{وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى}. [النجم: 26]. وقال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى}. [الأنبياء:28]. ومن الآيات الخاصة بمن يدعو الملائكة وأمثالهم قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ}. الآية [سبأ:40].
وقال تعالى في شأن المسيح: {وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ*مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ*إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}. [المائدة: 116، 117، 118]1. فتأمل ما فيها من العلوم، إن كنت من ذوي الألباب والفهوم.
منها: أن اتخاذ الأنبياء والصالحين آلهة شرك ينبغي تنزيه الرب تعالى عنه.
وفيها براءة أولياء الله ممن أشرك بهم.
وفيها: أن الرسل ما أمرت الخلق إلا بما أرسلوا به من عبادة الله وحده.
__________
1 في "أ" وط: آل ثاني لم تذكر الآيات، وإنما فيها مبدأ الآية الأولى، إلى قوله: {إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ}.
ص -105-(34/5)
وفيها: برهان ما جاءت به الرسل من الأمر بالعبادة. وأن الرب الذي عمت ربوبيته جميع خلقه هو المستحق أن يعبد. وأن العبد المربوب ولو علت درجته كعيسى وغيره من الرسل أو الملائكة لا يكون شريكاً لربه ومالكه {ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ}. الآية [الروم:28].
والقرآن كله يدل على هذا، ولكن من عادة القرآن مراعاة1 ما تقتضيه الحال، فيطنب في محل الإطناب، ويوجز في محل الإيجاز، والبلاغة مطابقة الكلام لمقتضى الحال.
فظهر أن آية سورة فاطر التي أوردها دالة على ما دل عليه سائر الآيات، وأن فيها من العموم المستفاد من الصلة ما لا يتأتى معه التخصيص، وأن ما تقدم من الآيات دال على ذلك يعضد مفهوم من أوردها في المنع من دعاء الصالحين.
__________
1 في "أ" و"جـ": "مراعات".
ص -106-(34/6)
فصل
وقول العراقي: (هذه الآية صحيحة لكن الفهم باطل) مما يدل على جهله المركب، وكثافة فهمه، فإن القرآن أغنى وأعلى وأجل وأعظم من أن يعبر عنه بهذه العبارة، أو يقسم إلى صحيح وغيره.
وإنما تستعمل هذه العبارة فيما يقبل القسمة من الأحاديث، لأنها تنقسم إلى صحيح، وحسن، وضعيف، وموضوع1. ولا يُصَحِّح2 إلا من يضعف، ولا يحسّن إلا من يقبح.
وقد أنكر أبو حنيفة على رجل صار يحسن ما يسمع منه من الروايات، وزجره عن ذلك، وقال: "إنما يحسن من يقبح".
هذا في السنة ونحوها، فكيف بالقرآن الذي هو كله حق وهدى، تنزيل من حكيم حميد.
وقوله: (إن الدعاء هو السجود في هذه الآية، وأن نداء الصالحين ليس بعبادة) إلى آخر عبارته.
__________
1 قال النووي في "تقريبه": "الحديث: صحيح، وحسن، وضعيف".
قال السيوطي في شرح كلام النووي هذا: وإنما لم يذكر الموضوع لأنه ليس في الحقيقة بحديث اصطلاحاً، بل يزعم واضعه. اهـ من "تدريب الراوي" 1/ 62.
2 في "أ": "... وموضوع، أما القرآن فكله حق وهدى، تنزيل من حكيم حميد" فعلى هذا يكون قد سقط من هذه النسخة أربعة أسطر.
ص -107-(34/7)
فهذا الكلام نشأ عن جهله باللغة والشرع، وما جاءت به الأنبياء، فإن العبادة تتضمن غاية الخضوع والذل، ومنه طريق مُعَبَّد: إذا كان مذللاً قد وطئته الأقدام، هذا أصلها في اللغة.
وأما في الشرع فهي: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة. قاله شيخ الإسلام.
وقال بعضهم: هي ما أمر به شرعاً، من غير اقتضاء عقلي، ولا اطراد عرفي.
وقال بعضهم: هي فعل ما أمر الله به ورسوله، وترك ما نهى الله عنه ورسوله، ابتغاء وجه الله والدار الآخرة.
فدخل في هذه التعاريف والحدود جميع أنواع العبادات، فلا يقصد بها غير الله، ولا تصرف لسواه.
وهذا الغبي لم يعرف من أفرادها غير السجود.
ودعاءُ المسألة من أفضل أنواعها، وأجلها، كما في حديث النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الدعاء هو العبادة"1.
__________
1 أخرجه الإمام أحمد في مسنده 4/ 267-271-276-277، وأبو داود في سننه –كتاب الصلاة- 2/ 161، والترمذي في سننه –كتاب التفسير- 5/ 211، وفي –كتاب الدعاء- 5/ 456، وابن ماجه في سننه –كتاب الدعاء- 2/ 1258، وابن المبارك في الزهد ص 459، والطيالسي في مسنده ص108، وابن أبي شيبة في المصنف 10/ 200، والبخاري في الأدب المفرد 2/ 178، وابن جرير الطبري في تفسيره 24/ 78-79، وابن حبان في صحيحه –الموارد-(ص595) والطبراني في الصغير(2/97) والحاكم في مستدركه(1/ 490-491), والبغوي في شرح السنة 5/ 184، وفي تفسيره
ص -108-(34/8)
والحصر يقتضي الاختصاص الادعائي، والتمييز على سائر العبادات. قال بعض الشراح: هو كقوله: "الحج عرفة"1. أي ركن العبادة الأعظم هو الدعاء.
__________
-حاشية ابن كثير- 7/ 309، والقضاعي في مسند الشهاب 1/ 51، وأبو نعيم في الحلية 8/ 120 جميعهم من طريق يُسَيْع بن معدان عن النعمان بن بشير مرفوعاً ... به وسنده صحيح.
وصححه الحاكم وأقره الذهبي، وقال الترمذي: حسن صحيح، وصححه النووي، كما في الأذكار، وقال الحافظ في الفتح: إسناده جيد. 1/ 49. وحسنه السخاوي –كما في شرح الأذكار- لابن علاّن 7/ 191.
والحديث عزاه السيوطي في الدر المنثور 7/ 301 لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وأبي حاتم وابن مردويه وأبي نعيم في الحلية 8/ 120، والبيهقي في شعب الإيمان كلهم عن النعمان بن بشير ... به.
وأخرجه الخطيب في تاريخه 12/ 279، وابن مردويه –كما في الدر- 7/ 301 وأبو يعلى –كما في شرح الأذكار-7/ 191 عن البراء بن عازب رضي الله عنه.
1 أخرجه أبو داود في كتاب الحج من "سننه" باب من لم يدرك عرفة 2/ 485، والترمذي في "سننه" كتاب الحج، باب من أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج 2/ 188 ط السلفية بالمدينة المنورة، والنسائي في باب من لم يدرك صلاة الصبح مع الإمام بالمزدلفة 5/ 264 من سننه، وابن ماجه في "سننه" كتاب المناسك، باب من أتى عرفة قبل الفجر ليلة جمع 2/ 1003 جميعهم عن بكير بن عطاء عن عبد الرحمن بن يَعْمر: "أن ناساً من أهل نجد أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بعرفة، فسألوه، فأمر منادياً فنادى: "الحج عرفة ..." الحديث.
قال الترمذي: قال ابن أبي عمر: قال سفيان بن عيينة: "وهذا أجود حديث رواه سفيان الثوري". اهـ.
وقال ابن ماجه: قال محمد بن يحيى: "ما أرى للثوري حديثاً أشرف منه".
وقال الحاكم في المستدرك 1/ 464، 2/ 278: صحيح الإسناد وأقره الذهبي في التلخيص.
ص -109-(34/9)
وفي حديث أنس: "الدعاء مخ العبادة"1. ومخ الشيء خالصه ولُبُّه.
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "الدعاء سلاح المؤمن وعماد الدين"2. والعماد والعمود: ما يقوم به الشيء ويعتمد عليه، جعله عماداً3 لأنه لا يقوم إلا به. وأنت ترى كل العبادات الباطنة والظاهرة دالة على الطلب والمسألة على اختلاف المطلوب والمسؤول.
وكان هذا هو الوجه في التعبير بالدعاء دون العبادة في أكثر موارد القرآن والسنة.
ويشهد لهذا قوله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الدعاء يوم عرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل
__________
1 أخرجه الترمذي في سننه –كتاب الدعاء- 5/ 456 وقال: حديث غريب من هذا الوجه لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة. اهـ.
2 أخرجه الحاكم في المستدرك 1/ 492 من جهة محمد بن الحسن بن الزبير الهمداني ثنا جعفر بن محمد بن علي بن الحسين عن أبيه عن جده عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ... فذكره. قال الحاكم: هذا حديث صحيح، فإن محمد بن الحسن هذا هو التَّل، وهو صدوق في الكوفيين. اهـ. وأقره الذهبي في التلخيص.
وذكر الذهبي الحديث في "الميزان" في ترجمة التَّل مثالاً على مناكيره وقال: "فيه انقطاع" ثم ذكر الحديث في ترجمة "محمد بن الحسن بن أبي يزيد الهمداني" وقال: "وفيه انقطاع" وعليه فليحرر من محمد بن الحسن في هذا السند.
والحديث أخرجه أبو يعلى في مسنده 1/ 344 حدثنا الحسن بن حماد الكوفي حدثنا محمد بن الحسن بن أبي يزيد الهمداني عن جعفر بن محمد ... .
قال الهيثمي في "المجمع" 10/ 147: رواه أبو يعلى وفيه محمد بن الحسن بن أبي يزيد وهو متروك اهـ.
3 في ط: آل ثاني: "عماد".
ص -110-
شيء قدير1. وقد سئل ابن عيينة عن معناه، فأنشد قول أمية في عبد الله بن جدعان:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني
حياؤك إنَّ شيمتَك الحياءُ(34/10)
قال في "القاموس": الدعاء هو الرغبة إلى الله. انتهى.
وقال الحسين بن محمد النعمي: الدعاء في الأصل موضوع لأن يكون من فقير عاجز خاضع، لغني قادر عزيز قاهر. انتهى.
والدعاء يَرِدُ في الكتاب والسنة بمعنى الطلب والمسألة بامتثال الأمر واجتناب النهي، ويرد بمعنى المسألة والطلب بالصيغة القولية.
وقد فسر قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}. الآية [غافر:60] بدعاء العبادة، وبدعاء المسألة، والقولان معروفان، والآية تشمل النوعين. قاله شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره، وذكر أنهما متلازمان، فكل عابد سائل، وكل سائل عابد.
وقال رحمه الله: والدعاء والدعوة في القرآن يتناول معنيين: دعاء العبادة، ودعاء المسألة –وساق جملة من الآيات- ثم قال: ولفظ الصلاة في اللغة بمعنى الدعاء، وسميت به لتضمنها معنى الدعاء دعاءِ العبادة والمسألة. ثم قال: فأحد الاسمين يتناول الآخر عند تجرده عنه،
__________
1 أخرجه العقيلي في "الضعفاء" في ترجمة فرج بن فضالة الحمصي، من طريقه عن يحيى بن سعيد، عن نافع عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دعائي ودعاء الأنبياء قبلي عشية عرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير". قال العقيلي: لا يتابع عليه. اهـ ج 3/ 462.
وقال الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير" ج2/ 272: وفي إسناده فرج بن فضالة وهو ضعيف جداً. قال البخاري: منكر الحديث. اهـ.
ص -111-(34/11)
ويراد بالعابد من يطلب ذلك بامتثال الأمر، وإن لم يكن في ذلك صيغة سؤال، وسمي الذكر دعاء لما فيه من التعريض بالمسألة.
قال: وهذه الصيغة صيغة الطلب والاستدعاء إذا كانت مما لا1 يحتاج إليه الطالب، أو ممن يقدر على قهر المطلوب منه ونحو ذلك، فإنها تقال على وجه الأمر، إما لما في ذلك من حاجة الطالب، وإما لما فيه من نفع المطلوب منه. وأما إذا كانت من الفقير من كل وجه، للغني من كل وجه، فإنها سؤال محض بتذلل وافتقار. انتهى.
قلت: وقد نص على ما ذكره الشيخ من الفرق علماء المعاني صاحب "المفتاح" وغيره. وفرقوا في الصيغة الواحدة نظراً للمخاطب والمخاطِب –بكسر الطاء- فقالوا: هي من الأعلى أمر، ومن المساوي التماس، ومن دونه مسألة وطلب.
وقد فسر قوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً}. [الأعراف:55] بدعاء المسألة، قاله العلامة ابن القيم، وقرر2 أنه في هذه الآية أظهر. وذكر أن استعمال الدعاء في العبادة والمسألة من استعمال اللفظ في حقيقته الواحدة، ليس من المشترك، ولا المتواطئ، ولا المجاز.
وقوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ}. [الإسراء:67] ظاهر في دعاء المسألة لمناسبة الحال والواقع.
و3في حديث عكرمة بن أبي جهل لما فرَّ يوم الفتح إلى السِّيْف، وركب البحر، جاءتهم ريح عاصف، وظنوا الهلكة، أخلصوا الدعاء لله،
__________
1 في "أ": "مما يحتاج".
2 في ط: آل ثاني: "وقوله".
3 سقطت "و" من: "جـ" وط: آل ثاني.
ص -112-(34/12)
وصاروا يتواصون بذلك، ويقول بعضهم لبعض لا ينجي في مثل هذا إلا الله. فقال عكرمة: إن كان لا ينجي في الشدة إلا هوتعالى، فكذلك لا ينجي في الرخاء إلا هو. وقال: لئن أنجاني الله لأرجعن إلى محمد، ولأضعن يدي في يده، فكان ذلك، وأسلم وحسن إسلامه –رحمه الله- والقصة معروفة عند أهل العلم1.
وفي الحديث: "دعوة أخي ذي النون ما دعا بها مكروب إلا فرج الله عنه"2 سماها دعوة، وهي سؤال وطلب، وتوسل بالتوحيد.
__________
1 قال الحافظ ابن حجر في "الإصابة": وقد أخرج قصة مجيئه –أي عكرمة- موصولة: الدارقطني (انظر السنن 3/ 59 كتاب البيوع، و4/ 167 في كتاب النذور) والحاكم (انظر المستدرك 2/ 54 كتاب البيوع) وابن مردويه، من طريق أسباط بن نصر عن السدي، عن مصعب بن سعد، عن أبيه قال: "لما كان يوم فتح مكة آمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناسَ إلا أربعة نفر ..." انتهي. وقد أخرجه البيهقي في "سننه" كتاب الجزية، 9/ 212، وكتاب المرتد 8/ 202، 205.
وأخرجه أيضاً في "دلائل النبوة" ج5/ 59، وانظر "الدلائل" أيضاً جـ 5/ 98 وقد نقله عنه ابن كثير في "السيرة النبوية" –المأخوذة من البداية والنهاية- 3/ 565.
2 أخرجه الإمام أحمد في "المسند" 1/ 170، والترمذي في "الجامع" 5/ 529، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" ص416، وأبو يعلى في "مسنده" 2/ 110-111، والبزار –كما في كشف الأستار- 4/ 43، وأبو عبد الله الحاكم في "المستدرك" 1/ 505، و2/ 382-383-583، والبيهقي في "الجامع لشعب الإيمان" 2/ 521، والطبراني في "الدعاء" 2/ 838 جميعهم من طريق يونس بن أبي إسحاق حدثنا إبراهيم بن محمد بن سعد حدثني والدي محمد عن أبيه سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دعوة ذي النون إذ هو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت، سبحانك، إني كنت من الظالمين، فإنه لم يدعُ بها مسلمٌ ربَّه في شيء قط إلا استجاب له". هذا لفظ أحمد، وألفاظهم(34/13)
متقاربة. وقد ساق قبله الإمام أحمد وأبو يعلى قصة.
وفي لفظ الحاكم 1/ 505 من هذا الطريق: "ألا أخبركم بشيء إذا نزل برجل منكم
ص -113-
والعراقي يقول: (لا تسمى دعاء وإنما هي نداء) وهذا رد على رسول الله، وتكذيب بآيات الله، وقول على الله بغير علم.
وفي السنن من حديث حصين بن عبد الرحمن الخزاعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له حين أسلم: "كم كنت تعبد؟ قال: سبعة، واحد في السماء، وستة في الأرض، قال: "فمن الذي تعد لرغبتك ورهبتك؟" قال: الذي في السماء"1.
ومن هذا الباب قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}. [الأنعام:40] الآية. وهذا الدعاء ظاهر في دعاء المسألة حال الشدة والضرورة.
__________
1 أخرجه الترمذي في "سننه" كتاب الدعوات، 5/ 519 من طريق أبي معاوية عن شبيب بن شيبة عن الحسن البصري عن عمران بن حصين ... الحديث.
وقال عقبه: هذا حديث غريب.
وقد روى هذا الحديث عن عمران بن حصين من غير هذا الوجه. اهـ.
وأخرجه البخاري في التاريخ الكبير من هذا الطريق أيضاً، واختصر المتن 3/ 3.
وأخرجه أحمد في "المسند" 4/ 444 من طريق منصور عن ربعي بن حراش عن عمران بن حصين أو غيره ... الحديث، وليس فيه سؤال النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه زيادة في الدعاء الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم له.
وأخرجه الحاكم من هذا الطريق أيضاً، وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين وأقره الذهبي. (المستدرك 1/ 510).
تنبيه: في الطبعة الأولى من هذا الكتاب –بتعليقي- حاشية على هذا الحديث فيها: (أخرجه الإمام أحمد 1/ 170) وهذا خطأ وذلك لأن هذا العزو لأحمد برقم هذه الصفحة وهذا الجزء إنما هو لحديث سعد بن أبي وقاص الذي تقدم تخريجه قبل هذا الحديث ص113، فدمجه الطابع –هداه الله- مع تخريج هذا الحديث، مع أني قد(34/14)
رقمته بيدي في تخريج الحديث السابق، فلينتبه.
ص -115-
وقال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}. [العنكبوت:65].
وما زال أهل العلم يستدلون بالآيات التي فيها الأمر بدعاء الله، والنهي عن دعاء غيره، على المنع من مسألة المخلوق ودعائه، بما لا يقدر عليه إلا الله، وكتبهم مشحونة بذلك، لا سيما شيخ الإسلام، وتلميذه ابن القيم، اللذين1 يزعم هذا العراقي أنه على طريقتهما.
أيها المدَّعِي سُلَيْمى سفاهاً2
لستَ منها ولا قلامةَ ظُفْرِ
إنما أنتَ من سُلَيْمى3 كواوٍ
ألحقت في الهجاء ظلماً بعَمْرِو
يوضح هذا أن ما لا يقدر عليه إلا الله4 من الأمور العامة الكلية لهداية القلوب, ومغفرة الذنوب, والنصر على الأعداء, وطلب الرزق من غير جهة معينة, والفوز بالجنة, والإنقاذ من النار, ونحو ذلك غاية في القصد والإرادة، فسؤاله وطلبه غاية في السؤال والطلب، وفي ذلك من الذل وإظهار الفاقة والعبودية، ما لا ينبغي أن يكون لمخلوق، أو يقصد به غير الله. وهذا أحد الوجوه في الفرق بين دعاء المخلوق فيما يقدر عليه من الأسباب العادية الجزئية، وبين ما تقدم، مع أن سؤال المخلوق قد يحرم مطلقاً.
__________
1 في ط: آل ثاني: "الذين".
2 في "أ" و"جـ": (وصل ليلى).
3 في "أ" و"جـ": (ليلى).
4 سقطت: "إلا الله" من ط: آل ثاني.
ص -116-(34/15)
ومسألة المخلوق في الأصل محرمة، وإنما أبيحت للضرورة. قال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ*وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}. [الشرح:7-8].
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه بايع نفراً من أصحابه أن لا يسألوا الناس شيئاً. فكان أحدهم يسقط السوط من يده فلا يقول لأحد ناولنيه1.
وقد اشتهر عنه صلى الله عليه وسلم أنه منع من تعليق الأوتار والتمائم، وأمر بقطعها، وبعث رسوله بذلك2، كما في السنن وغيرها. وقال: "من
__________
1 أخرج الإمام مسلم في "صحيحه" كتاب الزكاة 2/ 721 عن عوف بن مالك الأشجعي قال: "كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة أو ثمانية أو سبعة. فقال: "ألا تبايعون رسول الله؟" وكنا حديث عهد ببيعة، فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله. ثم قال: "ألا تبايعون رسول الله؟" فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله. ثم قال: "ألا تبايعون رسول الله؟" فبسطنا أيدينا وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، فعلامَ نبايعك؟ قال: "على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً, والصلوات الخمس، وتطيعوا –وأسرّ كلمة خفيفة- ولا تسألوا الناس شيئاً" فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم، فما يسأل أحداً يناوله إياه".
2 أخرج البخاري في صحيحه –كتاب الجهاد- باب ما قيل في الجرس ونحوه في أعناق الإبل، 6/ 141، ومسلم في صحيحه –كتاب اللباس والزينة- 3/ 1672-1673، كلاهما من طريق عبد الله بن أبي بكر عن عباد بن تميم أن أبا بشير الأنصاري أخبره أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره –قال عبد الله: حسبت أنه قال: والناس في مبيتهم –فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولاً: "لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر أو قلادة إلا قطعت".
قال الإمام مسلم بعد إخراجه: قال مالك: أرى ذلك من العين. اهـ.
ص -117-(34/16)
تعلق شيئاً وكل إليه"1.
__________
1 أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" 4/ 310-311، والترمذي في "جامعه" كتاب الطب –باب ما جاء في كراهية التعليق- كلاهما من جهة محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عيسى أخيه، قال: دخلتُ على عبد الله بن عُكيم أبي معبد الجهني أعوده، وبه حمرة، فقلنا: ألا تعلق شيئاًَ؟ قال: الموت أقرب من ذلك. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من تعلق شيئاً وكل إليه". هذا سياق الترمذي، وقال عقب إخراجه: حديث عبد الله بن عكيم إنما نعرفه من حديث محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وعبدالله بن عكيم لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم، وكان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: كتب إلينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. اهـ.
ونسبه المنذري في "الترغيب والترهيب" 5/ 268، والتبريزي في "مشكاة المصابيح" 2/ 1285، وابن الأثير في "جامع الأصول" 7/ 575، والشيخ سليمان بن عبد الله في "تيسير العزيز الحميد" ص 168: إلى أبي داود. وقد نفى المعلق على "جامع الأصول" وجود الحديث في أبي داود.
ومما يؤيد ذلك أن المزي –رحمه الله تعالى- لم ينسبه إلى أبي داود في "التحفة" 5/ 317، وقال الحافظ ابن مفلح في "الآداب" 3/ 77: وقال بعضهم: رواه أبو داود. اهـ.
ووقع عند من نسبه إلى أبي داود: "عن عيسى بن حمزة قال: دخلت على عبدالله ...". والصواب: عيسى بن عبد الرحمن.
والحديث أخرجه –من طريق ابن أبي ليلى ... به- غير من تقدم: ابن أبي شيبة في "المصنف" كتاب الطب 8/ 13، والحاكم في "المستدرك" كتاب الطب 4/ 216، والبيهقي في "سننه" كتاب الضحايا –باب التمائم 9/ 351، والطبراني في "المعجم الكبير" 22/ 385 في ترجمة أبي معبد الجهني، وقال الطبراني: وقد قيل إنه عبد الله بن عكيم اهـ. قلت: بذا جزم الحاكم وغيره.
قال الهيثمي في "مجمع الزوائد": رواه الطبراني في ترجمة أبي معبد الجهني، في الكنى، قال: وقد قيل: إنه(34/17)
عبدالله بن عكيم. قلت: فإن كان هو فقد ثبتت صحبته بقوله:
ص -118-
__________
سمعت. وفي إسناده محمد بن أبي ليلى وهي سيئ الحفظ. انتهى كلام الهيثمي.
قال كاتبه: لا يثبت سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم بمثل هذا السند الذي فيه ابن أبي ليلى، والذي عليه الأئمة أبو حاتم، والبخاري، وأبو نعيم، وأبو زرعة، وابن حبان وغيرهم: أنه لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً.
وللحديث شاهد من حديث أبي هريرة، أخرجه النسائي في "سننه" كتاب تحريم الدم، باب الحكم في السحرة، من طريق عباد بن ميسرة المنقري عن الحسن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من عقد عقدةً ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئاً وكل إليه".
قال الحافظ المنذري في "الترغيب والترهيب" 4/ 32:
رواه النسائي من رواية الحسن عن أبي هريرة، ولم يسمع منه عند الجمهور. اهـ.
وقال العلامة الحافظ ابن مفلح –رحمه الله تعالى- في "الآداب" 3/ 78 بعد أن نقل عن الذهبي قوله في "الميزان2/ 378": لا يصح –أي هذا الحديث- للين عبّاد، ولانقطاعه. قال ابن مفلح: كذا قال، ويتوجه أنه حديث حديث حسن. اهـ. قلت: أي بشواهده.
ومن شواهد الحديث: ما أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" 11/ 209: أخبرنا معمر عن أبان عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من علق علقة وكل إليها".
وأخرجه البيهقي في "سننه" 9/ 351 من طريق جرير بن حازم قال: سمعت الحسن البصري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ... فذكره.
ومن شواهده أيضاً ما أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" 8/ 17: حدثنا وكيع عن شعبة عن قتادة عن واقع بن سحبان قال: قال عبد الله: "من تعلق شيئاً وكل إليه".
وأخرجه البيهقي في "السنن" 9/ 351 من جهة شعبة عن قتادة عن واقع بن سحبان عن أسير بن جابر قال: قال عبدالله ... فذكره.
وواقع بن سحبان هو أبو عقيل البصري، ذكره(34/18)
البخاري في "التاريخ الكبير" 8/ 189 وابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" 9/ 49، ولم يذكرا فيه جرحاً ولا تعديلاً.
ص -119-
بل نهى عن قول الرجل: ما شاء الله وشئت. وقال لمن قال له ذلك: "أجعلتني لله نداً"1.
__________
وذكره ابن حبان في "الثقات" 5/ 498.
وقد روى عنه: قتادة بن دعامة السدوسي، وثابت البناني، وحميد الطويل.
وروى عن: أبي موسى، وعمران بن حصين، وأسير بن جابر.
ولم يذكر من ترجمه أنه روى عن عبد الله بن مسعود، فلعل ما وقع في سند ابن أبي شيبة خطأ من الناسخ، فليحرر.
ومن شواهده أيضاً ما رواه ابن حبان في "صحيحه" أخبرنا الفضل بن حباب، حدثنا أبو الوليد الطيالسي، حدثنا مبارك بن فضالة، عن الحسن، عن عمران بن حصين: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في يد رجل حلقة من صفر، فقال: ما هذا؟ قال: من الواهنة. قال: ما تزيدك إلا وهناً، انبذها عنك، فإنك إن تمت وهي عليك وكلت إليها".
وأخرجه أيضاً من جهة أبي عامر الخزاز عن الحسن عن عمران ... به، وفيه "أيسرّك أن توكل إليها؟".
قال الحافظ المنذري في "الترغيب والترهيب" 5/ 268-269 بعد أن عزا الحديث لأحمد وابن ماجه وابن حبان والحاكم، وبَيَّنَ ألفاظهم:
رووهم كلهم عن مبارك بن فضالة عن الحسن عن عمران. ورواه ابن حبان أيضاً بنحوه عن أبي عامر الخزاز عن الحسن عن عمران، وهذه جيدة، إلا أن الحسن اخنلف في سماعه من عمران، وقال ابن المديني وغيره: لم يسمع منه، وقال الحاكم: أكثر مشايخنا على أن الحسن سمع من عمران. والله أعلم. اهـ.
وقال ابن مفلح في "الآداب" على هذا الحديث: "... ورواه ابن ماجه من حديث وكيع عن المبارك. والمبارك مختلف فيه، وهو مدلس. وقال أحمد: ما روى عن الحسن لا يحتج به. اهـ.
1 أخرجه الإمام أحمد في "المسند" 1/ 214-224-283-347، وابن ماجه في "السنن" 1/ 684، والبخاري في "الأدب المفرد" 2/ 253 –مع شرحه- والنسائي(34/19)
ص -120-
ومنع من التبرك بالأشجار والأحجار. وقال لأبي واقد الليثي وأصحابه من مسلمة الفتح لما قالوا له: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط: " قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}"1.
__________
في "عمل اليوم والليلة" 545-546، وابن أبي الدنيا في "الصمت وآداب اللسان" ص 414، وابن السني في "عمل اليوم والليلة" ص 180-181، رقم 667، والطحاوي في "مشكل الآثار" 1/ 90، والطبراني في "الكبير" 12/ 244، والبيهقي في "السنن" 3/ 217، وفي "الأسماء والصفات" ص 182، وأبو نعيم في "الحلية" 4/ 99، والخطيب في "تاريخ بغداد" 8/ 105، جميعهم من جهة الأجلح بن عبد الله عن يزيد بن الأصم عن ابن عباس ... به.
قال البوصيري في "الزوائد": وفي إسناده الأجلح بن عبد الله مختلف فيه، ضعفه الإمام أحمد، وأبو حاتم، والنسائي، وأبو داود، وابن سعد. ووثقه ابن معين، ويعقوب بن سفيان، والعجلي. وباقي الإسناد ثقات. اهـ.
وقد لخص الحافظ ابن حجر أقوال أهل الجرح والتعديل فيه فقال: "صدوق" كما في التقريب. وكذا قال الذهبي في "ديوان الضعفاء" ص 15.
وعلى هذا قال العلامة المحدث الشيخ محمد ناصر الدين الألباني –حفظه الله تعالى- في "السلسلة الصحيحة" 139: إسناده حسن.
1 أخرجه الإمام أحمد في "المسند" 5/ 218، والترمذي في كتاب الفتن من "جامعه" 4/ 475، والنسائي في الكبرى –كما في تحفة الأشراف 11/ 112، والاقتضاء لشيخ الإسلام ابن تيمية 1/ 146، والشافعي "بدائع المنن" 23، والطيالسي في "مسنده" ص 191، وعبد الرزاق في "المصنف" 11/ 369، وابن أبي شيبة في "المصنف" 15/ 101، والحميدي في "المسند" 2/ 375، وابن أبي عاصم في "السنة" 1/ 37، والمروزي في "السنة" ص 11-12، والطبراني في "الكبير" 3/ 275-276، وابن حبان في "صحيحه" –الإحسان- 8/ 248، والبيهقي في
ص -121-(34/20)
ونهى عن الصلاة عند القبور وإن لم يقصدها المصلي. ولعن من فعل ذلك، وأخبر أنهم شرار الخلق عند الله1.
__________
"دلائل النبوة" 5/ 124-125، وفي "المعرفة" 1/ 108، وابن إسحاق –كما في سيرة ابن هشام 4/ 70-71 والبداية والنهاية 4/ 362، وابن جرير الطبري في "تفسيره" 9/ 45-46، والبغوي في "تفسيره" 3/ 544 –حاشية ابن كثير- جميعهم عن سنان بن أبي سنان الدؤلي عن أبي واقد الليثي ... به.
1 يشير المؤلف –رحمه الله تعالى- إلى عدّة أحاديث، فأما حديث النهي عن الصلاة عند القبور فتقدم.
وأما حديث: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ...". فأخرجه الإمام أحمد 1/ 218-6/ 34-228-275، والبخاري في كتاب الصلاة من "صحيحه" 1/ 532 – وفي المغازي 8/ 140- وفي الأنبياء 6/ 494 – وفي اللباس 10/ 277.
ومسلم في كتاب المساجد من "صحيحه" 1/ 377 جميعهم من طريق الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن عائشة وابن عباس قالا: ... الحديث.
وأخرجه أحمد 6/ 274 عن عبيد الله عن عائشة ... به.
وأخرجه الإمام أحمد أيضاً 6/ 80-121-255، والبخاري في كتاب الجنائز من "صحيحه" 3/ 200-255 كلاهما عن عروة عن عائشة.
وأخرجه الإمام أحمد 6/ 146-252 عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن عائشة ... به.
وأخرجه أحمد أيضاً 2/ 284، 285، 366، 396، 435، 454 ومسلم في "صحيحه" 1/ 376 من طريق الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة.
وأخرجه الإمام أحمد في "المسند" 2/ 246 عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة.
وأخرجه مسلم 1/ 377 عن يزيد بن الأصم عن أبي هريرة.
وللحديث طرق وشواهد غير ما ذكر.
وأما الحديث الثالث الذي يشير إليه المؤلف، فأخرجه البخاري في "صحيحه" –كتاب الصلاة- 1/ 523، 524، 531، وفي كتاب الجنائز، 3/ 208، وفي كتاب مناقب الأنصار 7/ 187-188.
ص -122-(34/21)
ونهى عن الذبح لله في مكان يذبح فيه لغيره1، حسماً لمادة الشرك، وقطعاً لوسائله، وسداً لذرائعه، وحماية للتوحيد، وصيانة لجانبه.
فمن المستحيل شرعاً وفطرة وعقلاً؛ أن تأتي هذه الشريعة المطهرة الكاملة بإباحة دعاء الموتى والغائبين، والاستغاثة بهم في المهمات والملمات، كقول النصراني: يا والدة المسيح اشفعي لنا إلى الإله، أو يا عيسى، أعطني كذا، وافعل بي2 كذا، وكذلك قول القائل: يا علي، أو يا حسين، أو يا عباس، أو يا عبد القادر، أو يا عيدروس، أو يا بدوي، أو فلان وفلان: أعطني كذا، أو أجرني من كذا، أو أنا في حسبك، أو نحو ذلك من الألفاظ الشركية، التي3
__________
ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة من "صحيحه" كلاهما عن عائشة أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة، فيها تصاوير، لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح، فمات، بَنَوْا على قبره مسجداً، وصوّروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة".
1 يشير المؤلف –رحمه الله تعالى- إلى ما رواه أبو داود في سننه –كتاب الأيمان والنذور- 3/ 607 من جهة يحيى بن أبي كثير، قال: حدثني أبو قلابة، قال حدثني ثابت بن الضحاك، قال: "نذر رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحر إبلاً ببُوانة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنى نذرت أن أنحر إبلاً ببوانة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟" قالوا: لا. قال: "هل كان فيها عيد من أعيادهم؟" قالوا: لا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوفِ بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم".
قال الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير" 4/ 198: "بسند صحيح".
2 في ط: آل ثاني: "لي".
3 في "أ": "اللتي".
ص -123-(34/22)
تتضمن1 العدل بالله، والتسوية به تعالى وتقدس، فهذا لا تأتي شريعة ولا رسالة بإباحته قط، بل هو من شُعَب الشرك الظاهرة الموجبة للخلود في النار، ومقتِ العزيز الغفار.
وقد نص على ذلك مشايخ الإسلام، حتى ذكره ابن حجر في "الإعلام" مقرراً له.
وتأويل الجاهلين، والميل إلى شبه المبطلين، هو الذي أوقع هؤلاء وأسلافهم الماضين، من أهل الكتاب والأميين، في الشرك بالله رب العالمين.
فبعضهم يستدل على شركه بالمعجزات والكرامات.
وبعضهم برؤيا المنامات.
وبعضهم بالقياس على السوالف والعادات.
وبعضهم بقول من يُحَسِّن به الظن.
وكل هذه الأشياء ليست من الشرع في شيء، وعند رهبان النصارى وعباد الصليب والكواكب من هذا الضرب شيء كثير، وبعضهم أحذق من هذا العراقي وأمثاله، الذين لم يفهموا من العبادة سوى السجود، ولم يجدوا في معلومهم سواه، فأين الحب والخضوع، والتوكل والإنابة، والخوف والرجاء، والرغب والرهب، والطاعة والتقوى، ونحو ذلك من أنواع العبادة الباطنة والظاهرة؟ فكل هذا عند العراقي يصرف لغير الله، ولا يكون عبادة، لأن
__________
1 في "أ": "تتظمن".
ص -124-(34/23)
العبادة السجود فقط، بل عبارته تفهم أن السجود لا يحرم إلا على من زعم الاستقلال، وقد رأينا من المشركين، ولم نرَ مثل هذا الرجل في جهله ومجازفته وبلادته.
ولولا ما نقصده من انتفاع من اطلع على هذه الرسالة لم نتعرض لرد شيء من كلامه، لظهور بطلانه.
ويزيد هذا ظهوراً ما جاء في الحديث من قوله: "من سأل الناس وله ما يغنيه جاءت مسألته خدوشاً أو خموشاً في وجهه يوم القيامة"1. وقوله: "لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس على
__________
1 أخرجه الإمام أحمد في "المسند" 1/ 388-441، وأبو داود في "سننه" كتاب الزكاة -2/ 277-278، والترمذي في "سننه" كتاب الزكاة -3/ 31-32، والنسائي في "سننه" كتاب الزكاة -5/ 97، وابن ماجه في "سننه" كتاب الزكاة -1/ 589، جميعهم من طريق حكيم بن جبير عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد عن أبيه عن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ... فذكره.
قال الترمذي: حديث ابن مسعود حديث حسن. وقد تكلم شعبة في حكيم بن جبير من أجل هذا الحديث. اهـ.
وقال أبو داود: قال يحيى-أي ابن آدم- فقال عبد الله بن عثمان لسفيان: حفظي أن شعبة لا يروي عن حكيم بن جبير. فقال سفيان: فقد حدثنا زبيد عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد. اهـ. وقد ذكر هذه المحاورة النسائي وابن ماجه.
وزبيد هو ابن الحارث بن عبد الكريم: ثقة ثبت عابد، فالإسناد صحيح من طريقه.
قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المسند 5/ 248: فقد ظهر مما روى أبو داود والترمذي عن سفيان أن الحديث صحيح من جهة زبيد اليامي، لم ينفرد به حكيم بن جبير. اهـ.
ص -125-(34/24)
وجهه مزعة لحم"1.
وقوله: "من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن أنزلها بالله أَوْشَكَ2 له بالغنى: إما3 بموت عاجل، أو غنى عاجل"4.
__________
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" كتاب الزكاة –باب من سأل الناس تكثراً- 2/ 536 ط مصطفى البُغا، ومسلم في "صحيحه" كتاب الزكاة 3/ 720 عن ابن عمر رضي الله عنهما.
2 في ط: آل ثاني: "أو شكر".
3 في النسخ الخطية، والمطبوعة: "أو" والمثبت من مصادر الحديث.
4 أخرجه الإمام أحمد في المسند 1/ 389، 442: حدثني وكيع حدثني بشير بن سلمان عن سيار أبي الحكم عن طارق بن شهاب عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ... فذكره.
ووقع في الموضع الأول من المسند: "بشر بن سليمان" وهو خطأ نبه عليه الشيخ أحمد شاكر. وبشير بن سلمان هو أبو إسماعيل الكندي وثقه أحمد وابن معين.
وأخرج الحديث الترمذي فقال: عن بشير أبي إسماعيل، عن سيّار، عن طارق بن شهاب ... إلخ. "السنن 4/ 563".
وأخرجه أبو داود فقال: عن بشير بن سلمان عن سيّار أبي حمزة عن طارق ... إلخ. "السنن 2/ 296".
وقوله "عن سيار أبي حمزة" هو الصحيح، وما وقع في "المسند" خطأ نبه عليه غير واحدٍ من العلماء.
قال عبد الله بن الإمام أحمد "المسند 1/ 442": "حدثني أبي ثنا عبد الرزاق أنا سفيان عن بشير أبي إسماعيل عن سيار أبي حمزة ... فذكره. قال أبي: وهو الصواب سيار أبو حمزة. قال: وسيار أبو الحكم لم يحدث عن طارق بن شهاب بشيء". اهـ.
قال الحافظ ابن حجر في "التهذيب" في ترجمة سيار أبي الحكم: "وروى أبو داود
ص -126-(34/25)
__________
والترمذي حديث بشير بن إسماعيل ثنا سيار أبو الحكم عن طارق بن شهاب عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته ... الحديث".
قال أبو داود عقبه: هو سيار أبو حمزة، ولكن بشيراً كان يقول: سيار أبو الحكم، وهو خطأ. قال أحمد: هو سيار أبو حمزة، وليس قولهم: سيار أبو الحكم بشيء". اهـ.
قلت: هكذا قال ابن حجر: والذي في سنن أبي داود المطبوعة –رواية اللؤلؤي- وكذا في "تحفة الأشراف" 7/ 61: "عن سيار أبي حمزة" وليس لأبي داود كلام عقب هذا الحديث في النسخ المطبوعة التي بين يدي.
ثم قال الحافظ: "وقال الدارقطني: قول البخاري: سيار أبو الحكم سمع طارق بن شهاب وهمٌ منه، وممن تابعه، والذي يروي عن طارق هو: سيار أبو حمزة، قال ذلك أحمد ويحيى وغيرهما".
ثم قال الحافظ أيضاً: "... وتبع البخاري في أنه يروي عن طارق مسلمٌ في الكنى، والنسائيُّ، والدولابيُّ، وغير واحد، وهو وهمٌ كما قال الدارقطني". اهـ كلام ابن حجر.
وقال في "التقريب" في ترجمة أبي الحكم: وليس هو الذي يروي عن طارق بن شهاب. اهـ. وفي ترجمة أبي حمزة منه: "ووقع في الإسناد عن سيار أبي الحكم عن طارق، والصواب: عن سيار أبي حمزة". اهـ.
وقال –رحمه الله- أيضاً في ترجمة "سيار أبي حمزة": قد ذكر الخطيب في التلخيص أن الثوري روى عن بشير عن سيار أبي حمزة عن طارق عن ابن مسعود حديثاً، واختلف فيه على سفيان، فقال عبد الرزاق وغيره عنه هكذا. وقال المعافى بن عمران عن سفيان عن بشير عن سيار أبي الحكم... اهـ.
وقد رجح الشيخ أحمد شاكر في التعليق على المسند 5/ 258 أن سياراًَ هذا هو أبو الحكم، وعلى هذا صحح الإسناد. فإن أبا الحكم ثقة، وأبا حمزة مجهول.
وقال الحاكم بعد إخراجه للحديث: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. اهـ. وأقره الذهبي في التلخيص.
ص -127-(34/26)
وقوله: "لا تحل المسألة إلا لثلاثة: الذي غرم مفضع، أو فقر مدقع، أو دم موجع"1. هذا في سؤال الخلق ما يقدرون عليه من الأسباب الجزئية، فكيف ترى بما لا يقدر عليه إلا الله من الأمور العامة الكلية.
وعلى زعم هذا العراقي لا يكره شيء من ذلك ولا يمنع لمن قصد الصالحين ودعاهم.
وقوله: (على أنها أرباب) يريد به ما مَرَّ من أن دعاءها2 ومسألتها بطريق السبب والشاعة لا يضر. وقد تقدم رد هذا بما يغني عن إعادته.
وقد عُلِّق على الحكم بالكفر وإباحة الدم والمال بنفس الشرك، وعبادة غير الله، قال تعالى: {وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً}. [التوبة:36]. وقال: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ}.
__________
1 أخرجه أبو داود في "سننه" كتاب الزكاة –باب ما تجوز فيه المسألة 2/ 292، وابن ماجه في "سنن" كتاب التجارات –باب بيع المزايدة- 2/ 740-741 كلاهما من طريق الأخضر بن عجلان عن أبي بكر الحنفي، عن أنس بن مالك ... الحديث وفيه قصة.
وأخرجه الترمذي في أبواب البيوع من "سننه" 4/ 214 ط المكتبة الإسلامية-استانبول، والنسائي في البيوع من "سننه" باب البيع فيمن يزيد 7/ 259 كلاهما من طريق الأخضر بن عجلان عن أبي بكر الحنفي عن أنس مختصراً، ليس فيه موضع الشاهد.
قال الترمذي عقبه: حديث حسن. اهـ.
2 في "أ": "دعائها".
ص -128-(34/27)
[الأنفال: 39]. والفتنة: الشرك. وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ}. الآية [المائدة: 72]. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ}. [النساء:48].
ومن المشتهر عندهم أن تعليق الحكم بالمشتق يؤذن بالعِلِّية. وهذا الأحمق زاد قيداً فقال: "لا يشرك إلا من قصد واعتقد الاستقلال من دون الله". وفي تلبية المشركين في الجاهلية: "لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك"1.
فهؤلاء لم يدَّعوا الاستقلال. وعلى زعم هذا ليسوا بمشركين.
وقوله: (وهذا نداء لا دعاء) من أدل الأشياء على جهله، وعدم ممارسته لشيء من العلم وإن قَلَّ، فإن النداء هو رفع الصوت بالدعاء، أو الأمر، أو النهي، ويقابله النجا الذي هو المسارَّة وخفض الصوت.
هذا بإجماع أهل اللغة، كما حكاه ابن القيم في "نونيته" وشيخ الإسلام في "تسعينيته" وليس قسيماً للدعاء كما ظنه الغبي. قال تعالى: {وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ}. الآية [الكهف: 52]. ما فعلوه عين ما أمروا به، وكفى بهذه الآية حجة على إبطال قوله. وقال تعالى: { وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ}. [الأنبياء:83].
__________
1 أخرجه مسلم في صحيحه –كتاب الحج- 2/ 843 عن ابن عباس –رضي الله عنهما- قال: كان المشركون يقولون: لبيك لا شريك لك. قال: فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويلكم قدِ قدٍ". فيقولون: إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك. يقولون هذا وهم يطوفون بالبيت.
ص -129-(34/28)
{وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ}. [الأنبياء:76]. {وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ}. [الأنبياء:87]. وقال تعالى: {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا*إِذْ نَادَى رَبَّهُ}. [مريم:2، 3]. وسمى هذا النداء دعاءً في كتابه العزيز. قال عن نوح عليه السلام {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ}. [القمر:10]. وقال: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ}. [آل عمران:38].
وفي الحديث: "دعوة أخي ذي النون ما دعا بها مكروب إلا فرج الله عنه"1.
وفيه أيضاً: "لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقاً"2. يعني الشيطان الذي تفلت عليه صلى الله عليه وسلم.
وفيه: "ألا أنبئكم بأول أمري وآخره: دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى"3.
__________
1 تقدم الكلام عليه، ص 83.
2 أخرج البخاري في صحيحه –كتاب التفسير- 8/ 546 من طريق شعبة عن محمد بن زياد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن عفريتاً من الجنّ تفلت عليَّ البارحة –أو كلمة نحوها- ليقطع علىَّ الصلاة، فأمكنني الله منه، وأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد، حتى تصبحوا وتنظروا إليه كلكم، فذكرت قول أخي سليمان: "رَبِّ هَبْ لِيْ مُلْكاً لاَ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِيْ".
وأخرجه أيضاً في كتاب أحاديث الأنبياء من صحيحه 6/ 457 من هذا الطريق بهذا اللفظ.
وأخرجه أيضاً مسلمٌ والنسائي من طريق شعبة ... به.
وأخرج الحديث مسلمٌ في صحيحه –كتاب المساجد ومواضع الصلاة -1/ 385 عن أبي الدرداء رضي الله عنه ... به وفيه قصة.
3 قال الحافظ ابن كثير في "تفسيره" 4/ 382 ط مكتبة النهضة: وقال محمد بن
ص -130-(34/29)
يشير بدعوة سليمان إلى قوله: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي}. الآية [ص:35]. وبدعوة إبراهيم إلى قوله تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ}. [البقرة:129]. فسمى هذه المسألة دعوة، والتاء فيها للوحدة.
وقال معاذ –رضي الله تعالى عنه- في الطاعون: "إنه ليس برجز، إنه دعوة نبيكم، وموت الصالحين قبلكم، ورحمة بكم" يشير إلى قوله: "اللهم اجعل فناء أمتي بالطعن والطاعون"1.
فانظر هذه النصوص، وما أفادت من إطلاق اسم الدعاء على المسألة والطلب. وقد تقدم بعض هذا، وكُرِّر تتميماً للفائدة، وربما جَرَّ شأن شؤوناً.
وأما قول العراقي: (إن الشيخ ذكر هذا على سبيل التغليظ والزجر، وله مائة عبارة تنفي ذلك وتخالفه) فيكفي من هذا العراقي أن يصحح دعواه بعبارة واحدة، ولا نكلفه تصحيح المائة، لأنه أعجز وأقلّ.
__________
إسحاق حدثني ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا: "يا رسول الله، أخبرنا عن نفسك، قال: "دعوة أبي وبشرى عيسى ... " الحديث. وهذا إسناد جيد، وروي له شواهد من وجوه أُخَر ... ثم ساق ابن كثير رحمه الله تعالى شواهده في مسند أحمد فلينظر.
1 قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 2/ 312: رواه أحمد 4/ 417، والطبراني في "الكبير" ورجال أحمد ثقات. اهـ.
ص -131-
وقد تقدم التنبيه على كذبه ومجازفته، وأنه وجد كتباً وموادّ1 شَتَّت فهمه، وحجبت إدراكه وعلمه، فلم يزدد بها إلا حيرة وشكاًَ وما أحسن ما قيل:
جهد المغفَّل في الزمان مضيَّع
وإن ارتضى أستاذَه وزمانَه
كالثور في الدولاب يسعى وهو لا
يدري الطريقَ فلا يزالُ مكانَه(34/30)
وعبارات الشيخ في هذا الباب –أعني: إنكار الشرك، وتكفير أهله، والحكم عليهم بما حكم الله به ورسوله في الدنيا والآخرة- موجود مشهور، لو تتبعناه لعزَّ حصره واستقصاؤه، ولكن نشير ببعضه2 إلى ما وراءه.
قال رحمه الله: وما علمتُ عالماً نازع في أن الاستغاثة بالنبي أو غيره فيما لا يقدر عليه إلا الله لا تجوز. قال: وعلو درجته صلى الله عليه وسلم بعد الموت لا تقتضي أن يسأل، كما لا تقتضي أن يستفتى، ولا يمكن أحدا أن يذكر دليلاً شرعياً على أن سؤال الموتى من الأنبياء والصالحين وغيرهم مشروع، بل الأدلة على تحريم ذلك كثيرة.
وقال رحمه الله: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم، ويتوكل عليهم، ويسألهم: كفر إجماعاً.
قال البهوتي في شرحه على هذا الموضع: لأنه فِعْل عبّاد الأصنام القائلين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}. [الزمر:3].
__________
1 في "أ" و"جـ": "مواداً".
2 في ط آل ثاني: "لبعضه".
ص -132-(34/31)
وقال –رحمه الله- بعد أن سرد جملة من الآيات: وتفصيل القول: أن مطلوب العبد إن كان من الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله سبحانه وتعالى، ومثل أن يطلب شفاء مريض من الآدميين والبهائم، ووفاءَ دَينه من غير جهة معينة، أو عافية أهله، أو ما به من بلاء الدنيا والآخرة، وانتصاره على عدوه، وهداية قلبه1، وغفران ذنبه، أو دخول الجنة، ونجاته من النار، أو أن يتعلم القرآن، أو2 العلم، أو أن يصلح قلبه، أو2 يحسن خلقه، ويزكي نفسه، وأمثال ذلك: فهذه الأمور لا يجوز أن تطلب إلا من الله تعالى، ولا يجوز أن يقال لملك ولا نبي ولا شيخ سواء كان حياً أو ميتاً: اغفر ذنبي، ولا انصرني على عدوي، ولا اشفِ3 مريضي، ولا عافِ4 أهلي ودوابي، وما أشبه ذلك. ومن سأل ذلك مخلوقاً كائناً من كان، فهو مشرك بربه، من المشركين الذين يعبدون الملائكة والتماثيل التي يصورونها على صورهم، ومن جنس دعاء النصارى: المسيحَ وأمَّه.
قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ}. الآية [المائدة:116]، وقال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيْحَ ابْنَ مَرْيَمَ} الآية [التوبة:31].
وقال -رحمه الله-: وكثير من الناس يقع في الشرك والإفك
__________
1 ما بعد: "وهداية قلبه" سقط من "جـ" إلى قوله: "ويحسن خلقه".
2 في "أ": "و".
3 في "أ": "اشفي".
4 في "أ": "عافي".
ص -133-(34/32)
جهلاً وضلالاً من المشركين، وأهل الكتاب، وأهل البدع، والله سبحانه وتعالى قد أرسل جميع رسله، وأنزل جميع كتبه: بأن لا يعبد إلا الله وحده لا شريك له، لا يعبد معه لا ملك، ولا نبي، ولا صالح، ولا تماثيلهم، ولا قبورهم، ولا شمس، ولا قمر، ولا كوكب، ولا ما صُنع من التماثيل لأجلهم، ولا شيئاً من الأشياء، وبَيَّنَ أن كل ما يعبد من دونه فإنه يضر ولا ينفع، وإن كان ملكاً أو نبيًّا، وأن عبادته كفر.
قال تعالى: {قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً}. إلى قوله: {مَحْذُوْراً}. [الإسراء:56-57]. بَيَّن سبحانه أن كل ما يدعى من دونه من الملائكة والجن والإنس ما يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلاً1، وأن هؤلاء المدعوين من الملائكة والأنبياء يتقربون إلى الله، ويرجونه، ويخافونه، وكذلك كان قوم من الإنس يعبدون رجالاً من الجن، فآمنت الجن المعبودون، وبقي عابدوهم يعبدونهم، كما ذكر ذلك ابن مسعود.
وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ}.إلى قوله: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}. [سبأ:22-23]. بَيَّنَ سبحانه أن كل ما يدعى من دونه، من الملائكة والبشر وغيرهم ليس لهم مثقال ذرة في السموات والارض, ولا لهم نصيب فيهما, وليس لله ظهير يعاونه من خلقه.
__________
1 في "أ": "كشف الضر ولا تحويله".
ص -134-(34/33)
وهذه الأقسام الثلاثه هي التي تحصل مع المخلوقين, إما أن يكون لغيره ملك دونه, أو يكون شريكاً له, أو يكون معيناً وظهيراً له, والرب تعالى ليس من خلقه مالك, ولا شريك, ولا ظهير له1, لم يبق إلا الشفاعة, وهو دعاء الشافع وسؤاله لله في المشفوع له, فقال: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}. [سبأ:23].
ثم إنه خص بالذكر الملائكة والأنبياء في قوله: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ -إلى قوله- بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}. [آل عمران:79-80] بين أن اتخاذهم أرباباً كفر.
وقال تعالى: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ -إلى قوله - وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. [المائدة:17]. وقد بين أن من دعا المسيح وغيره، فقد دعا ما لا يملك له ضراً ولا نفعاً.
وقال لخاتم الرسل: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ}. [الأنعام: 50]، وقال: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ}. الآية [الأعراف:188]. وقال: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا}. [الجن:21]. وقال: { لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ*لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}. [آل عمران:127-128]. وقال: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء}. [القصص:56].
__________
1 سقطت: "له" من "أ" و"جـ".
ص -135-(34/34)
وقال: {إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ}. [النحل:37] انتهى.
وكلامه في هذا المعنى يعزُّ حصره أو يتعذر. وكذلك صاحبه شمس الدين ابن القيم. كلامه في هذا الباب أشهر من أن يذكر، وأكثر من أن يحصر، إلا بكلفة ومشقة، وتقدم قوله في "المدارج".
وقال أبو الوفاء بن عقيل: لما صعبت التكاليف على الجهال والطَّغام، عدلوا عن أوضاع الشرع1 إلى تعظيم أوضاع وضعوها هم لأنفسهم، فسهلت عليهم2، إذ لم يدخلوا بها تحت أمر3 غيرهم، وهم عندي كفار بهذه الأوضاع، مثل خطاب الموتى بالحوائج، ودَسِّ الرقاع في قبورهم، فيها: يا مولاي، افعل بي كذا وكذا، وتعليق الستور على القبور اقتداءً بمن عبد اللات والعزى، والويل عندهم لمن لم يحضر مشهد الكف4، أو لم يَعْقِد على قبره، أو قبر أبيه بالآخر، ولم يقل الحمالون على جنازته: أبو بكر وعمر. انتهى.
والمقصود أن النصوص بهذا المعنى كثيرة شهيرة، والعاقل يسير فينظر.
ويكفي المؤمن أن دعاء الموتى والغائبين لا يُعْرَف عن أحد من أهل العلم والإيمان الذين لهم لسن صدق في الأمة، ولم تأتِ به
__________
1 في ط: آل ثاني: "الشرك" وهو خطأ فاحش.
2 في ط: آل ثاني: "غيرهم".
3 سقطت: "أمر" من ط: آل ثاني.
4 في ط: آل ثاني: "الكفر".
ص -136-(34/35)
شريعة من الشرائع، بل المنقول عن جميع الأنبياء يرده ويبطله، فإن الله حكى أدعيتهم وتوجهاتهم، وما قالوه وأمروا به، وندب عباده إلى الاقتداء بهم فقال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}. [الأنعام:90].
وقد أجمع المسلمون على ذم البدع وعيبها. قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ}. [الشورى:21]. وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}. [الأحقاف:4].
وفي حديث العرباض بن سارية: "إنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة"1.
وهذا الوجه كافٍ2 في الجواب، للاتفاق على وجوب الاعتصام بالكتاب والسنة.
__________
1 تقدم تخريجه ص 84.
2 في "أ" و"جـ": "كافي".
ص -137-(34/36)
فصل
قال العراقي: "والأصل في ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ}. [المائدة:35].
قلت: يريد العراقي أن الآية أصل في دعاء الصالحين، والتوجه بهم إلى الله وجعلهم وسائط بين العباد وبين الله، ووسائل إليه في قضاء حاجاتهم، وتفريج كرباتهم.
والجواب:أن هذا القول صدر عن جهل بمسمى الوسيلة شرعاً، فإن الوسيلة في شرع الله الذي شرعه على ألسن جميع رسله، هي عبادته وحده لا شريك له، والإيمان به، وبرسله، والأعمال الصالحة التي يحبها ويرضاها، كما في البخاري وغيره من حديث الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة في غار، فتوسلوا إلى الله تعالى بأعمالهم الصالحة من البر والعفة والأمانة1. وكذلك ما شرع من واجب أو مستحب.
قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ}. [الإسراء:57] وابتغاؤها بالقيام بما أمر به، وأحبه ورضيه، من الأعمال الصالحة.
__________
1 أخرجه مسلم في صحيحه –كتاب الإجارة- باب من استأجر أجيراً فترك أجره 4/ 449. ومسلم في صحيحه، كلاهما عن ابن عمر رضي الله عنهما.
ص -138-(34/37)
وأما دعاء غير الله فليس وسيلة1 شرعية، بل هو وسيلة أهل الشرك والجاهلية، من أعداء الرسل في كل زمان ومكان، والله لا يأمر بالشرك ولا يرضاه {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}. [الأعراف:29].
فكيف يتوسل إليه بالشرك به الذي هو أظلم الظلم، وضد القسط، والذي يمنع من إقامة الوجوه له عند المساجد، وهو –أي الشرك- حقيقة التوسل الذي قصده المشركون. قال الله تعالى: {فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً}. [الأحقاف:28] وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}. [الزمر: 3] فهذا قد يسمى توسلاً، فإن لفظ التوسل صار مشتركاً، فيطلق شرعاً على ما يقرب إلى الله من الأعمال الصالحة التي يحبها الرب ويرضاها، ويطلق على التوسل بذوات الصالحين ودعائهم واستغفارهم، ويطلق في عرف عباد القبور على التوجه إلى الصالحين ودعائهم مع الله في الحاجات والملمات.
والمراد بالآية هو2 الأوَّل عند أهل العلم والمفسرين.
وأما التوسل بذوات الأنبياء والصالحين بدون طاعتهم وبدون استغفارهم فهذا لم يشرع3، ولا أصل له4، فإن التوسل بالأنبياء
__________
1 في "أ" و"جـ": "بوسيلة".
2 سقطت: "هو" من ط: آل ثاني.
3 في ط: آل ثاني: "يشرح".
4 سقط ما بعد قوله "ولا أصل له" من "أ" إلى قوله "وأكبر منه من يدعوهم".
ص -139-(34/38)
مع معصيتهم ومخالفتهم في الدين والملة، قد دلت آية سورة التحريم على المنع منه، وعدم الانتفاع بالتعلق والقرابة والنسب والتوسل بذلك لمن لم يؤمن بما جاؤوا به من الهدى ودين الحق.1وكذلك في الحديث لما أنزل عليه قوله: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}. [الشعراء:214] قال: "يا معشر قريش، اشتروا أنفسكم من الله، لا أغني عنكم من الله شيئاً"2.
وأكبر من3 هذا من يدعوهم، ويستغيث بهم، ويتقرب إليهم بعبادتهم على أنها وسيلة له، وشفعاء، فإن هذا هو عين الشرك الذي ذمه القرآن وعابه، وإن سمي توسلاً.
وأما ما ذكره بعد هذا الكلام من نسبة الذي ينهى عن دعاء غير الله إلى الجهل وعدم الفهم، فهذا يتناول كل من نهى عن دعاء الأنبياء والصالحين، ومعلوم أن الرسل نهت عن دعاء غير الله بما لا يقدر عليه إلا الله، بل وفيما لا تدعو4 إليه حاجة ولا ضرورة من جنس المسألة، فلازم كلامه مسبة الأنبياء، وأتباعهم إلى يوم القيامة، فنعوذ بالله من حال أهل الجهالة والسفاهة.
__________
1 سقط الحديث من "جـ".
2 البخاري في صحيحه –كتاب التفسير- تفسير سورة الشعراء، باب {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} 8/ 501.
3 في "أ": "وأكبر منه من يدعوهم".
4 في "أ" و"جـ": "تدعوا".
ص -140-(34/39)
فصل
قال العراقي: "إنكم تكَفِّرون بالحلف بغير الله، ويُكَفِّر به السابقون من أهل بلدكم، وهو ليس بشرك ولا كفر، بل هو مكروه كراهة تنزيه، للأدلة على ذلك، ولأنه قد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبعض أصحابه: "لا وأبيك"، ولأن الترمذي ترجم على هذه المسألة بالكراهة، وساق حديث ابن عمر: "من حلف بغير الله فقد أشرك"، وأن هذا يدل على الكراهة للترجمة، ولأنه ساق الرواية الأخرى عن ابن عمر "من حلف بغير الله فقد كفر". وقال بعدُ: هذا محمول على التغليظ والزجر، كالريا الذي فسر به قوله تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا}. الآية [الكهف:110].
والجواب أن يقال: في هذا الكلام من الجهل والخلط ما يتنزه عنه العاقل فضلاً عن العالم، من ذلك أنه قال: الحلف بغير الله ليس بشرك ولا كفر. ثم ساق حديث ابن عمر: "من حلف بغير الله فقد أشرك" ثم قادته المقادير إلى أن نطق بالرواية الأخرى: "من حلف بغير الله فقد كفر" فقف وتأمل هذه العبر!! ثم استدل بأن الترمذي ترجم بالكراهة، وهو أول من يخالف الترمذي في أكثر ما في سننه، مع أنه لم يفهم كلام الترمذي، ولا حام حول مراده.
ص -141-(34/40)
ويقال: مسألة الحلف بغير الله تظاهرت وتواترت النصوص النبوية بالنهي عنها، ودلّت على أنه شرك لا يحل ولا يجوز، كما ذكره أصحاب الكتب الستة، وأهل المسانيد من حديث: أبي هريرة، وعمر، و1ابنه، وابن مسعود، وغيرهم، وإنما ساق الترمذي حديث ابن عمر. والترمذي –رحمه الله- أثبت أنه شرك، وجعله كالريا، والريا شرك بالنص والإجماع، وهو من الكبائر، إلا أنه ليس مما ينقل عن الملة ويوجب الردة، للآيات والأحاديث. وكلام الترمذي يدل على هذا، وقد جعله مثل الريا، وقاسه عليه في الحكم، وحمله على هذا الحمل والتأويل: أن الرواية الأخرى التي خرجها عن ابن عمر فيها تكفير من حلف بغير الله، والحكم بأنه كفر، وأراد الترمذي أن هذا الكفر ليس هو مما يخرج عن الملة كالشرك الأكبر، بل كفر دون كفر، وشرك دون شرك، وظلم دوم ظلم، كما قاله البخاري في "صحيحه" وتسميته هذا كفراً من باب التغليظ، وهذا مراده رحمه الله، وأما كونه شركاً محرماً فلم ينفِه الترمذي، ولم يتعرض له بتأويل، بل أثبته وقاله به، لأنه جعله مثل الريا.
وهذا الجاهل اغتر بكونه ترجم بالكراهة، والكراهة في عرف هذا الرجل إنما تطلق على التنزيه، هذا وجه ضلاله، ولم يدر أن إطلاقها على كراهة التنزيه عرف حادث، وأن الكراهة في عرف الكتاب والسنة وقدماء الأمة تطلق على التحريم. قال تعالى بعد أن
__________
1 سقطت "و" من ط: آل ثاني.
ص -142-(34/41)
ذكر المحرمات المتفق عليها في جميع الكتب السماوية {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا}. [الإسراء:38].
وفي الحديث: "إن الله يكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال"1. وأظن هذا يحمل كل ما تقدم على كراهة التنزيه.
قال الترمذي رحمه الله: "باب كراهة الحلف بغير الله" وساق بسنده حديث ابن عمر: "من حلف بغير الله فقد أشرك". وسكت الترمذي علذكر المحرمات المتفق عليها في جميع الكتب السماوية {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا}. [الإسراء:38].
وفي الحديث: "إن الله يكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال"1. وأظن هذا يحمل كل ما تقدم على كراهة التنزيه.
قال الترمذي رحمه الله: "باب كراهة الحلف بغير الله" وساق بسنده حديث ابن عمر: "من حلف بغير الله فقد أشرك". وسكت الترمذي على هذا، ولم يتعقبه بتأويل. ثم قال: "بابٌ"2 وساق بسنده الرواية الأخرى عن ابن عمر "من حلف بغير الله فقد كفر"3 وتأَوَّلَ لفظه "كفر" بأنها على وجه الزجر والتغليظ، لأن
__________
1 أخرجه البخاري في صحيحه –كتاب الاستقراض- 3/ 87 ط إستانبول، ومسلم في صحيحه –كتاب الأقضية- 3/ 1341، عن المغيرة بن شعبة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله كره لكم ثلاثاً: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال". وله ألفاظ عندهما.
2 في نسخة الترمذي المطبوعة مع شرحه "تحفة الأحوذي" 5/ 132-135، و"عارضة الأحوذي" 7/ 16-18، والطبعة السلفية 3/ 45: باب كراهية الحلف بغير الله وساق فيه حديث: "ألا، إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم" "... ليحلف حالف بالله أو ليسكت". ثم قال: باب، وساق حديث ابن عمر "من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك". وفي طبعة الحلبي، 3/ 109-110: باب ما جاء في كراهية الحلف بغير الله. ثم ساق الأحاديث السابقة تحت هذه الترجمة ولم يفصل بـ"باب"، وكذا في طبعة(34/42)
الدعّاس، 5/ 251-254.
قلت: لعل المؤلف وقع في يده نسخة من سنن الترمذي على ما وصف، لا سيما وتغاير النسخ في كتاب الترمذي أمر مشاهد.
3 أخرجه أبو داود –كتاب الأيمان والنذور- من سننه 3/ 570، والترمذي –كتاب الأيمان والنذور- من سننه 4/ 110، والإما أحمد في مسنده، وابن حبان فيى
ص -143-
لأن الحلف بغير الله لا ينقل عن الملة، بل هو كالريا في عدم الردة، وإن كان شركاً.
إذا عرفت هذا فالعراقي دلّس، وجعل البابين باباً واحداً، وجعل كلام الترمذي في تأويله لفظة "كفر" راجعاً إلى كلا البابين، وأن الحلف مكروه كراهة تنزيه، والترمذي لم يتعرض لكونها للتنزيه.
وأما قوله: "إنكم تكفرون به، وترون أنه كفر" فهو كذب بحت، وفرية ظاهرة، ما قال أحد ممن يعتدُّ به عندنا إنه كفر مخرج عن الملة. وقد يُطلق العالم والمفتي ما أطلقه الرسول صلى الله عليه وسلم في مثل هذا، ويقف حيث وقف، ومن أنكر هذا الإطلاق فقد أنكر على الرسول صلى الله عليه وسلم.
على أن ابن قيم الجوزية قال: قد يكون ذلك شركاً أكبر بحسب ما قام بقلب قائله، وقاله القاضي عياض من المالكية. وهذا ظاهر لا يخفى إذا قصد تعظيم من حُلف به كتعظيم الله.
وأما استدلال هذا العراقي على عدم التحريم بقوله صلى الله عليه وسلم: "من حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله"1 فهذا الاستدلال والفهم ليس بشيء.
__________
1 رواه البخاري في صحيحه –كتاب الأيمان والنذور- 11/ 536، ومسلم في صحيحه –كتاب الأيمان- 3/ 1267-1268.
ص -145-(34/43)
والحديث دليل على التحريم، والاستدلال به عليه هو عين الفقه عن الله ورسوله، لأنه أَمَرَ من حلف بغير الله أن يكفِّر بتجديد الإسلام، والإتيان بكلمة الإخلاص التي تضمنت البراءة من الشرك، وإثبات التوحيد.
وقد قال لقريش وغيرهم من عباد الأصنام: "قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا"1. وقال لعمه: "قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله"2.
__________
1 أخرجه الإمام أحمد في مسنده 5/ 376 عن شيخ من بني مالك بن كنانة قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوق ذي المجاز يتغللها يقول: "يا أيها الناس، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ...".
قال الهيثمي في مجمع الزوائد 6/ 22: رجاله رجال الصحيح. اهـ.
وأخرجه الإمام أحمد في مسنده أيضاً 4/ 341 عن ربيعة بن عباد من بني الديل وكان جاهلياً قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية في سوق ذي المجاز وهو يقول ... فذكره.
قال الهيثمي في المجمع 6/ 22: رواه أحمد وابنه والطبراني في الكبير بنحوه والأوسط باختصار بأسانيد، وأحد أسانيد عبد الله بن أحمد ثقات الرجال ... اهـ.
وفي الطبراني عن منبت الأزدي نحوه. قال الهيثمي في المجمع 6/ 21: وفيه منبت بن مدرك ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات. اهـ.
وفي الطبراني أيضاً عن مدرك نحوه. قال الهيثمي: ورجاله ثقات. اهـ.
2 أخرجه البخاري في صحيحه –كتاب التفسير- 8/ 506، ومسلم في كتاب الإيمان من صحيحه 1/ 54 كلاهما عن سعيد بن المسيب عن أبيه ... به.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة.
ص -146-(34/44)
فإن1 كان ذاك يدل على الكراهة، فهذا أيضاً إنما يدل عليها. فسبحان من حال بين قلوب هؤلاء وبين الفقه عنه، ومعرفة المراد من كلامه وكلام رسوله.
وفي الحديث: "إن حسنة التوحيد تمحو الشرك وتكفره، فإن الإسلام يَجُبُّ ما قبله". قال ابن مسعود: "لأن أحلف بالله كاذباً أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقاً"2.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية –قُدِّس سِرُّه- بعد أن ذكر تحريم الحلف، واستدل له: ومعنى قول ابن مسعود: "أن حسنة التوحيد أعظم من حسنة الصدق، وسيئة الشرك أعظم من سيئة الكذب" مع أن الكذب محرم بالإجماع.
وأما ما حكاه عن شيخنا الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله أنه قال في "مختصر الإنصاف": ويكره الحلف بغير الله، وأن الشيخ استدل للكراهة. فلا يخفى أن العراقي دلس ولبّس، فأسقط من العبارة كلام ابن عبد البر، وحكاية الإجماع على التحريم، هذا تدليسه، وأما تلبيسه: فإن الشيخ قال بعد ذلك: وقيل يجوز. فأخره وحكاه بصيغة التمريض. وذكر أن القائل استدل لهذا: بأن الله أقسم بمخلوقاته، وبقوله: "أفلح وأبيه إن صدق" وبقوله في حديث أبي
__________
1 في ط: آل ثاني: "فإذا".
2 رواه الطبراني في الكبير 9/ 205 قال الهيثمي في المجمع 4/ 177: رجاله رجال الصحيح.
ص -147-(34/45)
العشراء: "أما وأبيك، لو طعنت في فخذها أجزأك"1. ثم تعقب الشيخ هذا، وذكر أن أحمد لم يثبت حديث أبي العشراء. واستدل بقوله: "إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت"2. وبحديث ابن عمر "من حلف بغير الله فقد أشرك" وقرر الشيخ أدلة التحريم.
والشيخ رحمه الله في كتاب "التوحيد" استدل على هذه المسألة بقوله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}. [البقرة:22]. وترجم بالآية على هذه المسألة، وساق حديث ابن عمر، وما روي عن ابن عباس، ومنه: والله وحياتك.
__________
1 أخرجه أحمد 4/ 334، والترمذي 4/ 74، وأبو داود في سننه 8/ 23 –كتاب الأضاحي –باب في ذبيحة المتردية، والنسائي 7/ 228، وابن ماجه 2/ 1063 كلهم عن حماد بن سلمة عن أبي العشراء الدارمي عن أبيه قال: "قلت: يا رسول الله، أما تكون الذكاة إلى في الحلقِ واللَّبَّة؟ قال: "لو طعنت في فخذها لأجزأ عنك". هذا لفظه عندهم.
وفي رواية لأحمد: "وأبيك".
قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حماد بن سلمة، ولا نعرف لأبي العشراء عن أبيه غير هذا الحديث، واختلفوا في اسم أبي العشراء ... إلخ. اهـ.
وقال الخطابي: ضعفوا هذا الحديث لأن راويه مجهول، وأبو العشراء لا يدرى من أبوه، ولم يرو عنه غير حماد بن سلمة. اهـ من المعالم.
وقال الذهبي في الميزان 4/ 551 في ترجمة أبي العشراء بعد أن ذكر قول البخاري في أبي العشراء: في حديثه واسمه وسماعه من أبيه نظر. قلت: ولا يدرى من هو ولا من أبوه. وانفرد عنه حماد بن سلمة ... اهـ.
2 رواه البخاري في صحيحه –كتاب الأيمان والنذور- 11/ 530 ومسلم في صحيحه –كتاب الأيمان- 3/ 1266-1267.
ص -148-(34/46)
وأما الجواب عن قوله: "أفلح وأبيه" وقوله: "أما وأبيك" فلأهل العلم عنه أجوبة معرفة في محلها، منها: أن هذا ليس من جنس اليمين المقصودة بل هو مما جرى على ألسنتهم من غير قصد، مثل قوله: "تربت يداك، ثكلتك أمك، ويح عمار". وهذا الجواب ذكره كثير من الناس.
وقيل: إن ذلك منسوخ. واستدل القائل لهذا القول بما لا يمكن أمثال هذا العراقي نقضه، وبعضهم تكلم في المسند ولم يثبت هذا كما تقدم عن أحمد في حديث أبي العشراء.
وهذا آخر ما أوردناه، والحمد لله حمداً كثيراً كما ينبغي لكرم وجهه، وعز جلاله، وعظيم سلطانه. وصلى الله على عبده ورسوله محمد النبي الأمي، وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين آمين1.
__________
1 اتفقت النسخ على هذه الخاتمة، وبعدها في "أ": "كتبه من إملاء مؤلفه –عفا الله عنه ورحمه- عبد العزيز بن ناصر بن راشد بن تريكي" اهـ. وفي "جـ": "رحم الله مؤلفه وعفا عنه وعن والديه وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيراً وغفر الله لكاتبه ووالديه وذريته وإخوانه ولجميع المسلمين. آمين يا رب العالمين". اهـ. وعلى جنب الصفحة: "بلغ مقابلة وتصحيحاً حسب الطاقة والإمكان".
قال كاتبه –عفا الله عنه- تم الفراغ من مقابلة هذه الرسالة، والتعليق عليها قدر الطافة في اليوم الثاني والعشرين من شهر الله الحرام، سنة عشر وأربعمائة وألف من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه/ عبد السلام بن برجس بن ناصر آل عبد الكريم.
ص -149-
أطراف الأحاديث
طرف الحديث
صحيفته
آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع
50
ذأجعلتني لله نداًّ
120
احفظ الله يحفظك
76
إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث
69
إذا هم العبد بالسيئة
79
ألا أنبئكم بأول أمري وآخره
130(34/47)
ألا تبايعون؟.. على أتعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً
117
أفضل الدعاء يوم عرفة: لا إله إلا الله
110
أفلح وأبيه إن صدق
147
اللهم اجعل فناء أمتي بالطعن والطاعون
131
أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم, ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه
102
أما وأبيك لو طعنت في فخذها أجزاك
47
إن أولئك إذا كان منهم الرجل الصالح
122
أن تجعل لله نداً وهو خلقك
37
إن الله يكره لكم: قيل وقال
143
******
الحج عرفة
109
ص -150-
طرف الحديث
صحيفته
دعوة أخي ذي النون ما دعا بها مكروب إلا
113-130
الدعاء سلاح المؤمن
110
الدعاء مخ العبادة
110
الدعاء هو العبادة
108
*****
ذهاب الإسلام من ثلاثة (أثر)
66
*****
فما تعارف منها ائتلف
82
*****
قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها
84-137
قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا
146
قل: لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله
146
قصة الثلاثة أصحاب الغار
138
قصة عكرمة لما فَرَّ يوم الفتح
112
*****
كان جبريل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في صورة دحية
77
كم كنت تعبد؟
115
*****
لعن الله اليهود والنصارى
94-122
لولا دعوة أخي سليمان لأصبح موثقاً
130
لو يعطى الناس بدعواهم
82
*****
من تعلق شيئاً وكل إليه
117
ص -151-
طرف الحديث
صحيفته
من حلف بغير الله فقد أشرك
141-143
من حلف بغير الله فقد كفر
148
من حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله
145
من قال في القرآن برأيه
58
من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته
126
*****
هم شَرُّ قتلى تحت أديم السماء
39
هل كان فيها من وثن
123
*****(34/48)
ويلكم قدٍ قدٍ عند قول المشركين: إلا شريكاً هو لك
129
*****
لا تتخذوا قبري عيداً
90
لا تجعلوا بيوتكم قبوراً
91
لا تحل المسألة إلا لثلاثة
128
لا تزال المسألة بأحدكم حتى
125
لا تنسنا يا أخي من صالح دعائك
48
لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر
117
*****
يا معشر قريش اشتروا أنفسكم
140
يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم
39
*****
ص -152-
طرف الحديث
صحيفته
من حلف بغير الله فقد أشرك
141-143
من حلف بغير الله فقد كفر
148
من حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله
145
من قال في القرآن برأيه
58
من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته
126
*****
هم شَرُّ قتلى تحت أديم السماء
39
هل كان فيها من وثن
123
*****
ويلكم قدٍ قدٍ عند قول المشركين: إلا شريكاً هو لك
129
*****
لا تتخذوا قبري عيداً
90
لا تجعلوا بيوتكم قبوراً
91
لا تحل المسألة إلا لثلاثة
128
لا تزال المسألة بأحدكم حتى
125
لا تنسنا يا أخي من صالح دعائك
48
لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر
117
*****
يا معشر قريش اشتروا أنفسكم
140
يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم
39
ص -153-(34/49)
منهاج التأسيس والتقديس في كشف شبهات داود بن جرجيس - عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ (1)
الناشر:
دار الهداية للطبع والنشر والترجمة
مقدّمة
الحمد لله القوي القاهر والصّلاة والسلام على النبي الطاهر وعلى آله وأصحابه وبعد: فهذا هو الكتاب الثالث من سلسلة التراث الإصلاحي في العقيدة والشريعة وقد سبقه الجزءان: مصباح الظّلام، والقول الفصل النفيس.
وموضوع كتاب منهج التأسيس والتقديس كشف شبهات داوود بن جرجس في كتابه صلح الإخوان نقل فيه خمسين موضعاً من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وغيرهما يزعم أنها تشهد له على استحباب دعاء الصالحين والاستنجاد بهم كما دافع المؤلف عن الشيخين ابن تيمية وابن القيم مما افتراه ابن جرجيس في تزوير كلامهما وحمله محمل التضليل والالتباس ليأخذ منه حجّة على الابتداع وتشريع ما لم يأذن الله بتشريعه ولداوود البغدادي يد في الإفساد والتضليل حينما استوطن نجداً وقد التف حوله من يأخذ عنه فكان رائد تضليل فيما يكتبه ويلقيه فلهذا قام العلامة المجدد الشيخ عبد الرحمن بن حسن بالرّد والردع في كتابه القول الفصل النفيس كما قام العلامة الشيخ عبد الله أبا بطين بالدور نفسه الذي قام به الشيخ عبد الرحمن في رد شبهات المفتري داوود وكتاب منهاج التأسيس والتقديس كالطابع لما سبق إلا أن المنية عاجلت الشيخ عبد اللطيف فلم يكمله وقد مضى في رده وردعه غالب الشبهات التي تضمنها كتاب صلح الأخوان. لهذا قام العلامة العراقي السيد محمود شكري الألوسي بإكمال الرد تتمة للفائدة وسماه فتح المنان في السرد على صلح الإخوان تتمة لمنهاج التأسيس، طبع الكتابان معا في مطبعة أنصار السنة المحمدية في مصر
ص -5-(35/1)
عام 1366هـ بمراجعة وتصحيح الشيخ محمد حامد الفقي على نفقة الأمير سعود بن عبد العزيز ولي العهد في وقته ولمضي زمن طويل على تلك الطبعة، ولما تدعو الحاجة إليه في دحض الشبهات فقد رأيت لزاماً إحياء هذا التراث ونشره وإعلانه سيما والحاجة تدعو إلى مثله وقد رفع دعاة الضلال راياتهم المنكسة وأعلنوها صيحة لإحياء ما كان عليه سلف المبتدعين وأهل التضليل والتخريف. ونقول لهم قول الله تعالى {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} [لأعراف: من الآية56] فقد أصلح الله هذه الجزيرة وطمس معالم الوثنية والخرافة والابتداع حاملا راية التوحيد الإمامان محمد بن سعود ومحمد بن عبد الوهاب منذ القرن الثاني عشر. والحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلاّ بالله نعم المولى ونعم النصير، وصلّى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
إسماعيل بن سعد بن عتيق
الرياض 13/1/1408هـ
ص -6-(35/2)
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين وعليه نتوكل ونعتمد، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم.
الحمد لله الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليه آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين. ويسر لهم من معالم الدين ومواهب اليقين ما فضلهم به واصطفاهم على العالمين. وفتح لهم من حقائق المعارف ومعارف الحقائق ما امتازوا به على من قبلهم من سائر الأمم الماضين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخليله الصادق الأمين. صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين وسلّم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فإنّ الله قد بعث محمّداً صلى الله عليه وسلّم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون. وكان الناس قبل مبعثه على أديان متفرقة ونحل متباينة، وطرائق مختلفة، وضلال مستبين، كما في صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار عن النّبيّ صلى الله عليه وسلّم: "إنّ الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم، إلاّ بقايا من أهل الكتاب" فقام صلى الله عليه وسلّم بأعباء النبوة والرسالة، وصدع بالإنكار على كافة أهل الجهالة والضلال، ودعا الناس إلى معرفة الله وتوحيده، وأمرهم بإخلاص الدين لله وتجريده. ولم يزل صلى الله عليه وسلّم إلى الله داعياً وإلى سبيله هادياً، حتى أظهره الله على سائر فرق المشركين الأميين منهم
ص -7-(35/3)
والكتابيين، واستعلن الدين واستنار، وقهر الإسلام كل مشرك جبار فأكمل الله للأمة الدين، وأتمّ النعمة بما جاء به رسوله الأمين؛ فدخل الناس في دين الله أفواجاً، وأشرقت الأرض بنور النبوة واهتزت طرباً وابتهاجاً، ومحا الله آثار الأصنام والأوثان، وخمدت معابد الصلبان والنيران، ورفعت أعلام السنة والقرآن حتى تركهم صلى الله عليه وسلّم على البيضاء ليلها كنهارها لا يضل سالكها، ولا تلتبس عليه مناهجها ومسالكها. ولم يزل خلفاؤه الراشدون ومن بعدهم من أهل تلك الأعصار الفاضلة والقرون، على هذا المنهج المنير متفقون، وبعروته مستمسكون، فاستمر الأمر على ذلك، ومضى الصّالحون على تلك المناهج الواضحة والمسالك؛ ثم نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية، ولم يميز بين شعب الشرك والأصول الإسلامية، فانتقضت من الدين عراه، وعزّ خلاصه وعظمت بالجهل محنته وبلواه، وآلت الرياسة إلى الجهال والأغمار، وجاءت دولة غربة الدين واشتد الإدبار، فوقع الشرك بالصّالحين وغيرهم صرفا لم يشب؛ هرم عليه الكبير ونشأ الصغير وشبَّ، واستحكم الأمر استحكاما لا مزيد عليه. حتى جزم الأكثر بكفر من أنكر ذلك وأشير به إليه. وهذا من أعلام نبوة نبينا المصطفى زاده الله صلاة وسلاماً وشرفاً، فقد روى الشيخان وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: "لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه. قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟". وجاء نحوه عن ابن عباس رضي الله عنهما وفيه زيادة: "وباعاً بباع" وفيه: "حتى لو أن أحدهم دخل جحر ضب لدخلتموه، وحتى لو أن أحدهم جامع أمه في الطريق لفعلتموه" وفي الباب عن أبي هريرة وشداد بن أوس وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم. فصار الأمر طبق ما أخبر به هذه الأمة نبيها، وظهر وجه الشبه بينهم وبينها، وانتهى الحال إلى أن قبل بالاتحاد(35/4)
والحلول، وكثرت في ذلك إشارات القوم والنقول، وصار هو مذهب الخاصة والخلاصة عند الأكثرين. ومن أنكره فهو عندهم ليس على شيء من العلم والدين.
ص -8-
وعبدت الكواكب والنجوم. وصنف في ذلك مثل أبي معشر وصاحب السر المكتوم(1)، وعظمت القبور، وبنيت عليها المساجد وعبدت تلك الضرائح والمشاهد، وجعلت لها الأعياد الزمانية والمكانية؛ وصرفت لها العبادات المالية والبدنية. ونحرت لها النحائر والقرابين؛ وطاف بها الفوج بعد الفوج من الزائرين والسائلين، وحلقت لأربابها رؤوس الوافدين؛ وهتف بدعائها ورجائها من حضر وغاب من المعتقدين والمحبين. واعتمدوا عليها في المهمات من دون الله رب العالمين وانتهكت بأعيادها وموالدها محظورات الشريعة والمحرمات، واستبيح فيها ما اتفقت على تحريمه جميع الشرائع والنبوات. وكثر المكاء والتصدية بتلك الفجاج والعرصات. وبارزوا بتلك القبائح والعظائم فاطر الأرض والسموات. وصنف في استحبابه بعض شيوخهم كابن المفيد وظنه الأكثر من دين الإسلام والتوحيد وأشير إلى من أنكره بالكفر الشديد، وقد ضمن الله تعالى لهذه الأمة أن لا تجتمع على ضلالة، وأن لا يزال فيها من يعبد الله قائما على أي وصف وحالة. وجاء الحديث عنه صلى الله عليه وسلّم بأنه تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل قرن من يجدّد لها أمر الدين، ويقوم من الحجة بالواضح المستبين. فمنهم من قصّ علينا نبؤه ووصل، ومنهم من انقطع عنا خبره وما اتصل. وأحق أهل القرن الثاني عشر عند من خبر الأمور وسبر، ووقف على ما قرره أهل العلم والأثر: من حصول الوصف الكاشف المعتبر شيخ الإسلام والمسلمين المجدد لما اندرس من أصول الملة والدين، السلفي الأول وإن تأخر زمانه عند من عقل وتأمل، الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى وأجزل له الثواب.
وكان قيامه رحمه الله بعد الخمسين ومائة وألف؛ من سني الهجرة المحمدية. وايتداء التواريخ الإسلامية، فشمر رحمه الله عن ساعدي جده(35/5)
واجتهاده، وأعلن بالنصح لله ولكتابه ولرسوله، وسائر عباده، وصبر على ما
__________
(1) هو المعروف بالفخر الرازي صاحب التفسير.
ص -9-
ناله من أعباء تلك الرتبة والدعوة، وما قصد به من أنواع المحنة والجفوة.
وقرّر رحمه الله أن الواقع الذي حكينا والصنيع الذي رأينا وروينا، عن عباد القبور والصالحين، هو بعينه فعل الجاهلية الوثنيين. وهو الذي جاءت الرسل بمحوه وإبطاله وتكفير فاعله ورد باطله ومحاله: وقال: إن حقيقة دين الإسلام وزبدة ما جاءت به الرسل الكرام، هو إفراد الله بالقصد والعبادة، وإسلام الوجه له بالعمل والإرادة، وترك التعلق على الأولياء من دونه والأنداد. والبراءة من عبادة ما سواه من سائر المخلوقات والعباد. وهذا معنى كلمة الإخلاص والتوحيد. وهو الحكمة المقصودة بخلق جميع الكائنات والعبيد، وقرر رحمه الله أن مجرد الإتيان بلفظ الشهادة مع مخالفة ما دلت عليه من الأصول المقررة؛ ومع الشرك الأكبر في العبادة لا يدخل المكلف في الإسلام. إذ المقصود من الشهادتين حقيقة الأعمال التي لا يقوم الإيمان بدونها. كمحبة الله وحده، والخضوع له والإنابة إليه، والتوكل عليه، وإفراده بالإستعانة والاستعانة فيما لا يقدر عليه سواه، وعدم الإشراك به فيما يستحقه من العبادات، كالذبح والنذر والتقوى والخشية، ونحو ذلك من الطاعات.
واستدل لذلك بنصوص قاطعة وبراهين واضحة ساطعة، وحكي الإجماع على ذلك عن الأئمة الفضلاء والسادة النبلاء، من سائر أهل الفقه والفتوى، وذكر عبارة من حكى الإجماع من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم، وألف في ذلك التآليف، وقرر الحجة وصنف التصانيف، وقد عارضه من الغلاة المارقين ومن الدعاة إلى عبادة الأولياء والصالحين، أناس من أهل وقته، فباءوا بغضب الله ومقته. وأظهره الله عليهم بعد الامتحان. وحقت كلمة ربك على أهل الكفر والطغيان. وهذه سنة الله التى قد خلت من قبل، وحكمته التي(35/6)
يظهر بها ميزان الفضل والعدل.
وقد جمع أعداؤه شبهات في رد ما أبداه، وجحد ما قرره وأملاه،
ص -10-
واستعانوا بملئهم من العجم والعرب، ونسبوه إلى ما يستحي من ذكره أهل العقل والأدب فضلاً عن ذوي العلم والرتب، وزعموا أنه خارجي مخالف للسنة والجماعة، كمقالة أسلافهم لرسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه صابئ صاحب إفك وصناعة.
ومن سنة أربع وخمسين ومائتين يبلغنا ويرفع إلينا عن رجل من أهل العراق أنه تصدّى لجمع تلك الشبه من أماكنها وتتبعها من مظانها فصار يبدي من الشبهات ما يمج سماعه، ويكفي الناقد في رده نظره واطلاعه؛ ويظهر بطلانه ببدائه العقول ولا يتوقف الحكم بفساده على نظر في المعقول والمنقول. وقد رفع إليَّ رسالة سماها "صلح الإخوان" فيها من تحريف الكلم عن مواضعه والكذب على أهل العلم وعدم الفقه فيما ينقله ويحكيه من كلامهم ما يحصيه إلا الله. ورأيته قد زاد على من قبله من المعارضين بزيادات وضلالات تليق بتلك الفهوم والقلوب والمقفلات {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر: من الآية8] والمؤمن إذا وقف على كلام هذا الرجل عرف قدر ما هو فيه من نعمة الإسلام، وما اختص به من حلل الإيمان والإكرام. فازداد تعظيماً لربه وتمجيداً، وإخلاصاً في معاملته وتوحيداً.
لوشاء ربك كنت أيضاً مثلهم
فالقلب بين أصابع الرحمن(35/7)
وقد عنّ لي أولاً أن أطرح هذر كلامه وأن لا أعرج على رد إفكه وآثامه، لظهور هجنته في نفسه، وأنه مما يتنزه العاقل عن إفكه وحدسه. ثم بدا لي أن لكل ساقطة لاقطة. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لأصحابه لما قال أبو سفيان يوم أحد: أفيكم محمد أفيكم أبو بكر، أفيكم ابن الخطاب؟ "لا تجيبوه" تهاونا به وتحقيراً لشأنه. فلما قال: اعلُ هُبل، قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "قولوا: الله أعلى وأجل" ولما قال: لنا العزّى ولا عُزى لكم قال لهم: "قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم" والبلاغة كما قيل: مطابقة الكلام لمقتضى الحال.
ص -11-
فصل
اعلم أن من تصور حقيقة أي شيء على ما هو عليه في الخارج وعرف ماهيته بأوصافها الخاصة عرف ضرورة ما يناقضه ويضاده. وإنما يقع الخفاء بلبس إحدى الحقيقتين، أو بجهل كلا الماهيتين. ومع انتفاء ذلك وحصول التصور التام لهما لا يخفى ولا يلتبس أحدهما بالآخر. وكم هلك بسبب قصور العلم وعدم معرفة الحدود والحقائق من أمة، وكم وقع بذلك من غلط وريب وغمة. مثال ذلك: أن الإسلام والشرك نقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان. والجهل بالحقيقتين أو إحداهما أوقع كثيراً من الناس في الشرك وعبادة الصالحين، لعدم معرفة الحقائق وتصورها، وأن لساعد الجهل وقصور العلم عوائد مألوفة استحكمت بها البلية وتمكنت الرزية. وصار الانتقال عن العوائد والمشتهيات أعز شيء في الوجود وأصعب شيء على النفوس، مالم يعارض ذلك معارض قوي في نفسه، عظيم الصولة والقوة، سواء كان أمراً خارجياً كالقهر والغلبة والقتال والأسر "عجبت لقوم يدخلون الجنة بالسلاسل" أو أمراً باطنياً أو وازعاً إلهياً كالتوفيق وقذف النور في القلب، وتصريف كصرف القلوب. وهذا النوع أقل مما قبله، كما في حديث ابن عباس في عرض الأمم وأنه صلى الله عليه وسلّم "رأى النّبيّ وليس معه أحد، والنّبيّ معه الرجل والرجلان، والنبي ومعه الرهط" الحديث بطوله.
ص -12-(35/8)
فصل
اعلم أن العبد به فقر ذاتي وضرورة ذاتية لا تنفكان بحال إلى معرفة فاطره وبارئه وعبادته وحده لا شريك له. وهذا الفقر والضرورة لا مثل له فيقاس عليه فإن فقد معرفة باريه وعبادته وحده لا شريك له هلاك كلي أبدي، لا خير ولا سرور معه البتة بوجه من الوجوه. لكنه يشبه من بعض الوجوه فقر العبد إلى ما يقوم بدنه وتسلم به صحته من الطعام والشراب، والأمر أجل من ذلك وأعظم، فينبغي لكل عبد أن يهتم بذلك غاية الاهتمام. ولا يرضى لنفسه أن يعيش كسائمة الأنعام. قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} إلى قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [لأعراف: 179] والكلام في هذا المبحث ليس كغيره، فربما خرج الإنسان من الإسلام بشبهة تحول بينه وبين ما يحب لله من التوحيد والإخلاص والبراءة من عبادة ما عبد معه من الأوثان والأصنام.
ص -13-
فصل
قال العراقي في أول رسالته:
يقول داود بن العالم المتضلع في سائر العلوم سليمان بن جرجيس:
أقول: قد اشتهر المثل السائر: كل فتاة بأبيها معجبة. أين آثار العلم في جهل هذا وأبيه بالتوحيد، فضلاً عن سائر العلوم؟ أيضاً ففي الحديث "من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه" هذا لو سلم له علم أبيه فكيف والمنع أوجه {ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الاحقاف: من الآية4].
ودعوة المرء تطفئ نور بهجته
هذا بحق فكيف المدعي زللا؟
وانظر لتسمية جده بجرجيس؟ ومعلوم أن جرجس وبطرس ليسا من أسماء المسلمين، فما وجه التسمية بذلك؟
ص -14-(35/9)
فصل
قال العراقي: قد اشتهر أن الشيخ ابن تيمية وابن القيم يحكمان على أهل السنة والجماعة ممن يتوسل بالأنبياء والصالحين من أهل القبور، ويناديهم ويستغيث بهم إلى الله، ويحلف بغير الله أو ينذر لأنبياء الله وأوليائه وما أشبه ذلك بالكفر والشرك المخرجين من الملة، وأنهما يحكمان بالتأثيم لفاعل ذلك، أخذاً من ظاهر كلامهما، حتى حصل بذلك فتن وتفريق بين المسلمين. ثم إني أمعنت النظر فوجدتهما قد تبرآ من ذلك، بل رأيتهما عذرا فاعل ذلك، إذا كان مجتهداً أو مقلداً وله حسن قصد. وربما قالا: مأجور في فعله. قال: وهما وإن أطلقا في كتبهما وشددا لكنهما خصصا في بعضها وقيدا. فالذي لا يمعن النظر في كلامهما يحكم بأنهما قائلان بالتكفير. وأطال الهذيان.
والجواب أن يقال:
(أولا) تسمية عباد القبور أهل سنة وجماعة جهل عظيم بحدود ما أنزل الله على رسوله وقلب للمسميات الشرعية، وما يراد من الإسلام والإيمان. والشرك والكفر. قال تعالى: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [التوبة: من الآية97] وهذا وأمثاله أجدر من أولئك بالجهل وعدم العلم بالحدود، لغربة الإسلام وبعد العهد بآثار النبوة. وأهل السنة والجماعة هم أهل الإسلام والتوحيد، المتمسكون بالسنن الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم في
ص -15-(35/10)
العقائد والنحل، والعبادات الباطنة والظاهرة الذين لم يشوبوها ببدع أهل الأهواء ولا بزيغ أهل الكلام: في أبواب العلم والاعتقادات. ولم يخرجوا عنها في باب العمل والإرادات، كما عليه جهال أهل الطرق في مبتدع العبادات فإن السنة في الأصل تقع على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلّم وما سنه أو أمر به من أصول الدين وفروعه. حتى الهدي والسمت، ثم خصّت في بعض الإطلاقات بما كان عليه أهل السنة من إثبات الأسماء والصفات خلافاً للجهمية المعطلة النفاة. وخصت بإثبات القدر ونفي الجبر خلافاً للقدرية النفاة وللقدرية الجبرية العصاة. وتطلق أيضاً على ما كان عليه السلف الصالح في مسائل الإمامة والتفضيل، والكف عما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهذا من إطلاق الاسم على بعض مسمياته، لأنهم يريدون بمثل هذا الإطلاق التنبيه على أن المسمى ركن أعظم، وشرط أكبر كقوله صلى الله عليه وسلّم: "الحج عرفة" أو لأنه الوصف الفارق بينهم وبين غيرهم. لذلك سمى العلماء كتبهم في هذه الأصول: كتب السنة، ككتاب السنة للآلكائي، والسنة لأبي بكر الأثرم، والسنة للخلال، والسنة لابن خزيمة، والسنة لعبد الله بن أحمد، ومنهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية، وغيرهم.
وإذا كان الحال كما ذكرنا فقوله: اشتهر أن الشيخ ابن تيمية وابن القيم يحكمان على أهل السنة والجماعة بالتكفير والإشراك: كذب ظاهر، وبهت جلي، ما قيل ولا صدر، فضلا عن كونه عرف واشتهر. وآحاد العامة ـ فضلا عن الخاصة ـ لا يخفى عليهم أن هذين الشيخين من أكابر أهل السنة والجماعة، لا ممن يكفر أهل السنة والجماعة، وأنهما تصديا للرد على المبطلين والمشركين من اليهود والنصارى والصابئة والفلاسفة؛ وعباد القبور والمشايخ، ولم يكفرا غير هذه الطوائف ومن ضاهاهم، كغلاة الجهمية والقدرية والرافضة، هذا يعرفه كثير من العوان. وهذا العراقي بلغه ذلك، ولكن ظن أن عباد القبور أهل سنة وجماعة، فأخذ في(35/11)
تحريف كلام الشيخين. والإلحاد في ذلك، بل وألحد في نصوص الكتاب والسنة، كما
ص -16-
سيأتيك عنه مفصلا إن شاء الله. قال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمَّنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت:40].
وقوله: ممن يتوسل بالأنبياء والصالحين من أهل القبور ويناديهم، ويستغيث بهم إلى آخره.
يريد به: ما سيأتي في كلامه من أن دعاء الصالحين والاستغاثة بهم فيما لا يقدر عليه إلا الله يسمى توسلاً عنده وتشفعاً. وهذا فرار منه أن يسميه شركاً وكفراً وهذا من جنس جهله بالأسماء والمسميات. وسيأتيك رد كلامه هناك، وأن التوسل صار مشتركا في عرف كثيرين، وأن العبرة بالحقائق لا بالأسماء، وأن الله سمى هذا شركاً وعبادة لغيره في مواضع من كتابه. كل هذا يأتيك مفصلا، فإياك أن تغتر بالإلحاد وتغيير الأسماء؛ فقف مع الحدود الشرعية، واعتبر بالحقائق تعرف أن هؤلاء مشركون وثنيون، عباد قبور. لا يستريب في ذلك إلاّ جاهل بأصل الإسلام لم يدر ما جاءت به الرسل الكرام.
وهذا الضرب من الناس ـ أعني عبّاد القبور ـ يحسنون الظن بأنفسهم ويرون أنهم أهل سنة وجماعة. وهكذا أهل كل ملة ونحلة وبدعة. وقد قال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف:103ـ104]، وقال تعالى: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [لأعراف: من الآية30].
وما أحسن قوله تعالى في قضائه بين إبراهيم وقومه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82].
ومن عادة هذا(35/12)
العراقي: أنّه إذا رأى عبارة في مدح أهل السنة والجماعة وعدم تكفيرهم ادّعاها لنفسه وشيعته من عباد القبور والصالحين، والمتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور.
ص -17-
وأعجب من هذا في الجهالة وأبعد في التيه والضلالة أنه زعم أن هذين الشيخين لا يقولان بتأثيم من دعا الأولياء والصالحين واستغاث بهم من دون الله في حاجاته وملماته، وأنهما عذراه وقالا: هو معذور مأجور. ويل أمه، ما أكذبه، وما أضله عن الفهم الصحيح وأبعده. جميع عباراتهما، وكل مصنفاتهما ضريحة ظاهرة في تضليل فاعل ذلك والحكم عليه بالشرك الأكبر، وأنه ممن عدل بالله وسوى بربه غيره، وأنه يستتاب فإن تاب وإلاّ قتل مرتداً، وأن الله سبحانه بعث جميع رسله وأنزل سائر كتبه ليعبد وحده لا شريك له، ويكفر بما عبد معه من الأنداد والآلهة. وهذا أصرح شيء وأظهره في الكتاب والسنة، وكلام علماء الأمة وفقهائها، لا سيما شيخ الإسلام وتلميذه، فإنهما قد اهتما بهذا الأصل وقرراه ووضّحاه وأقاما عليه من الأدلة والبراهين ما يعز جمعه واستفاؤه.
إذا عرفت هذا، فاعلم أن مستند المسلمين في العقائد ومرجعهم في أصول الدين وفروعه إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله، وإجماع من سلف من علماء الأمة. وأن التقليد في باب أصول الدين، ومعنى شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمداً رسول الله لا يفيد ولا يجدي عندهم، وإن كان المقلَّد ـ بفتح اللام ـ فاضلاً عالماً في نفسه. وهذا العراقي يظن أن المسلمين يكفرون أهل الشرك وعباد الصالحين ويقاتلونهم على التوحيد، تقليداً للشيخ وغيره. وهذا لأنه لا يحسن سوى حرفة التقليد والكتاب والسنة عنده عن الاستدلال والاحتجاج بمكان بعيد، والمسائل التي يسقط الذم عن المخطئ فيها إذا اجتهد واتقى الله ما استطاع هي المسائل الاجتهادية، أي التي يسوغ الاجتهاد فيها أو ما يخفى دليله في نفسهن, ولا يعرفه إلاّ الآحاد؛ بخلاف ما علم بالضرورة من دين الإسلام، كمعرفة الله بصفاته(35/13)
وأسمائه وأفعاله وربوبيته ومعرفة ألوهيته وكتوحيده بأفعال العبد وعباداته؛ فأي اجتهاد يسوغ هنا وأي خفاء ولبس فيه؟
وليس يصح في الأذهان شيء
إذا احتاج النهار إلى دليل
ص -18-
وجميع الكفار، إلا من عاند منهم، قد أخطأوا في هذا الباب واشتبه عليهم، أفيقال بعذرهم وعدم تأثيمهم أو أجرهم؟ سبحان الله! ما أقبح الجهل وما أبشعه.
هذه أربعة مواضع ضلّ فيها العراقيّ في أول بحثه في قدر ثلاثة أسطر من كلامه فسبحان مصرف القلوب.
قال ابن القيم رحمه الله في الكلام على أهل الفترة عند حديث المنتفق، وقوله صلى الله عليه وسلّم: "إنّ أباك المنتفق في النار"؛ ولو لم يكن من الأدلة على توحيد الله ومعرفته إلا ما اعترفوا به من ربوبية الله واختصاصه بالخلق والإيجاد والإبداع لكفى بذلك دليلاً، أو نحو هذا الكلام.
وغلاة عباد القبور قد أثبتوا لآلهتهم وأوليائهم شركة مع الله في التدبير والتأثير كما قالته غلاة الرافضة. وعلى كلام هذا الضال هم معذرون مأجورون لأنهم اجتهدوا، فسبحان من طبع على قلبه، وحال بينه وبين رشده. وما أحسن قوله تعالى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الرعد:19] بل إطلاق هذا يدخل فيه اجتهاد النصارى فيما أتوا به من القول الشنيع والكفر الفظيع ويدخل في عمومه قول أهل الحلول والاتحاد، كابن عربي وابن سبعين والعفيف والتلمساني وابن الفارض وأمثالهم، ويلزم من هذا العراقي تضليل من كفّر المشركين وعبّاد القبور من علماء الأمة. وتضليل الفقهاء فيما ذكروه في باب حكم المرتد، وأن يخص كلامهم بغير المجتهد والمقلد؛ ومن له حسن قصد. فيجب على هذا تقييد ما أطلقوه وتحرير ما ضيعوه، ولم يضبطوه. وأن يكتب هذا القيد على ذكره الحنفيون والمالكيون والشافعيون والحنبليون في باب حكم المرتد وما يكفر به المسلم؛ ليظهر الحق إن كان ما زعمه(35/14)
العراقي حقاً، أو يشهد كافة أولي الألباب من العلماء والخلق أن هؤلاء قوم لا يعقلون؛ وأنهم في ضلالة عمياء؛ وجهالة صمّاء؛ وأن لهم نصيباً وافراً من قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} [لأعراف: 179].
ص -19-
وأما دعواه أنه أمعن النظر في كلام الشيخين فقد يكون ذلك، لكن إنما ينتفع بالبحث والنظر أهل البصائر والأثر، وهل ضل من ضل قديماً وحديثاً إلاّ من جهة فساد نظره، وضلال فكره، وغشاوة بصره، وطبع الله على قلبه؟ وعلى الشيخ وأمثاله بيان الحق؛ وكشفه وتقريره؛ وليس عليهم أن يفهم كلامهم كل ناظر فيه مطلع عليه.
عليك في البحث أن تبدي غوامضه
وما عليك إذا لم تفهم البقر(35/15)
قال ابن القيم رحمه الله تعالى ـ بعد أن ذكر كلام الزنادقة المكذبين للنصوص الواردة في عذاب القبر ـ قال: الأمر الثاني أن يفهم عن الرسول صلى الله عليه وسلّم مراده من غير غلو ولا تقصير، فلا يحمل كلامه إلا على ما يحتمله، ولا يقصر به عن مراده وما قصده من الهدى والتبيان.
قال رحمه الله: فقد حصل بإهمال ذلك والعدول عنه من الضلال والعدول عن الصواب وما لا يعلمه إلا الله، بل سوء الفهم عن الله ورسوله أصل كل بدعة وضلالة نشأت في الإسلام، بل هو أصل كل خطأ في الأصول والفروع، ولا سيما إن أضيف إليه سوء القصد، فيتفق سوء الفهم في بعض الأشياء من المتبوع مع حسن قصده وسوء القصد من التابع، فيا محنة الدين وأهله. والله المستعان. وهل أوقع القدرية والمرجئة والخوارج والمعتزلة والجهمية والرافضة وسائر طوائف أهل البدع إلاّ سوء الفهم عن الله ورسوله حتى صار الدين بأيدي أكثر الناس هو موجب هذه الأفهام، والذي فهمه الصحابة ومن تبعهم عن الله ورسوله فمهجور ولا يلتفت إليه، ولا يرفع به هؤلاء رأساً، ولكثرة هذه القاعدة تركناها، فإنا لو ذكرناها لزدات على عشرات ألوف؛ حتى إنك لتمر على الكتاب من أوله إلى آخره فلا تجد صاحبه فهم عن الله ورسوله مراداً كما ينبغي في موضع واحد، وهذا إنما يعرفه من عرف ما عند الناس، وعرضه على ما جاء به الرسول. وأما من عكس الأمر فيعرض ما جاء به الرسول على ما اعتقده وانتحله وقلّد فيه من أحسن
ص -20-
الظن به؛ فليس يجدي الكلام معه شيئاً، فدعه وما اختار لنفسه وولّه ما تولى؛ واحمد إلهك الذي عافاك مما ابتلاه به. انتهى.
وما أحسن ما قال في الكافية:
فلقد نجا أهل الحديث المحـ
ـض أتباع الرسول وتابعوالقرآن
عرفوا الذي قد قال مع علم بما
قال الرسول فهم أولو العرفان
مدوا يداً نحو العلى بتكلف
وتخلف وتكبر وتوان
أترى ينالوها؛ وهذا شأنهم؟
حاشا العلاء من الزبون الفاني
ص -21-(35/16)
فصل
قال العراقي: على أن ما أطلقاه وشددا فيه قد صرحا في مواضع متعددة أنه سد للذريعة، وأن المقصود الشرك أو الكفر الأصغر لا المخرج من الملة.
كما سنقف على عبارتهما في جميع كتبهما. ثم إن هذا الشرك إنما يكون عندهما محرماً إذا لم يكن فاعله مجتهداً ولا مقلداً ولا عرضت له شبهات يعذره الله فيها. ولا متأوّلاً، ولا ابتلى بمصائب مكفرة، ولا له حسنات تمحو ذنبه، ولا شفيع مطاع، ولا كان جاهلاً. فبعد انتفاء هذه الشروط يحكم على فاعل هذه الأشياء المتقدمة بالشرك الأصغر، ولما نقلت هذا لبعض أهل الدين حثني على جمع هذه العبارات.
والجواب أن يقال لهذا:
كلامك هذا كله باطل، وجهل مركب، وبهت لهذين الشيخين. وليس فيه جملة واحدة توافق الحق أصلاً، فالحمد لله الذي خذل أعداء دينه وجعلهم عبرة لأوليائه، وعباده المؤمنين.
وحينئذ فالجواب من طريقين، مجمل ومفصل.
أما المجمل فنقول: قد تقدم أن الأصل المعتمد في هذا الباب وغيره من أصول الدين وفروعه هو ما دلّ عليه الكتاب والسنة وإجماع علماء الأمة. هذه هي الأدلة الشرعية بإجماع، والقياس مختلف فيه. والجمهور على قبوله بشروطه، وليس المعول على كلام الآحاد من أهل العلم والدين، وإن علت
ص -22-(35/17)
درجتهم، وارتفعت رتبتهم. ولا تصلح المعارضة بقول فلان وفلان من أهل العلم والدين، ولا ينتقض الدليل بمخالفة أحد كائنا من كان.
إذا عرفت هذا، فالجواب المفصّل أن نقول: قوله إن الشيخ وتلميذه صرّحا أن ما قالاه في دعاء الصالحين وعبادتهم مقصودهما سد الذّرائع وأنه من الشرك الأصغر، وأنه لا يكون محرماً إذا كان فاعله مجتهداً أو مقلداً أو مخطئاً.
كلام كذب محض مردود على قائله. وهذه الدعوى من هذا العراقي يكفي في ردها وإبطالها المنع، لأنها عارية عن الدليل والبرهان. والدعوى المجردة يكتفي بمنعها. وما ذكره العراقي فيما سيأتي لم يفقه المراد منه ولم يدر ما قصد به. فوضع كلامه في غير موضعه. وعارض بعضه ببعض, وصادم ما ذكره الشيخ في الشرك الأكبر بما ذكره فيما دونه من الشرك الأصغر والسيئات، والبدع التي فشت في الأمة، وجعل هذا من باب التقييد للمطلق. لجهله بالصناعة. فإن حقيقته تعاؤض محض وتناقض ظاهر على زعم هذا العراقي. وهذا مما ينزه عنه آحاد المسلمين فضلا عن العلماء المحققين. وعلى زعم هذا العراقي أنه أيضاً لا يكون شركاً أصغر ولا محرماً على المجتهد، بل هو مأجور في ذلك، وأنّ الشرك والكفر والفسوق لا يتحقق مسماها ولا يكون إثما إلا إذا عوقب صاحبه بالنار، فإن منع مانع من العقاب انتفى الاسم والحكم. فسبحان الله والله أكبر؛ ما أقل حياء هذا الرجل وما أغلظ فهمه وما أكثف حجابه، وسيأتيك ما سننقل من كلامهما صريحاً واضحاً لا يقبل تأويل هذا الملحد بوجه من الوجوه.
وهب أنه لا يعاقب، فما الذي منع تحريمه، وقلب مسماه، وأحاله أن يكون شركاً؟ وكلام الشيخ صريح في أن المراد بعباراته ما يقع من ذنوب أهل الإسلام مما دون الشرك وعبادة الصالحين. وعباراته ظاهرة في ذلك، ليست على ما نقله العراقي، بل فرضها في أهل الإسلام، وما حدث من البدع التي على ما نقله العراقي، بل فرضها في أهل الإسلام، وما حدث من البدع التي تنازع الناس في تكفير أهلها،(35/18)
وما وقع من بعض الصحابة مما يدعى أنه من
ص -23-
جنس الذنوب. فإنه لما منع الدعوى وذكر أن الواقع من الفتن والقتال إنما صدر عن اجتهاد ورأي، وأن المجتهد في مثل هذا ـ يعني مسائل الإمامة والطلب بدم عثمان، ونحو ذلك ـ مما يعذر فيه المجتهد إذا كان هذا حاصل علمه واجتهاده ولم يقصد معصية الله ورسوله.
ثم قال بعد ذلك: والعقاب في الدار الآخرة قد يرتفع عن المسلم ـ أو قال المؤمن ـ بأسباب عشرة، فذكر التوبة والاستغفار، والعمل الصالح الذي ترجح به حسناته، والمصائب المكفرة في الدنيا والمصائب المكفرة في البرزخ، والمصائب المكفرة في عرصات القيامة؛ ودعاء المؤمنين واستغفارهم؛ وشفاعتهم له في الدار الآخرة وشفاعة سيد الشفعاء، ومغفرة الله ورحمته. فإن لم تقوَ هذه الأسباب ومنع مانع من جهة العبد؛ فلا بدّ من دخوله النار وتطهيره من آثار الذنوب فإذا طهر ونقي دخل الجنة.
وهذا معنى كلام الشيخ في المنهاج وغيره، فمن أراد المراجعة فالعبارة معروفة في محلها.
وقال شيخنا في بعض رسائله: لما اختلف الناس بعد مقتل عثمان؛ وبإجماع أهل العلم أنهم لا يقال فيهم إلا الحسنى، مع أنهم عثوا في دمائهم.
ومعلوم أن كلام من الطائفتين ـ أهل العراق وأهل الشام ـ معتقدة أنها على الحق والأخرى ظالمة وكان من أصحاب علي من أشرك بعلي، وأجمع الصحابة على كفرهم وردتهم وقتلهم، لكن حرقهم علي، وابن عباس يرى قتلهم بالسيف ـ أترى أهل الشام لو حملهم مخالفة علي على الاجتماع بهم والاعتذار عنهم والمقاتلة معهم لو امتنعوا أترى أحدا من الصحابة يشك في كفر من التجأ إليهم ولو أظهر البراءة من اعتقادهم؟ وإنما التجأ إليهم وزين مذهبهم لأجل الاقتصاص من قتلة عثمان.
فتفكر في هذه القصة فإنها لا تبقي شبهة إلا على من أراد الله فتنته انتهى.
ص -24-(35/19)
وهذا العراقي يزعم أنه يقول إن الشرك أو الكفر إنما يكون محرماً إذا لم يكن له حسنات تمحوه ولا شفع له شفيع، ولا كان جاهلاً. فبعد انتفاء هذه الشروط المتقدمة يحكم عليه بالشرك الأصغر.
فكلام الشيخ وبحثه في ارتفاع العقاب في الآخرة فيما دون الشرك الأكبر بأحد هذه الأسباب. والعراقي فهم انتفاء الاسم والحقيقة وأنه لا يكون ذنباً.
فاعرف ما في كلام العراقي من الزلل.
ويلزم على هذا أن تنتفي الأحكام المترتبة على الذنوب في الدنيا من الأسماء والعقوبات والحدود، لأن ذلك عنده ليس بذنب ولا يسمى شركاً محرماً إلاّ إذا عوقب في الدّار الآخرة عليه. فبطل كلام الفقهاء في الفساق وأهل الذنوب. وما ذكروه في أبواب العبادات والولايات والحدود والعقود والأنكحة، فقف هنا تر العجب العجاب من جهل هؤلاء الضلال.
وقول الشيخ: ولم يكن مجتهدا ولا مقلداً؛ ولا عرضت له شبهات يعذره الله فيها ولا متأولاً: سيأتيك جوابه في أول نقوله في هذه الرسالة. وقد تقدم بعض ذلك، ويأتي له مزيد، ولكن ينبغي أن يعلم أنّ كلام الشيخ في مسائل مخصوصة، وأن المراد انتفاء العقاب في الدار الآخرة، وأما الأحكام الدنيوية فيجري على المتأول والمقلد ومن عرضت له شبهات يعذره الله تعالى فيها ما أجراه الشارع من الأحكام الدنيوية، يعذر تارة وتارة لا يقال بعذره، وتجري عليه الأحكام، وقد ذكر هذا العلماء مفصلاً في أبوابه.
ومن عجيب أمر هذا العراقي: أنه فهم من قول الشيخ: إنّ العقاب في الآخرة قد يرتفع عن المسلم بأحد الأسباب العشرة: أنه يتناول أهل الشرك وعباد القبور والله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: من الآية48] ويقول: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [المائدة: من الآية72] وقال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ(35/20)
لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: من الآية65] فكيف يظن بالشيخ أو من دونه أن يقول بانتفاء العقاب عمن حكم الله بخلوده في النار، وحبوط أعماله.
ص -25-
فصل
قال العراقي: وهذه المسائل المطلقة كم استحلت بسببها دماء وأموال، وكم زلت فيها علماء وهلكت رجال، وكم انتهكت فيها حرمة الإسلام وأعراض، وكم استخف فيها بأنبياء الله وأوليائه؟ فهي في القلوب أمراض.
الجواب أن يقال:
قد صدق العراقي في جملة واحدة من هذه الجمل، ,هي قوله: فهي في القلوب أمراض، ومراده قلوب أمثاله وشيعته من عباد الأولياء والصالحين، فنعم {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}.
وأما مسائل العلم والعبادة وإفراد الله بالطلب والإرادة وأحكام الشرك به ودعاء الصالحين والاستغاثة بهم ومحبتهم مع الله، واتخاذهم أولياء من دونه. فهذه ليست من المسائل الفرعية الاجتهادية التي قد يخفى دليلها، فيحتاج المسلم فيها إلى التقليد، كما زعم العراقي: أن الدماء والأموال استحلت بسبب كلام الشبخ ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، بل المعول في هذا على نصوص الكتاب والسنة وإجماع علماء الأمة، لا على كلام عالم أو فقيه غير رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
فقول هذا العراقي جهل بأصل هذه الدعوى النجدية؛ وبحال شيخهم رحمه الله. والله تعالى قد حكم في دماء المشركين وأموالهم، وبين ذلك ووضحه في كتابه أتم بيان وأحسن توضيح. قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا
ص -26-(35/21)
تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: من الآية193]، والفتنة الشرك. وقال تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة: من الآية36]، وقال: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: من الآية5].
ومن نازع في أن دعاء الصالحين وعبادتهم واتخاذهم أنداداً لله رب العالمين ليس من الشرك، واعتقد ونازع في عدم دخولهم في مثل هذه الآيات، ورأى أنهم من المسلمين: فهذا رجوع منه إلى أصل المسألة. والنزاع في مسمى الإسلام والشرك، والكلام معه في كشف شبهته وتقرير الدليل على أن هذا هو الشرك المبيح للدم والمال.
وقد عرفت أن هذا هو أصل الإشكال عندهم، وسببه ما عرض لهم من الشبهات المانعة من إدخال الواقع في مسمى الشرك والكفر، كقولهم: نحن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ونصوم ونصلي، ونؤمن بالبعث، وقولهم: هذا توسل ليس بدعاء، وقولهم: دعاء الصالحين والأولياء ليس كدعاء الأوثان والأصنام. وقولهم في بعض الأدلة والآيات: هذه في الأصنام. وقول بعضهم: المشركون يعتقدون لها التأثير والتدبير، ونحن نجعلها وسائل وشفعاء ونحو ذلك، وقول بعضهم: إن الله أعطاهم الشفاعة، ونريد منهم مجرد الجاه والشفاعة، وقولهم: إن الله أكرمهم بالكرامات، ولهم ما يشاءون عند ربهم.
وهذه الشبهة كشفها القرآن وبينها، وسجل على جهالة أهلها، وكلها أوردها العراقي هنا مفرقة في كلامه، وسيأتيك ردها وكشفها مفصلا بحول الله ومنته.
وقد تكلم شيخنا في كتابه كشف الشبهات على أكثرها؛ فراجعه إن شئت، فإنه مفيد مع اختصاره ولطافة حجمه.
وأما من سلم هذا ولم ينازع فيه؛ وعرف أنه هو شرك جاهلية العرب، فإنه يعرف حينئذ حكم الأموال والدماء بنصوص الكتاب والسنة الظاهرة المستفيضة، وسيرته صلى الله عليه وسلّم في دماء المشركين وأموالهم، والشروط المعتبرة كبلوغ الحجة وتقدم الدعوة، حصلت من شيخ الإسلام رحمه الله، بل من وقف في على(35/22)
سيرته وما ذكره المؤرخون في بدء دعوته، مثل
ص -27-
الشيخ حسين بن غنام الإحسائي في تاريخه، عرف أن الشيخ لم يبدأ أحداً بالقتال بل أعداؤهم الذين ابتدأه بذلك، وقتاله كان من باب الدفع والمجازاة على السيئة بمثلها، وما حدث بعده أو في وقته من خطأ أو تعد فلا يجوز نسبته إليه، وأنه أمر به ورضيه، ,قد جرى لأسامة بن زيد في دم الجهني، وجرى لخالد بن الوليد في دماء بني جذيمة وأموالهم ما يجهله أهل العلم والإيمان. وذلك في عهده صلى الله عليه وسلّم وقد برئ منه وأنكره، فقال: "اللهم إني أبرأ إليك مما صصنع خالد" وقال لأسامة: "أقتلته بعد ما قال: لا إله إلا الله؟ كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة" ومن أشكل عليه أمر القتال في زمن الشيخ وعلى دعوته فهو إما جاهل بحال الأعداء وما قالوه في الإسلام، وما بدلوه من الدين، وما كانت عليه البوادي والأعراب من الكفر بآيات الله، ورد أحكام القرآن والاستهزاء بذلك، والرجوع إلى سوالف البادية، وما كانت عليه من العادات والأحكام الجاهلية، وأمثلهم حالاً من عرف أن كتاب الله وأحاديث رسوله عند الحضر، فلم يرفع بذلك رأساً ولم يبال بشيء مما هنالك، أو هو جاهل بما جاءت به الرسل ونزلت به الكتب، لا شعور له بشيء من ذلك، ولا يدري ما الناس فيه من أمر دينهم.
وبالجملة: فالواجب أن يتكلم الإنسان بعلم وعدل، ومن فاته العلم فحسبه السكوت إن كان يؤمن بالله واليوم الآخر, ومن خلع ربقة الدين من عنقه فليقل ما شاء الله، والله بما يعملون بصير.
وأما قوله: وكم استخف فيها بأنبياء الله؟
فهذا بحسب ما عنده وما يعتقده، والذي يراه هؤلاء القبوريون أن من من دعاء الأنبياء والصالحين والاستعانة في الشدائد والمهمات، وأنهم لا يدعون مع الله في الحاجات والملمات، ولا يذبح لهم تقرباً ولا يطاف بقبورهم ولا يتوكل عليهم: فقد استخف بهم وتنقصهم، ,هضمهم حقهم.
ص -28-(35/23)
وأصل هذا: أنهم لا يفرقون بين حق الله وحق عباده، ولا تمييز عندهم في ذلك، بل يرون استحقاقهم كثيراً من العبادات المختصة بالله، وهذا يشبه غلو النصارى في المسيح وغيره. وقد قالوا لمن أنكر عليهم عبادة المسيح: قد تنقصت المسيح، وقلت فيه قولاً عظيماً، كما قال عمرو بن العاص وأصحابه للنجاشي لما قدموا عليه بعد الهجرة الأولى إلى الحبشة، وسألوه أن يخلي بينهم وبين المهاجرين وعنده جعفر بن أبي طالب وأصحابه، وأبى النجاشي ذلك فقال عمرو: إنهم يقولون في المسيح قولاً عظيماً ـ يعني يقولون: هو عبد الله ليس بإله، فأرسل النجاشي لجعفر وأصحابه وسألهم عن ذلك، فقالوا فيه ما قاله الله تعالى، وتلا جعفر صدر سورة الروم، حتى على ذكر المسيح وشأنه فقال النجاشي: والله ما زاد المسيح على هذا.
وبالجملة فمن عرف ما جاءت به الرسل من وجوب توحيد الله وإفراده بالعبادة، عرف وتبين له أن المنع من دعائهم وقصدهم من دون الله في الحاجات والملمات، هو عين تعظيمهم وتوقيرهم وتعزيرهم والإيمان بهم وتصديقهم، وقبول ما جاءوا به، ومنابذة أعدائهم وأضدادهم من المشركين على اختلاف أجناسهم وتباين مللهم. فإن أصل النزاع بينهم وبين أعدائهم في إخلاص عبادة الله وحده، والبراءة من عبادة ما سواه. ولا يحصل ولا يتصور الإيمان بهم إلا باعتقاد هذا وموافقتهم عليه. وأما مخالفتهم فيه ومعصيتهم فهي عين التنقيص لهم والاستخفاف بهم ومت عرف هذا عرف أن الشيخ وإخوانه المؤمنين من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى قيام الساعة هم المعظّمون للرسل الموقرون لهم العارفون بحقوقهم، القائمون بما يجب لله ورسوله وما يجب لعباده الله من الحقوق لا أهل الشرك بهم والمعصية لهم، ونبذ أوامرهم، وترك ما جاءوا به وهجره وعزله عن الحكم به، وتقديم منطق اليونان في باب معرفة الله وصفاته، وتقديم آراء الرجال وحدسهم على النصوص والأحاديث الصريحة، وتقديم غلو النصارى ورأيهم في عبادة الأحبار(35/24)
والرهبان على ما جاءوا به من تجريد التوحيدن وإخلاص الدين لله،
ص -29-
هذا هو حقيقة الاستخفاف عند كافة العقلاء، وأما طاعة الرسول في إخلاص الدين لله، وترك دعاء الأنبياء والصالحين، فهو عين التعظيم والتوقير، فظهر أن هؤلاء قوم لا يعقلون.
وقد قرر شيخ الإسلام على قوله تعالى: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ} [الانبياء:36] قال: فكانوا ينكرون على محمد صلى الله عليه وسلّم أن يذكر آلهتهم بما تستحقه، وهم يكفرون بذكر الرحمن، ولا ينكرون ذلك، قال: وهكذا من فيه شبه من اليهود والنصارى والمشركين، تجده يغلو في بعض المخلوقين من المشايخ والأئمة والأنبياء وغيرهم، إذا ذكروا بما يستحقونه أنكر ذلك ونفر منه. وعادى من فعل ذلك، وهو وأصحابه يستخفون بعبادة الله وحده، وبحقه وبحرماته وشعائره، ولا ينكر ذلك. ويحلف أحدهم بالله ويكذب، ويحلف بمن يعظمه ويصدق ولا يستجيز الكذب إذا حلف به. وهؤلاء من جنس النصارى والمشركين، وكذا قد يعيبون من نهى عن شركهم، كالحج إلى القبور التي يحجون إليها عادة، وهم يستخفون بحرمة الحجّ إلى بيت الله، ويجعلون الحج إلى القبور أفضل منه. وقد ينهون عن الحج اعتياضاً منه بالحج إلى القبور، ويقولون: هذا الحج الأكبر، وهؤلاء من جنس المشركين وعباد الأوثان. انتهى.
ولو بسطنا الكلام في استخفاف عباد القبور بالأنبياء والصالحين وما جاءوا به من عند الله؛ لطال الكلام، والعاقل يتنبه فينظر.
ومن المحن: أن مشائخ المذاهب الأربعة وفقهاءهم جزموا بوجوب هدم القباب ونهوا عن الطواف بالقبور ودعاء أربابها، بل ودعاء الله عندها، ومنعوا من الذبح لها والغلو فيها، بل وعن عبادة الله بالصلاة عندها. فإذا عمل بمقتضى أقوالهم عامل وألزم بها الناس نسبه هؤلاء الجهال إلى الاستخفاف بالأنبياء والصالحين وإلى مخالفة(35/25)
العلماء لأن العلم في عرفهم ما
ص -30-
هم عليه من أقوال أسلافهم ومشايخهم من المتأخرين الجاهلين.
وقد حدثني من يقبل حديثه أنه سمع هذا العراقي بالمدينة المنورة ـ على ساكنها أفضل الصلاة والسلام ـ يوم قدوم الحاج يقول في مجمع من الناس: إنّما الرجل من يقول: حدثني سري عن ربي، لا من يقول: حدثنا فلان عن فلان. فانظر هذا الاستخفاف العظيم برسل الله.
ومن المعلوم من الدين بالضرورة أن من يأخذ عن الأنبياء المعصومين، وعن رسل الله المبلغين أفضل وأكمل ممن يأخذ عن سره ووارده، بل هذه الواردات كلهما موقوفة ومردودة إلا بشاهد عدل عن النبي صلى الله عليه وسلّم يشهد لها بالصحة وأنها حق يؤخذ به، وقد قال شيخ الطريق الجنيد بن محمد: "إنّه لتقع في قلبي النكتة من نكت القوم، فلا أقبلها إلا بشاهدي عدل من الكتاب والسنة".
وغالب هذه الواردات التي تخالف الشرعيات ويشير إليها أهل التصوف والتعبدات إنما هي من وحي الشياطين لا عن ربّ العالمين.
وبهذا تعلم أن هذا العراقي وأمثاله هم أهل التنقص للرسل التاركون لما جاءوا به، وحاصل أمرهم عزل الكتاب والسنة في باب الاعتقادات والعمليات، واتباع ما تهوى الأنفس من الغلو والإطراء والجهل والضلالات.
وهذا الاعتراض محشو من ذلك، لا تكاد تجد فيه كلمة واحدة سيقت على القانون الشرعي والمنهاج المرضي، وما أحسن ما قال شيخ الإسلام فيما كتب على المحصل للرازيّ:
محصل في أصول الدين حاصله
من بعد تحصيله جهل بلا دين
بحر الضلالات والإفك المبين وما
فيه فأكثره وحي الشياطين
ص -31-(35/26)
فصل
قال العراقي: وإنما قصدت بهذا الإصلاح بين المسلمين واتفاق الفريقين لقول الله تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: من الآية10] وقول رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً".
والجواب: أن يقال:
إذا اتحد الدين وحصل الإيمان بالله ورسوله، وعبادة الله وحده لا شريك وخلع ما سواه من الأنداد والآلهة، حصلت الإخوة في الدين، ووجب من حقوق الإسلام والمسلمين بعضهم على بعض ما أوجبه الله ورسوله. وقصد الإصلاح بينهم واجب. لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: من الآية10] لكن مفهوم هذا أن الأخوة تنتفي بانتفاء الإيمان. وقد صرّح الله بهذا المفهوم في مواضع من كتابه، كقوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية [المجادلة:22]، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: من الآية1]، وقوله: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} الآية [آل عمران:28]، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ} الآية [المائدة:57]، وقال تعالى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} إلى قوله: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ} [التوبة:1ـ12]، وهذا في القرآن كثير، ولكن خفي على العراقي أن دعاء الأنبياء والصالحين والاستعانة بهم، وصرف
ص -32-(35/27)
حقوق الله إليهم من الشرك الذي ينتفي معه أصل الإيمان ومسماه، بل ويخفى على هذا العراقي أن الإيمان هو التوحيد كما فسّره بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلّم في حديث وفد عبد القيس، وفي حديث معاذ، لما أرسله إلى اليمن. فلذلك قصد بجهله الإصلاح بين الطائفتين واتفاق الكلمتين، ولم يدر شرع الله وحكمه في هذه المباحث، ومثله لا يعذر بالجهل في هذه المباحث والأصول، بل عليه وزره ووزر من اتبعه. من غير أن ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً، وفي الحديث: "الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً حرم حلالاً أو أحل حراماً".
لا أصلح الله منا من يصالحكم
حتى يصالح ذئب المعز راعيها
ص -33-
فصل
قال العراقيّ في مقدمة رسالته: اعلم أن شيخ الإسلام قال في بعض كتبه ـ كما سيأتي قريباً ـ إن أول من أظهر كفر أهل السنة والجماعة وتشريكهم: هم الخوارج والرافضة والمعتزلة.
والجواب أن يقال:
قد تقدم جواب هذا، وأن أهل السنة والجماعة هم المتمسكون بما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلّم من المعتقد والدين الذي خالفوا به أهل البدع وباينوهم، فلم يذهبوا إلى ما ذهبت إليه الجهمية والمعطلة، ولا إلى ما ذهبت إليه القدرية النفاة والقدرية المجبرة، ولا إلى ما ذهبت إليه الخوارج والمعتزلة، ولا إلى ما ذهبت إليه الرافضة والمرجئة، ولم يذهبوا إلى ما افتراه الغلاة في الأولياء والصالحين من عباد القبور، ونحوهم. فإن هؤلاء يسمون عند أهل السنة والجماعة غالية كما سموا به من غلا في علي وزعم أنه الإله الحق، فاستتابهم علي، فأبوا فخدّ لهم الأخاديد وأوقد فيها النيران، وقذفهم فيها وقال:
إني إذا رأيت أمراً منكراً
أججت ناري ودعوت قنبراً
وفي رواية:
لما رأيت الأمر أمراً منكراً.
ص -34-(35/28)
ومن زعم أن عباد القبور أهل سنة وجماعة فهو إلى أن يعالج عقله أحوج منه إلى أن يقام عليه الدليل.
وفي كلام العراقيّ لفظة مدرجة ليست من كلام الشيخ، وهي قوله: "وتشريكهم" ظن أنها تنفعه، لأن المسلمين حكموا على عباد القبور بالشرك، فزاد هذه الكلمة، وسيأتيك كلام الشيخ في الغالية وعبارته في الرسالة السنية قريباً إن شاء الله تعالى.
ص -35-
فصل
قال العراقي: والخوارج هم كما في البخاري ومسلم وغيرهم من سائر كتب الحديث أناس عمدوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين ـ وأطال الكلام في الخوارج، وذكر بعض النصوص فيهم مع تصرف وعدم تحقيق ومعرفة للنقل ـ إلى أن قال ـ: فتبين لك أن علامة الخوارج تنزيلهم آيات القرآن النازلة في الكفار على المؤمنين من أهل القبلة. ولهذا ما ترى أحداً من أهل السنة يتفوه بذلك ولا يكفر أحداً، ومنشأ هذه البدعة من سوء الظن واتباع العقل ـ ثم ذكر حديث اعتراض ذي الخويصرة التميميّ على قسمة رسول الله صلى الله عليه وسلّم وما قال له، ثم ذكر قول الخوارج: "لا حكم إلا لله" وقال بعده: وكذلك إخوانهم في هذا الزمان يقولون: "لا يعبد إلا الله" فنقول: صدقتم هذه كلمة حق، ولكن أين الذي يعبد غيره إذا كان مسلماً ناطقاً بالشهادتين، ويصلي ويصوم ويزكي ويحج.
والجواب أن يقال:
إن الأحاديث والآثار التي جاءت بها السنة وصحت بها الأخبار في شأن الخوارج ووصفهم وذمهم، فهي معروفة مشهورة عند أهل العلم بالحديث والآثار، وقد ساقها مسلم في صحيحه من نحو عشرة أوجه، وهذا العراقي ليس من رجال هذا الشأن ولا يحسن الحكاية والنقل، ولا تمييز له بين مرفوعها وموقوفها، وصحيحها وسقيمها وغيره.
ص -36-(35/29)
يوضحه قوله: والخوارج هم كما في البخاري ومسلم وغيرهما من سائر كتب الحديث أناس عمدوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين.
فهذا كلام غبي غوي لا يدري الصناعة ولا يعرف ما في تلك البضاعة، فإن هذا اللفظ ليس مرفوعاً باتفاق، وليس في سائر كتب الحديث والسنن الأربعة وصحيحي البخاري ومسلم، ليس فيها هذا اللفظ، فكلامه كلام جاهل بصناعة الحديث وروايته ولسنا بصدد بيان جهله وإفلاسه من العلوم، وإنما المراد كشف شبهه وردها.
وحاصل مقصوده ونقله: تشبيه أهل الإسلام والتوحيد بالخوارج في تكفيرهم من عبد الأنبياء والأولياء والصالحين، ودعاهم مع الله؛ لأن عباد القبور عنده أهل سنة وجماعة، وأهل الإسلام من جنس الخوارج الذين يكفرون أهل القبلة، هذا حاصل إسهابه ومضمون خطابه، لكنه أطال بما لا طائل تحته.
ونحن نتكلم على بدء أمر الخوارج وحقيقة مذهبهم، ثم نتكلم على مذهب عباد القبور وما هم عليه، ثم نتبع ذلك بفصل نافع في بيان حال الشيخ محمد رحمه الله وتقرير مذهبه، وما كان عليه في المعتقد والدين، ليعلم الواقف على ما قررناه حقيقة المذاهب، وحاصل العقائد، فيما وقعت فيه الخصومة فنقول:
اعلم أنه لما اشتد القتال يوم صفين قال عمرو بن العاص لمعاوية بن أبي سفيان: هل لك في أمر أعرضه عليك، لا يزيدنا إلا اجتماعاً ولا يزيدهم إلا فرقة؟ قال: نعم، قال: نرفع المصاحف، ثم نقول لما فيها: هذا حكم بيننا وبينكم، فإن أبى بعضهم أن يقبلها وجدت فيهم من يقول: ينبغي لنا أن نقبها، فتكون فرقة فيهم، فإن قبلوا رفعنا القتال عنا إلى أجل، فرفعوا المصاحف بالرماح، وقالوا: هذا كتاب الله عز وجل بيننا وبينكم. من لثغور
ص -37-(35/30)
الشّام بعد أهله؟ من لثغور العراق بعد أهله؟ فلما رآها الناس: قالوا: نجيب إلى كتاب الله. فقال لهم علي: عباد الله امضوا على حقكم وصدقكم، فإنهم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، أنا أعلم بهم منكم، والله ما رفعوها إلا خديعة ووهنا ومكيدة. قالوا: لا يسعنا أن ندعى إلى كتاب الله فنأبى أن نقبله، وقال لهم علي: إنما أقاتلهم ليدينوا بحكم الكتاب، فإنهم قد عصوا الله ونسوا عهده. فقال له مسعر بن فدكي التميمي وزيد بن حصين الطائي في عصابة من القراء: يا علي أجب إلى كتاب الله عز وجل إذا دعيت إليه، وإلا دفعناك برمتك إلى القوم، أو نفعل بك كما فعلنا بابن عفان، فلم يزالوا به حتى نهى الناس عن القتال، ووقع السباب بينهم وبين الأشتر وغيره ممن يرون عدم التحكيم. فقال الناس: قد قبلنا أن نجعل القرآن بيننا وبينهم حكماً، فجاء الأشعث بن قيس إلى علي، فقال: إن الناس قد رضوا بما دعوهم إليه من حكم القرآن، إن شئت أتيت معاوية، قال على: ائته، فأتاه، فسأله لأي شيء رفعوا المصاحف؟ قال: لنرجع نحن وأنتم إلى ما أمر الله به في كتابه، تبعثون رجلاً ترضون به، ونبعث رجلاً نرضى به، فنأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله لا يعدوان عنه، فعاد إلى علي فأخبره، فقال الناس: قد رضينا. فقال أهل الشام: رضينا عمرو بن العاص، وقال الأشعث وأولئك القوم الذين صاروا خوارج: فإنا قد رضينا بأبي موسى الأشعريّ فراودهم علي على غيره، وأراد ابن عباس، فقالوا: والله لا نبالي أنت كنت حكمها أم ابن عباس، ولا نرضى إلا رجلاً منك ومن معاوية سواء، وألحوا في ذلك وأبوا غير أبي موسى، فوافقهم علي كارهها، وكتب كتاب التحكيم(1)، فلما قرئ الكتاب على الناس سمعه عروة بن أدية أخو أبي بلال. فقال: تحكمون في أمر الله الرجال، لا حكم إلا لله، وشد بسيفه فضرب دابة من قرأ الكتاب، وكان ذلك أول ما ظهرت الحرورية الخوارج وفشت العداوة بينهم وبين عسكر علي، وقطعوا الطريق في إيابهم بالشتائم(35/31)
والتضارب بالسياط، تقول الخوارج: يا أعداء الله
__________
(1) كان ذلك يوم الأربعاء 13 صفر من سنة 37 من الهجرة، على أن يوافي الحكمان بدومة الجندل في رمضان من هذه السنة.
ص -38-
داهنتم في دين الله. ويقول الآخرون: فارقتم إمامنا وفرقتم جماعتنا. ولم يزالوا كذلك حتى قدموا العراق، فقال بعض الناس من المتخلفين: ما صنع علي شيئاً، ثم انصرف بغير شيء. فسمعها علي، فقال: وجوه قوم ما رأوا الشام، ثم أنشد:
أخوك الذي إن أحوجتك ملمة
من الدّهر لم يبرح ببابك واجما
وليس أخوك الذي إن تشعبت
عليك الأمور ظل يلحاك لائما(35/32)
فلما دخل الكوفة ذهبت الخوارج إلى حروراء فنزل بها اثنا عشر ألفاً على ما ذكره ابن جرير(1)، ونادى مناديهم: إنّ أمير القتال شبث بن ربعي التميميّ، وأمير الصلاة عبد الله بن الكواء اليشكريّ، والأمر شورى بعد الفتح، والبيعة لله عز وجل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فلما سمع ذلك علي وأصحابه قامت إليه الشيعة، فقالوا له: في أعناقنا بيعة ثانية، نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت. قالت لهم الخوارج: أسبقتم أنتم وأهل الشام إلى الكفر كفرسي رهان، أهل الشام بايعوا معاوية على ما أحب؛ وأنتم بايعتم علياً على أنكم أولياء من والى وأعداء من عادى، يريدون أن البيعة لا تكون إلا على كتاب الله وسنة رسوله، لأن الطاعة له تعالى، وقال لهم زياد بن النضر: والله ما بسط على يده فبايعناه قط إلا على كتاب الله وسنة نبيه، ولكنكم خالفتموه جاءت شيعته فقالوا: نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت. ونحن كذلك وهو على الحق والهدى ومن خالفه ضال مضل.
وبعث علي رضي الله عنه عبد الله بن عباس إلى الخوارج، فخرج إليهم فأقبلوا يكلمونه، فقال: ما نقمتم من الحكمين، وقد قال الله عز وجل: {فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} الآية [النساء: من الآية35] فكيف بأمة محمد صلى الله عليه وسلّم؟
قالوا له: أما ما جعل الله حكمه إلى الناس وأمرهم بالنظر فيه فهو إليهم. وما حكم هو فيه فأمضاه فليس للعباد أن ينظروا فيه، حكم في الزاني
__________
(1) في الجزء السادس من التاريخ في حوادث سنة 37هـ.
ص -39-(35/33)
مائة جلدة، وفي السارق قطع يده فليس للعباد أن ينظروا في هذا. قال ابن عباس: فإن الله تعالى يقول: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: من الآية95].
قالوا: تجعل الحكم في الصيد والحرث وما يكون بين المرأة وزوجها كالحكم في دماء المسلمين؟ وقالوا له: أعدل عندك عمرو بن العاص، وهو بالأمس يقاتلنا ويسفك دماءنا؟ فإن كان عدلا فلسنا بعدول. ونحن أهل حربه، وقد حكمتم في أمر الله الرجل وقد أمضى الله حكمه في معاوية وحربه أن يقتلوا أو يرجعوا. وقبل ذلك ما دعوناهم إلى كتاب الله فأبوه؟ ثم كتبتم بينكم وبينهم كتاباً، وجعلتم بينكم وبينهم الموادعة وقد قطع الله الموادعة بين المسلمين وأهل الحرب منذ نزلت براءة إلا من أقر بالجزية.
فجاء علي وابن عباس يخاصمهم فقال: ألم أكن نهيتك عن كلامهم حتى آتيك؟ ثم تكلم رضي الله عنه فقال: اللهم هذا مقام من يفلج فيه كان أولى بالفلج يوم القيامة وقال لهم: من زعيمكم؟ قالوا: ابن الكواء، فقال: فما أخرجكم علينا؟ قالوا: حكومتكم يوم صفين، فقال: أنشدكم الله أتعلمون أنهم حينما رفعوا المصاحف فقلتم نجيبهم إلى كتاب الله قلت لكم: إني أعلم بالقوم منكم، إنهم ليسوا بأصحاب دين، وذكّرهم مقالته، ثم قال: وقد اشترطت على الحكمين أن يحييا ما أحيا القرآن ويميتا ما أمات القرآن فإن حكما بحكم القرآن فليس لنا أن نخالفه، وإن أبيا فنحن من حكمهما برآء.
قالوا: فخبرنا أتراه عدلاً تحكيم الرجال في الدماء؟ قال: لسنا حكمنا الرجال إنما حكمنا القرآن، وهذا القرآن إنما هو خط مسطور بين دفتين لا ينطق وإنما يتكلم به الرجال.
