الدرس الرمضاني ( 1 )
دروس 1425 هـ
تأليف
أبي يزن حمزة بن فايع الفتحي
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ، ونستغفره ونتوب إليه ، ونعود بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .. أما بعد :
فإن القصص آسرة جذابة ، تخطف الأفئدة ، وتنبه البصائر ، وتحفز الهمم، وتورث المواعظ .
فكيف إذا كانت هذه القصص تفيض من القرآن الكريم ، والتنزيل المبين الذي يشع حقاً ، وينشرصدقاً ، ويشف حسناً وبياناً .
ولذلك وغيره آثرت تخصيص رمضان هذه السنة (1425هـ) بمعانٍ تربطنا بالقرآن وحلاوته ، ومدرسة تدبره وتفهمه عبر سرد (القصص القرآني) المكتمل حسناً وعظة وجمالاً ، وقد أعان الله ويسر ، أن ألقي ثلاث عشرة درساً تناولت إحدى عشرة قصة قرآنية .
فلسكنا في إلقائها مسلك التسهيل والإيجاز ليبلغ موعظها المبلغ ، وتصيب المقصد ، وتظفر بالمطلب .
وقد عزمت إصدارها إلحاقاً بجزئين سابقين تم نشرهما(1) ، وها هو الثالث، ويحوي القصص القرآني ، التي ينبغي علينا كطلبة علم نشرها في الناس ، وكشف عظاتها وأسرارها لتصلح القلوب ، وتنشرح النفوس ، وتعي قدراً كبيراً من كتاب ربها الذي احتوى قصصاً كثيرة ، وامتزج بأخبار تاريخية لها بالغ الأهمية ، وشديد الاعتبار في حياتنا الدعوية والإصلاحية والسلوكية .
( 1 ) لماذا قصص القرآن ؟!
يسرنا أن نجتمع ونلتقي في هذه الليالي المباركة في الدروس الرمضانية
المعتادة ، وكنا سالفاً نتحدث عن رمضان وأحكام الصيام ، وفي هذه السنة ، انشرحت نفسي للخروج عن الإطار المألوف في مواضيع ذات صلة بالقرآن الذي هو شرف رمضان ، حيث نزوله كان في رمضان .
فسوف نتذاكر هذه القصص القرآنية بأسلوب سهل مختصر ، نحرص فيه على إيصال الفائدة وإبراز الحكم والدروس .
__________
(1) الأول بين الآذانين والآخر الدرس الرمضاني .(1/1)
وهي وسيلة مهمة توفقنا لقضية هامة حول القرآن وهي (التدبر والتأمل) ، فلعلنا نحاول أن نتدبر هذا الكتاب الذي أهملته الأمة ، وغفلت عنه غفلة شديدة ، فنحن إذن في مائدة القرآن نتدبر قصصه ونعيش عبره ، ونقبس من مواعظه .
وقصص القرآن ذات أثر إيماني وتربوي على أهليها ومتأمليها لأنها قصص حق. ليس فيها مجال للدجل والكذب أو الزيادة .
ولها فوائد منها :
أنها أحسن القصص لفظاً ومعنى وأسلوباً وصياغة ، تشرح النفس ، وتطرب السمع، اسمع ما يقول الله تعالى عند ذكر يوسف عليه السلام : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ } [يوسف: 3]
أنها طريق للتثبيت والتصبير لا سيما والمؤمن يعيش مآسي وابتلاءات قال تعالى
{ وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ } [ هود : 120 ] .
أنها موطن للعظة والاعتبار قال تعالى { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى } [ يوسف : 111 ] . وقال تعالى { فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [ الأعراف : 176 ] .
ومثل هذه القصص تعين على تدبر القرآن وفهمه وإقبال الناس عليه ، فليس هو أحكام وشرائع فحسب ، بل فيه مادة محبوبة كهذه القصص المؤثرة .
إن فهمها يزيد في الإيمان لا سيما وأنت تشاهد فيها إيمان الأنبياء ، وقوة صبرهم ويقينهم بموعود الله ، وكيف نصرهم على أعدائهم .
وقراءة هذه القصص يعلم الفقه والبصيرة في الدعوة .
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل ،،
( 2 ) قصة آدم عليه السلام أبو البشر(1/2)
شاءت حكمة الله تعالى ، بعد أن خلق الكون ، خلق الآرض في يومين ، { وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِّلسَّائِلِينَ } [ فصلت : 10 ] .
وخلق السماء ، وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ، ثم خلق الملائكة العباد المكرمون ، ثم شاءت إرادته واقتضت حكمته أن يخلق (آدم) وذريته .
فأخبر ملائكته أنه سينشئ خلقاً آخر :
يسعون في الأرض .
ويمشون في مناكبها .
وينشر نسلهم في أرجائها .
فيأكلون من بينها .
ويستخرجون الخيرات من باطنها .
ويخلق بعضهم بعضا .
والملائكة الكرام : كانوا عباداً في غاية الخضوع والطاعة والانهماك { يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ } [ الأنبياء : 20 ] . لا تعب ولا كلل ، ولا انقطاع .
فخافت الملائكة ، أن الله سيخلق خلقاً خيراً منهم لتقصير وقع عنهم أو إشارة فسارعوا إليها تبرئة نفوسهم .
قائلين : (كيف يخلق غيرنا ونحن دائبون على التسبيح بحمدك ، وتقديس اسمك).
وقالوا : ومن تستخلفهم يا ربنا لابد أن يختلفوا على ما فيها من منافع وخيرات فيفسدوا فيها ، ويسفكوا الدماء الغزيرة .
{ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } [ البقرة : 30 ] .
فقال الله لهم { إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 30 ] .
أي أعرف من حكمة استخلافه ما لا تدركون فاطمأنت قلوبهم وقال لهم الله تعالى : { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ } [ الحجر : 29 ] .
كرَّم الله هذا المخلوق أن أمر الملائكة بالسجود له بعد أن سواه من صلصال من حمأ مسنون . والحمأ : هو الطين الأسود . والمسنون : هو المصور .
فأمر الملائكة بالسجود إجلالاً ، فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين.(1/3)
ولما أتى إبليس سأله الله تعالى { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العَالِينَ } [ ص : 75 ] .
فزعم أنه خير من آدم عنصراً ، وأزكى منه جوهراً { قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [ ص : 76 ] .
فجهر بالمعصية ، وعاند واستكبر فجازاه الله على عصيانه بقوله { فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ } [ الحجر : 34 - 35 ] .
والرجيم : الملعون ، المبعد ، المطرود .
فجعله الله مطروداً ملعوناً إلى يوم القيامة .
ثم إن إبليس بعد ذلك سأل الله أن يمهله إلى يوم الدين وأن يمد له في الحياة إلى يوم يبعثون . فأجابه الله لما طلب { قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الوَقْتِ المَعْلُومِ } [ الحجر : 37 - 38 ] .
لما استجاب الله سؤاله وطلبه ، لم يشكر الله على فضله ، بل قابل نعمته بالكفران وفضله بالجحود والنكران .
وقال : { قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ } [الأعراف: 16]. يترصد لهم . { ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } [ الأعراف : 17 ] .
تأمل هذا المكر وهذا القعود والترصد .
طرد الله إبليس من رحمته ، ومدَّ له في أمله ، وقال له : امض لسبيلك الذي اخترته ، وسر في طريق الشر الذي أردته . { وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ } [ الإسراء : 64].(1/4)
أي عِدهم بالمواعيد الكاذبة ، ومنِّهم بالأماني البعيدة ، فلن أخلي بينك وبين من صحّت عقيدته ، وقويت عزيمته من أهل الإيمان { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } [ الحجر : 42 ] . أما أحبابك وأتباعك كما قال : { لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } [ ص : 85 ] .
ثم إن الله أكرم آدم بأن أفاض عليه من علمه ، وزاده نوراً وبصيرة { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى المَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } [ البقرة : 31 - 33 ] .
فإن الملائكة حينئذ شرف آدم وفضله ، وأدركوا سر خلقه ، وظهرت لهم حكمة استخلافه .
ثم إن الله تعالى أكرم آدم وزوجه وأسكنهما الجنة يتمتعان بنعيمها ، وينهلان من رغدها ، ويرشفان من معينها .
قال تعالى { اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ } [ الأعراف : 19 ] .
وذكر الله شيئاً من صفة الجنة : { إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَى } [ طه : 118 - 199 ] .(1/5)
استمتع آدم وزوجه بنعيم الجنة ، فترة طويلة ، وآلم ذلك (إبليس اللعين) وعز عليه أن ينعم آدم ، وهو مطرود من رحمة الله ، مبعد عن جنته .. ودنا من الجنة ، وكلمهما في سر وخفاء { وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخَالِدِينَ } [ الأعراف : 20 ] . فلم يصغيا له ، مع تكرار المحاولات { وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ } [ الأعراف : 21 ] . بمعنى أنا لن أضركما ، ولن أوذيكما ، إنما ناصح ومشفق .. فاغراهما { فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجَنَّةِ } [ طه : 121 ] . { وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ } [ الأعراف : 22 - 23 ] .
ومن فوائد هذه القصة :
فضل آدم على الملائكة .
شرف العلم .
عداوة إبليس لآدم وذريته .
ذم خصلة الكبر والحسد ، وأنها من صفات إبليس .
إثبات صفة الكلام لله تعالى .
إن الواجب على العبد التسليم لأمر الله ، واتهام عقله إذا لم تظهر له الحكمة .
الحذر من الشيطان وحبائله .
إن حال آدم بعد التوبة خير من قبل ذلك .
ابتلاء الإنسان في هذه الحياة .
سعة رحمة الله وعفوه عن آدم لما تاب وأناب إليه .
( 3 ) خبر ابني آدم
أهبط الله آدم وحواء الأرض ، وجعل بينهما مودة ورحمة ، وكان نزولهما للأرض ، ليؤديا رسالة الله من الاستخلاف في الأرض ، ولتظهر حكم آلهية ومقاصد عظيمة قد لا تدركها عقولنا .
ومن ذلك :
عمارة الأرض .
ظهور سنة الله في الامتحان .
ظهور مؤمنين وصالحين يعبدون الله .(1/6)
لقد كان آدم وزوجه مشتاقين لرؤية الأبناء والذرية التي تملأ عليهم الحياة ، فهيأ الله تعالى لهم أسباب ذلك من معرفة أسباب الإنجاب .
فرزقهما الله (توأمين) قابيل وأخته ، وهابيل وأخته ، وشب الأخوة في رعاية الأبوين ، ومالت البنتان إلى حال النساء ، وانبعث الولدان يضربان في الأرض كسباً للرزق ، وابتغاء للخير ، فكان قابيل من المزارعين وهابيل اشتغل برعي الغنم .
ملأ الشابان حياة آدم نوراً ونصرة وسعادة ، وشبا واكتملا وبلغا مبلغ الرجال .
وأحسا بالحاجة إلى النكاح وهي سنة الله في الحياة ، يحصل بها النسل ، وكسر الشهوة ، والسكن والاطمئان . كما قال تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }
[ الروم : 21 ] .
فأوحى الله إلى آدم ، أن يزوج كل فتى من بنيه بتوأم أخيه , وكلم آدم أبناءه بذلك ، فطابت نفس هابيل بذلك ، وثار قابيل على هذا الحكم ، لقلة جمال تؤأم أخيه .
وتمنى من أبيه أن يزوجه توأمته ، فرأى آدم أن ذلك مخالفاً لأمر الله فتهمم واغتم ، ثم شرح الله صدره لحل ، يحل به هذه المشكلة فطلب من ولديه أن يقرب كل واحد منهما (قُرْبَاناً) إلى الله .
وهو ما قصه الله في كتابه : { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ } [ المائدة : 27 ] .(1/7)
وكان الحكم : أن من يقبل الله قربانه كان أحق بتلك الفتاة . فقدم هابيل حملاً من أنعام وقدم قابيل قمحاً من زراعته ، فأرسل الله تعالى ناراً فأكلت قربان هابيل دون قابيل فغضب واظهر الحقد لأخيه ، وقال له : { قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ المُتَّقِينَ } [ المائدة : 27 ] . ثم ساءه ذلك ، وتوعده بالقتل فكان يترصد له حتى قتله .
وفيها روايات :
قيل نحره بحديدة .
وقيل أتى عليه وهو نائم يرعى غنمه ، فشدج رأسه بصخرة .
وقيل علمه إبليس ذلك .
جاء في الصحيحين عن ابن مسعود مرفوعاً : (لا تُقتلُ نفسٌ ظلماً ، إلا كان على ابن آدم الأول كِفل من دمها ، لأنه كان أول من سن القتل) .
ولما قتل قابيل أخاه ، تركه بالعرَاء ، ما يدري ما يصنع ؟!
فبعث الله له غرابين فاقتتلا أمامه ، فقتل أحدهما صاحبه ، فحفر له ، ثم حثى عليه فقال : { قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ } [ المائدة : 31 ] .
ويذكر أن آدم مكث سنين حزيناً على هابيل ، إلى أن أتاه من الله (حياك الله وباركك) أي أضحكك .
ويروى أنه قال :
تغيرت البلاد ومن عليها
فلون الأرض مغبرٌ قبيح
تغير كل ذي لون وطعمٍ
وقلَّ بشاشة الوجه المليحِ
فأجيب :
أبا هابيل قد قُتلا جميعا
وصار الحي بالميْت الذبيحِ
وجاء بشره قد كان منه
على خوفٍ فجاء بها بصبيحُ
وذكر ابن كثير : أن القاتل عوجل بالعقوبة أن علقت ساقه بفخذه يوم قتله ، وجعل الله وجهه إلى الشمس حيث دارت ، عقوبة له وتنكيلاً .(1/8)
ثم قال تعالى : { مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ } [ المائدة : 32 ] .
وهذه القصة فيها فوائد :
فضيلة التقوى ، وأن الله إنما يتقبل من المتقين .
فضيلة الانصياع لأمر الله ، كما صنع هابيل .
شؤم المعصية ، وقبحها على صاحبها .
حرمة القتل ، وعظم البلوى به .
أن من سن سنة فكان عليه وزرها ووزر من عمل بها .
إثبات الامتحان والبلاء .
اختلاف طبائع الناس وأخلاقهم .
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل ،،
( 4 ) قصة نوح عليه السلام
هو أول رسول إلى أهل الأرض .
وأكثرهم مكثاً في قومه .
أن آياته من أضخم الآيات .
أبو الأنبياء الثاني { وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ البَاقِينَ } [ الصافات : 77 ] .
أول أولي العزم من الرسل .
نوح عليه السلام هو أول داعية ورسول إلى أهل الأرض ، والناس عقب آدم كانوا عشرة قرون على التوحيد كما قال تعالى : { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ } [ البقرة : 213 ] .
فكانوا على الإسلام ، ثم ظهرت الأصنام وسبب ظهورها ، أن ثمة قوماً صالحين لما ماتوا { وَداًّ وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً } [ نوح : 23 ] بنوا على قبورهم مساجد ، وصوروا لهم صوراً حتى يتذكروهم ويتشبهوا بحالهم .(1/9)
فلما طال بهم الزمان ، جعلوا أجساداً على تلك الصور ، فلما طالت بهم المدة عبدوا تلك الأصنام ، وسموها بأسماء تلك الصالحين ، فلما تفاقم الأمر بعث الله تعالى نوحاً عليه السلام ، قال تعالى في موضع : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قَالَ المَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [ الأعراف: 59 - 63 ].
بدأ نوح عليه السلام الدعوة بالتوحيد ، وتذكيرهم بعذاب الله ، ولكن الملأ (السادة والأشراف) رموه مباشرة (بالضلال المبين) يعني الظاهر .
ومع ذلك لم ييئس نوح عليه السلام بل عاود الكلام ، وحاورهم ، وجادلهم أشد المجادلة .
وأخبر عن ذلك الله تعالى عنهم { قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } [ هود : 32 ] .
وفي السورة المسماة باسمه { قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَاراً وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً } [ نوح : 5 - 9 ] .(1/10)
الجهد الذي بذله : دعوة بالليل والنهار ، يتلمس أوقاتهم ومع ذلك ، لم تزدهم الدعوة ولا الإبلاغ إلا فرارا .
وإذا زاد في دعوتهم وكرر قابلوه بما يلي :
جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ : سدوها لئلا يسمعوا .
وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ : تنكروا له لئلا يعرفهم .
وَأَصَرُّوا : استمروا على الكفر والعناد .
وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً : استنكفوا عن سماع الحق .
ثم ذكر الله بعض مواعظه الجميلة المؤثرة : { فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنْ الأَرْضِ نَبَاتاً ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ بِسَاطاً لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً } [ نوح : 10 - 20 ] .
الله خلقها لكم مبسوطة مجهزة لتستقروا عليها ، وتسلكوا في نواحيها وأرجائها . ومع هذه الأدلة والبراهين على وجود الله كفروا وكذبوا .
{ قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدْ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً } [ نوح : 21 – 24 ] .(1/11)
ومع ذلك طالت به المدة في قومه وكان من عنادهم له : { مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِي الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ } [ هود : 27 ] . قالوا له :
أنت بشر .
أتباعك أراذل الناس بمعنى لستم أفضل منا .
ومعتقداتكم كاذبة .
{ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ } [ هود : 28 ] . أي أنا على يقين ، ورحمة هي النبوة ، وخففت عليكم ، أنلزمكومها بها ، اني لن أكرهكم عليها .
ثم بين أنه لا يقصد مالاً ولا جاهاً { وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنصُرُنِي مِنْ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمْ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنْ الظَّالِمِينَ } [ هود : 29 - 31 ] .(1/12)
ثم بعد ذلك ملوا منه ، وكرهوا دعوته ، وضاقوا به ذرعا { قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنْ الصَّادِقِينَ قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ هود : 32 – 34 ] .
المعنى : سيصل إليكم أمر الله ، ولن تعجزوه ، ولا بقوتكم ولا بكفركم ولا بجاهكم .
ثم إن الله قال له : { لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ وَاصْنَعْ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ }
[ هود : 36 - 37 ] . أي من سيؤمن قليل يا نوح ، وابدأ بصنع الفلك بمرأى منا وعلمنا .
لما بدأ العمل في السفينة سخروا منه سخرية شديدة .
قالوا : (إنك يا نوح قد كنت قبل اليوم تزعم أنك نبي ورسول ، فكيف أصبحت اليوم نجاراً ، أزهدت في النبوة ، أم رغبت في التجارة) !!
وقال آخرون (ما بال سفينتك تصنعها عن البحار والأنهار ! أأعددت النيران لجرها ، أم كلفت الهواء حملها).
وانصرف لعمله الدائم في السفينة يجمع ألواحها ومساميرها ، كما قال تعالى { وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ } [ القمر: 13 ] . والدسر جمع دسار وهو المسمار.
فلما حانت الساعة منهم تفتحت أبواب السماء ، وعيون الأرض بالماء المنهمر { حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ } [ هود : 40 ] .(1/13)
وفي موضع آخر قال : { فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ } [ القمر : 10 - 16] .
{ وَفَارَ التَّنُّورُ } أي عيون الأرض كلها بما فيه موضع النار ، وقيل موضع بالهند ، وهذا غريب .
{ وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنْ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنْ الْمُغْرَقِينَ وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } [ هود : 41 – 44] .
هذا ملخص قصة نوح .. وفيها فوائد :
صبر نوح الطويل .
تنوع أساليب الدعوة .
القيام بالدعوة دون الاهتمام بالنتائج .
حسن مجادلة واستعراض البراهين على وجود الله والآيات .
إن الضعفاء أتباع الرسل .
فضل نوح وأن ذريته هم الباقين .
بيان رعاية الله للمؤمنين .
أن الدائرة على الظالمين الكافرين .
بيان قدرة الله العظيمة ، وأنه لا راد لأمره ، ولا معقب لحكه .
( 5 ) قصة هود عليه السلام(1/14)
أرسل الله تعالى إلى قومه (عاد) وقد كانوا في مكان يسمى (الأحقاف) باليمن ، وقد كانوا في أطيب عيش ، وأحسن حياة ، حباهم الله نعماً غزيرة ، فجروا العيون ، وزرعوا الأرض ، وشادوا القصور .
وآتاهم الله بسطة في الأجسام ، وقوة في الأبدان ، كان حق ذلك الشكر والالتفات إلى منعمها وواهبها .
ولكن للأسف ، زين لهم الشيطان عبادة الأصنام ، بزعمهم أنها تقربهم إلى الله ، ونسوا حق الله والنعم التي بسطها عليهم .
وقد اتصفوا بصفات :
كانوا في غاية من طول الأجسام وقوتها .
كانوا أصحاب بطش شديد .
كانت أرزاقهم وفيرة ومساكن باهرة .
وهذا يظهر في سورة الشعراء { كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ }
[ الشعراء : 123 - 135 ] .
فتأمل هذه النصيحة التي حملها هود عليه السلام ، فهم كانوا في بُلَهنية من العيش ، نعمة ورخاء ، وعزاً وقوة ، وجنات وأنهار ، ومال وأبناء ، ويتفاخرون بالعمران والبنيان .
{ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ } الريع : البنيان المرتفع المحكم عند الطرق المشهورة يفعلونه إظهاراً للقوة والزهو وليس للحاجة .
فحذرهم هود أن هذا البناء فيه مفاسد :
فيه تضييع للوقت .
وإتعاب للبدن بلا فائدة .
إضاعة للمال .
اشتغال بما لا يجدي في الدنيا ولا في الآخرة .(1/15)
ثم ذكرهم بتقوى الله { فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ } وصية الأنبياء .
فماذا كان ردهم { قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنْ الْوَاعِظِينَ } [الشعراء : 136] يعني : نصحت أو لم تنصح ، ذكرت أم لم تذكر ، لن نترك شريعة الآباء ، وطريقة الأجداد { إِنْ هَذَا إِلاَّ خُلُقُ الأَوَّلِينَ } [الشعراء : 137] يعني ما نحن عليه هو دين الأولين ، كيف نتركه ، كيف نهجره ، هذا محال ؟!!
{ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } [الشعراء : 138] ما تزعمه من عذاب تخافه علينا ، لا حقيقة له ، لا يوجد بعث ولا معاد ، ولا ثمة هناك عذاب ، يعني إنت من الكاذبين .
في موضع آخر : دعاهم إلى الله والتوحيد { اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ قَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنْ الْكَاذِبِينَ } [الأعراف : 65 - 66] . يعني يا هود : أنت سفيه ، طائش الحلم تسفه عبادتنا ، وتعيب ما وجدنا عليه آباءنا . ما ميزتك علينا ، نأكل كما تأكل ، ونشرب كما تشرب ، فكيف أختصك الله وآثرك علينا ، ما نظنك إلا من الكاذبين .
قال هود : يا قوم ليس بي سفاهة عقل ، ولا حماقة رأي ، ولقد عشت فيكم دهراً فما أنكرتم عليَّ شيئا ، وما الغريب أن يختص الله واحداً من قومه برسالته ، ويحمل دعوته .
قال تعالى : { قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [الأعراف : 67 - 69] .(1/16)
والآلاء هي النعم عليهم ، فيقول تذكروا نِعم الله ، وآمنوا به واستغفروه { وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ } [هود : 52] . أي لا تصيروا كالمجرمين بإعراضكم وتكذيبكم .
ردوا عليه قائلين : لا شك أن بعض آلهتنا قد أصابك بسوء ، فأصبت في عقلك، فأصبحت تهذي بما لا حقيقة له .. كما قال تعالى { إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ } [هود : 54] .
زاد هود في النصيحة وكرر ، وذكرهم بعذاب الله ، وتبرأ من شركهم { قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [هود : 54 - 56] . أي كل دابة تحت حكمه وقهره وسلطانه .
وبعد ذلك ازداد كفرهم وعنادهم ولم ينقطع هود ، بل تعاظموا بقوتهم وبطشهم وأن العذاب لن يصل إليهم { وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً } [فصلت : 15] . غرتهم الأجسام الضخمة والقوة المنيعة ، أنه لا يصل إليها قوة الله ، ومكره وبطشه عن ظلم وكفر وأبى وعاند .
فعندها قامت عليهم الحجة ، وأعذر إليهم هود عليه السلام ، وزاد كفرهم بقولهم { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنْ الصَّادِقِينَ } [الأعراف : 70] . سألوا العذاب بأنفسهم { قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ } [الأعراف : 71] .
وبالفعل جاءتهم أمارة العذاب وهي عبارة عن (سحاب أسود) يعترض السماء ، فاستشرفوا له وفرحوا ، لأنهم كانوا ممحلين من الأمطار .(1/17)
قال تعالى { فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ } [الأحقاف : 24 - 25] .
ثم شاهدوا هذه الريح تحمل دوابهم وتقذف بها إلى مكان سحيق ، وأصابهم الهلع وهرعوا سراعاً إلى بيوتهم يغلقونها عليهم ، يظنون أنهم سينجون ، ولكن الريح كانت باردة شديدة .. شيء عظيم لا يُوصف .
قال تعالى : { وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ } [الحاقة : 6 - 8] .
صَرْصَرٍ : باردة . ………عَاتِيَةٍ : بلا رحمة .…
حُسُوماً : كوامل متعاقبات .……خَاوِيَةٍ : بالية .
وفي آية أخرى { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ } [فصلت: 16] جعلت الريح العاتية ، تحمل الرجل الضخم منهم فترفعه ، ثم تلقيه على أم رأسه ، فيصبح كالجثة الهامدة ، كالنخلة إذا سقطت بلا أغصان ، كما قال : { كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } [الحاقة : 7] ، { كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ } [القمر : 20] ، { مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ } [الذاريات : 42] .
أما هود فقد أوى إليه أصحابه من المؤمنين واختبئوا في مكان آمن ، والريح حولهم يشاهدونها ، لكن لا يصيبهم ضررها ، إلى أن هدأت بعد الأيام النحسات .(1/18)
ثم انتقل هود إلى حضرموت وهناك مات عليه السلام .
فوائد القصة ودروسها :
شفقة هود عليه السلام على قومه .
بيان رعاية الله للمؤمنين .
ظهور سنة الله في المكذبين الظالمين .
عظم بطش الله بأهل الظلم والفساد في الأرض .
هوان الكاذبين إذ عذبهم بالهواء .
حقارة البشر إذ يبارزون الله بالعداوة والحرب .
إن العاقبة للمتقين مهما طغا الظلمة وتجبروا .
صبر هود على قومه وكثرة دعوتهم .
ونكتفي بهذه الفوائد الموجزة وصلى الله وسلم على نبينا محمد ،،
( 6 ) قصة صالح عليه السلام
وهو نبي عربي أرسله الله إلى أمة ثمود العربية ، كانت من العرب العاربة قبل إبراهيم عليه السلام .
ومساكنهم مشهورة بين الحجاز والشام وتسمى (الحِجر) ، كما قال في القرآن { وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ } [الحجر: 80 - 81] .
وتعرف حالياً بمدائن صالح ، وقد مر بها صلى الله عليه والسلام لما كان غادياً إلى تبوك وقال : (لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين) وكان النبي قد نزل قريباً من دارهم فدخل الصحابة ديارهم ، واستعملوا مياههم ، وطبخوا حيث نصبوا القدور فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بإراقتها ونهاهم عن دخول ديار المعذبين .
وهو كذلك لا يجوز دخول أماكن العذاب لأية أمة من الأمم ، إلا من باب العظة والاعتبار . قال صلى الله عليه وسلم (لا تدخول على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين فإن لم تكونوا باكين فتباكوا لا يصيبكم ما أصابهم) .
اصطفى الله تعالى صالحاً على صومه ، وآثره بهذه الدعوة ، فبدأ الدعوة كعادة الأنبياء { اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } [الأعراف : 73] . دعاهم إلى التوحيد ، لأنهم كانوا على آثار من سبقهم في عبادة الأصنام التي لا تغني ولا تنفع ولا تضر .(1/19)
كان من مواعظ صالح لهم ما ذكره الله تعالى في سورة الأعراف : { وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ } [الأعراف : 74] . وفي موضع آخر : { قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ } [هود: 61].
فهذتان الموعظتان شملت أمور :
الدعوة إلى التوحيد ، ونبذ الأصنام .
تذكيرهم بخلق الله لهم .
استعمارهم في الأرض وبوأهم فيها .
جعلهم خلفاء بعد عاد .
تشييد القصور .
نحت البيوت من الجبال كما قال { وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ } [الفجر: 9] . ينحتونه ويحرقوه ، وقال { وَتَنْحِتُونَ مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ } [الشعراء : 149] . وقال { وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِينَ } [الحجر: 82] . معنى فَارِهِينَ : حاذقين وقيل شرهين ولا منافاة بينهما .
ولم يزل صالح عليه السلام ينصحهم ويذكرهم بآلاء الله ، فقد قال لهم : { أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ وَتَنْحِتُونَ مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ } [الشعراء : 146 - 152] .
من هؤلاء المفسدون ؟!(1/20)
إنهم الرؤساء والكبراء ، من عادتهم الكذب والكفر والصد والعناد ، فهو يحذرهم من هؤلاء لأنهم من أول ما دعاهم قالوا : { قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنْ الْمُسَحَّرِينَ } [الشعراء: 185] . أي المسحورين لا عقل لهم ولا بصيرة .
وأيضاً وصفوه بالبشرية المماثلة لهم فكيف يصطفيك الله علينا بلا آية ولا دليل { مَا أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِينَ } [الشعراء: 154] . { أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنْ الْكَذَّابُ الأَشِرُ } [القمر
25-26] .
لما اشتد الحوار بينه وبينهم وهو يدعو ويكرر ، اقترحوا عليه أن يخرج لهم (ناقة عشراء) من صخرة عندهم يعرفونها . فقام صالح عليه السلام ، وصلى ودعا الله فانشقت الصخرة عن ناقة عشراء فانبهروا ، فآمن بعضهم ، وكفر أكثرهم . فقال : { قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [الشعراء : 155 - 156] .
وفي موضع آخر { قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [الأعراف : 73] .
وفي آية آخرى { وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ } [هود : 64] .
فبين لهم أن هذه الناقة ، ناقة الله وقد كانت عظيمة الجسم ، جميلة الشكل ، إذا مرت بأنغامهم نفرت منها .
وأعطاهم أوامر تجاهها :
تشرب يوماً ، وأنتم يوماً ، وفي اليوم الذي لها تنتفعون بحلبها ولبنها { وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ } [القمر : 28] .(1/21)
إياكم وأذيتها ولا تمسوها بسوء { وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [الأعراف : 73] .
ذروها تأكل كما شاءت { فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ } [الأعراف : 73] .
ظلت الناقة مدة على هذا الحال لها يوم ، ولهم يوم ، ثم إنهم تضايقوا من هذا الحال ربما :
لأنها ضايقتهم في الماء .
أو لانجذاب الناس إليه بسبب الناقة .
ومن حسد وحقد على صالح وظهور حجته عليهم .
