وكذلك السجود للقبر والتمسح به وتقبيله.
المرتبة الثانية: 1يسأل الله عز وجل به، وهذا يفعله كثير من المتأخرين، وهو بدعة باتفاق المسلمين.
الثالثة: أن يسأله نفسه.
الرابعة: أن يظن أن الدعاء عند قبره مستجاب، أو أنه أفضل من الدعاء في المسجد، فيقصد زيارته، والصلاة عنده لأجل طلب حوائجه، فهذا أيضا من المنكرات المبتدعة باتفاق المسلمين، وهي محرمة، وما علمت في ذلك نزاعا بين أئمة الدين، وإن كان كثير من المتأخرين يفعل ذلك، ويقول بعضهم: قبر فلان ترياق مجرب، والحكاية المنقولة عن الشافعي أنه كان يقصد الدعاء عند قبر أبي حنيفة من الكذب الظاهر، انتهى من إغاثة اللهفان.
__________
1 في ط الرياض "ألا" وما أثبته من الأصل، ومن الإغاثة ص114.
ص -294-
فصل
قال الملحد: "وقد روى الترمذي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة، ويد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار".
والجواب أن يقال: هذا الحديث رواه الترمذي في أبواب الفتن من حديث ابن عمر، ولفظه هكذا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله لا يجمع أمتي ـ أو قال أمة محمد ـ على ضلالة، ويد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار" هذا الحديث غريب من هذا الوجه، وسليمان المديني هو عندي سليمان بن سفيان.
قلت هذا حديث ضعيف ففي سنده سليمان بن سفيان، قال الذهبي في الميزان: سليمان بن سفيان أبو سفيان المدني عن عبد الله بن دينار وبلال بن يحيى قال ابن معين: ليس بشيء وقال مرة: ليس بثقة. وكذا قال النسائي وقال أبو حاتم والدارقطني: ضعيف انتهى.
ص -295-(42/83)
والمقصود بالأمة أمة الإجابة لا أمة الدعوة، وأمته المستجيبون لدعوته، المتبعون لأمره، المنتهون عما نهى عنه، الآخذون بسنته وهديه هم الأمة الناجون المنصورون إلى قيام الساعة، الذين لا يضرهم من خالفهم، ولا من خذلهم، بخلاف عباد القبور المتخذين الأولياء والصالحين شركاء في خالص حقه سبحانه، يستغيثون بهم في الشدائد، ويلجؤون إليهم، ويذبحون لهم، وينذرون لهم، ويستعينون بهم، في قضاء الحوائج، ويطلبون منهم ما لا يقدر عليه إلا الله، ويدعونهم، ويرغبون إليهم في الطلبات، ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، فهؤلاء ليسوا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين استجابوا لله ورسوله، بل هؤلاء مجتمعون على خلاف الكتاب والسنة، مخالفون لما عليه الأمة من أهل السنة والجماعة، مجمعون على الضلالة، نعوذ بالله من موجبات غضبه، وأليم عقابه.
وأما قول الملحد: "وفي سنن ابن ماجة عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ابغوا السواد الأعظم، فإنه من شذ شذ في النار".
فالجواب أن يقال: إن السواد الأعظم والجماعة هم من كانوا على مثل ما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله صلى الله عليه وسلم: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث
ص -296-(42/84)
وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة قالوا: يا رسول الله ومن هي؟ قال: "من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي".
فمن كان على مثل ما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم السواد الأعظم، وهم الجماعة وإن كانوا قليلا، يدل عليهم حديث عبد الله بن عمر وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل" وفيه قالوا:من هي يا رسول الله؟ قال ما أنا عليه اليوم وأصحابي، رواه الترمذي، وقال هذا حديث حسن غريب مفسر.
وفي رواية عوف بن مالك قيل: يا رسول الله من هم؟ قال: الجماعة.
وفي رواية أنس بن مالك "كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة" رواها ابن ماجة والأحاديث بعضها يفسر بعضا، فعلم أن السواد الأعظم هو الجماعة، وهي جماعة الصحابة، ولعله بهذا المعنى.
قال إسحاق بن راهويه حين سئل عن معنى حديث "عليكم بالسواد الأعظم" هو محمد بن أسلم وأتباعه، فأطلق على محمد بن أسلم وأتباعه لفظ السواد الأعظم، تشبيها لهم بالصحابة في شدة ملازمة السنة والتمسك بها. ولذا كان سيفان الثوري يقول: المراد بالسواد الأعظم هم من كان من أهل السنة والجماعة ولو واحدا. كذا في "الميزان" للشعراني.
ص -297-(42/85)
قال ملا سعد الرومي في مجالس الأبرار: فلا بد لك أن تكون شديد التوقي من محدثات الأمور، وإن اتفق الجمهور فلا يغرنك اتفاقهم على ما أحدث بعد الصحابة، بل ينبغي لك أن تكون حريصا على التفتيش على أحوالهم وأعمالهم، فإن أعلم الناس وأقربهم إلى الله تعالى أشبههم بهم، وأعرفهم بطريقهم، إذ منهم أخذ الدين، وهم أصول في نقل الشريعة عن صاحب الشرع، وقد جاء في الحديث "إذا اختلف الناس فعليكم بالسواد الأعظم" والمراد به لزوم الحق واتباعه وإن كان المتمسك به قليلا، والمخالف له كثير، إلا أن الحق ما كان عليه الجماعة الأولى وهم الصحابة، ولا عبرة بالنظر إلى كثرة الباطل بعدهم، وقد قال الفضيل بن عياض ما معناه: الزم طريق الهدى، ولا يغرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة، ولا تغتر بكثرة الهالكين.
وقال بعض السلف: إذا وافقت الشريعة، ولاحضت الحقيقة فلا تبال وإن خالفت رأيك جميع الخليقة.
وقال الحافظ ابن القيم رحمه الله تعالى في "إغاثة اللهفان": فالبصير الصادق لا يستوحش من قلة الرفيق، ولا من فقده إذا استشعر قلبه مرافقة الرعيل الأول الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والصالحين والشهداء وحسن أولئك رفيقا، منفرد العبد في طريق طلبه دليل على صدق طلبه.
ص -298-(42/86)
ولقد سئل إسحاق بن راهويه عن مسألة، فأجاب عنها، فقيل له: إن أخاك أحمد بن حنبل يقول فيها بمثل قولك، فقال: ما ظننت أن أحدا يوافقني عليها، ولم يستوحش بعد ظهور النور له من عدم الموافق، فإن الحق إذا لاح وتبين لم يحتج إلى شاهد يشهد به، والقلب يبصر الحق كما تبصر العين الشمس، فكيف يحتاج إلى شاهد يشهد بطلوعها ويوافقه عليه.
وما أحسن ما قال أبو شامة عبد الرحمن بن إسماعيل في كتاب "الحوادث والبدع" حيث جاء الأمر بلزوم الجماعة فالمراد لزوم الحق وأتباعه، وإن كان المتمسك به قليلا، والمخالف له كثيرا، لأن الحق هو الذي كانت عليه الجماعة الأولى من عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولا ينظر إلى كثرة أهل الباطل بعدهم.
قال عمر بن ميمون الأزدي، صحبت معاذا باليمن فما فارقته حتى واريته في التراب بالشام، ثم صحبت بعده أفقه الناس عبد الله بن مسعود فسمعته يقول: عليكم بالجماعة، فإن يد الله على الجماعة، ثم سمعته يوما من الأيام وهو يقول: سيلي عليكم ولاة يؤخرون الصلاة عن مواقيتها، فصلوا الصلاة لميقاتها، فهي الفريضة، وصلوا معهم فإنها لكم نافلة، فقلت: يا أصحاب محمد ما أدري ما تحدّثونا! قال: وما ذاك؟ قلت: تأمرني بالجماعة، وتحضني عليها، ثم تقول: صل
ص -299-(42/87)
الصلاة وحدك، وهي الفريضة، وصل مع الجماعة وهي النافلة؟ قال: يا عمرو بن ميمون قد كنت أظنك من أفقه أهل هذه القرية، تدري ما الجماعة؟ قلت: قال إن جمهور الناس الذين فارقوا الجماعة، الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك.
قال نعيم بن حماد يعني إذا فسدت الجماعة فعليك بما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد وإن كنت وحدك فإنك أنت الجماعة حينئذ.
وعن الحسن قال: السنة والذي لا إله إلا هو بين الغالي والجافي، فاصبروا عليها رحمكم الله، فإن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما بقي الذين لم يذهبوا مع أهل الإتراف في أترافهم، ولا مع أهل البدع في بدعهم، وصبروا على سنتهم حتى لقوا ربهم، فكذلك إن شاء الله تعالى فكونوا.
وكان محمد بن أسلم الطوسي الإمام المتفق على إمامته من أتبع الناس للسنة في زمانه حتى قال: ما بلغتني سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عملت بها، ولقد حرصت على أن أطوف بالبيت راكبا فما مكنت من ذلك، وسأل بعض أهل العلم في زمانه عن السواد الأعظم الذين جاء فيهم الحديث: "إذا اختلف الناس فعليكم بالسواد الأعظم". من السواد الأعظم؟ قال محمد بن أسلم الطوسي: هو السواد الأعظم انتهى.
وليعلم هنا أن محل وجوب السواد الأعظم الذي أريد منه
ص -300-(42/88)
الصواعق المرسلة الشهابية على الشبه الداحضة الشامية - سليمان بن سحمان (4)
جماعة الصحابة هو ما اختلف فيه الصحابة فذهب عمامتهم وأكثرهم إلى أمر، والبعض الآخر إلى خلافه، بدليل لفظ الاختلاف، فإذا اختلفوا فالصحيح أن الحق مع من كان الخلفاء الأربعة فيهم، فإن اختلفوا وكان أبو بكر وعمر مع طائفة فالحق معهم، وكذلك إذا كان أحد الخلفاء في طائفة ولم يكن أبو بكر وعمر معهم فمن كان عثمان أو علي معه فهم أولى من غيرهم.
وأما ما أجمع عليه الصحابة فوجوب اتباعهم يعلم بفحوى الخطاب، وأما ما اختلفوا فيه ولا يعلم كثرتهم في جانب فالحديث لا يدل على وجوب اتباعهم فيه، وهذا كله فيما إذا لم يعارضه آية أو حديث مرفوع صحيح أو حسن لم يثبت نسخهما، وأما إذا عارضته آية أو حديث فالحجة الكتاب والسنة، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل، وماذا بعد الحق إلا الضلال.
والمقصود أن السواد الأعظم من هذه الأمة من كانوا على مثل ما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل ما ينتحلونه ويفعلونه ويقولونه، وقد علمت أنهم رضي الله عنهم ما كان أحد منهم يستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، ولا يدعونه، ولا يلجؤون إليه فما ينوبهم، ولا كان أحد منهم يأتي إلى قبره عليه الصلاة والسلام فيتوسل به، ويدعو هناك، أو يستغيث به، وقد كان أعلم الناس بمثل هذه الأمور مالك إمام دار الهجرة، فإنه
ص -301-(43/1)
مقيم بالمدينة يرى ما يفعله التابعون وتابعوهم، ويسمع ما ينقلون عن الصحابة وأكابر التابعين، وهو ينهى عن الوقوف عند القبر للدعاء، ويذكر أنه لم يفعله السلف.
والمقصود أن ما نقله هذا الملحد من جواز التوسل بالأنبياء والأولياء والصالحين من الأحاديث أنه إما كذب موضوع، وإما ضعيف لا يقوم به حجة ولا تثبت به الأحكام الشرعية، وكذلك ما نقله عن العلماء فهو من هذا النمط، فما سلكه هذا الملحد مخالف لما كان عليه السلف الصالح والصدر الأول، واتبع سبيل من خالفهم ممن ابتدع في الدين، واتبع غير سبيل المؤمنين، وهؤلاء الأكثرون كما قال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الأنعام116]
وقال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف103]وقال تعالى: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ}[الأعراف102] فهؤلاء وإن كانوا هم الأكثرين فليسوا بالسواد الأعظم، والجماعة المذكورين في الأحاديث النبوية، بل السواد الأعظم والجماعة من كان على مثل ما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كالتابعين رضي الله عنهم، والأئمة المهتدين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وإن كانوا قليلا كما تقدم بيانه مفصلا موضحا والله سبحانه وتعالى أعلم.
ص -302-(43/2)
فصل
ولنختم الجواب بالفرق بين توحيد الربوبية وتوحيد الإلهية، ليعلم الناظر في هذه الأوراق أن هؤلاء الغلاة الجهال ما عرفوا من معنى "لا إله إلا الله" ما عرفه جهال الكفار الذين بعث الله فيهم رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فإن هؤلاء الغلاة يزعمون أن من قال: لا إله إلا الله، وأقر أن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت النافع الضار المدبر لجميع الأمور، أنهم لا يقصدون ممن يدعونه ويستغيثون به ويلجأون إليه من الأنبياء والأولياء والصالحين بذلك تأثير شيء منهم بإيجاد نفع أو دفع ضر، ولا يعتقدون ذلك البتة، بل يعتقدون أن الله هو المنفرد بالإيجاد والإعدام والنفع والضر، وأنه لا مشارك له في ذلك، وهذا هو اعتقاد جهال الكفار الذين بعث الله إليهم رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم، فإنهم كانوا يدعون الأنبياء والملائكة والأولياء والصالحين، ويلتجئون إليهم، ويسألونهم على وجه التوسل بجاههم وشفاعتهم ليقربوهم إلى الله زلفى، كما حكى الله ذلك عنهم في مواضع من كتابه كما سنبينه إن شاء الله تعالى.
ص -303-(43/3)
إذا عرفت ما قدمت لك فاعلم أن التوحيد نوعان: توحيد في المعرفة والإثبات، وهو توحيد الربوبية والأسماء والصفات، وتوحيد في الطلب والقصد، وهو توحيد الإلهية والعبادة كما قال شمس الدين ابن القيم رحمه الله تعالى:
وأما التوحيد الذي دعت إليه الرسل وأنزلت به الكتب فهو نوعان: توحيد في المعرفة والإثبات، وتوحيد في الطلب والقصد، فالأول هو إثبات حقيقة ذات الرب تعالى، وصفاته، وأفعاله، وأسمائه، وتكلمه بكتبه، وتكليمه لمن شاء من عباده، وإثبات عموم قضائه وقدره وحكمته، وقد أفصح القرآن عن هذا النوع حق الإفصاح كما قال في أول الحديد، وسورة طه، وآخر الحشر، وأول تنزيل السجدة، وأول آل عمران، وسورة الإخلاص بكمالها وغير ذلك. انتهى كلامه رحمه الله.
فإذا عرفت هذا تبين لك أن توحيد الربوبية هو توحيد العبد ربه سبحانه وتعالى بأفعاله الصادرة منه، كالخلق والرزق والإحياء والإماتة وإنزال المطر وإنبات النبات والنفع والضر وتدبير جميع الأمور إلى غير ذلك من أفعال الرب سبحانه وتعالى، وهذا هو اعتقاد جاهلية العرب فإنهم كانوا مقرين ومعترفين أن الله هو الفاعل لهذا الأشياء، وأنه لا مشارك له في إيجاد شيء وإعدامه، وأن النفع والضر بيده، وأنه هو رب كل شيء ومليكه، كما كانوا يقولون في تلبيتهم: "لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك إلا شريك هو لك تملك وما ملك"، ولا
ص -304-(43/4)
يعتقدون أن آلهتهم التي يدعونها من دون الله من الأنبياء والأولياء الصالحين والملائكة شاركوا الله في خلق السموات والأرض، أو استقلوا بشيء من التدبير والتأثير والإيجاد، ولو في خلق ذرة من الذرات، كما حكى الله ذلك عنهم في مواضع من كتابه قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ}[يونس31] {قُلْ لِمَنْ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّا تُسْحَرُونَ}[المؤمنون:84ـ89] وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِي اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ}[الزمر:38] وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} الآية [يونس18] وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر3] وقال تعالى: {فَلَوْلَا نَصَرَهُمْ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ(43/5)
قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}[الأحقاف28] وقال تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا
ص -305-
تَذَكَّرُونَ}[النحل17] وقال تعالى: {أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} [الأنبياء43] وقال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الفرقان3] الآية، وحكي عن أهل النار أنهم يقولون لآلهتهم التي عبدوها مع الله {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء97] ومعلوم أنهم ما سووهم به في الخلق والتدبير والتأثير، وإنما كانت التسوية في الحب والخضوع والتعظيم والدعاء ونحو ذلك من العبادات.
فإذا عرفت أن إقرارهم بتوحيد الربوبية لم يدخلهم في الإسلام، وأن قصدهم الملائكة والأنبياء والأولياء يريدون شفاعتهم والتقرب إلى الله بهم هو الذي أحل دماءهم وأموالهم، عرفت أن التوحيد الذي دعت إليه الرسل، وأبى عن الإقرار به المشركون هو توحيد الألوهية والعبادة كما قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات35] وقال تعالى عن كفار قريش: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص5]وهذه الآية نزلت حين اجتمعت سراة قريش عند أبي طالب قائلين: اقض بيننا وبين ابن أخيك بأن يرفض ذكر آلهتنا ونذره وإلهه، فأجاب عليه الصلاة والسلام بعد ما جاء وأخبره عمه عنهم: يا عم أفلا
ص -306-(43/6)
أدعوهم إلى كلمة واحدة يدين لهم بها العرب ويملكون بها العجم؟ فقال من بين القوم أبو جهل: ما هي؟ لنعطينكها وعشر أمثالها، فقال: قولوا: "لا إله إلا الله" فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم وذلك قوله: {وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنْ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} [ص6] فإذا تمهد هذا واتضح لك، علمت أنه لا ينجي من الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله إلا القيام بما دعت إليه الرسل، وأنزلت به الكتب من هذا النوع الآتي بيانه، وهو توحيد الله تعالى بأفعال العبد الصادرة منه؛ لأن الإله هو الذي تألهه القلوب محبة وإجلالا وتعظيما وخوفا ورجاء، وخضوعا وخشوعا وإنابة وتوكلا واستعانة واستغاثة ودعاء، فهو الذي يألهه كل شيء، ويعبده كل خلق.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: النوع الثاني: ما تضمنته سورة {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون 1] وقوله تعالى {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} [آل عمران63] الآية، وأول سورة تنزيل الكتاب وآخرها، وأول سورة المؤمن ووسطها وآخرها، وأول سورة الأعراف وآخرها، وجملة سورة الأنعام، وغالب سور القرآن، بل كل سورة في القرآن فهي متضمنة لنوعي التوحيد، شاهدة به، داعية إليه، فإن القرآن إما
ص -307-(43/7)
خبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله وأقواله فهو التوحيد العلمي الخبري، وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له وخلع ما يعبد من دونه فهو التوحيد الإرادي الطلبي، وإما أمر ونهي وإلزام بطاعته وأمره ونهيه فهو حقوق التوحيد ومكملاته، وإما خبر عن أهل الشرك وما فعل بهم في الدنيا من النكال وما يحل بهم في العقبى من العذاب فهو جزاء من خرج عن حكم التوحيد، فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزائه، وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم، انتهى.
فإذا عرفت أن توحيد الربوبية هو الإقرار والإعتراف بأن الله تعالى هو الخالق الرازق المحيي المميت النافع الضار المدبر لجميع الأمور، وعرفت أن جهال الكفار الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مقرون بهذا معترفون به، ولم ينازع أحد منهم في ذلك، بل يعتقدون أن الله هو الفاعل لهذه الأشياء، وأنه لا ينفع ولا يضر إلا الله، وأنه المنفرد بالإيجاد والإعدام والتدبير والتأثير، وأنه لا مشارك له ولو في خلق ذرة من الذرات، ولم يدخلهم ذلك في الإسلام، بل قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يكون الدين كله لله، بأن يخلصوا العبادة ولا يشركوا معه في عبادته أحد سواه، فإن من دعا الله ودعا معه غيره فهو مشرك، فالدعاء والخوف والحب والرجاء والتوكل والإنابة والخشوع والخضوع والاستغاثة والاستعانة والذبح والنذر والإلتجاء وغير ذلك من أنواع العبادة التي اختص الله بها دون من سواه هي له سبحانه وتعالى، فمن صرف من هذه
ص -308-(43/8)
العبادة شيئا لغير الله كان مشركا سواء اعتقد التأثير ممن يدعوه ويرجوه أو لم يعتقد ذلك فيه.
قال شيخ الإسلام قدس الله روحه: التوحيد الذي جاء به الرسول إنما يتضمن إثبات الإلهية لله وحده بأن يشهد ألا إله إلا الله لا يعبد إلا إياه، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يوالى إلا الله، ولا يعادي إلا فيه، ولا يعمل إلا لأجله، وذلك يتضمن إثبات ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات قال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَانُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 163] وقال تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [النحل:51] وقال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون117] وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَانِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف:45] وأخبر عن كل نبي من الأنبياء أنهم دعوا الناس إلى عبادة الله وحده لا شريك له. وقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة4] وقال تعالى عن المشركين: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصفات35] وهذا في القرآن كثير.
ص -309-(43/9)
وليس المراد بالتوحيد مجرد توحيد الربوبية، وهو اعتقاد أن الله وحده خلق العالم، كما يظن ذلك من يظنه من أهل الكلام والتصوف، ويظن هؤلاء أنهم إذا أثبتوا ذلك بالدليل فقد أثبتوا غاية التوحيد، وأنهم إذا شهدوا هذا وقفوا في غاية التوحيد، فإن الرجل لو أقر بما يستحقه الرب من الصفات، ونزهه عن كل ما ينزه عنه، وأقر بأنه وحده خالق كل شيء لم يكن موحدا حتى يشهد أن لا إله إلا الله، فيقر بأن الله وحده هو الإله المستحق للعبادة، ويلتزم بعبادة الله وحده لا شريك له، وأنه هو المألوه المعبود الذي يستحق العبادة، وليس هو الإله بمعنى القادر على الإختراع، فإذا فسر المفسر الإله بمعنى القادر على الإختراع، واعتقد أن هذا المعنى هو أخص وصف الإله، وجعل إثبات هذا هو الغاية في التوحيد، كما يفعل ذلك من يفعله من متكملة الصفاتية، وهو الذي يقولونه، عن أبي الحسن وأبتاعه، لم يعرفوا حقيقة التوحيد الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن مشركي العرب كانوا مقرين بأن الله وحده خالق كل شيء، وكانوا مع هذا مشركين قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106]قال طائفة من السلف: تسألهم من خلق السموات والأرض؟ فيقولون: الله. وهم مع هذا يعبدون غيره، قال تعالى: {قُلْ لِمَنْ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} إلى قوله {فَأَنَّا تُسْحَرُونَ} [المؤمنون84-85].
ص -310-(43/10)
فليس كل من أقر بأن الله تعالى رب كل شيء وخالقه يكون عابدا له دون ما سواه، راجيا له خائفا منه دون ما سواه، يوالي فيه، ويعادي فيه، ويسمع رسله، ويأمر بما أمر به، وينهى عما نهى عنه، وعامة المشركين أقروا بأن الله خالق كل شيء، وأثبتوا الشفعاء الذين يشركونهم به، وجعلوا له أندادا قال تعالى: {أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الزمر: 43] وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} إلى قوله سبحانه وتعالى: {عما يشركون} [يونس: 18] وقال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمْ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام94] وقال تعالى: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة: 165] ولهذا كان من أتباع هؤلاء من يسجد للشمس والقمر والكواكب ويدعونها، ويصوم وينسك لها، ويتقرب إليها ثم يقول: إن هذا ليس بشرك، إنما الشرك إذا اعتقد أنها المدبرة، فإذا جعلتها سببا وواسطةلم أكن مشركا، ومن المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن هذا شرك، انتهى كلامه.
ص -311-(43/11)
وقال أيضا على قوله تعالى: {قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} [سبأ22] الآيات، نفى الله عما سواه كلما يتعلق به المشركون، فنفى أن يكون لغيره ملك أو قسط منه، أو يكون عونا لله، فلم يبق إلا الشفاعة، فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب، كما قال تعالى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنْ ارْتَضَى} [الأنبياء:28] فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة، كما نفاها القرآن، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده لا يبدأ بالشفاعة أولا، ثم يقال: ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعط، واشفع تشفع. وقال له أبو هريرة: من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: "من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه" فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله، ولا تكون لمن أشرك بالله، وحقيقته أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع ليكرمه، وينال المقام المحمود، فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك، ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص. انتهى.
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في الكلام على هذه الآيات: وقد قطع الله الأسباب التي يتعلق بها المشركون جميعها، فالمشرك إنما يتخذ معبوده لما يحصل له من النفع،
ص -312-(43/12)
والنفع لا يكون إلا ممن فيه خصلة من هذه الأربع إما مالكا لما يريده عابده منه، فإن لم يكن شريكا للمالك كان معينا له وظهيرا، فإن لم يكن معينا ولا ظهيرا كان شفيعا عنده، فنفى سبحانه المراتب الأربع نفيا مرتبا متنقلا من الأعلى إلى الأدنى، فنفى الملك، والشركة، والمظاهرة، والشفاعة التي يطلبها المشرك، وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك، وهي الشفاعة بإذنه، فكفى بهذه الآية نورا وبرهانا وتجريدا للتوحيد، وقطعا لأصول الشرك وموارده لمن عقلها، والقرآن مملوء من أمثالها ونظائرها، ولكن أكثر الناس لا يشعرون بدخول الواقع تحته وتضمنه له، ويظنه في نوع وقوم قد خلوا من قبل ولم يعقبوا وارثا، وهذا هو الذي حال بين القلب وبين فهم القرآن، ولعمر الله إن كان أولئك قد خلوا فقد ورثهم من هو مثلهم أو شر منهم أو دونهم، فتناول القرآن لهم كتناوله لأولئك، انتهى كلامه رحمه الله.
فإذا تبين لك الفرق بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية عرفت أن مشركي أهل زماننا لا يعرفون ما عرفه كفار العرب، فإن كفار العرب يعلمون أنهم إذا قالوا: لا إله إلا الله، فقد نفوا جميع المعبودات من دون الله، وأثبتوا العبادة لله وحده لا شريك له دون سواه، فأبوا عن النطق بلا إله إلا الله، وعتوا عتوا كبيرا، وأبى الظالمون إلا كفورا، فجحدوا لا إله إلا الله
ص -313-(43/13)
لفظا ومعنى ولذلك لما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قولوا لا إله إلا الله" قالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}[ص5] وقال تعالى حاكيا عنهم {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات35] وهذا بخلاف ما عليه هؤلاء الغلاة الجهال فإنهم يقولونها وهم مع ذلك يعبدون مع الله غيره ممن يشركونه في عبادته بالدعاء الخوف والحب والرجاء والتوكل و الاستغاثة والاستعانة والذبح والنذر والالتجاء وطلب الشفاعة منهم إلى غير ذلك من أنواع العبادة، فمن صرف لغير الله شيئا من أنواع العبادة فقد عبد ذلك الغير، واتخذه إلها، وأشركه مع الله في خالص حقه، سواء اعتقد التأثير والتدبير والإيجاد والإعدام والنفع والضرر ممن يدعوه أو يرجوه، أو لم يعتقد، وإن فر من تسمية فعلة ذلك تألها وعبادة وشركا.
ومن المعلوم بالضرورة من دين الإسلام أن حقائق الأشياء لا تتغير بتغير أسمائها فلا تزول هذه المفاسد بتغير أسمائها كتسمية عباد القبور عبادة غير الله توسلا وتشفعا وتعظيما للصالحين وتوقيرا، فالاعتبار بحقائق الأمور لا بالأسماء والإصطلاحات، والحكم يدور مع الحقيقة لا مع الأسماء، فإذا تحققت ما قدمت لك فلا بد من ذكر شيء يسير من كلام العلماء في معنى لا إله إلا الله.
ص -314-(43/14)
قال الوزير أبو المظفر في "الإفصاح" قوله: شهادة أن لا إله إلا الله، يقتضي أن يكون الشاهد عالما بأن لا إله إلا الله، كما قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: آية19] قال واسم الله مرتفع بعد إلا من حيث إنه الواجب له الإلهية، فلا يستحقها غيره سبحانه. قال: وجملة الفائدة في ذلك أن تعلم أن هذه الكلمة مشتملة على الكفر بالطاغوت، والإيمان بالله، فإنك لما نفيت الآلهية، وأثبت الإيجاب لله سبحانه كنت ممن كفر بالطاغوت، وآمن بالله.
وقال في "البدائع" ردا لقول من قال: إن المستثنى مخرج من النفي، قال: بل هو مخرج من المنفي وحكمه، فلا يكون داخلا في النفي إذ لو كان كذلك لم يدخل الرجل في الإسلام بقول: لا إله إلا الله، لأنه لم يثبت الإلهية لله تعالى، وهذه أعظم كلمة تضمنت نفي الإلهة عما سوى الله، وإثباتها له تعالى بوصف الإختصاص، فدلالتها على إثبات إلهيته أعظم من دلالة قولنا: الله إله، ولا يستريب أحد في هذه البتة انتهى بمعناه.
وقال أبو عبد الله القرطبي في تفسيره "لا إله إلا الله" أي لا معبود إلا هو.
وقال الزمخشري: الإله من أسماء الأجناس كالرجل والفرس يقع على كل معبود بحق أو باطل، ثم غلب على المعبود بحق.
ص -315-(43/15)
قال شيخ الإسلام: الإله هو المعبود المطاع، فإن الإله هو المألوه، والمألوه هو الذي يستحق أن يعبد، وكونه يستحق أن يعبد هو بما اتصف به من الصفات التي تستلزم أن يكون هو المحبوب غاية الحب، المخضوع له غاية الخضوع، قال: فإن الإله هو المحبوب المعبود الذي تألهه القلوب بحبها، وتخضع له، وتذل له، وتخافه، وترجوه، وتلجأ إليه، وتطمئن بذكره، وتسكن إلى حبه، وليس إلا الله وحده، ولهذا كانت لا إله إلا الله أصدق الكلام، وكان أهلها أهل الله وحزبه، والمنكرون لها أعداؤه وأهل غضبه ونقمته، فإذا صحت صح بها كل مسألة وحال وذوق، وإذا لم يصححها العبد فالفساد لازم له في علومه وأعماله.
وقال ابن القيم رحمه الله: الإله الذي تألهه القلوب محبة وإجلالا وإنابة وإكراما وتعظيما وذلا وخضوعا وخوفا ورجاء وتوكلا.
وقال ابن رجب رحمه الله: الإله هو الذي يطاع فلا يعصى هيبة له وإجلالا ومحبة وخوفا ورجاء وتوكلا عليه، وسواء لأمنه، ودعاء له، ولا يصلح ذلك كله إلا الله عز وجل فمن أشرك مخلوقا في شيء من هذه الأمور التي هي من خصائص الإلهية كان ذلك قدحا في إخلاصه في قول "لا إله إلا الله" وكان فيه من عبودية المخلوق بحسب ما فيه من ذلك.
وقال البقاعي: لا إله إلا الله أي انتفاء عظيما أن يكون
ص -316-(43/16)
معبودا بحق غير الملك الأعظم، فإن هذا العلم هو أعظم الذكرى المنجية من أهوال الساعة، وإنما يكون علما إذا كان نافعا، وإنما يكون نافعا إذا كان مع الإذعان والعمل بما تقتضيه، وإلا فهو جهل صرف.
وقال الطيبي: الإله فعال بمعنى مفعول، كالكتاب بمعنى المكتوب من أله إلهة أي عبد عبادة.
قال الشيخ سليمان بن عبد الله رحمه الله: وهذا كثير في كلام العلماء، وإجماع منهم، فدلت لا إله إلا الله على نفي الإلهية عن كل ما سوى الله تعالى كائنا من كان، وإثبات الإلهية لله وحده دون كل ما سواه، وهذا هو التوحيد الذي دعت إليه الرسل، ودل عليه القرآن من أوله إلى آخره كما قال تعالى عن الجن {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} [الجن1] فلا إله إلا الله لا تنفع إلا من عرف مدلولها نفيا وإثباتا، واعتقد ذلك وقبله وعمل به، وأما من قالها من غير علم واعتقاد وعمل فقد تقدم في كلام العلماء أن هذا جهل صرف، فهي حجة عليه بلا ريب، فقوله في الحديث "وحده لا شريك له" تأكيد وبيان لمضمون معناها، وقد أوضح الله ذلك وبينه في قصص الأنبياء والمرسلين في كتابه المبين، فما أجهل عباد القبور بحالهم، وما أعظم ما وقعوا فيه من الشرك المنافي لكلمة الإخلاص "لا إله إلا الله" فإن مشركي
ص -317-(43/17)
العرب ونحوهم جحدوا لا إله إلا الله لفظا ومعنى، وهؤلاء المشركون أقروا بها لفظا وجحدوها معنى، فتجد أحدهم يقولها لفظا وهو يأله غير الله بأنواع العبادة، كالحب والتعظيم والخوف والرجاء والتوكل وغير ذلك من أنواع العبادة، بل زاد شركهم على شرك العرب بمراتب، فإن أحدهم إذا وقع في شدة أخلص الدعاء لغير الله تعالى، ويعتقد أنه أسرع فرجا لهم من الله، بخلاف حال المشركين الأولين فإنهم يشركون في الرخاء، وأما في الشدة فإنما يخلصون لله وحده كما قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت65] الآية فبهذا تبين أن مشركي أهل هذه الأزمان أجهل بالله وبتوحيده من مشركي العرب ومن قبلهم. انتهى.
وقال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن المعروف بأبي بطين في معنى الإله قال: وأما لإله فهو الذي تألهه القلوب بالمحبة والخشوع والخوف والرجاء وتوابع ذلك من الرغبة والرهبة والتوكل والاستغاثة والدعاء والذبح والنذور والسجود وجميع أنواع العبادة الظاهرة والباطنة، فهو إله بمعنى مألوه أي معبود، وأجمع أهل اللغة أن هذا معنى الإله قال الجوهري: أله بفتح إلهة أي عبد عبادة، قال ومنه قولنا "الله" وأصله لاه على فعال بمعنى مفعول، لأنه مألوه بمعنى معبود، كقولنا "إمام" فعال بمعنى مفعول، لأنه مؤتم به، قال والتأليه:
ص -318-(43/18)
التعبد، والتأله: التنسك والتعبد، قال رؤبة سجن واسترجعن من تأله. انتهى.
وقال في "القاموس" أله إلهة وألوهة عبد عبادة، ومنه لفظ الجلالة، واختلف فيه على عشرين قولا ـ يعني لفظ الجلالة ـ قال: وأصله إلاه بمعنى مألوه، وكلما اتخذ معبودا له عند متخذه قال: والتأله والتنسك والتعبد، انتهى.
وجميع العلماء من المفسرين وشراح الحديث والفقه وغيرهم يفسرون الإله بأنه المعبود، وإنما غلط في ذلك بعض أئمة المتكلمين فظن أن الإله هو القادر على الإختراع، وهذه ذلة عظيمة، وغلط فاحش، إذا تصوره العامي العاقل تبين له بطلانه، وكأن هذا القائل لم يستحضر ما حكاه الله عن المشركين في مواضع من كتابة، ولم يعلم أن مشركي العرب وغيرهم يقرون بأن الله هو القادر على الإختراع، وهم مع ذلك مشركون، ومن أبعد الأشياء أن عاقلا يمتنع من التلفظ بكلمة يقر بمعناها، ويعترف به ليلا ونهارا وإسرارا وجهارا، هذا ما لا يفعله من له أدنى مسكة من عقل.
قال أبو العباس رحمه الله تعالى: وليس المراد بالإله هو القادر على الإختراع، كما ظنه من ظنه من أئمة المتكلمين حيث ظن أن الألوهية هي القدرة على الإختراع، وأن من أقر بأن الله هو القادر على الإختراع دون غيره فقد شهد أن لا إله إلا الله، فإن المشركين كانوا يقرون بهذا التوحيد، كما قال
ص -319-(43/19)
تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ}وقال تعالى: {قُلْ لِمَنْ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [المؤمنون:84ـ85] الآيات، وقال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف106] الآيات، وقال ابن عباس: تسألهم من خلق السموات والأرض؟ فيقولون: الله، وهم مع هذا يعبدون غيره. وهذا التوحيد من التوحيد الواجب لكن لا يحصل به الواجب، ولا يخلص بمجرده عن الإشراك الذي هو أكبر الكبائر الذي لا يغفره الله، بل لا بد أن يخلص لله الدين فلا يعبد إلا إياه فيكون دينه الله، والإله هو المألوه الذي تألهه القلوب فهو إله بمعنى مألوه لا بمعنى إله انتهى.
وقد دل صريح القرآن على معنى الإله وأنه هو المعبود كما في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِي وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [الزخرف26ـ28] قال المفسرون: هي كلمة التوحيد "لا إله إلا الله" باقية في عقبه أي ذريته. قال قتادة: لا يزال في ذريته من يعبد الله ويوحده، والمعنى جعل هذه الموالاة والبراءة من كل معبود سواه كلمة باقية في ذرية إبراهيم يتوارثها الأنبياء وأتباعهم بعضهم عن بعض، وهي كلمة "لا إله إلا الله" فتبين أن موالاة الله بعبادته، والبراءة من كل معبود سواه هو معنى "لا إله إلا الله"
ص -320-(43/20)
إذا تبين ذلك فمن صرف لغير الله شيئا من أنواع العبادة المتقدم تعريفها، كالحب والتعظيم والخوف والرجاء والدعاء والتوكل والذبح والنذر وغير ذلك فقد عبد ذلك الغير، واتخذه إلها، وأشركه مع الله في خالص حقه، وإن فر من تسمية فعله ذلك: تألها وعبادة وشركاء، ومعلوم عند كل عاقل أن حقائق الأشياء لا تتغير بتغيير أسمائها، فلو سمي الزنا والربا، والخمر بغير أسمائها لم يخرجها تغيير الإسم عن كونها زنا وربا وخمرا ونحو ذلك، فمن المعلوم أن الشرك إنما حرم لقبحه في نفسه، وكونه متضمنا مسبة الرب، وتنقصه، وتشبيهه بالمخلوقين، فلا تزول هذه المفاسد بتغيير أسمائها، كتسميته توسلا وتشفعا للصالحين وتوقيرا لهم ونحو ذلك، فالمشرك مشرك شاء أم أبى، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن طائفة من أمته يستحلون الربا باسم البيع، ويستحلون الخمر باسم آخر غير اسمها، وذمهم على ذلك، فلو كان الحكم دائرا مع الاسم لا مع العلة لم يستحق الذم، وهذا من أعظم مكائد الشيطان لبني آدم قديما وحديثا، أخرج لهم الشرك في قالب تعظيم الصالحين وتوقيرهم، وغيّر اسمه بتسميته إياه توسلا، وتشفعا ونحو ذلك، والله الهادي إلى سواء السبيل. انتهى.
فلا بد في شهادة أن لا إله إلا الله من أن يكون المتكلم بها عارفا لمعناها، عاملا بمقتضاها باطنا وظاهرا، ولا بد من العلم واليقين بمدلوها كما قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا
ص -321-(43/21)
اللَّهُ} [محمد 19] وقوله: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف86]، أما النطق بها من غير معرفة بمعناها، ولا يقين، ولا عمل بما تقتضيه من نفي الشرك وإخلاص القول والعمل قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح فغير نافع بالإجماع.
قال في "المفهم على صحيح مسلم" باب لا يكفي مجرد اللفظ بالشهادتين، بل لا بد من استيقان القلب، هذه الترجمة تنبيه على فساد مذهب غلاة المرجئة القائلين بأن التلفظ بالشهادتين كاف في الإيمان، وأحاديث هذا الباب تدل على فساده، بل هو مذهب معلوم الفساد من الشريعة لمن وقف عليها، ولأنه يلزم من تسويغ النفاق والحكم للمنافق بالإيمان الصحيح، وهو باطل قطعا انتهى.
ومعنى "لا إله إلا الله" أي لا معبود حق إلا الله، وهو في غير موضع من القرآن قال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 163] وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء25] وقال: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [هود50] فأجابوا ردا عليه بقولهم: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [الأعراف70] وقال تعالى:
ص -322-(43/22)
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} [الحج62] الآية.
فتضمن ذلك نفي الإلهية عما سوى الله، وهي العبادة، وإثباتها لله وحده لا شريك له، والقرآن من أوله إلى آخره يبين هذا، ويقرره، ويرشد إليه، فالعبادة بجميع أنواعها إنما تصدر عن تأله القلب بالحب والخضوع والتذلل رغبا ورهبا، وهذا كله لا يستحقه إلا الله تعالى، فمن صرف من ذلك شيئا لغير الله فقد جعله الله ندا، فلا ينفعه مع ذلك قول ولا عمل، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
تم بحمد الله.
ص -323-
قال محققه عفا الله عنه: تم تصحيح هذا الكتاب والتعليق على بعض أحاديثه في اليوم السابع من شهر جمادى الثانية من شهور سنة ثمان وأربعمائة بعد الألف من هجرة المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
عبد السلام آل عبد الكريم.
ص -324-(43/23)
عنوان الكتاب:
بيان كلمة التوحيد والرد على الكشميري عبد المحمود (مطبوع ضمن الرسائل والمسائل النجدية ، الجزء الرابع، القسم الأول)
تأليف:
عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب
الناشر:
دار العاصمة، الرياض، المملكة العربية السعودية
الأولى، بمصر 1349هـ، النشرة الثالثة، 1412هـ
قال الشيخ الإمام شيخ الإسلام عبد الرحمن بن حسن بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمهم الله تعالى-آمين -ورضي عنهم-.
بسم الله الرحمن الر حيم
وبه نستعين
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا مثل ولا معين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله سيد الأولين والآخرين، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، وألف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم، واهدهم سبل السلام، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، وجنبهم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، واجعلهم شاكرين لنعمتك، مثنين بها عليك، فاقبلها منهم وأتمها عليهم. اللهم انصر دينك وكتابك ورسولك وعبادك المؤمنين. اللهم أظهِر دينك دين الهدى، ودين الحق الذي بعثت به نبيك محمدا صلى الله عليه وسلم على الدين كله.
اللهم عذب الكفار والمنافقين الذين يصدون عن سبيلك، ويبدلون دينك، ويعادون عبادك المؤمنين، اللهم خالف بين كلمتهم، وشتت بين قلوبهم، واجعل تدميرهم في تدبيرهم، وأدر عليهم دائرة السوء، اللهم أنزل بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم منَزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وزلهم وانصرنا عليهم، اللهم أعنا ولا تعن علينا، واهدنا ويسر الهدى لنا، وانصرنا على من بغي علينا. اللهم اجعلنا شاكرين
ص -320-(44/1)
ذاكرين مطاويع إليك مخبتين، أواهين منيبين، اللهم تقبل توبتنا واغسل حوبتنا واهد قلوبنا وثبت حجتنا، واسلل سخيمة صدورنا يا رب العالمين.
(أما بعد): فاعلموا معشر الإخوان أن الله تعالى أرسل رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، وعرفهم ما خلقوا له من إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، وترك عبادة ما كانوا يعبدونه من دون الله، والرغبة عن عبادة غيره والبراءة منها والكفر بالطاغوت -وهو الشيطان- وما زينه من عبادة الأوثان.
فدعا قريشا والعرب إلى أن يقولوا لا إله إلا الله لما دلت عليه من بطلان عبادة كل ما يعبد من دون الله، وإخلاص العبادة لله وحده دون كل ما سواه. وهذا هو التوحيد الذي خلق الله الخلق لأجله، وأرسل الرسل لأجله، وأنزل الكتب لأجله.
وهو أساس الإيمان والإسلام ورأسه، وهو الدين الحق الذي لا يقبل الله من عبد دينا سواه. قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}1 أي: يوحدون، وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}2، وهذه الآية تفسر الآية قبلها.
وتبين أن المراد بالعبادة التوحيد، وأن يكون سبحانه وتعالى هو المعبود وحده دون كل ما سواه، والقرآن كله في تقرير هذا التوحيد وبيانه، وبين ذلك قوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ}3.
دعوة الرسل كلهم إخلاص العبادة لله وحده
والرسل عليهم الصلاة والسلام افتتحوا دعوتهم لقومهم بهذا التوحيد {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}4. وقال تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ(44/2)
رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ
__________
1 سورة الذاريات آية: 56.
2 سورة الإسراء آية: 23.
3 سورة يوسف آية: 40.
4 سورة المؤمنون آية: 32.
ص -321-
كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ}1.
وقوله: {فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ}2 يعني قوم نوح وعاد وثمود وأصحاب مدين والمؤتفكات، وهم قوم لوط، وقد قال تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ}3.
وكل رسول يدعو قومه إلى أن يخلعوا عبادة ما كانوا يعبدونه من دون الله ويخلصوا أعمالهم كلها عن الأصنام والأوثان التي اتخذوها وجعلوها أندادا لله بعبادتهم، كما قال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ}4.
وهذا هو معنى لا إله إلا الله لا يشك في هذا مسلم كما قال تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}5، فأجابوه بقولهم: {قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُون َ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ}6.
وهذا هو المنفي في كلمة الإخلاص {أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُون َ مِنْ دُونِهِ}7 كما قال تعالى مخبرا عن جميع رسله أنهم قالوا لقومهم: {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ(44/3)
اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}8.
والإيمان بالله وحده هو البراءة مما كانوا يعبدونه من الأصنام والأوثان وإخلاص العبادة لله وحده؛ لا يرتاب في هذا مسلم، فمن شك في أن هذا هو معنى لا إله إلا الله فليس معه من الإسلام ما يزن حبة خردل.
والقرآن أفصح عن معنى لا إله إلا الله في آيات كثيرة يطول الكتاب بذكرها، ويأتي بعضها إن شاء الله في هذا الجواب، وأنتم معشر المخاطبين بهذا قد تقرر عند من له علم فيكم حتى العامة من أكثر
__________
1 سورة العنكبوت آية:16: 18.
2 سورة العنكبوت آية: 18.
3 سورة النحل آية: 36.
4 سورة يس آية: 74.
5 سورة الأعراف آية: 65.
6 سورة هود آية: 53.
7 سورة هود آية: 54.
8 سورة الممتحنة آية: 4.
ص -322-(44/4)
من مائة وثلاثين سنة أن هذا هو التوحيد الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه، فما بال أناس يرغبون عما عرفوه وعُرفوه من كتاب الله وسنة رسوله إلى طلب العلم ممن لم يعرف هذا التوحيد ولا نشأ في تعلمه ولا عرفه، كما هو ظاهر في كلامه؟ يعرف من له عقل وبصيرة أنه لا يتكلم به إلا من لم يعرف ما بعث الله به المرسلين من توحيد رب العالمين.
وقد علمتم معشر الموحدين ما حال بين كثير من الناس وبين معرفة التوحيد من العوائد الشركية والشبهات الخيالية لما افترقت الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة. فلقد عظمت نعمة الإسلام على من عرفها وقبلها وأحبها وصار مستيقنا بها قلبه، مخلصا صادقا، ورزق الثبات والاستقامة على ذلك، فيا لها من نعمة ما أعظمها وموهبة ما أجملها! نعوذ بالله أن يصدف عنها صادف أو يصرف عنها صارف، ونعوذ بالله من مُضلّات الفتن ما ظهر منها وما بطن.
فاتقوا الله عباد الله وارغبوا فيما كنتم فيه من نعمة الإسلام والإيمان، وجددوا وجدوا واجتهدوا في معرفته على الحقيقة بأدلته وبراهينه التي نصبها عليه رب العالمين في كتابه المبين، وبينها لكم نبيه الصادق المصدوق الأمين، -صلوات الله وسلامه عليه وعلى من اتبعه إلى يوم الدين-.
ورقة في معنى كلمة التوحيد لكاتب مجهول
ثم إنه قد تكلم غريب في معنى لا إله إلا الله لا يعرف ما هو ولا ممن هو؟ وكتب في ذلك ورقة تبين فيها من الجهل والضلال ما سنذكره لكم حذرا وتحذيرا وإعذارا وتعذيرا، والقلوب بين أصابع الرحمن، نسأل الله الثبات على الإسلام والإيمان.
ذكر ما في الورقة: قال: الحمد لله المتوحد بجميع الجهات.
(الجواب) وبالله التوفيق: لا يخفى على من له ذوق وممارسة ومعرفة بمذاهب المبتدعة أن هذا لفظ لا معنى له إلا على قول أهل الحلول من الجهمية ومن تابعهم؛ فإنهم يقولون: إن الله تعالى حالّ في جميع الجهات وفي كل مكان، ويجحدون ما تقرر
ص -323-(44/5)
في القرآن من علو الله على جميع خلقه واستوائه على عرشه {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً}1. وهذا الرجل إنما تكلم بألسنتهم، فهذا محصوله من العلم الذي ادعاه قد ظهر واستبان على صفحات وجهه، وفلتات اللسان.
وأهل السنة ينكرون هذه الألفاظ، ويشيرون إلى ما فيها من دسائس أهل البدع أسوة أمثال هذا من الفلاسفة وأهل الوحدة وغيرهم ممن لم يستضئ بنور العلم، ولم يلجأ إلى ركن وثيق، فلا تنظر إلى منظر الرجل وانظر إلى مخبره.
غلط كثير من الطوائف في مسمى التوحيد
وقد غلط أكثر الفرق الثلاث والسبعين في مسمى التوحيد، وكل فرقة لها توحيد تعتقد أنه هو الصواب حتى الأشاعرة القائلين بأن معنى الإله: الغني عما سواه، المفتقر إليه ما عداه2، ويقولون أنهم أهل السنة وهيهات هيهات، ولم يصبر منها على الحق إلا فرقة واحدة وهم الذين عرفوا التوحيد على الحقيقة من الآيات المحكمات وصحيح السنة. جعلنا الله وإياكم من الفرق الناجية.
وقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- إلى هذا المعنى فقال: وقد غلط في مسمى التوحيد طوائف من أهل النظر والكلام، ومن أهل الإرادة والعبادة، وهذا يفيد الحذر من مخالطة كل من لا يعرف دينه، وقد كان بعض العلماء إذا دخل عليه مبتدع جعل أصبعيه في أذنيه حتى يفارقه حذرا من أن يلقي إليه كلمة تفتنه.
فارجعوا رحمكم الله إلى صريح القرآن فإنه حبل الله المتين والذكر الحكيم والصراط المستقيم، وهو النور كما قال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}3.(44/6)
__________
1 سورة الإسراء آية: 43.
2 هذه العبارة هي التي بنى عليها السنوسي عقيدته الصغرى المشهورة وزعم أنها معنى كلمة التوحيد واستنبط الصفات السلبية والثبوتية منها، وما هي إلا من لوازمها وما كل الأشعرية يقول بأنها معناها.
3 سورة المائدة آية: 15، 16.
ص -324-
الرد على تفسير الورقة لكلمة إله
ثم إن هذا قال في ورقته: اعلم أن الإله هو المعبود فقط غير مقيد بقيد الحقيقة والبطلان إذ اشتقاقه من ألهه، إذا عبده، يوجب اتحاده معه في المعنى لعدم وجوده بدونه، إذ الاشتقاق وجود التناسب في اللفظ والمعنى.
(فالجواب): أن نقول: سبحان الله، كيف يشكل على من له أدنى مسكة من عقل ما في هذا القول من الكذب والضلال والإلحاد والمحال؟ فلقد صادم الكتاب والسنة والفطر والعقول واللغة والعرف.
أما مصادمته الكتاب والسنة فإن الله تعالى يقول: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ}1 في عدة مواضع من الكتاب والسنة، فالله تعالى الحق وعبادته وحده هي الحق أزلا وأبدا، وما يدعى من دونه هو الباطل قبل وضع اللغات وبعدها، وهذا لا يمتري فيه مسلم أصلا.
وأما مصادمته للعقل: فإن كلّ مألوه معبود ولا بد أن يكون حقا أو باطلا، فإن كان هو الله فهو الحق سبحانه كما في حديث الاستفتاح الذي رواه البخاري وغيره: "ولك الحمد، أنت الحق، ووعدك حق"2. وإن كان المعبود غيره فهو باطل بنص القرآن. والقرآن كله يدل على أن الله هو الحق وأن ما يدعى من دونه فهو باطل.
وأما مخالفته للفطر: فباتفاق الناس على ما دل عليه الكتاب والسنة والمعقول، حتى أهل البدع من كل طائفة لا يقول بهذا القول الذي قاله هذا أحد منهم، لكن كل طائفة تدعي أنها أسعد من غيرها بالدليل، على ما في أدلة كل طائفة من التحريف والتأويل.
وأما مخالفته للغة: فلا ريب أن الواضع وضَع الألفاظ بإزاء(44/7)
معانيها، فكل لفظ وضع لمدلوله الذي وضع له لأجل الدلالة عليه، والواضع وضع الألفاظ دالة على معانيها، فاللفظ دال والمعنى مدلوله، يعرف هذا كل من له أدنى مسكة من عقل. وكل ما ذكرناه لا نزاع فيه ولا يعرف أن أحدا قال بخلاف ما ذكرنا.
__________
1 سورة الحج آية: 62.
2 البخاري: الجمعة (1120) , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (769) , والترمذي: الدعوات (3418) , والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار (1619) , وأبو داود: الصلاة (771) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1355) , وأحمد (1/298 ,1/308 ,1/358) , ومالك: النداء للصلاة (500) , والدارمي: الصلاة (
ص -325-
وواضع اللغة قال بعض العلماء: هو الله تعالى، وقال بعضهم وضعها غيره من بني آدم المتقدمين بإلهام منه تعالى وجبلة جبلهم عليها. واللغات وإن تعددت فهي بإلهام من الله، وبها يعرف مراد المتكلم ومقصوده.
إذا عرفت ذلك، فيلزم على قول هذا الجاهل أن الملائكة قبل خلق آدم وذريته كانت عبادتهم لله تعالى غير مقيدة بحق ولا باطل، وهذا اللازم باطل فبطل الملزوم. وكذلك عبادة آدم وذريته قبل حدوث الشرك في قوم نوح لا توصف عبادتهم لله بأنها حق أو باطل، وهذا اللازم باطل، فبطل الملزوم.
وكذلك قوم نوح لما عبدوا آلهتهم، وقالوا لما دعاهم نوح عليه السلام: {لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً}1، فيلزم على قول هذا أن عبادتهم لتلك الأصنام ليست باطلة، وهذه اللوازم الباطلة تلزمه، وببطلانها يبطل ملزومها الذي ذكرناه عنه
وأيضا ففي قوله هذا مضاهاة لقول ابن عربي أمام أهل الوحدة:
وعباد عجل السامري على هدى
ولائمهم في اللوم ليس على رشد(44/8)
فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.
فلا تعجب، فكل صاحب بدعة لا بد أن يجادل عن بدعته، والعلم نور يهبه الله لمن يشاء من عباده وهو معرفة الهدى بدليله، والناس ليسوا كلهم كذلك إلا أقل القليل الذين تمسكوا بالكتاب والسنة وما عليه سلف الأمة وأئمتها علما وعملا، ومن تدبر القرآن رأى العجب فيما قصه الله تعالى عن الرسل مع أممهم قديما وحديثا كما قال تعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ}2.
أصل دعوة الرسل عبادة الله وحده
فإذا كان الكلام في بيان معنى لا إله إلا الله؛ فإن الله تعالى هو الذي تولى بيانه في مواضع
__________
1 سورة نوح آية: 23.
2 سورة غافر آية: 4.
ص -326-(44/9)
من كتابه وأجمعت عليه الرسل من أولهم إلى آخرهم، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ}1 بل القرآن كله في بيان معناها، كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}2 أي: إليها من البراءة من عبادة كل معبود سوى الله، وإخلاص العبادة له تعالى كقول أمام الحنفاء -عليه الصلاة والسلام- في هذه الآية {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا}3 وهي لا إله إلا الله، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ}4.
والطاغوت: الشيطان وما زينه للمشركين من عبادة معبوداتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله تعالى، كأصنام قوم نوح وأصنام قوم إبراهيم، واللات والعزى ومناة، وما لا يحصى كثرة في العرب والعجم وغيرهم، وهي موجودة في الخارج معينة معلومة الوجود كأصنام قوم نوح وغيرها مما لا يحصى كثرة.
فمن قال: لا إله إلا الله بصدق وإخلاص وتعيين، فقد برئ من كل معبود يعبد من دون الله ممن كان يعبده أهل الأرض. وهذه الكلمة دلت على البراءة من الشرك والكفر به تضمنا، ودلت عليه وعلى إخلاص العبادة لله تعالى مطابقة، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}5 بيّن تعالى أن الحكمة في خلق الجن والإنس أن يعبدوه وحده لا شريك له ومن المعلوم أنه خلق الجن قبل الإنس، فيلزم على هذا القول الفاسد الذي أبداه هذا الجاهل أن العبادة التي خلق تعالى لها الثقلين لا توصف بحق ولا باطل حين خلقهم لها. واللازم باطل فبطل الملزوم.
وهذا(44/10)
الموضع الذي بيّنا بطلانه بالمعقول والمنقول هو ثاني موضع زلت فيه قدم هذا الذي يدعي أنه على شيء وليس معه شيء يلتفت إليه بما يوجب إنكاره عليه، وقد قال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}6. وقال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ
__________
1 سورة الأنبياء آية: 25.
2 سورة الزخرف آية: 26: 28.
3 سورة البقرة آية: 256.
4 سورة الزمر آية: 17.
5 سورة الذاريات آية: 56.
6 سورة العنكبوت آية: 51.
ص -327-(44/11)
فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ}1. وقال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ}2. وعن زياد بن حدير قال: قال لي عمر: هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قلت: لا. قال "يهدمه زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين" رواه الدارمي.
فرضي الله تعالى عن أمير المؤمنين عمر كأنه ينظر إلى ما وقع في هذه الأمة من جدال أهل الأهواء بالكتاب، وكثرة الآراء المخالفة للحق التي بها كثر أهل الضلال، وكثرت بها البدع، وتفرقت الأمة واشتدت غربة الإسلام، حتى عاد المعروف منكرا والمنكر معروفا، والسنة بدعة والبدعة سنة، نشأ على هذا الصغير، وهرم عليه الكبير.
وما أحسن ما قال بعض السلف: "لا تستوحش من الحق لقلة السالكين، ولا تغتر بالباطل لكثرة الهالكين". وقال بعضهم: "ليس العجب ممن هلك كيف هلك إنما العجب ممن نجا كيف نجا". فالناصح لنفسه يتهم رأيه وهواه، ويرجع إلى تدبر كتاب الله سبحانه لا إله غيره ولا رب سواه، وإلى ما سنه الرسول --صلى الله عليه وسلم- وما عليه سلف الأمة وأئمتها قبل حدوث الأهواء وتفرق الآراء، وليكن من الشيطان وجنده على حذر.
اللهم اجعلنا هادين مهتدين غير ضالين ولا مضلين، سِلما لأوليائك. حربا لأعدائك، نحب بحبك من أحبك، ونعادي بعداوتك من خالفك. اللهم هذا الدعاء وعليك الإجابة، اللهم هذا الجهد وعليك التُكلان.
قول الورقة إن الإله مشتق من ألهه
وأما قول هذا في ورقته: (إذ اشتقاقه من ألهه بوجوب اتحاده معه في المعنى).
(أقول): قد عرفتم ما ذكرناه من تناقضه في هذه العبارة وما قبلها، وقد أخطأ أيضا فيما عبر به عن الاشتقاق من وجهين:
(الأول): أنه جعل(44/12)
ألهه مشتقا منه وهو فهل يشتق ولا يشتق منه، والمصدر
__________
1 سورة الجاثية آية: 18، 19.
2 سورة الأعراف آية: 3.
ص -328-
هو الذي يشتق منه الفعل كما قال في الخلاصة1: وكونه أصلا لهذين انتخب. ومصدره أله إلاهة قال في القاموس: أله إلاهة وألوهة وألوهية: عبد عبادة. ومنه لفظ الجلالة وأصله إله كفعال بمعنى مألوه، وكل ما اتخذ معبودا إله عند متخذه. انتهى.
(الوجه الثاني): قوله: ألهه إذا عبده فجعل عبده مشتقا من ألهه وهو من غير مادته وهو فعل أيضا، فإن عبده مشتق من عبادة يقال: عبده عبادة فمادته عبد لكن، عبد تفسير لأله فاتفقا في المعنى لا في اللفظ. وأيضا فقوله: ألهه إذا عبده يناقض ما سلف من كلامه.
وأما قوله: يوجب اتحاده معه في المعنى لعدم وجوده بدونه.
(فالجواب): أن قوله: يوجب اتحاده معه في المعنى، ليس كذلك بل لا بد أن يتضمن أحدهما وهو الفعل معنى المصدر وزيادة لدلالته على الحدث والزمان، والمصدر إنما يدل على الحدث فقط، وهذا أمر معروف عند النحاة وغيرهم، محسوس. فعبارته تدل على أنه لا يعرف معنى الاشتقاق الذي ذكره العلماء، ولو سئل عن معناه لما أجاب، ولكنه خلا بأناس عظموه في نفسه فأراد أن يأخذ العلوم بمجرد الدعوى.
ومن نظر في كلامه عرف أنه لا شيء هناك فتجده يأتي بعبارات متضمنة لجهالات لم يسبقه إليها سابق كما قد عرفتم وتعرفونه فيما يأتي من كلامه وما فيه من التناقص، فما أقبح جهل من يدعي العلم، وما أفحش خطأ من يدعي الفهم.
والله أسأل أن يُوزِعنا شكر ما أنعم به علينا مما علمناه وفهمناه. فلله الحمد لا نحصي ثناء عليه، ونسأله الثبات والاستقامة، والعفو والعافية في الدنيا والآخرة، ولكل من عرف الإسلام وقبله ودان به، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
قول الورقة إن العرف خصَّ معنى الإله بالمعبود بحق
وأما قوله: ثم استعمل في العرف على الأغلب والأكثر على(44/13)
المعبود بحق لعدم تحقق العبادة إلا بعد اعتقاد العابد استحقاق المعبود لها. وإلا فلا تسمى عبادة.
__________
1 المعروفة بألفية ابن مالك.
ص -329-
(فالجواب): أن قوله: ثم استعمل في العرف أي: بعد أن كان الإله المعبود لغة غير مقيد بقيد الحقيقة والبطلان كما تقدم صريحا في كل أمة. فليت شعري، متى هذا العرف الذي وضع للألفاظ اللغوية معناها؟ ومن هم أهل هذا العرف؟ هل كانوا في قوم نوح أو قوم هود، فيسأل هذا متى كانوا؟ فما أقبح هذه الأقوال المختلقة التي غايتها التمويه والتلبيس! فلا منقول ولا معقول ولم يسبقه إليها أحد.
وقدم تقدم ما يلزم على هذا القول من اللوازم الباطلة، فتبين أن قوله هذا كذب على اللغة لا يعرف عن أحد لغوي ولا عن عربي، والعرف لا يغير اللغة عن أصلها لفظا ومعنى.
وهذه كتب اللغة كالقاموس وصحاح الجوهري وغيره ليس فيها ما يدل على هذا القول الباطل، فيكون قد كذب على اللغة والعربية وعلى غيرها من اللغات، وعلى كتاب الله وسنة رسوله.
وقال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية -رحمه الله تعالى-: الإله هو الذي تألهه القلوب محبة ورجاء وتوكلا وغير ذلك من أنواع العبادة، وهذا قول أهل السنة قاطبة لا يختلف فيه اثنان.
وأما قوله: على الأغلب والأكثر على المعبود بحق فمفهومه أنه يستعمل في غير الأغلب والأكثر على غير المعبود بحق، فهذا صحيح لكنه لا يختص بالعرف بل هو في اللغة كذلك، فإذا كان يطلق على غير المعبود بحق كما تفهمه كل أمة، فهذا حجة عليه؛ فإن جميع الأصنام والأوثان وما يعبد من دون الله كلها آلهة معبودة بغير حق، باطلة بكلمة الإخلاص لا إله إلا الله. ففيها النفي والإثبات، كما سيأتي بيان ذلك.
وكل ما نفته لا إله إلا الله من الأصنام والأنداد فليس كليا لا يوجد إلا ذهنا كما يقوله المفتري أفلاطون الفيلسوف وشيعته، وإنما كانت أشخاصا متعددة يباشرها عبادها بالعبادة بالدعاء،(44/14)
والاستغاثة والاستشفاع بها، والعكوف عندها، والتبرك بها كأصنام قوم نوح، وأصنام قوم عاد القائلين: {إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ
ص -330-
آلِهَتِنَا بِسُوءٍ}1.
وأصنام نمروذ التي تبرأ منها خليل الرحمن بقوله: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ}2 أي: هذه الكلمة، وهي عبادة الله وحده لا شريك له، وخلع ما سواه من الأوثان، وهي لا إله إلا الله، وجعلها في ذريته باقية {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}3 أي: إليها.
النفي والإثبات في كلمة التوحيد
فالخليل -عليه السلام- فسر لا إله إلا الله بمدلولها من النفي والإثبات، فالنفي في قوله: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ}4، فالبراءة منها وإبطالها نفيها، وقوله: {إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي}5 استثنى الإله الحق الذي لا تصلح العبادة إلا له، وهو الذي فطره أي: خلقه، وخلق جميع المخلوقات {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ}6.
وقد قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}7 {فَإِنْ تَوَلَّوا}أي: عما تدعوهم إليه من عبادة الله وحده لا شريك له، والرغبة عما كانوا يعبدونه من دون الله كالمسيح وأمه عليهما السلام.
فإن سبب نزول الآية في نصارى نجران وكانوا يعبدون آلهة أخرى، فقوله: {أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ}8 ينفي كل معبود سوى الله ويثبت العبادة لله وحده التي لا يستحقها غيره. وهذا ظاهر جلي لا يخفى على من له أدنى بصيرة، وسبب النّزول لا يمنع عموم النهي لجميع الأمة كما هو ظاهر في قوله: {أَلاَّ(44/15)
تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ}9 فلم يستثن أحدا سواه لا ملكا ولا نبيا ولا من دونهما كما قال تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}10.
وقوله: {وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ}11 أي: من جميع المخلوقات من بشر وحجر وغير ذلك، لكن قوله: {وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً}12 يختص بالبشر لما تقدم من أنهم كانوا يعبدون المسيح وأمه وغيرهما من الأنبياء والصالحين، ويشمل غيرهم من باب أولى. وقد قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً}13،
__________
1 سورة هود آية: 54.
2 سورة الزخرف آية: 26-28.
3 سورة الزخرف آية: 28.
4 سورة الزخرف آية: 26.
5 سورة الزخرف آية: 27.
6 سورة الصافات آية: 5.
7 سورة آل عمران آية: 64.
8 سورة آل عمران آية: 64.
9 سورة هود آية: 2.
10 سورة النحل آية: 51.
11 سورة آل عمران آية: 64.
12 سورة آل عمران آية: 64.
13 سورة الجن آية: 18.
ص -331-(44/16)
و{أَحَداً} نكرة في سياق النهي، وهي تعم كل مدعو من دون الله من أهل السماوات والأرض. وتأمل قوله: {مَعَ الله} وخبر "لا" التي لنفي الجنس محذوف تقديره: حق، كما دل عليه القرآن قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ}1. وهذا قول أهل السنة والجماعة اتباعا لما دل عليه القرآن. ومن قدر الخبر المحذوف غير ذلك كقول بعضهم: إن المحذوف "أحد" فلا حجة له ولا برهان.
ينبئك عن هذا المعنى العظيم ما قرره ابن القيم -رحمه الله تعالى- قال: فإن قوام السماوات والأرض والخليقة بأن تأله الإله الحق، فلو كان فيهما آلهة أخرى غير الله لم يكن إلها حقا، إذ الإله الحق لا شريك له ولا سميَّ له ولا مثل له. فلو تألهت غيره لفسدت كل الفساد بانتفاء ما فيه صلاحها؛ إذ صلاحها بتأله الإله الحق كما أنها لا توجد إلا باستنادها إلى الرب الواحد القهار، ويستحيل أن تستند في وجودها إلى ربين متكافئين، فكذلك يستحيل أن تستند في تألهها إلى إلهين متساويين.
وقد قال–رحمه الله- في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}2 الآية، قال: فالمؤمنون أشد حبا لربهم ومعبودهم من كل محب لكل محبوب. وليست هذه المسألة من المسائل التي للعبد عنها غنى أو منها بُد؛ بل هذه أفرض مسألة على العبد، وهي أصل عقد الإيمان الذي لا يدخل فيه الداخل إلا بها ولا فلاح للعبد ولا نجاة له من عذاب الله إلا بها.
فليشتغل العبد بها أو ليعرض عنها، ومن لم يتحقق بها علما وعملا وحالا لم يتحقق شهادة أن لا إله إلا الله فإنها سرها وحقيقتها ومعناها، وإن أبى ذلك الجاحدون وقصر عن علمه الجاهلون؛ فإن الإله هو المحبوب المعبود الذي تألهه القلوب بحبها وتخضع له وتذل له وتخافه، وترجوه وتنيب إليه في شدائدها وتدعوه في مهماتها، وتتوكل عليه في مصالحها، وتلجأ إليه وتطمئن(44/17)
بذكره وتسكن إلى
__________
1 سورة الحج آية: 62.
2 سورة البقرة آية: 165.
ص -332-
حبه. وليس ذلك إلا لله وحده. ولهذا كانت أصدق الكلام وكان أهلها أهل الله وحزبه، والمنكرون لها أعداؤه وأهل غضبه ونقمته.
فهذه المسألة قطب رحى الدين الذي عليه مداره وإذا صحت صح بها كل مسألة وحال وذوق، وإذا لم يصححها العبد فالفساد لازم له في علومه وأعماله وأحواله وأقواله ولا حول ولا قوة إلا بالله، انتهى. فما أحسن هذا من بيان.
زعم عدم تحقق العبادة إلا بعد استحقاق المعبود لها
وأما قول الملحد في ورقته: (لعدم تحقق العبادة إلا بعد اعتقاد استحقاق المعبود لها)
(فالجواب): هذا القيد ممنوع وهو من جملة اختلاقاته وأكاذيبه ؛ لأنه فاسد شرعا ولغة وعرفا. ومما يبين فساده ما في الحديث من قصة الرجلين الذَين مرا على صنم قوم لا يجاوزه أحد إلا قرب له شيئا، فقالوا لأحد الرجلين: قرِّب فقال: ما عندي شيء أقرب. قالوا: قرب ولو ذبابا، فقرب ذبابا فخلوا سبيله فدخل النار، أي: بتقريبه الذباب لصنمهم. وهو إنما قربه للتخلص من شرهم من غير اعتقاد استحقاقه لذلك، فصار عبادة للصنم دخل بها النار. وهذا يدل على أن هذا الفعل منه هو الذي أوجب له دخول النار؛ لأنه عبد مع الله غيره بهذا الفعل. وقالوا للآخر: قرب فقال: ما كنت لأقرب لأحد شيئا دون الله عز وجل، فضربوا عنقه فدخل الجنة.
وأيضا فقد قال أبو طالب:
لقد علموا أن ابننا لا مكذب
لدينا ولا يعنى بقول الأباطل
وقوله يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم:
ودعوتني وعرفت أنك ناصحي
ولقد صدقت وكنت ثم أمينا
وعرضت دينا قد عرفت بأنه
من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذار مسبة
لوجدتني سمحا بذاك مبينا
ص -333-(44/18)
فثبت بهذا أن أبا طالب لم يعتقد أن ما كان قومه عليه من الشرك حقا ولم يمنعه من الدخول في الإسلام إلا خوف أن يسب أسلافه فقط، ومع هذا مات مشركا كما ثبت في الصحيح، وهذا يبين فساد هذا القيد.
فإذا عرف ذلك، تبين أن هذا الرجل يختلق أقوالا لا برهان عليها ولا حجة، ثم إن من المعلوم أن كل من عبد معبودا غير الله وأصر على عبادته له أنه يعتقد استحقاقه للعبادة، وهذا هو الغالب على المشركين في حق معبوداتهم، ولهذا تجدهم يجادلون عنها ويناضلون مجادلة من يعتقد أنها تستحق ما كانوا يفعلونه لها من العبادة.
قوله إن المعبودات الباطلة سميت آلهة من حيث اعتقاد عبَّادها
وقوله: (في كل أمة أيضا) اعتراف منه بأن الإله يطلق على كل معبود يعتقد عابده أنه يستحق العبادة كما هو حال أكثر المشركين، فاحفظ هذا الاعتراف منه فسيأتي في كل أمة ما يناقضه.
وأما قوله: (ولهذا ذهب كثير من المتبحرين إلى أنه عبارة عن المعبود بحق، وما قيل من أن كثيرا ما يطلق على الآلهة الباطلة كما ورد في أكثر موارد القرآن وهو يوجب عدم صحة المدعى، فمدفوع بأن إطلاقه عليها بالنظر إلى اعتقاد عبادها لا باعتبار نفس الأمر)
(فالجواب) أن يقال: هذا يناقض ما تقدم له من أن العابد إذا اعتقد استحقاق معبوده للعبادة صار إلها، ولا يخفى مناقضة هذا له، فإنه أقر فيما تقدم قريبا أن المعبود يكون إلها باعتقاد عابده استحقاقه للعبادة في نفس الأمر، وقد عرفت أن القيد ممنوع، فأخطأ في الموضعين أي: في هذا والذي قبله وتناقض.
وأما قوله: ولهذا ذهب كثير من المتبحرين…… إلخ، فهذا القول مجهول قائله لا يعرف أن أحدا من المسلمين قاله، والقائل به مجهول لا يقبل له قول، وقد أجمع العلماء قديما وحديثا على أن المجهول لا يقبل له قول ولا خبر، ولا
ص -334-(44/19)
تقوم به حجة في شيء من أبواب العلم، فكيف إذا كان إلحادا وطعنا في أصل الدين؟ وقد أجمع المحدثون على أن رواية المجهول لا تقبل كذلك، فسقط هذا القول من أصله وفسد.
وقوله: (كما ورد في أكثر موارد القرآن)، انظر إلى هذا الجهل العظيم في محاولته رد ما ورد في أكثر موارد القرآن، بقول المجهولين الذين لا يعتد بقولهم عند أحد من طوائف العلماء، وموارد القرآن يحتج بها لا يحتج عليها بقول أحد، وهي الحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه كما قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}1 الآية، فما وافق القرآن سواء كان نصا أو ظاهرا قبل، وما خالفه رد على من قاله كائنا من كان. فقد ارتقى هذا مرتقى صعبا بتهجينه القرآن وإبطال دلالته عنه بما زخرفه ونسبه إلى مجهولين، فسبحان الله كيف يخفى هذا على أحد؟ فمن تدبر هذا المحل تبين له ضلاله.
وأما قوله: (فمدفوع بأن إطلاقه عليها بالنظر إلى اعتقاد عبادها).
(فالجواب): أن هذا يبطله القرآن كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}2. وقال: {أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ}3 فسماها الخليل آلهة مع كونها باطلة، وكونها باطلة لا ينافي تسميتها آلهة.
كما قال موسى عليه الصلاة والسلام، لما قال له بنو إسرائيل: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}4. وقال: {أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً}5 فسماه الكليم إلها مع إنكاره عليهم ما طلبوا، وهو قد أقر فيما تقدم أن يطلق على غير الإله الحق، فتناقض؛ والإلهية المنفية في كلمة الإخلاص بدخول أداة النفي عليها، وهي لا النافية.
فالمراد(44/20)
بنفيها إبطالها والبراءة منها والكفر بها واعتزالها وغير ذلك مما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى، فكما تسمى آلهة وأندادا وأربابا وشركاء وأولياء ؛ لأن من عبدها فقد جعلها مألوهة له وجعل
__________
1 سورة النساء آية: 59.
2 سورة الأنعام آية: 74.
3 سورة الصافات آية: 86.
4 سورة الأعراف آية: 138، 139.
5 سورة الأعراف آية: 140.
ص -335-
لها شركة في العبادة التي هي حقه، ومثلها بالله في عبادته لها، واتخذها أربابا وأولياء، وكل هذا في القرآن كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}1.
وقد تقدم كلام العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى على هذه الآية العظيمة. وقال تعالى: {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ}2. وقال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ}3. وقال: {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ}4.
وهذا في القرآن كثير، فصارت تطلق عليها هذه الأوصاف بجعل عابديها واتخاذهم لها كذلك بعبادتهم وإرادتهم كما تقدم بيانه في هذه الآيات، كما في قوله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ}5. {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً}6، فصارت آلهة بالفعل والاتخاذ والإرادة والقصد، واستشهد العلماء على ذلك بقول رؤبة بن العجاج:
لله درّ الغانيات المدّه
سبحن واسترجعن من تألهي(44/21)
أي: من تعبدي، وتقدم كلام صاحب القاموس على هذا المعنى. وقرأ ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ}7 أي: عبادتك قال: لأنه كان يعبد وتقدم تقرير هذا في كلام العلماء.
وهذا يبين أن كل معبود إله، حقا كان أو باطلا ؛ لأنه قد ألهه العابد بالعبادة، وتبين بهذا أن هذا الرجل يتكلم في هذه الأمور بلا علم، ويأتي بما يخالف القرآن واللغة والسلف والعلماء، ويتناقض.
الإله المنفي في كلمة الإخلاص
ومن فرط جهله قوله: (وبهذا تعين فساد ما توهم من أن الإله المنفي بلا، في الكلمة الطيبة هو المطلق غير المقيد بالحق أو الباطل) وهذا القول الذي أقر بفساده هو الذي قاله آنفا وبينا فساده في محله، فتأمل ما في هذا الكلام من الفساد والضلال، فإنه جعل المنفي في كلمة الإخلاص قابلا للوصفين أي: الحق والباطل، فإنه لا شك أن الإله المنفي باطل. ولا بد من
__________
1 سورة البقرة آية: 165.
2 سورة القصص آية: 64.
3 سورة التوبة آية: 31.
4 سورة الكهف آية: 102.
5 سورة يس آية: 74.
6 سورة مريم آية: 81.
7 سورة الأعراف آية: 127.
ص -336-(44/22)
تقييده بالبطلان؛ لأن المنفي في كلمة الإخلاص هي الطواغيت والأصنام وكل ما عبد من دون الله، وكلها باطلة بلا ريب: كما قال لبيد في شعره الذي سمعه منه النبي صلى الله عليه وسلم:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
ومن لم يعتقد هذا فليس من الإسلام في شيء، وتقدم في الآيات أن المستثنى في كلمة الإخلاص "بإلا" هو الله الحق كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ}1.
وهذا الرجل قد افترى على اللغة وكذب عليها بقوله المتقدم: أن الإله هو المعبود لا بقيد الحقيقة ولا البطلان، فهو دائما يتناقض، يذكر قولا وينفيه ثم يذكره بعده ويثبته، ثم ينفيه.
ومن وقف على ما كتبته في هذا المعنى عرف ذلك من حاله ومقاله، ومحط رحله هو قول الفلاسفة كابن سينا والفارابي وابن العلقمي القائلين بأن مدلول لا إله إلا الله نفيا وإثباتا فرد هو الوجود المطلق، أو قول الاتحادية أنه الوجود بعينه.
وكلام هذا وعبارته المتقدم منها والآتي يدل على أنه يقول بقولهم، ويحمل معنى كلمة الإخلاص "لا إله إلا الله" على إلحادهم، يعرف هذا من له فهم واطلاع على ما ذكره العلماء في بيان حقيقة قول هاتين الطائفتين الكفريتين كما سيأتي في كلام شيخ الإسلام وابن القيم وغيرهم.
إعراب لا إله إلا الله
وهذا إعراب كلمة الإخلاص الذي يعرفه أهل العربية وغيرهم من العلماء في إعرابها فيقولون: لا نافية للجنس، واسمها إله، مبني معها على الفتح، منفي بلا، والإله جنس يتناول كل معبود من بشر أو حجر أو شجر أو مدر أو غير ذلك، فهذا الجنس على تعدد أفراده منفي بلا، وخبر لا محذوف على الصحيح كما في الآيات، وتقدم ذكره،
__________
1 سورة الحج آية: 62.
ص -337-(44/23)
والاستثناء من الخبر، وإلا أداة الاستثناء، والله هو المستثنى بإلا، وهو الإله الحق وعبادته حق وقوله الحق.
والصحيح أنه مخرج من اسم لا وحكمه كما قرره العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى-، والأدلة على هذا في القرآن أكثر من أن تحصر، وقد صرحت بذلك الآيات المحكمات كقوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ}1، وهذا هو المنفى بلا في كلمة الإخلاص.
وقوله: {وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ}2 هو معنى إلا الله، وهذا هو الذي أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعو أمته إليه، وما خالف هذا فهو تلبيس وتشبيه وبهرج وباطل. نعوذ بالله من كل قول يؤخذ عن غير القرآن، وعن غير ما دان به أهل الإسلام والإيمان.
ما يقتضيه إعراب المعترض لها من الفساد
ثم إن هذا الرجل انتهى أمره فيما كتبه إلى أن زعم أن المنفي بلا كلي، وهذا الكلي منوي ذهنا لا يوجد منه في الخارج إلا فرد، وذلك الفرد المنفي بلا هو المستثنى بعينه وهذا صريح كلامه وأتى فيه بثلاث عظائم هي إلى الكفر أقرب منها إلى الإيمان:
(الأولى): أنه زعم أن المنفي بلا كلي لا يوجد إلا ذهنا، فعنده أنها لم تنف طاغوتا ولا وثنا ولا صنما ولا غيرها مما يعبد من دون الله. فخالفوا أيضا أهل المنطق، فإن الكلي عندهم مقول على كثيرين مختلفين بالعدد دون الحقيقة، ولم يقولوا: إنه منوي لا يوجد منه في الخارج إلا فرد.
(الثانية): أنه زعم أن ذلك الفرد الذي لا يوجد غيره، لما كان منفيا بلا صار ثابتا بإلا، وهو فرد واحد، فصار الإله عنده متصفا بالنفي والإثبات، والنفي والإثبات في فرد نقيضان، ومقتضاه أن هذا الفرد صار أولا باطلا؛ لأنه منفي ثم صار حقا ؛ لأنه استثني بإلا، فاجتمع فيه الوصفان. نعوذ بالله من هذا التهافت والإلحاد والتناقض(44/24)
والعناد.
__________
1 سورة يونس آية: 104.
2 سورة يونس آية: 104.
ص -338-
وقد عرفت أن النحاة وأهل الكلام كالرازي وغيره ومن قبلهم يعلمون أن المنفي غير المثبت كما سنذكر عنهم اتفاقهم على ذلك، وأنه لا يحصل التوحيد إلا بذلك. وهذا أمر يعرفه كل أحد حتى مشركو العرب ومن ضاهاهم من الأمم أعداء الرسل، يعلمون أنها نفت الآلهة التي كانت تُعبد من دون الله، وأثبتت إلهية الحق الذي أقروا أنه رب كل شيء ومليكه، وخالق كل شيء ورازق كل حي، وذلك هو الله العلي الأعلى القاهر فوق عباده.
(والثالثة): أنه صرح أن المنفي كلي، والفرد الموجود في الخارج جزئي، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا، وهذا هو حقيقة قول هذا ولهذا مثّله بقوله: لا شمس إلا الشمس.
وجوب تحقيق معنى لا إله إلا الله
ومن أشكل عليه فساد قول هذا وضلاله فلْيتدبر القرآن، ولْيراجع كلام المفسرين في معنى كلمة الإخلاص، وما وضعت له وما دلت عليه هذه الكلمة العظيمة، فقد قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}1، فدلت الآية على أنه لا يكون مستمسكا بلا إله إلا الله إلا إذا كفر بالطاغوت، وهي العروة الوثقى التي لا انفصام لها، ومن لم يعتقد هذا فليس بمسلم ؛ لأنه لم يتمسك بلا إله إلا الله.
فتدبر واعتقد ما ينجيك من عذاب الله، وهو تحقيق معنى لا إله إلا الله نفيا وإثباتا، وتدبر قوله تعالى عن خليله عليه السلام: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} 2. والكلمة هي لا إله إلا الله بإجماع المفسرين. فلا أحسن من هذا التفسير ولا أبين منه، وليس(44/25)
للجنة طريق إلا بمعرفته وقبوله واعتقاده والعمل به.
نسأل الله أن يُوزعنا شكر ما أنعم به علينا من هذا التوحيد والبصيرة فيه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
__________
1 سورة البقرة آية: 256.
2 سورة الزخرف آية: 26: 28.
ص -339-
فتأمل كيف عبر الخليل عليه السلام عن هذه الكلمة بمدلولها الذي وضعت له من البراءة من عبادة كل معبود سوى الله من وثن وصنم وغير ذلك، وقصر العبادة على الله وحده بقوله: {إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي}1. ودلت على أن المنفي جنس تحته أفراد موجودة في الخارج يعبدها المشركون وليست آلهة إلا في حق من يعبدها ويتألهها، دون من يكفر بها ويتبرأ منها ويعاديها ويعادي من عبدها.
أقوال كبار المتكلمين في معنى لا إله إلا الله وإعرابها
إذا ثبت ذلك وعرفت أن الحق فيما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله في بيان معنى هذه الكلمة، فاعلم أن النحاة والمتكلمين اختلفوا: هل تحتاج لا النافية لخبر مضمر أم لا؟ فمنعه الرازي والزمخشري وأبو حيان، وقالوا: إنه يكفي في الدلالة على التوحيد ما تضمنته من النفي والإثبات، بناء على أن أصلها مبتدأ وخبر، ثم قدم الخبر على المبتدأ، ثم دخل حرف النفي على الخبر المقدم، ودخل حرف إلا مستثنى على المبتدأ، فانتفت الإلهية عن كل ما سوى الله من كل ما يعبد من دونه من صنم ووثن وطاغوت وغير ذلك.
هذا مضمون ما ذهب إليه هؤلاء، وغيرهم وافقهم في المعنى فاتفقوا أن المستثنى مخرج بإلا، ولولا الاستثناء لدخل. قال الكسائي: هو مخرج من اسم لا، وقال الفراء: مخرج من حكم اسمها وهو النفي، والصحيح أنه مخرج منهما كما قرره العلامة ابن القيم–رحمه الله تعالى-.
إذا عرفت ذلك، فأكثر النحاة وغيرهم يقولون لا بد لها من خبر مضمر قال بعض من صنف في إعراب هذه الكلمة ومعناها- بعد كلام له سبق- أقول: قد عرفت أن المضمر على تقدير أن يكون في الكلام إضمار إما الخبر أو المرفوع(44/26)
بإلا المكتفى به عن الخبر، وقد عرفت أيضا أن المعنى المقصود في لا إله إلا الله هو قصر الألوهية على الله تعالى.
والعلامة الدواني قائل بهذا كما يشير إليه في البحث الخامس من رسالته، وصرح به في شرحه للعقائد العضدية حيث قال: واعلم أن التوحيد إما بحصر وجوب
__________
1 سورة الزخرف آية: 27.
ص -340-
الوجود أو بحصر الخالقية أو بحصر العبودية. ثم قال: الأول كذا والثاني كذا. وساق الكلام وحقق المقام، أي: في رده إلى أن قال: والثالث وهو حصر العبودية، وهو أن لا يشرك بعبادة ربه أحدا، فقد دلت عليه الدلائل السمعية، وانعقد عليه إجماع الأنبياء عليهم السلام، وكلهم دعوا المكلفين أولا إلى هذا التوحيد، ونهوهم عن الإشراك في العبادة قال تعالى: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}1. انتهى.
ثم قال الناقل: ومصداق إجماع الأنبياء قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ}2 بعد قوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ}3. وقوله تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ}4. وقوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}5. وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ}6.
إلى أن قال: فإثبات الألوهية له تعالى على وجه الانحصار فرع على أصل ثبوتها له -تعالى-،(44/27)
وأصل ثبوتها له -تعالى -فرع على ثبوته تعالى في نفسه؛ بل أصل ثبوت الألوهية له -تعالى- أيضا على ما يقتضيه دلالة هذا الكلام لغة أمر مسلم الثبوت مفروغ منه لا نزاع فيه.
وإنما النّزاع- أي: مع المشركين- في قصر الألوهية عليه تعالى، فالموحد يخصها به فيقول: لا إله إلا الله، والمشرك ينكر ذلك استكبارا، فيقول: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}7. قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ}8.
إلى أن قال: فإذا تمهد هذا، فنقول: لما كان في لا إله إلا الله نفي وإثبات فهي في الحقيقة جملتان اسميتان؛ لأن كلا من النفي والإثبات يقتضي طرفين
__________
1 سورة الصافات آية: 95، 96.
2 سورة الأنبياء آية: 25.
3 سورة الأنبياء آية: 24.
4 سورة النحل آية: 2.
5 سورة النحل آية: 36.
6 سورة الزخرف آية: 45.
7 سورة ص آية: 5.
8 سورة الصافات آية: 35.
ص -341-(44/28)
ينعقد الحكم بينهما، فطرف الإثبات هو الاسم الجليل مع صحة الإيجاب من إله، فصح أن يقصر بالأولى استمرار الثبوت الممتنع الانفكاك، وبالثانية استمرار النفي الممتنع الانفكاك، ومقام الدعوة إلى كلمة التوحيد قرينة على أن المعنى المراد من لا إله إلا الله نفيا وإثباتا هو هذا الاستمرار الممتنع الانفكاك ضرورة أن الشارع لا يقول إلا صدقا، واستمرار ثبوت الإلهية له–تعالى- على سبيل امتناع الانفكاك واستمرار انتفاء الألوهية عن غيره–تعالى- هو المطابق لما في نفس الأمر، فهو المقصود للشارع فلم يبق إلا أن أهل اللسان: هل فهموا ذلك منه حتى يكون دلالته لغوية أم لا؟
فنقول: إنهم قد فهموا منه ذلك بدليل قوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ}1.
ووجه دلالته على ما ذكرناه هو أن الصادق أخبر بأن إنكارهم لما يلزم من الاعتراف بلا إله إلا الله من تركهم آلهتهم واختصاصه -تعالى- بالألوهية- إنكار بمحض استكبار، لا لتمسك عقلي. انتهى ما نقلته وهو تقرير حسي موافق لما دل عليه الكتاب والسنة، كما عرفت من صريح الآيات والأحاديث.
لكن قوله: وأصل ثبوتها له -تعالى- فرع على ثبوته -تعالى- في نفسه أمر فطري مسلم حتى عند أعداء الرسل؛ فإنهم يعرفونه ويعبدونه لكن عبدوا معه غيره. فدلالتها على وجوده -تعالى- دلالة التزام، فيلزم من اختصاصه بالإلهية وجوده وكماله في ذاته وصفاته ومباينته للمخلوقين، وأنه أحد صمد لا كُفؤ له ولا مثل له ولا شريك له، ولا ظهير له ولا نِد له -تعالى وتقدس- كما قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ}2. وقال تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}3 إلى أمثال هذه الآيات.(44/29)
__________
1 سورة الصافات آية: 35، 36.
2 سورة الإخلاص آية: 1: 4.
3 سورة الشورى آية: 11.
ص -342-
رجعنا إلى تقرير معنى هذه الكلمة العظيمة قال الله تعالى: {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ}1.
عود الآيات في معنى لا إله إلا الله
قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في هذه الآية: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ}2 فالآية إنما سِيقت فيمن يعبد غير الله، فما عبد إلا الضلال المحض والباطل البحت. انتهى.
وقد فسر العلماء من المفسرين وغيرهم سلفا وخلفا معنى قوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}3 أن الطاغوت هو الشيطان، وما زينه من عبادة الأوثان كما تقدم.
ولا ريب أن الكفر بالشيطان يحصل بالبراءة منه ومعصيته في كل ما أمر به ونهى عنه. وكان موجودا أعاذنا الله من عبادته، وكذلك الأوثان يكفر بها المؤمنون ويتبرؤون من عبادتها مع وجودها ومن عبادة المشركين لها.
والمقصود أن نفي الأوثان الذي دلت عليه كلمة الإخلاص يحصل بتركها والرغبة عنها والبراءة منها، والكفر بها وبمن يعبدها، واعتزالها واعتزال عابديها، وبغضها وعداوتها. وكل هذا في القرآن مبينا، وقد انتفت عبادة كل ما عبد من دون الله مما هو موجود في الخارج مما يعبده المشركون سلفا وخلفا بهذه الكلمة كما تقدم.
وقد ذكر -تعالى- عن خليله -عليه- السلام أنه قال: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ}4 الآيات، وبالله التوفيق.
وصح عن أهل السير والمغازي وغيرهم من العلماء أن الله تعالى لما أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله، وكان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما تعبدها قريش، وكانوا يعبدون(44/30)
اللات والعزى ومناة، وهي أكبر الطواغيت التي يعبدها أهل مكة والطائف ومن حولهم-
__________
1 سورة يونس آية: 32.
2 سورة يونس آية: 32.
3 سورة البقرة آية: 256.
4 سورة الشعراء آية: 77، 78.
ص -343-
فاستجاب للنبي صلى الله عليه وسلم من استجاب من السابقين الأولين، وهاجر من هاجر منهم إلى الحبشة، وكل من آمن منهم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله رغبة عن الشرك وعبادة الأوثان وكفرا بها، وبراءة منها، ومسبة لها، فصح إسلامهم وإيمانهم بذلك مع كونها موجودة يعبدها من يعبدها ممن لم يرغب عنها وعن عبادتها.
اقتضاء كلمة التوحيد إبطال عبادة كل ما عبد من دون الله
فبهذا يتبين أنه ليس المراد من نفي الأوثان والأصنام وغيرها في كلمة الإخلاص زوال ماهية الأصنام ونفي وجودها، وإنما المراد إنكار عبادتها والكفر بها وعداوتها كما تقدم بيانه، وكل من تبرأ منها ورغب عنها فقد نفاها بقول لا إله إلا الله، وأثبت الألوهية لله تعالى دون كل ما يعبد من دونه.
فلما تمكن صلى الله عليه وسلم من إزالة هذه الأصنام كسرها، وبعث من يزيل ما بعد عنه منها، فخلت الجزيرة من أعيانها، وهذا معنى قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ}1.
وفيه الرد على الفلاسفة وأهل الاتحاد القائلين بأن المنفي كلي يوجد ذهنا ولا يوجد منه في الخارج إلا فرد، بناء على ما اعتقدوه في الله تعالى من الكفر به وبكتابه وبرسوله، وقد عرفت أن المنفي بها أفراد متعددة من الأصنام والأنداد والشركاء والأولياء، من حين حدث الشرك بعبادة الأصنام في قوم نوح إلى أن تقوم الساعة.
فيجب بلا إله إلا الله البراءة من كل ما يعبده المشركون من دون الله. فلا بد من نفي هذا كله بالبراءة من عبادته ومن عابديه. فمن تبرأ من عبادتها كلها وأنكرها وكفر بها، فقد قال لا إله إلا الله وأخلص العبادة(44/31)
لله وحده، وصار بهذا التوحيد مسلما مؤمنا.
وتأمل ما ذكره المفسرون في قول الله تعالى: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}2.
شكوى قريش لأبي طالب من النبي وكلامه
قال أبو جعفر ابن جرير -رحمه الله تعالى-: أنبأ أبو كريب وابن وكيع قال: ثنا أبو أسامة أنبأ الأعمش ثنا عباد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما مرض
__________
1 سورة الأنفال آية: 39.
2 سورة ص آية: 4، 5.
ص -344-(44/32)
أبو طالب دخل عليه رهط من قريش فيهم أبو جهل، فقالوا: إن ابن أخيك يشتم آلهتنا ويفعل ويفعل ويقول ويقول، فلو بعثت إليه فنهيته. فبعث إليه، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل البيت وبينهم وبين أبي طالب قدر مجلس رجل، قال فخشي أبو جهل إن جلس النبي صلى الله عليه وسلم إلى جنب أبي طالب أن يكون أرق عليه فوثب فجلس في ذلك المجلس، ولم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسا قرب عمه فجلس عند الباب.
فقال له أبو طالب: أي ابن أخي، ما بال قومك يشكونك يزعمون أنك تشتم آلهتهم وتقول وتقول؟ قال: وأكثروا عليه القول. وتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا عم، إني أريدهم على كلمة واحدة يقولونها، تدين لهم بها العرب، وتؤدي إليهم بها العجم الجزية"1 ففزعوا لكلمته ولقوله، فقال: القوم كلمة واحدة؟ نعم وأبيك عشرا، فقالوا وما هي؟ وقال أبو طالب: وأي كلمة هي يا ابن أخي؟
قال: (لا إله إلا الله) فقاموا فزعين ينفضون التراب عنهم ويقولون: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}2 إلى قوله: {لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ}3 لفظ أبي كريب. وهكذا رواه الإمام أحمد والنسائي من حديث محمد بن عبد الله بن نمير، كلاهما عن أبي أسامة عن الأعمش عن عباد منسوبا به نحوه، ورواه الترمذي والنسائي وابن أبي حاتم وابن جرير كلهم من تفاسيرهم من حديث سفيان الثوري عن الأعمش عن يحيى بن عمارة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. وقال الترمذي: حسن.
زعم أن كلمة التوحيد لا تنفي إلا مفهوما كليا
ففي هذا من البيان والعلم، أن لا إله إلا الله تبطل عبادة كل ما يعبده المشركون من دون الله، وتنفي ما كان بينهم من معبوداتهم الموجودة في الخارج بأعيانها، وفيه أن المشركين عرفوا معناها الذي وضعت له ودلت عليه من إبطال عبادة كل معبود سوى الله.
فإذا كان معناها هذا يعرفه كل أحد حتى المشركون يعرفون ما نفته وما أثبتته، فإذا جاء ملحد لا يعرف(44/33)
معناها من كتاب الله ولا سنة رسوله ولا لغة
__________
1 الترمذي: تفسير القرآن (3232) , وأحمد (1/362).
2 سورة ص آية: 5.
3 سورة ص آية: 8.
ص -345-
ولا عُرْف ولا عَرَف من معناها ما عرفه المشركون.
وقال: إن لا إله إلا الله لم تنف إلا كليا منويا لا يوجد منه في الخارج إلا فرد، وهذا الفرد المنفي هو المثبت، فأين هذا من معناها الذي يعرفه المسلمون وبه يدينون، ويعرفه المشركون أيضا ويشمئزون منه وينفرون؟ كما قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ}1.
فالمشركون عرفوا وأنكروا مدلولها، وهذا الملحد أنكر مدلولها مع الجهل بمعناها الذي يعرفه كل أحد حتى أعداء الرسل القائلون: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ}2. فسبحان الله ما أبين ضلال هذا الملحد عند أهل البصيرة من أهل التوحيد، وعند أهل الفطر والعقول قاطبة!
فكل ذي عقل ينكر هذا القول ويعرف بطلانه.
الوجوه المبطلة للقول بأن نفي الكلي ليس له أفراد في الخارج
ونذكر وجوها تبين بطلان هذا القول مع ما تقدم:
(الأول): أن هذا يناقض ما شهد الله به وشهدت به ملائكته وأولو العلم من عباده قال تعالى {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}3. فلم يبق معبود يعبده الأولون والآخرون من دون الله إلا بطلت عبادته وإلهيته بشهادة الله عز وجل وملائكته وأولي العلم قاطبة، وأن المعبودات التي بطلت بشهادة الله ليست كليا لا يوجد منه في الخارج إلا فرد كما يقوله الملحد، بل كل ما يوجد في الأمم وفي العرب من الأوثان والأصنام التي لا تحصى كثرة كأصنام قوم نوح وغيرها.
ومن لم يعتقد أن هذا هو الذي شهد الله به(44/34)
وملائكته وأنبياؤه بنفيه عن هذه الأصنام، وكل ما عبد من دون الله، فما قال لا إله إلا الله، وما عرف من الإسلام ما يعصم دمه وماله، وصار عما شهد الله به في معزل.
(الوجه الثاني): أن هذا القول ينافي ما بينه الله تعالى في كتابه من ملة الخليلين لقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ}4 الآية وقد تقدمت. وقال تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وأطيعون ذَلِكُمْ
__________
1 سورة الصافات آية: 35، 36.
2 سورة الأعراف آية: 70.
3 سورة آل عمران آية: 18.
4 سورة الزخرف آية: 26.
ص -346-(44/35)
خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَإِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً}1.
فذكرها عليه السلام بصيغة الجمع. أيجوز في عقل عاقل أن ما ذكره تعالى عن خليله من إنكاره لعبادة هذه الأوثان، وإخباره أنهم لا يملكون لعابديهم رزقا؛ أنها لا توجد في الخارج؟ ولا ريب أنه لا يجحد هذا إلا مكابر معاند مخالف لما جاءت به الرسل من التوحيد.
وقوله تعالى عن خليله وقال: {إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}2 الآية. أيشك من له عقل أن تلك الأوثان موجودة عند عابديها يباشرونها بالعبادة؟ وهل يعرف أحد من هذا السياق إلا أنها موجودة معبودة منتفية بلا إله إلا الله.
وكذلك قول الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}3.
ولا خلاف أن الصنم شيء مصور على صورة شخص يعبد من دون الله، وذلك لا يكون إلا موجودا في الخارج، فسماه الخليل أوثانا وآلهة، وأنكرها وتبرأ منها وممن عبدها.
(الوجه الثالث): أن الله بعث محمدا ينهى قريشا والعرب وغيرهم من المشركين عن أن يعبدوا مع الله غيره كاللات والعُزى ومناة والأصنام التي كانت حول الكعبة كما تقدم، وقد قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى}4 إلى قوله: {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ}5. أيشك أحد بعد هذا أنها موجودة تعبد من دون الله ؟ بل لا يشك مسلم ولا مشرك في وجودها وأن قريشا وغيرهم يعبدونها.
(الوجه الرابع): أن الله تعالى قال: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ(44/36)
أَلِيمٌ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ}6، فأجابوا ردا عليه فيما دعاهم إليه وقالوا: {وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً}7.
__________
1 سورة العنكبوت آية: 16، 17.
2 سورة العنكبوت آية: 25.
3 سورة الأنعام آية: 74.
4 سورة النجم آية: 19.
5 سورة النجم آية: 23.
6 سورة نوح آية: 1: 3.
7 سورة نوح آية: 23.
ص -347-(44/37)
ومعلوم عند العلماء قاطبة بل وعند العامة أنها أسماء رجال صالحين صورها قومهم أصناما على صورهم وسموها بأسمائهم، فآل بهم الأمر إلى أن عبدوها وهي موجودة في الخارج لا يشك في وجودها أحد، ولا ريب أنها منتفية بكلمة الإخلاص لا إله إلا الله.
وهذه الأصنام استخرجها عمرو بن لحي الخزاعي الكاهن لما كان واليا على مكة قبل قريش وفرقها في العرب فعبدوها كما عبدها قوم نوح كما ذكره البخاري في صحيحه.
(الوجه الخامس): ما ذكره الله عن قوم هود لما دعاهم هود عليه السلام إلى أن يعبدوا الله وحده ويتقوه، قال لهم: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ}1 2، فأجابوا بقولهم: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا}3، فظهر أن لهم ولآبائهم معبودات في الخارج يعبدونها من دون الله، ودعوة الرسل تبطل عبادتها.
وتقدم ما ذكره الله تعالى في سورة هود من قولهم لهود عليه السلام: {إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ}4، وهذا لا يقال إلا على آلهة موجودة تعبد، ودلت هذه الآيات على أن الإلهية هي العبادة، وأن المشركين وضعوها فيمن لا يستحقها من صنم ووثن وطاغوت وغير ذلك.
(الوجه السادس) قول يوسف عليه السلام: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ}5. فسبحان الله أين ذهب عقل الفيلسوف حين اعتقد أن المنفي كلي لا يوجد إلا ذهنا؟!
ومعلوم أنه لا يكون له إعداد على هذا الاعتقاد الباطل، وتبين أن كلمة الإخلاص نفت أربابا متفرقين وضعت عليها أسماء ما أنزل(44/38)
__________
1 سورة يوسف آية: 40.
2 هذه الآية في قول يوسف عليه السلام. أما قول هود -عليه السلام- فهو: (أتجادلونني في أسماء إلخ) من سورة الأعراف.
3 سورة الأعراف آية: 70.
4 سورة هود آية: 54.
5 سورة يوسف آية: 39، 40.
ص -348-
الله بها من سلطان، كما كان أهل الأوثان يسمون آلهتهم، وفيما ذكرنا في هذه الوجوه كفاية. فلو ذكرنا ما يبطل قوله من الوجوه لبلغ مائة أو أكثر.
الإله هوالمعبود. والعبادة حق الله وحده بالإجماع
وقد قدمنا عن أئمة اللغة في معنى الإله موافقتهم في لغتهم لما دل عليه الكتاب والسنة من معنى كلمة الإخلاص وما دلت عليه مطابقة وتضمنا والتزاما.
وكذلك النحاة وجميع العلماء من المفسرين وغيرهم أجمعوا قاطبة على أن الإله هو المعبود، وأن العبادة حق لله لا يجوز أن يصرف منها شيء لغير الله كائنا ما كان، وأن المنفي في كلمة الإخلاص كل ما كان يعبد من دون الله من بشر أو ملك أو شجر أو حجر أو غير ذلك.
ولولا قصد الاختصار لبسطت القول في هذا المعنى العظيم الذي لا يصلح لأحد دين إلا إذا عرفه على الحقيقة،وقبل ما دل عليه الكتاب والسنة من بيان توحيد الله،وقصر العبادة عليه دون كل ما سواه.
رد قول أن المنفي بلا إله إلا الله كلي منوي
واعلم أنني لما كتبت قبل هذا في رد قول هذا الملحد أن المنفى بلا إله إلا الله كلي منوي لا يوجد منه في الخارج إلا فرد وهو المستثنى، فأجبت بما حاصله:
إذا كانت لا إله إلا الله لم تنف إلا كليا منويا، فعلى هذا القول الباطل لم تنف لا إله إلا الله صنما ولا وثنا ولا طاغوتا، وصار النفي منصبا على الفرد، فهو المنفي وهو المستثنى، وتناقض هذا لا يخفى على من له عقل وفهم.
وقد عرفت أن هذه دعوى منه مخالفة لما بعث الله به رسله من توحيده، وعلى قول هذا لم يكن للا إله إلا الله مدخل في الكفر بالطاغوت والبراءة من الأوثان التي صرح القرآن بنفيها(44/39)
بكلمة الإخلاص- لا إله إلا الله- كما في آية البقرة وغيرها، وقد تقدم بيان ذلك.
وبهذا يتبين لمن له فهم أن قول هذا الرجل من أبطل الباطل وأبين الضلال وأمحل المحال.
ص -349-
والمسلم الموحد يعلم من الكتاب والسنة ومن قول أهل العقول الصحيحة والفطر السليمة أن لا إله إلا الله لها موضوع عظيم، ومدلولها هو حقيقة الإسلام والإيمان. فإنها إنما وضعت للرغبة عن عبادة كل ما يعبد من دون الله، والبراءة منه والكفر به، وإنكار ذلك وبغضه وعداوته وعداوة من اتخذ الشرك في العبادة دينا، وهذا هو أظهر ما في القرآن، وأبينه إيضاحا وتقريرا.
وجواب ثانٍ وهو قولي: كيف يجوز أن يكون الفرد الذي وجد من الكلي المنفي داخلا في المنفي بإلا خارجا بالاستثناء، فيكون متصفا بالنفي والإثبات وأحدهما نقيض الآخر، وأن لا إله إلا الله لا تدل إلا على هذا الفرد خاصة نفيا وإثباتا؟.
هذا لا يقبله إلا من كان عقله فاسدا لا يعرف حقا من باطل ولا هدى من ضلال، كيف يصح استثناء فرد منفي ويكون هو المستثنى فأين المستثنى والمستثنى منه الذي يعرفه العرب من لغتهم المستعمل في الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة وأئمتها وأهل العربية وغيرهم ويعرفه أهل اللغات؟ فما أبعد ضلال هذا وأجهله وأبعده عن العلم وأهله!
الزعم بأن المستثنى بها هو المفهوم العام
ثم إن هذا الرجل سمع بما كتبته على قوله من الرد والإبطال. فأجاب بقوله: قلنا: إنما يلزم هذا لو أريد بالمستثنى منه فرد خاص جزئي، وإنما أريد منه المفهوم العام المتناول لأفراد المعبود بحق سواء كانت في الذهن أو في الخارج.
(فالجواب): أنه عدل عن قوله الأول إلى ما هو أفظع منه وأشنع، فزعم أن المستثنى منه إنما أريد منه المفهوم العام المتناول لأفراد المعبود بحق، فصرح بأن المستثنى منه إنما أريد منه المفهوم العام المنفي مرادا، فصار المفهوم العام المنفي له أفراد.
ومعلوم أن الأفراد لا توجد في الذهن وإنما توجد في(44/40)
الخارج، فتراه يحوم حول الباطل ويتهافت. وأعظم من هذا قوله: إن المفهوم العام المنفي متناول لأفراد
ص -350-
المعبود بحق فجعل للمعبود بحق، أفرادا منفية بلا، وكلها حق، فكيف يجوز أن ينفي ما هو حق؟ وكيف تكون الأفراد كلها حقا؟
فتدبر يتضح لك الحال. فهذه فنون من الضلال والإلحاد يبديها تارة، ثم يأتي بما هو أعظم منها وأبين في الضلال والمحال، والمنفي بلا في كلمة الإخلاص لا يكون حقا، بل هو الباطل كما دل عليه الكتاب والسنة وما عليه المسلمون، والحق في كلمة الإخلاص هو المستثنى، وهو الله -تعالى- {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً}1 لا شريك له في إلهيته، ولا في ربوبيته، ولا في أفعاله، ولا مثل له، ولا كفء له، ولا ند له، وكل معبود سواه فباطل، ومن لم يعتقد هذا فليس بمسلم.
ولا يخفى أنه يلزم على قول هذا أن للكلي أفرادا معبودة، فإذا كانت كلها معبودة بحق جاز أن تقصد بالعبادة، وهذا دين المشركين الذي بعث الله رسله بإنكاره وإبطاله كما قال –تعالى-: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ}2 وقال –تعالى-: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ}3. والآيات في المعنى كثيرة جدا، فمن عبد مع الله غيره فقد ألحد وأشرك. وكل هذه العبارات التي ذكرها هذا في ورقته ينكرها كل من له عقل.(44/41)
قول أفلاطون وأتباعه إن الله هو الوجود المطلق
وأصل هذا الرجل الذي اعتمده وعبر عنه هو بعينه الذي ذكره شيخ الإسلام -رحمه الله- عن أفلاطون الفيلسوف وأتباعه، بناء منهم على كفرهم، فإنهم يقولون: إن الله هو الوجود المطلق.
ومعلوم أن هذا لا يكون له وجود متميز بنفسه مباين للمخلوقات، إذ الكلي كالجنس والفصل والخاصة والعرض العام لا يوجد في الخارج منفصلا عن الأعيان الموجودة، وهذا معلوم بالضرورة، متفق عليه بين العقلاء.
__________
1 سورة الفرقان آية: 59.
2 سورة النحل آية: 51.
3 سورة الشعراء آية: 213.
ص -351-(44/42)
قال شيخ الإسلام: وإنما يحكى الخلاف في ذلك عن شيعة أفلاطون ونحوه، الذين يقولون بإثبات المثل الأفلاطونية، وهي الكليات المجردة عن الأعيان خارج الذهن.
(قلت): وهذا قول هذا الرجل في ورقته تبع فيه أفلاطون، وهو قوله: إن المنفي في "لا إله إلا الله" كلي لا يوجد منه في الخارج إلا فرد واحد وهو المستثنى. وقد عرفت بطلان هذا القول من الكتاب والسنة، وأن العلماء أنكروا هذا القول غاية الإنكار -كما سيأتي في كلام شيخ الإسلام-؛ لأن المنفي بـ "لا إله إلا الله" كل ما يعبد من دون الله، وهي أجناس موجودة في الخارج، كما قال الخليل عليه السلام: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ}1. وقال -تعالى- عن أهل الكهف: {وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله} ولا ريب أن المنفي ما كان أهل الشرك يباشرونه بعباداتهم، وهي أنداد موجودة في الخارج.
رد الشيخ على أفلاطون
قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- في رده قول أفلاطون ومن تبعه: "والمعلم الأول أرسطو وأتباعه متفقون على بطلان قول هؤلاء، فلو ظنوا أن البارئ هو الوجود المطلق بهذا الاعتبار لوقعوا فيما منه فروا، فإن هذا يستلزم مباينته لجميع المخلوقات وانفصاله عنها، مع أن عاقلا لا يقول أن الكليات هي المبدعة لمعيّناتها، بل هم يقولون: إن العلم بالقضية المعينة المطلوب إثباتها- وهو علو الله على العالم- معلوم بالضرورة والفطرة، ويعلمون بطلان نقيضها بالفطرة والضرورة، ويعلمون أنه إذا لم يكن مباينا كان داخلا محايدا فيلزم الحلول والاتحاد".
وذكر -رحمه الله تعالى- في موضع آخر: أن قدماء الفلاسفة خالفوا أفلاطون وأتباعه في الكلي والجزئي؛ لأنه قول غير معقول.
(قلت): وبهذا يعلم أن قول هذا الرجل: أن المنفي كلي لا يوجد في الخارج. قول غير معقول.
وذكر شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- أن جميع الطوائف من المسلمين وغيرهم(44/43)
__________
1 سورة الزخرف آية: 26.
ص -352-
خالفوا هذا القول، وذكروا أنه لا يعقل، وذكر -رحمه الله تعالى- أن الفلاسفة وأهل الاتحاد لم يفرقوا بين القديم والحديث، ولا بين المأمور والمحظور، وقد وقع كثير من الصوفية في هذا الضلال، وكلتا الطائفتين ضلوا، وأضلوا عن سواء السبيل.
وقال -رحمه الله تعالى-: إن ابن سينا ومن تبعه أخذوا أسماء جاء بها الشرع، ووضعوا لها مسميات مخالفة لمسميات صاحب الشرع، فأخذوا مخ الفلسفة وكسوه ثوب الشريعة، وهذا كلفظ الملك والملكوت والجبروت واللوح المحفوظ، كما يوجد في كلام أبي حامد -يعني الغزالي- ونحوه من أصول هؤلاء الفلاسفة الملاحدة، الذين يحرفون كلام الله ورسوله.
(قلت): ومن ذلك ما ذكره العلامة ابن القيم عنهم من أنهم يقولون: "عناية إلهية". وتحت هذه الكلمة نفي القدر والحكمة.
الرد على تفسير الورقة لكلمة التوحيد
ثم إن هذا في ورقته صرح بأن معنى "لا إله إلا الله" مثل: "لا شمس إلا الشمس" استثناء للشيء من نفسه، وهذا قول في غاية الضلال والجهل، باطل بأدلة الكتاب والسنة، لا يقوله أحد من الأولين والآخرين، ولا في لغة أحد، وليس في المعقول والمنقول إلا رده وإبطاله، ومن لم يعرف بطلان هذا القول فلا حيلة فيه.
وتأمل قول هذا أيضا: وخلاصة المعنى سلب مفهوم الإله لما سوى الله، وإيجابه له، وانحصاره فيه، وصرح بهذا المراد بـ "إلا الله".
(قلت): من يسمع كلامه هذا ظن أنه حق، وقد بناه على ما مثل به: "لا شمس إلا الشمس"، وحقيقة هذا القول أن الإله واحد، يبينه قوله: سلب مفهوم الإله على ما تقدم له من أن المنفي كلي لا يوجد منه في الخارج إلا فرد.
وقد عرفت مما قدمناه أن توحيد الأنبياء والمرسلين البراءة من عبادة الأصنام والأوثان والطواغيت، وكلها موجودة في الخارج بأعيانها كما قال -تعالى- عن قوم نوح: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ
ص -353-(44/44)
وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً}1.
فتبين أن نوحا -عليه السلام- دعا قومه إلى ترك عبادة هذه الأصنام، والبراءة منها، والكفر بها.
وكذلك هود -عليه السلام- دعا قومه إلى عبادة الله وحده، وترك ما كان يعبده آباؤهم كما أخبر تعالى عنهم أنهم قالوا له: {أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ماكان يعبد آباؤنا}2.
ومعلوم أن آباءهم لم يكونوا يعبدون كليا ذهنيا لا يوجد إلا في الذهن، بل يعبدون أشخاصا موجودة في الخارج، وقد قالوا لهود -عليه السلام-: {إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ}3. وقد تقدم من الأدلة ما يدل على أن المنفي والمنهي عنه هو عبادة الأصنام والأوثان والطواغيت التي تعبد من دون الله كما قال -تعالى-: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}4، {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ}5. فلا يشك مسلم -بل كل من له عقل- أن الطواغيت التي يعبدها المشركون موجودة في الخارج، والقرآن من أوله إلى آخره يدل على هذا.
المنفي بكلمة التوحيد كل ما عبد ويعبد من دون الله
فيا من لا يعرف من كلمة الإخلاص ما عرفه عوام المسلمين! ارجع إلى نفسك، وتأمل ما وقعت فيه، أما علمت أن لا النافية إنما وضعت لغة لنفي الجنس تنصيصا؟ والجنس الذي وضعت له لا بد له من أشخاص متعددة في الخارج، قديمة وحديثة، يعبدها كل مشرك؟ وليست كليا لا يوجد إلا في الذهن؟
فإن هذه الدعوى الباطلة لم يقل بها مسلم في معنى كلمة الإخلاص، حتى المشركين في لغاتهم لا يعرفون أن هذا معناها، ولا أنها سلبت مفهوم الإله، بل عرفوا كلهم أن من دعاهم إلى أن يقولوا: "لا إله إلا الله". فإنما أراد منهم ترك ما كانوا يعبدونه من أصنامهم وأوثانهم، وطواغيتهم التي كانت عندهم يعبدونها من دون الله.
أما قريش والعرب، فأخبر الله(44/45)
-تعالى- عنهم أنهم لما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قولوا لا إله إلا الله"6 قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً}7 إلى قوله: {وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ}8، وآلهتهم: اللات والعزى ومناة التي
__________
1 سورة نوح آية: 23.
2 سورة الأعراف آية: 70.
3 سورة هود آية: 54.
4 سورة النحل آية: 36.
5 سورة الزمر آية: 17.
6 الترمذي: تفسير القرآن (3232) , وأحمد (1/227).
7 سورة ص آية: 5.
8 سورة ص آية: 6.
ص -354-(44/46)
كانت حول الكعبة، فهذا هو المراد من هذه الكلمة من لغتهم، لا يعرفون غير ذلك.
فمعنى النفي في هذه الكلمة ترك عبادة الأوثان، والبراءة منها، والكفر بها، وعداوتها، وعداوة من عبدها. وقد كان العرب يقولون في تلبيتهم: "لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك". والشريك إنما هو أوثانهم، أشركوها مع الله في العبادة، واتخذوها أندادا كما قال -تعالى-: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}1، ومفهوم الإله الذي لا يوجد إلا ذهنا لا يوصف بالاتخاذ ولا بالمحبة، بل ولا له ثبوت.
وتأمل ما فهمه أعداء الرسل لما دعتهم الرسل إلى أن يعبدوا الله وحده.
قال -تعالى- عن قوم هود: {إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ}2، وقالوا: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا}3، عرفوا أنه دعاهم إلى ترك عبادتها والبراءة منها، قال -تعالى-: {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ}4.
التوحيد هو الكفر بالطواغيت والأصنام وإخلاص العبادة لله وحده
والمفهوم الكلي الذي لا يوجد في الخارج لا يوصف بهذه الصفات، ولا يجمع بهذا الجمع، بل ولا يتصور أن يدعى من دون الله.
وقال -تعالى- عن قوم صالح: {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا}5 عرفوا أنه أراد منهم ونهاهم أن يعبدوا ما يعبد آباؤهم من الأوثان.
وقال -تعالى- عن قوم شعيب: {أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا}6، عرفوا في لغاتهم أنه نهاهم عن عبادة ما كان يعبد آباؤهم من الأوثان الموجودة في الخارج.
وتأمل قول الله -تعالى-: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً}7، وقال: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا(44/47)
بُرْهَانَكُمْ}8، وقال: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ}9، وقال: {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً}10، وقال: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ}11. ولا شك عند من له أدنى مسكة من عقل أن
__________
1 سورة البقرة آية: 165.
2 سورة هود آية: 54.
3 سورة الأحقاف آية: 22.
4 سورة هود آية: 101.
5 سورة هود آية: 62.
6 سورة هود آية: 62.
7 سورة مريم آية: 81.
8 سورة الأنبياء آية: 24.
9 سورة الزمر آية: 43.
10 سورة الكهف آية: 102.
11 سورة الشورى آية: 6.
ص -355-(44/48)
الذي اتخذه المشركون يعبدونه من دون الله أشخاصا متعددة في القرآن من هذا النمط لا تحصى.
والمقصود أن الرسل من أولهم إلى آخرهم دعوا أممهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وترك عبادة ما كانوا يعبدونه من دونه، والكفر به، والبراءة منه، كما أفصح عن ذلك خليل الرحمن إبراهيم كما قال -تعالى-: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}1، وقال: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً}2، وقال: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}3.
فالنهي عن عبادة الأصنام والطواغيت، والبراءة منها، والكفر بها، وإخلاص العبادة لله وحده هو التوحيد الذي دعت إليه الرسل، وأفصح القرآن عنه، وجرى بسبب جحوده على الأمم والمشركين ما جرى من العذاب والذهاب والعقاب، فإن هذا من سلب مفهوم ذهني لا يفيد شركا ولا براءة ولا عداوة.
فسبحان من طبع من شاء من عباده عن فهم ما بعث الله به رسله من توحيده في العبادة، وصرفهم عن فهم الأدلة التي أظهر فيها لعباده مراده، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وبهذا يتبين فساد ما لبس به هذا المفتري في معنى كلمة التوحيد، وأنه مصادم لما في كتاب الله من تفسير هذه الكلمة العظيمة، ومناقض لما بعث الله به رسله من إخلاص العبادة له، وترك عبادة ما سواه، والبراءة منها؛ وهذا أظهر شيء في القرآن وأبينه، لا يمتري فيه مسلم.
ونشير إلى ما ذكره بعض العلماء في أصل هذه المقالة وبطلانها.
معنى لا إله إلا الله وإعرابها عند الكوراني
قال إبراهيم بن سعد(44/49)
الكوراني في مصنفه في بيان معنى "لا إله إلا الله" وإعرابها،
__________
1 سورة الأنعام آية: 74.
2 سورة العنكبوت آية: 17.
3 سورة الممتحنة آية: 4.
ص -356-
وإنها دلت على توحيد الإلهية مطابقة وتضمنا وما دلت عليه التزاما، وذكر كلاما في تقرير هذا المعنى، وذكر أن بعضهم اشترط في لا النافية للجنس في هذه الكلمة الوحدة الذهنية، فجعلوا الجنس المنفي واحدا لا يوجد إلا ذهنا. قال: وبما ذكرناه يتضح أنه لا يصح أن يقال: نأخذ الجنس بشرط الوحدة الذهنية فتكون القضية طبيعية.
(أما أولا): فالمراد بالجنس- بلا شرط- الصالح للصدق على الأفراد، كما هو الشأن في موضوع القضايا.
(وأما ثانيا): فلأن الكلام يخرج عن إفادة التوحيد بالكلية، لأن حاصله حينئذ هذا الجنس المأخوذ بشرط الوحدة الذهنية المغايرة لله تعالى منتف، وليس هذا من التوحيد في شيء، ولا شم من رائحة الدلالة عليه.
(ويقال ثالثا): إن أريد أن هذا الجنس منتف في الذهن فهو قطعي البطلان، إذ كل من ينطق بهذا التوحيد مستحضرا لمعناه قد تحقق هذا الجنس في ذهنه، فكيف يصلح نفيه؟ وعلى كل حال فلا يصح تفسيرا لهذه الكلمة، لأن المراد من "لا إله إلا الله" هو الدلالة على توحيد الألوهية، وهذا معلوم بالضرورة، وعلى تفسيرهم يكون بينه وبين الدلالة على التوحيد بُعد المشرقين.
(قلت): وهذا الذي ذكره إبراهيم بن سعد من اشتراطهم أن يكون الجنس فردا لا يؤخذ إلا ذهنا، هو الذي صرح به هذا الملحد في ورقته، وهو أن "لا" في كلمة التوحيد سلبت مفهوم الإله الذي لا يوجد إلا ذهنا، وقد عرفت بعد هذا عن التوحيد الذي دلت عليه كلمة الإخلاص.
ولقد صرفوا هذه الكلمة العظيمة عما وضعت له وأريد بها لغة وشرعا وعقلا وفطرة، فإنها وضعت للبراءة من كل ما يعبد من دون الله، وإبطال عبادته، والكفر به؛ وقد عرف هذا كل أحد حتى مشركو الأمم، ومشركو العرب كما تقدم بيانه.(44/50)
الرد على من صرف كلمة التوحيد عن معناها
وأما قوله: وخلاصة المعنى سلب مفهوم الإله لما سوى الله وإيجابه له وانحصاره
ص -357-
فيه. وصرح بهذا المراد بـ "إلا الله"، فمراده بقوله: وإيجابه له وانحصاره فيه، هذا هو توحيد الفلاسفة وأهل الوحدة، فإن الله عندهم مسماه: الكون المطلق، فكل ما كان خارجا عن الذهن من الأشخاص فقد دخل في مسمى الله، فكل ما في الكون من خبيث وطيب فهو الله، كما ذكره شيخ الإسلام وابن القيم وغيره عنهم. فواجب الوجود والممكن كله داخل في هذا المسمى عندهم، وقد صرحوا بهذا في كتبهم، فلم يفرقوا بين الخالق والمخلوق، وقد قدمنا التنبيه في كلام شيخ الإسلام وابن القيم -رحمهما تعالى- كما ذكر إبراهيم بن سعد ذلك عنهم، وكما قال العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى-:
يا أمة معبودها موطوؤها
أين الإله وثغرة الطعان؟
والناصح لنفسه يكون من هؤلاء الملبسة على حذر، ولا يهمل السؤال عنهم وعن مذاهبهم، وما يخدعون به العامة من زخرف القول، الذي ربما يظن الجاهل أنه حق، وهو عبارة هؤلاء عن باطلهم، كما نبه على ذلك شيخ الإسلام من وضعهم أسماء الحق على باطلهم، وكل طائفة من أهل البدع لها توحيد. وهذا الذي ذكرناه هو توحيد الفلاسفة والاتحادية، وقد أضلوا بما موهوا به كثيرا ممن ينتسب إلى العلم.
يا قومنا, الله في إسلامكم
لا تفسدوه لنخوة الشيطان(44/51)
وتأمل ما ذكره الفخر الرازي في معنى "لا إله إلا الله"، فإنه قال: التحقيق أن المضمر المرفوع بـ "إله" راجع بالحقيقة إلى نفي الأعيان التي سموها آلهة من حيث إنها آلهة، لا إلى وجودها في حد ذاتها ضرورة أنها موجودة في الخارج بالفعل محسوسة. وحاصله نفي كل فرد من أفراد إله من تلك الحيثية غير الله راجع إلى نفي الألوهية عن كل موجود غير الله. انتهى.
فتأمل قوله: راجع إلى نفي الأعيان التي سموها آلهة. (قلت): وهو الحق، لأنها نفت إلهية كل مألوه يألهه المشركون غير الله، من كل صنم ووثن وشريك
ص -358-(44/52)
وطاغوت، وهذا هو مدلول "لا إله إلا الله": نفي إلهية كل ما يؤله من دون الله. وقوله: لا إلى وجودها، دفعا لقول من قال: إن الخبر المضمر موجود، وقد بيّن وجه ذلك، وتقديره للخبر بأحد قريب مما تقدم في المعنى.
المنفي في كلمة التوحيد الإلهية الكثيرة الموجودة في الخارج
وتأمل قوله: وحاصله نفي كل فرد من أفراد إله. فبيّن أن المنفي له أفراد كثيرة، وهذا ظاهر بيّن لا يمنعه أحد، كما هو ظاهر في الكتاب والسنة واللغة والفطرة خلافا للفلاسفة.
وكذلك قوله: راجع إلى نفي الإلهية عن كل موجود غير الله، وهذا هو الذي يعرفه الناس كلهم إلا ما كان من هذه الطائفة ومن أهل الوحدة، فإنهم ألحدوا في التوحيد، وأتوا بكل ما يستحيل عقلا وشرعا. فسبحان الله، والله أكبر، أيجوز في عقل أن المشركين من أولهم إلى آخرهم الذين عبدوا مع الله غيره أنهم إنما عبدوا فردا في الذهن لا وجود له في الخارج؟! هذا أمحل المحال، وأبطل الباطل.
وقد نبهت فيما تقدم على أنهم أرادوا بهذا أن الأصنام والأوثان والطواغيت لا تدخل في المنفي لأنها من جملة الوجود الذي يسمونها الله.
وأقول أيضا: الآلهة هي الأنداد والطواغيت والشركاء، وقد قال -تعالى-: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}1، فذكرها مجموعة لكثرة أفرادها في الخارج، وقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}2، فذكرها بصيغة الجمع يدل على كثرة أفرادها، وقال -تعالى-: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}3،وقال: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا}4.
وهذه الآيات تدل على أن المعبودات التي تعبد من دون الله كثيرة من الطواغيت وغيرها كقوله في آية البقرة: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى(44/53)
الظُّلُمَاتِ}5، وكقوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ}6، ولا ريب أن الجن لهم وجود في الخارج، وقوله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}7.
فدلت هذه الآيات على أن لهذه المعبودات أفرادا كثيرة، وكلها منتفية بـ "لا إله إلا
__________
1 سورة البقرة آية: 22.
2 سورة البقرة آية: 165.
3 سورة البقرة آية: 256.
4 سورة الزمر آية: 17.
5 سورة البقرة آية: 257.
6 سورة الأنعام آية: 100.
7 سورة الشورى آية: 21.
ص -359-(44/54)
الله"، كما قال -تعالى-: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ}1، وهذا واضح بحمد الله، فبطل ما اختلقه الفيلسوف، وتبين به إلحاده في التوحيد الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ}2.
وضع الأسماء الشرعية للمسميات البدعية
واعلم أن هؤلاء الزنادقة قد طردوا أصلهم هذا حتى في الإيمان، كما قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- في كتاب الإيمان عن هؤلاء:
إنهم يثبتون لهذه المسميات وجودا مطلقا مجردا عن جميع القيود والصفات، وهذا لا حقيقة له في الخارج، وإنما هو شيء يقدره الإنسان في ذهنه، كما يقدر موجودا لا قديما ولا محدثا، ويقدر إنسانا لا موجودا ولا معدوما، ويقول الماهية من حيث هي لا توصف بوجود ولا عدم، ويقول الماهية من حيث هي هي شيء يقدره الذهن، وذلك موجود في الذهن لا في الخارج، فهكذا الإيمان يقدر إيمانا لا يتصف به مؤمن، بل هو مجرد عن كل قيد، كتقدير إنسان لا يكون موجودا ولا معدوما، بل ما ثم إيمان إلا مع المؤمنين.
(قلت): وكذلك إله لا يوجد إلا مع مألوه تألهه القلوب بالعبادة، وقد أشرت إلى ما ذكره شيخ الإسلام عن هذه الطائفة كابن سينا ومن سبقه، أخذوا أسماء جاء بها الشرع، ووضعوا لها مسميات مخالفة لمسميات صاحب الشرع، ثم صاروا يتكلمون بتلك الأسماء، فيظن الجاهل أنهم قصدوا بها ما قصده صاحب الشرع، فأخذوا مخ الفلسفة فكسوه ثوب الشريعة، وهذا كلفظ الملك والملكوت والجبروت واللوح المحفوظ، والملك والملكوت والشيطان والحدث والقدم وغير ذلك. وقد ذكرنا من ذلك طرفا في الرد على الاتحادية، لما ذكرنا قول ابن سبعين، وابن عربي، وما يوجد في كلام أبي حامد، وغيره من أصول الفلاسفة(44/55)
__________
1 سورة الأنبياء آية: 24.
2 سورة الحشر آية: 2.
ص -360-
والملاحدة التي يحرفون بها كلام الله ورسوله عن مواضعه، كما فعلت القرامطة الباطنية. انتهى كلامه -رحمه الله تعالى-.
والمقصود من هذا الجواب بيان ما قد يفتريه الجاهل من كلام هؤلاء الذين يلبسون على العامة، فيأتونهم بما لا يعرفون أنه حق وباطل، فربما اعتقدوه تعليلا لهؤلاء، فيقعون في حيرة وشك، وهم قبل الابتلاء بهؤلاء في عافية. فسبحان مقلب القلوب.
والأصل في ذلك ما أشار إليه شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- في مثل هؤلاء أنه ليس عندهم من علم القلب ومعرفته ويقينه ما يدفع الريب، ولا عندهم من قوة الحب لله ورسوله ما يقدمونه على الأهل والمال، وهؤلاء إن عوفوا من المحنة وماتوا دخلوا الجنة، وإن ابتلوا بمن يدخل عليهم شبهات توجب ريبهم فإن لم ينعم الله عليهم بما يزيل الريب، وإلا صاروا مرتابين، وانتقلوا إلى نوع من النفاق. انتهى كلامه -رحمه الله تعالى-.
فليكن العبد المؤمن من المحنة بأهل الأهواء على حذر، ومن دنياه على خطر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
اللهم مصرف القلوب اصرف قلوبنا على توحيدك وطاعتك وتقواك، وأقم لنا ديننا الذي ارتضيته لنا، وثبتنا عليه. اللهم زيّنا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين.
تفسير العلماء لكلمة التوحيد
ونختم الجواب بذكر ما ذكر العلماء -رحمهم الله تعالى- في معنى "لا إله إلا الله":
قال ابن رجب -رحمه الله تعالى-: الكلام على "لا إله إلا الله": الإله هو الذي يطاع فلا يعصى، هيبة له وإجلالا ومحبة وخوفا ورجاء وتوكلا وسؤالا منه ودعاء له. ولا يصلح ذلك كله إلا لله عز وجل، فمن أشرك مخلوقا في شيء من هذه الأمور التي هي من خصائص الإلهية كان ذلك قدحا في إخلاصه في قول "لا إله إلا الله"، وكان فيه من عبودية المخلوق بحسب ما فيه من ذلك.
وقال البقاعي: "لا إله إلا الله"(44/56)
أي: انتفى انتفاء عظيما أن يكون معبودا بحق
ص -361-
غير الملك الأعظم، فإن هذا العلم هو أعظم الذكرى المنجية من أهوال الساعة، وإنما يكون علما نافعا إذا كان مع الإذعان والعمل بما تقتضيه، وإلا فهو جهل صرف.
وقال الطيبي: الإله فعال بمعنى مفعول، كالكتاب بمعنى المكتوب، من أله إلاهة، أي عبد عبادة.
(قلت): وهذا الذي ذكره الطيبي -رحمه الله تعالى- على معنى ما ثبت عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قرأ: "ويذرك وإلاهتك" قال: لأنه كان يعبد ولا يعبد. وهذا ظاهر بحمد الله لمن تدبر القرآن، وعرف حقيقة الإسلام والإيمان.
والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا.
ص -362-(44/57)
ذيل للرد للعلامة ابن بطين
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين -وفقه الله -تعالى- ورحمه وغفر له- لما ذكر له الشيخ عبد الرحمن بن حسن أن يرد على المحمود لما غلط في معنى "لا إله إلا الله"، وقال بعد السلام ورحمة الله وبركاته وغير ذلك: ذكرت لي أني أكتب على كلام الدرويش الذي عندكم في بيان بعض ما فيه من العيب، والذي كتبتم عليه فيه كفاية، لكن نذكر على بعض ألفاظه بيان مخالفته للحق.
منها قوله: "الحمد لله المتوحد بجميع الجهات" فنقول: لا يشك من سمع هذا الكلام في أن المراد بالجهات الجهات الست، التي يقول المعطل فيها: إن الرب -سبحانه وتعالى- من الجهات الست خالٍ، والاتحادي يقول: إنه سبحانه متحد فيها، والحلولي يقول: إن الله سبحانه حالٌّ فيها. تعالى الله عما يقول الجميع علوا كبيرا. وأهل السنة والجماعة يقولون: إن الرب سبحانه مستو على عرشه بائن من خلقه.
وظاهر قول الرجل: "المتوحد بجميع الجهات"، يشبه قول الاتحادية، وإن حملت الباء على الظرفية شابه قول الحلولية، وربما يظن أنه لعجمته يعبر بعبارات لا يعرف معناها، لكن سمعت أنه قد شرع في وضع حاشية على النونية، ولا يتنَزل لذلك إلا من يدعي تمام المعرفة. وحكي عنه أنه يقول: مرادي بالجهات جهات التوحيد الثلاث وهو توحيد الربوبية، والإلهية، والأسماء والصفات. وهذا بعيد من كلامه لأن هذه تسمى أنواعا لا جهات. وبكل حال فظاهر كلامه يخالف ما عليه أهل السنة والجماعة، لكن ينبغي أولا إحضاره، ويبين له ما في كلامه مما ظاهره خلاف الحق، وتبين له الأدلة الشرعية على خلاف ما يوهمه كلامه، فإن اعترف فهو المطلوب والحمد لله.
وفي كلامه من العيب والركاكة كثير، كقوله: "لا شريك له في الذات ولا في
ص -363-(44/58)
الصفات" فنفى الشركة في الذات، ولم يقل أحد من بني آدم إن لله -سبحانه وتعالى- شريكا في ذاته حتى يحتاج إلى نفي ذلك، وإنما يقول أهل الحق: "لا شبيه له في ذاته ولا في صفاته" ردا لقول المشبهة. فهذا من قوله: "لا شريك له في ذاته" يدل على قلة معرفته في هذا الباب.
وكذلك قوله: "لا شريك له في الملك فضلا عن الملكوت". فأشار بقوله: "فضلا عن الملكوت" إلى بعد ما بينهما، وقد ذكر العلماء أن الملكوت هو الملك، وإنما زيدت التاء للمبالغة في التعظيم.
وكذلك قوله في إعراب "لا إله إلا الله ": "من قبيل استثناء الجزئي من الكلي". فجعله استثناء للاسم الكريم من نوع استثناء الجزئي من الكلي غلط، بل الجزئي مقابل الكلي وقسيمه لا قسم منه، فالكلي ما اشترك في معناه كثيرون كالإنسان والحيوان، والجزئي يراد به الأسماء الأعلام كزيد وعمرو، والاسم الكريم أعرف المعارف كما قال سيبويه وغيره.
وكذلك قوله في إعراب "لا إله إلا الله": "إنه كقولنا لا شمس إلا الشمس". لأن قول القائل: "لا شمس إلا الشمس" لفظ لا فائدة فيه، وأيضا فاسم الشمس من الألفاظ الكلية؛ لقولهم في تعريف الكلي: ما لا يمنع تصور معناه من وقوع الشركة فيه، فهو الكلي سواء وقعت الشركة كالإنسان، أو لم تقع وأمكنت كالشمس، أو استحالت كالإله. فإن استحالة ذلك للأدلة القاطعة عليه، فجعل الاسم الكريم الذي هو أرفع الأعلام، وأعرف المعارف مثل الشمس التي هي من الألفاظ الكلية غلط. بل الموافق لقولنا: "لا شمس إلا الشمس" قول القائل: "لا إله إلا الإله"، وهذا لفظ مع الإطلاق، لا يستفاد منه توحيد الإلهية لله رب العالمين.
هذا وكثير من كلامه جعجعة بلا طحن، فنسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يهدينا وجميع الأمة إلى صراطه المستقيم. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم
ص -364-(44/59)
جواب أهل السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والزيدية - عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب (1)
الناشر:
دار العاصمة، الرياض، المملكة العربية السعودية
الأولى بمصر، 1349هـ، النشرة الثالثة، 1412هـ
جواب أهل السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والزيدية
وهو رد على بعض علماء الزيدية فيما اعترض به على دعوة التوحيد الوهابية
تأليف: الشيخ الإمام عبد الله ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى
الشرك بالله سبب الاختلاف بين أهل نجد والرافضة
ص -47-(45/1)
بسم الله الرحمن الر حيم
وبه نستعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، -صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما.
(أما بعد): فإنه قد وصل إلينا كتابكم الذي فيه الاعتراض على الجواب الذي قد أتاكم العام الماضي صحبة رسولكم؛ واعتراض المعترض عليه فاسد من وجوه كثيرة، وهو يدل على جهالة قائله ومكابرته ومعاندته لأهل البيت النبوي، وغيرهم من أهل السنة والجماعة المقتدين بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما سنبينه -إن شاء الله تعالى-.
والجاهل يبين جهله وضلاله بالأدلة، فإذا عاند وكابر صار جهاده بالسيف، كما قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}1.
أما قوله: إن سبب الاختلاف بين السائل والمسؤول هو أن عَلِيًّا -عليه السلام- فارقه وحاربه معاويةُ بن أبي سفيان رضي الله عنه، وقتل علي رضي الله عنه بعد أن كانت الحرب بينهما أربعين يوما إلى آخره.
فنقول: هذا مما يدل على جهل المعترض أو تجاهله، وذلك أن الاختلاف الذي بيننا وبينكم ليس هذا سببه، وإنما سبب الاختلاف والعداوة والمقاتلة لمن قاتلناه هو: الشرك بالله، الذي قد انتشر وذاع في سائر البلاد، من يَمَنٍ وشام ومغرب
__________
1 سورة الحديد آية: 25.
ص -48-(45/2)
ومشرق، وهو: الاستغاثة بالصالحين ودعوتهم في كشف الشدائد وجلب الفوائد الذي قال الله فيه وفيمن فعله: {مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}1.
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً}2. وقال تعالى في حق الأنبياء: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}3. وقال لنبينا صلى الله عليه وسلم {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ}4. وقال تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ}5.
وقد صح عندنا بالنقل المتواتر أن هذا يُفْعَل عندكم في كثير من بلاد اليمن ولا تُزِيلُونه ولا تُنْكِرُونه على مَن فعله، والأوثان والبنايات التي على القبور موجودة عندكم. وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي عليٌّ رضي الله عنه ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أَدَعُ تمثالا إلا طمستُه، ولا قبرا مشرفا إلا سويته" 6.
__________
1 سورة المائدة آية: 72.
2 سورة النساء آية: 48.
3 سورة الأنعام آية: 88.
4 سورة الزمر آية: 65.
5 سورة يونس آية: 106.
6ورُوِيَ: "ألا تَدَعَ تمثالا" بالخطاب إلخ.
ص -49-(45/3)
الاختلاف بين علي ومعاوية رأي أهل السنة في هذه الفتن
سبب الفتن والحروب في عهد الصحابة
الاختلاف بين علي ومعاوية (ورأي أهل السنة في هذه الفتن1 )
وأما الاختلاف الذي بين علي ومعاوية: فتلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولنا ما كسبنا، ولا نسأل عما كانوا يعملون، كما قال الله تعالى؛ لأهل الكتاب لما احتجوا بإبراهيم وإسحاق ويعقوب: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}2.
وأما قوله: فلما مات الحسن اسْتَتَمَ لمعاوية هذا الأمر، فهذا مما يدل على جهله بالسِّيَر والأخبار، فإن الأمر قد استتم لمعاوية قبل موت الحسن بسنين، وبايعه جميع المسلمين بالخلافة سنة انخلع الحسن من الخلافة، وسلمها إلى معاوية، وصالحه على ذلك في سنة إحدى وأربعين. وذلك أنه ولي الخلافة بعد قتل أبيه رضي الله عنه فأقام فيها ستة أشهر وأياما، ثم سار إليه معاوية وأرسل إليه الحسن يبذل تسليم الأمر إليه واشترط عليه شروطا، فأجاب معاوية إلى ذلك، وظهرت المعجزة النبوية في قوله صلى الله عليه وسلم في الحسن بن علي: "إن ابني هذا سيد؛ ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين"3.
وكان نزوله عنها في شهر ربيع الأول من السنة المذكورة، وقيل في جماد الأول4. وتوفي الحسن رضي الله عنه بالمدينة سنة تسع وأربعين، وقيل: في خامس ربيع الأول سنة خمس وأربعين، وقيل سنة إحدى
ص -50-(45/4)
وخمسين. كذا ذكره السيوطي وغيره من أهل التواريخ، وبهذا يتبين لك تخبط المجيب في كلامه، وجهله بالنقل.
نكبة المسلمين الكبرى وفتنتها بقتل عثمان
وأما قوله: فلما قتل علي، ومات ابنه الحسن استتم لمعاوية الأمر، فذلت له الرقاب، وافترقت الأمة إلى فرقتين إلى آخر كلامه.
فيقال: وهذا أيضا من عجيب جهله، فإن الافتراق العظيم الواقع بين الأمة سببه قتل أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه وبعد قتله افترقت القلوب حتى آل الأمر إلى القتال بالسيف، وجرى بين علي وطلحة والزبير وقعة الجمل المشهورة؛ قتل فيها بين الفريقين نحو ثمانية عشر ألفا، ثم جرت بين علي ومعاوية وقعة "صفين". ودام القتال بينهم نحو مائة يوم وعشرة أيام، وقتل بين الفريقين نحو مائة ألف وعشرة آلاف، فمن أهل الشام تسعون ألفا، ومن أهل العراق عشرون ألفا كما ذكر ذلك المسعودي، وغيره من أهل العلم بالتاريخ.
وجرى في أيام علي من الفتن والحروب والقتل بين المسلمين ما هو معروف، وكل ذلك بسبب قتل عثمان رضي الله عنه 1.
وقد أخرج ابن عدي وابن عساكر من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن لله سيفا مغمودا في غمده ما دام عثمان، فإذا قتل عثمان جرد ذلك السيف، فلم يغمد إلى يوم القيامة"، قال السيوطي: تفرد به عمرو بن فائد وله مناكير.
وأخرج ابن عساكر عن حذيفة قال: "أول الفتن قتل عثمان، وآخر الفتن خروج الدجال. والذي نفسي بيده، لا يموت رجل وفي قلبه مثقال حبة من حب قتل عثمان إلا وقع في فتنة الدجال، وإن لم يدركه آمن به في قبره".
وأخرج ابن عساكر2: لو لم يطلب الناس بدم عثمان لرموا بالحجارة من السماء.(45/5)
__________
1 وأما السبب الباطن لهذه الفتن فهي دعاية التشيع لعلي –كرم الله وجهه- التي بثها الخبيث عبد الله بن سبأ اليهودي الزنديق في المسلمين، فكان الغلو فيها سبب غلو الخوارج في عداوة علي وأنصاره، وغيرهم من أهل السنة.
2 لم يذكر صاحب هذا الأثر، والظاهر أنه حذيفة، فيراجع في تاريخ ابن عساكر.
ص -51-
وأخرج عن سمرة قال: "إن الإسلام كان في حصن حصين، وأنهم ثلموا في الإسلام ثلمة بقتلهم عثمان لا تسد إلى يوم القيامة، وأن أهل المدينة كانت فيهم الخلافة فأخرجوها، ولم تعد إليهم".
وأخرج عبد الرزاق في مصنفه عن حميد بن هلال قال: كان عبد الله بن سلام يدخل على محاصري عثمان فيقول: "لا تقتلوه، فوالله لا يقتله رجل منكم إلا لقي الله أجذم؛ لا يد له، وإن سيف الله لم يزل مغمودا، وإنكم والله إن قتلتموه لسله الله ثم لا يغمده عنكم أبدا. وما قتل نبي قط إلا قتل به سبعون ألفا، ولا خليفة إلا قتل به خمسة وثلاثون ألفا قبل أن يجتمعوا"1.
وأخرج الحاكم عن الشعبي قال: ما سمعت من مراثي عثمان أحسن من قول كعب بن مالك، حيث قال:
فكف يديه ثم أغلق بابه
وأيقن أن الله ليس بغافل
وقال لأهل الدار: لا تقتلوهم
عفا الله عن كل امرئ لم يقاتل
فكيف رأيت الله صب عليهم
العداوة والبغضاء بعد التواصل؟
وكيف رأيت الخير أدبر بعده
عن الناس إدبار الرياح الجوافل؟
اتفاق كلمة المسلمين بنُزول الحسن لمعاوية عن الخلافة
وأما بعد مبايعة الحسن لمعاوية فاجتمعت الكلمة واصطلح الناس، ولأجل ذلك سمي العام عام الجماعة، فكيف يقول هذا الجاهل: افترقت الأمة بعد أن استتم لمعاوية الأمر فرقتين…، إلى آخر كلامه2.
وقد ذكر أهل العلم بالسير والتواريخ أن معاوية لما تولى الخلافة، واستتم له الأمر -حين عزل الحسن نفسه- اتفقت كلمة المسلمين، وكانوا في ولايته متفقين غير(45/6)
__________
1 من مرويات عبد الله بن سلام من كتب بني إسرائيل ا هـ من حاشية الأصل.
2 قوله: هذا اصطلاح للشيعة يعنون به أن فريقا من الناس صاروا عثمانيين ويعنون بهم أهل السنة، وفريقا صاروا علويين ويعنون بهم أنفسهم، كما سيأتي مع رد المؤلف عليه.
ص -52-
مختلفين، يغزون العدو ويجاهدون في سبيل الله. فلما مات معاوية جرت الفتن العظيمة، منها قتل الحسين وأهل بيته، ومنها حصار ابن الزبير بمكة، ووقعة الحرة بالمدينة، ثم لما مات يزيد، جرت فتنة بالشام بين مروان والضحاك بمرج راهط. ثم وثب المختار بن عبيد على ابن زياد فقتله، وجرت فتنة مصعب بن الزبير وقتله، ثم حاصر الحجاج ابن الزبير فقتله وجرت فتنة، ثم لما تولى الحجاج العراق خرج عليه عبد الرحمن بن الأشعث مع خلق عظيم من القراء، وكانت فتنة كبيرة. فهذا كله بعد موت معاوية رضي الله عنه ثم جرى بعد ذلك -أيضا- فتنة ابن المهلب بخراسان، وقتل زيد بن علي بالكوفة، وجرت فتن. ثم قام أبو مسلم وغيره بخراسان، وجرت فتن يطول وصفها وتزايد شرها.
مزايا معاوية وفضل ملكه على من بعده
وبالجملة فلم يكن ملك من ملوك المسلمين خير من معاوية إذا نسبت أيامه إلى أيام من بعده.
وقد روى أبو بكر الأثرم: حدثنا محمد بن عمرو، حدثنا مروان عن يونس، عن قتادة قال: لو أصبحت في مثل عمل معاوية لقال الناس: هذا المهدي. وكذا رواه ابن بطة بإسناده الثابت من وجهين عن الأعمش، عن مجاهد، قال: لو أدركتم معاوية لقلتم هذا المهدي.
ص -53-
وفي الصحيحين: "أن رجلا قال لابن عباس: هل لك في أمير المؤمنين معاوية إنه
أوتر بركعة؟ فقال: أصاب، إنه فقيه"2، فهذه شهادة ابن عباس بفقه معاوية. وابن
عباس من علماء أهل البيت، ومعاوية ليس من السابقين الأولين، بل قد قيل: إنه
من مسلمة الفتح، وقيل: بل أسلم قبل ذلك، وكان يعترف بأنه ليس من فضلاء(45/7)
الصحابة، ومعلوم بإجماع المسلمين أنه ليس قريبا من عثمان وعلي فضلا عن
أبي بكر وعمر.
وقد تبين بما ذكرنا لكل منصف أريب، ولمن له قلب منيب، جهل هذا المعترض
وطائفته بما عليه أهل البيت، وأن دعواهم ومحبتهم كذب وافتراء، ومجرد دعوى لا
حقيقة لها، كما أن اليهود والنصارى يدعون اتباع أنبيائهم، وهم قد خالفوهم
وسلكوا غير طريقهم.
وكذلك الرافضة والشيعة يدعون اتباع علي وأهل بيته، وهم قد خالفوا طريقهم،
وسلكوا غير منهاجهم، وأن أسعد الناس باتباعهم ومحبتهم أهل السنة والجماعة
القائلون بما دل عليه الكتاب والسنة.
__________
1 أكبر فضيلة لمعاوية عند هؤلاء المثنين عليه، وغيرهم أنه قدر على حفظ
المملكة الإسلامية من التقاتل بين المسلمين، ووجه همتهم وقوتهم إلى الكفار،
وفتح الأمصار، وأكبر غائلة له إخراج منصب الإمامة العظمى عما وضعها فيه
الصحابة بهداية الله ورسوله، وهو الانتخاب الاختياري، إلى عصبية النسب بجعلها
في ولده يزيد الفاجر، ثم إرثا يتداوله بنو أمية، فكان هذا سببا لجعلها كالكرة
يتقاذفها الأقوياء بالعصبية دون هداية الصحابة، وبذلك صارت ملكا عضوضا بعد
الراشدين كما ورد في الحديث.
2 البخاري: المناقب (3765).
ص -54-(45/8)
مدة الحرب بين علي ومعاوية
وأما قوله: بعد أن كانت الحرب بينهما أربعين يوما، فالجواب أن يقال: هذا مما يدل على جهل هذا المعترض بالسير والأخبار، وأنه يخبط في كلامه خبط عشواء بلا دليل ولا مستند ولا استبصار، ولا معرفة بما نقله أهل تواريخ الإسلام والعلماء الكبار، فإن كان مراده يوم "صفين" خاصة، فقد ذكر أهل التواريخ الإسلامية أن الحرب أقامت بين علي ومعاوية في يوم صفين1 نحو مائة يوم وعشرة أيام، وجرى بينهم في تلك المدة نحو تسعين وقعة.
وذلك أنهم ذكروا أن ابتداء القتال في أول يوم من صفر سنة سبع وثلاثين من الهجرة، فدامت الحرب بينهم ثلاثة أشهر وعشرين يوما، كما ذكر معنى ذلك المسعودي عن أهل السير والأخبار كما تقدم ذلك عنه. وذكر القرطبي، صاحب التفسير الكبير، أن مقام علي ومعاوية بصفين سبعة أشهر، وقيل: تسعة، وقيل: ثلاثة، وكان بينهم قبل القتال نحو من سبعين يوما زحفا في ثلاثة أيام من أيام البيض؛ وهي ثلاثة عشر، وأربعة عشر، وخمسة عشر، وقتل ثلاثة وسبعون ألفا من الفريقين، ذكره الثقة العدل إبراهيم بن الحسن الكسائي الهمذاني.
وفي تلك الليالي ليلة الهرير؛
__________
1 إن قيل: كيف قال يوم صفين؟، ثم قال: إنه كان 110 أيام (قلنا): إن لفظ "اليوم" في أصل اللغة معناه الزمن الذي يحدده ما يقع فيه قل أو كثر، فيوم صفين هو الزمن الذي وقعت فيه الحرب بين علي ومعاوية وقدره 110 أيام فلكية، وهكذا يقال في يوم الجمل، وأيام العرب وغيرها. ويوم القيامة زمن مقداره خمسون ألف سنة كما قال الله -تعالى-.
ص -55-(45/9)
الصوت يشبه النباح؛ لأنهم تراموا بالنبل حتى فنيت، وتطاعنوا بالرماح حتى اندقت، وتضاربوا بالسيوف حتى تقصفت، ثم نزل القوم بعضهم إلى بعض، قد كسروا جفون سيوفهم، واضطربوا بما بقي من السيوف وعمد الحديد، فلا تسمع إلا غمغمة القوم والحديد في الهام.
فلما صارت السيوف كالمناجل، تراموا بالحجارة، ثم جثوا على الركب فتحاثوا بالتراب، ثم تكادموا بالأفواه، وكسفت الشمس وثار القتام، وارتفع الغبار، وتقطعت الألوية والرايات، ومرت أوقات أربع صلوات؛ لأن القتال كان بعد صلاة الصبح، واقتتلوا إلى نصف الليل، وذلك في شهر ربيع الأول سنة سبع وثلاثين، قاله الإمام أحمد في تاريخه. انتهى ما ذكره القرطبي1.
وأما إن كان مراده محاربة علي ومعاوية، وعدم تسليم معاوية الأمر له، فهذا أعظم جهلا وأكبر خطأ مما قبله. فإن معاوية أقام محاربا لعلي مدة خلافته كلها من حين قتل عثمان إلى أن قتل علي رضي الله عنه وذلك نحو خمس سنين إلا ثلاثة أشهر، وقيل: أربع سنين وتسعة أشهر وثلاثة أيام، وقيل: وستة أيام، وقيل: وأربعة عشر يوما، وقيل: أربع سنين وثمانية أشهر وثلاثة وعشرين يوما.
__________
1 ولا يخفى ما في كلام القرطبي من الكذب والغلو والتشنيع المخالف لصحيح التاريخ ا هـ من حاشية الأصل. والقرطبي لم يكن هو المفتري، ولكنه اغتر ببعض ما كتبه أصحاب الأهواء في ذلك.
ص -56-(45/10)
فصل في افتراق الأمة بعد قتل عثمان
وأما قوله: افترقت الأمة فرقتين: فرقة توالي معاوية باطنا وظاهرا، وهم الذين قاتلوا معه ونصروه وسموا أنفسهم أهل السنة والجماعة، كما أخبرت بذلك التواريخ.
فالجواب أن يقال: هذا أيضا جهل وتخبيط وقصور فهم وغباوة شديدة، فإن الأمة قد افترقت بعد قتل عثمان رضي الله عنه ثلاث فرق: فرقة بايعت عليا رضي الله عنه ودخلوا في طاعته، وهم أكثر الصحابة وجمهور المسلمين، وفرقة امتنعت عن الدخول في طاعته ومبايعته، وأظهروا الطلب بدم عثمان رضي الله عنه وهم معاوية ومن تابعه، وكان هو الأمير عليهم في خلافة عمر رضي الله عنه وخلافة عثمان، وأرسلوا إلى علي: إن كنت تريد أن نبايعك فادفع إلينا قتلة عثمان، فأبى علي رضي الله عنه ذلك.
والطائفة الثالثة لم يبايعوا عليا ولا معاوية، واعتزلوا الفريقين جميعا، لم يعينوا هؤلاء ولا هؤلاء، ولم يدخلوا في تلك الحروب والفتن، ولم يحضروها؛ منهم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أحد العشرة المبشرين بالجنة، ومنهم أسامة بن زيد، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، ومحمد بن مسلمة الأنصاري، وأبو موسى الأشعري، وعمران بن حصين الخزاعي، وأبو بكرة الثقفي، وأهبان بن صيفي. ومن التابعين شريح والنخعي -رضي الله عنهم أجمعين-.
وأخرج ابن ماجة عن أبي بردة، قال: دخلت على محمد بن مسلمة، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنها ستكون فتنة وفرقة واختلاف، فإذا كان ذلك فائت بسيفك أُحُدا فاضربه به حتى ينقطع، ثم اجلس في بيتك حتى تأتيك يد خاطئة، أو منية قاضية"1، فقد وقعت وفعل ما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن هؤلاء من بايع عليا رضي الله عنه ولم يقاتل معه في حروبه، قال أبو عمر
__________
1 ابن ماجه: الفتن (3962).
ص -57-(45/11)
ابن عبد البر في "الاستيعاب": وتخلف عن بيعة علي أقوام، فلم يكرههم علي، وسئل عنهم فقال: أولئك قوم قعدوا عن الحق، ولم يدخلوا في الباطل. وقال غيره: إن كثيرا من المسلمين حتى من أهل المدينة ومكة لم يكونوا بايعوه، دع الذين كانوا بعيدين كأهل الشام ومصر والمغرب وخراسان والعراق. انتهى.
وقد قال غير واحد من أهل العلم: إن جمهور الصحابة ما دخلوا في الفتنة، قال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثنا أبي ثنا إسماعيل، يعني ابن علية، حدثنا أيوب السختياني عن محمد بن سيرين قال: هاجت الفتنة، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف، فما حضرها منهم مائة، بل لم يبلغوا ثلاثين. هذا إسناد من أصح إسناد على وجه الأرض، ومحمد بن سيرين من أورع الناس في منطقه، ومراسيله من أصح المراسيل.
وقال عبد الله: حدثنا أبي، ثنا إسماعيل، ثنا منصور بن عبد الرحمن1 قال: قال الشعبي: لم يشهد الجمل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم غير علي وعمار وطلحة والزبير، فإن جاؤوا بخامس فأنا كذاب.
وقال عبد الله بن أحمد: ثنا أبي، ثنا أمية بن خالد، قال: قيل لشعبة: إن أبا شيبة روى عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: شهد صفين من أهل بدر سبعون رجلا، فقال: كذب والله، لقد ذاكرت الحكم بذلك، وذاكرناه في بيته فما وجدنا شهد صفين من أهل بدر غير خزيمة بن ثابت، وهذا النفي يدل على قلة من حضرها، وقيل: إنه حضرها سهل بن حنيف وأبو أيوب، وكلام ابن سيرين متقارب فما يكاد يذكر مائة واحد. وقد روى ابن بطة بإسناده عن بكير بن الأشج قال: أما إن رجالا من أهل بدر لزموا بيوتهم بعد قتل عثمان رضي الله عنه فلم يخرجوا إلا لقبورهم.
__________
1 قال: أبو حاتم لا يحتج به ا هـ من حاشية الأصل.
ص -58-(45/12)
فصل في تفضيل أهل السنة عليا على معاوية
وأما قوله في معاوية -رضي الله عنه، لمّا استتم له الأمر فذلت له الرقاب، افترقت الأمة إلى فرقتين: فرقة توالي معاوية باطنا وظاهرا؛ وهم الذين قاتلوا معه، وسموا أنفسهم أهل السنة والجماعة، كما أخبرت به كتب التواريخ، وبدّعوا من والى عليا وأهله.
فالجواب أن يقال: هذا من الكذب والبهتان الظاهر لكل من له معرفة بما عليه أهل السنة والجماعة، بل معاوية وأصحابه الذين قاتلوا عليا ومن معه لا يبدّعونه ولا يبدّعون من والاه، بل العلماء منهم مقرون بفضله ودينه وورعه وسابقته، وحسن بلائه في الإسلام، حتى معاوية نفسه يقر بذلك في المحافل والمجالس، كما ذكر ذلك أهل العلم في كتبهم. فروى يحيى الجعفي في كتاب صفين بإسناده: حدثني يعلى بن عبيد حدثنا أبي قال أبو مسلم الخولاني وجماعة لمعاوية: أأنت تنازع عليا؟ أم أنت مثله؟ قال: لا والله إني لأعلم أن عليا أفضل مني، وأحق بالأمر، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوما، وأنا ابن عمه، وإنما أطلب بدمه، فأتوا عليا فليدفع إليّ قتلة عثمان وأسلم له، فأتوا عليا فكلموه، فلم يدفعهم إليه.
فانظر وتأمل يتبين لك كذب المعترض ونسبته إلى الصحابة ما لا يليق بهم، كذلك نسبته إلى أهل السنة والجماعة تبديع من والى عليا وأهل بيته وشيعته، فإن هذا كذب وافتراء على القوم، بل جميع أهل السنة يتولون عليا وأهل البيت، ويقدمونه على معاوية، بل وعلى من هو أفضل من معاوية، فإن الذي عليه جمهور أهل السنة والجماعة أن أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ومن بعد أبي بكر عمر، ثم بعد عمر عثمان، ثم بعد عثمان علي، ثم بقية العشرة، ثم أهل بدر، ثم أهل بيعة الرضوان، ثم بقية الصحابة -رضي الله عنهم أجمعين-، وأهل السنة يعلمون أن معاوية ليس من السابقين الأولين، بل هو من مسلمة الفتح، ومن المؤلفة قلوبهم، ولكنه ممن حسن إسلامه بعد ذلك، وصار يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم.(45/13)
ثم لما توفي
ص -59-
أبو بكر خرج إلى الجهاد مع أخيه يزيد بن أبي سفيان. ثم لما توفي يزيد استعمله عمر رضي الله عنه على الشام، فأقام أميرا عشرين سنة، وخليفة عشرين سنة، وكانت رعيته تحبه لحسن سيرته.
اعتراف معاوية بفضل علي
وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم"1. ومما يدل على اعتراف معاوية بفضل علي ما أخرجه غير واحد من أهل السنة في كتبهم، وذكره أبو عمر بن عبد البر في كتاب "الاستيعاب" في ترجمة علي حيث قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن يوسف، قال: حدثنا يحيى بن مالك، قال: حدثنا أبو الحسن محمد بن محمد بن مقلد البغدادي بمصر، قال: حدثنا أبو بكر محمد بن الحسن بن درية، قال: حدثنا الكلبي عن الحرماوي عن رجل من همدان، قال: قال معاوية لضرار الصدائي: يا ضرار، صف لي عليا، قال: اعفني يا أمير المؤمنين، قال: فلتصفه لي، قال: "أما إذ لا بد من وصفه؛ فكان والله بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلا، ويحكم عدلا، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويأنس بالليل ووحشته، وكان غزير العبرة، طويل الفكرة، يعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعام ما خشن، كان فينا كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، ويأتينا إذا دعوناه، ونحن والله مع تقريبه إيانا وقربه منا لا نكاد نكلمه هيبة له، يعظم أهل الدين ويقربهم، ويحب المساكين، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييئس الضعيف من عدله، وأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه، وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، قابضا على لحيته، يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، ويقول: يا دنيا غري غيرى، إليّ تقرّبت؟ أم إليّ تشوفت؟ هيهات هيهات، بتتك ثلاثا لا رجعة فيها، فعمرك قصير، وخطرك حقير، آه من قلة الزاد، وبعد السفر، ووحشة الطريق!.(45/14)
__________
1 مسلم: الإمارة (1855) , وأحمد (6/24 ,6/28) , والدارمي: الرقاق (2797).
ص -60-
فبكى معاوية وقال: رحم الله أبا الحسن، كان والله كذلك، فكيف حزنك عليه يا ضرار؟ قال "حزن من ذبح واحدها في حجرها".
وكان معاوية رضي الله عنه يكتب فيما ينْزل به إلى علي بن أبي طالب يسأله عن ذلك، فلما بلغه قتله، قال: ذهب الفقه والعلم بموت ابن أبي طالب، فقال له عتبة أخوه: لا يسمع هذا منك أهل الشام. انتهى ما ذكره أبو عمر.
وكذلك الصحابة الذين قاتلوا عليا مع معاوية ليس فيهم من يقول: إن معاوية أفضل من علي، وإنما قاتلوه ومن معهم من أهل الشام للطلب بدم عثمان رضي الله عنه.
