة مستمرة في طيرانها ويخشى فوات وقت الصلاة قبل هبوطها في أحد المطارات: فقد أجمع أهل العلم على وجوب أدائها بقدر الاستطاعة ركوعاً وسجوداً واستقبالاً للقبلة؛ لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}[التّغَابُن، من الآية: 16]، ولقوله صلى الله عليه وسلم "إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ"(2).
__________
(1) …مسلم (1337).
(2) …مسلم (1337).(2/230)