قالوا: فخبرنا على الأجل لماذا جعلته فيما بينك وبينهم؟ قال: ليعلم الجاهل ويتثبت العالم، ولعل الله يصلح في هذه الهدنة هذه الأمة، فادخلوا مصركم رحمكم الله.
فدخلوا من عند آخرهم.
ص -40-(35/34)
فلما جاء الأجل وأراد علي أن يبعث أبا موسى للحكومة أتاه رجلان من الخوارج زرعة بن البرج الطائي، وحُرقوص بن زهير السعدي، فقالا له: لا حكم إلا لله، وقالا له: تب من خطيئتك، وارجع عن قضيتك، واخرج بنا إلى عدونا نقاتلهم حتى نلقى ربّنا.
فقال علي: قد أردتكم على ذلك فصيتموني. قد كتبنا بيننا وبين القوم كتاباً، وشرطنا شروطاً، وأعطينا عهوداً. وقد قال الله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل: من الآية91].
فقال حرقوص: ذلك ذنب ينبغي أن تتوب منه.
قال علي: ما هو ذنب، ولكنه عجز في الرأي وقد نهيتكم عنه.
قال زرعة: يا علي لئن حكّمت الرجال لأقاتلنّك، أطلب بذلك وجه الله.
فقال له علي: بؤساً لك، وما أشقاك، كأني بك قتيلاً تسفي عليك الرياح.
قال: وددت لو كان ذلك. وخرجا من عنده يقولان: لا حكم إلا لله.
وخطب علي ذات يوم فقالوها في جوانب المسجد. فقال علي: الله أكبر كلمة حق أريد بها باطل، فوثب يزيد بن عاصم المحاربي فقال: الحمد لله غير مودع ربنا ولا مستغني عنه. اللهم إنا نعوذ بك من إعطاء الدنية في ديننا، فإن إعطاء الدنية في الدين إذهان في أمر الله وذل راجع بأهله إلى سخط الله، يا علي أبالقتل تخوفنا؟ أما والله إني لأرجو أن نضربكم بها عمّا قليل غير مصفحات، ثم لتعلم أينا أولى بها صليا.
وخطب علي يوما آخر، فقال رجال في المسجد: لا حكم إلا لله، يريدون بهذا إنكار المنكر على زعمهم. فقال علي: الله أكبر كلمة حق أريد بها باطل، أما إن لكم علينا ثلاثاً ما صحبتمونا: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسمه، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تبدؤنا، وإنا ننتظر فيكم أمر الله. ثم عاد إلى مكانة من الخطبة.
ص -41-(35/35)
ثم إن الخوارج لقي بعضهم بعضاً واجتمعوا في منزل عبد الله بن وهب الراسبيّ، فخطبهم وزهّدهم في الدّنيا، وأمرهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم قال: اخرجوا بنا من هذه القرية الظالم أهلها إلى بعض كور الجبال أو إلى بعض هذه المدائن، منكرين لهذه البدع المضلة. فقال حرقوص بن زهير: إن المتاع في هذه الدنيا قليل، وإن الفراق لها وشيك. فلا تدعونكم بزينتها وبهجتها إلى المقام بها. ولا تلفتنكم عن طلب الحق وإنكار الظلم. فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون. فقال حمزة بن سنان الأسدي: يا قوم إن الرّأي ما رأيتم: قالوا: ولوا أمركم رجلاً منكم، فإنه لا بد لكم من عماد وسناد وراية تحفون بها وترجعون إليها. فعرضوا ولايتهم على زيد بن حصين الطائي وعلى حرقوص بن زهير وعلى حمزة بن سنان وشريح بن أوفى العبسي فأبوها، ثم عرضوها على عبد الله بن وهب فقال: هاتوها، أما والله لا آخذها رغبة في الدنيا ولا أدعها فراراً من الموت. فبايعوه لعشر خلون من شوال فكان يقال له ذو الثفنات، فاجتمعوا في منزل شريح بن أوفى العبسيّ، فقال ابن وهب: اشخصوا بنا إلى بلدة نجتمع فيها وننفذ حكم الله، فإنكم أهل الحق. قال شريح: نخرج إلى المدائن فننزلها؛ ونأخذ بأبوابها ونخرج منها سكانها، ونبعث إلى إخواننا من أهل البصرة فيقدمون علينا، فقال زيد بن حصين: إنكم إن خرجتم مجتمعين اتبعوكم، ولكن اخرجوا وحداناً مستخفين. فأما المدائن فإن بها من يمنعكم، ولكن سيروا حتى تنزلوا بجسر النهروان، وتكاتبوا إخوانكم من أهل البصرة. قالوا: هذا الرأي، فكتب عبد الله بن وهب إلى من بالبصرة منهم ليعلمهم ما اجتمعوا عليه ويحثهم على اللحاق بهم فأجابوه. فلما خرجوا صار شريح بن أوفى العبسي يتلو قوله: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ} إلى {سَوَاءَ السَّبِيلِ} وخرج معهم طرفة بن عدي بن حاتم إلى عامل على أمير المدائن يحذره، فحذر، وضبط الأبواب، واستخلف عليها المختار بن(35/36)
أبي عبيد وخرج بالخيل في طلبهم، فأخبر ابن وهب خبره، فسار على بغداد ولحقهم سعد بن مسعود
ص -42-
بالكرخ في خمسمائة فارس، فانصرف إليهم ابن وهب الخارجي في ثلاثين فارساً له. فاقتتلوا ساعة وامتنع القوم منهم، فلما جن الليل على ابن وهب عبر دجلة وسار إلى النهروان، وصل إلى أصحابه وقد أيسوا منه، وتفلت رجال أهل الكوفة يريدون الخوارج، فردهم أهلوهم. ولما خرجت الخوارج من الكوفة عاد أصحاب علي وشيعته إليه. فقالوا: نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت. فشرط لهم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فجاء ربيعة بن أبي شداد الخثعمي. فقال له: أبايع على سنة أبي بكر وعمر؟ فقال علي: ويلك، لو أن أبا بكر وعمر عملا بغير كتاب الله وسنة رسوله لم يكونا على شيء من الحق، فبايعه، ونظر إليه فقال: أما والله لكأني بك قد نفرت مع هذه الخوارج فقتلت، وكأني بك قد وطئتك الخيل بحوافرها، فكان ذلك وقتل يوم النهر مع خوارج البصرة.
وأما خوارج البصرة فإنهم اجتمعوا في خمسمائة رجل وجعلوا عليهم مسعر بن فدكي التميمي، فعلم بهم ابن عباس فأتبعهم أبا الأسود الدؤلي فلحقهم بالجسر الأكبر، فتوافقوا حتى حجز دونهم الليل وأدلج مسعر بأصحابه، وسار حتى لحق بابن وهب.
فلما انقضى أمر التحكيم وخدع عمرو بن العاص أبا موسى وصرح عمرو بولاية معاوية بعد أن عزل أبو موسى علياً بخدعة عمرو وهرب أبو موسى إلى مكة قام علي فخطبهم، وقال في خطبته: الحمد لله وإن أتى الدهر بالخطب الفادح والحدثان الجليل، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. أما بعد، فإن المعصية تورث الحسرة، وتعقب الندم. وقد كنت أمرتكم في هذين الرجلين ـ يعني أبا موسى وعمرو بن العاص ـ وفي هذه الحكومة أمري ونحلتكم رأي، لو كان لقصير أمر، ولكن أبيتم إلا ما أردتم. فكنت أنا وأنتم كما قال أخو هوازن:
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى
فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد
ص -43-(35/37)
ألا إنّ هذين الرجلين اللذين اخترتموهما حكمين قد نبذا حكم القرآن وراء ظهورهما، وأحييا ما أمات القرآن، واتبع كل واحد منهما هواه بغير هدى من الله، فحكما بغير حجة بينة، ولا سنة ماضية، واختلفا في حكمهما، وكلاهما لم يرشد. فبرئ الله منهما ورسوله وصالح المؤمنين، فاستعدوا وتأهبوا للمسير إلى الشام وأصبحوا في معسكركم إن شاء الله يوم الاثنين.
وكتب للخوارج من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى زيد بن حصين وعبد الله بن وهب ومن معهما من الناس، أما بعد، فإن هذين الرجلين اللذين ارتضينا حكمين قد خانا كتاب الله واتبعا أهواءهما بغير هدى من الله فلم يعملا بالسنة ولم ينفذا للقرآن حكماً. فبرئ الله منهما ورسوله وصالح المؤمنين. فإذا بلغكم كتابي هذا فأقبلوا إلينا فإنا سائرون إلى عدونا وعدوكم، ونحن على الأمر الأول الذي كنا عليه والسلام.
فكتبوا إليه: "أما بعد، فإنك لم تغضب لربك، وإنما غضبت لنفسك. فإن شهدت على نفسك بالكفر، واستقبلت التوبة نظرنا فيما بيننا وبينك، وإلا فقد نابذناك على سواء. إن الله لا يحب الخائنين".
فلما قرأ كتابهم أيس منهم ورأى أن يدعهم ويمضي بالناس إلى قتال أهل الشام. فقام في أهل الكوفة فندبهم إلى الخروج معه وخرج معه أربعون ألف مقاتل وسبعة عشر من الأبناء وثمانية آلاف من الموالي والعبيد.
وأما أهل البصرة فتثاقلوا ولم يخرج إلا ثلاثة آلاف. وبلغ عليا أن الناس يرون قتال الخوارج أهم وأولى، فقال لهم علي: دعوا هؤلاء وسيروا إلى قوم يقاتلونكم كيما يكونوا جبارين ملوكاً ويتخذوا عباد الله خولاً.
فناداه الناس: أن سر بنا يا أمير المؤمنين حيث أحببت.
ثم إن الخوارج استعر أمرهم وبدأوا بسفك الدماء وأخذوا الأموال وقتلوا عبد الله بن خباب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلّم وجدوه سائراً بامرأته على حمار فانتهروه وأفزعوه ثم قالوا له: ما أنت؟ فأخبرهم، قالوا حدثنا عن أبيك خباب
ص -44-(35/38)
حديثاً سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلّم لعل الله ينفعنا به. فقال: حدثني أبي عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: "إنه ستكون فتنة يموت فيها قلب الرجل كما يموت فيها بدنه، يمسي مؤمناً ويصبح كافراً، ويصبح كافراً ويمسي مؤمناً" قالوا: لهذا سألناك. فما تقول في أبي بكر وعمر؟ فأثنى عليهما خيراً، فقالوا: ما تقول في عثمان في أول خلافته وفي آخرها؟ قال: إنه كان محقاً في أولها وآخرها. وأشد توقيّاً على دينه وأنفذ بصيرة، فقالوا: إنك تتبع الهوى، وتوالي الرجال على أسمائها لا على أفعالها، والله لنقتلنك قتلة ما قتلناها أحداً، فأخذوه وكتفوه ثم أقبلوا به وبامرأته وهي حبلى فنزلوا تحت نخل مثمر، فسقط منه رطبة فأخذها أحدهم فقذف بها في فمه، فقال له آخر: أخذتها بغير حلها وبغير ثمن، فألقاها، ثم مر بهم خنزير فضربهم أحدهم بسيفه، فقالوا له: هذا فساد في الأرض، فلقي صاحب الخنزير وهو من أهل الذمة فأرضاه، فلما ذلك ابن خباب قال: لئن كنتم صادقين فيما رأى فما علي من بأس، إني لمسلم ما أحدثت في الإسلام حدثاً، ولقد أمنتموني قلتم: لا روع عليك، فأضجعوه وذبحوه، وأقبلوا على المرأة فقالت: إنما أنا امرأة، ألا تتقون الله؟ فبقروا بطنه وقتلوا أم سنان الصيداوية وثلاثاً من النساء، فلما بلغ ذلك عليّاً بعث الحارث بن مرة العبدي يأتيه بالخبر فلما دنا منهم قتلوه، فألح الناس على عليّ في قتالهم، وقالوا: نخشى أن يخلفونا في عيالنا وأموالنا فسر بنا إليهم، وكلمه الأشعث بمثل ذلك، واجتمع الرأي على حربهم، وسار علي يريد قتالهم فلقيه منجم في مسيره فأشار عليه أن يسير في وقت مخصوص، وقال: إن سرت في غيره لقيت أنت وأصحابك ضرراً شديداً، فخالفه علي، فسار في الوقت الذي نهاه عنه المنجم. فلما وصل إليهم قالوا: ادفعوا إلينا قتلة إخواننا نقتلهم ونترككم. فلعل الله يقبل بقلوبكم ويردكم إلى خير مما أنتم عليه. فقالوا: كلنا قتلهم: وكلنا مستحل لدمائهم(35/39)
ودمائكم. وخرج إليهم قيس بن سعد بن عبادة، فقال: عباد الله أخرجوا إلينا طلبتنا منكم وادخلوا في
ص -45-
هذا الأمر الذي خرجتم منه، وعودوا بنا إلى قتال عدونا وعدوكم، فإنكم ركبتم عظيماً من الأمر، تشهدون علينا بالشرك وتسفكون دماء المسلمين.
فقال له عبد الله بن شجرة السلمي: إن الحق قد أضاء لنا فلسنا متابعيكم، أو تأتونا بمثل عمر. فقال: ما نعلمه فينا غير صاحبنا، فهل تعلمونه فيكم؟ قالوا: لا. قال: نشدتكم الله في أنفسكم أن تهلكوها، فإني لا أرى الفتنة إلا وقد غلبت عليكم.
وخطبهم أبو أيوب الأنصاري فقال: عباد الله إنا وإياكم على الحال الأولى التي كنا عليها ليست بيننا وبينكم فرقة، فعلام تقاتلوننا؟ فقالوا: إن بايعناكم اليوم حكّمتم غداً، فقال: إني أنشدكم الله لا تجعلوا فتنة العام مخافة ما يأتي في القابل قابل.
وأتاهم علي رضي الله عنه فقال: أيتها العصابة التي أخرجها عداوة المراء واللجاج وصدها عن الحق والهوى، وطمح بها، وأصبحت في الخطب العظيم. إني نذير لكم أن تصبحوا تلعنكم الأمة غداً، صرعى بأثناء هذا النهر، وبأهضاب هذا الغائط، بغير بينة من ربكم ولا برهان مبين. ألم تعلموا أني نهيتكم عن الحكومة، ونبأتكم أنها مكيدة وأن القوم ليسوا بأصحاب دين، فعصيتموني. فلما فعلتم أخذت على الحكمين واستوثقت أن يحييا ما أحييا القرآن، ويميتا ما أمات القرآن، فاختلفا وخالفا حكم الكتاب، فنبذنا أمرهما، فنحن على الأمر الأول، فمن أين أتيتم؟.
قالوا: إنا حكّمنا فلما حكّمنا أثمنا، وكنا بذلك كافرين، وقد تبنا فإن تبت فنحن معك ومنك، فإن أبيت فإنا منابذوك على سواء.
قال علي: أصابكم حاصب، ولا بقي منكم وابر، بعد إيماني برسول الله صلى الله عليه وسلّم وهجرتي معه وجهادي في سبيل الله أشهد على نفسي بالكفر؟ لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين.
وقيل: كان كلامه: يا هؤلاء إن أنفسكم قد سولت لكم فراقي بهذه
ص -46-(35/40)
الحكومة التي أنتم ابتدأتموها، وأنا لها كاره، وأنبأتكم أن القوم إنما طلبوها مكيدة ووهناً، فأبيتم عليّ إباء المخالفين، وعدلتم عني عدول عيب النكد العاصين، حتى صرفت رأيي إلى رأيكم، وأنتم معاشر أخفاء إلهام، سفهاء أحلام، فلم آتي ـ لا أبا لكم ـ حراماً والله ما خبلتكم عن أموركم، ولا أخفيت شيئاً من هذا الأمر عنكم، ولا أوطأتكم عشوة، ولا دنيت لكم الضراء، وإن كان أمرنا لأمر المسلمين ظاهراً، فأجمع رأي مثلكم أن اختاروا رجلين، فأخذنا عليهما أن يحكما بالحق ولا يعداونه، فتركا الحق وهما يبصرانه، وكان الجور هواهما، والتقية دينهماـ حتى خالفا سبيل الحق وأتيا بما لا يعرف فبينوا لنا بماذا تستحلون قتالنا والخروج عن جماعتنا، وتضعون سيوفكم عن عواتقكم ثم تستعرضون الناس تضربون رقابهم؟ إن هذا لهو الخسران المبين. والله لو قتلتم على هذا دجاجة لعظم عند الله قتلها، فكيف بالنفس التي قتلها عند الله حرام؟
فتنادوا: لا تخاطبوهم ولا تكلموهم، وتهيئوا للقاء الله، الرواح الرواح إلى الجنة.
فرجع علي عنهم، ثم إنهم قصدوا جسر النهر، فظن الناس أنهم عبروه.
فقال علي: لن يعبروه، وإن مصارعهم لدون الجسر، والله لا يقتلون منكم عشرة ولا يسلم منهم عشرة.
فتعبأ الفريقان للقتال: ورفع علي راية أمان مع أبي أيوب، فناداهم أبو أيوب: من جاء هذه الراية ممن لم يقتل ولم يستعرض فهو آمن، ومن انصرف إلى الكوفة أو إلى المدائن وخرج من هذه الجماعة فهو آمن، فانصرف فروة بن نوفل الأشجعي في خمسمائة فارس، وخرجت طائفة أخرى متفرقين، فبقي مع عبد الله بن وهب ألفان وثمانمائة، فزحفوا إلى علي، وبدأوه بالقتال، وتنادوا: الرواح الرواح إلى الجنة، فاستقبلهم الرماة من جيش علي بالنبل والرماح والسيوف، ثم عطفت عليهم الخيل من الميمنة والميسرة؛
ص -47-(35/41)
وعليها أبو أيوب الأنصاريّ، وعلى الرجالة أبو قتادة الأنصاري، فلما عطفت عليهم الخيل والرجال وتداعا عليهم الناس ما لبثوا أن أناموهم، فأهلكوا في ساعة واحدة، فكأنما قيل لهم موتوا فماتوا. وقتل ابن وهب وحرقوص وسائر سراتهم، وفتش علي في القتلى والتمس المخدّج الذي وصفه له النّبيّ صلى الله عليه وسلّم في حديث الخوارج، فوجده في حفرة على شاطئ النهر، فنظر إلى عضده فإذا لحم مجتمع كثدي المرأة وحلمة عليها شعرات سود، فإذا مدت امتدت حتى تحاذي يده الطولى، فلما رآها علي قال: "الله أكبر، والله ما كذبت ولا كذبت، والله لولا أتنكلوا عن العمل لأخبرتكم بما قضى الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلّم لمن قتلهم متصبّراً في قتالهم، عارفاً للحق الذي نحن عليه" وقال حين مرّ بهم وهم صرعى: "بؤساً لكم، لقد ضرّكم من غرّكم" قالوا: يا أمير المؤمنين، من غرّهم؟ قال: "الشيطان، ونفس أمارة بالسوء غرتهم بالأماني وزينت لهم المعاصي، ونبأتهم أنهم ظاهرون" هذا ملخص أمرهم.
وقد عرفت شبهتهم التي جزموا لأجلها بكفر علي وشيعته، ومعاوية وأصحابة، وبقي معتقدهم في أناس متفرقين بعد هذه الوقعة، ثم اجتمعت لهم شوكة ودولة فقاتلهم المهلب بن أبي صفرة، وقاتلهم الحجاج بن يوسف، وقاتلهم قبله ابن الزبير زمن أخيه عبد الله، وشاع عنهم التكفير بالذنوب، يعني ما دو نالشرك.
وبهذا تعرف حقيقة الحال، ويزول الإشكال الذي نشأت منه الشبهة، وما أحسن ما قال العلامة ابن القيم في نونيته:
ومن العجائب أنهم قالوا لمن
قد دان بالآثار والقرآن
أنتم بذا مثل الخوارج إنهم
أخذوا الظواهر، ما اهتدوا لمعان
وهذا داء قديم من أهل الشرك والتعطيل: من كفّر بعبادتهم غير الله وتعطيل أوصافه وخقائق أسمائه، قالوا له: أنت مثل الخوارج، يكفرون بالذنوب ويأخذون بظواهر الآيات.
ص -48-(35/42)
ومعلوم أن الذنوب تتفاوت وتختلف، بحسب منافاتها لأصل الحكمة المقصودة بإيجاد العالم، وخلق الجن والإنس، وبحسب ما يترتب عليها من هضم حقوق الربوبية، وتنقص رتبة الإلهية، وقد كفّر الله ورسوله صلى الله عليه وسلّم بكثير من جنس الذنوب كالشرك وعبادة الصالحين وأخبر صلى الله عليه وسلّم أنه أكبر الكبائر، كما في الصحيحين من حديث ابن مسعود قال: قلت: يا رسول الله: "أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك. قال: قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك. قال: قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني بحليلة جارك". فأنزل الله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} الآية [الفرقان: 68]".
فمن أنكر التكفير جملة فهو محجوج بالكتاب والسنة. ومن فرّق بين ما فرّق الله ورسوله بينه من الذنوب، ودان بحكم الكتاب والسنة وإجماع الأمة في الفرق بين الذنوب فقد أنصف، ووافق أهل السنة والجماعة، ونحن لم نكفر أحداً بذنب دون الشرك الأكبر الذي أجمعت الأمة على كفر فاعله، إذا قامت عليه الحجّة، وقد حكى الإجماع على ذلك غير واحد، كما حكاه في الأعلام لابن حجر الشافعي.
ص -49-(35/43)
فصل
ونذكر لك هنا طرفاً من معتقد عباد القبور والصالحين، وحقيقة ما هم عليه من الدين، ليعلم الواقف عليه أي الفريقين أحق بالأمن، إن كان الواقف ممن اختصه الله بالفضل والمن، ولئلا يلتبس الأمر بتسميتهم لكفرهم ومحالهم تشفعاً وتوسلاً واستظهاراً، مع ما في التسمية من الهلاك المتناهي عند من عقل الحقائق.
من ذلك محبتهم مع الله محبة تأله وخضوع ورجاء، ودعاؤهم مع الله في المهمات والملمات والحوادث التي لا يكشفها ولا يجيب الدعاء فيها إلا فاطر الأرض والسموات والعكوف حول أجداثهم، وتقبيل أعتابهم، والتمسح بآثارهم، طلباً للغوث، واستجابة للدعوات وإظهاراً للفاقة، وإبداء للفقر والضراعة، واستنزالا للغوث والأمطار، وطلباً للسلامة من شدائد البر والبحار، وسؤالهم تزويجهم الأرامل والأيامى، واللطف بالضعفاء واليتامى، والاعتماد عليهم في المطالب العالية، وتأهليهم لمغفرة الذنوب والنجاة من الهاوية، وإعطاء تلك المراتب السامية. وجماهيرهم لما ألفت ذلك طباعهم وفسدت به فطرهم، وعز عنهم امتناعهم، لا يكاد يخطر ببال أحدهم ما يخطر ببال آحاد المسلمين، من قصد الله تعالى والإنابة إليه، بل ليس لذلك عندهم إلا الولي الفلاني ومشهد الشيخ فلان. حتى جعلوا الذهاب إلى المشاهد عوضاً عن الخروج للاستسقاء والإنابة إلى الله في كشف الشدائد والبلوى. كل هذا رأيناه وسمعناه عنهم، وقد حدّث الشيخ مصطفة البولاقي أن بعض رؤساء
ص -50-(35/44)
الجامع الأزهر عادة لما اشتكى عينيه، وقال له: هلا ذهبت إلى مولد الشيخ أحمد البدوي فقد حكي أن إنساناً شكا إليه هاب بصره، فسمع قائلاً يقول من الضريح: أعطوه عين كذا وكذا.
فانظر إلى ما خطر ببال هذا المتكلم من تعظيم الميت وتأهيله لتلك المطالب التي لا يقدر عليها إلا الله القاهر الغالب. وقصد الوساطة هنا على ما فيها ما أظنها تخطر بباله أصلاً. فهل سمعت عن جاهلية العرب مثل هذه الغرائب التي ينتهي عندها العجب؟ والكلام مع ذكي القلب يقظ الذهن قوي الهمة العارف بالحقائق، وأما ميت القلب بليد الذهن وضيع النفس جامد القريحة ومن لا تفارق همته التشبث بأذيال التقليد، والتعلق على ما يحكى عن فلان وفلان من معتقد أهل المقابر والتنديد، فذاك فاسد الفطرة معتل المزاج، وخطابه محض عناء ولجاج.
ومما بلغنا عن بعض علماء زبيد: أن رجلين قصدا الطائف، فقال أحدهما لصاحبه ـ والمسئول ممن يترشح للعلم ـ: أهل الطائف لا يعرفون الله إنما يعرفون ابن عباس، فأجابه: بأن معرفتهم لابن عباس كافية، لأنه يعرف الله!.
فأيّ ملّة ـ صان الله ملّة الإسلام ـ لا تمانع هذه الكفريات ولا تدافعها؟.
وذكر الزبيدي أيضاً أن رجلا كان بمكة عند بعض المشاهد، فقال لمن عنده: أريد الذهاب إلى الطواف، فقال بعض غلاتهم: مقامك هنا أكرم.
ومن وقف على كتاب مناقب الأربعة المعبودين بمصر، وهم: البدوي، والرفاعي، والدسوقي، ورابعهم فيما أظن أبو العلا ـ فقد وقف على ساحل كفرهم، وعرف صفة إفكهم.
وبلغنا عن بعض الثقات أن جماعة من المدعين للعلم بزبيد كانوا
ص -51-(35/45)
يقرؤون صحيح البخاري، فإذا فرغوا منه ـ إما أحياناً أو مطلقاً ـ ذهبوا إلى قبر البحيرة أو غيره، فوقفوا عاكفين ما شاء الله، وعليهم من السكينة والوقار وضروب الخضوع لنازل الحفرة. قال من نقله: فالله أعلم، أهو شيء وجدوه في صحيح البخاري أو غيره، أو ما هو؟.
ورأيت في حاشية الشيخ إبراهيم الباجوريّ على السنوسية نقلاً عن الدردير فيما أظن عن الشعراني: أن الله وكل بقبر كل ولي ملكاً يقضي حاجته من سأل ذلك الولي.
فقف هنا وانظر ما آل إليه شركهم وإفكهم(1)، فأين هذا من قوله تعالى {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} الآية [البقرة:186]، وقوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} [الأعراف: من الآية55]، وقوله: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ، وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح:7ـ8]، وقوله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل: من الآية62]، وقوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} الآية [غافر:60] وأيّ حجّة في هذا الذي قال الشعرانيّ لو كانوا يعلمون؟ ولكن القوم أصابهم داء الأمم قبلهم. فنبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، كأنهم لا يعلمون، واتبعوا ما تتلو الشياطين.
ومن هذا الجنس: ما ذكره الشعراني في ترجمة الملقب بشمس الدين الحنفي أنه قال في مرض موته: من كانت له حاجة فليأت قبري ويطلب مني أن أقضيها له، فإنما بيني وبينه ذراع من تراب، وكل رجل يحجبه عن أصحابه ذراع من تراب فليس برجل. انتهى.
وقد اجتمع جماعة من الموحدين من أهل الإسلام في بيت رجل من أهل مصر وبقربه رجل يدّعي العلم، فأرسل إليه صاحب البيت، فسأله بمسمع من الحاضرين فقال له: كم يتصرف في الكون؟ فقال: يا سيدي، سبعة، قال: من هم؟ قال: فلان وفلان وعدّ أربعة من المعبودين بمصر، فقال(35/46)
__________
(1) بل زاد كفر الشعراني عن هذا، فقد زعم في كتاب العهود المحمدية: أنه إبريق شيخه الخواص كان يقضي الحاجات، ويجيب الدعاء.
ص -52-
صاحب الدار لمن بحضرته من الموحدين: إنما بعثت لهذا الرجل وسألته لأعرفكم قدر ما أنتم فيه من نعمة الإسلام. أو كلاماً نحو هذا.
وباب تصرف المشايخ والأولياء قد اتسع حتى سلكه جمهور من يدعي الإسلام من أهل البسيطة. وخرقه قد هلك في بحاره أكثر من سكن الغبراء وأظلته المحيطة حتى نسي القصد الأول من التشفع والوساطة، فلا يعرج عليه عندهم إلا من نسي عهود الحمى. وقد ذكر هذا شيخ الإسلام في منهاجه عن غلاة الرافضة في علي، فعاد الأمر إلى الشرك في توحيد الربوبية والتدبير والتأثير، ولم يبلغ شرك الجاهلية الأولى إلى هذه الغاية، بل ذكر الله جل ذكره أنهم كانوا يعترفون له بتوحيد الربوبية ويقرون به، ولذلك احتج عليهم في غير موضع من كتابه بما أقروا به من الربوبية والتدبير على ما أنكروه من الإلهية.
ومن ذلك ـ وهو من عجيب أمرهم ـ ما ذكره حسين بن محمد النعمي اليمني في بعض رسائله: أن امرأة كف بصرها فنادت وليها: أما الله فقد صنع ما ترى، ولم يبق إلا حسابك. انتهى.
وحدثني سعد بن عبد الله بن سرور الهاشمي رحمه الله أن بعض المغاربة قدموا مصر يريدون الحجّ، فذهبوا إلى الضريح المنسوب إلى الحسين رضي الله عنه بالقاهرة فاستقبلوا القبر وأحرموا ووقفوا وركعوا وسجدوا لصاحب القبر حتى أنكر عليهم سدنة المشهد وبعض الحاضرين، فقالوا: هذا محبة في سيدنا الحسين. وذكر بعض المؤلفين من أهل اليمن أن مثل هذا واقع عندهم.
وقد حدثني الشيخ خليل الرشيدي بالجامع الأزهر أن بعض أعيان المدرسين هناك قال: لا يدق وتد في القاهرة إلا بإذن أحمد البدوي. قال: فقلت له: هذا لا يكون إلا لله ـ أو كلاماً نحو هذا ـ. فقال: حبي في سيدي أحمد اقتضى هذا. وحكي أن رجلاً يأل الآخر: كيف رأيت(35/47)
الجمع
ص -53-
عند زيارة الشيخ الفلاني؟ فقال: لم أر أكثر منه إلا في جبل عرفات، إلا أني لم أرهم يجدوا لله سجدة قط، ولا صلوا مدة ثلاثة الأيام، فقال السائل: قد تحملها الشيخ!. قال بعض الأفاضل: وباب تحمل الشيخ مصراعاه ما بين بصرى وعدن، قد اتسع خرقه وتتابع فتقه، ونال رشاش زقومه الزائر والمعتقد وساكن البلد. انتهى.
وقد اشتهر ما يقع من السجود على أعتاب المشاهد، وقصد التبرك ـ مع ما فيه ـ لا يمنع حقيقة العبادة الصورية. ومن المعروف عنهم شراء الوالدان من الولي بشيء معين، يبقى رسماً جارياً يؤدى كل عام، وإن كانت امرأة فمهرها أو نصف مهرها لأنها مشتراة منه، ولا يماري في هذا إلاّ مكابر. لأنه استفاض واشتهر. فلا ينكره إلا مكابر في الحسيات، وإن فقد بعض أنواعه في بعض البلاد فكم له من نظائر وهذا أشد وأشنع مما ذكر الله جل ذكره عن جاهلية العرب بقول: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} الآية [الأنعام:136]. وكذلك جعل السوائب باسم الولي لا يحمل عليها ولا تذبح، وسوق الهدايا والقرابين إلى مشاهد الأولياء وذبحها حباً للشيخ، وتقرباً إليه، وهذا وإن ذكر اسم الله عليه فهو أشد تحريما مما ذبح للحم وذكر عليه اسم غير الله كعيسى مثلاً، فإن الشرك في العبادة أكبر من الشرك بالاستعانة.
ومن ذلك ترك الأشجار والكلأ والعشب إذا كا بقرب المشهد وجعله حرماًَ له.
ومنها الحج إلى المشاهد في أوقات مخصوصة مضاهاة لبي الله. فيطوفون حول الشريح ويستغيثون ويهدون لصاحب القبر ويذبحون، وبعض مشائخهم يأمر الزائر بحلق رأسه إذا فرغ من الزيارة، وقد صنف بعض غلاتهم كتاباً سماه حج المشاهد، ومنها التعريف في بعض البلاد عند من يعتقدونه من أهل القبور فيصلون عشية عرفة عند القبر خاضعين سائلين. والعراق فيه من ذلك الحظ الأكبر والنصيب الأوفر. بل فيه(35/48)
البحر الذي لا
ص -54-
ساحل له والمهامة التي لا ينجو يالكها، ولا يكاد، ومنحوه درح الكفر وظهر الشرك والفساد، كما يعرف ذلك من له إلمام بالتاريخ. ومبدأ الحوادث في الدين، ومن شاهد ما يقع منهم عند مشهد الحسين ومشهد علي والكاظم عند رافضتهم وعبد القادر والحسن البصريّ، والزبير وأمثالهم عند سنييهم: من العبادات وطلب العطايا والمواهب والتصرفات وأنواع الموبقات: علم أنهم من أجهل الخلق وأضلهم، وأنهم في غاية من الكفر والشرك، ما وصل إليها من قبلهم ممن ينتسب إلى الإسلام. والله المسئول أن ينصر دينه ويعلي كلمته بمحو هذه الأوثان، حتى يعبد وحده، فتسلم الوجوه له، وتعود البيضاء كانت ليلها كنهارها.
ومن ذلك ـ وإن كان يعلم مما تقدم: اتخاذها أعياداً ومواسم، مضاهاة لما شرعه الله ورسوله من الأعياد المكانية والزمانية.
ومنها: ما يقع ويجري في هذه الاجتماعات من الفجور والفواحش، وترك الصلوات وفعل الخلاعات التي هي في الحقيقة خلع لربقة الدين والتكليف؛ ومشابهة لما يقع في أعياد النّصارى والصابئة والإفرنج ببلاد فرنسا وغيرها من الفجور والطبول والزمور والخمور.
وبالجملة فما أحدثه عباد القبور يعز حصره واستيفاؤه.
ص -55-(35/49)
فصل
ونقص عليك من سيرة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ونذكر طرفاً من أخباره وأحواله، ليعلم الناظر فيه حقيقة أمره، فلا يروج عليه تشنيع من استحوذ عليه الشيطان وأغراه، وبالغ في كفره واستهواه.
فنقول: قد عرف واشتهر واستفاض من تقارير الشيخ ومراسلاته ومصنفاته المسموعة المقروءة عليه وما ثبت بخطه وعرف واشتهر من أمره ودعوته وما عليه الفضلاء والنبلاء من أصحابه وتلاميذه: أنه كان على ما كان عليه السلف الصالح وأئمة الدين أهل الفقه والفتوى في باب معرفة الله وإثبات صفات كماله ونعوت جلاله، التي نطق بها الكتاب العزيز، وصحت بها الأخبار النبوية، وتلقاها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالقبول والتسليم، يثبتونها ويؤمنون بها، ويمرونها كما جاءت من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل. وقد درج على هذا من بعدهم من التابعين وتابعيهم من أهل العلم والإيمان، وسلف الأمة وأئمتها كسعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، وطلحة بن عبيد الله، وسليمان بن يسار، وأمثالهم. ومن الطبقة الثانية: كمجاهد بن جبير، وعطاء بن أبي رباح، والحسن البصري، وابن سيرين، وعامر الشعبي، وجنادة بن أبي أمية، وحسان بن عطية، وأمثالهم، ومن الطبقة الثالثة: علي بن الحسين، وعمر بن عبد العزيز، ومحمد بن شهاب الزهري، ومالك بن أنس، وابن أبي ذئب، وابن الماجشون،
ص -56-(35/50)
وكحماد بن سلمة، وحماد بن زيد، والفضيل بن عياض، وعبد الله بن المبارك، وأبي حنيفة النعمان بن ثابت، ومحمد بن إدريس الشافعي، وإسحاق بن إبراهيم، وأحمد بن حنبل، ومحمد بن إسماعيل البخاري، ومسلم بن الحجاج القشيريّ، وإخوانهم وأمثالهم ونظرائهم من أهل الفقه والأثر في كل مصر وعصر.
وأما توحيد العبادة والإلهية فلا خلاف بين أهل الإسلام فيما قاله الشيخ وثبت عنه من المعتقد الذي دعا إليه.
يوضح ذلك: أن أصل الإسلام وقاعدته: شهادة أن لا إله إلا الله، وهي أصل الإيمان بالله وحده وهي أفضل شعب الإيمان. وهذا الأصل لا بد فيه من العلم والعمل والإقرار بإجماع المسلمين. ومدلوله: وجوب عبادة الله وحده لا شريك له والبراءة من عبادة ما سواه كائنا من كان، وهذا هو الحكمة التي خلقت لها الإنس والجن وأرسلت لها الرسل وأنزلت بها الكتب، وهي تتضمن كمال الذل والحب، وتتضمّن كمال الطاعة والتعظيم.
وهذا هو دين الإسلام الذي لا يقبل الله ديناً غيره، لا من الأولين ولا من الآخرين. فإن جميع الأنبياء على دين الإسلام، وهو يتضمن الاستسلام لله وحده. فمن استسلم لله ولغيره كان مشركاً. ومن لم يستسلم له كان مستكبراً عن عبادته، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: من الآية36]، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الانبياء:25]، وقال تعالى عن الخليل: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ، لَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ، جَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [زخرف:26ـ28]، وقال تعالى عنه: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ، أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ، فَإِنَّهُمْ(35/51)
عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:75ـ77] وقال: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: من الآية4]، وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف:45] وذكر عن رسله نوح وهود
ص -57-(35/52)
وصالح وشعيب وغيرهم، أنهم قالوا لقومهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [لأعراف: من الآية59] وقال عن أهل الكهف: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً، وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً، هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} [الكهف:13ـ15]، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48، 116]، في موضعين من كتابه، وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [المائدة: من الآية72].
قال رحمه الله: والشرك المراد بهذه الآيات ونحوها يدخل في شرك عباد الأنبياء والملائكة والصالحين. فإن هذا شرك العرب الذين بعث الله فيهم عبد الله وسوله محمداً صلى الله عليه وسلّم. فإنهم كانوا يدعونها ويلتجئون إليها ويسألونها على وجه التوسل بجاهها وشفاعتها، لتقربهم إلى الله. كما حكى الله عنهم في مواضع من كتابه. كقوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} الآية [يونس:18]، وكقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: من الآية3]، وكقوله تعالى: {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الاحقاف:28].
قال رحمه الله: ومعلوم أنّ المشركين لم يزعموا أن الأنبياء(35/53)
والأولياء والصالحين والملائكة شاركوا الله في خلق السموات والأرض. واستقلوا بشيء من التدبير والتأثير والإيجاد، ولو في خلق ذرة من الذرات، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر:38] فهم معترفون بهذا مقرون به، لا ينازعون فيه. ولذلك حسن موقع الاستفهام، وقامت الحجة عليهم واضحة قوية مفحمة بما أقروا به من هذه الجمل، وبطلت عبادة من لا يكشف الضر ولا يمسك الرحمة. ولا
ص -58-(35/54)
يخفى ما في التنكير من العموم والشمول المتناول لأقل شيء وأدناه، من ضر أو رحمة وقال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون:84ـ89]، وقال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106] ذكر فيه السلف كابن عباس وغيره: إيمانهم هنا بما أقروا به من ربوبيته و ملكه، وفسر شركهم بعبادة غيره.
قال رحمه الله: وقد بين القرآن في غير موضع أن من المشركين من أشرك بالملائكة، ومنهم من أشرك بالأنبياء والصالحين، ومنهم من أشرك بالكواكب. ومنهم من أشرك بالأصنام. وقد رد الله عليهم جميعهم وكفر كل أصنافهم. كما قال تعالى: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:80]، وقال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} الآية [التوبة:31]، وقال: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء: من الآية172]، ونحو ذلك في القرآن كثير. وبه يعلم المؤمن أن عبادة الأنبياء والصالحين كعبادة الكواكب والأصنام سواء. من حيث الشرك والكفر بعبادة غير الله.
قال رحمه الله: وهذه العبادات التي صرفها المشركون للآلهتهم هي أفعال العباد الصادرة منهم كالحب والخضوع والإنابة والتوكل والدعاء والاستعانة والاستغاثة والخوف والرجاء والنسك والتقوى والطواف ببيته رغبة ورجاء وتعلق القلوب والآمال بفيضه ومدده وإحسانه وكرمه. فهذه الأنواع وكل عمل يخلو منها فهو خداج مردود على صاحبه، وإنما أشرك من أشرك وكفر من كفر من المشركين بقصد غير الله بهذا وتأليهه غير الله بذلك. قال تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ(35/55)
لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [النحل:17] وقال تعالى: {أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} [الانبياء:43]، وقال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} الآية [الفرقان:3]، وحكي عن أهل النار أنهم يقولون لآلهتهم التي عبدوها مع
ص -59-
الله {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ، إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:97ـ98] ومعلوم أنهم ما سووهم به في الخلق والتدبير والتأثير، وإنما كانت التسوية في الحب والخضوع والتعظيم والدعاء ونحو ذلك من العبادات.
قال رحمه الله: فجنس هؤلاء المشركين وأمثالهم ممن يعبد الأولياء والصالحين نحكم بأنهم مشركون، ونرى كفرهم إذا قامت عليهم الحجة الرسالية. أما ما عدا هذا من الذنوب التي دونه في الرتبة والمفسدة فإنا لا نكفر بها ولا نحكم على أحد من أهل القبلة الذين باينوا عباد الأوثان والأصنام والقبور بكفر بمجرد ذنب ارتكبوه وعظيم جرم اجترحوه. وغلاة الجهمية والقدرية والرافضة ونحوهم ممن كفرهم السلف لا نخرج فيهم عن أقوال أئمة الهدى والفتوى من سلف هذه الأمة. ونبرأ إلى الله مما أتت به الخوارج، وقالته في أهل الذنوب من المسلمين.
قال رحمه الله: ومجرد الإتيان بلفظ الشهادة من غير علم بمعناها ولا عمل بمقتضاها لا يكون به المكلف مسلماً بل هو حجة على ابن آدم، خلافاً لمن زعم أن الإيمان مجرد الإقرار كالكرامية. أو مجرد التصديق كالجهمية. وقد أكذب الله المنافقين فيما أتوا به وزعموه من الشهادة وسجل على كذبهم، مع أنهم أتوا بألفاظ مؤكدة بأنواع من التأكيدات. قال تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ}(35/56)
[المنافقون:1] فأكدوا بلفظ الشهادة، و"إن" المؤكدة، واللام، والجملة الاسمية، فأكذبهم وأكد تكذيبهم، بمثل ما أكدوا به شهادتهم سواء بسواء، وزاد التصريح باللقب الشنيع والعلم البشيع الفظيع، ومن شهد أن لا إله إلا الله وعبد غيره معه فلا شهادة له، وإن صلى وزكى وصام وأتى بشيء من أعمال الإسلام. قال تعالى لمن آمن ببعض الكتاب ورد بعضاً {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} الآية [البقرة:85]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ
ص -60-(35/57)
بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} الآية [النساء:150]، وقال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} الآية [المؤمنون:117].
والكفر نوعان: مطلق ومقيد، فالمطلق أن يكفر بجميع ما جاء به الرسول، والمقيد أن يكفر ببعض ما جاء به الرسول، حتى إن بعض العلماء كفّر من أنكر فرعاً مجمعاً عليه، كتوريث الجد والأخت وإن صلّى وصام، فكيف بمن يدعو الصالحين ويصرف لهم خالص العبادة ولبها؟ وهذا مذكور في المختصرات من كتب المذاهب الأربعة بل كفروا ببعض الألفاظ التي تجري على ألسن بعض الجهال وإن صلى وصام من جرت على لسانه.
قال رحمه الله: والصحابة كفّروا من منع الزكاة وقاتلوهم مع إقرارهم بالشهادتين والإتيان بالصلاة والصوم والحجّ.
قال رحمه الله: واجتمعت الأمة على كفر بني عبيد الله القداح مع أنهم كانوا يتكلمون بالشهادتين ويصلون ويبنون المساجد في قاهرة مصر وغيرها. وذكر ابن الجوزي صنف كتاباً في وجوب غزوهم وقتالهم سماه (النصر على مصر) قال: وهذا يعرفه من له أدنى إلمام بشيء من العلم والدين.
فشبه عباد القبور بأنهم يصلون ويصومون ويؤمنون بالبعث مجرد تعمية على العوام، وتلبيس لينفق شركهم، ويقال بإسلامهم وإيمانهم، ويأبى الله ذلك ورسوله والمؤمنون.
وأما مسائل القدر والجبر والإرجاء والإمامة والتشيع ونحو ذلك من المقالات والنحل، فالشيخ أيضاً فيها على ما كان عليه السلف الصالح وأئمة الهدى والدين يبرأ مما قالته القدرية النفاة، والقدرية المجبرة، وما قالته المرجئة والرافضة، وما عليه غلاة الشيعة والناصبة. ويوالي جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم ويكف عما شجر بينهم، ويرى أنهم أحق الناس بالعفو عما صدر منهم؛ وأقرب الخلق إلى مغفرة الله وإحسانه لفضائلهم وسوابقهم وجهادهم، وما جرى على أيديهم من فتح القلوب بالعلم النافع. والعمل(35/58)
الصالح. وفتح
ص -61-
البلاد ومحو آثار الشرك، وعبادة الأوثان والنيران والأصنام والكواكب، ونحو ذلك مما عبده جهال الأنام.
ويرى البراءة مما عليه الرافضة وأنهم سفهاء لئام، ويرى أن أفضل الأمة بعد نبيها أبو بكر فعمر فعثمان فعلي رضي الله عنهم أجمعين، ويعتقد أن القرآن الذي نزل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين وخاتم النبيين كلام الله غير مخلوق، منه بدا وإليه يعود. ويبرأ من رأي الجهمية القائلين بخلق القرآن، ويحكي تكفيرهم عن جمهور السلف أهل العلم والإيمان، ويبرأ من رأي الكلابية أتباع عبد الله بن سعيد بن كلاب القائلين بأن كلام الله هو المعني القائم بنفس الباري وأن ما أنزل به جبريل حكاية أو عبارة عن المعنى النفسي، ويقول: هذا من قول الجهمية، وأول من قسم هذا التقسيم هو ابن كلاب، وأخذ عنه الأشعريّ وغيره كالقلانسي، ويخالف الجهمية في كل ما قالوه وابتدعوه في دين الله. ولا يرى ما ابتدعه الصوفية من البدع والطرائق المخالفة لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلّم وسنته في طقوسهم في العبادات والخلوات والأذكار المخالفة للمشروع ولا يرى ترك السنن والأخبار النبوية لرأي فقيه ومذهب عالم خالف ذلك باجتهاده، بل السنة أجل في صدره وأعظم عنده من أن تترك لقول أحد كائنا من كان. قال عمر بن عبد العزيز: "لا رأي لأحد مع سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلّم" نعم عند الضرورة وعدم الأهلية والمعرفة بالسنن والأخبار وقواعد الاستنباط والاستظهار يصار إلى التقليد لا مطلقاً، بل فيما ينعسر ويخفى، ولا يرى إيجاب ما قاله المجتهد إلا بدليل تقوم به الحجة من الكتاب والسنة، خلافاً لغلاة المقلدين.
ويوالي الأئمة الأربعة ويرى فضلهم وإمامتهم، وأنهم من الفضل والفضائل في غاية ورتبة يقصر عنها المتطاول، ويوالي كافة أهل الإسلام وعلمائهم من أهل الحديث والفقه والتفسير، وأهل الزهد والعبادة ويرى المنع من الانفراد عن أئمة الدين من السلف(35/59)
الماضين برأي مبتدع أو قول مخترع، فلا يحدث في الدين ما ليس له أصل يتبع، وما ليس من أقوال أهل العلم والأثر،
ص -62-
ويؤمن بما نطق به الكتاب وصحت به الأخبار وجاء الوعيد عليه من تحريم دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم، ولا يبيح من ذلك إلاّ ما أباحه الشرع وأهدره الرسول صلى الله عليه وسلّم.
ومن نسب إليه خلاف هذا فقد كذب وافترى وقال ما ليس له به علم وسيجزيه الله ما وعد به أمثاله من المفترين.
وأبدى رحمه الله من التقارير المفيدة والأبحاث الفريدة على كلمة الإخلاص والتوحيد: شهادة أن لا إله إلا الله، ما دل عليه الكتاب المصدق والإجماع المستبين المحقق من نفي استحقاق العبادة والإلهية عما سوى الله، وإثبات ذلك لله سبحانه على وجه الكمال المنافي لكليات الشرك وجزئياته، وأن هو معناها وضعاً ومطابقة خلافاً لمن زعم غير ذلك من المتكلمين، كمن يفسر ذلك بالقدرة على الاختراع أو بأنه تعالى غني عما سواه مفتقر إليه ما عداه. فإنّ هذا لازم المعنى، إذ الإله الحق لا يكون إلا قادراً غنياً عمّا سواه؛ وأما كون هذا هو المعنى المقصود بالوضع فليس كذلك.
والمتكلمون خفي عليهم هذا، وظنوا أن تحقيق توحيد الربوبية والقدرة هو الغاية المقصودة، والفناء فيه هو تحقيق التوحيد وليس الأمر كذلك.
بل هذا لا يكفي في الإيمان، وأصل الإسلام إلاّ إذا أضيف إليه واقترن به توحيد الإلهية، وإفراد الله بالعبادة والحب، والخضوع والتعظيم، والإنابة والتوكل، والخوف والرجاء، وطاعة الله وطاعة رسوله، هذا أصل الإسلام وقاعدته، والتوحيد الأول توحيد الربوبية والقدرة والخلق والإيجاد، هو الذي بني عليه توحيد العمل والإرادة، وهو دليله الأكبر وأصله الأعظم، كما قال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة:163] ـ إلى آخر الآيات.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله:
إن كان ربك واحداً سبحانه(35/60)
فاخصصه بالتوحيد مع إحسان
أو كان ربك واحداً أنشأك لم
يشركه إذ أنشأك رب ثان
ص -63-
فكذلك أيضاً وحده فاعبده لا
تعبد سواه يا أخا العرفان
وهذه الجمل منقولة عن السلف والأئمة من المفسرين وغيرهم من أهل اللغة إجمالاً وتفصيلاً.
وقد قرر رحمه الله على شهادة أن محمداً رسول الله من بيان ما تستلزمه هذه الشهادة وتستدعيه وتقتضيه من تجريد المتابعة والقيام بالحقوق النبوية من الحب والتوقير والنصرة والمتابعة والطاعة، وتقديم سنته صلى الله عليه وسلّم على كل سنة وقول، والوقوف معها حيث وقفت، والانتهاء حيث انتهت في أصول الدين وفروعه باطنه وظاهره خفيه وجليه كليه وجزئيه ما ظهر به فضله، وتأكّد علمه ونبله، وأنه سباق غايات، وصاحب آيات، لا يشق غباره، ولا تدرك في البحث والإفادة آثاره، وأن أعداءه ومنازعيه وخصومه في الفضل وشانئيه يصدق عليهم المثل السائر بين أهل المحابر والدفاتر:
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه
فالكل أعداء له وخصوم
كضرائر الحسناء قلن لوجهها
حسداً وبغياً إنه لدميم
وله رحمه الله من المناقب والمآثر ما لا يخفى على أهل الفضائل والبصائر.
ومما اختصه الله به من الكرامة تسلط أعداء الدين وخصوم عباد الله المؤمنين على مسبته، والتعرض لبهته وعيبه. قال الشافعي رحمه الله تعالى: "ما أرى الناس ابتلوا بشتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلاّ ليزيدهم الله بذلك ثواباً عند انقطاع أعمالهم" وأفضل الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر، وقد ابتلينا من طعن أهل الجهالة والسفاهة بما لا يخفى.
وما حكيناه عن الشيخ حكاه أهل المقالات عن أهل السنة والجماعة مجملاً ومفصّلاً.
وهذه عبارة أبي الحسن الأشعريّ في كتابه مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين.
ص -64-(35/61)
قال أبو الحسن الأشعري: جملة ما عليه أصحاب الحديث وأهل السنة: الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله، وما جاء من عند الله، وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لا يردون من ذلك شيئاً. والله تعالى إله واحد فرد صمد، لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، وأنّ محمداً عبده ورسوله، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأن الله تعالى على عرشه كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، وأن له يدين بلا كيف كما قال: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [صّ: من الآية75]، وكما قال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: من الآية64]، وأن له عينين بلا كيف، وأن له وجهاً جلّ ذكره كما قال تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:27]، وأن أسماء الله تعالى لا يقال إنها غير الله، كما قالت المعتزلة والخوارج، وأقروا أن لله علماً كما قال: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء: من الآية166]، وكما قال: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} [فاطر: من الآية11]، وأثبتوا السمع والبصر ولم ينفوا ذلك، كما نفته المعتزلة، وأثبتوا لله القوة، كما قال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت: من الآية15] وقالوا: إنه لا يكون في الأرض من خير ولا شر إلا ما شاء الله، وأن الأشياء تكون بمشيئة الله تعالى، كما قال: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الانسان: من الآية30]، وكما قال المسلمون: "ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن" وقالوا: إن أحداً لا يستطيع أن يفعل شيئاً علم الله أنه لا يفعله، أو يكون أحد يقدر على أن يخرج عن علم الله، وأن يفعل شيئاً علم الله أنه لا يفعله، وأقروا: أنه لا خالق إلا الله، وأن أعمال العباد يخلقها الله، وأن العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئاً، وأن(35/62)
الله تعالى وفق المؤمنين لطاعته، وخذل الكافرين بمعصيته، ولطف للمؤمنين ونظر لهم وأصلحهم وهداهم، ولم يلطف بالكافرين ولا أصلحهم ولا هداهم، ولو أصلحهم لكانوا صالحين، ولو هداهم الكانوا مهتدين. وأن الله تعالى يقدر أن يصلح الكافرين ويلطف بهم حتى يكونوا مؤمنين، ولكنه أراد أن يكونوا كافرين كما علم، وخذلهم وأضلهم وطبع على قلوبهم، وأن الخير والشر بقضاء الله وقدره، ويؤمنون بقضاء الله وقدره، خيره وشره، حلوه ومره، ويؤمنون أنهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله، كما قال ويلجئون أمرهم إلى
ص -65-(35/63)
الله، ويثبتون الحاجة إلى الله في كل وقت، والفقر إلى الله في كل حال، ويقولون: إن القرآن كلام الله غير مخلوق، والكلام في الوقف واللفظ من قال باللفظ أو بالوقف فهو مبتدع عندهم، لا يقال اللفظ بالقرآن مخلوق ولا يقال غير مخلوق، ويقولون: إن الله تعالى يرى بالأبصار يوم القيامة، كما يرى القمر ليلة البدر، يراه المؤمنون ولا يراه الكافرون، لأنهم عن الله محجبون، قال الله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15]، وإنّ موسى سأل الله سبحانه الرؤية في الدنيا وأن الله تعالى تجلى للجبل فجعله دكّاً، فأعلمه بذلك أنه لا يراه في الدنيا، بل يراه في الآخرة، ولم يكفروا أحداً من أهل القبلة بذنب يرتكبه كنحو الزنا والسرقة وما أشبه ذلك من الكبائر. وهم بما معهم من الإيمان مؤمنون وإن ارتكبوا الكبائر، والإيمان عندهم هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وبالقدر خيره وشره وحلوه ومره، وإن ما أخطأهم لم يكن ليصيبهم، وأنّ ما أصابهم لم يكن ليخطئهم. والإسلام هو أن يشهد العبد أن لا إله إلا الله على ما جاء في الحديث، والإسلام عندهم غير الإيمان، ويقرون بأن الله مقلب القلوب، ويقرون بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأنها لأهل الكبائر من أمته، وبعذاب القبر، وإن الحوض حق، والمحاسبة من الله للعباد حق، والوقوف بين يدي الله حق، ويقرون بأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، ولا يقولون مخلوق ولا غير مخلوق، ويقولون أسماء الله هي الله، ولا يشهدون على أحد من أهل الكبائر بالنار، ولا يحكمون بالجنة لأحد من الموحدين، حتى يكون الله تعالى أنزلهم حيث شاء، ويقولون أمرهم إلى الله إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم، ويؤمنون بأن الله تعالى يخرج قوماً من الموحدين من النار على ما جاءت به الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم وينكرون الجدل والمراء في الدين والخصومة في القدر، والمناظرة فيما يتناظر فيه أهل(35/64)
الجدل ويتنازعون فيه من دينهم بالتسليم للروايات الصحيحة، ولما جاءت به الآثار التي رواها الثقات عدلاً عن عدل حتى تنتهي ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولا يقولون: كيف؟ ولِمَ؟ لأن ذلك بدعة، ويقولون: إن الله لم يأمر بالشر، بل نهى عنه، وأمر بالخير، ولم يرضَ بالشر وإن كان
ص -66-
مريداً له، ويعرفون حق السلف الذين اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلّم ويأخذون بفضائلهم، ويمسكون عما شجر بينهم صغيرهم وكبيرهم، ويقدمون أبا بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علياً رضي الله عنهم، ويقرون أنهم الخلفاء الراشدون المهديون وأنهم أفضل الناس كلهم بعد النبي صلى الله عليه وسلّم ويصدقون بالأحاديث التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم "إن الله ينزل إلى السماء الدنيا فيقول: هل من مستغفر؟" كما جاء في الحديث عن النّبيّ صلى الله عليه وسلّم ويأخذون بالكتاب والسنة كما قال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: من الآية59] ويرون اتباع من سلف من أئمة الدين وأن لا يبتدعوا في دينهم ما لم يأذن به الله، ويقرون أن الله تعالى يجيئ يوم القيامة كمال قال: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [الفجر:22]، وإن الله تعالى يقرب من خلقه كيف يشاء، كما قال تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [قّ: من الآية16] ويرون العيد والجمعة والجماعة خلف كل إمام بر وفاجر، ويثبتون المسح على الخفين سنة، ويرونه في الحضر والسفر، ويثبتون فرض الجهاد للمشركين منذ بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلّم إلى آخر عصابة تقاتل الدجال. وبعد ذلك يرون الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح وأن لا يخرج عليهم بالسيف، وأن لا يقاتلوا في الفتنة، ويصدقون بخروج الدجال، وإن عيسى ابن مريم يقتله، ويؤمنون بمنكر ونكير والمعراج والرؤيا في المنام، وإن الدعاء لموتى المسلمين والصدقة(35/65)
عنهم بعد موتهم تصل إليهم، ويصدقون بأن في الدنيا سحرة وأن الساحر كافر، كما قال الله تعالى، وإن السحر كائن موجود في الدنيا، ويرون الصلاة على كل من مات بأجله وكذلك من قتل قتل بأجله، وأن الأرزاق من قبل الله تعالى يرزقها عباده، حلالاً كانت أو حراماً وإن الشياطين يوسوس للإنسان ويشككه ويخبطه، وإن الصالحين قد يجوز أن يخصهم الله تعالى بآيات تظهر عليهم، وأن السنة لا تنسخ القرآن، وأن الأطفال أمرهم إلى الله، إن شاء عذبهم وإن شاء فعل بهم ما أراد، وأن الله عالم ما العباد عاملون وكتب أن ذلك يكون، وأن الأمور بيد الله تعالى، ويرون الصبر
ص -67-
على حكم الله والأخذ بما أمر الله به، والانتهاء عما نهى الله عنه، وإخلاص العمل لله والنصيحة للمسلمين، ويدينون بعبادة الله في العابدين والنصيحة لجماعة المسلمين، واجتناب الكبائر والزنا قول الزور، والمعصية والفخر والكبر والإزدراء على الناس والعجب، ويرون مجانبة كل داع إلى بدعة، والتشاغل بقراءة القرآن وكتابة الآثار، والنظر في الفقه، مع التواضع والاستكانة وحسن الخلق، وبذل المعروف وكف الأذى، وترك الغيبة والنميمة والسعاية، وتفقد المأكل والمشرب.
فهذه جملة ما يأمرون به ويعتقدونه ويرونه، وبكل ما ذكرنا من قولهم ونقول وإليه نذهب، وما توفيقنا إلا بالله، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
ص -68-(35/66)
فصل
قال العراقي: فتبين أن علامة الخوارج تنزيلهم آيات القرآن النازلة في الكفار على المؤمنين من أهل القبلة.
جوابه أن يقال:
ليست هذه علامة على الخوارج والمروق من الدين، فإن جمهور الغلاة من أهل الأهواء يتأولون بعض الآيات التي أريد بها أهل الكفر والشرك في أهل السنة والجماعة، والعلامة تطرد وتنعكس، كما في حديث: "آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار" ولا يصح هنا طردها ولا عكسها.
وهب أنها علامة كما زعمتـ فمن يثبت لك إيمان عباد القبور؟ بأي كتاب أم بأية سنة تحكم على أنهم من المؤمنين، ومن عباد الله الصالحين؟ بينك وبين إثبات هذا ما يدفع في صدرك؛ ويكبك على أمّ رأسك، من نصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة "لو يعطى الناس بدعواهم لادّعى رجل دماء قوم وأموالهم، ولكن البينة على المدعي".
وإنما قيل: علامة أهل الشرك وعباد الأولياء والصالحين: تسمية الرسل وأتباعهم من أهل الإسلام صابئة، كما قاله أبو جهل وأبو لهب وغيرهما من كفار قريش؛ والصابئ بمعنى الخارجي والمعتزلي في عرفهم، فإن الصابئة في الأصل اسم لمن فارق ما عليه جمهور الناس في الديانة، وكان أهل الكفر وأصحاب المذاهب الضالة يرون أنهم أحق بالصواب، وأولى بالآثار والكتاب.
ص -69-(35/67)
قال تعالى حاكيا عن اليهود والنصارى {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:111ـ112] فهذه الآية كما وردت على اليهود والنصارى وأخرجتهم من الوعد والإثابة، فهي رد على عباد القبور والصالحين المستغيثين بغير الله، الداعين لسواه، لأن إسلام الوجه لله وإحسان العمل قد تخلف عنهم وفاتهم.
فما أحسن أحكام القرآن، ما ألطف خطابه وما أهناه وأشفاه في كل مقام وعند كل شبهة وخصام، قال تعالى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه:123] وأي هدى وأي سلطان وأي حجة على دعاء الصالحين مع الله، والاستغاثة بهم في الشدائد والكربات؟ هذا لم تأتِ به شريعة، ولم يقل بجوازه صاحب عقل يميز أقواله وصنيعه.
وما سيمر بك من الشبه العراقية من جنس شبه القرامطة والباطنية، على ما يزعمونه من الطريقة الخبيثة الكفرية، وسيأتيك رده مفصّلاً إن شاء الله تعالى.
وقوله: إن قول الشيخ وأتباعه: "لا يعبد إلا الله" من جنس قول الخوارج: "لا حكم إلا لله" وأنه يقال لهم ما قيل لأولئك: هذه كلمة حق، ولكن أين من يعبد غير الله، إذا كان مسلماً ناطقاً بالشهادتين يصلي ويزكي ويحج؟
والجواب أن يقال:
الخوارج مخطئون ظالمون فيما نقموا به على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم؛ فإن الصّحابة ما حكموا سوى القرآن، وإنما الرجال يحكمون بالقرآن، فالتبس الأمر على الخوارج، ولم يفهموا أن جميع الأحكام الشرعية إذا صدرت عما في الكتاب والسنة فهما الحاكمان، ولا ينسب الحكم إلى الرجال إلا بقيد، وجاءت السنة بأن(35/68)
الطاعة في المعروف، وهو ما أمر الله به ورضيه من الواجبات
ص -70-
والمستحبات. وإنما يحرم التحكيم إذا كان المستند إلى شريعة باطلة تخالف الكتاب والسنة، كأحكام اليونان والإفرنج والتتر وقوانينهم التي مصدرها آراؤهم وأهواؤهم، وكذلك سوالف البادية وعاداتهم الجارية. فمن استحل الحكم بهذا في الدماء أو غيرها فهو كافر. قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: من الآية44]، وهذه الآية ذكر فيها بعض المفسرين: أن الكفر المراد هنا كفر دون الكفر الأكبر، لأنهم فهموا أنها تتناول من حكم بغير ما أنزل الله، وهو غير مستحل لذلك، لكنهم يتنازعون في عمومها للمستحل، وأن كفره مخرج عن الملة.
إذا عرفت هذا عرفت وجه قول أمير المؤمنين في مقالة الخوارج: لا حكم إلا الله "إنها كلمة حق أريد بها الباطل" وأما قول المسلم الحنيفي: لا يعبد إلا الله، فهي كلمة حق أريد بها حق؛ لأنّ دعاء الأولياء والصالحين والاستغاثة بهم وتعلق القلوب بهم محبة ورجاء وخوفاً وطمعاً، هو العبادة بالإجماع. وقد مرّ لك أنهم صرفوا من العبادات لمعبوداتهم جميع ما يستحقه ذو العرش المجيد تقدس اسمه جل ذكره.
فإذا قال الجاهلون عباد القبور: فأين من يعبد غير الله؟
قيل لهم: أنتم وأمثالكم من عباد القبور والصالحين جمهور من سكن الغبراء وأظلته الخضراء، لا سيما أهل العراق عباد علي والحسين والكاظم وعبد القادر والحسن والزبير وأمثالهم من الأولياء والصالحين. ولست أعني خصوص الرافضة، بل عبادة القبور والصالحين ليس من خصوص الرافضة في هذه الأزمان، وفي بلاد الفرس ومصر والشام من عبادة القبور ودعائها وجعلها أنداداً لله ربّ العالمين ما لا يخفى على من عرف الإسلام، ولكن قد تقدم غير مرة التنبيه على جهل هذا الرجل وأمثاله بالمسميات والحدود، وعندهم أن العبادة مجرد السجود، مع أنه قد وقع منهم أيضاً لأهل القبور، ولكنهم(35/69)
يكابرون في الحسيات، وقد صار من يدعي العلم وينتسب إليه في كثير من البلدان دعاة إلى الشرك والتوسل بدعاء الصالحين وتعظيمهم برفع القبور وتشييدها واتخذاها
ص -71-
مساجد، والتوجه إلى من فيها والطواف بقبره، وبعض علمائهم يحتج على تركها مرفوعة أو على رفعها وبنائها بحديث: "سدوا عني كل خوخة في المسجد إلا خوخة أبي بكر" فانظر هذا الجهل المتناهي، جعلوا القباب التي هي من وسائل الشرك وأفعال الجاهلية من جنس ما يخص به العبد الصالح من ترك خوخة أو نحوها في جدار المسجد. والذي هو نص في المسألة لا يقبل التأويل حديث أبي الهياج: أن علياً قال له: "ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلّم ألا أدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً إلا سوّيته" والحديث أشهر من أيذكر وقد عمل به الإمام المفضل الأكبر. ومع هذا فلا يعرجون عليه في الاستدلال، ولا يبالون بما فيه من الأمر الواضح بهدم أماكن الجهل والضلال. وما ذاك إلا لأنّهم نشأوا في حجر عباد القبور وحزبهم؛ وغذوا بلبان جهلهم وكفرهم، وألفته طباعهم وأنست به أوضاعهم، ولولا ذلك لما قيس رفع القباب وإبقاؤها على المقابر على إبقاء خوخة الصديق، وترك سدّها، مع عدم الاشتراك في العلة والمناط، وبعد ما بينهما وتباينه.
وأما قوله: إذا كان مسلماً ناطقاً بالشهادتين إلى آخره.
فقد تقدم لك أنه لا يشترط في التكفير أن يكفر المكلف بجميع ما جاء به الرسول، بل يكفي في الكفر والردة ـ والعياذ بالله ـ أن يأتي بما يوجب ذلك، ولو في بعض الأصول، وهذا ذكره الفقهاء من أهل كل مذهب، وهو من عجيب جهل العراقي وأمثاله؛ لأنه يعرفه المبتدئون في الفقه والعلم، ومن أراد الوقوف على جزئيات وفروع في الكفر والردة فعليه بما صنف في ذلك، كالإعلام لابن حجر الهيتمي، وما عقده الفقهاء من أهل كل مذهب في باب حكم المرتد.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الرسالة السنية: لما ذكر حديث الخوارج ومروقهم من الدين(35/70)
وأمره صلى الله عليه وسلّم بقتالهم، قال: فإذا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلّم وخلفائه ممن انتسب إلى الإسلام من مرق منه، مع عباداته العظيمة، حتى أمر النبي صلى الله عليه وسلّم بقتالهم، فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام والسنة في هذه الأزمان قد يمرق أيضاً من الإسلام، وذلك بأسباب: منها الغلو الذي ذمه الله في كتابه،
ص -72-
حيث قال: { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ } الآية (النساء:171)، وعلى بن أبي طالب رضي الله عنه حرق الغالية من الرافضة، فأمر بأخاديد خدت لهم عند باب كندة، فقذغوا فيها واتفق الصحابة على قتلهم، لكن ابن عباس كان مذهبه أن يقتلوا بالسيف بلا تحريق وهو قول أكثر الصحابة. وقصتهم معروفة عند العلماء. وكذلك الغلو في بعض المشايخ، بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في المسيح ونحوه. فكل من غلا في نبي أو رجل صالح، وجعل فيه نوعاً من الإلهية، مثل أن يقول: يا سيدي فلان انصرني، أو أغثني، أو ارزقني، أو اجبرني، أو أنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال فكلّ هذا شرك وضلال، يستتاب صاحبه. فإن تاب وإلاّ قتل، فإن الله إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب ليعبد وحده، ولا يجعل معه إله آخر. والذين يدعون مع الله آلهة أخرى مثل المسيح والملائكة والأصنام، لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق وتنزل المطر وتنبت النبات، إنما كانوا يعبدونهم أو يعبدون قبورهم، أو صورهم ويقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}(الزمر: من الآية3)، ويقولون: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} (يونس: من الآية18)، فبعث الله رسوله ينهى أن يدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة، ولا دعاء استغاثة. وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً، أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ(35/71)
أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } (الاسراء: 56 ـ 57). قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح وعزيراً والملائكة فأنزل الله هذه الآية. ثم ذكر آيات في المعنى. انتهى.
والمقصود منه: أنه جعل عباد القبور من شر الخوارج المارقين، فهم شر أصناف الخوارج، وقد توقف بعض السلف في تكفير الخوارج، قيل لعلي: أكفار هم؟ قال: من الكفر فرّوا.
وعباد القبور ما رأيت أحداً من أهل العلم الذين يرجع إليهم توقف في كفرهم، غاية ما قالوا: لا يقتل حتى يستتاب، أو لا يكفر حتى تقوم عليه الحجة أو نحو هذا الكلام.
ص -73-(35/72)
فصل
واستدل العراقي على دعواه أن عباد القبور لا يكفرون بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} (النساء: من الآية94)، وزعم أن سبب نزول هذه الآية قتل رجل كافر كان قصده الإسلام، ولم يتلفظ بالشهادة. قال: فكيف بمن يتجاسر على خيار الأمة المحمدية وعلمائها ويكفرهم بالتوسل بالأنبياء والصالحين بشبهة هي أوهى من بيت العنكبوت، ولم يكن نية فاعلها إلا خيراً، وهذه الأشياء التي يكفرون بها ما أجمعت الأمة على تحريمها، فضلاً عن التكفير بها.
والجواب أن يقال:
زعمه أن سبب النزول قتل رجل كافر كان قصده الإسلام ولم يتلفظ بالشهادة فهو كذب بحت، وقول على الله وعلى كتابه بغير علم. وفي الحديث: "من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار" وفي رواية: "برأيه" وهذا الرجل لا يتحاشى الكذب والترويج على الجهال. قال البيضاوي: "{وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ} لمن حياكم بتحية الإسلام. وقرأ نافع وابن عامر وحمزة: {السلم}" وفسّره البيضاوي بالاستسلام والانقياد، وفسر به السّلام أيضاً، وجزم بأنه استسلم وانقاد للإسلام على القراءتين. وقال في قوله: {لَسْتَ مُؤْمِناً} (النساء: من الآية94): "أي إنما فعلت ذلك متعوّذاً، فظهر أنه أظهر لهم الإسلام، وإنما أتوه من جهة ظنهم عدم صدقه". وقال الإمام أحمد في مسنده: حدثنا يحيى بن بكير
ص -74-(35/73)
وحسين بن محمد وخلف بن الوليد حدثنا إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: "مر رجل من بني سليم بنفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم يسوق غنماً، فسلم عليهم. فقالوا: ما سلم علينا إلا ليتعوذ منا، فعمدوا إليه فقتلوه، وأتوا بغنمه النبي صلى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية". وقال أحمد: حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن محمد بن إسحاق حدثنا يزيد بن عبد الله بن قسيط عن القعقاع بن عبد الله بن أبي حدرد قال: "بعثنا النبي صلى الله عليه وسلّم إلى أضم مرَّ بنا عامر بن الأضبط على قعود له، معه متيع له ووطب من لبن، فسلم علينا، فأمسكنا عنه وحمل عليه محلم بن جثامة فقتله، لشيء كان بينه وبينه، وأخذ بعيره ومتيعه، فلما قدمنا على النّبيّ صلى الله عليه وسلّم وأخبرناه نزل فينا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم للمقداد: "كان رجلاً مؤمناً يخفي إيمانه مع قوم كفار فقتله كذلك كنت تخفي إيمانك بمكة" وهذه الجملة الأخيرة من الحديث رواها البخاري في صحيحه تعليقاً.
وبهذا يتبين جهل العراقي وكذبه، وجميع كلامه من أول كتابه إلى آخره من هذا القبيل ظلمات بعضها فوق بعض.
وأما قوله: فكيف بمن يتجاسر على خيار الأمة وعلمائها ويكفرهم بالتوسل بالأنبياء والصالحين بشبهة أوهن من بيت العنكبوت؟
فجوابه: أن خيار الأمة وعلماءها لم يكفرهم أحد من أهل الإسلام،
ص -75-(35/74)
لا من أهل نجد ولا غيرهم، حتى إن المخالف في أصل الملة كاليهودي والنصراني والمجوسي والوثني لا يكفرهم، بل غايته أن يعتقد أنه على حق وأنهم أخطأوا في إنكار دينه وتكفيره، والخوارج كفّروا بعض خيار الأمة، وبعض العلماء لم يطلقوا تكفير الخيار والعلماء. هذا لا يُعرف عن أحد ولا ادّعاه أحدٌ قبل العراقي. لكنه جاهل يخفى عليه ما في عبارته من العموم المستفاد من الإضافة، وأظنه يريد بعض من ينتسب إلى الدين والعلم من عباد القبور. ولذلك قال: بتوسلهم ودعاء الصالحين، وعبادتهم عنده توسل لا يكفر فاعله. وقد تقدم الكلام على ردّ هذا. ويأتي له مزيد بحث وأن التوسل صار مشتركاً، وهو في عرف عباد القبور يستعمل في دعاء الصالحين وعبادتهم، وبيان التكفير بذلك وما يستدل به عليه قد مرّ بعضه ويأتيك عند كلام العراقي عكس القضية فسمى عباد القبور خيار الأمة وعلماءها، وسمّى أهل الإسلام والتوحيد الذين لا يدعون مع الله آلهة أخرى خوارج، يكفرون خيار الأمة!. ومن وصل به الجهل إلى هذه الغاية والحد فقد استحكم عليه الضلال، وفقد إدراكه وإحساسه، ولا علاج له غير الاطراح والتضرع بين يدي الله في أوقات الإجابة وتحري الأدعية الواردة النبوية أن يرده الله إلى الرشد. ولا سبيل إلى ذلك مع اعتقاد أنه من أهل العلم والفضل والدين، وأنه يصلح معلما ومربيا وداعياً.
وقوله: بشبهة هي أوهن من بيت العنكبوت.
إن كان يريد ما استدل به المسلمون أهل التوحيد من الأدلة القرآنية والأحاديث النبوية في المنع من دعاء الأولياء والصالحين، وتحريم عبادتهم بالحب والخضوع والتوكل والدعاء والنسك والرجاء، ونحو ذلك من العادات، فتسميته أدلة ذلك وأدلة تكفير فاعله: شبهة أوهن من بيت العنكبوت: صريح في كفره؛ لمسبته لآيات الله وحججه وبياته، ولا يخفى كفر فاعل ذلك على أحد من المسلمين، قال تعالى فيمن قال ما دون ذلك في النبي صلى الله عليه وسلّم ومن معه من القرّاء: {وَلَئِنْ(35/75)
سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} الآية (التوبة: من الآية65)، فكفرهم بما لا
ص -76-
نسبة بينه وبين كلمة العراقي، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والمسلمون يحتجون على مثل هذه المسائل بمثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} الآية (البقرة: من الآية21)، وقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة:5)، وقوله: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ} الآية (يونس: من الآية106)، وقوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} الآية (الاسراء:56)، وقوله: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (المؤمنون:117)، وقوله: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} (الجن:18)، ونحو ذلك كثير. وبقوله صلى الله عليه وسلّم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله" والقول المراد هنا الصادر عن علم بمعناها وانقياد لأصول مقتضاها، لا كما ظنّه عباد القبور من أن مجرد اللفظ يكفي مع المخالفة الظاهرة، وعباد الأولياء والصالحين، فإن شهادتهم والحالة هذه وقولهم شبيه بشهادة المنافقين برسالة سيد المرسلين، وقد مرّ لك ما فيها.
وبالجملة: فأدلة تحريم دعاء الصالحين من دون الله لا يمكن حصرها ولا تستقصى، وقد قال هذا الملحد: إنّها شبهة أوهن من بيت العنكبوت، {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} (الكهف: من الآية5).
وأما قوله: هذه الأشياء وما أجمعت الأمة على تحريمها، فضلاً عن التكفير بها.
فهذا مبلغ علمه ومنتهى إيمانه وفهمه، وكلّ إناء بالذي(35/76)
فيه ينضح.
فيا منكراً هذا تأخر، فإنه
حرام على الخفاش أن يبصرالشمسا
ونقول: اجتمعت الأمة على تحريم هذا وعلى كفر فاعله إجماعاً ضرورياً، يعرف بالضرورة من دين الإسلام، وبتصور ما جاء به الرسل، واتفاق دعوتهم، فإن كل رسول أول ما يقرع أسماع قومه بقوله: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (لأعراف: من الآية59)، كما تقدمت أدلة ذلك.
قال شيخ الإسلام أبو العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية
ص -77-
الحراني رحمه الله ورضي عنه: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم كفر إجماعاً.
قال شارح الإقناع من كتب الحنابلة منصور بن يونس البهوتي المصريّ: لأنه فعل عابدي الأصنام، قائلين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} الآية (الزمر: من الآية3)، نعم عباد القبور يخالفون في هذا، كما يخالف الخارجيّ فيما اجتمعت عليه الأمة من عدم التكفير بالذنوب التي دون الشرك، وكما يخالف القدري أهل السنة في تكفير غلاتهم، وكما يخالف الجهمي معطل الصفات في تكفيره وتبديعه، وكما ينازع الحلولي والاتحادي في التكفير بمذهبه الخبيث، ومن نسب إلى الشيخ رحمه الله تكفير أحد من أهل الإسلام والتوحيد فهو من أعظم الناس كذباً وبهتاناً وافتراءً وسيجزيه الله ما وعد به أمثاله من المفترين، بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَبذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} (لأعراف:152).
ص -78-(35/77)
فصل
قال العراقي: ويستدلون بأقوال ابن تيمية وابن القيم، وهما لا يلزمان بقولهما ولا بقول أحد من أهل المذاهب الأربعة.
والجواب أن يقال:
قد تقدم أن العمدة عندهم في مسائل أصول الدين وفروعه على كتاب الله وسنة رسوله وإجماع أهل العلم من هذه الأمة، ولا تذكر أقوال أهل العلم إلا تبعاً وبياناً. لا إنّها المقصودة بالذات والأصالة؛ ثم المسائل التي لا يلزم بها المجتهد غيره ما كان للاجتهاد فيها مساغ، ولم تخالف كتاباً ولا سنة صريحة ولا إجماعاً، وما خالف ذلك فهو مردود على قائله. ويلزمه أهل العلم بصريح الكتاب والسنة وإجماع الأمة.
قال إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله تعالى: "ما منا إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر" يعني رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
وأحسن منه قول الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} الآية (النساء: من الآية59)، وقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلّم: "لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه".
فإذا كان ردّ السنة محرماً لا يجوز، ولو ردّها ظاناً أن القرآن لا يدل عليها،
ص -79-(35/78)
فكيف رد الكتاب والسنة، وعدم التزامهما لخلاف أحد من الناس كائناً من كان؟ ومسائل معرفة الله ووجوب توحيده، وإسلام الوجه له وحده لا شريك له، ومسائل ربوبيته واختصاصه بالخلق والإيجاد والتدبير، ونحو ذلك، مما يعلم بالضرورة من دين الإسلام كصمديته تعالى، ونفي الكفء والصاحبة والولد، وغناه بذاته ومباينته لمخلوقات، وعموم قدرته وإحاطة سمعه وبصره وعلمه بجميع المعلومات والمبصرات والمسموعات، ونحو ذلك من أصول الدين.
فكلّ الرسل متفقون عليه، وجميع الكتب داعية إليه والعقول الصحيحة حاكمة به، فكل اجتهاد خالفه فباطل مردود لا يسوغ العمل به في شريعة من الشرائع، ولا عند عالم من العلماء ولا فقيه من الفقهاء. والعراقي أجنبي عن هذه المباحث والعلوم، ولا يدري الفرق بين مسائل الاجتهاد وغيرها، وكأن الرجل من أهل الفترات لم يأنس بشيء مما جاءت به النبوات.
قال شمس الدين في هدايته: بل جميع النبوات من أولها إلى آخرها متفقة على أصول.
أحدها: أن الله تعالى قديم واحد لا شريك له في ملكه، ولا ند ولا ضد ولا وزير ولا مشير ولا ظهير ولا شافع إلا من بعد إذنه.
الثاني: أنه لا والد له ولا ولد، ولا كفء ولا نظير، ولا نسب بوجه من الوجوه ولا زوجة.
الثالث: أنه غني بذاته، فلا يأكل ولا يشرب، ولا يحتاج إلى شيء مما يحتاج إليه خلقه بوجه من الوجوه.
الرابع: أنه لا يتغير ولا تعرض له الآفات، من الهرم والمرض والسنة والنوم والنسيان والندم، والخوف والهم والحزن، وتحو ذلك.
الخامس: أنه لا يماثله شيء من مخلوقاته، بل ليس كمثله شيء، لا في ذاته ولا في صفاته، ولا في أفعاله.
السادس: أنه لا يحل بشيء من مخلوقاته، ولا يحل في ذاته شيء منها.
ص -80-(35/79)
بل هو بائن عن خلقه بذاته، والخلق بائنون عنه.
السابع: أنه أعظم من كل شيء، وأكبر من كل شيء، وفوق كل شيء، وعال على كلّ شيء، وليس فوقه شيء البتة.
الثامن: أنه قادر على كل شيء ولا يعجزه شيء يريده، بل هو فعّال لما يريد.
التاسع: أنه عالم بكلّ شيء، يعلم السّر وأخفى، ويعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس، ولا متحرك ولا ساكن إلا وهو يعلمه على حقيقته.
العاشر: أنه سميع بصير، يسمع ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات، ويرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصّماء في الليلة الظّلماء، قد أحاط سمعه بجميع المسموعات، وبصره بجميع المبصرات، وعلمه بجميع المعلومات، وقدرته بجميع المقدورات، ونفذت مشيئته في جميع البريات، وعمت رحمته جميع المخلوقات ووسع كرسيه الأرض والسموات.
الحادي عشر: أنه الشاهد الذي لا يغيب، ولا يستخلف أحداً على ملكه، ولا يحتاج إلى من يرفع إليه حوائج عباده أو يعاونه أو يستعطفه عليهم ويسترحمه لهم.
الثاني عشر: أنه الأبدي الباقي الذي لا يضمحل ولا يتلاشى ولا يعدم ولا يموت.
الثالث عشر: أنه المتكلم المكلم الآمر الناهي، قائل الحق، وهادي السبيل مرسل الرسل، ومنزل الكتب، قائم على كل نفس بما كسبت من الخير والشر، ومجازي المحسن بإحسانه والمسئ بإساءته.
ص -81-(35/80)
الرابع عشر: أنه الصادق في وعده وخبره، فلا أصدق منه قيلا، ولا أصدق منه حديثاً، وهو لا يخلف الميعاد.
الخامس عشر: أنه تعالى صمد بجميع معاني الصمدية، يستحيل عليه ما يناقض صمديته.
السادس عشر: أنه قدوس سلام، فهو المبرأ من كل عيب وآفة ونقص.
السابع عشر: أنه الكامل الذي له الكمال المطلق من جميع الوجوه.
الثامن عشر: أنه العدل الذي لا يجور ولا يظلم، ولا يخاف عباده منه ظلماً.
وهذا مما اتفقت عليه جميع الكتب والرسل وهو من المحكم الذي لا يجوز أن تأتي شريعة بخلافه، ولا يخبر بشيء بخلافه، فتركت المثلثة عباد الصليب هذا كله وتمسكوا بالمتشابه من المعاني والمجمل من الألفاظ، وأقوال من قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن سبيل السواء. وأصول المثلثة ومقالاتهم في ربّ العالمين تخالف هذا كله وتباينه أشد المخالفة والمباينة انتهى.
فقف وتأمل هذه الأصول وأولها، وهو أنه تعالى لا شريك ولا ند ولا شافع إلا من بعد إذنه، ووازن بينه وبين قول العراقي: إنّ هذه المسائل التي لا تعلم يعذر العلماء في جهلها أحداً، وهل يقول من يعقل إنّ هذه المسائل من المسائل الاجتهادية، فإن كان هذا القول صحيحاً فليهن النصارى عباد الصليب اجتهادهم المنجي عند هذا العراقي، وكذا عباد الأوثان، والجهمية والمعطلة، والقدرية النفاة والقدرية المجبرة، والرافضة المارقة. فإنّهم قالوا بتلك الأقوال الضالة واعتقدوها عن رأي لهم واجتهاد وشبهة تصوروها. كما قال هذا الشيخ: فترك المثلثة عباد الصليب هذا كله وتمسكوا بالمتشابه. قال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً} الآية (الكهف:103)، وقال: {بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ} (الرعد: من الآية33)، وقال: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} الآية (الأنعام: من الآية137)
ص -82-(35/81)
وقال: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} (الأنعام: من الآية108)، والتزيين يتناول ما تمسكوا به من الشبه والمتشابه واعتقاد حسنه، وأنه لا ينكر ولا يلزم بسواه.
ثم هذا مخالف للإجماع، ولو في فروع الدين، فإنّ الصّحابة رضوان الله عليهم أجمعوا على إنكار على المخطئ المخالف للنص في مسائل كثيرة.
منها ما وقع من قدامة بن مظعون وأصحابه لما استحلوا الخمر باجتهاد تأويل وفهم انفردوا به، في قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} الآية (المائدة: من الآية93)، والصحابة أنكروا على من رأى أن دفع الزكاة لا يجب لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقاتلوا على ذلك واستباحوا الدماء عليه، وإن لم ينكر من قاتلوه غير ذلك من الدين. وقد بعث صلى الله عليه وسلّم سرية إلى رجل تزوج امرأة أبيه فقتلوه وغنموا ماله، وسار فيه بسيرته في المرتدين، فكيف يقال: إن من دعا الأولياء والصالحين واستغاث بهم وذبح لقبورهم وخافهم ورجاهم مع الله لا ينكر عليه؟ لأن الإنكار محل الاجتهاد؟ سبحانك هذا بهتان عظيم.
ص -83-(35/82)
فصل
قال العراقي: قال العلماء: لو أفتى مائة عالم إلا واحداً بكلمة كفر صريحة مجمع عليها، وقال عالم واحد بخلاف أولئك يحكم بقول الواحد، ويترك قول التسعة والتسعين، حقناً للدماء.
أقول في جوابه:
ها هنا والله يعرف ذوو الألباب مقدار ما هم فيه من النعمة بالعقول التي فارقوا بها الحيوانات، ويعرف ذوو الفضل والعلم نعمة العلم التي فارقوا بها أهل الجهالات والضلالات، ويعرفون حاصل هؤلاء الحيارى وما هم عليه من العقل والدين، لا سيما من عرف ما في الدّعوى من العموم والإجماع على خرق الإجماع، ثم هذا العدد المخصوص أهو غاية وحد لا يجوز أن يتجاوزه أحد؟ أو هو مبالغة وتهور لا يبالي به عند التحقيق والتصور؟ قوم هذا حاصل بحثهم ونهاية إقدامهم، لم يمتازوا على سائمة الأنعام إلا بمجرد الصورة والهيولى. قال تعالى: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ} الآية (الاحقاف: من الآية26).
وأما قوله: لقوله صلى الله عليه وسلّم: "ادرأوا الحدود بالشبهات ما استطعتم" فهو من نمط ما قبله في الجهالة. والخلاف ليس من الشبهة، ولا يلتفت إليه إذا خالف الكتاب والسنة أو الإجماع. هذا باتفاق المسلمين، لا يشكل إلاّ على الأغبياء، وإطلاق القول بأن الخلاف شبهة يعود على الإسلام بالنقض والهدم،
ص -84-(35/83)
والتسجيل على عامة العلماء بالعيب والذم. فقلّ حكم من الأحكام الاجتهادية إلاّ وفيه خلاف. ومن المعلوم أنه جاء الخبر النبوي: أن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، وتختلف في دينها. والعلماء مجمعون على القول بهذا، وإنه لا يلتفت إلى كل خلاف، لا سيما ما خالف النصوص والإجماع. وأفتوا بهذا في مسائل لا تحصى في أصول الدين وفروعه. فلو كان وجود الخلاف من الشبه لحكمنا بضلالهم في ذلك كله. وهم مجمعون على عكس ما قال العراقي. ولو أفتى ألوف ما يخالف النصوص فهم في جانب والنص في جانب ولو كان النص والحجة مع واحد من هؤلاء الألوف، قال الفضيل بن عياض: لا تستوحش من الطريق لقلة السالكين، ولا تغتر بالباطل لكثرة الهالكين. وأحسن منه وأدل قوله تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (الأنعام: من الآية116)، فبطل الاحتجاج بالأكثر في الأصول والفروع. وما أحسن ما قيل:
وليس كل خلاف جاء معتبراً
إلاّ خلاف له حظ من النّظر
وقوله: المكفر بهذه الأشياء واحد، ليس في العير ولا في النفير، القائلون بخلافه ألوف.
يريد أن المكفر بعبادة القبور واحد، وهو الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
والوقوف على هذه القولة الضالة الحمقاء التي تنادي بجهل قائلها يكفي في الجواب.
وقوله: إنهم يسيئون الظن بجميع علماء المسلمين، ما عدا جماعتهم ـ إلى آخر كلامه.
تقدم جوابه، وأنه لا يعرف الحدود فلا يعرف العلماء في عرف الشرع ولا المسلمين في اصطلاح الرسول. والذي في وهمه أن العلماء من يجيز دعاء أهل القبور وأن المسلمين عنده من يدعو الموتى ويستغيث بهم. هذا حاصل كلام العراقي، فسبحان من أضله.
وسوء الظن بمن جالس وداهن وهذا الضرب من الناس مما يثاب عليه
ص -85-(35/84)
المؤمن، ويحمد عليه؛ لأنه من باب الاحتياط والبراء، بل ويدخل فيه ما أمر الله به من الجهاد، وعدم الانبساط والبشاشة لمن يوالي عباد القبور ويعاشرهم. فكيف من يجيز ذلك ويفعله؟ وقد قال مجاهد بن جبر لابن حميد لما رآه مع غيلان القدري في الطواف، وهجره على ذلك فجاءه ابن حميد، فحلف له أنه تبعه يسأله عن حرف في قراءة مجاهد ـ قال له مجاهد: لولا أنك عندي صدوق ما بششت في وجهك الدّهر، ذكره ابن وضاح.
ص -86-
فصل
قا العراقي: بل عندهم أن أهل الحرمين اللذين هما أشرف بقاع الله وأخبر الرسول كما في الصحيحين: "إن الإيمان يأرز في آخر الزمان إلى الحجاز" وفي رواية: "إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها" فهم عندهم كفار مشركون، واستباحوا هذين البلدين الشريفين، وجعلوهما دار حرب، واستحلوا دماء أهلهما وأموالهم وجعلوا دار مسيلمة الكذاب هي دار الهجرة ودار الإيمان، وأن الإيمان يأرز إليها مع قوله صلى الله عليه وسلّم: "اللهم بارك لنا في شامنا وفي يمننا" قالوا: وفي نجدنا يا رسول الله؟ فكرر ثلاث مرات، يدعو للشام واليمن، وهم يقولون: وفي نجدنا، فقال في الرابعة: "تلك مواضع الزلازل والفتن" إلى آخره.
الجواب أن يقال:
في هذه الكلمات اليسيرة من الكذب والظلم والقول بلا علم ما يطول استيفاء الكلام عليه، ومن خلع جلباب الحياء، وتكلّم في المباحث الدينية بمجرد الجهل والهوى، فقد استحكم عليه الشقا، وحلت قريباً من داره قوارع المحن والبلوى. ليس من كلام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، ولا في كلام من يعتد به ويعول عليه من أهل العلم والدين حكم على عامة أهل الحرمين بالكفر والشرك، بل ولا بالفسوق. وسنورد من كلامه رحمه الله هنا ما يعرف به الواقف على كتابنا حقيقة مذهبه ودينه. وأن هذا العراقي وأمثاله يتفترون مثل هذه العبارات بقصد تنفير الناس عن هذا الشيخ، والصد عن سبيل الله.
ص -87-(35/85)
قال رحمه الله تعالى، وفي أثناء كلام له في رسالته المعروفة إلى محمد بن عيد:
وأما ما ذكر من الأعداء عني أني أكفر بالظن أو بالموالاة أو أكفر الجاهل الذي لم تقم عليه الحجة، فهذا بهتان عظيم، يريدون به تنفير الناس عن دين الله ورسوله.
وقال رحمه الله: سألني الشريف عما نقاتل عليه، وعما نكفر الرجل به؟ فأخبرت بالصدق، وبينت له أيضاً الكذب الذي يبهتنا به الأعداء، فسألني أن أكتب له.
فأقول: أركان الإسلام خمسة: أولها: الشهادتان، ثم الأركان الأربعة. فالأربعة إذا أقرّ العبد بها وتركها تهاوناً، فنحن وإن قاتلناه على فعلها، فلا نكفره بتركها. والعلماء اختلفوا في التارك لها كسلاً من غير جحود، ولا نقاتل إلا على ما أجمع عليه العلماء كلهم، وهو الشهادتان وأيضاً نكفره بعد التعريف إذا عرف وأنكر. فنقول: أعداؤنا معنا على أنواع:
النوع الأول: من عرف أن التوحيد دين الله ورسوله الذي أظهرناه للناس وأقرّ أيضاً الاعتقادات في الحجر والشجر، الذي هو دين غالب الناس إنه الشرك بالله الذي بعث الله رسوله ينهى عنه، ويقاتل أهله ليكون الدين كله لله. ومع ذلك لم يلتفت إلى التوحيد ولا تعلمه، ولا دخل فيه، ولا ترك الشرك.
فهذا كفر نقاتله بكفره، لأنه عرف دين الرسول. فلم يتبعه، وعرف دين الشرك فلم يتركه مع أنه لم يظهر ببغض دين الرسول، ولا من دخل فيه، ولا يمدح الشرك ولا بزينة للناس.
النوع الثاني: من عرف ذلك كله، ولكنه تبين في سب دين الرسول مع ادعائه أنه عامل به، وتبين في مدح من عبد يوسف والأشقر، ومن عبد أبا علي والخضر من أهل الكويت، وفضلهم على من وحّد الله وترك الشرك. فهذا أعظم من الأول، وفيه قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ
ص -88-(35/86)
عَلَى الْكَافِرِينَ} (البقرة: من الآية89) وهو ممن قال الله فيه: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} الآية (التوبة: من الآية12).
النوع الثالث: من عرف التوحيد واتبعه وعرف الشرك وتركه، ولكن يكره من دخل في التوحيد، ويحب من بقي على الشرك، فهذا أيضاً كافر، فيه قول الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} (محمد:9).
النوع الرابع: من سلم من هذا كله، ولكن أهل بلده مصرحون بعداوة التوحيد، واتباع أهل الشرك، وساعون في قتالهم ويعتذر بأن ترك وطنه يشق عليه، فيقاتل أهل التوحيد مع أهل بلده، ويجاهد معهم بماله ونفسه. فهذا أيضاً كافر، فإنهم لو يأمرونه بترك صوم رمضان ولا يمكنه الصيام إلا بفراقهم فعل، ولو يأمرونه بتزويج امرأة أبيه ولا يمكنه ترك ذلك إلا بمخالفتهم فعل، وموافقتهم على الجهاد معهم بنفسه وماله مع أنهم يريدون بذلك قطع دين الله ورسوله أكبر من ذلك بكثير. فهذا أيضاً كافر، وهو ممن قال الله فيه: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ} الآية (النساء: من الآية91).
وأما الكذب والبهتان: أنّا نكفر بالعموم، ونوجب الهجرة إلينا على من قدر على إظهار دينه، وأنّا نكفر من لم يكفر ولم يقاتل، ومثل هذا وأضعاف أضعافه. فكل هذا من الكذب والبهتان الذي يصدّ به ورثة أبي جهل من سدنة الأصنام وأئمّة الكفر: الناس عن دين الله ورسوله؛ وإنّا لا نكفر إلاّ من كفّره الله ورسوله، من المشركين عباد الأصنام كالذين يعبدون الصنم الذي على قبر عبد القادر والصنم الذي على قبر أحمد البدوي وأمثالهما أما الذين آمنوا بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر وجاهدوا في الله حق جهاده فهم إخواننا في الدين وإن لم يهاجروا إلينا. فكيف نكفر هؤلاء؟ سبحانك هذا بهتان عظيم. انتهى.
وأما استباحة هذين البلدين الشريفين، فكلّ(35/87)
أحد يعرف أن هذا من
ص -89-
الكذب والبهت البين. قال تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} (النحل:105) لم يقع فيهما قتال بحمد الله، فضلاً عن الاستباحة.
وفي الحديث: "إنّ ممّا أدرك النّاس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت" وإنما دخلها المسلمون في حال أمن وصلح، وانقياد من شريف مكة ورؤساء المدينة. وجلس المشايخ بالحرمين الشريفين للتعليم والتدريس.
وكتبت الرسائل في بيان التوحيد والتنزيه عن التقديس، حتى جاءت دولة الأتراك فجاسوا خلال الديار، وكان وعداً مفعولاً.
وأما الأموال التي أخذت من الحجرة الشريفة، فلم تؤخذ ولم تصرف إلا بفتاوى أهل العلم من سكان المدينة، ووضع خطوطهم بذلك.
وحاصل ما كتب: إن هذه الأموال وضعت توسعة لأهل المدينة وصدقة على جيران النبي صلى الله عليه وسلّم وأرصدت لحاجتهم، وأعدت لفاقتهم. ولا حاجة بالنّبيّ صلى الله عليه وسلّم إليها وإلى اكتنازها وإدخارها في حال حياته، فضلاً عن حال مماته. وقد تعطّلت أسباب أهل المدينة ومتباتهم بمنع الحاج في تلك السنة. فأخرجت تلك الأموال، لما وصفنا من الحال باطلاع وكيل الحرم وغيره من أعيان المدينة وعلمائها، وما وقع من خيانة وغلول لا تجوز نسبته إلى أهل العلم والدين أو أنهم راضون أو غير منكرين له. ولا يجوز أن يسمي ما وقع استباحة للحرمين. كما قاله هذا المفتري. كيف وقد وقع من تعظيم الحرمين وكسوة الكعبة الشريفة، وتأمين السبل والحج إلى بيت الله وزيارة الحرم الشريف النبوي ما لا يخفى على منصف عرف الحال، ولم يقصد البهت والضلال؟
وأما الاستدلال على صلاح أهلها بشرف تلك البقعة، فهو استدلال من غربت عنه أدلة الشرع وقواعده، وغابت عنه عهود الكتاب العزيز ومواعده، وصار من جماعة الغوغاء والعامة، ولا حاجة لنا إلى تعداد من كفر بآيات الله وصادم رسله ورد حججه من أهل الحرمين،(35/88)
ولا إلى تعداد من في بلاد الحبشة والهند وبلاد الفراعنة كمصر، وبلاد الصابئة كحران وبلاد الفرس المجوسية.
ص -90-
من أهل العلم والإمامة والفقه والدين، وفضل الحرمين لا يشك فيه من له أدنى إلمام بما جاءت به الرسل الكرام ولكن ليست فيه حجة على تحسين حال أهلهما مطلقاً. وقد قال سلمان الفارسيّ لأبي الدرداء، لما دعاه إلى الأرض المقدسة ورغبه فيها: "إن الأرض لا تقدس أحداً" قال تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} (لأعراف: من الآية137)، وهي مصر والشام، فإن كان في شرف البقاع حجة ودليل على صلاح أهلها؛ فليكن هنا بنو إسرائيل في الأرض المقدسة، وهم سكّان إيليا والمسجد الأقصى وقد جرى منهم من الكفر والتكذيب، وقتل الأنبياء، ما لا يخفى على من آنس شيئاً من أنوار الرسالة.
ثم استدلال أهل اليمن على حسن حالهم بحديث: "الإيمان يمان، والحكمة يمانية" وحديث: "أتاكم أهل اليمن أرق قلوباً وألين أفئدة" أظهر من الاستدلال بشرف البقاع على عدم ضلال أهلها، لأنّ حديث "الإيمان يأرز إلى المدينة" يصدق ولو على البعض. وإلاّ دلّ على العموم. ولو احنج الأسود العنسيّ وأمثاله على حسن حالهم بما ورد في فضل اليمن لكان جوابه جواباً لنا. وقد قال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (آل عمران: من الآية140).
وأمّا حديث: "اللهمّ بارك لنا في شامنا وفي يمننا" فقد استيجبت دعوته صلى الله عليه وسلّم وحصل من البركات بسبب هذه الدّعوة في الشّام واليمن ما هو معروف مشهور، وهل دونت الدّواوين ووضع العطاء، وجنّدت الجنود، وارتفتعت الرّايات والبنود إلاّ بعد إسلام أهل اليمن وأهل الشّام وصرف أموالهما في سبيل الله، ولكن لا يحتج به على صلاح دين أهلهما إلاّ من غربت عنه الحقائق، وعدم الفهم لأصول الدّين فضلاً عن الفروع والدّقائق. وقد تقدم(35/89)
قوله تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا} الآية (لأعراف: من الآية137)، وجمهور أهل نجد كتميم وأسد وطيئ وهوازن وغطفان وبني ذهل بن شيبان صار لهم من الجهاد في سبيل الله، والمقام بالثغور، والمناقب والمآثر لاسيما في جهاد الفرس والرّوم ما لا يخفى على من له أدنى إلمام بشيء من العلوم. ولا ينكر
ص -91-
فضائلهم إلاّ من لم يعرف جهادهم وبلاءهم من في المواطن.
ولا يشك عاقل أنهم أفضل من أهل الأمصار قبل استيطان الصحابة. وأهل العلم والإيمان، وأما بعد ذلك فالفضل والتفضيل باعتبار الساكن يختلف وينتقل مع العلم والدين. فأفضل البلاد والقرى في كل وقت وزمان أكثرها علماً وأعرفها بالسنن والآثار النبوية. وشر البلاد أقلها علماً وأكثرها جهلاً وبدعة وشركاً. وأقلها تمسكاً بآثار النبوة، وما كان عليه السلف الصالح، فالفضل والتفضيل يعتبر بهذا في الأشخاص والسكان. فالفضل والتفضيل يعتبر بهذا في الأشخاص والسكان. وقد قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (البقرة:126)، وكما أن الحسنات تضاعف في البلد الحرام فكذلك السيئات تضاعف، لعظيم حرمته وفضيلته.
وقد جاء في فضل بعض أهل نجد، كتميم، ما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: "أحب تميماً لثلاث سمعتهن من النّبي صلى الله عليه وسلّم، قوله لما جاءت صدقاتهم: هذه صدقات قومي، وقوله في الجارية التميمية: اعتقها فإنّها من ولد إسماعيل، وقوله: هم أشدّ أمتي على الدّجال" هذا في المناقب الخاصة.
وأمّا العامة للعرب فلا شكّ في عمومها لأهل نجد؛ لأنهم من صميم العرب، وما ورد في تفضيل(35/90)
القبائل والشعوب أدلّ وأصرح في الفضيلة مما ورد في البقاع والأماكن في الدلالة على فضل الساكن والقاطن.
ومعلوم أن رؤساء عباد القبور الداعين إلى دعائها وعبادتها لهم حظ وافر مما يأتي به الدّجال، وقد تصدى رجال من تميم وأهل نجد للرّد على دجاجلة عبّاد القبور والدّعاة إلى تعظيمها مع الله، وهذا من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلّم إن قلنا إنّ "أل" في الدّجّال للجنس لا للعهد. وإن قلنا إنها للعهد ـ كما هو الظاهر ـ فالرّد على جنس الدّجّال توطئة وتمهيد لجهاده ورد باطله. فتأمّله فإنّه نفيس جدّاً.
ص -92-(35/91)
ثم لو تكلّم غير العراقي بمثل هذا لكان أسهل، وأما هو فبلاده معدن كل محنة وبلية، ولم يزل أهل الإسلام منها في رزية بعد رزية، فأهل حروراء ما جرى منهم على أهل الإسلام لا يخفى، وفتنة الجهمية الذين أخرجهم كثير من السلف من الإسلام إنما خرجت ونبغت بالعراق، والمعتزلة وما قالوه للحسن البصري وتواتر النقل به واشتهر من أصولهم الخمسة التي خالفوا بها أهل السنة من العراق، والمبتدعة الصوفية الذين يرون الفناء في توحيد الربوبية غاية يسقط بها الأمر والنهي إنّما نبغوا وظهروا بالبصرة. ثم الرّافضة والشيعة وما حصل منهم من الغلو في أهل البيت والقول الشنيع في علي والأئمة ومسبة أكابر أصحاب النّبي صلى الله عليه وسلّم كل هذا معروف مستفيض عن أهل العراق، أفلا يستحي أهل هذه العظائم من عيب أهل الإسلام ولمزهم بوجود مسيلمة في بلادهم؟ وقد روى الطبراني من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: "دخل إبليس العراق فقضى فيها حاجته، ثم دخل الشام فطردوه، ثم دخل مصر فباض فيها وفرخ وبسط عبقرية" والعراق قبل الإسلام هي محل المجوس عباد النيران والبقر.
فإن قيل: طهرت بالفتح والإسلام، فما بال اليمامة لا تطهر بما أظهر الله فيها من الإسلام وشعائره العظام، وجهاد أعداء الله ورسوله؟.
وأما حديث: "اللهم بارك لنا في شامنا ويمننا" الخ".
فجوابه: إن المراد بالشرق ونجد في هذا الحديث وأمثاله: هو العراق الذي يحاذي المدينة من جهة المشرق. يوضحه: أن في بعض طرق هذا الحديث: "وأشار إلى العراق". قال الخطابي: نجد من جهة المشرق ومن كان بالمدينة كان نجده بادية العراق ونواحيها فهي مشرق أهل المدينة. وأصل النجد: ما ارتفع من الأرض, وهو خلاف الغور فإنه ما انخفض منها. وقال الداودي: إن نجداً من ناحية العراق: ذكر هذا الحافظ ابن حجر في فتح الباري.
ويشهد له ما في مسلم عن ابن غزوان: سمعت سالم بن عبد الله
ص -93-(35/92)
يقول: سمعت ابن عمر يقول: "يا أهل العراق ما أسألكم عن الصغيرة وأركبكم للكبيرة، سمعت النّبي صلى الله عليه وسلّم يقول: "إنّ الفتنة تجئ من هاهنا، وأومأ بيده إلى المشرق".
فظهر أنّ هذا الحديث خاص بأهل العراق؛ لأنّ النبي صلى الله عليه وسلّم فسّر المراد بالإشارة الحسية. وقد جاء صريحاً في الكبير للطبراني النص على أنها العراق. وقول ابن عمر وأهل اللغة وشهادة الحال كلّ هذا يعين المراد.
ص -94-
فصل
قال العراقي في الباب الأول في نقل عبارات ابن تيمية وابن القيم في تبرئتهما من تكفير المسلمين، وتشريكهم وتأثيمهم، ونقل بعض عبارات ابن عبد الوهاب في بعض الأشياء التي حكم على الناس فيها بالتكفير والشرك.
ثم ذكر في هذا الباب خمسين موضعاً، يزعم أنّها تشهد له وتؤيد كلامه ودعواه على استحباب دعاء الصالحين وجوازه. وغالبها قد حرّفه، وألحد فيه، وتصرّف في نقله بزيادة ونقصان، وتقطيع للعبارات، وتعسف في حمله على دعواه. وبعضها لم يفهم مراد الشيخ منه، ولم يدر المقصود. فحمل الكلام على المسائل الاجتهادية النظرية على مسائل أصول الدين الضرورية الاجتماعية. فتركب من هواه وإلحاده وجهله فساد عظيم وتحريف للكلم عن مواضعه. وقد وصف الله اليهود بتحريف الكلم عن مواضعه: بتحريف ألفاظه ومعانية، وذكر تعالى أنه جعل قلوب اليهود قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه، ولعنهم بسبب ذنوبهم، ونقض الميثاق الذي أخذ عليهم من الإيمان بالله ورسوله، والوقوف مع أمره وما أوجبه عليهم في التوراة. وعبّاد القبور والدّعاة إليها نقضوا الميثاق المأخوذ على هذه الأمة على لسان نبينا محمد صلى الله عليه وسلّم في مثل قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (الشورى: من الآية13)، وقوله تعالى: {وَقَضَى(35/93)
رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (الاسراء: من الآية23)، وقوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ
ص -95-
مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} الآيات (الأنعام: من الآية151).
فما صدر عنه مما ستقف عليه من الإلحاد والتحريف نشأ عن مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلّم، ونبذ ما جاء به وراء الظهر. ومن له خبرة بتحريف اليهود لنصوص التوراة يعرف قوة المشابهة والمماثلة بينهم وبين هذا المحرف.
واعتبر بما يأتيك تجد ما قلنا صريحاً.
قال في نقله الأول: قال تقي الدين ابن تيمية في الفتاوى ـ بعد أن سئل عن رجل تكلم في مسألة التكفير ـ فأجاب الشيخ بقوله: أصل التكفير للمسلمين من الخوارج والروافض الذين يكفرون أئمّة المسلمين بما يعتقدون أنهم أخطأوا فيه من الدين. وقد اتفق أهل السنة والجماعة على أنّ علماء المسلمين لا يجوز تكفيرهم بمجرد الخطأ المحض، بل كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا النبيّ صلى الله عليه وسلّم. وليس كلّ من يترك قوله لخطأ أخطأه يكفر ولا يفسق، ولا يؤثم. فإن الله قال في دعاء المسلمين: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (البقرة: من الآية286)، وفي الصحيح عن النّبي صلى الله عليه وسلّم أن الله قال: "قد فعلت" ـ إلى أن قال ـ: ومن المعلوم أن المنع من تكفير علماء المسلمين الذين تكلموا في هذا الباب وإن أخطأوا ـ من أحق الأغراض الشرعية، وهو إذا اجتهد في ذلك وأصاب فله أجران، وإن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد.
والجواب أن يقال:
هذا الكلام من جنس تحريفه الذي قررناه، فإن في هذا تحريفين:
أحدهما: أنه أسقط السؤال، وفرضه في التكفير بالمسائل التي وقع فيها خلاف ونزاع بين أهل السنة والجماعة. والخوارج والروافض فإنهم كفروا المسلمين وأهل السنة بمخالفتهم فيما ابتدعوه، وما أصلوه ووضعوه، وذهبوا إليه وانتحلوه، فأسقط هذا خوفاً من أن يقال دعاء أهل القبور وسؤالهم(35/94)
والاستغاثة بهم ليست من هذا الباب، ولم يتنازع في هذه المسألة المسلمون،
ص -96-
بل هي مجمع على أنها من الشرك المكفر، كما حكاه الشيخ ابن تيمية نفسه، وجعلها مما لا خلاف في التكفير به، فلا يصح حمل كلامه هنا على ما جزم هو بأنه كفر مجمع عليه، ولو صح حمل هذا العراقي لكان قوله قولاً مختلفاً، وقد نزهه الله وصانه عن هذا، فكلامه متفق يشهد بعضه لبعض.
إذا عرفت هذا عرفت تحريف العراقي في إسقاط بعض الكلام وحذفه، وأيضاًَ فالحذف لأصل الكلام يخرجه عن وجهه، وإرادة المقصود التحريف.
الثاني: أن الشيخ رحمه الله، قال: أصل التكفير للمسلمين، وعبارات الشيخ أخرجت عبّاد القبور من مسمى المسلمين، كما سننقل لك جملة من عباراته في الحكم عليهم بأنهم لا يدخلون في المسلمين في مثل هذا الكلام.
قال رحمه الله ـ في أثناء كلام له في النهي عن التفرق، والاختلاف وترك التعصب لمذهب أو قبيلة أو طريقة ـ قال: "فليس كل من أخطأ يكون كافراً ولا فاسقاً ولا عاصياً، بل قد عفا الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان، وقد قال تعالى في كتابه في دعاء المؤمنين: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (البقرة: من الآية286)، وثبت في الصحيح: "أن الله قال: قد فعلت" لا سيما وقد يكون يوافقكم في أخص من الإسلام مثل أن يكون مثلكم على مذهب الشافعي أو منتسباً إلى الشيخ عدي. ثم بعد هذا قد يخالف في شيء، ربما كان الصواب معه. فكيف يستحل عرضه أو دمه أو ماله، مع ما ذكر الله من حقوق المسلم والمؤمن؟ وكيف يجوز التفريق بين الأمة بأسماء مبتدعة لا أصل لها في كتاب الله ولا سنة رسوله؟ وهذا التفريق الذي حصل بين الأمة علمائها ومشايخها وأمرائها وكبرائها هو الذي أوجب تسلط الأعداء عليهم وذلك بتركهم العمل بطاعة الله ورسوله، كما قال تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ(35/95)
فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} (المائدة: من الآية14)، وإذا تفرق القوم فسدوا وهلكوا، وإذا اجتمعوا صلحوا وملكوا، فإن الجماعة رحمة،
ص -97-
وإن الفرقة عذاب، وجماع ذلك: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} ـ إلى قوله ـ {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } الآية (آل عمران: 102 ـ 104)، فمن الأمر بالمعروف: الأمر بالائتلاف والاجتماع، والنهي عن الاختلاف والفرقة. ومن النهي عن المنكر: إقامة الحدود على من خرج عن شريعة الله تعالى.
فمن اعتقد في بشر أنه إله أو دعا ميتاً أو طلب منه الرزق أو النّصر أو الهداية، أو توكل عليه أو سجد له، فإنه يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه". انتهى.
فبطل استدلال العراقي، وانهدم من أصله، كيف يجعل النهي عن تكفير المسلمين متناولاً لمن يدعو الصالحين ويستغيث بهم مع الله، ويصرف لهم من العبادات ما يستحقه إلا الله؟ وهذا باطل بنصوص الكتاب والسنة وإجماع علماء الأمة.
ومن عجيب جهل العراقي: أنه يحتج على خصمه بنفس الدعوى، والدعوى لا تصلح دليلاً، فإن دعوى العراقي لإسلام عباد القبور تحتاج دليلاً قاطعاً على إسلامهم فإذا ثبت إسلامهم منع من تكفيرهم، والتفريع ليس مشكلاً. ومعلوم أن من كفر المسلمين لمخالفة رأيه وهواه كالخوارج والرافضة أو كفر من أخطأ في المسائل الاجتهادية أصولاً أو فروعاً، فهذا ونحوه مبتدع ضال، مخالف لما عليه أئمة الهدى ومشايخ الدين. ومثل شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب لا يكفر أحداً بهذا الجنس ولا من هذا النوع. وإنما يكفر من نطق بتكفيره الكتاب العزيز، وجاءت به السنة الصحيحة وأجمعت على تكفيره الأمة، كمن بدل دينه، وفعل فعل الجاهلية الذين يعبدون الملائكة والأنبياء والصالحين، ويدعونهم مع الله،(35/96)
فإن الله كفرهم وأباح دماءهم وأموالهم وذراريهم بعبادة غيره، نبياً أو ولياً أو صنماً لا فرق في الكفر بينهم، كما دل عليه الكتاب العزيز والسنة المستفيضة، وبسط هذا يأتيك مفصلاً، وقد مر بعضه.
والشيخ محمد رحمه الله من أعظم الناس توقفاً وإحجاماً عن إطلاق
ص -98-
الكفر، حتى أنه لم يجزم بتكفيره الجاهل الذي يدعو غير الله من أهل القبور أو غيرهم إذا لم يتيسر له من ينصحه ويبلغه الحجة التي يكفر تاركها، قال في بعض رسائله: وإذا كنا لا نقاتل من يعبد قبة الكواز حتى نتقدم بدعوته إلى إخلاص الدين لله، فكيف نكفر من لم يهاجر إلينا وإن كان مؤمناً موحداً؟ وقال: وقد سئل عن مثل هؤلاء الجهال. فقرر أن من قامت عليه الحجة وتأهل لمعرفتها يكفر بعبادة القبور. وقد سبق من كلامه ما فيه الكفاية، مع أن العلامة ابن القيم رحمه الله جزم بكفر المقلدين لشيوخهم في المسائل المكفرة إذا تمكنوا من طلب الحق ومعرفته، وتأهلوا لذلك. فأعرضوا ولم يلتفتوا. ومن لم يتمكن ولم يتأهل لمعرفة ما جاءت به الرسل فهو عنده من جنس أهل الفترة ممن لم تبلغه دعوة رسول من الرسل. وكلا النوعين لا يحكم بإسلامهم ولا يدخلون في مسمى المسلمين، حتى عند من لم يكفر بعضهم وسيأتيك كلامه. وأما الشرك فهو يصدق عليهم، واسمه يتناولهم وأي إسلام يبقى مع مناقضة أصله؟ وقاعدته الكبرى: شهادة أن لا إله إلا الله، وبقاء الإسلام ومسماه، مع بعض ما ذكر الفقهاء في باب حكم المرتد أظهر من بقائه مع عباده الصالحين ودعائهم. ولكن العراقي يفر من أن يسمى ذلك عبادة ودعاء، ويزعم أنه توسل ونداء ويراه مستحباً، وهيهات هيهات.
أين المفر والإله الطالب
قد حيل بين العير والنزوان(35/97)
بما من الله به من كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وبما جاء به محمد عبد الله ورسوله من الحكمة والهدى والبيان لحدود ما أنزل الله عليه، ولا يزال سبحانه وتعالى يغرس لهذا الدين غرساً تقوم بهم حججه على عباده يجاهدون في بيان دينه وشرعه ومن ألحد في كتابه ودينه وصرفه عن موضوعه.
ومن هذا نقله الثاني عن الشيخ في الصلاة خلف أهل الأهواء، وعدم تكفيرهم وأن القول يكون كفراً، ويطلق تكفير صاحبه، ويقال من قال هذا فهو
ص -99-(35/98)
كافر، لكن الشخص المعين الذي قاله لا يحكم عليه بكفر، حتى تقوم عليه الحجة الرسالية التي يكفر تاركها إلى أن قال: والشخص المعين لا يشهد عليه، فقد لا يكون التحريم بلغه ـ إلى أن قال ـ ومن كان من المؤمنين مجتهداً في طلب الحقّ، فأخطأه فإن الله يغفر له خطأه كائناً ما كان، سواء كان في المسائل العملية أو النظرية، وأنه لا فرق بين مسائل الأصول والفروع ـ وأطال الكلام في الرد على من فرّق بينهما، واحتج بحديث الذي قال لأهله: "إذا أنا مت فاحرقوني ثم اسحقوني ثم ذروني في اليم، فوالله لئن قدر الله عليّ ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً من العالمين" ثم استدل العراقي بقوله: "ولا يعكر على هذا أن أكثر المتأخرين على أن المخطئ في مسائل الاعتقاد يفسق ويؤثّم كالرافضة والخوارج والمعتزلة؛ لأنّ استدلال الشيخ بأقوال الصحابة وجماهير السلف على عدم التكفير والتفسيق من حيث بعض المسائل المختلف فيها. ونحن مرادنا إخراج أهل السنة من التكفير والتفسيق في مسائل التوسل والاستغاثة بالأنبياء والصالحين والحلف بغير الله، والنذر وصرفه لأماكن الأنبياء والصالحين وهذه المسائل لا يكفر صاحبها عند الشيخين، كما عند غيرهما فيرد إطلاقهما لتخصيصهما، بل لم يذكر هذه الأشياء أحد من العلماء غير الشيخين. ولو كانت هذه المسائل من أمور الشرك المخرج لصاحبه من الملة لذكرها المفسرون في تفاسيرهم وأهل العقائد في كتبهم. فلما لم يذكرها أحد من السلف والخلف غير ابن تيمية ومن تابعه، وهي من اجتهادياته لكنه أطلق اللفظ في الكفر والشرك، وأراد الأصغر وقيده إذا لم يكن الفاعل مجتهداً ولا مقلداً ولا متأولاً ولا جاهلاً. فدل كلامه على أنها من الفروع المختلف فيها في الحل والحرمة؛ فرجعت إلى الاجتهادية، وقد قال العلماء قاطبة الحنابلة وغيرهم: لا إنكار في مسائل الاجتهاد.
والجواب عن هذا النقل وما بعده من الكلام أن يقال:
أولاً: موضوع الكلام والفتوى في أهل الأهواء،(35/99)
كالقدرية والخوارج
ص -100-(35/100)
منهاج التأسيس والتقديس في كشف شبهات داود بن جرجيس - عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ (2)
الناشر:
دار الهداية للطبع والنشر والترجمة
والمرجئة ونحوهم. وأما عباد القبور فهم عند السلف وأهل العلم يسمون الغالية؛ لأنّ فعلهم غلو يشبه غلو النصارى في الأنبياء والصالحين وعبادتهم. فالعراقي لا يعرف أهل الأهواء وما يراد به، ومع هذا لاجهل فالتحريف غالب عليه في كل ما يشير إليه.
ويقال: هذا النقل الذي نقله فيه تكفير من قامت عليه الحجة ولو في المسائل الخفية ونحن لا نكفر إلا بعد قيام الحجة الرسالية في المسائل الجلية فبطلت الشبهة العراقية. ومسألة توحيد الله وإخلاص العبادة له لم ينازع في وجوبها أحد من أهل الإسلام، لا أهل الأهواء ولا غيرهم، وهي معلومة من الدين بالضرورة. كل من بلغته الرسالة وتصورها على ما هي عليه عرف أن هذا هو زبدتها وحاصلها. وسائر الأحكام تدور عليه. قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (الانبياء:108) ووجه الحصر: ما أشرنا إليه من أن التوحيد هو الأصل المقصود بالذات، فراجع كلام المفسرين فبطل ما زعمه هذا الملحد من أن هذه من مسائل أهل الأهواء.
وأما الكلام في تكفير المعين، فالمقصور به مسائل مخصوصة، قد يخفى دليلها على بعض الناس، كما في مسائل القدر والإرجاء ونحو ذلك مما قاله أهل الأهواء. فإن بعض أقوالهم تتضمن أموراً كفرية من رد أدلة الكتاب والسنة المتواترة النبوية. فيكون القول المتضمن لرد بعض النصوص كفراً، ولا يحكم على قائله بالكفر، لاحتمال وجود مانع، كالجهل وعدم العلم بنفس النص، أو بدلالته. فإن الشرائع لا تلزم إلا بعد بلوغها. ولذلك ذكر هذا في الكلام على بدع أهل الأهواء. وقد نص على هذا، فقال في تكفير أناس من أعيان المتكلمين، بعد أن قرر هذه المسألة قال: وهذا إذا كان في المسائل الخفية فقد يقال: بعدم التكفير. وأما(36/1)
ما يقع منهم في المسائل الظاهرة الجلية، أو ما يعلم من الدين بالضرورة. فهذا لا يتوقف في كفر قائله.
وسيأتيك كلامه مفصلاً فراجعه إن شاء الله تعالى.
ص -101-
واحتج العراقي بقول الشيخ: وقد يكون له شبهات يعذره الله فيها.
وليس في كلام الشيخ العذر بكل شبهة، ولا العذر بجنس الشبهة، فإن هذا لا يفيده كلام الشيخ، ولا يفهمه منه إلا من لم يمارس شيئاً من العلوم. بل عبارته صريحة في إبطال هذا المفهوم. فإنها تفيد قلة هذا، كما في المسائل التي يعرفها إلا الآحاد، بخلاف محل النزاع، فإنه أصل الإسلام وقاعدته، ولو لم يكن من الأدلة إلا ما أقر به من يعبد الأولياء والصالحين من ربوبيته تعالى، وانفراده بالخلق والإيجاد والتدبير لكفي به دليلاً مبطلاً للشبهة. كاشفاً لها منكراً لمن أعرض عنه ولم يعمل بمقتضاه، من عبادة الله وحده لا شريك له، ولذلك حكم على المعينين من المشركين من جاهلية العرب الأميين لوضوح الأدلة، وظهور البراهين. وفي حديث المنتفق: "ما مررت عليه من قبر دوسي أو قرشي فقل له: إن محمداً يبشّرك بالنّار". هذا وهم أهل فترة. فكيف بمن نشأ من هذه الأمة وهو يسمع الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، والأحكام الفقهية من إيجاب التوحيد والأمر به، وتحريم الشرك والنهي عنه؟ فإن كان ممن يقرأ القرآن فالأمر أعظم وأطم، لا سيما إن عاند في إباحة الشرك ودعا إلى عبادة الصالحين والأولياء، وزعم أنها مستحبة، وأن القرآن دل عليها. فهذا كفره أوضح من الشمس في الظهيرة، ولا يتوقف في تكفيره من عرف الإسلام وأحكامه وقواعده وتحريره، والغالب على كل مشرك أنه عرضت له شبهة اقتضت كفره وشركه، قال تعالى: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} الآية (الأنعام: من الآية148)، وقال: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} (النحل: من الآية35) عرضت لهم شبهة القدرية، فردوا أمره تعالى(36/2)
ودينه وشرعه بمشيئته القدرية الكونية، وعلى إطلاق هذا العراقي وفهمه تكون هذه الشبهة مانعة من تكفير أعيانهم. والنصارى شبهتهم في القول بالبنوة والأقانيم الثلاثة: كون المسيح خُلق من غير أب، بل بالكلمة، فاشتبه الأمر عليهم؛ لأنهم عرفوا من بين سائر الأمم بالبلادة وعدم الإدراك في المسائل الدينية، فلذلك ظنوا أن الكلمة تدرعت في الناسوت، وأنها ذات المسيح، ولم يفرقوا بين الخلق
ص -102-
والأمر، ولم يعلموا أن الخلق يكون بالكلمة، لا هو نفس الكلمة، وقد أشار تعالى إلى شبهتهم وردها وأبطلها في مواضع من كتابه، كقوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ} (آل عمران: من الآية59)، وقوله: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} (النساء: من الآية171) وأكثر أعداء الرسل عرضت لهم شبهات.
ومن عرف هذا تبين له ضلال العراقي وأنه نبطي لم يمارس شيئاً من العلوم وإن قل. وقد قيل: يفسد الأديان: نصف متفقه، ويفسد اللسان: نصف نحوي، ويفسد الأبدان: نصف متطبب، فكيف ترى بالمعدم المفلس إذا خاض في العلوم وخبط فيها؟.
والشيخ قيد الشبهة المانعة من التكفير ووصفها بصفة كاشفة، فقال: وقد يكون له شبهات يعذره الله فيها؛ يريد أن الكلام يخصص بالشبهة التي يعذر فيها.
والعراقي أخذ كلامه من غير نظر للقيد والوصف المانع من دخول المشركين وعباد القبور، ولما عرف أن العموم في هذا لا يتجه استدرك فقال: فإن قلت: أكثر المتأخرين على أن المخطئ في المسائل الاعتقادية يفسق ويؤثم، كالرافضة والخوارج والمعتزلة، قلنا: استدلال الشيخ من حيث الجملة في بعض المسائل المختلف فيها.
فنقول له: مسائل دعاء الصالحين والاستعانة بهم من المسائل الاعتقادية، فتدخل في الاستثناء والتفريق بينها وبين أقوال الروافض والخوارج والمعتزلة فالإخراج لها من كلام الشيخ تحكم وتهور، ولا يصير إليه من عرف الحقائق. والصواب أن عباد القبور شرّ الأصناف، وأن شبهتهم(36/3)
أوهن الشبه وأضعفها، وفي حديث ابن مسعود: "إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد" رواه أحمد في مسنده.
ص -103-
وهذا العراقي في إخراجه الخوارج ونحوهم من العذر بالشبهة، وقوله في عباد القبور: إنهم معذورون تابع لهواه، دائر معه في هذا ونحوه. ولو كان فيه الهلاك الأبدي والشّقاء السرمدي، عياذاً بالله من جهد البلاء.
إذا عرفت أن استثناءه واستدراكه على كلام الشيخ برأي أكثر المتأخرين في عدم الاعتداد والعذر بالشبه في العقائد، فاعلم أن هذا الاستدراك مبني على فهم فاسد، وعدم تحقيق. فإن الشيخ لم يرد ما قاله العراقي من المسائل الاعتقادية التي تعلم من الدين بالضرورة. وإنما يريد ما فيه شبهة يخفى دليلها على مثل القائل بها، ولا تقوم عليه حجة يكفر مخالفها إلا بتوقيف وكشف، ولا فرق في ذلك بين المسائل الاعتقادية والعملية.
وأما مسألة عبادة القبور ودعائها مع الله، فهي مسألة وفاقية التحريم، وإجماعية المنع والتأثيم، فلم تدخل في كلام الشيخ لظهور برهانها، ووضوح أدلتها؛ وعدم اعتبار الشبهة فيها.
هذا وجه الإخراج والاستدراك، لا ما زعمه الغبي، فإن الخوارج لا يكفرهم الشيخ، ولا كثير من أهل العلم، وقد سئل علي رضي الله عنه عن الخوارج: "أكفّار هم؟ قال: من الكفر فرّوا"، فما أخرجه العراقي غير خارج، ما أدخله غير داخل، فكلامه مجرد تخبيط لا يروج على النّقّاد.
وأما الذي أمر أهله أن يحرقوه ويذروه، فهذا لم تقم عليه الحجة التي يكفر مخالفها، وأهل الفترة لا يقاسون بغيرهم. والشيخ قصده أن الأصول قد يجري فيها ذلك، وليس المراد أن كل من عرضت له شبهة في الأصول يعذر بها، وسيأتيك لهذا مزيد بيان إن شاء الله.
واعلم أن المراد بقول الشيخ في المنع من تكفير أهل الأهواء ومن عرضت له شبهة يعذره الله فيها، المقصود به: العذر في الجملة، فيصدق
ص -104-(36/4)
بعدم التكفير، ولو مع وجود الفسق والعقاب كما جاء في الخوارج ونحوهم.
والشيخ قيد التكفير المنفي بقوله: أول من أحدث تكفير المسلمين أهل الأهواء. وعباد القبور ليسوا عنده بمسلمين، وصناعة العلم محظورة ممنوعة على من لم يعرف توحيد الإلهية، وفاته النصيب والحظ من الأنوار الرسالية، فإن العلم نور يقدفه الله في القلب، يبصر به صاحبه الحقائق على ما هي عليه.
وما أحسن ما قال الشافعي رحمه الله:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي
فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال: اعلم بأن العلم نور
ونور الله لا يهدى لعاصي
وقول العراقي: ونحن مرادنا إخراج أهل السنة من التكفير في مسائل التوسل والاستغاثة بالأنبياء والصالحين، والحلف بغير الله، والنذر، ومصرفه لأماكن الأنبياء والصالحين.
يقال: قد تكرر أنه يسمي عباد القبور أهل سنة وجماعة، ويلقب بالشرك بالأنبياء والاستغاثة والملائكة توسلاً، والإلحاد فيها عن حقيقتها، فتفطن لهذه المباحث، فإنّها مهمة جداً.
وبهذا تعرف أن مراده: إخراج المشركين عباد الأولياء والصالحين من التكفير الذي أجمع عليه كافة المسلمين، وعلم إجماعهم واتفاقهم بالضرورة من الدين ومعلوم أن الشيخ لم يرد هؤلاء، كيف ولله في كل شيء آية تدل على أنه واحد.
ومسألة الحلف بغير الله، جاء فيها الحديث النبوي، وأنها من الشرك. والذي عليه الجمهور: أن الحلف بغير الله محرم لا يجوز، سواء كان بالأنبياء أو غيرهم. والنصوص المانعة من ذلك أكثرها صيغ عموم لا يجوز تخصيصها إلا بما يساويها في الظهور والدلالة والصحة، من الأحاديث النبوية.
وأما صرف النذر لأماكن الأنبياء والصالحين فمراده: قبورهم، ولكنه
ص -105-(36/5)
دلس بذكر الأماكن؛ لأنّ كلام العلماء صريح في المنع من صرف النذر لرفع القبور، وتشييدها والبناء عليها وفرشها وسترها، وإيقاد السرج عليها، وجعل السدنة لها، لما في ذلك من مضاهات اليهود والنصارى والمشركين، وما تفعله عند أوثانها وأصنامها، وهذا مجمع عليه عند الفقهاء فيما نعلم.
وأما النذر لها فهو نذر معصية باتفاق العلماء، والمعصية تصدق بالعبادة للمنذور له، ومعلوم أن إخراجه على وجه القربة والتعظيم لأهل القبور عبادة لهم وشرك، وتقرب إلى غير الله، وشرع لما لم يأذن له الله، ولم تأت به شريعة، ولم يكن من هدي السلف والقرون المفضلة، ولو قصد به المجاورين والعاكفين عند القبور، فهو غير جائز أيضاً لأنّ العكوف عند القبور وسدانتها أصل عبادة الأصنام، كما ذكره ابن عباس وغيره في الكلام على قوله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً} الآية (نوح: من الآية23).
وأما قوله: وهذه المسائل لا يكفر فاعلها عند الشيخين، فقد مرّ ردّه.
وقوله: لم يذكر هذا أحد من العلماء غير الشيخين.
فأقول: أما الإعلان بجهله وإفلاسه وعدم اطلاعه، فهو صريح في كلامه من أول رسالته إلى آخرها. وفي هذه الجملة زيادة نكتة. وهو أنه حكم على كافة العلماء من عهد أصحاب النّبي صلى الله عليه وسلّم إلى هذا الوقت أنهم سكتوا عما وقع من الناس عند القبور وآثار الصالحين: من الدّعاء والاستغاثة والتبرك، فلم يكتف العراقي بعدم علمه واطلاعه، ولم يفقه ذلك حتى تجاسر إلى نسبة العلماء إلى السكوت عن حكمها وتحريمها.
وقوله: ولو كانت هذه المسائل من الشرك المخرج لصاحبه من الملة لذكرها المفسرون.
فالجواب أن يقال:
ذكرها المفسرون وقرووها، وأطنبوا وبسطوا وكرروا، لكنهم لم يضمنوا
ص -106-(36/6)
أن يفقه كلامهم ميت القلب، جامد الذهن، بل ولا ضمن الله تعالى لهذا النوع أن يفقهوا عنه وعن رسله ما جاءوا به من البينات والهدى والحجة والشّفاء. قال تعالى: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} (الاسراء: من الآية46)، وقال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ، وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} (يّس: 8 ـ9) وما أحسن ما قيل:
فيا لك من آيات حق لو اهتدى
بهن مريد الحق كن هواديا
ولكن على تلك القلوب أكنة
فليست وإن أصغت تجيب المناديا(36/7)
وقال تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ} (لأنفال: من الآية23)، والقرآن كله يدل على وجوب إخلاص العبادة لله، والبراءة من عبادة ما سواه وإسلام الوجوه له على اختلاف أنواع الدلالات مطابقة وتضمنا والتزاماً، وقياساً صحيحاً.
وأمثّل لك بما قاله العلماء في معنى البسملة وتفسيرها لتعلم أن هذا العراقي كاذب جاهل في قوله: لم يذكرها المفسرون.
من ذلك قول العلماء في باء بسم الله: إن معناها الاستعانة، ورجحوا هذا القول، لوجوه مقررة في محلها وقالوا: قد جاءت السنة بأن "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أبتر أو أجذم أو أقطع" وذكروا فيه روايات. والمعنى: أنه لا يكمل أمر ولا يحصل تمامه إلا بذكر الله، ولا يكون أصله ولا يوجد منه شيء إلا بمعونته تعالى، قالوا: وقد قالت طائفة من أهل العلم: إن البسملة من الفاتحة.
وقالت طائفة أخرى: هي آية من القرآن فاصلة بين السور. وعلى القول الأول: فالآيتان بها من العبادات الواجبة والاستعانة هي مضمونها، فتكون الاستعانة واجبة به تعالى. وعلى القول الآخر: يكون الإتيان بها مستحباً والاستعانة بالله واجبة، لا بخصوص هذا اللفظ. ثم قالوا: إن المتعلق يتعين أن يقدر مؤخراً، لإفادة الحصر والاختصاص. وهذا يدل على القول
ص -107-(36/8)
بوجوب الاستعانة؛ لأن ما اختص به تعالى واستحقه دون ما سواه لا يصرف لغيره، والقاعدة العربية تفيد أن تقديم المتأخر، وتأخير المتقدم: يقتضي الحصر.
فهذان موضعان يدلان على وجوب الاستعانة به وحده في أول حرف في كتاب الله، مع متعلقه.
الموضع الثالث: من الأبحاث في الباء وتأخير متعلقها، قولهم: إن الحصر هنا حصر إفراد، لا حصر قلب. ورجحه أساطينهم بأن المشركين إنما اعتقدوا الشركة لآلهتهم، لا الاستقلال، فالحصر باعتبار معتقدهم خص أفراداً، قالوا: وأكثر الكفار اعتقدوا الشركة، لا الاستقلال، فمعنى التسمية عند الموحِّد: إفراده سبحانه بالاستعانة عما عُبد معه من الآلهة، وعلى القول بأن الاختصاص والحصر للقلب: إنما يتجه باعتبار معتقد من يدعي الاستقلال لمعبوده، كمعطلة الصانع.
البحث الرابع في اسم الله، قولهم: إنه من أله إلهة وألوهية، فهو إله فعال، بمعنى مفعول، بمعنى: عُبد يُعبد عبادة، والمستعين بغير الله متأله عابد، لا سيما فيما لا يقدر عليه إلا الله. وإذا ثبت أن الاستعانة تأله وأن التأله عبادة، فالبرهان قائم على أن العبادة لا يستحقها غيره تعالى.
الخامس: قول ابن عباس في تفسيره للاسم الشريف الأقدس: بأنه "ذو الألوهية والعبودية، على خلقه أجمعين" وقد أخذه المفسرون وقرروه، واستحسنوه. فإذا كان تعالى هو صاحب ذلك ومستحقه فصرفه إلى غيره شرك، ووضع للحق في غير موضعه. وهذا يدخل فيه جميع العبادات التي يصدق عليها التأله والألوهية، والعبادة والعبودية، لا سيما الدعاء، فإنه من أجل أنواعه. قال البخاري في كتاب الإيمان: "باب دعاؤكم: إيمانكم" وساق حديث ابن عمر. وكثيراً ما يترجم بما صح عنده وإن لم يكن على شرطه.
السادس: قولهم في اسمه "الرحمن" إنه الموصوف بغاية الرحمة
ص -108-(36/9)
ومنتهاها وأنه وصف ذات، لا ينفك عنه كسائر أوصافه الذاتية المقدسة، ودعاء غير الموصوف بهذا الوصف وقصد من دونه، والتعرض للوسائط والشفعاء، سوء ظن بصفات كماله، ونعوت جلاله، وإنما دعا إلى عبادته ودعائه والاستعانة به ما اتصف به من الصفات المقدسة، والنعوت الكاملة الجميلة.
واستدلوا على ذلك بقول الخليل عليه السلام لقومه: {فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (الصافات:87)، قالوا: أي فما ظنكم به أن يجازيكم وقد عبدتم معه غيره؟ وما الذي ظننتم به حتى جعلتم له شركاء؟ أظننتم أنه محتاج إلى الشركاء والأعوان؟ أم ظننتم أنه يخفى عليه أحوال عباده، حتى يحتاج إلى شركاء يعرفونه بها كالملوك؟ أم لا يقدر وحده على الاستقلال بتدبيرهم وقضاء حوائجهم؟ أم هو قاس، فيحتاج إلى شفعاء يستعطفونه على عباده؟ أم ذليل فيحتاج إلى ولي يتكثر به من القلة، ويتعزز به من الذلة؟ أم محتاج إلى ولد فيتخذ صاحبة يكون الولد منه ومنها؟ تعالى الله عن ذلك كله علواً كبيراً، ولو قدره المشركون حق قدره لما أشركوا به.
وكذلك اسمه تعالى "الرحيم" فإنه يدل على أنه بالغ في الرحمة غايتها، وأن رحمته عمت عباده ووسعت خلقه، فما بهم من النعم والإحسان والعطايا الباطنة والظاهرة فآثار رأفته ورحمته. ومن هذا فعله وهذا وصفه كيف يعدل المضطر إلى غيره في ضروراته وحاجته وملماته؟ وفي الحديث القدسي: "يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم" الحديث بطوله، ومن رحمته وتودده إلى عباده: أنه ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا فينادي: "هل من سائل فأعطيه؟ هل من داع فأستجيب له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟" الحديث معروف مشهور. وفي بعض الإسرائيليات: أن الله يقول: "ابن آدم، اطلبني تجدني، فإن وجدتني وجدت كلّ شيء، وإن فتك فاتك كل شيء" وهذا قرروه بهذا(36/10)
المعنى في التفسير. وفي الكلام على شرح الأسماء الحسنى وفي
ص -109-
الكلام على أحوال القلوب وسيرها، وتوجهاتها إلى الملك العلي الأعلى.
وعبارة البيضاوي في الكلام على أول فاتحة الكتاب: وإنما خص التسمية بهذه الأسماء ليعلم العارف أن المستحق لأن يستعان به في مجامع الأمور هو المعبود الحقيقي الذي هو مولى النعم كلها، عاجلها وآجلها جليلها وحقيرها، فيتوجه بشراشره إلى جناب القدس، ويتمسك بحبل التوفيق، ويشغل سره بذكره والاستمداد به عن غيره. قال البيضاوي: وإجراء هذه الأوصاف على الله تعالى: من كونه موجداً للعالمين، رباً لهم، منعما عليهم بالنعم كلها ظاهرها وباطنها، عاجلها وآجلها، مالكاً لأمورهم يوم الثواب والعقاب: للدلالة على أنه الحقيق بالحمد لا أحد أحق به منه، بل لا يستحقه على الحقيقة سواه، فإن ترتب الحكم على الوصف يشعر بعلِّيته له، وللإشعار من طريق المفهوم على أن من لم يتصف بتلك الصفات لا يتأهل لأن يحمحد فضلا عن أن يعبد، ليكون دليلاً على ما بعده. فالوصف الأول: لبيان ما هو الموجب للحمد، وهو الإيجاد والتربية. والثاني، والثالث: للدلالة على أنه متفضل بذلك مختار فيه، ليس يصدر منه لإيجاب بالذات أو وجوب عليه قضت به سوابق الأعمال حتى يستحق به الحمد، والرابع: لتحقيق الاختصاص، فإنه لا يقبل الشركة فيه. وتضمين الوعد اللحامدين والوعيد للمعرضين" انتهى.
وإن شئت المزيد على هذا، ولم تكتف بما ذكرناه من التمثيل بالبسملة، وما فيها من الأبحاث فنتكلم على فاتحة الكتاب بما قاله أهل العلم والتأويل لينتفع بذلك من وقف على كتابنا.
فاعلم أن الحمد على ما أفاده بعض المحقيقين ذكر محاسن المحمود على وجه الثناء عليه بها، مع محبته والرّضا عنه والخضوع له. فلا يحمده من أعرض عن محبته والخضوع له، أو جعل له شريكاً في ذلك. ولا يرضى عنه من أعد غيره لحاجته وفاقته واستغاث به في شدته وضرورته. وهذا الحد أتم
ص -110-(36/11)
وأكمل من تعريف بعضهم له بأنه اصطلاحاً: فعل ينبئ عن تعظيم المنعم، لوجوه لا تخفى على الذكي. فلا نطيل بذكرها، وإذا كانت "أل" فيه للاستغراق وعموم الأفراد ـ كما هو الراجح ـ فجميع أوصاف الكمال ونعوت الجلال والجمال التي يحمد من قامت به ثابت لله أكملها لكمال صفاته وكثرتها. ولهذا لا يحصي أحد من خلقه ثناءً عليه. وبها يستدل على آلهيته وأنه الإله الحق، ولذلك يستدل الله تعالى على بطلان إلهية ما سواه بفقد صفات الكمال التي يستحق بها أن يعبد ويعظم ويقصد وحده، كما قال عن خليله في مخاطبته لأبيه: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} (مريم: من الآية42)، وقال في عُبّاد العجل: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً} (لأعراف: من الآية148)، فجعل نفي صفات الكمال موجباً لبطلان آلهيته وعبادته. وهذا يعرف بالفطر والعقول.
فهذه ثلاثة مواضع في أول كلمة من كتاب الله دلت على بطلان دعاء غيره وعبادته والاستعانة بسواه، والعبد وإن علت درجته وارتتفعت رتبته فهو فقير إلى بارئه وفاطره، لا نسبة لقدرته وعلمه وحكته وفضله وكرمه وحياته إلى ما اتصف به خالقه وإلهه الحق من صفات الكمال ونعوت الجلال. قال الشيخ الإسلام:
والفقر لي وصف ذات لازم أبداً
كما الغني أبداً وصف له ذاتي(36/12)
وأما اسمه "الله" فهو دال على الإلهية المتضمنة لسائر صفات الإلهية والكمال، مستلزم لجميع معاني الأسماء الحسنى، دال بالوضع والمطابقة على كونه مألوهاً معبوداً، تألهه الخلائق محبة وتعظيماً وخضوعاً ومفزعاً إليه في الحوائج والنوائب، بخلاف من أله سواه ممن لا يستحق الإلهية، ولم يخرج عن رتبة العبودية، وصار مفزعه في الحوائج والنوائب إليه، واعتماده في المهمات والملمات عليه، فمن كان هكذا كعبّاد الملائكة والأنبياء والصالحين، فلم يعط هذا الاسم الشريف حقه من العبودية، وإفراد الله بالإلهية.