فبدأوا يفكرون ، ويمعنون النظر ، ماذا يصنعون مع صالح وآيته العجيبة ، وكانت نفوسهم الشريرة تؤزهم إلى قتل الناقة ، فيحاولون ، ثم يتخوفون يتذكرون وعيد صالح لهم .
وعلمت النساء بما يريد السادة الكبار من الفتك بالناقة ، وتحطيم دعوة صالح ، فقالت إحداهن لرجل يُدعي (قدار بن سالف) إن هو قتل الناقة زوجته إحدى بناتها ، ولا تسأله مالاً ولا نواة .
فتآمرت هذه المرأة وقدار ، وبحثوا عمن يؤازرهم ، فاستجاب لهم سبعة آخرون وهم من عناهم الله بقوله : { وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ } [النمل : 48] .
هؤلاء المفسدون تآمروا ، وتشاوروا على قتل الناقة ، ومن ثم قتل صالح عليه السلام . قال تعالى { قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ } [النمل : 49 - 51] .
فهؤلاء تحالفوا وتبايعوا على قتل صالح ، وكان المتولي لقتلها أخيبهم وأشقاهم وهو (قدار بن سالف)، كما قال تعالى: { فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ } [القمر:29]. وقال تعالى : { إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا } [ الشمس : 12 ] .(1/22)
ويقال : إنه لم يباشر حتى طاف على أهل القرية يسألهم فكلهم أشاروا عليه { فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا } [ الشمس : 14 ] .
فانطلق التسعة ورصدوا الناقة بعدما شربت من الماء فرماها رجل اسمه (مصدع بن مهرب) بسهم ، ثم ضربها فدار بالسيف في عرقوبها فسقطت ، ثم طعنها في لبتها ونحرها ، وفر فصيلها ويُقال إنهم قتلوه ، وقيل بل اختفى في صخرة .
علم صالح بفعلهم الآثيم ، فقال : { تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ } [ هود : 65 ] . وقالوا : نذهب نقتل صالح ، إن كان صادقاً عجلناه قبلنا ، وإن كان كاذباً ألحقناه بناقته ، وهو ما عناه الله بقوله : { وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ } [ النمل : 50 ] .
فانطلقوا لقتل صالح ، فسلط الله عليهم حجارة فرضختهم خرصتهم وماتوا ثم إن وجوههم اصفرت – ثم احمرت – ثم اسودت ، ثم آخر اليوم الثالث : جاءتهم صيحة من السماء ، ورجفة من أسفل منهم ، فاضت لأجلها الأرواح وزهقت النفوس ، فأصبحوا في ديارهم جاثمين .
وعندئذ قال صالح تقريعاً وتوبيخاً : { لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ } [ الأعراف : 79 ] .
ونجى الله صالحاً والذين آمنوا معه .. قال تعالى : { فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ } [ هود : 66 - 68 ] .
نعم بعداً وسحقاً لكل مكذب ومستنكف عن الحق .
هذا ما يتعلق بخبر صالح مع قومه المكذبين .
ولعلكم أدركتم ما في هذه القصص من فوائد وعظات فمنها :(1/23)
اتفاق الأنبياء في أول واجب على الناس وهو التوحيد .
بيان كثرة النعم والآلاء التي امتن الله بها على ثمود .
كان حق هذه النعم الشكر والانقياد .
تأييد الأنبياء بالمعجزات لتظهر حجتهم .
خطر الدنيا ومفاتنها إذا لم يهتد العبد .
بيان خطر النساء على ألباب الرجال .
إن أول المكذبين للرسل السادة والكبراء .
بيان شدة مكر المجرمين .
إتيان صفة المكر لله ، وإن الله يمكر بمن يمكر بدينه .
حفظ الله لصالح والمؤمنين معه .
بيان العذاب الشديد وهو الصيحة والرجفة { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ }
[ فصلت : 17 ] .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد ،،
( 7 ) قصة شعيب عليه السلام
(خطيب الأنبياء)
شعيب نبي من أنبياء الله ، أرسله الله إلى عرب معان ، في مكان يسمى مدين كما قال تعالى : { وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً } [ الأعراف : 85 ] . ومدين يطلق على القبيلة ، وعلى المدينة جهة معان .
وقوم شعيب عُرفوا بلقب في القرآن هو (أَصْحَابُ الأَيْكَةِ) كما قال تعالى : { كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ } [ الشعراء : 177 ] . فهم أمة واحدة ، وليسوا أمتين . والعجيب أنه قال في كل نبي أخاهم إلا شعيب .
والجواب أنه نسبهم لعبادة الشجرة ، فناسب تنزيه شعيب عنهم فليس هو بأخ للعباد لمن يعبد الشجر والأوثان .
وقد عرف قوم شعيب إضافة إلى الشرك والكفر عرفوا :
بالتطفيف في المكيال والميزان .
ويبخس الناس أشياءهم وأموالهم .
الإفساد في الأرض .
قطع الطريق لأجل المال .(1/24)
قال تعالى : { وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ } [ الأعراف : 85 ].
وقال لهم { وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } [ الأعراف : 86 ] .
فهذه الموظعة شملت أمور :
الدعوة إلى التوحيد .
تأييد الله له بالمعجزات .
نهيهم عن بخس الكيل .
تحذيرهم من الإفساد .
تحذيرهم من قطع الطريق لنهب الأموال أو توعد المؤمنين بالقتل .
تذكيرهم بنعمة الله ، إذ كثرهم بعد قلة وأغناهم بعد فقر .
دعوتهم إلى الاعتبار بحال السابقين المفسدين .
وفي موضع آخر : { لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ } [ هود : 89 - 90 ] .
والمعنى اعتبروا من حال الأمم السالفة ، وذروا الكفر ، وذروا ما أنتم عليه من نهب الأموال والتطفيف .
وقد قال تعالى : { بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } [ هود : 86 ] ، أي رزق الله خير لكم من بخس الناس .(1/25)
فرموه بالسحر والسخرية { قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنْ الْمُسَحَّرِينَ وَمَا أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ } [ الشعراء : 185 - 186] ، فكان جوابهم مملوء بالسخرية والتهكم (كيف تنهانا عن دين ألفناه ، وشرع ورثناه ، وأنت الراجح عقلاً ، والسديد رأياً ، الواسع حلماً) ، وهو ما عناه الله تعالى بقوله : { قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ } [ هود : 87 ] . يعنون : قراءتك تأمرك ، أن نترك دين الآباء كلا والله !!
ثم بين لهم مقصده في الدعوة : { إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [ هود : 88 ] .
إن دعوته فيهم قائمة على الإصلاح .
أسند التوفيق إلى الله ، وأن الرزق والفضل والصلاح بيد الله .
تحقيق التوكل على الله .
وإليه الإنابة على كل حال ، لا سيما عند الخلل والتقصير .
مكث شعيب مدة يناظرهم ، ويقيم الأدلة عليهم ، وأنه لهم الناصح الأمين ، فلما يأسوا لجأوا إلى المراوغة في الرد ، ومدافعة الحجة بالشتم .
فقالوا : إننا لم نفقه كثيراً مما تقول ، لأنه ليس لكلامك سبيل إلى قلوبنا ، ولا منفد إلى عقولنا ، ولتكف عن إثارة من اغتروا بك وأنت المستضعف الذليل ولولا عشيرتك لقتلناك ، قال تعالى : { قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ } [ هود : 91 ] .
يعني ليس لك عندنا قيمة ولا معزة .(1/26)
قال لهم { قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيّاً إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } [ هود : 92 ] .
ثم لما اشتد نكير شعيب عليهم هددوه وأتباعه من طائفة المستكبرين . { قَالَ الْمَلأ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ } [ الأعراف : 88 ] .
يعني : هما خيارن ، إما طردكم من القرية ونهجركم ، أو تتركوا الدين الجديد وتعودون لملة الآباء .
وهنا إشكال { أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا } هل معناه إن كان على الشرك ؟ ! لأن ليس كذلك .
والجواب :
عاد هنا بمعنى صار .
أو المراد أتباعه .
ثم قال : { قَدْ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ } [ الأعراف : 89 ] . والمعنى : أنه أعظم فرية في ادعاء الأنداد مع الله . وربنا وسع كل شيء علما ، هو يحكم بيننا وبينكم ، وهو خير الحاكمين .
بعد ذلك ، لم يترك دعوتهم شعيب ، ولم يخف من تهديدهم ، بل بقى صامداً قوي العزيمة .
وكان مما قال : { وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ } [ هود : 93 ] . والمعنى : اعملوا على طريقتكم ، فأنا على طريقتي ، سوف يبين من يستحق العذاب ، ومن هو الصادق من الكاذب ، وانتظروا وارتقبوا ذلك .(1/27)
ثم جاءت سنة الله في المكذبين :
{ وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتْ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ } [ هود : 94 - 95 ] .
وفي الأعراف ذكر عنهم { فَأَخَذَتْهُمْ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ }
[ الأعراف : 91 ] .
وفي الشعراء قال تعالى : { فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [ الشعراء : 189 ] .
ثلاث نقم جمعها الله لهم : صيحة ورجفة وعذاب الظلة ، حسب السياق ، حيث قالوا : { فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِنْ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِينَ } [ الشعراء : 187 ]. يعنون عذاباً من السماء ، يتحدون ، فجزاهم الله تعالى بأن أصابهم حر شديد مدة سبعة أيام لا يكنهم فيه شيء ، ثم أقبلت إليهم سحابة أظلتهم فجعلوا يستظلون بها ، فلما اجتمعوا تحتها ، أرسل الله عليهم منها شرراً ولهباً ، ورجفت بهم الأرض ، وجاءتهم صيحة عظيمة أزهقت أرواحهم { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } [ الشعراء : 190 - 191 ] .
وقال شعيب موبخاً لهم { وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ } [ الأعراف : 93 ] .
فوائد القصة :
عظمة التوحيد في تاريخ الدعوات .
تواصي الأمم بتهم باطلة لا حقيقة لها كالسحر ، والكذب ، والبشرية .
شفقة شعيب على قومه .
حرمة الاعتداء على الناس وبخسهم أموالهم .
حرمة التطفيف في الكيل والميزان .
صبر الداعية على صور التهكم والسخرية .
سلامة النبي من كفريات قومه .(1/28)
فساد المال إذا كان مما حرم الله (بَقِيَّةُ اللَّهِ) .
إن دعوات الأنبياء قائمة على نفع الناس وإصلاحهم .
عزو الفضل والتوفيق إلى الله وأن المرء لا حول ولا قوة له .
من وسائل أعداء الدعوة الصد عن سبيل الله وتهديد المستضعفين .
الاعتبار بمصارع الهالكين قبلنا .
انتهت القصة والله الموفق ،،
( 8 ) قصة أصحاب الجنة
وأصحاب الجنة نقصد بهم ملاك البستان ، فالجنة تطلق على بستان الثمار والفواكه .
وهذه القصة قصة عظيمة ، مليئة بالعبرة والعظة قال تعالى : { إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ } [ القلم : 17 ] .
وقد كانوا من أهل اليمن ، وقبل الحبشة ، حزروان باليمن .
وكان أبوهم رجلاً صالحاً ، سار في الجنة بسيرة حسنة :
يرد فيها ما نحتاجه .
وندخر لعياله قوت سنة .
ويتصدق بالفاضل .
ويحسن للفقراء والمساكين .
حيث إذا دنا موسم الحصاد يتجمع عنده جموع الفقراء ، فيهش فيهم ويبتسم ، ويؤذن لهم بالأخذ فيتحمل هذا في مكتله ، وذاك في ثيابه ، ولهم بعد ذلك ما تناثر وأخطأته الأيدي .
تضايق الأبناء من فعل أبيهم ، وأحسوا أن أباهم يبدد الثروة ، حيث صار البستان مستباحاً للمساكين .
فقال الأول منهم : ما أتى إنك بإنفاقك على الفقراء ، لتضيق علينا في رزقنا ، وتبخسنا حقنا .
وقال الثاني : إذا بقيت يا أبتي على هذه الحال ، فسنغدو بعدك فقراء ، نتكفف الناس.
وازداد الثالث أن يتكلم ، فأشار إليه بالصمت .
فقال الأب الصالح : (ما أراكم إلا خاطئين في الوهم والتقدير ، إن هذا الحال ليس مالي ولا مالكم ، إنما هو مال الله ، مكنني فيه ، وآمنني عليه ، على أن أبذله في وجوهه ، فللقراء حقهم ، ولأبناء السبيل نصيبهم ، والطيور والبهائم طعامها ، وما فضل بعد ذلك فهو لي ولكم .
ثم ذكرهم أن هذا حكم الله ، إن المال بذلك يزيد ، وقد التزمتها شاباً طرياً ، فكيف أتركها شيخاً فانياً .(1/29)
وقال لهم : ها أنتم ترون شعري قد أشهب ، وجسمي قد نحل ، وعودي قد ذوى والأسقام أخذت سبيلها إليَّ ، ولن ألبث إلا قليلاً حتى ألقى الله تعالى : وإنكم سترثون هذا البستان والمال والنعم ، وأنتم بين خطتين : إن اتعظتم فإن الله وعد كل منفق خلفاً ، وإن بخلتم ، فإن الله أنذرك تلفاً .
كذا هي وصية الرجل الصالح : تشع بالهدى والإيمان والصدق ومحبة الناس .
ثم لم يلبث الشيخ مدة حتى توالت عليه الأسقام ، ومضت إلى الله على خير حاله وأحسن خاتمة .
توالت الأيام سراعاً ، وتهيأت الحديقة للجني ، ودنت ثمارها للقطوف ، وتسامع الفقراء ، وهبوا كعادتهم السنوية .
وأحس الأبناء بخطر الفقراء ، فبدأوا يتشاورون ، فقال الأول : ليس للفقراء منها حق ولا نصيب ولكلٍ نصيب يثمره كيف يشاء .
وقال أوسطهم وحدهم وهو أقرب بهم للوالد ، إنكم إن حرمتم الفقراء ، لا تأمنون منهم شراً أو اعتداء ، امنحوهم حقهم ، واذهبوا منها مذهب أبيكم ، وما بقي فإن الله ينميه .
فصاحوا في وجه أخيهم : لا تقترح شيئاً فيما لا تملك .
ثم أرشدهم للصلاة قائلاً : إنها تنهي عن الفحشاء والمنكر ، وقد تردكم إلى الحق وتعطف قلوبكم إلى الفقراء ، ولكن ما استجابوا له .
ثم خلص اجتماعهم إلى أن يبكروا لقطفها مع طلوع الفجر وظلمته ، قبل استيقاظ الفقراء ، كما قال تعالى : { إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلا يَسْتَثْنُونَ }
[ القلم : 17 – 18 ] .
فعلم الله سوء نيتهم ، وخبث طويتهم ، فعاملهم بنقيض قصدهم ، حيث أرسل على البستان ، حاصباً من السماء ، قلع نبتها ، وأسقط شجرها ، وبدد أوراقها ، فعادت كالصريم وهو الليل الأسود .
قال تعالى مبيناً ذلك : { فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ } [ القلم : 19 – 20 ] .(1/30)
تدمرت الحديقة واسودت ، وهؤلاء اللئام لا يشعرون ، عازمين على تنفيذ لؤمهم وبخلهم { فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ أَنْ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَارِمِينَ فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ } [ القلم : 21 - 24 ] .
تنادوا للذهب صباحاً مبكرين لجذها ، وأخفوا سراً بينهم ، أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين ، أي يقول بعضهم : لا تمكنوا اليوم فقيراً يدخلها ، واندفعوا وهم في حالة من الغيظ والحقد على المساكين { وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ } [ القلم : 25 ] .
وصل هؤلاء الأبناء إلى الحديقة ، فما صدقوا ما رأوا ! رأوا حديقة سوداء مدلهمة لا ثمر ولا زرع ولا عنب ، فظنوا أنهم أخطأوا الطريق . قال تعالى { فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ } [ القلم : 26 ] . والمعنى أخطأنا الطريق .
نظروا ودققوا ، فعلموا أنها هي : فقالوا : { بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } [القلم : 27] إنها هي الجنة ، لكن لاحظ لكم فيها ولا نصيب .
فقال أوسطهم وخيرهم { قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ } [القلم : 28] أي هلا تسبحون وتشكرون على ما أعطاكم إنها حديقتكم حُرمتم منها قبل أن يحرم الفقير ، وجُزيتم بأسوأ ما يجازى الشحيح .
فندم الأخوة { قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } [القلم : 29] . اعترفوا حيث لا ينفع الندم .
ثم طفقوا يلوم بعضهم بعضا على البخل وبخس المساكين { فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ } [القلم : 30 - 31] أي اعتدينا وبغينا ، فأصابنا ما أصابنا ، ثم قالوا : { عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْراً مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ } [ القلم : 32 ] . نقل عن ابن مسعود أنهم تابوا وأخلصوا وأن لهم لله جنة يُقال لها : الحيوان .(1/31)
ثم قال تعالى : { كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } [ القلم: 33 ] . إن هذه العقوبة جازيناكم بها لبخلكم ومنعكم حق المسكين والفقير ، ثم رغم ما لقيتم ، فإن عذاب الآخرة أعظم وأشد لو علمتم وتفكرتم .
أما فوائد هذه القصة :
إن هذه القصة ضربها الله مثلاً لأهل مكة حين امتن الله عليه رحمة النبوة ، فقابلوه بالكذب والمعاندة . وأهل الجنة امتن الله بالحديقة المزهرة فلم يؤدوا حق الله فيها فعاقبتم .
إن مال الأغنياء مال الله استأمنهم عليه ، وأوجب فيهم حقوقاً { وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ } [ النور : 33 ] .
في القصة ذم البخل والشح ، وأن الله قد يعجل العقوبة لأصحابها .
وأيضاً فضل الكرم والإحسان إلى الناس .
إن نماء المال وبركته في بذله وإخراج حق الله فيه ، وليس بحفظه وحراسته .
بيان شؤم عاقبة البخل ، وأنه قد يكون سبباً في ذهاب المال ، ومحق الثروة .
مشروعية الاعتراف بالذنب والظلم وعدم المكابرة .
وجوب الإنكار عند الخطأ { قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ } [القلم : 28].
إثبات البلاء والامتحان في هذه الحياة .
الاعتراف بالذنب سبب إلى التوبة كما قد حصل منهم .
إن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة .
مشروعية الاستثناء في القسم ، قال : { وَلا يَسْتَثْنُونَ } .
ضعف المخلوق أمام قدرة الله ، ومشيئته في الخلق ، وإن قدره نافذ سريع كما قيل :
دع المقادير تجري في أعنتها ... ولا تنامنَّ إلا خالي البالِ
ما بين طرفة عين وانتباهتها ... يغير الله من حال إلى حالِ
والله الموفق ،،
( 9 ) قصة يونس عليه السلام
هناك في بلدة (نينوي) في العراق ، طغت ظلمات الشرك ، وانصرف الناس إلى أوثان لا قيمة لها ، وأصنام لا فائدة منها فأرسل الله إليهم نبياً منهم هو يونس بن متى عليه السلام فدعاهم إلى التوحيد وعبادة الله وحده ، وأن ينبذوا تلك الأوثان .(1/32)
وقال لهم : إن الله أرسلني هداية لكم ، ورحمة بكم لأدلكم عليه وأرشدكم إليه .
فدُهش القوم من كلامه حيث سمعوا كلاماً لم يألفوه ، كبُر عليهم أن يروا واحداً منهم ينصب نفسه نبياً عليهم .
فقالوا : ما هذا القول الذي تهذر به والبهتان الذي تدعو إليه ، هذه آلهة عبدها آباؤنا من قبل ونعبدها نحن اليوم .
ثم عاد يونس عليه السلام بالتذكير والنصح مرة أخرى محاولاً بإقناعهم بأن هذا هو الدين الحق .
وقال لهم : ما لكم تُعرضون عن هذا الدين الذي أدعوكم إليه ، وهو يأمركم بما فيه صلاح أموركم ، واستقامة أحوالكم ، وتقويم جماعتكم .
إنه يأمر بالمعروف ، وينهي عن المنكر ، ويبغضكم في الظلم ، ويحبب إليكم العدل .
فكيف كان جواب قومه له ، وبماذا ردوا ؟
أجابوه بجواب الجاهلية ، وبحجة المتعنتين { مَا أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا }
[ الشعراء : 186 ] .
فقال : يا قوم لقد دعوتكم بالهوادة واللين وجادلتكم بالتي هي أحسن ، فإن أمنتم فهذا الخير الذي أرجوه .
وإن أبيتم ، فإني أنذركم عذاباً واقعاً وبلاء نازلاً ، ترون طلائعه ، وتقدم إليكم دلائله .
ثم ردوا عليه بعد هذا الوعيد : ( يا يونس ، ما نحن بمستيقنين لك ، ولا خائفين من وعيدك ، فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين) .
لم يُطق يونس بعد ذلك صبرا ، بل ضاق بهم ذرعاً فرحل عنهم مغاضباً لهم ، يائساً من إيمانهم ، كما قال تعالى : { وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ } [ الأنبياء : 87 ] .
ولم يكن يبعد يونس قليلاً عن نينوي ، حتى وافت أهلها نذرُ العذاب ، واقتربت منهم طلائع الهلاك :
اغبر الجو حولهم .
تغيرت ألوانهم .
وتشوهت وجوههم ، ونتج عن ذلك قلق ألمَّ بهم ، وخوف داخلهم .
فعلموا عندئذ أن دعوة يونس دعوة حق ، نذارته صدق ، وأن العذاب واقع لا محالة وأنه سيصيبهم ما سمعوه عن عاد وثمود وقوم نوح .(1/33)
وأثناء ذلك ، وقع في نفوسهم أن يلجأوا إلى إله يونس ، فيؤمنوا ، ويعلنوا توبتهم واستغفارهم .
وبالفعل خرجوا إلى شغاف الجبال ، ووصلوا الصحراء ، شاكين متضرعين وفرقوا بين الأمهات وأطفالها ، والإبل وفُصلانَها وأولادها ، والغنم وحُملانها ثم
أعول ، فصاحت الأمهات ، ورغَت الإبل ، وخارت البقر ، وثغت الغنم ، وكانت ساعة عظيمة ، بسط الله عليهم رحمته ، ورفع عنهم نقمته ، وقبل الله توبتهم ، إذ كانوا مخلصين في توبتهم ، صادقين في إيمانهم .
وتمنوا بعد ذلك لو يعود يونس ، ليعيش بينهم رسولاً ونبياً ، ومعلماً وإماما .
قال تعالى مشيراً إلى حال قوم يونس : { فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } [ يونس : 98 ] .
رفع الله عنهم العذاب بسبب إيمانهم وتوبتهم ، فلم توجد قرية آمنت كلها بنبيهم ، وأيضاً رأت علامات العذاب ، ثم تابت وأنابت إلا قوم يونس .
أما يونس لما انتهى إلى البحر ، وجد أناساً مسافرين فسألهم أن يركبوه ففعلوا وأنزلوه منزلاً كريما ، ومقاماً عزيزا ، لما لاحظوا عليه آثار التقوى والصلاح .
ولكنهم ما ابتعدوا عن الشاطئ ، وجاوزوا البر ، حتى هاجت الأمواج ، وتوقع الركاب سوى المصير ، وأحسوا بالهلكة .
ثم تشاوروا ، فاصطلحوا على أن يخففوا من المتاع . وقالوا : لعل منكم من أساء ، فاستهموا ، فوقعت القرعة على يونس ، ثم أعادوها .
فعلم يونس أن وراء ذلك سراً ، وأن لله في ذلك تدبيرا ، وأدرك أنه أخطأ حيث رحل عن قومه قبل الإذن بالهجرة ، أو يستخير الله في الرحيل ، فألقى بنفسه في البحر وأسلم نفسه للأمواج ، يتقلب فيها .(1/34)
وهو ما عناه الله بقوله { وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ } [ الصافات : 139-142 ] .
أوحى الله إلى الحوت فابتلعه على أن لا يأكل لحمه ، ولا يهشم عظمه .
واستقر به الحال في الحوت الكبير ، يشق به الأمواج ، ويهوي إلى الأعماق في ظلمات متضاعفة ، وشدائد صعبة ، فضاق صدره وفزع إلى ملجأ المضطرين ومفزع المنكوبين ودعا المكروب المشهور : { فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ } [ الأنبياء : 87 ] .
فسمعت الملائكة صوته ، فعرفته وقالت : (صوت معروف من عبد معروف) فاستجاب الله دعاه ، وأوحى للحوت أن ألقه في العراء { فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ } [ الصافات : 145 ] . قيل باليمن وقيل على جانب دجلة . { فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [ الصافات : 143 - 144 ] . من المستحسن قبل المصلين أوله عمل صالح سابق .
خرج من الحوت وهو عليل سقيم ، هزيل فرحمه الله بأن أنبت عليه شجرة من يقطين طعم من ثمرها ، واستظل بورقها ، حيث أن هذه الشجرة لا تقربها الحشرات قال تعالى { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنْ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ } [ الأنبياء : 88 ] . ولما استوى وعوفى لما جاءه ، أمره الله أن يرجع إلى بلده ، وأخبره أنهم آمنوا ، وقد نبذوا الأصنام .
قال الله تعالى لرسول محمد صلى الله عليه وسلم { فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنْ الصَّالِحِينَ } [ القلم : 48 - 50 ] .(1/35)
هذا ملخص القصة وفيها فوائد :
سعة رحمة الله وعظيم عفوه لمن تاب وأقبل .
أهمية الصبر في حياة المسلم والداعية .
فضيلة يونس عليه السلام وأن له سابقة حسنة عند الله ، ويذكر : إنه لما قال الدعاء : جاءت الكلمة تحن عند العرش فقالت الملائكة : هذا صوت ضعيف معروف ، من بلاد غريبة ، فقال الله: أما تعرفون هذا ؟ قالوا : لا قال: هذا يونس ، قالوا : يا رب هذا عبدك الذي لا يزال يُرفع له عمل صالح ودعوة مستجابة قال : نعم قالوا : أفلا ترحم ما كان يعمله في الرخاء فنجيه من البلاء فأمر الله الحوت فنبذه في العراء ، وفي الصحيحين (ما ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى ) .
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة .
فضيلة الدعاء بهذه لاكلمة (لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ) .
وأنها عامة لأهل الإيمان .
وقد جاء في فضل هذه الدعوة ما رواه الترمذي والنسائي (دعوة ذي النون إذ هو في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فإنه لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط إلا استجاب له) .
فضل قوم يونس بعد توبتهم ، حيث أثنى الله عليهم { إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } [يونس:98] .
إنهم بإيمانهم رفع عنهم العذاب الدنيوي والأخروي لقوله { فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } [ الصافات : 148 ] .
إن الإيمان طريق للسعادة والمتاع والحياة الطيبة .
فضل شجر اليقطين وقد ذكر أن له فوائد : سرعة نباته ، وتظليل ورقه لكبره ونعومته ، وأنه يفر منها الذباب ، وجودة ثمره ، وأنه يؤكل نيئاً ومطبوخاً ، وقشره أيضاً .
وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يحب الدعاء ويتبعه من نواحي الصحفة كما جاء في الصحيح .
ضرورة اعتراف لعبد بخطيئته { إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ } .(1/36)
لا مخرج للعبد في الشدائد إلا بالرجوع إلى الله وتصحيح التوحيد { لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ } . ولشيخ الإسلام ابن تيمية كلام طويل في الفتاوى في فضل هذه الدعوة وكشف أسرارها .
والله الموفق ،،
( 10 ) قصة أصحاب السبت
وهم طائفة من بني إسرائيل من قوم موسى عليه السلام ، كانوا يسكنون بلدة تسمى (أيلة) على شاطئ البحر الأحمر .
وكان من تعليم الله لنبيه موسى ، أن ينقطع قومه عن أعمالهم الدنيوية يوماً كل أسبوع يعبدون الله فيه ، ويذكرونه ويعظمونه .
واختار الله لهم يوم الجمعة لعبادتهم ، لكن رغبوا أن يكون يوم السبت .
وكان موسى يأتيهم في هذا اليوم مذكراً ومرشداً ، ثم توالت الأيام وهم على ذلك وسار الأبناء على طريقة آبائهم من تعظيم السبت ، وعدم مزاولة أي عمل من صيد أو صناعة أو تجارة فيه .
ثم إن الله ابتلى هذه الأمة ، بأن جعل الأسماك والحيتان تغدو يوم سبتهم شرعاً بيضاً سماناً ، ليختبر إيمانهم وصبرهم فإذا قفل السبت اختفت .
ولا يستطيعون السبت لأنهم مشغولون بالذكر والتسبيح ، يخرجون الأحد فلا يجدون ما يجدونه السبت وهو ما قصه الله علينا في كتابه العزيز : { وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } [ الأعراف:163 ].
أي اسأل يا محمد من حولك من اليهود عن إخوانهم الذين خالفوا أمر الله عندما حرم عليهم الصيد يوم السبت .
شُرَّعاً : ظاهرة على الماء .
قال تعالى { كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } أي بسبب فسقهم وخروجهم عن طاعة الله ابتليناهم .(1/37)
المهم إن هؤلاء ساءهم رؤية الأسماك الكثيرة يوم السبت ، وشحها يوم الأحد ، فتحركت دواعي الطمع فيهم ، وثارت عوامل الجشع عندهم ، وغفلوا عن تعليم نبيهم ، ونسوا حظاً مما ذكروا به ، فتشاوروا ما يصنعون فقال بعضهم (ما بالنا نترك الحيتان في يوم تكثر فيه وتزيد ، ونأتي لصيدها في أيام ، فلا تصل إلا بجهد ومشقة ، فلا سبيل إليها إلا يوم السبت ، فصادوها ، وغنموا منها الكثير .
وقيل بل أوحى إليهم الشيطان إنما نهيتم عن أكلها يوم السبت فخذوها فيه ، وكلوها في بقية الأيام .
وقالت طائفة أخرى : بل نهيتم عن أكلها وأخذها وصيدها يوم السبت وهؤلاء الصالحون .
لكن فعلوا ما عزموا عليه ، وصادوها يوم السبت ، اليوم المحرم عليهم .
علم الصالحون ما صنع إخوانهم ، فخرجوا إليهم وذكروهم ، فما زادهم ذلك إلا استهتاراً وإمعاناً في غيهم ، فثار أهل الإيمان وحملوا أسلحتهم لمنع هؤلاء من دخول القرية .
فقال العصاة : إن القرية لنا ولكم ، ولا حق لكم في دفعنا عنها ، إنها موطننا ومحط رزقنا ، فإن صممتم على ذلك فلتقاسمونا القرية ، ونبني حائطاً بيننا وبينكم .
ورضى الصالحون بقسمة القرية ، وانفردت كل طائفة بحظها ، وشغل الفساق بلهوهم وصيدهم ، وصنعوا سدوداً للحيتان يوم السبت ، وصادوها الأحد .