وكانوا يقولون: إن معاوية هو ولي عثمان والطالب بدمه، كما ذكر ذلك غير واحد من أهل العلم بالأخبار والتواريخ وأيام الناس.
قال مجالد عن الشعبي: لما قتل عثمان أرسلت أم حبيبة بنت أبي سفيان إلى أهل عثمان: أرسلوا إلي بثياب عثمان، وبالخصلة الشعر التي نتفت من لحيته، ثم دعت النعمان بن بشير فبعثته إلى معاوية، فمضى بذلك وبكتابها فصعد معاوية المنبر، وجمع الناس، ونشر القميص عليهم، وذكر ما صنع بعثمان ودعا إلى الطلب بدمه، فقام أهل الشام فقالوا: هو ابن عمك وأنت وليه، ونحن الطالبون معك بدمه، فبايعوا له.
وقال يونس عن الزهري: لما بلغ معاوية قتل طلحة والزبير، وظهور علي، دعا أهل الشام للقتال معه على الشورى، والطلب بدم عثمان، فبايعوه على ذلك أميرا غير خليفة.
وقد روى الطبراني عن ابن عباس قال: ما زلت موقنا أن معاوية سيلي الملك والسلطان من هذه الآية {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً}12.
أهل السنة يتولون عليا وأهل البيت
وأما سائر أهل السنة والجماعة فكلهم يتولون عليا وأهل البيت، ويحبونهم،(45/15)
__________
1 سورة الإسراء آية: 33.
2 ولكن قال الله بعد ذلك: "فلا يسرف في القتل"، وقد أسرف معاوية، وقامت عليه الحجة بما رواه هو وغيره من قوله -صلى الله عليه وسلم- لعمار: "تقتلك الفئة الباغية" ثم ماذا فعل بقتلة عثمان، بعد أن انتهى إليه السلطان؟؟.
ص -61-
وينكرون على بني أمية الذين يسبون عليا، وكتبهم مشحونة بالثناء عليه ومحبته وموالاته، وجميع كتب الحديث مذكور فيها فضل علي وأهل البيت، ولكنهم يتولون سائر الصحابة ويحبونهم، ويترضون عنهم طاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
فإن الله -تعالى- ذكر الصحابة في كتابه، وأحسن الثناء عليهم، فقال -تعالى-: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}1 الآية، وقال -تعالى-: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ}2 الآية.
وأثنى -تعالى- على من جاء من بعدهم، ودعا لهم بالمغفرة، فقال -تعالى-: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ}3 الآية. فتبين بما ذكرنا جهالة المعترض وكذبه على أهل السنة بأنهم بدعوا من والى عليا وأهل بيته.
وأما قوله: ولذلك قال الشافعي لما رأى التبديع لأهل الحق:
فليشهد الثقلان أني رافضي
إن كان رفضا حب آل محمد
فجميع أهل السنة وأكثر أهل البدعة من المعتزلة والمرجئة وغيرهم يقولون كما قال الشافعي، ويقولون -أيضا- كما قال بعض العلماء:
فليشهد الثقلان أني ناصبي
إن كان نصبا حب صحب محمد
فالبيت الأول إرغام للخوارج وطائفة من بني أمية الذين يبغضون عليا-رضي الله عنه- وأهل بيته، ومنهم من يكفره، والبيت الثاني إرغام للروافض والزيدية الذين يبغضون بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وذلك أن الله -تبارك وتعالى- هدى أهل السنة والجماعة لما(45/16)
اختلف فيه من الحق {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}4، وذلك أنهم آمنوا بجميع المنَزل من عند الله، وجميع ما ورد عن رسول الله من الأحاديث الصحيحة الثابتة، ولم يغلوا غلو الروافض والزيدية، ولم يقصروا تقصير الخوارج، ومن نحا نحوهم.
__________
1 سورة الفتح آية: 29.
2 سورة الحديد آية: 10.
3 سورة الحشر آية: 10.
4 سورة البقرة آية: 213.
ص -62-(45/17)
فصل في إنصاف أهل السنة وكذب الروافض
وأما قوله: ولهذا الافتراق روى مسلم في صحيحه عن أبي إسحاق ما معناه: أنه لما وقعت الفتنة قال بعض المحدثين لبعض إذا حدثوا: بيّنوا لنا رجالكم، وكانوا قبل الفتنة يقبلون المرسل، ولا يسألون عن رجال السنة
فيقال: هذا مما يدل على إنصاف أهل السنة والجماعة، ونصحهم لله ولرسوله ولدينه، خصوصا أئمة الحديث وجهابذته. وذلك أنه دين فلا يجوز لهم الأخذ عن كل من روى الحديث حتى يعرفوا حاله هل هو ثقة حافظ ضابط لما يرويه؟ وهل هو من أهل السنة، أو من أهل البدعة؟ فإذا عرفوا الرجل بالكذب بينوا حاله، وإذا عرفوه بالبدعة بينوا حاله، فإذا عرفوا أن الرجل ثقة أخذوا عنه، وقبلوا حديثه، ولو كان من أهل البدع.
وإذا كان الرجل قليل الضبط، أو معروفا بالكذب، أو بالتخليط، أو الاضطراب في حديثه تركوا حديثه، وبينوا حاله، وإن كان من أهل السنة ومن أهل الصلاح.
يعرف ذلك من طالع كتب الجرح والتعديل، وفي البخاري ومسلم والسنن الأربعة رجال من أهل البدع يروون عنهم الحديث من الخوارج والقدرية والمرجئة والشيعة وغيرهم؛ إذ كانوا معروفين بالصدق والضبط.
ولكن أهل الحديث وأهل العلم يعلمون أن أكذب الطوائف هم الرافضة والشيعة ومن نحا نحوهم، وذلك أن عمدتهم في المنقولات على تواريخ منقطعة الإسناد وكثير من وضع المعروفين بالكذب.
قال أبو حاتم الرازي: سمعت يونس بن عبد الأعلى يقول: قال أشهب بن عبد العزيز: سئل مالك عن الرافضة فقال: لا ترو عنهم، ولا تكلمهم فإنهم يكذبون.
وقال أبو حاتم: حدثنا حرملة قال: سمعت الشافعي يقول: لم أر أحدا أشهدَ بالزور من الرافضة.
وقال مؤمل بن
ص -63-(45/18)
إهاب: سمعت يزيد بن هارون يقول: يكتب عن كل صاحب بدعة، إذا لم يكن داعية إلا الرافضة فإنهم يكذبون.
وقال محمد بن سعيد الأصبهاني: سمعت شريكا يقول: احمل العلم عن كل من لقيت إلا الرافضة؛ فإنهم يضعون الحديث فيتخذونه دينا، وشريك هذا هو شريك بن عبد الله القاضي بالكوفة من أقران الثوري وأبي حنيفة، وهو من الشيعة الذي يقول بلسانه: أنا من الشيعة، وهذه شهادته.
ومن تأمل كتب الجرح والتعديل المصنفة في أسماء الرواة والنقلة وأحوالهم؛ مثل كتب يحيى بن سعيد القطان، وعلي بن المديني، ويحيى بن معين، والبخاري، وأبي زرعة، وأبي حاتم الرازي، والنسائي، وأبي حاتم بن حبان، وأبي أحمد بن عدي، والدارقطني، وإبراهيم بن يعقوب الجوزجاني، ويعقوب بن سفيان، والعجلي، والعقيلي، والموصلي، والحاكم النيسابوري، والحافظ عبد الغني بن سعيد المصري، وأمثال هؤلاء الذين هم جهابذة نقاد، ولهم المعرفة التامة بأحوال الإسناد، علم أن المعروف عندهم بالكذب في الشيعة أكثر منهم في جميع الطوائف، حتى أن أصحاب الصحيح كالبخاري وغيره لم يرووا عن أحد من قدماء الشيعة مثل عاصم بن ضمرة، والحارث الأعرج، وعبد الله بن سلمة، مع أن هؤلاء من خيار الشيعة، وإنما يروون حديث علي عن أهل بيته كالحسن والحسين ومحمد بن الحنفية، وكاتبه عبيد الله بن أبي رافع، وعن أصحاب ابن مسعود كعبيدة السلماني، والحارث بن قيس وأشباههم. وهؤلاء أئمة النقل ونقاده من أبعد الناس عن الهوى، وأخبرهم بالناس، وأقولهم بالحق، لا يخافون في الله لومة لائم.
ولهذا قال أحمد بن حنبل -رحمه الله- لما قيل له: إن ابن أبي قتيلة يقول: إن أصحاب الحديث قوم سوء، فقام أحمد ينفض ثوبه، ويقول: زنديق، زنديق، زنديق.
وقال بعضهم: إذا رأيت من يبغض أحمد بن حنبل فاعلم أنه مبتدع، وإذا
ص -64-(45/19)
رأيت من يبغض يحيى بن معين فاعلم أنه كذاب، ولا يبغض يحيى بن معين، ويتكلم فيه وفي أمثاله إلا من هو من أهل الكذب.
فصل في موالاة أهل السنة لعلي وتفسيقهم لمن سبوه وطغوا عليه
وأما قوله: ونشأ من هذا الافتراق الأمر العظيم، وهو استمرار لعن علي -عليه السلام- على المنابر حتى قطعه عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه.
فيقال: أما لعن علي رضي الله عنه فإنما فعله طائفة قليلة من بني أمية، وهم عند أهل السنة ظلمة فسقة، وأهل السنة ينكرون عليهم ذلك بألسنتهم، ويروون الأحاديث الصحيحة في فضائل علي، وذلك أنهم أرادوا وضعه عند الناس، وحط رتبته ومحبته من قلوبهم، فجازاهم الله بنقيض قصدهم، ورفعه الله. وأظهر أهل السنة والجماعة فضائله، وحدثوا بها الناس، فاشتهرت عند العامة فضلا عن الخاصة، وجميع أهل السنة يحبونه ويوالونه رضي الله عنه.
فلما زالت دولة بني أمية، وجاءت دولة بني العباس في سنة ثنتين وثلاثين ومائة انقطع لعن علي رضي الله عنه.
وأما قول المعترض: أن ابن تيمية روى في منهاجه أنه استمر لعن علي إلى زمانه، وأما في أيامه فقد انقطع، فهذا كذب ظاهر على ابن تيمية -رحمه الله-، وقلة حياء فيمن نسب ذلك إليه، ومنهاج السنة موجود عندنا، ولم يذكر هذا فيه، وابن تيمية أجل من أن يخفى عليه هذا الأمر الواضح الذي يعرفه أدنى من له معرفة بالسير والتواريخ، وأنه انقطع من الشام، وغيره من بلاد الإسلام.
ثم ظهرت الدولة العباسية وانقطعت الدولة الأموية في أيام السفاح الذي كان هو أول ملوك بني العباس، وقتل مروان الملقب بالحمار الذي هو آخر ملوك بني أمية سنة اثنتين وثلاثين ومائة.
ص -65-(45/20)
وأعجب من هذا قوله: إن ابن تيمية أيضا روى في منهاج السنة أن كثيرا من علماء السنة والجماعة حكموا بتخطئة علي في حروبه، إلا أحمد بن حنبل إمام الشيعة عند التحقيق، فإنه قال: من خطأ عليا في حروبه فهو كحمار أهله. انتهى معنى كلام ابن تيمية.
والجواب أن يقال: إن هذا من الكذب الظاهر على ابن تيمية، وعلى أحمد ابن حنبل -رحمهما الله-، وهذا نص لفظ ابن تيمية في المجلد الأول من كتاب "منهاج السنة النبوية في الرد على الشيعة والقدرية:
قال رحمه الله: "ولهذا اضطرب الناس في خلافة علي على أقوال، فقالت طائفة: إنه إمام، وأن معاوية إمام، وأنه يجوز نصب إمامين في وقت واحد إذا لم يمكن الاجتماع على إمام واحد، وهذا يحكى عن الكرامية وغيرهم، وقالت طائفة: لم يكن في ذلك الزمان إمام عام، بل كان زمان فتنة، وهذا قول طائفة من أهل الحديث البصريين وغيرهم.
ولهذا لما أظهر الإمام أحمد التربيع بعلي في الخلافة، وقال: من لم يربّع بعلي فهو أضل من حمار أهله، أنكر طائفة من هؤلاء، وقالوا: قد أنكر خلافته من لا يقال فيه هو أضل من حمار أهله، يريدون من تخلف عنها من الصحابة. واحتج أحمد وغيره على خلافة علي بحديث سفينة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "تكون خلافة النبوة ثلاثين سنة، ثم تصير ملكا"1 وهذا الحديث قد رواه أهل السنن كأبي داود وغيره.
وقالت طائفة ثالثة: علي هو الإمام، وهو مصيب في قتاله لمن قاتله، وكذلك من قاتله من الصحابة كطلحة والزبير كلهم مجتهدون مصيبون، وهذا قول من يقول: كل مجتهد مصيب، كقول البصريين من المعتزلة، وأبي الهذيل وأبي هاشم ومن وافقهم من الأشعرية كالقاضي أبي بكر وأبي حامد، وهو المشهور عند أبي الحسن الأشعري. وهؤلاء -أيضا- يجعلون معاوية مجتهدا مصيبا في قتاله، كما أن عليا مصيب. وهذا قول طائفة من الفقهاء من أصحاب أحمد وغيره، ذكره أبو عبد الله بن حامد.
وذكر لأصحاب أحمد في المقتتلين يوم(45/21)
__________
1 الترمذي: الفتن (2226) , وأبو داود: السنة (4646 ,4647) , وأحمد (5/221).
ص -66-
الجمل وصفين ثلاثة أوجه:
(أحدها): كلاهما مصيب.
(والثاني): المصيب واحد لا بعينه.
(والثالث): أن عليا هو المصيب، ومن خالفه مخطئ.
"والمنصوص عن أحمد وأئمة السنة أنه لا يذم أحد منهم، وأن عليا أولى بالحق من غيره. أما تصويب القتال فليس هو قول أئمة السنة، بل هم يقولون: إن تركه كان أولى. وطائفة رابعة تجعل عليا هو الإمام، وكان مجتهدا مصيبا في القتال، ومن قاتله كانوا مجتهدين مخطئين، وهذا قول كثير من أهل الكلام والرأي من أصحاب أبي حنيفة، ومالك، والشافعي وأحمد.
وطائفة خامسة تقول: إن عليا مع كونه كان خليفة، وهو أقرب إلى الحق من معاوية، فكان ترك القتال أولى. وينبغي الإمساك عن القتال لهؤلاء وهؤلاء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ستكون فتنة؛ القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الساعي"1. وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال في الحسن: "إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المؤمنين"2 فأثنى على الحسن بالإصلاح. ولو كان القتال واجبا أو مستحبا لما مدح تاركه.
قالوا: وقتال البغاة لم يأمر الله به ابتداء، ولم يأمر بقتال كل باغ، بل قال: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ}3 فأمر إذا اقتتل المؤمنون بالإصلاح بينهم، فإن بغت إحداهما على الأخرى قوتلت.
قالوا: ولهذا لم يحصل بالقتال مصلحة، والأمر الذي لم يأمر الله به لا بد أن يكون مصلحته راجحة على مفسدته، وفي سنن أبي داود: ثنا الحسن بن علي، ثنا يزيد، ثنا هشام عن محمد بن سيرين، قال: قال حذيفة: ما أحد من الناس تدركه الفتنة إلا أنا أخافها عليه(45/22)
إلا محمد بن مسلمة، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تضره الفتنة"4، فهذا يبين أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن محمد بن مسلمة لا تضره الفتنة، وهو ممن اعتزل في القتال، فلم يقاتل مع علي، ولا مع معاوية، كما اعتزل سعد بن أبي وقاص، وأسامة بن زيد، وعبد الله بن عمر،
__________
1 البخاري: المناقب (3602) , ومسلم: الفتن وأشراط الساعة (2886) , وأحمد (2/282).
2 البخاري: الصلح (2704) والمناقب (3629 ,3746) والفتن (7109) , والنسائي: الجمعة (1410) , وأحمد (5/44).
3 سورة الحجرات آية: 9.
4 أبو داود: السنة (4664).
ص -67-(45/23)
وأبو بكرة، وعمران بن حصين، وأكثر السابقين الأولين.
وهذا يدل على أنه ليس هناك قتال واجب ولا مستحب؛ إذ لو كان كذلك لم يكن ترك ذلك مما يمدح به الرجل، بل كان من فعل الواجب أو المستحب أفضل ممن تركه، ودل ذلك أن القتال قتال فتنة، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ستكون فتنة؛ القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، والساعي فيها خير من المُوضِع"12.
وأمثال ذلك من الأحاديث الصحيحة التي تبين أن ترك القتال كان خيرا من فعله من الجانبين، وعلى هذا جمهور أئمة الحديث والسنة، وهذا هو مذهب مالك، والثوري، وأحمد، وغيره، وهذه أقوال مَن يحسن القول في علي، وطلحة، والزبير، ومعاوية، ومَن سوى هؤلاء من الخوارج، والروافض، والمعتزلة، فمقالتهم في الصحابة نوع آخر؛ فالخوارج يكفرون عليا وعثمان ومن والاهما، والروافض يكفرون جمهور الصحابة ومن والاهم، أو يفسقوهم، ويكفرون من قاتل عليا، ويقولون: هو إمام معصوم، وطائفة من المروانية تفسقه، وتقول: إنه ظالم معتد.
وطائفة من المعتزلة تقول: قد فسق؛ إما هو وإما من قاتله، لكن لا يعلم عينه. وطائفة أخرى منهم تفسق معاوية، وعمرو بن العاص، دون طلحة، والزبير، وعائشة. انتهى ما ذكره الشيخ تقي الدين بن تيمية في منهاج السنة.
فانظر -رحمك الله- بعين الإنصاف إلى كلام هذا الإمام، ثم انظر إلى كلام المعترض يتبين لك تحريفه للكلم عن مواضعه، فإن ابن تيمية إنما ذكر أن جمهور أئمة السنة يرون أن ترك قتال علي أولى من القتال، وأن تركه أحب إلى الله، وإلى رسوله لأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم في الحسن بن علي، وغيره الدال على هذا المعنى، وتقدمت الإشارة إلى بعضها.
__________
1 البخاري: المناقب (3602) , ومسلم: الفتن وأشراط الساعة (2886) , وأحمد (2/282).
2 الموضع كالمسرع وزنا ومعنى.
ص -68-(45/24)
وأما تخطئتهم عليا في ذلك فحاشا وكلا، بل كثير من أهل السنة والجماعة يرون أن عليا مصيب في قتاله لمعاوية، ومن معه، وكلهم متفقون على أنه أقرب إلى الحق، وأولى به من معاوية، ومن معه.
وأما ما ذكره عن أحمد بن حنبل، فإنما أراد أحمد بذلك: ومن لم يجعل عليا رابع الخلفاء الراشدين. وقال: من لم يربع بعلي في الخلافة، فهو أضل من حمار أهله.
وأما لفظ المعترض الذي ذكره عن أحمد: أن من خطأ عليا في حروبه فهو كحمار أهله، فليس هذا لفظ أحمد، ولا هو معنى كلامه، ولا ذكره الشيخ ابن تيمية -رحمه الله- عن أحمد، ولكن نعوذ بالله من التعصب، واتباع الهوى اللذَين يصدان عن اتباع الحق، ويحملان على كتمان الحق، ولبسه بالباطل؛ وقد نهى الله -سبحانه- في كتابه عن هاتين الخصلتين، فقال -تعالى-: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}1.
ومن العجب أن هذا المعترض وأشباهه يعلمون أن الحسن بن علي رضي الله عنه وغيره من أهل البيت يرون أن ترك القتال أولى من فعله، وأحب إلى الله وإلى رسوله، كما اختاره كثير من أهل السنة والحديث، ومع هذا ينكرون على أهل السنة ذلك، مع زعمهم أنهم من شيعة أهل البيت. ويزعمون أن أهل السنة يبغضون أهل البيت، ومن والاهم، وقد كذبوا؛ فإن أهل السنة والحديث أولى باتباع أهل البيت منهم، وهم شيعتهم على الحقيقة؛ لأنهم سلكوا طريقتهم، واتبعوا هديهم، وقد قال -تعالى- لليهود والنصارى -لما ادعى كل طائفة منهم أن إبراهيم كان منهم-: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا}2.
__________
1 سورة البقرة آية: 42.
2 سورة آل عمران آية: 68.
ص -69-(45/25)
فصل الأقوال والآراء في قتال الحسين – رضي الله عنه - ليزيد
كيفية التغيير بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وأما قوله: ومما نشأ من هذا الافتراق أن كثيرا من علماء أهل السنة، والجماعة حكموا بأن الحسين بن علي باغ على يزيد بن معاوية.
فيقال: قد اختلف أهل السنة والجماعة في هذه المسألة، وكذلك أهل البيت؛ فذهبت طائفة من أهل السنة -رضي الله عنهم- من الصحابة، فمَن بعدهم كسعد بن أبي وقاص، وأسامة ابن زيد، ومحمد بن مسلمة، وعبد الله بن عمر -رضي الله عنهم-، وغيرهم، وهو قول أحمد بن حنبل، وجماعة من أصحاب الحديث، إلى أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باللسان -إن قدر على ذلك-، وإلا فبالقلب فقط، ولا يكون باليد، وسل السيوف، والخروج على الأئمة، وإن كانوا أئمة جور.
واستدلوا بأحاديث صحاح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منها ما أخرجاه في الصحيحين، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من رأى من أميره شيئا يكرهه، فليصبر عليه، فإنه ليس أحد من الناس يخرج من السلطان شبرا فمات، إلا مات ميتة جاهلية"1. وفي لفظ: "من فات الجماعة شبرا فمات، مات ميتة جاهلية"2. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة، ثم مات، مات ميتة جاهلية"3 الحديث.
وفي صحيح مسلم عن حذيفة قال: "قلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم. فقلت: فهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم وفيه دخن، قلت: وما دخنه؟ قال قوم يستنون بغير سنتي، ويهتدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر فقلت: فهل بعد ذلك الخير شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم، مَن أجابهم قذفوه فيها، فقلت: يا رسول الله، صفهم لنا. قال: نعم قوم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، قلت: يا رسول الله،(45/26)
__________
1 البخاري: الفتن (7053) , ومسلم: الإمارة (1849) , وأحمد (1/310).
2 البخاري: الفتن (7054) , ومسلم: الإمارة (1849) , وأحمد (1/275 ,1/297) , والدارمي: السير (2519).
3 مسلم: الإمارة (1848) , والنسائي: تحريم الدم (4114) , وأحمد (2/296 ,2/306 ,2/488).
ص -70-
فما ترى إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين، وإمامهم، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة، ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت، وأنت على ذلك"والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جدا.
وذهبت طائفة أخرى من الصحابة -رضي الله عنهم- ومن بعدهم من التابعين، ثم الأئمة بعدهم إلى أن سل السيوف في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر واجب، إذا لم يقدر على إزالة المنكر إلا بذلك، وهو قول علي بن أبي طالب، وكل من معه من الصحابة -رضي الله عنهم-؛ كعمار بن ياسر، وابن عباس، وأبي سعيد الخدري، وغيرهم، وهو قول أم المؤمنين، ومن معها من الصحابة؛ كعمرو بن العاص، والنعمان بن بشير، وأبي العادية السلمي وغيرهم، وهو قول عبد الله بن الزبير، والحسين بن علي، وهو قول كل من قام على الفاسق الحجاج؛ كعبد الرحمن بن أبي ليلى، وسعيد بن جبير، وأبي البختري الطائي، وعطاء السلمي، والحسن البصري، والشعبي، ومن بعدهم؛ كالناسك الفاضل عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر، وعبيد الله بن حفص بن عاصم، وسائر من خرج مع محمد بن عبد الله بن الحسين بن الحسن بن علي بن أبي طالب، ومع أخيه إبراهيم بن عبد الله، وهشيم بن بشير، والوراق، وغيرهم.
خروج الحسين لقتال يزيد ومخالفة الصحابة له
وقد ذكر ابن كثير في تاريخه عن طاوس، عن ابن عباس قال: استشارني الحسين بن علي في الخروج إلى العراق، فقلت: لولا أن يزري بي وبك الناس لنشبت يدي في رأسك، فلم أتركك تذهب، فكان الذي رد علي أن قال: لأن أُقتل في مكان كذا أحب إلي(45/27)
من أن أقتل بمكة، قال: وكان هذا الذي سلى نفسي عنه.
وقال غير واحد عن شبابة بن سوار: حدثنا يحيى بن إسماعيل بن سالم الأسدي، قال: سمعت الشعبي يحدث عن ابن عمر: أنه كان بمكة، فبلغه أن الحسين بن علي قد توجه إلى العراق، فلحقه على مسيرة ثلاث ليال، فقال: أين تريد؟ قال: العراق، وإذا معه طوامير وكتب، فقال: هذه كتبهم وبيعتهم، فقال ابن عمر: لا تأتهم، فأبى،
ص -71-
فقال ابن عمر: إني محدثك حديثا: "إن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فخيره بين الدنيا والآخرة، فاختار الآخرة ولم يرد الدنيا، وذلك بضعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم والله لا يليها أحد منكم أبدا، وما صرفها الله عنكم إلا للذي هو خير لكم"فأبى أن يرجع، فاعتنقه ابن عمر، وبكى، وقال: أستودعك الله من قتيل.
وقال أبو سعيد الخدري: غلبني الحسين بن علي على الخروج، وقد قلت له: اتق الله في نفسك، ولا تخرج على إمامك، والزم بيتك. وقال أبو واقد الليثي: بلغني خروج الحسين، فأدركته، فناشدته الله أن لا يخرج، فإنه يخرج في غير وجه خروج، إنما يقتل نفسه، فقال: لا أرجع.
وقال جابر بن عبد الله: كلمت حسينا فقلت له: اتق الله، ولا تضرب الناس بعضهم ببعض، فوالله ما حمدتم ما صنعتم، فعصاني. وقال سعيد بن المسيب: لو أن حسينا لم يخرج لكان خيرا له، وكتب إليه المسور بن مخرمة: إياك أن تغتر بكتب أهل العراق، ويقول لك ابن الزبير: ألحق بهم فإنهم ناصروك، إياك أن تبرح الحرم، فإنهم إن كان لهم بك حاجة، فسيضربون إليك آباط الإبل حتى يوافوك، فتخرج في قوة وعدة، فجزاه خيرا، وقال: أستخير الله في ذلك.
وكتب إليه عبد الله بن جعفر بن أبي طالب كتابا يحذره أهل الكوفة، ويناشده الله أن يشخص إليهم، فكتب إليه الحسين: "إني رأيت رؤيا، ورأيت فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرني بأمر أنا ماض له، ولست بمخبر بها أحدا، حتى ألاقي عملي".
وذكر محمد بن سعد -رحمه الله- بأسانيده: أنه لما(45/28)
بايع معاوية الناس ليزيد، كان حسين ممن لم يبايع له، وكان أهل الكوفة يكتبون إليه يدعونه إلى الخروج إليهم في خلافة معاوية؛ كل ذلك يأبى عليهم، فقدم منهم قوم إلى محمد بن الحنفية يطلبون إليه أن يخرج معهم، فأبى، وجاء إلى الحسين يعرض عليه أمرهم، فقال له الحسين: إن القوم إنما يريدون أن يأكلوا بنا، ويستطيلوا بنا، ويشيطوا دماء الناس ودماءنا.
ص -72-
فأقام الحسين على ما هو عليه من الهموم مدة يريد أن يسير إليهم، ومدة يجمع الإقامة عنهم، فجاءه أبو سعيد الخدري فقال: يا أبا عبد الله، إني لكم ناصح، وإني عليكم مشفق، وقد بلغني أنه قد كاتبكم قوم من شيعتكم بالكوفة يدعونك إلى الخروج إليهم، فلا تخرج إليهم، فإني سمعت أباك بالكوفة يقول: "والله لقد مللتهم وملوني، وأبغضتهم وأبغضوني".
وكلمه في ذلك أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فلم يطع أحدا منهم، وصمم على المسير.
وقال له ابن عباس: والله أني أظنك ستقتل بين نساءك وولدك، كما قتل عثمان، فلم يقبل منه.
وكذلك أخوه محمد بن الحنفية نهاه عن ذلك وأعلمه أن الخروج ليس له برأي يومه هذا، فأبى الحسين أن يقبل، فحبس محمد بن الحنفية ولده فلم يبعث معه أحدا منهم، حتى وجد حسين في نفسه على محمد.
والمقصود من هذا: أن ابن عباس وغيره من الصحابة أنكروا على الحسين خروجه على يزيد، ونهوه عن ذلك؛ خوفا عليه مما جرى عليه وعلى أهل بيته، ولكن لا رادّ لما قضى الله.
وما جرى على الحسين رضي الله عنه وعلى أهل بيته مما يعظم الله به أجورهم، ويرفع به درجاتهم -رضي الله عنهم أجمعين-.
وأهل السنة يبغضون يزيد، ومنهم من يلعنه، ليس كما يظنه المعترض فيهم ويرميهم به من بغضهم عليا وأهل بيته، يعرف ذلك كل من طالع كتب القوم.
ص -73-(45/29)
فصل في بيان مذهب الزيدية من البدع
وأقوال الْمُحدِّثين في الإمام زيد بن عليّ وبراءتهم من الشّيعة
وأما قوله: (ومن عجائب الانحراف عن آل محمد: أن عالم أهل السنة والجماعة الذهبي لما عدّد في ميزانه المذاهب الإسلامية قال ما معناه عن يحيي بن معين: وللزيدية مذهب بالحجاز، وهو معدود من مذاهب أهل البدع. فهذا يخبرك بأن علماء أهل السنة والجماعة لم يعرفوا طريقة أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم... إلى آخره.
فيقال: هذا من أعظم الجهل؛ فإن علماء أهل السنة والجماعة، خصوصا أئمة الحديث؛ كيحيى بن معين، وأشباهه من أخبر الناس بأحوال الرجال، ويقولون الحق الذين يدينون الله به، لا يخافون في الله لومة لائم. فإذا كان للزيدية مذهب ينسبونه إلى زيد بن علي- وأهل العلم يعرفون كذبهم وافتراءهم عليه في ذلك- بينوه إذا كان ذلك مخالفا لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه علماء أهل البيت كعلي وابن عباس، وليس كل من انتسب إلى أحد من أهل البيت، أو غيرهم من الأئمة يكون صادقا في انتسابه إليهم ونقله عنهم.
فهؤلاء الروافض الذين يسبون الشيخين وجمهور الصحابة ويكفرونهم، ينتسبون إلى علي وأولاده، ويقولون: نحن شيعة آل محمد، أفكانوا صادقين في ذلك؟ كلا، بل هم أعداؤهم حقا، وأهل البيت براء منهم. وكذلك اليهود والنصارى ينتسبون إلى أنبيائهم، ويزعمون أنهم على دينهم، وعلى طريقتهم، وهم قد باينوهم أشد المباينة.
وكذلك أهل البدع من هذه الأمة ينسبون مذاهبهم الباطلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إلى أصحابه. وكلام علماء أهل الحديث والسنة في زيد بن علي، وأمثاله من علماء أهل البيت معروف مشهور.
ص -74-(45/30)
قال أبو حاتم البستي: لما ذكر قتل زيد بن علي بالكوفة قال: كان من أفاضل أهل البيت وعلمائهم، وكانت الشيعة تنتحله. انتهى.
ومن زمن خروج زيد افترقت الشيعة إلى رافضة وزيدية، فإنه لما سئل عن أبي بكر وعمر فترحم عليهم رفضه قوم، فقال: رفضتموني، فسموا رافضة لرفضهم إياه. ولا يبغض علماء أهل الحديث، ويتكلم فيهم إلا من هو من أهل البدع والكذب والفجور.
وقد تقدم كلام أحمد في ابن أبي قتيلة لما قيل له: إن أصحاب الحديث قوم سوء، فقام أحمد ينفض ثوبه، ويقول: زنديق، زنديق، يعني أنه لا يتكلم فيهم إلا من هو منافق؛ لأن الله حفظ بهم الدين، وميزوا بين صحيح الأخبار وسقيمها، ولهذا قال أحمد بن هارون الفلاس: إذا رأيت الرجل يقع في يحيى بن معين، فاعلم أنه كذاب يضع الحديث.
وقال ابن حجر- في كتاب "تهذيب التهذيب في معرفة الرجال": زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب أبو الحسين المديني روى عن أبيه، وأخيه، وأبي جعفر الباقر، وأبان بن عثمان، وعروة بن الزبير، وعبيد الله بن أبي رافع، روى عنه ابناه حسين وعيسى، وابن أخيه جعفر بن محمد، والزهري، والأعمش، وشعبة، وسعيد بن هشيم1 وإسماعيل، وزبيد اليامي، وزكريا بن أبي زائدة، وعبد الرحمن بن الحارث بن عياش بن أبي ربيعة، وأبو خالد عمرو بن خالد الواسطي، وابن أبي الزناد، وعده ابن حبان في الثقات.
وقال: روي عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال السدي عن زيد بن علي: "الرافضة حربي، وحرب أبي في الدنيا والآخرة".
وروى الحافظ أبو الحجاج المزي بإسناده عن الفضل بن مرزوق، قال: سألت عمر بن علي، وحسين بن علي: هل فيكم إنسان مفترضة طاعته؟ فقال: لا، والله ما هذا فينا، مَن قال هذا فهو كذاب، فقلت لعمر بن علي: رحمك الله، إنهم يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم
__________
1 في تهذيب التهذيب: سعيد بن خيثم.
ص -75-(45/31)
أوصى إلى علي، وأن عليا أوصى إلى الحسن، وأن الحسن أوصى إلى الحسين، وأن الحسين أوصى إلى ابنه علي، وابنه علي أوصى إلى ابنه محمد بن علي؟ فقال: "والله لقد مات أبي، فما أوصى بحرفين، ما لهم -قاتلهم الله-؟ والله أن هؤلاء إلا متأكلة بنا".
وقال يحيى بن سعيد الأنصاري: سمعت علي بن الحسين، وكان أفضل هاشمي رأيته، يقول: "أحبونا حب الإسلام، فما برح بنا حبكم، حتى صار علينا عارا".
فانظر -رحمك الله- إلى ما نقله أهل العلم عن أهل البيت علي بن الحسين وأولاده، يتبين لك أن الشيعة من الرافضة والزيدية هم المنحرفون عن آل محمد، لا أهل السنة والحديث.
فصل في قول ابن معين في مذهب الزيدية
وأما قوله: (ويا ليت شعري، هل سمع ابن معين من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه عد مذهب أولاده من البدع؟).
فهذا من عظيم جهل المعترض وافترائه على ابن معين وغيره من أهل السنة والجماعة؛ فإن ابن معين لم يقل: إن مذهب زيد بن علي وآبائه وأجداده من البدع، بل قال ما نقله عنه المعترض: وللزيدية مذهب بالحجاز، وهو معدود من مذاهب أهل البدع -يعني بذلك الزيدية الذين ينتسبون إلى زيد بن علي، وليسوا على طريقته-، ومجرد الانتساب إلى زيد أو غيره من أهل البيت لا يصير به الرجل متبعا لطريقتهم حتى يعرف طريقتهم، ويتبعهم عليها، كما قال الحسن البصري -رحمه الله- في قوله صلى الله عليه وسلم: "المرء مع من أحب"1 إن اليهود والنصارى يحبون أنبياءهم، فلا تغتروا.
وابن معين -رحمه الله- سمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"2 فهذه كلمة جامعة بين فيها صلى الله عليه وسلم أن كل من أحدث ما يخالف أمر الله ورسوله فهو مردود عليه. وكذلك قوله في حديث العرباض بن(45/32)
__________
1 البخاري: الأدب (6168) , ومسلم: البر والصلة والآداب (2641) , وأحمد (1/392 ,4/405).
2 البخاري: الصلح (2697) , ومسلم: الأقضية (1718) , وأبو داود: السنة (4606) , وابن ماجه: المقدمة (14) , وأحمد (6/146 ,6/180 ,6/240 ,6/256 ,6/270).
ص -76-
سارية: "وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة"1، والرسول صلى الله عليه وسلم أُعطي جوامع الكلم، فأفاد أمته، وأعلمهم -صلوات الله وسلامه عليه-: "أن كل بدعة ضلالة"2.
فإذا تبين لأهل العلم أن طائفة من طوائف الزيدية أو غيرهم، خالفوا ما عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، بينوا للناس أنهم أهل بدعة، وضلالة لئلا يغتر بهم الجاهل، كما بينوا فساد مذهب الرافضة المنتسبين إلى علي وأولاده، وكذلك بينوا فساد مذهب القدرية المنكرين أن يكون الله خلق أعمال العباد وقدرها عليهم، وكذلك بينوا فساد مذهب الخوارج الذين كفّروا عليا وعثمان ومن والاهما؛ وهم مع ذلك ينتسبون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى أبي بكر، وعمر، ويتولونهما، ويستدلون بآيات من القرآن لا تدل على ما قالوه.
وهذا الجاهل يظن أن من انتسب إلى زيد بن علي، وغيره من أهل البيت لا يذم ولا يعاب، ولو خالف الكتاب والسنة. وهذا جهل عظيم لا يمتري فيه إلا من أضله الله، وختم على سمعه وقلبه، وجعل على بصره غشاوة، نعوذ بالله من الخذلان.
__________
1 أبو داود: السنة (4607) , والدارمي: المقدمة (95).
2 أبو داود: السنة (4607) , وابن ماجه: المقدمة (42).(45/33)
فصل الشيعة المعتدلون من أئمة الحديث
وأما قوله: (وممن رموه بالتشيع: أهل السنة والجماعة المذكورون: علي بن المديني شيخ البخاري، وعبد الرزاق الصنعاني، وأحمد بن عقدة، والدارقطني، والحاكم... إلخ.
فيقال: هذا مما يبين لك معرفة أهل الحديث بأحوال الرجال، وبعدهم عن التعصب والهوى، وهؤلاء الأئمة الذين عددتهم هم عند أهل السنة والجماعة من أئمة العلم يقتدون بهم، ويأخذون عنهم، ويرحلون إليهم، ولو كان فيهم بعض التشيع الذي لا يخرجهم عن أن يكونوا أئمة هدى يقتدى بهم، والتشيع الذي
ص -77-
لا يخرج صاحبه عن الحق، لا يذم به صاحبه، ولا يخرجه عن أهل السنة والجماعة، فإن لفظ التشيع ليس مذموما في الشرع، بل قال -تعالى- لما ذكر نوحا -عليه السلام-، قال بعده: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ}1 أي: من أهل دينه، وإنما صار مذموما عند أهل السنة لما كان أهل البدع كالرافضة وأمثالهم الذين يسمون أنفسهم الشيعة يقولون: نحن شيعة آل محمد، وهم قد كذبوا في ذلك، بل هم أعداؤهم؛ لأنهم خالفوا هديهم، وسلكوا غير طريقتهم.
وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء، إنما وليي الله، وصالح المؤمنين"2.
__________
1 سورة الصافات آية: 83.
2 البخاري: الأدب (5990) , ومسلم: الإيمان (215) , وأحمد (4/203).(45/34)
فصل افتراء الشيعة على أهل السنة، الانحراف عن آل البيت وتولي الدّول الجائرة
وأما قوله: (وسبب انحراف من ذكر عن أهل البيت وشيعتهم أنهم تولوا -اليوم- الدول الجائرة، وأطاعوهم، وصححوا ولايتهم، واستدلوا على ذلك بأحاديث كثيرة رووها، فلما سمعها أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وجدوها مخالفة لكتاب الله -تعالى- في قوله: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}1. وقوله:{وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}2. وقوله: {وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً}3، إلى غير ذلك من الآيات الكريمة.
ونظروا في الأحاديث الموجبة لطاعة أئمة الجور، فوجدوها قد رواها خصومهم تقريرا لمذهبهم، وردوها للقاعدة التي قررها أهل الأصول، وأهل الحديث في أنه لا يجب على الخصم قبول رواية خصمه، فيما يقرر مذهبه الذي يرى خصمه أنه عنده بدعة).
فيقال: الجواب عن هذا الكلام من وجوه:
(أحدها): أن هذا كذب على
__________
1 سورة البقرة آية: 124.
2 سورة هود آية: 113.
3 سورة الكهف آية: 51.
ص -78-(45/35)
أهل السنة والجماعة، لا يمتري فيه أحد عرف مذهبهم، وطالع كتبهم، فإنهم لم ينحرفوا عن أهل البيت، بل من أصول الدين عندهم: محبة أهل البيت النبوي، وموالاتهم، والصلاة عليهم في الصلاة وغيرها، ولو ذهبنا نذكر نصوصهم في ذلك لطال الكلام جدا.
(الثاني): أنهم لم يتولوا الدول الجائرة، كما ذكره هذا المعترض، بل هم يبغضونهم ويكرهونهم، ويسمونهم ظلمة، وأئمة جور، وإنما أوجبوا طاعتهم إذا أمروا بطاعة الله ورسوله، ويستدلون على ذلك بأحاديث ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منها أنه قال: "على المرء السمع والطاعة ما لم يؤمر بمعصية؛ فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة"1 وثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر، وأنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرا فيموت، إلا ويموت ميتة جاهلية"2.
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة من رواية أهل البيت وغيرهم من الصحابة -رضي الله عنهم- بأسانيد ثابتة بنقل العدول من أهل الحديث.
(الوجه الثالث): أن أهل السنة والجماعة لم يصححوا ولايتهم، إلا إذا تولوا على الناس، وبايعهم على ذلك أهل الشوكة، وأهل الحل والعقد، فإذا كان كذلك صحت ولايته، ووجبت طاعته في طاعة الله، وحرمت طاعته في المعصية، ولكن لا يجوزون الخروج عليه، ومحاربته بالسيف؛ لأن ذلك يؤول إلى الفتن العظيمة، وسفك الدماء، والهرج الكثير. هذا الذي عليه أهل السنة والجماعة، وهذا القول هو الذي تدل عليه النصوص النبوية، وعليه كثير من أهل البيت.
(الوجه الرابع): أن قوله في الأحاديث التي يستدل بها أهل السنة على السمع والطاعة لولي الأمر، فلما سمعها أهل البيت وجدوها مخالفة لكتاب الله، كذب ظاهر على أهل البيت -عليهم السلام-؛ فإن كثيرا من أهل البيت، مذهبهم مذهب(45/36)
__________
1 البخاري: الأحكام (7144) , ومسلم: الإمارة (1839) , والترمذي: الجهاد (1707) , وأبو داود: الجهاد (2626) , وابن ماجه: الجهاد (2864) , وأحمد (2/17 ,2/142).
2 البخاري: الفتن (7054) , ومسلم: الإمارة (1849) , وأحمد (1/275 ,1/297) , والدارمي: السير (2519).
ص -79-
أهل السنة والجماعة في هذه المسألة، هذا الحسن بن علي رضي الله عنه انخلع لمعاوية رضي الله عنه وبايعه، وأمر كل من بايعه، وبايع أباه بمبايعة معاوية، والسمع والطاعة له، وهو عند هذا المعترض وأمثاله من أئمة الجور. وأما عند أهل السنة والجماعة فهو من خيار ملوك الإسلام، وأعدلهم، وأحسنهم سيرة، ونهى أخاه الحسين عند موته عن طاعة سفهاء الكوفة.
وهذا ابن عباس، وهو من أئمة أهل البيت، نهى ابن عمه الحسين رضي الله عنه عن الخروج، وكذلك محمد بن الحنفية، وعبد الله بن جعفر -رضي الله عنهم-، وهؤلاء من أئمة أهل البيت، وقد تقدم النقل عنهم بذلك. وذكرنا من رواه من الأئمة.
(الوجه الخامس): أن أهل السنة -رحمهم الله- بينوا أن هذه الأحاديث المروية عنهم في السمع والطاعة لولي الأمر هي الموافقة لكتاب الله حقا، لا تخالفه، بل القرآن يصدقها، ويدل على ما دلت عليه؛ لأن الجميع من عند الله. والرسول صلى الله عليه وسلم أعلم بكتاب الله من أهل البدع، وكذلك أصحابه، وأهل بيته.
قال العلماء: كان جبريل ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالسنة كما ينْزل بالقرآن، وقد أمر الله بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم في القرآن في أكثر من سبعين موضعا، وأخبر أن من يطع الرسول فقد أطاع الله، وقد أمر الله بطاعة أولي الأمر في القرآن، فقال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}1 الآية، قال أئمة التفسير: هم العلماء والأمراء.
(الوجه السادس): أن هذه الآيات التي ذكر(45/37)
أنها تخالف هذه الأحاديث، قد بين أهل التفسير معناها، وليس فيها ما يخالف كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ولا ما يدل على مراد هذا المعترض، وأشباهه من أهل البدع؛ كالخوارج، والمعتزلة. ونحن نذكر كلام أئمة التفسير -رحمهم الله- في هذه الآيات؛ لنبين بطلان ما ذهب إليه هذا المعترض.
قال أبو حيان -رحمه الله- في تفسيره المسمى بالبحر: والعهد -يعني في الآية-
__________
1 سورة النساء آية: 59.
ص -80-(45/38)
الإمامة، قاله مجاهد، أو النبوة قاله السدي، أو الأمان قاله قتادة، وروي عن السدي واختاره الزجاج، أو الثواب، قاله قتادة أيضا، أو الرحمة قاله عطاء، أو الدين قاله الضحاك والربيع، أو لا عهد عليك لظالم أن تطيعه في ظلمه قاله ابن عباس، أو الأمر من قوله: {إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا}1. {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ}2، أو إدخاله الجنة من قوله: " كان له عهد عند الله أن يدخله الجنة"، أو طاعتي3 قاله الضحاك، أو الميثاق، أو الأمانة، والظاهر من هذه الأقوال: أنها الإمامة؛ لأنها هي المصدر بها، فأعلم الله إبراهيم -عليه السلام- أن الإمامة لا تنال الظالمين. انتهى كلامه.
وقد جمع لك كلام المفسرين في هذه الآية في هذا المختصر، ولم يذكر أحد من المفسرين أن الآية تدل على الخروج على ولي الأمر ومقاتلته بالسيف، وأنه لا يطاع إذا أمر بطاعة الله وطاعة رسوله. وأهل السنة أهل عدل وإنصاف واتباع للحق؛ لأنهم لم يأمروا بطاعة ولي الأمر في المعصية، بل أمروا بطاعته إذا أمر بطاعة الله، فإذا أمر بالمعصية، فلا سمع له ولا طاعة. لكن لا يجوزون الخروج عليه4 ولا يكون عندهم إماما في الدين إذا كان ظالما.
والآية تدل على أن الظالم لا يكون إماما في الدين، وليس فيها ما يدل على أنه إذا غصب الناس، وتولى عليهم، وصار معه أهل الشوكة، وأهل الحل والعقد لا تجوز طاعته في الطاعة ومبايعته، فيتبين بما ذكرنا: أن هذه الآية ليس فيها دليل على ما ذهب إليه أهل البدع، والله أعلم.
وأما الآية الثانية التي احتج بها وهي قوله -تعالى-: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}5، فقال أبو العالية: في معنى {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا(45/39)
__________
1 سورة آل عمران آية: 183.
2 سورة يس آية: 60.
3 هذا تفسير لكلمة (عهدي) من الآية، وبقية الألفاظ تفسير للعهد فيها غير مضاف.
4 لأن خروج الناس عليه والشوكة بيده مدعاة للفتن الداخلية، واقتتال الأمة بما يجعل بأسها بينها، ويقوي أعداءها عليها، ولكن عدم طاعتها له في المعصية تضطره إلى التزام الشريعة. وأما أهل الحل والعقد فيجب عليهم إقرار الإمامة في قرارها الشرعي إذا قدروا.
5 سورة هود آية: 113.
ص -81-(45/40)
فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}1،
قال: المعنى: لا ترضوا بأعمالهم، وقال ابن عباس: معنى الركون: الميل، وقال السدي، وابن زيد: لا تداهنوا الظلمة، وقال سفيان: لا تدنوا من الذين ظلموا.
وقال جعفر الصادق: {إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} إلى أنفسهم؛ فإنها ظالمة، وقيل: لا تشبهوا بهم. ذكر هذه الأقوال كلها أبو حيان النحوي في تفسيره "البحر"، ولم يذكر أحد من المفسرين أن الآية تدل على أن الظالم إذا تولى على الناس وقهرهم بشوكته وسلطانه، لا تصح ولايته، ولا تجوز طاعته إذا أمر بطاعة الله.
وجميع أهل السنة والجماعة متفقون على أن الركون إلى الظلمة لا يجوز على ما فسره علماء التفسير، كابن عباس، وأبي العالمية، فلا يجوز الميل إليهم، ولا الرضى بأعمالهم التي تخالف كتاب الله وسنة رسوله. وكذلك لا تجوز مداهنتهم، بل ينكر عليهم ما فعلوه من المنكر بلسانه إذا قدر على ذلك، فإن لم يقدر أنكره بقلبه، كما في الحديث المرفوع أنه لما ذكر الظلمة قال: "من أنكره فقد سلم، ومن كره فقد برئ، ولكن من رضي وتابع"2 3. فتبين بما ذكرناه أن الآية لا تدل على ما ذهب إليه هذا المعترض، ومن نحا نحوه من أهل البدع.
وأما الآية الثالثة وهي: قوله -تعالى-: {وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً}4، قال أهل التفسير: {الْمُضِلِّيْنَ} يعني الشياطين؛ لأنهم الذين يضلون الناس، {عَضُداً}قال قتادة: أعوانا يعضدونني إليها، والعضد كثيرا ما يستعمل في معنى العون، وذلك أن العضد قوام اليد، ومنه قوله: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ}5 أي: سنعينك ونقويك به، فهذا إخبار عن كمال قدرته، واستغنائه عن الأنصار والأعوان، والله -تبارك وتعالى- لا يحتاج إلى إعانة أحد من خلقه، بل هو الغني عما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، فلا حول ولا قوة إلا بالله، فهل في هذه الآية ما يدل على مقصود هذا المعترض، الجاهل بوجه من الوجوه؟
(الوجه السابع): أن يقال: احتجاجه بهذه الآيات على معارضة(45/41)
الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في السمع والطاعة لولي الأمر ومناصحته، من جنس
ص -82-
احتجاج الخوارج وأشباههم على بطلان ولاية علي وإمامته، بقوله -تعالى-: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}1. وقوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}2، وإنما أتوا من قلة معرفتهم بتفسير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن جنس احتجاج الرافضة، ومَن نحا نحوهم على كفر الصحابة، وظلمهم بقوله -تعالى-: {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ}3. وكذلك احتجاجهم على إمامة علي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله -تعالى-: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا}4 الآية.
وكذلك احتجاج الجهمية، والمعتزلة على نفي الصفات الواردة في القرآن والسنة بقوله -تعالى-: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً}5 وقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}6. وكل هذه الآيات لا تدل على ما ذهبوا إليه، وإنما تدل على ما أجمع عليه سلف الأمة، وأئمتها من الصحابة، والتابعين -رضي الله عنهم-؛ لأن القرآن يصدق بعضه بعضا، وكذلك الأحاديث يصدق بعضها بعضا، والسنة الصحيحة لا تخالف الكتاب؛ لأن الجميع من مشكاة واحدة {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً}7.
(الوجه الثامن): أن يقال: قوله: (ونظروا في الأحاديث الموجبة لطاعة أئمة الجور، فوجدوها قد رواها خصومهم عنه) كذب ظاهر، وتمويه على الجهال الأصاغر، فإن الأحاديث التي فيها السمع والطاعة لولي الأمر قد رواها جماعة كثيرة من الصحابة من أهل البيت وغيرهم، ولم يردها علماء أهل البيت، بل تلقوها بالقبول كما تقدم النقل عنهم بذلك 8. وبينا أن أهل البيت اختلفوا في جواز الخروج على أئمة الجور.(45/42)
__________
1 سورة الزمر آية: 65.
2 سورة المائدة آية: 44.
3 سورة المائدة آية: 54.
4 سورة المائدة آية: 55.
5 سورة مريم آية: 65.
6 سورة الشورى آية: 11.
7 سورة النساء آية: 82.
8 بقي شيء آخر: وهو أن رواة الأحاديث الذين دونوها ومحصوا أسانيدها، ليسوا خصوما فيها لآل البيت، ولا للشيعة وغيرهم من المبتدعة، بل يروون عن كل من ثبت عندهم عدالته في الرواية، وإن كان مخالفا لهم في بعض الأصول والفروع، لا يتعصبون لمذهب أحد في الرواية؛ فالمجتهد منهم يروي كل ما سمعه من الرواة، ويتبع ما صح عنده بحسب فهمه، ومن نشأ على مذهب كالذهبي والمزي وابن حجر العسقلاني لا يأبى أن يصحح ما خالف مذهبه، وأن يضعف ما وافقه، فتمحيص الأسانيد عندهم مقدم على كل شيء، وعلماء الشيعة المتعصبون من الزيدية والإمامية يعلمون هذا، ولكنهم يوهمون عوامهم أن حفاظ الحديث خصوم لهم؛ ليقطعوا طريق الأدلة الصحيحة عليهم.
ص -83-
فمنهم من يرى ذلك ويفعله، ومنهم من لا يرى ذلك ولا يفعله، بل ينهى عنه ويكرهه. ولو لم يكن إلا فعل الحسن رضي الله عنه لكفى به تكذيبا لما حكاه هذا المعترض، ولكن هذا وأشباهه من أهل البدع ينتسبون إلى أهل البيت، وينقلون مذاهبهم الباطلة عنهم، فينسبونها إليهم، ويكذبون عليهم، ولا يميزون بين الصدق والكذب، فلا نقل صحيح، ولا عقل مليح، نسأل الله العفو والعافية.(45/43)
فصل في أهواء الشيعة والخوارج في حديث الردة و حديث الوصية بآل البيت
وأما قوله: (ولقد قرر هذا الواقع على أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حذر عنه الأمة والصحابة من لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البخاري ومسلم عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنكم محشورون إلى الله؛ حفاة، عراة، غرلا"1 الحديث، وكذلك حديث ابن مسعود وما في معناهما، وكذلك قوله: وقد فسر هذين الحديثين للذين ذكرهما صلى الله عليه وسلم بمخالفة كتاب الله عز وجل وأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخرجه الطبراني في "الكبير" عن زيد بن أرقم قوله صلى الله عليه وسلم "إني لكم فرط"2 الحديث وما في معناه من الأحاديث).
فالجواب عن ذلك من وجوه:
(أحدها): أن يقال: حديث ابن عباس، وحديث ابن مسعود المتفق عليهما وما في معناهما من الأحاديث الصحيحة3 قد رواها أهل العلم، وفسروها بأن المراد بها الذين ارتدوا بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقاتلهم أبو بكر الصديق والصحابة معه، كأصحاب مسيلمة الكذاب، والأسود العنسي، وطليحة، ومن معهم من قبائل العرب، فجهز أبو بكر رضي الله عنه الجيوش، وأمَّر عليهم خالد بن الوليد، وقاتلهم حتى قتل منهم على الردة جماعة كثيرة، ودخل(45/44)
__________
1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3349) والرقاق (6524) , ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2860) , والترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2423) وتفسير القرآن (3167 ,3332) , والنسائي: الجنائز (2081 ,2082 ,2087) , وأحمد (1/220 ,1/223 ,1/229 ,1/235 ,1/253) , والدارمي: الرقاق (2802).
2 البخاري: المغازي (4085) , ومسلم: الفضائل (2296) , والنسائي: الجنائز (1954) , وأحمد (4/149 ,4/153 ,4/154).
3 التي فيها أن بعض من يرد عليه -صلى الله عليه وسلم- الحوض، تذودهم الملائكة، ويعللون طردهم بقولهم له -صلى الله عليه وسلم-: "إنك لا تدري مما أحدثوا بعدك"، فيقول: "بعدا لهم وسحقا".
ص -84-(45/45)
بقيتهم في الإسلام طوعا وكرها، وظهر مصداق ما أخبر الله به في كتابه حيث قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}1 الآية. قال الحسن البصري -رحمه الله-: هم والله أبو بكر، وأصحابه.
وقد روى البخاري في صحيحه تفسير ذلك بما ذكرنا، فقال في ترجمة مريم من (أحاديث الأنبياء)، قال الفربري: عن أبي عبد الله البخاري، عن قبيصة قال: هم الذي ارتدوا على عهد أبي بكر، فقاتلهم أبو بكر، يعني حتى قتلهم، وماتوا على الكفر.
قال الخطابي: لم يرتد من الصحابة أحد، وإنما ارتد قوم من جفاة الأعراب ممن لا بصيرة له في الدين، وذلك لا يوجب قدحا في الصحابة المذكورين.
قال الحافظ: ورجح عياض والباجي وغيرهما ما قاله قبيصة راوي الخبر، ولا يبعد أن يدخل في ذلك -أيضا- من كان في زمنه من المنافقين، كما في حديث الشفاعة: "وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها"2، فدل على أنهم يحشرون مع المؤمنين.
(الوجه الثاني): أن يقال: الخوارج، ومن سلك سبيلهم يحملون هذه الأحاديث على علي رضي الله عنه ومن والاه، ويقولون: إنهم ارتدوا، وأشركوا، فكما أنهم مخطئون ظالمون في ذلك، فكذلك الروافض، والشيعة الذين يحملون هذه الأحاديث على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كأبي بكر وعمر وجمهور الصحابة، أو على معاوية ومن قاتل معه عليا؛ بل قولهم أظهر فسادا، وأبعد عن الحق والصواب من قول الخوارج، فإن كان كلامهم صحيحا فكلام الخوارج أقرب إلى الصحة.
(الوجه الثالث): أن أهل البيت الذين ذكروا في حديث زيد بن أرقم، وما في معناه هم قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين حرمت عليهم الصدقة، قال: علي، وآل جعفر، وآل العباس، وآل أبي لهب، كما أخبر بذلك زيد بن أرقم،(45/46)
__________
1 سورة المائدة آية: 54.
2 البخاري: التوحيد (7438) , ومسلم: الإيمان (182) , وأحمد (2/275).
ص -85-
وهو راوي الخبر، كما ذكر ذلك مسلم في صحيحه، والإمام أحمد في مسنده، وغيرهما من أهل الحديث، وهذا لفظهما، وروايتهما: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن أبي حيان اليمني، حدثني يزيد بن حبان، قال: انطلقت أنا وحصين بن سبرة، وعمرو بن مسلم إلى زيد بن أرقم، فلما جلسنا إليه، قال له حصين: لقد لقيت يا زيد خيرا كثيرا؛ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعت حديثه وغزوت معه، وصليت معه، لقد لقيت يا زيد خيرا كثيرا، حدِّثْنا يا زيد ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا ابن أخي، والله لقد كبر سني، وقدم عهدي، ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله صلى الله عليه وسلم فما حدثتكم فاقبلوه، وما لا فلا تكلفونيه.
ثم قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما خطيبا بماء يدعى (خما) بين مكة والمدينة، فحمد الله، وأثنى عليه، وذكر، ووعظ، ثم قال: "أما بعد؛ ألا أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، وإني تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله؛ فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله، واستمسكوا به"1، فحث على كتاب الله ورغب فيه، وقال: "وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي"2، فقال له حصين: ومن أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: إن نساءه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده، قال: ومن هم؟ قال: هم آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل العباس، قال: أكل هؤلاء حُرِمَ الصدقة؟ قال: نعم.
فانظر -رحمك الله- إلى كلام الصحابي، راوي الخبر، وإخباره أن أهل البيت كل من حرم الصدقة بعده3، والرافضة والشيعة تحمل هذه الأحاديث على آل علي خاصة.
(الوجه الرابع): أن يقال: هذه الأحاديث أكثرها مطعون في صحتها، لا تقوم بها حجة، والصحيح منها لا يدل على مقصود هذا(45/47)
المعترض وأشباهه من أهل البدع، وذلك لأن مدلولها يعم أهل البيت، كآل علي، وآل العباس، وآل عقيل، وآل جعفر، وغيرهم ممن حُرِّمت عليه الصدقة، وتدل على أن إجماعهم حجة، وأنهم لا يجمعون على مخالفة كتاب الله وسنة رسوله.
وأما إذا اختلفوا لم يكن قول أحدهم حجة على الآخر، بل يجب الرد عند التنازع إلى الله، وإلى الرسول، كما قال -تعالى-: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}4.
__________
1 مسلم: فضائل الصحابة (2408) , وأحمد (4/366) , والدارمي: فضائل القرآن (3316).
2 مسلم: فضائل الصحابة (2408) , وأحمد (4/366) , والدارمي: فضائل القرآن (3316).
3 والتحقيق أنهم بنو هاشم وبنو المطلب.
4 سورة النساء آية: 59.
ص -86-
(الوجه الخامس): أن يقال: الذين ظلموا أهل البيت وقتلوهم، أو أحدا منهم، هم عند أهل السنة والجماعة أئمة جور وظلم، لا يحبونهم ولا يوالونهم، بل يبغضونهم ويعادونهم، ويلعنون من ظلمهم، وهذه كتبهم محشوة بالثناء على أهل البيت، والدعاء لهم، والترضي عنهم، وذم من ظلمهم، ولو ذهبنا نذكر نص كلامهم، لطال الكتاب جدا.
فتبين بما ذكرنا أن مذهب أهل السنة والجماعة هو الحق الذي لا يجوز العدول عنه، وأن مذهب الرافضة والزيدية هو المخالف لكتاب الله وسنة رسوله، ولما أجمع عليه أهل البيت النبوي. والله أعلم.(45/48)
فصل في تفسير{قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}
وأما قوله: (وأما أدلة السائل وحجته على أن معتمده وطريقه إلى جده صلى الله عليه وسلم أهل الحق، أعني أهل البيت، سلام الله عليهم في الكتاب والسنة، أما الكتاب فآيات قد أضاء نورها، أولها قوله -تعالى-: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}1. وقوله: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}2 ووجه الدلالة: أن الله لا يأمر بمودة من ليس على الحق... إلى آخره.
فيقال: هذا من تمويهه على الجهال؛ الذين لا يميزون بين الحق والباطل، وليس كل من احتج بالقرآن يدل على ما احتج به عليه، وإنما يعرف معاني القرآن والسنة أهل العلم من الصحابة والتابعين لهم بإحسان؛ كابن عباس -رضي الله عنهما- وعلي بن الحسين، ومن شابههم من أهل العلم، الذين يعرفون مراد الله ورسوله.
وقد صح عن ابن عباس أنه فسر قوله -تعالى-:{قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}3 بأن المراد بذلك: أن يصلوا ما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرابة، ويكفوا عنه الأذى، ويدعوه يبلغ رسالات ربه، كما قال البخاري في صحيحه: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن عبد الملك بن ميسرة،
__________
1 سورة الأحزاب آية: 33.
2 سورة الشورى آية: 23.
3 سورة الشورى آية: 23.
ص -87-(45/49)
سمعت طاووسا، عن ابن عباس أنه سئل عن قوله: {إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}1، فقال سعيد بن جبير: قربى آل محمد. فقال ابن عباس: عجلت، إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة، فقال: "إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة"2 انفرد به البخاري.
ورواه الإمام أحمد عن يحيى القطان، عن شعبة به. قال ابن كثير: وهكذا روى عامر الشعبي، والضحاك، وعلي بن أبي طلحة، والعوفي، ويوسف بن مهران، وغير واحد عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعكرمة، وقتادة، والسدي، رواه الطبراني بإسناده عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا أسألكم عليه أجرا إلا أن تودوني في نفسي؛ لقرابتي منكم، وتحفظوا القرابة التي بيني وبينكم". وروى الإمام أحمد بإسناده عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا أسألكم على ما آتيتكم من البينات والهدى أجرا، إلا أن تودوا الله، وتتقربوا إليه بطاعته"، هكذا روى قتادة عن الحسن البصري، عن ابن عباس مثله.
وهذا كأنه تفسير بقول ثان، وقول ثالث، وهو ما حكاه البخاري وغيره عن سعيد بن جبير ما معناه أنه قال: معنى ذلك أن تودوني في قرابتي، أي تبروهم وتحسنوا إليهم. قال ابن كثير: والحق تفسير الآية بقول حبر الأمة، وترجمان القرآن؛ عبد الله بن عباس كما رواه عنه البخاري3؛ ولا ننكر الوصاة بأهل البيت، والأمر بالإحسان إليهم واحترامهم،(45/50)
__________
1 سورة الشورى آية: 23.
2 البخاري: تفسير القرآن (4818) , والترمذي: تفسير القرآن (3251) , وأحمد (1/229 ,1/286).
3 نعم هذا هو الحق وما عداه باطل، مخالف لنصوص القرآن القطعية الناطقة بأن رسل الله -تعالى- لم يسألوا على تبليغ وحي الله ودينه أجرا، بل صرحوا بأن أجرهم على الله وحده، كما تراه في قصص الرسل في سورتي هود والشعراء وغيرهما، وما كان خاتم النبيين بدعا من الرسل، فما ينبغي له، وهو أفضلهم أن يسأل قومه أجرا على تبليغ الدين، أن يودوا قرابته، وأكثر البشر يسعون، ويكدحون لأجل أولي قرباهم، وقد حكى الله -تعالى- عنه ذلك، كما حكى عنهم في سور الأنعام، ويوسف والفرقان، وسبأ، وص، والشورى، وفيها استثناء (إلا المودة في القربى)، وهو استثناء منقطع قطعا لئلا تختلف مع بقية الآيات التي جاءت على أصل العقيدة في سائر الرسل -عليهم السلام- فمعناها: لا أسألكم عليه أجرا مطلقا، ولكن أسألكم المودة في القرابة، وصلة الرحم بيني وبينكم كسائر الأقربين، كما استثنى في آية الفرقان (إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا).
ص -88-
وإكرامهم، فإنهم من ذرية طاهرة، وأشرف بيت وجد على ظهر الأرض فخرا، وحسبا ونسبا، ولا سيما إذا كانوا متبعين للسنة النبوية الصحيحة الواضحة الجلية، كما كان عليه سلفهم كالعباس وبنيه، وعلي، وأهل بيته وذويه.
ثم ذكر ابن كثير -رحمه الله- الأحاديث في وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم وساقها من وجوه متعددة.(45/51)
فصل في تفسير {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} وتحريف الشيعة لها
وأما قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}1، فقال الحافظ ابن كثير في تفسيره: هذا نص في دخول أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في أهل البيت؛ لأنهن سبب نزول هذه الآية، وسبب النُزول داخل فيه قولا واحدا. إما وحده على قول، أو مع غيره على الصحيح.
وروى ابن أبي حاتم بإسناده عن ابن عباس في قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ}2 قال: نزلت في نساء النبي صلى الله عليه وسلم. وقال عكرمة: من شاء باهلته؛ إنها نزلت في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم. فإن كان المراد أنهن سبب النُزول دون غيرهن فهذا حق، وإن كان المراد أنها لا تعم غيرهن ففي هذا نظر؛ فإنه قد وردت أحاديث تدل على أن المراد أعم من ذلك، ثم ساق الأحاديث بطولها. انتهى معنى ما ذكره ابن كثير.
ومن تدبر القرآن لم يشك أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم داخلات في قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} 3 ؛ لأن سياق الكلام معهن4. ولهذا قال
__________
1 سورة الأحزاب آية: 33.
2 سورة الأحزاب آية: 33.
3 سورة الأحزاب آية: 33.
4 التحقيق المتبادر من الآيات أنها في نساء النبي وحدهن دون غيرهن، وإنما ذكر الضمير في قوله (ليذهب عنكم الرجس أهل البيت) لدخوله – صلّى الله عليه وسلّم - معهن في ذلك، ولكون ما أريد من التشديد عليهن بهذه الوصايا، وحكمته هو تطهير بيته (ص) مما يدنسه بانحرافهن عن صراط التقوى -(برأهن الله من ذلك)- ومن المعلوم بالبداهة: أن الرجل لا يلحقه من العار بارتكاب أحد أولاد عمه لفاحشة ما مثل ما يلحقه باقتراف زوجه للفاحشة.
ص -89-(45/52)
بعد هذا كله: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ}1 أي: واعملن بما أنزل الله على رسوله في بيوتكن، من الكتاب والسنة، قاله قتادة، وغير واحد من المفسرين، وعائشة بنت الصديق -رضي الله عنها وعن أبيها- أولاهن بهذه النعمة، وأحظاهن بهذه الغنيمة، فإنه لم ينْزل على رسوله صلى الله عليه وسلم الوحي في فراش امرأة سواها، كما نص على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال بعض العلماء: لأنه لم يتزوج بكرا غيرها، ولم ينم معها رجل في فراشها غيره صلى الله عليه وسلم فناسب أن تخص بهذه المزية، وأن تفرد بهذه المرتبة العلية.
والمقصود: أن هذه الآية تناقض مذهب هذا المعترض، وترد عليه، وتنادي ببطلان مذهبه من وجوه كثيرة: (منها): أنها عامة في جميع أهل البيت كآل العباس، وآل جعفر، وآل الحارث بن عبد المطلب، وهو إنما يظن أن المراد بها آل علي خاصة. (ومنها): أن أزواجه داخلات في جملة أهل البيت، وهم يزعمون أن عائشة، ومن معها من الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- مخطئون عاصون في قتالهم عليا وأصحابه.
(ومنها): أنه ليس فيها دليل على عصمة أهل البيت؛ لأن العلماء -رحمة الله عليهم- ذكروا أن الإرادة في القرآن نوعان: إرادة شرعية دينية، وإرادة قدرية كونية؛ فالأولى كقوله في هذه الآية: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} 2 وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}3 الآية وقوله: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ}4. وأخبر أنه يريد أن يتوب على المؤمنين ويطهرهم، وفيهم من تاب ومن لم يتب، ومن تطهر ومن لم يتطهر، فلا يكون فيها دليل على العصمة، ولا الإمامة. 5
وأما الإرادة الكونية القدرية فكقوله: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ(45/53)
يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً}6 الآية، وقوله: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً}7 وقوله: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً}8 الآية،
__________
1 سورة الأحزاب آية: 34.
2 سورة الأحزاب آية: 33.
3 سورة النساء آية: 26.
4 سورة المائدة آية: 6.
5 ومثله في حكمة الرخصة في الصيام (يريد الله بكم اليسر) الآية.
6 سورة الأنعام آية: 125.
7 سورة المائدة آية: 41.
8 سورة الإسراء آية: 16.
ص -90-
وقوله: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ}1 الآية. وهذه هي الكلمات التي لا يجاوزهن بر، ولا فاجر.
ولفظ (الرجس) أصله القذر، ويراد به الشرك كقوله -تعالى-: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ}2، ويراد به الخبائث المحرمة كقوله: {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ}3. ونحن نقطع أن الله أذهب عنهم الرجس والخبائث، فمن تاب وقع ذنبه مكفرا، أو مغفورا له، فقد طهره الله تطهيرا.
فتبين بما ذكرنا: أن الآيات التي احتج بها قد أضاء نورها في بطلان ما ذهب إليه هذا المعترض، وهو المطلوب.
__________
1 سورة القصص آية: 5.
2 سورة الحج آية: 30.
3 سورة الأنعام آية: 145.(45/54)
فصل في أهواء الشيعة في مناقب أحاديث آل البيت
وأما قوله: (وأما الأحاديث ففي الترمذي عن زيد بن أرقم قوله صلى الله عليه وسلم: "إني تارك فيكم ما إن استمسكتم به لن تضلوا بعدي"1 إلى آخره، وكذلك حديث أبي سعيد الذي أخرجه ابن أبي شيبة، وابن سعد وأحمد، وكذلك حديث أبي ذر: "مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح في قومه"إلى آخره، وكذلك حديث ابن الزبير، وكذلك حديث أبي سعيد وغيره مما ذكر).
(فالجواب) أن يقال: قد تقدم الجواب عن حديث الثقلين، وما في معناه قريبا، وبينا أنها لا تدل على مقصود هذا المعترض، بل تدل على نقيض مقصوده، وإنما تدل على أن إجماع أهل البيت حجة، وأنهم لا يجمعون على باطل؛ لأن الله عصمهم من ذلك، كما عصم هذه الأمة أن تجتمع على ضلالة، وهذا قول طائفة من أصحاب أحمد وغيره، ذكره القاضي في المعتمد.
ومن العجب قوله: قال بعض أهل التحقيق: إن حديث الثقلين متلقى بالقبول،
__________
1 الترمذي: المناقب (3788).
ص -91-(45/55)
والأمة مجمعة على صحة هذا الحديث. وهذا كذب ظاهر، فإن حديث زيد بن أرقم الذي في صحيح مسلم الذي فيه ذكر الثقلين، قد طعن فيه غير واحد من أهل العلم بالأحاديث والأخبار، كأبي حاتم الرازي، وأبي داود السجستاني، فأهل الحديث اختلفوا في صحته: فصححه بعضهم، وطعن فيه بعضهم، فضلا عن جميع الأمة
وأما الأحاديث الأخرى التي ذكرها فليست في دواوين الإسلام المعتمدة كالصحيحين والسنن الأربعة، وإنما يرويها بعض أهل الحديث المتأخرين الذين يروون الصحيح، والضعيف، والموضوع، وعلى تقدير صحتها، فليس فيها حجة على العصمة، ولا على الإمامة؛ لأنها عامة في جميع أهل البيت. ومعلوم أن بني العباس من أهل البيت، وهم عند هذا المعترض من أئمة الجور والظلم، فمدلول هذه الأحاديث يناقض مذهب هذا المعترض، وأشباهه من أهل البدع، والله أعلم.
فصل جدليات الشيعة في أهل السنة وآل البيت
وأما قوله: (فلنرجع إلى الكلام على السؤال والجواب، وإظهار ما فيه من خطأ وصواب)، وقوله في الجواب (اعلم أن قولنا في هذه الآيات وما أشبهها من آيات الصفات الواردة في القرآن العزيز والأحاديث الواردة في الصحاح، وغيرها هو مذهب السلف الصالح، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين... إلى آخره.
ثم قال معترضا عليه: أقول: قد تحجرت واسعا، قال الله -تعالى-: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}1، فقد جعلت سيد المرسلين الذي هو رحمة للعالمين، رحمة لك، ولأهل مذهبك، وللمتسمين بأهل السنة والجماعة خاصة، وأضفته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه -رضي الله عنهم-، وجعلتهم سلفا لك ولأهل نحلتك، فيا ليت شعري، أين تضع أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أخرجتهم عن أن يكون سلفهم جدهم صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وتابعيهم لما فسروا كتاب الله، وتأولوا صفات الله على ما تقتضيه لغة العرب، فقد قال -تعالى-:(45/56)
__________
1 سورة الأنبياء آية: 107.
ص -92-
{قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ}1. فلقد فرقت بين النبي صلى الله عليه وسلم وآله، وقطعت ما وصله الله ورسوله، وخالفت قوله صلى الله عليه وسلم فيما قاله لعلي: "أما2 تكون رابع أربعة: أول من يدخل الجنة أنا وأنت، والحسن والحسين، وأزواجنا عن أيماننا وشمائلنا، وذرياتنا خلف أزواجنا"أخرجه الثعلبي، وأحمد في المناقب، وفي رواية أخرى أخرجها بعد ذكر الذرية: "وأشياعنا عن أيماننا وشمائلنا"إلى آخره.
(فالجواب) أن يقال: في هذا الكلام من الكذب والزور والظلم أنواع كثيرة:
(الأول): قوله: قد تحجرت واسعا، قال الله -تعالى-: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}وقد جعلت سيد المرسلين الذي هو رحمة للعالمين، رحمة لك، ولأهل مذهبك، وهذا كذب ظاهر على المجيب؛ لأنه لم يخص أحدا معينا، بل أخبر أن مذهبه في هذه الآيات وما أشبهها من الأحاديث، مذهب السلف الصالح، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، فهذا كلامه صريحا في تكذيب هذا المعترض.
(الثاني): قوله: فقد جعلت سيد المرسلين الذي هو رحمة للعالمين، رحمة لك، ولأهل مذهبك، وهذا أيضا كذب ظاهر على المجيب؛ لأن ظاهر كلامه على صريحه يناقض ما ذكره هذا المعترض، وكل من اتبع كتاب الله وسنة رسوله من جميع الطوائف فهو عنده من أهل الرحمة الناجين، ولا يخالف في هذه المسألة أحد من أمته -صلى الله عليه وسلم-؛ لا من أهل السنة، ولا من أهل البدعة، وإنما الشأن في تحقيق هذه الدعوى بالعمل، وقد قال -تعالى- في كتابه: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ}3 الآية، فدلت هذه الآية الكريمة على أن كل من أطاع الله ورسوله من الأولين والآخرين، فهو من أهل الجنة الناجين.
(الثالث):(45/57)
قوله: وللمتسمّين بأهل السنة والجماعة خاصة. وهذا أيضا كذب على المجيب؛ لأن الذي ذكر المجيب -كما نقله هو عنه- أنه ما درج عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
1 سورة الزمر آية: 28.
2 كذا في الأصل، ولعله "أما ترضى أن تكون، إلخ" أو نحو هذا.
3 سورة النساء آية: 69.
ص -93-
وأصحابه، والتابعون، ومن اتبع سبيلهم من الأئمة، وأهل الحديث، وسائر العلماء الذين لهم لسان صدق عند الأمة، وهم أهل السنة، فهذا كلام المجيب بحروفه، وهو ظاهر في كذبه وافترائه عليه.
والمجيب يعلم أن كثيرا من أهل البدع يسمون أنفسهم أهل السنة والجماعة، وليسوا كذلك، بل هم مخالفون للسنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولجماعة أهل الحق، كالخوارج والمعتزلة الذين يسمون أنفسهم أهل العدل والتوحيد، وهم في الحقيقة أهل ظلم وشرك.
وكذلك الروافض والشيعة الذين يسمون أنفسهم شيعة آل محمد، وهم أعداء آل محمد في الحقيقة كما أن اليهود والنصارى يدعون اتباع الأنبياء، وينتسبون إليهم، وهم أعداؤهم حقا، ولهذا امتحنهم الله -تبارك وتعالى- بهذه الآية الكريمة لمّا ادعوا محبة الله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}1 الآية.
(الرابع): قوله: فيا ليت شعري، أين تضع أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أخرجتهم عن أن يكون سلفهم جدهم صلى الله عليه وسلم وتابعيهم؟ وهذا من أظهر الكذب، والفجور على المجيب؛ لأن أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أئمته وسلفه فيما ذكر؛ لأنه بيّن في كلامه أن مذهبه ما درج عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وتابعوهم إلى يوم الدين، فأين في هذا أنه أخرج أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الجملة؟ بل صريح كلامه أنهم داخلون فيمن انتسب إليهم؛ لأن قوله: وأصحابه وتابعوهم إلى يوم الدين، يعم؛ فيدخل فيه علي وسبطا(45/58)
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن عباس، وأبوه العباس، وغيرهم من أهل البيت الذين اتبعوا سلفهم الصالح، فكيف يقول هذا الكاذب الفاجر أن المجيب أخرجهم من هذه الجملة؟
وأما قوله: فقد أخرجتهم عن أن يكون سلفهم جدهم صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وتابعيهم لما فسروا كتاب الله، وتأولوا صفات الله على ما تقتضيه لغة العرب، فقد قال -تعالى-: {قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ}2، فالمجيب إنما أخرج من هذه الجملة أهل البدع
__________
1 سورة آل عمران آية: 31.
2 سورة الزمر آية: 28.
ص -94-(45/59)
والضلال الذين يكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته، وينسبون أقوالهم الباطلة إليهم، ويتأولون كتاب الله على غير تأويله، وعلى غير ما فسره به الصحابة والتابعون، بل يحرفون الكلم عن مواضعه، كفعل اليهود والنصارى كالجهمية والمعتزلة، ومن شابههم من هذه الأمة؛ الخوارج، والشيعة الذين يعطلون صفات الله، ويصفونه بصفات المعدومات، ويجحدون ما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم أو يتأولونه على غير ما دل عليه عند علماء العربية.
والمقصود أنه بيّن في كلامه أن المذهب الصحيح الصواب في مسألة الصفات هو ما درج عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، والحق لا يخرج عنهم، بل الحق يدور معهم حيث داروا؛ لأن الطرق كلها مسدودة إلى الله، وإلى جنته إلا من طريقه -صلوات الله وسلامه عليه- وهذا مجمع عليه بين فرق الأمة، وإنما الشأن في تحقيق الدعوى وتحقيق المنقول عنه -صلوات الله عليه-، والتمييز بين الصحيح والكذب، وأهل العلم كلهم من جميع الفرق يتفقون على أن طريقة أهل التأويل مبتدعة؛ ابتدعها أوائل الجهمية والمعتزلة الذين أخذوها عن الصابئين من المشركين أعداء الإسلام، ولا تؤثر عن أحد من السلف الصالح، لا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أهل بيته، ولا عن أحد من أصحابه، ولا التابعين لهم بإحسان.
ولما حدثت هذه البدعة في أواخر دولة بني أمية، أمر العلماء- كالحسن البصري، وغيره من أهل العلم- بقتل من ابتدعها، وهو الجعد بن درهم، فضحى به الأمير خالد بن عبد الله القسري بواسط بالعراق، فخطب الناس وقال: "أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم؛ إنه يزعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما"، ثم نزل فذبحه لإنكاره الخلة والتكليم، وذلك أن أهل البدع يزعمون أن الله لا يتكلم، ولا يحب خلقه، ولا يخالل أحدا، ويزعمون أن هذا من صفات(45/60)
المخلوقين، ويتأولون الآيات التي فيها: إن الله يتكلم، أو يحب، أو يتخذ
ص -95-
إبراهيم خليلا على غير مدلولها، كما ذكر ذلك أهل العلم من أهل التواريخ وغيرهم. فقد خالفت ما عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته، والتابعون لهم بإحسان، واتبعت سبيل المبتدعة الضالين، وذممت طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكل من اتبعهم وزعمت أنها تقتضي التشبيه والتجسيم، ومدحت طريقة جهم بن صفوان، وجعد بن درهم، وزعمت أنها هي الحق الذي يجب اتباعه، ونسبتها -بجهلك- إلى رسول الله، وأهل بيته.
وقد ذكر البخاري -رحمه الله- في كتابه (خلق أفعال العباد) قصة جهم بن صفوان وجعد بن درهم، وكان جعد أخذ هذا المذهب عن الصابئين، وأخذه عنه الجهم بن صفوان. قال -رحمه الله-: حدثنا قتيبة، حدثني القاسم بن محمد بن حبيب بن أبي حبيب، عن أبيه عن جده، قال: شهدت خالد بن عبد الله القسري بواسط في يوم الأضحى وقال: "ارجعوا وضحوا تقبل الله منكم، فإني مضح بالجعد بن درهم؛ زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما، سبحانه وتعالى عما يقول الجعد بن درهم علوا كبيرا" ثم نزل فذبحه. قال أبو عبد الله: بلغني أن جهما كان يأخذ هذا الكلام عن الصائبة.
فصل
وأما قوله: فلقد فرقت بين النبي صلى الله عليه وسلم وقطعت ما وصله الله ورسوله، فهذا كذب وافتراء على المجيب، لا يمتري فيه ذو قلب منيب، وذلك أن المجيب قرر في كلامه مذهب السلف الصالح، وهو ما عليه رسول الله وأصحابه، وذكر الأدلة على ذلك من كلام الله، وكلام رسوله، وكلام أهل العلم.
وإنما الذي قطع ما أمر الله به أن يوصل وفرق بين رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أهل البدع والضلال الذين شاقوا الله ورسوله من بعد ما تبين لهم الهدى، واتبعوا غير سبيل المؤمنين، فأولئك يوليهم الله ما تولوا، ويصليهم جهنم وساءت مصيرا، ولو ادعوا اتباعهم، وانتحلوا طريقتهم كذبا وافتراء عليهم.
ص -96-(45/61)
فصل زعم الزيدي أن الوهابي كفّر من خالف مذهبه وإبطاله
وأما قوله: أو لم تدر أنك ضللت، وكفّرت من خالف مذهبك؟ استنادا إلى الأوزاعي الذي يدعي أن الحق معه، وأن التابعين أجمعوا على ما ادعاه.
(فالجواب) أن يقال: في هذا الكلام من الكذب والظلم والجهل أنواع كثيرة:
(الأول) قوله: إنك ضللت، وكفّرت من خالف مذهبك في مسألة الصفات، فإن الأمة اختلفوا في هذه المسائل اختلافا كثيرا، ولم يكفّر بعضهم بعضا، وإنما يكفّرون من خالف نص كتاب أو سنة، وقامت عليه الحجة، واعتقد أن الحق خلاف ذلك. وأما نحن فلم نكفّر أحدا بهذه الأمور، وإنما كفّرنا من أشرك بالله، وعبد معه غيره، وقامت عليه الحجة، واستهزأ بالدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله، أو شيء منه، أو كرهه وأبغضه.
والأدلة على ذلك كثيرة في الكتاب والسنة كقوله -تعالى-: {مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ}1. وقال -تعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلم: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}2. وقال -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}3. وقال -تعالى-: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ}4 الآية. وقال -تعالى-: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}5. وقال -تعالى-: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}6.
(الثاني): قوله: استنادا إلى الأوزاعي، الذي ادعى أن الحق معه؛ لأن الأوزاعي -رحمه الله- لم يدع أن الحق معه، بل ذكر أن مذهبه هو ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وما أجمع عليه التابعون. ومعلوم أن الحق معهم لا يمتري في ذلك مسلم، وإذا تنازع(45/62)
الناس في مسألة من المسائل الأصولية والفروعية، فالصواب
__________
1 سورة المائدة آية: 72.
2 سورة الزمر آية: 65.
3 سورة النساء آية: 48.
4 سورة الحج آية: 31.
5 سورة التوبة آية: 65، 66.
6 سورة محمد آية: 9.
ص -97-
والحق مع من كان الدليل معه كائنا من كان.
(الثالث): قوله: وإن التابعين أجمعوا على ما ادعاه؛ لأن الإجماع في هذه المسألة قد حكاه غير واحد من أهل العلم، كمحمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة، وأبي عمر بن عبد البر وغيرهما. فثبت عن محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة أنه قال: "اتفق الفقهاء من الشرق والغرب على أن الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاء بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الرب عز وجل من غير تفسير، ولا تشبيه، فمن فسر شيئا من ذلك، فقد خرج مما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وفارق الجماعة؛ فإنهم لم يصفوا ولم يفسروا، ولكن آمنوا بما في الكتاب والسنة، فمن قال بقول جهم فارق الجماعة". انتهى.
فانظر -رحمك الله- إلى هذا الإمام، كيف حكى الإجماع في هذه المسألة؟ ولا خير فيما خرج عن إجماعهم، ولو لزم التجسيم عن السكوت عن تأويلها لفروا منه، فإنهم أعرف الأمة بما يجوز على الله، وما يمتنع عليه. وثبت عن إسماعيل بن إبراهيم بن عبد الرحمن الصابوني أنه قال: "إن أصحاب الحديث، المتمسكين بالكتاب والسنة، يعرفون ربهم -تبارك وتعالى- بصفاته التي نطق بها كتابه، وتنْزيله، وشهد بها رسوله صلى الله عليه وسلم على ما وردت به الأخبار الصحاح، ونقله العدول الثقات، ولا يعتقدون تشبيها لصفاته بصفات خلقه، ولا يكيفونها تكييف المشبهة، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه؛ تحريف المعتزلة والجهمية". وقد أعاذ الله أهل السنة من التحريف والتشبيه، ومن عليهم بالتفهيم والتعريف حتى سلكوا سبيل التوحيد والتنْزيه، وتركوا القول بالتشبيه، واكتفوا بنفي النقائص بقوله عز وجل:(45/63)
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}1. وبقوله -تعالى-: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَد وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ}2.
فتبين بما ذكرنا بطلان قول المعترض؛ استدلالك بما رواه الأوزاعي من الإجماع آحادي، ولا يجوز تكفير المسلمين إلا بقطعي المتن والدلالة.
__________
1 سورة الشورى آية: 11.
2 سورة الإخلاص آية: 3.
ص -98-
فصل
وأما قوله: (إنك ادعيت أن الذي تذهب إليه ترك التعرض لتفسير آيات الصفات، والأوزاعي روى خلاف ما تدعي، فإنه قال: كنا والتابعون نقر بأن الله فوق عرشه. وإذا أثبت التابعون والأوزاعي الفوقية لله على العرش فقد فسروا1، فكأنهم قالوا معنى قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}2 أي كان فوقه، وأنت تقول: إنك لا تتعرض لتفسير آيات الصفات، فما الجامع بين كلامك، وكلام الأوزاعي والتابعين؟ فكيف تستدل به على تكفير المسلمين؟.
(فالجواب) أن يقال: هذا الكلام من المعترض مما يدل على جهله، وقلة معرفته بكلام الأئمة ومرادهم، فإن كلام الأوزاعي وغيره من أهل السنة معناه: أنهم لا يفسرون، ولا يكيفون صفات الله كالاستواء على العرش، والنُزول، والمجيء، والغضب، والرضى، والمحبة وغير ذلك من الصفات. فيقولون مثلا في الاستواء: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، كما قال الإمام مالك ابن أنس رحمه الله، فقيل له: يا أبا عبد الله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}3، كيف استوى؟ فأطرق مالك، وعلاه الرحضاء- يعني العرق-، وانتظر القوم ما يجيء منه، فرفع رأسه إليه، وقال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وأحسبك رجل سوء، وأمر به فأخرج.
ومَن أوّل الاستواء بالاستيلاء فذاك هو الذي فسر، وهذا تأويل الجهمية والمبتدعة الضالين، وهم أئمة هذا المعترض، الذين فارقوا ما عليه أصحاب رسول(45/64)
الله صلى الله عليه وسلم وابتدعوا في الدين ما لم يأذن به
__________
1 التفسير في اللغة المبالغة في توضيح ما فيه خفاء، وبهذا المعنى كان يذكره المتقدمون، فقول الأوزاعي بعدم تفسير الصفات الإلهية أنهم يرونها على ظاهر مدلول اللغة، مع اعتقاد تنزيهه -تعالى- عن مشابهة خلقه.
2 سورة طه آية: 5.
3 سورة طه آية: 5.
ص -99-
الله، والدليل على أن مذهب السلف ما ذكرنا أنهم نقلوا إلينا القرآن العظيم، وإخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم نقل مصدق لها، يؤمن بها غير مرتاب فيها ولا شاك في صدق قائلها، ولم يفسروا ما يتعلق بالصفات بتأويل ولا غيره، ولا شبهوه بصفات المخلوقين؛ إذ لو فعلوا شيئا من ذلك لنقل عنهم، ولم يجز أن يكتم بالكلية، إذ لا يجوز التواطؤ على كتمان ما يحتاج إلى نقله ومعرفته؛ لجريان ذلك في القبح مجرى التواطؤ على نقل الكذب، وفعل ما لا يحل، بل بلغ من مبالغتهم في السكوت عن هذا، أنهم كانوا إذا رأوا من يسأل عن المتشابه بالغوا في كفه وزجره، تارة بالقول العنيف، وتارة بالضرب، وتارة بالإعراض الدال على شدة الكراهة لمسألته.
ولذلك لما بلغ عمر رضي الله عنه أن صبيغا يسأل عن المتشابه، أعد له عراجين النخل، ثم أمر به فضرب ضربا شديدا، وبعث به إلى البصرة، وأمرهم أن لا يجالسوه فكان بها كالبعير الأجرب؛ لا يأتي مجلسا إلا قالوا: عزله أمير المؤمنين فتفرقوا عنه.
وقال سعيد بن جبير: ما لم يعرفه البدريون فليس من الدين.
وثبت عن الربيع بن سليمان قال: سألت الشافعي رضي الله عنه عن صفات الله -تعالى-، فقال: حرام على العقول أن تمثل الله -تعالى-، وعلى الأوهام أن تحده، وعلى الظنون أن تقطع، وعلى النفوس أن تفكر، وعلى الضمائر أن تتعمق، وعلى الخواطر أن تحيط، وعلى العقول أن تعقل إلا ما وصف الله به نفسه، أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم.
وثبت عن الحميدي أبي بكر عبد الله بن(45/65)
الزبير أنه قال: أصول السنة، فذكر أشياء- ثم قال: وما نطق به القرآن، والحديث مثل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ}1. ومثل: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}2. وما أشبه هذا من القرآن والحديث، ولا نزيد فيه، ولا نفسره.
ونقف على ما وقف عليه القرآن والسنة، ونقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}3. فمن زعم غير هذا فهو جهمي، فمذهب السلف -رحمة الله عليهم-: إثبات الصفات، وإجراؤها على ظاهرها
__________
1 سورة المائدة آية: 64.
2 سورة الزمر آية: 67.
3 سورة طه آية: 5.
ص -100-(45/66)
جواب أهل السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والزيدية - عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب (2)
فصلفي إنكار الزَّيْدِي صفة العلو والفوقية لله تعالى والرد عليه
وأما قوله: (وأنت –أيضا- قد ناقضت كلامك بكلامك؛ حيث قلت: وذلك مثل وصف نفسه –تبارك وتعالى- بأنه فوق السماوات مستوٍ على عرشه. فقد فسرت كتاب الله، وأثبتَّ له صفة وهي الفوقية المستلزمة للتجسيم، وليست الفوقية مذكورة في قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 1.
(فالجواب) أن يقال: قد ذكرنا أن تفسير الصفات -الذي نفيناه في كلامنا، وذكرنا نفيه عن السلف- هو تأويل آيات الصفات وأحاديثها بتأويلات الجَهْمِيَّة والمُعْتَزَلَة، الذين يفسرون الاستواء بالاستيلاء والفوقية بالقهر، واليد بالنعمة، وما أشبه ذلك. ويفسرونها بتفسير المُشَبِّهَة، الذين يقولون: استوى كاستواء المخلوق على سريره، ويفسرون اليد بالجارحة كجارحة المخلوق.
فكل هذا من التفسير المردود المُبْتَدَع المُحْدَث في الدين، ولم ينقل هذا عن أحد من السلف بإسناد صحيح ولا ضعيف، حتى إن المخالفين لهم في ذلك يقرون بأن مذهب السلف في آيات الصفات وأحاديثها إمرارها كما جاءت، من غير تعرض لتفسير أو تأويل، مع نفي التشبيه عنها، ويقولون: هذا أسلم.
وأما مذهب الخلف فهو تأويلها وتفسيرها بما يليق بالله -سبحانه-، فحصل الاتفاق من الموافق والمخالف على أن مذهب السلف ما ذكرنا، ولله الحَمْدُ والمِنَّة.
__________
1 سورة طه آية: 5.
ص -101-(46/1)
وأما وصف الرب بالفوقية فقد صرحت الآيات الكريمات بذلك، وكذلك الأحاديث الثابتة المتواترة، وأجمعت عليه الأمم عربهم وعجمهم؛ لأن الله فَطرَهم على ذلك، إلا من شذّ واجتالته الشياطين عن فطرته التي فطره الله عليها، وهذا كتاب الله –تعالى-، وسنة رسول الله –صلى الله عليه وسلم-.
وعامة كلام الصحابة والتابعين، ثم عامة كلام سائر الأمة مملوء بما هو؛ إما نص، وإما ظاهر، في أن الله هو العليّ الأعلى، وأنه فوق كل شيء، وأنه عالٍ على كل شيء، وأنه فوق العرش، وأنه فوق السماء، مثل قوله: {لَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}1، {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ}2 {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ}3، {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ}4، {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ}5، {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}6 في ستة مواضع، إلى أمثال ذلك مما لا يحصى إلا بكلفة.
يا سبحان الله! كيف لم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم يوما من الدهر، ولا أحد من سلف الأمة: هذه الأحاديث والآيات لا تعتقدوا ما دلت عليه، لكن اعتقدوا الذي تقتضي مقاييسكم؛ فإنه الحق، وما خالفه فلا تعتقدوه وانفوه.
ولازم هذه المقالة أن يكون ترك الناس بلا رسالة خيرا لهم في أصل دينهم؛ لأن مردَّهم قبل الرسالة وبعدها واحد، وإنما الرسالة زادتهم شقاء وضلالا. ونحن لم نصف الله بالفَوقية، وإنما هو –سبحانه- هو الذي وصف نفسه بذلك، فبطل قول المعترض، وكلامه صريح بأنه اتبع ما قاله الله ورسوله، وأن الله هو الذي وصف نفسه بذلك.
وأما قوله: "فقد فسرت كتاب الله". فهذا كذب وافتراء على المجيب، يعرفه كل منصف لبيب، وهذا المعترض لا يستحي من كثرة الكذب، نعوذ بالله من ارتكاب الهوى، والتعصب على الباطل، اللذين يصدان عن اتباع الحق وإرادته.
وقوله: "وأثبت لله صفة وهي الفوقية المستلزمة للتجسيم". كذب ظاهر؛ لأن إثبات الفوقية لا(46/2)
يلزم منه ذلك عند من قال به، والله –سبحانه وتعالى- أعلم من خلقه بما يجوز عليه وما يمتنع عليه، ولكن هذا شأن أهل البدع والضلال، يردون ما جاء
__________
1 سورة فاطر آية: 10.
2 سورة آل عمران آية: 55.
3 سورة الملك آية: 16.
4 سورة المعارج آية: 4.
5 سورة النحل آية: 50.
6 سورة الأعراف آية: 54.
ص -102-
به الرسول –صلى الله عليه وسلم- من عند الله بهذه الأمور القبيحة، كما أن الجَهْمِيَّة أنكروا تكليم الله لموسى –عليه السلام- وغيره من خلقه، وزعموا أن القرآن مخلوق، قالوا: لأن الكلام إذا أطلق على ظاهره يلزم منه الجسم.
وكذلك أنكروا رؤية الله في الآخرة، وزعموا أن المرئيات لا تكون إلا جسما، ولهذا لما ظهرت الفتنة في إمارة المأمون العَبَّاسي، وامتحن العلماء بالضرب والحبس على أن يقولوا: "القرآن مخلوق، وأن الله لا يُرى في الآخرة"، وجرى أمور عظيمة، وقتلوا بعض العلماء، وضربوا الإمام أحمد لما امتنع من القول بذلك. ولما ناظره بُرْغُوث تلميذ حسين النجار بأن الله لو كان متكلما لكان جسما، قال الإمام أحمد: لا أدري ما تقولون، ولكن أقول: {اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ}1 فأجابهم الإمام أحمد بطريقة الأنبياء وأتباعهم، وهو الاعتصام بكتاب الله، وترك البدع والمقاييس التي لم يأت بها كتاب ولا سنة، والله -سبحانه وتعالى- أعلم.
فصل الاحتجاج بالمُرْسَل ورد دعوى تكفير الوهابية لمن خالفهم مطلقا
وأما قوله: (إن روايتك عن الأوزاعي مرسلة لم تذكر طريقها، ولا مخرجها، ولا من صححها، فكيف تكفر بها المسلمين؟).
(فالجواب) أن يقال: هذا المعترض لا يعرف معنى المرسل عند أهل الحديث، ولا يميز بينه وبين المنقطع أو المعضل؛ لأن هذا لا يُسمى مرسلا، وإنما المرسل ما أرسله التابعي عن النبي –صلى الله عليه وسلم- وسقط الصحابي،(46/3)
كما إذا روى سَعِيد بن المُسَيَّبِ أو الزُّهْرِيُّ أو الحَسَنُ أو مَكْحُولٌ وأمثالهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأما مثل هذا فلا يُسمى مرسلا، وإنما يُسمى مُعْضَلا أو مُنْقَطِعًا.
ويقال –أيضا-: استنادنا في هذه المسألة ليس إلى قول الأوزاعي خاصة، ولا إلى قول من هو أجلّ من الأوزاعي، وإنما استنادنا في هذه المسألة وأمثالها من صفات الله إلى نصوص الكتاب والسنة
__________
1 سورة الإخلاص آية: 1.
ص -103-(46/4)
وإجماع أهل العلم من السلف الصالح، فقد نقل الإجماع في هذه المسألة غير واحد كما تقدم التنبيه عليه.
وقوله: "فكيف يكفر بها المسلمين؟" فيا سبحان الله! كيف تفتري الكذب الظاهر على المجيب؟ فقد بيَّنَّا فيما تقدم أننا لم نكفر أحدا بالجهل في هذه المسألة -أعني تأويل آيات الصفات وأحاديثها، ومخالفة ما عليه السلف- ولا نكفر إلا من أنكر ما علم مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم به ضرورة.
فصل في بدعة إنكار القدر وتقدمها على بدعة تأويل الصفات
وأما قولك: (إن الأَوْزَاعِيَّ -الراوي لذلك الإجماع- قد ناقض نفسه، فقد حكى عنه الذَّهَبِيُّ أنه قال: لا نعلم أحدا ينسب إلى القدر من التابعين أجلّ من الحَسَنِ ومَكْحُول رحمهما الله).
فالجواب: أن هذا المعترض لا يعرف المناقضة؛ لأن إثبات القدر أو نفيه من باب إثبات فعل العبد لله –تعالى- أو نفيه، لا من باب تفسير الصفات وتأويلها، والذي ذكره الأَوْزَاعِيُّ عن التابعين إثبات الصفات لله –تبارك وتعالى- وعدم تفسيرها وتأويلها، فأين في هذا ما يناقض ما ذكره الأوزاعي في قوله: "كنا والتابعون متوافرون نقول: إن الله فوق عرشه. ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته؟ وقد رواه البَيْهَقِيُّ وغيره، بإسناده عن الأَوْزَاعِيِّ.
وإثبات خلق الله –تعالى- للأشياء المخلوقة لا ينازع فيه أحد من الناس، حتى عبدة الأوثان يقرون بذلك، كما أخبر الله عنهم بقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ}1. وقوله: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ}2 إلى قوله: {وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ}3.
وإنما نازع من نازع من المُعْتَزَلَة في فعل العبد خاصة، فالمُعْتَزَلَة ينكرون أن الله خلق أفعال العباد؛ خيرها وشرها.(46/5)
__________
1 سورة الزخرف آية: 87.
2 سورة يونس آية: 31.
3 سورة يونس آية: 31.
ص -104-
وفي صحيح مسلم: أن أول من قال ذلك بالبصرة مَعْبَدٌ الجُهَنِيُّ، فلما ذكر ذلك لعبد الله بن عمر تبرأ منه، واستدل على إثباته بما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم في إثبات القدر حين سأله جِبْرِيلُ –عليه السلام- عن الإسلام والإيمان والإحسان، كما ذكر ذلك مُسْلِمٌ في أول كتاب الإيمان من صحيحه. وكذلك ابن عَبَّاس ثبت عنه أنه تبرأ ممن أنكر ذلك.
ومن العجب قوله: (وأيضا ينتقض بما رُوي عن عامر الشَّعْبِيّ التابعي أنه قال: "إن أحببنا أهل البيت هلكت دنيانا، وإن أبغضناهم هلك ديننا").
فأين المناقضة في هذا الكلام يا جاهل؟ وأهل السنة كلهم يحبون آل محمد، مع إثباتهم لصفات الله تعالى التي نطق بها القرآن.
فإن قلت: إن أهل البيت ينكرون هذه الصفات، ويتأولون ظواهر هذه الآيات، طالبناك بصحة النقل عنهم بذلك، وهيهات؛ لأن أهل البيت لا يفارقون كتاب الله ولا يخالفونه، كما ورد في الحديث أنه قال: "ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض"1 كما تقدم في حديث زَيْد بن أَرْقَمَ وغيره.
وأنت لا تنكرنَّ ظواهر الآيات والأحاديث المذكورة فيها صفة الرب بصفاته العلى وأسمائه الحسنى، كالعلي الأعلى، وأنه فوق عرشه استوى، وأنه فوق عباده. ولم ينقل عن أحد من الصحابة أنه فسر هذه الآيات بتفسير المُعْتَزَلَة والجَهْمِيَّة الذي يذهب إليه هذا المعترض، ولا قالوا للناس: اعلموا أن ظاهر هذه النصوص غير مراد فلا تعتقدوه فإنه يقتضي التشبيه والتجسيم، بل سكتوا عن ذلك، ووصى بعضهم بعضا بالسكوت عنها، وإنما فسرها وتأولها أهل الضلال والبدع.
وما أحسن ما قال عُمَرْ بنُ عبدِ العَزِيز بنُ عبدِ اللهِ بنُ أَبِي سَلَمَةَ المَاجِشُونُ: "عليك بلزوم السنة؛ فإنها لك –بإذن الله- عصمة، فإن السنة إنما جعلت ليستن بها ويقتصر عليها،(46/6)
وإنما سنها من قد علم ما في
__________
1 الترمذي: المناقب (3788) , وأحمد (3/14 ,3/17 ,3/26 ,3/59).
ص -105-
خلافها من الزلل والخطأ والحمق والتعمق، فارْضَ لنفسك بما رضوا به، فإنهم عن علم وقفوا، وببصرنا قد كفوا، ولهم كانوا على كشفها أقوى، وبتفصيلها كانوا أحرى، وإنهم لهم السابقون".
"وقد بلغهم عن نبيهم ما يجري من الاختلاف بعد القرون الثلاثة، فلئن كان الهدى ما أنتم عليه لقد سبقتموهم، ولئن قلتم حدث حدث بعدهم، فما أحدثه إلا من اتبع غير سبيلهم ورغب بنفسه عنهم واختار ما تحته، فكره على ما تلقوه عن نبيهم، وتلقاه عنهم من اتبعهم بإحسان، ولقد وصفوا منه ما يكفي، وتكلموا منه بما يشفي، فمن دونهم مقصر، ومن فوقهم مفرط، لقد قصر دونهم أناس فجَفوا، وطمح آخرون فغَلَوا، وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدى مستقيم".(46/7)
فصل في مسألة القدر وإثبات السلف والخلَف من أهل السنة له
وأما قوله: (وقد رُوي التكلم في القدر عن مُحمد بن سِيرِين وقَتَادَة إلى قوله: ومن تكلم في القدر فقد تكلم في الصفات، وسواء كان من جانب المُعْتَزَلَة؛ كالحَسَن ومَكْحُول، ومن ذكروا من جانب الأشعرية، فمن التابعين من هو سلف للأشاعرة.
وقلنا: إن التكلم في القدر تكلُّم في الصفات، إذ معناه عند الحَسَن ومَكْحُول أن الله –تعالى- متصف بعدم خلق أفعال العباد، أي: لم يؤثر فيها، ومن أثبت لله خلق الأفعال فقد وصف الله بأنه مؤثر فيها.
وهذان المذهبان قد اشتهرا وشاعا في التابعين؛ فمنهم الذاهب مذهب المُعْتَزَلَة كالحَسَن ومَكْحُول ومن ذكرنا، ومنهم الذاهب مذهب الأشعرية).
(فالجواب) من وجوه:
(أحدها) أن يقال: إثبات القدر أو نفيه ليس من باب إثبات الصفات، ولا تفسيرها عند المثبتين ولا عند النافين كما تقدم التنبيه عليه، وإنما ذلك من باب إثبات الفعل والخلق. فالْمُعْتَزَلَة ينفون أن الله قدر أفعال العباد، ويقولون: إن الله لا يقدرها عليهم ثم يعذبهم عليها، وإنما يكون ذلك ابتداء من
ص -106-(46/8)
عند أنفسهم، ويوردون على ذلك شبهات من الكتاب والسنة.
وأما السلف وأهل السنة، ومن اتبعهم من أتباع الأئمة الأربعة من الأشعرية وغيرهم، فيثبتون أن الله قدَّر أفعال العباد وشاءها منهم، ولا يكون في ملكه إلا ما يريد، ويستدلون على ذلك بالآيات القرآنية الصريحة في أن الله خلق العباد وأعمالهم، كقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}1، وقوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}2، وقوله: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً}3.
وبالأحاديث الصحيحة الصريحة المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الله قدر أعمال العباد، وأن كلا مُيَسَّر لما خُلق له، كما قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}4.
(الوجه الثاني) أن يقال: هؤلاء الذين ذكرهم مع المُعْتَزَلَة -كالحَسَن وابن سِيرِين ومَكْحُول- كلهم قد صح عنهم الإيمان بالقدر وإثباته؛ موافقة لأهل السنة، وإن كان قد نسب إلى بعضهم موافقة المُعْتَزَلَة، فليس كل ما ينسب إلى شخص يكون ثابتا عنه، فليس مجرد نسبة بعض الناس إليهم ذلك يكون صدقا؛ وذلك لأن المُعْتَزَلَة إنما اشتهر أمرهم بعد موت الحَسَن البَصْرِيّ، لأنهم اعتزلوا أصحاب الحسن بعد موته فسُمُّوا المُعْتَزَلَة لذلك، وهم الذين يسمون القَدَرِيَّة؛ لأنهم ينكرون أن يكون الله -تبارك وتعالى- قدر أفعال العباد وشاءها منهم.
وغلاتهم ينكرون أن يكون الله علم ذلك، ومن أنكر علم الله بذلك فقد كفر عند أئمة أهل السنة، ولهذا قال من قال من أئمة أهل السنة: ناظروا القَدَرِيَّة بالعلم، فإن أنكروه كفروا، وإن أقروا به خصموا.
(الثالث): أن أهل السنة الذين حكينا مذهبهم في الصفات، وأنهم لا يتعرضون لها(46/9)
بتفسير ولا تأويل، بل يثبتونها صفات لله، ولا يلزم من إثباتهم الصفات لله أنهم يفسرونها أو يتأولونها. كما أنهم وغيرهم يثبتون لله ذاتا وفعلا وحياة وقدرة،
__________
1 سورة الصافات آية: 96.
2 سورة القمر آية: 49.
3 سورة الكهف آية: 17.
4 سورة الليل آية: 5: 10.
ص -107-
ولا يكيفونها، ولا يفسرونها، بل يثبتون ما أثبته لنفسه، ويسكتون عما سكت عنه، وينَزهونه عن مشابهة المخلوقات، ومذهبهم وسط بين الغالي فيه والجافي عنه، فلا يتأولونها تأويل المبتدعة، ولا يشبهونها بصفات المخلوقين، وقد قال تعالى: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}1.
(الوجه الرابع) أن هذا المعترض جزم في كلامه بأن الحَسَن ومَكْحُولا ومن ذكر معهم قد ذهبوا مذهب المُعْتَزَلَة، وهذا كذب ظاهر عليهم، فإن كان مراده أن هؤلاء نسب إليهم القول بمذهب المُعْتَزَلَة، فقد بيَّنَّا أن مجرد نسبته إليهم لا يلزم منه صحة ذلك عنهم، والمنقول عنهم في ذلك -من موافقة أهل السنة والجماعة في إثبات القدر والإيمان به- هو الثابت عنهم.
وأنت تعلم أن كثيرا من الناس قد نقل عن عَلِيٍّ رضي الله عنه وأهل البيت أشياء كثيرة، ونسبوا إليهم أقوالا قد برأهم الله منها، والرسول صلى الله عليه وسلم قد نسب إليه أقوال كثيرة، وأهل العلم يعرفون أنها مكذوبة عليه.
ومن هؤلاء المذكورين من تكلم في شيء من القدر ثم رجع عنه كوَهْبِ بنِ مُنَبِّهٍ، كما قال الحَافِظُ أَبُو الحَجَّاجِ المِزِّيُّ في تهذيبه، قال أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ عن عَبْدِ الرَّزَّاقِ: سمعت أبي يقول: "حج عامة الفقهاء سنة مائة، وحج وهب بن منبه، فلما صلوا العشاء أتاه نفر فيهم عطاء والحَسَن بن أبي الحَسَن، وهم يريدون أن يذاكروه في باب من الحمد، فما زال فيه حتى طلع(46/10)
الفجر، فافترقوا ولم يسألوه عن شيء". قال أحمد: "وكان يتهم بشيء من القدر ورجع".
وقال حمَّاد بن سَلَمَةَ عن أبي سِنَانٍ، قال: سمعت ابن مُنَبِّه يقول: كنت أقول بالقدر، حتى قرأت بضعة وسبعين كتابا من كتب الأنبياء، في كلها: "من جعل إلى نفسه شيئا من المشيئة فقد كفر". فتركت قولي.
فتبين بما ذكرنا أن جزم هذا المعترض -بأن هؤلاء الأئمة المذكورين يقولون بمقالة المُعْتَزَلَة، كذب ظاهر، وقول بلا دليل.
__________
1 سورة البقرة آية: 213.
ص -108-(46/11)
(الوجه الخامس): أن من المعلوم عند أهل العلم أن أول من تكلم في آيات الصفات وأحاديثها بهذه التأويلات الباطلة المخالفة للظاهر هم المُعْتَزَلَة والجَهْمِيَّة خاصة، وأما الصحابة والتابعون لهم بإحسان فكلهم متفقون على الإيمان بها، والسكوت عن البحث عن كيفيتها.
فصل المبتدعة ترد ما وصف الله به نفسه بزعم التجسيم
وأما قوله: فمن أعجب ما سمعنا: قولك بأن مذهبك الذي درج عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما هو معنى كلامك، فإن أهل السنة والجماعة هم الذين ملؤوا كتبهم بروايات التجسيم لله -تعالى- والكيفية في الصفات، وفسروا صفاته، فلو ادعيت ذلك التنْزيه على ما في نفسك، لكان أحسن من تحجر الواسع الذي يريد قومك من أهل السنة والجماعة.
فاسمع ما رواه السُّيوطِيّ في "الدُّرِّ المنثور" قال: أخرج ابن جرير والحاكم 1 وابن مردويه "أن موسى –عليه السلام- لما كلمه ربه أحب أن ينظر إليه، فسأله فقال: {لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ}2. قال: فحف حول الجبل الملائكة، وحف حول الملائكة بنار، وحف حول النار بملائكة، وحف حولهم بنار، ثم تجلى ربك للجبل، تجلى منه مثل الخنصر، وجعل الجبل دكا فخر موسى صعقا" إلى آخر الحديث الذي في تفسير قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ}3.
ثم ذكر حديث ابن عباس نحو ما تقدم، وكذلك أخرج أبو الشيخ عن أبي هُرَيْرَة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لما تجلى الله لموسى كان ينظر إلى دبيب النمل في الليلة الظلماء من مسيرة عشرة فراسخ"فهذا في التجسيم والتكييف.
(فالجواب) أن يقال: كلام هذا المعترض يدل على رسوخه في الجهل العظيم، واتباعه لأهل البدع والضلال، وعداوته لله ورسوله وعباده المؤمنين، وذلك(46/12)
__________
1 راجعت المستدرك للحاكم في تفسير قوله تعالى: (فلما تجلى ربه للجبل). فلم أجده في المستدرك، وهو من رواية ابن إسحاق عن بني إسرائيل ا هـ من هامش الأصل.
2 سورة الأعراف آية: 143.
3 سورة الأعراف آية: 143.
ص -109-
أن مثل هذا الذي زعم أنه تجسيم وتكييف قد ورد ما هو مثله أو أبلغ منه في كتاب الله، وفي الأحاديث الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإذا كان هذا عنده تجسيماً وتكييفاً فلازم كلامه أن الله وصف نفسه بالتجسيم والتكييف، وكذلك رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن زعم هذا فقد انسلخ من العقل والدين.
فاسمع الآن ما ذكر الله في كتابه: قال الله تعالى:?{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ}1. وقال تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ}2. وقال تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}3 في ستة مواضع من كتابه العزيز.
وقال تعالى:?{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً}4، ووصف نفسه بأنه يحب عباده المؤمنين.
وكذلك وصف نفسه بالغضب والسخط في غير آية من القرآن، وكذلك وصف نفسه بأنه سميع بصير، وبأن له يدين، كقوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ }5، وقوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}6، وبأنه يقبض الأرض يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه، سبحانه وتعالى عما يشركون.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن الله يقبض الأرض يوم القيامة ويطوي السماوات بيمينه، ثم يهزهن بيده، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟"7.
وقال تعالى:? {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً}8. وأمثال(46/13)
ذلك كثير في الكتاب والسنة، وقد أمرنا الله بتدبر القرآن وتفهمه.
إذا تبين هذا، فقد أوجب الله تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم على كل مسلم فيما أخبر به عن الله من أسمائه وصفاته، مما جاء في القرآن وفي السنة الثابتة عنه، كما كان عليه السابقون الأولون من المهاجرين، والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، رضي الله عنهم ورضوا عنه.
فإن هؤلاء الذين تلقوا عنه القرآن، كعُثْمَان بن عَفَّان وعبد الله بن مَسْعُود وغيرهم، قد أخبروا أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم
__________
1 سورة البقرة آية: 210.
2 سورة الأنعام آية: 158.
3 سورة الأعراف آية: 54.
4 سورة الملك آية: 16، 17.
5 سورة ص آية: 75.
6 سورة المائدة آية: 64.
7 البخاري: تفسير القرآن (4812) , ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار (2787) , وابن ماجه: المقدمة (192) , وأحمد (2/374) , والدارمي: الرقاق (2799).
8سورة الفجر آية: 22.
ص -110-(46/14)
عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: "فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا".
ولم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم يوما من الدهر ولا أحد من أصحابه -فيما بلغنا- أن ظواهر هذه الآيات وما في معناها من الأحاديث تقتضي التشبيه والتكييف والتجسيم فلا تعتقدوها، بل أولوها على التأويلات المستكرهة، كما يقول من يقوله من الجَهْمِيَّة والرَّافِضَة وغيرهم من أهل البدع والضلال، بل أطلقوا هذه النصوص وبَلَّغُوها لجميع الخلق.
ومعلوم أن في زمانهم الذكي والبليد من أهل البادية والحاضرة والرجال والنساء، فلم يقولوا لأحد منهم: لا تعتقدوا ظواهر هذه النصوص، ولا فسروها بما يخالف ظاهرها.
فهذا سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم القيامة، ومن أعرض عن ذلك واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيرا.
فصل في شبهة تأويل بعض السلف للصفات
وأما قوله: (وأما تفسير الصفات وتأويلها فروى –أيضا- السُّيوطِي في "الدر المنثور" في قوله تعالى: {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ}1 قال: أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عَبَّاس في قوله تعالى: {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} 2 قال: شديد القوة. وعنه أيضا: شديد المكر والعداوة. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أيضا: شديد الحول.
وأخرج ابن جرير عن عَلِيٍّ رضي الله عنه قال: شديد الأخذ. وأخرج ابنُ أبي حاتِم عن مُجَاهِد قال: شديد الانتقام. وأخرج أبو الشيخ عن عَلِيّ قال: شديد الحقد. وأخرج عبد الرزَّاق وابن أبي حاتم وابن جرير وأبو الشيخ عن قَتَادَة: شديد المحال: القوة والحيلة، انتهى.
__________
1 سورة الرعد آية: 13.
2 سورة الرعد آية: 13.
ص -111-(46/15)
قال المعترض: فهؤلاء الأجلة من الصحابة والتابعين، قد روى عنهم من هو إمام في حزبك وسلفك: السيوطي، ما ترى من تفسير الصفات وتأويلها، بل روى التجسيم عن سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، وقد اشتهر اشتهار الشمس في كتب قومك وسلفك حديث: "سترون ربكم كالقمر ليلة البدر"1 فهل بعد هذا التكييف من بلاء وعمى؟ نسأل الله لك الهداية، والسلامة من نزغات الشيطان).
(فالجواب) من وجوه كثيرة:
(أحدها) أن يقال: ما ذكرت من رواية السيوطي عن ابن عباس وغيره من الصحابة والتابعين ليس من باب تفسير الصفات وتأويلها الذي ينكره أهل السنة والجماعة، بل فسروها على ظواهر الآيات، ووصفوا الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا من أوضح الدلائل في الرد عليك أيها المعترض، وعلى أشباهك المنكرين لصفات الله –تعالى-، فلم يفعلوا فعل الجاهلية النفاة الذين لم يثبتوا لله صفة ولا فعلاً، الممثلة المُشَبِّهَة الذين يشبهون صفاته بصفات خلقه.
(الوجه الثاني): أن جميع الصحابة والتابعين لهم بإحسان يصفون الله بأنه شديد القوة، وكذلك شديد المكر، وشديد الأخذ، كما وصف نفسه بذلك في غير آية من كتابه، كقوله: {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}2 وقوله: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}3. وقال: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}4. وقال: {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}5. وقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً}6.
فيمرون هذه الآيات على ظواهرها، ويعرفون معناها ولكن لا يكيفونها، ولا يشبهونها بصفات المخلوقين.
هذا مجمع عليه بينهم، ولله الحمد والمنَّة.
فأين في هذا ما يدل علي أنهم أوَّلُوا صفات الله بتأويلات الجَهْمِيَّة والمُعْتَزَلَة والرَّافِضَة، ومن نحا نحوهم ممن أزاغ الله قلبه واتبع المتشابه(46/16)
وترك المحكم؟ كما قال تعالى:
{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ
__________
1 البخاري: مواقيت الصلاة (554) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (633) , والترمذي: صفة الجنة (2551) , وأبو داود: السنة (4729) , وابن ماجه: المقدمة (177) , وأحمد (4/360 ,4/362 ,4/365).
2 سورة هود آية: 102.
3 سورة الأنفال آية: 30.
4 سورة الذاريات آية: 58.
5 سورة الأنعام آية: 165.
6 سورة فصلت آية: 15.
ص -112-(46/17)
رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}1.
جعلنا الله وسائر إخواننا ممن يقول هذه المقالة التي علمنا الله إياها، وأعاذنا من طريق المغضوب عليهم والضالين.
فأما المغضوب عليهم فيتركون الحق ولا يريدونه، مع معرفتهم به، وأما الضالون فالجهال الذين جهلوا الحق فلم يعرفوه، بل عملوا على جهل.
وذكر المفسرون أن المراد من المغضوب عليهم اليهود؛ لأنهم عرفوا الحق معرفة تامة وتركوا اتباعه، والمراد بالضالين النصارى؛ لأنهم عبدوا الله على جهل، وقد نزه الله نبيه عن هذين الوصفين، فقال تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى}2 وقد قال سُفْيان بن عُيَيْنَة وغير واحد من السلف: "من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى".
(الوجه الثالث) أن يقال: قوله: بل قد روي التجسيم عن سيد المرسلين، كذب ظاهر، لأن السيوطي وغيره من أهل السنة ينفون عن الله مشابهة المخلوقات ومماثلة الأجسام المصنوعات. فإن قال: إن لازم كلامهم يقتضي التجسيم والتشبيه. قلنا هذا ممنوع عند أهل السنة، فإنهم يقولون: إن إثبات الصفات لله -تبارك وتعالى-، وإثبات رؤيته –تعالى- لا يقتضي ذلك ولا يلزم منه التجسيم، ولكن هذا شأن أهل البدع والضلال، يردون كتاب الله وسنة رسوله بهذه الخرافات الباطلة، والجهالات والضلالات الكاذبة الفاسدة.
(الوجه الرابع) أن يقال: القرآن مملوء من صفات الله -تبارك وتعالى- وأسمائه الحسنى، وقصص الأنبياء المتضمنة لإثبات الصفات والأفعال الاختيارية لله -تبارك وتعالى-، كالمجيء والمناداة والتكلم والقبض والبسط والغضب والرضى. أفيقول مسلم أو عاقل إن الله وصف نفسه بالتجسيم والتكييف؟! أو وصفه به رسله وأنبياؤه؟ فإذا قلتم: إن لازم تلك النصوص إثبات التجسيم والتكييف، فهذه النصوص(46/18)
__________
1 سورة آل عمران آية: 7، 8.
2 سورة النجم آية: 1، 2.
ص -113-
الواردة في القرآن أبلغ منها فيما ذكرتم. سبحان الله! ما أعجب هذا الجهل، ولازم هذه المقالة أن ظواهر القرآن والسنة تجسيم وتكييف.
(الوجه الخامس) أن يقال: قوله قد اشتهر اشتهار الشمس في كتب قومك وسلفك حديث: "إنكم سترون ربكم"1 إلخ، فيقال: هذا حق وصدق تواترت به الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودلَّ على ذلك آيات كثيرة من القرآن كقوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}2، ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة: أنه –سبحانه- نفى إدراك الأبصار له، وأثبت له إدراكها، ونفي الإدراك لا يستلزم نفي الرؤية، فمفهوم الآية أن الله يرى ولا يدرك. وبما ذكرنا فسر الآية حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- كما روى ذلك أئمة التفسير عنه، كابن جرير وابن أبي حاتم عن عِكْرِمَة عن ابن عباس قال: رأى محمد ربه، فقلت: أليس الله يقول {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ}3 الآية، فقال لي: لا أُمَّ لك، ذلك نور إذا تجلى بنوره لا يدركه شيء، قال عكرمة لمن قال له لا تدركه الأبصار: ألست ترى السماء؟ قال بلى، قال؟ فكلها ترى؟ 4.
ولابن أبي حاتم بسنده عن أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ}5 قال: "لو أن الجن والإنس والشياطين والملائكة منذ خلقوا إلى أن فنوا صفوا صفا واحدا، ما أحاطوا بالله عز وجل."
ويدل على ذلك قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}6 فسرها أئمة التفسير بأن المراد بذلك أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة؛ ولهذا قال الإمام أحمد بن حَنبَل –رحمه الله- في كتاب "الرد على الزَّنَادِقَة(46/19)
والجَهْمِيَّة": (باب بيان ما جحدت الجَهْمِيَّة) {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}7.
__________
1 البخاري: مواقيت الصلاة (554) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (633) , والترمذي: صفة الجنة (2551) , وأبو داود: السنة (4729) , وابن ماجه: المقدمة (177) , وأحمد (4/360 ,4/362 ,4/365).
2 سورة الأنعام آية: 103.
3 سورة الأنعام آية: 103.
4 يعني أنها لو كانت ترى كلها لكانت رؤيتها إدراكا، فإن الإدراك هو الإحاطة، فنفي الإدراك لا يستلزم نفي الرؤية التي دون الإحاطة بالمرئي.
5 سورة الأنعام آية: 103.
6 سورة القيامة آية: 22، 23.
7 سورة القيامة آية:22، 23.
ص -114-(46/20)
فقلنا لهم: لم أنكرتم أن أهل الجنة ينظرون إلى ربهم؟ فقالوا: لا ينبغي لأحد أن ينظر إلى ربه؛ لأن المنظور إليه معمول موصوف، فقلنا لهم: أليس الله يقول: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}1 ؟ فقالوا: إنما معناه أنها تنظر الثواب من ربها، وإنما ينظرون إلى فعله وقدرته، وتلوا آية من القرآن: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ}2 المعنى: ألم تر إلى فعل ربك.
فقلنا: إن فعل الله لم يزل العباد يرونه، وإنما قال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}3، فقالوا: إنما تنتظر الثواب من ربها. فقلنا: إنها مع ما تنتظر من الثواب، هي ترى ربها. فقالوا: إن الله لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة، وتلوا آية من المتشابه من قوله -جل ثناؤه-: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ}4.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرف معنى قول الله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} 5 وقال: "إنكم سترون ربكم"6 وقال الله لموسى –عليه السلام {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ 7 ولم يقل لن أرى، فأيهما أولى أن يتبع؟ النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: "إنكم سترون ربكم"8 أم جهم حين قال: لا ترون ربكم؟ والأحاديث في أيدي أهل العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أن أهل الجنة يرون ربهم، لا يختلف أهل العلم في ذلك.
ومن حديث سفيان، عن أبي إسحاق، عن عامر بن سعد في قول الله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}9 قال: النظر إلى وجه الله.
ومن حديث ثابت البُناني عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: "إذا استقر أهل الجنة في الجنة نادى منادٍ: يا أهل الجنة إن الله قد أذن لكم في الزيارة، قال: فيكشف الحجاب، فينظرون إلى الله لا إله إلا هو".
وإنا لنرجو أن يكون جهم وشيعته ممن لا ينظرون إلى ربهم ويحجبون عن الله؛ لأن الله قال للكفار: {كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}10.
فإذا كان الكافر يُحجب عن الله،(46/21)
والمؤمن يُحجب عن الله، فما فضل المؤمن على الكافر؟
فالحمد لله الذي لم يجعلنا مثل جهم وشيعته، وجعلنا ممن اتبع، ولم يجعلنا ممن ابتدع. انتهى كلام أحمد بحروفه ولفظه.
وهذا الكتاب -الذي نقلت منه هذا الكلام- رواه عن أحمد أئمة أصحابه
__________
1 سورة القيامة آية: 23.
2 سورة الفرقان آية: 45.
3 سورة القيامة آية: 22.
4 سورة الأنعام آية: 103.
5 سورة الأنعام آية: 103.
6 البخاري: مواقيت الصلاة (554) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (633) , والترمذي: صفة الجنة (2551) , وأبو داود: السنة (4729) , وابن ماجه: المقدمة (177) , وأحمد (4/360 ,4/362 ,4/365).
7 سورة الأعراف آية: 143.
8 البخاري: مواقيت الصلاة (554) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (633) , والترمذي: صفة الجنة (2551) , وأبو داود: السنة (4729) , وابن ماجه: المقدمة (177) , وأحمد (4/360 ,4/362 ,4/365).
9 سورة يونس آية: 26.
10 سورة المطففين آية: 15.
ص -115-(46/22)
وهو مشهور عند العلماء، وفي هذا ما يبين أن هذا المعترض اتبع قول جَهْم وشيعته، وترك ما عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته وأصحابه.
ومن العجب أنه يدعي أن الإمام أحمد هو إمام الشيعة عند الحقيقة، وقد خالف مذهبه في هذه المسألة وغيرها من مسائل أصول الدين، فكيف بمسائل الفروع؟
وأعجب من هذا قوله: إن رواية هذا الحديث –أعني حديث الرؤية وما شابهه- تكييف وعماء وضلال، فإذا كان موسى –عليه السلام- قال لربه:?{أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ}1 أفيسأل موسى –عليه السلام- ما هو تكييف وتجسيم وعماء وضلال؟ ويكون موسى -عليه السلام- لا يعرف ما يجوز على الله وما يمتنع عليه، ويعرف ذلك جهم وشيعته؟! فلا إله إلا الله ما أقبح هذا الجهل وأبعده عن السداد والصواب عند أولي الألباب!!
وقد صرح بعض شياطين هؤلاء المبتدعة الضلال بأن عيسى -عليه السلام- شبه حيث قال:
{تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ}2، وكذلك موسى -عليه السلام- حيث قال: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ}3.
وكذلك جهم، ذكر البخاري -رحمه الله- في كتاب خلق أفعال العباد بسنده أن جهما قرأ في المصحف، فلما أتى على هذه الآية {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}4 قال: "والله لو قدرت لحككتها من المصحف".
وذكر أبو الحجَّاج المِزِّي في (كتاب تهذيب الكمال في معرفة الرجال) أن عَمْرو بن عُبَيدٍ شيخ القَدَرِيَّة قال في حديث الصادق المصدوق، المخرج في الصحيحين وغيرهما، من كتب الإسلام عن عبد الله بن مسعود قال: "حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة"5 إلخ، فقال: لو سمعت الأَعْمَشَ يقول هذا لقلت له: كذبت، ولو سمعت زَيْد بن وَهْبٍ يقول ذلك لقلت له: كذبت، ولو سمعت ابن مَسعُودٍ يقول ذلك ما قبلته، ولو سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك لرددته، ولو سمعت الله يقول ذلك لقلت: ليس(46/23)
على هذا أخذت ميثاقنا أو كلاما هذا معناه..
فنسأل الله العظيم المنَّان أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهب لنا منه رحمة، إنَّه الوهَّاب.
__________
1 سورة الأعراف آية: 143.
2 سورة المائدة آية: 116.
3 سورة الأعراف آية: 143.
4 سورة طه آية: 5.
5 البخاري: بدء الخلق (3208) وأحاديث الأنبياء (3332) والقدر (6594) والتوحيد (7454) , ومسلم: القدر (2643) , والترمذي: القدر (2137) , وأبو داود: السنة (4708) , وابن ماجه: المقدمة (76) , وأحمد (1/382 ,1/414 ,1/430).
ص -116-
فصل(46/24)
وأما قوله: (فاركب السفينة، وادخل من باب حِطَّة، حتى تدخل بنور قلبك، حقيقة عاقبة أمرك، وما حصلت عليه من التكفير للمسلمين بسبب الاستناد والركون إلى سلفك، والمتسمين بأهل السنة والجماعة، والحال أنهم قد نقضوا غزلك، فبَيْنَا أنت تأوي إلى كهفهم من أنهم لا يفسرون ولا يؤولون آيات الصفات، إذ جاؤوك بالمُدْلَهِمَّات من التجسيمات والتأويلات، ورووها عمن ركنت إلى إجماعهم، وهم التابعون الذين رووه لك عن الأوزاعي، فكنت كالساعي إلى مثعب موائلا من سل لراعد، وانظر -هداك الله- وتدبر، فإنك تخوض في بحر الغرق، وهو تكفير أهل الإسلام، ولم تأوِ إلى ركن شديد، ولم تركب سفينة نوح، فقد أردت أن تنَزه ربك بما يلزم منه التجسيم، كما نبينه إذا جاء قومك بالقراقر، وهو صريح التجسيم والتكييف).
(فالجواب) أن يقال: قد تقدم ما يبطل دعواك فيما ذكرت في هذا الكلام بما فيه كفاية، ولله الحمد والمنَّة.
وهذا الكلام فيه أنواع من الكذب والزور والبهتان، يتضح لكل من له أدنى بصيرة من علم وإيمان:
(منها): قوله: "وما حصلت عليه من تكفير المسلمين"، فأين في كلام المجيب أنه صرح بتكفير المسلمين؟!
(الثاني): قوله: "والحال أنهم قد نقضوا غزلك"، فأين فيما ذكرت عنهم أيها الجاهل في النقض على المجيب؟ وقد بيَّنَّا أن كلامهم موافق لما ذكره المجيب لا مخالف له، وإنما فيه النقض عليك وعلى سلفك من المُعْتَزَلَة والجَهْمِيَّة الذين ينفون صفات الله ويعطلونها عن حقائقها.
(الثالث): قوله: "فبَيْنَا أنت تأوي إلى كهفهم من أنهم لا يفسرون ولا يؤولون آيات الصفات، إذ جاؤوك بالمُدْلَهِمَّات من التجسيمات والتأويلات". وهذا -أيضا- من أظهر
ص -117-(46/25)
الكذب والفجور عليهم؛ لأن جميع ما ذكره عنهم لا يدل على التجسيم ولا التأويل الباطل بوجه من الوجوه، وإنما يدل على أنهم يصفون الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وهم قد صرَّحوا بذلك، وتحملوا إثمه عنك وعن سلفك؛ طاعة لربهم ومعبودهم ونبيهم صلى الله عليه وسلم كما قال القائل:
وعيَّرها الواشُون أنِّي أُحبُّها
وتِلكَ شكاةٌ ظَاهرٌ عَنْكَ عَارُها
ويقال لهذا وأشباهه من أهل البدع والضلال: أأنتم أعلم أم الله؟
(الرابع): قوله: "فإنك تخوض في بحر الغرق، وهو تكفير أهل الإسلام". فيقال: أين في كلام المجيب أنه كفر أحدا من المسلمين بتأويل آيات الصفات وأحاديثها؟ أما تستحي من كثرة الكذب وترداده في السطر الواحد والاثنين والثلاثة والأربعة من كلامك؟ أما عندكم رجل رشيد ينصح هذا الجاهل، ويستر عورته إذا كشفها؟
(الخامس): قوله: "ولم تأوِ إلى ركن شديد، ولا ركبت سفينة نوح". وهذا أيضا من الكذب والزور والبهتان؛ لأن المجيب قد أوى إلى ركن شديد، وركب سفينة نوح التي من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق، وقد احتج في كلامه بكتاب الله وسنة رسوله، وبما أجمع عليه السلف الصالح من صدر هذه الأمة.
(السادس) قوله: "وقد أردت أن تنَزه ربك بما يلزم منه التجسيم". كذب ظاهر؛ لأنا قد بيَّنَّا أن ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله حق وصدق وصواب، ولازِم الحقِ حقٌ بلا ريب، ولا نسلِّم أن ذلك يلزم منه التجسيم، بل جميع أهل السنة المثبتة للصفات ينازعون في ذلك، ويقولون لمن قال لهم ذلك: لا يلزم منه التجسيم كما لا يلزم من إثبات الذات لله تعالى، والحياة، والقدرة، والإرادة، والكلام، تجسيم وتكييف عند المنازع.
ومعلوم أن المخلوق له ذات، ويوصف بالحياة والقدرة والإرادة والكلام، ومع هذا لا يلزم من إثبات ذلك لله -تبارك وتعالى- إثبات التجسيم والتكييف، تعالى الله عن ذلك عُلوًّا كبيرا.
ص -118-(46/26)
ومعلوم أن هذه الصفات في حق المخلوق إما جواهر وإما أعراض، وأما في حقه -تبارك وتعالى- فلا يعلمها إلا هو، بلا تفسير ولا تكييف.
(السابع) قوله: "إذ جاء قومك بالقراقر". وهو صريح التكييف والتجسيم؛ لأن ما ذكره عن أهل السنة ليس فيه تصريح بالتجسيم، وإنما يقول المخالف: إنه يلزم منه ذلك، وقد تقرر عند علماء الأصول وغيرهم أن: "لازمِ المذهبِ ليس بمذهب"، وهو نفسه ذكر أن ذلك يلزم منه التجسيم، ومنازعه يقول: لا يسلم له ذلك.
ثم في آخر كلامه، في موضع واحد يقول: "وهو صريح التجسيم"، وليس فيما ذكره عن المجيب ولا عن سلفه من أهل السنة ما هو صريح في ذلك، والصريح في ذلك أن يقول القائل: أن لله جِسما كما يقوله بعض أئمة الرَّافِضَة، كهِشَام بن الحَكَم وغيره من أهل الكوفة، كما يذكر ذلك عنهم أهل المقالات.
فاتَّقِ الله أيها الرجل، واحذر أن تكون من الذين يفترون الكذب، وقد قال تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ}1.
فصل في إبطال زعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفسر الصفات
وأما قوله -جوابا عن كلام المجيب-: "وهو ما درج عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم". فنقول: (هات لنا حديثا واحدا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعي الدلالة، متواتر المتن، أو مُتلقى بالقبول عند الأمة، بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم منع من تفسير آيات الصفات وتأويلها؛ حتى يكون حجة لك على من خالفك في تكفيرك له. وأما أنه –صلى الله عليه وسلم- لم يتعرض للتفسير والتأويل فإنه لا يكفيك في تكفير المسلمين، مع أنا قد ذكرنا لك أن قومك قد رووا عنه صلى الله عليه وسلم التفسير والتأويل والتجسيم، فاختر لنفسك ما يحلو، ولا حول ولا قوة إلا بالله).
(فالجواب) من وجوه:
(أحدها) أن يقال: أن المجيب قد ذكر من الأدلة القاطعة من الكتاب والسنة أن الله وصف نفسه بالاستواء واليدين والمجيء(46/27)
والرضى والسخط
__________
1 سورة النحل آية: 105.
ص -119-
والغضب والمحبة وغير ذلك من أسمائه الحسنى، وصفاته العليا، ما يشفي ويكفي لمن أراد الله هدايته.
(الثاني): أنه لم يدع أن معه دليلا حديثا قطعي الدلالة بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم منع من تفسير آيات الصفات وتأويلها حتى يقال له: هات ما ادعيت.
وإنما دعواه أن آيات الصفات وأحاديثها قد وردت في الكتاب والسنة، وتلقاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعون لهم بإحسان بالقبول والتصديق والإيمان.
ولم يَرِدْ عن أحد منهم -لا بإسناد صحيح ولا حسن- أنهم فسروا ذلك، أو قال الرسول أو أحد من أصحابه للناس: لا تعتقدوا ظواهر هذه النصوص بل تأولوها على ما تقتضيه عقولكم ومقاييسكم، بل سكتوا عن ذلك، وأمروا بتبليغ القرآن والسنة، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بلِّغوا عني ولو آية"1، وقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ}2 الآية، {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ}3، {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ}4.
(الثالث): أنك قد أقررت أنه صادق في هذه الدعوى بقولك: وأما أنه صلى الله عليه وسلم لم يتعرض للتفسير والتأويل فإنه لا يكفيك، فقد صرحت بأنه صلى الله عليه وسلم لم يتعرض لها بتفسير ولا تأويل، وهو المطلوب.
فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قد درجوا على ما ذكره المجيب من إمرارها كما جاءت من غير تعرض لها بتفسير ولا تأويل، وقد أقررت بذلك ولم تنكره، أفلا يسعك ما وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاءه الراشدين المهديين كأَبِي بَكْرٍ وعُمَرَ وعُثْمِانَ وعَلِيٍّ وأولاده، والعباس وابنه عبد الله بن عباس، والحَسَن والحُسَين ابني علي، وأخاهما محمد بن الحَنَفِيَّة، وعبد الله بن جَعْفَر، وعلماء العترة رضي(46/28)
الله عنهم؟ فلا وسع الله لمن لا يسعه ما وسعهم؛ فإنهم أئمة المتقين، وهداة الغر المحجلين.
وقد قال تعالى في سورة المائدة –وهي من آخر القرآن نزولا-: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ
__________
1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3461) , والترمذي: العلم (2669) , وأحمد (2/159 ,2/202 ,2/214) , والدارمي: المقدمة (542).
2 سورة المائدة آية: 67.
3 سورة الرعد آية: 40.
4 سورة المائدة آية: 99.
ص -120-(46/29)
لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً}1.
والإسلام هو ما درج عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم وسكت عنه وجب على الأمة السكوت عنه، فالأمور التي ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكلام فيها يجب على الأمة اتباعهم فيها، كما أن الأمور التي فعلها وأمر بها يجب على الأمة اتباعه في ذلك، وهذا هو دين الإسلام الذي رضيه الله لهذه الأمة حيث قال: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً}2 وقال {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ}3.
وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدٌّ"4 وفي حديث أنه قال: "تركتكم على المَحَجَّة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يَزيغ عنها بعدي إلا هالك"5.
وقال أبو ذر: "لقد تُوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما من طائر يقلب جناحيه في الهواء إلا ذكر لنا منه علما"6.
وفي صحيح مسلم وجامعِ الترمِذِيّ وغيرهما: "عن سَلْمَان أنه قيل له: قد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخِرَاءه؟ فقال سلمان: أَجَلْ".
أفليس في هذا بيان للمؤمن أن كل ما حدث بعدهم فليس من دين الإسلام، بل من البدع والمنكرات العظام؟ وقد قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}7 وأثنى الله -تبارك وتعالى- على من اتبع سبيلهم، واقتفى منهاجهم، فقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}8.
(الوجه الرابع) أن يقال: الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا أقدر على تفسيرها وتأويلها ممن بعدهم، فلم يسكتوا عن ذلك إلا لعلمهم بأن الصواب فيما سلكوه، والحق فيما أصلوه،(46/30)
فإنهم ينابيع العلم، ومصابيح الدُّجَى، كما قال عبد الله بن مسعود (رض): "من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات؛ فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة. أولئك أصحاب مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما، وأقلها تكلفا
__________
1 سورة المائدة آية: 3.
2 سورة المائدة آية: 3.
3 سورة آل عمران آية: 85.
4 البخاري: الصلح (2697) , ومسلم: الأقضية (1718) , وأبو داود: السنة (4606) , وابن ماجه: المقدمة (14) , وأحمد (6/146 ,6/180 ,6/240 ,6/256 ,6/270).
5 ابن ماجه: المقدمة (44) , وأحمد (4/126).
6 أحمد (5/153).
7 سورة الأحزاب آية: 21.
8 سورة التوبة آية: 100.
ص -121-(46/31)
قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم؛ فإنهم كانوا على الهدي المستقيم".
وقال رضي الله عنه لقوم رآهم قد تحلقوا في مسجد الكوفة، وواحد منهم يقول لهم: سبِّحُوا مائة. فيسبحون جميعا، فإذا فرغوا قال: كبِّرُوا مائة. فإذا فرغوا قال: هلِّلُوا مائة. فجاءهم، فلما رأى صنيعهم قال: "والذي نفسي بيده لقد فضلتم أصحاب مُحَمَّدٍ علما، أو لقد جئتم ببدعة ظلما". قالوا: والله ما جئنا ببدعة ظلما، ولا فضلنا أصحاب مُحَمَّدٍ علما. قال: "بلى، والذي نفس ابن مسعود بيده لقد فضلتم أصحاب محمد علما، أو لقد جئتم ببدعة ظلما".
فانظر -رحمك الله- إلى كلام هذا الإمام الذي هو من سادات الصحابة ونجبائهم وفضلائهم، كيف أخبر وأقسم على ذلك بأن من فعل ما لم يفعله أصحاب محمد فقد جاء ببدعة، نسأل الله أن يرزقنا سلوك طريقهم وسيرتهم وهديهم.
(الوجه الخامس): قوله: "وأما أنه صلى الله عليه وسلم لم يتعرض للتفسير والتأويل، فإنه لا يكفيك في تكفير المسلمين". فيقال: هذا كذب ظاهر على المجيب، من جنس ما تقدم من كذب هذا المعترض وفجوره، فإن المجيب لم يذكر في كلامه تكفير أحد من المسلمين خالفه في هذه المسألة؛ لأن ذلك مما تنازعت فيه الأمة، حتى إن طوائف من أتباع الأئمة الأربعة وغيرهم يذهبون إلى تأويل آيات الصفات وأحاديثها، وهم من جملة أهل السنة والجماعة، وإن كانوا عند المجيب مخطئين في ذلك؛ لأن مذهبه وعقيدته اتِّباع السلف الصالح في السكوت عنها، وإمرارها كما جاءت، مع نفي الكيفية والتشبيه عنها.
(الوجه السادس): قوله: "مع أنا قد ذكرنا أن قومك قد رووا عنه صلى الله عليه وسلم التفسير والتأويل والتجسيم". وهذا كذب ظاهر؛ فإنه لم يذكر فيما نقل عن أهل السنة شيئا مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير الصفات، فضلا عن التأويل والتجسيم.
ص -122-(46/32)
وقد ذكرنا نص كلامه بحروفه، وجميع ما نقله من "الدر المنثور" عن الصحابة والتابعين من تفسير قوله: {شَدِيدُ الْمِحَالِ}1 أي: شديد القوة أو المكر أو الحول، قد بيَّنَّا أن ذلك ليس هو تفسير آيات الصفات وتأويلها الذي وقع النّزاع فيه بين أهل الإثبات وأهل النفي، بل ذلك من باب وصف الله –سبحانه- بأسمائه بالحسنى، وصفاته وأفعاله اللازمة، والتعدية مع قطع النظر عن معرفة كيفية ذلك، أو تأويله بالتأويلات المبتدعة.
(الوجه السابع): قوله: "فاختر لنفسك ما يحلو، ولا حول ولا قوة إلا بالله"، فنقول: قد اخترنا لأنفسنا ما اختاره الله لنا في كتابه، وهو الاقتداء والتأسِّي بما درج عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في هذه المسألة وغيرها، كما وصَّانا الله بذلك في كتابه حيث قال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} 2، وقال: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ}3، وقال في آخر السورة: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}4، وقال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}5، والرد إلى الله هو الرد إلى كتابه بإجماع المفسرين، والرد إلى الرسول هو الرد إلى سنته بعد وفاته.
والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا إذ هدانا الله، لقد جاءت رسل ربنا بالحق، والله -سبحانه وتعالى- أعلم.
فصل
وأما قوله: (ثم لا يخفى أن المجيب قد جعل أهل السنة والجماعة هم أهل الحديث الذين لم يتكلموا في القدر، ولم يفسروا آيات الصفات ولا تأولوها، فنطلب منه التحقيق والإفادة، بأن يبين لنا من روى من أهل العلم المحقق بأن هذا(46/33)
الاصطلاح مخصوص بمن ذكره؛ فإن العلماء مختلفة أقوالهم في إطلاقهم أهل السنة والجماعة كما عرفت).
__________
1 سورة الرعد آية: 13.
2 سورة الأحزاب آية: 21.
3 سورة الأعراف آية: 3.
4 سورة الأنعام آية: 153.
5 سورة النساء آية: 59.
ص -123-
(فالجواب) أن يقال: المجيب إنما ذكر كلاما عاما في أن أهل السنة والجماعة هم الذين اقتفوا ما عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعون لهم بإحسان، ومعلوم أن أهل الحديث هم أعظم طوائف الأمة بحثا ومعرفة بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك لأنهم قد اشتغلوا بذلك، وأفنوا أعمارهم في طلب ذلك ومعرفته، واعتنوا بضبط ذلك وجمعه وتنقيته؛ حتى بيَّنُوا صحيح ذلك من ضعيفه من كذبه، ولا ينازع في ذلك إلا عدو لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولعباده المؤمنين.
(الوجه الثاني): أن ظاهر كلام المجيب...1 وكلامه يبين أنه لم يخص بذلك طائفة معينين، بل كل من سلك هذه الطريقة فهو منهم من جميع الطوائف، وهو داخل في قوله: وهم أهل السنة والحديث من هذه الأمة.
(الوجه الثالث): قوله: "الذين لم يتكلموا في القدر"، وهذا كذب ظاهر على المجيب وعلى أهل الحديث، فإن أهل السنة والحديث من هذه الأمة يتكلمون في القدر، بمعنى أنهم يؤمنون به ويثبتونه، ويقولون: إن الله قدر أفعال العباد؛ خيرها وشرها.
وهو من أصول الإيمان عندهم، كما ثبت ذلك في الصحيحين في حديث جبرائيل -عليه السلام- لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فأخبره بأنه: "الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره"2. فهذا هو الذي عليه جماعة أهل السنة والجماعة والحديث، وعليه يدل كتاب الله والأحاديث المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولولا خوف الإطالة لذكرنا من ذلك شيئا كثيرا، وليس هذا موضع بسط ذلك وذكر الدلائل عليه.
وأما الْمُعْتَزَلَة الذين ينفون(46/34)
أن الله قدر أفعال العباد عليهم أو شاءها منهم، فهم الذين ينكرون ذلك، ومن اتبعهم من الروافض والزيدية الذين ينكرون أن الله قدر أفعال العباد وشاءها منهم.
__________
1 هنا في الأصل بياض قدر كلمة.
2 مسلم: الإيمان (8) , والترمذي: الإيمان (2610) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (4990) , وأبو داود: السنة (4695) , وابن ماجه: المقدمة (63) , وأحمد (1/28)
ص -124-
(الوجه الرابع): أن الاصطلاح لا حجة فيه عند أهل العلم وغيرهم، فإذا سمى أحد طائفة من الناس بأنهم أهل السنة والجماعة، لم يمنع من ذلك إلا إذا كانوا مخالفين لما عليه جماعة أهل السنة والجماعة، كأهل البدع الذين يسمون أنفسهم بذلك مع مباينتهم لطريقة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين لهم بإحسان.
(الوجه الخامس): أن كثيرا من علماء السنة ذكروا أن أهل الحديث هم الفرقة الناجية التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي قائمة على الحق، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى تقوم الساعة"1 كما ثبت ذلك في الصحيحين وغيرهما.
وذكر البخاري عن علي بن المديني أنهم أهل الحديث، وكذلك قال أحمد بن حنبل: "إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم؟".
فصل في إبطال زعم أن الطائفة الناجية هم أهل البيت فقط
وأما قوله: (وأنت خبير أن الطائفة التي أشار إليها سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم هم أهل بيته، فإن الناس أذعنوا لأهل الشام، ولم يقدروا على منازعتهم، إلا أهل البيت وشيعتهم، فكن –أيها المجيب- من تلك الطائفة الناطقة بالحق، الخارجة عن حزب أهل الشام؛ لتحشر في الطائفة المخالفة لهم، ولا تكن في حزب أهل الشام محبا لهم، فإن المرء يحشر مع من أحب).
(فالجواب) من وجوه: (أحدها): أن الطائفة الناجية جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها لما سُئل عنها، فقال: "من كان على مثل ما أنا عليه(46/35)
اليوم وأصحابي"2 فمن سلك سبيلهم، واقتفى منهاجهم، وتبعهم بإحسان فهو من هذه الطائفة، سواء كان من أهل البيت -رضي الله عنهم- أو من غيرهم من جميع الطوائف، ومن خالف ما عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فهو مع الهالكين، سواء كان من أهل البيت أو من غيرهم؛ ولهذا قال –تعالى- في نساء النبي صلى الله عليه وسلم، وهن من أهل البيت قطعا: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ}3.
__________
1 البخاري: المناقب (3641) , ومسلم: الإمارة (1037).
2 الترمذي: الإيمان (2641).
3 سورة الأحزاب آية: 30.
ص -125-(46/36)
إلى قوله: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ}1 الآية. وثبت في الصحيحين أنه قال: "إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء، وإنما وليّي الله وصالح المؤمنين"2.
وفي الحديث الصحيح: "من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه"3، قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}4، وقال تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ}5، وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}6 الآية.
(الوجه الثاني): قوله: "فإن الناس أذعنوا لأهل الشام، ولم يقدروا على منازعتهم، إلا أهل البيت وشيعتهم". وهذا كذب ظاهر يعرفه من له أدنى معرفة بالأخبار والتواريخ؛ وذلك لأن بني أُمَيَّة قد نازعهم في خلافتهم غير أهل البيت، فنازعهم ابن الزبير حتى تولى على الحجاز والعراق واليمن وغير ذلك من بلاد الإسلام، ولم يخرج عن ولايته إلا طائفة قليلة من أهل الشام، فأرسل مَرْوَان بن الحَكَم إليهم ليأخذ بيعته، فخلعه وأخذ البيعة لنفسه، وبايعه كثير من أهل الشام، كما ذكر ذلك أبو مُحَمَّد بن حَزْم في سيرته.
ثم خرج على مروان كثير من أهل الشام، فنازعوه وقاتلوه، ثم جرت وقعة بـ"مَرْجِ رَاهِطٍ" بين الضَحَّاك ومروان، وقُتِل النُّعْمَان بن بَشِيرٍ –رضي الله عنهما-، والأصح –كما قال الذهبي وغيره من أهل العلم- أن مروان لا يُعَدُّ في إمرة المؤمنين، بل باغٍ خارج على ابن الزُّبَير، ولا عهده –على ابنه عبد الملك- صحيح، وإنما صحت خلافة عبد الملك حين قتل ابن الزبير.
وذلك أن عبد الملك جهّز لقتاله الحجاجَ في أربعين ألفا، فحصره بمكة أشهرًا، ورمى عليه بالمنجنيق، وخذل ابنَ الزبير أصحابُه، فتسللوا إلى الحجاج، فظفر به، وقتله وصلبه.
وفي أيام ابن الزبير خرج المختار بن أبي(46/37)
عُبَيد، وتبعه طوائف من الناس، وقاتلوا عبد الله بن زياد فقتلوه، وأرسل المختار برأسه إلى زَيْنِ العَابِدِين عَلِيّ بن الحُسَيْن بالمدينة، وتولى على العراق وطرد بني أمية عنه، ثم بعد ذلك ادَّعَى النبوة، فأرسل إليه عبد الله بن الزبير أخاه مُصْعَبا معه جيش، فحاربوه حتى قتلوه، وأخذوا منه العراق. وفي أيام يزيد بن
__________
1 سورة الأحزاب آية: 32.
2 البخاري: الأدب (5990) , ومسلم: الإيمان (215) , وأحمد (4/203).
3 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) , والترمذي: القراءات (2945) , وابن ماجه: المقدمة (225) , وأحمد (2/252) , والدارمي: المقدمة (344).
4 سورة الحجرات آية: 13.
5 سورة آل عمران آية: 68.
6 سورة آل عمران آية: 31.
ص -126-(46/38)
معاوية خرج عليه أهل المدينة وخلعوه، وأخرجوا أميره من المدينة، فأرسل إليهم يزيدُ مُسلمَ بنَ عُقْبَةَ المُرِّيِّ بجيش عظيم حتى قتل أهل المدينة، وجرت فتنة عظيمة قُتل فيها من الصحابة -رضي الله عنهم- مَعْقِل بن يَسَار الأَشْجَعِيُّ، وعبدُ الله بنُ حَنْظَلَةَ الغَسِيل الأَنْصَاري، وعبدُ الله بنُ زيدِ بنُ عاصِم المَازِنِيُّ، وقُتل من أولاد المهاجرين والأنصار نحو ثلاثمائة وستة أنفس.
وفي أيام ابن الزبير خرجت طوائف من الخَوَارِج يسمون الأَزَارِقَة، فتولى محاربتهم المُهلَّبُ بن أبي صُفْرَةَ، وأباد منهم ألوفًا، كما ذكره الذهبي وغيره.
وفي أيام عبد الملك خرج عبد الرَّحْمَن بنُ الأَشْعَث، وتبعه خلق عظيم من القرَّاء وغيرهم، وقاتلوا الحجاج، وجرت بينهم وقائع عظيمة، فغلب الحجاج حتى قتل ابن الأشعث، وقتل معه خلق عظيم.
ولو ذهبنا نذكر كل من خرج على بني أمية وبني العباس لطال الكلام جدا، وبعض من خرج عليهم يبغضون عليا رضي الله عنه ويكفرونه، فتبين لكل ذي معرفة بالسير والأخبار بطلان قول هذا المعترض: "أن الناس أذعنوا لأهل الشام ولم يقدروا على منازعتهم إلا أهل البيت وشيعتهم".
(الوجه الثالث): أن يقال: إن هذا المعترض جعل الفرقة الناجية هم أهل البيت وشيعتهم، وجعل الدليل على ذلك هو منازعتهم لأهل الشام، فعلى كلامه أن كل من نازعهم وخرج عليهم هو الناجي، ومن الطائفة التي أشار إليها سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم مع أن أكثر الناس خروجا عليهم هم الخَوَارِج الذين يكفرون عليا رضي الله عنه ومعاوية وغيرهما من الصحابة ومن والاهما.
فانظر -رحمك الله- إلى هذا الجهل والتخبيط الذي لا يصدر ممن له أدنى مسكة من علم وعقل.
(الوجه الرابع): أنه جعل أهل الشام كلهم قد والوا بني أمية، وصاروا معهم المستقدمين منهم كالذين كانوا في زمانهم، والمستأخرين من أهل الشام بعد
ص -127-(46/39)
انقراض الدولة الأموية، وهذا معلوم البطلان بالضرورة؛ لأن كثيرا من أهل الشام –من العلماء وغيرهم- يبغضون أئمة الجور من بني أمية، ويطلقون ألسنتهم بذمهم والطعن عليهم. وقد تقدم كلام الذهبي في مَرْوَان وابنه عبد الملك قريبا.
ولو ذهبنا نذكر كلام علماء الشام -من المتقدمين والمتأخرين- في ذم بني أمية والطعن عليهم لطال الكلام جدا، وليس هذا الجواب محل التطويل والبسط، فمن أراد ذلك فلينظر في كتب القوم حتى يتبين له جهل هذا المعترض وتخبيطه في كلامه بما تَمُجّه الأسماع، وتنبو منه الطباع. والله أعلم.
فصل جدل المعترض في صفات الله تعالى والرد عليه
جدل المعترض في صفات الله
وأما قول المعترض: (قولك: "ونقر بها ونعلم أنها صفات". فإما أن تجعل الواو عاطفة في قولك: "ونعلم"، أو تكون جملة أخرى منفصلة، فما معنى الإقرار بها؟ هل المراد الإقرار بمتونها أو كلماتها، أو كونها من عند الله جل وعلا؟ فالمسلمون جميعا مثلك، ولا يخالفك أحد من المسلمين، فما فائدة إخبارك بأنك تقر بها؟ وإن أردت بالواو أنها للحال، أي: نقر بها حال كونها صفات.
فإما أن تريد بها قول الواصف فلا معنى لذلك، وتريد أنها تضمنت معنى خاصا للموصوف، أو أنها لفظ دلَّ على ذات باعتبار معنى هو المقصود كما ذكره ابن الحاجب؟ وهذان التعريفان قد ذكرهما العلماء اصطلاحا وتعريفا في محاورتهم.
فإن ترد أنها تدل على معنى زائد على الذات لزمك ما لزم الأَشَاعِرَة، وهو أن يكون مع الله قدماء، وهي المعاني التي لحقت ذاته –تعالى- بالوصف، ونحن نبرأ من هذا نحن وأنت.
وإن ترد أن الصفة دلت على معنى لذاته -تعالى-، وتغمض عن كيفيته وتصوره في الذهن بأي كيفية، وهذا هو المفهوم من كلامك، فلا تساعدك لغة العرب؛ لأن الصفات قوالب لمعاني مفهومة معقولة مبينة للموصوف معينة له، فقد جزمت بأنها غير مكيفة، كما يفهم من كلامك أيضا مع
ص -128-(46/40)
مخالفة لغة العرب ولزمك التجسيم.
أما مخالفة لغة العرب فلا يجوز لك أن تخالفها وتفسر كتاب الله -جل وعلا- بغيرها؛ لمخالفتك لما أنزل الله فيه، وقد قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}1 وقال تعالى:? {حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}2 إلى غير ذلك من الآيات.
فهل يجوز لك أن تقول: استوى بلا كيف. بعد أن قال مبين، وقال: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}3 ؟ ما كأنك إلا قلت: ما تبين لنا ولا عقلناه، فخاطبنا ربنا بما لا نتبينه ولا نعقله، وليس هو من جنس لغة العرب ولو كان عربيا لتبين لنا وعقلناه.
ووجه المخالفة على التحقيق أن كلمات كتاب الله –تعالى- على مقتضى لغة العرب، مبينة مفهومة، فلا بد أن تدل الكلمة على معنى حقيقي أو مجازي على مقتضى استعماله، فنقول لك: قد صرحت بأن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}4 دلّ على الاستواء على العرش، كما فهمناه من كلامك وخطابك.ولغة العرب حاكمة بأن حقيقة الاستواء على العرش الجلوس عليه، وهو القعود مع تعطف الرجلين ورجوع بعضها على بعض، تعالى الله عن ذلك.
فهذا حقيقته عند العرب، فلما أن خشيت لزوم التجسيم في حق الباري، ولجأت إلى التنْزيه له –تعالى-، فلم تجد مهربا، وتوحشت من هذا الأمر الشنيع؛ لفطرة التعظيم لربك –جل وعلا-، فلم تجد إلى الهرب سبيلا إلا بالبَلْكَفَة التي قد تستر بها مشايخك، فقلت: استوى بلا كيف، واستأنست بذلك الطيف.
فلما ظننت إنك قد حفظت نفسك من التجسيم قلنا لك: هل تقول العرب استوى، أي: جلس جلوسا غير مكيف –بتعطيف الأرجل- ولا مستقر ونحو ذلك، حيث يريدون حقيقة الاستواء والجلوس؟
فإن كان هذا من روايتك عن العرب، وأنهم يطلقون على ما أردت من عدم الكيف ما ذكرناه لك، وهيهات، فلن تستطيع له طلبا.
وإن لم يكن، قلنا لك:(46/41)
يا هذا، قد خالفت القرآن العربي المبين، وفسرته بلسان قومك الذين تستروا بالبَلْكَفَة، ولم يستروا عوراتهم، ولم تخرج عن شبهة
__________
1 سورة الشعراء آية: 193-194.
2 سورة الزخرف آية:1: 3.
3 سورة الزخرف آية:1: 3.
4 سورة طه آية: 5.
ص -129-
-التجسيم، إذ قد أثبت لله تعالى الاستواء فوق العرش، وأقررت بذلك الحدث واعتقدته له –تعالى-، وهو يستلزم التجسيم عقلا ولغة، فإن العقل -أولا- يحكم بالذات، وبأن هذا الحدث -وهو الاستواء- لا يكون إلا من جسم قبل أن تلتفت إلى كيفيته.
وكذلك اللغة، فإن مفهوم الاستواء الحدث، وقد فسروا الحدث بالأثر أو مؤثره على خلاف بين اللغويين، وقد حكمت على الله ووصفته بالاستواء، وجعلته –تعالى- محلا له كما هو قاعدة الصفة، ولم تقدر أن تخرجه عن الحدث وتجعله غير الحدث بعد أن أقررت بالاستواء الذي هو غير الحدث كما عرفناك، فلزمك أن يكون الله –تعالى- محلا للاستواء، والمحل لا يكون إلا جسما.
إلى قوله: وقد كان له مندوحة عن هذا، وتخلص كما تخلص أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من حملها على المجاز، وإخراجها عن الحقائق، التي أوقعته في المضايق، ولم يسعه بعد ذلك إلا أضغاث أحلام ظن بها أنها أخرجته إلى التنْزيه ولم تفده، فلو أخرجها إلى المجاز المأنوس المألوف في لغة العرب المنادي بفصاحة كتاب الله وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم على الوجه الأكمل والتنْزيه لله –تعالى- على الطريق اللائق بجلاله الأعدل، لكان مناسبا لكمال إعجازه والرد إلى محكمه على وجه أبلغ من الحقيقة، وأسلم من التستر بالبَلْكَفَة التي كشفت ضعف كلامه وسخفه).
الوجه الأول في الرد على شبهات المعترض
(فالجواب) أن يُقال: الواو عاطفة، والمعنى نقر بها بألسنتنا ونعلم أنها صفات لله عز وجل كما يليق بجلاله وعظمته وكبريائه، وإن رغمت أنوف أهل البدع والضلال.
فقوله: "فما معنى(46/42)
الإقرار بها؟"، هل المراد الإقرار بمتونها وكلماتها؟ فذلك هو مراد المجيب، مع اعتقاد أنها صفات لله -تعالى- لا تشبه صفات المخلوقين. فهذا معنى قول المجيب: ونعلم أنها صفات لله -تبارك وتعالى-، فالواو الأولى عاطفة، والثانية حالية أي نقر بها حال كوننا نعلم أنها صفات لله، كما هو مذهب أهل السنة والجماعة.
الوجه الثاني المؤمن يخبر بإيمانه بالله ورسوله وإقراره بأصول الدين
(الوجه الثاني): قوله: "فالمسلمون جميعا مثلك، ولا يخالفك أحد من المسلمين
ص -130-(46/43)
فما فائدة إخبارك بأنك تقر بها؟"
فنقول: هذا يدل على جهله، فإن المؤمن يخبر بإيمانه بالله ورسوله، وإقراره بأصول الدين التي هي أشهر وأعظم من هذه المسألة، كالشهادتين وغيرهما من الأصول العظيمة.