ص -111-(36/13)
وأمّا "الربّ" فهو دال على ربوبيته لجميع مخلوقاته، وكمال الربوبية هو بما اتصف به من صفات الكمال، كقدرته وعلمه ورحمته وقيوميته، وهو يربي عباده بالخلق والتدبير والملك وهو من أكبر الأدلة وأوضحها وأجلاها على وجوب عبادته تعالى، وأن إلهية ما سواه وعبادة غيره أبطل الباطل وأضل الضلال، ولهذا يستدل على إلهيته تعالى ووجوب توحيده بأفعاله الصادرة عن ربوبتيه، كخلقه وقيوميته. قال تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} (النحل:17)، وقال تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} (الرعد: من الآية33)، وقال: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ} (الاحقاف: من الآية4)، وهذا كثير في القرآن، ولكن يحول بين عباد القبور والصالحين وفهمه ما على قلوبهم من رين الشرك وطابعه، فلا جرم قال العراقي: لم يذكر هذا أحدٌ من العلماء والمفسرين.
وأما اسمه "الرحمن" فهو كما تقدم دال على أن الرّحمة وصفه وصف ذات لا ينفك عنه، ولهذا لا يطلق على غيره.
و"الرحيم" هو الراحم لعباده البالغ في إيصال الرحمة. لأن فعيل من صيغ المبالغة. لكن فعلان أبلغ. فسعة الرحمة وكثرتها وإحاطتها من أدلة عظمة الموصوف وكمال صفاته، ووجوب عبادته وإلهيته، وإنابة القلوب إليه. فالمستغيث بغيره الراغب إلى سواه فيما لا يقدر عليه غيره من الأمور المهمة العظام، وما ليس من جنس الأسباب العادية، كمن يستغيث بالأنبياء، والصالحين والملائكة، ويرجع إليهم في حاجاته وملماته: ما أعطي هذا الاسم حقه، ولا آمن به حق الإيمان الواجب. ولو استشعر شيئاً من كمال مدلوله وسعته وإحاطته لما عدل بربه سواه، ولا التفت إلى غير رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما, ومشهد الأسماء الحسنى والصفات العلي مشهد عظيم لا يعرفه ويسير به إلا الصّديقون العارفون بالله. وما يجب له وما يستحيل عليه, وأما من(36/14)
تعلق على غيره والتفت إلى سواه، وصار مبلغ علمه وغاية حذقه وفهمه تعلقه على الأولياء والصالحين ورجاء رحمتهم وإحسانهم وعطفهم. فهو محجوب عن هذا غير عارف بربّه،
ص -112-
جاهل بصفات كماله ونعوت جلاله. قال تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} (الزمر:64) فسجّل على من أمر بدعاء الصالحين والاستغاثة بهم بالجهالة، سواء سمي ذلك توسلاً وتشفعاً واستظهاراً وكرامة أو لم يسمه.
وأمّا {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (الفاتحة:4) فهو وصف كمال ومجد، يقتضي وجوب معاملته وحده لا شريك له، وإسلام الوجه له، لأنّ الاختصاص والانفراد بالملك يوجب خوفه ورجاءه وطاعته. والتعلق على المملوك المقهور الذي لا شركة له ولا ملك بوجه من الوجوه، وقصده في طلب الإعطاء والمنع، والخفض والرفع والنجاة من النار، والفوز بدار الأبرار: سفه وضلال مبين. قال تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} (البقرة: من الآية130) وقد تمدح سبحانه باختصاصه بملك هذا اليوم في مواضع من كتابه مع أنه الملك المالك في الدنيا والآخرة لسر اقتضى ذلك، وحكمة أوجبته، وهي انقطاع كل العلائق والأسباب والمؤاخاة والوصل التي يتعامل بها أهل الدنيا في دنياهم. قال تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} (البقرة:123)،
فاعرف ما في هذا الخطاب من العموم، ,ما دل عليه التنكير من الشمول المتناول لكل معبود مع الله، ولو نبياً أو ملكاً، وما يجري على يد الشفعاء ذلك اليوم لا يرد على الآية ولا ينفي العموم، لأنه لا يقع إلا بإذنه تعالى فيمن يرضى قوله وعمله. فعاد الأمر له جل ذكره بدءا وعوداً أولاً وآخراً.
و"الدين" هو الجزاء والمكافأة على الأعمال حسنها وقبيحها، وما لم ينزل به سلطان ولم ترد به حجة من(36/15)
الأعمال والديانات، يجازي فاعله، ويعاقب إن لم يمنع مانع كتوحيد الله والإيمان به وبرسله. وأي توحيد يبقى وينفع مع عبادة الأولياء والصالحين والاستغاثة بهم، وصرف الوجوه إليهم.
قال تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الحجر: 92 ـ93)، قال جمعٌ من العلماء: عن شهادة أن لا إله إلا الله.
وأما قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة:5) ففيها اختصاصه وانفراده
ص -113-(36/16)
بالعبادة والاستعانة وأن ذلك حق لا يشركه فيه نبي مرسل، ولا ملك مقرب. والعبادة هي الغاية المقصودة من العباد المكلفين, والاستعانة وسيلة إلى هذه الغاية المقصودة من العباد المكلفين. والمؤمنون بالرسل أخلصوا له العبادة وأفردوه بالاستعانة. فهو معبودهم ومستعانهم وجميع الأعمال داخلة في هاتين الكلمتين الشريفتين، وقد دلت صيغة الحصر والاختصاص فيهما على التوحيد. والعبد همام وحارث، لا بد له من ذلك، وهمه وحرثه غاية ووسيلة فيجب أن يكون غاية قصده ومراده وجه الله، والتماس طاعته ومرضاته، ويجب أن تكون الوسيلة إلى ذلك استعانته بخلاف من عبد غيره واستعان بسواه، أو من عبده لكن قصر وأضاع ما يحصل به مقصوده من الاستعانة، أو من استعان به ولكن على ما لا يحبه وما لم يشرعه من الأعمال الصالحة أو وسائلها. ويدخل في النوع الثاني: من تعلق على الأنبياء والصالحين عبادة واستغاثة واستعانة، كعبّاد القبور، وفي حديث ابن عباس: "ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن؟ إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله" الحديث.
وكتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز: "إياك أن تستعين بغير الله فيكلك الله إليه"، وقال أبو عبد الله القرشيّ" استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة الغريق بالغريق" وقال غيره: "استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون" والكلام هنا يطول.
وغرضنا التنبيه على أن القرآن كله دال على التوحيد. آمر به مشير إليه مستلزم له، مقرر لوصف أهله وما لهم من الكرامة في المعاد ومبين لأحوال من تركه، ولم يرفع به رأساً أو أشرك في عبادته. وما لهذا الصنف من الجزاء والعقاب والإهانة في الدار الآخرة.
وأما قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (الفاتحة: 6 ـ 7) فهذا فيه توحيد الطريق وأن من سلك سواه وأراد الوصول من غيره فالسبل والطرق عليه مسدودة قاطعة غير موصلة. وفي حديث ابن مسعود: "خطّ لنا(36/17)
ص -114-
رسول الله صلى الله عليه وسلّم خطّاً، ثم قال: هذا سبيل الله، ثم خط خطوطاً عن يمينه وعن شماله، وقال: هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم قرأ قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (الأنعام:153) إذا عرف هذا فالصراط المستقيم ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلّم وأصحابه والتابعون لهم بإحسان من أئمة الهدى, ودعاء الأنبياء والصالحين والاستغاثة بهم والتوجه إليهم كل هذا ليس مما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلّم ولا أصحابه ولا التابعون لهم بإحسان، بل وليس عليه أحد من رسل الله ولا أوليائه، وقد توافرت النصوص وتظاهرت على المنع منه. كما سيمر بك مفصّلا، ,قد مر منه جملة صالحة، فإذا كان خارجاً عن الصراط المستقيم ناهيا عنه سالكيه ومؤتميه، فهو سبيل يفضي بسالكه إلى النيران والدخل في طاعة الشيطان، وأهل هذا الصراط المستقيم دأبهم وشأنهم إفراد الله بالعبادة والاستعانة والاستغاثة والإنابة والخوف والرجاء والتوكل والاعتماد، ومباينتهم في الأوصاف خروج عن صراطهم وطريقهم، قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى:
فلواحد كن واحدا في واحد
أعني سبيل الحق والإيمان(36/18)
فسبيل الله واحد لا متعدد، ولا يمكن أن يأتي أحد بحجة وسلطان على أن دعاء الأولياء والصالحين من أهل القبور أو غيرهم مشروع مسنون أو مباح، ولا يمكن أن تأتي شريعة بهذا، وما يقوله الجاهلون من الشبه الواهية لا يعتد به؛ ولا يلتفت إليه، بل هي قاطعة عن الطريق حائلة بين أربابها وبين الصراط المستقيم، وما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلّم وما جاء به من عند الله، وإن زعموا أنها أدلة وبينات، فهي جهالات وخيالات وضلالات. وسيأتيك الكلام على ما أورده العراقي منها.
وقوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} فغير: صفة ونعت لما قبلها من الاسم الموصول، على ما وجهه بعض المفسرين.
ص -115-(36/19)
والمعنى: أنّ الذين أنعم الله عليهم خالفوا وباينوا المغضوب عليهم والضالين في صفاتهم الشنيعة، وأفعالهم القبيحة، فالأولون عرفوا الحقّ ولم يتبعوه ولم يريدوه، بل آثروا أغراضهم الفاسدة وشهواتهم القاطعة، واستمتعوا بخلاقهم، ولم يعبثوا بما عداه مما فيه صلاح العبد وهداه. والآخرون غلبت عليهم الشبهات، وتاهوا في أودية الجهالات والضلالات، ولم يهتدوا إلى ما نصبه الله تعالى من الآيات الواضحات، والأدلة الظاهرات على وجوب توحيده وإلهيته وصمديته وتنزهه عن الصاحبة والولد، وأحق الناس بالوصف الأول: اليهود، وبالوصف الثاني: النصارى؛ لغلبة الوصف الأول على اليهود، وغلبة الثاني على النصارى، ولذلك جاء في حديث عدي بن حاتم: "اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون" ولكن هذا الوصف لا يختص بهم، بل كل منحرف عن الصراط المستقيم إيثاراً لهواه ورأيه فله نصيب من الوصف الأول، ومن انحرف لجهله وعدم فقهه فله نصيب من الوصف الثاني، وهذا الانحراف إن بقي معه أصل الدين الذي لا يقوم الإيمان والتوحيد إلا به فهو من أهل الذنوب من المسلمين وأمره إلى الله، وإن كان الانحراف يخل بأصل الدين والإيمان، ويمنع التوحيد، كحال من يدعو الملائكة والأنبياء والصالحين مع الله في مهماته وملماته ويعتمد عليهم، ويستغيث بهم في شدائده فهذا له حظ وافر ونصيب كامل من الضلال، قال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} (النمل: من الآية62) انظر هذا الاستفهام وحسن موقعه بعدما تقدم من الاستفهامات التي هي حجج وآيات على ما بعدها تعرف به فحش ما جاء به عباد القبور من دعاء آلهتهم والاستغاثة بهم في الملمات والشدائد المدلهمات وأن الجاهلية كانوا يخلصون في الشدائد، ويعترفون بأنه المختص بإجابة المضطر وكشف السوء وهؤلاء يشتد شركهم عند الضر ونزول الشدائد.
ثم من المعلوم أن أخصّ أوصاف(36/20)
النصارى الضالين: عبادة الأنبياء والصالحين وجعلهم شركاء لله فيما يختص به ويستحقه، وطاعة علمائهم
ص -116-
وأحبارهم في التحليل والتحريم، المخالف لما عهد إليهم في الكتب السماوية على ألسنة أنبيائهم، وعبّادُ القبور ضربوا في هذا بسهم وافر، وحصلوا على نصيب من عبادة الأنبياء والصالحين ودعائهم مع الله استحقوا به إطلاق وصف الضلال عليهم، فيما أتو به وابتدعوه من طاعة الدّعاة إلى عبادة القبور من المنتسبين إلى العبادة أو العلم.
وهذه إشارة تطلعك على ما وراءها. وفي فاتحة الكتاب والسبع والمثاني من العلوم والتوحيد والرّد على أصناف الضالين وشيع المبطلين، ما لا يمكن حصره واستقصاؤه وإنما أردنا بيان كذب العراقي بقوله: لم يذكر المفسرون هذا. والتسجيل على جهله في ذلك، وليس لنا فيما مر إلا تقريبه في عبارة يفهمها الذكي والبليد، وإبرازه في قالب معناه على الطالب غير متعسر ولا بعيد، والفضل للمتقدم. ولولا الحاجة والضرورة لما تصديت لمثل هذه المباحث، خوفاً من زلة القدم، وهفوة القلم، ومعرّة النّدم، وأستغفر الله العظيم من التقصير في فهم كتابه، وعدم الاشتغال بمعرفة ما يراد من حكمه وخطابه.
ص -117-(36/21)
فصل
قال العراقي: النقل الثالث: قال الشيخ ـ بعد أن سئل عمن قال: يجوز الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلّم في كلّ ما يستغاث الله فيه على معنى أنه وسيلة من وسائل الله في طلب الغوث، وكذلك يستغاث بسائر الأنبياء والصالحين في كل ما يستغاث الله فيه، وأن من نفى الاستغاثة بالنبي يكفر؛ لأنه نقص من قدر وما يستحقه ـ إلى آخر ما قال السائل، فأجاء بجواب طويل قال في آخره: "وأمّا التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلّم ففيه حديث في السنن من رواية النسائي والترمذي وغيرهما: "أن أعرابيّاً أتى النّبي صلى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، إنّي أُصبت في بصري، فادع الله لي، قال له النّبي صلى الله عليه وسلّم: توضأ وصل ركعتين وقل: اللهم، إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد ـ وفي لفظ: أتوسل إليك بنبيك ـ يا محمد إني أتشفع بك في ردّ بصري، اللهم فشفعه فيّ، وقال له النّبي صلى الله عليه وسلّم: إن كان لك حاجة فمثل ذلك، فرد الله بصره" فلأجل هذا الحديث استثنى الشيخ عز الدين بن عبد السلام التوسّل به وللناس في معنى ذلك قولان:
أحدهما: أن هذا التوسل هذا الذي ذكره عمر بن الخطاب لما قال: "كنا نتوسل إليك بنبيك فتسقنا، وإنا نتوسل إليك بعمّ نبيك فاسقنا، فيسقون" فقد ذكر أنهم كانوا يتوسلون به في حياته في الاستسقاء ثم توسلوا بعمه العباس بعد موته، وتوسلهم به هو استسقاؤهم به بحيث يدعو ويدعون معه ويكون وسيلتهم إلى الله، وهذا لم يفعله الصحابة بعد موته، ولا في مغيبه، والنّبي كان في مثل ذلك شافعاً داعياً.
ص -118-(36/22)
القول الثاني: أن التوسل به يكون في حياته وبعد موته ومغيبه وحضرته ولم يقل أحد إن من قال بالقول الأول فقد كفر، ولا وجه لتكفيره، فإن هذه مسألة خفية، وليس أداتها جلية، والكفر إنما يكون بإنكار ما علم من الدين بالضرورة، أو بإنكار الأحكام المجمع عليها، واختلاف الناس فيما يشرع من الدعاء وما لا يشرع كاختلافهم هل تشرع الصلاة عليه صلى الله عليه وسلّم عند الذبح، وليس ذلك من مسائل السبب.
ثم قال العراقي: فانظر كيف أثبت حديث الأعمى وفيه الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلّم بقوله: "يا محمد" والنبي صلى الله عليه وسلّم كان غائباً؛ وقوله: "وإن كان لك حاجة فمثل ذلك" يدل على التشريع، بناء على أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وقول الشيخ: إن القائل بالجواز لا يكفر من قال بالمنع؛ لأن هذه المسألة ليست أدلتها ظاهرة جلية، والكفر إنما يكون بإنكار ما علم من الدين بالضرورة، والمجمع عليه المتواتر من هذه المسألة شبيهة بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلّم عند الذبح، هل تشرع أو لا تشرع؟ وجعل حكم الاستغاثة والتوسل، كالذبح واختلافهم في الصلاة عليه عنده.
لا يقال: مراد الشيخ قول القائل: اللهم بجاه محمد أو بحرمته، لأنا نقول: جواب الشيخ مبني على السؤال، والسؤال إنما هو في الاستغاثة لا التوسل.
وأيضاً: فالشيخ يمنع التوسل كما يمنع الاستغاثة، وإن عذر المجتهد. وجوابه هذا أخرج به نفسه من التكفير، فإنه يقول بالمنع والمجوزون يقولون: من منع فقد نقص من قدر النّبي صلى الله عليه وسلّم.
والجواب عن هذا الكلام من وجوه:
الأول: أن هذا العراقي تصرف في كلام الشيخ بحذف وزيادة ونقصان، وهذا هو تحريف الألفاظ والإلحاد في النقل، والخيانة في الحكاية وأول جواب الشيخ رحمه الله نص في مسألة النزاع، يبطل دعوى العراقي، ويجتث
ص -119-(36/23)
أصلها. فلذلك أعرض عنه وتركه، ونقل ما يقبل التصرف والتبديل، مع ارتباط الكلام، وهكذا صنع فيما سيمر بك من نقوله وأدلته، فما أشبهه بعبد الله بن صوريا اليهودي، لما أحضر التوراة يتلوها عند النّبي صلى الله عليه وسلّم لينظر حكم الله في حد الزاني بالرجم، وهم قد زعموا أن الذي في التوراة التحميم، فلما قرأ وضع يده على آية الرجم فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك، فإذا آية الرجم تلوح، وقد قدمت لك أن بين هذا وبين اليهود مشابهة كلية من جهة التحريف للفظ والمعنى.
إذا عرفت هذا، فأول جواب الشيخ وطالعة خطابه، قوله: الحمد للّه رب العالمين . لم يقل أحد من علماء المسلمين : إنه يستغاث بشىء من المخلوقات، في كل ما يستغاث فيه باللّه تعالى، لا بنبي، ولا بملك، ولا بصالح، ولا غير ذلك، بل هذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام، أنه لا يجوز إطلاقه .
ولم يقل أحد : إن التوسل بنبي، هو استغاثة به، بل العامة الذي ن يتوسلون في أدعيتهم بأمور، كقول أحدهم : أتوسل إليك بحق الشيخ فلان، أو بحرمته، أو أتوسل إليك باللوح والقلم، أو بالكعبة، أو غير ذلك، مما يقولونه في أدعيتهم، يعلمون أنهم لا يستغيثون بهذه الأمور، فإن المستغيث بالنبي صلى الله عليه وسلم طالب منه وسائل له، والمتوسل به لا يدعى ولا يطلب منه ولا يُسأل، وإنما يُطلب به، وكل أحد يفرق بين المدعو والمدعو به .
والاستغاثة طلب الغوث، وهو إزالة الشدة، كالاستنصار طلب النصر، والاستعانة طلب العون، والمخلوق يطلب منه من هذه الأمور ما يقدر عليه منها، كما قال تعالى : {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعليكم النَّصْرُ} (الأنفال : 72 ) ، وكما قال : {فَاسْتَغَاثَهُ الذي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الذي مِنْ عَدُوِّهِ} ( القصص : 15 ) ، وكما قال تعالى : {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى} ( المائدة : 2 ).
وأمَّا ما لا يقدر عليه إلا الله، فلا يطلب إلا من(36/24)
اللّه؛ ولهذا كان المسلمون لا يستغيثون بالنبي صلى الله عليه وسلم ويستسقون به، ويتوسلون به، كما في صحيح البخارى : أن عمر بن الخطاب ـ رضي اللّه عنه ـ استسقى بالعباس وقال : اللهم إنا كنا إذا أجْدَبْنَا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم
ص -120-
نبينا فاسقنا فيسقون . وفي سنن أبى داود : أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إنا نستشفع باللّه عليك، ونستشفع بك على اللّه، فقال : " شأن اللّه أعظم من ذلك، إنه لا يستشفع به على أحد من خلقه " .
فأقره على قوله : نستشفع بك على اللّه، وأنكر عليه قوله : نستشفع باللّه عليك .
وقد اتفق المسلمون على أن نبينا شفيع يوم القيامة، وأن الخلق يطلبون منه الشفاعة، لكن عند أهل السنة أنه يشفع في أهل الكبائر، وأما عند الوعيدية فإنما يشفع في زيادة الثواب .
وقول القائل : إن من توسل إلى اللّه بنبي، فقال : أتوسل إليك برسولك، فقد استغاث برسوله حقيقة، في لغة العرب وجميع الأمم، قد كذب عليهم، فما يعرف هذا في لغة أحد من بنى آدم، بل الجميع يعلمون أن المستغاث مسؤول به مدعو، ويفرقون بين المسؤول والمسؤول به، سواء استغاث بالخالق أو بالمخلوق، فإنه يجوز أن يستغاث بالمخلوق فيما يقدر على التصرف فيه، والنبي صلى الله عليه وسلم أفضل مخلوق يستغاث به في مثل ذلك .
ولو قال قائل لمن يستغيث به : أسألك بفلان، أو بحق فلان، لم يقل أحد : إنه استغاث بما توسل به، بل إنما استغاث بمن دعا، وسأله؛ ولهذا قال المصنفون في شرح أسماء اللّه الحسنى : إن المغيث بمعنى المجيب، لكن الإغاثة أخص بالأفعال، والإجابة أخص بالأقوال .
والتوسل إلى اللّه بغير نبينا صلى الله عليه وسلم ـ سواء سُمِّىَ استغاثة أو لم يُسَمَّ ـ لا يعلم أحدًا من السلف فعله، ولا روى فيه أثرًا، ولا نعلم فيه إلا ما أفتى به الشيخ من المنع.
كلّ هذا أسقطه العراقي، وضرب عنه صفحاً، لأنه شجى في حلقه(36/25)
وقذى في عينه وغصّة في صدره، وحذف أيضاً من آخر الجواب: قول الشيخ: " وأما من قال : إن من نفي التوسل الذي سماه استغاثة بغيره كفر، وتكفير من قال بقول الشيخ عز الدين وأمثاله، فأظهر من أن يحتاج إلى جواب، بل المُكَفِّر بمثل هذه الأمور، يستحق من غليظ العقوبة والتعزير ما يستحقه أمثاله، من المفترين على الدين، لا سيما مع قول النبي صلى الله عليه وسلم : " من قال لأخيه : كافر فقد باء بها أحدهما " .
وأما من قال : ما لا يقدر عليه إلا اللّه لا يستغاث فيه إلا به، فقد قال
ص -121-(36/26)
الحق، بل لو قال كما قال أبو يزيد : استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة الغريق بالغريق، وكما قال الشيخ أبو عبد اللّه القرشى : استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون لكان قد أحسن، فإن مطلق هذا الكلام يفهم الاستغاثة المطلقة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس : " إذا سألت فاسأل اللّّه، وإذا استعنت فاستعن باللّه " .
وإذا نفي الرسول عن نفسه أمرًا كان هو الصادق المصدوق في ذلك، كما هو الصادق المصدوق في كل ما يخبر به، من نفي، وإثبات، وعلىنا أن نصدقه في كل ما أخبر به من نفي وإثبات، ومن رد خبره تعظيما له، أشبه النصارى، الذي ن كذبوا المسيح في إخباره عن نفسه بالعبودية، تعظيما له، ويجوز لنا أن ننفي ما نفاه، وليس لأحد أن يقابل نفيه بنقيض ذلك البتة، واللّه أعلم .
فحذف العراقي هذا كله وكتمه، لما فيه من إلطال مذهبه، والدفع في صدره وحف من أثناء الكلام عبارة أخرى وهي قول الشيخ في حديث الأعمى: فعلم أن النّبي صلى الله عليه وسلّم شفع له، فسأل الله أن يشفعه فيه.
ومن بلغ تحريفه وخيانته إلى هذا الحدّ فهو من أوفر الناس نصيباً من قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} (لأنفال: من الآية58) وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} (البقرة:159) وهذه المسائل التي قررها الشيخ منسوبة إلى أحكام الكتاب مأخوذة من نصوصه.
الوجه الثاني: إن قول الشيخ: وأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلّم ففيه حديث في السنن لا يريد به التوسل في عرف العراقي، وعبّاد القبور. وهو دعاء المخلوق والاستغاثة به، وإنّما يريد به سؤال الله تعالى أن يشفع عبده فيه، بإجابة دعائه لهذا السائل وأرشده في هذا إلى التوسل إلى الله بالصلاة التي هي أفضل(36/27)
العبادات البدنية وأن يوحده بالدعاء والمسألة في أن قيبل شفاعة نبيه: أي دعاءه له، وهذا ليس الكلام فيه، وليس من توسل عباد القبور، وتقدم قول الشيخ:
ص -122-
إن هذا لا يسمى استغاثة، وفرق بين التوسل والاستغاثة، والعراقي يسمي كل ما يفعله عبّاد القبور من العبادات توسلاً، ويسقط من كلام الشيخ ما رد عليه هذه التسمية، وأنها لا تعرف في لغة العرب ولا لغة أحد من الأمم، وقوله في الحديث: "أتوجه بعبده ورسوله، ومسألة التوجه على الله بجاه عباده ومسألته بهم مسألة معروفة مشهورة، قد تكلم فيها الأئمة وسيأتيك كلامهم فيها، وعلى كل فليست من محل النزاع، وأما قوله: "يا محمد إني أتشفع بك في ردّ بصري، اللهم شفعه فيّ" فهذه الكلمة لم تثبت في الطرق المعروفة لهذا الحديث. ولم يذكرها الترمذي وأمثاله من الحفّاظ، وليس فيها استغاثة بالنّبي صلى الله عليه وسلّم فإن هذا لايسمى استغاثة، كما قاله الشيخ فيما أسقطه العراقي، والداعي ليس مستغيثاً، والمغيث هو المجيب، وهذا كلام الشيخ الذي كتمه العراقي، وقال الشيخ: إن من نسبه إلى أحد من الأمم فهو كاذب.
وقول العراقي: والنبي صلى الله عليه وسلّم كان غائباً، كلام من لا يدري الحقائق، فليس في نفس الحديث ما يدل على الغيبة، بل فيه ما يدل على الحضور، وهو قوله: "يا محمد إني أتشفه بك"، فقوله: "والنبي كان غائباً" زيادة عراقية ليست في الأحاديث النبوية، وقوله: "وإن كان لك حاجة فمثل ذلك" ليس فيه ما زعمه العراقي من الدلالة على التشريع لوجوه:
منها: أن الحديث فيه مقال، وقد تكلم الحافظ في سنده، والشيخ عز الدين علّق الجواز على صحة الحديث، وبين العراقي وبين الكلام في التصحيح والحكم به مفاوز تتقطع أعناق مطايا الحفاظ دونها، فكيف بالمقعدين الذين هم صفر من فنون العلم والدين؟.
الوجه الثاني: أن اللّفظ ليس بعام كما زعمه هذا العراقي، ثم كيف يقول هذا وهو ينكر تناول العام لإفراده، ويقتصر على مورد(36/28)
السبب فيما يحتج عليه به من الآيات القرآنية، كما قاله لما احتج عليه بعض أصحابنا بقوله
ص -123-
تعالى: {أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} (الزمر: من الآية19) قال: هذا في أبي لهب. فظهر أنه متلاعب، وهذا هو:
الوجه الثالث منها: أن الذي رجح الشيخ ومن وافقه من المحققين أن هذا خاص في حياته؛ لأن المقصود به شفاعته بالدّعاء كما كان يستغفر لأصحابه ويدعو لهم، وهذا هو الذي فهمه الفاروق، وناهيك به، فإنه قال: "وكنّا نتوسّل إليك بنبيّنك فتسقنا" وهو صلى الله عليه وسلّم في حياته كان يدعو لهم فتجاب دعوته، وبعد موته لا يشرع طلب الدعاء منه؛ لأنّ عمر عدل إلى العباس ولم ينكره منكر ولم يذهب إلى القبر الشريف أحد من أفاضل الأمة وأكابرها، مع أنّ قبره صلى الله عليه وسلّم بين ظهرانيهم، وهذا اتفاق منهم على تصويب عمر ومتابعته، وهذا من باب التنزل مع هذا العراقي، وإلا فعدم مشروعيته هذا في سائر الكتب السماوية معلوم من الدين بالضرورة.
الوجه الرابع: أن الحديث إن صحّ فهو مخصوص بالنبي صلى الله عليه وسلّم عند من قال بالجواز، كابن عبد السلام، فسؤال الله بغيره لم يقل به أحد ممن حكى الشيخ قولهم بالجواز، قال الشيخ فيما تقدم ولا يعلم أحدٌ من السلف فعله؛ ولا روي فيه أثر ولا يعلم فيه إلا ما أفتى به الشيخ عز الدين من المنع، وعباد القبور يسألون الله بجاه من اعتقدوا فيه، بل آل الأمر إلى أن يسألوه تعالى بجاه كل من رفع قبره، وجعلت عليه قبّة، بل بالبله والمجانين الذين يعتقدهم عبّاد القبور. وقد حدثني شيخنا محمد بن محمود الجزائري بداره بالإسكندرية أن مذهب الحنفية يمنع سؤال الله بجاه أحد لقوله صلى الله عليه وسلّم: "لا تزكوا على الله أحداً" وهذا مشهور عن أبي حنيفة، وعن أبي يوسف وكثير من أتباعهما هذا مع أنها مسألة أخرى غير محل النزاع، فإيراد العراقي لها هنا مغالطة، وما تمسّك به من قول الأعمى: "يا محمد" ليس هو من سؤال(36/29)
الغائب وندائه كما زعمه العراقي، والالتفات له مقتضيات تذكر في فن المعاني. فأي فائدة في إيراد هذا؟ ثم هذه اللفظة وهي قوله: "يا محمد" لم يخرجها أهل السنن، ولم تثبت من الطرق المشهورة لهذ الحديث.
ص -124-
وفي كلام الشيخ: " أن الكفر يكون بإنكار ما علم من الدّين بالضرورة، وبإنكار ما أجمع عليه أو ما تواتر" وقد أعمى الله بصيرة العراقي عن هذا، كيف يكرر فيما تقدم أن دعاء القبور والتوسل بمسألة أربابها والاستغاثة بهم من مسائل الاجتهاد، التي يكفر المخطئ فيها، ولا يؤثم؟ بل هو مأجور. ثم يكتب بيده عن الشيخ الذي نسب إليه ما تقدم من إفكه أن الكفر يكون بإنكار ما علم بالضرورة أو ما أجمع عليه أو ما تواتر.
ومسألة المخلوق والاستغاثة به فيما لا يقدر عليه إلا الله تحريمها والمنع منها من الضروريات عند كل من تصور الإسلام وتحريمها مجمع عليه، والنهي عنها متواتر. فسبحان من طبع على قلبه، والذي جزم الشيخ أن أدلتها ليست ظاهرة جلية هي مسألة سؤال الله بجاه رسوله كأن يقول، ما في الحديث: "اللهم إني أتوجه إليك بنبيك أو أسألك بجاه نبيك" فالموسؤول هو الله، والمتوجه به عبده ورسوله. هذه هي أدلة جوازها خفية على القول به، فلا يكفر منكرها. وليست من مسألة المخلوقين في شيء أصلاً، وهذه هي المشبهة بالصلاة عليه عند الذبح.
وقول العراقي: لا يقال مراد الشيخ قول القائل: اللهم إني أسألك بجاه محمد أو بحرمته، لأنّا نقول: جواب الشيخ مبني على السؤال، والسؤال إنما هو الاستغاثة لا التوسل.
يقال في جوابه: هذا المنع جهل صرف وتخليط محض، لا يصدر عمن يتصور ما يقول، فإن السؤال في الاستغاثة والتوسل، والسائل جعل الاستغاثة توسلاً، فرد عليه الشيخ وكذبه؛ وجزم بأن هذا لا يعرف في لغة أحد من الأمم وميز الشيخ ما في السؤال من اللّبس، فمنع الاستغاثة بغير الله، وقرّر أنّها لا تجوز وأنّ من منعها فقد قال الحق؛ وأن من ردّ أخبار الرسول بقصد التعظيم(36/30)
فهو يشبه النصارى في غلوهم في المسيح، وتكذيبه فيما أخبر به عن نفسه من العبودية وتكلم على المسألة الأخرى، وهي سؤال الله بجاه نبيه وسمّاها توسّلاً ومنع من تسميتها استغاثة؛ وحكى فيها لهم قولين: قولاً بالمنع في مغيبه وبعد موته وحملوا الحديث على التشفع بدعائه في حياته فقط، وقولاً
ص -125-
بالجواز في مغيبه أو بعد موته. ورجّح الأوّل بفعل عمر، وما كان عليه الصحابة وأهل العلم. فكيف يقول هذا الغبي: كلامه في الاستغاثة؛ لأنّ السؤال فيها؟ والسؤال فيه مجموع الأمرين، ولو فرض أن السؤال فيه إجمال فالتفصيل والاستفصال في جواب السؤال يتعين دفعاً للعموم والإجمال، وقد وقى الشيخ رحمه الله بهذا فيما قرره من المقال.
وأما كون الشيخ يعذر المجتهد في مسألة الله بجاه رسوله، فلا يلزم منه أن يعذر في الاستغاثة بالمخلوقين ودعائهم مع الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، لوضوح الأدلة المانعة هنا وخفائها في الأولى، فبطل قول العراقي. وأيضاً فالشيخ يمنع التوسل كما يمنع الاستغاثة.
ص -126-(36/31)
فصل
قال العراقي: في النقل الرابع: قال في الفتاوى أيضاً في جواب من سأله فيمن قال: لا يستغاث بالنّبي صلى الله عليه وسلّم هل يحرم عليه هذا القول؟ وهل هو كافر به أم لا؟ وإن استدل بآية من كتاب الله وأحاديث النّبي صلى الله عليه وسلّم أم لا؟ وإذا قام الدليل من الكتاب والسنة، فما يجب على من خالف ذلك والحالة هذه؟ الجواب: الحمد لله، قد ثبت بالسنة المستفيضة، بل المتواترة، واتفاق الأمة : أن نبينا صلى الله عليه وسلم الشافع المشفع في الخلائق يوم القيامة وأن الناس يستشفعون به، ويطلبون منه أن يشفع لهم إلى ربه.
وأما الخوارج والمعتزلة فأنكروا شفاعته لأهل الكبائر، فهؤلاء مبتدعة ضُلال، وفي تكفيرهم نزاع وتفصيل . وأما من أنكر ما ثبت بالتواتر والإجماع فهو كافر بعد قيام الحجة عليه، سواء سمى هذا استغاثة أو لم يسمه. وأما من أقر بشفاعته وأنكر ما كان الصحابة يفعلونه من التوسل به والاستشفاع به، فمن أنكر هذا فهو ضال مخطئ مبتدع، وفي تكفيره نزاع وتفصيل .
والتوسل به نحو ذلك ولكن قال : لا يدعى إلا اللّه وأن الأمور التي لا يقدر عليها إلا اللّه لا تطلب إلا منه، مثل غفران الذّنوب، وهداية القلوب، وإنزال المطر، وإنبات النبات، ونحو ذلك ـ فهذا مصيب في ذلك. روى الطبراني: "أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق، فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: قوموا بنا نستغيث بالنّبي صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنه لا يستغاث بى، وإنما يستغاث باللّه " ، فهذا إنما أراد به النبي صلى الله عليه وسلم المعنى الثاني، وهو أن يطلب منه ما لا يقدر عليه إلا اللّه، وإلا فالصحابة كانوا يطلبون منه
ص -127-
الدعاء ويستسقون به، كما في البخارى، عن عمر قال : "ربما ذكرت قول الشاعر وأنا أنظر إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم يستسقى، فما ينزل حتى يجيش له الميزاب :(36/32)
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه
ثمال اليتامى عصمة للأرامل
وهو قول أبى طالب؛ ولهذا قال العلماء في أسماء اللّه تعالى : يجب على المكلف أن يعلم أن لا غياث ولا مغيث على الإطلاق إلا اللّه، وأن كل غوث فمن عنده، وإن كان ذلك على يد غيره فالحقيقة له ولغيره مجاز ـ إلى أن قال الشيخ ـ: والاستغاثة بمعنى أن يطلب من النبي صلى الله عليه وسلّم ما هو اللائق بمنصبه لا ينازع فيها مسلم، ومن نازع فى هذا المعنى فهو إما كافر إن أنكر ما يكفر به، وإما مخطئ ضال .
ومن خالف ما يكون ثبت فى الكتاب والسنة، فإنه يكون إما كافراً، وإما فاسقاً، وإما عاصيا، إلا أن يكون مجتهداً مخطئًا فيثاب على اجتهاده، ويغفر له خطؤه، وكذلك إن كان لم يبلغه العلم الذى تقوم عليه الحجة به" انتهى.
فانظر إلى قوله: "قال العلماء المصنفون في أسماء الله: يجب على المكلف أن يعلم أن لا غياث ولا مغيث على الإطلاق إلا الله، وأن كل غوث فمن عنده، وإن كان ذلك على يد غيره فالحقيقة له وبغيره مجاز" وهذه القاعدة الراسخة في قلوب المسلمين، فإذا طلبوا من أحد غير الله من أنبيائه وأوليائه فمرادهم أنهم يتسببون لهم والله هو الفاعل الحقيقي، بل عوام الناس يعرفون ذلك، وأعظم من هذا قول الشيخ رحمه الله تعالى: "والاستغاثة بمعنى أن يطلب من النبي صلى الله عليه وسلّم ما هو اللائق بمنصبه لا ينازع فيه مسلم، ومن نازع فيه فهو إما كافر ومخطئ ضال"، والمستغيثون بالنبي طالبون منه أن يشفع لهم إلى ربّهم في قضاء مآربهم بدعائه أو وسيلته، وهذا هو اللائق بمنصبه صلى الله عليه وسلّم، فتبين أن المنازع في هذا كما قاله الشيخ إما كافر أو ضال؛ فواللهِ إنّ هذه العبارة تكفي ردعاً لمن يتعرض للمسلمين في هذه الأمور.
ص -128-(36/33)
والجواب أن يقال:
قد اعترى هذا النقل ما قبله من التحريف والحذف والتصرف في كلام الشيخ حتى أخرجه عن مقصوده. فإنّه حذف منه ما يرد قوله ويهدم أصله. قال بعض أهل العلم: أهل السنة يكتبون ما لهم وما عليهم، وأهل البدع لا يكتبون إلا ما لهم.
قلت: هم لا يتجاسرون على هذا الصنيع والتصرف والخيانة، غايتها ترك ما لم يوافق أصولهم ومذهبهم، بخلاف العراقي، فإنه محرّف كذّاب لا يؤمن على النقل، فحذف من هذا الجواب المختصر نحو سبعة مواضع:
الأول: قول الشيخ: "ثم اتفق أهل السنة والجماعة أنه يشفع في أهل الكبائر وأنه لا يخلد في النار من أهل التوحيد أحد". فانظر ما النكتة في حذف هذه الجملة وتفطن لذلك.
الموضع الثاني: قول الشيخ في الخوارج والمعتزلة: لم ينكروا شفاعته للمؤمنين". والنكتة في حذف هذا أنه لم يفقه الجمع بين ما أنكروه وما أثبتوه.
الموضع الثالث: حذف ما حكاه الشيخ من توسل الصحابة واستشفاعهم بنبيهم، وأن ما كان يفعله من الدّعاء لهم والاستغفار لأن هذا البيان يبطل دعواه، فحذف الأحاديث، وحذف كلام الشيخ عليها ليلبّس على النّاس بأن الصحابة يتوسّلون بالرّسول والتوسّل عنده هو دعاء الرسول صلى الله عليه وسلّم مع الله، والاستغاثة به في حياته وبعد مماته، فقاتل الله الملبسين والملحدين، وما أشدّ جنايتهم على الإسلام والمسلمين؟ فإنّ الشيخ بيّنه بما رواه البخارى في صحيحه عن أنس: "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، فقال : اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا لتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون"، وفي سنن أبى داود وغيره: "أنّ أعرابيا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : جهدت الأنفس، وجاع العيال، وهلك المال، فادع اللّه لنا، فإنا نستشفع بالله عليك، ونستشفع بك على اللّه. فسبح رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حتى عرف
ص -129-(36/34)
ذلك في وجوه أصحابه وقال : " ويحك، إن اللّه لا يستشفع به على أحد من خلقه، شأن اللّه أعظم من ذلك " ، وذكر تمام الحديث، فأنكر قوله : "نستشفع باللّه عليك"، ولم ينكر قوله : "نستشفع بك على اللّه"، بل أقره عليه، فعلم جوازه ". كلّ هذا حذفه العراقي.
الرّابع: حذف قول الشيخ: " بل هذا مما لا نزاع فيه بين المسلمين أيضًا . كما قال تعالى : {وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ} (آل عمران : 135 ) ، وقال : {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء} (القصص : 56 ) ، وكما قال تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عليكم هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ} ( فاطر : 3 ) ، وكما قال تعالى : {وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ} ( آل عمران : 126 ) ، وقال : {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الذي نَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا} (لتوبة : 40 ). فالمعاني الثابتة بالكتاب والسنة يجب إثباتها، والمعاني المنتفية بالكتاب والسنة يجب نفيها، والعبارة الدالة على المعاني نفيًا وإثباتًا إن وجدت في كلام الله ورسوله، وجب إقرارها، وإن وجدت في كلام أحد وظهر مراده من ذلك رتب عليه حكمه، وإلا رجع فيه إليه .
وقد يكون في كلام اللّه ورسوله عبارة لها معنى صحيح، لكن بعض الناس يفهم من تلك غير مراد اللّه ورسوله، وهذا يرد عليه فهمه ".
حذف العراقي هذا كله لأن فيه تفصيلاً وفيه حكاية الإجماع بين المسلمين، أنّه لا يطلب من الرسول ولا من غيره فيما يختص به تعالى كمغفرة الذنوب وهداية القلوب والنصر على الأعداء والرزق من الأرض(36/35)
والسماء ونحو ذلك من أفعال الربوبية. وتقدم أن الشيخ يكفّر بإنكار ما علم من الدين بالضرورة وما تواتر الخبر به. وفيه قوله: والمعاني المنتفية بالكتاب والسنة يجب نفيها، فضرب الملحد عن هذا صفحاً وأسقط من كلام الشيخ بقصد الترويج، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره المشركون.
الخامس: مما حذف من قول الشيخ رحمه الله: قالوا ومن أسماء الله
ص -130-
تعالى المغيث والغياث، وجاء ذكر المغيث في حديث أبى هريرة، قالوا : وأجمعت الأمة على ذلك . وقال أبو عبد اللّه الحليمى : "الغياث هو المغيث"، وأكثر ما يقال : غياث المستغيثين، ومعناه المدرك عباده فى الشدائد إذا دعوه، ومجيبهم ومخلصهم. وفى خبر الاستسقاء فى الصحيحين : " اللهم أغثنا" يقال : أغاثه إغاثة وغياثًا وغوثًا، وهذا الاسم فى معنى المجيب والمستجيب، قال تعالى : {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} ( الأنفال : 9 ) ، إلا أنّ الإغاثة أحق بالأفعال، والاستجابة أحق بالأقوال، وقد يقع كل منهما موقع الآخر .
قالوا : الفرق بين المستغيث والداعى : أن المستغيث ينادى [بالغوث، والداعى ينادى](1) بالمدعو والمغيث . وهذا فيه نظر؛ فإنّ من صيغة الاستغاثة: "يا اللّه يا للمسلمين"، وقد روي عن معروف الكرخى أنه كان يكثر أن يقول : "واغوثا بالله"، ويقول : "إنى سمعت اللّه يقول : {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} "، وفى الدعاء المأثور : " يا حي يا قيوم، لا إله إلا أنت برحمتك أستغيث، أصلح لى شأنى كله، ولا تكلنى إلى نفسى طرفة عين، ولا إلى أحد من خلقك " . والاستغاثة برحمته استغاثة به فى الحقيقة، كما أن الاستعاذة بصفاته استعاذة به فى الحقيقة، وكما أن القسم بصفاته قسم به فى الحقيقة، ففى الحديث : " أعوذ بكلمات اللّه التامة من شر ما خلق " ، وفيه " أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك، لا أحصى ثناء عليك، أنت(36/36)
كما أثنيت على نفسك " .
ولهذا استدل الأئمة فيما استدلوا به على أن كلام اللّه غير مخلوق بقوله : " أعوذ بكلمات اللّه التامات " قالوا : والاستعاذة لا تصلح بالمخلوق ، وكذلك القَسَم، وقد ثبت فى الصحيحين أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " من كان حالفا فليحلف باللّه أو ليصمت " ، وفى لفظ : " من حلف بغير اللّه فقد أشرك " رواه الترمذي وصححه . ثم قد ثبت فى الصّحيح : الحلف بـ " عزة اللّه " ، و بـ " عمر اللّه " ، ونحو ذلك مما اتفق المسلمون على أنه ليس من الحلف بغير اللّه الذى نهى عنه.
كل هذا حذفه العراقي، وأسقطه، لما فيه من رد كلامه، وهدم أساسه، وقد بين فيه الشيخ معى الإغاثة، وأن الله هو المغيث، والفرق بينه
__________
(1) ما بين المعقوفتين يقط من المطبوع، واستدركته من مجموع الفتاوى.
ص -131-(36/37)
وبين الدّاعي، وفيه أن الاستغاثة لا تصح بالمخلوق، وهي نوع من الدّعاء وكذلك القسم وأسقط العراقي هذا كله.
الموضع السادس: حذف قول الشيخ: وأما بالمعنى الذي نفاها النّبي صلى الله عليه وسلّم فهو أيضاً مما يجب نفيها، ومن أثبت لغير لله ما لا يكون إلا لله فهو أيضاً كافر إذا قامت عليه الحجة، ومن هذا الباب قول أبي يزيد البسطاميّ: "استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة الغريق بالغريق"، وقال الشيخ أبو عبد اللّه القرشى: "استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون ". وفى دعاء موسى عليه السلام : " اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان وبك المستغاث، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله " ، ولما كان هذا المعنى هو المفهوم عند الإطلاق وكان مختصاً باللّه، صح إطلاق نفيه عما سواه؛ ولهذا لا يعرف عن أحد من أئمة المسلمين أنه جوَّز مطلق الاستغاثة بغير اللّه، وكذا الاستعانة أيضا، منها ما لا يصح إلا لله، وهى المشار إليها بقوله : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ( الفاتحة : 5 ) فإنه لا يعين على العبادة الإعانة المطلقة إلا اللّه . وقد يستعان بالمخلوق فيما يقدر عليه، وكذلك الاستنصار، قال تعالى : {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} ( الأنفال : 72 )، والنصر المطلق هو به ما يغلب العدو ولا يقدر عليه إلا اللّه ".
فهذا حذفه كلّه، واقتصر على قول الشيخ: "والاستغاثة أن يطلب من الرسول ما هو اللائق بمنصبه، لا ينازع فيها مسلم، ومن نازع في هذا المعنى فهو إما كافر إن أنكر ما يكفر به، وإلا مخطئ ضال".
حذف ما بعد هذه العبارة وظنّ أنها تؤيد مذهب عبّاد القبور، وأن منصب الرسالة يقتضي أن يدعى مع الله ويستغاث به الاستغاثة المطلقة، كما يفعل من يستغيث بالمسيح وأمه، والملائكة، هذا فهم العراقي. والشيخ قد فصل وبين ما يليق بالمنصب الشريف وما يختص بمقام الربوبية، فأسقط(36/38)
ما لا يقبل التحريف وأثبت ما حرفه وألحد فيه.
وهذا الجواب حجّة لشيخنا الشيخ محمد بن عبد الوهاب وغيره من
ص -132-
أهل الإسلام. وهذا مما يفضح هذا العراقي وشيعته من عبّاد القبور. وأسقط قول أبي يزيد البسطاميّ وقول أبي عبد الله القرشي في الاستغاثة بالمخلوق؛ لأنه يهدم أصله ويبين زيفه وتحريفه. وأسقط دعاء موسى عليه السلام، لما فيه من حصر المشتكي وحصر الاستعانة والاستغاثة. والعراقي لا يرى حصر ذلك بل يرى أن الاستغاثة والاستعانة والشكوى لغير الله مما يستحب في الكتاب والسنة، ولو كان المستغاث والمستعان بهم أمواتاً وغائبين فلم يجد من الحيل لما أصاب الحديث مقاتله إلا أن أسقطه ومحاه.
فالحمد لله على تأييد دينه ونصر عباده الموحدين.
ومن المحذوف قوله: "ولهذا لا يعرف عن أحد من أئمة المسلمين أنه جوّز مطلق الاستغاثة بغير الله، وكذلك الاستعانة أيضاً منها ما لا يصلح إلا لله، وهي المشار إليها بقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نِسْتَعِينُ} خاف العراقي من هذا؛ لأنّه يأتي على كلّ ما ذكر، فيهدم أصله، ويسقط ما بناه من الشبه.
الموضع السابع: حذف كلام الشيخ على قيام الحجة، قال رحمه الله: "فإن اللّه يقول : {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} ( الإسراء : 15 ) . وأما إذا قامت عليه الحجة الثابتة بالكتاب والسنة فخالفها : فإنه يعاقب بحسب ذلك".
قلت: فهذا صريح في عقاب من قامت عليه الحجة في مسألة النزاع، وهي دعاء الصالحين مع الله. وهذا دأب هذا الملحد، يكذب على أهل العلم، ويلحد في آيات الله وفي أحاديث رسوله. والله الموعد بيننا وبينه: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} (الشعراء: من الآية227).
وأما قوله بعد حكاية كلام الشيخ: "في أنّ كلّ غوث فمن عنده تعالى، وإن كان ذلك على يد غيره، فالحقيقة له ولغيره مجاز".
قال العراقي: "وهذه القاعدة هي الراسخة في قلوب المسلمين،(36/39)
فإذا طلبوا من أحد غير الله من أنبيائه وأوليائه فمرادهم أنهم يتسببون لهم، والله هو الفاعل الحقيقي، بل عوام الناس يعرفون ذلك".
ص -133-
فجواب هذا أن يقال: ليس هذا هو الرّاسخ في قلوب عباد القبور، فإن أقوالهم وأدعيتهم وتوجهاتهم صريحة في أن مدعوهم ومستغاثهم مع الله يعطي ويمنع ويخفض ويرفع، ويقضي حاجة من دعاه، ويجبر من لاذ بحماه، ولا تستبين العقائد وما في القلوب إلا بترجمة المترجم وعنوان المعبر وهو اللسان، قال الشاعر:
إنّ البيان لفي الفؤاد وإنما
جعل اللسان على الفؤاد دليلاً
وقد قرّر الفقهاء، وأهل العلم في باب الرّدة وغيرها أن الألفاظ الصريحة يجري حكمها وما تقتضيه وإن زعم المتكلم بها أنه قصد ما يخالف ظاهرها.
وهذا صريح في كلامهم يعرفه كل ممارس، ولكن الهوى أحال عقول عبّاد القبور وفهومهم عن مستقرها.
وأيضاً فإطلاق السبب ليس عذراً مبيحاً لدعاء غير الله والاستغاثة به فإن المشركين قصدوا السبب ليس إلا، كما حكى الله عنهم ذلك في مواضع من كتابه، ولم يريدوا أنها فاعلة مستقلة، بل اعترفوا بالفعل والاستقلال لله تعالى، وقد مرّت أدلة ذلك، وتأتيك في مواضعها إن شاء الله تعالى فبطل كلامه.
وإن سلمنا الدعوى وأنه إنما أراد السبب، فهذا الموضع هو منشأ الغلط، فإن القوم لم يفرقوا بين توحيد الإلهية الذي هو إفراد الله سبحانه بالدعاء والاستعانة والخوف والرجاء والحب والإنابة والذل والخضوع، وظنوا أن هذا لا يكون شركاً إلا إذا اعتقد فاعله أن غير الله مستقل مدبر مؤثر، وإلا فلا شرك على زعم هؤلاء الضلال، وقد تقدم أنّ عبّاد القبور أو جمهورهم صرّحوا بأن المشايخ والأولياء يتصرفون، فراجع ما مرّ من حكاية معتقدهم، فالعراقي كاذب، وعلى تسليم صدقه فهو قول المشركين من جاهلية العرب سواء بسواء.
ص -134-(36/40)
وأما قوله: "وأعظم من هذا قول الشيخ رحمه الله: والاستغاثة بمعنى أن يطلب من النبي صلى الله عليه وسلّم ما هو اللائق بمنصبه لا ينازع فيه مسلم، ومن نازع فيه فهو إما كافر أو مخطئ ضال. والمسلمون المستغيثون بالنبي صلى الله عليه وسلّم طالبون منه أن يشفع لهم إلى ربهم في قضاء مآربهم بدعائه أو وسيلته. وهذا هو اللائق بمنصبه صلى الله عليه وسلّم فتبين أن المنازع في هذا كما قال الشيخ: إما كافر أو ضال، فوالله إن هذه العبارة تكفي ردعاً لمن يتعرض للمسلمين في هذه الأمور".
والجواب عن هذا أن يقال: الفرق بين اللائق بمنصبه، وما لا يليق إلا بمقام الربوبية ومرتبة الإلهية موضح في الكتاب والسنة، وهو الأصل المهم، وهو الزبدة المقصودة، فإن المرجع لتفسير كلام الشيخ وعبارته إليه نفسه، فقد فسر ذلك وبيّنه ووضّح اللائق بمنصبه صلى الله عليه وسلّم بما مر في حديث أنس، وما مرّ من رواية أبي داود وغيره، ولكن أنت أيها العراقي أبيت هذا البيان والتفصيل.
وفررت منه كالحمر المستنفرة، وموهت على الجهّال بأول العبارة، وتركت ما قبلها وما بعدها، وقد سقنا العبارة برمتها، والواقف عليها يعرف مراد الشيخ وما هو اللائق بالمنصب النبوي، لأنه موضح فيما مر. وإن رجعنا إلى الأصل الأصيل ونظرنا إلى الكتاب والسنة عرفنا ما يليق بمنصبه صلى الله عليه وسلّم من الإيمان به والتصديق له، وتعزيره وتوقيره ومحبته وتحكيمه والرضى بحكمه والتسليم له ونصرته والذّب عن سنته وجهاد من أشرك به وغلا فيه، وطلب منه ما لا يليق إلا بالحي الحاضر، كالدعاء والاستغفار، وعرفنا أيضاً ما هو اللائق برتبة الربوبية وما هو المختص لمستحق الألوهية والعبودية من الحب والذل والتعظيم والاستغاثة والاستعاذة والاستعانة، والخوف والرجاء ونحو ذلك من العبادات المختصة اللائقة بالله، وكل جملة من هذه الجمل قد مرت بك أو يمر دليلها فلا نطيل بتكراره، والشيخ يكفر أو يضلل من نازع فيما يليق(36/41)
بالمنصب النبوي.
وأما من قال: لا يدعى إلا الله، ولا يستغاث إلا به، ولا يتوكل إلا عليه،
ص -135-
فهذا محق عرف الحق، وما يجب لله وما يليق بعبده ورسوله صلى الله عليه وسلّم، فهذه العبارة تكفي ردعاً لمن يتعرض للموحّدين المسلمين لأنها تؤيدهم، وليست ردعاً لمن يتعرض لعبّاد القبور المحرفين الكلم عن مواضعه، والملحدين في آياته، وإن روّجوا على الناس بأنهم مسلمون: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (الأنعام:115).
ص -136-(36/42)
فصل
قال العراقي: النقل الخامس، قال في اقتضاء الصراط المستقيم: صارت النذور المحرمة مأكلاً للسدنة والمجاورين والعاكفين على بعض المشاهد وغيرها، وأولئك الناذرون يقول أحدهم: مرضت فنذرت، ويقول الآخر: خرج المحاربون فنذرت، وقد قام في نفوسهم أن هذه النذور هي السبب في حصول مطلوبهم ودفع مرهوبهم، بل تجد كثيرا من الناس يقولون: إن المشهد الفلاني والمكان الفلاني يقبل النذر بمعنى أنهم نذروا له نذوراً فقضيت حاجتهم ـ إلى أن قال ـ: وما روي أن رجلاً جاء النبي صلى الله عليه وسلم فشكى إليه الجدب عام الرمادة، فرآه وهو يأمره أن يأتي عمر فيأمره أن يخرج يستسقي بالناس، قال: ومثل هذا يقع كثيراً لمن هو دون النبي صلى الله عليه وسلم وأعرف من هذا وقائع. وكذلك سؤال بعضهم للنبي صلى الله عليه وسلم حاجة أو غيره من أمته، فتقضى هذا يوقع كثيراً. ولكن عليك أن تعلم أن إجابة النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره من أمته لهؤلاء السائلين الملحين لما هم عليه من ضيق الحال لو لم يجابوا لاضطرب إيمانهم، كما أنّ السائلين له في الحياة كانوا كذلك" انتهى.
فانظر إلى تسليمه رحمه الله للآثار الواقعة، والأخبار الواردة في هذه الوقائع فإنّ عام الرمادة الذي يشير إليه الشيخ هو ما رواه البيهقي وابن أبي شيبة بسند صحيح عن مالك الدارمي ـ وكان خازن عمر ـ قال: "أصاب النّاس قحط في زمن عمر بن الخطّاب، فجاء رجل إلى قبر النّبي صلى الله عليه وسلّم، فقال: يا
ص -137-(36/43)
رسول الله استسق لأمّتك، فإنّهم قد هلكوا فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلّم في المنام، فقال له: ائت عمر، واقرأه السلام، وأخبره أنهم مسقون" إلى آخر الحديث، وسيأتيك في الأدلة، ويسمون تلك السنة: عام الرمادة لكن عند الشيخ باجتهاده لا يستحب، وعند غيره من جماهير الأمة قام الدليل على الاستحباب لهذا الأثر، وحديث الأعمى وغيرهما. ثم إن الشيخ أثبت قضاء الحوائج من أهل القبور كالأنبياء والأولياء من أمته، وأنه واقع كثيراً وأن رحمته للسائلين لئلا يضطرب إيمانهم، فلا ينبغي أن ينسب إلى هذا الشيخ ما هو بريء منه مثل تكفير الناس وتفسيقهم.
ثم قال العراقي: النقل السابع: قال في اقتضاء الصراط المستقيم: "وكذلك ما حكى لنا أن بعض المجاورين بالمدينة أتى إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فاشتهى نوعاً من الأطعمة، فجاء بعض الهاشميين إليه فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إليك ذلك، وأعطاه الطعام، وقال: إنه يقول لك: من يكون عندنا لا يشتهي مثل هذا، اخرج من عندنا. وآخرون قضيت حوائجهم ولم يقل لهم مثل هذا لاجتهادهم أو تقليدهم، أو قصورهم في العلم؛ فإنه يغفر للجاهل مالا يغفر لغيره كما حكى عن برخ العابد الذي استسقى في بني إسرائيل" انتهى.
فاستدل العراقي بها على أن الشيخ يجوز الطلب من المقبورين على أنهم وسائل للمجتهد والمقلد أو الجاهل حسن القصد أنه مغفور له.
ثم قال العراقي: الثامن قال أيضاً في اقتضاء الصراط المستقيم: وقد يعمل الرجل العمل الذي يعتقده صالحاً ولا يكون عالما أنه منهي عنه، فيثاب على حسن قصده، ويعفى عنه، لعدم علمه، وهذا باب واسع، ثم الفاعل قد يكون متأولا أو مجتهداً مخطئاً أو مقلداً، فيغفر له خطؤه، ويثاب على ما يفعله من الخير المشروع المقرون بغير المشروع في المجتهد المخطئ، وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع" انتهى.
ص -138-(36/44)
قال العراقي: وذكر الشيخ بعد هذا حكاية العتبي وأنه استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلّم وقضيت حاجته، فليراجع.
ثم قال: النقل التاسع: قال الشيخ في هذا الكتاب أيضاً: "وقد علمت جماعة ممن سأل المقبورين من الأنبياء والصالحين، فقضيت حاجتهم، وهو لا يخرج عمّا ذكرته " انتهى.
ثم قال العراقي: النقل العاشر قوله: " ولا يدخل في هذا الباب ما يروى من أنّ قوماً سمعوا رد السّلام من قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو قبور غيره من الصالحين، وأن سعيد بن المسيب كان يسمع الأذان من القبر ليالي الحرة ونحو ذلك. فهذا كله حق ليس مما نحن فيه والأمر أجل من ذلك وأعظم، وكذلك ما يروى: أنّ رجلاً جاء إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فشكى إليه الجدب عام الرّمادة، فرآه وهو يأمره أن يأتي عمر فيأمره أن يخرج يستسقي بالناس، ومثل هذا يقع كثيرا ممن هو دون النبي صلى الله عليه وسلم وأعرف من هذا وقائع. وكذلك سؤال بعضهم النبي صلى الله عليه وسلم أو لغيره من أمته حاجة فإن هذا قد وقع كثيراً ـ وليس هو مما نحن فيه. وعليك أن تعلم أن إجابة النبي صلى الله عليه وسلم وغيره لهؤلاء السائلين ليس مما يدل على استحباب السؤال؛ فإنه هو القائل: "إن أحدهم يسألني المسألة فأعطيه إياها فيخرج يتأبطها ناراً. فقالوا: يا رسول الله فلم تعطِهم؟ قال: يأبون إلا أن يسألوني، ويأبى الله لي البخل". وأكثر هؤلاء السائلين الملحين لما هم عليه من الحال لو لم يجابوا لاضطرب إيمانهم كما أن السائلين له في الحياة كانوا كذلك. فهذا القدر إذا وقع يكون كرامة لصاحب القبر، أما أنه يدل على حسن حال السائل فلا" انتهى.
قال العراقي بعده: فانظر إلى تسمية سؤال أهل القبور ووقوعه وأنهم لو لم يجابوا لاضطرب إيمانهم وأنه كرامة لصاحب القبر.
قلت: قد حرّف العراقي كلام الشيخ، والشيخ قصده أن الإجابة قد تكون كرامة لصاحب القبر، وليس المقصود سؤال الميت كما زعم هذا
ص -139-(36/45)
الملحد، بل المسؤول لا يكون كرامة، كما قال الشيخ بعد هذا الموضع في هذا الكتاب بعينه: "ثم من غرور هؤلاء وأشباههم أن استجابة مثل هذا الدعاء كرامة من الله لعبده، وليس هو في الحقيقة كرامة، وإنما يشبه الكرامة، والكرامة في الحقيقة ما نفعت في الآخرة".
ثم قال العراقي: "النقل الحادي عشر في اقتضاء الصراط المستقيم: "ومن هذا أني أعرف رجالاً يستغيثون ببعض الأحياء أو ببعض الأموات، فيراه يحول بينه وبين إيذاء أولئك، وربما رآه ضارباً له بسيف وإن كان الحال لا شعور له بذلك. وإنما ذلك من فعل الله سبحانه بسبب يكون بين المقصود وبين الرجل الدافع من أتباعه له في طاعة الله، فيما يأمره به من طاعة الله أو نحو ذلك، فهذا قريب" انتهى.
قال العراقي بعده: ووجه قربه أنه كرامة، وهو من فعل الله، والمجوزون لذلك يقولون: إن الله هو الفاعل وذلك المستغاث يكون سبباً ووسيلة، ولا ينكر هذا حتى العوام؛ فإنهم لا يقولون إن ذلك المستغاث يفعله بنفسه استقلالا، بل هو من الله تعالى وبأمره وبإذنه.
ثم قال: النقل الثاني عشر: قال في هذا الكتاب: " وكذلك ما يذكر من الكرامات وخوارق العادات التي توجد عند قبور الأنبياء والصالحين، مثل نزول الأنوار والملائكة عندها، وتوقي الشياطين والبهائم لها، واندفاع النار عنها وعمن يجاورها، وشفاعة بعضهم في جيرانه من الموتى، واستحباب الدفن عند بعضهم وحصول الأنس والسكينة عندها، فجنس هذا حق ليس مما نحن فيه. وفي قبور الأنبياء والصالحين من كرامة الله ورحمته وما لها عند الله من الحرمة والكرامة فوق ما يتوهمه أكثر الخلق. وكل هذا لا يقتضي استحباب الصلاة أو قصد الدعاء والنسك عندها، لما في قصد العبادات عندها من المفاسد التي علمها الشارع كما تقدم. فذكرت هذه الأمور لأنها مما يتوهم معارضته لما قدمناه وليس كذلك".
ص -140-(36/46)
هذا ما نقله العراقي من كتاب اقتضاء الصراط المستقيم.
وحاصل ما احتج به هذا الجاهل قول الشيخ: "وما روي أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فشكى إليه الجدب عام الرّمادة، وأن مثل هذا يقع كثيراً لمن هو دون النبي صلى الله عليه وسلّم وأعرف من هذا وقائع، وكذلك سؤال بعضهم للنبي صلى الله عليه وسلّم حاجة أو غيره من أمته فتقضى لهؤلاء السائلين الملحين ولو لم يجابوا لاضطرب إيمانهم. وكذلك من أتى إلى القبر واشتهى نوعاً من الأطعمة، فجاء إليه بعض الهاشميين به، وقال: إنه يقول: من يكون عندنا لا يشتهي مثل ذلك، اخرج من عندنا، وآخرون قضيت حوائجهم لاجتهادهم، وتقليدهم وقصورهم في العلم فإنه يغفر للجاهل ما لا يغفر لغيره. فزعم العراقي أن هذا دليل على جواز الطلب من أصحاب القبور.
وكذلك في دليله الثامن: نقل عن الشيخ: "وقد يعمل الرجل العمل الذي يعتقده صالحاً ولا يكون عالما أنه منهي عنه، فيثاب على حسن قصده، ويعفى عنه"، والنقل التاسع والعاشر نحو هذا، ونقل قول الشيخ: "وهذا ليس مما نحن فيه" ولم يفهم أن هذا يرد عليه ما نقل، وأن الكلام في التشريع وتقرير المنع والتحريم ليس في الأمور القدرية، والحوادث الكونية، ولم يفقه مراد الشيخ ومقصوده.
وحينئذ فنقول في جوابه:
لا بد من مقدمة نقدمها قبل الجواب؛ ليعلم الواقف على كتابنا ما صنع هؤلاء القبوريون من التحريف والتبديل لدين الله، والكذب على أهل العلم، فنقول:
موضوع هذا الكتاب الذي نقل منه العراقي في بيان النهي عن التشبه بالكفار في أعيادهم وما جاءت به الشريعة من مخالفتهم، ومخالفة الأعاجم والمشركين في هديهم وزيّهم وما هم عليه من الأوصاف المقتضية لغضب الله والطرائق الضالة الموجبة لسخط الله ومقته، وبالأخص مسألة الغلو في
ص -141-(36/47)
الأنبياء والصالحين وما يفعله أهل الكتاب من الضلال الواضح المستبين؛ وقرّر أدلة ذلك وقواعده، وأصوله ووسائله وذرائعه وذكر من النصوص والآثار والاعتبار ما فيه كفاية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
وأما ما نقله العراقي من هذا الكتاب فهي أسئلة وإيرادات أوردها الشيخ بقصد ردها ودفعها والجواب عنها، لئلا يغتر بها الغالون، ويشبه بها المحرفون، فأخذ العراقي تلك الإيرادات وانتزعها من الكلام وترك جوابها وكشفها بما قبلها وبما بعدها، وموّه على الجهّال والأغمار بأنّ الشيخ ذكر هذا في كتابه، وهذا من جنس لي الألسن بالكتاب، الذي وصف الله به اليهود في قوله تعالى: {يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ} (آل عمران: من الآية78)، وقد فسّر بهذا الجنس، وأن منه إقامة ما يظن أنه حجة في الدين وليس بحجّة، بل هذا أبلغ ما فسروا به ليّ الألسن، فإنه من جنس ما جرى لكثير من الفسّاق والكفّار في أخذ بعض الكلام، أو كلمة فقط في الجملة، ويدعون تمامها وما ارتبط بها، حتى أنشد بعضهم:
دع المساجد للعبّاد تسكنها
واذهب بنا إلى حانة الخمّار يسقينا
ما قال ربك ويل للأولى سكروا
بل قال ربك ويل للمصلينا(36/48)
ولا يتبين لك ما قلناه إلا بسياق كلام الشيخ في هذا المبحث، فإنه رحمه الله ذكر مشابهة المغضوب عليهم والضالين في أعيادهم الزمانية وقرّر ما في ذلك من المفاسد الموجبة للخروج عن الصراط المستقيم، بعد ما مهّد جملة من القواعد الكلية العامة والمسائل المفيدة التامة، وقرّر وأطال وبحث وأجاد المقال، ثم ذكر فصلاً في الأعياد المكانية، ,قسمها كالزمانية إلى ثلاثة أقسام، أحدها: مكان لا فضل له في الشريعة أصلاً، ولا فيه ما يوجب تفضيله، بل هو كسائر الأمكنة أو دونها، فقصد ذلك المكان أو قصد الاجتماع فيه لصلاة أو دعاء أو ذكر أو غير ذلك ضلال مبين، ثم إن كان به بعض آثار الكفار من اليهود والنصار أو غيرهم، صار أقبح وأشنع، وأدخل هذا
ص -142-(36/49)
الباب والباب قبله في مشابهة الكفار، وهذا نوع لا يمكن ضبطه، بخلاف الزماني، فإنه محصور. وهذا الضرب أقبح من الذي قبله، فإن هذا يشبه عبادة الأوثان أو هو ذريعة إليها أو نوع من عبادة الأوثان، كانوا يقصدون بقعة بعينها لتمثال هناك أو غير تمثال. يعتقدون أن ذلك يقربهم إلى الله، وكانت الطواغيت الكبار التي يشد إليها الرحال ثلاث: اللات، والعزّى، ومناة الثالثة الأخرى، كما ذكر الله تعالى في كتابه العزيز حيث قال: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى، أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى، تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى} (لنجم: 19 ـ22) كل واحدة من الثلاثة لمصر من أمصار العرب، والأمصار التي كانت من ناحية الحرم ومواقيت الحج ثلاثة: مكة والمدينة والطائف، فكانت اللات لأهل الطائف، وذكروا أنه كان في الأصل رجلاً صالحاً يلت السويق للحاجّ فلمّا مات عكفوا على قبره مدة ثم اتخذوا تمثاله، ثم بنوا عليه بنية سموها بيت الربة، وقصتها معروفة لما بعث النبي صلى الله عليه وسلّم لهدمها حين افتتحت الطائف بعد مكة سنة تسع من الهجرة. وأما العزّى فكانت لأهل مكة قريباً من عرفات هناك شجرة يذبحون عندها ويدعون، فبعث النبي صلى الله عليه وسلّم خالد بن الوليد عقب فتح مكة فأزالها وقسم النبي صلى الله عليه وسلّم مالها وخرجت منها شيطانة ناشزة شعرها فيئست الجزيرة أن تعبد في الجزيرة بعد ذلك، وأما مناة فكانت لأهل المدينة، بهلون لها بالمشلل شركاً بالله، وكانت حذو قديد، الجبل الذي بين مكة والمدينة من ناحية الساحل. ومن أراد أن يعلم كيف كانت أحوال المشركين ويعرف حقيقة الشرك الذي ذمّه الله وأنواعه حتى يتبين له تأويل القرآن ويعرف ما كرهه الله ورسوله، فلينظر سيرة النبي صلى الله عليه وسلّم وأحوال العرب وما ذكره الأزرقي قي أخبار مكة وغيره من العلماء، ولما كان للمشركين شجرة يعلقون عليها أسلحتهم ويسمونها ذات(36/50)
أنواط قال بعض الناس: "يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال: الله أكبر قلتم كما قال موسى لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، ثم قال: إنها السنن لتركبن سنن من كان قبلكم" فأنكر النبي صلى الله عليه وسلّم مجرد مشابهتهم الكفار في اتخاذ شجرة يستظلون بها معلقين عليها سلاحهم،
ص -143-
فكيف بما هو أطم من ذلك من مشابهة المشركين أو هو الشرك بعينه؟ فمن قصد بقعة يرجو الخير بقصدها، ولم تستحب الشريعة ذلك فهو من المنكرات وبعضه أشد من بعض سواء كانت البقعة شجرة أو عين ماء أو قناة جارية أو جبلا أو مغارة، وسواء قصدها ليصلي عندها أو ليدعو عندها أو ليقرأ عندها، أو ليذكر الله سبحانه، أو ليتنسّك عندها، بحيث يخص تلك البقعة بنوع من العبادات التي لم يشرع تخصيص تلك البقعة به لا عينا ولا نوعا ـ ثم ذكر النذر لتلك الأماكن وقرّر تحريمه والمنع منه، ولو للمجاورين والسدنة العاكفين، وقرّر مشابهتهم للسدنة التي كانت للات والعزّى ومناة، يأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدون عن سبيل الله، وفيه شبه من النذر لسدنة الصلبان، وسدنة الأبدال التب بالهند ـ ثم قال: فمن هذه الأمكنة عدّة أمكنة بدمشق مثل: مشهد لأبي بن كعب خارج الباب الشرقي، ولا خلاف بين أهل العلم أن أبي بن كعب إنما توفي بالمدينة ولم يمت بدمشق، وكذلك مكان بالحائط القبلي بجامع دمشق يقال: إن فيه قبر هود عليه السّلام، وما علمتُ أحداً ذكر أن هوداً النبي مات بدمشق، بل قد قيل: إنه مات باليمن، وقيل: بمكة، فإن مبعثه كان باليمن ومهاجره بعد هلاك قومه إلى مكة ـ وعدّ جملة من المشاهد المكذوبة بدمشق ومصر والحجاز ـ ثم قال: هذه البقاع التي يعتقد لها خصيصة كائنة ما كانت، فإن تعظيم مكان لم يعظمه الشرع شر من تعظيم زمان لم يعظمه. فإن تعظيم الأجسام بالعبادة عندها أقرب إلى عبادة الأوثان من تعظيم الزمان، حتى إن الذي ينبغي تجنب الصلاة عندها وإن كان المصلي لا(36/51)
يقصد تعظيمها؛ لئلا يكون ذلك ذريعة إلى تخصيصها بالصلاة فيها، كما ينهى عن الصلاة عند القبور المحققة، وإن لم يكن المصلي يقصد الصلاة لأجلها. ـ إلى أن قال ـ: وهذه المشاهد الباطلة إنما وضعت مضاهاة لبيوت الله وتعظيماً لما لم يعظمه الله وعكوفاً على أشياء لا تنفع ولا تضر، وصداً للخلق عن سبيل الله. وهي عبادته وحده لا شريك له بما شرعه الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، واتخاذها عيداً
ص -144-
والاجتماع عندها واعتياد قصدها؛ فإن العيد من المعاودة ـ إلى أن قال ـ: وأكثر ما تجد الحكايات المتعلقة بهذا عند السدنة والمجاورين لها الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدون عن سبيل الله، وقد يحكى من الحكايات التي فيها تأثير مثل: أن رجلا دعا عندها فاستجيب له، أو نذر لها إن قضى الله حاجته فقضيت حاجته ونحو ذلك. وبمثل هذه الأمور كانت تعبد الأصنام؛ فإن القوم أحياناً كانوا يخاطبون من الأوثان، وربما تقضي حوائجهم إذا قصدوها، وكذلك يجري لأهل الأبدال من أهل الهند وغيرهم، وربما قيست على ما شرع الله تعظيمه من بيته المحجوج والحجر الأسود الذي شرع الله استلامه وتقبيله كأنه يمينه. والمساجد التي هي بيوته، وإنما عبدت الشمس والقمر بالمقاييس وبمثل هذه الشبهات حدث الشرك في أهل الأرض.
قلت: فأين العراقي عن هذه العبارة التي فيها أن الاستدلال باستجابة الدعاء وقضاء الحاجة من الشبهات التي حدث الشرك في الأرض بسببها؟.
ثم قال الشيخ: وأما إجابة الدعاء فقد يكون سببه اضطرار الداعي وصدقه. وقد يكون سبه مجرد رحمة الله، وقد يكون أمراً قضاه الله لا لأجل دعائه، وقد يكون له أسباب أخرى وإن كانت فتنة في حقّ الدّاعي، فإنّا نعلم أن الكفار قد يستجاب لهم، فيسقون وينصرون ويعافون ويرزقون مع دعائهم عند أوثانهم وتوسلهم، وقد قال سبحانه وتعالى: {كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ(36/52)
مَحْظُوراً} (الاسراء:20)، وقال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} (الجن:6)، وأسباب المقدورات فيها أمور يطول تعدادها. ليس هذا موضع تفصيلها، وإنما على الخلق اتباع ما بعث الله به المرسلين، والعلم بأن فيه خير الدنيا والآخرة، ثم قال:
ص -145-
فصل:
النوع الثاني من الأمكنة: ماله خصيصة، لكن لا يقتضي اتخاذه عيدا ولا الصلاة ونحوها من العبادات عنده؛ فمن هذه: قبور الأنبياء والصالحين وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم والسلف النهي عن اتخاذها عيداً، عموما وخصوصا بين معنى العيد ـ ثم ساق حديث أبي هريرة في النهي عن اتخاذ قبره صلى الله عليه وسلّم عيداً، وصحّح الحديث، وجزم بأنّ كل جملة منه رويت عن النبي صلى الله عليه وسلّم بأسانيد معروفة، وساق طرفاً من ذلك وقرّر وأفاد، ثم ذكر استحباب زيارة القبور الشرعية، وساق الأحاديث في ذلك، وذكر حرمة قبر المسلم، ثم ذكر مسألة السفر لقبور الأنبياء والصالحين هل هو جائز يباح فيه قصر الصلاة أو هو معصية لا يجوز فيه قصر الصلاة؟ وذكر في المسألة قولين لأهل العلم ورجّح المنع، لحديث: "لا تشد الرّحال إلا لثلاثة مساجد" ثم ذكر الصلاة عند القبور مطلقاً، وبناء المساجد عليها، وساق الأحاديث والنصوص المانعة من ذلك، وما فيها من التغليظ، وذكر ذلك عن عامة علماء الطوائف، وذكر الأحاديث التي فيها لعن من فعله من أهل الكتابين، ثم قال ـ: فهذه المساجد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين والملوك وغيرهم يتعين إزالتها بهدم أو بغيره، هذا مما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء المعروفين ـ ثم ذكر العلة في تحريم الصلاة عند القبور، وإنذها ذريعة إلى تعظيم من فيها بالعبادة، وإنّها مظنة لاتخاذها أوثاناً، كما قال الشافعي رحمه الله: "أكره أن يعظم مخلوق، حتى يجعل قبره مسجداً مخافة الفتنة عليه وعلى
ص -146-(36/53)
من بعده من الناس"، وذكر هذا عن أبي بكر الأثرم وغيره من أصحاب أحمد وسائر العلماء، ثم ردّ تعليل بعضهم النهي عن اتخاذ القبور مساجد بالنجاسة أو مظنتها، ورده بوجوه منها: أن قبور الأنبياء أطهر البقاع، وقد لعن من اتخذها مساجد، وتواتر الحديث بذلك، وبوجوه غير هذا ذكرها وقرّرها. وذكر أن سبب عبادة اللات تعظيم قبره، وكذلك ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر أسماء قوم صالحين بين آدم ونوح عليهما السلام، وصوروا تماثيلهم ثم عبدوهم. قال: وهذه العلة التي لأجلها نهى الشارع، وهي التي أوقعت كثيراً من الأمم إما في الشرك الأكبر أو فيما دونه من الشرك؛ فإنّ النفوس قد أشركت بتماثيل القوم الصالحين وبتماثيل يزعمون أنها طلاسم للكواكب، ونحو ذلك. فإن يشرك بقبر الرجل الذي يعتقد نبوته أو صلاحه أعظم من أن يشرك بخشبة أو حجر على تمثاله؛ ولهذا تجد أقواماً كثيرين يضرعون عندها ويتخشعون ويعبدون بقلوبهم عبادة لا يفعلونها في المسجد بل ولا في السحر. ومنهم من يسجد لها وأكثرهم يرجون من بركة الصلاة عندها والدعاء ما لا يرجونه في المساجد التي تشد إليها الرحال، فهذه المفسدة التي هي مفسدة الشرك كبيره وصغيره هي التي حسم النبي صلى الله عليه وسلم مادتها حتى نهى عن الصلاة في المقبرة مطلقاً وإن لم يقصد المصلي بركة البقعة بصلاته، كما يقصد بصلاته بركة المساجد الثلاثة ونحو ذلك، كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس واستوائها وغروبها لأنها الأوقات التي يقصد المشركون بركة الصلاة للشمس فيها فنهى المسلم عن الصلاة حينئذ وإن لم يقصد ذلك سداً للذّريعة. وأما إذا قصد الرجل الصلاة عند قبور الأنبياء والصالحين متبركاً بالصّلاة في تلك البقعة فهذا عين المحادة لله ورسوله والمخالفة لدينه وابتداع دين لم يأذن به الله، فإن المسلمين قد أجمعوا على ما علموه بالاضطرار من دين الرسول صلى الله عليه وسلم من أن الصلاة عند القبر أي قبر كان لا فضل فيها لذلك ولا للصلاة في(36/54)
تلك البقعة مزية خير أصلاً بل مزية شر. واعلم أن تلك البقعة وإن كانت تنزل عندها الملائكة والرحمة، ولها شرف وفضل لكن دين الله تعالى بين الغالي فيه
ص -147-
والجافي عنه، فإنّ النصارى عظموا الأنبياء حتى عبدوهم وعبدوا تماثيلهم، واليهود استخفوا بهم حتى قتلوهم، والأمة الوسط عرفوا مقاديرهم فلم يغلوا فيهم غلو النصارى ولم يجفوا عنهم جفاء اليهود؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله". إلى أن قال: وإنما حقوق الأنبياء في تعزيرهم وتوقيرهم ومحبتهم محبة مقدمة على النفس والأهل والمال وإيثار طاعتهم ومتابعة سننهم ونحو ذلك من الحقوق التي من قام بها لم يقم بعبادتهم والإشراك بهم، كما أن عامة من يشرك بهم شركاً أكبر أو أصغر يترك ما يجب عليه من طاعتهم بقدر ما ابتدعه من الإشراك بهم ـ ثم ذكر نزاع الفقهاء في الصلاة في المقبرة، هل هي محرمة أو مكروهة؟ ورجّح التحريم للنصوص الدّالة، ثم ذكر الدعاء عندها وقرّر المنع ـ ثم قال: وما يرويه بعض الناس من أنه قال: "إذا تحيرتم في الأمور فاستعينوا بأهل القبور" ونحو هذا فهو كلام موضوع مكذوب باتفاق العلماء. والذي يبين ذلك أمور: أحدها: أنه قد تبين أن العلة التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم لأجلها ـ ثم بسط الكلام في هذه المسألة، واحتج واستدل.
ثم أورد سؤالاً يورده من يتبرك بالدّعاء عند القبور، ويرى فضله: "فإن قيل: قد نقل عن بعضهم أنه قال: قبر معروف الترياق المجرب، ويروى عن معروف أنه أوصى ابن أخيه أن يدعو عند قبره، وذكر أبو علي الخرقي في قصص من هجره أحمد أن بعض هؤلاء المهجورين كان يجيء إلى عند قبر أحمد ويتوخى الدعاء عنده وأظنه ذكر ذلك المروزي، ونقل عن جماعات بأنهم دعوا عند قبور جماعات من الأنبياء والصالحين من أهل البيت وغيرهم فاستجيب لهم الدعاء. وعلى هذا عمل كثير من الناس، وقد ذكر العلماء في(36/55)
مناسك الحج إذا زار قبر النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يدعو عنده، وذكر بعضهم أن من صلى عليه سبعين مرة عند قبره ودعا استجيب له، وذكر بعض الفقهاء في حجة من يجوز القراءة على القبر أنه بقعة يجوز السلام والذكر والدعاء عندها فجازت القراءة. فقد رأى بعضهم منامات في الدعاء عند قبر بعض
ص -148-
الأشياخ، وجرّب أقوام استجابة الدّعاء عند قبور معروفة كقبر الشيخ أبي الفرج الشيرازي المقدسي وغيره، وقد أدركنا في أزمامنا وما قاربها من ذوي الفضل علماً وعملاً من كان يتحرى الدعاء عندها والعكوف عليها، وفيهم من كان بارعاً في العلم وفيهم من له كرامات، فكيف يُخالَف هؤلاء؟ وإنما ذكرت هذا السؤال مع بعده عن طريق العلم والدين؛ لأنه غاية ما يتمسك به القبوريون".
ثم أجاب عن هذا السؤال بقوله: "قلنا الذي ذكرنا كراهته لا ينقل في استحبابه شيء ثابت عن القرون الثلاثة التي أثنى النبي صلى الله عليه وسلّم عليها حيث قال: "خير أمتي القرن الذي بعثت فيه، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم" مع شدة المقتضى فيهم لذلك لو كان فيه فضيلة. فعدم أمرهم وفعلهم لذلك مع قوة المقتضى لو كان فيه فضل يوجب القطع بأن لا فضل فيه. وأمّا من بعد هؤلاء فأكثر ما يفرض أن الأمة اختلفت فصار كثير من العلماء إلى فعل ذلك وصار بعضهم إلى النهي عن ذلك، فإنه لا يمكن أن يقال: قد اجتمعت الأمة على استحسان ذلك لوجهين:
أحدهما: أن كثيرا من الأمة كره ذلك وأنكره قديماً وحديثاً.
الثاني: أنه من الممتنع أن تتفق الأمة على استحسان فعل لو كان حسناً لفعله المتقدمون ولم يفعلوه. فإنّ هذا من باب تناقض الاجماعات وهي لا تتناقض. وإذا اختلف فيه المتأخرون فالفاصل بينهم هو الكتاب أوالسنة وإجماع المتقدمين نصاً واستنباطاً. فكيف ـ والحمد لله ـ لم ينقل هذا عن إمام معروف ولا عالم متبع؟ بل المنقول في ذلك إما أن يكون كذباً على صاحبه، مثل ما حكى بعضهم عن الشافعي رحمه الله أنه قال:(36/56)
"إذا نزلت بي شدة أجيء فأدعو عند قبر أبي حنيفة الله فأُجاب" أو كلاما هذا معناه، وهذا كذب معلوم كذبه بالاضطرار عند من له أدنى معرفة بالنقل؛ فإن الشافعي لما قدم ببغداد لم يكن ببغداد لأبي حنيفة ولا غيره قبر ينتاب للدعاء عنده ألبتة، بل ولم يكن هذا معروفاً على عهد االشافعي، وقد رأى الشافعي بالحجاز واليمن والعراق والشام
ص -149-
ومصر من قبور الأنبياء والصحابة والتابعين من كان أصحابها عنده وعند المسلمين أفضل من أبي حنيفة وأمثاله من العلماء، فما باله لم يتوخ الدعاء إلا عند قبر أبي حنيفة؟ ثم أصحاب أبي حنيفة الذين أدركوه مثل أبي يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد وطبقتهم لم يكونوا يتحرون الدعاء لا عند قبر أبي حنيفة ولا غيره. ثم قد تقدم عن الشافعي ما هو ثابت في كتابه من كراهة تعظيم قبور الصالحين خشية الفتنة بها، وإنما يضع مثل هذه الحكايات من يقل علمه ودينه.
وإما أن يكون المنقول من هذه الحكايات عن مجهول لا يعرف ونحن لو روي لنا بالطريق التي روي بها مثل هذه الحكايات المسيبة أحاديث عمن لا ينطق عن الهوى لما جاز التمسك بها حتى تثبت فكيف بالمنقول عن غيره؟ ومنها ما قد يكون صاحبه قاله أو فعله باجتهاد يخطئ أو يصيب، أو قاله بقيود وشروط كثيرة على وجه لا محذور فيه. فحرّف النقل عنه كما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أذن في زيارة القبور بعد النهي فهم المبطلون أن ذلك هو الزيارة التي يفعلونها من حجها للصلاة عندها والاستغاثة بها، ثم سائر هذه الحجج دائرة بين نقل لا يجوز إثبات الشرع به، أو قياس لا يجور استحباب العبادات بمثله، مع العلم بأن الرسول صلى الله عليه وسلّم لم يشرعها وتركه مع قيام المقتضي للفعل بمنزلة فعله، وإنه لا يثبت العبادات بمثل هذه الحكايات والمقاييس من غير نقل عن الأنبياء إلا النصارى وأمثالهم. وإنما المتبع في إثبات أحكام الله عز وجل كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وسبيل السابقين(36/57)
الأولين لا يجوز إثبات حكم شرعي بدون هذه الأصول الثلاثة نصا واستنباطا بحال.
والجواب عنها من وجهين مجمل ومفصل:
أما المجمل فالنقض فإن اليهود والنصارى عندهم من الحكايات والقياسات من هذا النمط كثير بل المشركون الذين بعث إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا يدعون عند أوثانهم فيستجاب لهم أحيانا كما قد يستجاب لهؤلاء أحيانا وفي وقتنا هذا عند النصارى من هذا طائفة. فإن كان هذا وحده دليلا على أنّ الله تعالى
ص -150-(36/58)
يرضى ذلك ويحبه فليطرد الدليل وذلك كفر متناقض، ثم إنك تجد كثيراً من هؤلاء الذين يستغيثون عند قبر أو غيره كل منهم قد اتخذ وثنا وأحسن الظن به وأساء الظن بآخر، وكل منهم يزعم أن وثنه يستجاب عنده ولا يستجاب عند غيره فمن المحال إصابتهم جميعاً وموافقة بعضهم دون بعض تحكم وترجيح بلا مرجح، والتدين بدينهم جميعاً جمع بين الأضداد. فإن أكثر هؤلاء إنما يكون تأثرهم فيما يزعمون بقدر إقبالهم على وثنهم وانصرافهم عن غيره، وموافقتهم جميعاً فيما يثبتونه دون ما ينفونه بضعف التأثير على زعمهم. فإن الواحد إذا أحسن الظن بالإجابة عند هذا وهذا لم يكن تأثيره مثل تأثير الحسن الظن بواحد دون آخر، وهذا كله من خصائص الأوثان، ثم قد استجيب لبلعام بن باعوراء في قوم موسى المؤمنين وسلبه الله الإيمان. والمشركون قد يستسقون فيسقون ويستنصرون فينصرون.
وأما الجواب المفصل فنقول: مدار هذه الشبهة على أصلين منقول، وهو ما يحكى من فعل هذا الدعاء عن بعض الأعيان. ومعقول وهو ما يعتقد من منفعته بالتجارب والأقيسة.
فأما النقل في ذلك فإما كذب أو غلط أوليس بحجة، بل قد ذكرنا من النقل عمن يقتدى به بخلاف ذلك.
وأما المعقول فنقول: عامة المذكور من المنافع كذب؛ فإن هؤلاء الذين يتحرون الدعاء عند القبور وأمثالهم إنما يستجاب لهم في النادر يدعو الرجل منهم ما شاء الله من دعوة فيستجاب له في واحدة ويدعو خلق كثير منهم فيستجاب للواحد بعد الواحد وأين هذا من الذين يتحرون الدعاء في أوقات الأسحار، ويدعون الله عز وجل في سجودهم وأدبار صلواتهم وفي بيوت الله؟ فإنّ هؤلاء إذا ابتهلوا من جنس ابتهال المقابريين لم يكد يسقط لهم دعوة إلا لمانع، بل الواقع أن الابتهال الذي يفعله المقابريون إذا فعله المخلصون لم يرد دعاء المخلصين إلا نادراً، ولم يستجب للمقابريين إلا نادرا والمخلصون
ص -151-(36/59)
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى خصال ثلاث: إما أن يعجل الله له دعوته، أو يدخر له من الخير مثلها، أو يصرف عنه من الشر مثلها. قالوا: يا رسول الله إذا نكثر؟ قال: الله أكثر". فهم في دعائهم لا يزالون بخير. وأما القبوريون فإنهم إذا استجيب لهم نادراً فإنّ أحدهم يضعف توحيده ويقل نصيبه من ربه، ولا يجد في قلبه من ذوق طعم الإيمان وحلاوته ما كان يجده السابقون الأولون. ولعله لا يكاد يبارك له في حاجته اللهم إلا أن يعفو الله عنهم لعدم علمهم بأن ذلك بدعة؛ فإن المجتهد إذا أخطأ أثابه الله عز وجل على اجتهاده وغفر له خطأه، وجميع الأمور التي يظن أن لها تأثيراً في العالم وهي محرمة في الشرع كالتمريخات الفلكية والتوجهات النفسانية كالعين أو الدعاء المحرم والرقي المحرمة والتمريخات الطبيعية ونحو ذلك فإن مضرتها أكثر من منفعتها حتى في نفس ذلك المطلوب. فإن هذه الأمور لا يطلب بها غالبا إلا أمور دنيوية فقلّ أن يحصل لأحد بسببها أمر دنيوي إلا كانت عاقبته فيه في الدنيا عاقبة خبيثة دع الآخرة. والمخفق من هذه الأسباب أضعاف أضعاف المنجح، ثم إن فيها من النكد والضرر ما الله به عليم، فهي في نفسها مضرة لا يكاد يحصل الغرض بها إلا نادراً، وإذا حصل فضرره أكثر من نفعه، والأسباب المشروعة في حصول هذه المطالب المباحة والمستحبة سواء كانت طبيعية كالتجارة والحراثة أو كانت دينية كالتوكل على الله والثقة به، وكدعاء الله سبحانه على الوجه المشروع في الأمكنة والأزمنة التي فضلها الله ورسوله بالكلمات المأثورة عن إمام المتقين صلى الله عليه وسلم كالصدقة وفعل المعروف يحصل بها الخير المحض أو الغالب وما يحصل من ضرر بفعل مشروع أو ترك غير مشروع مما نهى عنه فإن ذلك الضرر مكثور في جانب ما يحصل من المنفعة. وهذا الأمر كما أنه قد دل عليه الكتاب والسنة والإجماع فهو(36/60)
أيضاً معقول بالتجارب المشهورة والأقيسة الصحيحة، فإنّ الصلاة والزكاة يحصل بهما خير الدنيا والآخرة ويجلبان كل خير ويدفعان كل شر، فهذا الكلام في بيان أنه لا يحصل بتلك
ص -152-
الأسباب المحرمة لا خير محض ولا غالب، ومن كان له خبرة بأحوال العالم وعقل يتيقن ذلك يقينا لا شك فيه.
وإذا ثبت ذلك فليس علينا من سبب التأثير أحياناً فإن الأسباب التي يخلق الله بها الحوادث في الأرض والسماء لا يحصيها على الحقيقة إلا هو، أما أعيانها فيلا ريب، وكذلك أنواعها أيضا لا يضبطها المخلوق لسعة ملكوت الله سبحانه وتعالى؛ ولهذا كانت طريقة الأنبياء عليهم الصّلاة والسلام أنهم يأمرون الخلق بما فيه صلاحهم وينهونهم عما فيه فسادهم، ولا يشغلونهم بالكلام في أسباب الكائنات كما يفعل المتفلسفة فإن ذلك كثير التعب قليل الفائدة أو موجب للضرر، ومثل النبي صلى الله عليه وسلم مثل طبيب دخل على مريض فرأى مرضه فعلمه، فقال له: اشرب كذا، واجتنب كذا ففعل ذلك. فحصل غرضه من الشفاء. والمتفلسف قد يطول معه الكلام في سبب ذلك المرض وصفته وذمه وذم ما أوجبه ولو قال له المريض: فما الذي يشفيني منه؟ لم يكن له بذلك علم تام، والكلام في بيان تأثير بعض هذه الأسباب قد يكون فيه فتنة لمن ضعف عقله ودينه؛ بحيث يختطف عقله، فيتألهه إذا لم يرزق من العلم والإيمان ما يوجب له الهدى واليقين. ويكفي العاقل أن يعلم أن ما سوى المشروع لا يؤثر بحال فلا منفعة فيه أو أنه وإن أثر فضرره أكبر من نفعه.
ثم سبب قضاء حاجة بعض هؤلاء الداعين الأدعية المحرمة أن الرجل منهم قد يكون مضطراً ضرورة لو دعا الله بها مشرك عند وثن لاستجيب له لصدق توجهه إلى الله وإن كان تحري الدعاء عند الوثن شركا، ولو كان قد استجيب له على يد المتوسل به صاحب القبر أو غيره لاستغاثته فإنه يعاقب على ذلك ويهوي به في النار إذا لم يعف الله عنه فيوفقه لتوبة نصوح، كما لو طلب من الله عزّ وجلّ ما يكون فتنة(36/61)
له كما أن ثعلبة لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له بكثرة المال ونهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك مرة بعد مرة فلم ينته حتى دعا له وكان ذلك سبب شقائه في الدنيا والآخرة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل
ص -153-
ليسألني المسألة فأعطيه إياها فيخرج بها يتأبطها ناراً. قالوا: يا رسول الله، فلم تعطهم؟ قال: يأبون إلا أن يسألوني ويأبى الله لي البخل". فكم من عبد دعا دعاء غير مباح فقضيت حاجته في ذلك الدعاء وكانت سبب هلاكه في الدنيا والآخرة، تارة بأن يسأله ما لا يصح له مسألته كما فعل بلعام بن باعورا وثعلبة وخلق كثير دعوا بأشياء فحصلت لهم وكان فيها هلاكهم. وتارة بأن يسأل على الوجه الذي لا يحبه الله كما قال سبحانه: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (لأعراف:55) فهو سبحانه وتعالى لا يحب المعتدين في صفة الدّعاء ولا في المسؤال، ولكن حاجتهم قد تقضى كأقوام ناجوا الله تعالى في دعواتهم بمناجاة فيها جرأة على الله واعتداء لحدوده، وأُعطوا طلبتهم فتنة ولما يشاء الله سبحانه وتعالى بل أشد من ذلك ألست ترى السِّحْر والطلسمات والعين وغير ذلك من المؤثرات في العالم بإذن الله قد يقضي الله بها كثير من أغراض النفوس الخبيثة، ومع هذا فقد قال سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (البقرة: 102 ـ 103) فإنهم معترفون بأنه لا ينفع في الآخرة وأن صاحبه خاسر في الآخرة وإنما يتشبثون بمنفعته في الدنيا. وقد قال تبارك تعالى: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ} (البقرة: من الآية102). كذلك أنواع من الداعين السائلين قد يدعون(36/62)
دعاء محرماً يحصل معه ذلك الغرض، ويورثهم ضررا أعظم منه. وقد يكون الدعاء مكروها ويستجاب له أيضا، ثم هذا التحريم والكراهة قد يعلمه الداعي وقد لا يعلمه على وجه لا يعذر فيه بتقصيره في طلب العلم أو ترك الحق، وقد لا يعلمه على وجه يعذر فيه بأن يكون فيه مجتهدا أو مقلدا كالمجتهد والمقلد اللذين يعذران في سائر الأعمال المعذور فيها. وغيره قد يتجاوز عنه في ذلك الدعاء لكثرة حسناته، وصدق قصده، أو لمحض رحمة الله عز وجل به، أو نحو ذلك من الأسباب.
فالحاصل أن ما يقع من الدعاء المشتمل على كراهة شرعية قد تغفر
ص -154-(36/63)
تلك الكراهة بمنزلة سائر أنواع العبادات، وقد علم أن العبادات المشتملة على وصف مكروه قد تغفر تلك الكراهة لصاحبها لاجتهاده أو تقليده أو حسناته أو غير ذلك، ثم ذلك لا يمنع أن يعلم أن ذلك مكروه ينهى عنه وإن كان هذا الفاعل المعين قد زال موجب الكراهة في حقه، ومن هنا يغلط كثير من الناس فإنهم يبلغهم أن بعض الأعيان من الصالحين عبدوا عبادة أو دعوا دعاء وجدوا لتلك العبادة والدعاء، ويجعلون ذلك العمل سنة كأنه قد فعله نبي، وهذا غلط لما ذكرناه خصوصاً إذا كان العمل إنما كان أثره لصدق قام بقلب فاعله حين الفعل ثم يفعله الأتباع صورة لا صدقا فيضربون به؛ لأنه ليس العمل مشروعاً فيكون لهم ثواب المتبعين، ولا قام بهم صدق ذلك الفاعل لفعله بصدق الطلب وصحة القصد يكفر عن الفاعل.
ومن هذا الباب ما يحكى من آثار لبعض الشيوخ حصلت في السماع المبتدع فإن تلك الآثار إنما كانت عن أحوال قامت بقلوب أولئك الرجال حركها محرك كانوا في سماعه إما مجتهدين وإما مقصرين تقصيرا غمره حسنات قصدهم، فيأخذ الأتباع حضور صورة السماع حضور أولئك الرجال سنة تتبع، ولا مع المقتدين من الصدق والقصد ما لأجله عذروا أو غفر لهم فيهلكون بذلك، وكما يحكى عن بعض الشيوخ أنه رؤي بعد موته فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: أوقفني بين يديه، وقال: يا شيخ السوء أنت الذي كنت تتمثل فيّ بسعدي ولبني، لولا أعلم أنك صادق لعذبتك(1).
فإذا سمعت دعاء أو مناجاة مكروهة في الشرع قد قضيت حاجة صاحبها فكثيراً ما يكون من هذا الباب؛ ولهذا كان الأئمة العلماء بشريعة الله يكرهون(36/64)
__________
(1) ومن الذي يصدق مثل هذه المنامات التي يختلقها الصوفية الكذبة؟ وكل ما يحكونه عن شيوخهم من الأحوال والمواجيد فهو كذب كله وافتراء؛ يموهون به على العوام وبأي وجه يصدق المؤمن مثل ما يحكيه سمنون وأمثاله عن أنفسهم ومواجيدهم، والتهمة إليهم أقرب، فضلاً عن أن يدعي لهم ما يشبه العصمة التي تجعل كل ما يحكون عن مواجيدهم الرهبانية والقسيسية الشيطانية صدقاً، يستدل بها على ما يقره الكتاب والسنة ولا يعرفه الصحابة أئمة الهدى رضي الله عنهم.
ص -155-(36/65)
هذا من أصحابهم، وإن وجد أصحابهم أثره كما يحكى عن سمنون المحب، قال: "وقع في قلبي شيء من هذه الآيات، فجئت إلى دجلة فقلت: وعزتك لا أذهب حتى يخرج لي حوت، وخرج حوت عظيم" أو كما قال فبلغ ذلك الجنيد فقال: "كنت أحب أن تخرج إليه حية فتقتله"، وكذلك حكي لنا: "أن بعض المجاورين بالمدينة المنورة جاء إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فاشتهى عليه نوعا من الأطعمة فجاء بعض الهاشميين إليه فقال إن النبي صلى الله عليه وسلم بعث لك ذلك، وقال لك: اخرج من عندنا فإن من يكون عندنا لا يشتهي مثل هذا"، وآخرون قضيت حوائجهم ولم يقل لهم مثل هذا لاجتهادهم أو تقليدهم أو قصورهم في العلم فإنه يغفر للجاهل مالا يغفر لغيره، كما يحكى عن برخ العابد الذي استسقى في بني إسرائيل؛ وهكذا عامة ما يحكى من هذا الباب إنما هو من قاصري المعرفة، ولو كان هذا شرعاً أو ديناً لكان أهل المعرفة أولى به.
ثم قال: وقد علمت جماعة ممن سأل حاجته من بعض المقبورين من الأنبياء والصالحين فقضيت حاجته وهو لا يخرج عما ذكرته، وليس ذلك بشرع فيتبع ولا سنة، وإنما يثبت استحباب الأفعال واتخاذها ديناً بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما كان عليه السابقون الأولون، وما سوى هذا من الأمور المحدثات فلا يستحب وإن شملت أحياناً على فوائد؛ لأنا نعلم أن مفاسدها راجحة على فوائدها.
ثم هذا التحريم أو الكراهة المقترنة بالأدعية المكروهة إما من جهة المطلوب وإما من جهة نفس الطلب.
وتكلّم على الأول، ومثّل له بأمثلة، ثم قال: "وأما التحريم من جهة الطلب فيكون تارة دعاء لغير الله، مثل ما يفعله السحرة من مخاطبة الكواكب وعبادتها، ونحو ذلك. فإنه قد يقضى عقب ذلك أنواع من القضاء إذا لم يعارضه معارض من دعاء أهل الإيمان وعبادتهم وغير ذلك؛ ولهذا تنفذ هذه الأمور في أزمان فترة من الرسل وفي بلاد الكفر والنفاق مالا تنفذ في دار
ص -156-(36/66)
الإيمان وزمانه، ومن هذا أني أعرف رجالا يستغيثون ببعض الأحياء في شدائد تنزل بهم فيفرج عنهم، وربما عاينوا أموراً. وذلك الحي المستغاث به لم يشعر بذلك، ولا علم له به ألبتة وفيهم من يدعو على أقوام أو يتوجه في إيذائهم فيرى بعض الأحياء أو بعض الأموات يحول بينه وبين إيذاء أولئك، وربما رآه ضارباً له بسيف وإن كان الحائل لا شعور له بذلك، وإنما ذلك من فعل الله سبحانه وتعالى؛ بسبب يكون بين المقصود وبين الرجل الدافع من اتباع له وطاعة فيما يأمره من طاعة الله عز وجل ونحو ذلك فهذا قريب.
وقد يجري لعبّاد الأصنام أحياناً من هذا الجنس المحرم محنة من الله عزّ وجلّ بما يفعله الشياطين لأعوانهم فإذا كان الأثر قد يحصل عقب دعاء من يتيقنا أنه لم يسمع الدعاء، فكيف يتوهم أنه هو الذي تسبب في ذلك؟ أو أن له فيه فعلاً؟ وإذا قيل: إن الله يفعله بذلك السبب، فإذا كان ذلك السبب محرماً لم يجز كالأمراض التي يحدثها الله عز وجلّ عقب أكل السموم، وقد يكون الدّعاء المحرم في نفسه دعاء لغير الله أن يدعو الله، كما تقول النصارى: يا والدة الإله اشفعي لنا إلى الإله، وقد يكون دعاء لله لكنه توسل إليه بما لا يحب أن يتوسل به إليه، كما يفعل المشركون الذين يتوسلون إلى الله عز وجل بأوثانهم، وقد يكون دعاء لله عز وجل بكلمات لا تصلح أن يناجي بها الله عز وجل ويدعي بها، لما في ذلك من الاعتداء.
فهذه الأدعية ونحوها، وإن كان قد يحصل لصاحبها أحيانا غرضه لكنها محرمة لما فيها من الفساد الذي يربو على منفعتها كما تقدم؛ ولهذا كانت هذه فتنة في حق من لم يهده الله عز وجل وينور قلبه، ويفرق بين أمر التكوين وأمر التشريع، ويفرق بين القدر والشرع، ويعلم أن الأقسام ثلاثة:
أمور قدرها الله عز وجل، وهو لا يحبها ولا يرضاها فإن الأسباب المحصلة بهذه الأمور تكون محرمة موجبة لعقابه.
وأمور شرعها فهو يحبها من العبد ويرضاها، ولكن لم يعنه على حصولها، فهذه محمودة(36/67)
عنده مرضية وإن لم توجد.
والقسم الثالث: أن يعين الله العبد على ما يحبه، فالأول: إعانة، والثاني: عبادة، والثالث: جمع له بين العبادة والإعانة كما قال
ص -157-
تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، فما كان من الدعاء غير المباح ذا أثر فهو من باب الإعانة لا العبادة كدعاء سائر الكفار والمنافقين والفساق؛ ولهذا قال تعالى في مريم: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ} (التحريم: من الآية12)، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم: "يستعيذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر" ومن رحمة الله تعالى أنّ الدعاء المتضمن شركا كدعاء غيره أن يفعل أو دعائه أن يدعو الله ونحو ذلك لا يحصل غرض صاحبه، ولا يورث حصول الغرض إلاّ في الأمور الحقيرة فأما الأمور العظيمة كإنزال الغيث عند القحوط، وكشف العذاب النازل فلا ينفع فيه هذا الشرك كما قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} (الأنعام: 40 ـ 41)، وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْأِنْسَانُ كَفُوراً} (الاسراء:67)، وقال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ} (النمل: من الآية62)، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً، أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ(36/68)
رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} (الاسراء:56 ـ 57)، وقال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ، قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} (الزمر:43 ـ44).
فكون هذه المطالب العظيمة لا يستجيب الدّعاء فيها إلا هو سبحانه، دل على توحيده وقطع شبهة من أشرك به، وعلم بذلك أن ما دون هذا أيضاً من الإجابات إنما فعلها هو سبحانه وحده لا شريك له، وإن كانت تجري بأسباب محرمة أو مباحة، كما أن خلقه السّموات والأرض والرياح والسحاب وغير ذلك من الأجسام العظيمة دل على وحدانيته، وأنه خالق لكل شيء وأن ما دون هذا بأن يكون خلقاً له أولى إذ هو منفعل عن الأسباب التي هي مخلوقاته العظيمة. فخالق السبب التام خالق للمسبب لا محالة وجماع الأمر أن الشرك نوعان: شرك في ربوبيته بأن يجعل لغيره معه
ص -158-(36/69)
تدبير إما كما قال سبحانه وتعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} (سبأ:22)، فبين سبحانه أنهم لا يملكون ذرة استقلالاً ولا يشركونه في شيء من ذلك، ولا يعينونه على ملكه. ومن لم يكن مالكاً ولا شريكاً ولا عوناً فقد انقطعت علاقته.
وشرك الألوهية بأن يدعى غيره دعاء عبادة أو دعاء مسألة، كما قال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فكما أن إثبات المخلوقات أسباباً لا يقدح في توحيد الربوبية ولا يمنع أن يكون الله خالق كل شيء، ولا يوجب أن يدعى مخلوق دعاء عبادة أو دعاء استعانة. كذلك إثبات بعض الأفعال المحرمة من شرك أو غيره أسباباً لا تقدح في توحيد الألوهية، ولا يمنع أن يكون الله هو الذي يستحق الدين الخالص، ولا يوجب أن تستعمل الكلمات والأفعال التي فيها شرك، إذ كان الله يسخط ذلك ويعاقب العبد عليه وتكون مضرة ذلك على العبد أكثر من منفعته إذ قد جعل الخير كله في: "أنّا لا نعبد إلا إياه ولا نستعين إلا إياه"، وعامة آيات القرآن لتثبيت هذا الأصل، حتى إنه سبحانه قطع أثر الشفاعة بدون إذنه كقوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} (البقرة: من الآية255) وكقوله تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} (الأنعام: من الآية51) وقوله تعالى: {وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} (الأنعام: من الآية70) وقوله تعالى {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا} الآية (الأنعام: من الآية71) وقوله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا(36/70)
خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} (الأنعام:94) وسورة الأنعام سورة عظيمة مشتملة على أصول الإيمان، وكذلك قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} (السجدة: من الآية4) وقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (الزمر: من الآية3) وقوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا
ص -159-(36/71)
يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ، قُلْ للهِ الشَّفَاعَةُ جَميعاً} (الزمر:43ـ 44)، وسورة الزمر أصل عظيم في هذا ومن هذا قوله سبحانه وتعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ، يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ، يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} (الحج:11 ـ 13) وكذلك قوله: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (العنكبوت:41)، والقرآن عامته إنما هو في تقرير هذا الأصل العظيم الذي هو أصل الأصول.
وهذا الذي ذكرناه كله من تحريم هذا الدعاء مع كونه قد يؤثر إذا قدر أن هذا الدعاء كان سبباً أو جزءاً من السبب في حصول طلبته، والنّاس قد اختلفوا في دعاء المستغيث المستعتب لقضاء الحاجات: فزعم قوم من المبطلين متفلسفة ومتصوفة أنه لا فائدة فيه أصلاً؛ فإن المشيئة الإلهية والأسباب العلوية إما أن تكون قد اقتضت وجود المطلوب، وحينئذ فلا حاجة إلى الدعاء أو لا تكون اقتضته وحينئذ فلا ينفع الدعاء. وقال قوم ممن يتكلم في العلم: بل الدّعاء علامة ودلالة على حصول المطلوب وجعلوا ارتباطه بالمطلوب ارتباط الدليل بالمدلول، لا ارتباط السبب بالمسبب بمنزلة الخبر الصادق والعلم السابق.
والصّواب ما عليه الجمهور من أنّ الدعاء سبب لحصول الخير المطلوب أو غيره، كسائر الأسباب المقدرة والمشروعة، وسواء سمي سبباً أو جزءاً من السبب أو شرطاً فالمقصود هنا واحد.
وإذا أراد الله بعبده خيرا ألهمه(36/72)
دعاءه والاستعانة به، وجعل استعانته ودعاءه سبباً للخير الذي قضاه له كما قال عمر رضي الله عنه: "إني لا أحمل همّ الإجابة، وإنما أحمل همّ الدّعاء فإذا أُلهمت الدعاء فإن الإجابة معه". كما أن الله عزّ وجلّ إذا أراد أن يشبع عبداً أو يرويه ألهمه أن يأكل أو يشرب، وإذا أراد أن يتوب على عبد ألهمه أن يتوب فيتوب
ص -160-
عليه، وإذا أراد أن يرحمه ويدخله الجنة يسره لعمل أهل الجنة. والمشيئة الإلهية اقتضت وجود هذه الخيرات بأسبابها المقدرة لها، كما اقتضت وجود دخول الجنة بالعمل الصالح، ووجود الولد بالوطء، والعلم بالتعليم. فمبدأ الأمور من الله عزّ وجلّ وتمامها على الله، لا أن العبد نفسه هو المؤثر في الرب أو في ملكوت الرّب، بل الرّب سبحانه هو المؤثر في ملكوته وجاعل دعاء عبده سبباً لما يريده سبحانه وتعالى من القضاء، كما قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: "أرأيت أدوية نتداوى بها، ورقي نسترقي بها وتقى نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئا؟ قال: هي من قدر الله عزّ وجلّ"، وعنه صلى الله عليه وسلم: "إنّ الدعاء والبلاء يلتقيان فيعتلجان بين السماء والأرض".
فهذا في الدعاء الذي يكون سبباً في حصول المطلوب، وأعلى من هذا ما جاء في الكتاب والسنة من رضى الله عز وجل وفرحه وضحكه بسبب أعمال عباده الصالحين، وما جاءت به النصوص؛ وكذا غضبه ومقته، وقد بسطنا الكلام في هذا الباب وما للناس فيه من المقالات والاضطراب في موضع آخر. فما فرض من الأدعية المنهي عنها سبباً فقد تقدم الكلام عليه، فأما غالب هذه الأدعية التي ليست مشروعة فلا تكون هي السبب في حصول المطلوب ولا جزءاً منه، ولا يعلم ذلك بل لا يتوهم وهماً كاذباً كالنذر، فإن في الحديث الصحيح عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: "نهى عن النذر وقال: إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل" ـ وأطال الكلام في النذر، ومنع كونه سبباً، ثم قال ـ: بل إذا كان المبطلون يضيفون(36/73)
قضاء حوائجهم إلى خصوص نذر المعصية، مع أن جنس النذر لا أصل له في ذلك لم يبعد منهم إذا أضافوا حصول غرضهم إلى خصوص الدّعاء بمكان لا خصوص له في الشرع؛ لأن جنس الدعاء هنا مؤثر، فالإضافة إليه ممكنة، بخلاف جنس النذر فإنه لا يؤثر ـ ثم تكلم على منع كون الدعاء المبتدع سبباً، وأنه لا دليل عليه إلا الاقتران
ص -161-
أحيناً، وقرّر أن هذا لا يدل؛ لأنّ التراخي والانتقاض مانع من الاستدلال، وأن مجرد الاقتران أحياناً ليس دليلاً باتفاق العقلاء إذا كان هناك سبب آخر، ثم تكلم في الأسباب، وقسم الناس فيها ثلاث فرق: مغضوب عليهم، وضالين، ومهتدين. ثم تكلم على الكرامات وقرّر أنّها فعل الله، وذكر شيئاً من الحكمة ثم قال: "وأما العلم بعلية السبب فله طرق في الأمور الشرعية، كما له طرق في الأمور الطبيعية، منها الاضطرار ـ وتكلّم على الأدعية الشرعية والاستجابة بها، وخرق العادة للداعي ـ.
ثم قال: "وأما اعتقاد تأثير الأدعية المحرمة فعامته إنما تجد اعتقاده عند أهل الجهل الذين لا يميزون بين الدليل وغيره، ولا يفهمون ما يشترط للدليل من الاطراد، وإنما تنفق في أهل الظلمات من الكفار والمنافقين، أو ذوي الكبائر الذين أظلمت قلوبهم بالمعاصي، حتى لا يميزون بين الحق والباطل.
وبالجملة فالعلم بأن هذا كان هو السبب أو بعض السبب أو شرط السبب في هذا الأمر الحادث قد يعلم كثيراً، وقد يتوهم كثيراً وهماً ليس له مستند صحيح إلا ضعف العقل، ويكفيك أنّ كل ما يظن أنه سبب لحصول المطلوب مما حرمته الشريعة: من دعاء أو غيره لا بد فيه من أحد أمرين: إما أن لا يكون سبباً صحيحاً، كدعاء ما لا يسمع وما لا يبصر ولا يغني عنك شيئاً، وإما أن يكون ضرره أكثر من نفعه، فأما ما كان سبباً صحيحاً منفعته أكثر من مضرته، فلا ينهى عنه في الشرع بحال، وكل ما لم يشرع من العبادات مع قيام المقتضي لفعله من غير مانع فإنه من باب المنهي عنه.
وأما ما ذكر في المناسك أنه(36/74)
بعد تحية النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه والصلاة والسلام يدعو، فقد ذكر الإمام أحمد وغيره: أنه يستقبل القبلة ويجعل الحجرة عن يساره لئلا يستدبره، وذلك بعد تحيته والصلاة والسلام عليه، ثم يدعو لنفسه، وذكروا أنه إذا حيّاه وصلّى وسلّم يستقبل قبلة وجهه بأبي هو وأمي.
ص -162-
صلى الله عليه وسلم فإذا أراد الدّعاء جعل الحجرة عن يساره واستقبل القبلة ودعا، وهذا مراعاة منه لذلك فإن الدعاء عند القبر لا يكره مطلقا، فليؤمر به كما جاءت به السنة فيما تقدم ضمنا وتبعا، وإنما المكروه أن يتحرى المجيء إلى القبر للدعاء عنده. وكذلك ذكر أصحاب مالك قالوا: يدنو من القبر فيسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يدعو مستقبل القبلة، يوليه ظهره، وقيل: لا يوليه ظهره وإنما اختلفوا لما فيه من استدباره. فأما إذا جعل الحجرة عن يساره فقد زال المحذور، وصار في الروضة أو أمامها؛ ولعل هذا الذي ذكره الأئمة أخذوه من كراهة الصلاة إلى القبر فإن ذلك قد ثبت فيه النهي عن النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم.
فلما نهى أن يتخذ القبر مسجداً وقبلة أمروا بأن لا يتحرى الدّعاء إليه، كما لا يصلي إليه. قال مالك في المبسوط: "لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ولكن يسلم ويمضى"؛ ولهذا ـ والله أعلم ـ حرفت الحجرة وثلثت لما بنيت فلم يجعل حائطها الشمالي على سمت القبلة ولا جعل مسطحاً.
وكذلك قصدوا قبل أن تدخل الحجرة في المسجد، فروى ابن بطة بإسناد معروف عن هشام بن عروة حدثني أبي قال: "كان الناس يصلون إلى القبر، فأمر عمر بن عبد العزيز فرفع حتى لا يصلي إليه الناس، فلما هدم بدت قدم بساق وركبة، قال: ففزع من ذلك عمر بن عبد العزيز، فأتاه عروة فقال له: هذه ساق عمر رضي الله عنه وركبته، فسرى عن عمر بن عبد العزيز".
وهذا أصل مستمر فإنه لا يستحب للداعي أن يستقبل إلا ما يستحب أن يصلي إليه، ألا ترى أن الرجل لما نهى عن الصّلاة إلى جهة(36/75)
المشرق وغيره فإنه ينهى أن يتحرى استقبالها وقت الدعاء، ومن الناس من يتحرى وقت دعائه استقبال الجهة التي يكون فيها الرجل الصالح، سواء كانت في الشرق أو غيره. وهذا ضلال بين وشرك واضح، كما أن بعض الناس يمتنع من استدبار الجهة التي فيها بعض الصالحين، ويستدبر الجهة التي فيها بيت الله وقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلّ هذه الأشياء من البدع التي تضاهي دين النصارى. ومما يبين لك ذلك: أن نفس السلام على النبي صلى الله عليه وسلم قد راعوا فيه السنة حتى لا يخرج
ص -163-(36/76)
إلى الوجه المكروه الذي قد يجر إلى إطراء النصارى عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تتخذوا قبري عيدا"، وبقوله صلى الله عليه وسلّم: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله"، فكان بعضهم يسأل عن السلام على القبر خشية أن يكون من هذا الباب، حتى قيل له: إن ابن عمر كان يفعل ذلك.
ولهذا كره مالك رحمه الله وغيره من أهل العلم من أهل المدينة كلما دخل أحدهم المسجد أن يجيء فيسلم على قبر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه قال: "وإنما يكون ذلك لأحدهم إذا قدم من سفر أو أراد سفرا" ونحو ذلك. ورخّص بعضهم في السّلام عليه إذا دخل المسجد للصلاة ونحوها، وأما قصده دائماً في الصّلاة والسلام فما علمت أحداً رخّص فيه؛ لأن ذلك من اتخاذه عيداً، مع أنا قد شرع لنا إذا دخلنا المسجد أن نقول: "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته"، كما نقول ذلك في آخر صلاتنا، بل قد استحب ذلك لكل من دخل مكاناً ليس فيه أحد أن يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم بما تقدم من أن السلام عليه يبلغه من كل موضع.
فخاف مالك وغيره أن يكون فعل ذلك عند القبر كل ساعة نوعاً من اتخاذ القبر عيداً. وأيضا فإن ذلك بدعة فقد كان المهاجرون والأنصار على عهد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم يجيئون إلى كل يوم خمس مرات يصلون ولم يكونوا يأتون مع ذلك إلى القبر يسلمون عليه لعلمهم ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يكرهه من ذلك وما نهاهم عنه، وأنّهم يسلمون عليه حين دخول المسجد والخروج منه، وفي التشهد كما كانوا يسلمون عليه كذا في حياته.
والمأثور عن ابن عمر يدل على ذلك، قال سعيد بن منصور في سننه: حدثنا عبد الرحمن بن زيد حدثني أبي عن ابن عمر: "أنه كان إذا قدم من سفر أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فسلم وصلّى عليه ثم قال: السّلام عليك يا أبا بكر، السّلام عليك يا أبتاه". وعبد الرحمن بن زيد وإن كان يضعف لكن الحديث المتقدم(36/77)
عن نافع الصحيح يدل على أن ابن عمر ما كان يفعل ذلك دائما ولا غالبا.
وما أحسن ما قال مالك: "لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها"، ولكن كلما ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم ونقص إيمانهم عوضوا عن ذلك بما أحدثوه من
ص -164-
البدع والشرك وغيره؛ ولهذا كره الأئمة استلام القبر وتقبيله، وبنوه بناء منعوا الناس أن يصلوا إليه، فكانت حجرة عائشة رضي الله عنها التي دفنوه فيها ملاصقة لمسجده ومنفصلة عن المسجد. وكان ما بين منبره وبيته هو الروضة، ومضى الأمر على ذلك في عهد الخلفاء الراشدين ومن بعدهم، وزيد في المسجد زيادات غيرت الحجرة عن حالها هي وغيرها من الحجر المطيفة بالمسجد من شرقيه وقبليه، حتى بناه الوليد بن عبد الملك. وكان عمر بن عبد العزيز عامله على المدينة فابتاع هذه الحجر وغيرها وهدمهن وأدخلهن في المسجد، فمن أهل العلم من كره ذلك كسعيد بن المسيب ومنهم من لم يكرهه، قال أبو بكر الأثرم: "قلت لأبي عبد الله ـ يعني أحمد بن حنبل ـ قبر النبي صلى الله عليه وسلم يمس ويتمسح به؟ فقال: ما أعرف هذا. فقلت له: في المنبر؟ فقال: أما المنبر فنعم قد جاء فيه، قال أبو عبد الله: شيء يرويه عن ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب عن ابن عمر أنه مسح على المنبر، ويرويه عن سعيد ابن المسيب في الرمانة. قلت: ويروى عن يحيى بن سعيد أنه حين أراد الخروج إلى العراق جاء إلى المنبر فمسحه ودعا فرأيته استحسنه، ثم قال لعلّه عند الضرورة والشيء. قيل لأبي عبد الله: إنهم يلصقون بطونهم بجدار القبر؟ وقلت له: رأيت أهل العلم من أهل المدينة لا يمسونه ويقومون ناحية فيسلمون، فقال أبو عبد الله: نعم، وهكذا كان ابن عمر يفعل. ثم قال أبو عبد الله: بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم" وقد رخص أحمد وغيره في التمسح بالمنبر والرمانة التي هي موضع مقعد النبي صلى الله عليه وسلم ويده ولم يرخص في التمسح بقبره. وقد حكى بعض أصحابنا رواية في مسح قبره؛ لأن(36/78)
أحمد شيع بعض الموتى فوضع يده على قبره يدعو له. والفرق بين الموضعين ظاهر. وكره مالك رحمه الله التمسح بالمنبر كما كرهوا التمسح بالقبر.
وأما اليوم فقد احترق المنبر وما بقيت الرمانة، وإنما بقي من المنبر خشبة صغيرة فقد زال ما رخص فيه؛ لأن الأثر المنقول عن ابن عمر وغيره إنما هو التمسح بمقعده. فروى الأثرم بإسناده عن القعنبي عن مالك عن عبد الله بن دينار قال: "رأيت ابن عمر يقف على قبر
ص -165-
النبي صلى الله عليه وسلم فيصلي على النبي صلى الله عليه وسلّم وعلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
الوجه الثالث: في كراهة قصدها بالدعاء، أن السلف رضي الله عنهم كرهوا ذلك متأولين في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تتخذوا قبري عيدا" كما ذكرنا عن علي بن الحسين والحسن بن الحسن ابن عمه وهما أفضل أهل البيت من التابعين وأعلم بهذا الشأن من غيرهما؛ لمجاورتهما الحجرة النبوية نسباً ومكاناً، وقد ذكرنا عن أحمد وغيره أنه أمر من سلّم على النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه ثم أراد أن يدعو: أن ينصرف ويستقبل القبلة، وكذلك أنكر ذلك غير واحد من العلماء المتقدمين كمالك وغيره ومن المتأخرين مثل أبي الوفاء بن عقيل وأبي الفرج بن الجوزي، وما أحفظ لا عن صحاب ولا عن تابع ولا عن إمام معروف أنه استحب قصد شيء من القبور للدعاء عندها، ولا روى أحد في ذلك شيئا لا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة، ولا عن أحد من الأئمة المعروفين.
وقد صنف الناس في الدعاء وأوقاته وأمكنته وذكروا فيه الآثار فما ذكر أحد منهم في فضل الدعاء شيء من القبور حرفاً واحداً ـ فيما أعلم ـ، فكيف يجوز والحالة هذه أن يكون الدعاء عندها أجوب وأفضل؟ والسلف تنكره ولا تعرفه وتنهى عنه ولا تأمر به؟!.
نعم صار من نحو المائة الثالثة يوجد متفرقا في كلام بعض الناس: فلان ترجى الإجابة عند قبره وفلان يدعى عنده، ونحو ذلك، والإنكار على فعل ذلك أو قاله كائنا من كان فإن(36/79)
أحسن أحواله أن يكون مجتهدا في هذه المسألة أو معذوراً يعفو الله عنه، أما كون هذا الذي قال يقتضي استحباب ذلك فلا، بل قد يقال: هذا من جنس قول بعض الناس: المكان الفلاني يقبل النذر، والموضع الفلاني ينذر له ويعينون عيناً أو بئراً أو شجرةً أو مغارةً أو حجراً أو غير ذلك من الأوثان، فكما لا يكون مثل هذا القول عمدة في الدين كذلك الأول، ولم يبلغني إلى الساعة عن أحد من السلف رخصة في ذلك إلا ما روى ابن أبي
ص -166-(36/80)
الدنيا في كتاب القبور بإسناده عن محمد بن إسماعيل بن أبي فديك قال أخبرني سليمان بن يزيد الكعبي عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من زارني بالمدينة محتسبا كنت له شفيعاً وشهيدا يوم القيامة". قال ابن أبي فديك: وأخبرني عمر بن حفص أن ابن أبي مليكة كان يقول: "من أحب أن يقوم وجاه النبي صلى الله عليه وسلم فليجعل القنديل الذي في القبلة عند رأس القبر على رأسه". قال ابن أبي فديك: وسمعت بعض من أدركت يقول: "بلغنا أنه من وقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فتلا هذه الآية: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} (الأحزاب: من الآية56)، فقال: "صلى الله عليك يا محمد حتى يقولها سبعين مرة ناداه ملك: صلى الله عليه يا فلان ولم تسقط له حاجة".
فهذا الأثر من ابن أبي فديك قد يقال: فيه استحباب قصد الدعاء عند القبر ولا حُجّة فيه لوجوه:
أحدها: أن ابن أبي فديك روى هذا عن مجهول، وذكر ذلك المجهول أنه بلاغه عمن لا يعرف ومثل هذا لا يثبت به شيء أصلاً، وابن أبي فديك متأخر في حدود المائة الثانية ليس هو من التابعين ولا من تابعيهم المشاهير حتى يقال: قد كان هذا معروفا في القرون الثلاثة.
ثم تكلم الشيخ على ردّ الاستدلال به، وأطال الكلام ـ ثم ذكر كلام ربيعة من رواية محمد بن الحسن بن زبالة، وهو مضعف عند أهل الحديث، ثم منع الاستدلال به، وتكلم بكلام حسن، وذكر أنه روى عن أنس ما يخالف روايته عن ربيعة، ثم ذكر حديث عطاء بن يسار الذي في الموطأ أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: "اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" فهذه الآثار إذا ضمت إلى ما قدمناه من الآثار علم كيف كان حال السلف في هذا الباب وإن ما عليه كثير من الخلف مما حدث كان من المنكرات عندهم.
ولا يدخل في هذا الباب ما يروى: أن قوماً سمعوا ردّ السلام من قبر
ص -167-(36/81)
النبي صلى الله عليه وسلم أو قبور غيره، وأن سعيد بن المسيب كان يسمع الأذان من القبر ليالي الحرة، ونحو ذلك؛ فهذا كله حق ليس مما نحن فيه. والأمر أجل من ذلك وأعظم. وكذلك أيضا ما يروى: "أن رجلاً جاء إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فشكى إليه الجدب عام الرمادة فرآه في النوم وهو يأمره أن يأتي عمر فيأمره أن يخرج ويستسقي بالناس" فإن هذا ليس من هذا الباب، ومثل هذا يقع كثيراً لمن هو دون النبي صلى الله عليه وسلم وأعرف من هذا وقائع.
وكذلك سؤال بعضهم للنبي صلى الله عليه وسلم أو لغيره من أمته حاجته فتقضى لهم؛ فإن هذا قد وقع كثيراً وليس هو مما نحن فيه.
وعليك أن تعلم أن إجابة النبي صلى الله عليه وسلم وغيره لهؤلاء السائلين ليس مما يدل على استحباب السؤال فإنه هو القائل صلى الله عليه وسلم: "إن أحدكم ليسألني المسألة فأعطيه إياها فيخرج بها يتأبطها ناراً، فقالوا: يا رسول الله فلم تعطهم؟ قال: يأبون إلا أن يسألوني ويأبى الله لي البخل". وأكثر هؤلاء السائلين الملحين لما هم فيه من الحال لو لم يجابوا لاضطرب إيمانهم، كما أن السائلين له في الحياة كانوا كذلك، وفيهم من أجيب وأمر بالخروج من المدينة. فهذا القدر إذا وقع يكون كرامة لصاحب القبر. أما أنه يدل على حسن حال السائل فلا فرق بين هذا وهذا. فإن الخلق لم ينهوا عن الصلاة عند القبور واتخاذها مساجد استهانة بأهلها، بل لما يخاف عليهم من الفتنة، وإنما تكون الفتنة إذا انعقد سببها فلولا أنه قد يحصل عند القبور ما يخاف الافتتان به لما نهي الناس عن ذلك، وكذلك ما يذكر من الكرامات وخوارق العادات التي توجد عند قبور الأنبياء والصالحين، مثل: نزول الأنوار والملائكة عندها وتوقي الشياطين والبهائم لها واندفاع النار عنها وعمن جاءها وشفاعة بعضهم في جيرانه من الموتى، واستحباب الاندفان عند بعضهم وحصول الأنس والسكينة عندها، ونزول العذاب بمن استهان بها؛ فجنس هذا حق ليس مما نحن(36/82)
فيه. وما في قبور الأنبياء والصالحين من كرامة الله عزّ وجلّ ورحمته وما لها عند الله من الحرمة والكرامة فوق ما يتوهمه أكثر الخلق(1)، لكن ليس هذا موضع تفصيل ذلك.
__________
(1) قال الشيخ حامد الفقي: "لا ندري من أين قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وغفر له كل هذا في قبور الأنبياء=
ص -168-
وكل هذا لا يقتضي استحباب الصلاة أو قصد الدعاء والنسك عندها لما في قصد العبادات عندها من المفاسد التي علمها الشارع كما تقدم. فذكرت هذه الأمور لأنها مما يتوهم معارضته لما قدمنا وليس كذلك.
ثم أطال الكلام في مسألة تحري الدّعاء عند القبور ـ والغرض هنا بيان وجه سياقه وإيراده لما نقله العراقي.
فأما نقله الأول عن هذا الكتاب فإنه أسقط منه قول الشيخ: "فإن هذا ليس من هذا الباب" فترك هذه الجملة التي فيها إخراج هذا ونحوه عن باب الاحتجاج به، على فضل الدعاء واستجابته عند القبور، ولذلك قال: "مثل ذلك يقع كثيراً لمن هو دون النبي صلى الله عليه وسلّم يعني فلا يحتج به". وقد قدم الشيخ قبل هذا أن استجابة الدعاء قد تقع عند الأوثان وفي الكنائس. وتكلم في تعدد أسباب ذلك وأسباب الكائنات.
وقول الشيخ: "وكذلك سؤال بعضهم للنبي صلى الله عليه وسلّم حاجة أو غيره من الله، فتقضى ولكن عليك أن تعلم أن إجابة النبي صلى الله عليه وسلّم أو غيره من أمته لهؤلاء السائلين الملحين" إلى آخر العبارة، ليس فيه ما زعمه العراقي من استحباب دعائها والاستغاثة بأربابها، والسياق في منع دعاء الله عندها فكيف بدعائها. ولذلك قال الشيخ: "فإن ذلك ليس من هذا الباب" ولا قال أحد ممن يعتد به هذا القول الذي زعمه هذا المفتري إلا عباد القبور وأمثالهم من أهل الجهالة بدين الله، ولم يثبت الشيخ قضاء الحوائج من أهل القبور كما زعمه هذا الملحد؛ فإن إضافة الإجابة للنبي صلى الله عليه وسلّم أو غيره لا تقتضي الفاعلية، وأنه هو(36/83)
الذي أجاب دعاءهم وأعطاهم. والإضافة تقع ولو لأدنى ملابسة، كيف وقد قال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} (النمل: من الآية62) وليس هذا من جنس الأسباب العادية بل هو من خوارق العادات، وقد مرّ أن الله هو الفاعل لذلك،
__________
=والصالحين؟ فإن مثل ذلك لا يقال بالرأي والقياس، ولا نعرف في ذلك آية ولا حديثاً يصح عن النّبي صلى الله عليه وسلّم وما جرّ إلى عبادتها وتقديس العامة لها واتخاذها أوثاناً إلا مثل هذا، والمدفون في القبور جميعها إنما هو الأجسام البشرية التي ماتت أما معنوية الرسل والصالحين فهي عند الله في نعيم مقيم، والله أعلم.
ص -169-(36/84)
وأنه تعالى يخرق العادة لأسباب متعددة ومصالح متنوعة، وقد تقدم قوله: وأما اعتقاد تأثير الأدعية المحرمة، فعامته إنما تجد اعتقاده عند أهل الجهل الذين لا يميزون بين الدليل وغيره ولا يفهمون ما يشترط للدليل من الاطراد. وإنما تنفق في أهل الظلمات من الكفار والمنافقين أو ذوي الكبائر الذين أظلمت قلوبهم بالمعاصي، حتى لا يميزون بين الحق والباطل ـ فعمي العراقي عن هذا كله، وانتزع هذا الكلام المسوق لرده وبطلان الاستدلال به، وجعله دليلاً.
وقول العراقي: إن الشيخ أثبت لهم الإيمان، ولم بخرجهم بذلك عن الإسلام ولم يؤثمهم، فهذا جهل منه بمسمى الإيمان، فإن المراد ما معهم من الإيمان بالرسالة ونحوها. لا أن هذا ليس بشرك وأن الإيمان لم ينقض بذلك، ولم يؤثمهم، هذا الكلام يرده قوله: "وعليك أن تعلم أن إجابة النبي صلى الله عليه وسلّم ليس مما يدل على استحباب السؤال، فإنه هو القائل: "إن أحدهم يسألني المسألة فأعطيه إياها فيخرج يتأبطها ناراً" الحديث، وأما تكفيرهم بمثل هذا فلم يقل به أحد قبل قيام الحجة، وقد نقدم كلام الشيخ محمد في ذلك. وأما بعد قيام الحجة فيختلف الحكم ويجري موجبها ويعمل بمقتضاها. والعراقي جاهل مدلس، وقد عمي عن نحو مائة عبارة أو أكثر في هذا الكتاب بعينه، ترد مفهمومه من أن المجيب هو المدعو من دون الله.
وكذلك استدل له في نقله الثاني بما حكى أن بعض المجاورين بالمدينة أتى إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلّم فاشتهى نوعاً من الأطعمة ـ إلى آخر الحكاية. فليس في هذا ما يستدل به على دعائه صلى الله عليه وسلّم أصلاً، وكونه أعطى ما يطلب لا يدل على دعائه غير الله والاستغاثة بسواه، فإن هذا جهل عظيم بأسباب الكائنات وموجباتها، كما مر عن الشيخ، وقد علم أن هذا ليس من أدلة الجواز والاستحباب وقد تقدم كلام الشيخ في أنه قد يستجاب لمن سأل المسيح وغيره حتى الأوثان، واطراد الدليل كفر متناقض. وإذا كان يطرد فالاستدلال به(36/85)
باطل لأن الدليل يلزم اطراده، وليس مع هؤلاء إلا التمسك بالمتشابه من غير فقه ونظر في المعنى المراد.
ص -170-
وأما نقله الثالث وهو قوله: "وقد يعمل الرجل العمل الذي يعتقده صالحاً ولا يكون عالماً أنه منهي عنه" إلى آخر العبارة. فليس في كلام الشيخ ما يتمسك به المبطل؛ لأن قوله: "قد يعمل الرجل" ليس من صيغ العموم، ونحن لا نمنع وقوع ذلك، وأنه يغفر لبعض الناس ما لا يغفر لغيره لعدم علمه، ولكن لا يفيد هذا العموم كما تقدم تقريره.
وأما قول العراقي: وذكر الشيخ هذا بعد حكاية العتبي أنه استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلّم وقضيت حاجته، فهذا كذب، ما قال الشيخ: إنه استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلّم ولا قال: قضيت حاجته، وإنما قرّر جهل فاعل ذلك، وإنه مخالف لهدي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم والتابعين لهم بإحسان.
وأما نقله الرابع لقول الشيخ: وقد علمت جماعة ممن سأل المقبورين من الأنبياء والصالحين، وقضيت حوائجهم، وهو لا يخرج عما ذكرته، وهذا من جنس ما قبله ظن العراقي أن إثبات الشيخ قضاء الحوائج دليل على جواز الدعاء والسؤال. والشيخ وكثير من أهل العلم يعلمون أن الحوائج قد تقضى لمن يسأل الأنبياء والصالحين والأوثان والنجوم، ولكن لقضائها أسباب لا يحيط بها، ويعلم تفاصيلها إلا الله تعالى.
وقد مر قول الشيخ: بل المشركون الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم كانوا يدعون أوثانهم فيستجاب لهم أحياناً، كما قد يستجاب لهؤلاء أحياناً، وقال فيما تقدم: وجميع الأمور التي يظن أن لها تأثيراً في العالم وهي محرمة في الشرع كالتمريخات الفلكية، والتوجيهات النفسانية أو الدعاء المحرم والرقى المحرمة، والتمريخات الطبيعية ونحو ذلك فإن مضرتها أكثر من منفعتها. والشيخ لم ينف تأثيرها، وعلى طرد دليل هذا العراقي: يباح كل أثر مباح كلما أثر فتباح هذه الأشياء.
وتأمل قول الشيخ فيما مر: "فليس علينا من سبب التأثير أحياناً، فإن(36/86)
ص -171-
الأسباب التي يخلق الله بها الحوادث في الأرض والسماء لا يحصيها على الحقيقة إلا هو"، وقوله: "والكلام في بيان تأثير بعض هذه الأسباب قد يكون فتنة لمن ضعف عقله ودينه بحيث يختطف عقله بحيث يتألهه، إذا لم يرزق من العلم والإيمان ما يوجب له الهدى واليقين" وقف على قول الشيخ فيما مر: "بل أشد من ذلك، ألست ترى السحر والطلسمات والعين وغير ذلك من المؤثرات في العالم بإذن الله قد يقضى بها كثير من أغراض النفوس، ومع هذا فقد قال سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} الآية (البقرة: من الآية102)"، وتأمّل ما مرّ من قوله: "وأما التحريم من جهة الطلب فيكون تارة دعاء لغير الله، مثل ما يفعله السحرة من مخاطبة الكواكب وعبادتها ونحو ذلك، فإنه قد يقضي عقب ذلك أنواع من القضاء إذا لم يعارضه معارض من دعاء أهل الإيمان وعبادتهم وغير ذلك، ولهذا تنفذ هذه الأمور في أزمان فترة الرسل وفي بلاد الكفر والنفاق، ما لا تنفذ في دار الإيمان وزمانه، ومن هذا أني أعرف رجالاً يستغيثون ببعض الأحياء".
فإن هذا الكلام صريح في أن المدعو والمستغاث لا شعور لهم ولا علم عندهم بدعاء من يدعوهم مع الله تعالى، وأن الله هو الفاعل لذلك من غير واسطة. وهذا يشهد له قوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ، وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} (الاحقاف:5 ـ6).
والشيخ رحمه الله قصد هذا المعنى، وأن إجابة الله دعاء من يدعو الملائكة والأنبياء والصالحين مع الله لا يستدل به على مشروعية أنه دين قد أذن فيه تعالى، فإن أسباب الحوادث القدرية والقضايا الكونية لا تصلح دليلا على الأحكام الشرعية العملية، قال تعالى: {كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ(36/87)
وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} (الاسراء:20)، وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا} الآية (النحل: من الآية 35)، فأنكر تعالى عليهم الاحتجاج بالمشيئة والقدر، على أنه يرضى ما جاءوا به من الشرك واتخاذ الأنداد من دونه.
ص -172-
ولو تتبعنا كلامه في هذا الكتاب في هذه المسائل التي تبطل ما أبداه طاغية العراق لطال حجم الكتاب. وقد ذكر في آخره مباحث مهمة في إسلام الوجه لله وإخلاص الدين له، نحيل طالب العلم عليه.
وله رحمه الله رسالة في هذا المبحث، جواب سؤال ورد عليه، أحببت إيرادها هنا لعظم فائدتها، ولأنّها تأتي على كل ما زعمه الملحد العراقي بالهدم والقلع.
قال السائل: ما يقول السادة العلماء أئمة الدين وعلماء المسلمين رضي الله تعالى عنهم أجمعين: فيمن يزور القبور ويستنجد بالمقبور في مريضٍ له أو في فرسه أو بعيره : يطلب إزالة الألم الذى بهم، ويقول : ياسيدى، أنا في جيرتك، أنا في حسبك، فلان ظلمنى، فلان قصد أذيتى، ويقول : إن المقبورين يكونون واسطة بينه وبين اللّه تعالى ؟.
وفيمن ينذر للمساجد، والزوايا والمشائخ حيهم وميتهم بالدراهم والإبل والغنم والشمع والزيت وغير ذلك، يقول : إن سلم ولدى للشيخ عليّ كذا وكذا، وأمثال ذلك ؟.
وفيمن يستغيث بشيخه إذا أصابته نائبة أو عثر، أو سمع حساً خلفه أزعجه، استغاث بشيخه يطلب تثبيت قلبه؟ .
وفيمن يجىء إلى شيخه ويستلم القبر ويمرغ وجهه عليه، ويمسح القبر بيديه، ويمسح بهما وجهه وجسمه وأمثال ذلك ؟.
وفيمن يقصد حاجة، فيقول : يا شيخ فلان، ببركتك، ثم يقول : قضيت حاجتى ببركة اللّه وبركة الشيخ ؟. وفيمن يعمل السماع فيجىء إلى القبر ويكتنفه وينحط بين يدى شيخه ساجداً على الأرض؟ .
وفيمن قال : إن ثم قطباً غوثاً جامعاً في الوجود؟ أفتونا(36/88)
مأجورين، وابسطوا القول في ذلك .
الجواب: الحمد للّه رب العالمين، الدين الذى بعث اللّه به رسله، وأنزل به كتبه هو عبادة اللّه وحده لا شريك له، واستعانته، والتوكل عليه، ودعاؤه لجلب المنافع، ودفع المضار، كما
ص -173-
قال تعالى : { تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفي إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ } [ الزمر : 1 - 3 ] ، وقال تعالى : { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } [ الجن : 18 ] وقال تعالى : { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } [ الأعراف : 29 ] ، وقال تعالى : { قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً ـ إلى قوله ـ: مَحْذُورًا } [ الإسراء : 56، 57 ] . قالت طائفة من السلف : كان أقوام يدعون المسيح وعزيراً والملائكة، فقال اللّه تعالى : هؤلاء الذين تدعونهم عبادى كما أنتم عبادى، يرجون رحمتى كما ترجون رحمتى، ويخافون عذأبي كما تخافون عذأبي، ويتقربون إلىَّ كما تتقربون إلىَّ . فإذا كان هذا حال من يدعو الأنبياء والملائكة فكيف بمن دونهم ؟ !
