بكر ووكيع عن إسرائيل، ورواه أبو عبد الرحمن عبد الله بن حنبل أيضاً عن أبيه، حدثنا وكيع بحديث إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن خليفة، عن عمر رضي الله عنه : إذا جلس الرب على الكرسي. فاقشعر رجل سماه أبي عند وكيع، فغضب وكيع وقال: أدركنا الأعمش وسفيان يحدثون بهذا الحديث ولا ينكرونه.
قلت: وهذا الحديث صحيح عند جماعة من المحدثين، أخرجه الحافظ ضياء الدين المقدسي.
وإذا كان هؤلاء الأئمة أبو إسحاق السبيعي، والثوري، والأعمش، وإسرائيل، وعبد الرحمن بن مهدي، وأبو أحمد الزبيري، ووكيع، وأحمد بن حنبل، وغيرهم ممن يطول ذكرهم وعددهم، الذين هم سرج الهدى، ومصابيح الدجى، قد تلقوا هذا الحديث بالقبول، وحدثوا به، ولم ينكروه، ولم يطعنوا في إسناده، فمن نحن حتى ننكره، ونتحذلق عليهم، بل نؤمن به.
قال الإمام أحمد: لا نزيل عن ربنا صفة من صفاته بشناعة شنعت وإن نبت عنه الأسماع.
فانظر إلى وكيع بن الجراح الذي خلف سفيان الثوري في علمه وفضله، وكان يشبه به في سمته وهديه، كيف أنكر على ذلك الرجل، وغضب لما رآه قد تلون لهذا الحديث.
ص -178-
وقال الإمام ابن القيم –رحمه الله تعالى- في "الكافية الشافية":
واذكر كلام مجاهد في قوله
أقم الصلاة وتلك في سبحان
في ذكر تفسير المقام لأحمد
ما قيل ذا بالرأي والحسبان
إن كان تجسيماً فإن مجاهداً
هو شيخهم بل شيخه الفوقاني
ولقد أتى ذكر الجلوس به وفي
أثر رواه جعفر الرباني
أعني ابن عم نبينا وبغيره
أيضاً أتى والحق ذو تبيان
والدارقطني الإمام يثبت الـ
آثار في ذا الباب غير جبان
وله قصيد ضمنت هذا وفيـ
ـها لست للمروي ذا نكران
وجرت لذلك فتنة في وقته
من فرقة التعطيل والعدوان
والله ناصر دينه وكتابه
ذا حكمه مذ كانت الفئتان
وهذا نص الأبيات التي أشار إليها ابن القيم رحمه الله تعالى من كلام الدارقطني رحمه الله تعالى:
ص -179-
حديث الشفاعة في أحمد(53/67)
إلى أحمد المصطفى نسنده
وأما حديث بإقعاده
على العرش أيضاً فلا نجحده
فلا تنكروا أنه قاعد
ولا تنكروا أنه يقعده
أمروا الحديث على وجهه
ولا تدخلوا فيه ما يفسده
فإذا ثبت هذا عن أئمة أهل الإسلام، فلا عبرة بمن خالفهم من الطغام أشباه الأنعام.
وأما قوله: (ويثبت له اليد والوجه والجهة، ويقول بصحة الإشارة إليه في السماء).
فالجواب أن نقول: نعم قد كان الشيخ محمد رحمه الله وأتباعه يثبتون اليد والوجه لله تعالى، ويصفون الله بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله، وما وصفه به السابقون الأولون، لا يتجاوزون القرآن والحديث، كما قال الإمام أحمد رضي الله عنه: لا يوصف الله إلا بما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، لا تتجاوز القرآن والحديث.
ص -180-
ومذهب السلف أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، ونعلم أن ما وصف الله به نفسه من ذلك فهو حق ليس فيه لغز ولا أحاجي، بل معناه يعرف من حيث يعرف مقصود المتكلم بكلامه، لا سيما إذا كان المتكلم أعلم الخلق بما يقول، وأفصح الخلق في بيان العلم، وأنصح الخلق في البيان والتعريف والدلالة والإرشاد، وهو سبحانه مع ذلك ليس كمثله شيء لا في نفسه المذكورة بأسمائه وصفاته، ولا في أفعاله، فكما نتيقن أن الله سبحانه له ذات حقيقة، وله أفعال حقيقة، فكذلك له صفات حقيقة، وهو ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فكل ما أوجب نقصاً أو حدوثاً فإن الله منزه عنه حقيقة، فالله سبحانه مستحق للكمال الذي لا غاية فوقه، ويمتنع عليه الحدوث لامتناع العدم عليه، واستلزام الحدوث سابقة العدم، ولافتقار المحدث إلى محدث، ولوجوب وجوده بنفسه سبحانه وتعالى.
ومذهب السلف بين التعطيل وبين التمثيل، فلا يمثلون صفات الله بصفات خلقه، كما لا يمثلون ذاته بذات خلقه، ولا ينفون ما وصف به نفسه، ووصفه به(53/68)
ص -181-
رسوله فيعطلون أسماءه وصفاته العليا، ويحرفون الكلم عن مواضعه، ويلحدون في أسماء الله وآياته.
فإذا عرفت هذا فإنا نثبت لله اليد كما أثبتها لنفسه، كما قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ }[المائدة:64]، وقال تعالى: {يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [صّ:75]، وقال تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } [الفتح:10]، وقال تعالى: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } [الزمر:67]، إلى غير ذلك من الآيات.
ونثبت أن لله وجهاً كما قال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ } [القصص:88]، وقوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:27]، وقوله: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}1 [البقرة:115]، إلى غير ذلك من الآيات.(53/69)
__________
1 قال شيخ الإسلام ابن تيمية في المناظرة عن الواسطية: "... قلت هذه الآية ليست من آيات الصفات أصلاً، ولا تندرج في عموم قول من يقول: لا تؤول آيات الصفات. قال –أي أحد المناظرين-: أليس فيها ذكر الوجه؟ فلما قلت: المراد بها قبلة الله. قال –أي المناظر-: أليست هذه من آيات الصفات؟ قلت: لا، ليست من موارد النزاع، فإني إنما أسلم أن المراد بالوجه هنا القبلة، فإن الوجه هو الجهة في لغة العرب، يقال: قصدت هذا الوجه، وسافرت إلى هذا الوجه أي: إلى هذه الجهة.
وهذا كثير مشهور، فالوجه هو الجهة. وهو الوجه كما في قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} أي متوليها. فقوله تعالى: { وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} كقوله: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} كلا الآيتين في اللفظ والمعنى متقاربتان، وكلاهما في شأن القبلة، والوجه والجهة هو الذي ذكر في الآيتين: أنا نوليه: نستقبله... ثم قرر شيخ الإسلام هذا بكلام حسن، فانظره في الفتاوى جـ 6/15، 16، 17. وجـ 2/428، 429.
ص -182-
وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: "أنت موسى الذي اصطفاك الله بكلامه، وخط لك الألواح بيده" وفي لفظ: "وكتب لك التوراة بيده"1، وقال صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: "وغرس كرامة أوليائه في جنة عدن بيده"2،(53/70)
__________
1 أخرجه البخاري في صحيحه كتاب القدر باب تحاج آدم وموسى عند الله: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "احتج آدم وموسى، فقال له موسى: يا آدم أنت أبونا، خيبتنا وأخرجتنا من الجنة، قال له آدم: يا موسى اصطفاك الله بكلامه، وخط لك بيده، أتلومني..." الحديث 11/505 من الفتح.
وأخرجه مسلم- في كتاب القدر من صحيحه 4/2043 قال: حدثني محمد بن حاتم وإبراهيم بن دينار وابن أبي عمر المكي وأحمد بن عبدة الضبي. جميعاً عن ابن عيينة (واللفظ لابن حاتم وابن دينار) قالا حدثنا سفيان... الخ فذكره بلفظ البخاري سواء. ثم قال: وفي حديث ابن أبي عمر وابن عبدة. قال أحدهما: خط. وقال الآخر: كتب لك التوراة بيده. وله عندهما ألفاظ أخرى. انظر الفتح جـ 8/434-435، وجـ 6/441، وجـ 11/505، وجـ13/477.
2 أخرجه مسلم في صحيحه –كتاب الإيمان- من حديث المغيرة بن شعبة... وفيه: "أولئك الذين أردت، غرست كرامتهم بيدي" 1/121 ط دار الطباعة العامرة.
ص -183-
وقوله صلى الله عليه وسلم: "تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفؤها الجبار بيده كما يتكفى أحدكم خبزته في سفره نزلاً لأهل الجنة"1، ومثل أحاديث أخر "بيده الأمر"2، "والخير في يديك"3، "والذي نفس محمد بيده"4، "وإن الله يبسط يده(53/71)
__________
1 أخرجه البخاري في صحيحه –كتاب الرقاق- باب يقبض الله الأرض يوم القيامة 11/371-372 عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفؤها الجبار بيده كما يكفأ أحدكم خبزته في السفر، نزلاً لأهل الجنة"، فأتى رجل من اليهود فقال: بارك الرحمن عليك يا أبا القاسم ألا أخبرك بنزل أهل الجنة يوم القيامة؟ قال: "بلى". قال: تكون الأرض خبزة واحدة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلينا، ثم ضحك حتى بدت نواجذه... الحديث.
وأخرجه مسلم أيضاً في كتاب المنافقين وأحكامهم من صحيحه 4/2151.
2
3 أخرجه ابن خزيمة في التوحيد ص 14 عن زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يتعاهد أهله كل صباح: "لبيك اللهم لبيك وسعديك والخير في يديك..." الحديث.
4 وردت أحاديث كثيرة بصيغة هذا القسم، منها حديث: "والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب..." أخرجه البخاري عن أبي هريرة 2/125-141، 5/74، 13/ 215 - فتح.
وحديث: "لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره..." في صحيح البخاري أيضاً 3/335-341، 4/304، 5/36 - فتح.
وانظر دليل القاري إلى مواضع الحديث في صحيح البخاري للشيخ عبد الله بن غنيمان ص 508-509. وفهرست صحيح مسلم محمد فؤاد عبد الباقي ص 447.
ص -184-(53/72)
بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل"1، وقوله: "المقسطون عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن –وكلتا يديه يمين-"2 وقوله: "يطوي الله السموات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون، أين المتكبرون، ثم يطوي الأرضين بشماله، ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون"3 وقوله: "يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه، وعرشه على الماء، وبيده الأخرى القسط يخفض ويرفع"4 وكل هذه الأحاديث في الصحاح.(53/73)
__________
1 أخرجه الإمام مسلم في صحيحه –كتاب التوبة-4/2113 عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار..." الحديث.
2 أخرجه الإمام مسلم من حديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل وكلتا يديه يمين..." الحديث. ذكره في كتاب الإمارة 3/1458.
3 أخرجه مسلم في صحيحه –كتاب صفات المنافقين وأحكامهم- 4/2148 عن عبد الله بن عمر... به.
4 أخرجه الإمام البخاري في صحيحه –كتاب التفسير- باب (وكان عرشه على الماء) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله عز وجل: "أنفق أنفق عليك. وقال: يد الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار. وقال: أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض؟ فإنه لم يغض ما في يده، وكان عرشه على الماء وبيده الميزان يرفع ويخفض" 8/352.
وأخرجه في كتاب التوحيد –باب قول الله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يد الله ملأى..." الحديث. 13/393.
وأخرجه أيضاً في التوحيد –باب (وكان عرشه على الماء) كذلك 13/403.
وأخرجه الإمام مسلم في صحيحه –كتاب الزكاة- 2/690-691 عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله تبارك وتعالى: يا ابن آدم أنفق أنفق عليك. وقال يمين الله ملآى، سحاء لا يغيضها شيء الليل والنهار"، وأخرجه أيضاً بلفظ: "إن الله قال لي: أنفق أنفق عليك..." الحديث بتمامه.
ص -185-(53/74)
وفي صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات فقال: "إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل، حجابة النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه"1.
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال
__________
1 أخرجه مسلم في صحيحه –كتاب الإيمان- 1/161.
ص -186-
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن"1. رواه البخاري، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
وقال الإمام عثمان بن سعيد الدارمي في "الرد على الجهمية": لما فرغ المريسي من إنكار اليدين ونفيهما عن الله عز وجل أقبل قِبَل وجه الله ذي الجلال والإكرام ينفيه عنه –إلى أن قال-: واستمر الجحود به حتى ادعى أن وجه الله الذي وصفه بأنه ذو الجلال والإكرام مخلوق، لأنه ادعى أنه أعمال مخلوقة يتوجه بها إليه، وثواب وإنعام مخلوق يثيب به العامل، وزعم أنه قبلة الله وقبلة الله لا شك مخلوقة -ثم ساق الكلام في الرد عليه وأن القول بأن لفظ الوجه مجاز باطل- انتهى2.
وأما الجهة فقال شيخ الإسلام في "المنهاج": فإن مسمى لفظ الجهة يراد به أمر وجودي كالفلك الأعلى، ويراد به أمر عدمي كما وراء العالم، فإن أريد الثاني أن يقال كل جسم في جهة، وإذا أريد الأول امتنع أن يكون
__________
1 أخرجه البخاري في صحيحه –كتاب التفسير- باب (ومن دونهما جنتان) 8/623-624، وفي التوحيد باب قوله تعالى {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 13/423، ومسلم في كتاب الإيمان من صحيحه 1/112 ط العامرة.
2 هو في كتابه –رحمه الله- في الرد على المريسي ص: 157 وما بعدها.
ص -187-(53/75)
كل جسم في جسم آخر، فمن قال: الباري في جهة، وأراد بالجهة أمراً موجوداً فكل ما سواه مخلوق له في جهة بهذا التفسير فهو مخطئ.
وإن أراد بالجهة أمراً عدمياً وهو ما فوق العالم، وقال: إن الله فوق العالم، فقد أصاب، وليس فوق العالم موجود غيره، فلا يكون سبحانه في شيء من الموجودات.
وأما إذا فسرت الجهة بالأمر العدمي، فالعدم لا شيء.
وهذا ونحوه من الاستفسار وبيان ما يراد به اللفظ من معنى صحيح وباطل يزيل عامة الشبه.
فإذا قال نافي الرؤية: لو رؤي لكان في جهة وهذا ممتنع، فالرؤية ممتنعة.
قيل له: إن أردت بالجهة أمراً وجودياً فالمقدمة الأولى ممنوعة، وإن أردت بالجهة أمراً عدمياً، فالثانية ممنوعة، فيلزم بطلان أحد المقدمتين على كل تقدير، فتكون الحجة باطلة، وذلك أنه إن أراد بالجهة أمراً وجودياً لم يلزم أن كل مرئي في جهة وجودية، فإن سطح العالم الذي هو أعلاه ليس في جهة وجودية، ومع هذا تجوز رؤيته، فإنه جسم من الأجسام، فبطل قولهم: كل مرئي لا بد أن يكون في جهة إن أراد بالجهة أمراً
ص -188-(53/76)
وجودياً، وإن أراد بالجهة أمراً عدمياً منع المقدمة الثانية، فإنه إذا قال الباري ليس في جهة عدمية، وقد علم أن العدم ليس بشيء، كان حقيقة قوله أن الباري لا يكون موجوداً قائماً بنفسه حيث لا موجود إلا هو، وهذا باطل، وإن قال أحد: يستلزم أن يكون جسماً أو متحيزاً عاد الكلام معه في مسمى الجسم المتحيز، فإن قال: هذا يستلزم أن يكون مركباً من الجواهر المنفردة، أو من المادة والصورة وغير ذلك من المعاني الممتنعة على الرب لم يسلم له هذا التلازم، وإن قال يستلزم أن يكون الرب يشار إليه برفع الأيدي في الدعاء، وتعرج الملائكة والروح إليه، ويعرج محمد صلى الله عليه وسلم إليه، وتنزل الملائكة من عنده، وينزل منه القرآن ونحو ذلك من اللوازم التي نطق بهم الكتاب والسنة وما كان في معناها، قيل له: لا نسلم انتفاء هذه اللوازم، فإن قال: ما استلزم هذه اللوازم فهو جسم، قيل: إن أردت أنه يسمى جسماً في اللغة والشرع فهذا باطل، وإن أردت أن يكون جسماً مركباً من المادة والصورة، أو من الجواهر المركبة، فهذا أيضاً ممنوع في العقل، فإنما هو جسم باتفاق العقلاء كالأجسام، لا نسلم أنه مركب بهذا الاعتبار، كما قد بسط في موضعه.
وتمام ذلك بمعرفة البحث العقلي في تركيب الجسم الاصطلاحي من هذا وهذا، وقد بسط في غير هذا
ص -189-(53/77)
الموضع، وتبين به أن قول هؤلاء وهؤلاء باطل مخالف للأدلة العقلية القطعية. انتهى1.
وقال في كتابه "موافقة العقل الصحيح للنقل الصريح": وكذلك إذا قالوا: إن الله منزه عن الحدود والأحياز والجهات أوهموا الناس بأن مقصودهم بذلك أنه لا تحصره المخلوقات، ولا تحوزه المصنوعات، وهذا المعنى صحيح، ومقصودهم أنه ليس مبايناً2 للخلق، ولا منفصلاً عنه، وأنه ليس فوق رب السموات رب، ولا على العرش إله، وأن محمداًلم يعرج به إليه، ولم ينزل شيئاً، ولا يصعد إليه شيء ولا يتقرب إليه بشيء، ولا ترفع3 الأيدي إليه في الدعاء، ولا غيره، وغير ذلك من معاني الجهة.
وإذا قالوا: إنه ليس بجسم أوهموا الناس أنه ليس من جنس المخلوقات، ولا مثل أبدان الخلق، وهذا المعنى صحيح، ولكن مقصودهم بذلك أنه لا يرى، ولا يتكلم بنفسه، ولا تقوم به صفة، ولا هو مباين للخلق، وأمثال ذلك. النتهى.
فإذا تبين لك هذا وتحققته فهذه الألفاظ لم يرد بها
__________
1 هو في منهاج أهل السنة 2/558 وما بعدها ط جامعة الإمام.
2 في الأصل: "مباين".
3 سقطت: "ترفع" من ط الرياض.
ص -190-(53/78)
نص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه، ولا عن السلف الصالح، ولا الأئمة الأربعة، ولا غيرهم من أئمة الحديث.
فإذا اتضح لك هذا فلفظ الجهة لا تثبته مطلقاً، ولا تنفيه مطلقاً، لأنه محتمل لمعنيين: باطل وصحيح، فمن أطلقه نفياً أو إثباتاً سئل عما أراد به، فإن قال أردت بالجهة أنه منزه عن جهة وجودية تحيط به وتحويه إحاطة الظرف بالمظروف، قيل له: نعم هو أعظم من ذلك، وأكبر وأعلى، ولكن لا يلزم من كونه على عرشه هذا المعنى.
وإن أراد بالجهة أمراً يوجب مباينة الخلق للمخلوق، وعلوه على خلقه، واستواءه على عرشه، فنفيه بهذا المعنى باطل، وتسميته جهة اصطلاحي منه توصل به إلى نفي ما دل عليه العقل والنقل، فسمى ما فوق العالم جهة، وقال: منزه عن الجهة اهـ.
وبهذا يندفع عنا ما ألزمنا به من لم يعرف حقيقة ما عندنا، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وأما قوله: (ويقول بصحة الإشارة إليه في السماء).
فالجواب أن نقول: نعم نقول به، ونعتقده، وندين الله به، ونشهد الله وملائكته وجميع خلقه على اعتقاد ذلك، عليه نحيى وعليه نموت، وعليه نبعث إن شاء الله تعالى، لأنه ليس في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم،
ص -191-(53/79)
ولا عن أحد من سلف الأمة لا من الصحابة، ولا من التابعين لهم بإحسان، ولا عن الأئمة الذين أدركوا زمن الأهواء والاختلاف حرف واحد يخالف ذلك، ولا نصاً ولا ظاهراً، ولم يقل أحد منهم قط: إن الله ليس في السماء، ولا أنه ليس على العرش، ولا أنه بذاته في كل مكان، ولا أن جميع الأمكنة بالنسبة إليه سواء، ولا أنه لا داخل العالم، ولا خارجه، ولا منفصل عنه ولا متصل، ولا أنه لا تجوز الإشارة إليه بالأصابع ونحوها، بل قد ثبت في الصحيح عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خطب خطبته العظيمة يوم عرفات في أعظم مجمع حضره الرسول صلى الله عليه وسلم جعل يقول: "ألا هل بلغت؟" فيقولون: نعم، فيرفع أصبعه إلى السماء وينكبها إليهم ويقول: "اللهم اشهد"1 غير مرة.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في "أعلام الموقعين" في بيان رد الجهمية للنصوص المحكمة: الثالث عشر الإشارة إليه حساً إلى العلو، كما أشار إليه من هو أعلم به، وما يجب له، ويمتنع عليه من أفراخ الجهمية، والمعتزلة والفلاسفة، في أعظم مجمع على وجه الأرض برفعه أصبعه إلى السماء، ويقول: "اللهم اشهد" ليشهد
__________
1 أخرجه الإمام مسلم في صحيحه –كتاب الحج- وهو جزء من حديث جابر الطويل في صفة الحج 2/890.
ص -192-(53/80)
الجمع أن الرب الذي أرسله ودعا إليه، واستشهده هو الذي فوق سمواته على عرشه. انتهى.
فتبين من هذا أن هذا المذهب الملعون –أعني إنكار الإشارة إليه بالأصبع إلى السماء- مذهب أفراخ الجهمية، والمعتزلة والفلاسفة.
وقد استدل الملحد بكلام شيخ الإسلام وابن القيم على عدم تكفير أهل الأهواء، ورأى أنهما من العلماء المجتهدين الذين يعمل بأقوالهم، فإذا لم يكن ما قالاه هنا حقاً انتقض عليه الاستدلال بكلامهما هنالك.
وقوله: (ويدعي أن نزوله إلى السماء الدنيا حقيقة، فيجسمه –تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيراً- فأين تنزيه الله تعالى بعد جعله جسماً يشترك فيه معه أخس الجمادات، وفي ذلك من النقص والإزراء بألوهيته سبحانه ما هو منزه عنه).
فالجواب أن نقول: نعم قد ثبت ذلك بالكتاب والسنة وأجمع على ذلك أهل السنة والجماعة، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى أحاديث النزول في "الصواعق المرسلة"، وذكر من كلام الأئمة، ومن الأجوبة العقلية والنقلية ما يكفي، وذكر في "حادي الأرواح" الأحاديث الواردة في ذلك، فمن أراد الوقوف عليها فليراجعها،
ص -193-(53/81)
ونذكر هنا شيئاً يسيراً من كلام الأئمة ليتبين لهذا الجاهل أنه قد اتبع سبيل أفراخ الجهمية والفلاسفة والمعتزلة، وأنه قد حاد عن سبيل المؤمنين.
قال شيخ الإسلام: قال أبو عبد الله محمد بن عبدالله الدميني1 الإمام المشهور من أئمة المالكية في كتابه الذي صنفه في أصول السنة في باب الإيمان بالنزول قال:
ومن قول أهل السنة أن الله ينزل إلى سماء الدنيا، ويؤمنون بذلك من غير أن يحدوا فيه حداً، وذكر الحديث من طريق مالك وغيره –إلى أن قال-: وأخبرني وهب عن ابن وضاح عن الزهري عن ابن2 عباد قال: وممن أدركت من المشايخ مالك وسفيان وفضيل بن عياض، وعيسى بن المبارك3، ووكيع كانوا يقولون: إن النزول حق.
قال ابن وضاح: وسألت يوسف بن عدي4 عن النزول قال: نعم أومن به ولا أحد فيه حداً. وسألت عنه ابن معين فقال: نعم أؤمن به ولا أحد فيه حداً اهـ.
__________
1 كذا في النسخ "الدميني"، والصواب:"ابن أبي زمنين"، وكتابه مشهور ومنه نسخة خطية مصورة في المدينة.
2 سقط: "ابن" من ط الرياض.
3 علق الشيخ محمد رشيد رضا على هذا الموضوع فقال: كذا في الأصلين، وفي هامش أحدهما: "أظنه عبد الله" اهـ.
وفي الأصل الهندي هكذا رسمت: "عيسى أظنه عبد الله بن المبارك".
وما ظنه هو الصواب.
4 في ط الرياض: "عدين".
ص -194-(53/82)
وقال أبو عثمان الصابوني: فلما صح خبر النزول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقر به أهل السنة، وقبلوا الخبر، وأثبتوا النزول على ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يعتقدوا تشبيهاً له بنزول خلقه، وعلموا وعرفوا وتحققوا واعتقدوا أن صفات الرب تبارك وتعالى لا تشبة صفات الخلق، كما أن ذاته لا تشبه ذوات الخلق تعالى الله عما يقولون المشبهة والمعطلة علوا كبيرا، ولعنهم الله لعنا كثيراً1.
وقال الإمام العارف معمر بن أحمد الأصبهاني شيخ الصوفية في حدود المائة الرابعة قال: أحببت أن أوصي أصحابي بوصية من السنة، وموعظة من الحكمة، وأجمع ما كان عليه أهل الحديث والأثر بلا كذب، وأهل المعرفة والتصوف من المتقدمين والمتأخرين قال فيها: وأن الله استوى على عرشه بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل، والاستواء معقول2، والكيف فيه مجهول، وأنه عز وجل البائن عن خلقه، والخلق منه بائنون، بلا حلول ولا ممازجة، ولا اختلاط ولا ملاصقة، لأنه الفرد بائن من الخلق، الواحد الغني عن الخلق، وأن الله عز وجل سميع بصير، عليم خبير، يتكلم ويرضى ويسخط، ويضحك ويعجب، ويتجلى لعباده يوم القيامة ضاحكاً وينزل كل ليلة إلى سماء
__________
1 هو في كتابه "الرسالة في اعتقاد أهل السنة" ص 48-49 ط الدار السلفية بالكويت.
2 في ط الرياض: "معقولي".
ص -195-(53/83)
الدنيا كيف شاء فيقول هل من داع فأستجيب له؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ حتى يطلع الفجر، ونزول الرب إلى السماء بلا كيف، ولا تشبيه، ولا تأويل، فمن أنكر النزول أو تأول فهو مبتدع ضال، وسائر الصفوة على هذا اهـ1.
وقال الشيخ الإمام أبو بكر أحمد بن هارون الخلال في كتاب "السنة" حدثنا أبو بكر الأثرم حدثنا إبراهيم بن الحارث –يعني العبادي- حدثنا الليث بن يحيى قال سمعت إبراهيم بن الأشعث قال أبو بكر –هو صاحب الفضيل- قال: سمعت الفضيل بن عياض يقول: ليس لنا أن نتوهم في الله كيف هو، لأن الله تعالى وصف نفسه فأبلغ فقال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ.وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص: 1-2-3] فلا صفة أبلغ مما وصف به نفسه، وكل هذا النزول والضحك، وهذه المباهاة، وهذا الاطلاع كما يشاء أن ينزل، وكما يشاء أن يباهي، وكما يشاء أن يضحك، وكما يشاء أن يطلع، فليس لنا أن نتوهم كيف وكيف، فإذا قال الجهمي: أنا أكفر برب يزول عن مكانه فقل: بل أؤمن
__________
1 روى هذا وزيادة: إسماعيل التيمي رحمه الله في كتابه "الحجة 1/231-244، وقوله: (على هذا) يعني على إثبات النزول وتضليل من ينكره.
ص -196-(53/84)
برب يفعل ما يشاء ونقل هذا عن الفضيل جماعة منهم البخاري في كتابه خلق أفعال العباد. انتهى1.
وقال الإمام أبو عبدالله محمد بن خفيف في كتابه الذي سماه: "اعتقاد التوحيد في إثبات الأسماء والصفات" قال: ومما نعتقده أن الله ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا في ثلث الليل الآخر، فيبسط يده فيقول: هل من سائل" الحديث.
وقال أبو الحسن الأشعري في كتابه الذي سماه "الإبانة في أصول الديانة" وقد ذكر أصحابه أنه آخر كتاب صنفه وعليه يعتمدون في الذب عنه عند من يطعن عليه، فقال2:
فصل في إبانة قول أهل الحق والسنة، فإن قال قائل قد أنكرتم قول المعتزلة، والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة، فعرفونا قولكم الذي به تقولون، وديانتكم التي بها تدينون؟ قيل له:
قولنا الذي نقول به، وديانتنا التي ندين بها: التمسك بكلام ربنا، وسنة نبينا3، وما روي عن الصحابة
__________
1 ورواه اللالكائي ص 452 وغيره، وعلقه البخاري في خلق أفعال العباد رقم 61.
2 هو في كتاب الإبانة ط الجامعة الإسلامية ص 52 وما بعدها.
3 في الإبانة: "صلى الله عليه وآله وسلم".
ص -197-(53/85)
والتابعين، وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن حنبل –نضر الله وجهه، ورفع درجته، وأجزل مثوبته- قائلون، وما خالف قوله مخالفون، لأنه الإمام الفاضل، والرئيس الكامل، الذي أبان الله به الحق، ورفع به الضلالة، وأوضح به المنهاج، وقمع بدعة المبتدعين، وزيغ الزائغين، وشك الشاكين، فرحمة الله عليه من إمام مقدم، وجليل معظم، وكبير مفهم1، إلى أن قال: وأنه مستو على عرشه كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، وأن له وجهاً كما قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:27]، وأنه لد يدين بلا كيف كما قال: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [صّ: 75]، وقال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاء}[المائدة:64] إلى أن قال:
ونصدق بجميع الروايات التي أثبتها أهل النقل من النزول إلى السماء الدنيا، وأن الرب عز وجل يقول: هل من سائل هل من مستغفر، وسائر ما نقلوه وأثبتوه خلافاً لما قال أهل الزيغ والتضليل. انتهى.
وقال عثمان بن سعيد الدارمي في كتابه المعروف "بنقض عثمان بن سعيد على المريسي الجهمي العنيد فيما
__________
1 في الإبانة: (مفخم)، وهو الصواب.
ص -198-(53/86)
افترى على الله في التوحيد، قال1: وادعى المعارض أيضاً أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله ينزل إلى السماء الدنيا حتى يمضي ثلث الليل فيقول: هل من مستغفر؟ هل من تائب؟ هل من داع؟"، قال: فادعى أن الله لا ينزل بنفسه إنما ينزل أمره ورحمته وهو على العرش، وبكل مكان من غير زوال، لأنه الحي القيوم، والقيوم بزعمه من لا يزول، قال: فيقال2 لهذا المعارض: وهذا أيضاً من حجج النساء والصبيان، ومن ليس عنده بيان، ولا لمذهبه برهان، لأن أمر الله ورحمته ينزل في كل ساعة ووقت وأوان، فما بال النبي صلى الله عليه وسلم يحد لنزوله الليل دون النهار، ويوقت الليل شطره أو الأسحار، فأمره ورحمته يدعوان العباد إلى الاستغفار، أو بقدر الأمر والرحمة أن يتكلما دونه فيقولا: هل من داع فأجيبه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من سائل فأعطيه؟ فإن قررت مذهبك لزمك أن تدعي أن الرحمة والأمر هما اللذان يدعوان إلى الإجابة والاستغفار بكلامه دون الله، وهذا محال عند السفهاء، فكيف عند الفقهاء؟! قد علمتم ذلك ولكن تكابرون، وما بال رحمته وأمره ينزلان من عنده شطر الليل ثم يمكثان إلى طلوع الفجر، ثم يرفعان، لأن
__________
1 هو في كتاب النقض ص19 وما بعدها.
2 في النسخ: (فقال).
ص -199-(53/87)
رفاعة –راويه- يقول في حديثه: "حتى ينفجر الفجر" قد علمتم إن شاء الله أن هذا التأويل باطل ولا يقبله إلا جاهل.
وأما دعواك أن تفسير القيوم الذي لا يزول عن مكانه ولا يتحرك، فلا يقبل منك هذا التفسير إلا بأثر صحيح مأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو عن بعض أصحابه، أو التابعين، لأن الحي القيوم يفعل ما يشاء، ويتحرك إذا شاء ويهبط ويرتفع إذا شاء ويقبض ويبسط ويقوم ويجلس إذا شاء، لأن أمارة ما بين الحي والميت التحرك1، كل حي متحرك لا محالة، وكل ميت غير متحرك لا محالة، ومن يلتفت إلى تفسيرك وتفسير صاحبك مع تفسير نبي الرحمة ورسول رب العزة، إذ فسر نزوله مشروعاً منصوصاً، ووقت لنزوله مخصوصاً لم يدع لك ولا لأصحابك فيه لبساً2 ولا عويصاً انتهى.
ولو ذهبنا ننقل أقوال العلماء أهل السنة والجماعة المتفق على إمامتهم ودرايتهم لطال الكلام، وبما ذكرناه يندفع الخصام، وينجلي تلبيس هؤلاء الجهلة الطغام، فنقتصر على ما ذكر من كلام أئمة الإسلام.
وأما قوله: (فيجسمه تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيراً).
__________
1 في ط الرياض: "والمتحرك".
2 من النقض، وفي النسخ (لعباً).
ص -200-(53/88)
الضياء الشارق في رد شبهات الماذق المارق - سليمان بن سحمان (3)
فيقال في جوابه إنك أيها الضال المضل لا تفهم من كون الله على العرش إلا ما يثبت لأي جسم كان على أي جسم كان، وهذا الكلام اللازم بعينه تابع لهذا المفهوم، وأما استواء يليق بجلال الله، ونزول وهبوط وارتفاع يليق بجلال الله ويختص به، فلا يلزمه شيء من اللوازم الباطلة التي يجب نفيها، كما يلزم سائل الأجسام، وصار هذا مثل قول الممثل: إذا كان للعالم صانع، فإما أن يكون جوهراً أو عرضاً، وكلاهما محال إذ لا يعقل موجود إلا هذان.
وقوله: إذا كان مستوياً على العرش فهو مماثل لاستواء الإنسان على السرير، والفلك إذ لا يعلم الاستواء إلا هكذا، فإن كليهما1 مثل، وكلاهما عطل حقيقة ما وصف الله به نفسه، وامتاز الأول بتعطيل كل اسم لا استواء الحقيقة، وامتاز الثاني بإثبات استواء هو من خصائص المخلوقين، والقول الفاصل هو ما عليه الأمة الوسط من أن الله مستو على عرشه استواء يليق بجلاله ويختص به، ونزول وارتفاع يليق به ويختص به، فكما أنه موصوف بأنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه سميع بصير، ونحو ذلك –ولا يجوز أن يثبت للعلم والقدرة خصائص الأعراض التي كعلم المخلوقين
__________
1 في الأصل: "كلاهما".
ص -201-(54/1)
وقدرتهم- فكذلك هو سبحانه فوق العرش، وينزل منه كل آخر ليلة إلى سماء الدنيا، ولا يثبت لفوقيته ونزوله وصعوده خصائص فوقية المخلوق على المخلوق، ونزوله وصعوده وملزوماتها.
وأما زعمه أنا نجسمه إذا أثبتنا ما أثبته الله لنفسه. فهذا ليس ببدع من ألقاب أهل الضلال.
ثم اعلم أنه ليس أحد منا يقول: إن الله جسم، فإن هذا اللفظ عندنا1 مبتدع محدث في الإسلام لم يقل به أحد من السلف الصالح والصدر الأول.
وأو ما ظهر إطلاق لفظ الجسم من متكلمة الشيعة كهشام بن الحكم، كذا نقل ابن حزم وغيره.
قال أبو الحسن الأشعري في كتاب "مقالات الإسلاميين، واختلاف المصلين"2: اختلف الروافض أصحاب الإمامية في التجسيم وهم ست فرق:
فالفرقة الأولى: الهشامية أصحاب هشام بن الحكم الرافضي، يزعمون أن معبودهم جسم وله نهاية، وحد طويل عريض عميق، طوله مثل عرضه، وعرضه مثل عمقه، لا يوفي بعضه عن بعض، وزعموا أنه نور ساطع،
__________
1 "عندنا" ليست في الأصل.
2 هو في الكتاب ط فيسبادن ص 31-35.
ص -202-(54/2)
له قدر من الأقدار في مكان دون مكان، كالسبيكة الصافية يتلألأ كاللؤلؤة المستديرة من جميع جوانبها، ذو لون وطعم ورائحة ومجسة وذكر كلاماً طويلاً.
والفرقة الثانية: من الرافضة يزعمون أن ربهم ليس بصورة، ولا كالأجسام، وإنما يذهبون في قولهم: إنه جسم، إلى أنه موجود ولا يثبتون الباري ذا أجزاء مؤتلفة، وأبعاض متلاصقة، ويزعمون أن الله على العرش مستو بلا مماسة ولا كيف.
والفرقة الثالثة: من الروافض يزعمون أن ربهم على صورة الإنسان، ويمنعون أن يكون جسماً.
والفرقة الرابعة: من الرافضة الهشامية أصحاب هشام بن سالم الجواليقي يزعمون أن ربهم على صورة الإنسان، وينكرون أن يكون لحماً ودماً، ويقولون إنه نور ساطع يتلألأ بياضاً، وإنه ذو حواس كحواس الإنسان، له يد ورجل وأنف وأذن وفم وعين، وأنه يسمع بغير ما به يبصر وكذلك سائر حواسه متغايرة عندهم، قال: وحكى أبو عيسى الوراق أن هشام بن سالم كان يزعم أن لربه وفرة متغايرة سوداء، وأن ذلك نور أسود.
والفرقة الخامسة: يزعمون أن لرب العالمين ضياء خالصاً ونوراً بحتاً، وهو كالمصباح الذي من حيث ما جئته يلقاك بنور، وليس بذي صورة، ولا أعضاء، ولا
ص -203-(54/3)
اختلاف في الأجزاء، وأنكروا أن يكون على صورة الإنسان، أو على صورة شيء من الحيوان. قال:
والفرقة السادسة: من الرافضة يزعمون أن ربهم ليس بجسم، ولا بصورة ولا يشبه الأشياء، ولا يتحرك ولا يسكن ولا يماس. وقالوا في التوحيد بقول المعتزلة والخوارج.
قال أبو الحسن الأشعري: وهؤلاء قوم من متأخريهم، فأما أوائلهم فإنهم كانوا يقولون بما حكينا عنهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية1: وهذا الذي ذكره أبو الحسن الأشعري عن قدماء الشيعة من القول بالتجسيم قد اتفق على نقله عنهم أرباب المقالات حتى نفس الشيعة كابن النوبختي ذكر ذلك عن هؤلاء الشيعة، ثم ذكر من قال بالتجسيم من المتكلمين وغيرهم ممن يزعم أنه من أهل السنة –إلى أن قال-:
وأئمة النفاة –يعني نفاة التجسيم- هم الجهمية من المعتزلة ونحوهم، يجعلون من أثبت الصفات مجسماً بناء عندهم على أن الصفات عندهم لا تقوم إلا بجسم، ويقولون: إن الجسم مركب من الجواهر المنفردة، ومن
__________
1 نقل –رحمه الله- كلام الأشعري السابق كله، ثم أعقبه بما تراه، وذلك في كتابه منهاج السنة 2/217 و221.
ص -204-(54/4)
المادة والصورة1. فقال لهم أهل الإثبات: قولكم منقوض بإثبات الأسماء الحسنى، فإن الله تعالى حي عليم قدير، وإن أمكن إثبات حي عليم قدير وليس بجسم، أمكن أن يكون له حياة وعلم وقدرة وليس بجسم وإن لم يمكن ذلك، فما كان جوابكم عن إثبات الأسماء؟ كان جوابنا عن إثبات الصفات- انتهى المقصود منه.
فإذا تبين لك أن هذا المذهب –أعني القول بالتجسيم- هو مذهب هؤلاء المبتدعة الضلال، ومن وافقهم من أتباع الأئمة.
فمذهب الوهابية هو مذهب أهل السنة المحضة، كالإمام أحمد وذويه، فلا يطلقون لفظ التجسيم لا نفياً ولا إثباتاً لوجهين:
أحدهما: أنه ليس مأثوراً لا في كتاب، ولا سنة ولا أثر عن أحد الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا غيرهم من أئمة المسلمين، فصار من البدع المذمومة.
الثاني: أن معناه يدخل فيه حق وباطل. انتهى من المنهاج لشيخ الإسلام رحمه الله2، وتمام الكلام فيه، فمن أراد الوقوف عليه فليراجعه.
__________
1 من الإبانة، وفي النسخ: (والصور).
2 هو في 2/224-225.
ص -205-(54/5)
فصل
قال العراقي: (ومن عظيم سفهه أنه لما رأى العقل مخالفاً لجميع ما يدعيه، خلع الحياء فعطل العقل، ولم يحكمه في شيء، وتصدى إلى جعل الناس كالبهائم) إلى آخر ما هذى به.
والجواب أن نقول: لما رأى الشيخ رحمه الله أن هؤلاء الذين هم أفراخ المتفلسفة، وأتباع الهند واليونان وورثة المجوس والمشركين، وضلال اليهود والنصارى والصابئين، وأشكالهم، وأشباههم فيها يعتقدونه أنهم في معرفة ذلك اعتمدوا على مجرد عقولهم، ودفعوا بما اقتضى قياس عقولهم ما دل على الكتاب والسنة نصاً أو ظاهراً، ولم يحكموا كتاب الله وسنة رسوله، ولم يلتفتوا إلى أقوال الصحابة ومن بعدهم من التابعين لهم بإحسان، ولم يسلكوا طريق الأئمة في باب معرفة الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، وفي باب العمل والعبادة، وأنهم خالفوا صحيح العقل الموافق لصريح النقل، مما أجمع عليه سلف الأمة
ص -206-
وأئمتها: عطل عقول هؤلاء، ولم يحكمها في شيء، فإن البهائم التي لا تعقل شيئاً أهدى سبيلاً من عقول هؤلاء كما قال تعالى: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44] لأنها قد تهتدي إلى بعض منافعها.
وقد كان من المعلوم بالضرورة أن أصح الناس عقولاً، وأكملهم آراء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان، ومن بعدهم من السلف الصالح والصدر الأول، وأئمة الدين والحديث، ومن على طريقهم، فمن خالفهم فعقله فاسد ورأيه كاسد.
ومن المعلوم أيضاً أن الشيخ رحمه الله لم ينف معقول هؤلاء الأئمة، بل حكم ما وافق المنقول من معقولهم، واعتمده في رد أباطيل هؤلاء الملاحدة وأشباههم، وكذلك ما أصلوه من الأصول، وبنوا عليه من الفروع الموافق لقواعد الشريعة المطهرة يعمل به، ويحكم به، فمن نسب إليه غير ذلك فقد أخطأ، وظلم نفسه، وافترى عليه، وقد خاب من افترى.
ص -207-(54/6)
فصل
قال العراقي: (قد آن لنا أن نذكر ههنا خلاصة ما تمذهبت به الفرقة المارقة الوهابية1 من الأباطيل، ثم نتكلم عليها في المباحث الآتية بما يردها ويدحض حجتها. فنقول:
قد اشتملت عقيدتهم الباطلة على أمور:
الأول: إثبات الوجه، واليد والجهة للبارئ سبحانه، وجعله جسماً ينزل ويصعد.
الثاني: تقديم النقل على العقل، وعدم جواز الرجوع إليه في الأمر الدينية.
الثالث: نفي الإجماع وإنكاره.
الرابع: نفي القياس.
الخامس: عدم جواز التقليد للمجتهدين من أئمة الدين، وتكفير من قلدهم.
__________
1 في ط الرياض: "والوهابية".
ص -208-
السادس: تكفيرهم لكل من خالفهم من المسلمين.
السابع: النهي عن التوسل إلى الله تعالى بالرسول أو بغيره من الأولياء والصالحين.
الثامن: تحريم زيارة قبور الأنبياء والصالحين.
التاسع: تكفير من حلف بغير الله وعده مشركاً.
العاشر: تكفير من نذر لغير الله، أو ذبح عند مراقد الأنبياء والصالحين).
فالجواب أن نقول: نعم قد اشتملت عقيدة الوهابية على إثبات الوجه واليد كما ثبت ذلك في الكتاب والسنة وأقوال أئمة السلف، كما هو معروف مشهور في عقائدهم، وفيما صنفوه من الرد على الجهمية وغيرهم من أهل البدع، وذكرنا من ذلك طرفاً فيما تقدم.
وأما لفظ الجهة، وجعله سبحانه وتعالى جسماً فهذا من الكذب على الوهابية وقد تقدم الكلام على ذلك قريباً، وفيه بحث وتفصيل.
وأما كونه تعالى ينزل ويصعد فهو ثابت بالأحاديث الصحيحة أحاديث النزول، وقد تقدم الكلام على ذلك، وهو مما نعتقده وندين الله به على ما يليق بجلاله وعظمته، ولو كره الكافرون.
ص -209-(54/7)
وأما قوله الثاني: تقدم النقل على العقل.
فأقول: وهذا أيضاً مما ندين الله به، ونعتقده، ومن لم يقدم النقل على العقل فما آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، ومع ذلك نقول: إن العقل الصحيح لا يخالف النقل الصريح، فإن اختلفا فالعقل إما فاسد، أو النقل غير صحيح ولا صريح.
وأما عدم جواز الرجوع إليه في الأمور الدينية فما ذاك إلا لمخالفة النقل الصحيح الصريح، وأما إذا وافق النقل فلا مانع من جوازه عندنا، بل نعتقد ذلك ونعتمده.
وقوله: الثالث نفي الإجماع وإنكاره.
فأقول هذا كذب فإنا نعتقد أنه الأصل الثالث، وأن الأمة لا تجمع على ضلالة، لكن ننكر إجماع عباد القبور، وأفراخ المتفلسفة، وأنباط الفرس والروم، ومن نحا نحوهم، وحذا حذوهم1، وأيضاً ننكر دعوى الإجماع على أن الاجتهاد قد انقطع، وأن التقليد واجب.
وقوله: الرابع نفي القياس.
__________
1 سبق التفصيل في ذلك ها هنا ص 166 وما بعدها.
ص -210-
فأقول: أما نفي القياس مطلقاً من الكذب، فإنه فيه ما هو صحيح، وفيه ما هو باطل.
وقوله: الخامس عدم جواز التقليد للمجتهدين من أئمة الدين وتكفير من قلدهم.
فأقول: وهذا أيضاً من الكذب على الوهابية، فإنهم كانوا على مذهب أحمد بن حنبل1، ولكن ربما يوجد ذلك في كتب بعض من ينسبونه هؤلاء إليهم، لاعتقاده أنهم على الحق، وأنهم مخالفون لعباد القبور، ولأهل الأهواء من أهل البدع، كما قد يوجد ذلك في كتب صديق الهندي وغيره.
وقوله: السادس تكفيرهم كل من خالفهم من المسلمين.
فأقول: وهذا أيضاً كذب على الوهابية، فإنهم لا يكفرون المسلمين، وإنما يكفرون من كفر الله ورسوله، وأهل العلم من غلاة عباد القبور، وغلاة الجهمية، وغلاة القدرية والمجبرة وغلاة الروافض وغلاة المعتزلة وغيرهم، ممن كفره السلف الصالح بعد قيام الحجة.(54/8)
__________
1 سبق تفصيل ذلك ها هنا ص 172 وبيان أن المحرم هو التقليد الذي فيه مخالفة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ص -211-
وقوله: السابع النهي عن التوسل إلى الله تعالى بالرسول، وبغيره من الأولياء والصالحين.
فأقول: نعم، كانوا ينهون عن التوسل بالرسول، وبغيره من الأولياء والصالحين بعد مماتهم، وفي حال غيبتهم، إذا كان التوسل على ما يعرف في لغة الصحابة والتابعين والأئمة المهتدين. وأما في حال حياتهم بهذا العرف فلا ينهون عنه ولا ينكرونه. وأما على عرف غلاة عباد القبور واصطلاحهم الحادث فهم ينهون عنه ويكفرون من دعا أهل القبور، واستغاث بهم والتجأ إليهم بعد قيام الحجة عليهم.
وقوله: الثامن تحريم زيارة قبور الأنبياء والصالحين.
فأقول: وهذا أيضاً من الكذب على الوهابين، فإنه يجوز عندهم زيارة القبور على الوجه الشرعي. وأما شد الرحال إليها فيمنعون من ذلك، وينكرونه لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد"1 الحديث.
__________
1 أخرجه البخاري في صحيحه –كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة- 3/63، ومسلم في كتاب الحج من صحيحه 2/1014-1015 كلاهما من طريق الزهري عن سعيد عن أبي هريرة مرفوعاً.. به. وفي لفظ لمسلم: "تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد".
وأخرجه مسلم أيضاً من طريق عبد الحميد بن جعفر أن عمران بن أبي أنس حدثه أن سلمان الأغر حدثه أنه سمع أبا هريرة يخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد".
ص -212-(54/9)
وقوله: التاسع تكفير من حلف بغير الله، وعده مشركاً.
فأقول: هذا كذب على الوهابية، فإنهم لا يكفرون بمجرد الحلف بغير الله، وفيه بحث.
وقوله: العاشر تكفير من نذر لغير الله، أو ذبح عند مراقد الأنبياء والصالحين.
فأقول: نعم يكفرون من نذر لغير الله، وذبح لغيره، فإن النذر والذبح من خصائض الإلهية، فمن أشرك بالله أحداً من المخلوقين في خصائص الخالق فلا مانع من تكفيره بعد قيام الحجة عليه، وسيأتي الكلام على كلامه1 عليها إن شاء الله تعالى.
__________
1 "على كلامه" سقطت من الأصل.
ص -213-
فصل
قال العراقي: (تجسيم الوهابية:
إن الوهابية التي كفرت من زار قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم متوسلاً إلى الله تعالى، وعدت ذلك شركاً في ألوهيته، وقالت بوجوب تنزيهه تعالى قد خبطت كل الخبط في تنزيه الله تعالى، حيث أبت إلا جعل استوائه سبحانه ثبوتاً على عرشه، واستقراراً وعلواً فوقه، وأثبتت له الوجه واليدين، وبعضته سبحانه فجعلته ماسكاً بالسموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والملك على إصبع، ثم أثبتت له الجهة، فقالت: هو فوق السموات ثابت على العرش، يشار إليه بالأصابع إلى فوق إشارة حسية، وينزل إلى السماء الدنيا، ويصعد، قال بعضهم:
لئن كان تجسيماً ثبوت استوائه
على عرشه إني إذا لمجسم
وإن كان تشبيها ثبوت صفاته
فعن ذلك التشبيه لا أتلعثم
ص -214-
وإن كان تنزيها جحود استوائه
وأوصافه أو كونه يتكلم
فمن ذلك التنزيه نزهت ربنا
بتوفيقه والله أعلى وأعظم)(54/10)
والجواب أن نقول: بل الذي خبط كل الخبط وهام في مهامه الخرط والهمط، وكشف جلباب الحياء، وسلك مسالك أهل الغي والردى، هذا العراقي الملحد، حيث جعل إثبات صفات الله ذي الجلال والإكرام تجسيماً وتشبيهاً، ومن وصفه بها فقد بعضه، وصرح بعدم علوه على عرشه وارتفاعه عليه عناداً وجحوداً، وتمرداً وتكبراً وسموداً، فتعالى الله عما يقول هذا الجاحد علواً كبيراً.
فأما كون الوهابية أبت إلا جعل استوائه سبحانه ثبوتاً على عرشه، واستقراراً وعلواً فوقه: فنعم، وبذلك أنزل الله كتبه وأرسل رسله، وأجمع على ذلك سلف الأمة وأئمتها.
فالوهابية يصفون الله تعالى بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تشبيه، ولا تمثيل، فيثبتون لله ما أثبته لنفسه من استوائه على عرشه وعلوه عليه، وأنه بائن من خلقه، ويثبتون ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات، وينفون عنه النقائص
ص -215-
والعيوب، ومشابهة المخلوقات، إثباتاً بلا تمثيل، وتنزيهاً بلا تعطيل "فمن شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله تشبيهاً".
إذا تبين لك هذا وتحققته فنذكر من كلام الأئمة ما بيين غلط هذا الملحد، وخروجه عن الصراط المستقيم، وسلوكه طريق أصحاب الجحيم، ممن نكب عن الدين القويم، واتبع غير سبيل المؤمنين من الصحابة والتابعين والأئمة المهتدين.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: ونحن نذكر من ألفاظ السلف بأعيانها وألفاظ من نقل مذهبهم إلى غير ذلك من الوجوه بحسب ما يحتمله هذا الموضع ما يعلم به مذهبهم:
روى أبو بكر البيهقي في "الأسماء والصفات" بإسناد صحيح عن الأوزاعي قال: "كنا والتابعون متوافرون نقول: إن الله تعالى ذكره فوق عرشه، ونؤمن بما وردت فيه السنة من الصفات".
قال الشيخ في كتاب الفقه الأكبر المشهور عند أصحاب أبي حنيفة الذي رووه بالإسناد عن أبي مطيع بن
ص -216-(54/11)
عبد الله1 البلخي: سألت أبا حنيفة عن الفقه الأكبر؟ فقال: لا تكفرن أحداً بذنب، ولا تنف2 أحداً به من الإيمان، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك. إلى أن قال:
قال أبو حنيفة عمن قال: "لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض" فقد كفر، لأن الله يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] وعرشه فوق سبع سموات. قلت: فإن قال: إنه على العرش استوى، ولكنه يقول: لا أدري العرش في السماء أم في الأرض؟ قال: هو كافر، لأنه أنكر أن يكون في السماء، لأنه تعالى في أعلى عليين، وأنه يدعي من أعلى لا من أسفل.
وفي لفظ: سألت أبا حنيفة عمن يقول: "لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض" قال: قد كفر قال: لأن الله يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، [وعرشه فوق سبع سموات. قال: فإنه يقول على العرش استوى]3. لكن لا يدري العرش في الأرض أم في
__________
1 في الأصل: "ابن عبد".
2 في النسخ: "لا تنفي" والمثبت من الحموية للشيخ ابن تيمية –مجموع الفتاوى 5/46.
3 ما بين معقوفين من الحموية للشيخ ابن تيمية رحمه الله تعالى.
ص -217-(54/12)
السماء؟ قال: إذاً أنكر أنه في السماء فقد كفر.
ففي هذا الكلام المشهور عن أبي حنيفة عند أصحابه أنه كفر الواقف الذي يقول: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض. فكيف يكون النافي الجاحد الذي يقول: ليس في السماء ولا في الأرض، واحتج على كفره بقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، قال: وعرشه على سبع سموات، وبين بهذا أن قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] دالٌ على أن الله نفسه فوق العرش، ثم إنه أردف ذلك بتكفير من قال: إنه على العرش استوى، ولكن توقف في كون العرش في السماء أم في الأرض. قال: لأنه أنكر أنه في السماء، لأن الله في أعلى عليين، وأنه يدعي من أعلى لا من أسفل.
وهذا تصريح من أبي حنيفة بتكفير من أنكر أن يكون الله في السماء، واحتج على ذلك بأن الله في أعلى عليين، وأنه يدعي من أعلى لا من أسفل، وكل من هاتين الحجتين فطرية عقلية، فإن القلوب مفطورة على الإقرار بأن الله في العلو، وعلى أنه يدعى من أعلى لا من أسفل، وقد جاء اللفظ الآخر صريحاً عنه بذلك، فقال: إذا أنكر أنه في السماء فقد كفر.
ص -218-(54/13)
وروى هذا اللفظ بالإسناد عنه شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري الهروي في كتاب "الفاروق".
وروى أيضاً ابن أبي حاتم أن هشام بن عبد الله الرازي صاحب محمد بن الحسن قاضي الري الذي حبس رجلاً في التجهم فتاب، فجيء به إلى هشام ليطلقه فقال: الحمد لله على التوبة، فامتحنه هشام، فقال: أتشهد أن الله على عرشه بائن من خلقه، فقال: أشهد أنه على عرشه، ولا أدري ما بائن من خلقه، فقال: ردوه إلى الحبس فإنه لم يتب.
وروي أيضاً عن يحيى بن معاذ الرازي أنه قال: إن الله على العرش بائن من الخلق، وقد أحاط بكل شيء علماً، وأحصى كل شيء عدداً، لا يشك في هذه المقالة إلا جهمي رديء ضليل، وهالك مرتاب، يمزج الله تعالى بخلقه ويخلظ منه الذات بالأقذار والأنتان.
وروى أيضاً عن ابن المديني لما سئل: ما قول أهل الجماعة؟ قال: يؤمنون بالرؤية والكلام، وأن الله فوق السموات على العرش استوى، فسئل عن قوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7]، فقال: اقرأ ما قبلها: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْض}[المجادلة: 7].
ص -219-(54/14)
وروى أيضاً عن أبي عيسى الترمذي قال: هو على العرش كما وصف في كتابه، وعلمه وقدرته وسلطانه في كل مكان.
وروى عن أبي زرعة الرازي أنه لما سئل عن تفسير قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] فقال: تفسيره كما تقرأ، هو على العرش، وعلمه في كل مكان، ومن قال غير هذا فعليه لعنة الله –إلى أن قال-:
وروى عبد الله بن أحمد وغيره بإسناد صحيح عن ابن المبارك أنه قيل له: بماذا نعرف ربنا؟ فقال: بأنه فوق السموات على عرشه، بائن من خلقه، ولا نقول كما تقول الجهمية، إنه هاهنا في الأرض.
وهكذا قال الإمام أحمد وغيره.
وروى بإسناد صحيح عن سليمان بن حرب الإمام: سمعت حماد بن زيد، وذكر هؤلاء الجهمية، فقال: إنما يحاولون أن يقولوا: ليس في السماء شيء.
وروى ابن أبي حاتم في كتاب "الرد على الجهمية" عن سعيد بن عامر الضبعي –إمام أهل البصرة علماً وديناً من شيوخ الإمام أحمد- أنه ذكر عنده الجهمية فقال: هم أشر1 قولاً من اليهود والنصارى، وقد اجتمع اليهود
__________
1 في ط الرياض، والمنار: "شر".
ص -220-(54/15)
والنصارى وأهل الأديان مع المسلمين على أن الله على العرش، وقالوا هم: ليس على شيء.
وقال محمد بن إسحاق بن خزيمة إمام الأئمة: من لم يقر أن الله فوق سمواته على عرشه، بائن من خلقه، وجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه، ثم ألقي على مزبلة لئلا يتأذى بريحه أهل القبلة ولا أهل الذمة. ذكره عنه الحاكم بإسناد صحيح.
وذكر كلاماً طويلاً ثم قال:
وقال الحافظ أبو نعيم في كتاب "محجة الواثقين ومدرجة الوامقين"1تأليفه: وأجمعوا أن الله فوق سمواته، عال على عرشه، مستوٍ عليه، لا مستولٍ عليه كما تقول2 الجهمية: إنه بكل مكان.
ثم ذكر الشيخ كلاماً إلى أن ذكر عن الشيخ الإمام أبي محمد عبد القادر بن أبي صالح الجيلاني قال في كتاب "الغنية": أما معرفة الصانع بالآيات والدلالات على وجه الاختصار فهو أن يعرف ويتيقن أن الله واحد أحد. إلى أن قال:
وهو بجهة العلو مستوٍ على العرش، محتو على
__________
1 معنى الوامقين: المحبون ومنه قول الشاعر:
وماذا عسى الواشون أن يتحدثوا
سوى أن يقولوا: إنني لك وامق
2 في ط الرياض: "تقوله".
ص -221-(54/16)
الملك محيط علمه بالأشياء {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُه} [فاطر: 10] {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة:5]، ولا يجوز وصفه بأنه في كل مكان، بل يقال: إنه في السماء على العرش استوى كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، وذكر آيات وأحاديث إلى أن قال:
وينبغي إطلاق الاستواء من غير تأويل، وأنه استواء الذات على العرش. قال: وكونه على العرش مذكور في كل كتاب أنزله على كل نبي أرسل1 بلا كيف –وذكر كلاماً طويلاً لا يحتمله هذا الموضع.
وقال أبو الحسن الأشعري في الإبانة2:
باب ذكر استواء على العرش:
فإن قال قائل ما تقولون في الاستواء؟ قيل له نقول: إن الله مستوٍ على عرشه، كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، وذكر آيات ثم قال: فالسموات فوقها العرش، فلما كان العرش فوق السموات قال: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ}[الملك: 16] لأنه مستوٍ على العرش الذي هو فوق السموات، وكل ما علا فوقه فهو سماء، فالعرش أعلى السموات. إلى أن قال:
__________
1 في النسخ: "أنزله" والمثبت من الحموية.
2 (ص119-127) من ط الجامعة الإسلامية.
ص -222-(54/17)
فصل:
وقد قال قائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية بأن معنى قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] أنه استولى، وقهر وملك، وأن الله عز وجل في كل مكان، وجحدوا أن يكون الله على عرشه، كما قال أهل الحق، وذهبوا في الاستواء إلى أنه القدرة، فلو كان كما ذكروه كان لا فرق بين العرش والأرض السابعة، لأن الله قادر على كل شيء، والأرض فالله قادر عليها، وعلى الحشوش، وعلى كل ما في العالم، فلو كان الله مستوياً على العرش بمعنى الإستيلاء، وهو عز وجل مستولٍ على الأشياء كلها، لكان مستوياً على العرش وعلى الأرض، وعلى السماء وعلى الحشوش والأقذار، لأنه قادر على الأشياء كلها، ولم يجز عند أحد من المسلمين أن يقال: إن الله مستو على الحشوش والأخلية، ولم يجز أن يكون الإستواء على العرش: الإستيلاء الذي هو عام في الأشياء كلها، ووجب أن يكون معنى الإستواء يختص بالعرش دون الأشياء كلها –وذكر دلالات من القرآن والأحاديث الإجماع والعقل، انتهى.
وقال شيخ الإسلام أيضاً في الكتاب المسمى "بيان موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول":
ص -223-
قال إسحاق بن راهويه: حدثنا بشر بن عمر سمعت غير واحد من المفسرين يقول: "الرحمن على العرش استوى أي ارتفع".
وقال البخاري في صحيحه: قال أبو العالية: "استوى إلى السماء" ارتفع. قال: وقال مجاهد: "استوى على العرش".
وقال الحسين بن مسعود البغوي في تفسيره المشهور: قال ابن عباس وأكثر مفسري السلف: "استوى إلى السماء: ارتفع إلى السماء" وكذلك قال الخليل بن أحمد.
وروى البيهقي في كتاب "الصفات" قال الفراء: ثم استوى أي صعد، قاله ابن عباس، وهو كقولك للرجل كان قاعداً فاستوى قائماً.
وروى الشافعي في مسنده عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن يوم الجمعة: "وهو اليوم الذي استوى فيه ربكم على العرش"1.(54/18)
__________
1 اخرجه الشافعي في مسنده من طريق شيخه إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى. وهو متهم. وقد روى الدارقطني الحديث في كتاب "الرؤية" من طريق شيخه أبي صالح عبد الرحمن بن سعيد ومحمد بن جعفر ومحمد بن علي قال: حدثنا عبد الله بن روح المدائني حدثنا سلام بن سليمان حدثنا ورقاء وإسرائيل وشعبة وجرير بن عبد الحميد كلهم قالوا: حدثنا ليث بن عثمان بن أبي حميد عن أنس بن مالك قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أتاني جبريل وفي كفه كالمرآة البيضاء يحملها، فيها كالنكتة السوداء، فقلت: ما هذه التي في يدك يا جبريل؟ فقال: هذه الجمعة، قلت: وما الجمعة، قال لكم فيها خير كثير، قلت: وما يكون لنا فيها؟ ..." الحديث وليس فيه ذكر الاستواء. وقد ساقه ابن القيم بطوله في كتابيه "زاد المعاد" و "حادي الأرواح" وقال عقبه في الكتاب الثاني:
هذا حديث كبير عظيم الشأن، رواه أئمة السنة وتلقوه بالقبول، وجمل به الشافعي مسنده (1/128 من الترتيب) فرواه عن إبراهيم بن محمد قال حدثني موسى بن عبيدة قال حدثني أبو الأزهر عبد الله بن عبد الله بن عمير أنه سمع أنس بن مالك... فذكره بنحوه. وقد تقدم لفظه.
ثم قال الشافعي: أنبأنا إبراهيم قال حدثني أبو عمران إبراهيم بن الجعد عن أنس شبيهاً به، وزاد فيه أشياء اهـ.
ص -224-
والتفاسير المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين مثل تفسير محمد بن جرير الطبري، وتفسير عبد الرحمن بن إبراهيم المعروف بدحيم، وتفسير عبد الرحمن بن أبي حاتم، وتفسير ابن المنذر، وتفسير أبي بكر عبد العزيز، وتفسير أبي الشيخ الأصبهاني، وتفسير أبي بكر بن مردويه، وما قبل هؤلاء من التفاسير، مثل تفسير أحمد بن حنبل، وإسحاق بن إبراهيم، وبقي بن مخلد وغيرهم، ومن قبلهم مثل تفسير عبد بن حميد، وتفسير عبد الرزاق، ووكيع بن الجراح فيها من هذا الباب الموافق لقول المثبتين(54/19)
ص -225-
ما لا يكاد يحصى، وكذلك الكتب المصنفة في السنة التي فيها آثار النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين.
وقال أبو محمد حرب بن إسماعيل الكرماني في مسائله المعروفة التي نقلها عن أحمد وإسحاق وغيرهما وذكر معها من الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة وغيرهم ما ذكر، وهو كتاب كبير صنفه على طريقة الموطأ ونحوه من المصنفات، قال في آخره في الجامع:
باب القول في المذهب:
هذا مذهب أئمة العلم، وأصحاب الأثر، وأهل السنة المعروفين المقتدى بهم فيها، وأدركت من أدركت من علماء أهل العراق والحجاز والشام وغيرهم عليها، فمن خالف شيئاً من هذه المذاهب أو طعن فيها، أو عاب قائلها: فهو مبتدع، خارج عن الجماعة، زائل عن منهج السنة وسبيل الحق، وهو مذهب أحمد وإسحاق بن إبراهيم وبقي بن مخلد، وعبد الله بن الزبير الحميدي، وسعيد بن منصور، وغيرهم ممن جالسنا، وأخذنا منهم العلم. وذكر الكلام في الإيمان والقدر والوعيد والإمامة وما أخبر به الرسول من أشراط الساعة، وأمر البرزخ والقيامة، وغير ذلك إلى أن قال:
وهو سبحانه بائن من خلقه، لا يخلو من علمه
ص -226-(54/20)
مكان، ولله عرش، وللعرش حملة يحملونه، وله حد الله أعلم بحده، والله على عرشه عز1 ذكره وتعالى جده ولا إله غيره، والله تعالى سميع لا يشك بصير لا يرتاب، عليم لا يجهل، جواد لا يبخل، حليم لا يعجل، حفيظ لا ينسى، يقظان لا يسهو، رقيب لا يغفل، يتكلم ويتحرك ويسمع ويبصر، وينظر ويقبض ويبسط ويفرح ويحب، ويكره ويبغض ويرضى، ويسخط، ويغضب ويرحم، ويغفر ويعفو، ويعطي ويمنع، وينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا كيف شاء وكما شاء، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، ولم يزل الله متكلماً عالماً فتبارك الله أحسن الخالقين، انتهى.
ولو ذهبنا نذكر أقوال أهل العلم من الأئمة لاحتمل مجلداً {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125]، {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40].
وأما تفسير الاستواء بالاستقرار فهو من تفاسير أهل السنة والجماعة، قال ابن القيم رحمه الله في "الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية":
__________
1 في ط الرياض: "عن".
ص -227-
فصل:
هذا وسادس عشرها إجماع
أهل العلم أعني حجة الأزمان
من كل صاحب سنة شهدت له
أهل الحديث وعسكر القرآن
لا عبرة بمخالف لهمو ولو
كانوا عديد الشاء والبعران
أن الذي فوق السموات العلى
والعرش وهو مبائن الأكوان
هو ربنا سبحانه وبحمده
حقاً على العرش استوا الرحمن
ثم ذكر أقوال الأئمة إلى أن قال:
ولهم عبارات عليها أربع
قد حصلت للفارس الطعان
وهي استقر وقد علا وكذلك ار
تفع الذي ما فيه من نكران
وكذاك قد صعد الذي هو رابع
وأبو عبيدة صاحب الشيباني
يختار هذا القول في تفسيره
أدرى من الجهمي بالقرآن
وأما قوله: (وأثبت له الوجه واليدين).(54/21)
ص -228-
فأقول: قد تقدم الكلام على ذلك، وبه الكفاية.
وأما قوله: (وبعضه سبحانه، فجعله ماسكاً بالسموات على أصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على أصبع، والملك على أصبع) الخ.
فالجواب أن يقال لمن وقف على هذا الجواب عليك أولاً أن تعلم أن هذا الكلام، أعني قوله: وبعضه سبحانه ليس هو من كلام أهل السنة المحضة، الذين لم يشوبوا عقائدهم بدم التشبيه، وعذرة التحريف، ونجاسة التعطيل، بل هو من مقدرات الأفكار، ونتائج قياسات عقول أفراخ المتفلسفة، وأتباع الهند واليونان، وورثة المجوس والمشركين، وضلال اليهود والنصارى والصابئين وأشكالهم وأشباههم، الذين يزعمون أنهم ينزهون الله تعالى عن الأبعاض، والحدود والجهات، فيسمع الغر المخدوع هذه الألفاظ فيتوهم1 منها أنهم ينزهون الله عما يفهم من معانيها عند الإطلاق من العيوب والنقائص والحاجة، فلا يشك أنهم يمجدونه ويعظمونه، ويكشف الناقد البصير ما تحت هذه الألفاظ فيرى تحتها الإلحاد،
__________
1 في ط الرياض: "يتوهم".
ص -229-(54/22)
وتكذيب الرسل، وتعطيل الرب تعالى عما يستحقه من كماله.
فأما الأبعاض: فمرادهم بتنزيهه1 عنها: أنه ليس له وجه ولا يدان، ولا يمسك السموات على أصبع، والأرض على أصبع، والشجر على أصبع، والماء على أصبع، فإن ذلك كله أبعاض، والله منزه عن الأبعاض، كما ذكره ابن القيم رحمه الله عنهم في "الصواعق المرسلة" فإذا عرفت هذا من قيلهم وعقائد قولبهم، وأنهم إنما نزهوه عما يليق بجلاله وعظمته وكبريائه، وإحاطته بجميع مخلوقاته، وأنهم ما عرفوا الله حق معرفته، ولا قدروه حق قدره، ولا عظموه حق عظمته، فخرجوا عن المعقول ونبذوا المنقول وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، فجاء هؤلاء الضلال الغلاة والملاحدة الجهال، فتوهموا أن هذا من قول الوهابية، وأنهم خرجوا بهذا القول عن جماعة أهل السنة المحضة، وما علم هؤلاء الجهلة أن هذا صريح الكتاب والسنة، قال الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67].
قال العماد ابن كثير رحمه الله2: يقول الله تعالى: ما
__________
1 في الأصل: "تنزيههم"، وفي المطبوعتين "تنزيهه"؟
2 في تفسيره ط الشعب 7/103-106.
ص -230-(54/23)
قدر المشركون الله حق قدره حتى عبدوا معه غيره، وهو العظيم الذي لا أعظم منه، القادر على كل شيء، المالك لكل شيء وكل شيء تحت قهره وقدرته. قال السدي: ما عظموه حق عظمته، وقال محمد بن كعب: لو قدروه حق قدره ما كذبوه، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: هم الكفار الذي لم يؤمنوا بقدرة الله عليهم، فمن آمن أن الله على كل شيء قدير فقد قدر الله حق قدره، ومن لم يؤمن به فلم يقدر الله حق قدره.
وقد وردت أحاديث كثيرة متعلقة بهذه الآية، الطريق فيها وفي أمثالها مذهب السلف، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تحريف. وذكر حديث ابن مسعود الذي رواه مسلم في "صحيحه" عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد إنا نجد أن الله يجعل السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء على إصبع، والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، فيقول: أنا الملك. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه لقول الحبر. قرأ {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الآية.
وفي رواية لمسلم: "والجبال والشجر على إصبع، ثم يهزهن فيقول: أن الملك أنا الله".
ص -231-
وفي رواية البخاري: "يجعل السموات على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع"1.(54/24)
__________
1 أخرجه البخاري، تفسير من صحيحه –في تفسير سورة الزمر- باب {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} حدثنا آدم حدثنا شيبان عن منصور عن إبراهيم عن عبيدة عن عبد الله رضي الله عنه قال: "جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، إنا نجد أن الله يجعل السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء على إصبع، وسائل الخلق على إصبع، فيقول: أنا الملك. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ...}الآية.
وأخرجه البخاري أيضاً في صحيحه -كتاب التوحيد- باب قول الله {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ} حدثنا مسدد سمع يحيى بن سعيد عن سفيان حدثني منصور وسليمان عن إبراهيم عن عبيدة عن عبد الله... به، وفيه: "إن الله يمسك..."،"والجبال على إصبع...."، "والخلائق على إصبع". قال البخاري عقبه: قال يحيى بن سعيد. وزاد فيه فضيل بن عياض عن منصور عن إبراهيم بن عبيدة عن عبد الله: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجباً وتصديقاً له.
ثم أخرجه في هذا الباب حدثنا عمر بن حفص بن غياث حدثنا أبي حدثنا الأعمش سمعت إبراهيم قال سمعت علقمة يقول: قال عبد الله... به وفيه "والشجر والثرى على إصبع"، "ثم يقول: أنا الملك، أنا الملك...".
وأخرجه في كتاب التوحيد من صحيحه –أيضاً- باب قول الله تعالى {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا} حدثنا موسى حدثنا أبو عوانة عن الأعمش عن إبراهيم عن عقلمة عن عبد الله ... به وفيه "إن الله يضع السماء..."، "والشجر والأنهار على إصبع".
وأخرجه أيضاً- في باب كلام الرب عز وجل يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم من حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن منصور عن إبراهيم عن عبيدة عن عبد الله... به وفيه: "إذا كان(54/25)
يوم القيامة جعل الله..."، "ثم يهزهن".
وأخرجه الإمام مسلم في صحيحه –كتاب صفات المنافقين وأحكامهم- 4/2147-2148 رقم: 2786 من طريق منصور عن إبراهيم عن عبيدة السلماني عن عبد الله بن مسعود. ومن طريق الأعمش قال: سمعت إبراهيم يقول: سمعت علقمة يقول: قال عبد الله... فذكره.
ص -232-
قال ابن كثير رحمه الله: ورواه البخاري في "صحيحه" في غير موضع، ومسلم، والإمام أحمد، والترمذي، والنسائي كلهم من حديث سليمان بن مهران –وهو الأعمش- عن إبراهيم بن عبيدة، عن ابن مسعود بنحوه قال: جاء رجل من أهل الكتاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا القاسم أبلغك أن الله تعالى يحمل الخلائق على إصبع، والسموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والثرى على إصبع فضحك صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه. قال: وأنزل الله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} الآية.
وهكذا رواه البخاري ومسلم والنسائي من طرق1 عن الأعمش به.
__________
1 في النسخ: "من طريق".
ص -233-
وقال الإمام أحمد حدثنا الحسين بن حسن الأشقر، حدثنا أبو كدينة، عن عطاء عن أبي الضحى عن ابن عباس قال: مر يهودي برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس فقال: كيف تقول يا أبا القاسم يوم يجعل الله السموات على ذه –وأشار بالسبابة- والأرض على ذه والجبال على ذه، وسائر الخلق على ذه، كل ذلك يشير بأصبعه. فأنزل الله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}.
وكذا رواه الترمذي في التفسير بسنده عن أبي الضحى مسلم بن صبيح به. وقال: حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه1.
ثم قال: قال البخاري: حدثنا سعيد بن عفير، حدثنا(54/26)
__________
1 أخرجه الإمام أحمد في مسنده 4/69، رقم: 2267، والترمذي في سننه –كتاب التفسير- 8/368 ط استانبول، قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على السند: إسناده –أي إسناد أحمد- ضعيف، لضعف حسين بن حسن الأشقر، أبو كدينة بضم الكاف: اسمه يحيى بن المهلب البجلي، وهو ثقة، وثقه ابن معين وأبو داود والنسائي وغيرهم، وترجمه البخاري في الكبير 4/2/305. ولكن الحديث صحيح، لأنه ثابت من غير وراية الأشقر. فرواه الترمذي عن الدارمي عن محمد بن الصلت عن أبي كدينة. وقال الترمذي: "حديث حسن غريب صحيح، لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وأبو كدينة اسمه يحيى بن المهلب. ورأيت محمد بن إسماعيل روى هذا الحديث عن الحسن بن شجاع عن محمد بن الصلت" اهـ كلام الشيخ أحمد شاكر.
ص -234-
الليث، حدثني عبد الرحمن بن خالد بن مسافر، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يقبض الله الأرض، ويطوي السماء بيمينه فيقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟" تفرد به من هذا الوجه. ورواه مسلم من وجه آخر1.
وقال البخاري في موضع آخر: حدثنا مقدم بن(54/27)
__________
1 أخرجه البخاري في كتاب التفسير من صحيحه 8/551، باب {وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} بالسند والمتن الذي ذكره المؤلف.
وأخرجه أيضاً في كتاب الرقاق 11/372 باب يقبض الله الأرض يوم القيامة عن محمد بن مقاتل أخبرنا عبد الله أخبرنا يونس عن أبي سلمة حدثني سعيد بن المسيب عن أبي هريرة... به.
وأخرجه أيضاً في كتاب التوحيد 13/367، باب قول الله تعالى: {مَلِكِ النَّاسِ} عن أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب عن سعيد –وهو ابن المسيب- عن أبي هريرة... به.
قال البخاري عقبه: وقال شعيب والزبيدي وابن مسافر وإسحاق بن يحيى عن الزهري عن أبي سلمة اهـ.
وأخرجه أيضاً في كتاب التوحيد 13/393، باب قول الله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ} من جهة الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقبض الله الأرض".
وأخرجه الإمام مسلم في صحيحه –كتاب صفات المنافقين وأحكامهم 4/2418 رقم: 2787 من جهة يونس عن ابن شهاب حدثني ابن المسيب أن أبا هريرة كان يقول: ...فذكره وفيه "يطوي السماء".
ص -235-(54/28)
محمد حدثني عمي القاسم بن يحيى، عن عبيد الله عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تعالى يقبض يوم القيامة الأرضين، وتكون السماء بيمينه ثم يقول: أنا الملك" تفرد به أيضاً من هذا الوجه. ورواه مسلم من وجه آخر1.
وقد رواه الإمام أحمد من طريق آخر، بلفظ أبسط من هذا السياق وأطول، فقال: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن عبيد الله بن مقسم، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية ذات يوم على المنبر : {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ
__________
1 أخرجه البخاري في كتاب التوحيد من صحيحه 13/339 باب قول الله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ} عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله يقبض يوم القيامة الأرض، وتكون السموات بيمينه..." الحديث.
قال البخاري عقبه: رواه سعيد عن مالك، وقال عمر بن حمزة: سمعت سالماً سمعت ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا اهـ.
وأخرجه مسلم في صحيحه –كتاب صفات المنافقين وأحكامهم- 4/2148 من طريق عمر بن حمزة عن سالم بن عبد الله أخبرني عبد الله بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يطوي الله عز وجل السموات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك. أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله. ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟".
ص -236-(54/29)
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67] ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هكذا بيده يحركها، ويقبل بها ويدبر، يمجد الرب تعالى نفسه: "أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا الملك، أنا العزيز، أنا الكريم"، فرجف برسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر حتى قلنا: ليخرّن به1 انتهى.
وهذه الأحاديث تدل على عظمته سبحانه وتعالى، وتبين أن الله تعالى على عرشه، ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم في شيء منها: إن ظاهرها غير مراد، وإنها تدل على تشبيه صفات الله بصفات خلقه، ولو كان هذا حقاً لبلغه أمته، فإن الله أكمل به الدين، وأتم به النعمة، فبلغ البلاغ المبين، وصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه ومن يتبعهم إلى يوم الدين، وتلقى الصحابة رضي الله عنهم عن نبيهم صلى الله عليه وسلم ما وصف به ربه من صفات كماله، ونعوت جلاله، فأمنوا به، وآمنوا بكتاب الله، وما تضمنه من صفات ربهم جل وعلا.
وهذا الملحد الجاهل جعل ما تضمن كتاب الله وسنة رسوله أبعاضاً، وسمى إثبات علو الله على عرشه،
__________
1 مسند الإمام أحمد 7/247-248 ط شاكر، قال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى في تعليقه على المسند: إسناده صحيح... اهـ.
ص -237-
وفوقيته ونزوله وصعوده: تجسيماً ومن تمسك بكتاب الله وسنة رسوله، وكلام الأئمة: مجسماً.
وأما قوله: حتى قال بعضهم:
لئن كان تجسيماً ثبوت استوائه
على عرشه إني إذا لمجسم
وإن كان تشبيها ثبوت صفاته
فعن ذلك التشبيه لا أتلعثم
وإن كان تنزيها جحود استوائه
وأوصافه أو كونه يتكلم
فمن ذلك التنزيه نزهت ربنا
بتوفيقه والله أعلى وأعلم
فالجواب: أنا نعتقد هذا، وندين الله به، وأزيد ذلك تقريراً له بقولي:
أقول نعم هذا هو الحق والهدى
وعن وصفه بالحق لا أتلعثم
ومن حاد عن هذا وقال سفاهة
طريقة جهم والمريسي أسلم
فقد حاد عن نهج الشريعة واعتدى(54/30)
وضل عن الحق الذي هو أحكم
ص -238-
وأشهد أن الله جل ثناؤه
على عرشه والله أعلى وأعظم
وأشهد أن الله ليس كمثله
شبيه ولا مثل ولا كفو يعلم
فمن جحد الأوصاف لله ربنا
ونزهه عن كونه يتكلم
وعن كونه فوق السموات قد علا
على عرشه فهو الكفور المذمم
فليس بتجسيم ثبوت استوائه
على عرشه لكنما الفوق يفهم
ويعلم من نص الكتاب وسنة
لأفضل خلق الله من هو أعلم
أليس على هذا صحابة أحمد
وأهل الحجا لو كنت ويحك تفهم
وإن لم يكن ما بلغوه هو الهدى
فمن ذا الذي منه الهدى يتعلم
أولئك هم أهدى سبيلاً ومنهجاً
وإن لم يكونوا المهتدين فمن هم
أجهم بن صفوان اللعين وحزبه
وأتباعه من هم أضل وأظلم
ص -239-
أم الحق ما قال الفلاسفة الألى
ومن صار فيما أصلوا يتكلم
أولئك في بحر الضلالة قد هووا
وهم في مرامي الغي والبغي هوم
فسار على منهاجهم في ضلالهم
زنادقة من بعدهم حين أوهمو
بتنزيهه فيما يرون وقصدهم
هو الكفر والتعطيل والقوم قد عموا
بإلزام أهل الحق بالبغي والهوى
لوازم لا ترضى ولا هي تلزم
وإلزامهم ما ألزموه تعنت
وبغي وإلحاد وإفك ومأثم
وما ذاك إلا أنه ليس عندهم
إله بهذا الوصف حقاً يعظم
وما هذه الأوصاف إلا لمن له
صفات وجسم وهو عنها يفخم
فإن كان تجسيماً ثبوت صفاته
لديكم فإني اليوم عبد مجسم
فسبحانه عن إفكهم وضلالهم
وطغيانهم فالله أعلى وأعظم
ص -240-
فلله وجه بل يدان حقيقة
ويغضب بل يرضى ويعطي ويرحم
ويضحك ربي من قنوط عباده
لمن شاء منهم قائلاً ويكلم
سميع بصير ذو اقتدار ورفعة
ويعلم ما نبدي جهاراً ونكتم
وينزل شطر الليل نحو سمائه
ويصعد والرحمن أعلى وأعظم
كما شاءه سبحانه وبحمده
وسوف يجي يوم القيامة يحكم
ويفصل بين الخلق يوم معادهم
بيوم به تبدو عياناً جهنم
ونؤمن أن الله جل ثناؤه
يرى ويُرى يوم المزيد وينعم(54/31)
إلى غير ذا من كل أوصافه التي
بها نطق القرآن والكل محكم
وصحت بها الأخبار من سيد الورى
نقول بها جهراً ولا نتلعثم
ص -241-
فصل
قال العراقي: (نحن ننقل لك ههنا بعض عباراتهم التي وردت في هذا الشأن، مسطورة في كتاب "الدين الخالص" قال صاحبه: إن أردتم بالجسم المركب من المادة والصورة، أو المركب من الجواهر الفردة، فهذا منفي عن الله تعالى قطعاً، والصواب نفيه عن الممكنات أيضاً، فليس الجسم المخلوق مركباً من هذه ولا هذه.
قال العراقي: فأقول: فانظر إلى ما في هذه العبارة من الخبط، فإنه أنكر فيها وجود جسم بالمعنى الذي ذكره، سواء كان واجباً أو ممكناً، والظاهر أن غرضه من هذا الإنكار هو التوصل إلى نفس الجسمية التي تلزم من معتقده في الله تعالى، فلئلا يقال: إنه شبه الخالق بمخلوقه نفى الجسمية بالمعنى المذكور عن مخلوقه أيضاً، وأنت تعرف أن الجسم إن لم يكن مركباً من المادة والصورة، فلا محيص أن يكون مركباً من الجواهر الفردة).
ص -242-(54/32)
والجواب أن يقال: هذا الكلام ليس هو من كلام صاحب "الدين الخالص" بل هو كلام شمس الدين ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى نقله صديق من "الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة" وهو في الصواعق أبسط من هذا، بأدلته العقلية والنقلية، فنسبة هذا الكلام إلى الوهابية وإن كانوا يعتقدون صحته جهل عريض، وعدم معرفة بالرجال ومقالاتهم، فإن ابن القيم رحمه الله تعالى في القرن السابع، وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في القرن الثاني عشر، فصار من المعلوم عند هؤلاء أن من تكلم بالحق، وبما نطق به الكتاب والسنة، وكان عليه سلف الأمة وأئمتها وإن كان ممن تقدم زمانه فهو وهابي، فصار هذا الاسم علماً على أهل الحق في كل زمان ومكان {فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَة}، {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}.
وأما قوله: (فإنه أنكر فيها وجود جسم بالمعنى الذي ذكره) إلى آخره.
فنقول: نعم. ما ذكره من لفظ الجسم، وما يتبع ذلك، لم ينطق به في صفات الله لا كتاب ولا سنة، لا نفياً ولا إثباتاً، ولا تكلم به أحد من الصحابة والتابعين وتابعيهم.
ص -243-(54/33)
وقوله: (والظاهر أن غرضه من هذا الإنكار هو التوصل إلى نفي الجسمية التي تلزم من معتقده في الله تعالى) إلى آخره.
فأقول: نعم، ولا يلزم من إثبات الصفات التي أثبتها الله ورسوله هذه اللوازم التي سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان، وإنما هي نحاتة أفكار وزبالة أذهان، لا حقيقة لها في التحقيق، ولا تثبت على قدم الحق والتصديق.
فهذه اللوازم منفية عن الله قطعاً وعن الممكنات أيضاً، كما يأتي بيانه وتفصيله.
ثم إنه من المعلوم أن أصل الكلام في المادة والصورة والهيولي والجواهر الفردة وغيرها من التراكيب المحدثة في الإسلام ليس هو من كلام أهل السنة العامة، فضلاً عن أن يكون من كلام محققي أهل السنة المحضة، وإنما أصله من كلام الفلاسفة واليونان الخارجين عن شريعة الإسلام، فالاحتجاج به والاستدلال به، ممن يدعي أنه من أهل السنة على أهل السنة المحضة خروج من الدين والعقل، وإنما تكلم فيه أئمة الإسلام لما دخل فيه بعض أهل السنة العامة، وبعض أهل السنة المحضة، واعتمدوا عليه في العقليات، فاحتاج أئمة الإسلام إلى
ص -244-(54/34)
الكلام فيه لرد معقولاتهم الفاسدة بالنقل والعقل، وإذا كان أصله ومادته كذلك فبطلانه معلوم بالاضطرار من دين الإسلام عقلاً ونقلاً.
قال شيخ الإسلام رحمه الله في تفسير سورة الإخلاص {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} بعد كلام له سبق: وكان الذين امتحنوا أحمد رحمه الله وغيره من هؤلاء الجاهلين، فابتدعوا كلاماً متشابهاً نفوا به الحق، فأجابهم أحمد لما ناظروه في المحنة وذكروا الجسم1 ونحو ذلك، فأجابهم بأني أقول كما قال الله تعالى: {اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ} [الاخلاص:1-2].
وأما لفظ الجسم فلفظ مبتدع محدث، ليس على أحد أن يتكلم به البتة، والمعنى الذي يراد به مجمل ولم تبينوا مرادكم حتى نوافقكم على المعنى الصحيح، فقال: ما أدري ما تقولون لكن أقول: {اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ}، يقول: ما أدري ما تعنون بلفظ الجسم، فأنا لا أوافقكم على إثبات لفظ ونفيه إذا لم يرد الكتاب والسنة بإثباته ولا نفيه إن لم
__________
1 لفظ العبارة في النسخ الثلاث: "...في المحنة ونحو ذلك وذكروا الجسم فأجابهم" والتصحيح من كتاب شيخ الإسلام "تفسير سورة الإخلاص" ص 68.
ص -245-(54/35)
يدر معناه المتكلم به، فإن عنى في النفي أو1 الإثبات ما يوافق الكتاب والسنة [وافقناه، وإن عنى ما يخالف الكتاب والسنة]2 في النفي والإثبات لم نوافقه ولفظ الجسم والجواهر لم يأت في كتاب ولا سنة، ولا كلام أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسائر أئمة الدين التكلم بها في حق الله تعالى لا بنفي ولا بإثبات.
ولهذا قال أحمد في رسالته إلى المتوكل: لا أحب التكلم في شيء من ذلك إلا ما كان في كتاب الله، أو في حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو عن الصحابة والتابعين.
وأما غير ذلك فإن الكلام فيه غير محمود.
وذكر أيضاً فيما حكاه عن الجهمية أنهم يقولون ليس فيه كذا وكذا وهو كما قال، فإن للفظ3 الجسم في اللغة التي نزل بها القرآن معنى كما قال تعالى {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون:4]. وقال تعالى: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ}[البقرة: 247]. قال ابن عباس: كان طالوت أعلم بني إسرائيل بالحرب، وكان يفوق الناس بمنكبيه4 وعنقه
__________
1 في النسخ: "و" والمثبت من كتاب ابن تيمية.
2 ما بين المعقوفين سقط من النسخ.
3 في النسخ: "لفظ" والثبت من المصدر السابق.
4 في النسخ: "منكبه" والمثبت من المصدر السابق.
ص -246-(54/36)
ورأسه والبسطة: السعة. قال ابن قتيبة: هو من قولك: بسطت الشيء إذا كان مجموعاً ففتحته ووسعته. قال بعضهم: والمراد بتعظيم الجسم فضل القوة إذ العادة أن من كان أعظم جسماً كان أكثر قوة. فهذا لفظ الجسم في لغة العرب التي نزل بها القرآن.
قال الجوهري: قال أبو زيد الأنصاري: الجسم الجسد، وكذلك الجسمان والجثمان.
وقال الأصمعي: الجسم والجسمان والجسد والجثمان واحد1. قال جماعة: جسم الإنسان يقال له الجسمان، وقد جسم الشيء أي عظم فهو جسيم وجسام والجسام بالكسر جمع جسم.