ومع ذلك لم يغفل المؤمنون من نصحهم وتحذيرهم عذاب الله ، بل لما قال لهم بعض إخوانهم لماذا ينصحون أناساً قد هلكوا ، واستحقوا عقوبة الله ، قالوا (معذرة إلى ربكم) أي فيما أوجب علينا من الأمر والنهي ، قال تعالى { وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } [ الأعراف : 164 ] .
فانقسمت القرية إلى ثلاث طوائف :
طائفة باغية عاصية .
وطائفة أعرضت وسكتت .
وطائفة صالحة صدعت وأنكرت .(1/38)
والمهم أن هؤلاء الفساق لم يزالوا على حيلتهم ومخالفتهم لنبيهم وعصيانهم حتى جاءهم عذاب الله الشديد . قيل : تزلزلت عليهم أرضهم ، وفرح المؤمنون .
ومسخ الفساق إلى قردة وخنازير ، قال تعالى : { فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ } [ الأعراف : 166 ] . أي ذليلين ذهب إليهم بعض جيرانهم يسألونهم أشياء فوجدوا المدينة مغلقة فنادوهم فلم يجيبوا ، فتسوق بعضهم فرآوهم قردة ، فجعل القرد يدنو مما يعرفه ، ويتمسح به ... عياذ بالله من ذلك .
وفي موضع قال تعالى في أصحاب السبت : { وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 66 ] .
أي قد علمتم يا معشر اليهود ما حل بأصحابكم يوم السبت ، لما عَصوا وبدلوا..
قيل :
مسخت قلوبهم .
وقيل الشباب قردة والشيوخ خنازير .
وقيل بل صاروا قردة تعاوي لها أذناب رجالهم ونساؤهم .
والحكمة في مسخهم قردة ، لشبهها بالأناسي في الشكل ، وليس حقيقة لأن فعلهم كان تحايلاً لنسيان الحق ، وهو مخالف له في الباطن .
أما مآل القرية ، فقد هلك الفساق ونجا المؤمنون .
كما قال تعالى : { فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } [ الأعراف : 165 ] .
واختلف العلماء في الفئة الثالثة الساكنين . ما حالهم : هل هلكوا أم نجوا ؟!
والأرجح الأقرب : إنهم من الناجين بفضل الله ورحمته .(1/39)
وجاء عن عكرمة أنه دخل على ابن عباس فوجده يبكي ، وإذا المصحف في حَجره ، فقال له : ما يبكيك ، جعلني الله فداك ، فقال : تعرف أنك فتلا الآيات وخرج له خبر القرية ثم قال : فأرى الذين نهوا قد نجوا ، ولا أرى الآخرين ذكروا ، ونحن نرى الأشياء ولا ننكرها ، ولا نقول فيها ، فقال : جعلني الله فداك ، ألا ترى أنهم قد كرهوا ما هم عليه وقالوا { لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً }
[ الأعراف : 164 ] . قال : فأمر لي فكسيت ثوبين غليظين .
وجاء عنه رواية أنهم من الهالكين ، لكن لعله قال به أولاً قبل أن يتبين له حالهم.
فوائد القصة :
بيان تعنت بني إسرائيل ، ومخالفتهم لأوامر الله .
اختلاف النفوس في ميلانها للخير أو الشر ، أو الصلاح والفساد .
وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأنه سبب النجاة .
الاتعاظ بمصير العصاة والمخالفين { وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } [ الأعراف:163 ].
بيان شدة عذاب الله لمن خالف واستكبر .
تحريم الحيل ، وهي ما يتوصل بها إلى محرم ، وقد جاء في الحديث بسند جيد (لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأربى الحيل) .
حفظ الله لأهل الإيمان الناصحين في كل زمان ومكان .
إثبات الابتلاء في هذه الحياة ، وأنها ظرف المحن والأحداث .
بيان شؤم المعصية على أهلها ، فقد قال تعالى بعد ذلك : { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } [ الأعراف : 167 ] .(1/40)
ومن ذلك : إن موسى ضرب عليهم الخراج سبع سنين وقتل 13 سنة .
ثم صاروا إلى قهر الملوك من اليونانيين والكلدانيين ، ثم صاروا إلى قهر النصارى وإذلالهم .
ثم قهرهم عن صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثم يقتلهم المسلمون مع عيسى وهم مع الدجال .
إثبات المسخ في الأمة ، وأنه صورة شديدة من عذاب الله .
بيان أن الظلم والاعتداء من أسباب غضب الله .
ظهور حجة الصالحين على الساكتين { قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } [ الأعراف : 164 ] .
وعظ المخالفين بمثل هذه القصص { وَاسْأَلْهُمْ } اليهود الكاتمين لصفتك في كتبهم وقد عرفوها .
والله تعالى أعلم ،،
( 11 ) قصة لوط عليه السلام
هو نبي من أنبياء الله المرسلين واسمه لوط بن هارون بن آزر ، وهو ابن أخي إبراهيم عليه السلام . وقد كان آمن مع إبراهيم عليه السلام ، وهاجر معه إلى أرض الشام .
ثم إن الله أرسله إلى (أهل سدوم) وما حولها من القرى تدعوهم إلى الله ويأمرهم بالمعروف ، وينهاهم عما كانوا يرتكبونه من المآشم والفواحش التي اخترعوها ، وهي إتيان الذكور دون النساء ، كما قال تعالى : { مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْعَالَمِينَ }
[ العنكبوت : 28 ] .
فهذه القرية تميزت بالخبث والخبائث فكانوا أصحاب أخلاق فاسدة ونوايا سيئة :
لا ينفكون عن معصية .
ولا يتناهون عن منكر فعلوه .
وكانوا من أفجر الناس وأقبحهم سيرة .
يقطعون الطريق ، ويخونون الرفيق .
يتربصون لكل شار ويسلبونه ما حمل .
وزادوا إلى ذلك الفاحشة النكراء ، الجريمة الشنعاء ، وهي إتيان الذكور على النساء ، وليتهم استتروا ، بل أشاعوا هذا المنكر وحملوا الناس على مشايعتهم والعياذ بالله .
حينئذ أوحى الله تعالى إلى لوط أن يدعوهم إلى الله ، وينهاهم عن تلك الفواحش والجرائم .(1/41)
قال تعالى : { كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنْ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ } [ الشعراء : 160 - 166 ] .
فهذه الرسالة النبوية من لوط حوت أموراً :
إنهم كانوا كفاراً ، وبكفرهم بلوط كأنهم كفار بسائر الأنبياء .
دعاهم إلى تقوى الله .
أخبارهم بصدق رسالته وإمامته .
ثم توصيتهم بالتقوى وبطاعته .
وليس همي الأجر ولا المال .
استنكاره عليهم إتيان الذكور وترك الأزواج .
ثم وصفهم بالاعتداء { بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ } .
فكيف كان ردهم عليه ؟! { قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنْ الْمُخْرَجِينَ } [ الشعراء : 167 ] .
هددوه بالنفي والإخراج من القرية ، وفي موضع آخر { قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } [ النمل : 56 ] . باتت الطهارة عندهم شيئاً منكراً ، فقد طبعوا على الفساد والقذارة .
ولما رأى أنهم مصرون على غيهم ، قال لهم { قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنْ الْقَالِينَ } [ الشعراء : 168 ] أي من المبغضين .
ثم إن لوطاً استمر في دعوتهم وتحذيرهم نقمة الله ، وحذرهم عاقبة سوئهم وفسادهم ، فما ازدادوا إلا عناداً واستهزاءاً ، عندئذ سأل لوط ربه أن ينصره على القوم المفسدين { رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ } [ الشعراء : 169 ] .(1/42)
أجاب الله دعوة لوط ، وحقق له مطلبه ، وبعث إلى أهل هذه القرية الظالمة ملائكة لتنزل عليهم عذاباً ورجزاً من السماء ، فمروا أولاً بدار إبراهيم عليه السلام ، فظنهم عابري سبيل ، فقدم لهم ما يقدم للأضياف لكنهم لم يمدوا أيديهم إلى الطعام فنكرهم وأوجس منه خيفة .
وهو ما ذكره الله تعالى في مواضع :
قال تعالى : { وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ } [ هود : 69 - 70 ] .
ثم إنهم بشروه بغلام عليم ، ثم استفسرهم إبراهيم عليه السلام ما الذي جاء بكم { قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ } [الحجر 57-58] لننزل بهم عذاب الله ، جزاء ما كذبوا لوطاً وما فعلوا من الموبقات والآثام .
فاشتد حزن إبراهيم عليه السلام ، فأخذ يجادلهم ويقول لهم : إن فيها لوطاً ، وكان يرجو توبتهم وإنابتهم إلى الله تعالى ، قال تعالى : { وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنْ الْغَابِرِينَ } [ العنكبوت : 31 – 32 ] أي من الهالكين ، لأنها كانت تعينهم على كفرهم وفسادهم .
وأخذت الملائكة تؤنس إبراهيم وتطمئنه إن الله سينجي لوطاً والمؤمنين ، وبشروه بالولد الصالح من سارة وهو إسحاق عليه السلام .(1/43)
ثم دخلت الملائكة وانطلقت إلى سدوم في صورة (شبان حسان) ، فلما دخلوا وجدوا جارية بيت تستقي الماء لأهلها فسألوها أن تضيفهم فأشفقت من ذلك ، واعتذرت بضعفها .
ثم عادت إلى أبيها لوط ، فقالت له : (أرادك فتيان على باب المدينة ، ما رأيت وجوه قوم أصبح من وجوههم ، وأخاف أن يعلم بأمرهم قومك فيفضحوهم) ، فأحس لوط بالحرج والضيق ، وتردد في ضيافتهم ، وحدثته نفسه بأن يرسل لهم معتذراً ، لكن أريحية الكرم هزته ، فانطلق إليهم مسرعاً متخفياً عن عيون قومه ، وكانوا قد حذروه أن يلتقي بأحد ولا يستضيف أحداً .
فوصل إلى الملائكة ، ورحَّب بهم ، وأخذهم إلى منزله ، لكنه كان كئيباً حزيناً أن يعلم بهم قومه .
قال الله تعالى : { وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنْ الْغَابِرِينَ إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنْ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } [ العنكبوت: 33 – 34 ].
وفي موضع آخر : { قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنْ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمْ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ } [ هود : 81 ] .(1/44)
تستر لوط على الأضياف لكن علمت زوجته بأمرهم ، فانطلقت وأخبرت قومها عن الشباب الثلاثة وعن جمالهم وصباحتهم فاندفعوا يُهرعون إليه ، قال تعالى : { وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ قَالَ إِنَّ هَؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنْ الْعَالَمِينَ قَالَ هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ الحجر : 67 - 72 ] .
أحاطوا بمنزل لوط ، وقد جاشت نفوسهم للمنكر العظيم ، فأخذ يناشدهم ويذكرهم بالله فقالوا { قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ } [ هود : 79 – 80 ] .
فعلمت الملائكة فأخبروه عندئذ إنهم رسل الله ، وأنهم مفاتيح عذاب هذه القرية الخبيثة .
فجاء جبريل عليه السلام فضرب وجوههم بجناحه فطمس أعينهم ، فرجعوا وهم لا يهتدون فهو وعد أن يأتي بالعذاب قال تعالى : { وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ } [ القمر : 37 ] .
ثم أمروه أن يسير في آخر الليل هو وأهله ولا يتلفت للعذاب إذا حلَّ بهم ، وبالفعل حمل متاعه وأهله وامرأته خرجت معه ولما سمعت صوت العذاب التفت وقالت: واقوماه فجاءها حجر من السماء فقتلها ، قالوا { إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمْ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ } [ هود : 81 ] .
قال تعالى : { فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنْ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ } [ هود : 82 - 83 ] .(1/45)
أي حجارة من طين منضود متتابعة ، مسومة ، معدة ومكتوب عليها أسماء أصحابها . ورفعها جبريل إلى السماء . { وَمَا هِيَ مِنْ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ } .
هذه قصتهم العجيبة وفيها فوائد :
خبث الجريمة التي حملها قوم لوط وإنهم قد تميزوا بها وسبقوا بها .
حرمة اللواط وشناعته من الأمم السابقة وكذلك في شريعتنا هو محرم ومن كبائر الذنوب . وقد قال الوليد بن عبد الملك (لولا أن الله حكى علينا خبر قوم لوط ، لم صدقت أن ذكراً يعلو ذكراً) وهذا يدل على عفته وتمام خلقه ورجولته.
عظم عقوبة فاعل هذه الرذيلة ، وقد صح في الحديث (من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط ، فاقتلوا الفاعل والمفعول به) .
ولذلك اتفق الصحابة بلا خلاف على قتل اللوطي ولكن اختلفوا في الكيفية ، فقيل: يُحرق وقيل برجم وقيل يُرمي من أعلى شاهق في المدينة ثم تصب عليه حجارة .
وجوب الفرار إلى الله والاعتماد عليه { أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ } وهو الله تبارك وتعالى .
وفي ذلك أهمية حشد الداعية الأتباع والأنصار له في مثل هذه الظروف .
مشروعية إكرام الضيف .
مشروعية الأمر والنهي .
إن النبي يعتبر والداً لقومه { هَؤُلاءِ بَنَاتِي } .
إن الزواج سبب لطهارة الإنسان وبعده عن المآثم والمناكر .
إن الظلم وغلبة الفواحش من أسباب الهلاك .
إن العبرة بالأعمال لا الأنساب فها هي زوجة تخونه ، وتطاوع قومه في شركهم وعنادهم .
( 12 ) قصة عيسى عليه السلام
وسوف نتحدث عن ولادته هنا .
عيسى من أنبياء الله المصطَفين الذين أكرمهم الله عز وجل برسالته .
وجعله الله آية للعالمين ، حيث إنه جاء من أم بلا أب .
وأمه هي المرأة الصديقة الصالحة مريم بنت عمران ، التي نذرتها أمها للعبادة والخدمة في بيت المقدس .(1/46)
في يوم من الأيام اعتكفت مريم كعادتها وجلست تصلي وتعبد الله وتعظمه وتسبحه فأحست برهبة ، وخالطها اضطراب لم تألفه من قبل ، وتبدى أمامها ملك من السماء جاءها على صورة بشر ، لكيلا تفر وتخاف ، ومع ذلك حاولت الهرب ، واستعاذت بالله منه ، إذ ظنته معتدياً أثيماً وفاجراً ، زنيماً وهي المرأة العفيفة الطاهرة .
وهذا ما قصه الله علينا في سورة مريم : { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذْ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيّاً } [ مريم : 16 - 18 ] .
فهذه الآيات تفيد أموراً :
إن مريم انتبذت وتنحت عن أهلها مكاناً شرقياً قيل للعبادة ، وقيل لسقي الماء ، وقيل لمرض أصابها .
أنها تواجدت واحتميت بحيث لا يراها أحد .
إن الله أرسل إليها جبريل على صورة بشر سوي .
إنها لما رأته أنكرته واستعاذت بالله منه أن يصيبها بسوء { إِنْ كُنتَ تَقِيّاً } فقد أشارت إلى أن المتقي هو من يعظم حرمات الله .
بعد ذلك أبان لها الملك بأنه رسول الله ، وطمأنها بأنه إنما جاء ليهب لها غلاماً صالحاً زكياً ، فاستنكرت أشد مما سبق وقالت : كيف يكون لها ولد وليس لها زوج ولم تتلبس بالفجور .
قال تعالى : { قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُنْ بَغِيّاً قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً } [ مريم : 19 - 21 ] .
فوضح لها الملك بأن هذا الولد آية من الله ، فهو هين في قدرته ، وسنجعله آية للناس ، ودلالة على قدرة الله تعالى، وأنه خلق الناس ونوَّع خلقهم .(1/47)
وأيضاً جعله رحمة من الله للناس يذكرهم ويدعوهم إلى عبادة الله وحده ، كما قال تعالى : { إِذْ قَالَتْ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنْ الصَّالِحِينَ } [ آل عمران : 45 - 46 ] .
وهنا جعل هذا الولد بشارة لها وليس فاجعة ولا مصيبة :
يكون كلمة من الله كن فيكون .
وهو وجيه له مكانة في الدنيا والآخرة .
وهو يدعو إلى الله في مهده وكهولته .
قضى الله ذلك الأمر وقدره كما قال { وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً } .
قدر الله عليها الحمل بهذا المولود الصالح المنتظر ، حيث نفخ الملك في جيب درعها ، فنزلت النفخة حتى ولجت في الفرج فحملت بإذن الله .
فلما حملت شعرت بالضيق والحرج ، حيث إنها امرأة عفيفة ، ومن أسرة صالحة ، فماذا ستقول للناس ، وهل سيصدقونها ؟ إن الأمر كرب خطير ، ومصاب جسيم عليها ، لكنها بفضل دينها وصلاحها ، أسلمت أمرها لقضاء الله ، واحتملت ما حصل لها ، وإن كانت تتمنى لو أنها ماتت قبل أن يجري الذي جرى ، قال تعالى : { فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَنْسِيّاً } [ مريم : 22 - 23 ] .
حصل الحمل لها ، وقد اختلف هل حملت كسائر النساء تسعة أشهر ؟
قال بعضهم : حملت ووضعت مباشرة .
والذي عليه الجمهور : إنها حملت كسائر النساء وهذا أبلغ في الفتن والبلاء .
وهو ما صوبه ابن كثير في التفسير .
والأخبار تدل على أن مخايل الحمل ظهرت عليها ومن ذلك اتهام الناس لها برجل صالح كان يخدم معها اسمه (يوسف النجار) وسألها : (هل يكون شجر من غير حب ، وزرع من غير بذر) .(1/48)
ولما حصلت التهمة لها خرجت هاربة من قومها مكاناً قاصياً بعيداً ، ثم لما وصلت جذع نخلة بالية ضربها المخاض وأصابها ، قيل في قرية تسمى (بيت لحم) ، وهناك اشتد الكرب عليها ، وحزنت حزناً شديداً ، وقالت : { يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَنْسِيّاً } أي ليتني مت قبل هذه المصيبة ، ولم أطلق ، ولم أخلق ولم أُعرف وفيه جواز تمني الموت خشية الفتنة .
حينئذ جاءها الفرج من الله { فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنْ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً } [ مريم : 24 - 26 ] . جاءها الملك فناداها لا تحزني ولا تيئسي إن الله قد جعل لكي سريا وهو الجدول من الماء قيل هو بالسريانية والنهر الصغير .
وهزي بجذع النخلة تساقط عليكي رطباً جنيا أي ثمراً عجوة من النخلة .
(صَوْماً) صمتاً ، كان من شريعتهم الصوم عن الأكل والكلام .
وضعته وطعمت من النهر والتمر ، ثم أخذته وحملته إلى قومها ، وأرشدها الله أن لا تكلم أحداً يسألها في طريق ، فلما وصلت إلى قومها { قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً } [ مريم : 27 ] . أي عظيماً { يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً } [ مريم : 27 ] .
لم تتكلم ، وعقد الحياء لسانها ، فالتزمت الصمت .
وأشارت إلى المولود الصغير ، هو سيخبركم وسيحدثكم ما الخطب ؟!!
{ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً } [ مريم : 29 ] .(1/49)
فانطلق الصغير يتكلم بكل وضوع وفصاحة لم يدفع التهمة عن أمه ، لكن أخبر أن الله جعله نبياً وآتاه الحكمة والكتاب { قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً } [ مريم : 30 - 33 ] .
فهذه الكلمات العظيمات من عيسى حوت مسائل :
إثبات العبودية لله .
اصطفاء الله له بالكتاب وجعله نبياً .
إحاطته بالبركة أينما كان وقيل معناها : كان نفاعاً للناس .
أهمية الصلاة والزكاة .
وفاؤه لوالدته بالبر والإحسان { وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً } أي مستكبراً عن عبادته ويحتمل تعلقها بالبر قال بعض السلف : (لا تجد عاقاً لوالديه إلا وجدته جباراً شقياً) .
إخباره بأنه عبد مخلوق خلقه الله ، وسيحيا ويموت ويبعث كسائر الخلائق .
كان المنظر مهولاً ، والموقف عجيباً ، بهَر العقول ، وخطَف الأفئدة ، بقوله ومقاله ، فاختلف الناس فيه ، ما هذا الغلام وما قصته ، وهل وهو دليل كاف لبراءة
أمه مريم .
قال الله تعالى { ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ } [ مريم : 34 - 36 ] .
ثم ذكر الله أن أهل الكتاب اختلفوا في أمره { فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [ مريم : 37 ] .
اختلفوا فيه على طوائف :
طائفة قالت : ولد زنا وكلامه سحر وهؤلاء جمهور اليهود عليهم لعائن الله .
إنما تكلم الله .(1/50)
هو ابن الله .
ثالث ثلاثة .
هو عبد الله ورسوله ، وهذا مسلك أهل الإيمان .
لأن الله لا يعجزه في خلقه شيء ، ولا يجوز في حقه الزوجة والولد سبحانه وتعالى . كما قال { مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَداً } .
فوائد القصة :
فضل مريم عليها السلام ، واصطفاء الله لها وهذا صح في الحديث (كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وآسيا امرأة فرعون) .
إثبات البلاء في هذه الحياة ، وأن المؤمن يُبتلى على قدر دينه .
إن الله لا يُقدِّر للمؤمنين إلا خيراً ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (عجباً لأمر المؤمن أن أمره كله له خير) .
تبرئة الله عن الصاحبة والولد وأن ذلك محال في حقه .
براءة مريم من التهمة التي ألحقها بلها الجهلة .
أن البيئة الطيبة لا يخرج منها إلا طيباً { يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً } .
حرمة الزنا في الشرائع السابقة .
إسباغ الرزق على أهل الإيمان ، ورعايتي لعباده { وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً } .
إن مريم مثل عظيم في العفة والصلاح والتقوى .
إثبات عبودية عيسى لله تعالى { قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ } . وفي ذلك رد على النصارى من أدعياء التأليه والتثليث .
إن الله يحكم لا معقب لحكمه ، ويخلق ويأمر ولا راد لأمره .
اصطفاء الله لعيسى عليه السلام وجعله نبياً ، وجعله ممن يتكلم في المهد .
جواز تمني الموت لمن خشى الفتنة .
أهمية الماء والتمر للحامل .
فضيلة بر الوالدين .
أهمية الصلاة والزكاة .
إثبات البعث يوم القيامة .
اختلاف الناس في عيسى ، ولكن أهل الإيمان مقرين بعبوديته ، وأنه عبد الله ورسوله ولا إشكال في ذلك .
وغير هذه من الفوائد ، ونكمل القصة في الدرس القادم إن شاء الله
والله أعلم ،،
( 12 ) تابع _قصة عيسى عليه السلام(1/51)
نكمل بقية قصة عيسى عليه السلام حيث نذكر نبوته ، وخبر المائدة من السماء والنهاية التي آل إليها عيسى .
نشأ عيسى عليه السلام كما ينشأ أكثر الأطفال ، إلا أن بوادر فضله ، وعلامات نبوته بدأت تظهر للناس ، فحين يلعب مع أقرانه يخبرهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم .
وإذا حضر لمعلم القرية ، يصغى له بكل جد واهتمام ويعي ما يقوله بكل ذكاء وفطنة .
ثم إن أمه رحلت به إلى بيت المقدس ، وعمره 12 سنة ، وهناك اندمج مع الناس ، ورأى الكهنة ، وسمع حديثهم ، ورد عليهم شبهاتهم .
ثم حضر مجالس العلماء ، وانتفع بمجالستهم ، وخاض معهم بالسؤال والبحث والمناقشة حتى نسى دنياه ، وغفل عن طعامه ولباسه .
فغاب عن أمه مدة ، فخافت عليه ، فصارت تبحث في كل مكان ، ولا حس ولا خبر ثم عادت إلى منزلها وقد يئست من العثور عليه .
ولما عيت من البحث ظنت أنه قد رجع مع بعض أقاربه أو سافر به بعض أهل بلده فعادت إلى القرية تبحث وتسأل فلم تجده .
ثم عادت مرة أخرى إلى (بيت المقدس) ، وهي جادة في البحث مرة أخرى ، حتى وصلت لمقام العلماء فوقعت عيناها عليه ، فإذا هو لصيق العلماء يحاورهم ، ويجادلهم ، فاندهشت لما رأته ، وأنبته لغيابه عنها .
ثم سارت به أمه إلى بلدة (الناصرة) وهي الموضع التي نشأ بها .
ولما بلغ الثلاثين من عمره ، هبط عليه الروح الأمين ، فكان ذلك بدء رسالته ، فأتاه الله الكتاب والحكمة ، وبدأ بالدعوة يخبر الناس برسالته ، ويدعوهم إلى متابعته في ظل وجود جماعات من (اليهود) طغوا وانغمسوا في الضلالة .
حيث حرفوا شريعة موسى .
وانصرفوا لجمع المال .
تحريض الفقراء لتقديم النذور للهيكل .
ومن اليهود طائفة تنكر القيامة ، وتستبعد الحشر .
وطائفة ألهتهم الدنيا ، وانغمسوا في لذائذها فأرسله الله تعالى بالدعوة ليخرج الناس من هذه الضلالات وتلك الانحرافات إلى هدى الرحمن .(1/52)
فأخذ في النصح والتذكير ، بين فساد اليهود ، وفساد قادتهم الذين ينهبون أموال الناس ، ويستهترون بالدين .
عندئذ أحس (رجال الدين) بأن الخطر يداهمهم ، وأن عيسى سيعكر عليهم حياتهم بما يدعو إليه .
فاتفقوا على مناوأته ومحاربته .. ومع ذلك لم يبال بهم بل :
صمد بكل جرأة وشجاعة .
وتنقل في الأرياف يفنِّد زيفهم .
ويشيع رسالته .
فأيده الله تعالى بمعجزات باهرة منها :
إنه يخلق من الطين كهيئة الطير منتفخ فيه ويبريء الأكمه والأعمى والأبرص ، ويحيي الموتى ، كما ذكر الله ذلك في القرآن : { وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنْ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ } [ آل عمران : 48 - 51 ] .
ذكر أهل التفسير أن قوم عيسى برعوا في الطب ، فناسب أن تكون المعجزة من صميم ما برعوا فيه . فأيده الله بهذه الآيات ، وأيضاً نسخ بعض شريعة موسى .
ومع هذه الآيات والبراهين ، لم يؤمن به إلا القليل وكذبه كثيرون ، واسكتبر اليهود ورجال الدين ، قال تعالى : { فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمْ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ } [ آل عمران : 52 ] .(1/53)
أي لما استشعر منهم التصميم على الكفر قال من أنصاري إلى الله ، أي من يتبعني إلى الله بالدعوة والعمل ، فأجابه الحواريون : { قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } [ آل عمران : 52 – 53 ] .
ثم خرج عيسى عليه السلام داعياً إلى الله ينتقل من مكان إلى آخر وهؤلاء الحواريون معه ، يتحملون وعثاء السفر ، وشدائد الطريق فتشاوروا فيما بينهم ، وقد ألم بهم حاجة وفقر .
فقالوا لعيسى ادع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء ، والمائدة هي : الخوان عليه طعام ، فأجابهم المسيح : إن اتقوا الله ولا تسألوا مثل هذا لئلا يكون فتنة لكم ، وتوكلوا على الله في طلب الرزق ، فذكروا له أنهم محتاجون ، وأيضاً تطمئن القلوب ونزداد إيماناً بك وبرسالتك .
فدعا عيسى ربه أن أنزل علينا مائدة ، وهي ما ذكره الله { إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنْ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنْ الشَّاهِدِينَ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنْ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنْ الْعَالَمِينَ } [ المائدة 112-115 ] .
وفي المائدة كلام كثير للسلف في وصفها وهيئتها وطريقة وصولها يطول جداً.(1/54)
وجابر عن مجاهد إنه لم ينزل شيء وإنما هو مثل ضربه الله .
أما ما انتهى عليه أمر عيسى ، فإن أعداءه من اليهود ضاقوا من وجوده فوشوا به إلى ملك ذلك الزمان ، أن هناك رجلاً يضل عن الله ، ويفسد الرعية ، ويصدهم عنك كما قال تعالى : { وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } [ آل عمران : 54 ] .
فحاصروه في بيته مع الحواريين ، فقال عيسى : من أيكم يُلقى عليه شبهي وهو رفيقي في الجنة ، فانتدب لذلك شاب منهم ، قيل إنه استصغره .
قال تعالى : { وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً } [ النساء : 157 - 158 ] .
وافترق أهل الكتاب ثلاث فرق :
كان الله بيننا ثم صعد إلى السماء .. وهذا قول اليعقوبيين .
كان بيننا ابن الله ، ثم رفعه الله وهم النسطوريون .
كان بيننا عبد الله ورسوله ما شاء الله وهؤلاء المسلمون ، فتظارت الكافرتان على المسلمة فقتلوها ، فلم يزل الإسلام طامساً حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم وهذا سند صحيح عن ابن عباس .
وهذا آخر درس ، وآخر قصة في هذا الشهر والله الموفق .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ،،
الفهرس
م ... الموضوع ... ص
1 ... لماذا قصص القرآن ؟! ... 2
2 ... قصة آدم عليه السلام أبو البشر ... 3
3 ... خبر ابني آدم ... 7
4 ... قصة نوح عليه السلام ... 10
5 ... قصة هود عليه السلام ... 15
6 ... قصة صالح عليه السلام ... 19
7 ... قصة شعيب عليه السلام (خطيب الأنبياء) ... 24
8 ... قصة أصحاب الجنة ... 29
9 ... قصة يونس عليه السلام ... 33
10 ... قصة أصحاب السبت ... 38(1/55)
11 ... قصة لوط عليه السلام ... 43
12 ... قصة عيسى عليه السلام ... 48
13 ... تابع - قصة عيسى عليه السلام ... 54(1/56)
الدرس الرمضاني ( 2 )
دروس 1426 هـ
تأليف
أبي يزن حمزة بن فايع الفتحي
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه ، كما يحب ربنا ويرضى ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وبعد :
فحياكم الله في ثاني ليلة من رمضان ، وكنا قد بدأنا معكم في رمضان الماضي 1425هـ كلمات مقتضيات في (القصص القرآني) وتحدثنا بتوفيق الله ومنته عن إحدى عشرة قصة ، تناولت حسب السرد القرآني ، مع بعض الزيادات التاريخية التي لا تضر بالسياق القرآني ، بل ربما جلت مجمله ، وأوضحت مشكله .
وكان لتلك القصص الأثر البارز ، والعاقبة الحميدة ، لأنها تنبع من الوحي الحق ويحكيها الله عز وجل ، وتبزغ من الكتاب المحكم ، والذي هو طلبة الصائمين في هذا الشهر .
فليس حديثنا عن القصة نوعاً من الترف العلمي ، أو الخروج الأبعد عن وظيفة هذا الشهر ، بل إننا في رمضان ، وفي عبادته القويمة ، وطاعته المتضاعفة ، وفي همم الصالحين ، وحياة العباد والمتقين ، ولعل هذه القصص تؤدي ثمارها في مستحقيها وقارئيها ، بعون الله وتوفيقه .