وقال تعالى : { أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاء إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا } [ الكهف : 102 ] ، وقال تعالى : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ(36/89)
زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } [ سبأ : 22، 23 ] . فبين سبحانه أن من دُعى من دون اللّه من جميع المخلوقات من الملائكة والبشر وغيرهم لا يملك مثقال ذرة في ملكه، وأنه سبحانه ليس له شريك في ملكه، بل هو سبحانه له الملك، وله الحمد، وهو على كل شىء قدير، وأنه ليس له معين يعاونه كما يكون للملك أعوان ولا ظهراء، وأن الشفعاء عنده لا يشفعون إلا لمن ارتضى، فنفي بذلك وجوه الشرك .
وذلك أن من يدعي من دونه، إما أن يكون مالكا، وإما أن يكون شريكا، وإذا لم يكن مالكاً ولا شيركاً فإما أن يكون معاوناً، وإما أن يكون سائلا طالباً . ـ والله سبحانه وتعالى أعلم ـ فالأقسام الأول الثلاثة منتفية، وأما الرابع فلا يكون إلا من بعد إذنه، كما قال تعالى : { مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [ البقرة : 255 ] ، وكما قال تعالى : { وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرضي } [ النجم : 26 ] .
ص -174-(36/90)
وكما قال تعالى : { أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } [ الزمر : 43، 44 ] ، وكما قال تعالى : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ } [ السجدة : 4 ] ، وقال تعالى : { وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } [ الأنعام : 51 ] ، وقال تعالى : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ } [ آل عمران : 79 : 80 ] . فبين سبحانه أن من اتخذ الملائكة والنبيين أربابا كان كافراً، فكيف من اتخذ من دونهم من المشايخ وغيرهم أربابا ؟ !
وتفصيل القول : أن مطلوب العبد إن كان من الأمور التى لا يقدر عليها إلا اللّه سبحانه؛ مثل أن يطلب شفاء مريضه من الآدميين أو البهائم، أو وفاء دينه من غير جهة معينة، أو عافية أهله، وما به من بلاء الدنيا والآخرة، وانتصاره على عدوه، وهداية قلبه، وغفران ذنبه، أو دخوله الجنة أو نجاته من النار، أو أن يتعلم القرآن والعلم، وأن يصلح قلبه ويحسن خلقه وتزكو نفسه، وأمثال ذلك فهذه الأمور كلها لا يجوز أن تطلب إلا من اللّه(36/91)
تعالى، ولا يجوز أن يقول لملك ولا نبي ولا شيخ سواء كان حياً أو ميتاً : اغفر ذنبي، ولا انصرنى على عدوى، ولا اشف مريضى، ولا عافنى أو عاف أهلى أو دوابى،وما أشبه ذلك . ومن سأل ذلك مخلوقا كائناً من كان، فهو مشرك بربه، من جنس المشركين الذين يعبدون الملائكة والأنبياء والتماثيل التى يصورونها على صورهم، ومن جنس دعاء النصارى للمسيح وأمه، قال اللّه تعالى : { وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ } الآية [ المائدة : 116 ] ، وقال تعالى : { اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ التوبة : 31 ] .
وأما ما يقدر عليه العبد فيجوز أن يطلب منه في بعض الأحوال دون بعض؛ فإن مسألة المخلوق قد تكون جائزة، وقد تكون منهيا عنها، قال تعالى :
ص -175-(36/92)
{ فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } [ الشرح : 7، 8 ] ، وأوصى النبي صلى الله عليه وسلم طائفة من أصحابه : ألا يسألوا الناس شيئا . فكان أحدهم يسقط سوطه من يده فلا يقول لأحد : ناولنى إياه . وثبت في الصحيحين أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال : " يدخل الجنة من أمتى سبعون ألفا بغير حساب، وهم الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون " . والاسترقاء طلب الرقية، وهو من أنواع الدعاء، ومع هذا فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين أنه قال : " ما من رجل يدعو له أخوه بظهر الغيب دعوة، إلا وكل اللّه بها ملكا كلما دعا لأخيه دعوة قال الملك : ولك بمثل ذلك " .
ومن أسرع الدعاء إجابة دعاء غائب لغائب؛ ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة عليه، وطلب الوسيلة له، وأخبرنا بما لنا في ذلك من الأجر إذا دعونا بذلك، فقال في الحديث الصحيح: " إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا على، فإن من صلى عليَّ مرة صلى اللّه عليه عشراً، ثم سلو اللّه لى الوسيلة، فإنها درجة في الجنة لا ينبغى أن تكون إلا لعبد من عباد اللّه، وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد . فمن سأل اللّه لى الوسيلة حلت له شفاعتى يوم القيامة " .
ويشرع للمسلم أن يطلب الدعاء ممن هو فوقه وممن هو دونه، فقد روى طلب الدعاء من الأعلى والأدنى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ودّع عمر رضي الله عنه إلى العمرة، فقال له : " لا تنسنا من دعائك يا أخى " ، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمرنا بالصلاة عليه وطلب الوسيلة، وأخبرنا أنا إن فعلنا ذلك حلَّت لنا شفاعته يوم القيامة، وكان طلبه منا لمنفعتنا في ذلك، وفرق بين من يطلب لغيره شيئا لمنفعة المطلوب منه، ومن سأل غيره لحاجته إليه فقط . وثبت عنه في الصحيح أنه ذكر أُوَيْساً القَرَنى وقال لعمر : " إن استطعت أن يستغفر لك فافعل " .
وفي الصحيحين:(36/93)
"أنه كان بين أبي بكر وعمر رضي اللّه عنهما شىء، فقال أبو بكر : استغفر لى"، لكن في الحديث : "أن أبا بكر حنق على عمر" . وثبت أن أقواماً كانوا يسترقون، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرقيهم . وثبت في الصحيحين: "أن الناس لما أجدبوا سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يستسقى لهم فدعا اللّه سبحانه حتى سقوا ". وفي الصحيح أيضًا : "أن عمر بن الخطاب رضي اللّه
ص -176-
كان يقول : اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيسقون ". وفي السنن : "أن أعرابيا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : جهدت الأنفس، وجاع العيال، وهلك المال، فادع اللّه لنا، فإنا نستشفع باللّه عليك، وبك على اللّه . فسبح رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، وقال : " ويحك ! إن اللّه لا يستشفع به على أحد من خلقه، شأن اللّه أعظم من ذلك " . فأقره على قوله : " إنا نستشفع بك على اللّه " ، وأنكر عليه : " نستشفع باللّه عليك " ؛ لأن الشافع يسأل المشفوع إليه، والعبد يسأل ربه ويستشفع إليه، والرب تعالى لا يسأل العبد ولا يستشفع عليه. والله سبحانه وتعالى.
وأما زيارة القبور المشروعة، فهي أن يسلم على الميت ويدعو له بمنزلة الصلاة على جنازته،كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول قائلهم : " سلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء اللّه بكم لاحقون، ويرحم اللّه المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل اللّه لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم " . وروى أنه قال : " ما من رجل يمر بقبر رجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد اللّه عليه روحه حتى يرد عليه السلام " . واللّه تعالى يثيب الحى إذا دعا للميت المؤمن، كما يثيبه إذا صلى على جنازته؛ ولهذا نهى نبيه أن يفعل ذلك بالمنافقين، بقوله تعالى :(36/94)
{ وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ } [ التوبة : 84 ] . فليس في الزيارة الشرعية حاجة الحى إلى الميت، ولا مسألته ولا توسله به، بل فيها منفعة الحى للميت، كالصلاة عليه، واللّه يرحم هذا ويثيبه على عمله، ويرحم هذا بدعاء هذا وإحسانه إليه، فإنه ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إذا مات ابن ادم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية، أو علم ينتفع به من بعده، أو ولد صالح يدعو له " .
ص -177-(36/95)
فصل:
وأما من يأتى إلى قبر نبي أو رجل صالح، أو من يعتقد فيه أنه قبر نبي أو رجل صالح وليس كذلك، يسأله ويستنجد به فهذا على ثلاث درجات :
إحداها : أن يسأله حاجته، مثل أن يسأله أن يزيل مرضه، أو مرض دوابه، أو يقضى دينه، أو ينتقم له من عدوه، أو يعافي نفسه وأهله ودوابه، ونحو ذلك مما لا يقدر عليه إلا اللّه عز وجل، فهذا شرك صريح، يجب أن يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل .
وإن قال : أنا أسأله لأنه أقرب إلى اللّه منى ليشفع لى في هذه الأمور؛ لأنى أتوسل إلى اللّه به كما يتوسل إلى السلطان بخواصه وأعوانه، فهذا من أفعال المشركين والنصارى، فإنهم يزعمون أنهم يتخذون أحبارهم ورهبانهم شفعاء يستشفعون بهم في مطالبهم، ولذلك أخبر اللّه عن المشركين أنهم قالوا : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفي } [ الزمر : 3 ] ، وقد قال سبحانه : { أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء ـ إلى قوله ـ تُرْجَعُونَ } [ الزمر : 43، 44 ] ، وقال تعالى : { مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ } [ السجدة : 4 ] ، وقال تعالى : { مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [ البقرة : 255 ] . فبين الفرق بينه وبين خلقه . فإن من عادة الناس أن يستشفعوا إلى الكبير من كبرائهم بمن يكرم عليه، فيسأله ذلك الشفيع، فيقضى حاجته؛ إما رغبة، وإما رهبة، وإما حباً وإما مودة، وإما غير ذلك، واللّه سبحانه لا يشفع عنده أحد حتى يأذن هو للشافع، فلا يفعل إلا ما شاء، وشفاعة الشافع من إذنه، والأمر كله له .
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة: " لا يقول أحدكم : اللهم اغفر لى إن شئت،
ص -178-(36/96)
اللهم ارحمنى إن شئت، ولكن ليعزم المسألة، فإن اللّه لا مكره له " . فبين أن الرب لا يفعل إلا ما يشاء، ولا يكرهه أحد على ما يختاره، كما قد يكره الشافع المشفوع إليه، وكما يكره السائل المسؤول إذا ألح عليه وآذاه. فالرغبة يجب أن تكون إليه، كما قال تعالى : { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } [ الشرح : 7، 8 ] . والرهبة يجب أن تكون منه قال: { وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } [ البقرة : 40 ] ، وقال تعالى : { فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ } [ المائدة : 44 ] . وقد أمرنا أن نصلى على النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء، وجعل ذلك من أسباب إجابة دعائنا .
وقول كثير من الضلال : هذا أقرب إلى اللّه منى، وأنا بعيد من اللّه لا يمكن أن أدعوه إلا بهذه الواسطة، ونحو ذلك هو من قول المشركين، فإن اللّه تعالى يقول : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } [ البقرة : 186 ] . وقد روى : أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم قالوا : "يارسول اللّه، ربنا قريب فنناجيه، أم بعيد فنناديه ؟ فأنزل اللّه هذه الآية ". وفي الصحيح: "أنهم كانوا في سفر، وكانوا يرفعون أصواتهم بالتكبير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " يا أيها الناس، ارْبَعُوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنما تدعون سميعا قريباً، إن الذى تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته " وقد أمر اللّه العباد كلهم بالصلاة له ومناجاته وأمر كلا منهم أن يقول : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] . وقد أخبر عن المشركين أنهم قالوا : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفي } [ الزمر : 3 ] .
ثم يقال لهذا المشرك : أنت إذا دعوت هذا، فإن كنت تظن أنه أعلم بحالك وأقدر على إجابة سؤالك أو أرحم بك من(36/97)
ربّك، فهذا جهل وضلال وكفر . وإن كنت تعلم أن اللّه أعلم وأقدر وأرحم، فلماذا عدلت عن سؤاله إلى سؤال غيره ؟ ألا تسمع إلى ما خرجه البخارى وغيره عن جابر رضي اللّه عنه قال : كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور، كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول : " إذا هَمَّ أحدكم بأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل : اللهم إنى أستخيرك بعلمك، واستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك
ص -179-(36/98)
تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب . اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لى في دينى ومعاشى، وعاقبة أمرى، فاقْدُرْه لى، ويسره لى، ثم بارك لى فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لى في دينى، ومعاشى، وعاقبة أمرى، فاصرفه عنى، واصرفنى عنه، واقْدُرْ لى الخير حيث كان، ثم رضِنى به".
وإن كنت تعلم أنه أقرب إلى اللّه منك وأعلى منزلة عند اللّه منك فهذا حق؛ لكن كلمة حق أريد بها باطل؛ فإنه إذا كان أقرب منك وأعلى درجة منك فإنما معناه : أن يثيبه ويعطيه، ليس معناه : أنك إذا دعوته كان اللّه يقضى حاجتك أعظم مما يقضيها إذا دعوت أنت، فإنك إن كنت مستحقا للعقاب ورد الدعاء مثلا لما فيه من العدوان فالنبي أو الصالح لا يعين على ما يكرهه اللّه، ولا يسعى فيما يبغضه اللّه، وإن لم يكن كذلك، فاللّه أولى بالرحمة والقبول منه .
وإن قلت : هذا إذا دعا اللّه أجاب دعاءه أعظم مما يجيب لي إذا دعوته أنا، فهذا هو:
القسم الثانى وهو : ألا يطلب منه الفعل ولا يدعوه، ولكن يطلب أن يدعو له . كما يقول للحى : ادع لى، وكما كان الصحابة يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم، الدعاء، فهذا مشروع في الحى كما تقدم، وأما الميت من الأنبياء والصالحين وغيرهم فلم يشرع لنا أن نقول : ادع لنا، ولا اسأل لنا ربك، ولا نحو ذلك، ولم يفعل هذا أحد من الصحابة والتابعين، ولا أمر به أحد من الأئمة، ولا ورد فيه حديث، بل الذى ثبت في الصحيح أنهم لما أجدبوا زمن عمر استسقى عمر بالعباس رضي الله عنهما، وقال : "اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيسقون ". ولم يجيئوا إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم قائلين : يا رسول اللّه، ادع لنا واستسق لنا، ونحن نشكوا إليك ما أصابنا، ونحو هذا. لم يقله أحد من الصحابة قط، بل هو بدعة، ما أنزل اللّه بها من سلطان، بل كانوا إذا جاؤوا عند قبر النبي صلى الله(36/99)
عليه وسلم يسلمون عليه، ثم إذا أرادوا الدعاء له لم يدعوا اللّه مستقبلى القبر الشريف، بل ينحرفون ويستقبلون القبلة، ويدعون اللّه وحده لا شريك له كما يدعونه في سائر البقاع .
وذلك أن في الموطأ وغيره عن صلى الله عليه وسلم أنه قال : " اللهم لا تجعل
ص -180-
قبرى وثنا يعبد، اشتد غضب اللّه على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " . وفي السنن أيضاً أنه قال : " لا تتخذوا قبرى عيداً، وصلُّوا على حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغنى " . وفي الصحيح أنه قال في مرضه الذى لم يقم منه : " لعن اللّه اليهود والنصاري اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ، يحذر ما فعلوا" . قالت عائشة رضي اللّه عنها: "ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجداً ". وفي صحيح مسلم أنه قال قبل أن يموت بخمس : " إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإنى أنهاكم عن ذلك " . وفي سنن أبي داود أنه قال : " لعن اللّه زوارات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج " .
ولهذا قال علماؤنا : لا يجوز بناء المساجد على القبور، وقالوا : إنه لا يجوز أن ينذر لقبر، ولا للمجاورين عند القبر شيئاً من الأشياء، لا من درهم، ولا زيت، ولا شمع، ولا حيوان، ولا غير ذلك، كله نذر معصية . وقد ثبت في الصحيح عن صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من نذر أن يطيع اللّه فليطعه، ومن نذر أن يعصى اللّه فلا يعصه " . واختلف العلماء : هل على الناذر كفارة يمين ؟ على قولين؛ ولهذا لم يقل أحد من أئمة المسلمين: إن الصلاة عند القبور وفي مشاهد القبور مستحبة، أو فيها فضيلة، ولا أن الصلاة هناك والدعاء أفضل من الصلاة في تلك البقعة، بل اتفقوا كلهم على أن الصلاة في المساجد والبيوت أفضل من الصلاة عند قبر، كان قبر نبي أو صالح سواء سميت [ مشاهد ] أو لم تسم .
وقد شرع اللّه ورسوله في المساجد دون المشاهد أشياء، فقال تعالى :(36/100)
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا } [ البقرة : 114 ] ، ولم يقل : في المشاهد . وقال تعالى : { وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } [ البقرة : 187 ] ولم يقل : في المشاهد، وقال تعالى : { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } [ الأعراف : 29 ] ، وقال تعالى : { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ } [ التوبة : 18 ] ، وقال تعالى : { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } [ الجن : 18 ] وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " صلاة الرجل في المسجد تفضل على صلاته في بيته وسوقه بخمس وعشرين ضعفا " ، وقال صلى الله عليه وسلم : " من بنى للّه مسجداً بنى اللّه له بيتاً
ص -181-(36/101)
في الجنة " . وأما القبور فقد ورد نهيه صلى الله عليه وسلم عن اتخاذها مساجد، ولعن من يفعل ذلك، وقد ذكره غير واحد من الصحابة والتابعين، وما ذكره البخارى في صحيحه والطبرى وغيره في تفاسيرهم، وذكره وَثِيمَة وغيره في قصص الأنبياء في قوله تعالى : { وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا } [ نوح : 23 ] ، قالوا : "هذه أسماء قوم صالحين كانوا في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم طال عليهم الأمد فاتخذوا تماثليهم أصناماً ". والعكوف على القبور والتمسح بها وتقبيلها والدعاء عندها وفيها ونحو ذلك هو أصل الشرك وعبادة الأوثان؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : " اللهم لا تجعل قبرى وثناً يعبد " .
ولهذا اتفق العلماء على أن من زار قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو قبر غيره من الأنبياء والصالحين الصحابة وأهل البيت وغيرهم على ألا يتمسح به، ولا يقبله، بل ليس في الدين ما شرع تقبيله إلا الحجر الأسود . وقد ثبت في الصحيحين : أن عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه قال : "واللّه، إنى لأعلم أنك حَجَر لا تضر ولا تنفع، ولولا أنى رأيت الرّسول يُقَبِّلك ما قَبَّلتك ".
ولهذا لا يسن باتفاق الأئمة أن يقبل الرجل أو يستلم ركنى البيت اللذين يليان الحجر ولا جدران البيت، ولا مقام إبراهيم، ولا صخرة بيت المقدس، ولا قبر أحد من الأنبياء والصالحين، حتى تنازع الفقهاء في وضع اليد على منبر النبي صلى الله عليه وسلم لما كان موجوداً، فكرهه مالك رحمه الله وغيره؛ لأنه بدعة، وذكر أن مالكا لما رأى عطاء فعل ذلك لم يأخذ عنه العلم، ورخص فيه أحمد وغيره؛ لأن ابن عمر فعله . وأما التمسح بقبر النبي صلى الله عليه وسلم وتقبيله فكلهم كره ذلك ونهى عنه؛ وذلك أنهم علموا ما قصده النبي صلى الله عليه وسلم من حسم مادة الشرك، وتحقيق التوحيد وإخلاص الدين للّه رب(36/102)
العالمين .
وهذا مما يظهر منه الفرق بين سؤال النبي صلى الله عليه وسلم والرجل الصالح في حياته، وبين سؤاله بعد موته وفي مغيبه؛ وذلك أنه في حياته لا يعبده أحد إذا كان في حضوره، فإن الأنبياء صلوات اللّه وسلامه عليهم والصالحين لا يتركون أحداً يتبرك بهم بحضورهم، بل ينهونهم عن ذلك، ويعاقبونهم عليه، ولهذا قال المسيح عليه السلام : { مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا
ص -182-
أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [ المائدة : 117 ] . وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمن قال : "ما شاء اللّه وشئت": " أجعلتنى للّه نداً ؟ ! ما شاء اللّه وحده " ، وقال : " لا تقولوا : ما شاء اللّه وشاء محمد، ولكن قولوا : ما شاء اللّه ثم شاء محمد " . ولما قالت الجويرية : "وفينا رسول اللّه يعلم ما في غَدٍ . قال : " دعى هذا، وقولى ما كنت تقولين " . وقال : " لا تطرونى كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا : عبد اللّه ورسوله " ، ولما صفوا خلفه قياما، قال : " لا تعظمونى كما تعظم الأعاجم بعضهم بعضا " ، قال أنس : "لم يكن شخص أحب إليهم من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له؛ لما يعلمون من كراهته لذلك . ولما سجد له معاذ نهاه، وقال : " إنه لا يصلح السجود إلا للّه، ولو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، من عظم حقه عليها " . ولما أتى عليٌّ بالزنادقة الذين غلوا فيه واعتقدوا فيه الإلهية أمر بتحريقهم بالنار .
فهذا شأن أنبياء اللّه تعالى وأوليائه، وإنما يقر على الغلو فيه وتعظيمه بغير حق من يريد علواً في الأرض وفساداً، كفرعون ونحوه، ومشائخ الضلالة الذين غرضهم العلو في الأرض(36/103)
والفساد، والفتنة بالأنبياء والصالحين، واتخاذهم أرباباً، والإشراك بهم إنما يحصل في مغيبهم ومماتهم، كما أشرك النصارى واليهود بالمسيح وعزير .
فهذا مما يبين الفرق بين السؤال للنبي والصالح في حياته وبحضوره، وبين سؤاله في مماته ومغيبه، ولهذا لم يكن أحد من سلف الأمة في عصر الصحابة ولا التابعين ولا تابعى التابعين يتحرون الصلاة والدّعاء عند قبور الأنبياء والصالحين ويسألونهم، ولا يستغيثون بهم، لا في مغيبهم، ولا عند قبورهم، وكذلك العكوف .
ومن أعظم الشرك أن يستغيث الرجل برجل ميت أو غائب، كما ذكره السائل، ويستغيث به عند المصائب يقول : يا سيدى فلان، كأنه يطلب منه إزالة ضره أو جلب نفعه، وهذا حال النصارى في المسيح وأمه وأحبارهم ورهبانهم . ومعلوم أن خير الخلق وأكرمهم على اللّه محمد صلى الله عليه وسلم، وأعلم الناس بقدره وحقه هم
ص -183-(36/104)
أصحابه، ولم يكونوا يفعلون شيئاً من ذلك؛ لا في مغيبه، ولا بعد مماته . وهؤلاء المشركون يضمون إلى الشرك الكذب، فإن الكذب مقرون بالشرك، قال تعالى : { وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ } [ الحج : 30 : 31 ] . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " عَدَلت شهادة الزور الإشراك باللّه " مرتين، أو ثلاثاً . وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ } [ الأعراف : 152 ] ، وقال الخليل عليه السلام : { أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الصافات : 86 : 87 ] .
فمن كذبهم أن أحدهم يقول عن شيخه : إن المريد إذا كان بالمغرب وشيخه بالمشرق وإن كشف غطاؤه رده عليه، وإن أي شيخ إن لم يكن كذلك لم يكن شيخاً . وقد تغويهم الشياطين، كما تغوى عبّاد الأصنام كما كان جرى للعرب في أصنامها، ولعباد الكواكب وطلاسمها من الشرك والسحر، كما يجرى للترك، والهند، والسودان، وغيرهم من أصناف المشركين؛ من إغواء الشياطين لهم ومخاطبتهم ونحو ذلك . فكثير من هؤلاء من يجرى له نوع من ذلك، سيما عند سماع المكاء والتصدية؛ فإن الشياطين تتنزل عليهم، فتصيب أحدهم بمثل ما يصيب المصروع : من الأرعاد، والأزباد، والصياح المنكر، ويكلمه بما لا يعقله هو والحاضرون، وأمثال ذلك مما يمكن وقوعه في هؤلاء الضالين .
وأما القسم الثالث : وهو أن يقول : اللهم بجاه فلان عبدك، أو ببركة فلان عبدك، أو لحرمة فلان عبدك، افعل كذا وكذا . فهذا يفعله كثير من الناس، لكن لم ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين وسلف الأمة أنهم كانوا يدعون بمثل هذا الدعاء، ولم يبلغنى عن أحد من العلماء في ذلك ما أحكيه، إلا ما رأيت في فتاوى الفقيه أبي محمد العز(36/105)
بن عبد السلام . فإنه أفتى : بأنه لا يجوز لأحد أن يفعل ذلك؛ إلا بالنبي صلى الله عليه وسلم إن صح الحديث في النبي صلى الله عليه وسلم . ومعنى هذا الاستثناء أنه قد روى النسائى والترمذى وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم: "علم بعض أصحابه أن يدعو فيقول : " اللهم إنى أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا رسول اللّه، إنى أتوسل بك إلى ربى في حاجتى ليقضيها لى .
ص -184-
اللهم، فشفعه في " . فإن هذا الحديث قد استدل به طائفة على جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد مماته . قالوا : وليس في التوسل به دعاء للمخلوقين، ولا استغاثة بالمخلوق، وإنما هو دعاء واستغاثة باللّه، لكن فيه بجاهه، كما في سنن ابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر في دعاء الخارج للصلاة أنه يقول : " اللهم إنى أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاى هذا، فإنى لم أخرج أشراً ولا بطرا ً، ولا رياءً ولا سمعةً . خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك، أسألك أن تنقذنى من النار، وأن تغفر لى ذنوبى، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت " .
قالوا : ففي هذا الحديث أنه سأل بحق السائلين عليه، وبحق ممشاه إلى الصلاة، واللّه تعالى قد جعل على نفسه حقاً، قال تعالى : { وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } [ الروم : 47 ] ، ونحو قوله : { كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْؤُولًا } [ الفرقان : 16 ] . وفي الصحيحين عن معاذ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "أتدرى ما حق اللّه على العباد ؟ " . قال : اللّه ورسوله أعلم، قال : "أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً . أتدرى ما حق العباد على اللّه إذا فعلوا ذلك ؟ فإن حقهم عليه أن لا يعذبهم " . وقد جاء في غير حديث : " كان حقاً على اللّه كذا وكذا " كقوله : " من شرب الخمر لم يقبل له صلاة أربعين يوماً، فإن تاب تاب اللّه عليه، فإن عاد وشربها في(36/106)
الثالثة أو الرابعة كان حقاً على اللّه أن يسقيه من طينة الخَبَال " قيل : يا رسول الله، وما طينة الخبال ؟ قال : " عصارة أهل النار " ، وأمثال ذلك كثير.
وقالت طائفة: ليس في هذا جواز التوسل به بعد مماته وبعد مغيبه، بل إنما فيه التوسل في حياته بحضوره، كما في صحيح البخارى أن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه استسقى بالعباس، فقال : "اللهم إنا كنا إذا أجْدَبْنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعَمِّ نبينا فاسقنا، فيسقون ". وقد بين عمر رضي اللّه عنه أنهم كانوا يتوسلون به في حياته فيسقون .
وذلك التوسل: أنهم كانوا يسألونه أن يدعو اللّه لهم، فيدعو لهم، ويدعون معه، فيتوسلون بشفاعته ودعائه، كما في الصحيح عن أنس بن مالك: "أن رجلاً دخل المسجد يوم الجمعة من باب كان نحواً من دار القضاء ، والرسول صلى الله عليه وسلم قائم
ص -185-(36/107)
يخطب، فاستقبل النبي صلى الله عليه وسلّم قائما، ثم قال : "يا رسول اللّه، هلكت الأموال، وانقطعت السُّبُل . فادع الله سبحانه أن يغيثنا. قال: فرفع الرسول يديه ثم قال: اللهم أغثنا. قال أنس: فلا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزع، وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار إلا طلعت من ورائه سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت، فلا والله ما رأينا الشمس سبتاً. قال: ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة، والنبي صلى الله عليه وسلّم قائم يخطب، فاستقبله، فقال: يا رسول الله، هلكت الأموال وانقطعت السبل، فادع اللّه أن يمسكها عنا، قال : فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال : " اللهم، حوالينا ولا علينا اللهم على الآكَام والظِّرَاب وبُطُون الأودية ومَنَابِت الشجر " . قال : وأقلعت فخرجنا نمشى في الشمس". ففي هذا الحديث : أنه قال : "ادع اللّه لنا يمسكها عنا" . وفي الصحيح : أن عبد اللّه بن عمر قال : "إنى لأذكر قول أبي طالب في النبي صلى الله عليه وسلم حيث يقول :
وأبيض يُسْتَسقى الغَمام بوجهه
ثِمَال اليتامى عِصمة للأرامل .(36/108)
فهذا كان توسلهم به في الاستسقاء ونحوه . ولما مات توسلوا بالعباس رضي اللّه عنه كما كانوا يتوسلون به، ولم يتوسلوا به ويستسقوا به بعد موته، ولا في مغيبه ولا عند قبره، وكذلك معاوية بن أبي سفيان استسقى بيزيد بن الأسود الجُرَشى، وقال : "اللهم إنا نستشفع إليك بخيارنا . يا يزيد، ارفع يديك إلى اللّه، فرفع يديه، ودعا، ودَعْوا، فسقوا ". ولذلك قال العلماء : يستحب أن يستسقى بأهل الصلاح والخير، فإذا كان من أهل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم كان أحسن . ولم يذكر أحد من العلماء أنه يشرع التوسل والاستسقاء بالنبي والصالح بعد موته ولا في مغيبه، ولا استحبوا ذلك في الاستسقاء، ولا في غيره من الأدعية . والدعاء مُخُّ العبادة ، والعبادة مبناها على النية والاتباع، وإنما يعبد اللّه بما شرع، لا يعبد بالأهواء والبدع، قال الله تعالى : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ } [ الشورى : 21 ] ، وقال تعالى : { ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } [ الأعراف : 55 ] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنه سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الدعاء والطهور " .
ص -186-(36/109)
وأما الرجل إذا أصابته نائبة أو خاف شيئا فاستغاث بشيخه، يطلب تثبيت قلبه من ذلك الواقع، فهذا من الشرك الأكبر، وهو من جنس دين النصارى؛ فإن اللّه هو الذى يصيب بالرحمة ويكشف الضر، قال تعالى : { وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ } [ يونس : 107 ] ، وقال تعالى : { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ } الآية [ فاطر : 2 ] ، وقال تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ } [ الأنعام : 40 : 41 ] ، وقال تعالى : { قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً} [ الإسراء : 56 : 57 ] . فبين أن كل ما يدعى من دون الله من الملائكة والأنبياء وغيرهم لا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا .
وإذا قال القائل : أدعو الشيخ ليكون لي شفيعا، فهو من جنس دعاء النصارى لمريم والأحبار والرهبان . والمؤمن يرجو ربه ويدعوه مخلصا له الدين، وحق شيخه أن يدعو له ويترحم عليه؛ فإن أعظم الخلق قدراً النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه أعلم الناس بأمره وقدره، وأطوع الناس له، ولم يكن يأمر أحدا منهم عند الخوف أو الفزع أن يقول : يا سيدى، يا رسول اللّه، ولم يكونوا يفعلون ذلك في محياه ولا في مماته، بل كان يأمرهم بذكر اللّه ودعائه والصلاة والسلام عليه، قال تعالى : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً ـ إلى قوله ـ عَظِيمٍ } [ آل(36/110)
عمران173، 174 ] ، وفي صحيح البخارى عن ابن عباس: "أن هذه الكلمة قالها إبراهيم حين ألقى في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين قيل لهم: إن الناس قد جمعوا لكم" . وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه كان يقول عند الكرب : " لا إله إلا اللّه العظيم الحليم، لا إله إلا اللّه رب العرش الكريم، لا إله إلا الله رب السموات والأرض ورب العرش العظيم " . وقد روي أنه علم نحو هذا الدعاء بعض أهل بيته . وفي السنن : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حدث َه أمر قال : " يا حى، يا قيوم، برحمتك أستغيث " . وروي أنه علم ابنته فاطمة عليها السلام أن تقول : "يا حى، يا قيوم، يا بديع السموات والأرض، لا إله إلا أنت، برحمتك أستغيث، أصلح لى شأنى كله، ولا تِكَلْنى إلى نفسى طَرْفَة عين، ولا
ص -187-(36/111)
إلى أحد من خلقك " . وفي مسند أحمد وصحيح أبي حاتم لن حبان عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما أصاب عبدًا قط هَمٌّ ولا حَزَن فقال : اللهم إنى عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك، ناصِيتى بيدك، ماضٍ في حكمك، عَدْل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سَمَّيتَ به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو عَلَّمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك : أن تجعل القرآن العظيم رَبِيع قلبى، ونور بصرى، وجلاء حُزّنى، وذهاب هَمِّى وغمى، إلا أذهب اللّه همه وغمه، وأبدله مكانه فرحا " . قال : يا رسول اللّه، أفلا نتعلمهن ؟ قال : " ينبغى لمن سمعهن أن يتعلمهن " . وقال لأمته : " إن الشمس والقمر آيتان من آيات اللّه، يُخَوِّف الله بهما عباده، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة، وذِكْر اللّه، والاستغفار " . فأمرهم عند الكسوف بالصلاة والدعاء والذكر والعتق والصدقة، ولم يأمرهم أن يدعوا مخلوقا ولا ملكا ولا نبيا ولا غيرهم .
ومثل هذا كثير في سنته، لم يشرع للمسلمين عند الخوف إلا ما أمر اللّه به؛ من دعاء اللّه، وذكر الله والاستغفار، والصلاة، والصدقة، ونحو ذلك . فكيف يعدل المؤمن باللّه ورسوله عما شرع اللّه ورسوله إلى بدعة ما أنزل اللّه بها من سلطان، تُضَاهى دين المشركين والنصارى ؟ ! .
وإن زَعَم أحدٌ أن حاجته قضيت بمثل ذلك، فأنه مثل له شيخه ونحو ذلك، فعباد الكواكب ونحوهم من أهل الشرك يجرى لهم نحو هذا، كما تقدم، وقد تواتر عمن مضى من المشركين، وعن المشركين في هذا الزمان . ولولا ذلك ما عبدت الأصنام ونحوها، قال الخليل عليه السلام : { وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ } [ إبراهيم : 35، 36 ] .
ويقال : إن أول ما ظهر الشرك في أرض مكة بعد إبراهيم الخليل من جهة " عمرو بن لُحِىِّ الخزاعى " ،الذى رآه النبي صلى الله(36/112)
عليه وسلم يجر أمعاءه في النار . وهو أول من سَيَّب السوائب، وغَيَّر دين إبراهيم . قالوا : إنه ورد الشام، فوجد فيها أصناما يزعمون أنهم ينتفعون بها في جَلْب منافعهم ودفع مضارهم، فنقلها إلى مكة، وسَنَّ للعرب الشرك وعبادة الأصنام .
ص -188-
والأمور التى حرمها اللّه ورسوله، من الشرك، والسحر، والقتل، والزنا وشهادة الزور، وشرب الخمر وغير ذلك من المحرمات، قد يكون للنفس فيها حظ مما تعده منفعة، أو دفع مَضَرَّة، ولولا ذ لك ما أقدمت نفس على المحرمات التى لا خير فيها بحال، وإنما يوقع النفوس في المحرمات الجهل أو الحاجة . فأما العالم بقبح الشىء والنهى عنه فكيف يفعله ؟ ! والذين يفعلون هذه الأمور جميعها قد يكون عندهم جهل بما فيها من الفساد، وقد تكون بهم حاجة إليها، مثل الشهوة إليها، وقد يكون فيها من الضرر أعظم مما فيها من اللذة ولا يعلمون ذلك لجلهلهم أو لغلبة أهواؤهم حتى يفعلوها، والهوى الغالب يجعل صاحبه كأنه لا يعلم من الحق شيئاً، فإن حبك للشىء يُعْمِى ويُصِمُّ .
ولهذا كان العالم من يخشى اللّه، قال أبو العالية : سألت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: { إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ } [ النساء : من الآية 17 ] . فقالوا : "كل من عصى اللّه فهو جاهل، وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب ". وليس هذا من مواضع البسط لبيان ما في المنهيات من المفاسد الغالبة، وما في المأمورات من المصالح الغالبة، بل على المؤمن أن يعلم أن ما أمر اللّه به فهو لمصلحة محضة أو غالبة، وما نهى اللّه عنه فهو مفسدة محضة أو غالبة، وأن اللّه لا يأمر العباد بما أمرهم به لحاجته منه إليهم، ولا نهاهم عمّا نهاهم بُخْلاً به عليهم، بل أمرهم بما فيه صلاحهم ونهاهم عما فيه فسادهم؛ ولهذا وصف نبيه بأنه { يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ(36/113)
الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ } [ الأعراف : 157 ] .
وأما التمسح بالقبر أىّ قبر كان وتقبيله، وتمريغ الخد عليه، فمنهى عنه باتفاق المسلمين، ولو كان ذلك من قبور الأنبياء، ولم يفعله أحد من السّلف والأئمة، بل هذا من الشرك، قال اللّه تعالى : { وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا } الآية [ نوح : 23 ـ 24 ] ، وقد تقدم أنها أسماء قوم صالحين كانوا في قوم نوح، وأنهم عَكَفوا على قبورهم مدة، ثم طال عليهم الأمد فصَوَّروا تماثيلهم؛ لا سيما إذا اقترن بذلك دعاء الميت والاستغاثة به . وقد تقدم ذكره، وما فيه من
ص -189-(36/114)
الشرك، وبينا الفرق بين الزيارة البدعية التى يشبه أهلها بالنصارى و المشركين و الزيارة الشرعية .
وأما وضع الرأس عند الكبراء من الشيوخ وغيرهم، أو تقبيل الأرض ونحو ذلك، فهذا مما لا نزاع بين الأئمة في النهى عن ذلك، وفي المسند وغيره عن معاذ بن جبل: "أنه لما رجع من الشام سجد للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : " ما هذا يا معاذ ؟ " . فقال : يا رسول اللّه، رأيتهم يسجدون لأساقفتهم، ويذكرون ذلك عن أنبيائهم، فقال : " كذبوا يا معاذ، لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عِظَم حقه عليها، يا معاذ، أرأيت إذا مررت بقبرى أكنت ساجداً ؟ " . قال : لا . قال : " فلا تفعل " ، أو كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم .
بل قد ثبت في الصحيح من حديث جابر رضي الله عنه: "أنه صلى بأصحابه قاعدًا لمرض كان به، فصلوا قيامًا، فأمرهم بالجلوس، وقال : " لا تعظموني كما تعظم الأعاجم بعضها بعضًا " ، وقال : " من سره أن يتمثل له الرجال قيامًا فليتبوأ مقعده من النار " . فإذا كان قد نهاهم مع قعوده وإن كانوا قاموا في الصلاة حتى لا يتشبهوا بمن يقومون لعظمائهم، وبين أن من سره القيام له كان من أهل النار فكيف بما هو شر من ذلك السجود له؟ ومن وضع الرأس، وتقبيل الأيدي ونحو ذلك؟ ! وقد كان عمر بن عبد العزيز وهو خليفة على الأرض كلها قد وكل عمالاً يمنعون الداخلين من تقبيل الأرض، ويؤدبهم إذا قبّل أحد الأرض .
وبالجملة، فالقيام والركوع والسجود حق للواحد المعبود؛ خالق السموات والأرض، وما كان حقًا خالصًا لله لم يكن لغيره فيه نصيب؛ مثل الحلف بغير الله. قال الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم : " من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت " . متفق عليه . وقال أيضًا : " من حلف بغير الله فقد أشرك " .
فالعبادة كلها لله وحده لا شريك له : { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ(36/115)
مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} الآية [ البينة : 5 ] . وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : " إن الله يرضي لكم ثلاثًا : أن تعبدوه ولا
ص -190-
تشركوا به شيئًا وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم " . وإخلاص الدين لله هو أصل العبادة .
ونبينا صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن الشرك دقِّه وجلِّه، ووجليه وخفيه، كبيره وصغيره، حتى إنه قد تواتر عنه النهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غروبها بألفاظ متنوعة؛ تارة يقول : " لا تَحَرُّوا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها " . وتارة ينهى عن الصلاة بعد طلوع الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس . وتارة يذكر أن الشمس إذا طلعت طلعت بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار، ونهى عن الصلاة حينئذ؛ لما فيه من مشابهة المشركين في كونهم يسجدون للشمس في هذا الوقت، وأن الشيطان يقارن الشمس حينئذ ليكون السجود له، فكيف بما هو أظهر شركًا ومشابهة للمشركين من هذا ؟ ! وقد قال فيما أمره الله أن يخاطب به أهل الكتاب : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إلى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} إلى قوله: {مُسْلِمُونَ } [ آل عمران : 64 ] ، وذلك لما في ذلك من مشابهة أهل الكتاب من اتخاذ بعضهم بعضًا أربابًا من دون الله، ونحن منهيون عن مثل هذا، ومن عدل عن هدي نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وهدي أصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى ما هو من جنس هدي النصارى، فقد ترك ما أمر الله به ورسوله .
وأما قول القائل : فقضيت حاجتي ببركة الله وبركتك . فمنكر من القول؛ فإنه لا يقرن بالله في مثل ذبك غيره، حتى إن قائلا قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : ما شاء الله وشئت، فقال : " أجعلتني لله نِدّا ؟ ! بل ما شاء الله وحده " ، وقال لأصحابه : " لا تقولوا : ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا :(36/116)
ما شاء الله ثم شاء محمد " . وفي الحديث : "أن بعض المسلمين رأى قائلا يقول : نعم القوم أنتم، لولا أنكم تنددون . أي : تجعلون لله ندًا . يعني : تقولون : ما شاء الله وشاء محمد . فنهاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك ". وفي الصحيحين عن زيد بن خالد، قال : "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الفجر بالحديبية في إثر سَمَاء من الليل، فقال : " أتدرون ماذا قال ربكم الليلة ؟ " . قلنا : الله ورسوله أعلم . قال : " قال : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر . فأما من قال : مطرنا
ص -191-(36/117)
بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال : مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب " . والأسباب التي جعلها الله أسبابًا لا تجعل مع الله شركاء وأندادًا وأعوانًا .
وأما قول القائل : ببركة الشيخ، وإنه قد يعني بها دعاءه، فأسرعُ الدعاءِ إجابة دعوة غائب لغائب . وقد يعني بها بركة ما أمره به وعلمه من الخير، وقد يعني بركة اتباعه له على الحق، وقد يعني بركة معاونته له على الحق، وموالاته في الدين، ونحو ذلك . وهذه كلها معان صحيحة .
وقد يعني بها دعاء الميت والغائب؛ واستقلال الشيخ بذلك التأثير، أو فعله لما هو عاجز عنه، أو غير قادر عليه، أو غير قاصد له، فمتابعته أومطاوعته على ذلك من البدع المنكرات، ونحو هذه المعاني الباطلة . والذي لا ريب فيه أن العمل بطاعة الله تعالى، ودعاء المؤمنين بعضهم لبعض، ونحو ذلك، هو نافع في الدنيا والآخرة، وذلك بفضل الله ورحمته .
وأما سؤال السائل عن القطب الغوث الفرد الجامع ، فهذا قد يقوله طوائف من الناس، ويفسرونه بأمور باطلة في دين الإسلام؛ مثل تفسير بعضهم : أن الغوث هو الذي يكون مدد الخلائق بواسطته في نصرهم ورزقهم، حتى قد يقولوا : إن مدد الملائكة وحيتان البحر بواسطته . فهذا من جنس قول النصارى في المسيح عليه السلام والغالية في علي رضي الله عنه . وهذا كفر صريح، يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل؛ فإنه ليس من المخلوقات لا ملك ولا بشر يكون إمداد الخلائق بواسطته؛ ولهذا كان ما يقوله الفلاسفة في العشرة الذين قد يزعمون أنها الملائكة، وما يقوله النصارى في المسيح ونحو ذلك، كفراً صريحاً باتفاق المسلمين .
وكذلك إن عني بالغوث ما يقوله بعضهم : إنّ في الأرض ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، وقد يسميهم النجباء ، منهم سبعون هم النقباء ، ومنهم أربعون هم الأبدال ، ومنهم سبعة هم الأقطاب ، ومنهم أربعة هم الأوتاد ، ومنهم واحد هو الغوث ،(36/118)
وأنه مقيم بمكة، وأن أهل الأرض إذا نابتهم نائبة في رزقهم ونصرهم فزعوا إلى الثلاثمائة والبضع عشر رجلاً، وأولئك يفزعون إلى السبعين،
ص -192-
والسبعون إلى الأربعين، والأربعون إلى السبعة، والسبعة إلى الأربعة، والأربعة إلى الواحد . وبعضهم قد يزيد في هذا وينقص في الأعداد والأسماء والمراتب؛ فإن لهم فيها مقالات متعددة حتى يقول بعضهم : إنه ينزل من السماء على الكعبة خضر باسم غوث الوقت، واسم مصره على قول من يقول منهم : إن الخضر هو مرتبة، وإن لكل زمان خضرًا، فإن لهم في ذلك قولين وهذا كله باطل لا أصل له في كتاب الله ولا سنة رسوله، ولا قاله أحد من سلف الأمة ولا أئمتها، ولا من المشايخ الكبار المتقدمين الذين يصلحون للاقتداء بهم . ومعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأبا بكر وعمر وعثمان وعلياً كانوا خير الخلق في زمنهم، وكانوا بالمدينة، ولم يكونوا بمكة .
وقد روى بعضهم حديثًا في هلال غلام المغيرة بن شعبة، وأنه أحد السبعين . والحديث كذب باتفاق أهل المعرفة، وإن كان قد روى بعض هذه الأحاديث أبو نعيم في حلية الأولياء ، والشيخ أبو عبد الرحمن السلمي في بعض مصنفاته، فلا تغتر بذلك؛ فإنهما يرويان الصحيح والحسن والضعيف والموضوع، والكذب، ولا خلاف بين العلماء في أنه كذب موضوع . وتارة يروونه على عادة أهل الحديث الذين يروون ما سمعوه ولا يميزون بين صحيحه وباطله، وكان أهل الحديث لا يروون مثل هذه الأحاديث؛ لما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : " من حدث عني بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين " .
وبالجملة، فقد علم المسلمون كلهم أن ما ينزل بالمسلمين من النوازل الرغبة والرهبة؛ مثل دعائهم عند الكسوف والاستسقاء لنزول الرزق، ودعائهم عند الكسوف، والاعتداد لدفع البلاء، وأمثال ذلك، إنما يدعون في ذلك الله وحده لا يشركون به شيئًا، لم يكن للمسلمين أن يرجعوا بحوائجهم إلى(36/119)
غير الله، بل كان المشركون به في جاهليتهم إذا اشتد بهم الكرب يدعونه بلا واسطة فيجيبهم الله، أفَتَرَاهم بعد التوحيد والإسلام لا يجيب دعاءهم إلا بهذه الواسطة التي ما أنزل الله بها من سلطان ؟ قال تعالى : { وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ} الآية [ يونس : 12 ] ، وقال : { وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ} الآية [ الإسراء : 67 ] ، وقال تعالى :
ص -193-
{ قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ} الآية ، وقال تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إلى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ} إلى قوله: {مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ الأنعام : 40 : 43 ] .
والنبي صلى الله عليه وآله وسلم استسقي لأصحابه بصلاة الاستسقاء، وبغير صلاة، وصلاتهم للاستسقاء كصلاة الكسوف، وكان يقنت في صلاته فيستنصر على المشركين، وكذلك خلفاؤه الراشدون من بعده، وكذلك أئمة الدين ومشايخ المسلمين، مازالوا، على هذه الطريقة ؛ ولهذا قال العلماء المحققون : ثلاثة أشياء مالها من أصل : باب النصارى ، و منتظر الرافضة ، و غوث الصوفية؛ فإن النصارى تدعي في الباب(1) الذي لهم ما هو من هذا الجنس؛ وأنه الذي يقيم العالم، فذاك شخصه موجود، ولكن دعوى النصارى فيه باطلة . وأما محمد بن الحسن العسكري منتظر الرافضة في سرداب سامرا، والغوث المقيم بمكة عند الصوفية، ونحو هذا، فإنه باطل ليس له أصل في الوجود ، ولا وجود له.
وكذلك ما يزعمه بعضهم من أن القطب الغوث الجامع يمد أولياء الله، ويعرفهم كلهم، ونحو هذا، فهذا باطل . فأبو بكر وعمر رضي الله عنهما لم يكونا يعرفان جميع أولياء الله وعددهم، فكيف هؤلاء الضالين المفترين الكذابين ؟ ! والرسول صلى الله عليه وآله وسلم سيد ولد آدم إنما يعرف في الآخرة الذين لم يكن يراهم في الدنيا بسيما الوضوء، وهو الغُرَّة والتحجيل، ومن هؤلاء أولياء الله من لا يحصيه إلا الله.(36/120)
وأنبياء الله الذين هو إمامهم وخطيبهم لم يكن يعرف أكثرهم، بل قال الله له : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ } [ غافر : 78 ] ، وموسى لم يكن يعرف الخضر، والخضر لم يكن يعرف موسى، بل لما سلم عليه موسى قال له الخضر : "وأنَّي بأرضك السلام ؟ فقال له : أنا موسى . قال : موسى بني إسرائيل ؟ قال : نعم" . فكان قد بلغه اسمه وخبره، ولم يكن يعرف عينه . ومن قال : إن الخضر نقيب الأولياء، وأنه يعلمهم كلهم، فقد قال الباطل .
والصواب الذي عليه المحققون أنه ميت، وأنه لم يدرك الإسلام، ولو كان موجودًا في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لوجب عليه
__________
(1) وبقول النصارى قال البهائية الذين كفروا بكل دين واستباحوا كل المحرمات بوحي الشيطان بابهم وبهائهم لعنه الله ولعنهم.
ص -194-(36/121)
أن يؤمن به، ويجاهد معه، كما أوجب الله ذلك عليه وعلى غيره، ولكان يكونبمكة والمدينة، وكان يكون حضوره مع الصحابة رضي الله عنهم للجهاد معهم وإعانتهم على الدين أولى به من حضوره عند قوم كفار ليدقع سفينتهم، ولم يكن أحد من خير أمة أخرجت للناس مختفياً، وهو قد كان بين المشركين ولم يحتجب عنهم .
ثم ليس للمسلمين به وبأمثاله حاجة لا في دينهم ولا دنياهم، فإن دينهم أخذوه عن الرسول صلى الله عليه وسلّم النبي الأمي الذي علمهم الكتاب والحمكة، وقال لهم نبيهم : " لو كان موسى حياً ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم " . وعيسي ابن مريم إذا نزل من السماء إنما يحكم فيها بكتاب ربهم وسنة نبيهم . فأي حاجة لهم مع هذا إلى الخضر وغيره ؟ ! والنبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أخبرهم بنزول عيسي من السماء، وحضوره مع المسلمين، وقال : " كيف تهلك أمة أنا في أولها وعيسي في آخرها " . فإذا كان هذان النبيان الكريمان اللذان هما مع إبراهيم وموسى ونوح أفضل الرسل، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم سيد ولد آدم، ولم يحتجبوا عن هذه الأمة، لا عَوَامِّهم ولا خَوَاصِّهم، فكيف يحتجب عنهم من ليس مثلهم ؟ ! وإذا كان الخضر حيًا دائمًا فكيف لم يذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك قط، ولا أخبر به أمته، ولا خلفاؤه الراشدون ؟ !
وقول القائل : إنه نقيب الأولياء . فيقال له : من ولاه النقابة، وأفضل الأولياء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وليس فيهم الخضر ؟ وعامة ما يحكى في هذا الباب من الحكايات أكثرها كذب، وبعضها مبني على وهم رجال؛ مثل شخص رأي رجلا توهم أنه الخضر، أو وقال : إنه الخضر، كما أن الرافضة ترى شخصًا تتوهم أنه الإمام المنتظر المعصوم، أو تدعي ذلك، وروي عن الإمام أحمد أنه قال: ـ وقد ذُكر له الخضر ـ : "من أحالك على غائب فما أنصفك، وما ألقى هذا على ألسن الناس إلا الشيطان" . وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع .(36/122)
وأما إذا قصد القائل بقوله : القطب الغوث الفرد الجامع أنه رجل يكون أفضل أهل زمانه فهذا ممكن، لكن من الممكن أن يكون في الزمان اثنان
ص -195-
متساويان في الفضل، بل وثلاثة وأربعة، وأكثر، ولا يجزم بألا يكون في كل زمان أفضل الناس إلا واحدًا، وقد يكون جماعة بعضهم أفضل من بعض بوجه من وجوه، وبعضهم أفضل من بعض، وتلك الوجوه، إما متقاربة وإما متساوية .
ثم إذا كان في الزمان رجل هو أفضل أهل الزمان فتسميته الغوث الفرد الجامع بدعة ما أنزل الله بها من سلطان، ولا تكلم بهذا أحد من سلف الأمة وأئمتها، وما زال السلف يظنون في بعضهم أنه أفضل أو من أفضل زمانه ولا يطلقون عليه هذه الأسماء التي ما أنزل الله بها من سلطان، لا سيما أن من المنتحلين لهذا الاسم من يدعي أن أول هؤلاء الأقطاب هو: الحسن بن على بن أبي طالب رضي الله عنهما ثم يتسلل الأمر إلى من دونه إلى بعض مشايخ المتأخرين، وهذا لا على مذهب أهل السنة، ولا على مذهب الرافضة . فأين أبو بكر وعمر وعثمان وعلى والسابقون من المهاجرين والأنصار ؟ ! والحسن عند وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان قد قارب سن والاحتلام .
وقد حكي عن بعض الأكابر من الشيوخ المنتحلين لهذا الاسم: إن القطب الفرد الغوث الجامع ينطبق علمه على علم الله، وقدرته على قدرة الله، فيعلم ما يعلمه الله، ويقدر على ما يقدر عليه الله . وزعم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان كذلك، وأن هذا انتقل عنه إلى الحسن، فيتسلسل إلى شيخه . فبينت له أن هذا كفر صريح، وجهل قبيح، وأن دعوى هذا في الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كفر، دع ما سواه، وقد قال تعالى : { قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ } [ الأنعام : 50 ] ، وقال تعالى : { قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ} الآية(36/123)
[ الأعراف : 188 ] ، وقال تعالى : { يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا } ، وقال تعالى : { يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ } [ آل عمران : 154 ] ، وقال تعالى : { لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ} والآية بعدها [ آل عمران : 127، 128 ] ، وقال تعالى : { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء } [ القصص : من الآية 56 ] .
والله تعالى قد أمرنا أن نطيع رسوله وقد قال تعالى : { مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ } [ النساء : 80 ] ، وأمرنا أن نتبعه قال تعالى : { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فاتَبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ } [ آل عمران : 31 ] ، وأمرنا أن نعزره ونوقره وننصره، وجعل له من الحقوق ما بينه في كتابه وسنة رسوله، حتى أوجب علينا أن يكون أحب إلينا
ص -196-(36/124)
من أنفسنا وأهلنا، فقال تعالى : { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ } [ الأحزاب : 6 ] ، وقال تعالى : { قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ} إلى قوله: {الفَاسِقِينَ} [ التوبة : 24 ] ، وقال صلى الله عليه وآله وسلم : " والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين " . وقال له عمر رضي الله عنه : "يا رسول الله، واللهِ لأنت أحبَّ إليَّ من كل شيء إلا من نفسي" . فقال : " لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك " . قال : فأنت أحبّ إليَّ من نفسي، قال : " الآن يا عمر " . وقال : " ثلاث من كن فيه وَجَدَ حلاوة الإيمان : من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار " .
وقد بين في كتابه الحقوقه التي لا تصلح إلا له، وحقوق رسوله صلى الله عليه وسلّم، وحقوق المؤمنين بعضهم على بعض، كما بسطنا الكلام على ذلك في غير هذا الموضع، وذلك مثل قوله تعالى : {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور:52]، فالطاعة لله وللرسول، والخشية لله، والتقوي لله وحده، وقوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ } [ التوبة : 59 ] ، فالإيتاء لله وللرسول، كقوله: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا } [ الحشر : 7 ] ، لأن الحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، وأما الحسب فهو لله وحده، كما قالوا: {حَسْبُنَا اللّهُ } [ التوبة : من الآية 59 ] ، ولم يقل : حسبنا الله ورسوله،(36/125)
وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [ الأنفال : 64 ] أي : يكفيكك الله ويكفي من اتبعك من المؤمنين، وهذا هو المقطوع به في هذه الآية؛ ولهذا كانت كلمة إبراهيم ومحمد عليهما صلى الله عليهم أجمعين: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: من الآية173].
ص -197-
فصل
قال العراقي: "النقل السادس: قال ابن عبد الهادي الحنبلي تلميذ الشيخ ابن تيمية في كتابه الصارم المنكي في الرد على السبكي ـ ناقلا عن شيخه ابن تيمية، ما نصه ـ: وإنما يعرف هذا في حكاية ذكرها الفقهاء عن أعرابي أتى القبر وتلا هذه الآية: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} الآية [النساء: من الآية64]، وأنشد:
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه
فطاب من طيبهن القاع والأكم
روحي الفداء لقبر أنت ساكنه
فيه العفاف وفيه الجود والكرم
وقد استحب طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد مثل ذلك، واحتجوا بهذه الحكاية التي لا يبت بها حكم شرعي، بل لقضاء حاجة هذا الأعرابي وأمثالها أسباب بسطت في غير هذا الموضع، وليس كل من قضيت له حاجة بسبب يقتضي أن يكون السبب مشروعاً، وقد يفعل الرجل العمل الذي يعتقده صالحاً ولا يكون عالماً أنه منهي عنه، فيثاب على حسن قصده، ويعفى عنه لعدم علمه وهذا باب واسع، ثم الفاعل قد يكون متأولا أو مخطئاً أو مجتهداً أو مقلداً، فيغفر له خطؤه، ويثاب على ما يفعله من الخير المشروع، كالمجتهد المخطئ وقد بسط هذا في غير هذا الموضع.
هذا ما حكاه العراقي عن الصارم المنكي ثم قال: والحكاية التي ذكرها الفقهاء من كافة أهل المذاهب: مارواه العتبي التابعي الجليل عن الأعرابي: أنه أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلّم وتلا الآية ثم قال: قد جئتك
ص -198-(36/126)
مستغفراً من ذنبي، مستشفعاً بك إلى ربي، وأنشد البيتين، وقد استحسن ذلك كافة أهل العلم، وذكروه في المناسك في بحث الزيارة، واستحبوا ذلك، وكيف لا يثبت الاستحباب بهذه الحكاية، وهي واقعة في خير القرون ولم تنكر، وارتضاها الفقهاء؟ فهي دليل على الاستحباب، ثم إن الشيخ رحمه الله فسّؤ أن سؤال الحاجة من النبي صلى الله عليه وسلّم وغيره واقع، وأن المجتهد المخطئ والمقلد المتأول مثابون على حسن قصدهم، فلا يكفرون في مثل هذا، ولا يشركون ولا يؤثمون. انتهى كلام العراقي.
والجواب: إن هذا النقل قد اعتراه ما اعترى أمثاله، وأجرى التحريف عليه قلم إفكه وضلاله، فإن الحافظ محمد بن عبد الهادي لما تكلم على الحكاية التي احتج بها السبكي عزاها إلى مالك في جوابه لأبي جعفر المنصور، وقرر أنها من الموضوعات وأن إسنادها إسناد مظلم منقطع، مشتمل على من يتهم بالكذب، وساق كلام الحفاظ في جرح رواتها، وإطراح حديثهم ثم قال بعد ذلك:
وقد قال شيخ الإسلام في اقتضاء الصراط المستقيم: "ولم يكن أحد من السلف يأتي قبر نبي أو غير نبي لأجل الدعاء عنده، ولا كان الصحابة يقصدون الدعاء عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا عند قبر غيره من الأنبياء، وإنما كانوا يصلون ويسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه. واتفق الأئمة على أنه إذا دعا بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم لا يستقبل قبره وتنازعوا عند السلام عليه".
وذكر كلامهم في استقباله عند السلام، وقرّر رد الحكاية المذكورة عن مالك، وذكر نصوصه التي يخالفها، وأطال الكلام، ثم قال بعدها:
"وأما الحكاية في تلاوة مالك هذه الآية: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} الآية [النساء: من الآية64] فهو ـ والله أعلم ـ باطل؛ فإن هذا لم يذكره أحد من الأئمة فيما أعلم، ولم يذكر أحد منهم أنه استحب أن
ص -199-(36/127)
يسأل بعد الموت لا استغفارا ولا غيره وكلامه المنصوص عنه وعن أمثاله ينافي هذا.
ثم قال: "وإنما يعرف مثل هذا في حكاية ذكرها طائفة من متأخري الفقهاء عن أعرابي أنه أتى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتلا هذه الآية وأنشد بيتين ـ وذكرهما الشيخ، ثم قال ـ: ولهذا استحب طائفة من متأخري الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد مثل ذلك، واحتجوا بهذه الحكاية التي لا يثبت بها حكم شرعي لا سيما في مثل هذا الأمر الذي لو كان مشروعاً مندوباً لكان الصحابة والتابعون أعلم به وأعمل من غيرهم، بل قضاء الله حاجة مثل هذا الأعرابي وأمثاله لها أسباب وقد بسطت في غير هذا الموضع. وليس كل من قضيت حاجته بسبب يقتضي أن يكون السبب مشروعاً مأموراً به، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يسأل في حياته المسألة فيعطيها لا يرد سائلا وتكون المسألة محرمة في حق السائل حتى قال: "إني لأعطي أحدهم العطية فيخرج بها يتأبطها نارا قالوا يا رسول الله فلم تعطيهم؟ قال: يأبون إلا أن يسألوني ويأبى الله لي البخل". وقد يفعل الرجل العمل الذي يعتقده صالحا ولا يكون عالما أنه منهي عنه فيثاب على حسن قصده ويعفى عنه، لعدم علمه وهذا باب واسع. وعامة العبادات المبتدعة المنهي عنها قد يفعلها بعض الناس ويحصل له بها نوع من الفائدة، وذلك لا يدل على أنها مشروعة بل لو لم تكن مفسدتها أغلب من مصلحتها لما نهي عنها، ثم الفاعل قد يكون متأولا أو مخطئا أو مقلدا فيغفر له خطؤه ويثاب على ما فعله من الخير المشروع المقرون بغير المشروع كالمجتهد المخطئ" انتهى.
فانظر إلى هذا التحريف والتبديل الذي لم يسبقه إلى مثله من الأمة سابق، ولا يستحله إلا زنديق منافق. فقد حذف أول الكلام وما سيق لأجله، وحذف قول الشيخ: "فإن هذا لم يذكره أحد من الأئمة فيما أعلم ولم يذكر أحد منهم استحب أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلّم بعد الموت لا استغفاراً ولا غيره، وكلام مالك المنصوص عنه وعن أمثاله(36/128)
ينافي هذا.
ص -200-(36/129)
منهاج التأسيس والتقديس في كشف شبهات داود بن جرجيس - عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ (3)
الناشر:
دار الهداية للطبع والنشر والترجمة
وبدل أيضاً كلام الشيخ فإن الشيخ قال: في حكاية ذكرها طائفة من متأخري الفقهاء، والعراقي نسبها عن الشيخ إلى كل الفقهاء. فقال: "في حكاية ذكرها الفقهاء" فاعرف إلحاده، وحذف وسط العبارة وهي قوله: "لا سيما في مثل هذا الأمر الذي لو كان مشروعاً مندوباً لكان الصحابة والتابعون أعلم وأعمل به من غيرهم"، وحذف من وسطها أيضاً قوله: "فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يسأل في حياته المسألة فيعطيها لا يرد سائلا وتكون المسألة محرمة في حق السائل حتى قال: "إني لأعطي أحدهم العطية فيخرج بها يتأبطها نارا قالوا يا رسول الله فلم تعطيهم؟ قال: يأبون إلا أن يسألوني ويأبى الله لي البخل". وحذف أيضاً قوله: "وعامة العبادات المبتدعة المنهي عنها قد يفعلها بعض الناس ويحصل له بها نوع من الفائدة، وذلك لا يدل على أنها مشروعة بل لو لم تكن مفسدتها أغلب من مصلحتها لما نهي عنها" كل هذا حذفه.
فهل ترى يا ذا العقل السليم أكذب من هذا على الله وعلى أولي العلم من خلقه وأشد جرأة على تبديل دينه وتغييره؟.
وكلام الشيخ من أوله إلى آخره صريح في المعنى من دعاء الله عند قبر النبي صلى الله عليه وسلّم وحكاه عن الأئمة، وذكر اتفاقهم عليه، وأنّه لم يذكر أحد منهم استحباب سؤال النبي صلى الله عليه وسلّم بعد موته لا استغفاراً ولا غيره. {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} [البقرة: من الآية59] وحرفوا نصوص أهل العلم وألحدوا فيها، وأحالوها عن صرائح نصوصها وظواهر كلماتها وهل بدلت أديان الأنبياء إلا بمثل هذا؟ والموعد قريب: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: من الآية227] ومن كان هذا غاية رده ونهاية ما عنده، فلا يمتنع عليه تبديل ما اطلع(37/1)
عليه ورآه من كتب الشريعة ودواوين الإسلام، ولو سلك هذا المسلك في كتاب الله وفي أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلّم لهدّم قواعدها واجتث أصلها، وطمس أعلامها وغير حقائقها، وقد قرأ بعض الجهمية قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء: من الآية164] بنصب الاسم الشريف على أنه معمول، ولم يتجاسر إلى هذه الغاية التى انتهى إليها العراقي، فالحمد لله الذي كشف عن سوأته، وأبدى خزيه لعباده المؤمنين.
ص -201-
فصل
قال العراقي: "النقل الثالث عشر: قال رحمه الله في كتاب الفرقان: "ونجد كثيراً من هؤلاء عمدتهم في اعتقاد كونه ولياً لله أنه صدر منه مكاشفة أو بعض التصرفات الخارقة للعادة، أو أن بعضهم استغاث به وهو غائب أو ميت، فرآه قد جاء فقضى حاجته، أو يخبر الناس بما سرق لهم أو بحال غائب لهم، أو مريض. وليس شيء من هذه الأمور يدل على أن صاحبها ولي لله، بل اتفق أولياء الله على أن الرجل لو طار في الهواء ومشى على الماء لم يغتر به حتى ينظر متابعته للرسول صلى الله عليه وسلّم وموافقته لأمره ونهيه. وكرامات أولياء الله أعظم من هذه الأمور" انتهى نقله.
ثم قال: فانظر إلى كلامه، ولا سيما قوله: "وأن بعضهم استغاث به وهو غائب أو ميت فرآه قد جاء فقضى حاجته"، فإنه تسليم منه بأن هذا الأمر يقع على وجه الكرامة. ويستدل به على ولاية صاحبه، لكن بشرط أن يكون المستغاث به متابعاً لأمر الرسول صلى الله عليه وسلّم وموافقاً له ولنهيه".
قال العراقي: "فحينئذ تبين أن النبي صلى الله عليه وسلّم وأصحابه والتابعين ومن بعدهم من الأولياء العاملين، يجوز أن يعتقد فيهم الولاية، بسبب الاستغاثة بهم، سواء كانوا غائبين أو ميتين، وأن هذا يقع على وجه الكرامة، وأن كرامات الأولياء أعظم من هذه الأمور بل قد تقرر في كتب العقائد باتفاق أهل السنة أن كرامات أولياء الله يجب اعتقادها كما ذكره الشيخ في التحفة العراقية، بل قال: إن
ص -202-(37/2)
منكرها من الخوارج والرافضة، ومعلوم أن الكرامة لا تنشأ عن فعل محرم، فلو كانت الاستغاثة محرمة لما عدّها الشيخ وغيره كرامة، بل حينئذ تكون استدراجاً، على أن الشيخ ذكر أن المجتهد والمقلد والمؤول الذي له حسن قصد لا يكون ذلك بالنسبة إليه محرماً، بل يكون جائزاً أو مستحباً لنسبته لاعتقادهم، وهذا ظاهر لا غبار عليه إلا على من طمس الله بصيرته" انتهى.
والجواب أن يقال:
سياق الكلام ومقتضى التقرير في كلام الشيخ الذي نقله العراقي نفي الولاية بهذه المذكورات، ونفي الاستدلال عليها بالمكاشفة وخوارق العادة، ورؤية المستغاث به من الغائبين والأموات، والإخبار بما سرق وبحال الغائب والمريض. وقرر أن هذا ونحوه لا يدل على الولاية أصلاً. وأن أولياء الله متفقون على أن الرجل لو طار في الهواء ومشى على الماء لم يغتر به، حتى يتقيد بمتابعة الرسول موافقته لأمره ونهيه، وهذا تصريح من الشيخ بنفي الاستدلال بهذا على الولاية وإبطاله. وليس فيه تسليم مجئ المستغاث به الميت أو الغائب إلى المستغيث وأنه يقضي حاجته وأنه يستدل به على الولاية، كما زعم العراقي. بل هو قد ذكر قوله: "فرآه" فأسند الرؤية إلى المستغيث، وقرر في هذا الكتاب وفي غيره أن الإنسان قد يرى بواسطة الشياطين أشخاصاً وأشباحاً يتراءون لمن يدعو غير الله، ويستغيث به، ويظهرون لهم في صورة من يعتقدونه من المشايخ والصالحين، وأن المستغاث به لا شعور له ولا دراية له بذلك أصلاً. وقد مرّ هذا فيما نقلناه من كلامه في كتاب اقتضاء الصراط المستقيم، ونزيده إيضاحاً هنا.
فكلام الشيخ في نفي الاستدلال بهذا على الكرامة، وأنه ليس منها. والعراقي صرف العبارة عن مدلولها، وصدف عنها، ونسب إلى الشيخ ما لا يحتمله كلامه بوجه من الوجوه {فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: من الآية44].
قال الشيخ رحمه الله: "والطلب من النبي صلى الله عليه وسلّم بعد موته وفي مغيبه ليس
ص -203-(37/3)
مشروعاً قط، ولكن كثير من الناس يدعو الموتى والغائبين من الشيوخ وغيرهم.
فتمثل لهم الشياطين تقضي بعض مآربهم، لتضلهم عن سبيل الله، كما تفعل الشياطين بعبّاد الأصنام وعباد الشمس والقمر: تخاطبهم وتتراءى لهم، وهذا كثير يوجد في زماننا وغير زماننا.
وقال رحم الله: واتفق الأئمة على أنه لا يمس قبر النبي صلى الله عليه وسلّم ولا يقبل، وهذا كله محافظة على التوحيد؛ فإن من أصول الشرك بالله، اتخاذ القبور مساجد. قال طائفة من السلف في قوله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} الآية [نوح: من الآية23]: "هؤلاء كانوا قوماً صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم ثم طال عليهم الأمد، فعبدوهم" وقد ذكر بعض هذا البخاري في صحيحه، لما ذكر قول ابن عباس، وذكره ابن جرير وغيره عن غير واحد من السلف، وذكره وثيمة وغيره في قصص الأنبياء من عدة طرق" انتهى.
وقال ابن القيم في كلامه عن قصة الطفيل بن عمرو الدوسي: "ومنها وقوع كرامات الأولياء، وأنها إنما تكون لحاجة في الدين أو منفعة في الإسلام والمسلمين، فهذه هي الأحوال الرحمانية التي سببها متابعة الرسول، ونتيجتها إظهار الحق، وكسر الباطل، والأحوال الشيطانية ضدها سبباً ونتيجة".
وقول العراقي: "فحينئذ تبين أن النبي صلى الله عليه وسلّم وأصحابه والتابعين ومن بعدهم من الأولياء العاملين يجوز أن يعتقد فيهم الولاية بسبب الاستغاثة بهم، سواء كانوا غائبين أو ميتين".
فهذا كلام باطل لم يدل عليه كلام الشيخ، ولم يتبين منه، بل هو كلام جاهل لا يدري شرع الله، ولا يعرف دينه، وما جاءت به رسله، فإن ولاية الرسول صلى الله عليه وسلّم لله أظهر من أن تحتاج إلى دليل، ورتبة النبوة فوق الولاية، فضلاً عن رتبة الرسالة، فضلاً عن رتبة أولي العزم. فهذه مراتب علية لا يدركها آحاد الأولياء والمؤمنين، فكيف يقال: يجوز أن يعتقد في النبي صلى الله عليه وسلّم وأصحابه الولاية(37/4)
ص -204-
بسبب الاستغاثة؟ وقد يستجاب للمستغيث بالأصنام، فأثبت ولايتهم بأمر يكون للأصنام والأوثالن مشاركة فيه، فتعساً له، وويل أمه ما أجهله، وأكتف حجابه وأفحش خطابه.
واعتقاد الولاية لا يسوغ ولا يجوز بسبب الاستغاثة ودعاء غير الله وصريح الكتاب والسنة وإجماع الأمة، على أن الولاية لا تثبت بسبب من هذه الأسباب التي أنكرها الشيخ وألزمه إياها هذا العراقي جهلاً وظلماً. وإنما تثبت بالإيمان بالله واليوم الآخر والكتب والنبيين، والقيام بالواجبات الدينية والأركان الإسلامية، قال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} الآية إلى قوله: {الْمُتَّقُونَ) [البقرة:177]، وقال: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} (يونس:62 ـ 63)، وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} إلى قوله:{أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً} [لأنفال: 2 ـ 4] فهذا ونحوه هو الذي يستدل به على الولاية وتبثت به الولاية للعبد، وهذا معنى كلام الشيخ، وهذا الذي يفيده تقريره الذي مر، ولكن العراقي ألف الكذب والإلحاد، فصار له سجية يتهيأ لها بغير فكر ولا رؤية. ولو كانت الاستغاثة بغير الله سبباً للولاية ودليلاً عليها للزم القول بولاية كل معبود مع الله من الفاسقين والكهان والشياطين، بل والأصنام؛ لأن عابيدها قد تقضي حوائجهم، ويخاطبون منها، كما ذكره الشيخ وغيره، وقرروا ما ورد في السير من سماع الخطاب من الأصنام والأوثان، فجعل الاستغاثة بهم سبباً للولاية جهل عظيم، ثم الأسباب لا توجب وجود المسبب بنفسها، وفرق بين الدليل والسبب، لو كان هذا ممن يعقل الخطاب، ويفرق بين الخطأ والصواب.
وأما قوله: "بل تقرر في كتب العقائد باتفاق أهل السنة أن كرامات الأولياء يجب اعتقادها كما ذكر(37/5)
الشيخ في التحفة العراقية" فكلام الشيخ في التحفة العراقية وغيرها وكلام أهل السنة في إثبات الكرامة حق لا ريب فيه، وإنما الذي ينكره المسلم ويرده بفطرته وضروريات دينه اعتقاد أمثال هذا العراقي من أن الكرامة تحصل بدعاء غير الله والاستغاثة به وأن ذلك دليل إثباتها. هذا لا
ص -205-
يقوله مسلم ولا يقوله كتابي، ولا عاقل يعرف ما يخرج من بين شفتيه، وحقيقة هذا الكلام قرمطة لا تخفى على عقلاء الأنام، وليس في كلام الشيخ أن الاستغاثة بغير الله كرامة للمستغاث، فمن أين أخذ العراقي هذا البهت ونسبه إليه؟!.
ص -206-
فصل
قال العراقي: "النقل الرابع عشر، قال أيضاً في الفرقان: والناس في هذا الباب أصناف، منهم من اعتقد بشخص أنه ولي الله، وافقه في كل ما يظن أنه حدثه به قلبه عن ربه، وسلم له جميع ما يفعله، ومنهم إذا رآه فعل ما ليس بموافق للشرع أخرجه عن ولاية الله بالكلية، وإن كان مجتهداً مخطئاً. وخيار الأمور أوسطها. وهو أنه لا يجعل معصوماً، ولا مأثوماً إذا كان مجتهداً مخطئاً، فلا يتبع في كل ما يقول ولا يحكم عليه بالكفر والفسوق مع اجتهاده إذا خالف قول بعض الفقهاء، ووافق قول آخرين، لم يكن لأحد أن يلزمه قول المخالف، ويقول هو مخالف للشرع".
والجواب أن يقال:
ليس في هذا الكلام ما يدل على محل النزاع أصلاً، وقد تقدم أنه لا يعذر المجتهد المخطئ إلا في المسائل الاجتهادية التي يقع فيها النزاع بين الفقهاء أو ما يخفى دليلها، وأما ما علم من الإسلام بالضرورة، فليس من هذا القبيل، ويدل على هذا قول الشيخ هنا: "إذا خالف قول بعض الفقهاء، ووافق قول آخرين" وبهذا تعرف مراد الشيخ، وأن هذا العراقي تراكمت عليه ظلمات الجهل والطبع والهوى ظلمات بعضها فوق بعض.
ص -207-(37/6)
فصل
قال العراقي: "النقل الخامس الخامس عشر: قال في كتاب ذكر فيه الانتصار للإمام أحمد: إن الشيخ يحيى الصرصري صاحب الشعر المشهور ذكر عن علي بن إدريس أنه سأل الشيخ عبد القادر الجيلي: هل كان لله ولي على غير اعتقاد أحمد؟ وذكر جواب الشيخ عبد القادر ثم قال: "والصرصري الذي أشار إلى شعره ما ذكره في قصيدته اللامية المعروفة، حيث قال:
وأخبرني من كان أصل طريقتي
وساق أبياتاً من المنظومة.
ثم قال العراقي: فانظر إلى مدح ابن تيمية رحمه الله للصرصري، وقوله فيه: الفقيه الصالح صاحب الشعر المشهور، مع أن هذا الشعر الذي يعنيه شيخ الإسلام قد ذكر فيه أشياء تقتضي تكفيره على قول هؤلاء المبتدعو، فإنه استغاث بالرسول صلى الله عليه وسلّم بقوله:
لأنت إلى الرحمن أقوى وسيلة
إليه بها في الحادثات تنصل
وقوله:
وتسأل رب العالمين بميته
على السنة البيضاء غير مبدل
وهذا دعاء على قولهم، وقوله:
وأنت على كل الحوادث لي ولي
وقوله:
على تربها خديك عفر
وكلّ هذا يقتضي الإشراك على قواعد مذهبهم الجديد، والشيخ ابن تيمية أثنى عليه بأنه فقيه صالح، ولم يعترض عليه،
فانظر
ص -208-(37/7)
إلى هذه القصيدة وما فيها، وقابلها مع قول البوصيريّ:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به البيتين.
وقد صرّح في البيت الثاني إن مقصوده الشفاعة يوم القيامة بجاهه صلى الله عليه وسلّم مع أنه صادق، كما في البخاري وغيره، وفي تفسير قوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} [الاسراء: من الآية79] إنّه الشّفاعة العظمى.
والجواب أن يقال:
شيخ الإسلام رحمه الله لم يتعرض شعر الصرصري في هذا النقل لا بمدح ولا بذم، وإنما أثنى على نفس الصرصري، وحكى عنه هذه المقالة، ولا يلزم من مدح شخص وحمده من جهة أن يكون ممدوحاً محموداً من كل جهة، بل لا يلزم من الحكم عليه بالإسلام أو الإيمان أن لا يحكم عليه بما يوجب نقص إيمانه، وخلل إسلامه، ويقتضي تأثيمه ببعض السيئات، وعقابه عليها.
وقد ذكر الشيخ أن شعر يحيى الصرصري وقع فيه من الغلو والإطراء ما لا ينبغي أن يصدر مثله في حق مخلوق، وأنكر على من استغاث بغير الله أو دعاه.
قال الشيخ رحمه الله في رده على ابن البكري في مسألة الاستغاثة: "وأنه حرف الكلم عن مواضعه، وتمسك بمتشابهه، وترك المحكم، كما يفعله النصارى، وكما فعل هذا الضال ـ يعني ابن البكري ـ أخذ لفظ الاستغاثة، وهي تنقسم إلى الاستغاثة بالحي وإلى الاستغاثة بالميت. والاستغاثة بالحي تكون فيما يقدر عليه، فجعل حكم ذلك كله واحداً ولم يكفه حتى جعل السؤال بالشخص من مسمى الاستغاثة، ولم يكفه ذلك حتى جعل الطالب منه إنما طلب من الله لا منه فالمستغيث به مستغيث بالله، ثم جعل الاستغاثة بكل ميت من نبي وصالح جائزة، فدخل عليه الخطأ من وجوه:
منها أنه جعل المتوسل به بعد موته في دعاء الله مستغاثاً به. وهذا لا يعرف في لغة أحد من الأمم، لا حقيقة ولا مجازاً، مع دعواه الإجماع على ذلك؛ فإن المستغاث به هو المسؤول المطلوب منه لا المسؤول به.
ص -209-(37/8)
الثاني: ظنه أن توسل الصحابة في حياته كان توسلا بذاته صلى الله عليه وسلّم لا بدعائه و شفاعته فيكون التوسل به بعد موته كذلك وهذا غلط.
الثالث: أنه أدرج السؤال أيضا في الاستغاثة به وهذا صحيح جائز في حياته وقد سوى في ذلك بين محياه و مماته وهنا أصاب في لفظ الاستغاثة لكن أخطأ في التسوية بين المحيا و الممات وهذا ما علمته ينقل عن أحد من العلماء، لكنه موجود في كلام بعض الناس مثل الشيخ يحيى الصرصري ففي شعره قطعة منه والشيخ محمد بن النعمان كان له كتاب المستغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة والمنام، وهؤلاء ليسوا من العلماء العالمين بمدارك الأحكام الذين يؤخذ بقولهم في شرائع الإسلام ومعرفة الحلال والحرام، وليس لهم دليل شرعي، ولا نقل عن عالم مرضي، بل عادة جروا عليها. وكان بعض الشيوخ الذين أعرفهم وله فضل وعلم وزهد إذا نزل به أمر خطا إلى الشيخ عبد القادر خطوات معدودة واستغاث به وهذا يفعله كثير من الناس؛ ولهذا لما نُبّه من نُبه من فضلائهم تنبهوا، وعلموا أن ما كانوا عليه ليس من دين الإسلام بل هو مشابهة لعباد الأصنام" انتهى.
وقال رحمه الله في أثناء كلام له: "ونحن نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلّم لم يشرع بالضرورة لأمته أن يدعو أحداً من الأموات لا الأنبياء ولا الصالحين ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة ولا يغيرها. كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميت ولا لغير ميت ونحو ذلك، بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور، وأن ذلك من الشرك الذي حرمه الله تعالى ورسوله، ولكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين لم يكن تكفيره بذلك حتى يبن لهم ما جاء به الرسول؛ ولهذا ما بينت هذه المسألة قط لمن يعرف أصل الإسلام إلا تفطن لها، وقال: هذا أصل دين الإسلام، وكان بعض أكابر الشيوخ من أصحابنا يقول: هذه أعظم ما بينت لنا، لعلمه أن هذه أصل دين الإسلام، وكان هذا وأمثاله في ناحية أخرى يدعون الأموات،(37/9)
ويسألونهم ويستجيرون بهم ويتضرعون إليهم، وربما كان ما يفعلونه أعظم لأنهم إنما يقصدون الميت في ضرورة نزلت بهم فيدعونه
ص -210-
دعاء المضطر، راجين قضاء حاجتهم بدعائه والدعاء به أو الدعاء عند قبره بخلاف عبادتهم لله، فإنهم يفعلونها في كثير من الأوقات على وجه العادة والتكلف، حتى إن العدو الخارج عن شريعة الإسلام ـ التتار ـ لما قدم دمشق خرجوا يستغيثون بالموتى عند القبور التي يرجون عندها كشف الضر، وقال بعض شعرائهم:
يا خائفين من التتر
لوذوا بقبر أبي عمر
أو قال:
عوذوا بقبر أبي عمر
ينجيكموا من الضرر
فقلت لهم: إنّ هؤلاء الذين تستغيثون بهم لو كانوا معكم في القتال لانهزموا كما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أحد، ولهذا كان أهل المعرفة والدين والمكاشفة لم يقاتلوا في تلك المرة؛ لعدم القتال الشرعي الذي أمر الله به ورسوله، فلما كان بعد ذلك جعلنا نأمر الناس بإخلاص الدين والاستغاثة بالله، وإنهم لا يستغيثون بملك مقرب ولا نبي مرسل، فلما أصلح الناس أمورهم وصدقوا في الاستغاثة بربهم نصرهم على عدوهم نصراً عزيزاً لم يتقدم لهم نظيره، ولم تهزم التتار مثل هذه الهزيمة قبل ذلك، لما صح من تحقيق التوحيد لله وطاعة رسوله، مما لم يكن قبل ذلك، فإن الله ينصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد" انتهى ما نقلته من كلامه.
ولم يقتصر فيه على مجرد الإنكار، بل جعله شركاً وكفراً، بعد قيام الحجة والعلم بكفر فاعله، وجعله من ضرورات الدين، بل جعله أصل الدين، وجعل وجود هذا الشرك مانعاً من القتال الشرعي، وسبباً للهزيمة وعدم النصر، فأي إنكار أبلغ من هذا؟.
وقد أنكر الشيخ ابن تيمية شعر الصرصري، ونص على أنه يقع فيه ما لا يسوغ ولا يجوز.
وقوله:
لأنت إلى الرحمن أقوى وسيلة
ليس فيه استغاثة كما زعم العراقي، بل المقصود إنه صلى الله عليه وسلّم هو الواسطة بين العباد
ص -211-(37/10)
وبين الله في إبلاغ شرعه ودينه، وبيان ما يحب ويرضى، وما يكرهه عنه وينهى فهو وسيلة لمن سار إلى الله على سبيله، وتمسك بهديه، وقبله قوله:
سل الله رب العالمين يميتني
على السنة البيضاء غير مبدل
ليس صريحاً في أن السائل لله هو النبي صلى الله عليه وسلّم إذ يحتمل أنه أراد: سل أيها المذنب وأيها العبد، ولكنه التفت عن التكلم إلى الخطاب، وإحسان الظن بمثله أولى.
وأما قوله:
وأنت على كل الحوادث لي ولي
فالمراد أنه يوالي الرسول صلى الله عليه وسلّم ويتولاه على كل الحوادث، في اليسر والعسر، والرخاء والشدة، والضيق والسعة. لا يوالي غير أولياء الله. قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ، وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:55 ـ56]، فليس المراد بالولي المستغاث المعبود؛ فإن هذا فهم جاهلي شركي، وأهل الإسلام يفهمون من موالاة الرسول صلى الله عليه وسلّم محبته وتوقيره وتعزيره وطاعته والتسليم لأمره، والوقوف عند نهيه، وتقديم قوله على قول كل أحد، هذه هي موالاة أهل الإسلام، وما قال العراقي موالاة عبادة الأصنام.
إذا عرفت هذا عرفت جهل هذا العراقي بمعاني الخطاب، وموضوع الكلام وأنه أجنبي عن مدارك الأحكام، والعلم بشرائع الإسلام، وأن قول البوصيري أشنع وأبشع من قول الصرصري، لما تضمنه من الحصر، ولما فيه من اللياذ بغير الله في الخطب الجليل، والحادث العمم، وهو قيام الساعة، وقد قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأنعام:40]، فدعء غير الله في الأمور العامة الكلية أبشع من دعاء غيره في الأمور الجزئية، ولذلك أخبر أن عباد الأصنام(37/11)
لا يدعون غيره عند إتيان العذاب أو إتيان الساعة الهي الحادث العمم.
وأما قول العراقي: إن مقصوده الشفاعة والجاه، فهذا لا يفيده شيئاً؛ لأن
ص -212-
عامة المشركين إنما يقصدون هذا، ولم يقصد الاستقلال إلا معطلة الصانع، وعامة المشركين إنما قصدوا الجاه والشفاعة، كما حكاه القرآن في غير موضع.
وأما تشبيه العراقي بأنه صلى الله عليه وسلّم أعطى الشفاعة يوم القيامة، وأنزل عليه {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} [الاسراء: من الآية79]، فهذا تلبيس منه، وتشبيه على من لا يدري الحقائق ولم يتفطن لمسألة النزاع، فإن الخصومة والنزاع في طلب الشفاعة أو غيرها من الشفعاء في حال مماتهم، وقصدهم لذلك ونحوه من المطالب المهمة، وأما حصول الشفاعة بسؤاله صلى الله عليه وسلّم إياهم يوم القيامة، فهذا لا ينكر. وهو من جنس ما كان يطلب منه في حياته صلى الله عليه وسلّم. وأما بعد موته فلم يعرف عن أحد من أصحابه ولا عن أحد من أئمة الإسلام بعدهم أنه دعاه وطلب منه شفاعة أو غيرها، وإنما فعله بعض الخلوف الذين لا يرجع إليهم في مسائل الأحكام، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
ص -213-(37/12)
فصل
قال العراقي: "النقل السادس عشر: قال في الفتاوى في جواب سؤال ورد من كيلان، في مسألة خلق القرآن ما نصه: "فمسألة تكفير أهل الأهواء والبدع متفرعة على هذا الأصل، وفي الأدلة الشرعية ما يوجب أن الله لا يعذب أحداً من هذه الأمة على خطأ، وإن عذب المخطئ في غيرها ـ ثم ساق حديث أبي هريرة في الرجل الذي أمر أولاده بتحريقه، وأن يذروه في البحر وأنه شك في قدرة الله، ومع ذلك غفر الله له لما معه من خوف الله والإيمان به، ثم ذكر كلام الشيخ في الخطأ في الفروع العملية، وأنه قد وقع في بعض السلف ـ وساق قصة داود وسليمان وحكمهما في الغنم، ثم قال: انظر إلى كلامه وتأمله فإنه أنذر وأعذر، وتحاشى عن تكفير أهل البدع العظام القائلين بنفي قدرة الله أو عدم البعث".
هذا كلامه بحروفه، ثم أطال الكلام في قصة داود وسليمان وزعم أنه معنى قوله تعالى: {وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} [الانبياء: من الآية79]، فإن الله أقرّ حكمهما.
والجواب أن يقال:
قد أكثر هذا العراقي من التشبيه بعدم تكفير المخطئ وعدم تأثيمه، وقد مرّ من الجواب عن هذه الشبه ما فيه كفاية. وأكثر كلامه تكرير وإسهاب، يوهم الجهال به أنه قد قرر الصواب، وأوضح الخطاب، ولا يروج هذا إلا على
ص -214-(37/13)
العوام ومن لا بصيرة له بحقيقة دين الإسلام. وقد قدمنا أن طرد قول العراقي واستدلاله يفيد عدم التأثيم والتكفير في الخطأ في جميع أصول الدين، كالإيمان بوجود الله وربوبيته وإلهيته وقدره وقضائه، والإيمان بصفات كماله الذاتية والفعلية، ومسألة علمه بالحوادث والكائنات قبل كونها، والمنع من التكفير والتأثيم بالخطأ في هذا كله رد على من كفر معطلة الذات، ومعطلة الربوبية، ومعطلة الأسماء والصفات، ومعطلة إفراده تعالى بالإلهية والقائلين بأنه لا يعلم الكائنات قبل كونها كغلاة القدرية، ومن قال بإسناد الحوادث إلى الكواكب العلوية، ومن قال بالأصلين النور والظلمة؛ فإن التزم العراقي هذا كله فهو أكفر وأضل من اليهود والنصارى، وإن زعم أن ثمَّ فرقاً بين هذا وبين مسألة النزاع التي هي دعاء الأمواب الغائبين فيما لا يقدر عليه إلا ربّ العالمين فيوجدنا هذا الفرق، وليوجدنا دليلاً على صحته، فإن لم يفعل ـ ولن يفعل ـ بطل تقريره وتأصيله، وعلم أهل العلم والإيمان أنه دلس مشبه، ليس من أهل الفقه والدين، ولا ممن يعرف الإسلام والمسلمين، ويفرق بين الموحدين والمشركين، بل هو في ظلمات الطبع والجهل والشرك المبين.
وكلام شيخ الإسلام إنما يعرفه ويدريه من مارس كلامه وعرف أصوله، فإنه قد صرّح في غير موضع أن الخطأ قد يغفر لمن لم يبلغه الشرع، ولم تقم عليه الحجة في مسائل مخصوصة، إذا اتقى الله ما استطاع، واجتهد بحسب طاقته، وأين التقوى والاجتهاد الذي يدعيه عباد القبور والداعون للموتى وللغائبين؟ كيف والقرآن يتلى في المساجد والمدارس والبيوت؟ ونصوص السنة النبوية مجموعة مدونة معلومة الصحة والثبوت؟.
والحديث الذي ذكره الشيخ في رجل من أهل الفترات قام به من خشية الله وخوفه والإيمان بثوابه وعقابه ما أوجب له أن أمر أهله بتحريقه، فأين هذا من هؤلاء الضلال الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، واتبعوا ما تتلوا الشياطين على دعاء غير الله، والشرك برب(37/14)
العالمين، فسحقاً لهذا الجاهل المفتري، وبعداً لكل ضال غوي.
ص -215-
ومن تأمل كلام الشيخ وسياقه عرف مقصوده، وأن الكلام فيمن كفر العصاة وأهل الكبائر، وذكر نزاع الناس في ذلك ثم قال: وأما السلف والأئمة فاتفقوا على أن الإيمان قول وعمل، فيدخل في القول: قول القلب واللسان، وفي العمل: عمل القلب والأركان.
قال: وقال المنتصرون لمذهبهم : إن للإيمان أصولا وفروعا، وهو مشتمل على أركان وواجبات ومستحبات، بمنزلة اسم الحج والصلاة؛ فإن اسم الحج يتناول كل ما يشرع فيه من فعل وترك، مثل الإحرام وترك محظوراته، والوقوف بعرفة ومزدلفة ومنى، والطواف والسعي. ثم الحج مع هذا مشتمل على أركان، متى تركت لم يصح الحج، كالوقوف بعرفة، وعلى ترك محظور متى فعله فسد حجه، وهو الوطء . ومشتمل على واجبات، من فعل وترك، يأثم بتركها عمدًا، ويجب لتركها لعذر أوغيره الجبران بدم، كالإحرام من المواقيت، والجمع بين الليل والنهار بعرفة، وكرمي الجمار ونحو ذلك. ومشتمل على مستحبات من فعل وترك يكمل الحج بها، ولا يأثم بتركها، ولا توجب دماً، مثل رفع الصوت بالإهلال والإكثار منه، وسوق الهدى، وذكر الله في تلك المواضع، وقلة الكلام إلا في أمر ونهي. فمن فعل ذلك الواجب، وترك المحظور، فقد تم حجه وعمرته، وهو مقتصد من أصحاب اليمين في هذا العمل .
لكن من أتى بالمستحب فهو أكمل وأتم حجًا وعملاً، وهو سابق مقرب، ومن ترك المأمور، وفعل المحظور، لكنه أتى بأركانه، وترك مفسداته فجه ناقص، يثاب على ما فعله من الحج، ويعاقب على ما تركه، وقد سقط عنه أصل الفرض. ـ إلى أن قال ـ: فمسألة تكفير أهل والأهواء والبدع متفرعة على هذا الأصل . ـ ثم ذكر مذاهب الأئمة في ذلك وذكر تكفير الإمام أحمد للجهمية، وذكر كلام السلف في تكفيرهم وإخراجهم من الثلاث والسبعين فرقة، وغلظ القول فيهم، وذكر الروايتين في تكفير من لم يكفرهم، وذكر أصول هذه الفرق، هم: الخوارج، والشيعة،(37/15)
والمرجئة، والقدرية ـ ثم أطال الكلام في عدم تكفير هذه الأصناف. واحتج بحديث أبي هريرة ـ ثم قال: وإذا كان كذلك فالمخطئ في بعض المسائل إما أن يلحق بالكفار من
ص -216-
المشركين وأهل الكتاب، مع مباينته لهم في عامة أصول الإيمان، فإن الإيمان بوجوب الواجبات الظاهرة المتواترة، وتحريم المحرمات الظاهرة، هو من أعظم أصول الإيمان، وقواعد الدين، وإذا كان لا بد من إلحاقه ـ أي المخطئ ـ بأحد الصنفين، فإلحاقه بالمؤمنين المخطئين أشد شبهاً من إلحاقه بالمشركين وأهل الكتاب، مع العلم بأن كثيراً من أهل البدع منافقون النفاق الأكبر، فما أكثر ما يوجد في الرافضة والجهمية ونحوهم من زنادقة منافقين، وأولئك في الدرك الأسفل من النار.
فتبين بهذا مراد الشيخ، وأنه في طوائف مخصوصة، وأن الجهمية غير داخلين، وكذلك المشركين، وأهل الكتاب لم يدخلوا في هذه القاعدة. فإنه منع إلحاق المخطئ بهذه الأصناف، مع مباينته لهم في عامة أصول الإيمان، وهذا هو قولنا بعينه. فإنه إذا بقيت معه أصول الإيمان، ولم يقع منه شرك أكبر، وإنما وقع في نوع من البدع فهذا لا نكفره ولا نخرجه من الملة.
وهذا البيان ينفعك فيما يأتي من التشبيه بأن الشيخ لا يكفر المخطئ والمجتهد، وأنه في مسائل مخصوصة، وبين أن الإيمان يزول بزوال أركانه وقواعده الكبار، كالحجّ يفسد بترك ركن من أركانه، وهذا عين قولنا، بلغ هو أبلغ من مسألة النزاع.
ومن تأمل كلام الشيخ في هذا الباب عرف المراد، ومن أزاغ الله قلبه فلا حيلة فيه.
وحديث الرجل الذي أمر أهله بتحريقه كان موحّداً ليس من أهل الشرك فقد ثبت من طريق أبي كامل عن حماد عن ثابت عن أبي رافع عن أبي هريرة: "لم يعمل خيراً إلا التوحيد" فبطل الاحتجاج به عن مسألة النزاع.
وأما الخطأ في الفروع والمسائل الاجتهادية إذا اتقى المجتهد ما استطاع فلم نقل بتكفير أحد بذلك ولا بتأثيمه. والمسألة ليست في محل النزاع.
فإيراد العراقي لها هنا تكثر(37/16)
بما ليس له وتكبير لحجم الكتاب بما لا يغني عنه فتيلاً.
وهل أوقع الاتحادية والحلولية فيما هم عليه من الكفر البواح والشرك العظيم والتعطيل لحقيقة وجود رب العالمين إلا خطؤهم في هذا الباب الذي اجتهدوا
ص -217-
فيه، فضلوا وأضلوا عن سواء السبيل؟ وهل قُتل الحلاّج باتفاق أهل الفتوى على قتله إلا ضلال اجتهاده؟ وهل كفر القرامطة وانتحلوا ما انتحلوه من الفضائح الشنيعة، وخلعوا ربقة الشريعة إلا باجتهادهم فيما زعموا؟ وهل قالت الرافضة ما قالت، واستباحت ما استباحت من الكفر والشرك وعبادة الأئمة الإثني عشر وغيرهم، ومسبة أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلّم وأم المؤمنين الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما، إلا باجتهادهم فيما زعموا؟ وهؤلاء سلف العراقي في قوله: " إن كل خطأ مغفور". وهذا لازم له لا محيص عنه هنا، واستصحب ما ذكر هنا في رد ما يأتي، ويمر عليك من نحو هذه الشبهة، وقد تقدم في أول الجواب ما فيه كفاية، وإنما كررنا الجواب لتكرير الشبهة وإن عادت العقرب فالنعل لها حاضرة.
ص -218-(37/17)
فصل
قال العراقي: "النقل السابع عشر: "قال في الفتاوى أيضاً، وفي جوابه له: "وأما هؤلاء القلندرية المحلقين اللحى فمن أهل الضلالة، وأكثرهم كافر باللّه ورسوله، لا يرون وجوب الصلاة ولا الصيام، ولا يحرمون ما حرم اللّه ورسوله، ولا يدينون دين الحق، بل كثير منهم أكفر من اليهود والنصارى، لويسوا من أهل الملة، ولا من أهل السنة. وقد يكون فيهم من هو مسلم، ولكنه مبتدع ضال، أو فاجر فاسق.
ـ إلى أن قال ـ ويجب عقوبتهم جميعهم، ومنعهم من هذا الشعار الملعون، كما يجب ذلك في كل معلن ببدعة وفجور .
وليس ذلك مختصاً بهم، بل كل من كان من المتفقهة، والمتعبدة، والمتفلسفة، ومن وافقهم من أهل الديوان والملوك، والأغنياء، والكتاب، والأطباء، والعامة خارجا عن الهدى ودين الحق الذي بعث اللّه به رسوله، لا يقر بجميع ما أخبر اللّه به على لسان رسوله، ولا يوجب ما أوجب الله ورسوله، ولا يحرم ما حرم اللّه ورسوله، أو يدين بدين يخالف الدين الذي بعث اللّه به رسوله صلى الله عليه وسلّم ظاهراً وباطنًا؛ مثل أن يعتقد أن شيخه يرزقه، أو ينصره أو يهديه، أو يغيثه، أو كان يعبد شيخه أو يدعوه ويسجد له، أو يفضله على النبي صلى الله عليه وسلم تفضيلا مطلقا، أو مقيدا في شيء من الفضل الذي يقرب إلى اللّه تعالى، وكان يرى نفسه هو أو شيخه مستغنيا عن متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فكل هؤلاء كفار إن أظهروا، ومنافقون إن لم أبطنوا.
وهؤلاء الأجناس، وإن كانوا قد كثروا في هذا الزمان، فلقلة دعاة العلم والإيمان، وفتور آثار الرسالة في أكثر البلدان، وأكثر هؤلاء ليس عندهم من آثار الرسالة وميراث
ص -219-(37/18)
النبوة ما يعرفون به الهدى، وكثير منهم لم يبلغهم ذلك . وفي أوقات الفترات، وأمكنة الفترات : يثاب الرجل على ما معه من العلم، ويغفر له لم تقم الحجة عليه ما لا يغفر لمن قامت عليه الحجة، كما في الحديث المعروف : " يأتي على الناس زمان لا يعرفون فيه صلاة، ولا صيامًا، ولا حجًا، ولا عمرة، إلا الشيخ الكبير، والعجوز الكبيرة . ويقولون : أدركنا آباءنا يقولون : لا إله إلا الله فقيل لحذيفة بن اليمان : ما تغني عنهم لا إله إلا اللّه ؟ فقال : تنجيهم من النار ، تنجيهم من النار، تنجيهم من النار" .
وأصل ذلك : أن المقالة التي هي كفر بالكتاب والسنة والإجماع، يقال: هي كفر قولا مطلقاً، كما دل على ذلك الدليل الشرعي؛ فإن الإيمان والتكفير من الأحكام المتلقاة عن اللّه ورسوله، ليس ذلك مما يحكم فيه الناس بظنونهم وأهوائهم . ولا يجب أن يحكى في كل شخص قال ذلك بأنه كافر حتى يثبت في حقه شروط التكفير، وتنتفى موانعه، مثل من قال : شرب الخمر أو الربا حلال؛ لقرب عهده بالإسلام، والنشأة ببلاد بعيدة، أو سمع كلاما أنكره ولا يعتقد أنه من القرآن ولا من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، كما كان بعض السلف ينكر أشياء حيث لم يثبت عنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قالها، وكان الصحابة يشكون في أشياء مثل رؤية الله وغير ذلك، ومثل الذي قال لأهله : " إذا أنا مِتُّ فاسحقوني، ثم ذروني في اليم؛ فلعلي أضل الله" ونحو ذلك ؛ فإن هؤلاء لا يكفرون حتى تقوم عليهم الحجة الرسالية، وقد عفى الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان . وقد أشبعنا الكلام عليها في أماكنها، والفتوى لا تحتمل البسط أكثر من هذا . والله أعلم ". انتهى.
قال العراقي ـ بعد نقله لهذا ـ: "فتأمل كلام شيخ الإسلام في هذه الطائفة القلندرية وأشباههم، مع قوله: "إن أكثرهم لا يؤمن بالله ورسوله، وقوله: لا يرون وجوب الصلاة والصيام، ولا يحرمون ما حرّم الله ورسوله،(37/19)
وكثير منهم أكفر من اليهود والنصارى، وأنهم يخالفون الدين الذي بعث الله به رسوله باطنا وظاهراً، وأنهم يعتقدون أن شيخهم يرزقهم وينصرهم ويهديهم ويغيثهم، ويعبدون شيوخهم ويسجدون لهم، ويفضلون شيوخهم على النبي صلى الله عليه وسلّم وكل واحدة من
ص -220-
هذه الخصال مكفرة إذا اعتقدوا أن الرزق والنصرة والإغاثة من شيوخهم استقلالا من دون الله من غير تأويل أنها بشفاعتهم، وهذا كله عندهم لفتور آثار الرسالة، وكثير منهم لم يبلغهم ذلك وأنهم مثابون مغفور لهم على ما معهم من الإيمان. وإن كلمة لا إله إلا الله تنجيهم من النار حتى كررها الصحابي الجليل صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلّم مع عدم إيجابهم الصلاة والصيام والزكاة والحج والعمرة وأن حال هؤلاء كحال بعض الصحابة وبعض السلف الشاكين في ثبوت بعض الآيات، أو بعض الأحاديث، ولم تبلغهم أو بلغتهم أولوها ومثل الذي أمر أهله بإحراقه وذره في الهواء واعتقد أن الله لا يقدر عليه وعلى بعثه وصرّح رحمه الله أن الكفر لا يثبت على معين، إن أطلق عليه الكفر بالكتاب والسنة والإجماع، حتى تبثت شروط التكفير، وتنتفي موانعه. ومن جملة موانعه كما صرّح به غير مرّة: الاجتهاد في مسألة، ولو مخطئاً والتقليد لمجتهد في هذه المسألة أو تأويلاً يعذره الله فيه، أو شبهة أو جهلاً وحسن قصد، وانظر إلى قوله: فإن الإيمان والتكفير من الأمور المتلقاة عن الله ورسوله وليس ذلك مما يحكم الناس فيه بظنونهم وأهوائهم، فانصف يا أخي ولا تتجاسر على من يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ومع ذلك يوجب ما أوجبه الله ورسوله ويصلي ويصوم ويزكي ويحج ويحب الله ورسوله، ويؤمن بكتبه وملائكته ورسله، والله يصلنا وإياك.
والجواب أن يقال:
هذا العراقي يتكثر بما ليس له، ويخرج عن محل النزاع، ويوهم الجهال أنه قد أفاد وأجاد، وهو في ظلمات لا تنقشع ولا تكاد، وهذا الكلام الذي حكاه عن الشيخ صريح في تكفير من خرج عن الهدى(37/20)
ودين الحق الذي بعث الله به رسوله، ولا يقر بجميع ما أخبر الله به على لسان رسوله، أو لا يوجب ما أوجب الله ورسوله أو لا يحرم ما حرم الله ورسوله، أو كان يدين بدين يخالف ما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلّم ظاهراً وباطناً، مثل أن يعتقد أن شيخه يرزقه أو ينصره أو يهيديه، أو يغيثه، أو كان يعبد شيخه أو يسجد له أو يفضله على النبي صلى الله عليه وسلّم تفضيلاً مطلقاً أو مقيداً، أو كان يرى أنه هو أو شيخه مستغيثاً عن متابعة
ص -221-(37/21)
الرسول صلى الله عليه وسلّم، قال: "فكل هؤلاء كفار إن أظهروا ومنافقون إن أبطنوا" فجزم بكفرهم وقرره، وهذا عين كلامنا، ولم نزد على الشيخ حرفاً واحداً، بل كلامه أبلغ، ويدخل تحته من التكفير بالجزئيات ما دون مسألة النزاع بكثير.
وأما قوله: "وإن كانوا قد كثروا في هذه الأزمنة فلقلة دعاة العلم وفتور آثار الرسالة في أكثر البلدان وأكثر هؤلاء ليس عندهم من آثار الرسالة وميراث النبوة ما يعرفون به الهدى، ,كثير منهم لم يبلغهم ذلك، وفي أوقات الفترات وأمكنة الفترات يثاب الرجل على ما معه من العلم، ويغفر له ما لم تقم الحجة عليه، ما لا يغفر لمن قامت عليه الحجة" إلى آخر كلامه.
فهذا هو الذي تمسك به العراقي، أعني على هذا الكلام الأخير، وظن أنه له لا عليه، وهذا غلط ظاهر وجهل مستبين؛ فإن النزاع فيمن قامت عليه الحجة، وعرف التوحيد، ثم تبين في عداوته ومسبته ورده كما فعل هذا العراقي، أو أعرض عنه فلم يرفع به رأساً، كحال جمهور عباد القبور ولم يعلم، ولكن تمكن من العلم ومعرفة الهدى، فأخلد إلى الأرض واتبع هواه، ولم يلتفت إلى ما جاءت به الرسل ولا اهتم به. وكان شيخنا محمد بن عبد الوهاب يقرر في مجالسه ورسائله أنه لا يكفر إلا من قامت عليه الحجة الرسالية، وإلا من عرف دين الرسول وبعد معرفته تبين في عداوته ومسبته، وتارة يقول: وإذا كنا لا نكفر من يعبد الكواز ونحوه ونقاتلهم حتة نبين لهم وندعوهم فيكف نكفر من لم يهاجر إلينا؟ ويقول في بعضها: وأما من أخلد إلى الأرض واتبع هواه، فلا أدري ما حاله؟ وإذا كان هذا كلام شيخنا، وهذه طريقته فكيف يلزمه العراقي وينسب إليه التكفير بالعموم، ويحتج عليه بقول الشيخ: إن أهل الفترات ومن لم تبلغهم الدعوة يغفر لهم ما لا يغفر لغيرهم؟.
والعراقي لبس الحق بالباطل، وافترى على الشيخ، ونسب إليه ما ليس من مذهبه وما لم يقل، وألزمه ما هو بريء منه، ثم أخذ في رد ما افتراه وبهت الشيخ به، وبهذا تعرف أنه(37/22)
مخلط ملبس.
ص -222-
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب طبقات المكلفين ـ بعد أن ذكر الطبقة السادسة عشرة ـ: "رؤوس الكفر وأئمته ودعاته الذين كفروا وصدوا عباد الله عن الإيمان وعن الدخول في دين الله رغبة ورهبة، فهؤلاء عذابهم مضاعف، ولهم عذابان: عذاب بالكفر، وعذاب بصد الناس عن الدخول في الإيمان قال تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ} [النحل: من الآية88] ـ وأطال الكلام في تغليظ كفر هذه الطبقة، ومضاعفة عذابهم ـ، ثم ذكر الطبقة السابعة عشرة، فقال: "الطبقة السابعة عشرة: طبقة المقلدين وجهال الكفار وأتباعهم وحميرهم الذين هم معهم تبع يقولون: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف: من الآية22] ولنا أسوة بهم، ومع هذا فإنهم مسالمون لأهل الإسلام غير محاربين لهم كنساء المحاربين وخدمهم وأتباعهم الذين لم ينصبوا أنفسهم لما نصب له أولئك أنفسهم من السعي في إطفاء نور الله، وهدم دينه وإخماد كلماته، بل هم بمنزلة الدواب، وقد اتفقت الأمة على أن هذه الطبقة كفار وإن كانوا جهالا مقلدين لرؤسائهم وأئمتهم، إلا ما يحكى عن بعض أهل البدع أنه لم يحكم لهؤلاء بالنار، وجعلهم بمنزلة من لم تبلغه الدعوة. وهذا مذهب لم يقل به أحد من أئمة المسلمين لا الصحابة ولا التابعين ولا من بعدهم، وإنما يعرف عن بعض أهل الكلام المحدث في الإسلام، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: "ما من مولود إلا وهو يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه" فأخبر أن أبويه ينقلانه عن الفطرة إلى اليهودية والنصرانية والمجوسية ولم يعتقد في ذلك غير المربي والمنشأ على ما عليه الأبوان، وصح عنه أنه قال: "إنّ الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة". وهذا المقلد ليس بمسلم وهو عاقل مكلف، والعاقل لا يخرج عن الإسلام أو الفكر. وأما من لم تبلغه الدعوة فليس بمكلف في تلك(37/23)
الحال، وهو بمنزلة الأطفال والمجانين وقد تقدم الكلام عليهم.
قلت: وهذا الصنف ـ أعني من لم تبلغهم الدعوة ـ الذين استثناهم شيخ الإسلام ابن تيمية فيما نقل عنه العراقي، واستثناهم شيخنا الشيخ محمد رحمه
ص -223-
الله تعالى، وصنف شيخ الإسلام رسالة في أن الشرائع لا تلزمه إلا بعد البلاغ وقيام الحجة.
ثم قال ابن القيم رحمه الله: "والإسلام هو توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له والإيمان بالله وبرسوله واتباعه فيما جاء به، فما لم يأت العبد بهذا فليس بمسلم وإن لم يكن كافراً معانداً فهو كافر جاهل، فغاية هذه الطبقة أنهم كفار جهال غير معاندين، وعدم عنادهم لا يخرجهم عن كونهم كفارا فإن الكافر من جحد توحيد الله تعالى، وكذب رسوله، إما عنادا وإما جهلا وتقليدا لأهل العناد. فهذا وإن كان غايته أنه غير معاند فهو متبع لأهل العناد، وقد أخبر الله في القرآن في غير موضع بعذاب المقلدين لأسلافهم من الكفار، وأن الأتباع مع متبوعهم وأنهم يتحاجون في النار، وأن الأتباع يقولون: {رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ} [لأعراف: من الآية38]، وقال تعالى: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ، قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} [غافر:47 ـ 48]، وقال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ، قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ(37/24)
إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ، وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَاداً} [سبأ: من الآية31 ـ 33] فهذا إخبار من الله وتحذير بأن المتبوعين والتابعين اشتركوا في العذاب ولم يغن عنهم تقليدهم شيئا. وأصرح من هذا قوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ، وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا} [البقرة: 166 ـ 167]،وصح عن النّبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: "من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه، لا ينقص من أوزارهم شيئاً". وهذا يدل على أن كفر من اتبعهم إنما مجرد اتباعهم وتقليدهم، نعم لا بد في هذا المقام من تفصيل به يزول الإشكال، وهو الفرق
ص -224-(37/25)
بين مقلد تمكن من العلم ومعرفة الحق، فأعرض عنه، ومقلد لم يتمكن من ذلك بوجه، والقسمان واقعان في الوجود، فالمتمكن المعرض مفرط تارك للواجب عليه لا عذر له عند الله. وأما العاجز عن السؤال والعلم الذي لا يتمكن من العلم بوجه، فهم قسمان: أحدهما: مريد للهدى مؤثر له، محب له غير قادر عليه ولا على طلبه لعدم المرشد، فهذا حكمه حكم أرباب الفترات، ومن لم تبلغه الدعوة.
الثاني: معرض لا إرادة له ولا يحدث نفسه بغير ما هو عليه، فالأول: يقول يا رب، لو أعلم لك دينا خيراً مما أنا عليه لدنت به وتركت ما أنا عليه ولكن لا أعرف سوى ما أنا عليه، ولا أقدر على غيره فهو غاية جهدي ونهاية معرفتي. والثاني راض بما هو عليه لا يؤثر غيره، ولا تطلب نفسه سواه، ولا فرق عنده بين حال عجزه وقدرته وكلاهما عاجز؛ وهذا لا يجب أن يلحق بالأول لما بينهما من الفرق. فالأول كمن طلب الدين في الفترة فلم يظفر به فعدل عنه بعد استفراغ الوسع في طلبه عجزا وجهلا، والثاني كمن لم يطلبه بل مات على شركه وإن كان لو طلبه لعجز عنه، ففرق بين عجز الطالب وعجز المعرض.
فتأمل هذا الموضع والله يقضي بين عباده يوم القيامة بعدله وحكمته. ولا يعذب إلا من قامت عليه الحجة بالرسل، فهبذا مقطوع به في جملة الخلق. وأما كون زيد بعينه وعمرو قامت عليه الحجة أم لا فذلك مما لا يمكن الدخول بين الله وعباده فيه، بل الواجب على العبد أن يعتقد أن كل من دان بدين غير دين الإسلام فهو كافر، وأن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه بالرسول هذا في الجملة. والتعيين موكول إلى علم الله وحكمه.
هذا في أحكام الثواب والعقاب وأما في أحكام الدنيا فهي جارية على ظاهر الأمر، فأطفال الكفار ومجانينهم كفار في أحكام الدنيا، لهم حكم أوليائهم وبهذا التفصيل يزول الإشكال في المسألة وهو مبني على أربعة أصول:
أحدها: أن الله سبحانه لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه. كما قال(37/26)
تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الاسراء: من الآية15]، وقال: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ
ص -225-
لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: من الآية165]، وقال تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ، قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الملك: 8 ـ 9]، وقال: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:11]، وقال:{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} [الأنعام:130]، وهذا كثير في القرآن يخبر أنه إنما يعذبهم لأنه قد جاءهم الرسول وقامت عليه الحجة، وهم المذنبون المفترون بذنوبهم، وقال تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف:76]، والظالم: من عرف ماجاء به الرسول، وتمكن من معرفته ثم خالفه وأعرض عنه، وأما من لم لم يكن عنده من الرسول خبر أصلاً، ولا تمكن من معرفته بوجه، وعجز عن ذلك فكيف يقال: إنه ظالم؟.
الأصل الثاني: أن العذاب يستحق بشيئين: أحدهما: الإعراض عن الحجة وعدم إرادته بها وبموجبها. الثاني: العناد لها بعد قيامها، وترك إرادة موجبها. فالأول كفر إعراض والثاني كفر عناد.
وأما كفر الجهل مع عدم قيام الحجة وعدم التمكن من معرفتها فهذا هو الذي نفى الله التعذيب عليه حتى تقوم حجته بالرسل.
والأصل الثالث: أن قيام الحجة يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص فقد تقوم حجة الله على الكفار في زمان دون زمان، وفي بقعة وناحية دون(37/27)
أخرى كما أنها تقوم على شخص دون آخر إما لعدم عقله وتمييزه كالصغير والمجنون، وإما لعدم فهمه؛ لكونه كالذي لا يفهم الخطاب ولم يحضر ترجمان يترجم له، فهذا بمنزلة الأصم الذي لا يسمع شيئا ويتمكن من التفهم، وهو أحد الأربعة الذين يدلون على الله بالحجة يوم القيامة كما تقدم في حديث الأسود وأبي هريرة وغيرهما.
الأصل الرابع: أن أفعال الله سبحانه وتعالى تابعة لحكمته التي لا يخل
ص -226-
بها وأنها مصقودة لذاتها المحمودة وعواقبها الحميدة.
وهذا الأصل هو أساس الكلام في هذه الطبقات الذي عليه ينبني، مع تلقي أحكامها من نصوص الكتاب والسنة لا من آراء الرجال وعقولهم، ولا يدري قدر الكلام في هذه الطبقة إلا من عرف ما في كتب الناس، ووقف على أقوال الطوائف في هذا الباب، وانتهى إلى غاية مرامهم ونهاية إقدامهم والله الموفق للسداد الهادي إلى الرشاد.
وأما من لم يثبت حكمة ولا تعليلا، ورد الأمر إلى محض المشيئة التي ترجح أحد المثلين على الآخر بلا مرجح، فقد أراح نفسه من هذا المقام الضنك واقتحام عقبات هذه المسائل العظيمة، وأدخلها كلها تحت قوله تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الانبياء: من الآية23] لكمال حكمته وعلمه، ووضعه الأشياء مواضعها وأنه ليس في أفعاله خلل ولا عبث ولا فساد يسأل عنه كما يسأل المخلوق، وهو الفعال لما يريد، ولكن لا يريد أن يفعل إلا ما هوم خير ومصلحة ورحمة وحكمة، فلا يفعل الشر ولا الفساد ولا الجور، ولا خلاف مقتضى حكمته لكمال أسمائه وصفاته وهو الغني الحميد العليم الحكيم" انتهى.
فقف هنا وتأمل هذا التفصيل البديع، فإنه رحمه الله لم يستثن إلا من عجز عن إدراك الحق مع شدّة طلبه وإرادته له، فهذا الصنف هو المراد في كلام شيخ الإسلام وابن القيم وأمثالهما من المحققين رحمهم الله.
وأما العراقي وإخوانه المبطلون، فشبهوا بأن الشيخ لا يكفر الجاهل، وأنه يقول: هو معذور، وأجملوا القول ولم يفصلوا، وجعلوا هذه(37/28)
الشبهة ترساً يدفعون به الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وصاحوا على عباد الله الموحدين، كما جرى لأسلافهم من عباد القبور والمشركين، وإلى الله المصير، وهو الحاكم بعلمه وعدله بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون.
وأما من أعرض عن الهدى ودين الحق، ولم يرفع به رأساً بعد معرفته أو مع تمكنه من معرفته، فالأدلة القرآنية والأحاديث النبوية دالة على دخول هؤلاء
ص -227-
في الوعيد. قال تعالى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:123 ـ 124] الآية.
وقول المعترض: إن الشيخ قال: لا يثبت الكفر على معين، فهذا تحريف ظاهر، وإنما قال الشيخ: لايحكم على معين. والفرق ظاهر، والشيخ شيخ الإسلام يقول ـ فيما ذكر في الجواب ـ: "إنه كفر قولا مطلقاً" وإنما توقف الحكم على المعين؛ لاحتمال عدم قيام الحكم، والعراقي يرى أن دعاء المشائخ والاستغاثة بهم وعبادتهم قربة مستحبة، فكيف يحتج بكلام الشيخ، وهو صريح في الحكم بأن هذه الأمور من المكفرات؟ فسبحان من طبع على قلبه وأعمى عين بصيرته.
قال العراقي: "النقل الثامن عشر: قال في كتاب الانتصار للإمام أحمد: ثم قد يوجد لأهل المعرفة من أولياء الله من خفيت عليه بعض السنة الاعتقادية أو غيرها، ويوجد منهم من قد أخطأ في بعض ذلك، كما يخطئ العلماء في بعض اجتهادهم فإن منها ما يكون دقيقاً ولم يبلغه فيها أثر, ومنها ما سبقه إليه قوم فتبعهم إما اجتهاداً أو تقليداً يعذر فيه، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها. وليس كل من أنكر شيئاً لم يبلغه يصير فاسقاً، بل قد يكون مجتهداً مخطئاً، فيثاب على اجتهاده، ويغفر له خطؤه، فقد أنكرت عائشة وطائفة معها رؤية محمد ربه، وأثبت ذلك ابن عباس(37/29)
وجمهور أهل السنة، ولم يقل أحدهما في صاحبه إلا خيراً، وكذلك أنكرت عائشة سماع أهل القليب الموتى نداء النبي صلى الله عليه وسلّم لهم يوم بدر، وثبتت النصوص أن الموتى يسمعون خفق النعال، وأنهم يسمعون كلام الأحياء، وأن عائشة لم تثبت عندها النصوص بذلك، وتأولت ظاهر قوله: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل: من الآية80] ولو أنكر اليوم من بلغته السنة الصحيحة لم يكن معذوراً كعذر عائشة.
والجواب أن يقال:
قد تقدم في جواب النقل السابع عشر: أن الشيخ لا يكفر إلا من قامت
ص -228-(37/30)
عليه الحجة، وبلغته النصوص، ويقرر لأصحابه أن الشرائع لا تلزم إلا بعد البلاغ ولو توقف أحد في بلوغ الرسالة وقيام الحجة على بعض الناس في بعض المسائل، كمسألة توحيد الله ووجوب عبادته وحده لا شريك له التي هي مدلول "لا إله إلا الله" وهي من ضروريات الإسلام التي لا تخفى على الآحاد، ثم أمثال هذا العراقي ممن بلغته الآيات والأحاديث. فألحد وحرف وبدل، لا يشك في قيام الحجة عليه، وبلوغ الرسالة في هذه المسائل المخصوصة، وهو ممن بدل نعمة الله من بعد ما جاءته كفراً، ولا شك في كفره وكفر أمثاله، وإن لم تقم الحجة عليه لم تقم على أحد من عباد القبور.
فكلام الشيخ الذي نقل في هذا الكتاب من أوله إلى آخره: أن من بلغته الحجة في أصول الدين وأصر وعاند يكفر بالإجماع، وإنما يتوقف فيمن لم تقم عليه الحجة ولم يبلغه الدليل.
فظهر أن كلام الشيخ نص في تكفير هؤلاء المعاندين المحرفين للنصوص الصادين عن سبيل الله.
ثم أين مسألة الرؤية، ومسألة سماع الموتى من مسألة النزاع؟ وقد تقدم لك أن الرجل يتكثر بما ليس له، كالأقرع يفتخر بجمّة ابن عمّه.
قال العراقي: "النقل التاسع عشر: قال الشيخ شمس الدين ابن القيم في كتابه الكبائر، وفي كتاب السنة والبدعة له في بيان بدعة الرفض من هذين الكتابين: "قال الشيخ الحافظ السلفي ـ نزيل الإسكندرية ـ بسنده إلى يحيى بن عطاف المعدل ـ: إنه حكى عن شيخ من دمشق ـ ثم ساق حكاية منامية من جنس ما يتكثر به من الأوهام التي يتعلق بها أمثاله من الخرافيين".
والجواب أن يقال:
ليس في الحكاية جواز الاستغاثة برسول الله صلى الله عليه وسلّم، وفاعل ذلك لا يحتج بفعله بإجماع المسلمين. وإنما سيقت العبارة لتقرير نصر الله لأوليائه، وإثابة من نصرهم ووالاهم. لا لأجل الاستغاثة. وأنها تجوز بغير الله وأن ذلك
ص -229-(37/31)
صواب، والاستدلال بالحكاية خروج عن موضوعها وموضوع الكتاب الذي سيقت فيه، وابن القيم قرر في غير موضع أن دعاء الموتى هو أصل شرك العالم، وأنه من الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة منه بالكفر بالطاغوت وإخلاص الدين والعبادة لله وحده، وقرر ذلك في كتاب الإغاثة، وشرح المنازل، والدواء الشافي، وكتاب الهدي، وغير ذلك من مصنفاته، وسياق الحكاية صريح في أنها كرامة لأبي بكر وعمر، وإن الله هو الفاعل للكرامة، ودخول في دين عباد الكواكب والأصنام. وإنما ساق كلامهما دليلاً لو قالا إن الرسول قد فعل ذلك وأنه يستغاث به بعد موته، على أنه لا يسلم لهما، وإن قالاه، وقد حماهما الله عن ذلك وصان قدرهما عنه.
وقد مرّ في جواب الوجه السابع وما بعده من النقول عن اقتضاء الصراط المستقيم: أن الكائنات لا يحاط بأسبابها، وأنها ليست من الأدلة على الأمر والنهي والوجوب والاستحباب، والجواز والإباحة، وقد يكون السبب رحمة الله ونصره لأوليائه، وحاجة المضطر وفاقته. فالمضطر قد يستجاب له ولو دعا الله في الحانات والأسواق. قال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} الآية [النمل: من الآية62]، فالجزم بأن الرسول هو الذي أجابه، والقول بذلك قول بلا علم، وتحكم بلا دليل ولا فهم، والعراقي ليس له عناية ولا معرفة بصناعة العلم والاستدلال، فهو كحاطب ليل أو حاطم سيل، ما وجده أخذه، وما اشتهاه قاله، من غير أصل يرجع إليه، ولا دليل يعول عليه، والله المستعان.
وقد مرّ أنه قد يستجاب لعباد الأصنام ونحوهم، وأن ذلك ليس بدليل، وإن طرده كفر متناه ـ كل هذا تقدم مستوفى، ويأتيك تمام الجواب بعد الحكاية التي تلي هذا.
قال العراقي: "الوجه العشرون: وقال ابن القيم: قال الشيخ كمال الدين بن العديم في تاريخ حلب: قال أخبرني أبو العباس أحمد بن عبد الواحد عن
ص -230-(37/32)
شيخ من الصالحين يعرف بعمر بن الرعيني ـ وساق حكاية مثل السابقة وقعت لرافضي خبيث انتقم الله منه لتنقصه أبا بكر الصديق رضي الله عنه.
والجواب أن يقال:
هذه الحكاية من جنس ما قبلها، لا تدل على ما زعمه العراقي من الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلّم أو غيره، وليس في فعل هذا الرجل المستغيث ما يستأنس به ويستريح إليه المبطلون. ونقل ابن القيم لها وإيراده لمثل هذا يقصد به بيان فضل الصديق، وشناعة الرفض وقبحه، وأن الله أكرم صاحب نبيه وصديق الأمة بتعجيل العقوبة لأعدائه الرافضة، ومسخهم قردة وخنازير، أو أن من والى صديق الأمة وسلك ما عليه أهل السنة والجماعة من موالاة جميع الصحابة، فإن الله ينصره ويؤيده ويستجيب دعاءه. وقد تقدم قول الشيخ في المستغيثين بالنبي صلى الله عليه وسلّم ومنعه من ذلك ونهيه عنه. والاستغاثة بالأنبياء والصالحين بعد مماتهم وفي مغيبهم مسألة معروفة مشهورة تكلم فيها أهل العلم، ومنعوا منها أشد المنع، وذكروا أنها من شعب الشرك وأنها أصله الذي نشأ منه وتفرع عليه سائر الشركيات، وصنف الشيخ رحمه الله مجلداً في منع الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلّم والتحذير منها، ومن الاستغاثة بغيره من الأنبياء والصالحين وقرر أدلة المنع من الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار، وأكثر الكلام في المنع من هذا.
قال رحمه الله: "و مما يبين حكمة الشريعة و عظم قدرها و أنها كسفينة نوح أن الذين خرجوا عن المشروع خرجوا إلى الشرك. وطائفة منهم يصلون ويدعو أحدهم الميت فيقول: اغفر لي وارحمني. ومنهم من يستقبل القبر و يصلي إليه مستدبرا الكعبة ويقول: القبر قبلة الخاصة، والكعبة قبلة العامة. وهذا يقوله من هو أكثر الناس عبادة وزهداً، وهو شيخ متبوع ولعله أمثل أصحاب شيخه، وهو يقوله عن شيخه. وآخر من أعيان الشيوخ المتبوعين أصحاب الاجتهاد في العبادة والزهد، كان يأمر المريد أول ما يتوب أن يذهب إلى قبر الشيخ فيعكف عليه عكوف أهل(37/33)
التماثيل. وجمهور هؤلاء المشركين بالقبور يجدون عند عبادة القبور من الرقة والخشوع والدعاء وحضور القلب ما لا يجدونه في المساجد
ص -231-
وآخرون يحجون إلى القبور، وطائفة صنّفوا كتبا و سموها مناسك حج المشاهد، وآخرون يسافرون إلى قبور المشايخ وإن لم يسموا ذلك منسكا و حجا، فالمعنى واحد. وبعض الشيوخ المشهورين بالزهد والتصوف صنّف كتاب الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة والمنام، وذكر من مناقب هذا الشيخ أنه حج مرة وكان قبر النبي صلى الله عليه وسلم منتهى قصده، ثم رجع ولم يذهب إلى الكعبة وجعل هذا من مناقبه، وبسبب الخروج عن الشريعة صار بعض الشيوخ ممن يقصده من العلماء والقضاة اشتهر عنه أنه كان يقول: البيوت المحجوجة ثلاثة: مكة، وبيت المقدس، والبُدّة الذي في الهند الذي للمشركين لأنه يعتقد أن دين اليهود والنصارى حق.
وجاءه بعض إخواننا العارفين قبل أن يعرف حقيقته فقال: أريد أن أسلك على يديك، فقال: على دين اليهود أو النصارى أو المسلمين؟ فقال له: واليهود والنصارى ليسوا كفاراً؟ قال: لا تشدد عليهم ولكن الإسلام أفضل. ومن الناس من يجعل مقبرة الشيخ كعرفات، يسافرون إليها وقت الموسم، فيعرفون بها كما يفعل بالمغرب والمشرق.
وهؤلاء وأمثالهم صلاتهم ونسكهم لغير الله، فليسوا على ملة إبراهيم، والاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلّم بعد موته موجودة في كلام بعض الناس مثل يحيى الصرصري، ومحمد بن النعمان، وهؤلاء لهم ظاهر صلاح، ولكن ليسوا من أهل العلم، بل جروا على عادة كعادة من يستغيث بشيخه في الشدائد ويدعوه. وكان بعض الشيوخ الذين أعرفهم ولهم ظاهر فضل وعلم وزهد إذا نزل به أمر خطا إلى جهة الشيخ عبد القادر خطوات واستغاث به، وهذا يفعله كثير من الناس.
وهؤلاء مستندهم مع العادة، قول طائفة: قبر معروف أو غيره ترياق مجرب، ومعهم الأدلة الباطلة: إن طائفة استغاثوا بحي أو ميت فرأوه قد أتى في الهواء وقضى بعض تلك(37/34)
الحوائج، وهذا كثير واقع في المشركين الذين يدعون الملائكة والأنبياء أو الكواكب أو الأوثان؛ فإن الشياطين تتمثل لهم، ولو ذكرت ما أعلم من الوقائع الموجودة في زماننا من هذا لطال هذا المقام".
ثم قال ـ حاكياً عن ابن البكريّ الذي صنف في جواز الاستغاثة
ص -232-
بالنبي صلى الله عليه وسلّم ورد عليه ـ وقد طاف بجوابه على علماء مصر ليوافقه واحد منهم، فما وافقوه، وطلب أن يخالفوا الجواب الذي كتبته ـ أي شيخ الإسلام ـ فما خالفوه. مع أن قوما كان لهم غرض وفيهم جهل بالشرع قاموا في ذلك قياما عظيما، واستعانوا بمن كان له غرض من ذوي السلطان مع فرط عصبيتهم وكثرة جمعهم، وقوة سلطانهم ومكايدة شيطانهم" انتهى.
فتأمل هذا الكلام فإنه يستبين لك به ضلال العراقي، وأنه لم يفهم المراد من الحكاية، وقد صرح شيخ الإسلام أن السنة كسفينة نوح، ومعلوم أن دعاء الأنبياء ليس من السنة، بل هو من البدع الشركية، ومنها أن بعضهم أفضى به ذلك إلى أن يصلي للميت، ويقول: اغفر لي وارحمني، وهذا جائز عند العراقي وإخوانه من عبّاد القبور، سائغ لا ينكر، ومنها أن بعض المستغيثين يعكف على القبر عكوف أهل التماثيل، وهذا واقع منهم أيضاً، وهذا من لوازم قولهم بجواز الاستغاثة، ومنها أن جمهور هؤلاء المشركين بالقبور يجدون عند عبادتها من الرقة والخشوع وحضور القلب ما لا يجدونه في المساجد، ومنها أن بعضهم يحج إلى القبور، وهذا عند العراقي وشيعته من الفضائل التي لا تنكر، ومنها: إنكار الشيخ على من صنّف كتاب الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلّم في اليقظة والمنام، وأن هذا المصنف حجّ مرة وكان قبر النبي صلى الله عليه وسلّم منتهى قصده، ثم رجع ولم يذهب إلى الكعبة، وفاعل ذلك عند العراقي وشيعته أفضل من الحاج إلى بيت الله، ومنها أن ذلك أفضى ببعضهم إلى أن قال: البيوت المحجوجة ثلاثة: مكة، وبيت المقدس، والبدّة الذي بالهند، وبعضهم لا يرى ذلك للبدّة الذي بالهند(37/35)
ويراه لمن يعتقده وما يؤلهه من المشايخ، ومنها أن بعضهم يعرّف عند مقابر الشيوخ كما يفعل بعرفة، وأن هذا وقع بالمغرب والمشرق، ومنها أن الشيخ نفى العلم عمن يستغيث بالنبي صلى الله عليه وسلّم كالصرصري وابن النعمان، وأنهم جروا على عادة العامة الذين يستغيثون بالمشايخ في الشدائد، ويدعونهم، ومنها أن من له ظاهر فضل وعلم وزهد قد يقع منه الشرك والاستغاثة بغير الله،
ص -233-
وأن مستندهم مع العادة قول طائفة: قبر معروف أو غيره ترياق مجرب، ومن المعلوم أن هذا القول صدر عن غير معصوم، وجمهور أهل العلم والإيمان قد ردوه وأنكروا على فاعله، وقد مضى فيما مرّ من عبارات شيخ الإسلام في اقتضاء الصراط المستقيم، أن هذا لا يعرف في عهد القرون المفضلة، وكفى بهذا ذماً، ومنها قوله: أن طائفة استغاثوا بحي أو ميت فرأوه قد أتى في الهواء وقضى بعض الحوائج، وهذا كثير واقع في المشركين الذين يدعون الملائكة أو الأنبياء أو الأوثان، فجزم بأن قضاء الحوائج قد يحصل لعباد الملائكة أو الأنبياء أو الكواكب أو الأوثان، وأنه لو حكى الوقائع الموجودة في زمانه لطال المقام.
قف هنا وتأمل كلام الشيخ تعرف أن العراقي ما زال في جاهليته وعوائده الشركية، لم يخرج منها إلى الملة الحنفية والسنة النبوية.
ومنها قول الشيخ ـ وهوثقة فيما يحكيه ـ بالإجماع أن علماء مصر لم يوافقوا من صنف في جواز الاستغاثة بالنبي فيما لا يقدر عليه إلا الله وأبوا أن يخالفوا ما كتبه شيخ الإسلام من المنع، فالحمد لله الذي لا نحصي ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثني به عليه عباده الصالحون.
ص -234-(37/36)
فصل
قال العراقي: "وأما النذر فللشيخين فيه عبارات النقل الحادي والعشرين، قال في اقتضاء الصراط المستقيم: ومن قصد بقعة يرجو الخير بقصدها ولم يستحب في الشريعة قصدها فهو من المنكرات وبعضه أشد من بعض، سواء كانت البقعة شجرة أو عين ماء أو جبلاً أو مغارة، وأقبح من ذلك أن ينذر لتلك البقعة دهنا لتنويرها، ويقول: إنها تقبل النذر. فهذا النذر نذر معصية باتفاق العلماء، بل عليه كفارة عند أكثر أهل العلم؛ منهم أحمد في المشهور عنه، وعنه رواية كقول أبي حنيفة والشافعي وغيرهما: يستغفر الله من هذا النذر ولا شيء عليه" انتهى.
فانظر إلى كلامه في من نذر لبقعة أو جبل أو مغارة كيف قال: يلزمه كفارة يمين عند أحمد ويستغفر الله، ولا شيء عليه عند أبي حنيفة والشافعي وإحدى الروايتين عن أحمد، ولم يقل: هذا النذر كفر مخرج عن الملة، مع أنه لشجرة أو بقعة من أرض، فكيف يكفر من نذر لأحد الأنبياء والصالحين، وقصده لوجه الله، وثوابه لذلك المنذور له، فإنه لا يضر بهذه الصورة بالاتفاق، كما سيأتي في كلام الشيخين. فإنهما قالا: إنه يصرف إلى الفقراء، وكذلك في مذهب الشافعي وأبي حنيفة.
قال الشيخ مرعي في الغاية، وصاحب الإقناع فيه، ومنصور البهوتي في شرحه وحاشيته، والثعلبي في شرح الدليل وغيرهم من سائر غالب كتب الحنابلة قالوا: قال الشيخ تقي الدين: النذر للقبور أو لأهل القبور، كالنذر لإبراهيم الخليل أو الشيخ فلان: نذر معصية لا يجوز الوفاء
ص -235-
به، وإن تصدق بما نذر من ذلك على من يستحقه من الفقراء والصاحين، كان خيراً له عند الله وأنفع" انتهى.
فلو كان الناذر كافراً عنده لم يأمره بالصدقة فإن الصدقة لا تقبل من الكافر، بل كان يأمره بتجديد إسلامه.
النقل الثاني والعشرون: قال ابن القيم في كتاب السنة والبدعة ما نصه:
ص -236-(37/37)
فصل
ومن البدع ما زينه الشيطان لكثير من الجهلة من الرجال والنساء من تعظيم مكان لم يأذن الشارع بتعظيمه من زاوية أو طاقة أو حجر أو قبة أو شجرة أو عامود أو حرز حمام، وينذرون لذلك النذور، ويوقدون عنده الضوء ويخلقونه بالزعفران ويطيبونه بماء الورد وغيره، ويطلبون عنده الشفاء لهم ولأولادهم. وكل ذلك بدعة وإشراك بالله عز وجلّ، وكذلك النذر لقبور المشايخ والصالحين وطلب الشفاء من قبلهم نذر معصية وإشراك بالله تعالى. والنبي صلى الله عليه وسلّم قد نهى عن النذر لله، وقال: "إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به مال البخيل".
والنذر للقبور أي قبر كان نذر معصية، لا يحل الوفاء به، بل صرفه إلى الفقراء والمساكين والأرامل واليتامى أفضل عند الله، وأنجح لقضاء الحاجة.
ولوكان هذا شركاً مخرجاً عن الملة لما جاز صرفه للفقراء، ولم يكن أفضل، بل لا فضيلة، لأعمال الخارج عن ملة الإسلام.
والجواب أن يقال:
ليس في كلام الشيخ، ولا كلام ابن القيم ما يدل على أن النذر الواقع من عباد القبور لمن يدعونه ويقصدونه لحوائجهم وإغاثتهم في الشدائد أنه ليس بشرك، بل كلام الشيخ ابن القيم صريح في أنه نذر معصية وإشراك بالله تعالى, فكيف يسوقه وقد عده ابن القيم من أنواع الشرك الأكبر، وقرنه بالتوكل على غير الله، والعمل لغيره، والإنابة والخضوع، والذل لغير الله، وابتغاء الرزق من عند
ص -237-(37/38)
غيره؟ وقد تقدم ذلك، فراجع كلامه في موضعه تعرف كذب العراقي على الله، وعلى رسوله، وعلى أولي العلم من خلقه. فرحم الله امرءاً نظر لنفسه قبل أن نزل به قدم، ويحال بينه وبين العمل، وتعظم الحسرة منه والندم وكذلك الشيخ صرح بأنه معصية، والمعصية تصدق بالشرك وغيره من الكبائر إذا أطلقت.
واستدلال المعترض بأنه لم يقل: هذا النذر كفر مخرج عن الملة ـ فإطلاق المعصية كان هو المقصود، وأيضاً فالكفر إنما يطلق بعد قيام الحجة، وبلوغ الدليل، وقد تقدم أن الشيخ محمداً رحمه الله لا يكفر إلا بعد قيام الحجة.
وقول العراقي: فكيف يكفر من نذر لأحد الأنبياء وقصده لوجه الله؟.
ففي هذه العبارة شيئان:
الأول: استبعاده تكفير من نذر للأنبياء، وجعله ذلك دون النذر للشجرة والبقعة مع أن الفتنة بقبور المعظمين أشد محنة من الشجر والبقاع. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلّم: "اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" فالشرك بالأنبياء والصالحين أخوف وأعظم فتنة، كما هو معروف.
والثاني: إضافته النذر لأحد الأنبياء، وقوله بعده: وقصده لوجه الله، فإذا كان النذر نفسه للأنبياء والصالحين بطل قوله: وقصده لوجه الله. وإنما يكون ذلك نذراً لله وحده، وجعل الثواب لمن شاء من عباده، ومسألة إهداء ثواب القرب إلى الأنبياء لا يخفى ما فيها من القول بالمنع، على من له أدنى ممارسة للعلم.
والقصد هنا بيان تناقض العراقي، وأن كلامه يدفع بعضه بعضاً.
وقوله: فإن ذلك لا يضر بالاتفاق ـ كذب ظاهر، فإن قول الشيخين: إنه يصرف إلى الفقراء: دليل على أنه يضر إذا صدر منه لغير الله، وأنه مأمور بالتوبة، وصرف ذلك إلى الجهة المشروعة، وقد صرف النبي صلى الله عليه وسلّم مال اللات
ص -238-(37/39)
في الجهاد والمصارف الشرعية التي يستعان بها على عبادة الله وحده لا شريك له، والاستدلال بصرفها في ذلك المصرف الشرعي على أنها شرك وضلال أوجبه الاستدلال بذلك على أن النذر للأصنام ونحوها ليس بشرك.
وأما ما ذكره عن بعض الحنابلة إنهم نقلوا عبارة الشيخ في أن النذر للقبور ولأهلها نذر معصية، فأي دليل في هذا، والمعصية إذا أطلقت دخل فيها الشرك كما تقدم؟ قال الله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا} [النساء: من الآية14] وقال عن فرعون: {فَكَذَّبَ وَعَصَى} [النازعات:21].
وأما قوله: فلو كان الناذر كافراً عنده لم يأمره بالصدقة، فإن الصدقة لا تقبل من الكافر.
فالجواب من وجوه:
الأول: أنه إذا أقلع عن الذنب وصرف المال في مصرفه الشرعي، فهذا رجوع منه عما كان عليه وتوبة منه.
الثاني: أنه لا يقال بالكفر مطلقاً لكل ناذر لغير الله حتى تقوم الحجة الرسالية عليه.
وأما ما نقله عن ابن القيم، فقد صرّح فيه بأنه نذر ومعصية وإشراك، وشبهة هذا العراقي: أنه لو كان شركاً مخرجاً عن الملة لما جاز صرفه للفقراء، فالعراقي لم يفرق بين النذر والمنذور، فكون النذر شركاً لا يمنع الانتفاع بالمنذور في الجهة الشرعية، كما تقدم من فعله صلى الله عليه وسلّم بمال اللات.
الوجه الثالث: أن الذي يصرفه في المصارف الشرعية هم ولاة الأمر وأهل العم، وليس المقصود: أن يصرفه الناذر نفسه، فإن هذا لا يعتبر، بل يرد إلى المشروع قسراً، ويعامل بنقيض قصده، وكلام الشيخ وأمثاله من أهل العلم ليس حجة مستقلة بل الحجة فيما يساق من الأدلة، وقد تقدم أن القصد هنا بيان جهله بكلام الشيخ، والكشف عن تحريف هذا العراقي لما نقله عن الشيخين،
ص -239-(37/40)
وإلاّ فالمرجع إلى أدلة الكتاب والسنة، قال الله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} [البقرة: من الآية270]، وقال تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} [الانسان:7]، فوصف خواص عباده بالوفاء بالنذر وأثنى عليهم بذلك، وفي الآية الأخرى الوعد بالإثابة والجزاء. فثبت أنه عبادة يحبها الرب ويرضاها، أي الوفاء به، وما كان كذلك فيجب إخلاصه لله لأن صرف العبادة لغير الله شرك، وفي حديث علي: "لعن الله من ذبح لغير الله"، وهذا العراقي وأمثاله من القبوريين دفعوا في صدر النصوص وردوها بشبهات وهذيان لا يصدر عمن يعقل ما يقول، وفي آخر العبارة التي نقلها العراقي عن شيخ الإسلام ابن تيمية: وهذا الحكم عام في قبر نفيسة، ومن هو أكبر من نفسية من الصحابة مثل قبر طلحة والزبير وغيرهما بالبصرة، وفي سلمان وغيره بالعراق.