قال أبو عبيدة: تجسمت فلاناً من بين القوم أي اخترته كأنك قصدت جسمه، كما تقول تأتيه أي قصدت أتيه2 وشخصه، وأنشد أبو عبيدة:
تجسمته من بينهن بمرهف
وتجسمت الأرض إذا أخذت نحوها تريدها وتجسم من الجسم. وقال ابن السكيت: تجسمت الأمر أي ركبت أجسمه، وجسيمه أي معظمه. قال: وكذلك تجسمت
__________
1 سقطت: "واحد" من النسخ، والمثبت من المصدر السابق ص 69.
2 في ط المنار والرياض: "نائيته أي قصدت أنيه".
ص -247-
الرمل والجبل أي ركبت أعظمه، والأجسم الأضخم، قال عامر بن الطفيل:
لقد علم الحي من عامر
بأن لنا الذروة والأجسما(54/37)
فهذا الجسم في لغة العرب، وعلى هذا فلا يقال للهواء جسم، ولا للنفس الخارج من الإنسان جسم، ولا لروحه المنفوخة جسم، ومعلوم أن الله سبحانه لا يماثل شيئاً من ذلك لا بدن الإنسان ولا غيره، فلا يوصف الله بشيء من خصائص المخلوقين، ولا يطلق عليه من الأسماء ما يختص بصفات المخلوقين، فلا يجوز أن يقال: هو جسم ولا جسد، انتهى.
وإذا كان هذا الجسم في لغة العرب كان منتفياً عن الله بهذا المعنى، لأن الله أحد صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، فلا يماثله شيء من مخلوقاته، ولا يطلق عليه من الأسماء ما يختص بصفات المخلوقين، فإن من شبه الله بخلقه فقد كفر، لأنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
وأما قوله: (وأنت تعرف أن الجسم إن لم يكن مركباً من المادة والصورة فلا محيص أن يكون مركباً من الجواهر الفردة).
ص -248-(54/38)
فالجواب أن نقول: هذا على اصطلاح أهل الكلام، وقد عرفت ما في كلامهم من الاختلاف والنزاع بينهم، والجواب على كل مسلم أن ينظر في هذا الباب فما أثبته الله ورسوله أثبته، وما نفاه الله ورسوله نفاه، والألفاظ التي ورد بها النص يعتصم بها في الإثبات والنفي، فتثبت ما أثبتته النصوص من الألفاظ والمعاني، وتنفي ما نفته النصوص من الألفاظ والمعاني.
وأما هذه الألفاظ الذي تنازع فيها من ابتدعها فقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: وأما أهل الكلام فالجسم عندهم أعم من هذا، وهم مختلفون في معناه اختلافاً كثيراً عقلياً، واختلافاً لفظياً اصطلاحياً، فهم يقولون: كل ما يشار إليه إشارة حسية فهو جسم، ثم اختلفوا بعد هذا.
فقال كثير منهم: كل ما كان كذلك فهو مركب من الجواهر المنفردة، ثم منهم من قال: الجسم أقل ما يكون جوهراً بشرط أن ينضم إليه غيره. وقيل: بل هو الجوهران والجواهر فصاعداً. وقيل: بل أربعة فصاعداً. وقيل: بل ستة. وقيل: بل ثمانية. وقيل: بل ستة عشر. وقيل: بل اثنان وثلاثون. وهذا قول من يقول: إن الأجسام كلها مركبة من الجواهر التي لا تنقسم. وقال آخرون من أهل الفلسفة: كل الأجسام مركبة من الهيولي والصورة، لا من الجواهر المنفردة. وقال كثير من أهل الكلام وغير أهل
ص -249-(54/39)
الكلام: ليست مركبة لا من هذا ولا من هذا. وهذا قول الهشامية والكلابية والضرارية وغيرهم من الطوائف الكبار، لا يقولون بالجواهر الفردية، ولا بالمادة والصورة. وآخرون يدعون إجماع المسلمين على إثبات الجوهر الفرد، كما قال أبو المعالي وغيره: اتفق المسلمون على أن الأجسام تتناهى في تجزئتها وانقسامها حتى تصير أفراداً، ومع هذا فقد شك وكذلك شك فيه فيه أبو الحسين البصري، وأبو عبد الله الرازي.
ومعلوم أن هذا القول لم يقله أحد من أئمة المسلمين، لا من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان، ولا أحد من أئمة العلم المشهورين بين المسلمين، وأول من قال ذلك في الإسلام طائفة من الجهمية والمعتزلة، وهذا من الكلام الذي ذمه السلف وعابوه، ولكن حاكي هذا الإجماع لما لم يعرف أصول الدين إلا ما في كتب الكلام، ولم يجد إلا من يقول بذلك: اعتقد هذا إجماع المسلمين.
والقول بالجوهر الفرد باطل. والقول بالهيولي والصورة باطل. وقد بسط الكلام على هذه المقالات في مواضع أخر.
وقال آخرون: الجسم هو القائم بنفسه، وكل قائم بنفسه، وكل جسم فهو قائم بنفسه، وهو مشار إليه.
ص -250-(54/40)
واختلفوا في الأجسام هل هي متماثلة أم لا على قولين مشهورين. وإذا عرف ذلك فمن قال: إنه جسم وأراد أنه مركب من الأجزاء فهذا قوله باطل، وكذلك إن أراد أنه يماثل غيره من المخلوقات فقد علم بالشرع والعقل أن الله ليس كمثله شيء في شيء من صفاته، فمن أثبت لله مثلاً في شيء من صفاته فهو مبطل، ومن قال: إنه جسم بهذا المعنى فهو مبطل، ومن قال: ليس بجسم بمعنى أنه لا يرى في الآخرة، ولا يتكلم بالقرآن، وغيره من الكلام، ولا يقوم به العلم والقدرة وغيرهما من الصفات، ولا ترفع الأيدي إليه في الدعاء، ولا عرج بالرسول إليه: فهذا قول باطل، وكذلك من نفى ما أثبت الله ورسوله، وقال: إن هذا تجسيم فنفيه باطل، وتسميته ذلك تجسيماً تلبيس منه، فإن أراد أن هذا يقتضي أن يكون جسماً مركباً من الجواهر الفردة، أو من المادة والصورة، أو أن هذا يقتضي أن يكون جسماً والأجسام متماثلة، قيل له: أكثر العقلاء يخالفونك في تماثل الأجسام المخلوقة، وفي أنها مركبة، فلا يقولون: إن الهواء1 مثل الماء، وأبدان الحيوان مثل الحديد والجبال، فكيف يوافقونك على أن الرب تعالى يكون مماثلاً لخلقه إذا أثبتوا له ما أثبته الكتاب والسنة، والله تعالى قد نفى الماثلة في بعض المخلوقات وكلاهما
__________
1 في النسخ: (الهوى).
ص -251-(54/41)
جسم كقوله: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ}[محمد: 38]. مع أن كليهما بشر، فكيف يجوز أن يقال: إذا كان لرب السموات علم وقدرة أنه يكون مماثلاً لخلقه، والله تعالى ليس كمثله شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله.
ونكتة الأمر أن الجسم في اعتقاد هذا النافي يستلزم مماثلة سائر الأجسام، ويستلزم أن يكون مركباً من الجواهر الفردة، أو من المادة والصورة، قلت: وهذا هو نتيجة قول هذا العراقي ومرامه، حيث قال: وأنت تعرف أن الجسم إن لم يكن مركباً من المادة والصورة فلا محيص أن يكون مركباً من الجواهر الفردة.
ثم قال شيخ الإسلام: وأكثر العقلاء يخالفونه، فالتلازم منتف باتفاق الفريقين، وهو المطلوب، فإذا اتفقوا على انتفاء النقص المنفي عن الله شرعاً وعقلاً، بقي بحثهم في الجسم الاصطلاحي هل هو مستلزم لهذا المحذور، وهو بحث عقلي كبحث الناس في الأعراض هل تبقى أو لا تبقى، وهذا البحث العقلي لم يرتبط به دين المسلمين، بل لم ينطق كتاب ولا سنة ولا أثر عن السلف بلفظ الجسم في حق الله تعالى لا نفياً ولا إثباتاً، فليس لأحد أن يبتدع اسماً مجملاً يحتمل معاني مختلفة لم ينطق بها الشرع، ويعلق به دين المسلمين، ولو كان قد
ص -252-(54/42)
نطق باللغة العربية، فكيف إذا أحدث اللفظ معنى آخر، والمعنى الذي يقصده إذا كان حقاً عبر عنه بالعبارة التي لا لبس فيها، فإذا كان معتقده أن الأجسام متماثلة فإن الله ليس كمثله شيء، وهو سبحانه لا سمي له، ولا كفؤ له، ولا ند له، فهذا عبارة القرآن تؤدي هذا المعنى بلا تلبيس ولا نزاع، وإن كان معتقده أن الأجسام غير متماثلة وإن كان يرى ما يقوم به من الصفات فهو جسم فإن عليه أن يثبت ما أثبته الله ورسوله من علمه وقدرته وسائر صفاته كقوله: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255]، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذريات:58]، وقوله في حديث الاستخارة: "اللهم أني أستخريك بعلمك وأستقدرك بقدرتك على الخلق"1، ويقول كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنكم ترون ربكم يوم القيامة عياناً كما
__________
1 أخرج البخاري في صحيحه –كتاب التهجد- باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى 3/48. وفي كتاب الدعوات، باب الدعاء عند الاستخارة 11/183، وفي كتاب التوحيد، باب قوله الله تعالى: {قل هو القادر} من طريق عبد الرحمن بن أبي الموالي قال: سمعت محمد المنكدر يحدث عبد الله بن الحسن يقول: أخبرني جابر بن عبد الله السلمي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه الاستخارة في الأمور كلها –كما يعلم السورة من القرآن، يقول: "إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك، فإنك تقدم ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب..." الحديث.
ص -253-
ترون الشمس والقمر لا تضامون في رؤيته"1، فشبه الرؤية بالرؤية، وإن لم يكن المرئي كالمرئي، فهذه عبارات(54/43)
__________
1 أخرج البخاري في صحيحه –كتاب المواقيت الصلاة- باب فضل صلاة العصر 2/33، وباب صلاة الفجر 2/52. وفي كتاب التفسير –باب {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق:39] 8/597. وفي كتاب التوحيد. باب قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 13/419 عن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله قال كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر فقال: "إنكم سترون ربكم [عياناً] كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته..." الحديث.
وأخرجه مسلم في صحيحه –كتاب المساجد ومواضع الصلاة- 1/439-440.
وأخرج البخاري في صحيحه –كتاب الأذان-باب فضل السجود، 2/292-293. وكتاب الرقاق، باب الصراط جسر جهنم، 11/444-445. وفي التوحيد –باب قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 13/419 حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري أخبرني سعيد بن المسيب وعطاء بن يزيد الليثي عن أبي هريرة أن الناس قالوا: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل تضارون في القمر ليلة البدر؟" قالوا: لا يا رسول الله. قال: "فهل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟" قالوا: لا يا رسول الله. قال: "فإنكم ترونه كذلك..." الحديث بطوله.
وأخرجه البخاري عن محمود حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي هريرة.. به (كتاب الرقاق).
وأخرجه عن عبد العزيز بن عبد الله حدثنا إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي هريرة.. (كتاب التوحيد).
وأخرجه مسلم في صحيحه –كتاب الإيمان- 1/163-164 من طريق الزهري عن عطاء بن يزيد الليثي أن أبا هريرة أخبره ... الحديث.
وعندهما: قال عطاء بن يزيد –راوي الحديث عن أبي هريرة-: وأبو سعيد الخدري مع أبي(54/44)
هريرة لا يرد عليه من حديثه شيئاً، حتى إذا حدث أبو هريرة أن الله تبارك وتعالى قال: ذلك لك ومثله معه. قال أبو سعيد الخدري: وعشرة أمثاله معه يا أبا هريرة... الخ.
وأخرج البخاري في صحيحه –كتاب التوحيد- باب قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 13/420، ومسلم في صحيحه –كتاب الإيمان- 1/167، كلاهما عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري، أنا أناساً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم" قال: "هل تضارون في رؤية الشمس بالظهيرة صحواً ليس معها سحاب؟ وهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر صحواً ليس فيها سحاب؟" قالوا: لا. قال: "ما تضارون في رؤيته تبارك وتعالى يوم القيامة إلا كما تضرون في رؤية أحدهما..." الحديث بطوله. هذا لفظ مسلم.
ص -254-
الكتاب والسنة عن هذا المعنى الصحيح بلا تلبيس ولا نزاع بين أهل السنة المتبعين للكتاب والسنة وأقوال الصحابة، ثم بعد هذا من كان تبين له معنى من جهة العقل أنه لازم للحق لم يدفعه عن عقله فلازم الحق حق، لكن ذلك المعنى لا بد أن يدل الشرع عليه، فيشبه بالألفاظ الشرعية، وإن قدر أن الشرع لم يدل عليه لم يكن مما يجب على الناس اعتقاده، وحينئذ فليس لأحد أن
ص -255-(54/45)
يدعو الناس إليه، وإن قدر أنه في نفسه حق.
ومسألة تماثل الأجسام وتركيبها من الجواهر المنفردة قد اضطرب فيها جماهير أهل الكلام، وكثير منهم يقول بهذا تارة، وبهذا تارة، وأكثر ذلك لأجل الألفاظ المجملة، والمعاني المتشابهة، وقد بسط1 الكلام عليه في غير هذا الموضع، لكن المقصود هنا أنه لو قدر أن الإنسان تبين له أن الأجسام ليست متماثلة ولا مركبة، لا من هذا ولا من هذا، لم يكن له أن يبتدع في دين الإسلام قوله: إن الله جسم، ويناظر على المعنى الصحيح الذي دل عليه الكتاب والسنة، بل يكفيه إثبات ذلك المعنى بالعبارات الشرعية، ولو قدر أنه تبين له أن الأجسام متماثلة وأن الجسم مركب لم يكن له أن يبتدع النفي بهذا الاسم، ويناظر على معناه الذي اعتقده بعقله، بل ذلك المعلوم بالشرع والعقل يكمن إظهاره بعبارة لا إجماع فيها، ولا تلبيس، والذين يقولون: الجسم مركب من الجواهر. يدعي كثير منهم أنه كذلك في لغة العرب، لأن العرب يقولون: هذا أجسم من هذا، يريدون به أنه أكثر أجزاء منه، ويقولون: هذا جسيم أي كثير الأجزاء، قال: والتفضيل بصيغة أفعل إنما يكون لما يدل عليه الاسم،
__________
1 في ط الرياض: "أبسط".
ص -256-(54/46)
فإذا قيل: هذا أعلم أو أسلم، كان ذلك دالاً على الفضيلة فيما دل عليه لفظ العلم والحلم، فلما قالوا: أجسم لما كان أكثر أجزاء، دل على أن لفظ الجسم عندهم المراد به المركب، فمن قال: جسم وليس مركب، فقد خرج من لغة العرب. قالوا: وهذه تخطئة في اللفظ، وإن كنا لا نكفره إذا لم يثبت خصائص الجسم من التركيب والتأليف، وقد نازعهم بعضهم في قولهم: هذا أجسم من هذا. وقالوا: ليس هذا اللفظ من لغة العرب كما يحكى عن ابن زيد. فيقال له: لا ريب أن العرب تقول هذا جسيم، أي عظيم الجثة، وهذا الجسم من هذا، أي أعظم جثة، لكن كون العرب تعتقد أن ذلك لكثرة الأجزاء التي هي الجواهر المفردة، إنما يكون إذا كان أهل اللغة قاطبة يعتقدون أن الجسم مركب من الجواهر المنفردة، والجوهر الفرد هو شيء قد بلغ من الصغر والحقارة إلى أنه لا يتميز يمينه من يساره، ومعلوم أن أكثر العقلاء من بني آدم لا يتصور الجوهر الفرد، والذين يتصورونه أكثرهم لا يثبتونه، والذين أثبتوه إنما أثبتوه بطريقة خفية، طويلة بعيدة، فيمتنع أن يكون اللفظ1 الشائع في الغة التي ينطق بها خواصها وعوامها أرادوا به هذا.
__________
1 في ط الرياض: "لفظ".
ص -257-(54/47)
وقد علم بالاضطرار أن أحداً من الصحابة والتابعين لهم بإحسان لم ينطق بإثبات الجوهر الفرد، ولا بما يدل على ثبوته عنده، بل ولا العرب قبلهم، ولا سائر الأمم الباقين على الفطرة1، ولا اتباع الرسل، فكيف يدعى عليهم أنهم لم يقولوا لفظ الجسم إلا لما كان مركباً مؤلفاً، ولو قلت لمن شئت من العرب: الشمس والقمر والسماء مركب عندك من أجزاء صغار، كل منها لا يقبل التجزي، أو الجبال أو الهواء2، أو الحيوان والنبات. لم يتصور هذا المعنى إلا بكلفة، ثم إذا تصور قد يكذب بفطرته، ويقول: كيف يمكن أن يكون شيء لا يتميز منه جانب عن جانب.
وأكثر العقلاء من طوائف المسلمين وغيرهم ينكرون الجوهر الفرد، والفقهاء قاطبة تنكره، وكذلك أهل الحديث والتصوف. ثم ذكر كلاماً في استحالة بعض الأجسام إلى بعض، ثم ذكر بعد ذلك ما يراد بالجسم في لغة العرب، وأنهم إنما يريدون بقولهم هذا أجسم من هذا، أي أغلظ وأعظم منه، ونفى أن يكون ذلك لزيادة الأجزاء، ثم قال:
فقد تبين أن من قال: الجسم هو المؤلف والمركب، واعتقد أن الأجسام مركبة من الجواهر المنفردة فقد ادعى
__________
1 في ط الرياض: "العطرة".
2 في النسخ: (الهوى).
ص -258-(54/48)
معنى عقلياً ينازعه فيه أكثر العقلاء من بني آدم، ولم ينقل عن أحد من السلف أنه وافقه عليه، وأنه جعل لفظ الجسم في اصطلاحه يدل على معنى لا يدل عليه اللفظ في اللغة، فقد غير معنى اللفظ في اللغة، وادعى معنى عقلياً فيه نزاع طويل، وليس معه من الشرع ما يوافق ما ادعاه من معنى اللفظ، ولا ما ادعاه من المعنى العقلي، فاللغة ما تدل على ما قال، والشرع لا يدل على ما قال، والعقل لم يدل على مسميات الألفاظ، وإنما يدل على المعنى المجرد وذلك فيه نزاع طويل، ونحن نعلم بالاضطرار إلى ذلك المعنى الذي وجب نفيه عن الله لا يحتاج نفيه إلى ما أحدثه هذا من دلالة اللفظ، ولا ما ادعاه من المعنى العقلي، بل الذي جعلوه عمدتهم في تنزيه الرب على نفي مسمى الجسم، لا يمكنهم أن ينزهوه عن شيء من النقائص البتة، فإنهم إذا قالوا هذا من صفات الأجسام، فكل ما يثبتونه هو أيضاً من صفات الأجسام، مثل كونه حياً عليماً قادراً بل كونه موجوداً قائماً بنفسه، فإنهم لا يعرفون هذا في الشاهد إلا جسماً، فإذا قال المنازع: أنا أقول فيما نفيتموه نظير قولكم فيما أثبتموه انقطعوا، انتهى.
والمقصود أن الأجسام المحدثة المخلوقة ليست مركبة لا من المادة والصورة، ولا من الجواهر المنفردة، فلو كان فوق العرش جسم مخلوق ومحدث لم يلزم أن
ص -259-
يكون مركباً بهذا الاعتبار، فكيف ذلك في حق خالق الفرد والمركب الذي يجمع المتفرق، ويفرق المجتمع، ويؤلف بين الأشياء فيركبها كما يشاء؟
والعقل إنما دل على إثبات إله واحد، ورب واحد لا شريك له، ولا شبيه له، لم يلد ولم يولد، ولم يدل على أن ذلك الرب الواحد لا اسم له، ولا صفة ولا وجه، ولا يدين، ولا هو فوق خلقه، ولا يصعد إليه شيء، ولا ينزل منه شيء، فدعوى ذلك على العقل كذب صريح عليه، كما هي كذب صريح على الوحي.
ص -260-(54/49)
فصل
قال العراقي: (ثم قال –يعني صاحب الدين الخالص-: وإن أردتم ما يوصف بالصفات، ويرى بالأبصار، ويتكلم ويكلم، ويسمع ويبصر، ويرضى ويغضب، فهذه المعاني ثابتة للرب تعالى، وهو موصوف بها، فلا ننفيها عنه بتسميتكم الموصوف بها جسماً –إلى آخر ما قال. قال: فأقول: لم نعرف أحداً عرف الجسم بأنه المتكلم المكلم، السميع البصير، الذي يرضى ويغضب، وإنما هذه صفات تقوم بالحي العاقل. نعم إن الجسم يرى بالأبصار كما قال، ولكن إثبات الجسم له تعالى بهذه المعنى تنزيل له سبحانه منزلة مخلوقاته مما ينافي ألوهيته1، فإن كون الله تعالى جسماً بهذا المعنى نقص يجب تنزيهه عنه).
والجواب أن يقال: ومن أنت يا ابن لكع حتى يلتفت إلى قولك وتعريفك، ونفيك وإثباتك، وتأصيلك
__________
1 في ط المنار والرياض: "الألوهية".
ص -261-
وتفصيلك، لأنك إنما أخذت هذه المباحث الملعونة عن قوم قد ضلوا من قبل، وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل، فإن أحداً من أئمة الإسلام ومن على طريقهم ومناهجهم لا يقول: إن الله جسم، بل لا يطلقون هذا اللفظ نفياً ولا إثباتاً حتى يستفصلوه عما أراد به، ومن أعظم الناس شمس الدين ابن القيم الذي تصديت لرد كلامه نفياً لهذه الأشياء، وله بحوث في هذا المقام يطول ذكرها، وقد ذكرها في الصواعق، وفي غيرها من كتبه، كالكافية الشافية وغيرها.
وأما قوله: (وإنما هذه صفات تقوم بالحي العاقل...) إلى آخره.
فأقول: قولك هذا منقوض بإثبات الأسماء والصفات، فإن الله حي عليم قدير، وإن أمكن إثبات حي عليم قدير وليس بجسم أمكن أن يكون له حياة وعلم وقدرة وليس بجسم، وإن لم يمكن ذلك فما كان جوابكم عن إثبات الأسماء كان جوابنا عن إثبات الصفات.
ويقال أيضاً: ليس في هذا النفي ما يدل على صحة مذهب أحد من نفاة الصفات أو الأسماء، بل ولا يدل ذلك على تنزيهه سبحانه عن شيء من النقائص، فإن من نفى
ص -262-(54/50)
شيئاً من الصفات لكون إثباته تجسيماً وتشبيهاً يقول له المثبت: قولي فيما أثبته من الأسماء والصفات كقولك فيما أثبته من ذلك، فإن تنازعا في الصفات الخبرية أو العلو أو الرؤية ونحو ذلك، وقال له: هذا يستلزم التجسيم والتشبيه، لأنه لا يعقل ما هو كذلك إلا الجسم، قال له المثبت: لا يعقل ما له حياة وعلم وقدرة وسمع وبصر وكلام وإرادة إلا ما هو جسم، فإذا جاز لك أن تثبت هذه الصفات، وتقول الموصوف بها ليس بجسم جاز لي مثل ما جاز لك من إثبات تلك الصفات، مع أن الموصوف بها ليس بجسم فإذن جاز أن يثبت مسمى بهذه الأسماء ليس بجسم.
فإن قال له: هذه معان وتلك أبعاض. قال له: الرضا والغضب والحب والبغض معان، واليد والوجه وإن كان بعضاً فالسمع والبصر أعراض لا تقوم إلا بجسم1 فإن جاز لك إثباتها مع أنها ليست أعراضاً ومحلها ليس بجسم جاز لي إثبات هذه مع أنها ليست أبعاضاً.
فإن قال نافي الصفات: أنا لا أثبت شيئاً منها. قال له: أنت أبهمت الأسماء، فأنت تقول: هو حي عليم، ولا يعقل حي عليم قدير إلا جسماً. وتقول: إنه هو ليس
__________
1 في الأصل: "بالجسم".
ص -263-(54/51)
بجسم، فإذا جاز أن تثبت مسمى هذه الأسماء ليس بجسم مع أن هذا ليس معقولاً1 لك2 جاز لي أن أثبت موصوفاً بهذه الصفات وإن كان هذا غير معقول لي.
فإن قال الملحد: أنا أنفي الأسماء والصفات، قيل له: إما أن تقر بأن هذا العالم المشهود مفعول مصنوع له صانع فاعله، أو تقول: إنه قديم أزلي واجب الوجود بنفسه عن الصانع، فإن قلت بالأول فصانعه إن قلت هو جسم وقعت فيما نفيته، وإن قلت ليس بجسم فقد أثبت فاعلاً صانعاً للعالم ليس بجسم، وهذا لا يعقل في الشاهد، فإن أثبت خالقاً فاعلاً ليس بجسم وأنت لا تعرف فاعلاً إلا جسماً كان لمنازعك أن يقول هو حي عليم ليس بجسم وإن كان لا يعرف حياً عالماً إلا جسماً، بل لزمك أن تثبت له من الأسماء والصفات ما يناسبه.
وإن قال الملحد: بل هذا المشهود قديم واجب بنفسه غني عن الصانع فقد أثبت واجباً بنفسه، قديماً أزلياً، هو جسم حامل الأعراض، متحيز في الجهات، تقوم به الأكوان، وتحله الحوادث والحركات، وله أبعاض وأجزاء، فكان ما فر منه من إثبات جسم قديم قد لزمه مثله
__________
1 في الأصل: "معقول".
2 سقطت: "لك" من الأصل.
ص -264-(54/52)
وما هو أبعد منه، ولم يستفد بذلك الإنكار إلا جحد الخالف وتكذيب رسله، ومخالفة صريح المعقول1، والضلال المبين، الذي هو منتهى ضلال الضالين، وكفر الكافرين.
فقد تبين أن قول من نفى الصفات أو شيئاً منها لأن إثباتها تجسيم قول لا يمكن أحد أن يستدل به، بل ولا يستدل أحد على تنزيه الرب عن شيء من النقائص بأن ذلك يستلزم التجسيم، لأنه لا بد أن يثبت شيئاً يلزمه فيما أثبته نظير ما ألزمه غيره فيما نفاه.
وإذا كان اللازم في الموضعين واحداً وما أجاب هو به أمكن المنازع أن يجيب مثله لم يكن أن يثبت شيئاً، وينفي شيئاً على هذا التقدير، وإذا انتهى إلى التعطيل المحض كان ما لزمه من تجسيم الواجب بنفسه القديم أعظم من كل تجسيم نفاه، فعلم أن مثل الاستدلال على النفي بما2 يستلزم التجسيم لا يسمن ولا يغني من جوع. انتهى من كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى.
وأما قوله: (نعم إن الجسم يرى بالأبصار كما قال،
__________
1 في ط الرياض: "المعقولين".
2 في ط المنار والرياض: "لما".
ص -265-(54/53)
ولكن إثبات الجسم له تعالى بهذا المعنى تنزيل له سبحانه منزلة مخلوقاته مما ينافي ألوهيته).
فيقال: قد تقدم أنا لا نثبت الجسمية بهذا المعنى، لأن إثبات الصفات لا تستلزم الجسمية، لأن الموصوف بها ليس بجسم، وقد تقدم بيان ذلك وأن إثباتها ليس بنقص يجب تنزيه الله عنه بالعقل والنقل، مع أنا لا نسلم أن الجسم بهذه الأوضاع الاصطلاحية الحادثة مجمع على صحته عند العقلاء، بل قد تنازعوا في ذلك مع مخالفته لصريح اللغة، فإن الجسم معناه في لغة العرب هو: البدن الكثيف الذي لا يسمى في اللغة جسم سواه. فلا يقال للهواء1 جسم لغة ولا للنار، ولا للماء، فهذه اللغة وكتبها بين أظهرنا.
وأما قوله: (أما عقلاً فلأن الرؤية كما تحقق في علم البصر إنما تتم بوقوع أشعة النور على سطح المرئي وانعكاسها عنه إلى البصر، فيلزم منه كون المرئي ذا سطح، وذلك يستدعي تركيبه من أجزاء...) إلى آخره.
فالجواب أن يقال: هذا العقل فاسد بالعقل والنقل. أما فساده بالعقل: فلأنه ليس في المعقول أن كل مرئي لا
__________
1 في النسخ: (الهوى).
ص -266-(54/54)
يكون إلا مركباً من المادة والصورة، أو من الجواهر الفردة، لأن أكثر العقلاء ينكرون هذا ولا يثبتونه في الممكنات، فكيف بفاطر الأرض والسموات؟ وإذا كان في اعتقاد هذا النافي أن الجسم يستلزم مماثلة سائر الأجسام، ويستلزم أن يكون مركباً من الجواهر الفردة، أو من المادة والصورة، وأكثر العقلاء يخالفونه، فالتلازم منتف باتفاق الفريقين وهو المطلوب. فإذا اتفقوا على انتفاء النقص المنفي عن الله شرعاً وعقلاً بقي بحثهم في الجسم الإصطلاحي هل هو مستلزم لهذا المحذور، وهو بحث عقلي كبحث الناس في الأعراض هل تبقى أو لا تبقى، وهذا البحث العقلي لم يرتبط به دين المسلمين، بل لم ينطق كتاب ولا سنة ولا أثر عن السلف بلفظ الجسم في حق الله تعالى لا نفياً ولا إثباتاً، فليس لأحد أن يبتدع اسماً مجملاً يحتمل معاني مختلفة لم ينطق به الشرع ويعلق به دين المسلمين. وقد تقدم بيان هذا.
ويقال أيضاً: وكل ما يستدعي تركيبه من أجزاء متفرقة –كما يقوله الفلاسفة والمتكلمون- أو من الجواهر الفردة –كما يقوله كثير من أهل الكلام- ممنوع لأن جمهور العقلاء عندهم: أن الأجسام المحدثة ليست مركبة لا من هذا ولا من هذا، فلو كان فوق العرش جسم مخلوق ومحدث لم يلزم أن يكون مركباً بهذا الاعتبار، فكيف ذلك
ص -267-(54/55)
في حق خالق الفرد المركب، الذي يجمع المتفرق ويفرق المجتمع، ويؤلف بين الأشياء فيركبها كما يشاء؟
والعقل إنما دل على إثبات إله واحد ورب واحد لا شريك له ولا شبيه له {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص: 3]، ولم يدل على أن ذلك الرب الواحد لا اسم له، ولا صفة، ولا وجه له، ولا يدين ولا هو فوق خلقه، ولا يصعد إليه شيء، ولا ينزل منه شيء، فدعوى ذلك على العقل كذب صريح عليه كما هي كذب على الوحي. قاله ابن القيم رحمه فهذا ما نفاه العقل.
وأما النقل ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن أناساً قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله: هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر؟" قالوا: لا يا رسول الله، قال: "هل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب؟"، قالوا: لا، قال:"فإنكم ترونه كذلك". الحديث بطوله.
وهذا تشبيه للرؤية بالرؤية، لا للمرئي بالمرئي، وفي لفظ في الصحيح: "إنما ترون ربكم عياناً" فأخبر أنا نراه عياناً بأبصارنا.
ص -268-(54/56)
وأما قوله: (وأما نقلاً فلقوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام:103].
فالجواب أن يقال: لست ممن يعرف أدلة النقل المأثورة عن السلف الصالح، ولا تعرف ما ذكره المفسرون على هذه الآية، كما أنك لا تعرف من الأدلة العقلية إلا ما يذكره الفلاسفة والمتكلمون الخارجون عن سبيل المؤمنين، وأما ما يذكره أهل السنة والجماعة من المعقولات والمنقولات فلست منه في شيء.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى بعد ذكره أقوال الفرق المخالفة، قال: وأما الصحابة والتابعون وأئمة الإسلام المعروفون بالإمامة في الدين، كمالك والثوري والأوزاعي والليث بن سعد وأحمد وإسحاق وأبي حنيفة وأبي يوسف وأمثال هؤء وسائر أهل السنة والحديث والطوائف المنتسبين إلى السنة والجماعة، كالكلابية، والكرامية والأشعرية والسالمية وغيرهم، فهؤلاء كلهم متفقون على إثبات الرؤية لله تعالى، والأحاديث متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم عند أهل العلم بحديثه، وأما احتجاج النفاة بقوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ}، [الأنعام:103] فالآية حجة عليهم لا لهم، لأن الإدراك إما أن يراد
ص -269-(54/57)
به مطلق الرؤية، أو الرؤية المقيدة بالإحاطة، والأول باطل، لأنه ليس كل من رأى شيئاً يقال: إنه أدركه، كما يقال أحاط به، كما سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن ذلك فقال: ألست ترى السماء؟ قال: بلى، قال: أكلها ترى؟ قال: لا. ومن رأى جوانب الجيش أو الجبل، أو البستان، أو المدينة لا يقال: إنه أدركها، وإنما يقال: أدركها إذا أحاط بها رؤية.
ونحن في هذا المقام ليس علينا بيان ذلك، وإنما ذكرنا هذا بياناً لسند المنع، بل المستدل بالآية عليه أن يبين أن الإدراك في لغة العرب مرادف للرؤية وأن كل من رأى شيئاً يقال في لغتهم: إنه أدركه، وهذا لا سبيل إليه، كيف وبين لفظ الرؤية ولفظ الإدراك عموم وخصوص، فقد تقع رؤية بلا إدراك، وقد يقع إدراك بلا رؤية، أو اشتراك لفظي، وأن الإدراك يستعمل في أدراك العلم، وإدراك القدرة، فقد يدرك الشيء بالقدرة وإن لم يشاهد كالأعمى الذي يطلب رجلاً هارباً فأدركه ولم يره، وقد قال تعالى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ. قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 61-62]، فنفي موسى الإدراك مع إثبات الترائي. فعلم أنه قد يكون رؤية بلا إدراك، والإدراك هنا هو إدراك القدرة، أي ملحقون محاط بنا، وإذا انتفى هذا الإدراك فقد تنتفي إحاطة البصر أيضاً.
ص -270-(54/58)
ومما يبين ذلك أن الله تعالى ذكر هذه الآية يمدح بها نفسه سبحانه وتعالى، ومعلوم أن كون الشيء لا يرى ليس صفة مدح، لأن النفي المحض لا يكون مدحاً إن لم يتضمن أمراً ثبوتياً، لأن المعدوم أيضاً لا يرى، والمعدوم لا يمدح، فعلم أن مجرد نفي الرؤية لا مدح فيه، وإن كان المنفي هو الإدراك فهو سبحانه لا يحاط به رؤية، كما لا يحاط به علماً، ولا يلزم من نفي إحاطة العلم والرؤية نفي الرؤية، بل يكون ذلك دليلاً على أنه يرى ولا يحاط به، فإن تخصيص الإحاطة يقتضي أن مطلق الرؤية ليس بمنفي، وهذا الجواب قول أكثر العلماء من السلف وغيرهم، وقد روي معناه عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره، فلا تحتاج الآية إلى تخصيص، ولا خروج عن ظاهر المعنى، فلا نحتاج أن نقول: لا نراه في الدنيا، أو نقول لا تدركه الأبصار، بل المبصرون، أو لا يدركه كلها بل بعضها، ونحو ذلك من الأقوال التي فيها تكلف.
وأما قوله: ولا تعارض هذه الآية بقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23]، لأن كيفية رؤيته تعالى يوم القيامة مجهولة، كما هو معتقد أهل الحق.
فالجواب أن يقال: هذه الآية لا تعارض الآية المتقدمة، فإن كلام الله لا يتعارض، بل يصدق بعضه
ص -271-(54/59)
بعضاً. قال البغوي رحمه الله في تفسيره على هذه الآية: قال ابن عباس وأكثر الناس: تنظر إلى ربها عياناً بلا حجاب. وقال الحسن: تنظر إلى الخالق وحق لها أن تنضر1 وهي تنظر إلى الخالق.
أخبرنا أبو بكر بن أبي الهيثم الترابي، أنا عبد الله بن أحمد الحموي، أخبرنا إبراهيم بن خزيم الشاشي، أخبرنا عبد بن حميد2، حدثنا شبابة، عن إسرائيل عن ثوير قال: سمعت ابن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أدنى أهل الجنة منزلة من ينظر إلى جنانه وأزواجه ونعيمه، وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة، وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية"، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}3.
__________
1 في ط الرياض: "تنظر". والتصويب من تفسير البغوي ج 9/63 ط المنار، حاشية ابن كثير.
2 رواه البغوي من طريق عبد بن حميد في مسنده (819/ المنتخب من المسند).
3 أخرج الحديث –غير البغوي- الترمذي في سننه –أبواب صفة الجنة- باب أقل رجل في الجنة له مسيرة ألف سنة من الجنات، 7/231 ط استانبول: حدثنا عبد بن حميد أخبرني شبابة عن إسماعيل عن ثوير قال: سمعت ابن عمر يقول... فذكره بلفظ البغوي.
قال الترمذي: وقد روى هذا الحديث من غير وجه عن إسرائيل عن ثوير عن ابن عمر مرفوع. ورواه عبد الملك بن أبجر عن ثوير عن ابن =
ص -272-(54/60)
.....................................................................................................................
__________
= عمر موقوف وروى عبيد الله الأشجعي عن سفيان عن ثوير عن مجاهد عن ابن عمر قوله، ولم يرفعه. حدثنا بذلك أبو كريب محمد بن العلاء حدثنا عبيد الله الأشجعي عن سفيان عن ثوير عن مجاهد عن ابن عمر نحوه، ولم يرفعه اهـ. كلام الترمذي.
وقد أخرج الحديث الإمام أحمد من طريقين: أحدهما عن حسين بن محمد حدثنا إسرائيل عن ثوير عن ابن عمر رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم... فذكره الحديث بلفظ الترمذي.
الطريق الثاني: عن أبي معاوية حدثنا عبد الملك بن أبجر عن ثوير بن أبي فاختة عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أدنى أهل الجنة منزلة لينظر في ملك ألفي سنة، يرى أقصاه كما يرى أدناه، ينظر في أزواجه وخدمه، وإن أفضلهم منزلة لينظر في وجه الله تعالى كل يوم مرتين".
وأخرجه الحاكم في المستدرك 2/509-510 من هذا الطريق بلفظ أحمد. ثم قال: تابعه إسرائيل بن يونس عن ثوير عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن يرى في ملكه ألفي سنة، وإن أفضلهم منزلة لمن ينظر في وجه الله تعالى كل يوم مرتين". ثم تلا: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ}. قال: البياض والصفاء. {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} قال: "ينظر كل يوم في وجه الله عز وجل".
هذا حديث مفسر في الرد على المبتدعة. وثوير بن أبي فاختة وإن لم يخرجاه، فلم ينقم عليه غير التشيع. اهـ كلام الحاكم.
وتعقبه الذهبي في "التلخيص" بقوله: قلت: بل هو -أي ثوير- واهي الحديث اهـ.
قال الهيثمي في "المجمع" على هذا الحديث 10/401: رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني. وفي أسانيدهم: ثوير بن أبي فاختة، وهو مجمع على ضعفه اهـ.
وقال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الطريق الأولى عند الإمام(54/61)
أحمد 7/202: "إسناده ضعيف جداً، لضعف ثوير بن أبي فاختة" ثم قال تعليقاً على تعقيب الذهبي للحاكم -المتقدم-: والحق ما قاله الذهبي، وما كان الرد على المبتدعة مما يحتاج إلى مثل هذا الإسناد الواهي اهـ.
وقال في تعليقه على الطريق الثانية عند أحمد 6/284: إسناده ضعيف جداً لضعف ثوير بن أبي فاختة اهـ.
وقد نسب السيوطي الحديث في "الدر 8/350 إلى: ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، والترمذي، وابن جرير، وابن المنذر، والآجري في الشريعة، والدارقطني في الرؤية، والحاكم، وابن مردوية، واللالكائي في السنة، والبيهقي.
وقد نبه الشيخ أحمد شاكر على أن السيوطي فاته نسبة الحديث. إلى أحمد.
قلت: وكذا للطبراني وأبي يلعى. وينظر: حادي الأرواح ص 363.
ص -273-
وهذا الحديث يبطل تأويل من تأول من الجهمية والمعتزلة وأشباههم، ويبطل أيضاً قول هذا الملحد في قوله: ويدل على ذلك قوله: {وُجُوهٌ} ولم يقل عيون.
وأما قوله: كما هو معتقد أهل الحق، فيمكن أن تكون الرؤية يومئذ بنوع من الإنكشاف والتجلي من غير حاجة للباصرة، ولا محاذاة لها، ويدل على ذلك قوله
ص -274-(54/62)
وجوه، ولم يقل عيون، وفي قوله: {نَاضِرَةٌ} ما يفصح عن حصول السرور التام لها بذلك الانكشاف.
فالجواب أن نقول: إن أهل الحق عند هذا الملحد غلاة الجهمية كالمريسي وأشباهه، وكالمعتزلة والرافضة، وهم عند أهل السنة والجماعة من أكفر أهل الأرض، بل هم أهل الباطل المحض، وهؤلاء الملاحدة يؤولون الآيات والأحاديث الواردة في ذلك كقولهم هي زيادة علم وانكشاف بحيث نعلم ضرورة ما كان يعلم نظراً، وهذا الملحد نحا نحو هؤلاء الملاحدة بهذه التأويلات الباطلة الخارجة عن أقوال سلف الأمة وأئمتها.
وإذا تبين ذلك فإضافة النظر إلى الوجه الذي هو محله في هذه الآية، وتعديته بأداة إلى الصريحة في نظر العين، وإخلاء الكلام من قرينة تدل على خلاف حقيقة موضوعة في أن الله أراد بذلك نظر العين التي في الوجه إلى الرب جل جلاله، فإن النظر له عدة استعمالات بحسب صلاته وتعديته بنفسه، فإن عدي بنفسه فمعناه التوقف والانتظار، كقوله: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد: 13]، وإن عدي بـ (في) فمعناه التفكر والاعتبار، كقوله: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض} [الأعراف: 185]، وإن عدي بإلى فمعناه المعاينة
ص -275-(54/63)
بالأبصار كقوله تعالى: {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} [الأنعام: 99]، فكيف إذا أضيف إلى الوجه الذي هو محل البصر؟.
ويؤيد ذلك الحديث الذي في الصحيح قوله: "إنكم ترون ربكم عياناً"، فأخبر أنا نراه عياناً بأبصارنا، وقد أخبرنا الله أنه قد استوى على العرش، فهذه النصوص يصدق بعضها بعضاً، والعقل أيضاً يوافقها، ويدل على أنه سبحانه مباين لمخلوقاته فوق سمواته، وأن وجود موجود لا مباين للعالم ولا مجانس له محال في بديهة العقل، فإذا كانت الرؤية مستلزمة لهذه المعاني فهذا حق، وإذا سميتم أنتم هذا قولاً بالجهة وقولاً بالتجسيم لم يكن هذا القول نافياً لما علم بالشرع والعقل، إذ كان معنى هذا القول والحال هذه ليس منتفياً لا بشرع ولا عقل، فإن تسميتكم ما سميتموه جهة وتجسيماً أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان. وما أحسن ما قال عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون، أحد أئمة المدينة الثلاثة، الذين هم: مالك بن أنس وابن الماجشون وابن أبي ذئب، فقال رحمه الله في كلام له سنذكره إن شاء الله تعالى: فلم يزل يملي له الشيطان حتى جحد قول الله عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23]، فقال: لا يراه أحد يوم القيامة، فجحدوا أفضل كرامة الله
ص -276-
التي أكرم بها أولياءه يوم القيامة من النظر إلى وجهه، ونظرتهم إياه في مقعد صدق عند مليك مقتدر، قد قضى أنهم لا يموتون، فهم بالنظر إليه ينظرون... إلى أن قال: وقد عرف أنه إذا تجلى لهم يوم القيامة رأوا منه ما كانوا قبل ذلك مؤمنين به، وكان له جاحداً. انتهى.
ص -277-(54/64)
فصل
قال العراقي: (ثم قال –أي صاحب الدين الخالص-: (وإن أردتم بالجسم ما يشار إليه إشارة حسية، فقد أشار أعرف الخلق بالله تعالى إليه بأصبعه رافعاً لها إلى السماء... إلى آخره –قال العراقي-: فأقول: إن بداهة العقل حاكمة بأن المشار إليه بالإشارة الحسية لا بد أن يكون في جهة ومكان، وأن يكون مرئياً، وكل ذلك مستحيل على الله تعالى، لأنه تعالى لو كان في مكان أو جهة لزم قدم المكان أو الجهة، وقد قام البرهان على أن لا قديم سوى الله تعالى).
والجواب أن يقال: أولاً: أن بداهة العقل حاكمة بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به، وحاكمة بأن من رد على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله أو اتهمه فيما فعله وأمر به فهو كافر حلال المال والدم، وقام البرهان من الكتاب والسنة على أن الله يرى في الآخرة عياناً كما ترى الشمس
ص -278-(54/65)
والقمر، وهذا ليس بمستحيل في العقول الصحيحة الموافقة لصريح المنقول عن الرسول.
ونحن نعلم بضرورة العقل أن الرسل لا يخبرون بمحالات العقول ولا بمحارات العقول، فلا يخبرون بما يعلم العقل انتفاءه، ولا يخبرون بما يعجز العقل عن معرفته، وقام البرهان من الكتاب والسنة على أن الله تعالى وتقدس فوق سماواته على عرشه، بائن من خلقه، فمن قال غير هذا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً.
ويقال ثانياً: لهؤلاء الملاحدة: ما تعنون بأن هذا إثبات للجهة، والجهة فممتنعة؟ أتعنون بالجهة أمراً وجودياً أم أمراً عدمياً؟ فإن أردتم أمراً وجودياً وقد علم أنه ما ثم موجود إلا للخالق والمخلوق، والله فوق سمواته بائن من مخلوقاته، لم يكن والحالة هذه في جهة موجودة. فقولكم: (إن المرئي لا بد أن يكون في جهة موجودة) قول باطل، فإن سطح العالم مرئي وليس هو في عالم آخر. وإن فسرتم الجهة بأمر عدمي كما تقولون: (إن الجسم في حيز، والحيز تقدير مكان، وتجعلون ما وراء العالم حيزاً).
فيقال لكم: الجهة والحيز إذا كان أمراً عدمياً فهو لا شيء، وما كان في جهة عدمية أو حيز عدمي فليس هو في شيء، ولا فرق بين قول القائل هذا ليس في شيء، وبين
ص -279-(54/66)
قوله هو في العدم أو أمر عدمي، فإذا كان الخالق تعالى مبايناً للمخلوقات عالياً عليها، وما ثم موجود إلا الخالق أو المخلوق، لم يكن معه غيره من الموجودات، فضلاً عن أن يكون هو سبحانه في شيء موجود يحصره أو يحيط به.
فطريقة السلف والأئمة إنما يراعون المعاني الصحيحة المعلومة بالشرع والعقل، ويراعون أيضاً الألفاظ الشرعية، فيعتدون بها ما وجدوا إليها سبيلاً، ومن تكلم بما فيه معنى باطل يخالف الكتاب والسنة ردوا عليه، ومن تكلم بلفظ مبتدع يحتمل حقاً وباطلاً نسبوه إلى البدعة أيضاً، وقالوا: إنه قابل بدعة ببدعة، ورد باطلاً بباطل. انتهى من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية.
وقد تبين لكل من له أدنى مسكة من عقل ومعرفة أن ما ألزم به هذا الملحد من هذه اللوازم من لفظ المكان والجهة، وقوله: (لو كان في مكان لكان محتاجاً إلى مكانه)... إلى آخره ما هذي به في كلامه أنها من أقوال الجهمية والمعتزلة والفلاسفة والمتكلمين، وقد تقدم الكلام عليها.
وأما لفظ المكان، فقال شيخ الإسلام رحمه الله: وأما القائل الذي يقول: (إن الله تعالى ينحصر في مكان). إن أراد به أن الله تعالى لا ينحصر في جوف المخلوقات، وأنه
ص -280-(54/67)
لا يحتاج إلى شيء منها فقد أصاب، وإن أراد أن الله سبحانه وتعالى ليس فوق السموات، ولا هو مستو على العرش استواء لائقاً بذاته، وليس هناك إله يعبد، ومحمد صلى الله عليه وسلم لم يعرج به إلى الله تعالى، فهذا جهمي فرعوني معطل.
ومنشأ هذا الضلال أن يظن الظان أن صفات الرب سبحانه كصفات خلقه، فيظن أن الله تعالى على عرشه كالملك المخلوق على سريره، فهذا تمثيل وضلال، وذلك أن الملك مفتقر إلى سريره، ولو زال سريره لسقط، والله عز وجل غني عن العرش، وعن كل شيء، وكل ما سواه محتاج إليه، وهو حامل العرش وحملة العرش، وعلوه عليه لا يوجب افتقاره إليه، فإن الله تعالى قد جعل المخلوقات عالياً وسافلاً، وجعل العالي غنياً عن السافل، كما جعل الهواء فوق الأرض وليس هو مفتقر إليها، وجعل السماء فوق الهواء وليست محتاجة إليه، فالعلي الأعلى رب السموات والأرض وما فيهما أولى أن يكون غنياً عن العرش وسائر المخلوقات وإن كان عالياً عليه سبحانه عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
والأصل في هذا الباب أن كل ما ثبت في كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وجب التصديق به، مثل علو الرب، واستوائه على عرشه ونحو ذلك.
ص -281-(54/68)
وأما الألفاظ المبتدعة في النفي والإثبات، مثل قول القائل: (هو في جهة، أو ليس في جهة، وهو متحيز، أو ليس متحيزاً)، ونحو ذلك من الألفاظ التي تنازع فيها الناس وليس مع أحد منهم نص لا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن الصحابة رضي الله عنهم، ولا عن التابعين لهم بإحسان، ولا أئمة المسلمين، هؤلاء لم يقل أحد منهم إن الله تعالى في جهة، ولا قال ليس هو في جهة، ولا قال هو متحيز، ولا قال ليس بمتحيز، بل ولا قال هو جسم أو جوهر، ولا قال ليس بجسم ولا بجوهر، فهذه الألفاظ ليست منصوصة في الكتاب، ولا السنة، ولا الإجماع... إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى.
وأما قوله: (وأيضاً لو جاز أن يشار إليه بالإشارة الحسية لجاز أن يشار إليه من كل نقطة من سطح الأرض، وحيث إن الأرض كرية يلزم أن يكون سبحانه محيطاً بها من جميع الجهات، وإلا ما صحت الإشارة إليه، ولما كان تعالى مستوياً على عرشه ومستقراً عليه كما تزعمه الوهابية كان عرشه محيطاً بالسموات السبع، فيلزمه من نزوله إلى السماء الدنيا وصعوده منها- كما تقول الوهابية –أن يصغر جسمه تعالى عند النزول، ويكبر عند الصعود، فيكون
ص -282-(54/69)
متغيراً من حال إلى حال، تعالى الله عنه عما يقول الجاهلون).
فالجواب أن نقول: قد أشار إليه بالإشارة الحسية أعرف الخلق به بأصبعه رافعاً بها إلى السماء، بمشهد الجمع الأعظم، مستشهداً له، وهو سيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام، وهو أعلم الناس بربه، وأعظم تنزيهاً له وتقديساً وتعظيماً.
ولما كان هذا العراقي جهمياً معتزلاً، واعتقد أن الأرض إذا كانت كرية أنه يلزم أن يكون الله سبحانه محيطاً بها من جميع الجهات، وإلا ما صحت الإشارة إليه، وكلام العراقي يقتضي أن يكون الله تعالى تحت بعض خلقه، وإذا كان ذلك من كلامه مفهوماً فقد قال شيخ الإسلام في بعض أجوبته:
وقد يظن بعض الناس أن ما جاءت به الآثار النبوية من أن العرش سقف الجنة، وأن الله على عرشه مع ما دلت عليه من أن الأفلاك مستديرة: متناقض أو مقتضٍ أن يكون الله تعالى تحت بعض خلقه، كما احتج بعض الجهمية على إنكار أن يكون الله تعالى فوق العرش باستدارة الأفلاك، وأن ذلك يستلزم كون الرب تعالى أسفل، وهذا من غلطهم في تصور الأمر، ومن علم أن
ص -283-(54/70)
الأجسام المستديرة، بأن المحيط الذي هو السقف هو أعلا عليين، وأن المركز الذي هو باطن ذلك وجوفه، وهو قعر الأرض، وهو سجين وأسفل سافلين، علم بسبب مقابلة الله تعالى بين أعلى عليين، وبين سجين، مع أن المقابلة إنما تكون في الظاهر بين العلو والسفول، أو بين السعة والضيق، وذلك أن العلو مستلزم للسعة، والضيق مستلزم للسفول، وعلم أن السماء فوق الأرض مطلقاً، لا يتصور أن تكون تحتها قط، وإن كانت مستديرة محيطة، وكذلك كلما علا كان أرفع وأشمل.
وعلم أن الجهة قسمان: قسم ذاني، وهو العلو والسفول فقط. وقسم إضافي، وهو ما ينسب إلى الحيوان بحسب حركته، فما أمامه يقال له أمام، وما خلفه يقال له خلف، وما عن يمينه يقال له اليمين، وما عن يساره يقال له اليسار، وما فوق رأسه يقال له فوق، وما تحت قدميه يقال له تحت، وذاك أمر إضافي، أرأيت لو أن رجلاً علق رجلاه إلى السماء ورأسه إلى الأرض، أليست السماء فوقه وإن قابلها برجليه، وكذلك النملة وغيرها لو مشى تحت السقف مقابلاً له برجليه وظهره إلى الأرض لكان العلو محاذياً لرجليه وإن كان فوقه، فأسفل سافلين ينتهي إلى جوف الأرض، والكواكب التي في السماء وإن كان بعضها محاذياً لرؤوسنا وبعضها في النصف الآخر من الفلك فليس شيء منها
ص -284-(54/71)
تحت شيء، بل جميعها فوقنا في السماء.
ولما كان الإنسان إذا تصور هذا يبقى إلى وهمه السفل الإضافي كما احتج به الجهمي الذي أنكر علو الله على عرشه، وخيل إلى من لا يدري أن من قال إن الله فوق العرش فقد جعله تحت نصف المخلوقات، أو جعله فلكاً آخر، تعالى الله عما يقول الجاهل: إنه لازم لأهل الإسلام من الأمور التي لا تليق بالله تعالى، ولا هي لازمة.
وقال أيضاً1: واعلم أن العرش إن كان هذا الفلك التاسع، أو جسماً محيطاً به، أو كان فوقه من جهة وجه الأرض محيطاً به، أو قيل فيه غير ذلك، فيجب أن يعلم أن العالم العلوي والسفلي بالنسبة إلى الخالق تعالى في غاية الصغر، كما قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 7].
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يقبض الله تبارك وتعالى الأرض يوم القيامة، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض".
__________
1 في الرسالة العرشية (مجموع الفتاوى 6/559-562).
ص -285-(54/72)
وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "يطوي الله السموات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله، ثم يقول: أين الملوك أين الجبارون، أين المتكبرون؟". وفي لفظ: ويتميل برسول الله صلى الله عليه وسلم على يمينه وعلى شماله حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفله شيء. وفي رواية أخرى قال: قرأ على المنبر {وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الآية. قال: "مطوية في كفه يرمي بها كما يرمي الغلام بالكرة"1.
ففي هذه الأحاديث وغيرها المتفق على صحتها ما يعين أن السموات والأرض وما بينهما بالنسبة إلى عظمته عز وجل أصغر من أن تكون مع قبضه لها إلا كالشيء الصغير في يد أحدنا حتى يدحوها كما تدحى الكرة. ثم قال في الجواب2:
فما وصف الله تعالى من نفسه وأسمائه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم سميناه كما سماه، ولم نتكلف علم ما سواه، فلا نجحد ما وصف، ولا نتكلف معرفة ما لم يصف، وإذا كان كذلك فهو قادر على أن يقبضها ويدحوها كالكرة،
__________
1 سبق تخريج الحديث ص 235 وما بعدها.
2 في الرسالة العرشية (مجموع الفتاوى 6/564).
ص -286-(54/73)
وفي ذلك من الإحاطة بها ما لا يخفى، وإن شاء لم يفعل، وبكل حال فهو مباين لها ليس بمحايث لها.
ومن المعلوم أن الواحد منا –ولله المثل الأعلى- إذا كان عنده خردلة إن شاء قبضها فأحاطت بها قبضته، وإن شاء لم يقبضها، بل جعلها تحته فهو في الحالين مباين لها، وسواء قدر أن العرش محيط بالمخلوقات كإحاطة الكرة بما فيها، أم قيل إنه فوقها وليس محيطاً بها كوجه الأرض الذي نحن عليها بالنسبة إلى جوفها، أو كالقبة بالنسبة إلى ما تحتها، أو غير ذلك، فعلى التقديرين يكون العرش فوق المخلوقات، والخالق سبحانه فوقه، والعبد في توجهه إليه عز وجل يقصد العلو دون التحت. ثم قال رحمه الله:
وأما إذا قدر أنه ليس بكري1 الشكل، بل هو فوق العالم من الجهة التي هي وجه الأرض، وأنه فوق الأفلاك الكرية، كما أن وجه الأرض الموضوع للأنام فوق نصف الأرض الكري، أو غير ذلك من التقادير التي يقدر فيها أن العرش فوق ما سواه2، فعلى كل تقدير لا يتوجه3 إلى الله تعالى إلا إلى العلو، مع كونه على عرشه، مبايناً لخلقه،
__________
1 في الفتاوى : (كري).
2 في الفتاوى زيادة: (وليس كري الشكل).
3 في الفتاوى: (نتوجه).
ص -287-(54/74)
وعلى ما ذكرنا لا يلزم شيء من المحذور والتناقض، وهذا يزيل كل شبهة نشأت من اعتقاد فاسد، وهو أن يظن أن العرش إذا كان كرياً، والله تعالى فوقه، كما تقتضيه ذاته –سبحانه عن مشابهة المخلوقين- وجب فيما عند الزاعم أن يكون سبحانه كرياً، ثم يعتقد أنه إذا كان كرياً فيصح التوجه إلى ما هو كري كالفلك التاسع من جميع الجهات، وهذا خطأ، فإن القول بأن العرش كري لا يجوز أن يظن أنه مشابه للأفلاك في أشكالها، وفي أقدارها، أو في صفاتها، بل قد تبين أنه سبحانه أعظم وأكبر من أن تكون المخلوقات عنده أصغر من الحمصة مثلاً في يد أحدنا، فإذا كانت الحمصة مثلاً في يد الإنسان أو تحته أو نحو ذلك هل يتصور عاقل إذا استشعر علو1 الإنسان على ذلك وإحاطته به بأن يكون الإنسان كالفلك، فالله تعالى –وله المثل الأعلى- أعظم من أن يظن به ذلك، وإنما يظنه الذين لم يقدروا الله حق قدره، والأرض جمعياً قبضته يوم القيامة، والسموات مطويات بيمينه، سبحانه وتعالى عما يشركون، وإن لم يكن كرياً فالأمر ظاهر مما تقدم. انتهى2.
__________
1 في النسخ (على) بدل (علو).
2 هو في الرسالة العرشية لابن تيمية –رحمه الله تعالى- (مجموع الفتاوى 6/581-583) بإسهاب.
ص -288-(54/75)
فصل
وأما قول العراقي: (ولما كان تعالى مستوياً على عرشه ومستقراً عليه كما تزعمه الوهابية كان عرشه محيطاً بالسموات السبع، فيلزم من نزوله إلى السماء وصعوده منها -كما تقوله الوهابية- أن يصغر جسمه تعالى عند النزول، ويكبر عند الصعود، فيكون متغيراً من حال إلى حال، تعالى الله عما يقول الجاهلون).
فالجواب أن يقال: قد كان من المعلوم أن هذا الجهمي لا يعرف من صفات الخالق إلا ما يعرف من صفات المخلوقين، وأنه ما عرف الله حق معرفته، ولا قدره حق قدره، ولا عظمه حق عظمته، فلذلك نزهه عما يليق بجلاله وعظمته، وألزم من أثبت ما وصف الله به نفسه، وما وصفه به رسوله باللوازم التي لا تليق إلا بالمخلوق ولا تليق بالخالق، مما قد علم أهل العلم بالله أنها من أوضاع الجهمية والمعتزلة والفلاسفة والمتكلمين الذين هم ورثتهم، وذلك أن في أصول ضلالهم ظنهم أن هذا تنزيه
ص -289-(54/76)
عن التشبيه، وأنهم متى وصفوا بصفة إثبات أو نفي كان فيه تشبيه بذلك، ولم يعلموا أن التشبيه المنفي عن الله أبعد مما كان وصفه بشيء من خصائص المخلوقين، أو أن يجعل شيء من صفاته مثل صفات المخلوقين، بحيث يجوز عليه ما يجوز عليهم، أو يجب له ما يجب لهم، أو يمتنع عليه ما يمتنع عليهم مطلقاً، فإن هذا هو التمثيل الممتنع منه المنفي بالعقل مع الشرع، فيمتنع عليه وصفه بشيء من النقائص، ويمتنع مماثلة غيره له في شيء من صفات الكمال، فهذان إجماع لما ينزه الرب تعالى عنه.
فإذا عملت ذلك فالوهابية لا يقولون بشيء من هذه الأقوال ولا يعتقدونها، ولا يدينون الله بها، فإن جمهور أهل السنة يقولون: إنه ينزل ولا يخلو منه العرش، كما نقل ذلك عن إسحاق بن راهويه وحماد بن زيد، وغيرهما، ونقلوه عن أحمد بن حنبل في رسالته وهم متفقون على أن الله ليس كمثله شيء، وأنه لا يعلم كيف ينزل، ولا تمثل صفته بصفات خلقه، فلا يلزم الوهابية شيء من هذه اللوازم الباطلة، وقولهم واعتقادهم في ذلك قول أهل السنة والجماعة، كما قال الفضيل بن عياض رحمه الله:
ليس لنا أن نتوهم في الله كيف وكيف، لأن الله
ص -290-(54/77)
وصف نفسه فأبلغ فقال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1-4]، فلا صفة أبلغ مما وصف به نفسه، وكل هذا النزول والضحك وهذه المباهاة، وهذا الاطلاع كما شاء أن ينزل، وكما شاء أن يباهي، وكما شاء أن يطلع، وكما شاء أن يضحك، فليس لنا أن نتوهم فيه كيف وكيف. وإذا قال لك الجهمي: أنا أكفر برب يزول عن مكانه. فقل أنت: أنا أؤمن برب يفعل ما يشاء.
وقال عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة بن الماجشون، وهو أحد أئمة المدينة الثلاثة، الذين هم: مالك بن أنس، وابن الماجشون، وابن أبي ذئب، وقد سئل عما جحدت الجهمية:
أما بعد؛ فقد فهمت ما سألت فيما تتابعت الجهمية ومن خالفها في صفة الرب العظيم الذي فاقت عظمته الوصف والتدبير، وكلت الألسن عن تفسير صفته، وانحسرت العقول دون معرفة قدرته، وردت عظمته العقول فلم تجد مساغاً فرجعت خاسئة وهي حسيرة، وإنما أمروا بالنظر والتفكر فيما خلق بالتقدير، وإنما يقال: لمن لم يكن مرة ثم كان، فأما الذي لا يحول ولا يزول ولم يزل وليس له مثل فإنه لا يعلم كيف هو إلا هو، وكيف يعرف قدر من لم يبدئ، ومن لم يمت ولا يبلي، وكيف يكون
ص -291-(54/78)
لصفة شيء منه حداً أو منتهى يعرفه عارف، أو يحد قدره واصف، على أنه الحق المبين، لا حق أحق منه، ولا شيء أبين منه، الدليل على عجز العقول عن تحقيق صفته عجزها عن تحقيق صفة أصغر خلقه لا تكاد تراه صغراً يحول ويزول، ولا يرى له سمع ولا بصر لما يتقلب به ويحتال من عقله، أعضل بك، وأخفى عليك، فأظهر من سمعه وبصره، فتبارك الله أحسن الخالقين.
وخالقهم وسيد السادة وربهم ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
اعرف –رحمك الله- غناك عن تكلف صفة ما لم يصف الرب من نفسه لعجزك عن معرفة قدر ما وصف منها، إذ لم تعرف قدر ما وصف، فما تكلفك علم ما لم يصف، هل تستدل بذلك على شيء من طاعته، أو تنزجر به عن شيء من معصيته، فأما الذي جحد ما وصف الرب من نفسه تعمقاً وتكلفاً قد استهوته الشياطين في الأرض حيران، فصار يستدل بزعمه على جحد ما وصف به الرب، وسمى من نفسه، بأن قال: لا بد إن كان له كذا من أن يكون له كذا، فعمي عن البين بالخفي، ويجحد ما وصف الرب من نفسه بصمت الرب عما لم نسم1 منها، فلم يزل يملي
__________
1 كذا، ولعل الصواب: (يسم).
ص -292-(54/79)
له الشيطان حتى جحد قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23]، فقال: لا يراه أحد يوم القيامة، فجحد والله أفضل كرامة الله التي أكرم بها أولياءه يوم القيامة من النظر إلى وجهه، ونظرته إياهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر، قد قضى أنهم لا يموتون فهم بالنظر إليه ينظرون... إلى أن قال:
وإنما جحد رؤية الله يوم القيامة إقامة للحجة الضالة المضلة، لأنه قد عرف أنه إذا تجلى لهم يوم القيامة رأوا منه ما كانوا قبل ذلك مؤمنين به، وكان له جاحداً، وقال المسلمون: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب؟" قالوا: لا. قال: "فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟" قالوا: لا. قال: "فإنكم ترون ربكم يومئذ كذلك".
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تمتلئ النار حتى يضع الجبار فيها قدمه فتقول" قط قط، وينزوي بعضها إلى بعض".
وقال لثابت بن قيس: "لقد ضحك الله مما فعلت بضيفك البارحة".
وقال فيما بلغنا: "إن الله تعالى ليضحك من أزلكم
ص -293-(54/80)
وقنوطكم وسرعة إجابتكم". فقال له رجل من العرب: إن ربنا ليضحك؟ قال: "نعم". قال: لن نعدم من رب يضحك خيراً. في أشباه لهذا مما لا نحصيه.
وقال تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، وقال تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48]، وقال تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي}[طه: 39]، وقال تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [صّ:75]، وقال تعالى: {وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67]، فوالله ما دلهم على عظم ما وصف به نفسه، وما تحيط به قبضته، إلا صغر نظرها منهم عندهم، إن ذلك الذي ألقى في روعهم، وخلق على معرفته قلوبهم، فما وصف الله من نفسه فسماه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم سميناه، ولم نتكلف منه صفة ما سواه، لهذا ولهذا لا نجحد ما وصف، ولا نتكلف معرفة ما لم يصف.
اعلم –رحمك الله- أن العصمة في الدين أن تنتهي في الدين حيث انتهى بك، ولا تجاوز ما حد لك، فإن من قوام الدين معرفة المعروف، وإنكار المنكر، فما بسطت عليه المعرفة، وسكنت إليه الأفئدة، وذكر أصله في الكتاب والسنة، وتوارثت علمه الأمة، فلا تخافن في ذكره وصفته من ربك ما وصف عن نفسه عيباً، ولا تكلفن لما وصف
ص -294-(54/81)
لك من ذلك قدراً، وما أنكرته نفسك، ولم تجد ذكره في كتاب ربك، ولا في حديث عن نبيك من ذكر صفة ربك، فلا تتكلفن علمه بعقلك، ولا تصفه بلسانك، واصمت عنه كما صمت الرب عنه من نفسه، فإن تكلفك معرفة ما لم يصف من نفسه كإنكارك ما وصف منها، فكما أعظمت ما جحده الجاحدون مما وصف من نفسه، فكذلك أعظم تكلف ما وصف الواصفون مما لم يصف منها.
فقد والله عز المسلمون الذي يعرفون المعروف وبمعرفتهم يعرف، وينكرون المنكر وبإنكارهم ينكر، يسمعون ما وصف الله به نفسه من هذا في كتابه، وما يبلغهم مثله عن نبيه، فما مرض من ذكر هذا وتسميته قلب مسلم، ولا يتكلف صفة قدره ولا تسمية غيره من الرب مؤمن.
وما ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سماه من صفة ربه، فهو بمنزلة ما سمى ووصف الرب تعالى من نفسه، والراسخون في العلم الواقفون حيث انتهى علمهم، الواصفون لربهم ما وصف من نفسه، التاركون لما ترك من ذكرها، لا ينكرون صفة ما سمى منها جحداً، ولا يتكلفون وصفه مما لم يسم تعمقاً، لأن الحق ترك ما ترك، وتسمية ما سمى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً}1
__________
1 في ط الرياض: (ومن يتبع).
ص -295-
[النساء:115]. وهب الله لنا ولكم حكماً وألحقنا بالصالحين.
قال شيخ الإسلام: وهذا كله كلام ابن الماجشون الإمام، فتدبره وانظر كيف أثبت الصفات، ونفي علم الكيفية، موافقاً لغيره من الأئمة، وكيف أنكر على من نفى الصفات بأنه يلزمهم من إثباتها كذا وكذا، كما تقوله الجهمية: إنه يلزم أن يكون جسماً أو عرضاً فيكون محدثاً. انتهى.
فتحصل لنا مما ذكره أئمة الإسلام، وقدوة الأنام، أن هذا الملحد جهمي معتزلي، وهذا يكفي العاقل من ضلاله وعتوه، وخروجه عن الصراط المستقيم، والحمد لله رب العالمين.
ص -296-(54/82)
فصل
قال العراقي: (وأما ما تمسكت به الوهابية من النقول التي تثبت الإشارة إليه تعالى فهي ظواهر ظنية لا تعارض اليقينيات، فتؤول إما إجمالاً، ويفوض تفصيلها إلى الله كما عليه أكثر السلف، وإما تفصيلاً كما هو رأي الأكثرين، فما ورد من الإشارة إليه في السماء محمول على أنه تعالى خالق السماء، وأن السماء مظهر قدرته لما اشتملت عليه من العوالم العظيمة التي لم تكن أرضنا الحقيرة إلا ذرة بالنسبة إليها، وكذلك العروج إليه تعالى هو بمعنى العروج إلى موضع يتقرب إليه بالطاعات فيه، إلى غير ذلك من التأويلات).
فالجواب أن نقول: قد كان من المعلوم أن طريقة الوهابية التمسك بكتاب الله وسنة رسوله، وأقواله سلف الأمة وأئمتها، فيثبتون ما أثبته الله ورسوله، وينفون ما نفاه الله ورسوله، ولا يعتقدون صواب ما ذهب إليه المتكلمون من تأويل آيات الصفات وأحاديثها، حيث
ص -297-(54/83)
قالوا إن نصوص الكتاب والسنة ظواهر ظنية لا تعارض اليقينيات، وما أشبه ذلك من التمويهات. وهذا الضرب من الناس هم الذين كثر في باب الدين اضطرابهم، وغلظ عن معرفة الله حجابهم، وإذا كان أدلة الكتاب والسنة ظواهر ظنية لا تعارض العقليات اليقينية فهلا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً من الدهر أو أحد من سلف الأمة: إن هذه الآيات والأحاديث ظواهر ظنية، فلا تعتقدوا ما دلت عليه، ولكن اعتقدوا الذي تقتضيه عقولكم ومقاييسكم، أو أولوها بكذا وكذا فإنه الحق، وما خالفه ظاهره فلا تعتقدوا ظاهره، وانظروا فيما وافق قياس عقولكم فاعتقدوه، لأن العقل مقدم على النقل إذ هو أصله؟!
ثم كيف يجوز أن يقال في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما يعلم زيد وعمرو بعقله أنه باطل، وأن يكون كل من اشتبه عليه شيء مما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم قدم رأيه على نص الرسول صلى الله عليه وسلم في أنباء الغيب، وما أخبر به عن ربه، وما وصف به من صفات كماله ونعوت جلاله، بمجرد رأيه بدون الاستهداء بهدي الله، والاستضاءة بنور الله الذي أرسل به رسله، وأنزل به كتبه، مع علم كل أحد بقصوره، وتقصيره في هذا الباب، وبما وقع فيه الأكثرون من الاضطراب، ففي الجملة النصوص الثابتة في الكتاب والسنة لا يعارضها معقول قط، ولا يعارضها إلا ما فيه
ص -298-(54/84)
اشتباه واضطراب، وما علم أنه حق لا يعارضه ما فيه اضطراب واشتباه لم يعلم أنه حق، بل نقول قولاً عاماً كلياً: إن النصوص الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعارضها قط صريح معقول فضلاً عن أن يكون مقدماً عليها، وإنما الذي يعارضها شبه وخيالات مبناها على معان متشابهة، وألفاظ مجملة، فمتى وقع الاستفسار والبيان ظهر أن ما عارضها شبة سوفسطية لا براهين عقلية.
ثم كيف تكون أدلة كتاب الله وسنة رسوله ظواهر ظنية، وقد جاء في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره عن علي1 رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنها ستكون فتن" قلت: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: "كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل، ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس2 به الألسن، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبة، ولا يشبع منه العلماء". وفي رواية: "ولا تختلف به الآراء، هو
__________
1 في جميع النسخ: "عن عمار"، والصواب: أن الحديث من مسند علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
2 في ط: المنار والرياض: "تلبس".
ص -299-
الذي لم تنته الجن إذ سمعته أن قالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً. يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ}، ومن قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم"1.(54/85)
__________
1 أخرجه الترمذي في سننه –أبواب ثواب القرآن- باب ما جاء في فضل القرآن 8/112-113 ط استانبول. من طريق حمزة الزيات عن أبي المختار الطائي عن ابن أبي الحارث الأعور عن الحارث... عن علي... به.
وقال الترمذي: هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وإسناده مجهول. وفي الحارث مقال اهـ.
قال الحافظ ابن كثير في فضائل القرآن: لم ينفرد به حمزة الزيات، فقد رواه محمد بن إسحاق عن محمد بن كعب عن الحارث، فبرئ حمزة من عهدته، على أنه وإن كان ضعيفاً الحديث فإنه إمام في القرآءة.
والحديث مشهور من رواية الحارث وقصارى هذا الحديث أن يكون من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقد وهم بعضهم في رفعه. وهو كلام حسن صحيح، على أنه قد روي له شاهد عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم اهـ.
وذكر ابن الأثير في جامع الأصول عن عمر بن الخطاب قال: نزل جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أنها ستكون فتن. قال: "فما المخرج منها يا جبريل"، قال... فذكره نحوه. قال ابن الأثير: أخرجه رزين. اهـ.
قال الشيخ الإمام محدث العصر العلامة محمد ناصر الدين الألباني حفظه الله تعالى: هذا حديث جميل المعنى، ولكن إسناده ضعيف، فيه الحارث الأعور، وهو لين، بل اتهمه بعض الأئمة بالكذب، ولعل أصله موقوف على علي رضي الله عنه فأخطأ الحارث فرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم اهـ من تعليقه على الطحاوية.
ص -300-(54/86)
الضياء الشارق في رد شبهات الماذق المارق - سليمان بن سحمان (4)
وهذا الملحد يقول: إن لأدلة الكتاب والسنة ظواهر ظنية لا تعارض اليقينيات، واليقينيات عنده نحاتة أفكار الفلاسفة، وفروخ اليونان، وورثة المجوس، وزبالة أذهانهم.
فالحمد لله الذي أخذ بنواصي الوهابية فلم يسكلوا طريقة هؤلاء المغضوب عليهم والضالين، بل سلك بهم طريقة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسلف الأمة وأئمتها، فلله الحمد لا نحصي ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثني عليه أحد من خلقه.
قال شمس الدين ابن القيم رحمه الله تعالى في "إغاثة اللهفان": ومن حيله ومكايده الكلام الباطل، والآراء المتهافتة، والخيالات المتناقضة، التي هي زبالة الأذهان، ونحاتة الأفكار، والزبد الذي تقذف به القلوب المظلمة المتحيرة التي تعدل الحق بالباطل، والخطأ بالصواب، قد تقاذفت بها أمواج الشبهات، ورانت عليها غيوم الخيالات، فركبها القيل والقال، والشك والتشكيك، وكثرة الجدال، ليس لها حاصل من اليقين يعول عليه، ولا معتقد مطابق للحق يرجع إليه {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً}
ص -301-(55/1)
[الأنعام: 112]، فقد اتخذوا لأجله ذلك القرآن مهجوراً، وقالوا من عند أنفسهم منكراً من القول وزوراً، فهم في شكهم يعمهون، وفي حيرتهم يترددون، نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، واتبعوا ما تلته الشياطين على ألسنة أسلافهم من أهل الضلال فهم إليه محاكمون، وبه مخاصمون، فارقوا الدليل {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77].
ومن كيده بهم وتحيله على إخراجهم من العلم والدين: أن ألقى على ألسنتهم أن لكلام الله ورسوله ظواهر لفظية لا تفيد اليقين، وأوحى إليهم أن القواطع العقلية، والبراهين اليقينية، في المناهج الفلسفية والطرق الكلامية، فحال بينهم وبين اقتباس الهدي واليقين من مشكاة القرآن، وأحالهم على منطق يونان، وعلى ما عندهم من الدعاوى الكاذبة العرية عن البرهان، وقال لهم: تلك علوم قديمة صقلتها العقول والأذهان، ومرت عليها القرون والأزمان، فانظر كيف تلطف بكيده ومكره حتى أخرجهم من الإيمان كما أخرج الشعرة من العجين. انتهى1.
__________
1 1/187-188 ط المكتب الإسلامي.
ص -302-(55/2)
وأما قوله: (فتؤول إما إجمالاً ويفوض تفصيلها إلى الله تعالى كما عليه أكثر السلف).
فالجواب أن نقول: قد أجاب عن هذا الكلام شيخ الإسلام قدس الله روحه، فقال:
ثم الكلام في هذا الباب عنهم أكثر من أن يمكن تسطيره في هذه الفتوى وأضعافها، يعرف ذلك من طلبه وتتبعه، ولا يجوز أيضاً أن يكون الخالفون أعلم من السابقين، كما يقوله بعض الأغبياء ممن لا يعرف قدر السلف، بل ولا عرف الله ورسوله والمؤمنين به حقيقة المعرفة المأمور بها: من أن طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم.
فإن هؤلاء المبتدعين الذين يفضلون طريقة الخلف من المتفلسفة ومن حذا حذوهم على طريقة السلف، إنما أوتوا من حيث ظنوا أن طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه لذلك، بمنزلة الأميين الذين قال الله فيهم: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [البقرة: 78].
وأن طريقة الخلف هي استخراج معاني النصوص المعروفة عن حقائقها بأنواع المجازات، وغرائب اللغات.
ص -303-(55/3)
فهذا الظن الفاسد أوجب تلك المقالات التي مضمونها نبذ الإسلام وراء الظهر، وقد كذبوا على طريقة السلف، وضلوا في تصويب طريقة الخلف، فجمعوا بين الجهل بطريقة السلف في الكذب عليهم، وبين الجهل والضلال بتصويب طريقة الخلف.
وسبب ذلك اعتقادهم أنه ليس في نفس الأمر صفة دلت عليها هذه النصوص بالشبهات الفاسدة التي شاركوا فيها إخوانهم من الكافرين، فلما اعتقدوا انتفاء الصفات في نفس الأمر، وكان مع ذلك لا بد للنصوص من معنى بقوا مترددين بين الإيمان باللفظ وتفويض المعنى، وهي التي يسمونها طريقة السلف، وبين صرف اللفظ إلى معان بنوع التكلف، وهي التي يسمونها طريقة الخلف، فصار هذا الباطل مركباً من فساد العقل والكفر بالسمع، فإن النفي إنما اعتمدوا فيه على أمور عقلية ظنوها بيّنات وهي شبهات، والسمع حرفوا فيه الكلام عن مواضعه.
فلما ابتنى أمرهم على هاتين المقدمتين الكفريتين الكاذبتين، وكانت النتيجة استجهال السابقين، واستبلاههم، واعتقاد أنهم كانوا قوماً أميين بمنزلة الصالحين العامة، لم يتجردوا في حقائق العلم بالله، ولم يتفطنوا لدقائق العلم الإلهي، وأن الخلف الفضلاء حازوا قصب السبق في هذا كله –إلى أن قال-:
ص -304-(55/4)
ثم هؤلاء المتكلمون المخالفون للسلف إذا حقق عليهم الأمر لم يوجد عندهم من حقيقة العلم بالله وخالص المعرفة له خبر، ولم يقفوا من ذلك على عين ولا أثر، كيف يكون هؤلاء المحجوبون المنقوصون المسبوقون الحيارى المتهوكون أعلم بالله وأسمائه وصفاته، وأحكم في باب ذاته وآياته من السابقين الأولين والمهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان من ورثة الأنبياء، وخلفاء الرسل، وأعلام الهدى، ومصابيح الدجى، الذين بهم قام الكتاب وبه نطق الكتاب وبه نطقوا، الذين وهبهم الله من العلم والحكمة ما برزوا به على سائر أتباع الأنبياء، فضلاً عن سائر الأمم الذين لا كتاب لهم، وأحاطوا من حقائق المعارف، وبواطن الحقائق، وبما لو جمعت حكمة غيرهم إليها لاستحيا من يطلب المقابلة؟
ثم كيف يكون خير قرون الأمة أنقص في العلم والحكمة -لا سيما العلم بالله وأحكام أسمائه وآياته- من هؤلاء الأصاغر بالنسبة إليهم؟ أم كيف يكون أفراخ المتفلسفة وأتباع الهند واليونان، وورثة المجوس والمشركين، وضلال اليهود والنصارى والصابئين، وأشكالهم وأشباههم، أعلم بالله من ورثة الأنبياء وأهل القرآن. –وذكر كلاماً طويلاً- إلى أن قال:
فإن كان الحق فيما يقوله هؤلاء السالبون النافون
ص -305-(55/5)
للصفات الثابتة في الكتاب والسنة من هذه العبارات ونحوها دون ما يفهم من الكتاب والسنة إما نصاً وإما ظاهراً فكيف يجوز على الله ثم على رسوله، ثم على خير الأمة، أنهم يتكلمون دائماً بما هو نص أو ظاهر في خلاف الحق، ثم الحق الذي يجب اعتقاده لا يبوحون به قط، ولا يدلون عليه لا نصاً ولا ظاهراً، حتى يجيء أنباط فارس والروم وفروخ اليهود والنصارى والفلاسفة يبينون للأمة العقيدة الصحيحة التي يجب على كل مكلف أو فاضل أن يعتقدها؟ لئن كان1 ما يقوله هؤلاء المتكلمون المتكلفون هو الاعتقاد الواجب، وهم مع ذلك أحيلوا في معرفته على مجرد عقولهم، وأن يدفعوا بما اقتضى قياس عقولهم ما دل عليه الكتاب والسنة نصاً أو ظاهراً، لقد كان ترك الناس بلا كتاب ولا سنة أهدى لهم وأنفع على هذا التقدير، بل كان وجود الكتاب والسنة ضرراً محضاً في أصل الدين، فإن حقيقة الأمر على ما يقوله هؤلاء أنكم يا معشر العباد لا تطلبوا معرفة الله عز وجل وما يستحقه من الصفات نفياً وإثباتاً من الكتاب، ولا من السنة، ولا من طريق سلف الأمة، ولكن انظروا أنتم فما وجدتموه مستحقاً له من الصفات فصفوه به، سواء كان موجوداً في الكتاب والسنة،
__________
1 في جميع النسخ: (لأن كل)، والتصويب من الفتوى الحموية لابن تيمية رحمه الله تعالى.
ص -306-(55/6)
أو لم يكن موجوداً، وما لم تجدوه مستحقاً له في عقولكم فلا تصفوه به.
ثم هم ههنا فريقان أكثرهم يقولون: ما لم تثبته عقولكم فانفوه، ومنهم من يقول: بل توقفوا فيه، وما نفاه قياس عقولكم الذي أنتم فيه مختلفون ومضطربون اختلافاً أكثر من جميع الاختلاف على وجه الأرض فانفوه، وإليه عند التنازع فارجعوا، فإنه الحق الذي تعبدتكم به، وما كان مذكوراً في الكتاب والسنة مما يخالف قياسكم هذا أو يثبته ما لم تدركه عقولكم على طريقة أكثرهم فاعلموا أني امتحنتكم بتنزيله1 لا لتأخذوا الهدى منه، لكن لتجتهدوا في تخريجه على شواذ اللغة، ووحشي الألفاظ، وغرائب الكلام، وأن تسكتوا عنه مفوضين علمه إلى الله مع نفي دلالته على شيء من الصفات. هذا حقيقة الأمر على رأي هؤلاء المتكلمين... إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى.
وقال أيضاً في "موافقة العقل الصحيح للنقل الصريح": وهؤلاء الذين يعارضون الكتاب والسنة بأقوالهم بنوا أمرهم على أصل فاسد: وهو أنهم جعلوا أقوالهم التي ابتدعوها هي الأقوال المحكمة التي جعلوها أصول دينهم،
__________
1 في النسخ: أني أمتحنكم لا لتعلموا بتنزيله ولا لتأخذوا الهدي منه والمثبت من الحموية.
ص -307-(55/7)
وجعلوا قول الله ورسوله من المجمل الذي لا يستفاد منه علم ولا هدى، فجعلوا المتشابه من كلامهم هو المحكم، والمحكم من كلام الله ورسوله هو المتشابه، كما جعل الجهمية من المتفلسفة والمعتزلة ونحوهم ما أحدثوه من الأقوال التي نفوا بها صفات الله، ونفوا بها رؤيته في الآخرة، وعلوه على خلقه، وكون القرآن كلامه، ونحو ذلك، جعلوا تلك الأقوال محكمة، وجعلوا قول الله ورسوله مؤولاً أو مردوداً، أو غير ملتفت إليه، ولا متلقى للهدى منه، فتجدهم يقولون: ليس بجسم، ولا جوهر، ولا عرض، ولا له كم ولا كيف، ولا تحله الأعراض والحوادث، ونحو ذلك، وليس بمباين للعالم، ولا خارج عنه... إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى.
وسيأتي الكلام على مسألة التفويض وبطلان قول من زعم أن هذه طريقة السلف.
وبما ذكرناه هنا من كلام أهل العلم يتبين لكل منصف بطلان تأويل هذا الملحد بقوله: (فما ورد من الإشارة إليه في السماء محمول على أنه تعالى خالق السماء، أو أن السماء مظهر قدرته، لما اشتملت عليه من العوالم العظيمة التي لم تكنأرضنا الحقيرة إلا ذرة بالنسبة إليها، وكذلك العروج إليه تعالى هو بمعنى العروج إلى موضع يتقرب إليه بالطاعات فيه). إلى غير ذلك من
ص -308-(55/8)
التأويلات، وأنه بهذا قد خرج عن سبيل المؤمنين، وانتحل طريقة المتكلمين، الذين ليس لهم قدم صدق في العالمين، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ثم من العجب أنه يدعي تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويرمي الوهابية المعظمين له في الحقيقة بالتنقص للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو قد تنقص رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهضمه أعظم الهضم، وأشد التنقص: بزعمه أنه لم يعرج برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى1 الله بذاته إلى أن2 وصل فوق السماء السابعة، ورأى من آيات ربه الكبرى ما رأى، وأنه ما زاغ منه البصر وما طغى، لكماله عليه الصلاة والسلام، فلله الحمد على ما من به من الإيمان بالله، وبما أخبر به على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم على ما يليق بالله وبنعوت جلاله وعظمته.
__________
1 في ط الرياض: "إلى أن الله".
2 سقطت: "أن" من ط الرياض.
ص -309-(55/9)
فصل
قال العراقي: (الوهابية ونبذها للعقل: لما كان صريح العقل، وصحيح النظر، مصادماً كل المصادمة لما اعتقدته الوهابية، اضطروا إلى نبذهم العقل جانباً، وأخذهم بظواهر النقل فقط، وإن نتج منه المحال، ونجم عنه الغي والضلال، فاعتقدوا متمسكين بظواهر الآيات أن الله تعالى ثبت على عرشه وعلاه علواً حقيقياً، وأن له تعالى وجهاً ويدين، وأنه ينزل إلى السماء الدنيا، ويصعد نزولاً وصعوداً حقيقيين، وأنه يشار إليه في السماء إشارة حسية بالأصبع، إلى غير ذلك مما يؤول1 إلى التجسيم البحت تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً. فالوهابية التي تسمي زائري القبور عباد الأوثان، إنما هي قد عبدت الوثن، حيث إنها جعلت معبودها جسماً كالحيوان، جالساً على عرشه، ينزل ويصعد، نزولاً وصعوداً حقيقيين، وله وجه ويد ورجل وأصابع حقيقة، مما يتنزه عنه المعبود الحق، وإذا رد عليهم بالبراهين العقلية، وأثبت لهم أن
__________
1 في النسخ الثلاث: "يؤل".
ص -310-(55/10)
ذلك مناف للألوهية عند العقل، قالوا في الجواب: لا مجال للعقل الحقير البشري في مثل هذه الأمور التي طورها فوق طور العقل. فأشبهوا في ذلك النصارى في دعوى التثليث، فإنك إذا سألتهم قائلاً: كيف يكون الثلاثة واحداً والواحد ثلاثة؟ قالوا: إن معرفة هذا فوق طور العقل، ولا يجوز إعمال الفكر في ذلك).
والجواب أن يقال: نعم، لما كان صريح العقل من هؤلاء الملاحدة وصحيح النظر منهم على ما زعموه مصادماً كل المصادمة لما اعتقدته الوهابية من التمسك بصريح الكتاب، وصحيح السنة وصريحها، والسلوك على طريقة سلف الأمة وأئمتها، نبذوا ما جاءت به عقول هؤلاء الملاحدة من نحاتة الأفكار، وزبالة الأذهان، وريح المقاعد، وراء ظهورهم، ولم يلتفتوا إلى ما موهوا به من هذه الشبهات التي زعموا أنها عقليات ويقينيات، فاعتقدوا متمسكين بنصوص الكتاب والسنة: أن الله تعالى على عرشه، وعلا عليه علواً حقيقياً، وأن الله تعالى له وجه ويدان، وأنه ينزل إلى السماء الدنيا، ويصعد نزولاً وصعوداً حقيقيين على ما يليق بعظمته وجلاله وعظيم سلطانه، كما يشاء أن ينزل وكما يشاء أن يصعد، وأنه يشار إليه في السماء إشارة حسية بالأصبع، كما أشار إليه أعرف الخلق به، بأصبعه رافعاً إلى السماء، بمشهد الجمع الأعظم،
ص -311-(55/11)
مستشهداً له لا للقبلة، إلى غير ذلك مما وصف الله به نفسه، ووصفه به رسوله، لأن ذلك ليس بمستحيل في العقول الصحيحة، الموافقة لصريح المنقول عن الرسول صلى الله عليه وسلم، [ونحن نعلم بضرورة العقل أن الرسل لا يخبرون بمحالات العقول، بل بمحارات العقول، فلا يخبرون بما يعلم العقل انتقاده، بل يخبرون بمعجز العقل عن معرفته]1.
وأما قوله: (مما يؤول إلى التجسيم البحت).