( 1 ) قصة الإفك
وهذه قصة عظيمة مليئة بالدروس والصبر ، أشار القرآن إلى أطرافها ، وكشف دوافعها دون الخوض في تفاصيلها ودقائقها ، ولكن تجدون وصفها الدقيق في كتب السنة والتاريخ وهي على كل حال ثابتة مخرجة في الصحيحين وغيرهما .
وحينما نسمع قوله تعالى { إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ } [ النور : 11 ] يتردد في ذهنك ، ما هو الإفك وما معناه .
والإفك في اللغة : الكذب والبهتان .
وملخص القصة :(2/1)
إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج لملاقاة بني المصطلق حيث بلغه أنهم يجمون لحربه ، وكان إذا خرج أقرع بين نسائه ، فأيها خرج سهمها أخذها فخرجت القرعة على عائشة ، فانطلق لهدفه العسكري ، وهو تأديب بني المصطلق ، وذلك (سنة 6 هـ) فبلغ ديارهم ووصل إلى اسم ما ماء لهم يُقال له (المر يسيع) بالتصغير ، فلما علموا لمقدم جيش المسلمين تفرقوا وباغتهم رسول الله على مائهم في ديارهم وأحوالهم.
ثم قضى النبي صلى الله عليه وسلم من قتالهم ، وعاد ثم في عودته نزل في بعض المنازل ، فخرجت عائشة رضي الله عنها من هودجها ، فخرجت لبعض حاجتها ثم عادت ، فنظرت فليس منها عقدها ، وكأنه سقط منها ، فرجعت تبحث عنه ، وتأخرت ، وقام من يحرك هودجها وظنوا أنها فيه ، وذلك لخفة النساء ، تلك الفترة واندفع الجيش سائراً إلى المدينة .
ثم وصلت عائشة بعد انصرافهم ، فإذا المكان خال ، ليس فيه داع ولا مجيب ، فقعدت مكانها ، راجية أن يعودوا لأخذها ، فلما طال بها المقام غلبتها عيناها ونامت رضي الله عنها ، فلم تستيقظ إلا على قول صحابي – كان قد يحرس في أخريات الجيش وكان من طبعته النوم الكثير – (إنا لله وإنا إليه راجعون) .
وهو صفوان بن المعطل السلمي ، فلما رآها عرفها ، لأنه قد رآها قبل الحجاب قالت هي : (فحمرت وجهي ، وكان قد رآني قبل الحجاب فعرفني) ، فما كان منه بعد استرجاعه إلا أن قرب لها ناقته فركبتها ، ولم يكلمها كلمة واحدة ، ثم سار بها يقودها ، حتى أدرك الجيش فلما رآها الناس تكلم كل شخص حسب شاكلته ، ووجد الخبيث ابن سلول فرصة سانحة للحط من المقام النبوي ، وتحطيم الدعوة الإسلامية ، وضربها في العمق ضربة ، رآها هو أنها ستنزل عليها كالصاعقة ، تعكر صفوها ، وتلطخ خطابها، وتلحقها سوأة الدهر ، ولعنة التاريخ .(2/2)
وكان مما ذكرته كتب السيرة أن قال لما رأى المشهد (والله ما نجت منه ولا نجا منها) ، وفشت هذه المقالة في الناس ، وجعل الخبيث يستوسني الإفك ، ويشيعه ويفرقه في الناس وهو المعني بقوله تعالى : { وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ }
[ النور : 11 ] ومعنى قوله كبره : أي تولى معظمه ، وقام على نشره وإذاعته .
وصل الجيش المدينة ، والرسول يحسن الظن بزوجه ، وبالصحابي صفوان ولكن أرباب النفاق استعملوها للكيد والنيل من عرض رسول الله ، ودعوته .
ومن المؤسف انزلاق بعض الصحابة في ذلك نحو حمنة بنت جحش ومسطح وحسان رضي الله عنهم حيث خاضوا مع من خاض ، وقد عاتبهم القرآن في ذلك فقال { لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمْ الْكَاذِبُونَ }
[ النور : 12 - 13 ] .
نما الخبر إلى رسول الله ، فتألم كثيراً ، ولكن قاوم بصبره العميق ، وجلس منتظراً متأملاً ، وكان الإفك بلاء له ولزوجه ولأبي بكر وزوجه والدي عائشة رضي الله عنهم .
وعائشة حين وصولها المدينة ، لم تكن تعلم بما يقول الناس فيها حتى خرجت ذات يوم مع أم مسطح بن أثاثه فعثرت أم مسطح في مرطها ، فقالت : تعِسَ مسطح ، فقالت عائشة : بئس لعمري ما قلت لرجل شهد بدراً ، قالت : أو ما بلغك الخبر يا بنت أبي بكر ؟ قالت عائشة : وما الخبر ؟ فحدثتها بالإفك .
فوقعت عائشة في كرب شديد ، وجاءها الغم من كل مكان ، وأحاطتها الدموع والأحزان ، وعادت إلى بيتها ، لا تهنأ بنوم ، ولا يجف لها دموع ، وحدثت أمها فقالت لها كلمة حكيمة : (خففي عليكِ ، فوالله لقلما كانت امرأة وضيئة عند رجل يحبها ، ولها ضرََائر ، إلا أكثرن عليها) .(2/3)
مضى شهر ، وكان ذلك في شعبان ، ودخل رمضان والأمر لم ينقضي ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتاق لو ينزل الله قرآناً ، أو يرى رؤيا تكشف البلاء ومَن وراءه ؟!
فاستشار صحابته ، وسأل زينب بنت جحش وقالت : أحمي سمعي وبصري ، ما علمت عليها إلا خيراً .
قالت عائشة : (فعصمها الله بالورع) أي لم تخض كمن خاض .
واستشار غيرها من الصحابة .
ثم دخل صلى الله عليه وسلم على عائشة وعندها أبواها وهي تبكي ، فقال لها يا عائشة : (إن كنت قارفت سوءاً فتوبي إلى الله ، وإن كنتِ بريئة فسيبرئك الله) .
فالتفت إلى لوالديها ليجيبا رسول الله ، فلم يستطع أي واحد منهما الإجابة .
ثم قالت : (لقد علمت إنكم سمعتم ما يتحدث به الناس ووقر في نفسكم ذلك ، ولقد قلت لكم أني بريئة لا تصدقوني ووالله ما أجد لي ولكم مثلاً إلا قول والد يوسف
{ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } [ يوسف : 18 ] .
ثم اشتد الخطب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقام يستعذر من الناس أي يطلب النصرة على من آذاه فقال : (أيها الناس : من يعذرني من رجل بلغني آذاه في أهلي ، وما علمت على أهلي إلا خيرا) .
فتكلم أسيد بن حضر : أنا والله أعذرك منه ، إن كان من الأوس ضربنا عنقه ، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك .
فقام سعد بن عبادة : كذبت لعمر الله لا تقتله .
وكاد الحيان يقتتلان فخفضهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وقطع الفتنة بينهما .(2/4)
ثم في آخر الشهر غشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجاءه الوحي ، ثم سُري عنه ، وهو يضحك فكان أول من تكلم به (يا عائشة ، احمدي ربك فقد برأك الله) فقالت أمها : قومي إلى رسول الله ، فقالت : لا والله لا أقوم إليه ، ولا أحمد إلا الله تعالى ، ثم أنزل الله الآيات فيها { إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنْ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمْ الْكَاذِبُونَ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ يَعِظُكُمْ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } [ النور : 11 - 20 ] .(2/5)
وكانت تقول : (والله ما ظننت أن ينزل الله في شأني وحياً ، ولأنا أحقر في نفسي من أن يتكلم بالقرآن في أمري ، ولكني كنت أرجو أن يرى رسول الله في النوم رؤيا يبرئني الله) .
وخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس ، وتلا الآيات ، ثم نزل ، وجلد من قذف عائشة كحمنة ومسطح وحسان ، واختلف هل جلد ابن أبي ، في ذلك خلاف بين العلماء ، وكان أبو بكر قد منع مسطح النفقة ، لما علم أن تكلم في عائشة ، فأقسم ألا ينفق عيه ، فأنزل عليه معاتباً له : { وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ النور : 22 ] .
فقال أبو بكر : بل نحب أن يغفر الله لنا .
وهذا يدل على فقه أبي بكر ، وطيب نفسه ، ورجوعه إلى الحق ، وعفوه عمن ظلمه . وقد انشد بعضهم يقول :
فإن قدر الذنب من مسطحٍ……………
……………يحط قدر النجم من أفقهْ
وقد جرى منه الذي قد جرى ……………
……………وعوتب الصديق في حقهْ
هذا هو ملخص قصة الإفك ، التي أشار القرآن إلى شيء ، وساقها الله عبرة لأهل الإيمان ، وجعلها موعظة يتعظ بها كل ذي قلب وبصيرة ، وفيها فوائد مهمة منها:
أن هذه القصة تعتبر معركة كبيرة خاضها رسول الله وصحابته مع الأعداء .
فيها بيان صبره المتين صلى الله عليه وسلم الذي استطاع من خلاله كظم غيظه وتجاوز الوقيعة في مخاطر أشد وأغلظ .
تأكيد الابتلاء في حق رسول الله وأهل الإيمان .
بيان خطورة المنافقين على الدعوة واستنهازهم للمواقف الحرجة لتنفيذ أهدافهم.
فضل عائشة وإظهار شأنها ، وأن المحتة تكون في طيات المحن ، وكما قال تعالى { فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً } [النساء : 19].(2/6)
تحريم قذف المسلمين ، وأن فاعله مستحق للعقوبة ، وهي الجلد ثمانون جلدة .
تواضع عائشة حين صغرت من شأنها أن ينزل فيها آيات تبرئها .
فضل زينب رضي الله عنها حيث عصمها الله من الوقيعة بسبب دينها وورعها.
خبث طوية ابن سلول ، وبيان عدائه المستحكم للدعوة وأهلها .
هذه أشهر الفوائد والدروس من القصة ، وثمة مسائل وفوائد أخرى استوفاها
ابن حجر في الفتح وابن القيم في زاد المعاد ، وهي قصة جليلة خليقة بالتأمل والاعتبار، واستنباط المعاني والعظات .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد ،،
( 2 ) دولة سبأ
في هذا المساء يسعدنا أن نتكلم عن دولة عظيمة وعن حضارة منيفة ، امتازت بالملك العريض وبالقصور الشامخة ، حيث آتاها الله من صنوف العيش البهيج ، والرجاء الخصب ما لم تؤتاه أمه أو يحوزه بشر .
هذه الدولة حكى الله خبرها في القرآن ، فهي قصة قرآنية ، آياتها باهرة وأخبارها مثيرة ، قال تعالى : { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ } [ سبأ : 15 ] .
كانت مساكن سبأ في اليمن ، سبأ هذا رجل من آبائهم نسبوا إليه ، وقد متعهم الله بالمنن الكثيرة ، حيث بنى ملوكهم الأقادم سدوداً عديدة لحفظ الماء والانتفاع به ، ومن أشهر ما بنوه من السدود (سد مأرب) ، الذي امتاز بالمنعة والسعة ، فحفت به الجنات الياغة ، والبساتين الباهرة ، وازدهرت حياتهم بالخيرات ، والبركات ، كما قال :
{ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ } فكان حق هذه النعم والشكر والإنابة وليس الإعراض والاستعلاء .
ولكن للآسف !!
جاءتهم الرسل ، فكذبوا ، وأعرضوا ، واغتروا بزينة الحياة الدنيا ، وظنوا أنهم بأموالهم خالدين ، وبحضارتهم راسخين .(2/7)
فما لبثوا حتى سلط الله عليهم دُويبة صغيرة تسمى (الجُرَذ) نقبَت سدهم ، وسحقت جناتهم ، وخربت معاشهم ، كما قال تعالى : { فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ } [ سبأ : 16 ] .
ولما كان السدر أفضله قلله الله تعالى .
فتأملوا يا إخوان كيف تبددت هذه الجنات وكيف أفناها الله ، وجعلها شذر مذر بعد أن كانت شيئاً جميلاً ، ومنظراً خلاباً ، حتى إن المرأة كانت تدخل وعلى رأسها المِكتل ، فيمتلئ بالثمار المتساقطة دون عنت وكلفة ، حتى في أسفارهم ، كانوا لا ينزلون منزلاً إلا ويجدون الزاد والنماء ، فتمنوا خلاف ذلك فقالوا
{ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِي وَأَيَّاماً آمِنِينَ } [ سبأ : 18 ] . كانوا يسافرون من اليمن لبيت المقدس بلا زاد ولا ماء ، حيث نزلوا وجدوا الخير والرخاء ، لكن تمنوا المفاوز والمشاق بطراً !!
فقالوا : { فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ } [ سبأ : 19 ] .
وذهب ذلك الملك والتمكين ، وزالت تلك الحضارة ، وصاروا أحاديث يتحدث بهم الناس .
قال تعالى { ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ } [ سبأ : 17 ] ذهبت حضارتهم ، وتمزق شملهم ، قالوا : غسان هُرعت إلى الشام ، وأنمار إلى يثرب وخزاعة إلى مكة ، والأزد إلى عمان .
وفي هذه القصة من الدروس والعظات ما يبهر ويمتع ، ومن ذلك :
إن الإيمان ضمان البقاء ، وأن الكفر بوابة الدمار والزوال .(2/8)
بيان امتنان الله على عباده ، وأنه خلقهم ورزقهم وأسبغ عليهم النعم ليعبدوه ويشكروه ، وبعض الناس ينعم الله عليه بنعم كثيرة ، أموال وعقارات ومتاجر ، ثم لا يرى عابداً ومصلياً شاكراً .
خطورة الانغماس في الدنيا ونسيان ما أوجب الله على العباد .
وجوب شكران النعم ، والحذر من نكرانها وأن النكران طريق للزوال والفناء .
تعجيل العقوبة للظالمين والمكذبين ، إذا لم يتوبوا ، ويرجعوا إلى ربهم .
هوان الظالمين على الله حيث أهلكهم بما لا يتوقعون من صغار المخلوقات وجعل سبب نهايتهم بفعل الجرذ ، الذي دمّر خيرهم ، وخرب جناتهم .
( 3 ) قصة بني النضير
بنو النضير بطن من بطون اليهود الكائنة في المدينة المنورة . حكى الله علينا خبرهم في القرآن .
فإنك قد تسمع هذه الآية { هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنْ اللَّهِ فَأَتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ } [ الحشر : 2 ] .
فنتساءل عن المعنى هنا ومن يقصد القرآن ؟!
والمقصود هنا : هم يهود بني النضير ، الذي حاصرهم رسول الله حصاراً شديداً قيل ست ليال ، وقيل : خمس عشرة ليلة ، وحرق نخيلهم تشديداً عليهم .
وكان سبب الغزوة أنه خرج صلى الله عليه وسلم إليهم يطلبهم في دية الرجلين الذين قتلهم عمرو بن أمية الضهري خطئاً ، وكان ذلك يجب عليهم حسب بنود المعاهدة فقالوا : (تفضل يا أبا القاسم ، اجلس ها هنا حتى نقضي حاجتك) ، فجلس صلى الله عليه وسلم إلى جنب جدار ينتظرهم وكان معه طائفة من أصحابه .(2/9)
وجلس اليهود يتشاورون ، فتآمروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن هذه هي الفرصة السانحة ، فقالوا : أيكم يأخذ هذه الرحى ويصعد يلقيها على رأسه .. فقال عمرو بن جحاش أنا ، وحذرهم سلام بن مشكم : لا تفعلوا فوالله ليخبرن بما هممتم به ، وإنه لنقض العهد الذي بيننا وبينه ، ولكن لم يهتموا بكلام سيدهم .
فجاءه جبريل عليه السلام ، فأخبره بمكيدتهم فنهض ولم يشعر به أصحابه .
وما لبث حتى أرسل محمد بن مسلمة إلى بني النضير يقول لهم : (اخرجوا من المدينة ولا تساكنوني بها ، وقد أجّلتكم عشرا ، فمن وجدت بعد ذلك بها ضربت عنقه).
فارتعب اليهود ، وبدأوا التهيؤ للخروج لكن كتب إليهم رأس المنافين ابن سلول أن اثبتوا وتمنعوا ، ولا تخرجوا من دياركم فإن معي ألفين يدخلون معكم حصنكم ، فيموتون دونكم ، وهو ما عناه الله بقوله : { لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ } [ الحشر : 11 ] .
عنئدذ ، أحسوا بالثقة والتأييد ، وارتفعت معنوياتهم لمواجهة جيش المسلمين .
فبعث رئيسيهم حيي بن أخطب إلى رسول الله : (إنّا لا نخرج من ديارنا ، فاصنع ما بدالك) .
عندئذ شعر رسول الله بخطورة الحرب والمواجهة الداخلية مع هؤلاء ، وهو لم يسلم من عدوان العرب وتحرش الأعداء .
لكن ما أقدم عليه بنو النضير ، ولمشكلة بقائهم بعد التهديد ونقض العهد ، حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على مواجهتهم أياً كانت النتائج .
فانطلق هو وجنود الله المؤمنة ، وضرب عليهم الحصار ، وتحصن اليهود ، وبدأوا يرمون النبل والحجارة على المسلمين .
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمحاصرتهم ، وحرق النخل الذي هو مصدر عيشتهم ، وهذا نوع من المحاصرة الاقتصادية ، والإرهاب النفسي لهم .(2/10)
وفي ذلك يقول تعالى : { مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ } [ الحشر : 5 ] . فقالت قريظة : إنك تنهي عن الفساد، فما بالك تأمر بقطع الأشجار ؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية مؤيداً لفعل رسوله ، وأن بقاءها أو حرقها ، كله بإذن الله ورضاه .
قال ابن عمر كما في الصحيح : حرَّق رسول الله نخل بني النضير ، وقطع ، وهي البويرة .
وفي هذا قال حسان :
وهان على سراة بني لؤي ………
حريقٌ بالبويرة مستطيرُ
فأجابه أبو سفيان بن الحارث :
أدام الله ذلك من صنيع ... وحرق في جوانبها السعيرُ
ستعلم أينا منها بُنزهٍ ... وتعلم أي أرضنا نضيرُ
واشتد البلاء والتنكيل على بني النضير من كل مكان ، وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله ، فسلط عليهم الرعب ، ودبَّ فيهم الهلع واعتزلتهم قريظة ، وخانهم ابن سلول رأس المنافقين ، فشبه الله حالهم :
{ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ } [ الحشر : 16 ] .
عندها أرسلوا إلى رسول الله (نحن نخرج عن المدينة) فأخرجهم على أن لهم ما حملت الإبل إلا السلاح ، وحقن دماءهم .
فبدأوا بالرحيل يحملون أمتعتهم حتى إنهم كسروا أبواب البيوت كلها التي استحسنوها لحملها وكان المؤمنون يخربونها لكي يتسع القتال لهم مدة الحصار .
فهذا معنى قوله { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ } [ الحشر : 2 ].
ثم خرجوا مدحورين صاغرين إلى أذرعات الشام ، وهي أرض المحشر وهذا المراد بقوله { لأَوَّلِ الْحَشْرِ } .
قال تعالى { وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ } [ الحشر : 3 ] . والجلاء : هو خروجهم من المدينة إلى الشام .(2/11)
وبيّن تعالى سبب ذلك بقوله { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقَّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [ الحشر : 4 ] .
ثم بين تعالى بعد ذلك أحكام الفيء وكانت أموالهم فيئاً أفاء الله بها على رسوله ، حيث لم يحصل فيها قتال ولا مبارزة ، وإنما هزمهم الله بالرعب ، قال عمر كما في الصحيحين (كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يرجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب ، فكانت لرسول الله خالصة)
وقد وضعها رسول الله في المهاجرين الأوائل خاصة ، ولم يعط من الأنصار إلا أبا دجانة وسهل بن حنيف لفقرهما .
وكانت هذه الغزوة (سنة 4هـ) تناولتها كلها سورة الحشر حتى إن ابن عباس إذ سمع من يقول سورة الحشر قال : (قل سورة النضير) كما في صحيح البخاري .
وفي هذه القصة من الفوائد ما يلي :
بيان خطورة اليهود ، وما تنطوي عليه قلوبهم من الحقد على الدعوة وعلى صاحبها صلى الله عليه وسلم .
جواز كتابة العهود والمواثيق مع الأعداء ما لم يغدروا ، فإذا غدروا انقض عهدهم وأصبحوا محاربين .
جواز محاصرة الأعداء اقتصادياً ، والتضييق عليهم معيشياً كما صنع بحرق نخيلهم .
حفظ الله ورعايته لرسوله عليه الصلاة والسلام .
نصر الله لرسوله بالرعب والهلع المقذوف في قلوب الأعداء والمجرمين .
بيان أحكام الفيء ، وأن أموال بني النضير كانت مما أفاء الله على رسوله ، وقد جعلها في فقراء المهاجرين .
شناعة دور أعداء الداخل من المنافقين وأذنابهم .
كشف حيل اليود وأنهم لا يقاتلون إلا من وراء جدر ، كما قال تعالى : { لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ } [ الحشر : 14 ] .(2/12)
بيان تشتت اليهود والمنافقين ، وأنهم مختلفون غاية الاختلاف ، وذلك فرصة لأهل الإيمان .
والله تعالى أعلم ،،
( 4 ) أصحاب الفيل
هم من عناهم الله تعالى بقوله { أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ } [ الفيل : 1 - 5 ] .
وملخص خبر أصحاب الفيل : أن الحبشة استقلت بملك اليمن بعد سقوط دولة حمير وهلاك ذو نواس غريقاً في البحر ، وكان عامل النجاشي على اليمن أبرهة الأشرم الذي تنازع مع قائد آخر يدعي ارياط ، ثم آل الحكم إليه ، بعد أن غضب النجاشي من نزاعهما فاسترضى سيده النجاشي رغم أنه قال له : (إني سأبني لك كنيسة بأرض اليمن لم يُبن قبلها مثلها) .
وقيل : بل عز عليه أن يتدافع الناس من اليمن وغيرها إلى مكة ، وخشى على اضمحلال الدين المسيحي ، فأراد أن يبني شيئاً مضاهياً للكعبة ، يؤمه الناس من كل مكان ، فبنى كنيسة سمتها العرب (القليس) لارتفاعها لأن الناظر إليها تكاد تسقط قلنسوته عن رأسه من ارتفاع بنايتها ، وأراد هذا الأشرم أن يحول الناس من الكعبة إلى كنيسته في صنعاء اليمن ، ودعا الناس إلى ذلك ، فألم العرب هذا الصنيع ، وغاظهم أن يوجد مكان عظيم مقدس ينافس الكعبة في الشرف ، فقصدها رجل عربي من كنانة ليلاً، ودخلها وأحدث فيها .
فلما رأى السدنة ذلك أخبروا أبرهة ، وقالوا له : (إنما صنع هذا بعض قريش غضباً لبيتهم ، الذي ضاهيت هذا به) ، وقيل : بل فتية قرشيون أحدثوا فيها ناراً فاحترقت فماذا صنع الأشرم ؟!
غضب ، وأزبد وأرعد ، وأقسم ليسيرنَّ إلى مكة ، وليخبرنَّه كعبتها حجراً حجراً.
فجهز الخبيث جيشاً كبيراً عرموماً ، حتى يقهر من يعترض له ، وأخذ معه فيلاً عظيماً كبير الجثة ، لم ير مثله قط .(2/13)
طبعاً اصطحب الفيل لأجل نريد الإرهاب والإخافة ، والأهم لكي يستطيع هدم الكعبة ، فكانت الخطة أن تجعل السلاسل في الأركان ثم توضع في عنق الفيل ثم يزجر ليلقي الحائط جملة واحدة .
عندها سمعت العرب بعزيمة أبرهة الخطيرة على البيت وعلى عزهم وشرفهم ، فقرروا مجابهته وعدم الاستسلام ، فقاتلته عدة قبائل في طريقه ، لكنه انتصر عليهم .
وكان من آخرهم (ثقيف) فلما رأوه صانعوه لئلا يهدم بيتهم (اللات) فأكرمهم ، وبعثوا معه رجلاً يدعي (أبا رغال) بمثابة الدليل فسار الجيش ومعه الأفيال حتى بلغ موضع قرب مكة يسمى (المغمَّس) وفيه إبل ترعى للمكيين ، ومن ضمنها مائتا بعير لعبد المطلب ، جد النبي صلى الله عليه وسلم .
وفي أثناء ذلك كلم أبرهة بعض العرب أن يأتيه بأشرف رجل في مكة ، وأن يخبره أن الملك لم يجيء لقتالكم إلا أن تصدوه عن البيت .
فأخبر عبد المطلب بمراد أبرهة فقال : (والله ما نريد حربه ، ومالنا بذلك من طاقة هذا بيت الله الحرام ، وبيت خليله إبراهيم فإن يمنعه منه فهو بيته وحرمه ، وإن يخلي بينه وبينه فوالله ما عندنا رفع منه) .
فقال رسول أبرهه : فاذهب معي إليه فذهب عبد المطلب إلى أبرهه ، فلما رآه أجله ووقره ، وكان رجلاً جسيماً حسن المنظر .
ونزل الأشرم عن سريره ، وجلس على البساط .
فقال : ما حاجتك ؟
فقال : حاجتي أن يرد على الملك مائتي بعير أخذها رجالك .
فقال : قد زهدت فيك حين كلَّمتني ، تكلمني في مائتي بعير ، وتترك بيتاً هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه .
فقال عبد المطلب (أنا رب الإبل .. وإن للبيت رباً سيمنعه) .
فقال الخبيث : ما كان ليمتنع مني .
فقال : أنت وذاك .
ثم إنَّ عبد المطلب خاطب القرشيين أن يخرجوا من مكة ، ويتحصنوا برؤوس الجبال تخوفاً عليهم مما قد يحلّ بجيش أبرهة ، وعمد هو إلى باب الكعبة ، ومعه نفر يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجيشه .
وقال فيما اشتهر في كتب التاريخ :(2/14)
لا هُمَّ إن المرء .. يمنع ... رحلَه فامنع رِحالكْ
لا يعلبنَّ صليبُهم ... ومِحالهم أبداً مِحالكْ
فلما كان الغد ذهب أبرهه لما أراد ، وعزم عليه ، وتهيأ بجيشه وفيلته . ووجَّه الفيل الضخم لمكة ، فبرك الفيل ولم يحرك ساكناً .
فضربوه في رأسه ، وحركوه بكل شيء فأبى ، فوجهوه لليمن فسار راجعاً فأعادوه جهة مكة فبرك ، وكان كلما وجهوه لجهة تحرك وهرول ، إلا مكة ، فإنهم إذا وجّه استحسر وبرك ، ثم في أثناء ذلك ، سلط الله عليهم طيراً من البحر ، أمثال الخطاطيف والتلبسان مع كل طائر ثلاثة أحجار وهذه الحجارة أمثال الحمص ، لا يصيب أحد منهم إلا هلك .
وخرج الجيش المدجج مهزوماً مدحوراً فاراً ، يسألون عن نُقيل بن حبيب يدلهم الطريق وكان ممن اعترضهم فأسروه وجعل نفيل وهو على رأس الجبال يقول :
أين المفر والإله الطالبُ
والأشرم المغلوب ليس الغالبُ ؟!
وجعلوا يهلكون ويتساقطون ، وكان أبرهة يسقط عضواً عضواً ، حتى قدموا به صنعاء ، وهو مثل الفرخ ، وهلك هناك .
قال تعالى : { أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ
فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ
مَأْكُولٍ } .
والمعنى جعل كيدهم في ضلال أي ذهاب وإبطال وسلط عليهم جماعات من الطير مجتمعة وتحصيهم كحجارة من سجيل أي مكونة من حجر وطين مطبوخ .
وكانت الحجارة تدخل من أعلى الرجل وتخرج من دبره ، بكل قوة وصلابة فهلكوا جميعاً .
قال تعالى { فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ } ، وهو التبن ، أو القشرة على الحبة من مأكول البهائم ، ثم آل ملك اليمن إلى أهله ، إذ بعد هلاك أبرهة ، ورثة ابن يكسوم، ثم خرج سيف بن ذي زين الحميري إلى كسرى فاستعانه على الحبشة ، فأعانه فردّ ملك اليمن وجاءته وفود العرب للتهئنة .(2/15)
هذا ملخص قصة أصحاب الفيل ، وقد أنزل الله في خيرهم سورة صغيرة تُتلى في كتابه ، وفي هذا العام ولد النبي صلى الله عليه وسلم .
وأهم الفوائد والعبر من هذه القصة :
صيانة الله وحفظه لبيته الحرام وأن أي يد تطاله هي يد طاغية ، حقها البتر والإزالة.
بيان ما كان عليه أهل الجاهلية من تعظيم البيت ، واحترامه ، مع كونهم مشركين .
إقرار الجاهلين بتوحيد الربوبية .
تشريف الله للقرشيين بحماية بيته وهو شرف للعرب ، ولهذه البلاد خاصة .
من يغالب الله وشعائره يغلب ، ويخسأ ويندحر .
حقارة الغزاة المعتدين ، حيث أهلكهم الله بطير أبابيل أتت مجتمعة ، تحمل حجاة صغيرة .
أن لكل ظالم ومعتدٍ نهاية وخاتمة ، مهما طغا وتجبر ، فإنه هالك مدحور .
بيان قدرة الله العظيمة ، وعزته النافذة في كل مستعل جبار إذا تجاوز حده ، ونسى قدر نفسه .
عرف هذا العام بعام الفيل عند العرب ، وأرخ الناس به ، وفيه ولد سيد ولد آدم عليه السلام .
قبح النهاية التي آل إليها أصحاب الفيل { فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ } .
إن فيها نذارة لكل ظالم يحاول المساس بشعائر الله وحرماته .
( 5 ) ولادة موسى عليه السلام
موسى عليه السلام من أنبياء الله العظام ، وهو أحد أولي العزم من الرسل ، وقد امتلأت حياته بالأحداث الكبيرة ، وتكرر ذكره في القرآن مرات ومرات ، وسوف نتخير من تلك الأحداث ما تيسر :
فمنها أولاً : خبر ولادته
فقد كان مثيراً للدهشة ، ممتلئاً بالعبرة جدير بمن يقرأ القرآن ، ويحب القصص أنه سيتأمله ، ويتدبر فيه .
وقصة الولادة ذكرها الله في مطلع القصص بعد ما قال : { نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ }
[ القصص : 3 - 4 ] .(2/16)
كان من أمر فرعون الطاغية الجبار أنه استضعف بني إسرائيل ، وأعمل فيهم الإهانات والأذيات ، فقد كان يقتل أبناءهم ، ويستحي نساءهم .
والسبب في ذلك : إنه قد شاع في مملكة فرعون أن زوال ملكه وذهاب مجده على يد طفل من بني إسرائيل .
فوصل الخبر لفرعون فصار يقتل أبناء بني إسرائيل ويترك النساء للخدمة والإهانة .