ولا يقال: إن ذلك يعرفه المسلمون كلهم، ولهذا شُرع الأذان دائما، وتكراره دائما كل وقت، وشُرع للرجل إذا فرغ من الوضوء أن يقول: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله". وأن يقول إذا صلى: "لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه، له النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن" وأمثال ذلك كثير.
الوجه الثالث وجوب الإيمان بما جاء عن الله ورسوله كما جاء
(الوجه الثالث): قوله: "فأما أن تريد بها قول الواصف ولفظه". فلا معنى لذلك، أو تريد أنها تضمنت معنى حاصلا للموصوف، أو أنها لفظ دلّ على ذات باعتبار معنى هو المقصود كما ذكره ابن الحاجب؟ فمراد المجيب أنها تدل على معنى حاصل للموصوف على ما أراده الله ورسوله كما قال الإمام الشافعي –رضي الله عنه-: "آمنت بالله، وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنت بما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله".
وذلك أنه يجب على الخلق الإقرار بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن والسنة المعلومة جملة وتفصيلا، فلا يكون الرجل مؤمنا حتى يقر بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم جملة، وذلك هو تحقيق "شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله".
فمن شهد أنه رسول الله شهد أنه صادق فيما يخبر به عن الله –عز وجل- من أسمائه وصفاته وأفعاله، وما يجوز عليه وما يمتنع عليه، ووعده ووعيده، وأمره ونهيه، وخبره عما كان وما يكون، فإن هذا هو حقيقة الشهادة له بالرسالة، وهذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، وهو متفق عليه بين الأمة.
إذا تقرر هذا فقد وجب على كل مسلم تصديقه فيما أُخبر به عن الله من أسمائه وصفاته مما جاء في القرآن، وفي السنة(46/44)
الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم كما كان عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، رضي الله عنهم ورضوا عنه.
ص -131-
(الوجه الرابع): قوله: "فإن ترد أنها تدل على صفات زائدة على الذات لزمك ما لزم الأَشَاعِرَة، وهو أن يكون مع الله قدماء، وهي المعاني التي لحقت ذاته تعالى بالوصف، ونحن نبرأ من هذا نحن وأنت". فيقال: أهل السنة والجماعة يقولون: إن الله -تبارك وتعالى- موجود كامل بجميع صفاته، فإذا قال القائل: "دعوت الله" أو "عبدت الله"، كان اسم الله متناولا للذات المتضمنة لصفاتها، ليس اسم الله اسما للذات مجردة عن صفاتها اللازمة لها، وحقيقة ذلك أنه لا يكون نفسه إلا بنفسه، ولا يكون ذاته إلا بصفاته، ولا يكون نفسه إلا بما هو داخل في مسمى اسمها، وهذا حق.
ولكن قول القائل: إنه يلزم أن يكون مع الله قدماء، تلبيس. فإن ذلك يشعر أن مع الله قدماء غيره منفصلة عنه، وهذا لا يقوله إلا من هو أكفر الناس وأجهلهم بالله كالفلاسفة؛ لأن لفظ الغير ُيراد به ما كان مفارقا له بوجود أو زمان أو مكان، ويُراد به ما أمكن العلم دونه.
فالصفة لا تسمى غيرا له، فعلى المعنى الأول يمتنع أن يكون معه غيره، وأما على المعنى الثاني فلا يمتنع أن يكون وجوده مشروطا بصفات، وأن يكون مستلزما لصفات لازمة له، وإثبات المعاني القائمة التي توصف بها الذات لا بد منها لكل عاقل، ولا خروج عن ذلك إلا بجحد وجود الموجودات مطلقا.
وأما من جعل وجود العلم هو وجود القدرة، ووجود القدرة هو وجود الإرادة، فطرد هذه المقالة يستلزم أن يكون وجود كل شيء هو عين وجود الخالق تعالى، وهذا منتهى الاتحاد، وهو مما يعلم بالحس والعقل والشرع أنه في غاية الفساد، ولا مُخَلِّصَ من هذا إلا بإثبات الصفات، مع نفي مماثَلة المخلوقات، وهو دين الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
وذلك أن نُفاة الصفات -من المتفلسفة ونحوهم- يقولون: إن العاقل والمعقول، والعاشق(46/45)
والمعشوق، واللذة واللذيذ والملتذ هو شيء واحد، وأنه موجود واجب له عناية، ويفسرون عنايته بعلمه أو عقله، ثم يقولون: وعلمه أو عقله هو ذاته، وقد يقولون: إنه حي عليم قدير، مريد متكلم، سميع بصير.
ويقولون: إن
ص -132-
ذلك شيء واحد، فإرادته عَيْنُ قدرته، وقدرته عين علمه، وعلمه عين ذاته؛ وذلك لأن من أصلهم أنه ليس له صفة ثبوتية، بل صفاته؛ إما سلبية، كقولهم: "ليس بجسم، ولا متحيز، ولا جوهر، ولا عرض". وإما إضافة، كقولهم: "مبدأ وعلة". وإما مؤلف منهما، كقولهم: "عاقل ومعقول وعقل".
ويعبرون عن هذه المعاني بعبارات هائلة، كقولهم: إنه ليس فيه كثرة "كم" ولا كثرة "كيف"، وإنه ليس له أجزاء "حد" ولا أجزاء "كم"، أو إنه لا بد من إثبات واحد موحدا توحيدا منَزها عن المقولات العشر، عن الكم والكيف والأين والوضع والإضافة، ونحو ذلك.
ومضمون هذه العبارات وأمثالها نفي صفاته التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم يسمون نفي الصفات توحيدا، وكذلك المُعْتَزَلَة ومن ضاهاهم من الجَهْمِيَّة يسمون ذلك توحيدا، وهم ابتدؤوا هذا التعطيل الذي يسمونه توحيدا، وجعلوا اسم التوحيد واقعا على غير ما هو واقع عليه في دين المسلمين.
فإن التوحيد -الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه- هو أن يعبد الله لا يشرك به شيئا، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ}1.
ومن تمام التوحيد أن يوصف الله –تعالى- بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله، فيصان ذلك عن التحريف والتعطيل والتكييف والتمثيل، كما قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ?}2.
ومن هنا ابتدع من ابتدع لمن اتبعه على نفي الصفات اسم الموحدين، وهؤلاء منتهاهم أن يقولوا: هو الوجود بشرط الإطلاق، كما قاله طائفة منهم،(46/46)
أو بشرط نفي الأمور الثبوتية كما قاله ابن سينا وأتباعه، أو يقولون: هو الوجود المطلق لا بشرط، كما يقوله القونوي وأمثاله، ومعلوم بصريح العقل -الذي لم يكذب قط- أن هذه الأقوال متناقضة باطلة من وجوه:
(أحدها): أن جعل عين العلم عين القدرة، ونفس القدرة هي نفس الإرادة،
__________
1 سورة الأنبياء آية: 25.
2 سورة الإخلاص آية: 1: 4.
ص -133-
ونفس الحياة هي نفس العلم، ونفس العلم نفس الفعل، ونفس الحياة هي نفس العلم والإبداع، ونحو ذلك معلوم الفساد بالضرورة؛ فإن هذه حقائق متنوعة، فإن جعلت هذه الحقيقة هي تلك كان بمنْزلة من يقول: أن حقيقة السواد حقيقة البياض، وحقيقة البياض حقيقة الطعم، وحقيقة الطعم حقيقة اللون.
وأمثال ذلك مما يجعل الحقائق المتنوعة حقيقة واحدة فمن قال: إن العلم هو المعلوم، والمعلوم هو العلم فَضَلالُه بيِّن، فالتمييز بين مسمى المصدر ومسمى اسم الفاعل واسم المفعول، والتفريق بين الصفة والموصوف مستقر في فِطَر الناس وعقولهم، وفي لغات جميع الأمم، ومن جعل أحدهما هو الآخر كان قد أتى بما لا يخفى فساده على من تصور ما يقول.
فمن قال: إن ذاته تعرف بدون معرفة شيء من أسمائه وصفاته الثبوتية والسلبية، فقوله معلوم البطلان، ممتنع وجود ذلك في الأعيان. ولو قدر إمكان ذلك، وفرض العبد في نفسه ذاتا مجردة عن جميع القيود السلبية والثبوتية فليس ذلك معرفة بالله البتة، وليس رب العالمين ذاتا مجردة عن كل أمر سلبي أو ثبوتي، ولهذا كان كثير من الملاحدة لا يصلون إلى هذا الحد، بل يقولون كما يقول أبو يعقوب السجستاني وغيره من الملاحدة: نحن لا ننفي النقيضين، بل نسكت عن إضافة واحد منهما إليه، فلا نقول هو موجود ولا معدوم، ولا حي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل. فيقال لهم: إعراض قلوبكم عن العلم به، وكف ألسنتكم عن ذكره لا يوجب أن يكون هو في نفسه مجردا عن النقيضين، بل يفيد كفركم(46/47)
بالله وكراهتكم لمعرفته وذكره وعبادته، وهذا حقيقة مذهبكم.
الوجه الخامس إثبات أهل السنة لذات الله وصفاته وتنزيههما
(الوجه الخامس): أن يقال: مذهب أهل السنة والجماعة ومن تبعهم بإحسان أن كل ما وَصَف به الرب نفسه من صفاته فهي صفات مختصة به، غير مخلوقة بائنة منفصلة عنه، بل يمتنع أن يكون له فيها مشارك أو مماثل، فإن ذاته المقدسة لا تماثل شيئا من الذوات، وكذلك صفاته المختصة به لا تماثل شيئا من الصفات؛ لأنه –سبحانه- أحد صمد، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، فاسمه الأَحَد دلَّ على نفي المشاركة والمماثلة، واسمه الصَّمَد دلَّ على أنه مستحق لصفات الكمال.
ص -134-(46/48)
والمقصود هنا أن صفات التنْزيه يجمعها هذان المعنيان المذكوران في هذه السورة:
(أحدهما): نفي النقائص عنه، وذلك من لوازم إثبات صفات الكمال، فمن ثبت له الكمال التام انتفى عنه النقصان المضاد له، والكمال من مدلول اسمه الصَّمَد.
(والثاني): أنه ليس كمثله شيء في صفات الكمال الثابتة، وهذا من مدلول اسمه الأَحد.
فهذان الاسمان العظيمان -الأَحد، الصَّمد- يتضمنان تنْزيهه عن كل نقص وعيب، وتنْزيهه في صفات الكمال أن يكون له مماثل في شيء منهما.
فالسورة تضمنت كل ما يجب نفيه عن الله، وتضمنت كل ما يجب إثباته لله من وجهين؛ من جهة اسمه "الصَّمد"، ومن جهة أن ما نُفي عنه من الأصول والفروع والنظير استلزم ثبوت صفات الكمال؛ فإن كل ما يمدح به الرب -تبارك وتعالى- من النفي فلا بد أن يتضمن ثبوتا، بل وكذلك كل ما يُمدح به شيء من الموجودات من النفي فلا بد أن يتضمن ثبوتا، وإلا فالنفي المحض معناه عدم محض، والعدم المحض ليس بشيء، فضلا عن أن يكون صفة كمال.
وهذا كما يذكر –سبحانه- في آية الكرسي: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ}1، فنفي أخذ السنة والنوم له مستلزم لكمال حياته وقيوميته، فإن النَّوم أخو الموت، ولهذا كان أهل الجنة لا ينامون.
ثم قال: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}2، فنفي الشفاعة بدون إذنه مستلزم لكمال ملكه، إذ كل من يشفع إليه شافع بلا إذنه، فقبل شفاعته كان منفعلا عن ذلك الشافع، قد أثرت شفاعته فيه، فصيرته فاعلا بعد أن لم يكن، وكان ذلك الشافع شريك المشفوع إليه في ذلك الأمر المطلوب بالشفاعة إذا كان بدون إذنه، لا سيما والمخلوق إذا شفع إليه بغير إذنه فقبل الشفاعة فإنما يقبلها لرغبة أو لرهبة، إما من الشافع وإما من غيره.
وإلا فلو كانت داعيته من تلقاء نفسه، تامة مع القدرة لم يحتج إلى(46/49)
شفاعته، والله –تعالى- مُنَزَّه عن ذلك كما قال في الحديث الإلهي: "إنكم لن تبلغوا ضَرِّي فتضروني، ولن تبلغوا نَفْعِي فتنفعوني"3 ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه بالشفاعة إليه إذا أتاه طالب حاجة يقول: "اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على
__________
1 سورة البقرة آية: 255.
2 سورة البقرة آية: 255.
3 مسلم: البر والصلة والآداب (2577).
ص -135-
لسان نبيه ما شاء"1.
أخرجاه في الصحيحين، وهو إنما يفعل ما أمر الله به. ثم قال: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ}2، بيَّن أنهم لا يعلمون من علمه إلا ما علمهم إياه، كما قالت الملائكة: {لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا}3؛ فكان في هذا النفي إثبات أنه عالم، وأن عباده لا يعلمون إلا ما علمهم إياه، فأثبت أنه الذي يعلمهم لا ينالون العلم إلا منه، فإنه الذي خلق الإنسان من علق، وعلَّم بالقلم، علَّم الإنسان ما لم يعلم.
ثم قال: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا}4 أي: لا يثقله ولا يكربه، وهذا النفي يتضمن كمال قدرته، فإنه -مع حفظه السماوات والأرض- لا يثقل ذلك عليه كما يثقل على من في قوته ضعف، وهذا كقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ}5 فنَزَّه نفسه عن اللغوب. قال أهل اللغة: "اللغوب" هو الإعياء والتعب.
وكذلك قوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ}6 والإدراك -عند السلف والأكثرين- هو الإحاطة، وقالت طائفة: هو الرؤية، وهو ضعيف؛ لأن نفي الرؤية لا مدح فيه، فإن العدم لا يرى، وكل وصف لا يشترك فيه الوجود، والعدم لا يستلزم أمرا ثبوتيا، ولا يكون فيه مدح، إذ هو عدم محض بخلاف ما إذا قيل: لا يحاط به، فإنه يدل على عظم الرب(46/50)
–جل جلاله-، وأن العباد –مع رؤيتهم له- لا يحيطون به رؤية، كما أنهم –مع معرفتهم- لا يحيطون به علما، وكما أنهم –مع مدحهم له، وثنائهم عليه- لا يحصون ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه المقدسة، كما قال أفضل الخلق –صلى الله عليه وسلم-: "لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك"7.
الوجه السادس: صفات الله ليست عينا له ولا غيرا مباينا له
(الوجه السادس): أن يقال: قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: "أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك"8 أخرجاه في الصحيحين، وهذا مما يدل على تغاير صفات الله؛ لأنه استعاذ برضاه من سخطه، وبمعافاته من عقوبته، فدلَّ ذلك على أن الرضى غير السخط، والمعافاة غير العقوبة، ومن جعل نفس إرادته هي رحمته وهي غضبه يكون معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "أعوذ برضاك من سخطك"9 عنده أنه استعاذ بنفس الإرادة منها، وهذا ممتنع؛ فإنه ليس عنده للإرادة صفة ثبوتية(46/51)
__________
1 البخاري: الزكاة (1432) , ومسلم: البر والصلة والآداب (2627) , والنسائي: الزكاة (2556) , وأبو داود: الأدب (5131) , وأحمد (4/400 ,4/413).
2 سورة البقرة آية: 255.
3 سورة البقرة آية: 32.
4 سورة البقرة آية: 255.
5 سورة ق آية: 38.
6 سورة الأنعام آية: 103.
7 مسلم: الصلاة (486) , والترمذي: الدعوات (3493) , والنسائي: التطبيق (1100 ,1130) , وأبو داود: الصلاة (879) , وابن ماجه: الدعاء (3841) , وأحمد (6/58) , ومالك: النداء للصلاة (497).
8 مسلم: الصلاة (486) , والترمذي: الدعوات (3493) , والنسائي: التطبيق (1100 ,1130) والاستعاذة (5534) , وأبو داود: الصلاة (879) , وابن ماجه: الدعاء (3841) , وأحمد (6/58) , ومالك: النداء للصلاة (497).
9 مسلم: الصلاة (486) , والترمذي: الدعوات (3493) , والنسائي: التطبيق (1100 ,1130) والاستعاذة (5534) , وأبو داود: الصلاة (879) , وابن ماجه: الدعاء (3841) , وأحمد (6/58) , ومالك: النداء للصلاة (497).
ص -136-(46/52)
يستعاذ بها من أحد الوجهين باعتبار ذلك الوجه منها باعتبار الوجه الآخر، بل الإرادة لها عنده مجرد تعلق بالمخلوق، والتعلق أمر عدمي، وهذا بخلاف الاستعاذة به منه؛ لأن له صفات متنوعة، فيستعاذ به باعتبار ومنه باعتبار.
ومن قال: إنه ذات لا صفة لها، أو وجود مطلق لا يتصف بصفة ثبوتية. فهذا يمتنع وجوده في الخارج، وإنما يمكن تقدير هذا في الذهن كما تُقَدَّر الممتنعات، فضلا عن كونه يكون ربا خالقا للمخلوقات.
وهؤلاء إنما ألجأهم إلى هذا مضايقات الجَهْمِيَّة والمُعْتَزَلَة لهم في مسائل الصفات، فإنهم صاروا يقولون: كلام الله هو الله أو غير الله؟ فإن قلتم: هو غيره. فما كان غير الله فهو مخلوق، وإن قلتم: هو هو، فهو مكابرة، وهذا أول ما احتجوا به على الإمام أحمد –رحمه الله- في المحنة، فإن المعتصم لمّا قال لهم: ناظروه. قال له عبد الرحمن ابن إسحاق: ما تقول في القرآن، أو قال: في كلام الله، أهو الله أو غيره؟ فقال له أحمد: ما تقول في علم الله، أهو الله أو غيره؟
فعارض أحمد بالعلم فسكت، وهذا من حسن معرفة أبي عبد الله -رحمه الله- بالمناظرة، فإن المبتدع بنَى مذهبه على أصل فاسد، متى ذكرتَ له الحق الذي عندك ابتداء أخذ يعارضك فيه لما قام بنفسه من الشبهة.
فينبغي -إذا كان المناظر مدَّعيا أن الحق معه- أن يبدأ بهدم ما عنده، فإذا انكسر وطلب الحق أُعطيه، وإلا فما دام معتقدا نقيض الحق لم يدخل الحق أذن قلبه، كاللوح الذي كُتب فيه كلام باطل، فامْحُه أولا ثم اكتب فيه الحق، فهؤلاء كان قصدهم الاحتجاج لبدعتهم، فذكر لهم أحمد من المعارضة والنقض ما يبطلها.
وقد تكلم أحمد -في ردِّه على الجَهْمِيَّة- في جواب هذا، وبين أن لفظ "الغير" مجمل، يراد بالغير ما هو منفصل عن الشيء، ويراد بالغير ما ليس هو الشيء، فلهذا لا يطلق القول بأن كلام الله وعلمه ونحو ذلك هو هو؛ لأن هذا باطل، ولا يطلق أنه غيره؛ لئلا يُفهم أنه بائن عنه، منفصل عنه(46/53)
كما رواه الخَلَّال –رحمه الله- قال: أخبرني الخضر ابن المثنى الكندي، قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل –رحمه الله- قال: هذا ما أخرجه أبي –رحمه الله- في الرد على الزَّنَادِقَة والجَهْمِيَّة فيما شكت فيه من متشابه القرآن، وتأولته غير تأويله. فقال أحمد بن حنبل –رضي الله عنه:
ص -137-
رَدُّ الإمام أحمد على الزَنَادِقة والجَهْميّة
"الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدع، وأطلقوا مقال الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، يقولون على الله، وفي الله، وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم، فنعوذ بالله من فتن المضلين، وكذلك الجهم وشيعته دعوا الناس إلى المتشابه من القرآن والحديث، فَضَلُّوا وأَضَلُّوا بكلامهم بشرا كثيرا.
"فكان مما بلغنا من أمر الجهم -عدو الله- أنه كان من أهل خراسان من أهل ترمذ، وكان صاحب خصومات وكلام، وكان أكثر كلامه في الله، فلقي أناسا من المشركين يقال لهم: السمنية، فعرفوا الجهم، فقالوا له: نكلمك، فإن ظهرت حجتنا عليك دخلت في ديننا، وإن ظهرت حجتك علينا دخلنا في دينك. فكان مما كلموا به الجهم أن قالوا: ألست تزعم أن لك إلها؟ قال الجهم: نعم. فقالوا له: فهل رأيت إلهك؟ قال: لا. قالوا: فهل سمعت كلامه؟ قال: لا. قالوا: فشممت له رائحة؟ قال لا. قالوا: فوجدت له حسا؟ قال: لا. قالوا: فوجدت له مجسا؟ قال: لا. قالوا: فما يدريك أنه إله؟ قال: فتحير الجهم، فلم يدر من يعبد أربعين يوما.
ثم إنه استدرك حجة مثل حجة زَنَادِقَة(46/54)
النصارى، وذلك أن زنادقة النصارى يزعمون أن الروح الذي في عِيسَى هو روح الله من ذات الله، فإذا أراد أن يحدث أمرا دخل في بعض خلقه فتكلم على لسان خلقه، فيأمر بما شاء، وينهى عما شاء، وهو روح
ص -138-
غائب عن الأبصار.
فاستدرك الجَهْم حجة مثل هذه الحجة، فقال للسمني: ألست تزعم أن فيك روحا؟ قال: نعم. قال: فهل رأيت روحك؟ قال: لا. قال: فسمعت كلامه؟ قال: لا. قال: فوجدت له حسا أو مجسا؟ قال: لا. قال: فكذلك الله، لا يرى له وجه، ولا يسمع له صوت، ولا يشم له رائحة، وهو غائب عن الأبصار، ولا يكون في مكان دون مكان.
ووجد ثلاث آيات في القرآن من المتشابه؛ قوله –عز وجل-: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}1 {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ}2 و {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ}3.
فبنى أصل كلامه على هؤلاء الآيات، وتأوّل القرآن على غير تأويله، وكذّب بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وزعم أن من وصف الله بشيء -مما وصف به نفسه أو حدث عنه رسوله- كان كافرا، وكان من المُشَبِّهَة، وأضلَّ بكلامه بشرا كثيرا، واتَّبعه على قوله رجال من أصحاب أبي حنيفة وأصحاب عمرو بن عبيد بالبصرة، ووضع دين الجَهْمِيَّة.
فإذا سألهم الناس عن قول الله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}4 يقولون: ليس كمثله شيء من الأشياء، وهو تحت الأرض السابعة، كما هو على العرش، لا يخلو منه مكان، ولا يكون في مكان دون مكان، ولا يتكلم، ولا ينظر إليه أحد في الدنيا ولا في الآخرة، ولا يوصف، ولا يعرف بصفة ولا بفعل، ولا له غاية، ولا له مُنْتَهَى، ولا يُدرك بعقل، وهو وَجْهٌ كُلّه، وهو عِلْم كُلّه، وهو سَمْع كلّه، وهو بَصَر كلّه، وهو نُور كلّه، وهو قُدْرَة كلّه، ولا يُوصف بوصفين مختلفين، وليس له أعلى ولا أسفل، ولا نواحٍ ولا جوانب، ولا يمين ولا شمال، ولا هو ثقيل ولا خفيف، ولا له نور ولا جسم، وليس هو معلول5، وكل ما خطر على قلبك(46/55)
أنه شيء تعرفه فهو على خلافه.
فقلنا: هو شيء؟ فقالوا: هو شيء لا كالأشياء. فقلنا: إن الشيء الذي لا كالأشياء قد عرف أهل العقل أنه لا شيء. فعند ذلك تبين للناس أنهم لا يثبتون شيئا، ولكنهم يدفعون عن أنفسهم الشنعة بما يقرون من العلانية.
__________
1 سورة الشورى آية: 11.
2 سورة الأنعام آية: 3.
3 سورة الأنعام آية: 103.
4 سورة الشورى آية: 11.
5 لعله: معلوم ولا معقول.
ص -139-(46/56)
فإذا قيل لهم: من تعبدون؟ قالوا: نعبد من يدبر أمر هذا الخلق. فقلنا: هذا الذي يدبر أمر هذا الخلق هو مجهول لا يعرف بصفة؟ قالوا: نعم. قلنا: قد عرف المسلمون أنكم لا تأتون بشيء، وإنما تدفعون عن أنفسكم الشنعة بما تظهرون. فقلنا لهم: هذا الذي يدبر هو الذي كلم موسى؟ قالوا: لم يتكلم، ولا يتكلم؛ لأن الكلام لا يكون إلا بجارحة، والجوارح عن الله منفية.
فإذا سمع الجاهل قولهم ظن أنهم من أشد الناس تعظيما لله، ولا يعلم أنهم إنما يعود قولهم إلى ضلال وكفر، فما يُسأل عنه الجهمي يقال له: تجد في كتاب الله أنه يخبر عن القرآن أنه مخلوق؟ فلا يجد. فيقال له: فتجد في سنة رسول الله أنه قال: إن القرآن مخلوق؟ فلا يجد. فيقال له: فمن أين قلت؟ فيقول: من قول الله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً}1.
وزعم أن جعل مخلوق مجعول هو مخلوق2، فادَّعى كلمة من الكلام المتشابه يحتج بها من أراد أن يلحد في تنْزيلها، وكما يبتغي الفتنة في تأويلها، وذلك أن "جعل" في القرآن من المخلوقين على وجهين: على معنى تسمية، وعلى معنى فعل من أفعالهم، فقوله: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ}3، قالوا: هو شعر وأساطير الأولين، وأضغاث أحلام. فهذا على معنى تسمية.
وقال: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً}4 يعني: إنهم سموهم إناثا، ثم ذكر "جعل" على غير معنى تسمية، فقال: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ}5 فهذا على معنى فعل من أفعالهم.
وقال: {حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً}6 هذا على معنى "جعل"، فهذا على جعل المخلوقين، ثم جعل من أمر الله على معنى خلق لا يكون إلا خلق، ولا يقوم إلا مقام خلق لا يزول عنه المعنى.
وإذا قال الله: "جعل" على غير معنى خلق لا يكون خلق، ولا يقوم مقام خلق، ولا يزول عنه المعنى، فمما قال الله جعل على معنى خلق قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ(46/57)
وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ}7، يعني: وخلق الظلمات والنور. وقال: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ}8.
__________
1 سورة الزخرف آية: 3.
2 كذا في الأصل.
3 سورة الحجر آية: 91.
4 سورة الزخرف آية: 19.
5 سورة البقرة آية: 19.
6 سورة الكهف آية: 96.
7 سورة الأنعام آية: 1.
8 سورة النحل آية: 78.
ص -140-
يقول: وخلق لكم. وقال: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ}1، يقول: وخلقنا الليل والنهار آيتين. وقال: {وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً}2، وقال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا}3، يقول: وخلق منها زوجها، يقول: خلق من آدم. وقال: {وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ}4، يقول: وخلق لها رواسي، ومثله في القرآن كثير، فهذا وما كان على مثاله لا يكون إلا على معنى خلق.
"ثم ذكر جعل على معنى غير خلق قوله: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ}5، لا يعني: ما خلق الله من بحيرة ولا سائبة، وقال الله لإبراهيم: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً}6، لا يعني: إني خالقك للناس إماما؛ لأن خلق إبراهيم كان متقدما 7.
قال إبراهيم: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً}8. وقال إبراهيم: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ}9، لا يعني: اخلقني مقيم الصلاة. وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الْآخِرَةِ}10.
وقال لأم موسى: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}11 لا يعني: وخالقوه من المرسلين؛ لأن الله وعد أم موسى أن يرده إليها ثم يجعله من بعده رسولا، وقال: {وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ}12 وقال: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً}13 لا(46/58)
يعني: ونخلقهم أئمة، وقال: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً}14، ومثله في القرآن كثير.
"فهذا -وما كان على مثاله- لا يكون على معنى خلق، فإذا قال الله: "جعل" على معنى خلق، وقال: "جعل" على غير معنى خلق، فبأي حجة قال الجهمي جعل على معنى خلق؟ فإن رد الجهمي الجعل إلى المعنى الذي وصفه الله فيه، وإن كان لا كان من الذين يسمعون كلام الله، ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون.
فلما قال الله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً}15 يقول: "جعله عربيا" جعله جعلا على معنى فعل من أفعال على غير معنى خلق، وقال في سورة الزخرف: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}16، وقال: {لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}17، وقال: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ}18.
__________
1 سورة الإسراء آية: 12.
2 سورة نوح آية: 16.
3 سورة الأعراف آية: 189.
4 سورة النمل آية: 61.
5 سورة المائدة آية: 103.
6 سورة البقرة آية: 124.
7 أي: متقدما على إمامته.
8 سورة إبراهيم آية: 35.
9 سورة إبراهيم آية: 40.
10 سورة آل عمران آية: 176.
11 سورة القصص آية: 7.
12 سورة الأنفال آية: 37.
13 سورة القصص آية: 5.
14 سورة الأعراف آية: 143.
15 سورة الزخرف آية: 3.
16 سورة الزخرف آية: 3.
17 سورة الشعراء آية: 194.
18 سورة مريم آية: 97.
ص -141-(46/59)
فلما جعل الله القرآن عربيا، ويسَّره بلسان نبيه صلى الله عليه وسلم كان ذلك فعلا من أفعال الله -تبارك وتعالى- جعل القرآن به عربيا بينا يعني هذا بيان، لمن أراد الله هداه.
ثم إن الجهمي ادَّعى أمرًا آخر وهو من المحال، فقال: أخبرونا عن القرآن، هو الله أو غير الله؟ فادعى في القرآن أمرا، فوهم للناس. فإذا سئل الجاهل عن القرآن: هو الله أو غير الله؟ فادعى في ال من أن 1 يقول أحد القولين، فإن قال: هو الله. قال له الجهمي: كفرت. وإن قال: هو غير الله. قال: صدقت. فلم لا يكون غير الله مخلوقا؟ فيقع في نفس الجاهل من ذلك ما يميل به إلى قول الجهمي، وهذه المسألة من الجهمي هي من المغاليط.
(فالجواب) للجهمي إذا سأل فقال: أخبرونا عن القرآن: هو الله، أو غير الله؟ قيل له: إن الله –جل ثناؤه- لم يقل: في القرآن إن القرآن أنا، ولم يقل: هو غيري، وقال: هو كلامي، فسميناه باسم سمَّاه الله به، فقلنا: كلام الله، فمن سمَّى القرآن باسم سمَّاه الله به كان من المهتدين، ومن سمَّاه باسم غيره كان من الضالين.
وقد فَصَلَ الله بين قوله وبين خلقه، ولم يسمه قولا، فقال: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ}2، فلما قال: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ}3 لم يبق شيء مخلوق إلا كان داخلا في ذلك، ثم ذكر ما ليس بخلق فقال: {وَالأَمْرُ}فأمره هو قوله: {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}4 أن يكون قوله خلقا.
وقال: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}5، ثم قال للقرآن: {أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا}6، وقال: {لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ}7 يقول: لله القول من قبل الخلق ومن بعد الخلق، فالله يخلق ويأمر، وقوله غير خلقه.
وقال: {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ}8، وقال: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ}9. ثم قال أحمد -رحمه الله-:(46/60)
__________
1 الظاهر أن العبارة هكذا: فلا بد أن يقول أحد القولين، ا هـ من الأصل.
2 سورة الأعراف آية: 54.
3 سورة الأعراف آية: 54.
4 سورة الأعراف آية: 54.
5 سورة الدخان آية: 3.
6 سورة الدخان آية: 3.
7 سورة الروم آية: 4.
8 سورة الطلاق آية: 5.
9 سورة هود آية: 40.
ص -142-
(باب بيان ما فصل الله به بين قوله وبين خلقه)
وذلك أن الله -جل ثناؤه- إذا سمى الشيء الواحد باسمين أو ثلاثة أسامٍ فهو مرسل غير مفصل، وإذا سمى شيئين مختلفين لم يدعهما مرسلا حتى يفصل بينهما، من ذلك قوله: {يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً}1 فهذا شيء واحد سماه بثلاثة أسامٍ وهو مرسل، ولم يقل: إن له أبا وشيخا وكبيرا.
وقال: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ}2، ثم قال: {وَأَبْكَاراً}فلما كانت البكر غير الثَّيِّب لم يدعه مرسلا حتى فصل بينهما، وذلك قوله: {وَأَبْكَاراً}.
وقال: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى}3، ثم قال: {وَالْبَصِيرُ}. فلما كان البصير غير الأعمى فصل بينهما، ثم قال: {وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ}4. فلما كان كل واحد من هذا غير الشيء الآخر فصل بينها، ثم {هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ}5، كله شيء واحد، فهذا مرسل ليس بمفصل.
فكذلك إذا قال الله: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ}6 لأن الخلق غير الأمر، فهو مفصل، انتهى ما ذكره أحمد -رحمه الله-.
وهذا الذي ذكره أحمد -رحمه الله- هو الذي عليه الحذاق من أئمة السنة، وهو قول ابن كلاب وغيره، فهؤلاء لا يطلقون القول بأن صفات(46/61)
الله هي الله، ولا أنها غيره؛ وذلك لأن هذا إثبات قسم ثالث وهو خطأ، ففرق بين إطلاق اللفظين لما في ذلك من الإجماع، وبين نفي مسمى اللفظين مطلقا وإثبات معنى ثالث خارج من مسمى اللفظين.
فجاء بعد هؤلاء أبو الحسن الأشعري وكان أحذق ممن بعده، فقال بنفي مفرد لا مجموعا، فيقول مفردا: ليست الصفة هي الموصوف؟ ويقول مفردا: ليست غيره؟ ولا يجمع بينهما، فلا يقال: لا هي هو، ولا هي غيره؛ لأن الجمع بين النفي فيه من الإيهام ما ليس في التفريق. وجاء بعده
__________
1 سورة يوسف آية: 78.
2 سورة التحريم آية: 5.
3 سورة فاطر آية: 19.
4 سورة فاطر آية:20، 21.
5 سورة الحشر آية: 23، 24.
6 سورة الأعراف آية: 54.
ص -143-(46/62)
أقوام فقالوا: بل ينفى مجموعا، فيقال: لا هي هو، ولا هي غيره، ثم كثير من هؤلاء إذا بحثوا يقولون: هذا المعنى إمَّا أن يكون هذا وإمَّا أن يكون غيره؛ فيتناقضون، وسبب ذلك أن لفظ الغير مجمل يُراد بالغير: المباين المنفصل، ويُراد به ما ليس هو غير الشيء، وقد يعبر عن الأول بأن الغيرين ما جُوِّزَ وجودُ أحدهما وعدمه، أو ما جاز مفارقة أحدهما للآخر بزمان أو مكان أو وجود، ويعبر عن الثاني بأنه ما جاز العلم بأحدهما مع عدم العلم بالآخر. فبين هذا وهذا فرق ظاهر.
فصفات الرب اللازمة لا تفارقه البتة، فلا يكون غيرًا بالمعنى الأول، ويجوز أن يعلم بعض الصفات دون بعض، ويعلم الذات دون الصفة فيكون غيرًا باعتبار الثاني.
ولهذا أطلق كثير من مثبتة الصفات عليها أنها أغيار للذات، وقالوا: إنها غير الذات. ولا يقولون إنها غير الله، فإن لفظ الذات لا يتضمن الصفات، بخلاف اسم الله فإنه يتناول الصفات.
ولهذا كان الصواب -على قول أهل السنة- هو أن لا يقال في الصفات: إنها زائدة على اسم الله، بل من قال ذلك فقد غلط عليهم، وإذا قيل: هي زائدة على الذات أم لا؟ كان الجواب أن الذات الموجودة في نفس الأمر مستلزمة للصفات، فلا يمكن وجود الذات مجردة عن الصفات، بل ولا يوجد شيء من الذوات مجردا عن جميع الصفات، بل لفظ "الذات" تأنيث "ذو"، ولفظ "ذو" مستلزم للإضافة، وهذا اللفظ مولد، وأصله أن يقال: ذات علم وذات قدرة، وذات سمع، كما قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ}1 ويقال: فلانة ذات مال وجمال.
ثم لما علموا أن نفس الرب ذات علم وقدرة، وسمع وبصر، عرفوا لفظ الذات ردًّا على من نفى صفاتها، وصار التعريف يقوم مقام الإضافة، بحيث إذا قيل لفظ الذات فهو ذات كذا. فالذات لا يكون إلا ذات علم وقدرة، ونحوه من الصفات لفظا ومعنى.
وإنما يريد محققو أهل السنة بقولهم: "الصفات زائدة على الذات" أنها زائدة على ما أثبته نفاة(46/63)
الصفات من الذات، فإنهم أثبتوا ذاتا مجردة
__________
1 سورة الأنفال آية: 1.
ص -144-
لا صفات لها، فأثبت أهل السنة الصفات زائدة على ما أثبته هؤلاء، فهي زيادة في العلم والاعتقاد والخبر، لا زيادة على نفس الله -جل جلاله-، بل نفسه المقدسة متصفة بهذه الصفات، لا يمكن أن تفارقها، ولا توجد الصفات بدون الذات، ولا الذات بدون الصفات.
والمقصود هنا بيان بطلان كلام هذا المعترض وقوله: إن من أثبت الصفات لله تبارك وتعالى لزمه أن يكون مع الله قدما، فظهر -بما ذكرنا عن أهل السنة والجماعة- أن كلامه هذا تلبيس وجهل وضلال، وأن مذهب أهل السنة والجماعة في إثبات الصفات الثابتة في القرآن والسنة هو الصواب الموافق لصريح المعقول، كما أنه هو الوارد في صحيح المنقول.
الوجه السابع الأقسام الممكنة في آيات الصفات وأحاديثها
(الوجه السابع) أن يقال: الأقسام الممكنة في آيات الصفات وأحاديثها ستة أقسام، كل قسم عليه طائفة من أهل القبلة: قسمان يقولان: تجري على ظواهرها، وقسمان يقولان: هي على خلاف ظواهرها، وقسمان يسكتان.
أما الأولون فقسمان:
(أحدهما): من يجريها على ظواهرها، ويجعل ظاهرها من جنس صفات المخلوقين، فهؤلاء المُشَبِّهَة، ومذهبهم باطل بالكتاب والسنة، ولهذا أنكره السلف عليهم، وإليه توجه الرد بالحق.
(والثاني): من يجريها على ظاهرها اللائق بجلال الله –تعالى-، كما يجري اسم الله العليم والقدير والرب والإله والموجود والذات ونحو ذلك على ظاهرها اللائق بجلال الله –تعالى-، فإن ظواهر هذه الصفات في حق المخلوقين؛ إما جوهر محدث، وإما عرض قائم، فالعلم والقدرة والمشيئة والرحمة والرضى والغضب ونحو ذلك في حق العبد أعراض. والوجه واليدان والعين في حق المخلوق أجسام.
فإذا كان الله موصوفا عند عامة أهل الإثبات بأن له علما وقدرة وكلاما ومشيئة، وإن لم تكن أعراضا يجوز عليها ما يجوز على صفات(46/64)
المخلوقين، فلم لا يجوز أن
ص -145-
يكون وجه الله ويداه ليست أجساما لا يجوز عليها ما يجوز على صفات المخلوقين؟
وهذا هو المذهب الذي حكيناه عن أهل السنة، وهو الذي نعتقده وندين لله به، وهو الذي يدل عليه كلام علماء السنة، وهذا أمر واضح، ولله الحمد والمنة، ولا يلزم عليه شيء من اللوازم الباطلة؛ وذلك لأنه حق، ولازم الحق حق، فإن الصفات كالذات.
فكما أن ذاته ثابتة حقيقة من غير أن تكون من جنس ذوات المخلوقات، فكذلك صفاته ثابتة حقيقة من غير أن تكون من جنس صفات المخلوقات، فمن قال: لا أعقل علما ويدا واستواء إلا من جنس العلم واليد والاستواء المعهود. قيل له: فكيف تعقل ذاتا من غير جنس ذوات المخلوقين؟
الوجه الثامن صفات كل موصوف تناسب ذاته وتلائم حقيقته
(الوجه الثامن) أن يقال: صفات كل موصوف تناسب ذاته، وتلائم حقيقته، فمن لم يفهم من صفات الرب الذي ليس كمثله شيء إلا ما يناسب المخلوقين فقد ضل في عقله ودينه، وخالف لغة العرب وما فطر الله عليه عباده.
فتبين -بما ذكرنا- أن هذه اللوازم التي ذكرها هذا المعترض لا تلزم على قولنا الذي حكيناه عن أهل السنة والجماعة.
الوجه التاسع لوازم الصفات التي يدعيها المبتدعة إنما تلزم على مذهبهم دون مذهب السلف
(الوجه التاسع) أن يقال: اللوازم الشنيعة الفظيعة المخالفة لصحيح المعقول وصريح المنقول، إنما تلزم على قول هذا المعترض وسلفه المتكلمين من الجَهْمِيَّة والمُعْتَزَلَة والقَدَرِيَّة، ومن نحا نحوهم من الشِّيعَة والزَّيْدِيَّة.
وبيان ذلك أنه إذا كان الكتاب والسنة مملوءان مما ظاهره عندهم تشبيه وتجسيم وتكييف، كيف يجوز على الله –تعالى-، ثم على رسوله صلى الله عليه وسلم ثم على الصحابة أنهم يتكلمون دائما بما هو نص أو ظاهر في خلاف الحق، ثم الحق الذي يجب اعتقاده لا يبوحون به، ولا يدلون عليه، حتى يجيء أنباط الفرس والروم والفلاسفة فيثبتون للأمة العقيدة الصحيحة التي يجب(46/65)
على كل مكلف أو كل فاضل اعتقادها؟
لئن كان الحق فيما يقوله هؤلاء المتكلمون لقد كان ترك الناس بلا كتاب ولا سنة أهدى لهم وأنفع على هذا التقدير، بل
ص -146-
كان وجود الكتاب والسنة ضررا محضا في أصل الدين، فإن حقيقة الأمر على ما يقوله هؤلاء: إنكم –معاشر العباد- لا تطلبوا معرفة الله ولا ما يستحقه من الصفات نفيا وإثباتا، لا من الكتاب ولا من السنة، ولا من طريق سلف الأمة، ولكن انظروا أنتم فما وجدتموه مستحقا له من الصفات فصفوه به، سواء كان موجودا في الكتاب والسنة أو لم يكن، وما لم تجدوه مستحقا له في عقولكم فلا تصفوه به، وإليه عند التنازع فارجعوا؛ فإنه الحق الذي تعبدتكم به.
وما كان مذكورا في الكتاب والسنة مما يخالف قياسكم هذا فاجتهدوا في تخريجه على شواذ اللغة، ووحشي الألفاظ، وغرائب الكلام، أو اسكتوا عنه مفوضين علمه إلى الله، مع نفي دلالته على شيء من الصفات. هذا حقيقة الأمر على رأي هؤلاء، وهو لازم لهم لزوما لا محيد عنه.
ومضمونه أن كتاب الله لا يهتدى به في معرفة الله، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم معزول عن التعليم والإخبار بصفات من أرسله، وما أشبه حال هؤلاء بالذين قال الله فيهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً}1 إلى قوله: {إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً}2.
فإن الرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول هو إلى سنته بعد وفاته، فإن هؤلاء إذا دعوا إلى ذلك أعرضوا، ورأيتهم يصدون عنه صدودا، ويقولون: يلزم منه كذا، وما(46/66)
قصدنا إلا إحسانا وتوفيقا بين هذه الطريقة التي سلكناها وبين الدلائل النقلية.
ثم عامة هذه الشبهات -التي يسمونها دلائل- إنما قلدوا فيها طاغوتا من طواغيت المشركين والصابئين، أو بعض ورثته الذين أمروا أن يكفروا به، وقد قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي
__________
1 سورة النساء آية: 60، 61.
2 سورة النساء آية: 62.
ص -147-(46/67)
أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً}1.
وقال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ}2 إلى قوله: {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}3.
الوجه العاشر لا يجوز تفسير كتاب الله تعالى بغير لغة العرب
(الوجه العاشر) قوله: "أما مخالفة لغة العرب فلا يجوز لك أن تخالفها وتفسر كتاب الله -جل وعلا- بغيرها؛ لمخالفتك لما أنزل الله فيه، فقد قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ}4 الآية، وقال: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا}".
فهذا الكلام حق أُريد به باطل، كما قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه للخوارج، لما قالوا له: أشركت؛ لأنك حَكَّمْتَ الرجالَ في دين الله، وقد قال تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}5 قال: "كلمة حق أريد بها باطل". وهذا من أعظم حجج المُشَبِّهَة القائلين بأنا لا نعقل من هذه الصفات إلا مثل صفاتنا؛ لأنه نزل بلغة العرب، فهم أسعد منك بهذه الحجة؛ لأن اللفظ يُحمل على ظاهره عند العرب كما تزعم.
وأما السلف وأهل السنة والجماعة فلا تلزمهم هذه الحجة؛ لأنهم يقولون: إنها على ظاهرها في حقه –تبارك وتعالى-، لكنها كما يليق بجلاله وعظمته؛ لأن الصفات تابعة للذات، كما تقدم تقريره قريبا.
الوجه الحادي عشر لو كانت أسماء الصفات مجازات لجاز نفيها ككل مجاز
(الوجه الحادي عشر) قوله: "هل يجوز لك أن تقول: استوى بلا كيف بعد أن قال: {مُبِينٌ}وقال: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}6 ؟ ما كأنك إلا قلت: ما تبين لنا ولا عقلناه، فخاطبنا ربنا بما لا نتبينه ولا نعقله، وليس هو من جنس لغة العرب، ولو كان عربيا لتبين لنا وعقلناه..." إلى آخر كلامه.
فيقال: هذا مما يدل على جهلك وعدم معرفتك بالحجج التي تحتج بها؛(46/68)
وذلك لأن المُشَبِّهَة يردون عليك بكلامك هذا: "نحن لا نعقل من لغة العرب إلا ما قلنا"، والعرب يحملون الكلام على حقيقته، فما المانع من حمل هذه النصوص على ظواهرها في حقنا، والمجاز إنما يُصار إليه عند الضرورة، ولا ضرورة هنا. وأيضا
__________
1 سورة النساء آية: 65.
2 سورة البقرة آية: 213.
3 سورة البقرة آية: 213.
4 سورة الشعراء آية: 193.
5 سورة الزمر آية: 65.
6 سورة الزخرف آية: 3.
ص -148-(46/69)
يقولون: من قاعدة المجاز جواز نفيه، ولا يجوز لأحد أن ينفي تلك الصفات عن الله –عز وجل- فيقول: ليس بسميع، ليس بحي، ليس ببصير، ليس بقادر، ليس بمتكلم، ليس بمستوٍ على العرش، فكيف تقولون: إنها من المجاز ومن قاعدة العرب أنهم يجوزون نفي المجاز؟
فإذا قالوا للشجاع: هذا أسد، إذا أرادوا تشبيهه بالأسد في الشجاعة، جوَّزُوا أن ينفى ذلك عنه، ويقال ليس بأسد، بل هذا إنسان ناطق متكلم عاقل.
وكذلك إذا قالوا للبليد: حِمار، تشبيها له بالحمار في الجهالة، جوزوا أن ينفي ذلك عنه، فيقال: ليس هذا بحمار، وإنما هو شبه له بالجهل، وأشباه ذلك كثير في كلامهم.
وأما إذا قال أهل السنة: إن الله أخبرنا أنه استوى على العرش، ولم يخبرنا بكيفية ذلك، فقلنا بما قال الله، وسكتنا عما سكت الله عنه، وحملنا الاستواء على حقيقته في حق الباريء تعالى، فإذا قيل لنا: كيف استوى؟ قلنا: لم يخبرنا الله بذلك، فهذا معنى قولنا: "بلا كيف"، فأين في هذا ما يخالف لغة العرب؟
وما أحسن ما قال بعض أهل السنة: إذا قال لك الجهمي: كيف استوى؟ أو كيف ينْزل إلى سماء الدنيا؟ أو كيف يداه؟ أو نحو ذلك، فقل له: كيف هو في نفسه؟ فإذا قال: لا يعلم ما هو إلا هو؟ وذات الباريء غير معلومة للبشر، فقل له: فالعلم بكيفية الصفة مستلزم للعلم بكيفية الموصوف، فكيف يمكن أن يعلم كيفيته؟ وإنما تعلم الذات والصفات من حيث الجملة على الوجه الذي ينبغي لذلك الموصوف، بل هذه المخلوقات في الجنة قد ثبت عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه: "ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء".
وقد أخبر الله –تعالى- أنه: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ}1 الآية، وقال صلى الله عليه وسلم: "يقول الله: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر"2.
فإذا كان نعيم الجنة -وهو خلق من خلق الله- كذلك، فما الظن بالخالق -سبحانه وتعالى؟ أفلا يعتبر(46/70)
العاقل بهذا عن الكلام في كيفية الله –تعالى؟ وقد قال -تعالى-: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}3.
__________
1 سورة السجدة آية: 17.
2 البخاري: بدء الخلق (3244) , ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2824) , والترمذي: تفسير القرآن (3197) , وابن ماجه: الزهد (4328) , وأحمد (2/313 ,2/438 ,2/466 ,2/495) , والدارمي: الرقاق (2828).
3 سورة الشورى آية: 11.
ص -149-(46/71)
وبما ذكرنا يتبين للمنصف اللبيب أن أهل السنة والجماعة هم أسعد الناس بفهم كتاب الله وتعقله وتفهمه وتدبره، وقد هداهم الله لما اختُلف فيه من الحق، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
الوجه الثاني عشر حقيقة الاستواء في لغة العرب
(الوجه الثاني عشر): قوله: (قد صرَّحت بأن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}1 دلَّ على الاستواء على العرش كما فهمناه من كلامك وخطابك. ولغة العرب حاكمة بأن حقيقة الاستواء على العرش الجلوس عليه، وهو القعود مع تعطف الرجلين ورجوع بعضها إلى بعض، تعالى الله عن ذلك، فهذا حقيقته عند العرب).
فيقال: هذا كذب ظاهر على اللغة العربية، وليس هذا حقيقته عند العرب في حق الباريء –تعالى-، وإذا كان علماء العربية قد بينوا أن الاستواء في حق المخلوق يطلق على معانٍ كثيرة، كالاستيلاء والاستقرار وغير ذلك، فكيف يقول هذا الجاهل: إن لغة العرب حاكمة بأن حقيقة الاستواء على العرش الجلوس عليه، وهو القعود مع تعطف الرجلين ورجوع بعضها على بعض، تعالى الله عن ذلك، فهذا حقيقته عند العرب.
ولكن هذا المعترض وشيعته -لظلمة قلوبهم وزيغها عن الحق- لا يفهمون من صفات الله إلا ما يفهمونه من صفات المخلوقين؛ ولذلك زعموا أن ظاهر هذه النصوص الواردة في القرآن والسنة تشبيه وتجسيم وتكييف، وكلامنا في هذا الوجه وما قبله من الوجوه شافٍ كافٍ في نقض كلامه وبيان بطلانه لمن أراد الله هدايته، والله أعلم.
فصل مذهب آل البيت في الصفات
وأما قوله: (فإن قلت: قد أَبَنْت خطأ المجيب وتخليطه، وذكرت في كلامك أن المرجع عند الشبه إلى قرناء كتاب الله –تعالى- أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما تحقيق مذهبهم في الصفات؟ وما أثبت الله –تعالى- لنفسه في صريح الآيات من اليد والاستواء وغيرهما حتى تطمئن القلوب إليه، ويكون المُعَوِّل في الاعتقاد عليه). ثم نقل عن(46/72)
__________
1 سورة طه آية: 5.
ص -150-
محمد بن عز الدين المفتي في كتاب "البدر الساري شرح: واسطة الدراري، في توحيد الباري" من نحو قادر وعالم وموجود وقديم وحي... إلى آخر كلامه، وكذلك ما ذكره عن "عقد النظام" وغيره. ثم قال: "ولو اتسع المقام، لذكرنا أقوال علماء الآل -عليهم السلام- قولا قولا، والوجه على ما ذهبوا إليه، هو أنهم اطلعوا على حقيقة ما هو قرينهم كتاب الله -تعالى- الذين هم تراجمته، وفهموه بفهم جدهم صلى الله عليه وسلم حيث قال: "فهمهم فهمي".
(فالجواب) أن يقال:
(أولا): نطالبك بصحة هذا عن زين العابدين رضي الله عنه.
ويقال: (ثانيا): مَنْ رواه مِنْ الأئمة المعروفين بالعلم ومعرفة الحديث: كالإمام أحمد ومالك بن أنس، والشافعي والزهري، والحسن بن أبي الحسن البصري، وسعيد بن المسيب وقتادة، وأمثال هؤلاء الذين اشتهر عند الأمة أنهم أهل صدق فيما نقلوه عن أهل البيت وغيرهم.
ومجرد نقل من ذكرت عنه لا يوجب صحة النقل عنه بذلك، وهؤلاء الذين ذكرت أنهم نقلوا ذلك عنه لا يُعرفون عند أهل العلم بصدق ولا أمانة ولا ديانة، كما يعرف أئمة أهل البيت: مثل زين العابدين، وابنه زيد بن علي، وأشباههم رضي الله عنهم.
ويقال: (ثالثا): قد نقل عن أهل البيت ما يخالف ما نقلته عمن ذكرت، فمن ذلك ما نقل البغوي في تفسيره المشهور، قال فيه: قال ابن عباس رضي الله عنه وأكثر المفسرين من السلف: "استوى إلى السماء: ارتفع إلى السماء". وكذلك قال الخليل بن أحمد، وهو من أئمة اللغة المشهورين.
وروى البيهقي بإسناده قال الفراء: "استوى إلى السماء أي: صعد." قاله ابن عباس. والتفاسير المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين مثل: تفسير محمد بن جرير الطبري، وتفسير عبد الرحمن بن إبراهيم المعروف بدحيم، وتفسير عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي، وتفسير ابن المنذر، وتفسير أبي بكر عبد العزيز(46/73)
وتفسير أبي الشيخ
ص -151-
الأصبهاني، وتفسير أبي بكر بن مردويه، وما قبل هؤلاء من التفاسير، مثل: تفسير الإمام أحمد بن حنبل، وإسحاق بن إبراهيم، وبقي بن مخلد، ومن قبلهم، مثل: تفسير عبد بن حميد، وتفسير سنيد، وتفسير عبد الرازق، ووكيع بن الجراح، فيها من هذا الباب الموافق لقول أهل السنة والجماعة ما لا يحصى، فمن أراد ذلك فليطالع في تلك الكتب.
وهؤلاء الأئمة هم الذين يعرفون مذهب أهل البيت، ويميزون بين صحيح القول من ذلك والمكذوب منه، وهم المتبعون لأهل البيت حقا؛ وبهذا تبين بطلان قول المعترض.
فصل
وأما قوله في الكلام على الاستواء: (وقوله: قال الإمام الأعظم القاسم بن محمد في كتابه "الأساس": جمهور أئمتنا أن العرش عبارة عن عز الله وملكه... إلى آخره) قال في شرحه: اعلم أن تأويل الاستواء على العرش متفق عليه إلا عند مثل ابن عربي والمُجَسِّمَةِ، ثم ذكر الحامل له على التأويل).
(فالجواب) أن يقال: هذا يدل على جهل المعترض، وأنه لا يعرف المذاهب في هذه المسألة، وجهل من نقل عنه ذلك؛ فإن مذهب أهل السنة في هذه المسألة من التابعين وأتباعهم، والأئمة الأربعة وأصحابهم، أمر مشهور معلوم عند من له أدنى معرفة بمذاهب الناس، حتى المُأَوِّلَة من المعتزلة والأشعرية وغيرهم يقرون بذلك إذا ذكروا آيات الصفات، وأحاديثها في تفاسيرهم، وعقائدهم يقولون: فيها مذهبان: مذهب السلف، وهو إمرارها كما جاءت مع اعتقاد أنها صفات لله، لا تشبه صفات المخلوقين. وقالوا ذلك أسلم، (والثاني) مذهب الخلف: وهو تأويلها وصرفها عن ظاهرها كتأويل الاستواء بالاستيلاء، واليد بالقدرة والنعمة، وأشباه ذلك.
وقد نقل مذهب السلف في هذه المسألة -كما ذكرنا- غير واحد من الأئمة: كحرب الكرماني صاحب الإمام
ص -152-(46/74)
أحمد في "مسائله"، والإمام البخاري صاحب "الصحيح" في كتاب خلق أفعال العباد، والخلال في كتاب "السنة"، وأبي عثمان إسماعيل الصابوني، وعثمان بن سعيد الدارمي الذي هو من أقران البخاري ومسلم، وذكروا مذهب التأويل عن جهم بن صفوان، وبشر المريسي، وأشباههم ممن هو معروف بالبدعة والضلالة، وهذا نص كلامهم بحروفه:
(نُقُول مصنفي السلف في مذهب أهل السنة في صفات الله تعالى)
قال أبو محمد حرب الكرماني في مسائله المعروفة التي نقلها عن الإمام أحمد وإسحاق وغيرهما، وذكر من الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وغيرهم ما ذكر، وهو كتاب كبير صنفه على طريقة "الموطأ" ونحوه من المصنفات. قال في آخره في الباب الجامع:
قول الإمام الكرماني في مذهب السلف
(باب القول في المذهب): هذا مذهب أئمة العلم، وأصحاب الأثر، وأهل السنة المعروفين بها، المقتدى بهم فيها، وأدركت من أدركت من علماء أهل الشام والعراق والحجاز وغيرهم عليها، فمن خالف شيئا منها، أو طعن فيها، أو عاب قائلها، فهو مبتدع خارج من الجماعة، وزائل عن منهج السنة وسبيل الحق.
وهو مذهب أحمد، وإسحاق بن إبراهيم، وبقي ابن مخلد، وعبد الله بن الزبير الحميدي، وسعيد بن منصور وغيرهم ممن جالسنا، وأخذنا عنهم العلم، وذكر الإيمان في القدر والوعد والوعيد والإمامة، وما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة، وغير ذلك... إلى أن قال: "وهو سبحانه بائن عن خلقه، لا يخلو من علمه مكان".
ولله عرش، وللعرش حملة يحملونه، وله حد، والله أعلم بحده، والله على عرشه -عَزَّ ذِكره وتعالى جده، ولا إله غيره-. والله سبحانه سميع لا يشك، بصير لا يرتاب، عليم لا يجهل، جواد لا يبخل، حليم لا يعجل، حفيظ لا ينسى، رقيب لا يغفل، يتكلم ويتحرك1 ويسمع(46/75)
__________
1 يعني بالتحرك: ما ورد في مجيئه وإتيانه، وهو في القرآن، ومن نزوله إلى سماء الدنيا في الحديث، ولكن لفظ التحرك لا نعرفه في الكتاب والسنة ولا آثار الصحابة.
ص -153-
ويبصر وينظر، ويقبض ويبسط ويعرج، ويحب ويكره، ويبغض ويرضى، ويسخط ويغضب، ويرحم ويعفو ويغفر، ويعطي ويمنع، وينْزل كل ليلة إلى سماء الدنيا كيف شاء، وكما شاء {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1 إلى أن قال: ولم يزل الله متكلما عالما، فتبارك الله أحسن الخالقين".
قول الإمام الأثرم في مذهب السلف
وقال الفقيه الحافظ أبو بكر الأثرم صاحب الإمام أحمد في كتاب "السنة"، وقد نقله عنه الخلال في "السنة": حدثنا إبراهيم بن الحارث- يعني: العبادي- حدثني الليث بن يحيى، سمعت إبراهيم بن الأشعث: قال أبو بكر صاحب الفضيل: سمعت الفضيل ابن عياض يقول: " ليس لنا أن نتوهم في الله كيف وكيف؟ لأن الله وصف نفسه فأبلغ، فقال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ?} 2.
فلا صفة أبلغ مما وصف به نفسه، وكل هذا النُزول، وهذه المباهاة، وهذا الاطلاع، كما شاء أن ينْزل، وكما شاء أن يباهي، وكما شاء أن يطلع، وكما شاء أن يضحك. فليس لنا أن نتوهم كيف وكيف؟ وإذا قال لك الجهمي: أنا كافر برب يتحرك، أو يزول عن مكانه. فقل: أنا مؤمن برب يفعل ما يشاء.
وقد ذكر هذا الكلام الأخير عن الفضيل بن عياض -رحمه الله- البخاري: -رحمه الله- في كتاب "خلق أفعال العباد"، هو وغيره من أئمة أهل السنة، وتلقوه بالقبول، قال البخاري، وحدث يزيد بن هارون عن الجهمية فقال: "من زعم أن {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 3 على خلاف ما يقر في قلوب العامة، فهو جهمي".
قول إسحاق بن إبراهيم في كتاب السنة
وقال إسحاق بن إبراهيم في كتاب السنة: أخبرني عبيد الله بن(46/76)
حنبل أخبرني أبي حنبل بن إسحاق قال: قال عمي أحمد بن حنبل: " نحن نؤمن بأن الله على العرش كيف شاء بلا حد، ولا صفة يبلغها واصف، أو يحده أحد، فصفات الله له ومنه، وهو
__________
1 سورة الشورى آية: 11.
2 سورة الإخلاص آية:1: 4.
3 سورة طه آية: 5.
ص -154-
كما وصف نفسه، لا تدركه الأبصار بحد ولا غاية، وهو يدرك الأبصار، وهو عالم الغيب والشهادة، وعلام الغيوب، ولا يدركه وصف واصف، وهو كما وصف نفسه.
وليس من الله شيء محدود، ولا يبلغ علم قدرته أحد، غلب الأشياء كلها بقدرته وسلطانه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}1، وكان الله قبل أن يكون شيء. والله هو الأول والآخر لا يبلغ أحد حَدَّ صفاته".
قال: وأخبرني علي بن عيسى أن حنبلا حدثهم، قال: سألت أبا عبد الله عن الأحاديث التي تروى "أن الله -تبارك وتعالى- ينْزل كل ليلة إلى سماء الدنيا." و"أن الله يُرَى." و"أن الله يضع قدمه." وما أشبه هذه الأحاديث.
فقال أبو عبد الله: "نؤمن بها ونصدق بها، ولا كيف ولا معنى" أي: لا نكيفها ولا نحرفها بالتأويل، فنقول: معناها كذا، ولا نرد منها شيئا، ونعلم أن ما جاء به الرسول حق، إذا كان بأسانيد صحاح، ولا نرد على الله قوله، ولا يوصف الله بأكثر مما وصف به نفسه بلا حد ولا غاية {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}2.
وقال حنبل في موضع آخر، عن أحمد، قال: "ليس كمثله شيء في ذاته كما وصف به نفسه، وقد أجمل -تبارك وتعالى- بالصفة لنفسه، فحد لنفسه صفة ليس يشبهه شيء، فصفاته غير محدودة ولا معلومة إلا بما وصف نفسه. قال: فهو سميع بصير بلا حد، ونؤمن بالقرآن كله محكمه ومتشابهه، ولا نزيل عنه صفات من صفاته لشناعة شنعت، لا نتعدى القرآن والحديث، والخبر. "يضحك الله" ولا يُعْلَمُ كيف ذلك إلا بتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم. لا يصفه الواصفون، ولا يحده أحد.(46/77)
تعالى الله عما يقول الجهمية والمُشَبِّهَةُ".
قلت: والمُشَبِّهَةُ ما يقولون؟ قال: "مَنْ قال بصر كبصري، ويد كيدي، وقدم كقدمي. فقد شبه الله بخلقه، وهذا يحده، وهذا كلام سوء، وهذا محدود، والكلام في هذا لا أحبه". انتهى.
__________
1 سورة الشورى آية: 11.
2 سورة الشورى آية: 11.
ص -155-
والكتب الموجودة فيها ألفاظهم الثابتة بأسانيدها عنهم، وغير أسانيدها كثير، مثل: كتاب "الرد على الجهمية" لابن أبي حاتم، والرد عليهم لمحمد بن عبد الله الجعفي شيخ البخاري، والرد عليهم للحكم بن معبد الخزاعي، وكتاب "السنة" لعبد الله بن أحمد بن حنبل، و"السنة" لحنبل بن عم الإمام أحمد، و"السنة" لأبي داود السجستاني، و"السنة" للأثرم، و"السنة" لأبي بكر الخلال، و"الرد على الجهمية" للدارمي، ونقضه على "الكاذب العنيد فيما افترى على الله في التوحيد".
وكتاب "التوحيد" لابن خزيمة، و"السنة" للطبراني ولأبي الشيخ الأصبهاني، و"شرح السنة" للألكائي، و"الإبانة" لابن بطة، وكتب ابن منده، و"السنة" لأبي ذر الهروي، و"الأسماء والصفات للبيهقي"، و"الأصول" لأبي عمر الطلمنكي، وكتاب "الفاروق" لأبي إسماعيل الأنصاري، و"الحجة" لأبي القاسم التيمي..، وغير ذلك من الكتب التي يذكر مصنفوها مذاهب السلف بالنقول الثابتة بألفاظهم الكثيرة المتواترة في إثبات علو الله على خلقه، واستوائه على عرشه تبارك وتعالى.
فكيف يقول هذا الجاهل: "إن تأويل الاستواء متفق عليه إلا عند ابن عربي والمجسمة؟ اللهم إلا أن يريد بالمجسمة أهل السنة والحديث: كالصحابة والتابعين، والأئمة الأربعة وأتباعهم من أهل الحديث وغيرهم كما يلقبهم بذلك الجهمية والمعتزلة؛ فإنهم يسمون كل من أثبت صفات الله مُجَسِّمَاً.
وأما ابن عربي وأمثاله من أهل وحدة الوجود، فهم من غُلاة الجهمية، وإنما حملهم على ذلك المبالغة في إنكار الصفات؛ وذلك أن الجهمية لما(46/78)
أنكروا أن يكون الله تكلم بالقرآن، قالوا: "إن الله خلقه، وأحدثه في بعض الأجسام، فنسبة ذلك إلى الله مجاز، فلزم أن يكون كلام جميع الخلق كلام الله ؛ لأنه خلق ذلك فيهم". ولهذا قال ابن عربي:
سواء علينا نثره نظامه
وكل كلام في الوجودكلامه
ومعلوم أن من خالف ما جاءت به الرسل عن الله بمجرد عقله، فهو أولى بالكفر والجهل والتشبيه، والتجسيم ممن لم يخالف ما جاءت به الرسل، وإنما خالف
ص -156-
ما علم بالعقل؛ إن كان ذلك حقا، كما قال بعض نُفَاةِ الصفات لما تأمل أحوال أصحابه، وحال مثبتيها، قال: لا ريب أن حال هؤلاء عند الله خير من حالنا؛ فإنهم إن كانوا مصيبين نالوا الدرجات العالية، والرضوان الأكبر، وإن كانوا مخطئين، فإنهم يقولون: يا ربّ نحن صدقنا ما دل عليه كتابك وسنة رسولك، إذ لم يتبين لنا بالكتاب والسنة نفي الصفات كما دل كلامك على إثباتها.
فنحن أثبتنا ما دل عليه كلامك، وكلام رسولك محمد صلى الله عليه وسلم، فإن كان الحق بخلاف ذلك، فلم يبين لنا الرسول صلى الله عليه وسلم ما يخالف ذلك، ولم يكن خلاف ذلك مما يعلم ببدائه العقول، بل إن قُدِّرَ أنه حق، فإنما يعلمه الأفراد، فكيف والمخالفون في ذلك يقرون بالحيرة والارتياب.
قال النافي: فإن كنا نحن المصيبين، فإنه يقال لنا: أنتم قلتم شيئا لم آمركم بقوله، وطلبتم علما لم آمركم بطلبه، فالثواب إنما يكون لأهل الطاعة، وأنتم لم تمتثلوا أمري. قال: وإن كنا مخطئين فقد خسرنا خسرانا مبينا.
فصل في إبطال تأويل الاستواء بالاستيلاء
وأما قوله في تأويل الاستواء بالاستيلاء، ويساعده من كلام العرب ما نقله الغزالي من قول الشاعر:
قد استوى عمرو على العراق من غير سيف أو دم مهراق
(فالجواب) أن يقال: أنت قد نقضت كلامك المتقدم، وقولك: ولغة العرب حاكمة بأن حقيقة الاستواء على العرش: الجلوس عليه، وهو القعود مع تعطف الرجلين ورجوع بعضها على(46/79)
بعض.
وبيان ذلك أن الشاعر أخبر أن عمرًا استوى على العراق أي: ملَكه، فتقول: إن معناه جلس على العراق كله، وعطف رجليه على جميعه! فإن قلت هذا، فهذا مكابرة، وإن قلت: إن المعنى باستواء عمرو على العراق: ملكه، فقد نقضت ما أَصّلتَه، وهدمت ما قررته، فأعجب لِبَانٍ يُخَرِّبُ ما بَنَى. ولم تعلم
ص -157-
بجهلك بلغة العرب، وما يجوز على الله، وما يمتنع عليه أن ذلك لا يجوز في حقه -تبارك وتعالى-، وذلك أن الله -تعالى- مُسْتَوْلٍ على الكونيْن والجنة والنار وأهلها. فأيّ فائدة في تخصيص العرش؟ وأيضا الاستيلاء يكون بعد قهر وغلبة، والله تعالى منَزه عن ذلك.
وقد أخرج اللالكائي في "السنة" عن ابن الأعرابي -وهو من أكابر أئمة اللغة- أنه سئل عن معنى: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}1 فقال: هو على عرشه كما أخبر، فقيل: يا أبا عبد الله، معناه استولى؟ فقال: اسكت. لا يقال: استولى على الشيء إلا إذا كان له مضادٌّ، فإذا غلب أحدهما. قيل: استولى.
وقد ذكر غير واحد من أهل العلم أن الاستواء في لغة العرب يطلق على معانٍ متعددة:
(أحدها): بمعنى الاستقرار، كقوله: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ}2.
(ثانيها): بمعنى الاستيلاء، ومنه قول الشاعر:
تركناهم صرعى لنسر وكاسر
فلما علونا واستوينا عليهم
(وثالثها): القصد والإقبال على الشيء، كقول القائل: "كان الأمير يدبر أمر الشام، ثم استوى إلى أهل الحجاز". أي: تحول فعله وتدبيره إليهم.
(رابعها): أنه بمعنى التمام والكمال، كقوله -تعالى-: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى}3 أي: كمل عقله.
فتبين بذلك كذب هذا المفتري وجهله بلغة العرب، وما أحسن ما قال بعضهم: "أكثر ما يفسد الناس نصف متكلم، ونصف متفقه، ونصف متطبب، ونصف نحوي. هذا يفسد الأديان، وهذا يفسد البلدان، وهذا يفسد الأبدان وهذا يفسد اللسان".(46/80)
__________
1 سورة الأعراف آية: 54.
2 سورة هود آية: 44.
3 سورة القصص آية: 14.
ص -158-
فصل نقض حجة الزيدي من كلام من احتج بهم
أما قوله: (وقد ذكر القاضي العلامة إسحاق بن محمد العبدي -رحمه الله- في كتاب "الاحتراس" بعد أن طوَّل بما يشفي الصدور في تقرير حجة المأولين للعرش بالعز، والملك والاستواء بالاستيلاء والقهر. ولكنه كلام طويل تضيق عنه هذه الرسالة، فاقتصرنا على آخر كلامه، قال ما لفظه: (إذا استبان لك ما أشرنا إليه، فأمر الاختيار مفوض إليك. فأما جمهور العدلية من المعتزلة وغيرهم، فقد جنحوا إلى التأويل، ورأوا أن ذلك أوفق وأليق لمن يرد إلى سواء السبيل.
وأما المحافظون على بقاء الظواهر، وكذلك التاركون للتفصيل والتأويل، فقد ظنوا أن في ذلك نوعا من التعطيل، وما التفتوا إلى التأويل، وما يرفع الشبه لا بد منه عند الفريقين، إما في نفس العرش، أو الاستواء عليه، وإما أن يكون التأويل تفصيليا أو إجماليا، وإذا كان لا بد من التأويل، فالتأويل بما يرفع مطالبة الوهم بالكيف، ويقطع مادة تلفته إلى إدراك تلك الحقيقة أحق وأوفق وأليق.
وقد كشفت لك الغطاء في التعيين والتوقف والتأويل، وأنت بعد ذلك مخير على أي جانبيك تميل، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل).
(فالجواب) أن يقال: هذا الذي نقلته من هذا الكلام، قد نقض عليك ما نقلته قبل ذلك بأسطر يسيرة من أن تأويل الاستواء على العرش متفق عليه، إلا عند مثل ابن عربي والمجسمة، وذلك أنه ذكر في كلامه الأقوال في المسألة.
فذكر أن جمهور العدلية من المعتزلة وغيرهم يميلون إلى التأويل. فكلامه يدل على أن بعض المعتزلة يميل إلى القول المقابل لقول أهل التأويل؛ ولهذا قال: وأما المحافظون على بقاء الظواهر، وكذا التاركون للتفصيل والتأويل، فقد ظنوا أن في ذلك نوعا من التعطيل. ثم إنه خيَّر الناظر في كلامه على أي وجه يميل إليه من تلك(46/81)
الأقوال، وإن كان القول الأول هو الأوفق والأليق والراجح عنده. فلو أن هذا المعترض
ص -159-
قال مثل مقالة هذا الرجل لكان أليق به وأوفق.
وأما ما ذكره من كلام الزمخشري وغيره من أئمة المعتزلة. فكلامهم في نفي الصفات، والقول بخلق القرآن مشهور معروف، وليسوا من أئمة العلم والدين المقتدى بهم، بل هم من أئمة البدع والضلال؛ ولهذا نقل عن بشر بن غياث المريسي حديثا عن ابن عباس رضي الله عنهما.
فإذا كان رجاله الذين ينقل عنهم كلام أهل البيت مثل بشر بن غياث المريسي، وأضرابه الذين كفرهم أهل العلم، وبَدَّعُوهم، واشتهروا بينهم بالزندقة والكفر والكذب، تبين لك أن عامة ما ينقله هذا وأشباهه عن أهل البيت كذب وافتراء عليهم. نسأل الله أن ينتقم لأهل البيت ممن كذب عليهم وأبغضهم، وقد قال البخاري -رحمه الله- في كتاب "خلق أفعال العباد": حدثني أبو جعفر، حدثني أحمد بن خالد الخلال، قال: سمعت يزيد بن هارون ذكر أبا بكر الأصم وبشر المريسي، فقال: "هما والله زنديقان، كافران بالرحمن، حلالا الدم".
وقال الخطيب في تاريخه المشهور: "وبشر بن غياث من أصحاب الرأي، أخذ الفقه من أبي يوسف القاضي، إلا أنه اشتغل بالكلام، وجرد القول بخلق القرآن، وحكى عنه أقوالا شنيعة، ومذاهب مستنكرة، أساء أهل العلم قولهم فيه بسببها، وكفره أكثرهم لأجلها". ثم ذكر الخطيب كلام أهل العلم في تكفيره، والأمر بقتله.
وقد صنف علماء السنة مصنفات كثيرة في الرد على بشر المريسي، ونحوه من أئمة الجهمية والمعتزلة. فمن ذلك ما صنفه أبو سعيد عثمان بن سعيد الدارمي الإمام المشهور من طبقة البخاري، ومسلم، والترمذي، وأبي داود، وطبقتهم، وسماه "نقض عثمان بن سعيد، على المريسي الجهمي العنيد، فيما افترى على الله في التوحيد" قال فيه: "وقد اتفقت الكلمة من المسلمين، والكافرين أن الله في السماء، إلا المريسي الضال وأصحابه، حتى الصبيان الذين لم يبلغوا الحنث، قد عرفوه بذلك: إذا(46/82)
ضرب الصبي رفع يده إلى السماء يدعو ربه، وكلامه بالله وبمكانه أعلم من الجهمية"، حدثنا
ص -160-
أحمد بن منيع، حدثنا معاوية، عن شبيب بن شيبة، عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبيه: "يا حصين كم تعبد اليوم؟ قال: سبعة: ستة في الأرض، وواحدا في السماء. قال: فأيهم تعد لرغبتك ورهبتك؟- قال الذي في السماء"1 فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على الكافر إذ عرف أن إله العالمين في السماء.
فحصين الخزاعي في كفره يومئذ كان أعلم بالله الجليل من بشر المريسي وأصحابه مع ما ينتحلون من الإسلام، إذ ميز بين الإله الخالق الذي في السماء، وبين الآلهة والأصنام المخلوقة في الأرض.
(قال): وادعى المعارض -أيضا- أن قول النبي صلى الله عليه وسلم "إن الله ينْزل إلى سماء الدنيا حين يمضي ثلث الليل، فيقول: هل من مستغفر؟ هل من داع؟ هل من تائب؟"2 فادعى أن الله لا ينزل بنفسه، إنما ينْزل أمره ورحمته، وهو على العرش، وبكل مكان من غير زوال؛ لأنه الحي القيوم، والقيوم بزعمه لا يزول.
(قال): فيقال لهذا المعارض: وهذا أيضا من حجج النساء والصبيان، ومن ليس عنده بيان، ولا لمذهبه برهان؛ لأن أمر الله ورحمته ينزلان في كل ساعة ووقت وأوان، فما بال النبي صلى الله عليه وسلم يحد لنُزوله الليل دون النهار؟ ويوقت من الليل شطره أو الأسحار؟ فأمره ورحمته يدعوان العباد إلى الاستغفار؟ أَو يَقْدِرُ الأمر والرحمة أن يتكلما دونه فيقولان: هل من داع فأجيب؟ هل من مستغفر فأغفر؟ هل من سائل فأعطي؟ فإن قررت مذهبك لزمك أن تدعي أن الرحمة والأمر هما اللذان يدعوان إلى الإجابة والاستغفار بكلامهما دون الله. وهذا محال عند السفهاء، فكيف عند الفقهاء؟!
وقد علمتم ذلك، ولكن تكابرون، وما بال رحمته وأمره ينْزلان من عنده شطرا من الليل، ثم لا يمكثان إلا إلى طلوع الفجر، ثم يرفعان؟ لأن رفاعة يرويه في حديثه حتى ينفجر الفجر، وقد علمتم –إن شاء الله-(46/83)
أن هذا التأويل أبطل باطل، ولا يقبله إلا كل جاهل.
__________
1 الترمذي: الدعوات (3483).
2 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (758) , وأحمد (2/433 ,3/43 ,3/94).
ص -161-
وأما دعواك أن تفسير الحي القيوم: الذي لا يزول عن مكانه، ولا يتحرك، فلا يقبل هذا التفسير إلا بأثر صحيح مأثور عن رسول -الله صلى الله عليه وسلم- أو عن بعض أصحابه أو التابعين؛ لأن الحي القيوم يفعل ما يشاء، ويتحرك إذا شاء، ويهبط ويرتفع إذا شاء، ويقبض ويبسط إذا شاء، ويجلس إذا شاء؛ لأن أمارة ما بين الحي والميت التحرك، فكل حي متحرك لا محالة.
ومن يلتفت إلى تفسيرك وتفسير صاحبك مع تفسير نبي الرحمة ورسول رب العزة إذ فسر نزوله مشروحا منصوصا، ووَقّتَ لنُزوله وقتا مخصوصا، لم يدع لك ولا لأصحابك فيه لبسا.
(قال): ثم أجمل المُعارض جميع ما تنكره الجهمية من صفات الله - تعالى- وذاته المسماة في كتابه، وفي آثار رسوله صلى الله عليه وسلم، فعد منها بضعة وثلاثين صفة نسقا، وأخذ يحكم عليها، ويفسرها بما حكم به المريسي، وفسرها وتأولها حرفا حرفا، معتمدا فيها على تفسير الزائغ الجهمي بشر بن غياث المريسي، متسترا عند الجهال بالتشنيع على قوم يؤمنون بها، ويصدقون الله ورسوله فيها بغير تكييف ولا تمثيل.
فزعم أن هؤلاء مؤمنين بها يكيفونها، ويشبهونها بذوات أنفسهم، وأن العلماء -بزعمه- قالوا: ليس في شيء منها اجتهاد رأي ليدرك كيفية ذلك، أو يشبه شيئا منها بشيء مما هو للخلق موجود. قال: وهنا خطأ، كما أن الله ليس كمثله شيء، فكذلك ليس ككيفيته شيء.
قال أبو سعيد: فقلنا لهذا المعارض المشنع: أما قولك: إن كيفية هذه الصفات، وتشبيهها بما هو في الخلق خطأ. فإنا لا نقول: إنه خطأ كما قلت، بل هو عندنا كفر، ونحن بكيفيتها، وتشبيهها بما هو في الخلق موجود أشد اتقاء منكم، غير أنا كما أنا لا نشبهها ولا نكيفها، ولا نكفر بها ولا نكذب(46/84)
بها، ولا نبطلها بتأويل الضلال كما أبطلها إمامك المريسي في أماكن من كتابك.
وأما ما ذكرت من اجتهاد الرأي في تكييف صفات الله. فإنا لا نجيز اجتهاد الرأي في كثير من الفرائض والأحكام التي نراها بأعيننا، ونسمعها في آذاننا، فكيف في صفات الله التي لم ترها العيون، وقصرت عنها الظنون؟ غير أنا
ص -162-
لا نقول فيها كما قال إمامك المريسي: إن هذه الصفات كلها كشيء واحد، وليس السمع منه غير البصر، ولا الوجه منه غير اليد، ولا اليد منه غير النفس، وأن الرحمن ليس يعرف-بزعمكم- لنفسه سمعا من بصر، ولا وجها من يدين، ولابصرا من سمع، هو كله –بزعمكم- سمع وبصر، ووجه ويد، ونفس وعلم، ومشيئة وإرادة، مثل الأرضين والسماء والجبال والتلال والهواء التي لا يعرف لشيء منها شيء من هذه الصفات والذوات.
والله تعالى عندنا متعال أن يكون كذلك، فقد ميز الله في كتابه السمع من البصر، فقال: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى}1، وقال: {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ}2، وقال: {وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ}3، ففرق بين الكلام والنظر دون السمع، فقال عند السماع: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا}4 إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}5، وقال -تعالى-: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ}6، ولم يقل: قد رأى الله، وقال في موضع الرؤية: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ}7، وقال: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ}8، ولم يقل: سمع الله تقلبك، وسمع عملكم. فلم يذكر الرؤية فيما يسمع، ولا السماع فيما يرى، كما أنهما عنده خلاف ما عندكم.
وكذلك قال الله -تعالى-: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا}9، وقال: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي}10 ولم يقل لشيء من ذلك: على سمعي. فكما أنا لا نكيف هذه(46/85)
الصفات، لا نكذب بها كتكذيبكم، ولا نفسرها كباطل تفسيركم. انتهى.
فتأمل -رحمك الله-كلام هذا الإمام بعين البصيرة يتبين لك بطلان كلام هذا المعترض، وكذبه على أهل البيت، وأنه هو وشيعته من أبعد الناس عن اتباعهم، وإنما يتبعون أعداء الملة الإسلامية والطريقة المحمدية، كجهم والمريسي وأحزابهما من أهل البدع والضلال، والله أعلم.
__________
1 سورة طه آية: 46.
2 سورة الشعراء آية: 15.
3 سورة آل عمران آية: 77.
4 سورة المجادلة آية: 1.
5 سورة المجادلة آية: 1.
6 سورة آل عمران آية: 181.
7 سورة الشعراء آية:218، 219.
8 سورة التوبة آية: 105.
9 سورة القمر آية: 14.
10 سورة طه آية: 39.
ص -163-(46/86)
فصل اختلاف أهل البيت في الصفات وغيرها كغيرهم
قال المعترض: (فإن قلت: أنت تروي إجماع أهل البيت في هذه المسائل، وقد عرفت تفرقهم في المذاهب: فمنهم الأشعري، والحنبلي وغير ذلك. قلت: أجل، ولكن لم يحدث التفرق إلا بعد انعقاد إجماع الآل في العصور المتقدمة، ولا يضر ذلك التفرق بعد وشب فروخ من ذكر عن منهج أهل البيت الأولين نشأتهم بين من لم يعرف أهل البيت ولا كتبهم فأخذوا عن العلماء... إلى آخره).
(فالجواب) أن يقال: قد نقضت بكلامك هذا الأصل الذي أصلته، وهو أن جميع أهل البيت لا يخالفون كتاب الله، وأنهم العصمة، وباب حطة، وجميع دلائلك التي استدللت بها من الآيات والأحاديث ينازعك خصومك في دلالتها على ما أردت، وقد تقدم جواب ذلك مبينا. وهذا على التقدير والتّنَزّل؛ وإلا فأكثر هذه الأحاديث التي رويتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد طعن فيها أهل العلم بالإخبار، وبينوا أنها من وضع الكذابين على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإذا كنت قد أقررت أن أهل البيت في هذا الزمان وقبله بأزمنة متطاولة- قد افترقوا وصار بعضهم مع خصومكم. فكذلك أهل البيت في العصر الأول، ودعواك إجماعهم كذب ظاهر.
وهذه نصوص أهل البيت، قد نقلناها لك فيما تقدم من الرد عليك. وهذا ابن عباس -رضي الله عنهما- من أكابر علماء أهل البيت، وقد فسر الاستواء في حقه -تبارك وتعالى- بالاستقرار، كما حكى ذلك مقاتل والكلبي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "استوى بمعنى استقر". وقد ذكر الطبرسي، وهو من أئمة الشيعة في كتاب "مجمع البيان بعلوم القرآن" في تفسير قوله: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ}1 فقال ما لفظه: اختلف فيه على أقوال:
(أحدها): وسع علمه السماوات والأرض. عن ابن عباس ومجاهد،
__________
1 سورة البقرة آية: 255.
ص -164-(46/87)
وهو المروي عن أبي جعفر، وأبي عبد الله، ويقال للعلماء: "كراسي"، كما يقال لهم: "الأوتاد"؛ لأن بهم قوام الدين والدنيا.
(وثانيها): أن الكرسي ههنا: هو العرش. عن الحسن: وإنما سمي كرسيا لتركيب بعضه على بعض.
(وثالثها): أن المراد بالكرسي ههنا الملك والسلطان والقدرة.
(ورابعها): أن الكرسي سرير دون العرش.
وقد روي ذلك عن أبي عبد الله، وقريب منه ما روي عن عطاء، أنه قال: "ما السماوات والأرض عند الكرسي إلا كحلقة في فلاة".
ومنهم من قال: إن السماوات والأرض جميعا على الكرسي، والكرسي تحت العرش، والعرش فوق السماوات.
وروى الأصبغ بن نباتة أن عليا – رضي الله عنه - قال: "السماوات والأرض وما فيهما من مخلوق في جوف الكرسي، وله أربعة أملاك يحملونه بإذن الله تعالى" انتهى. وهذا يبين كذب هذا المعترض على أهل البيت في دعوى الاتفاق منهم في هذه المسائل.
فصل ما قيل في إسرار النبي إلى بعض أزواجه حديثا
وأما قوله في الاعتراض على قول المجيب في قوله: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً}1، ثم ذكر أن مراد السائل من ذلك استظهار ما عند المسؤول، هل يقدم أبا بكر - رضي الله عنه - على علي - رضي الله عنه - في الخلافة أم العكس؟ وأن المجيب أتى بما يعهده من تفسير الآية، فأعرض عن غرض السائل وقصده.
ثم إنه قد اطلع على روايات مسندة أن الحديث الذي أسره رسول الله صلى الله عليه وسلم هي خلافة علي على الأمة، وتقديمه على أبي بكر رضي الله عنه. ثم قال المعترض: وأنا أقول: يُنظر في تصحيح هذه الروايات، وإذا صحت فما فائدة الإسرار بولاية علي رضي الله عنه؟
(فالجواب) أن يقال: هذا المعترض قد كفانا المؤنة في رد هذه الروايات الباطلة، وذكر أنها إذا صحت فما فائدة الإسرار بولاية علي –رضي الله عنه-، وذلك
__________
1 سورة التحريم آية: 3.
ص -165-(46/88)
أن الأمر إذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فعله أو أمر به، لا يقال فيه: فما فائدة الإسرار بذلك؟ بل إذا صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل شيئا أو أمر به، فلا يفعله ولا يأمر به إلا لما فيه من الفائدة العظيمة، والمصلحة العميمة، ولا يقول مثل هذا الكلام إلا من هو من أجهل الجاهلين، وأبطل المبطلين.
كيف يجوز عند من له أدنى مسكة من العقل والدين أن يصح عنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل شيئا أو أمر به، ولا يكون في ذلك فائدة أصلا؟ ولكن هذا شأن أهل البدع والضلال، لا يقدرون رسول الله صلى الله عليه وسلم حق قدره، نعوذ بالله من موجبات غضبه، وأليم عقابه.
فصل رأي الزيدية في الإمامة وغلو الإمامية والباطنية
زعم الزيدية أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على تقديم علي في الخلافة
وأما قوله: (وقد علمنا بالتواتر المعنوي من السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أعلن وأنذر وأفصح وأكثر في تقديم علي رضي الله عنه على غيره من الصحابة -رضي الله عنهم- في الولاية، ولكن أهل البيت بعد علمهم بتقديم علي، لم يخوضوا في جانب من تقدم إلا كخوضه رضي الله عنه من إبانة الحق للأمة، وأنه الأقدم.
والتوجع فقط في مواطن، خروجا منه عن التلبيس والمداهنة في الدين، إذ الحق لله -تعالى- فإذا هو رضي الله عنه قد فرض أنه أسقط حقه، وجب عليه إبانة ما هو لله إذ هو المولى له، فلم يسكت، بل أعلن رضي الله عنه بما يجب عليه، وأهل البيت وصفوة شيعته لم يصنعوا إلا كما صنع علي، فلم يغلوا غلو الإمامية ولا الباطنية، نسأل الله السلامة).
(فالجواب) من وجوه:
(أحدها): أن هذا من أظهر الكذب على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى علي رضي الله عنه، وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره بالأسانيد الثابتة قصة خروج علي والعباس من عند النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي توفي فيه حين قال الناس لعلي: "يا أبا الحسن، كيف أصبح رسول الله صلى(46/89)
الله عليه وسلم؟ فقال: أصبح بحمد الله بارئًا. فقال له العباس –رضي الله عنه-: أنت والله بعد ثلاث عبد العصا، إني لأعرف وجوه بني عبد المطلب عند الموت. اذهب بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نسأله:
ص -166-
فيمن هذا الأمر فإن كان فينا عرفنا ذلك، وإن كان في غيرنا علمناه، فأوصى بنا. فقال علي رضي الله عنه: إنا والله لئن سألناها رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعناها، لا يعطيناها الناس بعده، وإني والله لا أسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم"1 أخرجه البخاري عن إسحاق.
أخبرنا بشر بن شعيب بن أبي حمزة، حدثني أبي عن الزهري، أخبرني عبد الله بن كعب بن مالك الأنصاري، وكان كعب أحد الثلاثة الذين تيب عليهم: أن ابن عباس أخبره أن علي بن أبي طالب خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجعه الذي توفي منه، وذكر الحديث كنحو ما سقناه. وكل هؤلاء الذين رووا هذا الحديث أئمة مشاهير.
(الوجه الثاني): ما أخرجه أحمد والبيهقي بسند حسن، عن علي أنه قال -لما ظهر يوم الجمل-: "أيها الناس، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعهد إلينا في هذه الإمارة شيئا، حتى رأينا من الرأي أن نستخلف أبا بكر، فأقام واستقام حتى مضى لسبيله، ثم إن أبا بكر رأى من الرأي أن يستخلف عمر، فأقام واستقام، ثم ضرب الدين بِجِرَانِهِ، ثم إن أقواما طلبوا الدنيا، فكانت أمور يقضي الله فيها".
(الوجه الثالث): ما روى جمع من أهل الحديث: كالدارقطني وابن عساكر والذهبي وغيرهم: أن عليا أقام بالبصرة حين بايعه الناس، فقام إليه رجلان، فقالا له: أخبرنا عن مسيرك هذا الذي سرت فيه؛ لتستولي على الأمر وعلى الأمة، تضرب بعضها ببعض، أعهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم عهده إليك؟ فحدثنا، فأنت الموثوق به، والمأمون على ما سمعت.
فقال: "أما أن يكون عندي عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فلا، والله لأن كنت أول من صدق به، فلا أكون أول من كذب عليه،(46/90)
ولو كان عندي منه عهد في ذلك ما تركت أخا بني تيم بن مرة، وعمر بن الخطاب يثبان على منبره، ولقاتلتهما بيدي، ولو لم أجد إلا بردي هذه، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يُقْتَلْ قتلا، ولم يمت فجأة، ومكث في مرضه أياما وليالي يأتيه المؤذن فيؤذنه لصلاة، فيأمر أبا بكر، فيصلي بالناس، وهو يرى مكاني.
ولقد أرادت امرأة من
__________
1 البخاري: المغازي (4447) , وأحمد (1/263 ,1/325).
ص -167-(46/91)
نسائه تصريفه عن أبي بكر، فأبى وغضب، وقال: "أنتن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس"1. فلما قبض رسول الله- صلى الله عليه وسلم- نظرنا في أمورنا، فاخترنا لدنيانا مَنْ رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا، وكانت الصلاة أعظم شعائر الإسلام، وقوام الدين، فبايعنا أبا بكر رضي الله عنه فكان لذلك أهلا، لم يختلف عليه منا اثنان- وفي رواية- فأديت إلى أبي بكر حقه، وعرفت له طاعته، وغزوت معه في جنوده، فكنت آخذ إذا أعطاني، وأغزو إذا أغزاني، وأضرب بين يديه الحدود بسوطي.
فلما قُبِضَ رضي الله عنه بايعنا عمر، لم يختلف عليه منا اثنان، فأديت له حقه، وغزوت معه، وعرفت طاعته، وكنت آخذ إذا أعطاني، وأغزو إذا أغزاني، وأضرب بين يديه الحدود بسوطي. فلما قبض رضي الله عنه تذكرت في نفسي قرابتي وسابقتي وفضلي، وأنا أظن أن لا يُعْدَل بي، ولكن خشي أن لا يعمل الخليفة بعده شيئا إلا لحقه في قبره.
فأخرج منها نفسه وولده، ولو كانت محاباة لآثر بها ولده وبرىء منها لرهط أنا أحدهم، فظننت ألا يعدلوا بي، فأخذ عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه مواثيقنا على أن نسمع ونطيع لمن ولاه الله أمرنا، ثم بايع عثمان، فنظرت فإذا طاعتي قد سبقت بيعتي، وإذا ميثاقي قد أخذ لغيري، فبايعنا عثمان، فأديت له حقه، وعرفت له طاعته، وغزوت معه، وكنت آخذ إذا أعطاني، وأغزو إذا أغزاني، وأضرب بين يديه الحدود بسوطي.
فلما أصيب فإذا الخليفتان اللذان أخذاها بعهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهما بالصلاة قد مضيا، وهذا الذي أخذ له ميثاقي قد أصيب، فبايعني أهل الحرمين وأهل هذين المصرين- الكوفة والبصرة- فوثب فيها من ليس مثلي، ولا قرابته كقرابتي، ولا علمه كعلمى، ولا سابقته كسابقتي، وكنت أحق بها منه، يعني: "معاوية". أخرجه هؤلاء الأئمة.
وأخرجه إسحاق بن راهويه من طرق أخرى، قال الذهبي: وهذه طرق يقوي بعضها بعضا، قال: وأصحها ما رواه إسماعيل بن علية، فذكره(46/92)
وفيه: لما قيل لعلي: أخبرنا عن مسيرك، أعهد عهده إليك النبي صلى الله عليه وسلم أم رأي رأيته؟
__________
1 البخاري: الأذان (664) , ومسلم: الصلاة (418) , والترمذي: المناقب (3672) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1232) , وأحمد (6/34 ,6/96 ,6/210 ,6/224 ,6/270) , ومالك: النداء للصلاة (414).
ص -168-
فهذه الطرق كلها عن علي رضي الله عنه متفقة على نفي النص بإمامته، ووافقه على ذلك علماء أهل بيته.
فقد أخرج أبو نعيم عن المثني بن الحسن السبط، أنه لما قيل له: "من كنت مولاه فعلي مولاه" نص في إمامة علي.
فقال: "أما والله لو أراد النبي صلى الله عليه وسلم بذلك الإمارة والسلطان، لأفصح لهم به؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أفصح الناس، ولقال لهم: يا أيها الناس هذا ولي أمري، والقائم عليكم بعدي، فاسمعوا له وأطيعوا. ما كان من هذا شيء، فوالله لئن كان الله ورسوله اختارا عليا لهذا الأمر، والقيام به للمسلمين من بعده، ثم ترك علي أمر الله ورسوله أن يقوم به، أو يعذر فيه للمسلمين، إن كان أعظم الناس خطيئة لعلي إذ ترك أمر الله ورسوله، وحاشاه من ذلك"
وكلام علي وأهل بيته في الثناء على أبي بكر وعمر كثير جدا بعد ما أفضت إليه الخلافة، وتواتر عنه أنه قال: "خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر".
وروى البخاري في صحيحه عن سفيان الثوري عن منذر عن محمد بن الحنفية، قلت لأبي: يا أبت، من خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: "يا بني، أبو بكر". قلت: ثم من؟ قال: "عمر". فخشيت أن يقول: ثم عثمان. فقلت: ثم أنت؟ فقال: "يا بني، إنما أنا رجل من المسلمين". وصح هذا عنه من وجوه كثيرة، وطرق متغايرة يصدق بعضها بعضا.
قال بعض أهل الحديث: إنه رواه عن أكثر من ثمانين نفسا من خواص أصحابه وأهل بيته. فقد تبين بما ذكرنا بطلان دعوى المعترض أن رسول الله صلى الله عليه(46/93)
وسلم نص على إمامته. فإذا ادعوا أن هذا مكذوب على أهل البيت، أمكن خصومهم أن يدعوا الكذب فيما رووه عن أهل البيت.
والدلائل الصحيحة التي احتجوا بها على النص على إمامة علي رضي الله عنه كقوله -تعالى-: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ}1، وكحديث غدير خم وقوله: "من كنت مولاه فعلي مولاه" فكل هذا ليس بصريح في
__________
1 سورة المائدة آية: 55.
ص -169-
النص على إمامته، والله -تبارك وتعالى- قد فرض على رسوله صلى الله عليه وسلم البلاغ المبين الذي يفهمه عامة الناس وخاصتهم، وتلك الدلائل معارضة بما هو أصح منها وأصرح، لكن هؤلاء لا يقبلون رواية أهل السنة، فلا حاجة إلى الإطالة بذكرها.
(الوجه الرابع): أن دعواهم النص على إمامته رضي الله عنه قد عارضها أقوام ادعوا النص على العباس، وعلى غيره، فالدعاوي الباطلة تمكن كل واحد. وقد قال الإمام أبو محمد بن حزم في كتاب "الملل والنحل".
"اتفق جميع فرق أهل القبلة، وجميع المعتزلة وجميع المرجئة، وجميع الشيعة، وجميع الخوارج- حاشا النجدات من الخوارج خاصة1 -على وجوب الإمامة فرضا، وأن على الأمة الانقياد لإمام عدل يقيم فيهم أحكام الله عز وجل ويسوسهم بأحكام الشريعة.
مذاهب فرق المسلمين في الإمامة
ثم اختلف القائلون بوجوب الإمامة على فرقتين: فذهب أهل السنة، وجميع الشيعة، وجمهور المرجئة، وبعض المعتزلة إلى أن: الإمامةلا تجوز إلا في قريش، خاصة مَنْ كان مِنْ ولد فهر بن مالك. وذهبت الخوارج كلها، وبعض المرجئة، وبعض المعتزلة إلى أنها جائزة في كل من قام بالكتاب والسنة، قرشيا كان أو عربيا أو عجميا. قال أبو محمد: وبوجوب الإمامة في ولد فهر بن مالك نقول؛ لنص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن الأئمة من قريش.
وهذه رواية جاءت مجيء التواتر، رواها أنس بن مالك، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، ومعاوية رضي الله عنهم، وروى (جابر) بن(46/94)
عبد الله، وجابر بن سمرة، وعبادة بن الصامت –رضي الله عنهم- معناها.
ومما يدل على معناها إذعان الأنصار يوم السقيفة، وهم أهل الدار والمنعة والعدد والسابقة في الإسلام -رضي الله عنهم-، ومن المحال الممتنع الباطل أن يتركوا اجتهادهم لاجتهاد غيرهم لولا قيام الحجة عليهم بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن الحق لغيرهم في ذلك.
ثم قال: ولا يخلو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأئمة من قريش"2 من أحد
__________
1 وهم المنسوبون إلى نجدة بن عمير الحنفي القائم باليمامة.
2 أحمد (3/129).
ص -170-(46/95)
وجهين لا ثالث لهما: إما أن يكون أمرا، وإما أن يكون خبرا، فإن كان أمرا، فمخالف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسق، وعمله مردود، وإن كان خبرا، فمجيز تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم كافر.
اختلاف الفرق في الإمامة
ثم اختلف القائلون بأن الإمامة لا تكون إلا في صلبة قريش، فقالت طائفة: هي جائزة في جميع ولد فهر بن مالك فقط، وهذا قول أهل السنة، وجميع المرجئة، وبعض المعتزلة.
وقالت طائفة: لا تجوز الخلافة إلا في ولد جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، ثم قصروها على عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر.
وقال بعض بني الحارث بن عبد المطلب: لا تجوز الخلافة إلا لبني عبد المطلب خاصة، وهم أربعة فقط لم يعقب لعبد المطلب غيرهم، وهم: العباس والحارث وأبو طالب وأبو لهب. وبلغنا عن رجل من أهل طبرية الأردن: لا تجوز الخلافة إلا في بني أمية بن عبد شمس، وكان له في ذلك تأليف مجموع. ورأينا كتابا مؤلفا لرجل من ولد عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحتج فيه بأن الخلافة لا تجوز إلا في ولد أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- فقط.
قال أبو محمد: "وهذه الفرق الأربعة لم نجد لهم شبهة تستحق أن يشتغل بها إلا دعاوي كاذبة، لا وجه لها مع انقطاع القائلين بها ودثورهم".
وقالت طائفة: لا تجوز الخلافة إلا في ولد العباس، وهو قول الراوندية1، واحتجوا بأن العباس كان عاصب رسول الله صلى الله عليه وسلم ووارثه. قالوا: فإذا كان كذلك، فقد ورث مكانه، وهذا ليس بشيء؛ لأن الميراث لو صح له، لما كان ذلك إلا في المال خاصة، وأما المرتبة فما جاء قط في الديانة أنها تورث، فبطل هذا التمويه جملة، ولله الحمد.
وقد صح بإجماع جميع أهل القبلة- حاشا الروافض- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنا لا نورث، ما تركناه صدقة"2 فاعترضوا بقول الله عز وجل: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ}3 وقوله -تعالى- حاكيا عن زكريا: {فَهَبْ لِي مِنْ(46/96)
__________
1 نسبة إلى ابن الراوندي.
2 البخاري: المناقب (3712) والمغازي (4036 ,4241) والفرائض (6725 ,6730) , والترمذي: السير (1610) , وأبو داود: الخراج والإمارة والفيء (2968) , وأحمد (1/48) , ومالك: الجامع (1870).
3 سورة النمل آية: 16.
ص -171-
لَدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ}1.
وهذا لا حجة لهم فيه؛ لأن الرواة، وحملة الأخبار، وجميع التواريخ القديمة، وكواف بني إسرائيل ينقلون بلا خلاف نقلا يوجب العلم: أن داود –عليه السلام- كان له بنون ذكور جماعة غير سليمان؛ فصح أن سليمان ورث النبوة، وهكذا القول في ميراث يحيى بن زكريا -عليهما السلام- وبرهان ذلك من نص الآية نفسها قول زكريا -عليه السلام-: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ}2.
فأي شيء كان يرث من آل يعقوب؟ لكل سبط من أسباط يعقوب عصبات عظيمات، وهم مئو ألوف، فصح أنه إنما رغب في ولد يرث عنه، وعن آل يعقوب النبوة فقط. وأيضا فمن المحال أن يرغب زكريا في ولد يحجب عصبته عن ميراث إذ إنما يرغب في هذا ذو الحرص على الدنيا وحطامها.
وقد كان العباس حيا قائما إذ مات رسول الله صلى الله عليه وسلم فما ادعى العباس لنفسه في ذلك حقا، لا حينئذ، ولا بعد ذلك. فصح أنه رأي محدث فاسد لا وجه للاشتغال به، وما رضيه أحد قط من خلف ولده، ولا من أماثلهم ترفعا عن سقوط هذه الدعوى ووهنها، وبالله التوفيق.
مذهب الروافض والزيدية في الإمامة
وأما القائلون بأن الإمامة لا تكون إلا في ولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه فإنهم انقسموا قسمين: فقالت طائفة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نص على علي رضي الله عنه بأنه الخليفة بعده. وإن الصحابة -رضي الله عنهم- بعد موته اتفقوا على ظلم علي رضي الله عنه وعلى كتمان ذلك النص. وهؤلاء هم الروافض.
وطائفة قالت: لم ينص النبي صلى الله عليه وسلم على علي، لكنه كان(46/97)
أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحقهم بالخلافة، وهؤلاء هم الزيدية "نسبوا إلى زيد بن علي بن الحسين رضي الله عنهم"، ثم اختلفت الزيدية فرقا، فقالت طائفة أن الصحابة ظلموه، فكفروا كل من خالفه من الصحابة -رضي الله عنهم- وهم الجارودية.
وقالت طائفة: لم يظلموه، لكن طابت نفسه بتسليم حقه إلى أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- وأنهما إماما هدى، ووقف بعضهم في عثمان –رضي الله عنه- وتولاه بعضهم. وجميع الزيدية لا يختلفون في أن الإمامة في جميع بني
__________
1 سورة مريم آية:5، 6.
2 سورة مريم آية: 6.
ص -172-(46/98)
علي بن أبي طالب رضي الله عنه، من خرج منهم يدعو إلى الكتاب والسنة، وجب سل السيف معه.
وقالت الروافض بأجمعهم: الإمامة في علي رضي الله عنه وحده بالنص عليه، ثم في الحسن، ثم في الحسين رضي الله عنهما. وادعوا نصا آخر من النبي صلى الله عليه وسلم عليهما بعد أبيهما، ثم علي بن الحسين؛ لقول الله –عز وجل-: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ}1.
قالوا: فولد الحسين أحق من بني أخيه الحسن، ثم محمد بن علي بن الحسين، ثم في جعفر بن محمد، ثم افترقت الرافضة بعد موت هؤلاء المذكورين وموت جعفر بن محمد. فقالت طائفة بإمامة ابنه إسماعيل بن جعفر وادعوا أنه حي لم يمت، والذي لا شك فيه أنه مات في حياة أبيه، وهو كان أكبر بنيه. وقالت طائفة بإمامة ابنه محمد بن جعفر. وقالت طائفة جعفر بن محمد حي لم يمت.
وقال جمهور الروافض بإمامة ابنه موسى بن جعفر، ثم علي بن موسي، ثم محمد بن علي بن موسى، ثم علي بن محمد بن على بن موسى، ثم الحسن بن علي، ثم مات الحسن عن غير عقب، فافترقوا فرقا، وثبت جمهورهم على أنه ولد للحسن ولد فأخفاه، وقيل: بل ولد له بعد موته من جارية له اسمها صقيل.
وكانت طائفة قديمة رئيسهم المختار بن أبي عبيد الثقفي، وكيسان المكنى بأبي عمرة وغيرهم، يذهبون إلى أن الإمام بعد الحسين بن على رضي الله عنه أخوه محمد المعروف بابن الحنفية، ومن هذه الطائفة السيد بن إسماعيل الحميري الشاعر، وكثير عزة الشاعر، وكانوا يقولون: إن محمد بن الحنفية حي بجبل رضوى، ولهم من التخليط ما تضيق عنه الصحف الكثيرة.
وعمدة هذه الطوائف كلها في الاحتجاج أحاديث مكذوبة ;موضوعة، لا يعجز عن توليد مثلها من لا دين له ولا حياء.
قال أبو محمد: " لا معنى لاحتجاجنا عليهم برواياتنا، فهم لا يصدقونها، وإنما يجب أن
__________
1 سورة الأنفال آية: 75.
ص -173-(46/99)
يحتج الخصوم بعضهم على بعض بما يصدقه الذي تقام به عليه الحجة سواء صدقه المحتج به أو لم يصدقه؛ لأن من صدق شيئا لزمه القول به، أو بما يوجب العلم الضروري، فيصير الخصم حينئذ –إن خالفه- مكابرا بالباطل منقطعا.
إلا أن بعض ما يشغبون به أحاديث صحيحة، منها: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: "أنت مني بمنْزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي"1.
قال أبو محمد: "وهذا لا يوجب فضل علي على من سواه، ولا استحقاق الإمامة بعده؛ لأن هارون -عليه السلام- لم يل أمر بني إسرائيل بعد موسى –عليهما السلام- وإنما ولي الأمر بعد موسى –عليه السلام- فتاه يوشع بن نون، وهو صاحبه الذي سافر معه في طلب الخضرعليهما السلام. كما ولي الأمر بعد رسول الله –صلى الله عليه وسلم- صاحبه في الغار الذي سافر معه إذ هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
وإذا لم يكن علي نبيا كما كان هارون، ولا كان هارون خليفة على بني إسرائيل بعد موسى -عليهما السلام-، فقد صح أن كونه من رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنْزلة هارون من موسى -عليهما السلام- إنما هو في القرابة فقط.
وأيضا فإنما قال رسول -الله صلى الله عليه وسلم- هذا القول إذ استخلفه على المدينة في "غزوة تبوك"، فقال المنافقون: استثقله فَخَلَّفَهُ. فلحق علي رضي الله عنه برسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ، فشكا إليه، فقال- صلى الله عليه وسلم-: "أنت مني بمنْزلة هارون من موسى"2 لاستخلافه إياه على المدينة مختارا له.
ثم قد استخلف صلى الله عليه وسلم قبل تبوك وبعدها على المدينة في غزواته وعُمَرِهِ وحجه رجالا سوى علي رضي الله عنه فصح أن هذا الاستخلاف لا يوجب لعلي فضلا على غيره ممن استخلفه، ولا يوجب -أيضا- ولاية الأمر بعده صلى الله عليه وسلم كما لم يوجب ذلك لغيره من المستخلفين.
قال أبو محمد: " وعمدة ما احتجت به الإمامية أنه لا بد أن يكون إمام معصوم، عنده جميع علم الشريعة، يرجع الناس(46/100)
إليه في أحكام الدين؛ ليكونوا مما تعبدوا به على يقين.
قال أبو محمد: " هذا لا شك فيه، وهو معروف ببراهينه الواضحة، وأعلامه
__________
1 البخاري: المغازي (4416) , ومسلم: فضائل الصحابة (2404) , والترمذي: المناقب (3731) , وابن ماجه: المقدمة (121) , وأحمد (1/175 ,1/177 ,1/179 ,1/182 ,1/184 ,1/185).
2 البخاري: المغازي (4416) , ومسلم: فضائل الصحابة (2404) , والترمذي: المناقب (3731) , وابن ماجه: المقدمة (121) , وأحمد (1/175 ,1/177 ,1/179 ,1/182 ,1/184 ,1/185).
ص -174-(46/101)
المعجزة وآياته الباهرة، وهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب رسول الله إلينا ببيان دينه الذي ألزمنا إياه صلى الله عليه وسلم فكان كلامه، وعهوده وما بَيَّنَ وبلغ من كلام الله عز وجل حجة باقية معصومة من كل آفة إلى كل من بحضرته، وإلى من كان في حياته غائبا عن حضرته، وإلى كل من يأتي بعد موته صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة من جن وإنس، قال عز وجل: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ}1.
فهذا نص ما قلنا، وإبطال اتباع أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما الحاجة إلى فرض الإمامة؛ لينفذ الإمام عهود الله –عز وجل- الواردة إلينا من عنده فقط، لا لأن يأتي الناس بما لا يشاؤونه في معرفته من الدين الذي أتاهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ووجدنا عليا رضي الله عنه إذا دعي إلى التحاكم بالقرآن، أجاب، وأخبر أن التحاكم إلى القرآن حق، فإن كان علي رضي الله عنه أصاب في ذلك فهو قولنا، وإن كان أجاب إلى الباطل، فهذه غير صفته رضي الله عنه. ولو كان التحاكم إلى القرآن لا يجب إلا بحضرة الإمام؛ لقال علي حينئذ: كيف تطلبون تحكيم القرآن، وأنا الإمام المبلغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
دحض ابن حزم شبهة الروافض في الإمام المعصوم
فإن قالوا: إذ مات رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا بد من إمام يبلغ الدين. قلنا: هذا باطل، ودعوى بلا برهان، وقول لا دليل على صحته، وإنما الذي يحتاج إليه أهل الأرض من رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو بيانه صلى الله عليه وسلم وتبليغه فقط، سواء في ذلك من كان بحضرته، ومن غاب عنه، ومن جاء بعده، إذ ليس في شخصه المقدس صلى الله عليه وسلم إذا لم يتكلم أو يعمل بيان عن شيء من الدين فالمراد عنه صلى الله عليه وسلم +ق أبدا مبلغ إلى كل من في الأرض.
وأيضا فلو كان ما قالوا من الحاجة إلى إمام موجود أبدا؛ لكان(46/102)
ذلك مُنْتَقَضًا عليهم بمن كان غائبا عن حضرة الإمام في أقطار الأرض، إذ لا سبيل
__________
1 سورة الأعراف آية: 3.
ص -175-
إلى مشاهدة الإمام لجميع أهل الأرض في المشرق والمغرب، من فقير وضعيف، وامرأة ومريض، ومشغول بمعاشه الذي يهلك إن أغفله، فلا بد من التبليغ عن الإمام. فالتبليغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بالاتباع من التبليغ عمن دونه. وهذا ما لا انفكاك منه.
قال أبو محمد: "لا سيما وجميع أئمتهم الذين يدعون بعد علي بن أبي طالب، والحسن والحسين ابنيه -رضي الله عنهم- ما أمروا قط في غير منازل سكناهم، ولا حكموا على قرية فما فوقها بحكم. فما الحاجة إليهم لا سيما منذ مائة ونيف وثمانين عاما! فإنهم ينتظرون إماما ضالة من الضوال، لم يُخلق كعنقاء مغرب، هم أولو فحش وقِحَةٍ وبهتان، ودعوى كاذبة لا يعجز عنها أحد.
"ويقال لهم -أيضا-: كون الدين كله عند إمام واحد معصوم من حين موت النبي صلى الله عليه وسلم إلى انقضاء الدهر، لا يخلو من أن يكون أحكام الدين عند ذلك الإمام من أحد ثلاثة أوجه لا رابع لها: إما عن وحي من الله عز وجل فهذه نبوة. ومن قال بنبوة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم غير المسيح، فقد كفر وارتد وحل دمه.
أو عن إلهام، وهذا وسواس من الشيطان، وليس هو أولى بدعوى الإلهام من غيره، أو بتعليم من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم سائر الناس بما أعلم به علي بن أبي طالب، فعليّ وغيره في ذلك سواء ولا فرق، وإن كان صلى الله عليه وسلم كتم من سائر الناس ما علمه علي بن أبي طالب، فلم يبلغ كما أُمِرَ.
قال -تعالى-: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}1 فمن قال: إنه صلى الله عليه وسلم لم يبين للناس ما أنزل الله إليه، بل كتمهم إياه، وخص به علي بن أبي طالب سرا، فقد كفر إذ وصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه عصى أمر(46/103)
ربه -تعالى- له بالبيان للناس جهارا. فبطل ما ادعوه يقينا من كل وجه، والحمد لله رب العالمين.
"وأيضا فنقول لهؤلاء المخاذيل، وبالله التوفيق: هل بيَّن هؤلاء ما ادعوه من
__________
1 سورة النحل آية: 44.
ص -176-
الدين أو لم يبينوا؟ ولا بد من أحدهما، فإن قالوا: بينوا ما عندهم. قلنا: وتبيين أولهم يكفي عن الآخر منهم؛ لأنه يصير ما بين عند الناس ينقلونه جيلا عن جيل، فبطلت الحاجة إليهم. فإن قالوا: لم يبينوا –وهو قولهم- لأنهم عندهم صامتون حتى يأتي الإمام الناطق (الثاني عشر).
قلنا لهم: فهل حاقت بهم اللعنة من الله -تعالى- بنص القرآن إذ لم يبينوا ما عندهم من الهدى. وبالجملة فما أمة أحمق من الروافض والنصارى جملة.
قال أبو محمد: "وبرهان آخر ضروري، وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وجمهور الصحابة -رضي الله عنهم- حضور- حاشا مَنْ كان منهم في النواحي- فما منهم أحد أشار إلى الناس في علي بكلمة يذكر فيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نص عليه، ولا ادعى ذلك علي رضي الله عنه قط، لا في ذلك الوقت ولا بعده، ولا ادعاه أحد له، ولا بعده في ذلك الوقت.
ومن المحال الممتنع الذي لا يمكن البتة، ولا يجوز اتفاق أكثر من عشرين ألف إنسان متنابذي الهمم والنيات والأنساب، أكثرهم موتور من صاحبه في الدماء من الجاهلية على طي عهده صلى الله عليه وسلم إليهم. وما وجدنا قط رواية عن أحد بهذا النص المدعى، إلا رواية موضوعة واهية عن قوم مجهولين، لا يعرفهم أحد، عن مجهول يكني أبا الحمراء لا يُعرف من هو، ووجدنا عليا -رضي الله- عنه قد توقف عن بيعة أبي بكر رضي الله عنه ستة أشهر، فما أكرهه أبو بكر على البيعة حتى بايع طائعا مبادرا، راجعا عن تأخره عنها، مختارا غير مكره. فكيف حل لعلي عند هؤلاء النوكى أن يبايع طائعا لرجل كافر أو فاسق، جاحد لنص رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يعينه على(46/104)
أمره، وأن يشاهد في مجلسه، وأن يواليه إلى أن مات.
ثم بايع بعده عمر بن الخطاب رضي الله عنه مبادرا غير متردد ساعة فما فوقها، غير مكره، بل طائعا، وصحبه وأعانه على أمره، وأنكحه ابنته من فاطمة رضي الله عنها، ثم قبل إدخاله في الشورى أحد ستة رجال؟ فكيف حل لعلي –رضي الله عنه- عند هؤلاء الجهال أن
ص -177-
يشارك بنفسه في شورى ضلالة أو كفر، وأن يغر الأمة هذا الغرور؟ هذا الأمر أدى أبا كامل- وهو من أئمة الروافض- إلى تكفير علي؛ لأنه زعم أنه أعان الكفار على كفرهم، وأيدهم على كتمان الديانة، وعلى ستر ما لا يتم الدين إلا به.
البراهين على بطلان دعوى النص على إمامة علي
قال أبو محمد: "ولا يجوز أن يظن بعلي رضي الله عنه أنه أمسك عن ذكر النص عليه خوف الموت، وهو الأسد شجاعة، قد عرض نفسه للموت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم مرات، ثم يوم الجمل وصفين، فما الذي جبنه بين هاتين الحالتين؟
وما الذي ألف بين بصائر الناس على كتمان حق علي رضي الله عنه ومنعه حقه مذ مات رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن قتل عثمان، رضي الله عنه؟ ثم ما الذي جلى بصائرهم في عونه إذ دعا لنفسه، فقامت معه طوائف من المسلمين عظيمة، وبذلوا دماءهم دونه، ورأوه حينئذ صاحب الأمر، والأولى بالحق ممن نازعه؟ فما الذي منعه، ومنعهم من الكلام، وإظهار النص الذي يدعيه الكذابون إذ مات عمر رضي الله عنه وبقي الناس بلا رأس ثلاثة أيام، أو يوم السقيفة؟
وأظرف من هذا كله بقاؤه ممسكا عن بيعة أبي بكر رضي الله عنه ستة أشهر، فما سُئِلَهَا، ولا أجبر عليها ولا كلفها، وهو متصرف بينهم في أموره، فلولا أن رأى الحق فيها، فاستدرك أمره، فبايع طالبا حظ نفسه في دينه، راجعا عن الخطأ إلى الحق- لما بايع.
فإن قالت الروافض: إنه بعد ستة أشهر رأى الرجوع عن الحق إلى الباطل، فقولهم هو الباطل حقا، لا ما فعل علي رضي الله عنه, ثم ولي علي رضي الله عنه فما غير حكما من(46/105)
أحكام أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، ولا أبطل عهدا من عهودهم، ولو كان ذلك عنده باطلا، لما كان في سعة من أن يمضي الباطل وينفذه، وقد ارتفعت التقية عنه.
وأيضا فقد نازع الأنصار -رضي الله عنهم- أبا بكر رضي الله عنه ودعوا إلى بيعة سعد بن عبادة. ودعا المهاجرون إلى بيعة أبي بكر رضي الله عنه، وقعد علي رضي الله عنه في بيته، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، ليس معه أحد غير الزبير بن العوام رضي الله عنه
ص -178-(46/106)
ثم استبان الحق للزبير فبايع سريعا، وبقي علي وحده لا يرقب عليه، ولا يمنع من لقاء الناس، ولا يمنع أحد من لقائه.
فلا يخلو رجوع الأنصار كلهم إلى بيعة أبي بكر رضي الله عنه من أن يكون عن أحد ثلاثة أوجه، لا رابع لها البتة: إما عن غلبة، وإما عن ظهور حقه إليهم، فأوجب عليهم الانقياد لبيعته، وإما فعلوا ذلك مطارفة لغير معنى. فإن قالوا: بايعوه بغلبة، ظهر فاحش كذبهم؛ لأنه لم يكن هناك قتال ولا تضارب، ولا سباب ولا تهديد، ولا وقت طويل ينفسح للوعيد، ولا سلاح مأخوذ، ومن المحال الممتنع أن يترك أزيد من ألفي فارس أنجاد أبطال، كلهم عشيرة واحدة، وقد ظهر من شجاعتهم ما لا مرمى وراءه، وهو أنهم بقوا ثمانية أعوام متصلة محاربين لجميع العرب في أقطار بلادهم، مُوَطَّنِين على الموت، متعرضين مع ذلك لحرب قيصر والروم بمؤتة وغيرها، ولحروب كسرى والفرس ببصرى، من يخاطبهم يدعوه ويدعوهم إلى اتباعه، وأن يكونوا كأحد من بين يديه. هذه صفة الأنصار التي لا ينكرها إلا رقيع مجاهر بالكذب.
"فمن المحال الممتنع الذي لا يمكن ألبتة أن يرهبوا أبا بكر ورجلين أتيا إلى مجلسهم فقط، وأبو بكر رضي الله عنه لا يرجع إلى عشيرة كثيرة، ولا إلى موالي، ولا إلى عصبة، ولا إلى مال، فرجعوا إليه- وهو عندهم مبطل- وبايعوه بلا تردد نصف يوم فأكثر.
وكذلك يبطل أن يرجعوا عن قولهم، وما كانوا قد رأوه من أن الحق حقهم، وعن بيعة ابن عمهم مطارفة بلا معنى ولا خوف ولا ظهور الحق إليهم.
فمن المحال اتفاق أهواء هذا العدد العظيم على ما يعرفون أنه باطل دون خوف يضطرهم إلى ذلك، ودون طمع يتعجلونه من مال أو جاه، بل فيما فيه ترك العز والرياسة والدنيا، وتسليم كل ذلك لرجل أجنبي لا عشيرة له ولا منعة، ولا حاجب ولا حراس على بابه، ولا قصر يمنعه ولا موالي ولا مال، فأين كان علي وهو الذي لا نظير له في
ص -179-(46/107)
الشجاعة، ومعه جماعة بني هاشم، وبني المطلب من قتل هذا الشيخ الذي لا دافع دونه لو كان عنده ظالما، أو عن منعه وزجره إن لم يستحل قتله؟ بل قد علم -والله-علي أن أبا بكر رضي الله عنه على الحق، وأن من خالفه على الباطل، فأذعن للحق إذ تبينه بعد ما عرضت له فيه كبوة.
وكذلك الأنصار -رضي الله عنهم- إنما رجعوا إلى بيعته بلا شك ولا مرية؛ لبرهان حق صح عندهم عن النبي صلى الله عليه وسلم لا لاجتهاد كاجتهادهم، ولا لظن كظنهم إذ لم يبق غير ذلك، وبطل كل ما سواه يقينا.
"وإذ قد بطل أن يكون الأمر في الأنصار، وزالت الرياسة عنهم. فما الذي حملهم كلهم أولهم عن آخرهم على أن يتفقوا على جحد نص النبي صلى الله عليه وسلم على إمامة علي رضي الله عنه؟
ومن المحال الممتنع أن تتفق آراؤهم كلهم على معاونة من ظلمهم، وغصبهم حقهم بالباطل، إلا أن يدعي الروافض أنهم كلهم اتفق لهم نسيان ذلك العهد. فهذه أعجوبة من المحال غير ممكنة، ثم لو أمكنت، لجاز لكل أحد أن يدعي فيما شاء من المحال أنه قد كان، وأن الناس كلهم نسوه، وهذا إبطال الحقائق كلها.
"وأيضا فإن كان جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اتفقوا على جحد ذلك النص وكتمانه، واتفقت طبائعهم كلهم على نسيانه، فمن أين وقع إلى الروافض علمه؟ ومن بلغه إليهم؟ وهذا هوس و محال. فبطل الأمر في دعوى النص على علي رضي الله عنه بيقين لا يشك فيه، والحمد لله رب العالمين.
"فإن قال قائل: إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان قد قتل الأقارب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتولد له بذلك حقد في قلوب جماعة من الصحابة رضي الله عنهم؛ فلذلك انحرفوا عنه. قلنا لهم: هذا تمويه ضعيف كاذب؛ لأنه إن ساغ لكم في بني عبد شمس، وبني مخزوم، وبني عبد الدار، وبني عامر بن لؤي؛ لأنه قتل من كل قبيلة من هذه القبائل رجلا أو رجالا، فقتل من بني عامر بن لؤي رجلا
ص -180-(46/108)
واحدا فقط، وهو عمرو بن عبد ود، وقتل من بني مخزوم وبني عبد الدار رجالا، وقتل من بني عبد شمس الوليد بن عتبة بن ربيعة، وقيل: إنه قتل عقبة بن أبي معيط، وقيل: لم يقتله إلا عاصم بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه.
ولا مزيد فقد علم كل من له أقل علم بالأخبار أنه لم يكن لهذه القبائل، ولا لأحد منها يوم السقيفة عقد ولا حل، ولا رأي ولا أمر، اللهم إلا أن أبا سفيان بن حرب بن أمية كان مائلا إلى علي رضي الله عنه في ذلك تعصبا للقرابة لا تدينا، وكان ابنه يزيد، وخالد بن سعيد بن العاص، والحارث بن هشام المخزومي -رضي الله عنهم- مائلين مع الأنصار تدينا، والأنصار -رضي الله عنهم- قتلوا أبا جهل أخا الحارث.
وكان محمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة شديد الميل إلى علي رضي الله عنه حين قصة عثمان رضي الله عنه وبعد ذلك؛ ولذلك قتله معاوية رضي الله عنه صبرا على عثمان –رضي الله عنه-.
فعرفونا من قتل علي من بني تيم بن مرة، أو من بني عدي بن كعب، أو من بني الحارث بن فهر رهط أبي عبيدة –رضي الله عنه- حتى يظن أهل القحة أنهم حقدوا عليه؟
ثم أخبرونا من قتل علي من الأنصار -رضي الله عنهم- أو من جرح منهم، أو من آذى منهم؟ ألم يكونوا معه في تلك المشاهد كلها، بعضهم متقدم، وبعضهم مساو له، وبعضهم متأخر عنه؟ فأي حقد له في قلوب الأنصار حتى يطبقوا كلهم على جحد النص عليه، وعلى إبطال حقه، وعلى ترك ذكر اسمه جملة، وعلى إيثار سعد بن عبادة عليه، وعلى إيثار أبي بكر وعمر وعثمان -رضي الله عنهم- عليه، والمسارعة إلى بيعتهم دونه بالخلافة، وهو بين أظهرهم، يرونه غدوا وعشيا، لا يحول أحد بينهم وبينه؟
ثم أخبرونا مَنْ قتل علي مِنْ أقارب المهاجرين من العرب من مضر وربيعة، واليمن وقضاعة حتى يطبقوا كلهم على كراهة ولايته، ويتفقوا كلهم على جحد النص عليه؟ وإن هذه العجائب لا يمكن اتفاق مثلها في العالم أصلا
ص -181-(46/109)
"ولقد كان لطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص من القتل في المشركين كالذي كان لعلي، فما الذي خصه باعتقاد الأحقاد له لو كان للروافض حياء وعقل؟ ولقد كان لأبي بكر رضي الله عنه في مضادة قريش في الدعاء إلى الإسلام ما لم يكن لعلي، فما منعهم ذلك من بيعته، وهو أسوأ الناس أثرا عندهم في حال كفرهم. ولقد كان لعمر بن الخطاب رضي الله عنه في مغالبة كفار قريش، وإعلانه الإسلام على زعمهم ما لم يكن لعلي.
فليت شعري! ما الذي اذهب آثار هؤلاء، وأوجب أن ينسى، وأوجب أن يعادوا عليا من بينهم كلهم؟ لولا قلة حياء الروافض، وصفاقة وجوههم، حتى بلغ الأمر بهم إلى أن عدوا على سعد وأسامة وابن عمر رضي الله عنهم، وعلى رافع بن خديج، ومحمد بن مسلمة، وزيد بن ثابت، وأبي هريرة، وأبي الدرداء، وجماعة من الصحابة –رضي الله عنهم- سواء هؤلاء من المهاجرين والأنصار- أنهم لم يبايعوا عليا إذ دعا إلى نفسه، ثم بايعوا معاوية –رضي الله عنه، - ويزيد ابنه- من أدركه منهم- وادعوا أن تلك الأحقاد حملتهم على ذلك.
قال أبو محمد: حمق الروافض، وشدة ظلمة جهلهم وقلة حيائهم هورهم في الدمار والبوار، والعار والنار، وقلة المبالاة بالفضائح.
وليت شعري! أيُّ خُمَاشة، وأي كلمة خشنة كانت بين علي وبين هؤلاء أو واحد منهم؟ وإنما كان هؤلاء، ومن جرى مجراهم لا يرون بيعة في فرقة، فلما أصفق المسلمون على من أصفقوا عليه كائنا ما كان، دخلوا في الجماعة، وهكذا فعل من أدرك من هؤلاء ابن الزبير ومروان؛ فإنهم قعدوا عنهما، فلما انفرد عبد الملك بن مروان دخلوا في الجماعة، وبايعه من أدركه منهم لا رضى عنه، ولا عداوة لابن الزبير، ولا تفضيلا لعبد الملك على ابن الزبير، لكن لما ذكرناه. وهكذا كان أمرهم في علي ومعاوية رضي الله عنهما. فلاحت نُوكَةُ هؤلاء المجانين، والحمد لله رب العالمين.
ص -182-(46/110)
"ولقد كان لطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص من القتل في المشركين كالذي كان لعلي، فما الذي خصه باعتقاد الأحقاد له لو كان للروافض حياء وعقل؟ ولقد كان لأبي بكر رضي الله عنه في مضادة قريش في الدعاء إلى الإسلام ما لم يكن لعلي، فما منعهم ذلك من بيعته، وهو أسوأ الناس أثرا عندهم في حال كفرهم. ولقد كان لعمر بن الخطاب رضي الله عنه في مغالبة كفار قريش، وإعلانه الإسلام على زعمهم ما لم يكن لعلي.
فليت شعري! ما الذي اذهب آثار هؤلاء، وأوجب أن ينسى، وأوجب أن يعادوا عليا من بينهم كلهم؟ لولا قلة حياء الروافض، وصفاقة وجوههم، حتى بلغ الأمر بهم إلى أن عدوا على سعد وأسامة وابن عمر رضي الله عنهم، وعلى رافع بن خديج، ومحمد بن مسلمة، وزيد بن ثابت، وأبي هريرة، وأبي الدرداء، وجماعة من الصحابة –رضي الله عنهم- سواء هؤلاء من المهاجرين والأنصار- أنهم لم يبايعوا عليا إذ دعا إلى نفسه، ثم بايعوا معاوية –رضي الله عنه، - ويزيد ابنه- من أدركه منهم- وادعوا أن تلك الأحقاد حملتهم على ذلك.
قال أبو محمد: حمق الروافض، وشدة ظلمة جهلهم وقلة حيائهم هورهم في الدمار والبوار، والعار والنار، وقلة المبالاة بالفضائح.
وليت شعري! أيُّ خُمَاشة، وأي كلمة خشنة كانت بين علي وبين هؤلاء أو واحد منهم؟ وإنما كان هؤلاء، ومن جرى مجراهم لا يرون بيعة في فرقة، فلما أصفق المسلمون على من أصفقوا عليه كائنا ما كان، دخلوا في الجماعة، وهكذا فعل من أدرك من هؤلاء ابن الزبير ومروان؛ فإنهم قعدوا عنهما، فلما انفرد عبد الملك بن مروان دخلوا في الجماعة، وبايعه من أدركه منهم لا رضى عنه، ولا عداوة لابن الزبير، ولا تفضيلا لعبد الملك على ابن الزبير، لكن لما ذكرناه. وهكذا كان أمرهم في علي ومعاوية رضي الله عنهما. فلاحت نُوكَةُ هؤلاء المجانين، والحمد لله رب العالمين.
ص -183-(46/111)
الحق مداهنة، أما كان في جميع أهل الإسلام من المهاجرين والأنصار وغيرهم واحد يقول: يا معشر المسلمين، قد زالت الرقبة، وهذا الرجل علي بن أبي طالب له حق واجب بالنص عليه، وله فضل بائن ظاهر لا يمترى فيه، فبايعوه، فأمره بين أصفاق جميع الأمة أولها عن آخرها، من برقة إلى خراسان، ومن أذربيجان وأرمينيه إلى أقصى اليمن، إذ بلغهم الخبر على السكوت عن حق هذا الرجل، واتفاقهم على ظلمه، ومنعه من حقه، وليس هنالك شيء يخافونه، لإحدى عجائب المحال الممتنع، وفيهم الذين بايعوه بعد ذلك إذ صار الحق حقه، وقتلوا أنفسهم دونه.
فأين كانوا عن إظهار ما تنبهت له الروافض الأنذال بعد مائة وخمسين عاما؟ ثم مع هذا الكتمان والنسيان كيف بلغ الروافض علمه؟ ومن بلغه إليهم؟ ثم العجب إذا كان غيظهم عليه -هذا الغيظ الذي تزعمه الروافض- كذبا منهم، واتفاقهم على جحد حقه هذا الاتفاق، كيف تورعوا عن قتله ليستريحوا منه؟ أم كيف أكرموه وبروه؟
انتهى ما ذكرته من كلام الإمام أبي محمد بن حزم ملخصا، وهو شاف كاف في الرد على هذا المعترض وأهل مذهبه.
فصل في وصف العالم الزيدي الشيعة الإمامية بالغلو كالباطنية، وإثبات غلو الزيدية دون غلوهما
وأما قوله: (وأهل البيت وصفوة شيعهم لم يصنعوا إلا كما صنع علي، فلم يغلوا غلو الإمامية ولا الباطنية، نسأل الله العافية).
(فالجواب) أن يقال: ما ذكره هذا المعترض كاف في غلوه في حق علي رضي الله عنه وفي الكذب على الله، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وفي قلة الحياء، ودعواه تشبه دعوى الإمامية؛ لأن دعوى الفريقين مِنْ أَبْطَلِ الباطل، وأبين المحال، وإن كان
ص -184-(46/112)
قول الإمامية والباطنية أظهر بطلانا، وأبين ضلالا، وعندهم من الدلائل الباطلة، والأحاديث المكذوبة أكثر مما عند هذا وسلفه، حتى إنهم يستدلون بآيات كثيرة من القرآن كما رأيناه مسطورا في كتبهم. وفي هذا لك عبرة عظيمة، تبين لك أن ليس كل من ادعى اتباع أهل البيت مصيب في دعواه. والله أعلم.
وأما قوله في المسألة الرابعة: ما المراد بقوله-تعالى-: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ}1 ثم ذكر ما ذكره ابن مردويه عن أسماء بنت عميس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "وصالح المؤمنين: علي بن أبي طالب"، فهذا أصل دعوى أهل البيت -سلام الله عليهم- وشيعتهم في تخصيص عليّ بالآية الكريمة... إلى قوله: "وانظر بعين الإنصاف في آية المباهلة حين جعل علي -عليه السلام- مع أخيه المصطفى نفس الأنفس، وهل أخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بيانا للأنفس غير علي؟ بل ترك القريب والبعيد، وأبرز عليا وفاطمة والحسين سلام الله عليهم).
(فالجواب) من وجوه:
(الوجه الأول): أن يقال: ذكر صاحب "الدر المنثور" في تفسير الآية أقوالا عن المفسرين.
فأول ما ذكر في ذلك قال: أخرج ابن عساكر من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: كان أبي يقرؤوها: وصالح المؤمنين أبو بكر وعمر. وأخرج ابن عساكر، عن ميمون بن مهران مثله، وأخرج ابن عساكر، عن الحسن البصري في قوله: {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِيْن}عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وأخرج ابن عساكر، عن مقاتل بن سليمان قال: أبو بكر وعمر وعلي. وأخرج ابن عساكر من طريق مالك بن أنس، عن زيد بن زيد في قوله: {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِيْن}، قال: الأنبياء. وأخرج ابن عساكر عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِيْن}2 أبو بكر وعمر.
وأخرج الطبراني، وابن مردويه، وأبو نعيم، في: " فضائل الصحابة" عن ابن مسعود عن النبي صلى الله(46/113)
عليه وسلم في قوله: {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِيْن}3. قال: "صالح المؤمنين أبو بكر وعمر". وأخرج في "الأوسط" وابن مردويه عن ابن عمر
__________
1 سورة التحريم آية: 4.
2 سورة التحريم آية: 4.
3 سورة التحريم آية: 4.
ص -185-
وابن عباس في قوله: {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِيْن} 1 قال: "نزلت في أبي بكر وعمر".
وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير في قوله: {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِيْن} قال: "نزلت في عمر بن الخطاب خاصة". وأخرج الحاكم عن أبي أمامة في قوله: {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِيْن} قال: أبو بكر وعمر.
فكل هذه الروايات نقلها السيوطي، ثم ذكر الروايات في أنها في "علي"، وذكر أن إسنادها ضعيف. فهؤلاء أئمة التفسير قد نقضوا عليك ما ادعيت من الخصوص.
(الوجه الثاني): قوله: (الملازم له في جميع الطرائق، المؤنس له في مدلهمات المضايق).
فيقال: تخصيص "علي" بذلك دون سائر الصحابة كذب ظاهر، ومكابرة عند أولي البصائر، كما يعرف ذلك من طالع كتب السير والتواريخ، وهو رضي الله عنه من صغار السابقين الأولين في السن.
(الوجه الثالث): قوله: (وعند ابتداء النبوة والتفرد عن الناس بدين الله الأتم المُسْتَنْكَرِ عند أهله وقومه صلى الله عليه وسلم استوحش غاية الوحشة، وكان علي هو الولي الأتم، والفاضل الأقدم).
فيقال: تخصيص "علي" بذلك دون خديجة، وزيد بن حارثة، وأبي بكر الصديق -رضي الله عنهم أجمعين- كذب ظاهر فاحش، وغلو لا يَمْتَرِي فيه إلا كل جاهل غبي. ومعلوم أن خديجة -عليها السلام، ورضي الله عنها- أعظم من آنسه عند ابتداء الوحي، كما ثبت في الصحيحين والمسانيد والسنن والسير وكتب التفاسير: "أنه -عليه السلام- لما نزل عليه الوحي في غار حراء، وغطه الملك ثلاث مرات حتى بلغ منه الجهد، ثم أرسله، وقال له {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}2 إلى قوله: {مَا لَمْ(46/114)
يَعْلَمْ}3، فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده حتى دخل على خديجة، وقال: "زملوني زملوني...وأخبرها الخبر، وقال: لقد خشيت على نفسي، فقالت له خديجة: أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكلَّ، وتقري الضيف، وتكسب المعدوم
__________
1 سورة التحريم آية: 4.
2 سورة العلق آية:1.
3 سورة العلق آية:5.
ص -186-
وتعين على نوائب الحق، ثم ذهبت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل- وكان قد تنصر في الجاهلية، وقرأ الكتب- فقالت: يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما رأى، فقال ورقة: هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى، ليتني فيها جذع، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو مخرجي هم؟ قال: نعم، لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي. وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا" الحديث بطوله؛ ولهذا استحقت أن يرسل إليها ربها -تبارك وتعالى- بالسلام على لسان رسوليه جبرائيل ومحمد عليهما الصلاة والسلام، كما ثبت ذلك بالأسانيد الصحيحة.
(الوجه الرابع): أنه من المعلوم المقرر عند أهل الأخبار والسير أن علي بن أبي طالب كان حال البعثة صغيرا، قيل: ابن ثمان سنين، وقيل: عشر. فهم متفقون على أنه لم يبلغ الحلم حين البعثة. وأما أبو بكر الصديق، وزيد بن حارثة، وغيرهما من كبار الصحابة.
فلم يختلف أحد من أهل العلم في أنهم حال البعثة رجال بالغون، وهم أعظم ملازمة ومؤانسة للنبي صلى الله عليه وسلم إذ ذاك من علي؛ ولهذا ذكر أهل العلم أن زيد بن حارثة هو الذي كان معه حال خروجه إلى الطائف يدعوهم إلى الله، وأن أهل الطائف لما ضربوه وأخرجوه، وأمروا سفهاءهم وصبيانهم يرمونه بالحجارة حتى دميت قدماه، جعل زيد بن حارثة يقيه بنفسه؛ ولهذا ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة -رضي الله عنها- أنها سألت رسول الله صلى الله عليه(46/115)
وسلم "هل أتى عليك يوم أشد عليك من يوم أحد؟ فقال: لقد أتى علي من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن كلال، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب"الحديث.
وكذلك أبو بكر رضي الله عنه ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قيل له: أخبرنا بأشد شيء صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم؟
ص -187-
قال: "بينما النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في حجر الكعبة، إذ أقبل عقبة بن أبي معيط، فوضع ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا، فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبه، ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ}12")الآية- الحديث، وكان رفيقه وأنيسه، وصاحبه في الغار وسفر الهجرة. كما اتفق عليه الموافق والمخالف.
(الخامس): قوله: حتى أحجم أصحاب أخيه صلى الله عليه وسلم... ثم ذكر قصة قتل علي رضي الله عنه عمرو بن عبد ود.
(فيقال): قوله: إن الصحابة أحجموا عن عمرو كذب ظاهر، وأما كون علي رضي الله عنه هو الذي قتله فأمر مشهور، وذلك لا يقتضي فضله على من سواه.
وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم الخندق: "من يأتينا بخبر القوم؟ فقال الزبير: أنا. ثم قال: من يأتينا بخبر القوم؟ فقال الزبير: أنا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن لكل نبي حواري، وإن حواريّي الزبير""3. وفي رواية: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب الناس فانتدب الزبير، ثم ندبهم فانتدب الزبير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن لكل نبي حواري وإن حواريّي الزبير"4، فالسابقون الأولون قد ورد لهم من الفضائل; والخصائص مثل ما ورد لعلي.
(الوجه السادس): قوله: "حتى ردت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم... حتى قال: لأبعثن بالراية رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله".
فيقال: قد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هذا لغيره من الصحابة، وليست من(46/116)
خصائصه، بل هي فضيلة شاركه فيها غيره، بخلاف ما ثبت من فضائل أبي بكر وعمر؛ فإن كثيرا منها خصائص لهما لا سيما فضائل أبي بكر، فإن عامتها خصائص لم يشركه فيها غيره، كما ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن أَمَنَّ الناس علَيّ في صحبته وذات يده: أبو بكر"5 وقال: "ما نفعني مال ما نفعني مال أبي بكر"6.
(الوجه السابع): احتجاجه بحديث: "أنت مني بمنْزلة هارون من موسى"7، تقدم الجواب عليه في كلام ابن حزم بما يكفي
__________
1 سورة غافر آية:28.
2 البخاري: المناقب (3856) , وأحمد (2/204).
3 البخاري: المغازي (4113) , ومسلم: فضائل الصحابة (2415) , والترمذي: المناقب (3745) , وابن ماجه: المقدمة (122) , وأحمد (3/307 ,3/338 ,3/345 ,3/365).
4 البخاري: المغازي (4113) , ومسلم: فضائل الصحابة (2415) , والترمذي: المناقب (3745) , وأحمد (3/307 ,3/338 ,3/345 ,3/365).
5 البخاري: الصلاة (466) , ومسلم: فضائل الصحابة (2382) , والترمذي: المناقب (3660) , وأحمد (3/18).
6 الترمذي: المناقب (3661) , وابن ماجه: المقدمة (94) , وأحمد (2/253 ,2/366).
7 البخاري: المناقب (3706) والمغازي (4416) , ومسلم: فضائل الصحابة (2404) , والترمذي: المناقب (3731) , وابن ماجه: المقدمة (115 ,121) , وأحمد (1/170 ,1/173 ,1/174 ,1/175 ,1/177 ,1/179 ,1/182 ,1/184 ,1/185).
ص -188-(46/117)
وأما احتجاجه بحديث المباهلة، فنفس الحديث يدل على أن ذلك ليس من خصائص علي رضي الله عنه؛ لأنه قد شاركه فيه فاطمة وحسن وحسين، كما شاركوه في حديث الكساء، فعلم أن ذلك لا يختص بالرجال ولا بالذكور ولا بالأئمة، بل شركه فيه المرأة والصبي؛ فإن الحسنين كانا صغيرين عند المباهلة.
فإن المباهلة كانت لما قدم وفد نجران بعد فتح مكة سنة تسع أو سنة عشر، والنبي صلى الله عليه وسلم مات ولم يستكمل الحسين سبع سنين، والحسن أكبر منه بنحو سنة، وإنما دعا هؤلاء؛ لأن الله أمر أن يدعو كل واحد من المتباهلين الأبناء والنساء والأنفس، فيدعو الواحد من أولئك أبناءه، ونساءه، وأخص الرجال به نسبا، وهؤلاء أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلا كان غيرهم أفضل منهم عنده، فلم يؤمر أن يدعو أفضل أتباعه؛ لأن المقصود أن يدعو كل واحد أخص الناس به، لما في جبلة الإنسان من الخوف عليه، وعلى ذوي رحمه الأقربين إليه؛ ولهذا خصهم في حديث الكساء لهم.
والمباهلة مبناها على العدل، فأولئك أيضا يحتاجون أن يدعوا أقرب الناس إليهم نسبا، فهم يخافون عليهم ما لا يخافون على الأجانب، والله –سبحانه وتعالى- أعلم.
فصل الاستدلال بالأحاديث الضعيفة والموضوعة
وأما قوله: حتى روى المحدثون من فضائله قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنت مني كرأسي من جسدي".
فالجواب أن يقال: هذا الحديث لا يعرف في شيء من الكتب المعتمدة: كالصحيحين والسنن والمسانيد، ولم يصححه أحد من أهل الحديث المعروفين بنقد الحديث، والتمييز بين صحيحه من موضوعه.
ومجرد رواية بعض أهل الكتب لا توجب صحته؛ لأن كثيرا من أهل الكتب يروون في كتبهم الصحيح والحسن والضعيف والموضوع؛ وذلك لأنهم يميزون بين الحديث الذي تقوم به الحجة
ص -189-(46/118)
مما لا تقوم به الحجة.
ولهذا كانوا يخرجون في كتبهم جميع الأحاديث الصحيحة والضعيفة والحسنة والموضوعة، وأهل الخبرة بالحديث وعلله ورجاله يميزون الحديث الصحيح من غيره، كما يميز الصيرف البصير الدراهم المغشوشة، والله -سبحانه وتعالى- أعلم.
فصل انصراف وصيته – صلّى الله عليه وسلّم - بأهل بيته إلى من في زمنه منهم
ثم قال المعترض: (فإذا تقرر ذلك، فقد قال كثير من العلماء المحققين: إن المطلق إذا ورد صرف، وخص بالأغلب المألوف المعروف حال الورود، مثل تحريم الميتة في قوله -تعالى-: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}1 فإنه ينصرف إلى الأكل خاصة دون الانتفاع والترطب، ولا يدخل تحريم غير الأكل بالآية بأدلة السنة، فكذلك نصنع في قوله: {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ}2 فإنه مطلق فيصرف إلى تخصيص الولاية بعلي رضي الله عنه.
ويؤيد التخصيص الإضافة؛ لتتم فائدتها وهو التخصيص، إذ هو أولى من جعلها للعموم كما ذكره المجيب؛ لأن العموم يوجب المصير إلى كون الإضافة بيانية، وهو خلاف الغالب في الإضافة، ولو جازت غلبت الولاية، وحصلت لصحابي بملازمته لرسول الله صلى الله عليه وسلم مثل علي عليه السلام؛ لتلقيناه بالقبول، ووضعناه على الرأس، ولا نحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله).
(فالجواب) من وجوه:
(أحدها): أن يقال: أمكنت والله الرامي من سواء الثغرة، ونقضت الأصل الذي أصلت، والدلائل التي أوردت من الأحاديث التي سطرت، كحديث زيد بن أرقم في قوله: "فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي"... إلخ. فيقول لك خصمك: هذا محمول على أهل بيته المعهودين المعروفين في زمانه، ولا يدخل فيهم من بعدهم من الذرية.
وهذا عكس مراد المعترض؛ لأنه قرر في كلامه أن أهل البيت كلهم، من كان منهم من الصحابة، ومن جاء بعدهم من ذرياتهم- أنهم كلهم داخلون في عموم هذه الآيات التي(46/119)
__________
1 سورة المائدة آية: 3.
2 سورة التحريم آية: 4.
ص -190-
أورد، والأحاديث التي ذكر، فكيف يقول هذا الجاهل بكلام الله ورسوله، وكلام أهل العلم: إن المطلق إذا ورد صرف، وخص بالأغلب المألوف المعروف حال الورود.
فيقول لك خصمك: دلائلك هذه التي أوردت محمولة على أهل بيته المعهودين المعروفين في زمانه: كالعباس وأولاده، وجعفر وأولاده، وعقيل وأولاده، وأبي سفيان بن الحارث وأولاده، وأولاد أبي لهب، وعلي وأولاده منهم، ولا يدخل فيهم من بعدهم من الذرية، فما هذا الاعتراض البارد الذي كشف الله به عورتك، وجعلك به ضحكة عند من نظر في كلامك؟ وهذا الوجه كاف في رد كلام هذا المعترض.
(الوجه الثاني): أن يقال قوله عن كثير من العلماء المحققين: "إن المطلق إذا ورد صرف، وخص بالأغلب المألوف المعروف حال الورود، مثل تحريم الميتة في قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} 1، فإنه ينصرف إلى الأكل خاصة دون الانتفاع، والترطب… إلخ. فهذا يدل على جهل هذا المعترض بما ذكره علماء الأصول المحققون. فقد قال أبو زرعة أحمد بن الإمام عبد الرحيم بن الحسين العراقي الشافعي في "شرحه على جمع الجوامع" لابن السبكي تقي الدين رحمه الله، وهذا لفظ الماتن والشارح: (العام لفظ يستغرق الصالح له من غير حصر) (ش) فهم من تصدير تعريف العام باللفظ أنه من عوارض الألفاظ، والمراد لفظ واحد للاحتراز عن الألفاظ المتعددة الدالة على أشياء متعددة، وخرج بقوله: (يستغرق) المطلق، فإنه لا يدل على شيء من الإفراد أصلا. والنكرة في سياق الإثبات مفردة كانت أو مثناة أو مجموعة أو عددا، فإنها إنما تتناول الإفراد على سبيل البدل. واحترز بقوله: (الصالح له عما لا يصلح، فعدم استغراق "ما" -لمن يعقل- إنما هو لعدم صلاحيتها له، أي: عدم صدقها عليه، لا لكونها غير عامة.
وخرج بقوله: (من غير حصر) أسماء العدد، فإنها متناولة(46/120)
للصالح لها، لكن مع الحصر، وهذا مبني على أنها ليست عامة. وتبعه المصنف هناك، وزاد البيضاوي وغيره في هذا التعريف "بوضع واحد" ليخرج المشترك إذا أريد به معناه
__________
1 سورة المائدة آية: 3.
ص -191-
فإنه مستغرق لما يصلح له، لكن بوضعين لا بوضع واحد، فتناوله لهما ليس من العموم.
(ص) والصحيح دخول النادرة، وغير المقصودة تحته، وأنه قد يكون مجازا، وأنه من عوارض الألفاظ، قيل والمعاني وقيل به في الذهن، ويقال للمعنى أعم، واللفظ عام.
(ش) فيه مسائل:
(الأولى): الصحيح أن الصورة النادرة تدخل في العموم، وقال الشارح: زعم المصنف أن الشيخ أبا إسحاق الشيرازي حكى فيه خلافا، ولم أجده في كتبه، وإنما يوجد في كلام الأصوليين اضطراب فيه يمكن أن يؤخذ منه الخلاف، وكذا في كلام الفقهاء؛ ولهذا اختلفوا في المسابقة على الفيل على وجهين: (أصحهما) نعم؛ لقوله -عليه السلام-: "لا سبق إلا في خف أو حافر"1 (والثاني) لا؛ لأنه نادر عند المخاطبين في الحديث.
فصل دخول الصور النادرة والمجاز في صيغة العموم
(الثانية): الصحيح دخول الصور التي ليست مقصودة في العموم؛ فإن اللفظ متناول لها، ولا انضباط للمقاصد، وممن حكى الخلاف في ذلك القاضي عبد الوهاب، ويوجد في كلام أصحابنا؛ ولهذا قال في البسيط، بعد حكاية الخلاف في ذلك، فيما لو وكله بشراء عبد، فاشترى من يعتقه على الموكل. ومثار الخلاف التعلق بالعموم، والالتفات إلى المقصود.
(الثالثة): الصحيح أن المجاز كالحقيقة في أنه قد يكون عاما، فلم ينقل عن أحد من أئمة اللغة أن الألف واللام، أو النكرة في سياق النفي، أو غيرهما من صيغ العموم، لا تفيد العموم إلا في الحقيقة، وخالف فيه بعض الحنفية، فزعم أن المجاز لا يعم بصيغته؛ لأنه على خلاف الأصل.
(الرابعة): لا خلاف أن العموم من عوارض الألفاظ، وليس المراد وصف اللفظ به مجردا عن المعنى، بل باعتبار معناه(46/121)
الشامل للكثرة. وعطف المصنف ذلك على ما عبر فيه بالأصح يقضي خلافا فيه. قال الشارح: وينبغي أن يجعل استئنافا لا عطفا على ما قبله. قلت: يمكن أنه أراد أنه من عوارض الألفاظ فقط، فيرجع
__________
1 الترمذي: الجهاد (1700) , والنسائي: الخيل (3589) , وابن ماجه: الجهاد (2878) , وأحمد (2/256 ,2/358 ,2/474).
ص -192-
التصحيح إلى تضعيف القول بأنه من عوارض المعاني أيضا، لا إلى كونه من عوارض الألفاظ؛ ولذلك عقبه بقوله: (قيل والمعاني). والذاهبون إليه اختلفوا في أن عروضه للمعاني: هل هو حقيقة أو مجاز، فقال بعضهم: حقيقة، فكما صح في الألفاظ شمول أمر لمتعدد، صح في المعاني شمول معنى لمعاني متعددة بالحقيقة فيها.
وقال القاضي عبد الوهاب: مراد قائله حمل الكلام على عموم الخطاب، وإن لم يكن هناك صيغة تعمها، كقوله –تعالى-: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} 1 إن نفس الميتة وعينها لما لم يصح تناول التحريم لها، عممنا بالتحريم جميع التصرف فيها، من الأكل والبيع واللبس وسائر أنواع الانتفاع، وإن لم يكن للأحكام ذكر في التحريم لا بعموم ولا بخصوص. انتهى ما ذكره ابن السبكي، وأبو زرعة أحمد بن عبد الرحيم في الشرح المذكور.
فصل تحريم الميتة يشمل جميع أنواع الانتفاع بها
وقال المقدسي من الحنابلة: قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} 2 هي ظاهرة في جميع أنواع التصرف، واستدل على أن المراد جميع أنواع التصرف فيها بأدلة ذكرها.
وكذلك قال ابن عقيل: يحرم جميع الأفعال فيها، وقد ذكر أنه قول الجبائي، وابنه وعبد الجبار، فظاهر هذا، بل صريحه أن هذه الآية عامة في كل نوع من الانتفاع؛ ولهذا احتج بها أحمد في دباغ جلود الميتة. قال في رواية صالح: إن الله قال: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} 3، فالجلد هو من الميتة، وههنا احتج بها أحمد على عدم الانتفاع بالجلد.
فظهر بما ذكر عن هؤلاء الأئمة(46/122)
بطلان ما ذكره هذا المعترض في عدم شمول الآية في أنواع الانتفاع؛ ولهذا ثبت في الصحيح والسنن من حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال- عام الفتح وهو بمكة-: "إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنْزير والأصنام. فقيل: يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة، فإنه يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، هو حرام. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: قاتل الله اليهود، إن الله -تعالى- لما حرم عليهم شحوم الميتة جملوها، ثم باعوها فأكلوا ثمنها"4.
__________
1 سورة المائدة آية: 3.
2 سورة المائدة آية: 3.
3 سورة المائدة آية: 3.
4 البخاري: البيوع (2236) , ومسلم: المساقاة (1581) , والترمذي: البيوع (1297) , والنسائي: الفرع والعتيرة (4256) والبيوع (4669) , وأبو داود: البيوع (3486) , وابن ماجه: التجارات (2167) , وأحمد (3/326).
ص -193-(46/123)
وروى أبو داود في السنن عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا عند الركن، قال: فرفع بصره إلى السماء، فضحك، فقال: "لعن الله اليهود- ثلاثا-. إن الله -تعالى- حرم عليهم الشحوم، فباعوها، وأكلوا أثمانها، وإن الله عز وجل إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم أكل ثمنه"1.
فصل رواة أهل السنة لا يتعصبون في الروايات كالشيعة
وأما قوله: (فلو جاءت غلبة الولاية، وحصلت لصحابي؛ لملازمته لرسول الله صلى الله عليه وسلم مثل "علي" لتلقيناه بالقبول، ووضعناه على الرأس، ولا نحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله).
(فالجواب) أن يقال: قد كذبت في هذه الدعوى، فقد علمتم أنه قد ورد لغيره من الفضائل ما هو مثل فضائل علي رضي الله عنه أو أعظم، ولم تضعونها على الرأس، بل كذبتم به، ورددتموه بمجرد الدعاوي الباطلة التي يمكن كل أحد أن يدعيها فيمن يحبه ويهواه. فإن كنت صادقا كما زعمت فقل لنا، حتى نكتب لك ذلك، وننقله من الكتب الصحيحة، والتفاسير المأثورة.
فإن قلتم: لا نقبل رواية خصومنا. قال لكم خصومكم: لا نقبل روايتكم؛ لأنكم خصومنا، والروايات التي رويناها في فضائل أهل البيت قد روينا في فضائل الصحابة ما هو مثلها أو أعظم منها، ولم يمكنكم أن تحتجوا عليهم بحجة صحيحة لا معارض لها. فاستحيوا من الله ;-تعالى- ومن خلقه، من هذا الجنون، والخبال الذي يفضحكم عند الرجال والنساء.
فصل بغي بعض المسلمين على بعض لا يقتضي الكفر ولا ينفي محبتهم جميعا
وأما قوله في الاعتراض على كلام المجيب على حديث عمار رضي الله عنه- وذكر أن المجيب قد أقر على لسان أهل السنة والجماعة بأن معاوية رضي الله عنه
__________
1 أبو داود: البيوع (3488) , وأحمد (1/247 ,1/293 ,1/322).
ص -194-(46/124)
قد أخطأ وأذنب، وقد قال -تعالى-: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}1 ثم قال: وقد نص -تعالى- على موجب الظلم، وما يحكم به لصاحبه فقال -عز من قائل-: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ}2. ثم إنك أقررت ببغي معاوية رضي الله عنه وأصحابه، ثم حكمت له بالمغفرة، وبالجنة بعد ثبوت الفاحشة منه، وهو البغي. وقد قال -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}3، ويقرنه بالفحشاء والمنكر، ويدخل فاعله -الذي لم يتب منه، ومات مُصِرًّا عليه -الجنة. ما هذا حكم بالعدل!
(فالجواب) من وجوه:
(أحدها): أن يقال: أنت قد نقضت كلامك هذا كله في كلامك الذي قبل هذا بأسطر يسيرة بقولك: قال كثير من العلماء المحققين: إن المطلق إذا ورد صرف، وخص بالأغلب المألوف المعروف حال الورود... إلى آخره. وذلك أنه من المعلوم أن هذه الآيات التي جعلتها متناولة لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معاوية رضي الله عنه ومن معه، يقول لك منازعوك: إن المعروف المشهور عند أهل التفسير أنها نزلت في أهل الشرك والكفر، فكيف جعلتها في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تخص بها أهل الكفر المألوف المعروف في حقهم؟
(الوجه الثاني): أن المجيب ذكر أن الحديث على ظاهره ولم يغيره ولم يؤوله، ولكن ذكر أن إثبات البغي لهم لا يوجب فسقهم ولا كفرهم إذا كانوا متأولين مخطئين في ذلك. والمجيب لا ينْزههم من الذنوب والخطأ، لكنه ذكر ما دل عليه كتاب الله من أن البغي لا ينفي الإيمان عمن فعله، كما قال -تعالى-: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ(46/125)
اللَّهِ}4، فسماهم الله مقتتلين مع الإيمان.
(الوجه الثالث): قوله: فأين فائدة كلام الحكيم صلى الله عليه وسلم ؟ فيقال: إنما يعرف فائدة كلام الرسول صلى الله عليه وسلم أهلُ العلم والإيمان، فهم الذين يهتدون به ويعرفون معناه
__________
1 سورة الطلاق آية: 1.
2 سورة غافر آية: 18.
3 سورة النحل آية: 90.
4 سورة الحجرات آية: 9.
ص -195-
ويعقلونه كعلي –رضي الله عنه- وأصحابه، ومن شابههم من أهل الفهم والمعرفة لكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وأما أهل الجهل والضلال فهو عليهم عمى وضلال كما قال –تعالى-: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ}1، كهذا المعترض ومن شاكله الذي يتناقض في السطر الواحد، ويرد كلامه بعضه بعضا، وهو لا يشعر ولا يدري.
والفائدة في حديث عمار قد عقلها أهل السنة والجماعة، وهو أنهم علموا أن قتلة عمار فئة باغية على الإمام، وأن عليا رضي الله عنه وأصحابه أولى بالحق من معاوية رضي الله عنه وأصحابه، وهذا هو الفائدة في الحديث؛ ومن فهم منه غير ذلك فقد أبعد النجعة، وتكلف ما لا علم له به.
(الوجه الرابع): أن يقال: حمله هذه الآيات التي ذكرها على معاوية وأصحابه مثل حمل الخوارج آيات الشرك والكفر والظلم على علي رضي الله عنه وأصحابه سواء بسواء، فكما أن كلام الخوارج معلوم البطلان بضرورة العقل، فكذلك حمل هذه الآيات على معاوية رضي الله عنه وأصحابه معلوم البطلان بالضرورة. فما هذه الوقاحة، وقلة الحياء، وصفاقة الوجوه؟!
(الوجه الخامس): أن يقال قوله: ما هذه السوابق والحسنات التي لهم؟ هل قتل عمار وخزيمة ذي الشهادتين وأبي الهيثم بن التيهان وغيرهم من المهاجرين والأنصار؟ فيقال: الحسنات العظيمة التي لا مطمع لأحد فيها هي(46/126)
صحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وجهادهم معه الذي لو أنفق الرجل مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم، ولا نصيفه.
كما ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لخالد بن الوليد لما جرى بينه وبين عبد الرحمن بن عوف; - رضي الله عنهما- كلام ومنازعة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "يا خالد، دع عنك أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفقت مثل أحد ذهبا ما بلغت مد أحدهم ولا نصيفه"2 هذا كلامه في خالد وهو من جملة الصحابة. لكنه ليس من السابقين الأولين، فكيف بمن لم يصحبه؟
__________
1 سورة فصلت آية: 44.
2 البخاري: المناقب (3673) , ومسلم: فضائل الصحابة (2541) , والترمذي: المناقب (3861) , وأبو داود: السنة (4658) , وأحمد (3/11 ,3/54 ,3/63).
ص -196-(46/127)
وأما قتل عمار وخزيمة وأبي الهيثم وغيرهم –رضي الله عنهم- فإنما فعلوا ذلك بتأويل واجتهاد، وكل من الفريقين يظن أن الحق والصواب معه. وعلي -رضي الله عنه- وأصحابه قتلوا الزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وغيرهم من السابقين ومن الصحابة -رضي الله عنهم- فما ذكرت في معاوية وأصحابه ففي علي وأصحابه ما هو مثلهم.
فصح -يقينا- أن مذهب أهل السنة والجماعة هو الحق والصواب، وهو محبة جميع الصحابة -رضي الله عنهم- والترضي عنهم، والدعاء لهم، والكف عما شجر بينهم، رضي الله عنهم أجمعين.
فصل مخالفة الشيعة لأهل السنة في الصحابة وآل البيت
وأما قوله: (فهذا ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن علي بن القاسم أبو طالب -حفظه الله- قد حكمك، وفوض إليك بسؤاله بأن تحكم بين جده علي بن أبي طالب، ومن معه من المهاجرين والأنصار وشيعة أهل العراق.
وأهل اليمن أهل الإيمان من حمير وهمدان، وبين معاوية ومن معه من أهل الشام الطغام أعداء الرحمن، فحكمت بما قاله خصماء علي بن أبي طالب، وهم ممن رضي فواقر معاوية وصنيعه، وهم الموالون له، المحبون له ولأصحابه، المتسمون بأهل السنة والجماعة.
فكأن السائل عندكم لم يعرف كتاب الله، ولا ما جاء به جده صلى الله عليه وسلم... إلى قوله: وهيهات أن يطمع في ذلك طامع، فقلوبهم قد نبت فيها حب آل محمد صلى الله عليه وسلم ورسخ لما رأوا من حلاوته، وقد سقاه حسن الوفاء بأجر سيد المرسلين من المودة لذريته المباركة، نجوم أهل الأرض، وباب حطة، وباب السلام، وسفينة نوح، وقرناء القرآن، والله المستعان).