فنقول: {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص: 27]، وأما من أثبت لله ما أثبته لنفسه فذلك لا يؤول2 إلى التجسيم، فإن القرآن قد دل على أنه ليس بجسم لأنه أحد، والأحد الذي لا ينقسم، وهو واحد والواحد لا ينقسم، وهو صمد والصمد الذي لا جوف له فلا يتخلله غيره، وإنما يؤول3 إلى التجسيم. من قال إن له وجهاً كوجهي، ويدين كيدي، مما يماثل صفات المخلوقين، أو يشبهها بصفاتهم.
بل نحن على مذهب السلف أهل السنة المحضة،
__________
1 ما بين المعقوفين سقط من الأصل، ولعل الصواب: (بما يعجز).
2 في النسخ الثلاث: "يؤل".
3 في النسخ الثلاث: "يؤل".
ص -312-(55/12)
ونقول: إن الله تعالى فوق عرشه حقيقة، مع نفي اللوازم التي يلزم بها أعداء الله ورسوله أهل الحق، وهي لا تلزم لا بعقل ولا بنقل، وقد تقدم الكلام على ذلك.
وأما قوله: (فأما الوهابية التي تسمي زائري القبور عباد الأوثان، إنما هي عبدت الوثن، حيث إنها جعلت معبودها جسماً كالحيوان، جالساً على عرشه، ينزل ويصعد، نزولاً وصعوداً حقيقيين، وله وجه ويد ورجل وأصابع حقيقية، مما ينزه عنه المعبود الحق).
فنقول: ما جعلت الوهابية زائري القبور مطلقاً عباد الأوثان -ومعاذ الله من ذلك- وإنما جعلت الوهابية من أشرك بالله في عبادته غيره عابداً للوثن سواء زار القبور أو قعد في بيت أمه. وذلك بأن يدعوه مع الله، أو يرجوه، أو يخافه، أو يحبه كمحبة الله، أو يستغيث به، أو يلتجئ إليه في رفع كربة أو كشف ملمة، أو يطلب منه جلب منفعة، أو يذبح له، أو ينذر له، إلى غير ذلك من أنواع العبادة التي هي مختصة بالله، فمن أشرك بالله فيها أحداً من خلقه نبياً أو ملكاً أو ولياً أو صالحاً أو شجراً أو حجراً فهو مشرك بالله في عبادته غيره.
ص -313-(55/13)
وقوله: (إنما هي قد عبدت الوثن، حيث إنها جعلت معبودها جسماً).. إلى آخره.
فأقول: قد تقدم نفي الجسمية عن الله تعالى، والوهابية ما عبدت إلا إلهاً واحداً، أحداً صمداً لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد. ولا تعقل إلهاً أحداً صمداً ليس على السماء فوق العرش، بائناً من خلقه، ولا وجه له ولا يدين، ولا ينزل إلى سماء الدنيا، ولا يصعد، ولا يشار إليه في السماء، وإنما تعقل إلهاً موجوداً واحداً فوق سماواته بجميع أسمائه وصفاته ونعوت جلاله. وأنتم إنما معبودكم العدم المحض، ولا تثبتون إلا إلها مقدراً في الأذهان لا حقيقة في الخارج، فتعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
وأما كونه جالساً على عرشه، فقد جاء الخبر بذلك.
قال الإمام عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة" في الرد على الجهمية، قال: حدثني أبي، وعبد الأعلى بن حماد النرسي1، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن خليفة،
__________
1 انظر التعليق ص 177.
ص -314-(55/14)
عن عمر رضي الله عنه قال: "إذا جلس ربنا تبارك وتعالى على الكرسي سمع له أطيط كأطيط الرحل الجديد".
وقد تقدم بيان ذلك، فنصدق بما قاله الله ورسوله، وبما قاله الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وما كان عليه سلف الأمة وأئمتها، وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والتابعون لهم بإحسان، وأهل السنة والجماعة من أهل الحديث وغيرهم من الأئمة المقتدين، والسادة المعظمين، قد وصفوا الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله، فهم عند هذا الملحد الضال قد عبدوا وثناً بهذه اللوازم التي ابتدعها قدماء الفلاسفة، وورثتهم من المتكلمين الخارجين عن سبيل المؤمنين، فلعنة الله على الظالمين.
ثم قال الملحد: (وإذا رد عليهم بالبراهين العقلية، وأثبت لهم أن ذلك مناف للألوهية عند العقل، قالوا في الجواب: لا مجال للعقل الحقير البشري في مثل هذه الأمور التي طورها فوق طور العقل، فأشبهوا في ذلك النصارى في دعوى التثليث..) إلى آخره.
والجواب أن يقال: إن هذه البراهين التي تزعمون أنها عقلية إنما هي شبه خيالية مبناها على معان متشابهة وألفاظ مجملة، فمتى وقع الاستفسار والبيان ظهر أنها شبه
ص -315-(55/15)
سوفسطائية لا براهين يقينية عقلية، ودعواه أن من نفاها قد شابه في ذلك النصارى. والنصارى عليهم لعنة الله، إنما نزعوا إلى ما نزعوا إليه من أمر التثليث إنما هو بمجرد عقولهم ونتائج قياساتهم وتركهم ما أنزله الله في كتبه على ألسنة رسله وبغلوهم في أنبيائهم كما غلوتم أنتم في الأنبياء والأولياء والصالحين، فأنتم الذين أشبهتم النصارى في دعوى التثليث، فإنهم إنما أثبتوا ذلك بمجرد معقولاتهم ونتائج قياساتهم وقدموا حكم العقل على النقل الذي أنزله الله في كتبه وعلى ألسنة رسله، وأنتم نفيتم ما وصف الله به نفسه، ووصفه به رسوله من إثبات صفات كماله ونعوت جلاله بمجرد معقولاتكم ونتائج قياساتهم ونبذتم كتاب الله وسنة رسوله وراء ظهوركم، وزعمتم أن نصوص الكتاب والسنة ظواهر لا تفيد اليقين وإنما يقيد اليقين نتائج عقول الملاحدة التي هي نحانة الأفكار وزبالة الأذهان وريح المقاعد، فمن أشباه النصارى حينئذ إن كنتم تعلمون؟!.
ص -316-
فصل
ثم قال العراقي: (لا ريب أنه إذا تعارض العقل والنقل أوِّل1 النقل بالعقل، إذ لا يمكن حينئذ الحكم بثبوت مقتضى كل منهما، لما يلزم عنه من اجتماع النقيضين، ولا بانتفاء2 ذلك لاستلزامه ارتفاع النقيضين، لكن بقي أن يقدم النقل على العقل، أو العقل على النقل، والأول باطل؛ لأنه إبطال للأصل بالفرع وإيضاحه: أن النقل لا يمكن إثباته إلا بالعقل، وذلك لأن إثبات الصانع، ومعرفة النبوة، وسائر ما يتوقف صحة النقل عليه لا يتم إلا بطريق العقل، فهو أصل للنقل الذي تتوقف صحته عليه، فإذا قدم على العقل وحكم بثبوت مقتضاه وحده، فقد أبطل الأصل بالفرع، ويلزم منه إبطال الفرع أيضاً، إذ تكون حينئذ صحة النقل متفرعة على حكم العقل الذي يجوز فساده وبطلانه، فلا يقطع بصحة النقل، فلزم من تصحيح النقل بتقديمه على العقل
__________
1 في ط الرياض: "أو".
2 في ط الرياض: "بانتقاء".
ص -317-(55/16)
عدم صحته، وإذا كان تصحيح الشيء منجراً1 إلى إفساده كان مناقضاً لنفسه، فكان باطلاً، فإذا لم يمكن تقديم النقل على العقل بالدليل السابق، فقد تعين2 تقديم العقل على النقل، وهو المطلوب).
والجواب أن نقول: إذا تعارض النقل والعقل، وجب تقديم النقل، لأن العقل مصدق للنقل في كل ما أخبر به، والنقل لم يصدق العقل في كل3 ما أخبر به، ولا العلم بصدقه موقوف على كل ما يخبر به العقل، فالواجب رد ما اشتبه4 إلى نصوص الكتاب والسنة، ولا يعترض عليها بالشكوك والشبه والتأويلات الفاسدة، أو بقول من يقول العقل يشهد بضد ما دل عليه النقل، والعقل أصل النقل، فإذا عارضه قدمنا العقل، وهذا لا يكون قط، لكن إذا جاء ما يوهم مثل ذلك، فإن كان النقل صحيحاً فذلك الذي يدعي أنه معقول إنما هو مجهول، ولو حقق النظر لظهر ذلك، وإن كان النقل غير صحيح، فلا يصلح للمعارضة، فلا يتصور أن يتعارض عقل صريح ونقل صحيح أبداً، ونعارض5 كلام من يقول ذلك بنظره6.
فيقال: إذا تعارض العقل والنقل وجب تقديم النقل،
__________
1 في ط الرياض: "منجزاً".
2 في ط الرياض: "يعين".
3 في ط الهند: "كلما".
4 في ط الرياض: "ما أثبته".
5 في ط الرياض: "وتعارض".
6 هو في: موافقة صريح المعقول 1/116 بنحوه.
ص -318-(55/17)
لأن الجمع بين المدلولين جمع بين النقيضين، ورفعهما رفع للنقيضين، وتقديم العقل ممتنع، لأن العقل قد دل على صحة السمع، ووجوب قبول ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، فلو أبطلنا النقل لكنا قد أبطلنا دلالة العقل، ولو أبطلنا دلالة العقل لم يصلح أن يكون معارضاً للنقل، لأن ما ليس بدليل لا يصلح لمعارضة شيء من الأشياء، فكان تقديم العقل موجباً عدم تقديمه، فلا يجوز تقديمه، وهذا بين واضح، فإن العقل هو الذي دل على صدق السمع وصحته، وأن خبره مطابق لمخبره، فإن جاز أن تكون الدلالة باطلة لبطلان النقل لزم أن لا يكون العقل دليلاً صحيحاً، وإذا لم يكن دليلاً صحيحاً لم يلزم أن يتبع بحال، فضلاً عن أن يقدم، فصار تقديم العقل على النقل قدحاً في العقل، فالواجب كمال التسليم للرسول صلى الله عليه وسلم، والانقياد لأمره، وتلقي خبره بالقبول والتصديق، دون أن نعارضه بخيال باطل نسميه معقولاً، أو نحمله بشبهة أو شك، أو نقدم عليه آراء الرجال، وزبالة أذهانهم.
وما أحسن المثل المضروب للنقل مع العقل، وهو: أن العقل مع النقل كالعامي المقلد مع العالم المجتهد، بل هو دون ذلك بكثير، فإن العامي يمكنه أن يصير1
__________
1 في الأصل: "أن لا يصير".
ص -319-(55/18)
عالماً، ولا يمكن العالم أن يصير نبياً رسولاً، فإذا عرف العامي المقلد عالماً فدل عليه عامياً آخر، ثم اختلف المفتي والدال، فإن المستفتي يجب عليه قبول قول المفتي دون الدال، فلو قال الدال: الصواب معي دون المفتي، لأني أنا الأصل في علمك بأنه مفت، فإذا قدمت قوله على قولي قدحت في الأصل الذي به عرفت أنه مفتٍ، فلزم القدح في فرعه. فيقول له المستفتي: أنت لما شهدت له بأنه مفت، ودللت عليه، شهدت له بوجوب تقليده دونك، فموافقتي لك في هذا العلم المعين لا يستلزم موافقتك في كل مسألة، وخطؤك فيما خالفت فيه المفتي الذي هو أعلم منك لا يستلزم خطأك في علمك؛ لأنه مفت. هذا مع علمه أن ذلك المفتي قد يخطئ1، والعقل يعلم أن الرسول معصوم في خبره عن الله تعالى لا يجوز عليه الخطأ، فيجب عليه التسليم له، والانقياد لأمره.
وقد علمنا بالاضطرار من دين الإسلام أن الرجل لو قال للرسول: هذا القرآن الذي تلقيه علينا، والحكمة التي جئتنا بها، قد تضمنت كل منهما أشياء كثيرة تناقض ما علمناه بعقولنا، ونحن إنما علمنا صدقك بعقولنا، فلو قبلنا جميع ما تقوله مع أن عقولنا تناقض ذلك لكان ذلك قدحاً فيما علمنا به صدقك، فنحن نعتقد موجب الأقوال المناقضة لما ظهر من كلامك، وكلامك نعرض عنه لا
__________
1 في ط الرياض: "يخطأ".
ص -320-(55/19)
نتلقى منه هدياً ولا علماً، لم يكن مثل هذا الرجل مؤمناً بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يرض منه الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا، بل يعلم أن هذا لو ساغ لأمكن كل أحد أن يؤمن بشيء مما جاء به الرسول، إذ العقول متفاوتة والشبهات كثيرة، والشياطين لا تزال تلقي الوسواس في النفوس، فيمكن كل أحد أن يقول مثل هذا في كل ما أخبر به الرسول وما أمر به.
وقد قال تعالى: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} [المائدة: 99]، وقال: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النحل: 35]. وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [إبراهيم: 4 ]- {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [المائدة: 15] – {حم. وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الزخرف: 1-2] - {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} [يوسف:1] – {مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111] – {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89].
ونظائر ذلك كثيرة في القرآن، فأمر الإيمان بالله واليوم الآخر إما أن يكون الرسول تكلم فيه بما يدل على
ص -321-(55/20)
الحق أم لا. الثاني: باطل، وإن كان قد تكلم على الحق بألفاظ مجملة محتملة فبلغ البلاغ المبين، وقد شهد له خير القرون بالبلاغ، وأشهد الله عليهم بالموقف الأعظم، فمن يدع أنه في أصول الدين لم يبلغ البلاغ المبين فقد افترى عليه صلى الله عليه وسلم.
[وفي المعلوم بالاضطرار أن عقل رسول الله صلى الله عليه وسلم أكمل عقول أهل الأرض على الإطلاق، فلو وزن عقله بعقولهم لرجحها، وقد أخبر الله أنه قبل الوحي لم يكن يدري الإيمان، كما لم يكن يدري الكتاب، فقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52]. وقال تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى. وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى. وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} [الضحى: 6-8] وتفسير هذه الآية بالآية التي في آخر سورة الشورى.
فإذا كان أعقل الخلق على الإطلاق إنما حصل له الهدى بالوحي؛ كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} [سبأ:50] فكيف يحصل لسفهاء العقول، وأخفاء الأحلام: الاهتداء إلى حقائق الإيمان بمجرد عقولهم، دون نصوص الوحي، حتى اهتدوا بتلك الهداية
ص -322-(55/21)
إلى المعارض بين العقل ونصوص الأنبياء {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً. تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً} [مريم:89-90]1.
وقد سئل شيخ الإسلام عن مثل ما أورده هذا الملحد فقال:
قول السائل: (وإذا تعارضت الأدلة السمعية والعقلية، أو السمع والعقل، أو النقل والعقل، أو الظواهر2 النقلية، والقواطع العقلية، أو نحو ذلك من العبارات، فإما أن يجمع بينهما، وهو محال، لأنه جمع بين النقيضين، وإما أن يردا3 جميعاً، وإما أن يقدم السمع، وهو محال لأن العقل أصل النقل، فلو قدمناه عليه كان ذلك قدحاً في العقل الذي هو أصل النقل، والقدح في أصل الشيء قدح فيه، فكان تقديم النقل قدحاً في النقل والعقل جميعاً، فوجب تقديم العقل ثم النقل، إما أن يتأول وأما أن يفوض، وإما إذا تعارضاً تعارض الضدين امتنع الجمع بينهما ولم يمتنع ارتفاعهما).
قال رحمه الله تعالى: وهذا الكلام قد جعله الرازي وأتباعه قانوناً كلياً فيما يستدل به من كتب الله، وكلام أنبيائه، وما لا يستدل به، ولهذا ردوا الاستدلال بما جاءت
__________
1 ما بين المعقوفين سقط من ط الهند.
2 في ط الهند: "الظاهر".
3 في ط الهند: "يردان".
ص -323-(55/22)
به الأنبياء والمرسلون -صلوات الله وسلامه عليهم- في صفات الله تعالى، وغير ذلك من الأمور التي أنبأوا بها، وظن هؤلاء أن العقل يعارضها، وقد يضم بعضهم إلى ذلك أن الأدلة السمعية لا تفيد اليقين.. إلى أن قال:
ومثل هذا القانون الذي وضعه هؤلاء يضع1 كل فريق لأنفسهم قانوناً فما جاءت بها الأنبياء عن الله، فيجعلون الأصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه هو ما ظنوا أن عقولهم عرفته، ويجعلون ما جاءت به الأنبياء تبعاً، فما وافق قانونهم قبلوه، وما خالفه لم يتبعوه.
وهذا يشبه ما وضعه النصارى من أمانتهم التي جعلوها عقيدة إيمانهم، وردوا نصوص2 التوراة والإنجيل إليها، لكن تلك الأمانة اعتمدوا فيها على ما فهموه من نصوص الأنبياء، أو ما بلغهم عنهم، وغلطوا في الفهم أو في تصديق الناقل، كسائر الغالطين ممن يحتج بالسمعيات، فإن غلطه إما في الإسناد، وإما في المتن، وأما هؤلاء فقد وضعوا قوانينهم على ما رأوه3 بعقولهم، وقد غلطوا في الرأي4 والعقل، فالنصارى أقرب إلى تعظيم الأنبياء والرسل من هؤلاء، لكن النصارى يشبههم
__________
1 في ط الهند: "يصنع".
2 سقطت: "نصوص" من ط الرياض.
3 في ط الرياض: "ما رواه".
4 في ط الهند: "الري".
ص -324-(55/23)
من ابتدع بدعة بفهمه الفاسد من النصوص، أو بتصديقه النقل الكاذب عن الرسول صلى الله عليه وسلم، كالخوارج والوعيدية والمرجئة والإمامية وغيرهم، بخلاف بدعة الجهمية، والفلاسفة، فإنها مبنية على ما يقرون هم بأنه مخالف للمعروف من كلام الأنبياء.
ثم ذكر طريقة أهل التبديل وطريقة أهل التجهيل، وطريقة أهل التحريف والتأويل، وقد تقدم منه طرفاً إلى أن قال:
وإجماع الأمر أن الأدلة نوعان: شرعية وعقلية.
فالمدعون لمعرفة الإلهيات بعقولهم، من المنتسبين إلى الحكمة والكلام والعقليات، يقول من يخالف نصوص الأنبياء منهم: إن الأنبياء لم يعرفوا الحق الذي عرفناه، أو يقولون: عرفوه ولم يبينوه للخلق كما بيناه، بل تكلموا بما يخالفه من غير بيان منهم.
والمدعون للسنة والشريعة واتباع السلف من1 الجهال بمعانبي النصوص2 يقولون: إن الأنبياء –والسلف الذين اتبعوا الأنبياء- لم يعرفوا معاني هذه النصوص التي
__________
1 "من" وضعتها من: درء تعارض العقل والنقل لشيخ الإسلام 1/19 ط الشيخ محمد رشاد سالم رحمه الله تعالى.
2 في "الدرء": "نصوص الأنبياء".
ص -325-(55/24)
قالوها والتي بلغوها عن الله، أو إن1 الأنبياء عرفوا معانيها ولم يبينوا مرادهم للناس، فهؤلاء الطوائف قد يقولون: نحن عرفنا الحق بعقولنا، ثم اجتهدنا في حمل كلام الأنبياء على ما يوافق مدلول العقل، وفائدة إنزال هذه المتشابهات المشكلات اجتهاد الناس في أن يعرفوا الحق بعقولهم، ثم يجتهدون في تأويل كلام الأنبياء الذين لم يبينوا به مرادهم، أو أنا عرفنا الحق بعقولنا، وهذه النصوص لم تعرف الأنبياء معناها، كما لم يعرفوا وقت الساعة، ولكن أمرنا بتلاوتها من غير تدبر لها، ولا فهم لمعانيها، أو يقولون: هذه الأمور لا تعرف بعقل ولا نقل، بل نحن منهيون عن معرفة العقليات، وعن فهم السمعيات، وأن الأنبياء وأتباعهم لا يعرفون العقليات، ولا يفهمون السمعيات، ثم ذكر كلاماً طويلاً لا يحتمله هذا الموضع، ثم قال:
والمقصود هنا الكلام على قول القائل: (إذا تعارضت الأدلة السمعية والعقلية...) إلى آخره كما تقدم.
والكلام على هذه الجملة بني على ما في مقدمتها من التلبيس، فإنها مبنية على مقدمات:
أولها: ثبوت تعارضهما.
__________
1 "إن" وضعتها من: درء تعارض العقل والنقل.
ص -326-(55/25)
والثانية: انحصار التقسيم فيما ذكره من الأقسام الأربعة.
والثالثة: بطلان الأقسام الثلاثة.
والمقدمات الثلاث باطلة. وبيان ذلك بتقديم أصل وهو أن يقال:
إذا قيل: تعارض دليلان، سواء كانا سمعيين أو عقليين، أو أحدهما سمعياً والآخر عقلياً، فالواجب أن يقال: لا يخلو إما1 أن يكونا قطعيين، أو يكونا ظنيين، وإما أن يكون أحدهما قطعياً والآخر ظنياً.
فأما القطعيان فلا يجوز تعارضهما: سواء كانا2 عقليين أو سمعيين، أو أحدهما عقلياً والآخر سمعياً، وهذا متفق عليه بين العقلاء، لأن الدليل القطعي هو الذي يجب ثبوت مدلوله، ولا يمكن أن تكون دلالته باطلة.
وحينئذ فلو تعارض دليلان قطعيان، وأحدهما يناقض مدلول الآخر، للزم3 الجمع بين النقيضين، وهو محال، بل كل ما يعتقد تعارضه من الدلائل التي يعتقد أنها قطعية، فلا بد من أن يكون الدليلان أو أحدهما غير قطعي، أو أن
__________
1 سقطت: "أما" من ط الهند.
2 في ط الهند: "كان".
3 في ط الرياض: "لزم".
ص -327-(55/26)
لا يكون مدلولاهما1 متناقضين، فأما مع2 تناقض المدلولين المعلومين فيمتنع تعارض الدليلين.
وإن كان أحد الدليلين المتعارضين قطعياً دون الآخر، فإنه يجب تقديمه باتفاق العقلاء، سواء كان هو السمعي أو العقلي، فإن الظن لا يدفع اليقين.
وإما إن كانا جميعاً ظنيين: فإنه يصار إلى طلب ترجيح أحدهما، فأيهما ترجح كان هو المقدم، سواء كان سمعياً أو عقلياً.
ولا جواب عن هذا، إلا أن يقال: الدليل السمعي لا يكون قطعياً، وحينئذ فيقال: هذا مع كونه باطلاً فإنه لا ينفع، فإنه على هذا التقدير يجب تقديم القطعي لكونه قطعياً لا لكونه عقلياً، ولا لكونه أصلاً للسمع، وهؤلاء جعلوا عمدتهم في التقديم كون العقل هو الأصل للسمع، وهذا باطل، كما سيأتي بيانه إن شاء الله.
وإذا قدر أنه لم يتعارض قطعي وظني، لم ينازع عاقل في تقديم القطعي، لكن كون السمعي لا يكون3 قطعياً دونه خرط القتاد.
__________
1 في ط الرياض: "مدلولهما".
2 سقطت "مع" من ط الهند.
3 سقطت "لا يكون" من ط الهند.
ص -328-
وأيضاً فإن الناس متفقون على أن كثيراً مما جاء به الرسول معلوم بالاضطرار من دينه، كإيجاب1 العبادات، وتحريم الفواحش، والظلم وتوحيد الصانع، وإثبات المعاد، وغير ذلك.
وحينئذ فلو قال قائل: إذا قام الدليل القطعي على مناقضة هذا فلا بد من تقديم أحدهما، فلو قدم هذا السمعي قدح في أصله، وإن قدم العقلي لزم تكذيب الرسول فيما علم بالاضطرار أنه جاء به، وهذا هو الكفر الصريح، فلا بد لهم من جواب عن هذا.
والجواب عنه: أنه يمتنع أن يقوم عقلي قطعي يناقض هذا.
فتبين أن كل ما قام عليه دليل قطعي سمعي يمتنع أن يعارضه قطعي عقلي. ومثل هذا الغلط2 يقع فيه كثير من الناس، يقدرون تقديراً يلزم منه لوازم، فيثبتون تلك اللوازم، ولا يهتدون لكون ذلك التقدير ممتنعاً، والتقدير3 الممتنع قد يلزمه لوازم ممتنعة، كما في قوله تعالى: {لَوْ(55/27)
__________
1 في ط الهند "كإيجاب كإيجاب".
2 في النسخ "اللفظ"، والمثبت من: درء تعارض العقل والنقل 1/80.
3 في ط الرياض: "والتقديم".
ص -329-
كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}[الأنبياء: 22] ثم ذكر كلاماً إلى أن قال:
وبه يتبين أن إثبات التعارض بين الدليل العقلي والسمعي، والجزم بتقديم العقلي، معلوم الفساد بالضرورة، وهو خلاف ما اتفق عليه العقلاء.
وحينئذ فنقول: الجواب من وجوه:
أحدها: أن قوله: (إذا تعارض النقل والعقل) إما أن يريد به القطعيين، فلا نسلم إمكان التعارض حينئذ.
وإما أن يريد به الظنيين، فالمقدم هو الراجح مطلقاً.
وإما أن يريد به ما أحدهما قطعي، فالقطعي هو المقدم مطلقاً، وإذا قدر أن العقلي هو القطعي كان تقديمه لكونه قطعياً، لا لكونه عقلياً.
فعلم أن تقديم العقلي مطلقاً خطأ، كما أن جعل جهة الترجيح كونه عقلياً خطأ.
الوجه الثاني: أن يقال: لا نسلم انحصار القسمة فيما ذكرته من الأقسام الأربعة، إذ من الممكن أن يقال: يقدم العقلي تارة والسمعى أخرى، فأيهما1 كان قطعياً قدم،
__________
1 في ط الرياض "فأيما".
ص -330-(55/28)
وإن كانا جميعاً قطعيين فيمتنع التعارض، وإن كانا ظنيين فالراجح هو المقدم.
فدعوى المدعي أنه لا بد من تقديم العقلي مطلقاً، أو السمعي1 مطلقاً، أو الجمع بين النقيضين، أو رفع النقيضين: دعوى باطلة، بل هنا قسم ليس من هذه الأقسام، كما ذكرناه، بل هو الحق الذي لا ريب فيه.
الوجه الثالث: قوله: (إن قدمنا النقل كان ذلك طعناً في أصله الذي هو العقل، فيكون طعناً2 فيه) غير مسلم. وذلك لأن قوله: (إن العقل أصل للنقل) إما أن يريد3 به أنه أصل في ثبوته في نفس الأمر. أو أصل في علمنا بصحته. والأول لا يقوله عاقل، فإن ما هو ثابت في نفس الأمر بالسمع أو بغيره هو ثابت، سواء علمنا بالعقل أو بغير العقل ثبوته، أو لم نعلم ثبوته لا بعقل ولا بغيره، إذ عدم العلم ليس علماً بالعدم، وعدم علمنا بالحقائق لا ينفي ثبوتها في أنفسها، فما أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم هو ثابت في نفس الأمر، سواء علمنا صدقه أو لم نعلم. ومن أرسله الله تعالى إلى الناس فهو رسوله، سواء علم الناس
__________
1 في في ط الرياض "والسمعي".
2 في النسخ "طعنه فيه" والمثبت من: درء تعارض العقل والنقل 1/87 محمد رشاد سالم و 1/82 ط الباز.
3 في النسخ: "يراد" والمثبت من "الدرء".
ص -331-(55/29)
أنه رسول أو لم يعلموا، وما أخبر به فهو حق، وإن لم يصدقه الناس، وما أمر به عن الله فالله آمر به وإن لم يطعه1 الناس، فثبوت الرسالة في نفسها، وثبوت صدق الرسول، وثبوت ما أخبر به في نفس الأمر ليس2 موقوفاً على وجودنا3 [فضلاً عن أن يكون موقوفاً على عقولنا]4، أو على الأدلة التي نعلمها بعقولنا. وهذا كما أن وجود الرب تعالى وما يستحقه من الأسماء والصفات ثابت في نفس الأمر، سواء علمناه أو لم نعلمه.
فتبين بذلك أن العقل ليس أصلاً لثبوت الشرع في نفسه، ولا معطياً له صفة لم تكن له، ولا مفيداً له صفة كمال، إذ العلم مطابق للمعلوم المستغني عن العلم، تابع له، ليس مؤثراً فيه.
فإن العلم نوعان: أحدهما: العملي، وهو ما كان شرطاً في حصول المعلوم، كتصور أحدنا لما يريد أن يفعله، فالمعلوم هنا متوقف على العلم به، محتاج إليه.
والثاني: الخبري النظري، وهو ما كان المعلوم غير
__________
1 في الأصل: "يطع".
2 في ط الرياض "فليس".
3 في النسخ: "عقولنا" والثبت من طبعتي "الدرء".
4 في ما بين الحاصرتين من طبعتي "الدرء".
ص -332-(55/30)
مفتقر في وجوده إلى العلم به، كعلمنا بوحدانية الله تعالى، وأسمائه وصفاته، وصدق رسوله، وملائكته وكتبه وغير ذلك، فإن هذه المعلومات ثابتة سواء علمناها أو لم نعلمها، فهي مستغنية عن علمنا بها، والشرع مع العقل هو من هذا الباب، فإن الشرع المنزل من عند الله ثابت في نفسه، سواء علمناه بعقولنا أو لم نعلمه، وهو مستغن في نفسه عن علمنا وعقلنا، ولكن نحن محتاجون إليه وإلى أن نعلمه بعقولنا، فإن العقل إذا علم ما هو عليه الشرع في نفسه صار عالماً به، وبما تضمنه من الأمور التي يحتاج إليها في دنياه وآخرته، وانتفع بعلمه به، وأعطاه ذلك صفة لم تكن له قبل ذلك، ولو لم يعلمه لكان جاهلاً ناقصاً.. ثم ذكر كلاماً طويلاً.
ثم قال رحمه الله: فإن قيل: فهب أن تقديم الشرع عليها لا يكون قدحاً في أصله، لكن يكون تقديماً له على أدلة عقلية، فلا بد من بيان الموجب لتقديم الشرع.
قيل: الجواب من وجوه:
أحدها: أن المقصود هنا بيان أن تقديم الشرع على ما عارضه من مثل هذه العقليات المحدثة في الإسلام ليس
ص -333-
تقديماً له على أصله الذي يتوقف العلم بصحة1 الشرع عليه، وقد حصل، فإنا إنما2 ذكرنا في هذا المقام بيان3 بطلان من يزعم أنه يقدم العقل على الشرع المعارض له، وذكرنا أن الواجب تقديم ما قام4 الدليل على صحته مطلقاً.
الجواب الثاني: أن نقول: الشرع قول المعصوم الذي قام الدليل على صحته، وهذه الطرق لم يقم دليل على صحتها، فلا يعارض ما علمت صحته بما لم تعلم صحته.
الجواب الثالث: أن نقول: بل هذه الطرق المعارضة للشرع كلها باطلة في العقل، وصحة الشرع مبنية على إبطالها لا على صحتها، فهي باطلة بالعقل وبالشرع، والقائل بها مخالف للعقل والشرع من جنس أهل النار الذين قالوا: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10]، وهكذا شأن جميع بدع(55/31)
__________
1 في ط الرياض: "لصحته" والمثبت من الأصل. والدرء 1/319 ط الشيخ رشاد سالم، 1/239 ط الباز.
2 في الأصل: "فإنا إذا" وفي ط الرياض: "نجانا ذكرنا"، والمثبت من الدرء 1/239 ط الباز، و 1/319 ط الشيخ رشاد سالم.
3 سقطت "بيان" من الأصل.
4 في النسخ: "ما قام به الدليل"، والمثبت من طبعتي الدرء.
ص -334-
المخالفين لنصوص الأنبياء، فإنها مخالفة للسمع والعقل، فكيف ببدع الجهمية المعطلة التي هي في الأصل من كلام المكذبين للرسل.
والكلام على إبطال هذه الوجوه على التفصيل، وأن الشرع لا يتم إلا بإبطالها، مبسوط في غير هذا الموضع. انتهى.
والمقصود أن ما ذكره هذا العراقي الملحد في أوراقه هو كلام الرازي. وكتاب "موافقة العقل الصحيح للنقل الصريح" من أوله إلى آخره في بطلان هذه المقدمات التي ذكرها، وبيان مخالفتها للشرع، فالمصير إليها، والاعتماد عليها: اعتماد ومصير إلى مذهب الجهمية.
فإذا تبين لك ما تقدم، علمت أن هذا الملحد قد عزل كتاب الله وسنة رسوله، ونبذهما وراءه ظهرياً، لاعتقاده أن ما عارضهما بالعقل كان واجباً وقولاً جلياً، وإذا انكشفت الحقائق علمت من هو خير مقاماً وأحسن ندياً.
فمن أراد الوقوف على التفصيل فكلام الشيخ في "العقل والنقل" في ذلك مبسوط، موضح بأدلته العقلية والنقلية، إذ المقام لا يحتمل ما ذكره الشيخ هناك1، لأني إنما قصدت الاختصار والاقتصار.
__________
1 سقطت "هناك" من ط الرياض.
ص -335-(55/32)
وأما قوله: (إما تأويلاً إجمالياً، ويفوض تفصيله إلى الله تعالى، كما هو مذهب أكثر السلف).
فأقول: قال شيخ الإسلام:
الوجه السادس [عشر]1: أن يقال: غاية ما ينتهى إليه هؤلاء المعارضون لكلام الله ورسوله بآرائهم من المشهورين بالإسلام هو التأويل أو التفويض، فأما الذين ينتهون إلى أن يقولوا: الأنبياء أوهموا وخيلوا ما لا حقيقة له في نفس الأمر، فهؤلاء معروفون عند المسلمين بالإلحاد والزندقة، والتأويل المقبول هو ما دل عليه مراد المتكلم، والتأويلات التي يذكرونها لا يعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرادها، بل يعلم بالإضطرار في عامة النصوص: أن المراد منها نقيض ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم2، كما يعلم مثل ذلك في تأويلات القرامطة والباطنية من غير أن يحتاج ذلك إلى دليل خاص، وحينئذ فالمتأول إن لم يكن مقصوده معرفة مراد المتكلم كان تأويله للفظ بما يحتمله من حيث الجملة في كلام من تكلم بمثله من العرب هو من باب التحريف والإلحاد، لا من باب التفسير وبيان المراد.
__________
1 ما بين المعقوفين من طبعتي الدرء 1/201 ط الشيخ محمد رشاد سالم.
2 في النسخ: "در ما قالوه"، والمثبت من: طبعتي الدرء.
ص -336-(55/33)
وأما التفويض: فمن المعلوم أن الله تعالى أمرنا أن نتدبر القرآن، وحضنا على عقله وفهمه، فكيف يجوز مع ذلك أن يُراد منا الإعراض عن فهمه ومعرفته وعقله؟
وأيضاً: فالخطاب الذي أريد به هدانا، والبيان لنا، وإخراجنا من الظلمات إلى النور، إذا كان ما ذكر فيه من النصوص ظاهره باطل وكفر، ولم يرد منا أن نعرف لا ظاهره ولا باطنه، أو أريد منا أن نعرف باطنه من غير بيان في الخطاب لذلك، فعلى التقديرين لم نخاطب1 بما بين فيه الحق، ولا عرفنا أن مدلول هذا الخطاب باطل وكفر.
وحقيقة قول هؤلاء في المخاطب لنا: أنه لم يبين الحق، ولا أوضحه، مع أمره لنا أن نعتقده، أو ما خطبنا به وأمرنا باتباعه والرد إليه لم يبين به الحق ولا كشفه، بل دل ظاهره على الكفر والباطل، وأراد منا أن لا نفهم منه شيئاً أو أن نفهم منه ما لا دليل عليه فيه.
وهذا كله مما يعلم بالاضطرار تنزيه الله، ورسوله عنه، وأنه من جنس أقوال أهل التحريف والإلحاد. ثم ذكر كلاماً إلى أن قال:
فتبين أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم
__________
1 في النسخ "يخاطب" والمثبت من" طبعتي "الدرء".
ص -337-
متبعون للسنة والسلف من أشر أقوال أهل البدع والإلحاد. انتهى.
فإذا تبين لك هذا فاعلم أن التأويل والتفويض ليس هو مذهب السلف، ولا أكثرهم ولا أقلهم، ونسبة ذلك إلى السلف خطأ، وضلال وتلبيس، وإنما قال بذلك من يزعم أنه متبع للسنة والسلف، وهم على خلاف السنة، وأقوال السلف في هذه المسائل.
وهذا كلام أئمة الحديث، وأهل السنة المحضة، ليس فها شيء من هذا الكلام المحدث، المبتدع الملعون.
وقوله: (وإما تفصيلياً كما هو مذهب أكثر الخلف...).
فأقول: قد تبين لك مما تقدم أن هؤلاء هم الذين كثر في باب الدين اضطرابهم، وغلظ عن معرفة الله حجابهم، وأخبر الواقف على نهاية أقدامهم بما انتهى إليه أمرهم1، وهو أبو المعالي الجويني:(55/34)
__________
1 في النسخ "مرامهم" والمثبت من "الحموية" لشيخ الإسلام مجموع الفتاوى 5/10، وقد نقل المؤلف هذا الكلام منها.
ص -338-
لعمري لقد طفت المعاهد كلها
وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعاً كف حائر
على ذقن أو قارعاً سن نادم
وأقروا على أنفسهم بما قالوا متمثلين به، أو منشئين له فيما صنفوه من كتبهم، كقول بعض رؤسائهم وهو أبو عبد الله محمد بن عمر1 الرازي:
نهاية إقدام العقول عقال
وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا
وغاية دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا
سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
فكم قد رأينا من رجال ودولة
فبادوا جميعاً مسرعين وزالوا
وكم من جبال قد علت شرفاتها
رجال فزالوا والجبال جبال
لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، اقرأ في الإثبات: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ
__________
1 في ط الرياض: (عمرو).
ص -339-(55/35)
اسْتَوَى} [طه:5]، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّب} [فاطر: 10]. واقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً}[طه: 110]. ومن جرب مثل تجربتي، عرف مثل معرفتي.
ويقول الآخر منهم: لقد خضت البحر الخضم، وتركت أهل الإسلام وعلومهم، وخضت في الذي نهوني عنه، والآن إن لم يتداركني برحمته فالويل لفلان، وها أنا أموت على عقيدة أمي.
ويقول الآخر منهم: أكثر الناس شكاً عند الموت أصحاب الكلام.
فإذا كان هذا حال أئمة المتكلمين، كيف يسوغ لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يوجب على الناس اعتقاد ما كان عليه هؤلاء المحجوبون المنقوصون المسبوقون، الحيارى المتهوكون.
وقد علم بالاضطرار أن هؤلاء هم ورثة أفراخ الفلاسفة، وأتباع الهند واليونان، وورثة المجوس والمشركين، وضلال اليهود والنصارى والصابئين. وأن يتأول1 ما تأولته الجهمية والمعتزلة، ومن نحا نحوهم من المتكلمين، كقولة هذا الملحد:
__________
1 في ط الرياض: "أن من تأول"، والصواب ما أثبته كما هو في الأصل، وهو راجع إلى قوله: "فإذا كان هذا حال أئمة المتكلمين كيف يسوغ لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يوجب على الناس... وأن يتأول ما تأولته الجهمية". الله أعلم.
ص -340-
(فالاستواء على العرش في قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] هو الاستيلاء، ويؤيده قول الشاعر:
قد استوى بشر على العراق
من غير سيف ودم مهراق(55/36)
وجوابه فيما ادعى من أن معنى الاستواء أنه بمعنى الاستيلاء، وأنه ليس في لغة العرب ما يفيد ذلك، أن نقول:
قال الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تفسيره قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ}[البقرة: 29] قال: الاستواء في كلام العرب منصرف على وجوه:
منها: انتهاء شباب الرجل وقوته، فيقال إذا صار ذلك: قد استوى الرجل.
ومنها: استقامة ما كان فيه أود من الأمور والأسباب، يقال منه: استوى لفلان أمره1 إذا استقام له بعد أود. ومنه قول الطرماح بن حكيم:
__________
1 في ط الرياض: "أمر".
ص -341-
طال على رسم مهدد أبده
وقد عفا واستوى به بلده1
أي استقام به.
ومنها: الإقبال على الشيء بالفعل، كما يقال: استوى فلان على فلان بما يكرهه ويسوؤه بعد الإحسان إليه.
ومنها: الاحتياز والاحتواء2، كقولهم: استوى فلان على المملكة، بمعنى احتوى عليها وحازها.
ومنها: العلو والارتفاع، كقول القائل: استوى فلان على سريره، يعني به علوه عليه.
وأولى المعاني بقول الله جل ثناؤه: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَات}[البقرة: 29]: علا عليهن، وارتفع، فدبرهن بقدرته، وخلقهن سبع سموات.
__________
1 البيت في ط الرياض، هكذا: "طال على رسم مهده أبده وقد عض واستوى به بلده"، وفي الأصل: "طال على رسم مهده أبده وعض واستوى به بلده" والمثبت من تفسير ابن جرير 1/191 ط الحلبي. و 1/429 ط المعارف بتحقيق محمود وأحمد شاكر.
قال في اللسان 3/2164 ط المعارف، في مادة (سوا): وهذا البيت مختلف الوزن، فالمصراع الأول من المنسرح، والثاني من الخفيف. اهـ.
2 في ط الحلبي لتفسير ابن جرير 1/192: "والاستيلاء".
ص -342-(55/37)
والعجب ممن أنكر المعنى المفهوم من كلام العرب في تأويل قول الله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ}[البقرة: 29] الذي هو بمعنى العلو والارتفاع، هرباً عند نفسه من أن يلزمه بزعمه إذا تأوله بمعناه المفهوم، كذلك أن يكون إنما علا وارتفع بعد أن كان تحتها إلى أن تأوله بالمجهول من تأويله المستنكر1، ثم لم ينج مما هرب منه، فيقال له2: زعمت أن تأويل قوله سبحانه (استوى): أقبل، أفكان3 مدبراً عن السماء فأقبل إليها؟ فإن زعم أن ذلك ليس بإقبال فعل، ولكنه إقبال تدبير، قيل له: فكذلك فقل4: علا عليها علو ملك وسلطان، لا علو انتقال وزوال.
ثم لن يقول في شيء من ذلك قولاً إلا ألزم في الآخر مثله، ولولا أنا كرهنا إطالة الكتاب بما ليس من جنسه لأنبأنا عن5 فساد قول كل قائل قال6 في ذلك قولاً لأهل الحق فيه مخالفاً، وفيما بينا منه ما يشرف بذي الفهم
__________
1 في النسخ: "المستكره"، والمثبت من: تفسير ابن جرير.
2 "له" زيادة من: تفسير ابن جرير.
3 في النسخ: "أو كان"، والمثبت من التفسير.
4 في النسخ: "قيل".
5 في النسخ: "لأثبتنا عند"، والمثبت من التفسير.
6 "قال" مثبته من: تفسير ابن جرير.
ص -343-
على ما فيه الكفاية إن شاء الله تعالى. انتهى.
فقول الشاعر:
قد استوى بشر على العراق(55/38)
أي: ملكها، واحتوى عليها، وحازها.
ولو كان الله مستوياً على العرش بمعنى الاستيلاء -وهو عز وجل مستولٍ على الأشياء كلها- لكان مستوياً على العرش وعلى الأرض، وعلى السماء وعلى الحشوش، والأقذار لأنه قادر على الأشياء، مستولٍ عليها.
وإذا كان قادراً1 على الأشياء كلها، ولم يجز عند أحد من المسلمين أن يقول: إن الله مستوٍ على الحشوش والأخلية: لم يجز أن يكون الاستواء على العرش. الاستيلاء الذي هو عام في الأشياء كلها، ووجب أن يكون معنى الاستواء يختص بالعرش دون الأشياء كلها، فيكون استواؤه على العرش علوه عليه، وارتفاعه، كما هو مذهب سلف الأمة وأئمتها، وقد تقدم بيان ذلك.
ثم قال العراقي: (وقوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [الفجر:22] أي: جاء أمره، وقوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّب} [فاطر: 10] أي: يرتضيه،
__________
1 في ط الرياض: "قادر".
ص -344-(55/39)
فإن الكلم عرض يمتنع عليه الانتقال بنفسه، وقوله سبحانه: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [البقرة:210] أي: يأتي عذابه، وقوله تعالى: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى. فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى}[النجم: 8-9]
أي: قرب رسوله إليه بالطاعة، والتقدير بقاب قوسين أو أدنى تصوير للمعقول بالمحسوس، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إنه تعالى ينزل إلى السماء الدنيا في كل ليلة، فيقول: هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟" معناه: تنزل رحمته وخص بالليل لأنه مظنة الخلوات، وأنواع الخضوع والعبادات، إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث). انتهى كلامه.
وقد علمت مما تقدم بطلان هذه التأويلات، وأنها تأويلات الجهمية والمعتزلة الخارجين عن طريقة أهل السنة والجماعة، وإنما ذكرناها هاهنا من كلامه ليعرف المسلم قدر نعمة الله عليه بالإسلام، وسلوك طريقة سلف الأمة وأئمتها، ويشكر الله عليها، ويحمده، فإن من أنعم الله عليه بالسلامة من سولك طريقة هؤلاء الضلال فقد أوتي خيراً كثيراً، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه، فإن الرسول قد بلغ البلاغ المبين، ونصح الأمة، وأدى الأمانة، وقامت حجة الله على خلقه {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ}[النور: 40].
ص -345-(55/40)
فصل
قال العراقي: (الوهابية ونفيها الإجماع: حيث كان ما انطوت عليه العقيدة الوهابية مبايناً لم أجمع عليه الصحابة الكرام، والمجتهدون العظام، وكافة علماء الإسلام، لم ير أصحاب تلك العقيدة بداً من إنكار الإجماع، ونفي كونه حجة يعمل بها، فهم قد كفروا كل مسلم عداهم، ممن قال: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، بسبب زياراته لقبور الأنبياء والأولياء، والتوسل بهم إلى الله).
والجواب أن نقول: نسبة نفي الإجماع إلى الوهابية كذب وبهتان، بل هو1 توصل منه إلى القدح فيهم بغير حجة ولا برهان، وإلا فالوهابية يعلمون أن الإجماع حجة، ويعتقدون أن الأمة لا تجتمع2 على ضلالة، وهو الأصل الثالث عندهم.
__________
1 في ط الرياض: "هذا".
2 في الأصل: "تجمع".
ص -346-
وعقيدة الوهابية لا تخالف ما أجمع عليه الصحابة الكرام، والأئمة المجتهدون العظام، وكافة علماء الإسلام، ومن تدبر أقوالهم، ومصنفاتهم، علم علماً يقيناً أنهم كانوا على ما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في المعتقد، وسائر أحكام الإسلام، وأن هذا الملحد الضال ومن نحا نحوه، وعلى1 طريقته، هم المخالفون لما أجمع عليه الصحابة، ومن تبعهم بإحسان، ومخالفون لعقيدة2 السلف الصالح، والصدر الأول، وما كان عليه الأئمة الأربعة المقلدون، والأئمة المجتهدون من أهل السنة المحضة، ومن تمسك بهديهم، وعلى طريقتهم. يعرف ذلك من كلامه وضلالاته التي ذكرناها عنه فيما يأتي بعد.
وقوله: (فهم قد كفروا كل مسلم عداهم، ممن قال: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، بسبب زيارتهم لقبور الأنبياء والأولياء والتوسل بهم إلى الله، مع أن الأمة قد أجمعت على أن من نطق بالشهادتين أجريت عليه أحكام الإسلام...) إلى آخره.
__________
1 في ط الرياض: "على".
2 في ط الرياض: "العقيدة".
ص -347-(55/41)
فأقول: هذا كذب على الوهابية، فإنهم ما كفروا كل مسلم عداهم، ولا كفروا بمجرد الزيارة لقبور الأنبياء والأولياء، وإنما كفروا من أشرك بالله في عبادته غيره، حيث نطق القرآن بتكفيره، وجاءت الأخبار الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتكفير من فعل ذلك، سواء زار القبور أو لم يزر.
وأما دعواه: إجماع الأمة على أن من نطق بالشهادتين أجريت عليه أحكام الإسلام. فهذه دعوى كاذبه خاطئة، فإن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على قتال من منع الزكاة، وسموهم أهل الردة، وقاتلوا بني حنيفة، وهم يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، لكن لما أشركوا مسيلمة الكذاب في النبوة، وصدقوه أنه قد أشرك في النبوة مع النبي صلى الله عليه وسلم: كفروهم.
فإذا كان من أشرك مسيلمة الكذاب1 في النبوة يكون كافراً، فكيف لا يكفر من أشرك مخلوقاً في عبادة الخالق سبحانه، وجعله نداً لله، يستغيث به كما يستغيث بالله، ويدعوه مع الله، ويرجوه، ويلجأ إليه في جميع مهماته، ويذبح له، وينذر له مع الله؟!
__________
1 سقطت: "الكذاب" من الأصل.
ص -348-(55/42)
فقد كفر الصحابة هؤلاء1، وهم يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله [وكفر الله تعالى ورسوله المنافقين، وهم يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله]2، كما قال تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ} [التوبة: 74]. وقال تعالى: {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 66].
وكذلك لا خلاف بين العلماء كلهم أن الإنسان إذا صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء وكذبه في شيء لم يدخل في الإسلام، وكذلك إذا آمن ببعض القرآن وجحد بعضه، كمن أقر بالتوحيد وجحد وجوب الصلاة، أو أقر بالصلاة وجحد الزكاة، أو أقر بهذا كله وجحد الصوم، أو أقر بهذا كله وجحد الصوم، أو أقر بهذا كله وجحد الحج، ولما لم ينقد أناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم للحج3 أنزل الله في حقهم: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97]، ومن أقر بهذا كله وجحد البعث كفر بالإجماع، وحل دمه وماله، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ
__________
1 أي أهل الردة وبني حنيفة.
2 ما بين المعقوفين سقط من الأصل.
3 في ط الرياض: "إلى الحج".
ص -349-(55/43)
وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً. أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً} [النساء:150-151].
وكذلك بنو عبيد القداح الذين ملكوا "المغرب" و"مصر" في زمن بني العباس كلهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويدعون الإسلام، ويصلون الجمعة والجماعة، فلما أظهروا مخالفة الشريعة في أشياء دون ما نحن فيه أجمع العلماء على كفرهم وقتالهم، وأن بلادهم بلاد حرب، وغزاهم المسلمون حتى استنقذوا ما بأيديهم من بلدان المسلمين1؛ إلى أمثال هذا مما لا يحصى ولا يستقصى.
__________
1 قال أبو شامة: وقد أفردت كتاباً سميته: "كشف ما كان عليه بنو عبيد من الكفر والكذب والكيد" اهـ. قال ابن كثير رحمه الله تعالى في البداية والنهاية 12/268 ط السعادة –بعد أن نقل كلام أبي شامة السابق-: وكذا صنف العلماء في الرد عليهم كتباً كثيرة، من أجلّ ما وضع في ذلك كتاب القاضي أبو بكر الباقلاني، الذي سماه: "كشف الأسرار وهتك الأستار" وما أحسن ما قاله بعض الشعراء في بني أيوب يمدحهم على ما فعلوه بديار مصر:
أبدتم من بلى دولة الكفر من
بني عبيد بمصر، إن هذا هو الفضل
زنادقة شيعية باطنية
مجوس وما في الصالحين لهم أصل
يسرون كفراً، يظهرون تشيعاً
ليستروا "سابور" عمهم الجهل
انتهى المقصود من كلام ابن كثير.
ومما هو جدير بالذكر هنا -على سبيل التمثيل لا الحصر- ما ذكره ابن كثير في البداية والنهاية في حوادث سنة تسعين وأربعمائة من الهجرة، قال: وفي شوال قتل رجل باطني عند باب "النوبى" كان قد شهد عليه عدلان، أحدهما: ابن عقيل –الحنبلي- أنه دعاهما إلى مذهبه، فجعل قيقول: أتقتلونني وأنا أقول: لا إله إلا الله؟ فقال ابن عقيل: قال الله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَه} الآية وما بعدها اهـ.(55/44)
ص -350-
وأما قوله: (وقال ابن القيم: أجمع المسلمون على أن الكافر إذا قال: لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فقد دخل في الإسلام...) إلى آخره.
فأقول: هذا حق إذا صدر من الكافر الأصلي، ولكن إذا أتى بناقض من نواقض الإسلام كفر، ولو أقر بالشهادتين، وكذلك من عمل بجميع الأركان ممن ولد في الإسلام، لكنه مع ذلك قد جحد شيئاً مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وابتدع في الإسلام بدعة تخرجه منه كفر.
وابن القيم الذي حكيت عنه إجماع المسلمين على أن من أقر بالشهادتين فقد دخل في الإسلام، قد حكى إجماع أهل الحجة من أهل الإسلام على تكفير الجهمية، كام قال في "الكافية الشافية في الإنتصار للفرقة الناجية":
ولقد تقلد كفرهم خمسون في
عشر من العلماء في البلدان
ص -351-
واللالكائي الإمام حكاه عنهم
بل قد حكاه قبله الطبراني
وذكر في كتاب "الصلاة" له: تكفير من أمر بالصلاة، فامتنع حتى يخرج وقتها، وأنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل.
وأما قوله: (ولذلك انعقد الإجماع على أن المرتد إذا كانت ردته بالشرك فإن توبته بالشهادتين).
فأقول: هذا غير مسلم، ودعوى انعقاد الإجماع على ذلك دعوى مجردة. بل من كانت ردته بالشرك بالله فتوبته الإقلاع عن هذا الشرك، فإن كثيراً1 من المشركين اليوم يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، كالرافضة فإنهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وهم مع ذلك يدعون الحسن والحسين مع الله، وكذلك عباد القبور يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ومع ذلك يدعون عبد القادر، وأحمد البدوي، وغيرهما، ويستغيثون بهم في الشدائد والملمات، ويرغبون إليهم في جميع الحاجات، وكشف الكربات، وإغاثة اللهفات.
وقد انعقد الإجماع على أن من أشرك بالله في
__________
1 في ط الرياض: "كثير".
ص -352-(55/45)
عبادته غيره كان مشركاً، وإن تلفظ بالشهادتين، كما هو مذكور في كتاب "الفقه" في باب "حكم المرتد".
وقوله: (ثم إن الوهابية عدوا الاستشفاع إلى الله تعالى بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته كفراً1، مع أن الإجماع منعقد على جوازه).
فأقول: إن كان أراد بالاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم كأن يقول القائل: اللهم إني أسألك بجاه محمد، أو بحقه، أو حرمته. فهذا القول بدعة محدثة محرمة، ولا يكفر2 الوهابية أحداً بهذا. وإن أراد بالاستشفاع بالنبي بأن يدعوه، ويستغيث به، كأن يقول: يا رسول الله أغثني، أو أدركني، وأنا في حسبك، أو يسأله أو يطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله، ويتوكل عليه، ويلجأ إليه في جميع مهماته وطلباته، ويجعله واسطة في جلب منفعة، أو دفع مضرة، فإن كان أراد هذا فقد ذكر في "الإقناع" من كتب الحنابلة: أن من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم، ويتوكل عليهم: كفر إجماعاً. وكذلك ذكر فيه شيخ
__________
1 في الأصل: "كفر".
2 في ط الهند "يكفرون".
ص -353-
الإسلام تقي الدين: أن من دعا علي بن أبي طالب فهو كافر، ومن شك في كفره1 فهو كافر.
والوهابية على مذهب أحمد رحمه الله.
وأما دعوى انعقاد الإجماع على جوازه، فدعوى مجردة، اللهم إلا إجماع عباد القبور، وأولئك ليسوا من أهل الإسلام، فضلاً عن أن يجمعوا على الأحكام.
وأما قوله: (وهم لم يجوزوا لأحد أن يقلد مجتهداً من أئمة المسلمين).
فأقول: هذا كذب على الوهابية، وإن وجد هذا في بعض الكتب لمن هو على مذهب الوهابية في تجريد التوحيد، وإخلاص العبادة لله، ممن ينسبه هؤلاء إلى الوهابية، فنسبته إلى الشيخ محمد وأتباعه من الكذب عليهم.
وكذلك قوله: ( وجوزا لكل أحد أن يستنبط من القرآن ما استطاع أن يستنبط...) إلى آخره.
فهذه كلها من الأوضاع المكذوبة على الوهابية.(55/46)
__________
1 أي: من شك في كفر من دعا علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقد كفر.
ص -354-
ثم ذكر الإجماع، وأنه: اتفاق المجتهدين. وأن الإجماع ينعقد في كل عصر، لأن الحوادث تحدث في كل يوم بالأمور التي لم يصرح بحكمها الكتاب والسنة.
وهذا مما يعلم كل أحد غلطه في ذلك، وتخبيطه فيه، فلا فائدة في الجواب عنه.
ص -355-
فصل1
ثم قال العراقي: (الوهابية ونفيها للقياس: إن الوهابية كما أنكروا الإجماع، كذلك أنكروا القياس...) إلى آخر ما قال.
فأقول: وهذا أيضاً من نمط ما قبله من الكذب والزور. فإن الوهابية لا ينكرون القياس مطلقاً، وفيه تفصيل.
لكن ذكر صاحب "الدين الخالص" من ذلك ما أوجب لهؤلاء أن ينسبوا إلى الوهابية ما يقوله "صديق" وليس ما قاله مطلقاً يقول به الوهابية، بل لهم فيه تفصيل، ليس هذا موضع ذكره، إذ المقصود نفي ما يدعيه من الكذب على الوهابية.
ثم قال: (ومن العجب أن الوهابية لأجل تخطئة
__________
1 كلمة "فصل" ليست في النسخ، وأضفتها زيادة في الإيضاح، والتكميل.
ص -356-(55/47)
المجتهدين في قبولهم القياس جعلت تعبث بكلام الله تعالى، فتصرف الآيات القرآنية عن معانيها الصحيحة، مأولة إياها بما يوافق هواها، مع أنها لا تأول من الآيات ما يلزم من ظاهره النقص على الله تعالى، والمحال، كآية الاستواء، واليدين والوجه، وتقول: إن المجتهدين عاملون بآرائهم مع أنها تجوز حتى للجهلة الرعاع من ذوي نحلتها أن يفسروا كلام الله بحسب أفهامهم القاصرة).
والجواب أن نقول: هذا كذب على الوهابية، فإنهم من أعظم الناس تعظيماً لكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فبهتهم بالعبث بكتاب الله ظلم وعدوان، وإلى الله المرجع، وإليه التحاكم {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227].
بل الوهابية يضعون الآيات القرآنية في معانيها الصحيحة، ويسيرون على منهاج أئمة التفسير، ولا يؤولونها على ما يوافق أهواءهم، بل يستدلون بالآيات النازلة في المشركين على تكفير من فعل كما يفعله الكفار، من الإشراك بالله، والكفر به، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
ص -357-(55/48)
وأما قوله: (مع أنها لا تؤول من الآيات ما يلزم من ظاهره النقص على الله تعالى، والمحال كآية الاستواء واليد والوجه).
فأقول: نعم لا يتأولون الآيات والأحاديث النبوية، فيصرفونها عن ظاهرها، وعما اقتضته من إثبات صفات الكمال، ونعوت الجلال، لأجل ما يزعمه أعداء الله من أنه يلزم من ظاهرها النقص على الله والمحال، فإن ما أثبته الله ورسوله من الاستواء والوجه واليدين وغير ذلك من الصفات: وصف كمال ونعوت جلال، لا وصف نقص. بل من أثبت ذاتاً مجردة عن أوصاف الكمال فقد تنقصه غاية التنقص، وشبهه بالجمادات، ومثله بأنقص المعقولات الذهنية، وجعله دون الموجودات الخارجية.
وإثبات الصفات لا يلزم منها مماثلة الله بخلقه، ولا تشبيههم به، لأن الله تعالى أحد صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، فمن شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله فقد كفر، وقد تقدم بيان ذلك مراراً عديدة.
وأما قوله: (وتقول: إن المجتهدين1 عاملون بآرائهم).
__________
1 في ط الهند "المجتهدون".
ص -358-(55/49)
فأقول: هذا كذب عليهم، وما علمنا أحداً قال: بهذا من الوهابية، كما أنا لا نعلم أن أحداً منهم أجاز للجهلة الرعاع –كما تزعمونه- أن يفسر كلام الله بحسب مفهومه القاصر، ونعوذ بالله من ذلك.
ثم ذكر القياس، وزعم أن الوهابية ينكرونه.
وقد قدمنا أن الوهابية لا ينكرون القياس مطلقاً، ولا يثبتونه مطلقاً، لأن القياس ينقسم إلى حق وباطل، وممدوح ومذموم، ولهذا لم يجئ في القرآن مدحه ولا ذمه، ولا الأمر به ولا النهي عنه، فإنه مورد تقسيم إلى صحيح وفاسد:
فالصحيح هو الميزان الذي أنزله مع كتابه في قوله: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْط} [الحديد: 25].
والفاسد ما يضاده، كقياس الذين قاسوا البيع على الربا بجامع ما يشتركان فيه من التراضي بالمعاوضة
ص -359-
المالية، ولهذا تجد في كلام السلف ذم القياس، وأنه ليس من الدين، وتجد في كلامهم استعماله، والاستدلال به، وهذا1 حق.
والحاصل أن الناس فيه طرفان ووسط: فأحد الطرفين من ينفي العلل، والمعاني والأوصاف المؤثرة، ويجوز ورود الشريعة بالفرق بين المتساويين، والجمع بين المختلفين، ولا يثبت أن الله سبحانه شرع الأحكام لعلل ومصالح، وربطها بأوصاف مؤثرة فيها، مقتضية لها طرداً وعكساً، وأنه قد يوجب الشيء ويحرم نظيره من كل2 وجه، ويأمر به لا لمصلحة بل لمحض المشيئة المجردة عن الحكمة والمصلحة.
وبإزاء هؤلاء قوم أفرطوا فيه، وتوسعوا جداً، وجمعوا بين الشيئين اللذين فرق الله بينهما بأدنى جامع من شبه أو طرد أو وصف يتخيلونه علة يمكن أن يكون علته وأن لا يكون، فيجعلونه هو السبب الذي علق الله ورسوله عليه الحكم بالخرص والظن.
وهذا هو الذي أجمع السلف على ذمه.(55/50)
__________
1 في "إعلام الموقعين عن رب العالمين" لابن القيم 1/133: (وهذا حق وهذا حق)، وقد نقل المؤلف الكلام المتقدم من الأعلام.
2 "كل" مثبتة من الإعلام 1/200 ط الكليات الأزهرية.
ص -360-
والنبي صلى الله عليه وسلم يذكر في الأحكام العلل والأوصاف المؤثرة فيها طرداً وعكساً، وكل الصحابة رضي الله عنهم يجتهدون في النوازل، ويقيسون بعض الأحكام على بعض، ويعتبرون النظير بنظيره.
والمقصود أن من زعم أن الوهابية ينفون القياس مطلقاً فقد كذب عليهم وافترى.
وأما قوله: (فقول الوهابية: إن النصوص تستوعب جميع الحوادث بدون استنباط أو قياس، غير مسلم، فإن استيعابها جميع الحوادث لا يتم إلا بطريقهما).
فالجواب أن نقول: قد ذكر ابن القيم في "إعلام الموقعين": أن الناس انقسموا في هذا الموضع إلى ثلاث فرق:
فرقة قالت: إن النصوص لا تحيط بأحكام الحوادث. وغلا بعض هؤلاء حتى قال: ولا بعشر معشارها -وذكر حجتهم وأبطلها بثلاثة وجوه أجاد فيها وأفاد، ثم قال لما ذكر أقوال الطائفتين المنحرفتين عن الوسط قول المعتزلة المكذبين بالقدر، وقول الجهمية المنكرين للحكم، والأسباب والرحمة والتعليل. قال:
ص -361-(55/51)
والمقصود أنهم كما انقسموا إلى ثلاث فرق في هذا الأصل، انقسموا في فروعه –وهو القياس- إلى ثلاث فرق:
فرقة أنكرته بالكلية، وفرقة قالت به، وأنكرت الحكم والتعليل والمناسبات. والفرقتان أخلت النصوص عن تناولها لجميع أحكام المكلفين، وأنها أحالت على القياس، ثم قالت1 غلاتهم: أحالت عليه أكثر الأحكام. وقال متوسطوهم: بل أحالت عليه كثيراً من الأحكام لا سبيل إلى إثباتها إلا به.
والصواب وراء ما عليه الفرق الثلاث، وهو أن النصوص محيطة بأحكام الحوادث، ولم يحلنا الله ولا رسوله على رأي ولا قياس، بل قد بين الأحكام كلها، والنصوص كافية وافية بها، والقياس الصحيح حق مطابق للنصوص، فهما دليلان: الكتاب، والميزان، وقد تخفى دلالة النص، ولا يبلغ العالم فيعدل إلى القياس، ثم قد يظهر موافقاً للنص فيكون قياساً صحيحاً، وقد يظهر مخالفاً له فيكون فاسداً، وفي نفس الأمر لا بد من موافقته أو مخالفته، ولكن عند المجتهد قد تخفى موافقته أو مخالفته... إلى آخر كلامه رحمه الله.
__________
1 "قالت" مثبتة من الأعلام 1/337.
ص -362-
وقال1 شيخ الإسلام بعد أن ذكر هذه المسألة وقررها أحسن تقرير:
وبالجملة الأمر نوعان: كلية عامة، وجزئية خاصة.
فأما الجزئيات الخاصة، كالجزء الذي يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه من ميراث هذا الميت، وعدل هذا الشاهد ونفقة هذه الزوجة، ووقوع الطلاق بهذا الزوج، وإقامة الحد على هذا المفسد، وأمثال ذلك، فهذا مما لا يمكنه لا نبياً ولا إمام ولا أحد من الخلق أن ينص على كل فرد منه لأن أفعال بني آدم وأعيانهم يعجز عن معرفة أعيانها الجزئية واحد من البشر وعبارته: لا يمكن بشر أن يعلم ذلك كله بخطاب الله له، وإنما الغاية الممكنة ذكر الأمور الكلية العامة كما قال صلى الله عليه وسلم: "بعثت بجوامع الكلم".(55/52)
__________
1 من هنا إلى نهاية الفصل سقط من الأصل.
ص -363-
فصل
قال العراقي: (الوهابية وتكفيرها من قلد المجتهدين:
لما كانت أقوال المجتهدين السالفين رحمهم الله تعالى وما وصلوا إليه باجتهادهم من الأحكام المقررة الدينية تصادم ما ابتدعته الفئة المارقة الوهابية، لم تر هذه الفئة بداً من إنكارها صحة اجتهادهم، وتخطئة آرائهم، وتكفير من قلدهم، حتى يخلو لها الجو، فتبيض وتصفر وتلعب بالدين كما شاء هواها، ويتمهد لها الطريق إلى تأسيس قواعد ضلالها المبين، إذ هي لو لم تنف اجتهادهم لما تم لها أن تصرف بحسب هواها الآيات النازلة في المشركين إلى المسلمين الذين يتوسلون إلى الله تعالى بجاه رسوله، وكرامة أوليائه، لأن هذا الصرف مما لم يقل1 به مجتهد، ولم يرض به أحد من أئمة الدين).
__________
1 في الأصل: "يقيم".
ص -364-(55/53)
والجواب أن نقول: أما دعوى تكفير المجتهدين فمن الكذب الواضح، والإفك الفاضح.
وأما ما مخرق به من أنا مصادمون لما اجتهد الأئمة فيه1 من الأحكام الدينية، وأنا أنكرنا اجتهادهم ليخلو لنا الجو، كما زعمه هذا البو2، فما ذاك إلا من فيض كلب العداوة في الدين، لأنه جهمي، معتزلي مشرك، ونحن -ولله الحمد- على طريقة السلف وأئمة الدين في باب معرفة الله وأسمائه وصفاته، وفي باب العمل والعبادة، فلا نشرك بربنا أحداً، ولا نتخذ من دونه أولياء.
ومن تأمل كلامه علم أنه هو المارق المبتدع، وأنه {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 32]، بل هو بريء من الأئمة المجتهدين، وهم برآء منه، فإن عقيدته مخالفة لعقائدهم، فهو إلى طريق الفلاسفة والملاحدة ومن نحا نحوهم من المتكلمين أقرب منهم إلى الأئمة المجتهدين.
وهذا العراقي متبع لهواه، عابد لما يهواه، قد اتخذ الكذب ديدنه، والزور والفجور ميزانه، ودخل من الكذب في ظلمات بعضها فوق بعض، حتى آل به زوره وفجوره
__________
1 سقطت: "فيه" من الأصل.
2 أي الأحمق. قاله في "القاموس".
ص -365-(55/54)
إلى أن زعم أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله كان كثير الميل إلى الإطلاع على أخبار من ادعى النبوة، كمسيلمة الكذاب، والأسود العنسي، وأنه كان يضمر في نفسه أن يؤسس ديناً يحذو به حذو أولئك الكذابين.. إلى غير ذلك من مفترياته، ورعونات جهالاته وخزعبلاته، فالموعد الرحمن، وإليه التحاكم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ثم لو استهواه الشيطان، وحكى ما يقوله1 أهل البغي والعدوان، فكيف ساغ له أن يحكي عما في ضميره –لو كان- وحاشا لله أن يكون ذلك في الإمكان.
وأما زعمه أن الشيخ يدعي الاجتهاد المطلق، فمن نمط ما قبله من المفتريات، فإنه لا يدعي ذلك، وقد نفاه في بعض رسائله، ومن طالع كتب الشيخ وتصانيفه ورسائله، علم محله من العلم والفقه والمتانة في الدين، ورسوخه فيه، وقد شهد له علماء وقته بذلك كما مضى بيانه.
وأما قوله: (وقال ابن القيم في "إعلام الموقعين":
__________
1 في ط الرياض: "يقول".
ص -366-(55/55)
لا يجوز لأحد أن يأخذ من الكتاب والسنة ما لم تجتمع فيه شروط الاجتهاد من جميع العلوم).
فأقول: هذا لسان جاهل، وتركيب نبطي لا يدري شيئاً من صناعة العلم، وابن القيم ينزه عن هذا اللفظ، وهذا التركيب، ولا يقول: (ما لم تجتمع فيه شروط الاجتهاد من جميع العلوم)، فإن البحث ما هكذا إيراده ولا تقريره، والعلوم فيها ما لا دخل له هنا ولا اعتبار، كعلم الطب والهندسة والإنشاء وقريض الشعر وميزانه، والعلم بالرسم وإتقانه، ومعرفة التاريخ.
وأما بالنظر للمعنى فابن القيم رحمه الله قد شن الغارة على من لا يجوز له أن يأخذ من الكتاب والسنة ما لم تجتمع فيه شروط الاجتهاد، وشنع على قائله تجهيلاً وتخطئة وقال:
هذا سد لباب أخذ العلم والهدى من كتاب الله وسنة رسوله.
وذكر في هذا المبحث من النصوص والآثار والمناظرة بين المجتهد والمقلد ما لا تتسع له هذه الرسالة، وذكر هذه العبارة راداً لها، مجهلاً لقائلها. بل ذكر فيه عن الإمام أحمد أنه لا يجوز الإفتاء إلا لرجل عالم بالكتاب
ص -367-(55/56)
والسنة. ثم ذكر بعد ذلك فصولاً في تحريم الإفتاء في دين الله بالرأي المتضمن لمخالفة النصوص، والرأي الذي لم تشهد له النصوص بالقبول. وقال أيضاً في "الإعلام" لما ذكر القياس قال:
ونحن نقول قولاً ندين الله به، ونحمد الله على توفيقنا له، ونسأله الثبات عليه: إن الشريعة لم تحوجنا إلى قياس قط، فإن فيها غنية وكفاية عن كل رأي وقياس، وسياسة واستحسان، ولكن ذلك مشروط بفهم من يؤتيه الله عبده فيها، وقد قال تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الانبياء: 79]، وقال علي رضي الله عنه: "إلا فهما يؤتيه الله عبده في كتابه". وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس: "اللهم فقه في الدين، وعلمه التأويل". وقال أبو سعيد: "كان أبو بكر أعلمنا برسول الله صلى الله عليه وسلم". وقال عمر لأبي موسى: "الفهم الفهم". انتهى.
والذي غر هؤلاء الجهلة أنهم ظنوا أن الأخذ بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم هو مرتبة الاجتهاد، أو من تجوز له الفتيا في الحلال والحرام، وما علموا أن الاجتهاد هو النظر في الأدلة إذا تعارضت، وفيما يخفى دليله، وهذا لا يتهيأ إلا لمن كملت فيه شروط الاجتهاد، أو اجتمعت فيه أدوات الفتيا.
وأما اتباع كلام الله أو كلام1 رسوله والأخذ بما فيهما فهو
__________
1 في ط الرياض: "الله ورسوله".
ص -368-(55/57)
فرض واجب على المجتهد، والمقلد والعالم والمتعلم، والآيات والأحاديث في ذلك معروفة مشهورة مبسوطة، ذكرها ابن القيم في "الإعلام".
وقال ابن عباس رضي الله عنه لمن ناظره في متعة الحج: "يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر".
وقال الإمام أحمد: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان، والله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]. أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك.
وقال ابن القيم رحمه الله في الإعلام: قال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا صالح بن عبد الله، حدثنا سفيان بن عامر، عن عتاب بن منصور، قال: قال عمر بن عبد العزيز: "لا رأي لأحد مع سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وقال الشافعي رحمه الله: أجمع الناس على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها. وقال: لا قول لأحد مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال شداد بن حكيم عن زفر بن الهذيل: إنما نأخذ
ص -369-(55/58)
بالرأي ما لم يجئ الأثر، فإذا جاء الأثر تركنا الرأي وأخذنا بالأثر.
وقال محمد بن إسحاق بن خزيمة الملقب بإمام الأئمة: لا قول لأحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صح الخبر عنه.
وقال الأصم: سمعت الربيع يقول: سمعت الشافعي يقول: إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوا ما قلت.
وقال أحمد بن علي بن عيسى بن ماهان الرازي: سمعت الربيع يقول: سمعت الشافعي يقول: كل مسألة تكلمت فيها صح الخبر فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أهل النقل بخلاف ما قلت فإني راجع عنها في حياتي وبعد موتي.
وقال الربيع: قال الشافعي: لم أسمع أحداً نسبه عامة أو نسب نفسه إلى علم يخالف في أن فرض الله اتباع أمر رسوله صلى الله عليه وسلم، والتسليم لحكمه، فإن الله لم يجعل لأحد بعده إلا اتباعه، وأنه لا يلزم قول رجل قال إلا بكتاب الله أو سنة رسوله، وأن ما سواهما تبع لهما، وأن فرض الله علينا وعلى من بعدنا وقبلنا في قبول الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واحد لا يختلف فيه الغرض، وواجب قبول الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا فرقة سأصف قولها -إن
ص -370-(55/59)
شاء الله- وذكر كلاماً طويلاً عن الشافعي رحمه الله وغيرها تركناه طلباً للاختصار.
والمقصود أنه كذب على ابن القيم في دعواه أنه لا يجوز لأحد أن يأخذ من الكتاب والسنة ما لم تجتمع فيه شروط الاجتهاد من جميع العلوم، ولا عجب من هذا فقد كذب على السلف رحمهم الله في أن مذهبهم في آيات الصفات وأحاديثها أنها تؤول، إما تفصيلاً وإما إجمالاً ويفوض1 تفصيلها إلى الله.
ثم ذكر العراقي كلاماً زعم فيه أن الوهابية اتخذته ذرائع لتأسيس بدعتها.
وقد تقدم الكلام عليه، ولكن أعاده ليكبر حجم كتابه، وليزداد -إن شاء الله- بذكره مقتاً من الله وغضباً وزيادة في عقابه.
ثم ذكر أن تكفير المسلم أمر غير هين، وأنه قد أجمع العلماء منهم الشيخ ابن تيمية وابن القيم: على أن الجاهل والمخطئ من هذه الأمة -ولو عمل ما يجعل صاحبه مشركاً أو كافراً- يعذر بالجهل والخطأ، حتى تبين له الحجة بياناً واضحاً، لا يلتبس على مثله.
__________
1 في ط الرياض "أو يفوض".
ص -371-(55/60)
فيقال في جوابه: أما تكفير المسلم فقد قدمنا أن الوهابية لا يكفرون المسلمين. والشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله من أعظم الناس توقفاً وإحجاماً عن إطلاق الكفر، حتى أنه لم يجزم بتكفير الجاهل الذي يدعو غير الله من أهل القبور أو غيرهم إذا لم يتيسر له من ينصحه، ويبلغه الحجة التي يكفر تاركها. قال في بعض رسائله:
وإن كنا لا نكفر من عبد قبة الكواز، لجهلهم وعدم من ينبههم، فكيف من لم يهاجر إلينا؟ وقال –وقد سئل عن مثل هؤلاء الجهال- فقرر أن من قامت عليه الحجة، وتأهل لمعرفتها، يكفر بعبادة القبور، وأما من أخلد إلى الأرض، واتبع هواه، فلا أدري ما حاله.
وأما نقله عن شيخ الإسلام وابن القيم على أن الجاهل والمخطئ... إلى آخره.
فالجواب أن يقال: كلام الشيخين إنما هو في المسائل النظرية والاجتهادية، التي قد يخفى الدليل فيها. وأما عباد القبور فهم عند السلف وأهل العلم يسمون الغالية، لأن فعلهم غلو يشبه غلو النصارى في الأنبياء والصالحين، وعبادتهم.
ص -372-(55/61)
وأيضاً فإن هذا النقل فيه تكفير من قامت عليه الحجة، ولو في المسائل الخفية، فبطلت الشبهة العراقية، ومسألة توحيد الله وإخلاص العبادة له لم ينازع في وجوبها أحد من أهل الإسلام، لا أهل الأهواء ولا غيرهم، وهي معلومة من الدين بالضرورة، كل من بلغته الرسالة وتصورها على ما هي عليه، عرف أن هذا زبدتها وحاصلها، وسائر الأحكام تدور عليه.
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "الرد على المتكلمين" لما ذكر بعض أئمتهم توجد منهم الردة عن الإسلام كثيراً قال:
وهذا إن كان في المقالات الخفية، فقد يقال فيها: إنه مخطئ ضال، لم تقم عليه الحجة التي يكفر تاركها، لكن هذا يصدر منهم في أمور يعلمها الخاصة والعامة من المسلمين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بها، وكفر من خالفها، مثل عبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة أحد سواه من الملائكة والنبيين وغيرهم، فإن هذه أظهر شرائع الإسلام، ومثل إيجابه للصوات الخمس، وتعظيم شأنها، ومثل تحريم الفواحش، والزنا والخمر والميسر، ثم تجد كثيراً من رؤوسهم وقعوا فيها فكانوا مرتدين، وأبلغ من ذلك أن منهم من صنف في دين المشركين، كما فعل أبو عبد الله الرازي، قال: وهذه ردة صريحة. انتهى.
ص -373-(55/62)
فإذا علمت هذا، فمن بلغته رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وبلغه القرآن، فقد قامت عليه الحجة، فلا يعذر في عدم الإيمان بالله وملائكته ورسله، واليوم الآخر، فلا عذر له بعد ذلك بالجهل.
وقد أخبر الله سبحانه بجهل كثير من الكفار، مع تصريحه بكفرهم، ونقطع أن اليهود والنصارى اليوم جهال مقلدون، ونعتقد كفرهم، وكفر من شك في كفرهم.
وقد دل القرآن على أن الشك في أصول الدين كفر، والشك هو التردد بين شيئين، كالذي لا يجزم بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم ولا كذبه، ولا يجزم بوقوع البعث ولا عدم وقوعه، ونحو ذلك، كالذي لا يعتقد وجوب الصلاة ولا عدم وجوبها، أو لا يعتقد تحريم الزنا ولا عدم تحريمه، وهذا كفر بإجماع العلماء، ولا عذر لمن حاله هكذا بكونه لم يفهم حجج الله وبيناته، لأنه لا عذر له بعد بلوغها، وإن لم يفهمها، وقد أخبر الله عن الكفار أنهم لم يفهموا فقال: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} [الإسراء: 46] والآيات في هذا المعنى كثيرة، والله أعلم.
وأما قول هذا العراقي: (حتى تتبين له الحجة بياناً واضحاً لا يلتبس على مثله).
ص -374-(55/63)
فأقول: هذا تحريف لكلام الشيخ، فإن الشيخ لم يقل حتى تتبين له الحجة... إلى آخره، وإنما هي زيادة عراقية، وإنما قال الشيخ: (ولكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة من المتأخرين لم يمكن تكفيرهم حتى يبين لهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم).
فقوله: (حتى تتبين له الحجة بياناً واضحاً لا يلتبس على مثله) إنما هو فهم الحجة، وفرق بعيد بين قيام الحجة وفهم الحجة، فإن من بلغته دعوة الرسل فقد قامت عليه الحجة، إذا كان على وجه يمكن معه العلم.
ولا يشترط في قيام الحجة أن يفهم عن الله ورسوله ما يفهمه أهل الإيمان والقبول والإنقياد لما جاء به الرسول، قال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44]، وقال: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة:7]، وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ} [الإسراء: 46] إلى غير ذلك من الآيات في هذا المعنى.
ويقال أيضاً: فرض كلام شيخ الإسلام وتقديره في الأمور التي قد يخفى دليلها، مما ليس هو من ضروريات الدين، ولا هو من الأمور الجلية، بل هو في الأمور النظرية والاجتهادية. والله أعلم.
ص -375-
وأما قوله: (والمسلم قد يجتمع فيه الكفر والإسلام، والشرك والإيمان، ولا يكفر كفراً ينقله عن الملة).
فأقول: نعم، هذا فيما دون الشرك، والكفر الذي يخرج من الملة، فأما ما لا يخرج عن الملة كالشرك الأصغر، كيسير الرياء والتصنع للخلق، والحلف بغير الله، وقول الرجل: ما شاء الله وشئت، وهذا من الله ومنك، وما أشبه ذلك، والكفر كقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "من حلف بغير الله فقد أشرك"، وفي لفظ: "فقد كفر"1، وغير(55/64)
__________
1 أخرجه أبو داود –كتاب الأيمان والنذور- من سننه 3/570، والترمذي –كتاب الأيمان والنذور- من سننه 4/110، والإمام أحمد في مسنده، وابن حبان في صحيحه –كما في الموارد ص 286، والحاكم في مستدركه 4/297، والبيهقي في سننه 10/29 كلهم عن سعد بن عبيدة قال: سمع ابن عمر رجلاً يحلف: لا والكعبة، فقال له ابن عمر: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من حلف بغير الله فقد أشرك".
ولفظ ابن حبان: "قال: كنت عند ابن عمر، فحلف رجل بالكعبة، فقال ابن عمر: ويحك لا تفعل... الخ".
وفي لفظ لأحمد 2/58-60: "قال: كنت مع ابن عمر في حلقة. قال: فسمع رجلاً في حلقة أخرى وهو يقول: لا وأبي، فرماه ابن عمر بالحصى. فقال: إنها كانت يمين عمر، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "إنها شرك". =
ص -376-
ذلك مما جاء في الحديث بلفظ: "الكفر" مما لا ينقل عن الملة من الكفر الأصغر.
وأما ما ذكره في الخوارج، فإنما هو لأجل ما قام بهم من الشبهة المانعة من تكفيرهم. والشيخ محمد بن(55/65)
__________
= وقد أعل البيهقي هذا الحديث بقوله بعد إخراجه: "وهذا مما لم يسمعه سعد بن عبيدة من ابن عمر". ثم احتج البيهقي على هذه الدعوى بما أخرجه من طريق الإمام أحمد –وهو في المسند 2/125 ثنا محمد بن جعفر ثنا شعبة عن منصور عن سعد بن عبيدة قال: كنت عند عبد الله بن عمر فقمت وتركت رجلاً عنده من كندة، فأتيت سعيد بن المسيب. قال: فجاء الكندي فزعاً، فقال: جاء ابن عمر رجل فقال: أحلف بالكعبة؟ قال: لا ولكن احلف برب الكعبة. فإن عمر كان يحلف بأبيه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحلف بأبيك فإنه من حلف بغير الله فقد أشرك" اهـ.
والكندي المذكور اسمه محمد كما جاء في بعض أسانيد أحمد 2/69. وهو مجهول كما نص عليه أبو حاتم. انظر الجرح والتعديل 8/132.
قلت: وهذا الإعلان ليس بجيد، فإن الألفاظ التي تقدم ذكرها ترده، وتصرح بحضور سعد بن عبيدة هذه الحادثة، وقد اجتمع على لفظها ثقتان إمامان: الأعمش عند أحمد، والحسن بن عبيد الله النخعي عند ابن حبان.
ويجمع بين الراويتين: بتكرر الحادثة، فمرة سمعها سعد من ابن عمر، ومرة سمعها من الكندي. ومن تأمل اللفظين ظهر له ذلك، والله تعالى اعلم.
ص -377-(55/66)
عبد الوهاب لا يكفر الخوارج، كما أن أكثر أهل العلم لا يكفرونهم.
وقد سئل علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن الخوارج: أكفار هم؟ فقال: من الكفر فروا، فقال: منافقون؟ فقال: المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلاً، وهؤلاء يذكرون الله كثيراً –أو كلاماً نحو هذا1.
فقول العراقي: (ومع كفرهم لم يكفرهم الصحابة ولا التابعون)، جهل عريض، وتناقض بين، وعدم معرفة بمقادير الصحابة وأهل العلم، فإنهم لو كانوا عند الصحابة كفاراً كفراً يخرج من الملة لكفرهم الصحابة والتابعون، فلما قام المانع من تكفيرهم أمسكوا عنه، وهم أعلم الأمة، وأعرفهم بالله، وبدينه، وأخشاهم له، فهذا الكلام ونحوه إنما هو في أهل الأهواء والبدع، كالخوارج وأشباههم من أهل البدع التي لم تخرجهم بدعتهم من الإسلام.
وأما مسألة عبادة القبور، ودعائها مع الله، فهي مسألة وفاقية التحريم، إجماعية المنع والتأثيم، فلم يدخل عباد القبور في كلام الشيخين لظهور برهانها، ووضوح أدلتها، وعدم اعتبار الشبهة فيها، هذا وجه الإخراج والاستدراج، ومراد هذا الملحد أن عباد القبور لا يكفرون، لأن الصحابة
__________
1 رواه البيهقي في السنن الكبرى 1/174 و175 من وجهين: الأول في أهل الجمل، والثاني في أهل النهروان، والأول ضعيف، والثاني كذلك.
ص -378-(55/67)
والتابعين لهم لم يكفروا الخوارج، فبعداً للقوم الظالمين.
وأما ما ذكره من قتال أهل الردة، فليس الأمر كما زعم من التفريق، وإن كان قد قال به بعض العلماء، فالحق والصواب ما أجمع عليه الصحابة رضي الله عنهم فإنهم لم يفرقوا بين من ارتد، وصدق مسيلمة الكذاب والأسود العنسي، وطليحة الأسدي، وسجاح، وبين من منع الزكاة، بل قاتلوهم كلهم واستحلوا دماءهم وأموالهم، وسبيهم، وسموهم كلهم أهل الردة، ولم يقولوا لمانع الزكاة: أنت مقر بوجوبها، أو جاحد لها، هذا لم يعهد عن الخلفاء والصحابة، بل قال الصديق رضي الله عنه لعمر رضي الله عنه: والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول لله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه. فجعل المبيح للقتال مجرد المنع، لا جحد الوجوب.
وقد روي أن طوائف منهم كانوا يقرون بالوجوب، لكن بخلوا بها، ومع هذا فسيرة الخلفاء فيهم جميعاً سيرة واحدة، وهي قتل مقاتلتهم، وسبي ذراريهم، وغنيمة أموالهم، والشهادة على قتلاهم بالنار، وسموهم جميعهم أهل الردة، وكان من أعظم فضائل الصديق رضي الله عنه أن ثبته الله عند قتالهم، ولم يتوقف كما توقف غيره، فناظرهم حتى رجعوا إلى قوله، كما بينه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
ص -379-
فإذا علمت ذلك، فمن المحال أن يكون الحق. والصواب مع من قال بخلاف ما قاله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين هم أفضل الأمة، وأن يكون الحق والصواب مع من بعدهم ممن لا يساويهم ولا يقاربهم في العلم والفضل والمعرفة.
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في "أعلام الموقعين" نحواً من خمسة وأربعين وجهاً، تدل على أن ما قاله الصحابة رضي الله عنهم هو الحق والصواب الذي لا شك فيه1.
__________
1 4/118-156.
ص -380-(55/68)
فصل
ثم ذكر العراقي فرق أهل الضلال، من أهل الأهواء والبدع، الذين فارقوا الجماعة، كالقدرية والمعتزلة والمرجئة والجهمية، والرافضة، ولم يذكر من فرق أهل الأهواء إلا هؤلاء، ثم قال:
(ومذهب السلف الذي تتستر به الوهابية هو: عدم القول بتكفير طوائف المارقين الذين1 ذكرناهم).
والعجب كل العجب أن هذا العراقي يقر أن هؤلاء الطوائف هم المارقون، المفارقون للجماعة، وهو يقول بأقوالهم في نفي الصفات.
والجواب أن نقول: هذا كذب على السلف رضوان الله عليهم، فإنهم كفروا غلاة الرافضة كالذين حرقهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكذلك كفروا غلاة القدرية، وغلاة المرجئة، والمعتزلة وغلاة الجهمية.
__________
1 في الأصل: "الذي".
ص -381-
وقد حكى شيخ الإسلام تكفير من قام به الكفر من أهل الأهواء، قال:
واضطرب الناس في ذلك: فمنهم من يحكي عن مالك فيه قولين، وعن الشافعي كذلك، وعن أحمد روايتين، وأبو الحسن الأشعري وأصحابه لهم فيه قولان، قال:
وحقيقة الأمر: أن القول قد يكون كفراً، فيطلق القول بتكفير قائله، ويقال لمن قال هذا فهو كافر، لكن الشخص المعين الذي قال: لا يكفر حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها، انتهى.
وحيث كان الحال هكذا في الخوارج، قد اختلف الناس في تكفيرهم. والغلاة في علي لم يختلف أحد في تكفيرهم، وكذلك من سجد لغير الله، أو ذبح لغير الله، أو دعاه مع الله رغباً أو رهباً، كل هؤلاء اتفق السلف والخلف على كفرهم، كما ذكره أهل المذاهب الأربعة، ولا يمكن أحد أن ينقل عنهم قولاً ثانياً.
وبهذا تعلم أن النزاع وكلام شيخ الإسلام ابن تيمية، وأمثاله في غير عباد القبور والمشركين، فرضه وموضوعه في أهل البدع المخالفين للسنة والجماعة، وهذا يعرف من كلام الشيخ.
ص -382-(55/69)
فإذا عرفت أن كلام الشيخ ابن تيمية في أهل الأهواء كالقدرية والخوارج والمرجئة، ونحوهم، ما خلا غلاتهم، تبين لك أن عباد القبور والجهمية خارجون من هذه الأصناف.