قلت: وفيها بيان تدليس العراقي وإنه أسقطها ليروج قوله: فكيف يكفر من نذر لأحد الأنبياء والصالحين ـ إلى أن قال الشيخ: فيعتقدون أنها باب الحوائج إلى الله، وأنها تكشف الضر، وتفتح أبواب الرزق، أو تحفظ مصر، فإن من يعتقد هذا كافر مشرك يجب قتله، وكذلك من اعتقد في غيرها كائناً من كان {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} [الاسراء:56] {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ، وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 22 ـ 23]، والقرآن من أوله إلى آخره، بل وجميع الكتب والرسل إنما بعثوا بأن يعبد الله وحده لا شريك له، وأن لا يجعل مع الله إله آخر، والإله من يأله القلب(37/41)
عبادة واستعانة، وإجلالاً وإكراماً وخوفاً ورجاءً، كما هو حال المشركين في آلهتهم، وإن اعتقد المشرك منهم أن ما يألهه مخلوق ومصنوع، كما كان المشركون يقولون في تلبيتهم "لبيك لا شريك لك، إلاّ شريكاً هو لك تملكه وما مالك"، وقال النبي صلى الله عليه وسلّم لحصين الخزاعيّ: "يا حصين كم تعبد؟ قال: أعبد سبعة آلهة، ستة في الأرض وواحد في السماء، قال: فمن الذي تعد لرغبتك ورهبتك؟ قال: الذي في السماء. قال: يا حصين، فأسلم
ص -240-(37/42)
حتى أعلمك كلمات ينفعك الله بهن، فلما أسلم قال قل: اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي"، والله أعلم" انتهى.
قلت: فانظر إلى تصريح الشيخ أن من اعتقد في مخلوق أنه باب الحوائج إلى الله، يعني واسطة في الحوائج، أو أنه يكشف الضر أو يفتح باب الزرق أو يحفظ المصر أنه كافر مشرك، يجب قتله. وهذا بعينه هو معتقد عباد القبور الناذرين للموتى، المستغيثين بهم، وهو طريقة العراقي ومذهبه الذي نصره وقرره واستظهره، وزعم أنه لا يضر إلا إذا اعتقد الاستقلال لغير الله، كما مر عنه في غير موضع، وسيأتيك هذا القيد فيما يأتي من كلامه في مواضع متعددة، والشيخ قد رد عليه في هذا وأبطل هذا الشرط بقوله: وإن اعتقد المشرك أن ما يؤلهه مخلوق مصنوع ـ وساق ما يقوله المشركون في تلبيتهم، وساق حديث حصين، وهذا لأن الآيات القرآنية دالة على تكفير هذا النوع، أعني من اتخذ الشفعاء، والوسائط وقصدهم في حاجاته وملماته، كما كان يفعله المشركون مع آلهتهم، فكل هذا أعمى الله بصر العراقي عنه {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: من الآية227].
قال الشيخ صنع الله الحلبي نزيل مكة: وأما كونهم جوزوا الذبائح والنذور وأثتوا لهم فيهما الأجور، فيقال: هذا الذبح والنذر، إن كان على اسم فلان وفلان، فهو لغير الله فيكون باطلاً. وفي التنزيل: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} الآية [الأنعام: من الآية121] أي إن صلاتي وذبحي لله كما به نظير قوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2]، وفي الحديث: "لا نذر في معصية الله" رواه أبو داود وغيره، والنذر لغير الله إشراك مع الله، فلا أكبر منه معصية، وفي التنزيل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة: من الآية3]، فالنذر لغير الله كالذبح لغيره، وقال(37/43)
الفقهاء: خمسة لغير الله شرك، الركوع، والسجود، والذبح
ص -241-
والنذر، واليمين، ومن ذكر غير اسم الله على ذبيحته فهي ميتة يحرم أكلها ولو أشرك مع اسمه تعالى أحداً، كقوله: بسم الله ومحمد صلى الله عليه وسلّم، بواو العطف. فكذا تحرم ذبيحته، وكذا لو ترك اسم الله عمداً على الذبيحة، لا تؤكل عندنا، فهي ميتة لصريح قوله عز وجل: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} الآية [الأنعام: من الآية121] فترك المؤمن ذكر الله تعالى عمداً كذكر غيره، نعم لو قال: هذا النذر لله يذبح في مكان كذا ويصرف على جماعة فلان أو على رباط فلان، فلا بأس به، كما في الوقف على فلان وفلان، فإن قوله: "لله" مالك له، وتصرف غلته على من عينه الواقف، وكذا هنا.
والحاصل أن النذر لغير الله تعالى فجور، فمن أين لهم الأجور؟ وكذا الذبائح من قال: إن هذا النذر لفلان وهذه الذبيحة لفلان، فهو من العصيان، ومن نذر لله ذبحاً أو غيره، قال: يذبح بمكان كذا ويأكله قوم جاز والله الهادي.
قلت: إذا نذر لله وجعل مصرفه على السدنة والمجاورين عند القبور فهو نذر معصية لا يجوز، ويجب صرفه في القرب الشرعية، كالحجاج والمعتكفين في المساجد وقد ذكر هذا غير واحد، والمنع منه لما فيه من الإعانة على العكوف عند القبور. الذي هو من أكبر الوسائل والذرائع إلى عبادتها ودعائها.
قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: من الآية2] وفي الحديث: "إن رجلاً نذر أن ينحر إبلاً ببوانة، قبل إسلامه، فلما أسلم سأل النبي صلى الله عليه وسلّم عن نذره، فقال: هل كان بها وثن من أوثان الجاهلية؟ قال: لا، قال: هل كان بها عيد من أعياد الجاهلية؟ قال: لا، قال: فأوف بنذرك" ففيه المنع من عبادة الله في أماكن الشرك وعبادة غيره، للمشابهة الصورية، وإن لم نقصد، فكيف بالذرائع والوسائل القريبة المفضية(37/44)
إلى عين الشرك، ونفس المحذور الأكبر؟
فقف وتأمل إن كان لك بصيرة تدرك بها أسرار الشريعة.
ص -242-
فصل
قال العراقي: "النقل الثالث والعشرون قال: ابن مفلح في كتاب الفروع عن شيخه تقي الدين: والنذر لغير الله، كنذره لشيخ معين للاستغاثة به، وقضاء الحاجة منه قال شيخنا: كحلفه بغيره، وقال غيره: نذر معصية" انتهى.
فشبه النذر والاستغاثة بالشيوخ، وطلب قضاء الحاجة بالحلف بغير الله، فهو على قولين للعلماء، كما ذكره ابن تيمية، قول بالحرمة، وقول بكراهة التنزيه، بل رواية عن أحمد أنه مباح، نقله صاحب الإنصاف في التنقيح.
ثم قال: النقل الرابع والعشرون: ذكر الشيخ سليمان بن عبد الوهاب في ردّه على أخيه محمد بن عبد الوهاب، عن الشيخ ابن تيمية قال: كما يفعل الجاهلون بمكة شرفها الله وغيرها، من بلاد المسلمين من الذبح للجن، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلّم عن ذبائح الجن. انتهى.
وذكر ابن القيم في كتاب الكبائر الذبح لغير الله، وجعله من المحرم، وفسره بأن يقول: باسم سيدي الشيخ فلان، عوضاً عن قوله: بسم الله، حين الذبح، مع أن اللفظة لا أظن مسلماً يقولها، والمستفاد من كلامهما أنه محرم، وليس بشرك مخرج عن الملة؛ لأنه قال: كما يفعله، وقال في الفنون: يكره إشعال القبور وتبخيرها، ثم قال: ونص أنه إن نذر ذبح ولده، أو نفسه ذبح كبشاً، قيل مكانه وهو الأصح، وقيل: كهدي. ونقل حنبل يلزمانه. وعنه إن قال إن فعلته فعلي كذا أو نحوه، وقصده اليمين فيمين، وإلا فنذر معصية، فيذبح في مكة كبشاً اختاره شيخنا، وقال: عليه أكثر
ص -243-(37/45)
نصوصه. وقال: وهو مبني على الفرق بين النذر واليمين، ولو نذر طاعة حالفاً بها أجزأه كفارة يمين، بلا خلاف عن أحمد، فكيف لا يجزيه إذا نذر معصية حالفاً بها، فعلى هذا على رواية حنبل يلزم أن الناذر والحاف يجزيه كفارة فتصير ستة أقوال. وذكر الأزجي البغداديّ: نذر شرب الخمر لغو، فلا كفارة. ونذر ذبح ولده يكفر. وقدم ابن رزين نذر معصية لغو. قال: ونذره لغير الله كنذر لشيخ معين حي للاستعانة وقضاء الحاجة منه، كحلفه بغيره. وقال غيره: هو نذر معصية.
فقف وتأمل تحريف العراقي وسوء فهمه. فإن الكلام في تشبيه النذر بالحلف من جهة الكفارة وعدمها، لا من جهة أخرى. والنزاع ليس في الكفارات. وإنما هو في الحكم على النذر لغير الله أنه من الشركيات. وهذا من أكبر الأدلة على كثافة فهمه، وغلظ حجابه، وأنه محجوب عن فهم كلام أهل العلم، كما حجب عن فهم كلام الله وكلام رسوله:
فللكثافة أقوام لها خلقوا
وللمحبة أكباد وأجفان
ثم كلام الشيخ فيمن نذر للحي الحاضر للاستعانة وقضاء الحاجة. وهذه النقول كلها مجرد عدد لا حقيقة له، بل هي إما تحريف وإلحاد في كلام أهل العلم، وإما سوء فهم وكثافة حجاب، وإما كذب لا أصل له.
وأما ما نقله عن سليمان، فسليمان والعراقي أخذاً بعض العبارة وتركا تمامها، وما ارتبط بها.
قال في اقتضاء الصراط المستقيم: "وأيضاً فإنّ قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة: من الآية3][النحل: من الآية115]، ظاهره ما ذبح لغير الله سواء لفظ فيه به، أو لم يلفظ، وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبح للحم، وقال فيه باسم المسيح ونحوه. كما أن ما ذبحناه متقربين به إلى الله أزكى مما ذبحناه للحم وقلنا عليه باسم الله، فإن عبادة الله بالصلاة له والنسك له أعظم من الاستعانة باسمه في فواتح الأمور. والعبادة لغير الله أعظم كفراً من الاستعانة بغير الله. فلو ذبح لغير الله متقرباً إليه لحرم،
ص -244-(37/46)
ولو قال فيه بسم الله، كما يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة، وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبيحتهم بحال، لكن يجتمع في الذبيحة مانعان، ومن هذا ما يفعل بمكة وغيرها من الذبح للجن" انتهى كلام الشيخ.
فأخذ المعترض السطر الأخير من كلامه، أو بعض السطر وأخذ المشبه وترك المشبه به، لأن في الأول التصريح بردة من ذبح لغير الله. وأن في الذبح للجن مانعاً آخر لأنه مما أهل به لغير الله.
وقوله في العبارة: فإن عبادة الله بالصلاة له والنسك له أعظم من الاستعانة باسمه بفواتح الأمور، والعبادة لغير الله أعظم كفراً من الاستعانة بغير الله ـ فترك هذا وسرق بعض العبارة واختلس منها كاختلاس الشيطان من صلاة العبد واختطافه بعضها, وفي العبارة التصريح بكفر من استعان بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، خلافاً للعراقي وشيعته من عباد القبور الصادين عن سبيل الله المحرفين للكلم عن مواضعه، الوارثين لليهود في تحريف كلمات الله وتبديل دينه.
وهذا الرد أمليت أكثره من ذهني، فلذلك اختصرت واكتفيت بالإشارة، وقد فتحت الباب لمن أراد الوقوف على النصوص والآثار، وكلام أهل العلم.
وأما ما ذكره ابن القيم في كتاب الكبائر من الذبح لغير الله وجعله من المحرم فنعم هو محرم، قال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} ـ إلى قوله ـ: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام:151] فجعل هذا كله محرماً، هذا عرف القرآن والسنة والشرع، والعراقي لجهله وسوء قصده يحمل كلام أهل العلم على العرف النبطيّ الحادث، واصطلاح العامة، فقاتل الله الجهل والهوى، فما أغلظهما من حجاب بين العبد والهدى.
وأما قوله: وفسره بأن يقول: باسم سيدي الشيخ فلان، عوضاً عن قوله: باسم الله.
قلت: قد تقدم كلام الشيخ وتقسيمه ما أهل به لغير الله إلى ما قصد به القربة والنسك لغير الله، وإلى ما ذكر عليه غير اسمه عند الذبح، فالقسمان(37/47)
ص -245-
واقعان، ومنع أحدهما مكابرة، وكلام ابن القيم ليس فيه حصر، بل كلامه في هذه المسألة موافق لكلام شيخه.
والقسم الثاني الذي هو أغلط وأفحش نص عليه في مواضع متعددة، وقال صاحب الروض، من كتب الشافعية: إذا ذبح المسلم للنبيّ ( كفر، نقله شيخنا رحمه الله، وذكره غير واحد من المفسرين في الكلام على قوله: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ} ونقل بعضهم عن فقهاء بخارى إنهم أفتوا بتحريم ما عقر بين يدي الملوك، تعظيماً لهم. لأنه مما أهل لغير الله به.
قال العلاّمة الشوكانيّ: قال بعض أهل العلم: إنّ إراقة دماه الأنعام عبادة لأنها إما هدي أو ضحية أو نسك، وكذلك ما يذبح للبيع، لأنه مكسب حلال فإنه عبادة. ويتحصل من ذلك شكل وضعي، هو إراقة دم الأنعام عبادة. وكل عبادة لا تكون إلا لله، فإراقة دم الأنعام لا تكون إلا لله، ودليل الكبرى قوله تعالى: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [لأعراف: من الآية59]، {فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت: من الآية56]، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: من الآية5]، {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ})[الاسراء: من الآية23]، {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: من الآية5] انتهى.
ويكفي المؤمن في هذا الباب قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 ـ 163]، وقوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:1 ـ 2]، وقوله تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} [الحج:37].
فإن الإحسان أعلى(37/48)
مراتب الإيمان دخول هذه العبادة فيه لأنّ السّياق لها ظاهر لا يخفى، وفي المسند عن طارق بن شهاب أن النبيّ ( قال: "دخل الجنة رجل في ذباب، ودخل النار رجل في ذباب، قالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: مرّ رجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب إليه شيئاً، فقالوا لأحدهما: قرِّب، قال: ما عندي شيء أقربه، قرِّب ولو ذباباً، فقرَّب ذباباً، فخلوا سبيله فدخل النار. فقالوا للآخر: قرِّب، قال: ما كنتُ لأقرِّب لأحد من دون الله عزّ وجلّ فضربوا عنقه فدخل الجنة".
ص -246-(37/49)
فقف عند هذا وتأمل حكمة الشريعة وسرها في إخلاص العبادة والتعظيم الذي لا ينبغي إلا لله، ولو بأحقر شيء كالذباب، فكيف بكرائم الأموال؟ والله المستعان.
والنبي ( حسم مادة الشّرك، وقطع وسائله حتى نهى عن الصلاة في الأوقات التي يسجد فيها الكفار للشمس، ونهى عن الصّلاة عند القبور، خشية الفتنة بها وبأربابها وإن كان المصلي لا يقصد شيئاً من ذلك. ولعن من فعل ذلك وأبدى وأعاد فيه وقال: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، وفي رواية لمسلم: "وصالحيهم"، وقال ذلك عند مفارقة الدنيا إلى الرفيق الأعلى عليه أفضل الصلاة وأتم السلام. ونهى عن الحلف بغير الله، وقال: "من حلف بغير الله فقد أشرك"، وقال لرجل قال له: "ما شاء الله وشئت": "أجعلتني لله نداً؟ بل ما شاء الله وحده".
قال شيخ الإسلام: وأما من قصد التبرك بالصلاة عندها، فهذا عين المحادة لله ولرسوله. انتهى.
وعلى رأي هذا العراقي أنها تدعى ويستغاث بها، وتقصد وترجى، ويذبح لها فهذا عين العبادة وعين الغاية التي قطع الرسول ( وسائلها، وسد ذرائعها، فهذا وأمثاله هم الآمرون بالشرك الواضعون له، الدّاعون إليه، الرّادون لما جاءت به الرسل من توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له. وإنما حدث الشرك برأي جنس هؤلاء، والله المستعان.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: عبادة الله وحده لا شريك له هي أصل الدين، وهي التوحيد الذي بعث الله به الرسل، وأنزل به الكتب، قال تعالى وتقدّس: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الانبياء:25]، وكان النّبيّ ( يحقّق التوحيد، ويعلمه أمته، حتى قال له رجل: "ما شاء الله وشئت فقال: "أجعلتني لله نداً؟ بل ما شاء الله" ونهى عن الحلف
ص -247-(37/50)
بغير الله. وقال: "من حلف بغير الله فقد أشرك" وقال في مرض موته: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر ما فعلوا" وقال: "اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد" وقال: "لا تتخذوا قبري عيداً، ولا بيوتكم قبوراً، وصلوا عليَّ حيثما كنتم. فإنّ صلاتكم تبلغني" ولهذا اتفق أئمة الإسلام على أنه لا يشرع بناء المساجد على القبور. ولا الصلاة عندها، وذلك لأنّ من أكبر أسباب عبادة الأوثان تعظيم القبور، ولهذا اتفق العلماء على أنه من سلّم على النبي ( عند قبره أنه لا يتمسح بحجرته، ولا يقبلها؛ لأنه إنما يكون التمسح بأركان بيت الله، فلا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق، كل هذا لتحقيق التوحيد الذي هو أصل الدين، ورأسه الذي لا يقبل الله عملاً إلاّ به، ويغفر لصاحبه ولا يغفر لمن تركه، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} إلى قوله: {عَظِيماً} [النساء:48]؛ ولهذا كانت كلمة التوحيد أعظم الكلام وأفضله. فأفضل آية في القرآن آية الكرسي {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255]، قال (: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة"، والإله هو الذي يألهه القلب عبادة له، واستغاثة له ورجاء له وخشية وإجلالاً" انتهى كلامه.
قال العراقيّ: في النقل الخامس والعشرين: قال الشيخ تقي الدين بن تيمية في الفتاوى: "والكفر يكون من الوعيد، فإنه إن كان القول تكذيباً بما قاله الرسول ( لكن قد يكون حديث عهد بالإسلام أو نشأ ببادية بعيدة، وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص، أو سمعها ولم تثبت عنده، أو عارضها عنده معارض أوجب تأويلها، وإن كان مجتهداً مخطئاً، وكنت دائماً أذكر الحديث الذي في الصحيحين في الرجل الذي قال لأهله: "إذا أنا مت فاحرقوني ثم ذروني ـ الحديث" هذا رجل شك في قدرة الله وفي إعادته إذا ذري، بل اعتقد أنه لا يعاد وهذا كفر باتفاق(37/51)
المسلمين، لكن لما كان مؤمناً يخاف الله أن يعقبه غفر له بذلك، والمتأول من أهل الاجتهاد الحريص على متابعة الرسول ( أولى بالمغفرة من مثل هذا" انتهى.
ص -248-
الجواب أن يقال:
قد تكررت هذه الشبهة وكثر بها العدد، هكذا المفلس إذا رجع إلى ما في عيبته فوجدها صفراً، اشتغل بتقليب ما في يديه، وقد تقدم جوابها مراراً، وذكرنا أن عباد القبور قد قامت عليهم الحجة، أو على جمهورهم بالكتاب والسنة والإجماع؛ فإن هذ الباب ـ أعني باب عبادة الله وحده لا شريك له ـ هو خلاصة الكتب الإلهية، وزبدة الدعوة النبوية، وتقدم في جواب ما نقله عن ابن القيم وعن الشيخ، ففيه كفاية.
قال الشيخ رحمه الله في الرد على المتكلمين، لما ذكر أن بعض أئمتهم توجد منهم الردة عن الإسلام كثيراً، قال: وهذا وإن كان من المقالات الخفية فقد يقال فيها: إنّه مخطئ ضال لم تقم عليه الحجة التي يكفر تاركها، لكن هذا يصدر منهم في أمور يعلمها الخاصة والعامة من المسلمين: أن الرسول ( بعث بها وكفر من خالفها، مثل عبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة أحد سواه من الملائكة والنبيين وغيرهم. فإن هذا أظهر شعار الإسلام، ومثل إيجابه الصلوات الخمس، وتعظيم شأنها؛ ومثل تحريم الفواحش والزنا والخمر والميسر، ثم تجد كثيراً من رؤوسهم وقفوا فيها. فكانوا مرتدين. وأبلغ من ذلك: أن منهم من صنف في دين المشركين كما فعل أبو عبد الله الرّازيّ، قال: وهذه ردّة صريحة.
فتأمّل ما في هذا من التفصيل تزول الشبهة التي يدلي بها بعض المشركين. وتقدم كلام الشيخ في الرسالة السنية. وقوله: فإذا كان على عهد النبي ( وخلفائه ممن انتسب إلى الإسلام من مرق منه مع عباداته العظيمة حتى أمر ( بقتالهم فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام والسنة في هذه الأزمان قد يمرق أيضاً من الإسلام وذلك بأسبابها؛ ومنا الغلو الذي ذمه الله في كتابه ـ إلى أن قال: فكل من غلا في نبي أو رجل صالح وجعل فيه نوعاً من(37/52)
الإلهية، مثل أن يقول: يا سيدي فلان انصرني أو أغثني أو ارزقني أو اجبرني، أو أنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال. فكلّ هذا شرك وضلال، يستتاب صاحبه فإن تاب وإلاّ قتل.
ص -249-
فانظر رحمك الله إلى تصريحه بكفر هذا الصنف الذين هم محل النزاع، وأن من فعل ذلك قتل بعد الاستتابة إن لن يتب، وهذا عين كلامنا.
فالتشبيه في هذه المسألة بخير الذي أمر أهله أن يذروه، أو بقول الشيخ: إن المخطئ لا يكفر إذا اجتهد واتقى، ونحو هذه العبارات تمويه وتشبيه.
والنزاع فيمن قامت عليه الحجة، أو أمكنه الاستدلال، لا فيما يخفى من المسائل، أو كان مما يختص أهل العلم بمعرفته. فهذا نحوه ليس مما نحن فيه، وإيراده والاحتجاج به على مسألة النزاع تمويه لا يروج على أهل البصائر.
قال العراقي: النقل السادس والعشرون: وقال أيضاً في بعض كتبه ونقله الشيخ سليمان بن عبد الوهاب في ردّه على أخيه قال: "إني دائماً ومن جالسني يعلم أني من أعظم الناس نهيًا عن أن ينسب معين إلى تكفير، أو تفسيق، أو معصية، إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافرًا تارة، وفاسقًا أخرى، وعاصيًا أخرى، وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية والمسائل العملية .
وما زال السلف يتنازعون في كثير من هذه المسائل، ولا يشهد أحد منهم على معين لا بكفر ولا بفسق ولا بمعصية، كما أنكر شريح قراءة : {بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ } [ الصافات : 12 ] وقال : إن الله لا يعجب ـ إلى أن قال ـ: وقد آل النزاع بين السلف إلى الاقتتال مع اتفاق أهل السنة أنّ الطائفتين جميعًا مؤمنتان؛ وأن الاقتتال لا يمنع العدالة الثابتة لهم؛ لأن المقاتل وإن كان باغيًا فهو متأول، والتأويل يمنع الفسوق .
وكنت أبين لهم أن ما نقل عن السلف والأئمة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا، ونحو هذا حق، لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين . وهذا(37/53)
أول مسألة تنازعت فيها الأمة من مسائل الأصول الكبار وهي مسألة [ الوعيد ] ، فإن نصوص الوعيد في القرآن مطلقة عامة، كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [النساء:10]، وكذلك سائر ما ورد : من فعل كذا وكذا فهو كذا، فإن هذه النصوص مطلقة عامة .
وهي بمنزلة من قال من السلف : من قال كذا، فهو كذا . ـ إلى أن قال: والتكفير يكون من الوعيد،
ص -250-(37/54)
فإنه وإن كان القول تكذيبًا لما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن قد يكون الرجل حديث عهد بإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة، وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص، أو سمعها ولم تثبت عنده، أو عارضها عنده معارض آخر يوجب تأويلها، وإن كان مخطئًا .
وكنت دائمًا أذكر الحديث الذي في الصحيحين في الرجل الذي قال لأهله: "إذا أنا مت فأحرقوني ـ الحديث" فهذا رجل شك في قدرة الله، وفي إعادته إذا ذُرىَ، بل اعتقد أنه لا يعاد . وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكن كان جاهلا لا يعلم ذلك، وكان مؤمنًا يخاف الله أن يعاقبه، فغفر له بذلك .
والمتأول من أهل الأجتهاد، الحريص على متابعة الرسول أولى بالمغفرة من مثل هذا ". انتهى.
والجواب: إن شيخنا رحمه الله قال في مثل هذه الشبه التي يوردها المبطلون من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية بمثل ما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية سواء. وإن من تأمّل كلامه رحمه الله وجده يصله بما يفصل النزاع، ويبين المراد. وقد بين في هذا النقل بياناً يقطع النزاع بقوله: إلا إذا علم أنه قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافراً تارة، وفاسقاً أخرى. وهذا البيان كافٍ.
فإن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهّاب رحمه الله لا يكفّر أحداً قبل قيام الحجّة. وهذا يأتي على جميع ما ساقه العراقي بالرّد والدّفع، فسياق هذه العبارات المتحدة المعاني والتشبيه بها وكثرة عددها مجرد تخييل وهوس، يكفي في ردها ما تقدم بيانه من اشتراط قيام الحجة، وإن فرض كلام الشيخ في كل ما نقل العراقي في غير ما يعلم من الدين بالضرورة، وفي غير المفرط في طلب العلم والهدى، كما تقدم فيما نقلناه من طبقات المكلفين، وتقدم نص الشيخ أن فرض كلامه في غير المسائل الخفية، وكل جملة من هذه الجمل تكفي المؤمن في ردّ جميع ما نقله ابن جرجيس عن شيخ الإسلام ابن تيمية، وينبغي أن يعلم الفرق بين قيام الحجة وفهم الحجة، فإن من بلغته دعوة الرسل فقد قامت عليه الحجة؛(37/55)
إذا كان على وجه يمكن معه العلم، ولا يشترط في قيام الحجة أن يفهم عن الله ورسوله ما يفهمه أهل الإيمان والقبول والانقياد لما جاء
ص -251-
به الرسول صلى الله عليه وسلم ، فافهم هذا يكشف عنك شبهات كثيرة في مسألة قيام الحجّة، قال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44]، وقال تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} {البقرة: من الآية7]، وتأمّل كلام الشيخ وقوله: وما زال السلف يتنازعون في كثير من هذه المسائل.
وقوله: "ولكن قد يكون الرجل حديث عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة، وقوله: وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص أو سمعها ولم تثبت عنده، أو عارضها عنده معارض آخر يوجب تأويلها".
وكلّ هذا لا يمكن أن يقال في عبّاد القبور.
فتأمّل كلام الشيخ واعرف ضلال ابن جرجيس في حمله كلام الشيخ على عذر عباد القبور والأنبياء والصالحين، واعرف سوء فهمه وكثافة حجابه، وقد تقدم هذا مراراً.
ويقال أيضاً: كلام الشيخ في عدم إطلاق الكفر على المعين إذا كان له عذر من جنس ما تقدم، لكن أثبت وقرر أن نفس العمل والفعل يكون كفراً، وإن لم يكن فاعله لمانع، وهذا الملحد لا يقول ذلك فيمن عبد الصالحين وأهل القبور، بل يقول: هم مثابون مأجورون بدعائهم غير الله، ويسمى الدعاء توسّلاً، قد مرّ هذا عنه في غير موضع، ويأتيك أكثر مما مرّ، فاعرف جهله، وإنه لم يأنس بشيء مما جاءت به الرسل، ولم يتعقل ما يحكيه من كلام أهل العلم.
فقف هنا يا من أنعم الله عليه تعرف بعدما جاء به هذا الملحد عما جاءت به جميع الرسل، وأنه أضلّ من كثير من أعدائهم، والله المستعان.
النقل السابع والعشرون: من نقول ابن جرجيس: وقال أيضاً في الفتاوى ـ حين سئل عن التكفير الواقع في هذه الأمة ـ: أول من أحدثه في الإسلام(37/56)
المعتزلة. وعنهم تلقاه من تلقاه، وكذلك الخوارج هم أول من أظهره. واضطرب الناس في ذلك، فمنهم من يحكي عن مالك فيه قولين، وعن الشافعي كذلك، وعن أحمد روايتين، وأبو الحسن الأشعريّ وأصحابه لهم فيه
ص -252-
قولان. وحقيقة الأمر: إن القول قد يكون كفراً، فيطلق القول بتكفير قائله، ويقال: من قال كذا فهو كافر، لكن الشخص المعين الذي قاله لا يكفر، حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها ـ ثم ساق كلام الشيخ في أن المقالات الكفرية لا يكفر قائلها إلا بعد قيام الحجّة.
والجواب أن يقال:
قد تكرر هذا عن العراقي، ولكنه أراد أن يعظم حجم الكتاب ويظن العامة أن قد جدّد حجة من السنة أو الكتاب، أو كلام ذوي الألباب، وهو لم يزل ولا يزال يتردد في ظلماته، ويكرر ريبه وشبهاته. والجواب تقدم.
وفيما ساقه هنا رد لباطله وحجّة عليه، من جهة أن الشيخ حكى في تكفير الخوارج ونحوهم عن مالك قولين، وعن الشافعي كذلك، وعن أحمد أيضاً روايتين، وأبو الحسن الأشعريّ وأصحابه لهم قولان، وحيث كان الحال هكذا في الخوارج فقد اختلف الناس في تكفيرهم والغلاة في علي لم يختلف أحد في تكفيرهم. وكذلك من سجد لغير الله أو ذبح لغير الله أو دعاه مع الله، رغباً أو رهباً.
كل هؤلاء اتفق الخلف والسلف على كفرهم، لما ذكره أهل المذاهب الأربعة، ولا يمكن لأحد أن ينقل عنهم قولاً ثانياً. وبهذا تعلم أن النزاع وكلام الشيخ ابن تيمية وأمثاله في غير عباد القبور والمشركين، وإنما فرضه وموضوعه في أهل البدع المخالفين للسنة والجماعة. وهذا يعرف من كلام الشيخ ولكن العراقي من جملة البقر والثيران، وإن كان ضخم العمامة واسع الأردان وقد تقدم قول الشيخ من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم ويتوكل عليهم كفر إجماعاً، فحكى الإجماع على كفر هذا الصنف، حكى الخلاف في تكفير الخوارج ونحوهم، فاعرف الفرق، ولولا عموم الجهل، وبعد العهد بآثار النبوة لما أطلنا الكلام في مثل هذه(37/57)
المباحث؛ لأنها مما يعلم بالضرورة من دين الإسلام.
قال ابن جرجيس: النقل الثامن والعشرون: قال الشيخ ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم، ما نصه: فكما أن إثبات المخلوقات أسباباً لا يقدح
ص -253-
في توحيد الربوبية، ولا يمنع أن يكون الله خالق كل شيء، فلا يجوز أن يدعي المخلوق لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة، كذلك إثبات بعض الأفعال المحرمة: من شرك أو غيره أسباباً، لا يقدح في توحيد الإلهية، فإن أحسن أحواله أن يكون مجتهداً في هذه المسألة أو مقلداً.
والجواب أن يقال:
قد تقدم لهذا العراقي، ويأتيك عنه في غير موضع ـ أنه استدل بإجابة الدعاء عند القبور وإجابة من سأل أهل القبور على استحباب ذلك، وأنه دين يحبه الله ويرضاه، وحكى هنا عن الشيخ أن ذلك لا يقدح في توحيد الربوبية، ولا يمنع أن يكون الله خالق كل شيء، فلا يجوز أن يدعي المخلوق لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة فهذا يهدم قوله، ويدفع صدره، ولكنه لا شعور له بما في كلام الشيخ من الحق والهدى وكذلك بما في قوله: إثبات بعض الأفعال المحرمة من شرك، أو غيره أسباباً لا يقدح في توحيد الإلهية، والعراقي يجعل السبب دليلا على جواز دعاء غير الله، والشرك في الإلهية.
فاعجب لهذه الحكاية والقضية، وأكثر ما يدعو هؤلاء المشركين إلى دعاء القبور والصالحين ما يحكونه من أنّ فلاناً دعا فاستجيب له، وفلاناً استغاث فأغيث. وفلاناً رد عليه بصره، وعند السدنة وعباد القبور من هذا شيء كثير. قد أورد منه العراقي شيئاً كثيراً، جعله من قواعد مذهبه، وأدلة شركه، ومن العجب العجاب: أن الهوى يعمي الرجل حتى لا يفهم ما ينقل، ولا ما يخرج من بين شفتيه.
وأما قوله: إن الشيخ قال: فإن أحسن أحواله أن يكون مجتهداً في هذه المسألة أو مقلداً، فهذه الجملة ليس متصلة ولا مرتبطة بما ساق العراقي، ولا مناسبة بينها وبينه والشيخ قد ساقها في موضع آخر وبحث آخر، ولكن ابن جرجيس كذاب جاهل، وقد مر لك جنس(37/58)
تحريفه، قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة:5].
ص -254-
فصل
قال ابن جرجيس: النقل الثلاثون: "قال الشيخ في هذا الكتاب في موضع آخر: "وإذا اعتقد وجوب بما أنزل الله وعلمه في هذه الواقعة وعدل عنه مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة، فهذا عاص، ويسمى كافراً كفراً مجازياً أو كفراً أصغر، وإن جهل حكم الله فيها مع بذل جهده، واستفراغ وسعه في معرفة الحق، فهذا مخطئ له أجر على اجتهاده، وخطؤه مغفور له" انتهى.
والجواب أن يقال:
كلام الشيخ في الحكم بين الناس والقضاء فيما بينهم من الخصومات، لا فيما يعم أصول الدين، ودعاء الأموات، وسياق كلام الشيخ صريح في هذا، فإن هذه المسألة معروفة مشهورة، كما قال ابن عباس: "كفر دون كفر، وظلم دون ظلم" عند الكلام على قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: من الآية44].
وقوله: وإن جهل حكم الله فيها ـ إلى آخر العبارة: دليل على أن الكلام في المسائل الاجتهادية، فأين هذا من دعاء الأموات، والاستغاثة بغير الله؟ مع أن الشيخ قد قرّر على حديث القضاة ثلاثة: أن الجاهل الذي ليس له أهلية اجتهاد داخل في الوعيد، كما هو نص الحديث. فالعراقي ملبوس عليه، لا يفهم كلام الشيخ ومع ذلك فالهوى قد أعمى بصيرته، وحال بينه وبين الفهم، فسبحان من طبع على قلبه: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:59].
ص -255-(37/59)
ثم قال العراقي: "النقل الحادي والثلاثون ـ وساق كلام ابن القيم في أن الشخص الواحد يكون فيه ولاية لله وعدواة من وجهين مختلفين. ويكون فيه إيمان ونفاق، وإيمان وكفر، ويكون أحدهما أقرب منه إلى الآخر، فيكون من أهله؛ قال الله تعالى: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ} [آل عمران: من الآية167]، وقال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106] أثبت لهم الإيمان مع مقارنة الشرك، فإن كان مع الشرك تكذيب لرسله لم ينفعهم ما معهم من الإيمان بالله، ولو كان معهم تصديق برسله وهم مرتكبون لأنواع من الشرك لا يخرجهم من الإيمان بالرسل، فهؤلاء مستحقون للوعيد أعظم من استحقاق أرباب الكبائر، وشركهم قسمان: جلي، وخفي، فالخفي قد يغفر.
والجواب أن يقال:
أي دليل في هذا على مسألة النزاع؟ فإن مراد الشيخ كما يعلم من تقريره وأول عبارته أن النفاق الأصغر وبعض شعبه، قد يوجد في شخص مع وجود بعض شعب الإيمان، وكذلك الكفر العملي الذي لا يخرج عن الإسلام قد يوجد مع بعض شعب الإيمان، ويكون أحدهما أقرب إليه وأولى به، وقوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} تفيد أن الشرك قد يوجد مع الإيمان بالربوبية، كما فسرها بعض السلف، لكنه لا يخفى في النجاة، بل لا بدّ من عبادة الله وحده لا شريك له. ولذلك قال الشيخ: فإن كان مع الشرك تكذيب للرسل لم ينفعهم ما معهم من الإيمان بالله، ولو كان معهم تصديق للرسل، وهم مرتكبون لأنواع من الشرك لا يخرجهم من الإيمان. فهم مستحقون للوعيد أعظم من استحقاق أرباب الكبائر، فهذا الشرك الخفي، كما يدل عليه قوله، وأما الجلي فلا يغفر إلا بالتوبة وهذا كله لنا، مبطل لما ذهب إليه العراقي، ولكنه لا يفرق بين الشرك الأكبر والأصغر، ولا يتعقل معاني ما يقول:
لا يعرف الشوق إلا من يكابده
ولا الصّبابة إلا من يعانيها(37/60)
قال العراقي: النقل الثاني والثلاثون، قال الشيخ ابن تيمية في اقتضاء
ص -256-
الصراط المستقيم، وفيه أي في حديث أبي ذر وقول النبي صلى الله عليه وسلّم: "إن فيك لخصلة جاهلية" إن الرجل قد يكون مع علمه وفضله ودينه فيه بعض هذه الخصال المسماة بجاهلية، ويهودية، ونصرانية، ولا يوجب ذلك كفره ولا فسقه.
وزعم العراقي أن هذا يفيد أن الشيخين لو أطلقا لفظ الكفر والشرك على فعل واحد، فمرادهما الكفر المجازي أو الأصغر. وهذا مع اعتراف الفاعل بالحق وعدوله عنه، وأما مع بذل الوسع والاجتهاد، فهو عندهم مأجور، ولو كان مخطئاً.
والجواب أن يقال:
تبّاً لهذا العراقي، وما أضله عن سواء الطريق. وما أجهله بكلام أهل الفضل والتحقيق، وما أكذبه على الله وعلى رسوله، وعلى أهل العلم والتصديق.
وأما قوله: وقول النبي صلى الله عليه وسلّم: "إن فيك لخصلة جاهليّة" فهذا كذب على الرسول صلى الله عليه وسلّم، فالرسول ما قال هذا. وإنما قال: "إنّك امرؤ فيك جاهليّة" وهكذا رواه من خرّجه من أهل الدواوين الإسلامية. وشيخ الإسلام لم يقل هذا، بل أورده كما جاء من غير تحريف ولا تبديل. والعراقي ليس من أهل الصنعة بل هو ضال غبي، لا عناية له بهذا الشأن. والله المستعان.
وفرق بين النسبة إلى الجاهلية واليهودية والنصرانية، وبين إطلاق الكفر والشرك على الفاعل. فإن شعب الجاهلية ونحوها ليست كلها مكفرات، ولا يقال: إن تعيير الرجل بأمّه كفر، ويقال: هو جاهليّة. وكذلك أكل الرّشاء هو من اليهودية ولا يلزم أن يكون فاعله كافراً، والكفر والشرك هما أكبر الذنوب على اختلاف أنواعهما ولا كذلك التعيير بالأم ونحوه، مما ينسب إلى الجاهلية، مما دون الشرك والكفر.
وقوله: وأما مع بذل الوسع والاجتهاد والتقليد فهو عنده مأجور ـ فهذا القول مما يستبين به جهل العراقي، وسوء فهمه، فإنّ النّبي صلى الله عليه وسلّم عاب هذا على
ص -257-(37/61)
أبي ذر، ولم يقل أحد من أهل العلم، ولا قاله عن نفسه: إنه مأجور، ولا أدخل هذه المسألة في مسائل الاجتهاد، وأي اجتهاد في التعيير بالأم؟ وقد قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: من الآية13] وهذا ضرب من الناس هم أعداء النصوص والعقول والفطر، قد استهوتهم الشياطين، وأزعجتهم إلى تبديل دين الله والكذب على أوليائه، ومعاداة حزبه و {لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأنعام:67].
قال العراقي: النقل الثالث والثلاثون: "قال الحافظ ابن رجب في شرح كلمة الإخلاص: "والإله هو الذي يطاع فلا يعصى هيبة له وإجلالاً، ومحبة وخوفاً ورجاءً، وتوكلاً وسؤالاً ودعاءً، ولا يصلح ذلك كله إلا لله. فمن أشرك مخلوقاً في شيء من هذه الأشياء التي هي من خصائص الإلهية. كان ذلك قدحاً في إخلاصه، وقدحاً في توحيده وهذا كله من فروع الشرك. ولهذا ورد إطلاق الكفر والشرك على كثير من المعاصي التي منشؤها من غير طاعة الله، أو خوفه أو رجائه أو التوكل عليه أو العمل لأجله، كما ورد إطلاق الشرك على الرياء، وعلى الحلف بغير الله. ولهذا أطلق الشارع على أكثر الذنوب التي منشؤها من هوى النفس إنها كفر وشرك، كقتال المسلم، ومن أتى حائضاً، أو امرأة في دبرها، ومن شرب الخمر في المرة الرابعة، وإن كان ذلك لا يخرج من الملة بالكلية، ولهذا قال السلف كفر دون كفر وشرك دون شرك" انتهى.
قال العراقي: والمقصود من هذا النقل قوله: إن هذه الأشياء من خصائص الألوهية، وأنه نقص في توحيده، وهذا كله من فروع الشرك، ويطلق عليه الكفر، ومع ذلك قال آخر العبارة: وإن كان ذلك لا يخرج عن الملة بالكلية، وإنه ليس بكفر وشرك مخرجين عنها، بل دون ذلك، وهذا على مذهبه اتباعاً للشيخين وأنه تلميذهما.
والجواب أن يقال:
هذا النقل ليس فيه ما يتمسك به المبطل، فإن كلامه صريح في أن الإله هو الذي يقصد بهذه الأمور، مع أن النقل اعتراه ما اعترى(37/62)
أمثاله من
ص -258-
التحريف، وإسقاط بعض الكلام المتصل، وترك ما فيه مما يرد على هذا العراقي ويبطل دعواه.
من ذلك: أنه حذف بعد قول المصنف: كان ذلك قدحاً في إخلاصه في قول لا إله إلا الله ـ فأسقط قوله: في قول لا إله إلا الله؛ لأنّ كلامه صريح في أن ما تقدم من العبادات صرفه لغير الله قدح في إسلام الفاعل، وقوله: لا إله إلا الله، وهذا قولنا بعينه، فأسقط حذراً من قيام الحجّة، وكذلك أسقط بعد قول المصنف ـ وكان فيه من عبودية المخلوق بحسب ما فيه من ذلك ـ وكذلك أسقط قوله: "وكذلك ما يقدح في التوحيد وتفرد الله بالنّفع والضّر، كالطيرة والرقي المكروهة، وإتيان الكهان وتصديقهم بما يقولون. وكذلك أتباع هوى النفس فيما نهى الله عنه، قادح في تمام التوحيد ـ.
كلّ هذا أسقطه العراقي، وكذلك قوله: وقد أطلق الشارع على أكثر الذنوب، فهذا تحريف، والعبارة: على كثير من الذنوب، وأسقط: وقد ورد إطلاق الإله على الهوى المتبع. قال الله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: من الآية23]، وأسقط ما ساق الشيخ من الأحاديث وكلام السلف.
وأسقط قول الشيخ: فدل على أن كل من أحب شيئاً أو أطاعه، وكان من غاية قصده ومطلوبه، ووالى لأجله وعادى لأجله فهو عبده، وذلك الشيء معبوده وإلهه. ويدل عليه أيضاً أن الله سمي طاعة الشيطان في معصيته عبادة للشيطان. كما قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يّس: من الآية60]، وقال حاكياً عن خليله إبراهيم عليه السلام أنه قال لأبيه: {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً} [مريم:44] إلى غير ذلك مما في الرسالة من الفوائد الرادة عليه المبطلة لإفكه وضلاله، ولم أر من بلغ هذه الغاية في الكذب والتحريف وتغيير العبارات، بحذف بعضها ونقل بعضها، وتبديل كلام أهل العلم اللهم إلا ما حكى الله عن(37/63)
اليهود، وما جاءت به السنة من أوصافهم، فهم سلف العراقي وأئمته الأولون.
ثم عباة الشيخ ابن رجب تشهد لكلام شيخنا رحمه الله، فإن قوله:
ص -259-
"وإن كان ذلك لا يخرج عن الملة بالكلية ـ ليس راجعاً إلى كلّ ما ذكر، بل هو راجع إلى قوله: ولهذا أطلق الشرع على كثير من الذنوب التي منشؤها من اتباع هوى النّفس أنها كفر وشرك، كقتال المسلم ومن أتى حائضاً إلى آخر عبارته، وهذا بين بحمد الله. وليس المقصود أن دعاء الموتى ومحبتهم مع الله وحوفهم ورجائهم ونحو ذلك يكون شركاً دون شرك، هذا لا يفهمه كلامه، ولا يدل عليه بوجه، فإن ابن رجب أعلم بالله ودينه من أن يتكلم بهذه الفضيحة التي لا يقولها مسلم.
ورأيت على النسخة التي رفعت إليّ عن هذا العراقي على قول ابن رجب: "والإله هو الذي يطاع فلا يعصى" إلى آخره، ما نصه: لا يلزم أن هذه الأشياء إذا استعملت في غير الله أن يكون غيره إلهاً، كما تتوهمه الخوارج المكفرون للأمة المحمدية، وهذا إذا كانت موجودة في غير أمر الشرع باستعمال هذه الأشياء معه، فإن الرسول صلى الله عليه وسلّم قد أمر بطاعته كقوله: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: من الآية59] وكذلك التعظيم والإجلال في قوله: {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح: من الآية9] وكذا غير ذلك، كما في الكتاب والسنة مما بينته في غير هذا الكتاب، فلا يهولنّك ما في حنك العبارة، فإنه اصطلاح لابن تيمية وذويه. انتهى.
فالظاهر أن هذا من كلام العراقي، لأن ألفاظه ركيكة، وتركيبه مظلم ينادي بأنه تركيب جاهل، وهكذا كلام العراقي ليس له لسان طالب علم حتى في التعبير.
وجواب هذا أن يقال:
التعريف للإله من حيث هو: ولذلك أشرك من اتخذ مع الله آلهة أخرى، وسمى الشارع معبودهم إلها. قال الله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ} [يّس:74]، وقال: {أَإِفْكاً آلِهَةً(37/64)
دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} [الصافات:86] ونحو ذلك كثير في القرآن وقال في القاموس: أله يأله إلهة وألوهية: عبد يعبد عبادة
ص -260-
وعبودية. وكل من عبد شيئاً فقد اتخذ إلهاً. فإن كان قصد غير الله بالطّاعة والهيبة والإجلال والمحبة والخوف والرجاء، والتوكل والسؤال والدعاء لا يصيره إلها، فإن هذا وهم للخوارج المكفرين لهذه الأمة فليهن قوم نوح وعاد وثمود، وقوم فرعون ومشركي أهل الكتاب والعرب هذا الحكم الذي نفى به العراقي عنهم اتخاذ إله مع الله، ولو صدر منهم ما صدر من العبادات لغير الله، الله أكبر. ما أغفل هذا العرقي وما أجهله. فإن عوام المشركين من أهل الكتاب والأميين يعلمون أن من عبد شيئاً فقد اتخذه إلها. قال قوم نوح: {لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} [نوح: من الآية23]، وقالت عاد: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ} [لأعراف: من الآية70]، ,قالت قريش: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} [صّ: من الآية5]، فكل هؤلاء المشركين وأمثالهم يعلمون أن الإلهية تدور مع هذه العبادات حيث دارت. وهذا الثور الكبير يقول: لا يلزم أن هذه الأشياء إذا استعملت في غير الله أن يكون هذا الغير إلها، فعلى عقله التباب والعفاء، وسلام على عباده الذين اصطفى.
وأما قوله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [المائدة: من الآية92] فطاعة الرسول طاعة للمرسل، فهي طاعة لله من أجل الطّاعات. قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: من الآية7] وكذلك ألو الأمر من العلماء والأمراء، إذا أمروا بالمعروف يطاعون تبعاً لطاعة الله ورسوله.
وأما التعزير والتوقير فالمقصود منه ما يليق بالمنصب الشريف النبوي، وليس المقصود ما يختص بمقام الربوبية، ويدخل في تعريف العبادة، ولو قيل ذلك للزم جواز عبادته صلى الله عليه وسلّم، والله تعالى يقول: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا(37/65)
الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً} [آل عمران: من الآية80] والأرباب هنا هم المعبدون.
وقوله: فإنه اصطلاح لابن تيمية وذويه ـ يطلعك على جهل العراقي وعدم معرفته بنصوص أهل العلم؛ فإنّ هذا التعريف مجمع عليه لا ينازع فيه مسلم فضلاً عن عالم.
ثم قال العراقي: النقل الرابع والثلاثون: قال ابن القيم في المدارج:
ص -261-
"قلت: أما المستحل فذنبه دائر بين الكفر والتأويل، فإنه إن كان عالماً بالتحريم فكافر، وإن لم يكن عالماً فمتأول أو مقلد".
والجواب: إن هذا تقدم، فذكره محض تكرير، وتقدم أن الكلام في الأحكام التي يحكم بها الحكام بين الناس، فالمستحل للحكم بغير ما أنزل الله كافر إن كان عالماً بالتحريم، وإلا فمتؤول أو مقلد، وهذا القسم فيه تفصيل كما تقدم فيما نقلناه عن ابن القيم نفسه رحمه الله.
ثم قال العراقي: النقل الخامس والثلاثون في الكتاب المذكور: "وكفر الجحود كفران: كفر مطلق، ومقيد خاص، فالمطلق أن يجحد جملة ما أنزل الله ورسالة الرسول، والخاص المقيد: أن يجحد فرضاً من فروض الإسلام، أو محرماً من محرماته، أو صفة وصف الله بها نفسه، أو خبراً أخبر الله به يجحد ذلك عمداً، أو تقديماً لقول متبوعه عليه، لغرض من الأغراض، وإن كان جحد ذلك جهلاً أو تأويلاً يعذر صاحبه فلا يكفر، كحديث الذي جحد قدرة الله عليه وأمر أهله أن يحرقوه ويذروه في الريح، مع هذا فقد غفر له الله ورحمه بأهله، إذ كان الذي فعل هو مبلغ علمه. ولم يجحد قدرة الله على إعادته عناداً وتكذيباً.
والجواب أن يقال:
هذا من جنس ما قبله، وقد تكرر الجواب عنه، وتقدم أن الجاهل والمتأول لا يعذر إلا مع العجز، ولذلك قيده الشيخ ابن القيم بقوله: تأويلاً يعذر صاحبه، فليس كل تأويل وكل جهل يعذر صاحبه. وليس كل ذنب يجري التأويل فيه ويعذر الجاهل به، وقد تقدم أن عامّة الكفار والمشركين من عهد نوح إلى وقتنا هذا جهلوا وتأولوا، وأهل الحلول والاتحاد كابن عربي(37/66)
وابن الفارض والتلمساني وغيرهم من الصوية تأولوا، وعبّاد القبور والمشركون الذين هم محل النزاع تأولوا، وقالوا: لا يدخل على الملك العظيم إلا بواسطة، وقالوا إذا تعلقت روح الزائر بروح المزور فاض عليها مما ينزل على روح المزور، كما ينعكس شعاع الشمس على المرايا والصور.
ص -262-
والنصارى تأولت فيما أتته من الإفك العظيم والشرك الوخيم، فقاتل الله العراقي ما أعظم جهله، وما أشد عداوته لتوحيد الله وعباده المؤمنين.
وفي العبارة التي نقلها عن ابن القيم وتقسيمه الكفر إلى مطلق وخاص مقيد: ما يرد على هذا العراقي في زعمه أن عباد القبور مسلمون، كما قال إخوانه من الضالين، محتجين بأنهم يؤذنون ويصلون ويصومون، ولم ينظروا إلى ما معهم من الكفر الخاص والضلال البعيد، والعراقي كعنز السوء تبحث عن حتفها بظلفها.
فكان كعنز السوء قامت بظلفها
إلى مدية تحت التراب تثيرها(37/67)
قال العراقي: في النقل السادس والثلاثين، قال ابن القيم في المدارج: وأما الشرك الأصغر فكيسير الرياء والتصنع للخلق، والحلف بغير الله ـ إلى أن قال: ومن أنواعه: سجود المريد للشيخ، ومن أنواعه: النذر لغير الله، ومن أنواعه: الخوف من غير الله، والتوكل على غير الله، والعمل لغير الله، والخضوع والذل لغير الله، وابتغاء الرزق من عند غيره، ومن أنواعه: طلب الحوائج من الموتى والاستغاثة بهم والتوجه إليهم بنفسه، فهذا صريح كلامه: أن الاستغاثة بالموتى وطلب الحوائج منهم، والنذر لغير الله، والسجود لغيره، والحلف بغيره، كل هذا من نوع الشرك الأصغر عندهم، لا الأكبر المخرج من الملة، وهم شرطوا أنه إنما يكون محرماً إذا يكن فاعله مجتهداً ولا مقلداً ولا مؤولاً، ولا له شبهات يعذره الله فيها، ولا جاهلاً، ولا له حسن قصد، كما تقدم عن الشيخين في عدة نقول.
والجواب أن يقال:
من زعم أن هذا النوع الذي هو السجود للشيخ والنذر والتوكل والخضوع والذل لغير الله وابتغاء الرزق من عند غيره، وطلب الحوائج من الموتى والاستغاثة بهم والتوجه إليهم: من الشرك الأصغر فهو من أجهل الناس بدين الله وأضلهم عن سبيله، وكلام الشيخ لا يدل على هذا وليس
ص -263-(37/68)
فيه ما يتمسك به المبطل، فإنه لما عد الشرك الأصغر وفرغ من المقصود منه قال: من أنواع الشرك، وهذا رجوع إلى ما ذكر من الشرك الأكبر، ويدل عليه أو الكلام والسياق.
وقال رحمه الله: أما الشرك فهو نوعان أكبر وأصغر، فالأكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة منه. وهو أن يتخذ من دون الله نداً، يحبه كما يحب الله، بل أكثرهم يحبون آلهتهم أعظم من محبة الله، ويغضبون لمنتقص معبودهم من المشايخ أعظم مما يغضبون إذا انتقص أحد ربّ العالمين. وقد شاهدنا هذا نحن وغيرنا منهم جهرة وترى أحدهم قد اتخذ ذكر معبوده على لسانه إن قام وإن قعد وإن عثر وإن استوحش لا ينكر ذلك. ويزعم أنه باب حاجته إلى الله وشفيعه عنده. وهكذا كان عباد الأصنام سواء. وهذا القدر هو الذي قام بقلوبهم وتوارثه المشركون بحسب اختلاف آلهتهم، فأولئك كانت آلهتهم من الحجر، وغيرهما اتخذوها من البشر(1)، قال تعالى حاكياً عن أسلاف هؤلاء: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر: من الآية3]، فهذه حال من اتخذ من دون الله أولياء، يزعم أنهم يقربونه إلى الله زلفى، وما أعزّ من تخلص من هذا، بل ما أعزّ من لا يعادي من أنكره.
والذي قام بقلوب هؤلاء المشركين وسلفهم أن آلهتهم تشفع عند الله لهم(2)، وهذا عين الشرك وقد أنكر الله ذلك عليهم في كتابه، وأبطله وأخبر أن الشفاعة كلها له.(37/69)
__________
(1) الذي لا شك فيه أن الأولين لم يتخذوا آلهتهم من الحجر إلا على أنها تمثل أولياءهم ومعتقديهم من البشر، ولذلك سماها الله أولياء، وقال {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} [لأعراف: من الآية194]، فالشرك في كل زمان واحد وإن اختلفت الأسماء، وقد صرّح بذلك الإمام ابن القيم في غير موضع من كتبه.
(2) وما قام هذا في نفوسهم إلا بما أوحى إليهم شياطينهم: أن أولياءهم من نور الله الذي فاض منه سبحانه وتعالى، وأنهم بهذا صاروا من جنسه ولهم صفاته وخصائصه من الحياة والسمع والبصر والقدرة وغيرها. وأن لهم بذلك دالة عليه، كأبناء الملوك وأقاربهم وهم لذلك يسمونهم أهل الله، ومن هنا كان دعاؤهم إياهم ولجوءهم وعبادتهم، وهو الشرك القديم=
ص -264-(37/70)
ثم ذكر الشيخ رحمه الله فصلاً طويلاً في تقرير هذا الشرك الأكبر. ولكن تأمل قوله: "وما أعزّ من تخلص من هذا، بل ما أعزّ من لا يعادي من أنكره" يتبين لك إن شاء الله بطلان الشبهة التي أدلى بها الملحد، إذ زعم أن كلام الشيخ في هذا الفصل ـ أعني الفصل الأول ـ في الشرك الأكبر، وذكر الآية التي في سورة سبأ: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} [سبأ: من الآية22]، وتكلم عليها ثم قال: "والقرآن مملوء من أمثالها، ولكن أكثر الناس لا يشعرون بدخول الواقع تحته، ويظنون في قوم قد خلوا ولم يعقبوا وارثاً، وهذا هو الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن، كما قال عمر: "إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية"، وهذا لأنه لم يعرف الشرك وما عابه القرآن وما ذمه وقع فيه وأقره، وهو لا يعرف أنه الذي كان عليه أهل الجاهلية، فتنقض بذلك عرى الإسلام، ويعود المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، والبدعة سنة، والسنة بدعة، ويكفر الرجل بمحض الإيمان وتجريد التوحيد، ويبدع بتجريد متابعة الرسول ومفارقة الأهواء والبدع ومن له بصيرة يرى ذلك عياناً، والله المستعان.
وهذا بعينه فعل عباد القبور، وهم المقصود بهذا الكلام، بل شركهم انتهى إلى توحيد الربوبية والأفعال، يعرف ذلك من عرف القوم وما هم عليه من الكفريات الشنيعة، إذ يزعمون أن لأوليائهم الرفع والخفض والقبض والبسط.
وقال ابن القيم في كلامه على هدم اللات في كتاب الهدي: "وكان يفعل عندها ما يفعل عند هذه المشاهد، من النذر لها والتبرك بها، والتمسح بها وتقبيلها، واستلامها، هذا كان شرك القوم بها، ولم يكونوا يعتقدون أنها خلقت السموات والأرض بل كان شركهم بها كشرك أهل الشرك من أرباب المشاهد بعينه".
فقف وتأمل هل يكون هذا في الشرك الأصغر؟!.(37/71)
__________
=والوثنية في كل عصورها تتلون بألوان مختلفة، وحقيقتها واحدة لأنها من وحي واحد هو وحي الشيطان. كما أن التوحيد واحد عند كل رسول لأنه من وحي الله سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
ص -265-
فصل
وأما الشرك الأصغر فكيسير الرياء والحلف بغير الله، وقول: هذا من الله ومنك، وأنا بالله وبك، ومالي إلا الله وأنت، وأنا متوكل على الله وعليك، ولو لا أنت لم يكن كذا وكذا، وقد يكون هذا شركاً أكبر بحسب حال قائله ومقصده.
ثم قال الشيخ رحمه الله ـ بعدما ذكر الشرك الأكبر والأصغر ـ: ومن أنوع الشرك سجود المريد للشيخ، ومن أنواعه التوبة للشيخ إنها شرك عظيم، ومن أنواعه النذر لغير الله، والتوكل على غير الله، والعمل لغير الله، والإنابة والخضوع والذل لغير الله وابتغاء الرزق من عند غيره، وإضافة نعمه إلى غيره، ومن أنواعه طلب الحوائج من الموتى والاستغانة بهم والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم؛ فإن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً فضلا عمن استغاث به، أو سأله أن يشفع له عند الله، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عند الله. فإن الله تعالى لا يشفع له عنده أحد إلا بإذنه، والله تعالىلم يجعل سؤال غيره سبباً لإذنه، وإنما السبب لإذنه كمال التوحيد. فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن والميت محتاج إلى من يدعو له كما أوصانا النبي صلى الله عليه وسلّم: إذا زرنا قبور المسلمين أن نترحم عليهم ونسأل لهم العافية والمغفرة. فعكس المشركون هذا، وزاروهم زيارة العبادة وجعلوا قبورهم أوثاناً تعبد، فجمعوا بين الشرك بالمعبود الحق وتغيير دينه ومعاداة أهل التوحيد ونسبتهم إلى تنقص الأموات وهم تنقصوا الخالق
ص -266-(37/72)
بالشرك، وأوليائه الموحدين بذمهم وعيبهم ومعاداتهم، وتنقصوا من أشركوا به غاية التنقص إذ ظنوا أنهم راضون منهم بهذا، وأنهم أمروهم به. وهؤلاء هم أعداء الرسل في كل مكان وزمان وما أكثر المستجيبين لهم. ولله خليله إبراهيم حيث يقول: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ، رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} [ابراهيم: من الآية 35 ـ36]، وما نجا من شَرَك هذا الشرك الأكبر إلا من جرد توحيده لله وعادى المشركين في الله وتقرب بمقتهم إلى الله" انتهى كلامه.
فانظر إلى هذا التقرير الواضح البين الذي لا يحتمل التأويل، وقوله: "طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم والتوجه إليهم، وأن هذا أصل شرك العالم"، وقوله: "فعكس المشركون هذا، وجعلوا قبورهم أوثاناً تعبد"، وقوله: "وهؤلاء هم أعداء الرسل في كل مكان وزمان" واستدلاله بقول الخليل: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ}، وقوله: "وما نجا من شرِك هذا الشرك الأكبر إلا من جرّد توحيده لله".
فانظر وتأمل هذه النصوص الجليلة الواضحة في الشرك الأكبر، الذي هو دين العراقي وأمثاله. هل يمكن صرفها إلى الشرك الأصغر؟ وهل يقبل ذلك عقل من له أدنى ممارسة للعلم الديني النبوي؟ وهذا العراقي رأى سلفاً له قد شبه بها في زمن الشيخ فتبعه، ولم يبال بما تقدم من التقرير التوضيح لغلبة الهوى، ومحبة ما هو عليه من عبادة الصالحين، ودعوة الناس إلى ذلك، قال تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة: من الآية93].
وبالجملة فمن وقف على كلام الشيخ ابن القيم في هذا الموضع تبين له الهدى، وعرف سبيل من ضل وغوى.
وأيضاً فالعدول إلى الاسم الظاهر في المعطوفات، وهو قوله: "ومن أنواع الشرك سجود المريد للشيخ" يفيد أن هذا رجوع إلى الشرك من حيث هو لا إلى الأصغر، وكذلك سجود المريد للشيخ لا يختلف في أنه من الشرك الأكبر، كما نص فقهاء المذاهب(37/73)
في باب الردة. وقد أجاب
ص -267-
شيخنا رحمه الله عن هذه الشبهة بنحو ما ذكرنا، والحق ظاهر بحمد الله لا تخفى أنواره، ولكن أهل الزيغ يتبعون المتشابه من كلام الله وكلام رسوله، وكلام أهل العلم. قالت أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها: "إذا رأيتم الذين يتبعون المتشابه فأولئك الذين سمّى الله فاحذروهم" انتهى.
ثم قال العراقي: "النقل السابع والثلاثون: قال ابن المقري الشافعي في مختصر الروضة: إن من كان من أهل الشهادة لا يكفر ببدعة على الإطلاق. وما استند إلى تأويل يلتبس الأمر على مثله، وهو الذي رجحه شيخنا أبو العباس ابن تيمية".
والجواب:
إن هذه العبارة يحتج بها على العراقي وأمثاله من القائلين: إن عبادة الأولياء والصالحين شرك أصغر أو مستحبة، كما زعمه هذا الضال، وذلك من وجوه:
الأول: أن الكلام في البدعة، والبدعة في عرف الشرع دون الشرك الأكبر والكفر، فكلامه في أهل البدع، والعراقي تأويله في أهل الشرك؛ ولذلك فرق الفقهاء بين المبتدع ومن يدعو غير الله، ويستغيث به ويتوكل عليه، كما ذكره ابن القيم وغيره من المصنفين في الكبائر كابن حجر الهيتمي.
الوجه الثاني: أن هذا مقيد بمن كان من أهل الشهادة، وهذا القيد يخرج عباد القبور، لأن المقصود بالشهادة التوحيد، كما في حديث وفد عبد القيس: "وآمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وأن تؤدو من المغنم الخمس". وأهل الشهادة هم أهل الإيمان باتفاق المسلمين. ومن عداهم ليس من أهل الشهادة، وإن قالها من قالها بلسانه كاليهود والمنافقين.
ص -268-(37/74)
الثالث: إن قوله: على الإطلاق لا ينافي أنه يكفر ببعض البدع المقيدة.
الرابع: أن قوله: "وما استند إلى تأويل يلتبس الأمر على مثله" مخرج لعباد القبور وأهل الردة، فإنه لا تأويل معهم يلتبس به الأمر، ولهذا لم يعذر أهل الفترة ونحوهم ممن اتخذ مع الله إلها آخر.
وقد سئل شيخ الإسلام عن رجل قال: قال النبي صلى الله عليه وسلّم: "من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة"، قال آخر: إذا سلك الطريق الحميدة واتبع الشرع دخل ضمن هذا الحديث، فقال له ناقل الحديث: أنا لو فعلت كل ما لا يليق وقلت: لا إله إلا الله، دخلت الجنة ولم أدخل النار؟".
فأجاب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بقوله: "الحمد لله رب العالمين، من اعتقد أنه بمجرد تلفظ الإنسان بهذه الكلمة يدخل الجنة ولا يدخل النار بحال فهو ضال مخالف للكتاب والسنة وإجماع المؤمنين؛ فإنه قد تلفظ بها المنافقون الذين هم في الدرك الأسفل من النار، وهم كثير، بل المنافقون قد يصومون ويصلون ويصدقون، ولكن لا يقبل منهم. قال الله تعالى : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً } [ النساء : 142 ] وقال تعالى : { قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ } [ التوبة : 53، 54 ] وقال تعالى : { إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا } [ النساء : 140 ] ، وقال تعالى : { يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ(37/75)
أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } إلى قوله : { فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا } [ الحديد : 12 : 15 ] .
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " آية المنافق ثلاث إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان " ولمسلم : " وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم " . وفي الصحيحين عنه أنه قال : " أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه
ص -269-(37/76)
خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر " .
ولكن إذا قال : لا إله إلا الله خالصًا صادقًا من قلبه ومات على ذلك فإنه لا يخلد في النار، إذ لا يخلد في النار من في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان كما صحت بذلك الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن من دخلها من فساق أهل القبلة من أهل السرقة، والزنا وشرب الخمر، وشهادة الزور وأكل الربا وأكل مال اليتيم، وغير هؤلاء - فإنهم إذا عذبهم الله فيها عذبهم على قدر ذنوبهم، كما جاء في الأحاديث الصحيحة : " منهم من تأخذه النار إلى كعبيه ومنهم من تأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من تأخذه إلى حقويه ومكثوا فيها ما شاء الله أن يمكثوا، أخرجوا بعد ذلك كالحمم، فيلقون في نهر يقال له الحياة، فينبتون فيه كما تنبت الحبة في حميل السيل، فيدخلون الجنة مكتوب على رقابهم : هؤلاء الجهنميون عتقاء الله من النار " . وتفصيل هذه الجملة لا يحتمله هذا الموضع، والله أعلم .
قال العراقي: النقل الثامن والثلاثون: قال الشيخ تقي الدين في الفرقان: "وليس من شرط ولي الله أن يكون معصومًا لا يغلط ولا يخطئ، بل يجوز أن يخفي عليه بعض علم الشريعة، ويجوز أن يشتبه عليه بعض أمور الدين، حتى يحسب بعض الأمور مما أمر الله به ويكون مما نهى الله عنه، فيجوز أن يظن في بعض الخوارق أنها من كرامات الله لأوليائه، وتكون من الشيطان لبسها عليه لينقص من درجته، ولا يعرف أنها من الشيطان وإن لم يخرج بذلك عن ولاية الله؛ فإن الله تجاوز لهذه الأمة عن الخطأ فقال تعالى : {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [ البقرة : 285، 286 ] . وثبت في الصحيحين من حديث أبى هريرة وعمرو بن العاص: " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر " فلم(37/77)
يؤثم المجتهد المخطئ، بل جعل له أجرًا على اجتهاده، وخطأه مغفور.
ثم قال العراقي: "النقل التاسع والثلاثون: قال الشيخ تقي الدين في
ص -270-
اقتضاء الصراط المستقيم: "ثم هذا التحريم والكراهية قد يعلمه الداعي وقد لا يعلمه على وجه يعذر فيه، بأن يكون مجتهداً أو مقلداً، والمجتهد والمقلد اللذين يعذران في سائر الأعمال، وغير المعذور قد يتجاوز عنه في ذلك الدعاء لكثرة حسناته، وحسن قصده أو لمحض رحمة الله به" انتهى.
ثم قال: النقل الأربعون: قال الشيخ في هذا الكتاب أيضاً: "فمن ندب إلى شيء يتقرب به إلى الله، وأوجبه بقوله أو فعله من غير أن يشرعه الله فقد شره من الدين ما لم يأذن به الله، ومن اتبعه في ذلك فقد اتخذه شريكاً لله، نعم قد يكون متأولاً في هذا الشرع، فيغفر له لأجل تأويله، إذا كان مجتهداً الاجتهاد الذي يعفى معه عن المخطئ، ويثاب على اجتهاده. لكن لا يجوز اتباعه في ذلك, وإن كان القائل أو الفاعل مأجوراً أو معذوراً ـ إلى أن قال بعد كلام قليل ـ: ثم قد يكون كل منهما معفواً عنه الاجتهاده ومثاباً على الاجتهاد، فتخلف عنه الذنب لفوات شرطه، ولوجود ماعه.
والجواب عن هذا كله قد تقدم:
ولم يأت العراقي بمزيد حجة، بل هو من جنس ما قبله تحريف ظاهر ونقل لا حجة فيه.
فأما ما نقله عن الفرقان فحقّ، لكن ليس من مسألة النزاع في شيء، بل حاصله: أنه لا تشترط العصمة في الولي، ولا العلم بكل ما يحتاجه ويرد عليه، والفرق في جميع الجزئيات الواردة بين أمر الله ونهيه، وأنه ربما ظن في بعض الخوارق أنها كرامة، وهي تلبيس من الشيطان، وأن هذا قد يغفر مع الخطأ والنسيان.
فأي دليل في هذا على أن الولي يدعو أهل القبور ويستغيث بهم، ويوكل عليهم ويجعلهم وسائط بينه وبين الله في حاجاته وملماته؟ ولا يقاس الخطأ في أصل الدين وشهادة أن لا إله إلا الله بالخطأ في غيره. فأي حجّة في هذا؟ ولا يلزم من المغفرة في هذا أن يغفر الشرك الأكبر، وقد(37/78)
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} الآية [النساء: من الآية48]. وهذا
ص -271-
الأحمق من المحن على كلام أهل العلم، يضعه في غير موضعه، فيزيل بهجته ويكدر صفوه.
وأما حديث أبي هريرة: "إذا اجتهد الحاكم ـ إلى آخره" فقد تقدم الجواب عنه.
وقوله في النقل التاسع والثلاثين: "ثم هذا التحريم والكراهة قد يعلمه الداعي، وقد لا يعلمه على وجه يعذر فيه، بأن يكون مجتهداً أو مقلداً، فقد قيد هذا الكلام بأن المراد ما يعذر فيه. وليس كل الذنوب وكل الخطأ يعذر فيه. قد تقدم تقرير هذا.
وقوله: والمعذور قد يتجاوز عنه، فهو مما يدل على أن كلام الشيخ فيما دون الشرك الأكبر، فإن الشرك الأكبر لا يغفر بنص القرآن، وإجماع الأمة. فلا يحمل كلام أهل العلم على ما يخالف الكتاب والسنة.
وأما قوله في النقل الأربعين من قوله: فمن ندب إلى شيء يتقرب به إلى الله وأوجبه بقوله أو فعله من غير أن يشرعه الله فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله، ومن اتبعه في ذلك فقد اتخذه شريكاً لله، فهذا هو عين ما نقمه المسلمون على العراقي وأمثاله من الدين الذي دعا به إلى دعاء الصالحين والاستغاثة بهم، وجعلهم وسائط بينهم وبين الله، فهؤلاء الضلال ممن شرع من الدين ما لم يأذن به الله، ومن أطاعهم في فعل الشرك الذي أجمعت الرسل والكتب السماوية على تحريمه، فقد اتخذهم أرباباً من دون الله فكيف ينقل هذا من افترى على الكذب، وكتب خمسين دليلاً على جواز الاستغاثة بالأموات بزعمه وأنها مستحبة؟ فقاتله الله ما أعمى بصيرته وما أغلظ جهله.
وإن كان تمسكه بقول الشيخ: نعم قد يكون متأولاً في هذا الشرع فيغفر له لأجل تأويله إذا كان مجتهداً الاجتهاد الذي يعفى معه عن المخطئ ـ فهذا الكلام ليس فيه يتمسك به العراقي؛ لأنّ التأويل والاجتهاد فيما قد يخفى، وأي خفاء فيما دلت عليه شهادة أن لا إله إلا الله
ص -272-(37/79)
من توحيد الله وترك الشرك به؟ ولذلك قال الشيخ: إذا كان مجتهداً الاجتهاد الذي يعفى معه عن المخطئ، يعني وأما ما لا يعفى معه عن المخطئ فيعاقب ولا يعذر، بل يذم وتجري عليه الأحكام الشرعية، وقد تقدم تقرير هذا مراراً، والعراقي يتشبع بما لم يعط ويتكثّر بما ليس له.
قال العراقي في النقل الحادي والأربعين: قال ابن القيم في الداء والدواء:
ص -273-
فصل
: وأما الشرك في العبادة فهو أسهل من هذا الشرك ـ يعني شرك من تجعل مع الله إلها آخر ـ وأخف أمراً فانه يصدر ممن يعتقد أن لا إله إلا الله، ولا يضر ولا ينفع ولا يعطى ولا يمنع إلا الله، وأنه لا إله غيره ولا رب سواه، ولكن لا يخلص لله في معاملته وعبوديته. بل يعمل لحظ نفسه تارة، ولطلب الدنيا تارة، ولطلب الرفعة تارة، والمنزلة والجاه عند الخلق تارة، فلله من عمله وسعيه نصيب، ولنفسه وحظه وهواه نصيب، وللشيطان نصيب، وللخلق نصيب. هذا حال أكثر الناس، وهو الشرك الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلّم فيما رواه ابن حبان فى صحيحه: "الشرك فى هذه الأمة أخفى من دبيب النمل. قالوا: وكيف ننجوا منه يا رسول الله؟ قال: قل اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم".
فالرياء كله شرك ـ إلى أن قال ـ:
ص -274-(37/80)
فصل:
ويتبع هذا الشرك: الشرك به سبحانه فى الاقوال والأفعال والإرادات والنيات، فالشرك فى الأفعال كالسجود لغيره والطواف بغير بيته وحلق الرأس عبودية وخضوعا لغيره وتقبيل الاحجار، وتقبيل القبور واستلامها والسجود لها. وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلّم من اتخذ قبور الانبياء والصالحين مساجد يصلى لله فيها فكيف بمن اتخذ القبور أوثانا يعبدها من دون الله؟" إلى آخر ما قال.
فانظر إلى إقراره أن الشرك في المعاملة والعبادة يصدر ممن يعتقد أن لا إله إلا الله، وأنه لا ينفع ولا يضر، ولا يعطي ولا يمنع إلا الله، وأنه لا إله غيره ولا ربّ سواه وأنه يعمل لحظ نفسه وللخلق وللشيطان، ولطلب الدنيا. ثم قال: وهذا حال أكثر الخلق، وهذا الشرك يغفر بالاستغفار، كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلّم لأصحابه أنهم ينجون بقولهم: "اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم" حتى قال رحمه الله: ويتبع هذا الشرك ـ يعني شرك العبادة ـ السجود لغير الله والطواف بغير بيته، وتقبيل الأحجار والقبور، والسجود لها، فجعل كل هذه من جنس الشرك الأصغر الأول الذي أخبر أنه يصدر ممن يعتقد أن لا إله إلا الله، وأنه حال أكثر الناس، وأنه يغفر بالاستغفار، وبالاجتهاد والتقليد والتأويل والجهد، كما مرّ عنهما في مواضع متعددة.
والجواب أن يقال:
هذا النقل اعتراه تحريف وإلحاد، وصرف للكلام عن مدلوله، يتبين
ص -275-(37/81)
بسياق كلام الشيخ ابن القيم، فإنه لما تكلم على الكبائر رحمه الله، وتقسيم الذنوب إلى صغائر وكبائر، وأن الشرك أكبر الكبائر لمنافاته الحكمة المقصودة بإيجاد الخلق وتكلم على ذلك، فقال رحمه الله: ووقعت مسألة، وهي أن المشرك إنما قصد تعظيم جناب الربّ سبحانه وتعالى، وأنه لعظمته لا ينبغي لمثلي الدخول عليه إلا بالوسائط، والشّفعاء حكال الملوك، والمشرك لم يقصد الاستهانة بجناب الرّب، وإنما قصد تعظيمه، فلِمَ كان هذا القدر موجباً لسخطته وغضبه تبارك وتعالى، ومخلداً في النار، وموجباً لسفك دماء أصحابه، واستباحة حريمهم وأموالهم؟.
ويترتب على هذا سؤال آخر، وهو أنه هل يجوز أن يشرع الله سبحانه وتعالى لعباده التقرب إليه بالشفعاء والوسائل ليكون تحريم هذا إنما استفيد من الشرع أم ذلك قبيح في الفطر والعقول يمتنع أن تأتي به شريعة؟ بل جاءت الشريعة بتقرير ما في الفطر والعقول من قبحه الذي هو أقبح من كلّ قبيح. وأما الشرك في كونه لا يغفر من بين الذنوب.
فأجاب عن هذا كله بقوله: فنقول وبالله التوفيق والتأييد، ومنه نستمد العون والتسديد؛ فإنه من يهدي الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له: ولا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع.
الشرك شرك يتعلق بذات المعبود وأسمائه وصفاته وأفعاله، وشرك في عبادته ومعاملته، وإن كان صاحبه يعتقد أنه سبحانه وتعالى لا شريك له في ذاته ولا في صفاته، ولا في أفعاله.
والشرك الأوّل نوعان أحدهما: شرك التعطيل وهو أقبح أنواع الشرك، كشرك فرعون، إذ قال: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: من الآية23]، وقال: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ، أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً} [غافر: من الآية36ـ37].
والشرك والتعطيل متلازمان، فكل مشرك معطل، وكل معطل مشرك، لكن الشرك لا يستلزم أصل التعطيل، بل قد يكون المشرك مقراً بالحقّ(37/82)
سبحانه وتعالى وصفاته، ولكنه عطل حقّ التوحيد.
ص -276-
وأصل الشرك وقاعدته التي يرجع إليها: هو التعطيل، وهو ثلاثة أقسام:
تعطيل المصنوع عن صانعه، وخالقه، وتعطيل الصانع سبحانه وتعالى عن كماله بتعطيل أسمائه وأوصافه وأفعاله، وتعطيل معاملته عما يجب على العبد من حقيقة التوحيد. ومن هذا شرك طائفة أهل وحدة الوجود الذين يقولون ما ثمّ خالق ومخلوق، ولا ها هنا شيئان. بل الحقّ المنزه هو عين الخلق المشبه ومنه شرك الملاحدة القائلين بقدم العالم وأبديته: وإن لم يكن معدوماً أصلاً. بل لم يزل ولا يزال والحوادث بأسرها مستندة عندهم إلى أسباب ووسائط، اقتضت إيجادها، فسموها العقول والنفوس ومن هذا شرك ومن عطل أسماء الرب تبارك وتعالى، وأوصافه وأفعاله من غلاة الجهمية والقرامطة، فلم يثبتوا له اسماً ولا صفة، بل جعلوا المخلوق أكمل منه، إذ كمال الذات بأسمائها وصفاتها.
ص -277-(37/83)
فصل:
النوع الثاني: شرك من جعل معه إلها آخر ولم يعطل أسماءه وصفاته وربوبيته، كشرك النصارى الذين جعلوه ثالث ثلاثة فجعلوا المسيح إلها وأمه إلها.
ومن هذا شرك المجوس القائلين بإسناد حوادث الخير إلى النور، وحوادث الشر إلى الظلمة. ومن هذا شرك القدرية القائلين بأن الحيوان هو الذى يخلق أفعال نفسه وأنها تحدث بدون مشيئة الله؛ ولهذا كانوا أشباه المجوس. ومن هذا شرك الذي حاجّ إبراهيم فى ربه {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة: من الآية258]، فهذا جعل نفسه ندا لله عز وجلّ يحيي ويميت بزعمه كما يحيي الله ويميت، فألزمه إبراهيم صلى الله عليه وسلّم أن طرد قولك: أن تقدر علي الاتيان بالشمس من غير الجهة التي يأتي الله بها منها، وليس هذا انتقالاً كما زعم بعض الحذّاق، بل إلزام على طرد الدليل إن كان حقاً. ومن هذا شرك كثير ممن يشرك بالكواكب العلويات ويجعلها أربابا مدبرة لأمر هذا العالم كما هو مذهب مشركى الصائبة وغيرهم. ومن هذا شرك عبّاد الشّمس وعبّاد النار وغيرهم. ومن هؤلاء من يزعم أن معبوده هو الآله على الحقيقة. ومنهم من يزعم أنه أكبر الآلهة. ومنهم من يزعم أنه إله من جملة الآلهة وأنه إذا خصه بعبادته والتبتل إليه والانقطاع إليه أقبل عليه واعتزّ به. ومنهم من يزعم أن معبوده الأدنى يقربه إلى المعبود الذي فوقه، والفوقاني يقربه إلى من هو فوقه حتي تقربه الآلهة إلى الله سبحانه وتعالى فتارة تكثر الوسائط وتارة تقل
ص -278-(37/84)
فصل:
وأما الشرك فى العبادة فهو أسهل من هذا الشرك، وأخف أمراً فإنه يصدر ممن يعتقد أنه لاإله إلا الله. وأنه لا يضر وينفع ويعطى ويمنع إلا الله عزّ وجلّ. وأنه لا إله غيره، ولا ربّ سواه، ولكن لا يخلص لله معاملته وعبوديته، بل يعمل لحظ نفسه، ولطلب الدنيا تارة، ولطلب الرفعة والمنزلة والجاه عند الخلق تارة، فلله تعالى من عمله وسعيه نصيب. هذا حال أكثر الناس وهو الشرك الذي قال فيه النبي فيما رواه ابن حبان فى صحيحه: "الشرك فى هذه الأمة أخفى من دبيب النمل! قالوا: وكيف ننجوا منه يا رسول الله؟ قال: قل اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم" فالرياء كله شرك. قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110] أي كما أنه إله واحد لا إله سواه، فكذلك ينبغي أن تكون العبادة له وحده، فكما تفرد بالالهية يجب أن يفرد بالعبودية، فالعمل الصالح هو الخالى من الرياء المقيد بالسنة. وكان من دعاء أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "اللهم اجعل عملى كله صالحاً واجعله لوجهك خالصاً، ولا تجعل لأحد فيه شيئاً".
وهذا الشرك فى العبادة يبطل ثواب العمل، وقد يعاقب عليه، إذا كان العمل واجباً، فإنه ينزله منزلة من لم يعمله فيعاقب على ترك الأمر، فان الله سبحانه إنما أمر بعبادته خالصة، قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ
ص -279-(37/85)
وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} [البينة:5] فمن لم يخلص لله عبادته لم يفعل ما أمر به، بل يكون الذي أتي به شيء غير المأمور به فلا يصح ولا يقبل منه. ويقول سبحانه وتعالى: "أنا أغني الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملا أشرك معى فيه غيري فهو للذى أشرك معي وأنا منه برئ".
وهذا الشرك ينقسم إلي مغفور [وغير مغفور]، وأكبر وأصغر. والنوع الأول ينقسم إلى كبير وأكبر وليس شيء منه مغفور فمنه الشرك بالله في المحبة والتعظيم: أن يحب مخلوقاً كما يحب الله فهذا من الشّرك الذي لا يغفره الله، وهو الشّرك في الدين. قال سبحانه وتعالى فيه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة: من الآية165]، وقال أصحاب هذا الشرك لآلهتهم يوم القيامة وقد جمعتهم الجحيم: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ، إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:97ـ98]. ومعلوم أنهم ما سووهم به سبحانه وتعالى فى الخلق والرزق والاماتة والإحياء والملك والقدرة، وإنما سووهم به فى الحب والتأله لهم، والخضوع والذلة، وهذا غاية الظلم والجهل، فكيف يسوي التراب برب الارباب؟ وكيف يسوي العبد بمالك الرقاب؟ وكيف يسوي الفقير بالذات الضعيف العاجز بالذات المحتاج بالذات الذي ليس له من ذاته إلا العدم بالغنى بالذات القادر بالذات الذي غناه وقدرته وملكه وجوده وإحسانه وعلمه ورحمته وكماله المطلق التام من لوازم ذاته؟ فأي ظلم أقبح من هذا؟ وأيّ حكم أشد جوراً منه؟ حيث عدل من لا عدل له يخلقه كما قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1] فعدل المشرك من خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور بمن لا يملك لنفسه ولا لغيره مثقال ذرة فى السموات(37/86)
ولا فى الأرض فيا له من عدل تضمن أكبر الظلم وأقبحه.
ص -280-
فصل:
ويتبع هذا الشرك به سبحانه وتعالى فى الاقوال والأفعال والإرادات والنيات، والشرك فى الأفعال: كالسجود لغيره، والطواف بغير بيته، وحلق الرأس عبودية وخضوعاً لقبره، وتقبيل الأحجار غير الحجر الأسود الذى هو يمينه فى الأرض أو تقبيل القبور واستلامها، والسّجود لها وقد لعن النّبي صلى الله عليه وسلّم من اتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد يصلى لله تعالى فيها، فكيف بمن اتخذ أوثانا يعبدها من دون الله؟ ففى الصحيح عنه صلى الله عليه وسلّم أنه قال: "لعن الله اليهود والنصارى أتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، وفى الصحيح عنه صلى الله عليه وسلّم: "إنّ شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد"، وفي الصحيح أيضا عنه: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فأنى أنهاكم عن ذلك"، وفى مسند الإمام أحمد وصحيح ابن حبان عنه صلى الله عليه وسلّم: "لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج"، وقال صلى الله عليه وسلّم: "اشتد غضب الله علي قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، وقال صلى الله عليه وسلّم: "إن من كان قبلكم إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصورة أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة".
فهذا حال من سجد لله فى المسجد المتخذ على قبر فكيف حال من سجد للقبر نفسه؟ وقد قال صلى الله عليه وسلّم: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد" وقد حمى النبي جانب التوحيد أعظم حماية حتى نهى عن صلاة التطوع لله سبحانه عند طلوع الشمس وعند غروبها لئلا يكون
ص -281-(37/87)
ذلك ذريعة إلى التشبه بعباد الشمس الذين يسجدون لها فى هاتين الحالتين، وسد الذريعة فمنع الصلاة بعد العصر والصبح لاتصال هذين الوقتين بالوقتين اللذين يسجد المشركون فيهما للشمس. وأما السجود لغير الله فقال صلى الله عليه وسلّم: "لا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد إلا لله" ولا ينبغي فى كلام الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلّم للذي هو غاية الامتناع شرعاً، كقوله: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً} [مريم:92]، وقوله: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ، وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ} [الشعراء: 210ـ211]، وقوله عن الملائكة: وقوله: {مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} [الفرقان: من الآية18].
ص -282-(37/88)
فصل:
ومن الشرك به سبحانه وتعالى: الشرك فى اللفظ كالحلف بغيره، كما روى أحمد وأبو داود عنه صلى الله عليه وسلّم: "من حلف بغير الله فقد أشرك" صححه الحاكم وابن حبان، ومن ذلك قول القائل للمخلوق: ما شاء الله وشئت، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال له رجل: "ما شاء الله وشئت. قال: أجعلتني لله نداً؟! قل ما شاء الله وحده". هذا مع أن الله قد أثبت للعبد مشيئة لقوله تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير:28] فكيف بمن يقول: أنا متوكل على الله وعليك، وأنا فى حسب الله وحسبك، ومالى إلا الله وأنت، وهذا من الله ومنك، وهذا من بركات الله وبركاتك، والله لى فى السماء وأنت لي فى الأرض، أو يقول: والله وحياة فلان، أو يقول: نذر لله تعالى ولفلان، وأنا تائب لله ولفلان، وأرجو الله وفلانا ونحو ذلك؟ فوازن بين هذه الألفاظ وبين قول القائل: "ما شاء الله وشئت" ثم انظر أيها أفحش؟ يتبين لك أن قائلها أولى بجواب النبي صلى الله عليه وسلّم لقائل تلك الكلمة، وأنه إذا كان قد جعله لله نداً بها فهذا قد جعل من لا يداني الرّسول صلى الله عليه وسلّم في شيء من الأشياء ـ بل لعله أن يكون من أعدائه ـ نداً للربّ تعالى ربّ العالمين، فالسجود والعبادة والتوكل والانابة والتقوى والخشية والحسب والتوبة والنذر والحلف والتسبيح والتكبير والتهليل والتحميد والاستغفار وحلق الرأس خضوعاً وتعبداً والطواف بالبيت والدعاء كل ذلك محض حق الله عز وجل لا يصلح ولا ينبغي لسواه من ملك مقرب ولا نبي مرسل. وفى مسند الإمام أحمد رضي الله عنه: "أن رجلا أتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلّم وقد أذنب ذنباً، فلما وقف بين يديه، قال: اللّهم إنّي أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد فقال قد عرف الحق لأهله".
ص -283-(37/89)
فصل:
وأما الشرك فى الارادات والنيات فذلك البحر الذى لا ساحل له. وقلّ من ينجو منه، فمن أراد بعمله غير وجه الله تعالى ونوى شيئاً غير التقرب إليه، وطلب الجزاء منه فقد أشرك فى نيته وإرادته، والإخلاص: أن يخلص لله فى أقواله وأفعاله وإرادته ونيته. وهذه هى الحنيفية ملّة إبراهيم صلى الله عليه وسلّم التي أمر الله بها عباده كلهم ولا يقبل من أحد غيرها وهى حقيقة الإسلام {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85] وهى ملّة إبراهيم التي من رغب عنها فهو من أسفه السفهاء.
ص -284-(37/90)
فصل:
فإذا عرفت هذه المقدمة انفتح لك باب الجواب عن السؤال المذكور، فنقول ومن الله وحده نستمد الصواب:
حقيقة الشرك: هو تشبيه المخلوق بالخالق عز وجل، وهذا هو التشبيه فى الحقيقة لا إثبات صفات الكمال التي وصف الله تعالى بها نفسه، ووصفه بها رسول الله صلى الله عليه وسلّم فعكس من نكس الله قلبه وأعمى عين بصيرته فأركسه بنسبة الأمر وجعل التوحيد تشبيهاً، والتشبيه تعظيماً وطاعة. فالشرك تشبيه المخلوق بالخالق في خصائص الإلهية؛ فإن من خصائص الألهية: التفرد بملك الضر والنفع والعطاء والمنع وذلك يوجب تعلق الدّعاء والخوف والرّجاء والتوكل به وحده. فمن علق ذلك بمخلوق فقد شبهه بالخالق تعالى، وجعل من لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا فضلا عن غيره شبيها لمن الأمر كله له، فأزمة الأمور كلها بيديه، ومرجعها إليه. فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن لا مانع لما أعطى ولا معطى لما منع؛ بل إذ فتح لعبده باب رحمته لم يمسكها أحد وإن أمسكها عنه لم يرسلها إليه أحد. فمن أقبح التشبيه تشبيه هذا العاجز الفقير بالذات بالقادر الغني بالذات ومن خصائص الإلهية الكمال المطلق من جميع الوجوه الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وذلك يوجب أن تكون العبادة كلها له وحده والتعظيم والإجلال والخشية والدعاء والرجاء والانابة والتوكل والاستعانة
ص -285-(37/91)
وغاية الذل مع غاية الحب كل ذلك يجب عقلا وشرعا وفطرة أن يكون لله وحده. ويمتنع عقلا وشرعا وفطرة أن يكون لغيره. فمن جعل شيئاً من ذلك لغيره فقد شبه ذلك الغير بمن لا شبيه له ولا مثل له وذلك أقبح التشبيه وأبطله؛ ولشدة قبحه وتضمنه غاية الظلم أخبر سبحانه عباده أنه لايغفره مع أنه كتب على نفسه الرحمة.
ومن خصائص الألهية العبودية التي قامت على ساقين لا قوام لها بدونهما: غاية الحب مع غاية الذل هذا تمام العبودية وتفاوت منازل الخلق فيها بحسب تفاوتهم في هذين الاصلين. فمن أعطى حبه وذله وخضوعه لغير الله فقد شبهه به في خالص حقه وهذا من المحال أن تجيء به شريعة من الشرائع وقبحه مستقر في كل فطرة وعقل. ولكن غيرت الشياطين فطر أكثر الخلق وعقولهم وأفسدتها عليهم واحتالتهم عنها، ومضى على الفطرة الأولى من سبقت له من الله الحسنى فأرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه بما يوافق فطرتهم وعقولهم فازدادوا بذلك نوراً على نورهم يهدي الله لنوره من يشاء.
إذا عرفت هذا عرفت أن من خصائص الإلهية: السجود فمن سجد لغيره فقد شبه المخلوق به، ومنها التوبة فمن تاب لغيره فقد شبهه به. ومنها الحلف باسمه تعظيما وإجلالا فمن حلف بغيره فقد شبهه به هذا فى جانب التشبيه وأما فى جانب التشبه به، فمن تعاظم وتكبر ودعا الناس الى إطرائه فى المدح والتعظيم والخضوع والرجاء وتعليق القلب به خوفا ورجاء والتجاء واستعانة فقد شبه نفسه بالله ونازعه ربوبيته وإلهيته وهو حقيق بأن يهنيه الله عز وجلّ غاية الهوان ويذله غاية الذل ويجعله تحت أقدام خلقه وفى الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلّم قال: "يقول الله عز وجل: العظمة إزاري والكبرياء ردائي فمن نازعني واحدة منهما عذبته". وإذا كان المصور الذي يصنع الصورة بيده من أشد الناس عذابا يوم القيامة لقول النبي صلى الله عليه وسلّم: "أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون يقال لهم أحيوا ما خلقتم"، وفى الصحيحين عنه صلى(37/92)
الله عليه وسلّم أنه قال: "قال الله عز وجل ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقا كخلقي فليخلقوا ذرة
ص -286-
فليخلقوا شعيرة" فنبه بالذرة الصغيرة والشعيرة على ما هو أعظم منها وأكبر.
والمقصود أن هذا حال من تشبه به في خواص ربوبيته وإلهيته؛ ولذلك يغضب الله على من يتشبه به فى الاسم الذي لا ينبغي إلا له وحده، كملك الأملاك، وحاكم الحكام ونحوه. وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: "إنّ أخنع الأسماء عند الله تعالى شاهان شاه، ملك الملوك، لا ملك إلا الله تعالى". وفي لفظ: "أغيظ رجل علي الله تعالى رجل تسمى بملك الاملاك" فهذا مقت الله تعالى وغضبه على من تشبه به فى الاسم الذى لا ينبغي إلا له. وهو سبحانه وتعالى ملك الملوك وحده، وهو حاكم الحكام وحده، وهو الذى يحكم علي الحكام كلهم، ويقضي عليهم كلهم لا غيره.
ص -287-(37/93)
فصل
إذا تبين هذا فهنا أصل عظيم يكشف سر المسألة، وهو أن أعظم الذنوب عند الله تعالى إساءة الظن به فان المسيء به الظن قد ظن به خلاف كماله المقدس فظن به ما يناقض أسماءه وصفاته؛ ولهذا توعد سبحانه وتعالى الظانين به ظن السوء بما لم يتوعد به غيرهم، كما قال تعالى: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [الفتح: من الآية6]، وقد قال تعالى لمن أنكر صفة من صفاته: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت:23]، وقد قال تعالى عن خليله إبراهيم صلى الله عليه وسلّم صلى الله عليه وسلّم: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ، أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ، فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:85ـ87] أي فما ظنكم أن يجازيكم إذا لقيتموه، وقد عبدتم غيره وما ظنّكم بأسمائه وصفاته وربوبيته من النقص، حتى أحوجكم ذلك إلى عبودية غيره فلو ظننتم به ما هو أهله من أنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه غني عن كلّ ما سواه وكل ما سواه فقير إليه، وأنه قائم بالقسط على خلقه؛ وأنه المنفرد بتدبير خلقه لا يشركه فيه غيره، والعالم بتفاصيل الأمور فلا تخفى عليه خافية من خلقه، والكافي لهم وحده لا يحتاج إلى معين والرحمن بذاته فلا يحتاج في رحمته إلى من يستعطفه ما تخذتم من دونه أولياء تدعونهم وتتوسلون بهم إليه بزعمكم. وهذا بخلاف الملوك وغيرهم من الرؤساء فإنهم محتاجون إلى من يعرفهم أحوال الرعية وحوائجهم ويعينهم على قضاء حوائجهم وإلى من يسترحمهم ويستعطفهم بالشّفاعة
ص -288-(37/94)
فاحتاجوا إلى الوسائط ضرورة، لحاجتهم وعجزهم وضعفهم وقصور علمهم، فأمّا القادر على كل شيء الغني بذاته عن كل شىء، العالم بكل شيء، الرحمن الرحيم الذى وسعت رحمته كل شىء، فإدخال الوسائط بينه وبين خلقه تنقص بحق ربوبيته وإلهيته وتوحيده، وظن به ظن سوء وهذا يستحيل أن يشرعه لعباده، ويمتنع فى العقول والفطر وقبحه مستقر في العقول السليمة فوق كل قبح.
يوضح هذا أن العابد معظم لمعبوده متأله خاضع ذليل له، والرّب تبارك وتعالى وحده هو الذى يستحق كمال التعظيم والإجلال والتأله والخضوع والذل، وهذا خالص حقه فمن أقبح الظلم أن يعطى حقه لغيره ويشرك بينه وبينه فيه، ولا سيما إذا كان الذى جعل شريكه فى حقه هو عبده ومملوكه كما قال تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [الروم: من الآية28] أي إذا كان أحدكم يأنف أن يكون مملوكه شريك له فى رزقه فكيف تجعلون لى من عبيدي شركاء فيما أنا منفرد به، وهو الإلهية التى لا تنبغي لغيري، ولا تصلح لسواي؟ فمن زعم ذلك فما قدرني حق قدري ولا عظمني حق تعظيمي، ولا أفردني بما أنا منفرد به وحدي دون خلقى؛ فما قدر الله حق قدره من عبد معه غيره، كما قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67] فما قدر من هذا شأنه وعظمته حق قدره من أشرك معه فى عبادته من ليس له شأن من ذلك البتة، بل هو أعجز شىء وأضعفه فما قدر القوي العزيز حق قدره من أشرك معه الضعيف الذليل، وكذلك ما قدره حق قدره من قال: إنه لم يرسل إلى خلقه رسولاً، ولا أنزل كتاباً، بل نسبه إلى ما لا يليق به ولا يحسن منه، من إهمال(37/95)
خلقه وتركهم سدى، وخلقهم باطلاً وعبثاً، وما قدره حق قدره من نفى حقائق أسمائه الحسنى وصفاته العليا، فنفى سمعه وبصره وإرادته واختياره وعلوه فوق خلقه، وكلامه وتكليمه لمن شاء من خلقه بما يريد أو نفى عموم
ص -289-
قدرته وتعلقها بأفعال عباده من طاعتهم ومعاصيهم، فأخرجها عن قدرته ومشيئته خلقه، وجعلهم يخلقون لأنفسهم ما يشاءون بدون مشيئة الرّب تبارك وتعالى، فيكون فى ملكه ما لا يشاء، ويشاء مالا يكون تعالى الله عزّ وجلّ عن قوله أشباه المجوس علواً كبيراً، وكذلك ما قدره حق قدره من قال: إنه يعاقب عبده على مالا يفعله العبد ولا له عليه قدرة ولا تأثير له فيه البتة، بل هو نفس فعل الرّب جل جلاله، فيعاقب عبده على فعله هو، وهو سبحانه وتعالى الذي جبر العبد عليه، وجبره على الفعل أعظم من إكراه المخلوق المخلوق. فإنّ من المستقر في الفطر والعقول أن السيد لو أكره عبده على فعل أو الجأه إليه، ثم عاقبه عليه لكان قبيحا فأعدل العادلين وأحكم الحاكمين وأرحم الراحمين كيف يجبر العبد على فعل لا يكون للعبد فيه صنع ولا تأثير، ولا هو واقع بإرادته، بل ولا هو فعله البتة، ثم يعاقب عليه عقوبة الأبد؟ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. وقول هؤلاء شر من أشباه المجوس. والطائفتان ما قدروا الله حق قدره. وكذلك ما قدره حق قدره من لم يصنه عن بئر ولا حش ولا مكان يرغب عن ذكره، بل جعله فى كل مكان وصانه عن عرشه أن يكون مستوياً عليه، يصعد إليه الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه وتعرج الملائكة والروح إليه، وتنزل من عنده ويدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه فصانه عن استوائه على سرير الملك، ثم جعله فى كل مكان يأنف الإنسان، بل غيره من الحيوان أن يكون فيه. وما قد الله حق قدره من نفى حقيقة محبته ورحمته ورأفته ورضاه وغضبه ومقته، ولا من نفي حقيقة حكمته التي هي الغايات المحمودة المقصودة بفعله، ولا من نفى حقيقة فعله ولم يجعل له فعلا(37/96)
اختياريا يقوم به أفعال منقولات منفصلة عنه. فنفي حقيقة مجيئه وإتيانه واستوائه على عرشه وتكليمه موسى من جانب الطور، ومجيئه يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده بنفسه إلى غير ذلك من أفعاله وأوصاف كماله التي نفوها وزعموا أنهم بنفيها قدروه حق قدره.
وكذلك لم يقدره حق قدره من جعل له صاحبة
ص -290-
وولداً وجعله سبحانه يحل فى مخلوقاته أو جعله عين هذا الوجود، وكذلك لم يقدره حق قدره من قال: إنه رفع أعداء رسوله وأهل بيته، وأعلى ذكرهم، وجعل فيهم الملك والخلافة والعزة، ووضع أولياء رسوله وأهانهم وأذلهم وضرب عليهم الذلة أينما ثقفوا. وهذا يتضمن غاية القدح فى جناب الرّب تبارك وتعالى عن قول الرافضة علواً كبيراً. وهذا القول مشتق من قول اليهود والنصارى فى ربّ العالمين: إنّه أرسل ملكا ظالماً فادعى النبوة لنفسه وكذب على الله تعالى، ومكث زمانا طويلا يكذب عليه كل وقت ويقول: قال كذا وأمر بكذا ونهى عن كذا وينسخ شرائع أنبيائه ورسله ويستبيح دماء أتباعهم وأموالهم وحريمهم. ويقول: الله تعالى أباح لي ذلك، والرّب تبارك وتعالى يظهره ويؤيده ويعليه ويقويه ويجيب دعواته ويمكنه ممن يخالفه ويقيم الأدلة على صدقه ولا يعاديه أحد إلا ظفر به، فيصدقه بقوله وفعله وتقريره ويحدث أدلة تصديقه شيئا بعد شيء. ومعلوم أن هذا يتضمن أعظم القدح والطعن فى الرب سبحانه وتعالى وعلمه وحكمته ورحمته وربوبيته تعالى ربّنا عن قول الجاحدين علواً كبيراً.
فوازن بين قول هذا وقول إخوانهم من الرافضة تجد القولين:
رضيعى لبان ثدى أم تقاسما
باسحم داج عوض لا يتفرق(37/97)
وكذلك لم يقدره حق قدره من قال: إنه يجوز أن يعذب أولياءه ومن لم يعصه طرفة عين، [ويدخلهم دار الجحيم، وينعم أعداءه ومن لم يؤمن به طرفة عين] (1) ويدخلهم دار النعيم، وأن كلا الأمرين بالنسبة إليه سواء، وإنما الخبر المحض جاء عنه بخلاف ذلك فمعناه للخبر لا لمخالفة حكمته وعدله. وقد أنكر سبحانه وتعالى فى كتابه على من يجوز عليه ذلك غاية الإنكار، وجعل الحكم به من أسوأ الأحكام، وكذلك لم يقدره حق قدره من زعم أنه لا يحيى الموتى ولا يبعث من فى القبور، ولا يجمع خلقه ليوم يجازى فيه المحسن بإحسانه والمسيء فيه بإساءته، ويأخذ للمظلوم فيه حقه من ظالمه،
__________
(1) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع، فاستدرك من مدارج السالكين 1/98.
ص -291-(37/98)
ويكرم المتحملين المشاق فى هذه الدار من أجله وفى مرضاته بأفضل كرامته ويبين لخلقه الذي كانوا يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين.
وكذلك لم يقدره حق قدره من هان عليه أمره فعصاه، ونهيه فارتكبه وحقه فضيعه وذكره فأهمله وغفل قلبه عنه وكان هواه آثر عنده من طلب رضاه وطاعة المخلوق أهم عنده من طاعته. فلله الفضلة من قلبه وقوله وعمله وسواه المقدم في ذلك لأنه المهم عنده يستخف بنظر الله إليه وإطلاعه عليه بكل قلبه وجوارحه، ويستحي من الناس ولا يستحي من الله ويخشى الناس ولا يخشى الله، ويعامل الخلق بأفضل ما ما يقدر عليه، وإن عامل الله عز وجلّ عامله بأهون ما عنده وأحقره، وإن قام فى خدمة إلهه من البشر قام بالجد والإجتهاد وبذل النصيحة، وقد فرغ له قلبه وجوارحه وقدمه على كثير من مصالحه، حتى إذا قام فى خدمة ربه إن ساعده القدر قام قياماً لا يرضاه مثله لمخلوق من مخلوقاته، وبدا له منه ما يستحي أن يواجه به مخلوقاً مثله. فهل قدر الله حق قدره من هذا وصفه؟ وهل قدره حق قدره من شارك بينه وبين عدوه فى محض حقه من الإجلال والتعظيم والطاعة والذل والخضوع والخوف والرجاء؟ فلو جعل من أقرب الخلق إليه شريكاً في ذلك لكان ذلك جراءة وتوثبا على محض حقه واستهانة به وتشريكا بينه وبين غيره فيما لا ينبغي ولا يصلح إلا له سبحانه وتعالى، فكيف وإنما أشرك بينه وبين أبغض الخلق وأهونهم عليه وأمقتهم عنده، وهو عدوه على الحقيقة؛ فإنه ما عبد من دون الله إلا الشيطان كما قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ، وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يّس:60ـ61]، ولما عبد المشركون الملائكة بزعمهم وقعت عبادتهم في نفس الأمر للشيطان، وهم يظنون أنهم يعبدون الملائكة، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ(37/99)
أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ، قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ:40ـ41] فالشيطان يدعو المشرك إلى عبادته ويوهمهم أنه ملك، وكذلك
ص -292-
عبّاد الشمس والقمر والكواكب يزعمون إنهم يعبدون روحانيات هذه الكواكب وهي التى تخاطبهم وتقضي لهم الحوائج؛ ولهذا إذا طلعت الشمس قارنها الشيطان لعنه الله تعالى، فيسجد لها الكفار. فيقع سجودهم له، وكذلك عند غروبها. وكذلك من عبد المسيح وأمه لم يعبدهما وإنما عبد الشيطان فإنه يزعم أنه يعبد من أمره بعبادته وعبادة أمه ورضيها لهم وأمرهم بها، وهذا هو الشيطان الرجيم لعنه الله تعالى، لا عبد الله ورسوله عيسى عليه السلام. ونزل هذا كله على قوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} فما عبد أحدٌ من بني آدم غير الله كائناً من كان إلا وقعت عبادته للشيطان فيستمع العابد بالمعبود فى حصول غراضه ويستمتع المعبود بالعابد فى تعظيمه له وإشراكه مع الله الذي هو غاية رضا الشيطان ولهذا قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْأِنْسِ} من إغوائهم وإضلالهم {وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْأِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام:128].
فهذه إشارة لطيفة إلى السر الذي لأجله كان الشرك من أكبر الكبائر عند الله، وأنه لا يغفر بغير التوبة منه، وأنه يوجب الخلود فى النار، وأنه ليس تحريمه وقبحه بمجرد النهى عنه، بل يستحيل على الله سبحانه وتعالى أن يشرع عبادة إله غيره، كما يستحيل عليه تناقض(37/100)
أوصاف كمال ونعوت جلاله، وكيف يظن بالمنفرد بالربوبية والإلهية والعظمة والجلال أن يأذن فى مشاركته فى ذلك أو يرضى به؟ تعالى الله عز وجل عن ذلك علواً كبيراً" انتهى ما نقلته.
فقف وتأمل كلام الشيخ رحمه الله، فإنه فصّل وبيّن أن الشرك شركان، شرك تعطيل لذات الرب ولأسمائه وصفاته وأفعاله، وشرك في عبادته ومعاملته، وذكر أن هذا أيضاً تعطيل لمعاملته على العبد من حقيقة التوحيد.
ص -293-
ثم ذكر شرك أهل الوحدة، وشرك الملاحدة القائلين بقدم العالم، وشرك الجهمية والقرامطة، ثم ذكر النوع الثاني، وهو شرك من أشرك في العبادة والمعاملة كشرك النصارى، وشرك المجوس، وشرك القدرية، وشرك الذي حاجّ إبراهيم في ربه، وشرك من يشرك بالكواكب العلويات ويجعلها أرباباً مدبرة، وشرك عبّاد الشمس، وعبّاد النار وغيرهم.
قلت: ومنه شرك غلاة عباد القبور الذين يزعمون أن أرواح الموتى تدبر شيئاً من أمر هذا العالم كما صرّح به ابن جرجيس قاتله الله.
ثم قال الشيخ:
ص -294-(37/101)
فصل:
وأما الشرك فى العبادة فهو أسهل من هذا الشرك وأخف أمراً فانه يصدر ممن يعتقد أنه لا إله إلا الله، وأنه لا يضر ولا ينفع ولا يعطى ولا يمنع إلا الله عز وجلّ، وأنه لا إله غيره ولا رب سواه.
فذكر الشرك في العبادة والعمل لحظ النفس، وقرره واستدل عليه، ثم قال:
"وهذا الشرك ينقسم إلي مغفور وغير مغفور، وأكبر وأصغر. والنوع الأول ينقسم إلى كبير وأكبر وليس شيء منه مغفوراً. فمنه ـ أي من الشرك الأكبر ـ الشرك بالله في المحبة والتعظيم: أن يحب مخلوقاً كما يحب الله وهذا من الشّرك الذي لا يغفره الله، وهو الشّرك في الدين. قال سبحانه وتعالى فيه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} الآية [البقرة: من الآية165]، وقال أصحاب هذا الشرك لآلهتهم وقد جمعتهم الجحيم: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ، إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:97ـ98]. ومعلوم أنهم ما سووهم به سبحانه فى الخلق والرزق والاماتة والإحياء والملك والقدرة، وإنما سووهم به فى الحب والتأله لهم، والخضوع والذلة، وهذا غاية الظلم والجهل، فكيف يسوي التراب برب الارباب؟ وكيف يسوي العبد بمالك الرقاب؟ وكيف يسوي الفقير بالذات الضعيف العاجز بالذات المحتاج بالذات الذي ليس له من ذاته إلا العدم بالغنى بالذات القادر بالذات الذي غناه وقدرته وملكه وجوده وإحسانه وعلمه ورحمته وكماله المطلق التام من لوازم ذاته؟ فأي ظلم أقبح من هذا؟ وأيّ حكم أشد جوراً منه؟ حيث عدل من لا عدل له.
وترك العراقي هذا كله عناداً وصداً عن سبيل الله، واقتصر على أول
ص -295-(37/102)
الفصل، وهو الشرك في المعاملة لطلب الدنيا، والغالب أن فعله هذا وتركه لأنه عين فعل عبّاد القبور، وقد أصاب مقتله، وعدل عنه اختياراً، مع أنه جاهل بحقيقة الشرك في المعاملة والعمل لطلب الدنيا، فهذا عمل صورته لله وقصده فيه فاسد.
وأما القسم الذي ذكر الشيخ أنه لا يغفر وهو الشرك في المحبة والتعظيم ونحوه، فهذا صورته وحقيقته وقصد فاعله لغير الله، وفرق بين الشرك في النيات، والشرك في الأفعال، ولذلك مثل الثاني بالسجود لغير الله، والطواف بغير بيته، وحلق الرأس عبودية وخضوعاً لغيره، ثم قال:
ص -296-
فصل:
ومن الشرك به سبحانه وتعالى: الشرك في اللفظ كالحلف بغيره إلى آخر الفصل المتقدم ـ فهذا تركه العراقي عمداً لما فيه من التصريح بأن الحلف بغير الله شرك، والنذر لغيره شرك، والله المستعان.
وذكر الفصل من شرك الإرادات والنيات، وترك الفصل الذي بعده مع أنه قرر فيه أن الشرك تشبيه المخلوق بالخالق، وأن من خصائص الإلهية: التفرد بملك الضر والنفع والعطاء والمنع.
وذلك يوجب تعلق الدعاء والخوف والرجاء والتوكل به وحده فمن علق ذلك بمخلوق فقد شبهه بالخالق، وقرر تقريراً حسناً مفيداً من فرائد الدرر وعجائب الغرر، في الرد على عبّاد القبور الذين هم في محل النزاع، فراجعه في أول الجواب بعد خمسة فصول في المقدمة، تعرف به تحريف العراقي وأن الكلام في أول الفصل السادس في عباد القبور، ومن شابههم من أهل الشرك وتشبيه المخلوق بالخالق. فقف عليه إلى آخر ما نقلناه من كلامه ترى العجب العجاب من توحيد رب الأرباب، ,كشف زيغ كل جاهل مرتاب. ومن له فطنة ونفس ذكية يعرف هذا بأول نظرة، ويستبين له بأدنى لحظة، ومن لم يجعل الله له نوراً فلا يزداد بكثرة النقل والكشف إلا شكاً وحيرة، والله المستعان.
وقول العراقي: فانظر إلى إقراره بأنه يصدر ممن يعتقد أن لا إله إلا الله، وأنه لاينفع ولا يضر، ولا يعطي ولا يمنع إلا الله، وأنه يعمل لحظ
ص -297-(37/103)
نفسه ـ ثم قال: وهذا حال أكثر الخلق، وهذا الشرك يغفر بالاستغفار إلى آخر عبارته.
فهذا تلبيس وخلط، تقدم أن الكلام في الشرك الخفي كما بينه المصنف، وأما الشرك الأكبر فهو المراد بما بعد ذلك، فالعراقي مخلط لا يدري ما الناس فيه من أمر دينهم. ولا عرف المراد من كلام أهل العلم، فهو في ظلمة الجهل وأسر العادة التي نشأ عليها. لم يرتفع عن حضيضها الأسفل، ولا عرف ما كتب ونقل، والشرك في العبادة يطلق ويراد به الرياء والعمل لغير الله، وأما الشرك بالله فهو جعل إله آخر يسوي بينه وبين الله في العبادة، والكل شرك في عبادة الله، والمصنف أجمل أولاً، ثم فصّل وقسم، وبين أتم بيان، والمرتاب يتعلق بأدنى شبهة.
قال العراقي: النقل الثاني والأربعون في إغاثة اللهفان: "وأما نجاسة الشرك الأكبر الذي لا يغفر، فإن الله لا يغفر أن يشرك به، والمخففة الشرك الأصغر كيسير الرياء والتصنع للمخلوق، والحلف به وخوفه ورجائه" انتهى.
فجعل الحلف بالمخلوق والخوف والرجاء من المخلوق من جنس الشرك الخفيف ولم يجعله من المخرج من الملة.
والجواب أن يقال:
ليس النزاع معكم معاشر عبّاد القبور في خصوص الخلف، وخوف المخلوق ورجائه فيما يقدر عليه، بل النزاع في الشرك الأكبر الذي لا يغفر. وقد قرره ابن القيم في هذا الكتاب تقريراً حسناً، ونذكر نص كلامه ليتين إلحاد هذا الضال المفتري، فقد ذكر رحمه الله في الباب التاسع طهارة القلب، وأطال الكلام ثم قال:
ص -298-(37/104)
فصل:
وقد وسم سبحانه الشرك واللواط بالنجاسة والخبث في كتابه، دون سائر الذنوب، وإن كانت مشتملة على ذلك ـ ثم ساق الآيات في ذلك ـ، ثم قال: فأما نجاسة الشرك فهي نوعان، نجاسة مغلظة ونجاسة مخففة. فالنجاسة المغلظة: الشرك الأكبر الذي لا يغفر، والمخففة الشرك الأصغر كيسير الرياء والتصنع للمخلوق والحلف به وخوفه ورجائه.
وهذا حق لا نزاع فيه، فأما الحلف فنطلق عليه ما أطلقه رسول الله صلى الله عليه وسلّم من تسميته شركاً وكفراً. ولا نقول: شركاً وكفراً، ولا كفر أكبر بل ننتهي حيث انتهى الشارع، صلوات الله وسلامه عليه.
وقد قال ابن القيم في المدارج في الكلام على الحلف: قد يكون هذا شرك أكبر بحسب ما قام بقلب فاعله. وقد ذكر القاضي عياض وغيره: ولا شك أنه إذا قام بقلبه تعظيمه بالحلف كتعظيم الله، فهو شرك أكبر، وأكثر عبّاد القبور يعظمونهم ويحبونهم أشد من تعظيم الله وحبّه. ولا ينكر هذا إلا مكابر، وبعضهم يحلف بالله كاذباً مائة مرة ولا يحلف بشيخه ومن يعتقده كاذباً ولا مرة واحدة. ومن قال: إنّ هذا شرك أصغر فهو من أضل الورى، وأجهلهم بأصول الإيمان والهدى، وما يجب لله على عباده من التعظيم والحب والخوف والرّجاء.
واعلم أن الخوف والرّجاء فيما يقدر عليه المخلوق لا يكون بمنزلة
ص -299-(37/105)
الخوف والرجاء فيما لا يقدر عليه إلا الله. والعراقي التبس عليه الأمر، فإنه أجنبي عن مسائل التوحيد والإيمان.
وقال ابن القيم في الإغاثة ـ لما تكلم على ما في الصلاة عند القبور واتخاذها أعياداً من المفاسد ـ: "فمن مفاسد اتخاذها أعياداً: الصلاة إليها، والطواف بها، وتقبيلها واستلامها وتعفير الخدود على ترابها، وعبادة أصحابها، والاستعانة بهم، وسؤالهم النصر والرزق والعافية، وقضاء الديون، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفان وغير ذلك من أنواع الطلبات ـ إلى أن قال ـ:
وقد آل الأمر بهؤلاء الضلال المشركين إلى أن شرعوا للقبور حجاً، ووضعوا لها مناسك حتى صنف بعض غلاتهم في ذلك كتابا وسماه "مناسك حج المشاهد"، مضاهاة منه القبور للبيت الحرام، ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الاسلام ودخول في دين عُبّاد الأصنام".
قلت: ولعمر الله إنّ هذا بعينه ما عليه العراقي وشيعته، ولكنه مشبه قد أعمى الله بصيرته، وسيأتي مزيد تقرير لهذا في موضعه.
قال العراقي: النقل الثالث والأربعون: قال ابن القيم في الداء والدواء:
ص -300-(37/106)
منهاج التأسيس والتقديس في كشف شبهات داود بن جرجيس - عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ (4)
الناشر:
دار الهداية للطبع والنشر والترجمة
فصل:
وأما الشرك به سبحانه في اللفظ كالحلف به، وقول القائل: ما شاء الله وشئت ـ إلى أن قال ـ: وأما الشرك في الإرادات والنيات فذلك البحر الذي لا ساحل له، قل من ينجو منه.
قال العراقي: فانظر إلى قوله: إن الشرك في الإرادات والنيات هو البحر الذي لا ساحل له، ومع ذلك لم يحكم على فاعله وقائله وناويه بالشرك المخرج من الملة. فلو كان مخرجاً لما كان المسلمون إلا قليلين، بل أقل من كل قليل، حتى من يدعي التوحيد فإنّ النيات الفاسدة للمخلوق وابتغاء التقرب منه، وطلب الجزاء منه، بل والتذلل له والسجود له كالتعظيم للحكام وأهل الدنيا من أهل الأموال. فإن هذا لا ينجو منه إلا المخلصون، وقليل ما هم.
والجواب أن يقال:
قد تقدم هذا الفصل فيما نقلناه قريباً فراجعه، تعرف ما اعتراه من تحريف العراقي، وتقدم جوابه مفصلاً فراجعه إن شئت.
قال العراقي: النقل الرابع والأربعون: قال ابن القيم في بدائع الفوائد في قوله تعالى: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: من الآية89] ما نصه: كانوا يحاربون جيرانهم من
ص -301-(38/1)
العرب في الجاهلية ويستنصرون عليهم بالنبي صلى الله عليه وسلّم قبل ظهوره، فيفتح لهم وينصرون، فلما ظهر النبي صلى الله عليه وسلّم كفروا به وجحدوا نبوته، فاستفتاحهم به مع جحد نبوته مما لا يجتمعان؛ فإن كان استفتاحهم به لأنه نبي كان جحد نبوته محالاً، وإن كان جحد نبوته كما يزعمون حقاً كان استفتاحهم باطلاً. وهذا مما لا جواب لأعدائه عنه البتة" انتهى.
وذكر المفسرون أن استفتاحهم به ـ يعني اليهود ـ قبل ظهوره للوجود هو قولهم: اللهم بحرمة هذا النبي الذي يكون آخر الزمان انصرنا وافتح لنا، فينصرون ويفتح لهم، ورأيت في بعض حواشي البيضاوي نقلاً عن السعد التفتازاني قال: والأظهر أنهم كانوا يطلبون الفتح من الله عليهم متوسلين بذكره صلى الله عليه وسلّم ويجعلون اسمه شفيعاً" انتهى.
والجواب أن يقال:
ليس في كلام ابن القيم ما يدل على مسألة النزاع، وليس في كلام المفسرين ما يدل على ذلك، هل قال أحد: إنهم يسألونه الفتح والنصر على أعدائهم من المشركين وأن الآية دلت على هذا بوجه من الوجوه؟ هذا لا يقوله عاقل فضلاً عن المسلم فضلاً عن العالم، سبحان الله وتعالى عما يشركون، وإنما كان استفتاحهم به طلب الفتح بخروج محمد النبي الذي بشرت به الأنبياء وذكرت صفته ونعته في التوراة الذي أظل زمان خروجه، هذا الذي ذكره المفسرون كابن جرير، وابن كثير، وأمثالهم من الأئمة الذين إليهم المرجع في علم التأويل، وما نقله العراقي لم يقله المفسرون، وإنما نقله بعضهم كالفرطبي، فكلام العراقي مجازفة.
قال ابن كثير: يقول تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ} يعني اليهود {كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} وهو القرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلّم {مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} يعني من التوراة، وقوله: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} وقد كانوا من قبل مجيء الرسول بهذا الكتاب يستنصرون بمجيئه على أعدائهم من المشركين إذا قاتلوهم،(38/2)
يقولون: إنه سيبعث نبي في آخر الزمان نقاتلكم معه فنقتلكم قتل عاد وإرم. ثم ذكر حديث عاصم بن عمر، وذكر قول ابن عباس {يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا}
ص -302-
قال: "يستظهرون، يقولون: نحن نعين محمداً عليهم" ثم قال: وقال العوفي عن ابن عباس {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} يقول: "يستنصرون بخروج محمد صلى الله عليه وسلّم على مشركي العرب"، قال: وقال أبو العالية: "كانت اليهود تستنصر بمحمد صلى الله عليه وسلّم على مشركي العرب، يقولون: اللهم ابعث هذا النبي الذي نجده مكتوباً عندنا حتى نعذب المشركين ونقتلهم".
وهكذا ذكر غيره من المفسرين كابن جرير وغيره من أهل العلم والأثر، فهذه الأقوال أظهر مما نقله القرطبي، لم لو سلم تسليماً صناعياً فليس النزاع في سؤال الله بحرمة نبيه، هذه مسألة أخرى، كما تقدم، إنما النزاع في مسألة دعاء غير الله والطلب من سواه، فإيراد هذا مغالطة وخروج عن محل النزاع، دعاه إليه الإفلاس، وسيأتي الكلام على مسألة سؤال الله بحرمة عبد من عباده وقد تقدم بعض ذلك.
والاحتجاج بالآية على اليهود من جهة استفتاحهم قبل مبعثه صلى الله عليه وسلّم وكفرهم بعد مبعثه، وتقرير أنهم أهل تحكم وعناد وهوى ليسوا بأهل إيمان وصدق ومتابعة، فإن كان صدر منهم ما حكاه القرطبي، فليس هو تشريع لنا وأمر بأن نفعل ما فعلت اليهود كما زعمه العراقي.
قال العراقي: النقل الخامس والأربعون: قال الشيخ تقي الدين ابن تيمية: وقد اتفق العلماء على أنه لا تنعقد اليمين بغير الله تعالى كالملائكة والكعبة وأحد الشيوخ بل ينهى عنه إما نهي تحريم أو تنزيه. ولم يقل أحد إنه ينعقد اليمين بأحد من الخلق إلا في نبينا صلى الله عليه وسلّم، وعن أحمد في ذلك روايتان، وقد طرد بعض أصحابه كابن عقيل الخلاف في سائر الأنبياء، والقول بانعقاد اليمين بالنبي صلى الله عليه وسلّم شاذ، لم يقل أحد به فيما نعلم"(38/3)
انتهى.
ثم قال العراقي: فقد تبين أن الحلف بغير الله تعالى منهي عنه إما نهي تحريم أو تنزيه، بل رواية أحمد بن حنبل وغيره أنه مباح، وأما الحلف بالنبي صلى الله عليه وسلّم فذهب إلى أنه ينتعقد اليمين به، لأنه جزء الإيمان وعليه الفتوى، وطرد بعض أصحابه ذلك في جميع الأنبياء، وقول الشيخ رحمه الله: إن القول بانعقاد اليمين به شاذ لا ينبغي في حق الإمام أحمد، كيف يكون شاذاً، وقد
ص -303-
قاله إمام السنة وقامع البدعة الصديق الثاني: فلو كان وحده لكفى به بقوله سنداً، فكيف وقد قال تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر:72] فلو استند بظاهر الآية لكفى بقول الله حجة.
والجواب:
أن شيخ الإسلام ابن تيمية أدى ما عليه، حكى أن اليمين لا تنعقد بغير الله، وأنه منهي عنه ولم يستثن إلا نبينا، قال عن أحمد رواية بانعقادها به صلى الله عليه وسلّم وبين أن هذا شاذ لم يقل به أحد، وهذا ليس فيه ما يتمسك به مبطل؛ فإنه وإن حكى الخلاف فقد ضعفه، واختار القول الراجح الذي دلت عليه السنة المستفيضة، وجرى عليه العمل عند أهل العلم والحديث، وفي القرون المفضلة وقوله صلى الله عليه وسلّم: "من حلف بغير الله فقد أشرك" دليل شرعي على العموم، والرواية عن الإمام أحمد ذكر الشيخ أنها شاذة. لا توافق أصوله وقواعده، وما تواتر عنه، وهذا معنى الشذوذ.
وكلام العراقي واعتراضه على الشيخ جهل عظيم فإن الراوي الواحد إذا انفرد بقول أو رواية تخالف المعروف الثابت، وصف القول والرواية بالشذوذ، وقد حكموا على ما خالف المصحف العثماني من القراءات بالشذوذ، كقراءة ابن مسعود مع العلم بأنها ثابتة، قرأ بها من هو من أجل الصحابة وأعلمهم.
واستدلال العراقي بقوله تعالى {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} جهل عظيم بمعنى الآية، وما عليه أهل العلم. فإن الله تعالى يقسم بما شاء من خلقه، وقسمه به تشريف له، أو تنبيه على ما(38/4)
فيه من الآية والبرهان، ولا يقاس به غيره تعالى وتقدّس(1). وقد أقسم بالصافات والمرسلات
__________
(1) ليس في الآية قسم بالنبي صلى الله عليه وسلّم مطلقاً ولا بغيره، فهي أولاً خطاب للوط عليه السلام، فإن سياقها: {قَالَ هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ، لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ، فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ} [الحجر:71ـ73] فمن أين تكون لها علاقة بمحمد صلى الله عليه وسلّم ما هو إلا التقليد الأعمى وانسياق المتأخر وراء المتقدم بدون تفكير ولا تعقل، وليس معناها القسم، وإنما معناها العدة من الله بإطالة عمر لوط عليه السلام بعد إهلاك قومه، في الوقت الذي يخبر الله أنه سينقذ في قوم لوط العذاب والهلاك عاجلاً، وهذا هو المعنى اللائق بالقرآن وآياته ومقاصده، والله أعلم.
ص -304-(38/5)
والنازعات، أفيقال: بجواز الحلف بها مع أن الكلام فيما هو أعظم من الحلف والشرك الصراح؟ كالمحبة والخضوع والاستغاثة، والتوكل والإنابة، والركوع والسجود، وغير ذلك مما يختص بالملك الحق المعبود.
وأما الحلف فقد تقدم أن الشيخ محمداً وأتباعه لا يقولون: إنه كفر مخرج من الملة بل هم أهل علم وسنة يطلقون ما أطلق الشارع، ويتبعون ولا يبتدعون.
ثم قال العراقي: النقل السادس والأربعون: قال ابن قدامة تلميذ الشيخ ابن تيمية في كتابه مغني ذوي الأفهام: "ويكره الحلف بغير الله تعالى". انتهى.
جعل عليه علامة المذاهب الأربع على قانون رمزوه.
النقل السابع والأربعون: قال الشيخ ابن قدامة في كتابه المتقدم: "ويباح التوسل بالصالحين أحياء وأمواتاً".
ثم قال: النقل الثامن والأربعون: قال صاحب الإنصاف في التنقيح: "ويحرم حلفه بغير الله، وقيل: يكره، وعنه يباح" انتهى أي عن أحمد بن حنبل صاحب المذهب، ومذهبه: أن الحنث بالنبي صلى الله عليه وسلّم فيه الكفارة. وطرد ذلك ابن عقيل في جميع الأنبياء.
والجواب أن يقال:
مسألة الحلف بغير الله قد تقدم الكلام فيها، ومما ينبغي أن يعلم أن القائلين بالتحريم من الأئمة وأهل العلم لا يشق غبارهم لا صاحب مغني ذوي الأفهام ولا من هو أجل منه، ونحن لا ننكر أن بعض الناس قال بالكراهة.
وإنما النزاع في تصويب أحد القولين، وأيهما تشهد له الأحاديث النبوية؟ وقال شيخ الإسلام: يحرم الحلف بغير اسمه تعالى: قال ابن مسعود: "لأن أحلف بالله كاذباً أحبّ إليّ من أن أحلف بغيره صادقاً".
قال شيخ الإسلام: "معنى قول ابن مسعود: أن حسنة التوحيد أعظم من حسنة الصدق، وسيئة الشرك أعظم من سيئة الكذب".
ص -305-(38/6)
قلت: والكذب محرم بالإجماع، ولا يعرف عن الشارع صلى الله عليه وسلّم إطلاق الشرك والكفر على مكروه من المكروهات، ومن أطلق الكراهة من الأئمة فالأولى حمل كلامه على كراهة التحريم، إحساناً للظن بالعلماء، وليت هؤلاء القبوريين اقتصروا على ما فيه الخلاف، بل قد تقدم لك أنهم أتوا من الشركيات ما لم تأت به جاهلية العرب.
وأما ما ذكره في النقل السابع والأربعين فالجواب عنه من وجوه:
الأول: أن الواجب في مسألة النزاع ردها إلى الكتاب والسنة، ولا حجة في قول آحاد العلماء. ولا يصح نسبة هذا القول إلى المذهب، كما يعرفه من عرف قواعد المذهب في لزوم السنة وسد الذرائع.
الثاني: أن التوسل في عرف أهل العلم ليس هو التوسل في عرف العراقي وشيعته من عباد القبور، بل التوسل عندهم يطلق على المتابعة والاقتداء، ويطلق على سؤال الله بحق الأنبياء والصالحين. وليس النزاع في هذا كله، وإنما النزاع في اتخاذ الأنداد والآلهة، والتوسل بدعائهم والاستغاثة بهم والطواف بقبورهم.
الثالث: أن عمر بن الخطاب استسقى بالعباس، وتوسل بدعائه في الاستسقاء، ولم يأت القبر الشريف، ولم يتوسل به، لعلمهم بالسنة وأحكام الشريعة. وتوسل معاوية بيزيد بن الأسود، وهكذا أئمة الدين في كل عصر ومصر، يتوسلون بدعاء الصالحين والأخيار بالاستسقاء وغيره، ولم يقل أحد منهم إنه استسقى عند القبور ويتوسل بها عند الحوادث، هذا لا يقوله من شم رائحة الشريعة، وسلم من سوء المعتقد وخبث السريرة.
الرابع: أن الاحتجاج بقول صاحب مغني ذوي الأفهام جهل بقواعد المذهب واصطلاح أهله، فإن الكتب المعتمدة في الفتوى عندهم معروفة محصورة، وهي كتب أئمة المذهب ورجاله، الذين إليهم المرجع، وصاحب مغني ذوي الأفهام ليس هو الحافظ محمد بن أحمد بن عبد الهادي تلميذ شيخ
ص -306-(38/7)
الإسلام ابن تيمية، كما زعمه هذا الجاهل الغبي(1).
وأما النقل الثامن والأربعون: فقد تقدم أن العراقي ذكر هذا النقل في الثالث والعشرين، وكرره هنا لإيهام الجهال أنه كثير النقول.
النقل التاسع والأربعون: قال ابن عبد الوهاب في مختصر الشرح الكبير في باب الأيمان: ويكره الحلف بغير الله، ويحتمل أن يكون محرماً، وقيل: يجوز لأن الله أقسم بمخلوقاته، فقال {والنَّجْمِ}، و{الشَّمْسِ}، و{الضُّحَى}، و{اللَّيْلِ} وغير ذلك لقوله صلى الله عليه وسلّم: "أفلح وأبيه إن صدق"، وحديث أبي العشراء: "وأبيك لو طعنت في فخذها أجزأك"، ولنا قوله صلى الله عليه وسلّم: "من حلف بغير الله فقد أشرك" هذا ملخص ما قاله.
أمليته من حفظي حيث لم توجد النسخة عندي حال الكتابة فقوله: ويكره الحلف. وتقديمه الكراهة على التحريم دليل على أن المتقدمين كانوا مختارين كراهة التنزيه، حتى حكي قول التحريم بيحتمل، الدال على التضعيف. وذكر أن بعض أهل العلم قائل بالجواز وهي رواية عن الإمام أحمد، كما تقدم عن صاحب الإنصاف، وقوله: ولنا دليل على ما اختاره من الكراهة.
والجواب أن يقال:
قد كتبنا فيما تقدم من الرد المختصر أن العراقي دلس ولبس، ولم يأت بالعبارة على وجهها بل حرفها تحريفاً أحال عن معناها؛ فإن الشيخ ذكر الكراهة، ثم ذكر التحريم في أول كلامه نقلاً عن أهل المذهب، وذكر كلام ابن عبد البر، وحكاية الإجماع على التحريم، ثم قال: "وقيل" حكاه بصيغة التمريض ـ وأن القائل استدل بأن الله أقسم بمخلوقاته، وبقوله: "أفلح وأبيه إن صدق"، وبقوله في حديث أبي العشراء: "أما وأبيك لو طعنت في فخذها أجزأك" ثم تعقب الشيخ هذا، وذكر أن أحمد لم يثبت حديث أبي العشراء. واستدل بحديث عمر، وبحديث عبد الله بن عمر، وقرر أدلة التحريم، وذكر
__________
(1) بياض بالأصل بقدر سطرين وربع سطر.
ص -307-(38/8)
عن ابن عبد البر أن قوله: "أفلح وأبيه إن صدق" غير محفوظة من وجه صحيح، والحلف بغير الله تعظيم يشبه تعظيم الرب تبارك وتعالى.
وبهذا تعرف الراجح الذي اختاره الشيخ وغيره، والشيخ في كتاب التوحيد استدل على هذه المسألة وترجم عليها بقول الله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: من الآية22] وساق حديث ابن عمر، وقول ابن عباس في معنى الآية، ومنه: والله وحياتك.
قلت: ولأهل العلم عن حديث: "أفلح وأبيه"، وحديث أبي العشراء أجوبة معروفة في محلها، منها: أن هذا مما لا يقصد به اليمين، بل هو مما جرى على ألسنتهم من غير قصد، مثل قوله: "تربت يداك"، "ثكلتك أمك"، "ويح عمار" ونحو هذا.
وقيل: إن ذلك منسوخ، واستدل القائل بما لا يمكن دفعه وبعضهم تكلم في السند كما تقدم عن أحمد في حديث أبي العشراء، وقال النووي في الكلام على قوله صلى الله عليه وسلّم: "أفلح وأبيه إن صدق" هذا مما جرت به عادتهم يسألون عن الجواب عنه مع قوله صلى الله عليه وسلّم: "من كان حالفاً فليحلف بالله"، وقوله صلى الله عليه وسلّم: "إن الله يناهكم أن تحلفوا بأبائكم".
وجوابه: أن قوله صلى الله عليه وسلّم: "أفلح وأبيه" ليس هو حلفاً، إنما هو كلمة جرت عادة العرب أن تدخلها في كلامها غير قاصدة بها الحلف، والنهي إنما ورد فيمن قصد حقيقة الحلف، لما فيه من إعظام المخلوق ومضاهاته به سبحانه وتعالى. فهذا هو الجواب المرضي، وقيل: يحتمل أن يكون هذا قبل النهي عن الحلف بغير الله، والله أعلم.
قال العراقي: النقل الخمسون: قال ابن عبد الوهاب في مختصره: لو قال: "لعمري" أو "لعمرك" فليس بيمين في قول الأكثر، وقال الحسن في قوله: "لعمري" كفارة انتهى.
ومعلوم أن لعمري أو لعمرك قسم بغير الله بلا نزاع ولكن الأكثر ما أوجب
ص -308-(38/9)
فصل:
في ألفاظ كان يكره أن تقال: منها أن يقال: ما شاء الله وشئت، ومنها: أن يحلف بغير الله، صح عنه صلى الله عليه وسلّم أنه قال: "من حلف بغير الله فقد أشرك"، ومنها: أن يقول السيد لغلامه وجاريته: عبدي وأمتي، وأن يقول الغلام لسيده: ربي وربتي، ,ليقل السيد: فتاي وجاريتي، ويقول الغلام: سيدي وسيدتي" انتهى.
فانظر إلى تصريحه بالكراهة ولم يقل حرام ولا كفر قائلها كفراً مخرجاً من الملة.
والجواب أن يقال:
قد تقدم أن من نسب إلى الشيخ أو إلى أهل العلم من أتباعه أنهم كفروا بهذه الأشياء كفراً مخرجاً من الملة، فهو من أكذب الخلق وأجرأهم على الفرية، وقول الزور، وتقدم أن الشيخ ابن القيم قال: "من عظم مخلوقاً بالحلف تعظيماً كتعظيم الله فقد أشرك شركاً أكبر". وقال لما عدّ هذه الألفاظ ونحوها في شرح المدارج: "وقد يكون ذلك شركاً أكبر بحسب ما قام بقلب فاعله". وحديث ابن عمر صريح في إطلاق الكفر والشرك بالحلف بغير الله، فمن منع هذا الإطلاق فهو مشاق لله ولرسوله. ولكن ساق البخاري في صحيحه قول ابن عباس: "كفر دون كفر، وشرك دون شك، وظلم دون ظلم". وأما قول السيد لغلامه وجاريته: عبدي وأمتي، وقول الغلام والجارية: سيدي
ص -310-
وسيدتي، فلم يكفر بهذا مسلمم، كيف وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلّم أن يقال: سيدي ومولاي واعتراض العراقي على عبارة كشف الشبهات مصدره سوء فهمه وغلظ طبعه، وكثافة حجابه، وسيأتيك الكلام في هذا إن شاء الله مفصلا قريباً:
وكم من عائب قولاً صحيحاً
وآفته من الفهم السقيم(38/10)
نعم قول النبي صلى الله عليه وسلّم للوفد الذين قالوا له: أنت سيدنا: "السيد الله" حديث ثابت خرجه الأئمة، واحتج به أهل العلم، ولهم في الجمع بينه وبين أمره للغلام أن يقول لسيده: سيدي وسيدتي طرق.
منها: ترجيح حديث الرخصة للعبد والأمة، ويحتمل أن الرخصة خاصة بالعبد والأمة، لما لسيدهما من السيادة الخاصة، وأما العامة في مقام المدح والثناء فتختص بالمنع. وهذا الجمع فيه إعمال النص في مورده، ولعله أولى الأقوال، وهذا جوابنا عن نقله الثاني والخمسين.
وأما نقله الثالث والخمسون، فحاصله أن شيخنا رحمه الله ذكر في كتاب التوحيد حديث: "لا يقل أحدكم عبدي وأمتي، بل يقل: فتاي وفتاتي. ولا يقل العبد: ربي وربتي، وليقل: سيدي وسيدتي" وأنه ذكر في مختصر السيرة ومختصر الهدي النبوي: سيد بني فلان، وسيد بني فلان مرات متعددة.
ثم قال العراقي: فانظر إلى نقله هذا، وقد قال في كشف الشبهات له: "ليس معنى عندنا إلا الإله. فعلى هذا إذا قال أحد منا: يا سيدي أو سا مولاي، فكأنما قال: يا إلهي". فإذا كان لفظ السيد معناه الإله، كيف جاز له نقله في كتبه ولم يعترض على الرسول صلى الله عليه وسلّم في الحديث الصحيح الذي نقله: "وليقل العبد سيدي ومولاي"؟ وكيف ساغ له أن يقول في السيرة: سيد بني فلان، وفي أشخاص كفار، فضلا عن مسلمين أخيار، فهل هذا إلا تناقض؟ بل رأيت في كتب متعددة لبعض المعاصرين له أنه أحرق دلائل الخيرات؛ لأنّ
ص -311-(38/11)
فيها: اللهم صل على سيدنا ومولانا محمد، وأنه قال: من أكفر من صاحب الدلائل لتعبيره بهذ العبارة؟ والله أعلم بحقيقة الحال.
فتأمل كلام الشيخين وانظر كيف لم يتفوها بالشرك المخرج عن الملة. ولو لم يقيد لكان قولها واجب التأويل، لأن كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلّم إذا أطلقا يجب تأويلهما كما في آيات الوعيد،كقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: من الآية44] قال ابن القيم: "كفر دون كفر، وشرك دون شرك، وليس بالكفر المخرج عن الملة، كما ذهب إليه ابن عباس وأكابر السلف"، بل ورد إطلاق الشرك في حق سيدنا آدم عليه السلام الذي هو نبي معصوم، قال تعالى في حقه وحق حواء: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [لأعراف:190] فإن أكثر المفسرين على أنها مقولة بسبب تسمية آدم ابنه عبد الحارث، وهو إبليس والقصة معلومة. قال البغوي: كقول الرجل لضيفه: أنا عبدك، وليس الشرك الضار بالاتفاق، وكقوله صلى الله عليه وسلّم: "ثنتان هما في الناس كفر: الطعن في النسب والنياحة على الميت" رواه مسلم. وقد ذكر مسلم في أول صحيحه جملة أحاديث فيها إطلاق الكفر على المحرم وعلى المكروه، أولها العلماء بكفر النعمة، والمراد المستحل لهذه المعصية وهي متفق على تحريمها، فإذا كان كلام المعصوم الذي لا يترك من قوله: اتفق العلماء على تأويل إطلاقه ما يوهم الإخراج عن الملة، فكيف غير المعصوم ممن هو وسط طبقات العلماء إذا أطلق القول بذلك كيف لا يؤول كلامه؟ مع أنه ما قصر جزاه الله خيراً بل بين أتم بيان، فقد تحقق عندك من نقل عبارتهما أنهما لا يحكمان على أحد بالشرك أو الكفر إلا ومرادهما الأصغر ممن يعتقد الشهادتين، وهذا الأصغر لا يتحقق عندهما إلا بشروط أن لا يكون الفاعل مجتهداً، ولا مقلداً، ولا مؤولاً، وله له شبهات(38/12)
يعذره الله فيها ولا جاهلاً، ولا له حسنات تمحو هذه الخطيئة، ولم يبتل بمصائب مكفرة إلى غير
ص -312-
ذلك، كما قدمناه لك من كلامهما، ومن اتصف بشيء من هذه الأمور فهو مغفور له، ومثاب على فعله فقاتل الله من ينقل عنهما خلاف مذهبهما.
والجواب أن يقال:
سقنا كلام العراقي ليعلم الواقف عليه حاصل ما عند هذا المفتري وأنه في ظلمات الجهل والشرك والهوى، وفي كلامه من الهجنة واختلال النسق والنظام ما يستبين به أنه أجنبي عن هذه الصناعة، وأنه مزجي التجارة والبضاعة، فلله الحمد لا أحصي ثناء عليه، خذل هؤلاء الحيارى بعدله وحكمته، وأقام الحجة وواجب الشكر على أهل فضله ونعمته.
أما اعتراضه على شيخنا في قوله: "إن السيد يطلق بمعى الإله، وإن العرب تقصد من لفظ الإله ما يقصده كثير من أهل هذا الوقت بلفظ السيد" فهذا اعتراض باطل، نشأ من جهل المعترض باللغات والاصطلاحات والأوضاع العرفية، والعبرة بالمعنى والحقيقة وإن تغيرت اللغة، ونقلت لاصطلاح أو عرف، والاسم الواحد قد يختلف معناه لاختلاف مسماه فيكون له معنى في أصل اللغة ثم لا يخصه إلا الاصطلاح بمعنى أخص، ثم ينقله العرف الحادث والحكم يدور مع علته من عبد شيئاً وتألهه وقال: هذا مولى أو ولي أو سيد لم يغير ذلك الاسم حقيقته، وأنه إله معبود، وكلام الشيخ لايدل إلا على هذا، وليس فيه أن السيد في كل لسان وكل لغة يقصد بها الإله، هذا كذب وبهت على الشيخ، لم يقله ولا دل عليه كلامه، وهذا العراقي أفاك أثيم قد خلع جلباب الحياء والدين. وإنما قال الشيخ: إن المشركين الأولين كانوا يقصدون من لفظ الإله ما يقصده أهل زماننا بلفظ السيد، وهذا صحيح، فإن السيد عند أكثر المشركين في هذه الأزمان هو الذي يدعى ويستغاث به في الشدائد ويرجى للنوازل، ويحلف باسمه، وينحر له على وجه التعظيم والقربة. وبعضهم يطلق على ذلك اسم الولي، كما هو اصطلاح أهل مصر. وبعضهم يسمي هذا المعنى السر، فيقول: فلان فيه سر،(38/13)
ومن أهل السر.