(فالجواب) من وجوه:
(أحدها): أن يقال: قوله فحكمت بما قاله خصماء علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهم ممن رضي فواقر معاوية وصنيعه كذب ظاهر؛ فإن المجيب قد بين أن قوله هو الذي يدل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم،
ص -197-(46/128)
وبما تواتر عن علي رضي الله عنه أنه كان يسمي أهل الشام إخوانه، وقال: "هؤلاء إخواننا قد بغوا علينا" كما ذكره غير واحد من علماء السير والتواريخ
(الوجه الثاني): قوله في أهل الشام: الطغام أعداء الرحمن، كذب وفجور، وقول بلا دليل، ومخالفة لما عليه جماعة جميع أهل البيت، ولازمه الطعن في أكابر أهل البيت كالحسن والحسين، وابن عباس وابن جعفر؛ لأن هؤلاء كلهم قد بايعوا معاوية –رضي الله عنه- وصاروا من جملة رعيته بلا إكراه كما تقدم تقريره، وكما سيأتي في فصل كلام أهل البيت –رضي الله عنهم- في معاوية رضي الله عنه.
(الوجه الثالث): قوله في أهل السنة: وهم ممن رضي فواقر معاوية. وهذا أيضا كذب بين وبهتان؛ فإن المجيب وسلفه من أهل السنة لا يرضون بقتال معاوية وأصحابه لعلي، بل الصواب عندهم أن معاوية ومن معه في طاعة أمير المؤمنين وبيعته، ولا يرضون بسب علي وأهل بيته، بل ينكرونه على من فعله أو رضيه، كما ملئت كتبهم بذلك، وهذا المعترض يعلم، ولكنه ممن يجادل بالباطل.
(الوجه الرابع): قوله: وهم الموالون له، المحبون له ولأصحابه. فهذا صدق وصواب؛ فإن أهل السنة يتولون جميع الصحابة كلهم، ويطهرون ألسنتهم من الخوض في تلك الحروب الواقعة بينهم، بمعنى أنهم يحملون ذلك على المحمل الحسن اللائق بهم؛ لأن الله أثنى على جميع الصحابة في كتابه العزيز بقوله: {(لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى}1 ويعرفون للسابقين الأولين حقهم على من بعدهم، وينْزلون كلا منْزلته التي أنزله الله إياها فلم يفعلوا كفعل الروافض، والزيدية، والخوارج الذين يفرقون بينهم، فيتولون بعضهم، ويبغضون ويتبرؤون من بعضهم، وهذا هو الذي تدل عليه الدلائل الصحيحة من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الثابتة بالأسانيد المرضية(46/129)
__________
1 سورة الحديد آية: 10.
ص -198-
(الوجه الخامس): قوله: فوجدك قد قلت بمقالة أهل الانحراف عن الآل. وهذا أيضا من نمط ما تقدم من كذبه وفجوره وقلة حيائه من الناس؛ فإن المجيب قد بين أن مقالته التي ذهب إليها هو وسلفه هي التي عليها آل محمد صلى الله عليه وسلم. وقد نقل في كلامه لفظهم بحروفه، وبين أن دعوى المعترض اتباع الآل كذب وجهل وخبال، لا يعجز عنه أحد من الناس.
(الوجه السادس): قوله عن أهل السنة: أنهم أصلوا أصولهم، وقعدوا قواعدهم على أساس أسسه لهم بنو أمية وبنو العباس. وهذا أيضا من كذبه وفجوره، وذلك أن أهل السنة إنما أصلوا أصولهم على ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من وجوب طاعة أولي الأمر كما تقدم ذكر الدلائل على ذلك من الكتاب والسنة أول هذا الجواب بما أغنى عن إعادته.
فإن قال: إن تلك الآيات والأحاديث لا تدل على ذلك، أو إنها مخالفة لكتاب الله، أو إنها مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمكن خصمك أن يقول مثل ذلك في الأصول التي أصلت، والدلائل التي قررت.
فصل بغض الشيعة لأناس وهم من آل محمد وعترته
(الوجه السابع): أن يقال: أنت قد تبرأت وتنصلت من الملوك الظلمة من بني العباس، وهم من آل محمد بالإجماع، وداخلون في مسمى عترته عند جميع فرق الأمة، فهذا يبطل جميع ما أوردته من الدلائل التي معك في اتباع أهل البيت، فإذا كان من أهل البيت مَنْ هو من الملوك الظلمة أئمة جور.
فكذلك يقال في من خالفوا الكتاب والسنة من آل علي سواء بسواء، ولا يمكنك أن تأتي بحجة صحيحة لا معارض لها في دخول آل علي في تلك الدلائل، وخروج غيرهم منها، فأبطلت بكلامك ما أصلته ورددت على نفسك بنفسك ما قررته وأنت لا تشعر، وهذا حال من يتكلم في مثل هذه الأمور العظيمة بمثل هذه الجهالات والخبالات التي يأنف منها أهل العرفان، بل ينفر منها الصبيان، عياذا بالله(46/130)
من الخزي والخذلان.
ص -199-
فصل اختلاف جيش علي عليه واتفاق جيش معاوية عليه
(الوجه الثامن) أن يقال: قوله عن السائل وشيعته، وهم أهل اليمن من همدان وحمير وذرية من قاتل معاوية، وأهل الشام في صفين مع وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخيه القائل في همدان، حين شقت سيوفهم قلوب العدوان من أهل الشام الطغام في ذلك الأوان:
فلو كنت بوابا على باب جنة
لقلت لهمدان ادخلوا بسلام
فهذا من أظهر الكذب وأفجر الفجور في أنه قد مدحهم بما ليس فيهم، والدليل على ذلك ما ذكره أهل الأخبار والسير من أن عسكر علي اختلفوا عليه اختلافا كثيرا، وآذوه أذى عظيما، حتى مل منهم، وتمنى الموت.
وقد قال أبو عبيد القاسم بن سلام- وهو من أئمة الحديث والفقه واللغة- عمن حدثه عن أبي سنان العجلي قال: قال ابن عباس لعلي رضي الله عنه: "ابعثني إلى معاوية، فوالله لأفتلن له حبلا لا ينقطع وسطه." فقال: "لست من مكري ومكره في شيء، ولا أعطيه إلا السيف حتى يغلب الحق الباطل."
فقال ابن عباس رضي الله عنه: "أو غير ذلك؟" قال: "كيف؟" قال: "إنه يطاع ولا يعصى، وأنت عن قريب تعصى ولا تطاع." قال: فلما جعل أهل العراق يختلفون على علي رضي الله عنه قال: "لله ابن عباس إنه لينظر إلى الغيب من ستر رقيق".
وحدثني خلاد بن يزيد الجعفي، حدثنا عمرو بن شمر عن جابر الجعفي عن الشعبي أو أبي جعفر الباقر- شك خلاد- قال: "لما ظهر أمر معاوية – رضي الله عنه - دعا علي – رضي الله عنه - رجلا، وأمره أن يسير إلى دمشق، فيعقل راحلته على باب المسجد، ويدخل بهيئة السفر، ففعل الرجل، وكان قد وصاه، فسألوه: من أين جئت؟ قال من العراق. قالوا: ما وراءك؟ قال: تركت عليا قد حشد إليكم، ونهد في أهل العراق، فبلغ معاوية رضي الله عنه، فأمر أبا الأعور السلمي يحقق أمره، فأتاه فسأله، فأخبره بالأمر الذي شاع، فنودي: الصلاة جامعة، فامتلأ الناس في المسجد، فصعد معاوية المنبر، وتشهد(46/131)
ص -200-(46/132)
جواب أهل السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والزيدية - عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب (3)
ثم قال: إن عليا قد نهد إليكم في أهل العراق، فما الرأي؟ فضرب الناس أذقانهم على صدورهم، ولم يرفع إليه أحد طرفه، فقام ذو الكلاع الحميري، فقال: عليك الرأي وعلينا أم فعال- يعني الفعال-. فنَزل معاوية، ونودي في الناس: اخرجوا إلى معسكركم، ومن تخلف بعد ثلاث أحل نفسه. فخرج رسول علي حتى وافاه، وأخبره بذلك، فأمر علي رضي الله عنه فنودي: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "إن رسولي الذي أرسلته إلى الشام قد قدم علي، وأخبرني أن معاوية قد نهد إليكم في أهل الشام، فما الرأي؟ قال: فأضب أهل المسجد يقولون: يا أمير المؤمنين، الرأي كذا الرأي كذا، فلم يفهم علي كلامهم من كثرة كلامهم، وكثرة اللغط، فنَزل وهو يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، ذهب بها ابن أكَّالة الأكباد"، يعني: معاوية رضي الله عنه.
وقال الأعمش: حدثني مَنْ رأى عليا يوم صفين يصفق بيديه ويعض عليها، ويقول:
" يا عجبا أُعْصَى ويُطَاع معاوية!" [ظلم بسر بن أرطأة وعدم ثبوت صحبته]
وذكر ابن الأنباري عن أبيه عن أحمد بن عبيد عن هشام بن محمد عن أبي مخنف لوط قال: لما توجَّه بسر بن أبي أرطاة أخبر عبيد الله بن عباس بذلك، وهو على اليمن عامل لعلي رضي الله عنه فدخل بسر بن أبي أرطاة اليمن، فأتى بابني عبيد الله بن عباس، فذبحهما وهما صغيران، فنال أمهما عائشة بنت عبد الدان من ذلك أمر عظيم.
وذكر أبو عمرو الشيباني في خروج بسر أنه أغار على همدان، فقتل وسبى نساءهم، وكن أول نساء سبين في الإسلام، وبسر هذا له أخبار سوء بجانب علي رضي الله عنه ولا تصح له صحبة، قاله الإمام أحمد ويحيى بن معين، قال يحيى بن معين: كان رجل سوء، وذكر أن عليا رضي الله عنه دعا عليه أن يطيل الله عمره، ويذهب عقله، فكان كذلك.
ص -201-(47/1)
قال ابن دحية: ولما ذبح الصغيرين، وفقدت أمهما عقلها، كانت تقف بالمواسم تنشد شعرا يبكي العيون، ويهيج بلابل الأحزان والغبون:
ها من أحس بني اللذين هما
كالدرتين تشظى عنهما الصدف
ها من أحس بني اللذين هما
سمعي وعقلي فقلبي اليوم مختطف
حدثت بسرا وما صدقت ما زعموا
من قولهم ومن الإفك الذي اقترفوا
أحنى على ودجي ابني مرهفة
مشحوذة وكذاك الإثم يقترف
خذلان أهل العراق للحسين ووجود بعض أهل اليمن مع معاوية
ومعلوم عند من له أدنى معرفة بالأخبار ما جرى من أهل الكوفة مع الحسين بن علي – رضي الله عنهما - ما حين كاتبوه، وأمروه بالشخوص والقدوم عليهم، ووعدوه أن يبايعوه، فاغتر بهم وبمواعيدهم الكاذبة، وأمانيهم الباطلة، فشخص إليهم بأهله وولده، وكان قد أرسل إليهم قبل ذلك ابن عمه مسلم بن عقيل -رضي الله عنهما-، فلما قرب الحسين منهم خذلوه، وأسلموه للقتل، وقُتِلَ معه اثنان وثمانون رجلا من أصحابه مبارزة، ثم قتل جميع بنيه إلا عليا المسمى بعد ذلك بزين العابدين، كان مريضا فأخذ أسيرا، وقتل أكثر إخوة الحسين وبني أعمامه.
فهؤلاء شيعة أهل البيت الذين أثنى عليهم هذا المعترض، وهم أهل اليمن من همدان وحمير، وقد كان مع معاوية رضي الله عنه جموع كثيرة من حمير وغيرها من قبائل اليمن، منهم: ذو الكلاع الحميري، كان من أشراف أصحاب معاوية وساداتهم وقتل يومئذ، ومن أصحاب معاوية وأمرائه يومئذ كريب بن الصباح الحميري أحد الأبطال، قتل يومئذ جماعة ثم بارزه علي فقتله.
ص -202-(47/2)
فصل في اعتدال أهل السنة بين غلو الشيعة وجفوة النواصب
وأما قوله: (وانظر تواريخ الإسلام وما قال الناس، هل أحد روى أن معاوية وأصحابه ضمنوا ما أفسدوا من حقوق المسلمين، وأنهم تابوا من تلك الطامة، والفاحشة العامة، والمعصية الكبيرة، وهو البغي الذي أقررت به، وهل ودوا عمارا وخزيمة وأبا الهيثم وأويسا القرني -سيد التابعين- وغيرهم، وسلموا دياتهم إلى أهليهم، أم ماتوا متلطخين بدمائهم وبالفسق والعصيان؟)
(فالجواب): أن يقال كل ما ذكرت في معاوية وأصحابه قد جرى مثله لعلي وأصحابه أو ما هو أعظم من ذلك، وهو قتل طلحة والزبير ومن معهما من المهاجرين والأنصار، وأعظم من ذلك أن قتلة عثمان أمير المؤمنين رضي الله عنه كانوا مع علي، وكانوا من رؤوس عسكره، فما قلت في معاوية يقال في علي رضي الله عنه فكما تأوَّل علي رضي الله عنه في الدماء كذلك تأوَّل معاوية وأصحابه، فإن صحَّت هذه الدعوى ففيها من القدح والغضاضة في علي والحسن والحسين وابن عباس -رضي الله عنهم- ما لا يخفى.
وهذه الحجة التي ذكرت مما يحتج بها معاوية رضي الله عنه وأصحابه على علي رضي الله عنه وأصحابه، ولا يمكنك أن تأتي بحجة صحيحة تُبَرِّيء بها عليا وأصحابه دون معاوية وأصحابه، إلا بالمكابرة والمعاندة.
فظهر بما ذكرناه أن مذهب أهل السنة والجماعة هو الصواب الذي لا يتناقض؛ لأن الباغي قد يكون متأوِّلا معتقدا أنه على حق، وقد يكون متعمدا يعلم أنه باغٍ، وقد يكون بغيه مركبا من شبهة وشهوة وهو الغالب، وعلى كل تقدير فهذا لا يقدح فيما عليه أهل السنة، فأصلهم مستقيم مطرد في هذا الباب، وأما أنتم فمتناقضون.
وذلك أن النواصب من الخوارج وغيرهم الذين يُكَفِّرون عليا أو يُفسِّقُونه أو يشكون في عدالته من المعتزلة والمروانية وغيرهم لو قالوا لكم: ما الدليل على إيمان
ص -203-(47/3)
علي وإمامته وعدله؟ لم يكن لكم حجة، فإنكم إن احتججتم بما تواتر من إسلامه وعبادته، قالوا لكم: وهذا متواتر عن الصحابة والتابعين والخلفاء الثلاثة وغيرهم. فليس قدحنا في إيمان علي وأصحابه إلا مثل قدحكم في إيمان معاوية وأصحابه. وإن احتججتم بما في القرآن من الثناء والمدح على الصحابة، قالوا: آيات القرآن عامة تتناول غير علي منهم مثل ما تتناول عليا رضي الله عنه، وإن أخرجتم هؤلاء من المدح والثناء، فإخراجنا عليا أيسر وأهون، فإن احتججتم عليهم بالنص الذي تدعونه، كان احتجاجهم بالنصوص التي يدعونها في أبي بكر، بل في العباس معارضا لذلك -رضي الله عنهم-، ولا ريب عند كل من يعرف الحديث أن تلك أولى بالقبول والتصديق. فإذا قال الرافضي: إن معاوية رضي الله عنه كان باغيا ظالما، قال له الناصبي: وعلي كان باغيا ظالما، قتل المسلمين على إمارته، وبدأهم بالقتال، وصال عليهم، وسفك دماء الأمة بغير فائدة لهم لا في دينهم ولا في دنياهم، وكان السيف في خلافته مسلولا على أهل الملة مكفوفا عن الكفار.
والقادحون في علي رضي الله عنه طوائف: طائفة تقدح فيه وفيمن قاتل جميعا. وطائفة تقول: فسق أحدهما لا بعينه، كما يقول ذلك عمرو بن عبيد وغيره من شيوخ المعتزلة، يقولون في أهل الجمل: فسقت إحدى الطائفتين لا بعينها، وهؤلاء يُفَسِّقُون معاوية. وطائفة تقول: هو الظالم دون معاوية كما تقوله المروانية. وطائفة تقول: كان في أول الأمر مصيبا فلما حكَّم الحَكَمَيْن كفر وارتدَّ، وهؤلاء الخوارج، وكلهم مخطئون في ذلك ضالون مبتدعون، وخطأ الشيعة مثله أو أظهر بطلانا منه.
فإن قال الذابُّ عن علي رضي الله عنه هؤلاء الذين قاتلهم علي كانوا بغاة؛ لما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمار: "تقتلك الفئة الباغية"1، فللناس في هذا الحديث أقوال منهم: مَنْ قدح في حديث عمار، ومنهم مَنْ تأوَّله على أن الباغي الطالب، وهو ضعيف، ومنهم مَنْ تأوَّله على(47/4)
عليٍّ وأصحابه كما قال معاوية لَمَّا
__________
1 مسلم: الفتن وأشراط الساعة (2916) , وأحمد (6/289 ,6/300 ,6/311 ,6/315).
ص -204-
قيل له: إن عمارا قُتِل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تقتلك الفئة الباغية"1، فقال: "أفنحن قتلناه؟ إنما قتله علي وأصحابه، جاؤوا به حتى ألقوه بين أسيافنا ورماحنا، وإنما ندفع عن أنفسنا". وهذا تأويل باطل؛ ولهذا ردَّه أمير المؤمنين علي رضي الله عنه بما لا حيلة فيه، فقال: إذًا فرسول الله صلى الله عليه وسلم قتل حمزة رضي الله عنه حين جاء به يقاتل المشركين.
وأما أهل السنة والجماعة -رحمهم الله - فكلامهم مستقيم، ولا مطعن فيه لأحد؛ لأنهم اتفقوا على أنه لا تُفَسَّقُ واحدة من الطائفتين، وإن قالوا في إحداهما إنهم كانوا بغاة؛ لأنهم كانوا متأوِّلين مجتهدين، والمجتهد المخطئ لا يُكَفَّر ولا يُفَسَّق، وإن تعمَّد البغي فهو ذنب من الذنوب، والذنوب يُرْفَعُ عقابها بأسباب متعددة كالتوبة، والحسنات الماحية، والمصائب المكفرة، وشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم ودعاء المؤمنين، وغير ذلك من الأسباب؛ ولهذا قال محمد بن شهاب الزهري- وهو من أئمة التابعين-: "هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون، فأجمع رأيهم على أن كل دم أو مال أصيب بتأويل القرآن فهو هدر" أو كلاما هذا معناه، أخرجه غير واحد من الأئمة.
فصل مذهب الزيدية في لعن معاوية
وأما قوله في تحقيق مذهب الزيدية في لعن معاوية: (أنهم يظهرون- حيث يخشون التهمة- بموالاته المحرمة بنص الكتاب العزيز، حيث قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ}2 فلا يوجبونها مطلقا ولا يستحبونها مطلقا...) إلى آخر كلامه.
(فالجواب): أن يقال: أنت قرَّرت في أول اعتراضك أنه لو جاء ملك بلعن إبليس- لعنه الله- على المنابر لَعُدَّ مبتدعا، فكيف(47/5)
استجزتم -أيها المنتسبون إلى زيد رضي الله عنه- لعن معاوية -رضي الله عنه-؟! ما هذا التناقض العظيم والتهور فيما يوجب العذاب الأليم؟!
__________
1 مسلم: الفتن وأشراط الساعة (2916) , وأحمد (6/289 ,6/300 ,6/311 ,6/315).
2 سورة الممتحنة آية: 1.
ص -205-
وأما استدلاله بهذه الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ}1، وقوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ}2 الآية، فهي دعوى باطلة كدعوى الخوارج والمبغضين لعلي رضي الله عنه وأهل بيته بأن هذه الآيات فيهم، فكما أن دعواهم ظاهرة البطلان، فكذلك دعواكم.
دعوى أن أهل السنة رضوا بسب علي رضي الله عنه
وأما دعواه أن أهل السنة قد رضوا بسبِّ علي رضي الله عنه فكذب عليهم لا يمتري فيه أحد، بل هم ينكرون سب علي رضي الله عنه أشد الإنكار في قديم الزمان وحديثه، وهم الذين عملوا بقوله -تبارك وتعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ}3 الآية.
فصل لا أحد يشهد لأحد بالجنة أو النار إلا من ثبت له ذلك
وأما قوله: (قد حكمت بدخوله الجنة).
(فالجواب): أن يقال: هذا كذب ظاهر على المجيب؛ وذلك أنه هو وسلفه من أهل السنة والجماعة لا يشهدون لِمُعَيَّنٍ بالجنة إلا لمن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه من أهل الجنة، كالعشرة وغيرهم من الصحابة -رضي الله عنهم، الذين ثبتت الأحاديث في تعيينهم أنهم من أهل الجنة. وأما مَنْ سواهم فلا يشهدون له بذلك، ولكنهم يرجون لجميع المؤمنين دخول الجنة، ويخافون على مَنْ أذنب من النار، ولا يقطعون لمعين بأنه من أهل الجنة أو من أهل النار إلا من ثبت له ذلك في القرآن كأبي لهب والوليد بن المغيرة(47/6)
وقوم نوح، وجميع المهلكين من الأمم، ومَنْ ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لعنهم لمعاوية يستلزم الطعن في الحسن والحسين وسائر آل البيت
ويقال أيضا: إن كان ما قلت حقا فأول مَنْ يدخل في هذه الآيات الحسن بن علي -رضي الله عنهما- وأخوه الحسين، ومن معهما من أهل البيت وربيعة ومضر وهمدان، حين انخلع الحسن لمعاوية رضي الله عنه من الخلافة، وولَّى عليها من هو عدو لله ورسوله صلى الله عليه وسلم عندكم، ووافقه على ذلك أخوه الحسين، وكل مَنْ معه من
__________
1 سورة الممتحنة آية: 1.
2 سورة الأنعام آية: 68.
3 سورة النساء آية: 135.
ص -206-(47/7)
المسلمين، ورضوا بذلك من غير إكراهٍ ولا غلبة من معاوية وأهل الشام، بل بمجرد ما تقابل الجمعان جرت بينهما المفاوضة في الصلح قبل أن يقع بينهما قتال، أفلا يستحي العاقل من هذه الخرافات التي تنادي على قائلها بالارتكاس في الظلمات؟! وهذا كافٍ في بطلان كلامك.
فصل حمل الشيعة أخبار المرتدين على من قاتلهم من الصحابة لا عليهم
وأما قوله: (وإذا كان معاوية في الجنة، فليت شعري، أين تضع الأحاديث الواردة في دواوين الإسلام، كقوله -عليه الصلاة والسلام-: "يُؤْتَى برجال من أصحابي فَيُؤْخَذُ بهم ذات الشمال"1 إلى آخره، أفتنَزه معاوية ومَنْ معه مثل عمرو بن العاص وابنه عبد الله، وتضعها في سعد بن معاذ وعمار وخزيمة -ذي الشهادتين- ومن قاتل مع علي رضي الله عنه بصفين؟! أم في العشرة المبشرة بالجنة -رضي الله عنهم-؟! فاختر لنفسك أين تضعها على مقتضى شهواتك أنت وأهل السنة والجماعة...) إلى آخره.
(فالجواب): أن يقال: قد بيَّنا فيما تقدم أن أهل العلم الذين رووا هذه الأخبار حملوها على مَن ارتدَّ من جفاة الأعراب بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم وماتوا على الردة، كالأسود العنسي وأصحابه الذي تنبَّأ بصنعاء، وتبعه خلق من أهل اليمن حتى قتله الله، وكمسيلمة صاحب اليمامة وأصحابه، وكأصحاب طليحة الأسدي الذين قتلهم خالد، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا خلقا عظيما. ومنهم مَنْ قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه، أفتنكر أنه لم يقع ردة بعد النبي ولا كفر أحد ممن أسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم حتى جرى قتال معاوية لعلي -رضي الله عنهما-؟
ويقال أيضا: دعواك أن هذه الأحاديث محمولة على معاوية، ومن معه من الصحابة من جنس دعوى الخوارج الذين يُكَفِّرون عليا ومن والاه، ويحملون هذه الأحاديث عليهم، فما يمكنك أن تأتي بحجة إلا عارضوك بما هو من جنسها، فاتق الله، ولا تكن من الذين يجادلون بالباطل؛ فتكون مع الهالكين.(47/8)
__________
1 البخاري: تفسير القرآن (4625) , ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2860) , والترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2423) وتفسير القرآن (3167) , والنسائي: الجنائز (2087) , وأحمد (1/235 ,1/253).
ص -207-
فصل
وأما قوله: (إن المراد بقوله تعالى: {إِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا}1 أي: أرادوا الاقتتال، وأنها كقوله تعالى: {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ}2، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم "من بدَّل دينه فاقتلوه"3 إلى آخر كلامه).
(فالجواب): أن يقال: هذا لو عارضناه بكلام أهل التفسير من أهل السنة والجماعة، أو بما رووه من الأحاديث لم يقبل ذلك، فالواجب معارضته بما لا يقدر على إنكاره، وهو ما اتفقنا نحن وهم عليه، وهو أن الحسن بن علي -رضي الله عنهما- انخلع من الخلافة لمعاوية مع حضور أهل البيت وجمهور المسلمين معه، أفتقول: إن الحسن لا يفهم كلام الله ولا كلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما عرفته أنت وشيعتك؟ فيلزم من كلامك أن الحسن ومَنْ معه هم الذين سلَّطوا الكفار والفساق على فساد الدين، والكفر برب العالمين.
(وجواب ثان): وهو أنه تواتر عن علي رضي الله عنه أنه لَمَّا قتل أهل الجمل، لم يفعل فيهم كفعله في الكفار المرتدين من السبي، وأخذ الأموال، والإجهاز على الجريح كما احتجَّ بهذه الحجة على الخوارج حبر الأمة، وترجمان القرآن ابن عباس -رضي الله عنهما-.
(وجواب ثالث): وهو أن يقال: الآية نفسها مصرِّحة بنقيض ما فسَّرها به هذا المعترض؛ لأن الله -تبارك وتعالى- قال في أولها: "اقتتلوا" وهذا فعل ماض بإجماع النحويين، ثم قال: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى}4 أي: بعد الاقتتال والإصلاح، ثم قال: {فَإِنْ فَاءَتْ}5 أي: رجعت عن البغي {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}6 ثم(47/9)
قال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ
__________
1 سورة الحجرات آية: 9.
2 سورة المائدة آية: 54.
3 البخاري: الجهاد والسير (3017) , والترمذي: الحدود (1458) , والنسائي: تحريم الدم (4059 ,4060 ,4061 ,4062 ,4064 ,4065) , وأبو داود: الحدود (4351) , وابن ماجه: الحدود (2535) , وأحمد (1/217 ,1/282 ,1/322).
4 سورة الحجرات آية: 9.
5 سورة الحجرات آية: 9.
6 سورة الحجرات آية: 9.
ص -208-(47/10)
أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}1.
فالآية من أولها إلى آخرها تنادي بتكذيب هذا المعترض الذي يفسر كتاب الله برأيه.
(وجواب رابع): وهو أن يقال: إذا جوَّزت أن يكون المراد بقوله -تبارك وتعالى-: {إِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} 2 أن يكون المعنى أي: أرادوا الاقتتال، أو قوله: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى} 3 أي: أرادوا البغي؛ جاز أن يقال ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم "من بدَّل دينه فاقتلوه"4، فيكون معنى الحديث عندكم: مَنْ أراد تبديل دينه وَهَمَّ بذلك -وإن لم يتكلم ويعمل- فاقتلوه.
وهذا لا يقوله من يفهم ما يقول؛ وذلك لأن ما في القلوب من الإرادات والنيات لا يعلمه إلا الله، وجاز أن يكون معنى قوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ}5 أي: يرد قتله وإن لم يقتله، وجازه –أيضا- ذلك في جميع آيات الوعد والوعيد كقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً}6 أي: يرد أن يعصي الله ورسوله ويتعد حدوده، وإن لم يفعل ذلك، فإن طردت ما قلت لزمك أن تقول ذلك في جميع ما شابهها في آيات الوعد والوعيد والأمر والنهي.
حكاية مكذوبة
وأما الحكاية التي ذكرها أن معاوية رضي الله عنه أظهر لأهل الشام، أن عليا لا يصلي، حتى حاجَّ بذلك بعض أهل الشام هاشم بن عتبة رضي الله عنه فهي من أظهر الكذب والبهتان عند من له أدنى معرفة بهذا الشأن، وقد ذكرنا بالنقول المتواترة أن أهل الشام إنما قاتلوا عليا ومَن معه للطلب بدم عثمان -رضي الله عنه-؛ لأن قتلة عثمان كانوا رؤوس جيش علي، ولا يحكي مثل هذه الحكاية إلا من لا يستحي من الكذب.(47/11)
__________
1 سورة الحجرات آية: 10.
2 سورة الحجرات آية: 9.
3 سورة الحجرات آية: 9.
4 البخاري: الجهاد والسير (3017) , والترمذي: الحدود (1458) , والنسائي: تحريم الدم (4059 ,4060 ,4061 ,4062 ,4064 ,4065) , وأبو داود: الحدود (4351) , وابن ماجه: الحدود (2535) , وأحمد (1/217 ,1/282 ,1/322).
5 سورة النساء آية: 93.
6 سورة النساء آية: 14.
ص -209-
فصل
وأما ذكره من استدلاله بحديث غَدِير خُمٍّ، وأنه ورد من روايات جماعة من الصحابة، فقد قدَّمنا الجواب عنه، وقد بيَّن أهل العلم أنه لا يدل على ما ذهب إليه الروافض والزيدية؛ لأن المولى يطلق على معاني متعددة.
وأما قوله: " اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، وأعن من أعانه"، فهذا ليس في الأحاديث الصحيحة التي صحَّحها أهل العلم بالحديث، بل طعن كثير منهم في هذه الزيادة، قالوا: والواقع يشهد بكذبها؛ لأن النصر والغلبة والإعانة وقع لمن حاربه وقاتله، ومعلوم أن دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم مجاب، فلو كان هذا حقا وصدقا لوقع الأمر بخلاف ما وقع، وأنت لا تنكر أن الغلبة والظفر والإعانة كان لمن قاتله وحاربه، فبطل ما ذكرت -ولله الحمد والمنة-.
وأكثر هذه الأحاديث التي ذكرها في أول هذا الاعتراض وآخره قد بين أهل العلم بالحديث أنها كذب موضوعة مفتراة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم من العجب استدلاله بكلام عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه حين ذكروا عثمان وعليا وطلحة والزبير -رضي الله عنهم- وما كان منهم، فأكثروا وعمر ساكت، فقال القوم: ألا تتكلم يا أمير المؤمنين؟ قال: "لا أقول شيئا، تلك دماء طَهَّرَ الله منها كفي، فلا أغمس فيها لساني". ا هـ.
وهذا هو الذي أراد المجيب؛ لأن الله أثنى عليهم في كتابه جملة قال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ(47/12)
بَيْنَهُمْ}1، وأثنى على من جاء بعدهم، فدعا لهم بالمغفرة، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}2.
فإن قلت: إن هؤلاء الآيات في السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار،
__________
1 سورة الفتح آية: 29.
2 سورة الحشر آية: 10.
ص -210-(47/13)
قلنا: جاءتك قاصمة الظهر، وهي قوله -تبارك وتعالى-: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى}1.
أحاديث في مناقب معاوية وعمرو بن العاص رضي الله عنهما
ومعلوم بإجماعنا وإجماعكم أن معاوية وعمرو بن العاص -رضي الله عنهما- ممن أسلم بعد الفتح، والأحاديث الواردة في فضل معاوية وعمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قد رواها مَنْ روى تلك الأحاديث في فضل علي رضي الله عنه وأهل البيت، فإما أن تقبل الجميع، وإما أن ترد الجميع، وأما أن تقبل ما وافق هواك، وترد ما خالفه بلا برهان ولا حجة يوافقك عليها أهل المعرفة، فهذا تناقض، وقد قال السيوطي: أخرج الترمذي وحسَّنه عن عبد الرحمن بن أبي عمرة الصحابي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمعاوية: "اللهم اجعله هاديا مهديا"2.
وأخرج الإمام أحمد في مسنده عن العرباض بن سارية سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم علمه الكتاب والحساب، وقه العذاب"3.
وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف والطبراني في الكبير عن عبد الملك بن عمير قال: "قال لي معاوية رضي الله عنه: ما زلت أطمع في الخلافة منذ قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يا معاوية، إذا ملكت فأحسن".
وأخرج الترمذي عن أبي إدريس الخولاني قال: "لما عزل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عمير بن سعد عن حمص، وولَّى معاوية رضي الله عنه، فقال الناس: عزل عميرا وولى معاوية، فقال عمير: لا تذكروا معاوية إلا بخير، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم اهد به"4.
وقال آدم عن حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم "أبناء العاص مؤمنان عمرو وهشام"5 وقال عبد الجبار بن الورد عن ابن أبي مليكة قال طلحة: "ألا أحدثكم عن رسول الله(47/14)
صلى الله عليه وسلم
__________
1 سورة الحديد آية: 10.
2 الترمذي: المناقب (3842) , وأحمد (4/216).
3 أحمد (4/127).
4 الترمذي: المناقب (3843).
5 أحمد (2/304).
ص -211-
بشيء؟ ألا إني سمعته يقول: عمرو بن العاص من صالح قريش"1 وسمعته صلى الله عليه وسلم يقول: "نعم أهل البيت: أبو عبد الله، وأم عبد الله، وعبد الله"2. ا هـ ما ذكره الحافظ أبو الحجاج المزي في تهذيبه.
فصل كذب الشيعة على معاوية وما أنكره أهل السنة عليه
وأما ما ذكره من إحداثات معاوية، منها: إلحاقه زياد بن سمية بأبيه، فأهل العلم ينكرون ذلك على معاوية في قديم الزمان وحديثه، وكذلك أخذ البيعة لابنه الظالم، ينكرون ذلك ولا يرضونه حتى أنكر مَنْ أنكر منهم ذلك عليه بنفسه في حياته، وأما قوله: إنه أمر علماء السوء بأن يضعوا أحاديث في فضائل الصحابة الذين تقدموا عليا، وفي مثالب علي، فهذا من أظهر الكذب عند الخاصة والعامة من أهل العلم بالأخبار والسير، وأهل الوضع للحديث هم الشيعة كما تقدم ذكره عن أهل الحديث. وأما لعن علي رضي الله عنه فهو من المنكرات، وأهل السنة والجماعة ينكرون على من فعله كائنا من كان.
ومن العجب قوله: ولو لم يقطعه عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لبقي في الشام إلى اليوم. فيقال: وما يدريك بذلك، أقرأت في اللوح المحفوظ، فكتبت هذا الكلام منه؟! أم بلغك ذلك في حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أخبر بذلك فهو الصادق فيما أخبر به؟ وأيضا أنت ذكرت عن ابن تيمية -رحمه الله- في أول كتابك، وفي هذا الموضع أنه لم ينقطع إلا قبل وقته، فهذا يرد قولك أنه لو لم يقطعه عمر لبقي إلى اليوم، وأيضا أنت كذبت على ابن تيمية، فإنه لم يقل ذلك، وابن تيمية -رحمه الله- أجلُّ من أن يقول مثل هذه الخرافات والجهالات في المنقولات.
وأيضا من المعلوم المتواتر أن بني أمية بعد موت عمر بن عبد العزيز رضي(47/15)
الله عنه استمروا على سبِّ علي، ولم ينقطع من الشام ولا من غيره من بلاد الإسلام إلا بعد انقراض دولة بني أمية في ولاية بني العباس.
__________
1 الترمذي: المناقب (3845).
2 أحمد (4/150).
ص -212-
وأما قوله: ومن إحداثاته ترك الجهر ببسم الله الرحمن الر حيم في أول السورة، فهذا كذب ظاهر، وما ذكره عن الرازي دعوى مجردة لا دليل عليها، وأيضا معارضة بما هو من أصح الأسانيد، وهو ما ثبت في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه أنه قال: "صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر وعمر، فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين، لا يذكرون بسم الله الرحمن الر حيم في أول القراءة ولا في آخرها"1.
وأما تشريعه الإقامة في صلاة العيدين، فكذب ظاهر، فإن الذي أحدثه بنو أمية بعد معاوية في العيدين هو تقديم الخطبة على الصلاة كما في الصحيحين: أن أول من فعل ذلك مروان بن الحكم، فأنكر عليه أبو سعيد الخدري وغيره من الصحابة -رضي الله عنهم- أجمعين.
فصل دعوى الزيدية العصمة لعلي كدعوى الإمامية النص على إمامته
وأما دعواه العصمة لعلي رضي الله عنه وقوله: (قد حصل القطع بها، ولا ينكرها إلا مكابر، إلى آخره.
(فالجواب): أن يقال: (أولا) هذه الدعوي من جنس دعوى الإمامية بالنص والعصمة لعلي وأولاده، ومن جنس دعوى الباطنية، وجنس دعوى السبائية في محمد بن علي -المعروف بابن الحنفية-، وما أحسن ما قال بعضهم:
لي حيلة فيمن ينم
وليس في الكذاب حيلة
من كان يخلق ما يقو
ل فحيلتي فيه قليلة(47/16)
وقد تقدم الجواب عن أدلته التي ذكر مفصلا مبينا، ولكن نذكر فصلا نختم به كتابنا هذا، ننقل فيه كلام أهل البيت في الرد على هذا المعترض وأشباهه؛ ليتبين الحق لمن أراد الله هدايته، وأما من أراد الله به الشقاء والخذلان، فذلك لا حيلة فيه كما قال تعالى: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ}2 الآية.
__________
1 البخاري: الأذان (743) , ومسلم: الصلاة (399) , والترمذي: الصلاة (246) , والنسائي: الافتتاح (902 ,903) , وأبو داود: الصلاة (782) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (813) , وأحمد (3/101 ,3/111 ,3/168 ,3/176 ,3/179 ,3/203 ,3/205 ,3/223 ,3/255 ,3/264 ,3/273 ,3/275 ,3/278 ,3/289) , والدارمي: الصلاة (1240).
2 سورة المائدة آية: 41.
ص -213-(47/17)
فصل في كلام بعض أهل البيت في الثناء على معاوية
في ذكر شيء من كلام أهل البيت -رضي الله عنهم- في الثناء على معاوية رضي الله عنه.
من ذلك ما أخرجه غير واحد من أهل العلم أن عليا رضي الله عنه قال: "لا تكرهوا إمارة معاوية، فإنكم لو فقدتموه لرأيتم الرؤوس تندر على كواهلها"، وثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه أن رجلا قال له: هل لك في أمير المؤمنين معاوية أنه أوتر بركعة؟ فقال: "أصاب إنه فقيه" فهذه شهادة ابن عباس، وهو من أكابر علماء أهل البيت.
ترك الحسن الخلافة لمعاوية وكلامه في إمامة والده
ومن ذلك انسلاخ الحسن رضي الله عنه عن الخلافة لمعاوية رضي الله عنه قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب "الاستيعاب في معرفة الأصحاب" في ترجمة الحسن بن علي رضي الله عنه: "كان -رحمه الله- حليما ورعا، دعاه ورعه وفضله إلى أن ترك الملك والدنيا رغبة فيما عند الله". وقال: "والله ما أحب منذ عرفت ما ينفعني وما يضرني أن ألي أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم على أن يهراق في ذلك محجمة دم". وكان من المبادرين إلى نصرة عثمان رضي الله عنه والذابِّين عنه، ولما قتل أبوه علي رضي الله عنه بايعه أكثر من أربعين ألفا كلهم قد بايعوا أباه عليا قبل موته على الموت، وكانوا أطوع للحسن وأحب فيه منهم في أبيه.
فبقي نحو سبعة أشهر خليفة في العراق وما وراءها من خراسان، ثم سار إلى معاوية وسار معاوية إليه- وذكر ما جرى بينهما، إلى أن قال-: وكان كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين"1. وكان أصحاب الحسن يقولون: "يا عار المؤمنين". فيقول:" العار خير من النار" وذكر بإسناده عن أبي روق الهمداني أن أبا العريف حدثه قال: "كنا في مقدمة الحسن بن علي اثني عشر ألفا مستميتين، تقطر(47/18)
__________
1 البخاري: الصلح (2704) , والترمذي: المناقب (3773) , والنسائي: الجمعة (1410) , وأبو داود: السنة (4662) , وأحمد (5/37 ,5/49).
ص -214-
أسيافنا من الجد والحرص على قتال أهل الشام، وعلينا أبو العمرطة، فلما جاءنا صلح الحسن بن علي كأنما كسرت ظهورنا من الغيظ والحزن، فلما جاء الحسن الكوفة أتاه شيخ منا يُكْنَى أبا عامر فقال: السلام عليك يا مذل المؤمنين. فقال: لا تقل هكذا يا أبا عامر، فإني لم أذل المؤمنين، ولكني كرهت أن أقتلهم على طلب الملك.
قال أبو عمر: وروينا من وجوه أن الحسن بن علي رضي الله عنه لما حضرته الوفاة قال للحسين أخيه: "يا أخي، إن أباك -رحمه الله- لمَّا قُبِضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم استشرف لهذا الأمر، ورجا أن يكون صاحبه، فصرف الله ذلك عنه، ووليها أبو بكر. فلما حضرت أبا بكر الوفاة تشوَّف إليها، وصرفت عنه إلى عمر. فلما احتضر عمر جعلها شورى بين ستة هو أحدهم، فلم يشك أنها لا تعدوه، فصرفت عنه إلى عثمان. فلما هلك عثمان بويع، ثم نوزع حتى جرَّد السيف، فطلبها وما صفا له شيء منها. وإني والله ما أرى أن يجمع الله فينا- أهل البيت- النبوة والخلافة، فلأعرفن ربما استخفَّك سفهاء الكوفة فأخرجوك". انتهى. فانظر -رحمك الله- إلى كلام هذا السيد، وما فيه من الرد على هذا المعترض من دعواه النص على عليٍّ رضي الله عنه وغير ذلك من الدعاوى الباطلة يتبين لك مخالفته لأهل البيت، وأن دعواه محبة أهل البيت كذب وافتراء ودعوى لا حقيقة لها.
كيف كان الصلح بين الحسن ومعاوية
ومن العجب أن يدَّعي عصمة أهل البيت فيحتج بالأحاديث والآيات على ذلك، وأنهم كسفينة نوح وباب حطة، ثم يخالفهم ويرد كلامهم، ولازم كلامه أن فعل الحسن رضي الله عنه من نزوله عن الخلافة ومصالحته معاوية هو سبب افتراق الأمة وضلالتها، وأن كلام الحسن لأخيه الحسين -رضي الله عنهما- كلام باطل،(47/19)
بل الواجب على الحسين وغيره من المسلمين الخروج على معاوية رضي الله عنه ومقاتلته وانتزاع الخلافة منه، ونحن نقول: بل الحسن مصيب بارٌّ راشد ممدوح، وليس يجد في صدره مما صنع حرجا ولا تلوُّما ولا ندما، بل هو راضٍ بذلك مستبشر به، وإن كان هذا قد ساء خلقا من ذويه وشيعته ولا سيما بعد ذلك بمدد وهلم جرا
ص -215-
إلى يومنا هذا.
والحق في ذلك اتباع السنة، وقد مدحه جده صلى الله عليه وسلم كما ثبت في صحيح البخاري ومسلم وغيرهما بالأسانيد الصحيحة عن الحسن البصري- وكان من سادات التابعين وأفاضلهم- قال: "استقبل الحسنُ بن علي معاويةَ بكتائب أمثال الجبال، فقال عمرو بن العاص لمعاوية: إني لأرى كتائب لا تُوَلِّي حتى تقتل أقرانها، فقال له معاوية- وكان والله خير الرجلين-: أي عمر، وإن قتل هؤلاء هؤلاء، وهؤلاء هؤلاء، مَنْ لي بأمور المسلمين، من لي بنسائهم، من لي بضيعتهم؟ فبعث إليه رجلين من قريش من بني عبد شمس، فقال: اذهبا إلى هذا الرجل، فاعرضا عليه وقولا له واطلبا إليه، فأتياه فدخلا عليه وتكلما وقالا له وطلبا إليه، فقال لهما الحسن رضي الله عنه إنا بنو عبد المطلب قد أصبنا من هذا المال، وإن هذه الأمة قد عاثت في دمائها. قالا له: فإنه يعرض عليك كذا وكذا ويطلب إليك ويسألك، قال: مَنْ لي بهذا، من لي بهذا؟ قالا: نحن لك به، فما سألهما شيئا إلا قالا: نحن لك به، قال الحسن: فصالحه، قال الحسن: ولقد سمعت أبا بكرة رضي الله عنه يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم والحسن بن علي رضي الله عنه إلى جنبه، وهو ينظر إلى الناس مرة، وإليه مرة، ويقول: إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين".
ما فعله الحسن من الصلح مع معاوية مما يحبه الله ورسوله
ففي هذا الحديث الصحيح أن معاوية رضي الله عنه هو الذي طلب إليه الصلح، والذي ذكره أهل السير والأخبار أن الحسن هو الذي كتب إلى معاوية يخبره أنه يصير الأمر إليه(47/20)
على شروط اشترطها عليه.
وقد أخرج الحاكم عن جبير بن نفير قال: قلت للحسن: إن الناس يقولون: إنك تريد الخلافة؟ فقال:" قد كانت جماجم العرب في يدي يحاربون من حاربت، ويسالمون من سالمت، تركتها ابتغاء وجه الله، وحقن دماء أمة محمد صلى الله عليه وسلم من أهل الحجاز". أو كما قال.
ص -216-
ففي هذا من الرد على المعترض ما يعرفه كل منصف، وذلك أن هذا المعترض جعل هذا الصلح والاجتماع الذي فعله الحسن بن علي، ووافقه عليه أهل بيته وجمهور المسلمين هو سبب فساد الأمة وافتراقها، فعلى كلامه يكون الحسن هو الذي تسبَّب في فساد الأمة، وظهور الفتن فيها.
فإن قال: ألجأه إلى ذلك الخوف والضعف. قلنا: هذا باطل من وجوه كثيرة: (منها): ما تقدم من كثرة جيش الحسن رضي الله عنه ومحبة الناس له وانقيادهم معه، وقد بيَّن رضي الله عنه أن الذي حمله على ذلك هو كفُّ الفتنة، وإيثار الآخرة على الدنيا؛ ولهذا مدحه النبي صلى الله عليه وسلم على فعله ذلك.
قال العلماء -رحمة الله عليهم-: فدلَّ هذا على أن قتال أهل الشام ليس بواجب قد أوجبه الله ورسوله، ولو كان واجبا لم يمدح النبي صلى الله عليه وسلم الحسن بتركه. فدل الحديث على أن ما فعله الحسن بن علي مما يحبه الله ورسوله، وتواترت الأخبار عن علي رضي الله عنه بكراهة القتال في آخر الأمر، لما رأى اختلاف الناس، واختلاف شيعته عليه وتفرقهم، وكثرة الشر الذي أوجب أنه لو استقبل من أمره ما استدبر ما فعل ما فعل، وكان يقول رضي الله عنه ليالي صفين "لله در مقام قامه عبد الله بن عمر وسعد بن مالك: إن كان برا إن أجره لعظيم، وإن كان إثما إن خطره ليسير"، وكان يقول لابنه الحسن رضي الله عنه: "يا حسن، يا حسن، ما ظن أبوك أن الأمر يبلغ إلى هذا، ود أبوك لو مات قبل هذا بعشرين سنة".
ما كان بين علي ومعاوية – رضي الله عنه - من المهادنة بعد صفين
حتى ذكر ابن كثير وغيره من أهل التواريخ أن في سنة أربعين بعد وقعة(47/21)
صفين جرت بين علي ومعاوية المهادنة على وضع الحرب، وأن يكون ملك العراق لعلي، ولمعاوية ملك الشام، ولا يدخل أحد على صاحبه في عمله بجيش ولا غارة ولا غيرها، ذكر ذلك من رواية زياد عن ابن إسحاق؛ وذلك لأن معاوية رضي الله
ص -217-
عنه بعد أن رجع من صفين إلى الشام، ورجع علي رضي الله عنه إلى الكوفة فرَّق معاوية رضي الله عنه جيوشا كثيرة في أطراف معاملات علي رضي الله عنه، فبعث النعمان بن بشير في ألفي فارس على عين النمر، وبها مالك بن كعب في ألف فارس مسلَّحة لعلي رضي الله عنه، فلما سمعوا بقدوم الشاميين ارفضّوا عنهم، فلم يبق مع مالك إلا مائة رجل، فكتب إلى علي يخبره بأمر النعمان، فندب علي الناس إلى إغاثته، فتثاقلوا عليه ونكلوا ولم يجيبوا إلى الخروج، فخطبهم علي رضي الله عنه فقال في خطبته: "يا أهل الكوفة كلما سمعتم بمسيرٍ لأهل الشام قد أظلكم انحجر كل امرئ منكم في بيته، وغلق عليه بابه انحجار الضب في جحره، والضبع في وجاره، المغرور مَنْ غررتموه، ومن فاز بكم فاز بالسهم الأخيب، لا أحرار عند النداء، ولا إخوان ثقة عند الالتجاء، إنا لله وإنا إليه راجعون، ما هذا ملئت به منكم، عمي لا تبصرون، وبكم لا تنطقون، وصم لا تسمعون، إنا لله وإنا إليه راجعون". قال أهل الأخبار: حتى كره الحياة بينهم وتمنَّى الموت، وكان يكثر أن يقول: "ماذا يحبس أشقاها؟" أي: ما ينتظر؟ ما له لا يقتل؟ ثم يقول: "والله لتخضبن هذه- ويشير إلى لحيته- من هذه- ويشير إلى هامته-".
قال ابن كثير -في تاريخه-: وقد روى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق كثيرة ثم سرد تلك الطرق.
ما يروى من ذم علي وكراهته لأهل العراق
وقال الأعمش عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن الحارث عن زهير بن الأرقم قال: خطبنا علي رضي الله عنه قال: "نبئت أن قراءكم قد خلعوا الإمام، وإني والله لأحسب هؤلاء القوم سيظهرون عليكم، وما يظهرون عليكم إلا بعصيانكم إمامكم وطاعتهم إمامهم،(47/22)
وخياناتكم أماناتكم، وأدائهم أمانتهم، وإفسادكم في أرضكم، وإصلاحهم في أرضهم، قد بعثت فلانا فخان وغدر، وبعثت فلانا فخان وغدر، وبعث بالمال إلى معاوية، لو أئتمنت أحدكم على قدح لأخذ علاقته. اللهم سئمتهم وسئموني
ص -218-
وكرهتهم وكرهوني، اللهم فأرحني منهم وأرحهم مني". قال فما صلى الجمعة الأخرى حتى قُتِلَ. انتهى ما نقله من تاريخ ابن كثير الذي سمَّاه "البداية والنهاية".
لم يعهد الرسول – صلّى الله عليه - إلى علي من دماء أهل القبلة شيئا
وقد كان رآه عليا رضي الله عنه في دماء أهل القبلة لم يعهده إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أمره به، كما في سنن أبي داود وغيره: "عن قيس بن عباد قال: قلت لعلي أخبرنا عن مسيرك هذا، عهد عهده إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم أم رأي رأيته؟ قال: ما عهد إلي النبي صلى الله عليه وسلم شيئا"1، وهذا أمر ثابت عنه؛ ولهذا لم يرو علي في قتال أهل الجمل وصفين عن النبي صلى الله عليه وسلم كما روى في قتال الخوارج، فإنه روى هو وغيره من الصحابة في قتال الخوارج أحاديث كثيرة، أخرجها علماء أهل السنة كالبخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، قال الإمام أحمد:" صحَّ الحديث في الخوارج عن النبي صلى الله عليه وسلم من عشرة أوجه".
وأما الحديث الذي يروى أنه أمر بقتل الناكثين والقاسطين والمارقين، فقد قال أهل العلم بهذا الشأن: إنه حديث موضوع على النبي صلى الله عليه وسلم.
ماجرى بعد موت معاوية من فتن قتل الحسين غيرها
وقد روى البخاري وغيره عن سهل بن حنيف- وهو ممن قاتل مع علي بصفين: "أيها الناس اتهموا الرأي على الدين، لقد رأيتني يوم أبي جندل، ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددته، وما أردت بذلك إلا الخير، وما رفعنا سيوفنا على عواتقنا إلا أسلمنا بها إلى أمر نعرفه غير أمركم هذا، ما سددنا خصما إلا انفجر لنا خصم آخر"2 ؛ وذلك لأن هذا القتال لم يحصل به(47/23)
مصلحة للمسلمين لا في دينهم ولا في دنياهم، بل أُريقت به دماء ألوف مؤلَّفة من المسلمين، ونقص الخير عما كان، وزاد الشر على ما كان، ولما تولى معاوية رضي الله عنه الخلافة واستتم له الأمر اتفقت الكلمة، وكان الناس في ولايته متفقين يغزون العدو، ويجاهدون في سبيل الله، فلما مات معاوية -رحمه الله- جرت فتن عظيمة منها قتل الحسين وأهل بيته، ثم جرت فتنة الحرة بالمدينة، ثم حصر ابن الزبير بمكة. ثم لما مات
__________
1 أبو داود: السنة (4666).
2 البخاري: الجزية (3181) , ومسلم: الجهاد والسير (1785) , وأحمد (3/485).
ص -219-(47/24)
يزيد جرت فتنة بالشام بين مروان والضَّحَّاك بمرج راهط، وجرت فتنة مصعب بن الزبير، وقتل مصعب، ثم حاصر الحجاج ابن الزبير وقتله. وجرت فتنة لما تولى الحجاج العراق، وخرج عليه عبد الرحمن بن الأشعث معه خلق عظيم من القراء، وكانت فتنة كبيرة.
من أثنى من علماء التابعين على معاوية
وبالجملة، فلم يكن ملك من ملوك الإسلام خيرا من معاوية، ولا كان الناس في زمن ملك من ملوك المسلمين خيرا منهم في زمن معاوية، إذا نسبت أيامه إلى أيام من بعده.
وقد روى أبو بكر الأثرم حدثنا محمد بن عمرو حدثنا محمد بن مروان عن يونس عن قتادة قال: "لو أصبحت في مثل عمل معاوية لقال أكثركم: هذا المهدي"، وكذلك رواه ابن بطة بإسناده الثابت من وجهين عن الأعمش عن مجاهد قال: "لو أدركتم معاوية لقلتم: هذا المهدي".
ومعلوم بإجماع المسلمين أنه ليس قريبا من عثمان وعلي -رضي الله عنهما- فضلا عن أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- فكيف يُشبَّه غير الصحابة بهم، والله أعلم.
وروى أسد بن موسى قال: حدثنا محمد بن مسلم الطائفي عن إبراهيم بن ميسرة قال:" ما بلغني أن عمر بن عبد العزيز جلد سوطا في خلافته إلا رجلا شتم معاوية عنده، فجلده ثلاثة أسواط".
وروى أسد –أيضا- قال: حدثنا أبو هلال قال: حدثنا قتادة قال: قلت للحسن:" يا أبا سعيد، إن ههنا أناسا يشهدون على معاوية أنه من أهل النار. قال: لعنهم الله، وما يدريهم من في النار".
فقد تبين بما ذكرنا لكل منصف أريب، ولمن له قلب منيب، جهل هذا المعترض وأشباهه بما عليه أهل البيت، وأن دعواه اتباعهم ومحبتهم كذب وافتراء، ومجرد دعوى لا حقيقة لها، كما أن اليهود والنصارى يدعون اتباع أنبيائهم، وهم قد خالفوهم وسلكوا غير طريقهم، وكذلك الإمامية والغالية من الرافضة يدعون اتباع علي
ص -220-(47/25)
وأهل بيته، وهم قد خالفوا طريقتهم وسلكوا غير منهاجهم.
فقد تقرر وظهر -ولله الحمد والمنة- أن أسعد الناس باتباع أهل البيت ومحبتهم هم أهل السنة والجماعة، القائلون بما دل عليه كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وقد قال تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ}1 الآية، وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي}2 الآية.
ونسأل الله أن يوفقنا وسائر إخواننا المسلمين لما يحبه ويرضاه من القول والعمل، وأن يجنبنا ما يسخطه من الخطأ والزلل، ويرينا الحق حقا ويوفقنا إلى اتباعه، ويرينا الباطل باطلا، ويوفقنا إلى اجتنابه، ولا يجعله ملتبسا علينا فنضل.
الدعاء المأثور عند الاشتباه
وينبغي للمؤمن عند الاشتباه أن يلجأ إلى الله، ويضرع إليه، ويدعو بما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الليل وهو: "اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اخْتُلِفَ فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم"3.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. انتهى.
تم الكتاب
طبع عن نسخة كتب في آخرها:
وقع الفراغ من نسخه نهار الأربعاء عاشر رجب سنة 1343 بقلم الفقير إلى رحمة ربه القدير، المقر بالذنب والتقصير عبد الرحمن بن محمد بن براك، غفر الله
له ولوالديه ولإخوانه المسلمين. آمين.
__________
1 سورة آل عمران آية: 68.
2 سورة آل عمران آية: 31.
3 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (770) , والترمذي: الدعوات (3420) , والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار (1625) , وأبو داود: الصلاة (767) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1357) , وأحمد (6/156).
ص -221-(47/26)
الإيمان والرد على أهل البدع (مطبوع ضمن مجموعة الرسائل والمسائل النجدية لبعض علماء نجد الأعلام، الجزء الثاني) - عبد الرحمن بن حسن محمد بن عبد الوهاب (1)
الناشر:
دار العاصمة، الرياض، المملكة العربية السعودية
الأولى بمصر، 1349هـ، النشرة الثالثة، 1412هـ
كتاب الإيمان والرد على أهل البدع
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه أستعين وعليه أتوكل
الفائدة الأولى:
الكلام في الإسلام والإيمان في مقامات (الأول) فيما دل عليه حديث عمر رضي الله عنه في سؤال جبريل -عليه السلام- للنبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "أخبرني عن الإسلام، فقال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله"1 … الحديث "قال: أخبرني عن الإيمان، قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره"2.
فأخبر أن الإسلام هو الأعمال الظاهرة، والإيمان يفسر بالأعمال الباطنة، وبذلك يفسر كل منهما عند الاقتران، فإذا أُفْرِدَ الإيمان -كما في كثير من آيات القرآن- دخل فيه الأعمال الظاهرة والباطنة كما دل على ذلك كثير من الآيات والأحاديث، كقوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ}[سورة النساء آية: 136] … الآية.
فتناولت الآية جميع الأعمال الباطنة والظاهرة لدخولها في مسمى الإيمان. وأما الأركان الخمسة فهي جزء مسمى الإيمان، ولا يحصل الإسلام على الحقيقة إلا بالعمل بهذه الأركان والإيمان بالأصول الستة المذكورة في الحديث.
وأصول الإيمان المذكورة تتضمن الأعمال الباطنة والظاهرة؛ فإن(48/1)
__________
1 مسلم: الإيمان(8), والترمذي: الإيمان(2610), والنسائي: الإيمان وشرائعه(4990), وأبو داود: السنة(4695), وابن ماجه: المقدمة(63), وأحمد(1/51).
2 مسلم: الإيمان(8), والترمذي: الإيمان(2610), والنسائي: الإيمان وشرائعه(4990), وأبو داود: السنة(4695), وابن ماجه: المقدمة(63), وأحمد(1/51,1/52).
ص -2-
الإيمان بالله يقتضي محبته وخشيته وتعظيمه وطاعته بامتثال أمره وترك نهيه، وكذلك الإيمان بالكتب يقتضي العمل بما فيها من الأمر والنهي؛ فدخل هذا كله في الأصول الستة.
ومما يدل على ذلك قوله -تعالى-: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً}[سورة الأنفال آية: 2] إلى قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً}[سورة الأنفال آية: 4].
فدلت هذه الآيات على أن الأعمال الظاهرة والباطنة داخلة في مسمى الإيمان كقوله -تعالى-:
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}[سورة الحجرات آية: 15] فانتفاء الشك والريب من الأعمال الباطنة، والجهاد من الأعمال الظاهرة، فدل على أن الكل إيمان.
ومما يدل على أن الأعمال من الإيمان قوله -تعالى-: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}1 أي: صلاتكم إلى بيت المقدس قبل تحويل القبلة إلى الكعبة. ونظائر هذه الآية في الكتاب والسنة كثيرة كقوله صلى الله عليه وسلم في حديث وفد عبد القيس: "آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ شهادة ألا إله إلا الله، وأني رسول الله، وتقيموا الصلاة، وتؤتوا الزكاة، وتؤدوا خمس ما غنمتم"2، ففسر الإيمان بالأعمال الظاهرة، لأنها جزء مسماه كما تقدم.
إذا(48/2)
عرفت أن كلا من الأعمال الظاهرة والباطنة من مسمى الإيمان شرعا، فكل ما نقص من الأعمال التي لا يخرج نقصها من الإسلام، فهو نقص في كمال الإيمان الواجب كما في حديث أبي هريرة: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن،
__________
1 سورة البقرة آية: 143.
2 البخاري: التوحيد(7556), ومسلم: الإيمان(17), والترمذي: الإيمان(2611), والنسائي: الإيمان وشرائعه(5031), وأبو داود: الأشربة(3692), وأحمد(1/361).
ص -3-(48/3)
ولا ينتهب النهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن"1، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا إيمان لمن لا أمانة له"2، ونفي الإيمان عمن لا يأمن جاره بوائقه. فالمنفي في هذه الأحاديث كمال الإيمان الواجب فلا يطلق الإيمان على مثل هذه الأعمال إلا مقيداً بالمعصية أو بالفسوق، فيكون معه من الإيمان بقدر ما معه من الأعمال الباطنة والظاهرة، فيدخل في جملة أهل الإيمان على سبيل إطلاق أهل الإيمان كقوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}[سورة النساء آية: 92].
الفرق بين الإيمان المطلق ومطلق الإيمان
وأما المؤمن الإيمان المطلق الذي لا يتقيَّد بمعصية ولا بفسوق وبنحو ذلك، فهو الذي أتى بما يستطيعه من الواجبات مع تركه لجميع المحرمات، فهذا هو الذي يطلق عليه اسم الإيمان من غير تقييد، فهذا هو الفرق بين مطلق الإيمان والإيمان المطلق؛ والثاني هو الذي لا يصر صاحبه على ذنب، والأول هو المصر على بعض الذنوب. وهذا الذي ذكرته هنا هو الذي عليه أهل السنة والجماعة في الفرق بين الإسلام والإيمان، وهو الفرق بين مطلق الإيمان. والإيمان المطلق فمطلق الإيمان هو وصف المسلم الذي معه أصل الإيمان الذي لا يتم إسلامه إلا به، بل لا يصح إلا به؛ فهذا في أدنى مراتب الدين، إذا كان مصرا على ذنب أو تاركا لما وجب عليه مع القدرة عليه.
والمرتبة الثانية من مراتب الدين مرتبة أهل الإيمان المطلق الذين كمل إسلامهم وإيمانهم بإتيانهم بما وجب عليهم، وتركهم ما حرمه الله عليهم، وعدم إصرارهم على الذنوب؛ فهذه هي المرتبة الثانية التي وعد الله أهلها بدخول الجنة، والنجاة من النار كقوله -تعالى-: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ}[سورة الحديد آية: 21] … الآية. فهؤلاء اجتمعت لهم الأعمال الظاهرة والباطنة، ففعلوا ما أوجبه الله عليهم(48/4)
__________
1 البخاري: المظالم والغصب(2475), ومسلم: الإيمان(57), والترمذي: الإيمان(2625), والنسائي: قطع السارق(4870,4871), وأبو داود: السنة(4689), وابن ماجه: الفتن(3936), وأحمد(2/317,2/386), والدارمي: الأشربة(2106).
2 أحمد(3/135).
ص -4-
وتركوا ما حرم الله عليهم، وهم السعداء أهل الجنة. والله -سبحانه وتعالى- أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
الفائدة الثانية معنى لا إله إلا الله
بسم الله الرحمن الرحيم
اعلم رحمك الله: أن كلمة الإخلاص "لا إله إلا الله" لا تنفع قائلها إلا بمعرفة معناها، وهو نفي الإلهية عما سوى الله -تعالى- والبراءة من الشرك في العبادة، وإفراد الله بالعبادة بجميع أنواعها كما قال -تعالى-: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ}[سورة آل عمران آية: 64] ومعنى {سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}أي: نستوي نحن وأنتم في قصر العبادة، وترك الشرك كله.
وقال الخليل -عليه السلام-: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[سورة الزخرف آية: 26] فهذا هو حقيقة معنى لا إله إلا الله، وهو البراءة من كل ما يعبد من دون الله، وإخلاص العبادة له وحده، وهذا هو معناها الذي دلَّت عليه هذه الآيات، وما في معناها. فمن تحقق ذلك وعلمه، فقد حصل له العلم بها المنافي لما عليه أكثر الناس حتى من ينتسب إلى العلم من الجهل بمعناها.
فإذا عرفت ذلك، فلا بد من القبول لما دلت عليه، وذلك ينافي الرد؛ لأن كثيرا ممن يقولها ويعرف معناها لا يقبلها، كحال مشركي قريش والعرب وأمثالهم، فإنهم(48/5)
عرفوا ما دلت عليه من البراءة، لكن لم يقبلوه؛
ص -5-
فصارت دماؤهم وأموالهم حلال لأهل التوحيد، فإنهم كما قال -تعالى-: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ}[سورة الصافات آية: 35]، عرفوا أن لا إله إلا الله توجب ترك ما كانوا يعبدونه من دون الله. ولا بد –أيضا- من الإخلاص المنافي للشرك كما قال -تعالى-: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ}[سورة الزمر آية: 11] إلى قوله: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ}[سورة الزمر آية: 14] وفي حديث عتبان: "من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله"1.
ولا بد أيضا من المحبة المنافية لضدها، فلا يحصل لقائلها معرفة إلا بقبول ما دلت عليه من الإخلاص، ونفي الشرك؛ فمن أحب الله أحب دينه، ومن لا فلا، كما قال -تعالى-: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ}[سورة البقرة آية: 165]، فصارت محبتهم لله ولدينه، فأحبوا من أحبه الله، وأبغضوا ما أبغضه الله، وفي الحديث: "وهل الدين إلا الحب والبغض" ؛ولهذا وجب أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إلى العبد من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين، فإن شهادة لا إله إلا الله تستلزم أن محمدا رسول الله، وتقتضي متابعته كما قال -تعالى-: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}[سورة آل عمران آية: 31].
حب الله يستلزم الانقياد لأوامره ونواهيه
ولا بد –أيضا- من الانقياد لحقوق لا إله إلا الله بالعمل بما فرضه الله، وترك ما حرمه، والتزام ذلك(48/6)
وهو ينافي الترك، فإن كثيرا ممن يدعي الدين يستخف بالأمر والنهي ولا يبالي بذلك، وحقيقة الإسلام أن يسلم العبد بقلبه وجوارحه لله، ويتأله له بالتوحيد والطاعة كما قال -تعالى-: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ}[سورة البقرة آية: 112], وقال -تعالى-: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى
__________
1 البخاري: الصلاة(425), ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة(33).
ص -6-(48/7)
اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}[سورة لقمان آية: 22].
وإحسان العمل لا بد فيه من الإخلاص، ومتابعة ما شرعه الله ورسوله. ولا بد أيضا لقائل هذه الكلمة من اليقين بمعناها المنافي للشك والريب كما في الحديث الصحيح: "مستيقنا بها قلبه غير شاكٍ فيها"1؛ ومن لم يكن كذلك فإنها لا تنفعه كما دل عليه حديث سؤال الميت في قبره. ولا بد –أيضا- من الصدق المنافي للكذب كما قال -تعالى- عن المنافقين: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ}[سورة الفتح آية: 11]. والصادق يعرف معنى هذه الكلمة، ويقبله ويعمل بما يقتضيه، وما يلزم قائلها من واجبات الدين، ويصدق قلبه لسانه. فلا تصح هذه الكلمة إلا إذا استجمعت هذه الشروط؛ وبالله التوفيق، آخره، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
الفائدة الثالثة النهي عن مفارقة الجماعة
بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الرحمن بن حسن إلى من يصل إليه من الإخوان، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(وبعد):
تفهمون أن الجماعة فرض على الإسلام، وعلى من دان بالإسلام كما قال -تعالى-: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا}[سورة آل عمران آية: 103]. ولا تحصل الجماعة إلا بالسمع والطاعة لمن ولاه الله أمر المسلمين، وفي الحديث الصحيح عن العرباض بن سارية قال: "وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله، كأنها موعظة مودع، فأوصنا. قال: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد حبشي، وإنه من يعش منكم بعدي فسيرى
__________
1 مسلم: الإيمان(31).
ص -7-(48/8)
اختلافا كثيرا. فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي. تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ".
وقد جمع الله أوائل الأمة على نبيه صلى الله عليه وسلم وذلك بسبب الجهاد، وكذلك الخلفاء ردَّ الله بهم إلى الجماعة من خرج عنها، وأقاموا الجهاد في سبيل الله؛ فأظهر الله بهم دينه، وفتح الله لهم الفتوح، وجمع الله عليهم. وتفهمون أن الله –سبحانه وتعالى- جمعكم على إمامكم عبد الله بن فيصل بعد وفاة والده فيصل -رحمه الله- فاللي بايع بايع وهم الأكثرون، واللي ما بايع بايعوا لهم كبارهم، واجتمعوا عليه أهل نجد باديهم وحاضرهم، وسمعوا وأطاعوا، ولا اختلف عليه أحد منهم حتى سعود بن فيصل بايع أخوه. وهو ما صار له مدخال في أمر المسلمين لا في حياة والده ولا بعده، ولا التفت له أحد من المسلمين، ونقض البيعة وتبين لكم أمره أنه ساع في شق العصا، واختلاف المسلمين على إمامهم، وسعى في نقض بيعة الإمام، وقد قال -تعالى-: {وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}[سورة النحل آية: 91].
وسعود سعى في ثلاثة أمور كلها منكر: نقض البيعة بنفسه، وفارق الجماعة، ودعا الناس إلى نقض بيعة الإسلام؛ فعلى هذا يجب قتاله، وقتال من أعانه، وفي الحديث: "من فارق الجماعة قيد شبر فمات، فميتته جاهلية"1 وفي الحديث الآخر: "فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه"2، فإن كان أحد مشكل عليه وجوب قتاله لما في الحديث: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار"3.(48/9)
__________
1 البخاري: الفتن(7054) والأحكام(7143), ومسلم: الإمارة(1849), وأحمد(1/275,1/297,1/310), والدارمي: السير(2519).
2 النسائي: قطع السارق(4872).
3 البخاري: الإيمان(31), ومسلم: الفتن وأشراط الساعة(2888), والنسائي: تحريم الدم(4120,4121,4122,4123), وأبو داود: الفتن والملاحم(4268), وأحمد(5/41,5/43,5/46,5/48,5/51).
ص -8-
فظاهر الحديث أن المراد ما يجري بين القبائل من العصبية، أما عند ضربة عصا من قبيلتين أو فخذين أو طعنة، فكل قبيلة أو فخذ يكون منهم حمية لمن كان منهم غير خروج على الإمام، ونقض لبيعة الإسلام، ولا شق عصا المسلمين. وأهل العلم من الفقهاء وغيرهم ذكروا قتال العصبية وحكمه، وقتال الباغي وحكمه؛ فذكروا أنه يجب على الإمام في قتال العصبية أن يحملهم على الشريعة، وأما البغاة فحكمهم أنهم يقاتلون حتى يفيئوا أو يرجعوا ويدخلوا في جماعة المسلمين. فالفرق ظاهر بين -ولله الحمد-، فاستعينوا بالله على قتال من بغى وطغى وسعى في البلاد بالفساد، وهذا أمر فساده ظاهر ما يخفى على من له عقل، واحتسبوا جهادكم وأجركم على الله، وأنتم سالمون، والسلام، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، سنة 1330 هجرية.
قال الشيخ العلامة عبد الرحمن بن حسن -أحسن الله إليه-.
الفائدة الرابعة العقود التي وقعت فاسدة وتقابضوا بها
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فقد ورد علينا أسئلة من الأخ جمعان بن ناصر منها:
إذا وقع عقد فاسد في معاملة في الإسلام قد انقضت بالتقابض في أكثرها، فهل يحكم بفساد العقد من أوله ورده؟ أو نقول لا يرد ما تقابضوه من تلك المعاملة الفاسدة؟
ص -9-(48/10)
فأقول: الجواب يظهر مما قاله شيخ الإسلام -رحمه الله- في آية الربا في قوله -تعالى-: {فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ}[سورة البقرة آية: 275]، فاقتضى أن السالف للقابض، وأن أمره إلى الله ليس للغريم فيه أمر، وذلك أنه لما {جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى}[سورة البقرة آية: 275] كان مغفرة ذلك الذنب، والعقوبة عليه إلى الله -تعالى-، إن علم من قلبه صحة التوبة غفر له، وإلا عاقبه. ثم قال: {اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}[سورة البقرة آية: 278] فأمر بترك الباقي ولم يأمر برد المقبوض وقال: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ}[سورة البقرة آية: 279] إلا أنه يستثنى منها ما قبض. وهذا الحكم ثابت في حق الكافر إذا عامل كافرا بالربا، وأسلما بعد القبض وتحاكما إلينا، فإن ما قبضه يحكم له به كسائر ما قبضه الكفار بالعقود التي يعتقدون حلها.
وأما المسلم فله ثلاثة أحوال: تارة يعتقد حل الأنواع باجتهاد أو تقليد، وتارة يعامل بجهل ولا يعلم أن ذلك ربا محرم، وتارة يقبض مع علمه بأن ذلك محرم.
أما الأول والثاني ففيه قولان إذا تبين له فيما بعد أن ذلك ربا محرم، قيل: يرد ما قبض كالغاصب، وقيل: لا يرده، وهو أصح، لأنه إذا كان معتقدا أن ذلك حلال، والكلام فيما إذا كان مختلفا فيه مثل الحيل الربوية. فإذا كان الكافر إذا تاب يغفر له ما استحله، ويباح له ما قبضه، فالمسلم إذا تاب أولى أن يغفر الله، إذا كان أخذ بأحد قولي العلماء في حل ذلك، فهو في تأويله أعذر من الكافر في تأويله.
الجهل بالأحكام
وأما المسلم الجاهل فهو أبعد، لكن ينبغي أن يكون كذلك، فليس هو شر من الكافر، وقد ذكرنا فيما يتركه من الواجبات التي لم يعرف وجوبها هل عليه قضاء؟ قولان، أظهرهما الاقتضاء عليه. وأصل ذلك أن أصل الخطاب هل يثبت في حق المسلم قبل بلوغ الخطاب؟ فيه قولان في مذهب(48/11)
ص -10-
أحمد وغيره، ولأحمد روايتان فيما إذا صلى في معاطن الإبل أو صلى وقد أكل لحم الجزور، ثم صلى، وقد تبين له النص هل يعيد؟ على روايتين، وقد نصرت في موضع أنه لا يعيد، وذكرت على ذلك أدلة متعددة، منها:
قصة عمر وعمار لما كانا جنبين فصلى عمار، ولم يصل عمر، ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بإعادة.
ومنها: المستحاضة التي قالت: منعني الصوم والصلاة.
ومنها الإعرابي المسيء الذي قال: والله ما أحسن غير هذا، أمره أن يعيد الصلاة الحاضرة لأن وقتها باق وهو مأمور بها، ولم يأمره بإعادة ما صلى قبل ذلك.
ومنها الذين أكلوا حتى تبين الحبل الأبيض والأسود ولم يؤمروا بالإعادة. والشريعة أمر ونهي، فإذا كان حكم الأمر لا يثبت إلا بعد بلوغ الخطاب، فكذلك النهي. فمن فعل شيئا لم يعلم أنه محرم ثم علم لم يعاقب. وإذا عامل معاملات ربوية يعتقدها جائزة وقبض منها ما قبض، ثم جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف، ولا يكون شرا من الكافر إذا غفر له قبضه لكونه قد تاب، فالمسلم بطريق الأولى. والقرآن يدل على هذا بقوله: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ}1، وهذا عام في كل من جاءه موعظة من ربه فانتهى، فقد جعل الله له ما سلف. انتهى ملخصا من كلامه -رحمه الله-، وبه يظهر للسائل تفصيل ما أجمله في السؤال فليتأمل.
العبد كالحر في كفارة الظهار
وسأل –أيضا- عن ظهار المملوك هل هو كالحرام ؟
فالجواب: أن العبد كالحر في كفارة الظهار، غير أن العبد لا يكفر إلا بالصوم بناء على المشهور في
__________
1 سورة البقرة آية: 275.
ص -11-(48/12)
مذهبنا وغيره، لأنه لا يملك، قال في "المنتهى": فإن لم يجد صام حرا وقنا شهرين. انتهى.
أكثر مدة الحمل
وسأل عن أكثر مدة الحمل إذا كانت أربع سنين على المشهور في مذهبنا، فهل إذا انقضت أن تتزوج ولو ارتابت أم لا؟
وجوابه: أن العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى- قد ذكر في "تحفة الودود" أنه قد وجد لخمس سنين، وأكثر منها إلى سبع، فعليه لا تمكن من التزويج إلا بعد تيقن براءة رحمها، والله أعلم.
وسأل عن حكم الدم المحتقن في جوف الذبيحة.
فالجواب -وبالله التوفيق-: قال في "الإنصاف" وغيره نقلا عن القاضي: أن الدم الذي يبقى في خلال اللحم بعد الذبح وفي العروق مباح، قال الشيخ تقي الدين: لا أعلم خلافا في العفو عنه، وأنه لا ينجس المرقة بل يؤكل معها،والله أعلم. قالوا: فظاهر كلام القاضي في الخلاف وابن الجوزي أن المحرم هو الدم المسفوح كما دلت الآية الكريمة، قال المفسرون في معنى قوله: {أَوْ دَماً مَسْفُوحاً}1 أي: مهراقا سائلا، قال ابن عباس رضي الله عنه ما يريد ما يخرج من الحيوانات وهي حية، وما يخرج من الأوداج عند الذبح. وممن قال بطهارة بقية الدم وإن ظهرت حمرته المجد في شرحه، والناظم وصاحب الفائق وغيرهم، والله أعلم.
ذبيحة الكافر والمرتد إذا ذبحت وذكر اسم الله عليها
وسأل عن ذبيحة الكافر والمرتد إذا ذبحت وذكر اسم الله عليها، فهل هناك نص بتحريمها غير الإجماع؟ ومفهوم قوله -تعالى-: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ}2 … الآية.
فالجواب: الإجماع دليل شرعي بالاتفاق، ولا بد أن يستند الإجماع إلى دليل من الكتاب والسنة، وقد يخفى ذلك الدليل على بعض العلماء. فإذا كان قد وقع الإجماع على تحريم ذبيحة الكافر والمشرك غير الكتابي فحسبك به، ودلت الآية الكريمة على التحريم كما قد عرفتم.
والجواب عن قوله:"وذكر اسم الله عليها" أن يقال: التسمية من الكافر الأصلي(48/13)
__________
1 سورة الأنعام آية: 145.
2 سورة المائدة آية: 5.
ص -12-
ومن المرتد غير معتبرة لبطلان أعمالهما، فوجودها كعدمها، كما أن التهليل إذا صدر منه حال استمراره على شركه غير معتبر فوجوده كعدمه، وإنما ينفع إذا قاله عالما بمعناه ملتزما لمقتضاه كما قال -تعالى-: {إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}1 قال ابن جرير كغيره: وهم يعلمون حقيقة ما شهدوا به.
عدة المسلمة بعد موت زوجها الكافر
وسأل -أرشدنا الله وإياه- عن زوجة الكافر إذا كانت مسلمة ومات، هل عليها عدة؟ …إلخ.
أقول -وبالله التوفيق-: إن كان تزوجها في حال كفره، فالنكاح باطل لقوله -تعالى-: {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا}2، وقوله: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}3. وإن كان كفره طارئا على النكاح أو كانا كافرين فأسلمت قبله، فإن كان قبل الدخول انفسخ نكاحها، وإن كان بعد الدخول وقف على انقضاء العدة على الصحيح عند متأخري الأصحاب.
واستدلوا بحديث مالك في إسلام صفوان بن أمية بعد إسلام زوجته بنحو شهر، والحديث مشهور عند أهل العلم قالوا: فإن أسلم الثاني قبل انقضاء العدة فهما على نكاحهما، وإلا تبينا فسخه منذ أسلم الأول، والمرتد كغيره؛ والذي اختاره ابن القيم -رحمه الله- عدم مراعاة زمن العدة، واستدل بأحاديث وآثار، منها ما روى أبو داود -في سننه- عن ابن عباس قال: "ردَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب ابنته على أبي العاص بن الربيع بالنكاح الأول، ولم يحدث شيئا بعد ست سنين".
وفي لفظ لأحمد: لم يحدث شهادة ولا صداقا ولم يحدث نكاحا، وقال في حديث عمرو بن شعيب: "أن النبي صلى الله عليه وسلم ردَّها على أبي العاص بن الربيع بنكاح جديد" إن الإمام أحمد قال: هذا حديث ضعيف، والصحيح أنه أقرهما على النكاح الأول. وقال الترمذي: في إسناد هذا(48/14)
__________
1 سورة الزخرف آية: 86.
2 سورة البقرة آية: 221.
3 سورة الممتحنة آية: 10.
ص -13-
الحديث مقال، وقال الدارقطني: هذا حديث لا يثبت، والصواب حديث ابن عباس.
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس قال: "كان المشركون على منزلتين من رسول الله صلى الله عليه وسلم: أهل حرب يقاتلهم ويقاتلونه، وأهل عهد لا يقاتلهم ولا يقاتلونه. فكان إذا هاجرت امرأة من دار الحرب لم تخطب حتى تحيض وتطهر، فإذا طهرت حل لها النكاح، فإن هاجر زوجها قبل أن تنكح ردت إليه"، وذكر ابن أبي شيبة عن معمر بن سليمان عن معمر عن الزهري: إذا أسلمت ولم يسلم زوجها فهما على نكاحهما إلا أن يفرِّق بينهما سلطان، قال: ولا يعرف اعتبار العدة في شيء من الأحاديث، ولا كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل المرأة هل انقضت عدتك أم لا؟
ولا ريب أن الإسلام لو كان بمجرده فرقة لم يكن فرقة رجعية بل بائنة، فلا أثر للعدة في بقاء النكاح، وإنما أثرها في منع نكاحها للغير، فلو كان الإسلام قد نجز الفرقة بينهما لم يكن أحق بها في العدة، ولكن الذي دل عليه حكمه صلى الله عليه وسلم أن النكاح موقوف، فإن أسلم قبل انقضاء عدتها فهي زوجته، فإن انقضت عدتها فلها أن تنكح من شاءت، ولا نعلم أحدا جدد للإسلام نكاحه البتة، بل كان الواقع أحد أمرين: إما افتراقهما ونكاحها غيره، وإلا بقاءها عليه وإن تأخر إسلامها وإسلامه. وقد ردَّ النبي صلى الله عليه وسلم ابنته زينب على أبي العاص بن الربيع، وهو إنما أسلم زمن الحديبية، وهي أسلمت من أول البعثة، وبين إسلامهما أكثر من ثماني عشرة سنة.
وأما قوله في الحديث: "كان بين إسلامها وإسلامه ست سنين"1 فوهم، إنما أراد بين هجرتها وإسلامه، ولولا إقراره صلى الله عليه وسلم الزوجين على نكاحهما وإن تأخر إسلام أحدهما على الآخر بعد صلح الحديبية(48/15)
__________
1 صحيح البخاري: كتاب الصلاة(496) وكتاب مواقيت الصلاة(576) وكتاب الجمعة(1134) وكتاب الصوم(1921) وكتاب الجهاد والسير(2870) وكتاب أحاديث الأنبياء(3365) وكتاب المناقب(3803) وكتاب المغازي(4086) وكتاب تفسير القرآن(4844) وكتاب الرقاق(6510) وكتاب الأيمان والنذور(6649) وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة(7334) وكتاب التوحيد(7555), وصحيح مسلم: كتاب الإيمان(141) وكتاب الصلاة(508,510) وكتاب الأيمان(1649) وكتاب الجهاد والسير(1785) وكتاب فضائل الصحابة(2541) وكتاب صفات المنافقين وأحكامهم(2779) وكتاب التفسير(3027), وسنن الترمذي: كتاب السير(1580) وكتاب تفسير القرآن(3155,3168), وسنن النسائي: كتاب المواقيت(588,597) وكتاب القبلة(750) وكتاب قيام الليل وتطوع النهار(1728) وكتاب الصيام(2156,2157) وكتاب مناسك الحج(2914), وسنن أبي داود: كتاب الصلاة(1082) وكتاب الطلاق(2295) وكتاب الجهاد(2759), وسنن ابن ماجه: كتاب الحدود(2574), ومسند أحمد(2/122,2/136,2/206,3/69,3/104,3/135,3/170,3/234,3/237,3/266,3/451,3/485,4/90,4/113,4/323,4/385,5/25,5/151,5/160,5/188,5/222,5/331,5/390,5/439,6/430), وموطأ مالك: كتاب النداء للصلاة(502) وكتاب النكاح(1154), وسنن الدارمي: كتاب المقدمة(17,647) وكتاب الصوم(1695).
ص -14-(48/16)
وزمن الفتح لقلنا بتعجيل الفرقة بالإسلام من غير اعتبار عدة لقوله -تعالى-: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}1، وقوله: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ}2. وإن الإسلام سبب الفرقة، وكل ما كان سببا للفرقة تعقبه الفرقة كالرضاع والخلع والطلاق، وهذا اختيار الخلال وأبي بكر صاحبه وابن المنذر وابن حزم، وهو مذهب الحسن وطاووس وعكرمة وقتادة والحكم.
قال ابن حزم: وهو قول ابن الخطاب وجابر بن عبد الله وابن عباس، وبه قال حماد بن زيد والحكم بن عتبة وسعيد بن جبير وعمر بن عبد العزيز وعدي ابن عدي الكندي والشعبي وغيرهم، (قلت) وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد، ولكن الذي أنزل عليه قوله: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ}3 وقوله: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}4 لم يحكم بتعجيل الفرقة، وما حكاه ابن حزم عن عمر فما أدري من أين حكاه، والمعروف عنه خلافه، ثم ساق الرواية عن عمر بخلاف ما حكاه ابن حزم،انتهى ملخصا.
وأما إذا مات الزوج قبل انقضاء العدة، فالصحيح من المذهب أنها تستأنف العدة للوفاة ويلغوا ما مضى، وإن كان موته بعد انقضائها فلا عدة؛ والذي يتمشى عليه ما اختاره ابن القيم أنها إن لم يفسخ نكاحها حاكم يطلبها أنها تعتد منه أيضا، والله أعلم.
صرف الزكاة لطالب العلم
وسأل –أيضا- عن قول شارح بلوغ المرام على قوله: "أو غاز في سبيل الله" ويلحق به من كان قائما بمصلحة عامة… إلخ.
أقول -وبالله التوفيق-: لم أقف على شيء من كلام أئمتنا يعضد هذا المأخذ أو يومئ إليه، وغاية ما رأيته ما قد أشرت إليه من قول شيخ الإسلام ابن تيمية ونصه في "الاختيارات": "ومن ليس معه ما يشترى به كتبا يشتغل
__________
1 سورة الممتحنة آية: 10.
2 سورة الممتحنة آية: 10.
3 سورة الممتحنة آية: 10.
4 سورة الممتحنة آية: 10.
ص -15-(48/17)
فيها، يجوز له الأخذ من الزكاة ما يشتري به ما يحتاج إليه من كتب العلم التي لا بد لمصلحة دينه ودنياه منه. انتهى كلامه. والله أعلم.
الحلف بالطلاق
قال السائل –أيضا- واستعمال الناس اليوم الحلف بالطلاق عند إلجاء أحدهم إلى الغضب، كقول أحدهم: عليَّ الطلاق لأفعلن.. إلى آخر ما نقل السائل -عافاه الله-.
نقل شيخنا -الشيخ الهمام العلامة -رحمه الله- عن الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- روايتين في قول القائل: عليَّ الطلاق، أحدهما: تطلق ثلاثا… إلخ.
أقول: هذه الرواية هي المذهب إذا نوى الثلاث، وإن لم ينو ثلاثا فواحدة عملا بالعرف، وكذا قوله: الطلاق لازم لي، أو عليَّ صريح منجزا أو معلقا ومحلوفا به، هذا شرح ما نقله عن شيخنا وهو المعتمد، وأما ما فرق به شيخ الإسلام فقد ذكرته للسائل في جوابنا الذي صدره قبل هذا في مسألة التحريم، وأشرت إلى قوة ما ذهب إليه شيخ الإسلام وتلميذه العلامة ابن القيم -رحمهما الله تعالى-، وحاصله أنهما اختارا أنه يقع بوجود شرطه، إذا أراد الجزاء بتعليقه لا إن أراد الحظر والمنع، وقولهم: إن أراد الجزاء، أي: الطلاق احترازا منه أن يريد حظراً أو منعا، وهو يكره وقوعه عند شرطه فإنه والحالة هذه عندهما يمين مكفر، والله أعلم.
والذي عليه مشائخنا من أهل التقوى إنما يعتمدون كلام الجمهور في هذه المسألة، فيفتون بإيقاع الطلاق إذا وجد المعلق عليه، وهو الشرط كما عليه الأئمة وجمهور الفقهاء، والله أعلم.
موافقة الجمعة يوم العيد
وسأل عما إذا وافق يوم الجمعة يوم عيد، قالوا: تسقط الجمعة عمن حضر العيد إلا الإمام… إلخ.
أقول -وبالله التوفيق-: الذي نص عليه علماؤنا -رحمهم الله- أنه إن اتفق
ص -16-(48/18)
عيد في يوم جمعة، سقط حضور الجمعة عمن صلى العيد، إلا الإمام، فإنها لا تسقط عنه إلا ألاَّ يجتمع له من يصلي الجمعة. وهذا يفهم أن المراد بالإمام هو الذي يتولى الصلاة بهم؛ وهذا الحكم يتعلق بأهل كل بلد، وليس كل بلد فيها إمام أعظم، وهذا يفيد قولهم: إلا ألا يجتمع به من يصلي به الجمعة. نعم، إن وقع ذلك في بلد الإمام الأعظم وجبت عليه، وإن لم يتول الصلاة، لأن المتولي للصلاة كالنائب عنه.
وبدليل ما ورد من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اجتمع في يومكم هذا عيدان، فمن شاء أجزأه من الجمعة، وإنا مجمعون"1 رواه ابن ماجه. فصير الجمع في قوله: "وإنا مجمعون" يقتضي ما قلناه؛ لأنه -صلوات الله وسلامه عليه- هو الإمام الأعظم، وإمامهم في الصلاة، والله أعلم.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: إذا اجتمعت الجمعة والعيد في يوم واحد فللعلماء في ذلك ثلاثة أقوال: ثالثها -وهو الصحيح-: أن من شهد العيد سقطت عنه الجمعة، لكن على الإمام أن يقيم الجمعة ليشهدها من شاء شهودها، وهذا هو المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ولا يعرف عن الصحابة في ذلك خلاف، ثم إنه يصلي الظهر إذا لم يشهد الجمعة، فتكون الظهر في وقتها، وكلام الشيخ يوضح ما قررته قبل، والله أعلم.
حديث عمران بن حصين في قصة العقيلي
وسأل –أيضا- عن حديث عمران بن حصين في قصة العقيلي الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "بم أخذتني وأخذت سابقة الحاج؟ فقال: أخذتك بجريرة حلفائك ثقيف"2 … إلخ.
أقول: الحديث خرَّجه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي –رحمهم الله- وهاأنا أسوق رواية الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- في مسنده قال: حدثنا(48/19)
__________
1 أبو داود: الصلاة(1073), وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها(1311).
2 مسلم: النذر(1641), وأبو داود: الأيمان والنذور(3316), وأحمد(4/430), والدارمي: السير(2505).
ص -17-
إسماعيل عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي المهلب عن عمران بن حصين قال: "كانت ثقيف حلفاء لبني عقيل، فأسرت ثقيف رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من بني عقيل، وأصيبت معه العضباء. فأتى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الوثاق، فقال: يا محمد، يا محمد، فقال: ما شأنك؟ قال: بم أخذتني وأخذت سابقة الحاج؟ إعظاما لذلك، فقال: أخذت بجريرة حلفائك ثقيف، ثم قال: يا محمد يا محمد -وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيما رفيقا- فأتاه قال: ما شأنك؟ قال: إني مسلم، قال: لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح. ثم انصرف عنه، فناداه: يا محمد، يا محمد. فأتاه، فقال: ما شأنك؟ فقال: إني جائع فأطعمني، وظمآن فاسقني، قال: هذه حاجتك. فقال: ففدي بالرجلين. وأسرت امرأة من الأنصار وأصيبت معها العضباء فكانت المرأة في الوثاق، فانفلتت ليلة من الوثاق، فأتت الإبل، فجعلت إذا دنت من البعير رغا، فتتركه حتى تنتهي إلى العضباء فلم ترغ. قال: وناقة منوخة، فقعدت في عجزها وزجرتها، فانطلقت. ونذروا بها، وطلبوها فأعجزتهم، فنذرت إن الله عز وجل أنجاها عليها لتنحرنها، فلما قدمت المدينة رآها الناس فقالوا: العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: إني نذرت إن الله أنجاها عليها لتنحرنها، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له فقال: سبحان الله! بئسما جزتها إن الله -تبارك وتعالى- أنجاها لتنحرنها لا وفاء في نذر في معصية الله ولا في ما لا يملك العبد" ولأبي داود: ابن آدم1.
قال النووي -رحمه الله- في شرحه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أخذتك بجريرة(48/20)
حلفائك"2 أي: بجنايتهم.
__________
1 أي: لفظ ابن آدم بدل لفظ العبد.
2 مسلم: النذر(1641), وأبو داود: الأيمان والنذور(3316), وأحمد(4/430), والدارمي: السير(2505).
ص -18-
قوله صلى الله عليه وسلم: "لو قلتها وأنت تملك أمرك، أفلحت كل الفلاح"1 معناه: لو قلت كلمة الإسلام قبل الأسر حين كنت مالك أمرك أفلحت كل الفلاح، لأنه لا يجوز أسرك لو أسلمت قبل الأسر، فكنت فزت بالإسلام وبالسلامة من الأسر ومن اعتنام2.
وأما إذا أسلمت بعد الأسر فيسقط الخيار في قتلك، ويبقى الخيار بين الاسترقاق والمن والفداء، وفي هذا جواز المفاداة، وإن إسلام الأسير لا يسقط حق الغانمين منه بخلاف ما لو أسلم قبل الأسر. انتهى. فليس في الحديث دليل على أن المسلم يؤخذ بجناية غيره أو حق عليه، بخلاف الكافر فإنه يؤخذ ويغنم ماله لكفره، ولو كان من قوم معاهدين إذا نقضوا العهد كحال هذا الرجل العقيلي فإنه لما قال: إني مسلم، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو قلتها وأنت تملك أمرك، أفلحت كل الفلاح"3 وهو صريح في أن هذا الرجل لم يكن قبل مسلما.
وفي الحديث أيضا ما يدل على ذلك، وهو قوله: ففودي الرجل بعد بالرجلين، فتأمله فإنه ظاهر لا غبار عليه -والحمد لله-. والحديث لا علة له، قال الحافظ المنذري: وأخرجه مسلم والنسائي بطوله، وأخرج الترمذي طرقا منه، وأخرج النسائي وابن ماجه منه طرقا. انتهى كلامه. وقد ذكرنا في أول الحديث ما وقفنا عليه من مخرجيه وأتحفنا السائل بسياق الإمام أحمد –رحمه الله تعالى-.
قبض العقار في الرهن
وسأل -عافاه الله- عن قبض العقار في الرهن كغيره.
أقول -وبالله التوفيق-: قبض المرتهن له بالتخلية بأن يمكنه الراهن منه تمكينا تاما بحيث(48/21)
__________
1 مسلم: النذر(1641), وأبو داود: الأيمان والنذور(3316), وأحمد(4/430), والدارمي: السير(2505).
2 بياض في الأصل.
3 مسلم: النذر(1641), وأبو داود: الأيمان والنذور(3316), وأحمد(4/430), والدارمي: السير(2505).
ص -19-
لم يضع يده عليه، فإن وضع يده عليه بأن تولى سقيه أو زرعه أو إجارته زال لزوم الرهن، والله أعلم.
أسانيد المؤلف وشيوخه
وأما ما طلبت من روايتي من مشايخي فأقول: اعلم إني قرأت على شيخنا الإمام الجد شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-، كتاب التوحيد من أوله إلى أبواب السير، وجملة من آداب المشي إلى الصلاة، وحضرت عليه عدة مجالس كثيرة في البخاري والتفسير وكتب الأحكام بقراءة شيخنا الشيخ ابنه عبد الله -رحمهما الله تعالى- وشيخنا الشيخ ابنه علي -رحمهما الله تعالى- في كتاب البخاري، وقراءة ابنه الشيخ عبد العزيز -رحمه الله- في سورة البقرة من كتاب ابن كثير، وفي كتاب منتقى الأحكام بقراءة الشيخ عبد الله بن ناصر وغيرهم، وسنده -رحمه الله تعالى- معروف تلقاه عن عدة من علماء المدينة وغيرهم، رواية خاصة وعامة منهم محمد بن حياة السندي والشيخ عبد الله بن إبراهيم الفرضي الحنبلي، وقرأت وحضرت جملة كثيرة من الحديث والفقه على الشيخين المشار إليهما أعلاه، وشيخنا الشيخ حسين -رحمه الله تعالى-، وحضرت قراءة وأنا إذ ذاك في سن التمييز على والده شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- وشيخنا الشيخ حمد بن ناصر –رحمه الله تعالى-، وقرأت عليه في مختصر الشرح والمقنع وغيرهما، وشيخنا الشيخ عبد الله بن فاضل -رحمه الله تعالى- قرأت عليه في السيرة، وشيخنا الشيخ عبد الرحمن بن خميس قرأت عليه في شرح الشنشوري في الفرائض، وشيخنا الشيخ أحمد بن حسن الحنبلي قرأت عليه شرح الجزرية للقاضي زكريا الأنصاري، وشيخنا الشيخ أبو بكر حسين بن غنام قرأت عليه شرح الفاكهي على المتممة في النحو.
ص -20-(48/22)
وأما مشايخنا من أهل مصر فمن فضلائهم في العلم الشيخ حسن القويسني حضرت عليه شرح جمع الجوامع في الأصول للمحلي، ومختصر السعد في المعاني والبيان وما فاتني من الكتابين إلا أفوات يسيرة، وأكبر من لقيت بها من العلماء الشيخ عبد الله سويدان، وأجازني هو والذي قبله بجميع مروياتهم، ودفع لي كل واحد منهما نسخته المتضمنة لأوائل الكتب التي رووها بسندهم إلى الشيخ المحدث عبد الله بن سالم البصري شارح البخاري. ولقيت بها الشيخ عبد الرحمن الجبرتي وحدثني بالحديث المسلسل بالأولية بشروطه، وهو أول حديث سمعته منه وقرأت عليه سنده حتى انتهيت إلى الإمام سفيان بن عيينة -رحمه الله- عن أبي قابوس مولى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الراحمون يرحمهم الرحمن -تبارك وتعالى-. ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء"1 وأجازني بجميع مروياته عن شيخه الشيخ مرتضي الحسيني عن الشيخ عمر بن أحمد بن عقيل وعن الشيخ أحمد الجوهري كلاهما عن عبد الله بن سالم البصري، وهو يروي عن أبي عبد الله محمد بن علاء الدين البابلي عن الشيخ سالم السنهودي عن النجم الغيطي عن شيخ الإسلام زكريا الأنصاري عن الحافظ شيخ الإسلام أحمد ابن علي بن حجر العسقلاني صاحب فتح الباري، وأكثر روايات من ذكرنا من مشايخنا للكتب تنتهي إليه.
وأما روايتهم للبخاري فرواه الحافظ ابن حجر -رحمه الله- عن إبراهيم بن أحمد التنوخي عن أحمد بن أبي طالب الحجار عن الحسين بن المبارك الزبيدي الحنبلي عن أبي الوقت عبد الأول بن عيسى بن شعيب السجزي الهروي عن أبي الحسن
__________
1 الترمذي: البر والصلة(1924), وأبو داود: الأدب(4941).
ص -21-(48/23)
عبد الرحمن بن محمد بن المظفر بن داود الداودي عن أبي عبد الله محمد بن يوسف بن مطر الغربري عن الإمام البخاري -رحمه الله تعالى-. وقرأت عليه أسانيده عن شيخه المذكور متصلة إلى مؤلفي الكتب الحديثية كالإمام أحمد ومسلم وأبي داود والنسائي والترمذي وابن ماجه -رحمهم الله-، فأجازني بها وبسند مذهبنا بروايته عن شيخه المذكور عن السفاريني النابلسي الحنبلي عن أبي المواهب متصلا إلى إمامنا -رحمه الله تعالى-.
وأما الشيخ عبد الله سودان فأجازني بجميع ما في نسخة عبد الله بن سالم المعروفة بمصر، ونقلتها من أصله فهي الآن موجودة عندنا مسندة إلى الشيخ المذكور بروايته عن محمد بن أحمد الجوهري عن أبيه عن شيخه عبد الله بن سالم، وقد تقدم سياق سنده إلى البخاري، وأجاز لي برواية مذهب إمامنا بروايته عن يد الشيخ أحمد الدمنهوري عن الشيخ أحمد بن عوض عن شيخه محمد الخلوتي عن شيخه الشيخ منصور البهوتي عن الشيخ عبدالرحمن البهوتي عن أظن اسمه يحيى بن الشيخ موسى الحجازي عن أبيه، وسند الأب مشهور إلى الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-.
وأما الشيخ حسن القويسني فأجاز لي بجميع ما في نسخة الشيخ عبد الله بن سالم البصري المذكور روايته عن الشيخ عبد الله الشرقاوي عن الشيخ محمد بن سالم الحفني عن الشيخ عيد بن علي النمرسي عن عبد بن سالم البصري ح قال: وأخذت صحيح البخاري جميعه عن الشيخ داود القلعي عن الشيخ أحمد بن جمعة البجيرمي عن الشيخ مصطفى الإسكندراني المعروف بابن الصباغ عن الشيخ عبد الله بن سالم بسنده المتقدم قال: أخذت الصحيح عن شيخنا سليمان البجيرمي عن الشيخ محمد العشماوي عن الشيخ أبي العز
ص -22-(48/24)
العجمي عن الشيخ محمد الشنويري عن محمد الرملي عن شيخ الإسلام زكريا الأنصاري عن الحافظ ابن حجر العسقلاني عن الشيخ التنوخي عن الشيخ سليمان بن حمزة عن الشيخ علي بن الحسين بن المنير عن أبي الفضل بن ناصر عن الشيخ عبد الرحمن بن منده عن محمد بن عبد الله بن أبي بكر الجوزقي عن مكي بن عبدان النيسابوري عن الإمام مسلم عن الإمام البخاري -رضي الله عنهم أجمعين قلت: وبهذا السند روي صحيح مسلم.
ولقيت بمصر مفتي الجزائر محمد بن محمود الجزائري الحنفي الأثري، فوجدته حسن العقيدة، طويل الباع في العلوم الشرعية، وأول حديث حدثنيه المسلسل بالأولية رواه لنا عن شيخه حمودة الجزائري بشرطه متصلا إلى سفيان ابن عيينة كما تقدم، وأجازني بمروياته عن شيخه المذكور، وشيخه علي بن الأمين، وقرأت عليه جملة في صحيح مسلم وأول البخاري رواية ابن سعادة بالسند المتصل إلى المؤلف -رحمه الله تعالى-، وقرأت عليه جملة من الأحكام الكبرى للحافظ عبد الحق الإشبيلي -رحمه الله- وكتبت أسانيده في الثبت الذي كتبته عنه.
وممن وجدت أيضا بمصر الشيخ إبراهيم العبيدي المقرئ شيخ مصر في القراءات يقرأ العشر، وقرأت عليه أول القرآن، وأما الشيخ أحمد سلمونه فلي به اختصاص كثير، وهو رجل حسن الخلق، متواضع له اليد الطولى في القراءات والإفادات، قرأت عليه كثيرا من الشاطبية وشرح الجزرية لشيخ الإسلام زكريا الأنصاري، وقرأت عليه كثيرا من القرآن، وأجاد وأفاد وهو مالكي المذهب، والذي قبله روايات وأسانيد متصلة إلى القراء السبعة وغيرهم، ومنهم الشيخ يوسف الصاوي قرأت عليه الأكثر
ص -23-(48/25)
من شرح الخلاصة لابن عقيل -رحمه الله تعالى-.
ومنهم إبراهيم البيجوري قرأت عليه شرح الخلاصة للأشموني إلى الإضافة، وحضرت عليه في السلم، وعلى محمد الدمنهوري في الاستعارات، والكافي في علمي العروض والقوافي، قرأها لنا بحاشيته بالجامع الأزهر -عمره الله تعالى- بالعلم والإيمان، وجعله محلا للعمل بالسنة وجميع المدن والأوطان، إنه واسع الامتنان، وصلى الله على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
أملاه الفقير إلى الله -تعالى- عبد الله بن حسن، أحسن الله إليه بمنه
وكرمه، وكتبه الفقير إلى الله، إبراهيم بن راشد سنة 1244، ونقله من خطه الفقير إلى رحمة ربه العزيز محمد بن علي بن محمد البيز، رزقه الله العلم والعمل وحسن الخاتمة عند حلول الأجل، إنه واسع المن كثير الفضل سنة 1334.
ص -24-(48/26)
الفائدة الخامسة أحكام الحج
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه المسألة للشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمهم الله-.
اعلم وفقني الله وإياك لطاعته أن من استكملت فيه شروط وجوب الحج لا يخلو من أن يكون صحيح البدن وهو الغالب، فيلزمه السعي إلى الحج فورا إذا تمت شروطه كأمن الطريق، وإما أن يكون مريضا ونحوه؛ والمرض إما أن يرجى برؤه كغالب الأمراض أو لا، فإن كان يرجى برؤه فلا يجوز له الاستنابة بحال، فإن برئ حج بنفسه، وإن مات أقيم من يحج عنه من رأس ماله. وإن كان المرض لا يرجى برؤه كمرض السل في آخره لزمه أن يقيم من يحج عنه كالكبير الذي يشق عليه السفر مشقة غير محتملة، قال في "الإنصاف": وإن عجز عن السعي للكبر أو مرض لا يرجى برؤه لزمه أن يقيم من يحج عنه من بلده. انتهى.
قلت: وأصله حديث ابن عباس أن امرأة من خثعم قالت: "يا رسول الله إن فريضة الله، على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا"1 الحديث، وهذا الحكم خاص لمن كان بعيدا عن الحرم، ولم يتلبس بالإحرام من الميقات، أما من أحرم منه فليس له أن يستنيب من يحج عنه بحال إذا حصر بعدو أو مرض ونحوه؛ ولم ينقل عن أحد من العلماء أنه أجاز لمن أحصر أن يستنيب فيما أعلم. وحكم من حصره عدو أو ضل عن الطريق
__________
1 البخاري: الحج(1513), ومسلم: الحج(1334), والترمذي: الحج(928), والنسائي: مناسك الحج(2635,2641), وأبو داود: المناسك(1809), وابن ماجه: المناسك(2907), وأحمد(1/213,1/251), ومالك: الحج(806), والدارمي: المناسك(1831,1833).
ص -25-(48/27)
أن يتحلل بهدي إن وجده، وإلا صام عشرة أيام للآية الكريمة هذا إذا لم يشترط في ابتداء إحرامه، وهل يجوز له إذا لم يشترط أن يتحلل بالمرض وذهاب النفقة؟ المذهب أنه لا يحل حتى يقدر على المبيت، وإن فاته الحج تحلل بعمرة، وفيه احتمال يتحلل كمن حصره عدو، قال في "الإنصاف": وهي رواية اختارها تقي الدين. انتهى. وهذا فيمن إحرامه تام، أما من أحصر عن طواف الإفاضة فإنه لا يتحلل حتى يطوف، قال في المنتهى وشرحه: ومن أحصر عن طواف الإفاضة فقط لم يتحلل حتى يطوف ويسعى إن لم يكن سعى، وكذا لو أحصر عن السعي فقط، لأن الشرع ورد بالتحلل بإحرام تام يحرم جميع المحظورات، وهذا يحرم النساء خاصة فلا يلحق به، ومتى زال الحصر أتى بالطواف والسعي إن لم يكن سعى، وتم حجه.
إذا علمت ذلك، فالواجب على من ينتسب إلى معرفة شيء من أحكام الشرع أن لا يفتي في مسألة حتى يعرف حكمها بالنص عليها في كلام العلماء -رحمهم الله تعالى-، فعلى هذا لا تصح الاستنابة عن طواف الإفاضة بحال ويلزم من لم يطف للإفاضة بنفسه أن يعتزل النساء حتى يرجع فيحرم من الميقات بعمرة، فإذا طاف طواف العمرة وسعى طاف لحجه وسعى إن لم يكن سعى، والله -سبحانه وتعالى- أعلم، قاله الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمهم الله تعالى-.
ص -26-(48/28)
الفائدة السادسة تحريم الزوجة
بسم الله الرحمن الرحيم
ولا حول ولا قوة إلا بالله
الحمد لله، من عبد الرحمن بن حسن إلى الشيخ جمعان بن ناصر منحه الله من العلوم أنفعها ومن الفضائل أرفعها، آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(أما بعد): فقد وصل إلينا كتابك، فاستبان به مرامك وخطابك، فسررنا به غاية السرور، جعله الله -تعالى- من مكاسب الأجور. وقد سألت فيه -أمدك الله بإمداده وسددك بإلهامه وإرشاده- عن مسائل:
(الأولى): ما قول العلماء فيمن حرم زوجته... إلى آخره.
(فالجواب) -وبالله التوفيق ومنه أستمد العون والتحقيق-: تحريم الزوجة ظهار ولو نوى به طلاقا أو يمينا، نص عليه إمامنا -رحمه الله- في رواية الجماعة، وهو المذهب، ونقل ما يدل على أنه يمين وفاقا للثلاثة. وجزم شيخ الإسلام ابن تيمية في "الاختيارات" و"الفتاوى المصرية" في باب الظهار بالأول، لكن قال ابن القيم في الإعلام: إنه إن وقع التحريم كان ظهارا ولو نوى به الطلاق، وإن حلف به كان يمينا مكفرة، وهذا اختيار شيخ الإسلام، وعليه يدل النص والقياس؛ فإنه إذا أوقعه كان أتى منكرا من القول وزورا، وكان أولى بكفارة الظهار ممن شبه امرأته بالمحرم. وإذا حلف به كان يمينا من الأيمان كما لو التزم الإعتاق والحج، وهذا محض القياس والفقه. انتهى.
قلت: قوله إذا حلف كان يمينا... إلى آخره، بناء إلى ما ذهب إليه
ص -27-(48/29)
من أن المعلق على شرط يقصد بذلك الحض أو المنع أو الالتزام، فإنه يجزئه فيه كفارة يمين إن حنث، وإن أراد الإيقاع عند وجود المعلق عليه طلقت، وصرَّح به الشيخ في باب تعليق الطلاق بالشروط؛ وكذا الحلف بعتق وظهار وتحريم.
إحالة الدين
(الثانية): إذا أحال إنسان على آخر، ولم يعلم بذلك حتى قضى دينه أو قضاه من أحاله عليه ثانيا... إلى آخره.
(فالجواب): قد برئت ذمة المدين إذا دفعه إلى صاحبه أو إلى من أذن له أن يدفعه إليه لوجوب القضاء بعد الطلب فورا، ولا يلزم المدين غرم ما قضاه من الدين؛ لأن الشرائع لا تلزم إلا بعد العلم، فلا تبعة عليه فيما لم يعلم، وقد أفرد شيخ الإسلام ابن تيمية هذه القاعدة، وقرر أدلتها فعلى هذا يرجع من أحيل أولا بدينه على المحيل كما قبل الحوالة.
إصلاح الرهن
(الثالثة): إذا رهن إنسان نخله أو زرعه، واحتاج الراهن لما يصلح الرهن، فطلب من المرتهن أن يداينه لذلك أو يطلق الرهن لمن يداينه، فامتنع وعلى الراهن ضرر.
(فالجواب): أن الصحيح من أقوال العلماء أن القبض والاستدامة شرط للزوم الرهن، قال في الشرح: ولا يلزم الرهن إلا بالقبض، ويكون قبل رهنا جائزا، يجوز للراهن فسخه، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي.
وقال بعض أصحابنا في غير المكيل والموزون رواية: إنه يلزم بمجرد العقد، ونص عليه الإمام أحمد -رحمه الله- في رواية الميمون، وهذا مذهب مالك، ووجه الأولى قوله -تعالى-: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ}1 فعلى هذا إن تصرف الراهن فيه قبل القبض بهبة أو بيع أو عتق أو جعله صداقا أو رهنه فيه
__________
1 سورة البقرة آية: 283.
ص -28-(48/30)
قبل القبض ثانيا، بطل الرهن الأول سواء قبض الهبة أو المبيع أو الرهن الثاني أو لم يقبضه، فإن أخرجه المرتهن إلى الراهن باختياره له زال لزومه، وبقي العقد كأن لم يوجد فيه قبض، قال في "الإنصاف": هذا المذهب وعليه الأصحاب، وعنه أن استدامته في العين ليس بشرط، واختاره في الفائق. انتهى ملخصا.
فقد عرفت الأصح من الأقوال الذي عليه أكثر العلماء، فعليه لا ضرر على الراهن لبطلان الرهن بالتصرف إذا لم يكن في قبضة المرتهن. وقد ذكر العلماء –أيضا- أن المرتهن لا يختص في ثمن الرهن إلا إذا كان لازما، وما عدا هذا القول لا دليل عليه من كتاب ولا سنة، ويترتب على الفتوى به من المفاسد ما لا يتسع لذكره هذا الجواب، وليس مع من أفتى به إلا محض التقليد، وأن العامة تعارفوه فيما بينهم ورأوه لازما فأنت خبير بأن هذا ليس حجة شرعية، وإنما الحجة الشرعية الكتاب والسنة والإجماع -اتفاق مجتهدي العصر على حكم- ولا بد للإجماع من مستند،والدليل القياس الصحيح وكذا الاستصحاب على خلاف فيه. فلا إله إلا الله كم غلب على حكام الشرع في هذه الأزمنة من التساهل في الترجيح، وعدم التعويل على ما اعتمده المحققون من القول الصحيح. وقد ادعى بعضهم أن شيخنا أفتى بلزوم الرهن وإن لم يقبض، فاستبعدت ذلك على شيخنا -رحمه الله-؛ ولو فرضنا وقوع ذلك، فنحن بحمد الله متمسكون بأصل عظيم، وهو أنه لا يجوز لنا العدول عن قول موافق لظاهر الكتاب والسنة لقول أحد كائنا من كان. وأهل العلم معذورون وهم أهل الاجتهاد كما قال مالك -رحمه الله-: ما منا إلا راد ومردود عليه
ص -29-(48/31)
إلا صاحب هذا القبر يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم بعد زعم هذا الزاعم منَّ الله علي بالوقوف على جواب شيخنا -رحمه الله- فإذا هو جار على الأصح الذي عليه أكثر العلماء، وصورة جوابه أن الراجح الذي عليه كثير من العلماء أو أكثرهم أن الرهن لا يلزم إلا بالقبض، وقبض كل شيء هو المتعارف، فقبض الدار والعقار هو تسلم المرتهن له، ورفع يد الراهن عنه، هذا هو القبض بالإجماع، ومن زعم أن قوله: "مقبوض" يصيره مقبوضا فقد خرق الإجماع مع كونه زورا مخالفا للحس.
إذا ثبت هذا فنحن إنما أفتينا بلزوم الرهن بضرورة وحاجة، فإذا أراد صاحبها أن يأكل أموال الناس، ويخون أمانته لمسألة مختلف فيها، فالرجوع إلى الفتوى بقول الجمهور في هذه المسألة، فإن رجعنا إلى كتاب الله وسنة رسوله في إيجاب العدل وتحريم الخيانة فهذا هو الأقرب قطعا، وإن رجعنا إلى كلام غالب العلماء فهم لا يلزمون ذلك إلا برفع يد الراهن وكونه في يد المرتهن، انتهى المقصود.
فذكر -رحمه الله تعالى- في هذه الفتيا أن الراجح الذي عليه أكثر العلماء أن الرهن لا يلزم إلا بالقبض، وأنه إنما أفتى بخلافه لضرورة وحاجة، وأنه رجع إلى قول الجمهور لما قد ترتب على خلافه من الخروج عن العدل ومن الخيانة، وهذا الذي أشار إليه -رحمه الله- من الخروج عن العدل، وأكل أموال الناس بالباطل والخيانة؛ في الأمانة قد رأيناه عيانا، وسببه الإفتاء بخلاف قول الجمهور في هذه المسألة. وقد قرر -رحمه الله- في هذه الفتيا أن قول الجمهور أقرب إلى العدل، فلا يجوز أن ينسب إليه -رحمه الله- غير هذا القول المقرر هنا، والله أعلم.
انتفاء لزوم الرهن
(الرابعة): إذا استأجر إنسان أرضا للزرع ونحوه، ثم رهنه فقصرت
ص -30-(48/32)
الثمرة عن الدين والأجرة وعن الجذاذ والجزار والعامل... إلى آخره.
(فالجواب): إذا انتفى لزوم الرهن لعدم القبض أو الاستدامة تحاصوا في الثمرة وغيرها على قدر الذي لهم؛ لأن محل ذلك ذمة المدين، وتقديم أحدهم على ترجيح من غير مرجح. وما اشتهر بين الناس من تقديم العامل في الزرع ونحوه بأجرته، فلم نقف على أصل يوجب المصير إليه، والله أعلم.
جعل قيمة العروض رأس مال المضاربة
(الخامسة): إذا دفع إنسان إلى آخر عروضا مضاربة، وجعل قيمتها رأس مال المضاربة، هل يجوز هذا أم لا؟.
(الجواب): يشترط في المضاربة وشركة العنان أن يكون رأس المال من النقدين أو أحدهما، وهو المذهب؛ وعنه رواية أخرى أنها تصح بالعروض، اختارها أبو بكر وأبو الخطاب وصاحب الفائق وغيرهم، قال في "الإنصاف": قلت: وهو الصواب، فعلى هذه الرواية يرجع عند المفارقة بقيمة العروض عند العقد، كما جعلنا نصابها قيمتها، وسواء كانت مثلية أو غير مثلية، والله أعلم.
فسخ المضاربة
(السادسة): إذا دفع إنسان مالا مضاربة، وعمل فيه المضارب، ثم تلف من المال شيء بخسارة أو نحوها، ثم فسخ المضارب، هل عليه أن يعمل فيه حتى يكمل رأس المال أم لا؟.
(فالجواب): ذكر في القواعد الفقهية عن ابن عقيل ما حاصله أنه لا يجوز للمضارب الفسخ حتى يتضرر رأس المال، ويعلم به ربه لئلا يتضرر بتعطل ماله عن الربح، وأن المالك لا يملك الفسخ إذا توجه المال إلى الربح ولا يسقط به حق العامل، قال: وهو حسن جار على قواعد المذهب في
ص -31-(48/33)
اعتبار المقاصد وسد الذرائع؛ ولهذا قلنا: إن المضارب إذا ضارب لآخر من غير الأول وكان عليه في ذلك ضرر رد حقه من الربح في شركة الأول. انتهى.
(أقول): مراده بقوله: "حتى يتضرر رأس المال" يعني: إذا لم ينقص، أما إذا نقص فليس على المضارب إلا تنضيض ما بقي في يده من رأس المال، لأن المضاربة عقد جائز، ولا ضمان على المضارب فيما تلف من غير تعدٍ منه ولا تفريط، والله أعلم.
إكراء الأرض والزرع
(السابعة): هل يلزم صاحب الأرض إذا أكرى أرضه أو شجره عند من يُجوِّز ذلك ما يلزمه في عقد المساقاة من سد حائط أو إجراء نهر أو لا؟ فلم أقف في هذه المسألة للعلماء -رحمهم الله- على نص، والله أعلم.
غنيمة المسلم مال المسلم من كافر
(الثامنة): ما حكم مال المسلم إذا أخذه الكفار الأصليون، ثم اشتراه بعض التجار ممن أخذه، ثم باعه على آخر… إلخ.
(فالجواب): أما حكم مال المسلم إذا أخذه الكفار الأصليون فذكر القاضي أبو يعلى -رحمه الله-: أنهم يملكونه بالقهر، وهو المذهب عنده، وقال أبو الخطاب: ظاهر كلام أحمد أنهم لا يملكونها يعني: ولو حازوها إلى دارهم، قال في "الإنصاف": وهو رواية عن أحمد اختارها الآجري وأبو الخطاب في تعليقه وابن شهاب وأبو محمد الجوزي، وجزم به ابن عبدوس في تذكرته، قال في "النظم": لا يملكونه في الأظهر، وذكر ابن عقيل في فنونه ومفرداته روايتين، وصحَّح فيها عدم الملك وصحَّحه في نهايته ابن رزين ونظمها. انتهى.
قال في الشرح: وهو قول الشافعي وابن المنذر؛ لحديث ناقة النبي صلى الله عليه وسلم، ولأنه مال معصوم طرأت عليه يد عادية فلم تملك بها
ص -32-(48/34)
كالغصب، ولأن من لا تملك فيه غيره لا يملك ماله به أي: بالقهر كالمسلم مع المسلم، ووجه الأولى أن القهر سبب تملك به المسلم مال الكافر فملك به الكافر مال المسلم كالبيع، فعلى هذا يملكونها قبل حيازتها إلى دارهم، وهو قول مالك.
وذكر القاضي أنهم يملكونها بالحيازة إلى دارهم، وهو قول أبي حنيفة. وحكي عن أحمد في ذلك روايتان، قال ابن رجب: ونص أحمد أنهم لا يملكونها إلا بالحيازة إلى دارهم. فعليها يمتنع ملكهم لغير المنقول كالعقار ونحوه، لأن دار الإسلام ليست لهم دارا، وإن دخلوها. لكن ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أن أحمد -رحمه الله- لم ينص على الملك ولا على عدمه، وإنما نص على أحكام أخذ منها ذلك، قال: والصواب أنهم يملكونها ملكا مقيدا لا يساوي امتلاك المسلمين من كل وجه. انتهى.
قلت: قد صرح في كتاب "الصارم" و"الفتاوى المصرية" وغيرها أن القيد المشار إليه هو إسلام آخذها، ونصه: "ولو أسلم الحربي وبيده مال مسلم قد أخذه من المسلمين بطريق الاغتنام ونحوه، كان له ملكا ولم يرده إلى الذي كان يملكه عند جماهير العلماء من التابعين ومن بعدهم؛ وهو معنى ما جاء عن الخلفاء الراشدين، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك ومنصوص أحمد، وقول جماهير أصحابنا على أن الإسلام والعهد قرر ما بيده من المال الذي كان يعتقده ملكا له فلم يؤخذ منه كجميع ما بيده من العقود الفاسدة التي كان يستحلها.
قال في "الاختيارات: قال أبو العباس: وهذا يرجع إلى أن كل ما قبضه الكفار من الأموال قبضا يعتقدون جوازه فإنه يستقر لهم بالإسلام، قال: ومن العلماء من قال يرده على مالكه المسلم كالغصب؛ ولأنه لو أخذه
ص -33-(48/35)
منهم المسلم أخذا لا يملك به مسلم من مسلم بأن يغنمه أو يصرفه، فإنه يرده إلى مالكه المسلم؛ لحديث ناقة النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهو مما اتفق الناس عليه مما نعلمه ولو كانوا قد ملكوه لملكه الغانم منهم، ولم يرده إلى مالكه. انتهى. واختار أن الكافر يملكه بالإسلام عليه.
أقول: تأمل ما ذكره شيخ الإسلام من حجة الشافعي وموافقيه على أن الكفار لا يملكون أموال المسلمين، فلو كان الكافر يملك مال المسلم بالاستيلاء أو الحيازة إلى داره لم يرد النبي صلى الله عليه وسلم على ابن عمر عبده وفرسه التي كان قد أخذها العدو لما ظهر عليهم المسلمون، فلو لم يكن باقيا على ملك ابن عمر لم يرد إليه، وليس لتخصيصه بذلك دون سائر المسلمين معنى غير ذلك، وعمل بذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده. والأحاديث بذلك مشهورة في كتب الأحكام وغيرها.
قال البخاري -رحمه الله- في صحيحه: (باب إذا غنم المسلمون مال المسلم ثم وجده المسلم) قال ابن نمير: أنبأنا عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أنه ذهب فرس له، فأخذه العدو، فظهر عليه المسلمون فردَّه عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبق له عبد فلحق بالروم، فظهر عليه المسلمون فرده عليه خالد بن الوليد بعد النبي صلى الله عليه وسلم. اه. ثم ساقه متصلا.
وما استدل به القائلون بأنهم يملكونها بالقهر من أن القهر سبب يملك به المسلم مال الكافر، فملك به الكافر مال المسلم، فهذا قياس مع الفارق لا يصح دليلا لو لم يكن في مقابلة الأحاديث فكيف يمنعه؟ ولو لم يكن مع الشافعي وأبي الخطاب وابن عقيل فيما صحَّحه من الروايتين، ومن وافقهم كابن المنذر إلا حديث مسلم: "أن قوما أغاروا على سرح النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذوا ناقته
ص -34-(48/36)
وجارية من الأنصار، فأقامت عندهم أياما، ثم خرجت في بعض الليل، قالت: فما وضعت يدي على ناقة إلا رغت حتى وضعتها على ناقة ذلول فامتطيتها، ثم توجهت إلى المدينة، ونذرت إن نجاني الله عليها أن أنحرها، فلما قدمت المدينة استعرفت الناقة، فإذا هي ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذها، وقلت: يا رسول الله إني نذرت أن أنحرها. قال: بئسما جزيتها لا نذر في معصية الله." وفي رواية: "لا نذر فيما لا يملك ابن آدم"1.
هذا هو الحديث المشار إليه فيما تقدم، وقد عرفت من كلام شيخ الإسلام المتقدم أن من العلماء من قال يرده على مالكه المسلم ولو أسلم عليه، وعزاه للشافعي وأبي الخطاب، وذكر ما يدل لهذا القول، وأنا أذكر ما يدل لهذا القول أيضا، وإن لم يذكره شيخ الإسلام وهو ما رواه2 في صحيحه عن وائل بن حجر قال: "كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه رجلان يختصمان في أرض، فقال أحدهما: إن هذا انتزى على أرضي يا رسول الله في الجاهلية، وهو امرؤ القيس بن عابس الكندي وخصمه ربيعة بن عبدان، قال: بينتك؟. قال: ليس لي بينة، قال:يمينه. قال: إذن يذهب بها. قال: ليس لك إلا ذلك"3 … الحديث.
وأما حكم ما أخذه المسلمون منهم مما قد أخذوه من مال المسلم، فالجمهور من العلماء يقولون: إذا علم صاحبها قبل قسمها ردت إليه بغير شيء. قال الشارح في قول عامة أهل العلم، منهم عمر وسلمان بن ربيعة وعطاء والنخعي والليث والثوري ومالك والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي، وحجتهم ما تقدم من قصة ابن عمر، قال في "الشرح": وكذلك إن علم الإمام بمال مسلم قبل قسمه وجب ردُّه، وصاحبه أحق به بغير شيء، لأن قسمته صارت باطلة من(48/37)
__________
1 النسائي: الأيمان والنذور(3812), وأبو داود: الأيمان والنذور(3316), وابن ماجه: الكفارات(2124), وأحمد(4/429,4/430,4/432), والدارمي: النذور والأيمان(2337).
2 بياض في الأصل.
3 مسلم: الإيمان(139), والترمذي: الأحكام(1340), وأبو داود: الأيمان والنذور(3245) والأقضية(3623), وأحمد(4/317).
ص -35-
أصلها، فهو كما لو لم يُقَسَّم، فإن أدركه بعد القسم ففيه روايتان، إحداهما: يكون صاحبه أحق به من الثمن الذي حسب به على آخذه؛ وكذلك إن بيع، ثم قسم ثمنه فهو أحق به من الثمن، وهذا قول أبي حنيفة والثوري والأوزاعي ومالك كي لا يُفضي إلى حرمان أخذه من الغنيمة، أو تضييع الثمن على المشتري، يعني: من الغنيمة وحقهما يُخيَّر بالثمن، فيرجع صاحب المال في عين ماله بمنزلة مشتري الشقص لمشفوع.
والرواية الثانية: أنه لا حق له فيه بعد القسمة بحال، نص عليه أحمد في رواية أبي داود وغيره، وهو قول عمر وسلمان وربيعة وعطاء والنخعي والليث. وقال الشافعي وابن المنذر: يأخذه صاحبه قبل القسمة وبعدها، ويعطى مشتريه ثمنه من خمس المصالح، لأنه لم يزل عن ملك صاحبه، فوجب أن يستحق بغير شيء كما قبل القسمة، ويعطى من حسبت عليه القيمة لئلا يفضي إلى حرمان أخذه حقه من الغنيمة، وجعل من سهم المصالح؛ لأن هذا منها، فإن أخذه أحد الرعية بهبة أو سرقة أو بغير شيء فصاحبه أحق به من غير شيء. وقال أبو حنيفة: لا يأخذه إلا بالقيمة، وهو محجوج بحديث ناقة النبي صلى الله عليه وسلم المتقدم؛ ولأنه لم يحصل في يده بعوض، فصار صاحبه أحق به من غير شيء كما لو أدركه في الغنيمة قبل القسمة، فأما إن اشتراه رجل من العدو فليس لصاحبه أخذه إلا بثمنه.
وهذا كله إنما هو في الكافر الأصلي، أما المرتد فلا يملك مال المسلم بحال عند جميع العلماء، ولا يُعْلَم أحد قال به، وقد تتبعت كتب الخلاف كالمغني والقواعد والإنصاف وغيرها،(48/38)
فما رأيت خلافا في أنه لا يملكه، وإنما الخلاف فيما أتلفه إذا كان في طائفة ممتنعة أو لحق بدار الحرب
ص -36-
والمذهب أنه يضمن ما تلف في يده مطلقا، فافهم ذلك. المرتد لا يملك مال المسلم مطلقا، فافهم ذلك.
فالمسلم يأخذ ماله من المرتد أو من انتقل إليه بعوض أو غيره بغير شيء، وما تلف في يد المرتهن من مال المسلم أو تلف عند من انتقل إليه من جهة المرتد فهو مضمون كالمغصوب.
ثم اعلم أنه قد يغلط من لا تمييز عنده في معنى التلف والإتلاف، فيظن أنه إذا استنفق المال أو باعه أو وهبه أو نحو ذلك يعد إتلافا، وليس كذلك؛ بل هذا تصرف وانتفاع. وقد فرَّق العلماء بين هذا وبين الإتلاف، ومن صور الإتلاف والتلف أن يضيعه أو يضيع أو يسرق أو يحرق أو يقتل1 ونحو ذلك، فإن كان بفعله فهو إتلاف؛ وإن كان بغير فعله فهو بالنسبةإليه تلف يترتب عليه أحكام ما تلف بيده، وبالنسبة إلى الفاعل إتلاف؛ وضابطه فوات الشيء على وجه لا يعد من أنواع التصرفات.
إذا عرفت أن حكم المرتد يفارق حكم الكافر الأصلي، فاعلم أنه قد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- فيمن اشترى مال مسلم من التتر لما دخلوا الشام، إن لم يعرف صاحبه صُرِفَ في المصالح وأعطي مشتريه ما اشتراه به، لأنه لم يصر لها إلا بنفقة، وإن لم يقصد ذلك. انتهى من الإنصاف.
اجتهادات العلماء في المنهوب
وسئل –أيضا- عمن اشترى فرسا، ثم ولدت عنده حصانا، وأخذ السلطان الفرس، وأهدى الحصان لرجل فأعطاه عوضه، ثم ظهرت الفرس أنها كانت مكسوبة نهبا من قوم، فهل يحرم ثمن الحصان؟
(فأجاب): إن كان صاحب الفرس معروفا رُدَّت إليه فرسه، ورجع المشتري بالثمن على بائعه، ويرجع عليه بقيمة الحصان، أو قيمة نصفه الذي يستحقه صاحبه لكونه
__________
1 يعني المملوك الحي من إنسان وحيوان.
ص -37-(48/39)
غره، وإن كانت مكسوبة من التتر والعرب الذي يغير بعضهم على بعض، فيأخذ هؤلاء من هؤلاء، وهؤلاء من هؤلاء، ولم يعرف صاحبها؛ لم يحرم على مهدي الحصان عوض هديته. والله أعلم.
وقد صرَّح شيخ الإسلام -رحمه الله- بأن هذا المنهوب يرد إلى صاحبه، أو قيمته إن تصرف فيه، ويرجع المشتري بالثمن على البائع، وإنه إن لم يعرف صاحبه ما أخذه من التتر والعرب لم يحرم عليه عوضه، فمفهومه أنه إذا عرف صاحبه، فعوضه حرام على من اعتاض عنه لكونه ظهر مستحقا لمسلم معصوم. وهذا –أيضا- يفيد ما تقدم من قوله: فمن اشترى مال مسلم من التتر إن لم يعرف صاحبه صُرِفَ في المصالح… إلخ. وهو صريح في أن التتر لا يملكون مال المسلم بالاستيلاء والحيازة. ومن العلوم أن التتر من أعظم الناس كفرا لما جمعوه من المكفرات في الاعتقادات والأعمال، ومع ذلك قال شيخ الإسلام: يرد ما أخذوه لصاحبه المسلم من غير أن يدفع إلى مشتريه منهم شيئا، كما يفيده الجواب الثاني. ولم يقل فيه أنه لا يحرم على من اعتاض عن الحصان شيئا إلا بقيد عدم معرفة صاحبه بناء على أصله في الأموال التي جهلت أربابها؛ ولذلك قال في المكوس: إذا أقطعها الإمام الجند هي حلال لهم إذا جهل مستحقها.
وبهذا يظهر الجواب عن المسألة التاسعة، وهو أن ما دفع في هذه السنين من النهب والظلم يرد ما وجد منه إلى مالكه، من غير أخذ ثمن ولا قيمة، وحكم يد المشتري منهم حكم الأيدي المترتبة على يد الغاصب؛ لما تقرر من أن الخلاف إنما جرى في حق الكافر الأصلي، وأما المرتد ونحوه فالقول بأنه لا يملك مال المسلم مسألة وفاق.
ص -38-(48/40)
قال شيخ الإسلام -رحمه الله- في الفتاوى المصرية ما يفهم الفرق بين الكافر الحربي والمرتد، فقال: وإذا قدر على كافر حربي فنطق بالشهادتين وجب الكف عنه، بخلاف الخارجين عن الشريعة كالمرتدين الذين قاتلهم أبو بكر رضي الله عنه والتتر وأمثال هذه الطوائف ممن نطق بالشهادة ولا يلتزم شرائع الإسلام، وأما الحربي فإذا نطق بها كفَّ عنه. وقال –أيضا-: ويجب جهاد الكفار، واستنقاذ ما بأيديهم من بلاد المسلمين وأموالهم بإنفاق المسلمين، ويجب على المسلمين أن يكونوا يدا واحدة على الكفار، وأن يجتمعوا ويقاتلوا على طاعة الله ورسوله والجهاد في سبيله. انتهى.
فيعلم مما تقرر أن الأموال المنهوبة في هذه السنين غصوب يجري فيها حد الغصب، وما يترتب عليه، وبهذا أفتى شيخنا الشيخ عبد الله بن شيخنا الإمام -رحمهما الله تعالى-، وأفتى به الشيخ محمد بن علي قاضي صنعاء، وما علمت أن أحدا له أدنى ممارسة يخالف ذلك، والله أعلم.
ذبح السارق المسلم أو الكتابي المسروق مع التسمية
(العاشرة): قال السائل وجدت نقلا عن الإقناع وشرحه إذا ذبح السارق المسلم أو الكتابي المسروق مسميا حل لربه ونحوه أكله، ولم يكن ميتة كالمغصوب. انتهى. قال السائل: وهل هذا إلا مغصوب ويعارضه حديث عاصم بن كليب عن أبيه… إلخ.
(الجواب): لا معارضة إذ ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الأكل منها لا يدل على أنها ميتة من وجوه، منها: أنها ليست ملكا لهم ولا لمن ذبحها، فهي وإن حرمت عليهم لا تحرم على مالكها، ولا من أذن له مالكها في الأكل منها. ويحتمل أنه ترك الأكل منها تنزُّها، ويدل على حلها بهذه الزكاة قوله:أطعمتها الأسارى) وهو لا يطعهم ميتة، وقوله: "كالمغصوب"
ص -39-(48/41)
راجع لقوله حلالا لا لقوله ميتة شبهه بذبح الحيوان المغصوب في الحل لا في الحرمة، والله أعلم. قاص أو جازفه في الدين
(الحادية عشرة): إذا كان لإنسان على آخر دين من طعام ونحوه، فأشفق في الوفاء، فطلب غريمه أن يعطيه الثمرة عماله في ذمته، فهل يجوز ذلك أم لا.
(فالجواب)- وبالله التوفيق-: قال البخاري -رحمه الله- في صحيحهباب إذا قاص أو جازفه في الدين، فهو جائز -زاد في رواية كريمة- تمرا بتمر وغيره)وساق حديث جابر أن أباه توفي، وترك عليه ثلاثين وسقا لرجل من اليهود، فاستنظره جابر فأبى أن ينظره، وكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشفع له إليه فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلم اليهودي ليأخذ ثمر نخله بالذي له فأبى، الحديث. وبه استدل ابن عبد البر وغيره من العلماء على جواز أخذ الثمر على الشجر عما في ذمته، إذا علم أنه دون حقه إرفاقا بالمدين، وإحسانا إليه وسماحة بأخذ الحق ناقصا.
وترجم البخاري -رحمه الله- بهذا الشرط فقال:إذا قضى دون حقه أو حلَّله فهو جائز)، وساق حديث جابر -أيضا-، فأما إذا كان يحتمل أنه دون حقه أو مثله أو فوقه، فهذا غير جائز أن يأخذ عما في الذمة شيئا مجازفة أو خرصا، لا سيما إذا كان دين سَلَمٍ لما في البخاري وغيره عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم ومضمون"1 هذا الحديث عام، وبه أخذ الجمهور، وقد يقال: إن قضية جابر قضية عين لا عموم لها، ويترجَّح المنع بهذا سدا للذريعة، لا سيما في هذه الأوقات لكثرة الجهل والجراءة بأدنى شبهة، والله أعلم.
الباطل والفاسد عند الأصوليين
(الثانية عشرة): ما حكم الباطل والفاسد عند الأصوليين(48/42)
__________
1 البخاري: السلم(2239), ومسلم: المساقاة(1604), والترمذي: البيوع(1311), والنسائي: البيوع(4616), وأبو داود: البيوع(3463), وابن ماجه: التجارات(2280), وأحمد(1/217,1/222).
ص -40-
(الجواب): هما مترادفان عند الأصوليين والفقهاء من الحنابلة والشافعية، وقال أبو حنيفة: إنهما متباينان، فالباطل عنده ما لم يشرع بالكلية كبيع المضامين والملاقيح، والفاسد ما شرع أصله، ولكن امتنع لاشتماله على وصف محرم كالربا. وعند الجمهور كل ما كان منهيا عنه إما لعينه أو وصفه ففاسد وباطل؛ لكن ذهب بعض الفقهاء من الحنابلة إلى التفرقة بين ما أجمع على بطلانه وما لم يجمع على بطلانه، فعبروا عن الأول بالباطل، وعن الثاني بالفاسد، لتمييز هذا من هذا، لكون الثاني يترتب عليه أحكام الصحيح غالبا، أو أنهم قصدوا الخروج من الخلاف في نفس التعبير، لأن من عادة الفقهاء أهل المذهب مراعاة الخروج من الخلاف. وبعضهم يعبر بالباطل عن المختلف فيه مراعيا للأصل، ولعل من فرَّق بينهما في التعبير لا يمنع من تسمية المختلف فيه باطلا، فلا اختلاف. ومثل ذلك خلافهم في الفرض، والواجب، قال في القواعد الأصولية: "نهما مترادفان شرعا في أصح الروايتين عن أحمد، اختارها جماعة منهم ابن عقيل، وقاله الشافعية. وعن أحمد الفرض آكد اختارها جماعة، وقاله الحنفية. فعلى هذه الرواية الفرض: ما ثبت بدليل مقطوع به، وذكره ابن عقيل عن أحمد، وقيل: ما لا يسقط في عمد ولا سهو. وحكى ابن عقيل عن أحمد رواية: أن الفرض ما لزم بالقرآن، والواجب ما كان بالسنة، وفائدة الخلاف أنه يثاب على أحدهما أكثر، وأن طريق أحدهما مقطوع به، والآخر مظنون، ذكره القاضي، وذكرهما ابن عقيل على الأول، قال غير واحد: والنزاع لفظي. وعلى هذا الخلاف ذكر الأصحاب مسائل فرَّقوا فيها بين الفرض والواجب، والله أعلم وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم(48/43)
تسليما كثيرا.
ص -41-
الاستدانة لأجل وتزييد الفائدة بالتأخير
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه أستعين
(مسألة) في رجل أراد الاستدانة من رجل فقال: أعطيك كل مائة بكسب كذا. وتبايعا بينهما شيئا من عروض التجارة؛ فلما استحق الدين طالبه بالدين، فعجز عنه فقال: اقلب علي الدين بكسب كذا وكذا في المائة، وتبايعا بينهما عقارا، وفي آخر كل سنة يفعل معه مثل ذلك، وفي جميع المبايعات غرضهم الحلال. فصار المال عشرة آلاف درهم، فهل يحل لصاحب الدين مطالبة الرجل بما زاد في هذه المدة الطويلة؟ وهل لولي الأمر إنكار ذلك أم لا؟
(فالجواب): قول القائل لغيره: أدينك كل مائة بكسب كذا وكذا حرام. وكذلك إذا حل الدين عليه وكان معسرا،فإنه يجب إنظاره؛ ولا يجوز إلزامه بالقلب عليه باتفاق المسلمين. وبكل حال فهذه المعاملة وأمثالها من المعاملات التي يقصد بها بيع الدراهم بأكثر منها إلى أجل هو معاملة فاسدة ربوية، والواجب رد المال المقبوض فيها، إن كان باقيا، وإن كان فانيا رد مثله؛ ولا يستحق الدافع أكثر من ذلك. وعلى ولي الأمر المنع من هذه المعاملات الربوية، وعقوبة من يفعلها، ورد الناس فيها إلى رؤوس أموالهم دون الزيادات؛ فإن هذا من الربا الذي حرَّمه الله ورسوله، وقد قال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}1.
__________
1 سورة البقرة آية: 278.
ص -42-(48/44)
تحريم الربا
(مسألة) في تحريم الربا وما يفعل من المعاملات بين الناس اليوم ليتوصلوا بها إلى الربا، وإذا حل الدين يكون المديون معسرا، فيقلب الدين في معاملة أخرى بزيادة مال، وما يلزم ولاة الأمور في هذا؟ وهل يرد على صاحب المال رأس ماله دون ما زاد في معاملة الربا؟
(الجواب): المراباة حرام بالكتاب والسنة والإجماع، وقد (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، ولعن المحلل والمحلل له)، قال الترمذي: حديث صحيح؛ فالاثنان ملعونان. وكان أصل الربا في الجاهلية أن الرجل يكون له على الرجل المال المؤجَّل، فإذا حلَّ الأجل قال له: أتقضي أم تربي؟ فإن وفَّاه وإلا زاد هذا في الأجل، وزاد هذا في المال؛ فيتضاعف المال والأصل واحد؛ وهذا الربا حرام بإجماع المسلمين.
وأما إذا كان هذا هو المقصود، ولكن توسلوا بمعاملة أخرى فهذا تنازع فيه المتأخرون من المسلمين، وأما الصحابة فلم يكن فيهم نزاع أن هذا محرم؛ فإنما الأعمال بالنيات، والآثار عنهم بذلك كثيرة مشهورة. والله -تعالى- حرَّم الربا لما فيه من ضرر المحتاجين وأكل المال بالباطل، وهو موجود في المعاملات الربوية. وأما إذا حلَّ الدَّيْن، وكان الغريم معسرا لم يجز بإجماع المسلمين أن يقلب بالقلب لا بمعاملة ولا غيرها، بل يجب إنظاره، وإن كان موسرا، كان عليه الوفاء؛ فلا حاجة إلى القلب لا مع يساره، ولا مع إعساره، والواجب على ولاة الأمور بعد تعزير المتعاملين بالمعاملة الربوية بأن يأمروا المدين أن يؤدي رأس المال، ويسقطوا الزيادة الربوية؛ فإن كان معسرا وله مغلات يوفَّي منها، وُفِّيَ دينه منها بحسب الإمكان، والله أعلم.
ص -43-(48/45)
المتاجرة بالعملة
(مسألة) فيمن اشترى الفلوس أربعة عشر قرطاسا بدرهم ويصرفها ثلاثة عشر بدرهم، هل يجوز؟
(الجواب): إذا كان يصرفها للناس بالسعر العام جاز ذلك، وإن اشتراها رخيصة. وأما من باع سلعة بدراهم، فإنه لا يجب عليه أن يقتص عن شيء منها فلوسا إلا باختياره، وكذلك من اشتراها بدراهم فعليه أن يوفيها دراهم؛ فإن تراضيا على التعويض عن الثمن أو بعضه بفلوس بالسعر الواقع، جاز، والله أعلم.
التفاضل في الربوي للحاجة وانتفاء الضرر
(مسألة) في بيع الأكاديس الإفرنجية بالدراهم الإسلامية مع العلم بأن التفاوت بينهما يسير لا يقوم بمؤنة الضرب، بل فضة هذه الدراهم أكثر، هل تجوز المقايضة بينهما أم لا؟
(الجواب): هذه المقايضة تجوز في أظهر قولي العلماء، والجواز فيه له مأخذان، بل ثلاثة: أحدها: أن هذه الفضة معها نحاس، وتلك فضة خالصة، والفضة المقرونة بالنحاس أقل، فإذا بيع مائة درهم من هذه بسبعين –مثلا- من الدراهم الخالصة، فالفضة التي في المائة أقل من سبعين، فإذا جعل زيادة الفضة بإزاء النحاس جاز على أحد قولي العلماء الذين يجوزون مسألة (مد عجوة) كما هو مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين، وهي –أيضا- مذهب مالك وأحمد في المشهور عنه، إذا كان الربوي تبعا لغيره كما إذا باع شاة ذات لبن بلبن، أو دارا مموَّهة بالذهب بذهب، والسيف المحلى بفضة بفضة أو ذهب، ونحو ذلك. والذين منعوا عن مسألة (مد عجوة) وهو بيع الربوي بجنسه إذا كان معهما، أو مع أحدهما من غير جنسه قد علَّله طائفة منهم من أصحاب الشافعي وأحمد بأن الصفقة إذا اشتملت على عوضين
ص -44-(48/46)
مختلفين انقسم الثمن عليهما بالقيمة، وهذه علة ضيقة؛ فإن الانقسام إذا باع شقصا مشفوعا، وما ليس بمشفوع كالعبد والسيف والثوب إذا كان لا يحل عاد الشريك إلى الأخذ بالشفعة، فأما انقسام الثمن بالقيمة لغير حاجة فلا دليل عليه. والصحيح عند أكثرهم كون ذلك ذريعة إلى الربا، بأن يبيع ألف درهم في كيس بألفي درهم، ويجعل الألف الزائدة في مقابلة الكيس كما يجوِّز ذلك من يجوِّزه من أصحاب أبي حنيفة. والصواب في مثل هذا أنه لا يجوز, لأن المقصود بيع دراهم بدراهم متفاضلة، فمتى كان المقصود ذلك حرم التوسل إليه بكل طريق، فإنما الأعمال بالنيات. وكذلك إذا لم يعلم مقدار الربوي، بل يخرص خرصا مثل القلادة التي بيعت يوم خيبر، وفيها خرز مغلف بذهب فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تباع حتى تُفَصَّل"1، فإن تلك القلادة لما فصلت كان ذهب الخرز أكثر من ذلك الذهب المفرد فنهى النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم- عن بيع هذا بهذا حتى تفصل، لأن الذهب المفرد يجوز أن يكون أنقص من الذهب المقرون؛ فيكون قد باع ذهبا بذهب مثله، وزيادة خرز، وهذا لا يجوز.
وإذا علم المأخذ فإذا كان المقصود بيع دراهم بدراهم مثلها، وكان المفرد أكثر من المخلوط كما في الدراهم الخالصة بالمغشوشة بحيث تكون الزيادة في مقابلة الخلط، لم يكن في هذا من مفسدة الربا شيء، إذ ليس المقصود بيع دراهم بدراهم أكثر منها، ولا هو بما يحتمل أن يكون فيه ذلك؛ فيجوز التفاوت.
(المأخذ الثاني): مأخذ من يقول يجوز بيع الربوي بالربوي على سبيل التحري والخرص عند الحاجة إلى ذلك إذا تعذر الكيل أو الوزن، كما يقول ذلك مالك والشافعي وأحمد في بيع العرايا بخرصها كما مضت فيه
__________
1 مسلم: المساقاة(1591), والنسائي: البيوع(4573), وأبو داود: البيوع(3352), وأحمد(6/21).
ص -45-(48/47)
السنة في جواز الرطب بالتمر خرصا لأجل الحاجة. ويجوز ذلك في كل الثمار في أحد الأقوال في مذهب أحمد وغيره، وفي الثاني: لا يجوز، وفي الثالث: يجوز في العنب والرطب خاصة، كما يقوله من يقوله من أصحاب الشافعي، وكما يقول نظير ذلك مالك وأصحابه في بيع الموزون على سبيل التحري عند الحاجة، كما يجوز بيع الخبز بالخبز على وجه التحري. وجوَّزوا بيع اللحم باللحم على وجه التحري في السفر، قالوا: لأن الحاجة تدعو إلى ذلك ولا ميزان عندهم؛ فيجوز كما جازت العرايا؛ وفرَّقوا بين ذلك وبين الكيل، فإن الكيل ممكن ولو بالكف. وإذا كانت السنة قد مضت بإقامة التحري والاجتهاد مقام العلم بالكيل أو الوزن عند الحاجة، فمعلوم أن الناس يحتاجون إلى بيع هذه الدراهم المغشوشة بهذه الخالصة، وقد عرفوا مقدار ما فيها من الفضة بإخبار أهل الضرب وإخبار الصيارفة وغيرهم ممن سبك هذه الدراهم، وعرف قدر ما فيها من الفضة، فلم يبق في ذلك جهل مؤثر، بل العلم بذلك أظهر من العلم الخرص أو نحو ذلك.
وهم إنما مقصودهم دراهم بدراهم بقدر نصيبهم، ليس مقصودهم أخذ فضة زائدة، ولو وجدوا من يضرب لهم هذه الدراهم فضة خالصة من غير اختيارهم بحيث تبقى في بلادهم لفعلوا ذلك، وأعطوه أجرته؛ فهم ينتفعون لما يأخذونه من الدراهم الخالصة، ولا يتضررون بذلك، وكذلك أرباب الخالصة إذا أخذوا هذه الدراهم فهم ينتفعون بذلك لا يتضررون. وهذا مأخذ ثالث يبين الجواز، وهو أن الربا إنما حرم لما فيه من أخذ الفضل، وذلك ظلم يضر المعطي، فحرم لما فيه من الضرر، وإذا كان كل من المتقايضين مقايضه أنفع له من كسر دراهمه، وهو إلى ما يأخذه محتاج كان ذلك مصلحة لهما هما يحتاجان
ص -46-(48/48)
إليها، والمنع من ذلك مضرة عليهما؛ والشارع لا ينهى عن المصالح الراجحة، ويوجب المضرة المرجوحة كما قد عرف ذلك من أصول الشرع. وهذا كما أن من أخذ السفتجة من المقرض، وهو أن يقرضه دراهم يستوفيها منه في بلد آخر، مثل أن يكون المقرض غرضه حمل دراهم إلى بلد آخر، والمقترض له دراهم في ذلك البلد، وهو محتاج إلى دراهم في بلد المقرض، فيقترض منه في بلد دراهم المقرض، ويكتب له سفتجة أي: ورقة إلى بلد فيها دراهم المقترض، فهذا يجوز في أصح قولي العلماء، وقيل: ينهى عنه؛ لأنه قرض جرَّ منفعة والقرض إذا جر منفعة كان ربا. والصحيح الجواز لأن المقترض رأى النفع بأمن خطر الطريق إلى نقل دراهمه إلى ذلك، وقد انتفع المقرض أيضا بالوفاء في ذلك البلد، وأمن خطر الطريق إذا نقل دراهمه إلى بلد دراهم المقترض؛ فكلاهما منتفع بهذا الاقتراض؛ والشارع لا ينهى عما ينفع الناس ويصلحهم ويحتاجون إليه، وإنما ينهى عما يضرهم ويفسدهم، وقد أغناهم الله عنه، والله أعلم.
الأكل بعوض
(مسألة) في جندي له أقطاع، ويجيء عند فلاحيه فيطعمونه، هل يأكل؟
(الجواب): إذا أكل وأعطاهم عوض ما أكل فلا بأس، والله أعلم.
الأموال المكسوبة من الخمر والحشيش
(مسألة) في الأموال المكسوبة من الخمر والحشيش، هل يأكلها الفقير أو أعوان ولي الأمر؟
(الجواب): المال المكسوب من الخمر والحشيشة يتصدق به، وإذا تصدق به جاز للفقير أكله، ويجوز أن يعطيه ولي الأمر لأعوانه، والله أعلم.
العمل في المكان المغصوب
(مسألة): في رجل يطحن في طواحين السلطان يستأجرها، وهو يعلم أن بعضها ما هو غصب، وفي رجل يعمل في زرع السلطان، هل
ص -47-(48/49)
نصيبه منه حلال أو ما يكسبه الأول من الطاحون؟
(الجواب): أما الأراضي السلطانية والطواحين السلطانية التي يعلم أنها مغصوبة، فيجوز للإنسان أن يعمل فيها مزارعة بنصيب من الزرع، ويجوز أن يستأجرها، ويجوز أن يعمل فيها بأجرته مع الضامن. وأما إذا علم أنها مغصوبة، ولم يعرف لها مالك معين، فهذه فيها نزاع؛ والأظهر أنه يجوز العمل فيها، إذا كان العامل لا يأخذ إلا أجرة عمله، فإنه حينئذ لا يكون قد ظلم أحدا شيئا. والعمل فيها خير من تعطيلها على كل تقدير، وهذا إن أمكن أن ترد إلى أصحابها وإلا صرفت في مصالح المسلمين، والمجهول كالمعدوم. وأما إذا عرف أن للأرض مالكا معينا، وقد أخذت منه بغير حق، فلا يعمل فيها بغير إذنه، أو إذن وليه، أو وكيله، والله أعلم.
القصاص من السكران
(مسألة) في رجل أمسك رجلا، وقدمه لرجل سكران بيده سيف، فضربه السكران، فقتل. هل يلزم الذي أمسكه (القود) أم لا؟
(الجواب): يجب القود على هذا الذي أمسكه وقدمه إلى الذي ضربه بالسيف حتى مات في أظهر قولي العلماء، كما هو قول مالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه، والله أعلم.
صيال البهائم
(مسألة) في راكب فرس مسربة دباب، ومعه دب فجعل الفرس، ورأى راكبه، ثم هرب ورأى رجلا، فمات؟
(الجواب): لا ضمان على صاحب الفرس،والحال هذه لكن الدباب عليه العقوبة، والله أعلم.
قتل الجماعة بالواحد
(مسألة) في ثلاثة من اللصوص أخذ اثنان منهم مالا، والثالث قتل الجمال هل تقتل الثلاثة؟
ص -48-(48/50)
(الجواب) إذا كان الثلاثة حرامية اجتمعوا ليأخذوا المال بالمحاربة قتل الثلاثة، وإن كان الذي باشر القتل واحدا منهم، والله أعلم1.
سرق كيل غلة وبذره ولم يعرف مالكه
(مسألة) فيمن سرق كيل غلة وبذره ولم يعرف مالكه، هل يجوز له الزرع كله؟
(الجواب): أما مقدار الزرع فيتصدق به بلا ريب، وأما الزيادة ففيها نزاع، وأعدل الأقوال أن يجعل ذلك مزارعة، فيأخذ نصيبه، ونصيب البذر يتصدق به عنه، والله أعلم.
اختلاط الحرام بالحلال
(مسألة) في رجل يختلط ماله الحلال بالحرام؟
(الجواب): يخرج قدر الحرام بالميزان فيدفعه إلى صاحبه، وقدر الحلال حلاله، وإن لم يعرفه أو تعذرت معرفته تصدق به عنه، والله أعلم.
زكاة الإبل
(مسألة) في الرجل له جمال، ويشتري لها أيام الرعي مرعى، هل فيها زكاة؟
(الجواب): إذا كانت راعية أكثر الحول مثل أن يشتري لها المرعى ثلاثة أشهر أو أربعة فإنه يزكيها، هذا أظهر قولي العلماء.
زكاة الزروع
(مسألة) في مقطع له فلاح، والزرع بينهما مناصفة، فهل عليه عشر؟
(الجواب): ما ثبت على ملك الإنسان فعليه عشره، فالأرض المقطعة إذا كانت المقاسمة نصفين فعلى الفلاح تعشير نصفه، وعلى المقطع تعشير نصفه، هذا على القول الصحيح الذي عليه عمل المسلمين قديما وحديثا، وهو قول من قال إن المزارعة صحيحة سواء كان البذر من المالك أو من العامل، وأما من قال إن المزارعة باطلة فعنده لا يستحق المقطع إلا أجرة المثل أو الزرع كله
__________
1 أي: إذا كانوا من المشتركين في قطع الطرق، وقتل الناس لأخذ أموالهم، وأما إذا كانوا لصوصا غير قتلة، وانفرد أحدهم بقتل الجمال أو غيره فلا يقتل إلا القاتل.
ص -49-(48/51)
لرب البذر العامل، وحينئذ فالعشر كله على العامل، فإن أراد المقطع أن يأخذ نصف المغل مقاسمة، ويجعل العشر كله على صاحب النصف الآخر لم يكن له هذا باتفاق العلماء، والله أعلم.
زكاة المال
(مسألة) في رجل تحت يده مال فوق النصاب فأخرج منه شيئا من زكاة الفرض ظنا منه أنه قد حال عليه الحول، ثم تبين أنه لم يحل الحول فيمن يخرج الزكاة، وفي نفسه إذا كان الحول حال فهي زكاة، وإلا تكون سلفا على ما يجب بعد، هل يجزي في الصورتين؟.
(الجواب): نعم يجب ذلك من الزكاة في الصورتين جميعا إذا وجبت الزكاة، والله أعلم.
بيع الآبق
(مسألة) في مملوك لشخص مسلم مقيم في بلاد التتر، ثم إن المملوك هرب من عند أستاذه من تلك البلاد، وجاء إلى بلاد الشام، وهو في الرق. والآن المملوك يختار البيع، فهل يجوز لأحد أن يبيعه ليحفظ ثمنه لأستاذه، ويوصل ذلك إليه أم لا؟
(الجواب): نعم يجوز إذا كان في رجوعه إلى تلك البلاد ضرر عليه في دينه أو دنياه، فإنه يباع في هذه البلاد بدون إذن أستاذه، والله أعلم.
مشيئة الله
(مسألة) في أقوام يقولون: المشيئة، مشيئة الله في الماضي والمستقبل. وأقوام يقولون: المشيئة في المستقبل لا في الماضي، ما الصواب؟
(الجواب): الماضي مضى بمشيئة الله، والمستقبل لا يكون إلا أن يشاء الله؛ فمن قال في الماضي أن الله خلق السماوات -إن شاء الله-، أو أرسل محمدا -إن شاء الله- فقد أخطأ، ومن قال خلق الله السماوات بمشيئة الله وأرسل محمدا بمشيئة الله ونحو ذلك فقد أصاب. ومن قال أنه يكون في الوجود
ص -50-(48/52)
شيء بدون مشيئة الله فقد أخطأ، ومن قال: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن: فقد أصاب. وكل ما تقدم فقد كان بمشيئة الله قطعا؛ فالله خلق السماوات بمشيئته قطعا، وأرسل محمدا بمشيئته قطعا، والإنسان الموجود خلْق الله بمشيئته قطعا؛ وإن شاء الله أن يغير المخلوق من حال إلى حال فهو قادر على ذلك، فما خلقه فقد كان بمشيئته قطعا، وإن شاء الله أن يغيره غيره بمشيئته قطعا؛ والله أعلم.
التحايل على القصاص والدية
(مسألة) في طائفة تسمى العشير قيس ويمن يكثر القتل بينهم ولا يبالون به، وإذا طلب منهم القاتل أحضروا شخصا غير القاتل يتفقون معه على أن يعترف بالقتل عند ولي الأمر، فإذا اعترف جهزوا إلى المتولي مَنْ يدعي أنه من قرابة المقتول ويقول: أنا قد أبرأت هذا القاتل مما استحقه عليه؛ ويجعلون ذلك ذريعة إلى سفك الدماء وإقامة الفتن، فإذا رأى ولي الأمر وضع دية المقتول الذي لا يعرف قاتله من الطوائف الذين أثبت أسماءهم في الديوان على جميع الطوائف منهم، هل له ذلك أم لا؟ أو رأى وضع ذلك على أهل محلة القاتل كما نقل بعض الأئمة رضي الله عنهم؟ أو رأى تعزير هؤلاء العشير عند إظهارهم الفتن وسفك الدماء والعناد بوضع مال عليهم يؤخذ منهم ليكف نفوسهم العادية عن ذلك كله، فهل ذلك صحيح أم لا؟ وهل يثاب على ذلك؟ أفتونا مأجورين.
(فأجاب) الحنفي عن هذا السؤال بانقسامه على أهل المحلة التي وجد فيها قتيل لم يعرف قاتله، ووضع الدية عليهم دون التعزير بأخذ الأموال.
(وأجاب الشيخ) -أيده الله-: الحمد لله، إذا عرف القاتل فلا توضع الدية على أهل مكان المقتول باتفاق الأئمة، وإذا لم يعرف قاتله لا ببينة ولا إقرار ففي مثل هذا تُشرع القسامة، فإذا كان هناك لوث حلف المدعون
ص -51-(48/53)
خمسين يمينا عند الجمهور مالك والشافعي وأحمد كما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم -في قصة القتيل الذي وجد بخيبر، فإن لم يحلفوا حلف المدعى عليه. ومذهب أبي حنيفة يحلف المدعى عليهم أولا؛ فإن مذهبه أن اليمين لا تكون إلا في جانب المدعى عليه.
والجمهور يقولون: هي في جنبه أقوى المتداعيين، فأما إذا عرف القاتل، فإن كان قتله لأخذ مال فهو محارب يقتله الإمام حدا، وليس لأحد أن يعفو عنه لا أولياء المقتول ولا غيرهم، وإن قتل لأمر خاص، فهذا أمره إلى أولياء المقتول، فإن عفوا عنه...1 وللإمام في مذهب مالك أن يجلده مائة جلدة ويحبسه سنة، فهذا التعزير يُحَصِّلُ المقصود.
وعلى هذا، فإن كان أولياء المقتول قد رضوا بقتل صاحبهم فلا أرغم الله إلا بآنافهم، وإذا قيل: توضع الدية في بعض الصور على أهل المكان مع القسامة، فالدية لورثة المقتول لا لبيت المال، ولم يقل أحد من الأئمة: إن دية المقتول لبيت المال، وكذلك لا توضع الدية بدون قسامة باتفاق الأئمة.
وهؤلاء المعروفون بالفتن والعناد، لولي الأمر أن يمسك منهم مَنْ عرف بذلك فيحبسه، وله أن ينقله إلى أرض أخرى ليكف بذلك عدوانه، وله أن يعزر أيضا مَنْ ظهر الشر منه بما يكف به شره وعدوانه. ففي العقوبات الجارية على سنن العدل والشرع ما يعصم الدماء والأموال، ويغني ولاة الأمور عن وضع جنايات تفسد العباد والبلاد.
ومن اتُّهِمَ بقتلٍ وكان معروفا بالفجور، فلولي الأمر عند طائفة من العلماء أن يعاقبه تعزيرا على فجوره وتقريرا له؛ وبهذا وأمثاله يحصل مقصود السياسة العادلة. والله أعلم.
فائي يأخذ منه رؤساء القرى شيئا يضيفون به المنقطعين وغيرهم
(مسألة) في رجل فائي يأخذ منه رؤساء القرى شيئا يضيفون به
__________
1 هكذا في الأصل، بلا جواب الشرط وهو: سقط القود ووجبت الدية.
ص -52-(48/54)
المنطعين وغيرهم ويجبون من المساكين والأرامل مالا فيعطونه، هل يكون حلالا أم حراما؟
(الجواب): إذا اشتروا منهم شيئا وأعطوهم ثمنه من مال يعلمون أنه مغصوب أخذ من أصحابه ظلما، لم يكن لهم أن ينتفعوا به؛ لكن هذا المال إذا اشتروا لهم به ما يطلبونه منهم، لم يكن عليهم منه شيء، إذا كانوا مكرهين على ذلك. فينبغي لمن يتقي أن يظلم وأن يظلم إن اشترى المظلمة بأموالهم ما يطلبونه منه لئلا يظلم غيره، ولا يكون هو مظلوما وهو مكره على هذا العمل. ومع هذا فالمال الذي جمعوه من الناس، وقد تعذر رده على أصحابه إذا أعطوه للفائي عوضا مما أخذوه منه بغير اختياره فهو أحق به ممن يعطاه من غير معاوضة، والظالم في الحقيقة هو الذي أخذ الأموال بغير حق، لا من أخذ عوض ماله من مال لا يعلم له مستحقا معينا، والله أعلم.