وأما كلامه في عدم تكفير المعين فالمقصود به في مسائل1 مخصوصة قد يخفى دليلها على بعض الناس، كما في مسائل القدر والإرجاء، ونحو ذلك مما قاله أهل الأهواء، فإن بعض أقوالهم تتضمن أموراً كفرية من رد أدلة الكتاب والسنة المتواترة، فيكون القول المتضمن لرد بعض النصوص كفراً، ولا يحكم على قائله بالكفر، لاحتمال وجود مانع كالجهل، وعدم العلم بنفس النص، أو بدلالته، فإن الشرائع لا تلزم إلا بعد بلوغها، ولذلك ذكر هذا في الكلام على بدع أهل الأهواء، وقد نص على هذا فقال في تكفير أناس من أعيان المتكلمين بعد أن قرر هذه المسألة، قال:
وهذا إذا كان في المسائل الخفية فقد يقال بعدم التكفير، وأما ما يقع منهم في المسائل الظاهرة الجلية، أو ما يعلم من الدين بالضرورة، فهذا لا يتوقف في كفر2 قائله.
__________
1 في الأصل: "المسائل".
2 في ط الرياض: "تكفير".
ص -383-(55/70)
وبهذا تعلم غلط هذا العراقي، وكذبه على شيخ الإسلام، وعلى الصحابة والتابعين في عدم تكفير غلاة القدرية وغلاة المعتزلة، وغلاة المرجئة، وغلاة الجهمية، والرافضة. فإن الصادر من هؤلاء كان في مسائل ظاهرة جلية، وفيما يعلم بالضرورة من الدين، وأما من دخل عليه من أهل السنة بعض أقوال هؤلاء، وخاض فيما خاضوا فيه من المسائل التي قد يخفى دليلها على بعض الناس، أو من كان من أهل الأهواء من غير غلاتهم، بل من قلدهم وحسن الظن بأقوالهم من غير نظر ولا بحث فهؤلاء هم الذين توقف السلف والأئمة في تكفيرهم، لاحتمال وجود مانع بالجهل، وعدم العلم بنفس النص، أو بدلالته قبل قيام الحجة عليهم، وأما إذا قامت الحجة عليهم، فهذا لا يتوقف في كفر قائله.
وأما قوله: (قال الشيخ1 تقي الدين ابن تيمية: لم يكفر الإمام أحمد الخوارج، ولا المرجئة، ولا أعيان الجهمية، بل صلى خلف الجهمية الذين دعوا الناس إلى قولهم، وعاقبوا من لم يوافقهم بالعقوبات الشديدة).
__________
1 في ط الرياض: "شيخ الإسلام".
ص -384-(55/71)
فالجواب أن يقال: قد تقدم عدم تكفير الخوارج والمرجئة غير الغالية منهم.
وأما الجهمية فيقال: لو سلم هذا فجوابه من أوضح الواضحات عند أهل العلم والأثر: وذلك أن الإمام أحمد وأمثاله -من أهل العلم والحديث- لا يختلفون في تكفير الجهمية وأنهم ضلال زنادقة، وقد ذكر من صنف في السنة تكفيرهم عن عامة أهل العلم والأثر وعد اللالكائي الإمام رحمه الله تعالى منهم عدداً يتعذر ذكرهم في هذا الجواب، وكذلك ابن الإمام أحمد في كتاب السنة، والخلال في كتاب السنة، وابن أبي مليكة1 في كتاب السنة، وإمام الأئمة ابن خزيمة قرر كفرهم ونقله عن أساطين الأئمة.
وقد حكى كفرهم شمس الدين ابن القيم في "كافيته" عن خمسمائة من أئمة المسلمين وعلمائهم. والصلاة خلفهم لا تنافي القول بتكفيرهم، لكن تجب الإعادة حيث لا تمكن الصلاة خلف غيرهم، والرواية المشهورة عن الإمام أحمد هي المنع من الصلاة خلفهم، وقد يفرق بين من قامت عليه الحجة التي يكفر تاركها،
__________
1 لم أقف على من نسب لابن أبي مليكة كتاب "السنة" وابن أبي مليكة من التابعين، ولم يكن ثم تدوين في عهده والعلم عند الله، وكذلك تأخر ظهور الجهمية عن عهده، ولا شك أنه تصحيف.
ص -385-(55/72)
وبين من لا شعور له بذلك، وهذا القول يميل إليه شيخ الإسلام في المسائل التي قد يخفى دليلها على بعض الناس، كما تقدم ذكره.
وعلى هذا القول: فالجهمية في هذه الأزمنة قد بلغتهم الحجة، وظهر الدليل، وعرفوا ما عليه أهل السنة، واشتهرت الأحاديث النبوية، وظهرت ظهوراً ليس بعده إلا المكابرة والعناد، وهذا حقيقة الكفر والإلحاد، كيف لا وقولهم يقتضي من تعطيل الذات والصفات، والكفر بما اتفقت عليه الرسالة والنبوات، وشهدت به الفطر السليمات، ما لا يبقى معه من حقيقة الربوبية والإلهية ولا وجود للذات المقدسة المتصفة بجميل الصفات، وهم إنما يعبدون عدماً لا حقيقة لوجوده، ويعتمدون من الخيالات والشبه ما يعلم فساده بضرورة العقل، وبالضرورة من دين الإسلام عند من عرفه وعرف ما جاءت به الرسل من الإثبات.
ولبشر المريسي وأمثاله من الشبه والكلام في نفي الصفات ما هو من جنس هذا المذكور عند الجهمية المتأخرين، بل كلامه أخف إلحاداً من بعض هؤلاء الضلال، ومع ذلك فأهل العلم متفقون على تكفيره، وعلى أن الصلاة لا تصح خلف كافر جهمي أو غيره، وقد صرح الإمام أحمد فيما نقل عنه ابنه عبد الله وغيره أنه كان
ص -386-(55/73)
يعيد صلاة الجمعة وغيرها، وقد يفعله المؤمن مع غيرهم من المرتدين إذا كانت لهم شوكة ودولة، والنصوص في ذلك معروفة مشهورة من طلبها وجدها. انتهى.
وقد تقدم كلام أبي حنيفة وتصريحه بكفر من قال: لا أدري العرش في السماء أم في الأرض؟ قال: لأنه أنكر أنه في السماء، لأن الله في أعلى عليين، وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل.
وقال الإمام الشافعي رحمه الله: لله أسماء وصفات لا يسع أحداً ردها، ومن خالف بعد ثبوت الحجة عليه كفر، وأما قبل قيام الحجة فإنه يعذر بالجهل، ونثبت هذه الصفات، وننفي عنه التشبيه كما نفى عن نفسه فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}[الشورى: 11]. انتهى.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله بعد كلام سبق: والبدعة التي يعد بها الرجل من أهل الأهواء ما اشتهر عند أهل العلم بالسنة مخالفتها للكتاب والسنة، كبدعة الخوارج والروافض، والقدرية والمرجئة، فإن عبد الله بن المبارك، ويوسف بن أسباط، وغيرهما، قالوا: أصول الاثنين وسبعين فرقة هي أربع: الخوارج،
ص -387-(55/74)
والروافض والمرجئة والقدرية، قيل لابن المبارك: فالجهمية؟ قال: ليست من أمه محمد صلى الله عليه وسلم.
والجهمية نفاة الصفات، الذين يقولون: القرآن مخلوق، وإن الله لا يرى في الآخرة، وإن محمداً لم يعرج به إلى الله، وإن الله لا علم له ولا قدرة، ولا حياة، ونحو ذلك، كما يقوله المعتزلة والمتفلسفة ومن اتبعهم.
وقد قال عبد الرحمن بن مهدي: هما صنفان، فأحدهما الجهمية، والرافضة، فهذان الصنفان شرار أهل البدع، ومنهم دخلت القرامطة الباطنية كالنصيرية والإسماعيلية، ومنهم اتصلت الإتحادية، فإنهم من جنس الطائفة الفرعونية. والرافضة في هذه الأزمان مع الرفض جهمية قدرية، فإنهم ضموا إلى الرفض مذهب المعتزلة، ثم يخرجون إلى مذهب الإسماعيلية ونحوهم من أهل الزندقة والاتحاد. انتهى كلامه رحمه الله.
وهذا العراقي الملحد ضم إلى معتقده في عبادة القبور مذهب الجهمية، والمعتزلة، وقول الرافضة في الرؤية والقدرية.
وأما قوله عن شيخ الإسلام: (وقال أيضاً ما محصله: إن من البدع المنكرة تكفير طائفة من المسلمين،
ص -388-(55/75)
واستحلال دمائهم وأموالهم، إذ لعل تلك الطائفة ليس فيها من البدعة ما في الطائفة المنكرة لها، ولو فرض أن تلك الطائفة قد ابتدعت لم يجز للطائفة التي على السنة أن تكفرها لما عسى أن تكون بدعتها ناشئة عن خطأ...) إلى آخره.
فالجواب أن نقول: ليس هذا مما نحن فيه في شيء، فإن من أهل البدع من لم تخرجه بدعته من الإسلام، وليس الكلام في هؤلاء، وفرض كلام الشيخ فيمن لم تكن بدعته تخرجه من الإسلام، وإنما الكلام في غلاة هؤلاء الطوائف، وبهذا يعلم كل من له أدنى مسكة من عقل، وأقل معرفة من علم: أن عباد القبور والجهمية لا يدخلون في أهل البدع والأهواء الذين تقدم كلام الشيخ فيهم، والشيخ محمد رحمه الله لا يكفر أحداً من هذا الجنس، ولا من هذا1 النوع، وإنما يكفر من نطق بتكفيره الكتاب العزيز، وجاءت به السنة الصحيحة، واجتمعت على تكفيره الأمة، كمن بدل دينه، وفعل فعل الجاهلية، الذين يعبدون الملائكة، والأنبياء، والصالحين، ويدعونهم مع الله، فإن الله كفرهم وأباح دماءهم وأموالهم، كما دل عليه الكتاب العزيز، والسنة المستفيضة.
__________
1 في ط الرياض: "هؤلاء".
ص -389-(55/76)
فصل
إذا تبين لك هذا، فمن عجيب أمر هذا العراقي وشدة غباوته، وأنه إنما دهي من عجمته، وعدم معرفته، وعدم تلقيه1 العلوم الشرعية من مظانها،: تناقضه، كما قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً}[النساء: 82].
فمن ذلك أنه ذكر فيما تقدم في غير موضع أن الوهابية قد خبطت كل الخبط في تنزيهه تعالى، حيث أبت إلا جعل استوائه سبحانه ثبوتاً على عرشه، واستقراراً وعلواً فوقه، وأثبتت له الوجه واليدين، وبعضته سبحانه فجعلته ماسكاً بالسموات على أصبع، والأرض على أصبع، والشجر على أصبع، والملك على أصبع، ثم أثبتت له تعالى الجهة فقالت: هو فوق السموات، ثابت على العرش، يشار إليه بالأصابع إلى فوق إشارة حسية، وينزل إلى السماء، ويصعد.
__________
1 في ط الرياض: "وتلقي".
ص -390-
ثم نفى الرؤية في مواضع أخر، وأولها بنوع من الانكشاف والتجلي من غير حاجة للباصرة، ولا محاذاة لها.
وفي موضع آخر قال: (فاعتقدوا متمسكين بظواهر الآيات أن الله تعالى على عرشه، وعلاه علواً حقيقياً، وأن له تعالى وجهاً ويدين، وأنه ينزل إلى السماء الدنيا ويصعد نزولاً وصعوداً حقيقين، وأنه يشار إليه في السماء بالأصبع).
ثم نكس على رأسه، فقال لما أتى على فرق أهل الأهواء، قال:
(ثم فارقت الجهمية الجماعة فقالوا: ليس على العرش إله يعبد، ولا لله في الأرض من كلام، وأنكروا صفات الله التي أثبتها لنفسه في كتابه المبين، وأثبتها رسوله الصادق الأمين، وأجمع على القول بها الصحابة، وكذلك أنكروا رؤية الله تعالى في الدار الآخرة، إلى غير ذلك من أقوالهم ومعتقداتهم الكفرية).
هذا لفظه بحروفه، فنقض ما تقدم من قوله في الوهابية بما قاله ها هنا من أن الجهمية فارقوا الجماعة، وقالوا: إنه ليس على العرش إله يعبد، وأنهم أنكروا الصفات التي أثبتها لنفسه، وأثبتها له رسوله، وأجمع على(55/77)
ص -391-
القول بها الصحابة، وكذلك قال في رؤية الله تعالى، وصرح أن هذا وغيره من معتقداتهم الكفرية، وكذلك قال في سائر الفرق أنهم فارقوا الجماعة، وأن أهل السنة لم يكفروهم بهذه الكفريات.
وهكذا يكون كلام من اتبع هواه {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّه}[الجاثية: 23]، وإلا فكيف يعتقد أن الله ينزه عن إثبات صفات كماله، ونعوت جلاله، ثم يحكم على أن القائل بها مفارق للجماعة، مخالف لما أجمع عليه الصحابة، وأن اعتقاد هذا من العقائد الكفرية، ثم يقول: (ومع تماديهم في ضلالهم، واستمرارهم على عنادهم، بعد أن بين أهل الحق لهم خطأ مذهبهم، لم يكفروهم، بل جعلوا الأخوة الإيمانية ثابتة لهم، ولمن قبلهم من أهل البدع)، هذا قوله في المرجئة والمعتزلة والقدرية.
وأما الجهمية فقال: (ومع ذلك فقد رد عليهم الأئمة وبينوا ضلالهم، حتى أنهم قتلوا بعض دعاتهم، كجهم بن صفوان والجعد بن درهم، وبعد أن قتلوهم غسلوهم وصلوا عليهم، ودفنوهم في مقابر المسلمين، ولم يجروا عليهم أحكام أهل الردة).
وقال في الرافضة: (ومع ذلك فلم يكفرهم أحد من
ص -392-(55/78)
العلماء ولا منعوهم عن التوارث، ولا التناكح، وأجروا عليهم أحكام المسلمين).
ويكفي مجرد حكاية ضلاله عن التكلف في رده، إذ من المعلوم بالضرورة أن هذا الكلام بكلام المجاذيب الذين ينطقون بما لا يعقلون أشبه به من نسبته إلى أحد من أهل العلم. والله المستعان.
ثم ذكر انعقاد الإجماع على أن من أقر بما جاء به الرسول -وإن كانت فيه خصلة من الكفر أو الشرك- لا يكفر حتى تقام عليه الحجة... إلى آخر ما ذكره، مما قد بيناه فيما تقدم جوابه، وكلام العلماء فيه.
ثم قال في آخر: (فقد تبين ما للوهابية في تكفيرها المسلمين من البدعة، والمخالفة لما جاء به1 كتاب الله، وسنة رسوله، وأقوال أئمة الدين، والعلماء المجتهدين).
والجواب أن يقال: قد بينا فيما تقدم أن الوهابية لا يكفرون المسلمين، ولا يكفرون -أيضاً- أهل الأهواء مطلقاً، إلا بعد بلوغ الحجة على من قام به مكفر من المكفرات، وناقض2 من النواقض، ولم نكفر إلا من نطق
__________
1 سقطت: "به" من ط الرياض.
2 في ط الهند: "وناقضاً".
ص -393-
كتاب الله وسنة رسوله بتكفيره، وخالف أئمة الدين والعلماء المجتهدين، وأجمعت الأمة على تكفيره، كمن بدل دينه، وفعل فعل الجاهلية، الذين يعبدون الملائكة والأنبياء، والصالحين، ويدعونهم مع الله، فإن الله كفرهم وأباح دماءهم وأموالهم، فلا يهولنك سفسطة هذا العراقي، وتمويهه بهذه العبارة، فإنه أول من خالفها، كيف وقد قال فيما مضى من كلامه: (إن لأدلة نصوص الكتاب والسنة ظواهر ظنية لا تعارض اليقينيات) يعني باليقينيات: معقولات الفلاسفة، واليونان، وأنباط فارس، وفروخ الجهمية، وورثة المجوس، والصابئين من المتكلمين الخارجين عن سبيل المؤمنين.
ص -394-(55/79)
فصل
قال العراقي: (الوهابية، ونفيها التوسل: ذكرنا فيما سبق تكفير الوهابية لمن خالف بدعتها من جميع المسلمين، ونسبتها إياهم إلى الشرك الأكبر، وقد آن لنا أن نذكر ههنا ما اتخذته ذريعة لتكفيرهم من الأمور: فمنها: الاستغاثة بالأنبياء والأولياء، والتوسل بهم إلى الله تعالى، وزيارة قبورهم، فهي قد نفت ذلك وحرمته، وشددت النكير على المستغيثين والمتوسلين والزائرين فكفرتهم وعدتهم مشركين، كعباد الأوثان، بل جعلتهم أسوأ حالاً منهم، حيث قالت: إن المشركين السابقين كانوا مشركين في الألوهية فقط، وأما مشركوا المسملين -تعني بهم من خالفها منهم- فقد أشركوا في الألوهية والربوبية، وقالت أيضاً: إن الكفار في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يشركون دائماً، بل تارة يشركون، وتارة يوحدون الله، ويتركون دعاء الأنبياء والصالحين، وذلك أنهم إذا كانوا في السراء دعوهم، واعتقدوا بهم، وإذا أصابهم الضر والشدائد
ص -395-
تركوهم وأخلصوا لله الدين، وعرفوا أن الأنبياء والصالحين لا يملكون ضراً ولا نفعاً).
والجواب على سبيل النقض -وسيأتي الجواب على ما يجيب به عما قالت الوهابية- أن نقول:
أما الاستغاثة بالأنبياء والأولياء فهي من الشرك الأكبر، لأن الاستغاثة طلب الغوث، ومن طلب من ميت أو غائب ما لا يقدر عليه إلا الله كان مشركاً، لأن الاستغاثة من أنواع العبادة، فصرفها لغيره شرك.
قال شيخ الإسلام: ومن أعظم الشرك أن يستغيث الرجل بميت أو غائب -كما ذكره السائل- ويستغيث به عند المصائب: يا سيدي فلان، كأنه يطلب منه إزالة ضره، أو جلب نفعه، وهذا حال النصارى في المسيح وأمه وأحبارهم ورهبانهم.
ومعلوم أن خير الخلق وأكرمهم على الله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأعلم الناس بقدره وحقه أصحابه، ولم يكونوا يفعلون شيئاً من ذلك لا1 في مغيبه، ولا يعد مماته... إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى.
وأما التوسل بهم إلى الله، كأن يسأل الله تعالى(55/80)
__________
1 سقطت "لها" من ط الهند.
ص -396-
بجاههم أو بحرمتهم، فهذا ليس بشرك، بل هو من البدع المحرمة، والذرائع المفضية إلى ما هو أكبر من ذلك.
وأما زيارة قبورهم على الوجه الشرعي، فلا مانع منه. ونسبته إلى الوهابية كذب عليهم. وأما مع شد الرحل فبدعة محرمة، فإن تضمنت زيارتهم دعاءهم والاستغاثة بهم، والالتجاء إليهم، فهو الشرك الأكبر المخرج عن الملة، وأدلة ذلك الآيات التي ذكرها فيما يأتي.
وأما كون مشركي أهل هذه الأزمان أسوأ حالاً من مشركي الجاهلية: فنعم، لأن الكفار الأولين كانوا مقرين بتوحيد الربوبية، فيقرون أن الله هو الخالق الرازق، المحي المميت، المدبر النافع الضار، إلى غير ذلك مما ذكره الله عنهم، ولم يدخلهم ذلك في الإسلام، وإنما كان شركهم في الألوهية، فإن الإله هو الذي تألهه القلوب محبة وإجلالاً وتعظيماً، ومن أنواع ذلك: الدعاء والخوف والرجاء، والحب والتعظيم والاستغاثة، والاستعاذة، والذبح والنذر والتوكل، والالتجاء، والرغبة والرهبة، والخضوع والخشوع، والإنابة، إلى غير ذلك من أنواع العبادة، وهذه حال عباد القبور في هذه الأزمان.
وأما كون الكفار في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يشركون
ص -397-(55/81)
دائماً، بل تارة يشركون، وتارة يوحدون، ويتركون دعاء الأنبياء والصالحين، وذلك أنهم إذا كانوا في السراء دعوهم، واعتقدوا بهم، وإذا أصابهم الضر والشدائد تركوهم وأخلصوا لله الدين، وعرفوا أن الأنبياء والصالحين لا يملكون ضراً ولا نفعاً: فهذا ليس هو قول الوهابية، بل هو نص كتاب الله تعالى، قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ. لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:65-66] إلى غير ذلك من الآيات.
وأما مشركوا أهل هذه الأزمان فإنه لا يشتد شركهم إلا إذا وقعت بهم الشدائد، فإنهم ينسون الله، ولا يدعون إلا معبودهم، فشركهم دائم في الرخاء والشدة، وهذا أمر معلوم مشاهد، لا ينكره إلا مكابر في الحسيات، مباهت في الضروريات.
قال العراقي: (حملت الوهابية جميع الآيات القرآنية التي نزلت في المشركين على الموحدين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وتمسكت بها في تكفيرهم، منها قوله تعالى: {فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن: 18]، وقوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ
ص -398-(55/82)
غَافِلُونَ. وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:5-6]، وقوله تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس:106]، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ. إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 13-14]، وقوله تعالى: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} [الشعراء:213]، وقوله تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ} [الرعد:14]، وقوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً. أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [الإسراء: 56-57] إلى غير ذلك من الآيات النازلة في المشركين.
فزعم ابن عبد الوهاب أن كل من استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم، وتوسل به أو بغيره من الأنبياء والأولياء والصالحين، أو ناداهم أو سأله الشفاعة، أو زار قبره: يكون في عداد هؤلاء المشركين، داخلاً في عموم هذه الآيات. وشبهته في ذلك: أن هذه الآيات -وإن كانت نازلة في المشركين- إلا أن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب) انتهى.
فكل ما ذكره عن الوهابية حق، وبه نقول، إلا ما
ص -399-(55/83)
كان من لفظ التوسل، أو زيارة القبور، فقد تقدم في الفصل الأول الجواب عن ذلك، وأنا لا نكفر بهما.
ثم انظر ماذا يجيب به من المخرقة السامجة المارجة الساذجة:
قال: (والجواب: أننا لا ننكر أن العبرة هي لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، ولكن نقول: إن هذه الآيات لا تشمل من زعمت الوهابية أنها شاملة لهم، لما أنه ليس من أحوال الكفار الذين نزلت هذه الآية فيهم شيء عند المتوسلين والمستغيثين، فإن الدعاء يأتي لمعان شتى -كما سنذكره قريباً- وهو في هذه الآيات كلها بمعنى العبادة1، والمسلمون لا يعبدون إلا الله تعالى، وليس فيهم من اتخذ الأنبياء والأولياء آلهة، وجعلهم شركاء لله تعالى حتى تعمهم هذه الآيات، ولا اتقدوا أنهم يستحقون العبادة، ولا أنهم يخلقون شيئاً، ولا أنهم يملكون ضراً ولا نفعاً، بل إنما اعتقدوا أنهم عبيد الله مخلوقون له، وما قصدوا
__________
1 في هذا الموضع وقع تقديم وتأخير لبعض الصفحات في "الأصل" الطبعة الهندية وكان ترتيبها هكذا: ص 553، 558، 559، 556، 557، 554، 555، 560، 561.
وهذا موجود في كل نسخة هندية وقفت عليها.
ص -400-(55/84)
الضياء الشارق في رد شبهات الماذق المارق - سليمان بن سحمان (5)
بزيارة قبورهم والتوسل بهم إلى الله تعالى إلا التبرك بهم، لكونهم أحباء الله المقربين، الذين اصطفاهم واجتباهم فببركتهم يرحم عباده.
قالت الوهابية: إن اعتذاركم هو عين اعتذار المشركين عن عبادة الأصنام، فقد قال تعالى حكاية عن المشركين في اعتذارهم عن عبادة الأصنام {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]. فالمشركون ما اعتقدوا في الأصنام أنها تخلق شيئاً، بل اعتقدوا أن الخالق هو الله تعالى، بدليل قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87]. وقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}[لقمان:25]، فإنما حكم الله تعالى عليهم بالكفر لقولهم: { لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ} [الزمر: 3]. قالت: وهكذا المتوسلون بالأنبياء والصالحين يقولون ما هو بمعنى قول المشركين: ليقربونا إلى الله زلفى.
قال العراقي: (والجواب من وجوه: الأول أن المشركين جعلوا الأصنام آلهة، والمسلمون ما اعتقدوا إلا إلها واحداً، فعندهم أن الأنبياء أنبياء، والأولياء أولياء، ليس إلا، فلم يتخذوهم آلة مثل المشركين).
ص -401-(56/1)
والجواب عن أجوبة هذا الملحد أن نقول:
ما ذكره العراقي ليس هو حاصل ما تجيب به الوهابية من أشرك بالله غيره، واتخذ معه آلهة من دونه، فإن عندهم من الأدلة والأجوبة ما لم تحط به علماً، ولا تقدر على نقضه وإبطاله، كما قال تعالى: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} [الفرقان:33].
فإنهم هم أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحقيقة لا على الدعوى والانتساب، ولكنا في هذا المقام إنما نجيب على أجوبته بما يبين بطلانها، ويهدم أركانها، ويهد بنيانها، وإن كان ما أجابهم به أوهن من خيط العنكبوت، فنقول:
قد كان من المعلوم عند من له معرفة بالعلوم الشرعية أن المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: منهم من يعبد الأصنام المصورة على صور الصالحين: ود وسواع، ويغوث ويعوق ونسر. ومنهم من يعبد الملائكة، والأنبياء والصالحين، ويجعلونهم وسائط بينهم وبين الله، ويقولون: نريد منهم التقرب إلى الله، ونريد شفاعتهم. ومنهم من يعتقد في الأشجار والأحجار، يرجون بركتها، وغير ذلك، ومع ذلك كانوا يعلمون أن الأنبياء أنبياء، وأن الأولياء أولياء، وأن الأشجار -كالعزى- شجرة، وأن مناة أكمة يذبحون لآلهتهم عندها يرجون بركتها، وكذلك اللات
ص -402-(56/2)
يعلمون أنها صخرة كان يلت عليها السويق للحاج. فبعث الله1 محمداً صلى الله عليه وسلم يجدد لهم دين أبيهم إبراهيم، ويخبرهم أن هذا التقرب والاعتقاد محض حق الله، ولا يصلح2 منه شيء لا لملك مقرب، ولا نبي مرسل، فضلاً عن غيرهما.
وهؤلاء المشركون لم يعتقدوا في آلهتهم التي يدعونها من دون الله من الأصنام، والملائكة والأنبياء والأولياء والصالحين، أنهم يستحقون العبادة، ولا أنهم يخلقون شيئاً، ولا أنهم يملكون ضراً ولا نفعاً، ويعلمون أن الله هو الخالق الرازق، المحيي المميت، المدبر لجميع الأمور، ولكن لم يدخلهم ذلك في التوحيد الذي دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، وأن يكون الدين كله لله، والنذر كله لله3، والذبح كله لله، والاستغاثة كلها بالله، والالتجاء إليه وحده، والتوكل عليه، والخوف والرجاء منه، والدعاء كله لله، وجميع أنواع العبادة كلها لله.
فإذا عرفت أن إقرارهم بتوحيد الربوبية لم يدخلهم
__________
1 سقطت: "الله" من ط الرياض.
2 في ط الرياض: "لا يصلح".
3 سقطت "والنذر كله لله" من ط الهند.
ص -403-(56/3)
في الإسلام، وأن قصدهم الملائكة والأنبياء والأولياء يريدون شفاعتهم، والتقرب إلى الله بهم، ويتبركون بهم، لكونهم أحباء الله المقربين الذين اصطفاهم1 واجتباهم: هو الذي أحل دماءهم وأموالهم. عرفت حينئذ التوحيد التي دعت إليه الرسل، وأبى عن الإقرار به المشركون، وهذا التوحيد هو معنى قولك: لا إله إلا الله، فإن الإله هو الذي تألهه القلوب، ويقصد لأجل هذه الأمور، سواء كان ملكاً أو نبياً أو ولياً، أو شجرة أو قبراً أو جنياً. لم يريدوا أن الإله هو الخالق الرازق المدبر.
فمن صرف من هذه العبادة -المتقدم ذكرها- شيئاً لغير الله فقد اتخذه إلهاً، لأنه صرف خالص حق الله لغيره، وأشركه معه في عبادته، ومن أشرك بالله أحداً في عبادته كان مشركاً، سواء كان المدعو المستغاث به ملكاً أو نبياً أو ولياً أو صنماً.
فقول هذا العراقي: (إن المشركين جعلوا الأصنام آلهة، والمسلمون ما اعتقدوا إلا إلهاً واحداً). جهل عظيم، وغباوة مفرطة، فإن المشركين عبدوا الملائكة، وعيسى واللات -وهو قبر رجل صالح- مع الأصنام المصورة، وصرفوا لهم خالص حق الله، كما تقدم ذكره.
__________
1 في ط الرياض: "اصطفاهم الله واجتباهم".
ص -404-(56/4)
وأيضاً فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال لهم: "قولوا لا إله إلا الله"، قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5]، فالكفار الجهال يعلمون أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة هو إفراد الله تعالى بالتعلق، والكفر بما يعبد من دون الله، والبراءة منه، وأن يكون الدين كله لله، فإذا صرف المشركون لمن يعتقدون فيه شيئاً من هذه العبادة كانوا بذلك مشركين، فكذلك من يزعم أنه مسلم، ويتلفظ بالشهادتين، ويقر بسائر الأركان إذا صرف من هذه العبادة شيئاً لغير الله كان مشركاً، ولا ينفعه اعتقاده أن الله إله واحد، وهو يعبد معه غيره، ولا تنفعه معرفته أن الأنبياء أنبياء، والأولياء أولياء وهو يشركهم في عبادة الله.
ص -405-
فصل
قال العراقي: (الثاني: أن المشركين اعتقدوا أن تلك الآلهة تستحق العبادة، بخلاف المسلمين فإنهم لم يعتقدوا أن أحداً من المتوسلين بهم مستحق لأقل عبادة، وليس عندهم المستحق للعبادة إلا الله وحده).
والجواب أن نقول: هذه العبادة التي صرفها المشركون الأولون لآلهتهم هي ما يفعله المشركون من عباد القبور في هذه الأزمان سواء بسواء، وإن زعموا أن هذا توسل، فالعبرة بالحقائق لا بالأسماء.
فإن المشركين الأولين ما زعموا أن آلهتهم التي عبدوها من دون الله من الأنبياء والأولياء والصالحين والملائكة، شاركوا الله في خلق السموات والأرض، أو استقلوا بشيء من التدبير والتأثير والإيجاد، ولو في خلق ذرة من الذرات، ولا أنهم مستحقون للعبادة، وإنما كانوا يدعونهم ويلتجئون إليهم، ويسألونهم على وجه التوسل بجاههم وشفاعتهم، ليقربوهم إلى الله زلفى.
ص -406-(56/5)
ويقال لهذا الملحد أيضاً:
لايخلو معتقد هذه الأفعال عن أحد ثلاثة أمور: إما أن يعتقد أنهم مستحقون للعبادة من دون الله، أو مع الله. وإما أن لا يعتقد ذلك، لكن ليقربوهم إلى الله زلفى. وإما أن لا تكون هذه الأفعال عبادة.
فإن كان أراد أن هذه الأفعال1 ليست بعبادة؛ فقد كابر العقل والشرع، وباهت في الضروريات.
وإن كان أراد بها ليقربوهم إلى الله زلفى، مع اعتقادهم أن الله هو النافع الضار، المدبر لجميع الأمور، وأنه لا خالق إلا الله، فهذا هو شرك الجاهلية.
وإن أراد أنهم مستحقون للعبادة من دون الله، أو مع الله، كان هذا أعظم من شرك الجاهلية، فإن هذا شرك في الربوبية والألوهية معاً.
فإذا عرفت أن هذا الشرك الذي يسميه هؤلاء توسلاً وتشفعاً بجاه النبي صلى الله عليه وسلم أو بحقه، وغير ذلك من الألفاظ، أو بجاه غير النبي صلى الله عليه وسلم كالملائكة والأولياء والصالحين، وهو أن يعتقد أحدهم في غير الله أنه بذاته يقدر على جلب منفعة لمن دعاه، أو استغاث به، أو دفع مضرة، أو أن
__________
1 سقطت "الأفعال" من ط الرياض.
ص -407-(56/6)
هذا1 يحصل ببركته وشفاعته كان هذا هو العبادة التي لا يستحقها إلا الله، فإن العبادة التي لا يستحقها إلا الله مع الإقرار بتوحيد الربوبية هي أفعال العبد الصادرة منه، كالدعاء والحب والخوف والرجاء والخضوع، والخشوع والإنابة والتوكل والمحبة، والتعظيم والاستغاثة والدعاء والالتجاء والاستعانة، والاستعاذة والذبح والنذر، وغير ذلك من أنواع العبادة التي اختص الله2 بها دون من سواه، وهو المستحق لها دون من عداه، فمن صرف منها شيئاً لغير الله كان مشركاً، سواء اعتقد التأثير فيمن3 يدعوه ويستغيث به، أو أنه مستحق لذلك، أو غير مستحق، أو لم يعتقد ذلك، وإن فر من تسمية فعله ذلك4 شركاً، وتألهاً وعبادة، فإنه من المعلوم عند كل عاقل أن حقائق الأشياء لا تتغير بتغير أسمائها، فلا تزول هذه المفاسد بتغير أسمائها، كتسمية عبادة غير الله توسلاً وتشفعاً أو تبركاً، وتعظيماً للصالحين، وتوقيراً، فإن الاعتبار بحقائق الأمور لا بالأسماء
__________
1 سقطت "هذا" من ط الرياض.
2 سقطت "الله" من ط الرياض.
3 في ط الرياض: "فيما".
4 سقطت "ذلك" من ط الرياض.
ص -408-(56/7)
والاصطلاحات، والحكم يدور مع الحقيقة وجوداً وعدماً، لا مع الأسماء.
فقوله عن مشركي هذا الزمان: (إنهم لا يعتقدون أن أحداً منهم بتوسله يزعم أنهم مستحقون لأقل عبادة) تمويه وسفسطة من هذا العراقي، لأن المستحق للعبادة هو الذي تألهه القلوب محبة، وإجلالاً وتعظيماً فمن تأله غير الله فقد اعتقد أنه مستحق للعبادة بتألهه إياه بأنواع هذه العبادة، شاء أم أبى، ولا ينفعه إقراره أن المستحق للعبادة هو الله وحده، وهو يشرك به غيره.
وأما قوله: (الثالث أن المشركين عبدوا تلك الآلهة بالفعل، كما قال تعالى حكاية عنهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، والمسلمون ما عبدوا الأنبياء والصالحين في توسلهم إلى الله تعالى).
فالجواب أن يقال: إن المشركين عبدوا تلك الآلهة بالفعل الصادر منهم، كالدعاء والحب والخوف والتعظيم والرجاء والاستغاثة، والاستعاذة والذبح لهم، والنذر والالتجاء إليه، فصرفوا لهم هذه العبادة، ليشفعوا لهم عند الله، وليقربوهم إلى الله زلفى، وهكذا حال
ص -409-(56/8)
مشركي هذه الأزمان، إنما عبدوهم بالفعل والاعتقاد فيهم، وتوسلوا بهم، وقصدوهم لأجل التبرك بهم، والاستشفاع بجاههم، لا لأجل أنهم مستحقون للعبادة، ولا أنهم مستقلون بالخلق والإيجاد، والنفع والضر -وأيضاً- فإن مجرد ارتكاب فعل أو قول، أو اعتقاد لغير الله، مما يعد من العبادة من الدعاء والذبح -وما تقدم ذكره- موقع في الإشراك، سواء وجد معه اعتقاد ألوهية غير الله أم لا.
وأما قوله: (الرابع: إن المشركين قصدوا بعبادة أصنامهم التقرب إلى الله تعالى، كما حكى الله، وأما المسلمون فلم يقصدوا بتوسلهم بالأنبياء وغيرهم التقرب إلى الله تعالى لما أن التقرب إليه لا يكون إلا بالعبادة، ولذلك قال الله حكاية عن المشركين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، بل المسلمون قصدوا التبرك والاستشفاع بهم، والتبرك بالشيء غير التقرب به، كما لا يخفى).
فالجواب أن نقول: وهكذا حال مشركي العرب مع أوثانهم، إنما كانوا يعتقدون حصول البركة منها، بتعظيمها ودعائها والاستغاثة بها، والاعتماد عليها في حصول ما يرجونه منها، ويؤملونه ببركتها وشفاعتها، وغير ذلك،
ص -410-(56/9)
فالتبرك بالصالحين أو بقبورهم، كالتبرك باللات، وبالأشجار والأحجار، كالعزى ومناة، من جملة فعل أولئك المشركين، مع تلك الأوثان، فمن فعل مثل ذلك، واعتقد في قبر أو صاحبه، أو حجر أو شجر، فقد ضاهى عباد هذه الأوثان فيما كانوا يفعلونه معها من هذا الشرك، على أن الواقع من هؤلاء المشركين في هذه الأزمان مع معبوديهم أعظم مما وقع من أولئك، فمن دعا غير الله، واستغاث به ولجأ إليه، وصرف له شيئاً من خالص حق الله، كان هذا الفعل منه بهذا القصد شركاً، بدليل ما رواه الترمذي، وصححه عن أبي واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها، وينطون بها أسلحتهم، يقال لها: ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسول الله: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر إنها السنن، قلتم -والذي نفسي بيده- كما قالت بنو إسرائيل لموسى {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف: 138]، لتتبعن سنن من كان قبلكم"1.
__________
1 اخرجه أحمد في المسند 5/218، والترمذي في كتاب الفتن من جامعه 4/475، والنسائي في الكبرى كما في تحفة الأشراف 11/112، والاقتضاء لشيخ الإسلام 1/146، والشافعي كما في بدائع المنن 23، والطيالسي في مسنده ص 191، وعبد الرزاق في المصنف 11/369، وابن أبي شيبة في المصنف 15/101، والحميدي في المسند 2/375، وابن أبي عاصم في السنة 1/37، والمروزي في السنة ص 11-12، والطبراني في الكبير 3/275-276، وابن حبان في صحيحه -الإحسان- 8/248، والبيهقي في دلائل النبوة 5/124-125، وفي المعرفة 1/108، وابن إسحاق -كما في سيرة ابن هشام- 4/70-71، والبغوي في تفسيره 3/544 –حاشية ابن كثير- جميعهم عن سنان بن أبي سنان عن أبي واقد الليثي... به.
ص -411-(56/10)
فقوله: "وينوطون بها أسلحتهم" أي يعلقونها للبركة، ففي هذا بيان أن عبادتهم لها بالتعظيم والعكوف والتبرك، وبهذه الأمور الثلاثة عبدت الأشجار ونحوها، فظنوا أن هذا الأمر محبوب عند الله، فقصدوا التقرب به، فأقسم صلى الله عليه وسلم أن طلبتهم كطلبة بني إسرائيل، بجامع أن كلا طلبه أن يجعل له ما يألهه ويعبده من دون الله، وإن اختلف اللفظان، فالمعنى واحد، فتغيير الاسم لا يغير الحقيقة.
ففي هذا الحديث دلالة واضحة على أن طلبتهم من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم ذات أنواط، يتبركون بها، كطلبة بني إسرائيل من موسى أن يجعل لهم إلهاً، فأقسم صلى الله عليه وسلم أن مقالة هؤلاء كمقالة أولئك سواء بسواء، وإذا كان القصد من الشرك بالشيء -كالتبرك مثلاً- هو القصد من التأله به، كان الكل عبادة يتقرب بها إلى الله، فالفرق بين العبادتين
ص -412-
لاختلاف اللفظين تحكم بغير دليل، فقد اتضح عدم الفرق في هذه القضية، فانجلت الشبهة العراقية.
وأما قوله: (الخامس: أن المشركين لما كانوا يقصدون أن الله تعالى جسم في السماء، أرادوا بقولهم: ليقربونا إلى الله زلفى. التقرب الحقيقي، ويدل عليه تأكيده بقولهم: (زلفى) إذ تأكيد الشيء بما ظاهره معناه يدل في الأكثر على أن المقصود به هو المعنى الحقيقي دون المجازي، فإذا قلنا: قلته قتلاً، تبادر القتل الحقيقي إلى الفهم، لا الضرب الشديد، بخلاف ما لو قلنا: قلته فقط. فإنه قد يراد به الضرب الشديد، وأما المسلمون فحيث لم يقصدوا أن الله جسم في السماء، بعد منهم أن يطلبوا التقرب الحقيقي إليه بالتوسل، فلا ينطبق عليهم حكم الآية).
نعم. إن الوهابية لما اعتقدت أن الله تعالى جسم استوى على عرشه في السماء، لم تجد للتبرك الذي قصده المسلمون بتوسلهم معنى غير التقرب الذي يكون إلى الأجسام، ولذلك جعلت هذه الآية منطبقة عليهم).
فالجواب أن يقال: قد كان من المعلوم أن مشركي
ص -413-(56/11)
الجاهلية لا يعرفون من لفظ الجسم ما أحدثه هؤلاء المتأخرون من أنه مركب إما من المادة والصورة، أو من الجواهر المنفردة، أو ما تركب من أجزاء متفرقة، ولا كانوا يعرفون ما أحدثه هؤلاء من لفظ "الأعراض" و"الأغراض" و"الأبعاض" و"الحيز" و"الجهة". وإنما يعرف هذا عن1 ورثة المجوس، والمشركين وضلال اليهود، والنصارى والصابئين، وأفراخ المتفلسفة، وأتباع الهند، واليونان، وأما العرب الذين نزل القرآن بلغتهم، فإن الجسم معناه في لغتهم البدن الكثيف، الذي لا يسمى في اللغة جسم سواه، فلا يقال للهواء جسم لغة، ولا للنار ولا للماء.
وإذا كان ذلك كذلك، كان هذا المعنى منفياً عن الله تعالى عقلاً وسمعاً.
وكذلك ما يعني هؤلاء الملاحدة بالجسم أنه مركب إما2 من المادة والصورة والهيولي، أو من الجواهر المنفردة3، أو من الأجزاء المتفرقة: منفي عن الله تعالى باتفاق من أثبته ومن نفاه من العقلاء، حتى في الممكنات.
فإذا تمهد هذا فالكفار الجهال كانوا أصح عقولاً،
__________
1 في ط الهند "من".
2 سقطت "إما" من ط الرياض.
3 في النسختين: (الفردة).
ص -414-
وأسلم فطراً من ورثة المتفلسفة، والصابئين، وأنباط فارس، والروم، فإنهم كانوا يعلمون بفطرهم التي فطروا عليها أن الله الذي خلقهم وأوجدهم: فوق السماء، كما قال صلى الله عليه وسلم لحصين الخزاعي: "كم كنت تعبد؟" قال: سبعة، ستة في الأرض وواحد في السماء. قال: "من كنت تعد لرغبتك ورهبتك؟" قال: الذي في السماء1.
وكانوا إذا لجئوا إلى الله ودعوه رفعوا أبصارهم وأيديهم إلى السماء. ومن أشعارهم قول أمية بن أبي الصلت الثقفي، الذي أنشد للنبي صلى الله عليه وسلم فاستحسنه، وقال: "آمن شعره وكفر2 قلبه" قال3:(56/12)
__________
1 أخرجه الترمذي في سننه كتاب الدعوات 5/519 من طريق أبي معاوية عن شبيب بن شيبة عن الحسن البصري عن عمران بن حصين... الحديث.
وقال عقبه: هذا حديث غريب.
وقد روى هذا الحديث عن عمران بن حصين من غير هذا الوجه. اهـ.
وأخرجه البخاري في التاريخ الكبير من هذا الطريق أيضاً، واختصر المتن 3/3.
وأخرجه أحمد في المسند 4/444 من طريق منصور عن ربعي بن حراش عن عمران بن حصين أو غيره... الحديث، وليس فيه سؤال النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه زيادة في الدعاء الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم له.
وأخرجه الحاكم من هذا الطريق أيضاً، وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين وأقره الذهبي. المستدرك 1/510.
2 في ط الرياض "وكفن".
3 ذكره الذهبي في العلو ص: 42-43 وقال: إسناده منقطع. ورواه ابن عبد البر في التمهيد 4/7، وابن عساكر الكنز 1/1524، وتهذيب تاريخ دمشق 3/124.
وروى البخاري ومسلم: "كاد أمية أن يسلم".
ص -415-
مجدوا الله فهو للمجد أهل
ربنا في السماء أمسى كبيراً
بالبناء الأعلى الذي سبق النا
س وسوى فوق السماء سريرا
شرجعاً ما يناله بصر العـ
ـين ترى دونه الملائك صورا
وقول عبد الله بن رواحة رضي الله عنه حين قال:
شهدت بأن وعد الله حق
وأن النار مثوى الكافرينا
وأن العرش فوق الماء طاف
وفوق العرش رب العالمينا1
وإذا كان العرب يعرفون بفطرهم أن الله فوق السماء، ولا كانوا يعرفون ما أحدثه هؤلاء من لفظ الجسم على اصطلاحهم الحادث الملعون، واختلافهم في ذلك، كان تفريعاً باطلاً على تأصيل باطل مخترع، فكان2 من المعلوم
__________
1 ذكره ابن عبد البر في الاستيعاب 3/900-902 ط البجاوي، وقال: (قصته مشهورة رويناها من وجوه صحاح)، وأسنده الذهبي في السير 1/237-238 وقال في العلو ص: 42 وجوهه مرسلة.
2 في ط الرياض: "وكان".
ص -416-(56/13)
أن المشركين إنما اتخذوا من دونه أولياء يعبدونهم إنما هو بطلب القربة والمنزلة عند الله، بشفاعة من يعبدونه، والقربى هي المنزلة، فكان من المعلوم أنهم ما طلبوا منزلة مجازية لا حقيقة لها في الخارج.
قال البغوي رحمه الله في تفسير هذه الآية: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاء}[الزمر: 3]، يعني: الأصنام {مَا نَعْبُدُهُمْ}[الزمر: 3]، أي قالوا ما نعبدهم: {إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]،وكذلك قرأ ابن مسعود وابن عباس. قال قتادة: وذلك أنهم كانوا إذا قيل لهم: من ربكم ومن خلقكم، ومن خلق السموات والأرض؟ قالوا: الله، فيقال لهم: فما معنى عبادتكم الأوثان؟ قالوا: ليقربونا إلى الله زلفى. أي قربى، وهو اسم أقيم مقام المصدر، كأنه قال: إلا ليقربونا إلى الله تقريباً ويشفعوا لنا عند الله.
وبهذا يندفع توهم هذا العراقي أن التقرب بالمعنى المجازي، لا على المعنى الحقيقي، لأنه لا يعتقد أن الله على عرشه، بائن من خلقه، فلذلك ظن أن1 المشركين كانوا يعتقدون أن الله في السماء على عرشه فوق خلقه، وإذا كان على عرشه فوق خلقه كان جسماً، وقد بينا فيما
__________
1 سقطت "أن" من ط الرياض.
ص -417-(56/14)
تقدم بطلان ما توهمه من اللوازم التي أحدثوها، ما أنزل الله بها من سلطان {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ}[النجم: 23].
وإذا تبين لك ما قدمناه، كان حكم الآية منطبقاً1 على هؤلاء المشركين، الذين يزعم هذا الملحد أنهم مسلمون.
وأيضاً فإن هذا الملحد، ومن نحا نحوه من المشركين، حيث أنكروا التقرب الحقيقي، فمرادهم أنه ليس فوق السموات رب، ولا على العرش إله، ولا يشار إليه بالأصابع إلى فوق إشارة حسية، كما أشار إليه أعلم الخلق به، ولا ينزل منه شيء، ولا يصعد إليه شيء، ولا تعرج الملائكة والروح إليه، ولا رفع المسيح إليه، ولا عرج برسول الله صلى الله عليه وسلم إليه حقيقة، ولا يتقرب إليه بشيء، ولا يقرب منه أحد، لأنه يلزم على هذا عندهم أن يكون جسماً، وقد علم بالاضطرار أن الله لا سمي له، ولا كفو له، ولا مثل له، فإنه أحد صمد، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، فلا ننفي عن الله ما أثبته لنفسه لتسمية الملاحدة أعداء الله ورسوله للموصوف بها جسماً، وهؤلاء الضلال قد جمعوا بين الشرك في الإلهية، وبين تعطيل الرب عن صفات كماله، ونعوت جلاله، فكان المشركون
__________
1 في ط الهند "منطبق".
ص -418-
الأولون أخف شركاً منهم، لأنهم ما أنكروا علو الله على عرشه، ولا عطلوه من صفات كماله.
ص -419-(56/15)
فصل
قال الملحد: (ويجدر بنا أن نبين هنا أنواع الشرك، فنقول: منها ما يقال له: شرك الاستقلال، وهو إثبات إلهين مستقلين، كشرك المجوس. ومنها: شرك التبعيض، وهو تركيب الإله من عدة آلهة، كشرك النصارى. ومنها: شرك التقريب، وهو عبادة غير الله تعالى ليقرب إلى الله زلفى، كشرك الجاهلية. والشرك الذي جعلته الوهابية أصلاً لشرك المستغيث والمتوسل، وبنت عليه قاعدتها، هو شرك التقريب الذي دانت به الجاهلية).
والجواب أن نقول: هذا التقسيم بهذا اللفظ لم أجده في شيء من كتب أهل الإسلام، الذين هم الأسوة، وبهم القدوة، ولم ينسبه إلى عالم من علماء الإسلام، وإنما هو تنويع عراقي، وفيه من التقصير والقصور ما لا يخفى.
وإذا كان هذا مبلغ علمه، ومحصول ما لديه، تعين أن نذكر من أقوال أهل العلم ما يبين تخليط هذا العراقي
ص -420-(56/16)
وتخبيطه، حيث اعتقد أن ما يفعله المشركون في هذه الأزمان ليس من الشرك، فنقول: اعلم أن ضد التوحيد الشرك، وهو ثلاثة أنواع: شرك أكبر، وشرك أصغر، وشرك خفي.
والدليل على الشرك الأكبر قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً} [النساء:116]. {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72].
وهو أربعة أنواع: شرك الدعوة. والدليل على ذلك قوله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت:65].
النوع الثاني: شرك النية والإرادة والقصد. والدليل قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ. أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15-16].
النوع الثالث: شرك الطاعة. والدليل قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ
ص -421-
مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31]، وتفسيرها الذي لا إشكال فيه طاعة العلماء والعباد في المعصية، لا دعاؤهم إياهم، كما فسرها النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم لما سأله قال: لسنا نعبدهم. فذكر أن عبادتهم طاعتهم في المعصية1.(56/17)
__________
1 أخرجه الترمذي في سننه كتاب التفسير 5/278، وابن جرير الطبري في تفسيره 10/114، والطبراني في الكبير 17/92، والبيهقي في سننه كتاب آداب القاضي 10/116، كلهم من طريق عبد السلام بن حرب عن غطيف بن أعين عن مصعب بن سعد عن عدي بن حاتم قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: "يا عدي اطرح عنك هذا الوثن" وسمعته يقرأ في سورة براءة: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} قال: "أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئاً حرموه. هذا لفظ الترمذي. وهذا إسناد ضعيف علته غطيف بن أعين وقيل غضيف ضعفه الدارقطني وغيره -وبه أعل الترمذي هذا الحديث فقال عقبه: (هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب، وغطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث) اهـ. وعبد السلام بن حرب ثقة إمام حافظ إلا أن له مناكير.
والحديث عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/174 لابن سعد، وعبد بن حميد وابن المنذر، وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه. وعزاه ابن كثير في تفسيره 2/348 للإمام أحمد ولم أجده في مسند عدي. والله أعلم.
وللحديث شاهد من حديث حذيفة موقوفاً أخرجه -كما في الدر المنثور 4/174- عبد الرزاق والفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في سننه كلهم من طريق أبي البختري سعيد بن فيروز قال: سأل رجل حذيفة رضي الله عنه فقال: أرأيت قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ...} الآية. أكانوا يعبدونهم؟ قال: لا، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه، وإذا حرموا عليهم شئياً حرموه.
وأخرجه من هذا الطريق ابن جرير في تفسيره 10/114-115 وإسناده ضعيف للانقطاع بين أبي البختري وحذيفة. فإن أبا البختري لم يسمع من حذيفة إنما أرسل عنه، كما في تهذيب الكمال للمزي، وجامع التحصيل.
ثم عزا(56/18)
السيوطي في الدر أثر حذيفة هذا إلى أبي الشيخ والبيهقي في شعب الإيمان، والذي يظهر من صنيع السيوطي أنه من طريق آخر غير طريق أبي البختري فلينظر.
وقد حسن شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية هذا الحديث كما في كتابه الإيمان ص 64 وعلى معنى هذا الحديث جمهور المفسرين. والله أعلم.
ص -422-
النوع الرابع: شرك المحبة. والدليل قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّه} [البقرة: 165].
وأما النوع الثاني: فهو الشرك الأصغر، وهو الرياء. والدليل قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف: 110]، وهو أنواع.
ص -423-
والنوع الثالث: الشرك الخفي. والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النملة السوداء، على صفاة1 سوداء، في ظلمة الليل". وكفارته قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً وأنا أعلم، وأستغفرك من الذنب الذي لا أعلم".
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: الشرك شركان: شرك يتعلق بذات المعبود وأسمائه وصفاته وأفعاله. وشرك في عبادته ومعاملته، وإن كان صاحبه يعتقد أنه سبحانه لا شريك له في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله.
والشرك الأول نوعان: أحدهما شرك التعطيل، وهو أقبح أنواع الشرك، كشرك فرعون إذ قال وما رب العالمين؟ وقال تعالى مخبراً عنه إنه قال: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ. أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً} [غافر:36-37].
فالشرك والتعطيل متلازمان، فكل مشرك معطل، وكل معطل مشرك، لكن الشرك لا يستلزم أصل التعطيل، بل قد يكون المشرك مقراً بالخالق سبحانه، وصفاته، ولكن عطل حق التوحيد.(56/19)
__________
1 في ط الهند "صفات".
ص -424-
وأصل الشرك وقاعدته التي يرجع إليها هو: التعطيل، وهو ثلاثة أقسام: تعطيل المصنوع عن صانعه وخالقه. وتعطيل الصانع سبحانه عن كماله المقدس بتعطيل أسمائه وصفاته، وأفعاله، وتعطيل معاملته عما يجب على العبد من حقيقة التوحيد.
ومن هذا الشرك شرك طائفة أهل وحده الوجود الذين يقولون ما ثم خالق ومخلوق ولا ههنا شيئان بل الحق المنزه هو عين الخلق المشبه.
ومنه شرك الملاحدة القائلين بقدم العالم وأبديته، وأنه لم يكن معدوماً أصلاً، بل لم يزل ولا يزال، والحوادث بأسرها مستندة عندهم إلى أسباب ووسائط اقتضت إيجادها، يسمونها العقول والنفوس.
ومن هذا شرك من عطل أسماء الرب تعالى وأوصافه وأفعاله، من غلاة الجهمية والقرامطة، فلم يثبتوا له اسماً ولا صفة، بل جعلوا المخلوق أكمل منه، إذ كمال الذات بأسمائها وصفاتها.
ص -425-
فصل1
النوع الثاني: شرك من جعل معه آلهاً آخر، ولم يعطل أسماءه وربوبيته وصفاته، كشرك النصارىالذين جعلوه ثالث ثلاثة، فجعلوا المسيح إلهاً والله إلها، وأمه إلهاً، ومن هذا شرك المجوس القائلين بإسناد حوادث الخير إلى النور، وحوادث الشر إلى الظلمة.
قلت: فانظر إلى كلام شمس الدين ابن القيم، وإلى كلام هذا الملحد، حيث قال: (منها شرك الاستقلال، وهو إثبات إلهين مستقلين، كشرك المجوس، ومنها شرك التبعيض، وهو تركيب الإله من عدة آلهة، كشرك النصارى)، وبهذا تعرف أنه ما عرف أنواع الشرك ولا أقسامه.
ثم قال ابن القيم: ومن هذا شرك القدرية القائلين بأن الحيوان هو الذي يخلق أفعال نفسه، وأنها تحدث بدون مشيئة الله وتقديره وإرادته، ولهذا كانوا من أشباه المجوس. ومن هذا شرك الذي حاج إبراهيم في ربه: {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي(56/20)
__________
1 كذا في النسخ، وحذفها أولى لأن الكلام متصل غير منقطع.
ص -426-
وَأُمِيتُ} [البقرة: 258] فهذا جعل نفسه -مثلاً لله، يحيى ويمين -بزعمه- كما يحيى الله ويميت، فألزمه إبراهيم -عليه السلام ورحمة الله وبركاته- أن طرد قولك أن تقدر على الإتيان بالشمس من غير الجهة التي يأتي الله بها، وليس هذا انتقالاً -كما زعمه بعض أهل الجدل- بل إلزاماً على طرد الدليل -إن كان حقاً- ومن هذا شرك كثير ممن يشرك بالكواكب العلويات، ويجعلها أرباباً مدبرة لأمر هذا العالم، كما هو مذهب مشركي الصابئة، وغيرهم. ومن هذا شرك عباد الشمس وعباد النار وغيرهم، ومن هؤلاء من يزعم أن معبوده هو الإله على الحقيقة، ومنهم من يزعم أنه أكبر الآلهة، ومنهم من يزعم أنه إله من جملة الآلهة، وأنه إذا خصه بعبادته والتبتل إليه والانقطاع إليه، أقبل عليه واعتنى به، ومنهم من يزعم أن معبوده الأدنى يقربه إلى المعبود الذي فوقه، والفوقاني يقربه إلى من فوقه، حتى تقربه تلك الآلهة إلى الله سبحانه، فتارة تكثر الوسائط، وتارة تقل.
ثم ذكر الشرك في العبادة وأنواعه، وهو الشرك الخفي، وذكر أن منه ما ينقسم إلى كبير وأكبر، وليس منه شيء مغفور، كالشرك بالله في المحبة.
ثم ذكل الشرك بالله سبحانه في الأقوال والأفعال، والإرادات والنيات، وأن منه ما هو أكبر وأصغر، تركنا
ص -427-(56/21)
ذكر ذلك طلباً للاختصار، فمن أراد الوقوف عليه فهو في "الجواب الكافي والدواء الشافي" وبما ذكرناه يتبين لكل منصف أن هذا العراقي مزجي البضاعة من العلوم النبوية، والعقائد السلفية، وأنه لا دراية له ولا رواية1.
وحيث أنه ما عرف من الشرك إلا ما ذكره من هذه الأنواع التي خبط فيها خبط عشواء، صار ما عداه عنده ليس من الشرك، وأن ما عداها من الأمور الشركية -المخرجة من الملة التي هي أعظم وأدهى- لا تخرج من الملة، لكونه قد تلبس بها، وتضمخ بوضرها، فلذلك2 كان يسمي أهلها هم المسلمون عنده.
فمن تلك الأمور التي ما ذكرها، ولا عرف أنها من الكفر المخرج من الملة: الشرك الذي يتعلق بذات المعبود، وأسمائه وصفاته وأفعاله كتعطيله سبحانه عن كماله المقدس بتعطيل أسمائه وصفاته وأفعاله، وتعطيل معاملته عما يجب على العبد من حقيقة التوحيد.
ومنها: الشرك بالله في المحبة والتعظيم، بأن يحب مخلوقاً كما يحب الله، فهذا من الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله، وغير ذلك من الأمور الشركية التي تقدم ذكرها.
__________
1 في ط الرياض "لا درية ولا روية".
2 في ط الرياض "فذلك".
ص -428-
فإذا عرفت ذلك تبين لك ضلال هؤلاء الملاحدة الذين أشربت قلوبهم عداوة أهل التوحيد، ولقبوهم بالألقاب الشنيعة، ورموهم بالعظائم التي لا ترام ولا تطاق، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ص -429-(56/22)
فصل
قال العراقي: (والأمر الذي حمل الجاهلية على شركها هذا هو تسويل الشيطان لها: أن عبادة غير الله تعالى على ما هي عليه من غاية الضعف والعجز، وتركها التقرب إليه بعبادة من هو أعلى منها عنده وأشرف وأقوى، كنحو الملائكة إنما هو سوء أدب، ولكن لما رأت غيبة من عبدته عنها دائماً أو بعض الأوقات صنعت الأصنام أمثلة لما غاب عنها من معبوداتها فعبدتها).اهـ.
والجواب أن نقول: ليس الأمر كما زعمت، ولا ما إليه ذهبت، وإنما الأمر الذي حمل الجاهلية على شركها هو الغلو في الصالحين، كما قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء: 171] الآية. والغلو هو الإفراط في التعظيم بالقول والاعتقاد، أي لا ترفعوا المخلوق عن منزلته التي أنزله الله، فتنزلوه المنزلة التي لا تنبغي إلا لله.
والخطاب وإن كان لأهل الكتاب، فإنه عام يتناول
ص -430-(56/23)
جميع الأمة، تحذيراً لهم أن يفعلوا بنبيهم صلى الله عليه وسلم فعل النصارى في عيسى، واليهود في العزير، كما قال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16].
وفي الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} [نوح:23]- صارت الأوثان التي في قوم نوح في العرب بعد، أما "ود" فكانت لكلب بدومة الجندل. وأما "سواع" فكانت لهذيل. وأما "يغوث" فكانت لمراد، ثم لبني غطيف بالجرف عند سبا. وأما "يعوق" فكانت لهمدان. وأما "نسر" فكانت لحمير لآل ذي الكلاع:
هذه أسماء رجال صالحين في قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً، وسموها بأسمائهم، ففعلوا ولم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عُبدت.
قال ابن جرير رحمه الله: حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا مهران، عن سفيان، عن موسى بن محمد بن قيس، أن يغوث ويعوق ونسراً كانوا قوماً صالحين من بني آدم،
ص -431-(56/24)
وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم: لو صورنا صورهم كان أشوق لنا إلى العبادة، فصوروهم فلما ماتوا، وجاء آخرون دب إليهم إبليس، فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يسقون المطر، فعبدوهم. انتهى.
فالشيطان هو الذين زين لهم عبادة الأصنام، وأمرهم بها، فصار هو معبودهم في الحقيقة، كما قال تعالى: {أَلَم أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ. وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} [يس:60-61-62]. وهذا يفيد الحذر من الغلو، ووسائل الشرك، وإن كان القصد بها حسناً، فإن الشيطان أدخل أولئك في الشرك من باب الغلو في الصالحين، والإفراط في محبتهم –كما قد وقع مثل ذلك في هذه الأمة- أظهر لهم الغلو والبدع في قالب تعظيم الصالحين ومحبتهم، ليوقعهم فيما هو أعظم من ذلك من عبادتهم لهم من دون الله.
وفي رواية أنهم قالوا: ما عظم أولونا هؤلاء إلا وهم يرجون شفاعتهم عند الله. أي يرجون شفاعة أولئك الصالحين الذي صوروا تلك الأصنام على صورهم، وسموها بأسمائهم، ومن هنا يعلم أن اتخاذ الشفعاء ورجاء شفاعتهم بطلبها منهم شرك بالله.
ص -432-(56/25)
قال ابن القيم رحمه الله: وما زال الشيطان يوحي إلى عباد القبور، ويلقي أن البناء والعكوف عليها من محبة أهل القبور، من الأنبياء والصالحين، وأن الدعاء عندها مستجاب، ثم ينقلهم من هذه المرتبة إلى الدعاء بها، والإقسام على الله بها، فإن شأن الله أعظم من أن يقسم عليه، أو يسأل بأحد من خلقه.
فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى دعائه، وعبادته، وسؤاله الشفاعة من دون الله، واتخاذ قبره وثناً تعلق عليه القناديل والستور، ويطاف به، ويستلم ويقبل، ويحج إليه ويذبح عنده.
فإذا تقرر هذا عندهم، نقلهم إلى دعاء الناس إلى عبادته، واتخاذه عيداً ومنسكاً ورأوا أن ذلك أنفع لهم في دنياهم وأخراهم، وكل هذا مما قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أنه مضاد لما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من تجريد التوحيد، وأن لا يعبد إلا الله.
فإذا تقرر ذلك عندهم، نقلهم منه إلى أن من نهى عن ذلك فقد تنقص أهل الرتب العالية، وحطهم عن منزلتهم، وزعم أنه لا حرمة لهم، ولا قدر، وغضب المشركون، واشمأزت قلوبهم، كما قال تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ
ص -433-(56/26)
وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر: 45] وسرى ذلك في نفوس كثير من الجهال والطغام، وكثير ممن ينتسب إلى العلم والدين، حتى عادوا أهل التوحيد، ورموهم بالعظائم، ونفروا الناس عنهم، ووالوا أهل الشرك وعظموهم، وزعموا أنهم أولياء الله، وأنصار دينه ورسلون، ويأبى الله ذلك: {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} [الأنفال: 34]. انتهى كلام ابن القيم رحمه الله تعالى.
ثم قال العراقي: (إذا تحققت هذا؛ اتضح لك أن حال مشركي الجاهلية لا ينطبق بوجه من الوجوه على المسلمين المتوسلين إلى الله بالأنبياء والصالحين).
فأقول: قد تقدم جواب هذا.
وقوله: (فأولئك اتخذوا الأصنام آلهة. والإله معناه: المستحق للعبادة، فهم اعتقدوا استحقاق الأصنام للعبادة، واعتقدوا أولاً أنها تضر وتنفع، فعبدوها).
فأقول: إن أولئك اتخذوا الأصنام والملائكة والأنبياء والأولياء والصالحين آلهة يعبدونها من دون الله، والإله
ص -434-(56/27)
معناه: الذي تألهه القلوب بالمحبة والخضوع والخوف والرجاء، وتوابع ذلك من الرغبة والرهبة والتوكل والاستغاثة، والدعاء والذبح والنذر والسجود، وجميع أنواع العبادة الباطنة والظاهرة، فهو إله بمعنى: مألوه. أي: معبود، وأجمع أهل اللغة أن هذا معنى الإله.
قال الجوهري: أله بالفتح، إلاهة، أي: عبد عبادة، قال: ومنه قولنا: الله. وأصله: إلاه، على فعال، بمعنى: مفعول، لأنه مألوه، بمعنى: معبود، كقولنا إمام: فعال، بمعنى: مفعول، لأنه مؤتم به. قال: والتأليه: التعبيد، والتأله: التنسك والتعبد. قال رؤبة:
سبحن واسترجعن من تأله
انتهى.
وقال في القاموس: أله إلهة، وألوهة: عبد عبادة، ومنه لفظ "الجلالة"، واختلف فيه على عشرين قولاً –يعني في لفظ الجلالة- قال: وأصله: إله بمعنى: مألوه، وكل ما تخذ معبوداً إله عند متخذه. قال: والتأله: التنسك والتعبد. انتهى.
وجميع العلماء من المفسرين، وشراح الحديث والفقه وغيرهم، يفسرون "الإله" بأنه المعبود.
فإذا كان هذا هو معنى "الإله" في اللغة، والشرع، فهو
ص -435-(56/28)
المستحق للعبادة –المتقدم ذكرها- دون من سواه، فمن صرف منها شيئاً لغير الله فقد أشرك ذلك الغير في عبادة الله.
وأما كون المشركين اعتقدوا أن آلهتهم تنفع وتضر، فغير مسلم، فإنهم قد اعترفوا أن الله هو النافع الضار، وأنه المستحق للعبادة، ولكنهم ما أرادوا ممن عبدوه إلا الجاه والشفاعة، وليقربوهم إلى الله زلفى، كما هو قول المشركين في هذه الأزمان سواء بسواء.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو كان فيهم من أتى أمه علانية لكان في هذه الأمة من يفعله". وفي لفظ: "حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه". قالوا يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: "فمن".
وقوله: (فاعتقادهم هذا، وعبادتهم إياها، أوقعهم في الشرك، فلما أقيمت عليهم الحجة بأنها لا تملك نفعاً ولا ضراً، قالوا: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى).
فأقول: لما أقام الله عليهم الحجة بإقرارهم أن الله هو المحيي المميت، الدبر لجميع الأمور، وأن الله هو النافع الضار، وأن آلهتهم لا تملك لهم نفعاً ولا ضراً، ولا
ص -436-(56/29)
حياة ولا نشوراً، واعترفوا بذلك، قال الله تعالى: {أَفَلا تَتَّقُونَ} أي: تتقون الشرك في العبادة، فإن الفاعل لهذه الأشياء هو الذي يستحق العبادة دون من سواه، فقول الكفار: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}[الزمر: 3]، كقول مشركي هذه الأزمان: لسنا نعبد إلا الله، ولكن ما قصدنا بزيارة قبورهم إلا التوسل بهم إلى الله تعالى، والتبرك بهم، لكونهم أحباء الله المقربين، الذين اصطفاهم واجتباهم.
وقوله: (فكيف يجوز للوهابية أن تجعل المؤمنين الموحدين مثل أولئك المشركين).
فأقول: ما جعلت الوهابية المؤمنين الموحدين مثل المشركين، وإنما جعلت من فعل فعل المشركين مشركاً، لكونه حذا حذو أولئك في صرف خالص حق الله تعالى، ويزعم أنه ما أراد إلا الجاه والشفاعة منهم، لأنهم مقربون عند الله.
وقوله: (إذ لا شك أن المشركين إنما كفروا بسبب عبادتهم تماثيل الأنبياء والملائكة والأولياء، التي صوروها
ص -437-
على صورهم، وسجدوا لها، وذبحوا، وبسبب1 اعتقادهم في الملائكة والأنبياء2 والأولياء أنهم آلهة مع الله يضرون وينفعون3 بذواتهم).
فأقول: وهؤلاء المشركون في هذه الأزمان إنما كفروا بسبب غلوهم في الأنبياء والأولياء والصالحين، والعكوف على قبورهم، واستغاثتهم4 بهم، والالتجاء إليهم، ودعائهم والذبح لهم، والنذر لهم، إلى غير ذلك من أنواع العبادة التي كانوا يفعلونها في هذه الأزمان عند ضرائح الأولياء والصالحين.
فإن من صرف من هذه العبادة شيئاً لغير الله كان مشركاً، وإن اعتقد أن من يدعوه ويستغيث به، ويرجوه ويذبح له ويلجأ إليه، ويعلق آماله به، لا يضر ولا ينفع، وأنه ليس إلها، ولا يستحق العبادة.
وقوله: (ولذلك احتج الله تعالى على إبطال قولهم، وضرب الأمثال للرد على معتقدهم في كثير من الآيات،(56/30)
__________
1 في ط الرياض "وسبب".
2 في الأصل "في الأنبياء والملائكة".
3 في الأصل "وينفون".
4 في الأصل "واستعانتهم".
ص -438-
بأن الإله المستحق للعبادة يجب أن يكون قادراً على كشف الضر، وإيصال النفع لمن عبده، وبأن ما عبدوه من جملة المحدثات المنافية للربوبية).
فأقول: وهذا هو الحق، ولكنه مع كونه منافياً للربوبية، فهو مناف للألوهية، فكيف إذا عرفت أن هذا مناف للربوبية لأي شيء صرفك عن كونه منافياً لتوحيد الإلهية، لأن توحيد الربوبية هو الإقرار والاعتراف، بأن الله هو الخالق الرازق، المحيي المميت، المدبر لجميع الأمور، وأنه النافع الضار، وأنه رب كل شيء ومليكه، وأنه المتفرد بالإيجاد والإعدام، إلى غير ذلك من أفعال الرب.
وأما توحيد الإلهية فهو أن يوحد العبد ربه بأفعاله الصادرة منه، كالدعاء والخوف والرجاء والحب، والتعظيم والاستغاثة والاستعاذة والاستعانة، والتوكل والذبح والنذر والرغبة والرهبة، والخضوع والخشوع، والالتجاء، وغير ذلك من أنواع العبادة التي صرفها المشركون الأولون والآخرون لغير الله.
وأما قوله: (وأما المستغيث والمتوسل فهو1 براء من هذه العبادة وهذا الاعتقاد).
__________
1 في الأصل "منهم".
ص -439-(56/31)
فأقول: المستغيث والمتوسل –على لغة هؤلاء المشركين- ليس هو برئياً من هذه العبادة وهذا الاعتقاد، لأن الاستغاثة هي طلب الغوث، وهو1 إزالة الشدة كالاستنصار طلب النصر، والاستعانة طلب العون، قاله شيخ الإسلام ابن تيمية.
ومن المعلوم بالضرورة أن الله تعالى هو الذي يزيل الشدات، ويغيث اللهفات، ويفرج الكربات، فمن زعم أن الاستغاثة ليست من العبادات فهو مكابر للحسيات، مباهت في الضروريات. وفي الدعاء المشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في دعائه: "اللهم أنت المستعان، وبك المستغاث، وإليك المشتكى" الحديث. ودعاء المسلمين: يا غياث المستغيثين، وقد قال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [الأنفال: 9]. فعدم إدخالها في جملة العبادة هو التحكم والمكابرة، من غير دليل عقلي، ولا نص شرعي.
وقوله: (إذ الآيات التي استدلت بها الوهابية إنما نزلت جميعاً في الكفار الذين عبدوا غير الله، وإن قصدوا بعبادتهم ذلك الغير التقرب إليه تعالى، وفي الذين اعتقدوا
__________
1 سقطت "هو" من الأصل.
ص -440-
أن مع الله إلهاً آخر، وأن له ولداً وزوجة، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً).
فأقول: قد تقدم الجواب عن هذا، وأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وقوله: (وليس في الآيات النازلة في الكفار دلالة على كون الاستغاثة بنبي أو ولي مع الإيمان بالله تعالى هي عبادة لغير الله).
فأقول: بل فيها الدلالة الواضحة على أن من صرف لغير الله شيئاً من العبادة التي لا يستحقها إلا الله فهو مشرك، فإن صرفها لغير الله مناف للإيمان بالله تعالى.
ص -441-
فصل
ثم قال العراقي: (قالت الوهابية: إن الاستغاثة من نوع الدعاء، وقد ورد في الحديث: "أن الدعاء هو العبادة"1 فالذي يستغيث بنبي أو ولي فهو إنما يعبده بتلك(56/32)
__________
(1 أخرجه الإمام أحمد في مسنده 4/267-271-276-277، وأبو داود في سننه –كتاب الصلاة- 2/161، والترمذي في سننه –كتاب التفسير 5/211، وفي –كتاب الدعاء- 5/456، وابن ماجه في سننه –كتاب الدعاء 2/1258، وابن المبارك في الزهد ص 459، والطيالسي في مسنده ص 108، وابن أبي شيبة في المصنف 10/200، والبخاري في الأدب المفرد 2/178، وابن جرير الطبري في تفسيره 24/78-79، وابن حبان في صحيحه –الموارد- ص 595، والطبراني في الصغير 2/97، والحاكم في مستدركه 1/490-491، والبغوي في شرح السنة 5/184، وفي تفسيره –حاشية ابن كثير- 7/309، والقضاعي في مسند الشهاب 1/51، وأبو نعيم في الحلية 8/120، جميعهم من طريق يسيع بن معدان عن النعمان بن بشير مرفوعاً... به وسنده صحيح.
وصححه الحاكم وأقره الذهبي، وقال الترمذي حسن صحيح، وصححه النووي، كما في الأذكار، وقال الحافظ في الفتح: إسناده جيد 1/49، وحسنه السخاوي –كما في شرح الأذكار- لابن علان 7/191.
والحديث عزاه السيوطي في الدر المنثور 7/301 لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبي نعيم في الحلية 8/120، والبيهقي في شعب الإيمان كلهم عن النعمان بن بشير... به.
وأخرجه الخطيب في التاريخ 12/279، وابن مردويه –كما في الدر- 7/301، وأبو يعلى –كما في شرح الأذكار- 7/191 عن البراء بن عازب رضي الله عنه.
ص -442-(56/33)
الاستغاثة، وحيث إن العبادة لا تصلح إلا لله وحده، وإن عبادة غيره شرك كان المستغيث بغيره1 مشركاً.
ثم قال: فالجواب على هذا: أن ضمير الفصل إنما يفيد قصر المسند على المسند إليه، وكذا تعريف الخبر، كما ذكره صاحب "المفتاح" وعليه الجمهور، فقولنا: الله هو الرازق مثلاً، معناه لا رازق سواه، وعلى هذا: فقوله عليه الصلاة والسلام : "الدعاء هو العبادة" دال على أن العبادة مقصورة على الدعاء، فيكون المراد من الحديث أن العبادة ليست غير الدعاء، ويؤيده قوله تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ2 بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ} [الفرقان: 77] أي ما يصنع بكم لولا عبادتكم، فإن شرف الإنسان بعبادته، وكرامته بمعرفته وطاعته، وإلا فلا فضل له على البهائم، والحج والصلاة، والزكاة والصيام والشهادة،
__________
1 في ط الرياض "به".
2 في الأصل "يعباؤ".
ص -443-
كلها دعاء، وكذلك التلاوة والأذكار، والطاعة، فانحصرت1 العبادة في الدعاء. إذا تقرر هذا فلا حجة في الحديث، إذ على تقدير كون الاستغاثة من نوع الدعاء كما قالته الوهابية، لا يلزم أن تكون عبادة، لما أن الدعاء قد لا يكون عبادة كما هو ظاهر...) إلى آخر كلامه.
والجواب أن نقول: الاستغاثة هي طلب الغوث، وهو إزالة الشدة، كالاستنصار: طلب النصر، والاستعانة: طلب العون. كما تقدم ذكره عن شيخ الإسلام رحمه الله.
وقال غيره: الفرق بين الاستغاثة والدعاء: أن الاستغاثة لا تكون إلا من المكروب، والدعاء أعم من الاستغاثة، لأنه يكون من المكروب وغير المكروب، فعطف الدعاء على الاستغاثة من عطف العام على الخاص، فبينهما عموم وخصوص مطلق، يجتمعان في مادة، وينفرد الدعاء عنها في مادة، فكل استغاثة دعاء، وليس كل دعاء استغاثة.
فإن تبين لك أن بينهما عموماً وخصوصاً مطلقاً2، وأن كل استغاثة دعاء، وقد علمت أن الدعاء هو العبادة بنص(56/34)
__________
1 في الأصل" فانحصرة".
2 في الأصل: "مطلق".
ص -444-
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاعلم أن الدعاء نوعان: دعاء عبادة، ودعاء مسألة. ويراد به في القرآن هذا تارة وهذا تارة، ويراد به مجموعهما، فدعاء المسألة هو طلب ما ينفع الداعي من جلب نفع أو كشف ضر، ولهذا أنكر الله على من يدعو1 أحداً من دونه، ممن لا يملك ضراً ولا نفعاً، كقوله تعالى: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [المائدة:76]، وقوله: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأنعام: 71] الآيات. وقال: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس:106].
قال شيخ الإسلام رحمه الله: فكل دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة، وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العبادة.
قال الله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف:55]، وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [الأنعام:40-41]، وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً}
__________
1 في الأصل "يدعوا".
ص -445-(56/35)
[الجن:18]. وقال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} الآية [الرعد: 14].
وأمثال هذا في القرآن في دعاء المسألة أكثر من أن يحصر، وهو يتضمن دعاء العبادة، لأن السائل أخلص سؤاله لله، وذلك من أفضل العبادات، وكذلك الذاكر لله، والتالي لكتابه، ونحوه، طالب من الله في المعنى، فيكون داعياً عابداً.
فتبين بهذا من قول شيخ الإسلام: أن دعاء العبادة مستلزم لدعاء المسألة، كما أن دعاء المسألة متضمن لدعاء العبادة.
وقد قال تعالى عن خليله: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً. فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [مريم:48-49]. الآية. فصار الدعاء من أنواع العبادة، فإن قوله: {وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً} [مريم: 48]. كقول زكريا: {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً} [مريم:4]، وقد أمر الله تعالى في مواضع من كتابه، كقوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} إلى قوله: {وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 55-56]، وهذا هو
ص -446-(56/36)
دعاء المسألة المتضمن للعبادة، فإن الداعي يرغب إلى المدعو ويخضع له، ويتذلل.
وضابط هذا: أن كل أمر شرعه الله لعباده، وأمرهم به، ففعله لله عبادة، فإذا صرف من تلك العبادة شيئاً لغير الله فهو مشرك، مصادم لما بعث الله به رسوله من قوله: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي} [الزمر:14].
فإذا ثبت أن الاستغاثة من أنواع الدعاء، وأن كل استغاثة دعاء، وليس كل دعاء استغاثة، وتقرر أن الدعاء نوعان: دعاء مسألة، ودعاء عبادة، وأن كل دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة، وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العبادة تبين لك أن الاستغاثة من أنواع العبادة، وكيف لا تكون من أنواع العبادة وقد قال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [الأنفال: 9]، وقوله صلى الله عليه وسلم في الدعاء المشهور: "اللهم أنت المستعان وبك المستغاث، وإليك المشتكى" الحديث. وقول المسلمين: يا غياث المستغيثين، فإن لم يكن هذا من العبادة، فلا ندري ما العبادة، ولا ما دعاء المسألة المتضمن لدعاء العبادة.
وقد قال شيخ الإسلام رحمه الله: العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
فإذا تمهد هذا واتضح، فقول هذا الملحد: (إن
ص -447-(56/37)
ضمير الفصل إنما يفيد قصر المسند على المسند عليه وكذا تعريف الخبر كما ذكره صاحب "المفتاح" وعليه الجمهور، فقولنا: الله هو الرازق مثلاً معناه لا رازق سواه...) الخ.
فيقال لهذا الملحد: نعم إذا كان الحصر أو القصر حقيقياً، فإنه من المعلوم إذا قلنا: الله هو الرازق، فمعناه حقيقة لا رازق سواه، وعلى هذا فقوله عليه السلام: "الدعاء هو العبادة" دال على أن العبادة مقصورة على الدعاء، فيكون المراد من الحديث: "أن العبادة ليست غير الدعاء..." الخ.
فنقول: ليس الأمر كما توهمت، وإنما الحصر والقصر في هذا الحديث ادعائي، كما يستفاد من ضمير الفصل المقحم بين المبتدأ والخبر، والحصر -وإن كان ادعائياً- فهو يدل على أن الدعاء هو معظم العبادة، ومخها، وخالصها، وأجلها، وأشرفها.
ومثل هذا الحديث: الحديث الذي رواه أبو داود في "سننه" والإمام أحمد في "المسند" من حديث أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ينزل ناس من أمتي بغائط يسمونه البصرة، عند يقال له: دجلة، يكون عليه جسر، يكثر أهلها، وتكون من أمصار المهاجرين –وفي رواية المسلمين: فإذا كان في آخر الزمان، جاء بنو قنطوراء،
ص -448-(56/38)
عراض الوجوه صغار الأعين، حتى ينزلوا على شط النهر، فيفترق أهلها ثلاث فرق، فرقة يأخذون أذناب البقر والبرية، وهلكوا، وفرقة يأخذون لأنفسهم، وكفروا، وفرقة يجعلون ذراريهم خلف ظهروهم ويقاتلون وأولئك هم الشهداء"1.
فأخبر في هذا الحديث أن أولئك هم الشهداء، وأنهم مخصوصون بالشهادة دون سائر الشهداء، كما يستفاد من الجملة الاسمية المعرفة الطرفين، ومن ضمير الفصل المقحم بين المبتدأ والخبر، والحصر –وإن كان ادعائياً- فهو يدل على شرف الصنف وفضيلته. انتهى.
وكذلك قوله تعالى في المنافقين: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} [المنافقون: 4] فهذا يدل على شدة عداوتهم من بين سائر الكفار، لا على أنه لا عدو سواهم، وكذلك قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النحل:105]، {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45]، وهذا بين بحمد الله لا خفاء به، مع أنه ورد في حديث آخر: "الدعاء مخ العبادة" من حديث أنس2، مع أن الحصر أو القصر في قوله صلى الله عليه وسلم:
__________
1 رواه أحمد 5/40 و44-45، وأبو داود (4306)، وحسنه الألباني حفظه الله في المشكاة (5432).
2 رواه الترمذي 5/456، والطبراني في الأوسط وفي الدعاء (8) واستغربه الترمذي، وقال هو والطبراني: (تفرد به ابن لهيعة)، وفيه مقال مشهور وانظر هاهنا ص 476.
ص -449-(56/39)
"الدعاء هو العبادة" كما قال بعض شراح الحديث: إن حصر أحد الجزئين في الآخر يفيد أن الدعاء لبّها، وخالصها، وركنها الأعظم. وبحديث أنس: "الدعاء مخ العبادة" يظهر معنى القصر في حديث النعمان المتقدم، فاندفع الإشكال عما ذكره العراقي.
وأما قوله: (إذا تقرر هذا فلا حجة في الحديث، إذ على تقدير كون الاستغاثة من نوع الدعاء، كما قالته الوهابية، لا يلزم أن تكون عبادة، لما أن الدعاء قد لا يكون عبادة، كما هو ظاهر).
فالجواب: أنا قد بينا فيما تقدم ما يبطل دعواه الكاذبة الخاطئة، وبينا أن العبادة ليست منحصرة في الدعاء، بل الدعاء من أنواع العبادة، والعبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، فالدعاء هو مخ العبادة، بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم، والاستغاثة من أخص أنواع العبادة وأشرفها، إذ هي دعاء مسألة متضمنة لدعاء العبادة.
فإذا تبين لك ما ذكرناه، فالدعاء الذي جاء في قوله: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 52]. وفي قوله: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً}.
ص -450-(56/40)
[النور: 63] وما أشبه ذلك، مما هو بمعنى النداء المجرد عن معنى العبادة، إذ الدعاء كونه في الأصل بمعنى النداء والطلب مما لا مرية فيه، كما قال الراغب: الدعاء والنداء واحد، لكن قد يتجرد النداء عن الاسم، والدعاء لا يكاد يتجرد. فلا يدخل في دعاء العبادة المستلزم لدعاء المسألة، كما أنه لا يدخل في دعاء المسألة المتضمنة للعبادة. وهذا لا يروج إلى على طغام العراق الذين هم كالأنباط، أو البربر، أو الزنج، الذين لا معرفة لهم بلغات العرب. فالوهابية لا يقولون: إن كل مطلق دعاء يكون عبادة، فإدخال هذا في معنى العبادة ترويج وتلبيس وسفسطة، وهذه البضاعة لا تروج علينا، ولا تنفق لدينا.
وأما قوله: (ولا يقال للطلب1 من غيره تعالى دعاء). فهذا ممنوع، فإن من طلب من غير الله جلب منفعة، أو دفع مضرة، يكون داعياً طالباً2، سائلاً منه.
وقد ذكر الرازي تحت قوله تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس:106]، ما يقتضي أن المراد بالدعاء في هذه الآية طلب المنفعة
__________
1 في الأصل: "لطلب".
2 سقطت "طالباً" من الأصل.
ص -451-
والمضرة1، ونصة هكذا: يعني لو اشتغلت بطلب المنفعة والمضرة2 من غير الله فأنت من الظالمين... إلى آخر كلامه.
وقال الشيخ صنع الله الحلبي، وأما الاستغاثة بالقوة والتأثير، أو في الأمور المعنوية من الشدائد كالمرض وخوف الغرق، والضيق والفقر وطلب الرزق، ونحوه، فمن خصائص الله، ألا3 يطلب فيها غيره. انتهى.
فالطلب سؤال، والسؤال في معنى الدعاء.
__________
1 كذا في النسخ، والصواب بإضافة قبل المضرة: (ودفع المضرة).
2 كذا في النسخ، والصواب بإضافة قبل المضرة: (ودفع المضرة).
3 في الأصل: "لا".
ص -452-(56/41)
فصل
قال العراقي: (التوسل وأدلة جوازه.
قبل الخوض في المطلب نبين لك أن المراد من الاستغاثة بالأنبياء والصالحين، والتوسل بهم، هو: أنهم أسباب ووسائل لنيل المقصود، وأن الله تعالى هو الفاعل، كرامة لهم لا أنهم هم الفاعلون، كما هو المعتقد الحق في سائر الأفعال، فإن السكين لا يقطع بنفسه، بل القاطع هو الله تعالى، والسكين سبب عادي خلق الله تعالى القطع عنده).
والجواب1 أن نقول: وقبل الكلام على ما يبطل دعواه، لا بد من مقدمة ينبني2 عليها الجواب، فنقول:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: لفظ التوسل بالشخص، والتوجه به، والسؤال به، فيه
__________
1 في ط الرياض "فالجواب".
2 في الأصل "يبني".
ص -453-
إجمال واشتراك، غلط بسببه من لم يفهم مقصود الصحابة: يراد به التسبب به، لكونه داعياً، وشافعاً مثلاً، أو لكون الداعي محباً له، مطيعاً لأمره، مقتدياً به، فيكون التسبب إما بمحبة السائل له، واتباعه له، وإما بدعاء الوسيلة وشفاعته.
ويراد به الإقسام به، والتوسل بذاته، فلا يكون التوسل لا بشيء منه، ولا بشيء من السائل، بل بذاته أو بمجرد الإقسام به على الله. فهذا الثاني هو الذي كرهوه، ونهوا عنه.
وكذلك لفظ السؤال بالشيء قد يراد به المعنى الأول، وهو التسبب به لكونه سبباً في حصول المطلوب، وقد يراد به الإقسام.
وإذا تبين لك هذا فاعلم أن معنى التوسل في لغة الصحابة رضي الله عنهم وعرفهم أن يطلب منه الدعاء والشفاعة، فيكون التوسل والتوجه به في الحقيقة بدعائه وشفاعته، وهذا لا محذور فيه، بل هذا هو المشروع، كما في حديث: "الثلاثة الذين أووا إلى الغار" وهو حديث مشهور في "الصحيحين" فإنهم توسلوا إلى الله بصالح الأعمال، لأن الأعمال الصالحة هي أعظم ما يتوسل به العبد إلى الله تعالى، ويتوجه به إليه، ويسأله به، لأنه وعد
ص -454-(56/42)
أن يستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات، ويزيدهم من فضله: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]. وهؤلاء دعوه بعبادته، وفعل ما أمر به من العمل الصالح، وسؤاله والتضرع إليه.
فمن جعل دعاء الأولياء والصالحين سبباً لنيل المقصود، كأن يطلب من الولي أو الصالح يدعو الله له، لكونه مطيعاً لله، محباً له، فيشفع له عند الله، بدعاء الله له، فهذا حق، فقد كان الصحابة رضي الله عنهم يتوسلون إلى الله سبحانه برسوله، فيدعو الله لهم، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا، فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا، فاسقنا"، فاستسقوا به، كما كانوا يستسقون بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته، وهو أنهم يتوسلون بدعائه وشفاعته لهم، فيدعو لهم، ويدعون معه، كالإمام والمأمومين، من غير أن يكونوا يقسمون على الله بمخلوق، كما ليس لهم أن يقسم بعضهم على بعض بمخلوق.
فإذا تحققت ذلك، فاعلم أن التوسل في عرف أهل هذا الزمان واصطلاحهم هو دعاء الأنبياء والأولياء والصالحين، وصرف خالص حق الله تعالى لهم بجميع أنواع العبادات، من الدعاء والخوف والرجاء والذبح والنذر والالتجاء إليهم، والاستغاثة بهم، والاستعانة
ص -455-(56/43)
والاستشفاع بهم، وطلب الحوائج من الولائج في المهمات والملمات، لكشف الكربات، وإغاثة اللهفات، ومعافاة أولي العاهات والبليات، إلى غير ذلك من الأمور التي صرفها المشركون لغير فاطر الأرض والسموات، فمن صرف من هذه الأنواع شيئاً لغير الله كان مشركاً، وسيأتي الكلام على مسألة الاستغاثة.