فلما استمر القتل في بني إسرائيل ، خافت القبط أن يفنى بنو إسرائيل ، فتنتقل الأعمال والمهن إليهم ، فأسَّروا إلى فرعون أن اقتل عاماً ، واترك عاماً ، لأن النساء لن يقمن بأعمال الرجال ، فولد هارون عليه السلام في السنة التي تترك فيها الأولاد ، وولد موسى عليه السلام في العام الذي يُقتل فيه الأولاد حكمة من الله . وكان عند فرعون (جهاز رقابي)على ذلك مكون من موكلين وقوابل يدُرن على النساء ، يقيدن الحوامل فإذا ولدت جارية تركتها ، وإن ولدت ذكراً دخل الذباحون وذبحوا الطفل
قبحهم الله .
فلما حملت أم موسى لم يظهر عليها علامات الحمل ثم وضعته ، فلما وقع ذكراً خافت خوفاً شديداً ، وذعرت منه .. لماذا ؟!
لأنها ستعرف مصيره ، وكيف سيتركه جزارو فرعون ، الذين يقتلون الصبيان في سنة دون سنة .
فلما أحست بالألم الشديد والحزن ، وقد قذف في قلبها حبه ، ألقى الله في خلَدها ما ذكره في السورة : { وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ } [ القصص : 7 ].
إذن هنا عدة أمور :
قومي بالرضاعة .
عند الخوف عليه ارميه في البحر .
لا تخافي عليه ولا تحزني .
سنعيده إليكِ لتأنسي به .
وسنجعله من المرسلين بالدعوة .(2/17)
ومن تقدير الله أن دارها كان على حافة النيل ، فكانت ترضعه ، فإذا خافت ألقته في البحر في تابوت ، وربطت ذلك عندها وفي ذات مرة دخل عليها من خافت منه فألقت هذا الصندوق في البحر ، ونسيت أن تربطه عندها ، فطار الماء بالتابوت حتى وصل إلى قصر فرعون ، فرأته الجواري فاحتملوه ، وأدخلوه على زوج فرعون آسية بنت مزاحم ، وكانت امرأة صالحة ، فلما فتح الصندوق ، فإذا هو غلام صغير من أجمل ما خلق الله ، وأوقع الله في قلبها محبته ، وكان موسى كل من نظر إليه أحبه طبعاً وشرعاً.
علم الطاغية الخبيث بأمر هذا الغلام الذي حلَّ ضيفاً على القصر ، فأراد قتله خشية أن يكون إسرائيلياً ، فخاصمته زوجته وقالت قرة عين لي ولك لا تقتلوه ، كما قال تعالى : { فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ وَقَالَتْ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ } [ القصص : 8 - 9 ] .
يروى أنها لما قالت له : قرة عين لي ولك ، قال : أما لك فنعم ، وأما لي فلا ، فكان كذلك انتفعت به واتخذته ابناً لها ، وهداها الله بسببه ، وأشقى المجرم بسببه ، حيث ازداد كفراً وعدواناً .
أما أم موسى لما اختفى ابنها في البحر صار قلبها فارغاً من كل شيء عن الدنيا الا ابنها ، حتى كادت تفشي سره لولا تثبيت الله لها كما قال : { وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ }
[ القصص : 10 ] .
ثم إنها قالت لاخته الكبرى : قصيه تتبعي أثره ، انظري إلى أين حل مكانه ،(2/18)
{ وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ } [ القصص : 11 ] وكان الله قد حرم عليه المراضع تحريماً قدرياً ، حيث عاف كل المرضعات فقالت
{ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ } [ القصص : 12 ] . فشكّوا في أمرها ، فقالت : إنما ينصحون له رغبة في سرور الملك ، فذهبوا معها إلى بيت أمه ، فالتقم الصبي ثديها ، وأخبرت زوجة الملك ، وفرحت بذلك ، فأرسلت إليها أن تأتي لترضعه في القصر فاعتذرت بأن لها بعلاً وأولاداً ، لكن إن أحبت ارضعته في بيتها ، فأجابت امرأة فرعون ، وأجرت عليها الصلات ، ففرحت أم موسى فرحاً شديداً ، قال تعالى : { فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ } [القصص : 13].
أما فوائد القصة ما يلي :
بيان ما كان عليه من فرعون من البطش والإسراف في القتل ، وأذية بني إسرائيل .
فضل موسى عليه السلام ، وتشريفه بكثير من الخصال .
إذلال الله تعالى للظلمة ، مهما طغوا ، فقد أذل هذا الطاغية بهذا الغلام الصغير.
حفظ الله لعباده المؤمنين ، فقد حفظ موسى وأمه ، وهيأ لهم أسباب الحفظ والرعاية والصيانة .
بيان ما عليه الأم من الشفقة ، والعاطفة الجياشة تجاه أبنائها .
إن مع العسر يسرا ، وأن عاقبة فيه الصبر الفرج فقد صبرت أم موسى على البلاء .
جهل بني آدم لا سيما الظالمون بتصريف الله للأمور فقد جعل نهايتهم في هذا الغلام الذي اعتنوا به كما قال { وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ } .
فضل آسيا رحمها الله ، حيث دافعت عن الغلام الصغير ، وكان سبباً في هدايتها وإيمانها .
استنقاذ الله تعالى بها لبني إسرائيل من كبد هذا الظالم ، بنبوة موسى عليه السلام .(2/19)
تثبيت الله لعباده المؤمنين نحو ما حصل لأم موسى قال : { لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا } .
ونكتفي بهذا القدر والله الموفق ،،
( 6 ) نبوة موسى عليه السلام
وخروجه من مصر إلى مدين
قال تعالى : { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } [ القصص : 14 ] .
بعد أن تمت أمه رضاعته ، أسلمته لقصر فرعون ، وهناك ربا وترعرع حتى استوى واستقام ، فاصطفاه الله لرسالته ، وآتاه العلم والحكمة .
ثم في ذات يوم خرج إلى بعض شوارع المدينة فوجد فيها رجلين يقتتلان أحدهما من إسرائيل من شيعته والآخر قبطي ، فاستغاث به صاحبه من جماعته على الذي من عدوه ، فوكزه بعصا كانت معه ، وكان فيها موته ، فتألم موسى بما حصل فقال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل واستغفر الله ، وقرر أن لا يكون معيناً للظالمين .
قال تعالى : { وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ } [ القصص : 15 - 17 ] .
ثم في اليوم الآخر ، تكرر المشهد مع موسى عليه السلام ، وكان قد أصبح بعد ذلك خائفاً من جراء ما وقع بالأمس ، قال تعالى : { فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ } [ القصص : 18 ] .(2/20)
هذا الإسرائيلي يتنازع مع رجل آخر فلما رآه موسى قال له إنك لغوي مبين ، أي كثير الغواية ، ثم عزم موسى على صد الفرعوني ودفعه فظن الإسرائيلي لضعفه وخوره أن موسى يريده ، لا سيما وقد قال له وأنه { إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ } .
فقال الإسرائيلي : يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس ، وكان قول الإسرائيلي لموسى { فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْمُصْلِحِينَ } [ القصص : 19 ] .
فأخذها الفرعوني ، ونشرها بين الناس ، وأوصلها إلى فرعون وملئه ، فاشتد حنق فرعون ، وبحث عن موسى ليبطش به . خاف موسى ورُعب مما حصل .
وجاءه رجل من أقصى المدينة يسعى ، يخبره أن الملأ يريدون قتلك فاخرج إني لك من الناصحين . قال تعالى : { وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنْ النَّاصِحِينَ } [ القصص : 20 ] .
{ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } [ القصص : 21 ] ، أي خرج من مصر خائفاً يتلفت ، يحذر بطش فرعون ودولته ، ودعا الله أن ينجيه من الظالمين وكيدهم ، فقيل إن الله بعث إليه ملكاً على فرس فأرشده إلى الطريق.
خرج من مصر خائفاً ، ومسرعاً أن يصل إليه الأعادي ، وسار يسير بمفرده ليس له راع ، ولا مؤنس إلا الله تعالى ، حتى حطت به الأقدار في بلاد تسمى (مدين) بالشام تلقاء غزة .
وهي غير المدائن التي قرب بغداد ، وكانت تحت كسرى إلى أن جاء الفتح الإسلامي .
ويُقال إنه وصل إليها بعد ثماني ليال من المشي والتعب ، وقد مشى حافياً ، جائعاً حتى بان عليه الرهق والهزال .(2/21)
قال تعالى : { وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ
السَّبِيلِ } [ القصص : 22 ] .
وهناك في مدين ورد على بئر ماء يستقى منه الرعاة ، ووجد جماعة من الناس عليه ، ثم نظر في ذلك امرأتين منعزلتين تمنعنان غنمهما عن مخالطة غنم الناس ، فلما رآهما موسى عليه السلام ، رقَّ لحالهما ورحمهما وقال : ما خطبكما ؟! قالتا لا نشرع في سقي الغنم حتى ينتهي هؤلاء الناس ، وليس عندنا من رجل ، وأبونا شيخ كبير لا يستطيع العمل .
قال تعالى : { وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنْ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمْ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ } [ القصص : 1 ] .
وفي مصنف ابن أبي شيبة : أن البئر كان عليه صخرة كبيرة لا يحملها إلا عشرة من الرجال ، فجاء موسى فرفعها وسقى لهما .
ثم لما فرغ سرحهما ، وجلس تحت ظل شجرة ، وهو فقير كسير ، ليس له طعام إلا ورق الشجرة ، وقد قدمنا أنه جاء مسافراً على قدميه ، وقد جهُد وأُنهكت قواه وهناك دعا الله تعالى { فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } [ القصص : 24 ] .
بعد ذلك : عادت المرأتان إلى أبيهما في وقت مبكر على خلاف العادة ، فسألهما الأب ، فأخبرتاه الخبر .
وإن رجلاً صالحاً ، أحسن إليهما ، وسقى لهما مع الناس ، وآواهما وسرح غنمهما ، فبعث إحدى المرأتين لدعوته .
وتأمل الأخلاق النبيلة ، تجذب اهتمام الناس ، والناس معادن ، وأحب والد الفتاتين أن يتعرف حال هذا المحسن إلى بناته .(2/22)
قال تعالى : { فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } [ القصص : 25 ] .
أرسل الأب إحدى البنتين ، فجاءته تمشي على استحياء بكل أدب ووقار ، قد تسترت بحجابها ، قال عمر : (ليست بسلفعٍ من النساء ولاجة خراجه) .
فهذا أدبها الأول : إنها تتجه بكامل حيائها والأدب والآخر : دعته ناسية الشأن إلى أبيها (إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا) . لئلا يتوهم موسى ريبةً فيها .
والمعنى : والدي دعاني لإثابتك على ما فعلت لنا .
فجاء موسى إليه وذكر له قصته وما جرى له في مصر ، فقال الوالد : طِبْ نفساً ، وقر عيناً ، فقد خرجت من مملكتهم ، ولا حكم لهم عندنا .
ثم إن البنت التي دعت موسى اقترحت أمراً على أبيها ، { قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ } [ القصص : 26 ] . أي المهنة : رعي الغنم ، وفي ذلك تواضع الأنبياء .
طبعاً الأب استغرب ، وصفته بالأمانة وبالقوة ، وهما أجل ما ستصف به
العامل . القوة : بتحصيل القدرة والاحتمال ، والأمانة : ليتم الإتقان والحفظ والصيانة .
فقال الأب { إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَةَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ } [ القصص : 27 ] .
والمعنى : سأزوجك إحدى البنتين على أن ترعى غنمي ثمان سنوات وإن أكملت عشراً ، فهو فضل من عندك .
قال { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّالِحِينَ }
[ القصص : 27 ] .(2/23)
قال { قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } [ القصص : 28 ] .
قال : هذا عهد بيني وبينك أيهما قضيت فلا عدوان عليَّ .
وقد سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث أي الأجلين قضى موسى ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : (أتمهما وأكملهما) .
هذا باختصار خبر نبوة موسى عليه السلام وخروجه من مصر فراراً من بطش فرعون وملئه .
وفي هذه القصة من الفوائد :
فضل موسى عليه السلام حيث اصطفاه الله تعالى واختاره لرسالته .
تعاطف الإنسان لجماعته وشيعته والقيام على نصرهم .
وقوع الخطايا من الأنبياء .
وجوب التوبة والاستغفار عند مقارفة الذنوب كما حصل من موسى عليه السلام.
التحذير من إعانة الظالمين ونصرتهم ومظاهرتهم ، قال تعالى : { وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا
تُنصَرُونَ } [ هود : 113 ] .
عظم الدور المبذول من الرجل الصالح الذي جاء يسعى .
مشروعية العمل والسعي لنصرة الإسلام وحماية شعائره ودعاته .
ثبوت الابتلاء للمؤمنين ، وللأنبياء على الخصوص مع كرامتهم وفضلهم عند الله وفي الحديث (أشد الناس بلاء الأنبياء ، ثم الصالحون) .
مشروعية هجرة الداعية من مكان إلى آخر إذا أحس الخطر ، أو سُدّت في وجهه السبل .
بيان ما ينبغي أن تكون عليه المرأة من أدب وحياء .
فضل المرأتين الصالحتين ، اللتين تمتعا بالحياء والتصون من مخالطة الرجال.
حرمة الاختلاط بالرجال ، لا سيما ما يجر إلى التكشف ، وإذهاب حياء المرأة.
مشروعية رحمة المستضعفين ، ونصر المظلومين ، لا سيما النساء ، وفي الحديث (إني أحرِّج حق الضعيفين المرأة واليتيم) .
انجذاب الناس للأخلاق الفاضلة ، فالرجل الصالح سأل عن موسى وطلب ملاقاته .
مشروعية إثابة المحسن ورد الجميل .(2/24)
إن صوت المرأة ليس بعورة لكن بشرط أن لا تخضع فيه ، كما قال { فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً } [ الأحزاب : 32 ] .
جواز عرض الرجل ابنته على الرجل الصالح .
فراسة المرأة الصالحة حيث زكته أمام أبيها { إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ } حيث حمل الصخرة عن البئر مع هزاله وضعفه ، ولما بلغته الرسالة أخفض عينيه ، ولما دعته إلى أبيها مشى أمامها لئلا يرى منها شيئاً تكرهه .
فضل موسى حيث أوفى بأكمل الأجلين .
تواضع موسى حيث رعى الغنم وهو ديدن الأنبياء .
مشورعية استعفاف الدعاة عما في أيدي الناس بالعمل والاتجار .
وغيرها من الفوائد المهمة وهي كثيرة
نكتفي بهذا القدر والله الموفق
والهادي إلى سواء السبيل
( 7 ) عودة موسى إلى بلده
أتم موسى الأجل مع الرجل الصالح ورعى غنمه مدة عشر سنين وكان فيها خير عامل أمين ، وباذل كريم ، وكان الرجل الصالح قد أُعجب به وبأخلاقه الكريمة ، وقد صاهره ، وأصبح جليسه وسميره .
ولكن بعد تمام الأجل ، أخبر صهره بأنه عازم على الرجوع إلى بلده ، فأعطاه صهره أغناماً يرعى بها ، وكان رجوعه نوعاً من العاطفة الجياشة إلى الوطن والأهل والذكريات القديمة .
كما قيل :
وحبب أوطان الرجال إليهم
مجالسُ قضاها الشباب هنالكَ
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم
عهودَ الصبا فيها فحنوا لذلكَ
وفي الطريق حصلت لهما أمور عجيبة .
قال تعالى : { فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنْ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ } [ القصص : 29 ] .
عزم موسى على أن يدخل مصر خفية من فرعون وجنده ، سلك بأهله في ليلة مطيرة مظلمة ، وأراد أن يوقد ناراً فما استطاع .(2/25)
وفي أثناء ذلك آنس من جانب الطور ناراً ، رأى ناراً تضيء من مكان بعيد ، فقال لأهله امكثوا أني آنست ناراً لعلي آتيكم منها بخبر ، أو جذوة من النار لعلكم تصطلون .
يريد أخباراً في هذا الظلام الدامس ، وقد أضل الطريق ، ويمكن أن يأخذ قطعة من النار لكي يستدفئوا بها .
فلما وصل إلى تلك النار ، نؤدي أنني أنا الله رب العالمين .
وكانت النار في شجرة ، ونودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة .
موقف رهيب ، لا يرى أحداً ، ولا يحس بمخلوق ، ولكنه سمع صوتاً من ذلك المكان يقول : { إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ } [القصص : 30 - 31].
وفي موضع آخر من القرآن :
{ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى }
[ طه : 17 - 20 ] .
استجاب موسى لأمر ربه ، فألقاها فإذا هي حية كبيرة .
وفي القصص قال : { فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ }
[ القصص : 31 ] .
تحولت العصا التي يرعى بها الغنم ، إلى حية كبيرة وسريعة الحركة ، قوائمها وفمها متسع ، تُسمع أضراسها وهي تصطك ولا تمر بصخرة إلا ابتعلتها .
لما رأى موسى عليه السلام المشهد المهول ، خاف وارتعب ، فولى هارباً فناداه الله { يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنْ الآمِنِينَ } [ القصص : 31 ] .
وفي موضع آخر : { سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى } [ طه : 21 ] أي ترجع عصا كما كانت .
ثم قال الله تعالى له : { وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى } [ طه : 22 - 23 ] .
أني أدخلها تحت العضد ، تخرج بيضاء نقية ليس بها برص ولا أذى .(2/26)
ومن خلال هذه الآية عرف أنه لقى الله وسمع كلامه ، بعدها استقر قلبه ، وذهب عنه الخوف والوجل ، ثم أمره الله عقبها أنه سينطلق إلى من ؟ !
إلى الجبار الطاغية ، ملك مصر ، الذي تربى في قصره ، وفر منه كما قدمنا سالفاً ، قال : { اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى } [ طه : 24 ] .
فالآن أعطاه الله آيتين عظيمتين وسماهما برهانين قاطعين الحية واليد البيضاء ، حجة قاطعة إلى فرعون وملئه ، إنهم كانوا قوماً فاسقين ، عندها أحس موسى عليه السلام بالخوف وبخطورة المواجهة ، إذ كيف يرجع إلى بلد هرب منها ، وقد طلبوه لقتله وهو وإن تمنى رؤية بلده ، لكنه يخاف بطش الطاغية هناك ، فأيده الله بهذين البرهانين ليقوي عزمه ، ويشحذ همته .
ولم يجد بُداً من تلبية أمر الله ، وإجابة دعوته . لكن ذكر الله ما يختلج في نفسه من الذنب القديم { قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ } [ القصص : 33 - 34 ] .
انطلق موسى ، والهم يعتمل في نفسه فالتجأ بالدعوات إلى الله { قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً } [ طه : 25 - 35 ] .
فأجاب الله دعاءه : { قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى } [ طه : 36 ] .
ثبته الله ، وشرح صدره ، ويسر أمره وقواه ، وأحل عقدة من لسانه ، ودعمه بأخيه هارون يشاوره ، ويشد من أزره .(2/27)
وقد كان أخوه هارون في مصر ، التقاه هارون عند الطور ، وهناك التقيا وتشاورا ، وذهبا إلى فرعون مصر ، ليحصل اللقاء العظيم ، والمناظرة الكبرى .
وهذا ما سنعرفه في الدرس القادم .
أما فوائد هذه القصة ورجوعه إلى مصر وما حصل له من آيات في طريقه :
حنين النفوس مضطرةً إلى ديارها والشوق إلى مرابعها القديمة .
فضيلة موسى عليه السلام حيث خصه الله بهذه البراهين والآيات ، بكلامه وبذاته ، كما قال تعالى : { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً } [ النساء : 164 ] .
إثبات صفة الكلام لله تعالى ، وإن الله لم يزل متكلماً متى شاء ، كيفما شاء .
تأييد الله لموسى بالمعجزات ، فقد تحولت عصاه إلى حية تسعى وخرجت يده من تحته بيضاء ليس بها سقم ولا عيب .
أهمية المعجزات في تثبيت قلب الداعية .
إقامة الحجة على بني آدم بما يحصل من آيات مبينات لا ينكرها إلا جاحد أو مكابر .
سؤال الانشراح والتوفيق في المواقف العصيبة كما قال : { قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي } .
ضرورة دعوة الظالم ، وإيقاف ظلمه ، وإقامة الحجة عليه .
إن حمل العصا من سمات الأنبياء قبلنا { وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى } [ طه : 18 ] : الدفاع عن النفس ، صد كل آفة تريده ، إضفاء المهابة عليه ، يصلح بها طريقه ، ويحمل عليها متاعه .
( 8 ) اللقاء الرهيب ، والمناظرة الكبرى
وهذا خبر مهم في حياة موسى عليه السلام إذ بعد ما كلف الله موسى بالذهاب إلى فرعون ودعوته لم يجد فرصة للاعتذار فقد أيده الله بالآيات ، وأجاب دعاءه ، وشد أزره بأخيه هارون .
قال تعالى : { اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } [ طه : 43 - 44 ] .(2/28)
والمعنى : طغيان فرعون تعاظم ، وشره تكاثر فلابد من نصحه وموعظته ، ومع ذلك الشر والفساد الذي تحمله النفس الفرعونية قال الله لهما : { قَوْلاً لَيِّناً } . أي كلاماً سهلاً رقيقاً لطيفاً ، حتى يكون أوقع في نفسه ، وأبلغ في احتوائه والتأثير عليه .
عند ذلك { قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى } [ طه : 45 ] يعني أنه رجل جبار متوحش قد يعتدي ويبطش بنا ، فقال الله { قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } [ طه : 46 ] وهذه حماية ربانية ، ورعاية إلهية بالحفظ والأمان والكفاية من هذا الظالم فناصيته بيد الله ، وأمره ونهيه إلينا ، فلا يفعل إلا ما يقدره الله ويأذن به .
اجتمع موسى بهارون وانطلقا ينفذان أمر الله تعالى ، وصلا إلى باب القصر ، ومكثا عليه مدة ، قيل ظلا سنتين يغدوان ويروحان لا يعلم بهما ، ولا يجتريء أحد أن يخبره بشأنهما ، حتى دخل عليه بعض جلاسه وسماره فقال : أيها الملك إن على الباب رجلاً يقول قولاً عجباً ، يزعم أن له إلهاً غيرك أرسله إليك ، قال : ببابي ؟ قال : نعم . قال : أدخلوه ، فدخل ومعه هارون .
ويروى : أن موسى ذهب وضرب باب فرعون بعصاه ، فسمع فرعون فغضب، وقال : من يجتريء على هذا الصنيع الشديد ؟ فأخبره السدنة بأن ها هنا رجلاً مجنوناً يقول : إنه رسول الله ، فقال : عليَّ به ، فلما وقفا بين يديه قالا وقال لهما : ما ذكر الله في كتابه { قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى } [ طه : 47 ] .
طبعاً ، سلم على فرعون ، وجرى بينهما حوار ذكره الله في أكثر من سورة ، ففي طه قال : { إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى } [ طه : 47 ] .
وهنا عدة قضايا :
الأولى : أخبراه إنهم رسل الله .(2/29)
الثانية : أمراه أن يخلي سراح بني إسرائيل وأن يرفع عنهم سوط العذاب .
الثالثة : حملا إليه معجزة من الله .
الرابع : سلما عليه إن اتبع الهدى .
عند ذلك استنكر فرعون هذا الخطاب وتهكم وقال لموسى وقد عرفه { قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ } [ الشعراء : 18 ] .
يعني : نحن أحسنا إليك وعشت في مصرنا واستمتعت بخيراتنا .
فرد موسى : أتمن عليَّ ذلك وتعدها نعمة ، ومنشؤها استعبادك لبني إسرائيل .
قال فرعون : { وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنْ الْكَافِرِينَ } [ الشعراء : 19 ] ، أي الجاحدين .
فقال موسى : { فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنْ الضَّالِّينَ فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُرْسَلِينَ } [ الشعراء : 20 - 21 ] .
بعدها قال فرعون { فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى } [ طه : 49 ] ، يعني هذا الإله الذي بعثكما من هو ؟ ! فإني لا أعرفه وما علمت لكم من إله غيري .
فقال موسى : { قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } [ طه : 50 ] أي أعطاه ما يصلحه ، وقدر الأرزاق والآجال ، وهدى الخلائق إليه فلا يحيدون عنه .
ثم إن فرعون لما دمغه موسى بالألوهية ، ذهب يحتج بالقرون الأولى { قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى } [ طه : 51 ] أي الذين لم يعبدوا الله .
قال موسى : { عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى } [ طه : 52 ] . أي إن كان الأوائل لم يعبدوه ، فإن عملهم محفوظ ، وسيجزيهم بذلك في اللوح المحفوظ لا تفوته صغيرة ولا كبيرة ، ولا يعتريه الضلال ولا النسيان .(2/30)
ثم بدأ موسى عليه السلام يقرر عليه دلائل عبودية الله { الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى } [ طه : 53 ] .
قامت الحجة على فرعون الطاغية ، وأخرسه موسى بالبراهين القاطعة ، ولكن كما قال : { وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى } [ طه : 56 ] .
لكن مع زيادة عناده واستكباره قال في موضع آخر { إِنْ كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنتَ مِنْ الصَّادِقِينَ } [ الأعراف : 106 ] .
فألقى موسى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ، أي ظاهر وهو الذكر من الحيات الكبيرة اندفعت تجاه فرعون فطار من سريره ، واستغاث بموسى أن يكفه ففعل .
ولم يكتف بهذه المعجزة { وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ } [ الأعراف : 108 ] أي أخرجها من درعه ، فإذا هي بيضاء تتلألأ كأنها فلقة قمر ، ليس بها أذى ، جميلة للناظرين ، ثم أعادها إلى كُمه فعادت .
عند ذلك اشتد الكرب والحسرة على فرعون فقال : { إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ }
[ الأعراف : 109 ] . فأيده الملأ والحاشية معه { يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ } [ الأعراف : 110 ] .
فلما رأى الآيات وخشى العار والفضيحة { قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَاناً سُوًى } [ طه : 57 - 58 ] .
فهو لما رأى هذه الآيات عاند واستكبر وعدَّ موسى ساحراً ، فزعم ما دام عندك سحر ، فعندنا سحر مثله ، فليكن بيننا موعداً منصفا ، يتصف فيه كل شخص :(2/31)
فرد موسى : { قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى } [ طه : 59 ] . ويوم الزينة هو يوم عيدهم ، وتفرغ الناس من أعمالهم ، والوقت ضحى ، ليشهده الناس ، ويبين الحق ، كما أن النهار بين عندهم .
عند ذلك شرع فرعون في جمع السحرة في بلاده ، كما قال : { فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ } [ الشعراء : 53 ] . وقال : { فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى }
[ طه : 60 ] .
فحضر الناس للمشهد العظيم ، والمناظرة الكبرى ، وجلس فرعون على سرير الملك ، والحاشية حوله ، والسحرة وكبارهم ينتظرون ، فحضر موسى وأخوه هارون ومعه عصاه يتوكأ عليها فلما رأى السحرة وعظهم { وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنْ افْتَرَى } [ طه : 61 ] . يحذرهم أن لا يُخيلوا الناس بسحرهم أشياء لا حقيقة لها .
لكنهم لم يصغوا للموعظة . ورأوا المجابهة ، وطمعهم فرعون بالجائزة والزلفى إليه إن هم انتصروا عليه .
{ قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى } [ طه : 65 - 66 ] .
كما قال تعالى : { قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ } [ الأعراف : 116 ] .
والسبب أن هذا كذب ودجل ، ويُقال إنهم أودعوا العصي شيئاً من الزئبق فلفحتها الشمس ، فخيل إنها تتحرك ، وعندها خاف موسى أن تضعف حجته ، ويضعف الناس بسحر هؤلاء المجرمين ، فقال الله تعالى { قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى } [ طه : 68 - 69 ] .(2/32)
أمر الله موسى بإلقاء عصاه ، فصارت تنيناً عظيماً هائلاً ، ذا قوائم وعنق ورأس وأضراس ، فجعلت تبتلع تلك الحيات الكاذبة ، والناس ينظرون ، وكلهم ذهول وتعجب ، فوقع الحق ، وصدق البرهان ، فغلبوا هنالك ، وانقلبوا صاغرين { فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى } [ طه : 70 ] .
فغضب فرعون ، من إيمان السحرة { قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمْ الَّذِي عَلَّمَكُمْ السِّحْرَ فَلأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى } [ طه : 71 ] .
تأمل كيف لغة الخطاب ، وصورة العذاب المهين لهم { قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } [ طه : 72] .
آمن السحرة لما خالط الإيمان قلوبهم ، فقتلهم فرعون وانتهى حالهم إلى الشهادة قال بعض السلف (كانوا أول النهار سحرة فجرة ، وآخره شهداء بررة) .
وأشهر الفوائد من هذه القصة :
نشر اللين في الدعوة ، وإنه مفتاح التأثير ، لا سيما مع الظلمة والبغاة .
حفظ الله لعباده ودعاته المتوكلين عليه .
بيان أن السلام مع الكافرين (السلام على من اتبع الهدى) .
قوة حجة موسى على فرعون ، قبل مواجهة السحرة .
بطلان كيد الساحر ، وأن ما يأتي به إنما هي من الدجل والتلبيس .
مشروعية مناظرة أهل الباطل ، لمن قدر على ذلك ، وأنها من وسائل الدعوة .
أن للسحر حقيقة ، وإن كان فيه التلبيس والتخييل .
قوة البرهان الذي حمله موسى في المناظرة .
تثبيت الله للموحدين وقت الأزمات والشدائد .
هو أن سلطان الجهل والخرافة تجاه سلطان العلم والهدى .
( 9 ) أصحاب الكهف(2/33)
قصة قرآنية عظيمة ، ذكرها الله تعالى في سورة هي اسم لما يرمز إليهم .
وهي تحكي عن شباب فتية ، فروا بدينهم من شرك قومهم ، هداهم الله لتوحيده وجنبهم غوائل الشرك في زمانهم .
ورد في السيرة النبوية ما يشير إلى سبب إنزال الله تعالى هذه السورة ، أو حديثه عن هؤلاء الفتيان المؤمنين ، الذين آمنوا وزادهم ربهم هدى .
التقى بعض مشركي مكة بأحبار اليهود في المدينة فقالوا لهم : أنتم أهل الكتاب الأول فأخبرونا عن صاحبنا هذا .
فقالت اليهود : سلوه عن ثلاث ، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل ، وإلا فرجل متقوِّل ، سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ، ما كان من أمرهم ، فإنهم كان لهم حديث عجيب ، وسلوه عن رجل طوّاف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه ، وسلوه عن الروح ما هي ؟ فإن أخبركم فهو نبي فاتبعوه وإن لم يخبركم فإنه رجل متقول (أي مدعٍ كاذب) .