(مسألة) في نوبة الوكلاء والشحاني يحفظ الغلال على الفلاحين، هل هي حلال؟
(الجواب): إذا كان يحفظ الزرع لصاحب الأرض والفلاح، فله أجرته عليها، فإذا كانت المؤونة التي يأخذها من الفلاح بقدر حقه عليه: فلا بأس، والله أعلم
أخذ الزكاة ممن ليس عنده نصاب
(مسألة) في قرية بها فلاحون، وهي نصفان: أحد فلاحي النصفين له غنم تجب فيها الزكاة؛ والنصف الآخر ليس لفلاحيه غنم قدر ما تجب فيه الزكاة؛ فألزم الإمام أهل القرية بزكاة الغنم على الفلاحين، فهل تجب على من له النصاب؛ وإذا وجبت عليه فهل يجوز للإمام أن يأخذ ممن ليس له نصاب؟
ص -53-(48/55)
(الجواب): تجب إن كان المطلوب هو مقدار ما فرضه الله على من تجب عليه الزكاة اختصوا بأدائه، وإن كان المطلوب فوق الواجب على سبيل الظلم، اشترك فيه الجميع بحسب أموالهم. والله أعلم.
سامري ضرب مسلما وشتمه
(مسألة) في سامري ضرب مسلما وشتمه.
(الجواب) تجب عقوبته عقوبة بليغة تردعه وأمثاله، والله أعلم.
رجل استأجر قطع أرض وقف وغرس فيها غراسا ومضت مدة الاستئجار
(مسألة) في رجل استأجر قطع أرض وقف وغرس فيها غراسا، وأثمر؛ ومضت مدة الاستئجار، فأراد نظار الوقف قلع الغراس، فهل لهم ذلك، أو أجرة المثل، وهل يثاب ولي الأمر على مساعدته؟
(الجواب): ليس لأهل الأرض قلع الغراس بل لهم المطالبة بأجرة المثل، أو تملك الغراس بقيمته، أو ضمان نقصه إذا قلع. وما دام باقيا فعلى صاحبه أجرة مثله، وعلى ولي الأمر منع الظالم من ظلمه، والله أعلم.
حديثمن شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاقتلوه)
(مسألة) في قوله -عليه السلام-: "من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاقتلوه"1 هل لهذا الحديث أصل؟ ومَنْ رواه؟
(الجواب): نعم له أصل، وهو مروي من وجوه متعددة، وهو ثابت عند أهل الحديث؛ لكن أكثر العلماء يقولون:هو منسوخ، وتنازعوا في ناسخه على عدة أقاويل: ومنهم من يقول: بل حكمه باق، وقيل: بل الوجوب منسوخ، والجواز باقٍ، وقد رواه أحمد والترمذي وغيرهما ورواه ابن ماجه، ولا أعلم أحدا قدح فيه.2 والله أعلم.
__________
1 أبو داود: الحدود(4485).
2 لعله يريد الحديث المروي بهذا المعنى عن عدة من الصحابة. وأما اللفظ الذي سئل عنه فقد رواه أحمد والحارث بن أبي أسامة من طريق الحسن البصري عن عبد الله بن عمرو، وأعلوه بأن الحسن لم يسمع من عبد الله بن عمرو.
ص -54-(48/56)
هل يصح للشريك شفعة
(مسألة) في رجل له ملك وله شركة فيه فاحتاج إلى بيعه، فأعطاه إنسان فيه شيئا معلوما فباعه، فقال: زن لي ما قلت فنقصه بغير المثل، فهل يصح للشريك شفعة أم لا؟ وهل يصح شفعة أم لا؟
(الجواب): إذا باعه بثمن معلوم كان على المشتري أداء ذلك الثمن، وإن كان البيع فاسدا قد فات كان عليه قيمة مثله. وإذا كان الشقص مشفوعا فللشريك فيه الشفعة، والله أعلم.
أكرهها زوجها على إبرائه من الصداق
(مسألة) في بنت يتيمة تحت الحجر مزوجة، قال لها الزوج: أبرئيني من صداقك وأنت طالق ثلاثا، فمن شدة الضرب والفزع وهبته. ثم رجعت فندمت، هل لها أن ترجع ولا يحنثان أم لا؟
(الجواب): إذا أكرهها على الهبة أو كانت تحت الحجر لم تصح الهبة، ولم يقع الطلاق، والله أعلم.
زُوجت بإذنها وإذن أخيها وسنها اثنتا عشرة سنة
(مسألة) في بنت يتيمة ليس لها أب، ولا لها وليٌّ إلا أخوها وسنها اثنتا عشرة سنة، ولم تبلغ الحلم، وعقد عليها أخوها بإذنها فهل يجوز ذلك أم لا؟
(الجواب): بل هذا العقد صحيح في مذهب أحمد المنصوص عنه في أكثر أجوبته الذي عليه عامة أصحابه، ومذهب أبي حنيفة أيضا؛ لكن أحمد في المشهور عنه يقول: إذا زوجت بإذنها وإذن أخيها لم يكن لها الخيار إذا بلغت. وأبو حنيفة، وأحمد في رواية يقول: تُزَوَّجُ بلا إذنها، ولا لها الخيار إذا بلغت، وهذا أحد القولين في مذهب مالك أيضا؛ ثم عنه رواية: إن دعت حاجة إلى نكاحها، ومثلها يوطأ جاز، وقيل: تزوج ولها الخيار إذا بلغت، وقال ابن بشر: اتفق المتأخرون أنه يجوز نكاحها إذا خيف عليها
ص -55-(48/57)
الفساد.
والقول الثالث: وهو قول الشافعي وأحمد في رواية، ومالك في الرواية الأخرى أنها لا تُزوَّجُ حتى تبلغ إذا لم يكن لها أب وجد؛ قالوا: لأنه ليس لها ولي مجبر، وهي في نفسها الإذن لها بعد البلوغ، فتعذر تزويجها بإذنها وإذن وليها. والقول الأول أصح بدلالة الكتاب والسنة والاعتبار؛ فإن الله تعالى يقول: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً}1.
وقد ثبت عن عائشة -رضي الله عنها- أن هذه الآية نزلت في اليتيمة تكون في حِجر وليها، فإن كان لها مال وجمال تزوجها، ولم يُقْسِط في صداقها، وإن لم يكن لها مال لم يتزوجها، فنهي أن يتزوجها حتى يقسط في صداقها من أجل رغبته عن نكاحها إذا لم يكن لها مال.
وقوله: {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ}2 يفتيكم ويفتيكم في المستضعفين، فقد أخبرت عائشة في هذا الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري ومسلم أن هذه الآية نزلت في اليتيمة تكون في حجر وليها، وأن الله أذن له في تزويجها إذا أقسط في صداقها، وقد أخبر أنها في حجره، فدل على أنها محجور عليها.
وأيضا فقد ثبت في السنن من حديث أبي موسى وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تنكح اليتيمة حتى تستأذن، فإن سكتت فقد أذنت، وإن أبت فلا جواز عليها"3 فجَوَّز تزويجها بإذنها، ومنعه بدون إذنها، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا يُتْمَ بعد احتلامٍ"4 ولو أريد باليتيم ما بعد البلوغ فبطريق المجاز؛ فلا بد أن يعم ما قبل البلوغ وما بعده، أما تخصيص لفظ يتيم بما بعد(48/58)
البلوغ فلا
__________
1 سورة النساء آية: 127.
2 سورة النساء آية: 127.
3 النسائي: النكاح(3270), وأبو داود: النكاح(2093), وأحمد(2/259,2/475).
4 أبو داود: الوصايا(2873).
ص -56-
يحتمله اللفظ بحال
ولأن الصغير المميز يصح لفظه مع إذن وليه، كما يصح إحرامه بالحج بإذن الولي، وكما يصح تصرفه في البيع وغيره بإذن وليه عند أكثر العلماء كما دل ذلك القرآن بقوله: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ}1 الآية، فأمر بالابتلاء قبل البلوغ وذلك قد لا يتأتى إلا بالبيع، ولا تصح وصيته وتدبيره عند الجمهور وكذلك إسلامه، كما يصح صومه وصلاته وغير ذلك لما له في ذلك من المنفعة، فإذا زوجها الولي بإذنها من كفء جاز، وكان هذا تصرفا بإذنها، وهو مصلحة لها، وكل واحد من هذين مُصَحح لتصرف المميز. والله أعلم.
سألها الهبة ثم طلقها هل لها الرجوع في الهبة
(مسألة) في رجل طلق زوجته وسألها الصلح فصالحها وكتب لها دينارين، فقال لها: هبيني الدينار الواحد فوهبته؛ ثم طلقها. فهل لها الرجوع في الهبة -والحال هذه-؟
(الجواب): نعم لها أن ترجع فيما وهبته -والحال هذه-؛ فإنه سألها الهبة، وطلقها مع ذلك، وهي لم تطب نفسها أن يأخذ مالها بسؤالها ويطلقها. والله أعلم.
الوكالة في قبض الدين والإبراء منه
(مسألة) في رجل وَكَّلَ رجلا على قبض ديون له، ثم صرفه وطالبه لما بقي عليه، ثم إن الوكيل المتصرف كتب مبارأة بينه وبين من عليه الدين بغير أمر الموكل، فهل يصح الإبراء؟
(الجواب): إن لم يكن في وكالته إثبات ما يقتضي أنه مأذون له في الإبراء، لم يصح إبراؤه من دين هو ثابت للموكل، وإن كان أقر بالإبراء قبل إقراره فيما هو وكيل فيه، كالتوكيل بالقبض إذا أقر بذلك، والله أعلم.
التسوية بين الأبناء في العطايا
(مسألة) في رجل ترك أولادا ذكورا وإناثا وتزوجوا(؟) الإناث قبل(48/59)
__________
1 سورة النساء آية: 6.
ص -57-
موت أبيهم فأخذوا(؟) الجهاز جملة كثيرة، ثم لما مات الرجل لم يرث الذكورإلا شيئا يسيرا، فهل على البنات أن يتحاصوهم(؟) والذكور في الميراث والذين معهم أم لا؟1.
(الجواب): يجب على الرجل أن يسوي بين أولاده في العطية، ولا يجوز أن يفضل بعضا على بعض كما أمر النبي –صلى الله عليه وسلم- بذلك حيث نهى عن الجور في التفضيل، وأمر برده. فإن فعل ومات قبل العدل، كان الواجب على مَنْ فُضِّلَ أن يتبع العدل بينه وبين إخوته، فيقتسمون جميع المال الأول والآخر على كتاب الله –تعالى- للذكر مثل حظ الأنثيين، والله أعلم.
حلف بالطلاق ما بقي يشارك رجلا
(مسألة) في رجل حلف بالطلاق ما بقي يشارك رجلا، وهو شريكه، فقال له رجل: قل: إن شاء الله، فقال، فهل إذا استمر على شركته يحنث؟
(الجواب) لا يقع به طلاق، والحالة هذه، والله أعلم.
تفضيل إحدى الزوجتين على الأخرى
(مسألة) في رجل له امرأتان ويفضل الواحدة على الأخرى في النفقة وسائر الحقوق، حتى أنه هجرها. فما يجب عليه؟
(الجواب): يجب أن يعدل بين المرأتين، وليس له أن يفضل إحداهما في القَسْمِ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما أكثر من الأخرى جاء يوم القيامة وشقه مائل"2. وإن لم يعدل بينهما، فإما أن يمسكها بمعروف، وإما أن يسرح بإحسان، والله أعلم.
__________
1 يظهر أن هذه المسألة كتبت بأغلاطها كما وردت من بعض العامة ونحن لم نصححها لكثرتها مع أننا نصحح غيرها من الغلط القطعي لاعتقادنا أنه من خطأ النساخ ولكن وضعنا بجانبها علامة الاستفهام(؟).
2 الترمذي: النكاح(1141), والنسائي: عشرة النساء(3942), وأبو داود: النكاح(2133), وابن ماجه: النكاح(1969), وأحمد(2/347,2/471), والدارمي: النكاح(2206).
ص -58-(48/60)
وضع يده على الأرض وادعى أنه استأجرها وذلك بغير طريق شرعي
(مسألة) فيمن استأجر أرض وقف من الناظر على الوقف النظر الشرعي ثلاثين سنة بأجرة المثل، وأثبت الإجارة عند حاكم من الحكام، وأنشأ عمارة، وعَرَّشَ في المكان مدة أربع سنين ثم سافر، والمكان في إجارته؛ وغاب إحدى عشرة سنة. فلما حضر وجد بعض الناس قد وضع يده على الأرض، وادعى أنه استأجرها، وذلك بغير طريق شرعي، فهل له نزع هذا الثاني وطلبه بتفاوت الأجرة؟
(الجواب): إن كان الثاني قد استأجر المكان مِنْ غير مَنْ له ولاية الإيجار، واستأجره مع بقاء إجارة صحيحة عليه، فالإجارة باطلة، ويده بدعائه مستحقة للرفع والإزالة. وإذا كان الثاني استأجرها وتسلمها، وهي في إجارة الأول، فالأول مخير: بين أن يفسخ الإجارة، وتسقط عنه الإجارة من حين الفسخ، ويطالب أهل المكان بالإجارة لهذا الثاني المتولي عليه يطلبون منه أجرة المثل، إن كانت الإجارة فاسدة، وإن كانت صحيحة طالبوه بالمشي، وبين إن وصى الإجارة ويعطى أهل المكان أجرتهم، ويطالب الغاصب بأجرة المثل من حين استيلائه على ما استأجره.
مما يقدح في عدالة الرجال ومروءتهم
(مسألة) في رجل مقبول القول عند الحكام يخرج للفرجة في الزهر في مواسم الفرج حيث يكون مجمع الناس، ويرى المنكر ولا يقدر على إزالته، ويُخرج امرأته أيضا معه هل يجوز ذلك وهل يقدح في عدالته؟
(الجواب): ليس للإنسان أن يحضر الأماكن التي يشهد فيها المنكرات ولا يمكنه الإنكار، إلا لموجب شرعي، مثل أن يكون هناك لما يحتاج إليه لمصلحة دينه أو دنياه لا بد فيه من حضوره، أو يكون مكرها. فأما حضوره لمجرد الفرجة وإحضاره امرأته تشاهد ذلك، فهذا مما يقدح
ص -59-(48/61)
في عدالته ومروءته، إذا أصر عليه، والله أعلم.
العاقد للأنكحة بولي وشاهدي عدل، هل للحاكم منعه
(مسألة) فيمن يعقد عقود الأنكحة بولي وشاهديْ عدل، هل للحاكم منعه؟
(الجواب): ليس للحاكم أن يمنع المذكور أن يتوكل للولي فيعقد العقد على الوجه الشرعي، لكن من لا ولي لها لا تزوج إلا بإذن السلطان، وهو الحاكم، والله أعلم.
إيقاع الحلف بالطلاق ثلاثا مرة واحدة
(مسألة) في رجل عنده طرق من الفروع يفتي من حلف بالطلاق الثلاث بواحدة، وربما يقول: لا شيء عليه، فهل ينكر عليه ويمنع من ذلك؟
(الجواب) أما المفتي المذكور فينظر فيما يفتي به فإن كان يفتي بما يسوغ فيه الاجتهاد لم ينكر عليه، وإن خالف الإجماع أنكر عليه، وكذلك إن خالف نصا من الكتاب أو السنة أنكر عليه. وقد تنازع العلماء فيمن حلف ليفعلن شيئا، أو لا يفعله بالطلاق أو العتاق أو الظهار أو الحرام أو صدقة المال، إذا حنث فقال بعضهم: يلزمه ما حلف به، وقال بعضهم: لا شيء عليه، وقال بعضهم: تلزمه كفارة يمين، وأما إن أوقع الثلاث بكلام واحد أو طلقها في الحيض، فهذا فيه نزاع بين السلف والخلف.
طعام الزواج وطعام العزاء وطعام الختان وطعام الولادة.
(مسألة) في طعام الزواج وطعام العزاء وطعام الختان وطعام الولادة؟
(الجواب): أما وليمة العرس فهي سنة، والإجابة إليها مأمور بها. وأما وليمة الموت فبدعة مكروه فعلها والإجابة إليها. وأما وليمة الختان فهي جائزة، من شاء فعلها، ومن شاء تركها، وكذلك وليمة الولادة إلا أن يكون قد عق عن الولد؛ فإن العقيقة عنه سنة؛ والله أعلم.
الاستيلاء على أرض الغير بغير وجه حق
(مسألة) في رجل له أرض ملك، وهي بيده ثلاثون سنة، فجاء
ص -60-(48/62)
رجل جذ زرعه منها ثم زرعها في ثاني سنة، فما يجب عليه؟
(الجواب): ليس لأحد أن يستولي عليه بغير حق؛ بل له أن يطالب من زرعه في ملكه بأجرة المثل، وله أن يأخذ الزرع إذا كان قائما ويعطيه نفقته، والله أعلم.
تزوج امرأة بكرا ثم ادعى أنها كانت ثيبا
(مسألة) في امرأة بكر تزوجها رجل ودخل بها، ثم ادعى أنها كانت ثيبا، وتحاكما إلى حاكم، فأرسل معها امرأتين فوجدوها كانت بكرا، فأنكر ونكل عن المهر، فما يجب عليه؟
(الجواب): ليس له ذلك، بل عليه كمال المهر، كما قال زرارة، وقضى الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون: أن من أغلق الباب وأرخى الستر، فقد وجبت عليه العدة والمهر، والله أعلم.
زيادة الإيجار في نهاية مدة العقد
(مسألة) في رجل أجر رجلا عقارا مدة، وفي أواخر المدة زاد رجل في أجرتها، فأجره، فعارضه المستأجر الأول، وقال: هذه في إجارتي، هل له ذلك؟
(الجواب): إذا كان قد أجر المدة التي تكون بعد إجارة الأول، لم يكن للأول اعتراض عليه في ذلك، والله أعلم.
ضمان الأجير المشترك
(مسألة) فيمن كان له ذهب مخيط في ثوبه فأعطاه للغسال نسيانا، فلما رده الغسال إليه بعد غسله، وجد مكان الذهب مفتقا ولم يجده، فما الحكم فيه؟
(الجواب): إما أن يحلف المدعى عليه بما يبرئه، وإما أن يحلف المدعي أنه أخذ الذهب بغير حق ويضمنه، فإن كان الغسال معروفا بالفجور، وظهرت الريبة بظهور الفتق، جاز ضربه وتقريره، والله أعلم.
ص -61-(48/63)
ضمان الشيء المستعار
(مسألة) في رجلين عند أمير، فقال الأمير لأحدهما: اطلب لي سيف رفيقك على سبيل العارية، فأجاب، فأخذه الأمير، فعدم عنده، هل تلزم المطالبة للأمير أو للرسول الذي استعاره؟
(الجواب): إذا كان الرسول لم يكذب ولم يتعد، فلا ضمان عليه، بل الضمان على المستعير إن كان فرط، أو اعتدى باتفاق العلماء، وإلا ففي ضمانه نزاع، والله أعلم.
ضرب غيره فعطل منفعة أصبعه
(مسألة) فيمن ضرب غيره فعطل منفعة أصبعه؟
(الجواب): إذا تعطلت منفعة أصبعه بالجناية التي اعتدى فيها وجبت دية الإصبع، وهي عشر الدية الكاملة، والله أعلم.
الرجوع في الشهادة
(مسألة) في شهود شهدوا بما أوجب الحد، ولما شَخَصَ قالوا: غلطنا، ورجعوا، فهل يقبل رجوعهم؟
(الجواب): نعم إذا رجع عن شهادته قبل الحكم بها لم يحكم بها، وإذا كان يعلم أنه قد غلط وجب عليه أن يرجع، ولا يقدح ذلك في دينه ولا في عدالته، والله أعلم.
القول بأن الخير من الله والشر من أنفسنا
(مسألة) فيمن يقول: الخير من الله، والشر من أنفسنا؟
(الجواب): مذهب أهل السنة والجماعة: أن الله خالق كل شيء، وربه ومليكه، لا رب غيره، ولا خالق سواه، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهو على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم. والعبد مأمور بطاعة الله وطاعة رسوله، منهي عن معصية الله ومعصية رسوله؛ فإن أطاع كان ذلك نعمة من الله أنعم بها عليه، وكان له الأجر والثواب بفضل الله ورحمته، وإن عصى كان مستحقا للذم والعقاب، وكان لله عليه الحجة البالغة، ولا حجة
ص -62-(48/64)
لأحد على الله.
وكل ذلك كائن بقضاء الله وقدره ومشيئته وقدرته، لأنه يحب الطاعة ويأمر بها، ويثيب أهلها ويكرمهم، ويبغض المعصية وينهى عنها، ويعاقب أهلها ويهينهم. وما يصيب العبد من النعم فالله أنعم بها عليه، وما يصيبه من الشر فبذنوبه ومعصيته، كما قال تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ}1 أي: ما أصابك من خصب ونصر وهدًى فالله أنعم به عليك، وما أصابك من جدب وذل وشر فبذنوبك وخطاياك.
وكل الأشياء كائنة بمشيئة الله وقدرته وخلقه، فلا بد أن يؤمن بقضاء الله وقدره خيره وشره وحلوه ومره، وأن يؤمن بشرع الله وأمره. فمن نظر إلى الحقيقة القدرية وأعرض عن الأمر والنهي والوعد والوعيد كان مشابها للمشركين، ومن نظر إلى الأمر والنهي وكذب بالقضاء والقدر كان مشابها للمجوس، ومن آمن بهذا وبهذا: فإذا أحسن حمد الله، وإذا أساء استغفر الله، وعلم إن ذلك كله بقضاء الله وقدره: فهو من المؤمنين.
فإن آدم –عليه السلام- لما أذنب تاب فاجتباه ربه وهدى، وإبليس أصر واحتج بالقدر فلعنه الله وأقصاه. فمن تاب كان آدميا، ومن أصر واحتج بالقدر كان إبليسيا. فالسعداء يتبعون أباهم آدم، والأشقياء يتبعون عدوهم إبليس. فنسأل الله أن يهدينا الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا آمين.
__________
1 سورة النساء آية: 79.
ص -63-(48/65)
مسائل نقلها الشيخ حمد بن ناصر من أجوبة لابن حجر الهيتمي
قبض ملك الموت أرواح الأحياء كلها
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين
هذه مسائل نقلها الشيخ حمد بن ناصر بن عثمان من أجوبة لابن حجر الهيتمي1.
(مسألة) هل ملك الموت يقبض أرواح الحيوانات كلها، أو ما يقبض إلا أرواح بني آدم فقط؟ وأين مستقر الأرواح بعد قبضها؟
(الجواب): الذي دلت عليه الأحاديث أن ملك الموت يقبض أرواح الحيوانات من بني آدم وغيرهم؛ من ذلك قوله مخاطبا لنبينا صلى الله عليه وسلم: والله يا محمد لو أردت أن أقبض روح بعوضة ما قدرت حتى يكون الله هو الآمر بقبضها.
قال القرطبي: وفي هذا الخبر ما يدل على أن ملك الموت هو الموكل بقبض كل ذي روح، وأن تصرفه كله بأمر الله، ومن ذلك ما في خبر الإسراء عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عن نفسه فقلت: (يا ملك الموت فكيف تقدر على قبض أرواح من في الأرض: برها وبحرها؟) الحديث.
وذكر أبو نعيم عن ثابت البناني قال: الليل والنهار أربع وعشرون ساعة ليس منها ساعة تأتي على ذي روح إلا وملك الموت قائم عليها، فإن أمر بقبضها قبضها وإلا ذهب.
قال القرطبي: وهذا عام في كل ذي روح، ومِنْ ثَمَّ لما سئل مالك -رحمه الله- عن البراغيث أن ملك الموت هل يقبض أرواحها أطرق مليا، ثم قال: ألها
__________
1 يعني من كتاب الفتاوى الحديثية له وقد قابلنا عليها عند التصحيح.
ص -64-(48/66)
نفس؟ قيل: نعم، قال: ملك الموت يقبض أرواحها {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا}1 وأشار مالك بذكر الآية إلى أن المراد بقوله: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ}2 أنه يأمر ملك الموت يتوفاها كما صرح به قوله –تعالى-: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا}3، ولا ينافي ذلك قوله –تعالى-: {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ}4 وقوله: {يُحْيِي وَيُمِيتُ}5، لأن ملك الموت يقبض الروح وأعوانه يعالجون، والله –تعالى- يزهق الروح. وبهذا تجتمع الآيات والأحاديث، وإنما أضيف التوفي لملك الموت لأنه يتولاه بالوسائط والمباشرة، وأضيف الخلق للملك في خبر مسلم عن حذيفة: سمعت الرسول –صلى الله عليه وسلم- يقول: "إذا مرت بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة بعث الله ملكا فصورها فخلق سمعها وبصرها، وجلدها، ولحمها، وعظامها"6 الحديث7.
والحاصل أن الله سبحانه وتعالى هو القابض لأرواح جميع الخلق بالحقيقة، وأن ملك الموت وأعوانه إنما هم وسائط؛ وكذلك القول في سائر الأسباب العادية، فإنها بإحداث الله وخلقه لا بغيره تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا.
وذكر ابن رجب أن الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- تكون أرواحهم في أعلى عليين، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم في الرفيق الأعلى"8. وأكثر العلماء على أن أرواح الشهداء في أجواف طيور خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح في الجنة حيث تشاء كما في مسلم وغيره. وأما بقية المؤمنين فنص الشافعي -رحمه الله -على أن من لم يبلغ التكليف منهم: في الجنة حيث شاؤوا فتأوي إلى(48/67)
__________
1 سورة الزمر آية: 42.
2 سورة الزمر آية: 42.
3 سورة الأنعام آية: 61.
4 سورة الملك آية: 2.
5 سورة البقرة آية: 258.
6 مسلم: القدر(2645).
7 سقط من هنا عدة أقوال للعلماء في الموضوع؛ الظاهر أن الشيخ أحمد بن ناصر تعمد حذفها اختصارا؛ ولأنها آراء وآثار غير صحيحة. وكتبه محمد رشيد رضا.
8 البخاري: المغازي(4437), ومسلم: فضائل الصحابة(2444), والترمذي: الدعوات(3496), وأحمد(6/200,6/274), ومالك: الجنائز(562).
ص -65-(48/68)
قناديل معلقة بالعرش، وأخرجه ابن أبي حاتم عن ابن مسعود.
وأما أهل التكليف ففيهم خلاف كثير، فعن أحمد أنها في الجنة، وعن وهب أنها في دار يقال لها: البيضاء في السماء السابعة، وعن مجاهد أنها تكون في أفنية القبور سبعة أيام من يوم دفن لا تفارقه، أي: ثم تفارقه، ولا ينافيه سنية السلام على القبور، لأنه لا يدل على استقرار الأرواح على أفنيتها دائما، لأنه يسلم على قبور الأنبياء والشهداء وأرواحهم في أعلى عليين؛ ولكن لها مع ذلك اتصال سريع بالبدن لا يعلم كنهه إلا الله.
وأخرج ابن أبي الدنيا عن مالك: بلغني أن الأرواح مرسلة تذهب حيث شاءت، وعن ابن عمررضي الله عنهما) نحوه...1 ويرجح ابن عبد البر أن أرواح غير الشهداء في أفنية القبور تسرح حيث شاءت، وقالت فرقة: تجتمع الأرواح بموضع من الأرض، كما روي عن ابن عمر قال: أرواح المؤمنين تجتمع بالجابية، وأما أرواح الكفار فتجتمع بسبخة حضرموت يقال لها برهوت.
خلود أهل الجنة والنار على صورهم في الدنيا
(مسألة): هل خلود المؤمنين في الجنة على هذا التركيب أعني من اللحم والعظم وغيرهما، وخلود الكافرين في النار على صورهم أم لا؟ وهل منكر ونكير يسألان كل ميت صغيرا كان أو كبيرا مسلما أو كافرا مقبورا أو غير مقبور؟ وهل منكر بفتح الكاف أو كسرها؟ وهل هما اللذان يسألان المؤمن أو غيرهما؟
(الجواب): الذي دلت عليه الأحاديث أن خلود المؤمنين في الجنة والكافرين في النار، على نحو صورهم في الدنيا المشتملة على نحو اللحم والعظم، وصح أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أيها الناس، إنكم تحشرون إلى الله حفاة
__________
1 سقط من هنا بعض الأحاديث والأقوال.
ص -66-(48/69)
عراة غرلا"1.
قال الأئمة: أي غير مختونين ترد إليه الجلدة التي قطعت بالختان، وكذا يرد إليه كل ما كان فارقه في الحياة كالشعر والظفر، ليذوق نعيم الثواب أو أليم العقاب؛ فتكون تلك الأجزاء جميعها مع الإنسان في الجنة أو النار حتى تذوق النعيم أو العذاب.
ومما يدل على ذلك ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس –رضي الله عنهما- قال في حق الكافر: السلسلة تدخل من إسته حتى تخرج من فيه، ثم يُنْظَمُونَ فيها كما يُنْظَمُ الجراد في العود ثم يشوى. وأخرج الشيخان عن أبي هريرة رفعه: "ما بين منكبي الكافر مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع"2 ،3 ولمسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم:"كل من يدخل الجنة على صورة آدم، وطوله ستون ذراعا"4.
وللترمذي وغيره: "من مات من أهل الدنيا صغيرا أو كبيرا يُرَدُّونَ أبناء ثلاث وثلاثين في الجنة، لا يزيدون عليها أبدا، وكذلك أهل النار"5 وفي رواية عند ابن أبي الدنيا: "على طول آدم ستين ذراعا بذراع الملك، وعلى حُسْن يوسف، وعلى ميلاد عيسى ثلاث وثلاثين، وعلى لسان محمد- صلى الله عليه وسلم- جُرْدًا مُرْدًا مُكَحَّلِينَ".
واعلم أن أهل السنة أجمعوا على أن الأجساد تعاد كما كانت في الدنيا بأعيانها وألوانها وأعراضها وأوصافها، ولا ينافي ذلك ما في بعض حديث الصور الطويل: "يخرجون منها شبانا أبناء ثلاث وثلاثين سنة"6 ؛ لأن هذا من حيث السن، فهم مستوون فيه. والذي دل عليه القرآن أن السقط والطفل يحشران على قدرهما، وحينئذ فهما مستثنيان من الحديث أعني: قوله: "أبناء ثلاث وثلاثين سنة"7. هذا كله إن صح الحديث، وإلا فقضية(48/70)
__________
1 مسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها(2860), والترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع(2423) وتفسير القرآن(3167), والنسائي: الجنائز(2082), والدارمي: الرقاق(2802).
2 البخاري: الرقاق(6553), ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها(2852).
3 سقط هنا روايات، وقوله بعده: ولمسلم هو مَعْزُوٌّ في الفتاوى الحديثية إلى الشيخين كليهما.
4 البخاري: أحاديث الأنبياء(3326), ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها(2841), وأحمد(2/315).
5 الترمذي: صفة الجنة(9999).
6 الترمذي: صفة الجنة(2545), وأحمد(5/243).
7 الترمذي: صفة الجنة(2545), وأحمد(5/243).
ص -67-(48/71)
كلامهم أن الناس في الحشر على تفاوت صفاتهم في الدنيا حتى في الأسنان، وإنما يقع التبديل عند دخول الجنة.
وقد قال بعض المحققين والحفاظ: والصحيح بل الصواب أن الذي يعيده الله هو الأجساد الأولى لا غيرها، ومن قال غير ذلك فقد أخطأ، لمخالفته ظاهر القرآن (والحديث)...1 والناس في الموقف يكون كل منهم على طوله الذي مات عليه، ثم عند دخول الجنة يصيرون طولا واحدا؛ ففي الصحيحين: "يبعث كل عبد على ما كان عليه"2. وفي الحديث الصحيح في صفات الجنة (ما ذكرته) ويبعثون بشعورهم ثم يدخلون الجنة جردا مردا كما ثبت في الحديث الصحيح. انتهى.
قال القرطبي -رحمه الله-: يكون الآدميون في الجنة على سن واحد3 وأما الحور فصفات مصنفة، صغار وكبار، على ما اشتهت أنفس أهل الجنة4.
وسؤال الملكين يعم كل ميت ولو جنينا أو غير مقبور كحريق أو غريق، أو أكيل سبع كما جزم به جماعة من الأئمة، وقول بعضهم: يسألان المقبور، إنما أراد به التبرك بلفظ الخبر. نعم قال بعض الحفاظ: الذي يظهر اختصاص السؤال بمن يكون له تكليف، وبه جزم غير واحد من أئمتنا، ومن ثم لم يستحبوا تلقينه5.
ولا يسأل الشهيد كما صحت به الأحاديث، وألحق به من مات مرابطا لظاهر حديث رواه أحمد وأبو داود وهو: "كل ميت يختم على عمله، إلا الذي مات مرابطا في سبيل الله، فإنه ينمو عمله إلى يوم القيامة، ويأمن من فتاني القبر"6 وألحق القرطبي بالشهيد الصِّدِّيقَ(48/72)
__________
1 سقط من هنا كلام أيضا.
2 مسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها(2878), وأحمد(3/331).
3 كذا في الأصلين والسن مؤنثة لغة.
4 سقط من هنا كلام كثير في نكاح أهل الجنة قلما يثبت منه رواية أو يصح رأي.
5 قوله: تلقينه يعني به الجنين، وسقط من هنا: ومن ثَمَّ خالف في ذلك القرطبيُّ وغيره فجزموا بأن الطفل يسأل. صح وكتبه محمد رشيد رضا.
6 الترمذي: فضائل الجهاد(1621), وأبو داود: الجهاد(2500), وأحمد(6/20).
ص -68-(48/73)
لأنه أعلى مرتبة من الشهيد، ومنه يؤخذ انتفاء السؤال في حقه صلى الله عليه وسلم وفي حق سائر الأنبياء.
وفي بحث بعض الحفاظ: أن الملك لا يسأل، لأن السؤال يختص بمن شأنه أن يفتن، وفي حديث حسنه الترمذي والبيهقي وضعفه الطحاوي: "من مات ليلة الجمعة أو يومها لم يسأل" وجزم الترمذي والحكيم بأن المعلن بكفره لا يسأل، ووافقه ابن عبد البر، ورواه عن بعض كبار التابعين، لكن خالفه القرطبي وابن القيم، واستدلاله بآية: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ}1 وبحديث البخاري: "وأما الكافر والمنافق فيقول: لا أدري"2 – بالواو – ورجحه شيخ الإسلام ابن حجر بأن الأحاديث متفقة على ذلك، وهي مرفوعة مع كثرة طرقها الصحيحة. وجزم الترمذي والحكيم وابن عبد البر أيضا بأن السؤال يختص بهذه الأمة، لحديث مسلم: "أن هذه الأمة تبتلى في قبورها"3، وخالفهم جماعة،منهم ابن القيم وقال: ليس في الأحاديث ما ينفي السؤال عمن تقدم من الأمم، وإنما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أمته عن كيفية امتحانهم في القبور، لا أنه ينفي ذلك عن أولئك.
وتوقف آخرون وللتوقف وجه لأن قوله: "أن هذه الأمة" فيه تخصيص فتعدية السؤال إلى غيرهم يحتاج إلى دليل، وعلى تسليم اختصاصه بهم، فهو لزيادة درجاتهم ولخفة أهوال المحشر؛ ففيه رفق بهم أكثر من غيرهم، لأن المحن إذا تفرقت هان أمرها، بخلاف ما إذا توالت؛ فتفريقها لهذه الأمة عند الموت وفي القبر والمحشر دليل ظاهر على عناية ربهم لهم أكثر من غيرهم4.
ومقتضى الأحاديث سؤال الملكين المؤمن، ولو فاسقا، كالعدل، ولكن
__________
1 سورة إبراهيم آية: 27.
2 البخاري: العلم(86), ومسلم: الكسوف(905), وأحمد(6/345), ومالك: النداء للصلاة(447).
3 مسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها(2867).
4 لهذا التوجيه من ابن حجر تتمة قليلة أمر بتأملها وقد سقط من هنا عمدا أو سهوا.
ص -69-(48/74)
بشارته تحتمل أن تكون بحسب حاله، ومقتضى الأحاديث: استواء سائر الناس في اسمهما، وهو منكر ونكير كما في حديث عند الترمذي، وقال: حديث حسن غريب، ومنكر بفتح الكاف اتفاقا، ومنكر ونكير هما اللذان يسألان المؤمن وغيره.
قتل الحيات
(مسألة) في حية الدار نقتلها أو نتحول عنها، وكم نتحول؟ فإن قلتم: ثلاثا، فهل هي أيام أو ساعات؟ وهل الحيات في ذلك سواء كالأفعى والرواز والثعبان، أم يختص التحول بنوع منها؟ وهل حية العمران كالبستان والبئر التي يسقى منها الزرع والأشجار حكمها حكم حية الدار أم لا؟ وهل يكره قتل شيء منها في الموات أو في العمران؟
(الجواب): اعلم أنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الحيات أمر ندب)روى البخاريوالنسائي) عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنا مع النبي –صلى الله عليه وسلم- بغار بمنى، وقد نزلت عليه سورة {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً}1 فنحن نأخذها من فيه رطبة، إذ خرجت علينا حية، فقال: اقتلوها فابتدرناها لنقتلها فسبقتنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وقاكم الله شرها كما وقاها شركم"2.
وعداوة الحية للإنسان معروفة إذ الذي عليه الجمهور أن الخطاب في قوله: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ}3 لآدم وحواء وإبليس والحية، وفي حيات الحيوان روى قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما سالمناهن منذ عاديناهن"4.
وقال ابن عمر: من تركهن فليس منا، وقالت عائشة: من ترك حية خشية من ثأرها، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. وفي مسند أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم "من قتل حية فكأنما قتل مشركا، ومن ترك حية خوف عاقبتها فليس منا"5 وقال ابن عباس: إن الحيات مسخ الجن كما مسخت(48/75)
__________
1 سورة المرسلات آية: 1.
2 البخاري: الحج(1830) وبدء الخلق(3317), ومسلم: السلام(2234), والنسائي: مناسك الحج(2884), وأحمد(1/377,1/385).
3 سورة طه آية: 123.
4 أبو داود: الأدب(5248), وأحمد(2/247,2/432,2/520).
5 أحمد(1/421).
ص -70-
القردة من بني إسرائيل، وأخرجه الطبراني عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك رواه ابن حبان، هذا كله في غير حيات البيوت.
أما التي مأواها البيوت: فلا تقتل حتى تُنْذَر ثلاثا؛ واختلف العلماء هل المراد ثلاثة أيام أو ثلاث مرات؟ والأول عليه الجمهور، وقد ورد بكل منهما حديث: أخرج مالك ومسلم وأبو داود عن أبي سعيد الخدري أن أبا السائب أراد أن يقتل حية بدار أبي سعيد، وهو يصلي، فأشار إليه أن لا تفعل، فلما قضى صلاته حدَّثه، وقد أشار إليه في بيت في الدار، فقال: كان فيه فتى كان حديث عهد بعرس، فخرجنا مع رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إلى الخندق، فكان الفتى يستأذن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بأنصاف النهار يرجع إلى أهله. فاستأذنه يوما فقال له رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "خذ عليك سلاحك فإني أخشى عليك قريظة"1. فأخذ الرجل سلاحه فإذا امرأته قائمة بين البابين، فأهوى إليها بالرمح ليطعنها، وأصابته غيرةٌ، فقالت: اكفف عليك رمحك وادخل البيت حتى تنظر ما الذي أخرجني، فدخل فإذا بحية عظيمة منطوية على الفراش، فأهوى إليها بالرمح فانتظمها به، ثم خرج فركزه في الدار، فاضطربت عليه وخر الفتى ميتا، فما يدري أيهما كان أسرع موتا: الحية أم الفتى. قال فجئنا النبيَ صلى الله عليه وسلم، فأخبرناه بذلك وقلنا: ادع الله أن يحييه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "استغفروا الله لصاحبكم"2.
ثم قال: "إن بالمدينة جنا قد أسلموا، فإذا رأيتم منهم شيئا فآذنوه ثلاثة أيام؛ فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان"3، وفي لفظ: "إن في هذه البيوت(48/76)
عوامر فإذا رأيتم شيئا منها فَحَرِّجُوا عليه ثلاثا، فإن ذهب وإلا فاقتلوه فإنه كافر"4.
__________
1 مسلم: السلام(2236), ومالك: الجامع(1828).
2 صحيح مسلم: كتاب السلام(2236), وسنن أبي داود: كتاب الأدب(5257), ومسند أحمد(3/41).
3 مسلم: السلام(2236), وأبو داود: الأدب(5257), ومالك: الجامع(1828).
4 مسلم: السلام(2236), والترمذي: الأحكام والفوائد(1484), وأبو داود: الأدب(5256), وأحمد(3/41), ومالك: الجامع(1828).
ص -71-
وأخرج أبو داود عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "إن الهوام من الجن، من رأى شيئا في بيته فَلْيُحَرِّجْ عليه ثلاث مرات، فإن عاد وإلا فليقتله فإنه شيطان"1.
وأخذ بعض العلماء من الحديث الأول، وهو قوله: "إن بالمدينة جنا …"2 إلخ أن الإنذار ثلاثا بالمدينة، وصحح بعض أنه عام في كل بلدة لا تقتل حية حتى تُنْذَر؛ ثم الظاهر أن الإنذار مندوب إليه، وإن اقتضى بعض كلام الحنابلة وجوبه؛ حيث قال: قتل الحية بغير حق لا يجوز كالإنس، ولو كان كافرا.
والجن يتصورون بصور شتى، وحيات البيوت قد تكون جنا فتؤذن ثلاثا، فإن ذهبت وإلا قتلت؛ لأنها إن كانت حية أصلية قتلت، وإن كانت جنية، فقد أصرت على العدوان بظهورها للإنس في صورة حية تفزعهم بذلك. انتهى3.
والذي ينبغي أن الإنذار غير واجب؛ لأن الأصل في الصور أنها باقية على أصل خلقتها الأصلية.
وقد أهدر الشارع هذه الصورة أعني: صورة الحية بسائر أنواعها، وجعلها من الفواسق، وقد مر التحريض على قتلها، وكونها صورة جني أمر محتمل، وليس بمحقق، والاحتمال المخالف للأصل لا يقتضي الوجوب؛ لكن حديث البخاري ومسلم يقتضيه، ولفظ ابن عمر: كان يقتل الحيات ثم نهى، قال: إن النبي –صلى الله عليه وسلم- هدم حائطا له فوجد فيه سلخ حية، فقال: انظروا أين هو، فنظروه فقال: اقتلوه. فكنت أقتلها، فلقيت(48/77)
__________
1 مسلم: السلام(2236), والترمذي: الأحكام والفوائد(1484), وأبو داود: الأدب(5256), ومالك: الجامع(1828).
2 مسلم: السلام(2236), وأبو داود: الأدب(5257), ومالك: الجامع(1828).
3 أي: كلام ابن حجر هنا، ولكن ما بعده ملخص من كلامه أيضا مع حذف. وكتبه محمد رشيد رضا.
ص -72-
أبا لبابة، فأخبرني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقتلوا الحيات إلا كل أبتر ذي طفيتين، فإنه يسقط الولد ويذهب البصر فاقتلوه"1 ولفظه عن نافع عن ابن عمر "أنه كان يقتل الحيات، فحدثه أبو لبابة: أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل حيات البيوت فأمسك عنها"2.
واعلم أن حديث أبي سعيد يقتضي طلب تقدم الإنذار في سائر الحيات، وحينئذ يعارض ما مر أول الجواب من إطلاق الأمر بقتلها، وقد يجاب بأن إطلاق الأمر بالقتل منسوخ، كما عرف من رواية البخاري السابقة أيضا، أي: حمل هذا على ما إذا لم يذهب بالإنذار، وإلا قتل جانًّا كان أو غيره، ويعارض استثناء الأبتر وذو الطفيتين إلا أن يجاب بأن استثناء هذين يقتضي أن الجني لا يتصور بصورتهما فَلْيُسَنّ قتلهما مطلقا، ثم رأيت الزركشي نقل ذلك عن الماوردي فقال: إنما أمر بقتلهما؛ لأن الشيطان لا يتمثل بهما، وإنما نهى عن ذوات البيوت لأن الجني يتمثل بهما.
وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اقتلوهما فإنهما يطمسان البصر ويسقطان الحبالى" قال الزهري: ويروى ذلك من سمهما؛ وظاهر الأحاديث السابقة اختصاص الإنذار بعامر البيوت، وهو محتمل، ويحتمل أنه خص بذلك لأنه يتأكد فيه أكثر، وإلا فالعلة المعلومة مما مر تقتضي الإنذار فيما عدا الأبتر وذي الطفيتين؛ سواء كانت عامرة بيت إنسان أو بستان أو بئر أو غيرهما، والتعبير بذوات البيوت وهي العوامر، في رواية البخاري السابقة، كأنه الغالب.
وبما تقرر علم أنه لا يطلب التحول من الدار لأجل ما ظهر من الحيات فيها؛ بل تنذر(48/78)
ثلاث ساعات؛ فإن ذهبت وإلا قتلت، وإن الثلاث
__________
1 البخاري: بدء الخلق(3311), ومسلم: السلام(2233), وابن ماجه: الطب(3535), وأحمد(2/9).
2 البخاري: بدء الخلق(3313), ومسلم: السلام(2233), وأحمد(3/452).
ص -73-
ثلاثة أيام عند الجمهور وثلاث ساعات عند غيرهم؛ وأن سائر الحيات العوامر في ذلك سواء إلا الأبتر وذو الطفيتين، لما مر فيهما؛ وأن حيات غير البيوت لا يبعد إلحاقها بحيات البيوت؛ وقد ورد في أحاديثَ ما يقتضي اختصاص طلب الإنذار بحيات البيوت.
وظاهر كلام بعض الأئمة: الأخذ بهذا المقتضى، وأن حيات غير البيوت تقتل مطلقا، أي: من غير إنذار، والذي يتجه أن التقيد بعوامر البيوت إنما هو الغالب أو لمزيد التأكيد. وكيفية الكلام الذي يقال عند الإنذار: ما أخرجه أبو داود عن ابن أبي ليلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن حيات البيوت فقال: "إذا رأيتم منها شيئا في مساكنكم فقولوا: أنشدكن العهد الذي أخذ عليكن نوح، أنشدكن العهد الذي أخذ عليكن سليمان أن لا تؤذونا. فإن عُدْنَ فاقتلوهن"1 ،2 والله أعلم.
الأولياء هل يردون الحوض مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل الأنبياء
(مسألة) فيمن يقول: إن الأولياء يَرِدُونَ الحوضَ مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل الأنبياء؟
(الجواب): إنما يتم له ما ذكر إن ثبت أن الأنبياء يردون حوض النبي –صلى الله عليه وسلم-، ولم أر ما يدل على ذلك بعد الفحص والاطلاع على الأحاديث الواردة في الحوض عن بضعة وخمسين صحابيا؛ بل الذي رأيته يدل لخلافه فقد أخرج الترمذي عن سمرة عن النبي –صلى الله عليه وسلم-: "إن لكل نبي حوضا، وإنهم يتباهون أيهم أكثر واردة، وإني لأرجو أن(48/79)
__________
1 الترمذي: الأحكام والفوائد(1485), وأبو داود: الأدب(5260).
2 ابن أبي ليلى المنفرد برواية هذا الحديث -كما في الترمذي- هو محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ليلى الفقيه، وهو لا يُحْتَجُّ بحديثه: اتفقوا على أنه كان سيئ الحفظ فاحش الخطأ، كثير الوهم والمناكير، وصرح أحمد بضعفه واضطراب حديثه، وأثنى على فقهه. وكتبه محمد رشيد رضا.
ص -74-
أكون أكثرهم واردة"1.
وأخرج الترمذي عن سمرة مرفوعا: "إن الأنبياء يتباهون أيهم أكثر أصحابا من أمته، فأرجو أن أكون يومئذ أكثرهم كلهم واردة، وإن كل نبي منهم يومئذ قائم على حوض ملآن معه عصا يدعو من عرف من أمته، وإن لكل نبي أمة لهم سِيمَا يعرفهم بها نبيهم"، فهذان الحديثان صريحان في أن لكل نبي حوضا مستقلا ترده أمته.
(فائدة): نقل القرطبي عن العلماء: أنه يطرد عن الحوض من ارتد، أو أحدث بدعة كالرافضة والظلمة المعروفين بالجور، والمعلن بالمعاصي؛ ثم الطرد للمسلم قد يكون في حال، وقد يشرب منه ذو الكبيرة، ثم إذا دخل النار لا يعرف العطش. انتهى ملخصا.
وهذا بناء على أن الحوض قبل الصراط، والذي رجحه القاضي عياض أنه بعده، وأن الشرب منه بعد الحساب والنجاة من النار، وأيده الحافظ ابن حجر بأن ظاهر الأحاديث: أن الحوض بجانب الجنة؛ لينصب فيه الماء من النهر الذي داخلها، فلو كان قبل الصراط؛ لحالت النار بينه وبين الماء الذي يصب من الكوثر، ولا ينافيه أن جمعا يدفعون عنه بعد رؤيته إلى النار، لأنهم يقربون منه بحيث يرونه فيدفعون في النار قبل أن يخلصوا من بقية الصراط، والله أعلم.
خلق الأرض والسماء
(مسألة): هل خلقت الأرض قبل السماء؟
(الجواب): نعم، كما صح في البخاري عن ابن عباس –رضي الله عنهما-، والقرآن ناطق به، وأجاب عن قوله تعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا}2 – إلى قوله -: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ(48/80)
دَحَاهَا}3 بأن الأرض خلقت أولا كالخبزة، وخلقت السماء بعدها ثم هيأ الأرض ودحاها، والله أعلم.
(مسألة): هل العرش أفضل من الكرسي ؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع(2443).
2 سورة النازعات آية: 27.
3 سورة النازعات آية: 30.
ص -75-
(الجواب): نعم كما صرح به ابن قتيبة، وصرح أيضا بأن الكرسي أفضل من السماء، وأن الشام أفضل من العراق، وبأن الحجر أفضل من الركن اليماني وهو أفضل من القواعد.
هل الليل في السماء كالأرض
(مسألة) هل الليل في السماء كالأرض؟
(الجواب): الذي دلت عليه الآيات القرآنية أنه من خواص أهل الأرض، لأن الله امتن علينابه) راحةً لنا، لأنا نتعب ونمل، بخلاف أهل السماء، ومعنى: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ}1 أنهم دائمون على ذلك، فكنى بذلك عن الدوام. ووقوع المعراج ليلا إنما هو بالنسبة لأهل الأرض، والله أعلم.
الفرق بين العهد والميثاق واليمين
(مسألة): ما الفرق بين العهد والميثاق واليمين؟
(الجواب): العهد الموثق يقال: عهد إليه في كذا: أوصاه به، وأوثقه عليه، والعهد في لسان العرب له معان: منها: الوصية والضمان والأمر، والرؤية والمنزلة. وأما الميثاق: فهو العهد الموثق باليمين، وأما اليمين فهو: الحلف بالله أو بصفاته على ما قرر في محله.
تأذي الملائكة مما يتأذى منه الإنسان
(مسألة): هل الحفظة يتأذون من كل الأشياء الكريهة الريح، ومن كثرة التردد إلى الخلاء والأماكن النجسة، ومن الجشاء المتغير، ومن نحو الصُّنَان؟ وهل على الكافر حفظة؟ وإذا مات الإنسان إلى أين يصار به؟ وهل الحفظة غير الكاتبين الكريمين؟
(الجواب): الذي في الحديث الصحيح: "أن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم"2 ذكره النبي صلى الله عليه وسلم تعليلا لنهيه من أكل منتنا كَثَوْمٍ أو بصل أو كراث أو فجل أن يدخل المسجد فقال: "من أكل ثوما(48/81)
__________
1 سورة الأنبياء آية: 20.
2 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة(564), والنسائي: المساجد(707), وأحمد(3/374,3/387).
ص -76-
أو كراثا أو بصلا أو فجلا فلا يقربن مسجدنا أو المساجد، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم"1، وهذا ظاهر في شموله للحفظة، وفي عموم تأذيهم مما يتأذى منه بنو آدم؛ فيشمل ذلك تأذيهم بكل ريح كريهة، سواء ريح الخلاء أو غيره إلا أنه سيأتي أن الحفظة يفارقونه حال دخوله الخلاء.
(وقوله): وهل للكافر حفظة؟
(جوابه): نعم كما شملته، بل يصرح به قوله تعالى: {كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ}2 أي: الحساب: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ}3 الآية.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: جعل الله على ابن آدم حافظين في الليل وحافظين في النهار، يحفظان عمله ويكتبان أثره. وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال: مع كل إنسان ملك عن يمينه وآخر عن شماله، فأما الذي عن يمينه فيكتب الخير، وأما الذي عن شماله فيكتب الشر.
(وقوله): إذا مات الإنسان إلى أين يصار به؟
(جوابه): أخرج أبو الشيخ والبيهقي عن أنس عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله وكل بعبده المؤمن ملكان يكتبان عمله، فإذا مات قال الملكان اللذان وكلا به: قد مات، فأذن لنا أن نصعد إلى السماء، فيقول الله سبحانه وتعالى: سمائي مملوءة من ملائكتي يسبحونني، فيقولان فأين؟ فيقول: قُومَا على قبر عبدي فَسَبِّحَانِي واحمداني وكبراني، واكتبا ذلك لعبدي إلى يوم القيامة".
وقوله: وهل هم غير الكاتبين؟
(جوابه): أنه قد علم مما قدمناه: أن الملائكة الحفظة الموكلين بالإنسان ينقسمون إلى: أن منهم من هو موكل بالحفظ لا غير، ومنهم وهم الكاتبان الكريمان من هو موكل بالحفظ والكتاب وورد في هذين أنهما يفارقان الإنسان، فقد أخرج البزار عن ابن عباس- رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله –صلى الله عليه(48/82)
وسلم-: "إن الله ينهاكم عن التعري، فاستحوا
__________
1 البخاري: الأذان(854), ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة(564), والترمذي: الأطعمة(1806), والنسائي: المساجد(707), وأبو داود: الأطعمة(3822), وأحمد(3/374,3/380,3/387,3/397,3/400).
2 سورة الانفطار آية: 9.
3 سورة الانفطار آية: 10.
ص -77-
من الملائكة الذين معكم الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلا عند إحدى ثلاث: الجنابة، والغائط، والغسل".
والظاهر أنه ليس هنا المفارقة بالكلية بل يبعدون عنه حينئذ نوع بُعْدٍ، وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الظهيرة فرأى رجلا يغتسل بفلاة من الأرض فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أما بعد، اتقوا الله وأكرموا الكرام الكاتبين الذين معكم، ليسوا يفارقونكم إلا عند إحدى منزلتين: حيث يكون الرجل على خلائه، أو يكون مع أهله، لأنهم كرام كما سماهم الله، فليستتر أحدكم عند ذلك بجِرْمِ حائطٍ" والله أعلم.
التاجر المكتسب المتقي أفضل من العابد غير المكتسب
(مسألة) في خطيب يروي أحاديث، ولم يبين مخرجها، ولا رواتها، ومن جملة ما رواه أنه ذكر حديث: "إن التجار هم الفجار، إلا من قال بيده هكذا وهكذا"1.
(الجواب): ما ذكره في خطبه من الأحاديث من غير أن يبين رواتها، فجائز بشرط أن يكون من أهل المعرفة بالحديث، أو ينقلها من كتاب مؤلفه كذلك. وأما الاعتماد في رواية الأحاديث على مجرد رؤيتها في كتاب ليس مؤلفه من أهل الحديث، أو في خطب ليس مؤلفها كذلك، فلا يحل ذلك؛ ومن فعل ذلك عزر التعزير الشديد. وهذا حال أكثر الخطباء: فإنه بمجرد خطبهم فيها أحاديث حفظوها، وخطبوا بها من غير أن يعرفوا لتلك الأحاديث أصلا، فيجب على حكام البلد أن يزجروا خطباءها عن ذلك، ويجب على حكام بلد هذا الخطيب منعه من ذلك، إن ارتكبه.
وأما ما ذكره من الحديث فصدره صحيح، كما(48/83)
قاله الترمذي، وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى المصلى فقال: "يا معشر التجار"2،
__________
1 أحمد(3/428).
2 الترمذي: البيوع(1208), والنسائي: الأيمان والنذور(3797,3798), وأبو داود: البيوع(3326).
ص -78-
فاستجابوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ورفعوا أعناقهم فقال: "إن التجار يبعثون يوم القيامة فجارا، إلا من اتقى الله وصدق"1، ويروى في رواية صحيحة أيضا: "إن التجار هم الفجار"2، وقيل: يا رسول الله أليس قد أحل الله البيع؟ قال: "بلى، ولكنهم يُحَدِّثُونَ فيكذبون، ويحلفون، ويأثمون"3. وأما آخره وهو قوله: "إلا من قال هكذا وهكذا" فلم يرد في شيء من كتب الحديث بعد البحث عنه.
والتجار على قسمين: منهم من يتجنب في بيعه وشرائه وسائر معاملاته جميع المحرمات: كالربا والغش والخديعة والكذب والحلف الباطل؛ وهو مع ذلك يخرج حق الله وحق العباد من نفسه وماله.
فأهل هذا القسم لا يبعثون يوم القيامة فجارا بنص الكتاب والسنة وإجماع الأئمة، بل يبعثون سعداء كما كانوا في الدنيا سعداء؛ بل هم أفضل من الفقراء الصابرين كما قال جماعة، لأنهم يفعلون ما يفعل الفقراء ويزيدون بالزكوات والصدقات؛ وفي هذين من نفع المسلمين ما يربو ثوابه على كثير من الأعمال القاصرة، هذا هو القسم الأول وهم المرادون بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: "إلا من اتقى الله وبر وصدق"،4 وهم المرادون بقوله أيضا في الحديث الصحيح: "التاجر الصدوق الأمين يحشر مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين يوم القيامة"5.
وروى الشيخ أبو نعيم والبيهقي حديث: "من طلب الدنيا حلالا، تعففا عن المسألة، وسعيا على عياله، وتعطفا على جاره، لقي الله ووجهه كالقمر ليلة البدر". وقال لقمان لابنه: استعن بالكسب الحلال عن الفقر، فإنه ما افتقر أحد قط إلا أصابه ثلاث خصال: رقة في دينه، وضعف في عقله، وذهاب لمروءته، وأعظم من هذه(48/84)
الثلاث: استخفاف الناس به.
وسئل بعض التابعين عن التاجر الصدوق: أهو أحب إليك أم المتفرغ
__________
1 الترمذي: البيوع(1210), وابن ماجه: التجارات(2146), والدارمي: البيوع(2538).
2 أحمد(3/428).
3 أحمد(3/428).
4 الترمذي: البيوع(1210), وابن ماجه: التجارات(2146), والدارمي: البيوع(2538).
5 الترمذي: البيوع(1209), والدارمي: البيوع(2539).
ص -79-
للعبادة؟ فقال: التاجر الصدوق أحب إليَّ، لأنه في جهاد: يأتيه الشيطان من طريق المكيال والميزان، ومن قبل الأخذ والعطاء، فيجاهده، أي: ولا يطاوعه فيما يأمر به من المحرمات. وقيل للإمام أحمد بن حنبل: ما تقول فيمن جلس في بيته أو مسجده وقال: لا أعمل شيئا حتى يأتيني رزقي، فقال أحمد: هذا رجل لم يسمع العلم، أَمَا سمع قول النبي صلى الله عليه وسلم: "جعل رزقي تحت ظل رمحي"1، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتجرون في البر والبحر ويعملون في نخيلهم؛ والقدوة بهم -رضي الله عنهم-.
والقسم الثاني: هم الذين لا يجتنبون في بيعهم وشرائهم ومعاملاتهم المحرمات: كالربا والغش والحلف الباطل وغير ذلك من القبائح التي انطوى عليها أكثر التجار؛ وهؤلاء فجار في الدنيا والآخرة، وهم ممن قال الله فيهم: {إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ}2 الآية. وفي مسلم: "ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة: رجل حلف على سلعة، لقد أُعْطِيَ بها أكثر مما أعطى وهو كاذب"3، وروى أبو يعلى أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزال قول لا إله إلا الله يدفع عن الخلق ما لم يؤثروا صفقة دنياهم على آخرتهم". وأهل هذا القسم هم المرادون بقوله صلى الله عليه وسلم: "إن التجار هم الفجار"4 الحديث.
المراد بعلم التنجيم
(مسألة): وقع في عبارة الفقهاء ما يصرح بتحريم علم التنجيم، هل(48/85)
المراد حساباته أو أحكامه؟
(الجواب): الأحكام المتعلقة بالنجوم منها ما هو واجب كالاستدلال بها على القبلة والأوقات واختلاف المطالع واتحادها ونحو ذلك، ومنها ما هو جائز كالاستدلال بها على منازل القمر وعروض البلاد، ومنها ما هو
__________
1 أحمد(2/50).
2 سورة آل عمران آية: 77.
3 البخاري: المساقاة(2369), ومسلم: الإيمان(108), والترمذي: السير(1595), والنسائي: البيوع(4462), وأبو داود: البيوع(3474), وابن ماجه: التجارات(2207), وأحمد(2/253).
4 أحمد(3/428).
ص -80-
حرام كالاستدلال بها على وقوع الأشياء المُغَيَّبَة بأن يقضي بوقوع بعضها مستدلا بها عليه بخلاف ما إذا قال: إن الله سبحانه وتعالى اطَّردت عادته بأن هذا النجم إذا حصل له كذا كان ذلك علامة على كذا، فهذا لا منع منه لأنه لا محذور فيه1.
من هو الغالي في القرآن والجافي عنه
(مسألة) في قوله صلى الله عليه وسلم: "إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام السلطان المقسط"2، وما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "من مسح رأس يتيم كان له بكل شعرة تمر يده عليها حسنات"3، هل المراد من المسح حقيقة، أو الكناية عن الشفقة عليه والتلطف به؟
(الجواب): المراد بالغالي فيه: المتجاوز لما فيه من الحدود والأحكام الاعتقادية والعملية والآداب والأخلاق الظاهرة والباطنة. فمن حفظ ألفاظه وتجاوز شيئا من هذه المذكورات كان غير مستحق للإكرام والتعظيم بحسب ما ارتكبه؛ بمعنى أنه يؤاخذ به ويذم عليه من حيث ارتكابه لذلك، وإن كان يستحق التعظيم والإكرام لكونه مسلما، أو حافظا للقرآن؛ فليس المراد نفي التعظيم له مطلقا بل الاعتبار للذي ذكرته فتأمله.
والمراد بالجافي: من لا يخضع لما فيه من الآيات الباهرات والأدلة المتكاثرة، ولا يتأمل ما اشتمل عليه نظمه من بدائع المعاني بل يمره بلسانه مع قساوة(48/86)
__________
1. كان يصح هذا القول لو صح معناه، ولم يصح عند محققي علماء الفلك إلى اليوم على اتساعه أن حركات النجوم تدل على أحداث الأرض وما يقع فيها - فهذا التجويز من مجازفات ابن حجر الهيتمي فيما لا علم له به؛ ليقيد به الأحاديث الصحيحة في إبطال خرافات المنجمين وتحريمها – ولو نقل هذا عن شيخ الإسلام ابن تيمية لأقام عليه ابن حجر هذا التكبر وسبه عليه أقبح السب. وكتبه محمد رشيد رضا.
2 أبو داود: الأدب(4843).
3 أحمد(5/250).
ص -81-(48/87)
قلبه وجفاوة لبه، فهو كحمار الرحى وثور الحراثة. ولسنا متعبدين بمجرد حفظه، وإنما المقصود الأعظم بإنزاله والتعبد بحفظ ألفاظه هو هداية القلوب، ورجوعها بالاستكانة والخضوع إلى علام الغيوب، وتنزهها عن كل خلق ذميم؛ وعمل دميم، فمن ظفر بذلك مع حفظه فقد ظفر بالكنز الأعظم.
ومن أخذ بالأول فقد أخذ من الكمال ما يستحق بسببه أن يكرم ويعظم، ومن قنع بحفظ ألفاظه وخلا عن تلك المعاني بأن غلا وتجافى فهو بعيد عن الكمال، غير مستحق أن يبلغ به مبالغ الكُّمَّل من الرجال، فهذا -والله أعلم- هو المراد من الحديث. ويؤيد ما ذكرته ما روى أحمد وأبو يعلى والطبراني والبيهقي: "اقرؤوا القرآن واعملوا به، ولا تجفوا عنه ولا تغلوا فيه، ولا تأكلوا به ولا تستكثروا به"1.
والمراد من المسح على رأس اليتيم حقيقته، كما بينه آخر الحديث: "من مسح على رأس يتيم ولم يمسح إلا لله، كان له بكل شعرة تمر عليها يده عشر حسنات، ومن أحسن في يتيم عنده كنت أنا وهو في الجنة كهاتين"2 وقرن بين أصبعيه. وخص الرأس بذلك لأن في المسح عليه تعظيما لصاحبه، وشفقة عليه، ومحبة له، وجبرا لخاطره، وهذه كلها مع اليتيم تقتضي هذا الثواب الجزيل.
وأما الإحسان إليه فهو أعلى وأجل، وقد ذكر بعده فيه القرب منه صلى الله عليه وسلم في الجنة حتى يكون كالإصبعين، فهو أعظم من إعطاء حسنات بعدد شعر الرأس، وقد روى البيهقي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أردتَ أن يلين قلبك فأطعم المسكين، وامسح رأس اليتيم"3.
قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ}
__________
1 أحمد(3/428).
2 أحمد(5/250).
3 أحمد(2/263).
ص -82-(48/88)
(مسألة) في قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ}1.
(الجواب): أن الرزق في اللغة: الحظ والنصيب، ومنه قوله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ}2 أي: تجعلون حظكم ونصيبكم من سماع القرآن تكذيبكم به وبمن أنزل عليه، وأما في عرف الشرع: فهو أخص من ذلك؛ إذ هو ما تخصص به الحيوان وتمكن من الانتفاع به. وقد يطلق على ما يعم النعم
الظاهرة والباطنة، ومن ثم قال جماعة من المفسرين وغيرهم: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}3 يحتمل أن المراد الإنفاق من جميع ما منحهم الله تعالى به من النعم الظاهرة؛ إذ الإنفاق كما يكون من هذه، كذلك يكون من النعم الباطنة كالعلم والجاه، ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن أبي شيبة: "إن علما لا يقال – أي لا يُتَحَدَّثُ به – ككنز لا يُنْفَقُ منه"4.
وروى الطبراني مرفوعا: "مثل الذي يتعلم العلم ثم لا يتحدث به كمثل الذي يكنز الكنز ثم لا ينفق منه"5. وأما تناول الإنسان من الحرام يسمى رزقا كما دلت عليه الآيات والأحاديث.
الكلام في كرامات الأولياء
(مسألة): كرامات الأولياء حق، فهل تنتهي إلى إحياء الموتى وغيرها من معجزات الأنبياء؟
(الجواب): كرامات الأولياء حق عند أهل السنة والجماعة خلافا للمعتزلة، وقول الفخر الرازي: إن أبا إسحاق الأسفرايني أنكرها، مردود أيضا بأنه إنما أنكر منها ما كان معجزة لنبي كإحياء الموتى، لئلا تختلط الكرامة بالمعجزة. وغلط النووي كابن الصلاح بأنه ليس في كراماتهم معارضة للنبوة، لأن الولي إنما أعطي ذلك ببركة اتباعه للنبي صلى الله عليه وسلم، فلا تظهر حقيقة الكرامة عليه إلا إذا كان داعيا لاتباع النبي
__________
1 سورة الروم آية: 40.
2 سورة الواقعة آية: 82.
3 سورة البقرة آية: 3.
4 الدارمي: المقدمة(555).
5 الدارمي: المقدمة(555).
ص -83-(48/89)
صلى الله عليه وسلم، بريئا من كل بدعة وانحراف عن شريعته صلى الله عليه وسلم. فببركة اتباعه يؤيده الله –تعالى- بملائكته وبروح منه، ويقذف في قلبه من أنواره. والحاصل أن كرامة الولي من بعض معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لعظم اتباعه له أظهر الله بعض خواص النبي صلى الله عليه وسلم على يدي وارثه ومتبعه في سائر حركاته وسكناته؛ وقد تنزلت الملائكة لاستماع قراءة أسيد.
وكان سلمان وأبو الدرداء يأكلان في صحفة فسبحت الصحفة وما فيها؛ ثم الصحيح أنهم ينتهون إلى إحياء الموتى خلافا لأبي القاسم القشيري. ومن ثم قال الزركشي: ما قاله ضعيف، والجمهور على خلافه، وقد أنكره عليه.
وفي شرح مسلم للنووي: تجوز الكرامات بخوارق العادات على اختلاف أنواعها؛ وخصها بعضهم بإجابة دعوة ونحوها، وهذا غلط من قائله، بل الصواب جريانها بانقلاب الأعيان ونحوه. انتهى.
وقد مات فرس بعض السلف في المنزل، فسأل الله إحياءه حتى يصل إلى بيته، فأحياه الله، فلما وصل إلى بيته قال لولده: خذ سرجه فإنه عارية1 عندنا فأخذ سرجه فخر ميتا. ولا ينافي إحياء الميت الواقع كرامة لله، لأن الأجل محتوم لا يزيد ولا ينقص لأن من أُحْيِيَ كرامةً، مات أولا بأجله، وحياته وقعت كرامة؛ وكون الميت لا يحيى إلا للبعث هذا عند عدم الكرامة، أما عندها فهو كإحيائه في القبر للسؤال كما صح به الخبر؛ وقد وقع للعزير وحماره، والذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم.
__________
1 بياض بالأصل.
ص -84-(48/90)
الرد على من ينكر الدعاء
(مسألة): أنكر بعضهم الدعاء ب "اللهم كما حسنت خلقي فحسن خلقي" محتجا بحديث: "فرغ ربك من ثلاث: رزقك، وأجلك، وشقي أو سعيد" فهل هو كذلك؟
(الجواب): ليس الأمر كما زعم هذا المنكر، ويلزمه إبطال الدعاء من أصله، لأن كل ما سيقع لك قد فرغ منه. وبذلك قال بعض المبتدعة، فأبطلوا الدعاء من أصله، وقالوا: لا فائدة له؛ ورد عليهم أهل السنة وقالوا: له فائدة، وذلك أن المقدرات على قسمين: منها ما أُبْرِمَ وهو المُعَبَّرُ عنه بما في الكتاب الذي لا يقبل تغير ولا تبدل، ومنها ما علق على فعل شيء، وهو المعبر عنه باللوح المحفوظ القابل للتغيير والتبديل، وأصل ذلك قوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}1.
فمن ذلك حديث: "صلة الرحم تزيد في العمر"2 بناء على أن المراد بالزيادة حقيقتها لا مجازها الذي هو البركة، بأن يتيسر له في العمر القصير ما لا يتيسر لغيره في العمر الطويل، وإن قال بهذا جمع. وكذلك الدعاء قد يكون المدعو به معلقا على الدعاء، فكان للدعاء فائدة أيّ فائدة على أن الدعاء لا يجتنب أبدا، لأنه إن كان بما علق على الدعاء فواضح وجود الفائدة فيه، وعليه يُحْمَل قوله –صلى الله عليه وسلم-: "لا يرد القضاء إلا الدعاء"3. وإن كان بما لم يعلق على ذلك ففائدته الثواب، لأن الدعاء من العبادة، بل من أنهاها كما قال –صلى الله عليه وسلم-: "الدعاء مخ العبادة"4. وأيضا فيبدل الله الداعيَ بدل ما دعا به مما لم يُقَدِّر له ما هو أفضل منه، كما يليق بجوده وكرمه وسعة فضله.
ومن ثَمَّ أطلق تبارك وتعالى الاستجابة للدعاء ولم يقيدها بشيء فقال: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}5، وقال: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}6.(48/91)
__________
1 سورة الرعد آية: 39.
2 البخاري: الأدب(5985), والترمذي: البر والصلة(1979).
3 الترمذي: القدر(2139).
4 الترمذي: الدعوات(3371).
5 سورة غافر آية: 60.
6 سورة البقرة آية: 186.
ص -85-
ثم رأيت بعضهم أشار لبعض ذلك، فقال: لا ينكر الدعاء إلا كافر مكذب بالقرآن؛ لأن الله –تعالى- تَعَبَّدَ عبادَه في غير آية، ووعدهم بالاستجابة على ما سبق في علمه من أحد ثلاثة أشياء على ما ورد في الحديث: استجابة، أو ادخار، أو تكفير عنه.
أخوات سورة هود
(مسألة): ما المراد بأخوات هود في حديث: "شيبتني هود وأخواتها"1؟
(الجواب): المراد بهن: الواقعة والمرسلات وعم والتكوير، رواه الترمذي والحاكم زاد الطبراني والحاقة وابن مردويه: وهل أتاك، وابن سعد: والقارعة، وسأل سائل، واقتربت الساعة.
قطع السدر
(مسألة) في حديث: "من قطع سدرة صَوَّبَ الله رأسه في النار"2 من رواه؟
(الجواب): رواه كثيرون، وصححه أيضا في المختارة، والأحاديث فيه كثيرة، وهي مؤولة عند العلماء؛ لإجماعهم على جواز قطعه. قال بعض السلف: محلها سدر الحرم، وقال أبو داود: وفي قطع سدرة في فلاة يستظل بها ابن السبيل والبهائم عبثا وظلما بغير حق.
(مسألة): هل يطلق الإسلام على سائر الأمم السابقة عين حقيقتها أو يختص بهذه الأمة؟
(الجواب): رجح ابن الصلاح الأول، وسيأتي ما يصرح به من لفظ القرآن. ورجح غيره الثاني، وهو أن لا يوصف به من الأمم السابقة إلا الأنبياء فقط، وشرفت هذه الأمة بأن وُصفت بما وُصف به الأنبياء تشريفا وتكريما.
(مسألة): ما عدد الأنبياء والرسل؟
__________
1 الترمذي: تفسير القرآن(3297).
2 أبو داود: الأدب(5239).
ص -86-(48/92)
(الجواب): روى الطبراني بسند رجاله الصحيح أن رجلا قال: "يا رسول الله، أنبيٌّ آدم؟ قال: نعم. قال: كم بينه وبين نوح؟ قال: عشرة قرون. قال: كم بين نوح وإبراهيم؟ قال: عشرة قرون. قال: يا رسول الله، كم كانت الرسل؟ قال: ثلاثمائة وخمسة عشر"، وخرَّج ابن حبان والحاكم في صحيحه عن أبي ذر قلت: "يا رسول الله، كم الأنبياء؟ قال مائة ألف نبي وأربعة وعشرون ألفا قلت: يا رسول الله، كم الرسل؟ قال: ثلاثمائة وثلاثة عشر جَمٌّ غفير"1. ولا ينافي ذلك قوله تعالى: {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ}2 لأن هذا إما إخبار عما قص الله أو أنه قص عليه الكل بعد نزول تلك الآية. وبه يجاب أيضا عن التخالف بين الروايتين فيحمل أنه قص عليه أولا ثلاثمائة وثلاثة عشر، ثم ثانيا ثلاثمائة وخمسة عشر، فأخبر عن كلٍّ بما قص عليه وقت الإخبار به.
(مسألة): ما المعتمد في الخضر هل هو نبي حي؟ وكذا إلياس، أفتونا؟
(الجواب): حياتهما ونبوتهما، وأنهما خُصا بذلك في الأرض، كما خُص إدريس وعيسى –صلى الله عليهما وسلم- ببقائهما حيين في السماء.
(مسألة): كم بين عيسى وموسى، وبين عيسى ونبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-؟
(الجواب): الأول ألف وتسعمائة سنة، والثاني نحو ستمائة على الأشهر.
(مسألة): الطفل هل يحشر على صورته، وهل يتزوج الحور؟
(الجواب): الطفل يكون في الحشر على صورة خلقته، ثم عند دخول الجنة يزاد فيه حتى يكون كالبالغ، ثم يتزوج من نساء الدنيا ومن الحور.
(مسألة): حديث: (يدخل أهل الجنة الجنة مُردا مُكحلين وأبناء ثلاث
__________
1 أحمد(5/265).
2 سورة غافر آية: 78.
ص -87-(48/93)
وثلاثين على خلق آدم سبعون ذراعا في عرض سبعة)، مَنْ رواه؟
(الجواب): رواه أحمد وابن أبي الدنيا والطبراني في الأوسط.
(مسألة): من أين يخرج المهدي؟
(الجواب): ثبت في أحاديث أنه يخرج من قِبَل المشرق، وأنه يُبايع له بمكة بين الركن والمقام، وأنه يسكن بيت المقدس.
(مسألة): كم يقيم عيسى -عليه السلام- بعد نزوله؟
(الجواب): يقيم سبع سنين كما صح في مسلم، ولا ينافيه حديث الطيالسي أنه يقيم أربعين سنة، لأن المراد مجموع لبثه في الأرض قبل الرفع وبعده؛ لأنه رفع وسنه ثلاث وثلاثين سنة.
(مسألة): ما الفرق بين الشبيه والمثيل والنظير؟
(الجواب) الثلاثة متحدة لغة، وأما اصطلاحا: فظاهر قول شراح العقائد عن الأشعرية: المماثلة إنما أثبتت عندهم بالاشتراك في جميع الأوصاف؛ فإن المثل أخصها؛ لأن المماثلة تستلزم المشابهة وزيادة، والشبيه أعم من المثيل وأخص من النظير. والنظير أعم من الشبيه؛ إذ المشابهة لا تستلزم المماثلة فقد يكون شبيه الشيء غير مماثل له، والنظير قد لا يكون مشابها. والحاصل أن المماثلة تقتضي المساواة من كل وجه، والمشابهة تقتضي ذلك في الأكثر؛ والمناظرة تكفي ذلك في وجه.
(مسألة): هل ورد مشروعية التكبير أواخر قصار المفصل؟ وهل هو خاص في حق غير المصلي؟
(الجواب): حديث التكبير ورد من طرق كثيرة عن أحمد بن أبي بريدة البزي، قال: سمعت عكرمة بن سليمان يقول: قرأت على إسماعيل
ص -88-(48/94)
ابن عبد الله بن قسطنطين فلما بلغت والضحى، قال لي: كبر عند خاتمة كل سورة حتى تختم، وأخبره أنه قرأ على مجاهد فأمره بذلك، وأخبره مجاهد أن ابن عباس أمره بذلك، وأخبره ابن عباس أن أبي بن كعب أمره بذلك، وأخبره أبيُّ أن النبي –صلى الله عليه وسلم- أمره بذلك، وقد أخرجه الحاكم في صحيحه عن البزي، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. انتهى.
قال الشافعي -رحمه الله-: إن تركت التكبيرَ تركت سنة. قال الحافظ العماد ابن كثير: وهذا من الشافعي يقتضي صحة هذا الحديث. ومما يقتضي صحته أيضا: أن أحمد بن حنبل رواه، وقد كان أحمد يجتنب المنكرات، فلو كان منكرا ما رواه. وقد صح عند أهل مكة: فقهائهم وعلمائهم ومن روى عنهم، وصحته استفاضت وانتشرت حتى بلغت حد التواتر.
واختلفوا في ابتدائه فقيل: من أول سورة الضحى، والجمهور على أنه من أول سورة ألم نشرح إلى آخر الناس، ولا فرق في ندب التكبير بين المصلي وغيره؛ فهو سنة حتى في الصلاة، كما نص عليه الشافعي وشيخه سفيان بن عيينة وابن جريج وغيرهم، ونقله جماعة من أئمتنا، وأفتوا به مَنْ يعمل به في صلاة التراويح، وأنكروا على من أنكر ذلك. وقال الحليمي: نكتة التكبير تشبيه القرآن بصوم رمضان إذا تمت عدته يكبر، فكذا هنا يكبر إذا كمل عدة السور، قال: وصفته: أن يقف بعد كل سورة ويقول: الله أكبر. قال سليمان الرازي: ومن لا يكبر من القراء فحجتهم في ذلك: سد الذريعة عن الزيادة في القرآن بأن يداوم عليها فَيُتَوهم أنها منه.
(مسألة): ما معنى لعن المسلم كقتله؟
(الجواب): أنه كقتله في الحرمة الشديدة، لأن لعن المسلم حرام؛ بل
ص -89-(48/95)
لعن الحيوان كذلك؛ وسبب ذلك: أن اللعن عبارة عن الطرد والإبعاد عن الله، وذلك غير جائز إلا مَنْ اتصف بصفة يبعده عن الله –تعالى- وهو الكفر والبدعة والفسوق، فيجوز لعن المتصف بواحدة من هذا باعتبار الوصف الأعم، نحو: لعنة الله على الكافرين والمبتدعة والفسقة، والوصف الأخص نحو: لعن الله اليهود والخوارج والقدرية والروافض والزناة والظلمة وآكلي الربا، وأما المُعَيَّنُ فإن كان حيا لم يجز مطلقا إلا إن علم أنه يموت على الكفر كإبليس، وإن لم يعلم موته على الكفر لم يجز لعنه، وإن كان كافرا في الحال؛ لأنه ربما يسلم فيموت مقربا عند الله –تعالى- فكيف يُحكم بكونه ملعونا مطرودا.
نعم يجوز أن يقال: لعنه الله إن مات كافرا، وكذا قال في فاسق ومبتدع معين، إن مات ولم يتب، ومن ثم لم يجز لعنُ يزيد بن معاوية. وتشبيه لعن المؤمن بقتله إنما هو في أصل التحريم، أو لكون كل منهما كبيرة، وليس بلازم في المشبه أن يعطى حكم المشبه به من كل وجه. والله أعلم.
(مسألة): في قوله في حديث ابن عباس الذي رواه البخاري في حديث القبرين: "إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير"1، ثم قال: "بلى إنه كبير"، وفيه: "ثم دعا بجريدة فكسرها كسرتين فوضع على كل قبر منهما كسرة. فقيل: يا رسول الله، لِمَ فعلتَ هذا؟ فقال: لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا"2، ما الحكمة في ذلك؟ وهل لكل أحد أن يفعل ذلك في أيّ قبر؟ وهل المعذبان مسلمان أو كافران؟
(الجواب): قوله:وما يعذبان في كبير) ثم قال: بلى أي: يعذبان في كبير، والجمع بينهما: أي ليس بكبير عندكم، ولكنه كبير عند الله كما في قوله تعالى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ}3. والمراد بقوله:وما يعذبان في كبير)، أي: في أمر كان يكبر ويشق عليهما الاحتراز منه؛ إذ لا مشقة في(48/96)
__________
1 البخاري: الوضوء(216) والجنائز(1361,1378) والأدب(6052,6055), ومسلم: الطهارة(292), والترمذي: الطهارة(70), والنسائي: الطهارة(31) والجنائز(2068), وأبو داود: الطهارة(20), وابن ماجه: الطهارة وسننها(347), وأحمد(1/225), والدارمي: الطهارة(739).
2 البخاري: الوضوء(216), ومسلم: الطهارة(292), والترمذي: الطهارة(70), والنسائي: الطهارة(31) والجنائز(2068), وابن ماجه: الطهارة وسننها(347), وأحمد(1/225), والدارمي: الطهارة(739).
3 سورة النور آية: 15.
ص -90-(48/97)
التنزه عن البول والنميمة، وليس المراد أن ذلك ليس بكبير في أمر الدين؛ بل هو محمول على أنه سأل الشفاعة لهما؛ فأجيب شفاعته بأن يخفف عنهما إلى أن ييبسا، وليس لليابس تسبيح وقوله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}1 أيُّ شيءٍ حي؛ وحياة كل شيء بحسبه ما لم ييبس، والحجر ما لم يقطع.
والجمهور أن هذا التسبيح على عمومه: إما حقيقة، وهو قول المحققين إذ العقل لا يحيله، أو أنه بلسان الحال باعتبار دلالته على الصانع.
وأما المعذبان فإنهما مسلمان؛ إذ الكافر لا يسأل له النبي –صلى الله عليه وسلم- الشفاعة. وتقدم عن العلماء أنه محمول عندهم على أنه سأل الشفاعة لهما فأجيب. وقوله: وهل لكل أحد أن يفعل ذلك؟ فيقال: نعم يسن فعل ذلك لكل أحد اتباعا له –صلى الله عليه وسلم- فإن الأصل في أفعاله –صلى الله عليه وسلم- التأسي إلا ما دل دليل على الخصوصية، ولا دليل هنا، والله أعلم.
ابن صياد هو الدجال أو غيره
(مسألة): ابن صياد هل هو الدجال أو غيره؟
(الجواب): اختلف في ذلك الصحابة –رضوان الله عليهم- فكثير منهم قالوا: إنه هو، وكان بعضهم يحلف على ذلك كجابر بن عبد الله وعمر بن الخطاب وابنه عبد الله. وقال الآخرون: إنه غيره، وهو الأشهر، وعليه يدل صريحا ما في حديث مسلم الطويل، حديث الجساسة المنعوت فيه الدجال بأوصاف لا تنطبق على ابن صياد، منها: أنه مسلسل في جزيرة من جزائر البحرين؛ وابن صياد إذ ذاك بالمدينة، على أنه ورد أنه أسلم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تزوج وولد له. وأما ما ورد أيضا أنه فُقِدَ ولم يُدْرَ أين ذهب، فهذا لا يدل على أنه الدجال كما هو ظاهر، والله أعلم. آخر مسائل ابن حجر، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
__________
1 سورة الإسراء آية: 44.
ص -91-(48/98)
البيع على البيع والشراء على الشراء
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(المسألة الأولى): من قال لمن اشترى بعشرة: أنا أعطيك مثلها بتسعة، أو قال لمن باع سلعة بتسعة: عندي فيها عشرة، ليفسخ البيع ويعقد معه.
فهذه المسألة لها صور: فإن الأولى تسمى: بيع الرجل على بيع أخيه، والصورة الثانية: الشراء على شراء أخيه، وفعله حرام؛ ويتصور ذلك في خيار المجلس، وخيار الشرط وهو محرم؛ لقول النبي –صلى الله عليه وسلم-: "ولا يبع بعضكم على بيع بعض"1.
ومثله أن يقول: أبيعك خيرا منها بثمنها، أو يعرض عليه سلعة يرغب فيها المشتري؛ ليفسخ البيع؛ ويعقد معه؛ فلا يجوز ذلك، للنهي عنه، ولما فيه من الإضرار بالمسلم والإفساد عليه؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى أن يخطب الرجل على خطبة أخيه"2 متفق عليه. وهذا في معنى الخاطب فإن خالف وفعل: فالبيع الثاني باطل، للنهي عنه؛ والنهي يقتضي الفساد.
وفيه وجه آخر أنه يصح لأن المُحَرَّم هو عرض سلعته على المشتري، وذلك سابق على البيع ولأن النهي لحق آدمي فأشبه بيع النجش؛ وهذا مذهب أحمد. وقال الشيخ تقي الدين: يحرم الشراء على شراء أخيه، فإن فعل كان للمشتري الأول مطالبة البائع بالسلعة وأخذ عوضها.
اشتراط المشتري على البائع شرطين
(وأما المسألة الثانية): وهي إذا اشترط المشتري على البائع شرطين: كحمل الحطب، وتكسيره: فهذه المسألة فيها قولان للعلماء هما روايتان عن أحمد: أحدهما: أن ذلك لا يجوز، وهو قول الشافعي وأصحاب الرأي،(48/99)
__________
1 البخاري: البيوع(2150), ومسلم: النكاح(1413) والبيوع(1515), والترمذي: النكاح(1134), والنسائي: البيوع(4496), وأبو داود: البيوع(3443), وابن ماجه: التجارات(2172), وأحمد(2/311,2/360).
2 البخاري: النكاح(5142), ومسلم: النكاح(1412), والترمذي: البيوع(1292), والنسائي: النكاح(3243), وأبو داود: النكاح(2081), وأحمد(2/21), ومالك: النكاح(1112), والدارمي: النكاح(2176).
ص -92-(48/100)
وعن أحمد أن ذلك جائز، وهو اختيار الشيخ تقي الدين، واحتج من أبطل ذلك بما روى عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع. ولا تَبِعْ ما ليس عندك"1 أخرجه أبو داود والترمذي. وقال: حديث حسن صحيح.
واختلف أهل العلم في تفسير الشرطين المنهي عنهما، فروي عن أحمد: أنهما شرطان صحيحان ليسا من مصلحة العقد، فحكى ابن المنذر عنه وعن إسحاق فيمن اشترى ثوبا وشرط على البائع خياطته وقصارته، أو طعاما واشترط طحنه وحمله؛ إن شرط أحد هذه الأشياء فالبيع جائز.
وإن شرط شرطين: فالبيع باطل. وكذلك فسر القاضي الشرطين المبطلين بنحو هذا التفسير، وكذلك روي عن أحمد أنه فسر الشرطين أن يشتريها على أنه لا يبيعها لأحد، ولا يطأها، ففسره بشرطين فاسدين. ومحل الخلاف إذا لم يكونا من مصلحة العقد، فأما إن كانا من مصلحة العقد كالشرط والرهن والضمين: فإن ذلك يصح، اختاره الموفق والشارح والمجد وغيرهم من العلماء.
اشترى سلعة فوجدها معيبة
(وأما المسألة الثالثة): وهي إذا اشترى سلعة فوجدها معيبة، فقال البائع: العيب حدث عند المشتري، وقال المشتري: هي معيبة قبل الشراء، ولا بينة لهما: هذه المسألة فيها روايتان عن أحمد:
إحداهما: أن القول قول البائع مع يمينه، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك، لأن الأصل سلامة البيع، وصحة العقد، ولأن المشتري يدعي أنه يستحق فسخ المبيع، والبائع ينكره؛ والقول قول المنكر.
والرواية الثانية: أن القولَ قولُ المشتري مع يمينه، فيحلف بالله أنه اشتراه وبه هذا العيب، أو أنه ما حدث عنده ويكون له الخيار؛ اختارها
__________
1 الترمذي: البيوع(1234), والنسائي: البيوع(4611), وأحمد(2/174,2/205), والدارمي: البيوع(2560).
ص -93-(48/101)
الخرقي لأن الأصل عدم القبض في الجزء الفائت، واستحقاق ما يقابله من الثمن. والقول الأول أظهر، والله أعلم.
قال في الإنصاف: ومحل الخلاف إذا لم يخرج عن يده، فإن خرج عن يده إلى غيره، لم يجز له رده، نقله مهنا، واقتصر عليه في الفروع، والله أعلم.
معنى بيع الدين بالدين
(أما المسألة الرابعة): وهو ما معنى بيع الدين بالدين؟ فله صور كثيرة: منها: بيع ما في الذمة حالّ من عروض وأثمان بثمن إلى أجل ممن هو عليه.
ومنها: جعل رأس مال السلم دينا، فإذا جعل الثمن دينا كان بيع دين بدين، ولا يصح بالإجماع، واختار الشيخ تقي الدين جواز ذلك، وكذلك ذكر ابن القيم في إعلام الموقعين، وادعى أنه ليس في ذلك إجماع.
ومنها: لو كان لكل واحد من الاثنين دين على صاحبه من غير جنسه كالذهب والفضة، وتصارفا لم يحضرا شيئا: فإنه لا يجوز سواء كانا حالَّين أو مؤجلين، نص عليه أحمد فيما إذا كانا نقدين، واختار الشيخ تقي الدين الجواز.
ومنها لو كان لرجلين دين على رجلين من ذهب أو فضة وتبايعا ذلك، وصار غريم زيد عن غريم لعمرو، وغريم عمرو بما لزيد؛ وذلك لا يجوز بغير خلاف.
تشقق الثمر ثم بيع النخل
(وأما المسألة الخامسة): وهي إذا باع نخلا قد تشقق طلعه ولم يشترط المشتري الثمرة، ثم تنازعا بعد ذلك في الثمرة، فأكثر أهل العلم على أن الثمر إذا تشقق، ثم بيع النخل بعد ذلك، ولم يشترط المشتري الثمرة، فإنها تكون للبائع، سواء أُبِّرَتْ أو لم تُؤَبَّرْ.
وبالغ الموفق –رحمه الله- في ذلك وقال: لا خلاف فيه بين العلماء، وعن أحمد رواية ثالثة؛ وهو أن الحكم منوط بالتأبير، وهو التلقيح، لا بالتشقق؛ فعليها لو تشقق ولم يؤبر تكون الثمرة للمشتري؛ ونصر هذه الرواية الشيخ تقي الدين واختارها في الفائق. وأما قبل
ص -94-(48/102)
التشقق فهي للمشتري، وبه قال مالك والليث والشافعي، وقال ابن أبي ليلى: هي للمشتري في الحالين؛ وقال أبو حنيفة والأوزاعي: هي للبائع في الحالين.
ووجه الأول: ما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من ابتاع نخلا بعد أن تؤبر فثمرتها للذي باعها إلا أن يشترط المبتاع"1 وهذا صريح في قول ابن أبي ليلى، وحجة على أبي حنيفة والأوزاعي بمفهومه؛ لأنه جعل التأبير حدا لملك البائع للثمرة فيكون ما قبله للمشتري؛ وإلا لم يكن حدا؛ ولا كان التأبير مفيدا.
أسلم في ثمرة بستان بعينه ست سنين
(وأما المسألة السادسة): وهي من أسلم في ثمرة نخل بعينه ست سنين، أيصح ذلك أم لا؟
فالسلم، والحالة هذه، باطل، قال ابن المنذر: إبطال السلم إذا أسلم في ثمرة بستان بعينه كالإجماع من أهل العلم؛ وممن حفظنا ذلك عنه: الثوري ومالك والأوزاعي والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي، قال: وروينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أسلم إليه رجل من اليهود دنانير في تمر مسمى، قال اليهودي: من تمر حائط بني فلان؛ فقال النبي –صلى الله عليه وسلم-: "أما من تمر حائط بني فلان فلا، ولكن كيل مسمى إلى أجل مسمى"2 رواه ابن ماجه وغيره ورواه الجوزجاني في المترجم. وقال: أجمع الناس على الكراهة لهذا البيع.
سَبلَ في أرض نقدا معلوما ثم امتنعت المعاملة به
(وأما المسألة السابعة): وهي إذا سَبلَ في أرض نقدا معلوما ثم امتنعت المعاملة به، ما الحكم في ذلك؟ فهذه المسألة نظيرة القرض إذا اقترضه فلوسا فحرمها السلطان، فذكر أهل العلم: أن له القيمة وقت القرض، حتى أن الشيخ تقي الدين –رحمه الله- طرد ذلك في الديون كالصداق وعوض الخلع والغصب والصلح، فإذا اقترضه فلوسا أو باعه بها، ونحو ذلك ثم(48/103)
__________
1 البخاري: المساقاة(2379) والشروط(2716), ومسلم: البيوع(1543), والترمذي: البيوع(1244), والنسائي: البيوع(4636), وأبو داود: البيوع(3433), وابن ماجه: التجارات(2210,2211), وأحمد(2/9,2/63), ومالك: البيوع(1302).
2 ابن ماجه: التجارات(2281).
ص -95-
حرمها السلطان، وتُرِكَتْ المعاملة بها بعد ذلك، فإنه يرجع بقيمتها على من هي عليه، فهذه المسألة مثلها؛ فإذا جعل الواقف نقدا معلوما في أرض ونحوها، ثم حرمه السلطان وتركت المعاملة به، جعل بدله مكانه قيمة تلك الفلوس قبل كسادها.
اختلاف الراهن والمرتهن في قدر الدين
(وأما المسألة الثامنة): وهي إذا اختلف الراهن والمرتهن في قدر الدين، فقال الراهن: الرهن في ثمانية، وقال المرتهن: في عشرة؛ ولا بينة لهما، فقد اختلف العلماء –رحمهم الله- في ذلك: فقال مالك: القول قول المرتهن ما لم يدع أكثر من ثمن الرهن أو قيمته.
وحكي ذلك عن الحسن وقتادة، واختاره الشيخ تقي الدين وابن القيم، قالوا: لأن الله سبحانه جعل الرهن بدلا من الكتابة والشهود التي تنطق بالحق، فلو لم يقبل قول المرتهن في ذلك بطلت التوثقة من الرهن به، وادعى الراهن أنه رهنه على أقل شيء: فلم يكن في الرهن فائدة. ولأن الله أمر بكتابة الدين، وأمر بإشهاد الشهود، ثم أمر بعد ذلك بما تحفظ به الحقوق عند عدم القدرة على الكتابة والشهود وهو السفر في الغالب فقال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ}1 فدل ذلك دلالة بينة أن الرهن قائم مقام الكتابة، والشهود شاهدٌ مخبرٌ بالحق، كما يخبر الكتاب والشهود، فلو لم يقبل قول المرتهن على الراهن في قدر الدين، لم يكن الرهن وثيقة ولا حافظا لدينه؛ ولا بد من الكتابة والشهود، فإن الراهن يتمكن من أخذه منه، ويقول: إنما رهنته على درهم ونحوه. وهذا القول هو أرجح القولين.
والقول الثاني: أن(48/104)
القول قول الراهن، وبه قال النخعي والثوري والشافعي والبتي وأبو ثور وأصحاب الرأي، قالوا: لأن الراهن منكر للزيادة التي يدعيها المرتهن،
__________
1 سورة البقرة آية: 283.
ص -96-
والقول قول المنكر، لقول رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "لو يُعْطَى الناس بدعواهم لأخذ قوم دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه"1 رواه مسلم. وفي الحديث الآخر: "البينة على المدعي واليمين على من أنكر"2 ؛ ولأن الأصل براءة الذمة من الزائد، فكان القول قول من ينفيه كما اختلفا في قدر الدين.
ضمان المجهول
(وأما المسألة التاسعة): وهي ضمان المجهول كمن ضمن على إنسان دينا لا يعلم قدره، ثم علم ذلك، فالصحيح في هذه المسألة صحة ذلك، وهو قول أبي حنيفة وأحمد، وهو اختيار الشيخ ابن القيم لقول الله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ}3 وحمل البعير غير معلوم بل يختلف باختلافه، ولعموم قوله عليه السلام: "الزعيم غارم"4 ولأنه التزام حق في الذمة من غير مفاوضة؛ فصح في المجهول كالنذر. وقال الثوري والليث وابن أبي ليلى والشافعي وابن المنذر: لا يصح، لأنه التزام؛ فلم يصح مجهولا كالثمن.
ضمان الوكيل فيما خالف فيه موكله
(وأما المسألة العاشرة): وهي من وكل رجلا في بيع سلعة بعشرة، فباعها بثمانية، ووكله في شراء سلعة بثمانية، فاشتراها بعشرة ما الحكم في ذلك؟ فهذه المسألة فيها قولان للعلماء: هما روايتان عن أحمد:إحداهما): أن حكمه حكم من لم يؤذن له في البيع؛ فيكون تصرفه كتصرف الأجنبي فلا يصح البيع؛ وهذا قول أكثر أهل العلم؛ واختاره الموفق -رحمه الله- قال في الشرح: وهو أقيس، لأنه بيع غير مأذون فيه أشبه بيع الأجنبي، وكل تصرف كان الوكيل فيه مخالفا لموكله، فحكمه حكم تصرف الأجنبي.والرواية الثانية): أن البيع صحيح ويضمن الوكيل النقص، لأنه من صح بيعه بثمن المثل صح بدونه،(48/105)
كالمريض. قال في الاختيارات: قال في المحرر:
__________
1 البخاري: تفسير القرآن(4552), ومسلم: الأقضية(1711), والنسائي: آداب القضاة(5425), وابن ماجه: الأحكام(2321), وأحمد(1/363).
2 الترمذي: الأحكام(1341).
3 سورة يوسف آية: 72.
4 الترمذي: البيوع(1265), وأبو داود: البيوع(3565), وابن ماجه: الأحكام(2405).
ص -97-
وإذا اشترى المضارب أو الوكيل بأكثر من ثمن المثل صح ولزم النقص أو الزيادة، نص عليه. قال أبو العباس: وكذلك الشريك والوصي والناظر على الوقف وبيت المال ونحو ذلك.
قال: وهذا ظاهر فيما إذا فرَّط، وأما إذا احتاط في البيع والشراء ثم ظهر غبن أو عيب لم يقصر فيه، فهذا مغرور يشبه خطأ الإمام والحاكم، وأبين من هذا الناظر والوصي والإمام إذا باع أو آجر أو زارع ثم تبين أنه بدون القيمة بعد الاجتهاد ثم تبين أن المصلحة كانت في خلافه؛ وهذا باب واسع. ولكن الشريك والمضارب: فإن عامة من يتصرف لغيره بوكالة أو ولاية قد يجتهد ثم يظهر فوات المصلحة أو حصول المفسدة، لا لوم عليه فيها، وتضمين مثل هذا فيه نظر.
وقال أبو حفص في المجموع: وإذا سمى له ثمنا فنقص منه، فنص الإمام أحمد في رواية منصور: إذا أمر رجلا أن يبيع له شيئا فباع بأقل، قال: البيع جائز وهو ضامن.
قال أبو العباس: لعله لم يقبل قولهما على المشتري في تقدير الثمن، لأنهما يدعيان فساد العقد؛ وهو يدعي صحته، فكان القول قوله، ويضمن الوكيل النقص. انتهى في الاختيارات ملخصا.
الاختلاف في قسمة ربح المضاربة
(وأما المسألة الحادية عشر): وهي إذا دفع إلى إنسان مالا مضاربة فاشترط لأحدهما ثلث الربع، وللآخر الثلثين؛ ثم اختلف العامل ورب المال فيمن له الثلث ولا بينة لهما؛ فقال في الشرح: إذا اختلفا فيما شرطا للعامل ففيه روايتان:
(إحداهما): القول قول رب المال؛ نص عليه أحمد في رواية منصور وسندي؛ وبه قال الثوري وإسحاق وأبو(48/106)
ثور وأصحاب الرأي وابن المنذر لأن رب المال منكر للزيادة التي ادعاها العامل؛ والقول قول المنكر،والرواية الثانية): أن العامل إن ادعى أجرة المثل، وما يتغابن الناس به، فالقول قوله،
ص -98-
لأن الظاهر صدقه، وإن ادعى أكثر فالقول قول رب المال فيما زاد على أجرة المثل، كالزوجين إذا اختلفا في الصداق. وقال الشافعي: يتحالفان لأنهما اختلفا في عوض عقد فيتحالفان كالمتبايعين؛ ولنا قول النبي –صلى الله عليه وسلم-: "ولكن اليمين على المدعى عليه"1 ولأنه اختلاف في المضاربة فلم يتحالفا كسائر اختلافهما؛ والمتبايعان يرجعان إلى رؤوس أموالهم بخلاف ما نحن فيه.
أعطى ثوبه خياطا بلا عقد ثم اختلفا في قدر الأجرة
(وأما المسألة الثانية عشر): وهي إذا أعطى ثوبه خياطا بلا عقد؛ ثم اختلفا في قدر الأجرة ؛ فقال في الشرح: إذا دفع ثوبه إلى خياط ليخيطه أو قصار ليقصره من غير عقد ولا شرط ولا تعريض بأجرة؛ مثل أن يقول: خذ هذا فاعمله، وأنا أعلم أنك إنما تعمل بأجرة؛ وكان القصار والخياط منتصبين لذلك ففعلا ذلك، فلهما الأجرة لأن العرف الجاري بذلك يقوم مقام القول؛ فصار كعقد البلد، ولأن شاهد الحال يقتضيه فصار كالتعريض.
فأما إن لم يكونا منتصبين لذلك: لم يستحقا أجرة إلا بعقد أو شرط أو تعريض به؛ لأنه لم يجر عرف يقوم مقام العقد، فهو كما لو تبرع به. وفي المسألة قول آخر: له الأجرة مطلقا سواء كان منتصبا للعمل بأجرة أو لم يكن؛ قال في الإنصاف: وهو الصحيح من المذهب؛ وعليه كثير من الأصحاب.
اختلف المعير والمستعير في الدابة بعد مضي المدة
(وأما المسألة الثالثة عشر): إذا اختلف المعير والمستعير في الدابة بعد مضي المدة؛ فقال المالك: أجرتك؛ وقال الآخر: أعرتني ولا بينة لهما؛ فقال في الشرح: إذا اختلف الراكب ورب الدابة، فقال المالك: هي عارية، وقال رب الدابة: أكريتكها، وكانت الدابة باقية لم تنقص، وكان الاختلاف عقيب العقد: فالقول قول الراكب؛ لأن(48/107)
الأصل عدم عقد الإجارة وطرد الدابة
__________
1 البخاري: الرهن(2514), ومسلم: الأقضية(1711), والترمذي: الأحكام(1342), والنسائي: آداب القضاة(5425), وأبو داود: الأقضية(3619), وابن ماجه: الأحكام(2321), وأحمد(1/342,1/363).
ص -99-
إلى مالكها إذا كلف الراكب، لأن الأصل براءة ذمته منها.
وإن كان الاختلاف بعد مضي مدة لها أجرة: فالقول قول المالك فيما مضى من المدة دون ما بقي منها؛ وحكي ذلك عن مالك؛ وقال أصحاب الرأي: القول قول الراكب؛ وهو منصوص الشافعي لأنهما اتفقا على تلف المنافع على ملك الراكب، وادعى المالك، عوضا لها. والأصل عدم وجوبه وبراءة ذمة الراكب منه؛ فكان القول قوله.
ولنا أنهما اختلفا في كيفية انتقال المنافع إلى ملك الراكب، فكان القول قول المالك، كما لو اختلفا في عين فقال المالك: بعتكها، وقال الآخر: وهبتها؛ ولأن المنافع تجري مجرى الأعيان في الملك والعقد عليها، ولو اختلفا في الأعيان كان القول قول المالك كذا هنا، وما ذكروه يبطل بهذه المسألة فيحلف المالك وتُسْتَحَقُ الأجرة، والله -تعالى- أعلم.
غرس في أرض غيره بغير إذنه فطلب صاحب الأرض قلع غرسه
(وأما المسألة الرابعة عشر): وهي إذا استولى على أرض غصب، وبنى فيها وغرس. ثم نازع المغصوب منه الغاصب بالقلع وأرش نقصها والتسوية والأجرة، فقال في الشرح: من غرس في أرض غيره بغير إذنه أو بنى فيها فطلب صاحب الأرض قلع غرسه وبناه لزم ذلك، ولا نعلم فيه خلافا، لما روى سعيد بن زيد أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "ليس لعرق ظالم حق"1 رواه الترمذي، وقال: حديث حسن..
وروى أبو داود وأبو عبيد في الحديث أنه قال: فلقد أخبرني الذي حدثني هذا الحديث "أن رجلا غرس في أرض رجل من الأنصار من بني بياضة، فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى للرجل بأرضه، وقضى للآخر أن ينزع نخله"، قال: فلقد رأيتها يُضْرَبُ في أصولها(48/108)
بالفؤوس، وإنها لنخل عم، وإذا قلعها لزم التسوية الأرض ورد
__________
1 الترمذي: الأحكام(1378), وأبو داود: الخراج والإمارة والفيء(3073).
ص -100-(48/109)
الإيمان والرد على أهل البدع (مطبوع ضمن مجموعة الرسائل والمسائل النجدية لبعض علماء نجد الأعلام، الجزء الثاني) - عبد الرحمن بن حسن محمد بن عبد الوهاب (2)
الأرض إلى ما كانت عليه، لأنه ضرر حصل في ملك غيره بغير فعله، فلزمته إزالته، وعليه ضمان نقص الأرض إن نقصت بالغرس والبناء، وعليه أجرة المثل إلى وقت التسليم.
تفضيل بعض الأولاد في العطية
(وأما المسألة الخامسة عشر): إذا فضل بعض أولاده بعطية مال، فمات قبل المواساة، فالكلام في هذه المسألة في مقامين:
المقام الأول: في جواز التفضيل؛ وعدمه، فمذهب الإمام أحمد رضي الله عنه أن ذلك لا يجوز إذا كان على سبيل الأثرة، فإن خص بعضهم بعطية أو فاضل بينهم أثم، إذا لم يختص بمعنى يبيح التفضيل؛ ووجبت عليه المساواة، إما برد الفاضل أو إعطاء الآخر، حتى يتم نصيبه.
وبهذا قال ابن المبارك، وروي معناه عن مجاهد وعروة، واختار هذا القول الشيخ تقي الدين. وذهب الإمام مالك والثوري والليث والشافعي وأصحاب الرأي إلى جواز التفضيل، وروي معنى ذلك عن شريح وجابر بن زيد والحسن بن صالح، لأن أبا بكر نحل عائشة جذاذ عشرين وسقا، دون سائر أولاده، واحتج الشافعي بقول النبي –صلى الله عليه وسلم- في حديث النعمان بن بشير: "أشهد على هذا غيري"1 فأمره بتأكيدها دون الرجوع. واحتج من ذهب إلى تحريم التفضيل بما في الصحيحين عن النعمان بن بشير: قال: "تصدق علي أبي ببعض ماله، فقالت أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد عليها رسول الله –صلى الله عليه وسلم-. فجاء بي إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ليشهده على صدقتي، فقال: أكلّ ولدك أعطيته مثله؟ قال: لا. قال: فاتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم"2 قال: فرجع أبي، فرد تلك الصدقة. وفي لفظ قال: (فاردده) وفي لفظ: (فأرجعه) وفي لفظ: (فلا تشهدني(49/1)
__________
1 مسلم: الهبات(1623), وأبو داود: البيوع(3542), وابن ماجه: الأحكام(2375), وأحمد(4/270).
2 البخاري: الهبة وفضلها والتحريض عليها(2587), ومسلم: الهبات(1623), والنسائي: النحل(3681,3682), وأبو داود: البيوع(3542), وأحمد(4/269,4/270,4/276).
ص -101-
على جور )، وفي لفظ: (فأشهد على هذا غيري)، وفي لفظ: (سوّ بينهم) متفق عليه. وهو دليل على التحريم؛ لأنه سماه جورا، وأمره برده، وامتنع من الشهادة عليه؛ والجور حرام، والأمر يقتضي الوجوب ولأن تفضيل بعضهم يورث بينهم العداوة والبغضاء وقطيعة الرحم، فمنع منه، كتزويج المرأة على عمتها وخالتها.
وقول أبي بكر لا يعارض قول النبي صلى الله عليه وسلم ولا يحتج به، ويحتمل أن أبا بكر خصها لعجزها عن المكسب والتسبب، مع اختصاصها بفضلها، ولكونها أم المؤمنين، وغير ذلك من خصائصها، ويحتمل أن يكون نحلها، ونحل غيرها من ولده، أو يريد أن ينحل غيرها، فأدركه الموت قبل ذلك، ويتعين حمل حديثه على أحد هذه الوجوه، لأن التفضيل منهي عنه، وأبو بكر لا يفعل المنهي عنه مع علمه بذلك.
وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أشهد على هذا غيري"1 فليس بأمر، وكيف يجوز أن يأمر بتأكيده مع أمره برده وتسميته إياه جورا ؟ ولو أمره النبي –صلى الله عليه وسلم- بإشهاد غيره لامتثل أمره، ولم يرده لكن قوله: "أشهد على هذا غيري"2 تهديد، كقوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ}3. فأما إن خص بعضهم لمعنى يقتضي تخصيصه من حاجته أو زمان أو عمى أو كثرة عياله، أو لاشتغاله بالعلم، ومنع بعض ولده لفسقه أو بدعته، أو لكونه يعصي الله بما يأخذه ونحوه، فاختار الموفق جواز ذلك، واستدل له بحديث أبي بكر؛ ولأن بعضهم اختص بمعنى يقتضي العطية، فجاز أن يختص بها كما لو اختص بالقرابة، وأجاب عن حديث النعمان بأنه قضية في عين لا عموم لها. وقد روي عن أحمد ما يدل على جواز ذلك، فإنه(49/2)
قال في تخصيص
__________
1 مسلم: الهبات(1623), وأبو داود: البيوع(3542), وابن ماجه: الأحكام(2375), وأحمد(4/270).
2 مسلم: الهبات(1623), وأبو داود: البيوع(3542), وابن ماجه: الأحكام(2375), وأحمد(4/270).
3 سورة فصلت آية: 40.
ص -102-
بعضهم بالوقف: لا بأس إذا كان لحاجة، وأكرهه إذا كان على سبيل الأثرة، والعطية في معنى الوقف. قال في الإنصاف: قلت: وهذا قوي جدا، ويحتمل أن يمنع من التفضيل بكل حال لحديث النعمان، لكون النبي –صلى الله عليه وسلم- لم يستفصل بشيرا في عطيته.
وأما المقام الثاني: وهو إذا فضل أو خص بعضهم، ثم مات قبل الرجوع أو المواساة، فهل تثبت العطية للمعطى أو للباقين؟، فقد اختلفت الرواية في ذلك عن أحمد، فروي عنه أنها تثبت للمعطى، وليس لبقية الورثة الرجوع نص على ذلك في رواية محمد بن الحكم والميموني، واختاره الخلال، وصاحبه أبو بكر، وبه قال مالك والشافعي وأصحاب الرأي، وأكثر أهل العلم لقول أبي بكر لعائشة لما نحلها: وددت لو أنك حزتيه، فيدل على أنها لو حازته لم يكن لهم الرجوع.
وقال عمر: لا نحلة إلا نحلة يحوزها الولد دون الوالد، والرواية الأخرى: لباقي الورثة أن يرجعوا ما وهبه، اختاره أبو عبد الله ابن بطة وأبو حفص العكبريان، وابن عقيل والشيخ تقي الدين، وصاحب الفائق، وهو قول عروة بن الزبير وإسحاق، قال أحمد: عروة قد روى الأحاديث الثلاثة: حديث عائشة، وحديث عمر، وحديث عثمان، وتركها، وذهب إلى حديث النبي –صلى الله عليه وسلم- ترد في حياة الرجل وبعد موته؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم سمى ذلك جورا بقوله لبشير: "لا تشهدني على جور"1 والجور لا يحل للفاعل فعله، ولا للمعطى تناوله، والموت لا يغيره عن كونه جورا حراما، فيجب رده؛ ولأن أبا بكر، وعمر –رضي الله عنهما- أمر قيس بن سعد برد قسمة أبيه حين ولد له، ولم يكن علم به، ولا أعطاه شيئا، وكان ذلك بعد موت(49/3)
سعد، فروى سعيد بإسناده أن سعد بن عبادة، قسم ماله بين أولاده
__________
1 البخاري: الشهادات(2650), ومسلم: الهبات(1623), والنسائي: النحل(3681,3682,3683).
ص -103-
وخرج إلى الشام، فمات بها، ثم ولد له بعد ذلك ولد، فمشى أبو بكر وعمر –رضي الله عنهما- إلى قيس بن سعد فقالا: إن سعدا قسم ماله، ولم يدر ما يكون، وإنا نرى أن ترد هذه القسمة، فقال: لم أكن أغير شيئا صنعه سعد، ولكن نصيبي له.
مسائل في الرضاعة
(وأما المسألة السادسة عشر، والسابعة عشر، والثامنة عشر، والتاسعة عشر): وهي مسائل الرضاعة، فهن حلال كلهن، وهو قول جمهور العلماء، فتباح أم المرتضع، وأخته من النسب لأبيه وأخيه من الرضاع، لأنهن في مقابلة من يحرم بالمصاهرة لا في مقابلة من يحرم من النسب.
والشارع صلى الله عليه وسلم إنما حرم من الرضاعة ما يحرم من النسب، لا ما يحرم بالمصاهرة، وتباح المرضعة وبنتها لأبي المرتضع وأخيه من النسب، وتباح أخت ابنه، وأم أخته من الرضاع، ويحرم من النسب؛ لأن أخت ابنه من النسب ربيبة، وأم أخته من النسب زوجة أبيه، فأخت ابنه، وأم أخته يحرمان من النسب، ويباحان من الرضاع.
شهادة الأخ لأخيه
(وأما المسألة العشرون): وهي شهادة الأخ لأخيه، فهي جائزة، قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن شهادة الأخ لأخيه جائزة، وروي ذلك عن ابن الزبير، وبه قال شريح وعمر بن عبد العزيز والشعبي والنخعي ومالك والشافعي وأبو عبيد وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي، لأنه عدل غير متهم، فصحت شهادته لأخيه كالأجنبي، ولعموم الآيات، ولا يصح قياس الأخ على الوالد والولد؛ لأنهما بينهما بعضية وقرابة بخلاف الأخ.
وقد روي عن عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- أن شهادة كل من الوالد والولد للآخر مقبولة، وروي ذلك عن شريح، وبه قال عمر بن عبد العزيز، وأبو ثور، والمزني وداود وإسحاق وابن المنذر لعموم الآيات،
ص -104-(49/4)
ولأنه عدل تقبل شهادته في غير هذا الموضع، فتقبل فيه.
شهادة الوالد على ابنه وابن ابنه
(وأما المسألة الحادية والعشرون): وهي شهادة الوالد على ابنه وابن ابنه، فهي مقبولة نص على ذلك الإمام أحمد، وهو قول عامة أهل العلم،وذلك لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ}1 فأمر بالشهادة، ولو لم تقبل لما أمر بها؛ ولأنها إنما ردت شهادته له في التهمة في إيصال النفع، ولا تهمة في شهادته عليه؛ فوجب أن تقبل كشهادة الأجنبي، بل أولى أن يتهم له، ولا يتهم عليه، فشهادته عليه له أبلغ في الصدق كشهادته على نفسه.
الشهادة بالاستفاضة والشهرة
(وأما المسألة الثانية والعشرون): وهي الشهادة بالاستفاضة والشهرة، فهي صحيحة فيما يتعذر علمه في الغالب إلا بذلك كالنسب والموت والملك والنكاح والخلع والوقف ومصرفه والعتق والولاء والولاية والعزل، وما أشبه ذلك.
قال الخرقي: وما تظاهرت به الأخبار، واستقرت معرفته في قلبه شهد به، كالشهادة على النسب والولادة. وقد أجمع أهل العلم على صحة الشهادة بالنسب بالاستفاضة، وكذلك الشهادة بالاستفاضة في الجرح والتعديل، فما يجرح به الشاهد وغيره مما يقدح في عدالته ودينه، فإنه يشهد به إذا علمه الشاهد بالاستفاضة، ويكون ذلك قدحا شرعيا، قاله الشيخ تقي الدين، قال: وقد صرح بذلك طوائف الفقهاء من الشافعية، والمالكية، والحنبلية، وغيرهم في كتبهم الصغار والكبار، صرحوا فيما إذا جرح الرجل جرحا مفيدا أنه يجرح الجارح بما سمعه منه، أو رآه، أو استفاض، وما أعلم في هذا نزاعا بين المسلمين، فإن المسلمين كلهم يشهدون في مثل وقتنا، في مثل عمر بن عبد العزيز والحسن والبصري، وأمثالهما من العدل والدين، بما لم يعلموه إلا بالاستفاضة، ويشهدون في مثل الحجاج بن يوسف، والمختار بن عبيد، ونحوهم بالظلم(49/5)
والبدعة بما لم يعلموه
__________
1 سورة النساء آية: 135.
ص -105-
إلا بالاستفاضة، قال: وهذا إذا كان المقصود تفسيقه لرد شهادته وولايته، وأما إذا كان المقصود التحذير منه، واتقاء شره فيكفي بما دون ذلك. انتهى.
ما تجوز الشهادة عليه بالاستفاضة
وقد اختلف أهل العلم فيما تجوز الشهادة عليه بالاستفاضة غير النسب والولادة، فقال بعضهم: هو تسعة أشياء: النكاح والوقف ومصرفه والموت والعتق والولاء والولاية والعزل.
وقال أبو حنيفة: لا تقبل إلا في النكاح والموت، ولا تقبل في الملك المطلق. ونص الإمام أحمد على ثبوت الشهادة بالاستفاضة في الخلع والطلاق. والصحيح من مذهب الشافعي: جواز الشهادة بالاستفاضة في النكاح والنسب وولاية القضاء والملك والعتق والوقف والولاء. واقتصر جماعة من أصحاب أحمد، منهم: القاضي في الجامع، والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما، وابن عقيل في التذكرة، والشيرازي، وابن البنا على النسب والموت والملك المطلق والنكاح والوقف والعتق والولاء، قال في الفروع: ولعله الأشهر. قال في العمدة: ولا يجوز ذلك في حد ولا قصاص، قال في الفروع: فظاهر الاقتصار عليهما، وهو أظهر. اه.
قال في عمدة الأدلة: تعليل أصحابنا بأن جهات الملك تختلف، تعليل يوجد في الدين، فقياس قولهم يقتضي أن يثبت الدين بالاستفاضة، قال في الإنصاف: قلت: وليس ببعيد. آخر الجواب، والحمد لله رب العالمين.
أخَّر قضاء رمضان مع إمكان القضاء، فمات قبل أن يقضي
(فائدة): إذا أخر قضاء رمضان مع إمكان القضاء، فمات قبل أن يقضي، وقبل أن يدركه رمضان آخر، أطعم عنه لكل يوم مسكينا، وهذا
ص -106-(49/6)
قول أكثر أهل العلم. وروي ذلك عن عائشة، وابن عباس، وبه قال مالك والليث والأوزاعي والثوري والشافعي وابن علية وأبو عبيد في الصحيح عنهم لما روى ابن ماجه عن ابن عمر مرفوعا: "من مات وعليه صيام شهر، فليطعم عنه لكل يوم مسكينا"1 رواه الترمذي، وقال الصحيح عن ابن عمر موقوفا.
وعن عائشة – أيضا- قالت: "يطعم عنه في قضاء رمضان ولا يصام".
وعن ابن عباس: أنه سئل عن رجل مات، وعليه نذر بصوم شهر، وعليه صوم رمضان. قال: أما رمضان، فيطعم عنه، وأما النذر فيصام عنه. رواه الأثرم، وحمل هؤلاء الحديث الذي في الصحيحين عن عائشة أنه في النذر، بدليل أن عائشة هي التي روت الحديث، وقد قالت: يطعم عنه في قضاء رمضان ولا يصام.
والقول الثاني: أنه يصام عنه، وهو قول أبي ثور، والشافعي، قال في الفروع: ومال صاحب النظم إلى صوم رمضان عن الميت بعد موته، فقال: لو قيل: لم أبعد، فعلى هذا الظاهر أن المراد: ولا يطعم كقول طاووس، وقتادة، ورواية عن الحسن والزهري، والشافعي في القديم وأبو ثور وداود. انتهى.
وقال في الفائق: ولو أخره لا لعذر، فتوفي قبل رمضان آخر، أطعم عنه لكل يوم مسكينا، والمختار الصيام عنه. انتهى.
وقال ابن عبدوس في تذكرته: ويصح قضاء نذر. قلت: وفرض عن الميت مطلقا كاعتكاف. انتهى.
وقال الشيخ تقي الدين: إن تبرع بصومه عمن لا يطيقه للكبر ونحوه، أو عن ميت، وهما معسران، توجه جوازه لأنه أقرب إلى المماثلة من المال. انتهى.
واستدل من قال: يصام عنه بما في الصحيحين عن عائشة، أن النبي
__________
1 الترمذي: الصوم(718), وابن ماجه: الصيام(1757).
ص -107-(49/7)
صلى الله عليه وسلم قال: "من مات، وعليه صيام صام عنه وليه"1 متفق عليه.
وروى ابن عباس مثله، قال النووي في شرح مسلم بعدما ذكر هذا الحديث: اختلف العلماء فيمن مات، وعليه صوم واجب من رمضان أو نذر أو غيرهما. هل يقضى عنه؟ وللشافعي في المسألة قولان مشهوران: أشهرهما لا يصام عنه، ولا يصح عن ميت صوم أصلا. والثاني: يستحب لوليه أن يصوم عنه، ويستحب صومه عنه، ويبرأ به الميت، ولا يحتاج إلى طعام عنه. وهذا القول هو الصحيح المختار الذي نعتقده، وهو الذي صححه محققو أصحابه الجامعون بين الفقه والحديث، لهذه الأحاديث الصحيحة الصريحة.
وأما الحديث الوارد: "من مات وعليه صيام، أطعم عنه"2 فليس بثابت، ولو ثبت أمكن الجمع بينه وبين هذه الأحاديث بأن يحمل على جواز الأمرين؛ فإن من يقول بالصيام، يجوز عنده الإطعام، فثبت أن الصواب المتعين: تجويز الصيام وتجويز الإطعام، والولي مخير بينهما.
ثم ذكر النووي عن الجمهور أنهم ذهبوا إلى أنه يطعم عنه، ولا يصام، سواء في ذلك رمضان أو النذر، والصواب فيما وجب بالنذر أنه يصام عن الميت للأحاديث الصحيحة الصريحة التي لا معارض لها، وإنما الإشكال في قضاء رمضان، هل الواجب فيه الإطعام، أو يكفي الصيام؟ فظاهر حديث عائشة الذي في الصحيحين إجزاء الصيام، ومن ذهب إلى الإطعام حمل حديث عائشةعلى النذر، والله أعلم.
مدة الإقامة للمسافر
(فائدة): قال الشيخ الإمام العلامة أبو عمر بن عبد البر: اختلفوا في مدة الإقامة فقال مالك والشافعي والليث والطبري وأبو ثور: إذا نوى إقامة أربعة أيام أتم، وهو قول سعيد بن المسيب في رواية عطاء الخراساني
__________
1 البخاري: الصوم(1952), ومسلم: الصيام(1147), وأبو داود: الصوم(2400) والأيمان والنذور(3311), وأحمد(6/69).
2 الترمذي: الصوم(718), وابن ماجه: الصيام(1757).
ص -108-(49/8)
عنه، وقال أبو حنيفة وأصحاب الثوري: إذا نوى إقامة خمسة عشر يوما أتم وإن كان أقل قصر، وهو قول ابن عمر. وقال سعيد بن المسيب في رواية داود بن أبي هند عنه، وقال الأوزاعي: إذا نوى إقامة ثلاثة عشر يوما أتم، وإن كان أقل قصر. وعن سعيد بن المسيب قول ثالث: إذا أقام ثلاثا أتم. وعن السلف في هذه المسألة أقاويل متباينة منها: إذا زاد المسافر على إقامة اثنتا1 عشرة، أتم رواه نافع عن ابن عمر قال: وهو آخر فعل ابن عمر وقوله. وروى عكرمة عن ابن عباس قال: "قام النبي -صى الله عليه وسلم- سبعة عشر يقصر، فنحن إذا سافرنا سبعة عشر قصرنا، وإذا زدنا أتممنا".
وروى عن علي وابن عباس من أقام عشر ليال أتمّ، والطرق عنهما بذلك ضعيفة،وبذلك قال محمد بن الحسن والحسن بن صالح، وروي عن سعيد بن جبير وعبد الله بن عتبة: من أقام أكثر من خمسة عشر أتمّ، وبه قال الليث بن سعد، وروي عن الحسن أن المسافر يصلي ركعتين أبدا حتى يدخل مصرا من الأمصار.
وقال أحمد بن حنبل: إذا أجمع المسافر مقام إحدى وعشرين صلاة مكتوبة قصر، وإن زاد على ذلك أتم. فهذه تسعة أقوال في هذه المسألة، وفيها قول عاشرأن المسافر يقصر أبدا حتى يرجع إلى وطنه أو ينزل وطنا له، وروي عن أنس أنه أقام سنتين بنيسابور يقصر الصلاة. وقال أبو مجلز: قلت لابن عمر: آتي المدينة، فأقيم بها السبعة أشهر والثمانية طالبا حاجة، فقال: صلّ ركعتين. وقال أبو إسحاق السبيعي: أقمنا بسجستان، ومعنا رجال من أصحاب ابن مسعود سنتين نصلي ركعتين. وأقام ابن عمر بأذربيجان ستة أشهر يصلي ركعتين ركعتين، وكان الثلج حال بينهم وبين القفول.
__________
1 هذا الكلام به مخالفة لمقتضى الإعراب مجاراة للغة العوام في خطابهم.
ص -109-(49/9)
وأقام مسروق بالسلسلة سنتين، وهو عامل عليها يصلي ركعتين حتى انصرف، يلتمس السنة بذلك.
وعن شقيق قال: خرجت مع مسروق إلى السلسلة حين استعمل عليها؛ فلم نزل نقصر الصلاة حتى وصلنا، ولم يزل القصر في السلسلة حتى رجع، فقلت: يا أبا عائشة ما يحملك على هذا؟ قال: اتباع السنة. وقال أبو حمزة: قلت لابن عباس: إنا نطيل المقام بالغزو بخراسان فكيف ترى؟ قال: صلّ ركعتين، وإن أقمت عشر سنين، والله أعلم..
الفطر لإنقاذ غريق أوالتقوي على الجهاد
قال ابن القيم في البدائع:إ ذا رأى إنسانا يغرق فلا يمكنه تخليصه إلا بأن يفطر فهل يجوز له الفطر؟
أجاب أبو الخطاب: يجوز له الفطر إذا تيقن تخليصه من الغرق، ولم يمكنه الصوم مع التلخيص، وأجاب ابن الزاغوني: إذا كان يقدر على تخليصه أو غلب على ظنه ذلك لزمه الإفطار وتخليصه، ولا فرق بين أن يفطر لدخول الماء في حلقه وقت السباحة، أو كان يجد في نفسه ضعفا عن تخليصه لأجل الجوع حتى يأكل؛ لأنه يفطر للسفر المباح، فلأن يفطر للواجب أولى. قلت: أسباب الفطر أربعة: السفر والمرض والحيض والخوف على هلاك من يخشى عليه بصومه، كالحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما، ومثله مسألة الغريق. وأجاز شيخنا ابن تيمية الفطر للتقوي للجهاد، وفعله، وأمر به لما نزل العدو دمشق في رمضان فأنكر عليه بعض المتفقهة، وقال: ليس هذا سفرا طويلا، فقال الشيخ: هذا فطر للتقوي على جهاد العدو، وأولى من الفطر لسفر يومين سفرا مباحا أو معصية، والمسلمون إذا قاتلوا عدوهم وهم صيام لم يمكنهم النكاية فيهم وهم صيام، وربما أضعفهم الصوم عن القتال فاستباح العدو بيضة الإسلام.
ص -110-(49/10)
وهل يشك فقيه أن الفطر هاهنا أولى من فطر المسافر؟ وقد أمرهم النبي –صلى الله عليه وسلم- في غزوة الفتح بالإفطار ليتقووا بذلك على عدوهم فعلل ذلك بالقوة على العدو لا بالسفر. قلت: إذا جاز فطر الحامل، والمرضع لخوفهما على ولديهما، وفطر من يخلص الغريق، ففطر المقاتلين أولى بالجواز، ومن جعل هذا من المصالح المرسلة فقد غلط بل هذا من باب قياس الأولى. انتهى كلام ابن القيم في البدائع.
وقال في الفروع: وإن أحاط العدو ببلد، والصوم يضعفهم، فهل يجوز الفطر وفاقا لمالك؟ ذكر الخلال روايتين ويعايا بها، قال ابن عقيل: إن حصر العدو بلدا، وقصد المسلمون عدوا بمسافة قريبة لم يجز الفطر والقصر على الأصح.
ونقل حنبل: إذا كانوا بأرض العدو وهم بالقرب، أفطروا عند القتال. انتهى. وقال في الإنصاف: اختار الشيخ تقي الدين الفطر للتقوي على الجهاد، وفعله هو، وأمر به لما نزل العدو دمشق، وقدمه في الفائق، وهو الصواب. انتهى.
ص -111-(49/11)
مسائل وردت من حسن بن حسين إلى الأخ عبد الله اقتراض النقود وردها
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي يقول الحق، وهو يهدي السبيل، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الهادي إلى الدليل.
من حسن بن حسين إلى الأخ عبد الله، وفقه الله تعالى، وسدده.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
والخط المشتمل على السؤال وصل، وهذا صورته متبوعا بجوابه.
(المسألة الأولى): رجل عنده لآخر جدد حال كونه صرف الريال خمس من الجدد؛ فطالت المدة حتى بلغ صرف الريال هذا المبلغ، وطلب صاحب الحق حقه من الغريم، فهل يحكم له بالقيمة حال الاستدانة أو القرض أم ليس له إلا الجدد التي وقع العقد عليها؟.
(فالجواب): قال في شرح المفردات عند قول الناظم –رحمه الله تعالى-:
والنص بالقيمة في بطلانها
لا في ازدياد القدر أو نقصانها
ما لفظه: أي: إن النص إنما ورد عن الإمام أحمد فيما إذا أبطله السلطان، فمنع المعاملة بها لا فيما إذا زادت قيمتها أو نقصت مع بقاء التعامل بها، وعدم تحريم السلطان لها؛ فيرد مثلها سواء غلت، أو رخصت أو كسدت، وسواء كان الغلاء والرخص كثيرا بأن كان عشرة بدانق، فصارت عشرين بدانق، وعكسه أو قليلا، لأنه لم يحدث فيه شيء إنما تغير السعر، فأشبه الحنطة إذا رخصت أو غلت قال:
والشيخ في زيادة أو نقص
مثلا كقرض في الغلا والرخص
أي: وقال الشيخ الموفق: إذا زادت قيمة الفلوس أو نقصت، رد مثلها كما لو افترض عرضا مثليا كَبُرٍّ وشعير، ونحاس، وحديد فإنه يرد مثله، ولو
ص -112-(49/12)
غلا أو رخص، لأن غلو القيمة ونقصانها لا يسقط المثل عن ذمة المستقرض، فلا يجب المطالبة بالقيمة، وهذا معنى ما تقدم من أن نص الإمام بالقيمة إنما هو إذا أبطل السلطان المعاملة بها لا في زيادة القيمة، أو نقصانها. انتهى.
وحكى فيه مذهب مالك والشافعي والليث القول بالمثل، ثم قال: ولنا أن تحريمها منع إنفاقها، وإبطال ماليتها فأشبه كسرها. انتهى.
وقال الشيخ تقي الدين في شرح المحرر: إذا أقرضه أو غصبه طعاما فنقصت قيمته فهو نقص النوع، فلا يجبر على أخذه ناقصا، فيرجع إلى القيمة، وهذا هو العدل، فإن المالين إنما يتماثلان إذا استوت قيمتهما، وأما مع اختلاف القيمة فلا تماثل فعيب الدين إفلاس المدين وعيب العين المعينة خروجها عن المعتاد. انتهى. وكلام الشيخ هذا هو الذي ذكره الناظم عنه تخريجا له واختيارا.
فقد عرفت أنه تحصل في المسألة من حيث هي ثلاثة أقوال: التفريق بين ما إذا حرمها السلطان فبطلت المعاملة بها بالكلية، ومثله إن تكسرت أو كسدت فلا يتعامل بها، فالقيمة، وبين ما إذا كان غايته الغلاء والرخص مع بقاء المعاملة بحالها، فالمثل والمثل مطلقا كما هو المنقول عن مالك، والشافعي، والليث. وثالثها اختيار أبي العباس، وهو المعتمد لدينا في الفتوى.
(تنبيه): في المثلي الذي اختار أبو العباس القيمة فيه أوجه: أصحها أن المثلي ما حصره كيل، أو وزن وجاز السلم فيه؛ فإن وجد أحد الوصفين دون الآخر فليس بمثلي. قاله في مقدمة الحائض1 وذكر معناه في الروض وغيره من كتب الأصحاب. وعلى هذا فالجدد ليست مثلية، لأنه لا يجوز السلم
__________
1 كذا في الأصل.
ص -113-(49/13)
فيها لعدم الانضباط، فإنها تختلف بالكبر والصغر والثقل والخفة والطول والصفاء والخضرة وقلة الفضة وكثرتها، وأيضا ففيها فضة؛ ولا يجوز إسلام أحد النقدين في الآخر، لكن رأيته جزم في الإقناع بأن الدراهم المغشوشة مثلية، والجدد مثلها فيما يظهر لي، والله –سبحانه- أعلم..
رد الدابة المشتراة بعد ركوبها
(المسألة الثانية): رجل اشترى دابة، واستعملها بركوب، وسقي وغيره، أو نحو ذلك، ثم بان له به عيب قديم فرد المبيع، فهل يرد معه قدر استعماله مدة مقامه عنده، أم لا ؟ إلى آخر السؤال.
(الجواب): إذا رد المبيع، فلا يخلو إما أن يكون بحاله، أو يكون قد زاد أو نقص؛ فإن كان بحاله رده، وأخذ الثمن، وإن زاد بعد العقد، أو حصلت له فائدة، فإن كانت الزيادة متصلة كالسمن والحمل والثمرة قبل الظهور، فإنه يرده بنمائه، لأنه يتبع في العقود والفسوخ. وإن كانت الزيادة منفصلة، فإن كانت من غير المبيع كالكسب والأجرة، فهو للمشتري في مقابلة ضمانه، وهو معنى قوله عليه السلام: "الخراج بالضمان"1 ولا نعلم في هذا خلافا.
وروى ابن ماجه عن عائشة أن رجلا اشترى عبدا فاستعمله ما شاء الله، ثم وجد به عيبا فرده فقال: يا رسول الله، استعمل غلامي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الخراج بالضمان"2 رواه أبو داود، وبهذا قال أبو حنيفة ومالك والشافعي، ولا نعلم عن غيرهم خلافهم. وإن كانت الزيادة من عين المبيع كالولد، والثمرة، واللبن، فهو للمشتري أيضا، ويرد الأصل بدونها، وبهذا قال الشافعي إلا أن الولد إذا كان لآدمية لم يملك ردها دونه.
وعنه ليس له رده دون نمائه المنفصل قياسا على النماء المتصل، فإن اشتراها أي: الدابة حاملا فولدت عند المشتري فردها رد ولدها معها؛ لأنها من جملة المبيع،(49/14)
__________
1 الترمذي: البيوع(1285), والنسائي: البيوع(4490), وأبو داود: البيوع(3508), وابن ماجه: التجارات(2243).
2 الترمذي: البيوع(1285), والنسائي: البيوع(4490), وأبو داود: البيوع(3508), وابن ماجه: التجارات(2243).
ص -114-
والولادة هنا نماء متصل. وإن نقص المبيع فسيأتي حكمه. انتهى من الشرح الكبير، وحكمه أن يرد مع المعيب أَرْش النقص عنده كأن وطئ البكر، أو قطع الثوب، أو هزلت الدابة، ونحو ذلك مما تنقص به قيمته. صرح به في المغني وغيره. قال في شرح الإقناع: لما روى الخلال بإسناده عن ابن سيرين أن عثمان قال في رجل اشترى ثوبا فلبسه ثم اطلع على عيب:..1 وما نقص، وأجاز الرد مع النقص، وعليه اعتماد أحمد. انتهى. وقال في الإنصاف عند قول المقنع: وعنه ليس له رده دون نمائه: أي: المنفصل، فلو صدر العقد وهي حامل فولدت عنده، ثم ردها رد ولدها معها، وأما إذا حملت وولدت بعد الشراء فهو نماء منفصل بلا نزاع، والصحيح من المذهب أنه لا يردها إلا بولدها فتعين الأرش جزم به في المحرر. انتهى. فقد عرفت أنه إن كان بحاله رده مجانا، وأخذ ثمنه، وإن زاد ففيه التفصيل، أو نقص فإنه يرد معه أرش ما نقص عنده.
ما يجوز فيه شهادة النساء
(المسألة الثالثة): ما تقولون في شهادة النساء منفردات عن الرجال ؟، وهل القدور والمقتول هما مما تعرفه المرأة مما يقبل فيه شهادتهن منفردات؟ هذا معنى سؤالكم.
(الجواب): قال في المغني في باب القضاء: ولا تقبل شهادتها، ولو كان معها ألف امرأة إن لم يكن معهن رجل. انتهى.. ومراده فيما يطلع عليه غيرهن، وقال في كتاب الشهادة: وفي شهادة النساء شبهة بدليل قول الله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى}2 وأنه لا تقبل
__________
1 بياض بالأصل.
2 سورة البقرة آية: 282.
ص -115-(49/15)
شهادتهن، ولو كثرت ما لم يكن معهن رجل، وقال فيه: ولا نعلم خلافا في قبول شهادة النساء في الجملة...1 يعني في بعض المسائل كما ذكره الشرّاح، وذلك فيما لا يطلع عليه الرجال غالبا كعيوب النساء تحت الثياب، والبكارة، والثيوبة، والحيض، والولادة، والرضاع، والاستهلال، ونحو ذلك.
حديث عقبة بن الحارث رواه أحمد، وسعيد قال أبو محمد: إلا أنه من رواية جابر الجعفي. قال: وكل موضع تقبل فيه شهادة النساء منفردات فإنه يقبل فيه شهادة المرأة الواحدة، واستدل بحديث عقبة، وبما روي عن حذيفة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أجاز شهادة القابلة، رواه الفقهاء في كتبهم. وذكر أبو محمد في المقنع في باب اليمين في الدعاوى احتمالا قبول امرأتين ويمين في المال، وما يقصد به المال، وقال الشيخ تقي الدين: لو قيل: يقبل امرأتان، ويمين توجه، لأنهما أقيما مقام رجل في التحمل، ونصره ابن القيم في الإعلام والطرق وغيرهما، وذكره مذهب مالك.
وذكر أبو محمد وغيره أن أبا طالب نقل عن أحمد في مسألة الأسير: يقبل رجل ويمين، واختاره أبو بكر، وعنه في الوصية: إن لم يحضره إلا النساء فامرأة واحدة. وسأله ابن صدقة: الرجل يوصي ويعتق ولا يحضره إلا النساء، تجوز شهادتهن؟ قال: نعم في الحقوق، ذكره في الإنصاف، ولم يُقَيّده، والمجزوم به عند المتأخرين هو الأول، وعليه المعوّل.
وأما قول السائل: وهل القدور والمقتول من عورات النساء الذي لا يطلع عليه الرجال غالبا ؟ فهل هذه إلا المال نفسه؟ فتنبه لذلك.
(تتمة): لا مدخل للنساء، ولو مع الرجال في العقوبات والحدود، ذكروه اتفاقا عن الأئمة الأربعة، ولا يقبل الجرح والتعديل من النساء. قاله في المغني،
__________
1 بياض بالأصل.
ص -116-(49/16)
وجزم به المتأخرون، وذكره في الإفصاح قول مالك والشافعي وأحمد. ومما تساوي فيه المرأة العدلة1 الرجل الرواية، والإخبار بهلال رمضان والوقت والقبلة ونجاسة الماء وتنبيه الإمام لسهو؛ إذ في المغني ذوي الأفهام: دعوا النشوز والنسب؛ لأنه مما لا يطلع عليه الرجال غالبا. انتهى. والله -سبحانه وتعالى- أعلم بالصواب.
مقام المسلم في أرض الكفار مع التمكن من الخروج منها
فائدة: قال الإمام القرطبي في شرح مسلم: ولا يختلف في أنه لا يحل لمسلم المقام في بلاد الكفار مع التمكن من الخروج منها لجريان أحكام الكفر عليه، ولخوف الفتنة على نفسه، وهذا حكم ثابت مؤيد إلى يوم القيامة. وعلى هذا فلا يجوز لمسلم دخول بلاد الكفار لتجارة أو غيرها مما لا يكون ضرورة في الدين كافتكاك المسلم؛ وقد أبطل مالك شهادة من دخل بلاد الهند لأجل التجارة. انتهى كلامه -رحمه الله-.
وما ذكرت من مسألة الذي أوصى بوصية، ثم قال: ووقف عقاره الذي سماه، فظاهر اللفظ أن هذا وقف منجز غير ما أوصى به، وأنه ما يحسب من الثلث إذا كان في غير مرض الموت، ولفظ أقر أوضح من قوله: وقف، لأن قوله: وقف إنشاء للوقف، ولفظ أقر يفيد الإخبار بإيقاف سابق. وما قلنا في الفرق بين الوصية والوقف، فهذا إن كان كاتب الوثيقة عنده علم يفرق به بين الوصية والوقف، فإن كان كاتب الوثيقة عاميا صار في النفس شيء، لكن من أخذ بظاهر اللفظ فرق بين الوصية والوقف فهو أسلم، والله -سبحانه- وتعالى أعلم.
__________
1 هذه الكلمة تخالف مقتضى اللغة مجاراة للعوام.
ص -117-(49/17)
الحمد لله أجاب الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد- رحمه الله- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته وبعد: مسألة المساقاة كلام أهل العلم فيها مشهور، وهل هي من العقود اللازمة، أو العقود الجائزة ؟ والذي عليه الفتوى عندنا أنها لازمة من قبل المالك جائزة من قبل المساقي، وهذا اختيار الشيخ ابن تيمية؛ فعلى هذا فلا تنفسخ بموت المالك، ولا بانتقالها إلى غيره بإرث أو هبة.
عقد المساقاة لازم أم جائز
(وأما المسألة الثانية): الذي ينبت على ماء المستأجر بغير إذن المالك، فهو للكداد، فإن أراد المالك أخذه بقيمته وتراضيا ذلك فلهما، وإن قال: اقلعه، فيقلعه والسلام.
قال في الاختيارات: ولو دفع أرضا إلى آخر فيغرسها بجزء من الغراس صح كالمزارعة، واختاره أبو حفص العكبري، والقاضي في تعليقه، وهو ظاهر مذهب أحمد- رحمه الله- ثم قال: ومقتضى قول أبي حفص أنه يجوز أن يغارسه بجزء من الأرض كما جاز النسيج بجزء من الغزل نفسه. وقال في الفروع: هو ظاهر نص الإمام أحمد جواز المساقاة على شجر يغرسه، ويعمل عليه بجزء معلوم الشجر، أو بجزء من الشجر والثمر كالمزارعة، واختاره أبوحفص، وصححه القاضي في التعليق آخرا، واختاره في الفائق والشيخ تقي الدين- رحمه الله تعالى- قال في الإنصاف: لو كان الاشتراك في الغراس والأرض فسد وجها واحدا، قاله المصنف والشارح والناظم وغيرهم، وقال الشيخ تقي الدين: قياس المذهب صحته، قال في الفائق: قلت: وصحح المالكيون المغارسة في الأرض الملك لا الوقف، بشرط استحقاق العامل جزءا من الأرض مع القسط من الشجر. انتهى.
فإذا عرفت أن القول بصحة المغارسة أقوى، وأن عليه جمعا من المحققين، وعليه الفتوى، وهذا على تقدير
ص -118-(49/18)
ثبوت هذه الدعوى مع وجود شهود أصل العقد بخطهم وقت المعاملة، أو المعاقدة، وسلامة العقد ظاهرة، فكيف لا نقول بصحته، وهذا هو الذي أوجب المراجعة، وبالله التوفيق. انتهى.
من كلام الشيخ عبد الرحمن بن حسن -رحمه الله تعالى- بقلم الفقير الحقير المقر بالذنب والتقصير عبده ابن عبده ابن أمته، ومن لا غناء له عن رحمة ربه طرفة عين عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد اللطيف -غفر الله له ولوالديه ولمشايخه ولمن كتبت له والمسلمين-. آمين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
ص -119-(49/19)
معنى لا إله إلا الله
بسم الله الرحمن الرحيم
(سؤال): ما قول العلماء الأعلام، أئمة الإسلام، فيمن يقول لا إله إلا الله، ويدعو غير الله، هل يحرم ماله، ودمه بمجرد قولها أم لا؟
(الجواب): وبالله التوفيق، لا إله إلا الله كلمة الإخلاص، وكلمة التقوى، وهي العروة الوثقى، وهي الحنيفية ملة إبراهيم –عليه السلام-، جعلها كلمة باقية في عقبه، وقد تضمنت ثبوت الإلهية له –تعالى-، ونفيها عما سواه، والإله هو الذي تألهه القلوب محبة وإنابة وتوكلاواستعانة ودعاء وخوفا ورجاء ونحو ذلك، ومعنى لا إله إلا الله: أي: لا معبود حق إلا الله، قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}1. قال جل ذكره: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ}2.
فدلت هذه الكلمة العظيمة مطابقة علىإخلاص العبادة بجميع أفرادها لله تعالى، ونفي كل معبود سواه، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ( إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}3 أي: لا إله إلا الله، فأرجع ضمير هذه الكلمة إلى ما سبق منه مدلولها، وهو قوله: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي}4، وهذا هو الذي خلق الله الخلق لأجله، وافترضه على عباده، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب لبيانه، وتقريره، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}5، وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ إِلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ}6 الآية، وقال(49/20)
تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ
__________
1 سورة الحج آية: 62.
2 سورة الرعد آية: 14.
3 سورة الزخرف آية: 26.
4 سورة الزخرف آية: 26.
5 سورة الذاريات آية: 56.
6 سورة الإسراء آية: 23.
ص -120-
نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ}1،
وقال تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ إِلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ}2 قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}3.
والطاغوت كل ما تجاوز به العبد حده من معبود ومتبوع أو مطاع، فمن تحقق مبدأ قول هذه الكلمة العظيمة من إخلاص العبادة لله –تعالى-، والبراءة من عبادة ما سواه بالجنان والأركان، وعمل بما اقتضته فرائض الإسلام والإيمان كان معصوم الدم والمال، ومن رد فلا، قال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}4، فدلت هذه الآية الكريمة على أن عصمة الدم، والمال لا تحصل بدون هذه الثلاث؛ لترتيبها عليها بترتب الجزاء على الشرط.
وفي الصحيح عن أبي مالك الأشجعي عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه، وحسابه على الله تعالى"5 فلا بد لتصحيحها من الإخلاص لله –تعالى-، ونفي الشرك كما قال الله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً}6، وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}7، قال تعالى: {إِنَّا(49/21)
أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}8، ثم شهد عليهم بالكذب والكفر، وأخبر أنه لا يهديهم قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ}9.
وفي المتفق عليه من حديث معاذ -رضي الله تعالى عنه-: "فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا"10 فمن تأله قلبه غير الله، ودعاه
__________
1 سورة الأنبياء آية: 25.
2 سورة هود آية: 1.
3 سورة البقرة آية: 256.
4 سورة التوبة آية: 5.
5 مسلم: الإيمان(23), وأحمد(3/472,6/394).
6 سورة النساء آية: 36.
7 سورة البينة آية: 5.
8 سورة الزمر آية: 2.
9 سورة الزمر آية: 3.
10 البخاري: الجهاد والسير(2856), ومسلم: الإيمان(30), والترمذي: الإيمان(2643), وابن ماجه: الزهد(4296), وأحمد(3/260,5/228).
ص -121-(49/22)
من دون الله فقد أشرك بالله، والله لا يغفر أن يشرك به قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}1 الآية، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}2 وقال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}3.
وفي المتفق عليه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: "قيل: يا رسول الله: أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك"4 وفي رواية لمسلم: "أن تدعو لله ندا"5 الحديث، والله المستعان.
تقبيل يد الصالحين
(السؤال الثاني): عن تقبيل يد السادة المنسوبين لأهل البيت هل يجوز أم لا؟.
(الجواب): لم يكن الصحابة –رضي الله تعالى عنهم- يعتادون ذلك مع رسول الله، ولا مع أهل بيته، ولا شك أنهم أعظم الناس محبة له وتوقيرا؛ وإنما كانوا يعتادون السلام والمصافحة اتباعا لما سنه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بأمره وفعله، فقال: "أفشوا السلام بينكم"6، وصح عنه –صلى الله عليه- وسلم "أنه قيل له: الرجل يلقى أخاه أينحني له ؟ قال: لا. قيل: أيلتزمه، أو يقبله؟ قال: لا. قيل: أيصافحه؟ قال: نعم".
وأما ما ورد أنه لما قدم عليه أصحابه من غزوة، وقد قبلوا يده قالوا: نحن الفرارون قال: بل أنتم العكارون7؛ وأما ما ورد في معنى هذا، فإنما وقع نادرا، وقد جوزه بعض الأئمة كالإمام أحمد –رحمه الله- إذا وقع كذلك لا على وجه التعظيم للدنيا. واشترط بعض الأئمة في ذلك(49/23)
__________
1 سورة الأحقاف آية: 5.
2 سورة فاطر آية: 13.
3 سورة العنكبوت آية: 65.
4 البخاري: الأدب(6001), ومسلم: الإيمان(86), والترمذي: تفسير القرآن(3182,3183), والنسائي: تحريم الدم(4013,4014), وأبو داود: الطلاق(2310), وأحمد(1/434,1/464).
5 البخاري: التوحيد(7532), ومسلم: الإيمان(86).
6 مسلم: الإيمان(54), والترمذي: الاستئذان والآداب(2688), وأبو داود: الأدب(5193), وابن ماجه: المقدمة(68) والأدب(3692), وأحمد(2/391,2/442,2/477,2/495,2/512).
7 كذا في الأصل.
ص -122-(49/24)
أن لا يمد إليه يده؛ ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-. وذهب بعضهم إلى كراهة تقبيل اليد مطلقا كالإمام مالك -رحمه الله-، وقال سليمان بن حرب:هي السجدة الصغرى. هذا إذا لم يفض إلى التعظيم والخضوع وتغيير السنة.
أما إذا اقترن بمثل هذه الأمور التي تدخل في نوع من الشرك والبدع، فلا يجوز أن ينسب إلى أحد من الأئمة تجويزه. قال في زاد المعاد: وأشرف عبودية الصلاة، وقد تقاسمها الشيوخ -يعني من المتصوفة- والمتشبهون بالعلماء والجبابرة: فأخذ الشيوخ أشرف ما فيها، وهو السجود. وأخذ المتشبهون بالعلماء منها بالركوع، فإذا لقي بعضهم بعضا ركع كما يركع المصلي لربه، وأخذ الجبابرة منها القيام فيقوم الأحرار والعبيد على رؤوسهم عبودية لهم، وهم جلوس. فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الأمور الثلاثة على التفصيل؛ فتعاطيها مخالفة صريحة له؛ فنهى عن السجود لغير الله -تعالى- فقال: "لا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد" وأنكر على معاذ لما سجد له، وقال: (مه).
فتحريم هذا معلوم من دينه بالضرورة، وتجويز من جوزه لغير الله مراغمة لله ولرسوله. وهو من أبلغ أنواع العبودية، فإذا جوز هذا المشرك هذا النوع للبشر، فقد جوز عبودية غير الله. وأيضا فالانحناء عند التحية سجود، ومنه قول الله تعالى: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً}1 أي: منحنين، وإلا فلا يمكن الدخول على الجباه. انتهى.
رفع الصوت وقت الخطبة
(السؤال الثالث): عمن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويترضى عن الصحابة -رضي الله عنهم- جهرا، والإمام يخطب يوم الجمعة.
(الجواب): الجهر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والترضي حال الخطبة من غير الخطيب بدعة مخالفة للشريعة، منع منها طوائف من العلماء
__________
1 سورة البقرة آية: 58.
ص -123-(49/25)
سلفا وخلفا، ولهم فيه مأخذان:
(الأول): أنه من محدثات الأمور التي لم تفعل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في عهد أصحابه، ولا في عهد التابعين، ولو كان خيرا سبقوا إليه.
(الثاني): أن الأحاديث ثبتت بالأمر بالإنصات للخطبة، فقد صح من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا قلت لصاحبك -والإمام يخطب يوم الجمعة-: أنصت، فقد لغوت"1.
قال في كتاب الباعث على إنكار البدع والحوادث: إن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم إنما هي دعاء، وجميع الأدعية السنة فيها الإسرار دون الجهر غالبا، قلت: وهذا مأخذ ثالث للمنع؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فالترضي عن الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- دعاء من الأدعية، والمشروع في الدعاء كله المخافتة إلا أن يكون هناك سبب يشرع له الجهر، قال: وأما رفع الصوت بالصلاة، والترضي الذي يفعله بعض المؤذنين قدام الخطباء في الجمع فمكروه، أو محرم.انتهى. والله أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما أملاه الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمهم الله أجمعين.
وقد فرغ من تصحيح هذه النسخة يوم الأربعاء في 16 شهر ربيع الثاني سنة 1333.
__________
1 البخاري: الجمعة(934), ومسلم: الجمعة(851), والترمذي: الجمعة(512), والنسائي: الجمعة(1401,1402), وأبو داود: الصلاة(1112), وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها(1110), وأحمد(2/280), ومالك: النداء للصلاة(232), والدارمي: الصلاة(1548,1549).
ص -124-(49/26)
أجوبة للشيخ عبد الرحمن بن حسن سئل عنها عبد الرحمن بن محمد القاضي
استعمل الماء في الوضوء ولم يدخل يده في الإناء
قال الشيخ الإمام العالم العلامة عبد الرحمن بن حسن بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -أحسن الله لنا ولهم المآب وأدخلنا وإياهم الجنة بغير حساب بمنه وكرمه-:
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فهذا جواب ما سأل عنه الأخ عبد الرحمن بن محمد القاضي -وفقنا الله وإياه لما يحبه ويرضاه.
(السؤال الأول): في قول العلماء -رحمهم الله تعالى-: فلو استعمل الماء، ولم يدخل يده في الإناء لم يصح وضوءه، وفسد الماء إلى آخره.
(الجواب) -وبالله التوفيق-: فساد الماء هنا سلب طهوريته، فما حصل في يده قبل غسلها ثلاثا بنيةٍ من نوم ليل فسد، وإن لم يدخلها الإناء هذا معنى ما جزم به في الإقناع والمنتهى وشرح الزاد، قال الشيخ عثمان في حاشية المنتهى: ومعنى قوله: وفسد الماء: أي: الذي حصل في يده، وهو مبني فيما يظهر على القول بأن حصوله في بعضها كحصوله في كلها كما اختاره جمع، أما على الصحيح، فينبغي صحة الوضوء، ونحوه حيث لم يحصل في جميع اليد. انتهى.
وهو مفرع على ما هو الصحيح من المذهب أن غسلهما لمعنى فيهما، وقال في الشرح: وذكر أبو الحسن رواية أنه لأجل إدخالها الإناء فيصح وضوؤه، ولم يفسد الماء إذا استعمله من غير إدخال. انتهى.
ص -125-(49/27)
نية الغسل لا يرتفع بها الحدث
(الثاني): إذا كان على الشخص موجب للغسل، ونوى الغسل، فهل يرتفع ما دونه إلى آخره؟.
(الجواب): نية الغسل لا يرتفع بها الحدث لكونها ليست من الصور المعتبرة في الطهارة، وسنذكرها –إن شاء الله تعالى- وقول السائل: أم لا بد من التخصيص بالفعل، أو بالنية، أو بهما، قول لا معنى للتخصيص بالفعل هنا دون نية أصلا، والصور المعتبرة في الغسل ست:
نية رفع الحدث الأكبر، نية رفع الحدثين، نية رفع الحدث، ويطلق نية استباحة أمر يتوقف على الوضوء والغسل معا، نية أمر يتوقف على الغسل وحده، نية ما يسن له لغسل ناسيا للواجب، ففي هذه كلها يرتفع الأكبر، ويرتفع الأصغر أيضا فيما عدا الأولى والأخيرتين، أفاده الشيخ عثمان قلت: واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- أنه يرتفع الأصغر في الأولى أيضا.
وهذه الست يتأتى نظيرها في الأصغر، ويزيد بأنه يرتفع إذا قصد بطهارته ما تسن له الطهارة ذاكرا الحدث، فافهم الفرق بين البابين فإنه مهم جدا، والله أعلم، قاله الشيخ عثمان.
غسل اليد بنية القيام من الليل أو من الجنابة
قال السائل: وهل يكفي غسل اليد بنية القيام من نوم الليل أو من الجنابة عن الآخر أم لا؟.
(الجواب): النية هنا ليست مرادة للقيام، وإنما تراد لأجل النوم، فافهم. ولا يكفي نية غسلهما من نوم الليل عن الجنابة كالعكس على الأصح فيه، لأنهما أمران مختلفان فيعتبر لكل منهما نيته، أما على الوجه الثاني، وهو أن غسلهما من النوم لا يفتقر إلى نية، فيجزي عند نيته الحدث الأكبر، وكذا على قول الجمهور: إنه لا يجب غسلهما من نوم الليل بل يستحب. وقوله أو الأعلى يرتفع به الأدنى جوابه يظهر مما قبله.
وقوله: وما الأعلى منهما؟
ص -126-(49/28)
أقول: اتفقوا على أن ما يوجب الوضوء وحده يسمى أصغر، وما يوجب الغسل يسمى أكبر، ونصوا على أن الحدث الأصغر يقوم بالبدن كله، ويرتفع بغسل الأعضاء الأربعة بشرطه، فكيف يقال: إن غسل اليدين من نوم الليل أكبر مع كونه خاصا بالكفين، على أنه مختلف في وجوبه. والقائلون بالوجوب لم يسموه حدثا، فافهم. وقوله: وهل يكفي أحد اليدين؟
فالجواب: إن الذي مشى عليه العلماء –رحمهم الله تعالى- أن هذا الحكم يتعلق باليدين معا، فلا تختص به اليمنى دون الشمال مع أن الوارد في الحديث الإفراد، فلنذكر الحديث ببعض ألفاظه منسوبا إلى مخرجيه –إن شاء الله تعالى-. فأقول: أخرجه الإمام مالك والشافعي وأحمد والبخاري ومسلم وأهل السنن وغيرهم-رحمهم الله تعالى- من حديث أبي هريرة مرفوعا: "إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها في وَضوء، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده"1، هذا لفظ مالك والبخاري، وللشافعي نحوه، وللنسائي: "فلا يغمس يده في وضوئه حتى يغسلها ثلاثا"2 وله والدارقطني: "فإنه لا يدري أين باتت يده"3 وللدارمي: "في الوضوء" ولأبي داود: "إذا استيقظ أحدكم من الليل"4، وكذا للترمذي وفي الباب عن جابر، وابن عمر -رضي الله عنهم.
ووجه تعميم اليدين بهذا الحكم، والله أعلم لكونه مفردا مضافا، وهو يعم، وهو ظاهر على ما ذهب إليه الإمام أحمد-رحمه الله تعالى- تبعا لعلي، وابن عباس -رضي الله عنهم- والمحكي عن الشافعية، والحنفية خلافه، ذكره في القواعد الأصولية، فعلى قولهم لا يظهر لي وجهه، والله أعلم..
خصائص يوم الجمعة
(الثالث): ما ورد في يوم الجمعة من الخصائص، هل يختص بما قبل الزوال أم لا، مثل قراءة سورة الكهف وغيرها؟ لو قال: قبل الصلاة كان أولى.(49/29)
__________
1 البخاري: الوضوء(162).
2 مسلم: الطهارة(278), والنسائي: الطهارة(1), وأبو داود: الطهارة(105), وأحمد(2/241,2/471), والدارمي: الطهارة(766).
3 البخاري: الوضوء(162).
4 الترمذي: الطهارة(24), والنسائي: الغسل والتيمم(441), وابن ماجه: الطهارة وسننها(393).
ص -127-
والجواب): خصائص الجمعة على ثلاثة أضرب:
الأول: محله قبل الصلاة كالاغتسال والطيب ولبس أحسن الثياب، وتأكد السواك، ومنع من تلزمه الجمعة إذا دخل وقتها من السفر، ونحو ذلك.
الثاني: ما لا يختص بما قبل الصلاة كاستحباب كثرة الصلاة على النبي –صلى الله عليه وسلم-، ومزية الذكر، والصدقة، ونحو ذلك.
الثالث: متردد بينهما بحسب ما ورد كقراءة سورة الكهف، وساعة الإجابة. فأما قراءة سورة الكهف فورد في قراءتها ما يقتضي أن ليلة الجمعة كيومها محلا لحصول الفضل الوارد لما اقتضاه مجموع هذه الآثار، فروى الدارمي عن أبي سعيد موقوفا: "من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق". ومنها ما يقتضي تخصيصه باليوم كما روى أبو بكر ابن مردويه في تفسيره من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي-صلى الله عليه وسلم-: "من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة سطع له نور من تحت قدمه إلى عنان السماء يضيء له يوم القيامة، وغفر له ما بين الجمعتين".
قال الحافظ المنذري: إسناده لا بأس به، وقال ابن كثير: في رفعه نظر، وذكر في المغني عن خالد بن معدان: "من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة قبل أن يخرج الإمام كانت له كفارة ما بين الجمعة، وبلغ نوره البيت العتيق"1 وظاهر كلام الفقهاء أنه كالذي قبله لا يختص بما قبل الصلاة.
أما ساعة الإجابة ففيها أقوال تزيد على ثلاثين ذكرها ابن حجر في الفتح، والجلال السيوطي في شرح الموطأ. وذكر العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى- كثيرا منها، ثم قال: وأرجح الأقوال فيها قولان(49/30)
تضمنتهما الأحاديث الثابتة، أحدهما أرجح من الآخر: الأول: أنها ما بين جلوس الإمام إلى انقضاء الصلاة، رجحه البيهقي، وابن العربي، والقرطبي، وقال
__________
1 الدارمي: فضائل القرآن(3407).
ص -128-
النووي: إنه الصحيح أو الصواب. قال ابن القيم: الثاني: أنها بعد العصر، وهذا أرجح القولين، وهو قول عبد الله بن سلام، وأبي هريرة، والإمام أحمد، وخلق، وساق ما يدل على ذلك كحديث عبد الله بن سلام، ثم قال: وهذا القول هو قول أكثر السلف، ويليه القول بأنها ساعة الصلاة، وبقية الأقوال لا دليل عليها. انتهى ملخصا..
وقال المحب الطبري: إن أصح الحديث فيها حديث أبي موسى في مسلم، وأشهر الأقوال فيها قول عبد الله بن سلام.قال ابن حجر: وما عداهما إما ضعيف الإسناد، أو موقوف استند صاحبه إلى اجتهاد دون توقيف. انتهى. والله أعلم.
وأما حديث: "من مس الحصى فقد لغا"1 فرواه مسلم في صحيحه، وليس فيه: "ومن لغا فلا جمعة له"2 ولفظه "من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة، فاستمع وأنصت، غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام، ومن مس الحصى فقد لغا"3، لكن روى الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- في مسنده من حديث علي: "ومن قال لصاحبه: صه! فقد تكلم، ومن تكلم فقد لغا، ومن لغا فلا جمعة له"4 قال النووي في شرح حديث مسلم: فيه النهي عن مس الحصى وغيره من أنواع العبث في حال الخطبة، وفيه إشارة إلى إقبال القلب والجوارح على الخطبة. انتهى، وهو واف بالمقصود والله أعلم..