وأما قوله: (إنهم أسباب ووسائل لنيل المقصود، وإن الله تعالى هو الفاعل...) إلى آخره.
فأقول: وهذا هو قول الجاهلية الكفار، فإنهم ما عبدوا الأنبياء، والأولياء والصالحين، إلا لكونهم أسباباً ووسائل لنيل المقصود، وإلا فهم يعتقدون أن الله هو النافع الضار، وأنه المتفرد بالإيجاد والإعدام، وأن الله هو الخالق للأشياء، وأن الله هو رب كل شيء ومليكه، ولا يعتقدون أن آلهتهم التي يدعونها من دون الله من الأنبياء والأولياء والصالحين والملائكة، شاركوا الله في خلق السموات والأرض، أو استقلوا بشيء من التدبير والتأثير والإيجاد، فمن أثبت الوسائط بين الله وبين خلقه كالوسائط التي تكون بين الملوك والرعية فهو مشرك، بل هذا دين عباد الأوثان.
وقال شيخ الإسلام: الخامس أن يقال: نحن لا ننازع في إثبات ما أثبته الله من الأسباب والحكم، لكن من
ص -456-(56/44)
هو الذي جعل الاستغاثة بالمخلوق ودعاءه سبباً في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله؟ ومن الذي قال: إنك إذا استغثت بميت، أو غائب من البشر كان، أو غيره كان ذلك سبباً في حصول الرزق، والنصر والهدى، وغير ذلك، مما لا يقدر عليه إلا الله؟ ومن الذين شرع ذلك وأمر به؟ ومن الذي فعل ذلك من الأنبياء والصحابة والتابعين لهم بإحسان؟ فإن هذا المقام يحتاج إلى مقدمتين:
أحدهما: أن هذه الأسباب مشروعة لا يحرم فعلها، فإنه ليس كل ما كان سبباً كونياً يجوز تعاطيه، فإن المسافر قد يكون سفره سبباً لأخذ ماله، وكلاهما محرم، والدخول في دين النصارى قد يكون سبباً لمال يعطونه، وهو محرم، وشهادة الزور قد تكون سبباً لنيل المال يؤخذ من المشهود له، وهو حرام، وكثير من الفواحش والظلم قد يكون سبباً لنيل مطلب، وهو محرم، والسحر والكهانة سبب في بعض المطالب، وهو محرم، وكذلك الشرك كدعوة الكواكب والشياطين، بل وعبادة البشر قد يكون سبباً لبعض المطالب، وهو محرم.
فإن الله تعالى حرم من الأسباب ما كان مفسدته راجحة على مصلحته، كالخمر وإن كان يحصل به بعض الأغراض أحياناً، وهذا المقام ما يظهر به ضلال هؤلاء
ص -457-(56/45)
المشركين خلقاً وأمراً، فإنهم مطالبون بالأدلة الشرعية. انتهى.
وأما قوله: (وإن الله تعالى هو الفاعل، كرامة لهم، لا أنهم هم الفاعلون).
فالجواب أن نقول: أولاً: ليس دعاء الأنبياء والأولياء والصالحين والاستغاثة بهم في نيل المقصود سبباً شرعياً، فإن هذه من الأسباب المحرمة، كما تقدم في كلام الشيخ.
وثانياً: لو سلمنا أن الكرامات سبب، فمن أين يؤخذ أنها سبب يقتضي دعاء من قامت به، أو فعلت له؟ ومن أي وجه دلت الكرامة على هذا؟ وأفضل الناس الرسل. والملائكة من أفضل خلق الله، ولهم من المعجزات والكرامات والمقامات ما ليس لغيرهم، فقد جاء عيسى بن مريم بما هو من أفضل المعجزات والكرامات: يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيها فيكون طيراً بإذن الله، ويبرئ الأكمه والأبرص، ويحيى الموتى بإذن الله، وينبئهم من الغيب ما يأكلون وما يدخرون. وقد أنكر الله تعالى على من قصده ودعاه في حاجاته وملماته، وأخبر أن فاعل ذلك كافر به، ضال بعبادة غيره، قال تعالى: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ
ص -458-(56/46)
تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:80]. والأرباب هم المعبودون المدعوون. وقال تعالى فيمن عبدوا المسيح: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [المائدة:76]. فأخبر تعالى عن المسيح أنه لا يملك لمن دعاه نفعاً ولا ضراً -وإن قل- كما يفيده التنكير، وأبطل عبادته، وأنكرها أشد الإنكار، ومعجزاته أوضح من الشمس في وسط النهار.
وأما قوله: (فإن السكين لا يقطع بنفسه، بل القاطع هو الله تعالى، والسكين سبب عادي، خلق الله تعالى القطع عنده).
فالجواب أن يقال: هذا القول من أقوال أهل البدع والأهواء، وليس هو من كلام أهل السنة والجماعة. قال شيخ الإسلام:
وهؤلاء هم الاقترانية الذين يقولون: إن الله يخلق عند السبب لا بالسبب، ومن نحا نحوهم من المتصوفة القائلين بإسقاط الأسباب الظاهرة، وذلك لأن عندهم ليس في الوجود شيء يكون سبباً لشيء أصلاً، ولا شيء جعل لشيء، ولا يكون شيء لشيء، فالشبع عندهم لا يكون
ص -459-(56/47)
بالأكل، ولا العلم الحاصل في القلب بالدليل، ولا ما يحصل للمتوكل من الرزق والنصر له سبب أصلاً لا في نفسه، ولا في نفس الأمر، ولا الطاعات عندهم سبب للثواب، ولا المعاصي سبب للعقاب، فليس للنجاة وسيلة، بل محض الإرادة الواحدة يصدر عنها كل حادث، ويصدر مع الآخر مقترناً به اقتراناً عادياً لا أن1 أحدهما متعلق بالآخر، أو سبب له، أو حكمة له، ولكن لأجل ما جرت به العادة من اقتران أحدهما بالآخر يجعل أحدهما أمارة وعلماً ودليلاً على الآخر، بمعنى إذا وجد أحد المقترنين عادة كان الآخر موجوداً معه، وليس العلم الحاصل في القلب حاصلاً بهذا الدليل، بل هذا أيضاً من جملة الاقترانات العادية.
وقال أيضاً بعد كلام سابق:
وكذلك أيضاً لزمت من لا يثبت في المخلوقات أسباباً وقوى وطبائع، ويقولون: إن الله يفعل عندها لا بها، فيلزم أن لا يكون فرق بين القادر والعاجز. وإن أثبت قدرة وقال: إنها مقترنة بالكسب، قيل له: لم2 تثبت فرقاً معقولاً بين ما تثبته من الكسب وتنفيه من الفعل، ولا بين
__________
1 في ط الرياض "لأن".
2 سقطت "لم" من ط الرياض.
ص -460-(56/48)
القادر والعاجز، إذ كان مجرد الاقتران لا اختصاص له بالقدرة، فإن فعل العبد يقارن حياته وعلمه وإرادته، وغير ذلك من صفاته، فإن لم يكن للقدرة تأثير إلا مجرد الاقتران فلا فرق بين القدرة وغيرها، وكذلك قول من قال: القدرة مؤثرة في صفة الفعل، لا في أصله، كما يقوله القاضي أبو بكر، ومن وافقه، فإنه أثبت تأثيراً بدون خلق الرب، فلزم أن يكون بعض الحوادث لم يخلقه الله تعالى، وإن جعل ذلك معلقاً بخلق الرب فلا فرق بين الأصل والصفة.
وأما أئمة السنة وجمهورهم فيقولون ما دل عليه الشرع والعقل، قال تعالى: {سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [الأعراف: 57]، وقال: {وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [البقرة: 164]، وقال تعالى: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ} [المائدة: 16]، وقال تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً}1 [البقرة: 26] ومثل هذا كثير في الكتاب والسنة، يخبر الله تعالى أنه يحدث الحوادث بالأسباب. انتهى المقصود منه.
__________
1 من هنا إلى ص 500 بياض بالأصل (الطبعة الهندية) وقد رجعت إلى أكثر من نسخة فتتفق في هذا البياض، وهو من ص 586 إلى ص 593.
ص -461-(56/49)
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: وقالت طائفة أخرى أكيس من هؤلاء، بل الدعاء علامة مجردة نصبها الله تعالى سبحانه أمارة على قضاء الحاجة، فمتى وقف العبد للدعاء كان ذلك علامة له، وأمارة على أن حاجته قد قضيت. وهكذا، كما إذا رأيت غيماً أسوداً بارقاً في زمن الشتاء، فإن ذلك دليل وعلامة على أنه يمطر. قالوا: وهكذا حكم الطاعات مع الثواب، والكفر والمعاصي مع العقاب، هي أمارات محضة لوقوع الثواب، لا أنها أسباب له، وهكذا عندهم الكسر مع الانكسار، والحرق مع الإحراق، والإزهاق مع القتل، ليس شيء من ذلك سبباً ألبتة، ولا ارتباط بينه وبين ما يترتب عليه إلا بمجرد الاقتران العادي، لا التأثير السببي، وخالفوا بذلك الحس، والعقل والشرع والفطرة وسائر طوائف العقلاء، بل أضحكوا عليهم العقلاء.
والصواب: أن هنا قسماً ثالثاً غير ما ذكره السائل، وهو أن هذا المقدور قدر بأسباب، ومن أسبابه الدعاء، فلم يقدر مجرداً عن سببه، ولكن قدر بسببه، فمتى أتى العبد بالسبب وقع المقدور، ومتى ما لم يأت بالسبب انتفى المقدور، وهذا كما قدر الشبع والري بالأكل والشرب، وقدر الولد بالوطء، وقدر حصول الزرع بالبذر، وقدر خروج نفس الحيوان بذبحه، إلى أن قال:
ص -462-(56/50)
وقد رتب الله سبحانه حصول الخيرات في الدنيا والآخرة، وحصول الشر في الدنيا والآخرة في كتابه على الأعمال ترتيب الجزاء على الشرط، والمعلول على العلة، والمسبب على السبب، وهذا في القرآن يزيد على ألف موضع... إلى آخر ما قال رحمه الله تعالى.
والمقصود بيان ضلال هذا الملحد في قوله: (والسكين سبب عادي خلق الله القطع عنده). فاجتمع في هذا الملحد أنواع الشر والضلال، فأضاف إلى كونه مشركاً في عبادة الله غيره مذهب الجهمية النافين لعلو الله على خلقه، ونفي صفات كماله ونعوت جلاله، ومذهب المعتزلة والرافضة مع مذهب الجهمية في جحد رؤية الله تعالى في الآخرة. ومذهب الاقترانية في إسقاط الأسباب القائلين إن الله يخلق عند السبب لا السبب.
ومراد هذا الملحد: أن دعاء الأنبياء والأولياء والصالحين سبب عادي لنيل المقصود، وقد تقدم من الأدلة ما يبين أن تعاطي هذا السبب محرم، وأن دعاء الأموات والغائبين من الأولياء والصالحين والاستغاثة بهم فيما لا يقدر عليه إلا الله شرك، وأنه ليس بسبب شرعي.
ص -463-(56/51)
فصل
وأما قوله: (قال السبكي، والقسطلاني في "المواهب اللدنية" والسمهودي في "تاريخ المدينة" وابن حجر في "الجوهر المنظم": إن الاستغاثة به -عليه الصلاة والسلام- وبغيره من الأنبياء والصالحين إنما هي بمعنى التوسل بجاههم، والمستغيث يطلب من المستغاث به أن يجعل له الغوث ممن هو أعلى منه، فالمستغاث به في الحقيقة هو الله تعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم واسطة بين المستغيث وبين المستغاث به الحقيقي، فالغوث منه تعالى إنما يكون خلقاً وإيجاداً، والغوث من النبي تسبباً وكسباً).
فالجواب أن يقال: وهكذا كان المشركون السابقون الذين بعث الله الرسول إليهم، فإنهم كانوا يعلمون أن الله تعالى هو الخالق الموجد، وأما الأصنام فيقولون إنها أسباب ووسائل عادية، فمن أجل ذلك كانوا يدعونهم، ويستغيثون بهم ويعبدونهم، وهذا هو دأب عبدة الصالحين والقبور في هذا الزمان، يدعونهم ويستغيثون بهم، وينحرون لهم،
ص -464-(56/52)
وينذرون لهم، والدعاء والاستغاثة والنحر، والنذر كلها من أقسام العبادة.
وإذا جعلتم لفظ الدعاء والاستغاثة والنحر والنذر التي هي من أقسام العبادة على معناه المجازي، فكذلك فليحمل لفظ العبادة الواقع في كلام المشركين الأولين الذين حكاه الله تعالى عنهم، حيث قال سبحانه وتعالى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] فما وجه الفرق؟!
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "رده على ابن البكري في مسألة الاستغاثة: وأنه حرف الكلم عن مواضعه، وتمسك بمتشابهه، وترك المحكم، كما يفعله النصارى، وكما فعل هذا الضال -يعني ابن البكري- أخذ لفظة الاستغاثة وهي تنقسم إلى الاستغاثة بالحي والميت، والاستغاثة بالحي تكون فيما يقدر عليه، فجعل حكم ذلك كله واحداً، ولم يكفه حتى جعل السؤال بالشخص من مسمى الاستغاثة، ولم يكفه ذلك حتى جعل الطالب منه إنما طلب من الله لا منه، فالمستغيث به مستغيث بالله، ثم جعل الاستغاثة بكل ميت من نبي وصالح جائزة، فدخل عليه الخطأ من وجوه:
منها: أنه جعل المتوسل به بعد موته في دعاء الله مستغاثاً به، وهذا لا يعرف في لغة أحد من الأمم، لا حقيقة ولا
ص -465-(56/53)
مجازاً، مع دعواه الإجماع على ذلك، فإن المستغاث هو المسئول المطلوب منه لا المسئول به.
الثاني: ظنه أن توسل الصحابة في حياته، فإن توسلا بذاته صلى الله عليه وسلم لا بدعائه وشفاعته، فيكون التوسل به بعد موته كذلك، وهذا غلط.
الثالث أنه أدرج السؤال أيضاً في الاستغاثة به، وهذا صحيح جائز في حياته، وهو قد سوى في ذلك بين محياه ومماته، وهذا أصاب في لفظ الاستغاثة، لكن أخطأ في التسوية بين المحيا والممات.
وهذا ما علمته ينقل عن أحد من العلماء، لكنه موجود في بعض كلام الناس، مثل الشيخ يحيى الصرصري، ففي شعره قطعة منه، والشيخ محمد بن النعمان له كتاب "المستغيثين بالنبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة والمنام" وهؤلاء ليسوا من العلماء العالمين بمدارك الأحكام، الذين يؤخذ بقولهم في شرائع الإسلام، ومعرفة الحلال والحرام، وليس لهم دليل شرعي ولا نقل عن عالم مرضي، بل عادة جروا عليها، وكان بعض الشيوخ الذين أعرفهم ولهم فضل وعلم وزهد. إذا نزل به أمر خطا إلى الشيخ عبد القادر خطوات معدودة، واستغاث به، وهذا يفعله كثير من الناس، ولهذا لما نبه من نبه من فضائهم تنبهوا، وعلموا أن ما كانوا عليه ليس من دين الإسلام، بل مشابهة لعباد الأصنام، انتهى.
ص -466-(56/54)
وقال في الرسالة "السنية": فإذا كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن انتسب إلى الإسلام من مرق منه مع عبادته العظيمة، فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام والسنة في هذه الأزمان قد يمرق أيضاً من الإسلام لأسباب منها:
الغلو في بعض المشايخ، بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في المسيح عليه السلام، فكل من غلا في نبي أو رجل صالح، وجعل فيه نوعاً من الإلهية، مثل أن يقول: يا سيدي فلان انصرني، أو أغثني، أو ارزقني، أو أنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال، فكل هذا شرك وضلال، يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل، فإن الله سبحانه وتعالى إنما أرسل الرسل، وأنزل الكتب، ليعبدوه وحده لا شريك له، ولا يدعى معه إله، والذين يدعون مع الله آلهة أخرى مثل المسيح والملائكة والأصنام، لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق، أو تنزل المطر، أو تنبت النبات، وإنما كانوا يعبدونهم أو يعبدون قبورهم، أو يعبدون صورهم، يقولون: إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى. ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله. فبعث الله سبحانه رسله تنهى عن أن يدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة. انتهى. وقال أيضاً: من جعل بينه وبين الله وسائط، يتوكل عليهم، ويدعوهم، ويسألهم: كفر إجماعاً. نقله عنه صاحب "الفروع" وصاحب "الإنصاف" وصاحب "الإقناع" وغيرهم.
ص -467-(56/55)
والمقصود أن شيخ الإسلام رحمه الله جعل الاستغاثة بغير الله من الشرك الأكبر المخرج من الملة.
وقال الحافظ محمد بن عبد الهادي رحمه الله في رده على السبكي في قوله: (إن المبالغة في تعظيمة -أي الرسول صلى الله عليه وسلم- واجبة): إن أُريد به المبالغة بحسب ما يراه كل أحد تعظيماً حتى الحج إلى قبره، والسجود له، والطواف به، واعتقاد أنه يعلم الغيب، وأنه يعطي ويمنع، ويملك لمن استغاث به من دون الله الضر والنفع، وأنه يقضي حوائج السائلين، ويفرج كربات المكروبين، وأنه يشفع فيمن يشاء، ويدخل الجنة من يشاء، فدعوى المبالغة في هذا التعظيم مبالغة في الشرك، وانسلاخ من جملة الدين. اهـ.
وأما قوله: (فالغوث منه تعالى إنما يكون خلقاً وإيجاداً، والغوث من النبي صلى الله عليه وسلم إنما يكون تسبباً وكسباً).
فأقول: هكذا كانت مشركوا الجاهلية حذو النعل بالنعل، كانوا يدعون الصالحين، والأنبياء والمرسلين، طالبين منهم الشفاعة عند رب العالمين، كما قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}[يونس: 18]، وقال تعالى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3].
ص -468-(56/56)
على أن القول بأن إسناد الغوث إلى الله تعالى إسناد حقيقي باعتبار الخلق والإيجاد، وإلى الأنبياء والصالحين إسناد مجازي باعتبار التسبب والكسب: بديهي البطلان، بيانه من وجوه:
الأول: أنه لو كان مناط الإسناد الحقيقي اعتبار الخلق والإيجاد -كما توهمه صاحب الرسالة- لزم أن يكون إسناد أفعال العباد كلها إلى الله تعالى حقيقياً، فإن اعتقاد أهل السنة والجماعة أن الخالق لأفعال العباد هو الله تعالى، وهذا يقتضي أن يتصف الله تعالى حقيقة بالإيمان، والصلاة والزكاة، والصوم والحج والجهاد وصلة الرحم، وغير ذلك من الأعمال الحسنة، وكذلك يتصف حقيقة بالأعمال السيئة، من الكفر والشرك والفسق والفجور، والزنا والكذب والسرقة والعقوق، وقتل النفس وأكل الربا، وغيرها، فإنه تعالى هو الخالق لجميع الأفعال حسنها وسيئها، والتزام هذا فعل من لا عقل له ولا دين، فإنه يستلزم اتصاف الله تعالى بالنقائص وصفات الحدوث، واجتماع الأوصاف المتضادة، بل المتناقضة.
وقد قال شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية قدس الله روحه ونور ضريحه، في كتاب "الاستغاثة" في الرد على ابن البكري لما استدل بقوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}[الأنفال: 17] على ما لفقه من أضاليله، وما
ص -469-(56/57)
موه به من أباطيله وأساجيله، قال في أثناء جوابه على ما شبه به ابن البكري، وعما يبين ذلك:
إن أفعال العباد لا يجوز أن تنفى عنهم باتفاق المسلمين، من قال: إن الله خالقها، ومن قال: إنه لم يخلقها، لا يجوز أن يقال: هذا ما أكل، ولا شرب، ولا قعد، ولا ركب ولا طاف، ولا ركع ولا سجد، ولا صام ولا سعى، ولكن الله هو الذي أكل وشرب وقعد وركب وطاف وركع وسجد، وصام وسعى. وسواء كانت أفعالاً محمودة أو مذمومة، وسواء كانت سبباً لخرق العادة، أم لا، فلا يقال إن موسى ما ضرب بعصاه البحر، ولا الحجر، ولكن الله ضرب، ولا يقال: إن نوحاً ما ركب في السفينة، ولكن الله ركب، ولا يقال: إن المسيح ما ارتفع، بل الله ارتفع، ولا يقال إن محمدا صلى الله عليه وسلم ما ركب البراق، بل الله ركب، وأمثال هذا.
والفعل المختص بالمخلوق لا يضاف إلى الله إلا على بيان أن الله خلقه، وجعل صاحبه فاعلاً، كقوله الخليل عليه السلام: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم:40]، وكما قال: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} [البقرة: 128]، وقال تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ}[القصص: 41]، ولا يقال: إن الله يقيم الصلاة، ويدعو إلى النار، ولا أنه قد أسلم، وقال تعالى:
ص -470-(56/58)
{إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً. إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً. وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} [المعارج: 19-20-21]، ولا يوصف الله بالهلع والجزع.
وجماع الأمر أن الله لا يوصف بمخلوقاته، وهذه هي أدلة السلف وأهل السنة على أن كلام الله ليس مخلوقاً، قالوا: لأنه سبحانه لا يوصف بما خلقه في غيره، فإذا خلق في غيره حركة أو طعماً أو ريحاً أو لوناً كالسواد والبياض، لم يوصف بأنه هو المتحرك بها، ولا بأنه متروح أو أبيض، أو أسود، وإذا خلق في غيره سمعاً أو بصراً أو حياة أو قدرة، لم يوصف بذلك، وإذا خلق في غيره كلاماً لم يوصف بأنه هو المتكلم به، يعبرون عن ذلك بأن الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل، ولم يعد على غيره، واشتق لذلك المحل منه اسم، ولم يشتق لغيره، فإذا خلق في محل حركة أو علماً أو قدرة، كان ذلك المحل هو المتحرك، العالم القادر، لا الخالق لتلك الصفة فيه. انتهى.
والثاني: أنه لو كان مناط الإسناد المجازي اعتبار التسبب والكسب -كما زعم هذا الزاعم- لزمه أن لا يكون الإنسان حقيقة مؤمناً ولا كافراً، ولا براً ولا فاجراً، ولا كاذبا، فيبطل الجزاء والحساب، وتلغى الشرائع والجنة والنار، وهذا لا يقول به أحد من المسلمين.
ص -471-(56/59)
والثالث: أن دعوى كون الأنبياء والصالحين سبباً للغوث، وكسباً له، محتاج إلى إقامة الدليل، ودونه لا تسمع، وبالجملة فهذه شبهة داحضة، ووسوسة زاهقة، تنادي بأعلى نداء على صاحبها بالجهل والسفه.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وقد علم بصريح المعقول أن الله تعالى إذا خلق صفة في محل كانت صفة لذلك المحل، فإذا خلق حركة في محل كان ذلك المحل هو المتحرك بها، وإذا خلق لوناً أو ريحاً في جسم كان هو المتلون المتروح بذلك، وإذا خلق علماً أو قدرة أو حياة في محل كان ذلك المحل هو العالم القادر الحي، فكذلك إذا خلق إرادة وحباً وبغضاً في محل، كان هو المريد المحب المبغض، فإذا خلق فعل العبد كان العبد هو الفاعل، فإذا خلق له كذباً أو وظلماً وكفراً، كان هو الكاذب الظالم، الكافر، وإن خلق له صلاة وصوماً وحجاً كان العبد هو المصلي الصائم الحاج، والله تعالى لا يوصف بشيء من مخلوقه، بل صفاته قائمة بذاته، وهذا مطرد على أصول السلف، وجمهور المسلمين من أهل السنة، وغيرهم... إلى آخر كلامه رحمه الله.
فعلى زعم هذا الملحد أن الله تعالى هو الكاذب، الظالم، الكافر حقيقة لأن الله هو الخالق لذلك، والموجد له حقيقة وإسناده إلى العبد مجاز، سبحانك هذا بهتان عظيم.
ص -472-(56/60)
وقال صنع الله الحلبي رحمه الله: والاستغاثة تجوز في الأسباب الظاهرة العادية من الأمور الحسية في قتال، أو إدراك عدو، أو سبع، ونحوه، كقولهم: يا لزيد، يا للمسلمين، بحسب الأفعال الظاهرة.
وأما الاستغاثة بالقوة والتأثير، أو في الأمور المعنوية من الشدائد، كالمرض وخوف الغرق، والضيق والفقر وطلب الرزق، ونحوه، فمن خصائص الله، لا يطلب فيها غيره، إلى أن قال:
وأما كونهم مستدلين على أن ذلك منهم كرامات، فحاشا لله أن تكون أولياء الله بهذه المثابة، فهذا ظن أهل الأوثان، كذا أخبر الرحمن {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ} [يس: 23] فإن ذكر ما ليس من شأنه النفع ولا دفع الضر -من نبي وولي وغيره- على وجه الإمداد منه، إشراك مع الله، إذ لا قادر على الدفع غيره، ولا خير إلا خيره، اهـ.
ص -473-(56/61)
فصل
قال العراقي: (وقد جوز أجلة العلماء الاستغاثة، والتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولا يعارض جوازها بخبر أبي بكر رضي الله عنه: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه لا يستغاث بي إنما يستغاث بالله" لأن من رواته ابن لهيعة، والكلام فيه مشهور، ولو فرضنا أن الحديث صحيح فهو من قبيل قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}[الأنفال: 17] وقوله عليه الصلاة والسلام: "ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم"، فيكون معنى الحديث السابق: أني وإن يستغاث بي فالمستغاث به في الحقيقة هو الله تعالى، وبالجملة فإطلاق لفظ الاستغاثة على من يحصل منه غوث أو تسبباً وكسباً، أمر نطقت به اللغة، وجوزه الشرع، فتعين تأويل الحديث المذكور، ويؤيد ما بيناه في تأويله حديث البخاري في الشفاعة يوم القيامة: "فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم، ثم بموسى، ثم بمحمد صلى الله عليه وسلم").
والجواب أن نقول: قد تقدم في كلام شيخ الإسلام
ص -474-(56/62)
ابن تيمية ما يبين كذبه على أجلة العلماء، وأنه لم يجزه إلا أناس ليسوا من العلماء العالمين بمدارك الأحكام، الذين يؤخذ بقولهم في شرائع الإسلام، ومعرفة الحلال والحرام، وليس لهم دليل شرعي، ولا نقل عن عالم مرضي بل عادة جروا عليها.
وقال أيضاً في أثناء كلام له: ونحن نعلم بالضرورة أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته أن يدعوا أحداً من الأموات، لا الأنبياء ولا الصحالحين، ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة ولا بغيرها، كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميت، ولا إلى ميت، ونحو ذلك. بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور، وأن ذلك من الشرك الذي حرمه الله ورسوله، ولكن لغلبة الجعل، وقله العلم بآثار الرسالة في كثر من المتأخرين، لم يمكن تكفيرهم بذلك، حتى يبين لهم ما جاء به الرسول، ولهذا ما بينت هذه المسألة قط لمن يعرف أصل الإسلام إلا تفطن لها، وقال: هذا أصل دين الإسلام. انتهى.
وأما قوله: (ولا يعارض جوازها بخبر أبي بكر رضي الله عنه قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم) إلى آخره.
فالجواب أن يقال: الكلام على هذا من جوه:
ص -475-(56/63)
أحدها: أن ابن لهيعة خرج له البخاري ومسلم فجاوز القنطرة، ولا يقدح فيما رواه ابن لهيعة إلا جاهل بالصناعة والاصطلاح، وهو قاضي مصر وعالمها ومسندها، روى عن عطاء بن أبي رباح، والأعرج، وعكرمة، وخلف، وعنه شعبة بن الحجاج أمير المؤمنين في الحديث، وعمرو بن الحارث، والليث بن سعد، وابن وهب، وخلق.
ومن طعن في ابن لهيعة بقول بعض الناس لزمه الطعن في كثير من الأكابر المحدثين كسعيد المقبري، وسعيد بن إياس الجريري، وسعيد بن [أبي] عروبة، وإسماعيل بن أبان، وأزهر بن سعد السمان البصري، وأحمد بن صالح المصري، وأبي اليمان، وأمثالهم ممن خرج لهم البخاري وغيره من الأئمة.
وعلى كل حال فهو خير من هؤلاء الذين أجازوا الاستغاثة برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعلم بكتاب الله، وسنة رسوله منهم، وبأقوال أهل العلم1.(56/64)
__________
1 هذا ما جنح إليه الشيخ المؤلف رحمه الله تعالى هنا في حديث ابن لهيعة، وقد ذكر مستنده على ذلك. أما قوله: (إنه جاوز القنطرة لرواية الشيخين عنه) فغير مسلم، لأن مسلماً إنما أخرج له مقروناً بغيره، وهو "عمرو بن الحارث". وقد تقرر أن المخرج لهم في الشواهد والمتابعات –دون الأصول- لا يكون ذلك توثيقاً لهم، بل لنكتة خفية أو ظاهرةً أخرج لهم في الصحيح. هذا فيما يتعلق بإخراج مسلم لابن لهيعة في "الصحيح" أما البخاري فقد أخرج في كتاب الفتن من صحيحه: عن المقري عن حيوة و"غيره" عن أبي الأسود قال: "قطع على أهل المدينة بعث..." الحديث، عن عكرمة عن ابن عباس. وروى هذا الحديث بصورة هذا السند في "الاعتصام" و"تفسير سورة النساء" وفي آخر "الطلاق" ولا يسمى قرين حيوة. قال ابن حجر: وهو ابن لهيعة لا شك فيه اهـ. ومثل هذا لا يعتبر تقوية للرجل، بل توثيقع ومجاوزته القنطرة، ولعل البخاري وقع في سماعه هذا السند بهذه الصورة، فأثبتها، ولم يجرأ على تسميته تنزيهاً لصحيحه، فقال: عن حيوة وغيره. والعلم عند الله.
وأما قول الشيخ المؤلف رحمه الله: "ولا يقدح فيما رواه ابن لهيعة إلا جاهل بالصناعة والاصطلاح" لا يعني به القدح في العلماء المتقدمين -كما توهمه بعضهم!- بدليل أنه أشار إلى اختلاف الناس فيه، كما في آخر هذا الوجه، وفي أول الوجه الثالث. وإنما يعني به -في نظره- من لم يحسن تنزيل قواعد الجرح والتعديل على أقوال العلماء المتقدمين، ولا شك أن كلام الشيخ هنا خلاف الصواب في هذه المسألة، بيد أنه ليس أول قائل بتوثيق ابن لهيعة مطلقاً، فقد سبقه من المتقدمين والمتأخرين جماعة، وكلام الشيخ المؤلف على حديث ابن لهيعة في "الوجه الثالث" أقرب للصواب، من رأيه هنا.
والذي يترجح في حال حديث ابن لهيعة أنه حسن في الشواهد والمتابعات.
ص -476-(56/65)
الثاني: أنهم معارضون بأجل منهم وأفضل، وأعلم بحدود ما أنزل الله على رسوله، كما سنذكره عنهم إن شاء الله تعالى.
ص -477-
الثالث: أن ابن لهيعة كان إماماً محدثاً، من أفاضل العلماء، ولم ينقمه أحد بالغلو في الأنبياء ولا الصالحين، ولا بشيء من العقائد المبتدعة المحدثة في الإسلام، ولكنه كان يدلس على الضعفاء، ثم احترقت كتبه، وليس هذا الحديث من الأحاديث التي دلس فيها، فمن هنا قال فيه من قال.
قال عمرو بن علي: من كتب عنه قبل احتراق كتبه مثل ابن المبارك وابن المقري أصح ممن كتبه عنه بعد احتراقها1.
وقال ابن وهب: كان ابن لهيعة صادقاً، وقال ابن وهب أيضاً: حدثني الصادق البار -والله- عبد الله بن لهيعة.
__________
1 في حاشية "النفح الشذي" 2/831 –عندما نقل ابن سيد الناس عبارة عمرو بن علي الفلاس المتقدمة في ابن لهيعة:
كذا جاءت تلك الرواية عن الفلاس في الميزان 2/477، وشرح العلل لابن رجب 1/37، ولكن جاء في رواية ابن أبي حاتم /الجرح والتعديل 5/147، وابن عدي (الكامل) 4/463، وكذا في السير 8/21 قول الفلاس في آخر تلك الرواية ما نصه: "وهو ضعيف الحديث"، فهذا تضعيف مطلق لابن لهيعة، ومتصل السياق بالتفصيل السابق، فيشمل ما قبل الاحتراق، وما بعده، وإن تفاوتا في درجة الضعف، وبذلك لا يكون مقصود الفلاس بقوله: "أصح" هو الصحة الاصطلاحية... اهـ.
ص -478-(56/66)
وقال أبو داود: سمعت أحمد يقول: ما كان محدث مصر إلا ابن لهيعة1.
وقال أحمد بن صالح الحافظ: كان ابن لهيعة صحيح الكتاب، طالباً للعلم.
الوجه الرابع: أنه قد ثبت أن الاستغاثة من أقسام العبادة، فصرفها لغير الله شرك، فإن لم يكن حديث أبي بكر شاهداً لهذا لم يكن مخالفاً له.
الوجه الخامس: أن النبي صلى الله عليه وسلم نفى الاستغاثة عن نفسه حماية للتوحيد، وصيانة لجانبه، وأدباً مع ربه، لا لأن الإغاثة لا تنسب إلى المغيث بالسبب العادي حقيقة،
__________
1 جاء عن الإمام أحمد رحمه الله أنه قال: "ما حدث ابن لهيعة بحجة، وإني لأكتب كثيراً مما أكتب أعتبر به، وهو يقوي بعضه ببعض" ذكر ذلك عنه ابن رجب في "شرح العلل" 1/138. وأشار إليه شيخ الإسلام في "الرد على البكري" ص 153 –ص154.
[ويلاحظ أن قول أحمد هذا في ابن لهيعة، قد بناه على نحو ما تقدم عن ابن حبان، من السبر والاعتبار لمرويات ابن لهيعة، حيث كتب الكثير منها، ثم قارنه بروايات من شاركه من الثقات، فتبين له أنه لا يحتج بما انفرد به، ولكنه يتقوى بغيره، وعليه يكون هذا هو القول المعتبر للإمام أحمد بشأن ابن لهيعة... [و] يرد به على من يأخذ بتوثيقه السابق لابن لهيعة...]اهـ. من التعليق على "النفح الشذي" 2/851-852.
ص -479-(56/67)
وأنها تنسب مجازاً -كما توهمه الغبي الأكبر- ولم يرد تعليم أمته أن الاستغاثة إنما تنسب للمخلوق مجازاً، فإن ما جاء به الكتاب والسنة دال على إضافة الفعل لمكتسبه، ومن قام به، ولذلك رتب الثواب والعقاب والجزاء والحساب.
ولم يقل قول هذا العراقي إلا القدرية المجبرة، ومن نحا نحوهم من الجهمية، ورد عليهم أهل السنة -بما يطول ذكره- نقلاً وعقلاً.
وقالوا: لو كان مجازاً لصح نفي أفعال المكلفين عنهم، وكانوا بمنزلة الجمادات التي يحركها الغير، ويفعل بها من غير قصد لها ولا اخيار، ويكون التعذيب والعقاب يرجع إلى مجرد المشيئة والإرادة، من غير فعل للعبد يستحق به الثواب والعقاب.
ويقال أيضاً: الأفعال العادية القائمة بفاعلها تنسب إليه، وتضاف إليه حقيقة من إضافة الفعل إلى فاعله، فيقال: أكل وشرب، وقام وقعد، وحكى ودعا واستغاث، حقيقة لا مجازاً، بإجماع العقلاء، ولم يخالف في إضافة الأفعال إلى فاعلها حقيقة إلا من هو من أجهل الناس، وأضلهم على سواء السبيل.
ص -480-(56/68)
وأما قوله: ولو فرضنا أن الحديث صحيح فهو من قبيل قوله تعال: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}.
فأقول: ليس هذا من هذا الباب، وهذا من نوادر جهل هؤلاء الضلال، فإن لفظ الاستغاثة طلب الغوث ممن هو بيده، لمن أصابته شدة، ووقع في كرب، وإلا الأنجح والأولى لمن أصابه ذلك أن يستغيث بمن يجيب المضطر إذا دعاه، الموصوف بأنه غياث المستغيثين، مجيب المضطرين، أرحم الراحمين، فلفظ الاستغاثة يستعمل في مخ العبادة، وما لا يقدر عليه إلا الله عالم الغيب والشهادة، فكره صلى الله عليه وسلم إطلاقه عليه فيما يستطيعه، ويقدر عليه، حماية لجناب التوحيد، وسداً لذريعة الشرك، وإن كان يجوز إطلاقه فيما يقدر عليه المخلوق، فحماية جناب التوحيد من مقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن قواعد هذه الشريعة المطهرة، فأين هذا من قوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}[الأنفال: 17]، فإن الرمي المنفي عن الرسول صلى الله عليه وسلم إيصال التراب إلى أعينهم كلهم، لأن هذا لا يقدر عليه إلا الله، وأما نفس الرمي المثبت من رميه صلى الله عليه وسلم فقد قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من التراب والحصا، ورمى به قِبلهم حقيقة لا مجازاً.
وهذا من خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم لا يكون لأحد بعده،
ص -481-(56/69)
ولو كان هذا لأحد بعده لم يكن فيه معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يبق أحد منهم إلا وقع في عينيه من ذلك التراب شيء وهم نحو أربعة آلاف رجل، فهزمهم الله بسبب هذه الرمية حقيقة، لا عندها، ولا معها، بل بها.
وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام: "ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم"1، على حقيقته، فإن الله هو الذي حملهم بأن يسر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك حمولة، فحملهم بأمر الله، لأنه صلى الله عليه وسلم عبد مأمور منهي لا يفعل شيئاً إلا بأمر الله له، فنسبة الحمل إلى الله حقيقة قضاء وقدراً، وإلى من حملهم بإذن الله السببي الشرعي حقيقة لا مجازاً، وحمله إياهم أمر مقدرو عليه غير ممتنع، فكان من المعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان متصرفاً بأمر الله، منفذاً له، فالله سبحانه أمره بحملهم، فنفذ أوامره، فكان الله هو الذي حملهم. وهذا معنى قوله: "إني لا أعطي أحداً شيئاً ولا أمنعه"2.
__________
1 قاله النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الأشعريين. أخرجه البخاري في صحيحه كفارات الأيمان –باب الاستثناء في الأيمان. ومسلم في صحيحه كتاب الأيمان- 3/1269.
2 أخرج البخاري في صحيحه –كتاب الخمس- باب قول الله تعالى {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما أعطيكم ولا أمنعكم، أنا قاسم أضع حيث أمرت".
ص -482-(56/70)
ولهذا قال: "وإنما أنا قاسم"1 فالله سبحانه هو المعطي على لسانه، وهو يقسم ما قسمه بأمره.
قوله: (فيكون معنى الحديث السابق: إني وإن يستغاث بي، فالمستغاث به في الحقيقة هو الله تعالى).
أقول: هذا التأويل مخالف للفظ الحديث، ولمعناه، وقد تقدم الكلام عليه، فلا معنى لصرفه عما يقتضيه إلى ما لا يدل عليه لغة ولا شرعاً.
وقوله: (وبالجملة فإطلاق لفظ الاستغاثة على من يحصل منه غوث ولو تسبباً وكسباً أمر نطقت به اللغة، وجوزه الشرع).
__________
1 أخرج البخاري في صحيحه –كتاب فرض الخمس- باب قول الله تعالى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} يعني للرسول قسم ذلك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا قاسم وخازن والله يعطي". ثم ساق بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما مرفوعاً: "فإني إنما جعلت قاسماً أقسم بينكم" وفي لفظ له "فإنما أنا قاسم".
ص -483-(56/71)
فأقول: هذا كذب على اللغة، وعلى الشرع.
أما اللغة فإن الأفعال العادية القائمة بفاعلها تنسب إليه، وتضاف إليه حقيقة، من إضافة الفعل إلى فاعله، فيقال: أكل وشرب، وقام وقعد، وحكى ودعا، واستغاث حقيقة لا مجازاً بإجماع العقلاء.
وأما شرعاً فإن الله قد رتب حصول الخيرات في الدنيا والآخرة، وحصول الشرور في الدنيا والآخرة، والعقاب والثواب في كتابه على الإعمال ترتيب الجزاء على الشرط، والمعلول على العلة، والمسبب على السبب، وهذا في القرآن يزيد على ألف موضع، كما تقدم بيانه في كلام ابن القيم –رحمه الله تعالى-.
وأما قوله: (ويؤيد ما بيناه في تأويل حديث البخاري في الشفاعة يوم القيامة "فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم، ثم بموسى، ثم بمحمد صلى الله عليه وسلم").
فالجواب أن نقول: هذا ليس مما نحن فيه، فإن الاستغاثة بالمخلوق على نوعين:
أحدهما: أن يستغيث بالمخلوق الحي فيما يقدر على الغوث فيه، مثل أن يستغيث المخلوق بالمخلوق ليعينه على حمل حجر، ويحول بينه وبين عدوه الكافر،
ص -484-(56/72)
ويدفع عنه سبعاً صائلاً، أو لصاً، أو نحو ذلك، ومن ذلك طلب الدعاء لله من بعض عباده لبعض، وهذا لا خلاف في جوازه، والاستغاثة الواردة في حديث المحشر من هذا القبيل، فإن الأنبياء الذين يستغيث العباد بهم يوم القيامة يكونون أحياء، وهذه الاستغاثة إنما تكون بأن يأتي أهل المحشر هؤلاء الأنبياء، يطلبون منهم أن يشفعوا لهم إلى الله سبحانه، ويدعوا لهم بفصل الحساب، والإراحة من ذلك الموقف، ولا ريب أن الأنبياء قادرون على الدعاء، فهذه الاستغاثة تكون بالمخلوق الحي فيما يقدر على الغوث فيه.
والثاني: أن يستغاث بمخلوق ميت أو حي فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، وهذا هو الذي يقول فيه أهل التحقيق: إنه غير جائز.
فإن قلت: هؤلاء المستغيثون بالأموات أو الغائبين –أيضاً- يطلبون منهم أن يشفعوا لهم إلى الله تعالى، ويدعوا لهم بقضاء حاجاتهم، وهم قادرون على ذلك فتكون استغاثتهم هذه من قبيل النوع الأول.
قيل: هذا فيه خلل من وجوه:
الأول: أن فيه ذهوا عن قيد الحي، والمراد بالحياة الدنيوية لا البرزخية.
والثاني: أن ظاهر ألفاظهم مثل قولهم: يا رسول الله
ص -485-
اشف مريضي، واكشف عني، وهب لي ولداً ورزقاً واسعاً، ونحو ذلك، دال على أنهم لا يطلبون منهم الشفاعة، بل يطلبون شفاء المريض، وكشف الكربة، وإعطاء الولد، والرزق، وهم غير قادرين على تلك الأمور.
الثالث: أن هؤلاء المستغيثين بالأموات والغائبين يدعونهم، ويستغيثون بهم، من أماكن مختلفة، ومواضع بعيدة، معتقدين أن الأموات والغائبين يعلمون استغاثتهم، ويسمعون دعاءهم، من كل مكان، وفي كل زمان، ولا ريب أن هذا إثبات لعلم الغيب لهم، الذي هو من الصفات المختصة بالله تعالى، فيكون شركاً، وبهذا وبما تقدم يندفع تأويل الحديث على تأوله عليه من المحال الباطل، والله أعلم.
ص -486-(56/73)
فصل
قال العراقي: (لنا على جواز التوسل والاستغاثة دلائل: منها قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35] قال ابن عباس: إن الوسيلة كل ما يتقرب به إلى الله تعالى. والوهابية جعلت الوسلية خاصة بالأفعال، وهو تحكم. بل ظاهر الآية تخصيصها بالذوات، فإنه تعالى قال في هذه الآية {اتَّقُوا اللَّهَ} [المائدة: 35] والتقوى عبارة عن فعل المأمور به، وترك المنهي عنه، فإذا فسرنا الوسيلة بالأعمال كان الأمر بابتغاء الوسيلة إليه تأكيداً للأمر بالتقوى بخلاف ما إذا أريد بها الذوات، فإن الأمر حينئذ يكون تأسيساً، وهو خير من التأكيد).
والجواب أن نقول: قد استدل بهذه الآية طاغية العراق داود بن جرجيس على نحو مما ذكره هذا، إلا أن هذا أسقط من جواب داود نسبة الكلام إلى البغوي، وهذا
ص -487-
لم يذكره عنه. وأجابه على ذلك شيخنا الشيخ عبد اللطيف فقال:
والجواب أن يقال: الله أكبر على هؤلاء الضلال الكاذبين على الله وعلى رسله، المبدلين لدينه، المحرفين للكلم عن مواضعه، وهذا الكلام الذي ذكره العراقي جمع فيه من التحريف والإلحاد والكذب والقول في كتاب الله برأيه، ما سيمر بك بيانه مفصلاً، وفي الحديث "من قال في القرآن برأيه –وفي رواية بما لا يعلم- فليتبوأ مقعده من النار"1 وقد تكلم الحافظ ابن كثير على قوله(56/74)
__________
1 أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" 1/233-269، وأبو داود فيما نسب إليه المزي في "تحفة الأشراف" 4/423 –ولعله في غير رواية الؤلؤي فإني لم أجده فيها، وهي المتداولة بين الناس- والترمذي 5/199، وقال: حديث حسن صحيح، والنسائي في "السنن الكبرى" كما في "تحفة الأشراف" 4/423، والطبري في "تفسيره 1/34، والبغوي في "شرح السنة" 1/257-258، جميعهم من طريق عبد الأعلى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس... به.
قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" على هذا الحديث 1/147: رواه الطبراني في "الكبير" وفيه عبد الأعلى بن عامر والأكثر على تضعيفه اهـ. وقد ضعفه أحمد وأبو زرعة وابن سعد وقال النسائي: ليس بالقوي يكتب حديثه، وقال ابن معين: ليس بذاك القوي. قال الحافظ ابن حجر في "التهذيب" 6/95 بعد أن ساق هذه الأقوال وغيرها: وصحح الطبري حديثه في الكسوف، وحسن له الترمذي وصحح له الحاكم وهو من تساهله اهـ.
ورواه ابن عدي في "الكامل" 6/2130 : من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قال في القرآن برأيه فإن أصاب لم يؤجر".
وهذا إسناد تالف، الكلبي اسمه "محمد بن السائب بن بشر" لخص الحافظ ابن حجر قول أئمة الجرح والتعديل فيه فقال: متهم الكذب ورمي بالرفض اهـ.
وروى ابن عدي بسنده عن سفيان الثوري قال: قال لي الكلبي: قال لي أبو صالح: كل ما حدثتك فهو كذب. وأبو صالح هو باذام مولى أم هانيء بنت أبي طالب قال ابن معين: ليس به بأس وإذا روى عنه الكلبي فليس بشيء، وقال ابن حبان يحدث عن ابن عباس، ولم يسمع منه. "تهذيب التهذيب" 1/416-417، ولخص الحافظ ابن حجر القول فيه فقال: ضعيف مدلس اهـ.
وروى ابن أبي شيبة هذا الحديث في مصنفه 1/512 موقوفاً على ابن عباس، وفي إسناده عبد الأعلى بن عامر. ورواه الطبري في "تفسيره" 1/43 موقوفاً على ابن عباس.
وفي الباب عن جندب بن عبد الله بلفظ "من قال في(56/75)
القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ" أخرجه الترمذي 5/200، وأبو داود 4/63-64، والنسائي في الكبرى كما في "تحفة الأشراف" 2/444، وإسناده ضعيف علته سهيل بن أبي حزم، وهو ضعيف عندهم " تهذيب التهذيب 4/261.
ص -488-
تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35] بما يرد قول هذا العراقي ويبطله، قال رحمه الله تعالى:
أمر عباده المؤمنين بتقواه، وهي إذا قورنت بالطاعة كان المراد بها الانكفاف عن المحارم، وترك المنهي عنه،
ص -489-
وقد قال بعدها: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35]، قال سفيان الثوري، عن طلحة عن عطاء عن ابن عباس (أي القربة)، وكذا قال مجاهد وعطاء وأبو وائل، والحسن وقتادة وعبد الله بن كثير، والسدي وأبو زيد.
قال قتادة: أي تقربوا إليه بطاعته، والعمل بما يرضيه، وقرأ ابن زيد: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} [الإسراء: 57] وهذا الذي قاله هؤلاء الأئمة لا خلاف بين المفسرين فيه. وأنشد ابن جرير قول الشاعر:
إذا عفل الواشون عدنا لوصلنا
وعاد التصافي بيننا والوسائل
والوسيلة: هي ما يتوصل به إلى تحصيل المقصود. انتهى.
وقال البغوي: أي اطلبوا إليه الوسيلة، أي القربة.
فعليه من توسل إلى فلان بكذا أي تقرب إليه. وجمعها: وسائل.
وقال البيضاوي على قوله: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35] أي: ما يتوسلون به إلى ثوابه، والزلفى منه، من فعل الطاعات، وترك المعاصي، من وسل إلى كذا: إذا تقرب إليه.
ص -490-(56/76)
وقال في الكلام على آية الإسراء: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} [الإسراء: 57] هؤلاء الآلهة يبتغون إلى الله القربة بالطاعة (أيهم أقرب) بدل من واو (يبتغون) أي: يبتغي من هو أقرب منهم إلى الله الوسيلة، فكيف بغير الأقرب.
وقال ابن كثير: وقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء: 57] روى البخاري من حديث سليمان بن مهران عن الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي معمر عن عبد الله في قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} [الإسراء: 57] قال: ناس من الجن، كانوا يُعبدون فأسلموا. وذكر رواية عن ابن مسعود: كانوا يعبدون صنفاً من الملائكة يقال لهم الجن. وذكر عن ابن عباس قال: عيسى، وأمه وعزير. وعنه: والشمس والقمر. قال مجاهد: عيسى وعزير والملائكة. واختار ابن جرير قول ابن مسعود، لقوله: (يبتغون)، وهذا لا يعرب به عن الماضي، فلا يدخل فيه عيسى والعزير.
وقال الوسيلة: هي القربة، كما قال تعالى، ولهذا قال: (أيهم أقرب) انتهى.
واختار شيخ الإسلام أن الآية تعم من ذكر وغيرهم ممن عبده المشركون من أولياء الله وعباده الصالحين.
ص -491-(56/77)
فتبين بهذا رد ما ذكره البغوي، فإن المفسرين ذكروا ابتغاء الوسيلة، وهو طلب القربة، فتقدم قول البيضاوي في قوله: (أيهم أقرب) أنه بدل من الواو في (يبتغون)، وقال أبو حفص العكبري: (أيهم) مبتدأ، و(أقرب) خبره، وهو استفهام، والجملة في موضع نصب بيدعون. وعلى كلا القولين لا يصح ما ذكره البغوي من توسل بعضهم ببعض.
وفي "الجلالين" (أولئك الذين) يدعونهم آلهة (يبتغون) يطلبون (إلى ربهم الوسيلة) القربة بالطاعة (أيهم) بدل من واو (يبتغون) أي يبتغيها الذي هو أقرب إليه، فكيف بغيره.
إذا عرف هذا، تبين فساد قول البغوي1 في آية "الإسراء" فإن التوسل في العرف الشرعي فعل ما يتوسل به إلى الله من الإيمان به، والعمل الصالح، الذي شرعه ويرضاه، كما في حديث الثلاثة الذين آووا إلى الغار، فانطبقت عليهم الصخرة. هذا هو التوسل المعروف، كما عليه أهل الإسلام من المفسرين وغيرهم، ومن قول قتادة؛ أي تقربوا إليه بطاعته، والعمل بما يرضيه. وتقدم قول ابن كثير بعد حكاية هذا: وهذا لا خلاف فيه بين المفسرين. فذكر الإجماع على أن المراد القربة بالعمل الصالح، وما يرضاه تعالى.
ثم لو سلم صحة ما ذكره البغوي، فليس المراد أن
__________
1 انظر ص 498 ها هنا.
ص -492-(56/78)
بعضهم يدعو من هو أقرب منه، ويسأله الشفاعة والتقرب، بل التوسل يطلق عنده على سؤال الله بجاه المقربين، وبحق الصالحين، لا كما يظنه عباد القبور من أن التوسل هو دعاء الصالح نفسه، وقصده بالمسألة والطلب من دون الله، والتقرب إليه بالذبح والنذر، وغيرهما من العبادات، فإن هذا عين الشرك الذي نزلت الآية بإبطال، والرد على أهله، فإن الجاهلية من الأميين والكتابيين يدعون الملائكة وعيسى وأمه والعزير، ويتوجهون إليه في حاجاتهم وملماتهم، ويتقربون إليهم بصرف الأموال ذبحاً ونذراً، فرد الله عليهم هذا الفعل من صنيعهم، وأخبرهم أن هؤلاء المدعوين لا يملكون كشف الضر، ولا تحويله من حال إلى حال، لأن من عبد الأنبياء والصالحين يدعي أنه يكشف الضر بواسطتهم، وعلى أيديهم، كما يقوله عباد القبور، فأخبرهم تعالم أن هؤلاء المدعوين عبيده، كما أن الداعين عبيده، وأنهم يرجونه رحمته، ويخافون عذابه، والخائف الراجي لا يصلح أن يكون مدعواً ومعبوداً، فانظر هذه الآية الكريمة، وما دلت عليه، وما سيقت له، وانظر حقيقة دعوى العراقي، وما يفعله الغلاة في الأولياء والصالحين، ومسألتهم وتعظيمهم بشيء من العبادات، كالذبح والنذر لهم، وعلى إبطال دعواه أيضاً في التوسل الشركي بالصالحين، ودعائهم ومسألتهم وبهذا تعرف أنه
ص -493-(56/79)
مشاق لله ورسوله، يستدل بالآية الكريمة على نقيض ما دلت عليه، ويفهم منها عكس ما دعت إليه، وهكذا حال القلوب المنكوسة، تتصور الأشياء على خلاف ما هي عليه، وأهل العلم كافة استدلوا بهذه الآية على إبطال التوسل الشركي، الذي هو دعاء الصالحين، والعراقي استدل بها على جوازه واستحبابه، فبعداً للقوم الظالمين.
وأما قول العراقي: ( فظاهر الآية عام في الأفعال والذوات) هذا قول داود.
وقال صاحب هذه الرسالة1: (والوهابية جعلت الوسيلة خاصة بالأفعال، وهو تحكم، بل ظاهر الآية تخصيصها بالذوات).
قال شيخنا: فهذا يكذبه ويبطله ما مر من إجماع المفسرين على أن الوسيلة هي التقرب إلى الله بطاعته، وبما يرضيه مما شرعه وأذن فيه.
والتوسل الذي يريده العراقي بذات الصالحين هو دعاؤهم ومسألتهم وتعظيمهم بالعبادة، وتقدم كلام ابن القيم في أنه يستحيل أن تأتي شريعة من الشرائع بإباحة ذلك.
وقوله: (ومن ادعى التخصيص بأحدهما فقد تحكم) ففي هذا القول من سوء الأدب مع الشارع، والجرأة
__________
1 يعني العراقي.
ص -494-(56/80)
على الله وعلى رسوله، ما يعلمه أهل العلم بدينه، الذين عقلوا عنه مراده، وعرفوا أنه أخص القرب التي يحبها ويرضاها، ونهى عن مجاوزتها إلى البدع والضلالات، فالمخصص للقرب والوسائل هو الله ورسوله، قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}[الشورى: 21].
ثم اقتحم العراقي وأتى بقولة يضحك منها صبيان المكاتب، فقال: (على أن ظاهر سياق الآيات تخصيصه بالذوات) فأتى على ما قاله المفسرون قاطبة فهدمه، واجتث أصله، ورده من لا يؤمن بالكتاب، ولا يخاف سواء الحساب، واستدلاله على تلك الدعوى الضالة بأن (التقوى فعل المأمور وترك المنهي عنه، وإذا فسر ابتغاء الوسلية بالأعمال يكون تأكيداً فيكون مكرراً، وإذا أريد التوسل بالذوات يكون ناشئاً، وهو خير من التأكيد) هذا كلامه بحروفه، وكفى بهذا خزياً وفضيحة، وتسجيلاً على جهالة، وأنه ما عرف شرعاً، ولا لغة، ولا ديناً، وهذا مردود بوجوه:
الأول: إن ابن كثير قرر أن التقوى إذا قرنت بالطاعة أو الوسيلة كان المراد بها الانكفاف عن المحارم وترك المنهي، كما في هذه الآية. والوسيلة هي التقرب إلى الله بأنواع الطاعات، وأصناف العبادات، ومراده أنها
ص -495-(56/81)
إذا أطلقت ولم تقترن بغيرها دخل فيها فعل المأمور وترك المحظور، وهكذا اسم العبادة، والطاعة، تعم عند الإطلاق وتخص مع الاقتران والتقييد.
فالعراقي لم يعرف مسمى التقوى في هذا المحل، وخبط خبط عشواء.
الوجه الثاني: إن الوسيلة ما يقرب إلى الله تعالى، والتقوى تطلق على ما يتقى به عذابه، ويرجى به ثوابه، فلو قيل بهذا الإطلاق هنا، فالقرب إلى الله وطلبه أخص مما قبله.
الوجه الثالث: إن التأكيد يكون خيراً من التأسيس إذا اقتضاه الحال، وقصد رفع المجاز، وإبطال توهمه، أو قصد بيان خصوصية الفرد المعطوف، والاهتمام به، كما في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاة} [الأعراف: 170].
الوجه الرابع: إن التأسيس لا يجري هنا، ولا يصح قصده.
ص -496-
فصل
قال العراقي: (ومنها قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ}[الإسراء: 57] قال ابن عباس: هم عيسى وأمه وعزير والملائكة. وتفسير الآية: أن الكفار يعبدون الأنبياء والملائكة على أنهم أرباب، فيقول الله لهم: أولئك الذين تعبدونهم هم يتوسلون إلى الله بمن هو أقرب، فكيف تجعلونهم أرباباً، وهم عبيده مفتقرون إلى ربهم متوسلون إليه بمن هو أعلى مقاماً منهم).
والجواب أن يقال: وهكذا قال داود بن جرجيس. وقد أجابه الشيخ فقال:
والجواب أولاً: لولا ما يقصده المؤمن من رد هذه الأقوال الضالة الكاذبة التي تتضمن الكذب على الله، وتحريف كتابه، وتغيير دينه، والقول عليه بغير علم، لما جازت حكاية هذا الإفك ونقله، والله سبحانه ذكر أقوال أعدائه وأعداء رسله في معرض الرد لها، وإبطالها، والتسجيل على ضلالة أهلها.
ص -497-(56/82)
فأما ما نقله عن البغوي، فقد حرفه، وكذب فيه، وهذه عبارة البغوي نسوقها بحروفها، قال في قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ}[الإسراء: 57].
يعني الذين يدعونهم المشركون آلهة ويعبدونهم. قال ابن عباس ومجاهد: هم عيسى وأمه وعزير، والملائكة والشمس والقمر، والنجوم. يبتغون: أي يطلبون إلى ربهم الوسيلة، أي القربة، وقيل: الوسيلة: الدرجة العليا، أي يتضرعون إلى الله في طلب الدرجة العليا، وقيل الوسيلة: كل ما يتقرب به إلى الله عز وجل، وقوله: (أيهم أقرب) معناه: ينظرون أيهم أقرب إلى الله فيتوسلون به. وقال الزجاج (أيهم أقرب): يبتغي الوسيلة إلى الله، ويتقرب إليه بالعمل الصالح.
هذه عبارة البغوي بحروفها1.
وقد تصرف فيها هذا الضال، فحذف منها قول ابن عباس: (والشمس والقمر والنجوم)، وحرف قوله: (يطلبون إلى ربهم الوسيلة أي القربة) فقال العراقي: كل ما يتقرب به إلى الله، وعبارة البغوي (القربة) وحذف قول البغوي: (وقيل الوسيلة الدرجة العليا، أي يتضرعون
__________
1 (3/120/ ط دار المعرفة).
ص -498-(56/83)
إلى الله في طلب الدرجة العليا)، وزاد في قوله: (ينظرون أيهم أقرب إلى الله) فقال العراقي: (وأعلى جاها)، وزاد: (ويتشفعون به إلى ربهم) هذا تحريفه لكلام البغوي1.
قلت: وأما صاحب الرسالة فإنه ألطف في التحريف، وأجرأ على الله بالكذب من داود، فإن داود نسب الكلام إلى البغوي وحرفه، وتصرف فيه، وزاد، وهذا جزم أن تفسير الآية: أن الكفار يعبدون الأنبياء والملائكة على أنهم أربابهم، كما ذكر داود، وذكر هذا كما ذكر داود إلى آخره.
والمقصود أنهم يغترفون من عين واحد.
قال الشيخ في جوابه: والرجل يشتهي يأخذ ما يهوى، ويدع ما هو الأولى والأقوى، فأول عبارة البغوي ترد قوله: (ينظرون أيهم أقرب إلى الله فيتوسلون به) لأن الشمس والقمر والنجوم لا يتأتى منهم ذلك، والملائكة وعزير وعيسى، لم يرد نقل ولا حجة ولا برهان على أن بعضهم يسأل الله ببعض، ويتوسل به، ويقصده في حاجاته وملماته، فما قاله البغوي هنا غير مسلم. وقد تقدم كلام المفسرين، وأنهم لم يرتضوا هذا، ولم يقله أحد منهم. وتقدم قول ابن كثير في تفسير قتادة أنه لا خلاف بين المفسرين في ذلك. وتقدم قول أبي
__________
1 انتهى كلام الشيخ عبد اللطيف.
ص -499-(56/84)
حفص والبيضاوي، والجلالين. فعدل العراقي عن هذا كله، وتمسك بالمتشابه، كما قال ابن القيم: وأعرض النصارى عن الأصول المحكمة، وتمسكوا بالمتشابه. على أن عبارة البغوي ليس فيها شاهد ودليل لعباد القبور، بل هي تدل على خلافه1 فإن التوسل الذي يشير إليه، وينصرف الاسم عليه عند الإطلاق، هو التوسل الشرعي، ومنه دعاء المؤمنين بعضهم لبعض، كالأسباب العادية، وقد يراد بالتوسل في عرف بعض الناس: سؤال الله تعالى بحق أوليائه. وعلى كل فليس فيه دليل لدعاء الموتى والغائبين، كما يفعله عباد القبور من الضالين والمشركين، ويحتمل أنه أراد بقوله: (أن ينظرون أيهم أقرب فيتوسلون به) معنى صحيحاً شرعياً، وهو الاقتداء بهم، وسلوك سبيلهم، واقتفاء آثارهم، قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِه} [الأنعام: 90] وقد يتعين هذا الاحتمال لوجوب إحسان الظن بالعلماء.
وقول العراقي في معنى الآية: (إن الكفار يعبدون الأنبياء والملائكة على أنهم أربابهم) يريد به أن المشركين يعتقدون أن آلهتهم تخلق وترزق وتدبر، وهذا قد رده القرآن، وأبطله في غير موضع –كما تقدم تقريره- والعراقي يلجأ إلى
__________
1 إلى هنا انتهى البياض الموجود في الأصل (الطبعة الهندية).
ص -500-(56/85)
الضياء الشارق في رد شبهات الماذق المارق - سليمان بن سحمان (6)
هذا لئلا يدخل ما فعله عباد القبور فيما نهى عنه القرآن من اتخاذ الآلهة من دون الله، وعبادتها معه، وهذا لازم لعباد القبور لا محيص عنه، والحكم يدور مع علته، والقرآن كفر المشركين، وأنكر عليهم: دعاء غير الله، ومحبة سواه، وتعظيم ما يدعى معه، بالذبح والنذر، وسائر العبادات، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّه} [البقرة: 165]، وقال: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} [الإسراء:56]، وقال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِه} [المؤمنون: 117]، وقال تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس:106]. وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن:18] والآيات في المعنى كثيرة، يبين تعالى أنه كفرهم، وأنكر عليهم، وتوعدهم بالنار على عبادة غيره، ودعاء سواه. والعبادة فعل العبد الذي هو الحب مع الله، والخضوع والتعظيم والدعاء رغباً ورهباً.
وإطلاق الأرباب على الآلهة كقوله تعالى: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف: 39]، وقوله: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً} [آل عمران: 80]، ونحو ذلك إنما يراد به ما ذكرنا، لأن المعبود يسمى رباً، وهذا مما لا خلاف فيه بين المفسرين، بل السيد يسمى ربا،
ص -501-(57/1)
فتنبه لهذا، فقد زل بهذه الشبهة كثير من المنتسبين إلى العلم والدين -ثم ذكر الشيخ كلاماً طويلاً عن شيخ الإسلام قال في آخره:
ولهذا كان من أتباع هؤلاء من يسجد للشمس والقمر والكواكب، ويدعوها ويصوم وينسك لها، ويتقرب إليها، ثم يقول: إن هذا ليس بشرك، وإنما الشرك إذا اعتقدت أنها المدبرة لي، فإذا جعلتها سبباً وواسطة لم أكن مشركاً، ومن المعلوم بالاضطرار من دين المسلمين أن هذا شرك. انتهى.
فتأمله فإن فيه حكاية قول سلف هذا العراقي. وفيه أن ما قاله العراقي شرك يعلم بالاضطرار من دين الإسلام، والله المستعان.
وأما قول العراقي: (فيقول الله تعالى: أولئك الذين تعبدونهم يتوسلون إلي بمن هو أقرب، يعني: فهو محتاجون) فقد كذب على الله، ما عنى سبحانه وتعالى بهذا المعنى، ولا أراده تبارك وتقدس، عما يقول الظالمون علواً كبيراً، ما أجرأ هذا المتكلم على الله، وعلى كتابه، وعلى دينه {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} [الزخرف:83، والمعارج: 42]، وتقدم قول المفسرين، وقول شيخ الإسلام: إن هؤلاء المدعوين عبيده، كما أن الداعين عبيده، وأنهم يرجون رحمته، ويخافون عذابه. نعوذ بالله من اقتحام هذه المهالك، والتوثب على تلك
ص -502-
الدركات التي تهوي بصاحبها إلى أسفل سافلين، قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 23]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت:40].
ص -503-(57/2)
فصل
قال العراقي: (ومنها: قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً}[النساء: 64] فقد علق الله تعالى قبول استغفارهم باستغفاره عليه الصلاة والسلام، وفي ذلك صريح دلالة على جواز التوسل به صلى الله عليه وسلم، وقبول المتوسل به، كما يفهم من قوله تعالى: {لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً}[النساء: 6] وأنت تعلم أن استغفاره صلى الله عليه وسلم لأمته لا يتقيد بحال حياته، كما دلت عليه الأحاديث الواردة، مما سننقله، لا يقال: إن الآية وردت في قوم معينين، فلا عموم لها، لأنا نقول: إنها وإن وردت في قوم معينين في حال حياته صلى الله عليه وسلم، تعم بعموم العلة كل من وجد فيه ذلك الوصف، سواء كان في حال حياته، أو بعد موته صلى الله عليه وسلم).
والجواب أن نقول: قد سبق هؤلاء إلى الاستدلال بهذه الآية السبكي بنحو مما قال هذا، وأجابه الحافظ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي –رحمه الله تعالى- فقال1:
__________
1 في كتابه (الصارم المنكي في الرد على السبكي) ط الإفتاء (ص424) وما بعدها.
ص -504-(57/3)
أما استدلاله بقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ}[النساء: 64] الآية، فالكلام فيها في مقامين:
أحدهما: عدم دلالتها على مطلوبه.
الثانية: بيان دلالتها على نقيضه. وإنما يتبين الأمران بفهم الآية، وما أريد بها، وسيقت به، وما فهمه منها أعلم الأمة بالقرآن ومعانية، وهم سلف الأمة، ومن سلك سبيلهم.
ولم يفهم منها أحد من السلف والخلف إلا المجيء إليه في حياته ليستغفر لهم، وقد ذم تعالى من تخلف عن هذا المجيء، إذ ظلم نفسه، وأخبر أنه من المنافقين، فقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [المنافقون:5].
وكذلك هذه الآية إنما هي في المنافق الذي رضي بحكم كعب بن الأشرف وغيره من الطواغيت، دون حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فظلم نفسه بهذا أعظم ظلم، حيث لم يجيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر له، فإن المجيء إليه يستغفر له توبة وتنصل من الذنوب، وهذه كانت عادة الصحابة معه صلى الله عليه وسلم أن أحدهم متى صدر منه ما يقتضي التوبة، جاء إليه فقال: يا رسول الله إني فعلت كذا وكذا فاستغفر لي، وهذا كان فرقاً بينهم وبين المنافقين.
ص -505-(57/4)
فلما استأثر الله عز وجل بنبيه صلى الله عليه وسلم، ونقله من بين أظهرهم إلى دار كرامته، لم يكن أحد منهم قط يأتي إلى قبره ويقول: يا رسول الله فعلت كذا وكذا فاستغفر لي، ومن نقل هذا عن أحد منهم فقد جاهر بالكذب والبهت، أفترى: عطل1 الصحابة والتابعون -وهم خير القرون على الإطلاق- هذا الواجب الذي ذم الله سبحانه من تخلف عنه، وجعل التخلف عنه من أمارات النفاق، ووفق2 له من لا يؤبه له من الناس، ولا يعد في أهل العلم. فكيف أغفل هذا أئمة الإسلام وهداة الأنام من أهل الحديث والفقه والتفسير، ومن لهم لسان صدق في الأمة، فلم يدعوا إليه، ولم يحضوا عليه، ولم يرشدوا إليه، ولم يفعله إحد منهم ألبتة؟ بل المنقول الثابت عنهم ما قد عرف مما يسوء الغلاة فيما يكرهه وينهى عنه من الغلو والشرك الجفاة عما يحبه ويأمر به من التوحيد والعبودية.
ولما كان هذا المنقول شجى في حلوق الغلاة، وقذى في عيونهم، وريبة في قلوبهم، قابلوه بالتكذيب والطعن في الناقل، ومن استحيا منهم من أهل العلم بالآثار قابله بالتحريف والتبديل. ويأبى الله إلا أن يعلي منار الحق، ويظهر أدلته ليهتدي المسترشد، وتقوم الحجة
__________
1 في الأصل: "وافترى على".
2 في ط الرياض: "ووقف".
ص -506-(57/5)
على المعاند فيعلي الله بالحق من يشاء، ويضع برده وبطره وغمص أهله من يشاء.
ويا لله العجب أكان ظلم الأمة لأنفسها ونبيها بين أظهرها موجود، وقد دعيت فيه إلى المجيء إليه ليستغفر1 لها، وذم من تخلف عن المجيء2، فلما توفي صلى الله عليه وسلم ارتفع ظلمها لأنفسها بحيث لا يحتاج أحد منهم إلى المجيء إليه3 ليستغفر له.
وهذا يبين أن هذا التأويل الذي تأوله عليه المعترض هذه الآية تأويل بطال قطعاً، ولو كان حقاً لسبقونا إليه علماً وعملاً، وإرشاداً ونصيحة.
ولا يجوز إحداث تأويل في آية أو سنة، لم يكن على عهد السلف، ولا عرفوه، ولا بينوه للأمة، فإنه يتضمن أنهم جهلوا الحق في هذا، وضلوا عنه، واهتدى إليه هذا المعترض المستأخر، فكيف إذا كان التأويل يخالف تأويلهم ويناقضه.
وبطلان هذا التأويل أظهر من أن يطنب في رده، وإنما ننبه عليه بعض التنبيه.
__________
1 في الأصل: "إلى المجيء إليه ليستغفر".
2 في الأصل: "عن هذا المجيء".
3 سقطت "إليه" من ط الرياض.
ص -507-(57/6)
ومما يدل على بطلانه قطعاً: أنه لا يشك مسلم أن من دعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، وقد ظلم نفسه ليستغفر له، فأعرض عن المجيء وأباه، مع قدرته عليه، كان مذموماً غاية الذم، مغموصاً بالنفاق. ولا كذلك من دعي إلى قبره ليستغفر له، ومن سوى بين الأمرين، وبين المدعوين، وبين الدعوتين، فقد جاهر بالباطل، وقال على الله وكلامه ورسوله وأمناء1 دينه غير الحق.
وأما دلالة الآية على خلاف تأويله فهو أنه سبحانه صدرها بقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} [النساء:64] وهذا يدل على أن مجيئهم إليه ليستغفر لهم إذ ظلموا أنفسهم طاعة له، ولهذا ذم من تخلف عن هذه الطاعة، ولم يقل مسلم قط إن على من ظلم نفسه بعد موته أن يذهب إلى قبره، ويسأله أن يستغفر له، ولو كان هذا طاعة له لكان خير القرون قد عصوا هذه الطاعة، وعطلوها، ووفق لهذا هؤلاء الغلاة العصاة، وهذا بخلاف قوله: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65] فإنه نفى الإيمان عمن لم يحكمه، وتحكيمه هو تحكيم ما جاء به حياً وميتاً، ففي
__________
1 سقطت "وأمناء" من الأصل.
ص -508-(57/7)
حياته كان هو الحكم بينهم بالوحي، وبعد وفاته نوابه وخلفاءه، يوضح ذلك أنه قال: "لا تجعلوا قبري عيداً"1 ولو كان يشرع لكل مذنب أن يأتي إلى قبره ليستغفر له لكان القبر أعظم أعياد المذنبين، وهذا مضادة صريحة لدينه، وما جاء به، ولو كان مشروعاً لأمر به أمته، وحضهم عليه، ورغبهم فيه، ولكان الصحابة وتابعوهم بإحسان أرغب شيء فيه، وأسبق إليه.
ولم ينقل عن أحد منهم قط وهم القدوة بنوع من أنواع الأسانيد أنه جاء إلى قبره ليستغفر له، ولا شكا إليه، ولا سأله.
والذي صح عنه مجيء القبر للتسليم فقط، هو ابن عمر، وكان يفعل ذلك عند قدومه من السفر، ولم يكن يزيد على التسليم شيئاً ألبتة، ومع هذا فقد قال عبيد الله بن عمر العمري الذي هو أجل أصحاب نافع، أو من أجلهم: ما نعلم أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك إلا ابن عمر.
__________
1 أخرجه الإمام أحمد في "المسند" 2/367، وأبو داود في كتاب المناسك في "سننه" 2/534 من طريق عبد الله بن نافع أخبرني ابن ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تتخذوا قبري عيداً، ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً، وحيثما كنتم فصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني" هذا لفظ أحمد. =
ص -509-(57/8)
................................................................................................................
__________
= ولفظ أبي داود: "لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم".
قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية بعد أن ساق سند الحديث في "الاقتضاء" 2/654:
وهذا إسناد حسن، فإن رواته كلهم ثقات مشاهير. لكن عبد الله بن نافع الصائغ الفقيه المدني صاحب مالك فيه لين، لا يقدح في حديثه. قال يحيى بن معين: هو ثقة. وحسبك بابن معين موثقاً. وقال أبو زرعة: لا بأس به.
وقال أبو حاتم الرازي: ليس بالحافظ، وهو لين تعرف حفظه وتنكر. فإن هذه العبارات منهم تنزل حديثه من مرتبة الصحيح إلى مرتبة الحسن، إذ لا خلاف في عدالته وفقهه، وأن الغالب عليه الضبط، لكن قد يغلط أحياناً ثم هذا الحديث مما يعرف من حفظه، ليس مما ينكر، لأنه سنة مدنية، وهو محتاج إليه في فقهه، ومثل هذا يضبطه الفقيه.
وللحديث شواهد من غير طريقه، فإن الحديث روي من جهات أخرى، فما بقي منكراً.
وكل جملة من هذا الحديث رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم بأسانيد معروفة، وإنما الغرض هنا النهي عن اتخاذه عيداً.
فمن ذلك ما رواه أبو يعلى في مسنده: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا زيد بن الحباب حدثنا جعفر بن إبراهيم من ولد ذي الجناحين، حدثنا علي بن عمر عن أبيه عن علي بن الحسين أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها فيدعو. فنهاه، فقال: ألا أحدثكم حديثاً سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتخذوا قبري عيداً، ولابيوتكم قبوراً، فإن تسليمكم يبلغني إينما كنتم". =
ص -510-(57/9)
................................................................................................................
__________
= رواه أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي، الحافظ فيما اختاره من الأحاديث الجياد الزائدة على الصحيحين، وشرطه فيه أحسن من شرط الحاكم في صحيحه اهـ . كلام شيخ الإسلام.
قال الهيثمي في المجمع 4/3 على هذا الحديث: "رواه أبو يعلى وفيه حفص بن إبراهيم الجعفري ذكره ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه جرحاً وبقية رجاله ثقات" اهـ.
قلت: كذا في الأصل "حفص" والصواب "جعفر" كما ساقه شيخ الإسلام، وكما في المصنف لابن أبي شيبة 2/375 –وفضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم للجهضمي ص 33.
وفي سنده أيضاً علي بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ذكره ابن حبان في "الثقات" وقال: يعتبر حديثه من غير وراية أولاده عنه اهـ من التهذيب. وقال الحافظ ابن حجر في التقريب: "مستور" اهـ.
ثم ذكر شيخ الإسلام لهذا الحديث شاهدين فقال في المصدر السابق: وروى سعيد بن منصور في سننه حدثنا حبان بن علي حدثني محمد بن عجلان عن أبي سعيد مولى المهري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تتخذوا بيتي عيداً، ولا بيوتكم قبوراً، وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتك تبلغني" اهـ كلام شيخ الإسلام.
وحبان بن علي هذا ضعفه الأئمة كما في التهذيب 2/173. وأبو سعيد مولى المهري قال عنه الحافظ ابن حجر في التقريب: مقبول. اهـ.
يعني حيث يتابع وإلا فلين كما نص على هذا في المقدمة.
قال شيخ الإسلام في المصدر السابق: وقال سعيد: حدثنا عبد العزيز بن محمد أخبرني سهيل بن أبي سهيل قال: رآني الحسن بن علي بن أبي طالب عند القبر فناداني وهو في بيت فاطمة يتعشى. فقال: هلم إلى العشاء. فقلت: لا أريده. فقال: ما لي رأيتك عند القبر؟ فقلت: سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: إذا دخلت المسجد فسلم. ثم(57/10)
قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتخذوا بيوتكم مقابر، لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم" وما أنت ومن بالأندلس إلا سواء.
فهذا المرسلان من هذين الوجهين المختلفين يدلان على ثبوت الحديث، لا سيما وقد احتج من أرسله به، وذلك يقتضي ثبوته عنده، ولو لم يكن من وجوه مسندة غير هذين. فكيف وقد تقدم مسنداً اهـ.
ص -511-
ومعلوم أنه لا هدي أكمل من هدي الصحابة، ولا تعظيم لرسول الله فوق تعظيمهم، ولا معرفة لقدرة فوق معرفتهم، فمن خالفهم إما أن يكون أهدى منهم، أو يكون مرتكباً لنوع من البدع، كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لقوم رآهم اجتمعوا على ذكر يقولونه: لأنتم أهدى من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم... أو أنتم على شعبة الضلال.
فتبين أنه لو كان استغفاره لمن جاءه مستغفراً بعد موته ممكناً أو مشروعاً، لكان كمال شفقته ورحمته بالأمة تقتضي ترغيبهم في ذلك، وحضهم عليه. انتهى.
وأما قوله: (فقد علق تعالى قبول استغفارهم باستغفاره)، وهذا حق، ولكنه في حال حياته لا بعد وفاته.
وقوله: (وفي ذلك صريح دلالة على جواز التوسل به صلى الله عليه وسلم، وقبول المتوسل به).
ص -512-(57/11)
فأقول: نعم، هذا حق، فقد كان الصحابة رضي الله عنهم يتوسلون به في حال حياته، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: اللهم إنا1 كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا، فاسقنا.
فلو كان التوسل به بعد وفاته جائزاً لما عدل الفاروق إلى عمه العباس، مع إمكان التوسل به عند قبره -لو كان جائزاً- ومن المعلوم أن التوسل المشروع إنما هو بدعائه، كما تقدم بيانه، وكما سيأتي إن شاء الله.
بل في ذلك أصرح دلالة على المنع من التوسل به الشرعي بعد وفاته، بدليل أنه لا أكمل من هدي الصحابة، ولا تعظيم للرسول صلى الله عليه وسلم فوق تعظيمهم، ولا معرفة لقدره فوق معرفتهم، ومع ذلك لم يكن أحد منهم قط يأتي إلى قبره، ويقول: يا رسول الله فعلت كذا وكذا، فاستغفر لي، ومن نقل هذا عن أحد منهم فقد جاهر بالكذب والبهت.
وأما قوله: (وأنت تعلم أن استغفاره صلى الله عليه وسلم لأمته لا يتقيد بحال حياته، كما دلت عليه الأحاديث الواردة مما سننقله).
__________
1 في الأصل: "أنه".
ص -513-(57/12)
فأقول: لو كان طلب الاستغفار منه صلى الله عليه وسلم جائزاً بعد وفاته عند قبره، أو من مكان بعيد منه، أو كان مشروعاً لأمر به أمته، وحضهم عليه، ورغبهم فيه، ولكان الصحابة رضي الله عنهم وتابعوهم بإحسان أرغب شيء فيه، وأسبق إليه، ولم ينقل عن أحد منهم قط -وهم القدوة- بنوع من أنواع1 الأسانيد أنه جاء إلى قبره ليستغفر له، ولا شكا إليه، ولا سأله، وقد تقدم بيان هذا.
وأما قوله: (لا يقال إن الآية وردت في قوم معينين، فلا عموم لها...)الخ.
فأقول: نعم، الأمر كما أقر به الخصم في هذا2 المقام، من أن الآية وردت في قوم معينين من أهل النفاق، يدل عليه قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} [النساء:61] فهي تعم ما وردت فيه، وما كان مثله، فهي عامة في حق كل من ظلم نفسه من كل منافق قيل به: تعال إلى ما أنزل الله وإلى الرسول، فصد عن الرسول صدوداً، وتحاكم إلى الطاغوت، ثم جاء الرسول في حياته،
__________
1 في الأصل: "نوع".
2 في الأصل: "هذه".
ص -514-
فاستغفر الله واستغفر له الرسول في حياته، وأما المؤمن الذي عصى وظلم نفسه، فجاء قبر الرسول صلى الله عليه وسلم فاستغفر الله، فليس مثله، لما تقدم بيانه.
ص -515-(57/13)
فصل
قال العراقي: (ومنها قوله تعالى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ}[القصص: 15] فنسب الله تعالى الاستغاثة إلى غيره من المخلوق، وكفى به دليلاً على جوازها، فإن قيل: إن المستغاث في هذه الآية حي وله قدرة، وإنما كلامنا في الميت. أجيب: بأن نسبة القدرة إليه إن كان استقلالاً فهي كفر، وإن كانت بقدرته تعالى على أن يكون هو السبب والوسيلة ليس إلا فلا فرق بين الحي والميت، فإن الميت له كرامة، وإذا لم تنسب إلى الله حقيقة وإلى غيره مجازاً كانت الاستغاثة ممنوعة، ومن هنا تعلم سر نفي النبي صلى الله عليه وسلم الاستغاثة عن نفسه عندما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق. فقال عليه السلام: "لا يستغاث بي إنما يستغاث بالله"1 مع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان(57/14)
__________
1 تقدم الكلام عليه في "الرد على القبوريين" لابن معمر. وأن في سنده ابن لهيعة لكن تكلم عليه شيخ الإسلام بكلام حسن عندما تعقبه البكري في إيراد هذا الحديث فقال في رده على البكري ص 153:
هذا الخبر لم يذكر للاعتماد عليه، بل ذكر في ضمن غيره ليتبين أن معناه موافق للمعاني المعلومة بالكتاب والسنة، كما أنه إذا ذكر حكم بدليل معلوم، ذكر ما يوافقه من الآثار والمراسيل وأقوال العلماء وغير ذلك لما في ذلك من الاعتضاد والمعاونة، لا لأن الواحد من ذلك يعتمد عليه في حكم شرعي.
ولهذا كان العلماء متفقين على جواز الاعتضاد والترجيح بما لا يصلح أن يكون هو العمدة من الأخبار التي تكلم في بعض رواتها لسوء حفظ أو نحو ذلك، وبآثار الصحابة والتابعين، بل بأقوال المشايخ والإسرائيليات للاعتماد نوع.
وهذا الخبر من النوع الأول، فإنه رواه الطبراني في معجمه من حديث ابن لهيعة، وقد قال أحمد: قد كتبت حديث الرجل لأعتبر وأستشهد به مثل حديث ابن لهيعة.
فإن عبد الله بن لهيعة قاضي مصر كان من أهل العلم والدين باتفاق العلماء، ولم يكن ممن يكذب باتفاقهم. ولكن قيل: إن كتبه احترقت فوقع في بعض حديثه غلط، ولهذا فرقوا بين من حدث عنه قديماً، وبين من حدث عنه حديثاً، وأهل السنن يروون له.
إلى أن قال: وقد روي الناس هذا الحديث من أكثر من خمسمائة سنة، إن كان ضعيفاً وإلا فهو مروي في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، وما زال العلماء يقرؤون ذلك، ويسمعون في المجالس الكبار والصغار، ولم يقل أحد من المسلمين إن إطلاق القول: إنه لا يستغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم كفر ولا حرام... الخ كلامه رحمه الله تعالى.
ص -516-(57/15)
حينئذ حياً، وله قدرة، فإنما قصد صلى الله عليه وسلم نفي الاستغاثة الحقيقية، فأراد تعليم أمته أنها لا تكون إلا بالله).
والجواب أن يقال: هذه شبهة داود. وإنما تصرف فيها هذا، ولم يخرج عن مقصوده بشيء. فقال شيخنا رحمه الله:
وقوف أهل البصائر على هذا الكلام يكفي في رده وإبطاله، وبيان ما فيه من الجهل الغليظ. وهذا الصنف من
ص -517-
الناس إنما أتوا1 من بعدهم عما جاءت به الرسل، وكونهم أجانب عنه، ليسوا من أهل الوراثة النبوية، فهم في ظلمات بعضها فوق بعض.
وهذه الآية الكريمة فيها الخبر2 عن الإسرائيلي، لأنه استغاث موسى على القبطي الذي هو من عدوه، والأفعال العادية القائمة بفاعلها تنسب إليه، وتضاف إليه حقيقة، من إضافة الفعل إلى فاعله، فيقال: أكل وشرب، وقام وقعد، وقال وحكى، ودعا واستغاث، حقيقة لا مجازاً، بإجماع العقلاء، ولم يخالف في إضافة الأفعال إلى فاعلها حقيقة إلا من هو أجهل الناس، وأضلهم عن سواء السبيل، وهذا لم نقل بمنعه حتى يستدل علينا بالنسبة التي في الآية. مع أن الاستدلال بها يترجم عن جهل المعترض، وعدم فهمه عن الله، وقد نسب الرب تبارك وتعالى إلى أعدائه ما نسبوه إليه من اتخاذ الصاحبة والولد، وجعل الشركاء معه، والنسبة لا يستدل بها من يعقل ما يقول، بل الدليل في حكايته على وجه التقرير، وعدم الإنكار، قال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [البقرة:116]، وقال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّه} [التوبة: 30]،
__________
1 في ط الرياض "أوتوا".
2 في الأصل: "من الخبر".
ص -518-(57/16)
وقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 72]، وقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة: 73]، وقال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ} [يس:74] فهذا كله منسوب إلى فاعله حقيقة، أفيقال بجوازه؟ وأنه لو كان ممنوعاً لما جازت النسبة، ويقال: هذا مجاز أيصح نفيه عنهم؟ تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
والعراقي جاهل1 الدين والمذهب واللسان، بل الجاهلية لا تقول إن النسبة إلى الفاعل مجاز، ولا تقول إنها تدل على عدم المنع مما نسب2 إلى الفاعلة.
والغرض بيان ما في كلام هذا من الفساد المتناهي، والآية ليست مما نحن فيه، فإن الإغاثة المثبتة ليس الدليل على إثباتها النسبة، وإنما هو ما جاءت به الشريعة الكاملة من جواز معاطاة الأسباب العادية، واستعانة الخلق بعضهم بعضاً في الجملة، والدليل من الآية ترك إنكاره وسياقه على وجه التقرير، ومسألة المخلوق محرمة في الأصل، وإنما أبيحت3 في الأسباب العادية للضرورة والحاجة، ولهذا بايع النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه على أن لا يسألوا
__________
1 في الأصل: "جاهلي".
2 في ط الرياض: "نسبه".
3 في ط الرياض: "البحث".
ص -519-(57/17)
الناس، فكان أحدهم يسقط السوط من يده فلا يقول لأحد ناولنيه1.
وقول العراقي: (وأما ما قيل: إن هذا حي، وله قدرة، فإن كان نسبة القدرة إليه استقلالاً فهو كفر، وإن كان بقدرة الله، وهو سبب ووسيلة، فلا فرق بين الحي والميت).
يقال: هذا تخليط وهذيان، فإن المسلمين متفقون على قول: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، يؤمنون بقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96] خلق في الحي اختياراً ومشيئة، بها يثاب، وبها يعاقب، وبها يكلف، والميت ليس له قدرة الحي ولا يكلف، بل
__________
1 في ط الرياض "ناولينه".
وأخرج الإمام مسلم في "صحيحه" كتاب الزكاة 2/721 عن عوف بن مالك الأشجعي قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. تسعة أو ثمانية أو سبعة. فقال: "ألا تبايعون رسول الله؟" وكنا حديث عهد ببيعة فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله. ثم قال: "ألا تبايعون رسول الله؟ فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله. ثم قال: "ألا تبايعون رسول الله؟" فبسطنا أيدينا وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، فعلام نبايعك؟ قال: "على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، والصلوات الخمس. وتطيعوا -وأسر كلمة خفيفة- ولا تسألوا الناس شيئاً" فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم، فما يسأل أحداً يناوله إياه".
ص -520-(57/18)
ينقطع عمله بموته، وتطوى صحيفته، ولا يسأل، ولا يستفتى، ولا يرجع إليه في شيء مما للعباد عليه قدرة، وسائر الحيوان يفرقون بين الحي والميت.
والعراقي يقول: (لا فرق عنده بين الحي والميت) قال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر:22] واستغاثة الميت ليست سبباً كاستغاثة المخلوق فيما يقدر عليه، ولم يجعل هذا سبباً إلا عباد الأصنام الذين هم1 أضل خلق الله، يجعلون الأموات سبباً ووسيلة، والميت ليس في شرع الله وما جاءت به رسله أن يدعو2 لمن دعاه، والكرامة ليست فعله، بل هي فعل الله، والمكرم لا يدعى، ولا يستغاث به، ولا يرجى لشيء من الشدائد، بل هذا فعل المشركين -كما تقدم- والقول بأن الله يقدره3 ظن وخرص لا يرجع إليه في دينه إلا ضال يتمسك بالأوهام الوثنية.
وقوله: (والجميع راجع إلى قدرة الله) لا ينقذه من المحذور، فإن المشركين يعترفون بربوبية الله لآلهتهم، ويعلمون أنها لا تستقل بشيء دونه، ولا تجوز نسبة الإغاثة
__________
1 في الأصل: "الذينهم".
2 في الأصل: "يدعوا".