ثم جاء الوحي بعد انتظار أشفق منه رسول الله ، ويبين أن هؤلاء الفتية الذين ذهبوا في الدهر الأول هم أصحاب الكهف ، وبالفعل كان حديثهم عجيباً ، ومليئاً بالفائدة والاعتبار ، وهذا في عقولنا نحن كبشر .
لكن الله تعالى يقول : { أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً } [ الكهف : 9 ] أي ليس في أمرهم عجيباً في قدرتنا وسلطاننا ، فإن خلق السموات والأرض ، واختلاف الليل والنهار ، وتسيير الشمس والقمر والكواكب لأشد .
وملخص خبر أهل الكهف : أنهم كانوا من أبناء ملوك الروم ، وساداتهم ، وكان قوم أهل شرك ووثنية ، وكان لهم يوم عيد يجتمعون فيه في السنة ، يعبدون فيه الأصنام ويذبحون لها ، وكان لهم ملك جبار يحضهم على ذلك .
وفي يوم من تلك الأعياد خرج الناس كعادتهم وخرج أولئك الفتية مع آبائهم ، ونظروا بعين بصيرتهم إلى ما يصنعه قومهم ، فلم تقبله فطرهم ، ورأوا أن تلك العبادة لا تنبغي إلا لله تعالى وحده .(2/34)
فجعل كل واحد يحاول التفلت من العيد فانسحب واحد منهم ، وجلس تحت ظل شجرة ثم تبعه الآخر ، وآخر .. حتى اجتمعوا وهم رهط (فتية) .
فلما تقاربوا ، جعل كل واحد منهم يكتم أخاه سره خشية الأذى .
فقال أحدهم : (تعلمون والله يا قوم إنه ما أخرجكم من قومكم إلا شيء فليظهر كل منكم أمره فقال آخر : أما أنا ، فإني والله رأيت ما قومي عليه ، فعرفت إنه باطل وإنما الذي يستحق العبادة هو الله وحده) .
فقال الآخر : وأنا والله وقع لي كذلك .
وقال الآخر : مثل ذلك .
فاتفقت كلمتهم على توحيد الله ، وبغض ما قومهم عليه من الشرك والفساد .
كما قال تعالى : { وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً } [ الكهف : 14 ] ، يعني : كيف نعبد غير خالق السموات والأرض ، ولا يجوز أن يقع ذلك منا ، ولو وقع كان باطلاً ، وزيغاً عن الحق .
تعاقد الفتية على الإيمان والصبر ، ونبذ كل تهديدات قومهم ، كما قال :
{ هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً } [ الكهف : 15 ] .
مكث الفتية المؤمنون يعبدون الله ، واتخذوا مكاناً لهم لا يعلم بهم قومهم ، ثم بعد مدة ، انكشف أمرهم ، فاستدعاهم الملك ، فأجابوه بالحق ، وثبتهم الله ، كما قال :
{ وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ } .
ويقال : أن الملك أنذرهم ، وتهددهم ، وأمهلهم مدة ليرجعوا عن دينهم هذا ، وكان هذا من رحمة الله بهم ، حيث سنحت لهم فرصة الفرار بدينهم من بطش الظالم .
قال تعالى : { وَإِذْ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً } [ الكهف : 16 ] .(2/35)
فأرشدهم الله ، أنكم كما اعتزلتموهم بقلوبكم بدينكم ، ففارقوهم بأبدانكم ، لأن هؤلاء لن تنفع معهم الدعوة ، لا سيما وأنكم قليل ، وقد نابذوكم ، فقال : { فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ } .
فألهمهم الله تعالى (الكهف) – غارة في جبل .
وفي الكهف حصلت لهم خيرات :
نشر الله عليم من رحمته .
حفظهم من كيد قومهم .
أذهب عنهم الروع والخوف .
أمنوا على دينهم وأجسادهم .
ثم طلبهم قومهم مرة أخرى ليختبروهم فلم يجدوهم ، وعمّى الله عليه خبرهم ، كما عمى عن مشركي مكة موضع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وفي الكهف حصلت الآية العظيمة ، والمعجزة الكبيرة حيث أنامهم الله تعالى . النوم الطويل ، والمرقد العظيم ، كما قال : { فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً } [ الكهف : 11 ] .
ناموا شيئاً عجيباً ، ثلاثمائة سنة وتسع سنين .
وهم من قبلها لما ولجوا الكهف دعوا لله ؛ { رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً } [ الكهف : 10 ] . والمعنى : نسألك رحمة تسترنا بها من قومنا ، وتيسر في أمرنا هذا الرشد والخير ، إذن هذه الآية الأولى .
والثانية : ناموا أعينهم مفتحة ، وأجسادهم تتحرك ، وكان الله يقلبهم لئلا تبلى أجسادهم { وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ } [ الكهف : 18 ] .
الثالثة : ضرب الله عليهم المهابة والجلالة ، بحيث يخاف من رآهم كما قال تعالى : { لَوْ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً } [ الكهف : 18 ].
الرابعة : الشمس تدخل عليهم والريح كما قال { وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَتَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ } [ الكهف : 17 ] .(2/36)
بعد تلك المدة الطويلة ، بعثهم الله تعالى على حالاتهم ، لم يفقدوا شيئاً من صحتهم ، فتساءلوا : كم لبثتم ، قالوا : لبثنا يوماً أو بعض يوم ، ثم قالوا : ربكم أعلم بما لبثتم ، لكن أحسوا بالجوع فقالوا : ليذهب بعضكم إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاماً فليأتكم برزق منه ، أي : أطيب وأطهر ما يكون من الأطعمة .
{ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ
مِنْهُ } [ الكهف : 19 ]
وليحرص ألا يشعر به أحد { وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً } [ الكهف : 19 - 20] وهذا يدل على أن قومهم نابذوهم ، ومتى ظفروا بهم قتلوهم .
دخل رسول الفتية وجالب الطعام : فرأى المدينة قد تغيرت ، والديار تحولت ، وكأنه يدخل مكاناً جديداً غريباً . فقال : إن عهدي بهذه البلدة عشية أمس على غير هذه الصفة .
ذهب للبائع فناوله نقوداً ، أنكرها البائع ، فإذا هي من عهد الملك القديم من ثلاثة قرون ، فدفعها إلى جاره ، وجعل الناس يتدافعونها .
وقالوا : لعل هذا وجد كنزاً ، فسألوه ثم استدعى إلى ملك ذلك الزمان فحدثهم بخبره ، فشكوا فيه ، ثم ذهبوا إلى الكهف ، قيل : دخل الملك وسلم عليهم وعانقهم ، ثم ودعوه ، وناموا وقبض الله أرواحهم .
ثم أنهم تنازعوا في شأنهم { قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ(2/37)
مَسْجِداً } [ الكهف : 21 ] . وهذا محرم . ثم ذكر عدتهم { سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَاءً ظَاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً } [ الكهف : 22 ] . ولا فائدة من معرفة عددهم ، والمهم أنهم فتية ، وإن كان الأقرب إنهم سبعة وثامنهم كلبهم ، وقد حظي الكلب بشرف صحبة الصالحين ، فذكره الله معهم .
وأهم فوائد القصة :
أن العبد مفطور على عبادة الله وتوحيده .
أن العقول الزكية تأبى صرف العبادة لغير الله .
أن قصة الكهف من أعاجيب الأخبار التي توقظ البصائر ، وتزيد الإيمان .
إن في الكون أعجب منها لمن تأمل وتدبر .
الأرواح جنود مجندة .
إن الإيمان الصادق سبب للنجاة .
فضل الصالحين في الله ، والاجتماع على الخير ، حتى الكلب ذكره الله .
تأييد الصالحين بالكرامات ، المنام الطويل وعدم تلفهم وانفتاح عيونهم .
وجوب الفرار بالدين من الفتن .
الثبات على المبدأ ، وعدم التزحزح مهما كانت الظروف .
عدم الاعتزاز بالكثرة ، وإن القلة قد تكون مؤمنة راشدة .
إن عدتهم ما ينبغي أن تكون محل خلاف لأنها من فضول العلم .
حماية الله لعباده الصالحين ، وبسطه رحماته عليهم .
( 10 ) قصة يوسف عليه السلام
من أروع قصص القرآن الفريد ، وقد سماها تعالى { أَحْسَنَ الْقَصَصِ }
[ يوسف : 3 ] . وفي آخرها قال { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى } [ يوسف : 111 ] .
ولم تذكر قصة نبي بطولها في موضع واحد سوى هذه القصة ، ذكرت بأكملها واستغرقت كل أجزاء السورة . وهي غاصة بالفوائد والدروس ، وقد كتب الناس فيها كتابات كثيرة .(2/38)
روي أن الصحابة ملوا في بعض المرات فقالوا حدثنا يا رسول الله ، فأنزل الله { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً } [ الزمر : 23 ] .
ثم ملوا ملة أخرى ، فقالوا يا رسول الله حدثنا فوق الحديث ودون القرآن ، يعنون القصص ، فأنزل الله { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ } [ يوسف : 3 ] .
القصة تبدأ بشيء عجيب ، رؤيا يراها الطفل يوسف بن يعقوب عليهما السلام .
إيش رأى ؟! رأى مجموعة من الكواكب ساجدة له بما فيها الشمس والقمر .
فانشرح صدره ، وفرح بها ، وظهرت تباشيرها على محياه ، وأحب أن يشرك في الفرحة أباه ، فقصها عليه ، فأُعجب بها ، وبشره خيراً ، وقال له : يا بني إنها رؤية صادقة ، وإنها بشرى لك من الله ، سيخصك بعلم ، ويحبوك بنعمة يتمها عليك ، كما أتمها على آبائك من قبل .
ثم حذره أن يقصها على إخوته لئلا يحسدوه وقال : فقد عرفت غَيرتهم مما أخصك به وأخاك من رعاية ، قال تعالى : { إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ } [ يوسف : 4 - 5 ] .
ازداد تعلق يعقوب بيوسف وأخيه الآخر (بنيامين) لا سيما بعد هذه الرؤيا التي تدل على شرفه ومكانته ، لا سيما وإن دلالتها خضوع هؤلاء واعترافهم بفضله ، حيث تعبيرها أن الكواكب أخوته ، والشمس والقمر أبواه .
الإخوة الأحد عشر ميل أبيهم إلى يوسف { إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ } [ يوسف : 8 ] ، والمعنى كيف يحب اثنين ويغفل عن الجماعة . { إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ } [ يوسف : 8 ] إنه في خطأ بميله إلى هذين الاثنين .(2/39)
تنامت الغيرة عندهم ، وحركهم دار الحسد ، فتشاوروا لماذا يميل أبونا إلى يوسف ويهملنا ونحن القائمون على خدمته ، ورعاية شئونه .
فقال بعضهم : إن حبهما نبتت في قلبه كما نبتت في الراحتين الأصابع ، فاقترح بعضهم قتله والتخلص منه { اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوْ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ }
[ يوسف : 9 ] أي تخلوا أنتم بأبيكم { وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ } [ يوسف : 9 ] أي تتوبون عما بدر منكم .
وقال أحدهم : لا تقتلوه لكن ألقوه في البئر يأخذه بعض السيارة (أي المسافرين) فالقتل لا يقره دين ولا عقل { قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ } [ يوسف : 10 ] ، فاستحسنوا هذا الرأي وصوبوه ، وعزموا على تنفيذه ، ولكن كيف الوصول إليه ، ويعقوب لا يتركه لأحد ، ولا يسلو إلا به .
وفي الغد عزموا على الذهاب إلى أبيهم وقالوا : يا أبانا يوسف أخونا ، وبضعة منا فلماذا لا تتركه يذهب معنا ، يلعب ويركض ، ونحن نحميه ونحرسه ، كما قال تعالى : { قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ يوسف : 11 - 12 ] .
طبعاً يعقوب عزيز عليه فرقة يوسف وخاف المكروه فقال : لا أطيق أرى يوسف بعيداً عن قلبي ، وأخشى غفلة منكم فيأكله الذئب { قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ } [ يوسف : 13 ] . فردوا عليه :
{ قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخَاسِرُونَ } [ يوسف : 14 ] ، يعني : ألسنا رجالاً نحن ، إنا إذاً لعاجزون هالكون ، وألحوا وكرروا حتى اقتنع الوالد .(2/40)
في صباح الغد ، ذهبوا به ، وقد أجمعوا على وضعه في الجب ، { فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ } [ يوسف : 15 ] ، فمن حين فارقوه ، بدأوا بضربه وأذيته ، وفي تلك الحال أوحى الله إليه { وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ } [ يوسف : 15 ] ، يعني : سوف يأتي يوم تذكرهم بصنيعهم هذا ، وهذا لطف من الله بيوسف وتثبيت له في هذا الكرب .
وذهبوا لشرهم ومكيدتهم ، وجردوا يوسف من ثوبه ، ورموه في البئر ، وفرحوا بذلك ، وظنوا أنهم حققوا مقصودهم ، وأصابوا غايتهم .
لكن المشكل هنا الآن ، كيف يواجهون أباهم ؟ !
فجاءوا في الليل إلى أبيهم يبكون ، ويكذبون ، يا أبانا لقد وقع ما تخوفت ! ذهبنا نجري نتسابق ، فغدا الذئب على أخينا يوسف ، فهجم عليه وأكله ، ولا نملك إلا البكاء وهذا الحزن وهذا قميصه مضرج بدمه ، قال تعالى : { وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ } [ يوسف : 16 - 18 ] .
يعقوب شك فيهم ، وعرف خبث طويتهم ، وسوء نياتهم .
قال : { قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } [ يوسف : 18 ] .
يعني : سأصبر صبراً لا جزع فيه ، والله يعلم على ما تذكرون من الكذب والمحال ، لأن ثمة دلائل أنتم عصبة ، والقميص ليس مخروقاً ، لكن صبر واحتمل عليه السلام .
ونكتفي بهذا القدر هنا لضيق الوقت وأهم الدروس من هذا المقطع من القصة ما يلي :
جمال قصة يوسف وروعتها .
إثبات الابتلاءات في هذه الحياة .
انطواء النفس البشرية على الحسد ووجوده بين الإخوة .(2/41)
إن الهوى يحمل صاحبه على الكذب والحسد وسوء الظن .
فضل الرؤيا الصالحة في النوم .
عدم التحديث بالمرائي الحسنة عند الحسدة .
حفظ الله تعالى ليوسف عليه السلام وتثبيته وقت البلاء .
( 11 ) تابع قصة يوسف
أُلقى يوسف عليه السلام في الجُبّ ، وحيداً طريداً ، بلا ذنب ! ومِنْ مَنْ ؟! من إخوته ، يعاني الوحشة ، ويتحسس ظلمة ، ويحوطه الخوف والحزن من كل مكان ، وهذه من أولى المحن .
يُقال : مكث في الجُب محبوساً ثلاثة أيام ، وهناك رغم البلاء والغم والخوف ثبته الله وحلاّه بالصبر ، وأوحى إليه إنك ستظهر على إخوتك وستخبرهم بصنيعهم هذا { وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ } .
وفي مدة مكثه في البئر جاع وتلمظ الحزن ، ثم جاء الفرج إذ هو يسمع صوت أُناس قادمين تجاه البئر ، فاستبشر وانشرح وأن ساعة الفرج قد دنت .
عسى الكرب الذي أمسيت فيه …يكون وراءه فرج قريبُ
فيأمن خائف ويفك عانٍ …ويأتي أهله النائي الغريبُ
ما الذي حصل ؟! جاءت سيارة مسافرون وأرادوا التزود من الماء ، فألقى واحد منهم دلوه في البئر لينزع الماء ، فلما رماه إذا هذا الغلام الصغير ، قد تعلق بالدلو ، فانذهل حيث رأى غلاماً صغيراً من أجمل ما خلق الله كأنه فَلقة قمر ، فصاح في جماعته { يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ } [ يوسف : 19 ] ، يعني : يا سروري ويا فرحتي .
اجتمعت فيه هؤلاء ، واتفقوا أن يتخذوه غلاماً يبيعوه في مصر .
قيل : إن إخوته كانوا حول البئر يتربصون ماذا يحدث ، فلما أخرجه المسافرون طلع عليهم هؤلاء وقالوا : هذا غلامنا فرَّ منا ، فرفضوا أن يتركوه حتى يشتروه فلم يكن بُد من شرائه .(2/42)
ولذلك حقروا ثمنه ، وزهدوا فيه ، حيث باعوه ، قيل بعشرين درهماً ولم يكونوا حُرصَاء عليه ، كما قال : { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنْ الزَّاهِدِينَ } [ يوسف : 20 ] أي إخوته زهدوا فيه ، وحقروا ثمنه وشأنه .
ويوسف لم يستطع الكلام ، ويكشف أمره ، بل صبر حرصاً على النجاة والسلامة .
أخذه الركب المسافرون ، وانطلقوا به إلى مصر وهناك باعوه ، مع البضائع والرقيق ، وطيف به في الأسواق .
فقدر الله سبحانه وتعالى أن اشتراه عزيز مصر ، (وزير الخزانة المصرية) ، فلما جيء به إليه ، تفرَّس فيه ، ورأى من حُسنه وأدبه ، واكتمال خلقه ما دعاه أن يقول لزوجته : أكرمي مثواه ومأواه ، وحاشاك أن تزجريه زجر الخدم ، أو تضربيه ضرب العبيد ، فإني أرجو إذا كبر سنه ، واكتمل عوده أن ينفعنا أو نتخذه ولدا .
وهذا ما عناه الله بقوله { وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً } [ يوسف : 21 ] .
جاء ابن مسعود (أفرس الناس ثلاثة : عزيز مصر حين قال : أكرمي مثواه ، والمرأة التي قالت لأبيها : يا أبت استئجره ، وأبو بكر حين استخلف عمر) .
وما حصل هنا بارقة تمكين يوسف ، وظهوره حيث نجاه الله من كيد إخوته ، واحتواه هذا الرجل الفاضل الحكيم ، قال تعالى : { وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } [ يوسف : 21 ] .
فما أراده الله واقع ، ولا مانع لأمره ، لكن للأسف أكثر الخلق لا يدركون حكمته في خلقه .
مكث يوسف في دار العزيز مسروراً ، مرتاحاً ، وبدأ عمله في القصر بكل جد وأمانة .(2/43)
وإبان تلك المدة ، اصطفاه الله للنبوة ، كما قال : { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } [ يوسف : 22 ] .
ثم وهو ماضٍ في عمله في القصر ، وقد هدأت نفسه ، وسكنت روحه ، ابتُلي بمحنة أخرى جديدة ، وهذه الحياة حياة ابتلاء ، والله عز وجل له حكمة في ذلك ، والمحنة الآن ليست من إخوته وإنما من (سيدة القصر) ، زوج العزيز ، حيث بدأت تتعلق بهذا الشاب ، الذي أعطى مكانة جليلة في القصر ، وبدأت تراقبه ، وتلاحظه ، وقد جمله الله ، وآتاه شطر الحسن ، وبدأ حب يوسف يتنامى في قلبها ، لكن كلما همت تذكرت أنه غلامها ، وهي زوجة العزيز ، لكن تعاظم الأمر معها ، وبدأت تلمح ليوسف لكن لا يلتفت إليها ويعرض عنها .
لكن بلغ الهوى منها مبلغاً عظيماً ، وفي يوم من الأيام دعته إلى غرفتها الخاصة بها ولبست أبهى الملابس فتنة وقالت { هَيْتَ لَكَ } [ يوسف : 23 ] ، يعني : هيأت لك ، فقال : معاذ الله أن أجيبك وحاشاي أن أخون مولاي العزيز ، كما قال : { إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ } [ يوسف : 23 ] ، يعني : سيدي أكرمني في بيته ، وأسدل عليَّ نعمته ، ثم أغشه في أهله ، { إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } [ يوسف : 23 ] .
لكنها أصرت عليه ، وأغلقت الأبواب كلها فأبى وامتنع ، فأخذتها العزة بالإثم ، كيف فتى من فتياني لا يستجيب لطلبي ، وأنا في عزتي وكمالي ودلالي ، فقامت وراءه تبطش به ، ولم يكن أمامه إلا الفرار ، فهرب عليه السلام فجذبته من قميصه ، وكان وصل الباب ، فرآه العزيز ، وقد انشق قميصه ، فكان موقفاً مشبوهاً ، وموطن تهمة وارتياب .(2/44)
فمباشرة رجعت إلى كيدها قالت : إن يوسف لم يَرْعَ حرمتك ، وقد راودني عن نفسي { مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [يوسف : 25]. فيوسف عقَّب مباشرة بكل صدق وصراحة { قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي } [ يوسف: 26 ] وهذا قميصي شاهد على ذلك .
عند النزاع في ذلك { َشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا } [ يوسف : 26 ] ، قيل : رجل من خاصة الملك ، فقال : ننظر { إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنْ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنْ الصَّادِقِينَ } [ يوسف : 26 - 27 ] .
وبهذا الحل الذكي الحصيف ، انكشف الغبار وتجلت الحقيقة ، وسقط الزيف والبهتان ، ظهر الحق للعزيز ، وأدرك ما آلت به زوجته ، وأنها فُتنت بهذا الشاب وروادته عن نفسه .
وقال : إن هذا كيد النساء ، واستغفري لذنبك إنك كنتِ من الخاطئين ، وقال ليوسف : احفظ لسانك ، ولا تنشره في الناس { إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنْ الْخَاطِئِينَ } [ يوسف : 28 -29 ] .
بعد ذلك رغم حرص العزيز على عدم انتشار الخبر إلا أنه ذاع في القصر وتجاوزه إلى جنبات المدينة ، وايش الشائعة تقول : أن امرأة العزيز افتتنت بغلامها الفتى ، وذابت في حبه وغرامه ، { وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } [ يوسف : 30 ] .(2/45)
شاعت المقالة ، وأخذت ألواناً وأشكالاً حتى رنَّ ذلك في أذن امرأة العزيز ما يقول الناس منها ، فدعت صديقاتها من نساء المدينة ، وهيأت لهن متكئاً ، أي مفارش ووسائد ، وطعام من فاكهة { فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً } [ يوسف : 31 ] .
ثم أمرت يوسف { وَقَالَتْ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ } [ يوسف : 31 ] وانبهرن بحسنه وجماله ، فهو شاب لا كالشباب ، أيلح الغرة ، وضيء الطلعة ، حلو الملامح ، فاندهشن بالمشهد { وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ } [ يوسف : 31 ] .
فصفقت امرأة العزيز ، وكأنها فرِحت بذلك وقالت : { قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَ مِنَ الصَّاغِرِينَ } [ يوسف : 32 ] .
واعترفت لزميلاتها ، أنها أحبته ، وأنها أرادته على نفسها ، وأنها لا تطيق بعده أو غيابه (ومن الحب ما قتل) ، وأذلت نفسها له ، لكنه يستعصم ، وقد افتضح أمرها في الناس .
النسوة الحاضرات أصابهن الهيام ، وعز عليهن ما لاقت امرأة العزيز ، فبدأن الضغط على يوسف ، بكل أساليب النساء الجذابة ، لكن يوسف عليه السلام ، أعرض واستعصم وسأل الله الحفظ والتثبيت { قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ } [ يوسف : 33 ] .
وزدن في المراوغة والإغراء ، وهددته السيدة بالسجن ، لكنه أبى وامتنع فقامت إلى زوجها العزيز ، وقالت : (إن يوسف قد فضحني في أمري ، وافترى علىَّ في شرفي ، وما أرى إلا أن يُسجن) .(2/46)
وكان قد تبين للعزيز أن امرأته هي المراوِدة والنساء شاركنها الجريمة ، ولكن رأوا أن من المصلحة حفاظاً على القصر وسمعته أن يسجنوه ، قال تعالى : { ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوْا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ } [ يوسف : 35 ] .
باتت أدلة براءته ، والحالة المنحطة التي بلغتها المرأة ، وزميلاتها .. ولكن محنة وبلوى من الله ليوسف ، يجدد بها إيمانه ، ويهيئه لأمور عظيمة .
وأشهر الفوائد هنا :
أن الأنبياء أشد بلاء في الحياة .
أن المنة تكون في طيات المحن .
قبح الحسد وتغير قلب المسلم على إخوانه .
فراسة العزيز حيث تفاءل في يوسف الخير والنعماء .
عفة يوسف وتمنعه من الوقوع في الحرام .
حرمة الزنا في الشرائع ، وأنه من أقبح الذنوب { وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً } [ الإسراء : 32 ] .
تثبيت الله لعباده المؤمنين المخلصين .
فضل الإخلاص ، وإنه وقاية من السوء والمخاطر .
حفظ يوسف لأمانة العزيز ، وعدم خيانته في بيته وأهله { إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ } .
إيثار السجن والبلاء على الفاحشة والنعماء .
تساهل أرباب الزينة والدنيا في الخلوة بالشباب والخدم .
تصور وقوع الظلم من أهل الدنيا وعبيدها { ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوْا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ } .
( 12 ) تابع يوسف عليه السلام
دخل يوسف عليه السلام السجن مظلوماً ، صابراً ، مؤثراً السجن على كل مراتع الفحش والخنا ، والأماني التي دعته إليها امرأة العزيز وشاركت النسوة المحرضات على الفاحشة .
لكن سلم لأمر الله تعالى ، ووالله لحياة الضنك والشدة ، خير من حياة الترف والنعمة في ظل معصية الله وظلم النفس .
في السجن حصلت له (قصة عجيبة) ، حيث تعرف على مجتمع جديد ، وأخلاق جديدة ، وشارك الناس مصائبهم .
هناك التقى برجلين في السجن قيل : أحدُهما ساقي الملك ، والآخر خبّازه .(2/47)
السجينان لحظا صلاح يوسف ، وأمانته ، وحسن أدبه ، وكثرة ذكره وعبادته .
فماذا جرى ؟!
رأيا رؤيا ، كل واحد رأى رؤيا فأحب أن يعرف تفسيرها ، قال تعالى :
{ وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ }
[ يوسف : 36 ] .
إيش الرؤيا ؟
الأول : قال رأيت فيما رى النائم أني غرست جنة عنب فخرجت عناقيد ثم سقيتهن الملك .
والثاني : قال : كأني أحمل فوق رأسي خبزاً تأكل الطير منه .
طبعاً يوسف عليه السلام خبير بالمرأئي ، وهي تأويل الحديث الذي علمه الله إياه وهما رأيا حقيقة ، وسألاه ، التعبير لما رأوا من صلاحه ، وحسن سمته { إِنَّا نَرَاكَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ } ، بل إنهما أحباه وارتضياه .
وورد أنهما قالا : (والله لقد أحببناك حباً شديدأً زائداً ، فقال : بارك الله فيكما ، إنه ما أحبني أحد إلا دخل عليَّ من محبته ضرر ، أحبتني عمتي ، فدخل عليَّ الضرر بسببها ، وأحبني أبي فأوذيت بسببه ، وأحبتني امرأة العزيز ، فكذلك ، فقالا : والله ما نستطيع إلا ذلك) .
المهم يوسف عليه السلام سمع الرؤيا وأصغى لهما إصغاء العالم البصير ثم قال: { قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ } [ يوسف : 37 - 38 ] .(2/48)
أخبرهما إنه عارف بالتعبير ، ويخبرهم بالطعام ، وذكر لهما توحيده لله ، وسلوكه لطريق المرسلين ، وزاد يقول : { يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } [ يوسف : 39 - 40 ] .
ثم بعد هذه الموعظة التوحيدية ، عبر لهما ، قال للأول : تمكث في السجن ثلاثة أيام ، ثم تخرج فتسقي الملك خمرا { يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ
خَمْراً } [ يوسف : 41 ] . وأما الثاني فأخبره بأنه يُقتل ، ويصبح جثة هامدة ، تأكل منه الطير { وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ } [ يوسف : 41 ] .
لما سمع الرجلان التعبير ، قالا : ما رأينا شيئاً ، فقال : { قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ } [ يوسف : 41 ] .
فسمى الرؤية (فتوى) مما يدل على خطورتها وأنه ينبغي التدافع عن الجواب فيها كما يفعل بعض المعاصرين ، وزاد على ذلك الجزم ، وذكر التاريخ وهذا شيء مستغرب جداً !!
ثم إن يوسف عليه السلام قال للذي ظن أنه ناجٍ منهما ، اذكر شأني عند الملك ، وإني مظلوم ، أدخلت بغير جريمة { وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ } [ يوسف : 42 ] .
وخرج الرجل من السجن ، فأنساه الشيطان ذكر ربه أي الشيطان حرص أن يُنسي ذلك الناجي لماذا كانت العاقبة { فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ } [ يوسف : 42 ] .
لبث يوسف في السجن ابتلاءً من الله تعالى حتى قارب الفرج ، وحدث شيئ عظيم كان طليعة خروجه .(2/49)
والحدث : أن الملك رأى رؤيا أفزعته وأهمته .. ماذا تقول الرؤيا ؟
رأى الملك سبع بقرات سمان تأكلها سبع عجاف مهازيل ، وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات { وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ } [ يوسف : 43 ] .
أصبح في يومه مهتماً كثيراً ، فجمع رجال دولته ، وأشراف الناس ، بعضها عليهم { يَا أَيُّهَا الْمَلأ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَاي إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } [ يوسف : 43 ] .
هم ما عرفوا ، وليس منهم البصير بالمنامات ، فقالوا : خيالات وأوهام { قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلامِ بِعَالِمِينَ } [ يوسف : 44 ] .
ويحتمل أنهم خافوا منها وسمع الرؤيا (ساقي الملك) وهو الناجي من الرجلين ، فتذكر الرجل الصالح في السجن عالم الرؤيا والتعبير (يوسف) فسارع إلى الملك بقوله: أيها الملك إن بالسجن فتى كريماً ، صائب الفكر ، يكشف ودائع الغيوب بنور عقله ، فاذكر له رؤياك ، يأتيك بالخبر اليقين .
فانطلق الساقي إلى السجن { يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ } [ يوسف : 46 ] .
فلما سمعها يوسف ، ألهمه الله تعالى حسن الجواب فيها فقال : (إنكم تزرعون سبع سنين دأباً ، أي يأتيكم الخصب والمطر سبع سنين متواليات ففسر البقر بالسنين ، لأنها تثير الأرض ، التي يبرز منها الثمرات وهن السنبلات الخضر .(2/50)
ثم أرشدهم إلى أمر هام : وهو أن ما يحصدونه في السبع سنين ذروه في سنبله ليكون أبعد عن الفساد إلا ما تأكلون منه . { قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ } [ يوسف : 47 ] .
ثم تأتي سبع سنين عجاف ، شداد تجتاحكم إلا ما أحصنتم وحفظتم { ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ } [ يوسف : 48 ].
ثم بشرهم بالخير والرخاء بعام يأتي بعد السبع { ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ } [ يوسف : 49 ] .
ينزل المطر ، وتعم الخيرات ، وتكثر ، ويعصر الناس الزيت ونحوه .