ص -313-
وهذا مشهور معروف. والاصطلاحات تحدث واللغات تختلف، والفقهاء أطلقوا الأحكام المترتبة على المعاني والمقاصد وإن اختلفت الأسماء وتغيرت اللغات، في باب البيع والنكاح والردة والقذف والشهادة والحكم بالإسلام فيمن قال: صبأت ونحوه، وإن لم يحسن أن يقول: أسلمت، كما حكم صلى الله عليه وسلّم في بني جذيمة. والحكم أشهر من أن يذكر وسياق كلام الفقهاء يطول.
والشيخ لم يقل ما حكى العراقي عنه، وإنما قال ما حكينا، وإذا استعمل السيد في معناه اللغوي، فالشيخ أعقل وأعلم بالله وحدود ما أنزل على رسوله من أن يمنع ما تواتر نقله، واشتهر وضعه، وقاله الشارع المخبر عن الله، فقد ذكر في كتاب التوحيد جواز ذلك للعبد والأمة وإن منع مالك رحمه الله كما تقدم، والمقصود إبطال اعتراضه وبيان جهله وضلاله.
وأما قوله: "رأيت في كتب متعددة عن بعض المعاصرين أنه أحرق دلائل الخيرات إلى آخر عبارته" فيقال: لولا الجهل والهوى واختيار الضلال على الهدى لما نقلت كلام خصوم الشيخ المجاهرين له بالعداوة المصرحين له بالمسبة، ولما أقدمت على حكايته لما فيه من الافتراء بغير هدى ولا برهان.
وما زال أهل الشرك وأهل البدع وأهل الفجور، بل وأهل العداوات الدنيوية يرمي بعضهم بعضاً، ويفتري بعضهم على بعض، ومن عرف الناس تبين له حقيقة ذلك. ومن أعماه الهوى ضل عن سبيل الرشاد والهدى، وفي كلامه من الكذب نسبة التحريق للدلائل إلى الشيخ، وقد صرح رحمه الله في رسائله المعروفة أنه لم يحرقها(1)، وإنما أمر بالاشتغال بما ورد من الصيغ الشرعية(38/14)
__________
(1) بل الواجب على كل مسلم يدين دين الحق الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلّم من عند ربه أن يحرق هذه الدلائل شر تحريق، إنها من أعظم الطواغيت التي تدعو الناس للكفر بالله ورسوله بما فيها من الدعوة الصارخة الفاجرة إلى عقيدة الحلولية ووحدة الوجود التي هي أخبث شرك وأشنع وثنية، بل الواجب تحريق كل كتب الصوفية وأورادهم فإن لحمتها وسداها عقيدة الحلول ووحدة الوجود التي حقيقتها اعتقاد أن الأنبياء والأولياء أجزاء انفصلت عن الله بالفيض والانبثاق للنور الأول، وهي عقيدة الولدية والبنوة لله، وعليها تدور الصوفيه في جميع أدوارها، وإن تبرقعت حينا فقد أسفرت أحياناً، وسبحان الله تعالى عما يقول الصوفية علوا كبيراً.
ص -314-
والألفاظ النبوية في الصلاة والسلام على خير البرية، ونهى عن الغلو والإطراء الذي نهى عنه الشارع عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
وفي كلام العراقي من الكذب قوله: إنه أحرق الدلائل لأن فيها اللهم صل على سيدنا ومولانا، وإنما نهى عنها لما فيها من الغلو كما يعرفه من وقف عليها، وما فيها من الأحاديث التي لا تجوز نسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلّم، فتبين أن العراقي مخلط لا يدري ما يقوله:
إذا أنت لم تفقه ولم تدر ماالهدى
فأنت وعير في الفلاة سواء(38/15)
ومن الأكاذيب الظاهرة، نسبة قوله: "ومن أكفر من صاحب الدلائل لتعبيره بهذه العبارة"، فهذا من جنس ما قبله. وإذا اجتمع الضلال والهوى فقد استحكم البلاء والشقاء.
وأما قوله: فتأمل كلام الشيخين كيف لم يتفوها بالشرك المخرج عن الملة، فقد تقدم البيان والكشف عن شبهة هذا العراقي، وأن كلام الشيخين في كل موضع فيه البيان الشافي أن نفي التكفير بالمكفرات قولها وفعلها فيما يخفى دليله، ولم تقم الحجة على فاعله. وأن النفي يراد به نفي تكفير الفاعل وعقابه قبل قيام الحجة، وأن نفي التكفير مخصوص بمسائل النزاع بين الأمة، وأما دعاء الصالحين والاستغاثة بهم وقصدهم في الملمات والشدائد. فهذا لا ينازع مسلم في تحريمه أو الحكم بأنه من الشرك الأكبر، وتقدم عن الشيخ أن فاعله يستتاب فإن تاب وإلا قتل، كما في عبارة الرسالة السنية، وتقدم قوله: "من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم ويتوكل عليهم كفر إجماعاً"، وتقدم قوله في الرد على المتكلمين: "وهذا إذا كان في المسائل الخفية، فقد يقال إنه خفي عليهم، ولكنه يقع منه في مسائل يعلم الخاصة والعامة أن الرسول قد جاء بها ...إلخ"، وهذا عين كلام شيخنا الشيخ محمد بن عبد الوهاب ضاعف الله لنا وله الثواب، وأدخلنا وإياه الجنة بغير حساب، على رغم كل مبير وكذاب.
والعراقي لم يفقه هذا، لغلط فهمه وعدم علمه، بل هو يعتقد أن كلام
ص -315-(38/16)
أهل العلم وتقييدهم بقيام الحجة وبلوغ الدعوة، ينفي اسم الكفر والشرك والفجور ونحو ذلك من الأفعال والأقوال، التي سمّاها الشارع بتلك الأسماء، بل ويعتقد أن من لم تقم عليه الحجة يثاب على خطأه مطلقاً. وهذه من الأعاجيب التي يضحك منها اللبيب فعدم قيام الحجة لا يغير الأسماء الشرعية، بل يسمي ما سماه الشارع كفراً أو شركاً أو فسقاً باسمه الشرعي. ولا ينفيه عنه وإن لم يعاقب فاعله إذا لم تقم عليه الحجة، ولم تبلغه الدعوة، وفرق بين كون الذنب كفراً وبين تكفير فاعله.
فافهم هذا فإن العراقي خلط فيما مرّ، وخبط خبط عشواء، وسيأتيك في كلامه ما فيه عبرة لأولي الألباب.
وأما الثواب والأجر فنصوص الشارع وكلام أهل العلم وكلام الشيخين صريح في أن ذلك غير حاصل لكل مخطئ، بل هو مخصوص بمن اجتهد واتقى الله ما استطاع، وهذا في المسائل الاجتهادية، ومستنده قوله صلى الله عليه وسلّم: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر" وقد دل الحديث على أن هذا للحاكم المجتهد، ونفي المؤاخذة بالخطأ والنسيان لا يلزم منه الإثابة بالاتفاق.
فاستصحب هذا معك فيما مر وما يأتي من الأبحاث، فإن القوم زلت أقدامهم ولم يعقلوا عن الله ولا عن رسوله، ولا عن أهل العلم والإيمان ما يراد من الكلام في هذه المباحث، بل ولا في كل باب وشأن إلا أن يشاء ربي شيئاً.
وأما قوله: "بل ورد إطلاق الشرك في حق سيدنا آدم عليه السلام الذي هو نبي معصوم" فهذه العبارة من نوادر هؤلاء الضّلال، ومن أعجب ما يحكى ويقال، جزم بإطلاق الشرك على آدم عليه السلام، ثم قال: هو نبي معصوم ما زال هذا المعترض في مشيمة طبعه وجاهليته، ولم يولد بعد، هذا جمع بين النقيضين، وجهل لا يخفى على ذي سمع وعين، ومن قال بالعصمة مطلقاً فقد أول هذه الآية، وحملها على غير آدم كما هو معروف ومقرر عند أهل
ص -316-(38/17)
العلم والفتوى، ومن قال بوقوع ذلك من آدم وحواء نفى القول بالعصمة مطلقاً {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} [طه:115].
ثم في عبارة العراقي من الهجنة وسوء التعبير ما يقضي بأنه أسوأ الذرية وأقلهم أدباً مع الأب الأول الأكبر، كيف يقول: ورد إطلاق الشرك في حق آدم، والله تعالى يقول: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} [لأعراف: من الآية190]، والعراقي جاهلي اللسان أغلف الجنان، والله سبحانه لم يذكر آدم باسمه العلم رحمة منه وتشريفاً له، ولبنيه من صالح الأمم، بل أتى بالضمير الدال على التثنية وفرق بين ذلك وبين الأفراد في مثل هذا المقام، ولم يطلق الشرك بل قيده بقوله: {فِيمَا آتَاهُمَا}، والعراقي يقول: أطلق الشرك، فافهم ما في كلامه من الكذب على الله، وبهت أبيه آدم وعقوقه.
وأما قوله قال البغوي: "كقول الرجل لضيفه: أنا عبدك، وليس الشرك الضار".
أقول في جوابه: قد جنى هذا العراقي على البغوي جناية لا تقال عثرتها، ولا جبار لجرحها، أخذ كلامه وحرفه وأخرجه عن نسقه ونظامه، والبغوي أجل من أن يقول لشيء من الشرك: "ليس بضار بالاتفاق"، هذه لا تصدر عمن يعقل ما يقول فضلا عن الأكابر الفحول، وعبارة البغوي نصها: "أي جعلا له شريكاً إذ سمياه عبد الحارث ولم يكن هذا شركاً في العبادة، ولا أن الحارث ربهما، فإن آدم كان نبياً معصوماً من الشرك، ولكن قصد إلى أن الحارص ربهما. فإن آدم كان نبيّاً معصوماً من الشرك، ولكن قصد إلى أن الحارث كان سبب نجاة الولد وسلامة أمه، وقد يطلق اسم العبد على من لايراد به أنه مملوك، كما يطلق اسم الرب على من لا يراد به أنه معبود، كما أن الرجل إذا نزل به ضيف يسمي نفسه: عبد الضيف على وجه الخضوع لا على أن الضيف ربه، ويقول للغير: أنا عبدك، وقول يوسف عليه السلام لعزيز مصر: إنه ربي، لا يراد به أنه معبوده، وكذلك هذا"(38/18)
انتهى.
وحاصله أن الحقيقة لم تقصد، وإنما هو على سبيل التواضع، هذا
ص -317-
حاصل كلامه، فالعراقي حرف العبارة وزاد فيها ونقص، كما فعل بنقوله عن شيخ الإسلام، فالعراقي لا تؤمن بوائقه، فلا تغتر بنقله، ولا تأخذ عنه فإنه وضاع كذاب، محرف لا يؤمن على شيء من العلم.
وأما قوله، وكقوله صلى الله عليه وسلّم: "لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض"، وقوله: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر"، و"من أتى حائضاً فقد كفر"، وقوله: "ثنتان هما في الناس كفر"، فإن كان هذا عند العراقي كفراً ليس بضار لا يعاب على فاعله ولا يعار، فقد أراح خصمه من التعب والجواب، وأعلن بحقيقة ما عنده وما يذهب إليه في تلك المسائل الممتنعة الصعاب.
من كان هذا حاصله فهو ممن لم يتميز عن سائمة الأنعام، إلا بمجرد الصورة والهيولي، فإن هذه الألفاظ النبوية، والصيغ الشرعية، يجب الإيمان بها وتلقيها بالقبول والتسليم. وأهل العلم متفقون على أنها من كبائر الذنوب، بل من أفحش الكبائر؛ فإن إطلاق الكفر على الذنب أو على فاعله يدل على غلطه في نفسه، وعظيم فحشه، ولم يقل أحد من أهل العلم: إنه كفر غير ضار، بل ولا يقوله جاهل، ولا ذمي يؤمن بأحد الأنبياء. ولم تنته جهالتهم في هذا المبحث إلى ما انتهت إليه جهالة العراقي وضلالته، والذي حكاه الإمام أحمد وارتضاه تلقي هذه الأخبار بالإيمان والتسليم، وترك التعرض لتفسيرها كما ذكره في رسالته إلى مسدد بن مسرهد وغيرها، ونقله شيخ الإسلام وغيره، وبعض الناس تعرض لتأويلها وإنها من الكفر العملي لا الاعتقادي مع اعترافه بأنها من أغلظ الذنوب وأكبرها. وأما تأويلها بكفر النعمة فهو ضعيف جداً؛ إذ ما من معصية وذنب يفعله المكلف المختار إلا وفيه من كفر النعمة بحسبه، والشكر هو استعمال النعمة في طاعة معطيها ومسديها، مع محبته والرضا عنه، والثناء بها عليه، والشكر ضد الكفر فمن أخل بشيء من الشكر ففيه من كفر النعمة بحسب ذلك. فتحصل(38/19)
أن كفر النعمة لا يختص بما أطلق عليه الشارع الكفر من الأفعال، فلا بدّ للنص من معنى يخصه وحكمة في تخصيص بعض الأفراد. وهذا معلوم بالشرع والفطرة، إذ تخصيص بعض أفراد الجنس بحكم من غير
ص -318-
مخصص يقتضي ذلك تحكم محض، وترجيح بلا مرجح.
وأما قوله: وذكر مسلم أحاديث فيها إطلاق الكفر على المحرم وعلى المكروه ـ فقد كذب على مسلم، وكذب على الرسول صلى الله عليه وسلّم في زعمه أنه أطلق الكفر على المكروه بالمعنى الاصطلاحي الذي يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله، وإنما تطلق الكراهة في عرف القرآن والسنة على الكفر والشرك والكبائر وسائر المحرمات. كما في آية الإسراء وكما في الحديث: "ويكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال، وإضاعة المال".
وأما قوله: "وإذا كان كلام المعصوم الذي لا يترك من قوله ـ اتفق العلماء على تأويل إطلاق ما يوهم الإخراج من الملة، فكيف غير المعصوم؟".
فيقال: حكاية الاتفاق على ما ذكر تهور في الكذب على أهل العلم كافة، واقتحام لجرائم الوعيد المنصوص عليه بقوله تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النحل:105] وقوله: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} [الأحزاب:58]، وقد حمى الله أهل العلم عن الاتفاق على تأويل الاطلاقات النبوية من غير نص يجب المصير إليه، وقد تقدم عن الإمام أحمد أنه حكى عن السلف إمرار هذه الأحاديث كما جاءت من غير تعرض لتأويلها، ومن قال: هي كفر عملي لم يتأول، ولكنه يرى أن إطلاق الكفر على مثل ذلك حقيقة شرعية، كما يعلم بالوقوف على كلامهم رحمهم الله، فطالعها في أماكنها تجد ما قلناه، ويتضح لك ما قررناه.
وأما قوله في الشيخ وتلميذه: إنه من أوسط طبقات العلماء فكأنه يريد أنهما ليسا من الطبقة العليا، بل دون ذلك، وما أحس ما قال(38/20)
جرير:
ما أنت بالحكم الترضى حكمته
ولا الأصيل ولا ذي الرأي والجدل
وأما قوله: فقد تحقق عندك من نقل عباراتهما أنهما لا يحكمان على أحد بالشرك أو الكفر إلا ومرادهما: الأصغر ممن يعتقد الشهادتين ـ إلى أخره، فقد
ص -319-
تقدم لك البيان إن هذا جهل وتخبيط وضلال، وأنه لم يفهم كلام الشيخ ولم يعرف موضوعه وما أريد به، وكيف لا يحكم الشيخان على أحد بالكفر أو الشرك، وقد حكم به الله ورسوله، وكافة أهل العلم؟ وهذان الشيخان يحكمان أن من ارتكب ما يوجب الكفر والردة والشرك يحكم عليه بمقتضى ذلك وبموجب ما اقترف كفراً أو شركاً أو فسقاً إلاّ أن يقوم مانع شرعي يمنع من الاطلاق، وهذا له صور مخصوصة، لا يدخل فيها من عبد صنماً أو قبراً أو بشراً أو مدراً لظهور البرهان، وقيام الحجة بالرسل.
والعراقي أجنبي عن هذا كله، لا يدري ما الناس فيه، وإن ظن أنه من ورثة العلم وحامليه.
جهد المغفل في الزمان مضيع
وإن ارتضى أستاذه وزمانه
كالثور في الدولاب يسعى وهو لالا
يدري الطريق فلا يزال مكانه(38/21)
وقال العراقي: فقاتل الله من ينقل عنهما خلاف مذهبهما.
وهذا استفتاح من العراقي على نفسه، إذ هو الفاعل لذلك المجتهد في تحريف كلامهما وإخراجه عن موضوعه، ونقل ما لم ما لم يقولا ولم يذهب إليه ذاهب. قال تعالى: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} [إبراهيم:15] اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك، ونسألك موجبات رحمتك وعزائم معفرتك.
وهذه النقول التي تقدمت عن العراقي أكثرها مكرر لا يحتاج لمزيد جواب، وإنما قصدنا بما أوردنا من الإطناب في محله تنبيه السامع وإيقاظ الغافل، والإطناب يحسن في محله لحاجة السامع وضرورة الطالب، وفيما يهتم به من الأمور التي تشتد حاجة العبد إليها، كما يستفاد من أسلوب الكتاب العزيز الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42].
ثم إن العراقي بعد فراغه من نقوله شرع يستدل على جواز دعاء
ص -320-
الصالحين والاستغاثة بهم وطلب الحوائج منهم على أنهم واسطة بين العباد وبين الله في الحاجات والملمات والشدائد، وزعم أن هذا ليس بشرك وإنما هو توسل ونداء مستحب شرعاً، وذكر خمسين دليلاً يزعم أنها تدل على دعواه، وتنصر ما قاله وافتراه {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الصافات:180] وتعالى الله عمّا يقول الظالمون، وسنتكلم عليها بما يسره الله لضرورة اقتضت ذلك، وإن كنت لست من رجال تلك المناهج والمسالك.
ولكن البلاد إذا اقشعرت
وصوح نبتها رُعي الهشيم(38/22)
قال العراقي: الباب الثاني: في أدلة المجوزين للاستغاثة والتوسل بالأنبياء والصالحين والنذر لهم على أن المراد لوجه الله والثواب لهم، والحلف بغير الله، وما أشبه ذلك. وبيان أدلتهم من الكتاب والسنة وأفعال السلف الصالح وأقوالهم، وهذا الباب إنما نذكره ليتضح لك وجه استنادهم، ويتبين لك كون الشيخين يعذران فاعل ذلك لأجل هذه الأدلة، وقد ذكر جملة منها شيخ الإسلام ابن تيمية في عبارته السابقة، وقد تقدم عنه في اعتذاره عمن يفعل ذلك أنه لعله لم تثبت عنده النصوص، أو عارضها معارض عنده، وهذه الأدلة معارضة لأدلة المانعين فتكون لهم حججاً يعذرهم الله لأجلها.
اعلم أن المجوزين مرادهم جواز الاستغاثة بالأنبياء والصالحين أنهم أسباب ووسائل بدعائهم، وإن الله يفعل لأجلهم، لا أنهم الفاعلون استقلالا من دون الله فإن هذا كفر بالاتفاق، ولا يخطر ببال مسلم جاهل، فضلاً عن عالم، بل ليس هذا خاصاًَ بنوع الأموات، فإن الأحياء وغيرهم من الأسباب العادية كالقطع للسكين، والشبع للأكل، والري للماء، والدفء للبس؛ لو اعتقد أحد أنها فاعلة ذلك بنفسها من غير استنادها إلى الله يكفر إجماعاً.
ثم استدل العراقي بأن السبكي والقسطلاني في المواهب والسمهودي في تاريخ المدينة، وابن حجر في الجوهر المنظم، قالوا: والاستغاثة به صلى الله عليه وسلّم وبغيره في معنى التوسل إلى الله بجاهه ووسيلته، أو بأن يدعو الله كما في حال الحياة
ص -321-(38/23)
إذ هو غير ممتنع مع علمه بسؤال من سأله، والمستغيث يطلب من المستغاث به أن يحصل له الغوث من غيره، ممن هو أعلى منه، وليس لها في قلوب المسلمين غير ذلك، ولا يقصد بها أحد سواه، والمستغاث به في الحقيقة هو الله تعالى مستغاث، والغوث منه تسبباً وكسباً، ولا يعارض ذلك خبر أبي بكر الصديق رضي الله عنه: "قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلّم من هذا المنافق. فقال صلى الله عليه وسلّم: إنه لا يستغاث بي إنما يستغاث بالله" لأن في سنده ابن لهيعة والكلام فيه مشهور، وبفرض صحته فهو على حد قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [لأنفال: من الآية17]، وقوله صلى الله عليه وسلّم: "ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم" أي أنا وإن استغيث بي فالمستغاث به في الحقيقة هو الله تعالى وكثيراً ما تجيء السنة بمحو هذا من بيان حقيقة الأمر، ويجيء القرآن لإضافة الفعل إلى مكتسبه كقوله صلى الله عليه وسلّم: "لن يدخل الجنة أحد بعمله" مع قوله تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: من الآية32].
وبالجملة فإطلاق لفظ الاستغاثة لمن يحصل منه غوث ولو تسبباً وكسباً أمر معلوم، لا شك فيه لغة ولا شرعاً، فلا فرق بينه وبين التوسل حينئذ، فتعين تأويل الحديث لا سيما مع ما نقل أن في حديث البخاري في الشفاعة يوم القيامة: "فبينا هم كذلك استغاثوا بآدم، ثم بموسى، ثم بمحمد صلى الله عليه وسلّم". وقد يكون مع التوسل طلب الدعاء منه إذ هو يعلم بسؤال من سأله، ويتسبب هو بشفاعته ودعائه وذكر ابن تيمية فيما تقدم أن المصنفين في أسماء الله قالوا: يجب على المكلف أن يعلم أن لا غياث ولا مغيث على الحقيقة إلا الله، وأن الإغاثة وإن حصلت من غيره تعالى فهو مجاز، وحقيقة له تعالى، وقال أيضاً: "والاستغاثة بمعنى أن يطلب منه ما هو اللائق بمنصبه، لا ينازع فيها مسلم، ومن نازع فهو كافر أو ضال". وهذا كما ترى محافظة(38/24)
على التوحيد واتباعاً للوارد، فالإنكار ساقط بهذا الاعتبار، وقد ذكر المجوزون أن جعل النبي والصالح متسبباً لا مانع من ذلك شرعاً وعقلاً، لأن ذلك كله بإذن الله تعالى، ومن أقر بالكرامة من الصالحين كما هو مذهب أهل السنة والجماعة وأنها بإذن الله لم
ص -322-(38/25)
عنوان الكتاب:
الانتصار لحزب الله الموحدين والرد على المجادل عن المشركين
تأليف:
عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد العزيز أبابطين
دراسة وتحقيق:
الوليد بن عبد الرحمن الفريان
الناشر:
دار طيبة للنشر والتوزيع- الرياض- المملكة العربية السعودية
1409هـ - 1989م
الانتصار لحزب الله الموحدين والرد على المجادل عن المشركين
تأليف: عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد العزيز أبابطين
تحقيق: الوليد بن عبد الرحمن الفريان
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
واكب النضال المسلح في الجزيرة العربية إبان تطهيرها من فلول الهمجية - العثمانيون والمنتفعون بوجودهم من شذاذ الآفاق ومرتزقة البوادي (1)- في ا لعقد الرابع من القرن الثالث عشر, كفاح فكري متحفز قاده علماء البلاد وأشبال الدعوة السلفية الحرة.
بعد أن عمل الغزاة على تلويث عقول الجهلة والعوام, واستماتوا في دفعهم عن المنهج الأصولي بكل ما يملكون من فنون المكر والدجل والتضليل.
آملين أن يخمدوا جذوة التحرر, أو يفلحوا في تحجيم دور الدين الإسلامي وكبته وإلباس الناس ثوب العلمانية الكافر.
واتخذوا من نشر البدع والإغراق في الشعوذة والتخريف الصوفي, سبيلا لذلك. لكنها لم تجد في قلوب العقلاء متسعا, ولا في عقولهم تصديقا أو قبولا, فارتدوا على أعقابهم أوفر الخلق خيبة وخسارة.
واستطاع الإمام تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود (ت1249) أن يأخذ بزمام المبادرة, بفضل الله ثم بفضل إيمانه العميق وحنكته وشجاعته، وصبره, وبفضل الرجال الأبرار المخلصين لله ثم للدين والوطن من أبناء نجد الشامخة الأبية.
__________
(1) ينظر مقدمة " الدلائل في حكم موالاة أهل الشرك" للشيخ سليمان بن عبدالله.
ص -5-(39/1)
وتمكن في سنوات قليلة من طرد المعتدي الآثم مجللا بالخزي والعار, وأن يوحد الجزيرة العربية في نظام سياسي متميز تحكمه شريعة الله وتسوده روح الوئام.
وكان للعلماء من أبناء الدعوة الدور البارز في بناء صرح الدولة, وإرساء نظامها والذود عن مكتسباتها, منذ انطلاق شرارة التوحيد والإصلاح (1).
في تلاحم فريد: شعاره الحب في الله, ودثاره الاحترام المتبادل والسعي الحثيث في إعلاء كلمة الله, ونشر الأمن وتخليص عقول الناس وأبدانهم من رق عبودية الخلق إلى عبودية الخالق وحده لا شريك له.
فأعادوا للإسلام هيبته التي خلفت لمعانها وافتقدت في الكثير من بقاع العالم, وأخذوا يشقون طريقهم بين الأمم في قوة وعنفوان, ففرح المسلمون بهم وتجدد بهم الأمل الذي طالما كان حلما بعيد المنال.
وهذه المنظومة الرائعة التي رافقت الدعوة منذ بزوغ نجمها المتألق, ومنذ ميثاق الدرعية الذي بني على أساس من نظرة الإسلام الشمولية للسياسية بنوعيها الداخلي والخارجي.
والمستمد من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسيرة الصحابة والتابعين وخلفاء الإسلام.
كانت هي السياج المنيع, والدرع الذي تحطم عليه الطغيان والظلم والاستبداد , وانهارت أمامه المطامع الشخصية وشهوة التفرد.
واستمر موكب الدعوة والدولة تحوطه المحبة وتظلله الرحمة وتسيره المبادئ(39/2)
__________
(1) حفظ لنا التاريخ صورة نادرة، دارت أحداثها بين كل من العالم المجاهد عبد الرحمن بن حسن والإمام تركي بن عبد الله، يرويها الشيخ المعمر عبد العزيز بن مرشد عن أستاذه العلامة عبد الله بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن. وملخصها: أنه بعد أن استطاع الشيخ عبد الرحمن الإفلات من المنفى بمصر، قصد مكة ثم انصرف إلى نجد مع حجاج القصيم، واستقر بها. ولما علم الإمام تركي بعودته بعث إليه يطلب منه القدوم إلى الرياض، ولم يستجب لطلبه، حتى تأكد من أنه ما قام إلا من أجل إقامة شرح الله وإحياء دينه، وحماية الدعوة المهيضة فوضع يده في يد الإمام تركي، واستمرت كتائب التوحيد تحمل الحب والطموح.
ص -6-(39/3)
ويقوده العدل والإنصاف, دون أن يسمح لواش أو كاذب مفتون أن يتسلل إلى صفائه ليعكره, أو طريقه ليعطله ويصرفه عن وجهته التي يحبها الله ورسوله وأهل الإيمان والفضيلة والغيرة والشرف.
والتأريخ أعظم شاهد على أهمية وحساسية هذه العلاقة الحميمة.
فحسبك أن تنظر إلى ما حدث هنا وهناك على امتداد الأدوار التاريخية المتعاقبة وسوف تجد مصداق ذلك ظاهر كرابعة النهار.
موضوع الكتاب:
هذا السفر حلقة من حلقات الجهاد العبق, وصفحة من صفحاته, اضطلع به رجال الدعوة وأبلوا فيه بلاءا حسنا منذ أن تعرضوا لأول كيد ووصلت إليهم طليعة الانحراف والتحجر. فقيضهم الله منافحين محتسبين حتى ردوا كيدهم وكشفوا عوار أقوالهم, وفضحوا مؤامراتهم.
وهكذا تسلسلت حلقات الحب والصدق والدعوة؛ لتستمر مسيرة الخير تنير للناس الطريق وتهديهم إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
والشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين, واجه كغيره من علماء تلك الفترة الحرجة, بعض الوجوه الكالحة التي استمرأت البدعة, وعشعش الانحراف في قلوبهم وعقولهم، فأصبحوا أسارى التخلف والتبعية.
فقام رحمه الله بواجبه, وأدى حق العلم الذي أئتمن عليه هو وإخوانه من أهل العلم والإيمان.
وهذا الكتاب الذي بين أيدينا، يحكي بصدق جانبا من جهاده.
وقد استهله بمقدمة ضافية, بين فيها الغاية من الخلق ومعنى العبودية ومقتضياتها, ومعنى كلمة التوحيد الخالدة.
وأوضح ضلال وتناقض من قال بأن كلمة لا إله إلا الله ترفع الحرج حتى وإن ارتكب الشرك وعبد غير الله.
ص -7-(39/4)
وأشار إلى أن من كيد الشيطان للمبتدعة سلب العبادة والشرك اسمهما من قلوبهم, حتى اختلطت عليهم المفاهيم, وساعدهم على ذلك بعض المغرضين.
ثم عقد فصلا ذكر فيه بعض الشبه التي تعلقوا بها, وبين أن مرتكب الشرك الأكبر ليس معذورا لجهله؛ وإلا للزم عليه أنه ليس لله حجة على أحد إلا المعاند.
وأفاض في تأكيد هذا الأصل العظيم, وأن حجة الله قائمة على الناس بإرسال الرسل, وإن لم يفهموا حجج الله وبيناته, ففرق بين فهم الحجة وقيام الحجة وعقد فصلا آخر أبان فيه عن أهمية معرفة حدود ما أنزل الله على رسوله, لاسيما حدود ما أنزله في الأسماء.
وأن منبع الضلال: الغلط في معرفة حقيقة الشرك الأكبر. وتعرض لبعض دعاويهم فأبطلها.
ثم عقد فصلا ثالثا" وسع الحديث فيه عن الجناية المترتبة على عدم فهم حدود ما أنزل الله, وأن دعوى أن الشرك هو الصلاة والسجود لغير الله فقط, مجرد مكابرة مكشوفة.
وفي الفصل الرابع: نافح عن شيخ الإسلام, وردَّ فيه تزوير وكذب الكاذبين بأنه يرى أن المتأول والمجتهد المخطئ والمقلد مغفور لهم ما ارتكبوه من الشرك والكفر.
ونعى بمرارة ما يفعله بعض علماء زمانه من تجويز الممارسات الشركية ومباركتها, وتعجب من إنكار بعض اليهود لما يرونه عند هذه المشاهد, مع إصرار من ينتسب إلى الإسلام عليها.
وبين في أثناء هذا الفصل" أنه لا يجوز للمسلم أن يحكم بكفر أحد حتى يثبت في حقه شروط التكفير وتنتفي موانعه.
وأنحى بعد ذلك باللائمة على من سهل للمشركين ما ارتكبوه, وجادل عنهم بالباطل, وأن هذا منتهى الجهل والظلم, وعقبه بحكم الذبح لغير الله والاستغاثة به
ص -8-(39/5)
ثم عقد فصلا خامسا: فرق فيه بين الكرامة وبين الأحوال الشيطانية وهوس الصوفية.
وختم كتابه بفصل سادس توجه فيه إلى المنتسبين للعلم، بأن عليهم أن يتجردوا عن الجهل والتعصب, ويكون مرجعهم كتاب الله وسنة رسوله, دون العوائد استحسانات الناس, ولا يستوحشوا من قلة السالكين, فإن أهل الحق هم القلة دائما.
أهمية الكتاب:
يأتي هذا البحث ليعالج أعمق القضايا المتعلقة بتوحيد الألوهية, الذي هو أعظم أنواع التوحيد قاطبة وأجدرها بالعناية والاهتمام, وليفضح ما تبقى من شبه المضللين المتداعية, وهي لا تعدو أن تكون زوابع عابرة قوامها التعنت والاستكبار, ومحركها المنافع الشخصية الدنيئة ويمكن تلخيص تلك الترهات فيما يلي:
1 – أنا لسنا مكلفين بالناس والقول فيهم.
2 – من قال: لا إله إلا الله, ما نقول فيه شيئا وإن فعل ما فعل.
3 – قول ابن تيمية: أن المتأول والمجتهد المخطئ والمقلد, مغفور لهم ما ارتكبوه من الشرك والكفر.
4 – قصة الذي أوصى أهله أن يحرقوه بعد موته, فجهل أن فعله كفر فلم يكفر.
5 – أن طلب الأموات ليس دعاء بل هو نداء.
وأنت ترى أنها ما بين دعوة إلى العجز والتواكل, وبين سوء فهم وكذب بين.
ولكن كما قال تعالى: { وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ}.
ص -9-(39/6)
المؤلف
نسبه ومولده:
هو العلامة الحافظ الفقيه أبو عبد الرحمن عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد العزيز أبا بطين العائذي القحطاني, من جذم عبدة المشهور. ولد في بلدة الروضة القريبة من المجمعة حاضرة أقليم سدير الواقع في منطقة نجد سنة 1194, أي قبل وفاة الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب باثنتي عشرة سنة.
أسرته:
نشأ في أحضان أسرة صالحة محافظة, وجهته منذ نعومته وطراوة عوده إلى طلب العلم وتحصيله وملازمة العلماء, حتى أدرك علما واسعا وهو بعدُ في ريعان الشباب, وساعده على ذلك قوة الذهن وسرعة الفهم والفطرة النقية.
شيوخه:
قرأ على العديد من علماء عصره ومن أبرزهم:
1 – الإمام الحافظ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب (ت1242).
2 – العلامة الورع عبد العزيز بن عبد الله الحصين (ت1237).
3 – الإمام الكبير حمد بن ناصر بن معمر (ت1225).
أعماله:
ولي القضاء في عهد سعود بن عبد العزيز بن محمد (ت1229) ثم نقله عبد الله بن سعود (ت1234) قاضيا على عمان.
وفي عهد الإمام تركي ولاه قضاء الوشم، ثم جمع له معه قضاء سدير,
ص -10-(39/7)
وفي عام 1248هـ انتقل إلى قضاء القصيم, حتى استقال من القضاء سنة 1270.
تلاميذه:
لم تشغله أعماله الوظيفية عن التعليم والدعوة, وهذا هو شأن العلماء حيثما حلوا وأينما سارت بهم الركاب. يبذرون في كل بلد وطئته أقدامهم طلابا يحملون العلم ويبلغونه لمن بعدهم. ومن تلاميذه:
1 – صالح بن عيسى.
2 – عبد الرحمن بن عبد الله بن أبا بطين, ابن المؤلف.
3 – محمد بن عبد الله بن حميد.
4 – عثمان بن بشر صاحب التأريخ المشهور.
أخلاقه وسجاياه:
كان رحمه الله زاهدا ورعا مكبا على العلم, معرضا عما سوى ذلك, وقورا دائم الصمت, باذلا نفسه للعلم والعلماء دون ملل أو تضجر, كريما سخيا قويا في الحق.
وفاته وأبناؤه:
استمر رحمه الله طوال حياته داعيا ناصحا ملتزما, إلى أن توفي سنة 1282 فانطوت بوفاته صفحة تنضح بالصلاح والتقوى والكرم.
وخلف من الأبناء الشيخ عبد الرحمن وعبد العزيز, ولكليهما عقب.
آثاره العلمية:
شارك في الكثير من العلوم وألف فيها, ومن آثاره:
1 – مختصر البدائع (1).
__________
(1) له نسخة بخط المؤلف عند آل مانع كما ذكر ابن بسام 2/574.
ص -11-(39/8)
2 – حاشية على شرح المتهى في الفقه.
3 – تأسيس التقديس (1)
4 – الانتصار وهو كتابنا هذا.
5 – رسالة في التجويد.
6 – فتاوى وتحريرات نشر أكثرها (2).
النسخ:
تجمع لدي عند الشروع في التحقيق ثلاث نسخ, وهي كما يلي:
الأولى: نسخة خطية تقع في نحو تسع عشرة ورقة ومسطرتها 25 سطرا محفوظة في مكتبة الرياض السعودية بدون رقم.
فرغ من كتابتها عبد الله بن فارس بن ناصر بن فارس بن إبراهيم آل سميح سنة 1278يوم الأربعاء من شهر شوال، وعلق على طرتها ما نصه: مال زيد بن محمد آل سليمان. وهي نسخة تامة مصححة ومقابلة ومكتوبة في حياة المؤلف ولذلك جعلتها أصلا.
الثانية: وتقع في نحو إحدى وعشرين ورقة ومسطرتها 25 سطرا, مكتوبة بقلم نسخي جيد مشكول أحيانا, ليس عليها اسم الناسخ ولا تاريخ النسخ. ويبدوا أنها كانت ضمن مجموعة إذ أن الورقة الأولى تبدأ برقم 78, وقد أمدني الأخ الكريم الشيخ عبد السلام العبد الكريم بمصورتها ورمزت لها بحرف(ع).
__________
(1) مطبوع سنة 1344 ورأيت له نسخة خطية جيدة في مكتبة الرياض السعودية رقم 411/86 في نحو سبع وثمانين ورقة بعنوان : كشف تلبيس داود بن جرجيس الكذاب الأفاك الداعي إلى الإشراك ببارئ كل محسوس!.
(2) ينظر في مصادر ترجمته" الدرر السنية" 12/75 و"مشاهير علماء نجد"176 و"علماء نجد خلال ستة قرون" 2/567.
ص -12-(39/9)
الثالثة: مطبوعة نشرتها دار العربية للطباعة ببيروت, بعناية الشيخ عبد الملك بن إبراهيم، عن نسخة كتبها محمد بن عبد العزيز بن محمد سنة 1305 يوم السبت 24 من ذي الحجة كما هو مدون في آخر الرسالة. وفيها نقص وتحريف ورمزت لها بحرف(ط).
العنوان:
سجل على طرة الأصل وغلاف المطبوعة: كتاب الانتصار لحزب الله الموحدين والرد على المجادل عن المشركين.
وفي نسخة (ع): كتاب الانتصار لحزب الله الموحدين والرد على من يجادل عن المشركين. وهو فرق طفيف لا يكاد يسترعي الانتباه.
ويذكر ابن بشر في عنوان المجد (القسم المخطوط) أن الذي سماه بذلك هو بعض طلبته (1). لا المؤلف رحمه الله, وليس هذا ببعيد؛ فلم يكن علماء الدعوة ممن كانوا في عصره يهتمون كثيرا بوضع الأسماء لكتبهم.
التوثيق:
نص ابن بشر في عنوان المجد( القسم المخطوط) أن الشيخ عبد الله ألف كتاب الانتصار من أجل أن يكشف عن فساد الشبهة التي أثارها تلميذه داود بن جرجيس البغدادي (ت1299) ولبس بها على الناس.
ثم ألف كتابه الكبير تأسيس التقديس فتتبع فيه دعاويه وفندها وآهال عليها التراب (2).
وذكره العلامة ابن قاسم في الدرر السنية (3).
__________
(1) "علماء نجد خلال ستة قرون" 2/569.
(2) ينظر المرجع السابق.
(3) "الدرر السنية" 12/26.
ص -13-
منهج التحقيق:
اعتمدت نسخة مكتبة الرياض السعودية أصلا؛ لجودتها وقدمها وعارضت النسختين الأخريين بها, وأثبت ما بينها من فروق.
ولم أتصرف في النص إلا بحسب ما تمليه الضرورة من تعديل أو إضافة, مع الإشارة إلى ذلك في موضعه.
وقمت بعزو الآيات وتخريج الأحاديث والآثار, ورد النصوص إلى مصادرها ما استطعت إلى ذلك سبيلا, كما فسرت ما ظننته غامضا وترجمت لغير المشهورين.
أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يحفظ علينا ديننا ويجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
والحمد لله حمدا كثيرا كما يحب ربنا ويرضى.(39/10)
كتبه
الوليد بن عبد الرحمن آل فريان
الرياض – 27/4/1409هـ
ص -14-
بسم الله الرحمن الرحيم (1)
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه (2), ونعوذ بالله من شرور أنفسنا (3) وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
فقد قال الله تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } (4) – فلما أعلمنا الله سبحانه إنما (5) خلقنا لعبادته, وجب علينا الاعتناء بما خلقنا له علما وعملا- (6) وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } (7) الآية وقال تعالى : { وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا} (8) . قال ابن عباس رضي الله عنهما: كل ما في القرآن من الأمر بالعبادة فالمراد به التوحيد (9).
__________
(1) في الأصل أضيف : وبه نستعين وعليه اعتمادي،وأرجح أنه من صنع الناسخ.
(2) (ط) : ونتوب إليه. ساقط.
(3) (ع) (ط) : ومن.
(4) سورة الذاريات آية 56.
(5) (ع) (ط) :أنه إنما.
(6) ما بينهما معلق في هامش الأصل وبجواره كلمة صح.
(7) سورة البقرة آية 21.
(8) سورة النساء آية 36.
(9) ذكره البغوي في "التفسير"1/55.
ص -23-(39/11)
وبذلك أرسل (1) الله جميع الرسل. قال تعالى:{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ
إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (2) . وقال تعالى: { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } (3).
وكل رسول أول ما يقرع به أسماع قومه أن يقول: اعبدوا الله ما لكم من إله غيره.
وقال تعالى:{ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ } (4) قال مالك وغير واحد من المفسرين: كل ما عبد من دون الله فهو طاغوت (5), وقال عمر بن الخطاب وابن عباس رضي الله عنهم: الطاغوت الشيطان (6).
قال ابن كثير: وهو قول قوي جدا, فإنه يتناول كل (7) ما كان عليه أهل الجاهلية من عبادة الأوثان والتحاكم إليها والاستنصار بها(8) . ذكره على قوله: { فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ } (9) الآية.
__________
(1) (ع) : أمر.
(2) سورة الأنبياء آية 25.
(3) سورة الزخرف آية 45.
(4) سورة النحل آية 36.
(5) أخرجه ابن أبي حاتم كما في "الدر المنثور" 2/22.
(6) علقه البخاري في " الصحيح" 8/251(فتح) قال الحافظ: وإسناده قوي،وأخرجه الطبري في "التفسير" 5834, 5835، وأبو القاسم البغوي كما في "تفسير ابن كثير" 1/553 ، والفريابي، وسعيد بن منصور كما في "الدر المنثور"2/22.
(7) علق في هامش الأصل على هذه الكلمة ما نصه: كلما. إذا كانت ظرفا كتبت (ما) معها متصلة، نحو {كلما رزقوا منها من ثمرة}، وكلما جئتني أكرمتك. وإن كانت اسما كتبت منفصلة نحو: كل ما عندي لك ، وكل ما في الدنيا فان.اهـ .
(8) تفسير القرآن العظيم1/553.
(9) سورة البقرة آية256.
ص -24-(39/12)
قال النووي : قال الليث وأبو عبيدة والكسائي وجماهير أهل اللغة: الطاغوت كل ما عبد من دون الله (1).
وقال الجوهري: الطاغوت الشيطان وكل رأس في الضلالة, انتهى (2).
وما تضمنته هذه الآيات ونحوها من آي القرآن- من الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له, والنهي عن عبادة غيره- هو معنى لا إله إلا الله.
قال ابن جرير في الكلام على معنى لفظ الجلالة قال : وروي لنا, عن ابن عباس قال: أي هو ذو الألوهية والعبودية (3) على خلقه أجمعين (4).
وقال الجوهري في الصحاح: أله – بالفتح- إلاهة, أي: عبد عبادة.
قال: ومنه قولنا" الله. وأصله إلاه على وزن فعال, بمعنى مفعول؛ لأنه مألوه بمعنى معبود (5) قال: والتأليه التعبيد، والتأله التنسك والتعبد.
قال رؤبة (6): سبحن واسترجعن من تألهي (7) (8). انتهى (9).
وقال في القاموس: أله إلاهة وألوهة وألوهية : عبد/ عبادة، ومنه لفظ
__________
(1) " المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج" 3/18.
(2) "تاج اللغة وصحاح العربية" 6/2413.
(3) في " تفسير" الطبري والسيوطي : المعبودية.
(4) أخرجه الطبري في "التفسير" رقم 141، وابن أبي حاتم كما في "الدر المنثور" 1/23 وفيه بشر بن عمارة.
(5) "الصحاح"6/2223.
(6) علق في هامش الأصل ما نصه: رؤبة هو ابن العجاج التميمي الراجز من فصحاء العرب(البصرة) أخذ عن أبيه وغيره، وعنه أخذ يحيى القطان وطائفة كثيرة، وكان لغويا علامة وقته، توفي سنة خمس وأربعين ومائة من هجرة الرسول اهـ.
(7) علق في هامش الأصل: صدره : لله در الغانيات المده.
(8) "الديوان"/165.
(9) "الصحاح" 6/2224
ص -25-(39/13)
الجلالة، قال : وأصله إله بمعنى مألوه, وكل ما اتخذ معبودا, إله (1) عند متخذه. قال : والتأله التنسك والتعبد (2).
وفي المصباح: ألَه- من باب تعب – إلهة بمعنى عبد عبادة, وتأله تعبد, والإله المعبود وهو الله سبحانه. استعاره المشركون لما عبدوه من دون الله. انتهى (3).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الإله هو المعبود المطاع، فهو إله بمعنى مألوه.
وقال ابن القيم: الإله هو الذي تألهه القلوب محبة وإجلالا, وإنابة وإكراما, وتعظيما وخوفا, ورجاء وتوكلا (4).
وقال ابن رجب: الإله: هو الذي يطاع فلا يعصى, هيبة له وإجلالا ومحبة, وخوفا ورجاء وتوكلا عليه, وسؤالا منه ودعاء له, ولا يصلح ذلك إلا لله, فمن أشرك مخلوقا في شيء من هذه الأمور التي هي من خصائص الإلهية, كان ذلك قدحا في إخلاصه في قول (5) : لا إله إلا الله, ونقصا في توحيده, وكان فيه من عبودية المخلوق بحسب ما فيه من ذلك, وهذا كله من فروع الشرك (6).
وقال ابن هبيرة في الإفصاح (7) قوله: شهادة أن لا إله إلا الله
__________
(1) (ع) (ط) : فهو إله.
(2) "القاموس" 4/280.
(3) "المصباح المنير" للمقري1/24.
(4) نقله عنهما العلامة عبد الرحمن بن حسن في "فتح المجيد" /33 وانظر "الاقتضاء"2/846.
(5) (ط) :قول. ساقطة.
(6) كلمة الإخلاص للحافظ بن رجب /23.
(7) طبع قطعة من أوله في شرح حديث( من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين) استوعب مجلدين كبيرين.
ص -26-(39/14)
تقتضي أن يكون الشاهد عالما بأن لا إله إلا الله, قال تعالى:{ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ } (1) وينبغي أن يكون الناطق بها شاهدا فيها, فقد قال الله تعالى- ما أوضح به- أن الشاهد بالحق إذا لم يكن عالما بما شهد به, فإنه غير بالغ من الصدق به مع من شهد لك (2) بما يعلمه في قوله تعالى: { إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (3).
قال: واسم الله: مرتفع بعد إلا, من حيث أنه الواجب له الإلهية, فلا يستحقها غيره سبحانه.
قال: واقتضى الإقرار بها أن تعلم أن كل ما فيه أمارة للحدث فإنه لا يكون إلها, فإذا قلت: إلا إله إلا الله. اشتمل نطقك هذا على أن ما سوى الله ليس بإله، فيلزمك إفراده سبحانه بذلك وحده.
قال: وجملة الفائدة في ذلك: أن تعلم أن هذه الكلمة هي مشتملة على الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، فإنك لما نفيت الإلهية, وأثبت الإيجاب لله كنت ممن كفر بالطاغوت وآمن بالله. انتهى.
وقال أبو عبد لله القرطبي في التفسير: إلا إله إلا هو. أي: لا معبود إلا هو (4).
وقال الزمخشري (5): الإله من أسماء الأجناس كالرجل والفرس, اسم (6) يقع على كل معبود بحق أو باطل, ثم غلب على المعبود بحق (7).
__________
(1) سورة محمد آية 19.
(2) (ع): لك. ساقطة.
(3) سورة الزخرف آية 86.
(4) نقله العلامة عبد الرحمن بن حسن في "فتح المجيد"/33.
(5) أبو القاسم جار الله محمود بن عمر الزمخشري. لغوي من كبار المعتزلة ت538. "اللسان"6/4.
(6) (ط) : اسم. ساقطة.
(7) "الكشاف" 1/36.
ص -27-(39/15)
وقال البقاعي/ : لا إله إلا الله. أي: انتفى انتفاءا عظيما أن يكون معبود (1) بحق غير الملك الأعظم؛ فإن هذا العلم هو أعظم الذكرى المنجية من أهوال الساعة, وإنما يكون علما إذا كان نافعا, وإنما يكون نافعا إذا كان مع الإذعان والعمل بما تقتضيه, وإلا فهو جهل صرف. انتهى (2).
وجميع المفسرين يفسرون الإله بالمعبود. والمشركون يعرفون ذلك؛ لأنهم أهل اللسان. فلما طلب منهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقولوا: لا إله إلا الله. قالوا: أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب (3).
وهم يعترفون بأن الله هو الخالق الرازق المدبر لجميع الأمور, رب كل شيء ومليكه؛ كما أخبر الله عنهم بذلك في مواضع كثيرة من كتابه.
والله سبحانه فرض على عباده معرفة معنى: لا إله إلا الله, وأن يعلموا أن لا إله إلا هو (4). قال تعالى:{ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ}.
وترجم البخاري على الآية فقال: باب العلم قبل القول والعمل (5).
أشار (6) إلى أن العلم بمعنى: لا إله إلا الله, أول واجب. ثم بعد ذلك القول والعمل.
وقال الله تعالى:{ هَذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ}(7) لم يقل: ليقولوا: إنما هو إله واحد (8).
__________
(1) الأصل و(ط) : معبودا.
(2) نقله الشيخ عبد الرحمن بن حسن في "فتح المجيد"/34.
(3) حكى الله ذلك عنهم في سورة ص آية 5.
(4) (ع) : الله.
(5) صحيح البخاري 1/159 "فتح".
(6) (ط) إشارة.
(7) سورة إبراهيم آية 52.
(8) ما بينهما ساقط من (ع) و(ط).
ص -28-(39/16)
وقال:{ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} (1) أي: واعلموا أن لا إله إلا هو.
وقال تعالى:{ وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (2)قال المفسرون: إلا من شهد بلا إله إلا الله, وهم يعلمون بقلوبهم ما شهدوا به بألسنتهم (3).
وقد قال النبي (4) صلى الله عليه وسلم: "من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة" (5).
واستدل العلماء بهذه الآيات ونحوها: على أن أول واجب على الإنسان معرفة الله.
ودلت هذه الآيات(6) : على أن آكد الفرائض العلم بمعنى لا إله إلا الله, وأن أعظم الجهل نقص العلم بمعناها؛ إذ كان معرفة معناها آكد الواجبات, فالجهل (7) بذلك أعظم الجهل وأقبحه.
ومن العجب أن بعض الناس إذا سمع من يتكلم في معنى هذه الكلمة نفيا وإثباتا، عاب ذلك, وقال: لسنا مكلفين بالناس والقول فيهم!
فيقال له: بل أنت مكلف بمعرفة التوحيد الذي خلق الله الجن والإنس لأجله, وأرسل جميع الرسل يدعون إليه, ومعرفة ضده وهو
__________
(1) سورة هود آية14.
(2) سورة الزخرف آية 86.
(3) ينظر "تفسير الحافظ ابن كثير" 7/229،و"تفسير القرطبي"16/122.
(4) النبي: ليست في (ع) و(ط).
(5) أخرجه مسلم في "الصحيح" رقم 26 وأحمد في "المسند"1/65, 69 والنسائي في "عمل اليوم والليلة" رقم 1114، 1115 وابن أبي شيبة في "المصنف" 3/238 ،والحاكم في "المستدرك"1/351،والدولابي في "الكنى"1/129 ،وابن حبان والبيهقي كما في "الدر المنثور"6/ 63 من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه.
(6) ما بينهما ساقط من (ع).
(7) (ع) : والجهل.
ص -29-(39/17)
الشرك الذي لا يغفر. ولا عذر لمكلف في الجهل بذلك.
ولا يجوز فيه التقليد؛ لأنه أصل الأصول. فمن لم يعرف المعروف وينكر المنكر فهو هالك, لاسيما أعظم المعروف / وهو التوحيد, وأكبر المنكرات وهو الشرك.
قال رجل لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه: هلكت إن لم آمر بالمعروف وأنه عن المنكر! فقال ابن مسعود: هلكت إن لم يعرف قلبك المعروف وينكر المنكر (1).
وبمعرفة التوحيد يعرف أهله؛ كما قال علي رضي الله عنه : اعرف الحق تعرف أهله.
وأما الإقرار بتوحيد الربوبية: وهو أن الله سبحانه خالق كل شيء ومليكه ومدبره, فهذا يقر به المسلم والكافر, ولابد منه. لكن لا يصير به الإنسان مسلما، حتى يأتي بتوحيد الإلهية الذي دعت إليه الرسل, وأبى عن الإقرار به المشركون, وبه يتميز المسلم عن الشرك وأهل الجنة من أهل النار.
وقد أخبر سبحانه في مواضع من كتابه عن المشركين: أنهم يقرون بتوحيد الربوبية. ويحتج عليهم سبحانه بإقرارهم بتوحيد الربوبية على إشراكهم في توحيد الإلهية, قال سبحانه:{ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ * فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ } الآية (2).
__________
(1) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" 1/135 عن طارق بن شهاب قال: جاء عتريس ابن عرقوب الشيباني إلى عبد الله، فذكره وهو عنده بلفظ :هلك من لم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر. قال : بل هلك من لم يعرف قلبه المعروف، وينكر قلبه المنكر.
(2) سورة يونس الآيتان 31، 32.
ص -30-(39/18)
قال البكري الشافعي (1) في تفسيره على هذه الآية: إن (2) قلت: إذا أقروا بذلك فكيف عبدوا الأصنام؟. قلت: كلهم كانوا يعتقدون بعبادتهم الأصنام, عبادة الله والتقرب إليه. لكن في طرق مختلفة:
ففرقة قالت: ليس لنا أهلية عبادة الله بلا واسطة؛ لعلظمته فعبدناها لتقربنا إليه زلفى.
وفرقة قالت: الملائكة ذوو وجاهة عند الله, فاتخذنا (3) أصناما على هيئة الملائكة لتقربنا إلى الله زلفى.
وفرقة (4) قالت: جعلنا الأصنام قبلة لنا في العبادة؛ كما أن الكعبة قبلة في عبادته.
وفرقة اعتقدت: أن لكل صنم شيطانا موكلا بأمر الله, فمن عبد الصنم حق عبادته قضى الشيطان حوائجه بأمر الله, وإلا أصابه شيطانه بنكبة بأمر الله (5).
وقال ابن كثير عند قوله: { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}(6) : إنما يحملهم على عبادتهم؛ أنهم عمدوا إلى أصنام (7) اتخذوها على صور الملائكة المقربين في زعمهم,
__________
(1) لم أجد في "طبقات المفسرين" أحدا بهذا اللقب- وهو شافعي المذهب- غير اثنين هما: محمد بن عمر بن الحسين، فخر الدين الرازي، من كبار المتكلمين، وأئمة الأشاعرة المخالفين لطريقة السلف ت606،وعلي بن يعقوب بن جبريل، وهو ممن أنكر على شيخ الإسلام ابن تيمية لما دخل مصر وقام عليه وآذاه ت 724 ينظر "طبقات المفسرين " للداوودي 1/440, 2/215.
(2) (ط): إذا.
(3) الأصل : اتخذنا (ط) : اتخذناها.
(4) (ط) : فرقة. ساقطة.
(5) لم أعثر عليه في "مفاتيح الغيب" للرازي.
(6) سورة الزمر آية3.
(7) في جميع النسخ: عبدوا الأصنام. والمثبت من التفسير.
ص -31-(39/19)
فعبدوا تلك الصور تنزيلا لذلك منزلة عبادتهم الملائكة, ليشفعوا لهم عند الله في نصرهم وما ينوبهم/ من أمر الدنيا.
قال قتادة, والسدي, ومالك- عن زيد بن أسلم, وابن زيد-:{ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [أي] (1): ليشفعوا لنا ويقربونا عنده [منزلة] (2).
{ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ } (3).{ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ } (4) وقال : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ }(5) قال ابن عباس وغيره: إذا سألتهم من خلق السموات والأرض؟ قالوا: الله. وهم يعبدون معه غيره(6) !!
ففسروا (7) الإيمان في هذه الآية: بإقرارهم بتوحيد الربوبية, والشرك – بعبادتهم غير الله- وهو توحيد الألوهية (8).
فلما تقرر معنى: الإله, وأنه المعبود. تعين علينا معرفة حقيقة العبادة وحدها.
فعرفها بعضهم بأنها: ما أمر به (9) شرعا من غير اطراد عرفي ولا اقتضاء عقلي.
__________
(1) زيادة من (ع) و(ط) والتفسير.
(2) زيادة من التفسير7/75.
(3) سورة الزخرف آية9.
(4) سورة الزخرف آية 87.
(5) سورة يوسف آية 106.
(6) أخرجه الطبري في "التفسير" 16/286-289.
(7) (ع) : ففسر.
(8) أي : في زعمهم.
(9) (ع) : به الإنسان.
ص -32-(39/20)
وقال بعضهم: هي كمال الحب مع كمال الخضوع. وهذا يستلزم طاعة المحبوب والانقياد له.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه, من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة: كالصلاة والزكاة, والصيام, والحج, وصدق الحديث, وأداء الأمانة, وبر الوالدين, وصلة الأرحام, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, والدعاء والذكر, و[قراءة] (1) القرآن, وأمثال ذلك من العبادة (2).
فالدين كله داخل في العبادة. فإذا علم الإنسان وتحقق معنى الإله, وأنه المعبود, وعرف حقيقة العبادة. تبين له أن من جعل شيئا من العبادة لغير الله فقد عبده واتخذه إلها, وإن فر من تسميته معبودا أو (3) إلها, وسمى ذلك توسلا وتشفعا أو التجاء (4) ونحو ذلك.
فالمشرك: مشرك شاء أم أبى؛ كما أن المرابي مراب شاء أم أبى, وإن لم يسم ما فعله ربا, وشارب الخمر شارب للخمر وإن سماها بغير اسمها, وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم:" يأتي ناس من أمتي يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها" (5).
فتغيير الاسم لا يغير حقيقة المسمى ولا يزيل حكمه, كتسمية البوادي سوالفهم الباطلة حقا, وتسمية الظلمة ما يأخذونه من الناس بغير اسمه!!!
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) "مجموعة فتاوى ابن تيمية"10/149.
(3) (ع) :و.
(4) (ع) (ط): و.
(5) أخرجه أبو داود في "السنن" رقم3688 ،3689 ، وابن ماجه في " السنن رقم 4069 وأحمد في "المسند"5/342، وابن أبي شيبة في "المصنف" 7/465 ،وابن حبان في "الصحيح" رقم 1384(موارد) والطبراني في "الكبير3/321 من حديث أبي مالك الأشعري، وأخرجه أحمد في "المسند"5/318 من حديث عبادة بن الصامت.
ص -33-(39/21)
ولما سمع عدي بن حاتم – وهو نصراني – قول الله تعالى: { اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ} (1)قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لسنا نعبدهم!! قال: " أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه,ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟!" قال. قلت: بلى! قال: "فذلك/ عبادتهم" (2), فعدي رضي الله عنه: ما كان يحسب أن موافقتهم فيما ذكر عبادة منهم لهم (3). فأخبره (4) صلى الله عليه وسلم أن ذلك عبادة منهم لهم, مع أنهم لا يعتقدونه عبادة لهم.
وكذلك ما يفعله عباد القبور: من دعاء أصحابها, وسؤالهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات, والتقرب إليهم بالذبائح والنذور. عبادة منهم للمقبورين، وإن كانوا لا يسمونه ولا يعتقدونه عبادة.
وكذلك الذين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل لنا ذات أنواط. ما كانوا يظنون أن قولهم: اجعل لنا ذات أنواط, كقول بني إسرائيل: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة.
ولم يظنوا أن هذا من التأله لغير الله الذي تنفيه: لا إله إلا الله؛ لأنهم يقولون: لا إله إلا الله , ويعرفون معناها-لأنهم العرب – لكن
__________
(1) سورة التوبة آية 31.
(2) أخرجه الترمذي في "الجامع " رقم 3094وقال: هذا حديث غريب، وأخرجه ابن جرير في "التفسير" رقم 61632، 61633 ،والبيهقي في "السنن الكبرى"10/116، وابن أبي شيبة في "المصنف"13/411، والمزي في"تهذيب الكمال"2/1090، وأخرجه ابن سعد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه كما في "الدر المنثور" 4/174 من حديث عدي بن حاتم، وحسنه الترمذي كما في المصدر السابق وكتاب "التوحيد" للشيخ محمد بن عبد الوهاب1/102 (مجموعة مؤلفات) والألباني في "غاية المرام"/6.
(3) (ط) : لهم. ساقطة.
(4) (ع) (ط): فأخبر.
ص -34-(39/22)
خفيت عليهم هذه المسئلة؛ لحداثة عهدهم بالكفر. حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر, إنها السنن. قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة, قال: إنكم قوم تجهلون. لتركبن سنن من كان قبلكم" (1).
فإن قيل: فالنبي (2) صلى الله عليه وسلم لم يكفرهم بذلك!!
قلنا: هذا يدل على أن من تكلم بكلمة كفر جاهلا بمعناها, ثم نبه فتنبه أنه لا يكفر.
ولا شك أن هؤلاء: لو اتخذوا ذات أنواط بعد إنكار النبي صلى الله عليه وسلم عليهم, لكفروا.
وقال الله تعالى:{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ *وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } (3) الضمير في قوله {َجَعَلَهَا} راجع لقوله: { إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي}.
قال مجاهد وقتادة: هي شهادة أن لا إله إلا الله، فلا يزال في ذرية
__________
(1) أخرجه الترمذي في "الجامع" رقم 2181 وقال: هذا حديث حسن صحيح، وأخرجه أحمد في "المسند"5/218، وابن إسحاق كما في "سيرة ابن هشام" 4/84 ، وعبد الرزاق في "المصنف" رقم 20763،والحميدي في "المسند"رقم 848 ، والطيالسي في "المسند" رقم 1346، وابن أبي عاصم في "السنة" رقم 76 ، والطبري في "التفسير"9/31، وابن حبان في "الصحيح" رقم 1835(موارد) والطبراني في "الكبير" رقم3290, 3294، والشافعي في "المسند"/23 (بدائع) والبيهقي في "الدلائل" 5/125 ، وابن أبي شيبة في "المصنف"15/101، والنسائي في الكبرى "كتاب التفسير" كما في "تحفة الأشراف" 11/112، وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه كما في "الدر المنثور" 3/533 من حديث أبي واقد الليثي .
(2) (ط): فإن النبي.
(3) سورة الزخرف الآيات: 26-28.
ص -35-(39/23)
إبراهيم من يعبدوا (1) الله وحده (2).
ففي الآية والحديثين قبلها: بيان لمعنى لا إله إلا الله، وأن المراد منها البراءة من التأله والعبادة لغير الله, وإفراده سبحانه بالعبادة.
ومن أعظم المصائب: إعراض أكثر الناس عن النظر في معنى هذه الكلمة العظيمة,حتى صار كثير منهم يقول: من قال: لا إله إلا الله ، ما نقول فيه شيئا وإن فعل ما فعل!!؛ لعدم معرفتهم بمعنى هذه الكلمة نفيا وإثباتا.
مع أن قائل ذلك لا بد أن يتناقض, فلو قيل له: ما تقول فيمن قال: لا إله إلا الله, ولا يقر برسالة محمد بن عبد الله؟؟. لم يتوقف في تكفيره (3) ، أو أقر بالشهادتين وأنكر البعث ؟ لم يتوقف في تكفيره/ ! أو استحل الزنا أو اللواط أو نحوهما, أو قال: إن الصلوات الخمس ليست بفرض! أو أن صيام رمضان ليس بفرض؟!
فلا بد أن يقول بكفر من قال ذلك!! فكيف لا تنفعه لا إله إلا الله إذن (4), ولا تحول بينه وبين الكفر!
فإذا ارتكب ما يناقضها: وهو عبادة غير الله: وهو الشرك الأكبر الذي هو أكبر الكبائر. قيل: هو يقول لا إله إلا الله, ولا يجوز تكفيره؛ لأنه يتكلم بكلمة التوحيد!! لكن آفة الجهل والتقليد أوجبت ذلك.
وهؤلاء ونحوهم إذا سمعوا من يقرر أمر التوحيد ويذكر الشرك, استهزأوا به وعابوه!
__________
(1) (ع) (ط) : يعبد.
(2) ابن كثير 7/212.
(3) (ع) (ط) :كفره.
(4) (ع) (ط) : إذا.
ص -36-(39/24)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه – في أثناء كلام له: - والضالون مستخفون بتوحيد الله: يعظمون دعاء غيره من الأموات, وإذا أمروا بالتوحيد ونهوا عن الشرك استخفوا به, كما قال تعالى: { وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا * إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَن صَبَرْنَا عَلَيْهَا} الآية (1).
فاستهزأوا بالرسول لما نهاهم عن الشرك, وما زال المشركون يسبون الأنبياء ويصفونهم بالسفاهة والضلال والجنون إذا دعوهم إلى التوحيد؛ لما في أنفسهم من تعظيم الشرك.
وكذلك من فيه (2) شبه منهم: إذا رأوا من يدعو إلى التوحيد, استهزأوا بذلك (3)؛ لما عندهم من الشرك.
ومن كيد الشيطان لمبتدعة هذه الأمة- المشركين (4) بالبشر من المقبورين وغيرهم-: لما (5) علم عدو الله أن كل من قرأ القرآن أو سمعه, ينفر من الشرك ومن عبادة غير الله. ألقى في قلوب الجهال أن هذا الذي يفعلونه مع المقبورين وغيرهم, ليس عبادة لهم، وإنما هو توسل وتشفع بهم، والتجاء إليهم ونحو ذلك.
فسلب العبادة والشرك اسمهما (6) من قلوبهم, وكساهما أسماء لا تنفر عنها القلوب, ثم ازداد اغترارهم وعظمت الفتنة, بأن صار بعض من ينسب (7) إلى علم ودين يسهل عليهم ما ارتكبوه من الشرك, ويحتج
__________
(1) سورة الفرقان الآيتان 42 ,43.
(2) (ط): فيهم.
(3) (ط): به.
(4) (ع) : من المشركين.
(5) (ط): ولما.
(6) الأصل: اسمها.
(7) الأصل: ما.
ص -37-
لهم بالحجج الباطلة. فإنا لله وإنا إليه راجعون.(39/25)
فصل
وقد أورد بعضهم أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : ذكر كلاما وحكايات تدل على أن دعاء الأموات ليس بشرك, كما ذكر أنه روي أن رجلا جاء إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فشكى إليه الجدب عام الرمادة (1) فرآه وهو يأمره أن يأتي / إلى عمر بن الخطاب فيأمره أن يستسقي بالناس, وغير ذلك من الحكايات.
قال بعض المجادلين: لو سُلِّم لكم في بعض الأمور أنها شرك أو كفر, فإن الشيخ ذكر في اقتضاء الصراط المستقيم (2) : أن المتأول, والمجتهد المخطئ , والمقلد, مغفور لهم ما ارتكبوه من الشرك والكفر!!
فهذا تلبيس من الناقل, وكذب على الشيخ رحمه الله ؛ لأنه إنما قال ذلك في سياق الكلام في بعض البدع: كتحري دعاء الله عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم , أو غيره.فقال: وقد يفعل الرجل العمل الذي يعتقده صالحا ولا يكون عالما أنه منهي عنه، فيثاب على حسن قصده, ويعفى عنه لعدم علمه. وهذا باب واسع, وعامة العبادات المبتدعة المنهي عنها قد يفعلها بعض الناس ويحصل له نوع من الفائدة, وذلك لا يدل على
__________
(1) وكانت في السنة الثامنة عشرة من الهجرة، أصاب الناس فيها مجاعة شديدة، فأجرى عمر بن الخطاب رضي الله عنه الأقوات على المسلمين. ينظر "السيرة" لابن حبان/476، و"تاريخ الطبري"4/222.
(2) من الكتب النادرة ، التي عالج فيها الحافظ ابن تيمية الكثير من القضايا ذات الأبعاد الهامة والحيوية مع التركيز والاستيعاب الشامل، محقق مطبوع.
ص -38-(39/26)
أنها مشروعة. ثم العامل قد يكون متأولا, أو مخطئا مجتهدا (1) أو مقلدا: فيغفر له خطؤه (2) ,ويثاب على ما فعله من الخير المشروع المقرون بغير المشروع (3).
قال: والحاصل أن ما يقع من الدعاء المشتمل على كراهة (4) شرعية, بمنزلة سائر العبادات. وقد علم أن العبادة المشتملة على وصف مكروه, قد تغفر تلك الكراهة لصاحبها؛ لاجتهاده, أو تقليده (5), أو حسناته, أو غير ذلك. ثم ذلك لا يمنع أن ذلك مكروه منهي عنه, وإن كان هذا الفاعل المعين قد زال موجب الكراهة في حقه (6).
قال: فإذا سمعت دعاء أو مناجاة مكروهة في الشرع قد قضيت حاجة صاحبها, فكثيرا ما يكون من هذا الباب (7). ولا يقال: هؤلاء لما نقصت معرفتهم سَوَّغ (8) لهم ذلك ، فإن الله لم يسوغ هذا لأحد. لكن قصور المعرفة قد يرجى معه العفو والمغفرة.
أما استحباب المكروهات، أو إباحة المحرمات: فلا . ففرق (9) بين العفو عن الفاعل والمغفرة له, وبين إباحة فعله أو المحبة له. وإنما [يثبت] (10) استحباب الأفعال واتخاذها دينا بكتاب الله وسنة نبيه،
__________
(1) (ع): مجتهدا مخطئا.
(2) (ط): خطأه . تحريف.
(3) "الاقتضاء" 2/759.
(4) (ط): كراهية.
(5) (ع): تقليد.
(6) الاقتضاء 2/694
(7)"المصدر السابق"2/695.
(8)(ع) (ط) :يسوغ.
(9) (ع) (ط) : فرق. "الاقتضاء" :نفرق. تحريف.
(10) إضافة من "الاقتضاء" للتوضيح.
ص -39-(39/27)
وما كان عليه السابقون الأولون. وما سوى هذا من الأمور المحدثة: فلا تستحب, وإن اشتملت أحيانا على فوائد, لأننا نعلم أن مفاسدها راجحة على فوائدها (1).
ولما قرر رحمه الله: أن تحري الدعاء عند القبور منهي عنه. قال: ولا يدخل في هذا الباب أن قوما سمعوا السلام من قبر النبي صلى الله عليه وسلم, أو قبور غيره من الصالحين, وأن سعيد بن المسيب (2) كان يسمع الأذان من القبر ليالي الحرة. / فهذا كله حق ليس مما نحن فيه, والأمر أجل من ذلك وأعظم.
قال: وكذلك أيضا ما يروى أن رجلا جاء إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم, وشكا إليه الجب عام الرمادة, فرآه وهو يأمره أن يأتي عمر فيأمره أن يخرج فيستسقي بالناس (3).
فإن هذا ليس من هذا الباب.
وكذلك سؤال بعضهم للنبي صلى الله عليه وسلم, أو غيره حاجة فتقضى. فإن هذا قد وقع كثيرا, وليس هو مما نحن فيه (4).
إلى أن قال: وكل هذا لا يقتضي استحباب الصلاة عند القبور, ولا قصد الدعاء والنسك عندها؛ لما في قصد العبادات عندها من المفاسد التي علمها الشارع (5).
__________
(1) "الاقتضاء"2/697.
(2) ابن حزن بن أبي وهب القرشي المخزومي، أحد العلماء الأثبات الفقهاء الكبار.ت بعد التسعين تقريب/241.
(3) أخرجه البيهقي عن مالك بن أنس بإسناد صحيح كما قال الحافظ ابن كثير في "التاريخ"7/92.
(4) "الاقتضاء"2/728.
(5) المصدر السابق2/728.
ص -40-(39/28)
ثم قال رحمه الله: فذكرت هذه الأمور؛ لأنها (1) مما يتوهم أنها معارضة لما قدمنا, وليس كذلك.
فإن الخلق لم ينهوا عن الصلاة عند القبور, واتخاذها مساجد استهانة بأهلها (2), بل لما يخاف عليهم من الافتتان, وإنما تكون الفتنة إذا انعقد سببها. فلولا أنه قد يحصل عند القبور ما يخاف الافتتان به لما نهي الناس عن ذلك. انتهى (3).
فانظر قوله: وليس هذا مما نحن فيه.
وليس فيه معارضة لما ذكرنا؛ لأنه قرر أن قصد القبور لدعاء الله عندها بدعة منهي عنه، وكذلك قرر أن دعاء الأموات والغائبين والاستغاثة بهم شرك, وذكر أنه ليس في جميع ما ذكره معارضة لما قرره؛ دفعا لما قد يتوهم.
واحتج بعض من يجادل عن المشركين: بقصة الذي أوصى أهله أن يحرقوه بعد موته (4). على أن من ارتكب الكفر جاهلا لا يكفر, ولا يكفر إلا المعاند.
والجواب عن ذلك كله: أن الله سبحانه أرسل رسله مبشرين ومنذرين؛ لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل (5).
وأعظم ما أرسلوا به , ودعوا إليه: عبادة الله وحده لا شريك له,
__________
(1) (ع) : لأنه قد.
(2) (ط) :لأهلها.
(3) المصدر السابق 2/728.
(4) أخرجه البخاري في "الصحيح" رقم 3479، 6480 ، ومسلم في "الصحيح" رقم 2756 ، والنسائي في "المجتبى" 4/91 وابن ماجة في "السنن " رقم 4309 وأحمد في "المسند" رقم 7635 من حديث أبي هريرة وحذيفة رضي الله عنهما.
(5) قال تعالى: { رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} سورة النساء آية 165.
ص -41-(39/29)
والنهي عن الشرك الذي هو (1) عبادة غيره.
فإن كان مرتكب الشرك الأكبر معذورا لجهله، فمن هو الذي لا يعذر؟
ولازم هذه الدعوى: أنه ليس لله حجة على أحد إلا المعاند. مع أن صاحب هذه الدعوى لا يمكنه طرد أصله, بل لابد أن يتناقض؛ فإنه لا يمكنه أن يتوقف في تكفير من شك في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم, أو شك في البعث, أو غير ذلك من أصول الدين. والشاك جاهل!.
والفقهاء رحمهم الله: يذكرون في كتب الفقه حكم المرتد: وأنه المسلم الذي يكفر بعد إسلامه / : نطقا, أو فعلا, أو شكا, أو اعتقادا (2). وسبب الشك: الجهل.
ولازم هذا: أنا لا نكفر (3) جهلة اليهود والنصارى, ولا الذين يسجدون الشمس والقمر والأصنام لجهلهم, ولا الذين حرقهم علي ابن أبي طالب رضي الله عنه بالنار (4)؛ لأننا نقطع أنهم جهال!!!(39/30)
__________
(1) (ع) : الشرك الذي هو . معلق في الهامش وبجواره كلمة صح.
(2) (ط) : فعلا أو اعتقادا أو شكا.
(3) (ط) لا يكفر
(4) وهم أتباع ابن سبأ اليهودي، أخرج أبو عاصم وأبو عمر الطلمنكي وابن شاهين والطبري في شرح أصول السنة، من وجوه متعددة يصدق بعضها بعضا، عن عبد الرحمن بن مالك ابن مغول عن أبيه قال: قلت لعامر الشعبي: ما ردك عن هؤلاء القوم وقد كنت فيهم رأسا؟!قال : رأيتهم يأخذون بأعجاز لا صدور لها. يا مالك: إني قد درست الأهواء فلم أر فيها أحمق من الرافضة! فلو كانوا من الطير لكانوا رخما، ولو كانوا من الدواب لكانوا حمرا!!!- قال- وقد حرقهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالنار، ونفاهم من البلاد. منهم عبد الله بن سبأ اليهودي... وحرق منهم قوما أتوه. فقالوا: أنت هو! فقال : من أنا؟ قالوا: أنت ربنا!! فأمر بنار أججت فألقوا فيها- وفيه قال- قيل لليهود: من خير أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب موسى. وقيل للنصارى: من خير أهل ملتكم؟ قالوا: حواري عيسى. وقيل للرافضة: من شر أهل ملتكم؟ قالوا: حواري محمد!!! ينظر "منهاج السنة النبوية"1/28 ، 307 ، و"الفصل" لابن حزم5/47 ، و"الفرق" للبغدادي /18.
ص -42-(39/31)
وقد أجمع العلماء على كفر من لم يكفر اليهود والنصارى أو يشك في كفرهم، ونحن نتيقن أن أكثرهم جهال.
وقال الشيخ تقي الدين: من سب الصحابة و واحدا منهم، واقترن بسبه دعوى أن عليا إله أو نبي, أو أن جبرائيل غلط. فلا شك في كفر هذا, بل لا يُشكُّ (1) في كفر من توقف في تكفيره.
قال: ومن زعم أن الصحابة ارتدوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نفرا قليلا لا يبلغون بضعة عشر, أو أنهم فسقوا. فلا ريب في كفر قائل ذلك, بل من شك في كفره فهو كافر.
قال: ومن ظن أن قوله سبحانه وتعالى:{ وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ} (2). بمعنى: قدر , وأن الله ما قدر شيئا إلا وقع, وجعل عباد الأصنام ما عبدوا إلا الله: فإن هذا من أعظم الناس كفرا بالكتب كلها. انتهى (3).
ولا ريب أن أصحاب (4) هذه المقالة: أهل علم وزهد وعبادة, وأن سبب دعواهم هذه :الجهل.
وقد أخبر الله سبحانه عن الكفار أنهم في شك مما تدعوهم إليه الرسل, وأنهم في شك من البعث، فقالوا لرسلهم: {وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} (5) وقال:{ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ} (6) وقال إخبارا عنهم: { إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} (7).
__________
(1) (ع) (ط) : شك.
(2) سورة الإسراء آية 23.
(3) ينظر "مجموع فتاوى ابن تيمية "2/124.
(4) (ط) :أهل.
(5) سورة إبراهيم آية 9.
(6) سورة فصلت آية 45.
(7) سورة الجاثية آية32.
ص -43-(39/32)
وقال عن الكفار:{ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} (1) .
وقال تعالى:{ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا {103} الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} (2).
ووصفهم بغاية الجهل، كما في قوله تعالى: { لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ } (3).
وقد ذم الله المقلدين بقوله عنهم: { إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} (4) الآيتين, ومع ذلك كفرهم سبحانه وتعالى.
واستدل العلماء بهذه الآية (5) ونحوها: على أنه لا يجوز التقليد في معرفة الله والرسالة.
وحجة الله سبحانه قائمة على الناس بإرسال الرسل إليهم, وإن لم يفهموا حجج الله وبيناته.
قال الشيخ موفق الدين أبو محمد بن قدامة (6) رحمه الله – لما انجر كلامه في مسألة: هل كل مجتهد مصيب؟ ورجح قول الجمهور: إنه ليس كل مجتهد مصيبا (7) بل الحق في قول واحد من أقوال المجتهدين
__________
(1) سورة الأعراف آية 30
(2) سورة الكهف الآيتان 103 ,104.
(3) سورة الأعراف آية 179.
(4) سورة الزخرف آية 22.
(5) (9) : الآيات.
(6) عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة ، أصولي، فقيه بارز ت 620 "تاريخ ابن كثير"13/99.
(7) الأصل :مصيب.
ص -44-(39/33)
قال- : وزعم الجاحظ (1) أن مخالف ملة الإسلام إذا نظر فعجز عن درك (2) الحق: فهو معذور غير آثم.
إلى أن قال: أما ما ذهب إليه الجاحظ فباطل يقينا، وكفر بالله، ورد عليه وعلى رسوله؛ فإنا (3) نعلم قطعا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر اليهود والنصارى بالإسلام واتباعه, وذمهم على إصرارهم, وقاتل جميعهم (4), يقتل البالغ (5).
ونعلم أن المعاند العارف ممن يقل, وإنما الأكثر مقلدة: اعتقدوا دين آبائهم تقليدا,ولم يعرفوا معجزة (6) النبي (7) وصدقه.والآيات الدالة (8) في القرآن على هذا كثيرة (9), كقوله:{ ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} (10). وقال: { وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ } (11) { إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} (12)، وقوله:{ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ } (13){ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} (14)
__________
(1) عمرو بن بحر البصري، من كبار المعتزلة ومنظريهم، أديب ساخر ت255. "وفيات الأعيان"2/108.
(2) (ع) (ط) : إدراك.
(3) (ط) :فإنما.
(4) (ط): وقاتلهم جميعا.
(5) (ع) : يقتل البالغ منهم (ط): بقتل البالغ منهم. "الروضة" : وقتل البالغ منهم.
(6) الأصل: معرفة معجزة (ع) (ط) : معجزات.
(7) (ط) : الرسول.
(8) (ط) :الدالات.
(9) الأصل: كثيرا.(ع): كثير.
(10) سورة ص آية 27.
(11) سورة فصلت آية 23.
(12) سورة الجاثية آية 24.
(13) سورة المجادلة آية 18.
(14) سورة الزخرف آية 37.
ص -45-(39/34)
{ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ }الآية (1).
وفي الجملة: ذم المكذبين للرسول مما لا ينحصر في الكتاب والسنة. انتهى (2).
والعلماء يذكرون: أن من أنكر وجوب عبادة من العبادات الخمس، أو قال في واحدة منها (3): إنها سنة لا واجبة, أو جحد حل الخبز ونحوه, أو جحد تحريم الخمر أو نحوه، أو شك في ذلك ومثله لا يجهله: كفر, وإن كان مثله يجهله: عرف ذلك, فإن أصر بعد التعريف كفر وقتل , ولم يقولوا: فإذا تبين له الحق وعاند: كفر.
وأيضا، فنحن لا نعرف أنه معاند حتى يقول: أنا أعلم أن ذلك حق ولا ألتزمه، أو لا أقوله (4)، وهذا لا يكاد يوجد.
وقد ذكر العلماء من أهل كل مذهب: أشياء كثيرة لا يمكن حصرها من الأقوال والأفعال والاعتقادات: أنه يكفر صاحبها، ولم يقيدوا ذلك بالمعاند.
فالمدعي أن مرتكب الكفر متأولا, أو مجتهدا مخطئا (5), أو مقلدا، أو جاهلا: معذور (6). مخالف للكتاب والسنة والإجماع بلا شك، مع أنه لا بد أن ينقض أصله: فلو طرد أصله كفر بلا ريب، كما لو توقف في تكفير من شك في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك (7) /.
وأما الرجل الذي أوصى أهله أن يحرقوه، وأن الله غفر له, مع
__________
(1) سورة الكهف الآيتان 104 ، 105.
(2) "روضة الناظر وجنة المناظر" /362-363.
(3) (ط) : منها. ساقطة.
(4) (ع) : أقبله.
(5) (ع) (ط) : أو مخطئا.
(6) الأصل: معذورا. تحريف.
(7) الأصل : وغير ذلك (ط) ساقط.
ص -46-(39/35)
شكه في صفة من صفات الرب سبحان: فإنما غفر له لعدم بلوغ الرسالة له. كذا قال غير واحد من العلماء (1).
ولهذا قال الشيخ تقي الدين رحمه الله: من شك في صفة من صفات الرب ومثله لا يجهلها: كفر, وإن كان مثله يجهلها: لم يكفر.
قال: ولهذا لم يكفر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الشاك في قدرة الله؛ لأنه لا يكون (2) إلا بعد بلوغ الرسالة (3). وكذا قال ابن عقيل (4), وحمله على أنه لم تبلغه الدعوة.
واختيار الشيخ تقي الدين في الصفات: أنه لا يكفر الجاهل، وأما في الشرك ونحوه: فلا , كما ستقف على بعض كلامه إن شاء الله. وقد قدمنا بعض كلامه في الإتحادية وغيرهم، وتكفيره من شك في كفرهم.
قال صاحب اختياراته (5): والمرتد: من أشرك بالله، أو كان (6) مبغضا لرسوله أو لما جاء به, أو ترك إنكار كل منكر بقلبه، أو توهم أن من الصحابة (7) من قاتل مع الكفار أو أجاز ذلك, أو أنكر مجمعا (8) عليه إجماعا قطعيا, أو جعله بينه وبين الله وسائط: يتوكل
__________
(1) ينظر "فتح الباري" 6/523.
(2) (ع) : يكفر.
(3) ينظر "مجموع فتاوى ابن تيمية" 7/538.
(4) أبو الوفاء علي بن عقيل البغدادي ، متوقد الذكاء ، غزير العلم، فيه شائبة اعتزال وتجهم وانحراف عن السنة .ت513 "تاريخ ابن كثير" 13/184و"طبقات القراء " للذهبي 1/38.
(5) أبو الحسن علي بن محمد البعلي المعروف بان اللحام، تلميذ الحافظ ابن رجب، من فقهاء الحنابلة.ت803 "الضوء اللامع" 5/320.
(6) (ط) وكان
(7) في "الاختيارات" : من الصحابة أو التابعين أو تابعيهم.
(8) (ع) : أمرا مجمعا (ط): إجماعا مجمعا.
ص -47-(39/36)
عليهم ويدعوهم ويسألهم (1)، ومن شك في صفة من صفات الله ومثله لا يجهلها: فمرتد. وإن كان مثله يجهلها: فليس بمرتد؛ ولهذا لم يكفر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الشاك في قدرة الله تعالى (2).
فأطلق فيما تقدم من المفكرات ، وفرق في الصفة بين الجاهل وغيره, مع أن رأي الشيخ رحمه الله تعالى- في التوقف عن تكفير الجهمية ونحوهم- خلاف نصوص الإمام أحمد وغيره من أئمة الإسلام (3).
قال المجد (4) رحمه الله: كل بدعة كفرنا فيها الداعية, فإنا نفسق المقلد فيها, كمن يقول بخلق القرآن, أو أن علم الله مخلوق، أو أن أسماءه (5) مخلوقة, أو أنه لا يرى في الآخرة, أو يسب الصحابة تدينا, أو أن الإيمان مجرد الاعتقاد، وما أشبه ذلك.
فمن كان عالما في شيء (6) من هذه البدع: يدعو إليه ويناظر عليه، فهو محكوم بكفره. نص أحمد على ذلك في مواضع.انتهى.
فانظروا (7) ! كيف حكموا (8) بكفرهم مع جهلهم.
__________
(1) الأصل (ع) : ويسألهم اجماعا (ط) ويسألهم كفر إجماعا. والمثبت ما في "الاختيارات".
(2) "الاختيارات الفقهية" /307.
(3) أخرج طرفا منها عبد الله بن أحمد بن حنبل في كتاب" السنة"1/102-132.
(4) أبو البركات عبد السلام بن عبد الله بن تيمية النميري، محدث أصولي فقيه.ت652. "تاريخ ابن رجب " (الذيل2/249).
(5) الأصل: أسماؤه.
(6) (ع) (ط) : بشيء
(7) (ع) : فانظر.
(8) (ع) : حكم.
ص -48-(39/37)
فصل
ومما يتعين الاعتناء به: معرفة حدود ما أنزل الله على رسوله؛ لأن الله سبحانه ذم من لا يعرف حدود ما أنزل الله/ على رسوله, فقال تعالى:{ الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ} (1).
قال شيخ الإسلام: ومعرفة حدود الأسماء واجبة؛ لأن بها قيام مصلحة الآدميين في المنطق الذي جعله الله رحمة لهم, لاسيما حدود ما أنزل الله على رسوله من الأسماء: كالخمر،والربا. فهذه الحدود هي المميزة بين ما يدخل في المسمى وما يدل عليه من الصفات,وبين ما ليس كذلك.
وقد ذم الله سبحانه من لم يعلم حدود ما أنزل الله على رسوله. انتهى (2).
ففرض على المكلف: معرفة حد العبادة وحقيقتها التي خلقنا الله لأجلها (3)، ومعرفة حد الشرك وحقيقته الذي هو أكبر الكبائر.
وتجد كثيرا ممن يشتغل بالعلم لا يعرف حقيقة الشرك الأكبر, وإن قال: إنه الشرك في العبادة؛ لقوله تعالى: { وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا} (4) { وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } (5), وقوله صلى الله عليه وسلم: " حق الله
__________
(1) سورة التوبة آية 97.
(2) ينظر "مجموع فتاوى ابن تيمية"19/235-259.
(3) (ط) : من أجلها.
(4) سورة النساء آية 36.
(5) سورة الكهف آية110.
ص -49-(39/38)
على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا" (1)!!.
فإنه- (2) مع اعترافه بأن الشرك الذي حرمه الله: هو الشرك في العبادة- لا يعرف حد العبادة وحقيقتها، وربما قال: العبادة التي صرفها لغير الله شرك : الصلاة والسجود.
فإذا طلب منه الدليل على أن الله سمى الصلاة لغيره أو السجود لغيره شركا, لم يجده. وربما قال: لأن ذلك خضوع, والخضوع لغير الله شرك.
فيقال له: هل (3) تجد في القرآن (4) أو السنة تسمية هذا الخضوع شركا؟. فلا يجده.
فيلزمه أن يقول: لأنه عبادة لغير الله.
فيقال: وكذلك الدعاء, والذبح والنذر: عبادات، مع ما يلزم هذه العبادات من أعمال القلوب: من الذل والخضوع, والحب والتعظيم،والتوكل والخوف, والرجاء وغير ذلك.
وفي الحديث: "الدعاء مخ العبادة" (5).
__________
(1) قطعة من حديث أخرجه البخاري في "الصحيح" رقم 128 ,129 , 2856 ، 5967، ومسلم في "الصحيح" رقم 30 ،والترمذي في "الجامع" رقم 2645، وابن ماجه في " السنن" رقم 4296، وأحمد في "المسند" 3/260, 261 من حديث معاذ ابن جبل.
(2) ما بينهما ساقط من (ط) ومعلق في هامش(ع) وبجواره كلمة صح.
(3) (ط) : هل .ساقطة.
(4) (ع) (ط) : ا لكتاب.
(5) أخرجه الترمذي في "الجامع" رقم 3468 وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه، لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة. وأخرجه الطبراني في "كتاب الدعاء" رقم 8 من حديث أنس، ويشهد له: ما أخرجه أبو داود في "السنن" رقم 1479 , والترمذي في "الجامع" رقم 3247، وقال : حسن صحيح، والنسائي في "الكبرى" كما في "تحفة الأشراف " 9/30 , وابن ماجه في "السنن" رقم 3828 ، والبخاري في "الأدب المفرد" رقم 185، وأحمد في "المسند" 4/267، 271 ، 276، 277 ، وابن أبي
ص -50-(39/39)
وقد قرن الله سبحانه بين الصلاة والذبح في قوله:{ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (1) أي : أخلص له صلاتك وذبيحتك، فكما أن الصلاة لغير الله: شرك, فكذا قرين الصلاة، وهو الذبح لغيره (2) : شرك.
وقال تعالى:{ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (3).
ومن العجب: قول بعض من يحتج للمشركين بالأموات: إنهم لا يرجون قضاء حاجاتهم من الميت /ونحوه.
فنقول: هذا مكابرة ومغالطة؛ لأنه من المعلوم عند كل ذي عقل: أنهم ما دعوهم وتذللوا وخضعوا لهم، وبذلوا أموالهم بالنذور (4) والذبائح؛ إلا لأنهم يرجون حصول مطلوبهم, وقضاء حاجاتهم من جهتهم.
فكيف يتصور عند عاقل أن يسمع من يسأل الميت والغائب حاجة بأن يقول: اعطني كذا, أو (5) أنا في حسبك, ويستغيث به في دفع عدو أو كشف ضر, ويتذلل ويخضع له, ثم يقول: إنه لا يرجو حصول مطلوبه ودفع مرهوبه من جهته!!
__________
=
شيبة في "المصنف" 10/200، وابن المبارك في "الزهد" رقم 459 ، والطبراني في "الصغير"1/97 ، و"كتاب الدعاء" رقم 207 ، وابن حبان في "الصحيح" رقم 2396 ، والحاكم في "المستدرك" 1/491. ووافقه الذهبي ،والطبري في "التفسير"24/51 ، وأبو نعيم في "الحلية"8/120 كلهم بلفظ "الدعاء هو العبادة" من حديث النعمان بن بشير، وصححه النووي في "الأذكار"/333 وجوَّد الحافظ ابن حجر إسناده ."فتح الباري"1/49، وأخرجه أيضا الخطيب البغدادي في "التاريخ" 12/279،وابن مردويه كما في "الدر المنثور" 5/355 من حديث البراء بن عازب.
(1) سورة الكوثر آية 2.
(2) (ط) : لغير الله.
(3) سورة الأنعام الآيتان 162، 163.
(4) (ع) (ط) : لهم بالنذر.
(5) (ط) : و.
ص -51-(39/40)
وكيف يتصور أن يبذل ماله بالنذر والذبح- مع أن المال عزيز عند أهله – لمن لا يرجوه, ويعتقد أنه لا يحصل له من جهته نفع ولا دفع ضر! فهذا من أبين المحال وأبطل الباطل.
كيف وهم يفتخرون بقضاء حاجاتهم، وكشف كرباتهم من جهتهم: فبعض منهم يعتقد (1) أن الميت ونحوه يفعل ذلك أصالة, وبعضهم يقول: هم وسيلتنا إلى الله, يعنون: واسطة بينهم وبين الله, كما عليه المشركون الأولون؛ كما أخبر الله عنهم أنهم يقولون: { هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ }(2) { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (3).
بل كثير من مبتدعة هذه الأمة: أعظم غلوا واعتقادا في ولائجهم من المشركين الأولين؛ لأن الله سبحانه وتعالى أخبر عن المشركين الموجودين حين نزول القرآن: أنهم يخلصون لله الدعاء في حال الشدة, وينسون آلهتهم.
وكثير من غلاة أهل هذا الزمان: يخلصون الدعاء عند الأمور المهمة والشدائد لولائجهم, كما هو مستفيض عنهم.
قال الله تعالى إخبارا عن المشركين الأولين (4){ فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} (5).
وقال تعالى:{ قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ
__________
(1) (ع) (ط) : يعتقدون.
(2) سورة يونس آية 18.
(3) سورة الزمر آية 3.
(4) (ع) (ط) : الأولين. ساقطة.
(5) سورة العنكبوت آية 65.
ص -52-(39/41)
إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ } (1).
وقال:{ وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ} (2).
وقال:{ قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} (3).
ومن العجب: قول بعض من ينسب إلى علم ودين: إن طلبهم من المقبورين والغائبين ليس دعاء لهم بل هو نداء!!
أفلا يستحي (4) هذا القائل من الله إذا لم يستح / من الناس: من هذه الدعوى الفاسدة السامجة (5)، التي يروج بها على رعاع الناس, والله سبحانه قد سمى الدعاء: نداء في قوله تعالى:{ إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا} (6) وقوله:{ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} (7).
وأي فرق بين ما إذا سأل العبد ربه حاجة, وبين ما إذا طلبها من غيره: ميت أو غائب؟! بأن الأول يسمى دعاء والثاني نداء!!.
ما (8) أسمج هذا القول وأقبحه، وهو قول يستحيا (9) من حكايته؛ لولا أنه يروج على الجهال, لا (10) سيما إذا سمعوه ممن يعتقدون علمه
__________
(1) سورة الأنعام الآيتان 40, 41.
(2) سورة الإسراء آية 67.
(3) سورة الأنعام آية 63.
(4) (ع) : يستحيي.
(5) (ع):والسامجة (ط) : السمجة.
(6) سورة مريم آية 3.
(7) سورة الأنبياء آية 87.
(8) (ط) : وما.
(9) (ع) (ط): يستحى.
(10) (ع) :ولا.
ص -53-(39/42)
ودينه, وأي فرق بين سؤال الميت حاجة, وبين سؤالها من صنم ونحوه! بأن الثاني يسمى دعاء والأول نداء؟!.
فإن قال: الكل يسمى نداء لا دعاء, فهذا مشاقة للقرآن, ومحادة لله ورسوله، (1) ولا يحتاج في بيان بطلانه إلى أكثر من حكايته (1).
وما أظن عاقلا يحيك هذا في نفسه, وإنما هو عناد ومكابرة, إنما تروج على أشباه البهائم.
أما يخاف هذا أن يتناول قوله:{ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ } (2) والله سبحانه وتعالى سمى سؤال غيره دعاء في غير موضع من كتابه { إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ} (3).
والدعاء في القرآن يتناول دعاء العبادة ودعاء المسألة.
__________
(1) ما بينهما ساقط من (ع) و(ط).
(2) سورة غافر آية5.
فصل
ويقال لمن ادعى أن الشرك هو الصلاة والسجود لغير اله فقط: مع أن هذا مكابرة من مدعيه، فكما أن السجود عبادة, فكذلك الدعاء والنذر والذبح وغيرها(4) ؛ كما تقدم تعريفه.
وقد نهى الله عن دعاء غيره, وذم فاعل ذلك, وأمرنا بإخلاص الدعاء له أكثر مما ذكر في خصوصية السجود, مع أن الدعاء في القرآن: يتناول دعاء المسألة ودعاء العبادة, الذي يدخل فيه السجود وغيره من
__________
(1) ما بينهما ساقط من (ع) و(ط).
(2) سورة غافر آية5.
(3) سورة فاطر آية 14.
(4) (ع) (ط) :وغيرهما.
ص -54-(39/43)
أنواع العبادة قال الله تعالى:{ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (1) وقال:{ فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (2).
وقال: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ } (3). وقال:{ وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ } (4). وقال:{ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} (5). وقال :{ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ / مِن قِطْمِيرٍ * إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} (6).
وفي القرآن من (7) ذلك ما لا يحصى.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى – في الكلام على دعوة ذي النون – لفظ الدعاء والدعوة في القرآن يتناول: دعاء العبادة ودعاء المسألة. وفسر قوله تعالى: { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} بالوجهين.
وفي حديث النزول : " من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه, من يستغفرني فأغفر له" (8) والمستغفر سائل, والسائل داع,(39/44)
__________
(1) سورة الجن آية 18.
(2) سورة غافر آية 14.
(3) سورة الرعد آية 14.
(4) سورة يونس آية 106.
(5) سورة الأحقاف آية 5
(6) سورة فاطر الآيتان 13، 14.
(7) (ط) :مثل.
(8) جزء من حديث النزول المشهور، أخرجه البخاري في "الصحيح" رقم 1145، 6321, 7494 ، ومسلم في "الصحيح" برقم 778، والترمذي في "الجامع" رقم 446، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" رقم 485، 486، وأحمد في "المسند" 2/419، 504، وابن خزيمة في كتاب" التوحيد" رقم 188-194، والدارمي في "السنن"1/346 من حديث أبي هريرة، وأخرجه أحمد في "المسند"4/16، وابن =
ص -55-
لكن ذكر السائل لدفع الشر بعد السائل للخير, وذكرهما بعد الداعي (1) الذي يتناولهما وغيرهما: من عطف الخاص على العام.
وسماها دعوة لتضمنها النوعين, فقوله: لا إله إلا أنت. اعتراف بتوحيد الألوهية, وهو يتضمن النوعين؛ فإن الإله هو المستحق لأن يدعى بالنوعين (2).
وقال ابن القيم في البدائع- بعد آيات ذكرها, قال-: وهذا في القرآن كثير, يبين أن المعبود لابد أن يكون مالكا للنفع والضر, فهو يدعى للنفع والضر: دعاء المسألة, ويدعى رجاء وخوفا: دعاء العبادة.
فعلم أن النوعين متلازمان, فكل دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة، وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العبادة.
إلى أن قال: وليس هذا من استعمال اللفظ المشترك في معنييه كليهما, ولا استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه, بل هذا استعمال له في حقيقته الواحدة المتضمنة للأمرين جميعا. انتهى (3).
فعلى هذا يكون النهي عن دعاء غيره سبحانه نصا في دعاء العبادة, و (4)دعاء المسألة حقيقة. فهو نهي عن كل منهما حقيقة.(39/45)
__________
= خزيمة في "التوحيد" رقم 196, والدارقطني في "النزول" رقم 147، والآجري في "الشريعة" /310، والدارمي في الرد على الجهمية رقم 37، واللالكائي في السنة 3/441 من حديث رفاعة الجهني ، وأخرجه النسائي في "عمل اليوم والليلة " رقم 487 ، وأحمد في "المسند" 4/81، والطبراني في المعجم الكبير رقم 1566 ، وأبو يعلى في "مسنده" 1/349، والدارمي في "السنن"1/347، والآجري في "الشريعة" 312 ،و ابن أبي عاصم في "السنة" 222، 507، والدارقطني في "النزول" رقم 93، والبيهقي في "الأسماء والصفات" 566 من حديث جبير بن مطعم.
(1) (ع) (ط) : الدعاء .والمثبت من الأصل و"الفتاوى".
(2) ينظر "مجموع فتاوى ابن تيمية" 10/235-244.
(3) بدائع الفوائد 3/2-3.
(4) (ط) :وفي.
ص -56-
فصل
وقد ذكرنا أن الشيخ تقي الدين: إنما قال: ترجى المغفرة لمن فعل بعض (1) البدع مجتهدا أو جاهلا.
لم يقل ذلك فيمن ارتكب الشرك الأكبر والكفر الظاهر.
بل قد قال رحمه الله تعالى : إن الشرك لا يغفر وإن كان أصغر. وقد قدمنا بعض كلامه في ذلك.
ونذكر هنا ما (2) اطلعنا عليه من كلامه, وكلام غيره من العلماء.
قال رحمه الله تعالى في شرح العمدة (3)- لما تكلم في كفر تارك الصلاة قال-: وفي الحقيقة فكل رد لخبر الله أو أمره: فهو كفر دق أو جل, لكن قد يعفى عما (4) خفيت فيه طرق العلم, وكان أمرا يسيرا في الفروع. بخلاف ما ظهر أمره, وكان من دعائم الدين من الأخبار والأوامر /.
وقال رحمه الله – في أثناء كلام له في ذم أصحاب الكلام-: والرازي (5) من أعظم الناس في باب الحيرة, لكن هو مسرف فيه، له نهمة في التشكيك. والشك في الباطل خير من الثبات على اعتقاده.(39/46)
__________
(1) (ع) : بعض . ساقطة.
(2) (ع) (ط) : بعض ما.
(3) "عمدة الفقه" لابن قدامة المقدسي، شرحه ابن تيمية شرحا نفيسا يوجد منه الجزء الرابع المتعلق بالمناسك محفوظا بمكتبة الرياض السعودية وقد حققت هذه القطعة في رسالة دكتوراه تقدم بها إلى كلية الشريعة بالرياض.
(4) علق في هامش (ع) : لعله: عما قد.
(5) أبو عبد الله فخر الدين محمد بن عمر بن الحسن التيمي، فيلسوف أشعري، كتب في علمي الأصول والفقه ت606 "وفيات الأعيان" 3/381.
ص -57-
لكن قل أن يثبت أحد على باطل محض، بل لابد فيه من نوع من الحق, وتوجد الردة منهم كثيرا كالنفاق.
وهذا إذا كان في المقالات الخفية, فقد يقال: لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها, لكن يقع ذلك في طوائف منهم في أمور يعلم العامة والخاصة، بل اليهود والنصارى يعلمون أن محمدا صلى الله عليه وسلم بُعث بها وكفَّر من خالفها: مثل عبادة الله وحده لا شريك له, ونهيه عن عبادة غيره. فإن هذا أظهر شرائع الإسلام.
ومثل أمره بالصلوات الخمس, وتعظيم شأنها. ومثل معاداة المشركين, وأهل الكتاب. ومثل تحريم الفواحش والربا والميسر, ونحو ذلك.
إلى أن قال: وصنف الرازي كتابه في عبادة الأصنام والكواكب (1)، وأقام الأدلة على حسنه ، ورغَّب فيه.
وهذه ردة عن الإسلام إجماعا. انتهى (2).
فقوله رحمه الله: بل اليهود والنصارى يعلمون ذلك. هو كما قال؛ فقد سمعنا عن (3) غير واحد من اليهود: أنهم يعيبون على المسلمين ما يفعل عند هذه المشاهد. يقولون: إن كان نبيكم أمركم بهذا فليس بنبي, وإن كان نهاكم عنه فقد عصيتموه.
فيا سبحان الله: ما أعجب هذا!! اليهود ينكرون هذه الأمور الشركية ويقولون: ما (4) يأتي بها نبي. وكثير من علماء هذا الزمان يجوِّزون ذلك,(39/47)
__________
(1) "السر المكتوم في دعوة الكواكب والنجوم والسحر والطلاسم والعزائم" ينظر "درء تعارض العقل والنقل"1/111، 311 و"مجموع الفتاوى"13/180.
(2) ينظر "درء التعارض"1/111 ,311.
(3) (ط) : من.
(4) (ط) :لا.
ص -58-
ويوردون الشبه الباطلة عليه (1) , وينكرون على من أنكر (2).
وانظر قول الشيخ: لكن قد يعفى عما قد خفيت فيه طرق العلم، وكان أمرا يسيرا في الفروع.
وقوله أيضا: وهذا [إذا كان] (3) في المقالات الخفية, فقد يقال: لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها.
وقال الشيخ رحمه الله في الرسالة السنية- لما ذكر حديث الخوارج-: فإذا كان في زمن رسول الله (4) صلى الله عليه وسلم وخلفائه من قد مرق من الدين مع عبادته العظيمة, فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام في هذا الزمان قد يمرق أيضا؛ وذلك بأمور: منها الغلو الذي ذمه الله تعالى: كالغلو في بعض المشايخ, مثل الشيخ (5) عدي, بل الغلو في علي بن أبي طالب, بل الغلو في المسيح.
فكل من غلا في نبي أو رجل صالح, وجعل فيه نوعا من الإلهية: مثل أن يدعوه /من دون الله, بأن يقول: يا سيدي فلان اغثني, أو اجبرني أو توكلت عليك, أو أنا في حسبك. فكل هذا شرك وضلال، يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل.
فإن الله أرسل الرسل, وأنزل الكتب؛ ليعبد وحده ولا يجعل معه إله آخر.
__________
(1) علق في هامش الأصل على هذا ما نصه: كما قال بعضهم- وأظنه أبو الخطاب- شبه تهافت كالزجاج تخالها وكل كاسر مكسور.
(2) (ع) (ط) : أنكره. وانظر ما نقله شيخ الإسلام عن نصارى زمانه : من احتجاجهم على عقيدة التثليث الوثنية بما يفعله بعض جهلة المسلمين وضلالهم " الفتاوى" 1/370، 4/519.
(3) الإضافة من هامش (ع) وكتب بجواره كلمة صح.
(4) (ع) (ط) : النبي.
(5) (ع) (ط) : كالشيخ.
ص -59-(39/48)
والذين يجعلون مع الله آلهة أخرى: مثل الملائكة، والمسيح (1) وعزير, والصالحين أو قبورهم.لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق وترزق, وإنما كانوا يدعونهم, يقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله.
فبعث الله الرسل تنهى أن يدعا أحد من دونه : لا دعاء عبادة ولا دعاء استعانة (2).
وقال أيضا رحمه الله- وقد سئل عن رجلين تنازعا, فقال أحدهما: لابد لنا من واسطة بيننا وبين الله؛ فإنا لا نقدر أن نصل إليه إلا بذلك, فأجاب الشيخ رحمه الله بقوله-: إن أراد بذلك (3) أنه لابد لنا من واسطة تبلغنا أمر الله, فهذا حق؛ فإن الخلق لا يعلمون ما يحبه الله ويرضاه، وما يأمر (4) به وينهى عنه, إلا بواسطة الرسل الذين أرسلهم الله إلى عباده.
وهذا مما (5) أجمع عليه أهل الملل: من المسلمين، واليهود، والنصارى؛ فإنهم يثبتون الوسائط بين الله وبين عباده: وهم الرسل الذين بلغوا عن الله أوامره ونواهيه، قال تعالى:{ اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ } (6) ومن أنكر هذه الوسائط, فهو كافر بإجماع أهل الملل.
وإن أراد (7) بالواسطة: أنه لابد من واسطة يتخذها العباد بينهم وبين الله, في جلب المنافع ودفع المضار- مثل أن يكونوا واسطة في رزق العباد ونصرهم وهداهم- يسألونه (8) بذلك (9) ويرجعون إليه فيه.
__________
(1) (ع) : مثل المسيح والملائكة.
(2) ينظر "مجموع فتاوى ابن تيمية"11/499-502.
(3) (ط) : بذلك. ساقطة.
(4) (ط) : ويأمر.
(5) (ط) : ما.
(6) سورة الحج آية 75.
(7)(ط) : أرادوا.
(8) (ط) : يسألون.
(9) (ع) (ط) : ذلك.
ص -60-(39/49)
فهذا من أعظم الشرك الذي كفَّر الله به المشركين, حيث اتخذوا من دون الله (1) أولياء وشفعاء: يجتلبون بهم المنافع, ويدفعون (2) بهم المضار.
إلى أن قال: من جعل الأنبياء والملائكة وسائط, يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار، مثل أن يسألهم غفران الذنوب وهداية القلوب وتفريج الكربات (3) وسد الفاقات، فهو كافر بإجماع المسلمين.
إلى أن قال: فمن أثبت وسائط بين الله وبين خلقه- كالحُجَّاب الذين بين الملك وبين رعيته- (4)/ بحيث يكونون هم يرفعون إلى الله حوائج خلقه.
وأن الله إنما يهدي عباده وينصرهم ويرزقهم، بتوسطهم: بمعنى أن الخلق يسألونهم وهم يسألون الله, كما أن الوسائط عند الملوك يسألون الملوك حوائج الناس؛ لقربهم منهم، والناس يسألونهم: أدبا منهم أن يباشروا سؤال الملك, أو لأن طلبهم من الوسائل (5) أنفع لهم من طلبهم من الملك؛ لكونهم أقرب إلى الملك من الطالب.
فمن أثبتهم وسائط على هذا الوجه: فهو كافر مشرك, يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل.
وهؤلاء مشبهون، شبهوا الخالق بالمخلوق, وجعلوا لله أندادا. وفي القرآن من الرد على هؤلاء: ما لا تتسع له هذه الفتوى (6).
__________
(1) (ع) : دونه.
(2) (ع) : ويستدفعون.
(3) (ع) : الكروب.
(4) (ع) (ط) : وبين رعيته.
(5) (ع) : الوسائط.
(6) ينظر الواسطة بين الخلق والحق "مجموع فتاوى ابن تيمية" 1/121-126.
ص -61-(39/50)
فإن هذا دين المشركين عباد الأوثان، كانوا يقولون: إنها تماثيل الأنبياء والصالحين، وأنها وسائل يتقربون بها إلى الله، وهو من الشرك الذي أنكره الله على النصارى حيث قال:{ اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} (1) الآية. انتهى (2).
فقد جزم رحمه الله في مواضع كثيرة: بكفر من فعل ما ذكره من أنواع الشرك, (وحكى إجماع المسلمين على ذلك) (3), ولم يستثن الجاهل ونحوه. وقال تعالى:{ إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} (4).
وقال عن المسيح إنه قال: ({إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ}(5) .
فمن خص ذلك الوعيد ) (6) بالمعاند فقط, وأخرج الجاهل والمتأول والمقلد: فقد شاقَّ الله ورسوله، وخرج عن سبيل المؤمنين.
والفقهاء يصدِّرون باب حكم المرتد: بمن أشرك بالله. ولم يقيِّدوا ذلك بالمعاند.
وهذا أمر واضح ولله الحمد.
وقد قال (7) الله تعالى:{ رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (8).
وقال الشيخ أيضا: وهذه الأمور المبتدعة عند القبور أنواع: أبعدها عن الشرع (9): أن يسأل الميت حاجة , كما يفعله كثير من الناس.
__________
(1) سورة التوبة آية 31.
(2) الواسطة بين الخلق والحق "مجموع فتاوى ابن تيمية " 1/135.
(3) ما بينهما معلق في هامش (ع) وبجواره كلمة صح.
(4) سورة النساء آية 48 وآية 116.
(5) سورة المائدة آية 72.
(6) ما بينهما معلق في هامش الأصل وبجواره كلمة صح.
(7) (ط) :وقال.
(8) سورة النساء آية 165.
(9) (ط) : الشرائع.
ص -62-(39/51)
وهؤلاء من جنس عُبَّاد الأصنام؛ ولهذا قد (1) يتمثل لهم الشيطان في صورة الميت والغائب، كما يتمثل لعباد الأصنام.
ومن تقريره رحمه الله في هذا الأصل: ما ذكره في اقتضاء الصراط المستقيم، حيث قال: إن الدعاء المتضمن شركا: كدعاء غيره (2) أن يفعل، أو دعائه أن يدعو, ونحو ذلك: لا يُحصِّل (3) غرض صاحبه، ولا يورث حصول الغرض شبهة إلا في الأمور/ الحقيرة، وأما الأمور العظيمة: كإنزال الغيث عند القحوط (4), وكشف العذاب النازل. فلا ينفع فيه هذا الشرك, قال تعالى:{قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ } (5).
وقال :{ فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ }(6) . وقال: { وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ }. وقال: { أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ} (7)الآيات.
فكون هذه المطالب العظيمة لا يستجيب فيها إلا هو سبحانه: دل على توحيده, وقطع شبهة من أشرك به, وعُلم بذلك أن ما دون هذا أيضا من الإجابات, إنما فعلها هو سبحانه وحده لا شريك له، وإن كانت تجري بأسباب محرمة أو مباحة؛ كما أن خلقه السموات والأرض والسحاب والرياح،وغير ذلك من الأجسام العظيمة: دال على
__________
(1) (ط) :قد. ساقطة.
(2) (ع) (ط) : غير الله.
(3) (ط) : ليحصل.
(4) (ع) (ط) : القحط.
(5) سورة الأنعام الآيتان 40، 41.
(6) سورة العنكبوت آية 65.
(7) سورة النمل آية 62.
ص -63-(39/52)
وحدانيته, وأنه خالق كل شيء, وأن ما دون هذا بأن يكون خلقا له أولى؛ إذ هو منفعل عن مخلوقاته العظيمة، فخالق السبب التام, خالق للمسبب لا محالة.
وجماع ذلك: بأن (1) الشرك نوعان:
شرك في ربوبيته: بأن يجعل معه لغيره (2) تدبير (3) ما, كما قال تعالى: { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ } (4).
فبين (5) أنهم لا يملكون ذرة استقلالا, ولا يشركونه في شيء من ذلك, ولا يعينونه على ملكه. فمن لم (6) يكن مالكا ولا شريكا ولا عونا, فقد انقطعت علاقته.
وشرك في الألوهية: بأن يدعا غيره: دعاء عبادة، أو دعاء مسألة. كما قال تعالى:{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (7) فكما أن إثبات المخلوقات أسبابا: لا يقدح في توحيد الربوبية, ولا يمنع أن يكون الله خالق كل شيء, ولا يوجب (8) (أن يدعا المخلوق دعاء عبادة أو دعاء استعانة.
كذلك إثبات بعض الأفعال المحرمة من شرك أو غيره، أسبابا: لا يقدح في توحيد الألوهية, ولا تمنع)(8) (9) أن يكون الله هو الذي يستحق
__________
(1) (ع) (ط) :أن.
(2)(ع) (ط) : لغيره معه.
(3) الأصل : تدبيرا.
(4) سورة سبأ آية 22.
(5) (ع) (ط) : فتبين.
(6) الأصل: فلم.
(7) سورة الفاتحة آية5.
(8) ما بينهما معلق في هامش (ع) وبجواره كلمة صح.
(9) (ع) (ط) : الإلهية ولا يمنع.
ص -64-(39/53)
الدين الخالص, ولا يوجب أن تستعمل الكلمات والأفعال التي فيها شرك إذا كان الله يسخط ذلك / ويعاقب العبد عليه، وتكون مضرة ذلك على العبد أكثر من منفعته؛ إذ قد جعل الخير كله في: أنا لا نعبد إلا إياه, ولا نستعين إلا إياه.
وعامة آيات القرآن تثبت هذا الأصل, حتى أنه سبحانه قطع اثر الشفاعة بدون إذنه.
فذكر رحمه الله آيات كثيرة في هذا المعنى. ثم قال: والقرآن عامته إنما هو في تقرير هذا الأصل العظيم, الذي هو أصل الأصول (1).
وقال رحمه الله في موضع آخر (2): ونحن نعلم بالضرورة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته أن يدعو (3) أحدا من الأحياء والأموات, لا الأنبياء ولا غيرهم, لا بلفظ الاستغاثة ولا بلفظ الاستعانة, ولا بغيرهما. كما لم يشرع السجود لميت, ولا إلى ميت ونحو ذلك.
بل نعلم أنه نهى عن ذلك كله, وأنه من الشرك الذي حرمه الله ورسوله, لكن لغلبة الجهل , وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين: لم يمكن تكفيرهم، حتى يبين لهم ما جاء به الرسول.
قال : ولهذا ما بينت هذه المسألة قط (4) لمن يعرف أصل دين (5) الإسلام, إلا تفطن لها، وقال: هذا أصل دين الإسلام.
وكان بعض أكابر الشيوخ العارفين من أصحابنا يقول: هذا أعظم ما بينته لنا؛ لعلمه بأن هذا أصل الدين. انتهى.
__________
(1) "اقتضاء الصراط المستقيم"2/702-705.
(2) (ط) : مواضع.
(3) (ط) : تدعو.
(4) (ط) : قط. ساقطة.
(5) (ط) : دين. ساقطة.
ص -65-(39/54)
فقوله رحمه الله: لم يمكن تكفيرهم حتى يبين لهم ما جاء به الرسول – (1) (لم يقل: حتى يتبين لهم ما جاء به الرسول)(1) (2) - أي:لم يمكن تكفيرهم بأشخاصهم وأعيانهم: بأن يقال: فلان كافر ونحوه.
بل يقال: هذا كفر، ومن فعله كفر؛ كما (3) أطلق رحمه الله الكفر على فاعل هذه الأمور ونحوها في مواضع لا تحصى, وحكى إجماع المسلمين على كفر فاعل هذه الأمور الشركية.
وصرَّح بذلك رحمه الله في مواضع, كما قال في أثناء جواب له في الطائفة القلندرية (4).
قال بعد كلام كثير: وأصل ذلك, أن المقالة التي هي كفر في الكتاب والسنة والإجماع، يقال: هي كفر مطلقا(5) ؛ كما دل على ذلك الدليل الشرعي.
فإن الإيمان والكفر من الأحكام المتلقاة عن الله ورسوله، ليس ذلك مما يحكم الناس فيه بظنونهم، ولا يجب أن يحكم في كل شخص قال ذلك: بأنه كافر، حتى يثبت (6) في حقه شروط التكفير، وتنتفي موانعه. مثل من قال: إن الزنا أو الخمر حلال؛ لقرب عهده بالإسلام أو نشوئه ببادية بعيدة (7).
__________
(1) ما بينهما ساقط من (ط).
(2) (ع) : (ما جاء به الرسول، ومراده بقوله: لم يكن يكفرهم حتى يتبين لهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم...) وبجواره كلمة صح.
(3) (ط) : كما. ساقطة.
(4) أصل هذا الصنف : أنهم كانوا قوما من نساك الفرس، يدورون على ما فيه راحة قلوبهم بعد أداء الفرائض واجتناب المحرمات،ثم إنهم بعد ذلك تركوا الواجبات وفعلوا المحرمات، وسيماهم حلق اللحى، وكثير منهم أكفر من اليهود والنصارى. ينظر "مجموع فتاوى ابن تيمية"35/163.
(5) (ط) : مطلق. وفي "مجموع الفتاوى": قولا يطلق.
(6) (ط) : تثبت.
(7) "مجموع فتاوى ابن تيمية " 35/165.
ص -66-(39/55)
وقال رحمه الله في موضع آخر- في أثناء كلام له على هذه المسألة-: وحقيقة الأمر في ذلك: أن القول يكون كفرا, فيطلق القول بتكفير صاحبه فيقال (1): من قال /كذا فهو كافر.
لكن الشخص المعين الذي قاله: لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها.
فهذا كما في نصوص الوعيد, فإن الله يقول: { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} (2). الآية.
فهذا ونحوه من نصوص الوعيد, حق. لكن الشخص المعين لا يشهد عليه بالوعيد, فلا نشهد (3) لمعين من أهل القبلة بالنار؛ لجواز ألا يلحقه الوعيد لفوات شرطه أو بثبوت (4) مانع. فقد لا يكون بلغة التحريم, وقد يتوب من فعله (5) المحرم، وقد يكون له حسنات عظيمة تمحو عقوبة ذلك المحرم, وقد يبتلى بمصائب تكفر عنه.
وقال ابن القيم في شرح المنازل: ومن أنواعه- أي: الشرك- طلب الحوائج من الموتى, والاستغاثة بهم, والتوجه إليهم.
وأصل أصل شرك العالم, فإن الميت قد انقطع عمله, وهو لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا, فضلا (6) لمن استغاث به (7) وسأله أن يشفع له (8).
وقال في أثناء كلام له: فما أسرع أهل الشرك إلى إتخاذ الأوثان من
__________
(1) (ع) (ط) : ويقال.
(2) سورة النساء آية 10.
(3) (ع) (ط) : يشهد.
(4) (ع) (ط) : شرط أو ثبوت.
(5) (ع) (ط) : فعل.
(6) (ط) : فضلا عن أن يملكه لمن.
(7) (ع) (ط) : أو.
(8) "مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين"1/346.
ص -67-(39/56)
دون الله ولو كانت ما كانت!
ويقولون : إن هذا الحجر, وهذه الشجرة (1) , وهذه العين, تقبل النذر. أي: تقبل العبادة من دون الله تعالى؛ فإن النذر عبادة وقربة يتقرب بها الناذر إلى المنذور له.
وقال في الهدي (2)- في فوائد غزوة الطائف (3) - : ومنها: أنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت، بعد القدرة على هدمها وإبطالها، يوما واحدا.
فإنها شعائر الكفر والشرك، وهي من أعظم (4) المنكرات, فلا يجوز الإقرار عليها بعد القدرة البتة، وهذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور التي اتخذت أوثانا وطواغيت تعبد من دون الله, والأحجار التي تقصد بالتعظيم, والتبرك والنذر والتقبيل.
فلا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض مع القدرة على إزالتها, وكثير منها بمنزلة اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى, بل أعظم شركا عندها وبها. والله المستعان.
ولم يكن أحد من أرباب هذه الطواغيت يعتقد أنها تخلق وترزق وتحيي وتميت, وإنما كانوا يفعلون عندها وبها ما يفعله إخوانهم من المشركين اليوم عند طواغيتهم، فأتبع هؤلاء سنن من كان قبلهم، وسلكوا سبيلهم حذو القذة بالقذة، وأخذوا مأخذهم شبرا بشبر وذراعا بذراع /.
وغلب الشرك على أكثر النفوس؛ لظهور الجهل وخفاء العلم , فصار
__________
(1) (ط) : وهذه الشجرة. ساقط.
(2) (ع) : في الهدي. ساقط.
(3) كانت في شوال سنة ثمان من الهجرة ، بعد منصرفه من غزاة حنين. ينظر " جوامع السيرة" لابن حزم/242 و"الدر" لابن عبد البر /272.
(4) في "الهدي" : وهي أعظم.
ص -68-(39/57)
المعروف منكرا والمنكر معروفا, والسنة بدعة والبدعة سنة ، ونشأ في ذلك الصغير وهرم عليه الكبير، وطمست الأعلام واشتدت غربة الإسلام، وقل العلماء وغلبت السفهاء، وتفاقم الأمر واشتد البأس، وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس.
ولكن لا تزال طائفة من العصابة المحمدية بالحق قائمين، ولأهل الشرك والبدع مجاهدين, إلى أن
يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. انتهى (1).
والأمر كما قال رحمه الله : أن سبب حدوث الشرك وظهوره: ظهور (2) الجهل (3) وخفاء العلم, وقلة العلماء وغلبة السفهاء.
فيستبين (4) لطالب الحق: أن من جادل عن المشركين، وسهل عليهم ما ارتكبوه من الشرك, واحتج لهم بالحجج الباطلة: أنه فاقد أهل العلم وأفرضه، فيستحق أن يوصف بالجهل، وإن كان له اشتغال بأنواع من العلوم القليل نفعها.
ففي هذا مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم: " لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة"(5) .
__________
(1) "زاد المعاد في هدي خير العباد" 3/506-507.
(2) (ط) : وظهوره: ظهور.ساقط.
(3) (ط) : و. ساقطة.
(4) (ع) : فتبين (ط) : فيتبين.
(5) أخرجه البخاري في "الصحيح" رقم 3456 ، ومسلم في "الصحيح" رقم 2669 ، وأحمد في "المسند" 3/84، 89، 94 من حديث أبي سعيد الخدري، وأخرجه البخاري في "الصحيح" رقم 7320، وابن ماجه في "السنن" رقم 3994، وأحمد في "المسند" 2/327, 450، 527 من حديث أبي هريرة ، وجملة "حذو القذة بالقذة" لم تخرج في الصحيحين، وإنما هي من حديث شداد بن أوس عند أحمد في "المسند" 4/125.
ص -69-
وما أحسن ما قال ابن المبارك (1):
وهل أفسد الدين إلا الملوك
وأحبار سوء ورهبانها (2)(39/58)
ويروى: أن هلاك من (3) قبلنا ، كان على يد (4) قرائهم وفقهائهم فإنا لله وإنا إليه راجعون.
قال ابن القيم: ومن ذبح للشيطان ودعاه، واستعاذ به، وتقرب إليه بما يحب (5), فقد عبده وإن لم يسم ذلك عبادة, ويسميه استخداما وصدق! هو استخدام من الشيطان له (6).
وقال:
والشرك فاحذره فشرك ظاهر
ذا القسم ليس بقابل الغفران
__________
(1) أبو عبد الرحمن ، عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي التميمي ، مولاهم، ثقة ثبت فقيه عالم جواد مجاهد، جمعت فيه خصال الخير، كان من المعاصرين للإمام المجاهد أحمد بن حنبل، ومن الأفذاذ الذين أنجبتهم الأمة الإسلامية وسجلوا في تأريخها أروع الأمثلة في الزهد والورع والبعد التام عن مواطن الذلة والمهانة والاسترزاق بالدين والمساومة عليه!، والوقوف بأبواب بعض المخلوقات الشرهة المتأمرة الحقيرة!! ت181 "تقريب" 320.
(2) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" 8/279 وابن عبد البر في "الجامع" 1/200 في جملة أبيات مطلعها:
رأيت الذنوب تميت القلوب
ويتبعها الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب
وخير لنفسك عصيانها
ثم قال:
لقد رتع القوم في جيفة
يبين لذي العقل أنتانها!!
(3) (ط) : من كان .
(4) (ع) : يدي (ط) : أيدي.
(5) (ط) : يجب.
(6) (ط) : له. ساقطة.
ص -70-
وهو اتخاذ الند للرحمن أيا
كان من شجر (1) ومن إنسان
يدعوه أو يرجوه ثم يخافه
ويحبه كمحبة الديان
والله ما ساووهم بالله في
خلق ولا رزق ولا إحسان
لكنهم (2) ساووهم بالله في
حب وتعظيم وفي إيمان (3)
جعلوا محبتهم مع الرحمن ما
جعلوا المحبة قط للرحمن (4)(39/59)
وقال شيخ الإسلام: وأما ما نذره لغير الله: كالنذر للأصنام والشمس, والقمر والقبور, ونحو ذلك. فهو بمنزلة أن يحلف بغير الله من المخلوقات.
والحالف بالمخلوقات لا وفاء / عليه ولا كفارة، وكذلك الناذر للمخلوق ليس عليه وفاء ولا كفارة؛ لأن كليهما شرك, والشرك ليس له حرمة، بل عليه أن يستغفر الله من العقد, ويقول ما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من حلف باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله" (5) . انتهى (6).
قوله: فهو بمنزلة أن يحلف بغير الله. أي: في عدم الانعقاد؛ لأن (7)
__________
(1) (ط) و"الكافية" :حجر.
(2) الأصل و(ع): لكن. تحريف.
(3) في "الكافية" بين هذا البيت والذي قبله قوله: فالله عندهم هو الخلاق الرزاق مولي الفضل والإحسان.
(4) "الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية" /157.
(5) أخرجه البخاري في "الصحيح" رقم 6650،ومسلم في "الصحيح" رقم 1647 ،و أبو داود في "السنن" رقم 3247، والترمذي في "الجامع" رقم 1545, وابن ماجه في "السنن" رقم 2096، والنسائي في "المجتبى" 7/7 , وأحمد في "المسند" 2/309 ،والبيهقي في "السنن الكبرى" 1/149 ، من حديث أبي هريرة.
(6) ينظر "مجموع فتاوى ابن تيمية " 11/504 ، 27/146 ، 33/123.
(7) (ع) :لا أن (ط): ولأن.
ص -71-(39/60)
حقيقته كحقيقته؛ لأن (1) النذر عبادة بخلاف الحلف.
وقال أيضا: قوله:{ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ}(2) ظاهره: أنه ما ذبح لغير الله، مثل أن يقول: هذه ذبيحة لكذا.
وإذا كان هذا المقصود(3) : فسواء لفظ به أو لم يلفظ, وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبح للحم, وقيل فيه: باسم المسيح ونحوه؛ لأن ما ذبحناه متقربين به (4) إلى الله, كان أزكى وأعظم مما ذبحناه للحم, وقلنا فيه: بسم الله . فإن عبادة الله بالصلاة له، والنسك : أعظم من الاستعانة باسمه في فواتح الأمور.
فإذا حرم ما قيل فيه: باسم المسيح أو الزهرة, فلأن يحرم ما قيل فيه: لأجل المسيح أو الزهرة, أو (5) قصد به ذلك أولى. فإن العبادة لغير الله , أعظم كفرا من الاستعانة بغير الله.
فعلى هذا: فلو ذبح لغير الله متقربا إليه لحرُم، وإن قال فيه: بسم الله, كما (6) يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة ، الذين يتقربون إلى الكواكب بالذبح والبخور (7) ونحو ذلك.
وإن (8) كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبيحتهم بحال، لكن يجتمع في الذبيحة مانعان. ومن هذا الباب: ما يفعله الجاهلون بمكة من
__________
(1) (ع) : حقيقته كحقيقة(ط) ساقط.
(2) سورة المائدة آية 3.
(3) (ط) : هذا هو.
(4) (ط) : به. ساقطة.
(5) (ط) :و.
(6) (ع) (ط) :كما قد.
(7) (ط) : النذور. وعلق في هامش (ع) وكتب عليه حرف (خ) إشارة إلى ما في النسخة الأخرى.
(8) (ط) :إن.
ص -72-(39/61)
الذبح للجن (1).
قال: ولهذا كان عُباد الشياطين (2) والأصنام, يذبحون لها الذبائح، فالذبح للمعبود غاية (3) الذل والخضوع؛ ولهذا لم يجز للذبح لغير الله.
وقال في موضع آخر: والمسلم إذا ذبح لغير الله، أو ذبح بغير اسمه لم تبح ذبيحتهن وإن كان يكفر بذلك.
إلى أن (4) قال: ولأن الذبح لغير الله, وباسم غيره: قد علم أنه ليس من دين الإسلام، بل هو من الشرك الذي أحدثوه.
قال: وقول الشيخ: انذروا لي لتقضى حاجتكم أن استعينوا بي. إن أصر ولم يتب، قتل (5).
وقال أبو محمد البربهاري (6)- شيخ الحنابلة في وقته- في عقيدته: ولا نخرج أحدا من أهل القبلة من (7) الإسلام، حتى يرد آية من كتاب الله أو يرد شيئا (8) من آثار رسول الله، أو يصل لغير الله, أو يذبح لغير الله.[وإذا فعل شيئا من ذلك] (9) فقد وجب عليك أن تخرجه من الإسلام- في كلام كثير- (10) انتهى (11).
__________
(1) عادة جاهلية انقرضت الآن والحمد لله
(2) (ع) (ط) : الشيطان.
(3) (ط) :غايته.
(4) (ط) : أنه.
(5) ينظر "مجموع فتاوى ابن تيمية " 17/484، 486 , 23/125.
(6) الحسن بن علي بن خلف، حافظ ، فقيه، ثقة ، زاهد، جريء في الحق. ت329 "سير أعلام النبلاء" 15/90.
(7) (ع) (ط) :عن.
(8) الأصل: شيء . تحريف.
(9) إضافة من "شرح السنة".
(10) (ع) (ط) : كثير ذكره.
(11) كتاب "شرح السنة" /31.
ص -73-(39/62)
سمع البربهاري من المروذي وغيره (1).
وقال ابن القيم: رايت لأبي الوفاء بن عقيل/ فصلا حسنا، فذكرته بلفظه.
قال: لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع (2) وضعوها لأنفسهم, فسهلت عليهم؛ إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم.
قال : وهم عندي كفار بهذه الأوضاع, مثل تعظيم القبور وإكرامها بما نهى عنه الشرع: مثل إيقاد السرج وتقبيلها وتخليقها، وخطاب أهلها بالحوائج، وكتب الرقاع فيها: يا مولاي افعل لي (3) كذا وكذا, وأخذ تربتها تبركا، وإفاضة (4) الطيب على القبور, وشد الرحال إليها، وإلقاء الخرق على الشجر اقتداء بمن عبد اللات والعزى.
والويل عندهم: لمن لم يقبل مشهد الكف، ولم يتمسح بالآجر يوم الأربعاء, ولم يقل الحمالون على جنازته: أبو بكر الصديق ومحمد وعلي، أو (5) لم يعقد على قبر أبيه أزجا (6) بالجص والآجر, ولم يخرق ثيابه, ولم يرق ماء الورد على القبر.انتهى (7).
فانظر إلى تكفير ابن عقيل لهم، مع إخباره بجهلهم.
وقال الشيخ قاسم الحنفي في شرح درر البحار: النذر الذي
__________
(1) مناقب الإمام أحمد (المختارون من الطبقة الثانية)618.
(2) الأصل و(ط) : تعظيم. ساقطة، وعلقت في هامش (ع) وكتب بجوارها: صح أصل.
(3) (ع) (ط) : بي.
(4) الأصل: وإضافة.
(5) (ع) (ط) : و.
(6) الأزج : ضرب من الأبنية. "التاج"5/404.
(7) "إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان" 1/214.
ص -74-(39/63)
ينذره أكثر العوام، على ما هو مشاهد الآن: كأن يكون لإنسان غائب أو مريض، أو له حاجة ضرورية، فيأتي إلى قبر بعض الصلحاء, ويجعل على (1) رأسه سترة، ويقول: يا سيدي فلان! إن رد الله غائبي أو عوفي مريضي، أو قضيت حاجتي. فلك من الذهب كذا، أو من الفضة كذا، أومن الطعام كذا، أو من الماء كذا، أو من الشمع كذا. فهذا باطل بالإجماع لوجوه منها: أنه نذر لمخلوق، والنذر للمخلوق لا يجوز؛ لأنه عبادة ، والعبادة لا تكون لمخلوق.
ومنها: أن المنذور له ميت، والميت لا يملك.
ومنها: أنه ظن أن الميت يتصرف في الأمور دون الله, واعتقاد ذلك كفر.
إلى أن قال: إذا علمت ذلك. فما يؤخذ من الدراهم والشمع والزيت وغيرها، وينقل إلى ضرائح الأولياء تقربا إليهم، فحرام بإجماع المسلمين.
وقال النووي (2)- في شرح مسلم، على قول النبي صلى الله عليه وسلم: " لعن الله من ذبح لغير الله" (3)-: المراد به أن يذبح بغير اسم الله، كم يذبح للصنم أو للصليب، أو لموسى أو لعيسى, أو للكعبة، ونحو ذلك.وكل هذا حرام، ولا تحل هذه الذبيحة (4).
وسواء كان الذابح مسلما أو نصرانيا.
__________
(1) الأصل: على.ساقطة.
(2) أبو زكريا يحيى بن شرف النووي، حافظ فقيه، في عقيدته بعض الانحراف عن جادة أهل السنة والجماعة، والله يغفر له. ت676 "شذرات الذهب" 5/356.
(3) قطعة من حديث أخرجه مسلم في "الصحيح" رقم 1978 ، والنسائي في "المجتبى" 7/232 ,وأحمد في "المسند" 1/108, 118، 152، والحاكم في "المستدرك"/153 من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأخرجه النسائي في "الكبرى" (كتاب الرجم) كما في " تحفة الأشراف" 1/40 ، وأحمد في "المسند" 1/309، 317 وعبد بن حميد "مسنده" رقم 587 والحاكم في "المستدرك" 4/356 من حديث ابن عباس رضي الله عنه.
(4) (ط) : لذبيحة.
ص -75-(39/64)
إلى أن قال: فإن قصد مع ذلك تعظيم المذبوح له- غير الله – والعبادة له. كان كفرا, فإن كان الذابح مسلما. صار بالذبح مرتدا. انتهى (1).
وقال الشيخ صنع الله الحنفي – في الرد على من أجاز النذر/ والذبح للأولياء، وأثبت الأجر في ذلك-: فهذا الذبح والنذر، إن كان على اسم فلان وفلان، لغير الله. فيكون باطلا.
وفي التنزيل{ وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ } (2) { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ } (3) أي: صلاتي وذبحي لله، كما فسر به قوله: { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } (4).
قال: والنذر لغير الله إشراك مع الله.
إلى أن قال: والنذر لغير الله. كالذبح لغيره.
وقال الفقهاء : خمسة لغير الله شرك: الركوع، والسجود, والذبح, والنذر, واليمين.
قال: والحاصل . أن النذر لغير الله : فجور، فمن أين تحصل لهم الأجور!.
وقال ابن النحاس (5) في كتاب الكبائر: ومنها: إيقاد السرج عند الأحجار والأشجار، والعيون والآبار، ويقولون: إنها تقبل النذر!! وهذه كلها بدع ومنكرات قبيحة ، تجب إزالتها ومحو أثرها؛ فإن أكثر الجهال يعتقدون أنها تنفع وتضر، وتجلب وتدفع، وتشفي المرضي (6)، وترد
__________
(1) "المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج" 13/141.
(2) سورة الأنعام آية 121.
(3) سورة الأنعام آية 162
(4) سورة الكوثر آية 2.
(5) أحمد بن إبراهيم بن محمد الدمشقي الدمياطي، فقيه وداعية إصلاحي ت814" شذرات الذهب".
(6) (ع) (ط) :المرضى.
ص -76-(39/65)
الغائب إذا نذر لها. وهذا شرك ومحادة لله ورسوله (1).
وقال أبو محمد، عبد الرحمن بن إسماعيل الشافعي، المعروف بأبي شامة (2)- في كتاب البدع والحوادث-: ومن هذا القسم أيضا: ما قد عم الابتلاء به، من تزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان (3) والعمد، وسرج مواضع مخصوصة، يحكي لهم حاك أنه رأى في منامه بها أحدا ممن شهر بالصلاح والولاية، فيفعلون ذلك, ويحافظون عليه، مع تضييعهم فرائض الله وسننه، ويظنون أنهم متقربون بذلك (4).
ثم يتجاوزون هذا، إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم، فيعظمونها(5) ، ويرجون الشفاء (6) لمرضاهم وقضاء حوائجهم بالنذر لهم ،وهي من بين عيون وشجر وحائط!!.
وفي مدينة دمشق- صانها الله – من ذلك مواضع متعددة: كعوينة الحمى خارج باب توما، والعمود المخلق داخل باب الصغير، والشجرة الملعونة اليابسة خارج باب النصر في نفس قارعة الطريق- سهل الله قطعها واجتثاثها من أصلها- فما أشبهها بذات أنواط الواردة في الحديث – وذكر الحديث-.
ثم قال: قال أبو بكر الطرطوشي (7): فانظروا رحمكم الله. أينما وجدتم: سدرة أو شجرة يقصدها الناس، ويعظمونها، ويرجون البرء
__________
(1) "تنبيه الغافلين" للنحاس /403.
(2) حافظ أصولي، وداعية إلى السنة. ت665. "شذرات الذهب"5/318.
(3) خلَّقه تخليقا: طيبه فتخلق به. ترتيب القاموس 2/100.
(4) ما بينهما معلق في هامش الأصل، وبجواره كلمة صح.
(5) (ع) (ط) : فيعظمونها: ساقطة.
(6) (ع) (ط) : الشفاعة.
(7) محمد بن الوليد بن محمد بن خلف، تلميذ أبي الوليد الباجي الإمام الكبير، حافظ فقيه ، نقي المشرب.ت520 "سير أعلام النبلاء" 19/490.
ص -77-(39/66)
والشفاء من قبلها، وينوطون (1) بها المسامير والخرق: فهي ذات أنواط /فاقطعوها.
ثم قال(2) : ولقد أعجبني ما صنعه الشيخ أبو إسحاق الجبيناني (3) رحمه الله – أحد الصالحين ببلاد إفريقيه في المائة الرابعة -: حكى عنه صاحبه الصالح أبو عبد الله محمد بن أبي العباس المؤدب: أنه كان إلى جانبه عين تسمى عين العافية، كان العامة قد افتتنوا بها، يأتونها من الآفاق، من تعذر عليها نكاح أو ولد قالت: امضوا بي إلى العافية، فتعرف بها الفتنة.
قال أبو عبد الله: فأنا في السحر ذات ليلة، إذ سمعت أذان أبي إسحاق نحوها، فخرجت فوجدته قد هدمها، وأذن الصبح عليها!. ثم قال: اللهم إني هدمتها لك فلا ترفع لها رأسا، فما رفع لها رأس إلى الآن . انتهى (4).
وكان الإمام أبو محمد بن أبي زيد (5) يعظم شأن أبي إسحاق هذا، ويقول: طريقة أبي إسحاق خالية لا يسلكها أحد في الوقت (6).
وقال الشيخ صنع الله الحنفي- في كتابه الذي ألفه في الرد على من ادعى أن للأولياء تصرفات (7) في الحياة وبعد الممات، على سبيل
__________
(1) في جميع النسخ: يضربون. والمثبت من كتاب" الحوادث والبدع للطرطوشي" /37.
(2) أبو شامة رحمه الله.
(3) إبراهيم بن أحمد بن علي بن مسلم، البكري الوائلي. ت369 "الديباج المذهب" 1/264.
(4) "الباعث على إنكار البدع والحوادث" لأبي شامة/23-24.
(5) الأصل : بن زيد (ط) بن أبي زيد. تحريف. وهو عبد الله بن عبد الرحمن النفزي ، حافظ فقيه، ورع ، ت386 "المدارك" 2/492.
(6) نقله القاضي عياض في "المدارك" 2/500.
(7) (ع) (ط) : تصرفا.
ص -78-(39/67)
الكرامة-: هذا وإنه قد ظهر الآن – فيما بين المسلمين- جماعات يدعون أن للأولياء تصرفا في حياتهم وبعد الممات، ويستغاث بهم في الشدائد والبليات.
وبهم تكشف المهمات. فيأتون قبورهم وينادونهم في قضاء الحاجات؛ مستدلين على أن ذلك منهم كرامات.
وقالوا: منهم أبدال ونقباء وأوتاد ونجباء، وسبعون وسبعة وأربعون وأربعة، والقطب هو الغوث للناس وعليه المدار بلا التباس!!
وجوَّزوا لهم الذبائح والنذور، وأثبتوا لهم فيهما الأجور!
قال: وهذا كلام فيه تفريط وإفراط، بل فيه الهلاك الأبدي والعذاب السرمدي؛ لما فيه من روائح الشرك المحقق، ومضادة الكتاب العزيز المصدق، ومخالف لعقائد الأئمة، ما اجتمعت عليه الأمة. وفي التنزيل: { وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا} (1).
إلى أن قال: الفصل الأول: فيما انتحلوه من الإفك الوخيم، والشرك العظيم.
إلى أن قال: فأما قولهم: إن للأولياء تصرفا في حياتهم وبعد الممات، فيرده قول الله تعالى: { أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ } (2) { أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ } (3) { وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } (4) ونحوه (5) من الآيات الدالة على أنه المنفرد بالخلق والتدبير/ والتصرف والتقدير, ولا شيء
__________
(1) سورة النساء آية 115.
(2) سورة النحل الآيات 60، 61 , 62 ، 63 ، 64.
(3) سورة الأعراف آية 54.
(4) سورة الشورى آية49.
(5) (ع) (ط) : ونحو ذلك.
ص -79-(39/68)
لغيره في شيء ما بوجه من الوجوه. والكل تحت ملكه وقهره: تصرفا وملكا، وإحياء وإماتة، وخلقا. وتمدح الرب سبحانه بانفراده في ملكه بآيات من كتابه كقوله:{ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ}(1) و { وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ} (2) وذكر آيات في هذا المعنى.
ثم قال: فقوله في الآيات كلها: من دونه. أي (3): من غيره، فإنه عام يدخل فيه من اعتقدته من ولي (4) وشيطان تستمده؛ فإن لم (5) يقدر على نصر نفسه كيف يمد غيره؟!
إلى أن قال: فكيف يتصور لغيره- من ممكن- أن يتصرف؟!
إن هذا من السفاهة لقول وخيم, وشرك عظيم.
إلى أن قال: وأما القول بالتصرف بعد الممات: فهو أقبح (6) وأشنع وأبدع من القول بالتصرف في الحياة، قال جل ذكره { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ } (7) { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} (8) { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ} (9) { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} (10).
وفي الحديث: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث" (11) ا لحديث
__________
(1) سورة فاطر الآية3.
(2) سورة فاطر آية 13.
(3) (ع) (ط): أي . ساقطة.
(4) (ع) ولي ونبي.
(5)(ع) (ط): من لم .
(6)(ع) (ط): أقبح. ساقطة.
(7) سورة الزمر آية 30.
(8) سورة الزمر آية42.
(9) سورة الأنبياء آية 35.
(10) سورة المدثر آية 38.
(11) أخرجه مسلم في "الصحيح" رقم 1631 , وأبو داود في "السنن" رقم 2880 =
ص -80-(39/69)
فجميع ذلك وما هو نحوه، دال على انقطاع الحس والحركة من الميت، وأن أرواحهم ممسكة، وأن أعمالهم منقطعة عن زيادة ونقصان.