3 في الأصل: "يقدر".
ص -521-(57/19)
إلى الموتى والغائبين، ولو مجازاً لاختصاصه تعالى بالعلم والقدرة والغوث الباطني، والنبي صلى الله عليه وسلم نفي الاستغاثة عن نفسه حماية للتوحيد، وصيانة لجانبه، وأدباً مع ربه، لا لأن الإغاثة لا تنسب إلى المغيث بالتسبب العادي حقيقة، وأنها تنسب مجازاً -كما توهمه الغبي الأكبر- ولم يرد تعليم أمته: أن الاستغاثة إنما تنسب للمخلوق مجازاً، فإن ما جاء به من الكتاب والسنة دال على إضافة الفعل لمكتسبه، ومن قام به، ولذلك رتب الثواب والعقاب والجزاء والحساب.
ولم يقول قول العراقي إلا القدرية المجبرة، ومن نحا نحوهم، من الجهمية ورد عليهم أهل السنة، بما يطول ذكره نقلاً وعقلاً، وقالوا: لو كان مجازاً لصح نفي أفعال المكلفين عنهم، ولكانوا بمنزلة الجمادات التي يحركها الغير، ويفعل بها من غير قصد لها ولا اختيار1، ويكون التعذيب والثواب يرجع إلى مجرد المشيئة والإرادة، من غير فعل للعبد يستحق به الثواب والعقاب، وأما إضافة الإغاثة والإنبات إلى الغيث والريح، كما في الحديث، وكما في قولهم: "أنبت الربيع البقل" فلم يجعل الغيث فاعلاً، كما زعمه هذا الأعجمي الذي لا يعقل شيئاً من
__________
1 في الأصل "ولا اختبار".
ص -522-
اللغة غاية ما قالوا: إنه مجاز عقلي، كما يعلم من رسالة السكاكي، والإضافة قد تقع ولو إلى أدنى ملابسة.
وقول العراقي: (فجعل الغيث هو فاعل الإغاثة مع أنه عرض) هذا مما يدل على أنه لا يفرق بين العرض والجوهر، ومن بلغ جهله إلى هذا الحد سقط الكلام معه. والقصد إعلام الطالب أن أعداء شيخنا من أجهل الورى، وأضلهم... إلى آخر كلامه، رحمه الله.
ص -523-(57/20)
فصل
قال العراقي: (ومنها: قوله تعالى: {لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} [مريم:87]، قال بعض المفسرين: إن العهد قول: "لا إله إلا الله، محمد رسول الله" وعليه: فمعنى الآية لا يشفع الشافعون إلا لمن قال: لا إله إلا الله وهم المؤمنون، كقوله تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]، وهو معنى بعيد أن يكون حينئذ تقدير الآية: لا يملكون الشفاعة لأحد إلا من اتخذ إلى آخره.
وفيه من التكلف ما فيه، والأحسن أن يكون تفسير قوله: {لا يَمْلِكُونَ} بمعنى" لا ينالون، فحينئذ يصح الاستثناء بدون تقدير شيء، وقيل معناه: لا يملك الشفاعة إلا من قال: "لا إله إلا الله" أي: لا يشفع المؤمنون، ومثله قوله تعالى: {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} [الزخرف:86]، والشهادة بالحق هي قول: "لا إله إلا الله" وحيث كان المراد من التوسل بالأنبياء والأولياء والصالحين والطلب منهم هو استشفاعهم، وقد
ص -524-(57/21)
أخبر أنهم يملكون الشفاعة، فأي مانع من طلب شيء مما ملكوه بإذنه تعالى، فيجوز أن تطلب منهم أن يعطوك مما أعطاهم الله تعالى، وإنما الممنوع هو طلب الشفاعة من الأصنام التي لا تملك شيئاً منها).
والجواب أن يقال: ما أعظم جراءة هذا الملحد على كلام الله بوضعه على غير موضعه، وعلى توهين ما قررة أئمة التفسير من السلف رضوان الله عليهم، فنذكر كلام أئمة التفسير ليتبين ضلال هذا الملحد، وعدم إدراكه فنقول:
قال الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري: يقول تعالى ذكره" لا يملك هؤلاء الكافرون بربهم -يا محمد- يوم يحشر الله المتقين إليه وفداً: الشفاعة حين يشفع أهل الإيمان بعضهم لبعض عند الله، فيشفع بعضهم، إلا من اتخذ منهم، عند الرحمن في الدنيا عهداً بالإيمان به، وتصديق رسوله، والإقرار به، والعمل بما أمر به. ثم ساق بسنده إلى ابن عباس قوله: {إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} [مريم:87]، قال: العهد شهادة أن لا إله إلا الله، ويتبرأ إلى الله من الحول والقوة، ولا يرجون إلا الله، وبسنده عن ابن جرير قال: المؤمنون يومئذ بعضهم لبعض شفعاء {إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} قال: عملاً صالحاً، وبسنده إلى
ص -525-(57/22)
قتادة قال: أي بطاعته، وبسنده إلى عوف بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن شفاعتي لمن مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً" ومن في قوله (إلا من) في موضع نصب على الاستثناء، ولا يكون خفضاً بضمير اللام، ولكن قد يكون نصباً في الكلام في غير هذا الموضع، وذلك كقول القائل1: أردت المرور اليوم إلا العدو، فإني لا أمر به، فيستثني العدو من المعنى، وليس ذلك كذلك في قوله: {لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} [مريم:87]، لأن معنى الكلام لا يملك هؤلاء الكفار إلا من آمن بالله، فالمؤمنون ليسوا من أعداد الكفارين، ومن نصبه على أن معناه إلا لمن اتخذ عند الرحمن عهداً، فإنه ينبغي أن يجعل قوله: {لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ}للمتقين، فيكون معنى الكلام حينئذ: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً} {لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} فيكون معناه عند ذلك: {إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} [مريم:87]، فإذا جعل {لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ} خبراً عن المجرمين، فإن (من) تكون حينئذ نصباً على أنه استثناء منقطع، فيكون معنى الكلام: لا يملكون الشفاعة، لكن من اتخذ عند الرحمن عهداً يملكه. انتهى.
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: {لا
__________
1 في ط الرياض: (القاتل).
ص -526-(57/23)
يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ} [مريم:87]، أي ليس لهم من يشفع لهم، كما يشفع المؤمنون بعضهم لبعض، كما قال تعالى مخبراً عنهم: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ. وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء: 100-101]، وقوله: {إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} [مريم:87]، هذا استثناء منقطع بمعنى: لكن من اتخذ عند الرحمن عهداً، وهو شهادة أن لا إله إلا الله، والقيام بحقها.
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: {إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} [مريم:87]، قال: العهد الشهادة أن لا إله إلا الله، ويبرأ الله من الحول والقوة، ولا يرجو إلا الله عز وجل.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عثمان بن خالد الواسطي، حدثنا محمد بن الحسن الواسطي، عن المسعودي، عن عون بن عبد الله، عن ابن أبي فاختة، عن الأسود بن يزيد، قال: اتخذوا عند الله عهداً، فإن الله يقول يوم القيامة: "من كان له عند الله عهد فليقم"، قالوا يا أبا عبد الرحمن: فعلمنا. قال: قولوا: "اللهم فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، فإني أعهد إليك في هذه الحياة الدنيا، أنك إن تكلني إلى عملي يقربني من الشر، ويباعدني من الخير، وإني لا أثق إلا برحمتك، فاجعل لي عندك عهداً تؤديه إلي يوم القيامة، إنك لا تخلف الميعاد" قال المسعودي: فحدثني زكريا، عن القاسم بن
ص -527-(57/24)
عبد الرحمن، أن ابن مسعود كان يلحق بهن "خائفاً، مستجيراً مستغفراً، راهباً راغباً إليك"، ثم رواه من وجه آخر عن المسعودي بنحوه. انتهى.
فإذا تبين لك كلام أئمة التفسير، وأن الاستثناء في آية "مريم" لا يفيد إثبات الملك، والأكثر على أنه منقطع، وعلى القول بأنه متصل، فلا حجة فيه، بل هو كقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} [طه:109] فالاستثناء دليل على حصولها ووقوعها، لا على أنها تملك كسائر الأملاك العادية، كما يظنة أهل الجاهلية، وكما يقول هذا الملحد: (إن الله ملكهم الشفاعة فأي مانع من طلب شيء مما ملكوه بإذنه تعالى؟) إلى آخر كلامه.
ومراده أنهم يملكونها كما يملك الملاك أموالهم، فيتصرفون فيها بما يشاءون، وهذا خلاف ما دل عليه القرآن والسنة، وأجمع عليه علماء الأمة، فإنه قد دل القرآن والسنة وإجماع علماء الأمة على أن الشفاعة بيده سبحانه، ملكاً له خاصة، لا يتقدم أحد فيها إلا بإذنه، ولا تنال إلامن رضي قوله وعمله، من أهل الإيمان والتوحيد، والأحاديث صريحة في أنه صلى الله عليه وسلم -وهو سيد الشفعاء- لا يشفع ابتداء، وأنه يحد له حداً، ويعين له من أراد الله رحمته، وإكرام نبيه بالشفاعة فيه، فهو عبد مأمور مدبر، لا مالك
ص -528-(57/25)
متصرف، قال تعالى: {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ} [الزخرف: 86]، وقوله: {لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} [مريم:87]، وقد تقدم الكلام فيها، وأن بعض المفسرين قرر أن الاستثناء منقطع، ليس فيه إثبات للملك، فهو بمعنى الاستدراك من مضمون الجملة، ويدل على هذا نصوص الكتاب والسنة.
قال شيخ الإسلام: وقوله تعالى: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعراف: 188] فيه قولان: قيل هو استثناء متصل، وأنه يملك من ذلك ما ملكه الله، وقيل: هو منقطع، والمخلوق لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً بحال، فقوله: {إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ} استثناء منقطع، أي: لكن يكون من ذلك ما شاء الله، كقول الخليل: {وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً } [الأنعام:80]، أي: لا أخاف أن تفعلوا شيئاً، لكن إن شاء ربي شيئاً كان، وإلا لم يكن، وإلا فهم لا يفعلون شيئاً، وكذلك قوله: {َلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ} ثم قال: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقّ} [الزخرف: 86] فتنفعه الشهادة، كقوله: {لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ} [طه:109] وقال تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعا} [الزمر: 44] وبسط هذا له موضع آخر. انتهى.
إذا عرفت هذا، فقول هذا الملحد: (فأي مانع من
ص -529-(57/26)
طلب شيء مما ملكوه بإذن الله تعالى، فيجوز أن تطلب منهم أن يعطوك ما أعطاهم الله تعالى).
فيقال المانع من ذلك أنك قد أتيت بسبب يمنع حصولها، والله سبحانه وتعالى لم يجعل الاستغاثة بغيره، ودعاءه والالتجاء إليه، سبباً لحصول إذن الله للشافع أن يشفع، وإنما السبب كمال التوحيد بإخلاص الدعاء لله، والاستغاثة به لا بغيره، والطلب من الله تعالى أن يشفع فيه عبده، لا طلبها من العبد.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ومن أنواعه -أي الشرك- طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، وهذا أصل شرك العالم، فإن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، فضلاً لمن استغاث به أو سأله أن يشفع له إلى الله، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده، فإنه لا يقدر أن يشفع له عند الله إلا بإذنه، والله لم يجعل استغاثته وسؤاله سبباً لإذنه، وإنما السبب كمال التوحيد، فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن، وهو بمنزلة من استعان في حاجته بما يمنع حصولها، وهذه حال كل مشرك، فجمعوا بين الشرك بالمعبود، وتغيير دينه، ومعاداة أهل التوحيد، ونسبة أهله إلى التنقص بالأموات، وهم قد تنقصوا الخالق بالشرك، وأولياءه الموحدين بذمهم وعيبهم، ومعاداتهم، وتنقصوا من أشركوا به غاية
ص -530-(57/27)
التنقص، إذ ظنوا أنهم راضون منهم بهذا، وأنهم أمروهم به، وأنهم يوالونهم عليه، وهؤلاء هم أعداء الرسل في كل زمان ومكان، وما أكثر المستجيبين لهم، وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر إلا من جرد توحيد الله، وعادى المشركين في الله، وتقرب بمقتهم إلى الله، واتخذ الله وحده وليه وإلهه ومعبوده، فجرد حبه لله، وخوفه لله، ورجاءه لله، وذله لله، وتوكله على الله، واستغاثته بالله، والتجاءه إلى الله، واستعانته بالله، وقصده لله، متبعاً لأمره، متطلباً لمرضاته، إذا سأل سأل الله، وإذا استعان استعان بالله، وإذا عمل عمل لله، فهو لله، وبالله، ومع الله، انتهى.
وأما قوله: (وإنما الممنوع هو طلب الشفاعة من الأصنام، التي لا تملك شيئاً منها).
فأقول: هذا لم يقله أحد من أهل العلم، وإنما هي شبهة عراقية، وتعلقات خيالية، لا تليق إلا بعقول هؤلاء الوثنية، الذين ليس لهم معرفة بالأحكام الشرعية، فبعداً للقوم الظالمين.
ص -531-
فصل
قال العراقي: (ومنها ما رواه ابن ماجه بإسناد صحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من خرج من بيته إلى الصلاة، فقال: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاي هذا إليك، فإني لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا رياء، ولا سمعة، خرجت اتقاء سخطك، وابتغاء مرضاتك، فأسألك أن تنقذني من النار، وأن تغفر لي ذنوبي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. أقبل الله عليه بوجهه، واستغفر له سبعون ألف ملك" فقد توسل النبي عليه الصلاة والسلام في قوله: "إني أسألك بحق السائلين عليك" بكل عبد مؤمن، وأمر أصحابه أن يدعوا بهذا الدعاء، فيتوسلوا مثل توسله، ولم يزل السلف من التابعين ومن تبعهم يستعملون هذا الدعاء عند خروجهم إلى الصلاة، ولم ينكر عليهم أحد).
الجواب أن يقال: هذا الحديث رواه عطية العوفي، وفي ضعف.
ص -532-(57/28)
قال شيخ الإسلام: لكن بتقدير ثبوته، هو من هذا الباب، فإن حق السائلين عليه سبحانه أن يجيبهم، وحق المطيعين له أن يثيبهم، فالسؤال له، والطاعة له سبب لحصول إجابته وإثابته، فهو من التوسل به، والتوجه به، والتسبب به، ولو قدر أنه قسم لكان قسماً بما هو من صفاته، فإن إجابته وإثابته من أفعاله وأقواله، فصار هذا كقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك" والاستعاذة لا تصح بمخلوق، كما نص عليه الإمام أحمد، وغيره من الأئمة... إلى آخر كلامه.
فتبين من كلام الشيخ أن السؤال بحق السائلين هو إجابتهم، وسؤاله بحق الطائعين إثابتهم، فيكون السائل بهاتين الصفتين سائلاً بصفات الله، فإن الإجابة والإثابة من أفعاله وأقواله سبحانه وتعالى، وسؤاله بأسمائه وصفاته، والتوسل بها ثابت بالكتاب والسنة، قال تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180]، وفي الحديث عن عبد الله بن بريدة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: "اللهم إني أسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد". فقال: "دعا الله باسمه الأعظم، الذي
ص -533-(57/29)
إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب" رواه الترمذي وأبو داود. إلى غير ذلك من الأحاديث.
وكذلك التوسل بالأعمال الصالحة، كما ثبت ذلك بالكتاب والسنة، كما روي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بينما ثلاث نفر يتماشون أخذهم المطر، فمالوا إلى غار في الجبل، فانحطت على فم غارهم صخرة من الجبل، فأطبقت عليهم، فقال بعضهم لبعض: انظروا أعمالاً عملتموها لله صالحة، فادعوا الله بها، لعله يفرجها" الحديث متفق عليه وهو في الصحيحين.
فليس في حديث أبي سعيد الخدري ما يدل على ما ادعاه هذا الملحد، من التوسل بذوات الأنبياء والأولياء والصالحين فضلاً عن دعائهم والاستغاثة بهم، والالتجاء إليهم، وبهذا يتبين عدم معرفتهم بمعاني ما أنزل الله على رسوله، ومعاني كلام رسوله، وأن هذا المعترض وأشباهه أجانب من ذلك لا عهد لهم به، ولا تمييز عندهم، فالله المستعان.
ص -534-
فصل
قال العراقي: (ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: "اغفر لأمي فاطمة بنت أسد، ووسع عليها مدخلها، بحق نبيك، والأنبياء الذين من قبلي"1 إلى آخر الحديث، رواه الطبراني في "الكبير" وصححه ابن حبان، والحاكم، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، وفاطمة هذه أم علي -كرم الله وجهه- التي ربت النبي صلى الله عليه وسلم... إلى آخر كلامه).
والجواب أن يقال: في سنده "روح بن صلاح المصري" ضعفه ابن عدي، وتصحيح الحاكم له لا يجدي شيئاً، فإنه جمع في "مستدركه" من الأحاديث الضعيفة والمنكرة والموضوعة جملة كثيرة، وقد روى فيه لجماعة من المجروحين في كتابه في "الضعفاء".
وأما رواية الطبراني له فيقال لهذا الملحد: كم في الطبراني من حديث يخالف هذا، ويدل على وجوب التوسل بأسماء الله وصفاته، وإنابة الوجوه إليه فما(57/30)
__________
1 على أن الطبراني لما أخرجه في "المعجم الكبير 24/351-352 و"الأوسط" قال: لم يروه عن عاصم إلا الثوري، تفرد به روح بن صلاح ا.هـ
فهذه إشارة منه رحمه الله إلى ضعف الحديث.
ص -535-
أعمى عينك عنها؟ هل هناك شيء أعماها سوى الجهل والهوى؟ وقد تكلم في هذا الحديث غير واحد.
وقال شيخ الإسلام: قد بالغت في البحث والاستقصاء، فما وجدت أحداً قال بجوازه إلا ابن عبد السلام، في حق نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام، أترى هذا الحديث خفي على علماء الأمة لم يعلموا ما دل عليه؟ ثم لو سلمنا صحته أو حسنه ففيه ما سيأتي في حديث الأعمى أن المراد بدعاء نبيك إلى آخره، وأي وسيلة بذوات الأنبياء لمن عصى أمرهم، وخرج عما جاءوا به من التوحيد والشرع.
قال شيخ الإسلام: فإذا قال الداعي: أسألك بحق فلان وفلان لم يدع له -وهو لم يسأله باتباعه لذلك الشخص أو محبته وطاعته، بل بنفس ذاته، وما جعله له ربه من الكرامة، لم يكن قد سأله بسبب يوجد المطلوب. انتهى.
ص -536-
فصل
قال العراقي: (ومنها: ما رواه الترمذي، والنسائي، والبيهقي، والطبراني بإسناد صحيح، عن عثمان بن حنيف رضي الله عنه أن رجلاً ضريراً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله أن يعافيني. فقال: "إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت وهو خير لك". قال: فادعه. فأمره أن يتوضأ، ويحسن وضوءه، ويدعو بهذا الدعاء: "اللهم إني أسألك، وأتوجه إليك بنبيك محمد، نبي الرحمة، يا محمد أتوجه بك إلى ربي في حاجتي لتقضي، اللهم فشفعه فيّ" فعاد وقد أبصر.
وخرج هذا الحديث البخاري أيضاً في "تاريخه" وابن ماجه، والحاكم في "المستدرك" بإسناد صحيح. وذكره الجلال السيوطي في "الجامع الكبير والصغير".
فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الضرير أن يناديه، ويتوسل به إلى الله في قضاء حاجته.
قد تقول الوهابية: إن هذا إنما كان في حياة
ص -537-(57/31)
النبي صلى الله عليه وسلم، فليس يدل على جواز التوسل به بعد موته.
فنجيب: أن الدعاء هذا قد استعمله الصحابة والتابعون -أيضاً- بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، لقضاء حوائجهم، يدل عليه ما رواه الطبراني والبيهقي أن رجلاً كان يختلف على عثمان رضي الله عنه زمن خلافته في حاجة -ولم يكن ينظر في حاجته- فشكى الرجل ذلك لعثمان بن حنيف، فقال له: ائت الميضأة فتوضأ، ثم ائت المسجد، فصل، ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربك لتقضي حاجتي، وتذكر حاجتك، فانطلق الرجل، فصنع ذلك، ثم أتى باب عثمان رضي الله عنه فجاءه البواب، فأخذ بيده، وأدخله على عثمان، فأجلسه معه، وقال: اذكر حاجتك. فذكر حاجته، فقضاها، ثم قال له: ما كان لك من حاجة فاذكرها، فلما خرج الرجل من عنده لقي ابن حنيف، فقال له: جزاك الله خيراً، ما كان ينظر في حاجتي حتى كلمته لي، فقال ابن حنيف: والله ما كلمته، ولكن شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أتاه ضرير فشكى إليه ذهاب بصره... الحديث. فهذا توسل ونداء بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، على أن النبي صلى الله عليه وسلم حي في قبرة، فليست درجته دون درجة الشهداء، الذي صرح الله تعالى بأنهم {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]).
ص -538-(57/32)
والجواب أن يقال: هذا الحديث -عني حديث الأعمى- غير محفوظ، وفيه مقال مشهور، وفي سنده أبو جعفر عيسى بن أبي عيسى بن ماهان الرازي التميمي، قال الحافظ ابن حجر في التقريب: الأكثرون على ضعفه، وقال أحمد والنسائي: ليس بالقوي. وقال أبو حاتم: صدوق. وقال ابن المديني: ثقة كان يخلط، وقال مرة: يكتب حديثه، إلا أنه يخطىء، وقال الفلاس: سيئ الحفظ، وقال ابن حبان: ينفرد بالمناكير عن المشاهير، وقال أبو زرعة: يهم كثيراً، وقال الحافظ في "التقريب" أيضاً في ترجمة الرازي التميمي: أبو جعفر الرازي التميمي مولاهم مشهور بكنيته، واسمه عيسى بن أبي عيسى، عبد الله بن ماهان، وأصله من مرو، وكان يتجر إلى الري، صدوق سيئ الحفظ خصوصاً عن مغيرة، من كبار السابعة مات في حدود الستين. انتهى1.
__________
1 تابع الشيخ بعض الحفاظ -كالترمذي- في أن أبا جعفر هذا هو الخطمي. وليس الأمر كذلك -كما حققه شيخ الإسلام في "قاعدة التوسل" فإن أبا جعفر هذا هو المدني الثقة.
فالحديث صحيح، ولكن لا دلالة فيه للمشركين القبوريين -عليهم لعائن الله- كما قرر ذلك الشيخ المؤلف رحمه الله.
وأما القصة التي ذكرها -المردود عليه- ونسبها إلى الطبراني والبيهقي، فهي ضعيفة منكرة، لا تصح سنداً ولا متناً. وقد تقدم بسط ذلك في التعليق على الرسالة السابعة من هذه السلسلة "الصواعق المرسلة الشهابية" ص 171-172-173-174.
ص -539-(57/33)
وعلى تقدير صحته وثبوته، فلا يدل على ما توهمه هذا الملحد، وبيان معنى الحديث يعلم أن ما توهمه هؤلاء الغلاة غير صحيح.
فقوله: "اللهم إني أسألك" أي أطلب منك، وأتوجه إليك، بنبيك محمد، صرح باسمه مع ورود النهي عن ذلك تواضعاً منه، لكون التعليم من قبله، وفي ذلك قصر السؤال الذي هو أصل الدعاء إلى الله تعالى الملك المتعال؛ ولكنه توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بدعائه، ولذا قال في آخره: "اللهم فشفعه فيّ" إذ شفاعته لا تكون إلا بالدعاء لربه قطعاً، ولو كان المراد التوسل بذاته فقط لم يكن لذلك التعقيب معنى، إذ التوسل بقوله: "بنبيك" كافٍ في إفادة هذا المعنى، فقوله: "يا محمد إني توجهت بك إلى ربي".
قال الطيبي: الباء في "بك" للاستعانة. وقوله: "إني توجهت بك" بعد قوله: "أتوجه إليك" فيه معنى قوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِه}[البقرة: 255] فيكون خطاباً لحاضر معاين في قلبه، مرتبط بما توجه به عند ربه، من سؤال نبيه بدعائه، الذي هو عين شفاعته، ولذلك أتى بالصيغة الماضوية بعد الصيغة المضارعية، المفيد كل ذلك: أن هذا الداعي قد توسل بشفاعة نبيه في دعائه، فكأنه استحضره وقت ندائه. انتهى.
ص -540-(57/34)
وقال شيخ الإسلام في "اقتضاء الصراط المستقيم": والميت لا يطلب منه شيء لا دعاء ولا غيره.
وكذلك حديث "الأعمى" فإنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له ليرد الله عليه بصره، فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم دعاء، أمره فيه أن يسأل الله قبول شفاعته بنبيه فيه، فهذا يدل على أن النبي شفع فيه، وأمره أن يسأل الله قبول شفاعته، وأن قوله: "أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة" أي بدعائه وبشفاعته، كما قال عمر رضي الله عنه : كنا نتوسل إليك بنبينا، فلفظ التوسل والتوجه في الحديثين بمعنى واحد، ثم قال: "يا محمد يا رسول الله إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي ليقضيها، اللهم فشفعه في" فطلب من الله أن يشفع فيه نبيه. وقوله: "يا محمد يا نبي الله" هذا وأمثاله نداء يطلب به استحضار المنادي في القلب، فيخاطب المشهود في القلب، كما يقول المصلي: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، والإنسان يفعل مثل هذا كثيراً، يخاطب من يتصوره في نفسه، وإن لم يكن الخارج من يسمع الخطاب.
فلفظ التوسل بالشخص، والتوجه به، والسؤال به، فيه إجمال واشتراك، غلط بسببه من لم يفهم مقصود الصحابة: يراد به التسبب به، لكونه داعياً وشافعاً مثلاً، أو لكون الداعي محباً له، مطيعاً لأمره، مقتدياً به، فيكون
ص -541-(57/35)
التسبب إما بمحبة السائل له، واتباعه له، وإما بدعاء الوسيلة وشفاعته.
ويراد به الإقسام به، والتوسل بذاته، فلا يكون التوسل لا منه، ولا من السائل، بل بذاته، أو بمجرد الإقسام به على الله فهذا الثاني هو الذي كرهوه، ونهوا عنه، وكذلك السؤال بالشيء، قد يراد به المعنى الأول، وهو التسبب لكونه سبباً في حصول المطلوب، وقد يراد به الإقسام... إلى آخر ما قال رحمه الله.
إذا عرفت هذا فليس في حديث "الأعمى" ما يدل على التوسل به ودعائه، والالتجاء إليه بعد وفاته، وإنما فيه توسل بدعائه، كما كان الصحابة يتوسلون بذلك، ويسألونه الاستغفار والدعاء.
وأما قوله: (وقد تقول الوهابية إن هذا إنما كان في حياة النبي صلى الله عليه وسلم) الخ.
فنقول: نعم.
وقوله: (فنجيب: أن الدعاء هذا قد استعمله الصحابة والتابعون -أيضاً- بعد وفاته صلى الله عليه وسلم لقضاء حوائجهم).
ص -542-(57/36)
فنقول: قد علمنا انك أجبت كما أجاب من قبلك، ولكن "بجهام1 قد أهريق ماؤه، فهو يرعد ويبرق، ولا ماء فيه".
وأما قوله: (يدل عليه ما رواه الطبراني، والبيهقي، أن رجلاً كان يختلف إلى عثمان...) وساق الحديث كما تقدم.
والجواب: عما أجاب به: أن هذا الحديث لا يصح، وفي سنده "روح بن صلاح" وقد ضعفه ابن عدي، بل قد قال بعضهم: إن أمارات الوضع لائحة عليه. فكيف يعارض به جميع كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعمل أصحابه رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، وهل سمعت أحداً منهم جاء إليه بعد وفاته إلى قبره الشريف، فطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله؟ وهم حريصون على مثل هذه المثوبات، لا سيما والنفوس مولعة بقضاء حوائجها، تتشبث بكل ما تقدر عليه، فلو صح عند أحد منهم أدنى شيء من ذلك لرأيت أصحابه ينتابون قبره الشريف في حوائجهم زمراً زمراً، ومثل ذلك تتوفر الدواعي على نقله. ولا وسع الله طريقاً لم يتسع للصحابة، والتابعين، وصلحاء علماء الدين، نعم كان ابن عمر رضي الله عنهما يأتي إلى
__________
1 يعني السحاب المتجهم.
ص -543-(57/37)
القبر المكرم ويقول: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت، ثم ينصرف. وكذلك أنس وغيره، فإذا أرادوا الدعاء استقبلوا القبلة1.
ثم اعلم أن هذا الحديث مخالف لعلم الصحابة رضي الله عنهم.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: "كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد".
وأما دعوى هؤلاء الغلاة أن الصحابة استعملوا هذا الدعاء بعد وفاته، فإن هذا ما يعلم بالضرورة أنه من الكذب على الصحابة رضي الله عنهم]. ولو كان هذا الاستعمال صحيحاً لتوفرت الهمم والدواعي على نقله، ولما عدل الفاروق إلى التوسل بدعاء العباس، ومعاوية بيزيد بن الأسود الجرشي، ولكان يمكنهم لو كان هذا الحديث صحيحاً معروفاً عندهم أن يتوسلوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولا يطلبون من العباس أن يدعو لهم.
ومما يوضح لك الأمر وأن هذا الحديث غير صحيح: أن رواته مختلفون في متنه وسنده، مع أنه لم
__________
1 وليس ذلك مرتبطاً بمكان القبر ولا بزيارته كما هو معلوم عند أهل السنة، وإنما هو أنهم لا يتوجهون عند الدعاء إلى القبر، بل ولا يدعون عنده أيضاً، وهذا متواتر معروف عن السلف الصالح أنهم لا يفعلونه.
ص -544-(57/38)
يذكر في شيء من الكتب المعتمدة، وإنما ذكره مثل "البيهقي" و"الطبراني" و"الترمذي" و"أبي نعيم" وهؤلاء يذكرون مثل هذه الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة على وجه التنبيه، وقد رأى علماء الإسلام الجهابذة النقاد ظلمات الوضع لائحة عليه، فأعرضوا عنه، ولم يلتفتوا إليه. والله أعلم.
وأما قوله: (فليست درجته دون درجة الشهداء الذين صرح الله تعالى أنهم {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169].
فأقول: بل درجته فوق درجة الشهداء وأكمل حالاً، وما نال الشهداء تلك المنزلة إلا بالإيمان به، وتصديقه، والجهاد معه وفي سبيله، فله أجره وأجورهم وأجر من آمن به إلى يوم القيامة، ولكنهم كما قال الله تعالى: {عِنْدَ رَبِّهِمْ} فهو أعلى منهم درجة ووسيلة، وأقربهم إليه منزلة، وإذا كان لا يدعى، ولا يتوسل به بعد وفاته، فهم من باب الأولى والأحرى.
ص -545-
فصل
قال العراقي: (ومنها ما رواه البيهقي وابن أبي شيبة بإسناد صحيح: أن الناس أصابهم قحط في خلافة عمر رضي الله عنه فجاء بلال بن الحارث رضي الله عنه إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: يا رسول الله استسق لأمتك، فإنهم هلكوا. فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، وأخبره أنهم يسقون. واستدلالنا هذا ليس بالرؤيا للنبي صلى الله عليه وسلم، فإن رؤياه -وإن كانت حقاً- لا تثبت بها الأحكام، لإمكان اشتباه الكلام على الرائي، وإنما استدلال بفعل أحد أصحابه صلى الله عليه وسلم في اليقظة، وهو بلال بن الحارث، فإنه أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وناداه، وطلب منه أن يستسقي لأمته).
والجواب أن نقول: قد كفانا مؤنة إيضاح عدم الاعتبار بالمنامات وأنه لا يثبت بها حكم شرعي، لكن نقول هذا الحديث فيه مقال مشهور.
قال الحافظ في "الفتح": وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح من رواية أبي صالح السمان، عن مالك الدار -
ص -546-(57/39)
وكان خازن عمر رضي الله عنه- قال: أصاب الناس قحط في زمن عمر رضي الله عنه فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقيل له: ائت عمر... الحديث.
وقد روى سيف في "الفتوح" أن الذي رأى في المنام المذكور هو: بلال بن الحارث المزني أحد الصحابة1.
فعلم أن ما روي بإسناد صحيح ليس فيه أن الجائي أحد الصحابة، وما فيه أن الجائي أحد الصحابة ضعيف غاية الضعف2.
قال الذهبي في "الميزان": سيف بن عمر الضبعي الأسدي، ويقال التميمي البرجمي، ويقال السعدي الكوفي، مصنف "الفتوح والردة" وغير ذلك، هو كالواقدي، يروي عن: هشام بن عروة، وعبيد الله بن عمر، وجابر الجعفي، وخلق كثير من المجهولين. كان إخبارياً عارفاً. روى عنه
__________
1 انتهى كلام ابن حجر في الفتح 2/496.
2 وذلك لأنه من رواية سيف بن عمر، وسيسوق المؤلف كلام الأئمة في حاله.
وهذا العراقي -المردود عليه- نسب حديث بلال بن الحارث إلى البيهقي وابن أبي شيبة: فهذا خطأ، فإن رواية البيهقي -كما في البداية والنهاية لابن كثير 7/101، وابن أبي شيبة في المصنف 12/31-32- ليس فيها ذكر بلال بن الحارث. فتنبه.
ص -547-(57/40)
جبارة1 بن المغلس، وأبو معمر القطيعي، والنضر بن حماد العتكي وجماعة.
قال عباس عن يحيى: ضعيف، وروى مطين، عن يحيى: فليس خير منه. وقال أبو داود ليس بشيء، وقال أبو حاتم: متروك. وقال ابن حبان: اتهم بالزندقة. وقال ابن عدي: عامة حديثه منكر... مكحول البيروتي، سمعت جعفر بن أبان، سمعت ابن نمير يقول: سيف الضبي: تميمي، كان جميع يقول: حدثني رجل من بني تميم. وكان سيف يضع الحديث. وقد اتهم بالزندقة، انتهى ملخصاً2.
قال الحافظ في "التقريب": سيف بن عمر التميمي صاحب "الردة" ويقال له: الضبي. ويقال غير ذلك، الكوفي، ضعيف في الحديث، عمدة في الأخبار. أفحش ابن حبان القول فيه. انتهى.
وقال الذهبي في "الكشاف": قال ابن معين وغيره: ضعيف. وقال في "الخلاصة": سيف بن تميم الأسدي الكوفي صاحب "الردة" عن جابر الجعفي، وأبي الزبير. وعنه محمد بن عيسى الطباع، وأبو معمر الهذلي: ضعفوه. انتهى.
__________
1 في النسخ: (عبادة).
2 2/255.
ص -548-(57/41)
فهذا ما قيل في حديث بلال بن الحارث الذي رواه البيهقي وابن أبي شيبة1. وإن كان غير حديث بلال فغاية ما فيه أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، وهو يأمره أن يأتي عمر، فيأمره أن يخرج يستسقي بالناس، وهذا ليس من هذا الباب الذي نحن بصدد الكلام فيه، فإن هذا قد يقع كثيراً من هو دون النبي صلى الله عليه وسلم.
قال شيخ الإسلام: وأيضاً ما يروى أن رجلاً جاء إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فشكى إليه الجدب عام الرمادة، فرآه وهو يأمره أن يأتي عمر، فيأمره أن يخرج يستسقي بالناس، فإن هذا ليس من هذا الباب. ومثل هذا يقع كثيراً لمن هو دون النبي صلى الله عليه وسلم، وأعرف من هذا وقائع. وكذلك سؤال بعضهم للنبي صلى الله عليه وسلم أو لغيره من أمته حاجة فتقضى له، فإن هذا قد وقع كثيراً، وليس مما نحن فيه.
وعليك أن تعلم أن إجابة النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره لهؤلاء السائلين ليس هو مما يدل على استحباب السؤال، فإنه هو القائل صلى الله عليه وسلم: "إن أحدهم ليسألني المسألة فأعطيه إياها، فيخرج يتأبطها ناراً" فقالوا: يا رسول الله فلم تعطيهم؟
__________
1 تقدم أن حديث بلال إنما أخرجه "سيف بن عمر" وأن رواية ابن أبي شيبة والبيهقي ليس فيها تسمية الرجل.
وانظر ما كتبته تخريجاً لهذا الحديث في حاشية: "الصواعق المرسلة الشهابية" ص 170-171-173-174.
ص -549-(57/42)
قال: "يأبون إلا أن يسألوني، ويأبى الله لي البخل". وأكثر هؤلاء السائلين الملحين -لما هم فيه من ضيق الحال- لو لم يجابوا لاضطرب إيمانهم، كما أن السائلين في الحياة كانوا كذلك، وفيهم من أجيب وأمر بالخروج من المدينة، فهذا القدر إذا وقع يكون كرامة لصاحب القبر، أما أنه يدل على حسن حال السائل فلا، وفرق بين هذا وهذا. انتهى.
فتبين من كلام العلماء أن الجائي، إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم ليس هو بلال بن الحارث، كما زعمه المعترض، لأنه اعتمد على أن هذا فعل صحابي، وحاشا لله من ذلك، فإنهم كانوا أعلم بالله وبدينه ورسوله، وهم أبعد الناس عن سلوك ما يتوهمه الغلاة، فبطلت الشبهة العراقية، ولله الحمد والمنة.
ص -550-
فصل
قال العراقي: (ومنها: ما ذكر في "صحيح البخاري" من رواية أنس بن مالك رضي الله عنه من استسقاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه في زمن خلافته بالعباس عم النبي صلى الله عليه وسلم، لما اشتد القحط عام الرمادة، فسقوا، وفي "المواهب اللدنية" للعلامة القسطلاني: أن عمر رضي الله عنه لما استسقى بالعباس رضي الله عنه قال: يا أيها الناس، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرى للعباس ما يرى الولد للوالد، فاقتدوا به في عمه العباس، واتخذوه وسيلة إلى الله تعالى).
والجواب أن نقول: قد ثبت في "صحيح البخاري" عن أنس: أن عمر استسقى بالعباس بن عبد المطلب، وقال: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقينا، فيسقون.
قال شيخ الإسلام: فاستسقوا به، كما كانوا يستسقون بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته، وهو أنهم يتوسلون بدعائه وشفاعته،
ص -551-(57/43)
فيدعو لهم، ويدعون معه، كالإمام والمأمومين، من غير أن يكونوا يقسمون على الله بمخلوق، كما ليس لهم أن يقسم بعضهم على بعض بمخلوق، ولما مات النبي صلى الله عليه وسلم توسلوا بدعاء العباس، واستسقوا به، ولهذا قال الفقهاء: يستحب الاستسقاء بأهل الخير والدين، والأفضل أن يكونوا من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد استسقى معاوية بيزيد بن الأسود الجرشي، وقال: اللهم إنا نستسقي بيزيد بن الأسود، يا يزيد: ارفع يديك، فرفع يديه، ودعا، ودعا الناس، حتى أمطروا، وذهب الناس.
ولم يذهب أحد من الصحابة إلى قبر نبي ولا غيره يستسقي عنده، ولا به. انتهى.
فهذا هو التوسل المشروع، وهذا هو المنقول عن الصحابة، لا كما يلفقه هؤلاء الغلاة من الأحاديث الموضوعة، التي لا تثبت بها الأحكام الشرعية.
وأما ما ذكره عن القسطلاني في "المواهب اللدنية" فلا شك أنه من الموضوعات، لأنه لم يذكره بسند يعتمد على مثله، وفي "المواهب اللدنية" من الموضوعات، والأحاديث المعلولة، والأقوال المردودة، ما لا يحصى، فلا يعتمد على مثل هذا النقل، والله أعلم.
ص -552-
فصل
ثم قال العراقي: (لا فرق في التوسل بين الأنبياء وغيرهم من الصلحاء، بين كونهم أحياء أو أمواتاً، لأنهم في كلا الحالتين لا يخلقون شيئاً، وليس لهم تأثير في شيء، وإنما الخلق والإيجاد والتأثير لله وحده لا شريك له في كل ذلك).
والجواب أن نقول: فيه كلام من وجوه:
الأول: أنه يعتقد كثير من العوام، وبعض الخواص، في أهل القبور، وفي المعروفين بالصلاح من الأحياء أنهم يقدرون على ما لا يقدر عليه إلا الله جل جلاله، ويفعلون ما لا يفعله إلا الله عز وجل، حتى نطقت ألسنتهم بما انطوت عليه قلوبهم، فصاروا يدعونهم تارة مع الله، وتارة استقلالاً، ويصرحون بأسمائهم، ويعظمونهم تعظيم من يملك الضر والنفع، ويخضعون لهم خضوعاً زائداً على خضوعهم عند وقوفهم بين يدي ربهم في الصلاة والدعاء.
ص -553-(57/44)
والثاني: أن مجرد عدم اعتقاد التأثير، والخلق والإيجاد، والإعدام، والنفع والضر: إلا لله لا يبرئ من الشرك، فإن المشركين الذين بعث الله الرسول إليهم -أيضاً- كانوا مقرين بأن الله هو الخالق الرازق، بل لا بد فيه من إخلاص توحيده وإفراده، وإخلاص التوحيد لا يتم إلا بأن يكون الدعاء كله لله، والنداء والاستغاثة، والرجاء واستجلاب الخير، واستدفاع الشر له، ومنه، لا بغيره، ولا من غيره، وكذلك النذر والذبح كلها تكون لله.
والثالث: أن مجرد كون الأحياء والأموات شركاء في أنهم لا يخلقون شيئاً وليس لهم تأثير في شيء، لا يقتضي أن يكون الأحياء والأموات متساوين في جميع الأحكام، حتى يلزم من جواز التوسل بالأحياء جواز التوسل بالأموات، كيف وليس معنى التوسل بالأحياء إلا التوسل بدعائهم، وهو ثابت بالأحاديث الصحيحة، وأما التوسل بالأموات فلم يثبت بحديث صحيح ولا حسن، انتهى من كلام بعض المحقيقين.
إذا عرفت ما تقدم، فمن المعلوم أن الكفار الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقاتلهم، واستحل دماءهم، وأموالهم، كانوا مقرين أن الله هو الخالق الرازق، المحيي المميت، النافع الضار، الذي يدبر جميع الأمور،
ص -554-(57/45)
ويعتقدون أن الله هو الفاعل لهذه الأشياء كلها، وأنه لا مشارك له في إيجاد شيء وإعدامه، وأنهم لا يخلقون شيئاً، وأنه ليس لهم تأثير في شيء، وإنما الخلق والإيجاد والتأثير لله وحده لا شريك له، وإنما كانوا يدعون الأنبياء والملائكة والأولياء والصالحين ويلتجئون إليهم، ويستغيثون بهم، ويسألونهم على وجه التوسل بجاههم وشفاعتهم، ليقربوهم إلى الله زلفى، وليشفعوا لهم عنده، لأنهم أقرب إلى الله وأرفع درجة ومنزلة، ولم يدخلهم ذلك في الإسلام، وقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكون الدين كله لله، والدعاء كله لله، والذبح والنذر لله، والاستغاثة والاستعانة بالله، والالتجاء إليه، لا لغيره، ولا من غيره، فالإقرار بتوحيد الربوبية وحده لا يدخل في الإسلام، بل لا بد معه من توحيد الله بأفعال العبد الصادرة منه من أنواع العبادة المتقدم ذكرها، وهذا هو الذي قاتل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم كفار العرب.
وأما قوله: (وأما من يعتقد التأثير للأحياء دون الأموات، فلهم أن يفرقوا بين التوسل بهم والتوسل بالأموات).
فأقول: لا يجوز لأحد أن يعتقد أن الأحياء يقدرون على ما لا يقدر عليه إلا الله، فإن اعتقاد ذلك شرك، وإذا
ص -555-(57/46)
كان الأحياء لا يقدرون على شيء من ذلك، فالأموات بطريق الأولى، وإنما يجوز من الحي طلب الدعاء منه، والاستغفار، والتوسل بدعائه وشفاعته، إذ هو قادر على ذلك، وأما الميت فقد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، فضلاً لمن استغاث به، أو دعاه أو سأله أن يشفع له، كما قال صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث" الحديث1 وهذا يدل على انقطاع الحس والحركة من الميت، وأن أعمالهم منقطعة عن زيادة ونقصان، فدل ذلك على أنه ليس للميت تصرف في ذاته، فضلاً عن غيره، فإنما عجز عن حركة نفسه، فكيف يتصرف في غيره؟
وأما الأحياء القادرون على الأسباب الظاهرة العادية من الأمور الحسية، في قتال أو إدراك عدو، أو دفع سبع صائل، وغيره، فهذا لا مانع منه، وهذا ليس في قدرة الأموات {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ}[فاطر: 22] ومن سوى بينهما فقد جمع بين ما فرق الله بينه، وكفى بذلك عتواً وعناداً.
وأما قوله: (أما نحن فنقول إن الله هو الخالق لكل شيء {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96]).
__________
1 رواه مسلم في كتاب الوصية من صحيحه (1631) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: "إذا مات الإنسان".
ص -556-(57/47)
فأقول: كون الله تعالى هو الخالق لكل شيء، وأن الله خلق العبد وعمله، كما قال الله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96] مما لا مرية فيه، وهذا معروف من عقائد أهل السنة والجماعة، وإنما ينفي الفعل حقيقة عن فاعله ومن قام به القدرية المجبرة، الذين يزعمون أن العبد مجبور، وأنه لا اختيار له ولا مشيئة، كما هو مبسوط في موضعه.
فإذا زعمتم أن دعاء الأموات، والاستغاثة بهم، والالتجاء إليهم، والتعلق عليهم إنما هو باعتبار التسبب والكسب العادي، وإنما المستغاث به في الحقيقة هو الله، فإسناد الغوث إلى الله تعالى إسناد حقيقي باعتبار الخلق والإيجاد، وإلى الأنبياء والصالحين إسناد مجازي.
فإذا كان ذلك كذلك لزم أن يكون إسناد أفعال العباد كلها إلى الله تعالى حقيقياً، فإن اعتقاد أهل السنة والجماعة أن الخالق لأفعال العبد هو الله تعالى، وهذا يقتضي أن يتصف الله تعالى حقيقة بالإيمان والصلاة، والزكاة والصوم والحج والجهاد، وصلة الرحم، وغير ذلك من الأعمال الحسنة، وكذلك يتصف حقيقة بالأعمال السيئة، من الكفر والفسوق والفجور والزنا، والكذب والسرقة، والعقوق وقتل النفس، وأكل الربا، وغيرها، فإنه تعالى هو الخالق لجميع الأفعال حسنها وسيئها.
ص -557-(57/48)
والتزام هذا فعل من لا عقل له ولا دين، فإنه يستلزم اتصاف الله بالنقائص، وصفات الحدوث واجتماع الأوصاف المتضادة، بل المتناقضة.
وأيضاً فإنه لو كان مناط الإسناد المجازي اعتبار التسبب والكسب كما زعمتم، لزم أن لا يكون الإنسان حقيقة مؤمناً ولا كافراً، ولا باراً ولا فاجراً، ولا كاذباً، فيبطل الجزاء والحساب، وتلغى الشرائع، والجنة والنار، وهذا لا يقول به أحد من المسلمين، وإسناد أفعال العبد إليه حقيقة مع إضافة الفعل إلى فاعله لا مجازاً لا ينازع فيه من عرف شيئاً من اللغة، فالعبد يفعل حقيقة، ويأكل حقيقة، ويشرب حقيقة، ويهب حقيقة، وينصر أخاه ظالماً أو مظلوماً حقيقة، والله سبحانه خلق العبد وما يعلم.
وأما قوله: (فالوهابية التي تتظاهر بالذب عن التوحيد، وتجوز التوسل بالأحياء، قد دخل الشرك في توحيدها من حيث لا تدري، لكونها اعتقدت تأثير الأحياء، مع أنه لا تأثير في الحقيقة إلا لله تعالى).
فأقول: هذا قول من لا يعقل ما يقول، فإن الوهابية ما أجازت من التوسل بالأحياء إلا ما فعله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله
ص -558-(57/49)
عنه: اللهم إن كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا، فاسقنا، فتوسلوا بدعاء العباس، كما كانوا يتوسلون بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، فإن كان هذا شركاً دخل عليهم، فقد دخل على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن لم يكن شركاً فالشرك هو العدول إلى من قد انقطع عمله، ولا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، فكيف بمن دعاه أو استغاث به.
وأما التوسل بالأحياء فيما يقدرون عليه من الأسباب العادية، فهذا مما لا خلاف في جوازه بين العلماء، والله أعلم.
وأما قوله: (والتوسل والتشفع والاستغاثة بمآل واحد، فإنما المقصود منها التبرك بذكر أحباء الله، الذين قد يرحم الله العباد بسببهم، سواء كانوا أحياء أو أمواتاً، فالموجد الحقيقي هو الله تعالى، وإنما هؤلاء أسباب عادية لا تأثير لهم في ذلك).
فأقول: التوسل والتشفع الشرعي هو: التوسل والتشفع بدعائهم في حال حياتهم، وطلبهم من الله تعالى، كما تقدم بيانه، وأما بالمعنى الاصطلاحي المحدث وهو: دعاؤهم والتبرك، والالتجاء إليهم، وتعليق الآمال بفيض
ص -559-
نوالهم، فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، فلا فرق بينه وبين الاستغاثة بهم، بهذا الاعتبار فهو من الشرك سواء كان المدعو حياً أو ميتاً، وسواء اعتقد التأثير أو لم يعتقد، كما تقدم بيانه بأدلته فيما مضى.
ص -560-(57/50)
فصل
قال العراقي الملحد: (وأما قول العامي من المسلمين: يا عبد القادر أدركني، ويا بدوي المدد مثلاً، فيحمل على المجاز العقلي، كما يحمل عليه قول القائل: هذ الطعام أشبعني، وهذا الماء أرواني، وهذا الدواء شفاني، فإن الطعام لا يشبع والماء لا يروي. والدواء لا يشفي حقيقة، بل المشبع والمروي والشافي الحقيقي هو الله تعالى وحده، وإنما تلك أسباب عادية ينسب لها الفعل، لما يرى من حصوله بعدها في الظاهر).
والجواب أن يقال: قد تقدم في كلام شيخ الإسلام قوله: فكل من غلا في نبي، أو رجل صالح، وجعل فيه نوعاً من الإلهية، مثل أن يقول: يا سيدي فلان انصرني، أو أغثني، أو ارزقني، أو أنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال أن هذا شرك وضلال، يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل، إلى آخر كلامه.
وتقدم قوله: "وأيضاً فإن من جعل بينه وبين الله
ص -561-(57/51)
وسائط يتوكل عليهم، ويدعوهم، ويسألهم: كفر إجماعاً".
وقال صنع الله الحلبي: فمن اعتقد أن لغير الله من نبي أو ولي أو روح، أو غير ذلك في كشف كربة، وقضاء حاجة تأثيراً، فقد وقع في وادي جهل خطير، فهو على شفا حفرة من السعير، وأما كونهم مستدلين على أن ذلك منهم كرامات، فحاشا لله أن تكون أولياء الله بهذه المثابة، فهذا ظن أهل الأوثان، كذا أخبر الرحمن: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}، {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ} [يس:23]، فإن ذكر من ليس من شأنه النفع، ولا دفع الضر، مع نبي وولي، وغيره على وجه الأمداد منه: إشراك مع الله، إذ لا قادر على الدفع غيره، ولا خير إلا خيره. انتهى.
وقال الإمام ابن عقيل في "فنونه": لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم، إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم، وهم عندي كفار بهذه الأوضاع، مثل تعظيم القبور، وتخليقها، وطلب الحوائج، وطلب الحوائج من الموتى، ودس الرقاع في القبور فيها: يا مولاي افعل بي كذا وكذا. انتهى.
ص -562-(57/52)
وقوله: (فيحمل على المجاز العقلي).
فيقال لهذا الملحد: الجواب من وجوه:
الأول: أن هذه الألفاظ دالة دلالة مطابقة على اعتقاد التأثير من غير الله تعالى.
والثاني: لو سلم هذا المحمل لاستحال الارتداد، وانسد باب الردة، الذي يعقده الفقهاء في كل مصنف، وكتاب من كتب أهل المذاهب الأربعة، وغيرها، فإن المسلم الموحد متى صدر منه قول أو فعل موجب للكفر يجب حمله على المجاز، والإسلام والتوحيد قرينة على ذلك المجاز.
والثالث: أنه يلزم على هذا أن لا يكون المشركون الذين نطق كتاب الله بشركهم مشركين، فإنهم كانوا يعتقدون أن الله هو الخالق الرازق، الضار النافع، وأن الخير والشر بيده، لكن كانوا يعبدون الأصنام، لتقربهم إلى الله زلفى، فالاعتقاد المذكور قرينة على أن المراد بالعبادة ليس معناه الحقيقي، بل المراد هو المعنى المجازي، أي: التكريم مثلاً، فما هو جوابكم، فهو جوابنا.
والرابع: أن هؤلاء الذين أولتم عنهم في تلك
ص -563-(57/53)
الألفاظ الدالة على تأثير غير الله، فما تفعلون في أعمالهم الشركية من دعاء غير الله، والاستغاثة والنذر والذبح، فإن الشرك لا يتوقف على اعتقاد تأثير غير الله، بل إذا صدر من أحد عبادة من العبادات لغير الله صار مشركاً، سواء اعتقد ذلك الغير مؤثراً أم لا.
وقد تقدم الكلام على الأسباب العادية، وما يقال فيها، فيما مضى.
وأما قوله: (ومعظم الأمة أجمعوا على جواز التوسل به صلى الله عليه وسلم، وبغيره من الصحابة والصالحين، فقد صدر من كثير من الصحابة والعلماء من السلف والخلف).
فأقول: أما أجماعهم على جواز التوسل بهم التوسل الشرعي بدعائهم وشفاعتهم في حال حياتهم فهذا حق، وأما بعد وفاتهم فمعاذ الله، وقد تقدم بيانه.
وأما التوسل الشركي فهم مجمعون على كفر فاعله، بعد قيام الحجة عليه، لا ينكره إلا مكابر.
وقوله: (واجتماع أكثرهم على الحرام والإشراك لا يجوز لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح، وقيل المتواتر: "لا
ص -564-
تجمع أمتي على ضلالة" ولقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاس} [آل عمران: 110]، فكيف تجتمع كلها أو أكثرها على ضلالة).
فأقول: المقصود بالأمة في الحديث1 هم أهل السنة والجماعة، وهم الفرقة الناجية المنصورون إلى قيام الساعة وهم المعنيون بقوله في الحديث2 الصحيح: "وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة" قيل: يا رسول الله من هم؟ قال: "من كنا على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي"، فمن كان على مثل ما كان عليه أصحاب(57/54)
__________
1 أخرج ابن ماجه من حديث أنس: " إن أمتي لا تجتمع على ضلالة، فإذا رأيتم اختلافاً فعليكم بالسواد الأعظم" قال البوصيري في "الزوائد" 2/1303: "وفي إسناده أبو خلف الأعمى، واسمه حازم بن عطاء. وهو ضعيف. وقد جاء الحديث بطرق في كلها نظر. قاله شيخنا العراقي في تخريج أحاديث البيضاوي اهـ.
وأخرج الحاكم 1/116 عن ابن عباس مرفوعاً "لا يجمع الله أمتي -أو قال- هذه الأمة على ضلالة، ويد الله على الجماعة".
وهذا الحديث جيد بطرقه. وانظر لجمعها تعليق الشيخ الفاضل محمد بن ناصر العجمي حفظه الله تعالى على "تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في منهاج البيضاوي" للحافظ العراقي ص 69 -إلى- ص 74.
2 أخرجه الإمام أحمد في مسنده 2/332، وأبو داود في سننه –كتاب السنة- 5/4، والترمذي في سننه –كتاب الإيمان- 5/25، وابن ماجه في =
ص -565-(57/55)
................................................................................................................
__________
= سننه –كتاب الفتن- 2/1321، وابن حبان في صحيحه –كما في الموارد- ص 454، والآجري في الشريعة ص 15، ومحمد بن نصر في السنة ص 17-18، والحاكم في المستدرك 1/6 و128، والإسفرائيني في الفرق بين الفرق ص 4و5. جميعهم من طريق محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم... الحديث بدون قوله: (كلها في النار إلا واحدة و... من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي...).
وإسناده حسن رجاله ثقات سوى محمد بن عمرو بن علقمة قال الذهبي في الميزان 3/673: شيخ مشهور، حسن الحديث، مكثر عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، وقد أخرج له الشيخان متابعة اهـ.
والحديث قال عنه الترمذي: "حسن صحيح" وصححه الحاكم وابن حبان، وقد روى هذا الحديث عن جماعة من الصحابة، انظر المقاصد الحسنة للسخاوي ص 158 ونظم المتناثر من الحديث المتواتر للكتاني ص 32-33-34.
وأما زيادة: (كلها في النار إلا واحد وهي الجماعة) فقد ثبتت من حديث معاوية رضي الله عنه عند الإمام أحمد في مسنده 4/102، وأبي داود -في سننه كتاب السنة- 5/5، والآجري في الشريعة ص18، والحاكم في مستدركه 1/128، وغيرهم وقال الحاكم عقب هذا الحديث: هذه أسانيد تقام بها الحجة في تصحيح هذا الحديث، وأقره الذهبي. وصححه الشاطبي في الاعتصام.
ووردت هذه الزيادة من حديث أنس عن الإمام أحمد 3/120 والآجري في الشريعة ص 16 و17.
ووردت أيضاً عن سعد بن أبي وقاص عند الآجري في الشريعة 17-18.
وأما زيادة (من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي اليوم) أخرجها الآجري في الشريعة ص 15-16. عن عبد الله بن عمرو، والطبراني في الصغير 1/256 عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
ص -566-(57/56)
رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو من الأمة الذين إجماعهم حجة، وهم الفرقة الناجية، قليلاً كانوا أو كثيراً، بخلاف عباد القبور المتخذين الأنبياء والأولياء والصالحين ولائج يدعونهم مع الله، ويشركونهم في عبادته، ويستغيثون بهم في المهمات والملمات، ويطلبون منهم الحاجات وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، فهؤلاء ليسوا من أمة الإجابة الذين استجابوا لله وللرسول، بل هؤلاء مجتمعون على خلاف الكتاب والسنة، مخالفون لما عليه الأمة من أهل السنة والجماعة، مجمعون على الضلالة.
وقد قال الفضيل بن عياض ما معناه، الزم طرق الهدى، ولا يغرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة، ولا تغتر بكثرة الهالكين.
وقال بعض السلف: إذا وافقت الشريعة، ولا حظت الحقيقة، فلا تبال، وإن خالف رأيك جميع الخليقة.
قال الحافظ ابن القيم رحمه الله تعالى في "إغاثة اللهفان":
فالبصير الصادق لا يستوحش من قلة الرفيق، ولا من
ص -567-(57/57)
فقده إذا استشعر قلبه مرافقة الرعيل الأول: {الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} [النساء: 69] فتفرد العبد في طريق طلبه دليل على صدق طلبه إلى أن قال:
وما أحسن ما قال أبو شامة عبد الرحمن بن إسماعيل في كتاب "الحوادث والبدع": حيث جاء الأمر بلزوم الجماعة، فالمراد به لزوم الحق واتباعه، وإن كان المتمسك به قليلاً والمخالف له كثيراً، لأن الحق هو الذي كانت عليه الجماعة الأولى من عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، ولا تنظر إلى كثرة أهل الباطل بعدهم.
قال عمرو بن ميمون الأودي: صحبت معاذاً باليمن، فما فارقته حتى واريته في التراب بالشام، ثم صحبت بعده أفقه الناس عبد الله بن مسعود فسمعته يقول: عليكم بالجماعة، فإن يد الله على الجماعة، ثم سمعته يوماً من الأيام وهو يقول: سيلي عليكم ولاة يؤخرون الصلاة عن مواقيتها، فصلوا الصلاة لميقاتها، فهي الفريضة، وصلوا معهم فإنها لكم نافلة، فقلت: يا أصحاب محمد ما أدري ما تحدثونا؟ قال: وما ذاك؟ قلت: تأمرني بالجماعة، وتحضني عليها، ثم تقول: صل الصلاة وحدك، وهي الفريضة، وصل مع الجماعة وهي النافلة. قال: يا عمرو بن ميمون، قد كنت أظنك أفقه أهل هذه القرية. تدري ما
ص -568-(57/58)
الجماعة؟ قلت: لا. قال: إن جمهور الناس الذي فارقوا الجماعة، الجماعة ما وافق الحق، وإن كنت وحدك.
وقال نعيم بن حماد: إذا فسدت الجماعة فعليك بما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد، وإن كنت وحدك، فإنك أنت الجماعة حينئذ.
وعن الحسن قال: السنة -والذي لا إله إلا هو- بين الغالي والجافي، فاصبروا عليها، رحمكم الله، فإن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما بقي، الذين لم يذهبوا مع أهل الإتراف في أترافهم، ولا مع أهل البدع، وصبروا على سنتهم حتى لقوا ربهم، فكذلك إن شاء الله فكونوا.
وكان محمد بن أسلم الطوسي -الإمام المتفق على إمامته- من أتبع الناس للسنة في زمانه، حتى قال: ما بلغني سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عملت بها، ولقد حرصت أن أطوف بالبيت راكباً فما مكنت من ذلك.
وسئل بعض أهل العلم في زمانه عن السواد الأعظم الذي جاء فيهم الحديث: "إذا اختلف الناس فعليكم بالسواد الأعظم" من السواد الأعظم؟ قال: محمد بن أسلم الطوسي هو السواد الأعظم. انتهى.
وكلام العلماء في الجماعة الذين هم السواد الأعظم كثير جداً، وذكروا أنهم هم الذين كانوا على ما كان عليه
ص -569-
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو ذهبنا نذكر أقوالهم لخرجنا عن المقصود بالاختصار.
والمقصود أن الأمة التي لا تجمع على ضلالة هم أهل السنة والجماعة، وإن قلوا وأن الأكثرين هم الذين قال الله فيهم: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116]، {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103].
ص -570-(57/59)
فصل
قال العراقي: (ومن أدلة جواز الاستغاثة: ما رواه البخاري في "صحيحه" من حديث ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في قصة هاجر أن إسماعيل عليه السلام "أنها لما أدركها وولدها العطش جعلت تسعى في طلب الماء، فسمعت صوتاً ولا ترى شخصاً، فقالت: أغث إن كان عندك غوث" فلو كانت الاستغاثة بغير الله شركاً لما طلبت الغوث، ولما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لأصحابه، ولم ينكره، ولما نقله الصحابة من بعده، وذكر المحدثون).
والجواب أن نقول: الكلام فيمن يستغاث به عند الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله، أو سؤال ما لا يعيطه إلا الله، ولا يمنعه إلا الله، وأما ما عدا ذلك مما يجري فيه التعاون والتعاضد بين الناس، واستغاثة بعضهم ببعض، في الأمور العادية، فهذا لا نمنع منه، ونقول به، وليس الكلام فيه.
ولفظ الاستغاثة لفظ مشترك بين ما يجوز، وبين ما لا
ص -571-
يجوز، فأما ما يجوز فما قدمنا ذكره مما هو في مقدرو العبد، والذي لا يجوز، وفاعله يكون مشركاً، هو طلبها من الأموات والغائبين، من الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله، كما نطقت بذلك الآيات والأحاديث النبوية.
وقصة هاجر قد أوردها البخاري في باب قوله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} [النساء: 125] من –كتاب أحاديث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام1- والمقصود من(57/60)
__________
1 الحديث في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما مطولاً، في كتاب أحاديث الأنبياء، باب (يزفون): النسلان في المشي. 6/396-397-398، وقد أشار الحافظ ابن حجر إلى أن بعض الروايات للصحيح لم تذكر فيها هذه الترجمة، وإنما أدرجت ما تحتها من أحاديث في الترجمة السابقة، وهي: باب قول الله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً}.
قال الحافظ: تنبيه: وقع في رواية الحموي والكشميهني قبل حديث أبي هريرة هذا -يعني أول حديث تحت باب "يزفون" أي النسلان في المشي- ما صورته: "يزفون النسلان في المشي" وفي رواية المستملي والباقين: "باب" بغير ترجمة، وسقط ذلك من رواية النسفي. ووهم من وقع عنده: "باب يزفون: النسلان في المشي" فإنه كلام لا معنى له، والذي يظهر ترجيح ما وقع عند المستملي. قوله "باب" بغير ترجمة يقع عندهم كالفصل من الباب، وتعلقه بما قبله واضح، فإن الكل من ترجمة إبراهيم. وأما تفسير هذه الكلمة من القرآن فإنها من جملة قصة إبراهيم مع قومه حين كسر أصنامهم، قال الله تعالى: {فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ}... الخ اهـ.
ص -572-
القصة أن هاجر -عليها السلام- لم تطلب إلا من حاضر محسوس، وليس ما طلبته مما اختص طلبه بالله سبحانه، فإنها طلبت من المصوت ما يسد جوعتها، ويروي غلتها، كما يقول المنقطع في الطريق العادم الزاد والماء إذا مر عليه أحد وأحس به: أغثني بما عندك من ماء وطعام، وأعطني مما تفضل الله به عليك من الأنعام، أفيقال لهذا إنه طلب ما لا يقدر عليه إلا الله، والتجأ في شدته إلى من سواه؟ فقاتل الله أهل الكفر والضلال، كيف لعب الشيطات بعقولهم، حتى أوردهم المهالك، انتهى باختصار من قول بعض أهل التحقيق من أهل العلم.
ص -573-(57/61)
فصل
قال العراقي: (ومنها ما رواه البخاري في حديث الشفاعة: إن الخلق بينما هم في هول القيامة استغاثوا بآدم ثم بنوح، ثم بإبراهيم، ثم بموسى، ثم بعيسى، وكلهم يعتذرون، ويقول عيسى: اذهبوا إلى محمد، فيأتون إليه صلى الله عليه وسلم فيقول أنا لها... الحديث. فلو كانت الاستغاثة بالمخلوق ممنوعة لما ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه رضي الله عنهم، وأجاب المانعون أن هذا يكون يوم القيامة، حيث يكون للنبي صلى الله عليه وسلم قدرة، ورد عليهم أنهم في حياتهم الدنيوية لا قدرة لهم إلا بنوع التسبب، فكذلك بعد الموت، على أنهم أحياء في قبورهم يتسببون).
والجواب أن نقول: قال بعض المحققين من أهل العلم في جوابه:
إن استغاثة الناس بالنبي صلى الله عليه وسلم وقبله بآدم ثم بنوح... إلى آخر حديث الشفاعة، فهذه شفاعة بالدعاء.
ص -574-(57/62)
والاستغاثة بما يقدر عليه المستغاث مستحسنة عقلاً وشرعاً، ومن ذلك الرفقة يستغيث بعضهم بعضاً أي في مهماتهم التي يقدرون عليها، وكذلك ما طلب الناس منه، وهي الشفاعة التي هي الدعاء، ولذلك يقول سيد الشفعاء صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: "فأجيء فأسجد" وأنه يلهمه الله من الثناء والدعاء شيئاً لم يلهمه لغيره صلى الله عليه وسلم، فعند ذلك يأذن الله بالشفاعة، ويقول له كما ورد في الحديث: " يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع، واشفع تشفع" وهذا ظاهر جداً.
وأما ما أورده على الجواب من أن للمستغاث بهم قدرة كسبية وتسبباً فتنسب الإغاثة إليهم بهذا المعنى، سواء كانوا أحياء أو أمواتاً، وسواء كانت الاستغاثة بما يقدر عليه المستغاث، أم لا، مدفوع بأن كون العبد له قدرة كسبية لا يخرج بها عن مشيئة رب البرية، لا يستغاث به فيما لا يقدر عليه إلا الله، ولا يستعان به، ولا يتوكل عليه، ولا يلجأ في ذلك إليه، فلا يقال لأحد حي أو ميت، قريب أو بعيد: ارزقني أو أمتني، أو أحي ميتي، أو اشف مريضي، إلى غير ذلك مما هو من الأفعال الخاصة بالواحد الأحد، الفرد الصمد، بل يقال لمن له قدرة كسبية قد جرت العادة بحصولها ممن أهله الله لها: أعني في حمل متاعي، أو غير ذلك
ص -575-(57/63)
والقرآن ناطق بحصر الدعاء عن كل أحد لا من الأحياء ولا من الأموات، سواء كانوا أنبياء أو صالحين أو غيرهم، وسواء كان الدعاء بلفظ الاستغاثة أو بغيرها، فإن الأمور غير المقدورة للعباد لا تطلب إلا من خالق القدر، ومنشيء البشر، كيف والدعاء عبادة، وهي مختصة به سبحانه.
بقي ما أدلى به العراقي وأضرابه علينا من حياة الأنبياء، ليتوصلوا به إلى ترويج مدعاهم، من استحسان دعائهم، وطلب إغاثتهم، وأولوه بأن مرادهم من ذلك الاستشفاع: طلب أن يدعوا لهم.
فنقول: هذا حق ثابت، فنعتقد حياتهم صلى الله تعالى عليهم وسلم حياة برزخية، فوق حياة الشهداء، وأن نبينا صلى الله عليه وسلم قد جعل عند قبره الشريف ملك يبلغه سلام المسلمين الذين عند ضريحه المكرم والنائبين عنه. وأن الأنبياء جميعهم طريون، لا تأكل الأرض أجسامهم الشريفة. ولكنا نمنع أن يطلب منهم شيء، فلا يسألوا شيئاً بعد وفاتهم، سواء كان بلفظ الاستغاثة، أو توجه أو استشفاع، أو غير ذلك، فجميع ذلك من وظائف الألوهية، فلا يليق جلعلها لمن يتصف بالعبودية من البرية.
فإن ادعى أحد أن حياتهم صلى الله تعالى عليهم وسلم إذا ثبتت الرواية بها حقيقة- كما هو الأصل في
ص -576-(57/64)
حمل الألفاظ على حقائقها- ولم تثبت قرينة على التجوز بها فتبقى على حقيقتها. أجبناه قائلين:
لا شك أنه لا يراد بهذه الحياة الحقيقية، ولو أريدت لاقتضت جميع لوازمها، من أعمال وتكليف وعبادة، ونطق وغير ذلك من وظائف الحياة، وحيث انتفت حقيقة هذه الحياة الدنيوية بانتفاء لوازمها، وبحصول الانتقال بالموت الحال به صلى الله عليه وسلم -وأرواحنا له الفداء- كما قال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30]، وقال عز من قائل: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِل} [آل عمران: 144] الآية، وحلول الموت به صلى الله عليه وسلم أمر لا يمكن إنكاره -إلى أن قال- نثبت الحياة الأخرى البرزخية، وهي متفاوتة، فحياة الشهداء فوق حياة المؤمنين، وحياة الأنبياء أعلى من حياة الشهداء، فنقتصر على ما يثبت لها في النصوص القطعية من الأحوال المستحسنة المرضية... إلى آخر كلامه.
وقد تقدم الكلام على قوله: (فكذلك بعد الموت على أنهم أحياء في قبورهم يتسببون)، وأن الميت قد انقطع عمله، فلا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، فكيف بمن استغاث به، وهذا ظاهر ولله الحمد والمنة.
ص -577-(57/65)
فصل
قال العراقي: (ومنها ما رواه الطبراني، عن زيد عن عتبة بن غزوان، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أضل أحدكم شيئاً أو أراد عوناً، وهو بأرض ليس فيها أنيس، فليقل: يا عباد الله أعينوني، فإن لله عباداً لا يراهم" لا يقال: إن المقصود بعباد الله هم الملائكة، أو مسلمو الجن، أو رجال الغيب، وهؤلاء كلهم أحياء، فلا يستدل بالحديث على الاستغاثة بالأموات والكلام فيهم، لأنا نقول: لا صراحة في الحديث بأن المقصود بعباد الله هم من ذكر، لا غير، ولو سلمنا، فالحديث حجة على الوهابية من جهة أخرى، وهي: نداء الغائب الذي لم يجوزوه، كنداء الميت، ولا يفيد الوهابية طعنها ببعض رواة هذا الحديث، فإنه قد روى بطرق شتى يعضد بعضها بعضاً، فقد رواه الحاكم في "صحيحه" وأبو عوانة، والبزار بسند صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ أنه قال: "إذا انفلتت دابة أحدكم بأرض فلاة فليناد: يا عباد الله احبسوا" وقد ذكر هذا الحديث شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه "الكلم الطيب"
ص -578-
عن أبي عوانة في صحيحه. وابن القيم في "الكلم الطيب" له، والنووي في "الأذكار" والجزري في "الحصن الحصين" وغيرهم ممن لا يحصى من المحدثين. وهذا لفظ رواية ابن مسعود مرفوعاً، ورواية ابن مسعود موقوفاً عليه: "ليناد أعيونوني يا عباد الله").
والجواب أن نقول: كل أسانيد هذه الروايات لا تخلو من مقال1، وعلى تقدير صحتها فليس فيه إلا نداء(57/66)
__________
1 لأنه روي من حديث ابن مسعود، وفي سنده: معروف بن حسان. قال ابن عدي في "الكامل" 6/2326": منكر الحديث اهـ. وقال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 8/323 عن أبيه: مجهول اهـ.
وذكره الذهبي في كتاب الضعفاء.
وأعله ابن حجر بالانقطاع بين عبد الله بن بريدة وابن مسعود رضي الله عنه نقل ذلك ابن علان في شرح الأذكار 5/150.
ولفظ حديث ابن مسعود عند الطبراني في المعجم الكبير 10/267: "إذا انفلتت دابة أحدكم بأرض فلاة، فليناد: يا عباد الله احبسوا علي، فإن لله حاضراً سيحبسه عليكم".
وقد أخرج الحديث الطبراني -أيضاً- في المعجم الكبير 17/117 عن عتبة بن غزوان –مرفوعاً- قال: "إذا ضل أحدكم شيئاً أو أراد أحدكم عوناً، وهو بأرض ليس فيها أنيس، فليقل: يا عباد الله أغيثوني. يا عباد الله أغيثوني، فإن لله عباداً لا نراهم".
قال الهيثمي في مجمع الزوائد 10/132: رواه الطبراني، ورجاله وثقوا على ضعف في بعضهم، إلا أن زيد بن علي لم يدرك عتبة اهـ.
قلت: وفي سنده عبد الرحمن بن شريك، قال أبو حاتم: واهي الحديث. وقال ابن حبان: ربما أخطأ. وفي السند أيضاً والده شريك بن عبد الله. قال الحافظ ابن حجر في التقريب: صدوق يخطئ كثيراً، تغير حفظه منذ ولي القضاء.
وفي السند انقطاع بين زيد بن علي وعتبة بن غزوان. كما تقدم في كلام الهيثمي. وكما ذكره ابن حجر، نقله عنه ابن علان في شرح الأذكار 5/150.
ص -579-(57/67)
الأحياء، والطلب منهم، ما يقدر هؤلاء الأحياء عليه، وذلك مما لا يجحده أحد، وأين هذا من الاستغاثة بأصحاب القبور الأولياء والصالحين، وكون المراد بعباد الله رجال الغيب كما يزعم بعض المتصوفة فهو مردود، بل هو من الخرافات، ومثله زعم وجود الأوتاد والأقطاب، والأربعين، وما أشبه ذلك.
وأما قوله: (ولو سلمنا فالحديث حجة على الوهابية من جهة أخرى. وهي: نداء الغائب الذي لم يجوزه، كنداء الميت).
فأقول: هذا مرودو أيضاً بما سبق، بأن هؤلاء العباد ليسوا بغائبين، وعدم رؤيتهم لا يستلزم غيبتهم، فإنا لا نرى الحفظة، ومع ذلك فهو حاضرون، ولا نرى الجن، ومع ذلك فهم حاضرون، وكذلك الشياطين، والهواء، ونحو ذلك، فإن علة الرؤية ليس هو الوجود فقط.
ص -580-
قال العراقي: (ونقل عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، أنه قال: سمعت أبي يقول: حججت خمس حجج، فضللت في إحداهن عن الطريق، وكنت ماشياً، فجعلت أقول: يا عباد لله دلونا على الطريق، فلم أزل أقول ذلك حتى وقعت على الطريق. فقل للوهابية التي تدعي نسبتها إلى الإمام أحمد: كيف جاز له أن يطلب الدلالة على الطريق من غير الله وهو غائب من غير أن يراه؟).
والجواب أن نقول: هكذا ذكره هذا العراقي، ولم يعزه إلى كتاب، وقد رأيته في "الآداب الكبرى" لابن مفلح عن الإمام أحمد1.
وجوابه ما تقدم، وهو: أن هؤلاء العباد ليسوا بغائبين، وعدم رؤيتهم لا يستلزم غيبتهم، كما تقدم، وهذا لا يفيده شيئاً غير ما تقدم إيضاحه.
ثم قال العراقي: (ومن شبه الوهابية في تكفير من استغاث ونادى غائباً من نبي أو ولي قد مات. أن الذين
__________
1 هذه الرواية في مسائل عبد الله عن أبيه. وقد ذكرها الشيخ الإمام الألباني حفظه الله تعالى في "السلسلة الضعيفة" 2/111: ونسبها -أيضاً- إلى البيهقي في الشعب 2/455/2، وابن عساكر 3/72/1، ثم قال: بسند صحيح.
ص -581-(57/68)
ينادون نبياً أو ولياً، مستغيثين به، قد يكون نداؤهم في أماكن متعددة، في زمان واحد، ويكون عددهم كثيرا جداً، مما يبلغ مئات ألوف، وهم يعتقدون أن المستغاث به يحضر حين ندائه في ذلك الآن، وهذا -بصرف النظر عن كونه كفراً وشركاً لما فيه من جعل ذلك المنادي موصوفاً بما هو من صفات الرب عز وجل- ممتنع عقلاً، فمن البديهي أن الجسم الواحد لا يكون في زمان واحد موجوداً في أماكن متعددة.
قال: والجواب: أنه ليس من معتقد المسلمين حضور المنادى بشخصه حين ندائه في الأماكن المتعددة، فإن ذلك المعتقد كفر، وذلك الحضور محال، وإنما المعتقد حضور البركة، بخلق الله تعالى إياها في تلك الأماكن المتعددة، لطفاً منه ورحمة بالمستغيث، لكرامة المستغاث به، وليس في ذلك محال، فإن رحمة الله تعالى واسعة ليس لها حد).
والجواب أن يقال: أولاً نعم، ليس هذا من معتقد المسلمين، وحاشا لله، بل هو من معتقد من أشرك بالله غيره في عبادته.
ويقال: ثانياً دعوى حضور البركة بخلق الله تعالى إياهم في تلك الأماكن المتعددة مجردة عن الدليل،
ص -582-(57/69)
وكيف يكون ذلك وقد قال تعالى: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} [فاطر: 14]، وقال تعالى: {فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ. فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} [يونس:28-29]، وهذا كما هو بين في القرآن فهو بعيد في العقل، فإذا كان المدعو في حال حياته، واجتماع حواسه وحركاته، لا يسمع من دعاه على البعد، ولو مسيرة فرسخ، فكيف يجوز في عقل من له أدنى مسكة من عقل أنه إذا مات، وفارقت روحه جسده، وذهبت حواسه وحركته بالكلية، وصار رهيناً في الثرى، جسداً بلا روح: أنه والحالة هذه يسمع من بعيد، ولو مسيرة شهر أو أكثر، ويجيب، فكل عقل صحيح يحيل ذلك، ويعلم أنه من أمحل المحال، لكن هؤلاء المشركون فسدت عقولهم وفطرهم، وزين لهم الشيطان ما يعتقدون من الكذب والمحال، والشرك والضلال، حتى آل الأمر بهم إلى أن زعموا في معتقدهم حضور البركة بخلق الله تعالى إياها في تلك الأماكن المتعددة، لطفاً منه ورحمة بالمستغيث به، لكونه أشرك في عبادة الله غيره: {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ}.
فإن قيل: إن هذا الذي أردناه من هؤلاء الأموات يحصل لنا من أرواحهم، قيل: وهذا منتف في العقل،
ص -583-(57/70)
كما نفاه القرآن، وذلك أن أرواح الأنبياء والصالحين في أعلى عليين، فيمتنع عقلاً وشرعاً وفطرة وقدراً أن الأرواح التي فوق السموات السبع، وفي أعلى عليين، أنها تسمع دعاء أهل الأرض، وتنفعهم، وتتصرف فيهم، هذا محال قطعاً وضلال مبين، فإن الله تعالى قال: {وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ}[الأحقاف: 5]، فكل من دعي من الأموات والغائبين والأنبياء والصالحين فمن دونهم غافل عن دعاء داعية، بنصوص القرآن العزيز {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] فسبحان من أنزل كتابه روحاً وهدى ونوراً وبرهاناً يهتدي به من هداه الله إلى صراطه المستقيم.
ص -584-
فصل
ثم قال العراقي: (ثم إن الوهابية لما رمت المسلمين بهذا المعتقد، الذين هم براء منه، ساقت على بطلانه ذكر الفقهاء في شرائط النكاح، وذلك أنهم قالوا: لو تزوج رجل امرأة بشهادة الله ورسوله لا ينعقد النكاح. وقالت: لو كان النبي يعلم نداء المستغيث به إذا ناداه من بعيد لكان علام الغيوب، ولصح انعقاد النكاح الذي قال الفقهاء ببطلانه) ثم لم يأت بجواب ينض على الوهابية إلا عدم حضور المستغاث عند ندائه، وأنه لا يعتقد هو، والمشركون الداعون غير الله: علم الغيب لأحد. ثم اعتذر عن عدم انعقاد النكاح أنه صيانة لحقوق الزوجة. وبما ذكر بعده مما لا ينقض على الوهابية مدعاهم [بالأدلة الصحيحة المتقدم بيانها فيما مضى]1 لكن تجارى به كفره وعناده إلى أن قال: (وحينئذ لا يمكن لأحد الخصمين أن يثبت دعواه بشهادة الله ورسوله، إذ نحن لو فرضنا أن الله -تعالى عما يقول الظالمون- جسم ينزل إلى السماء الدنيا كما
__________
1 سقط ما بين المعقوفين من ط الرياض
ص -585-(57/71)
زعمت الوهابية نقول: ما جرت عادته تعالى أن ينزل إلى غرفة الحاكم، فيؤدي شهادته أمامه، حسماً لنزاع المخاصمين).
فتعالى الله وتقدس عن كفر هذا العراقي وإلحاده، وجرأته على الله، وعلى شرعه، كيف تجارى به كفره إلى هذه المقالة.
والوهابية لا يقولون: إن الله تعالى جسم -كما تقدم بيانه- بل يثبتون لله تعالى ما أثبته لنفسه، وأثبته له رسوله، ولا يشبهون الله بخلقه، فمن شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله، فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله كفراً.
ثم قال العراقي الملحد: (قد علمت أن الوهابية كفرت من نادى غير الله تعالى، كقوله: يا رسول الله ونحو ذلك، ونحن إذا أمعنا النظر رأينا أن كفر هذا الذي يقول: يا رسول الله مثلاً، لا يخلوا إما أن يكون لأنه يعتقد أن من ناداه يحضر بنفسه حين ندائه، ويسمع نداءه، ويقضي بنفسه له حاجته، وينجيه من الورطة التي ناداه من أجلها، أو يكون لأنه يعتقد أن الذي يناديه يسمع نداءه بإسماع الله إياه بمحض قدرته، وأن الله تعالى لا غيره يقضي حاجته ببركة ذلك المنادى، وأن الله تعالى ينجيه من الورطة التي هو فيها بجاه ذلك النبي، وعلى كلا التقديرين ففيه من
ص -586-(57/72)
السقط ما فيه. أما الأول: فلأن من اعتقد أن أحداً غير الله تعالى يقضي الحاجة، وينجي من الورطة: فقد كفر، سواء نادى ذلك الأحد، أو لم يناده، فلا وجه لتخصيص كفره بحالة النداء، وأنت تعلم أن لا أحد من المسلمين يعتقد هذا المعتقد. وأما الثاني: فلأن من كان قلبه عريقاً بالإيمان، معتقداً أن الذي يقضي الحوائج، وينجي من المهالك، إنما هو الله تعالى لا غيره، لا يجوز أن يكون كافراً بمجرد نداء غائب، معتقداً أن الله سبحانه يخلق فيه السماع).
والجواب أن نقول: إذا نادى المشرك من يدعوه من دون الله في قضاء حاجة من حوائجه، ولينجيه من الورطة التي ناداه من أجلها، فقد أشركه مع الله في عبادته التي هو مختص بها، سواء اعتقد حضوره حين نداه وسماعه له، أو لم يعتقد، أو اعتقد أنه يقضي حاجته بنفسه، أو لم يعتقد، فمن فعل هذا فهو كافر مشرك، لأن الله تعالى قد نفى سماع من يدعونه، ونفى استجابته لهم، وأخبر أن من يدعونه غافلاً عن دعائهم، قال تعالى: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:14]، وقال تعالى: {وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ. وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:5-6].
ص -587-(57/73)
والكفار الجهال يعلمون أن الله هو الخالق، وأن الأمور كلها بيده، وأنه النافع الضار، وأنه هو الذي يجيب المضطر إذا دعاه، ولكنهم ما أرادوا إلا الجاه والشفاعة ممن يدعونه. فما يقوله هؤلاء هو كما يقوله من قبلهم من الكافرين سواء بسواء.
وأما الجواب عن الثاني: فلأن من كان قلبه عريقاً بالإيمان لا يدعو مع الله أحداً، بل يخلص الدعاء لله وحده، ولا يشرك معه أحداً سواه {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف: 110]، فإن من دعا مع الله أحداً من خلقه، وأشركه معه في عبادته، لا ينفعه اعتقاده أن الله هو القادر على خلق الأشياء، وهو يشرك معه غيره فـ {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء} [النساء: 48] {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} [المائدة: 72].
ص -588-(57/74)
فصل
قال الملحد: (من الجهل ما قالته الوهابية هنا: من أن الشرع يحكم بالظاهر، والظاهر من نداء أحد لغير الله أنه يعتقد في ذلك الغير علماً محيطاً بالغيب، وقدرة بالغة على قضاء الحوائج، وتصرفاً تاماً في الكون، مما هو مختص بالباري عز وجل، ويكون اعتقاده في كفره كفراً وشركاً.
قال: والجواب أن الظاهر من حال من نادى غير الله تعالى يدل على أنه نادى غير الله فقط، لا أنه اعتقد في ذلك الغير قدرة، وقضاء للحوائج، وغير ذلك مما ذكرته الوهابية، والاعتقاد أمر باطني قد يدل بعض الظاهر عليه، لكن النداء ليس من قبيلها، فقل للوهابية التي تجعل ظاهر النداء دالاً على الشرك والكفر: ما لكم لا تنظرون إلى ما للمسلم الذي تكفرونه من ظاهر الصلاة والصوم والزكاة، وغير ذلك من أركان الدين، فتعدونه دالاً على إيمانه وحسن اعتقاده. ومن العجيب أن ذلك المسلم الذي ينادي يصرح بعدم اعتقاده القدرة، وما شاكلها ، لمن ناداه، وأنتم مع ذلك تجعلون ظاهر ندائه دالاً على ذلك
ص -589-(57/75)
الاعتقاد الذي نفاه عن نفسه، فليت شعري أي حكم لاستدلالكم بظاهر نداء الرجل على سوء اعتقاده، في مقابلة تصريحه لكم بحسن ما يعتقده).
والجواب أن نقول: سبحان من طبع على قلوب أعدائه، حتى رأوا حسناً ما ليس بالحسن، فإن من نادى غير الله، ودعاه والتجأ إليه، واستغاث به، لا يدعوه، ولا يلجأ إليه، ويستغيث به: إلا لما يعتقد أنه ينفعه، ويسمع دعاءه، ويغيثه لأن الاستغاثة طلب الغوث، وهو إزالة الشدة، وإذا طلب العبد هذا من غير الله فقد أشرك بالله في عبادته غيره، لأن الله هو المختص بهذه الأشياء، سواء اعتقد التأثير منه، أو لم يعتقد، فلا ينفعه ذلك مع وجود الشرك، والنداء المجرد من غير اعتقاد لا يتصور وقوعه إلا من مجذوب العقل الذي ينطق بما لا يعقل.
وأما قوله: (ما لكم لا تنظروا إلى ما للمسلم الذي تكفرونه من ظاهر الصلاة والصوم والزكاة...) إلى آخره.
فنقول: إذا أشرك بالله في عبادته غيره، لا ينفعه الصلاة والصوم والزكاة، وغيرها من الأعمال الظاهرة، ولا تدل على حسن باطنه، وهو عري من التقوى وإخلاص
ص -590-(57/76)
الدين لله وحده، قال الله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23].
يوضحه أن المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويصلون ويصومون، ويزكون ويجاهدون مع النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن ظاهر الشهادتين، والصلاة والصوم، والزكاة، والجهاد، دالاً على حسن اعتقادهم، بل كانوا في الدرك الأسفل من النار، تحت عبدة الأوثان والصلبان.
وأما جعلنا ظاهر ندائه دالاً على ذلك الاعتقاد، وإن نفاه عن نفسه، فلأنه لا يكون في العقل أن من دعا غير الله لا يعتقد أنه لا يرجو بدعائه طلب نفع، أو دفع ضر، أو قضاء حاجة من يدعوه، فإذا اعتقد ذلك فيمن يدعوه فلا ينفعه أن ذلك إنما يكون ببركة من يدعوه لجاهه عند الله، وأن الله هو الفاعل لذلك خلقاً وإيجاداً، مع وجود السبب الداعي إلى الشرك، المنافي للتوحيد، لأنه لا فرق بين الدعاء والنداء، فمن دعا أو نادى غير الله فقد أشرك ذلك المنادى المدعو مع الله في عبادته، لأن المشركين الأولين لم يريدوا إلا الشفاعة بجاه من يدعونه وببركته.
ص -591-(57/77)
فصل
قال العراقي الملحد: (الوهابية وتكفيرها من زار القبور: لو سأل سائل عما تمذهبت به الوهابية، ما هو؟ وعن غايته ما هي؟ فقلنا في جواب كلا السؤالين: هو تكفير كافة المسلمين. لكان جواباً على اختصاره تعريفاً كافياً لمذهبها، فإن من أنعم النظر فيما جاءت به رآها تتحرى في كل مسألة تكفير كافة المسلمين، الذي رضي الله لهم الإسلام ديناً، فقد كفرتهم لتنزيههم الله تعالى عن الجسمية، وكفرتهم لأخذهم بالإجماع، وكفرتهم لتقليدهم الأئمة المجتهدين في الدين، وكفرتهم لاستشفاعهم بنبيهم صلى الله عليه وسلم بعد موته، وتوسلهم به إلى الله تعالى، وكفرتهم لزيارتهم القبور).
والجواب أن نقول: الله أكبر على هؤلاء الملاحدة، الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً ويفسدون في الأرض، والله لا يحب المفسدين، فلو سأل سائل عما تمذهبت به هؤلاء الغلاة النافون لعلو الله على عرشه،
ص -592-(57/78)
المعطلون لأسمائه وصفاته، الجاحدون لصفات كماله، ونعوت جلاله، المشركون بالله في عبادتهم غيره من مخلوقاته، وعن غاية ما تريد بذلك؟ قلنا: هو الكفر الذي أجمع المسلمون على كفر من قام به ذلك، ونطق القرآن والسنة بكفر من فعل ذلك واعتقده، كما قدمناه بأدلته من الكتاب والسنة وإجماع العلماء.