شهادة العدل برؤية هلال ذي الحجة
الرابع: إذا شهد شاهد عدل برؤية هلال ذي الحجة، ولم يُرَ ليلة إحدى وثلاثين إلى آخره.
الجواب: إن الذي نص عليه العلماء -رحمهم الله- أن الناس إذا وقفوا(49/31)
__________
1 مسلم: الجمعة(857), والترمذي: الجمعة(498), وأبو داود: الصلاة(1050), وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها(1090), وأحمد(2/424).
2 أبو داود: الصلاة(1051), وأحمد(1/93).
3 مسلم: الجمعة(857), والترمذي: الجمعة(498), وأبو داود: الصلاة(1050), وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها(1090), وأحمد(2/424).
4 أبو داود: الصلاة(1051), وأحمد(1/93).
ص -129-
الثامن أو العاشر خطأ أجزأهم، نص عليه الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- دليله حديث أبي هريرة مرفوعا "فطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون"1.
ورواه أبو داود والدارقطني، وروي أيضا من حديث عائشة مثله، قال الخطابي في معالم السنن: معنى الحديث أن الخطأ موضوع عن الناس فيما سبيله الاجتهاد، فلو أن قوما اجتهدوا فلم يروا الهلال إلا بعد الثلاثين، فلم يفطروا حتى استوفوا العدد؛ ثم ثبت أن الشهر كان تسعا وعشرين، فإن صومهم وفطرهم ماض. وكذلك هذا في الحج إذا أخطؤوا يوم عرفة فإنهم ليس عليهم إعادة وتجزئهم ضحاياهم.
غيَّر الطريق النافذ مسجدا
(الخامس): إذا غير الطريق النافذ مسجدا، فهل هو جائز أم لا؟ إلى آخره.
(الجواب): أن الذي رأينا من كلام العلماء-رحمهم الله تعالى- كصاحب الإنصاف وغيره، أنه لا يجوز البناء في طريق نافذ مطلقا، قال في المغني والشرح: لا نعلم فيه خلافا، قال شيخ الإسلام في الفتاوى المصرية: لا يجوز لأحد أن يخرج في طريق المسلمين شيئا من أجزاء البناء حتى إنه يُنْهى عن تجصيص الحائط إلا أن يدخل في حده بقدر الجص. انتهى. فعلى هذا يكون مغصوبا لا تصح الصلاة فيه.
صلى بجماعة وبعد فراغه رأى في ثوبه أو بدنه نجاسة
(السادس): إمام صلى بجماعة، وبعد فراغه رأى في بقعته أو ثوبه أو بدنه نجاسة فما حكم صلاته وصلاة من خلفه... إلى آخره.
الجواب: أما حكم صلاته فعدم الصحة على الصحيح من المذهب، لأن اجتناب النجاسة شرط للصلاة فلم(49/32)
تسقط بالنسيان، ولا بالجهل كطهارة الحدث. وعن الإمام –رحمه الله- أنها تصح إذا نسي، أو جهل قال في الإنصاف: وهي الصحيحة عند أكثر المتأخرين، اختارها المصنف والمجد والشيخ تقي
__________
1 الترمذي: الصوم(697), وأبو داود: الصوم(2324), وابن ماجه: الصيام(1660).
ص -130-
الدين، لكن قال الشيخ: الروايتان في الجاهل، أما الناسي فليس عن الإمام نص فيه قال في الإنصاف: والصحيح أن الخلاف جارٍ في الجاهل والناسي، قاله المجد، وحكى الخلاف فيهما أكثر المتأخرين والله أعلم. وأما المأموم فصلاته صحيحة.
إخفاء اللقطة وأخذ الجعل على ردها
(السابع): فيمن التقط لقطة وكتمها فأنشدها صاحبها، وأخرج عليها جعلا فأخذ الملتقط الجعل، وأخرج اللقطة... إلى آخره؟.
الجواب: إن هذه لُقطة، ويكون آثما بتركه التعريف، وحكمه حكم الغاصب فلا يستحق شيئا أصلا. والجعالة قد عرفها الفقهاء –رحمهم الله تعالى- بأنها جعل شيء معلوم لمن يعمل له عملا، فمن فعله بعد أن بلغه الجعل استحقه، وفي أثنائه استحق حصة تمامه، ومن فعله قبل ذلك لم يستحقه، وحُرم أخذه. انتهى من التنقيح ملخصا، وبه يحصل الجواب.
الإشهاد على استئذان البكر
(الثامن): إذا قال ولي البكر: استأمرتها فلم تتكلم، وشاهد الحال قد قرر ذلك، وعملوا له عمله، فهل يكفي أم لا بد من الإشهاد؟
الجواب: لا يشترط للبكر النطق لحديث: "وإذنها صماتها"1، والإشهاد على استئذانها لا يشترط بل يستحب، لكن لو أنكرته قبل الدخول، فالقول قولها وبعده لا يقبل. وأما الإشهاد على العقد فيشترط لصحة النكاح، وأدلة ذلك معروفة في كتب الحديث والفقه، والله أعلم وصلى الله على محمد.
أملاه الفقير إلى الله عبد الرحمن بن حسن.(49/33)
__________
1 مسلم: النكاح(1421), والترمذي: النكاح(1108), والنسائي: النكاح(3260,3261), وأبو داود: النكاح(2098), وأحمد(1/219,1/241), ومالك: النكاح(1114), والدارمي: النكاح(2188,2189).
ص -131-
حكم الخروج إلى البادية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وإمام المتقين نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه والتابعين وسلم تسليما.
أما بعد:
فهذا جواب ما سأل عنه الأخ من السؤالات،أما (السؤال الأول) فهو: ما حكم الخارج إلى ماله في البادية لأجل إصلاحه، ونيته الرجوع إلى بلده وهل يكون عاصيا أم لا؟
(الجواب) وبالله التوفيق: إن الذي نعتقده، وندين الله به في هذه المسائل وغيرها من أصول الدين وفروعه هو ما عليه سلفنا الصالح وعلماؤنا المحققون من الاعتقاد الصحيح لا نخرج عما قالوه واعتقدوه؛ لأنهم على أصل عظيم، وصراط مستقيم، ومنهج واضح سليم؛ فحسبنا أن نسير على منهاجهم ونقتفي آثارهم، وبالله العصمة والتوفيق.
فأما مسألة الخارج من دار هجرته بعدما نزل لأجل تصليح ماله، ونيته الرجوع إلى بلده هل يكون عاصيا؟
(فالجواب): هذا الخارج لا يطلق عليه أنه عاصٍ لله، ولا يدخل في حكم الوعيد المرتب على من تعرب بعد الهجرة بل يُحب، ويوالى لأن خروجه ليس معصية؛ فيعامل بما يعامل به من لم يخرج من بلده لأنه من جملة المهاجرين، وليس له نية إلا الرجوع إلى وطنه والهجرة مع إخوانه؛ فلا يحكم عليه بردة، بل ولا بمعصية.
باع بيته وخرج إلى البادية وليس من نيته الرجوع
(وأما المسألة الثانية): وهي ما حكم الذي باع بيته، وخرج إلى البادية، وليس من نيته الرجوع والسكنى، وهو ثابت على ما هو عليه من الإسلام، والتزام شرائعه ومحبة المسلمين، لكن محبته لصيرورته مع البادية.
ص -132-(49/34)
(فالجواب): أن هذا يكون مرتكبا معصية، ومتعربا بعد هجرته، وهو داخل في حكم الحديث الذي رواه ابن أبي حاتم عن علي -رضي الله- عنه لما عد الكبائر قال: التعرب بعد الهجرة، وفراق الجماعة - يعني جماعة المسلمين -، ونكث الصفقة - يعني نكث بيعة الإمام-؛ فجعل التعرب بعد الهجرة من الكبائر، ولكن لا يكون خروجه وتعربه كفرا ولا ردة، بل هو مسلم عاص يوالى ويحب على ما معه من الإيمان، ويبغض على ما معه من المعصية؛ ولا يعامل بالتعنيف، لأنه بتعربه بعد هجرته لا يدخل في حكم المرتدين، ولا يعامل بما يعامل به المرتد.
باع بيته وخرج إلى البادية ويصدر منه مسبة للدين
(وأما المسألة الثالثة): وهي ما حكم الذي باع بيته بعد ما نزله، ثم خرج إلى البادية، ومع ذلك يصدر منه مسبة للدين، وأهل الدين، ويفعل أشياء من المكفرات، وقد قامت عليه الحجة ما حكمه؟
(الجواب): إن هذا إذا كان بهذه الصفة، فهو مرتد قد خرج من الإسلام، ولا ينفعه ما فعله أولا، لأن إقامته عند إخوانه وسماع النصائح والمواعظ وسماع القرآن من أعظم قيام الحجة عليه، لأنه عرف وأنكر. وقد كان سابقا من جملة المسلمين، وإنما رغب عن السكنى، وفعل ما فعل من المسبة وغيرها لخبث في قلبه؛ فهذا يعادى ولا يوالى، ويبغض ولا يحب، وهجره من الواجبات الشرعية إلا إن حصل منه توبة صادقة، فالتوبة تهدم ما قبلها ولا يحال بينه وبين التوبة، والتوبة معروضة، وبابها مفتوح لمن وفقه الله وهداه.
الهجرة وأنواعها
(المسألة الرابعة): ما يقال في الهجرة من بين ظهراني المشركين من البادية والحاضرة وفضلها؟ وما الواجب منها؟ وما المستحب؟وهل بين بادية نجد وغيرهم كعنزة والظفير ومن والاهم من بادية الشمال
ص -133-(49/35)
ومن جنوب، إلى ما لا يخفى على المسؤول؟
الجواب: الهجرة من واجبات الدين، ومن أفضل الأعمال الصالحة، وهي سبب لسلامة دين العبد وحفظ لإيمانه، وهي أقسام:الأول: هجر المحرمات التي حرمها الله في كتابه وحرمها رسوله –صلى الله عليه وسلم- على جميع المكلفين وأخبر أن من هجرها فقد هجر ما حرمه الله عليه، وقد أخبر –صلى الله عليه وسلم- فيما صح عنه: "المهاجر من هجر ما نهى الله عنه"1 وهذا أمر مجمل شامل لجميع المحرمات القولية والفعلية.
(القسم الثاني): الهجرة من كل بلد تظهر فيها شعائر الشرك وأعلام الكفر، ويعلن فيها بالمحرمات. والمقيم فيها لا يقدر على إظهار دينه والتصريح بالبراءة من المشركين وعداوتهم، ومع هذا يعتقد كفرهم وبطلان ما هم عليه؛ لكن إنما جلس بين ظهرانيهم شحا بالمال والوطن، فهذا عاص ومرتكب محرما، وداخل في حكم الوعيد، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً}2 إلى قوله: {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً}3. فلم يعذر الله إلا المستضعف الذي لا يقدر على التخلص من أيدي المشركين، ولو قدر ما عرف سلوك الطريق وهدايته إلى غير ذلك من الأعذار، وقال صلى الله عليه وسلم "من جامع المشرك أو سكن معه فإنه مثله"4، فلا يقال: إنه بمجرد المجامعة، والمساكنة يكون كافرا بل المراد أن من عجز عن الخروج من بين ظهراني المشركين، وأخرجوه معهم كرها فحكمه حكمهم في القتل، وأخذ المال، لا في الكفر، وأما إن خرج معهم لقتال المسلمين(49/36)
__________
1 البخاري: الإيمان(10), والنسائي: الإيمان وشرائعه(4996), وأبو داود: الجهاد(2481), وأحمد(2/192,2/209).
2 سورة النساء آية: 97.
3 سورة النساء آية: 99.
4 أبو داود: الجهاد(2787).
ص -134-
طوعا واختيارا، وأعانهم ببدنه وماله فلا شك أن حكمه حكمهم في الكفر. ومن الهجرة الواجبة أيضا الهجرة من بين ظهراني الأعراب المتظاهرين بالكفر والشرك، وارتكاب بعض المحرمات، وهو عاجز عن إظهار دينه، ولا قدرة له على الإنكار عليهم؛ فهذا هجرته فرض إذا قدر عليها، فإن تركها مع قدرته واستطاعته، فحكمه حكم من هو في بلدان المشركين المتقدم ذكرهم. فهولاء يعادَوْن، ويُبغضون على ما معهم من المعصية ويحبون ويوالَوْن على ما معهم من أصل الإسلام. وهجر هؤلاء ومن تقدم ذكرهم إذا كان فيه مصلحة راجحة وردع لهم وزجر لأمثالهم، ولم يترتب عليه مفسدة، فهو جائز. والمسافر إليهم مرتكب أيضا حراما فيهجر بقدر ذنبه.
قال علماؤنا: المقيم بين ظهراني المشركين والمسافر إليهم لأجل التجارة مشتركون في التحريم، متفاوتون في العقوبة، فعقوبة المقيم أعظم من عقوبة المسافر، وهجر المقيم أغلظ من هجر المسافر؛ فيعاملون بالهجر والمعاداة والموالاة بحسب ما تقتضيه المصلحة الشرعية.
وأما الهجرة المستحبة، وهي الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام إذا كان مظهرا لدينه، وقد أمن الفتنة على نفسه ودينه فهذا هجرته مستحبة، وكذلك من هو بين ظهراني بعض البوادي الملتزمين لشرائع الإسلام المجتنبين لما حرمه الله عليهم من سفك الدماء ونهب الأموال وغيرها، ولا يوجد عندهم من يجاهر بالمعاصي، فالهجرة حينئذ من بينهم مستحبة، وفيها فضل عظيم، وثواب جزيل لتعلم الخير وإقامة الجمعة وغير ذلك من المصالح التي يعرفها من نور الله قلبه، ورزقه البصيرة.
حال نجد قبل الدعوة وبعدها
(وأما المسألة الخامسة): وهي ما حكم من اتصف بالكفر اليوم وقام به(49/37)
ص -135-
من بادية نجد؟ هل هو كفر أصلي أم طارئ؟ وهل عمهم الإسلام في وقت دعوة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- أم لا؟
الجواب: اعلم يا أخي- وفقني الله وإياك للصواب- أن أهل نجد، باديتهم وحاضرتهم، قبل دعوة شيخ الإسلام، وعلم الهداة الأعلام، مجدد ما اندرس من معالم الإسلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب، في جاهلية جهلاء، وضلالة عمياء، قد اشتدت غربة الإسلام فيما بينهم واستحكمت، وعم الشر وطم، وفشا الشرك وشاع الكفر، وذاع في القرى والأمصار والبادية والحضار. وصارت عبادة الطواغيت والأوثان دينا يدينون به، ويعتقدون في الأولياء أنهم ينفعون ويضرون، وأنهم يعلمون الغيب، مع تضييع الصلاة، وترك الزكاة وارتكاب المحرمات. ولم يوجد من ينكر ذلك؛ نشأ عليه الصغير وهرم عليه الكبير.
فشرح الله صدر إمام الدعوة الإسلامية الشيخ محمد -رحمه الله- فدعا الخلق إلى دين الله، وعرفهم حقيقة العبادة التي خلقوا لها وأمروا بها ودعت إليها الرسل فقاموا له عن ساق العداوة، فعارضوه وصادموه، العلماء منهم والأمراء، وسعوا بالتهييج عليه عند القريب والبعيد ولم يبقوا ممكنا. فعند ذلك ثبته الله، وصبر على أعباء الدعوة ومكابدة من عارضه، ولم يعبأ بمن خالفه لأنه قام مقام نبوة لأن حقيقة ما دعا إليه هي دعوة الرسل من أولهم إلى آخرهم. فأعانه على هذه الدعوة والقيام بها، وتحمل عداوة القريب والبعيد وأواه، ونصره الإمام محمد بن سعود وأولاده وإخوانه، فعاضدوه –رحمهم الله- فثبتهم الله، وقوى عزمهم. وبادأهم من بادأهم بالعدواة والقتال وألبوا عليهم؛ فما ثنى عزمهم ولا تضعضعوا، فأظهرهم الله عليهم، وخذل جميع من ناوأهم. فدخل
ص -136-(49/38)
كافة أهل نجد والجزيرة من البادية والحاضرة تحت ولايتهم، والتزموا ما دعوا إليه ودانوا به. ولم يوجد في نجد من البادية والحاضرة من لم يدخل في هذا الدين ولم يلتزم شرائعه؛ بل شملتهم الدعوة الإسلامية والتزموا أحكام الإسلام وواجباته. وأقاموا على ذلك مدة سنين في أمن وعافية وعز وتمكين، وبنودهم تخفق شرقا وغربا جنوبا وشمالا، حتى دهمهم ما دهمهم من الحوادث العظام، التي أزعجت القلوب وزلزلتهم من الأوطان، عقوبة قدرية سببها ارتكاب الذنوب والمعاصي، لأن من عصى الله، وهو يعرفه سلط عليه من لا يعرفه، والفتنة التي حلت بهم هي فتنة العساكر التركية والمصرية، فانتثر نظام الإسلام، وشتت أنصاره وأعوانه، وارتحلت الدولة الإسلامية، وأعلن أهل النفاق بنفاقهم، فرجع من رجع إلى دين آبائه وإلى ما كان سابقا من الشرك والكفر، وثبت من ثبت على الإسلام، وقام بهم من أمور الجاهلية أشياء لا تخرج من ثبت منهم عن الإسلام.
إذا تبين لك، هذا فاعلم أن الكفر الموجود في أعراب نجد الذين قد دخلوا في الإسلام سابقا إنما هو كفر، طارئ، لا كفر أصلي، فيعامل من وجد منه مكفر بما يعامل به أهل الردة، ولا يحكم عليهم بعموم الكفر؛ لأنه يوجد فيهم من هو ملتزم لشرائع الإسلام وواجباته.. وأما من ظاهره الإسلام منهم، ولكن ربما قد يوجد فيهم من الكفر العملي الذي لا يخرج من الملة، وفيهم شيء من أمور الجاهلية ومن أنواع المعاصي، صغائر كانت أو كبائر، فلا يعاملون معاملة المرتدين، بل يعاملون بالنصح برفق ولين، ويبغضون على ما معهم من هذه الأوصاف.
وليعلم أن المؤمن تجب موالاته ومحبته على ما معه من الإيمان، ويبغض
ص -137-(49/39)
ويعادى على ما معه من المعاصي، وهجره مشروع إن كان فيه مصلحة وزجر وردع، وإلا فيعامل بالتأليف وعدم التنفير، والترغيب في الخير برفق ولطف ولين، لأن الشريعة مبنية على جلب المصالح ودفع المضار، والله ولي الهداية.
وبالجملة فهذا الذي نعتقده وندين الله به في هذه المسائل المذكورة وغيرها، فمن نقل عنا خلاف ذلك، وتقول علينا ما لم نقل، فحسابه على الله الذي عنده تنكشف السرائر، وتظهر مخبتآت الصدور والضمائر، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وصلى الله على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه وسلم. قال ذلك ممليه الفقير إلى الله راجي رحمة ربه وعفوه محمد بن عبد اللطيف وذلك في 20 رجب سنة 1336.
انتهى الكتاب والحمد لله.
ص -138-(49/40)
البراهين الإسلامية في رد الشبهة الفارسية - عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن (1)
الناشر:
مكتبة الهداية
الطبعة الأولى 1410هـ _ 1989م
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله أوضح الحق بدليله.
ونور بصيرة من أراد سبيله وبعد:
فإن رسالة البراهين الإسلامية في رد الشبهة الفارسية بقلم مشعل الهداية ورائد التدليل لأقوم سبيل العلامة الشيخ/عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ/قد أعرب مؤلفها بفصيح اللسان وساطع التبيان أن العبودية لله وحده حبا وتعظيما وذلا وانكسارا وأن الوثنية المحبوكة باسم حب الأولياء وقداسة الصالحين ما هي إلا نافذة على ما كان عليه أبو جهل وأضرابه الذين قال الله عنهم إنهم قالوا {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}(1).
والشيخ عبد اللطيف في ردوده بقرن الدليل بالتعليل والأسلوب الدعوي بالمنطق الجدلي وزيادة في التحقيق قام أخونا الفاضل الشيخ محمد عارف بن عثمان الهرري الأرومي بنسخ الرسالة من أصلها وتخريج الآيات والأحاديث والآثار الواردة فيها مع إضافة ما استحسنه مما هو شاهد للباب.
وقد أعنته على ذلك بالدعاء وبذل الوسع في إخراج الرسالة ضمن ما تنشره مكتبة دار الهداية وغايتنا في ذلك نيل المراد بعفو رب العباد والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون وحسبنا الله وكفى نعم المولى ونعم النصير.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
كتبه إسماعيل بن سعد بن عتيق
15/5/1409
__________
(1 ) سورة الزمر: من الآية رقم 3.
ص -3-(50/1)
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الرسالة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونتوب إليه ونستغفره ونتوكل عليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن ترسم خطاهم إلى يوم الدين وبعد.
فإن هذه الرسالة القيمة النافعة التي ألفها العالم الجليل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب قد قطعت أصول الشرك واجتثت جذوره حيث كاد الباطل يجول ويصول
ليغرس شجرة خبيثة ترسخ عروقها في قعر الأرض وتمتد فروعها في السماء لتثمر ثمارا مسمومة هالكة،ولكن الله سبحانه وتعالى كفى عباده المؤمنين شرورها وأضرارها حيث وفق هذا العالم النحرير بقلعها وقوي عزمه وشد أزره ليستأصلها من جذورها إنجازا لوعده بقوله:{ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ}(1) وذلك أن رجلا ينسب إلى فارس- كما ذكره المؤلف-أراد أن يهدم الأسس المتينة التي أحكمها الباري وأتقن بناءها وأرسى قواعدها في أغوار أراضي الفطرة وأعماق قلوب البرية بالحب والذل له والطاعة في السر والعلانية، وأنزل الكتب وأرسل
__________
(1 ) سورة إبراهيم: الآية رقم 26.
ص -5-(50/2)
الرسل لهذا الغرض العظيم وهو تجريد العبادة لله وإخلاص الدين له والتبري عن عبادة غيره وتخصيص المعبود الواحد خالق الخلق رب العالمين بالدعاء والطلب والقصد والرجاء والرغبة والرهبة والمحبة والتوكل في نيل المرغوب وحصول المطلوب ودفع المرهوب وإنقاذ الملهوف المكروب دون غيره من الآلهة الباطلة التي يعبدها المشركون من دونه.
وأجاز هذا الضال المضل أن يصرف جميع ذلك لغيره تعالى في جلب الخير وسلب الضير، ولذلك لا يشك المؤمن الذي أنار الله بصيرته أن ما قام به هذا الشخص المذكور معول هدام استعمله لهدم هذا الركن الوثيق لولا عنايته لدينه الحنيف وحفظه له من أن يناله التبديل والتحريف والتغيير تصديقا لوعده حيث قال:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}(1) إنكاره لما دعا إليه القرآن والسنة المطهرة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وسلف هذه الأمة وأجمعت عليه الأئمة الأعلام ومصادم للعقل الصريح والنقل الصحيح إذ عدل المخلوق بالخالق الرازق وسوى العاجز الفاتر بالقادر القاهر سبحانه وتعالى عما يشركون فكفر بذلك برب العالمين، قال تعالى منزها نفسه المقدسة عن النقائص ومثنيا عليها بصفات الجلال والجمال ونعوت المدح والكمال:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}(2).
وقال تعالى حاكيا عن شجار وخصام أهل النار فيها حيث يتبرأ العابدون عن المعبودين الذين عبدوهم في الدنيا من دون الله: {وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَمَا(50/3)
أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ}(3).
وقد تجرأ هذا الجاحد المعاند على ترويج الزيغ والزيف والضلال وغارفي عمق الإلحاد وبالغ في ترويج الخرافات والشرك والعناد حيث حاول أن
__________
(1 ) سورة الحجر: آية رقم 9.
(2 ) سورة الأنعام: آية رقم 1.
(3 ) سورة الشعراء: من الآية رقم 92 إلى 99.
ص -6-
يمنح العباد ما هو خالص لرب العباد وقرر أن غيره تعالى يعلم الغيب ويتصرف في الكون وينجد الملهوف وينقذ المكروب من الكرب الذي نزل به، وبذلك صرف لغيره تعالى حقه الخاص به، وساق أدلة من الكتاب والسنة على ذلك التي تدل على فراغ جعبته من فهم الشريعة وعلى جهله المركب حيث ظن أن هذه الأدلة التي استدل بها حجة له لا عليه ولم يدر هذا المسكين أنها شاهدة على بعده عن الحق والصواب وعمقه في الغي والضلال حيث يعتبر هذا التبجح منه جحودا لما نطق به القرآن وقام عليه البرهان من تفرده تعالى بعلم الغيب قال تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}(1) ونحو هذه الآية الكريمة كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تخص الباري بعلمه الغيب و تنفي ذلك عن غيره نفيا قاطعا إلا ما يعلمه أنبياءه بطريق الوحي مما استثناه الخالق من هذا العلم الخاص به مثل قوله تعالى:{وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ}(2) وقوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ}(3) الآية.
ولا شك أن هذا الكلام الذي كتبه هذا الشخص حول هذه الشبهة التي غرق فيها يدل على مرض قلبه إذ علامة مرض القلب عدوله عن الأغذية النافعة الموافقة إلى الأغذية الضارة،وعدوله عن دوائه النافع إلى دوائه الضار.
فهنا أربعة أشياء:
غذاء نافع، ودواء شاف، وغذاء ضار، ودواء مهلك.
والقلب(50/4)
الصحيح يؤثر النافع الشافي على الضار المؤذي،والقلب المريض بضد ذلك، وأنفع الأغذية غذاء الإيمان، وأنفع الأدوية دواء القرآن، وكل منهما فيه الغذاء والدواء، فمن طلب الشفاء في غير الكتاب والسنة فهو من أجهل الجاهلين وأضل الضالين، قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ
__________
(1 ) سورة النمل: رقم السورة 65.
(2 ) سورة البقرة: من الآية 255.
(3 ) سورة الجن: الآية 26-27.
ص -7-(50/5)
شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً}(1).
فالقرآن هو الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبدنية وأدواء الدنيا والآخرة وما كل أحد يؤهل للاستشفاء به،وإذا أحسن العليل التداوي به ووضعه على دائه بصدق وإيمان وقبول تام واعتقاد جازم واستيفاء شروطه لم يقاومه الداء أبدا وكيف تقاوم الأدواء كلام رب العالمين الذي لو نزل على الجبال لصدعها أو على الأرض لقطعها؟
فما من مرض من أمراض القلوب والأبدان إلا في القرآن سبيل الدلالة على دوائه وسببه و الحمية منه لمن رزقه الله فهما في كتابه.
ولكن هذا المردود عليه لم يهتد بهديه ولم يستضيء بنوره بل أراد أن يحمله ما لم يحتمله وضل سواء السبيل حيث ادعى أن غيره تعالى يعلم الغيب مما نفاه القرآن عمن سواه وزعم أن دليل ذلك من القرآن والحديث ولا شك أن ما ذكره حجه عليه لا له.
وانطبق عليه المثل "حفرت الشاة بظفلها السكين بحثها حتفها" وهو مثل يضرب لمن يؤديه اجتهاده في الأمر إلى هلاك نفسه والقضاء عليها من حيث لا يشعر ذلك وهذا جزاء من كابر صريح العقل وصحيح النقل و عادى الحق ووالى الباطل ونصر البدعة وحارب السنة حتى أدى به الأمر إلى دعواه علم الغيب لغيره جل وعلا وجحد بذلك ما هو معلوم من دين الإسلام بالضرورة {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}(2).
3-وزعم أيضا أن الأولياء و الصالحين لهم تصرفات في الكون في الحياة وبعد الممات ينفعون ويضرون ويعطون ويمنعون ويقصدون من دون الله في جلب الخير ودفع الضير وقضاء الحاجات وكشف الملمات ويسمعون نداء المنادي بهم ويجيبون صيحتهم وقد أبعد بذلك في الضلال وأعمق في بحور الشرك وجاوز الحد وجعل لله الشريك والند في تصريف الأحوال وتدبير الأمور وإعطاء المطالب وكشف المثالب مما هو حق خالص لله، وقد أشرك(50/6)
__________
(1 ) سورة الإسراء: رقم الآية 82.
(2 ) سورة يونس: رقم الآية 32.
ص -8-
عباده معه في تصريف الكون وجحد بذلك توحيد الربوبية الذي أقره المشركون والكفار والخليقة جمعاء والذي لم يحصل النزاع فيه بين جميع الطوائف قط، ولاشك أن ذلك يعتبر جحودا للصانع المدبر الحكيم الخالق الرازق المحيي المميت رب العالمين الذي لم يجحد به العقلاء حتى الفلاسفة إلا طائفة شذت ونهجت نهجه وإلا فرعون الطاغية الذي ادعى الربوبية مما حكى عنه القرآن حيث قال:{أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}(1)وادعى كذلك الألوهية حيث تبجح وقال:{مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}(2) الآية وقال أيضا: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ}(3) ولكن الله انتقم منه وعاقبه على هذا الادعاء حيث أخبر ذلك بقوله: {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى}(4) {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ}(5)، {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ}(6).
وهكذا كل من سلك هذا المسلك الإلحادي الذي سلكه فرعون ومن كان على شاكلته سيلقى جزاءه ويذوق وبال أمره إن عاجلا أو آجلا وله عذاب أليم في الدنيا والآخرة.
وقد بين الله سبحانه وتعالى إقرار الجميع بهذا النوع من التوحيد حيث أنزل الآيات التي قررت ذلك بوضوح لا يخالطه أي لبس قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ(50/7)
فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}(7).
ومن هنا نعرف تماما أن الذين عبدوا غير الله من المشركين الأولين لم يعبدوهم إلا ليكون هؤلاء المعبودون وسطاء بينهم وبين الله في رفع طلبهم إلى الله كما حكى الله عنهم ذلك بقوله:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ
__________
(1 ) سورة النازعات: من الآية 24.
(2 ) سورة القصص: من الآية 38.
(3 ) سورة الشعراء: من الآية 29.
(4 ) سورة النازعات: الآية 25-26.
(5 ) سورة القصص: رقم الآية 40.
(6 ) سورة الأعراف: رقم الآية 136.
(7 ) سورة يونس: الآية 31-32.
ص -9-(50/8)
اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ}(1).
ولم يوجد من بينهم من صرف خالص الحب والذل والخضوع والعبادة والطلب والقصد والخوف والرجاء لغيره ولم يشركوا مع الله أحدا في الربوبية والخالقية والرازقية بل كان شركهم في العبادة والقصد والطلب والخوف والرجاء حتى أنهم لم يخلصوا ذلك لآلهتهم بل أشركوا الله معهم في ذلك كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ}(2) الآية.
ولقد كرر الحق سبحانه وتعالى ذكر توحيد الربوبية في مواضع كثيرة من كتابه إقامة للبراهين الساطعة والدلائل الواضحة والحجج المقنعة على وحدانيته ووجوب عبادته وطاعته وحبه والذل والخضوع له ووجوب الكفر بما يعبد من دون الله والبراءة منه عما سواه.
ومعنى هذا الكلام:أنتم أيها العقلاء من الإنس والجن إذا اعترفتم وأقررتم أن الله هو الخالق الرازق المدبر المحيي المميت والمعطي المانع يعطي ويمنع ويعز ويذل ويقدر على كل شيء ويعلم كل شيء لا يعزب عن علمه مثقال حبة من خردل،إذا اعترفتم أن جميع ما في الكون علويه وسفليه ملكه وخلقه يدير كيف يشاء لا معقب لحكمه فهذا الإقرار والاعتراف يوجب عليكم أن تخصوه بالعبادة والحب والذل والخوف والرجاء والرغبة والرهبة فاعبدوه ولا تشركوا به شيئا تسعدوا في الدنيا والآخرة فإن أبيتم تخصيصه بذلك فلا نجاة لكم في الدنيا والآخرة لأنكم معاندون ومكابرون وكاذبون فيما أقررتم به من توحيد الربوبية الذي يستلزم توحيد الألوهية لأن توحيد الربوبية دليل على توحيد الإلهية والعبادة والقصد ووسيلة له.
قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا(50/9)
غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ}(3).
__________
(1 ) سورة الزمر: رقم الآية 3.
(2 ) سورة البقرة: رقم الآية 165.
(3 ) سورة الأعراف: الآية 172-173.
ص -10-
والمشار إليه في اسم الإشارة في قوله تعالى: {إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ}(1) هو توحيد الألوهية المدلول عليه بتوحيد الربوبية الذي هو غاية له،والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم"يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة:أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتديا به.قال فيقول نعم فيقول:قد أردت منك أهون من ذلك قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك بي" رواه البخاري ومسلم وأحمد.
فإذا صرف هذا الفارسي توحيد الربوبية الذي وحد الله به جميع الخلائق ولم يقع الخصام فيه فإذا صرف هذا للمشايخ والأولياء والصالحين فما باله في توحيد الألوهية الذي أبى أن يقره المشركون ورفضوه والذي أوجب الله الجهاد لتقريره وأرسل الرسل وأنزل الكتب له وهو أشد عنادا وجحودا في هذا النوع من التوحيد حيث أنه صرح أن الأولياء والمشايخ والصالحين يقصدون لقضاء الحاجات وكشف البليات سبحان الله ما أعظم هذا الشرك وأقبحه وما أجهل من اعتقد هذا الاعتقاد وأغفله ولا حول ولا قوة
إلا بالله.
4-وكذلك رمى من أخلص الدعاء والتوجه والقصد والرجاء والخوف لله وحده لا شريك له وتبرأ عما سواه في جميع ذلك بالاعتزال جهلا منه بأصول المعتزلة ومذاهبهم وعقائدهم وقد انقلب رأسا على عقب حيث لم يفرق بين الغث والسمين.
5-كما قرر أيضا بجواز الاستمداد من أهل القبور وقطع بسماعهم في القبور من يناديهم في طلب قضاء الحوائج وإسعاف الفواجع وجزم كذلك أنهم يتصرفون ويدبرون الكون في قبورهم وأن تدبيرهم وتصريفهم وإغاثتهم لقاصديهم(50/10)
أتم وأقوى من حال حياتهم، ومن هنا نعرف أن هذا المبتدع لم يترك شيئا مما هو خالص حق الله إلا صرف لهؤلاء الأموات الذين هم في أمس الحاجة على الترحم عليهم والاستغفار لهم والدعاء لهم بالعفو والرحمة.
كما أرشد الله عباده المؤمنين إلى ذلك بقوله:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ
__________
(1 ) سورة الأعراف: من الآية 172.
ص -11-
بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}(1)، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين و الحمد لله رب العالمين.
هذا موجز تلك الشبه التي أثارها هذا الجاحد المبتدع وأراد أن يغزو بها قلوب الغافلين ويروجها بين البسطاء وبذل أقصى جهده في نصر الباطل وإبطال الحق وقد أخبر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن ما عدى الله ورسوله فأولئك في الأذلين حيث قال:{وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}(2).
فأنى له ذلك وقد وعد الله سبحانه وتعالى أن ينصر دينه ويعلي كلمته ويخزي أهل الزيغ والفساد والشرك والإلحاد ويحق الحق ويبطل الباطل ولو كره الملحدون أمثاله والحمد لله رب العالمين قال تعالى: {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}(3).
وقال جلا وعلا أيضا: {وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}(4).
وقال تعالى:{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ}(5) {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ(50/11)
زَهُوقاً}(6).
هذا ولما وقف الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمه الله على الأوراق التي كتب فيها هذا الشخص المذكور هذه الآراء الفاسدة والأفكار المسمومة والعقائد الزائفة بادر إلى نقضها وإبطالها وبيان زيفها ورفع الستار عنها بالدلائل المقنعة والحجج المدمرة التي تبدد تلك العقبات التي تعترض طريق الحق وتعوق السالك عن السير فيه وتعرقله، ولقد وفقه الله في نفض الغبار الذي ذره هذا الجاحد الملحد على صفحات عقائد السلف البيضاء
__________
(1 ) سورة الحشر: رقم الآية 10.
(2 ) سورة العنكبوت: من الآية 52.
(3 ) سورة الأنفال: الآية 7-8.
(4 ) سورة يونس: رقم الآية 82.
(5 ) سورة الأنبياء: رقم الآية 18.
(6 ) سورة الإسراء: رقم الآية 81.
ص -12-(50/12)
النقية النظيفة ليغطيها بهذه الشركيات والخرافات والجحود والإلحاد حيث وقف رحمه الله عند كل رأي باطل رآه وشبهة ذكرها وقفات طويلة ودقيقة وقف من ذلك موقف ناقد بصير ومدرك ونظر فيها نظرة عميقة ثاقبة وأرسل سهامه إلى تلك الوحوش الضارية وسدد إليها وأرداها قتلى وبدد تلك الحجج الواهية
التي احتج بها من الكتاب والسنة على زعمه بالدلائل التي لا تدع مجالا للشك ولا ريبا للمرتابين والشاكين وتزداد يقينا وثباتا لأهل الإيمان والبصيرة والمعرفة كما ستقف أيها القارئ إن شاء الله تعالى على تلك الردود الحسان التي تناولها الشيخ في نقض هذه الشبه الواهية وتفكيكها وتمزيقها إربا إربا كل رأي على حدة وكل شبهة بانفرادها بحيث لا رواج لها بعد ذلك أبدا ولا غرابة في ذلك أن الله سبحانه و تعالى جعل العلماء العاملين الذين يعلمون الناس الخير ويمنعونهم عن الشر مفاتيح الخير ومغاليق الشر ولله الحمد والمنة على ذلك.
هذا ولقد شرفني الله سبحانه وتعالى بهذه الخدمة البسيطة حيث جعلني أحظى بتحقيق هذه الرسالة النافعة وأسهم في قراءتها ونسخها والتعليق عليها بما من الله على مع الاستفادة منها بما حوته من بيان مناهج السلف وعقائدهم ودحض آراء الملحدين والمارقين وأفكار المبطلين بالأساليب التي تقنع أهل الحق وتفحم أهل الباطل مما يزيد القارئ المتأمل والسامع المتدبر قوة في الإيمان وثباتا في العقيدة ورسوخا في الشريعة وبصيرة في الدين وتمرينا على مواجهة الشبه الباطلة وجلدا في المناظرة التي يقارع بها المحق أهل الجدل والكلام، ومن هنا يتبن القارئ أنها فريدة في نوعها قل أن تجد القرائح بمثلها أسأل الله سبحانه وتعالى أن يسبل على مؤلفها وابل الرحمة والرضوان والعفو والغفران وأن يسكنه وجميع المسلمين فسيح الجنان يا حنان يا منان يا ذا الفضل والإحسان وأنت المستعان.
هذا وقد كان قيامي بهذا العمل المتواضع -تحقيق هذه الرسالة التي هي مفخرة لأهل التوحيد ومنار(50/13)
لطلاب الحق ورواد الإيمان وحماة هذا الدين الحنيف وحملة الشريعة– تلبية لرغبة أخي في الله الشيخ إسماعيل بن سعد
ص -13-
بن عتيق في إحياء هذا التراث العظيم الذي خلفه جهابذة العلماء ونشر مذهب السلف في بقاع المعمورة التي ابتلي أكثر أهلها بأمثال هذا المردود عليه الذين يروجون الخرافات والأباطيل ويحاربون عقائد أهل السنة والجماعة من إفراد الله بالعبادة والحب والذل والخوف والرجاء وإثبات ما أثبته لنفسه وأثبته له رسله من الأسماء والصفات ونفي ما نفى عن نفسه المقدسة ونفى عنه رسله من النقائص حيث طلب مني ذلك سائلا العلي القدير التوفيق والسداد،تقديرا لحرصه الشديد ورغبته العميقة في هذا الخير العميم وتعاونا على البر والتقوى وإدراكا مني بحسن ظنه في. أسأل الله العلي العظيم أن يحقق رغبته ويتم نواياه الحسنة وينفذ عزمه بجعل هذه الجهود المتواضعة موفقة فيما يحبه ويرضاه وخالصة لوجهه الكريم، كما أسأله سبحانه - وهو ولي ذلك- أن يبارك فيه وفي عقبه كما بارك في أصوله حيث كانوا بيوت العلم والمعرفة والدين والعبادة والتواضع كما أرخ لهم ذلك في تاريخ علماء نجد ويغفر لي ولوالدي ووالديه وجميع المسلمين وهو حسبي ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
بقلم
محمد العارف بن عثمان بن موسى الهرري الأرومي
ص -14-(50/14)
منهج التحقيق:
تمهيد:
يجدر بنا أن نذكر في هذا المقام الجهود المباركة التي قام بها أسلافنا الأمجاد (علماء المسلمين) حيث غادروا هذه الفانية وقد خلفوا وراءهم مواريث عظيمة فريدة عديمة النظير،بيد أن هذه المواريث الغالية -مع الأسف-لم تخلد كما هي بل طرأت عليها صروف الدهر من المحن التي أدت إلى تلف أعظم ثروة علمية نادرة أنتجها هؤلاء المخلصون وقدموها للأجيال المتعاقبة لتكون لها نبراسا ودليلا إلى كل خير ولكن الله شاء أن تتلف جل هذه الجهود الجبارة التي لا نظير لها حيث سلط أعداء المسلمين على بلادهم بسبب معاصيهم وأتلف هؤلاء الكفار أكثر المؤلفات العلمية القيمة بإحراقها وإغراقها وتمزيقها -مما يرثى له- وبعض هؤلاء الأعداء الذين أقدموا على هذه الجرائم البشعة نقل معه إلى بلاده ما تبقى من هذا العمل الإجرامي- المؤلفات القيمة النافعة من فنون متعددة دون أن يدركوا قيمة ما تحويه هذه الكتب التي نقلوها معهم، وغرضهم من ذلك أن يجعلوها مظاهر تاريخية يحتفظون بها في مكتباتهم كمتاحف للزوار. وحتى هذه الكتب المنقولة إلى بلادهم بالنسبة لما بقي في المكتبات الإسلامية الذي لم يقع في أيدي هؤلاء المتلفين كثيرة جدا كما ذكر ذلك المؤرخون(1) الذين ألفوا في
__________
(1 ) مثل ابن كثير في حوادث سنة 545 في البداية والنهاية.
ص -17-(50/15)
الكوارث التي أصيب بها المسلمون في تلك الحقبة مما يبكي كل من يحب الفضائل ويكره الرذائل، وقد بقيت هذه المؤلفات المنقولة من بلاد المسلمين إلى بلاد الكفار محتفظة في مكتباتهم مئات السنين ولا علم للمسلمين بشأنها إلا ما تحيل إليه الكتب الموجودة لديهم كمراجع،ولما أراد الله إبرازها لورثتهم الحقيقيين حفز همم الكفار إلى دراسة اللغة العربية التي ألفت بها غنيمتهم هذه وكتبت بها تلك الكتب العظيمة دراسة عميقة بليغة فهموا من خلالها أسرار اللغة العربية ومراميها الدقيقة وطرق كتابتها وتأليفها وأضافوا إلى هذه الثقافة الجديدة ما عندهم من قواعد ومناهج متبعة في تحقيق المخطوطات ونشر التراث، ولما اطلعوا على هذه الكتب العربية الإسلامية التي زخرت بها مكتباتهم بعد هذا الفهم الدقيق فسابقوا إلى إحيائها ونشرها بعيدة عن التبديل والتغيير لأنهم طبقوا في نشر النصوص العربية القواعد التي تتبع في أوروبا لنشر النصوص الكلاسيكية وهي قواعد دقيقة تضمن الأمان في إخراج النص وتضمن أن يأتي النص المنشور كما وضع في أصله وهذا
يمثل قول الشاعر:
وإذا أراد الله نشر فضله طويت
أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار ما جاورت
ما كان يعرف طيب عرف العود
هذا ورغم أن الهدف الأساسي من هذه الدراسة نيل الإسلامي والمسلمين وطعن أقدس ما يملكونه من الكتاب والسنة وتشويه جمالهما الباهر بيد أنهم أنصفوا في هذه الجانب -في تحقيق المخطوطات ونشرها حيث ألزموا أنفسهم أن ينتهجوا تلك القواعد المتبعة في إحياء التراث عندهم سواء كان عربيا أم غيره-وهو إخراج النص المنشور سليما كما وضع في أصله وإلا يعتبر عيبا فاحشا في دنيا الثقافة لديهم ويتمثل فيهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"صدقك وهو كذوب".
هذا ولم يأل أيضا الورثة الحقيقيون -علماء هذه الأمة- جهادا في الحفاظ على ما سلم من صروف الدهر وتحقيق ونشر ما تبقى في أيديهم
ص -18-(50/16)
وتعويض مكتبات المسلمين التي أتلفتها الأيدي الآثمة الفاجرة بما جادت به قرائحهم من تأليف ما يقرب ذلك المتلف من العلوم النافعة إلا أنهم لم يضعوا قواعد متبعة توحد مسالكهم في تحقيق المخطوط ونشر التراث مثل هؤلاء المستشرقين مما دعا بعض علماء المسلمين إلى الاعتراف بفضلهم وتنويه شأنهم.
وممن نوهوا -شأنهم في هذا الجانب- من العلماء المفكرين الذين ألفوا الكتب النافعة في قواعد تحقيق المخطوطات الدكتور صلاح الدين المنجد حيث قال(1):
اهتم العرب في ربع القرن الماضي بنشر تراثهم القديم وتحقيقه، وكان المستشرقون قد سبقوا إلى نشر هذا التراث منذ أكثر من مئة عام فنشروه متبعين نهجا علميا دقيقا مع ضعف فريق منهم باللغة العربية أو اطلاع آخرين منهم عليها.
وشاء العرب أن يحذو حذوهم في تحقيق النصوص، فنجح أناس أوتوا العلم والمنهج العلمي، وأخفق آخرون أعوزهم المنهج العلمي الذي ينبغي اتباعه في النشر وحاول هؤلاء ستر نقصهم هذا بالغض مما نشره المستشرقون واتخذوه هزؤا ثم زاد الاستخفاف مما نشر المستشرقون وبالمنهج الذي اتبعوه عن جهل بالمنهج العلمي وعصبية ضده ورأينا كل ناشر ينهج في نشره منهجا ويزعم أنه ابتدع طريقة، ومن الإنصاف أن نقرر أن المستشرقين كان لهم فضل السبق في نشر تراثنا العربي منذ القرن الماضي وأنهم أول من نبهنا إلى كتبنا ونوادر مخطوطاتنا وأنهم وضعوا بين أيدينا نصوصا لولاهم لم نعرفها نضرب على ذلك مثالا،ففي سنة 1866م نشر وستنفلد (معجم البلدان) لياقوت وفي سنة 1819 نشر فريتاغ (المنتخب) من تاريخ حلب لابن النديم.
وقال الدكتور صالح المنجد: وكان على ناشري النصوص من العرب
__________
(1 ) أنظر كتابة قواعد تحقيق المخطوطات ص 7 الطبعة الرابعة بيروت.
ص -19-(50/17)
اتباع الطريقة العلمية التي اتبعها المستشرقون والاطلاع على قواعدهم واقتباسها أو اقتباس الجيد منها واتباع قواعد المحدثين القدامى في ضبط الروايات والأعلام.
هذا وما ذكره الدكتور -أثابه الله- هو محاولة توحيد طرق نشر النص المخطوط وقد كتب في ذلك كتابا أسماه (قواعد تحقيق المخطوطات) ولخص فيه المناهج السليمة التي تنتهج في إبراز الكتاب نزيها من كل عيب يمس النص متنا وحاشية.
وقد أفاد هذا الكتيب طلبة العلم في هذا المجال،والكتاب مع صغر حجمه استوعب الطرق المحكمة في نشر المخطوطات.
فجزى الله المؤلف خيرا عن العلم وأهله.
هذا وقد رحبت هذه القواعد التي ألفها الدكتور صلاح الدين المنجد لتكون دليلا للمحققين من قبل كبار العلماء حيث قدمت إلى مؤتمر المجامع العلمية الذي انعقد بدمشق سنة خمس وستين وتسعمائة وألف 1965م للنظر فيها، ودرست لجنة التراث العربي في المؤتمر هذه القواعد وأشادت بقيمتها ووافقت عليها لتكون دليلا للناشرين عندما ينشرون النصوص القديمة. هذه شهادة من علماء أجلاء يعتمد على قولهم، وترجمت هذه القواعد إلى ست لغات أجنبية غير عربية، الفرنسية والإسبانية والإيطالية والفارسية والتركية والإنكليزية.
هذا وقد ذكرت هذا التمهيد لعلاقته بهذا الموضوع الذي نحن بصدده حيث أنه تحقيق التراث القديم المخطوط،والله ولي التوفيق والسداد وهو حسبنا ونعم الوكيل.
1-منهج تحقيق هذه الرسالة
إن أول عمل يقوم به المحقق في هذا المجال السعي إلى معرفة نسخ
ص -20-(50/18)
الكتاب المخطوط القديم، فإذا كانت للكتاب نسخ عديدة بينها تفاوت ما اعتمد على نسخة يراها أوثق وأنقى ويجعل الباقيات للمقابلة لتكمل بعضها بعضا.
وعندما لا تتوفر للمحقق إلا نسخة واحدة بعد استنفاد الطاقة في التفتيش عن نسخ الكتاب فإنه يعتمدها في النسخ ويقابلها مع النصوص المقتبسة عنها في المؤلفات اللاحقة.
وهذه النسخة التي اعتمدت عليها في التحقيق فريدة، أعني أن هذه المخطوطة التي حققتها لم أجد لها إلا نسخة واحدة وبذلت قصارى جهدي لأجد نسخا أخرى لأستعين بها على إتقان العمل فلم أعثر على شيء منها مما اضطرني أن أراجع كتبا كثيرة من مؤلفات المؤلف حيث كانت له ردود مثلها على بعض المتجاهلين للحق.
إلا أن الناسخ الذي نسخ النسخة التي بين يدي كتب في آخرها على هامش المخطوط ما نصه:
(بلغت مقابلة على أصل المصنف ولله الحمد والمنة).
وهذا يدل على أن النسخة الأصلية التي كتبها المؤلف بخطه موجودة في مكان ما حتى قوبلت عليها هذه النسخة التي أمامنا كما أثبته الناسخ.
وقد ذكرت ذلك لأن قواعد تحقيق المخطوطات تنص على عدم جواز نشر كتاب مخطوط على نسخة واحدة إذا كان للكتاب نسخ أخرى معروفة لئلا يعوز الكتاب إذا نشر التحقيق العلمي و الضبط ولكن هذه النسخة مصححة وسليمة وكاملة ولم يوجد فيها أي نقص وبياض إلا في موضعين، وقد ملأت ذلك بما جاد الله مما يناسب الموضوع ومع ذلك استنفدت طاقتي في مراجعة المظان التي توجد فيها المعلومات التي سجلها المؤلف كما يقتضي منهج التحقيق عندما تكون النسخة المخطوطة فريدة وبالله التوفيق.
ص -21-(50/19)
2- توثيق صلتها بالمؤلف:
والمرتبة الثانية من قواعد التحقيق دراسة الكتاب المنشور من حيث صلته بالمؤلف لأن بعض المخطوطات لا تحمل اسم المؤلف لحرصه على إخفاء نفسه خوفا من الرياء والسمعة والعجب وفي تلك الحال يتم توثيق الصلة بالمؤلف بما يلي :
1- شهرة ذلك بطريق التواتر عن الموثوقين من التلامذة والزملاء والمعاصرين أن هذا المخطوط من مؤلفاته.
2- شهادة المؤتمنين العارفين بذلك.
3- كون الأساليب التي كتب بها المخطوط مشهورة بالمؤلف بحيث أن العبارات التي سيقت في تركيب الجمل مما يخصه وذلك أن لكل مؤلف بصمات لا تحاكي غيره وطريقة خاصة بتأليفه.
4- وجود المخطوط بخط المؤلف أو خط وراقه الخاص به.
5- تصريح المؤلف في أحد كتبه بأن من مؤلفاته كتابا فلانيا وغير ذلك مما يوثق صلة المخطوط به ويقوي إضافته إليه. ولكن الأمر هنا واضح لا خفاء عليه إذ كتب على غلاف الرسالة ما يصرح بأنها تآليف الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ رحمهم الله ومن هنا لا داعي إلى تطويل الكلام في ذلك والله الموفق لكل خير.
3- إن الغرض الأساسي الذي يصبو إليه المحقق هو إبراز الكتاب المنشور بصورة مشرقة صحيحة كما وضعه مؤلفه ما استطاع إلى ذلك سبيلا على أن يستنفد جهده وطاقته في ذلك والغاية القصوى أن يحقق
المخطوط وينشر سليما من الأخطاء النحوية واللغوية والإملائية.
وأما ما يحتاج إليه من بيان الغامض وحل المشكل وشرح الخفي فذاك
ص -22-(50/20)
في الهامش وهذا هو غاية التحقيق، وقد بذلت قصارى جهدي في ذلك ما استطعت إليه سبيلا والله أسأل الإعانة والتوفيق والسداد فيه.
4- النقص والبياض
تشير قواعد تحقيق المخطوطات إلى أنه إذا كان في الأصل المخطوط نقص وبياض فإنه يوضع مكانه نقط كل ثلاث نقط مكان كلمة... ولكن كما أشرت إلى ذلك لم أفاجأ أثناء نسخ الأصل بالنقص والبياض إلا موضعين وقد كملت ذلك النقص وسددت ذلك الفراغ بما يناسب المقام ولله الحمد والمنة على ذلك.
5- الآيات القرآنية
الآيات القرآنية التي استدل بها المؤلف في الرسالة ذكرت اسم سورتها وسجلت رقم الآية التي جاءت فيها.
وقد جرت عادت المؤلفين عند استدلالهم بآية قرآنية في مؤلفاتهم باقتصارهم على موضع الاستشهاد وعدم كتابتها كاملة غالبا بيد أنهم يأمرون غيرهم بإكمالها بهذا الرمز(الآية) وقد درج المؤلف رحمه الله تعالى على هذه القاعدة حيث أنه رمز في كثير من الآيات التي استدل بها في الرسالة بهذا الرمز(الآية) ولم يرسمها كاملة ولكنني لم أنحتها مثل نحته بل رسمتها كاملة إتماما للفائدة حيث أن معظم الناشئين لم يكونوا حفاظا لكتاب الله فإذا أرادوا أن يقرأوا الآية كاملة يضطرون إلى فتح المصحف وهذا يستغرق أوقاتا لا يستهان بها، وأما الآيات التي كررها المؤلف في الاستدلال نحتها كما نحتها وكما أنني في المقدمة التي كتبتها للرسالة رمزت إلى بعض الآيات التي استشهدت بها.
والطريق المثلى في رسم الآيات القرآنية كتابتها بالرسم العثماني الأول بيد أني رسمتها بالرسم الإملائي المعهود بين المعاصرين في أغلب الأحيان
ص -23-(50/21)
خوفا على أكثر القراء الذين لا يتقنون الرسم العثماني من الوقوع في الخطأ في تلاوة كتاب الله كما لوحظ على كثير منه حيث أن الرسم العثماني مختلف المنطوق والمخطوط أحيانا ولا يتأتى إجادة التلاوة إلا بالتلقي وهذا أمر معروف لدى أهل هذا الشأن.
وحسما لما يعتقده أكثر الناس من عدم جواز كتابة الآيات القرآنية إلا بالرسم العثماني واعتقاده وجوب ذلك -وحقيقة الأمر هو هذا الاعتقاد- إلا أن ذلك في رسم المصحف كاملا أو بعض الأجزاء القرآنية أو السورة كاملة.
وأما الآية أو بعض الآيات التي يستدل بها المؤلفون التي تتداولها أيدي مختلفي الثقافات فأرى وجوب رسمها بالرسم المعاصر صونا لكلام الله من التحريف والتبديل والغلط من قبل الجاهلين لحقيقة هذا الرسم كما ذهب إلى ذلك عز بن عبد السلام رحمه الله تعالى.
6- الأحاديث التي جاءت في صلب الرسالة
وقد أورد المؤلف رحمه الله تعالى الأحاديث التي استدل بها في الرسالة دون أن يعزوها إلى مصادرها الأصلية ولم يذكر الرواة الذين رووها ولا درجتها وكان عملي في ذلك أنني خرجتها في الحاشية وبينت درجتها ما استطعت إلى ذلك سبيلا وعزوتها إلى مصادرها الرئيسية التي وردت فيها كما أسندتها إلى رواتبها ومع ذلك لم أستوعبها بذلك حيث أشكل علي بعض المصادر وهي قليلة جدا، ولعلي إن شاء الله سوف أتلافى ذلك في هذا الطبع أو طبع آخر إن شاء الله.
7-الحواشي (الهوامش)
ولا شك أن بصمات التحقيق بعد نسخ المخطوطة تتسم في وجود الحواشي حيث أن ذلك يشمل ذكر سور القرآن ورقمها ورقم الآيات التي جاءت مستدلا بها في صلب المتن، وتخريج الأحاديث التي وردت في النص
ص -24-(50/22)
المحقق، وبيان درجتها من الصحة والضعف وحجيتها وعدمه، وحل المعقد من تراكيب الجمل والألفاظ والعبارات وبيان المشكل من ذلك وشرح الغامض وتوضيح معاني الألفاظ التي لا يظهر معناها بأدنى تأمل.
وقد توسعت في التعليق في بعض الصفحات من الحاشية حيث أن المقام قد اقتضى ذلك ولم يسمح لي الاختصار وإن كان هذا التوسع من حيث منهج التحقيق يعتبر إفراطا مملا بيد أن الإسهاب في تعبير الكلام وأداء المراد الذي لا يؤدي إلا به لا يكون مذموما بل هو ممدوح قد اقتضاه التعليق، وأما ما عملته في هذا الجانب فهو متوسط موف بالمقصود على حد قول الشاعر:
لها بشر مثل الحرير ومنطق
رخيم الحواشي لا هواء ولا نزز
وعينان قال الله كونا فكانتا
فعولان بالألباب ما تفعل الخمر
والله أعلم بالصواب.
8-الأعلام الذين ذكرهم المؤلف في المخطوطة
وقد ترجمت لبعض الأعلام الذين جاء ذكرهم في الرسالة ببيان سنتي مولدهم ووفاتهم، وذكر مؤلفاتهم التي خلفوها تراثا للمسلمين، وأعمالهم التي تقلدوها في حياتهم من التدريس والقضاء والدعوة المباركة التي عملوها والموعظة الحسنة التي أنقذ الحيارى من جرائها حيث أن ذلك يتحتم على المحقق توضيحه، وأما الأعلام المشهورون الذين لا غرابة فيهم ولا تخفى تراجمهم على أفراد الناس فضلا عن العلماء وطلاب العلم فلم أتعرض لتراجمهم باعتبار أن ذلك تحصيل حاصل مثل الأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وأصحاب الأمهات الست البخاري ومسلم وأبي داود والنسائي والترمذي وابن ماجه، وغيرهم من المشهورين الذي يشار إليهم بالبنان والله أعلم.
ص -25-(50/23)
9-الكتب التي جاءت أسماؤها في الرسالة
فإذا كانت الكتب التي أوردها المؤلف مشهورة فلا أتعرض لذكر موضوعها ولا ذكر مؤلفيها ولا أطلب توثيقها لمؤلفها لأن شهرتها تغني عن ذلك.
وأما إذا كانت غريبة فأحاول قدر المستطاع توضيحها بذكر مؤلفها ومضمونها وقيمتها العلمية من بين الكتب التي ألفت في ذلك الفن الذي يدور الحوار فيه.
10-النقط والفواصل والإشارات
وقد درجت في ذلك على ما درج عليه المحققون والكتاب من وضع نقطة كبيرة عند انتهاء المعاني في الجمل،ووضع الفواصل بين المتعاطفات، بيد أني قللت من وضع الفواصل بين ذلك عمدا لأنها ليست ذات أهمية قصوى إذ غايتها إشعار الفصل بين الألفاظ والعطف بين الجمل، ويسهل علم ذلك بدونها، واستعملت إشارة الاستفهام؟ والتعجب! في أماكنها، ووضعت نقطتين بعد القول هكذا قال شيخنا:
وإذا ورد قولان فأضع نقطتين بعد قال الثانية مثل قال أبو بكر وقال عمر:
11-الأقواس والخطوط والرموز
القوسان المزهران يحصران الآيات القرآنية.
الفاصلات المزدوجة تحصر أسماء الكتب إذا وردت في النص المنشور.
الخطان القصيران يحصران كل زيادة تضاف من نسخة ثانية غير النسخة المعتمدة.
ص -26-(50/24)
القوسان المكسوران يحصران ما يضيفه الناشر من عنده كحرف أو لفظ يقتضيه السياق.
القوسان المربعان يحصران ما يضاف من نصوص ثانية نقلت إلى النص أو استشهدت به وما يضاف من عنوانات جديدة.
وهذان القوسان داخل النص يحصران وجه الورقة المخطوطة فيكتب مثلا (15ب).
هذان القوسان داخل النص يحصران ظهر الورقة المخطوطة فيكتب (25ب).
يردف هذان القوسان مع كلمة كذا بما يبهم على المحقق قراءته ويثبت كما ورد.
هذه الفقرات البائية من كتاب قواعد تحقيق المخطوطات للدكتور صلاح الدين المنجد لأهميته لعمل التحقيق والله المرجو لجلب الخير ودفع الضير.
12-ترجمة المؤلف رحمه الله تعالى
تتضمن هذه الترجمة مولده ونشأته وهجرته من بلده مصر لظروف دعته وأسرته إلى ذلك، والرحلات العلمية التي قام بها في ممارسة التحصيل العلمي الخير والحياة السياسية التي دارت أفلاكها هنا وهناك قوة وضعفا وآخر يوم لقائه لخالقه وإياه نسأل أن يجعل خير أيامنا يوم نلقاه يوم لا ينع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم وهو حسبنا ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وصلى الله على محمد وعلى آله وأصحابه ومن ترسم خطاهم إلى يوم الدين.
ص -27-(50/25)
ترجمته
هو العالم النحرير والزعيم الديني الكبير عبد اللطيف بن الإمام عبد الرحمن بن الشيخ حسن بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، ولد هذا العالم رحمه الله في بلدته (الدرعية) عاصمة (الدولة السلفية) الدولة الإسلامية السعودية وذلك في سنة خمس وعشرين ومائتين وألف للهجرة النبوية 1225هـ.
ونشأ وتعلم دروسه الأولى في الكتاتيب المنتشرة في تلك البلدة، وحفظ القرآن الكريم وربي تربية إسلامية كريمة في بيت والده وأعمامه، وكان لتلك التربية أثر كبير في تنشئته وتوجيهه، وما كاد يبلغ السنة الثامنة حتى حلت تلك الكارثة الهوجاء والمصيبة الدهماء ببلدة الدرعية حيث دمرت بأيدي السلطة الغازية وأسقط حكم البلاد بقيادة مجرم الحرب (إبراهيم باشا بن محمد بن علي باشا) ومعه جيش كبير من المرتزقة والخونة وأعداء الدولة السلفية.
ومن ثم نقل المترجم له مع والده وعائلته إلى مصر بأمر من الخليفة العثماني وهناك أقام ما يربو على إحدى وثلاثين سنة، وهذه الهجرة كانت فرصة طيبة له على رغم آلامها وأوجاعها المضنية حيث عوضته بما حصل عليه من علم وفضل وبهذا قد انتقل من مربع إلى مرابع العلم ومعهده إلى
ص -29-(50/26)
معاهد العلم فدخل في مدينة العلم واستقر في دار من دوره فهذا الأزهر الشريف تعقد في جنباته وأروقته حلقات التفسير والحديث والأصول وعلوم القرآن وعلوم الحديث والفقه وأصوله، وعلوم العربية من النحو والصرف والبلاغة وغير ذلك وها هم كبار العلماء متوفرون ليلا ونهارا لإمداد الطلاب بمزيد من العلم والعرفان وها هي المكتبات العامة بنفائس الكتب وذخائر المراجع فصار العلم سلوته في غربته والكتاب جليسه في وحدته والعلماء أنيسه في وحشته فصار يتردد بين بيته والأزهر الشريف فيجد في البيت أباه وعمه وخاله فدرس على جملة من علماء نجد منه جده لأمه الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب وخاله الشيخ عبد الرحمن.
وتزوج في مصر وطالت إقامته فيها حتى بلغت واحدا وثلاثين عاما قضاها كلها في العلم تعلما وبحثا ومراجعة ومذاكرة حتى صار من جملة العلماء الكبار وأوعيته الواسعة ولا شك أنه تثقف هذه الثقافة الغزيرة على أيدي رجالا مخلصين حتى استطاعوا أن يكونوا هذه الشخصية الفذة.
3- شيوخه:
وممن لهم اليد البيضاء في تثقيفه العلماء النجديون الذين هاجروا إلى مصر في تلك المأساة التركية الباشية مثل:
1-جده لأمه الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
2-وخاله الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن محمد.
3-ووالده الشيخ عبد الرحمن بن حسن.
4-الشيخ أحمد بن حسن بن رشيد المشهور بالحنبلي.
كل هؤلاء من النجديين الذين تلقى عنهم في مصر يلقنونه العقيدة الصحيحة ويدرسونه علوم السلف الصالح ويجد في الأزهر بقية من البحث وتدقيق المناقشة واستيعاب ما في المتون والشروح عند حملة ذلك من العلماء الأجلاء ومن هؤلاء العلماء:
ص -30-(50/27)
1-الشيخ العلامة محمد بن محمود الجزائري.
2-والشيخ العالم الفرضي المعروف إبراهيم الباجوري شيخ الجامع
الأزهر آنذاك.
3-والشيخ العالم مصطفى الأزهري.
4-والشيخ أحمد الصعيدي.
وغير هؤلاء المذكورين من كبار علماء مصر والمغرب المقيمين في الأزهر ونال إجازات كثيرة من جلة العلماء الأفذاذ وأجيز في مسلسلات الحديث المشهور وعرف آنذاك في الأزهر الشريف بالعالم النجدي وكانت له مجادلات ومناظرات في كتب السلف ومعتقداتهم وقد أشار إليه مؤرخ الجبروتي في تاريخه.
ص -31-
عودته إلى نجد
فلما طهرت نجد من الجيش العثماني المحتل ونادى داعي العودة في ربي نجد مستنهضا الهمم في استعادة مجد الدعوة وبناء كيان الدولة الإسلامية السعودية من جديد وكان ذلك المنادي أحد القادة الكبار الإمام تركي بن عبد الله بن مؤسس الدولة الأولى محمد بن سعود، وكان الشيخ عبد اللطيف ووالده الإمام الشيخ عبد الرحمن بن حسن والد المترجم له أول من سارع في الخطو إلى نجد فتقدم أبوه عبد الرحمن بن حسن وتأخر الشيخ عبد اللطيف عنه مدة من الزمن كان مشغولا فيها بطلب العلم واستجلاء الأمر واستيضاح السبيل ثم خرج إلى نجد عام أربعة وستين ومائتين وألف بعد استشهاد الإمام تركي بن عبد الله في حادث اغتيال لئم فتولى السلطة بعده الإمام العادل والزعيم الكبير فيصل بن تركي خرج الشيخ عبد اللطيف من مصر متوجها إلى نجد عن طريق مكة المكرمة.
قال صاحب كتاب علماء نجد خلال ستة قرون (الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن صالح البسام):حدثني وجيه الحجاز الشيخ محمد بن حسين بن عمر بن عبد الله نصيف قال: بينما الشيخ عبد اللطيف يطوف بالكعبة بعد انصرافه من القاهرة إلى نجد إذ بصر به أمير مكة الشريف محمد بن عون وهو في بيته المطل على الحرم ومعه عبد الله بن محمد بن عون وهو يومئذ قائم مقام مكة المكرمة،فأرسلا إليه أحد خدامهما يطلبان منه المجيئ إليهما فلما فرغ
ص -33-(50/28)
الشيخ من طوافه وصلاته ذهب إليهما وكان قد تعارف معهما في مصر فقابلاه بالحفاوة والإكرام وعاتباه على عدم نزوله عندهما فاعتذر إليهما الشيخ عبد اللطيف بقوله: إني خشيت من إمارة مكة أن تردني إلى مصر فطمأناه وتحدثا معه عن صفة خروجه من مصر فقال: اشتقنا إلى بلادنا ووجدنا السبيل إلى الخروج ميسرا فأكرماه بما يليق بمقامه ثم توادعوا لقرب سفر الشيخ إلى نجد.
وكان قدومه الرياض -العاصمة الجديدة للمملكة السعودية- عام أربعة وستين ومائتين وألف للهجرة 1264هـ وصاحب السلطة المطلقة يومئذ الإمام فيصل بن تركي في بلاد نجد وأبوه الشيخ عبد الرحمن بن حسن هو المرجع في الشؤون الإسلامية والشرعية.
وكان الشيخ عبد الرحمن قد دخل العقد الثامن من عمره واحتاج إلى مساعد قوي يعينه على مهامه الكبيرة الكثيرة وأعماله الجليلة. وكان في مقدمة مستقبليه والمرحبين إيابه يوم قدومه الرياض علما الجهاد ومجددا الدعوة في عصرها الثاني الإمام فيصل ابن الإمام تركي وأبوه الشيخ عبد الرحمن بن حسن ووالده آنذاك رئيس العلماء ومفتي الديار، فاستقر الشيخ المترجم له في مدينة الرياض بعد رحلة شاقة قطعها متنكرا من مصر حتى مدينة الرياض وقد تعرض في تلك الرحلة لمشاق كبيرة وجرت له حوادث طريقه ساعد على تجسيمها وتضخيمها لهجته المصرية التي هي غير مألوفة في نجد ولباسه التنكري الذي أراد منه أن يخلص من سفه جهال البادية وقطاع الطرق المنتشرين في طريقه.
وعندما استقر به المقام في الرياض اتخذ من المسجد الكبير المعروف بمسجد الشيخ (عبد الله) مدرسة كبيرة لتدريس مختلف الفنون والعلوم لا سيما تلك العلوم التي لم يشتهر نعليمها في نجد سابقا مثل علوم البلاغة وقواعد الفقه والأصول والتجويد بالإضافة إلى العلوم الأخرى التي كانت معرفة في نجد، وقد عرف حينذاك بسعة الأفق في العلوم وقوة الحافظة والقدرة على التعبير.
ص -34-(50/29)
رحلته إلى الأحساء
عندما دانت الأحساء ونواحيها فلإمام فيصل بن تركي وكانت إذاك مدينة حضرية مزدحمة بالعلماء والأدباء رأى الإمام فيصل أن يبعث ذلك العالم الجليل إليها للقيام بمهمة نشر العقيدة السلفية التي يتردد في قبولها فئة خاصة من العلماء هناك ويرون في مذهب الخلف غنى وعلما أكثر مما في مذهب السلفي وهناك تجرد الشيخ عبد اللطيف لمناظرتهم ومذاكرتهم وتقرير عقيدة السلف بينهم فاستجاب له معضمهم والتقت قوة الفكر بقوة المعتقد فزلزلت العقائد المشوهة وانتشر مذهب السلف أيما انتشار وانتفع بوجوده في الأحساء كثير من العلماء وسمعوا منه وتلقوا عنه علوما لم تكن معروفة في غير الأزهر.
مهام وظائفه
التي شغلها بعد عودته من الأحساء
ثم عاد الشيخ عبد اللطيف إلى مدينة الرياض ليكون مستشارا ومفتيا ومساعدا لوالده الذي بلغ من الكبر حد العجز عن تولي تلك الشؤون فكان عضدا للإمام فيصل ومفتيا له ولم يعرف أن الإمام فيصل خرج في غزوة إلا كان الشيخ عبد اللطيف في رفقته ويصحبه عدد من طلبة العلم ومجموعة من الكتب في الفنون المختلفة.
وكان الشيخ عبد اللطيف ينتهز الفرصة في تلك الرحلات فيعظ ويذكر وينشر الدعوة ويعلم الجاهل ويرشد الضال ويتعرف على طبيعة البلاد وسكانها فيمد إمام المسلمين بالرأي والمشاورة.
وله صفات ذاتية وفكرية مميزة، فهو أكثر علما ممن سبقه من آل الشيخ باستثناء والده وجده العظيم محمد بن عبد الوهاب، ومن أبرز صفاته الجسدية أنه كان ضخم الجثة قوي البنية سليم الأعضاء والحواس أبيض مشربا بحمرة كث اللحية مستدير الوجه جهوري الصوت حاد البصر، وكان جميل الخط
ص -35-(50/30)
واضح العبارة فصيح اللسان تغلب على لغته الدارجة اللهجة المصرية الخفيفة.
وكان يحب -أحيانا- أن يحافظ على زيه الأزهري، فكثير ما يلذ له أن يلبس العمامة والثوب الفضفاض وكان مهيب الطلعة جسورا في قول الحق وكان ذكر الله وتلاوة القرآن ديدنه يتفانى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويحب أن ينصح غيره ويستمع إلى نصيحة غيره وكان يحرر الرسائل الكثيرة المشتملة على المعاني والنصائح القيمة يوجهها إلى العلماء والقضاة والأمراء والملوك وكانت بعض رسائله العامة ونصائحه تتلى في المساجد على العامة بعد أداء فريضة الصلاة في كل مناسبة تجد أو تحدث.
وكان الشيخ عبد اللطيف مع علمه الغزير وفضله الكبير سياسيا داهية خبير بشؤون المجتمع وعندما وقعت الفتنة العمياء بين أولاد الإمام فيصل عبد الله الفيصل وسعود الفيصل بعد وفاة والدهما سعى المؤلف إلى إخمادها ولذلك لم يستقر له قرار ولم يهنأ له بال حتى هدأت تلك الفتنة وانجابت تلك الغمة وبذل رحمه الله من ذاته ورأيه في إخمادها ما جعل كل مواطن يذر فضله ويعترف له بالفضل والقدرة وحسن التصرف ولقد طال أمد تلك الفتنة العمياء وامتد زمانها فكانت مليئة بالحزن والأسى والفزع لكنه رحمه الله وقف منها موقف الشرف الذي شهد له بالزعامة والإخلاص والوطنية ويؤخذ من كتاباته التي سجلها في هذه الفترة ومن مجادلاته لغيره من العلماء حول تلك الفتنة أنه كان ينظر إليها من زاوية تختلف عن كل رؤية يراها البسطاء وضعفاء الهمم.
وقد كانت نظرته العميقة الشاملة لتلك الفتنة أنها ليست بين أميرين فحسب وإنما كانت أبعد عمقا وأكثر اتساعا فقد كانت تستهدف دك حصون الدعوة وسحق الكيان المتماسك الذي أسسه السادة من آل سعود وكان المؤلف رحمه الله يرى أن الخوف كل الخوف ليس من نزاع الأميرين وإنما يرقب بحذر تحرك الأعداء التقليديين والأعداء الدخلاء المتربصين الجاثمين
ص -36-(50/31)
على الحدود، لهذا كان يرى أن أيا من ذينك الأميرين استطاع الغلبة وقيادة السفينة وأصبح قادرا على الولاية فإنه أحق من صاحبه لا سيما قد كان كل منهما متحمسا للدعوة وللحفاظ على ذلك التراث العظيم الذي تركه فيصل وقد جاء في إحدى رسائله لمن لامه على هذا المسلك قوله: أما ما صدر في حقي من الغيبة والقدح والاعتراض والمسبة ونسبتي إلى الهوى والعصبية فتلك أعراض انتهكت في ذات الله أعدها لديه جلا وعلى ليوم فقري وفاقتي وليس الكلام فيها وإنما المقصود بيان ما أشكل على الخواص والمنتسبين من طريقتي من تلك الفتنة العمياء الصماء إلى أن قال: فوقاني الله شر تلك الفتنة ولطف بنا وإنما الكلام في بيان ما نراه ونعقده في أمر الولاية بعد الغلبة والقهر فهي تنفذ بها الأحكام وتوجب الطاعة في المعروف كما عليه كافة أهل العلم على تقادم الأعصار ومر الدهور.
ص -37-
مؤلفاته الفذة
ومع انشغاله بالمهام والأعمال الكبيرة ومع حصول هذه الفتنة العمياء الصماء ومع اختطاف المنية له وهو في منتهى قوته ونشاطه وإنتاجه فقد شارك مشاركة كبيرة في المؤلفات إلا أنها في الرد على المبطلين ودحض شبه المنحرفين ففتن السياسة وفتن الإلحاد لم تعطه الفرصة لإتمام شرح النونية وإتمام شرح الكبائر وإخراج كتب أخرى تعالج علوما غريبة أو تقرب مسائل بعيدة.
ولذا مؤلفاته رحمه الله هي:
1-منهاج التأسيس في الرد على داود بن جرجس.
2-مصباح الظلام في الرد على من كذب على الشيخ الإمام.
3-البراهين الإسلامية في الرد على الشبهة الفارسية. وهو الذي نحققه الآن.
4-الرد على عبد المحسن الصحافي.
5-عيون الرسائل والمسائل على أن له مجموع رسائل وفتاوى تبلغ إلى ست وسبعين رسالة وقد جمعها الشيخ سليمان بن سمحان.
ص -38-(50/32)
تلاميذه
ومن تلاميذه الذين تلقوا العلم عنه:
1-ابنه العلامة الشيخ عبد الله 2-أخوه الشيخ إسحق
3-الشيخ حسن بن حسين آل الشيخ 4-الشيخ سليمان بن كمان
5-الشيخ محمد بن محمود 6-الشيخ حمد بن فارس
7-الشيخ صعب التويجري 8-الشيخ محمد بن عمر بن سليم
9-الشيخ عبد الرحمن بن محمد المانع 10-الشيخ محمد بن عبد الله بن سليم
11-الشيخ إبراهيم بن عبد الملك آلا لشيخ 12-الشيخ علي بن عيسى
13-الشيخ أحمد بن عيسى 14-الشيخ عثمان بن عيسى السبيعي
15-الشيخ محمد بن إبراهيم بن يوسف 16-الشيخ عمر بن يوسف
17-الشيخ صالح بن فرناس 18-الشيخ صالح الشهري
19-الشيخ عبد العزيز بن عبد الجبار 20-الشيخ عبد العزيز العديان
21-الشيخ عبد الله الوهيبي 22-الشيخ عبد الله الخرجي
23-الشيخ عبد الله بن جريس
وكثير من حملة العلم الكبار هم تلاميذه والآخذون عنه لانفراده في زمنه.
ص -39-
وفاته وثناء أهل الفضل عليه
توفي رحمه الله في مدينة الرياض في اليوم الرابع عشر من شهر ذي القعدة عام ثلاثة وتسعين ومائتين وألف للهجرة النبوية 1293هـ وله من العمر يومئذ ثمانية وستون -68- عاما سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين سبحان الحي الذي لا يموت ولا يزول وصلى الله على خير خلقه محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ص -40-(50/33)
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين ولا حول ولا قوة إلا بالله
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد.
فإن قد وقفت على أوراق كتبها بعض الملحدين يرد فيها بزعمه ما دل عليه الدليل من وجوب إخلاص الدعاء لله وترك مسألة ما سواه من الأنداد والأموات، وكذلك جحد فيها ما قام عليه البرهان ونطق به القرآن من اختصاصه تعالى من علم الغيب، وزعم أن للأولياء والصالحين بعد الممات تصرفا وأنهم يجيبون من قصدهم بالاستغاثة والدعاء (وإعطاء ما اختص به الباري لغيره ورد الشيخ على ذلك).
(قال الناقد الشيخ عبد اللطيف رحمه الله): وهذه الأقوال التي أوردها والشبه التي صدرها يعلم بطلانها وفسادها بالاضطرار من دين الإسلام وما جاءت به الرسل الكرام ولكن غربة الدين وقلة من يعرفه من المنتسبين قد يروج بسببها الباطل والشرك على الأكثرين. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه (إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية).
فإذا كان عدم معرفة الجاهلية سببا لنقض العرى الإسلامية فما ظنك بمن لا يعرف الإسلام ولا الجاهلية كما هو الغالب في هذه الأوقات.
ص -41-
عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أخذ(1) حصاة بيضاء فوضعها في كفه ثم قال: هذا الدين قد استضاء استضاءة هذه ثم أخذ كفا من التراب فجعل يذره على الحصاة حتى واراها ثم قال: والذي نفسي بيده ليجيئ أقوام يدفنون هذا الدين كما دفنت هذه الحصاة ولتسلكن طريق الذين كان من قبلكم حذو القذة بالقذة وحذو النعل بالنعل. يشير رضي الله عنه إلى جنس هؤلاء الذين يلقون على عوام الناس وضعفاء البصائر من الشبهات ما يستميلونهم به إلى دعاء غير الله والالتجاء بسواه والاعتماد والتوكل على الأولياء والصالحين، حتى ينسلخ من استجاب لهم من حقائق الملة والدين، ويصير في زمرة الجاهلية والمشركين.
وفي حديث ثوبان: (إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين) (2)(50/34)
__________
(1 ) وهذا الأثر الذي ذكره حذيفة رضي الله عنه لم أطلع على لفظه في الكتب الصحاح -وإن لم أستوعبها- إلى قوله رضي الله عنه (ولتسلكن طريق الذين كانوا من قبلكم)- وأما هذه الفقرة الأخيرة فجاءت مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري ومسلم وغيرهما وأيضا معنى هذا الأثر السابق جاء مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من رواية حذيفة نفسه في صحيح البخاري حيث أسنده هذا الإمام محمد بن إسماعيل رحمه الله فقال: حدثنا محمد بن المثنى:حدثنا الوليد بن مسلم: حدثنا بن جابر: حدثني بسر بن عبيد الله الحضرمي: أنه سمع أبا إدريس الخولاني: أنه سمع حذيفة بن اليمان يقول:(كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم وفيه دخن، قلت: وما دخنه؟ قال:(قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر)قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: (نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها) قلت: يا رسول الله صفهم لنا، قال:(هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا) قلت:فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال:(تلزم جماعة المسلمين وإمامهم) قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال:(فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك)).
أنظر صحيح البخاري حديث رقم 3411ج 3 ص1319 وأخرجه مسلم في الإمارة باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن رقم الحديث 1847.
(2 ) رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي والبرقاني في صحيحه.
ص -42-(50/35)
(رمى أهل التوحيد بالاعتزال جهلا منه): قال: وقد زعم أن من آمن بإخلاص الدعاء لله وآمن بأنه علام الغيوب وأنكر أن يكون لأحد من الأموات تصرف في ملك الله يصير معتزليا (وقال): وكأن الرجل لا يعرف الاعتزال بالمعنى الاصطلاحي.
فإن أصل الاعتزال هو القول بالمنزلة بين المنزلتين ثم انضاف إلى هذا القول ما كانت عليه المعتزلة من تعطيل الصفات وجحدها والقول في القدر والجبر ونحو ذلك مما هو معروف عنهم(1)
__________
(1 ) كالأصول الخمسة التي أصلوها مناقضين بها أصول الدين الخمسة التي اتفق عليها الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، وبنوا مذهبهم على الأصول الخمسة التي سموها العدل والتوحيد وإنفاذ الوعيد والمنزلة بين المنزلتين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولبسوا فيها الحق بالباطل، إذ شأن البدع هذا، اشتمالها على حق وباطل وهم مشبهة الأفعال، لأنهم قاسوا أفعال الله تعالى على أفعال عباده، وجعلوا ما يحسن من العباد يحسن منه وما يقبح من العباد يقبح منه، وقالوا يجب عليه أن يفعل كذا ولا يجوز له أن يفعل كذا بمقتضى ذلك القياس الفاسد فإن السيد من آدم لو رأى عبيده تزني بإمائه ولا يمنعهم ذلك لعد إما مستحسنا للقبيح، وإما عاجزا، فكيف يصح قياس أفعاله سبحانه وتعالى على أفعال عباده؟.
والكلام على هذا المعنى مبسوط في موضعه.
أما العدل، فستروا تحته نفي القدر، وقالوا إن الله لا يخلق الشر ولا يقضي به إذ لو خلقه ثم يعذبهم عليه يكون ذلك جورا والله تعالى عادل لا يجور ويلزم على هذا الأصل الفاسد أن الله تعالى يكون في ملكه ما لا يريده فيريد الشيء ولا يكون ملازمه وصفه بالعجز تعالى الله عن ذلك.
وأما التوحيد فستروا تحته القول بخلق القرآن، إذ لو كان غير مخلوق لزم تعدد القدماء، ويلزمهم على هذا القول الفاسد أن علمه وقدرته(50/36)
وسائر صفاته مخلوقة أو التناقض وأما الوعيد فقالوا: إذا أوعد بعض عبيده وعيدا فلا يجوز ألا يعذبهم ويخلف وعيده لأنه لا يخلف الميعاد، فلا يعفوا عمن يشاء ولا يغفر لمن يريد، عندهم.
وأما المنزلة بين المنزلتين فعندهم أن من ارتكب كبيرة يخرج من الإيمان ولا يدخل في الكفر.=
ص -43-
وأصل التسمية أن عمرو بن عبيد وأصحابه اعتزلوا مجلس الحسن البصري رحمه الله وأظهروا مخالفته.
هذا أصل الاعتزال في اصطلاح الفقهاء والمتكلمين، والنظار، وهذا هو الذي يطلق عليه عندهم الاعتزال بالمعنى الاصطلاحي.
وأما اعتزال من دعا غير الله والتجأ واعتمد على ذلك الغير لحصول مطلوبه أو دفع مرهوبه فإن اعتزال من فعل هذا و البراءة منه هو دين الإسلام الذي جاء به الرسل الكرام قال تعالى عن خليله إبراهيم: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً}(1).
ولله در الإمام الشافعي رحمه الله، حيث يقول:
يا راكبا قف بالمحصب من مني
واهتف بجانب خيفها والناهضي
إن كان رفضا حب آل محمد
فليشهد الثقلان أني رافضي(2)
وكانت الجاهلية تسمي رسول الله صلى الله عليه وسلم الصابيء وتقول صبأ محمد لما فارق دينهم وما هم عليه من عبادة الملائكة والصالحين والأوثان وكان أبو(50/37)
__________
=وأما الأمر بالمعروف فهو أنهم قالوا: علينا أن نأمر غيرنا بما أمرنا به، وأن نلزمه بما يلزمنا وذلك هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وضمنوه أنه يجوز الخروج على الأئمة بالقتال إذا جاروا.
(1 ) سورة مريم، آية رقم 48.
(2 ) إعراب هذين البيتين اللذين قالهما الإمام الشافعي رحمه الله: يا حرف نداء مبني على السكون لا محل له من الإعراب راكبا منادى نكرة غير مقصودة منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة في آخره، قف فعل أمر مبني على السكون وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت والجملة من الفعل والفاعل معترضة بين الجار والمجرور ومتعلقهما بالمحصب الجار والمجرور متعلق بقف من حرف جر مبني على السكون مني مجرور بمن وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف المحذوفة لضرورة الشعر منع من ظهورها التعذر الجار والمجرور متعلق براكبا واهتف الواو عاطفة مبني على الفتح اهتف فعل أمر مبني على السكون وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت والجملة من الفعل والفاعل معطوفة على جملة قف بجانب الباء حرف جر مبني على الكسر جانب مجرور بالباء وعلامة كسره ظاهرة.
ص -44-
جهل يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم وهو يدعو الناس إلى أن يمنعوه(1) لئلا(50/38)
__________
(1 ) (في الأصل ليبيغ لعل الصواب لئلا يبلغ كلام ربه) في آخره الجار و المجرور متعلق باهتف والناهض الواو حرف عطف مبني على الفتح الناهض معطوف على راكبا منصوب وعلامة نصبه فتحة مقدرة منع من ظهورها اشتغال المحل بالكسرة المجلوبة على الأخير لأجل الياء التي أتي بها للقافية ويجوز أن يكون معطوفا على جانب المجرور بالباء على تقدير معنى واهتف بالمرتحلين من مسجد الخيف إن كان رفضا إن حرف شرط وجزم مبني على السكون كان فعل ماض ناقص مبني على الفتح في محل جزم إن الشرطية رفضا خبرها مقدم منصوب وعلامة نصبه الفتحة ظاهرة في آخره حب اسمها مؤخر مرفوع وعلامة رفعه ضمة ظاهرة في آخره وجملة كان واسمها وخبرها فعل شرط فليشهد الفاء رابطة بأني اللام لام الأمر مبني على السكون يشهد فعل مضارع مجزوم بلام الأمر وعلامة جزمه السكون الثقلان فاعل مرفوع وعلامة رفعه الألف لأنه مثنى الخ.
ووجه استشهاد المؤلف بهذين البيتين الذين ذكرهما الشافعي رحمه الله أن حب آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واحترامهم دين وإيمان وإحسان وليس رفضا وتشيعا شريطة ألا يجر ذلك إلى مس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأدنى شيء من السب والطعن وحطهم عن المنازل التي أنزلهم الله فيها كما أن معنى الاعتزال الذي قرره القرآن هو الابتعاد عن الشرك وأهله والبراءة من كل ما يخل التوجه إلى الله وإخلاص العبادة له وليس معنى الاعتزال في القرآن ما اصطلح عليه الفقهاء والمتكلمون والنظار من إطلاقه على مفارقة جماعة من تلاميذ الحسن البصري مجلسه مخافتا ورفضا لما ذهب إليه مما يعتقده السلف الصالح من أصول الدين من أن مرتكب
الكبيرة مؤمن لا يخلد في النار إذا مات قبل أن يتوب عنها حيث ذهب هؤلاء المعتزلون عن مجلس الحسن إلى أن مرتكب الكبيرة يخرج من الإيمان ولا يدخل في الكفر وهو بين منزلتين (الإيمان والكفر) ويخلد في النار،(50/39)
والمعتزلة موافقون للخوارج هنا في حكم الآخرة فإنهم
موافقون على أن مرتكب الكبيرة مخلد في النار، قالت الخوارج: نسميه كافرا وقالت المعتزلة: نسميه فاسقا فالخلاف بينهم لفظي فقط، وأهل السنة أيضا متفقون على أنه يستحق الوعيد المرتب على ذلك الذنب كما وردت به النصوص لا كما يقوله المرجئية من أنه لا يضر مع الإيمان ذنب ولا ينفع مع الكفر طاعة وإذا اجتمعت نصوص الوعد التي استدلت بها المرجئية ونصوص الوعيد التي استدلت بها الخوارج و المعتزلة: تبين لك فساد القولين ولا فائدة في كلام هؤلاء سوى أنك تستفيد من كلام كل طائفة فساد مذهب الطائفة الأخرى. اهـ شرح الطحاوية ص 218.
والذين وافقوه فيما ذكر الجهمية المحضة كالقرامطة والإسماعيلية حيث وصفوه بالنفي فقط فقالوا ليس بحي ولا سميع ولا بصير فإذا قيل لهؤلاء: هذا مستلزم وصفه بنقيض ذلك كالموت والصمم والبكم قالوا: إنما يلزم ذلك لو كان قابلا لذلك وهذا الاعتذار يزيد قولهم
فسادا وكذلك من ضاهى هؤلاء وهم الذين يقولون: ليس بداخل العالم ولا خارجه إذا قيل=
ص -45-(50/40)
يبلغ كلام ربه ويقول: لا تطيعون هذا الصابئ، ومعنى الصابئ قريب من معنى المعتزلي.
(قال الشيخ عبد اللطيف رحمه الله):
قال المعترض: فصل ونحمدك يا واجب الوجود، (وقال الراد رحمه الله): هذا القول الذي صدر به رسالته وهذه العبارة لا تعرف في كلام الله الذي لا يضل من اتبعه ولا يشقى ولا في كلام رسوله الكريم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ولا في كلام أحد من أئمة الإسلام والهدى وإنما أخذها بعض المصنفين عن أهل الكلام. والمناطقة الذين أعرضوا في باب معرفة الله وإثبات وجوده وربوبيته عن الكتاب والسنة وما درج عليه أهل العلم والإيمان من سلف الأمة واعتمدوا في هذا الباب على مجرد الأقيسة الكلامية والمقدمات المنطقية، وأول من عرفت عنه هذه العبارة هو ابن سينا الطبيب المتكلم وخالف سلفه(1) في التعبير بهذا فإنه قسم الوجود إلى واجب(50/41)
__________
=لهم: هذا ممتنع في ضرورة العقل، كما إذا قيل: ليس بقديم ولا محدث ولا واجب ولا ممكن ولا قائم بنفسه ولا قائم بغيره قالوا: هذا إنما يكون إذا كان قابلا لذلك والقبول إنما
يكون من المتحيز انتفى قبول هذين المتناقضين فيقال لهم: علم الغيب بامتناع الخلو من هذين النقيضين هو علم مطلق لا يستثنى منه موجود والتحيز المذكور إذا أريد به كون الأحياز الموجودة تحيط به فهذا هو الداخل في العالم وإن أريد به أنه منحاز عن المخلوقات إلى مباين لها متميز عنها فهذا هو الخروج ومن هنا تعين بطلان مذهبهم. اهـ الرسالة التدمرية ص 43-44.
(1 ) والمراد بسلفه الذي أشار إليه الشيخ رحمه الله هو أرسطو حيث أنه أول حامل هذه الراية الإلحادية كما ذكر ذلك غير واحد من أهل العلم وقرر ذلك الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي في كتابه (الأدلة القواطع والبراهين في إبطال أصول الملحدين) الذي أوضح فيه جرائم الفلاسفة التي أدت بهم إلى الكفر بالله ورسله وملائكته وانسلاخهم عن الدين السماوي حيث قرر أنهم شر من اليهود والنصارى ومشركي العرب: قال في بيان ذلك: أما بعد فإن الله تعالى بعث رسله مبشرين ومنذرين وجعلهم الهداة والأئمة إلى كل علم صحيح نافع ودين صحيح وإلى كل صلاح وخير، وخص محمد صلى الله عليه وسلم بأن جعله خاتمهم وإمامهم وأنزل عليه الكتاب والحكمة فيهما الهدى والنور، وفيهما العلوم النافعة والحقائق الصادقة والأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة والآداب العالية إليهما ينتهي كل علم وحق وكمال.=
ص -46-
وممكن وجعل الممكن مستلزما للواجب لكنه قال: الواجب لا يكون إلا(50/42)
__________
=وقد أوضح الله ورسوله المسائل والدلائل والحقائق اليقينية والبراهين القطعية فمن تمسك بهما واهتدى بهما سعد في الدنيا والآخرة ومن أعرض عنهما ضل عن الهدى وشقي ونال الصفقة الخاسرة.
وأعظم الناس انحرافا عنهما ملاحدة الفلاسفة وزنادقة الدهريين وهم أكبر أعداء الرسل في كل زمان ومكان وهم شرار الخلق الدعاة إلى الضلال والشقاء، فإنهم تصدوا لمحاربة الأديان كلها وزين لهم الشيطان علومهم التي فرحوا بها واحتقروا لأجلها ما جاءت به الرسل {َلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}(غافر:83) وقد أصلوا لباطلهم أصولا يقلد فيها بعضهم بعضا وهي في غاية الفساد، يكفي اللبيب مجرد قصورها عن إقامة البراهين على نقضها لكونها مناقضة للعقل والنقل ولاكن زخرفوها وروجوها فانخدع بها أكثر الخلق، أعظمها عندهم أصل خبيث منقول عن معلمهم الأول أرسطو اليوناني المعروف بالإلحاد والجحد لرب العالمين والكفر به وبكتبه ورسله .
وهذا الأصل الذي تفرع عنه ضلالهم أنه من أراد الشروع في المعارف الإلهية فاليمسح من قلبه جميع العلوم والاعتقادات وليسع في إزالتها من قلبه بحسب مقدوره وليشك في الأشياء ثم ليكتفي بعقله وخياله ورأيه، وكملوا هذا الأصل الخبيث بحصرهم للمعلومات بالمحسوسات وما سوى ما أدركوه بحواسهم نفوه.
وهذا أصل أفسد عليهم علومهم وعقولهم وأديانهم، وقد بين الناس على اختلاف نحلهم بطلان أصولهم وأن أهلها خالفوا جميع الرسل وجميع العقلاء.
قال الشيخ السعدي رحمه الله: إن العلوم المدركة بالحس إذا نسبت إلى علوم الرسل –كالعلوم المتعلقة بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه وأحوال الآخرة والجزاء على الخير والشر وأمور الغيب بما كان وما يكون وما يسعد النفوس وما يشقيها- كانت كقطرة في بحر لجي، فأمور الغيب(50/43)
التي تتوقف على أخبار الرسل ووحي الله وهدايته العامة والخاصة أبطلها هؤلاء الملاحدة إذ ضيقوا دائرة المعلومات جدا في مدركات حواسهم، فلهذا حاروا واضطربوا ولم يستقر لهم قرار على أقوال تتفق عليها آرائهم لأنهم أنكروا العلم الحقيقي النافع الذي يربي النفوس ويسعدها ويرقيها في مدارج الكمال، ومن المنكر والزور تخصيصهم علومهم القاصرة بسم العلم فحيث أطلقوا العلم أرادوا به علوم الفلسفة وما نتج عنها ونفوا العلم عما سواها وهذا من باب المكابرات وقلب الحقائق وإلا فالعلم الحقيقي الذي أثنى الله عليه في كتابه علوم الرسل وهداية الوحي المنزل من عند العليم الخبير، وما سواها فإما علوم ضارة وإما قليلة النفع وإما نافعة في أمور الدنيا دون أمور الدين. أنظر كتاب المذكور ص 3-4-17-18.
ص -47-
واحدا فلا يكون له صفة ثبوته فسلبه صفات الكمال ونعوت الجلال ونعته هو ومن وافقه بالسلوب التي تقتضي أنه واجب العدم وهؤلاء أصابهم في لفظ واجب الوجود ما أصاب القدرية في القديم(1) والحادث والفلاسفة الذين يسندون الحوادث إلى الفلك يقولون بواجب الوجود، لكنه عندهم علم كل حال واحد في الأزل إلى الأبد يمتنع أن يصدر عنه حادث.(50/44)
__________
(1 ) والذي أصاب القدرية في القديم والحادث أن القدرية أنكرة علمه القديم وأثبتة علمه الحادث وقالوا: إن الله تعالى لا يعلم أفعال العباد حتى يفعلوا تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا وقالو أيضا: إنه يعلم الكليات دون الجزئيات، والقدر الذي هو التقدير المطابق للعلم يتضمن أصولا عظيمة.
أحدها: أنه عالم بالأمور المقدرة كليها وجزئيها قبل كونها فيثبت علمه القديم.
الثاني: أن التقدير يتضمن مقادير المخلوقات ومقاديرها هي صفاتها المعينة المختصة بها فإن الله تعالى قد جعل لكل شيء قدرا قال تعالى:
{وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ الفرقان َقْدِيراً} سورة الفرقان: من الآية 2. فالخلق يتضمن التقدير تقدير الشيء في نفسه بأن يجعل له قدرا وتقديره قبل وجوده فإذا كان قد كتب لكل مخلوق قدره الذي يخصه في كميته وكيفيته كان ذلك أبلغ في العلم بالأمور الجزئية المعينة خلافا للقدرية الذين يقولون: إنه تعالى يعلم الكليات دون الجزئيات ويعلم الحادث دون القديم، فالقدر يتضمن العلم القديم والحادث وعلم الجزئيات والكليات قال تعالى: {إنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ومَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ}القمر49-50.وقال أيضا: {ما أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}(الحديد:22) وقال:{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}(الحج:70) وهذه الآيات الكريمة من أدل الدليل على بطلان مذهب القدرية نفاة العلم القديم السابق قبحهم الله وقوله تعالى: {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}الحج: من الآية70) أي أن علمه تعالى الأشياء قبل كونها سهل عليه عز وجل لأنه يعلم ما كان وما(50/45)
يكون، وقوله تعالى:{لِكَيْلا تَأْسَوْا }(الحديد: من الآية23) الآية أي أعلمناكم بتقدم علمنا وسبق كتابتنا للأشياء قبل كونها وتقديرنا الكائنات قبل وجودها لتعلموا أن ما أصابكم لم يكن ليخطأكم وما أخطأكم لم يكن ليصيبكم ولا تحزنوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم أي لا تفخروا بما أنعم الله به عليكم على الناس فإن ذلك ليس بسعيكم ولا بكدكم وإنما هو عن قدر الله ورزقه لكم فلا تتخذوا نعم الله أشرا ولا بطرا تفخرون بها على العباد ولهذا قال الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً}(النساء: من الآية36) قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: ناظروا القدرية بالعلم فإن أقروا به خصموا وإن أنكروا كفروا، فالله تعالى يعلم أن هذا مستطيع يفعل ما استطاعه فيثيبه وهذا مستطيع لا يفعل ما استطاعه فيعذبه فإنما يعذبه لأنه لم يفعل مع القدرة وقد علم الله ذلك منه ومن لا يستطيع لا يأمره ولا يعذبه على ما لم يستطعه.اهـ شرح الطحاوية ص 216ببعض التصرف.
ص -48-(50/46)
والواجب في هذا الباب و غيره اتباع ما جاء في كتاب الله والتعبير بالعبارة الشرعية التي دل عليها الكتاب والسنة وترك المتشابه من الكلام، ونحن لا ننكر أن العقل يوجب وجود رب قادر قاهر حكيم خلاق رزاق وهذا تقتضيه العقول السليمة وتوجبه الفطر المستقيمة كما دل عليه كتاب الله في غير موضع.
وهؤلاء لا يعنون هذا بل يوافقون ابن سينا وشيعته على سلب الصفات، ومن صح قصده فعليه أن يعبر بالعبارة الشرعية ويختار الوصف الذي اختاره الرب لنفسه والتعبير بالاسم الكريم المتناهي في التنزيه والتقديس(1) المستلزم لجميع صفات الكمال ونعوت الجلال.
قال الله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}(2) وقال جلا وعلا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}(3) وقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(4) ونحو ذلك كثير مما يدل على تعليق الحمد بهذا الاسم الأقدس الموصوف بجميل الصفات والنعوت وقد يعلق الحمد بغيره سواء كان جملة إسمية أو فعلية وما جاء في كتاب الله أكمل وأتم.
(قال الناقد رحمه الله تعالى):
(فصل رمي أهل التوحيد الذين أنكروا الاستغاثة بغير الله بالاعتزال).
(قال الناقد رحمه الله تعالى):
قال المعترض: اعلم أن المنكرين للاستمداد من أهل القبور أهل
__________
(1 ) في الأصل (والقدس – ولعل الأنسب ما أثبتناه).
(2 ) سورة الفاتحة: رقم الآية 2.
(3 ) سورة الأنعام: رقم الآية 1.
(4 ) سورة فاطر: رقم الآية 1.
ص -49-(50/47)
الاعتزال مطلقا وبعض الفقهاء من أهل السنة فيما عدا الأنبياء عليهم السلام وقد ظهرت طائفة أفرطوا في الإنكار فأردت أن أورد في هذه الأوراق شبهاتهم الدائرة على ألسنتهم مع الأجوبة وأورد أدلة لإثبات ما ينفونه (قال الشيخ عبد اللطيف رحمه الله) والجواب عن هذا أن يقال: هذا الكلام يشهد بجهالة قائله وضلاله وإفلاسه من العلم والهدى فإن هذه العبارة لا تصدر عمن عرف الإسلام و التوحيد ولا من عرف الاعتزال والسنة، وما يراد بهما عند أهل العلم، فإن الاستمداد من الأموات ودعائهم هو طلب المدد بما شأنه أن يستمد ويطلب فيدخل تحت هذه العبارة كل مطلوب ومرغوب من أمر الدنيا والآخرة وهذا هو دين المشركين من الكتابيين و الأميين، قال تعالى فيمن دعا الأنبياء والملائكة والصالحين واستمد منهم: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً}(1).
قالت(2) طائفة(3) من السلف: نزلت هذه الآية فيمن يدعوا الملائكة والمسيح وأمه وعزيرا وصالح الجن فأخبرهم تعالى أن هؤلاء المدعوين عبيده كما أن الداعين لهم كذلك يرجون رحمته ويخافون عذابه، ومن كانت هذه حاله وهذا نعته فلا يدعي مع الله ولا يرجى من دونه لأن الدعاء هو العبادة(50/48)
__________
(1 ) سورة الإسراء: الآية 56-57.
(2 ) في الأصل قال طائفة وأثبتناه (قالت طائفة) ولعل هذه الكلمة هي الفصحى حيث جاء نص القرآن بها.
(3 ) وهذه الطائفة التي أشار إليها الشيخ رحمه الله بن مسعود وابن عباس ومجاهد وقتادة وهذا ما ذكره ابن كثير في تفسيره، وأما الإمام البخاري رحمه الله تعالى فلم يذكر إلا صالح الجن حيث ساق الحديث بسنده إلى ابن مسعود حدثني عمرو بن علي: حدثنا يحيى : حدثنا سفيان: حدثني سليمان عن إبراهيم عن أبي معمر عن عبد الله: إلى ربهم الوسيلة قال: كان ناسا من الإنس يعبدون ناسا من الجن فأسلم الجن وتمسك هؤلاء بدينهم، زاد الأشجعي عن سفيان عن الأعمش: (قل ادعوا الذين زعمتم) انظر صحيح البخاري م 4 ص 1747 رقم الحديث 4437.
ص -50-(50/49)
وهي حق الله لا يليق صرفها لغيره لكمال غناه، وعلمه وقدسيته ورحمته وقيوميته وانفراده بالتأثير والتدبير وقال تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}(1).
(قال الشيخ رحمه الله تعالى): قال بعض السلف: هذه الآية تقطع عروق الشرك فإنه تعالى نفى عمن دعاه المشركون أن يكون له من الملك شيء ولو مثقال ذرة ونفى مشاركته ولو قلت ونفى أن يكون له ظهير يعاونه ويؤازره لكمال غناه وعلمه ورحمته وعموم قيوميته ثم نفى الشفاعة عنده إلا لمن أذن له ففي هذا من صرف الوجوه إليه وترك التعلق على غيره(2) كائنا من كان ما لا يخفى على من عقل عن الله، وقال تعالى:{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ}(3).
فذكر عجزهم عن خلق الذباب الذي هو من أضعف المخلوقات وأخبر أنه لو سلبهم شيئا لم استطاعوا استنقاذه منه وهذا غاية في الحجة والبيان وتقرير ضعف من دعا مع الله ممن يستمد منه عباد القبور ومن يدعوا الأموات لأن العجز عن خلق الذباب وصف مشترك بين جميع المخلوقات، فدلت هذه الآية الكريمة مع اختصار لفظها على إبطال دعوة كل مخلوق وقررت دليله بذكر العجز عن خلق الذباب واستنقاذ ما سلب فأي شيء يستمد ويطلب ممن هذا حاله؟، فالحمد لله الذي جعل كتابه تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة(50/50)
__________
(1 ) سورة سبأ: الآية 22-23.
(2 ) الأفصح تعدية هذا المصدر (التعلق) بالباء ولكنه يجوز أن ينوب حرف الجر بعضه عن بعض.
(3 ) سورة الحج: رقم الآية 73.
ص -51-
وبشرى للمسلمين، وقال تعالى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً}(1).
وطلب الاستمداد دعاء بإجماع أهل اللغة والمفسرين قال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}(2) فأمر بدعائه وندب عباده إليه، كما قال في الآية الأخرى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}(3).
ومن دعا الناس إلى الاستمداد من الأموات ودعاءهم فقد شاق الله ورسوله وسعى في صرف الوجوه عن مسألة باريها وفاطرها إلى مسألة مخلوق ضعيف لا يملك ولا يستطيع لنفسه نفعا ولا ضرا وكيف يجيز لاستمداد من الأموات؟ (4) والرغبة إليهم من يؤمن بما أنزل الله من الكتاب والحكمة؟ قال تعالى:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}(5) قيل معناها: سلوني أعطكم، وقيل معناها: اعبدوني أثبكم، والقولان متلازمان لأن كل سائل عابد وكل عابد سائل، وقال تعالى:{يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}(6) فنفى عنهم الملك لشيء(50/51)
وإن قل كالقطمير الذي هو قشر النواة، وذكر أنهم لا يسمعون دعاءهم(7) وأنهم لو سمعوا على سبيل الفرض والتقدير ما استجابوا لداعيهم، فأي استمداد يبقى بعد هذا لو كانوا
__________
(1 ) سورة الجن: رقم الآية 18.
(2 ) سورة الأعراف: رقم الآية 55.
(3 ) سورة لبقرة: رقم الآية 186.
(4 ) وهذا المسلك الذي سلكه هذا الجاحد يعارض هذه الآية الكريمة:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ}الأحقاف الآية 5.
(5 ) سورة غافر: رقم الآية 60.
(6 ) سورة فاطر: الآية 13-14.
(7 ) في الأصل دعاءه ولعل الصواب ما أثبتناه.
ص -52-(50/52)
يعلمون فكل من سمع هذا وله قلب يعقل به لابد أن يعرف ويستيقن أن هذا غاية في البيان والكشف عن حال من استمد منه المشركون أو زعموا أن له تصرفا أو شفاعة ترجى منه وتطلب، وقال تعالى:{فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}(1) فأمر عباده بإخلاص الدين له والدعاء، وطلب الاستمداد من أكبر أصول الدين، فمن صرفه لغيره تعالى فهو غير مخلص له الدين لأن الدعاء من أجل العبادات وأفضل الطاعات كما في حديث النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الدعاء هو العبادة"(2) وفي حديث أنس: "الدعاء مخ العبادة"(3) وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "الدعاء سلاح المؤمن وعماد الدين"(4)، وبهذا نعلم أن من أجاز صرفه للأموات فهو ممن يجيز دين المشركين وأن يعدل(5) لله رب العالمين.
وذكر البخاري رحمه الله وغيره أن عمر رضي الله عنه استسقى بالعباس في خلافته ولم يستمد السقيا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلهم أقره ورضيه ومضت السنة على ذلك سلفا وخلفا ولم ينقل عن أحد ممن يعتد به عند المسلمين حرف واحد يدل على جواز الاستمداد من الأموات بل لما وقع بعد القرون المفضلة من العامة استمداد الأموات كفرهم أهل العلم والإيمان وأنكروه أشد(50/53)
__________
(1 ) سورة غافر: رقم الآية 14.
(2 )رواه الأربعة وصححه الترمذي أنظر سبل السلام ج 4 ص 218.
(3 ) رواه الترمذي.
(4 ) رواه الحاكم وصححه وتمامه "ونور السماوات والأرضين"
(5 )ويشهد لما ذكره الشيخ رحمه الله في إبطال هذه الدعوة الفاسدة من الأدلة قوله تعالى:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} (الأنعام:1) أي يسوون معبوداتهم الباطلة بخالق السماوات والأرض وفي معنى هذه الآية قوله تعالى:{إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}الشعراء 98-102، فهذه أعظم شهادة ينالها أهل الحق في هدم أصول الشرك قال تعالى:{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} (الأنعام:19) .
ص -53-(50/54)
الإنكار وذكروا أنه فعل عابد الأصنام قال الإمام ابن عقيل(1) في (فنونه): لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها هم لأنفسهم فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم وهم عندي كفار بهذه الأوضاع مثل تعظيم القبور وتخليقها وطلب الحوائج من الموتى، ودس الرقاع في القبور، فيها يا مولاي افعل بي كذا، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم ويتوكل عليهم كفر إجماعا فحكى الإجماع على كفر من فعله.
وقال الإمام الحافظ ابن عبد الهادي في رده على السبكي: قوله أي قول السبكي: المبالغة في تعظيمه أي تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم واجبة، يريد بها المبالغة بحسب ما يراه كل أحد تعظيما حتى الحج إلى قبره والسجود له والطواف به واعتقاد أنه يعلم الغيب وأنه يعطي ويمنع ويملك لمن استغاث به من دون الله الضر والنفع وأنه يقضي الحوائج للسائلين ويفرج كربات المكروبين، وأنه يشفع فيمن يشاء، ويدخل من يشاء الجنة، فدعوى المبالغة في هذا التعظيم مبالغة في الشرك(2)(50/55)
__________
(1 ) هو أبو الوفاء ابن عقيل علي بن عقيل بن محمد بن عقيل البغدادي الفقيه الأصولي عالم العراق وشيخ الحنابلة في وقته من تلاميذه القاضي أبو يعلى صنف كتابا كبيرا في مائتي مجلد سماه (كتاب الفنون) وكتاب في الفقه سماه (الفصول) في عشر مجلدات وغير ذلك توفي سنة 513 ثلاث عشرة وخمسمائة من الهجرة النبوية. اهـ حاشية كتاب الرد على المنطقيين لشيخ الإسلام ابن تيمية ص 142.
(2 )وهو كذلك لأن الله تعالى لم يأمر عباده أن يستعيذوا ويستغيثوا بغيره ويلتجئوا إليه كائنا من كان وذم الذين استعاذوا بالجن قال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} (الجن:6) ، بل أمرهم بالاستعاذة به والاستغاثة والالتجاء إليه قال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} (المؤمنون:97-98)، وقال: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (لأعراف:200)، وقال تعالى:{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} (الفلق:1-2) ، إلى غير ذلك من الآيات التي فيها قصر الاستعاذة والاستغاثة على الله وحده دون غيره لأن صرف ذلك لغيره شرك أكبر، والنبي صلى الله عليه وسلم حمى جانب التوحيد حتى لا يلعب الشيطان بضعفاء الإيمان ويوقعهم في الشرك من حيث لا يشعرون وبين لأصحابه أنه لا=
ص -54-(50/56)
__________
=يغيث أحدا وإنما المغيث لكل مستغيث به هو الله وحده لا شريك له، قال الله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} (النمل:62) .
عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال: "كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين فقال بعضهم لبعض: قوموا بنا نستغيث برسول الله من هذا المنافق فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله".
قال أهل العلم: فمراد الصحابة الاستغاثة به صل الله عليه وسلم فيما يقدر عليه بكف المنافق عن أذاهم بنحو ضربه أو زجره لا للاستغاثة به صلى الله عليه وسلم فيما لا يقدر عليه.
والظاهر أن مراده صلى الله عليه وسلم إرشادهم إلى التأديب مع الله في الألفاظ لأن استغاثتهم به صلى الله عليه وسلم من المنافق من الأمور التي يقدر عليها يزجره أو ينهره ونحو ذلك، فظهر أن المراد بذلك الإرشاد إلى حسن اللفظ، والحماية منه لجناب التوحيد، وتعظيم الله تبارك وتعالى.
فإذا كان هذا كلامه صلى الله عليه وسلم في الاستغاثة به فيما يقدر عليه فكيف بالاستغاثة به أو بغيره من الأمور المهمة التي لا يقدر عليها إلا الله؟ كما هو جار على ألسنة كثير من الشعراء وغيرهم؟
ومن هنا يتضح لنا جليا أن الاستغاثة بغير الله شرك بالله، بل هو أكبر أنواع الشرك لأن الدعاء مخ العبادة ولأن من خصائص الألوهية إفراد الله بسؤال ذلك. اهـ من شرح كتاب التوحيد تيسير العزيز الحميد ص 206.
ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن أكثر الناس الذين ابتلاهم الله بدعوة غيره من الموتى وغيرهم لا ترتاح ضمائرهم ولا تطمئن قلوبهم بالتوجه إلى الله في طلب قضاء حوائجهم وكشف مصائبهم ولا تنطق ألسنتهم بنداء اسم من أسماء الله وخاصة القبوريين المعاصرين بخلاف المشركين(50/57)
الأقدمين، فإنهم يلجأون في حال الكرب إلى إخلاص الدعاء لله وحده لا شريك له، وقد حكى الله عنهم ذلك في غير ما آية قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْأِنْسَانُ كَفُوراً} (الإسراء:67) ، وقال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} (العنكبوت:65) ، إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على هذا المعنى.
وهذا من أعظم المعجزات التي أودعها الباري سبحانه وتعالى في كتابه العزيز حيث تحدث فيه عما أحدثه مشركوا العصور المتأخرة من إخلاص التوجه بدعائهم إلى غير الله في وقت البلاء والشدة رغم أن المشركين الذين عاشروا نزوله يخلصون الدعاء لله في طلب كشف ما ألم بهم من الكرب وإذا أنقذهم من تلك الكروب رجعوا إلى ما كانوا عليه من دعاء غيره معه، ومع ذلك فقد أوضح ما وقع فيه أهل العصر بعد قرون مديدة حيث أنهم إذا داهمهم =
ص -55-(50/58)
وانسلاخ من جملة الدين، وهذا اعتقاد عباد القبور فيمن هو دون الرسول صلى الله عليه وسلم فضلا عن
الرسول، والأمر أعظم وأطم من ذلك.
وفي الفتاوى البزازية من كتب الحنفية قال علماؤنا من قال: أرواح المشايخ حاضرة تعلم يكفر، فإن أراد بالعلماء علماء الشريعة فهو حكاية للإجماع على كفر معتقد ذلك وإن أراد علماء الحنفية خاصة فهو حكاية لاتفاقهم.
وفي شروح الدر المختار الذي هو عمدة الحنفية في هذه الأعصار: التشنيع والتشديد في ما أحدثه العامة عند قبر أحمد البدوي(1) من التعظيم وطلب الحوائج وإرخاء الستور وقال صنع الله الحلبي الحنفي في كتابه الذي ألفه في الرد على من ادعى أن للأولياء تصرفات في حياتهم وبعد الممات، ويستغاث بهم في الشدائد والبليات، وبهم تكشف المهمات، فيأتون قبورهم وينادونهم في قضاء حوائجهم(2) مستدلين على أن ذلك منهم كرامة، وقالوا:(50/59)
__________
=بلاء وكرب ومصيبة لهجوا بنداء غير الله: يا سيدي فلان مدد ويا سيدي فلان أدركنا وينسون خالق سيدهم ورازقه ومدبر الأمور كاشف الضير وجالب الخير وعالم الغيب والشهادة، ولا شك أنه حجبهم وحالهم عن التلذذ بذكر اسم الباري سوء أعمالهم وخبث نواياهم، قال تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} (الزمر:45)، وقال جل وعلا: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} (غافر:12).
ومن أغرب ما شهدناه من الحقائق التي ذكرها القرآن حيال هذا المعنى الذي نحن بصدده، أننا ركبنا الباخرة مع جمع غفير أكثرهم من هذا النوع، ولما أبحرنا وسرنا شوطا بعيدا عصفت ريح شديدة وتلاطمت الأمواج وأحدثت رجة عنيفة في الباخرة فإذا أهل كل بلد يصرخ بشيخه الذي يعبده فيه من دون الله وقلنا هذا غرابة الدين، وحاولنا أن نذكرهم بخالق السماوات والأرض وقابلونا بالشتم
والسب ولا حول ولا قوة إلا بالله.
(1 )هو أحمد بن علي بن إبراهيم الحسيني البدوي أبو البيان شهاب الدين أبو العباس صوفي ولد بفاس وطاف البلاد وأقام بمكة والمدينة ودخل مصر والشام والعراق وعظم شأنه في بلاد مصر وابتلي به الجهلة حتى عبدوه من دون الله وأشركوه بالله وأيقن أهل الإيمان أنه عبد من عباد الله ولد سنة ستة وتسعين وخمسمائة هجرية وتوفي سنة خمسة وسبعين وستمائة ودفن في طنطا. اهـ من معجم المألفين لعمر كحالة المجلد الأول ص 314.
(2 )في الأصل الحاجات أو كلاهما فصح.
ص -56-(50/60)
منهم الأبدال ونقباء وأوتاد، ونجباء وسبعون وسبعة، وأربعون وأربعة، والقطب هو الغوث للناس وعليه المدار بلا التباس وجوزوا لهم الذبح والنذور، وأثبتوا فيهما الأجور وقال: وهذا الكلام فيه تفريط وإفراط بل فيه الهلاك الأبدي، والعذاب السرمدي، لما فيه من روائج الشرك المحقق ومضادة الكتاب العزيز المصدق، ومخالف لعقائد الأئمة وما اجتمعت عليه الأمة.
وفي التنزيل:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً}(1) إلى أن قال:(الفصل الأول فيما انتحلوه من الإفك الوخيم والشرك العظيم، إلى أن قال: فأما قولهم: (إن للأولياء تصرفات في حياتهم وبعد الممات) فيرده قوله تعالى: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ}(2) وقوله:{أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}(3) ولله ملك السماوات والأرض ونحوه من الآيات الدالة على أنه المنفرد بالخلق والتدبير والتصرف والتقدير ولا شيء لغيره في شيء بوجه من الوجوه فالكل تحت ملكه وقهره تصرفا وملكا وإحياء وإماتة وخلقا وتمدح الرب بانفراده في ملكه بآيات من كتابه كقوله تعالى:{هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}(4) {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ}(5)، وذكر آيات في هذا المعنى ثم قال: فقوله تعالى في الآيات كلها:{ مِنْ دُونِهِ } أي من غيره فإنه عام يدخل فيه من اعتقدته من ولي، وشيطان تستمد، فإن من لم يقدر على نصر نفسه كيف يمد غيره؟ إلى أن قال: فكيف يتصرف لغيره من لا يمكن أن يتصرف لنفسه؟ إن هذا من السفاهة لقول وخيم وشرك عظيم إلى أن قال: وأما القول: بالتصرف بعد الممات فهو أشنع وأبدع من القول بالتصرف في(50/61)
__________
(1 )سورة النساء: رقم الآية 115.
(2 )سورة النمل: من الآية 62.
(3 )سورة الأعراف: من الآية 54.
(4 )سورة فاطر: من الآية 3.
(5 )سورة فاطر: من الآية 13.
ص -57-
الحياة، قال جل ذكره:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}(1) وقال جل وعلا:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}(2).
{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}(3)، {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}(4)، وفي الحديث: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له(5).
فجميع ذلك هو ونحوه دال على انقطاع الحس والحركة من الميت، فإن أرواحهم ممسكة، وإن أعمالهم منقطعة عن زيادة ونقصان، فدل ذلك على أن ليس للميت تصرف في ذاته فضلا عن غيره بحركة، وأن روحه محبوسة مرهونة بعملها من خير وشر فإذا عجز عن حركة نفسه فكيف يتصرف في غيره؟ فالله سبحانه يخبر أن الأرواح عنده وهؤلاء الملحدون يقولون إن الأرواح مطلقة متصرفة،{قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}(6) قال: وأما اعتقادهم أن هذه التصرفات لهم من الكرامات فهو من المغلطة لأن الكرامة شيء من عند الله يكرم بها أوليائه لا قصد لهم فيه ولا تحري ولا قدرة ولا علم، كما في قصة مريم بنت عمران، وأسيد بن خضير وأبي مسلم الخولاني(7)(50/62)
__________
(1 )سورة الزمر: رقم الآية 30.
(2 )سورة الزمر: رقم الآية 42.
(3 )سورة آل عمران: رقم الآية 185.
(4 )سورة المدثر: رقم الآية 38.
(5 )الحديث رواه مسلم من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وعن جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(6 )سورة البقرة: من الآية 140.
(7 )وأما الكرامة الخارقة للعادة التي أجرى الله لمريم فهي ما قصت الآية الكريمة من أن الله ساق=
ص -58-
قال: وأما قولهم يستغاث بهم في الشدائد، فهذا أقبح مما قبله، وأبدع لمصادمة قوله جل ذكره:{َمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ}(1).
وقال جل وعلا:{قلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ}(2) وذكر آيات في هذا المعنى ثم قال: فإنه جل ذكره قرر أنه الكاشف(50/63)
__________
=إليها رزقا طعاما وفاكهة لم تكن موجودة عند كفيلها الذي كفل لها بالإنفاق عليها بالقرعة كما ذكرت الآية قال تعالى:{كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}(آل عمران:37) وقال تعالى: {ذلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ}(آل عمران:44)
وكفيلها الذي تكفل لها هو زكريا الذي تحته خالتها وأيضا الخوارق للعادة التي أكرم الله بها مريم ما قصة الآية الكريمة في سورة مريم في قوله تعالى: حيث كانت في حيرة من أمرها كما حكى الله عنها: قالت:{يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً}(مريم:23) فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا فكلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا الآيات.
وأما الخوارق للعادة الكرامة التي أكرم الله بها أسيد بن خضير فهو ما جاء في الحديث الصحيح أن أسيد بن خضير وعباد بن بشر كانا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فلما خرجا من عنده صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة كان مع كل واحد منهما مثل المصباح بين أيديهما فلما افترقا صار مع كل واحد منهما نور يضيئه في طريقه إلى بيته، ولا شك أن ما جرى لهما كرامة من كرامات الأولياء الذين ذكرهم الله في كتابه حيث قال: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}(يونس:62) الآيات من سورة يونس، وعن أنس رضي الله عنه أن رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه(50/64)
وسلم خرجا من عند النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة ومعهما مثل المصبحين بين أيديهما فلما افترقا صار مع كل واحد منهم واحد حتى أتى أهله رواه البخاري وفي رواية له: أن الرجلين أسيد بن خضير وعباد بن بشر رضي الله عنهما.
وأما ما ذكره لأبي مسلم الخولاني من خارق للعادة فهو ما جرى له مع الأسود العنسي حيث ألقاه الأسود العنسي في لهيب النار فأنجاه الله منها وخرج منها ولم يمسه شيء وهؤلاء كلهم لم يعلموا ما أكرمهم الله به إلا بعد أن حقق الله لهم ذلك إكراما لهم على قوة إيمانهم.
(1 )سورة النمل: الآية 61-62.
(2 )سورة الأنعام: رقم الآية 63.
ص -59-(50/65)
للضر لا غيره وأنه المتعين لكشف الشدائد والكرب، وأنه المنفرد بإجابة المضطرين، وأنه المستغاث لذلك كله، وأنه القادر على دفع الضر والقادر على إيصال الخير فهو المنفرد بذلك فإذا تعين هو جل ذكره خرج غيره من ملك ونبي وولي، قال: الاستغاثة تجوز في الأسباب الظاهرة العادية من الأمور الحسية في قتال أو إدراك عدو أو سبع ونحوهم كقولهم يا لزيد ويا لقوم للمسلمين(1)، كما ذكروا ذلك في كتب النحو بحسب الأسباب الظاهرة بالفعل، وأما الاستغاثة بالقوة والتأثير أو في الأمور المعنوية من الشدائد من المرض وخوف الغرق والضيق والفقر وطلب الرزق ونحوه فمن خصائص الله فلا يطلب فيها غيره.
قال: وأما كونهم معتقدين التأثير منهم في قضاء حاجاتهم كما تفعله جاهلية العرب والصوفية الجهال وينادونهم ويستنجدون بهم فهذا من المنكرات إلى أن قال: من اعتقد أن لغير الله من نبي أو ولي أو روح أو غير ذلك في كشف كربة وقضاء حاجة تأثيرا فقد وقع في واد جهل خطير فهو على شفا حفرة من السعير.
وأما كونهم مستدلين على أن ذلك منهم كرامات فحاشا لله أن يكون أولياء الله بهذه المثابة فهذا ظن أهل الأوثان كذلك أخبر الرحمن:{هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}(2).
وقال أيضا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ(50/66)
__________
(1 )في الأصل: يا لزيد يا لقوم يا للمسلمين، وهذه العبارة غير فصيحة عند النحاة حيث أنه أدخل على المستغاث له ياء النداء والمشهور دخولها على المستغاث به أو المعطوف عليه لا المستغاث له وكذلك المعطوف على المستغاث به بواسطة حرف العطف وقد حذفها رحمه الله حيث قال: يا لزيد يا لقوم الخ ويجوز أن تكون فصيحة إن أراد بالكلمات الثلاث المستغاث به وحذف المستغاث له في الجميع والتقدير يا لزيد لبكر يا لقوم لخالد ويا للمسلمين للضعفاء ولكن ذكر المستغاث به مع حذف المستغاث له لم يكن مشهورا وأعتقد أن هذا من الناسخ.
(2 )سورة يونس: من الآية 18.
ص -60-(50/67)
فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ}(1).
{أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ}(2)، فإن ذكر ما ليس من شأنه النفع ولا دفع الضر من نبي وولي وغيره على وجه الإمداد منه إشراك مع الله، إذ لا قادر على الدفع غيره ولا خير إلا خيره، قال: وأما ما قالوه: من أن منهم أبدالا ونقباء وأوتاد ونجباء وسبعين وسبعة وأربعين وأربعة، والقطب هو الغوث للناس فهذا من موضوعات إفكهم كما ذكره القاضي المحدث ابن العربي في سراج المريدين، وابن الجوزي، وابن تيمية انتهى باختصار.
ومثل هذا يوجد في كلام غيرهم من العلماء، والمقصود أن أهل العلم ما زالوا ينكرون هذه الأمور ويبينون أنها شرك، وإن كان بعض المتأخرين ممن ينسب إلى العلم والدين ممن أصيب في عقله ودينه قد يرخص في بعض هذه الأمور وهو مخطئ في ذلك، ضال مخالف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين فكل واحد مأخوذ من قوله ومتروك إلا قول ربنا وقول رسوله صلى الله عليه وسلم فإن ذلك لا يتطرق إليه الخطأ بحال، بل واجب على الخلق إتباعه في كل زمان، على أنه لو أجمع المتأخرون على جواز هذا لم يعتد بإجماعهم المخالف لكلام الله، وكلام رسوله في محل النزاع لأنه إجماع غير معصوم، بل هو من زلة العالم التي حذرنا من اتباعها.
وأما الإجماع المعصوم فهو إجماع الصحابة والتابعين وما وافقه وهو السواد الأعظم الذي ورد الحث على اتباعه وإن لم يكن عليه إلا الغرباء الذين أخبر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدا فطوبى للغرباء"(3) لا ما كان عليه العوام والطغام، والخلف المتأخرون الذين يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون.(50/68)
__________
(1 )سورة الزمر: من الآية 3.
(2 )سورة يس: رقم الآية 23.
(3 )رواه مسلم.
ص -61-
تنبيه
اعلم أن المشركين الأولين لا يقولون بجواز الاستمداد في كل شيء، وكل مطلوب كما تقتضيه عبارة هذا المعترض لأن الله تعالى حكى عنهم في كتابه أنهم يخلصون الدعاء والطلب في الشدة والضراء كما قال تعالى:{وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْأِنْسَانُ كَفُوراً}(1) وقال:{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ}(2).
وبهذا نعلم أن قول هذا المعترض شر من قول المشركين الأولين والله تعالى المستعان وسيأتي مزيدا لهذا عند الكلام على مسألة التصرف إن شاء الله تعالى، وقوله إن المنكرين للاستمداد مطلقا معتزلة ومن قصره على الأنبياء ليس معتزليا، وأظنه سمع إنكار المعتزلة للكرامات وإثبات بعضهم المعجزات فقط فظن أن هذه هي مسألة الاستمداد، وهذا جهل عظيم وخلط وخيم، بل مسألة الاستمداد من الأموات نوع من الشرك الأكبر الذي لا يغفر ولم يجزه أحد ممن ينتسب إلى الإسلام لا المعتزلة ولا غيرهم بل كلهم مجمعون على تكفير من فعله كما تقدمت حكاية الإجماع عن شيخ الإسلام
__________
(1 )سورة الإسراء: رقم الآية 67.
(2 )سورة العنكبوت: رقم الآية 65.
ص -63-(50/69)
وليس هذا من المسائل التي تختلف فيها الأمة سنيهم وبدعيهم بل هذه من أكبر دعائم الملة وأعظم أركان الإسلام لا يخالف فيها من عرف الإسلام وما جاءت به الرسل الكرام ولكن الرجل غلبت عليه العجمة فلم يفرق بين الاعتزال وبين الشرك الذي هو الاستمداد من غير الله، قال الحسن رحمه الله: دهمتهم العجمة(1)، وقال أبو عمر وابن العلاء لعمر وابن عبيد: لما قال له: إن الله لا يخلف وعده قال له: من العجمة أتيت إن هذا وعيد لا وعد وأنشده:
وإني وإن أوعدته أو وعدته
لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
قال المعترض: الشبهة الأولى أن الموتى لا سماع لهم)، لقوله تعالى:{وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ}(2) وقوله تعالى:{إِنَّكَ لا تُسْمِعُ(50/70)
__________
(1 )أي أصابتهم مصيبة العجمة التي هي عدم فهم الحق عن الله ورسوله وليس المراد أن كون الشخص أعجميا يعيبه ويذم له وذلك أن العبرة العلم النافع والعمل الصالح والسيرة الحسنة، غذ الفضل الحقيقي: هو اتباع ما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم من الإيمان والعلم ظاهرا وباطنا فكل من كان في ذلك أمكن كان أفضل، والفضل إنما هو بالأسماء المحمودة في الكتاب والسنة مثل الإسلام والإيمان والبر والتقوى والعلم والعمل الصالح والإحسان لا بمجرد كوزن الإنسان عربيا أو أعجميا أو أسود أو أبيض ولا بكونه قرويا أو بدويا ويشهد لذلك خير الشاهدين حيث يقول:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}(الحجرات:13)، ويشهد أيضا لذلك قول رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء: مؤمن تقي وفاجر شقي وأنتم بنوا آدم وآدم من تراب"، وفي الصحيحين عن عمر بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن بني فلان ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله وصالح المؤمنين"، فأخبر صلى الله عليه وسلم عن بطن قريب النسب أنهم ليسوا بمجرد النسب أولياء، إنما وليه الله وصالح المؤمنين من جميع الأصناف اهـ أنظر كتاب (اقتضاء الصراط المستقيم) لشيخ الإسلام ابن تيمية ص 144.
ومن هنا نعرف تماما أن قول الشيخ رحمه الله تعالى أنه غلبت عليه العجمة حيث لم يفرق بين الاعتزال والشرك مراده بذلك أنه ابتعد عن الجادة وأخظأ الصواب عنادا لغلبة نفسه الأمارة بالسوء ودفعها إياه إلى نصر الباطل والشرك ضد الحق والتوحيد والله أعلم.
(2 )سورة فاطر: من الآية 22.
ص -64-(50/71)
الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ}(1).
وإذ لا سماع لهم فلا استمداد، وهكذا نقل المعترض ثم قال: وأجيب على أن الآيتين لا تدلان على نفي السماع من الأموات لأن مبناهما على التشبيه والتمثيل والمراد هنا الكفار حقيقة، ووجه الشبه عدم الانتفاع بالسماع، وعدم الإجابة، فكما أن الأموات لا ينتفعون بسماع ولا يجيبون كذلك الكفار لا ينتفعون بسماع الموعظة، ولا يجيبون للحق فيتبعونه فكأنهم أموات، قال صاحب معالم التنزيل(2) في تفسيره قوله تعالى:{إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} أي الكفار، وقال القاضي في تفسيره في سورة النمل: إنما شبهوا بالموتى لعدم انتفاعهم لما يتلى عليهم كما شبهوا بالصم في قوله تعالى: {وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ}
فإن إسماعهم في هذا الحال أبعد.
ثم ساق حديث قتادة في سماع أهل القليب، وحديثا في سماع الميت كقرع النعال وحديث بريدة، وحديث ابن عباس في التسليم على الموتى.
وأطال الكلام بما لا طائل تحته، وكلامه يدل على عدم علم قائله وعدم شعوره بأدلة خصمه، فإن نفي الاستمداد من الموتى ودعائهم عليه من الأدلة ما لا يمكن حصره ولا استقصائه.
وعبارته التي ساقها في نفي انتفاع الموتى بالسماع، وبما يتلى عليهم(50/72)
__________
(1 )سورة النمل: رقم الآية 80.
(2 )وصاحب معالم التنزيل هو أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد المعروف بالفراء البغوي الفقيه الشافعي المحدث المفسر الملقب بمحيي السنة وركن الدين تفقه البغوي على القاضي حسين، وسمع الحديث منه وكان تقيا ورعا زاهدا قانعا إذا ألقى الدرس لا يبقيه إلا على طهارة توفي رحمه الله سنة عشر وخمسمائة من الهجرة النبوية وقد جاوز الثمانين ودفن عند شيخه القاضي حسين، كان البغوي إمام في التفسير والحديث والفقه وعده التاج السبكي من علماء الشافعية الأعلام فمن تصانيفه معالم التنزيل في التفسير وشرح السنة في الحديث والمصابيح في الحديث أيضا والجمع بين الصحيحين، والتهذيب وغير ذلك وبورك له في تصانيفه ورزق فيها القبول لحن نيته، أنظر طبقات المفسرين للسيوطي ص13 ووفيات الأعيان ج 1 ص 145-146 والطبقات الكبرى لابن السبكي ج 4 ص 214-215.
ص -65-(50/73)
كافية في إبطال الاستمداد من الموتى، وطلبهم، والاستعانة بهم وهذا والله أعلم هو مراد من نفي السماع عنهم ممن حكى قولهم الفارسي وتصدى للرد عليهم، ولا نعلم قائلا ينفي سماع الموتى إلا بهذا المعنى.
وما حكي عن أم المؤمنين في إنكار السماع ثبت رجوعها عنه لما بلغتها الأحاديث المثبتة فإذا عرفت أن نفي السماع يطلق على من لم ينتفع ولا يجيب وعرفت أن هذا هو الوجه في تشبيه من لم ينتفع بسماع آيات الله من الكفار والفساق بالموتى عرفت حينئذ وتبين لك أن عدم انتفاع الأموات بالسماع من أوضح الحجج والبيانات على أن الميت لا يدعى ولا يستمد منه لأنه إذا ثبت أنه لا ينتفع وأنه هو المشبه به بطل استمداده، واستحالة إجابته.
وفي الحديث الصحيح: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له"(1) فإذا انقطع عمله وكسبه لنفسه وعجز عن ذلك، وحيل بينه وبينه فكيف يمد غيره؟ ويتصرف في شيء من ملك الله:{سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ}(2).
واعلم أن مسألة السماع فيها كلام للمحققين لا يحيط به علما إلا من فقه عن الله قلبه ودق في باب العلم نظره، وفهمه، وأما غليظ الطبع، قليل العلم باللسان فهو بعيد عن إدراك هذا الشأن، فتأمل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}(3)(50/74)
__________
(1 )رواه مسلم بن الحجاج من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2 )سورة يونس: الآية 68-70.
(3 )سورة فاطر: الآية 13-14.
ص -66-
فإن هذا فيه دعوى نفي الإجابة فقط مع بقاء أصل السماع لئلا يتحد فعل الشرط وجوابه، والأظهر أن سماع الميت مقيد بحال دون حال لا في جميع حالاته كما يشير إليه قول قتادة من أهل القليب، وحال الأموات يختلف اختلافا كبيرا(1).
وللأرواح بعد مفارقة هذا الجسم شأن لا يحيط بتفصيله إلا الله تعالى، وأيضا فالفرق بين القرب والبعد ثابت عند الأئمة(2) القائلين بسماع الموتى، ومن زعم أم الاستمداد منهم جائز لا يفرق بين القريب والبعيد كما هو مشاهد ممن يدعوا الأنبياء والصالحين ويستمد منهم، وأفضل الخلق صلى الله عليه وسلم قد ثبت أنه يبلغ صلاة أمته مع البعد عن قبره ولا يسمعه فكيف بغيره؟ والاستمداد من الأموات هو أصل شرك العالم وضلالهم(3) كما ذكر غير واحد في تفسير قوله تعالى:{وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً}(4).
فإن هذه الأسماء رجال صالحين كانوا في قوم نوح فماتوا فعكفوا على قبورهم وصوروا تماثيلهم بقصد التشويق إلى العبادة ومحبة الصالحين فلما مات أولئك ونسي العلم قال من بعدهم إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر فعبدوهم.
وهو كما ترى صريحا(5) في أنهم عبدوا لأجل الاستمداد واستسقاء(50/75)
__________
(1 )في الأصل عظيما ولعل الأفصح منه ما سجلناه.
(2 )في الأصل عند الأمة ورأينا أن الأنسب ما أثبتناه.
(3 )إعادة الضمير إلى العالم بالجمع باعتبار المعنى وأما باعتبار اللفظ فيجب عود الضمير عليه بالإفراد حيث أنه مفرد.
(4 )سورة نوح: رقم الآية 23.
(5 )والصواب رفع صريحا حيث أنه خبر مبتدأ الذي هو لفظ(وهو) وعائد ما محذوف من قوله كما ترى والجملة من الفعل والفاعل صلة الموصول لا محل لها من الإعراب والجار والمجرور متعلق بصريح والله أعلم بالصواب.
ص -67-(50/76)
المطر، وذكر أبو الجوزاء عن ابن عباس(1) في قوله تعالى:{أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى}(2) قال كان اللات رجل يلت السويق للحجاج فعكفوا على قبره انتهى، ولم يقصد هؤلاء سوى الاستمداد بالموتى والصالحين، وطلب جاههم وشفاعتهم، ولو لا ذلك لم تعبد وهذا مطلوب كل مشرك كما قال الفرابي وابن سينا وغيرهما من أكابر المشركين: إن الميت المقرب يفيض على روحه إفاضات فإذا علق الزائر قلبه وهمته به فاض على روح الزائرين من روح المزورين تلك الإفاضات كما ينعكس النور والشعاع من الجسم الصافي في المقابل، وهذا محض الشرك والكفر فإن تعليق القلب والهمة بغير الله والإقبال على سواه تعالى هو عين الشرك الأكبر الذي أنكره القرآن وكفر أهله وأباح دمائهم وأموالهم لأهل التوحيد والإيمان قال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ}(3) وقال تعالى:{وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ}(4) وقال عن شعيب:
{عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}(5) والفرابي(6) وابن سينا من عباد الكواكب ومن الدعاة إلى دين الصابئة المشركين الذين بعث فيهم إبراهيم الخليل كما يعرف ذلك من وقف على كلامه.(50/77)
__________
(1 )في الأصل: وذكر أبو الجوزي والصحيح ما أثبتناه وذلك أن البخاري ذكر هذا الأثر بسنده إلى ابن عباس في تفسير هذه الآية من سورة النجم ومن هنا يتبين أن ما في الأصل خطأ من الناسخ وإليك السند بتمامه، حدثنا مسلم بن إبراهيم: حدثنا أبو الأشهب حدثنا أبو الجوزاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله:(واللات والعزى) كان اللات رجلا يلت سويق الحاج مج 4 ص 1841.
(2 )سور النجم: رقم الآية 19.
(3 )سورة البقرة: رقم الآية 165.
(4 )سورة الزمر: رقم الآية 54.
(5 )سورة هود: رقم الآية 88. .
(6 )الفرابي نسبة إلى فارب من بلاد الترك وكنيته أبو نصر محمد بن محمد بن طرخان=
ص -68-(50/78)
تتمة
ما تقدم لك من حكاية قول المشركين واستمدادهم بالموتى والصالحين أخف ضررا وأقل كفرا ممن قال: يستمد من الأولياء والصالحين كما زعمه الفارسي فإن هذا شرك في الربوبية والتدبير وذاك شرك في الألوهية والعبادة فلا تغفل عن غليظ شركهم وعظيم إفكهم.
فصل
قال الفارسي: الشبهة الثانية أن الموتى لا علم لهم بأحوالنا لأن العلم بالغيب مختص به تعالى ليس لغيره لقوله تعالى:{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}(1) وقوله تعالى: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ}(2) وقوله تعالى:{قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}(3)، وقوله تعالى:{وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ(50/79)
__________
=بن أوزلغ التركي الحكيم المشهور الملقب بالمعلم الثاني أكبر فلاسفة المسلمين صاحب التصانيف في الحكمة والمنطق والموسيقى ، أخذ المنطق عن ابن بشرمتي بن يونس الحكيم ببغداد ثم ارتحل إلى مدينة حران وفيها يوحنا بن حيلان الحكيم النصراني فأخذ عنه طرفا من المنطق أيضا توفي بدمشق سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة 339 هـ أنظر كتاب الرد وابن سينا هو على ابن عبد الله بن الحسين بن على بن سينا البخاري شيخ الفلاسفة صاحب التصانيف في الطب والمنطق والطبيعيات والإلهيات توفي سنة 438هـ صنف نحو مائة كتاب منها الشفاء في الحكمة أربع مجلدات وقد طبع منه الفن الأول من الطبيعيات والفن الثالث عشر من الإلهيات بطهران سنة ثلث وثلاثمائة وألف الهجرية انظر كتاب الرد على المنطقيين لشيخ الإسلام ابن تيمية.
(1 )سورة الأنعام: رقم الآية 59.
(2 )سورة الأنعام: رقم الآية 50.
(3 )سورة النمل: رقم الآية 65.
ص -69-(50/80)
لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}(1)، إلى غير ذلك من الآيات مما يدل على نفي الغيب عما سواه تعالى. وإذا كان كذلك فكيف يستمد مما لا علم له بأحوالنا خصوصا بعد الموت ؟ " قال الشيخ المحقق عبد اللطيف ".
قال المعترض: و أجيب بأنها إنما تدل على ثبوت العلم بالغيب له تعالى لذاته بذاته بمعنى أنه لا يحصل له من غيره ولا تدل عن نفيه من عباده مطلقا بل يجوز أن يحصل لهم مستفادا من الله بأن يخلقه تعالى فيهم بلا سبب أو بالأسباب الخفية كالوحي و الإلهام والرؤيا الصالحة والمشاهدة الحقة كما يدل عليه الاستثناء في قوله تعالى:{وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}(2).
وقوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً}(3) قال القاضي في تفسيره(4) الأول إلا بما شاء أن يعلم وقال في تفسيره الثاني من رسول بيان لمن، قال: واستدل به على إبطال الكرامات وجوابه تخصيص الرسول بالملك والإظهار بما يكون بغير واسطة، وكرامات الأولياء بإطلاعهم على المغيبات إنما يكون تلقيا من الملائكة كاطلاعنا على أحوال الآخرة بواسطة الأنبياء عليهم السلام انتهى.
ثم ساق الفارسي ما جاء في مناقب عمر رضي الله عنه أنه رأى سارية من مسافة بعيدة لا يرى ولا يسمع من مثلها في العادة فناداها يا سارية الجبل، ثم قال: إذا علمت أن العلم(5) قد يحصل لعباد الله الصالحين(50/81)
__________
(1 )سورة الأعراف: رقم الآية 188.
(2 )سورة البقرة: رقم الآية 255.
(3 )سورة الجن: رقم الآية 26-27.
(4 )المراد بقوله في تفسيره الأول أي الاستثناء الأول وهو(إلا بما شاء)، وبقوله في تفسيره الثاني أي الاستثناء الثاني وهو (إلا من ارتضى من رسول).
(5 ) في الأصل على المغيبات ورأينا أن الأنسب بالمقام الباء فأثبتناه والله أعلم.
ص -70-
بإعطائه إياه، والعلم صفة للنفس ينعم الله تعالى عليهم بها وهي باقية بعد مفارقة البدن فيجوز أن يكون حاصلا لهم بعدها على وجه أتم وأكمل لأنها بعد المفارقة تتخلص عن الكدورات البدنية وتنقشع عنهما الظلمات الجسمية، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(1).
فكيف بقوم يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم حتى اشتعلت في قلوبهم من كثرة الذكر نار الشوق و المحبة واشتد حبهم يوما فيوما فزادوا حبا على حبهم وشوقا على شوقهم فيصيروا فانين في الله باقين به فبالله يسمعون وبه يبصرون وبه يبطشون ذلك فض الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
وإذا كان حالهم في الحياة كما ذكرنا فأي سبب حدث وأزال عنهم كراماتهم؟، قال الله تعالى:{أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}(2) أي الذين يتولونه بالطاعة، ويتولاهم بالكرامة لا يلحقهم مكروه ولا يفوتهم مأمول، هكذا فسره القاضي في تفسيره ثم ساق الفارسي آثارا تروى منها حديث أنس في عرض أعمال الأحياء على أقاربهم وعشائرهم من الموتى، وحديث أبي أيوب، وحديث جابر، وحديث النعمان.
والمعنى متقارب، ثم ذكر عن المشكاة: إذا قال العبد: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أصاب كل عبد صالح في السماء والأرض، ثم قال الملا قاري(3) في المرقاة في شرح قوله صلى الله عليه(50/82)
وسلم: "ولا تجعلوا قبري عيدا فإن
__________
(1 )سورة الأنفال: رقم الآية 53 وهي من قبيل الاقتباس.
(2 )سورة يونس: رقم الآية 62.
(3 )الملا علي قاري: هو علي بن محمد بن سلطان وقيل علي بن سلطان الهروي المعروف بالقاري نور الدين فقيه حنفي من صدور العلم في عصره ولد في هراة وسكن مكة المكرمة وتوفي بها وله كتب كثيرة في القراءات السبع، وشرح المقدمة الجزرية في التجويد، ومرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح في الحديث الشريف الذي جاء ذكره في هذه الرسالة وشرح=
ص -71-(50/83)
صلاتكم تبلغني حيث كنتم" إنه قال القاضي: وذلك أن النفوس الزاكية القدسية إذا تجردت عن العلائق البدنية عرجت واتصلت بالملأ الأعلى ةلم يبقى لها حجاب فترى الكل كالمشاهدة بنفسها أو إخبار الملك من السر له وأيضا قال في المرقاة في شرح حديث: "إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة فأكثروا علي فيه من الصلاة فإن صلاتكم معروضة علي": يعني على وجه القول فيه وإلى فهي دائما تعرض عليه بواسطة الملائكة إلا عند روضته فيسمعها بحضرته ثم قال في شرح آخر الحديث: وأما على ما قدمه الطيب فإنما يفيد حصر العرض والسماع بعد الموت بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام وليس المر كذلك فإن سائر الأموات أيضا يسمعون السلام والكلام وتعرض عليهم أعمال أقاربهم في بعض الأيام انتهى المقصود من كلامه (قال المدرك رحمه الله):
و الجواب وبالله التوفيق أن يقال: هذه المسألة بينها الله تعالى في كتابه بيانا شافيا بنصوص صريحة لا تحتمل التأويل ولا تقبل التحريف والتبديل، وتأويل هذا الفارسي لتلك النصوص من جنس تأويل الجهمية لآيات الصفات وأحاديثها، ومن جنس تحريف القرامطة والباطنية لآيات الأمر والنهي والوعد والوعيد ومتى سلط التأويل على أديان الرسل وما جاؤوا به من عند الله لم يبق شيء منها فنعوذ بالله من الحور بعد الكور ومن الضلال بعد الهدى ومن الغي بعد الرشاد قال تعالى:{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ}(1)الآية، وقال جل وعلا: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ}(2)الآية، وقال سبحانه: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ}(3) الآية(50/84)
__________
=الشفاء للقاضي عياض وكلها مطبوعة توفي رحمه الله تعالى سنة أربع عشرة وألف من الهجرة النبوية 1014هـ أنظر الأعلام للزركلي ج 5 ص 166.
(1 )سورة الأنعام: من الآية 59.
(2 )سورة الأنعام: من الآية 50.
(3 )سورة النمل: من الآية 65.
ص -72-
وقال لنبيه:{قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}(1)، وقال:{وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(2)، وقال جل وعلا:{وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}(3)، وقال: {سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}(4)، وقال تعالى:{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}(5).
فمدح الله تعال نفسه وأثنى عليها بانفراده واختصاصه بعلم الغيب دون خلقه فإن كمال العلم وإحاطته بجميع المعلومات كلياتها وجزئياتها وصف كمال استحق به تعالى أن يطاع ويتقى ويرجى ويعبد.
وعلم الخلائق أجمعين بالنسبة إلى علمه تعالى كنسبة ما يأخذه العصفور في منقاره من البحار كما في قصة موسى والخضر أنهما لما ركبا في السفينة جاء عصفور فنقر في البحر فقال الخضر: ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما(50/85)
ينقص هذا العصفور من البحر فمن تقرر هذا لديه وآمن بما دل عليه لم يلتفت إلى تحريف معطل ولا إلى رأي مجادل مبطل.
فقول هذا الفارسي وأمثاله إنها إنما تدل على ثبوت العلم بالغيب له تعالى لذته بذاته بمعنى أنه لا يحصل له من غيره ولا تدل على نفيه من عباده
__________
(1 )سورة الأعراف: رقم الآية 188.
(2 )سورة النحل: رقم الآية 77.
(3 )سورة هود: رقم الآية 123.
(4 )سورة المائدة: رقم الآية 116.
(5 )سورة الحج: رقم الآية 70.
ص -73-(50/86)
مطلقا قول باطل وتحريف عاطل فإن بعض هذه الآيات صريحة في النفي عن غيره تعالى وإثبات ذلك له تعالى فدلت على أمرين نفي وإثبات وحق وعدل كما دلت عليه كلمة الإخلاص ومن قال: إن المعنى أنه يعلم بنفسه وليس في ذلك نفي عمن سواه تعالى فهو كمن يقول: إن لا إله إلا الله دلت على إثبات إلهيته وليس فيها نفي لإلهية غيره تعالى الله عن قول هؤلاء علوا كبيرا، وهذا التحريف من وحي الشيطان الذي قصد به رد ما جاء به كتاب الله وسنة رسوله، ومن دان به فقد انسلخ من الإسلام والعياذ بالله ولا يمر على سمع الموحد أسذج من هذا التحريف وأشنع منه.
ومن الذي ادعى أن علمه تعالى حاصل له من غيره؟ حتى يقصد رد قوله بهذه الآيات؟ هذا لا يقوله أحد ممن أثبت للعالم صانعا مدبرا وأين قوله تعالى:{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ}(1)، من هذا المعنى الذي أورده الفارسي؟ فإن صريح الآية نفي علم مفاتح الغيب عن غيره وكذلك قوله تعالى:{قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ}(2)، فيه نفي علمه عن كل من في السماوات والأرض الغيب إلا الله تعالى، وهي صريحة في النفي عن غيره كالتي قبلها فكلاهما دل على معنيين: ثبوت علمه بذاته ونفي ذلك عمن سواه، وأبطل شيء قول الفارسي بأنها لا تدل على نفيه عن عباده وكذلك قوله لنبيه: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ}(3) الآية صريحة في نفي علم الغيب عن سيد ولد آدم فضلا عن غيره وكذلك قوله تعالى:{وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}(4)، تقدم الجار والمجرور يفيد الحصر والاختصاص فعلم الغيب له لا لسواه.
وقوله تعالى:{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}(5) هذا يفيد اختصاصه تعالى وانفراده بعلم الغيب لأن السياق لبيان(50/87)
الكمال والمدح والثناء على نفسه تعالى ولو ثبت ذلك
__________
(1 )سورة الأنعام: من الآية 59.
(2 )سورة النمل: من الآية 65.
(3 )سورة الأنعام: من الآية 50.
(4 )سورة هود: من الآية 123.
ص -74-
لغيره لفات المقصود من السياق وكذلك قول المسيح يشير إلى هذا كما يدل عليه إقحام (1) الضمير بين خبر إن واسمها وكما يفيد التأكيد بإن.
وفي الخبر عن جويرية رضي الله عنها: تغنت بقولها- والصحيح أنها لم تغن ولكن جاريتين تغنتا عندها كما في صحيح البخاري-: " وفينا رسول الله يعلم ما في غد فسمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها: دعي هذا وقولي غيره " وفي حديث عمر في سؤال جبريل(2) عن الإسلام والإيمان والإحسان والساعة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له في خمس لا يعلمهن إلا الله وتلا قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}(3)(50/88)
__________
(1)سورة الحج: 70.
(2) وقد اجتمع في هذه الآية الكريمة وهي قوله تعالى: {سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ ....} الآية هامش رقم 5 ص 75 ما يؤكد المعنى الذي أراد الشيخ عبد اللطيف أن يقرر بما لا يدع مجالا للشك لأي عاقل وهي إن المؤكدة وإقحام ضمير الرفع وكون خبر أن أمثلة مبالغة وهو علام ولا يشك مؤمن في صدق هذا الناقد حيث وضع أمامه هذه الأدلة القاطعة ولكن مطموس القلب متى يتسنى له ذلك ونعوذ بالله من عمي القلب والبصيرة (فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ).
وتوضيح هذه العبارة أنه توسط ضمير الرفع المنفصل أنت بين اسم إن (الكاف) من أنك وبين الخبر الذي هو علام وهذه الأساليب كلها أساليب التوكيد كما قال ابن مالك في الفتية: ومضمر الرفع الذي قد انفصل.... أكد به كل ضمير اتصل.
(3 )سورة لقمان: رقم الآية 34.
(4 ) وحديث جبريل رواه البخاري في باب الإيمان ورواه مسلم أيضا في بيان الإيمان والإسلام والإحسان رقم 9 و 10 و 8 ولفظ البخاري بسنده: حدثنا مسدد قال: حدثنا إبراهيم بن إسماعيل أخبرنا أبو حيان التميمي عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم بارزا يوما للناس فأتاه جبريل فقال ما الإيمان: قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه وبلقائه ورسله وتؤمن بالبعث قال: ما الإسلام؟ قال: أن تعبد الله ولا تشرك به وتقيم الصلاة وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان قال: ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك قال متى الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل وسأخبرك عن أشراطها إذا ولدت الأمة ربتها وإذا تطاول رعاة الإبل البهم في البنيان في خمس الخ انظر البخاري ج 1 ص 27 حديث 50.
(4) وظاهر
ص -75-(50/89)
وقالت عائشة رضي الله عنها:(من زعم أن محمد رأى ربه فقد كذب ومن زعم أن أحد يعلم الغيب فقد كذب) (1) وما دلت عليه الآيات من الاستثناء في بعضها كقوله تعالى:{وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاء}(2) وقوله جلت قدرته:{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ}(3) الآية، فهذا يدل على أمرين: تأكد النفي وتحققه، وإخراج بعض الأفراد التي يعلمها من شاء الله كما يعلم بالوحي ونحوه(4).
والواجب على الناس اتباع ما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم من الكتاب(50/90)
__________
(1 ) وهذا الحديث جاء في صحيح البخاري رحمه الله بلفظ: عن عائشة رضي الله عنها قالت: من حدثك أن محمد صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد كذب وهو يقول: "لا تدركه الأبصار" ومن حدثك أنه يعلم الغيب فقد كذب وهو يقول: " لا يعلم الغيب إلا الله " وبلفظ: (من زعم أن محمد رأى ربه فقد أعظم ولكن قد رأى جبريل في صورته وخلقه سادا بين الأفق).
وأخرجه مسلم أيضا في الإيمان باب: معنى قول الله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} رقم الحديث 177.
(2 ) سورة البقرة: رقم الآية 255.
(3 ) سورة الجن: رقم الآية 27.
(4 ) ولو ترك هذا اللفظ (ونحوه) من هذه العبارة لكان التعبير أعمق وأدق حيث يوهم أن ذلك إلهام وما يراه النائم في نومه ويتحقق عين ما رآه في اليقظة عملا بحديث: "لا تكاد رؤيا المؤمن تكذب في آخر الزمان" ومن هنا يتشبث به القبوريون أمثال المردود عليه الذين يعتقدون أن الأولياء الذين يعبدونهم من دون الله يعلمون الغيب بطريق الكشف وقطعا لهذه الأوهام الخيالية فإن ترك هذا اللفظ في نظري أسلم فإن قيل بأن الوحي يتناول وحي الرسالة ووحي الإلهام وما يراه النائم في النوم فإنما تتوهمونه يرد عليه كما يرد على هذا اللفظ لقوله تعالى:{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} (الشورى:51) ، وقوله: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} (القصص:7)، وقوله: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} (النحل:68).
قلنا إن الإلهام وما(50/91)
يراه النائم فيتحقق في اليقظة ليس من قبيل علم الغيب لا من قريب ولا من بعيد وذلك أن الإلهام هو أن يلهم الله المرء التوجه إلى عمل ما ينفعه في الدين والدنيا وإلى الكف عما يضره ويرشده إلى ذلك ويقوي عزمه عليه ويملأ قلبه ثباتا ويقينا ويشرح صدره لذلك العمل المعزوم عليه وينفذه عمليا لما وقر في قلبه كل ذلك يتم من غير علم من المرء نتيجة ذلك العمل المبرم ولكن توجهه هذا موفق لأنه إلهام من عالم الغيب الذي لا يضل ولا ينسى سبحانه وتعالى وهذا التوفيق لا علاقة للمرء بعلم الغيب وكذلك ما يراه النائم.
ص -76-(50/92)
والحكمة وترك من انتحله المبطلون من رد النصوص بأنواع التحريفات والتأويلات المصادمة لمدلول النصوص، وتأمل قوله تعالى:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ}(1)، كيف تجد تحته من إثبات الحمد والثناء المطلق على نفسه المقدسة بما دلت عليه هاتان الآيتان الكريمتان(2)، ولو قيل بمشاركة غيره في ذلك لفات الحمد المقصود ولما تأتى هذا الثناء بما يشاركه فيه مخلوق ضعيف قال مالك بن أنس رحمه الله تعالى: (أو كلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما نزل به جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم أو كما قال : وقد ذم الله اليهود بتحريف الكلم عن مواضعه فقال تعالى:{مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً}(3).
وفي الحديث: "لتتبعن سنن من كان قبلكم خذوا القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا يا رسول الله: اليهود والنصارى قال: (فمن)؟" (4)(50/93)
__________
(1 ) سورة سبأ: الآية 1-2.
(2 )في الأصل (هذه) والصواب ما أثبتناه (هاتان الآيتان).
(3 ) سورة النساء: رقم الآية 46.ولكن الناسخ ظن أن هذه هي التي في سورة المائدة ولذلك سجل: ونسوا حظا مما ذكروا به وتلك بداية الآية:{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ} (المائدة:13) وهذه الآية التي في سورة النساء أولها: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا}(النساء: من الآية46) وبناء على ذلك: و الصواب ما استثناه في صلب الرسالة.
(4 ) وقد عزا الشيخ محمد بن عبد الوهاب هذا الحديث إلى الشيخين البخاري ومسلم ولكن اللفظ في الصحيحين يخالف هذا اللفظ حيث جاء في صحيح البخاري مرتين مرة بلفظ، حدثنا سعيد بن مريم: حدثنا أبو غسان قال: حدثني زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: "لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه ، قلنا : يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال (فمن)؟" رقم هذا الحديث 3269: ومرة بلفظ حدثنا محمد بن عبد العزيز: حدثنا أبو عمر الصنعاني من اليمن عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي=
ص -77-(50/94)
فهذا التحريف إنما عرف عن اليهود، وأن ما جاء من الاستثناء في بعض الآيات كقوله: في آية الكرسي:
{وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}(1)، وقوله:{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ }(2)، وكذلك إخباره صلى الله عليه وسلم عن أشياء وقعت فيما مضى، إخباره عن أشياء تقع في أمته فهذا ونحوه أمر جزئي بالنسبة إلى ما اختص الله بعلمه كما مر في حديث موسى وقول الخضر له: ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من البحر، وهذا بالنسبة إلى علم الله وإن كثر واتسع بالنسبة إلى علوم الخلق فإن ما يحصل لرسول الله من العلوم والمعارف لا نسبة بينه وبين علم الله الذي أحاط بكل شيء علما وأحصى كل شيء عددا، وهذا الجزئي لا يفيد أن من علمه فقد علم الغيب أو أنه ناسخ للنصوص العامة المطلقة: غاية ما هناك إثبات ما دل عليه استثناء في الآيات كبعض الأفراد الجزئية وهو لا يمنع العموم بل العام باق على عمومه(3) كما لا يخفى على من له أدنى فهم، وبهذا تعلم(50/95)
__________
=سعيد الخدري، عن نبي صلى الله عليه وسلم قال: "لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم، قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: (فمن)؟
وأخرجه مسلم في العلم باب: اتباع سنن اليهود والنصارى رقم الحديث في مسلم 2669.
وغاية الأمر أن هذا الحديث موجود في الصحيحين بهذه الألفاظ التي ذكرناها وأما اللفظ الذي ساقه المصنف لا يوجد فيهما ولعله في الكتب الأخرى ولا يضر اختلاف اللفظ ما دام الأصل موجودا فيهما والله أعلم.
(1 ) سورة البقرة: من الآية 255.
(2 ) سورة الجن: رقم الآية 27.
(3 )الأولى (بل العام باق على عمومه) لأن ذلك أصل قرره تعريف الأصوليين تقسيمهم العام حيث قسموه إلى ثلاثة أقسام عام مخصوص وعام أريد به الخصوص وعام باق على عمومه وقد عرفت سر ذلك من كلام المؤلف رحمه الله فإن الاستثناء الذي جاء في نص الكتاب والسنة لا يخصص علم الغيب بغيره سبحانه حيث أن الجزئي الدقيق الذي يعلمه الله أنبياءه من علمه تعالى وهذا لا يخرج العام من عمومه كما قرر ذلك أهل التحقيق والثبت والله أعلم.
ص -78-
بطلان دعوى هذا الفارسي وأمثاله أن الأموات يعلمون الغيب فإن هذه الدعوة مصادمة ومصادرة لما مر من النصوص ولأن الغيب اسم يقع على كل ما غاب عن الخلق من العلوم والمعارف، وما كان وما يكون وما لم لكن كيف يكون كما قال العلامة ابن القيم في معنى اسمه العليم شعرا:
وهو العليم أحاط علما بالذي
في الكون من سر ومن إعلان
وبكل شيء علمه سبحانه
فهو المحيط وليس ذا نسيان
وكذاك يعلم ما يكون غدا وما
قد كان والموجود في ذا الآن
وكذاك أمر لم يكن لو كان
كيف يكون ذا إمكان(50/96)
فمن عرف هذا عرف أنه لا يجوز إطلاق القول بجواز حصول علم الغيب لأحد من الخلق، ومن المستحيل عقلا وشرعا وجود من يعلم كعلم الله:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}(1)، ومن جهل هؤلاء القبوريين إطلاق هذه العبارة الموهومة والترويج على العوام بأن الاستثناء يدل على أن الأولياء يعلمون الغيب، وهذا كما ترى من أعظم الجهل وأقبحه، قال العماد ابن كثير في تفسير قوله تعالى:{قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً عَالِمُ الْغَيْبِ}(2)، في هذه الآية الكريمة دليل على أن الحديث الذي يتداوله الكثير من الجهلة من أنه عليه الصلاة والسلام (لا يؤلف تحت الأرض) كذب لا أصل له ولم نره في شيء من الكتب وقد كان صلى الله عليه وسلم يسأل عن الساعة فلا يجيب عنها فلما تبدا له جبريل عليه السلام في صورة أعرابي كان فيما سأله أن قال: يا محمد أخبرني عن الساعة قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل: وقال في قوله تعالى:{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ}(3) هذه كقوله تعالى:{وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ}(4)، وهكذا قال ههنا إنه يعلم الغيب والشهادة حتى أنه لا يطلع
__________
(1 ) سورة الشورى: من الآية 11.
(2 ) سورة الجن: الآية 25-26.