فدل ذلك: أن (1) ليس للميت تصرف في ذاته- فضلا عن غيره- بحركة، وأن روحه محبوسة مرهونة بعملها من خير وشر، فإذا عجز عن حركته لنفسه فكيف يتصرف لغيره؟.
فالله سبحانه: يخبر أن الأرواح عنده، وهؤلاء الملحدون يقولون: إن الأرواح مطلقة متصرفة! قل أأنتم أعلم أم الله؟.
قال: وأما اعتقادهم أن هذه التصرفات لهم من الكرامات: فهو من المغالطة؛ لأن الكرامة شيء من عند الله، يكرم بها أولياءه, لا قصد لهم فيه ولا تحد, ولا قدرة ولا علم، كما في قصة مريم ابنة عمران، وأسيد بن حضير (2) , وأبي مسلم الخولاني (3).(39/70)
__________
=والترمذي في "الجامع" رقم 1376، والنسائي في "المجتبى" رقم 3651 ، وأحمد في "المسند" 2/372، والبخاري في "الأدب المفرد" رقم 38 ،والبيهقي في "السنن الكبرى" 6/278 من حديث أبي هريرة.
(1)(ع) (ط): أنه.
(2) أبو يحيى بن سماك بن عتيق الأنصاري الأشهلي ، صحابي جليل، مات سنة عشرين، وكان من خبره رضي الله عنه ، أنه سمر ذات ليلة هو وعباد بن بشر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحدثا معه، ثم خرجا فأضاءت لهما عصا أحدهما فمشيا في ضوئها، فلما تفرق بهما الطريق أضاءت لكل واحد عصاه.أخرجه ابن سعد في "الطبقات"3/606، وأحمد في "المسند" 3/138 ،190، 272، والحاكم في "المستدرك" 3/288 ، والبيهقي في "الدلائل" 6/77 ،والبخاري في "الصحيح" رقم 3805 تعليقا من حديث أنس.
(3) عبد الله بن أثوب الشامي، ثقة عابد زاهد، ت في زمن ابن معاوية السفياني، من كراماته: نجاته من النار التي أججها الطاغية الكذاب، الأسود العنسي، ثم ألقاه فيها. قال عنه الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الحمد لله الذي لم يمتني من الدنيا، حتى أراني في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من فعل به كما فعل بإبراهيم خليل الرحمن عليه السلام أخرجه أبو نعيم في الحلية2/129.
ص -81-(39/71)
قال: وأما قولهم: ويستغاث بهم في الشدائد. فهذا أقبح مما قبله وأبدع؛لمضادة قوله تعالى:{ أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ} (1) { قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} (2) وذكر آيات في هذا المعنى.
ثم قال: إنه جل ذكره: قرر أنه الكاشف للضر لا غيره, وأنه المتعين لكشف الشدائد/ والكرب، وأنه المتفرد (3) بإجابة المضطرين, وأنه المستغاث لذلك كله، وأنه القادر على دفع الضير (4) وعلى إيصال الخير، فهو المنفرد بذلك. فإذا تعين جل ذكره, خرج غيره (5) من ملك ونبي وولي.
قال: والاستغاثة تجوز في الأسباب الظاهرة العادية، من الأمور الحسية: في قتال، أو إدراك عدو أو سبع ونحوه. كقولهم: يالَزَيدٍ، يالقومي ياللمسلمين؛ كما ذكروا في كتب النحو (6)، بحسب الأسباب الظاهرة بالفعل.
وأما الاستغاثة بالقوة والتأثير، أو في الأمور المعنوية من الشدائد: كالمرض وخوف الغرق والضيق، والفقر وطلب الرزق، ونحوه. فمن خصائص الله، فلا يطلب فيها غيره.
قال: وأما كونهم معتقدين التأثير منهم في قضاء حاجاتهم؛ كما
__________
(1) سورة النمل آية 62.
(2) سورة الأنعام آية 63.
(3) (ع) : المنفرد.
(4) (ط) : الضر.
(5) (ط) : عن غيره
(6) ينظر" شرح عمدة الحافظ" لابن مالك/286.
ص -82-(39/72)
تفعله الجاهلية (1) العرب، والصوفية الجهال، وينادونهم ويستنجدون بهم: فهذا من المنكرات.
إلى أن قال: فمن اعتقد أن لغير الله- من نبي أو ولي أو روح أو غير ذلك- في كشف كربة أو قضاء حاجة تأثيرا. فقد وقع في وادي جهل خطير, فهو على شفا حفرة من السعير.
وأما كونهم مستدلين على أن ذلك منهم كرامات: فحاشا أولياء الله أن يكونوا بهذه المثابة، فهذا ظن أهل الأوثان كذا أخبر (2) الرحمن { هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ} (3) { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (4) { أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنقِذُونِ} (5).
فإن (6) ذكر ما ليس من شأنه النفع ولا دفع الضر من نبي وولي وغيره، على وجه الإمداد منه. إشراك (7) مع الله؛ إذ لا قادر على الدفع (8) غيره ولا خير إلا خيره.
وأما ما قالوه: إن فيهم أبدالا ونقباء، وأوتادا ونجباء، وسبعين وسبعة، وأربعين وأربعة، والقطب هو الغوث للناس.
فهذا من موضوعات إفكهم؛ كما ذكره القاضي المحدث ابن العربي (9)
__________
(1) (ط) : جاهلية.
(2) (ع) : أخبر عنهم.
(3) سورة يونس آية 18.
(4) سورة الزمر آية 3.
(5) سورة يس آية 23.
(6) (ع) : أي فإن.
(7) (ط) :أشرك.
(8) (ع) (ط): النفع.
(9) أبو بكر، محمد بن عبد الله المعافري الأندلسي، حافظ فقيه مفسر، ت543 "تذكرة الحفاظ" 4/1294.
ص -83-(39/73)
في: سراج المريدين, وابن الجوزي، وابن تيمية. انتهى باختصار.
وكلام العلماء في ذلك كثير, واكتفينا بما ذكرنا.
فصل
وتقدم في كلام الشيخ , الإشارة إلى أنه: لولا أنه يخشى من الفتنة بالقبور, لما نهي عن الصلاة عندها, وغير ذلك.
وتأكدت الفتنة بقضاء بعض حوائج قاصديها والمشركين بها, وذكر الشيخ رحمه الله من ذلك أشياء كثيرة ذكرها في: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء / الشيطان (1), وغيره من كتبه.
قال: والشيطان يضل بني آدم بحسب قدرته, فمن عبد الشمس والقمر والكواكب ودعاها, كما يفعله (2) أهل دعوى (3) الكواكب. فإنه ينزل عليه شيطان يخاطبه (4) ويحدثه (5) ببعض الأمور, يسمون ذلك روحانيات الكواكب. وهو شيطان.
وكذلك عباد الأصنام: قد تخاطبهم الشياطين, وكذلك من استغاث بميت أو غائب، وكذلك من دعا الميت، أو دعا عنده وظن (6) أن الدعاء عند قبره أفضل منه في البيوت (7) والمساجد.
__________
(1) مطبوع متداول، ورأيت له نسخة خطية جيدة بقلم الشيخ محمد بن حمد بن راشد ابن عساكر. كتبت سنة 1287هـ.
(2)(ع) (ط): يفعل.
(3) (ع) : دعاء. وفي "الفرقان": دعوة.
(4)(ع) (ط): ويخاطبه.
(5) (ع) : ويخبره.
(6) في "الفرقان" : أو دعا به أو ظن.
(7) (ط) من البيوت.
ص -84-(39/74)
وللنصارى والضُلَّال من المسلمين أحوال عند المشاهد يظنونها كرامات، وهي من الشيطان: مثل أن يضعوا سراويل عند القبر، فيجدونه قد عقد. أو يوضع عنده مصروع فيبصرون شيطانه قد فارقه، فيفعل هذا الشيطان ؛ليضلهم. ومثل أن يرى أحدهم أن القبر قد انشق، فيخرج منه إنسان، فيظنه الميت (1).
ومن هؤلاء: من يستغيث (2) بمخلوق حيٍ أو ميتٍ، سواء كان ذلك الحي مسلما أو نصرانيا أو مشركا.
فيتصور الشيطان بصورة ذلك المستغاث به،ويقضي بعض حاجة ذلك المستغيث. فيظن أنه ذلك الشخص، أو أنه ملَكٌ على صورته، وإنما هو شيطان أضله؛ لما أشرك بالله، كما كانت الشياطين تدخل الأصنام وتكلم المشركين.
ومن هؤلاء من يتصور له الشيطان ويقول له: أنا الخضر! وربما أخبره ببعض الأمور، وأعانه على بعض مطالبه.
ومنهم من يطير به الجني إلى مكة أو بيت المقدس أو غيرهما, ومنهم من يحمله عشية عرفة ثم يعيده من ليلته (3).
ومنهم من كان يؤتى بمال مسروق تسرقه الشياطين وتأتيه به، ومنهم من كانت تدله على السرقات (4).
قال رحمه الله: حتى إني أعرف من هؤلاء جماعات، يأتون إلى الشيخ نفسه الذي استغاثوا به- وقد رأوا أتاهم في الهواء- فيذكرون
__________
(1) "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان"/131، 142.
(2) في جميع النسخ: يستعين. والمثبت من "الفرقان".
(3) "الفرقان" /135.
(4) المصدر السابق/87.
ص -85-(39/75)
ذلك له (1).
وهؤلاء يأتون إلى هذا الشيخ: فتارة يكون الشيخ نفسه لم يعلم بتلك القضية. فإن كان يحب الرياسة سكت، وأوهمهم أنه نفسه أتاهم وأعانهم. وإن كان فيه صدق مع جهل وضلال, قال: هذا ملك صوره الله على صورتي! وجعل هذا من كرامات الصالحين، وجعله عمدة لمن يستغيث بالصالحين ويتخذهم أربابا؛ وأنهم إذا استغاثوا بهم بعث الله ملائكته / على صورهم تغيث المستغيثين بهم.
ولهذا: أعرف غير واحد منهم ممن فيه صدق وزهد وعبادة، لما ظنوا أن هذا من كرامات الصالحين، صار أحدهم يوصي مريديه (2)، يقول: إذا كانت لأحدكم حاجة فليستغث (3) بي وليستنجدني!!
ويقول: أنا أفعل بعد موتي ما كنت أفعل في حياتي! وهو لا يعرف أن تلك شياطين تُصوَّر (4) على صورته؛ لتضله، وتضل أتباعه. فيحسِّن لهم الإشراك بالله ودعاء غير الله، والاستغاثة (5) بغير الله.
وأنها قد تُلقي في قبله: أَنَّا نفعل بأصحابك بعد موتك، ما كنا نفعل بهم في حياتك.
فيظن هذا: من خطابٍ إلهي ألقي إليه، فيأمر أصحابه بذلك- وذكر أشياء كثيرة من هذا الجنس وأعظم منه-.
والمقصود: أن الإنسان إذا سمع بوقوع مثل ذلك: لا يستعبد به (6) ولا يغتر به (7)؛ إذا عرف أن مثل هذه الأمور، تقع لعُبَّاد الأصنام
__________
(1) (ط) : له. ساقطة.
(2) أتباعه والمفتونون به.
(3) الأصل: فليستغيث. تحريف.
(4) (ط) : تتصور.
(5)(ع) (ط): والاستعانة.
(6) (ع) : يستعبده.
(7) (ط) : لا يستبعده ولا يستغتر به. تحريف.
ص -86-
والقبور. والأمر كله لله: ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.(39/76)
فصل
يتعين على من نصح نفسه، وعلم أنه مسئول عما قال وفعل (1)، ومحاسب على اعتقاده وقوله وفعله: أن يُعِدَّ لذلك جوابا، ويخلع ثوبي الجهل والتعصب، ويخلص القصد في طلب الحق، قال الله تعالى:{ قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} (2).
وليعلم: أنه لا يخلصه إلا اتباع كتاب الله وسنة نبيه، قال الله تعالى:{ اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} (3) وقال تعالى:{ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} (4).
ولما كان قد سبق في علم الله وقضائه: أنه سيقع الاختلاف بين الأمة. أمرهم وأوجب عليهم عند التنازع, الرد إلى كتابه وسنة نبيه، قال تعالى:{ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (5).
قال العلماء: الرد إلى الله: الرد إلى كتابه. والرد إلى رسوله (6): الرد إليه في حياته، والرد إلى سنته بعد وفاته (7)(8) .
__________
(1) (ط) : وفعل. ساقطة.
(2) سورة سبأ آية 46.
(3) سورة الأعراف آية 3.
(4) سورة ص آية 29.
(5) سورة النساء آية 59.
(6) (ط) : الرسول.
(7)(ع) (ط): مماته.
(8) ينظر" تفسير الطبري" 8/495-504.
ص -87-(39/77)
ودلت الآية: أن من لم يرد عند التنازع إلى كتاب الله وسنة نبيه. فليس بمؤمن؛ لقوله تعالى:{ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} فهذا شرط ينتفي المشروط بانتفائه.
ومحال أن يأمر الله الناس بالرد إلى ما لا/ يفصل النزاع, لاسيما في أصول الدين: التي لا يجوز فيها التقليد عند عامة العلماء.
وقال الله تعالى:{فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} (1).
ولما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوقوع الاختلاف الكثير بعده- بين أمته-: أمرهم عند وجود الاختلاف بالتمسك بسنته، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده، فقال صلى الله عليه وسلم: " إنه من يعش منكم سيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة" (2).
ولم يأمرنا الله ولا رسوله: بالرد- عند التنازع والاختلاف- إلى ما عليه أكثر الناس، ولم يقل الله ولا رسوله: لينظر أهل كل زمان إلى ما عليه أكثر أهل زمانهم، فيتبعونهم. ولا إلى أهل مصر معين، أو إقليم (3).
وإنما الواجب على الناس: الرد (4) إلى كتاب الله وسنة نبيه، وسنة(39/78)
__________
(1) سورة النساء آية 65.
(2) قطعة من حديث العرباض بن سارية ، أخرجه أبو داود في "السنن" رقم 4607 ، والترمذي في "الجامع" رقم 2676، وقال : هذا حديث حسن صحيح، وابن ماجه في "السنن" رقم 42، وأحمد في "المسند"4/126، 127 ، والحاكم في "المستدرك" 1/95 ،والبيهقي في "الدلائل" 6/541، وأبو نعيم في "الحلية" 5/220، 10/115، وقال : هو حديث جيد، من صحيح حديث الشاميين. كما في "الجامع" للحافظ ابن رجب /187،وصححه الحافظ بن تيمية في "الاقتضاء" 2/579.
(3) (ط) : أو اقليم. ساقط.
(4) (ع) : الرد عند التنازع.
ص -88-
الخلفاء الراشدين المهديين، وما مضى عليه الصحابة والتابعون (1) لهم بإحسان. فيجب على الإنسان الالتفات إلى كتاب الله وسنة نبيه، وطريقة أصحابه والتابعين (1)، وأئمة الإسلام (2).
ولا يعبأ بكثرة المخالفين بعدهم. فإذا علم الله من العبد الصدق في طلب الحق، ترك التعصب، ورغب على الله في سؤاله هداية الصراط المستقيم: فهو جدير بالتوفيق.
فإن على الحق نورا، لا سيما التوحيد: الذي هو أصل الأصول، الذي دعت إليه الرسل من أولهم إلى آخرهم، وهو توحيد الألوهية؛ فإن أدلته وبراهينه في القرآن ظاهرة, وعامة القرآن إنما هو في تقرير هذا الأصل العظيم.
ولا يستوحش الإنسان لقلة الموافقين، وكثرة المخالفين؛ فإن أهل الحق أقل الناس فيما مضى، وهم أقل الناس فيما بقي، لاسيما في هذه الأزمنة المتأخرة، التي قد صار الإسلام فيها غريبا (3).
والحق لا يعرف بالرجال؛ كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لمن قال له (4) : أترانا(5) نرى أن (6) الزبير وطلحة كانا (7) مخطئين وأنت المصيب؟!.
فقال له علي: ويحك! يا فلان: إن الحق لا يعرف بالرجال. اعرف الحق تعرف أهله.(39/79)
__________
(1) ما بينهما ساقط من (ط) ومعلق في هامش (ع) وبجواره كلمة صح.
(2) (ط) : المسلمين.
(3) الأصل: غريب.
(4) (ط) : له .ساقطة.
(5) (ط) : أترى أنا.
(6)(ع) (ط): أن. ساقطة.
(7)(ع) (ط): كانا ساقطة.
ص -89-
وأيضا: فالحق ضالة المؤمن.
وليحذر العاقل من مشابهة الذين قال الله عنهم:{ لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} (1) { أَهَؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا} (2).
وقد قال بعض السلف: ما ترك أحد حقا / إلا لكبر في نفسه؛ ومصداق ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم، حين قال : " لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر" (3) ثم فسر الكبر بأنه: بطر الحق، وأي : رده، وغمط الناس: وهو احتقارهم وازدراؤهم.
ولقد أحسن القائل (4):
وتعرَّ من ثوبين من يلبسهما
يلقى الردى بمذمةٍ وهوان
ثوبٌ من الجهل المركب (5) فوقه
ثوب التعصب بئست (6) الثوبان
وتحلَّ بالإنصاف أفخر حلية (7)
زينت بها الأعطاف والكتفان
واجعل شعارك خشية الرحمن مع
نصح الرسول فحبذا الأمران (8)
(9) وقال أيضا رحمه الله:
والجهل داء قاتل وشفاؤه
أمران في التركيب متفقان
__________
(1) سورة الأحقاف آية 11.
(2) سورة الأنعام آية 53.
(3) أخرجه مسلم في "الصحيح" رقم 91، وأبو داود في "السنن" رقم 4091 ،والترمذي في "الجامع" رقم 1999 ،وابن ماجة في "السنن" رقم 4226، وأحمد في "المسند"1/399 ،451، وابن أبي شيبة في "المصنف" 9/89، والبيهقي في "كتاب الأدب" رقم 661 من حديث ابن مسعود.
(4) (ع) : القائل حيث قال.
(5) علق في الأصل ما نصه: الجهل المركب: هو أن يجهل الحق ويجهل جهله به.
(6) (ط) : بئسما.
(7)(ع) (ط): حلة.
(8) من كلام ابن القيم في "الكافية" /19.
(9) ما بينهما ساقط من (ع) و(ط).
ص -90-
نص من القرآن أو من سنة(39/80)
وطبيب ذاك العالم الرباني (9) (1)
قال (2) ابن القيم: وما أحسن ما قال الحافظ أبو محمد، عبد الرحمن المعروف بأبي شامة- في كتاب الحوادث والبدع-: حيث جاء الأمر بلزوم الجماعة، فالمراد به (3): لرزم الحق واتباعه،وإن كان المتمسك به قليلا، والمخالف له كثيرا؛ لأن الحق هو الذي كانت عليه الجماعة الأولى، من عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولا نظر (4) إلى كثرة أهل الباطل بعدهم.
قال عمرو بن ميمون الأودي (5) : صحبت معاذا فما فارقته حتى وأريته في التراب بالشام، ثم صحبت بعده أفقه الناس: عبد الله بن مسعود، فسمعته يقول: عليكم بالجماعة؛ فإن يد الله على الجماعة. ثم سمعته يوما من الأيام وهو يقول: سيلي عليكم ولاةٌ يؤخرون الصلاة من مواقيتها: فصلوا الصلاة لميقاتها فهي الفريضة, وصلوا معهم فإنها لكم نافلة.
قال: قلت: يا أصحاب محمد! ما أدري ما تحدثون؟.قال: وما ذاك (6)؟ قلت: تأمرني بالجماعة , وتحضني (7) عليها، ثم تقول: صل الصلاة (8) وحدك! وهي الفريضة، وصل الجماعة (9) وهي لك نافلة (10).
__________
(1) "الكافية الشافية" /189.
(2) (ط) : وقال.
(3) (ط) : به. ساقطة.
(4)(ع) (ط): تنظر.
(5) أبو عبد الله المذحجي ، أسلم في الأيام النبوية، عابد حجة. ت 75 "السير"4/158.
(6) الأصل، و(ط): وماذا.
(7) (ع) : وتحثني.
(8) (ع) : الصلاة. ساقطة.
(9) (ع) (ط): مع الجماعة.
(10)(ع) (ط): وهي النافلة.
ص -91-(39/81)
قال : يا عمرو بن ميمون، قد كنت أظن أنك من أفقه أهل هذه القرية. تدري (1) ما الجماعة؟ قلت: لا !!
قال: إن جمهور الجماعة: الذين فارقوا (2) الجماعة! الجماعة: ما وافق الحق، وإن كنت وحدك.
وفي طريق آخر(3) : فضرب على فخذي، وقال: ويحك! إن جمهور الناس فارقوا الجماعة (4)، وإن الجماعة: ما وافق طاعة الله عزوجل (5).
قال نعيم (6) بن حماد (7) /: يعني إذا فسدت الجماعة، فعليك بما كانت عليه الجماعة قبل أن يفسدوا، وإن كنت وحدك فإنك أنت الجماعة حينئذ. ذكره البيهقي (8) وغيره.
وروى مبارك بن فضالة (9) عن الحسن البصري، قال: لو أن رجلا أدرك السلف الأول، ثم بُعث اليوم. ما عرف من الإسلام شيئا- قال: ووضع يده على خده- ثم قال: إلا هذه الصلاة.
ثم قال: أما – والله على ذلك (10) – لمن عاش في هذه النكراء,
__________
(1) (ط) : أتدري.
(2) (ط) : جمهور الناس قد فارقوا.
(3)(ع) (ط): أخرى.
(4) (ط) : قد فارقوا.
(5) أخرجه أحمد في "المسند" 5/231 بغير هذا اللفظ، وأبو داود في "السنن" رقم 432.
(6) الأصل و(ط) : عن . تحريف.
(7) أبو عبد الله بن معاوية بن الحارث الخزاعي المروزي، نزيل مصر، صدوق يخطئ كثيرا، فقيه عارف بالفرائض.ت228 "تقريب"/564.
(8) في كتاب "المدخل" كما في "الباعث على إنكار البدع والحوادث" /19-20.
(9) أبو فضالة البصري، صدوق يدلس ويسوي، صحب الحسن ثلاث عشرة سنة ت166 "تقريب"/519.
(10)(ع) (ط): على ذلك.ساقط، وفي "البدع" : ما ذلك.
ص -92-(39/82)
أو (1) لم يُدرك هذا السلف الصالح. فرأى مبتدعا يدعو إلى بدعته، ورأى صاحب دنيا يدعو إلى دنياه، فعصمه الله من ذلك، وجعل قلبه يحن إلى ذلك السلف الصالح. يسأل عن سبيلهم، ويقتصُّ آثارهم، ويتتبع (2) سبيلهم. ليعوَّض أجرا عظيما، فكذلك فكونوا (3) إن شاء الله (4).
وروى محمد بن وضاح (5)، عن أبي الطفيل (6): أن حذيفة بن اليمان، أخذ حصاة بيضاء، فوضعها في كفه، ثم قال: إن هذا الدين قد استضاء إضاءة هذه الحصاة. ثم أخذ كفا من تراب، فجعل يذرُّه على الحصاة حتى واراها، ثم قال: والذي نفسي بيده، ليجيئنَّ أقوام يدفنون الدين (7) هكذا (8)، كما دفنتُ هذه الحصاة، ولتسلُكُنَّ طريق الذين كانوا قبلكم حذو القذة بالقذة وحذو النعل بالنعل (9).
قال محمد بن وضاح: الخير بعد الأنبياء ينقص، والشر يزيد.
قال ابن وضاح: إنما هلكت بنو إسرائيل، على يدي (10) قُرَّائهم وفقهائهم (11).
__________
(1)(ع) (ط): و.
(2)(ع) (ط): ويتبع.
(3) (ط) : كونوا.
(4) أخرجه ابن وضاح في "البدع" /67.
(5) أبو عبد الله بن بزيع، مولى عبد الرحمن بن معاوية، الحافظ الأندلسي القرطبي، الزاهد العابد. ت286"لسان الميزان" 5/416.
(6) عامر بن واثلة بن عبد الله الليثي. ت110 "تقريب" /288.
(7) (ط): هذا الدين.
(8) (ط) : هكذا. ساقطة.
(9) أخرجه ابن وضاح في "البدع"/58.
(10) (ط) : أيدي.
(11) البدع/59.
ص -93-(39/83)
وروى ابن وضاح، عن عيسى بن يونس (1)، عن الأوزاعي (2)، عن حبان (3) بن أبي جبلة (4)، عن أبي الدرداء قال: لو خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عليكم اليوم (5)، ما عرف شيئا مما كان عليه هو وأصحابه إلا الصلاة!
قال الأوزاعي: فكيف لو كان اليوم!
قال عيسى بن يونس: فكيف لو أدرك الأوزاعي هذا الزمان (6)!!
وروى ابن وضاح، عن الأعمش (7) قال : قال لي شقيق أبو وائل(8) : يا سليمان (9)! ما شبَّهتُ قراء زمانك إلا بغنم رعت حمضا (10)، فمن رآها ظن أنها سمينة، وإذا ذبحها لم يجد فيها شاة سمينة (11).
وروى ابن وضاح، عن أبي الدرداء ، قال: لو أن رجلا تعلم
__________
(1) ابن أبي إسحاق السبيعي، نزل الشام مرابطا، ثقة مأمون. ت187 "تقريب"/441.
(2) أبو عمر، عبدالرحمن بن عمرو الأوزاعي، الفقيه، ثقة جليل، ت157 "تقريب"/347.
(3) في جميع النسخ: حسان، تصحيف، والمثبت من "البدع".
(4) المصري ، مولى قريش ، ثقة، ت122 "تقريب" /149.
(5) (ع) : اليكم اليوم ، و(ط): إليكم.
(6) "البدع " / 61.
(7) في جميع النسخ: الأوزاعي. تصحيف، والمثبت من "البدع" وهو أبو محمد، سليمان بن مهران الأسدي الكاهلي، ثقة حافظ، عارف بالقراءات ورع، لكنه يدلس. ت147"تقريب" /254
(8) ابن سلمة الأسدي، مخضرم أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره. ت82 "سير أعلام النبلاء" 4/161.
(9) (ع) : يا أبا سليمان، وفي "البدع": أنا سليمان. تحريف.
(10) ما كان سوى (أحرار النقل)و(ذكوره) و(عرفجه) فهو حمض، وهو من العشب عند الإبل بمنزلة اللحم، وإذا أكلت الحموض: اندلقت بطونها، وأسرعت السقوط. "النبات" للأصمعي/ 17.
(11) "البدع" /82.
ص -94-(39/84)
الإسلام وأتمه (1)، ثم تفقده ما عرف منه شيئا (2).
وروى ابن وضاع، عن عبد الله بن المبارك، قال: اعلم- أي أخي (3)- أن الموت اليوم (4)كرامة لكل مسلم لقي الله على السنة، فإنا لله وإنا إليه راجعون!. /فإلى الله نشكوا وحشتنا، وذهاب الإخوان، وقلة الأعوان، وظهور البدع. وإلى الله نشكوا عظيم ما حل بهذه الأمة: من ذهاب العلماء وأهل السنة، وظهور البدع. انتهى (5).
فكيف لو رأى من تقدم ذكرهم هذه الأزمنة. التي ظهر فيها الشرك الأكبر والأصغر، والبدع التي لا تعد ولا تحصى: في الاعتقادات والأقوال والأعمال.
وظهرت جميع الفواحش في أكثر أمصار المسلمين, وضيعت الصلوات واتبعت الشهوات،و ظهر مصداق قول حذيفة: ليجيئن أقوام يدفنون الدين كما دفنت هذه الحصاة.
وأبلغ من ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم :" لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، قالوا: اليهود والنصارى؟ قال: فمن!" (6).
وقال: " لتأخذن هذه الأمة مأخذ الأمم قبلها، شبرا بشبر وذراعا بذراع. قالوا: فارس والروم؟ قال: فمن الناس إلا أولئك" (7).
__________
(1) في "البدع" : وأهمه.
(2) "البدع" /68.
(3) في "البدع" : أني أرى.
(4) (ط) : اليوم . ساقطة.
(5) "البدع" / 39.
(6) سبق تخريجه.
(7) أخرجه ابن جرير الطبري في "التفسير" 10/121 من حديث أبي هريرة . قال: الحافظ بن كثير في "التفسير" 2/368: وهذا الحديث له شاهد في الصحيح.
ص -95-(39/85)
وظهر مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم (1) : " بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء" (2).
واعتبر هذا، بما عاب به سبحانه اليهود من تبديلهم رجم الثيب الزاني بالجلد والتحميم، فقال سبحانه في شأنهم: { يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ} (3).
يقولون (4): إن أفتاكم محمد بالجلد والتحميم فاقبلوا، وإن أفتاكم بالرجم فلا تقبلوا (5).
وقال سبحانه عنهم:{ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}(6).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم- لما رجم الزاني -: "اللهم إني أول من أحيى أمرك إذ أماتوه" (7).
فكيف حال الذين عطلوا الحدود بالكلية.
ثم زاد الشر، إلى أن آل الأمر ببعض الولاة: أنهم يضربون على البغايا الخراج!!, وتعدوا حدود (8) الله في السارق بالصلب والقتل؛ صيانة
__________
(1) (ع) (ط) : النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة.
(2) أخرجه مسلم في "الصحيح" رقم 145، وابن ماجه في "السنن" رقم 3986 ، وأحمد في "المسند"2/389، والطحاوي في "مشكل الآثار" 1/298، والخطيب في "شرف أصحاب الحديث"/23، والآجري في "الغرباء" رقم 4 من حديث أبي هريرة، وروي من طرق أخرى. ينظر "فصل الجواب" للشيخ حسن بن حسين/15 وما بعدها بتحقيقي.
(3) سورة المائدة آية 41.
(4) (ع) (ط) : يقولون. ساقطة.
(5) ينظر الطبري 10/313.
(6) سورة المائدة آية 41.
(7) أخرجه مسلم في "الصحيح" رقم 1700 وأبو داود في "السنن" رقم 4448، وأحمد في "المسند" 4/286، والبيهقي في "السنن"8/246، وابن ماجه في "السنن" رقم 2558من حديث البراء بن عازب.
(8) (ع) (ط) : حد.
ص -96-(39/86)
لأموالهم،ولم يعبأوا بانتهاك حرمات مولاهم، فإنا لله وإليه راجعون.
وليجتهد المسلم في تحقيق العلم والإيمان.
وليتخذ الله هاديا ونصيرا، وحاكما (1) ووليا؛ فإنه نعم المولى ونعم النصير: { وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} (2).
وينبغي أن يكثر الدعاء بما رواه مسلم وغيره، عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام يصلي (3) من الليل، يقول: " اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة ، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني /لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم" (4) .آخره (5).
والحمد لله رب العالمين (6)، وصلى الله على أشرف المرسلين: سيدنا (7) محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين (8).
__________
(1) (ع): وحكما.
(2) سورة الفرقان آية 31.
(3) (ع) (ط) : يصلي. ساقطة.
(4) أخرجه مسلم في "الصحيح" رقم 770، وأبو داود في "السنن" رقم 767, والترمذي في "الجامع" رقم 3419، والنسائي في "المجتبى"3/212، وابن ماجة في "السنن" رقم 1357، وأحمد في "المسند" 6/156.
(5) (ط) : آخره والله أعلم.
(6) (ع) : رب العالمين كما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله وعظيم سلطانه.
(7) (ع) : وصلى الله وسلم على سيدنا (ط) : والصلاة والسلام على.
(8) (ع) أجمعين ومن تبعهم بإسحان إلى يوم الدين.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
ص -97-(39/87)
الصواعق المرسلة الشهابية على الشبه الداحضة الشامية - سليمان بن سحمان (1)
الناشر:
دار العاصمة، الرياض، المملكة العربية السعودية
مقدمة المحقق
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فإن كتاب" الصواعق المرسلة الشهابية على الشبه الداحضة الشامية" للشيخ سليمان بن سحمان من أجل الكتب التي نافحت عن العقيدة السلفية، ودرأت الشبهات الشيطانية التي أثيرت حولها.
ومؤلف هذا الكتاب علم من أعلام أهل السنة النبوية، وصارم مسلول على أعداء الدعوة السلفية النجدية، له صولات وجولات في مضمار الردود نظما ونثرا، مما جعل لردوده قيمة علمية، ومكانة مرموقة عند العلماء وطلبة العلم.
ونظرا لأفول شمس هذا الكتاب القيم عن المكتبات منذ أكثر من ثلاثين سنة تقريبا، ومطالبة كثير من العلماء الأجلاء وطلبة العلم النبغاء بإخراجه، وجعله في متناول الأيدي سارعت بإخراجه في هذه الصورة التي أرجو من الله أن تكون خالصة له، مرضية للجميع.
هذا وقد أخرجت هذه الطبعة بعد مقابلتها على نسختين:
الأولى: النسخة الحجرية التي طبعت ببمبي في الهند سنة1335هـ
ص -3-
على عهد المؤلف رحمه الله تعالى. والإشارة إلى هذه النسخة بـ"الأصل" .
الثانية: النسخة المطبوعة في الرياض بأمر الملك سعود بن عبد العزيز ـ رحمه الله تعالى ـ سنة1376هـ.
ولم أثبت كثيرا من الفروق لعدم الفائدة في ذلك ـ عندي ـ هذا وقد اجتهدت في توثيق أغلب النصوص المنقولة، وتخريج بعض الأحاديث الواردة في ثنايا الكتاب، ووضع فهارس تكشف أسرار الكتاب، وتبين للقارئ محتواه.
والله تعالى أسأل أن يصلح نياتنا، وأن يستر عن الأعين خلاتنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه الفقير إلى ربه القدير
عبد السلام بن برجس بن ناصر آل عبد الكريم
الرياض5/12/1408هـ
ص -4-(40/1)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي وفقنا لسلوك صراطه المستقيم، وجنبنا بفضله ورحمته طريق أصحاب الجحيم، ومنّ علينا بمتابعة نبيه الكريم، فضلا من الله ونعمة والله ذو الفضل العظيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العزيز الحكيم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخيرته من خلقه وأمينه على وحيه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وعلى آله وأصحابه الذين هم نجوم الهداية والدراية والتعليم.
أما بعد: فإني وقفت على أوراق كتبها رجل من أهل الشام يقال له: " محمد عطا الكسم"1، وكان ممن تجانف للعدوان والإثم، جمع فيها من الترهات والأكاذيب الموضوعات ما يمج سماعه أولو العقول السليمة، والألباب الزاكية المستقيمة، وسماها
"الأقوال المرضية في الرد على الوهابية"، ورتبها على مقدمة وثلاثة أبواب وخاتمة، وقد اشتملت مقدمته الكاذبة الخاطئة على ألفاظ مبتدعة، ومعان وإشارات مخترعة، وأقوال مختلفة مفترعة، ليست من أقوال أهل الإسلام، ولم يقل بها أحد من الأئمة
__________
1 هو: محمد عطاء الله بن إبراهيم بن ياسين الكسم، فقيه حنفي، ولد بمدينة دمشق وتوفي بها في 10/جمادى الثانية/سنة 1357هـ وهو في عشر التسعين، كان مفتيا عاما للجمهورية السورية" ينظر معجم المؤلفين، لعمر رضا كحالة10/293".
ص -5-(40/2)
الأعلام، وإنما هي أوضاع الفلاسفة ومن وافقهم من أهل الكلام، وأهل الاتحاد الطغاة اللئام، ومن وافقهم على أصولهم ممن يزعم أن معاني هذه الألفاظ حصلت له بطريق المشاهدة والمكاشفة التي هي عند التحقيق مكاشفة، وأن ذلك من الفتوحات الربانية والمواهب اللدنية، وفي الحقيقة إنما هي خيالات شيطانية، واصطلاحات وأوضاع فلسفية، وخلف من بعدهم خلف على طريقتهم عبّروا عن هذه المعاني الفلسفية بعبارات إسلامية، يخاطبون بها من لا يعرف معاني هذه الأوضاع، ويجعلون مراد الله ورسوله من الآيات والأحاديث على ما أرادوا من معاني هذه الأوضاع التي تخالف كتاب الله وسنة رسوله وأقوال سلف الأمة وأئمتها، كما يذكر أبو حامد الغزالي في مواضع من الفرق بين عالم الملك والملكوت والجبروت، وفي مواضع أخر قال فيها: إن أشرف أفعال الله وأعجبها وأدلها على جلالة صانعها ما لا يظهر للحس بل هو من عالم الملكوت، وهي الملائكة الروحانية والروح والقلب، أعني العارف بالله تعالى من جملة أجزاء الآدمي فإنها أيضا من جملة عالم الغيب والملكوت وخارج عن عالم الملك والشهادة.
قال شيخ الإسلام: ومعلوم أن ما جاء في الكتاب والسنة من لفظ الملكوت، كقوله: {بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} [المؤمنون: 88]، وقوله صلى الله عليه وسلم في ركوعه: " سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة"1، لم يرد به هذا باتفاق المسلمين، ولا دل كلام أحد من
__________
1 أخرجه أبو داود في سننه ـ كتاب الصلاة ـ [3/125ـ العون]، والنسائي في سننه ـ كتاب الصلاة ـ [2/191] كلاهما من طريق معاوية بن صالح عن أبي قيس الكندي عمرو بن قيس قال: سمعت عاصم بن حميد قال: سمعت عوف بن مالك يقول: قمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فلما ركع مكث قدر سورة البقرة يقول في ركوعه: " سبحان ذي الجبروت والملكوت=
ص -6-(40/3)
السلف والأئمة على التقسيم الذي يذكرونه بهذه الألفاظ، وهم يعبرون بهذه العبارات المعروفة عند المسلمين عن تلك المعاني التي تلقوها عن الفلاسفة وضعا وضعوه، ثم يريدون أن ينزلوا كلام الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم على ما وضعوه من اللغة والاصطلاح. انتهى.
وهذه المعاني التي ذكرها الفلاسفة يفسرون عالم الملك بعالم الأجسام، وعالم الملكوت بعالم النفوس، لأنها باطن الأجسام، وعالم الجبروت بالعقول، لأنها غير متصلة بالأجسام ولا متعلقة بها، ومنهم من يعكس، وقد يجعلون الإسلام والإيمان والإحسان مطابقا لهذه الأمور.
والمقصود بهذا أن ما ذكره هذا الملحد فيما يأتي من كلام القسطلاني وما بعده هو من هذا النمط المأخوذ عن الفلاسفة ومن وافقهم، فلما لم يكن هذا من كلام أهل الإسلام ولم يذكره أحد من أئمة الأعلام، وشبّه به هؤلاء الغلاة على الطغام من العوام، ومن لا معرفة له بمدارك الأحكام ومعاني الكلام استعنت الله تعالى على التنبيه على بعض ما في هذه
__________
= والكبرياء والعظمة" .
هذا لفظ النسائي. وزاد أبو داود [... لا يمر بآية رحمة إلا وقف فسأل، ولا يمر بآية عذاب إلا وقف فتعوذ. قال: ثم ركع بقدر قيامه يقول في ركوعه......ثم سجد بقدر قيامه ثم قال في سجوده مثل ذلك ثم قام فقرأ بآل عمران ثم قرأ سورة سورة].
تنبيه: عزا الشوكاني في نيل الأوطار2/276 ـ ط المنيرية ـ الحديث للترمذي، فأوهم أنه في السنن.
وقد نسبه المزي في التحفة إلى الشمائل فقط انظر التحفة" 8/213ـ214" .
انظر: الشمائل للترمذي ص 226/ط الهند.
ص -7-(40/4)
الأوراق من المخرفة والشقاق، وعلى كشف ما موه به من جواز الاستغاثة بالأنبياء والأولياء والصالحين، والتوسل بهم على اصطلاح هؤلاء الغلاة، وما ذكر من الأحاديث في ذلك وأقوال أهل العلم، مما هو موضوع مكذوب، أو ضعيف لا يحتج به ولا تثبت به الحجة الشرعية، وتركت كثيرا من كلامه مما هو متضمن للغلو والإطراء في حق نبينا صلى الله عليه وسلم مما يزعم أنه من تعظيمه وتوقيره، وكذلك ما ذكره عن السبكي في كتابه: " تعظيم المنة"، وما ذكره من المفاضلة بين الأنبياء وبين نبينا صلى الله عليه وسلم مما قد نهى عنه صلى الله عليه وسلم1، وأعقبت ذلك بذكر خاتمة في الفرق بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وأقوال بعض العلماء في معنى لا إله إلا الله، وسميت هذا الجواب: " الصواعق المرسلة الوهابية على الشبهات الداحضة الشامية"2 وأسأل الله تعالى أن يلهمنا الصواب، وأن يجزل لنا الأجر والثواب، بمنه وكرمه.(40/5)
__________
1 وذلك فيما رواه البخاري في صحيحه ـ كتاب أحاديث الأنبياء [6/450]، ومسلم ـ كتاب الفضائل ـ [4/1844] عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تفضلوا بين أنبياء الله ..." هذا لفظ مسلم.
ورواه البخاري في صحيحه [6/428ـ450 ـ 451، 8/294].
ومسلم في صحيحه [4/1846]. عن أبي هريرة، وابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى" وفي بعض ألفاظ البخاري عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه قال فذكره. وفي لفظ مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: قال ـ يعني الله تبارك وتعالى ـ ... الحديث ورواه البخاري عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم...فذكره.
2 كذا ذكر الشيخ اسم مؤلفه هذا. وقد طبع في الهند باسم" الصواعق المرسلة الشهابية على الشبه الداحضة الشامية" وكذا في طبعة الرياض.
ص -8-
فصل
"قال الملحد أما بعد: فيقول خويدم طلبت العلم الفقير إلى الله محمد عطا الكسم : إنه قد أخبرني بعض الإخوان أنه قد اجتمع برجل من الوهابية؛ يوسوس لأهل السنة المحمدية؛ بتحريم التوسل بخير البرية؛ عليه أفضل الصلاة وأتم التحية إلى آخر ما قال".
والجواب وبالله التوفيق أن أقول : قد سبق هذا الملحد إلى تسمية عباد القبور: أهل السنة المحمدية من أعمى الله بصيرة قلبه طاغية العراق داود بن جرجيس العراقي؛ وأجابه على ذلك ا لإمام وعلم الهداة الأعلام الشيخ عبد اللطيف؛ فنذكر من جوابه ما يبطل تسمية هذا الملحد عباد القبور أهل السنة المحمدية؛ قال رحمه الله تعالى1:
والجواب أن يقال أولا : تسمية عباد القبور أهل سنة وجماعة جهل عظيم بحدود ما أنزل الله على رسوله؛ وقلب(40/6)
__________
1في كتابه : " منهاج التأسيس والتقديس في كشف شبه داود بن جرجيس "ص 9.
ص -9-
للمسميات الشرعية؛ وما يراد من الإسلام والإيمان والشرك والكفر؛ قال تعالى:
{الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ}[التوبة: آية97]
وهذا وأمثاله أجدر من أولئك بالجهل وعدم العلم بالحدود لغربة الإسلام؛ وبعد العهد بآثر النبوة.
وأهل السنة والجماعة أهل الإسلام والتوحيد؛ المتمسكون بالسنن الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقائد والنحل والعبادات الباطنة والظاهرة؛ الذين لم يشوبوها ببدع أهل الأهواء وأهل الكلام في أبواب العلم والاعتقادات؛ ولم يخرجوا عنها في باب العلم والإرادات؛ كما عليه جهال أهل الطرائق والعبادات؛ فإن السنة في الأصل تقع على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وما سنه أو أمر به من أصول الدين وفروعه حتى الهدى والسمت؛ ثم خصت في بعض الاطلاقات بما كان عليه أهل السنة من إثبات الأسماء والصفات خلافا للجهمية المعطلة النفاة؛ وخصت بإثبات القدر وبنفي الجبر خلافا للقدرية النفاة وللقدرية الجبرية العصاة؛ وتطلق أيضا على ما كان عليه السف الصالح في مسائل الإمامة والتفضيل والكف عما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا من إطلاق الاسم على بعض مسمياته لأنهم يريدون بمثل هذا الإطلاق التنبيه على أن المسمى ركن أعظم وشرط أكبر كقوله" الحج عرفة "1 ولأنه الوصف الفارق بينهم وبين غيرهم؛
__________
1 أخرجه أبو داود في سننه [2/ 5 8 4 –486]؛ والترمذي في سننه=
ص -10-(40/7)
ولذلك سمى العلماء كتبهم في هذه الأصول كتب السنة ككتاب السنة للالكائي والسنة لأبي بكر الأثرم؛ والسنة للخلال؛ والسنة لابن خزيمة والسنة لعبد الله بن أحمد ومنهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهم. انتهى.
وهذا الملحد يرى أن أهل السنة المحمدية هم الذين يتوسلون ويدعون الأنبياء والأولياء والصالحين ويلتجؤون إليهم ويستغيثون بهم ويستعينون بهم في الشدائد والمهمات؛ ويرجونهم لكشف الكربات وإغاثة اللهفات؛ ويتقربون إليهم بأنواع القربات من الذبح لهم والنذر والخوف والتعظيم والدعاء والإنابة إليهم والتوكل عليهم والخضوع لهم. ومن عجيب أمر هؤلاء الغلاة ما ذكره حسين بن محمد النعيمي اليمني في بعض رسائله أن امرأة كف بصرها فنادت وليها: أما الله فقد صنع ما ترى؛ ولم يبق إلا حسبك
__________
=[3\228 ], والنسائي في سننه [5\ 264] وابن ماجه في سننه [2\103] عن عبد الرحمن بن يعر قال: شهدت رسول الله صلى الله عيه وسلم وهو واقف بعرفة وأتاه ناس من أهل نجد فقالوا: يا رسول الله كيف الحج؟
فقال: ”الحج عرفة.." الحديث. قال سفيان بن عيينة: هذا أجود حديث رواه سفيان الثوري اهـ . وقال ابن ماجه: قال محمد بن يحيى: ما أرى للثوري حديثا أشرف منه هـ. وقال الحاكم في مستدركه [2\278]: حديث صحيح. وأقره الذهبي. ينظر نصب الراية للزيلعي
[ 3\92].
ص -11-(40/8)
قال الشيخ عبد اللطيف رحمه الله "1": وحدثني سعد بن عبد الله بن سرور الهاشمي رحمه الله؛ أن بعض المغاربة قدموا مصر يريدون الحج فذهبوا إلى الضريح المنصوب إلى الحسين رضي الله عنه بالقاهرة فاستقبلوا القبر وأحرموا ووقفوا وركعوا وسجدوا لصاحب القبر؛ حتى أنكر عليهم سدنة المشهد وبعض الحاضرين؛ فقالوا : هذا محبة في سيدنا الحسين.
وذكر بعض المؤلفين من أهل اليمن أن مثل هذا وقع عندهم.
وقد حدثني الشيخ خليل الرشيدي بالجامع الأزهر أن بعض أعيان المدرسين هناك قال: لا يدق وتد بالقاهرة إلا بإذن السيد أحمد البدوي. قال فقلت له:هذا لا يكون إلا لله أو كلاما نحو هذا؛ فقال: حبي في سيدي أحمد البدوي اقتضى هذا.
وحتى أن رجلا سأل الآخر: كيف رأيت الجمع عند زيارة الشيخ الفلاني؟ فقال: لم أر أكثر منه إلا في جبال عرافا؛ إلا أني لم أرهم سجدوا لله سجدة قط؛ ولا صلوا مدة ثلاثة أيام؛ فقال السائل قد تحملها الشيخ؛ قال بعض الأفاضل: وباب تحمل الشيخ مصراعاه ما بين بصرى وعدن؛ 1
__________
1 قي الكتاب السابق ص 39 .
ص -12-(40/9)
قد اتسع خرقه؛ وتتابع فتقه؛ ونال رشاش زقومه الزائر والمعتقد وساكن البلد. انتهى.
ولو ذهبنا نذكر ما يفعله عباد القبور والأولياء والصالحين لطال الكلام. فهؤلاء عند هذا الملحد أهل السنة والجماعة فنعوذ بالله من رين الذنوب وانتكاس القلوب.
إذا تحققت هذا وعرفته فقول هذا الملحد: إيه قد اجتمع برجل من الوهابية يوسوس لأهل السنة المحمدية بتحريم التوسل بخير البرية". مراده بالتوسل هنا: أن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم والاستغاثة به والالتجاء إليه فيما لا يقدر عليه إلا الله يسمى توسلا وتشفعا؛ وهذا فرار منه أن يسمى شركا وكفرا؛ ومن المعلوم عند ذوي العلوم والفهوم أن لفظ التوسل بالشخص والتوجه به والسؤال به فيه إجمال واشتراك بحسب الاصطلاح؛ فمعناه في لغة الصحابة رضي الله عنهم وعرفهم أن يطلب منه الدعاء والشفاعة فيكون التوسل به والتوجه به في الحقيقة بدعائه وشفاعته وذلك لا محذور فيه؛ والتوسل له أقسام؛ فقسم مشروع؛وهو التوسل بالأعمال الصالحة وبدعاء النبي صلى الله عليه وسلم في حياته وطلب الاستغفار منه وبدعاء الصالحين وأهل الفضل والعلم كما استسقى عمر رضي الله عنه بدعاء العباس1 ومعاوية رضي الله عنهما بدعاء يزيد بن الأسود
__________
1رواه البخاري في صحيحه.
ص -13-(40/10)
الجرشي1؛ وكذلك بالأعمال الصالحة؛ وقسم محرم وبدعة مذمومة وهو التوسل بحق العبد وجاهه وحرمته نبيا كان ذلك أو وليا أو صالحا؛ كأن يقول الإنسان: اللهم إني أسألك بجاه نبيك محمد صلى الله عليه وسلم أو بجاه عباد الله الصالحين أو بحقهم أو بحرمتهم؛ ونحو ذلك لأن ذلك لم يرد به نص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا فعله أحد من الصحابة ولا التابعين رضي الله عنهم؛ فإذا عرقت أن معنى التوسل في لغة الصحابة طلب الدعاء؛ وأن هذا هو الشرع؛ وأن ما عداه إما شرك أو محرم أو مكروه مبتدع؛ عرفت أن قصد هؤلاء بالتوسل هو دعاء الأنبياء والأولياء والصالحين؛ وصرف خالص حق الله تعالى لهم بجميع أنواع العبادات من الدعاء والخوف والرجاء والنذر والتوكل والاستغاثة والاستعانة والاستشفاع بهم وطلب الحوائج من الولائج في المهمات والملمات وكشف الكربات وإغاثة اللهفات ومعافاة أولى العاهات والبليات؛ إلى غير ذلك من الأمور التي صرفها المشركون لغير فاطر الأرض والسماوات؛ نعوذ بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه؛ فمن صرف من هذه الأنواع شيئا لغير الله؛فهو كافر مشرك بإجماع المسلمين؛ كما ذكر ذلك شيخ الإسلام وغيره من العلماء.
__________
1 سيأتي الكلام عليه في هذا الكتاب إن شاء الله.
ص -14-(40/11)
فصل
"ثم قال الملحد: ولكن من فرط المحبة لهذا المحبوب الذي هو صفوة علام الغيوب الآخذ باليد وقت الشدائد والخطوب".
والجواب أن يقال: إن قول هذا الملحد: " الآخذ باليد وقت الشدائد والخطوب" كلام متضمن لغاية الغلو والإطراء الذي وقعت فيه النصارى وأمثالهم وهو مناف لقوله تعالى:
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ* يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ* } [الانفطار: آية 18-19] وقوله تعالى: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا} [الجن: آية 21] وقوله تعلى: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} [يونس: آية 49] وللحديث الصحيح حيث قال لا بنته فاطمة وأحب الناس إليه: "يا فاطمة بنت محمد سليني من ما لي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئا"1.
__________
1 أخرجه البخاري في صحيحه- كتاب التفسير- [6/501]؛ وفي الوصابا [5/382]؛ وفي المناقب [6/551]؛ ومسلم في صحيحه- كتاب الإيمان- [1/192]؛ عن أبي هريرة –رضي الله عنه-قال: لما أنزلت هذه=
ص -15-(40/12)
فتأمل ما بين هذه النصوص وبين قول هذا الملحد من التضاد والتباين ثم الصادمة منه لما ذكره الله تعالى وذكره رسوله صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: آية 128]وتأمل ما ذكر العلماء في سبب نزولها1وأمثال هذه الآية كثير لم ينسخ حكمها ولم يغير؛ ومن ادعى ذلك فقد افترى على الله كذبا وأضل الناس بغير علم.
__________
= الآية: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا فاجتمعوا فعم وخص. فقال: "يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد الشمس أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار. يا فاطمة أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لكم من الله شيئا . غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها" هذا لفظ مسلم. وللحديث ألفاظ عندهما.
وأخرجه مسلم من حديث عائشة ولفظه: "يا فاطمة بنت محمد. يا صفية بنت عبد المطلب. يا بني عبد المطلب لا أملك لكم من الله شيئا سلوني من مالي ما شئتم".
1قال السيوطي في الدر المنثور [2/311]. أخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه والبيهقي في الدلائل عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم- كسرت رباعيه يوم أحد؛ وشيخ في وجهه حتى سال الدم على وجهه فقال:" كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم؟"
فأنزل الله: {لَيْسَ لَكَ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ}.
وفي سبب النزول هذه الآية أحاديث كثيرة في الصحاح والسنن والمسانيد.(40/13)
ص -16-
فصل
"ثم قال الملحد: قال القسطلاني في "المواهب اللدنية": اعلم يا ذا العقل السليم؛ والمتصف بأوصاف الكمال والتتميم؛ وفقني الله وإياك لهداية الصراط المستقيم؛ أنه لما تعلقت إرادة الحق تعالى بإيجاد خلقه؛ وتقدير رزقه؛ أبرز الحقيقة المحمدية من الأنوار الصمدية في الحضرة الأحدية؛ ثم سلخ منها العوالم كلها علوها وسفلها على صورة حكمه؛ كما سبق في سابق إرادته وعلمه؛ ثم أعلمه تعالى:بنبوته؛ وبشره برسالته؛ هذا وآدم لم يكن إلا كما قال: بين الروح والجسد ثم انبجست منه- صلى الله عليه وسلم- عيون الأرواح.
قال الشارح الإمام الزرقاني: أي تفجرت منه –صلى الله عليه وسلم- عيون الأرواح. أي: خالصها كأرواح الأنبياء؛ والمراد بالعيون الكمالات المفرغة من نوره على أرواح الأنبياء؛ عبر عنها بالعيون مجازا لمشابهتها لعيون الإنسان للكمال".
والجواب ومن الله أستمد الصواب أن نقول: هذا كلام مخترع مبتدع؛ لم يقل به أحد ممن يعتد بقوله من أهل
ص -17-(40/14)
الإسلام؛ ولم ينقله أحد من العلماء الأمناء عن الأئمة الأعلام؛ وليس هو في شيء من الكتب المعروفة المشهورة؛ كالصحاح والسنن والمساند وغيرها من الكتب المعتمدة؛ بل هو من الترهات التي يحكيها هؤلاء الغلاة المتهوكون؛ الحيارى المفتونون؛ الذين ليس لهم قدم صدق في العالمين؛وليسوا من حملة سنة سيد المرسلين؛ ولا لهم معرفة بمدارك الأحكام؛ ولا أقول أهل السنة أئمة الإسلام؛ وإنما ينقلون مثل هذه الحكايات التي لا أصل لها في الكتاب والسنة عن مثل القسطلاني وغيره؛ ويغترون بها فضلوا وأضلوا كثيرا و ضلوا عن سواء السبيل؛ إذ ليس لهم في ذلك مستند ولا حجة من البرهان والدليل؛ بل هذا مقتبس من أقوال الفلاسفة ومن نحا نحوهم من المتكلمين.
ومن المعلوم بالضرورة أن ما حكاه هذا الملحد عن القسطلاني إن كان صحيحا لا يدرك معرفة ذلك على التحقيق إلا من مشكاة النبوة؛ بنقل حملة السنة والقرآن؛ أهل المعرفة والحفظ والإتقان. ولا خبر بذلك بنقل صحيح عن رسول –صلى الله عليه وسلم- يجب المسير إليه؛ فما كان هذا سبيله فهو مطرح ساقط لا يلتفت إليه؛ ولا يقول في الحكم عليه؛ إذا هو من الترهات الواهية؛ التي هي عن الدليل عارية؛ بل هو مصادم لصريح الكتاب والسنة كما سنبينه إن شاء الله تعالى.قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى} [الحجرات: آية 13]
ص -18-(40/15)
وهذا خطاب للإنسان الذي هو روح وبدن؛فدل على أن جملته مخلوقة بعد خلق الأبوين؛ وأصرح منه {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء:آية 1] وهذا صريح في أن خلق جملة النوع الإنساني بعد خلق أصله.
وفي الموطأ: حدثنا زيد بن أبي أنيسة أن عند الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أخبره عن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سئل عن هذه الآية: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف: آية 172] فقال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عنها فقال: "خلق الله آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذريته؛ فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون؛ وخلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون" فقال رجل: يا رسول الله ففيم العمل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله إذا خلق الرجل للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال الجنة فيدخل به الجنة؛ وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال النار فيدخل به النار"1 قال الحاكم: هذا حديث على شرط
__________
1 أخرج الإمام مالك في الموطأ [2/898]وأحمد في مسنده [1/44؛45] وأبو دود قي سننه - كتاب السنة - [5/79؛ 80]؛ والترمذي في=
ص -19-(40/16)
.................................................................................................................................
__________
= سننه كتاب التفسير-[5/266].
قال الإمام ابن كثير –رحمه الله – في تفسير [2/262]بعد أن ساق سند الإمام أحمد لهاذا الحديث وهو: "حدثنا روح حدثنا مالك. وحدثنا إسحاق حدثنا مالك عن زيد بن أبي أنيسة أن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أخبره عن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب ...".
قال ابن كثير: وهذا رواه أبو داود عن القعنبي؛ والنسائي عن قتيبة؛ والترمذي في تفسير هما عن إسحاق ين موسى عن معن وابن أبي حاتم عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب؛ وابن جرير عن روح بن عبادة وسعيد بن عبد الحميد بن جعفر؛ وأخرجه ابن حبان في صحيحه من رواية أبي مصعب الزبيري كلهم عن الإمام مالك بن أنس.. به قال الترمذي: هذا حديث حسن ومسلم بن يسار لم يسمع من عمر. قاله أبو حاتم؛ وأبو رزعة .. زاد أبو حاتم بينهما "نعيم بن ربيعة" وهذا الذي قاله أبو حاتم رواه أبو داود في سننه عن محمد بن مصفى عن بقية عن عمر بن جعثم القرشي عن زيد بن أبي أنيسة عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب عن مسلم بن يسار الجهني عن نعيم بن ربيعة قال: كنت عند عمر بن الخطاب وسئل عن هذه الآية... فذكره.هـ كلام ابن كثير.
قال الإمام الحافظ الدارقطني – رحمه الله- في كتابه "العلل" [2/221؛ 222؛ 223]وقد سئل عن هذا الحديث:
يرويه زيد بن أبي أنيسة عن عبد الحميد بن عبد الرحمن عن مسلم بن يسارعن نعيم بن ربيعة عن عمر.. حدث عنه كذلك يزيد بن سنان أبو قروة الرهاوي؛وجود إسناده ووصله.
وخالفه مالك بن أنس فرواه عن زيد بن أبي أنيسة ولم يذكر في الإسناد "نعيم بن ربيعة" وأرسله عن مسلم بن يسار عن عمر.
وحديث يزيد بن سنان متصل وهو أولى بالصواب. وقد تابعه عمر بن جعثم فرواه عن زيد بن(40/17)
أبي أنيسة كذلك قاله بقية بن الوليد عنه ا هـ. =
ص -20-
مسلم؛ وروى الحاكم أيضا من طريق هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا: "لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خلقها إلى يوم القيامة أمثال الذر؛ ثم جعل بين عيني كل إنسان منهم
__________
= قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في الموضع السابق من تفسيره: قلت الظاهر أن الإمام مالكا إنما أسقط ذكر نعيم بن ربيعة عمدا كما جهل حال نعيم ولم يعرفه؛ فإنه غير معروف إلا في هذا الحديث. ولذلك يسقط ذكر جماعة ممن لا يرتضيهم؛ ولهذا يرسل كثيرا من المرفوعات ويقطع كثيرا من الموصولات والله أعلم اهـ.
كذا قال ابن كثير- رحمه الله – خلافا لابن عبد البر فإنه قال في التمهيد [6/5]: زيادة من زاد في هذا الحديث "نعيم بن ربيعة" ليس حجة لأن الذي لم يذكره أحفظ؛ وإنما تقبل الزيادة من الحافظ المتقن ا هـ.
قال محققة - عفا الله عنه -: وسواء رجحنا رواية مالك أو من خالفه فكلا الإسنادين ضعيف. أما رواية مالك فهي منقطعة لأن مسلم بن يسار الجهني لم يسمع من عمر كما قاله الترمذي. انظر [حامد التحصيل-344] وقد قال الحافظ ابن حجر عن مسلم هذا إنه" مقبول". انظر القريب[2/248]. وأما رواية من زاد بين مسلم بن يسار وعمر بن الخطاب[2/305]: بقول.
قال الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البر-رحمه الله- في الموضع السابق من التمهيد: "وجملة القول في هذا الحديث أنه حديث ليس إسناده بالقائم؛ لأن المسلم بن يسار ونعيم بن ربيعة جميعا غير معروفين بحمل العلم.ولكن معنى هذا الحديث قد صح عن النبي – صلى الله عليه وسلم- من وجوه كثيرة ثابتة يطول ذكرها... إلخ".
ص -21-(40/18)
وبيصا من نور؛ ثم عرضهم على آدم فقال: من هؤلاء يا رب؟ فقال:هؤلاء ذريتك؛ فرأى رجلا منهم أعجبه وبيص ما بين عينيه فقال: يا رب من هذا؟ فقال:هذا ابنك داود يكون في آخر الأمم؛ قال آدم 1: كم جعلت له من العمر؟ قال: ستين سنة؛ قال: يا رب زده من عمري أربعين سنة "حتى يكون عمره مائة سنة"2 فقال الله : إذا يكتب ويختم فلا يبدل؛ فلما انقضى عمر آدم جاءه ملك الموت"لقبض روحه": 2 قال آدم: أولم يبق من عمري أربعون سنة:؟ فقال "له ملك الموت"2: أولم تجعلها لا بنك داود. قال: مجحد فجحدت ذريته؛ ونسى فنسيت ذريته؛ وخطأ فطئت ذريته" قال:هذا على شرط مسلم 3وفي صحيح الحاكم من حديث أبي جعفر الرازي حدثنا الربيع بن أنس 4 عن أبي العالية عن أبي بن
__________
1 " آدم" ليست في الأصل؛ وأثبتها من المستدرك.
2 ما بين أقواس من المستدرك.
3 أخرجه الحاكم في مستدركه [2/325]؛ والترمذي في سننه – كتاب التفسير– [5/267] وقال: حسن صحيح. وقد روي عن غير وجه عن أبي هريرة عن النبي – صلى لله عليه وسلم -. قال كتابه: - وفي إسناد :هشام بن سعد. قال عنه الحافظ في التقريب : صدوق بخطئ اهـ . ولكن لا ضرر لهذا على السند لأن شيخ هشام في هذا الحديث زيد بن أسلم وقد قال الآجري – كما في تهذيب التهذيب [11/4] – قال أبو داود هشام بن سعد أثبت الناس في زيد بن أسلم اهـ .
4 في الأصل " أنيسة " وما أثبتهو من المستدرك .
ص -22-(40/19)
كعب في قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}[الآية] قال:جمعهم له يومئذ جميعا"1" ما هو كائن إلى يوم القيامة فجعلهم أرواحا ثم صورهم واستنطقهم فتكلموا وأخذوا عليهم العهد والميثاق {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ}2 قال:فإني أشهد عليكم السماوات السبع والأرضين السبع؛ وأشهد عليكم أباكم آدم أن تقولوا يوم القيامة "لم نعلم أو تقولوا" إنا كنا عن هذا غافلين فلا تشركوا بي شيئا؛ فإني أرسلت إليكم رسلي يذكرونهم عهدي وميثاقي؛ وأنزل عليكم كتلي؛ فقالوا: "نشهد أنك ربنا وإلهنا لا رب لنا غيرك ولا إله لنا غيرك" 2 ورفع لهم أبوهم آدم " فنظر إليهم" 2 فرأى فيهم الغني والفقير وحسن الصورة وغير ذلك؛ فقال: يا رب لو سويت بين عبادك؛ فقال: إني أحب أن أشرك. ورأى فيهم الأنبياء مثل السرج؛ وخصوا بميثاق آخر بالرسالة والنبوة 3 فذلك قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنْ
__________
1 في الأصل "جمعا"وما أثبته من المستدرك .
2 ما بين الأقواص من المستدرك.
3 أخرجه الحاكم في مستدركه [2/323] وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وأقره الذهبي .
وأبو جعفر الرازي هو: عسى بن أبي عيسى عبد الله بن ماهان. قال الحافظ في التقريب: صدوق سيء الحفظ خصوصا عن مغيرة من كبار =
ص -23-(40/20)
النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} [الأحزاب: آية 7] وهو قوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}[ الروم: آية 30] وهو قوله: {هَذَا نَذِيرٌ مِنْ النُّذُرِ الْأُولَى} [النجم: آية56] وقوله:{وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [الأعراف: آية 102] والآيات في هذا المعنى كثيرة.
والمقصود مما ذكرنا أن آدم رأى فيهم الأنبياء مثل السرج وذلك بعد إخراجهم من صلبه؛ فهذا فيه دلالة ظاهرة على بطلان من زعم أنعه لما تعلقت إرادة الحق لعالى بإيجاد خلقه وتقدير رزقه؛ أبرز الحقيقة المحمدية من الأنوار الصمدية في الحضرة الأحدية؛ ثم سلخ منها العوالم كلها علوها وسفلها؛ ثم انبجست منه – صلى الله عليه وسلم- عيون الأرواح فعلى زعم هذا القائل أن الله لم يخلق جميع النوع الإنساني إلا من نور محمد؛ وأن
__________
= السابعة 1 هـ .
والربيع بن أنس قال عنه الحافظ في التقريب: صدوق له أ وهام رمي بالتشيع من الخامسة هـ.
ونقل الحافظ في التهذيب [3/239] عن ابن حبان أنه قال في ثقاته: الناس يتقون من حديثه – أي ربيع – ما كان من رواية أبي جعفر عنه لأن في أحاديثه عنه اضطرابا كثيرا 1 هـ .
وقد رواه معتمر بن سليمان بن طر خان التيمي عن أبيه عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب. . به أخرجه ابن مندة في الرد على الجهمية ص 59 وعبد الله بن الإمام أحمد في زوائد المسند [5/135].
ص -24-(40/21)
الملائكة مخلوقون من نوره وعلى هذا فلا معنى لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى} [الحجرات: آية 13] وقوله: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: آية 1] وأن هذه الأحاديث لا دلالة فيها؛ سبحانك هذا بهتان عظيم .
إذا عرفت هذا فهذه الأحاديث لا تدل على سبق الأرواح الأجساد سبقا مستقرا ثابتا؛ غايتها أنها تدل بعد صحتها وثبوتها على أن بارئها وفاطرها سبحانه صور النسم وقدر خلقها وآجالها وأعمالها؛ واستخرج تلك الصور من مادتها؛ثم أعادها إليها؛ وقدر خروج كل فرد من أفرادها في وقته المقدر له؛ وهذا هو المطلوب ولا تدل على أنها خلقت خلقا مستقرا؛ ثم استقرت بوجوده حية عالمة ناطقة كلها في موضع واحد؛ ثم يرسل منها إلى الأبدان جملة بعد جملة كما يقول محمد بن حزم. نعم الرب سبحانه يخلق منها جملة على الوجه الذي سبق به التقدير أولا؛ فيجيء الخلق الخارجي مطابقا للتقدير السابق كشأنه تعالى في جميع مخلوقاته؛ فإنه قدر لها أقدارا وآجالا وصفاتا وهيئة ثم أبرزها إلى الوجود مطابقة لذلك التقدير الذي قدره الله لها لا يزيد عليه ولا ينقص منه؛ فالآثار المذكورة في هذا الباب إنما تدل على إثبات القدر السابق؛ وبعضها يدل على أنه سبحانه استخرج أمثالهم وصورهم وميز أهل السعادة
ص -25-(40/22)
من أهل الشقاوة. انتهى ملخصا من كتاب الروح لا بن القيم رحمه الله تعالى.
ثم قال بعد ذلك: فهذا بعض كلام السلف والخلف في هذه الآية؛ وعلى كل تقدير فلا يدل على خلق الأرواح قبل الأجساد خلقا مستقرا؛ وإنما غابته أن تدل على إخراج صورهم وأمثالهم في صور الذر واستنطاقهم؛ ثم ردهم إلى أصلهم إن صح الخبر بذلك؛ والذي صح إنما هو إثبات القدر السابق وتقسيمهم إلى شقي وسعيد. انتهى.
فتحصل لنا مما ذكر من كلام السلف إبطال دعوى من ادعى أن أرواح الأنبياء مخلوقة من نور محمد- صلى الله عليه وسلم- قبل خلق السماوات والأرض وقبل العرش والقلم واللوح؛ وأن جميع المخلوقات تفرعت جزء ا بعد جزء؛ وخلقا بعد خلق؛ إنسان؛ وجنها؛ وجنتها؛ ونارها؛ وحتى الملائكة من نور محمد- صلى الله عليه وسلم-؛ وهذا مما يعلم بضرورة العقل أن هذا من الكذب والحكايات التي لا أصل لها؛ بل الذي ثبت عن النبي- صلى الله عليه وسلم أن الله قدر مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة؛ ففي صحيح مسلم من حديث ابن وهب: أخبرني أبو هانىء الخولاني عن أبي عند الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين
ص -26-(40/23)
ألف سنة وعرشه على الماء" 1.
وهذا الملحد يزعم أن الحقيقة المحمدية أبرزت من الأنوار الصمدية في الحضرة الأحدية؛ قبل خلق العرش والماء والقلم الذي كتب مقادير كل شيء قبل خلق السماوات السماوات والأرض بخمسين ألف سنة؛ وهذا التر مناف لصريح الكتاب والسنة ومناقض لهما أشد المناقضة؛ وهذه الترهات مقتبست من كلام ابن عربي صاحب الفصوص الذي هو من أكفر خلق الله؛ فإنه ذكر في "الفتوحات" من نمط هذا؛ وفي " الفصوص" في أثناء كلام له قال فيه: فإن فهمت ما أشرت به فقد حصل لك العلم النافع؛ فكل نبي من بني آدم إلى آخر النبي؛ ما منهم أحد يأخذ إلا من مشكاة خاتم النبيين؛ وإن تأخر وجود طينته؛ فإنه بحقيقته موجود وهو قوله: " كنت نبيا وآدم بين الماء والطين" وغيره ما كان نبيا إلى حين بعث؛ وكذلك خاتم الأولياء كان وليا وآدم بين الماء والطين؛ وغيره من الأولياء ما كان وليا إلا تعد تحصيل شرائط الولاية من الأخلاق الإلهية في الاتصاف بها من كون الله بالولي الحميد إلى آخر كلامه2.
__________
1 صحيح مسلم- كتاب القدر – [4/2044].
2 قال الألوسي في كتابه "جلاء العينين" ص 70؛ 71 ما ملخصه:
وممن نص على تكفير ابن العربي بناء على كلامه المخالف للشريعة المطهرة وألف في ذلك الرسائل العديدة المطولة والمختصرة العلامة السخاوي؛ والفهامة المدقق السعد التفتازاني؛ والمحقق ملا علي القاري.=
ص -27-(40/24)
وبهذا تعلم أنهم إنما حذوا حذوه؛ وقفوا أثرهم؛ مع أن قوله: "كنت نبيا وآدم بين الماء والطين" مما يرويه العوام؛ وهذا باطل؛واللفظ المعروف "بين الروح والجسد"1؛ لأن بين الماء والطين مرتبة.
__________
= ونقل الشيخ علي القاري عن ابن دقيق العيد قال: سألت شيخنا سلطان العلماء عبد العزيز بن عبد السلام عن ابن عربي فقال: شيخ سوء كذاب. يقول بقدم العالم ولا يحرم فرجا.وقال: وسئل عنه شيخنا أبو زرعة أحمد بن شيخنا الحافظ العراقي فقال: لا شك في اشتمال الفصص المشهورة على الكفر الصريح الذي لا يشك فيه وكذلك قتوحاته المكية فإن صح صدور ذلك عنه واستمر عليه إلى وفاته فهو كافر مخلد في النار بلا شك.
قال كذلك شيخنا شيخ الإسلام سراج الذين البلقيني صرح بكفر ابن عربي.وكذا رضي الدين أبو بكر محمد بن الخياط والقاضي شهاب الدين أحمد الناشري الشافعيان.
وقال العلامة القاري: ثم اعلم أن من اعتقد حقية عقيدة ابن عربي فكافر بالإجماع من غير نزاع ... إلخ.
1 قال شيخ الإسلام وإمام الأئمة الأعلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية –أسكنه الله المنازل العلية - : وأما ما يروية كثير من الجهال والاتحادية وغيرهم من أنه قال : كنت نبيا وآدم بين الماء والطين وآدم لا ماء ولا طين" فهذا مما لا أصل له لا من نقل ولا من عقل فإن أحدا من المحدثين لم يذكره ومعناه باطل فإن آدم لم يكن بين الماء والطين قط فإن الطين ماء وتراب وإنما كان بين الروح والجسد. 1 هـ كلامه من الرد على البكري "ص 9- طبعة السلفية 1346هـ ".
وأما حديث : " كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد" فأخرجه الإمام أحمد في مسنده [5/59] وغيره عن ميسرة الفجر قال : قلت : يا رسول الله متى كنت نبيا؟ قال: " وآدم بين الروح والجسد" قال شيخ الإسلام- رحمه =
ص -28-(40/25)
وكذلك قوله: "وغيره ما كان نبيا إلى حين بعث" فإنه مخالف لقوله صلى الله عليه وسلم " إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة "ولقوله في حديث أبي بن كعب المتقدم " ورأى فيهم الأنبياء مثل السرج وخصوا بميثاق آخر بالرسالة والنبوية " إلى آخره.
وهؤلاء الغلاة يظنون أنهم بهذه الترهات معظمين الرسول؛ وهم بهذه الأمور ضارعوا النصارى في الغلو والإطراء؛ ويزعمون أنهم بهذا الغلو قد بالغوا في تعظيمه صلى الله عليه وسلم وتوقيره وتبجيله وتعزيره؛ وحاشا وكلا بل هو مما يكرهه صلى الله عليه وسلم ويسخطه وينهي عنه كما قال صلى الله عليه وسلم " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله " أخرجاه في الصحيحين "1؛ وقوله صلى الله عليه وسلم لما قيل له يا سيدنا وخيرنا وابن خيرنا فقال: " يا أيها الناس قولوا بقولكم أو بعض قولكم ولا يستجرينكم الشيطان أنا محمد عبد الله ورسوله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عزوجل"2.
__________
= الله تعالى في المصدر السابق : ثبت عن ميسرة قال : قلت : يا رسول الله متى كنت نبيا ... الحديث.
1 كذا قال الشيخ رحمه الله تعالى- تبعا للتبريزي في المشكاة 3/1372. والحديث عزاه السيوطي قي " الزيادة على الجامع الصغير 3/329" للبخاري فقط. انظر فتح الباري 6/478. وقد نبه الشيخ الفاضل عبد القادر الأرناؤوط حفظه الله في تعليقه على فتح المجيد ص 248 على أن عزوه لمسلم من الخطأ .
2 أخرجه الإمام أحمد في مسنده 3/153- 241. قال شيخ الإسلام =
ص -29-(40/26)
وإنما كره ذلك صلى الله عليه وسلم خشية أن يستجرينهم الشيطان في المبالغة في المدح والثناء فيخرج بهم إلى حد الإطراء فأرشد صلى الله عليه وسلم إلى الأدب في الألفاظ؛ وعلمهم كيفية الثناء عليه بأن يقولوا: عبد الله ورسوله.
فتبين من هذا الحديث أن أشرف مقامات النبي صلى الله عليه وسلم مقام العبودية والرسالة؛ ولذلك شرفه الله بهما في مقام التحدي وغيره؛ فقال تعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقر: آية 23] وقال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء: آية 1] وقال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف: آية 1] وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: آية 1] وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [القلم: آية 29] وقال تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [الجن: آية 19].
فتعظيمه صلى الله عليه وسلم إنما هو بطاعته؛ وامتثال أمره؛ والانتهاء عما نهى عنه؛ ولزوم متابعته؛ وتقديم قوله على قول كل أحد من
__________
= محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى في كتابه النفيس " التوحيد": رواه النسائي بسند جيد 1هـ .
قال كاتبه:- أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة كما في تحفة الأشراف للمزي 1/130 وانظر: عمل اليوم والليلة للنسائي ص 250.
ص -30-(40/27)
الخلق بهديه وسنته؛ فصلوات الله وسلامه عله كما نصح الأمة؛ وكشف الغمة؛ وأدى الأمانة؛ وبلغ الرسالة؛ وقطع الوسيلة والذريعة المفضية إلى مجاوزة الحد بالغلو والإطراء في مدحه والثناء فليه كما أطرت النصارى عسى بن مريم وغلت فيه حتى تجاوزت الحد بدعواهم إلهيته وأنه هو الله أو ابن الله أو ثالث ثلاثة تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
وقد تجاوز الحد في مدحه والثناء عليه من هذه الأمة أناس ضاهوا النصارى كما قال دحلان 1 في كتابه الذي سماه " الدرر السنية " فقال: "نعم يجب علينا أن لا نصفه بشيء من صفات الربوبية؛ فليس في تعظيمه بغير صفات الربوبية شيء من الكفر والإشراك؛ بل ذلك من أعظم الطاعات. ورحم الله البوصيري حيث قال:
دع ما ادعته النصارى في نبيهمو
واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم
انتهى".
__________
1 وهو أحمد بن زيني دحلان المولود بمكة – شرفه الله – سنة 1232- الهالك في المدينة سنة 1304 " انظر الإعلام للزركلي 1/129؛ 130" كان رأسا في الكذب والبلد الممقوتة؛ وله مؤنفات في نصرتها والذب عن منبحلها. وقد رد عليه كثير من علماء السنة والجماعة. ومن أحسن ما وقفت عليه من هذه الكتب كتاب الشيخ العلامة المحدث الكبير الفقية الأصولي النحرير محمد بشير السهسواني الهندي المتوفى 1326 هـ في كتاب " صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان"
ص -31-(40/28)
وهذا ليس من التعظيم المشروع في شيء؛ بل هو من صرف خالص حق الله لغيره؛ فإن دعاء غير الله والنحر له والنذر له والاستغاثة به والالتجاء إليه والطواف له والسجدة له والركوع له وغيرها من أنواع العباد كفر وشرك؛ مع أنها تعظيم بغير صفات الربوبية؛ بل الذي يجب علينا أن لا نعبد غير الله بقسم من أقسام العبادة المتقدمة ذكرها؛ وأن لا نفعل ما نهى الله عنه ورسوله؛ وأن لا نحدث في أمر الدين شيئا؛ قال الله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن:آية 18] وقال تعالى: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنْ الظَّالِمِينَ}[ يونس: آية 106] وقال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ}[يونس: آية 107] وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}[الأنعام: آية 162]. إلى غير ذلك من الآيات الدالة على إفراد الله تعالى بالعبادة دون ما سواه كائنا من كان.
ص -32-(40/29)
فصل
قال الملحد: " وروى عبد الرزاق بسنده عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله: بأبي وأمي أخبرني عن أول شيء خلقه الله تعالى قبل الأشياء؟ قال يا جابر: إن الله تعالى خلق قبل الأشياء نور نبيك من نوره، فجعل ذلك النور يدور بالقدرة حيث شاء الله تعالى، ولم يكن في ذلك الوقت لوح ولا قلم ولا جنة ولا نار ولا ملك ولا سماء ولا أرض ولا شمس ولا قمر ولا جن ولا إنس، فلما أراد الله أن يخلق الخلق قسم ذلك النور أربعة أجزاء: فخلق من الجزء الأول القلم، ومن الثاني اللوح، ومن الثالث العرش، ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء: فخلق من الجزء الأول حملة العرش، ومن الثاني الكرسي، ومن الثالث باقي الملائكة، ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء: فخلق من الأول السماوات، ومن الثاني الأرضين، ومن الثالث الجنة والنار، ثم قسم الرابع أربعة أجزاء: فخلق من الأول نور أبصار المؤمنين، ومن الثاني نور قلوبهم وهي المعرفة بالله، ومن
ص -33-
الثالث نور أنسهم وهو التوحيد: لا إله إلا الله محمد رسول الله إلى آخر"1.
والجواب أن يقال: هذا حديث موضوع مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم مخالف لصريح الكتاب والسنة، وهذا الحديث لا يوجد في شيء من الكتب المعتمدة، وإنما يوجد مثل هذا في الكتب المصنفة في شرح الخصائص والشمائل وفي بعض الكتب، كما يذكر أمثال ذلك أبو نعيم وابن عساكر وأبو حامد الغزالي وابن أبي الدنيا في جزء التفكر والاعتبار من الأحاديث(40/30)
__________
1 قال شيخنا العلامة المحدث المحقق الجليل أبو عبد الله عبد العزيز بن عبد الله بن باز ـ حفظه الله ورعاه ـ في تقريظه لرسالة الشيخ العلامة محمد أحمد عبد القادر الشنقيطي المسماة: " تنبيه الحذاق على بطلان ما شاع بين الأنام من حديث النور المنسوب لمصنف عبد الرزاق" : وكل من تأمل الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة علم يقينا أن هذا الخبر من جملة الأباطيل التي لا أساس لها من الصحة، وقد أغنى الله نبيه صلى الله عليه وسلم عن مثل هذا بما أقام من الدلائل القاطعة، والبراهين الساطعة، والمعجزات الباهرة على صحة نبوته ورسالته عليه الصلاة والسلام، كما أغناه عن هذا الخبر المكذوب وأشباهه بما وهبه من الشمائل العظيمة، والصفات الكريمة، والأخلاق الرفيعة التي لا يشاركه فيها أحد ممن قبله ولا ممن بعده، فهو سيد ولد آدم، وخاتم المرسلين، ورسول الله إلى جميع الثقلين، وصاحب الشفاعة العظمى، والمقام المحمود يوم القيامة إلى غير ذلك من خصائصه، وشمائله، وفضائله الكثيرة صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله ونصر دينه وذب عن شريعته وحارب ما خالفها ..إلخ اهـ. وقد بين الشيخ الشنقيطي في رسالته المشار إليها بطلان هذا الحديث عقلا ونقلا فلتنظر.
ص -34-(40/31)
الموضوعة المكذوبة، ولا حاجة بأهل الإسلام إلى شيء مما يتعلق بخصائص النبي صلى الله عليه وسلم وشمائله وفضائله من هذه الموضوعات، وفيما ذكره أهل العلم بالله من حملة السنة والقرآن وأهل الحفظ والإتقان من خصائص النبي وفضائله ومعجزاته وشمائله مما صح الخبر به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مقنع عما يذكره هؤلاء من الأكاذيب الموضوعة والأحاديث المصنوعة، فمن ذلك الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا1، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون"2.
وروى الإمام أحمد والنسائي من حديث البراء قال: " لما كان يوم الخندق عرضت لنا في بعض الخندق صخرة لا تأخذ فيها3المعاول، فاشتكينا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء فأخذ المعول فقال: بسم الله، ثم ضرب ضربة كسر4ثلثا، وقال: الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأنظر قصورها الحمر الساعة، ثم ضرب الثانية فقطع ثلثا آخر فقال: الله أكبر
__________
1 في صحيح مسلم: "طهورا ومسجدا".
2 صحيح مسلم ـ كتاب المساجد ومواضع الصلاة، 1/371.
3 في الأصل: " لا نأخذ منها" وما أثبته من المسند ودلائل أبي نعيم والبيهقي.
4 في الأصل: " قط" ما أثبته من دلائل البيهقي وأبي نعيم.
ص -35-(40/32)
أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض الآن، ثم ضرب الثالثة فقال: بسم الله فقطع باقي الحجر فقال: الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني"1.
وفي صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس2 وهو يقول: "إني أبر إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون" قبور أنبيائهم وصالحيهم"3 مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك"4.
وله من المعجزات والفضائل والخصائص ما ليس لغيره
__________
1 أخرجه الإمام أحمد في مسنده4/303، والنسائي كما في تحفة الإشراف 2/65، قال الهيثمي في مجمع الزوائد 6/131: " رواه أحمد وفيه ميمون أبو عبد الله وثقه ابن حبان وضعفه جماعة وبقية رجاله ثقات" اه.
وميمون هذا هو البصري الكندي ويقال القرشي مولى عبد الرحمن بن سمرة. قال شعبة كان فسلا. وقال أحمد: أحاديثه مناكير. وقال ابن معين: لا شيء. وقال أبو داود: تكلم فيه. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان يحيى القطان سيء الرأي فيه. وقال النسائي وأبو أحمد الحاكم: ليس بالقوي " تهذيب التهذيب 10/393.
2 ما بين القوسين من صحيح مسلم .
3 ما بين القوسين من صحيح مسلم.
4 صحيح مسلم كتاب المساجد ومواضع الصلاة 1/377.
ص -36-
من الأنبياء مما لا يحصى ولا يستقصى.
ومن أعظم ما خصه الله به من الفضائل المقام المحمود الذي يغبطه به النبيون، قال الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله على قوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: آية 79] قال: يقعده معه على العرش1.(40/33)
__________
1 حكى الإمام أبو جعفر الطبري قولين في هذه المسألة: القول الأول: أن المقام المحمود هو الشفاعة، وعليه أكثر أهل العلم، والقول الآخر: أن المقام المحمود هو جلوس النبي صلى الله عليه وسلم مع ربه على عرشه سبحانه. قال مجاهد.
ثم قال ابن جرير: " وأولى القولين في ذلك بالصواب ما صح به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذلك ما حدثنا به أبو كريب ثنا وكيع عن داود بن يزيد عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:{عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مُحمودًا} سئل عنها قال: " هي الشفاعة" اهـ. ثم قال ابن جرير ـ بعد سياق أحاديث تدل على ما رجحه ـ " وهذا وإن كان هو الصحيح من القول في تأويل قوله {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} لما ذكرنا من الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين، فإن ما قاله مجاهد من أن الله يقعد محمدا على عرشه، قول غير مدفوع صحته، لا من جهة خبر ولا نظر، وذلك لأنه لا خبر عن رسول الله ولا عن أحد من أصحابه ولا عن التابعين بإحالة ذلك...إلخ اهـ.
تنبيه: عزا المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ القول بقعود النبي صلى الله عليه وسلم مع ربه على العرش إلى ابن جرير الطبري، تبعا للإمام شمس الدين ابن قيم الجوزية ـ عليه رحمة الله ـ في كتابه " اجتماع الجيوش الإسلامية" ص 120. والذي يتضح من كلام الإمام ابن جرير السابق أنه يرجح القول بأن المقصود من الآية الشفاعة بيد أنه ذكر في آخر كلامه على هذه الآية أن =
ص -37-(40/34)
وله في القيامة ثلاث شفاعات: أما الشفاعة الأولى فيشفع لأهل الموقف حتى يقضى بينهم، بعد أن يتراجع الأنبياء آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم عن الشفاعة حتى تنتهي إليه. وأما الشفاعة الثانية، فيشفع في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة، وهاتان الشفاعتان خاصتان له. وأما الشفاعة الثالثة فيشفع فيمن استحق النار، وهذه الشفاعة له ولسائر النبيين والصديقين وغيرهم، ويشفع فيمن استحق النار أن لا يدخلها، ويشفع فيمن دخلها أن يخرج منها.
وله الحوض المورود في عرصات القيامة، ماؤه أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، آنيته عدد نجوم السماء، طوله شهر، وعرضه شهر، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا.
__________
= قول مجاهد ليس بمحال!!
نكتة: قال ابن كثير في البداية والنهاية في حوادث سنة سبع عشرة وثلاثمائة ـ وفيها وقعت فتنة ببغداد بين أصحاب أبي بكر المروذي الحنبلي، وبين طائفة من العامة، اختلفوا في تفسير قوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا}.
فقالت الحنابلة: يجلسه معه على العرش، وقال الآخرون: المراد بذلك الشفاعة العظمى، فاقتتلوا بسبب ذلك، وقتل بينهم قتلى، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وقد ثبت في صحيح البخاري أن المراد بذلك مقام الشفاعة العظمى، وهي الشفاعة في فصل القضاء بين العباد، وهو المقام الذي يرغب إليه فيه الخلق كلهم، حتى إبراهيم، ويغبطه به الأولون والآخرون. اهـ.
ص -38-(40/35)
وهو أول من يفتح له باب الجنة وأول من يدخل الجنة من الأمم أمته.
والمقصود من هذا: أن قول هذا الملحد فيما أورده عن القسطلاني من تلك الحكاية، وما ذكره من هذا الحديث الموضوع" أن أول ما خلق الله من الأشياء نور محمد صلى الله عليه وسلم، وأن جميع المخلوقات خلقت من نوره حتى النار" 1مناقض لما ذكره الله في كتابه، وعلى لسان رسوله في سنته.
ولو كان حقا ثابتا، أو كان من الفضائل والخصائص لذكره أهل الصحاح والمسانيد والسنن وغيرها من الكتب المعتمدة، ومن المعلوم بالضرورة من دين الإسلام أن هذا من الكذب الذي لا يمتري فيه عاقل، فضلا عن العلماء الذين هم أعلم الخلق بالله وبكتابه ورسوله وسنة نبيه.
وإذا كان نور رسول الله صلى الله عليه وسلم على زعم هؤلاء مخلوقا من نور، فمن المعلوم بصريح النقل أن الملائكة مخلوقون من النور أيضا، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" خلقت الملائكة من نور، وخلق إبليس من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم"2.
وفي تفسير الحافظ أبي بكر أحمد بن موسى بن مردويه من حديث حماد بن سلمة حدثنا الزبير بن عبد السلام عن أيوب بن عبد الله بن مكرز عن أبيه
__________
1 في الأصل " وأن هذا مناقض" وهو تكرار.
2 أخرجه مسلم في صحيحه ـ كتاب الزهد والرقائق ـ 4/2294 عن عائشة رضي الله عنها ولفظه: " وخلقت الملائكة من نور وخلق الجان...".
ص -39-
قال: قال عبد الله بن مسعود: " إن ربكم عز وجل ليس عنده ليل ولا نهار، ونور السموات من نور وجهه" الحديث إلى آخره1.
ونهى العلماء عن استقبال الشمس والقمر ببول أو غائط لما فيهما من نور الله2، فإذا كان ذلك كذلك فما خاصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك وامتيازه عن هذه المخلوقات؟ إذ من(40/36)
__________
1 أخرجه الطبراني في الكبير9/200، وفي السنة ـ كما في اجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم وقد قال الهيثمي في المجمع1/85: "وفيه أبو عبد السلام قال أبو حاتم: مجهول، وقد ذكره ابن حبان في الثقات، وعبد الله بن مكرز أو عبيد الله على الشك لم أر من ذكره" اهـ
2 ذهب إلى هذا جماعة من أصحابنا منهم ابن قدامة في المغني، وقدمه ابن مفلح في الفروع، واختاره ابن تميم وغيره، كما في الإنصاف1/100.
قال ابن مفلح في المبدع1/85 قوله: " ولا يستقبل الشمس ولا القمر" لأنه روي أن معهما ملائكة، وأن أسماء الله مكتوبة عليهما، وأنهما يلعنانه، وبهما يستضيء أهل الأرض فينبغي احترامهما" اهـ.
قال النووي رحمه الله في المجموع2/103 بعد أن ذكر عن بعض الشافعية استحباب عدم استقبال النيرين:
"واستأنسوا فيه بحديث ضعيف بل باطل..والحكم بالاستحباب يحتاج إلى دليل ولا دليل في المسألة" اهـ.
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: " لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم في ذلك كلمة واحدة لا بإسناد صحيح ولا ضعيف ولا مرسل ولا متصل. وليس لهذه المسألة أصل في الشرع" اهـ.
وقد ذهب إلى عدم الكراهة جماعة من أصحابنا، قال المرداودي في الإنصاف: " ظاهر كلام أكثر الأصحاب: عدم الكراهة" اهـ.
قال الصنعاني في سبل السلام عند قول النبي صلى الله عليه وسلم" ولكن شرقوا أو غربوا" صريح في جواز استقبال القمرين واستدبارهما إذ لا بد أن يكونا في =
ص -40-(40/37)
المعلوم بالضرورة أن خلق آدم من صلصال كالفخار، وقد فضله الله على الملائكة وهم مخلوقون من نور، ورسول الله صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم، وآدم عليه السلام فمن دونه تحت لوائه يوم القيامة، وقد ذكر صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق أن الملائكة خلقت من نور، ولم يقل: خلقت من نور محمد فدل على أن هذا كذب عليه، وقد قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} [الحجر: آية26، 27] وثبت بالإسناد الذي على شرط الصحيح عن عبد الله بن عمرو أنه قال: قالت الملائكة: يا ربنا قد جعلت لبني آدم الدنيا يأكلون ويشربون، فاجعل لنا الآخرة كما جعلت لهم الدنيا، فقال: لا أفعل. ثم أعادوا عليه، فقال: لا أفعل. ثم أعادوا عليه، فقال: وعزتي لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له كن فكان1. فإذا ثبت أن الملائكة مخلوقون من نور وأن خلق آدم وذريته من
__________
= الشرق أو الغرب غالبا. اهـ " 1/150ط جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية" .
1 أخرجه الطبراني ـ مرفوعا، كما في تفسير ابن كثير3/56 ط النهضة ـ حدثنا أحمد بن محمد بن صدقة البغدادي، حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن خارجة المصيصي، حدثنا حجاج بن محمد، حدثنا محمد بن مطرف أبو غسان، عن صفوان بن سليم، عن عطاء بن يسار، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الملائكة قالت: يا ربنا أعطيت بني آدم الدنيا..الحديث.
قال الهيثمي في المجمع1/82 بعد أن نسب الحديث للطبراني في =
ص -41-(40/38)
......................................................................................................................................
__________
= الكبير والأوسط: وفيه: إبراهيم بن عبد الله المصيصي، وهو كذاب متروك. وفي الأوسط: طلحة بن يزيد، وهو كذاب أيضا اهـ.
وأخرجه عثمان بن سعيد في رده على بشر ص 34: حدثنا عبد الله بن صالح حدثني الليث حدثني هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن عبد الله بن عمرو قال: لقد قالت: الملائكة: يا ربنا....الحديث. موقوفا كما ذكره المؤلف.
وفي هذا الإسناد: عبد الله بن صالح كاتب الليث اختلف فيه. وحديثه حسن في الشواهد والمتابعات، قال الحافظ في التقريب: صدوق كثير الخطأ، ثبت في كتابه، وكانت فيه غفلة" .
وللحديث شاهد من حديث عروة بن رويم قال: أخبرني الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الملائكة قالوا: " ربنا خلقتنا، وخلقت بني آدم، فجعلتهم يأكلون الطعام، ويشربون الشراب...الحديث.
أخرجه عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة: حدثنا الهيثم بن خارجة، أنا عثمان بن حصن بن علاق، سمعت عروة بن رويم يقول....وهذا إسناد صحيح إلى عروة بن رويم.
وقد أعله محقق كتاب السنة 1/469 بعثمان بن حصن، فقال: " وفي سنده: عثمان بن علاق ولم أقف له على ترجمة، وجهالة الأنصاري" اهـ.
قلت: عثمان ثقة من رجال التهذيب7/110، وقد أخرج النسائي حديثه.
ووقع في اسمه خطأ طباعي في تقريب التهذيب، ط النمنكاني، فرسم هكذا " عثمان بن حصين" فليصلح.
وأما الأنصاري المذكور فقد استظهر الشيخ العلامة المحدث أحمد شاكر أنه أنس بن مالك الصحابي رضي الله عنه، بدليل رواية ابن عساكر في "التاريخ" التي صرح فيها عروة بن رويم اللخمي بأن الأنصاري أنس بن=
ص -42-(40/39)
......................................................................................................................................
__________
=مالك. قال الشيخ أحمد" ولكن إسناد ابن عساكر لم يتبين لي صحته من ضعفه، وأيا ما كان فرواية عبد الله بن أحمد ورواية ابن عساكر تصلحان للإستشهاد، وتؤيدان صحة حديث عبد الله بن عمرو بإسناد الدارمي" اهـ.
وهذا إسناد ابن عساكر: قال رحمه الله في تاريخ دمشق15/129ـ130 من مصورة مخطوطة الظاهرية" في ترجمة محمد بن أيوب بن الحسن الداراني:
أنبأ أبو الحسن علي بن الحسن بن الحسين1، وأبو طاهر محمد بن الحسين2 قالا: أنبأ أبو علي الأهوازي قال: حدثنا عبد الوهاب بن عبد الله بن عمر قال: ثنا أبو الفتح المظفر بن أحمد بن برهان المقري3، ثنا أبو بكر محمد بن أيوب الدارني حدثنا الحسن بن علي بن خلف الصيدلاني ثنا سليمان بن عبد الرحمن حدثني عثمان بن حصن بن عبيدة بن علاق قال: سمعت عروة بن رويم اللخمي يقول: حدثني أنس بن مالك.... الحديث وإسناده ضعيف: أبو علي الأهوازي هو: الحسن بن علي بن إبراهيم بن يزداد. قال الذهبي في السير18/13: صاحب حديث، ورحلة، وإكثار، ليس بالمتقن له ولا المجود، بل هو حاطب ليل، ومع إمامته في القراءات فقد تكلم فيه، وفي دعاويه تلك الأسانيد العالية" اهـ.
ترجمه في الميزان1/512ـ513 وذكر أنه رمي بالكذب.
ومحمد بن أيوب الداراني لم يذكر فيه ابن عساكر جرحا ولا تعديلا.
وأخرج ابن عساكر هذا الحديث في تاريخه أيضا9/817ـ118 من طريق محمد فريم نا هشام بن عمار نا عبد ربه بن صالح عن عروة بن رويم وزهير بن طاهر.
__________
1 ترجمته في السير 19/437.
2 ترجمته في السير 19/436.
3 ترجمته في ابن عساكر16/601، وغاية النهاية للجزري2/30.
ص -43-(40/40)
صلصال من حمإ مسنون؛ وأقسم بعزته جل ثنائه وتقدست أسمائه أن من خلق بيده أفضل من الملائكة المخلوقين من النور؛ وأنه لا يجعل صالح ذريته كلملائة؛ وقال عبد الله بن سلام:" ما خلق الله خلقا أكرم عليه من محمد –صلى الله عليه وسلم- فقيل له: يا أبا يوسف ولا جبرائيل ولا ميكائيل؟ فقال: يا ابن أخي أو تعرف ما جبرائيل وميكائل؟ إنما جبرائيل وميكائيل خلق مسخر مثل الشمس والقمر ما خلق الله خلقا أكرم عليه من محمد"وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة ضي الله عنه قال:أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: " خلق الله التربة يوم الاثنين؛ وخلق المكروه يوم الثلاثاء؛ وخلق النور يوم الأربعاء وبث فيها الدواب يوم الخميس؛ وخلق آدم 1 بعد العصر من يوم الجمعة 2 في آخر الخلق في آخر الساعة من الساعات
__________
= ومن طريق عبد الملك البزار نا هشام بن عمار نا عبد ربه بن صالح القرشي قال : سمعت عروة بن رويم يحدث عن جابر بن عبد الله الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم .... به.
وعبد ربه بن صالح القرشي ذكره ابن عساكر في التاريخ وساق له هذا الحديث ولم يحك فيه جرحا ولا تعديلا
وذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل وبيض له 6/44؛ وكذا البخاري في التاريخ الكبير 6/79.
1 في الأصل "يوم الجمعة" وهو تكرار. وما أثبته هو الموافق لما في صحيح مسلم .
2 سقطت "في" من الأصل واستدركها من صحيح مسلم .
ص -44-(40/41)
الجمعة فيما بين العصر إلى الليل"1 فتبين من هذا الحديث أن خلق النور يوم الأربعاء؛ وآدم خلق بعد العصر من يوم الجمعة آخر الخلق.
وقد ثبت أن نبينا صلى الله عليه وسلم قال: " أنا سيد ولد آدم ولا فخر" 2 فكيف يصح في الأذهان أن يكون آدم مخلوقا من نور أفضل ولده؟ وقد أخبرنا الله في كتابه وعلى لسان رسوله أن الله خلق آدم من صلصال من حمإ مسنون؛ أو تكون النار التي هي محل غضبه وسخطه مخلوقة من نور محمد ؟
وقد ثبت أن الله خلق النار قبل أن يخلق آدم وذريته. ومن المعلوم بالضرورة من دين الإسلام أن نور الله الذي هو صفته غير مخلوق؛ وليس من الله شيء مخلوق؛ وإنما تكون الأشياء وتخلق بأمره وتكوينه وأفعاله سبحانه وبحمده إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون .
فإذا عرفت هذا عرفت أن ما ذكره القسطلاني لا يصح وأن هذا الحديث موضوع مكذوب؛ وإذا كان ذلك كذلك تبين لك أنه لم يكن قبل خلق آدم خلق من ذريته يسمى عالم الغيب لا أرواح ذريته من الأنبياء ولا غييرهم.
__________
1 أخرجه مسلم في صحيحه – كتاب صفات المنافقين وأحكامهم – 4/2149.
2 تقدم تخريجه .
ص -45-(40/42)
فإذا عرفت هذا فنذكر هنا من الأحاديث الصحيحة ما يبطل دعى هؤلاء الوضاعين الغلاة وأن الصحيح الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أول ما خلق الله تعالى من الأشياء العرش أو القلم كما ذكره أهل العلم .قال الشيخ الإسلام: الوجه التاسع أنه قد ذكرنا أن للسلف في العرش والقلم أيهما خلق الآخر قولين كما ذكره الحافظ أبو العلاء الهمذاني وغيره أحدهما: أن القلم خلق أولا؛ كما أطلق ذلك غير واحد؛ وهذا "1 هو الذي يفهم في الظاهر في كتب من صنف في الأوائل كالحافظ ابن أبي عروبة وابن أبي معشر الحراني وأبي القاسم الطبراني للحديث الذي رواه أبو داود في سننه عن عبادة بن الصامت أنه قال: يا بني إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أنما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إن أول ما خلق الله القلم فقال: اكتب.فقال: يا رب وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة" يا بني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من مات على غير هذا فليس مني"2.
__________
1 في الأصل "وذلك".
2 أخرجه أبو داود في سننه - كتاب السنة - 5/76. عن أبن حفصة قال : قال عبادة لا بنه .... وأبو حفصة هذا اسمه حبيش بن شريح. قال عنه الحافظ في التقريب : مقبول . =
ص -46-(40/43)
......................................................................................................................................
__________
= وللحديث شواهد وطرق يرقى الحديث بها عن رتبة الضعيف. لذا قال ابن حجر الهيتمي ـ عفا الله عنه ـ في الفتاوى الحديثية ص 158 على هذا الحديث: " وورد بل صح من طرق" اهـ، والحديث خرجه الطيالسي في مسنده1/30 ـ منحة المعبود ـ ومن طريقه الترمذي في سننه ـ كتاب التفسير ـ 5/424، وكتاب القدر4/457 وابن أبي حاتم ـ كما في تفسير ابن كثير 8/ 424 ط المنار ـ وابن أبي عاصم في السنة رقم105 واللالكائي في شرح الاعتقاد ص 218، وخرّجه البغوي في مسند ابن الجعد 2/1183، ومن طريقه اللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" ص 615.
وفي إسناده عند هؤلاء عبد الواحد بن سليم ضعيف الحديث. قال أحمد: حديثه حديث منكر أحاديثه موضوعة. وقال ابن معين: ضعيف" التهذيب6/436" وأخرجه الإمام أحمد في مسنده5/317، وابن أبي عاصم في السنة1/48، وفي الأوائل ص 59، وفي سنده ابن لهيعة وهو حسن الحديث في الشواهد والمتابعات.
وقد روى ابن وهب هذا الحديث عن ابن لهيعة. وحديث ابن لهيعة إذا رواه ابن وهب صح؛ لأنه سمع منه قبل الاختلاط، لكن ابن لهيعة مدلس وقد عنعن " القدر لابن وهب ص 121" .
وأخرجه الإمام أحمد في مسنده 5/317، وابن أبي عاصم في السنة1/50، وابن جرير الطبري في تفسيره29/17، والآجري في الشريعة ص 177، وغيرهم من طريق أيوب بن زياد أبو زيد الحمصي: حدثني عبادة بن الوليد بن عبادة، حدثني أبي قال: دخلت على عبادة وهو مريض أتخايل فيه الموت فقلت: يا أبتاه أوصني واجتهد لي فقال: أجلسوني. قال: يا بني ... الحديث.
قال الحافظ ابن حجر في النكت الظراف ـ بعد أن ساق سند البزار وهو من هذا الطريق: وجاء عن علي بن المديني أنه قال: " إسناده حسن" .
ص -47-(40/44)
والثاني: أن العرش خلق أولا، قال الإمام عثمان بن سعيد الدارمي في مصنفه في الرد على الجهمية حدثنا محمد بن كثير العبدي أنبأنا سفيان الثوري حدثنا ابن هشام عن مجاهد عن ابن عباس قال: " إن الله كان على عرشه قبل أن يخلق شيئا فكان أول ما خلق الله القلم، فأمره أن يكتب ما هو كائن، وإنما يجري الناس على أمر قد فرغ منه"1 ورواه أيضا أبو القاسم اللالكائي في كتابه في شرح أصول السنة من حديث يعلى عن سفيان عن أبي هاشم عن مجاهد قال: قيل لابن عباس: "إن ناسا يقولون في القدر قال: يكذبون بالكتاب لئن أخذت بشعر أحدهم لأنصونّه – أي لآخذن بناصيته – إن الله كان على عرشه قبل أن يخلق شيئا فخلق القلم فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة وإنما يجري الناس على أمر قد فرغ منه" 2 وكذلك روى الحافظ أبو بكر البيهقي في كتاب الأسماء والصفات لما ذكر بدء الخلق فذكر حديث عبد الله بن عمرو 3؛4 وعمران بن حصين 5 وغيرهما؛ وسنذكر هذين
__________
1 أخرجه الدارمي في الرد على الجهمية ص31.
2 أخرجه اللالكائي في شرح أصول السنة ص 669؛ 670.
3 ونصه: عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " قدر الله المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة "
"الأسماء والصفات للبيهقي ص 477".
4 في الأصل "عن" .
5 قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعقلت ناقتي بالباب ثم دخلت فأتاه نفر من بني =
ص -48-(40/45)
الحديثين إن شاء الله تعال؛ ثم ذكر حديث الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه سئل عن قول الله تعالى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ}[هود: آية 7] على أي شيء كان؟ قال: "على متن الريح" 1 وروى حديث القاسم بن أبي بزة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أول شي ء خلقه الله القلم وأمره فكتب كل شيء يكون" 2 قال البيهقي: ويروى ذلك عن عبادة بن الصامت مرفوعا. قال البيهقي: وإنما أراد والله أعلم أول شيء خلقه بعد خلق الماء والريح والعرش 3 القلم؛ و ذلك بين في حديث عمران بن حصين "ثم خلق السماوات والأرض".
__________
= تميم فقال: اقبلوا البشرى يا بني تميم ... إلخ. "الأسماء والصفات ص 478".
1 الأسماء والصفات للبيهقي ص 480.
2 أخرجه الدارمي عفي الرد على الجهمية ص 121؛ وابن جرير الطبري في تفسير 29/16؛ 17 وعبد الله ابن الإيمان أحمد في السنة 2/293؛ والطبراني في الكبير 12/68؛ 69 وفي الأوائل ص 22؛ وابن أبي عاصم في السنة 1/50 وفي الأوائل ص 60. جميعهم من طرق عن رباح بن زيد عن عمر بن حبيب عن القاسم بن أبي بزة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس .. به. وإسناد جيد. قال الهيشمي في مجمع الزوائد 7/190: رواه الطبراني ورجاله ثقات. اهـ وقال: رواه البزار ورجاله ثقات. اهـ .
3 في الأصل "والقلم" وما أثبته من الأسماء والصفات ص 481.
ص -49-(40/46)
وفي حديث أبي ظبيان 1 عن عباس موقوفا عليه " ثم خلق النون فدحا 2 الأرض عليها".
وروى بإسناده الحديث المعروف عن وكيع عن الأعمش عن أبي ظبيان 1 عنى ابن عباس قال:"إن 3 أول ما خلق الله من شيء القلم فقال له: يا رب ما أكتب؟ قال: اكتب القدر. قال فجرى بما هو كائن من ذلك اليوم إلى قيام الساعة. قال: ثم خلق النون فدحا 2 الأرض عليها فارتفع بخار الماء ففتق منه السماوات واضطرب النون فمادت الأرض فأثبتت بالجبال وإنها لتفتخر على الأرض إلى يوم القيامة" 4.
قلت: حديث عمران بن حصين الذي ذكر هو ما رواه البخاري من غير وجه منها ما رواه في كباب التوحيد في "باب وكان عرشه على الماء وهو رب العرش العظيم"5 قال أبو
__________
1 في الأصل "ضبيان".
2 في الأصل "فدمى" وما أثبته من الأسماء والصفات للبيهقي .
3 سقطت " إن " من الأصل. وأثبتها من الأسماء والصفات للبيهقي .
4 قال السيوطي في الدر المنثور 8/240: أخرجه عبد الرزاق؛ والفريابي؛ وسعيد بن منصور؛ وعبد بن حميد؛ وابن جرير 29/14؛ 15 وابن المنذر؛ وابن أبي حاتم؛ وأبو الشيخ في العظمة؛ والحاكم؛ وصححه- 2/498- واليهقي في الأسماء والصفات – ص 481- والخطيب في تاريخه؛ والضياء في المختارة. اهـ .
5 13/403.
ص -50-(40/47)
العالية: استوى إلى السماء: ارتفع. وقال مجاهد: استوى 1 على العرش .
وذكره من حديث أبي حمزة عن الأعمش عن جامع بن شداد 2 عن صفوان بن محرز عن عمران بن حصين قال: " إني عند النبي – صلى الله عليه وسلم- إذا جاءه قوم من بني تميم فقال: اقبلوا البشرى يا بني تميم؛ قالوا: بشرتنا فأعطنا؛ فدخل الناس من أهل اليمن فقال: اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إذا لم يقبلها بنو تميم؛ فقالوا قد قبلنا جئناك لنتفقه 3 في الدين؛ ولنسألك عن أول هذا الأمر؛ قال: كان الله ولم يكن شيء قبله؛ وكان عرشه على الماء ثم خلق السماوات والأرض؛ وكتب في الذكر كل شيء؛ ثم أتاني رجل فقال: يا عمران أدرك ناقتك فقد ذهب فانطلقت أطلبها فإذا السراب ينقطع دونها وأيم الله لوددت أنها قد ذهبت ولم أقم" رواه البيهقي كما رواه محمد بن خهارون الروياني في مسنده.
وعن عثمان بن سعيد وغيرهما من حديث الثقات المتفق على ثقتهم عن أبي إسحاق الفزاري عن الأعمش عن جامع بن شداد عن صفوان بن محرز عن عمران بن حصين قال: أتيت النبي – صلى الله عليه وسلم – فعقلت ناقتي بالباب ثم دخلت؛ فأتاه نفر
__________
1 سقط "على" من الأصل.
2 "عن جامع بن شداد" سقطت من الأصل .
3 في الأصل "لنفقه" .
ص -51-(40/48)
من بني تميم فقال: اقبلوا البشرى يا تميم قالوا: بشرتنا فأعطنا. فجاء نفر من أهل اليمن فقال: اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها إخوانكم من بني تميم فقالوا: قبلنا يا رسول الله أتيناك لنتفقه في الدين ونسألك عن أول هذا الأمر كيف كان؟ قال:كان الله ولم يكن شيء غيره وكان عرشه على الماء ثم كتب في الذكر كل شيء ثم خلق السماوات والأرض قال: ثم أتاني رجل فقال: أدرك ناقتك قال: فذهبت فخرجت فوجدتها ينقطع دونها السراب؛ وأيم الله لوددت أني تركتها. ففي هذا الحديث الصحيح بيان أنه كتب في 1 الذكر ما كتبه بعد أن كان عرشه على الماء وقبل أن يخلق السماوات والأرض.
فتبين من هذه الأحاديث الصحيحة أن هذا الحديث الذي ذكره الملحد موضوع مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن أول ما خلف الله العرش على الصحيح كما قال ابن القيم رحمه الله
واذكر حديث السبق للتقدير التو
قيت قبل جميع ذي الأعيان
خمسين ألفا من سنين عدها ال
مختار سابقة لذي الأكوان
هذا وعرش الرب فوق الماء من
قبل السنين بمدة وزمان
___________________________
1- سقطت "في" من طبعة الرياض. وما أثبته من الأصل
ص -52-
والناس مختلفون في القلم الذي
كتب القضاء به من الديان
هل كان قبل العرش أو هو بعده
قولان عن أبي العلا الهمداني
والحق أن العرش قبل لأنه
قبل الكتابة كان ذا أركان
وكتابة القلم الشريف تعقبت
إيجاده من غير فصل زمان
لما براه الله قال اكتب كذا
فغدا بأمر الله ذا جريان
فجرى بما هو كائن أبدا إلى
يوم المعاد بقدرة الرحمان(40/49)
وهؤلاء الجهلة يزعمون أن أول ما خلق الله من الأشياء نور محمد – صلى الله عليه وسلم ثم لما أراد الله أن يخلق الخلق قسم ذلك النور أربعة أجزاء فخلق من الجزء الأول القلم؛ وهذا مناقض ومناف لما ثبت في صحيح البخاري عن عمران بن حصين " مرفوعا" قال: " كان الله ولم يكن شيئ قبله وكان عرشه على الماء ثم كتب في الذكر [كل شيء ثم خلق السماوات والأرض ].
ص -53-
ففي هذا الحديث أنه كتب في الذكر] 1 بعد أن كان عرشه على الماء فصح أن العرش والماء مخلوقان قبل القلم؛ ولو كان الله خلق نور محمد – صلى الله عليه وسلم- قبل الأشياء لذكره في الحديث الصحيح؛ وقد سألوه عن أول هذا الأمر فأخبرهم أن الله كان ولم يكن قبله شيء وكان عرشه على الماء. وذكر البيهقي فيما تقدم على حديث عبادة أن أول شيء خلقه الله بعد خلق الماء والريح والعرش القلم. قال: وذكر بين في حديث عمران. ولم يذكر خلق نور محمد لا قبل العرش ولا القلم ولا بعده. ثم ذكر هذا الملحد أن الله قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء فخلق من الأول السماوات ومن الثاني الأرض. وهذا مخالف للأحاديث كما في حديث أبي ظبيان عن ابن عباس قال: " أول ما خلق الله عزوجل القلم" فذكره وفيه: " ثم خلق النور فدحا الأرض فأثبتت بالجبال" فتبين من هذا الحديث أن خلق الأرض قبل السماء كما قال تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ}- إلى قوله:- {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} [فصلت: آية 9-11]. وهذا الجاهل يقول ثم خلق من الجزء الأول السماوات ومن الثاني الأرض خلاف ما
__________
1 ما بين المعكوفين سقط من الأصل .
ص -54-(40/50)
ذكره ابن عباس – رضي الله عنهما- وخلاف ما نزل به القرآن. وقال عثمان بن سعيد حدثنا عبد الله بن صالح المصري؛ حدثنا ابن لهيعة ورشدين بن سعد عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو قال: " لما أراد الله تبارك وتعالى أن يخلق شيئا إذا كان عرشه على الماء وإذا لا أرض 1 ولا السماء؛ خلق الريح فسلطها على الماء حتى اضطربت أمواجه وأثار ركامه؛ فأخرج من الماء دخانا وطينا وزبدا؛ فأمر الدخان فعلا؛ وسما؛ ونمى؛ فخلق منه السماوات؛ وخلق من الطين الأرضين؛ وخلق من التربة الجبال " 2.
وهذا الجاهل يقول إن الله خلق السماوات والأرض من الجزء الرابع من نور محمد صلى الله عليه وسلم {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ}[النور: آية 16].
__________
1 في الأصل " إذا الأرض ".
2 في الرد على الجهمية للدارمي ص 32 : "وخلق من الزبد الجبال".
ص -55-
فصل
وأما قول الملحد: " أخرج الإمام أحمد والبخاري في تاريخه والطبراني والحاكم وأبو نعيم عن ميسرة الضبي قال: قلت يا رسول الله: متى كنت نبيا؟ قال: " وآدم بين روح والجسد"1 قال المناوي في قوله: "متى كنت نبيا" الحديث؛ ولم يقل إنسانا ولا موجودا إشارة إلى أن نبوته كانت موجودة في أول خلق الزمان في عالم الغيب دون عالم الشهادة؛ فلما انتهى الزمان بالاسم الباطن إلى وجود اسمه وارتباط الروح به؛ انتقل الحكم الزماني في جريانه إلى الاسم الظاهر؛ فظهر بذاته جسما وروحا فكان الحكم له باطنا أولا في كل ما ظهر من الشرائع على أيدي الأنبياء والرسل ثم صار له الحكم ظاهرا فنسخ كل شيء أبرزه الاسم الباطن بحكم الاسم الظاهر لبيان اختلاف حكم الاسمين وإن كان المشروع واحدا؛ انتهى".
فالجواب أن يقال: - ما ما ذكره المناوي على هذا الحديث
__________
1 تقدم الكلام على الحديث .
ص -56-(40/51)
من قوله: " إشارة إلى أن نبوته كانت 1 موجودة في أول خلق الزمان في عالم الغيب دون عالم الشهادة إلى آخره".
فهو من جنس الرموز والإشارات والاعتبار الذي سلكه المتصوفة من أهل السلوك؛ ومن جنس ما يذكره صاحب " الفصوص" في "الفتوحات"؛ ومن نمط ما يذكره أبو حامد الغزالي من الألفاظ المبتدعة المأخوذة عن الفلاسفة؛ كلفظ عالم الغيب والملكوت؛ وعالم الشهادة وغير ذلك من الألفاظ التي لا تذكر في شيء من الأحاديث؛ وإنما أصل هذه الألفاظ من وضع الفلاسفة واصطلاحاتهم؛ فيعبر هؤلاء بهذه العبارات المأخودة عن الفلاسفة؛ ويجعلون مراد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من الآيات والأحاديث على ما أرادوا من معاني هذه الألفاظ المخترعة التي تخالف كاب الله وسنة رسوله.
ومن المعلوم بالضرورة من دين الإسلام؛ ومما جاء عن سيد الأنام؛ أنه ليس قبل خلق السماوات والأرض خلق من بني آدم أرواحا؛ ولا غيرها يسمى عالم الغيب؛ ولا يوجد ذلك في كلام أئمة الإسلام؛ وهذا بناء من هؤلاء على أن الأرواح مخلوقة قبل خلق السماوات والأرض؛ وعليه وضع الوضاعون تفرع خلق جميع المخلوقات جزءا بعد جزء من نور محمد صلى الله عليه وسلم والذي ذكره أهل العلم من الأحاديث إنما هو
__________
1 في طبعة الرياض "كأنك".
ص -57-(40/52)
تقدير ما هو كائن إلى يوم القيامة؛ فإن الله تعلى قدر مقادير الخلق وانقسام الخلق إلى سعيد وشقي؛ وميزهم قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح: " إن الله كتب مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة؛ وعرشه على الماء" وسيأتي بيان ذلك فيما بعد إن شاء 1 الله تعالى؛ ومن المعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ قد كان نبيا في سابق علم الله قبل أن يخلق السماوات والأرض؛ فإن الله قدر ما هو كائن إلى يوم القيامة؛ ولم يكن ثم عالم غيب من الأرواح لا أرواح الأنبياء ولا غيرهم من بني آدم. وهذا بخلاف ما قاله المناوي " من أن نبوته كانت موجودة في أول خلق الزمان في عالم الغيب؛ يعني أنه كان في أول الزمان فعالم الغيب روح موجودة بالاسم الباطن؛ ثم انتهى الزمان بالاسم الباطن إلى وجود جسمه وارتباط الروح به؛ إلى أن انتقل الحكم الزماني في جريانه إلى الاسم الظاهر؛ فظهر بذاته جسما وروحا" ومستنده في ذلك الحديث الذي أخرجه البخاري في تاريخه؛ وأحمد والطبراني والحاكم والبيهقي وأبو نعيم؛ عن ميسرة الضبي قال: قلت يا رسول الله: متى كنت نبيا؟ قال: "وآدم بين الروح والجسد".
ومن المعلوم أن هذا الحديث مناق لما قاله المناوي فإن
__________
1 في الأصل "إنشاء الله".
ص -58-(40/53)
آدم عليه ا لسلام إنما خلقه الله بعد خلق السماوات والأرض بعد العصر من يوم الجمعة آخر الخلق من آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل. ومعلوم أن خلق الزمان قبل خلق آدم بمدة طويلة؛ وإنما قال صلى الله عليه وسلم "كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد" ولم يقل كنت نبيا في أول خلق الزمان؛ بمعنى انه كان في أول خلق الزمان روحا موجودة قبل خلق العرش والماء والريح والقلم؛ وأخرج صلى الله عليه وسلم في جملة من اخرج لما مسح الله ظهر آدم بيده فاستخرج ذريته كأمثال الذر؛ فعلم أن هذا الحديث مناقض لما قاله المناوي ومناف له.
ص -59-
قال شمس الدين بن القيم – رحمه الله تعالى وعفا عنه-:
فصل
وأما الدليل على أن خلق الأرواح متأخر عن خلق 1 أبدانها فمن وجوه:
أحدها: أن خلق أبي البشر وأصلهم كان هكذا؛ فإن الله سبحانه أرسل جبرائيل فقبض قبضة من الأرض ثم خمرها حتى صارت طينا ثم نفخ فيه الروح بعد أن صوره فلما دخلت الروح فيه صار لحما ودما حيا ناطقا. ففي تفسير أبي مالك وأبي صالح عن ابن عباس؛ وعن مرة عن ابن مسعود؛ وعن ناس من أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم-؛ لما فرغ الله من خلق ما أحب استوى على العرش؛ فجعل إبليس على ملك سماء الدنيا؛ وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم الجن؛ وإنما سموا الجن لأنهم خزان الجن؛ وكان إبليس مع ملكه خازنا؛ فوقع في صدره 2 فقال: ما أعطاني الله هذا إلا لمزية لي.
وفي لفظ:- لمزية لي على الملائكة؛ فلما وقع ذلك الكبر
__________
1 سقطت "خلق" من طبعة الرياض .
2 في الأصل "جدره" وما أثبته من الروح لابن القيم .
ص -60-(40/54)
في نفسه اطلع الله على ذلك منه؛ فقال الله للملائكة: إني جاعل في الأرض خليفة؛ قالوا: ربنا وما يكون حال الخليفة؟ قال: يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا؛ قالوا: ربنا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؛ ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟ قال: إني أعلم ما لا تعلمون – يعني من شأن إبليس- فبعث جبريل إلى الأرض يأتيه بطين منها؛ فقالت الأرض: أعوذ بالله أن تقبض مني؛ فرجع ولم يأخذ. فقال: رب إنها عاذت بك فأعذتها؛ فبعث ميكائيل فعاذت منه فأعاذها؛ فبعث ملك الموت فعاذت منه فقال: وأنا أعوذ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمره؛ فأخذ من وجه الأرض وخلط ولم ياخذ من مكان واحد 1 فأخذ من تربة حمراء وبيضاء وسوداء. فلذلك خرج بنو آدم مختلفين؛ فصعد به قبل الرب حتى عاد طينا لازبا- واللازب هو الذي يلزق بعضه ببعض – ثم قال للملائكة: إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين؛ فخلقه الله بيده لكيلا يتكبر إبليس عنه؛ 2 وخلقه بشرا فكان جسدا من طين أربعين سنة؛ فمرت به الملائكة ففزعوا منه 3 لما رأوه وكان أشدهم منه فزعا إبليسا؛ فكان يمر به فيضربه فيصوت الجسد
__________
1 في الأصل "واحدا" وما أثبته من الروح للإمام ابن القيم .
2 في طبعة الرياض "عنده".
3 في طبعة الرياض "عنه".
ص -61-(40/55)
كما يصوت الفخار؛ يكون له صلصة؛ فذلك حين يقول 1: من صلصال كالفخار؛ ويقول لأمر ما خلقت؛ ودخل من فيه وخرج من دبره؛ فقال للملائكة: لا ترهبوا من هذا فإن ركبكم صمد؛ وهذا جوف لئن سلطت عليه لأهلكنه؛ فلما بلغ الحين الذي يريد الله جل ثناؤه أن ينفخ فيه الروح؛ قال للملائكة 2: إذا نفخت فيه من روحي فاس جدوا له؛ ولما نفخ فيه الروح دخل الروح في رأسه فعطش؛ فقالت الملائكة: قل الحمد لله. فقال: الحمد لله فقال: يرحمك ربك؛ فلما دخل في عينيه نظر إلى ثمار الجنة؛ فلما دخل في جوفه اشتهى الطعام قبل أن تبلغ الروح رجليه فنهض عجلان إلى ثمار الجنة فذلك 3 حين يقول: خلق الإنسان من عجل وذكر باقي الحديث .
وقال 4 يونس بن عبد الأعلى: أخبرنا ابن وهب قال: حدثنا ابن زيد قال: لما خلق الله 5 النار ذعرت منها الملائكة ذعرا شديدا. وقالوا: ربنا لما خلقت هذا النار ولأي شيء خلقتها؟ قال: لمن عصاني من خلقي .
__________
1 في الأصل "فلذلك" وما أثبته من الروح للإمام ابن القيم .
2 سقطت "الملائكة" من الأصل؛ وما أثبته من الروح .
3 في الأصل "فلذلك" وما أثبته من الروح .
4 في الأصل "وذكر" وما أثبته من الروح لابن القيم .
5 سقطت لفظه "الله" من الأصل "الروح لابن القيم".
ص -62-(40/56)
ولم يكن لله 1 خلق يومئذ إلا الملائكة؛ والأرض ليس 2 فيها خلق؛ إنما خلق آدم بعد ذلك؛ وقرأ قوله: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا}[الإنسان: آية1] قال عمر بن الخطاب: يا رسول الله ليت ذلك الحين. ثم قال: وقالت الملائكة ويأتي علينا دهر نعصيك فيه؟ لا يرون له خلقا غيرهم قال: لا إني أريد أن أخلق في الأرض خلقا وأجعل فيها خليفة.وذكر الحديث.
قال ابن إسحاق: فيقال والله أعلم: خلق الله آدم ثم وضعه ينظر إليه أربعين عاما قبل أن ينفخ فيه الروح حتى عاد صلصالا كالفخار ولم تمسه نار فيقال والله أعلم: لما انتهى الروح إلى رأسه عطش فقال: الحمد لله. فذكر الحديث.
فالقرآن والحديث؛ والآثار تدل على أنه سبحانه نفخ فيه من روحه بعد خلق جسده فمن تلك النفخة حدثت فيه الروح ولو كانت روحه مخلوقة قبل بدنه مع جملة أرواح ذريته لما عجبت الملائكة من خلقه ولما تعجبت من خلق النار وقالت لأي شيء خلقتها وهي ترى أرواح بني آدم فيهم المؤمن والكافر والطيب والخبيث. ولما كانت أرواح الكافر كلها تبعا لإبليس بل كانت الأرواح الكافرة مخلوقة قبل كفره فإن الله سبحانه إنما حكم عليه بالكفر لعد خلق بدن آدم وروحه ولم
__________
1 في الأصل "الله"وما أثبته من الروح وهو أوضح.
2 في الأصل "وليس" وما أثبته من الروح .
ص -63-(40/57)
يكن قبل ذلك كافرا فكيف تكون الأرواح قبله كافرة ومؤمنة وهو لم يكن إذا ذاك؟ وهل حصل الكفر للأرواح إلا بتزيينه وإغوائه فالأرواح الكافرة إنما حدثت بعد كفره؛ إلا أن يقال كانت كلها مؤمنة ثم ارتدت بسببه؛ والذي احتجوا به على تقدم خلق الأرواح بخلاف ذلك.
وفي حديث أبي هريرة في خلق 1 العالم الإخبار عن خلق أجناس العالم وتأخر خلق آدم إلى يوم الجمعة ولو كانت الأرواح مخلوقة قبل خلق الأجساد لكانت من جملة العالم المخلوق في ستة أيام فلما لم يخبر عن خلقها في هذه الأيام علم أن خلقها تابع لخلق الذرية؛ وتمام الكلام في كتاب الروح فمن أراد الوقوف عليه فليراجعه 2.
والمقصود أنه لم يكن هناك خلق يسمى عالم الغيب من بني آدم؛ ونبينا صلى الله عليه وسلم أشرف نسمة وأكرمها على الله من بني آدم؛ فعلمنا قطعا أن تفريع هؤلاء على هذا الحديث غير صحيح؛ مخالفا للكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة.
والمقصود أنه ذكر في الحديث الذي رواه عن الإمام أحمد والبخاري في تاريخه وغيرهما ممن رواه قوله: متى
__________
1 في الروح "تخليق".
2 ص 297-304 ط الهند سنة 1383هـ و ص 279-284 ط جمهورية مصر. وص 172-173 ط دار الفكر .
ص -64-(40/58)
كنت نبيا. قال: "وآدم بين الروح والجسد" وقد تقدم في كلام ابن القيم عن ابن اسحاق وغيره أنه كان بين نفخ الروح في آدم وبين تصوير جسده أربعون سنة؛ وهذا مناف لما قال المناوي:- إن نبوته كانت موجودة في أول خلق الزمان في عالم الغيب فإن خلق الزمان كان قبل أن يخلق الله آدم بمدة طويلة اللهم إلا إن كان أراد أنه في علم الله الذي كتبه حين كتب مقادير كل شيئ قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.
إذا تحققت ذلك فلا يقال إن عالم الغيب هوعلم الله لأن علم الله صفة قائمة بذاته وهو غير مخلوق وما سوى الله من العالم فهو مخلوق عالم الغيب وعالم الشهادة؛ وقد كان من المعلوم أن آدم عليه السلام إنما خلق بعد خلق السماوات والأرض آخر المخلوقات بعد هذا العدد المذكور؛ ونبينا صلى الله عليه وسلم أكرم نسمة على الله من بني آدم وهو سيد ولد آدم.
فإذا عرفت هذا عرفت أن كلام المناوي من نمط ما يقوله أبو حامد الغزالي حيث قال: وأما الأفعال فبحر متسعة أكنافه؛ ولا ينال بالاستقصاء أطرافه؛ بل ليس في الوجود إلا الله وأفعاله؛ فكل ما سواه فعله؛ لكن القرآن اشتمل على الخلق منها الواقع في عالم الشهادة كذكر السماوات والكواكب والأرض والجبال والبحار والحيوان والنبات وإنزال الماء الفرات وسائر أصناف النبات وهي التي ظهرت للحس؛ وأشرف أفعاله وأعجبها وأدلها على جلالة صانعها ما لا يظهر
ص -65-(40/59)
للحسن بل هو في عالم الملكوت وهي الملائكة 1 الروحانية والروح والقلب أعني العارف بالله تعالى من جملة أجزاء الآدمي فإنها أيضا من جملة عالم الغيب والملكوت؛ وخارج عن عالم الملك والشهادة وذكر كلاما لا حاجة بنا إليه؛ ولكن المقصود أنه زعم أن الروح من جملة عالم الغيب والملكوت. قال شيخ الإسلام على هذا الكلام:-فهذا الكلام يستعظمه في باديء الرأي؛ أو مطلقا؛ من لم يعرف حقيقة ما جاء به الرسول؛ ولم يعلم حقيقة الفلسفة التي طبق هذا الكلام عليها وعبر عنها بعبارات المسلين.
فأما قول القائل إن القرآن اشتمل على الخلق؛ وهي التي ظهرت للحس؛ وأشرف أفعال الله تعالى ما لا يظهر للحس؛ يعني ولم يشتمل القرآن عليه. فهذا مع ما فيه من الغض بالقرآن؛ وذكر اشتماله على القسم الناقص دون الكامل؛ وتطرق أهل الإلحاد إلى الاستخفاف بما جاءت به الرسل؛ هو كذب صريح يعلم صبيان المسلمين أنه كذب على القرآن؛ فإن في القرآن من الأخبار عن الغيب من الملائكة والجن والجنة والنار وغير ذلك ما لا يخفى على أحد؛ وهو أكثر من أن يذكر هنا؛ وفي القرآن من الأخبار بصفات الملائكة وأصنافهم وأعمالهم ما لا يهتدي هؤلاء إلى عشره؛ إذ ليس عندهم من ذلك إلا شيء قيل مجمل؛ بل الرسول إنما بعث ليخبرنا
__________
1 في طبعة الرياض "الملائكة".
ص -66-(40/60)
بالغيب؛ والمؤمن من آمن بالغيب؛ وما ذكره من المشاهدات فإنما ذكره آية ودلالة وبينة على ما أخبر به من الغيب؛ فهذا وسيلة وذلك هو المقصود. ثم يقال: إنه إنما ذكر الوسيلة؛ يا سبحان الله إذا لم يكن الإخبار عن هذا القسم في هذا الكتاب الذي ليس تحت أديم السماء كتاب أشرف منه؛ وعلم هذا لا يوجد عن الرسول الذي هو أفضل خلق خلق الله تعالى في كل شيئ في العلم والتعليم وغير ذلك؛ أيكون ذكر 1 هذا في كلام أرسطو وذوية؛ وأصحاب رسائل إخوان الصفا؛ وأمثال هؤلاء الذين يثبون ذلك بأقيسة مشتملة على دعاوي مجردة؛ لا نقل صحيح ولا عقل صريح؛ بل تشبه الأقيسة الطردية الخالية عن التأثير؛ وتعود عند التحقيق إلى خيالات لا حقيقة لها في الخارج؛ كما سنبينه؛ وكذلك روح الإنسان وقبله في الكتاب والسنة من الإخبار عن ذلك ما لا يحصيه إلا الله .
ثم تكلم على ما أخطأ فيه من ذلك الملائكة وما يتضمن ذلك.
والمقصود أنما ذكره هذا الملحد عن المناوي إن كان النقل صحيحا فهو من جنس ما يذكره أبو حامد مما يعود حقيقته عند التحقيق 2 إلى خيالات لا حقيقة لها في الخارج. وأما ما ذكره من هذين الاسمين الشريفين فلا يدلان على ما ذكره لا لفظا ولا معنى؛ ولا علاقة بينهما وبين ما ذكره؛ ولا
__________
1 في طبعة الرياض "ذكره".
2 في طبعة الرياض"حقيقة عند تحقيق".
ص -67-(40/61)
ارتباط بوجه من الوجوه لا بإشارة ولا بتلويح ولا بتصريح؛ وقد فسر أعلم الخلق بربه هذه الآية: قوله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[الحديد: آية 3] بأنه هو الأول الذي ليس قبله شيء والآخر الذي ليس بعده شيء والظاهر الذي ليس فوقه شيء والباطن الذي ليس دونه شيء 1؛ قوله صلى الله عليه وسلم: "الظاهر الذي ليس فوقه شيء والباطن الذي ليس دونه شيء" يدلان العبد على معرفة إحاطة الرب سبحانه بالعالم وعظمته؛ وأن العوالم كلها في قبضته؛ وأن السماوات السبع والأرضين السبع في يده كخردلة في يد العبد؛ قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ} [الإسراء: آية 60] وقال: {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ}[البروج: آية 20] ولهذا يقرن سبحانه بين هذين الاسمين الدليلين على هذين المعنيين اسم العلو الدال على أنه الظاهر وأنه لا شيء فوقه؛ واسم العظمة الدال على الإحاطة وأنه لا شيء دونه؛ كما قال تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}[سبأ: آية 23] وقال تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقر: آية 115] وهو تبارك وتعالى كما أنه العالي فوق خلقه بذاته؛ فليس فوقه
__________
1 أخرجه الإمام مسلم في صحيح 4/2084-كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار .
ص -68-(40/62)
شيء فهو الباطن بذاته فليس دونه شيء؛ بل ظهر على كل شيء فكان فوقه؛ وبطن فكان أقرب إلى كل شيء من نفسه؛ وهو محيط به حيث لا يحيط الشيء بنفسه؛ وكل شيء في قبضته وليس في قبضة نفسه؛ فهذا قرب الإحاطة والعامة.
وأما القرب المذكور في القرآن والسنة فقرب خاص من عابدية وسائلية؛ فمعرفة هذه الأسماء الأربعة وهي الأول والآخر والظاهر والباطن هي أركان العلم والمعرفة؛ فحقيق بالعبد أن يبلغ في معرفتها إلى حيث تنتهي به قواه وفهمه؛ واعلم أن لك أنت أولا وآخرا وظاهرا وباطنا كل شيء فله أول وآخر وظاهر وباطن حتى الخطرة واللحظة والنفس وأدنى من ذلك وأكثر؛ فأوليته عزوجل سابقة على أولية كل ما سواه؛ وآخريته ثابتة بعد آخرية كل ما سواه؛ فأوليته سبقه بكل شيء؛ وآخريته بقاؤه بعد كل شيء؛ وظاهريته سبحانه فوقيته وعلوه على كل شيء؛ ومعنى الظهور يقتضي العلو وظاهر الشيء هو ما علا منه وأحاط بباطنه؛ وبطونه سبحانه إحاطته بكل شيء بحيث يكون أقرب إليه من نفسه؛ وهذا قرب غير قرب المحب من حبيبه وهي إحاطتان زمانية ومكانية؛ فإحاطة أوليته وآخريته بالقبل والبعد فكل سابق انتهى إلى أوليته وكل آخر انتهى إلى آخريته فأحاطت أوليته وآخريته بالأوائل والأواخر وأحاطت ظاهريته وباطنيته بكل ظاهر وباطن؛ فما من ظاهر إلا والله فوقه؛ وما من باطن إلا والله دونه وما من أول إلا والله قبله وما من آخر إلا
ص -69-(40/63)
والله بعده؛ فالأول قدمه؛ والآخر دوامه؛ والظاهر علوه وعظمته؛ والباطن قربه ودنوه؛ فسبق كل شيء بأوليته؛ وبقى كل شيء بآخريته؛ وعلا كل شيء بظهوره؛ ودنا عن كل شيء ببطونه؛ فلا تواري منه سماء سماء ولا أرض أرضا ولا يحجب عنه ظاهر باطنا بل الباطن له ظاهر الغيب عنده شهادة والبعيد منه قريب والسر عنده علانية؛ فهذه الأسماء الأربعة تشتمل على أركان التوحيد؛ فهو الأول في آخريته والآخر في أوليته والظاهر في بطونه والباطن في ظهوره لم يزل أولا وآخرا وظاهرا وباطنا؛ انتهى ملخصا من سفر الهجرتين .
فتبين مما ذكرناه أن لا تعلق لهذين الإسمين الشريفين بشيء مما ذكره المناري؛ وإنما هو من التفريعات والرموزات والإشارات التي لا حقيقة لها عند التحقيق؛ ولا قوام لها بالثبات على الطريق؛ وإن زعموا أن هذا من علم المكاشفة فهو عند التحقيق مكاشفة. فإذا عرفت هذا وتحققت أنه لم يكن قبل خلق المخلوقات عالم من أرواح بني آدم يسمى علم الغيب؛ وأن أول ما خلق الله العرش والماء والريح ثم خلق القلم وكتب في الذكر كل شيء كائن إلى يوم القيامة علمت يقينا أن ما ذكره القسطلاني والمناوي من الترهات والأكاذيب الموضوعات؛ وأن هذا الحديث المروي عن جابر كذب مختلق؛ وأن الصحيح
ص -70-(40/64)
الثابت عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- هو التقدير السابق كما رواه مسلم في صحيحه من حديث ابن وهب أخبرني أبو هاني الخولاني عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات الأرض بخمسين ألف سنة"وعرشه على الماء "ورواه المسلم أيضا من حديث حيوة ونافع بن يزيد كلامها عن أبي هاني الخولاني أنه سمع أبا عبد الرحمن الحبلي أنه سمع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول "قدر الله المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة " ورواه البيهقي أيضا من حديث أبي مريم حدثنا الليث ونافع بن يزيد قالا:حدثنا أبو هاني عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم- " فرغ الله من المقادير وأمور الدنيا قبل أن يخلق السماوات الأرض وعرشه على الماء بخمسين ألف سنة" ففي هذا الحديث الصحيح ما في ذلك الحديث من أنه قدر المقادير وعرشه على الماء قبل أن يخلق السماوات والأرض؛ لكن بين فيه مقدار السبق أن ذلك قبل السماوات والأرض بخمسين ألف سنة والله سبحانه وتعالى أعلم.
ثم لو كان ما ذكره المناوي والقسطلاني حقا ثابتا معلوما عند أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لذكره العباس بن عبد المطلب لما امتدح رسول الله صلى الله عليه وسلم منصرفه من تبوك؛ ففي السيرة النبوية
ص -71-
[ روي عن عم أزي] 1 زحر بن حصن عن جده حميد بن منهب قال: سمعة جدي خزيم بن أوس بن حارثة يقول: هاجرت إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- منصرفه من تبوك فسمعت العباس يقول: يا رسول الله أريد أن أمدحك فقال: قل لا يفضض الله فاك فقال:
من قبلها طبت في الظلال وفي
مستودع حيث يخصف الورق
ثم هبطت البلاد لا بشر
أنت ولا مضغة ولا علق
بل نطفة تركب السفين وقد
ألجم نسرا وأهله الغرق
تنقل من صالب إلى رحم(40/65)
إذا مضى علم بدا طبق
حتى احتوى بيتك المهيمن من
خندف علياء تحتها النطق
وأنت لما ولدت أشرقت الأر
ض وضاءت بنورك الأفق
فنحن في ذلك الضياء وفي النو
ر وسبل الرشاد نخترق
_______________________________
1 في الأصل "روى زحر بن حصن" وما أثبته من دلائل النبوة للبيهقي 5/267؛ والبداية والنهاية لا بن كثير5/32.
ص -72-
الظلال: ظلال الجنة. قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ}[المرسلات: آية 41] والمستودع هو الموضع الذي كان آدم وحواء يخصفان فيه عليهما من ورق الجنة أي يضمان بعضه إلى بعض يستتران به؛ ثم هبطت إلى الدنيا في صلب آدم وأنت لا بشر ولا مضغة؛ وقوله: تركب السفين يعني في صلب نوح؛ وصالب لغة غريبة في الصلب الفتحتان كسقم وسقم؛ والطبق القرن أي كلما مضى عالم وقرن جاء قرن؛ ولأن القرن يطبق الأرض؛ والنطق جمع نطاق وهو ما يشد به الوسط ومنه المنطقة أي أنت أوسط قومك نسبا وجعله في عليا وجعلهم تحته نطاقا؛ وضاءت لغة في أضاءت.انتهى.
وبهذا يعلم أنه لم مكن عندهم أعني الصحابة رضي الله عنهم خصوصا أهل بيته أن الله خلق الأشياء كلها ولا أن العرش واللوح والقلم والملائكة والجنة والنار وسائر والمخلوقاة خلقها الله من نور محمد جزاء بعد جزء وخلقا بعد خلق.
ثم ذكر هذا الملحد كلاما لا حاجة بنا إلى الجواب عنه.
ص -73-(40/66)
فصل
قال الملحد: "الباب الأول في الآيات القرآنية الدالة على جواز التوسل به" ذكر بعض الآيات التي قرن الله بها اسمه باسم النبي- صلى الله عليه وسلم- وما يتعلق في بيان ذلك. قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا}[ النساء: آية 64] وقال تعالى في شأن أهل أحد: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ}[ آل عمران: آية 159] وقال تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}[محمد: آية 19].
والجواب أن يقال: قد سبق هذا الملحد إلى الاستدلال بهذه الآية من المشبهين أقوام وذكروا من الشبه نحو ما ذكره هذا وأكثر وأعظم تلبيسا وتمويها؛ وأجابهم على ذلك الأئمة الجهابذة الحفاظ الذين هم القدوة وبهم الأسوة وحسبنا ما ذكروه ووضحوه في هذه المسائل.
فقال الإمام الحافظ المحقق أبو عبد الله محمد بن أحمد ابن عبد الهادي الحنبلي المقدسي؛ قدس الله روحه على ما
ص -74-(40/67)
ذكره السبكي:- فأما استدلاله بقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ} [النساء: آية 64] فالكلام فيها في مقامين:
" أحدها": عدم دلالتها على مطلوبه."الثانية": بيان دلالتها على نقيضه؛ وإنما يتبين الأمران بفهم الآية وما أريد بها وسيقت فه؛ وما فهمه منها أعلم الأمة بالقرآن ومعانيه وهم سلف الأمة ومن سلك سبيلهم؛ ولم يفهم منها أحد من السلف والخلف إلا المجيء إليه في حياته ليستغفر لهم؛ وقد ذم تعالى من تخلف عن هذا المجيء إذ 1 ظلم نفسه وأخبر أنه من المنافقين. فقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ}[المنافقون: آية 5] وكذلك هذه الآية إنما هي في المنافق الذي رضي بحكم كعب بن الأشرف وغيره من الطواغيت دون حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فظلم نفسه بهذا أعظم ظلم ثم لم يجيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستغفر له؛ فإن المجيء إليه ليستغفر له توبة وتنصل من الذنب؛ وهذه كانت عادة الصحابة معه صلى الله عليه وسلم أن أحدهم متى صدر منه ما يقتضي التوبة جاء إليه فقال: يا رسول الله فعلت كذا وكذا فستغفر لي؛ وكان هذا فرقا بينهم وبين المنافقين.
__________
1 في الأصل والمطبوعة بالرياض "إذا" والتصويب من الصارم المنكر ص 425 ط دار الإفتاء .