وأما الوهابية: فيعتقدون أن الدين الذين رضيه الله للمسلمين هو دين الإسلام، ومنه أن الله تعالى على عرشه بائن من خلقه، ويعتقدون أن الله تعالى له وجه ويدان، وأن الله تعالى يرى في الآخرة، كما يرى القمر ليلة البدر، وكما ترى الشمس صحواً ليس من دونها سحاب، وأن الله ينزل إلى السماء الدنيا كل آخر ليلة، فينادي: هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من داع فأجيبه؟ حتى ينفجر الفجر، وأن الله يشار إليه بالإصبع إشارة حسية، كما أشار إليه أعرف الخلق به من أعظم مجمع وجد على ظهر الأرض، وأن الله تعالى يوم القيامة يجعل السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء على إصبع، والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، فيقول: أنا الملك. كما صحت بذلك الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى غيره مما جاء في الكتاب والسنة، مما وصف الله به
ص -593-(57/79)
نفسه، ووصفه به رسوله، من غير تشبيه ولا تمثيل، ومن غير تكييف ولا تعطيل.
وأما الجسمية فلا يقولون بها نفياً ولا إثباتاً، لأنه يراد بها معنى صحيح، ومعنى باطل، ولأنه لم يرد بذلك قرآن ولا سنة، ولا نطق بذلك الصحابة، ولا التابعون، ولا الأئمة المهتدون.
وأما زعمه أنهم كفروا من أخذ بالإجماع، وكفروا من قلد الأئمة بالمجتهدين، فمن الكذب الواضح، والإفك الفاضح.
وأما تكفيرهم من دعا الأنبياء والأولياء والصالحين، والتجأ إليهم، واستغاث بهم، في مهماته وملماته، وسمى ذلك تشفعاً وتوسلاً، فلكون ذلك هو الشرك الصريح المخرج من الملة، بدلائل الكتاب والسنة وإجماع علماء الأمة، من أئمة السلف، ومن تبعهم بإحسان، بعد قيام الحجة على من فعل ذلك.
ص -594-
فصل
قال الملحد: (لا يخفى على البصير أن زائر القبور يقصد بزيارتها، إما الاستشفاع والتوسل إلى الله بأصحابها، والتبرك بهم، كما في زيارة قبور الأنبياء والأولياء، وإما الاعتبار بالقوم الماضين، تمكيناً للخضوع من قلبه، ونيلاً للأجر بقراءة الفاتحة، والدعاء لهم بالمغفرة، كما في زيارة قبور المسلمين، أو يقصد تذكر من مات من ذويه الأقربين، وأحبائه الراحلين، وأعزته الذين غالتهم يد المنون، فأسكنتهم القبور بعد القصور، فذهبوا عنه ذهاباً ليس وراءه إياب، وغادروه كئيباً يندب الأسى، ولسان حاله يقول:
ألا يا راحلاً عنا مجداً
على مهل فديتك من مجد
فلا تعجل وسر سير الهوينا
لأنك راحل من غير عود
وتدفعه إحساساته إلى زيارة قبورهم، فيقف على
ص -595-
دوارس أجداثهم، حزيناً يسكب على ترابها عبرات الأسف، ولسان حاله ينشد:
ذهب الذين أحبهم
وبقيت مثل السيف فردا
كم من أخ لي صالح
بوءته بيدي لحدا(57/80)
وليس في كل هذا ما يستلزم تكفير المسلم، الذي شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله، ولا أظن أن الجاهل الغر من الناس، فضلاً عن العالم المتشرع، تدفعه جهالته أن يقصد بزيارة القبر عبادته، وأن يعتقد كونه يقضي حاجته، فيخلق له ما يريد).
والجواب أن يقال: لا يخفى على البصير أن زائر القبور الذي يقصدر بزيارتها الاستشفاع والتوسل إلى الله بأصحابها، والتبرك بهم، كما في زيارة قبور الأنبياء والأولياء، أنها هي الزيارة الشركية، التي ذكرها العلماء، كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى في "إغاثة اللهفان".
وأما الزيارة الشركية فأصلها مأخوذ من عباد الأصنام، قالوا: الميت المعظم الذي لروحه قرب، ومنزلة، ومزية عند الله تعالى، لا يزال تأتيه الألطاف من الله تعالى، ويفيض على روحه الخيرات، فإذا علق الزائر روحه به،
ص -596-(57/81)
وأدناه منه، فاض من روح المزور على روح الزائر من تلك الألطاف بواسطتها، كما ينعكس الشعاع من المرآة الصافية، والماء، ونحوه على الجسم المقابل له.
قالوا: فتمام الزيارة أن يتوجه الزائر بروحه وقلبه إلى الميت، ويعكف بهمته عليه، ويوجه قصده وإقباله عليه، بحيث لا يبقى فيه التفات إلى غيره، وكلما كان جمع الهمة والقلب عليه أعظم، كان أقرب إلى انتفاعه، وقد ذكر هذه الزيارة على هذا الوجه ابن سينا والفارابي وغيرهما، وصرح بها عباد الكواكب في عبادتها، وقالوا: إذا تعلقت النفس الناطقة بالأرواح العلوية، فاض عليها منها النور، وبهذا السر عبدت الكواكب، واتخذت لها الهياكل، وصنف لها الدعوات، واتخذ الأصنام المجسدة لها، وهذا بعينه هو الذي أوجب لعباد القبور اتخاذها أعياداً، وتعليق الستور عليها، وإيقاد السرج عليها، وبناء المساجد عليها، وهو الذي قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم إبطاله، ومحوه بالكلية، وسد الذرائع المفضية إليه، فوقف المشركون في طريقة، وناقضوه في قصده، وكان صلى الله عليه وسلم في شق وهؤلاء في شق، وهذا الذي ذكره هؤلاء المشركون في زيارة القبور هو الشفاعة التي ظنوا أن آلهتهم تنفعهم بها، وتشفع لهم عند الله تعالى.
قالوا: فإن العبد إذا تعلقت روحه بروح الوجيه
ص -597-(57/82)
المقرب عند الله، وتوجه بهمته إليه، وعكف بقلبه، صار بينه وبينه اتصال، يفيض به عليه من نصيب، مما يحصل له من الله، وشبهوا ذلك بمن يخدم ذا جاة وحظوة، وقرب من السلطان، فهو شديد التعلق به، فما يحصل لذلك السلطان من الإنعام والإفضال ينال ذلك المتعلق بحسب تعلقه به، فهذا سر عبادة الأصنام، وهو الذين بعث الله رسله، وأنزل كتبه، بإبطاله، وتكفير أصحابه، ولعنهم، وأباح دماءهم وأموالهم، وسبي ذراريهم، وأوجب لهم النار.
والقرآن من أوله إلى آخره مملوء من الرد على أهله، وإبطال مذهبهم، قال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ. قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الزمر:43-44], فأخبر أن الشفاعة لمن له ملك السموات والأرض وهو الله وحده، فهو الذي يشفع بنفسه إلى نفسه ليرحم عبده، فيأذن هو لمن يشاء أن يشفع فيه، فصارت الشفاعة في الحقيقة إنما هي له، والذي يشفع عنده إنما يشفع بإذنه له وأمره، بعد شفاعته سبحانه، وهي إرادته من نفسه أن يرحم عبده، وهذا ضد الشفاعة الشركية التي أثبتها هؤلاء المشركون ومن وافقهم، وهي التي أبطلها سبحانه في كتابه بقول: {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا
ص -598-(57/83)
شَفَاعَةٌ} [البقرة:123]، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} [البقرة:254]، وقال تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأنعام:51]. وقال: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} [السجدة:4].
فأخبر سبحانه أنه ليس للعباد شفيع من دونه، بل إذا أراد الله سبحانه رحمة عبده أذن هو لمن يشفع فيه، كما قال تعالى: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} [يونس:3]. وقال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِه} [البقرة: 255].
فالشفاعة بإذنه ليست شفاعة من دونه، ولا الشافع شفيعاً من دونه، بل شفيع بإذنه، والفرق بين الشفيعين كالفرق بين الشريك والعبد المأمور، فالشفاعة التي أبطلها شفاعة الشريك، فإنه لا شريك له، والتي أثبتها شفاعة العبد المأمور الذي لا يشفع، ولا يتقدم بين يدي مالكه حتى يأذن له، ويقول: اشفع في فلان، ولهذا كان أسعد الناس بشفاعة سيد الشفعاء يوم القيامة: أهل التوحيد، الذين جردوا التوحيد، وأخلصوه من تعلقات الشرك وشوائبه، وهم الذين ارتضى الله سبحانه، قال تعالى:
ص -599-(57/84)
{وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 8]، وقال: {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} [طه:109] فأخبر أنه لا يحصل يومئذ شفاعة تنفع إلا بعد رضاه قول المشفوع له، وإذنه للشافع فيه، فأما المشرك فإنه لا يرتضيه، ولا يرضى قوله: (فلا يأذن للشفعاء أن يشفعوا فيه) فإنه سبحانه علقها بأمرين: رضاه عن المشفوع له وإذنه للشافع، فما لم يوجد مجموع الأمرين لم توجد الشفاعة.
وسر ذلك أن الأمر كله لله وحده، فليس لأحد معه من الأمر شيء، وأعلى الخلق وأفضلهم وأكرمهم عنده هم الرسل، والملائكة المقربون، وهم عبيد محض، لايسبقونه بالقول، ولا يتقدمون بين يديه، ولايفعلون شيئاً إلا بعد إذنه لهم، وأمرهم، ولا سيما {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً} [الانفطار:19] فهم مملوكون مربوبون، أفعالهم مقيدة بأمره وإذنه، فإذا أشرك بهم المشرك، واتخذهم شفعاء من دونه، ظناً منه أنه إذا فعل ذلك تقدموا وشفعوا له عند الله، فهو من أجهل الناس بحق الرب سبحانه، وما يجب له، ويمتنع عليه، فإن هذا ممتنع، شبيه قياس الرب تعالى على الملوك والكبراء، حيث يتخذ الرجل من خواصهم وأوليائهم من يشفع له عندهم في الحوائج.
ص -600-(57/85)
الضياء الشارق في رد شبهات الماذق المارق - سليمان بن سحمان (7)
وبهذا القياس الفاسد عبدت الأصنام، واتخذ المشركون من دون الله الشفيع والولي.
والفرق بينهما هو الفرق بين المخلوق والخالق، والرب [والمربوب، والسيد]1 والعبد، والمالك والمملوك، والغني والفقير، والذي لا حاجة به إلى أحد قط، والمحتاج من كل وجه إلى غيره.
فالشفعاء عند المخلوقين: هم شركاؤهم. فإن قيام مصالحهم بهم، وهم أعوانهم وأنصارهم، [الذين قيام أمر الملوك والكبراء بهم]2 ولولاهم لما انبسطت أيديهم وألسنتهم في الناس، فلحاجتهم إليهم يحتاجون إلى قبول شفاعتهم، وإن لم يأذنوا فيها، ولم يرضوا عن الشافع، لأنهم يخافون أن يردوا شفاعتهم فتنقض طاعتهم لهم، ويذهبون إلى غيرهم، فلا يجدون بداً من قبول شفاعتهم على الكره والرضا.
فأما الغني الذي غناه من لوازم ذاته، وكل ما سواه فقير إليه بذاته، وكل من في السموات والأرض عبيد له، مقهورون بقهره، مصرفون بمشيئته، لو أهلكهم جميعاً لم
__________
1 ما بين المعقوفين من "إغاثة اللهفان" لابن القيم 1/221.
2 ما بين المعقوفين من "إغاثة اللهفان"، وفي النسخ: "الذي قيام الملك والكبراء بهم".
ص -601-(58/1)
ينقص من عزه وسلطانه، وملكه وربوبيته وآلهيته مثقال ذرة -وذكر آيات في المعنى- ثم قال:
فتبين أن الشفاعة التي نفاها الله سبحانه في القرآن هي هذه الشفاعة الشركية، التي يعرفها الناس، ويفعلها بعضهم مع بعض، ولهذا يطلق نفيها تارة بناء على أنه هي المعروفة المتعاهدة عند الناس، ويقيدها تارة بأنه لا تنفع إلا بعد إذنه... إلى أن قال:
فمتخذ الشفيع مشرك، لا تنفعه شفاعته، ولا يشفع فيه، ومتخذ الرب وحده إلهه، ومعبوده ومحبوبه، ومرجوه، ومخوفه، الذي يتقرب إليه، ويطلب رضاه، ويتباعد من سخطه: هو الذي يأذن الله سبحانه للشفيع أن يشفع فيه. وذكر الآيات في ذلك، وذكر كلاماً حسناً، تركناه لطلب الاختصار.
وأما قوله: (وأما الاعتبار بالقوم الماضين...) إلى آخره.
فأقول: قد ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى الزيارة الشرعية -وليس لنا أن نتقدم بين يديه، لأنه قد جاء بما يكفي ويشفي، وهو من أئمة المسلمين والعلماء
ص -602-(58/2)
المجتهدين- قال رحمه الله تعالى بعد ذكر المفاسد العظيمة باتخاذ القبور أعياداً:
ومنها أن الذي شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم عند زيارة القبور إنما هو تذكر الآخرة، والإحسان إلى المزور بالدعاء له1، والترحم عليه، والاستغفار له، وسؤال العافية له، فيكون الزائر محسناً إلى نفسه، وإلى الميت. فقلب المشركون هذا الأمر، وعكسوا الدين، وجعلوا المقصود بالزيارة الشرك بالميت، ودعاءه، والدعاء به، وسؤالهم حوائجهم، واستنزال البركات منه، ونصره لهم على الأعداء، ونحو ذلك، فصاروا مسيئين إلى نفوسهم، وإلى الميت، ولو لم يكن إلا [بحرمانه بركة]2 ما شرعه الله من الدعاء له، والترجم عليه، والاستغفار له.
فاسمع الآن زيارة أهل الإيمان، التي شرعها الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم وازن بينها وبين زيارة أهل الإشراك، التي شرعها لهم الشيطان، واختر لنفسك.
قالت عائشة رضي الله عنها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان ليلتي منه يخرج من آخر الليل إلى البقيع، فيقول:
__________
1 "له" زيادة من "إغاثة اللهفان 1/198.
2 ما بين المعقوفين من "إغاثة اللهفان" لابن القيم 1/199. وفي ط الرياض: "إلا مجرد ما به تركه" وفي الأصل: "إلا مجرد ما به ترك".
ص -603-(58/3)
"السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون غداً مؤجلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون. اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد" رواه مسلم1.
وفي صحيحه عنها -أيضاً- أن جبريل أتاه فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم، قالت: قلت: كيف أقول يا رسول الله؟ قال: قولي: "السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون"2.
وفي صحيحه أيضاً عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا: "السلام على أهل الديار" وفي لفظ: "السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية"3.
وعن بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كنت نهيتكم
__________
1 صحيح مسلم –كتاب الجنائز- 7/40-41 "نووي".
2 صحيح مسلم –كتاب الجنائز- 7/44 "نووي".
3 صحيح مسلم –كتاب الجنائز- 7/45 "نووي". ولفظه: "وإنا إن شاء الله للاحقون. أسأل الله لنا ولكم العافية".
ص -604-(58/4)
عن زيارة القبور، فمن أراد أن يزور فليزر، ولا تقولوا هجراً"1 رواه أحمد والنسائي.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى الرجال عن زيارة القبور سداً للذريعة، فلما تمكن التوحيد في قلوبهم أذن لهم في زيارتها على الوجه الذي شرعه، ونهاهم أن يقولوا هجراً، فمن زارها على غير الوجه المشروع الذي يحبه الله ورسوله، فإن زيارته غير مأذون فيها، ومن أعظم الهجر الشرك عندها قولاً وفعلاً.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "زوروا القبور فإنها تذكركم الموت"2، ثم ذكر أحاديث نحواً مما تقدم، ثم قال:
فهذه الزيارة التي شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته، وعلمهم إياها، هل تجد فيها شيئاً مما يعتمده أهل الشرك والبدع؟ أم تجدها مضادة لما هم عليه من كل وجه؟
وما أحسن ما قال مالك بن أنس رحمه الله: "لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها"، ولكن كلما
__________
1 أخرجه النسائي في سننه 4/89 عن بريدة. وأحمد في المسند 5/350 و355 و356 و359 و361.
وأخرجه مسلم في صحيحه –كتاب الجنائز- عن بريدة بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها" 2/672.
2 صحيح مسلم –كتاب الجنائز- 7/46 "نووي".
ص -605-(58/5)
ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم، عوضوا عن ذلك بما أحدثوه من البدع والشرك.
ولقد جرد السلف الصالح التوحيد، وحموا جانبه، حتى كان أحدهم إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أراد الدعاء1، استقبل القبلة، وجعل ظهره إلى جدار القبر، ثم دعا.
فقال سلمة بن وردان: رأيت أنس بن مالك رضي الله عنه يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يسند ظهره إلى جدار القبر، ثم يدعو.
ونص على ذلك الأمة الأربعة: أنه يستقبل القبلة وقت الدعاء، حتى لا يدعو عند القبر، فإن الدعاء عبادة.
وفي الترمذي وغيره مرفوعاً "الدعاء هو العبادة". [فجرد السلف العبادة لله].
ولم يفعلوا عند القبور منها إلا ما أذن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم [من]2 السلام على أصحابها، والاستغفار لهم، والترحم عليهم.
وبالجملة: فالميت قد انقطع عمله، فهو محتاج إلى من يدعو له، ويشفع له، ولهذا شرع في الصلاة عليه من
__________
1 الميت لا يدعى به ولا عنده، ولا يتحرى قبره ليدعو عنده. وانظر ها هنا (608).
2 ما بين المعقوفين من "إغاثة اللهفان" 1/201.
ص -606-(58/6)
الدعاء له، وجوباً أو استحباباً، ما لم يشرع مثله من الدعاء للحي.
قال عوف بن مالك صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة فحفظت من دعائه وهو يقول: "اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه، وأدخله الجنة، وأعذه من عذاب القبر" -أو من عذاب النار- حتى تمنيت أن أكون أنا الميت لدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك الميت1 رواه مسلم. وذكر أحاديث نحو هذا، ثم قال:
فهذا مقصود الصلاة على الميت، وهو الدعاء له، والاستغفار له، والشفاعة فيه.
ومعلوم أنه في قبره أشد حاجة منه على نعشه، فإنه حينئذ معرض للسؤال وغيره.
وقد كان عليه الصلاة والسلام يقف على القبر بعد الدفن، فيقول: "سلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل"2.
__________
1 صحيح مسلم –كتاب الجنائز- 7/31 "نووي" وفي لفظ له: "... وقه فتنة القبر وعذاب النار".
2 أخرجه أبو داود 3/550 عن عثمان بن عفان رضي الله عنه.
ص -607-(58/7)
فعلم أنه أحوج إلى الدعاء له بعد الدفن، فإذا كنا على جنازته ندعو له، لا ندعو به، ونشفع له، لا نستشفع له فبعد الدفن أولى وأحرى.
فبدل أهل البدع والشرك قولاً غير الذي قيل لهم، بدلوا الدعاء له بدعائه نفسه، والشفاعة له بالاستشفاع به، وقصدوا بالزيارة التي شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم إحساناً إلى الميت، وإحساناً إلى الزائر، وتذكيراً بالآخرة: سؤال الميت، والإقسام به على الله، وتخصيص تلك البقعة بالدعاء الذي هو مخ العبادة، وحضور القلب عندها، وخشوعه أعظم منه في المساجد وأوقات الأسحار.
ومن المحال أن يكون دعاء الموتى أو الدعاء بهم، أو الدعاء عندهم، مشروعاً وعملاً صالحاً، ويصرف عنه القرون الثلاثة المفضلة بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يرزقه الخلوف الذي يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون.
فهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهل القبور بضعاً وعشرين سنة، حتى توفاه الله تعالى، وهذه سنة خلفائه الراشدين، وهذه طريقة جميع الصحابة والتابعين لهم بإحسان، هل يمكن بشراً على وجه الأرض أن يأتي عنهم بنقل صحيح، أو حسن، أو ضعيف، أو منقطع: أنهم كانوا إذا كان لهم حاجة قصدوا القبور فدعوا عندها،
ص -608-(58/8)
وتمسحوا بها، فضلاً أن يصلوا عندها، أو يسألوا الله بأصحابها، أو يسألوهم حوائجهم. فليوقفونا على أثر واحد، أو حرف واحد في ذلك، [بلى]1 يمكنهم أن يأتوا على الخلوف التي خلفت بعدهم بكثير من ذلك، وكلما تأخر الزمان وطال العهد كان ذلك أكثر، حتى لقد وجد في ذلك مصنفات ليس فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن خلفائه الراشدين، ولا عن أصحابه حرف واحد من ذلك. [بلى]2 فيها من خلاف ذلك كثير، كما قدمناه من الأحاديث. وأما آثار الصحابة فأكثر من أنا يحاط بها- ثم ذكر رحمه الله قصة الرجل الذي وجد في بيت مال الهرمزان، ثم قال:
ففي هذه القصة ما فعله المهاجرون والأنصار من تعمية قبره، لئلا يفتتن به الناس، ولم يبرزوه للدعاء عنده، والتبرك به، ولو ظفر به المتأخرون لجالدوا عليه بالسيوف، ولعبدوه من دون الله، فهم قد اتخذوا من القبور أوثاناً من لا يداني هذا ولا يقاربه، وأقاموا له سدنة، وجعلوا معابد أعظم من المساجد، فلوا كان الدعاء عند القبور والصلاة عندها، والتبرك بها، فضيلة أو سنة، أو مباحاً: لنصب المهاجرون والأنصار لهذا القبر علماً لذلك، ودعوا عنده،
__________
1 "بلى" من "إغاثة اللهفان، وفي النسخ: "بل".
2 "بلى" من "إغاثة اللهفان، وفي النسخ: "بل".
ص -609-(58/9)
وسنوا ذلك لمن بعدهم، ولكن كانوا أعلم بالله ورسوله، ودينه، من الخلوف التي خلفت بعدهم.
وكذلك التابعون لهم بإحسان راحوا على هذا السبيل، وقد كان عندهم من قبور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمصار عدد كثير، وهم متوافرون، فما منهم من استغاث عند قبر صاحب، ولا دعاه، ولا دعا به، ولا عنده، ولا استسقى به، ولا استنصر به. ومعلوم أن مثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، بل على نقل ما هو دونه، وحينئذ فلا يخلو: إما أن يكون الدعاء عندها والدعاء بأربابها أفضل منه في غير ذلك البقعة، أو لا يكون، فإن كان أفضل فكيف حفي علماً وعملاً عن الصحابة والتابعين وتابعيهم؟ فتكون القرون الثلاثة الفاضلة جاهلة بهذا الفضل العظيم، وتظفر به الخلوف علماً وعملاً، ولا يجوز أن يعلموه ويزهدوا فيه مع حرصهم على كل خير، لا سيما الدعاء فإن المضطر يتشبث بكل سبب، وإن كان فيه كراهة ما، فكيف يكونون مضطرين في كثير من الدعاء، وهم يعلمون فضل الدعاء عند القبور، ثم لا يقصدونه، هذا محال طبعاً وشرعاً، فتعين القسم الثاني، وهو أنه لا فضل للدعاء عندها، ولا مشروع، ولا مأذون فيه بقصد الخصوص، بل تخصيصها بالدعاء عندها ذريعة إلى ما تقدم من المفاسد، ومثل هذا مما لا يشرعه الله ورسوله
ص -610-
البتة، بل استحباب الدعاء عندها شرع عبادة لم يشرعها الله، ولم ينزل بها سلطاناً... إلى آخر الفصل.
فهذا كلامه رحمه الله في الدعاء عندها، والدعاء بأربابها فكيف بدعائهم، وطلب الحوائج منهم، والاستغاثة بهم؟ كما تقدم في أول كلامه.
ص -611-(58/10)
فصل
ونذكر نموذجاً من معتقد عباد القبور والصالحين، وحقيقة ما هم عليه من الدين، ليعلم الواقف عليه أي الفريقين أحق بالأمن، إن كان الواقف ممن اختصه الله بالفصل والمن، ولئلا يلتبس الأمر بتسميتهم لكفرهم ومحالهم: تشفعاً وتوسلاً.
قال ابن القيم رحمه الله في "إغاثة اللهفان": فمن مفاسد اتخاذها أعياداً: الصلاة إليها. والطواف بها. وتقبيلها، واستلامها. وتعفير الخدود على ترباتها، وعبادة أصحابها، والاستغاثة بهم، وسؤالهم النصر والرزق والعافية وقضاء الديون وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، وغير ذلك من أنواع الطلبات، التي كان عباد الأوثان يسألونها أوثانهم.
فلو رأيت غلاة المتخذين لها عيداً وقد نزلوا عن الأكوار والدواب إذا رأوها من مكان بعيد، فوضعوا لها الجباه وقبلوا الأرض، وكشفوا الرؤوس، وارتفعت أصواتهم بالضجيج، وتباركوا حتى تسمع لهم النشيخ،
ص -612-(58/11)
ورأوا أنهم قد أربوا في الربح على الحجيج، فاستغاثوا بمن لا يبدي ولا يعيد، ونادوا ولكن من مكان بعيد، حتى إذا دنوا منها صلوا عند القبر ركعتين، ورأوا أنهم قد أحرزوا من الأجر ولا أجر من صلى إلى القبلتين، فتراهم حول القبر ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الميت ورضواناً، وقد ملأوا أكفهم خيبة وخسراناً، فلغير الله بل للشيطان ما يراق هناك من العبرات، ويرتفع من الأصوات، ويطلب من الميت من الحاجات، ويسأل من تفريج الكربات، وإغناء ذوي الفاقات، ومعافاة أولي العاهات والبليات، ثم انبثوا بعد ذلك حول القبر طائفين، تشبيها له بالبيت الحرام الذي جعله الله مباركاً وهدى للعالمين، ثم أخذوا في التقبيل والاستلام، أرأيت الحجر الأسود وما يفعل به وفد البيت الحرام، ثم عفروا لديه تلك الجباه والخدود، التي يعلم الله أنها لم تعفر كذلك بين يديه في السجود، ثم كملوا مناسك حج القبر بالتقصير هناك والحلاق، واستمتعوا بخلاقهم من ذلك الوثن إذ لم يكن لهم عند الله من خلاق، وقربوا لذلك الوثن القرابين، وكانت صلاتهم ونسكهم وقربانهم لغير الله رب العالمين.
قلو رأيتهم يهنيء بعضهم بعضاً، ويقول: أجزل الله لنا ولكم أجراً وافراً وحظاً، فإذا رجعوا سألهم غلاة المتخلفين أن يبيع أحدهم ثواب حجة القبر بحج المتخلف
ص -613-(58/12)
إلى البيت الحرام، فيقول: لا، ولو بحجك كل عام.
هذا ولم نتجاوز فيما حكيناه عنهم، ولا استقصينا جميع بدعتهم وضلالهم، إذ هي فوق ما يخطر بالبال، أو يدور في الخيال. وهذا كان مبدأ عبادة الأصنام في قوم نوح -كما تقدم- وكل من شم أدنى رائحة من العلم والفقه يعلم أن من أهم الأمور سد الذريعة إلى هذا المحذور، وأن صاحب الشرع أعلم بعاقبة ما نهى عنه، ومايؤول إليه، وأحكم في نهيه عنه، وتوعده عليه، وأن الخير والهدى في اتباعه وطاعته. والشر والضلال في معصيته ومخالفته، ثم ذكر رحمه الله كلاماً طويلاً.
وقال شيخنا الشيخ عبد اللطيف -قدس الله روحه-: ومما بلغنا عن بعض علماء زبيد أن رجلين قصدا الطائف، فقال أحدهما لصاحبه -والمسئول ممن يترشح للعلم-: أهل الطائف لا يعرفون الله إنما يعرفون ابن عباس، فأجابه: بأن معرفتهم لابن عباس كافية، لأنه يعرف الله. فأي ملة -صان الله ملة الإسلام- لا تمانع هذه الكفريات، ولا تدافعها.
وذكر الزبيدي أيضاً: أن رجلاً كان بمكة عند بعض المشاهد، قال لمن عنده: أريد الذهاب إلى الطواف. فقال بعض غلاتهم: مقامك ها هنا أكرم.
ص -614-(58/13)
ومن وقف على كتاب "مناقب الأربعة المعبودين بمصر" وهم: البدوي والرفاعي، والدسوقي، ورابعهم فيما أظن أبو العلاء: فقد وقف على ساحل كفرهم، وعرف صفة إفكهم.
قال: وقد اجتمع من الموحدين من أهل الإسلام في بيت رجل من أهل مصر، وبقربه رجل يدعي العلم، فأرسل إليه صاحب البيت فسأله بجمع من الحاضرين، فقال له: كم يتصرف في الكون؟ قال: يا سيدي سبعة، قال: من هم؟ قال: فلان وفلان، وعد أربعة من المعبودين بمصر، فقال صاحب الدار لمن بحضرته من الموحدين: إنما بعثت لهذا الرجل، وسألته لأعرفكم قدر ما أنتم فيه من نعمة الإسلام، أو كلاماً نحو هذا.
قال: وقد ذكر هذا شيخ الإسلام في "منهاجه" عن غلاة الرافضة، في عليٍّ، فعاد الأمر إلى الشرك في توحيد الربوبية، والتدبير والتأثير، ولم يبلغ شرك الجاهلية الأولى إلى هذه الغاية، بل ذكر الله جل ذكره أنهم يعترفون له بتوحيد الربوبية، ويقرون به، ولذلك احتج عليهم في غير موضع من كتابه بما أقروا به من الربوبية والتدبير، على ما أنكروه من الإلهية.
ومن ذلك وهو من عجيب أمرهم ما ذكره "حسين بن محمد النعمي" في بعض رسائله: أن امرأة كف بصرها،
ص -615-(58/14)
فنادت وليها: أما الله فقد صنع ما ترى، ولم يبق إلا حسبك. انتهى.
قال الشيخ: وحدثني سعد بن عبد الله بن سرور الهاشمي رحمه الله أن بعض المغاربة قدموا مصر يريدون الحج، فذهبوا إلى الضريح المنسوب إلى الحسين رضي الله عنه بالقاهرة، فاستقبلوا القبلة، وأحرموا ووقفوا وركعوا وسجدوا لصاحب القبر، حتى أنكر عليهم سدنة المشهد، وبعض الحاضرين، فقالوا: هذا محبة في سيدنا الحسين.
وذكر بعض المؤلفين من أهل اليمن: أن مثل هذا وقع عندهم.
وحدثني الشيخ خليل الرشيدي -بالجامع الأزهر- أن بعض أعيان المدرسين هناك قال: لا يدق وتد في القاهر إلا بإذن أحمد البدوي، قال: فقلت له: هذا لا يكون إلا لله، أو كلاماً نحو هذا، فقال: حبي في سيدي أحمد البدوي اقتضى هذا.
وحكى أن رجلاً سأل: كيف رأيت الجمع عند زيارة الشيخ الفلاني؟ فقال: لم أر أكثر منه إلا في جبال عرفات، إلا أني لم أراهم سجدوا لله سجدة قط، ولا صلوا مدة ثلاثة أيام، فقال السائل: قد تحملها الشيخ.
ص -616-
قال بعض الأفاضل: وباب تحمل الشيخ مصراعاه ما بين بصري وعدن، قد اتسع خرقه، وتابع فتقه، ونال رشاش زقومه الزائر والمعتقد، وساكن البلد. انتهى.
قلت: وحدثني الشيخ إسحاق: أنه رأى أيام رحلته إلى مصر -للطلب- هذا المجمع العظيم الذي يسمونه: مولد أحمد البدوي، فذكر أعظم مما رآه في جبال عرفات. قال: ورأيت فيه سوقاً طويلاً للبغايا اللواتي أوقفن أنفسهم1 للزنا في هذا المجمع صدقة لسيدهن أحمد البدوي.
وليس هذا بعجيب ولا غريب من فعلهم فإنه يجري منهم في ذلك الجمع من الكفر بالله والإشراك به، ما لم يصل إلى ساحله كفر أبي جهل، وأشياعه فالله المستعان.
وأما قوله العراقي: ( وأما الإعتبار بالقوم الماضين، تمكيناً للخضوع من قبله، ونيلاً للأجر بقراءة الفاتحة).
فأقول: أما قراءة الفاتحة، فمن البدع المحدثة، ولو كان في قراءتها نيل للأجر في ذلك المكان لأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه.(58/15)
__________
1 كذا، والصواب: (أنفسهن).
ص -617-
وأما قوله: (وليس في كل هذا ما يستلزم تكفير المسلم...) إلى آخره.
فيقال لهذا الجاهل: إن طلب الحوائج من الموتى، والاستشفاع بهم، والاستغاثة بهم، ناقض لشهادة: أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ولا تنفعه الشهادتان مع الإشراك بالله شيئاً، وقد تقدم بيان ذلك.
ص -618-
فصل
ثم ذكر العراقي اختلاف العلماء في شد الرحال إلى المشاهد.
وهذه المسألة قد فرغ منها، فمن أراد الوقوف على الصحيح من كلام العلماء فهو مبسوط في رد شيخ الإسلام على "ابن الأخنائي" ورد الحافظ ابن عبد الهادي على "السبكي". والحق في ذلك واضح، فلا حاجة بنا إلى التطويل بذكره، مع وضوحه في كلام العلماء المحقيقين.
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وأما السفر إلى مجرد زيارة قبر الخليل، أو غيره من مقابر الأنبياء والصالحين، ومشاهدهم، وآثارهم، فلم يستحبه أحد من أئمة المسلمين، لا الأربعة ولا غيرهم، بل لو نذر ذلك ناذر لم يجب عليه الوفاء بهذا النذر عند الأئمة الأربعة وغيرهم، بخلاف المساجد الثلاثة، فإنه إذا نذر الحج أو العمرة لزمه باتفاق المسلمين، وإذا نذر السفر إلى المسجدين الآخرين لزمه عند أكثرهم، كمالك وأحمد والشافعي في أظهر قوليه، لقول النبي لله: "من نذر أن
ص -619-(58/16)
يطع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه"، رواه البخاري1.
وإنما يجب الوفاء بنذر كل ما كان طاعة، مثل من نذر صلاة، أو صوماً، أو اعتكافاً، أو صدقة لله، أو حجاً، ولهذا لا يجب بالنذر السفر إلى غير المساجد الثلاثة، لأنه ليس بطاعة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تشد الرحال إلا لثلاثة مساجد"2، فغير المساجد أولى بالمنع، مع أن قوله: "لا تشد الرحال إلا لثلاثة مساجد"، يتناول السفر إلى كل بقعة مقصودة، بخلاف السفر للتجارة، وطلب العلم، ونحو ذلك، فإن السفر لطلب تلك الحاجة حيث كان، وكذلك لزيارة الأخ في الله، فإنه هو المقصود حيث كان.
__________
1 في صحيحه 11/585 عن عائشة رضي الله عنها.
2 أخرجه البخاري في صحيحه –كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة- 3/63، ومسلم في –كتاب الحج- من صحيحه 2/1014-1015، كلاهما من طريق الزهري عن سعيد عن أبي هريرة مرفوعاً.. به وفي لفظ لمسلم: "تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد".
وأخرجه مسلم –أيضاً- من طريق عبد الحميد بن جعفر أن عمران بن أبي أنس حدثه أن سلمان الأغر حدثه أنه سمع أبا هريرة يخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد".
وأخرجه البخاري 3/70، ومسلم في -كتاب الحج- 3/976 من طريق عبد الملك عن قزعة عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تشدوا الرحال..." هذا لفظ مسلم. وفي لفظ البخاري: "ولا تشد...".
ص -620-(58/17)
وقد ذكر بعض المتأخرين من العلماء أنه لا بأس بالسفر إلى المشاهد واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي قباء كل سبت راكباً وماشياً. أخرجاه في "الصحيحين"1. ولا حجة لهم فيه، لأن قباء ليس مشهداً، بل مسجد، وهو منهي عن السفر إليها باتفاق الأئمة، لأن ذلك ليس بسفر مشروع، بل لو سافر إلى قباء من دويرة أهله لم يجز، ولكن لو سافر إلى المسجد النبوي ثم ذهب منه إلى قباء فهذا يستحب، كما يستحب زيارة قبور أهل البقيع، وشهداء أحد. انتهى.
ثم قال العراقي: (ويدل على جواز شد الرحال لزيارة القبور، ما قاله عمر رضي الله عنه بعد فتح الشام لكعب الأحبار: يا كعب ألا تريد أن تأتي معنا إلى المدينة، فتزور سيد المرسلين؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين أنا أفعل ذلك. وكذا يدل عليه مجيء بلال رضي الله عنه من الشام إلى المدينة لزيارة قبره عليه الصلاة والسلام، وذلك في خلافة عمر رضي الله عنه).
والجواب أن نقول: هؤلاء الغلاة يتعلقون بأذيال
__________
1 رواه البخاري في صحيحه 13/303، ومسلم 2/1106 عن ابن عمر رضي الله عنهما.
ص -621-(58/18)
الموضوعات، ويعتمدن الأقوال المكذوبات {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [المجادلة: 18].
قال الحافظ ابن عبد الهادي في جوابه للسبكي: وهو مطالب أولاً: ببيان صحته. وثانياً: ببيان دلالته على مطلوبه. ولا سبيل له إلى واحد من الأمرين.
ومن المعلوم أن هذا من الأكاذيب والموضوعات على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفتوح الشام فيه كذب كثير، وهذا لا يخفى على آحاد طلبة العلم، ولكن شأن هذا المعترض الاحتجاج دائماً بما يظنه موافقاً لهواه، ولو كان من المنخنقة، والموقوذة، والمتردية، وليس هذا شأن العلماء، بل على المستدل بحديث أو أثر أن يبين صحته، ودلالته على مطلوبه، وهذا المنقول عن عمر رضي الله عنه لو كان ثابتاً عنه لم يكن فيه دليل على محل النزاع، وقد عرف أن شيخ الإسلام لا ينكر الزيارة على الوجه المشروع ولا يكرهها، بل يحضها ويندب إلى فعلها. انتهى1.
__________
1 انظر الإجابة المفصلة عن قصة مجيء بلال رضي الله عنه إلى المدينة: "الصارم المنكي" لابن عبد الهادي. و"شفاء الصدور في الرد على الجواب المشكور" الذي أصدرته دار الإفتاء العامة في عهد الملك: سعود بن عبد العيزيز رحمه الله تعالى.
ص -622-(58/19)
أقول: وكذلك الوهابية لا ينكرون الزيارة على الوجه المشروع، بل هي عندهم من أفضل الأعمال، والله المستعان.
ثم ذكر العراقي أن من القائلين بالجواز الإمام النووي والقسطلاني، والإمام الغزالي.
وهؤلاء مقابلون بأفضل منهم، وأعلم وأتبع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه، والتابعين لهم ومن العلماء المانعين من شد الرحال الإمام مالك رحمه الله، ولم يخالفه أحد من الأئمة الثلاثة. ومنهم الإمام أبو عبد الله بن بطة، وأبو الوفاء بن عقيل، وغيرهم من العلماء الراسخين.
ثم ذكر العراقي مسئلة سماع أهل القبور، وذكر من التخليط ما لا مزيد عليه، وقد أجاب على ذلك كله محمود شكري بن عبد الله بن محمود الألوسي في "تتمته"1 وبه الكفاية، فلا نطيل بذكره، إلا أنا نقول:
إن سماع أهل القليب قليب بدر لكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم سماع حقيقي، وكذلك سماع أهل القبور سلام المسلم عليهم، وردهم عليه، وأن إعادة الأرواح لتلك الأشباح بعد مفارقتها إياها إنما هي إعادة عارضة، لا إعادة مستقرة
__________
1 أي تتمته لكتاب الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن الذين رد به على داود بن جرجيس. واسمه: "فتح المنان على صلح الإخوان".
ص -623-(58/20)
مستمرة، بل لسماع الكلام ورد السلام، والسؤال فقط، وأما دعوى إجابة الدعوات، وإغاثة اللهفات، وتفريج الكربات، وقضاء الحاجات من الأموات، فمن الممتنعات عقلاً وشرعاً، وفطرة وقدراً، كما هو صريح نصوص الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية.
ولكن قد ذكر هذا الملحد في قصة "المعراج" رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لعيسى وموسى وإبراهيم، فقال: (وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "رأيت عيسى وموسى وإبراهيم عليهم الصلاة والسلام" رواه الشيخان ومالك في "الموطأ").
والمقصود أن هذا الملحد لما أتى إلى هذا المقام لم يذكر فيه أنه رآهم في السموات على قدر منازلهم، فأخرس عن ذلك أخرس الله لسانه- لأنه قد ذكر فيما تقدم من إلحاده أن عروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الله تعالى هو بمعنى العروج إلى موضع يتقرب إليه بالطاعات فيه، لأنه ينكر أن يكون الله فوق السموات على عرشه، فلذلك جحد عروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الله بذاته الشريفة.
فتقول الوهابية لهذا الملحد المعطل: كيف جاز لك ذلك أن تحتج علينا بسماع الشهداء والأنبياء نداء من ينادي وهم عند الله، وبأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى عيسى وموسى وإبراهيم وهم أرفع منزلة عند الله من الشهداء، وقد صحت الأحاديث بأنه
ص -624-(58/21)
رأى عيسى في السماء الثانية، ورأى موسى في السماء السادسة، ورأى إبراهيم في السماء السابعة، وكل هذا عندك لا حقيقة له، فإن كانوا في السماء كما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم لما عرج به إلى الله بطل ما تذهب إليه من أن العروج هو إلى موضع يتقرب إليه بالطاعات لا إلى السماء، وإن لم يكن رآهم في السموات ففي أي مكان رآهم؟ ولا بد من تعيين ذلك الموضع1.
وقد كان من المعلوم أن أرواح الشهداء بعضها في حواصل طير خضر تسرح في الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل تحت العرش. وبعضها على بارق بباب الجنة، ويخرج إليهم رزقهم من الجنة. وبعضهم في قباب في رياض بفناء الجنة. وفي بعض الأحاديث أن أرواح المؤمنين في عليين.
ومن المعلوم أن أرواح الأنبياء في أعلى عليين، وأنهم أرفع منزلة من الشهداء، فيمتنع عقلاً وشرعاً وفطرة وقدراً أن الأرواح التي فوق السموات السبع، وفي أعلى عليين، أنها تسمع دعاء أهل الأرض، وتنفعهم، وتتصرف فيهم، هذا محال قطعاً، وضلال مبين، فإن الله قال: {وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأحقاف: 5] فكل من دعي من الأموات والغائبين والأنبياء والصالحين –فمن
__________
1 يعني ما دام أن الشرع قد عينه.
ص -625-
دونهم غافل عن دعاء داعيه، بنصوص القرآن العزيز الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42].
بقي من هذه المسألة مسألة، وهي: أن المسلم إذا سلم على أهل القبور رد الله على المسلم عليه روحه حتى يرد السلام، قال ابن عبد البر: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما من مسلم يمر على قبر أخيه كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام"1.(58/22)
__________
1 أخرجه أبو داود في سننه –كتاب المناسك- باب زيارة القبور: حدثنا محمد بن عوف، حدثنا المقريء، حدثنا حيوة، عن أبي صخر حميد بن زياد، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من أحد يسلم إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام".
قال الإمام ابن عبد الهادي في "الصارم المنكي في الرد على السبكي" ص 249: واعلم أن هذا الحديث هو الذي اعتمد عليه الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما من الأئمة في مسألة الزيارة، وهو أجود ما استدل به في هذا الباب. ومع هذا فإنه لا يسلم من مقال في إسناده ونزاع في دلالته. أما المقال في إسناده: فمن جهة تفرد أبي صخر به عن أبي قسيط عن أبي هريرة. ولم يتابع ابن قسيط أحد في روايته عن أبي هريرة. ولا تابع أبا صخر أحد في روايته عن ابن قسيط. وأبو صخر هو حميد بن زياد، وهو ابن أبي المخارق المدني الخراط صاحب العباء ساكن مصر، ويقال: حميد بن صخر... وقد اختلف الأئمة في عدالته، فوثقه بعضهم، وتكلم فيه آخرون. واختلفت الرواية عن يحيى بن معين فيه. وقال عبد الله بن أحمد: سئل أبي عن أبي صخر؟ فقال: ليس به بأس. وروى عن الإمام أحمد رواية أخرى أنه: ضعيف... وقال النسائي: ضعيف... إلى أن قال الإمام ابن عبد الهادي: وأما ابن قسيط شيخ أبي صخر فهو يزيد بن عبد الله بن قسيط... وقد روى له البخاري ومسلم في صحيحيهما حديثه عن عطاء بن يسار. وروى له مسلم أيضاً من روايته عن عروة بن الزبير وعبيد بن جريج وداود بن عامر بن سعد بن أبي وقاص. ولم يخرج له في الصحيح شيء من روايته عن أبي هريرة. بل هو قليل الحديث عن أبي هريرة... ثم ساق أقوال أئمة الجرح والتعديل فيه وقال:
فقد تبين أن هذا الحديث الذي تفرد به أبو صخر عن ابن قسيط عن أبي هريرة لا يخلو من مقال في إسناده، وأنه لا ينتهي به إلى درجة الصحيح، وقد ذكر بعض الأئمة أنه على شرط(58/23)
مسلم. وفي ذلك نظر، فإن ابن قسيط وإن كان مسلم قد روى في صحيحه من رواية أبي صخر عنه لكنه لم يخرج من روايته عن أبي هريرة شيئاً، فلو كان قد أخرج في الأصول حديثاً من رواية أبي صخر عن ابن قسيط عن أبي هريرة أمكن أن يقال في هذا الحديث إنه على شرطه... إلى أن قال: فعلم أن هذا الحديث الذي تفرد به أبو صخر عن ابن قسيط عن أبي هريرة لا ينبغي أن يقال هو على شرط مسلم، وإنما هو حديث إسناده مقارب، وهو صالح أن يكون متابعاً لغيره عاضداً له، والله أعلم. اهـ كلام الإمام ابن عبد الهادي رحمه الله تعالى.
ص -626-
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من رجل يزور قبر أخيه، ويجلس عنده، إلا استأنس به، ورد عليه حتى يقوم".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (إذا مر الرجل بقبر أخيه يعرفه، فسلم عليه، رد عليه السلام،
ص -627-(58/24)
وعرفه، وإذا مر بقبر لا يعرفه فسلم عليه، رد عليه السلام). ذكره ابن أبي الدنيا في كتاب القبور.
وفي سنن أبي داود من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام" وهذه الأحاديث تدل على أنهم ليسوا بأحياء في قبورهم بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام" ففي هذا دليل على أن الأرواح قد فارقت الأشباح، وإنما ترد الأرواح لرد السلام.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى بعد كلام سبق: على أن قوله: "ثم تعاد روحه في جسده" لا يدل على حياة مستقرة، وإنما يدل على إعادة لها إلى البدن، وتعلق به الروح لم تزل متعلقة ببدنها وإن بلى وتمزق. وسر ذلك أن الروح لها بالبدن خمسة أنواع من التعلق، متغايرة الأحكام: أحدهما تعلقها به في بطن الأم جنيناً، الثاني: تعلقها به بعد خروجه إلى وجه الأرض، الثالث: تعلقها به في حال النوم، فلها به تعلق من وجه، ومفارقة من وجه. الرابع تعلقها به في البرزخ، فإنها وإن فارقته، وتجردت عنه، فإنها لم تفارقه فراقاً كلياً، بحيث لا يبقى لها التفات إليه ألبتة –وقد ذكرنا في أول الجواب من الأحاديث والآثار ما يدل على ردها إليه وقت سلام
ص -628-(58/25)
المسلم- وهذا الرد إعادة خاصة لا يوجب حياة البدن إلى قبل يوم القيامة، الخامس: تعلقها به يوم بعث الأجسام... إلى آخر كلامه رحمه الله.
وأما قوله: (ومن الأدلة على أن الله تعالى يحيي الموتى في قبورهم فيسمعون: قوله تعالى -حكاية على سبيل التصديق-: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر: 11] فالمراد بإحدى الإماتتين الإماتة قبل مزار القبور، وبالأخرى الإماتة بعد مزار القبور، فإنهم لو لم يحيوا في القبور ثانية ما صحت إماتتهم ثانية.
وأما جواب الوهابية أن الإماتة الأولى هي حال العدم قبل الخلق. والثانية الإماتة بعد الخلق، فمما يضحك الصبيان، لأن الإماتة لا تكون إلا بعد الحياة، ولا حياة قبل أن يخلق الله الحياة. وأما جوابها أن الأماتة الأولى هي إماتة الناس بعد حياتهم في عالم الذر، فهو أوهن من جوابها الأول، لأن الناس في عالم الذر لم يكونوا غير أرواح خلقها الله تعالى، فسألهم: (ألست بربكم)؟ فأجابوا قائلين: بلى، وأنت تعلم أن الموت عبارة عن مفارقة الروح للجسد، وحيث لا جسد فلا موت، نعم يجوز أن يفني الله الأرواح بعد خلقها في عالم الذر، ولكن ذلك ليس من الموت في شيء لما تقدم).
ص -629-(58/26)
فالجواب أن يقال: ليس هذا جواب الوهابية فقط، بل قد ذكره ابن القيم رحمه الله في كتاب "الروح" فقال:
وأما قول أهل النار {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر: 11] فتفسير هذه الآية، الآية التي في البقرة، وهي قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة:28]، فكانوا أمواتاً وهم نطف في أصلاب آبائهم، وفي أرحام أمهاتهم، ثم أحياهم بعد ذلك ثم أماتهم، ثم يحييهم يوم النشور.
فصار جوابك هو الذي يضحك منه الصبيان، لأنه مكابرة للقرآن، لأن الله وحده قد أخبر أنهم كانواً أمواتاً وهم نطف في أصلاب آبائهم، وفي أرحام أمهاتهم {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 14] {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} [النساء: 122] {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً} [النساء: 87] ثم أحياهم سبحانه بإخراجهم إلى دار الدنيا، ثم أماتهم سبحانه، ثم يحييهم يوم النشور.
وبما ذكره ابن القيم رحمه الله قال أهل التفسير:
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله على هذه الآية: يقول الله تعالى مخبراً عن الكفار أنهم ينادون يوم القيامة، وهم في غمرات النيران يتلظون، وذلك عندما باشروا من
ص -630-(58/27)
عذاب الله تعالى ما لا قبل لأحد به- إلى أن قال:
أما قوله: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر: 11] قال الثوري، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود رضي الله عنه: هذه الآية كقوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة:28]، وكذا قال ابن عباس، والضحاك، وقتادة، وأبو مالك.
وهذا هو الصواب الذي لا شك فيه ولا مرية.
وقال السدي: أميتوا في الدنيا، ثم أحيوا في قبورهم، فخوطبوا، ثم أميتوا، ثم أحيوا يوم القيامة.
وهذان القولان من السدي وابن زيد ضعيفان، لأنه يلزمهما على ما قالا ثلاث إحياءات وإماتات.
والصحيح قول ابن مسعود، وابن عباس، ومن تابعهما... إلى آخر كلامه رحمه الله.
فإن كان ما قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك الصبيان، فليس على وجه الأرض كلام صحيح إلا ما صححه هذا الملحد بمعقوله الذي هو بكلام المجاذيب أشبه به من كلام المجانين، وحيث نسب تفسير أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الوهابية، فأهلاً به أهلاً، فإنا به قائلون، وعلى ما أثبوته معتمدون، ولما سواه نافون.
ص -631-(58/28)
وأما قولة العراقي: (وأما جوابها أن الإماتة الأولى هي إماتة الناس بعد حياتهم في عالم الذر، فهو أوهن من جوابها الأول، لأن الناس في عالم الذر لم يكونوا غير أرواح...) الخ.
فأقول: هذا الجواب ليس هو للوهابية، بل هو كلام ابن زيد، وقد ضعفه ابن كثير كما تقدم، وهو مبني على خلاف العلماء في خلق الأرواح، هل هو مقدم على أبدانها أم متأخر، والصحيح الذي تشهد له النصوص من الكتاب والسنة أن خلقها بعد خلق الأبوين، وذلك بعد إرسال الله ملك الأرواح إلى النطف في بطون الأمهات ينفخ فيها الروح، والذي ثبت إنما هو إثبات القدر السابق، وتقسيمهمم إلى شقي وسعيد.
وأما الأحاديث التي وردت في تقدم خلقها على أبدانها، فلا يصح منها شيء، والصحيح الثابت هو ما ذكره ابن القيم من الوجوه التي ذكرها في الفصل الذي ذكر فيه الأدلة على أن خلق الأرواح متأخر عن خلق الأبدان، وبه الكفاية، فمن أراد تحقيق المسألة فهي مبسوطة في كتاب "الروح" في هذا الفصل.
وإذا تقرر هذا فليس للوهابية كلام على هذه المسألة منسوب إليها، فيكون هذا الجواب جواباً له، بل هو جواب
ص -632-
باطل فاسد على أصل لا يصح بدليل شرعي ثابت، فإن كان تكلم في هذه المسألة أحد ممن تنسبونه إلى الوهابية فربما.
وأما الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه فليس لهم فيها كلام معروف، غير ما ذكره ابن القيم رحمه الله تعالى، والقول الذي نعتمده في هذه المسائل كلها هو ما ذكره ابن القيم رحمه الله تعالى في "الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية" قال رحمه الله تعالى:
ص -633-
فصل
في الكلام في حياة الأنبياء في قبورهم
ولأجل هذا رام ناصر قولكم
ترقيعه يا كثرة الخلقان
قال الرسول بقبره حيّ كما
قد كان فوق الأرض والرجمان
من فوقه أطباق ذاك الترب واللـ
ـبنات قد عرضت على الجدران
لو كان حيا في الضريح حياته
قبل الممات بغير ما فرقان
ما كان تحت الأرض بل من فوقها(58/29)
والله هذي سنة الرحمن
أتراه تحت الأرض حياً ثم لا
يفتيهموا بشرائع الايمان
ويريح أمته من الآراء والـ
ـخلف العظيم وسائر البهتان
ص -634-
أم كان حيا عاجزا عن نطقه
وعن الجواب لسائل لهفان
وعن الحراك فما الحياة اللاء قد
أثبتموها أوضحوا ببيان
هذا ولم لا جاءه أصحابه
يشكون بأس الفاجر الفتان
إذ كان ذلك دأبهم ونبيهم
حيّ يشاهدهم شهود عيان
هل جاءكم أثر بأن صحابه
سألوه فتيا وهو في الأكفان
فأجابهم بجواب حي ناطق
فأتوا إذا? بالحق والبرهان
هلا أجابهموا جواباً شافياً
إن كان حيا ناطقا بلسان
هذا وما شدت ركائبه عن الحـ
ـجرات للقاصي من البلدان
مع شدة الحرص العظيم له على
إرشادهم بطرائق التبيان
أتراه يشهد رأيهم وخلافهم
ويكون للتبيان ذا كتمان
ص -635-
إن قلتموا سبق البيان صدقتمو
قد كان بالتكرار ذا نبيان
هذا وكم من أمر أشكل بعده
أعني على علماء كل زمان
أو ما ترى الفاروق ود بأنه
قد كان منه العهد ذا تبيان
بالجد في ميراثه وكلالة
وببعض أبواب الربا الفتان
قد قصّر الفاروق عند فريقكم
إذ لم يسله وهو في الأكفان
أتراهمو يأتون حول ضريحه
لسؤال أم هموا أعز حصان
ونبيهم حي يشاهدهم ويسـ
ـمعهم ولا يأتي لهم ببيان
أفكان يعجز أن يجيب بقوله
إن كان حيا داخل البنيان
يا قومنا استحيوا من العقلاء والمـ
ـبعوث بالقرآن والرحمن
والله لا قدر الرسول عرفتموا
كلا ولا للنفس والإنسان
ص -636-
من كان هذا القدر مبلغ علمه
فليستتر بالصمت والكتمان
ولقد أبان الله أن رسوله
ميت كما قد جاء في القرآن
أفجاء أن الله باعثه لنا
في القبر قبل قيامة الأبدان
أثلاث موتات تكون لرسله
ولغيرهم من خلقه موتان
إذ عند نفخ الصور لا يبقى امرؤ
في الأرض حيا قط بالبرهان
أفهل يموت الرسل أم يبقوا إذا
مات الورى أم هل لكم قولان(58/30)
فتكلموا بالعلم لا الدعوى وجيـ
ـئوا بالدليل فنحن ذو أذهان
أو لم يقل من قبلكم للرافعي الأ
صوات حول القبر بالنكران
لا ترفعوا الأصوات رحمة عبده
ميتا كحرمته لدى الحيوان
قد كان يمكنهم يقولوا أنه
حي فغضوا الصوت بالاحسان
ص -637-
لكنهم بالله أعلم منكموا
ورسوله وحقائق الإيمان
ولقد أتوا الى العباس يسـ
ـتسقون من قحط وجدب زمان
هذا وبينهموا وبين نبيهم
عرض الجدار وحجرة النسوان
فنبيهم حي ويستسقون غيـ
ـر نبيهم حاشا أولي الإيمان
ص -638-
فصل
فيما احتجوا به على حياة الرسل في القبور
فان احتججتم بالشهيد بأنه
حيّ كما قد جاء في القرآن
والرسل أكمل حالة منه بلا
شك وهذا ظاهر التبيان
فلذاك كانوا بالحياة أحق من
شهدائنا بالعقل والإيمان
وبأن عقد نسائه لم ينفسخ
فنساؤه في عصمة وصيان
ولأجل هذا لم يحل لغيره
منهن واحدة مدى الأزمان
أفليس في هذا دليل أنه
حيّ لمن كانت له أذنان
أو يرى المختار موسى قائما
في قبره لصلاة ذي القربان
ص -639-
أفميت يأتي الصلاة وإن ذا
عين المحال وواضح البطلان
أو لم يقل أني أرد على الذي
يأتي بتسليم مع الاحسان1
أيرد ميت السلام على الذي
يأتي به هذا من البهتان2
هذا وقد جاء الحديث بأنهم
أحياء في الأجداث ذا تبيان
وبأن أعمال العباد عليه تعـ
ـرض دائما في جمعة يومان
يوم الخميس ويوم الاثنين الذي
قد خص بالفضل العظيم الشأن
__________
1 في ط الرياض "يأتي به هذا من البهتان".
2 تقدم البيت على الذي قبله وشطره الثاني: "يأتي بتسليم مع الإحسان". والمثبت من الأصل والنونية.
ص -640-
فصل
في الجواب عما احتجوا به في هذه المسألة
فيقال أصل دليلكم في ذاك حجـ
ـتنا عليكم وهي ذات بيان
إن الشهيد حياته منصوصة
لا بالقياس القائم الأركان
هذا مع النهي المؤكد أننا(58/31)
ندعوه ميتا ذاك في القرآن
ونساؤه حل لنا من بعده
والمال مقسوم على السهمان
هذا وإن الأرض تأكل لحمه
وسباعها مع أمة الديدان
لكنه مع ذلك حيّ فارح
مستبشر بكرامة الرحمن
فالرسل أولى بالحياة لديه مع
موت الجسوم وهذه الأبدان
ص -641-
وهي الطرية في التراب وأكلها
فهو الحرام عليه بالبرهان
ولبعض أتباع الرسول يكون ذا
أيضا وقد وجدوه رأي عيان
فانظر الى قلب الدليل عليهموا
حرفا بحرف ظاهر التبيان
لكن رسول الله خص نساؤه
بخصيصة عن سائر النسوان
خيرن بين رسوله وسواه فاخـ
ـترن الرسول لصحة الايمان
شكر الإله لهن ذلك وربنا
سبحانه للعبد ذو شكران
قصر الرسول على أولئك رحمة
منه بهن وشكر ذي الاحسان
وكذاك أيضا قصرهن عليه معـ
ـلوم بلا شك ولا حسبان
زوجاته في هذه الدنيا وفي الأ
ـخرى يقينا واضح البرهان
فلذا حرمن على سواه بعده
إذ ذاك صون عن فراش ثان
ص -642-
لكن أتين بعدة شرعية
فيها الحدود وملزم الأوطان
هذا ورؤيته الكليم مصليا
في قبره أثر عظيم الشان
في القلب منه حسيكة هل قاله
فالحق ما قد قال ذو البرهان
ولذاك أعرض في الصحيح محمد
عنه على عمد بلا نسيان
والدارقطني الإمام أعله
برواية معلومة التبيان
أنس يقول رأي الكليم مصليا
في قبره فأعجب لذا الفرقان
فرواه موقوفا عليه وليس بالمر
ـفوع واشواقا إلى العرفان1
بين السياق إلى السياق تفاوت
لا تطرحه فما هما سيان
لكن تقلد مسلما وسواه ممـ
ـن صحّ هذا عنده ببيان
فرواته الاثبات أعلام الهدى
حفاظ هذا الدين في الأزمان
__________
1 سقط البيت من جميع النسخ.
ص -643-
لكن هذا ليس مختصا به
والله ذو فضل وذو إحسان
فروى ابن حبان الصدوق وغيره
خبرا صحيحا عنده ذا شان
فيه صلاة العصر في قبر الذي
قد مات وهو محقق الإيمان(58/32)
فتمثل الشمس الذي قد كان ير
عاها لأجل صلاة ذي القربان
عند الغروب يخاف فوت صلاته
فيقول للملكين هل تدعان
حتى أصلي العصر قبل فواتها
قالا سنفعل ذاك بعد الآن
هذا مع الموت المحقق لا الذي
حكيت لنا بثبوته القولان
هذا وثابت البناني قد دعا الـ
ـرحمان دعوة صادق الإيقان
أن لا يزال مصليا في قبره
أن كان أعطي ذاك من إنسان
لكن رؤيته لموسى ليلة الـ
ـمعراج فوق جميع ذي الأكوان
ص -644-
يرويه أصحاب الصحاح جميعهم
والقطع موجبه بلا نكران
ولذاك ظن معارضا لصلاته
في قبره إذ ليس يجتمعان
وأجيب عنه بأنه أسرى به
ليراه ثم مشاهدا بعيان
فرآه ثم وفي الضريح وليس ذا
بتناقض إذ أمكن الوقتان
هذا ورد نبينا التسليم1 من
يأتي بتسليم مع الإحسان
ما ذاك مختصا به أيضا كما
قد قاله المبعوث بالقرآن
من زار قبر أخ له فأتى بتسـ
ـليم عليه وهو ذو إيمان
رد الإله عليه حقا روحه
حتى يرد عليه رد بيان
وحديث ذكر حياتهم بقبورهم
لما يصح وظاهر النكران
فانظر إلى الإسناد تعرف حاله
إن كنت ذا علم بهذا الشان
__________
1 في الأصل: "السلام". وفي ط الرياض: "السلام". والمثبت من النونية.
ص -645-
هذا ونحن نقول هم أحياء لا
كن عندنا كحياة ذي الأبدان
والترب تحتهموا وفوق رؤوسهم
وعن الشمائل ثم عن أيمان
مثل الذي قد قلتموه معاذنا
بالله من أفك ومن بهتان
بل عند ربهموا تعالى مثل ما
قد قال في الشهداء في القرآن
لكن حياتهموا أجل وحالهم
أعلى وأكمل عند ذي الإحسان
هذا وأما عرض أعمال العبا
د عليه فهو الحق ذو إمكان
وأتى به أثر فإن صح الحديـ
ـث به فحق ليس ذا نكران
لكن هذا ليس مختصا به
أيضا بآثار روين حسان
فعلى أبي الإنسان يعرض سعيه
وعلى أقاربه مع الأخوان
إن كان سعيا صالحا فرحوا به
واستبشروا يا لذة الفرحان(58/33)
ص -646-
أو كان سعيا سيئا حزنوا وقا
لوا رب راجعه الى الإحسان
ولذا استعاذ من الصحابة من روى
هذا الحديث عقيبه بلسان
يا رب إني عائذ من خزية
أخزي بها عند القريب الدان
ذاك الشهيد المرتضى ابن رواحة
المحبو بالغفران والرضوان
لكن هذا ذو اختصاص والذي
للمصطفى ما يعمل النقلان
هذي نهايات لأقدام الورى
في ذا المقام الضنك صعب الشان
والحق فيه ليس تحمله عقو
ل بني الزمان لغلظة الأذهان
ولجهلهم بالروح مع أحكامها
وصفاتها للإلف بالأبدان
فارض الذي رضي الإله لهم به
أتريد تنقض حكمة الديان
هل في عقولهموا بأن الروح في
أعلى الرفيق مقيمة بجنان
ص -647-
وترد أوقات السلام عليه من
أتباعه في سائر الأزمان
وكذاك إن زرت القبور مسلما
ردت لهم أرواحهم للآن
فهموا يردون السلام عليك لا
كن لست تسمعه بذي الأذنان
هذا وأجواف الطيور الخضر مسـ
ـكنها لدى الجنات والرضوان
من ليس يحمل عقله هذا فلا
تظلمه واعذره على النكران
للروح شأن غير ذي الأجسام لا
تهمله شأن الروح أعجب شان
وهو الذي حار الورى فيه فلم
يعرفه غير الفرد في الأزمان
هذا وأمر فوق ذا لو قلته
بادرت بالإنكار والعدوان
فلذاك أمسكت العنان ولو أرى
ذاك الرفيق جريت في الميدان
هذا وقولي إنها مخلوقة
وحدوثها المعلوم بالبرهان
ص -648-
هذا وقولي إنها ليست كما
قد قال أهل الافك والبهتان
لا داخل فينا ولا هي خارج
عنا كما قالوه في الديان
والله لا الرحمن أثبتم ولا
أرواحكم يا مدعي العرفان
عطلتموا الأبدان من أرواحها
والعرش عطلتم من الرحمن
ص -649-(58/34)
فصل
قال العراقي: (الوهابية وتكفيرها الحالف بغير الله والناذر، والذابح: قاتل الله الوهابية إنها تتحرى في كل أمر أسباب تكفير المسلمين، مما يثبت أن همها الأكبر هو تكفيرهم لا غير، فتراها تكفر من يتوسل إلى الله تعالى بنبيه صلى الله عليه وسلم ويستعين باستشفاعه إلى الله تعالى على قضاء حوائجه، وهي لا تخجل إذ تستعين بدولة الكفر على قضاء حاجاتها، التي هي قهر المسلمين وحربهم، وشق عصاهم، والمروق عن طاعة أمير المؤمنين، الذي أمر الله تعالى في كتابه المبين بلزوم طاعته، كما بسطنها في مقدمات الرسالة، وتتخذ أعداء الدين أولياء تستمد منهم في إحضار القوى التي تسعى بها إلى الفساد، وتلج بها في الغواية والعناد، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [المائدة: 51] سحقاً للوهابية إنها لا تدري أن أولئك الأولياء الذين تتخذهم ذريعة لقهر المسلمين إذا ثبت قدمهم فإنهم يقهرونها، ويهتضمونها -أيضاً- مع من تعده خصماً مخالفاً لمذهبها.
ص -650-(58/35)
فأقول: إيه يابن اللخنا لقد –والله- علمتم أنكم لأنتم اخدان إخوان القردة والخنازير، وإخوان عبدة الصليب أصحاب السعير، وأنا لم ننزع إليهم ولم نستعن بهم في شيء من الأمور التي تزعمونها، وأنا لم نتخذهم أولياء، وقد علمتم أنه ليس في ديارنا لهم علماً، ولا جعلنا في أوطاننا قناصل، ولم نلتزم في ملتنا قوانينهم، ونقدمها على شرع الله ورسوله، ونحن نبرأ إلى الله منهم ومنكم، {كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4]، ولكن قد غلبت عليكم القحة، والتظاهر بالكذب والعدوان، لكي تطفئوا نور الله بأفواهكم، {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: 32].
فانظر -قاتلك الله يا عدو الله- من قناصل أعداء الله ورسوله عنده؟ ومن أعلامهم منصوبة في ديارهم؟ ومن اليهود والنصارى والرافضة في جملة عساكرهم؟ حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين، وتدري من سعى في الأرض بالفساد، ولج في الغواية والعناد، وعام في بحر الضلالة، وتدرع برداء الشرك والجهالة.
وأما قوله: (من غير مرة إن ديدن الوهابية تكفير كافة المسلمين بكل أمر، فهي تكفرهم لتوسلهم بجاه الأنبياء والأولياء وندائهم).
ص -651-(58/36)
فأقول: أما تكفير عامة المسلمين فمن الكذب الواضح، وقد بيناه غير مرة، وأما التوسل بجاه الأنبياء والأولياء فالوهابية لا يكفرون بمجرد التوسل بجاههم.
وأما دعاؤهم والاستغاثة بهم، والاستشفاع بهم، والالتجاء إليه، فهو كفر مخرج عن الملة، وقد قدمنا أدلة ذلك، وكلام أهل العلم في ذلك.
وأما قوله: (وتكفرهم بالحلف بغير الله).
فأقول: وهذا أيضاً من الكذب على الوهابية، والأوهام الوبية.
وأما قوله: (والنذر لذلك الغير والذبح له) فسيأتي الكلام عليه قريباً.
وقوله: (ولو سلمنا أن في بعض الأقوال التي تنسبها الوهابية إلى المسلمين كفراً يصح أن يقال فيه: إن قائل هذا القول يكفر، لما صح أن تكفر جميع الأمة، أو تكفر شخصاً معيناً، قال ذلك القول، فقد يكون القائل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، أو لم تثبت عنده، أو لم يتمكن من معرفتها وفهمها، أو يكون قد عرضت له شبهات يعذره الله تعالى فيها).
ص -652-
فأقول: الوهابية لا يكفرون إلا من كفره الله ورسوله، وقامت عليه الحجة التي يكفر تاركها، ولا يلزم من تكفير من قام به الكفر وقامت عليه الحجة تكفير جميع المسلمين، فإن هذا من اللوازم الباطلة، والأقوال الداحضة.
وأما تكفير الشخص المعين، فلا مانع من تكفيره إذا صدر منه ما يوجب تكفيره فإن عبادة الله وحده لا شريك له من الأمور الضرورية المعلومة من دين الإسلام، فمن بلغته دعوة الرسول، وبلغه القرآن، فقد قامت عليه الحجة.
(وأما) الأمور التي لا يكفر فاعلها [مما ليس معلوماً بالضرورة من دين الإسلام، بل في الأمور الخفية فهذا لا يكفر]1 حتى تقوم عليه2 الحجة، لأن هذا3 إنما هو في المسائل النظرية والاجتهادية التي قد يخفى دليلها.
وأما عباد القبور، فهم عند السلف وأهل العلم يسمون الغالية، لأن فعلهم غلو، يشبه غلو النصارى في الأنبياء والصالحين، وعبادتهم.
فمسأله توحيد الله، وإخلاص العبادة له، لم ينازع(58/37)
__________
1 سقط ما بين المعقوفين من ط الرياض.
2 سقطت "عليه" من ط الرياض.
3 سقطت "لأن هنا" من ط الرياض.
ص -653-
في وجوبها أحد من أهل الإسلام، لا أهل الأهواء، ولا غيرهم، وهي معلومة من الدين بالضرورة، كل من بلغته الرسالة وتصورها على ما هي عليه عرف أن هذا زبدتها وحاصلها، وسائر الأحكام تدور عليه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "الرد على المتكلمين" لما ذكر أن بعض أئمتهم توجد منهم الردة عن الإسلام كثيراً، قال:
وهذا وإن كان في المقالات الخفية، فقد يقال فيها إنه مخطئ ضال، لم تقم عليه الحجة التي يكفر تاركها، لكن هذا يصدر منهم في أمور يعلم الخاصة والعامة من المسلمين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بها، وكفر من خالفها، مثل عبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة أحد سواه، من الملائكة والنبيين وغيرهم، فإن هذا أظهر شرائع الإسلام، ومثل إيجابه للصلوات الخمس، وتعظيم شأنها، ومثل تحريم الفواحش، والزنا، والخمر والميسر، ثم تجد كثيراً من رؤوسهم وقعوا فيها، فكانوا مرتدين، وأبلغ من ذلك أن منهم من صنف في دين المشركين، كما فعل أبو عبد الله الرازي -قال: وهذه ردة صريحه، انتهى.
فالشخص المعين إذا صدر منه ما يوجب كفره من الأمور التي هي من ضروريات دين الإسلام مثل عبادة غير الله سبحانه وتعالى، فإن الله قد أقام الحجة بإنزال
ص -654-(58/38)
كتبه، وبعث رسله، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، وهذا مما لا إشكال فيه.
وأما قوله: (فقد يكون القائل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق...) إلى آخره.
فأقول: أما ما عدا الأمور الضرورية المعلومة من دين الإسلام، فإنا لا نكفر من قال قولاً لم يبلغه النص في ذلك بتكفير من فعله، لأن الشرائع لا تلزم إلا بعد البلوغ، وكذلك من لم يثبت عنده النص، أو قام لديه معارض من نص آخر، أو وقعت له شبهة يعذره الله بها، هذا مما لا إشكال فيه عند أهل العلم.
وأما قول هذا الجاهل المركب: (أو لم يتمكن من معرفتها وفهمها) فإنما دهي1 من عدم معرفته بالفرق بين قيام الحجة، وفهم الحجة [فإن من بلغته دعوة الرسل فقد قامت عليه الحجة] إن كان على وجه يمكن معه العلم، ولا يشترط في قيام الحجة أن يفهم عن الله ورسوله ما يفهمه أهل الإيمان والقبول والانقياد لما جاء به الرسول،
__________
1 في ط الرياض: "هي".
ص -655-(58/39)
فإن فهم الحجة نوع آخر غير قيامها، قال الله تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [سورة الفرقان:44].
وقال تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [سورة البقرة: 7]. وقال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً. الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً. أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ} الآية [سورة الكهف: 103-104-105].
وأما قوله: (فالذي يؤمن بالله ورسوله، فإن الله قد يغفر له برحمته بعض الذنوب القولية والعملية).
فأقول: هذا حق، وذلك فيمن أتى ذنباً لا يخرجه من الملة، أو كان ذلك القول أو الفعل مما ليس بضروري في الدين، كما تقدم بيانه، وأما من أشرك بالله في عبادته، فقد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [سورة النساء: 48 و 116] فأما من أتى بالشرك الأكبر، فالله قد حرم عليه الجنة، ومأواه النار، وإن زعم أنه مؤمن بالله ورسوله، وتلفظ بالشهادتين، فإن هذا لا ينفعه مع فعل الشرك المخرج من الملة، كدعائه غير الله، واستغاثته بمن سواه، والالتجاء إليه، وطلب الحوائج من
ص -656-(58/40)
الولائج، فإن هذا مناف لشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله. وما نزل من الآيات في الوعيد على من اقترف ذنباً لا يخرجه من الإسلام، فهو تحت مشيئة الله، إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه. ولا يكفر بهذه الذنوب إلا الخوارج.
وأما قوله: (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في "مدارج السالكين" ما ملخصه: إن أهل السنة متفقون على أن الشخص الواحد قد يكون فيه ولاية لله تعالى وعداوة من وجهين مختلفين، وقد يكون فيه إيمان ونفاق، وإيمان وكفر، ويكون أحدهما إليه أقرب من الآخر، فيكون من أهله، قال الله تعالى: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ} [ سورة آل عمران: 167]).
فأقول: هذا حق، فقد يكون الشخص فيه ولاية لله تعالى وعداوة، وذلك كمثل الصحابي الذي كان يكثر من شرب الخمر، فقال رجل: لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تلعنه، فإنه يحب الله ورسوله" وكذلك من كان فيه خصلة من النفاق كمن إذا خاصم فجر، وإذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وكذلك الكفر مع الإيمان، كقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ترجعوا بعدي
ص -657-(58/41)
كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض"، "من حلف بغير الله فقد كفر"، إلى غير ذلك من الأمور التي لا تخرج من الملة، من الأقوال والأعمال.
وبالجملة؛ فالقلب الذي لم يتمكن منه الإيمان، ولم يزهر فيه سراجه، حيث لم يتجرد للحق المحض الذي بعث الله به رسوله، بل فيه مادتان، مادة منه، ومادة من خلافه، فتارة يكون للكفر أقرب منه للإيمان، وتارة يكون للإيمان أقرب منه للكفر، والحكم للغالب، وإليه يرجع، فهذا وأمثاله لا يدخل في مسألة من صرف لغير الله نوعاً من العبادة، فإنا قد بينا فيما تقدم الأدلة على كفره من الكتاب والسنة، وأقوال العلماء، فالمغالطة بإدخال هذه الأمور في مسألة عبادة غيره الله سفسطة، وتمويه، ومزج للحق بالباطل، فسحقاً وبعداً للقوم الظالمين.
وأما قول العراقي: (أما الحلف بغير الله فلا يخرج مرتكبه عن الإسلام... إلى آخر كلامه).
فأقول: قد كان من المعلوم أن مجرد الحلف بغير الله لا يخرج من الملة، ومن زعم أنا نكفر بهذه الأشياء كفراً مخرجاً عن الملة فهو من أكذب خلق الله، وأجرأهم على الفرية، وقول الزور. وقد ذكر ابن القيم رحمه الله أن من
ص -658-(58/42)
عظم مخلوقاً بالحلف تعظيماً كتعظيم الله، فقد أشرك شركاً أكبر. وقال لما عد من هذه الألفاظ ونحوها في شرح "المدارج": وقد يكون ذلك شركاً أكبر بحسب ما قام بقلب فاعله. وحديث ابن عمر صريح في إطلاق الكفر والشرك بالحلف بغير الله. فمن منع الإطلاق فهو مشاق لله ولرسوله، ولكن ساق البخاري في "صحيحه" قول ابن عباس: كفر دون كفر، وشرك دون شرك، وظلم دون ظلم.
وأما قوله: (من حلف بغير الله فقد كفر. فقد حمله أئمة الحديث من شافعية وحنفية وحنابلة ومالكية على أن المقصود به: كفر النعمة).
فأقول: هذا الحمل ضعيف جداً، إذ ما من معصية وذنب يفعله المكلف المختار إلا وفيه من كفر النعمة بحسبه. والشكر هو استعمال النعمة في طاعة معطيها ومسديها، مع محبته، والرضا عنه، والثناء بها عليه، والشكر ضد الكفر، فمن أخل بشيء من الشكر ففيه من كفر النعمة بحسب ذلك، فتحصل أن كفر النعمة لا يختص بما أطلق عليه الشارع الكفر من الأفعال، فلا بد للنص من معنى يخصه، وحكمة في تخصيص بعض الأفراد، وهذا معلوم بالشرع والفطرة، إذ تخصيص بعض أفراد الجنس من غير مخصص يقتضي ذلك تحكم محض، وترجيح بلا مرجح.
ص -659-(58/43)
وأما قوله: (حتى إن أصحاب الشافعي قالوا بأنه مكروه تنزيهاً لا تحريماً. فالحلف الذي قد اختلف فيه العلماء أنه مكروه أو حرام لا يجوز أن يقال في مرتكبه: إنه كافر خارج عن الملة).
فأقول: أما كونه مكروهاً كراهة تنزيه لا كراهة تحريم فهذا مما لا دليل عليه من الكتاب والسنة، بل هو عرف حادث، والكراهة في عرف الكتاب والسنة وقدماء العلماء، تطلق على التحريم، قال الله تعالى بعد ذكر المحرمات {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} [سورة الإسراء:38] وكما في الحديث: "ويكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال"1 فلا عبرة بخلاف من خالف ما يقتضيه الكتاب والسنة بالإصطلاح الحادث، وأما دعوى أن ذلك يخرج عن الملة، فقد بينا أنه من الكذب والبهتان.
__________
1 أخرجاه في الصحيحين. وقد تقدم في الرسالة السادسة.
ص -660-
فصل
ثم قال العراقي: (وأما النذر لغير الله فقد صرح الشيخ تقي الدين ابن تيمية وابن القيم -وهما من أعظم من شدد فيه- بعدم جوازه، وكونه معصية، لا أنه كفر وشرك مخرج عن الإسلام، فلا يجوز الوفاء به، ولو تصدق بما نذر من ذلك على من يستحقه من الفقراء كان خيراً له عند الله، فلو كان الناذر لغير الله كافراً لما أمراه بالصدقة، لأن الصدقة لا تقبل من الكافر، بل أمراه بتجديد إسلامه).
والجواب أن نقول: قد أجاب على هذه الشبهة شيخنا الشيخ عبد اللطيف رحمه الله في رده شبهات داود بن جرجيس، فقال رحمه الله:
ليس في كلام الشيخ وكلام ابن القيم ما يدل على أن النذر -الواقع من عباد القبور- لمن يدعونه ويقصدونه لحوائجهم وإغاثتهم في الشدائد- ليس بشرك، بل كلام الشيخ وابن القيم صريح في أنه نذر معصية، وإشراك بالله تعالى، فكيف يسوقه وقد عده ابن القيم من أنواع الشرك
ص -661-(58/44)
الأكبر، وقرنه بالتوكل على غير الله، والعمل لغيره، والإنابة والخضوع، والذل لغير الله، وابتغاء الرزق من عند غيره، وقد تقدم ذلك فراجع كلامه في موضعه تعرف كذب هذا العراقي على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى أولي العلم من خلقه، فرحم الله امرأ نظر لنفسه قبل أن تزل قدمه، ويحال بينه وبين العمل.
وكذلك الشيخ صرح بأنه معصية، والمعصية تصدق بالشرك وغيره من الكبائر إذا أطلقت. واستدلال المعترض بأنه لم يقل: هذا النذر كفر مخرج عن الملة. فإطلاق المعصية كاف في المقصود. وأيضاً فالكفر إنما يطلق بعد قيام الحجة. وقول العراقي: (فكيف يكفر من نذر لأحد الأنبياء وقصده لوجه الله). ففي هذه العبارة شيئان:
الأول: استبعاده تكفير من نذر للأنبياء، وجعله ذلك دون النذر للشجرة والبقعة، مع أن الفتنة بقبور المعظمين أشد محنة من الشجر والبقاع، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"1، فالشرك بالأنبياء والصالحين أخوف وأعظم فتنة، كما هو معروف.
__________
1 أخرجه الإمام مالك في "الموطأ" –كتاب قصر الصلاة في السفر- باب جامع الصلاة 1/172 عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فذكره.
قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى: لا خلاف عن مالك في إرسال هذا الحديث اهـ.
وقد ورد موصولاً من غير طريق مالك. فأخرجه أحمد في "المسند" 2/246، ثنا سفيان عن حمزة بن المغيرة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا تجعل قبري وثناً. لعن الله قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".
ص -662-(58/45)
والثاني: إضافة النذر لأحد الأنبياء، وقوله بعده: (وقصده لوجه الله). فإذا كان النذر نفسه للأنبياء والصالحين بطل قوله: (وقصده لوجه الله)، وإنما يكون ذلك نذراً لله وحده، وجعل الثواب لمن شاء من عباده. ومسألة إهداء ثواب القرب إلى الأنبياء لا يخفى ما فيها من القول بالمنع على من له أدنى ممارسة.
والقصد هنا بينا تناقض العراقي، وأن كلامه يدفع بعضه بعضاً، وقوله: (فإن ذلك لايضر بالاتفاق) كذب ظاهر، فإن قول الشيخين إنه يصرف إلى الفقراء دليل على أنه يضر إذا صدر منه لغير الله، وأنه مأمور بالتوبة، وصرف ذلك إلى الجهة المشروعة. وقد صرف النبي صلى الله عليه وسلم مال اللات في الجهاد، والمصارف الشرعية التي يستعان بها على عبادة الله وحده لا شريك له، والاستدلال بصرفها في ذلك المصرف الشرعي على أنها شرك وضلال، أوجه من الاستدلال بذلك على أن النذر للأصنام ونحوها ليس بشرك.
ص -663-(58/46)
وأما قوله: (فول كان الناذر كافراً عندهما لم يأمراه بالصدقة، فإن الصدقة لا تقبل من الكافر).
فالجواب من وجوه:
الأول: أنه إذا أقلع عن الذنب وصرف المال في مصرفه الشرعي، فهذا رجوع عما كان عليه وتوبة منه.
الثاني: أنه لا يقال بالكفر مطلقاً لكل ناذر لغير الله حتى تقوم الحجة الرسالية، وأما ما نقله عن ابن القيم فقد صرح فيه بأنه نذر معصية وإشراك.
وشبهة هذا العراقي أنه لو كان شركاً مخرجاً عن الملة لما جاز صرفه للفقراء.
فالعراقي لم يفرق بين النذر والمنذور، فكون النذر شركاً لا يمنع الانتفاع بالمنذور في الجهة الشرعية، كما تقدم من فعله صلى الله عليه وسلم بمال اللات.
الوجه الثالث: أن الذي يصرفه في المصارف الشرعية، ولاة الأمر، وأهل العلم، وليس المقصود أن يصرفه الناذر نفسه، فإن هذا لا يعتبر، بل يرد إلى المشروع قسراً، ويعامل بنقيض قصده. وكلام الشيخ وأمثاله من أهل العلم ليس حجة مستقلة، بل الحجة فيما يساق من الأدلة. وقد تقدم أن القصد هنا بيان جهله بكلام الشيخ، والكشف عن تحريف هذا العراقي لما نقله عن الشيخين، وإلا فالمرجع إلى أدلة الكتاب
ص -664-(58/47)
والسنة، قال الله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ}[البقرة: 270]، وقال تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} [الإنسان:7] فوصف خواص عباده بالوفاء والنذر، وأثنى عليهم بذلك، وفي الآية الأخرى الوعد بالإثابة والجزاء، فثبت أنه عبادة يحبها الرب ويرضاها -أي الوفاء به- وما كان كذلك فيجب إخلاصه لله، لأن صرف العبادة لغير الله شرك.
وفي حديث علي: "لعن الله من ذبح لغير الله"1، وهذا العراقي وأمثاله من القبوريين دفعوا في صدر النصوص بشبهات وهذيان لا يصدر عمن يعقل ما يقول.
وفي آخر العبارة التي نقلها العراقي عن شيخ الإسلام ابن تيمية: وهذا الحكم عام في قبر نفيسة، ومن هو أكبر من نفيسة، من الصحابة، مثل قبر طلحة والزبير، وغيرهما بالبصرة، وفي سلمان وغيره بالعراق.
قلت: وفيها بيان تدليس العراقي، وأنه أسقطها ليروج قوله: (فكيف يكفر من نذر لأحد الأنبياء والصالحين) إلى أن قال الشيخ:
(فيعتقدون أنها باب الحوائج إلى الله، وأنها تكشف الضر، أو تفتح الرزق، أو تحفظ مصر، فإن هذا كافر مشرك،
__________
1 أخرجه مسلم في صحيحه عن علي بن أبي طالب 3/1567.
ص -665-(58/48)
يجب قتله، وكذلك من اعتقد ذلك في غيرها كائناً من كان {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} [الإسراء:56]. {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ. وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 22-23]، والقرآن من أوله إلى آخره، بل وجميع الكتب والرسل إنما بعثوا بأن يعبد الله وحده لا شريك له، وأن لا يجعل مع الله إلهاً آخر.
والإله من يألهه القلب عبادة واستعانة وإجلالاً وإكرماً، وخوفاً ورجاء، كما هو حال المشركين في آلهتهم. وإن اعتقد المشرك أن ما يألهه مخلوق ومصنوع، كما كان المشركون يقولون في تلبيتهم: "لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك"1 وقال النبي صلى الله عليه وسلم لحصين الخزاعي: "يا حصين كم تعبد؟" قال: أعبد سبعة آلهة، سنة في الأرض وواحد في السماء، قال: "فمن الذي تعد لرغبتك ورهبتك؟" قال: الذي في السماء، قال: يا حصين فأسلم حتى أعلمك كلمات ينفعك الله بهن، فلما أسلم قال: "قل: اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي"2 والله أعلم انتهى.(58/49)
__________
1 أخرجه الإمام مسلم في صحيحه.
2 أخرجه الترمذي في "سننه" كتاب الدعوات 5/519 من طريق أبي معاوية عن شبيب بن شيبة عن الحسن البصري عن عمران بن حصين... الحديث.
وقال عقبه: هذا حديث غريب.
وقد ورى هذا الحديث عن عمران بن حصين من غير هذا الوجه اهـ.
وأخرجه البخاري في التاريخ الكبير من هذا الطريق أيضاً، واختصر المتن 3/3.
وأخرجه أحمد في المسند 4/444 من طريق منصور عن ربعي بن حراش عن عمران بن حصين أو غيره... الحديث، وليس فيه سؤال النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه زيادة في الدعاء الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم له.
وأخرجه الحاكم في هذا الطريق أيضاً، وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين وأقره الذهبي. المستدرك 1/510.
ص -666-
قلت: فانظر إلى تصريح الشيه أن من اعتقد في مخلوق أنه باب الحوائج إلى الله -يعني واسطة في الحوائج- أو أنه يكشف الضر، أو يفتح الرزق، أو يحفظ مصر: أنه كافر مشرك، يجب قتله، وهذا بعينه معتقد عباد القبور والناذرين للموتى، المستغيثين بهم، وهو طريقة العراقي، ومذهبه الذي نصره، وقرره واستظهره، وزعم أنه لا يضر إلا إذا اعتقد الاستقلال لغير الله، كما مر عنه في غير موضع، وسيأتيك هذا القيد فيما يأتي من كلامه في مواضع متعددة.
والشيخ قد رد عليه في هذا، وأبطل هذا الشرط بقوله: وإن اعتقد المشرك أن ما يألهه مخلوق مصنوع -وساق ما يقوله المشركون في تلبيتهم، وساق حديث حصين- وهذا لأن الآيات القرآنية دالة على تكفير هذا النوع -أعني من اتخذ
ص -667-(58/50)
الشفعاء والوسائط، وقصدهم في حاجاته وملماته كما كان يفعله المشركون مع آلهتهم- فكل هذا أعمى الله بصيرة العراقي عنه {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227].
قال الشيخ صنع الله الحلبي نزيل مكة: وأما كونهم جوزوا الذبائح والنذور، وأثبتوا لهم فيهما الأجور، فيقال: هذا الذبح والنذر إن كان على اسم فلان وفلان فهو لغير الله، فيكون باطلاً، وفي التنزيل: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121]، والحديث: "لا نذر إلا فيما يبتغى به وجه الله" متفق عليه1. وورد: أن من حلف بغير الله فقد أشرك2. رواه الحاكم وغيره. ونحو النذر لغير الله الذبح، وفي التنزيل: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162]، أي إن صلاتي وذبحي لله كما به نظير قوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} الآية [الكوثر:2]، وفي الحديث: "لا نذر في معصية الله"3 رواه أبو داود وغيره.
__________
1 هكذا نسبه الشيخ صنع الله رحمه الله إلى الصحيحين. وقد أورده ابن الأثير في جامع الأصول 11/550 ونسبه إلى أبي داود 2/642 من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، ونسبه أيضاً صاحب المعجم المفهرس 6/404 إلى أحمد 2/185 وأبي داود. والله تعالى أعلم.
2 تقدم الكلام عليها في الرسالة السادسة.
3 أخرجه الإمام مسلم في صحيحه 3/1263 عن عمران بن حصين بلفظ: "لا نذر في معصية الله"، وفي لفظ: "لا وفاء لنذر في معصيته".