(3 ) سورة الجن: الآية 26-27.
(4 ) سورة البقرة: من الآية 255.
ص -79-(50/97)
أحد من خلقه على شيء من علمه إلا بما أطلعه تعالى عليه ولهذا قال:{فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ}(1)، وهذا الرسول ملكي وبشري(2)، ثم قال تعالى:{إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً}، أي يختصه بمزيد معقبات من الملائكة ليحفظوه من أمر الله ويساوموه على ما معه من وحي الله ولهذا قال:{لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً}، ثم ذكر الأقوال في مرجع الضمير في قوله:{لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ}، قلت: فتأمل سياق الآية فإنه بدأ(3) الكلام بقول:{قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ}، فنفى من علمه بقرب ما يوعدون وهو الساعة وذكر بعد هذا علمه تعالى، وأنه لا يظهر عليه أحدا من خلقه إلا من ارتضى من رسول ملكي أو بشري، وذكر الحرس والرصد الذين يكونون بين يديه ومن خلفه وهم المعقبات الذين يحفظونه من أمر الله، ثم قال:{لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ}، فعقد السياق فيه دلالة وبيان للمعنى المراد من الاستثناء وأن ذلك هو وحيه الذي يوحيه إلى رسله من كلامه ورسالته وهي بالنسبة إلى علم الله كنقطة من بحار الدنيا في جنب تلك البحار.
وأعظم من ذلك قوله تعالى:{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}(4).(50/98)
__________
(1 ) ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى:{مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ}(آل عمران:179)
(2 ) في الأصل الملكي والبشري معرفين ولعل الصواب ما أثبتناه لألا يتوهم أنهما تابعان ولكنهما خبران عن اسم إشارة.
(3 ) في الأصل (أبدأ) ولكنني بدا لي أن الأفصح بدأ حيث أنه هو اللفظ الذي ورد في القرآن كثيرا وأما أبدأ فجاء مضارعه في القرآن مثل قوله:{قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ}(سبأ:49) ، ولم أر فيما علمته ماضيه فيه ولذا فضلت بوارد وأما من ناحية اللغة فلا شك في فصاحته لأنه جاء مضارعه في كتاب الله.
(4 ) سورة لقمان: رقم الآية 27.
ص -80-(50/99)
فإذا كان هذا الحال بكلامه فما ظنك بعلمه تبارك وتعالى، فمن زعم أن أحدا يعلم جميع الغيب فقد أساء الأدب على الله تعالى وتقدس وما قدروا الله حق قدره.
وكذلك كرامات الأولياء دون ما ثبت للأنبياء بكثير بل لا نسبة بينها وبينه لا في الكمية ولا في الكيفية.
وقول الفارسي نقلا عن البيضاوي(1) واستدل به على إبطال الكرامات وجوابه يختص الرسول بالملك، والإظهار إنما يكون بغير واسطة، وكرامات الأولياء باطلاعهم على المغيبات إنما يكون تلقيا من الملائكة كاطلاعنا على أحوال الآخرة بواسطة(2) الأنبياء عليهم الصلاة والسلام انتهى.
وهذا الكلام فيه نظر ظاهر فإن الرسول أعم من الملكي والبشري وعبارة السلف دالة على ذلك، والإظهار أعم من أن يكون بواسطة أو بغيرها وأكثر الرسل إنما يظهرهم على ذلك بالوسائط كما قال تعالى:{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ}(3).
واطلاع الأولياء على شيء من الغيب هو من الإلهام الذي تضمنه الوحي لا يتقيد بالتلقي عن الملك كما قال تعالى:{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ(50/100)
__________
(1 )مؤلف هذا التفسير هو قاضي القضاة ناصر الدين أبو الخير عبد الله بن عمر بن محمد بن علي البيضاوي الشافعي وهو من بلاد فارس ابن قاضي: شهبة في طبقاته صاحب المصنفات، وعالم أذربيجان، ولي قضاء شيراز قال السبكي والأسنوي توفي بمدينة تبريز سنة إحدى وتسعين وستمائة 691 من الهجرة النبوية وقال ابن كثير وغيره: توفي سنة خمس وثمانين وستمائة 685هـ واسم تفسيره الذي جاء فيه هذا الكلام: أنوار التنزيل وأسرار التأويل اهـ أنظر (التفسير والمفسرون للدكتور محمد حسين الذهبي) ج1 ص296-297.
(2 ) في الأصل توسط الأنبياء.
(3 ) سورة الشورى: رقم الآية 51.
ص -81-
إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}(1)، وهو أعم من أن يكون بواسطة أو بغيرها فكلام البيضاوي مردود، والمعروف في حد الكرامة أنها خرق الله العادة لوليه من غير ادعاء التحدي كما في قصة عمر وقصة آصف وقصة مريم وكما يذكر عن أبي إدريس الخولاني وعن أبي العلاء الحضرمي وأمثالهم(2)(50/101)
__________
(1 ) سورة القصص: رقم الآية 7.
(2 ) سبق أن ذكرنا الكرامة التي أكرم الله بها مريم أما قصة آصف فذكرها الله سبحانه وتعالى في سورة النمل حيث أن الباري سبحانه وتعالى أخبر عن قول نبي الله سليمان بقوله: {قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} (النمل:39) وروي أن سليمان قال أريد أسرع من ذلك لأن المقام كما ذكره المفسرون من زمن جلوسه للحكم والقضاء من الصباح إلى أن يقوم من مجلس الحكم ويقدر ذلك بخمس ساعات ولما طلب سليمان أعجل من ذلك قال الذي عنده علم من الكتاب وهو آصف أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك، يريد إذا أغمض عينيه قبل أن يفتحهما فسأل الله بأسائه الحسنى وصفاته العلى أن يحقق طلبه فحقق الله له ذلك كما دل على ذلك قوله تعالى: { فَلَمَّا ٌ رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} (النمل:40) وهذه هي كرامته التي أكرمه الله بها.
وأما قصة أبي مسلم الخولاني فهي ما أجرى الله عليه من خارق العادة حيث أن الله نجاه من النار لما ألقاه الأسود العنسي فيها وجعل عليه النار بردا وسلاما وكمشيه على البحر وغير ذلك مما أكرمه الله به، وأما قصة العلاء بن الحضرمي فإنه لما ذهب إلى البحرين سلكوا مفازة وعطشوا عطشا شديدا حتى خافوا الهلاك فنزل فصلى ركعتين ثم قال: يا حليم يا عليم يا عظيم أسقنا فجاءت سحابة فأمطرت حتى ملأوا الأواني وسقوا الركاب ثم انطلق إلى خليج من البحر ما خيض قبل ذلك اليوم فلم يجدوا سفنا فصلى ركعتين ثم قال: يا حليم يا عليم يا(50/102)
علي يا عظيم أجزنا ثم أخذ بعنان فرسه فقال: (جوزوا باسم الله)، قال أبو هريرة رضي الله عنه: فمشينا على الماء فوالله ما ابتل لنا قدم ولا خف ولا حافر، وكان الجيش أربعة آلاف.
وأما قصة عمر رضي الله عنه فإنه بينما هو ذات يوم يخطب المسلمين على المنبر كشف الله له جيش سارية وقد كاد العدو ينال منه ويلحق به الهزيمة غرة من وراء الجبل فنادى عمر رضي الله عنه وقد قطع الخطبة يا سارية الجبل تحذيرا له من العدو ومكرهم من وراء الجبل فسمع سارية صوته مع بعد المسافة لأن عمر بالمدينة والجيش بنهاوند، ولا شك أن هذه كرامة أكرم الله بها عمر وسارية وجيشه حيث أراه الله ما لم تجر العادة برؤيته في مثل تلك المسافة البعيدة وأنطقه الله بما فيه النجدة لهذا الجيش الإسلامي من كيد أعدائهم الذين كادوا=
ص -82-
وذلك ونحوه داخل في عموم قوله تعالى:{ إِلَّا بِمَا شَاءَ}، وقد دخل فيه ما يحصل للأنبياء بواسطة وبغير واسطة، وكذلك لا يقال: إن أحدا ثبت له هذا بجميع أنواع الغيب كلية وجزئية لأن ذلك لا يكون إلا لله كما قال عن الملائكة:{سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}(1)، وقال عن المسيح:{تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}(2)، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}(3).(50/103)
__________
=أن يظفروا به من وراء الجبل بندائه سارية باللجوء إلى الجبل بمن معه من الجيش ليتحصنوا به من العدو وقد حقق الله له ذلك بعلمه وكرمه وحكمته ولكن لا تدل هذه القصة على علمه رضي الله عنه الغيب مما يختص الله به أو يخص به أنبياءه وإنما تدل على ما كشف الله له في تلك الحالة الطارئة التي أراد الله فيها أن ينجد أولياءه الذين بذلوا أرواحهم لإعلاء كلمة الله بما عرض عليه من تلك الحادثة الغريبة نصرا لأوليائه وكبتا لأعدائه، بل إنما هذا الحادث الجلل من الإلهام الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "لقد كان فيما قبلكم من الأمم أناس محدثون فإن يك في أمتي أحد فإنه عمر" رواه الشيخان وروى البخاري من رواية أبي هريرة ومسلم ومن رواية عائشة رضي الله عنهما قال ابن وهب (محدثون) أي: ملهمون.
ولو لم نذهب إلى هذا الرأي لجاز لنا أن نجعل المستثنين من قوله تعالى:{فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ}(الجن:27) وقوله تعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} (آل عمران:179)الأنبياء وغيرهم من أفراد الناس وهذه دعوى بلا دليل.
وأما ما يكرم الله به عباده الصالحين المستقيمين من الخوارق للعادة كالأمثلة السابقة فأمر ثابت بالكتاب والسنة.
وهذا يتناول عدة جوانب من استجابة الدعاء لهم بإعطائهم عين ما يطلبونه، وتقوية قلوبهم وشد عزائمهم على اقتحام المخاطر ثقة بنصر الله، والذود عنهم كما حمى الله عاصم بن ثابت من قطع العدو رأسه بإرسال الدبر عليهم ولم يستطيعوا أن يعملوا به شيأ لحماية الله إياه مع كون ذلك غاية أمانيهم حيث أن عاصما قتل من عظمائهم، وسوق الأرزاق العجيبة إليهم كما رزق خبيبا قطيفا من العنب في غير أوانه فصار عجبا للذين رأوا ذلك. (1 ) سورة البقرة: رقم الآية(50/104)
32.
(2 ) سورة المائدة: من الآية 116.
(3 ) سورة الأعراف: رقم الآية 188.
ص -83-
ولا عبرة هنا بالمكابرة والدعوى المجردة عن الدليل والبرهان كقول بعض الضالين إن ذلك يتأتى للأولياء على سبيل الكرامة فإن هذا لا دليل عليه من كتاب ولا من سنة بل ولا قاله من يعتد به من هذه الأمة، وإنما يعرف عمن غلظ عن معرفة الله ومعرفة حقه حجابهم وكثر في دينه وخبره ريبهم واضطرابهم وعجزت عن معرفة قدره وعظمته وعموم علمه ألبابهم.
(قال الشيخ عبد اللطيف رحمه الله): وأما قول الفارسي: العلم صفة للنفس أنعم الله بها وهي باقية بعد مفارقة البدن فيجوز أن يكون حاصلا لهم بعدها على وجه أتم وأكمل إلى آخر عباراته.
فيقال: هذا من عجائب جهلهم فإن الذي خلق الروح وصورها وعلمها وقبضها وخلصها من الكدورات البدنية وقشع عنها الظلمة الجسمانية هو الذي أخبرنا أن{َعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}الآية(1)، وأنه لا يعلم من في السموات وأرض إلا الله، وهو القائل لنبيه صلى الله عليه وسلم:{قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ}،وهو المخبر عن الملائكة الذين خلصوا من الكدورات وخلقوا من النور،{قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا}(2) وهو المخبر عن عبده ورسوله المسيح بن مريم عليه السلام أنه يقول يوم العرض الأكبر:{وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}(3)، وهو جل ذكره القائل: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}الآية(4)، فسبحان الله ما أجهل من زعم علم الغيب(50/105)
لغيره تعالى من حي أو ميت
__________
(1 ) سورة الأنعام: رقم الآية 50
(2 ) سورة البقرة: رقم الآية 32.
(3 ) سورة المائدة: رقم الآية 117.
(4 ),وتمام الآية الكريمة:{وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}.
ص -84-
وما أضله عن سواء السبيل، كيف يعارضون النصوص بهذا الكلام المموه المزخرف ويعتمدون عليه؟ وينبذون كتاب الله وراء ظهورهم؟ ويقال لهذا: قد تقدم من الآيات والأحاديث ما يدل على أن الحي لا يعلم جميع الغيب وأن علمه وإن عظم قدره بالنسبة إلى علم الله كنسبة ما يأخذه العصفور في منقاره من البحر وإذا كانت هذه حاله في الحياة فكيف بحاله بعد الممات وإطلاعه على بعض الجزئيات لا يدل على علمه بجميع المغيبات، وأيضا فالذي ذكره الفارسي لا ينتج الدعوى لأنها وإن تخلصت من الظلمات الجسمانية والكدورات البدنية فلم تخلص من التبعات الكسبية وما اجترحته في الحيلة الدنيوية، وإن تخلصت على وجه الكمال فهي مشغولة بما هي فيه من العالم الأخروي واللذة الحاصلة بالنعيم والجنة والكرامة، وعالم الأرواح عالم عظيم وحالها فيه حال لا يدرك بمجرد العقل والقياس وإنما يعرف بالنصوص الواردة في ذلك والدالة عليه.
(قال الشيخ عبد اللطيف): وأما قوله(1):{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}(2) إلى آخر ما قال من ذكرهم الله واشتعال نار الشوق والمحبة في قلوبهم وأنهم يصيرون فانين في الله باقين به، به يسمعون وبه يبصرون ونحو ذلك، فمن احتج بهذا على أنهم يعلمون الغيب فهو كمن يحتج بهذا على أنهم يتصرفون وينفعون ويضرون ويدعون لذلك، ويقال لهذا المشبه: متى ثبت أن الله أعطى أحدا من خلقه علم الغيب كليه وجزئيه في حياته أو بعد مماته ومن الذي أثبت هذا؟ حتى(50/106)
يقال: إن ذلك باق لهم لا يغير مع أن بعض التغير وجنسه يحصل بالموت كالتغير من الحياة إلى الممات ومن الوجود إلى الفناء، قال تعالى:{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ}(3)، وطرد كلام الفارسي أن يقال: إنهم باقون لأن الله لا يغير
__________
(1 ) أي استدلال الفارسي بهذه الآية على نصر باطله.
(2 ) سورة الأنفال: رقم الآية 53.
(3 ) سورة الرحمن: رقم الآية 26-27.
ص -85-(50/107)
نعمته عليهم، هذا لو فرض ثبوت ذلك في حال الحياة فكيف ذلك(1)، قد ردته النصوص والبراهين وكونهم يذكرون الله قياما وقعودا ويفنون به عما سواه ويسمعون به ويبصرون ويبطشون فهذا يفيد تحقيق التوحيد ون أعمالهم وحركاتهم خالصة لله وقعت بالله ولله فهم قد حققوا معنى:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}(2)، وهذا هو محض الإسلام وجزيل الفضل والإنعام.
وأصحاب هذه الأحوال وهذه المقامات تبقى كرامتهم في الدار الآخرة بمعنى إثابتهم وعلو درجتهم ولذتهم بما حصلوه من حقائق المعارف ولطائف الكرامة(3) وقوله تعالى:{أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}(4) يدل على هذا كما ذكره البيضاوي ونقله عنه الفارسي لكنه وضعه في غير موضعه واستدل به على غير ما سيق له فإن المعنى الذي دل عليه كلام السلف أنهم لا خوف عليهم مما أمامهم يقدمون عليه ولا يحزنون على شيء مما خلفوه وهذا لا دليل فيه على أن أحدا يعلم الغيب، ثم ساق الفارسي آثارا تروى في عرض بعض أعمال الأحياء(5) على أقاربهم وعشائرهم، من الموتى كحديث أبي أيوب وحديث جابر وحديث النعمان والمعنى متقارب، وهذا لا يدل على الدعوى بوجه من الوجوه لأنه من جنس اطلاع الحي على بعض الجزئيات، والكلام والبحث إنما هو في الكل والجميع لا في بعض الجزئيات وليس هذا الجزئي ثابتا لكل أحد من الأموات فإن الأحاديث لا عموم فيها ولا تدل عليه بل هي خاصة باطلاع البعض على بعض الأعمال لا كلها.(50/108)
__________
(1 )لو قال المؤلف رحمه الله فكيف بعد الموت وقد ردنه النصوص والبراهين لكانت العبارة مستقيمة اهـ .
(2 )سورة الفاتحة: رقم الآية 5.
(3 )الأولى أن يكون بصيغة الجمع ليكون الكلام على وتيرة واحدة اهـ.
(4 )سورة يونس: رقم الآية 62.
(5 )ومثل هذه الأحاديث التي أشار إليها حديث عبادة بن الصامت حيث سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمه ماتت فجأة وأنها لولا ذلك لتصدقت فلو تصدقت عنها أيصلها ثواب ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم نعم، وكذلك أن أبا أيوب الأنصاري لما أصيب بقرب قسطنطينية سأل أصحابه أن يقربوه إلى سورها ليسمع صوت خيول الفاتحين لها وهكذا.
ص -86-
وأما فقر العبد وحاجته، ومصلحته، ومفسدته، وغير ذلك، وظاهر أمره وباطنه وشاهده وغائبه فلا يعلمه إلا الله الذي يعلم السر وأخفى، ومن العجب استدلال هؤلاء بما هو حجة عليهم لا لهم فإن هذه الأحاديث فيها أنه يعرض على الميت عمل قريبه وولده وإذا كان يعرض عليه فعلمه قاصر على نفس المعروض لا يتعداه إلى غيره وإذا اختص بالقريب ففيه التنبيه على أنه لا يعلم عمل غير قريبه وإذا اختص بالعمل دل أنه لا يعلم غيره من عموم الأحوال، فالأحاديث والقرآن حجة عليهم لا لهم والحمد لله.
وأما كلام الملا قاري في شرح قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تجعلوا قبري عيدا فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم"، قال نقلا عن القاضي: وذلك أن النفوس الزكية القدسية إذا تجردت عن العوائق البدنية عرجت واتصلت بالملأ الأعلى ولم يبق لها حجاب فترى الكل كالمشاهد بنفسها أو بإخبار الملك من السر له فلعل هذا مبني على كلام ابن سينا ومن وافقه من الفلاسفة القائلين بأن الكتب المنزلة فيض فاض من العقل(1) الفعال على النفس المستعدة الفاضلة(50/109)
__________
(1 ) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب (الرد على المنطقيين): إن الفلاسفة يقولون: إن الحوادث التي في الأرض تعلمها النفس الفلكية ويسميها من أراد الجمع بين الفلسفة والشريعة بـ(اللوح المحفوظ) كما يوجد في كلام أبي حامد ونحوه، وهذا فاسد فإن اللوح المحفوظ الذي وردت به الشريعة كتب الله فيه مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة كما ثبت ذلك في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، واللوح المحفوظ لا يطلع عليه غير الله والنفس الفلكية تحت العقول ونفوس البشر عندهم تتصل بها وتنقش في نفوس البشر ما فيها. ولهذا يقول بعض الشيوخ الذين يتكلمون باللوح المحفوظ على طريقة هؤلاء إما عن معرفة بأن هذا قولهم وإما عن متابعة منهم لمن قال ذلك من شيوخه الذين أخذوا ذلك عن الفلاسفة كما يوجد ذلك في كلام ابن عربي وابن سبعين والشاذلي وغيرهم يقولون: إن العارف قد يطلع على اللوح المحفوظ وأنه يعلم أسماء مريدية من اللوح المحفوظ أو أنه يعلم كل ولي كان ويكون لله من اللوح المحفوظ ونحو هذه الدعاوى التي مضمونها أنهم يعلمون ما في اللوح المحفوظ، وهذا باطل مخالف لدين المسلمين وغيرهم من أتباع الرسل، والمقصود هنا أنهم يقولون إن النفس إذا حصل لها تجرد عن البدن إما بالنوم وإما بالرياضة وإما بقوتها في نفسها اتصلت بالنفس الفلكية وانتقش فيها ما في النفس الفلكية من العلم بالحوادث الأرضية ثم ذلك العلم العقلي قد تخبر به النفس مجردا وقد=
ص -87-(50/110)
الزكية فتصورت تلك المعاني وتشكلت في النفس بحيث يتوهمها أصواتا تخاطبه وربما قوي هذا الوهم حتى يراها أشكالات نورانية تخاطبه وربما قوي ذلك ببعض الحاضرين فيرونها ويسمعون خطابها، ولا حقيقة لشيء من ذلك في الخارج وهذا يكون عندهم بتجرد النفس عن العلائق واتصالها بالمعارفات من العقول والنفوس المجردة، وهذه الخصائص تحصل عندهم بالاكتساب ولهذا طلب النبوة من تصوف على مذهب هؤلاء.
(وأقوال(1)هؤلاء دخلت على كثير من الناس) إما باطني ملحد أو جاهل(50/111)
__________
=تصوره القوة المخيلة في صورة مناسبة له ثم تلك الصور تنتقش في الحس المشترك كما أنه إذا أحس أشياء بالظاهر ثم تخيلها فإنها تنتقش في الحس المشترك فالحس المشترك ترتسم فيه ما يوجد من الحواس الظاهر وينتقش فيه ما تصوره القوة المتخيلة في الباطن، وما يراه النائم في منامه والمرور في حال مرضه من الصور الباطنة هو من هذا لكن نفس النبي صلى الله عليه وسلم لها قوة كاملة فيحصل لها تجرد في اليقظة فتعلم وتتخيل وترى ما يحصل لغيرها في النوم.
قيل: هذا الكلام أولا ليس من كلام قدماء الفلاسفة كأرسطو وأصحابه ولا جمهورهم وإنما هو معروف عن ابن سينا وأمثاله وقد أنكر ذلك عليه إخوانه الفلاسفة كابن رشد وغيره وزعموا أن هذا الكلام باطل ولم يتبع فيه سلفه، وثانيا أنه مبني على أصول فاسدة كثيرة الأصل، الأول: أنه لا سبب للحوادث إلا الحركة الفلكية وهذا من أبطل الأصول، الثاني:إثبات العقول والنفوس التي يثبتونها وهو باطل ثم استفهم شيخ الإسلام ابن تيمية هل منبع الفيض هو النفس الفلكية أو العقل الفعال؟ الثالث: إثبات كون الفيض يحصل من النفس الفلكية فإنه لو سلم لهم ما يذكرونه من أصول فعندهم ما يفيض على النفوس إنما هو من العقل الفعال المدبر لكل م تحت فلك القمر ومنه تفيض العلوم عندهم على نفوس البشر الأنبياء وغيرهم والعقل الفعال لا يتمثل فيه شيء من الجزئيات المتغيرة بل إنما فيه أمر كلي لكنه بزعمهم دائم الفيض فإذا استدعت النفس لأن يفيض عليها منه شيء فاض، وذلك الفيض لا يكون علما بجزئي فإنه لا جزئي فيه فكيف يقولون هنا إن الفيض على النفوس هو من النفس الفلكية؟ وكلامهم في هذا الموضع قد عرف تناقضه وفساده فإن العقل إن كان يفيض عنه ما ليس هو فيه كان في المعلول ما ليس في العلة وإن كان لا يفيض إلا ما فيه فليس فيه إلا الكليات ليس فيه صور جسمانية ولا علم بجزئيات ولا مزاج ولا غير ذلك مما(50/112)
يدعون فيضه عن العقل اهـ كتاب الرد على المنطقيين ص 474-478.
(1 )والأولى: أن يكون تركيب هذه الجملة كالآتي: والذين دخلت عليهم أقوال هؤلاء إما باطني.
ص -88-
لا يدري أصول الأقوال ومذاهب الناس كشارح المشارق، وإذا كان هذا قولهم في النبوة وأنها مكتسبة على هذا الوجه فلا يبعد أن يقولوا بأن الأرواح إذا تجردت أدركت علم الغيب وصار الكل لها كالمشاهدة، فنعوذ بالله من زيغ الزائغين وضلال الضالين وتحريف الملحدين وانتحال المبطلين، والذي جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أن الروح إذا تجردت عن الجسم حال موته يعرج بها فإن كانت روحا طيبة فتحت لها أبواب السماء وعرج بها إلى الله تعالى ثم تكون طائرا يعلق في شجر الجنة وأرواح الشهداء في جوف طير خضر تسرح في الجنة، هذا الذي دل عليه كتاب الله وسنة رسوله يعرف ذلك من عرفه من أهل العلم والإيمان.
وأما هذه الأقوال المبتدعة التي لم تصدر عن معصوم بل ربما صدرت عمن لا يحكم بإسلامه كابن سينا وأمثاله من الفلاسفة المنتسبين إلى الإسلام وهم من أبعد الخلق عنه وقد يقولها من يحسن الظن بهؤلاء ممن يخفى عليه حالهم ولا دراية له بأقوال الخلق ومذاهبهم، والعصمة والسلامة في الاعتصام بحبل الله الذي هو كتابه ومتابعة نبيه صلى الله عليه وسلم، وما عدا ذلك أو خالفه فلسنا منه في شيء.
قال الفارسي: الشبهة الثالثة أن الأنبياء لا تصرف لهم يعني لا قدرة لهم على إيصال الخيرات ودفع المضرات في الحياة لقوله تعالى:{قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ}(1)،{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}(2).
وإذا(3) كان حالهم هذا في الحياة فما ظنك بهم أو بغيرهم في الممات.(50/113)
__________
(1 )سورة الأعراف: من الآية 188.
(2 )سورة يونس: رقم الآية 107.
(3 )في أصل المخطوط(وإن كان) ولعل الصواب ما أثبتناه في صلب الرسالة من (وإذا كان الخ)=
ص -89-
قال الفارسي: أجيب بأن المراد نفي المالكية الاستقلالية والقدرة الذاتية الكاملة عن غيره تعالى لا مطلقا كما يدل عليه الاستثناء، وقال صاحب معالم التنزيل: إلا ما شاء الله أن أملك فالآيتان ونحوهما تدل على أن ثبوت القدرة الكاملة لله تعالى بذاته لا من غيره ولا تدل على النفي مطلقا بل يجوز أن تكون حاصلة لعباده مفاضا منه ويجوز أن يكون للنفوس الكاملة تصرف في العالم من جهته تعالى بأن يجعلهم متصرفين مدبرين بإذنه ويستجاب لهم دعائهم وتقبل شفاعتهم وينفذ لهم تصرفاتهم، والمدبر المتصرف حقيقة هو الله، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام والأولياء في صدور التصرفات والكرامات عنهم في الظاهر مظاهر لتصرفاته تعالى كالمرآة المجلوة المتصلة إذا استنارت من الشمس صارت منورة للأجسام المظلمة ويجوز أن تكون حالهم بعد مفارقة أرواحهم عن الأبدان في التصرفات كحالهم قبلها بل أتم وأصفى وأكمل وأجلى.
(قال الشيخ عبد اللطيف رحمه الله):
والجواب عن هذا الكلام أن يقال: إن التصرف لفظ عام وعبارة مطلقة يدخل فيها التدبير والتغيير وسائر أنواع الإيجاد والإحداث والإبداع والتأثير والتسخير وغير ذلك من أفعال الربوبية التي تختص به تعالى وكذلك الأسباب العادية التي تقع في عموم الخلق.
والأول هو الذي قصده بقوله: ودعوى حصول هذا لمخلوق مصادمة ومصادرة لنصوص الكتاب العزيز المصدق وفتح لباب الإلحاد والشرك المحقق فإن هذا الأصل أعني اختصاصه سبحانه بالخلق والإبداع والتدبير والتصريف هو أكثر أصول الإسلام وجلها وقاعدته العظمى التي تدور عليها جميع الأحكام وجميع القرآن من أوله إلى آخره يدل على هذا الأصل ويقرره وقد احتج به تعالى على وجوب عبادته(50/114)
وطاعته وأنه الإله الحق دون ما سواه.
__________
=الخ) حيث أن إذا لليقين وإن للشك والله أعلم بالصواب.
ص -90-
وقال تعالى:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}(1) فأثنى على نفسه بعموم ربوبيته المتضمنة لخلقه وتدبيره وإلهيته، وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}(2).
وتأمل هاتين الآيتين كيف استدل فيهما بفعله وتدبيره وخلقه وتصريفه على وجوب عبادته وتحريم اتخاذ الأنداد له وخص ما ذكر في الآية (الأخيرة) لأنه أصل يندرج تحته ما سواه من الجزئيات ولأنه مشاهد محسوس يدركه كل أحد حتى البليد الذي لا يدرك سوى الحسيات ولما في ذلك من بديع الصنع والإتقان وظهور القدرة والشأن فجعل الأرض فراشا والسماء بناءا مع عظمهما وسعتهما وما أودع فيهما من الآيات عجائب المخلوقات وأنواع التدبيرات الكليات والجزئيات ما يدل على انفراده تعالى واختصاصه بهذا الأصل العظيم.
وفي(3) ذلك من إنزال المطر من السماء على التصريف المخصوص والتدبير المتقن المحكم وجعله أصلا لمادة أرزاق المخلوقات على اختلاف أجناسها وأنواعها وتباين أصنافها وأشكالها ما يدل على أن الله هو المنفرد بالتصريف والتدبير وحده لا شريك له فبطل بنص هذه الآية وعمومها ما زعمه هذا الملحد.
أما السماء والأرض وما بينهما من المخلوقات والأرزاق فبطريق التخصيص والعموم وما عداهما فبطريق الفحوى والأولى وقال تعالى:{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ(50/115)
__________
(1 )سورة الفاتحة: رقم الآية 2.
(2 )سورة البقرة: الآية 21-22.
(3 )الجار والمجرور خبر مقدم وما يدل مبتدأ مؤخر والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها سيقت لتقرير وحدانية الله.
ص -91-
تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(1) فإن فيها من الرد على من قال بأن أرواح المشايخ تتصرف ما لا تتسع لبسطه هذه الفتاوى، ولكن نشير إلى ذلك إشارة فإن إعطاء الملك ونزعه والعز والذل يدخل تحتها من أفراد الكائنات والجزئيات في الدنيا والآخرة ما لا يحصيه إلا الله وفي قوله، (بيدك الخير) ما يدل على أن جميع الخير كليه وجزئيه بيده سبحانه لا بيد غيره كما يفيده الجار والمجرور فأي فرد يخرج عن هذا؟ ويبقى للمشايخ وغيرهم وفي قوله:{تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ}(2) ما يدل على أنه المختص بتصريف الأعصار والدهور ليس لأحد معه شركة، وفي قوله تعالى:{وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ}(3) ما يدل على أنه المختص بإخراج الأشياء وإيجادها فيخرج الضد من الضد والجنس من الجنس والمشاكل من(2) المشاكل، وقوله:{وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}(5) فيه اختصاصه بالتصرف في أرزاق عباده الباطنة والظاهرة وأن مصدر ذلك مشيئته النافذة فأي شيء يبقى بعد هذا للأنبياء والمشايخ؟ لو كانوا يعلمون؟ وقال تعالى:{مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}(3) وهذه الآية الشريفة عامة لكل تدبير وتصريف في الدنيا والآخرة من جميع الخيرات وسائر الرحمات فهو الذي يمن بذلك ويفتحه لمن يشاء من عباده وما يمسك فلا وجود لمرسل له من بعده، وقوله تعالى وهو العزيز الحكيم فيه تنبيه على مورد التدبير والتصريف ومصدرهما وأنه(50/116)
اختص بذلك لأنه المتفرد بالعزة والحكمة كما يعلم من تعريف الجزئيين، وإذا اختص به ولم يتصف به غيره فبأي شيء يتصرف ذلك الغير ويدبر؟ قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}(4) فأمر عباده
__________
(1 )سورة آل عمران: رقم الآية 26.
(2 )بضم الميم.
(3 )سورة فاطر: رقم الآية 2.
(4 )سورة فاطر: رقم الآية 3.
ص -92-(50/117)
جل ذكره أن يذكروا هذه النعمة العظيمة وهي اختصاصه وتفرده بخلقهم ورزقهم من السماء والأرض.
والرزق والخلق يدخل تحتهما كل تدبير وتصريف من الأمور الباطنة والظاهرة ولذلك قال بعده هذا:{لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} فاستدل بربوبيته وعمومها وعلى إلهيته ووجوب عبادته وطاعته ثم قال:(فأنى تؤفكون) إنكارا عليهم فيما صنعوه من الإعراض عن عبادته والاعتراف بإلهيته مع قيام برهانها الأكبر ودليلها الأعظم وهو ما ذكر في صدر الآية وهو سبحانه كثيرا ما يستدل بربوبيته وخالقيته ورازقيته على ألهيته وعبادته كما قال تعالى:{أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ}(1)وقال جلت قدرته:{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ}(2)، وقال تعالى:{أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ}(3)، فلو قيل: بأن غيره يتصرف لكان هدما لهذا الأصل وإبطالا لهذا البرهان، وقال تعالى عن خليله إبراهيم أنه قال لقومه:{قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِين الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ}(4).
أنظر إلى ما تضمنته هذه الآيات(5) الكريمة من تقرير بعض أفراد ربوبيته تعالى لخليله إبراهيم أفضل الرسل بعد نبينا عليهما الصلاة والسلام من خلقه وهدايته واختصاصه تعالى بإطعامه وإسقائه وما معنى إقحام(6) ضمير الفصل في هذه(50/118)
__________
(1 )سورة النحل: رقم الآية 17.
(2)سورة النحل: رقم الآية 20.
(3 )سورة الأعراف: 191-192.
(4 )سورة الشعراء: رقم الآية 75-82.
(5)في الأصل (هذه الآيات) والصواب ما أثبتناه حيث أنها آيات عديدة وليست آية واحدة كما لا يخفى ذلك على الناظر في الآيات التي سجلها المؤلف رحمه الله تعالى.
(6)ولو لم يستعمل المصنف هذه العبارة (إقحام ضمير الفصل) لكان أحسن لأن هذه العبارة يستعملها النحاة ويريدون بها زيادة ذلك اللفظ ولكنهم لجأوا أليها تأدبا كما يزعمون وكما=
ص -93-(50/119)
الجملة دون غيرها من الجمل وكذلك شفاؤه إذا مرض واختصاصه بإماتته و إحيائه بعد الموت وتعليق الطمع به تعالى وحده في مغفرة خطيئته يوم الدين، هذا الكلام صدر عن خليله أعلم العالمين به مستدلا به على إلهيته تعالى وحده والبراءة مما عبد من دونه من الأنداد والآلهة على اختلافها وتنوعها وحكاه الله تعالى عنه مثنيا عليه به مقررا له راضيا به عنه فهذا حال أنبياء الله وأوليائه عليهم الصلاة والسلام، فليت شعري ماذا يقول الملحدون في مثل هذه الآيات الكريمة؟ وسيأتيك إبطال تأويله الفاسد الذي مر في حكاية كلامه آنفا وقال تعالى:{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ}(1) وقال تعالى:{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُون}(2) إلى قوله تعالى:{إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} فإن في هذه الآيات من تقرير الاختصاص بالتدبير والتصريف في الكليات والجزئيات مع اختلاف أنواعها والاستدلال بذلك عل إلهيته وحده لا شريك له ما لا يتسع لتقريره هذا الموضع واللبيب يدرك ذلك بمجرد تلاوة هذه الآيات وكذلك الحال في قوله في سورة الواقعة:{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} إلى قوله:{نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ}(3)، وكذلك قوله:{قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ}(4) ففي هذه الآية أعظم دليل وأقوى حجة على إبطال من زعم أن أرواح الأنبياء والمشايخ تصرفا وتدبيرا وذلك من وجوه ظاهرة متعددة في الآية، وكذلك قوله تعالى:(50/120)
__________
=تجري على ألسنتهم أيضا هذه الكلمة (الصلة) ويريدون أنها زائدة ونحن نعتقد أن كل حرف من حروف كتاب الله أنزله الله لهداية الخلق وليس فيه حرف زائد ولائلا يتوهم ذلك تعديل تلك العبارة أولى في نظري والله أعلم بالصواب.
(1 )سورة النحل: رقم الآية 53.
(2 )سورة النحل: رقم الآية 10.
(4 )سورة الواقعة:رقم الآية 58.73.
(5 )سورة الزمر: من الآية 38.
ص -94-
{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}(1)
فقف عند هذه الآية وتدبر فيها من العلوم والمعارف فإنها أصل عظيم وبرهان ظاهر مستقيم يكفي من أراد الله هدايته، قال بعض السلف وهو ابن سميط: دلنا ربنا على نفسه بهذه الآية يشير إلى أن أفعاله شاهدة بربوبيته وألهيته دالة على ذلك ولو لم يكن في هذه الآية إلا قوله:{أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} لكان كفيفا في رد قول هؤلاء الملاحدة وقال تعالى لنبيه:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} وقال جل شأنه:{لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ}وألا(2) للاستغراق المفيد لعدم خروج فرد من الأفراد لسواه وقال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}(3) وقال تعال لنبيه:{قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً}(4)، وقال تعالى: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلا نَفْعاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا(50/121)
يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ}(5) وقال جلت قدرته:{قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ}(6) فهذه الآيات تقطع أصول شجرة الشرك والإلحاد وترد مذهب أهله القائلين بأن لأرواح المشايخ تصرفا وتدبيرا في الكون، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا، وفي الحديث القدسي الذي رواه أبو
__________
(1 )سورة الأعراف: رقم الآية 54.
(2)والصواب والله أعلم (وال للاستغراق المفيد الخ).
(3 )سورة يونس: رقم الآية 107.
(4 )سورة الجن: رقم الآية 21.
(5)سورة يونس: رقم الآية 49.
(6 )سورة الأنعام: رقم الآية 50.
ص -95-
ذر الغفاري عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: "يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم" الحديث(1)
وفي حديث التنزل الإلهي إذا بقي ثلث الليل أن الله تعالى يقول: "لا أسأل عن عبادي غيري" ويروى: أن الله أوحى إلى داود أنه لا يعتصم بي عبد من عبادي دون غيري أعرف ذلك من نيته فتكيده السموات والأرض إلا جعلت له فرجا ومخرجا ولا يعتصم عبد من عبادي بمخلوق دوني أعرف ذلك من نيته إلا قطعت أسباب السماء من يده وأسخت الأرض من تحت قدميه ثم لا أبالي بأي واد هلك(2) قال الشيخ رحمه الله: وقول المعترض في الجواب عن الآيتين إن المراد نفي المالكية الاستقلالية والقدرة الذاتية الكاملة عن غيره(50/122)
__________
(1 )وقد ترك الناسخ أو حصف من صدر الحديث فقرات واستشهد بما بعدها ورمز بما جرت به عادة المحدثين بالإشارة إليه في تمام الحديث بقوله: الحديث وهذا يوهم أن أول ما استشهد به هو بداية الحديث ودفعا لهذا الوهم المتوقع نذكر تلك الفقرات التي في بداية الحديث ثم نذكر تمام الحديث، أول الحديث: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم ..." وتما الحديث:"يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فاليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه" رواه مسلم من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه.
(2 )رواه أحمد من رواية وهب بن منبه بلفظ آخر قال الله عز وجل في بعض كتبه:"بعزتي أنه من اعتصم بي فإن كادته السموات ومن فيهن والأرضون بمن فيهن فإني أجعل له من ذلك مخرجا ومن لم يعتصم بي فإني أقطع يديه من أسباب السماء وأخسف من تحت قدميه الأرض فأجعله في الهواء ثم أكله إلى نفسه كفى بي لعبد مالا إذا كان عبدي في طاعتي أعطيه قبل أن يسألني وأستجيب قبل أن يدعني فأنا أعلم بحاجته التي ترفق به منه".
ص -96-(50/123)
تعالى لا مطلقا كما يدل عليه الاستثناء إلى آخره:
فالجواب أن هذه الشبهة إنما نشأت من الجهل بمعاني كلام الله وباللغة العربية التي نزل بها القرآن العظيم فإن قوله:{قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً}(1) عام لكل فرد من الأفراد وجزئي من الجزئيات لا يخرج عنه شيء وإن قل لا على سبيل الاستقلال ولا غيره وكذلك فيه نفي القدرة العامة المطلقة ولم يقل أحد من الخلق بإثبات الملك المستقل والقدرة الذاتية لغير الله تعالى إلى من عطل الصانع ولم يثبت للعالم ربا مدبرا، والآية سيقت لخطاب من يعترف بالربوبية ويثبت الصانع ولا يقول بالملك الاستقلالي ككفار العرب المقرين بالربوبية المشركين في العبادة والإلهية.
وعبارات المفسرين تدل على هذا أنه في نفي جميع أنواع الملك وإن لم يكن استقلالا والعربي يدرك ذلك بذوقه وعربيته ولا يحتاج فيه إلى برهان وكذلك قوله تعالى:{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ}(2)الآية، فإنها دلت نصا على انتفاء وجود كاشف لما يمسه الله به مكن الضر وعلى انتفاء راد ومانع لما أراده الله تعالى به من خير وفضل، وهذا أعم من أن يكون بطريق القدرة الذاتية أو بغير ذلك كما هو صريح الآية، وقد تقدم لهذه الآيات نظائر تدل على اختصاصه تعالى بالأمر والتدبير والنفع و الضر وإنما شاء كان وإن لم يشأ الناس وما لم يشأ لم يكن وإن شاء الناس.
وقوله: يجوز للنفوس الكاملة تصرف في العالم من جهته تعالى إن أراد أن ذلك يحصل بغير الأسباب العادية كما يدعيه هو وأمثاله لأرواح المشايخ والصالحين فهذا كذب وتجويز للشرك والباطل والضلال، وقد تقدم رده وإن أراد الأسباب العادية في الحياة الدنيوية كالذي يشترك فيه المؤمن والكافر والبر والفاجر والإنس والجن فهذا النوع لا يطلق عليه إن جعلهم متصرفين مدبرين(50/124)
__________
(1 )سورة الأعراف: من الآية 188.
(2 )سورة يونس: من الآية 107.
ص -97-
وهذا جهل عظيم ومع هذا فلا يجوز أن يطلب منهم كل شيء ويقصدوا بما لا يقدر عليه إلا الله، وأما قوله: والأنبياء والأولياء في صدور التصرفات والكرامات عنهم في الظاهر مظاهر لتصرفاته تعالى كالمرآة المجلوة المتصلة إذا استنارت من الشمس صارت منورة للأجسام المظلمة، فهذه العبارة تمويه وترويج للباطل، وحقيقتها أن العباد يتصرفون في العالم ويدبرون أمره وتصدر الأمور عنهم لأنهم مظاهر، والقائلون بأن الخلق مظاهر لذاته هم أهل الحلول المعطلة لوجود الصانع وربوبيته ومباينته لمخلوقاته وهم من أكفر خلق الله وأضلهم سبيلا فإنهم يعبدون كل ما استحسنوه ومالت نفوسهم إليه لظنهم أنه من مظاهر الحق.
والقائلون بأن لأرواح الأولياء في صدور التصرفات عنهم مظاهر لتصرفاته تعالى فيهم مشابهة قوية للحلولية ولعل هذه العبارة إنما أخذت عنهم يبين ذلك أنهم إن أراد الأسباب العادية الحسية فهذا لا يختص بالأنبياء والأولياء وإن أراد ما هو أعم من ذلك من الأمور الباطنية والتدبير بالقوة المؤثرة فهو شبيه بالقول الأول مشتق منه{كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}(1).
وقوله: ويجوز أن تكون حالهم بعد مفارقة أرواحهم عن الأبدان في التصرفات كحالهم قبلها بل أتم وأصفى: فجوابه أن حالهم قبل المفارقة حال عبد لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ولا موت ولا حياة ولا نشورا كما قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:{قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً}(2) وقال له أيضا:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ}(3) وقال تعالى:{إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}(4).(50/125)
__________
(1 )سورة البقرة: من الآية 118.
(2 )سورة الجن: رقم الآية 21.
(3 )سورة آل عمران: رقم الآية 128.
(4 )سورة القصص: رقم الآية 56.
ص -98-
فإذا كانت هذه حاله صلى الله عليه وسلم فما ظنك بغيره من سائر الخلق وإذا اتحدت الحالة بعد المفارقة وقبلها فليس فيه حجة للمعترض لأنه لا يملك ولا يتصرف لا في حياته ولا في مماته هذا إن سلم أن الحال مستوية في الحياة وبعد الممات والذي دل عليه كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأمة أن الحال بعد مفارقة الأرواح للأبدان ليست كحال الحياة من وجوه كثيرة لا يمكن استقصاؤها، ويكفي للمؤمن قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له"(1) فهذا الحديث يدخل تحته جميع أعماله الباطنة والظاهرة وأنه لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا وأن الأسباب العادية الحسية تزول بالموت فكيف بغيرها؟ وإذا كان لا يملك لنفسه شيئا وعمله قد اقطع فكيف يتصرف ويدبر ويستمد منه وتطلب منه الحوائج؟ إن هذا لهو الضلال المبين والجهل الواضح المستبين وقد تقدم في الحديث أن نسمة المؤمن طائر يعلق بشجر الجنة فإذا كانت في الجنة تعلف بأشجارها فأي دليل دل على أنها تدبر وتتصرف وتتجاوز هذه الحالة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم إلى التدبير والتصريف؟ ولقد كنا غنيين عن رد هذا القول لظهور بطلانه وضلال قائله ولكن غلبة الجهل على الجمهور دعت إلى الجواب.
وأما ما نقله عن البيضاوي، واعتمده من أن أرواح الأولياء تتصرف فهو دليل على جهله وعدم معرفته بأخذ العلم من محله وذلك أن البيضاوي قال في قوله تعالى:{وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً}إنها صفات ملائكة الموت فإنها تنزع أرواح الكفار من أبدانهم (بشدة) وتنشط أرواح المؤمنين أي تخرجها برفق ويسبحون في الإخراج ويستبقون بالأرواح إلى مقرها وما أعد لها وتدبر ذلك الأمر المعد هذا هو(50/126)
الذي قدم وأيد وهو الموافق لعبارات السلف، والمحققون من المفسرين جزموا بأنها صفات الملائكة واقتصروا عليه ولم يذكروا سواه وما وقفت على قول أحد حكى هذا الذي ذكر عن البيضاوي سوى البيضاوي
__________
(1 )رواه مسلم من رواية أبي هريرة رضي الله عنه.
ص -99-
مع أنه قدم سواه وأخره بل قدم عليه القول بأن هذه صفات للنجوم وذكر وجهه فإن كان قول البيضاوي حجة فقد قدم على هذا أنها صفات للنجوم.
وعلى قول هذا المعترض واحتجاجه بعبارة البيضاوي يطلب من النجوم ويستمد منها ويقال بأنها تتصرف لأن البيضاوي ذكر أنها من المدبرات أمرا بل يرجع حينئذ إلى عبادة النجوم وما كانت عليه الصابئة في زمن إبراهيم الخليل عليه السلام وكذلك قال في تفسيره أو صفات أنفس الغزاة أو صفات خيلهم وعلى هذا يطلب منهم ومن خيلهم ويستمد لأنها من المدبرات أمرا سبحان الله ما أجهل هذا الرجل وأقل علمه بدين الإسلام الذي اتفقت عليه دعوة الرسل بل ما أجهله بتوحيد الربوبية الذي أقر به المشركون من سائر الأمم الذين آمنوا بربوبية الله وأشركوا في عبادته.
وأما ما نقله عن الشافعي أنه قال: الدعاء عند قبر الكاظم(1) ترياق(50/127)
__________
(1 )والكاظم هو الإمام السابع من الأئمة الإثني عشرة الذين تعتقد الشيعة عصمتهم من الكبائر والصغائر وهذا الإمام الذي زعم المردود عليه أن الشافعي يقوله: الدعاء عند قبره الخ هو موسى الكاظم ابن جعفر الصادق وأن سلسة إمامتهم على زعم الشيعة الإمام الأول علي ابن أبي طالب رضي الله عنه ثم ابنه الحسن بوصية له من أبيه ثم أخوه الحسين من بعده ثم ابنه علي زين العابدين ثم ابنه محمد الباقر ثم ابنه جعفر الصادق ثم ابنه موسى الكاظم ثم ابنه علي الرضا ثم ابنه محمد الجواد ثم ابنه علي الهادي ثم ابنه الحسن العسكري ثم ابنه محمد المهدي المنتظر وهو الإمام الثاني عشر، ويزعمون أنه دخل سردابا في دار أبيه بسر من رأى ولم يعد بعد وأنه سيخرج في آخر الزمان ليملأ الدنيا عدلا وأمنا كما ملئت ظلما وخوفا وهؤلاء قد جاوزوا الحد في تقديسهم للأئمة فزعوا أن الإمام له صله روحية بالله كصلة الأنبياء وقالوا إن الإيمان بالإمام جزء من الإيمان بالله وأن من مات غير معتقد بالإمام فهو مات على الكفر وغير ذلك من اعتقاداتهم الباطلة في الأئمة وكفى به إثما مبينا .
وأشهر تعاليم الإمامية الإثني عشرية أمور أربعة: العصمة، والمهدية، والرجعة والتقية، أما العصمة فيقصدون بها أن الأئمة معصومون من الصغائر والكبائر في كل حياتهم ولا يجوز عليهم شيء من الخطأ والنسيان وأما المهدية فيقصدون بها أن الإمام المنتظر هو المهدي الذي يخرج في آخر الزمان وأول من قال بهذا هو كيسان مولى علي بن أبي طالب في محمد ابن الحنفية ثم تسربت إلى طوائف الإمامية فكان لكل منها مهدي منتظر.=
ص -100-(50/128)
البراهين الإسلامية في رد الشبهة الفارسية - عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن (2)
مجرب فهذا حال أهل الجهل والضلال يعتمدون الأكاذيب ويحرفون النقل الصحيح ومن عرف الشافعي وعرف علمه ومذهبه عرف أن هذا من أوضح الكذب وأظهره ولا يشك في ذلك إلا جاهل فإن الشافعي منع من استقبال القبر الشريف قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الدعاء وأمر باستقبال القبلة عند ذلك، كما حكاه شيخ الإسلام ابن تيمية بل حكى الإجماع عليه وهو من أعلم الناس بأقوال العلماء ومذاهبهم وحكاه غير واحد من أهل العلم كابن القيم الجوزية، والشافعي رحمه الله من أشد الناس متابعة للسنة ونهيا عن البدع فكيف يجيز ما دلت الأحاديث على المنع منه كحديث علي بن الحسين عن أبيه عن جده أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتخذوا قبري عيدا ولا بيوتكم قبورا وصلوا علي حيث كنتم"، والعيد اسم لما يعتاد مجيئه والتردد إليه لدعاء أو سلام، ووجه الدلالة من هذا أنه صلى الله عليه وسلم منع من تحري الدعاء واعتياده عند أشرف القبور وأفضلها منبها على ما دونه بطريق الأولى وذكر العلقمي عن الشافعي أنه قال: أكره أن يعظم مخلوق حتى يتخذ قبره مسجدا مخافة الفتنة عليه وعلى من بعده وبهذا تعلم فقه الرجل ودينه، وهذه العبارة، وهي قولهم: الدعاء عند قبر فلان(51/1)
__________
=وردت بعض الأحاديث في شأن المهدي رواها الترمذي وأبو داوود وابن ماجة وغيرهم كقولهم عليه الصلاة والسلام: " لو لم يبقى في الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك حتى يبعث فيه رجلا مني أو من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي " ومثل قوله: " لو لم يبق إلا يوم لبعث الله رجلا من أهل بيتي يملؤها عدلا كما ملئت جورا " ولكن لم نر من المسلمين من ذهب مذهب الإمامية في تعيين المهدي ودعواهم أنه الإمام الثاني عشر الذي اختفي حيا وسيعود في آخر الزمان
وأما الرجعة فهي عقيدة لازمة لفكرة المهدية، ومعناها: أنه بعد ظهور المهدي المنتظر يرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الدنيا ويرجع علي والحسن والحسين، بل وكل الأئمة، كما يرجع خصومهم كأبي بكر وعمر فيقتص لهؤلاء الأئمة من خصومهم ثم يموتون جميعا ثم يحيون إلى يوم القيامة.
وأما التقية فمعناها المداراة والمصانعة وهي مبدأ أساسي عندهم وجزء من الدين يكتمونه عن الناس فهي نظام سري يسيرون على تعاليمه فيدعون في الخفاء لإمامهم المختفي ويظهرون الطاعة لمن بيده الأمر فإذا قوية شوكتهم أعلنوها ثورة مسلحة في وجه الدولة القائمة الظالمة في زعمهم اهـ التفسير والمفسرون ج2 ص7-9.
ص -101-
ترياق مجرب قد تنازعها عباد القبور والمتبركون بها فمنهم من يدعي ذلك لقبر أبي حنيفة ومنهم من يدعيه لقبر معروف الكرخي، وعباد عبد القادر وأحمد البدوي والحسين عندهم ما هو أعظم من ذلك وأطم، وبعضهم يفضل الدعاء عندها على الدعاء في المساجد التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، وبهذا وأمثاله عمرت المشاهد وعطلت المساجد وبنيت القبور وأرخيت الستور على التوابيت مضاهاة لبيت الله والله نسأل وإليه نرغب أن ينصر دينه ويظهره على سائر الأديان ويقيم له أنصارا وأعوانا يدعون إليه ويجاهدون فيه.
وأما قوله: قال حجة الإسلام محمد الغزالي(1): كل من يستمد به في(51/2)
__________
(1 )هو الإمام أبو حامد زين الدين محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الغزالي الطوسي الفقيه الشافعي فيلسوف متصوف تلميذ لإمام الحرمين أبي المعالي وتولى التدريس بمدرسة النظامية ببغداد ثم حج ورجع إلى دمشق واستوطنها عشر سنين وصنف فيها كتابا ثم صار إلى القدس والإسكندرية ثم عاد إلى بلده بطوسى مقبلا على التصنيف والعبادة والنظر في الأحاديث خصوصا البخاري وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن المتأخرين غلطوا بسبب تعظيم الغزالي المنطق وذكر أن الغزالي أول من أدخل المنطق في أصول الفقه وكتب مقدمة من المنطق في أول كتابه المستصفى وزعم أنه لا يثق بعلمه إلا من عرف هذا المنطق وصنف الغزالي في المنطق معيار العلم (القسطاس المستقيم) و(محك النظر) وصنف كتابا في مقاصد الفلاسفة في المنطق والحكمة الإلهية والحكمة الطبيعية عرف فيه مذاهبهم وحكى مقاصدهم.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه (الرد على المنطقيين) وصنف الغزالي في آخر عمره كتاب (تهافت الفلاسفة) وبين كفرهم بسبب مسألة قدم العالم وإنكار العلم بالجزئيات وإنكار الميعاد وبين في آخر كتبه أن طريقتهم فاسدة لا توصل إلى يقين وذمها أكثر مما ذم طريقة المتكلمين لكن بعد أن أودع كتبه المظنون بها على غير أهلها وغيرها من معاني كلامهم الباطل المخالف لدين المسلمين ما غير عبارته وعبر عنه بعبارة المسلمين التي لم يريدوا بها ما أراده وقال أبو حامد يفرق بين عالم الأمر وعالم الخلق فيجعل الأجسام عالم الخلق والنفوس والعقول عالم الأمر وهذا ليس من دين المسلمين بل كل ما سوى الله مخلوق عند المسلمين والله تعالى خالق كل شيء.
والمقصود هنا أن كتب أبي حامد وإن كان فيها كثير من كلامهم الباطل إما بعبارتهم أو بعبارة=
ص -102-(51/3)
الحياة يستمد به بعد الوفاة، فالجواب: أن هذا من جنس ما قبله نقل غير صحيح عن قائل غير معصوم لا يحتج به بإجماع المسلمين، وقول الناقل قال حجة الإسلام مجرد تمويه وتخييل، وحجة حجة الإسلام في كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وما عدا ذلك فيؤخذ منه ويترك كما قال مالك وبقوله يقول علماء الإسلام: كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو حامد قد دخل في الفلسفة واعتنى بكتب الفلاسفة ودخل عليه من الشر بسبب ذلك مالا يحصيه إلا الله ومن تأمل كتبه وكلامه في الإحياء وفي غيره عرف ذلك إن كان ممن له ممارسة في العلوم الشرعية قال الفقيه ابن العربي المالكي: دخل شيخنا أبو حامد في جوف الفلسفة ثم أراد أن يخرج فلم يحسن الخروج، هذا كلام تلميذه(1) وهو من أعرف الناس به، هذا إن صح النقل وما أظن هذا ثبت عنه.
وأما قوله: قال بعض من المشايخ العظام: رأيت أربعة أشخاص من الأولياء يتصرفون في قبورهم كما تصرفوا في حياتهم أو أزيد الشيخ عبد القادر وعن اثنين آخرين إلى آخره...
فالجواب أن مشايخ الضلال وجهلة الصوفية الذين لا دراية لهم بدين الله وشرعه قد يصدر منهم هذا ونحوه بل قد حكي عن بعضهم القول باتحاد(51/4)
__________
=أخرى فهو في آخر أمره يبالغ في ذمهم وبين أن طريقتهم متضمنة من الجهل والكفر ما يوجب ذمها وفسادها أعظم من طريقة المتكلمين، ومات الغزالي سنة505هـ خمس وخمسمائة هجرية وهو مشتغل بالبخاري ومسلم اهـ كتاب الرد على المنطقيين لشيخ الإسلام ابن تيمية ص194-198.
(1 )هو القاضي أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أحمد المعروف بابن العربي المعافري الأندلسي من حفاظ الحديث رحل إلى المشرق وصحب ببغداد أبا حامد الغزالي صنف كتبا في الحديث والفقه والأصول والتفسير والأدب والتاريخ من كتبه (أحكام القرآن) وكتاب المسالك في شرح موطأ مالك وكتاب القبس على شرح موطأ بن أنس وعارضة الأحوذي على كتاب الترمذي وغير ذلك من الكتب النافعة، وأبوه من فقهاء أشبيلة ورؤسائها وولد سنة 468هـ وتوفي رحمه الله سنة 543هـ أنظر هامش كتاب الرد على المنطقيين ص482 التفسير والمفسرين ج2 ص448-449.
ص -103-(51/5)
الخالق والمخلوق والقول بحلول الخالق في خلقه والقول بتعطيل الصفات الثبوتية وكل هذه الأقوال حكيت واشتهرت وخلدت في الدفاتر عن أشياخ يعتقد كثير من الناس أنهم أهل معرفة وتحقيق وأنهم من المشايخ العظام.
ومن بنى دينه على هذا رجع إلى ما عليه النصارى من تقديم أقوال أحبارهم ورهبانهم على ما بأيديهم من كتب الله وعندهم من هذا النوع شيء كثير وحكايات معروفة، وقد عاب الله ذلك عليهم وفرهم به، قال تعالى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}(1).
وقد فسر صلى الله عليه وسلم هذه العبادة بطاعتهم في تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرم الله كما في حديث عدي بن حاتم وهو حديث صحيح مشهور اعتمده المفسرون وأهل الحديث، وقد رأينا بمصر من يقول: بأن البدوي وزينب والدسوقي يتصرفون وبعضهم يزيد إلى سبعة وبعضهم إلى سبعين، وكل هذه من أقوال عباد القبور، وقد أبطلها القرآن وسائر الكتب السماوية وما جاءت به النبوات بل بطلانه معلوم بالضرورة من دين الإسلام.
وأما قول ابن زروق: إن إمداد الميت أقوى من إمداد الحي لأنه في بساط أقرب الحق وحضوره، فهذا القول كما سبق قول عمن لا يرتضي ولا يؤخذ بقوله ولا يهتدي ونحن لا نمنع أن أقوال الضالين في هذا المعنى كثيرة(2) ولكن ليست بشيء، ومعنا أصل عظيم لا يضل من اتبعه ولا يشقى وهو كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وقرب العبد من الحق وحضوره لا يفيد هذا فإن جميع الخلق قريب بالنسبة إلى علم الحق وخواصه لهم قرب خاص(51/6)
__________
(1 )سورة التوبة: رقم الآية 31.
(2 )وفي الأصل (كثير) بدون تاء التأنيث والصواب بالتأنيث لوجوب المطابقة بين المبتدأ والخبر، ووزن فعيل وإن كان مما يستوي فيه المذكر والمؤنث كقتيل وجريح إلا أن المطابقة والمشاكلة أمر مهم عند العرب أرباب الفصاحة والبلاغة والله أعلم بالصواب.
وأيضا الذي يستوي فيه المذكر والمؤنث ما كان مؤنثه على وزن فعلى كقتيل قتلى وجريح جرحى.
ص -104-(51/7)
بالنسبة إلى الحفظ والإعانة والنصرة والتأييد والتسديد، والملائكة لهم قرب أخص والأرواح الطيبة كذلك، ومع هذا فقد قيل لأفضلهم وسيدهم (ليس لك من الأمر شيء)(إن عليك إلا البلاغ) وتقدم ما فيه كفاية لأهل الحق.
وأما علم الأرواح بالزائرين وأحوالهم فلا دليل فيه لأن كونه يعلم الزائر ويرد عليه سلامه لا يدل على أنه يعلم حاله مطلقا ويتصرف ويدبر الأمر هذا لا مناسبة بينه وبين ما قبله بوجه من الوجوه وأي تلازم بينهما؟ وقد يعرف الكافر من يزوره وهو فيما هو فيه من العذاب.
وأما قوله: هكذا في شرح المشكاة فقد تقدم أن الحجة ليست في قول مثل هذا.
وأما قوله: وليت شعري ما أراد المنكرون للاستمداد إن أرادوا أن الأولياء لا تصرف لهم أصلا (لا) في الحياة ولا في الممات فهو بعينه مذهب أهل الاعتزال، والجواب أن يقال: قد تقدم أن الرجل لا يعرف معنى الاعتزال، ويسمي المؤمنين الذين يعتزلون الشرك وأهله ويجتنبون الأقوال المكفرة الشركية معتزلة لجهله بالاعتزال. والقول بأن الأولياء لا تصرف لهم أصلا لا في الحياة ولا في الممات بغير الأسباب العادية الحسية هو مذهب أهل الإسلام قاطبة الذين اعتزلوا الشرك وأهله.
وقوله: وإن أرادوا أن لا تصرف لهم حقيقة في الحالتين بل المتصرف والمؤثر حقيقة هو الله تعالى، وينسب إليهم مجازا فهو بعينه اعتقادنا، والجواب أن يقال: لا تصرف لأحد من الخلق بدون الأسباب العادية لا حقيقة ولا مجازا، وهذا هو الذي دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما تقدم من الآيات والأحاديث.
وأما الأسباب العادية الحسية فهي تضاف إلى العبد حقيقة بمعنى أنها صدرت منه وقامت به وحصلت بمشيئته وكسبه ولا يمنع من إطلاق هذه الأفعال حقيقة عليه وإن كان الله هو الخالق له ولعمله كما قال تعالى:{وَاللَّهُ
ص -105-(51/8)
خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}(1).
ومن قال: لا تضاف إليه هذه الأفعال إلا مجازا فهو من جنس قول المجبرة(2) ومذهب سلف الأمة وأئمتها أن كسب العبد وأفعاله الحسية تضاف إليه حقيقة، وأما أفعال الله التي ليست من جنس أسباب العباد ولا في قدرتهم فهذه لا تضاف إلى العبد أصلا لا حقيقة ولا مجازا. ولكن المعترض خلط هنا ولم يميز وقوله: إن أرادوا أنه لا تصرف ولا كرامة لهم بعد الوفاة أصلا بناء على أنه لا حياة لهم فهذا مع ما فيه من إنكار عذاب القبر باطل لما ذكرناه من السماع والعلم لهم ولا شك أنهما يتفرعان على الحياة ، فالجواب: يعلم مما تقدم وهذا كله حشو وتكرير ليس تجديا للدليل هو مجرد تكرير الدعوى ولا يخفى أن الملحدين وعباد القبور القائلين بالتصرف يموهون على الناس بأن تصرف الأولياء كرامة وأن من نفاه فقد نفى الكرامة، وهذا المعترض زاد في التمويه بقوله: بناء على أنه لا حياة لهم وأن هذا يلزم منه إنكار عذاب القبر، وكل هذا تشبيه وترويج للباطل وتمويه على الجهال. وأهل الحق لا ينكرون الكرامة التي جاء بها القرآن الكريم كما في قوله تعالى:{أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}(3) وقوله:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}(4) وقوله:{وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}(5) وفي الحديث القدسي قال الله تعالى: "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر"(6)(51/9)
__________
(1 )سورة الصافات: رقم الآية 96.
(2 )والمجبرة هم الجبرية وهي الطائفة التي تعتقد أن العبد مجبورا لا اختيار له وهذا الأصل الذي بنوا عليه مذهبهم فاسد من عدة وجوه، أن ما يقدم عليه من خير وشر لا اختيار له وعمله هذا كحركة المرتعش وحركة الشجرة التي يحركها الريح وهذا جزم عظيم من حيثيات العبد.
(3 )سورة يونس: رقم الآية 62.
(4 )سورة فصلت: رقم الآية 30.
(5 )سورة آل عمران: رقم الآية 169.
(6 )رواه البخاري ومسلم وتمام الحديث اقرأوا إن شئتم {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ
ص -106-
وكذلك يثبتون خرق العادة للأولياء في بعض الأحيان كما في قصة آصف صاحب سليمان عليه السلام وكما في قصة أصحاب الكهف وكما تقدم في قصة عمر رضي الله عنه، ولكن ليس في هذا دليل على أنهم يتصرفون ولا تلازم بين التصرف والكرامة لأن الكرامة خرق الله العادة لوليه من غير فعل من ذاك الولي(1).
وقول هذا الجاهل: إن ذلك بناء على أنه لا حياة لهم فهذا جهل عظيم وخلط ذميم، فالمسلمون متفقون على إثبات عذاب القبر ونعيمه وإن أريد بالحياة تنعم الأرواح والأجساد وعذابها وإحساسها ونحو ذلك كما ورد فهذا ثابت لا شك فيه لكنه لا يسمى حياة(2) وإنما يطلق اسم الحياة على غير(51/10)
__________
أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (السجدة:17) .
(1 )بل ولا علم منه ولا يعرف مما يجري له من خارق العادة.
(2 )وذكر شارح الطحاوية موضوع علاقة الروح بالبدن وفصل ذلك حيث قال: فإن عود الروح إلى الجسد ليس على الوجه المعهود في الدنيا بل تعاد الروح إليه إعادة غير الإعادة المألوفة في الدنيا فالروح لها بالبدن خمسة أنواع من التعلق متغايرة الأحكام: أحدها تعلقها به في بطن الأم جنينا، الثاني: تعلقها به بعد خروجه إلى وجه الأرض، الثالث: تعلقها به في حال النوم فلها به تعلق من وجه ومفارقة من وجه، الرابع: تعلقها به في البرزخ فإنها وإن فارقته وتجردت عنه فإنها لم تفارقه فراقا كليا بحيث لا يبقى لها إليه التفات البتة فإنه ورد ردها إليه وقت سلام المسلم وورد أنه يسمع خفق نعالهم حين يولون عنه وهذا الرد إعادة خاصة لا يوجب حياة البدن قبل يوم القيامة، الخامس: تعلقها به يوم بعث الأجسام وهو أكمل أنواع تعلقها بالبدن ولا نسبة لما قبله من أنواع التعلق إليه إذ هو تعلق لا يقبل البدن معه موتا ولا نوما ولا فسادا فالنوم أخو الموت فتأمل هذا يزح عنك إشكالات كثيرة.
وقال الشارح رحمه الله تعالى: فالحاصل أن الدور ثلاث: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار. وقد جعل الله لكل دار أحكاما تخصها وركب هذا الإنسان من بدن ونفس وجعل أحكام الدنيا على الأبدان والأرواح تبع لها وجعل أحكام البرزخ على الأرواح والأبدان تبع لها فإذا جاء يوم حشر الأجساد وقيام الناس من قبورهم صار الحكم والنعيم والعذاب على الأرواح والأجساد جميعا. ومن هنا يتضح جليا أن الحياة البرزخية تختلف عن الحياتين الأخريين وما تعلق المردود عليه به هباء منثور ولا وجود له البتة أنظر شرح الطحاوية ص348.
ص -107-(51/11)
الأموات، والحياة البرزخية الثابتة للشهداء ونحوهم مقيدة لا مطلقة.
وعلى كل فهذا الفارسي لم يفرق بين الحياة وبين الإحساس بالألم والعذاب ولذلك استشكل وأثبت حياة البرزخ للكفار والفساق كما ثبت للشهداء وأمثالهم وزعم أن نفي التصرف في والتدبير عن الميت نفي للحياة يلزم منه نفي الإحساس. وإن أريد أن لهم حياة مساوية للحياة الدنيوية الحسية، وإن حال البرزخ كحال الدنيا، فهذا كذب بحت ومكابرة للعقل والحس بل ولكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}(1) وقال تعالى:{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ}(2) وقال جلت قدرته:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}(3) وقال:{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}(4) والآيات في هذا كثيرة.
وفي الحديث: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له" وقد تقدم الحديث.5
فأي فائدة لخلط هذا المعترض وتشبيهه مع وجود هذه النصوص؟ وما أظن أنه فعل هذا إلا لقصد الخديعة والتمويه على الجهال أو هو من أصحاب الجهل المركب الذين وصف الله أعمالهم بقوله:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}(6)(51/12)
__________
(1 )سورة الزمر: رقم الآية 30.
(2 )سورة الرحمن: رقم الآية 26.
(3 )سورة الزمر: رقم الآية 42.
(4 )سورة الأنبياء: رقم الآية 35.
5 رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وعن جميع
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
(6 )سورة النور: رقم الآية 39.وفي الأصل خطأ في الآية الكريمة حيث كتب الناسخ أو كسراب والصواب ما أثبتناه والله أعلم.
ص -108-
وما نقله عن القاضي في الكلام على قوله تعالى:{وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ} يؤيد ما قلناه ويرد على من قال: إن الروح عرض يفنى بفناء البدن.
وأما قوله: وإن أرادوا وقالوا بكرامتهم تصرفاتهم في النشأة الأولى وأما بعد مفارقة الأرواح لا تصرف لهم ولا كرامة وعليهم البيان، فنقول: قد تقدم البيان، والفرق بين التصرف المثبت وهو ما جرت به العادة من أعمال العباد وكسبهم(1) وتقدم الكلام على الكرامة وأنها ليست كما يظنه الجاهلون أنهم ينفعون ويضرون ويتصرفون وتقدم من الأدلة ما فيه الكفاية لمن أراد الله هدايته، ومن يضلل الله فلا هادي له.
ومن عجائب جهله أنه يقول: ليس لهم دليل على هذا لا في الكتاب ولا في السنة وأقوال السلف انتهى.
والجاهل يخفى عليه الحق ولو كان واضحا في نفسه.
ثم قال المعترض: من الشبهات التي تدور على ألسنة المنكرين أن العبد لابد له أن لا يستعين بغيره تعالى ففي الفاتحة{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} لأن معناها نخصك بالعبادة والاستعانة فكما يجب على العباد تخصيصه تعالى بالعبادة كذلك يجب عليهم تخصيصه بالاستعانة فلا يعبدوا إلا إياه ولا يستعينوا إلا به(2) تعالى، هكذا زعم هذا المعترض أن هذه شبهة وكذب في ذلك فإن هذا هو الحق الذي نطق به القرآن في مواضع وجاءت به السنة وعلم وجوبه بالضرورة من دين الإسلام وبالفطر المستقيمة، لكن هؤلاء اجتاحتهم(51/13)
__________
(1 )ولعل هنا حذفا -وغيره- أي غير المثبت.
(2 )في الأصل إلا منه ولعل الصواب ما أثبتناه حيث أن الأفصح (تعدية) الاستعانة وما اشتق منه بالباء والله أعلم بالصواب.
ص -109-
الشياطين وصرفتهم عن أصل الفطرة فصاروا في شك وريب نسأل الله الثبات على دينه.
قال المعترض: ويجاب عن هذه الشبهة بوجوه ذكر منها أن الفاتحة مقروءة على ألسنة العباد تعلما للسلوك والوصول أي ينبغي أن يحمدوا الله ويذكروه بالصفات الجليلة مع الحضور والإخلاص ونفي الخواطر والوساوس مجتهدين في دفعها حتى تندفع بالكلية ولا يبقى في ملاحظتهم إلا الله فحينئذ يستحقون أن يخاطبوا الله ويقولوا:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}(1).
وقصد هذا أن تخصيصه بالاستعانة في حال السلوك والخطاب وعدم وجود السوي وارتفاع الوسائط، ومراده أن في غير تلك الأحوال تباح الاستعانة بغير الله وتجوز فنعوذ بالله من الجهل المعمي.
ويقال لهذا: إن الله تعالى ذم المشركين وكفرهم مع إخلاص الدعاء والاستعانة به في حال ارتقاع الوسائط والسوي لإشراكهم في حال وجود ذلك كما قال تعالى:{وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْأِنْسَانُ كَفُوراً}(2) وقال:{وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ}(3)، ويقال هذه الآية دلت على أصلين عظيمين ألا يعبد إلا الله ولا يستعان إلا به، كما قال تعالى عن شعيب:{ِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}(4) وقال:{عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ}(5)، ونحو(51/14)
هذه الآيات التي فيها
__________
(1 )سورة الفاتحة: رقم الآية 5.
(2 )سورة الإسراء: رقم الآية 67.
(3 )سورة الزمر: رقم الآية 8.
(4 )سورة هود: رقم الآية 88.
(5 )سورة الرعد: رقم الآية 30.
ص -110-
الجمع بين التوكل والاعتماد والعبادة والإنابة. وإذا كان التوكل والاعتماد في العبادات وغيرها شرطا(1) في حصول الإيمان كما في قوله تعالى:{وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ}(2).
فالاستعانة به في نيل المطلوب ودفع المرهوب أصل وشرط في حصول الإيمان المطلق لما بينها وبين التوكل من التلازم فتسلم أن الفاتحة فيها التعليم للسلوك والوصول وهذا هو دين الإسلام ومعرفة سلوك الصراط والوصول إلى الله هو أصل الدين الذي يجب التزامه، ومتى جاز للعبد أن يخرج عن هذا السلوك وطلب هذا الوصول في حال من الأحوال؟ حتى يقال: إن هذا مخصوص فإن العبد كلف بطريق السلوك وطلب الوصول إلى الممات كما قال تعالى:{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}(3) ومتى بقي في قلب العبد ملاحظة واستعانة بالوسائط فهو على درجتين إما أن يلاحظ ما جرت به الأسباب العادية مما هو في طاقة الخلق وقدرتهم فالاعتماد على هذا والتعلق به ينقص الإيمان الكامل وتنحط به درجة العبد لكن لا يخرج به عن الإسلام إذا كان أصل اعتماده وتوكله على الله لا على غيره.
وأما ملاحظة السوي والوسائط في غير الأسباب العادية كالذين يلاحظون أرواح الأنبياء والأولياء ويرجونهم ويستمدون منهم هذا هو الشرك الأكبر الذي لا يجامع أصل الإيمان ولا يطابق قوله:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} والبراءة من هذا ونفيه هو الصراط المستقيم الموصل إلى الله وإلى جنته ومرضاته.
وعبارة البيضاوي التي نقل هذا عنه تدل على هذا وتقرره لأنه ذكر أن الله تعالى خوطب بقوله:{إِيَّاكَ(51/15)
نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} بعد ذكر الحقيق بالحمد ووصفه بما تقدم من الصفات التي اختص بها، فلهذا خوطب بذلك أيا من
__________
(1 )في الأصل شرط بالرفع والصواب ما أثبتناه حيث أنه خبر كان بالنصب.
(2 )سورة يونس: رقم الآية 84.
(3 )سورة الحجر: رقم الآية 99.
ص -111-
هذا شأنه نخصك بالعبادة والاستعانة ليكون أدل على الاختصاص والترجي من البرهان إلى العيان والانتقال من الغيبة إلى الشهود وكان المعلوم صار عيانا والمعقول مشاهدا والغائب حاضرا إلى آخر عبارته. وأراد بهذا توجيه الالتفات إلى الخطاب من الغيبة وهو صريح في أن العبد يطلب منه هذا ويجب عليه لأن تخلف المدلول إخلال بهذا الواجب ونقض لهذا العهد.
وقول الجاهل: إن هذا تعليم بطريق السلوك والسلوك مبدأ ومنتهى ففي المبدأ ذكر الله عبادته وطاعته وفي الانتهاء فناء عما سواه وعن فنائه فلم يبقى إلا الله وجميع الأشياء الكونية يردها العارف الواصل إن أراد بهذا الكلام ونحوه. إن هذا خاص بأناس أهل السلوك وأرباب الطرائق، وإن غيرهم من الخلق وسائر المسلمين لا يجب عليهم تخصيصه بالعبادة والاستعانة فهذا جهل يضحك منه العقلاء ولم يقل هذا أحد ممن يعرف ما يخرج من بين شفتيه إلا أن يكون مكذبا متلاعبا. وكلام المفسرين وأهل العلم يرد ما قال هذا المعترض، ويدل على ما قاله المسلمون من وجوب عبادته تعالى وحده ووجوب الاستعانة به وحده في هذه الآية وعلى زعم هذا يقال في قوله:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}(1)، إن العبادة تخصه تعالى في حال دون حال لأن هذا مقام تعليم لطريق السلوك وفيه فناء عن السوي، وهذا انسلاخ من الدين وتكذيب لنص الكتاب المبين. وأما قوله: فلأن حق العابد أن لا يلاحظ وقت العبادة غير معبوده فالاستعانة لغيره تعالى فيها ممنوعة ولكن لا تدل على أن(51/16)
__________
(1 )وذلك أن مدلول رد الشبهة على زعم المردود عليه (الفارسي) لا يحصل العبد العبادة والاستعانة على الله إلا في حال قراءة الفاتحة لأن هذا مقام السلوك والوصل والترقي الذي يطرح العابد الالتفات إلى غير الله وفي غير هذا المقام لا تكون العبادة والاستعانة خالصتين لله بل يجوز أن يشرك الإنسان مع الله من شاء من الأولياء والأوثان وغير ذلك، ولا شك أن هذا شرك ما بعده شرك ولم يسبق إلى هذا الاعتماد أحد قبله حتى المشركين وعباد القبور، ولقد عمل الشيخ في تفنيد هذه الشبهة عملا جليلا حيث حارب هذه الترهات وقطع دابرها قبل أن يكون لها رواج ولله المنة في تقييض من يذود عن ساحة توحيده بسيفه وقلمه ورحم الله الشيخ وأثابه بالروح والريحان.
ص -112-(51/17)
الاستعانة ممنوعة مطلقا كيف والمؤمنون يتعاونون بعضهم بعضا قال الله تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}(1) فيقال: هذا كلام قريب مما قبله إلا أنه خص الاستعانة به تعالى في حال العبادة وعلى كلامه أن في غير العبادة يجوز أن يستعين بغيره ويستمد منه سواه تعالى.
وهذا القول فيه حل لربقة العبودية وخروج عن الأحكام الشرعية ومنع لكتاب الله أن يعمل به إلا في حال دون حال وما رأيت من عباد القبور من بلغ جهله إلى هذه الغاية وتصرف في كلام الله بمقتضى رأيه ومذهبه، وأين هذا عن معنى الحصر والاختصاص المستفاد من تقديم المعمول على العامل وأين هو عن العموم اللفظي الذي اعتبر أهل العلم والتأويل بل تعرفه العامة من المسلمين وتقر به.
وأما قوله:- كيف والمؤمنون يتعاونون بعضهم بعضا- فهذا من غباوته فإن التعاون بين المؤمنين لا يدل على أنهم يتعاونون فيما هو من خصائص الربوبية بالقدرة والتأثيرات الباطنية وإنما ذلك خاص بالأسباب العادية والفعال المشاهدة الحسية ومن لم يفرق بين هذا وما قبله فهو ممن طبع الله على قلبه.
وما ذكره من الحصن الحصين من طلب الإعانة إذا انفلتت الدابة ليس هو من جنس الاستعانة الشركية فيما لا يقدر عليه إلا الله بل هو من جنس الأسباب العادية لأنهم حاضروه فخاطبهم من جنس خطاب الحي الحاضر وأين هذا؟ من الاستعانة من أصحاب القبور من الأولياء والمشايخ.
وقال المعترض: وقد يجاب عن هذه الشبهة بأن الاستعانة طلب المعونة وهي بالأسباب التي يسهل بها الفعل وتقرب الفاعل وبالأسباب التي
__________
(1 )سورة المائدة: رقم الآية 2.
ص -113-(51/18)
يتوقف عليها الفعل المسمى بالاستطاعة، فمرجع الاستعانة هنا طلب التوفيق والهداية ولا شك أنهما فعلان لله مختصان به انتهى كلامه.
والجواب: أن هذا الرجل لا يدري ما يقول، فإن عبارته متناقضة، فأولها فيه جعل الاستعانة بالأسباب التي يتوقف عليها الفعل والأسباب التي يسهل الفعل وهذا عام، وفي آخرها قال: ومرجع الاستعانة هنا إلى طلب التوفيق والهداية وهي أخص من الأسباب التي يتوقف عليها الفعل والتي تسهله فقد يوجد السبب ولا يوجد المسبب وليس بين السبب والمسبب تلازم أصلا ومراده بهذا الكلام المختلف أن: التوفيق والهداية مختصان بالله وما عداهما فمستعان به غيره ويستمد ممن سواه تعالى الله عن هذا القول وأي دليل؟ دل على أن المقصود بالآية نوع من الاستعانة خاص دون سائر الأنواع ثم من جهله ساق بعد هذا الكلام عبارة البيضاوي فيها تقسيم المعونة إلى ضرورية وغير ضرورية وهي حجة عليه فإن البيضاوي أدخل جميع الأقسام في الآية وبين أن هداية الصراط المستقيم هي الإعانة المطلوبة وهذا عام في كل ما يستعان به تعالى عليه من أمر الدنيا والآخرة فإن الصراط المستقيم لا يخرج عنه إلا أفعال المغضوب عليهم والضالين فهو لفظ عام يدخل تحته من المقصود والإرادات والأعمال الباطنة والظاهرة والغايات والوسائل كل(1) ما أريد به وجهه تعالى وكان صوابا على المنهاج المحمدي وعبارة البيضاوي ترد قول هذا المعترض وتشهد لما قلناه ولكنه نظر إلى ما فيه من التقسيم فظن أن ذلك حجة له وهو عليه.
وأما قوله: فأن قيل ما معنى الاستمداد والاستعانة من الأنبياء والأولياء قلنا معناه الذي نريد به التوسل بهم إلى الله في المهمات فقط بأن يقول المتوسل: اللهم إني أسألك حاجتي هذه وأتوسل بهذا العبد المقرب المكرم عندك أن تعطيني كذا وكذا بلطفك وكرمك.
__________
(1 )وفاعل يدخل (كل ما أريد الخ).
ص -114-(51/19)
فيقال لهذا: هذا الكلام ينافي ما قبله وما بعده لأنك صرحت أولا بأنه يستمد منهم ويستعان بهم ويقصدون في الحوائج ويعلمون الغيب ويتصرفون ويدبرون، ولا يصلح تفسير هذا بأن المراد أن يقول المتوسل: اللهم إني أسألك حاجتي هذه بهذا العبد ونحو هذا الكلام، فإن الأول صريح في سؤال العباد وليس فيه تعرض لسؤال الله بهم والقولان متنافيان.
فإما أن يكون الرجل مصابا في عقله أو قصد التمويه والمغالطة والشقشقة ترويجا على العوام وهي مما يزري عند ذوي الأفهام، ويقال أيضا: قولك بعد هذه العبارة: أو يقول: يا عبد الله يا ولي الله اشفع لي صريح في منافاة هذا ويطابق الأول من بعض الوجوه ولكنه يخالفه من حيث أنك هنا ذكرت الشفاعة وفي الأول جزمت بالتصريف والتدبير، والشافع لا يكون متصرفا مدبرا وإنما ينال بجاهه عند المتصرف المدبر إذا تبين هذا- وأن الرجل مخلط- فاعلم أن مسألة الله بجاه الخلق نوع ومسألة الخلق مالا يقدر عليه إلا الله نوع آخر. فمسألة الله بجاه عباده منعها أهل العلم ولم يجزها أحد ممن يعتمد به ويقتدى به كالأئمة الأربعة وأمثالهم من أهل العلم والحديث إلا أن ابن عبد السلام(1) أجاز ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة وقيده بثبوت(51/20)
__________
(1 )هو عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن الحسن السلمي الدمشقي عز الدين الملقب بسلطان العلماء فقيه شافعي بلغ رتبة الاجتهاد ولد ونشأ في دمشق وزار بغداد سنة تسع وتسعين وخمسمائة 599هـ فأقام شهرا ثم عاد إلى دمشق فتولى الخطابة والتدريس بزاوية الغزالي ثم الخطابة في الجامع الأموي ولما سلم الصالح إسماعيل بن العادل قلعة (صفد) للإفرنج اختيارا أثر عليه ابن عبد السلام ولم يدع له في الخطبة فغضب عليه وحبسه ثم أطلقه فخرج إلى مصر فولاه صاحب الصالح نجم الدين أيوب القضاء والخطابة ومكنه من الأمر بالمعروف ثم اعتزل ولزم بيته ولما مرض أرسل إليه الملك الظاهر يقول: إن كان في أولادك من يصلح لوظائفك وظفناه فقال: لا، وولد سنة سبع وسبعين وخمسمائة 577هـ وتوفي بالقاهرة سنة ستين وستمائة هجرية ومن كتبه (التفسير الكبير) و(الإلمام في أدلة الأحكام) و(قواعد الشريعة) و(الفوائد) و(قواعد الأحكام في إصلاح الأنام) و(ترغيب أهل الإسلام في سكن الشام) و(وبداية السول في تفضيل الرسول) و(الفتاوى) و(الغاية في اختصار النهاية) و(فقه وإرشاد إلى الإجاز في بعض أنواع المجاز ) و(في مجاز القرآن) و(مسائل الطريقة) تصوف و(الفرق بين الإسلام والإيمان) و(رسالة مقاصد الرعاية) هـ، الأعلام للزركالي ص.
ص -115-(51/21)
صحة الحديث الذي جاء في ذلك وهو حديث الأعمى الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ادع الله يا محمد أن يرد علي بصري فأمره أن يتوضأ ويصلي ويدعو الله وفي دعائه أسألك بنبيك محمد، قال ابن عبد السلام: إن صح الحديث فيجوز بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة والحديث في سنده من لا يحتج به عند أهل العلم كما لا يخفى على أهل الصناعة.
وجمهور الناس من أهل العلم يقولون: معنى الحديث إن صح: التوسل بدعائه صلى الله عليه وسلم في حياته كما كان الصحابة يتوسلون بدعائه في الاستسقاء وفي غيره، وأما بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فليس من هديهم وطريقتهم أن يسألوا الله به، بل لما قحطوا زمن عمر استسقى وتوسل بدعاء العباس كما تقدم، وبالجملة فهذه المسألة نوع ولا يخرج الإنسان عن مسألة الله وإنما الكلام في سؤال العباد وقصدهم من دون الله . كما هو صريح كلام هذا المعترض.
وسؤال العباد والاستعانة بهم فيما لا يقدر عليه إلا الله شرك جلي. ولو قال: يا ولي الله اشفع لي فإن نفس السؤال محرم. وطلب الشفاعة منهم يشبه قول النصارى: يا والدة الله اشفعي لنا إلى الابن والإله.
وقد أجمع المسلمون على أن هذا شرك. وإذا سألهم معتقدا تأثيرهم من دون الله فهو أكبر وأطم وهو صريح كلام هذا المعترض فيما تقدم لكنه مخاتل موسوس.
وقوله: وأما ما يريد به العوام فمع اعتقاد التأثير ممنوع بل شرك وكذلك السؤال من الأنبياء والأولياء أمورا مختصة بالله تعالى، وبعض أفعالهم عند زيارة القبور فهو حرام قطعيا. وأما التوسل بالوجه الذي بينً فهو جائز بالأخبار والآثار فيقال: أي فرق بين ما ذكرته من أن أرواح الأولياء تتصرف وتدبر وتعلم الغيب ويستعان بها وبين ما ذكرته عن العوام؟ بأن قلت: إن العوام يعتقدون أنها تفعل وتؤثر بغير إذن الله وأنها مستقلة بالربوبية فهذا لا يقوله أحد ممن يعترف بأن الله رب كل شيء. وإن قصدت أنه يقولون إنها مفوضة وتأثر وتتصرف وتعلم فهذا عين قولك(51/22)
سواء بسواء ولا فرق بينك وبينهم.
ص -116-
وإنما ذكرك اعتقاد العوام هنا مجرد تلبيس، وكل من نظر في كلامك عرف أنه هو الذي نسبته إلى اعتقاد العوام وقوله: وكذلك السؤال عن الأنبياء والأولياء أمورا مختصة بالله تعالى إن أراد به غير الأسباب العادية فهذا هو الذي فيه النزاع وهو عين كلامه أن أرواح الأولياء تتصرف ويطلب منها قضاء الحاجات ودفع المهمات وهذا مختص بالله وقد زعمه لغيره، وإن أراد به الأسباب العادية تطلب من غيره تعالى كسؤال المخلوق ما يقدر عليه من دفع العدو أو تعليم ما يعلمه من العلم وما في وسعه من الإطعام والصدقة والدعاء ونحو ذلك فهذا لا يمنع منه، والكلام إنما هو في النوع الأول الذي وقع النزاع فيه.
وأما حديث عثمان بن حنيف وحديث ابن الجوزي وحديث أنس فهذه الأحاديث حجة عليه لا له لأنه ليس فيها استمداد من المخلوق والاستغاثة به بل فيها الاستمداد من ولي المدد ومالكه سبحانه.
واستسقاء عمر ومعاوية بالعباس ويزيد حجة لأهل الحق القائلين أنه لا يستسقى بالأموات ولا يستعان بهم لأن بالمدينة وغيرها من الأنبياء والشهداء والسابقين الأولين من هو أفضل من العباس ومن يزيد بن الأسود ولا استسقى بهم أحد زمن الصحابة ولا في القرون المفضلة فدل على أن ذلك ليس من دين أهل الإسلام وأنه من أبطل الباطلين والسنة أولى بالاتباع وأحق، ثم إن هذا المعترض أتى في آخر كلامه بشبهة سامجة تخالف ما تقدم فقال: إذا تقرر أن أعمالنا تعرض عليهم بواسطة الملائكة أو بواسطتهم فيجوز أن يكون نداؤنا لهم والتوسل بهم يعرض عليهم فيدعوا لنا بالخير ويشفعوا فيشفعوا، والجواب أن يقال: أين الداعي والشافع؟ من المدبر المتصرف؟ وقد تقدم لك وتكرر أنك تقول: بأنهم يدبرون ويتصرفون ويمدون فما بالك رجعت القهقرة وجعلتهم داعين شافعين، والشفيع إنما يشفع بجاهه وكرامته عند من يفعل ولا فعل له هو بنفسه فلا أدري أي المذهبين تختار؟ وأي الطريقتين أرجح عندك؟.(51/23)
ص -117-
أما الطريقة الأولى فطريقة من أشرك في الربوبية وزعم أن ثم مدبرين وفاعلين ومتصرفين.
والطريقة الثانية فطريقة مشركي العرب ومن ضاهاهم وشابههم من عباد القبور الذين يعتقدون أنهم إذا سألوهم وتعلقوا بهم(1) نالوا بجاههم وشفاعتهم، وقد حكى الله عنهم ذلك في قوله تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}(2) وقال تعالى:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ}(3) وبعض الجهال يظن أنه إذا قال: أنا أريد شفاعتهم وجاههم وأعتقد أن الله هو المؤثر أن ينجوا بهذا من الشرك ويكون مسلما وقد عرفت مما تقدم أن هذا هو الذي كانت عليه العرب في زمانه صلى الله عليه وسلم وأنهم لم يعتقدوا التدبير والتأثير لغر الله تعالى، قال الله تعالى:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ}(4) والآيات في هذا كثيرة فيها أنهم يعترفون لله بالتدبير والتصريف ولكنهم قصدوا من آلهتهم مجرد الجاه والشفاعة وقول هذا قد علم مما ذكرنا أن قول القائل: يا شيخ عبد القادر شيئا لله استمداد منه جائر. فيقال له: تقدم لك أنك تقول: إن الذي نريد التوسل بهم إلى الله بأن يقول المتوسل: اللهم إني أسألك بعبدك وتقدم قولك: بأنهم يدعون لنا ويشفعون.(51/24)
وهذه العبارة الأخيرة صريحة في طلب عبد القادر بنفسه وهذا هو الذي تريدون وهو الذي انطوت عليه
__________
(1)في أصل المخطوط (عليهم) والأفصح تعدية فعل تعلق بالباء لا بعلى وإن جاز نيابة حرف الجر بعضها عن بعض والأحسن استعمال الأفصح والله أعلم.
(2 )سورة يونس: رقم الآية 18.
(3 )سورة الزمر: رقم الآية 3.
(4 )سورة يونس: رقم الآية 31.
ص -118-
الضمائر ولكنكم تارة تصرحون وتارة تكتمون وتظهرون عيره وعلى كل فأنتم في قول مختلف يؤفك عنه من أفك كما نعت الله بذلك إخوانكم الأولين.
وأما حكاية اليافعي في تكملة روض الرياحين(1) أن رجلا استغاث بعبد القادر فأغيث ورأى عند ذلك رجلا عليه ثياب شديدة البياض ونحو هذا الكلام فهذا ليس من أدلة أهل الإسلام ولا يثبت به بإجماعهم حكم من الأحكام ويحتمل أن هذا المستغيث رأى خيالا أو جانا فتوهمه عبد القادر وليس كذلك إلا هذا(2) إن صح النقل ولا يمكن تصحيح مثل هذه الحكايات، ولو لم يكن من الموانع إلا جهالة الراوي لدين الإسلام وعدم معرفته بصحيح الأحكام، والحكاية عن الشيخ عبد القادر أنه يقول: من استغاث بي في كربة ومن ناداني باسمي في شدة فرجت عنه ومن توسل بي إلى الله في حاجة قضية له ومن صلى ركعتين ثم يخطوا إلى جهة العراق إحدى عشر خطوة ويذكر اسمي ويذكر حاجته فإنها تقضى(3).
وهذا الكلام البشع الخبيث نسبه إلى هذا الشيخ الموحد خطأ عظيم وزلل وخيم وقد ابتلي رحمه الله تعالى بمن يعتقد فيه نوعا من الإلهية ويجعله ندا لرب العالمين كما ابتلي بهذا علي بن أبي طالب وابنه الحسين وغيرهم من سادات المؤمنين، وكل من عرف عبد القادر ووقف على كلامه الذي نقله الثقات عنه يجزم ببراءته من هذا وسلامته من هذه الشركيات والخرافات التي ينزه عنها العاقل فضلا عن العالم الفاضل.
وعند النصارى وأشباههم من هذه الحكايات ما يملأ الدفاتر وكانت العرب في الجاهلية تعج على(51/25)
عبادة اللات والعزى ومناة ونحو ذلك بمثل هذه الحكايات الضالة والأقاويل الباطلة بل ربما سمع بعضهم الخطاب من نفس
__________
(1 )في أصل المخطوط (وأن رجلا) ولعل الصواب بدون الواو.
(2 )وفي أصل المخطوط (وليس كذلك هذا بدون الاستثناء) والصواب والله أعلم ما أثبتناه حيث أن تركيب الكلام ومعناه ركيل إلا بالاستثناء.
(3 )في الأصل (فإنه) والصحيح والله أعلم ما سجلناه.
ص -119-(51/26)
معبوده: قال الله تعالى:{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}(1) وقال تعالى:{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ}(2) وقال تعالى:{وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}(3) وقال تعالى:{قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}(4).
وقد خرج الطبراني بسنده أنه كان بالمدينة منافق يؤذي المسلمين فقالوا قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق فقال لهم صلى الله عليه وسلم: "لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله عز وجل"، فمنع من إطلاق هذا اللفظ حتى في الأسباب العادية سدا للذريعة الشركية وهو سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم ويروى عن أبي عبد الله القرشي أحد مشايخ الطريقة أنه قال: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة الغريق بالغريق، وعن ذي النون استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون، ولعبد القادر في كتابه (فتوح الغيب) ما هو قريب من هذا الكلام وهذه هي حال أولياء الله وعباده الصالحين يأمرون الخلق بما يوجب صرف قلوبهم ووجوههم إلى الله وحده لا شريك له والإنابة إليه والاعتماد عليه، كما قال عن إمامهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه قال لقومه:{ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ(51/27)
فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ}(5)وقال تعالى لنبيه:{قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً}(6) فكيف يقول غير الرسول صلى الله عليه وسلم استغيثوا بي ومن استغاث
__________
(1 )سورة الجاثية: رقم الآية 18.
(2 )سورة الأعراف: رقم الآية 3.
(3 )سورة الأنعام: رقم الآية 155.
(4 )سورة طه: الآية 123-124.
(5 )سورة الشعراء: الآية 75-81.
(6 )سورة الجن: رقم الآية 21.
ص -120-
بي فرجت عنه سبحان الله ما أجهل أعداء الله وقال تعالى:{فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}(1)، وتقديم الجار والمجرور يفيد الاختصاص وأن العباد لا يرغبون إلا إليه وفي الحديث: "من لم يسأل الله يغضب عليه"(2) وفيه من حديث ابن عباس: "إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله"(3)، وقال تعالى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}(4).
فلأي شيء يستغاث بغيره؟ ألكون غيره أعلم وأرحم وأحكم ولماذا؟ تعالى الله عن قول الظالمين علوا كبيرا والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق وصلى الله على أشرف المرسلين وإمام المتقين نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا غفر الله لكاتبها ولمؤلفها ولوالديهما والمسلمين آمين.
الحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات الطيبات وتزداد بشكره العطايا والبركات وتنال الرغبات والخيرات وتدفع بالالتجاء إليه البليات والمضرات لا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه ولا حول ولا قوة إلا به لا إله إلا هو رب الأرض والسموات وما بينهما ورب البريات.(51/28)
__________
(1 )سورة الشرح: الآية 7-8.
(2 )رواه البخاري في الأدب المفرد من حديث أبي هريرة مرفوعا. .
(3 )رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
(4 )سورة البقرة: رقم الآية 186.
ص -121-
الخاتمة
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين .
ونسأل الله وهو لطيف بعباده خبير بأحوالهم أن يهب لنا من لدنه رحمة ويهيئ لنا من أمرنا رشدا ويحسن عاقبتنا في الأمور كلها ويجيرنا وإخواننا المسلمين أينما كانوا من ضيق الدنيا وعذاب الآخرة ويرزقنا حسن الخاتمة عند الممات إنه سميع قريب مجيب الدعوات.
وبعد: فإن هذه الرسالة القيمة المفيدة بضاعة ثمينة وسلعة غالية لم يسبق لها رواج بعد، ولكن الباري أراد أن تظهر هذه الجوهرة المكنونة من صدفها لتتلألأ بعد أن خفيت ردحا من الزمن رغم أن مضمونها الذي احتوته سلاح حاد فتاك يجب أن يحمله كل جندي يغامر لإعلاء كلمة الله ورفع راية التوحيد وتقويض صرح الشرك ويدافع عن حوزة الإسلام والمسلمين لأن الغرض الوحيد من تأليفها رد العدوان السافر الذي شنه بعض أهل الشبه الذين انطمست بصائرهم على جمال هذا الدين الحنيف بهائه ونزاهته لتشويهه وتقبيحه ومحو معالمه البراقة التي تتراءى في الآفاق كلها وإيقاع العوام وأمثالهم من مطموسي القلب في شبكات الشرك والوثنية والكفر والإلحاد.
ص -123-(51/29)
ومن هنا ندرك تماما قيمتها العلمية المرموقة وأن من حظي بها وعرف ما حوته من المعاني الروحية والعلوم الخيرة استطاع بعون الله أن يستنير بها وينير الطريق لغيره من التائهين الحيارى، ويقهر عدو الإسلام والمسلمين ويغلبهم بهذا السلاح الفتاك الذي لا يغلب حامله لأنها صناعة من صنع الله الذي أتقن كل شيء، ولا شك أن مالكه يدمر كل ما من شأنه أن يعوق السير الحثيث إلى الغاية المنشودة كي يصل السائرون إلى تلك المعالم الرفيعة دون أن يتعثروا في طريقهم إليها أدنى انزلاق ولذلك أرى لزاما علي أن أوصي بإخواني في الله الدعاة الميدانيين والمفكرين المثقفين الواعين خاصة والمسلمين عامة أن يولوا عناية بالغة لهذه الجوهرة قراءة وتعلما وتعليما ونشرا في المعمورة حتى تكون بعون الله الغالب حربا على أعداء الله وسلما لأوليائه والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل وإياه أسأل أن ينفع بها كل من علمها وعمل بها ودعا إلى مضمونها إيجابا وسلبا وجميع المسلمين ويجعل هذه الجهود المتواضعة خالصة لوجه الله الكريم ويغفر لي ولوالدي ولمؤلفها والحامل على عملها ولجميع المسلمين إنه جواد كريم وهو حسبي ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وصلى الله على خير خلقه محمد وعلى آله وصحبه ومن ترسم خطاهم إلى يوم الدين.
وقد وقع الفراغ من هذا العمل آخر شهر محرم سنة تسع وأربعمائة وألف من الهجرة النبوية يوم الخميس الموافق سبعة وعشرين من المحرم 27/1/1409هـ.
كتبه
محمد العارف بن عثمان بن موسى الأرومي الهرري.
ص -124-(51/30)
بسم الله الرحمن الرحيم
فهرس المراجع والمصادر
1-القرآن الكريم.
2-موطأ ابن مالك.
3-صحيح البخاري.
4-صحيح مسلم.
5-سنن الترمذي.
6-سنن أبي داود.
7-سنن النسائي.
8-مسند الإمام أحمد.
9-رياض الصالحين للنووي.
10-بلوغ المرام للإمام ابن حجر العسقلاني.
11-تجريد الصريح.
12-نيل الأوطار للشوكاني.
13-فتح الباري للإمام ابن حجر العسقلاني.
14-تيسير العلام شرح عمدة الأحكام للشيخ عبد الله آل بسام.
15-شرح مسلم للإمام النووي.
16-سبل السلام للأمير الصنعاني.
17-فقه الإسلام شرح بلوغ المرام للشيخ عبد القادر شيبة الحمد.
ص -127-
18-التمهيد لابن عبد البر.
19-الولاء والبراء في الإسلام تأليف محمد بن سعيد القحطاني .
20-الموالاة والمعاداة للحماس الجعلود.
21-شرح العقيدة الطحاوية.
22-شرح العقيدة الواسطية لمحمد خليل هراس.
23-فتح المجيد شرح كتاب التوحيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ.
24-تيسير العزيز الحميد للشيخ سليمان آل الشيخ.
25-العقيدة التدمرية لشيخ الإسلام ابن تيمية.
26-اقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أصحاب الجحيم لابن تيمية.
27-فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية.
28-كتاب الرد على المنطقيين لشيخ الإسلام ابن تيمية.
29-كتاب الفوائد لابن القيم الجوزية.
30-الآيات البينات في عدم سماع الأموات عند الحنفية السادات للعلامة نعمان بن محمود الألوسي.
31-الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لشيخ الإسلام ابن تيمية.
32-تفسير ابن كثير.
33-الجامع البيان في تأويل آي القرآن للعلامة ابن جرير الطبري.
34-تفسير البيضاوي.
35-حاشية الجلالين للشيخ سليمان الجمل.
36-نيل الأوطار للشوكاني.
37-الأديان للشيخ عبد القادر شيبة الحمد.
38-التفسير والمفسرون للدكتور محمد بن حسين الذهبي.
39-سيرة ابن هشام.
40-البداية والنهاية لابن كثير.
41-مقدمة ابن خلدون.
ص -128-(51/31)
42-التاريخ الكبير للطبري .
43-تهذيب التهذيب للعسقلاني.
44-تقريب التهذيب له رحمه الله.
45-فتح القدير الجامع بين الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني.
46-منهاج التأسيس والتقديس في الرد على داود بن جرجيس للمؤلف.
47-مصباح الظلام في الرد على من كذب الإمام للمؤلف نفسه.
48-إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول للشوكاني.
49-إمتاع العقول بروضة الأصول.
50-حاشية الخضر على شرح ابن عقيل في النحو.
51-أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ محمد الأمين الشنقيطي.
52-رسالة في آيات الصفات له.
ص -129-(51/32)
الضياء الشارق في رد شبهات الماذق المارق - سليمان بن سحمان (1)
دراسة وتحقيق:
عبد السلام بن برجس بن ناصر بن عبد الكريم
الناشر:
رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء، الرياض، المملكة العربية السعودية
الخامسة، 1414هـ/ 1992م
مقدمة المحقق
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد فهذا كتاب "الضياء الشارق في رد شبهات الماذق المارق" تأليف الشيخ العلامة: سليمان بن سحمان –رحمه الله تعالى- ألفه رداً على أحد طغاة العراق، الذين ما فتئوا في تضليل الخلق، وتلبيس الحق، وتشويه دعوة الإصلاح بكل وسيلة.
وقد جاء هذا الرد حاوياً لبحوث قيمة، وعلوم متفرقة، كالتاريخ والعقيدة، والسياسة، مما أعلى مقامه، ورفع شأنه في أعين العلماء وطلبة العلم، حتى أنه طبع ثلاث طبعات:
الطبعة الأولى: في المطبعة المصطفوية ببمبي الهند. مع كتاب المؤلف "الألسنة الحداد في رد شبهات علوي حداد" وكان الساعي في طبع هذا الكتاب: عبد المحسن بن محمد بن مرشد –رحمه الله تعالى- وليس عليها تاريخ الطبع. وهي طبعة حجرية.
ص -3-(52/1)
الطبعة الثانية: في مطبعة الشيخ الإمام محمد رشيد رضا "المنار" عام 1344هـ. على نفقة جلالة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود –رحمه الله تعالى- وقد أبدلت في عنوان هذه الطبعة كلمة "الماذق" بـ "المازق"، ومعنى الماذق -بالذال- غير مخلص. وبالزاء: ممزق. فهو اسم فاعل بمعنى المفعول.
الطبعة الثالثة: في مطبعة الرياض، عام 1376هـ على نفقة جلالة الملك سعود بن عبد العزيز –رحمه الله تعالى- وفي هذه الطبعة كتب على الغلاف الخارجي في العنوان كلمة: "ماذق" بالذال. وفي الداخل " المازق" بالزاء!!
ونظراً لنفاد جميع هذه النسخ، وقلة وجودها في أيدي طلبة العلم، قمنا بمقابلة هذه النسخ، مثبتين بعض الفروق بينها، مع جعل النسخة الهندية أصلاً. وخرجت بعض الأحاديث الواردة في الكتاب. سائلين الله سبحانه أن يبارك في هذه الطبعة، وأن ينفع بها طلاب العلم، إنه سميع الدعاء.
وفي الختام أتوجه بالشكر الجزيل للإخوة الأفاضل، الذين شاركوا في مقابلة النسخ، وصححوا تجارب هذا الكتاب -وغيره من هذه السلسلة- نسأل الله سبحانه أن
ص -4-
يثيب الجميع، وأن يصلح لنا ولهم العمل والنية.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه
عبد السلام بن برجس بن ناصر آل عبد الكريم.
الرياض 2/2/1411هـ.
ص -5-(52/2)
الضياء الشارق في رد شبهات الماذق المارق
تأليف: الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله تعالى 1266-1349هـ
تحقيق: عبد السلام بن برجس بن ناصر آل عبد الكريم
بسم الله الرحمن الرحيم
ترجمة موجزة للمؤلف
1- نسبه، ومولده، ونشأته، وطلبه العلم:
هو الإمام العالم العلامة، المحقق المدقق الفهامة، مفيد الطالبين، ومحامي حوزة الدين، السيف المسلول، والصارم المشهور، على أهل الكفر والضلال والفجور، طنت بذكره الأعصار، وضنت بمثله الأمصار، صاحب التصانيف المشهورة، والفضائل والمحاسن المأثورة، سليمان بن سحمان بن مصلح بن حمدان بن مسفر بن محمد بن مالك بن عامر الخثعمي العسيري النجدي الحنبلي.
سأله رجل من أسرة الشيخ محمد بن عبد الوهاب عن نسبه فقال:
سليمان سحمان وسحمان مصلحٍ
ومصلحُ حمدانٍ وحمدانُ مسفرُ
أولئك آبائي سلالة عامرٍ
إلى خثعم يعزى وبالخير يذكرُ
ولد هذا العالم النبيل في قرية (السقا): من قرى أبها سنة ستٍ وستين ومائتين وألف "1266" من الهجرة النبوية.
ونشأ في بيئة صالحة ترفل في ثياب العلم والتقى، وتُعرف برفع راية التوحيد والهدى، فبدأ بقراءة كتاب الله جل وعلا، ثم حفظه عن ظهر قلب لم يُشرب بحب الميل إلى اللهو والهوى، فلما امتن عليه المولى بهذه المكرمة العظمى، شرع في طلب العلم بهمة عالية، ورغبة صادقة، فقرأ على علماء بلده في أصول الدين وفروعه، وحفظ مبادئ العلوم حتى تمكن
ص -1-(52/3)
من فنونه، ولازم أباه في طلب العلم ليلاً ونهاراً، ورحل في الطلب يميناً وشمالاً، وخاض جميع العلوم الشرعية بحاراً وأنهاراً، حتى أدرك بغيته توفيقاً من الله وإكراماً، وحاكى الأكابر من العلماء حفظاً وإتقاناً.
2- مشايخه وتلامذته:
لازم كثيراً من العلماء المبرزين الذين لهم قدم راسخ في علوم الدين، ومن أهم هؤلاء الشيخ العلامة عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب، وابنه الشيخ الإمام عبد اللطيف بن عبد الرحمن، والشيخ حمد بن عتيق، وكفى بالشيخ -المترجم له- فخراً أن يكون تلميذاً لهؤلاء الأجلاء العظام.
وقد وقف الشيخ حياته للعلم وأهله، فانتفع به خلق لا يحصون، من أبرزهم الشيخ سليمان بن عبد الرحمن بن حمدان - صاحب الردود المشهورة، والشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري، وعمر بن حسن، وعبد اللطيف بن إبراهيم رحمهم الله تعالى، وعبد العزيز بن صالح المرشد حفظه الله تعالى.
3- مؤلفاته:
شموس من التحقيق في طالع السعد:
تجلت فأجلت ظلمة الهزل والجد
قواطع من آي الكتاب كأنها:
بأعناق أهل الزيغ مرهفة الحد
إن الناظر في مؤلفات هذا العالم الجليل يلاحظ أن أغلبها في الردود على أهل الإنحراف العقدي. وإن الاعتناء بهذا الباب من أبواب العلم واجب على نخبة من علماء السنة في كل عصر لما فيه من الحفاظ على العقيدة السلفية الصحيحة، وكشف الشبهات النتنة القبيحة، التي يروج سوقها أهل الطرق والمقاصد الرذيلة، وقد قال أهل الأصول "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب".
ص -2-(52/4)
قال ابن بسام في ترجمة الشيخ من كتابه "علماء نجد" 1/280: فجرد قلمه للرد على هؤلاء المغرضين، ولسانه برائع الشعر على المارقين، فصار يكيل لهم الصاع صاعين بقوة الكلام وسطوع الحجة، وصحة البرهان، فيدحض أقوالهم، ويرد شبههم، ويوهن حجتهم، كما يرميهم بشهب من قصائده الطنانة، وأشعاره الرنانة، وقوافيه المحكمة، وأبياته الرصينة، وبهذا فهو ذو القلمين، وصاحب الصناعتين، وقلما اجتمع النثر والشعر لواحد إلا لنوابغ الكتاب، وأصحاب الأقلام، فصار لسان هذه الدعوة، ومحامي هذه الملة اهـ. كلامه. ومن هذه الردود الصارمة والمؤلفات الساطعة:
1- تأييد مذهب السلف وكشف شبهات من حاد وانحرف.
2- البيان المبدي لشناعة القول المجدي.
3- منهاج أهل الحق والإتباع في مخالفة أهل الجهل والإبتداع.
4- الجواب المنكي على الكنكي.
5- كشف الإلتباس عن تشبيه بعض الناس.
6- الأسنة الحداد على علوي حداد.
7- الصواعق المرسلة الوهابية على الشبة الداحضة الشامية.
8- الجيوش الربانية في كشف الشبه العمروية.
9- الجواب الفاصل في الساعة بين من قال إنها سحر ومن قال إنها صناعة.
10- إقامة الحجة والدليل وإيضاح المحجة والسبيل.
11- تنبيه ذوي الألباب السليمة عن الوقوع في الألفاظ المبتدعة الوخيمة.
12- مشروعية الجهر بالذكر بعد السلام "تحقيق الكلام".
ص -3-
4- وفاته:
وافاه الأجل المحتوم مأسوفاً على فقده في العاشر من شهر صفر سنة تسع وأربعين وثلاثمائة وألف (1349)هـ، وصلى عليه في الجامع الكبير بالرياض، وخرج في جنازته أهل البلد، ودفن في مقبرة "العود"، وصلي عليه في جوامع نجد صلاة الغائب، رحمه الله تعالى ورضي عنه1.
__________
1 مصادر الترجمة:
1- الدرر السنة لابن القاسم ج 12.
2- علماء نجد خلال ستة قرون لابن بسام.
3- روضة الناظرين للقاضي.
ص -4-(52/5)
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه الثقة والعصمة
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وقيوم السموات والأرضين.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد المرسلين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، صلى الله عليه، وعلى آله، وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد
فإني قد وقفت على رسالة مطبوعة مؤلفها1 رجل من العراق، يقال له: جميل أفندي صدقي الزهاوي، جمع فيها الأكاذيب والترهات، والأضاليل المنكرات، مع ما اشتمل عليه كلامه من الفجور، وقول الزور، والتجانف للإثم والعدوان، وصريح الإفك والبهتان، ما يمج سماعه أولوا العقول السليمة، والألباب الزاكية المستقيمة، وسلك فيها
__________
1 في الأصل: "على أوراق كتبها رجل".
ص -7-
مسلك أهل الغي والضلال، واعتمد فيما يحكيه على ما هو من أمحل المحال، وأوخم1 الانتحال، واتبع فيها أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل، حيث لم يتمسكوا من الكتاب والسنة بأوضح برهان وأقوم دليل، ولم يردوا من كوثر2 حوضهما السلسبيل، بل عدلوا إلى آسن قلوط3 أهل الفلسفة والتجهيل والتبديل، وحادوا فيها عن منهج أهل الحق والصدق والعدل والإنصاف، وساروا على طريقة أهل الغي والكذب والانحراف.
وقد قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء: 115].
فإن الله تعالى قد بين الحق بيانا كافيا شافياً، وأرسل رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الخلق بالحق4 مبشراً ونذيراً وداعياً،(52/6)
__________
1 في الأصل: وخم.
2 سقطت: "كوثر" من ط: المنار. والرياض.
3 القلّوط: بفتح القاف، وتشديد اللام، وبالطاء المهملة، هو: نهر بدمشق الشام، يحمل أقذار البلد وأوساخه وأنتانه، ويسمى في هذا الوقت قليطاً بالتصغير والله أعلم – قاله العلامة الشيخ أحمد بن إبراهيم بن عيسى في شرح النونية 2/86 على قول ابن القيم:
يا وارد القلوط ويحك لو ترى
ماذا على شفتيك والأسنان
يا وارد القلوط طهّر فاك من
خبثٍ به واغسله من أنتان
4 سقطت من الأصل.
ص -8-
ونصب الأدلة، وأوضح المحجة، فلم يبق للناس على الله بعد الرسل من حجة، فمن أجاب داعي الله فقد نجا، ومن تولى1 عن الحق معرضاً أفضى به عوجاً.
فلما نكب هذا الرجل عن طريقة أهل الحق والتحقيق، ولجأ فيما ينتحله ويحكيه إلى ركن غير وثيق، استعنت الله على رد أباطيله، وتهجين أضاليله وأساطيله، على سبيل الاختصار والاقتصار، وتركت من كلامه ما لا طائل في الجواب عنه، والله المسؤول المرجو الإجابة، أن يمدنا بالإصابة، وأن يجزل لنا الأجر والإثابة، وأن يجعله لوجهه خالصاً، وأن ينفع به من قرأه ونظر فيه، وأن يقمع به صاحب الباطل2 ومبتغيه.
__________
1 في الأصل: قول.
2 في الأصل: بالباطل.
ص -9-(52/7)
فصل
قال العراقي1:
(الوهابية فرقة منسوبة إلى محمد بن عبد الوهاب، وابتداء ظهور محمد بن عبد الوهاب كان سنة 11432، وإنما اشتهر أمره بعد الخمسين، فأظهر عقيدته الزائغة في نجد، وساعده على إظهارها محمد بن سعود أمير الدرعية بلاد مسيلمة الكذاب، فجبر3 أهلها على متابعة ابن عبد الوهاب هذا، فتابعوه، وما زال ينخدع له في هذا الأمر حي بعد حي من أحياء العرب، حتى عمت فتنته، وكبرت شهرته، واستفحل أمره، فخافه البادية، وكان يقول للناس: ما أدعوكم إلا إلى التوحيد، وترك الشرك بالله تعالى في عبادته، وكانوا يمشون خلفه حيثما مشى، حتى اتسع له الملك).
فالجواب4 -ومن الله أستمد الصواب- أن نقول:
__________
1 في ط المنار والرياض: "الوهابية ومنشؤها".
2 في الأصل بعد كتابة السنة رقماً: "ألف ومائة وثلاث وأربعين".
3 في الأصل: "مجبراً".
4 في الأصل: "الجواب".
ص -10-(52/8)
أما منشأ دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وظهورها في نجد، فمن المعلوم عند الخاص والعام أنه قد نشأ في أناس قد اندرست فيهم معالم الدين، ووقع فيهم من الشرك والبدع ما عم وطم في كثير من البلاد، إلاّ بقايا متمسكين بالدين يعلمهم الله تعالى، وأما الأكثرون فعاد المعروف بينهم منكراً، والمنكر معروفاً، والسنة بدعة، والبدعة سنة، نشأ على هذا الصغير، وهرم عليه الكبير.
ففتح الله بصيرة شيخ الإسلام بتوحيد الله الذي بعث الله به رسله وأنبياءه1، فعرف الناس ما في كتاب ربهم من أدلة توحيده الذي خلقهم له، وما حرّم الله عليهم من الشرك الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، فقال لهم كما قاله المرسلون لأممهم: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون: 32] فحجب كثيراً منهم عن قبول هذه الدعوة ما اعتادوه، ونشأوا عليه من الشرك والبدع، فنصبوا العداوة لمن دعاهم إلى2 توحيد ربهم وطاعته، ولمن استجاب له وقَبل دعوته، وأصغى إلى حجج الله وبيناته، كحال من خلا من أعداء الرسل، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:31]، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ
__________
1 في النسخ: "أنبيائه".
2 في الأصل: "في".
ص -11-(52/9)
يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [الأنعام: 112].
فإذا تمهد هذا فلنذكر ههنا شيئاً يسيراً من حال نشأة الشيخ محمد بن عبد الوهاب التميمي رحمه الله، وظهوره ودعوته إلى الله، ليعلم الطالب، ويتحقق الراغب، حقيقة ما دعا إليه هذا الإمام، وما كان عليه من الاعتقاد والفهم التام، ويتبين للناظر فيها ما بهت به الأعداءُ من الأكاذيب والافتراء، التي يرومون1 بها تنفير الناسِ عن المحجة والسبيل، وكتمان البرهان والدليل، وقد كثر أعداؤه ومنازعوه، وفشا البهت منهم فيما قالوه ونقلوه، فربما اشتبه على طالب الإنصاف والتحقيق، والتبس عليه واضح المنهج والطريق، بما موّهوا به من تلك الأكاذيب الشنيعة، والألقاب الداحضة الوضيعة، فإن2 من استصحب الأصول الشرعية، وجري على القوانين المرضية، عرف أن لكل نعمة حاسداً، ولكل حق جاحداً، ولا يقبل في نقل الأقوال والأحكام، إلا العدول الثقات الضابطون من الأنام، ومن استصحب هذا استراح عن3 البحث فيما ينقل إليه ويسمع، ولم يتلفت إلى أكثر ما يختلف ويصنع، وكان من أمره على منهاج واضح ومشرَع.
__________
1 في الأصل: "يرمون".
2 في طبعة المنار والرياض: و"أن".
3 في الأصل: "استراج".
ص -12-(52/10)
فصل
كان مولده رحمه الله سنة 1115 خمسة عشرة بعد المائة والألف من الهجرة النبوية، في بلد العُيينة من أرض نجد، ونشأ بها، وقرأ القرآن بها حتى حفظه وأتقنه قبل بلوغه العشر، وكان حادّ الفهم، سريع الإدراك والحفظ، يتعجب أهله من فطنته وذكائه، وبعد حفظ القرآن اشتغل وجد في الطلب، وأدرك بعض الأرب، قبل رحلته لطلب العلم، وكان سريع الكتابة ربما كتب الكراسة في مجلس.
قال أخوه سليمان: كان والده يتعجب من فهمه، ويعترف بالاستفادة منه مع صغر سنه –ووالده هو مفتي تلك البلاد، وجده مفتي البلاد النجدية، وآثاره وتصانيفه وفتاويه تدل على علمه وفقهه، وكان جده إليه المرجع في الفقه والقتوى، وكان معاصراً للشيخ1 منصور البهوتي الحنبلي خادم المذهب، اجتمع به بمكة- وبعد بلوغ الشيخ سن الاحتلام قدمه والده في الصلاة، ورآه أهلاً للائتمام، ثم
__________
1 في ط المنار والرياض: "معاصر الشيخ"، وفي الأصل: "معاصر للشيخ".
ص -13-(52/11)
طلب الحج إلى بيت الله الحرام، فأجابه والده إلى ذلك المقصد والمرام1، وبادر إلى قضاء حجة الإسلام، وأداء المناسك على التمام، ثم قصد المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، وأقام بها قريباً من شهرين.
ثم رجع إلى وطنه قرير العين، واشتغل بالقراءة في الفقه على مذهب الإمام أحمد رحمه الله.
ثم بعد ذلك رحل2 يطلب العلم، وذاق حلاوة التحصيل والفهم، وزاحم العلماء والكبار، ورحل إلى البصرة والحجاز مراراً، واجتمع بمن فيها من العلماء والمشايخ الأخيار، وأتى إلى الإحساء –وهي إذ ذاك آهلة بالمشايخ والعلماء، فسمع وناظر، وبحث واستفاد، وساعدته الأقدار الربانية بالتوفيق والإمداد.
وروى عن جماعة منهم الشيخ عبد الله بن إبراهيم النجدي، ثم المدني وأجازه من طريقين: وأول ما سمع منه الحديث المسلسل بالأولية، وكتب السماع بالسند المتصل إلى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في
__________
1 في ط المنار والرياض: "المراد".
2 في الأصل: "رخل".
ص -14-
الأرض يرحمكم من في السماء"1.(52/12)
__________
1 أخرجه الحميدي في مسنده 2/269، والإمام أحمد في مسنده 2/160، والبخاري في تاريخه الكبير 9/64، وأبو داود في سننه –كتاب الأدب- 5/231، والترمذي في سننه –كتاب البر والصلة- 4/323-324، والدارمي في الرد على الجهمية ص: 272 –من عقائد السلف-، والحاكم في مستدركه 4/159، والخطيب البغدادي في تاريخه 3/260، كلهم من طريق سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي قابوس عن عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم... فذكره.
وإسناده ضعيف: أبو قابوس مولى عبد الله بن عمرو قال الذهبي في الميزان 4/563: لا يعرف، وذكره في الضعفاء له 2/803، وقال الحافظ في التقريب "مقبول" يعني حيث يتابع وإلا فلين كما نص على هذا في المقدمة.
قلت: وللحديث من الشواهد ما يرفعه إلى درجة الصحة، لذلك صححه الترمذي والحاكم وأقره الذهبي –قال السخاوي في المقاصد من 48 :وكأن تصحيحهم له باعتبار ما له من الشواهد والمتابعات، وإلا فأبو قابوس لم يرو عنه سوى ابن دينار ولم يوثقه سوى ابن حبان على قاعدته في توثيق من لم يجرح اهـ.
ومن شواهده ما أخرجه البخاري في صحيحه –كتاب الأدب 10/426، ومسلم في صحيحه –كتاب الفضائل- 4/1808 عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من لا يرحم لا يرحم.
ومنها ما رواه البخاري في صحيحه 13/358، ومسلم في صحيحه 4/1809 عن جرير بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لا يرحم الناس لا يرحمه الله عز وجل".
ومنها ما رواه البخاري في صحيحه 3/151 و 10/118 و 13/358-434، ومسلم في صحيحه 2/635-636 عن أسامة بن زيد في قصة =
ص -15-(52/13)
.....................................................................................................................
__________
= موت ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه: "إنما يرحم الله من عباده الرحماء".
ومنها ما رواه الإمام أحمد في مسنده 2/165 و219، والبخاري في الأدب المفرد 1/470 بإسناد جيد عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ارحموا ترحموا..." الحديث.
ومنها ما رواه الطبراني في الكبير 10/183، والصغير 1/101، والأوسط، وأبو يعلى في مسنده –كما في المجمع 8/187، والدارمي في الرد على الجهمية ص: 273 –من عقائد السلف- والبغوي في شرح السنة 13/38 جميعهم من طريق أبي إسحاق عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء". قال الحافظ ابن حجر في الفتح 10/440 : رواته ثقات. وقال الهيثمي: رجال أبي يعلى رجال الصحيح إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه فهو مرسل اهـ.
ومنها ما رواه الطبراني في الأوسط كما في المجمع 8/187 عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يرحم الناس لم يرحمه الله" قال الهيثمي: إسناده حسن.
وللحديث شواهد عن عدة من الصحابة غير ما ذكرنا، وقد أفرد السخاوي هذه الأحاديث بجزء أشار إليه في المقاصد الحسنة ص: 49.
فائدة: هذا الحديث من الأحاديث المسلسلة بالأولية كما أشار إليه المؤلف والحافظ ابن حجر في الفتح 10/440 والعراقي في ألفيته 2/289 والعجلوني في كشف الخفاء 1/120.
وحقيقة المسلسل عند المحدثين: ما توارد رجال إسناده على حالة واحدة أو صفة واحدة للرواة أو الرواية. وصور المسلسلات كثيرة منها (الأولية) وهي: أن يكون أول سماع التلميذ من شيخه لحديث معين، وهذا الشيخ أول سماعه من شيخه لهذا الحديث وهكذا.
تنبيه: قال العراقي في(52/14)
التبصرة 2/289: ومن المسلسل ما هو ناقص التسلسل بقطع السلسلة في وسطه أو أوله أو آخره كحديث عبد الله بن عمرو المسلسل بالأولية، فإنه إنما يصح التسلسل فيه إلى سفيان بن عيينة وانقطع التسلسل بالأوليه في سماع سفيان بن عيينة من عمرو، وفي سماع عمرو من أبي قابوس، وفي سماع أبي قابوس من عبد الله بن عمرو وفي سماع عبد الله من النبي صلى الله عليه وسلم وقد وقع لنا بإسناد متصل التسلسل إلى آخره، ولا يصح ذلك، والله أعلم اهـ.
ص -16-
وسمع منه مسلسل الحنابلة بسنده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه1 قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد الله بعبده خيراً استعمله"، قالوا: كيف يستعمله؟ قال:" يوفقه لعمل صالح قبل موته"2، وهذا3 الحديث من ثلاثيات أحمد رحمه الله.(52/15)
__________
1 سقطت "الله" من ط الرياض.
2 أخرجه ابن المبارك في الزهد ص 345، والإمام أحمد في مسنده 3/106 و120، والترمذي في سننه –كتاب القدر- 4/450، وابن أبي عاصم في السنة 1/175، وابن حبان في صحيحه –الموارد- ص 451، والحاكم في المستدرك 1/339 و 340، والبيهقي في الزهد ص 326، والبغوي في شرح السنة 14/290 جميعهم من طرق، عن حميد الطويل عن أنس بن مالك... به وإسناده صحيح.
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، وأقره الذهبي.
فائدة: هذا الحديث من ثلاثيات الإمام أحمد كما أشار إلى ذلك المؤلف، فقد رواه أحمد عن محمد بن أبي عدي –ثقة- ثنا حميد الطويل عن أنس ... به.
وللحديث شواهد، منها ما رواه الإمام أحمد 5/224، والطحاوي في مشكل الآثار 3/261، وابن حبان في صحيحه –موارد- ص 451، والحاكم في المستدرك 1/340، والبيهقي في الزهد ص 327 جميعهم من طريق زيد بن الحباب ثنا معاوية بن صالح حدثني عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن عمرو بن الحمق الخزاعي أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا أراد بعبد خيراً استعمله" قيل: وما استعمله؟ قال: "يفتح له عمل صالح بين يدي موته حتى يرضى عنه من حوله". هذا لفظ أحمد. ولفظ الباقين "عسله" قيل: وما علسه... . الحديث إسناده حسن. وصححه الحاكم وأقره الذهبي وأخرجه أبو يعلى في مسنده 6/401-402-440-452.
ورواه الإمام أحمد 4/135 من طريق خالد بن معدان ثنا جبير أن عمرا حدثه... به.
ورواه الطحاوي في مشكل الآثار 3/261، والخطيب في تاريخه 11/434 من طريق عبد الله بن يحيى بن أبي كثير عن أبيه عن جبير عن عمرو بن الحمق... به.
ورواه القضاعي في مسند الشهاب 2/294 من طريق قتادة عن الحسن عن عمرو... به.
3 سقطت "و" من الأصل.
ص -17-(52/16)
وطالت إقامة الشيخ ورحلته بالبصرة، وقرأ بها كثيراً من الحديث والفقه والعربية، وكتب من الفقه والحديث واللغة ما شاء الله في تلك الأوقات.
وكان يدعو1 إلى التوحيد ويظهره لكثير ممن يخالطه ويجالسه، ويستدل عليه، ويظهر ما عنده من العلم، وما لديه، وكان يقول: إن الدعوة كلها لله، لا يجوز صرف شيء منها إلى سواه، وربما ذكروا بمجلسه إشارة2 الطواغيت، أو
__________
1 في الأصل: "يدعوا".
2 في الأصل: "إشارات".
ص -18-
شيئاً من كرامات الصالحين الذين كانوا يدعونهم ويستغيثون بهم، ويلجئون إليهم في المهمات، فكان ينهى عن ذلك ويزجر، ويورد الأدلة من الكتاب والسنة ويحذر، ويخبر أن محبة الأولياء والصالحين إنما هي متابعتهم فيما كانوا عليه من الهدى والدين، وتكثير أجورهم بمتابعتهم على ما جاء به سيد المرسلين، وأما دعوى المحبة والمودة والمخالفة في السنة والطريقة فهي دعوى مردودة غير مسلمة عند أهل النظر والحقيقة.
ولم يزل على ذلك رحمه الله، ثم رجع إلى وطنه، فوجد والده قد انتقل إلى بلدة حريملاء1، فاستقر فيها يدعو2 إلى السنة المحمدية، ويبديها ويناصح من خرج عنها ويفشيها، حتى رفع الله شأنه، ورفع ذكره، ووضع له القبول، وشهد له بالفضل ذووه من المعقول والمنقول، وصنف كتابه المشهور في التوحيد، وأعلن بالدعوة إلى الله العزيز الحميد، وقرئ عليه هذا الكتاب المفيد، وسمعه كثير ممن لدية من طالب ومستفيد، وشاعت نسخه في البلاد، وطار ذكره في الغور3 والأنجاد، وفاز بصحبته واستفاد من جرد القصد
__________
1 في النسخ "حريملا" والمثبت هو الأشهر. ينظر معجم اليمامة 1/317.
2 في الأصل: "يدعوا".
3 غور كل شيء: قعره. يقال: فلان بعيد الغور. ولعل المراد هنا: غور تهامة: وهي ما بين ذات عرق والبحر، وقيل تهامة وما يلي اليمن. أو المراد بالغور ما انخفض من الأرض. قال الأعشى:(52/17)
نبي يرى ما لا ترون وذكره
أغار لعمري في البلاد وأنجدا
(ينظر اللسان 5/3312 ط المعارف بمصر) يعني في كل محل.
ص -19-
وسلم من الأشر1 والبغي والفساد، وكثر بحمد الله محبوه وجنده، وصار معه عصابة من فحول الرجال، وأهل السمت الحسن والكمال، يسلكون معه الطريق ويجاهدون كل فاسق وزنديق.
__________
1 في ط المنار والرياض: "الأسر". والأشر: الكبر عن قبول الحق.
ص -20-
فصل
كان أهل عصره ومصره في تلك الأزمان قد اشتدت غربة الإسلام بينهم، وعفت آثار الدين لديهم، وانهدمت قواعد الملة الحنيفية، وغلب على الأكثرين ما كان عليه أهل الجاهلية، وانطمست أعلام الشريعة في ذلك الزمان، وغلب الجهل والتقليد والإعراض عن السنة والقرآن، وشب الصغير وهو لا يعرف من الدين إلا ما كان عليه أهل تلك البلدان، وهرم الكبير على ما تلقاه عن الآباء والأجداد، وأعلام الشريعة مطموسة، ونصوص التنزيل وأصول السنة فيما بينهم مدروسة، وطريقة الآباء والأسلاف مرفوعة الأعلام، وأحاديث الكهان والطواغيت مقبولة غير مردودة ولا مدفوعة، قد خلعوا ربقة التوحيد والدين، وجدوا واجتهدوا في الاستغاثة والتعلق على غير الله من الأولياء والصالحين، والأوثان والأصنام والشياطين، وعلماؤهم ورؤساؤهم على ذلك مقبلون، ومن البحر1 الأجاج شاربون، وبه2 راضون، وإليه مدى الزمان
__________
1 في الأصل: "بحر الإجاج".
2 سقطت "و" من الأصل.
ص -21-(52/18)
داعون، قد أعشتهم العوائد والمألوفات، وحبستهم الشهوات والإرادات، عن الارتفاع إلى طلب الهدى من النصوص المحكمات، والآيات البينات، يحتجون بما رروه1 من الآثار الموضوعات، والحكايات المختلفة والمنامات، كما يفعله أهل الجاهلية وغبر الفترات. وكثير منهم يعتقد النفع في الأحجار والجمادات، ويتبركون بالآثار والقبور في جميع الأوقات {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}، [الحشر:19]، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}، [الأنعام:1]، {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:32-33].
فأما بلاد نجد.
فإنه قد بالغ الشيطان في كيدهم وجد، وكانوا ينتابون قبر زيد بن الخطاب، ويدعونه رغباً ورهباً بفصيح الخطاب، ويزعمون أنه يقضي لهم الحوائج، ويرونه من أكبر الوسائل والولائج.
وكذلك عند قبر يزعمون أنه قبر ضرار بن الأزور وذلك كذب ظاهر وبهتان مزور.
__________
1 في الأصل: "روده".
ص -22-(52/19)
وكذلك عندهم نخل فحال1 ينتابه النساء والرجال، ويفعلون عنده أقبح الفعال، والمرأة إذا تأخر عنها الزواج، ولم ترغب فيها الأزواج، تذهب إليه وتضمه2 بيديها، وتدعوه برجاء وابتهال، وتقول: يا فحل الفحول، أريد زوجاً قبول الحول.
وشجرة عندهم تسمى الطريفية3 أغراهم الشيطان بها، وأوحى إليهم التعلق عليها، وأنها ترجب منها البركة، ويعلقون عليها الخرق لعل الولد يسلم من السوء.
وفي أسفل بلدة الدرعية مغارة في الجبل يزعمون أنها انفلقت4 من الجبل لامرأة تسمى بنت الأمير، أراد بعض الناس أن يظلمها ويضير، فانفلق5 الغار ولم يكن له
__________
1 هو ذكر النخل الذي يلقح به حوائل النخل. يقال له: الفحل. والفحال. ولا يقال لغير الذكر من النخل فحال. قاله ابن سيده. وأنشد:
يطفن بفحال كأن ضبابه
بطون الموالي يوم عيد تفدّت
ينظر اللسان لابن منظور 5/3358.
2 في الأصل: "فتضمه".
3 في الأصل: "الطريقة". وذكر الشيخ حسين بن غنام في تاريخه 1/7 ط الحجرية أنها: شجرة الطرفية.
4 في الأصل: "انفتقت".
5 في ط المنار: "فانفلقت"، وفي ط الرياض" فانفلجب".
ص -23-(52/20)
عليها اقتدار، وكانوا يرسلون إلى هذا المكان من اللحم والخبز ما يقتات به جند الشيطان.
وفي بلدتهم رجل يدّعي الولاية، يسمى "تاج" يتبركون به، ويرجون منه العون والإفراج، وكانوا يأتون إليه، ويرغبون فيما عنده من المدد بزعمهم ولديه، فتخافه الحكام والظلمة، ويزعمون أن له تصرفاً وفتكاً بمن1 عصاه وملحمة، مع أنهم يحكون عنه الحكايات الشنيعة، التي تدل على انحلاله عن أحكام الملة والشريعة.
وهكذا سائر بلاد نجد، على ما وصفنا من الإعراض عن دين الله والجحد لأحكام الشريعة والرد.
ومن العجب أن هذه الاعتقادات الباطلة، والمذاهب الضالة، والعوائد الجائرة، والطرائق الخاسرة، قد فشت وظهرت، وعمت وطمت، حتى بلاد الحرمين الشريفين:
فمن ذلك ما يفعل عند قبر محجوب وقبة أبي طالب، فيأتون قبره بالسماعات والعلامات للاستغاقة عند نزول المصائب، وحلول النواكب، وكانوا له في غاية التعظيم، ولا ما يجب عند البيت الكريم، فلو دخل سارق، أو غاصب، أو ظالم قبر أحدهما لم يتعرض له أحد لما يرون له من وجوب التعظيم؛ والاحترام والمكارم.
__________
1 في ط المنار والرياض: "لمن".
ص -24-(52/21)
ومن ذلك ما يفعل عند قبر ميمونة أم المؤمنين رضي الله عنها في سرف. وكذلك عند قبر خديجة رضي الله عنها، يفعل عند قبرها ما لا يسوغ السكوت عنه من مسلم يرجو الله والدار الآخرة، فضلاً عن كونه من المكاسب الدينية الفاخرة، وفيه من اختلاط النساء بالرجال، وفعل الفواحش والمنكرات، وسوء الأفعال، ما لا يقره أهل الإيمان والكمال، وكذلك سائر القبور المعظمة المشرفة في بلد الله الحرام مكة المشرفة.
وفي الطائف قبر ابن عباس رضي الله عنه يفعل عنده من الأمور الشركية التي تشمئز منها نفوس الموحدين، وتنكرها قلوب عباد الله المخلصين، وتردها الآيات القرآنية وما ثبت من النصوص عن سيد المرسلين، منها:
وقوف السائل عند القبر متضرعاً مستكينا
وإبداء الفاقة إلى معبودهم مستعينا
وصرف خالص المحبة التي هي محبة العبودية
والنذر والذبح لمن تحت ذاك المشهد والبَنِيَّة
وأكثر سوقتهم وعامتهم يلهجون بالأسواق اليوم: على الله وعليك يا ابن عباس، فيستمدون منه الرزق والغوث، وكشف الضر والبأس.
وذكر محمد بن حسين النعيمي الزبيدي رحمه الله: أن رجلاً رأى ما يفعل في الطائف من الشعب الشركية
ص -25-(52/22)
والوظائف، فقال: أهل الطائف لا يعرفون الله إنما يعرفون ابن عباس، فقال له بعض من يترشح بالعلم: معرفتهم لابن عباس كافية، لأنه يعرف الله. فانظر إلى هذا الشرك الوخيم، والغلو الذميم، المجانب للصراط المستقيم، ووازن بينه وبين قوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}[البقرة:186] الآية. وقوله جل ذكره: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً}[الجن:18]، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود والنصارى باتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد1 يعبد الله فيها، فكيف بمن عبد الصالحين ودعاهم مع الله؟! والنصوص في ذلك لا تخفى على أهل العلم.
وكذلك ما يفعل بالمدينة المشرفة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام هو من هذا القبيل، بالبعد عن منهاج الشريعة والسبيل.
__________
1 أخرجه البخاري في صحيحه –كتاب الصلاة- 1/532 وفي الجنائز 3/200، وفي الأنبياء 6/494، وفي المغازي 8/140، وفي اللباس 10/277، ومسلم في صحيحه –كتاب المساجد ومواضع الصلاة- 1/376-377 عن عائشة وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم قالا: لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك: "لعنة الله على اليهود والنصاري اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذر ما صنعوا.
ص -26-(52/23)
وفي بندر جدة ما قد بلغ من الضلال حده، وهو القبر الذي يزعمون أنه قبر حواء، وصفه لهم بعض الشياطين، وأكثروا في شأنه الإفك المبين، وجعلوا له السدنة والخدم، وبالغوا في مخالفة ما جاء به محمد عليه أفضل السلام من النهي عن تعظيم القبور، والفتنة بمن فيها من الصالحين.
وكذلك مشهد العلوي بالغوا في تعظيمه، وتوقيره، وخوفه، ورجائه.
وقد جرى لبعض التجار أنه انكسر بمال عظيم لأهل الهند وغيرهم، وذلك في سنة "عشر ومائتين وألف" فهرب إلى مشهد العلوي مستجيراً، ولائذاً به مستغيثاً، فتركه أرباب الأموال، ولم1 يتجاسر أحد من الرؤساء والحكام على هتك ذلك المشهد والمقام، واجتمع طائفة من المعروفين واتفقوا على تنجيمه2 في مدة سنين، فنعوذ بالله من تلاعب الفجرة والشياطين.
__________
1 سقطت: "لم" من ط المنار والرياض.
2 قال أحمد بن محمد المقري في المصباح المنير 2/113: وكانوا يسمون الوقت الذي يحصل فيه الأداء نجماً تجوزا، لأن الأداء لا يعرف إلا بالنجم، ثم توسعوا حتى سموا الوظيفة نجماً، لوقوعها في الأصل في الوقت الذي يطلع فيه النجم، واشتقوا منه فقالوا: نجمت الدين –بالتثقيل- إذا جعلته نجوماً اهـ.
ص -27-(52/24)
وأما بلاد مصر وصعيدها وأعمالها فقد1 جمعت من الأمور الشركية، والعبادات الوثنية، والدعاوي الفرعونية ما لا يتسع له كتاب، ولا يدنو له خطاب، لا سيما عند مشهد أحمد البدوي، وأمثالهم من المعتقدين والمعبودين، فقد جاوزوا بهم ما ادعته الجاهلية لآلهتهم، وجمهورهم يرى له من تدبير الربوبية، والتصريف في الكون بالمشيئة والقدرة العامة، ما لم ينقل مثله عن أحد بعد الفراعنة والنماردة.
وبعضهم يقول: يتصرف في الكون سبعة. وبعضهم يقول: أربعة، وبعضهم يقول: القطب يرجعون إليه. وكثير منهم يرى أن الأمور شورى بين عدد ينتسبون إليه، فتعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً}[الكهف: 5]، وقد استباحوا عند تلك المشاهد من المنكرات والفواحش والمفاسد ما لا يمكن حصره، ولا يستطاع وصفه، واعتمدوا في ذلك من الحكايات والخرافات والجهالات ما لا يصدر عن من له أدنى مسكة وحظ من المعقولات، فضلاً عن النصوص والشرعيات.
وكذلك ما يفعل في بلدان اليمن، جارٍ على تلك الطريق والسنن.
__________
1 في ط المنار والرياض: "قد".
ص -28-(52/25)
ففي صنعاء وبرع1 والمخا وغيرها من تلك البلاد ما يتنزه العاقل عن ذكره ووصفه، ولا يمكن الوقوف على غاياته2 وكشفه، وناهيك بقوم استخفهم الشيطان، وعدلوا عن عبادة الرحمن إلى عبادة القبور والشياطين، فسبحان من لا يعجل بالعقوبة على الجرائم، ولا يهمل الحقوق والمظالم، وفي حضر موت، والشحر3، وعدن، ويافع ما تستك عن ذكره المسامع، يقول قائلهم: شيء لله عيدروس. شيء لله يا محي النفوس.
وفي أرض نجران من تلاعب الشيطان، وخلع ربقة الإيمان، ما لا يخفى على أهل العلم بهذا الشأن، من ذلك رئيسهم المسمى بالسيد، لقد أتوا من طاعته وتعظيمه وتقديمه وتصديره، والغلو فيه بما أفضى بهم إلى مفارقة الملة والإسلام، والانحياز إلى عبادة الأوثان والأصنام {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا
__________
1 بُرَع جبل بناحية زبيد باليمن، وبرع حصن من حصون ذمار باليمن. معجم البلدان 1/384.
2 في الأصل: "غايته".
3 في الأصل: "الشجر"، والشحر بكسر أوله وإسكان الحاء المهملة، هو شحر عمان، وهو ساحل اليمن، وهو ممتد بينها وبين عمان. وأرض الشحر متصلة بأرض حضرموت. وتطلق على أماكن أخرى.
ينظر: الروض المعطار للحميري ص 338، 339، ومعجم البلدان للحموي 3/327 ط دار بيروت.
ص -29-(52/26)
إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}[التوبة:31].
وكذلك حلب ودمشق وسائر بلاد الشام فيها من تلك المشاهد والنصب والأعلام؛ ما لا يجامع عليه أهل الإيمان والإسلام من أتباع سيد الأنام، وهي تقارب ما ذكرنا في الكفريات المصرية، والتلطف1 بتلك الأحوال الوثنية الشركية.
وكذلك الموصل وبلاد الأكراد، ظهر فيها من أصناف الشرك والفجور والفساد.
وفي العراق من ذلك بحره المحيط بسائر الخلجان، وعندهم المشهد الحسيني قد اتخذه الرافضة وثناً؛ بل رباً مدبراً، وخالقاً ميسراً، وأعادوا به المجوسية، وأحيوا به معاهد اللات والعزى، وما كان عليه أهل الجاهلية.
وكذلك مشهد العباس، ومشهد علي، ومشهد أبي حنيفة، ومعروف الكرخي، والشيخ عبد القادر، فإنهم قد افتتنوا بهذه المشاهد رافضتهم وسنيهم2، وعدلوا عن أسنى المطالب والمقاصد، ولم يعرفوا ما وجب عليهم من حق الله الفرد الصمد الواحد.
__________
1 في الأصل: "التلفظ".
2 أطلق المؤلف عليهم لقب "السنة" لمقارنتهم بالرافضة. فهم بالنسبة للرافضة أهل سنةٍ. وذلك لاستقامة معتقدهم في الصحابة رضي الله عنهم، وإلا فليسوا بأهل سنةٍ مع عبادتهم القبور!
ص -30-(52/27)
وبالجملة فهم شر تلك الأمصار، وأعظمهم نفوراً عن الحق واستكباراً، والرافضة يصلون لتلك المشاهد، ويركعون ويسجدون لمن في تلك المعاهد، وقد صرفوا من الأموال والنذور، لسكان تلك الأجداث والقبور، ما لا يحصل عُشر معشاره للملك العلي الغفور، ويزعمون أن زيارتهم لعلي وأمثاله أفضل من سبعين حجة، تعالى الله وتقدس في مجده وجلاله. ولآلهتهم من التعظيم والتوقير والخشية والإحترام ما ليس معه من تعظيم الله وتوقيره وخشيته وخوفه شيء للإله الحق والملك العلام، ولم يبق مما عليه النصارى سوى دعوى الولدية، غير أن بعضهم يرى الحلول لأشخاص بعض البرية، سبحان ربك رب العزة عما يصفون.
وكذلك جميع قرى الشط1 والمجرة2 على غاية من الجهل.
__________
1 الشطوط كثيرة. قال في معجم البلدان 3/344: شط: بفتح أوله، وتشديد ثانيه جانب النهر: قرية في حجر اليمامة قبلتها بين "الوتر" و"العرض" قد اكتنفها حجر اليمامة. قال الحفصي: شط "فيروز" فيه نخل ومحارث لبني العنبر من اليمامة. وشط الوتر: باليمامة أيضاً... الخ اهـ.
وقد ذكر الأعشى "الشط" في شعره حيث يقول:
شاقتك من قيلة أوطانها
فالشط فالوتر إلى حاجر
فركن مهراس إلى مارد
فقاع مَنْفُوْحَةَ فالحائر
(ينظر صحيح الأخبار 1/251، ومعجم اليمامة 2/50)
2 ذكر في معجم البلدان 5/58: المجرة، وقال: إنه موضع.
ص -31-(52/28)
والمعروف في القطيف والبحرين من البدع الرافضية، والأحداث المجوسية، والمقامات الوثنية، ما يضاد ويصادم أصول الملة الحنيفية.
فمن اطلع على هذه الأفاعيل وهو عارف بالإيمان والإسلام وما فيهما من التفريع والتأصيل، تيقن أن القوم قد ضلوا عن سواء السبيل، وخرجوا من مقتضى القرآن والدليل، وتمسكوا بزخارف الشيطان1، وأحوال الكهان، وما شبه هذا القبيل، وازداد بصيرة في دينه، وقوي بمشاهدته إيمانه ويقينه، وجد في طاعة مولاه وشكره، واجتهد في الإنابة إليه وإدامة ذكره، وبادر إلى القيام بوظائف أمره، وخاف أشد الخوف على إيمانه من طغيان الشيطان وكفره. فليس العجب ممن هلك كيف هلك، إنما العجب ممن نجا كيف نجا.
فلما تفاقم هذا الخطب وعظم، وتلاطم موج الكفر والشرك في هذه الأمة وجسم، واندرست الرسالة المحمدية، وانمحت منها المعالم في جميع البرية، وطمست الآثار السلفية، وأقيمت البدع الرفضية، والأمور الشركية.
__________
1 حصل في الأصل هنا تقدم صفحة على أخرى.
ص -32-(52/29)
تجرد الشيخ للدعوة إلى الله، ورد هذا الناس إلى ما كان عليه سلفهم الصالح في باب العلم والإيمان، وباب العمل الصالح والإحسان، وترك التعلق على غير الله من الأنبياء والصالحين وعبادتهم، والاعتقاد في الأحجار والأشجار، والعيون والمغار، وتجريد المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الأقوال والأفعال، وهجر ما أحدثه الخلوف والأغيار1.
فجادل في الله وقرر حججه وبيناته، وبذل نفسه لله، وأنظر على أصناف بني آدم، الخارجين عما جاءت به الرسل المعرضين عنه، التاركين له.
وصنف في الرد على من عاند وجادل، وماحل2 حتى ظهر الإسلام في الأرض، وانتشر في البلاد والعباد، وعلت كلمة الله، وظهر دينه، وانقمع أهل الشرك والفساد، واستبان لذوي الألباب والعلوم من دين الإسلام ما هو مقرر معلوم.
__________
1 أي الذين بدلوا وغيروا ما كان عليه السلف، والأغيار جمع للدية مفرده: الغير. وأصلها المغايرة وهي المبادلة لأنها بدل من القتل. قال أبو عبيدة إنما سمى الدية غيراً فيما أرى: لأنه كان يجب القود فغير القود دية. فسميت الدية غيراً. وأصله من التغيير.
ينظر: اللسان لابن منظور 5/3325-3326.
2 أي جادل وخاصم. ينظر القاموس 4/210 –الترتيب.
ص -33-(52/30)
فهذه حقيقة حال الشيخ ونشأته، وظهور دعوته، وهذه حال أهل الأمصار في تلك الأوقات والأعصار، كما تقدم بيانه لذوي العقول والأبصار.
فمن شرح الله صدره للإسلام تبين له صحة ما دعا إليه هذا الإمام، ومن عمي عن طريق رشده وهداد، واتبع فيما ينتحله ما يهواه1، وتمرد على الله واستكبر وعتا2 وتجبر، فإنما الهداية بيد الله {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} [المائدة: 41]، {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40].
وبما ذكرناه يعرف كيفية الجواب عما تقدم من فاتحة كتاب هذا العراقي إلى مبدأ نشأة الشيوخ وظهور دعوته، وإنما تركنا الجواب لعدم المصلحة الراجحة في ذلك.
__________
1 في الأصل: "فهواه".
2 في الأصل: "وعني".
ص -34-
فصل
قال الملحد: (فأظهر عقيدته الزائغة في نجد).
الجواب أن يقال: قد عرف واشتهر واستفاض من تقارير الشيخ ومراسلاته ومصنفاته المسموعة المقروؤة، وما ثبت بخطه، وعرف واشتهر من أمره ودعوته، وما عليه الفضلاء النبلاء من أصحابه وتلامذته: أنه كان على ما كان عليه السلف الصالح، وأئمة الدين أهل الفقة والفتوى في باب معرفة الله، وإثبات صفات كماله، ونعوت جلاله، التي نطق بها الكتاب العزيز، وصحت بها الأخبار النبوية، وتلقتها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقبول والتسليم، يثبتونها ويؤمنون بها، ويمرونها كما جاءت من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، وقد درج على هذا من بعدهم من التابعين، وتابعيهم من أهل العلم والإيمان وسلف الأمة وأئمتها.
ص -35-(52/31)
وكان رحمه الله يدعو الناس إلى الصلوات الخمس، والمحافظة عليها حيث ينادى لها، وهذا من سنن الهدى ومعالم الدين، كما دل على ذلك الكتاب والسنة، ويأمر بالزكاة والصيام والحج، ويأمر بالمعروف ويأتيه، ويأمر الناس أن يأتوه، ويأمروا به، وينهى عن المنكر ويتركه، ويأمر الناس بتركه، والنهي عنه، فمن زعم أن عقيدته وطريقته زائغة، أو عن الحق رائغة، فلعدم معرفته بالعقائد السلفية والآثار النبوية.
بل تنادي عقيدته البيضاء بعقيدة السلف، ولا ينكر صحتها وأفضليتها من خلف منا ومن سلف، بل قد تتبع العلماء مصنفاته رحمه الله من أهل زمانه وغيرهم فأعجزهم أن يجدوا فيها ما يعاب.
وأقواله في أصول الدين مما أجمع عليه أهل السنة والجماعة، ولم يعب عليه إلا من خرج عن طريقة أهل السنة والجماعة، لإلفهم بما كانوا عليه من الشرك والضلال من عبادة غير الله تعالى، بالإلتجاء إلى الصالحين ودعائهم، والاستغاثة بهم، لأنهم لا يعرفون إلا ما نشأوا عليه من هذا الشرك العظيم، والمرتع الوبي الوخيم، الذي وجدوا عليه الآباء والجدود الراتعين في رياض المحرمات والحدود. والأكثر منهم يتدين بالبدع والأهواء؛ ويرفض ما درج عليه السلف الصالح من الدين القديم الأولى،
ص -36-(52/32)
وينتحل ما كان عليه الفلاسفة المتقدمون؛ وورثتهم من المتكلمين الذي يحرفون الكلم عن مواضعه، ويتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله. وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وأما قوله: (وساعده على إظهارها محمد بن سعود أمير الدرعية بلاد مسيلمة الكذاب).
فأقول: نعم قد استجاب لهذه الدعوة المحمدية والملة الإبراهيمية من أهل الإسلام عصابة، حصل بهم من العز والمنعة ما هو عنوان التوفيق والإصابة، فكانوا لطريقته المثلى متبعين، وبأقواله وأفعال مقتدين، لا يزالون معه في إخلاص الدعوة مشمرين، وفي إدحاض الباطل وأهله مجتهدين، وبإيضاح مناهج الشرك معلنين، ولها منكرين، وعنها محذرين، وفيما يرضي الله مسرعين، ولأهل الدين والحق مكرمين، ولأهل الضلال موهنين، وللضلال والفساق مهينين، ولقبح عقائدهم مبينين، قائمين في ذلك لرب العالمين، ولوجهه الكريم محتسبين، وللنجاة مرتجين {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}[العنكبوت:69].
وقد قال الإمام أحمد بن محمد الحفظي اليمني في
ص -37-
أرجوزة له ذكر فيها ظهور هذه الدعوة المحمدية، والطريقة السلفية، قال فيها:
أحمده مهللاً مسبحلاً
محوقلاً محيعلاً محسبلا
مصلياً على الرسول الشارعِ
وآله وصحبه والتابعِ
في البدء والختم وأما بعدُ
فهذه منظومة تعدُّ
حركني لنظمها الخير الذي
قد جاءنا في آخر العصر القذي
لما دعا الداعي من المشارقِ
بأمر رب العالمين الخالقِ
وبعث الله لنا مجددا
من أرض نجدٍ عالماً مجتهدا
شيخ الهدى محمد المحمدي
الحنبلي الأثري الأحمدي
فقام والشرك الصريح قد سرى
بين الورى وقد طغى واعترى
لا يعرفون الدين والتهليلا
وطرق الإسلام والسبيلا
ص -38-
إلا أساميهم وباقي الرسمِ
والأرض لا تخلو من أهل العلم
وكل حزب فلهم وليجة
يدعونه في الضيق للتفريجة
وملة الإسلام والأحكامُ(52/33)
في غربة وأهلها أيتامُ
دعا إلى الله وبالتهليلةِ
يصرخ بين أظهر القبيلةِ
مستضعفاً وما له مناصرُ
ولا له معاونٌ موازرُ
في ذلة وقلة وفي يده
مهفةٌ تغنية عن مهندهِ
كأنها ريح الصبا في الرعب
والحق يعلو بجنود الرب
قد أذكرتني درةً لعمر
وضرب موسى بالعصا للحجر
ولم يزل يدعو إلى دين النبي
ليس إلى نفسٍ دعا أو مذهب
يعلمُّ الناس معاني أشهد
أن لا إله غير فردٍ يعبدُ
ص -39-
محمد نبيه وعبده
رسوله إليكمو وقصده
أن تعبدوه وحده لا تشركوا
شيئاً به والإبتداع فاتركوا
ومن دعا دون الإله أحدا
أشرك بالله ولو محمدا
إن قلتموا نعبدهم للقربة
أو للشفاعات فتلك الكذبة
وربنا يقول في كتابه
هذا هو الشرك بلا تشابه
هذي معاني دعوة الشيخ لمن
عاصره واستكبروا عن السنن
فانقسم الناس فمنهم شارد
مخاصم محارب معاند
ما بين خفاش وبين جعل
شاهت وجوه أهل هذا المثل
وبعدما استجيب لله فمن
جادل في الله تردى وافتتن
ومن أجاب داعي الله ملك
ومن تولى معرضاً فقد هلك
ص -40-
والسابقون الأولون السادة
آل سعود الكبار القادة
هو الغيوث والليوث والشنف
ونصرة الإسلام والشم الأنف
فأقبلوا والناس عنه أدبروا
وعرفوا من حقه ما أنكروا
حفوا به كأسد العرائن
وكم وكم لله من ضنائن
وابن سعود كأبي أيوب
محمد الرئبيل واليعسوب
قال اذهبوا فأنتموا سيوم
وجند ربي قبله حيزوم
وقام فاروق الزمان المؤتمن
عبد العزيز من ومن ومن
فسار في الناس كسيرة الأشج
ودوخ البر وخاض للثبج
يسوس بالآثار والقرآن
على طريق العدل والإحسان
يدعو إلى الله بحزب غالب
مجاهد بالأربع المراتب
ص -41-
ونفسه لله والنفيس
والصدق للقلوب مغناطيس
وبعده قام الإمام البارع
بأمر رب العالمين الوازع
وهو الهزبر الضغيم العدل الولي
سعود مخ الرأس قلب الهيكل
كم زع بالقرآن والسلطان(52/34)
من فارس والروم والزنجان
وفي العراقين له رعود
ومصر من صولته مرعود
واليمن الميمون كالحجاز
دوخها بالقهر والمغازي
والحرمين وهي المطهرة
قد أصبحت بعدله معطرة
بالرفق يدعوهم1 وبالتعطف
ومن أبى2 يطره بالمشرفي
ولم يكن في نزعه من ضعف
وشاهد الواقع فيه يكفي
__________
1 في ط المنار والرياض: "أبي".
2 في ط المنار والرياض: "يدعوه".
ص -42-
فلم أر من عبقري يفري
فريه من أمراء العصر
وهكذا من يبتدي بنفسه
مجاهداً في يومه وأمسه
فإنه يطاع لا محالة
في خارج بيعاً بلا إقالة
ونغمات أمره مترجمة
ليظهر الحق وتعلو الكلمة
وهو الغيور الشهم ليس يرضى
ببيضة الإسلام أن ترضّا
لا يطلب الدنيا ولا الفسادا
في الأرض والعلو والعنادا
أو مذهباً أو ذهباً يريدُ
وإنما مطلوبه التوحيدُ
ص -43-
فصل
وأما تعييره أهل الإسلام بأن بلادهم بلاد مسيلمة الكذاب.
فالجواب أن نقول: سبحان الله، ما أعظم شأنه، وأعز سلطانه، فإنه لا يعير بهذا الكلام إلا أشباه الأنعام، فإن سكنى الدار لا تؤثر، فإن الصحابة سكنوا مصر وبلاد الفرس وفضلهم لا يزال في مزيد، وإيمانهم قهر أهل الشرك والتنديد، وعادت تلك البقاع والأماكن من أفضل مساكن أهل التوحيد.
وقد روى الطبراني من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "دخل إبليس العراق فقضى فيها حاجته، ثم دخل الشام فطردوه، ثم دخل مصر فباض فيها وفرخ وبسط عليها عبقريه"1، ولا يقول مسلم بذم علماء العراق لما ورد فيها.(52/35)
__________
1 أخرجه أبو الفتح الأزدي –كما في تنزيه الشريعة – 2/50، ومن طريقه ابن الجوزي في الموضوعات 2/58 عن أحمد بن عبد الرحمن ابن أخي ابن وهب قال: حدثنا عمي عبد الله قال أخبرني يحيى بن أيوب وابن لهيعة عن عقيل ابن شهاب عن يعقوب بن عتبة بن الأخنس عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال... فذكر الحديث.
وأحمد بن عبد الرحمن فيه ضعف، بل قد تعقب الذهبي الحاكم عندما صحح حديثاً من طريقه فقال: أحمد منكر الحديث وهو ممن نقم على مسلم إخراجه في الصحيح (المستدرك3/97) اهـ.
قلت: وقد تابعه حرملة بن يحيى عن ابن وهب –كما عند الطبراني في الكبير 12/340 وابن عساكر- كما في تنزيه الشريعة لابن عراق- 2/51، وحرملة صدوق من أعلم الناس بابن وهب كما قال الدوري وابن يونس والعقيلي. انظر التهذيب 2/230.
ويحيى بن أيوب هو الغافقي قال الحافظ ابن حجر في التقريب: صدوق ربما أخطأ اهـ. وهذا أعدل الأقوال فيه وأما قرينه ابن لهيعة فالكلام فيه مشهور ورواية ابن وهب عنه أجود من غيرها، لا سيما وقد توبع.
ص -44-
وقال شيخنا الشيخ عبد اللطيف رحمه الله تعالى: وقد قال لي بعض الأزهريين: مسيلمة الكذاب من خير نجدكم. فقلت: وفرعون اللعين رئيس مصركم. فبهت، وأين كفر فرعون من كفر مسيلمة لو كانوا يعلمون.
وقال الشيخ ملا عمران بن علي بن رضوان نزيل لنجة، في رده على من عارض الشيخ محمد، وعيره بأن بلاده بلاد مسيلمة الكذاب. قال بعد كلام سبق:
ص -45-
قد عيروه بأنه قد كان في
وادي حنيفة دار من لم يسعد
قلنا لهم ما ضر مصر بأنها
كانت لفرعون الشقي الأطرد
إن النماردة الفراعنة الأولى
كانوا بأرض الله أهل تمرد
ذا قال أنا رب وذا متنبئ
هم في بلاد الله أهل تردد
يمناً وشاماً والعراق ومصرها
من كل طاغ في البرية مفسد
فبموتهم طابت وطار غبارها
وزهت بتوحيد الإله المفرد(52/36)
إن المواطن لا تشرف ساكناً
فيها ولا تهديه إن لم يهتد
من كان لله الكريم موحداً
لو مات في جوف الكنيف المطرد
وبعكسه من كان يشرك فهو لم
يفلح ولو قد مات وسط المسجد
خرج النبي المصطفى من مكة
وبقى أبو جهل الذي لم يهتد
إن الأماكن لا تقدس أهلها
إن لم يكونوا قائمين على الهَدِي
ص -46-
وأما كونه أجبر أهلها –يعني أهل الدرعية، فمن الكذب والبهتان، بل دخلوا في دين الله أفواجاً، واستجابوا لمن دعاهم إلى الله، وأدخلوا سائر أهل نجد ممن لم يقبل دين الله ورسوله في دين الله قهراً وقسراً، وجاهدوهم حتى تبين لهم صحة هذا الدين، وذاقوا حلاوته واطمأنوا به، وجاهدوا مع الأمير "محمد بن سعود" من لم يدخل فيه، حتى استوسقت له جزيرة العرب ودانت، ثم إن الذين أنكروا هذه الدعوة من الدول الكبار والشيوخ وأتباعهم من أهل القرى والأمصار، أجلبوا على عداوة أهل الإسلام، وهم إذ ذاك في عدد قليل، وفي حال تخلف الأسباب عنهم وفقرهم، فرموهم عن قوس العداوة:-
فمن أهل نجد دهام بن دوس، وابن زامل، وآل بجاد أهل الخرج، ومحمد بن راشد راعي الحوطة، وتركي الهزاني وزيد ومن والاهم من الأعراب والبوادي، كذلك العنقري في الوشم ومن تبعه، وشيوخ قرى سدير والقصيم، وبوادي نجد، وابن حميد ملك الأحساء ومن تبعه من حاضر وبادي، وكلهم تجمعوا لحرب المسلمين مراراً عديدة مع عريعر وأولاده، منها نزولهم على الدرعية وهي شعاب لا يمكن تحصينها بالأبواب والبنا، وقد أشار إلى ذلك العلامة حسين بن غنام رحمه الله تعالى بقوله:
ص -47-
وجاءوا بأسباب من الكيد مزعج
مدافعهم يزجي الوحوش رنينها(52/37)
فنزلوا البلاد، واجتمع من اجتمع من أهل نجد حتى قال من يدّعي أنه من العلماء –وهو من أمثل علمائهم وعقلائهم- لما سئل: كيف أشكل عليكم أمر عريعر، وفساده وظلمه، وأنتم تعينونه وتقاتلون معه؟ فقال: لو أن الذي حاربكم إبليس كنا معه.