رجع الناجي إلى الملك بالرؤيا وتعبيرها فاندهش منها ، وعرف أن هذا كلام لا يقوله إلا عقلٌ بصير وفِكر ملهم ، فطلب الملك ليسأله ويجربه ، ويفيد من رأيه وعلمه { وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ } [ يوسف : 50 ] ، جاءه رسول الملك وناداه : إن الملك يدعوك إلى حضرته ، لكن يوسف النبي الكريم الصبور ، رفض العرض أن يحضر حتى تظهر براءته ، كان سيخرج بعفو الملك ، ومحبته له ، لكنه قال : { قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ } [ يوسف: 50 ] .
ورفضُ يوسف الخروج أثنى عليه نبينا صلى الله عليه وسلم وقال : (ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأحببت الداعي) يثني على صبره وشدة احتماله .
المهم : استدعى الملك النسوة ومعهم امرأة العزيز فقال : { قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ } [ يوسف : 51 ] يذكرهم بيوم الضيافة .
فاعترفن أنه ليس بمتهم { قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ } [ يوسف : 51 ] .(2/51)
عندها نطقت امرأة وزيره العزيز بالحقيقة { الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ } [ يوسف : 51 - 52 ] .
ثم قالت : { وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ يوسف : 53 ] .
فها هي المرأة اعترفت بالحق ، وأن يوسف بريء لكنه نزوة شيطانية ، ومع ذلك ، فهي لم تخن زوجها بالغيب حيث لم يستجب يوسف لما طلبت منه الفاحشة .
وأثنت على يوسف خيراً ، وأكدت أنه سجين مظلوم ، وأنه زكي عفيف .. وكانت هذه الكلمات من امرأة العزيز إضافة إلى تعبير الرؤيا ، كافية لإخراج يوسف ، وإعلانه براءته للناس ، وأنه من أنقى الناس خلقاً ، وأزكاهم نفساً .
هذه المحاسن والأخلاق التي ظهرت عن يوسف الآن ، دعت الملك أن يستدعيه ويقربه ، ويجعله من خاصته وبطانته { وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي }
[ يوسف : 54 ] . مثلُ هؤلاء يقربون ، علم وبصيرة ، وأدب وأخلاق ، فحضر يوسف فأُعجب به الملك وقال له : { إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ } [ يوسف : 54 ] أي أصبحت ذا مكانة وشرف .
فطلب يوسف : { قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ }
[ يوسف : 55 ] . فأجابه إلى طلبه ، قال تعالى : { وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } [ يوسف : 56 - 57 ] .(2/52)
أي مكنا ليوسف ، وآتيناه من صنوف النعم والخيرات في هذه الحياة ، جزاء إيمانه وصبره ، نصيب برحمتنا من نشاء ، ومع ذلك ، فأجر الآخرة أعظم وهو خير من متاع الدنيا .
ونقف هنا ، ونبين أهم الدروس :
حسن شمائل يوسف في السجن { إِنَّا نَرَاكَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ } .
القيام بالدعوة في اللحظات الشديدة نحو السجن .
إن السجن ليس حائلاً عن الدعوة ، والتأثير في الناس .
خبرة يوسف ومكانته العلية بتعبير الرؤيا .
إن أول ما يدعى الله الخلق ، هو توحيد الله تعالى ، ونبذ كل ما يعبد من دونه .
إن عبادة الله وحده هي الدين القيم ، والمنهج السوي ، وما عداها انحراف واعوجاج .
إن تعبير المرائي جارٍ في إطار الظنية { وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ } وليس مسألة قطعية كما يتوهمه بعض الناس .
انجذاب الناس إلى من يكتشف أسرار الغيوب كالمعبرين والكهان .
ثبات يوسف وصبره ، ورفضه للخروج بمنة أو كرم حتى تثبت براءته الحقيقية.
اعتراف المرأة العزيز بالخطيئة ورجوعها إلى الحق ، وتزكيتها ليوسف .
جواز طلب الإمارة والمهمة ، لمن علم أهليته في ذلك .
والله تعالى أعلم ،،
( 13 ) تابع قصة يوسف عليه السلام
نكمل هذه الليلة ، سياقاً جديداً في قصة يوسف عليه السلام ، وقد مكنه الله في الأرض ، وجعله الملك على الخزائن المصرية أي يعني صار هو العزيز) .
وناسب أن يتقلد أمر معاش الناس وأرزاقهم لا سيما وأنه قد حذرهم من مغبة السنين القادمة العجاف .
استقبل يوسف السنوات السبع السمان إبان وزارته بكل حكمة وعقل ، حيث هيأ المخازن ، وملأ الغلات ، وأسبغ على الناس ، ومع حسن التدبير والتنظيم ، خشية مفاجأة السنوات العجاف .(2/53)
وبالفعل دخلت السنوات الشداد ، وقلت الأمطار ، وقحط الناس في مصر والبلدان ، لكن مصر استقبلت القحط بكل حيطة واستعداد بفضل الله ، ثم بحكمة يوسف وحسن تخطيطه ، حيث ادخر من الغلال ما يكفي حاجة الناس ، ويصونهم أيام الجوع والجدب .
تسامع الناس بذكر مصر ، وأنها رخية ، وكأنها لم يصبها القحط ، وأن فيها عزيزاً عادلاً وفاضلاً كريماً ، يوزع الحنطة بين الناس بميزان العدل والرحمة .
وصل الخبر إلى أرض فلسطين ، وفيها يعقوب عليه السلام وبنوه ، فقال يعقوب لأبنائه : إن الجدب عمنا فشدوا ركابكم ، واقصدوا هذا العزيز الذي حملت الركبان أخباره .
وبالفعل أجاب الأبناء دعوة أبيهم ، وانطلقوا إلى مصر كما قال تعالى : { وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ } [ يوسف : 58 ] .
دخل الحاجب على يوسف العزيز ، وقد صار في رئاسته ووجاهته ، وحوله الناس محل إجلال وإكرام ، وقال له : إن بالباب عشرة تتشابه معارفهم ، غرباء عن هذه الديار يستأذنون في الدخول عليك .
فأذن لهم يوسف بالدخول ، فإذا هم إخوته العشرة الذي غدروا به ، ورموه في البئر فعرفهم ، ولم يعرفوه ، واستبانهم وهم قد أنكروه مع طول المدة .
يوسف كان حكيماً رزيناً ، آواهم وأحسن ضيافتهم .
ثم قال لهم : من أنتم ؟ وما أقدمكم بلادي ؟
فقالوا : يا أيها العزيز قدمنا للميرة ، قال : لعلكم عيون ؟
قالوا : معاذ الله ، قال : فمن أين أنتم ؟ !
قالوا : من بلاد كنعان وأبونا يعقوب نبي الله .
قال : وله أولاد غيركم ؟
قالوا : نعم كنا اثني عشر فذهب أصغرنا هلك في البرية ، وكان أحبنا إلى أبيه ، وبقى شقيقه فاحتبسه أبوه ليتسلى به عنه .
فقال يوسف : لا قيمة لهذا القول عندي حتى تأتوا به أو شاهد ، فأقيموا عندي حتى يحضر بيتكم .
فقالوا : نحن غرباء ، وإنك تكلفنا محالاً ولكن التمس لنا مخرجاً عن هذا .(2/54)
فقال : إني سأجهزكم ، وأمدكم بالميرة الوفيرة على أن تعودوا ومعكم أخوكم الذي خلفتموه عند أبيكم ، ليكون شهيداً عليكم ، وسأضاعف إكرامكم ، وأزيدكم حمل بعير في غلاتكم ، هذا هو شرطي ، فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون .
قال تعالى : { وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلا تَقْرَبُونِ } [ يوسف : 59 - 60 ] .
{ قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ } [ يوسف : 61 ] يعني سنحاول في أبيه أن يرسله معنا ، وإن كنا نظن أنه لن يأذن بسفره ، ولا يصبر على فراقه .
ثم إنه ودعهم وخرجوا من عنده على الموعد لكن يوسف قبل ذلك صنع شيئاً عجيباً .. ماذا صنع ؟!
قال لخدمه وفتيانه ردوا عليهم بضاعتهم التي جاءوا بها ليمتاروا عوضاً عنها في رحالهم من غير ما يشعرون ، والسبب قيل : خشى أن لا يكون عندهم بضاعة يعاوضون بها أو خشى أن يأخذ من أبيه عوضاً وقيل لإحراجهم فيرجعوا إليه .
رجع الأخوة إلى أبيهم فقالوا : يا أبانا لقينا رجلاً عظيماً ، ووزيراً كريماً عرف فضلنا ، وأكرم وفادتنا ، ولكنه أخذ علينا عهداً وشرطاً ألا يكيل لنا من بعدُ حتى نأتيه بأخينا (بنيامين) ، يخبره بحقيقة حالنا ، إنه شك في أمرنا .
أبوهم رفض وأبى { قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ } [ يوسف : 64 ] . أي هل أنتم صانعون به إلا كما صنعتم بأخيه من قبل .(2/55)
بعد ذلك قلبوا بضاعتهم ورحالهم ، فإذا بضاعتهم التي جاءوا يشترون بها فقد ردت عليهم فعادوا إلى أبيهم مسرورين فرحين { قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ } [يوسف : 65].
إيش نريد وراء هذا ، ردت علينا بضاعتنا وأوفى لنا الكيل { وَنَمِيرُ أَهْلَنَا }
أي إذا أرسلت معنا أخانا نأتي بالميرة إلى أهلنا { ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ } أي يسير في مقابلة أخذ أخيهم .
ضغطوا على أبيهم فوافق بعد الموثق المتين والعهد المبين { قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِي مَوْثِقاً مِنْ اللَّهِ لَتَأْتُونَنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } [ يوسف : 66 ] .
ثم ذهبوا فرحين مسرورين وأعطاهم أخاهم معهم ، وقبل ذهابهم أمرهم أبوهم بأمر مهم وهو أنهم إذا وصلوا إلى العزيز لا يدخلوا من باب واحد وليدخلوا من أبواب متفرقة { وَقَالَ يَا بَنِي لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ }
[ يوسف : 67 ] . والسبب إنهم كانوا ذوي جمال وهيئة حسنة فخشى عليهم العين ، وهذه الآية أصل في إثبات العين ومشروعية التوقي منها .(2/56)
وصلوا ودخلوا كما أمرهم أبوهم ، والتقوا بيوسف فآوى إليه أخاه ، ورق له وحن عليه ، ولكن لم يظهر عواطفه ، ثم إن يوسف صنع لهم طعاماً ، فجلسوا مثنى مثنى ، وبقى بنيامين وحيداً فبكى ، وقال (لو كان أخي يوسف حياً لجلس معي) فأجلسه على مائدته ، ثم إنه بات عنده بنيامين فقال له : أتحب أن أكون أخاك الهالك ، فقال : من يجد أخاً مثلك ولكن لم يرك يعقوب ولا راجيل ، فبكى يوسف عليه السلام وقام إليه وعانقه ، وقال له : إني أنا أخوك الذي تنشده وتهتف باسمه فحينها قرَّت نفس بنيامين ، واستقرت روحه .
{ وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ يوسف : 69 ] .
بعد ذلك انقضت أيام الضيافة . ودبر يوسف لهم مكيدة ومكرا ، وأخبر أخاه بما سيصنع .. وماذا صنع لهم ؟!
قبل سفرهم وضع (صواع الملك) وهو إناء من الفضة يشرب منه ، ويكيل للناس به في متاع أخيه بنيامين ، ثم انصرفوا ، { فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ } [ يوسف : 70 ] .
وقت خروجهم { أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ } [ يوسف : 70 – 72 ] .
هذه خصاله من جاء به أعطيناه حمل بعير طعاماً .
اتهمهم الغلمان بالسرقة { قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنتُمْ كَاذِبِينَ قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ } [ يوسف : 73 – 75 ] .
قالوا : من وجد في متاعه فهو أسير عندكم عبد لكم ، هذا شرعنا ، ونحن على يقين من براءتنا .(2/57)
بدأ بأوعيتهم يفتشها وعاءً وعاء ، ثم فتش وعاء أخيه ، فوجد الصواع ، فرفعه أمامهم فدهشوا وأطرقوا رؤوسهم حياءً وخجلا .
{ فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } [ يوسف : 76 ] .
أي كدنا ليوسف وهذا من الكيد المحبوب والمعنى دبرنا وصنعنا له هذه الفعلة .
نتوقف هنا ، وفي هذا السياق من الفوائد ما يلي :
فطنة يوسف بادخار الأطعمة ، وحذقه بأحوال الناس ، ومعرفته لأخوته الذين لم يعرفوه .
حسن شمائل يوسف ، وتمام إدارته للأمور وتوفير ما يسمى الآن (بالأمن الغذائي) الذي يعينك في أيام المحن والكوارث .
مشروعية إكرام الضيف ، بإحسان وفادته وأن هذا خلق الأنبياء .
إثبات وجود العين وأنها حق ، ومشروعية التوقي منها .
جواز التوصل إلى الأغراض بالحيل إذا لم تخالف شريعة ، ولم تهدم أصلاً .
حسن المعاملة في البيع والشراء ، والتيسير على الناس أيام الشدائد .
تحريم السرقة وذمها في الشرائع السابقة .
إن كان في شريعتهم أن المسروق إذا ظفر بسارقه استرقه وملكه ، وفي مصر ضربه وتغريمه .
فضل يعقوب وأنه يعلم من الله حيث ؟؟؟؟؟ أسباب العين .
توالي النعم على يوسف بعد الشدة والكرب ومقاساة الحياة ، لما صبر واحتمل { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً } [ الشرح : 5 - 6 ] .
وغيرها من الفوائد المهمة
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه
( 14 ) تابع قصة يوسف عليه السلام
توقفنا في الدرس السابق عند استخراج يوسف عليه السلام السقاية من وعاء أخيه فخجل إخوته وخفضوا رؤوسهم حياء منه ، فقال لهم يوسف : عليكم بالشرط(2/58)
{ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ } [ يوسف : 75 ] . أي أن يملك المسروق السارق ويصبح أسيراً له .
ثم إنهم أرادوا أن يبرئوا أنفسهم فقالوا { قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ
مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ } [ يوسف : 77 ] .
يقصدون بذلك يوسف وأنه سرق في صباه ، والقصة تقول : إن عمة يوسف كانت عندها مِنطفة إسحاق ، وكانوا يتوارثونها بالكِبر ، وكان يوسف قد تربى عند عمته هذه ، وأحبته حباً شديداً ، فلما صار عمره 7 سنوات تاقت إليه نفس أبيه يعقوب ، فقال لها : سلمي إليَّ يوسف ، فإن نفسي قد تاقت إليه .
فقالت : دعه عندي أياماً حتى أنظر إليه ، فلما خرج يعقوب قامت إلى المنطفة فحزمتها على يوسف من تحت ثيابه ، ثم زعمت أنها فقدت المنطفة ، فانظروا من أخذها فوجودها عند يوسف ، فقالت : إنه لي أصنع به ما شئت .
وأخبر يعقوب الخبر فقال : إنت وذاك ، ولم يجد بُداً من تركه لعمته ، حيث أحبته وكانت لا تسلو إلا به ، فقالوا ذلك يشيرون إلى هذه القصة .
فقال يوسف في نفسه : { أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ } .
ثم إنهم بدأوا يستجدون العزيز يوسف { قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ } [ يوسف : 78 ] .
فقال : كيف نأخذ شخصاً لم يظلمنا ؟! إنما نأخذ من وجدنا متاعنا عنده ، حاولوا كرروا على يوسف ، لكنه أصر ومنع أن يأخذ عوضاً عن بنيامين .
لم إنهم لما يئيسوا { خَلَصُوا نَجِيّاً } انفردوا عن الناس يتشاورون ماذا يفعلون، وقد اعطوا أباهم الميثاق أن يرجعوا به .(2/59)
فقال كبيرهم : ألم تعطوا أباكم عهدا على أن ترجعوا به ، إن جرح يوسف لم يندمل ، وأن دموع عينيه لم تنقطع ثم قال : { فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ } [ يوسف : 80 ] .
ثم لا مناص { ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ } [ يوسف : 81 ] ، ذهب التسعة وبقى (هوذا) الذي عاهد أباه ، رجعوا إلى أبيهم ، وكاشفوه بالحقيقة يا أبانا وقع كيت وكيت ، وقد سرق بنيامين وصدقوه هذه المرة وقالوا : { وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ } [ يوسف : 81 ] أي ما علمنا في الغيب إنه سيسرق له شيئاً ، وإنما سألنا ما جزاء السارق ؟
وسل يا أبي القرية التي كنا فيها ، قيل هي مصر { وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } [ يوسف : 82 ] .
طبعاً يعقوب لم يتمالك نفسه ، ووقع الخبر عليه كالصاعقة هدت كيانه ، وأذهبت عقله فقال : ما صنعتم بأخيكم ، وما فعلتم بأيمانكم وقال : { بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } [ يوسف : 83 ].
ظن يعقوب أنها مكيدة جديدة ، كما فعلوا بيوسف فقال { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } .
ثم إنه تولى وأعرض عنهم وقال : { وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ } [ يوسف : 84 ] .
جدّد له حزن الآن الحزن الدفين وابيضت عيناه : ذهب سوادهما وعمي من شدة كثرة البكاء . وكظيم : كئيب .
مكث مدة يعقوب ، يبكي ويتألم حتى ضوى جسمه وانهد وابيضت عيناه .(2/60)
ومرة : سمعه أحد أبنائه يتوجع ويتلهف على يوسف ، فاستدعى أخوته لينظروا فلما سمعوه قالوا : { تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنْ الْهَالِكِينَ } [ يوسف : 85 ] .
الحرض : مرض المريض الموشك على الهلاك أو ضعيف القوة من أذابه هم أو مرض ، فقال : { إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ }
[ يوسف : 86 ] .
قالوا يشير إلى الرؤيا وأنها صدق حتماً سيلتقي بيوسف وسيلم الله الشمل .
ثم إن يعقوب ندب أبناءه للبحث عن يوسف وأخيه وقال : { يَا بَنِي اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ } [ يوسف : 87 ] .
فرج الله قريب ورحمته واسعة ، وبالفعل خرجوا يبحثون ، ورجعوا مصر إلى العزيز ، وهناك وقفوا موقف المنكسر المكروب ، والمفجوع المضيوم وقالوا : { يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ } [ يوسف : 88 ] .
جاءوه مرة أخرى في أيام جدب وقحط وسألوه أن يحسن عليهم ويتصدق حيث جاءوا بطعام رديء وقليل ، أو يمن عليهم بإطلاقه سراح أخيهم بنيامين .
عند ذلك رق يوسف لمصاب إخوته ، وتذكر ما ألم بأبيه من الأسى واللوعة على فقد أبنائه ، فقال لهم : { هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ }
[ يوسف : 89 ] . ذكرهم يوسف بما فعلوا به في الصغر ، وكيف احتالوا على أبيه وأخذوه وجروه وضربوه وقد توسل لهم فلم يرحموا ضعفه ، ولم يجبروا كسره ، وكيف أنهم غشيتهم غاشية الحسد ، وحاقت بهم آفة العداء ، حتى رموه في البئر بكل جفوة وقساوة .(2/61)
فتعجبوا كيف عرف دقائق ذلك ، ولم يعلم به أحد ، وبنيامين لا يعرف تفاصيل ذلك ، فبدأوا ينظرون في يوسف ، ويدققون فيه .
قيل : خلع التاج من على رأسه وكان في جبهته شامة عرفوه بها .
فقالوا : { أَئِنَّكَ لأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [ يوسف : 90 ] .
فقالوا : { تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ } [ يوسف : 91 ] اعترفوا بأن الله خضه بالفضل والشرف والسعة والملك . فقال : { لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } [ يوسف: 92 ] .
والمعنى لا تأنيب ولا عتب ، وارجو الله أن يستر عليكم ويتجاوز عنكم .
ثم قال لإخوته وهم عائدون : { اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ } [ يوسف : 93 ] .
يعقوب عليه السلام كان في صلاته ودعاته ثم يتذكر أبناءه فيبكي ، في هذه المرة أحس بانشراح في نفسه ، وإشراقة في قلبه ، فقال لأبنائه : { إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ } [ يوسف : 94 ] أي تنسبوني للفندَ والخرَف .
وذلك لما فصلت العير من مصر وهي حاملة القميص ، عند ذلك وجد الريح من مسيرة ثمانية أيام . ضاق الأبناء من كلام أبيهم { قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ } [ يوسف : 95 ] . أي حبك القديم ليوسف ، لا تنساه ولا تسلاه ، وهي كلمة غليظة في حق والدهم .
وصلت العير ، وكان حامل القميص يهوذا ، فألقاه على وجه أبيه فارتد بصيرا ، عاد إليه بصره بعد سنين طويلة .(2/62)
عندها ندم الأبناء ، واعتذروا لأبيهم { قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [ يوسف : 97 – 98 ] .
ثم هيأوا أمتعتهم ورحالهم للنقلة إلى مصر حيث العزيز { وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ } [ يوسف : 93 ] .
انطلقوا من فلسطين إلى مصر ، ولما علم يوسف ، فرح لاستقبالهم ، وخرج معه الملوك وأكابر الناس ، قال تعالى : { فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ } [ يوسف : 99 ] أي آمنين من القحط والجدب والعنت .
{ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً } [ يوسف : 100 ] أي أجلسهما على سرير الملك ، فسجد الجميع له إجلالاً ، وكان هذا جائزاً في شريعتهم { وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنْ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنْ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } [ يوسف : 100 ] .
فهذه هي الرؤيا ، تحققت بعد مدة طويلة قيل أربعون سنة عند ذلك وظهور النعم على يوسف مكنه الله تعالى ، وجمع له شمله ، وأسجدهم له .
دعا الله قائلاً : { رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنْ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ }
[ يوسف : 101 ] .
وهذا الدعاء العظيم اشتمل على عدة أمور :
الأولى : ذكر ما امتن الله عليه من الملك .
الثانية : ذكر منَّة الله عليه بتأويل الأحاديث .(2/63)
الثالثة : ثناء على الله بأنه فاطر السموات والأرض .
الرابعة : ذكر ولايته لله دنيا وآخرة .
الخامسة : الدعاء بأن يتوفاه الله مسلماً ويلحقه بالصالحين .
من فوائد القصة :
كظم الغيظ في أصعب اللحظات وأنه عمل عظيم .
لا تؤخذ أحد بجريمة الآخر { وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } [ الإسراء: 15 ].
شدة البلاء الواقع على أنبياء الله ورسله .
إن الشكوى لا تكون إلا لله تعالى .
ضرورة العمل في الحياة وعدم اليأس .
تعريف المخطئ بخطئه .
فضل العفو والسماح عن الناس .
اختصاص الله الفضل بمن شاء من عباده .
إن رجوع بصر يعقوب بقميص يوسف إنما عاد على وجه المعجزة .
انتقال بني إسرائيل يعقوب من فلسطين إلى مصر كان في عهد يوسف ، وهناك تكاثروا .
مشروعية الاستغفار عند الخطيئة .
مشروعية الإحسان إلى الوالدين وتكريمهم { وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ } .
مكانة يوسف الرفيعة ، حيث أسجد الله له أبويه وإخوته .
جواز السجود في شريعتهم ، وحرمته في شريعتنا .
إن أمد الرؤيا غير محدود ، قد يطول وقد يقصر ، وهنا ذكروا أربعين سنة .
حسن صبر يعقوب ، واحتماله لشدائد الحياة .
حسن أدب يوسف في المعاتبة { مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي }
وغيرها من الفوائد والله الموفق ،،
الفهرس
م ... الموضوع ... ص
1 ... قصة الإفك ... 2
2 ... دولة سبأ ... 7
3 ... قصة بني النضير ... 9
4 ... أصحاب الفيل ... 13
5 ... ولادة موسى عليه السلام ... 16
6 ... نبوة موسى عليه السلام وخروجه من مصر إلى مدين ... 21
7 ... عودة موسى إلى بلده ... 27
8 ... اللقاء الرهيب ، والمناظرة الكبرى ... 31
9 ... أصحاب الكهف ... 36
10 ... قصة يوسف عليه السلام ... 41
11 ... تابع يوسف عليه السلام ... 45
12 ... تابع يوسف عليه السلام ... 51
13 ... تابع يوسف عليه السلام ... 57
14 ... تابع يوسف عليه السلام ... 62(2/64)
الدرس الرمضاني ( 3 )
دروس 1427 هـ
تأليف
أبي يزن حمزة بن فايع الفتحي
( 1 ) قصة سبأ(1)
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد :
فحديثنا الليلة عن قصة عظيمة ذكرها الله تعالى في القرآن ، وهي قصة قوم سبأ لكن قبل الشروع فيها ، نهنئكم ببلوغ رمضان ونسأل الله أن يبارك لنا ولكم فيه ، ولأمتنا وأن يكون طريق مجدها وعزها ووحدتها .
أما قصة هذه الليلة فهي تدور حول (سبأ) وكنا قد انتهجنا من سنتين تقريباً في هذا الدرس أن يكون (درساً قرآنياً) ، وآثرنا اختيار قصص القرآن ، وما تحتويه من مواعظ وذِكَر وعجائب ، ويبقى درس العصر لأحكام الصيام وقضاياه .
يقول تعالى : { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ } [ سبأ : 15 ] .
وسبأ دولة في بلاد اليمن ، وسبأ من ملوكهم والآية التي عناها الله النعم والرخاء في البلاد واتساع الرزق ، حيث فسرها بعده { جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ } .
كانت تنزل الأمطار ، وتسيل السيول فلا يستفيدون منها فهُدوا إلى طريقة لحفظ الماء ، بناء السدود المختلفة وكان أقواها (سد مأرب) .
__________
(1) تكررت معي هذه القصة بدون قصد فأبقيتها كما هي .(3/1)
فصانوا الماء ، وغرسوا الزرع ، وجملوا البساتين ، فأنبتها الله نباتاً حسناً وبارك الله لهم في أرزاقهم ، وبعث إليهم رسله ، وأمرهم بعبادته ، لكنهم أعرضوا وكفروا ، وقد بين كفرهم في مكان آخر { وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ } [ النمل : 22 - 24 ] .
ومن النعم : أن المرأة كانت تدخل البستان بالمكتل فيمتلئ ولا تحرك يدها لشيء. مكثوا مدة على ذلك النعيم ، والله ليس بغافل عنهم ، واتسعت فيهم الخيرات ومن صور الخير والنعيم عندهم : { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِي وَأَيَّاماً آمِنِينَ } [ سبأ : 18 ] .
القرى متقاربة ، والخيرات دانية ، حيث مسافرهم لا يحتاج إلى حمل زاد ولا ماء ، بل حيث نزل وجد الزاد والماء . والقرى المباركة هي : الشام .
لكنهم لفسادهم بطروا النعمة فقالوا : { رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } [ سبأ : 19 ] .
تمنوا مغاوز وقفار يحتاجون فيها للزاد والماء والمتاع ، فمزقهم الله وفرقهم في الأرض شذر مذر حيث أعرضوا عن دينه وكذبوا رسله ، قال تعالى : { فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ } [ سبأ : 16 ] .
أرسل الله الجُرذ فنقبت السد ، وخرب الجنان والبساتين ! تحولت الجنان الجميلة إلى خمط وهي الأراك والأثل وهو الطُرفاء .
ولما كان السدر أجودها { وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ } .(3/2)
{ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ } [ سبأ : 17 ] .
{ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ } [ سبأ : 20 - 21 ] .
أي دعاهم الشيطان ومناهم ، وليس عنده سلطان عليهم ، لا حجة مقنعة ، ولا عصا مؤلمة ، لكن دعاهم ومناهم فأطاعوه ، فكانت نهايتهم الزوال ، وعاقبيتهم الخسار حيث لم يطيقوا المقام بعد الخراب والدمار ، فتمزقوا في البلاد غسان إلى الشام ، وأنماز إلى يثرب ، وجُذام إلى تهامة ، والأزد إلى عمان ، وأصبحوا حديث الناس ، بعد النعمة واليسار إلى النقمة والدمار .
وأشهر فوائد هذه القصة :
أهمية الإيمان وأثره في نقاء الخير والنعمة .
فناء الدنيا ، وزوال مفاتنها ، وأنها ليست مكان للخلود والبقاء .
إن الكفر بريد المصائب { ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ } .
وجوب شكر النعم ، وأداء حقها ، قال تعالى : { لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } [ إبراهيم : 7 ] .
إن الأمر لله من قبل ومن بعد ، وإذا أراد شيئاً أن يقول كن فيكون .
إن رأس الشرور والضلال في هذه الحياة الشيطان { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ } .
والإيمان عصمة البلاء والفتنة { إِلاَّ فَرِيقاً مِنْ الْمُؤْمِنِينَ } .
الإيمان بالدار الأخرة طريق الثبات وعدم الزلل { وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ } .
ضعف حجج الشيطان ، وقلة حيلته ولا يملك إلا الأماني والمواعيد الكاذبة .
ونكتفي بهذا القدر ، والله تعالى أعلى(3/3)
وصلى الله وسلم على نبينا محمد
( 2 ) مثل الرجلين والجنتين
وهي المعنية بقوله تعالى : { وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً } [ الكهف : 32 - 33 ] .
واضرب : الخطاب لنبينا صلى الله عليه وسلم يقول له ربه تعالى : ذكِّر هؤلاء المشركين المستكبرين بمثل الرجلين من بني إسرائيل أعطينا أحدهما جنتين من أعناب محفوفة بالنخيل { كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا } أي أخرجت ثمارها { وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً } أي لم ينقص شيئاً والأنهار متفرقة فيهما .
منظر بهيج ونعمة فاخرة ، وقيل إنهما أبناء لرجل واحد ، ورثا هذا المال من أبيهما ، فأحدهما أعطى المساكين والمحتاجين ، والآخر منع أهل المال وشح على الآخرين ، فابتلاهما الله .
المتصدق لرجائه ما عند الله ، ولإيمانه بالبعث والحساب ، طمع في ثواب الله ، فتصدق بكل ما يملك حتى افتقر .
والآخر أبى ورفض ، وطرد المحتاجين وفُتن بحب المال ، وزاده الله فتنة به حيث كثر ماله وولده حتى : { أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً } [ الكهف : 34 ] .
جاءه أخوه الصالح ناصحاً له ، ومذكراً بحق الله عليه ، وفي ماله ، لما رأى فقره سخر منه وقال انظر ما أنا فيه من العزة وكثرة المال والعيال ، وجمال البساتين .
فذكره أخوه بالساعة ، وفناء الدنيا ، والعود إلى الله ، فقال له : ما أنا فيه من المال والعيال والبساتين هو دائم سَرمدي { مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنقَلَباً } [ الكهف : 35 – 36 ] .(3/4)
والمعنى : لو قدر إن رجعت إلى الله ، لكان لي عنده أوفر الحظ والنصيب ، لأنه أكرمني في الدنيا ، فبعيدٌ أن يُهملني في الآخرة .
فذكره أخوه مرة أخرى { أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً } [ الكهف : 37 ] أي كيف لا تؤمن بالله وبالبعث ، وقد خلقك من نطفة من ماء مهين ، ثم سواك رجلاً كاملاً مستوياً .
{ لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً } [ الكهف : 38 ] أي رغم ما أ،ا فيه من الفاقة والحاجة فلن أشرك بربي ، ولن أبدل ديني ، وكان جديراً بك أنك لما دخلت جنتك أن تقول : { مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ } [ الكهف : 39 ] أي تقولها لما رأيتني أقل منك مالاً وولدا .
لكن لعل الله أن يرزقني خيراً من جنتك ويسلط على جنتك الآفات ، فتراها وقد تبدلت ، وذهبت خضرتها وجمالها { فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِي خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِنْ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً } [ الكهف : 40 ] الحسبان : هو العذاب من المطر ، والصعيد : أي البلقع الأملس ، لا تثبت فيه قدم .
وربما أيضاً { أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً } [ الكهف: 41 ].
فماذا حصل ؟ !
وقع ما خشيه المؤمن وسلط الله على الجنتين حُسباناً من السماء أي مطراً مدمراً دخل المسكين فيها يستمتع بها ، فلم ير إلا اليبس والدمار والجفاف .(3/5)
قال تعالى : { وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ } أي دُمِّر { فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً } [ الكهف: 42 ] خسر فيها أمواله وجهده ، وندم على كفره { وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِراً } [ الكهف : 43 ] أي لحظة نزول البلاء ، لم ينفعه الإخوان ، ولا نصره الأعوان .
ثم قال الحق : { هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً } [الكهف: 44 ] أي يوم القيامة يتولى الله الخلائق فينصر المؤمنين ، ويخذل الكافرين .
وعلى قراءة الكسر (الوِلاية) هنالك السلطان لله في المعاد .
أما أهم ما يستفاد من هذه القصة ما يلي :
إثبات البلاء في هذه الحياة ، وأن قصص السابقين ذكرى للآخرين .
أن الدنيا حلوة غرارة ، تغر ضعيفي الإيمان ، والمهووسين بها .
إن الرزق بيد الله ، وهو خالق العباد ورازقهم فيجب شكره والقيام بحقه .
إن الكفر والمعاصي ظلم للنفس ، وتحطيم لقدراتها .
وجوب الإيمان بالبعث والقدوم على الله للحساب والجزاء .
إن أطوار خلق الإنسان دليل على قدرة الله واستحقاقه للعبادة .
مشروعية ذكر الله عند رؤية النعم والمحاسن .
بيان سوء عاقبة الشرك بالله ، وإنكار البعث { يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً } .
إن الشرك والمعاصي سبب لفناء الأرزاق ، وذهاب الأموال .
بيان قدرة الله العظيمة ، وأنه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء .
ما بين طرفة عين وانتباهها
يغيّر الله من حال إلى حالِ
( 4 ) غزوة بدر
هذه أول لقاء في التاريخ بين الإسلام والوثنية ، فهو يوم الفرقان ، وساعة النصر والإعزاز .
يقول تعالى : { وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ آل عمران : 123 ] .(3/6)
ويقول في سياقها المطول ، ووصفها الدقيق : { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ } [ الأنفال : 5 - 6 ] .
هذا الخروج كان سببه بلوغ الأنباء إلى رسول الله عن قافلة قريش التجارية المحملة بالأموال الجزيلة ، فندب أصحابه إلى الخروج وخيرهم فخرجوا للعير دون استعداد للقتال لكنهم كانوا يحبون العير ولا يريدون المصادمة ولذلك جادلوه ، كيف يطلب منا المقاتلة ، ولم نأخذ أهبتنا ولم نستعد .
قال تعالى : { وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ } [ الأنفال : 7 - 8 ] .
المعنى : لا تعلمون ما هي المصلحة العظمى من قتالكم المشركين وأنها نصركم عليهم ، وإحقاق الحق ، ورفع لشأن الإسلام .
وبالفعل حصل الاجتماع والاصتطدام بين المشركين والمسلمين ، وفر أبو سفيان بالقافلة بعد أن غيّر الطريق ، وأرسل رجلاً إلى مكة يستنصرهم اسمه (ضمضم بن عمرو الغفاري) .
يقول تعالى مشيراً إلى نوع من الاستعداد للمعركة : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ } [ الأنفال : 9 ] .
الاستعانة هنا هي دعاء رسول الله ربه لما نظر إلى أصحابه فإذا هم قلة ، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة ، فاستقبل القبلة ودعا (اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تُعبدُ في الأرض أبداً) .(3/7)
فما زال يستغيث حتى سقط رداؤه ، حتى جاءه أبو بكر فقال : كفاك مناشدتك ربك ، إنه سينجز لك ما وعدك .
قال تعالى : { وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ الأنفال : 10 ] .
أي ما جعل الله نزول الملائكة إلا بشرى لكم وليطمئن قلوبكم ، فهو قادر على نصركم بدون ملائكة ولا غيرهم .
ثم ينتقل السياق إلى كشف صورة من المعركة : { إِذْ يُغَشِّيكُمْ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ } [ الأنفال : 11 ] .
غشاهم الله بالنعاس أماناً من الخوف والقلق الذي حل بهم ، حيث كانت تسقط سيوف بعضهم .
وجاء في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان يوم بدر في العريش مع الصديق رضي الله عنه وهما يدعوان أخذت رسول الله سِنة من النوم ثم استيقظ مبتسماً فقال : (أبشر يا أبا بكر هذا جبريل على ثناياه النقع) أي الغبار ، ثم خرج من باب العريش وهو يتلو قوله تعالى { سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ } [ القمر: 45 ] . ومن نعمة الله عليهم أن أنزل عليهم المطر ليلة بدر ، فجف الغبار ، وتلبدت به الأرض ، وطابت نفوسهم ، وثبتت به أقدامهم .
ثم من نعمته عليهم قوله : { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } [ الأنفال : 12 ] .
ونكتفي بهذا القدر ، ونكمل إن شاء الله في المجالس القادمة .
( 5 ) تابع غزوة بدر(3/8)
يقول تعالى في سياق الآيات : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمْ الأَدْبَارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } [ الأنفال : 15 - 16 ] .
قيل نزلت في أهل بدر ، نهاهم الله عن الفرار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ذلك اليوم العظيم ، وعموماً لا يمنع عموم الآية ، وأن الفرار يوم الزحف من الكبائر المحرمات .
ثم قال تعالى : { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ } [ الأنفال : 17 - 18 ] .
والمعنى إنكم لم تهزموا المشركين وتناولوا منهم بحولكم وقوتكم ، وإنما الله هو الذي أظفركم عليهم .
وهناك روى أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ قبضة من التراب وقال : (شاهت الوجوه) فلم يبق أحد إلا بلغته وشغلته وقال : { ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ } وهذه بشارة أخرى لأهل الإيمان مع مع جعل من النصر ، إلا أنه أخبرهم أن الله مضعف كيدهم فيما يستقبل من الأمور .
ثم قال تعالى : { إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمْ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ } [ الأنفال : 19 ] .
هذا خطاب للكفار يعني : إن تستنصروا وتستقضوا الله يفصل بينكم وبين أعدائكم فقد جاءكم ما سألتم .(3/9)
وسبب ذلك : إن أبا جهل قال يوم بدر : (اللهم أينا كان أقطع للرحم ، وآتانا بما بمالاً نعرف فأرحنه الغداة) .
ثم يتوعدهم الله تعالى { وَإِنْ تَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } أي عن هذا الكفر والتكذيب ، { وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ } جموعكم سنهزم ، وجيوشكم ستقتل والله مع عباده المؤمنين ينصرهم ، ويعلي شأنهم ، فماذا تريدون ؟! { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ } [ الأنفال : 20 - 23 ] .
ونكتفي بهذا القدر ، والله الموفق ،،
( 5 ) تابع غزوة بدر
نستكمل في هذا الدرس بقية الآيات في الأنفال ، بدأت الآيات إلى توجيهات مهمة لأهل الإيمان ، وتحذيرات للمشركين .
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [ الأنفال : 24 - 25 ] .(3/10)
ثم يذكرهم الله تعالى بنعمته عليهم بعد الضعف والاستضعاف والخوف في مكة { وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ الأنفال : 26 ] .
ثم يحذرهم من الخيانة { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } [ الأنفال : 27 - 28 ] .
ثم نداء آخر لأهل الإيمان { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } [ الأنفال : 29 ] .
ثم ينتقل السياق إلى مخاطبة رسول الله ، وتذكيره بما من الله عليه من الحفظ والصيانة من مكر المشركين به ليلة الهجرة { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } [ الأنفال : 30 ] .
بعد ذلك يخبر الله تعالى عن كفر قريش وتمردهم ، وأنهم لو سمعوا القرآن ادعوا معرفته من قبل { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ } [ الأنفال : 31 ] أي أكاذيب سمعها ، فهو يتعلم منها .
ومن بليغ جهلهم وشدة كفرهم اسمع { قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الأنفال : 32 ] وكان الأولى أن يطلبوا هداية الله ، وليس استعجال العذاب والمقت .(3/11)
قال تعالى : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [ الأنفال : 33 ] .
ثم ينطلق السياق إلى أن يخبرنا عن حربهم لدين الله ببذل الأموال { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ } [ الأنفال : 36 ] .
قيل نزلت في مشركي بدر لما نجت العير ، وعادت إلى مكة قال أبو سفيان (يا معشر قريش : إن محمداً قد وتركم ، وقتل خياركم ، فأعينونا بهذا الحال على حربه لعلنا أن ندرك منه ثأراً بمن أصيب منا) ففعلوا .
ثم يتواصل السياق في تحذير المشركين من الكفر وأمر المؤمنين بقتالهم إذا أصروا على عنادهم إلى أن يصل إلى بيان قسمة الغنائم { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ الأنفال : 41 ] .
يعني بدر أعلى الله فيه كلمته ، وفرق بين الحق والباطل .
ثم بدأ الله يصف (يوم الفرقان) هذا { إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ }
[ الأنفال : 42 ] .(3/12)
هذه أسماء مواضع : العدوة الدنيا : موضع قريب من المدينة نزل بها المسلمون والعدوة القصوى : نزل به المشركون ، والركب : أبو سفيان والقافلة .
يقول : نحن جمعنا بينكم { وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ } أي ليكفي من كفر بعد الجمع لما رأى من الآية والعبرة .
ثم يقول الله تعالى : { إِذْ يُرِيكَهُمْ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } [ الأنفال : 43 ] .
يروي أن رسول الله رآهم في المنام وعدتهم قليلة فأخبر المسلمون ففرحوا ، وثبتهم ذلك ، ومعنى فشلتم : أي جبنتم واختلفتم .
{ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذْ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ } [ الأنفال : 44 ] .
وهذا من لطف الله عليهم عند الملاقاة معهم أنه قللقهم ليطمعهم فيه حتى قال ابن مسعود (لقد قللوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت لرجل جنبي .. تراهم سبعين ، قال : لا ، بل مائة حتى سألنا رجلاً منهم : كم كنتم ، قال : ألف) .
{ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ } أي يجمع بينكم ليعلي دينه ويهزم أعداءه .
ونكتفي بهذا القدر ... والله أعلم ,,
( 7 ) تابع غزوة بدر(3/13)
نستكمل أيضاً آيات الأنفال ، وبلغنا عند قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } [ الأنفال : 45 - 46 ] .
وهذه جملة من الآداب والتوجيهات عند القتال :
أولاً : الثبات عند القتال .
الثاني : مشروعية ذكر الله كثيراً .
الثالث : طاعة الله ورسوله .
الرابع : كراهة النزاع ، وإنه سبب للهزيمة .
الخامس : ضرورة الصبر وأهميته .
وقد تحلى صحابة رسول الله بهذه الخصال ، وقاموا بها خير قيام .
ثم حذرهم تعالى عن مشابهة المشركين { وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } [الأنفال: 47] .
خرج أهل مكة بطرين ، دافعين للحق ، ومتفاخرين كما قال أبو جهل (والله لا نرجع حتى نرد بدراً وننحر الجزور ، ونشرب الخمر ، ونعزف القيان ، ويتحدث العرب بمكانتنا هذه ، فلا يزالون يهابوننا أبداً) .
ثم قال : { وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمْ الْيَوْمَ مِنْ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ } [ الأنفال : 48 ] .
حيث جاءهم في صورة (سراقة بن مالك الجعشمي) وثبتهم وقال : (أنا جار لكم من أن تأتيكم كنانة بشيء تكرهونه) .
حضر الشيطان وجنود المشركين ، وحضر جبريل بالملائكة ، فلما رآه الشيطان فر وخرج من المعركة كما قال تعالى : { نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [ الأنفال : 48 ] .(3/14)
ولما فر لزمه الحارث بن هشام ، فضربه على صدره وفرحتي ألقى نفسه في البحر ، كما في السيرة .
ثم قال تعالى : { إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ الأنفال : 49 ] .
والمراد أناس خرجوا مع المشركين منافقون ، وقيل نطقوا بالإسلام ولم يخالط قلوبهم ، رأوا قلة المسلمين في بدر فتهكموا فرد الله عليهم { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } أي يعتمد عليه فإنه منصور ، لأن الله عظيم الجناب .
ثم ينتقل السياق لخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ } [ الأنفال : 50 ] .
أي لو عاينت يا محمد حال توفي الملائكة أرواح الكفار لرأيت أمراً عظيماً ، وشيئاً فظيعاً ، إذ يضربون وجوههم وأدبارهم أي مقاعدهم ، وذلك متى ؟ في بدر وهو يشمل كل أحوال المشركين .
ثم قال مخاطباً لهم : { ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ }
[ الأنفال : 51 ] أي بسبب أعمالكم ! كفركم وعنادكم وتكذيبكم لرسولكم ، والله لا يظلم أحداً بل هو الحكم العدل سبحانه وتعالى .
( 8 ) تابع غزوة بدر
نستكمل أيضاً بقية الآيات في سياق سورة الأنفال ، الحاوية لأحداث غزاة بدر الكبرى .
يقول تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ الأنفال : 53 ] .
والمعنى : أن الله لا يزيل نعمة عن عباده إلا بسبب ذنوبهم ، وهذا من تمام عدله وقسطه . ثم مثل بآل قال فرعون بأنه أتاهم نعماً كثيرة ، وكنوزاً عظيمة ، ولكن ظلموا واعتدوا .(3/15)
فقال : { كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ } [ الأنفال : 54 ] .
ثم ينتقل السياق إلى جملة من الآداب والوصايا المتعلقة بالحرب إلى أن قال تعالى : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَوْلا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ الأنفال : 67 - 68 ] .
وهنا تعرض الآيات لقضية عظية ، وقع فيها الاختلاف ، وهي (أسرى بدر) .
انتصر المسلمون ، قتلوا سبعين ، وأسروا سبعين فاحتاروا ما يصنعون بهم ؟!
فاستشار صلى الله عليه وسلم أصحابه ، فقال أبو بكر : بنو العم والعشيرة ، فخذ منهم الفداء ، وقال عمر : لا أرى والله رأي أبي بكر ولكن أرى أن تمكنني من زيد ، وأن تمكن حمزة من قريب له ، ونقتلهم حتى يعلم الله أن ليس في قلوبنا على المشركين هوادة ، فهؤلاء أئمة الكفر وقادتهم .
فلم يهوَ رسول الله رأي عمر ، وهوي رأي أبي بكر ، فأنزل الله تعالى : (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى) والمعنى : لابد من قتلهم حتى يثخن ويتمكن في الأرض فجاء عمر في اليوم الثاني ، ورسول الله وأبو بكر يبكيان فقال : ما يبكيكما ، إن كان ثمة شيء بكيت وإلا تباكيت .
فقال رسول الله (أبكي للذي عرضى على أصحابك من الفداء ، لقد عرض على عذابكم أدنى من هذه الشجرة) لشجرة قريبة .
ثم نزلت : (لَوْلا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ) .
قيل : حل الغنائم ، وقيل : المن على الأسرى .
ثم قال : { فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
[ الأنفال : 69 ] .(3/16)
وكان الفداء المعروض عليهم أربعون أوقية لكل فرد أربعة آلاف درهم .
ومن لم يفاد أو عجز ، علم عشرة من أبناء المسلمين القراءة والكتابة ، وهذا شيء عظيم ، وإنجاز حضاري عمله الإسلام في أول الدعوة الإسلامية ، كما نبه على ذلك الأستاذ / شوقي ضيف في كتابه في سيرة خير المرسلين .
والله الموفق ،،
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه
( 9 ) تابع غزوة بدر
نستكمل آخر شيء في السورة وهو قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنْ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمْ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ الأنفال : 70 ] .
هذه نزلت في العباس وبعض المكرهين ، الذين خرجوا رغماً عنهم ، خيرهم الله إن ما أخذ منهم من المال سيعوضهم عنه .
ولذلك العباس كان يقول : (فأنزلني الله خيراً من ذلك ، لي الآن عشرون عبداً ، إن أدناهم ليضرب في عشرين ألفاً ، وأعطاني زمزم ، وما أحب أن لي بها جميع أموال أهل مكة وأنا أنتظر المغفرة من ربي) .
ثم قال تعالى : { وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [ الأنفال : 71 ] .
والمعنى : أي يخونوك فيما أظهره لك من الأقوال ، فقد خانوا الله بالكفر قبل بدر فأمكن منهم أي بالأسر في المعركة .
بعد ذلك انتقلت الآيات للحديث عن أصناف المؤمنين .
هنا ينتهي الحديث القرآني عن غزوة بدر ، أول مشهد في التاريخ ، وقد حصل فيه المصالح ، والفوائد للأمة ما لا يحصى وظهر النفاق بعده حيث قال رأس المنافقين : (إن هذا أمر قد توجه ، فادخلوا في دينه) .(3/17)
فدخلوا مظهرين الإسلام ، ومبطنين الكفر { وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } [ البقرة : 14 ] .
لا ريب أن هذا الحدث العظيم غاص بالحكم والعبر الجديرة بأن يهتم بها المسلم فمنها :
إن النصر من عند الله ، فهو النصير سبحانه وتعالى ، فليس بالكثرة ، ولا بضخامة العدة { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ } { كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ } .
إن من يغالب الله يغلب ، خرجوا متحدين بطرين ، فجعل الله كيدهم في نحورهم .
تأييد الله لجنده بالملائكة .
النكاية بالعدو والتعرض لقوافلهم وتجاراتهم .
وجوب الإعداد للقتال { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ } .
فضل أهل بدر وأنهم من خالص المؤمنين وهم من أهل الجنة .
إحلال الغنائم لهذه الأمة .
جواز فداء الأسرى أو المنّ عليهم .
أهمية الشورى في اتخاذ الأحكام والقرارات .
إن هذه المعركة فرقاناً بين الحق والباطل .
وغيرها من الفوائد التي تفوق الحصر وليس هذا موضع استقصائها
والله الموفق ، والهادي إلى سواء السبيل
( 10 ) غزوة الأحزاب
حديثنا الليلة عن قصة قرآنية ، تحكي موقعة عسكرية ، وقعت بين النبي صلى الله عليه وسلم وجيش مكة ومن تحزب معه .
وهذه الغزوة تعرف (بالأحزاب) أو (الخندق) وقد وقعت سنة 5 هـ . والآيات تتلى في سورة الأحزاب تبدأ من قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
بَصِيراً } [ الأحزاب : 9 ] .(3/18)
يذكرهم سبحانه وتعالى بنعمته عليهم ، حيث اجتمعت عليهم جموع كثيرة من قريش والأحابيش وغطفان خرجوا بايعاز من بعض اليهود .
فيقول : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا } أي هزمناهم بأمرين : الريح التي شتت شملهم ، وكذلك جنود لم تعاينوها وهي الملائكة التي زلزلت قلوبهم .
والريح التي نُصر بها عليه الصلاة والسلام تُسمى (الصَّبا) وقد صح عنه قوله : (نُصرت بالصَّبا ، وأُهلكت عاد بالدَّيور) .
ثم يضيف تعالى انتشار هذا الجيش العرموم المتحرب ، الذي بلغ عشرة آلاف مقاتل { إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ } [ الأحزاب : 10 ] . من فوقكم : أي جمع الأحزاب ومن أسفل منكم : اليهود من بني قريظة ، بنقضه العهد .
زاغت الأبصار : أي مالت ولم ولم تنظر إلا إلى عدوها ، وبلغت القلوب الحناجر: تصوير للخوف لأنها بلغت حلوقهم ويظنون بالله الظنونا ، ظن المؤمنون كل ظن وحس بعضهم أن الدائرة عليهم ، ونجم نفاق المنافقين .
ثم قال تعالى : { هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً } [ الأحزاب : 11 ] أي في ذلك الموقف اختبروا بالقتال والحصار ليبين المؤمن من المنافق .
ثم تعرض السياق لدور المنافقين الخبيث في التخذيل والجبن { وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً } [ الأحزاب : 12 ] .
هذا في قصة الصخرة التي عرضت لهم ، فكسرها رسول الله ، وكلما أضاءت الضربة قال (أُعطيت مفاتيح فارس ، أعطيت مفاتيح اليمن) فقالوا : يعدنا محمد أن نفتح مدائن كسرى وقيصر ، وأحدنا لا يستطيع أن يجاوز رحله) { وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا } [ الأحزاب : 13 ] .(3/19)
المعنى لا فائدة من مكثكم مع محمد هاهنا عودوا إلى مساكنكم لترتاحوا وتطمئنوا .
{ وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً } [ الأحزاب : 13 ] .
عنت الآية بني حارثة قالوا لرسول الله : بيوتنا نخاف عليها السراق ، وليس لها من يحميها .. فرد الله { وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً } .
ثم كشف كذبهم وخورهم بقوله : { وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلاَّ يَسِيراً } [ الأحزاب : 14 ] . أي لو هجم هؤلاء الأحزاب على بيوتهم واستولوا عليها وسألوهم الفتنة أي الكفر ومقاتلة المسلمين لانضموا معهم ، ذلك أنهم لا يحافظون على إيمانهم مع أدنى خوف وهلع { وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلاَّ يَسِيراً } .
ثم وبخهم الله زيادةً على ذلك { وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولاً } [ الأحزاب : 15 ] .
كم مرة عاهدوا على عدم الفرار ، قيل بعض من تخلف عن بدر ، وقيل بل من فر يوم أحد { وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولاً } سيسألون عن معاهدتهم تلك يوم القيامة .
ثم قال تعالى : قل لهم يا محمد { لَنْ يَنْفَعَكُمْ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنْ الْمَوْتِ أَوْ الْقَتْلِ } [ الأحزاب : 16 ] أي أن فرارهم لن يؤخر آجالهم ، بل ربما كان سبباً في تعجيل أخذهم غِرة .
ثم قال { قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنْ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً } [ الأحزاب : 17 ] .
أي لن يمنعكم أحد من عذاب الله ، إن أراد بكم شراً أو خيراً ، ولن ينصركم أحد دون الله .
ونكتفي بهذا القدر .(3/20)
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ،،
( 11 ) تابع غزوة الأحزاب
نستكمل أيضاً آيات الأحزاب الكاشفة لمجريات المعركة الفاصلة بين الإسلام والشرك والكفر ، وكنا وقفنا عند قوله : { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً } [ الأحزاب : 18 ] .
يخبرهم تعالى من أنه محيط بالمعوقين عليم بهم وبمقولاتهم ، وما يقولونه لإخوانهم ، والمعوقين المراد بهم المثبطين ، حيث يقولون : دعوا محمداً ، ولا تشهدوا الحرب معه ، وهم جماعة من المنافقين .
ثم كشفهم تعالى بقوله : { وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً } أي إن خرجوا فإنما هو رياء وسمة وليس لله تعالى .
ثم وصفهم بقوله : { أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً }
[ الأحزاب : 19 ] .
أي هؤلاء أشحة ، أي بخلاء بالنفقة في سبيل الله ونصره .
ثم عيرهم تعالى بالجبن { تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْتِ } فإذا ذهب الخوف { فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ } أي آذوكم بالألسنة الحداد الفصاح .
{ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ } أي عند الفتنة يشاحون المؤمنين ويصيحون فيهم أعطونا قد شهدنا معكم .
ثم بين حقيقة إيمانهم { أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً } .(3/21)
ثم زاد في كشف جبنهم وهلعهم من العدو : { يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً } [ الأحزاب : 20 ] .
فهم في تفكير دائم ، أن الأحزاب قريبون منهم ولو قُدِّر جاء الأحزاب إليهم تمنوا لو كانوا في البادية وليسوا في المدينة ، ليأخذوا أخباركم من الناس { وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً } قيل يقاتلون رميا بالحجارة ، وقيل لإباء وسمعة فحسب .
ثم جاءت الآية العظيمة والتي هي مدرسة في الشجاعة والبروز والاستبسال ، فيقول لهم تعلموا منها : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً } [ الأحزاب : 21 ] .
وهي أصل عظيم في الاقتداء به والتأسي بسنته في كل الأحوال لا سيما حال الصبر والجهاد والمرابطة .
ثم عرج تعالى بوصف أهل الإيمان ، الذين لم يداخلهم الوهن ، ولم تجتاحهم الظنون الفاسدة { وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً } [ الأحزاب : 22 ] .
هذا ما وعدنا الله ورسوله من الامتحان الذي يعقبه النصر والفرج .
وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليما دليل على زيادة الإيمان وقوته. (إيماناً) بالله ، و(تسليماً) انقياداً لأوامره .
ثم قال تعالى رداً على المنافقين بأنكم فررتم ونقضتم ما عاهدتم الله عليه من عدم الفرار { مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً } [ الأحزاب : 23 ] .(3/22)
عاهدوا على الصبر والقتال وعدم الفرار فمنهم من قضى نحبه أي عهده ، وآخر ينتظر وما بدلوا عهد الله ولا غيروه .
ثم قال { لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً } [ الأحزاب : 24 ] .
أي إنما يختبر عباده بالخوف والزلزال ليميز الخبيث من الطيب ، فيظهر الصادقون ، وينكشف الكاذبون ، ثم هم تحت رحمة في الدنيا ، إن شاء عذبهم ، وإن شاء تاب عليهم وأرشدهم للإيمان .
والله الموفق ،،
انتهى الدرس ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد
( 12 ) تابع غزوة الأحزاب
وكنا قد وقفنا في المجلس الماضي عند مدح الله لعباده المؤمنين الثابتين في الأحزاب ، وكيف أنهم لم ينهزموا أو يضعفوا بل قالوا : { هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً } [ الأحزاب : 22 ] .
ثم مدحهم بقوله : { مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً } [ الأحزاب : 23 ] .
والآن نختم بالآيات الكاشفة لنهاية المعركة وما آلت إليه ، قال : { وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً } [ الأحزاب : 25 ] . أي طردهم وأحزابهم بعد جمعهم وفرقهم بالريح التي فرقت شملهم، وقلعت خيامهم قال : { لَمْ يَنَالُوا خَيْراً } حيث فشلت خطتهم وخاب ظنهم في الدنيا واكتسبوا الإثم والنقمة في الآخرة .
وقال : { وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ } لم ينازلوهم ولم يبارزوهم ، إلا تراشقاً بالسهام حصل ، ومبارزة بين علي رضي الله عنه ، وابن عبد ود العامري .(3/23)
وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم بقوله : (اللهم منزل الكتاب ، ومجري السحاب ، وهازم الأحزاب ، اهزمهم وانصرنا عليهم) .
وفي قوله { وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ } إشارة إلى انتهاء المعارك مع أهل مكة ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري : (الآن نغزوهم ولا يغزوننا ، نحن نسير إليهم) .
{ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً } أي بقوته وعزته نصر عباده ، فهو النصير لهم ، ليس بقوتهم ولا بأسلحتهم وذكائهم . وفي خلال ذلك أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة يأتيه بخبر القوم لما شغلتهم الريح وأرعبتهم الملائكة ، في قصة مشهورة مليئة بالفوائد .
حتى قال أبو سفيان (يا معشر قريش والله ما أصبحتم بدار مقام ، لقد هلك الكراع والخف وأخلفتنا بنو قريظة ، وبلغنا عنهم الذي نكره ، ولفينا من هذه الريح ما ترون ، والله ما يطمئن لنا قدر .. فارحلوا فإني مرتحل) .
وكان ثمة دور كبير بذله نُعيم بن مسعود الغطفاني حيث خذَّل في الفريقين ، وضعضع عزائمهم .
ثم قال تعالى : { وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً }
[ الأحزاب : 26 ] .
والمعنى بنو قريظة لما نقضوا العهد أنزلهم الله على حكمك ، وقضى فيهم سعد ابن معاذ حيث حاصرهم ، وقال له جبريل لما وضع السلاح (أوضعتَ السلاح انطلق إلى بني قريظة ، فإني ذاهب إليهم فمزلزل بهم) !!
فنزلوا على حكم سعد بن معاذ ، وظنوا يحسن فيهم وقد كانوا مواليه فقضى بقتل المقاتلة ، وسبى النساء والذرية ، فقال عليه الصلاة والسلام : (لقد حكمت فيهم بحكم الله وحكم رسوله) .
أنزلهم من صياصيهم أي حصونهم { فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً } .(3/24)
ثم قال : { وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً } [ الأحزاب : 27 ] أورث المسلمين أراضيهم وأموالهم ومزارعهم { وَأَرْضاً لَمْ تَطَئُوهَا } قيل خبير ، وقيل مكة ، وهي بشارة لهم بظهورهم ونصرهم ، وحصول فتوحات جديدة لهم .
هذه هي غزوة الأحزاب من خلال الآيات المذكورة في السورة وأهم فوائدها :
حفظ الله لدينه ، وحمايته لأوليائه مهما فعل المجرمون ، أو تحزب الطغاة المتفرعنون .
تأييد الله لعباده بالخوارق والآيات .
ابتلاء المؤمنين لتمحيصهم وكشف أعدائهم .
خطورة النفاق والمنافقين على الجماعة المسلمة وعلى وحدة الأمة وتضامنها .
كشف دور اليهود الخياني ، القائم على الغش ونقض العهود .
إن الحرب خدعة ويتجلى هذا في دور نعيم بن مسعود رضي الله عنه .
سوء نهاية بني قريظة بسبب نقضهم العهد .
فضيلة سعد بن معاذ حيث أصاب حكم الله في الناكثين .
والله الموفق ،،
انتهى الدرس ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد
الفهرس
م ... الموضوع ... ص
1 ... قصة سبأ ... 1
2 ... مثل الرجلين والجنتين ... 4
3 ... غزوة بدر ... 7
4 ... تابع غزوة بدر ... 9
5 ... تابع غزوة بدر ... 11
6 ... تابع غزوة بدر ... 14
7 ... تابع غزوة بدر ... 16
8 ... تابع غزوة بدر ... 18
9 ... غزوة الأحزاب ... 20
10 ... تابع غزوة الأحزاب ... 23
11 ... تابع غزوة الأحزاب ... 26(3/25)