وأخرجه أبو داود والترمذي والنسائي عن عائشة مرفوعاً: "لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين".
ص -668-(58/51)
والنذر لغير الله إشراك مع الله فلا أكبر من معصيته، وفي التنزيل {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ} [المائدة: 3] فالنذر لغير الله كالذبح لغيره.
وقال الفقهاء: خمسة لغير الله شرك: الركوع والسجود، والذبح والنذر واليمين. ومن ذكر غير اسم الله على ذبيحته فهي ميتة يحرم أكلها. ولو أشرك مع اسمه أحداً، كقوله: باسم الله ومحمد صلى الله عليه وسلم -بواو العطف، فكذا تحرم ذبيحته، وكذا لو ترك اسم الله عمداً على الذبيحة، لا تؤكل عندنا، فهي ميتة بصريح قوله جل ذكره: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121]، فترك المؤمن ذكر الله عمداً كذكر غيره. نعم لو قال: هذا النذر لله يذبح في مكان كذا، ويصرف على جماعة فلان، أو على رباط فلان، فلا بأس به، كما في الوقف على فلان وفلان، فإن قوله: لله، ملك له، وتصرف غلته على من عينه الواقف، وكذا هنا.
والحاصل أن النذر لغير الله فجور، فمن أين لهم الأجور؟ وكذا الذبائح، ومن قال: إن هذا النذر لفلان، وهذه الذبيحة لفلان، فهو من العصيان، ومن نذر لله ذبحاً أو غيره، وقال: يذبح بمكان كذا، ويأكله قوم جاز، والله الهادي.
ص -669-(58/52)
قلت: وإذا نذر لله وجعل مصرفه على السدنة والمجاورين عند القبور فهو نذر معصية لا يجوز، ويجب صرفه في القرب الشرعية كالحجاج والمعتكفين في المساجد، وقد ذكر هذا غير واحد، والمنع منه لما فيه من الإعانة على العكوف عند القبور الذي هو من أكبر الوسائل والذرائع إلى عبادتها أو دعائها قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]، وفي الحديث: أن رجلاً نذر أن ينحر إبلاً ببوانة قبل إسلامه، فلما أسلم سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نذره، فقال: "هل كان بها وثن من أوثان الجاهلية؟" قال: لا، قال: "هل كان بها عيد من أعياد الجاهلية؟" قال: لا، قال: "فأوف بنذرك"1، ففيه المنع من عبادة الله في أماكن الشرك، وعبادة غيره للمشابهة الصورية، وإن لم تقصد فكيف بالذرائع والوسائل القريبة المفضية إلى
__________
1 رواه أبو داود في سننه –كتاب الأيمان والنذور- 3/607 من جهة يحيى بن أبي كثير، قال: حدثني أبو قلابة، قال: حدثني ثابت بن الضحاك قال: نذر رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحر إبلاً ببوانة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني نذرت أن أنحر إبلاً ببوانة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟" قالوا: لا. قال: "هل كان فيها عيد من أعيادهم؟" قالوا: لا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم".
قال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير 4/198: "بسند صحيح".
ص -670-(58/53)
عين الشرك، ونفس المحذور الأكبر، فقف وتأمل إن كان لك بصيرة تدرك بها أسرار الشريعة. انتهى.
وأما قوله: (وأما الذبح فقد ذكره ابن القيم في المحرمات لا في المكفرات إلا إذا ذبح لما عبد من دون الله، وكذلك أهل العلم ذكروا أنه مما أهل به لغير الله ولم يكفروا صاحبه).
فالجواب أن نقول: أما ذكره في كتاب الكبائر من الذبح لغير الله، وجعله من المحرم فنعم هو محرم قال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا -إلى قوله- لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 151-153]. فجعل هذا محرماً، هذا عرف القرآن والسنة والشرع، والعراقي لجهله وسوء قصده، يحمل كلام أهل العلم على العرف النبطي الحادث واصطلاح العامة فقاتل الله الجهل والهوى، فما أغلظهما حجاباً بين العبد والهدى.
قال شيخ الإسلام في اقتضاء الصراط المستقيم: "وأيضاً فإن قوله تعالى: { وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ } ظاهره ما ذبح لغير الله سواء لفظ فيه به أو لم يلفظ، وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبح للحم، وقال فيه باسم المسيح، ونحوه، كما أن ما ذبحناه متقربين به إلى الله أزكى مما ذبحناه للحم وقلنا عليه
ص -671-(58/54)
باسم الله، فإن عبادة الله بالصلاة له والنسك له أعظم من الاستعانة باسمه في فواتح الأمور، والعبادة لغير الله أعظم كفراً من الاستعانة بغير الله، فلو ذبح لغير الله متقرباً إليه لحرم، ولو قال فيه: بسم الله، كما يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة، وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبيحتهم بحال، لكن يجتمع في الذبيحة مانعان، ومن هذا ما يفعل بمكة وغيرها من الذبح للجن" انتهى كلام الشيخ.
فأخذ هؤلاء المعترضون السطر الأخير من كلامه أو بعض السطر، وأخذ المشبه وترك المشبه به، لأن في الأول التصريح بردة من ذبح لغير الله، وأن الذبح للجن مانع آخر، لأنه مما أهل به لغير الله، وقوله في العبارة فإن: (عبادة الله بالصلاة له والنسك له أعظم من الاستعانة بغير الله) فتركوا هذا، وسرقوا بعض العبارة، واختلسوا منها كاختلاس الشيطان من صلاة العبد واختطافة بعضها.
وفي العبارة التصريخ بكفر من استعان بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، خلافاً للعراقي وشيعته من عباد القبور، الصادين عن سبيل الله، المحرفين للكلم عن مواضعه، الوارثين لليهود في تحريف كلمات الله، وتبديل دينه.
وقال صاحب "الروض" من كتب الشافعية: (إذا ذبح المسلم للنبي صلى الله عليه وسلم كفر) نقله شيخنا رحمه الله وذكره غير
ص -672-(58/55)
واحد من المفسرين في الكلام على قوله: (وما أهل لغير الله به).
ونقل بعضهم عن فقهاء بخارى أنهم أفتوا بتحريم ما عقر بين يدي الملوك، تعظيماً لهم، لأنه مما أهل لغير الله به.
قال العلامة الشوكاني: قال بعض أهل العلم: إن إراقة دماء الأنعام عبادة، لأنها إما هدي، أو أضحية، أو نسك، وكذلك ما يذبح للبيع، لأنه مكسب حلال، فإنه عبادة، ويتحصل من ذلك شكل وضعي هو إراقة دم الأنعام عبادة، وكل عبادة لا تكون إلا لله، فإراقة دم الأنعام لا تكون إلا لله، ودليل الكبرى قوله تعالى: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59]، {فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت: 56]. {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5] {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] انتهى.
ويكفي المؤمن في هذا الباب قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162-163] وقوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ. فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:1-2]، وقال تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} [الحج:
ص -673-(58/56)
37] فإن الإحسان أعلى مراتب الإيمان، ودخول هذه العبادة فيه لأن السياق لها ظاهر لا يخفى.
وفي المسند عن طارق بن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "دخل الجنة رجل في ذباب، ودخل النار رجل في ذباب" قالوا: كيف ذلك يا رسول الله؟ قال: "مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب إليه شيئاً، فقالوا لأحدهما: قرب، قال: ما عندي شيء أقربه، قالوا: قرب ولو ذباباً، فقرب ذباباً، فخلوا سبيله، فدخل النار، فقالوا للآخر: قرب، قال: ما كنت لأقرب لأحد دون الله عز وجل، فضربوا عنقه، فدخل الجنة"1.
__________
1 كذا نسب الإمام العلامة الشوكاني رحمه الله تعالى هذا الحديث إلى المسند. وقد عزا هذا الحديث الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى إلى الإمام أحمد، ولم ينسبه إلى "المسند" أو غيره. قال الشيخ سليمان بن عبد الله رحمهم الله في التيسير ص 194: هذا الحديث ذكره المصنف معزواً لأحمد، وأظنه تبع ابن القيم في عزوه لأحمد.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاية، حدثنا الأعمش، عن سليمان بن ميسرة، عن طارق بن شهاب يرفعه، قال: "دخل رجل الجنة في ذباب" الحديث.
وقد طالعت "المسند" فما رأيته فيه، فلعل الإمام أحمد رواه في "كتاب الزهد" أو غيره اهـ.
قلت: هو في "الزهد" للإمام أحمد ص 15-16 عن طارق بن شهاب عن سلمان الفارسي –موقوفاً-.
وكذا رواه أبو نعيم في "الحلية" 1/203 من هذا الطريق. ثم قال: رواه جرير عن منصور عن المنهال بن عمرو عن حيان بن مرثد عن سلمان... نحوه.
ص -674-(58/57)
وقف عند هذا، وتأمل حكمة الشريعة وسرها في إخلاص العبادة والتعظيم الذي لا ينبغي إلا لله، ولو بأحقر شيء، كالذباب، فكيف بكرائم الأموال، والله المستعان. انتهى.
ثم إن من العجب استدلال هذا الملحد بكلام ابن القيم رحمه الله تعالى في هذا الموضع وفي غيره مما تقدم.
وهذا الملحد قد ذكر فيما تقدم من قوله: (والوهابية قد خبطت كل الخبط في تنزيهه تعالى، وحيث أبت إلا جعل استوائه سبحانه ثبوتاً على عرشه، واستقراراً وعلواً فوقه، وأثبتت له الوجه واليدين، وبعضته سبحانه، فجعلته ماسكاً بالسموات على أصبع، والأرض على أصبع والشجر على أصبع، والملك على أصبع، ثم أثبتت له الجهة، فقالت: هو فوق السموات، ثابت على العرش، يشار إليه بالأصابع إلى فوق إشارة حسية، وينزل إلى السماء الدنيا ويصعد).
وقد علمت أن نفي هذا وجحده هو مذهب الجهمية، وقد قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
ص -675-
ولقد تقلد كفرهم خمسون في
عشر من العلماء في البدان
واللالكائي الإمام حكاه عنهم
بل قد حكاه قبله الطبراني(58/58)
فذكر رحمه الله كفرهم عن خمسمائة عالم.
وقال شيخ الإسلام لما ذكر أهل الأهواء: قيل لابن المبارك: فالجهمية؟ قال: ليست من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
فطائفة هذا الملحد عن شيخ الإسلام وابن القيم، هم من أكفر خلق الله، وأبعدهم عن سواء السبيل.
قال ابن القيم رحمه الله في "الجواب الشافي":
الشرك شركان، شرك يتعلق بذات المعبود، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، وشرك في عبادته ومعاملته وإن كان صاحبه يعتقد أنه سبحانه لا شريك له في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، والشرك الأول نوعان:
أحدهما شرك التعطيل، وهو أقبح أنواع الشرك، كشرك فرعون إذ قال: (وما رب العالمين)، وقال تعالى مخبراً عنه: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ. أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً} [غافر:36-37] فالشرك والتعطيل متلازمان، فكل مشرك معطل، وكل
ص -676-(58/59)
معطل مشرك، لكن الشرك لا يستلزم أصل التعطيل، بل قد يكون المشرك مقراً بالخالق سبحانه وصفاته، ولكن عطل حق التوحيد.
وأصل الشرك وقاعدته التي يرجع إليها: هو التعطيل، وهو ثلاثة أقسام:
تعطيل المصنوع عن صانعه وخالقه. وتعطيل الصانع سبحانه عن كماله المقدس بتعطيل أسمائه وصفاته وأفعاله. وتعطيل معاملته عما يجب على العبد من حقيقة التوحيد.
والمقصود أن هذا العراقي اجتمع فيه من الكفر تعطيل الصانع سبحانه عن كماله المقدس، بتعطيل أسمائه وصفاته، فزعم أن الله تعالى ليس على السموات على عرشه، ولا هو فوقه، ولا يشار إليه إلى فوق، بل زعم أن ما ورد من الإشارة إليه في السماء محمول على أنه تعالى خالق السماء، وأن السماء مظهر قدرته، وأنكر عروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء حين أسري به، فقال: (وكذلك العروج إليه تعالى هو بمعنى العروج إلى موضع بتقرب إليه بالطاعات) وأنكر رؤية الله تعالى في الآخرة، وأنكر أحاديث النزول، وذكر أن من قال إن الله ينزل إلى السماء الدنيا كل آخر ليلة، فقد زعم أن الله جسم، وأن الله منزه عن ذلك، فعطل الله من أوصافه وأفعاله المقدسة، وأضاف إلى هذا الكفر الشرك في معاملته سبحانه
ص -677-
بإجازته الاستغاثة بغير الله، والاستشفاع به، والإلتجاء إليه، وأن النذر والذبح لغير الله ليس بشرك إذا اعتقد أن الله هو الخالق المنفرد بالإيجاد، وأنه هو المؤثر لا غيره، ومع هذا كله يستدل بكلام شيخ الإسلام وابن القيم، وهما يكفرانه، وهو يعلم ذلك، ولكنه أراد التلبيس على خفافيش الأبصار أن شيخ الإسلام وابن القيم لا يكفران من نذر لغير الله، أو ذبح لغير الله.
والمقصود بيان ضلاله، وخروجه عن الصراط المستقيم، واتباعه غير سبيل المؤمنين، وأنه ممن نكب عن الصراط المستقيم، ودخل في جملة أصحاب الجحيم.
ص -678-(58/60)
فصل
ثم اعلم أيها الواقف على هذا الكتاب، والناظر في هذا الجواب، أنا قد حررنا فيما مضى شيئاً يسيراً على ما افتراه هذا العراقي على الوهابية، من الكذب والزور، والإفك والفجور، بزعمه أنهم نزعوا إلى الدولة الأجنبية -يعني الإنكليز النصارى- وأنهم استعانوا بهم، كما ذكره في مقدمة رسالته. وفي آخرها قال:
(فتراها تكفر من يتوسل إلى الله تعالى بنبيه صلى الله عليه وسلم، ويستعين باستشفاعه إلى الله تعالى على قضاء حوائجه، وهي لا تخجل إذ تستعين بدولة الكفر على قضاء حاجتها التي هي قهر المسلمين وحربهم، وشق عصاهم، والمروق عن طاعة أمير المؤمنين الذي أمر الله تعالى في كتابه المبين بلزوم طاعته -كما بسطناه في مقدمات الرسالة- وتتخذ أعداء الدين أولياء، تستمد منهم في إحضار القوى التي تسعى بها إلى الفساد، وتلج بها في الغواية والعناد، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [المائدة:
ص -679-(58/61)
51] سحقاً للوهابية، إنها لا تدري أن أولئك الأولياء الذين تتخذهم ذريعة لقهر المسلمين -إذا ثبت قدمهم- فإنهم يقهرونها، ويهتضمونها أيضاً مع من تعده خصماً مخالفاً لمذهبها).
هذا قول الملحد بحروفه.
وجميع ما ذكره من الكذب الفاضح، والإفك الواضح على الوهابية، بل هؤلاء الذي يزعم أنهم المسلمون قد ظهر مكنون ما لديهم ومحصول ما انطوت عليه ضمائرهم، من الميل إلى أعداء الله، وأعداء رسوله ودينه، وهذا الملحد المفتري من جملتهم، ومن أنصارهم وأعوانهم، فإنه قد كذب على الوهابية، ورماهم بما هو وحزبه أهله لا أهل الإسلام، فقد أكذبه الله ونكسه على رأسه، وعاد فجوره عليه، وعلى من قام في نصرته، بما أظهروه واجتمعوا عليه من الدستور، وما أعلنوه من الكفر والفجور "سنة1326" لست وعشرين بعد الثلاثمائة والألف من الهجرة النبوية، فصرحوا فيه أنها عيسوية، موسوية عثمانية عربية، وأن كل هذه الطوائف المتباينة في أديانها تكون إخواناً، وأنها تجتمع على حرب من خرج عن حكم هذا الدستور، ونصبوا في كل الأماكن من ديارهم مدارس يعلمون الناس دين النصرانية، وجعلوا قاضياً عاماً من الإنكليز الكفار يحكم بين الناس، لأنه
ص -680-(58/62)
بزعمهم أعلم بالسياسات، يكون ذلك القاضي بمصر، فتبين بهذا أنهم هم الذين نزعوا إليهم، واتخذوا أعداء الدين أولياء وإخواناً، وأنهم هم الذين سعوا بهذا إلى الفساد، وولجوا به في الغواية والعناد.
قال الله تعالى: {تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ. وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} الآية [المائدة: 80-81].
وأنهم هم الذين مرقوا عن طاعة أميرهم وسلطانهم، حتى عزلوه، وجعلوا الأمر شورى بين من نزع إلى أعداء الله ورسوله، واتخذوهم أولياء، وجعلوهم إخواناً وأخداناً، فما حكم به هذا الملحد في مقدمات رسالته من مروق الوهابية بزعمه، عاد عليه وعلى إخوانه.
فهلا نصح هذا العراقي نفسه، ورجع إليها باللوم والعتاب، وترك أهل الإسلام المتمسكين بحكم السنة والكتاب، الذين باينوا أعداء الله ورسوله من جميع الطوائف، ولم يدخلوا تحت أوامرهم، ولا أخذوا بقوانينهم، ولم ينبذوا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وراء ظهورهم، كما فعله أعداء الله ورسوله.
وقد كان من المعلوم والمتقرر المفهوم أن ما حكاه عن
ص -681-(58/63)
الوهابية من نزوعهم إلى الدولة الأجنبية أنه من الكذب الظاهر، وأنه هو وأشياعه هم الذين نزعوا إليهم، وحكموا قوانينهم، فبعداً للقوم الظالمين.
وهذا كتاب الله ينادي بكفر من اتخذهم أولياء، فقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} الآية [المائدة:51].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} [المائدة: 57-58] إلى غير ذلك من الآيات، وهذا لا يخفى على من له أدنى مسكة من عقل ودين، وقد وضح الحق واستبان، وما بعد الحق إلا الضلال.
والحمد لله الذي هدانا لدين الإسلام، وجنبنا طريق هؤلاء الجهلة الطغام، الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، واتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله سيد المرسلين، وإمام المتقين،
ص -682-
وقائد الغر المحجلين، محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وقد قرظ على جواب "جميل" رجل يقال له: "عبد الصمد بن أحمد النساك" وهذا جواب على تقريظه، ومن الله أستمد الصواب:
ألا قل لأهل الجهل من كل مازق
وكل كفور من ذوي الغي مارق
كلام جميل لا جميل فينتقى
ولا بسديد يرتضى في الحقائق
على أنه همط وخرط ملفق
أكاذيب لا تعزى إلى نقل صادق
أتى فيه بالكفر الصريح مجاهراً
ومرتضياً ما قد أتى من شقائق
لعمري لقد أوهى به مهيع الهدى(58/64)
وأعلى به سبل الردي بالمخارق
وهدّ به ركناً من الدين شامخاً
وشاد من الكفران أخنع زاهق
كتاب حوى إفكاً وزوراً ومنكراً
وكفراً وتعطيلاً لرب الخلائق
ص -683-
فعطل أوصاف الكمال لربنا
وعن كونه من فوق سبع الطرائق
وأنكر معراج الرسول حقيقة
بذات رسول الله سحقاً لمارق
وأوله تأويل من ليس مؤمناً
بمن جاء بالوحيين أصدق صادق
وأنكر رؤيا المؤمنين لربهم
فتباً له تبا وسحقاً لمازق
وسمى كتاب الله والسنن التي
أتت عن رسول الله أزكى الخلائق
ظواهر لا تبدي يقيناً لأنها
على زعمه ظنية في الحقائق
فلا يستفيد المؤمنون بها الهدى
ولكن بمعقولات أهل الشقاشق
فإن خالفت معقول من أسسوا لهم
قواعد كفر شامخات الشواهق
فحق على كل امريء بل وواجب
تأول عن مدلولها بالمخارق
وتصرف للمرجوح عن حكم راجح
لأجل مقالات الغواة الموارق
ص -684-
وإلا فبالتفويض حتماً لديهموا
إذا لم تأول في خلاف الحقائق
وتفويضهم إبطالهم عن حقائق
تدل عليها بالمعاني الشقاشق
فلا عالماً بالعلم فيما لديهموا
ولا راحماً ذو رحمة بالخلائق
ولا قادراً ذو قدرة فصفاته
تأول عن وصف لها بالحقائق
فليست معانيها بأسماء ربنا
بمشتقة ذا قول كل مشاقق
وقدم حكم العقل حتماً بزعمه
على النقل فيما قد رأى كل مارق
لأن لديهم إنما العقل أصله
وهذا افتراء من جهول ممازق
فتباً لمن يبدي ثناء ومدحة
لتأليفه أو ما حوى من شقاشق
فما كان فجراً صادقاً1 في ظهوره
ولكنه فجران يبدو لرامق
__________
1 يعني رسالة جميل المردود عليها بهذا الكتاب المسماة: (الفجر الصادق).
ص -685-
ووالله ما أبدى صواباً ولم يكن
على المنهج الأسنى وليس برائق
وليس يروق الكفر إلا لزائغ
عن الحق أو مستغرق بالعوائق
وجوز أن يدعى سوى الله بالرجا
وبالخوف والتعظيم فعل المشاقق(58/65)
وأن يستغيث المشركون بغيره
وأن يلجئوا في كل خطب مضايق
فتباً لعباد القبور الذين هم
حماة ذوي الأهواء من كل مارق
فقد نبذوا الوحيين خلف ظهورهم
وقد حكموا القانون بين الخلائق
وقد أحكموا عقد الأخوة بينهم
وبين النصارى واليهود الموارق
وقد أحكم الله العداوة بيننا
وبين ذوي الكفران أهل الشقاشق
وآراؤهم لم تقضِ إلى أخوة
وصلحاً وتوفيقاً بمحض التطابق
وعابوا علينا باتباع نبينا
وقد تبعوا أحكام كل منافق
وقد زعموا أنا وهم أهل خلة
لأهل الكتاب المارقين السوابق
ص -686-
ونحن براء من ذوي الكفر جملة
فلسنا وإياهم بحكم التوافق
ونحن على دين النبي محمد
ونكفر بالطاغوت دين المشاقق
ونرمي عداء الدين من كل مارق
وكل جهول ماذق بالجلاهق
ودونك من هذا الضياء شوارقا
توضح منهاجاً لأهدى الطرائق
وتنشر أعلام الهدى مستنيرة
وتمحق أهل الكفر من كل مارق
وتصعقهم صعقاً فينثل عرشهم
وتهدم من أركانهم كل شاهق
وذاك بقال الله قال رسوله
وما قاله الأصحاب أهل السوابق
وأتباعهم والتابعون ومن على
طريقتهم من كل حبر موافق
وصل على المعصوم ربي وآله
وأصحابه أهل النهى والحقائق
وتابعهم والتابعين لنهجهم
على السنن المحمود من كل لاحق
تم بحمد الله
ص -687-
قال محققه -عفا الله عنه:
تم تصحيح هذا الكتاب، والتعليق عليه، قدر الجهد والطاقة في يوم الأربعاء الموافق 24/4/ 1410هـ، والحمد لله الذي نعمته تتم الصالحات، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
عبد السلام بن برجس بن ناصر آل عبد الكريم.
ص -688-
تقريظ الشيخ محمد بن حسين الأنصاري
طائر السعد بالتهاني أتاني
بسرور مبشراً بالأماني
أن بدا طالع الزمان بحبر
ثابت الجأش ماله من ثاني
بعلوم بها لقد أفحم الخصـ
ـم وفيه قد قام بالبرهان
أعنى حبر الأنام قدوة نجد
ذا سليمان عالي البنيان(58/66)
فسليمان جل قدراً وفضلاً
وعلوماً تسمو مدى الملوان
سالم العرض والشمائل والأخـ
ـلاق مما يشين في كل آن
قامع الملحدين منه بوعظ
وبكتب تخال مثل السنان
بلسان كوابل الغيث في السـ
ـلم وسيف في حلبة الميدان
يفحم الخصم بالدليل وإلا
فبعضب يرى كسيف يماني
يطلب الحق والرشاد إلى الحـ
ـق له ديدن على كل شاني
ص -689-
دام في العز والسعادة والمجـ
ـد بنصر وخصمه في الهوان
في أمان الإله يرعى ويحظى
بالذي يرتجى ونيل الأماني
مع عبد العزيز آل سعود
نجل عبد الرحمن فخر الزمان
جاهداً في الإله حق جهاد
بسنان وساعد وجنان
شاهر السيف والسنان على من
قد غدا ملحداً وذا عدوان
ناصر الدين تابع الحق أضحى
ثابت الجأش كامل الإيمان
دام يرقى إلى المعالي بسعد
وبنصر علا على رغم شاني
قامع الابتداع من كل قطر
مفحم القرن قائم البرهان
ما تغنت بلابل الأيك تشدو
وتلتها حمائم الأغصان
أو حدا بالقريض نجل حسين
بو خليل في الهند سيف يماني
ص -690-(58/67)
الإتحاف فى الرد على الصحاف - عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ (1)
الناشر:
دار العاصمة
الأولى، 1416 هـ / 1995 م
المقدمة
إن الحمد لله, نحمده, ونستعينه, ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}.
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله, وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد:
فهذه هي السلسلة الرابعة من "السلسلة السلفية للرسائل والكتب النجدية" أُقدمها لإخواني طلبة العلم المحبين للسُّنَّة وأهلها. وتتمثل هذه
ص -5-(59/1)
السلسلة في رسالة للإمام عبد اللطيف بن عبد الرحمن, رد بها على عبد اللطيف الصحاف - أحد المناوئين للدعوة السلفية.
بين الإمام المبجل، والشيخ الجليل المفضل عبد اللطيف بن عبد الرحمن- رحمه الله – في هذه الرسالة الموجزة, ضلال الصحاف, ومخالفته لمنهج الأنبياء والمرسلين, وذلك بالقول الساطع, والبرهان القاطع.
فبين – رحمه الله – معنى "لا إله إلا الله", وماذا تقتضي, وتكلم عن التكفير، وأنواعه, وحكم كل منها. فتكلم عن حكم التكفير إذا صدر من متأَوِّل مخطئ ممن يسوغ له التأويل.
وعن حكمه إذا صدر ممن يستند في تكفيره إلى نص وبرهان من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
وعن حكمه إذا صدر من أعداء الله ورسوله أهل الإشراك والإلحاد في أسمائه وصفاته.
وعن حكمه إذا صدر لمجرد عداوة أو هوى أو لمخالفة لمذهب.
وعن حكمه إذا كان فيما دون الشرك من الذنوب كالسرقة, والزنا, وشرب الخمر.
ثم بين – رحمه الله – الكفر المنافي لكلمة التوحيد, وأن كلمة التوحيد وحدها لا تعصم صاحبها.
وأبان المؤلف – رحمه الله – في ثنايا هذه الرسالة عن حكم بعض الأحاديث, والذكر المشروع, وحكم السماع, وفتنة المبتدعة بمشايخهم وعلمائهم.
ص -6-(59/2)
(ويا لله كم في هذه الرسالة من الأصول الأصيلة والمباحث الجليلة التي تطلع منها على بلاغة مبديها, وجلالة منشيها, وأن له من الميراث النبوي الحظ الأوفر, وأن ينابيع علومه تتفجر من ذلك البحر الزاخر)(1).
(وقد موه هذا) الصحاف الجاهل (بهذه السفسطة والجعجعة, وهرقع بهذه المخرقة والقعقعة, وظن أن ليس في حمى التوحيد من أهله ضيارم, ولا لتلك الشبه المتهافتة من عالم مصارم، كلا والله إن الليث مفترش على براثنه لحماية حمى التوحيد وقاطنه, فلا يأتي صاحب بدعة ليقلع من التوحيد الأواسي، ويهدم منه الرعان الشامخات الرواسي، إلا ودفع في صدره بالدلائل القاطعة، والبراهين المنيرة الساطعة، فرحمه الله من إمام جهبذ ألمعي، ومقول بارع لوذعي، أحكم وأبرم من الشريعة المطهرة أمراسها، وأوقد منها للورى نبراسها، وسقى علالا بعد نهل غراسها، فأورقت وبسقت أشجارها، وأينعت بحمد الله ثمارها، فجنى من ثمارها كل طالب مسترشد، وورد من معينها الصافي كل موحد.
إمام هدى فاضت ينابيع علمه
فأم الأوام الواردون معينها
فبلوا الصدى من صفوها وتضلعوا
وضعضع من تيارهن مهينها
كهذا الذي أبدى معرة جهله
وكان يرى أن قد أجاد رصينها
فضعضعها بالرد والهد جهبذ
وأبدى عوارا قد رأى أن يزينها
وما هو إلا كالسراب بقيعة
يلوح لظمآن فلاقى منونها
فإن كنت مشتاقا إلى كشف زهوها
فإن الإمام الشيخ أبدى كمينها
__________
(1) "مجموعة الرسائل والمسائل": (3/186).
ص -7-
وجلى ظلام الجهل بالعلم مدحضا
ضلالات كفر غثها وسمينها
وأطلع شمس الحق للخلق جهرة
وشاد لعمري للبرية دينها
وقد سمعت أنوار برهان علمه
وقد بلغت غرب البلاد رصينها
ورد على من رد سنة أحمد
ورام سفاهاً بالهوى أن يشينها(59/3)
وختاما أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجزي إمامنا الشيخ عبد اللطيف خير الجزاء, وأن يرفع درجاته في عليين, وأن يجعل ما نقوم من خدمة نشر علم أهل السنة خالصا لوجهه الكريم موجبا للفوز بجنات النعيم, وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وكتبه
أبو عبد الله عبد العزيز بن عبد الله الزير آل حمد
غفر الله له ولوالديه وللمسلمين
"الرياض" – 8/10/1414هـ
__________
(1) "مجموعة الرسائل والمسائل": (3/239).
ص -8-
ترجمة موجزة للمؤلف
اسمه ونسبه:
هو الشيخ الإمام, وعلم الهداة الأعلام, البحر الفهامة، والفاضل العلامة الشيخ عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله بمنه وكرمه.
مولده:
ولد سنة 1225هـ في بلدة العلم والعلماء : الدرعية.
حياته:
نقل الشيخ عبد اللطيف مع والده آنذاك إلى مصر, إثر الدمار الذي أصاب الدرعية, على يد الهالك إبراهيم بن محمد علي باشا عليه من الله ما يستحق, وكان عمره قرابة الثمان سنوات ونشأ بمصر وتزوج بها, وتمكن من الاشتغال بطلب العلم, والتزود منه, ثم بعد ذلك خرج إلى نجد وذلك في سنة 1264هـ, وقدم مدينة الرياض واستقر فيها بضعة أشهر درس فيها بعض الدروس, ثم انتقل بعد ذلك إلى الأحساء معلما وداعيا, ومكث فيها فترة من الزمن, ثم عاد إلى الرياض مرة أخرى.
شيوخه:
قد علم فيما سبق أن الشيخ – رحمه الله – مكث في مصر مدة من الزمن, درس فيها على عدد من المشايخ فمنهم:
1 – والده الإمام العلامة عبد الرحمن بن حسن.
ص -9-(59/4)
2 - والشيخ عبد الرحمن بن الشيخ الإمام عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
3 – والشيخ العلامة محمد بن محمود بن محمد الجزائري.
4 – والشيخ إبراهيم الباجوري . وغيرهم.
تلاميذه:
تتلمذ على يد الشيخ عدد من التلاميذ منهم:
1 - تلميذه الشيخ العلامة "حسان السنة" الشيخ سليمان بن سحمان.
2 – وابنه العلامة الشيخ عبد الله.
3 – وأخوه الشيخ إسحاق, وغيرهم.
مؤلفاته:
توفي الشيخ – رحمه الله تعالى – وترك لنا العديد من المؤلفات منها:
1 – "مصباح الظلام في الرد على من افترى على الشيخ الإمام"
2 – "منهاج التأسيس"
3 – "رد على الشبهات الفارسية"
4 – "الرد على الصحاف", وهو كتابنا هذا الذي نحن بصدد تحقيقه.
5 – العديد من الرسائل التي قد جمعها تلميذه النحرير العلامة سحمان بن سحمان – رحمه الله -.
وفاته:
توفي – رحمه الله – في مدينة الرياض في اليوم الرابع عشر من شهر ذي القعدة سنة 1293هـ رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه الفردوس الأعلى.
ص -10-
التعريف بالنسخ الخطية
توفر لدي عند الشروع في تحقيق هذه الرسالة ثلاث نسخ, وهي:
النسخة الأولى:
* نسخة خطية كاملة، حصلت عليها من مكتبة الرياض السعودية.
* وتقع تحت رقم: (359/86).
* وعدد صفحاتها: تسع عشرة صفحة.
* ومسطرتها: 23 سطرا.
* وتاريخ نسخها: في شهر ربيع الآخر بعد مضي أحد عشر يوما منه, سنة 1311هـ.
* ولم يكتب على هذه النسخة اسم ناسخها، والذي يظهر لي – والله أعلم – أن ناسخها هو الشيخ سليمان بن سحمان.
* ورمزت لها بحرف"أ".
النسخة الثانية:
* مطبوعة ضمن كتاب "مجموعة الرسائل والمسائل النجدية" في (3/430).
* وتقع في اثنتين وعشرين صفحة.
* وقام بنسخها الشيخ صالح بن سليمان بن سحمان – رحمه الله -.
* وتاريخ نسخها سنة 1338هـ في شهر ربيع الآخر.
* ورمزت لها بحرف "ب".
ص -11-(59/5)
النسخة الثالثة:
* مطبوعة ضمن "الدرر السنية" لابن قاسم في (9/404-417).
* وتقع في ثلاث عشرة صفحة.
* ورمزت لها بحرف "ج".
ص -12-
توثيق نسبة الرسالة إلى مؤلفها
تأكد لنا نسبة الرسالة إلى المؤلف بالآتي:
1 - ما كتب في آخر النسخة "ب": "أملاه الفقير إلى الله عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب..".
2 - ما كتبه الشيخ سليمان بن سحمان في تقديمه للرسالة فقد قال: ".. للشيخ الإمام والحبر الهمام قدوة الأنام, الشيخ عبد اللطيف بن الشيخ الإمام العلامة عبد الرحمن بن حسن بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في الرد على عبد اللطيف الصحاف نزيل البحرين..".
3 – أن مؤلف كتاب "مشاهير علماء نجد", ومؤلف كتاب " علماء نجد خلال ستة قرون" قد ذكرا هذا الرد من ضمن مؤلفات الإمام عبد اللطيف.
4 – أن جامع كتاب "مجموعة الرسائل والمسائل النجدية" قد ذكر الرسالة من ضمن مؤلفات الشيخ وفتاواه, وتلك المجموعة معروفة لدى علماء الدعوة فلم ينكروا الرسالة بل أقروها.
5 – أن الشيخ سليمان بن سحمان قد ذكر هذا الرد للشيخ عبد اللطيف، في كتابه "كشف الأوهام والالتباس عن تشبيه بعض الأغبياء من الناس", ونقل منه من قوله: "وإن كان المكفر..." إلى قوله: " وهذا
ص -13-
بين بحمد الله"(1).
6 – أن الشيخ عبد الرحمن بن قاسم – رحمه الله – قد ذكر تلك الرسالة في "الدرر السنية", ووضعها من ضمن مؤلفات الشيخ عبد اللطيف، ومعلوم أن "الدرر" قد قام بتقريظها عدد من العلماء الأجلاء.
__________
(1)
ص -14-(59/6)
عنوان الرسالة
لم تنص جميع النسخ على عنوان الرسالة, وليس فيها سوى أن هذه الرسالة هي "الرد على الصحاف".
ونص مؤلف كتاب "مشاهير علماء نجد" على أن عنوان الرسالة هو: "الإتحاف في الرد على الصحاف", وبما أن مع المثبت زيادة علم, وليس هناك ثمة عارض يمنع من إثبات ما أثبته صاحب"المشاهير", لذا فإني آثرت تسميتها بما أثبته صاحب "المشاهير".
أما مؤلف كتاب: علماء نجد خلال ستة قرون" فضيلة الشيخ / عبد الله البسام, نص على أن الرد هو: "الرد على عبد المحسن الصحافي".
وتبعه على ذلك محقق كتاب: "تحفة الطالب والجليس", الأخ/عبد السلام آل عبد الكريم, وذلك عند ترجمته للشيخ عبد اللطيف في مقدمة تحقيقه للكتاب.
ولي هنا وقفة مع الأخوين الجليلين,فأقول:
إن الإمام عبد اللطيف مؤلف الرسالة قد نص في مقدمة الرسالة على أن اسم المردود عليه: " عبد اللطيف بن عبد المحسن الصحاف".
وكذا الشيخ سليمان بن سحمان، نص على أن اسمه عبد اللطيف الصحاف, وليس عبد المحسن الصحافي, وهذا معارض قوي ينقض
ص -15-
ما أثبته الأخوان الجليلان.
وقد حاولت قدر المستطاع أن أقف على ترجمة لـ "عبد المحسن الصحافي", وكذا "عبد اللطيف" فلم أظفر بشيء, ولكني في أثناء بحثي وقفت على رجل اسمه" عبد المحسن الصحاف", ترجم له الزركلي في "الأعلام": (4/153), وذكر: أن اسمه "عبد المحسن بن يعقوب الصحاف", لكن ليس هو المراد قطعا، لأن الزركلي قد أرخ سنة ولادته عام 1291هـ, أي قبل وفاة الإمام عبد اللطيف بسنتين, فكيف يكون قد رد عليه وهو لم يبلغ من العمر إلا سنتين.
فبهذا يظهر أن المردود عليه هو " عبد اللطيف الصحاف", وليس: "عبد المحسن الصحافي". والله أعلم.
ص -16-(59/7)
منهجي في التحقيق
1 – حاولت قدر الاستطاعة أن تخرج الرسالة على الصورة التي وضعها المؤلف.
2 – قمت بالمقابلة بين النسخ الثلاث, واختيار النص الأقرب للصواب.
3 – عزوت الآيات إلى سورها.
4 – خرجت الأحاديث الواردة فيها.
5 – ما كان بين معقوفتين هكذا [ ] فهو من إضافتي.
6 – الإشارة إلى بدء أوراق المخطوطة ليسهل الرجوع إليها.
ص -17-
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين (1)
الحمد لله, نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله, أرسله بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا, وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا.
أما بعد:
فإن بعض الإخوان, ناولني كراسة أنشأها عبد اللطيف ابن عبد المحسن الصحاف, فيها تعرض لعيب الموحدين, وذم لما هم عليه من الملة والدين, ومدح (2)لبعض شيوخه المارقين, وأنهم من جلة العلماء العاملين، الذين لهم لسان صدق في الآخرين، وفيها غير ذلك مما هو مستبين للواقفين عليها والناظرين.
وقد طلب مني من ناولنيها, أن أكتب شيئا في بيان ما تضمنته من الأباطيل, مع الاختصار وترك البسط والتطويل، إلا لإيراد حجة أو كشف دليل, ونسأل (3) الله الإعانة على ذلك, والهداية إلى ما هنالك.
__________
(1) ليست " وبه نستعين" في: "أ"، و"جـ"
(2) في "ب": "وقدح"، وهو خطأ.
(3) في "ب": "فاسأل..".
ص -21-(59/8)
فأما المقدمة التي قدمها الصحاف أمام مقصوده, وجعلها طالعة نثره وعقوده: ففيها من الدلالة على جهله وقصوره، ما يعرف بأول نظر في جمعه ومسطوره"
من ذلك: أنه يصف بالعلم من ليس من أهله, ويكذب على المعصوم في عزوه ونقله, يحتج في فضل العلم بالضعيف والموضوع (1), لجهله بما صح من المرسل والمرفوع, ليست له ملكة في نقد الثابت من الموضوع (2), يتأول كل حاذق فقيه, عند سماع خلطه وما يبديه، حديث عبد الله بن عمرو في قبض العلم (3), ورياسة الغمر, وكلامه من أظهر الأدلة / على ما قلناه, عند كل من وقف عليه من أهل الفقه عن الله, فلذلك اكتفينا بالإشارة, عن بسط القول والعبارة.
فأما قوله في المقدمة التي مدح بها أشياخه المذكورين في رسالته: (علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل)(4).
__________
(1) في "ب": " الضعيف الموضوع" بدون واو العطف.
(2) في "ب": "المضوع", وهو خطأ, وفي "جـ":"المصنوع".
(3) ولفظه" " إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من ا لعباد, ولكن يقبض العلم بقبض العلماء, حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا, فأفتوا بغير علم,فضلوا وأضلوا".
أخرجه البخاري في العلم، باب كيف يقبض العلم:( ح/100)، ومسلم في العلم, باب رفع العلم وقبضه...: (ح/2673).
وبنحوه أخرجه البخاري في الاعتصام، باب أتم ما يذكر في ذم الرأي وتكلف القياس: (ح/4307), ومسلم في المصدر السابق : (ص2059), وفيه قصة.
(4) قال الدميري والزركشي وابن حجر والسيوطي عن هذا الحديث:" لا أصل له".=
ص -22-(59/9)
وقوله: (نظرك إلى وجه العالم خير لك من ألف فرس تتصدق بها (1) في سبيل الله, وسلامك على العالم خير لك من عبادة ألف سنة) (2).
كذلك قوله: (إن العالم أو المتعلم (3) إذا مر على قرية، فإن الله يرفع العذاب عن مقبرة تلك القرية أربعين صباحا)(4).
وقوله: (إن الله يغفر للعالم أربعين ذنبا قبل أن يغفر للجاهل).
فهذه الآثار ونحوها, ليست بشيء عند أهل العلم بالحديث, ولا يحتج بها ويعول عليها من له أدنى تمييز أو ممارسة (5), وإنما يلتفت إليها ويحكيها, أهل الجهالة والسفاهة, من القصاصين والكذابين.
وأما أهل العلم والدين: فبمجرد النظر إليها, والوقوف عليها, يعرفون أنها من الأخبار الموضوعة المكذوبة, التي لا تروج إلى على سفهاء الأحلام, وأشباه الأنعام.
__________
= انظر "المقاصد الحسنة" : ( ص459)، و"تمييز الطيب من الخبيث": ( ص121,و"كشف الخفاء ": 2/64, و"الأسرار المرفوعة : (ص247).
(1) في "أ": "به".
(2) وقفت على نحو من هذا بلفظ: "نظر ة إلى وجه العالم أحب إلى الله من عبادة ستين سنة صياما وقياما", وقد ورد هذا في نسخة سمعان بن المهدي, وهو أحد الوضاعين, عن أنس مرفوعا بمعناه، قال السخاوي : لا يصح.
انظر: "المقاصد الحسنة": (ص696)، و"الأسرار المرفوعة": (ص356)، و"كشف الخفاء ": (2/318).
(3) في "أ": "والمتعلم".
(4) قال السيوطي عن هذا الحديث: "لا أصل له", انظر: " الأسرار المرفوعة" : (ص142), و"كشف الخفاء ": (1/221).
(5) في "ب", و"جـ" :"وممارسة".
ص -23-(59/10)
وقد ورد في فضل العلم والعلماء من الآيات القرآنية, والأحاديث النبوية, ما ينيف (1) على مائة وخمسين دليلا, كما قرره صاحب "مفتاح دار السعادة", وقد مر صلى الله عليه وسلم في رهط من أصحابه, وهم سادات العلماء والمتعلمين على قبرين يعذبان, فشق جريدة ووضعها عليهما, وقال: "لعله أن (2) يخفف عنهما ما لم ييبسا" (3) ولم يقل لمروري ومرور أصحابي عليهما يخفف عنهما, كما زعمه هذا الجاهل.
وكأي من قرية عذبت, وأتاها أمر الله بغتة, وأنبياؤهم وعلماؤهم قبل ذلك يدعونهم, وهم ينظرون إلى وجوههم, ويخاطبونهم, ويسمعون كلامهم, فما أغنى عنهم ذلك إذ لم يؤمنوا بآيات الله, وأصابهم من العذاب ما أصابهم (4).
وكان الأولى بهذا الرجل أن لا يخوض فيما لا يدريه وأن يعطي القوس باريه شعرا/ :
لا يعرف الشوق إلا من يكابده
ولا الصبابة إلا من يعانيها
وأما قوله: إن في الحديث:
__________
(1) في "أ" :"ما ينوف".
(2) سقطت "أن" من : "جـ".
(3) في "أ" :"تيبسا"،والمثبت من : "ب", ومصادر التخريج.
والحديث أخرجه مسلم في الطهارة ، باب الدليل على نجاسة البول ووجوب الاستبراء منه: (ح/292).
(4) في "أ" : "وأصابهم ما أصابهم من العذاب".
ص -24-(59/11)
"أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديم" (1).
فهذا الحديث لم يثبته الحفاظ من أهل العلم؛ بل ذكروا أنه موضوع.
قال ابن عبد البر إمام المغرب في وقته, وحامل لواء المالكية في زمانه: (حدثنا محمد بن إبراهيم بن سعيد (2) أن أبا عبد الله بن مفرج حدثه قال: حدثنا محمد بن أيوب الصموت (3) قال: قال لنا البزار: وأما ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم:"أصحابي كالنجوم" فهذا الكلام لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم).
وقال ابن قيم4 لجوزية5 بعد أن ذكر طرق هذا الحديث:
(لا يثبت شيء منها)6.
__________
(1) أخرجه ابن عبد البر في "جامع العلم" : (2/91)، وابن حزم في "الإحكام": (6/243،و244)،كلاهما من طريق سلام بن سليم عن الحارث بن غصين عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر مرفوعا. قال ابن عبد البر: "هذا إسناد لا تقوم به حجة لأن الحارث بن غصين مجهول". وقال ابن حزم: " وأما الرواية : "أصحابي كالنجوم" فرواية ساقطة". ثم ساق الحديث بسنده ثم قال: "أبو سفيان ضعيف، والحارث بن غصين هذا هو أبو وهب الثقفي، وسلام بن سليمان يروي الأحاديث الموضوعة، وهذا منها بلا شك". وذكر الحافظ الذهبي في "الميزان": (1/413) تحت ترجمة جعفر بن عبد الواحد الهاشمي ، نحوا من هذا الحديث من رواية أبي هريرة، وقال :" ومن بلاياه عن وهب ابن جرير عن أبيه..." فذكره.
(2) في "ب" ،و"جـ" :"سعد".
(3) في "ب" : "المصموت" ، وهو خطأ، وانظر: "الأنساب" (8/89) ،و"نزهة الألباب في الألقاب":1/428).
(4) في "جـ":"ابن القيم الجوزية".
(5)انظر:"إعلام الموقعين":(2/239).
(6)في جميع النسخ:"منه"،والمثبت من "إعلام الموقعين"،ولعله أولى.
ص -25-(59/12)
ثم قال ما معناه: " إن الأخذ بعمومه يقتضي أن الاهتداء يحصل بالاقتداء بكل صحابي, ولو تخالفت أقوالهم, وتباينت آراؤهم, وأن الشخص مخير بين الأخذ بالقول وضده, فيخير في مسألة الجد والإخوة بين مذهب أبي بكر, ومن خالفه, وفي مسألة جعل الطلاق الثلاث واحدة بين رأي عمر, وغيره, وفي مسألة المتوفى عنها زوجها1 بين الاعتداد بالوضع وتربص أقصى الأجلين, وفي مسألة استرقاق المرتدات بين مذهب أبي بكر وعمر, ويخير في بيع أمهات الأولاد بين مذهب من يقول بجوازه, كعلي, ومن يقول بمنعه" كعمر ومن وافقه.
وبالجملة فإطلاق هذه يوجب أن الاهتداء يحصل بأحد الضدين, ولا نعلم قائلا به من أهل العلم والإيمان, والحق واحد في نفسه لا يتعدد, وقد قال تعالى: { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً }2, والخطاب عام لجميع الأمة الصحابة وغيرهم, وهي نص في أن الاهتداء لا يحصل مع النزاع والاختلاف إلا بالرد إلى الله والرسول, لا بالاقتداء بأحد من الخلق كائنا من كان, وأما مع عدم النص المخالف فالاقتداء بمن هدى الله من النبيين هو الواجب, كما قال تعالى : /{ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ }3.
__________
(1) سقطت "زوجها"من:"أ".
(2) سورة النساء، الآية:59.
(3) سورة الأنعام،الآية:90.
ص -26-(59/13)
وأما ثناء الصحاف على مشايخه الستة الذين سماهم, وادعى أنهم من أهل العلم والفضل, وقدمهم على من سواهم.
فيقال له: هذه الدعوى, وهذا الثناء, هو بحسب ما عندك وما ظهر لك, ومن تجاوزت به الغفلة والجهالة إلى أن يجعل عباد الله الموحدين من أهل الضلالة, الذين يكفرون أهل لا إله إلا الله "لا إله إلا الله", ويجعل عباد الأولياء والصالحين, الذين يفزعون إليهم بالدعوة من دون رب العالمين هم أهل "لا إله إلا الله" كيف يعرف العلم والإيمان؟ أو يرجع إليه في تحقيق هذا الشأن؟ شعرا:
ما أنت بالحكم الترضى حكومته
ولا الأصيل ولا ذي الرأي والجدل
وشهادة من لا يعرف العلم, أو النحو, أو الهندسة, أو الطب مثلا لشخص بأنه عالم, أو نحوي, أو مهندس, أو طبيب: شهادة زور, وقول بلا علم, وفي المثل: (لا يعرف الفضل إلا ذووه), ولو عرف هذا الرجل الفضل وأهله, والعلم ومحله, لأحجم عن هذا الهذيان.
وقد نقل لنا عن بعض هؤلاء الستة الذين سماهم واختارهم, ما يقتضي-إن صح – أن يحكم على صاحبه بأنه من المعطلة الضالين.
ويقال لهذا1 أيضا: هذه الدعوى قد ادعاها كل أحد لشيخه ومتبوعه, فادعتها الجهمية, والقدرية, والخوارج, والمعتزلة, والروافض, والنصيرية, ونحوهم من كل مبتدع ضال, فكل أحد يدعي أن شيخه وإمامه أولى بالعلم والإيمان من خصومه, والدعاوى المجردة لسنا منها
__________
(1) سقطت"لهذا" من:"ب"،و"جـ".
ص -27-(59/14)
في شيء, وقد قال تعالى: { وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ {111} بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ 1{112}.
فإسلام الوجه لله هو: عبادته, والكفر بعبادة من سواه, وهذا معنى شهادة أن لا إله إلا الله, وهذه الكلمة / تتضمن العلم والعمل مع القول, فلا يكتفي ببعض ذلك؛ بل لابد من العلم والعمل والشهادة.
وأما الإحسان فهو: أن تعبد الله بما شرع, لا بالأهواء والبدع, وهذا هو حقيقة شهادة أن محمدا رسول الله, فإنها تقتضي وتتضمن وجوب متابعته، وتحريم معصيته, وأن السير إلى الله من طريقه ومحجته، هذا هو حقيقة اتباع الرسول, والشهادة له بالرسالة والدين كله يدخل في هذه الجملة الشريفة، وبسط الكلام عليها يستدعي أسفارا.
والسؤال الذي أجاب عنه هذا الرجل في رسالته, يلزم المفتي, ويجب عليه التفصيل في جوابه, ولا يجوز له إطلاق القول؛ لأن الحكم يختلف باختلاف الحال.
وإطلاق القول بتكفير كل صالح من صلحاء الأمة, من غير تعيين يدخل فيه كل موصوف بهذه الصفة من حين مبعثه صلى الله عليه وسلم إلى يوم الدين, وما أظن هذا يقع من عاقل يتصور ما يقول, مسلما كان أو كافرا, سنيا كان أو بدعيا؛ لأن الكافر لا يرى الحكم بالكفر2 أو الإسلام, إذ هي أحكام
__________
(1) سورة البقرة، الآيتان:111،و 112.
(2) سقطت"بالكفر" من:"ب"،و"جـ".
ص -28-(59/15)
شرعية, لا يقول بها إلا أهل الشريعة.
وأما المسلم: فلا يتصور أن يكفر صلحاء أهل ملته ودينه, وكذلك السني والبدعي كل منهما يدعي موالاة صلحاء الأمة، ويرى أنهم هم أسلافه وأئمته, وكل طائفة تدعي موالاة الصلحاء والبراءة من الفساق ونحوهم.
وأما إن كان قصد السائل من يكفر معينا من هذه الأمة: فعليه أن يعبر بغير هذه العبارة الموهمة، والمجيب عليه أن يستفصل؛ لأن ترك الاستفصال فيه إيهام.
ولا شك أن تكفير بعض صلحاء الأمة ممكن الوقوع؛ بل قد وقع من الخوارج وغيرهم من أهل البدع.
فيقال حينئذ1 : إن كان المكفر لبعض صلحاء الأمة متأولا مخطئا, وهو ممن يسوغ له التأويل:
فهذا وأمثاله ممن رفع عنه الحرج والتأثيم لاجتهاده، وبذل وسعه, كما في قصة حاتب بن أبي بلتعة فإن عمر – رضي الله عنه – وصفه بالنفاق واستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتله / ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم2", ومع ذلك فلم يعنف عمر على قوله لحاطب: إنه قد نافق.
__________
(1) في"أ":"حينئذ يقال".
(2) أخرجه البخاري في الجهادوالسير،باب الجاسوس:(ح/3007)،وانظر:(ح/3081 ،3983 ، 4274 ،4890، 6259، 6939)، ومسلم في فضائل الصحابة، باب من فضائل أهل بدر:(ح/2494)، من حديث علي رضي الله عنه.
ص -29-(59/16)
وقد قال الله تعالى: { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}1, وقد ثبت أن الرب تبارك وتعالى قال بعد نزول هذه الآية وقراءة المؤمنين لها: "قد فعلت"2.
وأما إن كان المكفر لأحد من هذه الأمة يستند في تكفيره له إلى نص وبرهان من كتاب الله وسنة رسوله, وقد رأى كفرا بواحا, كالشرك بالله, وعبادة ما سواه, والاستهزاء به تعالى, أو بآياته, أو رسله, أو تكذيبهم, أو كراهة ما أنزل الله من الهدى ودين الحق, أو جحود الحق3, أو جحد صفات الله تعالى ونعوت جلاله ونحو ذلك:
فالمكفر بهذا وأمثاله مصيب مأجور, مطيع لله ورسوله, قال الله تعالى: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ }4.
فمن لم يكن من أهل عبادة الله تعالى, وإثبات صفات كماله, ونعوت جلاله, مؤمنا بما جاءت به رسله, مجتنبا لكل طاغوت يدعو إلى خلاف ما جاءت به الرسل, فهو ممن حقت عليه الضلالة, وليس ممن هدى الله للإيمان به, وبما جاءت به الرسل عنه.
والتكفير بترك هذه الأصول, وعدم الإيمان بها من أعظم دعائم
__________
(1) سورة البقرة، الآية:286.
(2) أخرجه مسلم في الإيمان باب بيان أنه سبحانه وتعالى لم يكلف إلا ما يطاق:(ح/126) من حديث ابن عباس _ رضي الله عنه_.
(3) سقطت"أو جحود الحق" من:"ب"،و"جـ".
(4) سورة النحل، الآية: 36.
ص -30-(59/17)
الدين, يعرفه كل من كانت له نهمة في معرفة دين الإسلام, وغالب ما في القرآن إنما هو في إثبات ربوبيته تعالى, وصفات كماله, ونعوت جلاله, ووجوب عبادته وحده لا شريك له, وما أعد لأوليائه الذين أجابوا رسله في الدار الآخرة، وما أعد لأعدائه الذين كفروا به وبرسله, واتخذوا من دونه الآلهة والأرباب, وهذا بين بحمد الله.
وقد يصدر التكفير لصلحاء الأمة, من أعداء الله ورسوله, أهل الإشراك به, والإلحاد في أسمائه, فهؤلاء يكفرون المؤمنين بمحض الإيمان وتجريد التوحيد, ويعيبون أهل الإسلام, ويذمونهم / على إخلاص الدين, وتجريد المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم, بل قد يقاتلونهم على ذلك, ويستحلون دماءهم وأموالهم, كما قال تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ }1.
فمن كفر المسلمين أهل التوحيد, أو فتنهم بالقتال, أو التعذيب: فهو من شر أصناف الكفار, ومن الذين بدلوا نعمة الله كفرا, وأحلوا قومهم دار البوار, جهنم يصلونها وبئس القرار, وفي الحديث: "من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما"2.
__________
(1) سورة البروج، الآية:10.
(2) أخرجه البخاري في الأدب باب من أكفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال:(ح/6103)، من حديث أبي هريرة. وبنحوه من حديث ابن عمر أخرجه البخاري في المصدر السابق:(ح/6102)، ومسلم في الإيمان، باب بيان حال إيمان من قال لأخيه المسلم يا كافر:(1/79).
ص -31-(59/18)
وأما من أطلق لسانه بالتكفير لمجرد عداوة, أو هوى, أو لمخالفة في المذهب, كما يقع لكثير من الجهال: فهذا من الخطأ البين, والتجاسر على التكفير, والتفسيق1, والتضليل, لا يسوغ إلا لمن رأى كفرا بواحا عنده فيه من الله برهان.
والمخالفة في المسائل الاجتهادية, التي قد يخفى الحكم فيها على كثير من الناس, لا تقتضي كفرا ولا فسقا, وقد يكون الحكم فيها قطعيا جليا عند بعض الناس, وعند آخرين يكون الحكم فيها مشتبها خفيا، والله لا يكلف نفسا إلا وسعها.
والواجب على كل أحد: أن يتقي الله ما استطاع, وما يظهر لخواص الناس من الفهوم والعلوم, لا يجب على من خفيت عليه عند العجز عن معرفتها, والتقليد ليس بواجب, بل غايته أن يسوغ عند الحاجة, وقد قرر بعض مشايخ الإسلام أن الشرائع لا تلزم إلا بعد البلوغ, وقيام الحجة, ولا يحل لأحد أن يكفر, أو يفسق بمجرد المخالفة للرأي والمذهب.
وبقي قسم خامس, وهم : الذين يكفِّرون بما دون الشرك من الذنوب, كالسرقة, والزنا, وشرب الخمر:
وهؤلاء هم الخوارج, وهم عند أهل السنة ضلالة مبتدعة, قاتلهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الحديث قد صح بالأمر بقتالهم, والترغيب فيه, وفيه: "أنهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم"2.
__________
(1) في"ب"،و"جـ":"أو التفسيق".
(2) أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى:}وإلى عاد أخاهم هودا...{:(ح/3344)، ومسلم في الزكاة باب ذكر الخوارج وصفاتهم:(ح/1064)=
ص -32-(59/19)
وقد غلط كثير من المشركين في هذه الأعصار, وظنوا أن من كفّر من تلفظ بالشهادتين فهو من الخوارج, وليس كذلك؛ بل التلفظ بالشهادتين / لا يكون مانعا من التكفير إلا لمن عرف معناهما, وعمل بمقتضاهما, وأخلص العبادة لله, ولم يشرك به سواه, فهذا تنفعه الشهادتان.
وأما من قالهما, ولم يحصل منه انقياد لمقتضاهما, بل أشرك بالله, واتخذ الوسائط والشفعاء من دون الله , وطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله, وقرَّب لهم القرابين, وفعل لهم ما يفعله أهل الجاهلية من المشركين, فهذا لا تنفعه الشهادتان بل هو كاذب في شهادته، كما قال تعالى:{ إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ }1.
ومعنى شهادة أن لا إله إلا الله هو: عبادة الله, وترك عبادة ما سواه, فمن استكبر عن عبادته, ولم يعبده, فليس ممن يشهد أن لا إله إلا الله, ومن عبده وعبد معه غيره, فليس هو ممن يشهد أن لا إله إلا الله.
وأما قول السائل في سؤاله: "ويعتقد أن أهل القسم2 كلهم كفار معطلون, كاليهود والنصارى, ومن لم يكفرهم فهو كافر, وإذا لقيه أحد من المسلمين وسلم عليه قال : عليكم".
إلى آخر ما قال.
__________
= من حديث أبي سعيد الخدري _ رضي الله عنه _.
(1) سورة المنافقون، الآية: 1.
(2) بالفتح ثم سكون، مصدر قسمت الشيء أقسمه قسما، اسم موضع عن الأديبي.
انظر:"معجم البلدان":(4/396).
ص -33-(59/20)
فاعلم أن أهل (القسم) يخفى حالهم علينا, ولا ندري ما هم عليه من الدين, وفيما تقدم من التفصيل كفاية, فالمكفر لهم لا يخرج عن الأقسام المتقدمة.
والصحاف قد خلط هنا, وأطال الهذيان, وزعم أن من كفَّرهم يكفر ولا يصلى خلفه، وقد عرفت أن المسألة1 فيها تفصيل كما قدمناه, وبه يعرف حكم الصلاة خلفه, وأنها لا تصح خلف من أشرك بالله, أو جحد أسماءه وصفاته لكفره, وأهم شروط الصلاة والإمامة هو الإسلام معرفته والعمل به.
ومن كفَّر المشركين ومقتهم, وأخلص دينه لله, فلم يعبد سواه فهو أفضل الأئمة وأحقهم بالإمامة؛ لأن التكفير بالشرك والتعطيل هو أهم ما يجب من الكفر بالطاغوت.
وأما من كفَّر من ليس من أهل الكفر؛ لكنه متأول يسوغ تأويله: فهو أيضا من الأئمة المرضيين, إذا تمت له شروط الإمامة, وخطؤه مغفور له بنص الحديث.
وأما من يكفر لهوى, أو عصبية, أو لمخالفة في المذهب, أو لأنه يرى رأي الخوارج:
فهو/ فاسق لا يصلى خلفه إذا أمكنت الصلاة مع غيره, إلا إن كان ذا سلطان تخشى سطوته، فيصلى خلفه كما يصلي خلف أئمة الظلم والجور.
__________
(1) في النسختين:"أ"،و"ب":"المسألة"، والصواب ما أثبت.
ص -34-
إذا عرفت: هذا فاعلم أن الصحاف ذكر في جوابه ما لا يتعلق بالسؤال, كمسبته وعيبه من يعيب مشايخه الذين ذكرهم, وترضى عنهم, كابن كمال, وعبد الله البصري, وحسين الدوسري وغيرهم ممن ذكر, وحكمه على من عابهم : أنه من الجهال المبتدعة, أكلة الحرام, الذين لا هم لهم في الدين, وأنهم ممن قال فيهم صاحب الزبد:
وعالم بعلمه لم يعملن
معذب من قبل عباد الوثن(59/21)
وأن همهم في جمع الدرهم والدينار, يعملون في تحصيلها أنواع الحيل بالليل والنهار.
فهذا الكلام مجرد دعوى, ومسبة ينزه العاقل نفسه عن مثلها, ويكفي في ردها منعها وتكذيبها، ويمكن خصم الصحاف أن يقابلها ويعارضها بما هو محق فيه, كقوله: بل أنتم أهل الجهل بما بعث الله به رسله, وأنزل به كتبه, لم تعرفوه بما وصف به نفسه, وبما وصفته به رسله من صفات الكمال, ونعوت الجلال, ولكنكم أخذتم العقيدة في ذلك عن أفراخ الفلاسفة واليونان, الذين هم من أعظم الخلق مناقضة لما نطق به القرآن, وما وصف به الرب نفسه في كتابه العزيز, وكذلك أنتم في باب معرفة حق الله وتوحيده من أضل الناس وأهلهم، تجعلون عبادة غير الله ودعاءه والاستغاثة والاستعاذة به, والذبح والنذر له1، والحب مع الله : توسلا بالصالحين وتشفعا بهم، وقد صرح بهذا أشياخ هذا الصحاف وأشياعه، وكتبوا به إلينا وإلى شيخنا رحمه الله تعالى.
__________
(1) سقطت"له" من:"أ".
ص -35-(59/22)
وعندهم: أن الإنسان لا يكفر, ولا يكون مشركا, إلا إذا اعتقد التأثير له من دون الله , ولم يفقهوا أن الله حكى عن المشركين في غير موضع من كتابه: أنهم يعترفون له بأنه هو المختص بالإيجاد والتأثير والتدبير, وأن غيره لا يستقل بشيء من ذلك, ولا يشاركه فيه, وحكى عن المشركين : أنهم ما قصدوا بعبادة من سواه إلا القربان والشفاعة, كما ذكر ذلك في غير موضع من كتابه.
قال تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء / وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ } (1).
قال تعالى:{ قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ *}2 .
ومثل هذا كثير في القرآن, يخبر فيه تعالى أن المشركين يعترفون بأن الله هو المتفرد بالإيجاد والتأثير والتدبير.
وقال تعالى في صفة شرك المشركين وبيان قصدهم: { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ}3.
__________
(1) سورة يونس ، الآية :31، وفي"جـ" أكملت بقية الآية:{ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ}.
(2) سورة المؤمنون، الآيات:84-89.
(3) سورة يونس، الآية:18.
ص -36-(59/23)
وقال :{ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى }1.
وقال: { فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً
بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}2.
فأبيتم علينا هذا كله, وقلتم هذا دين الوهابية ونعم هو ديننا بحمد الله . ورضي الله عن الشافعي إذ يقول:
يا راكبا قف بالمحصب من منى
واهتف بقاعد3 خيفها والناهض
إن كان رفضا حب آل محمد
فليشهد الثقلان أني رافضي
__________
(1) سورة الزمر، الآية:3.
(2) سورة الأحقاف، الآية:28.
(3) في"أ":"بجانب"، وهو خطأ.
ص -37-
فصل:
قال الصحاف: "وأنهم إذا سمعوا من يذكر الله جهرا بأنواع الأذكار, ويصلي على الرسول جهرا خصوصا على المنار, كما يفعله سائر أهل الأمصار, أنكروا ذلك ونفروا عنه وفروا".
فيقال: أما ذكر الله جهرا بأنواع الأذكار, فلا نعلم أحدا من المسلمين بحمد الله تعالى1 ينكره أو ينفر عنه, وإطلاق هذه العبارة من الكذب البين, والبهت الظاهر الذي لا يمتري فيه من عرف حال من يشير إليهم هذا الرجل, وليس هذا بعجيب من جرأته وظلمه, وقد قال الله تعالى:{ إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ}2.
نعم؛ قد أنكروا ما يفعله كثير من جهلة أهل الطرائق المبتدعة, من الاجتماعات على السماع الشيطاني, وقيامهم / بين يدي المنشد يميلون ويرقصون.
وبعضهم يذكر الله بمجرد الاسم الظاهر3 أو المضمر4, ويزعم أن هذا هو ذكر الخواص أهل المعرفة والتحقيق، فهؤلاء مبتدعة ضلال, وما فعلوه ليس بذكر شرعي, بل هو دين مبتدع غير مرضي, قال الله تعالى : { أَمْ(59/24)
__________
(1) سقطت"تعالى" من:"أ".
(2) سورة النحل، الآية:105.
(3) كأن يقول:"الله..الله".
(4) كأن يقول:"هو..هو".
ص -38-
لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ}1.
وقال تعالى:{ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}2.
وفي الحديث: "إن أصدق الحديث كتاب الله, وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها, وكل بدعة ضلالة"3.
وكل عالم يعرف أن هذا السماع الشيطاني مبتدع, لم يحدث إلا بعد القرون المفضلة, وقد أنكره عامة أئمة الإسلام, وأشدهم في ذلك أتباع الإمام مالك بن أنس, الذي ينتسب هذا الرجل إلى مذهبه, وكفى به جهلا وضلالا أن يعيب ما عليه قدماء أئمته وفضلاؤهم, ونصوصهم موجودة بأيدينا, في إنكار هذا السماع الشيطاني, تضليل فاعله وتفسيقه.
وقد صنف ابن قيم الجوزية في هذا الذكر المبتدع كتابا مستقلا4 قرر فيه مذاهب الأئمة في حكم هذا السماع, وأنه محرم لا يجوز.
وإن كان قصد هذا المعترض : خصوص رفع الصوت بالصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الأذان، كما يفعله أهل الأمصار, فقد صدق في حكاية
__________
(1) سورة الشورى، الآية:21.
(2) سورة الجاثية، الآية:18.
(3) أخرجه مسلم في الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة:(ح/867)، من حديث جابر رضي الله عنه.
(4) هو كتاب:"الكلام في مسألة السماع"، ط. دار العاصمة، وهو كتاب عظيم النفع، جليل القدر.
ص -39-(59/25)
إنكار هذا عنهم1 والنهي عنه, وهم لا ينازعون في مشروعية الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم سرا وجهرا، بل يستحبونها ويوجبونها في الصلاة, ويرون أنها من جملة الأركان فيها.
لكنهم يرون أن ما يفعله أهل الأمصار, على المنائر2 بعد الأذان, مبتدع محدث في القرن الخامس والسادس, وسبب إحداثه رؤيا رآها بعض ملوك مصر، على ما ذكره بعض المؤرخين، وقد أنكره بعض الأئمة, وقالوا: هو بدعة لم يفعله صلى الله عليه وسلم مع التمكن من فعله, ولم يفعله أحد من أئمة الهدى بعده, ولا غيرهم من أهل القرون المفضلة, وقد أمرنا بالاتباع، ونهينا عن / الابتداع.
قال ابن مسعود: " اتبعوا ولا تبتدعوا، ومن كان منكم مستنا فعليه بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم3 أبر هذه الأمة قلوبا, وأعمقها علما, وأقلها تكلفا, قوم اختارهم الله لصحبة نبيه, والقيام بدينه, فاعرفوا لهم حقهم, وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم"- أو كما قال.
وقد تقدم من الآيات والأحاديث ما يدل لقوله ويشهد له, وكتب قدماء أهل المذاهب الأربعة, وجمهور متأخريهم ليس فيها استحباب هذا ولا الأمر به, بل فيها ما يدل على منعه, وأن الواجب هو ما شرعه الله ورسوله.
__________
(1) في"ب"،و"جـ":"منهم".
(2) في"جـ":"المنابر".
(3) سقطت"صلى الله عليه وسلم"من:"ب".
ص -40-(59/26)
قالوا: وأما الصلاة والسلام عليه سرا بعد الأذان, وسؤال الله له الوسيلة والفضيلة، فهذا مشروع قد ورد به الخبر, وصح به الأثر1, وليس مع من خالفهم من الأدلة ما يجب المصير إليه, وإنما يعيب على من منع البدع، واختار السنن أهل الجهالة والسفاهة { وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُوْلَئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ }2.
ثم إن هذا المفتري3 الصحاف أطلق لسانه بالمسبة, وأطال في ذلك, { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ}4, وقد قيل في المثل: وقال العلي: أنا ذاهب إلى المغرب، فقالت الحماقة : وأنا معك.
وقد ذكر في جوابه من الحشو والكلام, الذي لا يقتضيه المقام, ما يدل على قصوره وعجزه، وعدم ممارسته لصناعة العلم, كما ذكر قضيته مع راشد بن عيسى, في مسألة الهبة واختلافهما في لزومها, ومسألة العقد
__________
(1) وذلك فيما رواه جابر بن عبد اله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة"،أخرجه البخاري في الأذان، باب الدعاء عند النداء(ح/614).
وكذلك فيما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليّ، فإن من صلى عليّ صلاة صلى اله عليه بها عشرا، ثم سلوا الله لي الوسيلة..."، أخرجه مسلم في الصلاة، باب استحباب القول مثل قول المؤذن:(ح/384).
(2) سورة الأعراف، الآية:45.
(3) في"أ":"المغربي".
(4) سورة الشعراء، الآية:227.
ص -41-(59/27)
على اليتيمة؛ فلقد أبدى بذلك ما خفي من جهله, ورب كلمة تقول دعني.
وكلامهم في الهبة ولزومها كلام غير محقق, والناس مختلفون في الهبة ولزومها هل هو بالعقد فقط, أو لابد من القبض؟ وعن بعضهم ما يقتضي التفرقة بين المكيل والموزون وغيرهما.
واختلف الناس أيضا هل تبطل بالموت قبل القبض أو لا, واختلف القائلون باشتراط القبض هل يشترط فيما وهبه لزوجته أو لا يشترط؟/
وأدلة هذه الأقوال ومآخذها, والرد على المخالف مبسوط في المطولات, ولا غرض لنا في ذكره, وإنما قصدنا أن حكم هذا الصحاف على أحد الأقوال بالصحة مع قصوره عن معرفتها ومعرفة أدلتها, والتزامه التقليد: حكم باطل لا يجوز, وما للأعمى ونقد الدراهم؟
وحكمه على الذي أفتى بخلاف قوله, بأنه ضال عن سبيل الرشاد, حكم باطل, أوجبه ما بينهما من التنافس والعناد, ومثل هذه المسائل الاجتهادية لا يجوز لأحد أن ينكر فيها على خصمه بمجرد التقليد, وحكاية فروع المذهب, بل لابد من الدليل على ذلك من كتاب, أو سنة, أو إجماع, أو قياس صحيح, ومن كلام شيخ الإسلام: "من ترك الدليل, ضل السبيل".
وجميع ما ذكره: إنما هو مجرد نقل لأقوال بعض المالكية, كالشيخ خليل, وعبد الباقي, وابن عرفة وأمثالهم, وتقليد هؤلاء إنما يسوغ عند الضرورة, والمقلد لهم أو لغيرهم ليس من أهل العلم بالإجماع, كما حكاه ابن عبد البر إمام المالكية عمن يحفظ قوله من أهل العلم, فكيف
ص -42-(59/28)
والحال هذه يحكم هذا الجاهل الذي ليس هو من أهل العلم عند أئمة مذهبه وغيرهم بصحة جوابه, وفساد قول خصمه وضلاله؟ وهل يعلم هذا إلا بالنص من كلام الله, أو كلام رسوله, أو إجماع الأمة؟
فما للمقلد والحكم بالصحة والصواب, وقد جهل نصوص السنة والكتاب؟ ومن تشبع بما لم يعط فهو كلابس ثوبي زور.
وقوله: فلا شك أن الطاعن في أهل القسم من أهل النار بعيد عن الهدى, وأنهلا يفلح أبدا في الدنيا خاسر أي خاسر, وفي الآخرة إلى النار صائر, إلى آخر عبارته.
فهذا الكلام لا يصدر من عاقل, يعرف ما خرج من بين شفتيه, نعوذ بالله من الجهل المردي, والهوى المعمي, وهذه المسبة والحكم على المخالف في هذه المسالة1 بالنار, مما تقشعر منه جلود الذين آمنوا, وما أشبهها بأخلاق أهل المجون, وأصحاب الوقاحة والجنون.
وكان ينبغي لنا أن نعد هذه الفتوى من جملة هذيان / الضالين, وأن نكف القلم عن إجابة هذه النوع من المفترين, ولكن الضرورة اقتضت، فلا إله إلا الله, ما أشد غربة الدين, وما أقل العارفين له والمميزين, كيف يقر مثل هذا بين ظهراني من له عقل يميز به الخبيث من الطيب, ويفرق به بين الآجن والصيب؟ وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكفِّروا من كفَّرهم من الخوارج الحرورية, وقد سئل علي رضي الله عنه2 , فقيل له أكفار هم؟ فقال: " من الكفر فروا".
__________
(1) في النسختين"أ"،و"ب":"المسئلة".
(2) في"أ":"كرم الله وجهه".
ص -43-(59/29)
وفي الحديث: "أن رجلا فيمن قبلنا رأى من يعمل بالمعاصي فاستعظم ذلك, وقال: والله لن يغفر الله لفلان, فقال الله: من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان إني قد غفرت له وأحبطت عملك"1.
وأما قوله: "ومن تسمى بالإسلام,وأحب محمدا سيد الأنام, وأحب أصحابه الكرام, واتبع العلماء الأعلام, لا يكفِّر أحدا من سائر المسلمين فضلا عن هداتهم في الدين, اللهم إلا أن يكون من الغلاة الذين أسقطوا حرمة "لا إله إلا الله", وسوَّل لهم الشيطان وأملى لهم, حيث استباحوا دماء المسلمين- إلى آخر رسالته.
فيقال في جوابه: هذا الجاهل يظن أن من أشرك بالله, واتخذ معه الأنداد والآلهة, ودعاهم مع الله لتفريج الكربات, وإغاثة اللهفات, يحكم عليه والحال هذه بأنه من المسلمين؛ لأنه يتلفظ بالشهادتين, ومناقضتهما2 لا تضره, ولا توجب عنده كفره, فمن كفَّره فهو من الغلاة الذين أسقطوا حرمة "لا إله إلا الله", وهذا القول مخالف لكتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأمة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (من جعل بينه وبين الله وسائط, يدعوهم, ويسالهم, ويتوكل عليهم كفر إجماعا)3 انتهى.
__________
(1) سقطت"وأحبطت عملك"من"ب".
والحديث أخرجه مسلم في البر والصلة، باب النهي عن تقنيط الإنسان من رحمة الله تعالى:(ح/2621) من حديث جندب بن عبد الله _ رضي الله عنه_.
(2) في"جـ":"ومناقصتها".
(3) انظر:"الفتاوى":(1/124).
ص -44-(59/30)
ومجرد التلفظ, من غير التزام لما دلت عليه كلمة الشهادة, لا يجدي شيئا, والمنافقون يقولونها وهم في الدرك الأسفل من النار.
نعم؛ إذا قالها المشرك ولم يتبين منه ما يخالفها, فهو ممن يكف عنه بمجرد القول, ويحكم بإسلامه, وأما إذا تبين منه, وتكرر عدم التزام ما دلت عليه من الإيمان بالله وتوحيده، والكفر بما يعبد من / دونه, فهذا لا يحكم له بالإسلام ولا كرامة له, ونصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة تدل1 على هذا.
فمن تسمى بالإسلام حقيقة, وأحب محمدا, واقتدى به في الطريقة, وأحب أصحابه الكرام, ومن تبعهم من علماء الشريعة, يجزم ولا يتوقف بكفر من سوى بالله غيره, ودعا معه سواه من الأنداد والآلهة, ولكن هذا الصحاف يغلط في مسمى الإسلام, ولا يعرف حقيقته, وكلامه يحتمل أنه قصد الخوارج الذين يكفرون بما دون الشرك من الذنوب, وحينئذ يكون2 له وجه, ولكنه احتمال بعيد, والظاهر الأول.
وقد ابتلي بهذه الشبهة, وضل بها كثير من الناس, وظنوا أن مجرد التكلم بالشهادتين مانع من الكفر, وقد قال تعالى: { وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ}3.
وقال تعالى:{ وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ }4.
__________
(1) في"ب"،و"جـ":"يدل".
(2) في"أ":"فيكون".
(3) سورة المؤمنون، الآية:117.
(4) سورة يونس، الآية:106.
ص -45-(59/31)
وقال تعالى:{ لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ}1.
فالتكفير بدعاء غير الله: هو نص كتاب الله, وفي الحديث: "من مات وهو يدعو لله ندا دخل النار"2.
وفي الحديث أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها"3, وفي رواية: " إلا بحق الإسلام"4.
وأعظم حق الإسلام وأصله الأصيل هو: عبادة الله وحده, والكفر بما يعبد من دونه, وهذا هو الذي دلت عليه كلمة الإخلاص، فمن قالها وعبد غير الله, أو استكبر عن عبادة الله فهو مكذب لنفسه, شاهد عليها بالكفر والإشراك.
وقد عقد كل طائفة من أتباع الأئمة, في كتب الفقه بابا مستقلا في
__________
(1) سورة الرعد، الآية:14.
(2) أخرجه البخاري في التفسير، باب}ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا{:(ح/4497)، وأيضا في الجنائز:(ح/11238)، وأيضا في الأيمان والنذور، باب"إذا قال الله لا أتكلم اليوم":(ح/6683)، من حديث ابن مسعود – رضي الله عنه -.
(3) أخرجه مسلم في الأيمان، باب الأمر بقتال الناس..:(1/53)، من حديث جابر.
وبنحوه البخاري في الجهاد والسير، باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلى الإسلام والنبوة:(ح/2946)، من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -.
(4) أخرجه البخاري في الأيمان، باب}فإن تابوا وأقاموا الصلاة...{:(ح/25).
ص -46-(59/32)
حكم المرتد, وذكروا أشياء كثيرة يكفر بها الإنسان, ولو كان يشهد أن لا إله إلا الله, وقد قال تعالى في النفر الذين قالوا في غزوة تبوك بعض القول الذي فيه ذم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من أصحابه: { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم / بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}1 , فكفَّرهم بعد إيمانهم بالاستهزاء, ولو كان على وجه المزح واللعب, ولم يمنع ذلك قوله "لا إله إلا الله".
وكذلك: إجماع الأمة على كفر من صدق مسيلمة الكذاب, ولو شهد "أن لا إله إلا الله", وقد كفَّر الصحابة أهل مسجد بالكوفة بكلمة ذكرت عنهم في احتمال صدق مسيلمة, ولم يلتفت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أنهم يشهدون "لا إله إلا الله"؛ لأنه قد وجد منهم ما ينافيها, ويناقضها { وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهمُ مِن نُّورٍ }2.
وبالجملة فالذي يقوم بحرمة "لا إله إلا الله": هم الذين جاهدوا الناس عليها, ودعوهم على التزامها علما وعملا, كما هي طريقة رسل الله وأنبيائه, ومن تبعهم بإحسان, كشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله تعالى-, وأما من أباح الشرك بالله, وعبادة غيره, وتولى المشركين, وذب عنهم، وعادى الموحدين وتبرأ منهم فهو الذي أسقط حرمة "لا إله إلا الله", ولم يعظمها, ولا قام بحقها, ولو زعم أنه من أهلها القائمين بحرمتها.
__________
(1) سورة التوبة، الآيتان:65،و 66.
(2) سورة النور، الآية:40.
ص -47-(59/33)
وأما ما ساقه هذا الصحاف من كلام شيخه حسين الدوسري: فالخصم يعارضه ويمنعه، وما ذكره1 ليس بحمد الله تعالى من أوصاف أهل التوحيد, ولكنه وصف أهل الشرك والتنديد.
والذي أنكر الطاعة, وعصى ربه في كل ساعة, واتبع هوى نفسه الخداعة، وشذ عن السنة, وفارق الجماعة, ووافق الشبهة وأهل الإضاعة, هو من كانت طريقته عبادة غير الله, والاستعانة بغير مولاه, وصرف الوجه لغير من خلقه وسوَّاه, والتعبد بغير الذي شرعه الله, على لسان عبده الذي اصطفاه، من2 أهل التوحيد والتضليل, والإلحاد والتمثيل, الذين اختلفوا في الكتاب وخالفوا الكتاب, وضلوا عن الصواب.
وأما قول الصحاف نقلا عن شيخه الدوسري: " أما كفَّروا العلماء؟ أما سفكوا الدماء؟ أما استحلوا المحرمات؟ أما روعوا المسلمين والمسلمات؟ أما أسخطوا رب السموات؟ أم رجفوا أهل الحرم؟ أما تجاسروا على حجرة من صلى الله عليه وسلم؟ فلا أفلح من ظلم".
فالجواب عن هذا أن يقال: كل عاقل يعرف سيرة الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – يعلم أنه من أعظم الناس إجلالا للعلم / والعلماء, ومن أشد الناس نهيا عن تكفيرهم وتنقصهم وأذيتهم, بل هو ممن يدين بتوقيرهم وإكرامهم والذب عنهم, والأمر بسلوك سبيلهم, عملا بقوله تعالى:{ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ
__________
(1) في"أ":"ماذكر".
(2) سقطت"من"من:"أ".
ص -48-(59/34)
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}1 الآية.
وبقوله تعالى:{ وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ}2 الآية.
وبقوله تعالى:{ أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ *الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ }3.
فالإيمان والتقوى هما أصل العلم بالله وبدينه وشرعه، فكيف يظن بمسلم فضلا عن شيخ الإسلام أنه يكفر العلماء؟ { سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيم ٌ }.
والشيخ – رحمه الله – لم يكفر إلا من كفَّره الله ورسوله وأجمعت4 الأمة على كفره, كمن اتخذ الآلهة والأنداد لرب العالمين, ولم يلتزم ما جاءت به الرسل من الإسلام والدين, أو جحد ما نطق به الكتاب المبين, من صفات الكمال, ونعوت الجلال, لرب العالمين, وكذلك من نصب نفسه لنصرة الشرك والمشركين, وزعم أنه توسل بالأنبياء والصالحين, وأنه مما يسوغ في الشرع والدين , فالشيخ وغيره من جميع المسلمين, يعلمون أن هذا من أعظم الكفر وأفحشه.
ولكن هذا الجاهل, يظن أن من زعم أنه يعرف شيئا من أحكام الفروع, وتسمى بالعلم, وانتسب إليه يصير بذلك من العلماء, ولو فعل
__________
(1) سورة التوبة، الآية:71.
(2) سورة الحشر، الآية:10.
(3) سورة يونس، الآيتان: 62،و63.
(4) في"أ":"واجتمعت".
ص -49-(59/35)
ما فعل، ولم يدر هذا الجاهل أن الله كفَّر علماء أهل الكتاب والتوراة والإنجيل بأيديهم, وكفَّرهم رسوله لما أبوا أن يؤمنوا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق.
ولا ضير على الشيخ بمسبة هؤلاء الجهال, وله أسوة بمن مضى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, ومن بعدهم من أهل الإيمان والاهتداء.
قال الشافعي – رحمه الله –:( ما أرى الناس ابتلوا بسب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ليزيدهم الله بذلك ثوابا عند انقطاع أعمالهم), وما أحسن ما قيل: شعرا
قدمت لله ما قدمت من عمل
وما عليك بهم ذموك أو شكروا
عليك في البحث أن تبدي غوامضه
وما عليك إذا لم تفهم البقر
وقد اعترضت اليهود والنصارى على عبد الله ورسوله بالقتال, وسفك الدماء, وسبي الذرية, وقالوا: إنما يفعل هذا الملوك المسلطون, وحكاياتهم في ذلك معروفة مشهورة عند أهل العلم, ويكفي في ذلك قوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ }1 الآية/.
وأما قوله : "أما رجفوا أهل الحرم".
فلا يخفى أن الذي جرى في الحرمين, من أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب هو: هدم القباب التي أسست على معصية الله ورسوله, وصارت من أعظم وسائل الشرك وذرائعه, وكسَّروا آلات التنباك وسائر
__________
(1) سورة النساء، الآية:51.
ص -50-(59/36)
المسكرات, وألزموا الناس المحافظة1 على الصلوات في الجماعات, ونهوا عن لبس الحرير, وألزموهم بتعلم أصول الدين, والالتفات إلى ما في الكتاب والسنة من أدلة التوحيد وبراهينه.
وقرروا الكتب المصنفة في عقائد السلف أهل السنة والجماعة, في باب معرفة الله بصفات كماله, ونعوت جلاله, وقرروا2 إثبات ذلك من غير تحريف ولا تعطيل, ولا تشبيه ولا تمثيل, وأنكروا على من قال بقول الجهمية في ذلك, وبدَّعوه , وفسقوه, فإن كان هذا إرجافا للحرم فحبذا هو, وما أحسن ما قيل:
وعيرني3 الواشون أني أحبها وتلك شكاة ظاهر عنك عارها
وقد أمر الله تعالى من خاض في مثل هذا أن يتكلم بعلم وعدل, كما قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ }4 الآية.
وهذا الرجل كلامه جهل محض وجور ظاهر, وأصله الذي يرجع إليه هو الانتصار للنفس والهوى, لا لنصر الحق والهدى.
وأما التجاسر على حجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم: فكأنه يشير به إلى المال الذي استخرجه الأمير سعود من الحجرة الشريفة, وصرفه في أهل المدينة, ومصالح الحرم, وهو- رحمه الله- لم يفعل هذا إلا بعد أن أفتاه
__________
(1) في"أ":"بالمحافظة".
(2) في"أ":"وقد روي".
(3) في"أ":"وغيرها".
(4) سورة النساء، الآية:135.
ص -51-(59/37)
علماء المدينة من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنبلية, فاتفقت فتواهم على أنه يتعين ويجب على ولي الأمر إخراج المال الذي في الحجرة، وصرفه في حاجة أهل المدينة وجيران الحرم؛ لأن المعلوم السلطاني قد منع في تلك السنة, واشتدت الحاجة والضرورة إلى استخراج هذا المال وإنفاقه, ولا حاجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إبقائه في حجرته, وكنزه لديه, وقد حرم كنز الذهب والفضة وأمر بالإنفاق في سبيل الله، لا سيما إذا كان المكنوز مستحقا لفقراء المسلمين, وذوي الحاجة منهم، كالذي بأيدي الملوك والسلاطين.
فلا شك أن استخراجها على هذا الوجه, وصرفها في مصارفها الشرعية أحب إلى الله ورسوله من إبقائها واكتنازها, وأي فائدة في إبقائها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأهل المدينة في أشد الحاجة والضرورة إليها؟
وتعظيم الرسول وتوقيره: إنما هو في اتباع / أمره, والتزام دينه وهديه؛ فإن كان عند من أنكر علينا دليل شرعي يقتضي تحريم صرفها في مصالح المسلمين فليذكره لنا, ولم يضع هذا المال أحد من علماء الدين الذين يرجع إليهم, وليس عند هؤلاء إلا اتباع عادة أسلافهم ومشايخهم, يعرف هذا من ناظرهم ومارسهم, ودعواهم عريضة وعجزهم ظاهر.
وقد أطال هذا الصحاف فيما نقله عن شيخه حسين الدوسري, وأكثر فيه من النصيحة, ولا باس بالنصائح لمن أراد الحق وتوخاه, ونهى عما يسخطه الرب ولا يرضاه, ولم يلحد في أسمائه ولم يعبد سواه, فهذا هو الصادق في نصحه وقوله الذي أبداه.
ص -52-(59/38)
بخلاف من توهم الأمر على خلاف ما هو عليه, ولبس الحق بالباطل لديه, واعتقد أن المجاهد لإعلاء كلمة الله يشار بالذم إليه, فعمل مثل هذا { كَسَرَاب ٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ }1.
نسأل الله تعالى أن يمن علينا بالهداية إلى صراطه المستقيم, والفوز لديه بجنات النعيم, وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم2.
أملاه3 الفقير إلى الله عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن بن حسن ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى وعفى عنه.
__________
(1) سورة النور، الآيتان:39،و40.
(2) سقطت"وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم"من:"ب"،و"جـ".
(3) من هنا إلى الآخر ليس في"أ"ما نصه:
"غفر الله لكاتبها، ولمؤلفها، ولوالديهما، ولمن نظر فيها، وعمل بها إنه جواد كريم، وافق الفراغ من هذه النسخة المباركة شهر ربيع الآخر، مضاياه إحدى عشر يوم من سنة ثلاثمائة وألف وأحد عشرة في 11 سنة 1311هـ
فيا رب اغفر لمن كاتبه وعم به يا رب من قال آمينا
إن تجد عيبا فسدّ الخلل جل من لا عيب فيه وعلى"
وكتب في هامشها ما نصه:"بلغ مقابلة وتصحيح على الأصل بحسب الطاقة والإمكان".=
ص -53-(59/39)
__________
= وجاء في خاتمة النسخة"ب" ما نصه:
"وقع الفراغ من نسخة منها نهار الثلاثاء من ربيع الآخر وذلك في سنة1338 بقلم الفقير إلى الله عز شأنه صالح بن سليمان بن سمحان غفر الله له، ولوالديه وللمسلمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا آمين".
قال أبو عبد اله: وكان الفراغ من تحقيق هذه الرسالة المباركة في اليوم الرابع من شهر رمضان المبارك من عام أربعة عشر وأربعمائة وألف من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم.
وكتبه/ أبو عبد الله عبد العزيز بن عبد الله بن إبراهيم الزير آل حمد
ص -54-(59/40)