والمقصود أن الله تعالى ردهم بغيظهم لم ينالوا خيراً، وحمى الله تلك القرية فلم يشربوا من آبارها.
وأما وزير العراق فمشى مراراً عديدة بما يقدر عليه من الجنود والكيد الشديد، وأجرى الله تعالى عليهم من الذل ما لا يخطر ببال، قبل أن يقع بهم ما وقع، من ذلك أن ثويني في مرة من المرار مشى بجنوده إلى الإحساء، بعدما دخل أهلها في الإسلام في حال حداثتهم بالشرك والضلال، فلما قرب من تلك البلاد أتاه رجل مسكين لا يعرف –من غير ممالات لأحد من المسلمين- فقتله فمات، فنصر الله هذا الدين برجل لا يعرف، وذلك مما به يعتبر، فانقلبت تلك الجنود، وتركوا ما معهم من المواشي والأموال خوفاً من المسلمين، ورعباً، فغنمها من حضر، وقد قال الشيخ حسين بن غنام في ذلك:
ص -48-
تقاسمتم الأحساء قبل منالها
فللروم شطر والبوادي لهم شطر(52/38)
في أبيات كثيرة.
ثم جددوا أسباباً لحرب المسلمين وساروا بدول عظيمة يتبع بعضها بعضاً وكيد عظيم، فنزلوا الأحساء، وقائدهم علي كيخيا، فتحصن من ثبت على دينه في الكوت وثغر صاهود، فنزل بهم، وصار يضربهم بالمدافع والقنابل، وحفر اللغوب، فأعجزه الله ومن معه ممن ارتد عن الإسلام، فولى مدبراً بجنوده، فاجتمع بسعود بن عبد العزيز في "ثاج" وعزوه الذي معه رحمه الله، والذين معه من المسلمين أقل من المنتفق أو آل ظفير الذين مع الكيخيا، فألقى الله الرعب في قلوبهم على كثرتهم وقوتهم، فصارت عبرة عظيمة، فطلبوا الصلح على أن يدعهم سعود يرجعون إلى بلادهم، فأعطاهم أماناً على الرجوع، فذهبوا في ذل عظيم، فلما قدم كل منهم مكانه مات سليمان باشا، وذلك من نصر الله لهذا لدين، فأهلك الله من أنشأ هذه الدول، ثم قام علي كيخيا فصار هو الباشا، فأخذ يجدد آلة الحرب، فجمع من الكيد والأسباب أعظم مما كان معه في تلك الكرة، فلما كملت أسبابه وجمع الجموع، فلم يبق إلا خروجه لحرب المسلمين لينتقم من أهل هذا الدين، سلط الله صبيين
ص -49-(52/39)
مملوكين عنده يبيتون معه، فقتلوه آخر الليل، فخمدت تلك النيران، وتفرقت تلك الأعوان، فما قام لهم قائمة، فيا لها عبرة1 ما أظهرها لمن له أدنى بصيرة، فاعتبروا يا أولي الأبصار، أين ذهب عقل من أنكر هذا الدين وجادل وكابر في دفع الأدلة على التوحيد ومَاحَل.
وكذلك ما جرى في حرب أشراف مكة لهذه الدعوة الإسلامية، والطريقة المحمدية، وذلك أنهم من أول من بدأ المسلمين بالعداوة، فحبسوا حاجّهم فمات في الحبس منهم عدد كثير، ومنعوا المسلمين من الحج أكثر من ستين سنة، وفي أثناء هذه المدة سار إليهم الشريف غالب بعسكر كثيف، وكيف عنيف، وقدم أخاه عبد العزيز قبله في الخروج، فنزل قصر بسام، فأقام مدة يضرب بالمدافع والقنابل، وجر2 عليه الزحافات، فأبطل الله كيده على هذا القصر الضعيف بناؤه، القليل رجاله، فرحل منه ووافى غالباً ومعه أكثر الجنود، ومعه من الكيد مثل ما كان مع أخيه أو يزيد، فنزلوا جميعاً "الشعراء" فجد في حربهم بكل كيد، فأعجزه الله تعالى عن ذلك البناء الضعيف الذي لم يتأهب أهله لحرب بالبناء والسلاح، فأبطل الله كيده،
__________
1 في الأصل: "عبراً".
2 في الأصل: "وجز".
ص -50-(52/40)
ورده عنهم بعد الإياس، فسلط الله المسلمين على من كان معه من الأعراب خصوصاً مطير فأوقع الله بهم في العداوة، ومعهم "مطلق الجربا" فهزمهم الله تعالى، وغنم المسلمون جميع ما كان معهم من الإبل والخيل وسائر المواشي، فصار ما ذكرناه من نصر الله وتأييده لأهل هذا الدين عبرة عظيمة، وفي جملة قتلاهم "حصان إبليس".
وبعدما ذكرناه جد غالب في الحرب واجتهد، لكن صار حربه للأعراب، ولم يتعد النير، فيغزو على من استضعفه ويغير، فأعطى الله أعراب المسلمين الظفر عليه في عدة وقعات، من أعظمها وقعة "الخرمة" على يد "ربيع" وغزوه من أهل البوادي وبعض قحطان فهزمه الله تعالى، واشتد القتل في عسكره فأخذوا جميع ما كان معه من المواشي وغيرها، فصار بعد ذلك في ذل وهوان، ففتح الله الطائف للمسلمين، وصار أميره "عثمان بن عبد الرحمن" فاجتمع فيه دولة للمسلمين، وساروا لحرب الشريف ومعهم "عبد الوهاب أبو نقطة" أمير عسير، و "سالم بن شكبان" أمير أهل بيشة، فنزلوا دون الحرم، فخرج إليهم عسكر من مكة فقتلوه، فطلب الشريف المذكور منهم الأمان فلم يقبلوا منه إلا الدخول في الإسلام، والبيعة للإمام "سعود" فأعطاهم البيعة على يد رجال بعثوهم إليه، هذا بعد وقعات تركنا ذكرها كراهة
ص -51-
الإطالة، لأن القصد بهذا الوضع الاعتبار بما جرى لأهل هذه الدعوة من النصر والتأييد، والظهور على قلة أسبابهم، وكثرة عدوهم وقوته، وذلك من آيات الله وبيناته.
على أن ما قام به هذا الشيخ في حال فساد الزمان والدين الذي بعث الله به المرسلين، وتبين أن هذه الطائفة في هذه الأزمنة هي الطائفة المذكورة في قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك"1.
وقد كانت هذه الطائفة قبل ظهور الشيخ فيما تقدم موجودة في الشام والعراق ومصر وغيرها بوجود أهل(52/41)
__________
1 أخرجه البخاري في صحيحه –كتاب العلم- 1/164 وفي الخمس 6/217 وفي المناقب 6/632 وفي الاعتصام 13/293 وفي التوحيد 13/442، ومسلم في صحيحه –كتاب الإمارة – 3/1524 عن معاوية رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "... ولا تزال عصابة من المسلمين يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة".
وفي لفظ لهما: "لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس".
وأخرجاه من حديث المغيرة بن شعبة: "لن يزال قوم من أمتي ظاهرين على الناس حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون".
وأخرجه مسلم من حديث ثوبان وجابر بن سمرة وجابر بن عبد الله وعقبة بن عامر وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم.
ص -52-(52/42)
السنة، وأهل الحديث في القرون المفضلة وبعدها، فلما اشتدت غربة الإسلام، وقل أهل السنة، واشتد النكير عليهم، وسعى أهل البدع في إيصال المكر إليهم، منّ الله بهذه الدعوة، فقامت بها الحجة، واستبانب المحجة.
والمقصود أن كل من ذكرنا ممن عاداهم من أهل نجد والإحساء وغيرهم من البوادي أهلكهم الله، ولحقتهم العقوبة حتى في الذراري والأموال، فصارت أموالهم فيئاً لأهل الإسلام، وانتشر ملكهم، وصار كل من بقي في أماكنهم سامعاً مطيعاً لإمام المسلمين القائم بهذا الدين، فانتشر ملك أهل الإسلام حتى وصل إلى حدود الشام، مع الحجاز وتهامة وعمان، فصاروا بحمد الله في أمن وأمان، يخافهم كل مبطل وشيطان، ففي هذا معتبر لأهل الاعتبار، مع ما وقع بمن حاربهم من الخراب والدمار، واستيلاء المسلمين على ما كان لهم من العقار والديار، فلا يرتاب في هذا الدين بعد هذا البيان إلا من عميت بصيرته، وفسدت علانيته وسريرته، انتهى من المقامات التي ألفها الشيخ الإمام عبد الرحمن بن حسن مفتي الديار النجدية رحمه الله تعالى.
وأما قوله: (أما ولادته فقد كانت سنة ألف ومائة وإحدى عشرة سنة).
ص -53-
فقد قدمنا أنه ولد رحمه الله سنة 11151 خمس عشرة بعد المائة والألف من الهجرة النبوية. هذا هو الصحيح2.
وأما قوله: (وكان في ابتداء أمره من طلبة العلم، يتردد إلى مكة والمدينة لأخذه عن علمائها، وممن أخذ عنه في المدينة الشيخ محمد بن سليمان الكردي، والشيخ محمد حياة السندي).
فأقول:
قد تقدم بيان رحلته وطلبه للعلم، وعمن أخذ عنه من العلماء في المدينة المنورة، ومكة المشرفة، والبصرة، والأحساء، وعن علماء نجد بما أغنى عن إعادته.
وأما قوله: (وكان الشيخان المذكوران وغيرهما من المشايخ الذي أخذ عنهم يتفرسون فيه الغواية والإلحاد، ويقولون: سيضل الله تعالى هذا، ويضل به من أشقاه) إلى آخر ما اخترعه هذا العراقي الملحد وافتراه.(52/43)
__________
1 كتابة العدد رقماً ليس في الأصل.
2 في ط الرياض: "الصيح".
ص -54-
فالجواب: أن هذا النقل كذب وافتراء، من غير شك ولا امتراء، ثم لو فرضنا صحة هذا النقل لم يكن هذا القول عمن لا ينطق عن الهوى، بل لا يعجز الخصم الذي لا يخاف الله ولا يتقيه عن أكثر من هذا القول وأوخم، وأفحش منه وأعظم، وقد قدمنا من حال الشيخ ودعوته إلى الله، وحسن سيرته ما يعتبر به من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
فيا لك من آيات حق لو اقتدى
بهن مريد الحق كن هواديا
ولكن على تلك القلوب غشاوة
فليست وإن أصغت تجبي المناديا
وأما قوله: (وكذلك كان أبوه عبد الوهاب وهو من العلماء الصالحين يتفرس في الإلحاد، ويحذر الناس منه) إلخ.
فالجواب أن نقول: وهذا أيضاً من الكذب والبهتان، والزور والعدوان، بل كان والده يعظمه، ويعترف بالاستفادة منه، ولم ينقل عن والده هذا النقل من يعتد بنقله، وإنما يرميه بمثل هذا البهت، وينسبه إليه من جعل زوره وقدحه في أهل العلم والإيمان جسراً يتوصل منه، ويعبر إلى ما
ص -55-(52/44)
انطوى عليه، وزينه له الشيطان من عبادة الصالحين والتوسل بهم، وعدم الدخول تحت أمر أولي العلم، وترك القبول منهم، والاستغناء بما نشأ عليه أهل الضلال واعتادوه من العقائد الضالة، والمذاهب الجائرة.
وأما نسبة ذلك إلى أخيه سليمان، فلا مانع من ذلك لولا وجوب رد خبر هذا الفاسق وعدم قبوله إلا بعد التبين، ثم لو فرضت صحته فمن سليمان وما سليمان؟ وهذه دلائل السنة والقرآن تدفع في صدره، وتدرأ في نحره، وقد اشتهر ضلاله ومخالفته لأخيه مع جهله، وعدم إدراكه لشيء من فنون العلم.
قال شيخنا الشيخ عبد اللطيف رحمه الله: وقد رأيت له رسالة يعترض على الشيخ، وتأملتها فإذا هي رسالة جاهل بالعلم والصناعة، مزجى التحصيل والبضاعة، لا يدري ما طحاها، ولا يحسن الاستدلال بذلك على من فطرها وسواها.
هذا، وقد من الله وقت تسويد هذا بالوقوف على رسالة لسليمان، فيها البشارة برجوعه عن مذهبه الأول، وأنه قد استبان له التوحيد والإيمان، وندم على ما فرط من الضلال والطغيان، وهذا نصها:
ص -56-(52/45)
بسم الله الرحمن الرحيم
من سليمان بن عبد الوهاب إلى الإخوان أحمد1 بن محمد التويجري، وأحمد ومحمد ابنا عثمان بن شبانة، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فأحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وأذكركم ما من الله به علينا وعليكم من معرفة دينه ومعرفة ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده، وبصرنا به من العمى وأنقذنا به من الضلالة.
وأذكركم بعد أن جئتونا في الدرعية من معرفتكم الحق على وجهه، وابتهاجكم به، وثنائكم على الله الذي أنقذكم، وهذا دأبكم في سائر مجالسكم عندنا، وكل من جاءنا بحمد الله يثني عليكم، والحمد لله على ذلك.
وكتبت لكم بعد ذلك كتابين غير هذا أذكركم وأعظكم، ولكن يا إخواني معلومكم ما جرى منا من مخالفة الحق، واتباعنا سبيل الشيطان، ومجاهدتنا في الصد عن اتباع سبل الهدى، والآن معلومكم لم يبق من أعمارنا إلا اليسير، والأيام معدودة، والأنفاس محسوبة، والمأمول بنا أن نقوم لله، ونفعل مع الهدى أكثر مما فعلنا مع الضلال، وأن يكون ذلك لله وحده لا شريك له، لا لما سواه، لعل الله يمحو عنا سيئات ما مضى، وسيئات ما بقى.
__________
1 وقع في كتاب "مصباح الظلام" للشيخ عبد اللطيف: "حمد" وهو خطأ.
ص -57-(52/46)
ومعلومكم عظم الجهاد في سبيل الله، وما يكفر من الذنوب، وأن الجهاد باليد واللسان والقلب والمال، وتفهمون أجر من هدى الله به رجلاً واحداً، والمطلوب منكم أكثر مما تفعلون الآن، وأن تقوموا لله قيام صدق، وأن تبينوا للناس الحق على وجهه، وأن تصرحوا لهم تصريحاً بيناً بما أنتم عليه أولاً من الغي والضلال، فيا إخواني: الله الله فالأمر أعظم من ذلك، فلو خرجنا نجأر إلى الله في الفلوات، وعدنا الناس من السفهاء والمجانين في ذلك، لما كان ذلك بكثير منا، وأنتم رؤساء الدين والدنيا في مكانكم أعز من الشيوخ، والعوام كلهم تبع لكم، فاحمدوا الله على ذلك، ولا تعلثوا1 بشيء من الموانع.
وتفهمون أن الآمر بالمعروف، والناهي عن المنكر لا بد أن يرى ما يكره، ولكن أرشدكم في ذلك إلى الصبر، كما حُكي عن العبد الصالح في وصيته لابنه2، فلا أحق من أن تحبوا لله وتبغضوا لله وتوالوا لله وتعادوا لله، وترى يعرض في هذا أمور شيطانية، وهي أن من الناس من ينتسب لهذا الدين، وربما يلقي الشيطان لكم أن هذا ما هو بصادق، وأن له ملحظ دنيوي، وهذا أمر ما يطلع عليه
__________
1 وقع في كتاب مصباح الظلام: "تعتلوا".
2 يعني وصية لقمان لابنه وهو يعظه قال فيها: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}[لقمان: 17].
ص -58-(52/47)
إلا الله فإذا أظهر أحد الخير فاقبوا منه ووالوه، فإذا ظهر من أحد شر وأدبار عن الدين فعادوه واكرهوه ولو أحب حبيب.
وجامع الأمر في هذا أن الله خلقنا لعبادته وحده لا شريك له، ومن رحمته بعث لنا رسولاً يأمرنا بما خلقنا له، ويبين لنا طريقه، وأعظم ما نهانا عنه الشرك بالله، وعداوة أهله وبغضهم، وتبيين الحق، وتبيين الباطل، فمن التزم ما جاء به الرسول فهو أخوك ولو أبغض بغيض، ومن نكب عن الصراط المستقيم فهو عدوك ولو هو ولدك أو أخوك، وهذا شيء أذكركموه مع أني بحمد الله (أعلم أنكم)1 تعلمون ما ذكرت لكم، ومع هذا فلا عذر لكم عن التبيين الكامل الذي لم يبق معه لبس، وأن تذاكروا دائماً في مجالسكم ما جرى منا ومنكم أولاً، وأن تقوموا مع الحق أكثر من قيامكم مع الباطل، فلا أحق من ذلك، ولا لكم عذر، لأن اليوم الدين والدنيا، ولله الحمد مجتمعة في ذلك فتذاكروا ما أنتم فيه أولاً من أمور الدنيا من الخوف والأذى، واعتلاء الظلمة والفسقة عليكم، ثم رفع الله ذلك كله بالدين، وجعلكم السادة والقادة، ثم أيضا ما منّ الله
__________
1 ما بين قوسين سقط من الأصل وط الرياض والمنار، والمثبت من مصباح الظلام ص 107 ط دار الهداية.
ص -59-(52/48)
به عليكم من الدين، انظروا إلى مسألة واحدة: فمما نحن فيه من الجهالة كون البدوي تجري عليه أحكام الإسلام مع معرفتنا أن الصحابة قاتلوا أهل الردة وأكثرهم متكلمين بالإسلام، ومنهم من أتى بأركانه، ومع معرفتنا أنه من كذب بحرف من القرآن كفر ولو كان عابداً، وأن من استهزأ بالدين أو بشيء منه فهو كافر، وأن من جحد حكماً مجمعاً عليه فهو كافر إلى غير ذلك من الأحكام المكفرات، وهذا كله مجتمع في البدوي وأزْيد، ونجري عليه أحكام الإسلام اتباعاً لتقليد من قبلنا بلا برهان. فيا إخواني تأملوا وتذكروا في هذا الأصل يدلكم على ما هو أكبر من ذلك، وأنا أكثرت عليكم الكلام، لوثوقي بكم أنكم ما تشكون في شيء فيما تحاذرون، ونصيحتي لكم ولنفسي، والعمدة في هذا أن يصير دأبكم في الليل والنهار أن تجأروا إلى الله تعالى أن يعيذكم من شرور أنفسكم، وسيئات أعمالكم، وأن يهديكم إلى الصراط المستقيم الذي عليه رسله وأنبياؤه، وعباده الصالحون، وأن يعيذكم من مضلات الفتن، والحق واضح وأبلولج، وماذا بعد الحق إلا الضلال، فالله الله ترى الناس اللي1 في جهاتكم تبع لكم في الخير والشر، فإن فعلتوا ما ذكرت
__________
1 في مصباح الظلام: "الذين" . وهذه الرسالة كتبت باللهجة العامية الدارجة في بلاد نجد.
ص -60-(52/49)
لكم ما قدر أحد من الناس يرميكم بشر، وصرتوا1 كالأعلام هداية للحيران، فإن الله سبحانه وتعالى هو المسؤول أن يهدينا وإياكم سبل السلام، والشيخ وعياله وعيالنا طيبين ولله الحمد، ويسلمون عليكم، وسلموا لنا على من يعز عليكم والسلام، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه، اللهم اغفر لكاتبها ولوالديه ولذريته، ولمن نظر فيه ودعا له بالمغفرة والمسلمين والمسلمات أجمعين اهـ.
وأما تأليفه الرد على أخيه فنعم وذلك في حال ضلالته، ونفوره عن دين الإسلام، فلما هداه الله وتبين له صحة ما دعا إليه الشيخ من توحيد الله وإفراده بالعبادة، وترك عبادة ما سواه تبين له سوء عمله وزيغه وضلاله، فرجع عما كان يعتقده من الضلال والعمى، إلى طريقة أهل الحق والهدى، كما صرح به في رسالته المتقدم ذكرها، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
__________
1 في مصباح الظلام: "وصرتم".
ص -61-(52/50)
فصل
وأما قوله: (وكان محمد هذا بادئ بدأته كما ذكره بعض المؤلفين مولعاً بمطالعة أخبار من ادعى النبوة كاذباً، كمسيلمة الكذاب، وسجاح، والأسود العنسي، وطليحة الأسدي، وأضرابهم، فكان يضمر في نفسه دعوة النبوة، إلا أنه لم يتمكن من إظهارها).
فالجواب أن نقول: {مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ}[النور: 16]، {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً}[الكهف: 5]، فإن هذا معلوم كذبه بالاضطرار، لا يمتري فيه من له أدنى معرفة بمقادير الأئمة الأخيار، ومن طالع كتب الشيخ ومصنفاته ورسائله، وتأمل حال نشأته، ودعوته إلى الله تبين له أن هذا من الكذب والافتراء، وأنه من وضع أعداء الله ورسوله، الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً، ويسعون في الأرض فساداً، والله لا يحب الفساد {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:8].
ص -62-(52/51)
وهذا العراقي الملحد لما لم يكن له حيلة في دفع ما منّ الله به من ظهور الإسلام أخذ في رد ما جاء به من البينات والهدى بالكذب والافتراء، وقبله أناس أتوا بأعظم الأسباب، وزجوا الخلق في لجة الضلال والارتياب، وضجوا على دعوة الحق بالتكذيب والإكذاب، وعجوا مطبقين على الشيخ بأنه ساحر أو مفتر أو كذاب، وحكموا بكفره، واستحلال دمه وماله وجميع من له من الأصحاب، {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ}[غافر:5] وصنفوا في رد هذا الدين مصنفات، ولفقوا من الأكاذيب على الشيخ وأكثروا من الترهات، ولم يكن لهم قصد ولا مرام، إلا تنفير الخواص والعوام، فأتوا بهذه المجونات والخرافات التي لا تروج إلا على من أعمى الله بصيرة قلبه من أهل تلك القلوب المقفلات {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَات}[فاطر: 8]، وسيقف هو وإياهم بين يدي عدل لا يظلم ولا يجور، فيجازي كلاً بعمله يوم النشور، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
قال العراقي الملحد: (وكان يسمي جماعته من أهل بلده الأنصار، ويسمي متابعيه من الخارج المهاجرين، وكان يأمر من حج حجة الإسلام قبل اتباعه أن يحج ثانية
ص -63-(52/52)
قائلاً: إن حجتك الأولى غير مقبولة، لأنك حججتها وأنت مشرك، ويقول لمن أراد أن يدخل في دينه: اشهد على نفسك أنك كنت كافراً واشهد على والديك أنهما ماتا كافرين، واشهد على فلان وفلان ويسمي له جماعة من أكابر العلماء الماضين أنهم كانوا كفاراً، فإن شهد بذلك قبله، وإلا أمر بقتله، وكان يصرح بتكفير الأمة منذ ستمائة سنة، ويكفر كل من لا يتبعه وإن كان من أتقى المسلمين، ويسميهم مشركين، ويستحل دماءهم وأموالهم، ويُثبت الإيمان لمن اتبعه وإن كان من أفسق الناس، وكان -عليه ما يستحقه من الله- يتنقص النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً بعبارات مختلفة، منها قوله: إنه طارش، وهو في لغة العامة بمعنى الشخص الذي يرسله أحد إلى غيره، والعوام لا يستعملون هذه الكلمة فيمن له حرمة عندهم، ومنها قوله: إني نظرت في قصة الحديبية فوجدت فيها كذا وكذا من الكذب، إلى غير ذلك من الألفاظ الاستخفافية، حتى إن بعض أتباعه يقول بحضرته: إن عصاي هذه خير من محمد، لأني أنتفع1 بها، ومحمد قد مات فلم يبق فيه نفع، وهو يرضى بكلامه، وهذا كما تعلم كفر في المذاهب الأربعة).
__________
1 في ط المنار والرياض: "أُنفع".
ص -64-(52/53)
فالجواب عن هذه المطاعن كلها أن نقول: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ}، [النور: 16] بل هذا من إفك الوضاعين، الذي شرقوا بهذا الدين، وأنكرته قلوبهم، فموهوا بهذه الأوضاع على الجهال والطغام، وصادفت قلوباً قد ملئت بالشرك وعداوة أهل الإسلام، فكانوا لما يبديه هؤلاء يصدقون {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام:113].
وأما قوله: (ومنها أنه كان يكره الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وينهى عن ذكرها ليلة الجمعة، وعن الجهر بها على المنابر، ويعاقب من يفعل ذلك عقاباً شديداً، حتى إنه قتل رجلاً أعمى مؤذناً لم ينته عما أمره بتركه من ذكر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان، ويلبس على أتباعه قائلاً: إن ذلك محافظة على التوحيد).
فالجواب أن نقول: أما النهي عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بأي لفظ كان فلم ينه عنه، بل هو من الكذب والبهتان.
وأما الجهر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان، وعلى المنابر يوم الجمعة غير الإمام الذي يخطب فهو بدعة محدثة، وإزالة المنكر والبدعة وتغييرها واجب بدلائل
ص -65-(52/54)
الأحاديث الصحيحة، فإن ذلك لم يكن على عهد الصحابة رضي الله عنهم، ولا التابعين، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد". وفي لفظ: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"1.
وأما قوله: (وكان قد أحرق كثيراً من كتب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، كدلائل الخيرات وغيرها).
فالجواب أن نقول: أما مسألة منع الناس من قراءة دلائل الخيرات فقد أجاب عنها الشيخ محمد بن عبد الوهاب في رسالته التي كتبها إلى عبد الرحمن بن عبد الله حيث قال: وأما دلائل الخيرات فله سبب، وذلك أني أشرت على من قَبِل نصيحتي من إخواني أن لا يصير في قلبه أجل من كتاب الله، ويظن أن القراءة فيه أجل من قراءة القرآن، وأما إحراقه والنهي عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بأي لفظ كان فهذا من البهتان اهـ.
__________
1 أخرجه البخاري في صحيحه -كتاب الصلح- 5/301، ومسلم في صحيحه –كتاب الأقضية- 3/1343 عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ...الحديث.
واللفظ الآخر تفرد به مسلم وهو قوله: "من عمل عملاً ليس عليه...".
ص -66-
وأما قوله: (وكذلك أحرق كثيراً من كتب الفقه، والتفسير والحديث، مما هو مخالف لأباطيله، وكان يأذن لكل من اتبعه أن يفسر القرآن بحسب فهمه).
فأقول: وهذا كله من الكذب والبهتان، والزور والعدوان، وقد قال الشيخ ملا عمران نزيل لنجة في رد مفتريات بعض هؤلاء الوضاعين فيما افتروه على الشيخ من الأكاذيب، فأحببت أن أذكرها لاشتمالها على بعض ما ذكره هذا العراقي، قال رحمه الله تعالى:
جاءت قصيدتهم تروح وتغتدي
في سب دين الهاشمي محمدِ
قد زخرفوها للعوام بقولهم
إن الكتاب هو الهدى فبه اقتدِ
لو أن ناظمها تمسك بالذي
قد قال فيها أولا إذ يبتدي
لهدي1 ووفق ثم حاز سعادة
لا شك فيها عند كل موحدِ
لكنه قد زاغ عما قاله(52/55)
متأولاً فيه بتأويل ردي2
__________
1 في ط المنار والرياض :"بهدي".
2 في النسخ: "ردِ".
ص -67-
فأتت كشهد فيه سم ناقع
من ذاق منه ففي الهلاك المبعدِ
إذ شبه الشيخ الإمام المهتدي
بأخي مسيلمة الكفور المعتدي
فهو الذي إن مات معتقداً بذا
يا ويله ماذا يلاقي في غدِ
ماذا يجيب وما يقول ومن له
يوم القيامة وهو خصم محمدِ
قد شبه التوحيد بالكفر الذي
شهد الكتاب به وسنة أحمدِ
الشيخ شاهد بعض أهل جهالة
يدعون أصحاب القبور الهمدِ
تاجاً وشمسان ومن ضاهاهما
من قبة أو تربة أو مشهدِ
يرجون منها قربة وشفاعة
ويؤملون كذاك أخذاً باليدِ
ورأوا لعباد القبور تقرباً
بالنذرِ والذبح الشنيع المفسدِ
ما أنكر القراء والأشياخ ما
شهدوا من الفعل الذي لم يحمدِ
ص -68-
بل جوزه وشاركوا في أكله
من كان يذبح للقبور ويفتدي
فأتاهم الشيخ المشار إليه
بالنصح المبين وبالكلام الجيد
يدعوهمو لله أن لا تعبدوا
إلا المهيمن ذا الجلال السرمد
لا تشركوا ملكاً ولا من مرسل
كلا ولا من صالح أو سيدِ
فتنافروا عنه وقالوا: ليس ذا
إلا عجيب عندنا لم يعهدِ
ما قاله آباؤنا أيضاً ولا
أجدادنا أهل الحجى والسؤددِ
إنا وجدنا جملة الآبا على
هذا فنحن بما وجدنا نقتدي
فالشيخ لما أن رأى ذا الشأن من
أهل الزمان اشتد غير مقلدِ
ناداهمو يا قوم كيف جعلتموا
لله أنداداً بغير تعددِ
قالوا له: بل إن قلبك مظلم
لم تعتقد في صالح متعبدِ
قد عيروه بأنه قد كان في
وادي حنيفة دار من لم يسعدِ
ص -69-
قلنا لهم ما ضر مصر بأنها
كانت لفرعون الشقي الأطرد
إن النماردة الفراعنة الأُلى
كانوا بأرض الله أهل تمردِ
ذا قال: أنا رب وذا متنبئٌ
هم في بلاد الله أهل ترددِ
يمناً وشاماً والعراق ومصرها
من كل طاغٍ في البرية مفسدِ
فبموتهم طابت وطار غبارها(52/56)
وزهت بتوحيد الإله المفردِ
إن المواطن لم تشرف ساكناً
فيها ولا تهديه إن لم يهتدِ
من كان لله الكريم موحداً
لو مات في جوف الكنيف المطردِ
وبعكسه من كان يشرك فهو لم
يفلح ولو قد مات وسط المسجدِ
خرج النبي المصطفى من مكة
وبقي أبو جهل الذي لم يهتدِ
إن الأماكن لا تقدس أهلها
إن لم يكونوا قائمين على الهدي1
__________
1 في النسخ: "الهدِ".
ص -70-
لو أنصفوا لرأوا له فضلاً على
إظهار ما قد ضيعوه من اليدِ
ودعوا له بالخير بعد مماته
ليكافئوه على وفاق المرشدِ
لكنهم قد عاندوا وتكبروا
ومشوا على منهاج قوم حسّدِ
ورموه بالبهتان والإفك الذي
هم يعملون به ومنهم يبتدي1
كمقالهم هو للمتابع قاطع
بدخول جنات وحور خرد
حاشا وكلا ليس هذا شأنه
بل إنه يرجو بها لموحدِ
قالوا له: أشقى الورى مع كونه
ينهى عن الأنداد للمتفردِ
قالوا له: يا سالكاً طرق الردى
لم لا تسير على الطريق الأرشدِ
وهموا يرون الشمس ظاهرة لهم
لكن أعمى القلب ليس بمهتدي2
قالوا له: يا كافراً يا فاجراً
ما ضره قول العداة الحسّد
__________
1 في النسخ بدون ياء.
2 في النسخ بدون ياء.
ص -71-
قالت قريش قبلهم للمصطفى
ذا ساحر ذا كاهن ذا معتدي1
قد أتهموه بأنه يغتال في
تأذينه ليجئ أهل المسجدِ
فإذا أتوا قتلوا بغير جناية
تالله هذا إفك أفاك ردي2
قالوا يعم المسلمين جميعهم
بالكفر قلنا: ليس ذا بمؤكد
بل كل من جعل العديل لربه
ونهي فصد فذاك كالمتهود
قالوا له: غشاش أمة أحمد
وهو النصيح بكل وجه يبتدي
هل قال إلا وحدوا رب السما
وذروا عبادة ما سوى المتفرد
وتمسكوا بالسنة البيضا ولا
تتنطعوا بزيادة وترددِ
هذا الذي جعلوه غشاً وهو قد
نطقت به الرسل الكرام لمن هدي
من عهد آدم ثم نوح هكذا(52/57)
تترى إلى عهد النبي محمد
__________
1 في النسخ بدون ياء.
2 في النسخ بدون ياء.
ص -72-
وكذلك الخلفاء بعد نبيهم
والتابعون وكل حبر مهتدي1
منهاجهم هذا عليه تمسكوا
من كان مستناً بهم فليقتد2
عجباً لمن يتلوا الكتاب ويدعي
علم الحديث مسلسلاً في المسند
ويقول للتوحيد غشاً إن ذا
خطر على من قال فلتشهد3
ويجدد الإسلام والإيمان معتقداً
بأن الشيخ خير مجدد
ما ذنبه في الناس إلا أنه
هدّ القباب وتلك سيرة أحمد
ما صح عهد ثقيف لما عاهدوا
إلا بهدم اللات لو لم يعبد
ما اللات إلا كان عبداً صالحاً
لت السويق لطائف متعبد
لما توفي عظموا لضريحه
كصنيع عباد القبور النكدِ
إذ كان حياً قادراً قاموا
بإطعام له وبكسوة وتفقد
وإذا توارى عنهموا في قبره
جعلوه نداً للإله السيدِ
__________
1 في النسخ بدون ياء.
2 في ط الرياض: "فليقد".
3 في ط المنار والرياض: "فلتشهد".
ص -73-
ولقد رأى الفاروق يوماً قبة
نصبت على قبر تشد بأعمدِ
فأشار: نحوها دعوه يظله
عمل له إن لم يكن عملٌ ردي
وحديث أبي الهياج فيه كفاية
لذوي البصائر والعقول النقد
في طمس تمثال وقبر مشرفٍ
جاء الحديث به الصحيح لمسندِ1
لما نفى الإطراء منهم والغلو
قالوا أتيت بذا الجفاء المبعد
لو كان حبك للنبي محققاً
لفعلت فعلتنا لعلك تهتدي
أما "الدلائل"2 فهو لم ينكر بها
صلوات أزكى العالمين الأمجدِ
إلا التظاهر بالغلو وجعلها
درساً يكرر في كتابٍ مفردِ
فترى لهم حرصاً على تجويدها
خطاً وتزويقاً وحسن مجلدِ(52/58)
__________
1 في الأصل: "المسند"، والحديث في صحيح مسلم (969) من طريق أبي الهياج قال: قال لي علي رضي الله عنه: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تدع تمثالاً إلا طمسته ولا قبراً مشرفاً إلا سويته.
2 يعني كتاب "دلائل الخيرات".
ص -74-
لا يعتنون بمصحف لهمو كما
هو يعتنون براتب وبمولدِ
فلو اعتنى رب "الدلائل" بالذي
يأتي عقيب تشهد المتشهد
لكفاه كل مؤونة وتكلف
ومشى على النهج القويم الأرشد
سأل النبي من الصحابة سائل
كيف الصلاة عليك كالمسترشد
فأجاب يرشده بما قد جاء في
قول المصلي دبر كل تشهد
لوحت فيه ولم أصرح حيث لم
يدخل على وزن القريض المنشد
هذا الكلام على"الدلائل" ليس ما
قد قاله من شذ عن ذا المقصد
وكذاك في"روض الرياحين" الذي
فيها الغلو بصالح وبسيد
والله قد ذم الغلو فقال: يا
أهل الكتاب بغلطة وتهدد
إذ قال: لا تغلوا بنهي لازم
في دينكم فالحكم لم يتردد
وكذا الرسول نهى وأخبر أنه
فيه الهلاك لراهب متعبدِ
ص -75-
عجباً لهم لو كان فيهم منصف
لرأى المحب محمداً لمحمد
من حيث أن الإتباع مقارن
للحب في نص الكتاب الأمجدِ1
قالوا: صبأتم نحوه، قلنا لهم:
الحق شمس للبصير المهتدي
ما بيننا نسب نميل به ولا
حسب يقربنا له بتوددِ
أيضاً ولا هو جارنا الأدنى الذي
نمتار نعمته ولم نسترفد
لكنها شمس الظهيرة قد بدت
لذوي البصائرفاهتدى من يهتدي
فالعالمون العاملون المنصفو
ن له أقروا بالفضائل واليد
لكن قليل منهمو في عصرنا
كالشعرة البيضا بجلدٍ أسودِ
والله قد ذم الكثير وقال في
حق القليل مقالة لم تجحدِ
__________
1 يعني قول الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}[آل عمران:31].
ص -76-(52/59)
بـ"سبا" و"ص"1 فاتلها متدبراً
تلقَ الصحيح بها فخذه تهتدِ
فإن اعتراكم في الذي قد قاله
شك وريب واختلاف يبتدي
فزنوا بميزان الشريعة قوله
تجدوه حقاً ظاهراً للمقتدي
ولئن وجدتم فاسقاً أو جافياً
أو جاهلاً في العلم كالمتردد
قد زل يوماً أو هفا لا تنسبوا
هفواته لجناب ذاك المرشدِ
فالآل والأصحاب ماذا ضرهم
من بعدهم تكدير صافي المورد
من بعد ذاك الإجتماع على الهدى
ظهروا ذوي فرق وأهل تبدد
ماذا يضر السحب نبح الكلب أم
ماذا يضر الصحب سب الملحد
ثم الصلاة على النبي محمد
أزكى الورى أصلاً وأطيب محتد
والآل والأصحاب جمعاً كلما
قد ذب عن ذا الدين كل موحد
__________
1 آية سبأ {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}[13]، وآية ص{ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [24].
ص -77-
فصل
قال العراقي: (تمسك ابن عبد الوهاب في تكفير الناس بآيات نزلت في المشركين، فحملها على الموحدين).
الجواب أن يقال: هذا كذب بحت، فإنه لا يكفر -رحمه الله- أهل التوحيد، ولا يحمل الآيات النازلة في المشركين على الموحدين، وإنما يكفر من أشرك بالله في عبادته، واتخذ معبوداً سواه.
مع أن هذا المعترض لم يذكر الآيات التي زعم أن الشيخ رحمه الله تمسك بها في تكفير الناس حتى ننظر هل كان محقاً في ذلك القول أو مبطلاً ضالاً؟
ويقال أيضاً: إن من1 منع تنزيل القرآن، وما دل عليه من الأحكام على الأشخاص والحوادث التي تدخل تحت العموم اللفظي فهو من أضل الخلق وأجهلهم بما
__________
1 سقطت: "من" من ط الرياض.
ص -78-(52/60)
عليه أهل الإسلام وعلماؤهم قرناً بعد قرن، وجيلاً بعد جيل، ومن أعظم الناس تعطيلاً للقرآن، وهجراً له، وعزلاً له عن الاستدلال به في موارد النزاع، وقد قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُول}[النساء: 59]الآية. والرد إلى الله1 هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول رد إلى سنته، وقد قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10] وقد قال تعالى: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغ}[الأنعام:19]، فنصوصه وأحكامه عامة لا خاصة بخصوص السبب، وما المانع من تكفير من فعل كما فعلت اليهود من الصد عن سبيل الله والكفر به، مع معرفته، وهذا العراقي لا يبدي قولةً في اعتراضه وتلبيسه إلا هي أكبر من أختها في الجهالة والضلالة، ولو كان يعرف الكتاب العزيز، وما دل عليه من الأحكام والاعتبار لأحجم عن هذه العبارات التي لا يقولها إلا أفلسُ الخلق من العلم والإيمان.
وأما قوله: (وروى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه في وصف الخوارج: أنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها في المؤمنين، وفي رواية أخرى عن ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أخوف ما أخاف
__________
1 سقطت: "الله" من ط الرياض.
ص -79-(52/61)
على أمتي رجل متأول للقرآن يضعه في غير موضعه"، فهذا وما قبله صادق على ابن عبد الوهاب وأتباعه).
فالجواب أن يقال: هذا الوصف هو المنطبق عليك، وعلى من نحا نحوك من أهل الضلال، حيث زعمت أن لكتاب الله وسنة رسوله ظواهر ظنية لا تعارض اليقينيات فتأول إما إجمالاً ويفوض أمرها إلى الله، وإما تفصيلاً كما هو رأي الكثيرين، فالذي يتأول القرآن، ويضعه في غير موضعه، ويصرفه عن القول الراجح إلى القول المرجوح بالتحكم والهوى -لأن كتاب الله وسنة رسوله عندكم أدلتهما ظنية، لا تعارض نتائج عقول الفلاسفة وورثة المجوس والصائبة وطواغيت اليونان ومن أخذ بأقوالهم من المتكلمين، بل قد صرحت أن العقل يقدم على النقل- فمن قدم معقول هؤلاء على كتاب الله وسنة رسوله فقد خرج من الدين، وفارق جماعة المسلمين.
وأما ابن عبد الوهاب، فهو وأتباعه لا يتأولون القرآن، ولا يضعونه في غير موضعه، بل يعملون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه، ولا يتأولون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، كما تفعلون أنتم في تأويل آيات الصفات وأحاديثها.
وحاصل مقصود هذا العراقي ونقله: تشبيه أهل
ص -80-(52/62)
الإسلام والتوحيد بالخوارج في تكفيرهم من عبد الأنبياء والأولياء والصالحين ودعاهم مع الله -لأن عباد القبور عنده هم أهل التوحيد وأهل الإسلام- من جنس الخوارج الذين يكفرون أهل القبلة، هذا حاصل كلامه، ومضمونه خطابه، وهذا داء قديم في أهل الشرك والتعطيل، من كفرهم بعبادة غير الله، وتعطيل أوصافه، وحقائق أسمائه، قالوا له: أنت مثل الخوارج، يكفرون بالذنوب، ويأخذون بظواهر الآيات.
ومعلوم أن الذنوب تتفاوت وتختلف بحسب منافاتها لأصل الحكمة المقصودة بإيجاد العالم، وخلق الجن والإنس، وبحسب ما يترتب عليها من هضم حقوق الربوبية، وتنقص رتبة الإلهية، وقد كفر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بكثير من جنس الذنوب: كالشرك وعبادة الصالحين، وأخبر أنه أكبر الكبائر، كما في الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله! أي الذنوب أعظم؟ قال: "أن تجعل لله نداً وهو خلقك"، قال قلت: ثم أي؟، قال: "أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك"، قال: قلت: ثم أي؟، قال: "أن تزاني حليلة جارك"، فأنزل الله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} [الفرقان:68] الآية1.
__________
1 أخرجه البخاري في صحيحه –كتاب التفسير- 8/492 وفي الأدب 10/433 وفي الحدود 12/114، وفي التوحيد 13/491، ومسلم في صحيحه –كتاب الإيمان- 1/90-91.
ص -81-(52/63)
فمن أنكر التكفير جملة فهو محجوج بالكتاب والسنة، ومن فرق بين ما فرق الله ورسوله من الذنوب، ودان بحكم الكتاب والسنة، وإجماع الأمة في الفرق بين الذنوب والكفر فقد أنصف، ووافق أهل السنة والجماعة.
ونحن لم نكفر أحداً بذنب دون الشرك الأكبر الذي أجمعت الأمة على كفر فاعله، إذا قامت عليه الحجة، وقد حكى الإجماع على ذلك غير واحد كما حكاه في "الإعلام" لابن حجر الشافعي.
وأما قوله: (ويظهر من أقواله وأفعاله أنه كان يدّعي أن ما أتى به دين جديد).
فالجواب أن نقول: بل الذي يظهر من أفعاله وأقواله خلاف ما يزعمه هؤلاء الضلال، فإنه كان رحمه الله على الدين العتيق الذي كان عليه السلف الصالح والصدر الأول، من الدعوة إلى دين الله، كما قال رحمه الله في رسالته إلى عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف الأحسائي قال:
ص -82-(52/64)
وأما ما ذكرتم عني فإني لم آته بجهالة، بل أقول ولله الحمد والمنة وبه القوة: إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين، ولست ولله الحمد أدعو إلى مذهب صوفي، أو فقيه، أو متكلم، أو إمام من الأئمة الذين أعظمهم مثل: ابن القيم، والذهبي، أو ابن كثير، أو غيرهم، بل أدعو إلى الله وحده لا شريك له، وأدعو إلى1 سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي وصى بها أول أمته وآخرهم، وأرجوا أني لا أرد الحق إذا أتاني، بل أشهد الله وملائكته وجميع خلقه إن أتاني منكم كلمة من الحق لأقبلنها على الرأس والعين، ولأضربن الجدار بكل ما خالفها من أقوال أئمتي حاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يقول إلا الحق اهـ.
فهذا نص كلامه رحمه الله كما ترى لم يقل فيه ولا في غيره من كلامه: إن ما أدعوكم إليه دين جديد، بل كان رحمه الله يجدد ما اندرس من معالم الدين العتيق، ويوطد أساس الملة المحمدية التي انطمست أعلامها، وأقوت رسومها، كما قال الأمير محمد بن إسماعيل الصنعاني رحمه الله في أبيات له، قال فيها:
قفي واسألي عن عالم حل سوحها
به يهتدي من ضل هن منهج الرشد
__________
1 في ط الرياض: "إلى الله" وهو خطأ.
ص -83-
محمد الهادي لسنة أحمد
فيا حبذا الهادي ويا حبذا المهدي
لقد أنكرت كل الطوائف قوله
بلا صدر في الحق منهم ولا ورد
وما كل قول بالقبول مقابل
ولا كل قول واجب الرد والطرد
سوى ما أتى عن ربنا ورسوله
فذلك قول جل يا ذا عن الرَّدِّ
وأما أقاويل الرجال فإنها
تدور على قدر الأدلة في النقدِ
وقد جاءت الأخبار عنه بأنه
يعيد لنا الشرع الشريف بما يبدي
وينشر جهراً ما طوى كل جاهلٍ
ومبتدع منه فوافق ما عندي
ويعمر أركان الشريعة هادماً
مشاهد ضل الناس فيها عن الرشد
أعادوا بها معنى سواع ومثله
يغوث وود بئس ذلك من وُدِّ(52/65)
وقد هتفوا عند الشدائد باسمها
كما يهتف المضطر بالصمد الفرد
ص -84-
وكم عقروا في سوحها من عقيرة
أهلت لغير الله جهراً على عمد
وكم طائف حول القبور مقبلٍ
ومستلم الأركان منهن باليدِ
وقال الشيخ الإمام عالم الأحساء أبو بكر حسين بن غنام رحمه الله تعالى في أبيات له:
لقد رفع المولى به رتبة الهدى
بوقت به يعلو1 الضلال ويرفعُ
سقاه نمير الفهم مولاه فارتوى
وعاد2 بتيار المعارف يقطع
فأحيا به التوحيد بعد اندراسه
وأوهي به من مطلع الشرك مهيع
سما ذورة المجد التي ما ارتقى لها
سواه ولا حاذى فِناها سميدع
وشمر في منها سنة أحمد
يشيد ويحيي ما تعفى ويرفع
يناظر بالآيات والسنة التي
أمرنا إليها في التنازع نرجع
__________
1 في ط المنار والرياض: "يعلى".
2 في الأصل: "وعامّ".
ص -85-
فأضحت به السمحاء يبسم ثغرها
وأمسى محياها يضيء ويلمع
وعاد به نهج الغواية طامساً
وقد كان مسلوكاً به الناس تربع1
وجرت به نجد ذيول افتخارها
وحق لها بالألمعي ترفع
فآثاره فيها سوام سوافر
وأنواره فيها تضيء وتسطع2
وبهذا يظهر لكل ذي عقل سليم، ودين مستقيم، أنه لم يكن يدعو إلى دين جديد كما يزعمه هؤلاء المارقون عن دين الإسلام.
وأما قوله: (ولذلك لم يقبل من دين النبي صلى الله عليه وسلم إلا القرآن، وقبوله إياه إنما كان ظاهراً).
فالجواب أن نقول: وهذا أيضاً من نمط ما قبله من المفتريات، ورعونات الخزعبلات والخرافات.
وأما قوله: (والدليل على ذلك أنه هو وأتباعه كانوا
__________
1 في الأصل تأخير هذا البيت.
2 في ط المنار: "وتستطع"!
ص -86-(52/66)
يأولون القرآن بحسب أهوائهم، لا بحسب ما فسره النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والسلف الصالح، وأئمة التفسير، وما كان يقول بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وأقاويل الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين، ولا بما استنبطه الأئمة من الكتاب والسنة، ولا يأخذ بالإجماع، ولا القياس الصحيح، وكان يدعي الانتساب إلى مذهب الإمام أحمد كذباً وتستراً، وقد رد عليه أضاليله كثير من علماء الحنابلة، وألفوا في ذلك رسائل عديدة، حتى أخوه سليمان بن عبد الوهاب ألف رسالة في الرد عليه كما ذكرناه، وكان يقول لعماله: اجتهدوا بحسب نظركم، واحكموا بما ترونه مناسباً للدين، ولا تلتفتوا لهذه الكتب المتداولة، فإن فيها الحق والباطل، وقتل كثيراً من العلماء والصالحين لأنهم لم يوافقوه على ما ابتدعه).
فالجواب أن نقول: قد أجاب عن هذه الأكاذيب والمفتريات الشيخ عبد الله ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فقال رحمه الله:
[وأما ما يكذب علينا ستراً للحق، وتلبيساً على الخلق بأنا نفسر القرآن برأيتنا، ونأخذ من الحديث ما وافق فهمنا من دون مراجعة شرح، ولا نعول على شيخ، وأنا نضع من رتبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بقولنا: النبي رُمة في قبره، وعصا
ص -87-(52/67)
أحدنا أنفع منه، وليس له شفاعة، وأن زيارته غير مندوبة، وأنه كان لا يعرف معنى لا إله إلا الله حتى أنزل عليه: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ}[محمد: 19]، مع كون الآية مدنية، وأنا لا نعتمد أقواله، ونتلف مؤلفات أهل المذاهب لكون فيها الحق والباطل، وأنا مجسمة، وأنا نكفر الناس على الإطلاق من بعد الستمائة إلا من هو على ما نحن عليه. ومن فروع ذلك أنا لا نقبل بيعة أحد حتى نقرر عليه بأنه كان مشركاً، وأن أبويه ماتا على الإشراك بالله، وأنا ننهى عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ونحرم زيارة القبور المشروعة مطلقاً، وأنا لا نرى حقاً لأهل البيت، وأنا نجبرهم على تزويج غير الكفء لهم، وأنا نجبر بعض الشيوخ على فراق زوجته الشابة لتنكح شاباً إذا ترافعوا إلينا، ولا وجه لذلك، فجميع هذه الخرافات وأشباهها لما استفهمنا عنها من ذكرنا جوابنا عليه في كل مسألة سبحانك هذا بهتان عظيم.
فمن روى عنا شيئاً من ذلك، ونسبه إلينا، فقد كذب علينا وافترى، ومن شاهد حالنا، وحضر مجلسنا، وتحقق ما عندنا، علم قطعاً أن جميع ذلك وضعه علينا وافتراه أعداء الدين وإخوان الشياطين، تنفيراً للناس عن الإذعان لإخلاص التوحيد لله تعالى بالعبادة، وترك أنواع الشرك الذي نص الله على أنه لا يغفره ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء].
ص -88-
فهذا وأشباهه مما تقدم ذكره عن هذا العراقي وأمثاله من الكذب على شيخ الإسلام، وعلم الهداة الأعلام لا يعتمد عليه ويصدقه في ذلك إلا ضال مضلّ.
ص -89-(52/68)
فصل
قال العراقي: (قال العلامة السيد العلوي الحداد: إن المحقق عندنا من أقواله وأفعاله ما يوجب خروجه عن القواعد الإسلامية، لما أنه استحل أموراً مجمعاً على تحريمها معلومة من الدين بالضرورة بلا تأويل سائغ، وهو مع ذلك ينتقص الأنبياء والمرسلين، والأولياء والصالحين، وانتقاصهم عمداً كفر بالإجماع عند الأئمة الأربعة).
والجواب أن يقال: هذا كله كذب وافتراء. وهذا الرجل المسمى بالحداد ليس هو من العلماء المشهورين بالعلم والدين والصلاح، بل كان من الغالين في الأنبياء والمرسلين، والأولياء والصالحين، لأنه زعم أن من أمر بتوحيد الله بالعبادة وإخلاصها لله وحده دون من سواه، فقد تنقص الأنبياء1 والأولياء والصالحين.
وقد كان من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام أن من
__________
1 في الأصل: "بالأنبياء".
ص -90-
صرف لغير الله شيئاً منها كان مشركاً سواء كان ذلك الغير من الأنبياء أو الصالحين، فلو كان هذا عالماً، أو كان يعرف قواعد الإسلام ومبانيه العظام ما فاه بمثل هذه الورطات، وبهرج بهذه الخرافات، بل هذا يدل على جهله وعدم معرفته وعلمه. ومن كان هذا حاله، وهذه أقواله، فلا يعول عليه، ولا يلتفت إليه ولا يعتمد على قوله ونقله إلا أشباه الأنعام السائمة، فلو ذكر عدو الله شيئاً مما نسبه إلى الشيخ مما يوجب خروجه عن القواعد الإسلامية لبينا بطلان قوله، ولكنه عدل إلى هذه المخرقة السامجة.
ص -91-(52/69)
فصل
قال العراقي: (ثم إنه صنف لابن سعود رسالة سماها كشف الشبهات عن خالق الأرض والسموات كفّر فيها جميع المسلمين، وزعم أن الناس كفار منذ ستمائة سنة، وحمل الآيات التي نزلت في الكفار من قريش على أتقياء الأمة، واتخذ ابن سعود ما يقوله وسيلة لاتساع الملك، وانقياد الأعراب له، فصار ابن عبد الوهاب يدعو الناس إلى الدين، ويثبت في قلوبهم أن جميع من هو تحت السماء مشرك بلا مراء، ومن قتل مشركاً فقد وجبت له الجنة.
وكان ابن سعود يمتثل كل ما يأمر به! فإذا أمره بقتل إنسان، أو أخذ ماله سارع إلى ذلك، وكأن ابن عبد الوهاب في قومه كالنبي في أمته لا يتركون شيئاً مما يقوله، ولا يفعلون شيئاً إلا بأمره، ويعظمونه غاية التعظيم، ويبجلونه غاية التبجيل، وما زالت أحياء العرب وقبائلها تطيعه حتى اتسع بذلك ملك ابن سعود وملك أولاده بعده، وحارب الشريف غالباً رحمه الله خمس عشرة سنة حتى عجز عن حربه، ولم يبق أحد إلا صار من حزبه، ودخل مكة بالصلح سنة ألف
ص -92-(52/70)
ومائتين وعشرين، واستمر فيها سبع سنين، إلى أن جهزت الدولة العلية عساكرها المنصورة عليه، ووجهت الأمر إلى وزيرها المفخم "محمد علي باشا" صاحب مصر، فأتاه بجيوش باسلة، وطهر الأرض منه ومن أتباعه، ثم جهز ابنه "إبراهيم باشا" فوصل بجيوشه إلى الدرعية سنة ألف ومائتين وثلاث وثلاثين، فأفنى وأباد من بقي منهم).
والجواب أن نقول: نعم صنف الشيخ رحمه الله تعالى كشف الشبهات، وذكر الأدلة من الكتاب والسنة على بطلان ما أورده أعداء الله ورسوله من الشبهات، فأدحض حججهم، وبين تهافتهم، وكان كتاباً عظيم النفع على صغر حجمه، جليل القدر انقمع به أعداء الله وانتفع به أولياء الله، فصار علما يقتدي به الموحدون، وسلسبيلاً يرده المهتدون، ومن كوثره يشربون، وبه على أعداء الله يصولون، فلله ما أنفعه من كتاب، وما أوضح حججه من خطاب، لكن لمن كان ذا قلب سليم وعقل راجح مستقيم.
وأما قوله: (عن خالق الأرض والسموات).
فأقول: لم أسمع بهذه الكلمة إلا عن هذا العراقي.
وأما قوله: (كفر فيها جميع المسلمين).
ص -93-(52/71)
فأقول: حاشا وكلا ما كفّر فيها مسلماً، وإنما كفر من أشرك بالله. وعدل به أحداً سواه.
وأما قوله: (وزعم أن الناس كفار منذ ستمائة سنة).
فأقول: هذا كذب لم يثبت عنه هذا اللفظ في هذه الرسالة ولا في غيرها، بل قد أجاب عن هذه المسألة وغيرها في رسالته لعدو الله عبد الله بن سحيم حيث قال: فالمسائل التي شنع بها، منها ما هو من البهتان الظاهر، وهي قوله: إني مبطل كتب المذاهب، وقوله: إني أقول إن الناس من ستمائة سنة ليسوا على شيء، وقوله: إني أقول إن اختلاف العلماء نقمة، وقوله: إني أكفر من توسل بالصالحين، وقوله: إني أكفر البوصيري لقوله: "يا أكرم الخلق" الخ، وقوله: إني أقول لو أقدر على هدم حجرة الرسول لهدمتها، ولو أقدر على الكعبة لأخذت ميزابها وجعلت لها ميزاباً من خشب، وقوله: إني أنكر زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله: إني أنكر زيارة قبر الوالدين وغيرهم، وإني أكفر من يحلف بغير الله، فهذه اثنتا عشرة1 مسألة، جوابي فيها أن أقول: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ}، ولكن قبله من بهت محمداً صلى الله عليه وسلم أنه يسب عيسى ابن مريم، ويسب الصالحين، تشابهت قلوبهم، وبهتوه بأنه يزعم أن الملائكة
__________
1 في الأصل: "عشر".
ص -94-
وعيسى وعزيراً في النار، فأنزل الله في ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ}[الانبياء:101]
وأما قوله: (وحمل الآيات التي نزلت في الكفار من قريش على أتقياء الأمة). فقد تقدم الجواب على هذه الدعوى الباطلة فيما تقدم.
وأما قوله: (وبث في قلوبهم أن جميع من هو تحت السماء مشرك بلا مراء، ومن قتل مشركاً فقد وجبت له الجنة).
فأقول: هذا كذب وافتراء كما تقدم بيانه.
ص -95-(52/72)
فصل
ثم ذكر العراقي محاربة آل سعود الشريف غالباً، وعجزه عن مناوأتهم، ودخولهم مكة بالصلح إلى قوله: (ثم جهزت الدولة العلية) إلى آخره.
فأقول: قد ذكرنا فيما تقدم1 ما أوقع الله بمن عادى المسلمين من العقوبات، وأن آخر أمرهم صار إلى تباب كما ذكره شيخنا رحمه الله في المقامات، ثم قال شيخنا رحمه الله تعالى:
"وأما الدولة التركية المصرية فابتلى الله بهم جميع المسلمين لما ردوا حاج الشامي عن الحج بسبب أمور كانوا يفعلونها في المشاعر، فطلبوا منهم أن يتركوها، وأن يقيموا الصلاة جماعة، فما حصل منهم أن ذلك، فردهم سعود رحمه الله تديناً، فغضبت تلك الدولة التركية، وجرى عندهم أمور يطول عدها، ولا فائدة في ذكرها، فأمروا محمد علي صحاب مصر أن يسير إليهم بعسكره، وبكل ما يقدر عليه من القوة والكيد، فبلغ سعود ذلك، فأمر ابنه عبد الله أن يسير
__________
1 ص (47-54) ها هنا.
ص -96-(52/73)
لقتالهم، وأمره أن ينزل دون المدينة، فاجتمعت عساكر الحجاز على عثمان بن عبد الرحمن المضايفي وأهل بيشة1 وقحطان وجميع العربان، فنزلوا بالجديدة، فاختار عبد الله بن سعود القدوم عليهم، والاجتماع بهم، وذلك أن العسكر المصري في ينبع، فاجتمع المسلمون في بلد حرب، وحفروا في مضيق الوادي خندقاً، وعبئوا الجموع، وصار في الخندق من المسلمين أهل نجد، وصار عثمان ومن معه من أهل الحجاز في الجبل فوق الخندق، فحين نزل العسكر ارتدت خيولهم، وعلموا أنه لا طريق لها إلى المسلمين، فأخذوا يضربون بالقبوس فدفع الله شر تلك القبوس الهائلة عن المسلمين إن رفعوها مرّت ولا ضرت، وإن خفضوها اندفنت في التراب، فهذه عبرة، وذلك أن أعظم ما معهم من الكيد أبطله الله في الحال، ثم مشوا على عثمان ومن معه في الجبل، فتركهم حتى قربوا منه، فرموهم بما احتسبوهم به وما أعدوه لهم حين أقبلوا عليهم فما أخطأ لهم بندق، فقتلوا العسكر قتلاً ذريعاً، وهذه أيضاً من العبر، لأن العسكر الذي جاءهم أكثر منهم بأضعاف، ومع كل واحد من الفرود والمزندات، فما أصابوا رجلاً من المسلمين، وصار القتل فيهم، وهذه أيضاً عيرة عظيمة، هذا كله وأنا أشاهده، ثم مالوا إلى الجانب الأيمن
__________
1 في ط المنار والرياض: "بيته".
ص -97-(52/74)
من الجبال بجميع عسكرهم من الرجال، وأما الخيل فليس لها فيه مجال، فانهزم كل من على الجبل من أهل بيشة وقحطان وسائر العربان إلا ما كان من حرب فلم يحضروا، واشتدوا على المسلمين لما صاروا في أعلى الجبل، فصاروا يرامون المسلمين من فوقهم، فحمي الوطيس آخر ذلك اليوم، ثم من الغد، فاستنصر أهل الإسلام ربهم الناصر لمن ينصره، فلما قرب الزوال من اليوم الثاني نظرت فإذا برجلين قد أتيا فصعدا طرف ذلك الجبل، فما سمعنا لهم بندقاً ثارت، إلا أن الله كسر ذلك البيرق ونحن ننظر، فتتابعت الهزيمة على جميع العسكر فولوا مدبرين، وجنبوا الخيل والمطرح، وقصدوا طريقهم الذي جاءوا معه، فتبعهم المسلمون يقتلون ويسلبون، هذا ونحن ننظر إلى تلك الخيول قد حارت وخارت، وظهر عليهم عسكر من الفرسان من جانب الخندق ومعهم بعض الرجال فولت تلك الخيول مدبرة، فتبعتهم خيول المسلمين في أثرهم، وليس معهم زاد ولا مزاد، فانظر إلى هذا النصر العظيم من الإله الحق رب العباد، لأن الله هزم تلك العساكر العظيمة برجلين، فهذه ثلاث عبر لكن أين من يعتبر، فأخذوا بعد ذلك مدة من السنين.
ثم بعد ذلك سار "طوسون" كبير ذلك العسكر الذي هزمه الله فقصد المدينة فوراً، وأمر سعود على عبد الله ومن معه من
ص -98-(52/75)
المسلمين أن ينهضوا لقتالهم، فوجدوهم قد هجموا على المدينة، ودخلوها، وأخرجوا من كان بها من أهل نجد وعسير، فحج المسلمون تلك السنة، فأقبل ذلك العسكر ونزل رابغ، ونزل المسلمون وادي فاطمة، فخان لهم شريف مكة، وضمهم إليه، وجاءوا مع الخبيث على غفلة من المسلمين، فعلم المسلمون أنه لا مقام لهم مع ما جرى من الخيانة، فرجعوا إلى أوطانهم، فخاف عثمان وهو بالطائف أن يكون الحرب منهم ومن الشريف عليه لما يعلم من شدة عداوتهم فخرج بأهله وترك لهم الطائف أيضاً مخافة أن يجتمعوا على حربه، وليس معه إلا القليل من عشيرته، ولا يأمن أهل الطائف أيضاً، فنزل المسلمون بتربة بعد ذلك نحوا من شهر، ثم رجعوا حين أكلوا ما معهم من الزاد، فجرى بعد ذلك وقعات بينهم وبين المسلمين، ولا فائدة في الإطالة بذكرها، والمقصود أن استيلاءهم على المدينة ومكة والطائف كان بأسباب قدّرها الملك الغلاب.
فيريك عزته ويبدي لطفه
والعبد في الغفلات عن ذا الشان
وفيها من العبر أن الله أبطل كيد العدو، وحمى الحوزة، وعافى المسلمين من شرهم، وصار المسلمون يغزونهم فيما قرب من المدينة ومكة في نحو من ثلاث سنين أو أربع
ص -99-
فتوفى الله سعود رحمه الله وهم غزاة على من كان معيناً لهذا العسكر من البوادي، فأخذوا وغنموا، فبقي لهم من الولاية ما كانوا عليه أولاً، إلا ما كان من مكة والطائف وبعض الحجاز، وبعد وفاة سعود رحمه الله تجهزوا للجهاد على اختلاف كان من أولئك الأولاد، فصار المسلمون جانبين جانباً مع عبد الله وجانباً مع فيصل أخيه، فنزل الحناكية عبد الله، ونزل فيصل تربة باختيار وأمر من أخيه له، فوافق أن محمد علي حج تلك السنة فواجه فيصل هناك فطلب منه أن يصالحه على الحرمين، فأبى فيصل، وأغلظ له الجواب، وفيما قال:
لا أصلح الله منا من يصالحكم
حتى يصالح ذئب المعز راعيها(52/76)
فأخذت محمد علي العزة والأنفة فصار إلى بسل، والظاهر أنه كان حريصاً على الصلح فاستعجل فيصل بمن معه فساروا إليه في بسل، وقد استعد لحربهم خوفاً مما جرى منهم، فأقبلوا وهم في منازلهم فصارت عليهم العساكر والخيول فولوا مدبرين، لكن الله أعز المسلمين فحبس عنهم تلك الدول والخيول، حتى وقفوا على التلول، فسلم أكثر المسلمين من شرهم، واستشهد منهم القليل، ولا بد في القتال أن ينال المسلم أو يُنال منه، قال الله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}[آل عمران:140] الآيات، وقال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّه}
ص -100-(52/77)
الضياء الشارق في رد شبهات الماذق المارق - سليمان بن سحمان (2)
إلى قوله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}[آل عمران: 146] الآيات.
وقد قال هرقل لأبي سفيان فما الحرب بينكم وبينه؟ قال: سجال، ينال منا، وننال منه. فهذه سنة الله في العباد زيادة للمؤمنين في الثواب، وتغليظاً على الكافرين في العقاب.
وأما عبد الله فرجع بمن معه فلم يلق كيداً دون المدينة. فتفكر في حماية الله لهذه الطائفة مع كثرة من عاداهم وناوأهم، ومع كثرة من أعان عليهم ممن ارتاب في هذا الدين وكرهه، وقبل الباطل وأحبه، فما أكثر هؤلاء لكن الله قهرهم بالإسلام، ففي هذا المقام عبرة، وهو أن الله أعزهم وحفظهم من شر من عاداهم، فلله الحمد والمنة.
وبعد ذلك رجع محمد علي إلى مصر، وبعث الشريف غالب إلى إسطنبول، وأمر ابنه طوسون أن ينزل الحناكية دون المدينة، وأمر العطاس أن يسعى بالصلح بينهم وبين عبد الله بن سعود ويركب له من مكة، وأراد الله أن أهل الرس يخافون، لأنهم صاروا في طرف العسكر، فاستلحقوا لهم جماعة1 من المغاربة، وطوسون على الحناكية، وصار في أولاد سعود نوع من العجلة في الأمور فأمروا على الرعايا بالمسير
__________
1 في الأصل: "ربيع"وهي كلمة عامية.
ص -101-(53/1)
إلى الرس، فنزلوا الرويضة، فتحصن أهل الرس بمن عندهم، فأوجبت تلك العجلى أن استفزعوا أهل الرس أهل الحناكية، فلما جاء الخبر بإقبالهم نصرة لأهل الرس ارتحل المسلمون يلتمسون من أعانهم من حرب ما بينهم وبين المدينة، فصادفوا خزنة العسكر فقتلوهم، وأخذوا ما معهم، فهذا مما يسره الله من النصر من غير قصد ولا دراية، فرجع المسلمون إلى عنيزة، والعسكر نزلوا الشبيبية قريباً منهم، ويسر الله للمسلمين سبباً آخر، وذلك من توفيق الله ونصره، وجهزوا جيشاً وخيلاً فأغاروا على جانب العسكر فخرجوا عليهم، فهزمهم الله، وقتل المسلمون فيهم قتلاً كثيراً، فألقى الله الرعب في قلوبهم على كثرة من أعانهم، وقوة أسبابهم، وذلك من نصر الله لهذا الدين، فرجعوا إلى الرس خوفاً من هجوم المسلمين عليهم، فتبعهم المسلمون، ونزلوا الحجناوي، فقدم العطاس على الأمر الذي عمده إليه محمد علي فوجد الحال قد تغير [فقصدهم] ابتداء، فمنعوه مما جاء له، ثم إنهم سعوا في الصلح والمسلمون على الحجناوي، وكل يوم يجري بين الخيل طراد فمل أكثر المسلمين من الإقامة، فلم يبق منهم إلا شرذمة قليلة، فجاء منهم أناس يطلبون الصلح، فأصلحهم عبد الله رحمه الله تعالى، وطلبوا منه أن يبعث معهم رجلاً من أهل بيته خوفاً أن يعرض لهم أحد من المسلمين في طريقهم،
ص -102-(53/2)
فمشى معهم محمد بن حسن بن مشاري إلى المدينة.
والمقصود أن الله سبحانه أذلهم، وألقى الرعب في قلوبهم، وحفظ المسلمين من شرهم، بل غنمهم مما بأيديهم من حيث بذلهم المال بشرائهم "الهجن"، فاشتروا من المسلمين "الذلول" بضعفي ثمنها- إلى أن قال رحمه الله:
فلو ساعد القدر وتم هذا الصلح لكان الحال غير الحال، لكن ما أراده الله تعالى وقع على كل حال، لكن جرى من عبد الله بن سعود رحمه الله تعالى ما أوجب نقض ذلك الصلح، وهو أنه بعث عبد الله بن كثير لغامد وزهران بخطوط مضمونها أن يكونوا في طرفه، وفي أمره، فبعثوا بها إلى محمد علي فلم يرض بذلك، وقال: إنهم من جملة من وقع عليهم الصلح، فهذا هو سبب النقض، وأنشأ عسكراً مع إبراهيم باشا، ونزل الحناكية، ثم ذكر وقعة الماوية، ثم قدومه إلى الدرعية، وأخذ في حصارها قدر ثمانية أشهر، وهو يضربهم بالقنابر والقبوس، ثم انتهى الأمر إلى الصلح فأعطاهم العهد والميثاق على ما في البلد من رجل أو مال حتى الثمرة التي على النخل، لكن لم يف لهم بما صالحهم عليه، وغدر بأناس منهم "سليمان بن عبد الله" وبعد هذا تشتت أهل البلد عنها، وقطع النخيل،
ص -103-(53/3)
وهدم المساكن إلا القليل، وبعث بعبد الله بن سعود لمصر، وأتبعه عياله وإخوانه وكبار آل الشيخ، وبعد ذلك حج، فسلط الله على عسكره الفناء، ولم يصل إلى مصر إلا القليل، فلما وصل مصر حل بهم عقوبات أهل الإسلام، فمشى على السودان ولا أظفره الله فرجع مريضاً، ثم إن محمد علي بعث ابنه إسماعيل، وتمكن منهم بصلح، فلما رأوا منه الخيانة بأخذ عبيد وجوار، أحرقوه بالنار في بيته ومن معه من العسكر، ثم بعد ذلك بعث لهم دفتردار ولا حصل منهم شيئاً.
فأما عسكر الحجاز التي وصلت مصر قبل إبراهيم باشا حسين بك1 الذي صار في مكة وعابدين بك2 الذي صار في اليمن فسيرهم محمد علي قبل هذا الحرب إلى "مورة" "وجريد" لما خرجوا على السلطان، فاستمده السلطان على حربهم، فأمده بهذين العسكرين، فهلكوا عن آخرهم، ولم يفلت منهم عين تطرف، وذلك أن "مورة" "وجريد" في الأصل ولاية للسلطان، فخرجوا عليه، فهلك من عسكر السلطان والعساكر المصرية في حربهم ما لا يحصى، وهذه عقوبة أجراها الله عليهم بسبب ما جرى منهم على أهل الإسلام، حتى "العرناووط" في جبلهم عصوا على السلطان قبل حادثة "مورة" "وجريد".
__________
1 في الأصل: "بيه".
2 في الأصل: "بيه".
ص -104-(53/4)
وبعد هذا الأمر اشتد الأمر على السلطان، وبعث يستنصر محمد علي، فبعث عسكراً كبيرهم "قارئ علي" فهلكوا في البحر قبل أن يصلوا، ثم إن السلطان بعث "نجيب أفندي" لمحمد علي يطلب منه أن يسير بنفسه، فبعث إليه يعتذر بالمرض، وأن إبراهيم باشا يقوم مقامه، وقبل ذلك بعث "حسين بك"1 الذي سبا أهل نجد، وقتل منهم البعض في ثرمدا، وفزع للسلطان قبل مسير إبراهيم باشا بعسكره الذي كان معه في نجد، وتبعه إبراهيم باشا يمده، ونزلوا "مورة" لحرب أهلها، فأذلهم الله لهم، فقتلوا فيهم قتلاً عظيماً.
فأما عسكر "حسين بك"2 فلم يقدم مصر منه إلا صبي.
وأما إبراهيم باشا فاشترى نفسه منهم بالأموال، فانظر إلى هذه العقوبات العاجلة التي أوقعها الله على الآمر والمأمور، وأكثر الناس لا يدري بهذه الأمور.
وهذا الذي ذكرناه فيه عبرة عظيمة، وشاهد لأهل هذا الدين أن الله لما سلط عليهم عدوهم، ونال منهم ما نال، صارت العاقبة السلامة والعافية لمن ثبت على دينه، واستقام على دين الإسلام.
__________
1 في الأصل: "بيه".
2 في الأصل: "بيه".
ص -105-(53/5)
ثم إن الله تعالى أوقع بعدوهم ما ذكرنا وأعظم، لكن ذكرنا الواقع على سبيل الاختصار لقصد الاعتبار {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ}[الحشر:2].
ثم إن الله أجرى على من أعانهم من أهل نجد ممن شك منهم في هذا الدين، وأكثر الطعن على المسلمين، أن الله تعالى أفناهم، وهذه أيضاً من العبر لم يبق أحد ممن أظهر شره وإنكاره وعداوته للمسلمين إلا وعوجل1 بالهلاك والذهاب"اهـ.
ثم ذكر رحمه الله ظهور خالد وإسماعيل وذلك بعد أن رد الله الكرة للمسلمين، وجمعهم الله على تركي بن عبد الله، ثم على ابنه فيصل، وذكر رحمه الله ما جرى من تسلط العساكر المصرية على أهل هذه الدعوة المحمدية، وما جرى من الملاحم العظيمة مما يطول عده، وتمكنهم من فيصل، وأخذهم له، وإرساله لمصر، ثم صار في هذه العساكر من الذهاب والعذاب والفساد لما أوقع الله الحرب بين السلطان ومحمد علي، وذلك من العقوبات، ثم رد الله الكرة لأهل نجد وجمعهم الله بالإمام فيصل فرجعوا كما كانوا أولاً على ما كانوا عليه قبل حرب هؤلاء الدول.
والمقصود بما ذكرنا الاعتبار بأن الله حفظ هذا
__________
1 في ط المنار وط الرياض: "إلا وهو جل".
ص -106-(53/6)
الدين ومن تمسك به، وأيدهم بالنصر على ضعفهم وقلتهم، وأوقع بأسه بهذه الدولة على قوتهم وكثرتهم، وأسباب كيدهم، ثم إن الله تعالى أهلك تلك الدول بما أجرى عليهم من حرب النصارى في بلاد الروم، فكل دولة مشت على نجد والحجاز لم يبق منهم اليوم عين تطرف، وكانوا لا يحصي عددهم إلا الله، فهلكوا في حرب النصارى، فصارت العاقبة العافية والظهور لمن جاهدهم في الله من الموحدين، فجمع الله لهم بعد تلك الحوادث العظيمة من النعم والعز والنصر ما لا يخطر بالبال، ولا يدور في الخيال.
ومن عجيب ما اتفق لأهل الدعوة أن محمد بن سعود عفا الله عنه لما وفقه الله لقبول هذا الدين ابتدأ بعد تخلف الأسباب، وعدم الناصر شمر في نصرته ولم يبال بمن خالفه من قريب أو بعيد، حتى إن بعض أناس ممن له قرابة به عذله عن هذا المقام الذي شمر إليه، فلم يلتفت إلى عذل عاذل، ولا لوم لائم، ولا رأي مرتاب، بل جد في نصرة هذا الدين، فملكه الله تعالى في حياته كل من استولى عليه من القرى، ثم بعد وفاته صار الأمر في ذريته يسوسون الناس بهذا الدين ويجاهدون فيه كما جاهدوا في الابتداء، فزادت دولتهم وعظمت صولتهم على الناس بهذا الدين الذي لا شك فيه ولا التباس، فصار
ص -107-(53/7)
الأمر في ذريته لا ينازعهم فيه منازع، ولا يدافعهم عنه مدافع، وأعطاهم الله القبول والمهابة، وجمع الله عليهم من أهل نجد وغيرهم ممن لا يمكن اجتماعهم على إمام واحد إلا بهذا الدين، وظهرت آثار الإسلام في كثير من الأقاليم النجدية وغيرها مما تقدم ذكره، وأصلح الله بهم ما أفسدت تلك الدول التي حاربتهم، ودافعتهم عن هذا الدين ليطفئوه، فأبى الله ذلك، وجعل لهم العز والظهور- انتهى ما ذكره الشيخ.
والمقصود أن هذا العراقي ذكر أن الدولة المصرية أفنت المسلمين وأبادتهم، ولم يبق منهم أحد، وقد أبقى الله – وله الحمد والمنة- من آل سعود من أقام هذا الدين، وجاهد فيه، وأحيا ما اندرس من معالمه، بعد تلك الدول، ونسأل الله أن يديم ذلك، وأن يجعلهم أئمة هدى، وأن يوفقهم لما وفق له الخلفاء الراشدين الذين لهم التقدم في نصرة هذا الدين، والحمد لله رب العالمين.
ص -108-
فصل
قال العراقي: (ومن قبائح ابن عبد الوهاب الشنيعة أنه منع الناس من زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم فبعد منعه خرج أناس من الأحساء وزاروه صلى الله عليه وسلم، فلما رجعوا مروا على ابن عبد الوهاب في الدرعية فأمر بحلق لحاهم، وأركبهم مقلوبين إلى الأحساء).
والجواب: أن هذا كذب وافتراء، فإن الشيخ قال في جواب اثنتي عشرة مسألة منها إنكاره زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم ما نصه:
فهذه اثنتا عشرة مسألة جوابي فيها أن أقول {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ}،وقد تقدم ذكرها.
وأما كونه حلق لحى أناس من أهل الأحساء فهو من تصرف هذا العراقي، فإنه لم يذكرها إمام ضلالتهم "أحمد بن زيني دحلان" في مفترياته، وهم إنما يمشون على ما اقترحه لهم وافتراه {فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[المؤمنون: 41].
ص -109-(53/8)
وأما قوله: (قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن هؤلاء الخوارج في أحاديث كثيرة فكانت من أعلام نبوته عليه الصلاة والسلام، لأن فيها إخباراً بالغيب، فمنها قوله عليه الصلاة والسلام "الفتنة من ههنا" وأشار إلى المشرق. وقوله صلى الله عليه وسلم: "يخرج أناس من قبل المشرق يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، لا يعودون فيه حتى يعود السهم إلى فوقه -يعني موضع الوتر- سماهم التحليق"، وفي رواية زيادة على ذلك "هم شر الخليقة، طوبى لمن قتلهم أو قتلوه، يدعون إلى كتاب الله وليسوا منه في شيء،"، وقوله صلى الله عليه وسلم:" اللهم بارك لنا في شامنا اللهم بارك لنا في يمننا" قالوا: يا رسول الله وفي نجدنا؟ قال: "هناك الزلازل والفتن، وبها يطلع قرن الشيطان". وقوله صلى الله عليه وسلم: "يخرج ناس من المشرق يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، كلما قطع قرن نشأ قرن، حتى يكون آخرهم مع المسيح الدجال، سيماهم التحليق"، وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "سيماهم التحليق" تنصيص عن هؤلاء القوم الخارجين من المشرق التابعين لمحمد بن عبد الوهاب فيما ابتدعه).
فالجواب أن يقال: لقد –والله- أمكن الرامي من سواء الثغرة، وعلى نفسها تجني براقش. فإن قوله صلى الله عليه وسلم:
ص -110-(53/9)
"الفتنة ههنا الفتنة ههنا" وأشار إلى المشرق مراده مشرق المدينة، وهو العراق كما يأتي ذلك في الأحاديث، وفي كلام أهل العلم.
فأما قوله: (فمنها قوله صلى الله عليه وسلم: "الفتنة من ههنا الفتنة من ههنا" وأشار إلى المشرق).
أقول: روى البخاري في كتاب الفتن من حديث ابن عمر ولفظه هكذا: عن سالم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قام إلى جنب المنبر فقال: "الفتنة ههنا الفتنة ههنا من حيث يطلع قرن الشيطان –أو قال- قرن الشمس" وفي رواية عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مستقبل المشرق يقول: "ألا إن الفتنة ها هنا من حيث يطلع قرن الشيطان"، وفي رواية عنه قال ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا" قالوا: وفي نجدنا، قال: "اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا". قالوا: وفي نجدنا. فأظنه قال في الثالثة: "هناك الزلازل والفتن، وبها يطلع قرن الشيطان".
ولمسلم من رواية عكرمة بن عمار عن سالم سمعت ابن عمر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشير بيده نحو
ص -111-
المشرق ويقول: "ها إن الفتنة ها هنا -ثلاثاً- حيث يطلع قرن الشيطان".
وله من طريق حنظلة عن سالم مثله قال: "إن الفتنة هاهنا. ثلاثاً".
وله من طريق فضيل بن غزوان سمعت سالم بن عبد الله بن عمر يقول: "يا أهل العراق ما أسألكم عن الصغيرة، وأركبكم للكبيرة، سمعت أبي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الفتنة تجيء من ههنا، وأومى بيده نحو المشرق، من حيث يطلع قرنا الشيطان"1 كذا فيه بالتثنية.(53/10)
__________
1 أخرجه البخاري في صحيحه –كتاب الاستسقاء –باب ما قيل في الزلازل والآيات 2/521 من طريق حسين بن الحسن قال: حدثنا ابن عون عن نافع عن ابن عمر قال: "اللهم بارك لنا في شامنا، وفي يمننا". قال قالوا: وفي نجدنا. قال: "هناك الزلازل والفتن، وبها يطلع قرن الشيطان".
قال الحافظ ابن حجر: هكذا وقع في هذه الروايات التي اتصلت لنا بصورة الموقوف عن ابن عمر ... قال القابسي: سقط ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من النسخة، ولا بد منه، لأن مثله لا يقال بالرأي. انتهى.
قال الحافظ: ورواه أزهر السمان عن ابن عون مصرحاً فيه بذكر النبي صلى الله عليه وسلم، كما سيأتي في كتاب الفتن اهـ. كلام الحافظ.
قال البخاري رحمه الله في كتاب الفتن من صحيحه: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الفتنة من قبل المشرق"، ثم ساق بسنده عن معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قام إلى جنب المنبر فقال: =
ص -112-(53/11)
...................................................................................................
__________
= "الفتنة ها هنا، الفتنة ها هنا، من حيث يطلع قرن الشيطان". أو قال: "قرن الشمس".
ثم ساق بسنده عن ليث عن نافع عن ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مستقبل المشرق يقول: "ألا إن الفتنة ها هنا، من حيث يطلع قرن الشيطان".
ثم ساق بسنده أيضاً عن أزهر بن سعد عن ابن عون عن نافع عن ابن عمر قال: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا" قالوا: يا رسول الله: وفي نجدنا. قال: اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا. قالوا: يا رسول الله وفي نجدنا فأظنه قال في الثالثة: "هناك الزلازل والفتن، وبها يطلع قرن الشيطان".
وأخرج البخاري أيضاً في كتاب فرض الخمس باب ما جاء في بيوت أخراج النبي صلى الله عليه وسلم من صحيحه 6/210، وفي كتاب بدء الخلق باب صفة إبليس وجنوده 6/336، وفي كتاب المناقب 6/540، وفي كتاب الطلاق، باب الإشارة في الطلاق والأمور 9/436.
وأخرج الحديث مسلم في صحيحه كتاب الفتن وأشراط الساعة 4/2228، 2229 من طرق عن ابن عمر. منها: عن يونس عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال –وهو مستقبل المشرق-: "ها إن الفتنة ها هنا. ها إن الفتنة ها هنا. ها إن الفتنة ها هنا. من حيث يطلع قرن الشيطان".
وأخرج من طريق وكيع عن عكرمة بن عمار عن سالم عن أبيه عن ابن عمر قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيت عائشة فقال: "رأس الكفر من ها هنا، من حيث يطلع قرن الشيطان" يعني المشرق.
وأخرجه من طريق ابن فضيل عن أبيه. قال: سمعت سالم بن عبد الله بن عمر يقول: يا أهل العراق ما أسألكم عن الصغير، وأركبكم للكبير، سمعت أبي عبد الله بن عمر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم(53/12)
يقول: "إن الفتنة تجيء من ها هنا" وأومأ بيده نحو المشرق. "من حيث يطلع قرنا الشيطان" وأنتم يضرب بعضكم رقاب بعض... الخ.
ص -113-
فتبين من هذا الحديث الصحيح أن المراد بالمشرق العراق، ولا بدع فهو منبع كل فساد، ومنشأ كل إلحاد.
قال الخطابي: نجد من جهة المشرق، ومن كان بالمدينة كان نجده بادية العراق ونواحيها، فهي مشرق أهل المدينة، وأصل نجد ما ارتفع من الأرض، وهو خلاف الغور، فإنه ما انخفض منها.
وقال الحافظ في الفتح: وقال غيره "كان أهل المشرق يومئذ أهل كفر، فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الفتنة تكون من تلك الناحية، فكان كما أخبر، وأول الفتن كان من قبل المشرق، فكان ذلك سبباً للفرقة بين المسلمين، وذلك مما يحبه الشيطان ويفرح به، وكذلك البدع نشأت من تلك الجهة" انتهى.
وقال القسطلاني: إنما أشار عليه الصلاة والسلام إلى المشرق لأن أهله يومئذ أهل كفر، فأخبر أن الفتنة تكون من تلك الناحية، وكذا وقعت، فكانت وقعة الجمل، ووقعة صفين، ثم ظهور الخوارج في أرض نجد والعراق وما وراءها من المشرق، وكان أصل ذلك وسببه قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه، وهذا من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم. انتهى.
ص -114-
فتبين مما ذكره الشراح أن المراد من قوله: "من قبل المشرق" أنه العراق ونواحيه، لأن به كانت وقعة الجمل، ووقعة صفين، وهي لم تكن إلا في ناحية العراق، وخروج الخوارج إنما كان من البصرة والكوفة، فأين هذه الأماكن من اليمامة لو كانوا يعلمون، ولكن الأمر كما قيل:
رمتني بدائها وانسلت(53/13)
وقال الداوودي: إن نجداً من ناحية العراق. ذكر هذا الحافظ ابن حجر، ويشهد له ما في مسلم عن ابن غزوان سمعت سالم بن عبد الله سمعت ابن عمر يقول: يا أهل العراق ما أسألكم عن الصغيرة، وأركبكم للكبيرة، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الفتنة تجيء من ههنا"، وأومى بيده إلى المشرق، فظهر أن هذا الحديث خاص لأهل العراق، لأن النبي صلى الله عليه وسلم فسر المراد بالإشارة الحسية، وقد جاء صريحاً في الكبير للطبراني النص على أنها العراق، وقول ابن عمر، وأهل اللغة وشهادة الحال كل هذا يعين المراد، ومن المعلوم بالضرورة أن وقعة الجمل وصفقين لم تكن بأرض اليمامة، ولا كان خروج الخوارج على علي رضي الله عنه إلا بحروراء1 من جهة العراق ونواحيها.
__________
1 في ط الرياض:"بجروراء".
ص -115-
وأما قوله: (في الحديث الآخر يخرج ناس من قبل المشرق يقرؤون القرآن) الخ.
فأقول: الحديث أخرجه البخاري في كتاب التوحيد عن معبد بن سيرين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يخرج ناس من قبل المشرق، ويقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية لا يعودون فيه حتى يعود السهم إلى فوقه، قيل ما سيماهم؟ قال: "التحليق -أو قال- التسبية"1.
وقد وقع مصداق ما أخبر به صلى الله عليه وسلم من خروج هؤلاء المارقين، على هذه الصفة التي أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان خروجهم من جهة العراق كما ذكره الشراح.
قال الحافظ في الفتح في آخر كتاب التوحيد تحت قوله صلى الله عليه وسلم: "يخرج ناس من قبل المشرق" : تقدم في كتاب الفتن أنهم الخوارج، وبيان مبدأ أمرهم، وما ورد فيهم، وكان ابتداء خروجهم في العراق، وهي من جهة المشرق بالنسبة إلى مكة المشرفة انتهى.(53/14)
__________
1 تقدم الكلام على أحاديث الخوارج في الرسالة الأولى في هذه السلسلة ص47.
ص -116-
وأخرج البخاري عن بشير بن عمرو قال: قلت لسهل بن حنيف هل سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الخوارج شيئاً؟ قال: سمعته يقول وأهوى بيده قبل العراق: "يخرج منه قوم يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية".
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم بارك لنا في شامنا وفي يمننا" الحديث.
فالجواب أن يقال: وصف أهل اليمامة بهذا كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يصف أهل نجد وأهل اليمامة بهذا، ولا دخل في وصفه من يؤمن بالله ورسوله منهم ولا من غيرهم، بل الموصوف بإجماع المسلمين هم الحرورية الخارجون على علي الذين قاتلهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه من أهل الكوفة والبصرة وما يليها من بني يشكر ومن طي وتميم وغيرهم من قبائل العرب، ودارهم ومسكنهم بالعراق، ولا يختلف في هذا، ودولتهم وشوكتهم كانت هناك دون النهر، ولذلك نسبوا إليه وقيل: أهل النهروان، وحروراء بلدة هناك نسبوا إليها، فقيل: الحرورية.
وبعض ألفاظ الحديث في بعض الطرق دال على تلك الخصوصية كما وقع في رواية البخاري عن أبي سعيد
ص -117-(53/15)
"يخرجون على حين فرقة من الناس" قال أبو سعيد شهدت لسمعته من النبي صلى الله عليه وسلم. وأشهد أن علياً قتلهم وأنا معه حين جيء بالرجل على النعت الذي نعته النبي صلى الله عليه وسلم. وفي رواية لمسلم عن أبي سعيد "تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين يقتلها أولى الطائفتين بالحق".
وكذلك الحديث الذي أورده العراقي (الزهاوي)1 من قوله صلى الله عليه وسلم: "يخرج ناس من المشرق يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، كلما قطع قرن نشأ قرن، حتى يكون آخرهم مع المسيح الدجال".
قال بعض المحققين من أهل العلم في رده شبه دحلان: لم أقف على هذا اللفظ، ولكن أخرج معناه النسائي من حديث أبي برزة وأخرج ابن ماجه معناه من حديث ابن عمر. ولفظه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ينشأ نشء يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، كلما خرج قرن قطع" قال ابن عمر: حتى يخرج في عراضهم الدجال. وفي مجمع الزوائد عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يخرج ناس من قبل المشرق يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، كلما قطع قرن نشأ قرن حتى
__________
1 ليس في الأصل.
ص -118-(53/16)
يكون مع بقيتهم الدجال" رواه الطبراني وإسناده حسن. انتهى.
وأما قوله: (وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "سيماهم التحليق" تنصيص على هؤلاء القوم الخارجين من المشرق، التابعين لمحمد بن عبد الوهاب فيما ابتدعه، لأنهم كانوا يأمرون من اتبعهم أن يحلق رأسه، ولا يتركونه إذا تبعهم حتى يحلقوا رأسه، ولم يقع مثل ذلك من إحدى الفرق الضالة التي مضت قبلهم، وكان ابن عبد الوهاب يأمر بحلق رؤوس النساء أيضاً ممن اتبعه، وفي مرة أمر امرأة دخلت في دينه أن تحلق رأسها. فقالت له: لو أمرت بحلق اللحى للرجال لساغ أن تأمر بحلق رؤوس النساء، فإن شعر الرأس للنساء بمنزلة اللحية للرجل. فلم يجد لها جواباً).
فالجواب أن نقول: قد تقدم أن التحليق من صفة الخوارج الذين يخرجون من العراق كما هو معروف مشهور في الأحاديث وكلام العلماء.
وأما قوله: (إن الشيخ وأتباعه يأمرون من اتبعهم أن يحلق رأسه).
فهذا من الكذب والبهتان، والظلم والعدوان.
ص -119-(53/17)
وأما حكايته عن المرأة التي زعم أن الشيخ أمرها بحلق رأسها فمن الخرافات والمجونات التي لا يستجيز صبيان المكاتب حكايتها، ولا يحيكها إلا هؤلاء الذين سلب الله عقولهم، وأنطقهم بما يضحك منه المجاذيب الذين لا يعقلون.
وأما قوله: (ولم يقع مثل ذلك من أحدى الفرق الضالة التي مضت قبلهم).
فأقول: هذا مما يبين شدة غباوة هذا العراقي وجهله، وعدم إدراكه ومعرفته وشدة كلب عداوته لأهل الإسلام، فإن التحليق من صفة الخوارج كما مر في الأحاديث، وهم خرجوا على علي رضي الله عنه، وهم من أكبر الفرق الضالة في القرن الأول، وظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى دين الله في القرن الحادي عشر، أفلا يستحي هذا العراقي ممن وقف على كلامه، من سوء قصده ومرامه، حيث قال: ولم يقع مثل ذلك من إحدى الفرق الضالة. وهو قد وقع للخوارج، ومن شدة غباوته أنه يكتب هذا في صفة الخوارج ثم يقول: ولم يقع مثل هذا. اللهم إلا أن يكون توهم أن الذين خرجوا على علي، وقاتلهم في النهروان ليسوا بخوارج، وإنما الخوارج عنده
ص -120-(53/18)
من أخلصوا العبادة لله بجميع أنواعها، ودعوا الناس إلى ذلك، ونهوا عن الاعتقاد في الأنبياء والأولياء والصالحين والأحجار والأشجار، وترك التعلق عليهم، والالتجاء إليهم في الرغبات والطلبات، وأنه لا يستغاث بهم في كشف الكربات والملمات، إلى غير ذلك من الفواحش والمنكرات.
وأما قوله: (وكان ابن عبد الوهاب يأمر بحلق رؤس النساء إلى آخره).
فأقول: هذا من الكذب الواضح الذي لا يمتري فيه عاقل، بل هو تزوير الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً، وقد خاب من افترى، وشاهد الحال يكفي في رد هذه الخرافات.
وأما قوله: (ومن الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم: "يخرج في آخر الزمان في بلد مسيلمة رجل يغير دين الإسلام").
فأقول: هذه رواية بلا سند، فلا اعتداد بها، بل هذا من موضوعات هؤلاء الغلاة، ولو كان لها أصل لعزاها إلى كتاب من الكتب المعتمدة، وقد قال إمام ضلالة هؤلاء
ص -121-
الغلاة دحلان في شبهاته ومفترياته ما نصه: وفي بعض التواريخ بعد ذكر قتال بني حنيفة قال: ويخرج في آخر الزمان في بلد مسيلمة رجل يغير دين الإسلام، فنسبها إلى بعض التواريخ غير مسندة إلى تاريخ معلوم، ولا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بسند يعتمد عليه، وهذا الجاهل أسند هذه المقالة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير سند لعظم غباوته وجراءته، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار".
ص -122-(53/19)
فصل
فإذا وضح لك ما تقدم ذكره، فاعلم أنه لا يكون من الخوارج وعلى مذهبهم إلا من يستن بسنة هؤلاء الذين خرجوا على علي رضي الله عنه، وسلك مسلكهم من قتل أهل الإسلام، وترك أهل الأوثان، وتكفير من لا يعتقد معتقدهم، وإباحة دمه وماله وأهله، وأن عثمان وعلياً وأصحاب الجمل وصفين وكل من رضي بالتحكيم: كفار، وأن من أتى كبيرة فهو كافر مخلد في النار أبداً، وأن من لم يخرج ويحارب المسلمين فهو كافر ولو اعتقد معتقدهم، وإبطال رجم المحصن، وقطع يد السارق من الإبط، وإيجاب الصلاة على الحائض في حال حيضها، وكفر من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إن كان قادراً، وإن لم يكن قادراً فقد ارتكب كبيرة، وحكم مرتكب الكبير عندهم حكم الكافر، وسائر معتقداتهم الفاسدة، وأعمالهم الزائغة.
فإذا تبين لك هذا فالشيخ رحمه الله وأتباعه لا يعتقدون شيئاً من عقائدهم، ولا يعملون بشيء من
ص -123-
أعمالهم، بل مذهبهم في أصول الدين مذهب أهل السنة والجماعة، وطريقتهم طريقة السلف التي هي الطريق الأسلم، بل والأعلم والأحكم، وهم في الفروع على مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، ومن روى عنهم من تلك الخرافات والأوضاع، أو نسبه إليهم فقد كذب عليهم وافترى، وهذا ظاهر لمن طالع كتابه المسمى كتاب "التوحيد" وسائر الرسائل المؤلفة للشيخ.
ص -124-(53/20)
فصل
قال العراقي: (ومن قبائح ابن عبد الوهاب إحراقه كثيراً من كتب العلم، وقتله كثيراً من العلماء وخواص الناس وعوامهم، واستباحة دمائهم وأموالهم، ونبشه لقبور الأولياء، وقد أمر في الأحساء أن تجعل بعض قبورهم محلاً لقضاء الحاجة، ومنع الناس من قراءة دلائل الخيرات، ومن الراوتب1 والأذكار، ومن قراءة المولد الشريف ومن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في المنابر بعد الأذان، وقتل من فعل ذلك، ومنع الدعاء بعد الصلاة، وكان يصرح بكفر المتوسل بالأنبياء والملائكة والأولياء، ويزعم أن من قال لأحد: مولانا وسيدنا فهو كافر).
فالجواب أن نقول: قد تقدم الجواب عن هذه المفتريات، وبينا أنها كذب وزور، وتعنت وفجور، إلا أنا لم نجب عن دعواه نبش قبور الأولياء، وجعلها محلاً
__________
1 في ط المنار والرياض: "الراتب".
ص -125-(53/21)
لقضاء الحاجة، ومنع الناس من الراوتب والأذكار، وأن الشيخ يقول لمن قال لأحد: مولانا وسيدنا فهو كافر.
فأما دعواه أن الشبخ نبش قبور الأولياء، فهذا كذب، والذي جرى من الشيخ رحمه الله وأتباعه هدم البناء الذي على القبور، والمسجد المجعول في المقبرة على القبر الذي يزعمون أنه قبر زيد بن الخطاب رضي الله عنه، وذلك كذب ظاهر، فإن قبر زيد رضي الله عنه ومن معه من الشهداء لا يعرف أين موضعه، بل المعروف أن الشهداء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قتلوا في أيام مسيلمة في هذا الوادي، ولا يعرف أين موضع قبورهم من قبور غيرهم، ولا يعرف قبر زيد من قبر غيره، وإنما كذب ذلك بعض الشياطين، وقال للناس: هذا قبر زيد فافتتنوا به، وصاروا يأتون إليه من جميع البلاد بالزيارة، ويجتمع عنده جمع كثير، ويسألونه قضاء الحاجاب، وتفريج الكربات، فلأجل ذلك هدم الشيخ ذلك البناء الذي على قبره، وذلك المسجد الذي على المقبرة، اتباعاً لما أمر الله به ورسوله من تسوية القبور في النهي والتغليظ في بناء المساجد عليها، كما يعرف ذلك من له أدنى مسكة من المعرفة والعلم.
وأما كونه نبش القبر. فكل هذا كذب وزور، وتشنيع على الشيخ عند الناس بالباطل والفجور.
ص -126-(53/22)
وكذلك قوله: وقد أمر في الأحساء أن تجعل بعض قبورهم محلاً لقضاء الحاجة. كذب وافتراء.
وأما قراءة مولد النبي صلى الله عليه وسلم بوقت محدود، وطريقة معلومة، وكتب مخصوصة لها فلا شك في كونها بدعة محدثة، فأي محذور في المنع منها؟
وأما الدعاء بعد الصلاة فإن كان بالألفاظ الواردة في الأحاديث الصحيحة من الأذكار من غير رفع اليدين كما ورد في الصحيحين وغيرهما من الكتب، فالشيخ لا يمنع عنه، ولا أحد من أتباعه، بل ولا أحد من أهل الحديث، وإن كان الدعاء بغير الألفاظ المأثورة، وكما يفعله الناس اليوم، فقال شيخ الإسلام لما سئل عن ذلك: الجواب: الحمد لله، لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يدعو هو ولا المأمومون عقيب الصلوات الخمس كما يفعله الناس عقيب الفجر والعصر، ولا نقل ذلك عن أحد، ولا استحب ذلك أحد من الأئمة.
ومن نقل عن الشافعي أنه استحب ذلك فقد غلط عليه، ولفظه الموجود في كتبه ينافي ذلك، لكن طائفة من أصحاب أحمد وأبي حنيفة وغيرهما استحبوا الدعاء بعد الفجر والعصر، قالوا: لأن هاتين الصلاتين لا صلاة بعدهما، فتعوض بالدعاء بعد الصلاة.
ص -127-(53/23)
واستحب طائفة من أصحاب الشافعي وغيره الدعاء عقيب الصلوات الخمس، وكلهم متفقون على أن من ترك الدعاء لم ينكر عليه، ومن أنكر عليه فهو مخطئ باتفاق العلماء، فإن هذا ليس مأموراً به لا أمر إيجاب ولا أمر استحباب في هذا الموطن، بل الفاعل أحق بالإنكار.
فإن المداومة على ما لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يداوم عليه في الصلوات الخمس ليس مشروعاً، بل مكروه كما لو داوم على الدعاء عقيب الدخول في الصلاة، أو داوم على القنوت في الركعة الأولى في الصلوات الخمس، أو داوم على الجهر بالاستفتاح في كل صلاة، ونحو ذلك فإنه مكروه.
وإذا كان القنوت في الصلوات الخمس قد فعله النبي صلى الله عليه وسلم أحياناً، وكان عمر يجهر بالاستفتاح أحياناً، وجهر رجل خلف النبي صلى الله عليه وسلم بنحو ذلك فأقره عليه، فليس كل ما شرع فعله أحياناً تشرع المداومة عليه، ولو دعا الإمام والمأموم أحياناً عقيب الصلاة لأمر عارض لم يعد هذا مخالفة للسنة كالذي يداوم على ذلك.
والأحاديث الصحيحة تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو دبر الصلوات قبل السلام، ويأمر بذلك، كما قد بسطنا الكلام على ذلك، وذكرنا ما في ذلك من
ص -128-(53/24)
الأحاديث، وما يظن أن فيه حجة للمنازع في غير هذا الموضع، وذلك لأن الداعي يناجي ربه، فإذا انصرف مسلماً انصرف عن مناجاته، ومعلوم أن سؤال السائل لربه حال مناجاته هو الذي يناسب دون سؤاله بعد انصرافه، كما أن من يخاطب ملكاً أو غيره، فإن سؤاله له وهو مقبل على مخاطبته أولى من سؤاله بعد انصرافه عنه. انتهى1.
وأما مسألة قول القائل: مولانا وسيدنا. فالشيخ لا يمنع من قال ذلك على الوجه الذي يعرفه الناس من لفظ السيد الشريف، والفاضل الكريم، والحليم ومتحمل أذى قومه والزوج والرئيس والمقدم، وكذلك لفظ: المولى بالمنعم والمعتق والناصر والمحب والتابع والخال وابن العم والحليف، إلى غير ذلك، وإنما نهى ومنع عن إطلاق لفظ السيد والمولى فيمن يعتقدون فيه نوعاً من الربوبية أو الألوهية كمن يقول: يا سيدي أو يا مولاي فلان أغثني أو أدركني أو ارزقني، أو أنا في حسبك، ونحو هذا، فمن قال هذا بهذا المعنى فهو كافر يستتاب فإن تاب وإلا قتل، فإن الله سبحانه إنما أرسل الرسل، وأنزل الكتب ليعبد، ولا يدعى معه إله آخر.
__________
1 هو في مجموع فتاويه رحمه الله تعالى 22/512-514، وقوله: (في غير هذا الموضع)، وقع البسط 22/492-504.
ص -129-
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في الرسالة السنية: فإذا كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن انتسب إلى الإسلام من مرق منه مع عبادته العظيمة، فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام والسنة في هذه الأزمان قد يمرق أيضاً من الإسلام لأسباب منها الغلو في بعض المشايخ، بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في المسيح عليه السلام، فكل من غلا في نبي أو رجل صالح، وجعل فيه نوعاً من الإلهية مثل أن يقول: يا سيدي فلان انصرني، أو أغني أو ارزقني أو أنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال فكل هذا شرك وضلال، يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل –إلى آخر كلامه رحمه الله.
ص -130-(53/25)
فصل
قال العراقي الزهاوي البغدادي: (الوهابية وحديث بغيها: إن زعيم الوهابية اليوم هو: عبد الرحمن بن فيصل من أولاد محمد بن سعود الباغي، الذي حاد عن طاعة الخلافة العظمى الإسلامية سنة 1205، واستمرت له وقائع مع الشريف غالب إلى 1220، حتى عجز الشريف عن حربه جهزت الدولى العثمانية1 عليه عساكرها، وناطت الأمر بوزيرها المرحوم محمد علي باشا، صاحب مصر، وولده المرحوم إبراهيم باشا، فأبادهم سنة 1233 كما ألمعنا إليه في مقالتنا السابقة، مما هو مسطور في كتب التاريخ، وعبد الرحمن هذا كان قبل ثلاثين سنة تقريباً أميراً على الرياض، فلما استولى عليها المرحوم2 أمير الجبل3 محمد بن رشيد
__________
1 في ط المنار والرياض: "الدولة العلية".
2 سقطت: "المرحوم" من الأصل.
3 في ط المنار والرياض: "نجد"، وفي الأصل: "الأمير الجبل".
ص -131-(53/26)
هرب عبد الرحمن بن سعود إلى بعض السواحل البحرية وأخيراً التجأ إلى الكويت، وبقي هناك يعيش في فقر مدقع لا يرحمه أحد، إلى أن عطفت عليه الدولة العثمانية1، وأجرت له جراية أزالت ما كان فيه من الفقر، وصار يعيش في أرغد عيش على نفقتها في تلك الديار).
والجواب أن يقال: نعم قد كان زعيم الوهابية اليوم الإمام المعظم، والرئيس المفخم، عبد الرحمن بن فيصل، وابنه عبد العزيز بن عبد الرحمن هو قائد الجيوش الإسلامية، وكان عبد الرحمن من أولاد محمد بن سعود الذي رفع الله به أعلام الشريعة المحمدية، والملة الإبراهيمية، بعد أفول شموسها، وانطماس معالمها ودروسها، فبغت عليه الدولة المصرية لما استوثقت له البلاد العربية، وأظهر دين الله الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه.
وكان قد جرى من أولاد سعود رحمه الله بعض التقصير في الأوامر الدينية، فتسلط عليهم بسبب ما اقترفوه من الذنوب هؤلاء الباغون المعتدون كما تقدم بيانه مما لا فائدة في إعادته، ثم رد الله الكرة للمسلمين وجمعهم الله بالإمام فيصل بن تركي بعد ما بغت عليه العساكر المصرية، ونقلوه إلى مصر بعد محاربات عديدة، وأمور
__________
1 في ط المنار والرياض: "الدولة العلية".
ص -132-(53/27)
هائلة شديدة، ثم توفي رحمه الله سنة 1282هـ.
وأما قوله: (وعبد الرحمن هذا كان قبل ثلاثين سنة تقريباً أميراً على الرياض).
فأقول: ليس الأمر كذلك، وما آفة الأخبار إلا رواتها، بل كان الأمير على أهل نجد بعد وفاة الإمام فيصل ابنه الأكبر عبد الله بن فيصل، واستمرت له الولاية مدة سنين، ثم كان بينه وبين أخيه سعود محاربات ومنافسات على المملكة يطول عدها.
وكان محمد بن رشيد من أمراء آل سعود على جهة الجبل، وما يليه من القرى والبوادي، فلما ضعفت الممالك النجدية، وتضعضع أمرها باختلاف آل سعود بينهم، وغلب أولاد سعود على عمهم عبد الله بن فيصل، استنجد عبد الله بمحمد بن رشيد على أولا أخيه سعود، فسار إلى الرياض وحصرها أياماً قلائل، ثم وقعت المصالحة بينه وبين أهل الرياض، وبينه وبين أولاد سعود على "الخرج" من أعمال الرياض، وارتحل ابن رشيد راجعاً إلى الجبل بعبد الله بن فيصل، ثم بعد ذلك غدر بأولاد سعود وقتلهم وصار الأمر في يده بالبغي والعدوان على أهل تلك الأماكن والبلدان.
وكان الإمام عبد الرحمن بن فيصل حال ولاية ابن
ص -133-(53/28)
رشيد على الرياض ساكناً فيها، والأمير عليها من جهة محمد بن رشيد أخوه محمد بن فيصل، والمتصرف فيها بأوامر محمد بن رشيد أحد أمرائه المسمى "سالم بن سبهان" وكان رجلاً فاجراً لا يخاف الله ولا يتقيه، فأراد الخديعة والمكر بعبد الرحمن بن فيصل، والغدر به كما غدر بأولاد سعود، فلما تحقق الإمام عبد الرحمن خبره هجم عليه، وأخذه قسراً وقهراً، وحبسه ثم بعد ذلك قدم ابن رشيد وحاصر الرياض نحواً من شهر، ثم رجع خائباً حسيراً لم يدرك مقصوده، فلما لم يحصل على طائل بالمحاربة أخذ يخادع أهل الرياض ويعدهم ويمنيهم1، حتى انخدع له بعض الأشرار لما يحصل لهم بعد ذلك منه بسبب غدرهم من الانتقام والدمار، فلما تحقق الإمام عبد الرحمن ذلك الخبر، وتقرر عنده واشتهر، خرج بأولاده وأهله إلى "قطر" ثم ارتحل إلى الكويت فسكن بها واستقر، هذا ملخص الأمر لا كما يزعمه هذا العراقي، ثم توفي محمد بن رشيد سنة 1315 ألف وثلاثمائة وخمس عشرة وتولى بعده ابن أخيه عبد العزيز بن متعب، وجرى بينه وبين مبارك بن صباح ما جرى من المحاربة، وكانت الدائرة لابن رشيد على ابن صباح غير أنه لم يقتل من
__________
1 في الأصل: "يمنهم ويعدهم".
ص -134-(53/29)
قومه هذا العدد المذكور، بل كان القتلى قريباً من ثلاثمائة رجل أو أقل.
وأما قوله: (وبقي هناك يعيش في فقر مدقع لا يرحمه أحد، إلى أن عطفت عليه الدولة، وأجرت له جراية أزالت ما كان فيه من الفقر) إلى آخر كلامه.
فأقول: لما كان لهذا العراقي الحظ الوافر من الكذب على الأموات ولم يكتف بذلك أخذ يكذب على الأحياء بما هو معلوم كذبه بالاضطرار، فإن الإمام عبد الرحمن كان في بلد الكويت في أرغد عيش وأنعم بال، وكان جميع من يصل إلى تلك البلاد من أهل نجد في مضيفه، حتى يرحلوا بالجوائز والصلات الجزيلة من الإمام، وإنما أخذ معاش الدولة ليسكن1 بذلك، لكونه إذ ذاك في طرفهم، والولاية لهم فيه ظاهراً، ولأن الكويت قريباً من بلاد نجد والأخبار تصل إليه بسرعة، وأيضاً كان فيه آمناً من تسلط الأعداء، فليس لأحد عليه فيه اتصال بما يكره، لا من جهة الدولة، ولا من جهة ابن رشيد، فلذلك استحب سكنى الكويت على غيره من الأماكن.
__________
1 في الأصل: "ليستكن".
ص -135-(53/30)
وقد كان قائد الجيوش الإسلامية الهمام، المقدم القمقام، المفخم والهزبر الغشمشم عبد العزيز بن عبد الرحمن إذ ذلك حديث السن، لكنه مع ذلك يروم من الأمور معاليها، وينبو بهمته إلى هاماتها وأعاليها، وطلب من أبيه عبد الرحمن بن فيصل أن يأذن له في الإغارة على البوادي من أهل نجد ممن كان في ولاية ابن رشيد، ليتقوى بما يأخذه منهم على محاربة ذلك العدو المريد، والفاجر العنيد، عبد العزيز بن متعب بن رشيد، فأذن له في الخروج والغزو، وأعانه ابن صباح بسلاح، فأخذ يغير على البوادي النجدية حتى أثخنهم قسراً، وأخذهم قهراً، ولم يكن ابن رشيد إذ ذاك كما يزعمه العراقي مشغولاً ببعض الغزوات، لكنه قد بهت مما فعل هذا الرئيس الهمام، والفارس المقدام، فأعمل الفكرة والحيلة في حفظ القرى والأمصار، بأن جعل فيها بأمر الدولة العثمانية، من يمنع عشائر ابن سعود من الميرة منها والقدوم إليها فإنه كان إذا قفل من غزوته نزل قريباً من الأحساء ليمتار منها ويتزود، فمنعته الدولة من القدوم إليها للميرة، وامتنع بعض قواد الأعراب من مساعدته لأجل ذلك، فلما تحقق عبد العزيز ما أعمله من الحيلة، وتعذر الوصول إلى بعض تلك الأقطار للامتيار، اقتضى رأيه أن يسير إلى الرياض، فهجم عليها ليلاً بشرذمة قليلة نحواً من ثلاثين رجلاً، فقتل أمير
ص -136-(53/31)
ابن رشيد وذويه بعد أن ألقى بنفسه ومن معه على ثغر الرياض من باب صغير في عرض باب القصر، ووقاه الله شر رماة من فيه من الرجال، فلما فرغ من أمر ذلك القصر أحكم سور البلد في مدة يسيرة، وحفظه بالرجال، وأخذ يغير على البوادي من كل معاند له ومعادي، وكف الله أكف الظالمين، ولم ينتهزوا الفرصة بالمبادرة إلى الرياض قبل استحكام الأمر، ثم جمع ابن رشيد جموعه من الحاضرة1 والبادية، وأقبل بتلك الجنود العاتية، حتى نزل بقرية من قرى "الوشم" فمكث بها قريباً من أربعين يوماً، يخادع أهل الرياض ويعدهم ويمنيهم بالأوعاد، وهيهات دون ذلك خرط القتاد، ثم ارتحل ونزل بماء يقال "الحسي" فمكث به قريباً من شهر، وفي تلك الأيام والإمام عبد العزيز في الرياض، ثم اقتضى رأيه الميمون أن يسير إلى الحوطة من ديار بني تميم لكي يستنجح أمر ابن رشيد وإلى ما يصير إليه أمره بعد ارتحاله عن أرض الرياض، فارتحل ابن رشيد من الحسي وعمد إلى الخرج لأجل حصارها، فامتنعوا منه، ثم مشى عبد العزيز حفظه الله بأهل الحوطة وما يليها من القرى ومن معه من أهل الرياض حتى وصل إلى بلد الخرج، فدخلها ليلاً، ثم لما كان من الغد برز له، وجرت بينه وبين ابن رشيد مقاتلة في
__________
1 في المنار: "المحاظرة".
ص -137-(53/32)
مدة ثلاثة أيام، فهزم الله ابن رشيد وجنوده، وقتل منهم عبد العزيز خلقاً كثيراً، ورجع ابن رشيد خاسئاً حسيراًُ.
وأما قول العراقي: (إنه حاصر الرياض سنة).
فمن الكذب الواضح، فإنه لم يقدم إليها، فضلاً عن أن يحاصرها، لكنه بعد ذلك بمدة نحواً من خمسة أشهر قصد الرياض، وكان عبد العزيز بن عبد الرحمن قد سار بجنوده إلى الكويت لإظهار أهله منها، وجد ابن رشيد في السير حتى وصل إلى الرياض ليلاً ولم يشعر به أحد حتى كان وقت السحر وهو قد أحدق بالبلاد وحفظ أطرافها بالخيل والجنود، وأمر على بعض قومه أن يقتحموا في البلد، فيسر الله أن رجلاً من أهل البادية أقبل قاصداً إلى الرياض فرآه وهو قد قرب منها، فدخلها ليلاً، وصاح بأهل البلد، فنهض أهل البلد، وقصدوا السور وأشعلوا النيران في البروج، وهم قد أحدقوا بها، لكن قذف الله في قلوبهم الرعب، فأحجموا عن الاقتحام والزحام، فلما علم أن أهل البلد قد شعروا به، أرسل إلى قومه أن يكفوا وأن يرجعوا إلى معسكرهم، وأمر البادية ومن معهم من الحاضرة المحدقين بالبلاد أن يأخذوا ما وجدوا في النخيل من الأدباش، وقتلوا في النخيل عشرة أنفار، فلما كان من الغد بعد ارتفاع الشمس أقبل بجنوده ونزل على الرياض،
ص -138-(53/33)
فظهر عليه بعض الأبطال من الرجال، وصار بينهم قتال، ثم لما كان من اليوم الثاني قذف الله في قلبه الرعب فارتحل1 من الرياض لم يحصل على طائل، وقد قتل من قومه نحو2 من خمسين رجلاً، ثم سار إلى "شقراء" فحاصرها مدة نحواً من نصف شهر، فلما علم أن عبد العزيز بن عبد الرحمن قد وصل إلى الرياض راجعاً من الكويت ارتحل من "الوشم" ونزل القصيم، ولما رأي ابن رشيد أن أمور ابن سعود قد استصعبت عليه، وعشائر نجد التجأت إليه، لم يجد مندوحة عن الالتجاء إلى الدولة العثمانية، والاستنصار بها، فلما عزم على ذلك الأمر جعل في القصيم جنوداً من قومه، وأمر عليهم "ماجد بن حمود" وحفظ الحصن الذي في "بريدة" بالرجال والأزواد، وحفها بالأجناد، وبعث سرية من قومه، وأمر عليهم "حسين بن جراد" إلى بادية حرب، وأمره أن يسير بهم إلى قرى الوشم، وينزل بها هناك، حتى يقدم إليهم بالعساكر العثمانية، وأرسل رسله إلى باشات بغداد بعد أن قرب من تلك البلاد، فاستجاشها وأثارها بالبخاشيش، فأمدوه بالأجناد، فعند ذلك انتهز الفرصة الإمام عبد الرحمن فأمر ابنه عبد العزيز فأغار بالجيوش الإسلامية والجنود الحنيفية
__________
1 في ط المنار: "فارتجل".
2 في ط المنار: "نحوا"، وما أثبته هو الصواب لغة.
ص -139-(53/34)
على "حسين بن جراد" ومن معه من تلك الأجناد من حرب، ومن اجتمع عليها من الأمداد، فأخذهم الله، وقتل منهم مقتلة عظيمة، ثم رجع بتلك المغانم الجسيمة، هذا وماجد بن حمود الرشيدي مع جنوده قريباً من عنيزة، فلجأ إليها، ونزل قريباً منها لأجل حماية أهلها، فسار إليهم عبد العزيز فدخل عنيزة عنوة ليلاً وقتل أمير ابن رشيد الذي كان فيها، ثم سار بجنوده آخر الليل فهجم على ماجد بن حمود ومن معه من الجنود، فأخذهم الله تعالى، وهرب ماجد بمن نجا معه إلى الجبل، وسار عبد العزيز إلى بريدة فدخلها عنوة، وحاصر الحصن الذي فيها نحواً من شهر ثم فتحه الله صلحاً. هذا ملخص ما جرى في تلك الوقعات.
ص -140-
فصل
قال العراقي: (ولما رأت الدولة العثمانية1 اعتداء عبد الرحمن هذا وبغيه، وتطاوله على صادقها ومخلصها الأمير ابن رشيد، ونزع عبد الرحمن إلى الأجانب، أرسلت كتيبة من عساكرها المنصورة صحبة الأمير ابن رشيد لقطع دابر أولئك المارقين، وقمع بغيهم واعتدائهم، وإطفاء شرر فتنتهم المستطير، فصادمت العساكر المنصورة الجماعة الباغية حزب ابن سعود قرب بلدة البكيرية من بلاد القصيم. فوقعت بين الجمعين ملحمة كبرى، انجلت عن هزيمة الفئة الباغية جماعة ابن سعود، وامتلاك العساكر أحد عشر راية من راياتهم. وقد كان –والحق يقال- لحضرة الأمير ابن رشيد وجيشه في هذه الملحمة خدمة في قمع الأعداء تشكر، وبسالة يخلد ذكرها ولا تنكر، وأما المنهزمون فهم اليوم متحصنون ببعض تلك البلاد، والعساكر المنصورة مع جيش الأمير ابن رشيد محدقون
__________
1 في ط المنار، الرياض: "العلية".
ص -141-(53/35)
بهم ومجدون في تنكيلهم وكبح جماحهم. وفقهم الله تعالى لذلك).
والجواب أن يقال: ليس الأمر كما زعم هذا العراقي، بل حقيقة الحالة أنه لما رأت الدولة العثمانية أنه قد وقع بين العرب حروب عديدة، وملاحم شديدة، طمعت في بلاد العرب بواسطة الانتصار لابن رشيد، كما أخذت الأحساء والقطيف بغياً وعدواناً بواسطة الانتصار لعبد الله بن فيصل على أخيه سعود.
وقد كان من المعلوم أنها لا تمشي مع أحد لحظ نفسه، وإنما تمشي لحظ نفسها، ولكن لا يشعر تائه بمصابه، لأنه ما دخل الأمر من بابه:
فجاءوا بأسباب من الكيد مزعج
مدافعهم يزجي الوحوش رنينها
وظنوا أنهم لمن عاداهم من الناس سيقهرون، وأنهم لمن حاربهم سيغلبون، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21]، فأقبل بتلك العساكر والعربان، يقودهم البغي والعدوان، والأشر والبطر والطغيان {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32]حتى نزل بأدنى قرى القصيم، وأنزل الله عليهم بها من رجزه عقاصاً عظيماً، ووباء وخيماً، فقتل بعض أولئك
ص -142-(53/36)
الطغام، وبقي منهم خلق كثير، وجمع غفير، ولم يعتبروا بما حل بهم ودها، وما نزل بهم من النوى.
فنهض إليهم الإمام عبد العزيز بمن معه من المسلمين، وهم لا يبلغون معشار أولئك المعتدين، ونزل "البصر"، فارتحل ابن رشيد ونزل بالشيحيات، وسار عبد العزيز بالمسلمين فنزل البكيرية، فلما كان من الغد وانتصف النهار، ولم يلق كيداً من أولئك الأشرار، وظن المسلمون أنه لا يكون في ذلك الوقت مقاتلة من الأغيار، فتفرقوا في النخيل والأشجار، فانتهز ابن رشيد هذه الفرصة، وعبأ عساكره وجنوده، ونشر راياته وبنوده، وجاؤوا كما قال الله تعالى: {بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال:47]، فوقعت بين الطائفتين وقعة عظيمة، وملحمة كبيرة جسمية، وكان المسلمون قد نهضوا إليهم على غير تعبئة، وكانت العساكر والجنود الطاغية قد نهضوا بأجمعهم في نحر أهل الرياض ومن معهم من أهل النواحي غير أهل القصيم، فانكشف المسلمون بعد أن جاءتهم الخيل من خلفهم {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:141]، قال الله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}[آل عمران: 140] الآية. ولم يقتل من المسلمين على التحقيق إلا نحواً1 من ثمانين رجلاً، وقد قتل من
__________
1 كذا والصواب لغة (نحوٌ).
ص -143-(53/37)
العسكر وجند ابن رشيد خلق كثير، ولما كان في آخر النهار قبل غروب الشمس ظهرت جموع أهل القصيم، وهم لا يعلمون بانكشاف أهل العارض لأنهم في خب منخفض، فحملوا على العساكر العثمانية والجنود الرشيدية، وقد اجتمع بأهل القصيم من أهل الرياض عصابة في ذلك اليوم فهزموهم شر هزيمة، وقتلوا في ذلك اليوم منهم مقتلة عظيمة، وأخذوا كثيراً من مطارحهم وخيامهم ومدافعهم، وقد قتل من العسكر ومن أهل الجبل نحواً1 من خمسمائة مقاتل.
فلما علم أهل القصيم بانكشاف المسلمين تركوا ما أخذوه مما لا يطيقون حمله، ورجعوا إلى أوطانهم وأماكنهم، ولم يتراجع الفريقان إلا بعد أيام، فرجع ابن رشيد وعسكره إلى معسكرهم في "الشيحيات" واستولى على البكيرية.
واجتمع المسلمون في عنيزة، ثم نهض إليهم عبد العزيز بالمسلمين، وقدم جمعاً إلى البكيرية، فهجموا عليهم ليلاً وهرب من فيها من جند ابن رشيد، وملكوا سورها وقصورها، فلما كان آخر الليل التقى الجمعان قريباً من البكيرية، فهزمهم المسلمون هزيمة
__________
1 كذا والأظهر لغة (نحوٌ).
ص -144-(53/38)
عظيمة، ونزل المسلمون البكيرية، فرجف الله بابن رشيد وعساكره فارتحلوا منهزمين، وركبتهم خيول المسلمين يأخذون ويقتلون، حتى نزل بالشنانة من أعالي قرى القصيم، ونزل عبد العزيز الرس، ولم يكن بينهم مزاحفة، إنما هو بالخيل مناوشة ومراوحة، ثم لما طال المقام، وخاف ابن رشيد تفرق قومه لطول المقام، ولأن المسلمين لا يدعونهم ينتشرون لرعي إبلهم وجيوشهم، وأكلوا ما في الشنانة حتى النخيل، فارتحل من الشنانة ونزل بماء يقال له "المقوعي" فنهض المسلمون إلى قصر هناك قريباً منهم يقال له قصر ابن عقيل، فالتقى الجمعان، وتصادم الفريقان، وكانت الدائرة للمسلمين على ابن رشيد وذويه، وهزموهم شر هزيمة، وأخذوا من الأموال والمتاع والإبل والغنم ما لا يحصى، ولا يعد ولا يستقصى، وأخذوا نحوا من عشرة أيام يغدون ويروحون إلى المعركة يأخذون من الأموال والمتاع ما لا يخطر بالبال، ولا يدور في الخيال، فلله الحمد وله الشكر وله الثناء الحسن الجميل، لا نحصي ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثني عليه أحد من خلقه.
وأما زعمه أن عبد الرحمن بن فيصل تطاول على مخلص الدولة وصادقها ابن رشيد فنعم، هو مخلصها وصادقها، ونحن إن شاء الله مخلصون لله في عبادته،
ص -145-(53/39)
الصادقون في جهاد أعدائه، فإنه هو وعمه الذين بغوا علينا، فأبادهم الله تعالى بأيدينا، فلله الحمد لا نحصي ثناء عليه.
وأما دعوى هذا العراقي نزوع الإمام عبد الرحمن إلى الأجانب، ويعني بالأجانب طائفة النصارى الإنكليز فمعاذ الله من ذلك، ويأبى الله والمؤمنون إلا منابذتهم، ومعاداتهم ومحاربتهم، وكيف يكون ذلك وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً} [المائدة: 57-58] الآية. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] الآية. وقال تعالى: {تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} [المائدة:80] الآية.
وإنما ينزع إليهم ويتخذهم أولياء من حكم قوانينهم، والتزمها على نفسه، ونفذها في رعيته، وجعل وزراءه ووكلاءه منهم، وجعل لهم قناصل في أماكنه ودياره، فنعوذ بالله من رين الذنوب وانتكاس القلوب.
وإذا تحقق المنصف ما ذكرناه، واتضح له ما بيناه، مما كان وجرى، وما حصل من الأمور بعد تلك الوقعات،
ص -146-(53/40)
والدواهي المعضلات، بقدوم المشير "أحمد فيضي باشا" بجنوده وعساكره وعسكر المدينة إلى القصيم، مما لو ذكره العراقي لأوضحناه على جليته: عرف أن البسالة كل البسالة التي يجب أن تشكر وتذكر، وأن ينشر ذكرها في الخافقين ولا ينكر، مقامات الرئيس المفخم، والمقدام المعظم، والهزبر الغشمشم عبد العزيز بن الإمام المكرم عبد الرحمن بن فيصل، لا من نعتوه بها ممن ليس لها بأهل.
لقد من مولانا وأفضل وارتضى
لنا ملكاً منا سمي المناقبِ
فشام المعالي وارتضاها وأمها
بهمته العليا وجرد شوازبِ
وبيض قواض يختلي الهام حدها
وقود الهجان اليعملات النجائب
فتى همه العليا وشأو مرامها
فأم إلى هاماتها والغوارب
فتى ليس يثني همه ومرامه
طوال العوالي أو طوال السباسبِ
يخوض عباب الموت –والموت ناقع
إذا استعرت نار الوغى في الكتائب
ويركب هول الخطب –والخطب معضل
وقد هابه شوس الملوك المصاعب
ص -147-
يرد لهام الجيش وهو عرمرم
ويحطمه بالمرهفات السوالب
لقد فات أبناء الزمان وفاقهم
بنيل المعالي الساميات المراتب
وجود وإقدام إذا احتنك الفضا
وضاق بحال الصافنات السلاهب
وأحجم أهلوها بيوم عصبصب
به النقع يسمو كارتكام السحائب
هنالك لا تلقاه إلا كضيغم
هزبر أبي شبلين حجن المخالب
ترى جثث الأبطال صرعى بغابه
تراوحها الأشبال من كل ساغب
كذا الملك الشهم الهمام فإنما
كماة العدى جزراً له بالقواضب
ترى عافيات الطير يعصبن فوقه
لتحظى بأشلاء العدو المشاغب
وتتبعه غرثى السباع لعلها
تروح بطاناً من لحوم المحارب
وقد وثقت أن لا تعود خوامصاً
وأن لها جزراً كماة الكتائب
فنلنا المنى من بعد أن كادت العدى
تحيط بنا من كل قطر وجانب
ص -148-
بعبد العزيز بن الإمام ابن فيصل
حليف العلى نسل الكرام الأطايب
فلله من ندب همام مهذب
أغاظ العدى من عجمها والأعارب
ومن ألمعي أحوذي ومصقع(53/41)
بليغ بما قد شاءه في المقانب
يقود أسوداً في الحروب ضياغماً
تغير على الأعدا كأسد سواغب
حنيفية في دينها حنفية
وليس لهم إلا العلم من مآرب
سما بهمو نحو المعالي سميدع
أبيّ وفيّ فاضل ذو مناقب
إذا هو أعطى ذمة لم يخس بها
وما كان ذا غدر وليس بكاذب
فإن رمت أخباراً له ووقائعاً
فسل شمراً عنها بصدق المضارب
وحرباً وسل عنها مطيراً وغيرهم
من العجم والأعراب من كل ناكب
فمزقهم أيدي سبا فتفرقوا
فما بين مقتول وما بين هارب
وما بين منكوب وقد خال أنه
بقوته قد حاز كل المآرب
ص -149-
فما نال إلا الخزي والعار والردى
وآب حسيراً خاسئاً غير راغب
بلطف من المولى له وإعانة
على كثرة الأعدا له والمحارب
وعز وإسعاف على كل من بغى
عليه وتسديد لدى كل نائب
ونصر له بالرعب في كل مأزق
من الملك العلام مولى المواهب
إذا أم أمراً واعتلى متسامياً
تمزقت الأعداء من كل جانب
وما ذاك إلا أنه لا ترده
طوال العوالي أو طوال السباسب
ولا غرو من هذا ولا بدع إنما
حواها من الشوس الكرام الأطايب
ومن والد سامي الذري ذي مآثر
حسان وأخلاق يفاع المراتب
له فتكات بالأعادي شهيرة
يقصر عن تعدادها كل كاتب
أدام لنا ربي بهم كل بهجة
على السنن الحاوي لكل المطالب
وسنة خير العالمين محمد
نبي الهدى السامي لأعلى المناقب
ص -150-
عليه صلاة الله ثم سلامه
بعد وميض البرق جنح الغياهب
وأصحابه والآل ما حن راعد
وما انهل وبل من خلال السحائب
ص -151-(53/42)
فصل
قال العراقي:
(عقيدة الوهابية: لما رأى ابن عبد الوهاب أن قاطني بلاد نجد بعيدون عن عالم الحضارة، لم يزلوا على البساطة والسذاجة في الفطرة، قد ساد عليهم الجهل حتى لم يبق للعلوم العقلية عندهم مكانة ولا رواج، وجد هنالك من قلوبهم ما هو صالح لأن يزرع فيه بذور الفساد، مما كانت نفسه تنزع إليه، وتمنيه به من قديم الزمان، وهو الحصول على رياسة عظيمة ينالها باسم الدين إذ كان –لحاه الله- يعتقد أن النبوات لم تكن إلا رياسة وصل إليها دهاة البشر، حتى ساعدتهم الظروف عليها بين ظهراني قوم جاهلين ليس لهم من العلم نصيب، وحيث إن الله تعالى قد ارتج باب النبوة بعد خاتم الأنبياء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لم يجد للوصول إلى أمنيته طريقاً بين أولئك الأنعام، إلا أن يدعي أنه مجدد في الدين، مجتهد في أحكامه، فحمله هذا الأمر أن كفر جميع طوائف المسلمين، وجعلهم
ص -152-(53/43)
مشركين، بل أسوأ حالاً وأشد كفراً وضلالاً، فعمد إلى الآيات القرآنية النازلة في المشركين فجعلها عامة شاملة لجميع المسلمين الذين يزرون قبر نبيهم صلى الله عليه وسلم، ويستشفعون به إلى ربهم، نابذاً وراء ظهره كل ما خالف أمانيه الباطلة، وسولته له نفسه بالسوء من أحاديث سيد المرسلين، وأقوال أئمة الدين والمجتهدين، حتى إنه لما رأى الإجماع مصادماً لما ابتدعه أنكره من أصله، وقال: لا أرى للناس بعد كتاب الله الذي جمع فأوعى كل رطب ويابس. وتغافل عما جاء به كتاب الله من قوله تعالى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً}[النساء: 115]).
والجواب أن يقال: ما أعظم جراءة هذا العراقي على الكذب وتعمد الفجور وقول الزور، وهذه حال كل متمرد كفور، وقد قدمنا من حال نشأة الشيخ ودعوته إلى الله ما بين إفك هذا العراقي وتمرده وفجوره، وأنه إنما أخذ هذه المجونات والمخرفة والأكاذيب والزندقة من كتب قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل، وأشربت قلوبهم عداوة هذا الدين، وأهله، ومن دعا إليه، وكراهته، وكراهة من دان به، فأخذوا يضعون هذه الأوضاع ليصدوا عن سبيل الله من آمن به ويبغونها عوجاً.
ص -153-(53/44)
ومن أعظم مفتريات هؤلاء الكفرة أعداء الله ورسوله حيث انبعث أشقاها، وتفوه –بما لفقوه- أغواها، حيث زعم أن الشيخ يزرع في قلوب أهل نجد بذور الفساد، مما كانت نفسه تنزع إليه وتمنيه به من قديم الزمان، وهو الحصول على رياسة عظيمة ينالها باسم الدين، إذ كان يعتقد أن النبوات لم تكن إلا رياسة وصل إليها دهاة البشر حين ساعدتهم الظروف عليها بين ظهراني قوم جاهلين.
وهذا القول لا يقوله ويحكيه عن الشيخ من يؤمن بالله واليوم الآخر، ويعلم أنه موقوف بين يدي الله تعالى.
وقد كان من المعلوم أن هذا الاعتقاد من عقائد الملاحدة الذين يقولون: إن الكتب المنزلة فيض فاض من العقل الفعال على النفس المستورة الفاضلة الزكية، فتصورت تلك المعاني، وتشكلت في النفس بحيث يتوهمها أصواتا تخاطبه، وربما قوي ذلك ببعض الحاضرين1 فيرونها ويسمعون خطابها، ولا حقيقة لشيء من ذلك في الخارج، وهذا يكون عندهم بتجرد النفوس عن العلائق، واتصالها بالمفارقات من العقول والنفوس المجردة، وهذه الخصائص تحصل عندهم بالاكتساب، ولهذا طلب النبوة من تصوف على مذهب هؤلاء.
__________
1 في ط المنار: "والخاضرين".
ص -154-(53/45)
وهؤلاء عندنا وعند الشيخ رحمه الله أكفر من اليهود والنصارى، وأبعد عن الإسلام من غيرهم من طوائف الكفر.
ولما توهم هذا الملحد أن الشيخ ينتحل هذا المذهب الملعون قال: وحيث إن الله قد أرتج باب النبوة بعد خاتم الأنبياء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لم يجد للحصول على أمنيته طريقاً بين أولئك الأنعام، إلا ان يدعي أنه مجدد في الدين مجتهد في أحكامه.
فيقال لهذا الملحد: قد كان من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام، وبما ورد في الكتاب والسنة أن النبي صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين لا نبي بعده، فمن توهم حصولها لأحد بعده فهو كافر، ولكن قد أخبر صلى الله عليه وسلم: "أن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل قرن من يجدد لها أمر دينها"1،(53/46)
__________
1 أخرجه أبو داود في سننه –كتاب الملاحم- 4/480، والحاكم في مستدركه 4/522 من طريق سعيد بن أبي أيوب عن شراحيل بن يزيد المعافري عن أبي علقمة عن أبي هريرة فيما أعلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال... فذكره... .
قال أبو الطيب في عون المعبود 11/396 قال السيوطي في مرقاة الصعود: اتفق الحفاظ على تصحيحه، منهم الحاكم في المستدرك والبيهقي في المدخل. وممن نص على صحته من المتأخرين: الحافظ ابن حجر اهـ.
وقال العلقمي في شرح الجامع الصغير: قال شيخنا: اتفق الحفاظ على أنه حديث صحيح، وممن نص على صحته من المتأخرين: أبو الفضل العراقي، وابن حجر، ومن المتقدمين: الحاكم في المستدرك والبيهقي في المدخل اهـ.
وفي فتح القدير للمناوي 2/282: قال الزين العراقي وغيره: سنده صحيح اهـ.
وقال السخاوي في المقاصد: وسنده صحيح، ورجال كلهم ثقات اهـ. وقال الشيخ سليمان بن عبد الله في التيسير ص 24 وإسناده صحيح اهـ.
قوله في السند: "فيما أعلم" قال في عون المعبود: الظاهر أن قائلة أبو علقمة. يقول في علمي أن أبا هريرة حدثني هذا الحديث مرفوعاً لا موقوفاً عليه اهـ.
قال المنذري: الراوي لم يجزم برفعه. قال في العون: قلت: نعم، لكن مثل ذلك لا يقال من قبل الرأي، إنما هو من شأن النبوة، فتعين كونه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم اهـ.
ص -155-
وفي الحديث: "ما جعل الله من نبوة إلا كانت بعدها فترة".
وهذا معلوم معروف عند أهل العلم كما قال الإمام أحمد في خطبته: "الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل، بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، ومن ضال تائه قد هدوه، فما أحسن
ص -156-(53/47)
أثرهم على الناس، وما أقبح أثر الناس عليهم1"، إلى آخر كلامه.
وقد شهد أهل العلم والفضل من أهل عصره أنه أظهر توحيد الله وجدد دينه، ودعا إليه كما تقدم ذكره عن الإمام حسين بن غنام، ومحمد بن إسماعيل الصنعاني، ومحمد بن أحمد الحفظي2، وغيرهم من علماء أهل الأمصار.
وقد كان من المعلوم عند كل عاقل خبر الناس، وعرف أحوالهم، وسمع شيئاً من أخبارهم وتواريخهم: أن أهل نجد وغيرهم ممن تبع دعوة الشيخ واستجاب لدعوته من سكان جزيرة العرب كانوا على غاية من الجهالة والضلالة والفقر والعالة، لا يستريب في ذلك عاقل، ولا يجادل فيه عارف، كانوا من أمر دينهم في جاهلية، يدعون الصالحين ويعتقدون في الأشجار والأحجار، والغيران3، يطوفون بقبور الأولياء، ويرتجون الخير والنصر من جهتها،
__________
1 ذكرها الإمام أحمد في مقدمة رده على الزنادقة والجهمية (ص 4 من الشذرات)، قال شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية –رحمه الله تعالى- في كتاب درء تعارض العقل والنقل 1/19: ويروي نحو هذه الخطبة عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كما ذكر ذلك محمد بن وضاح في كتاب الحوادث والبدع اهـ. وانظر كتاب ابن وضاح ص 3.
2 ص 36 و81 و83.
3 جمع غار، وسبق حالهم ص 21 وما بعدها.
ص -157-(53/48)
وفيهم من كفر الاتحادية والحلولية، وجهالة الصوفية ما يرون أنه من الشعب الإيمانية، والطريقة المحمدية، وفيهم من إضاعة الصلوات، ومنه الزكاة، وشرب المسكرات ما هو معروف مشهور.
فمحا الله بدعوة الشيخ شعار الشرك ومشاهده، وهدم بيوت الكفر والشرك ومعابده، وكبت الطواغيت والملحدين، وألزم من ظهر عليه من البوادي وسكان القرى، بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من التوحيد والهدى، وكفر من أنكر البعث واستراب فيه من أهل الجهالة والجفا، وأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وترك المنكرات، ونهى عن الابتداع في مسائل الدين، وأمر بمتابعة السلف الماضين في الأصول والفروع من مسائل الدين، حتى ظهر دين الله واستعلن، واستبان بدعوته منهاج الشريعة والسنن، وقام قائم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحدت الحدود الشرعية، وعزرت التعازير الدينية، وانتصب علم الجهاد، وقاتل لإعلاء كلمة الله أهل الشرك والفساد، حتى سارت دعوته وثبت نصحه لله ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم، وجمع الله به القلوب بعد شتاتها، وتألفت بعد عداوتها، وصاروا بنعمة الله إخواناً، فأعطاهم الله بذلك من النصر والعز والظهور ما لا يعرف مثله لسكان تلك الفيافي والصخور، وقهروا سائر العرب من عمان إلى عقبة مصر، ومن اليمن إلى
ص -158-(53/49)
العراق والشام، ودانت لهم عربها، فأصبحت نجد تضرب إليها أكباد الإبل في طلب الدنيا والدين، وتفتخر بما نالها من العز والنصر والإقبال.
وبالجملة فلا يقول مثل هذا في الشيخ رحمه الله إلا رجل مكابر، لا يتحاشى من البهت والافتراء، وإلى الله ترجع الأمور، وعنده تنكشف السرائر.
ولما كان هذا العراقي الملحد من جملة من نشأ على عقائد الملاحدة أعداء الله ورسوله ومن نحا نحوهم من المتكلمين، الذين يزعمون أن العقل مقدم على النقل، وأن لنصوص الكتاب والسنة ظواهر ظنية، وأن معقولاتهم التي هي نحاتة الأفكار، وزبالة الأذهان، وريح1 المقاعد هي البراهين اليقينية، اعتقد أن من لم يكن على هذا المذهب الملعون أنه قد خرج عن عالم الحضارة، ولم يزل على البساطة والسذاجة في الفطرة.
وقد كان من المعلوم أن جفاة العرب أسلم فطرة وأصح عقولاً من هؤلاء الملاحدة، ولذلك لما دخلوا في دين الله، وعرفوا هذا الدين كانوا على طريقة السلف في باب معرفة الله وأسمائه وصفاته، وفي باب العمل والعبادة، وتقديم كتاب الله وسنة رسوله على قول كل أحد كائناً من
__________
1 في ط المنار: "وريج".
ص -159-(53/50)
كان، وجمع الله لمن طلب العلم منهم من العلوم والمعارف ما لا يعرفه هؤلاء من سائر العلوم والفنون، مع أن كثيراً من علوم هؤلاء الخارجين عن طريقة أهل الإسلام من العلوم التي لا ينتفع بها في معرفة ما جاءت به الرسل، وأنزلت به الكتب، إنما هي أوضاع اليونان والفلاسفة، والمجوس والصابئين، ولذلك كان الغالب على من دخل في هذه العلوم الحيرة والشك، نعوذ بالله من الخروج عن الصراط المستقيم.
وأما قوله: (فحمله هذا الأمر أن كفر جميع طوائف المسلمين وجعلهم مشركين، بل أسوأ حالاً وأشد كفراً وضلالاً).
يعني: أن الشيخ ادعى أنه مجدد لدين الله، مجتهد في أحكامه، فحمله على أن كفر جميع طوائف المسلمين.
فأقول: أما كونه مجدداً لدين الله فهو من المعلوم بالضرورة، ولا ينكره إلا مكابر في الحسيات، مباهت في الضروريات.
وأما كونه كفر جميع طوائف المسلمين فجعلهم مشركين، فهذه العبارة تدل على تهور في الكذب، ووقاحة تامة، وفي الحديث: "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة
ص -160-
الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت"1.
وصريح هذه العبارة أن الشيخ كفر جميع هذه الأمة من المبعث النبوي إلى قيام الساعة، وهل يتصور هذا عاقل قد عرف حال الشيخ، وما جاء به، ودعا إليه.
بل كان من المعلوم أن هذا العراقي كان لا يعرف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من دين الإسلام، ولو كان يعرف دين الإسلام لما تجازف بهذه المجازفة، ومخرق بهذه المخرقة المارجة.
والشيخ رحمه الله لا يعرف له قول انفرد به عن سائر الأمة، بل ولا عن أهل السنة والجماعة منهم، وجميع أقواله في هذا الباب -أعني ما دعا إليه من توحيد الأسماء والصفات، وتوحيد العمل والعبادات- مجمع عليه عند المسلمين، لا يخالف فيه إلا من خرج عن سبيلهم، وعدل عن منهاجهم كالجهمية والمعتزلة، وغلاة عباد القبور.
بل قوله مما أجمعت عليه الرسل، واتفقت عليه(53/51)
__________
1 أخرجه البخاري في صحيحه –كتاب الأدب- باب إذا لم تستح فاصنع ما شئت. وفي كتاب الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، عن ابن مسعود البدري.. به 10/523 –فتح.
وأخرجه أبو داود 5/148، وابن ماجه 2/1400.
ص -161-
الكتب، كما يعلم ذلك بالضرورة من عرف ما جاؤوا به وتصوره.
ولا يكفر إلا على هذا الأصل بعد قيام الحجة المعتبرة1، فهو في ذلك على صراط مستقيم، متبع لا مبتدع.
وهذا كتاب الله، وسنة رسوله، وكلام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن بعدهم من أهل العلوم والفتوى معروف مشهور مقرر في محله في حكم من عدل بالله، وأشرك به، وتقسيمهم الشرك إلى أكبر وأصغر، والحكم على المشرك الشرك الأكبر بالكفر مشهور عند الأمة، لا يكابر فيه إلا جاهل لا يدري ما الناس فيه من أمر دينهم، وما جاءت به الرسل.
وقد أفرد هذه المسألة بالتصنيف غير واحد من أهل العلم، وحكى الإجماع عليها، وأنها من ضروريات الإسلام، كما ذكره تقي الدين ابن تيمية وابن قيم الجوزية، وابن عقيل، وصاحب الفتاوى البزازية، وصنع الله الحلبي، والمقريزي الشافعي، ومحمد بن حسين النعيمي الزبيدي، ومحمد بن إسماعيل الصنعاني، ومحمد بن علي الشوكاني، وغيرهم من أهل العلم.
__________
1 في ط الرياض: "والمعتبرة".
ص -162-(53/52)
والشيخ رحمه الله لم يكفر طوائف المسلمين، وإنما كفر طوائف المشركين والخارجين المارقين من دين الإسلام، فإن الأحداث لا تزال موجودة في الأمة تقل وتكثر من عهد الصحابة إلى أن تقوم الساعة.
فقد كفر الصحابة رضي الله عنهم من كفروه من أهل الردة على اختلافهم، وكفر علي الغلاة، وكفر من بعدهم من العلماء القدرية ونحوهم كتكفيرهم للجهمية، وقتلهم لجعد بن درهم، وجهم بن صفون، ومن على رأيهم، وقتلهم للزنادقة، وهكذا في كل قرن وعصر من أهل العلم والفقه والحديث طائفة قائمة تكفر من كفره الله ورسوله، وقام الدليل على كفره، لا يتحاشون عن ذلك، بل يرونه من واجبات الدين، وقواعد الإسلام، وفي الحديث "من بدل دينه فاقتلوه"1.
وبعض العلماء يرى أن هذا والجهاد عليه ركن لا يتم الإسلام بدونه، وقد سلك سبيلهم الأئمة الأربعة المقلدون
__________
1 أخرجه البخاري في صحيحه –كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم- باب حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم عن عكرمة قال: "أتي علي رضي الله عنه بزنادقة فأحرقهم، فبلغ ذلك ابن عباس. فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم لنهي النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تعذبوا بعذاب الله" ولقتلتهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه" 12/267 –فتح.
وأخرجه أبو داود 4/520-521، والترمذي 4/59، والنسائي 7/104-105، وابن ماجه 2/848.
ص -163-(53/53)
وأتباعهم في كل عصر ومصر، وكفروا طوائف أهل الإحداث كالقرامطة والباطنية، وكفروا العبيديين ملوك مصر، وقاتلوهم وهم يبنون المساجد، ويصلون ويؤذنون ويدعون نصر أهل البيت.
وصنف ابن الجوزي كتاباً سماه "النصر على مصر" ذكر فيه وجوب قتالهم وردتهم، وأن دارهم دار حرب.
وقد عقد الفقهاء في كل كتاب من كتب الفقه المصنفة على مذاهبهم باباً مستقلاً في حكم أهل الإحداث التي توجب الردة، وسماه أكثرهم "باب الردة"، وعرفوا المرتد بأنه: الذي يكفر بعد إسلامه، وذكروا أشياء دون ما نحن فيه من المكفرات، حكموا فيه بكفر فاعلها، وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم، فما المانع من1 تكفير من أشرك بالله، وعدل به سواه، واتخذ معه الآلهة والأنداد، وإنما يهمل هذا من لم يؤمن بالله ورسوله، ولم يعظم أمره، ومن لم يسلك صراطه، ولم يقدر الله ورسوله حق قدره، بل ولا قدر علماء الأمة وأئمتها حق قدرهم.
وأما قوله: (فعمد إلى الآيات القرآنية النازلة في المشركين فجعلها عامة شاملة لجميع المسلمين الذين
__________
1 سقطت: "من" من ط الرياض.
ص -164-(53/54)
يزورون قبر نبيهم صلى الله عليه وسلم، ويستشفعون به إلى ربهم، نابذاً وراء ظهره كل ما خالف أمانيه الباطلة، وسولت له نفسه الأمارة بالسوء من أحاديث سيد المرسلين، وأقوال أئمة الدين والمجتهدين).
فالجواب أن يقال: هذا كذب على الشيخ، فإنه ما عمد إلى الآيات القرآنية النازلة في المشركين فجعلها عامة شاملة لجميع المسلمين، وإنما استدل بالآيات القرآنية النازلة في المشركين وجعلها عامة شاملة لمن أشرك بالله، وعدل به سواه، وبدل دينه، وفعل كما فعل المشركون من صرف خالص حق الله لمن أشركوا به، واتخذوهم شفعاء من دونه. وسيأتي الكلام على هذا في محله إن شاء الله تعالى.
وقوله: (نابذاً وراء ظهره ... إلى آخره).
أقول: إنما نبذ وراء ظهره كل ما خالف كتاب الله وسنة رسوله، وخالف أقوال أئمة الدين المجتهدين، وهو –ولله الحمد- متبع لا مبتدع، وإنما أمانيه القيام بأوامر الله وشرعه ودينه، ودعوة الناس إلى ذلك، والجهاد على ذلك، ولم تسول له نفسه ما يخالف الكتاب والسنة، وإنما
ص -165-(53/55)
قام أشد القيام في اتباع الكتاب والسنة، ورد ما خالفهما، وترك ما ألفه أعداء الله ورسوله الزنادقة من الأحاديث المكذوبة الموضوعة، وإذا لم يجد في كتاب الله وسنة رسوله شيئاًَ اعتمد على أقوال أئمة الدين والعلماء المجتهدين، وذلك معروف في رسائلة ومصنفاته، ولا ينكره إلا مكابر.
وأما قوله: (حتى إنه لما رأى الإجماع مصادماً لما ابتدعه أنكره من أصله).
فأقول: ما أنكر الشيخ إلا إجماع أهل الكفر بالله، والإشراك به: على عبادة غير الله، وجعلهم معه آلهة وأنداداً يستغيثون بهم، وبلجئون إليهم في الرغبات والرهبات والطلبات، ويطلبون منهم تفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، ويصرفون لهم خالص حق الله من الدعاء، والحب والتعظيم والخوف والرجاء والتوكل والإنابة والاستغاثة، والذبح والنذر والالتجاء وسائر أنواع العبادة التي صرفها المشركون لغير الله.
وخرق هذا الإجماع واجب على كل مسلم، وليس هذا هو الإجماع الذي يشير إليه العلماء، الذي من خالفه فقد ضل، وإنما هذا هو إجماع من ضل عن الصراط المستقيم، وهم
ص -166-(53/56)
الأكثرون، كما قال الله تعالى {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103]، وقال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه} [الأنعام:116]، وقال تعالى: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [الأعراف:102]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سبأ:20].
وأما قوله: (ولا أرى للناس بعد كتاب الله الذي جمع فأوعى كل رطب ويابس، وتغافل عما جاء به كتاب الله من قوله تعالى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً}[النساء: 115]).
فأقول: هذا الكلام بهذا اللفظ لا يثبت عن الشيخ، ولم نره في شيء من كتبه، ولا في كلامه، ولا في رسائله، بل الذي في كتبه ومصنفاته الأمر بالاعتصام بالكتاب والسنة.
قال رحمه الله تعالى في مصنفه "أصول الإيمان": باب الوصية بكتاب الله عز وجل. وقول الله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف:3] عن زيد بن أرقم رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فحمد الله وأثنى، ثم قال: "أما بعد
ص -167-(53/57)
أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، وإني تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله، وتمسكوا به"، فحث على كتاب الله، ورغب فيه، ثم قال: "وأهل بيتي"، وفي لفظ: "كتاب الله هو حبل الله ومن اتبعه كان على الهدى ومن تركه كان على الضلالة" رواه مسلم1.
وله في حديث جابر الطويل أنه صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم عرفة: "وقد تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا إن اعتصمتم به كتاب الله، وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟" قالوا نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت. قال بأصبعه السبابة يرفعه إلى السماء وينكبها إلى الأرض "اللهم اشهد" ثلاث مرات2.
وعن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنها ستكون فتنة" فقلنا: ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: "كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله، هو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا
__________
1 في كتاب فضائل الصحابة من صحيحه 42/1873.
2 أخرجه مسلم في كتاب الحج من صحيحه 2/890.
ص -168-
تلتبس به الألسنة، ولا تشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم" رواه الترمذي وقال: غريب1.
وعن أبي الدرداء مرفوعاً قال: "ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عافية، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن ينسى شيئاً {وَمَا كَانَ(53/58)
__________
1 أخرجه الترمذي في سننه –كتاب فضائل القرآن- 5/172-173 من طريق حمزة الزيات عن أبي المختار الطائي عن ابن أخي الحارث الأعور عن الحارث عن علي... به مرفوعاً.
قال الترمذي: هذا حديث [غريب] لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وإسناده مجهول، وفي الحارث مقال اهـ.
وتعقبه ابن كثير حيث قال في فضائل القرآن ص 7: قلت: لم ينفرد بروايته حمزة بن حبيب الزيات، بل رواه محمد بن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي عن الحارث الأعور: فبرئ حمزة من عهدته. على أنه وإن كان ضعيف الحديث فإنه إمام في القراءة.
والحديث مشهور من رواية الحارث الأعور، وقد تكلموا فيه، بل قد كذبه بعضهم من جهة رأيه واعتقاده، أما أنه تعمد الكذب في الحديث فلا. والله أعلم.
وقصارى هذا الحديث أن يكون من كلام أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، وقد وهم بعضهم رفعه. وهو كلام حسن صحيح.
على أنه قد روي له شاهد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم... اهـ.
ص -169-
رَبُّكَ نَسِيّاً}" رواه البزار وابن أبي حاتم والطبراني1 إلى آخر الباب، ثم قال:
باب تحريضه صلى الله عليه وسلم على لزوم السنة، والترغيب في ذلك، وترك البدع والتفرق والاختلاف والتحذير من ذلك.
عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة فقال رجل: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال: "أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن كان عبداً حبشياً، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة" صححه الترمذي2.(53/59)
__________
1 قال الهيثمي في مجمع الزوائد 1/171: إسناده حسن، ورجاله موثقون اهـ.
2 أخرجه أحمد 4/126-127، وأبو داود 5/13-14-15، والترمذي 5/44-45، وابن ماجه 1/15-16-17.
قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وقال الحاكم في المستدرك 1/95: هذا حديث صحيح ليس له علة. وأقره الذهبي على هذا. وصححه ابن قدامة في "الحث على السنن واجتناب البدع" وقال الحافظ ابن كثير في تخريج أحاديث مختصر ابن الحاجب ص 163: صححه الحافظ أبو نعيم الأصفهاني، والدغولي، وقال شيخ الإسلام الأنصاري: هو أجود حديث في أهل الشام وأحسنه اهـ.
وصححه شيخ الإسلام ابن تيمية في الاقتضاء 2/579.
ص -170-
ولمسلم عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة".
وللبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه رفعه: "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى" قيل: ومن يأبى؟ قال: "من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى" إلى آخر الباب.
وله مصنفات ورسائل مملوءة بكلام الأئمة المهتدين، والعلماء المجتهدين، وله مختصر "ألشرح الكبير" و"الإنصاف" على مذهب أحمد، ولكن الهوى يعمي ويصم.
وأما قوله: (وتغافل عما جاء به كتاب الله من قوله {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} الآية).
فالجواب أن نقول: إن اتباع سبيل المؤمنين لا يخالف كتاب الله وسنة رسوله، والإجماع لا يخالف ما أمر الله به ورسوله، فمن خرج عن كتاب الله وسنة رسوله لم يكن من المؤمنين، واتباع سبيل المؤمنين، هو تقديم كتاب الله وسنة رسوله على قول كل أحد كائناً من كان.
ص -171-(53/60)
قال الإمام الشافعي رحمه الله: "أجمع الناس على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد كائناً من كان".
وقد اتبع رحمه الله سبيل المؤمنين، فكان على ما كان عليه السلف الصالح، والأئمة المهتدون في باب معرفة الله وأسمائه وصفاته، وباب العمل والعبادة لا يخالفهم في كل ذلك، لكن من خرج عن سبيلهم، وعدل عن منهاجهم، كالجهمية والمعتزلة وغلاة عبادة القبور. وكان في الفروع على مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله كما هو مشهور في الرسالة التي اختصرت لأهل مكة، قال:
ولا ننكر1 على من قلد أحد الأئمة الأربعة دون غيرهم، لعدم ضبط مذاهب الغير، كالرافضة والزيدية، والإمامية، ونحوهم، ولا نقرهم على شيء من مذاهبهم الفاسدة، بل نجبرهم على تقليد أحد الأئمة الأربعة، ولا نستحق مرتبة الاجتهاد المطلق، ولا أحد لدينا يدعيها، إلا أننا في بعض المسائل إذا صح لنا نص جلي من كتاب أو سنة غير منسوخ، ولا مخصص، ولا معارض بأقوى منه،
__________
1 في ط الرياض: "ولا تنكر".
ص -172-(53/61)
وقال به أحد الأئمة الأربعة أخذنا به، وتركنا المذهب كإرث الجد والإخوة، فإنا نقدم الجد، وإن خالف مذهب الحنابلة، ولا نفتش على أحد في مذهبه، ولا نعترض إلا إذا اطلعنا1 على نص جلي كذلك مخالف لمذهب بعض الأئمة وكانت المسألة مما يحصل بها2 شعار ظاهر كإمام الصلاة، فنأمر الحنفي والمالكي مثلاً بالمحافظة على نحو الطمأنينة في الاعتدال، والجلوس بين السجدتين، لوضوح دليل ذلك، بخلاف جهر الإمام الشافعي بالبسملة، وشتان بين المسألتين، فإذا قوي الدليل أمرناهم للنص، وإن خالف المذهب، وذلك إنما يكون نادراً جداً، ولا مانع من الاجتهاد في بعض المسائل دون بعض، فلا مناقضة لعدم دعوى الاجتهاد المطلق، وقد سبق جمع من أئمة المذاهب الأربعة إلى اختيارات لهم في المسائل مخالفين للمذهب ملتزمين تقليد صاحبه" انتهى.
وأما قوله: (على أنه لم يأخذ من كتاب الله إلا ما نزل في المشركين من الآيات فأولها ظلماً منه، وتجاسراً على الله، تأويلاً يسهل له الحصول على أمنيته، وذلك بأن
__________
1 في ط الرياض: "طلعنا".
2 في ط المنار: "به".
ص -173-(53/62)
حملها على المسلمين فكفرهم منذ ستمائة عام، وهدر دماءهم، وأباح أموالهم، وجعل بلادهم بلاد حرب).
والجواب أن نقول: قد تقدم الجواب عن هذا فلا فائدة في الجواب عنه.
وما نعلم أنه له أمنية في دعوته الخلق إلى الله يتمنى حصولها إلا أن يعبدوا الله، ولا يشركوا به شيئاً، وأن يخلعوا الأنداد التي اتخذها المشركون أولياء من دونه ,{فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} [الأعراف:162]،{بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ}[الروم:29]، {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[القصص: 50] والله يهدي إلى صراط مستقيم.
وأما قوله: (وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل كما في الصحيحين: "الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله" الحديث. وفي الصحيحين من حديث ابن عمر1: "بني الإسلام على خمس، شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله" الحديث2،
__________
1 سقطت "ابن" من ط الرياض.
2 أخرجه البخاري في صحيحه –كتاب الإيمان- باب دعاؤكم إيمانكم 1/49. ومسلم في صحيحه –كتاب الإيمان- 1/45. وفي لفظ لمسلم: "على أن يوحد الله" وفي لفظ له أيضاً: "على أن يعبد الله ويكفر بما دونه".
ص -174-(53/63)
وقوله صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس: "آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله" الحديث كما في الصحيحين1. وقوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" الحديث. وقوله صلى الله عليه وسلم: "كفوا عن أهل لا إله إلا الله"2) انتهى.
مراده بإيراد هذه الأحاديث: أن من أتى بناقض من نواقض لا إله إلا الله كدعاء الغائبين والأموات والنذر لهم والذبح أنه لا يكفر {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:59]، وسيأتي الكلام عليها في محلها فيما بعد إن شاء الله تعالى.
__________
1 أخرجه البخاري في صحيحه –كتاب الإيمان- 1/129 وفي العلم 1/185 عن ابن عباس قال: إن وفد عبد القيس أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "من الوفد- أو من القوم؟"-... الحديث.
وأخرجه مسلم في صحيحه –كتاب الإيمان- 1/46-47-48-49-50 عن ابن عباس وأبي سعيد رضي الله عنهما.
2 أخرجه الطبراني في الكبير عن ابن عمر مرفوعاً. قال الهيثمي في المجمع 1/106 وفيه الضحاك بن حمزة عن علي بن زيد. وقد اختلف في الاحتجاج بهما اهـ.
ورمز السيوطي إلى ضعف الحديث في "الجامع".
ص -175-(53/64)
فصل
قال العراقي الملحد: (ومن عجيب أمره أنه يموه على الناس بدعوى توحيد الله وتنزيهه قائلاً: إن التوسل بغير الله شرك. مع أنه يفصح عن استواء الله تعالى على العرش بمثل الجلوس عليه، ويثبت له اليد، والوجه، والجهة، ويقول بصحة الإشارة إليه في السماء، ويدعي أن نزوله إلى السماء الدنيا حقيقة فيجسمه تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً فأين تنزيه الله تعالى بعد جعله جسماً يشترك معه حتى أخس الجمادات، وفي ذلك من التنقص والإزراء بألوهيته -سبحانه- ما هو منزه عنه).
فالجواب أن يقال لهذا الجهمي المشرك بالله في عبادته، النافي لصفاته ونعوت جلاله:
قد بينا فيما تقدم أن الشيخ لا يكفر بمجرد التوسل الذي يعرفه أهل العلم من لفظ التوسل. وأما التوسل باصطلاح هؤلاء الغلاة فسيأتي الكلام عليه في محله إن شاء الله تعالى.
ص -176-(53/65)
وأما قوله: (يفصح عن استواء الله تعالى على العرش بمثل الجلوس عليه).
فالجواب أن نقول: قد جاء الخبر بذلك عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي ضرب الله الحق على لسانه، كما رواه الإمام عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل في كتاب "السنة" له في1 الرد على الجهمية قال: حدثني أبي وعبد الأعلى بن حماد النرسي2 قالا حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن خليفة، عن عمر قال: "إذا جلس تبارك وتعالى على الكرسي سمع له أطيط كأطيط الرحل الجديد".
وهذا الحديث حدث به أبو إسحاق السبيعي مقرراً له كغيره من أحاديث الصفات، وحدث به كذلك سفيان الثوري، وحدث به أبو أحمد الزبيري ومحمد3 بن أبي
__________
1 سقطت "في" من ط الرياض.
2 في المطبوعة من "السنة" لعبد الله بن أحمد: حدثني أبي حدثنا عبد الرحمن –ابن مهدي- عن سفيان... الخ (ص70، ط السلفية بمكة) (1/301 ط الدكتور القحطاني) وسيكرر المؤلف رحمه الله تعالى هذا النقل ص 314.
3 في ط المنار: "وكمشد"!
ص -177-(53/66)