ص -75-(40/68)
فلما استأثر الله عز وجل بنبيه – صلى الله عليه وسلم- ونقله من بين ظهورهم إلى دار كرامته؛ لم يكن أحد منهم قط يأتي إلى قبره؛ ويقول: يا رسول الله فعلت كذا وكذا فستغفر لي؛ ومن نقل هذا عن أحد منهم فقد جاهر بالكذب والبهت وافترى على كل 1 الصحابة والتابعين وتابعيهم؛ وهم خير القرون على الإطلاق حيث تركوا هذا الواجب 2 الذي ذم الله سبحانه من تخلف عنه وجعل التخلف عنه من أمارات النفاق 3؛ وكيف أغفل هذا الأمر أئمة الإسلام وهداة الأنام من أهل الحديث والفقه والتفسير ومن لهم لسان صدق في الأمة؛ فلم يدعوا إليه؛ ولم يرشدوا إليه؛ ولم يفعله أحد منهم ألبتة 4؛ ووفق له من لا يؤبه 5 له من الناس ولا يعد في أهل العلم؛ بل المنقول الثابت عنهم 6 ما قد عرف مما يسوء الغلاة فيما يكرهه وينهى
__________
1 في الصارم المنكى: "افترى عطل الصحابة والتابعون" وهو خطأ .
2 في الصارم المنكى: "وهم خير القرون على الإطلاق هذا الواجب الذي ذم الله سبحانه .." ولا يستقيم الكلام كذا إلا بتكلف بعيد.
3 في الصارم المنكى بعد هذه العبارة:"ووفق له من لا توبة له من الناس ولا يعد في أهل العلم وكيف أغفل هذا الأمر ..." إلخ وهذا تقديم وتأخير مخل جدا .
4 في الصارم المنكى بعد هذه العبارة : "بل المنقول الثابت عنه ما قد عرف مما يسوء الغلاة" .
5 في الصارم المنكى: "من لا توبة " وهو خطأ .
6 في الصارم المنكى: "عنه" وهو خطأ. وفي هذا الموطن تقديم لبعض الأسطر وتأخير لبعض مما أدى إلى ركاكة العبارة وغموضها .
ص -76-(40/69)
عنه من الغلو والشرك الجفاة عما يحبه ويأمر به من التوحيد والعبودية.
ولما كان هذا المنقول شجا في حلوق الغلاة 1؛ وقذى في عيونهم؛ وريبة 2 في قلوبهم؛ قابلوه بالتكذيب والطعن في الناقل؛ ومن اسحى 3 منهم من أهل العلم بالآثار قابله بالتحريف والتبديل؛ ويأبي الله إلا أن يعلى منار الحق؛ ويظهر أدلته ليهتدي المسترشد؛ وتقوم الحجة على المعاند؛ فيعلي الله بالحق من يشاء؛ ويضع برده وبطره وغمص 4 أهله من يشاء.
ويا لله العجب أكان ظلم الأمة لأنفسها ونبيها حي بين أظهرها موجود؛ وقد دعيت فيه إلى المجيء؛ إليه ليستغفر لها وذم من تخلف عن هذا المجيء؛ فلما توقي صلى الله عليه وسلم ارتفع ظلمها له.
وهذا يبين أن هذا التأويل الذي تأول عليه المعترض هذه الآية تأويل باطل؛ ولو كان حقا لسبقونا إليه علما وعملا وإرشادا ونصيحة؛ ولا يجوز إحداث تأويل في آية أو سنة؛ لم
__________
1 في الصارم الميكى : "البغاة"
2 سقطت الواو العطفة من الصارم المنكى .
3 في طبعة الرياض "استحيا".
4 لعلها "غمط"-
ص -77-(40/70)
يكن على عهد السلف ولا عرفوه ولا بينوه للأمة؛ فإن هذا يتضمن أنهم جهلوا الحق في هذا وضلوا عنه واهتدى إليه هذا المعترض المستأخر؛ فكيف إذا كان التأويل بخلاف تأويلهم ويناقضه؛ وبطلان هذا التأويل أظهر من أن يطنب في رده؛ وإنما ننبه عليه بعض التنبيه.
ومما يدل على بطلان تأويله قطعا: أنه لا يشك مسلم أن من دعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته؛ وقد ظلم نفسه ليستغفر له فأعرض عن المجيء وأباه مع قدرته عليه؛ كان مذموما غاية الذم مغموصا بالنفاق؛ ولا كان كذلك من دعي إلى قبره ليستغفر له؛ ومن سوى بين الأمرين وبين المدعوين وبين الدعوبين؛ فقد جاهر بالباطل وقال على الله وكلامه ورسوله وأمناء دينه غير الحق .
وأما دلالة الآية على خلاف تأويلها؛ فهو أنه سبحانه صدرها بقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ}[النساء: آية 64] وهذا يدل على أن مجيئهم إليه ليستغفر لهم إذا ظلموا أنفسهم طاعة له؛ ولهذا ذم من تخلف عن هذا الطاعة؛ ولم يقل مسلم إن على من ظلم نفسه بعد موته أن يذهب إلى قبره ويسأله أن يستغفر له؛ ولوكان هذا طاعة له لكان خير القرون عصوا هذه الطاعة وعطلوها؛ ووفق لها هؤلاء الغلاة العصاة؛ وهذا بخلاف قوله: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}
ص -78-(40/71)
[النساء: آية 65] فإنه نعى الإيمان عمن لم يحكمه؛ وتحكيمه هو تحكيم 1 ما جاء به حيا وميتا ففي حياته كان هو الحاكم بينهم بالوحي؛ وبعد وفاته نوابه وخلفاؤه؛ يوضح ذلك أنه قال:"لا تجعلوا قبري عيدا"2؛ ولو كان يشرع لكل مذنب أن يأتي إلى قبره ليستغفر له لكان القبر أعظم أعياد المذنبين؛ وهذا مضادة صريحة لدينه وما جاء به؛ انتهى.
وأما قول الملحد: وقال تعالى: في شأن أهل أحد: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ}[آل عمران: آية 159] وقال تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}[محمد: آية 19].
فنقول: هذا كان في حياته بأبي هو وأمي وقد فعل ما أمره الله به؛ وأما بعد وفاته فحاشا وكلا؛ ولو كان مشروعا بعد موته لأمر به أمته وحضهم عليهم؛ ورغبهم فيه؛ ولكان الصحابة وتابعوهم
__________
1 "هو تحكيم" سقطت من الأصل وطبعة الرياض. والاستدراك من "الصارم" المنكى.
2 الحديث أخرجه أبو داود في سننه- كتاب المناسك- باب زيارة القبور عن أبي هريرة مرفوعا: "لا تجعلوا بيوتكم قبرا؛ ولا تجعلوا قبري عيدا؛ وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم" قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في الاقتضاء 2/654: إسناده حسن؛ فإن رواته كلهم ثقات مشاهير. لكن عبد الله بن نافع الصائغ- أحد رجال السند – الفقيه المدني صاحب مالك فيه لين لا يقدح في حديثه ... إلخ. وقد تقدم الكلام على هذا الحديث في رسالة ابن معمر "الرد على القبوريين".
ص -79-(40/72)
بإحسان أرغب شيء فيه وأسبق إليه؛ ولم ينقل عن أحد منهم قط وهو القدوة بنوع من نوع 1 الأسانيد أنه جاء إلى قبره ليستغفر له ويشتكي إليه ويسأله 2.
والذي صح عنه من الصحابة مجيء القبر هو ابن عمر وحده؛ إنما كان يجيء للتسليم عليه صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبه عند قدموه من سفر؛ ولم يكن يزيد على التسليم شيئا؛ ومع هذا فقد قال عبيد الله بن عمر العمري الذي هو أجل أصحاب نافع مولى ابن عمر أو من أجلهم: لا نعلم أحدا من أصحابه النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك إلا ابن عمر.
ومعلوم أنه لا هدي أكمل من هدي الصحابة؛ ولا تعظيم لرسول3 الله فوق تعظيمهم؛ ولا معرفة لقده فوق معرفتهم؛ فمن خالفهم إما أن يكون 4 أهدى منهم؛ أو مرتكبا 5 لنوع بدعة؛ كما قال عبد الله بن مسعود- لقوم رآهم اجتمعوا على ذكر يقولونه بينهم-: لأنتم أهدى من أصحاب محمد أو أنكم 6 على شعبة ضلالة.
__________
1 في الصارم المنكنى : "من أنواع".
2 في الصارم منكى : "ولا شكا إليه ولا سأله".
3 في الصارم المنكى : "للرسول".
4 في الصارم المنكى : "يكونوا ".
5 في الأصل والمطبوعة بالرياض: "مرتكب" وفي الصارم المنكى:"مرتكبين".
6 في الصارم:"أو أنتم".
ص -80-(40/73)
فتبين أنه 1 لو كان استغفاره لمن جاءه 2 مستغفرا بعد موته ممكنا أو مشروعا؛ لكان كمال شفقته ورحمته بل رأفة مرسلة ورحمته بالأمة تقتضي3 ترغيبهم في ذلك وحضهم 4 عليه ومبادرة خير القرون إليه؛ انتهى5.
وأما قوله: "فإن قال وهابي: هذا في حياته صلى الله عليه وسلم"
فالجواب أن نقول:نعم؛ قول الوهابية وبه قال أهل العلم قديما وحديثا؛ ولم يخالفهم إلا كل مبتدع ضال مخالف لكتاب الله وسنة رسوله وإجماع سلف الأمة وأئمتها كما تقدم بيانه.
وأما قوله: "فأقول قد انععقد الإجماع على حياته في قبره صلى الله عليه وسلم".
فألجواب أن نقول: دعوى هذا الملحد أن الإجماع انعقد في حياته في قبره صلى الله عليه وسلم؛ مصادمة لقوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}[الزمر: 30] وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِيْنْ مِتَّ فَهُمْ الْخَالِدُونَ}[الأنبياء:آية34] وقوله: { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ
__________
1 "أنه" سقطت من الأصل وطبعة ارياض وأثبتها من الصارم .
2 في الأصل وطبعة الرياض "جاء" وما أثبته من الصارم .
3 في الصارم:"يقتضي".
4 في الأصل وطبعة الرياض: "حظهم" وهو خطأ.
5 كلام ابن عبد الهادي من الصارم المنكى ص 428-429.
ص -81-(40/74)
أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ}[آل عمران: آية 144] وقوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ}[الرحمن: آية 26؛ 27] وقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}[آل عمران: آية 185].
ومن المعلوم أنه لم يكن صلى الله عليه وسلم حيا في قبره كالحياة الدنيوية المعهودة التي تقوم فيها الروح بالبدن وتدبره وتصرفه؛ ويحتاج معها إلى الطعام والشراب واللباس والنكاح وغير ذلك؛ بل حياته صلى الله عليه وسلم حياة برزخية وروحه في الرفيق الأعلى؛ وكذلك أرواح الأنبياء؛ والأرواح متفاوتة في مستقرها في البرزخ أعظم تفاوت؛ فمنها أرواح في أعلا عليين في الملأ الأعلى؛ وهي أرواح الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم؛ وهم متفاوتون في منازلهم كما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء؛ ونبينا صلى الله عليه وسلم في المنزلة العليا التي هي الوسيلة.
قال ابن القيم- رحمه الله تعالى- في كتاب الروح بعد كلام طويل: وقد بينا أن عرض مقعد الميت عليه من الجنة أو النار لا يدل على أن الروح في القبر ولا على فنائه دائما من جميع الوجوه بل لها إشراف واتصال بالقبر وفنائه؛ وذلك القدر منها يعرض عليه مقعده فإن للروح شأنا آخر تكون في الرفيق الأعلى في أعلى عليين؛ ولها اتصال بالبدن بحيث إذا سلم المسلم على الميت رد الله عليه روحه فيرد عليه السلام وهي في الملأ الأعلى وإنما يغلط أكثر الناس في هذا الوضع؛
ص -82-(40/75)
حيث يعتقد أن الروح من جنس ما يعهد من الأجسام؛ إذا شغلت مكانا لم يمكن أن تكون في غيره؛ وهذا غلط محض؛ بل الروح تكون فوق السماوات في أعلا عليين فترد إلى القبر وترد السلام وتعلم بالمسلم وهي في مكانها.
وروح رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرفيق الأعلى دائما؛ ويردها الله سبحانه وتعالى إلى القبر فيرد السلام على من يسلم عليه ويسمع كلامه؛ وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم موسى قائما يصلي في قبره 1 ورآه في السماء السادسة والسابعة 2؛ فإما أن تكون سريعة الحركة ولانتقال كلمح البصر؛ وإما أن يكون متصل منها بالقبر وفنائه بمنزلة شعاع الشمس؛ وجرمها في السماء؛ انتهى.
__________
1 أخرجه مسلم في صحيحه- كتاب الفضائل-4/1845 عن سليمان التيمي قال: سمعت أنسا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مررت على موسى وهو يصلي في قبره".
2 كما في حديث الإسراء .
ص -83-
وقال ابن القيم- رحمه الله تعالى- في " الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية":
فصل
في الكلام في حياة الأنبياء في قبورهم
ولأجل هذا رام ناصر قولكم
ترقيعه يا كثرة الخلقان
قال الرسول بقبره حي كما
قد كان فوق الأرض والرجمان
من فوقه أطباق ذاك الترب والل
بيات قد عرضت على الجدران
لوكان حيا في الضريح حياته
قبل الممات بغير ما فرقان
ما كان تحت الأرض بل من فوقها
والله هذي سنة الرحمن
أتراه تحت الأرض حيا ثم لا
يفتيهمو بشرائع الإيمان
ويريح أمته من الآراء وال
خلف العظيم وسائر البهتان
أم كان حيا عاجزا عن نطقه
وعن الجواب السائل لهفان
ص -84-
وعن الحراك فما الحياة اللأء قد
أثبتموها أو ضحوا ببيان
هذا ولم لا جاءه أصحابه
يشكون بأس الفاجر الفتان
إذا كان ذلك دأبهم ونبيهم
حي يشاهدهم شهود عيان
هل جاءكم أثر بأن صحابه
سألوه فتيا وهو في الأكفان(40/76)
فأجابهم بجواب حي ناطق
فأتوا إذا بالحق والبرهان
هلا أجابهمو جوابا شافيا
إن كان حيا ناطقا بلسان
هذا وما شدت ركائبه عن ال
حجرات للقاصي من البلدان
مع شدة الحرص العظيم له على
إرشادهم بطرائق التبيان
أتراه يشهد رأيهم وخلافهم
ويكون للتبيان ذا كتمان
إن قلتموا سبق البيان صدقتمو
قد كان بالتكرار ذا إحسان
هذا وكم من أمر أشكل بعده
أعيى على العلماء كل زمان
ص -85-
أو ما ترى الفاروق ود بأنه
قد كان منه العهد ذا تبيان
بالجد في ميراثه وكلالة
وببعض أبواب الربا الفتان
قد قصر الفاروق عند فريقكم
إذا لم يسله وهو في الأكفان
أتراهمو يأتون حول ضريحه
لسؤال أمهمو أعز حصان
ونبيهم حي يشاهدهم ويسم
عهم ولا يأتي لهم ببيان
أفكان يعجز أن يجيب بقوله
إن كان حيا داخل البنيان
يا قومنا استحيوا من العقلاء و
المبعوث بالقرآن والرحمان
والله لا قدر الرسول عرفتمو
كلا ولا للنفس والإنسان
من كان هذا القدر مبلغ علمه
فليستتر بالصمت والكتمان
ولقد أبان الله أن رسوله
ميت كما قد جاء في القرآن
أفجاء أن الله باعثه لنا
في القبر قبل قيامة الأبدان
ص -86-
أثلاث موتات تكون لرسله
ولغيرهم من خلقه موتان
إذ عند نفخ الصور لا يبقي امرؤ
في الأرض حيا قط بالبرهان
أفهل يموت الرسل أم يبقوا إذا
مات الورى أم هل لكم قولان
فتكلموا بالعلم لا الدعوى وجيـ
ئوا بالدليل فنحن ذو أذهان
أولم يقل من قبلكم للرافعي الأ
صوات حول القبر بالنكران
لا ترفعوا الأصوات حرمة عبده
ميتا كحرمته لدى الحيوان
قد كان يمكنهم يقولوا إنه
حي فغضوا الصوت بالإحسان
لكنهم بالله أعلم منكمو
ورسوله وحقائق الإيمان
ولقد أتوا يوما إلى العباس يس
تسقون من قحط وجدب زمان
هذا وبينهم وبين نبيهم
عرض الجدار وحجرة النسوان
فنبيهم حي ويستسقون غـ(40/77)
ير نبيهم حاشا أولى الإيمان
ص -87-
فصل
فيما احتجوا به على حياة الرسل في القبور
فإن احتججتم بالشهيد بأنه
حي كما قد جاء في القرآن
والرسل أكمل حالة منه بلا
شك وهذا ظاهر التبيان
فلذاك كانوا بالحياة أحق من
شهدائنا بالعقل ولإيمان
وبأن عقد نسائه لم ينفسخ
فنساؤه في عصمة وصيان
والأجل هذا لم يحل لغيره
منهن واحدة مدى الأزمان
أفليس في هذا دليل أنه
حي لمن كانت له أذنان
أولم ير المختار موسى قائما
في قبره لصلاة ذى القربان
أفميت يأتي الصلاة وإن ذا
عين المحال وواضح البطلان
ص -88-
أولم يقل إني أرد على الذي
يأتي بتسليم مع الإحسان
أيرد ميت السلام على الذي
يأتي به هذا من البهتان
هذا وقد جاء الحديث بأنهم
أحياء في الأجداث ذا تبيان
وبأن أعمال العباد عليه تعـ
رض دائما في جمعة يومان
يوم الخميس ويوم الإثنين الذي
قد خص بالفضل العظيم الشأن
ص -89-
فصل
في الجواب عما احتجوا به في هذا المسألة
فيقال أصل دليلكم في ذاك حجـ
تنا عليكم وهي ذات بيان
إن الشهيد حياته منصوصة
لا بالقياس القائم الأركان
هذا مع النهي المؤكد أننا
ندعوه ميتا ذاك في القرآن
ونساؤه حل لنا من بعده
والمال مقسوم على السهمان
هذا وإن الأرض تأكل لحمه
وسباعها مع أمة الديدان
لكنه مع ذاك حي فارح
مستبشر بكرامة الرحمان
فالرسل أولى بالحياة لديه مع
موت الجسوم وهذه الأبدان
وهي الطرية في التراب وأكلها
فهو الحرام عليه بالبرهان
ص -90-
ولبعض أتباع الرسول يكون ذا
أيضا وقد وجدوه رأي عين
فانظر إلى قلب الدليل عليهمو
حرفا بحرف ظاهر التبيان
لكن رسول الله خص نساؤه
بخصيصة عن سائر النسوان
خيرن بين رسوله وسواه فاخـ
ترن الرسول لصحة الأيمان
شكر الإله لهن ذاك وربنا
سبحانه للعبد ذو شكران
قصر الرسول على أولئك رحمة(40/78)
منه بهن وشكر ذي الإحسان
وكذلك أيضا قصرهن عليه معـ
لوم بلا شك ولا حسبان
زوجاته في هذه الدنيا وفي الأ
خرى يقينا واضح البرهان
فلذا حرمن على سواه بعده
إذ ذاك صون عن فراش ثان
لكن أتين بعدة شرعية
فيها الحدود وملزم الأوطان
هذا ورؤيته الكليم مصليا
في قبره أثر عظيم الشأن
ص -91-
في القلب منه حسيكة هل قاله
فالحق ما قد قال ذو البرهان
ولذاك أعرض في الصحيح محمد
عنه على عمد بلا نسيان
والدارقطني الإيمان أعله
برواية معلومة التبيان
أنس يقول رأى الكليم مصليا
في قبره فأعجب لذا الفرقان
بين السياق إلى السياق تفاوتا
لا تطرحه فما هما سيان
لكن تقلد مسلم وسواه ممن
صح هذا عنده ببيان
فرواته الأثبات أعلام الهدى
حفاظ هذا الدين في الأزمان
لكن هذا ليس مختصا به
والله ذو فضل وذو إحسان
فروي ابن حبان الصدوق وغيره
خبرا صحيحا عنده ذا شأن
فيه صلاة العصر في قبر الذي
قد مات وهو محقق الإيمان
فتمثل الشمس الذي قد كان ير
عاها لأجل صلاة ذى القربان
ص -92-
عند الغروب يخاف فوت صلاته
فيقول للملكين هل تدعان
حتى أصل العصر قبل فواتها
قالا سنفعل ذاك بعد الآن
هذا مع الموت المحقق لا الذي
حكيت لنا بثبوته القولان
هذا وثابت البناني قد دعا الر
حمن دعوة صادق الإيقان
أن لا يزال مصليا في قبره
إن كان أعطا ذاك من إنسان
لكن رؤيته لموسى ليلة المعـ
ـراج فوق جميع ذي الأكوان
يرويه أصحاب الصحاح جميعهم
والقطع موجبه بلا نكران
والذاك ظن معارضا لصلاته
في قبره إذ ليس يجتمعان
وأجيب عنه بأنه أسرى به
ليراه ثم مشاهدا بعيان
فرآه ثم وفي الضريح وليس ذا
بتناقض إذ أمكن الوقتان
هذا ورد نبينا لسلام من
يأتي بتسليم مع الإحسان
ص -93-
ما ذاك مختصا به أيضا كما
قد قاله المبعوث بالقرآن(40/79)
من زار قبر أخ له فأتى بتسـ
ـليم عليه وهو ذو إيمان
رد الإله عليه حقا روحه
حتى يرد عليه رد بيان
وحديث ذكر حياتهم بقبورهم
لما يصح وظاهر النكران
فانظر إلى الإسناد تعرف حاله
إن كنت ذا علم بهذا الشأن
هذا ونحن نقول هم أحياء لـ
ـكن عندنا كحياة ذي الأبدان
والترب تحتهمو وفوق رؤوسهم
وعن الشمائل ثم عن أيمان
مثل الذي قد قلتموه ومعاذنا
بالله من إفك ومن بهتان
بل عند ربهمو تعالى مثلما
قد قال في الشهداء في القرآن
لكن حياتهمو أجل وحالهم
أعلى وأكمل عند ذي الإحسان
هذا وأما عرض أعمال العبا
د عليه فهو الحق ذو إمكان
ص -94-
وأتى به أثر فإن صح الحديث
به فحق ليس ذا نكران
لكن هذا ليس مختصا به
أيضا بآثار روين حسان
فعلى أبى الإنسان يعرض سعيه
وعلى أقاربه مع الإخوان
إن كان سعيا صلحا فرحوا به
واستبشروا يا لذة الفرحان
أو كان سعيا سيئأ حزنوا وقا
لوا رب رجعه إلى الإحسان
ولذا استعاذ من الصحابة من روى
هذا الحديث عقيبه بليان
يا رب إني عائذ من خزية
أخزي بها عند القريب الدان
ذاك الشهيد المرتضى ابن رواحة المحـ
بو بالغفران والرضوان
لكن هذا ذو اختصاص والذي
للمصطفى ما يعمل الثقلان
هذي نهايات لأقدام الورى
في ذا المقام الضنك صعب الشان
والحق فيه ليس تحمله عقو
ل بني الزمان لغلظة الأذهان
ص -95-
والجهلهم بالروح مع أحكامها
وصفاتها للألف بالأبدان
فارض الذي رضي الإله لهم به
أتريد تنقض حكمة الديان؟
هل في عقولهمو بأن الروح في
أعلى الرفيق مقيمة بجنان
وترد أوقات السلام عليه من
أتباعه في سائر الأزمان؟
وكذاك إن زرت القبور مسلما
ردت لهم أرواحهم للآن
فهمو يردون السلام عليك ل
كن لست تسمعه بذى الأذنان
هذا وأجواف الطيور الخضر
مسكنها لدى الجنات والرضوان
من ليس يحمل عقله هذا فلا(40/80)
تظلمه واعذره على النكران
للروح شأن غير ذى الأجسام لا
تهمله شأن الروح أعجب شأن
وهو الذي حار الورى فيه فلم
يعرفه غير الفرد في الأزمان
هذا وأمر فوق ذا لو قلته
بادرت بالإنكار والعدوان
ص -96-
فلذاك أمسكت العنان ولو أرى
ذاك الرفيق جريت في الميدان
هذا وقولي إنها مخلوقة
وحدوثها المعلوم بالبرهان
هذا وقولي إنها ليست كما
قد قال أهل الإفك البهتان
لا داخل فينا ولا هي خارج
عنا كما قالوه في الديان
والله لا الرحمن أثبتم ولا
أرواحكم يا مدعى العرفان
عطلتمو الأبدان من أرواحها
والعرش عطلتم من الرحمن
وهذا الذي ذكره الحافظ شمس الدين هو مقتضى الكتاب والسنة وعليه سلف الأمة وأئمتها وبما ذكره كفاية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
ص -97-
فصل
قال الملحد: "كيف لا وقد أخرج البخاري ومسلم وأبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم-: "من رآني في المنام فسيراني في اليقظة" 1 فرؤيته يقظة أكبر دليل على حياته- صلى الله عليه وسلم-.
والجواب أن يقال: هذا الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه وأبو داود في سننه لا يدل على أن الرسول الله صلى الله عليه وسلم يرى يقظة في الدنيا كما كان يرى حيا قبل أن يموت وكذلك ليس بصريح في أن النبي صلى الله عليه وسلم حي قبره الحياة المعهودة في الدنيا ولا فيه دلالة على جواز التوسل به فضلا عن أن يدعى ويستغاث به ويرجى في كشف الشدائد والمهمات لتفريج الكربات وإغاثة اللهفات وأن يصرف له شيء من خالص ما(40/81)
__________
1 أخرجه البخاري في صحيحه 12/383- كتاب التعبير- باب من رأى النبي في المنام؛ ومسلم في صحيحه 4/1775- كتاب الرؤيا- باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من رآني في المنام فقد رآني"؛ وأبو داود في سننه 5/285- كتاب الأدب- باب ما جاء في الرؤيا؛ وفي الباب عن جماعة من الصحابة.
ص -98-
لرب الأرض والسماوات؛ من جميع أنواع العبادات التي صرفها المشركون لغير الله من المعبودات.
قال في السراج الوهاج على قوله: " فسيراني في اليقظة": أي سيراني يوم القيامة رؤيا خاصة في القرب منه؛ أو من رآني في المنام ولم يكن هاجر يوفقه الله للهجرة إلي والتشرف بلقائي ويكون الله جعل رؤيته في المنام علما على رؤياه في اليقظة.
قال في المصابيح: وعلى الأول ففيه بشارة لرائيه بأنه يموت على الإسلام وكفى بها بشارة وذلك أنه لا يراه في القيامة تلك الرؤية الخاصة باعتبار القرب منه إلا من تحقق منه الوفاة على الإسلام حقق الله لنا ولأحبابنا وللمسلمين والمتبعين ذلك بمنه وكرمه أو لكأنما رآني في اليقظة لا يتمثل الشيطان بي.
قال العلماء: إن كان الواقع في نفس الأمر لكأنما رآني فهو كقوله فقد رآني؛ أو فقد رأى الحق؛ وإن كان سيراني في اليقظة ففيه أقوال؛ وسيأتي تفسيره: أحدها المراد به أهل عصره. الثاني: أنه يرى تصديق تلك الرؤيا في اليقظة في الدار الآخرة. الثالث: يراه في الآخرة رؤيا خاصة في القرب منه وحول شفاعته ونحو ذلك والله أعلم؛ انتهى.1
__________
1 قال الحافظ ابن حجر بعد سياق كلام العلماء على مدلول هذا الحديث:=
ص -99-(40/82)
......................................................................................................................................
__________
= والحاصل من الأجوبة ستة:
أحدها: أنه على التشبيه والتمثيل ودل عليه قوله في الرواية الأخرى:"فكأنما رآني في اليقظة".
ثانيها: أن معناها سيرى في اليقظة تأويلها بطريق الحقيقة أو التعبير.
ثالثها: أنه خاص بأهل عصره ممن آمن به قبل أن يراه.
رابعها: أنه يراه في المرآة التي كانت له إن أمكنه ذلك؛وهذا من أبعد المحامل.
خامسها:أنه يراه يوم القيامة بمزيد خصوصية لا مطلق من يراه حينئذ ممن لم يره في المنام.
سادسها: أنه يراه في الدنيا حقيقة ويخاطبه؛ وفيه ما تقدم من الإشكال…- وهذا الإشكال هو ما حكاه بقوله: ونقل عن جماعة من الصالحين انهم رأوا النبي- صلى الله عليه وسلم- في المنام ثم رأوه بعد ذلك في اليقظة؛ وسألوه عن أشياء …قلت: وهذا مشكل جدا ولو حمل على ظاهره لكان هؤلاء صحابة؛ ولأمكن بقاء الصحبة إلى يوم القيامة؛ ويعكر عليه أن جمعا ممن رأوه في المنام ثم لم يذكر واحد منهم أنه رآه في اليقظة وخبر الصادق لا يتخلف؛ وقد اشتد إنكار القرطبي على من قال:من رآه في المنام فقد رأى حقيقته ثم يراها كذلك في اليقظة كما تقدم قريبا..- وقول القرطبي الذي نقله الحافظ ابن حجر هو: اختلف في معنى الحديث فقال قوم: هو على ظاهره فمن رآه في النوم رأى حقيقته كمن رآه في اليقظة سواء؛ وهذا قول يدرك فساده بأوائل العقول؛ ويلزم عليه أن لا يراه أحد إلا على صورته التي مات عليها؛ وأن لا يراها رائيان في آن واحد في مكانين؛ وأن يحيا الآن؛ ويخرج من قبره؛ ويمشي في الأسواق، ويخاطب الناس يخاطبونه، ويلزم من ذلك أن يخلو قبره من جسده فلا يبقى من قبره فيه شيء فيزار مجرد القبر؛ ويسلم على غائب لأنه جائز أن يرى في الليل والنهار مع اتصال الأوقات على حقيقته في غير(40/83)
قبره. وهذه جهالات لا يلتزم بها من له أدنى مسكة من عقل... إلخ. انظر الفتح 12/384؛385.
ص -100-(40/84)
62الصواعق المرسلة الشهابية على الشبه الداحضة الشامية - سليمان بن سحمان (2)
فغاية ما في هذا الحديث أن من رآه في المنام فسيراه في اليقظة في الآخرة رؤيا خاصة باعتبار القرب منه أو يرى تصديق تلك الرؤيا في اليقظة في الدار الآخرة وليس فيه أنه حي في قبره كحياته في الدنيا لا تصريحا ولا تلويحا؛ وإنما هذه الدعوى المجردة من الدليل من تصرف هؤلاء الغلاة؛ واعتقادهم الباطل المخالف لكتاب الله وسنة رسوله وكلام سلف الأمة وأئمتها.
وأما حياة الأنبياء في قبورهم ورؤيته صلى الله عليه وسلم لموسى قائما يصلي في قبره فقد تقدم الجواب عنه في كلام الحافظ ابن القيم رحمه الله وبه الكفاية.
وأما قوله: "وقد وقع الإخبار برؤيته صلى الله عليه وسلم يقظة لجماعة من الأولياء اشتهرت كرامتهم؛ وعلت 1 مقاماتهم؛ واستقامت أحوالهم وجاءت على طبق الشريعة أقوالهم؛ من الخواص القائمين بالمراقبة؛ وصحة التوجه على قدم الصدق؛ ونهج الحق كالشيخ عبد القادر الجيلاني وأبي العباس المرسي وسيدي علي وفاء وغيرهم من الأكابر؛ فلا يقدم على تكذيبهم فيما أخبروا به بطريق الجزم عن أنفسهم إلا متجازف".
فالجواب أن يقال: إن رؤيته صلى الله عليه وسلم يقظة في هذه الدنيا من أمحل المحال وأبطل الباطل؛ فإن الله تعالى قد قبضه إليه
__________
1 في الأصل وطبعة الرياض: "علة".
ص -101-(41/1)
واستأثر به ورفعه إلى الرفيق الأعلى وإنما يتصور وجود هذا مناما فمن في المنام وكان من أهل الصلاح وعلى صفته التي هو عليها فقد رآه حقا؛ فإن الشيطان لا يتمثل به. وأما يقظة فهو من التخيلات الشيطانية التي أغوى بها الشيطان كثيرا من الناس ممن يدعي الولاية؛ فإن منهم من يرى أشخاصا في اليقظة يدعي أحدهم أنه نبي أو صديق أو شيخ من الصالحين؛ وقد جرى هذا لغير واحد 1. وهذه الأحوال الشيطانية تحصل لمهن خرج عن الكتاب والسنة وهم درجات؛ والجن الذين يقترنون بهم من جنسهم وهم على مذهبهم؛ والجن فيهم الكافر والفاسق والمخطئ فإن كان الإنسي كافرا أو فاسقا أو جاهلا دخلوا معه في الكفر والفسوق والضلال؛ وقد يعاونونه إذا وافقهم على ما يختارونه من الكفر فيغتر بهؤلاء كثير من الناس ممن قلت معرفته وغلظ حجاب قلبه عن معرفة الحق من الباطل.
وهؤلاء كما قال شيخ الإسلام تجد كثيرا من هؤلاء عمدتهم في اعتقاد كونه وليا لله أنه قد صدر عنه مكاشفة في بعض الأمور أو بعض التصرفات الخارقة للعادة مثل أن يشير إلى شخص فيموت؛ أو يطير في الهواء؛ أو ينفق بعض الأوقات من الغيب؛ أو يختفي أحيانا عن أعين الناس؛ أو أن
__________
1 انظر رسالة الفرقان لشيخ الإسلام ص70؛ 71؛ 72؛ 73.ط الشرفية بمصر سنة 1323هـ
ص -102-(41/2)
بعض الناس استغاث به وهو غائب أو ميت فرآه قد جاءه فقضى حاجته؛ أو يخبر الناس بما سرق لهم؛ أو بحال غائب لهم؛ أو مريض؛ أو نحو ذلك من الأمور؛ وليس في شيء من هذه الأمور ما يدل على أن صاحبها ولي لله بل قد اتفق أولياء الله على أن الرجل لو طار في الهواء أو مشى على الماء لم يغتر به حتى ينظر متابعته لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- وموافقته لأمره ونهيه؛ وكرامات الأولياء أعظم من هذه الأمور الخارقة للعادة وإن كان قد يكون صاحبها وليا لله فقد يكون عدوا لله؛ فإن هذه الخوارق تكون لكثير من الكافر والمشركين وأهل الكتاب والمنافقين؛ وتكون لأهل البدع؛ وتكون من الشياطين فلا يجوز أن يظن أن كل من كان له شيء من هذه الأمور أنه ليس لله بل يعتبر أولياء الله بصفاتهم وأفعالهم وأحوالهم التي دل عليها الكتاب والسنة ويعرفون بنور الإيمان والقرآن وبحقائق الإيمان الباطنة وشرائع الإسلام والظاهرة؛ انتهى.
وأما من ذكر من هؤلاء الذين يزعم أنهم أولياء فأما الشيخ عبد القادر الجيلاني- رحمه الله- وأمثاله ممن هو على طريقته وسيرته فهو من عباد الله الصالحين والعلماء العاملين؛ وله من الأحوال الإيمانية؛ والمآثر السنية الدالة على متابعة الكتاب والسنة ما هو معروف من حاله ومقاله؛ ولكنه تجارى عليه الملحدون؛ ووضعوا عليه أوضاعا؛ ونسبوا إليه أقوالا هو بريء منها؛ ومن جملتها هذه الحكاية التي لا أصل لها؛ ولا نقلها
ص -103-(41/3)
عنه من هو مأمون على الدين معروف بالصدق واليقين .
وأما من عداه من هؤلاء الذين ذكر أنهم من أكابر أولياء الله ممن لا نعرف حالهم فالإقدام على تكذيبهم فيما أخبروا به بطريق الجزم عن أنفسهم هو من الأمور التي يحبها الله ويرضاها؛ ومن رد الباطل على من قال به؛ إذ من المعلوم بالضرورة أن رؤيته – صلى الله عليه وسلم- يقظة في هذه الدنيا لا تصح لا من الشيخ عبد القادر؛ ولا ممن هو أجل منه فضلا عمن هو دونه؛ لأن دعوى ذلك من المكابرة في الحسيات؛ والمباهتة في الضروريات والله أعلم.
"وأما قوله:
وإذا لم تر الهلال فسلم
لأناس رأوه 1 بالأبصار"
فالجواب:
أقول من المحال نراه حيا
بهذي الدار لا دار القرار
فغير مسلم تسليم هذا
لأقوام رأوه بالأبصار
وهذا لا يكون فقد أتانا
بذاك2 النص متضح المنار
__________
1 في الأصل "رواه" وفي طبعة الرياض "رووه".
2 في طبعة الرياض"ذلك".
ص -104-
بأن المصطفى قد مات حقا
وأنا ميتون وذاك 1 جاري
على كل الخلائق ليس يبقى
سوى الخلاق من الخلق باري
فأما في المنام فذاك 2 حق
يراه الصالحون أولو الفخار
وأما يقظة فيراه حيا
كما قد كان حيا ذو اختيار
وتدبير وتصريف ويدري
كما يدريه في ماض وجار
فدعوى هذه دعوى لعمري
تبين أفكها بالإضرار(41/4)
فإذا تحققت هذا فهؤلاء لم تكن أحوالهم وخوارقهم 2 أحوال وخوارق إيمانية؛ وإنما كانت أبصارهم وحقائق أحوالهم خيالات شيطانية؛ وعلى غير متابعة الكتاب والسنة مبنية؛ فلا يلتفت إلى أقوالهم؛ ولا يعول على ما ادعوه من أحوالهم؛ لأنها عن الحقائق الإيمانية خالية؛ وأقوالهم عن الدليل عارية.
وأما قوله:"فالآية: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا}[النساء: آية 64] منسحب إلى الآن وإلى ما شاء الله."
__________
1 في طبعة الرياض "ذلك".
2 في طبعة الرياض"وخوراقهم".
ص -105-
فأقول: هذا غير مسلم وقد تقدم الجواب عن هذا فراجعة.
وأما قوله:"ولذا ترى العلماء جميعا ذكروا في باب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الإنسان عند المقابلة يتلو هذه الآية الكريمة كما يأتي نقل ذلك عنهم في الباب الثالث".
فالجواب أن يقال: نسبة هذا إلى العلماء جميعهم من أبطل الباطل، وأمحل المحال، وإنما يعرف مثل هذا في حكاية ذكرها طائفة من متأخري الفقهاء عن أعرابي أتى قبر النبي صلى لله عليه وسلم وتلى هذه الآية واستحبها طائفة من متأخري الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد، وسيأتي الكلام على هذا إن شاء الله تعالى.
وأما الأئمة وعلماء السلف فلم يذكره أحد منهم، ولا استحب أحد منهم سؤال النبي صلى الله عليه وسلم الاستغفار بعد موته، ولا غير ذلك ألبتة، فنسبته إلى العلماء كلهم من الكذب عليهم كما سنبينه.
والحكايات والمنامات لا يثبت بها حكم شرعي ولا يسوغ مثل هذا إلا في دين النصارى، فإن دينهم مبني على الحكايات والمنامات والأوضاع المخترعات. وأما دين الإسلام فهو محفوظ بالإسناد، فلا يثبت حكم شرعي إلا بكتاب الله عز وجل، وبما صح الخبر به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم،
ص -106-(41/5)
وكان عليه عمل الصحابة رضي الله عنهم، واشتهر ذلك بنقل الثقات العدول المتفق على عدالتهم.
وأما قوله:"على أن من يدعي أنها خاصة بقبل الوفاة فعليه الدليل وأنى له ذلك".
فالجواب أن يقال: أما كون المجيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم خاصا بحال حياته قبل وفاته فنعم، والدليل على ذلك من وجوه:
الوجه الأول: أن الآية نزلت في قوم معينين من أهل النفاق بدليل قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء:آية 61] فإن قيل: فالآية وإن وردت في أقوام معينين في حال الحياة فإنها تعم بعموم العلة. قيل: نعم هذا حق فإنها تعم ما وردت فيه وما كان مثله فهي عامة في حق كل من ظلم نفسه، وجاء كذلك في حال حياته، وأما دلالتها على المجيء إليه في قبره فقد عرف بطلانه، يوضحه.
الوجه الثاني: أنه لو شرع لكل مذنب أن يأتي إلى قبره ليستغفر له لكان القبر أعظم أعياد المذنبين وهذه مصادمة صريحة لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا تجعلوا قبري عيدا"1.
الوجه الثالث: أن أعلم الأمة بالقرآن ومعانية وهم سلف الأمة، لم يفهم أحد منهم إلا المجيء إليه في حياته ليستغفر
__________
1 تقدم .
ص -107-(41/6)
لهم، ولم يكن أحد منهم يأتي إلى قبره ويقول: يا رسول الله فعلت كذا وكذا فاستغفر لي، ومن نقل هذا عن أحد منهم فقد جاهر بالكذب والبهت.
فلو كان هذا منسحبا إلى ذا الآن وإلى ما شاء الله، لما ترك الصحابة- رضي الله عنهم والتابعون لهم بإحسان هذه القربة التي ذم الله سبحانه من تخلف عنها، وجعل التخلف عنه من أمارات النفاق، ووفق لها من بعدهم ممن لا يؤبه له من الناس ولا يعد في أهل العلم، ويا لله العجب أكان ظلم الأمة لأنفسها ونبيها حي بين أظهرها موجودا، وقد دعيت فيه إلى المجيء ليستغفر لها، وذم من تخلف عن هذا المجيء، فلما توفي صلى الله عليه وسلم ارتفع ظلمها لأنفسها بحيث لا يحتاج أحد منهم إلى المجيء إليه ليستغفر له، ولو كان حقا لسبقونا إليه علما وعملا وإرشادا ونصيحة، ولا يجوز إحداث تأويل في آية أو سنة لم يكن على عهد السلف، ولا عرفوه ولا بينوه للأمة.
الوجه الرابع: أنه لو كان المجيء إلى قبره بعد وفاته مشروعا لأمر به أمته وحضهم عليه ورغبهم فيه، لأنه من كمال شفقته ورحمته ورأفته بالمؤمنين، فلا خير إلا دل عليه أمته وأمر هم به، ولا شر إلا حذرها عنه ونهى 1 عنه، لأنه أكمل الخلق نصحا للأمة، فقد بلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة، ومن كمال نصحه وشفقته بأمته أنه نهى عن اتخاذ قبره
__________
1 في الأصل وطبعة الرياض"ونها".
ص -108-(41/7)
عيدا. فقال صلى الله عليه وسلم "لا تتخذوا قبري عيدا ولا بيوتكم قبورا" الحديث,. فمن أتى إلى قبره بعد وفاته ليستغفر له فقد ارتكب ما نهى عنه وفعل ما يسخطه.
قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:آية 7] وقد روى عبد الرزاق في مصنفه عن الثوري 1 عن ابن عجلان عن رجل يقال له سهيل عن الحسن بن الحسن بن علي رأى قوما عند القبر فنهاهم وقال إن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: " لا تتخذوا قبري عيدا، ولا تتخذوا بيوتكم قبورا، وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني".
وروى سعيد بن منصور في سننه عن عبد العزيز بن محمد قال: أخبرني سهيل بن أبي سهيل قال: رآني الحسن بن الحسن بن 2 علي بن أبي طالب عند القبر، فناداني وهو في بيت فاطمة فقال: هلم إلى العشاء. فقلت: لا أريده. فقال: مالي رأيتك عند القبر. فقلت: سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: إذا دخلت المسجد فسلم، ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا تتخذوا قبري3 عيدا، ولا تتخذوا بيوتكم مقابر، لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم" ما أنتم ومن بالأندلس إلا سوي
__________
1 "عن الثوري" من المصنف لعبد الرزاق 3/577 ط المجلس العلمي.
2 في طبعة الرياض "الحسن بن علي" وهو خطأ.
3 في اقتضاء الصراط المستقيم لشيخ الإسلام:"بيتي" 2/656، وفي مصنف ابن أبي شيبة 3/345 "قبري".
ص -109-(41/8)
وروى أبو يعلى الموصلي في مسنده عن أبي بكر ابن أبي شيبة حدثنا 1 زيد بن الحباب حدثنا 1جعفر بن إبراهيم من ولد ذي الجناحين حدثنا 1 علي بن عمر عن أبيه عن علي بن حسين أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها فيدعو. فنهاه فقال: ألا أحدثكم حديثا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا تتخذوا قبري عيدا، ولا بيوتكم قبورا فإن تسليمكم يبلغني 2 أينما كنتم 3.
الوجه الخامس: أنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد"4 وقد كان من المعلوم أن الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا يفعلون 5 هذا. ولا هدي أكمل من هدي الصحابة، ولا تعظيم لرسول الله فوق تعظيمهم، ولا معرفة لقدره فوق معرفتهم، كانوا كما قال
__________
1 في الأصل وطبعة الرياض "عن" وما أثبته من الاقتضاء 2/655.
2 في الأصل وطبعة الرياض:"فإن صلاتكم تبلغني" وما أثبته من الاقتضاء 2/655.
3 تقدم الكلام عليهما في رسالة ابن معمر"الرد على القبوريين".
4 أخرجه مسلم في صحيح – كتاب الأقضية-3/1344 عن عائشة وأخرجه البخاري 5/301- كتاب الصلح-، ومسلم 3/1343 عن عائشة بلفظ: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" ولفظ البخاري: "ما ليس فيه".
5 في طبعة الرياض"تفعلون".
ص -110-(41/9)
عبد لله بن سعود- رضي الله عنه-: من كان منهم مستنا فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا، قوم، 1 اختارهم الله لصحبة نبيه ولإظهار دينه، فاعرفوا لهم فضلهم فاهتدوا بهديهم، فإنهم كانوا على الصراط المستقيم.
وقد قال مالك في المبسوط: لا بأس لمن قدم من سفر أن يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيصلي ويدعو له ولأبي بكر وعمر فقيل له: فإن ناسا من أهل المدينة لا يقدمون من سفر، ولا يريدونه، يفعلون ذلك في اليوم مرة أو مرتين أو أكثر عند القبر، يسلمون ويدعون ساعة، فقال: لم يبلغني هذا من أحد من أهل الفقه في بلدنا وتركه واسع، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك، ويكره إلا لمن جاء من سفر أو أراداه والله أعلم2.
__________
1 في الأصل وطبعة الرياض"قوما".
2 كما ثبت ذلك عن ابن عمر. قال عبد الرزاق: عن معمر عن أيوب عن نافع قال: كان ابن عمر إذا قدم من سفر أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه.
وأخبرنا عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر، قال معمر: فذكرت ذلك لعبيد الله ابن عمر فقال: ما نعلم أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك إلا ابن عمر. اهـ3/576.
ص -111-(41/10)
فصل
قال الملحد: "وهنا آيات أخر تشير إلى الالتجاء به صلى الله عليه وسلم منها قوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ}[الأحزاب: آية 6] وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}[الأنبياء: آية 107]وقوله: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}[التوبة:آية128]".
فالجواب أن يقال: ليس في هذه الآيات ما يشير إلى الالتجاء به صلى الله عليه وسلم، لا لفظا ولا معنى، والإلتجاء من خصائص الإلهية، فصرفه لغيره شرك يخرج من الملة، فمن التجأ إلى غير الله كان مشركا، فقوله: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ}[الأحزاب: آية 6 ].
قال في جامع البيان: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ}. في أمور الدارين. قال عمر رضي الله عنه-: يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال عليه السلام:"لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك" فقال: والله لأنت يا رسول الله أحب إلي من كل شيء حتى من
ص -112-
نفسي فقال:"الآن يا عمر"1 وعن بعض المفسرين معناه: النبي أولى من بعضهم ببعض في وجوب طاعته عليهم، انتهى.
وفال في الإكليل: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} أخرج البخاري عن أبي هريرة مرفوعا:"ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة. اقرأوا إن شئتم: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} فأيما مؤمن ترك مالا فليرثه عصبته 2 من كانوا، فإن ترك دينا أو ضياعا فليأتني فأنا مولاه"، انتهى3.
وفي صحيح البخاري أيضا: "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين"4.(41/11)
__________
1 أخرجه البخاري في صحيحه-كتاب الأيمان والنذور-باب: كيف كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم؟ 11/523 عن عبد الله بن هشام قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا والذي نفسي بيده..." الحديث .
2 في طبعة الرياض"عصبة".
3 أخرجه البخاري- كتاب التفسير-8/517.
4 أخرجه البخاري-كتاب الإيمان- 1/58 عن أبي هريرة مرفوعا "فو الذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده" وأخرجه أيضا عن أنس مرفوعا "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين". وذكر النفس ورد عنده من حديث عمر المتقدم.
ص -113-(41/12)
إذا علمت هذا فغاية ما في هذه الآيات إخباره تعالى بأن رسوله- صلى الله عليه وسلم- أولى بالمؤمنين من أنفسهم في أمور دنياهم وأخراهم، وأن الله تعالى أرسله رحمة للعالمين ليخرجهم من الظلمات، أي ظلمات الكفر والمعاصي، إلى النور نور الإيمان والطاعة"وكان بالمؤمنين رحيما" كقوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}[التوبة:آية128] فرأفته ورحمته بالمؤمنين، وغلظته وشدته على الكافرين، فمن آمن بالله ورسوله وأخلص العبادة بجميع أنواعها لله ولم يشرك فيها أحدا، لا ملكا مقربا، ولا نبيا مرسلا، فضلا عن غيرهما، فالرسول أولى به من نفسه، ورأفته ورحمته- صلى الله عليه وسلم- خاصة بالمؤمنين به المؤتمرين لأمره، المنتهين عما نهى عنه، ومن أشرك بالله في عبادته أحدا من مخلوقاته كائنا من كان، والتجأ إليه في كشف المهمات وإغاثة اللهفات وصرف له خالص حق الله فرسوله الله منه بريء فلا تنال رأفته ورحمته وشفقته من أشرك بالله، ولا يكون من أهل ولاية الله في الدنيا والآخرة.
قال شمس الدين الحافظ ابن القيم- رحمه الله تعالى:
يا من له عقل ونور قد غدا
يمشي به في الناس كل زمان
لكننا قلنا مقاله صارخ
في كل وقت بينكم بأذان
ص -114-
الرب رب والرسول فعبده
حقا وليس لنا إله ثان
فلذاك لم نعبده مثل عبادة ال
رحمن فعل المشرك النصراني
كلا ولم نغل الغلو كما نهى
عنه الرسول مخافة الكفران
لله حق لا يكون لغيره
ولعبده حق هما حقان
لا تجعلوا الحقين حقا واحدا
من غير تمييز ولا فرقان
فالحج للرحمن دون رسوله
وكذا الصلاة وذبح ذي القربان
وكذا السجود ونذرنا ويمننا
وكذا مثاب العبد من عصيان
وكذا التوكل والإنابة والتقى
وكذا الرجاء وخشية الرحمن
وكذا العبادة واستعانتنا به
إياك نعبد ذان توحيدان(41/13)
وعليهما قام الوجود بأسره
دنيا وأخرى حبذا الركنان
وكذلك التسبيح والتكبير والت
هليل حق إلهنا الديان
ص -115-
لكنا التعزير والتوقير حـ
ق للرسول بمقتضى القرآن
والحب والإيمان والتصديق لا
يختص بل حقان مشتركان
هذي تفاصيل الحقوق ثلاثة
لا تجملوها يا أولي العدوان
حق الإله عبادة بالأمر لا
بهوى النفوس فذاك للشيطان
من غير إشراك به شيئا هما
سببا النجاة فحبذا السببان
ورسوله فهو المطاع وقوله المـ
قبول إذ هو صاحب البرهان
والأمر منه الحتم لا تخيير فيـ
ـه عند ذي عقل وذي إيمان
إلى أن قال:
هذا الذي أدى إليه علمنا
وبه ندين الله كل أوان
فهو المطاع وأمره العالي على
أمر الورى وأوامر السلطان
وهو المقدم في محبتنا على الأ
هلين والأزواج والوالدان
ص -116-
وعلى العباد جميعهم حتى على النفـ
س التي قد ضمها الجنبان
إلى أن قال:
كفرتموا من جرد التوحيد جهـ
لا منكمو بحقائق الإيمان
لكن تجردتم لنصر الشرك والبـ
دع المضلة في رضى الشيطان
والله لم نقصد سوى التجريد للتـ
ـوحيد ذاك وصية الرحمن
ورضى رسول الله منا لا غلو
الشرك أصل عبادة الأوثان
والله لو يرضى الرسول دعاءنا
إياه بادرنا إلى الإذعان
والله لو يرضى الرسول سجودنا
كنا نخر له على الأذقان
والله ما يرضيه منا غير إخلا
ص وتحكيم لذي القرآن
ولقد نهى ذا الخلق عن إطرائه
فعل النصارى عابدي الصلبان
ولقد نهانا أن نصير قبره
عيدا حذار الشرك بالرحمن
ص -117-(41/14)
فصل
قال الملحد:"وقد فهم أبو البشر آدم صلى الله عليه وسلم من قرنه اسمه تعالى باسم نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أنه الوسيلة إليه، فتوسل به إلى ربه بأن يغفر له، كما يأتي بالبان الثاني إن شاء الله".
فأقول هذا كذب محض، والحديث الآتي ذكره بعد موضوع وسيأتي الكلام عليه في محله إن شاء الله تعالى.
وأما قوله:"فإذا علمت أن قرن اسم النبي باسمه تعالى يشعر بالتوسل به فخذ الآيات المقرون بها اسم النبي باسمه تعالى".
فالجواب أن يقال: هذه الآيات التي قرن الله اسم نبيه باسمه تعالى لا تشعر بالتوسل به، ولا تجيز صرف خالص حق الله له، وإنما غاية ما فيها تشريفه صلى الله عليه وسلم، والتنويه بذكره، فهو صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، وحسرة على الكافرين، وحجة على العباد أجمعين، قد افترض الله على 1 العباد طاعته، ومحبته،
__________
1 في طبعة الرياض"عل".
ص -118-
وتعظيمه، وتوقيره، والقيام بحقوقه، وسد إلى جنته جميع الطرق فلم يفتح لأحد إلا من طريقه، فشرح له صدره، ووضع عنه وزره، ورفع ذكره، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره 1، وأقسم بحياته في كتابه المبين، وقرن اسمه باسمه فلا يذكر إلا معه كما في التشهد والخطب والتأذين.
ثم سرد هذا الملحد الآيات التي قرن الله اسمه باسم نبيه فيها كطاعته وطاعة رسوله، وترك معصية الله ورسوله، وعدم مشاقة الله ورسوله، وعدم محاربته ومحاداة رسوله، وأن الأنفال الخمس لله ورسوله، ورد إلى الله وإلى رسوله فيما تنازعت الأمة فيه، وأن الإيتاء لله ورسوله إلى غير ذلك من الآيات التي شرف الله بها رسوله ورفع له بها ذكره وأوجب بها على الخلق طاعته وغايتها ومقتضاها:تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، والإنتهاء عما نهى عنه وزجر، وأن لا يعبد(41/15)
__________
1 أخرج الإمام أحمد في مسند 2/50-92 من طريق حسان بن عطية عن أبي منيب الجرشي عن ابن عمر قال:رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:"بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري. ومن تشبه بقوم فهو منهم".
قال شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية في الاقتضاء 1/236- بعد أن ساق سند هذا الحديث-:وهذا إسناد جيد. وقال الحافظ ابن حجر- رحمه الله-في الفتح 6/98: وله شاهد مرسل بإسناد حسن أخرجه ابن أبي شيبة من طريق الأوزاعي عن سعيد بن جبلة عن النبي- صلى الله عليه وسلم- اهـ .
ص -119-
الله إلا بما شرع، لا بالأهواء والبدع 1، فمن فهم غير هذا منها بأن يتوسل به، ويدعى ويستغاث به، ويلجأ إليه، فقد ضل فهمه، وحمل كلام الله ما لا يحتمله، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
__________
1 في طبعة الرياض" إلا بما شرع لا إله إلا هو أو البدع" وهو تحريف شنيع.
ص -120-(41/16)
فصل
قال الملحد:"وأما الآيات التي تمسك بها الوهابية من قوله تعالى:{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}[غافر:آية 60]وقوله تعالى:{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ}[يونس:آية107] وقوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}[ق:آية16] ونحوها من الآيات الكريمة، فلا تدل على مدعاهم من امتناع التوسل بالأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام".
فالجواب أن نقول:
هذه الآيات ونحوها من الآيات التي يستدل بها الوهابي على امتناع التوسل بالأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وغيرهم من الملائكة، والأولياء والصالحين هي من أوضح الدلائل والبينات على امتناع دعائهم، والاستغاثة لهم، والاستشفاع بهم، والالتجاء إليهم، إلى غير ذلك من أنواع العبادة، لأنها دالة على وجوب عبادة الله وحده لا شريك له، والبراءة عن عبادة ما سواه كائنا من كان، وهي تتضمن كمال
ص -121-(41/17)
الذل والحب، وتتضمن كمال الطاعة والتعظيم، وهذا دين الإسلام الذي لا يقبل الله دينا غيره، لا من الأولين ولا من الآخرين، فإن جميع الأنبياء على دين الإسلام، وهو يتضمن الاستسلام لله وحده، فمن استسلم له ولغيره كان مشركا، ومن لم يستسلم له كان مستكبرا عن عبادته. قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}[ النحل: آية 36] وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}[ الأنبياء: آية25] وقال تعالى عن الخليل: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[الزخرف: آيات 26-28] وقال تعالى عنه: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ}[ الشعراء: آيات75-77] وقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}[ الممتحنة: آية 4] وقال تعالى:{وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَانِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ}[ الزخرف: آية 45] وذكر عن رسله نوح وهود وصالح وشعيب وغيرهم أنهم قالوا لقومهم:- اعبد الله ما لكم من إله غيره، وقال عن أهل الكهف: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ(41/18)
إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا
ص -122-
رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}[ الكهف: آيات13-15] وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}[ النساء: آية116] في موضعين من كتابه وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ}[ المائدة: آية72].
قال الشيخ رحمه الله: والشرك المراد بهذه الآيات ونحوها يدخل فيه شرك عباد القبور وعباد الأنبياء والملائكة والصالحين، فإن هذا هو شرك جاهلية العرب الذين بعث فيهم عبد الله ورسوله محمد- صلى الله عليه وسلم-، فإنهم كانوا يدعونها1، ويلتجؤون إليها، ويسألونها على وجه التوسل بجاهها، وشفاعتها لتقربهم إلى الله كما حكى الله ذلك عنهم في مواضع2من كتابه كقوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}[يونس: آية 18] وقال تعلى: {الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}[ الأحقاف: آية 28]. قال رحمه الله: ومعلوم أن المشركين لم يزعموا أن الأنبياء والأولياء والصالحين والملائكة شاركوا الله في خلق السماوات
__________
1 في طبعة الرياض"يوعونها".
2 سقطت"من" من طبعة الرياض.
ص -123-(41/19)
والأرض، أو استلقوا بشيء من التدبير والتأثير والإيجاد، ولو في خلق ذرة من الذرات.
قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِي اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ}[الزمر: آية 38]. فهم 1 معترفون بهذا مقرون به لا ينازعون فيه، ولذلك حسن موقع الاستفهام، وقامت الحجة بما أقروا به من هذه الجمل، وبطلت عبادة من لا يكشف الضر، ولا يمسك الرحمة. ولا يخفى ما في التنكير من العموم والشمول المتناول لأول شيء وأدناه من ضر أو رحمة، وقال تعالى: {قُلْ لِمَنْ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ- إلى قوله: فَأَنَّا تُسْحَرُونَ}[ المؤمنون: آيات 84-89]. وقال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ}[ يوسف: آية 106].ذكر فيه السلف كابن عباس وغيره: إيمانهم هنا بما أقروا به من ربوبيته وملكه. وفسر شركهم2 بعبادة غيره.
قال رحمه الله: وقد بين القرآن في غير موضع أن من المشركين من أشرك بالملائكة، ومنهم من أشرك بالأنبياء والصالحين، ومنهم من أشرك بالكواكب، ومنهم من أشرك
__________
1 في طبعة الرياض"فمنهم".
2 في طبعة الرياض"شركاهم".
ص -124-(41/20)
بالأصنام، وقد رد عليهم أجمعين وكفر كل أصنافهم، كما قال تعالى: {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}[ آل عمران: آية 80]. وقال تعالى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ}[ التوبة: آية 31] ونحو ذلك في القرآن كثير. وبه يعلم المؤمن أن دعاء الأنبياء والصالحين كدعاء الكواكب والأصنام من حيث الشرك والكفر، واتفاقهما في 1 العلة التي هي دعاء غير الله.
وقال رحمه الله: وهذه العبادات التي صرفها المشركون لآلهتهم هي أفعال العبد الصادرة منه كالحب والخضوع والإنابة والتوكل والدعاء والاستغاثة والاستعانة والخوف والرجاء والنسك والتقوى والطواف ببيته رغبة ورجاء وتعلق القلوب والآمال بفيضه ومده وإحسانه وكرمه، فهذه الأنواع أشرف أنواع العبادة وأجلها بل هي لب سائر الأعمال الإسلامية وخلاصتها وكل عمل يخلو منها فهو خداج مرود على صاحبه وإنما أشرك وكفر من كفر من المشركين بقصد غير الله بهذا وتأهيله لذلك قال تعالى:{أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}[ النحل: آية 17] وقال تعالى: {أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ}[ الأنبياء: آية 43] وقال {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِي الرَّحْمَانُ بِضُرٍّ لَا
__________
1 في طبعة الرياض"هم".
ص -125-(41/21)
تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنقِذُونِي إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}[يس: آيات 23-24]. وحكى عن أهل النار أنهم يقولون لآلهتهم التي عبدوها من دون الله: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[ الشعراء: آيات 97، 98] ومعلوم أنهم ما سووهم بالله في الخلق والتدبير والتأثير وإنما كانت التسوية في الحب والخضوع والتعظيم والدعاء ونحو ذلك من العبادات.
وقال رحمه الله: فجنس هؤلاء المشركين وأمثالهم ممن يعبد الأولياء والصالحين نحكم بأنهم مشركون ونرى كفرهم إذا قامت عليهم الحجة الرسالية، وما عدا هذا من الذنوب التي دونه في الرتبة والمفسدة لا يكفر بها، ولا نحكم على أحد من أهل القبلة الذين باينوا لعباد الأوثان والأصنام والقبور بكفر بمجرد ذنب ارتكبوه، وعظيم جرم اجترحوه، انتهى.
فما استدل به الوهابي على امتناع التوسل بالأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام على عرف أهل هذا الزمان ولغتهم واصطلاحهم في معنى التوسل هو مقتضى هذه الآيات، فأما التوسل الذي هو بلغة الصحابة والتابعين فهو التوسل بدعائهم وذلك في حياتهم، وأما بعد وفاتهم فهو من البدع المكروهة المذمومة المحرمة والله سبحانه وتعالى أعلم.
ص -126-(41/22)
فصل
وأما قوله "وأما الذين أجمعوا من المسلمين على التوسل إلى الله بالأنبياء والمرسلين لا يقصدون بذلك تأثير شيء بإيجاد نفع، أو دفع ضرر، ولا يعتقدون ذلك ألبته.جميع المسلمين يعتقدون أن الله تعالى هو المنفرد بالإيجاد والإعدام والنفع والضر، فلا يعدون من توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم أو بالملائكة أنهم اتخذوهم أولياء من دون الله فكيف يتجرؤن على الاستشهاد على مذهبهم بقوله: {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا}[ آل عمران: آية 80].
فالجواب أن نقول: ما أشبه الليلة بالبارحة، لقد والله أمكنت الرامي 1 من سواء الثغرة. فإن قولك هذا هو شرك جاهلية العرب الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم كانوا يدعون الأنبياء والملائكة والأولياء والصالحين، ويلتجؤون 2 إليهم، ويسألونهم على وجه التوسل بجاههم وشفاعتهم
__________
1 في طبعة الرياض"الرمي".
2 في طبعة الرياض"وليجيؤن".
ص -127-(41/23)
ليقربوهم 1 إلى كما حكى الله ذلك عنهم في مواضع من كتابه.قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}[يونس: آية 18].وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}[الزمر: آية 3].وقال تعالى: {فَلَوْلَا نَصَرَهُمْ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}[الأحقاف: آية 28]
ومن المعلوم أن الكفار الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاتلهم واستحل دماءهم وأموالهم كانوا مقرين أن الله هو الخالق الرزاق المحيي المميت النافع الضار الذي يدبر جميع الأمور، ويعتقدون أن الله هو الفاعل لهذه الأشياء، وأنه لا مشارك له في إيجاد شيء وإعدامه، وأن النفع والضر بيده وأنه هو رب كل شيء ومليكه، ولا يعتقدون أن آلهتهم التي يدعونها من دون الله من الأنبياء والأولياء والصالحين والملائكة شاركوا الله في خلق السماوات والأرض، واستقلوا بشيء من التدبير والتأثير والإيجاد، ولو في خلق ذرة من الذرات. قال تعالى: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِي اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ}[الزمر: آية 38]فهم
__________
1 في طبعة الرياض"ليقربوا".
ص -128-(41/24)
معترفون بهذا، ومقرون به لا ينازعون فيه. ولكن لم يدخلهم ذلك في الإسلام، وقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يكون الدين كله لله.
فإذا عرفت أن هذا لم يدخلهم في الإسلام، وأن قصدهم الملائكة والأنبياء يريدون شفاعتهم والتقرب إلى الله بهم هو الذي أحل دماءهم وأموالهم، عرفت أن التوحيد الذي دعت إليه الرسل وأبي عن الإقرار به المشركون هو توحيد الله تعالى، وأفعال العبد الصادرة منه كالدعاء والحب والخوف والرجاء والخضوع والخشوع والإنابة والتوكل والاستقامة والاستعانة والخضوع والتذرع والالتجاء وغير ذلك من أنواع العبادة التي اختص الله بها دون من سواه، وأن من صرف منها شيئا لغيره، كان مشركا سواء اعتقد التأثير ممن يدعوه ويرجوه، أو لم يعتقد. فمن صرف لغير الله شيئا من أنواع العبادة المتقدم ذكرها، فقد عبد ذلك الغير واتخذه إلها، وأشركه مع الله في خالص حقه، وإن فر من تسمية 1 فعله ذلك تألها 2 وعبادة وشركا. ومعلوم عند كل عاقل أن حقائق الأشياء لا تتغير بتغير أسمائها، فلا تزول هذه المفاسد أسمائها، كتسمية عبادة غير الله توسلا وتشفعا، وتعظيما للصالحين وتوقيرا، فالاعتبار بحقائق الأمور، لا بالأسماء والاصطلاحات، والحكم يدور مع الحقيقة لا مع الأسماء.
__________
1 في طبعة الرياض"تسميته".
2 في طبعة الرياض"تأدبا".
ص -129-(41/25)
إذا عرفت هذا فمن أنواع هذا الشرك الذي يسميه هؤلاء توسلا وتشفعا بجاه النبي صلى الله عليه وسلم أو بحقه، وغير ذلك من الألفاظ، أو بجاه غير النبي كالملائكة والأنبياء والأولياء والصالحين، أن يعتقد الإنسان في غير الله أنه يقدر بذاته على جلب منفعة لمن دعاه أو استغاث به، أو دفع مضرة. قال تعالى: {مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا} الآية [فاطر: آية 2]. وقال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ}[يونس: آية 107]فإذا ثبت في القلب أن الله عز وجل بهذه الصفات فوجب أن لا يستغاث إلا به، ولا يدعى إلا هو، ولا يخاف ولا يرجى إلا هو، ولذلك قال تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا}[التوبة: آية 51] فقال تعالى توبيخا لأهل الكتاب الذين يستغيثون بعيسى وأمه وعزير عليهم السلام لما أنزل الله عليهم القحط والجدب: {قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا}[الإسراء: آية 56] وقال تعالى: {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}الآية [الكهف: آية 110] وقال: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ}[يونس: آية 49].
ومن أنواع هذا الشرك التوكل والصلاة والنذر والذبح لغير الله. قال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ}[هود: آية 123].
ص -130-(41/26)
وقال: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ}[الفرقان: آية 58]. وقال: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ}[المائدة: آية 23]. وقال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ والدَّمُ- إلى قوله- وَمَا ذُبِحَ}[المائدة: آية 3]. وقال: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}[الكوثر: آية 2]. وقال: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام: آيات 162, 163].
ومن أنواع هذا الشرك العكوف على قبور المشهورين بالنبوة الصلاح 1 والولاية, لأن الناس يعرفون الرجل الصالح وبركته ودعاءه, فيعكفون على قبره ويقصدون ذلك، فتارة يسألونه, وتارة يسألون الله عند قبره 2.
ولما كان هذا مبدأ الشرك سد النبي صلى الله عليه وسلم هذا الباب ففي الصحيحين أنه قال في مرض موته:"لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد "يحذر ما صنعوا" قالت عائشة: "ولولا ذلك لأبرز قبره. لكن كره أن يتخذ مسجدا 3، وقال: "لا تتخذوا قبري عيدا ولا بيوتكم قبورا وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني"3 وقال صلى الله عليه وسلم: "لعن الله زائرات القبور
__________
1 في الأصل"والصحبة" بدل "الصلاح".
2 في الأصل"فتارة ... وتارة يتلون الله عند قبره, وتارة يصلون ويدعون الله عند قبره".
3 تقدما.
ص -131-(41/27)
المتخذين عليها المساجد والسرج، 1، انتهى.
وأما قوله: "ولا يعدون من توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم أو بالملائكة أنهم اتخذوهم أربابا من دون الله, فكيف يتجرءون على الاستشهاد على مذهبهم بقوله: {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا} الآية [آل عمران: آية 80].
فالجواب أن يقال: إن دعوى من دعا النبي صلى الله عليه وسلم واستغاث به ولجأ إليه ودعا الملائكة أنهم لا يتخذوه أربابا من دون الله ولا يعدون ذلك، لا تجدي هذه الدعوى شيئا، فإن الكفار كما تقدم بيان ذلك يزعمون 2 أن الأنبياء والملائكة استقلوا بشيء من أفعال الربوبية، أو شاركوا الله في إيجاد شيء، أو إعدامه
__________
1 أخرج الإمام أحمد في مسنده- 1/229، وفي مواضع أخر-، وأبو داود في سننه- كتاب الجنائز- 3/558، والترمذي في سننه- أبواب الصلاة- 2/136، والنسائي في سننه- كتاب الجنائز-4/94، 95. وحسنه الترمذي، وتبعة العلامة الشيخ أحمد شاكر حيث قال في تحقيقه لسنن الترمذي: فهذا الحديث- على أقل حالاته- حسن، ثم الشواهد التي ذكرناها في تأييده ترفعه إلى درجة الصحة لغيره، إن لم يكن صحيحا بصحة إسناده هذا. اهـ . وهذا من الشيخ مبني على توثيقه لأبي صالح باذام مولى أم هانىء وإثبات سماعة من ابن عباس لورود هذا الحديث من طريقه عن ابن عباس.
والذي عليه المحققون من المحدثين ضعفه وعدم سماعة من ابن عباس. جزم بذلك شيخ الإسلام وعلم الأعلام أبو العباس ابن تيمية في كتابه "الرد على البكري- ص17. ط السلفية بمصر"وقد تقدم بحث هذا الحديث في هذه السلسلة.
2 كذا في النسختين ولعلها "لم يزعموا ".
ص -132-(41/28)
أو ساووهم بالله في التدبير والنفع والضر والتأثير، ولكن لما أشركوهم مع الله في عبادته بالحب والخوف والتعظيم والرجاء والتوكل والاستغاثة والالتجاء والذبح والنذر وغير ذلك، كان ذلك كفرا وشركا بالله، فإن من أشرك مع الله في عبادة غيره فقد اتخذه 1 ربا وإلها، ولذلك يحتج عليهم سبحانه بما أقروا به من توحيد الربوبية على ما جحده من توحيد الإلهية.
ولما قال- صلى الله عليه وسلم-: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} قال عدي بن حاتم رضي الله عنه: إنهم لا يعبدوهم. قال:أليسوا يحلون ما حرم الله فيحلونه، ويحرمون ما أحل الله فيحرمونه. قال: بلى. قال: فتلك عبادتهم 2 فجعل صلى الله عليه وسلم طاعتهم في التحليل والتحريم التي هي أفعالهم بتعظيم- أحبارهم ورهبانهم الذين اتخذوهم أربابا من دون الله- عبادة لهم مع الله.
ولهذا اجترأ الوهابية على تكفير من دعا غير الله، واستغاث به، ولجأ إليه، وصرف له شيئا من خالص حق الله، لأنه قد اتخذه ربا ومعبودا، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ }[ آل عمران: آية 80] كما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله.
__________
1 في طبعة الرياض"اتخذوا ".
2 تقدم الحديث في الرسالة الأولى. وقد حسنه شيخ الإسلام في كتابه "الإيمان".
ص -133-(41/29)
فصل
وأما قول الملحد:" فإن قلت شبهة من منع التوسل رؤيتهم بعض العوام يطلبون من الصالحين أحياء وأمواتا أشياء لا تطلب إلا من الله تعالى، ويقولون للولي افعل لي كذا وكذا، فهذه الألفاظ الموهمة محمولة على المجاز العقلي، والقرينة عليه صدوره من موحد، ويدلك على ذلك أنك إذا استفسرت العامي عند نطقه بهذه الألفاظ الموهمة يبين لك معتقده بأن الله هو الفاعل للأشياء ولا مشارك له في إيجاد شيء".
فالجواب أن نقول: الكلام على هذا من وجوه:
الأول: أن طلب بعض العوام، أو بعض الخواص من أهل القبور المعروفين بالصلاح من الأحياء والأموات، واعتقاد أنهم يقدرون على ما لا يقدر1عليه إلا الله عز وجل، ويفعلون ما لا يفعله إلا الله عز وجل، حتى نطقت ألسنتهم بما
__________
1 سقطت اللام من الأصل وطبعة الرياض.
ص -134-(41/30)
انطوت عليه قلوبهم، وصاروا يدعونهم تارة مع الله، وتارة استقلالا، ويصرخون بأسمائهم، ويعظمونهم تعظيم من يملك الضر والنفع، ويخضعون لهم خضوعا زائدا على خضوعهم عند وقوفهم بين يدي الله عز وجل في الدعاء: هو اعتقاد كفار قريش الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاتلهم عليه ليكون الدين كله لله، وأن يخلصوا العبادة له، ويخلعوا الأنداد المدعوة من دونه، فمن طلب من مخلوق ما لا يقدر عليه إلا الخالق فقد أشرك ذلك المخلوق في عبادة الله، سواء كان المدعو نبيا أو ملكا أو رجلا صالحا أو غير ذلك.
الثاني: أن مجرد عدم التأثير والخلق والإيجاد والإعدام والنفع والضر إلا لله1 لا يبرئ من الشرك، فإن المشركين الذين بعث الله الرسل إليهم أيضا كانوا مقرين بأن الله هو الخالق الرازق النافع الضار، بل لا بد فيه من إخلاص توحيده وإفراده، وإخلاص التوحيد لا يتم إلا بأن يكون الدعاء كله لله، والطلب منه والنداء والاستغاثة والرجاء واستجلاب الخير واستدفاع الشر له وعنه، لا بغيره ولا من غيره، وكذلك النذر والذبح والسجدة كلها يكون لله.
الثالث: أن مجرد كون الأحياء والأموات شركاء في أنهم لا يخلقون شيئا، وليس لهم تأثير في شيء لا يقتضي أن يكون
__________
1 في الأصل وطبعة الرياض" إلا الله" .
ص -135-(41/31)
الأحياء والأموات متساوين في جميع الأحكام، حتى يلزم من جواز التوسل بالأحياء جواز1التوسل بالأموات، مع أن العرف المعروف من لغة العرب في معنى التوسل بالأحياء التوسل بدعائهم، وهو ثابت بالأحاديث الصحيحة، وأما التوسل بالأموات فلم يثبت بحديث صحيح ولا حسن، وأما التوسل في عرف هؤلاء فهو دعاؤهم والاستغاثة بهم والالتجاء إليهم، وهذا شرك وكفر وخروج من الدين بإجماع المسلمين المحكمين الكتاب والسنة.
وأما قول الملحد: " فهذه الألفاظ الموهمة محمولة على المجاز العقلي".
فالجواب من وجوه:
الأول: أن تلك الألفاظ دالة دلالة مطابقة على اعتقاد التأثير من غير الله تعالى فما معنى الإيهام؟
والثاني: لو سلم هذا الحمل لاستحال2 الارتداد وانسد باب الردة الذي يعقده الفقهاء في كل مصنف وكتاب من كتب أهل المذاهب الأربعة وغيرها فإن المسلم الموحد متى صدر منه قول أو فعل موجب للكفر يجب حمله على المجاز العقلي، والإسلام والتوحيد قرينة على ذلك المجاز3.
__________
1 في طبعة الرياض " ... من جواز التوسل بالأحياء والأموات".
2 في طبعة الرياض" لا ستحل"
3 قوله: " فإن المسلم الموحد متى صدر...إلخ" هذا لازم مذهب هذا الملحد.
ص -136-(41/32)
والثالث: أنه يلزم على هذا أن لا يكون المشركون الذين نطق كتاب الله بشركهم مشركين، فإنهم كانوا يعتقدون أن الله هو الخالق الرازق الضار النافع، وأن الخير والشر بيده، لكن كانوا يعبدون الأصنام؛ لتقربهم إلى الله زلفى، فالاعتقاد المذكور قرينة على أن المراد بالعبادة ليس معناه1الحقيقي، بل المراد هو المعنى المجازي أي التكرم مثلا، فما هو جوابكم فهو جوابنا؟
والرابع: أنكم هؤلاء أوّلتم عنهم في تلك الألفاظ الدالة على تأثير غير الله، فما تفعلون في أعمالهم الشركية من دعاء غير الله والاستغاثة والنذر والذبح، فإن الشرك لا يتوقف على اعتقاد تأثير غير الله، بل إذا صدر من أحد عبادة من العبادات لغير الله صار مشركا، سواء اعتقد ذلك الغير مؤثرا أم لا. انتهى.
فإذا عرفت أن هذا هو اعتقاد كفار قريش وغيرهم من العرب، فإنهم كانوا معترفين بأن الله هو الفاعل لهذه الأشياء، وأنه لا مشارك له في2إيجاد شيء، ولا أدخلهم ذلك في الإسلام، بل قاتلهم رسول الله واستحل دماءهم وأموالهم، إلى أن يخلصوا العبادة لله، ولا يشركوا في عبادته أحدا سواه كان دعوى3هؤلاء أن هذا من الألفاظ الموهمة، من الأوهام الموبقة.
__________
1 لعلها" معناها" .
2 في طبعة الرياض" فما".
3 في طبعة الرياض" كأن دعوى" والصواب ما في الأصل وهو متعلق بقوله:=
ص -137-(41/33)
قال الشيخ صنع الله الحلبي الحنفي رحمه الله في كتابه: " في الرد على من ادعى أن للأولياء تصرفات في الحياة وبعد الممات على سبيل الكرامة" هذا وقد ظهر الآن فيما بين المسلمين جماعات يدعون أن للأولياء تصرفات بحياتهم وبعد مماتهم، ويستغاث بهم في الشدائد والبليات وبهممهم تكشف المهمات، فيأتون قبورهم وينادونهم في قضاء الحاجات، مستدلين على1أن ذلك منهم كرامات، وقالوا: منهم أبدال ونقباء، وأوتاد ونجباء وسبعون وسبعة وأربعون وأربعة والقطب هو الغوث للناس، وعليه المدار بلا التباس، وجوزا لهم الذبائح والنذور، وأثبتوا لهم فيهما الأجور.
قال وهذا الكلام فيه تفريط وإفراط، بل فيه الهلاك الأبدي والعذاب السرمدي، لما فيه من روائح الشرك المحقق، ومصادمة الكتاب العزيز المصدق، ومخالفته لعقائد الأئمة وما أجمعت عليه الأمة، وفي التنزيل:{وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} الآية[النساء: آية155] إلى أن قال: وأما القول بالتصرف في الحياة، قال جل ذكره:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}
__________
=" فإذا عرفت أن هذا هو اعتقاد كفار قريش...كان دعوى هؤلاء أن هذا من الألفاظ...".
1 " على " ليست في الأصل ولا طبعة الرياض.
ص -138-(41/34)
[الزمر: آية30]. {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر: آية42] {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185] {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: آية38] وفي الحديث: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث" الحديث1فجميع ذلك وما هو نحوه دال على انقطاع الحس والحركة من الميت، وأن أرواحهم ممسكة، وأن أعمالهم منقطعة عن زيادة أو نقصان، فدل ذلك على أن ليس للميت تصرف في ذاته فضلا عن غيره، فإذا عجز عن حركة نفسه فكيف يتصرف في غيره، فالله سبحانه يخبر أن الأرواح عنده، وهؤلاء الملحدون يقولون إن الأرواح مطلعة متصرفة {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمْ اللَّهُ} [البقرة: آية140] قال: والاستغاثة تجوز في الأسباب الظاهرة العادية من الأمور الحسية في قتال أو إدراك عدو أو سبع ونحوه، كقولهم: يا لزيد، يا للمسلمين بحسب الأفعال الظاهرة، وأما الاستغاثة بالقوة والتأثير أو في الأمور المعنوية من الشدائد كالمرض وخوف الغرق والضيق والفقر وطلب الرزق ونحوه، فمن
__________
1 أخرجه مسلم في صحيحه3/1255 ـ كتاب الوصية ـ، وأبوداود في سننه3/300 ـ كتاب الوصايا ـ، والترمذي في سننه 3/651 ـ كتاب الأحكام ـ باب الوقف، والنسائي في سننه6/251 ـ كتاب الوصاياـ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاثة: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له".
ص -139-(41/35)
خصائص الله لا يطلب فيها غيره، انتهى.
والمقصود أن أهل العلم ما زالوا ينكرون هذه الأمور الشركية التي عمت بها البلوى، واعتقدها أهل الأهواء، فلو تتبعنا كلام العلماء المنكرين لهذه الأمور الشركية لطال الجواب، والبصير النبيل يدرك الحق من أول دليل، ومن قال قولا بلا برهان فقوله ظاهر البطلان، مخالف ما عليه أهل الحق والإيمان المتمسكين بحكم القرآن، المستجيبين لداعي الحق والإيمان، والله المستعان وعليه التكلان.
ص -140-
فصل
وإنما دهى1الغلاة ما ألقاه الشيطان إليهم بكيده أن قال: إن هؤلاء قوم صالحون، وعند الله مقربون، ولهم ما يشاؤون، ولهم الجاه الأعلى، والمقام الرفيع الأسنى، فمن قصدهم لا يخيب سعيه، ولا يطيش رأيه، وإن ببركتهم تدفع البليات، وتقضى الحاجات، وبشفاعتهم يتقرب زوارهم إلى الله الغفار، فتحط عنهم بشفاعتهم عند الله الأوزار إلى غير ذلك من الدلائل التي يملأ بها قلوب أهل الأماني بمثل هذه المعاني، فيتلاعب بعقولهم السخيفة، وآرائهم الضعيفة، ويحسّن لهم البدع والمنكرات، بما يلقيه إليهم من الحكايات والخرافات، ويحثهم على التقرب إلى أهل القبور بما يقدرون عليه، من النحر والنذور والطواف والتزين بالزين المحرمة من القصب والذهب والفضة وتعليق القناديل وإيقاد شموع العسل وتصفيح الجدران والأعتاب والسنون والأبواب بالفضة
__________
1 في طبعة الرياض "دهى". وفي الأصل "وهي".
ص -141-(41/36)
والذهب وغيرهما مما يجاوز الحساب ويفهمهم1أنهم2كلما ازدادوا في مثل ذلك أحسنوا كل الإحسان، فدخلوا الجنان، ثم ما كفاه ذلك حتى استخفهم3 فدعاهم إلى أن يطلبوا منهم النصر على الأعداء، والشفاء من عضال الداء فأجابوه إلى ما دعاهم مسرعين، وزادوا على ذلك بأن طلبوا منهم الحياة لأولادهم، فتراهم يقولون: قد علقنا أولادنا عليهم، ومنهم من يطلب منهم النسل إذا كان عقيما، والشفاء إذا كان سقيما، وكثيرا مما يطلب منهم منصبا فيه أخذ أموال العباد، والسعي في الأرض بكل فساد، فيجيء إليهم ويلازمهم معتقدا أن من لازمهم قضيت حاجته، ونجحت سعايته، واقترنت سعادته.
وإذا فتحت أبواب بيوت قبورهم المذهبة، ورفعت ستور الأبواب المطلاة المطرزة4، وفاحت تلك الأرواح المسكية من الجدران المخلقة، وجد هذا الزائر في فؤاده من الخشية والرعب ما لا يجد أدنى معشار جزء عشره بين يدي خالق السموات والأرضين، وإله جميع العالمين، فيدخل إلى القبر خاشعا ذليلا متواضعا لا يخطر في قلبه مثقال ذرة من غير إجلاله، منتظرا فيض كرمه ونواله، فأقسم بالله أنه لم يتصوره
__________
1 في طبعة الرياض" يفهم".
2 في الأصل وطبعة الرياض"إنما" ولعل الصواب ما أثبته.
3 في طبعة الرياض "استحقهم".
4 في طبعة الرياض"المطردة".
ص -142-
بشر قد وضع بأكفانه في لحده، ولو سلمنا أنه لو خطرت له وهو عنده في تلك الحضرة لتعوذ بالله منها، ووقف عند حده، ويا خيبة من أنكر عليهم حالهم، ويا شناعة من رد عليهم أمرهم، ويا خسارة من علمهم وأرشدهم، فإن ذلك عندهم1، قد تنقص الأولياء وهضمهم مرتبتهم عن السمو والارتقاء، ولو ذهبنا نذكر أفعالهم وأقوالهم لطال الجواب، فإلى الله المشتكى وبه المستغاث وهو المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
__________
1 في الأصل وطبعة الرياض"وقد تنقص".
ص -143-(41/37)
فصل
قال الملحد:" وإنما الطلب من هؤلاء الصالحين على سبيل التوسط بحصول المقصود من الله تعالى لعلو شأنهم عنده سبحان".
فالجواب: أن نقول هكذا كان مشركو العرب الجاهلية حذو النعل بالنعل، كانوا يدعون الصالحين والأنبياء والمرسلين طالبين منهم الشفاعة عند رب العالمين، ويلتجئون إليهم ويسألونهم على وجه التوسل بجاههم وشفاعتهم، ويعلمون أن الله تعالى هو النافع الضار وأن الله سبحانه هو المؤثر، وأن غيره لا تأثير له في جلب نفع أو دفع ضر، ولم يدخلهم ذلك في الإسلام لما جعلوا بعض المخلوقين وسائط بينهم وبين الله تعالى فلم ينفعهم إقرارهم بتوحيد الربوبية.
وقد قال شيخ الإسلام رحمه الله لما سئل عن رجلين تناظرا فقال أحدهما: لا بد لنا من وساطة بيننا وبين الله تعالى فإنا لا نقدر على أن نصل إليه بغير ذلك فما معنى الوساطة؟
ص -144-(41/38)
وهل التوسط عام في كل شيء يوجده الله تعالى أم في ذلك بيان وتفصيل؟.
فأجاب رحمه الله ورضي عنه بقوله: الحمد لله إن أراد بذلك أنه لا بد من وساطة تبلغ أمر الله تعالى فهذا حق، فإن الخلق لا يعلمون ما يحبه الله ويرضاه، وما أمر الله به ونهى عنه، وما أعد لأوليائه من كرامته، وما أوعد به أعداءهم من عذابه، ولا يعرفون ما يستحقه الله من أسمائه الحسنى، وصفاته العلا1 التي تعجز العقول عن الإحاطة بها، إلى أمثال ذلك إلا بالرسل الذين أرسلهم الله إلى عباده.
والمؤمنون بالرسل المتبعون لهم هم2المهتدون الذين يقربهم لديه زلفى ويرفع درجاتهم ويكرمهم في الدنيا والآخرة. وأما المخالفون للرسل فإنهم ملعونون وهم ضالون وعن ربهم محجوبون قال تعالى: {يَابَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنْ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ* وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأعراف:آيات35، 36] ـ وذكر آيات في المعنى ـ ثم قال رحمه الله: وإن
__________
1 في طبعة الرياض"العلية".
2 سقطت "هم" من الأصل وطبعة الرياض. وأثبتها من مجموع فتاوى شيخ الإسلام للعلامة الجليل عبد الرحمن بن قاسم ـ رحمه الله تعالى ورضي عنه ـ 1/121.
ص -145-(41/39)
أراد بالواسطة أنه لا بد من واسطة يتخذها العباد بينهم وبين الله في جلب المنافع ودفع المضار، مثل أن يكون واسطة في رزق العباد ونصرهم وهداهم يسألونهم ذلك ويرجونهم فيه فهذا من أعظم الشرك الذي كفر الله به المشركين حيث اتخذوا من دون الله أولياء وشفعاء يجلبون بهم المنافع ويدفعون بهم المضار، لكن الشفاعة لمن يأذن الله تعالى له فيها قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ}[السجدة:4]، وقال:{وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ} [الأنعام: آية51] وقال تعالى: {قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ}[سبأ:آيات:22، 23] ـ وساق آيات المعنى ـ إلى أن قال: وقال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمرن: آيات79، 80] فبين سبحانه وتعالى أن اتخاذ الملائكة والنبيين أربابا كفر، فمن جعل الملائكة والأنبياء
ص -146-(41/40)
وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار مثل أن يسألهم غفران الذنوب، وهداية القلوب، وتفريج الكروب، وسد الفاقات، فهو كافر بإجماع المسلمين وقد قال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنْ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: آيات 26ـ29] وقال تعالى: {لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} [النساء: آية172 وقال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَانِ وَلَدًا وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَانِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَانِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:آيات88ـ95] وقال تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس:آية18] وقال تعالى:{وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا(41/41)
مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم:آية26] وقال تعالى:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا
ص -147-
بِإِذْنِهِ}[البقرة:آية255] وقال تعالى:{مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر:2] وقال تعالى:{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس:آية107] وقال تعالى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِي اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ } [الزمر:آية38] ومثل هذا في القرآن كثير، ومن سوى الأنبياء من مشايخ العلم والدين فمن1 أثبتهم وسائط بين الرسول وأمته يبلغونهم ويعلمونهم ويؤدبونهم ويقتدون بهم فقد أصاب في ذلك. وهؤلاء إذا أجمعوا فإجماعهم2 حجة قاطعة لا يجتمعون على ضلالة، إلى أن قال: وإن أثبتهم وسائط بين الله وبين خلقه كالحجّاب الذين بين الملك وبين رعيته بحيث يكونون هم يرفعون إلى الله حوائج خلقه، وأن الله إنما يهدي عباده ويرزقهم وينصرهم بتوسطهم، بمعنى أن الخلق يسألونهم وهم يسألون الله كما أن الوسائط عند الملوك يسألون الملوك حوائج الناس لقربهم منهم والناس يسألونهم أدبا منهم أن يباشروا سؤال الملك، أو لأن طلبهم من الوسائط أنفع لهم من طلبهم من
__________
1 في الأصل وطبعة الرياض "ومن سوى الأنبياء ومشايخ العلم والدين وأثبتهم.." وما أثبته من مجموع الفتاوى.
2 في الأصل وطبعة الرياض "اجتمعوا فاجتماعهم ..." وما أثبته من الفتاوى.
ص -148-(41/42)
الملك لكونهم أقرب إلى الملك من الطالب، فمن أثبتهم وسائط على هذا الوجه فهو كافر مشرك يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل.
قلت: وهذا عين كلام الشامي فإنه زعم أن الطلب من هؤلاء الصالحين على سبيل التوسط بحصول المقصود من الله تعالى لعلو شأنهم عنده سبحانه، والشيخ رحمه الله هنا وفي جميع كلامه جزم بأن فاعل ذلك كافر مشرك يستتاب كما يستتاب المرتد فإن تاب وإلا قتل.
ثم قال الشيخ: وهؤلاء المشبهون يشبهون الخالق بالمخلوق، وجعلوا لله أندادا. وفي القرآن من الرد على هؤلاء ما لا تتسع له هذه الفتوى، فإن الوسائط التي بين الملوك وبين الناس تكون على أحد وجوه ثلاثة:
إما لإخبارهم من أحوال الناس ما لا يعرفونه، ومن قال: إن الله لا يعرف أحوال العباد حتى يخبره بذلك بعض الملائكة أو الأنبياء أو غيرهم فهو كافر، بل هو سبحانه يعلم السر وأخفى، لا يخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء وهو السميع البصير، يسمع ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات، لا يشغله سمع عن سمع، ولا تغلطه1المسائل، ولا يتبرم بإلحاح الملحين.
__________
1 في الأصل تغلظه.
ص -149-(41/43)
الوجه الثاني: أن يكون الملك عاجزا عن تدبير رعيته، ودفع أعاديهم إلا بأعوان يعينونه، فلا بد له من أعوان وأنصار لذله وعجزه، والله سبحانه ليس له ظهير ولا ولي من الذل. قال تعالى: {قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ}[سبأ: آية22] وقال تعالى: {وَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنْ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: آية111] وكل ما في الوجود من الأسباب فهو سبحانه خالقه وربه ومليكه، فهو الغني عن كل ما سواه، فقير إليه بخلاف الملوك المحتاجين إلى ظهرائهم1، وهم في الحقيقة شركاؤهم.
والله سبحانه ليس له شريك في الملك، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
ولهذا لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، لا ملك ولا نبي ولا غيرهما، فإن من يشفع عند غيره بغير إذنه، فهو شريك في حصول المطلوب؛ لأنه أثّر فيه بشفاعته حتى جعله يفعل ما يطلبه منه. والله سبحانه وتعالى لا شريك له بوجه من الوجوه.
ويسمى الشفيع شفيعا؛ لأنه يشفع غيره أي يصير له شفعا، قال تعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} [النساء: آية85] وكل
__________
1 في طبعة الرياض "ظهرنيهم".
ص -150-(41/44)
من أعان غيره على أمر فقد شفعه فيه. والله تعالى وتر لا يشفعه أحد بوجه من الوجوه.
الوجه الثالث: أن يكون الملك ليس مريدا لنفع رعيته، والإحسان إليهم ورحمتهم إلا بمحرك يحركه من خارج. فإذا خاطب الملك من ينصحه ويعطفه، أو من يدل عليه بحيث يكون يرجوه ويخافه تحركت أداة الملك وهمته في قضاء حوائج رعيته، إما لما يحصل في قلبه من كلام الناصح الواعظ المشير، وإما لما يحصل له من الرغبة والرهبة من كلام المدل عليه. والله تعالى هو رب كل شيء ومليكه، وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، وكل الأسباب إنما تكون بمشيئته، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهو إذا أجرى1نفع العباد بعضهم على أيدي بعضهم، فجعل هذا يحسن إلى هذا ويدعو له ويشفع فيه ونحو ذلك، فهو الذي خلق ذلك كله، وهو الذي خلق في قلب هذا المحسن والداعي والشافع إرادة الإحسان والدعاء والشفاعة، ولا يجوز أن يكون في الوجود من يكرهه على خلاف مراده أو يعلمه ما لم يكن يعلمه أو من يرجوه الرب ويخافه ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يقولن أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت ولكن ليعزم المسألة فإن الله لا مكره له"2 والشفعاء الذين يشفعون عنده لا يشفعون إلا
__________
1 في الأصل وطبعة الرياض" جرى"
2 أخرجه البخاري11/139، ومسلم 4/2063، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
ص -151-(41/45)
بإذنه، قال تعالى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنْ ارْتَضَى}[الأنبياء: آية28] وقال تعالى: {وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}[سبأ: آية23] بخلاف الملوك فإن الشافع عندهم قد يكون له ملك أو يكون شريكا لهم في الملك، وقد يكون مظاهرا لهم معاونا على ملكه، وهؤلاء يشفعون عند الملوك بغير إذن الملوك والملك يقبل شفاعتهم تارة على إنعامهم عليه، حتى إنه يقبل شفاعة ولده وزوجته لذلك فإنه محتاج إلى الزوجة وإلى الولد حتى لو أعرض عنه ولده وزوجته لتضرر بذلك، ويقبل شفاعة مملوكه فإنه إن لم يقبل شفاعته يخاف أن لا يطيعه، وأن يسعى في ضرره، وشفاعة العباد لبعضهم عند بعض كلها من هذا الجنس فلا يقبل أحد شفاعة أحد إلا لرغبة أو رهبة والله تعالى لا يرجو أحدا ولا يخافه ولا يحتاج إلى أحد بل هو الغني. قال تعالى: {أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} إلى قوله: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [يونس: آية66ـ68] وقوله: {وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ} [يونس:آية66] استفهام استنكار أي ليس متبع الذين يدعون من دون الله شركاء حجة ولا برهانا، ما يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون، بين تعالى أن من دعا من دون الله
ص -152-(41/46)
شركاء فليس معه علم، ليس معه إلا الظن والخرص والظن المقرون بالخرص هو ظن باطل غير مطابق للحق؛ فإن الخرص هنا بمعنى الكذب كقوله تعالى: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ}[الذاريات: 10] ومن ظن أن "ما" هنا نافية فقد فسر الآية بما هو خطأ كما قد بسط في غير هذا الموضع، والمشركون يتخذون شفعاء من جنس ما يعهدونه من الشفاعة عند المخلوقين. قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: آية18] وقال عن صاحب يس1: {وَمَا لِي لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِي الرَّحْمَانُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنقِذُونِي إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِي}[يس: آيات22ـ25]، وقال تعالى: {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}[الاحقاف:28] وأخبر عن المشركين أنهم قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}[ الزمر: آية3] وقال تعالى: {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}
__________
1 في طبعة الرياض "ليس" كذا في الأصل.
ص -153-(41/47)
[آل عمران: آية80]. وقال: {قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}[ الإسراء: آيات 56ـ57] فأخبر أن من يدعي من دونه لا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا، وأنهم يرجون رحمته ويخاف عذابه، ويتقربون إليه فقد نفى سبحانه ما أثبتوه من توسيط الملائكة والأنبياء.
إلى أن قال: والمقصود هنا أن من أثبت وسائط بين الله تعالى وبين خلقه كالوسائط التي تكون بين الملوك والرعية فهو مشرك، بل هذا دين المشركين عباد الأوثان، كانوا يقولون إنها تماثيل الأنبياء والصالحين، وأنها وسائط يتقربون بها إلى الله تعالى، وهو من الشرك الذي أنكره الله تعالى على النصارى حيث قال: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: آية31] وقد قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: آية 186] ثم ذكر آيات في المعنى وهذا الذي قاله الشيخ لا خلاف فيه بين المسلمين، وإنما اشتبه الأمر على هؤلاء الضلال لما قدم العهد، ونسي العلم، واعتادوا سؤال غير الله فيما يختص به تعالى، ونشئوا على ذلك.
ص -154-(41/48)
فصل
وأما قوله: "ولكن مع ذلك علينا أن نأمر العامة الأدب بالتوسل بأن يكون بالألفاظ التي ليس فيها إيهام، وذلك كأن يقول المتوسل: اللهم إني أسألك وأتوسل إليك بالنبي صلى الله عليه وسلم وبأصحابه وبأحبابه أن تعطيني كذا وكذا وتدفع عني كذا وكذا إلى آخر مطلوبه، ولا يصح لنا أن نمنعه من التوسل مطلقا لما قدمنا من الآيات، ولما يأتي من الأحاديث، والإجماع فنعوذ بالله من طمس عين البصيرة {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}[ آل عمران: آية8].
فالجواب أن نقول: إن قول القائل: اللهم إني أسألك وأتوسل إليك بالنبي وبأصحابه وبأحبابه أن تعطيني كذا وكذا قول مبتدع محرم منهي عنه في أصح القولين عند الحنابلة، وقد نص على المنع منه جمهور أهل العلم بل ذكر شيخ الإسلام في رده على ابن البكري أنه لا يعلم قائلا بجوازه إلا ابن عبد السلام في حق النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يجزم بل علق
ص -155-(41/49)
القول به على ثبوت حديث الأعمى وصحته، وفيه من لا يحتج به عند أهل الحديث1.
ونقل القدوري وغيره من الحنفية عن أبي يوسف أنه قال: قال أبو حنيفة رضي الله عنه: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به. وذكر الملا في شرح التنوير على التتار خانية عن أبي حنيفة قال: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله سبحانه إلا به أي بالله سبحانه.
وفي جميع متونهم: أن قول الداعي المتوسل بحق الأنبياء والأولياء وبحق البيت والمشعر الحرام مكروه كراهة تحريم، وعللوا ذلك كلهم بقولهم: إنه لا حق للمخلوق على الخالق. انتهى.
ولكن هؤلاء الغلاة مع كونهم مبتدعين هم مع ذلك يدعون الأنبياء والأولياء والصالحين ويلجؤون2، وقد كان من المعلوم عند جميع أهل السنة والجماعة من جعل الأنبياء والأولياء والملائكة وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار مثل أن يسألهم غفران الذنوب وهداية القلوب وتفريج الكروب وسد الفاقات فهو كافر بإجماع المسلمين والله الهادي إلى الصواب.
__________
1 تقدم الكلام مفصلا على حديث الأعمى في رسالة "الرد على القبوريين" للعلامة حمد بن ناصر آل معمر ـ رحمه الله تعالى . وسيأتي الكلام على بعض طرق هذا الحديث ص163.
2 في طبعة الرياض " يلجأون" وفي الأصل "يلجئون".
ص -156-(41/50)
فصل
قال الملحد: "الباب الثاني بذكر الأحاديث الدالة على التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم أخرج البخاري في تاريخه، والبيهقي في الدلائل والدعوات وصححه، وأبو نعيم في المعرفة عن عثمان بن حنيف، أن رجلا ضريرا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله لي أن يعافيني. قال: إن شئت أخرت ذلك وهو خير لك، وإن شئت دعوت الله تعالى. قال: فادعه. فأمره أن يتوضأ فيحسن الوضوء، ويصلي ركعتين، ويدعو بهذا الدعاء "اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي هذه ليقضيها، اللهم شفعه في" ففعل الرجل فقام وقد أبصر".
والجواب أن يقال: هذا الحديث غير محفوظ، وفيه مقال مشهور وفي سنده أبو جعفر عيسى بن أبي عيسى بن ماهان الرازي التميمي1قال الحافظ بن حجر في التقريب:
__________
1 تبع المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ الترمذي وغيره من الجهابذة العظام في أن أبا جعفر المذكور في السند هو الرازي وليس الخطمي، ولذلك حكموا على =
ص -157-(41/51)
الأكثرون على ضعفه، وقال أحمد والنسائي: ليس بالقوي، وقال أبو حاتم: صدوق، وقال ابن المديني: ثقة كان يخلط، وقال مرة: يكتب حديثه إلا أنه يخطئ، وقال القلانسي: سيء الحفظ، وقال ابن حبان: ينفرد بالمناكير عن المشاهير، وقال أبو زرعة يهم كثيرا، وقال الحافظ في التقريب أيضا في ترجمة الرازي التميمي مولاهم مشهور بكنيته واسمه عيسى بن أبي عيسى بن عبد الله ماهان، وأصله من مرو، وكان يتجر إلى الري صدوق سيء الحفظ خصوصا عن مغيرة من كبار السابعة مات في حدود الستين انتهى، وعلى تقدير صحته وثبوته فلا يدل على ما توهمه هذا الملحد، وببيان معنى الحديث يعلم أن ما توهمه هؤلاء الغلاة غير صحيح، فقوله: "اللهم إني أسألك" أي أطلب منك، وأتوجه إليك بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم صرح باسمه مع ورود النهي عن ذلك تواضعا منه لكون التعليم من قبله، وفي ذلك قصر السؤال الذي هو أصل الدعاء على الله تعالى الملك المتعال، ولكنه توسل بالنبي
__________
= هذا السند بالضعف. ولكن رجح شيخ الإسلام الإمام الناقد أبو العباس ابن تيمية أن أبا جعفر هو الخطمي لا الرازي وتبعه على ذلك المحققون من العلماء "مجموع الفتاوى1/266".
وعلى كل حال فإن الحديث صحيح ولا دلالة فيه على مذهب المشركين القبوريين بل هو حجة عليهم، وقد تقدم الكلام على هذا الحديث في التعليق على رسالة الشيخ حمد بن ناصر آل معمر "الرد على القبوريين".
ص -158-(41/52)
بدعائه؛ ولذلك قال في آخره: "اللهم فشفعه فيّ" إذ شفاعته لا تكون إلا بالدعاء لربه قطعا، ولو كان المراد التوسل بذاته فقط لم يكن لذلك التعقيب معنى، إذ التوسل بقوله: "نبيك" كاف في إفادة هذا المعنى. فقوله: "يا محمد إني توجهت بك إلى ربي"1قال الطيبي: "الباء في بك للاستعانة" وقوله: "إني توجهت بك" بعد قوله: "أتوجه إليك" فيه معنى قوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ}[البقرة225] فيكون خطابا2 لحاضر معاين في قلبه مرتبط بما توجه به عند ربه من سؤال نبيه بدعائه الذي هو عين شفاعته، ولذلك أتى بالصيغة الماضوية بعد الصيغة المضارعية المفيد كل ذلك أن هذا الداعي قد توسل بشفاعة نبيه في دعائه فكأنه استحضره وقت ندائه.
وقال شيخ الإسلام في "اقتضاء الصراط المستقيم": "والميت لا يطلب منه شيء لا دعاء ولا غيره، وكذلك حديث الأعمى فإنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له ليرد الله عليه بصره فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم دعاء أمره فيه أن يسأل الله قبول شفاعة نبيه فيه، فهذا يدل على أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ شفع فيه، وأمره أن يسأل الله قبول قوله "أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة" أي بدعائه وبشفاعته كما قال عمر: "كنا نتوسل إليك بنبينا" فلفظ التوسل والتوجه في الحديثين بمعنى واحد ثم قال: "يا محمد
__________
1 في الأصل طبعة الرياض"ذي".
2 في طبعة الرياض "خطابا بالحاضرة".
ص -159-(41/53)
يا رسول الله إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي ليقضيها اللهم فشفعه فيّ" فطلب من الله أن يشفع فيه نبيه. وقوله: "يا محمد يا نبي الله" وهذا وأمثاله نداء يطلب به استحضار المنادي في القلب، فيخاطب المشهود بالقلب كما يقول المصلي: "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته"، والإنسان يفعل مثل هذا كثيرا يخاطب من يتصوره في نفسه وإن لم يكن في الخارج من يسمع الخطاب، فلفظ التوسل بالشخص، والتوجه به، والسؤال به فيه إجمال واشتراك غلط بسببه من لم يفهم مقصود الصحابة، يراد التسبب به لكونه داعيا وشافعا مثلا، أو لكون الداعي محبا له مطيعا لأمره مقتديا به، فيكون التسبب إما بمحبة السائل له واتباعه له، وإما بدعاء الوسيلة، وإما بدعاء الوسيلة وشفاعته، ويراد به الإقسام به، والتوسل بذاته فلا يكون التوسل لا منه ولا من السائل بل بذاته أو بمجرد الإقسام به على الله، فهذا الثاني هو الذي كرهوه ونهوا عنه، وكذلك السؤال بالشيء قد يراد به المعنى الأول وهو التسبب لكونه سببا في حصول المطلوب، وقد يراد به الإقسام إلى آخر ما قال انتهى.
فإذا عرفت هذا فليس في حديث الأعمى ما يدل على التوسل به ودعائه والإلتجاء إليه بعد وفاته، وإنما فيه أنه توسل بدعائه كما كان الصحابة يتوسلون بذلك، ويسألونه الاستغفار والدعاء وقد قال تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ}[التوبة: 103] وقال تعالى حاكيا عن المنافقين {وَإِذَا
ص -160-(41/54)
قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ}[المنافقون 5] فذم هذا الصنف بالصد عن ذلك، فهذا كان هديهم وفعلهم في حياته صلى الله عليه وسلم، وأما بعد موته صلى الله عليه وسلم فلم يفعله أحد منهم، ولا من أهل العلم والإيمان بعدهم.
وأما قوله: "وليس لمانع التوسل أن يخصه بقبل وفاته صلى الله عليه وسلم؛ لأن الصحابة استعملوه بعد وفاته صلى الله عليه وسلم".
فالجواب أن هذا كذب على الصحابة رضي الله عنهم فإن الصحيح الثابت عنهم التوسل به في حياته بدعائه، وأما بعد وفاته فلم يكن يفعل ذلك أحد منهم، وقد ثبت في صحيح البخاري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استسقى بالعباس فقال: "اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون" فقد بين عمر رضي الله عنه، أنهم كان يتوسلون به في حياته فيسقون، وذلك التوسل أنهم كانوا يسألونه أن يدعو الله لهم، فيدعو لهم ويدعون معه فيتوسلون بشفاعته ودعائه، فهذا كان توسلهم به في الاستسقاء ونحوه، فلما مات توسلوا بالعباس كما كانوا يتوسلون به، ولم يتوسلوا به ويستسقونه بعد موته، ولا في مغيبه، ولا عند قبره.
وكذلك معاوية بن أبي سفيان استسقى بيزيد بن الأسود الجرشي وقال اللهم: "إنا نستشفع إليك بخيارنا يا يزيد ارفع يديك إلى الله" فرفع يديه ودعا فسقوا ولذلك قال العلماء:
ص -161-(41/55)
يستحب أن يستسقي بأهل الصلاح والخير، فإذا كان من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحسن، ولم يذكر أحد من العلماء أنه يشرع التوسل والاستسقاء بالنبي الصالح بعد موته، ولا في مغيبه، ولا استحبوا ذلك لا في الاستسقاء ولا في غيره من الأدعية، والدعاء مخ العبادة، والعبادة مبناها على النية والاتباع، وإنما يعبد الله بما شرع لا بالأهواء والبدع قال الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}
[الشورى ـ 21] وقال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}[الأعراف ـ 55] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه سيكون في هذه الأمة أقوام يعتدون في الدعاء والطهور" انتهى.
وأما قوله: "فقد أخرج البيهقي، وأبو نعيم في المعرفة عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أن رجلا كان يختلف إلى عثمان بن عفان في حاجة، وكان عثمان لا يلتفت إليه، ولا ينظر في حاجته، فلقي عثمان بن حنيف وشكى إليه ذلك.
فقال: ائت الميضأة فتوضأ، ثم ائت المسجد فصل ركعتين، ثم قل: "اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي لتقضي حاجتي، واذكر حاجتك، ثم رح حين أروح، فانطلق الرجل وصنع ذلك، ثم أتا باب عثمان فجاء البواب فأخذه بيده وأدخله على عثمان، فأجلسه معه على الطنفسة فقال: "انظر ما كان لك من
ص -162-(41/56)
حاجة" ثم إن الرجل خرج من عنده فلقي عثمان بن حنيف فقال: "جزاك الله خيرا ما كان ينظر في حاجتي، ولا يلتفت إلي حتى كلمته" قال: ما كلمته، ولكن رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وجاءه ضرير فشكا إليه ذهاب بصره، فقال له أو تبصر، قال يا رسول الله ليس لي قائد وقد شق علي فقال: "ائت الميضاة فتوضأ وصل1 ركعتين ثم قل اللهم إن أتوجه بك إلى ربي ليجلي بصري اللهم شفعه في وشفعني في نفسي، قال عثمان: فوالله ما تفرقنا حتى دخل الرجل كأن لم يكن به ضرر" انتهى من شرح الخصائص..".
فالجواب: إن في سند هذا الحديث مقالا، وقد رواه الطبراني وفي سنده روح بن صلاح وقد ضعفه ابن عدي2
__________
1 في الأصل وطبعة الرياض "وصلي".
2 كذا قال الشيخ ـ رحمه الله تعالى ـ وقد أصاب في تضعيف سند الطبراني، ولكن العلة التي ذكرها غير صحيحة وذلك؛ لأن سند الطبراني ليس فيه "روح بن الصلاح" وإنما فيه "روح بن القاسم"1، وليس هو علة الحديث وإنما علة الحديث ما يلي بعد سياق سند الطبراني، قال رحمه الله تعالى في معجميه الكبير 9/17ـ18، والصغير 1/183: حدثنا طاهر بن عيسى بن قيرس المقري حدثنا أصبغ بن الفرج حدثنا عبد الله بن وهب عن شبيب بن سعيد المكي عن روح بن القاسم عن أبي جعفر الخطمي المدني عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن عمه عثمان بن حنيف أن رجلا كان
.........................................
1 ولعل الشيخ اشتبه عليه هذا الحديث بحديث آخر يأتي ص 193 علته "روح بن الصلاح"، أو أنه تابع صاحب "صيانة الإنسان" فإنه أعل القصة بروح بن القاسم ص377.
ص -163-(41/57)
.........................................................................................................................................
__________
يختلف إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه في حاجة له، فكان عثمان لا يلتفت إليه.."إلخ.
قال الطبراني في الصغير بعده: ـ لم يروه عن روح بن القاسم إلا شبيب بن سعيد أبو سعيد المكي وهو ثقة، وهو الذي يحدث عنه أحمد بن أحمد بن شبيب عن أبيه عن يونس بن يزيد الأيلي.
وقد روى هذا الحديث شعبة عن أبي جعفر الخطمي واسمه عمير بن يزيد وهو ثقة تفرد به عثمان بن عمر بن فارس عن شعبة، والحديث صحيح.
وقد روى هذا الحديث عون بن عمارة عن روح بن القاسم عن محمد بن المنكدر عن جابر رضي الله عنه. وهم فيه عون بن عمارة. والصواب حديث شبيب بن سعيد اهـ .
وقبل الكلام على سند هذه القصة نلفت النظر إلى دقة تعبير العلماء السابقين وشدة احترازهم في الألفاظ، ويتجلى هذا في قول الطبراني: ـ "والحديث صحيح" يعني به المرفوع لا القصة كما توهمه بعض السفلة الساقطين، الذين يتتبعون خيوط العنكبوت فيتعلقوا بها لنصر مذهبهم وتقوية طريقتهم. ويدل على ذلك قوله في ... أول كلامه "لم يرو.." إشارة إلى توهين الحكاية.
ويتضح وهن هذه الحكاية وسقوطها بما يأتي:
أولا: تفرد شبيب بن سعيد بها كما قاله الطبراني، وشبيب بن سعيد هذا لخص الحافظ ابن حجر كلام أهل الجرح والتعديل فيه فقال: "لا بأس بحديثه من رواية ابنه أحمد عنه، لا من رواية ابن وهب" اهـ من التقريب.
وهذا السند كما ترى من طريق ابن وهب عنه. وقد قال ابن عدي في ترجمة شبيب: "وحدث عنه ابن وهب بأحاديث مناكير..." ثم قال: "وكأن شبيبا إذا روى عنه ابنه أحمد بن شبيب نسخة يونس عن الزهري إذا هي أحاديث مستقيمة، ليس هو شبيب بن سعيد الذي يحدث عنه ابن وهب بالمناكير الذي يرويها عنه، ولعل شبيبا بمصر في تجارته إليها كتب عنه ابن وهب(41/58)
من حفظه فيغلط ويهم، وأرجو أن لا يتعمد شبيب هذا الكذب" اهـ =
ص -164-
.........................................................................................................................................
__________
=كلام ابن عدي من الكامل 4/1347 وما أحسنه من كلام وما أدقه من حكم ويتلخص منه أمران هامان:
أحدهما: أن رواية أحمد بن شبيب عن أبيه مستقيمة بشرط أن يكون شيخ أبيه يونس فقط وأما روايته عن أبيه شبيب عن غير يونس فتبقى على الجادة وهي عدم الإحتجاج بها. وتعليل هذا: أن شبيبا عنده كتب يونس وكان يحدث منها فلذا جاءت أحاديثه عنه مستقيمة كما تقدم في كلام ابن عدي.
وبهذا يعلم ما في عبارة الحافظ ابن حجر من الإطلاق الموهم حيث قال: "لا بأس به من رواية ابنه أحمد عنه" فيزاد قيدا وهو "إذا كان شيخه يونس بن يزيد" والله تعالى أعلم.
ثانيهما: أن أحاديث ابن وهب عن شبيب منكرة جميعها، وهذا الحديث منها.
فإن قيل: قد روى البيهقي هذا الحديث من طريق أحمد بن شبيب بن سعيد عن أبيه عن روح بن القاسم عن أبي جعفر الخطمي عن أبي أمامة سهل بن حنيف عن عمه عثمان بن حنيف قال: ... فذكره "6/167 من دلائل النبوية". فهذه متابعة لابن وهب من رواية أحمد عن أبيه وهي جيدة.
قلنا: تقدم أن قبول رواية أحمد عن أبيه مشروطة بكونها عن "يونس بن يزيد" وهذا منتف هنا، فإن السند من رواية شبيب عن روح.
ومما يدل على أن هذه الرواية ليست بمحفوظة: أنه تارة يذكر القصة، وتارة يهملها كما عند البيهقي في الدلائل6/167ـ168 بالوجهين. وعند شيخه الحاكم في المستدرك 1/526 بالوجه الثاني وكذا عند ابن السني في عمل اليوم والليلة ص 170. وقد رواه الحاكم في مستدركه من طريق: عون بن عمارة البصري ثنا روح بن القاسم عن أبي جعفر الخطمي عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن عمه عثمان..به بدون ذكر القصة وهذا هو المحفوظ(41/59)
لموافقته رواية الأثبات.
ص -165-
.........................................................................................................................................
__________
فهذا الاختلاف يوجب رد هذه القصة واطراحها وهذا هو الوجه الثاني من أوجه ردها ـ وسيأتي له مزيد بحث ـ
الوجه الثالث: أن المتفرد بهذه القصة "شبيبا" قد خالف الثقات الأثبات الذين رووا الحديث مجردا عن القصة في السند والمتن.
قال شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ كما في مجموع الفتاوى 1/268: فرواية شبيب عن روح عن أبي جعفر الخطمي خالفت رواية شعبة وحماد بن سلمة في الإسناد والمتن، فإن في تلك أنه رواه: أبو جعفر عن عمارة بن خزيمة، وفي هذه أنه رواه عن أبي أمامة.
وفي تلك الرواية أنه قال: "فشفعه في، وشفعني فيه" وفي هذه: "وشفعني في نفسي" لكن هذا الإسناد له شاهد آخر من رواية هشام الدستوائي عن أبي جعفر" اهـ.
قوله: "وهذا الإسناد" يشير إلى سند شبيب عن روح. وقد ذكر البيهقي هذه المتابعة في الدلائل6/168 ولم يذكر من فوق هشام الدستوائي حتى يمكن الحكم على هذه المتابعة، كما أنه لم يذكر لفظ الرواية، إلا أن صنيعه يقضي أن القصة فيها.
لذا قال شيخ الإسلام1/269: قال ـ أي البيهقي : "ورواه أيضا هشام الدستوائي عن أبي جعفر عن أبي أمامة بن سهل عن عمه عثمان بن حنيف" ولم يذكر إسناد هذه الطرق اهـ.
ولا شك أن رواية شعبة وحماد أولى بالقبول من رواية هشام. فضلا عن رواية شبيب الموصوف بضعف الحفظ، المختلف عليه في هذه الرواية.
بقي أن يقال: هناك متابع لأحمد بن شبيب في روايته عن أبيه بذكر القصة، هو: إسماعيل بن شبيب أخو أحمد.
والجواب أن إسماعيل مجهول لا يعرف.
قال الشيخ المحدث محمد ناصر الدين في رسالته "التوسل": أما إسماعيل فلا أعرفه، ولم أجد من ذكره، ولقد أغفلوه حتى لم يذكروه في(41/60)
الرواة عن أبيه" اهـ.
ويضاف إلى هذه العلة: ضعف شبيب في الحفظ.
ص -166-
بل قد قال بعضهم: إن إمارات الوضع لائحة عليه، فكيف يعارض جميع كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعمل أصحابه رضوان الله تعالى عليهم أجمعين؟ وهل سمعت أحدا منهم جاء إليه بعد وفاته إلى قبره الشريف فطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله، وهم حريصون على مثل هذه المثوبات، لا سيما والنفوس مولعة بقضاء حوائجها تتشبث بكل ما تقدر عليه، فلو صح عند أحدهم أدنى شيء من ذلك لرأيت أصحابه يتناوبون قبره الشريف في حوائجهم زمرا زمرا، خصوصا في الفتن الكبار1التي جرت بزمنهم وبصدهم على الإسلام والمسلمين، ومثل ذلك تتوفر الدواعي على نقله، ولا وسّع2الله طريقا لم يتسع للصحابة والتابعين وصلحاء علماء الدين. نعم كان ابن عمر رضي الله عنهما يأتي القبر المكرم ويقول: " السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت" ثم ينصرف، وكذلك أنس وغيره، فإذا أرادوا الدعاء استقبلوا القبلة.
ثم اعلم أن هذا الحديث مخالف لعمل الصحابة رضي الله عنهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد".
وأما دعوى هؤلاء الغلاة أن الصحابة استعملوا هذا الدعاء بعد وفاته فإن هذا مما يعلم بالضرورة أنه من الكذب على
__________
1 في طبعة الرياض" الكباب".
2 في طبعة الرياض" ولا يسع".
ص -167-(41/61)
الصحابة رضي الله عنهم، ولو كان هذا الاستعمال صحيحا لتوفرت الهمم والدواعي على نقله، ولما عدل الفاروق إلى التوسل بدعاء العباس، ومعاوية بيزيد بن الأسود الجرشي، ولكان يمكنهم لو كان هذا الحديث صحيحا معروفا عندهم أن يتوسلوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولا يطلبون من العباس أن يدعوا لهم، ومما يوضح لك الأمر أن هذا الحديث غير صحيح أن رواته مختلفون في متنه وسنده، مع أنه لم يذكر في شيء من الكتب المعتمدة، وإنما ذكره مثل البيهقي والطبراني والترمذي وأبي نعيم1، وهؤلاء يذكرون مثل هذه الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة على وجه التنبيه، وقد رأى علماء الإسلام الجهابذة النقاد ظلمات الوضع لائحة عليه فأعرضوا عنه ولم يلتفتوا إليه والله أعلم.
__________
1 في الأصل وطبعة الرياض "أبو نعيم".
ص -168-
فصل
قال الملحد: وفي حاشية العلامة ابن حجر على الإيضاح للنووي ما نصه: " وقد صح في حديث طويل أن الناس أصابهم قحط في زمن عمر، فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله استسق لأمتك، فجاءه في النوم وأخبره أنهم يسقون فكان كذلك" انتهى.
فالجواب أن يقال:
هذا الحديث الذي ذكره هذا الملحد في حاشية ابن حجر على الإيضاح للنووي قد رواه البيهقي وابن أبي شيبة عن بلال بن الحارث1وليس فيه دلالة على جواز دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، والتوسل به، والإلتجاء إليه، والإستغاثة به بل هو من جنس المنامات التي لا يعتمد عليها في الأحكام، ولا يثبت بها حكم شرعي.
__________
1 رواية البيهقي وابن أبي شيبة عن رجل لم يسم، كما يتضح من كلام المؤلف الذي ذكره عقب كلام الحافظ ابن حجر، فلعل قوله هنا: "عن بلال بن الحارث" سبق قلم والله أعلم.
ص -169-(41/62)
وأيضا ففي هذا الحديث مقال مشهور، قال الحافظ في الفتح1: وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح من رواية أبي صالح السمان عن مالك الدار2 - وكان خازن عمر رضي الله عنه - قال: "أصاب الناس قحط في زمن عمر رضي الله عنه، فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه سلم في المنام، فقيل له إئت عمر" الحديث، وقد روى سيف في الفتوح أن الذي رأى في المنام المذكور هو بلا بن الحارث المزني أحد الصحابة انتهى3.
__________
1 جـ2/495.
2 في الأصل وطبعة الرياض"الواري" تبعا للفتح، وما أثبته من التاريخ الكبير للبخاري رحمه الله 7/304.
3 هذا الحديث بدون زيادة سيف بن عمر أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه كتاب الفضائل 12/31ـ32: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن مالك الدار قال وكان خازن عمر على الطعام، قال: أصاب الناس قحط في زمن عمر، فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله استسق لأمتك فإنهم قد هلكوا، فأتي الرجل في المنام فقيل له: ائت عمر فأقرئه السلام، وأخبره أنكم مستقيون، وقل له: عليك الكيس! عليك الكيس! فأتى عمر فأخبره فبكى عمر ثم قال: يا رب لا آلو إلا ما عجزت عنه.
وأخرجه الحافظ البيهقي كما في البداية والنهاية لابن الكثير7/101: أخبرنا أبو نصر ابن قتادة وأبو بكر الفارس قالا: حدثنا أبو عمر بن مطر حدثنا إبراهيم بن علي الذهلي حدثنا يحيى بن يحيى حدثنا معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن مالك قال: أصاب الناس قحط في زمن عمر بن الخطاب فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله استسق الله لأمتك فإنهم قد هلكوا، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقال: "إئت عمر فأقره مني السلام، وأخبرهم أنه مسقون.." قال الحافظ ابن كثير بعد سياقه =
ص -170-(41/63)
.........................................................................................................................................
__________
للحديث بسنده: وهذا إسناد صحيح اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح2/495: "وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح من رواية أبي صالح السمان عن مالك الدار ـ وكان خازن عمر ـ قال "أصاب الناس ..." فذكره اهـ.
وقد أعل الحديث بعلل منها: تدليس الأعمش.
وهذه العلة عليلة وذلك؛ لأن الأعمش وإن كان مدلسا فإن شيخه في هذا السند أبو صالح ذكوان بن عبد الله وقد قال الإمام الذهبي رحمه الله في الميزان في ترجمة الأعمش: "قلت: وهو يدلس، وربما دلس عن ضعيف، ولا يدري به، فمتى قال: حدثنا، فلا كلام، ومتى قال: عن، تطرق إليه احتمال التدليس، إلا في شيوخ له أكثر عنهم: كإبراهيم، وأبي وائل، وأبي صالح السمان، فإن روايته عن هذا الصنف محمولة على الاتصال" اهـ، وقد ذكره الحافظ ابن حجر في الطبقة الثانية من طبقات المدلسين، وهم الذين احتمل الأئمة تدليسهم، إلا أننا لا نسلم بهذا في الأعمش مطلقا، بل إن كلام الذهبي فيه أعدل.
العلة الثانية: جهالة مالك الدار ـ خازن عمر ـ فقد ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل8/213 وبيض له. وذكر عن أبيه: أن أبا صالح السمان روى عنه.
وكذا ذكره البخاري في التاريخ7/304 وبيض له وساق حديثه هذا.
وقال الهيثمي في المجمع3/125: "....ومالك الدار لم أعرفه ..." وقال المنذري في الترغيب والترهيب2/42 ط المنبرية: "...ومالك الدار لا أعرفه...".
قلت: وقد روى عنه غير أبي صالح السمان. ففي الطبراني 20/33 رواية عبد الرحمن بن سعيد بن يربوع عن مالك الدار.
وقد أشار الحافظ ابن حجر في التهذيب6/187 إلى أن عبد الرحمن بن سعيد من الرواة عن مالك الدار.
فارتفعت جهالة العين عنه بذلك كما هو مذهب جماعة من المحدثين. =
ص -171-(41/64)
.........................................................................................................................................
__________
= وفي هذه العلة نظر وذلك: لأن مالك الدار قد ائتمنه عمر على الخزانة، ولا يضع عمر في هذا المنصب إلا من عرفت عدالته.
العلة الثانية: أن الرجل الذي جاء إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم مجهول لا يعرف، فكيف يعول في هذه القضية العظيمة على روايته!! ويؤصل هذا الأصل المتعلق بأهم العبادات على حادثته! لا شك أن الاعتماد على هذه الواقعة ضرب من الجنون والهوس. هذا إذا سلمنا جدلا عدم وجود المخالف له. فكيف وقد خالفه الإجماع المنعقد على مقتضى النصوص الواردة فيما يشرع عند وجود القحط من استغفار الله تعالى والاستقامة على طريقه، والإيمان والتقوى، وتحكيم الشرع.
وقد اعترض على هذه العلة القوية باعتراض هو:- أن الرجل المذكور صحابي يدعى: بلال بن الحارث المزني كما صرحت بذلك بعض روايات هذا الحديث.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح2/496: وقد روى سيف في "الفتوح" أن الذي رأى المنام المذكور هو: بلال بن الحارث المزني أحد الصحابة اهـ.
والجواب: أن هذه الرواية باطلة لا يحل الاستشهاد بها. وذلك لأن سيف بن عمر المتفرد بهذه الزيادة ضعيف باتفافهم، بل قيل: إنه كان يضع الحديث، وقد اتهم بالزندقة "الميزان للحافظ الذهبي2/256".
ثم لو سلمنا جدلا صحة هذه الزيادة فلا حجة فيها؛ لأنها فعل صحابي خالف الأدلة، وعارضه فعل الصحابة.
أما مخالفته للأدلة من الكتاب والسنة فظاهر، وأما مخالفته لفعل الصحابة فقد ثبت عن عمر أنه قال:اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، اللهم إنا نتوسل إليك بعم نبينا فأسقنا، فيسقون.
فإن قيل: إن وجه الاحتجاج بهذه القصة عدم إنكار عمر على ذلك الرجل مجيئه إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم.
ص -172-(41/65)
.........................................................................................................................................
__________
= قيل: من أين لكم أنه أخبر عمر بهذا الاستسقاء؟ فالروايات التي بين أيدينا ليس فيها إلا الإخبار بالرؤيا. فمن زعم غير ذلك فعليه الإثبات.
وقد رأيت جوابا لبعضهم يقول فيه: " وأما أخباره عمر، فلا نسلم أنه أخبره باستسقائه بالرسول صلى الله عليه وسلم، ولعله أخبره بالرؤيا فقط، أو ببعضها وهو قوله: "قل له عليك الكيس الكيس" والفعل الماضي في الإثبات بلسان العرب بمنزلة النكرة في الإثبات، فكما لا يعم قولنا: حصل منا إخبار، كذلك لا يعمم قولنا: أخبرنا. ولئن سلمنا إخباره عمر بالواقعة كلها فلا نسلم أن عمر أقرّه، إذ يحتمل أنه أنكره ولم ينقل، وعدم العلم ليس علما بالعدم ...إلخ اهـ.
العلة الرابعة:
أن هذه القصة منكرة المتن، لمخالفتها ما ثبت في الشرع من استحباب إقامة صلاة الاستسقاء في مثل هذه المجالات. ولمخالفتها ما اشتهر وتواتر عن الصحابة والتابعين، إذ ما جاء عنهم أنهم كانوا يرجعون إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو قبر غيره من الأموات عند نزول النوازل واشتداد القحط يستدفعونها بهم وبدعائهم وشفاعتهم. بل كانوا يرجعون إلى الله واستغفاره وعبادته، وإلى التوبة النصوح، قال تعالى: {وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقً} وقال تعالى: {وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ...}.
وفي كتاب المعرفة والتاريخ ليعقوب بن سفيان 2/280 بإسناد صححه الحافظ ابن حجر في الإصابة10/382 عن سليم بن عامر الخبائري قال: إن(41/66)
السماء قحطت، فخرج معاوية وأهل دمشق يستسقون، فلما قعد معاوية على المنبر قال: أين يزيد بن الأسود الجرشي؟ فناداه الناس، فأقبل يتخطى الناس، فأمره معاوية فصعد على المنبر، فقعد عند رجليه، فقال معاوية: "اللهم إنا نستشفع إليك اليوم بخيرنا وأفضلنا، اللهم إنا نستشفع=
ص -173-
فعلم أن ما روي بإسناد صحيح ليس فيه أن الجائي أحد الصحابة، وما فيه أن الجائي أحد الصحابة ضعيف غاية الضعف، قال الذهبي في الميزان: سيف بن عمر الضبي1 الأسدي، ويقال التميمي البرجمي، ويقال السعدي الكوفي(41/67)
__________
= إليك اليوم بيزيد بن الأسود الجرشي، يا يزيد ارفع يدك إلى الله، فرفع يديه، ورفع الناس أيديهم، فما كان أوشك أن فارت سحابة في الغرب كأنها ترس، وهبت لها ريح، فسقتنا حتى كاد الناس أن لا يبلغوا منازلهم".
وأبلغ من هذا فعل عمر بن الخطاب الذي كان بجوار قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيعدل عنه إلى التوسل بالعباس لكونه حيا قادرا...
وهذا الأثر ضعفه ونكارته، قد خالف هذه الوقائع الصحيحة الثابتة عن خير القرون بأجمعهم. فلو كان ما تضمنه هذا الأثر صحيحا لفعلوه ولو مرة لبيان الجواز، ومن المعلوم أن المضطر يتعلق بأدنى ما يجده لكشف ضره، فلما لم يفعلوا ذلك مع وجود الدافع تبين بطلان هذا الأثر وسقوطه.
قال شيخنا العلامة البارع المحقق الجليل عبد العزيز بن باز في تعليقه على فتح الباري2/495:
هذا الأثر ـ على فرض صحته كما قال الشارح ـ ليس بحجة على جواز الاستسقاء بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته؛ لأن السائل مجهول، ولأن عمل الصحابة رضي الله عنهم على خلافه، وهم أعلم الناس بالشرع، ولم يأت أحد منهم إلى قبره يسأله السقيا ولا غيرها، بل عدل عمر عنه لما وقع الجدب إلى الاستسقاء بالعباس، ولم ينكر ذلك عليه أحد من الصحابة، فعلم أن ذلك هو الحق، وأن ما فعله هذا الرجل منكر ووسيلة إلى الشرك، بل قد جعله بعض أهل العلم من أنواع الشرك...إلخ" اهـ كلامه رحمه الله تعالى ومتّع به على طاعته.
1 أي الأصل وطبعة الرياض "الضبعي" وأما أثبته من الميزان 2/255ـ256.
ص -174-(41/68)
مصنف الفتوح والرواة1وغير ذلك هو كالواقدي يروي عن هشام بن عروة، وعبد الله بن عمر، وجابر الجعفي، وخلق كثير من المجهولين، كان أخباريا عارفا، روى عنه جبارة بن المغلس، وأبو معمر القطيعي، والنضر بن حماد العتكي، وجماعة، قال عباس: عن يحيى ضعيف، وروى مطّين عن يحيى فلس2خير منه. وقال أبو داود: ليس بشيء، وقال أبو حاتم: متروك، وقال ابن حبان: اتهم بالزندقة، وقال ابن عدي: عامة حديثه منكر، قال مكحول البيروني3: سمعت جعفر بن أبان، سمعت ابن نمير يقول: سيف الضبي4تميمي كان جميع يقول: حدثني رجل من بني تميم، كان سيف يضع الحديث، وقد اتهم بالزندقة انتهى ملخصا.
قال الحافظ في التقريب: سيف بن عمر التميمي صاحب الردة، ويقال له الضبي، ويقال غير ذلك الكوفي، ضعيف في الحديث، عمدة في الأخبار أفحش ابن حبان القول فيه انتهى.
وقال الذهبي في الكاشف: قال ابن معين وغيره ضعيف،
__________
1 كذا في الأصل، وطبعة الرياض، وفي الميزان للذهبي2/255 "الردة".
2 في الأصل وطبعة الرياض "عبادة المفلس" وما أثبته من الميزان وهو الصواب.
3 في الأصل وطبعة الرياض "فليس" وما أثبته" من الميزان.
4 في الأصل وطبعة الرياض "البيروني".
ص -175-(41/69)
وقال في الخلاصة: سيف بن عمر1الأسدي الكوفي، صاحب الردة، عن جابر الجعفي، وأبي الزبير، وعنه محمد بن عيسى الطباع، وأبو معمر الهذلي ضعفوه انتهى.
فهذا ما قيل في حديث بلال بن الحارث الذي رواه البيهقي وابن أبي شيبة2فإن كان الذي رواه الحافظ في الفتح وعلى الإيضاح للنووي ففيه ما قال الحافظ من المقال آنفا وإن كان غير ذلك فغاية ما فيه أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وهو يأمر أن يأتي عمر فيأمره أن يخرج يستسقي بالناس وهذا ليس من هذا الباب الذي نحن بصدد الكلام فيه فإن هذا قد يقع كثيرا لمن هو دون النبي صلى الله عليه وسلم.
قال شيخ الإسلام: وأيضا ما يروي أن رجلا جاء إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فشكى إليه الجدب عام الرمادة فرآه وهو يأمره أن يأتي عمر فيأمره أن يخرج يستسقي بالناس فإن هذا ليس من هذا الباب ومثل هذا يقع كثيرا لمن هو دون النبي صلى الله عليه وسلم وأعرف من هذا وقائع وكذلك سؤال بعضهم للنبي صلى الله عليه وسلم أو لغيره من أمته حاجة فتقضي له فإن هذا قد وقع كثيرا وليس مما نحن فيه
__________
1 في الأصل و ط الرياض "بن تميم" وما أثبته من الخلاصة للخزرجي ص136 "ط الخيرية بمصر، 1322هـ".
2 رواية البيهقي وابن أبي شيبة ليس فيها أن الجائي هو الحارث بن بلال، فإن سيف بن عمر الضبي هو الذي ذكر الصحابي "الحارث بن بلال" وقد تقدم بسط هذا.
ص -176-(41/70)
وعليك أن تعلم أن إجابة النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره لهؤلاء السائلين ليس هو مما يدل على استحباب السؤال فإنه هو القائل صلى الله عليه وسلم إن أحدهم ليسألني المسألة فأعطيه إياها فيخرج يتأبطها نارا فقالوا يا رسول الله فلم تعطيهم؟ قال: يأبون إلا أن يسألوني ويأبى الله لي البخل وأكثر هؤلاء السائلين الملحين لما هم فيه من الحال لو لم يجابوا لاضطرب إيمانهم كما أن السائلين في الحياة كانوا كذلك وفيهم من أجيب وأمر بالخروج من المدينة فهذا القدر إذا وقع يكون كرامة لصاحب القبر أما أنه يدل على حسن حال السائل فلا فرق بين هذا وهذا انتهى.
وهذا الحديث على تقدير ثبوت صحته لا يدل على ما يتوهمه هذا الملحد غاية ما فيه أن سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يستسقي لأمته فأمره أن يأتي عمر فيأمره أن يخرج يستسقي بالناس فكان المستسقي بالناس عمر لا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبين من هذا أنه لا تطلب السقيا إلا من الحي بدعائه لا من الميت لأمره صلى الله عليه وسلم بذلك وخروج عمر بالصحابة يستسقون فسقوا والله أعلم.
ص -177-(41/71)
فصل
قال الملحد: "وأخرج البيهقي، والحاكم، والطبراني في الصغير، وأبو نعيم، وابن عساكر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما اقترف آدم الخطيئة، قال يا رب أسألك بحق محمد لما غفر لي" فقال الله: يا آدم وكيف عرفت محمدا؟ قال: لأنك يا رب لما خلقتني بيدك، ونفخت في من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوبا "لا إله إلا الله، محمد رسول الله" فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك، فقال الله تعالى: صدقت يا آدم إنه لأحب الخلق إلي، وإذ سألتني بحقه قد غفرت لك، ولولا محمد ما خلقتك".
والجواب أن يقال: هذا حديث ضعيف بل موضوع، فلا يعتمد عليه ولا يعول عليه، قال الذهبي في الميزان: عبد الله بن مسلم أبو الحارث الفهري، عن إسماعيل بن مسلمة بن قعنب عن عبد الله بن زيد بن أسلم1 خبرا
__________
1 وقع في الميزان2/504 "سلم" وهو خطأ.
ص -178-(41/72)
باطلا فيه يا آدم لولا محمد ما خلقناك رواه البيهقي في "دلائل النبوة".
قال في "مجمع الزوائد" رواه الطبراني في الأوسط والصغير، وفيه من لا أعرفهم، انتهى.
وذكر الحافظ ابن عبد الهادي عن الإمام مالك رضي الله عنه أنه قال فيه: اذهب إلى عبد الرحمن بن زيد بن أسلم يحدثك عن أبيه عن نوح.
وقال الربيع بن سليمان: سمعت الشافعي يقول: سأل رجل عبد الرحمن بن زيد بن أسلم حدثك أبوك عن أبيه عن جده أن سفينة نوح طافت بالبيت، وصلت ركعتين؟ قال: نعم.
وقال ابن خزيمة عبد الرحمن بن زيد ليس ممن يحتج أهل العلم بحديثه.
وقال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني: حدث عن أبيه لا شيء.
وقال أيضا في الصارم المنكي: وإني أتعجب منه كيف قلد الحاكم فيما صححه من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم الذي رواه في التوسل، وفيه قول الله لآدم: "ولولا محمد ما خلقناك" مع أنه حديث غير صحيح ولا ثابت بل هو ضعيف الإسناد جدا، وقد حكم عليه بعض الأئمة بالوضع، وليس إسناده من الحاكم إلى عبد الرحمن بن زيد
ص -179-(41/73)
صحيحا بل هو مفتعل على عبد الرحمن كما سنبينه، ولو كان صحيحا إلى عبد الرحمن لكان ضعيفا غير محتج به، لأن عبد الرحمن في طريقه. وقد أخطأ الحاكم في تصحيحه، وتناقض تناقضا فاحشا كما عرف له ذلك في غير موضع، فإنه قال في كتاب " الضعفاء" بعد أن ذكر عبد الرحمن منهم، وقال: ما حكيت عنه فيما تقدم أنه روى عن أبيه أحاديث موضوعة لا تخفى على من تأملها من أهل الصنعة، أن الحمل فيها عليه.
قال في آخر الكتاب: فهؤلاء الذين قدمت ذكرهم قد ظهر عندي جرحهم، لأن الجرح لا يثبت إلا ببينة، فهم الذين أبين جرحهم لمن طالبني به، فإن الجرح لا استحله تقليدا، والذي أختاره لصاحب هذا الشأن أن لا يكتب حديثا واحدا من هؤلاء الذين سميتهم، فالراوي لحديثهم داخل في قوله صلى الله عليه وسلم: "من حدث بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين" هذا كله كلام الحاكم أبي عبد الله صاحب المستدرك، وهو متضمن أن عبد الرحمن بن زيد قد ظهر له جرحه بالدليل، وأن الراوي لحديثه داخل في قوله صلى الله عليه وسلم: "من حدث بحديث وهو يرى1 أنه كذب فهو أحد الكاذبين" انتهى.
__________
1 في الأصل، وطبعة الرياض "يروى" قال النووي في شرح مسلم على قوله "يرى" ضبطناه "يُرى" بضم الياء "والكاذبين" بكسر الباء، وفتح النون على الجمع، وهذا هو المشهور في اللفظتين.
ثم ذكر النووي وجها آخر بفتح الباء وكسر النون على التثنية. ثم قال:- =
ص -180-(41/74)
فتبين من كلام العلماء حملة السنة، وأهل الجرح والتعديل الذين حفظ الله بهم الدين عن تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الزائفين أن هذا الحديث موضوع مكذوب لا يعتمد عليه، وأقل أحواله أن يكون ضعيفا، ولا نقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا لا نجزم بصحته وثبوته، وإن كان قد صححه الحاكم فالجرح1مقدم على التعديل، مع أنه قد قال في عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ما قال2، فنأخذ بقوله مع أقوال أئمة هذا الشأن، ولا نأخذ بغلطه وخطئه فيما أخطأ فيه3.
__________
= وذكر بعض الأئمة جواز فتح الباء من "يرى" وهو ظاهر حسن، فأما من ضم الياء فمعناه يظن. وأما من فتحها فظاهر ومعناه وهو يعلم ...إلخ اهـ 1/64.
1 في طبعة الرياض "الجراح".
2 ويضاف إلى ذلك إن الحاكم رحمه الله تعالى متساهل في التصحيح غاية التساهل ..والحديث الذي بين عينيك من أوضح الأدلة على ذلك. لاسيما في كتابه "المستدرك" قال الذهبي في "التذكرة" مترجما للحاكم: "...ولا ريب أن في المستدرك أحاديث كثيرة ليست على شرط الصحة بل فيه أحاديث موضوعة شان المستدرك بإخراجها فيه..." ثم قال الذهبي: "...وليته لم يصنف المستدرك فإنه غضّ من فضائله بسوء تصرفه".
وذكر شيخ الإسلام أبو العباس بن تيمية كلاما حسنا بديعا عن تصحيح الحاكم في المجلد الثاني والعشرين من مجموع الفتاوى قال في آخره: "...وكثيرا ما يصحح الحاكم أحاديث يجزم بأنها موضوعة لا أصل لها ..."
3 قال شيخ الإسلام مبينا وضع هذا الحديث في ردّه على البكري: =
ص -181-(41/75)
إذ عرفت هذا وتحققته فالصحيح المأثور عن أئمة التفسير على قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة37] أن هذه الكلمات هي المفسرة بقوله تعالى: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف23] وهذا مروي عن سعيد بن جبير، ومجاهد، وأبي العالية، والربيع بن أنس، والحسن، وقتادة، ومحمد بن كعب القرظي، وخالد بن معدان، وعطاء الخراساني، وعبد الرحمن بن زيد.
وعن ابن عباس قال علم شأن الحج. وعبيد بن عمير أنه قال: قال آدم: "يا رب خطيئتي التي أخطأت شيء كتبته علي قبل أن تخلقني، أو شيء ابتدعته من قبل نفسي"؟ قال: بل كتبته علي قبل أن تخلقني، أو شيء ابتدعته من قبل نفسي؟ قال: بل كتبته عليك قبل أن أخلقك قال فكما كتبته علي فاغفر لي قال: فذلك قوله:{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} [البقرة37].
وعن ابن عباس قال آدم عليه السلام: ألم تخلقني بيدك؟ قيل له بلى. ونفخت في من روحك؟ قيل بلي وعطست،
__________
= "...وأيضا فلو كان آدم قد قال هذا لكانت أمة محمد أحق به منه، بل كان الأنبياء من ذريته أحق به، وقد علم كل عالم بالآثار أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر أمته به، ولا نقل عن أحد من الصحابة الأخبار، ولا نقله أحد من العلماء الأبرار.
فعلم أنه من أكاذيب أهل الوضع والاختلاق الذين وضعوا من الكذب أكثر مما بأيدي المسلمين من التصحيح لكن الله فرق بين الحق والباطل بأهل النقد العارفين بالنقل علماء التعديل والجرح" اهـ ص 12.
ص -182-(41/76)
فقلت: يرحمك الله وسبق رحمتك غضبك؟ قيل: بل. وكتبت علي أن أعمل هذا؟ قيل له: بلى. قال: أفرأيت إن تبت هل أنت راجعي إلى الجنة؟ قال: نعم. وكذا رواه العوفي، وسعيد بن جبير، وسعيد بن معبد. ورواه الحاكم في مستدركه إلى ابن عباس. وروى ابن أبي حاتم حدثنا مرفوعا شبيها بهذا.
وعن مجاهد قال: الكلمات "اللهم لا إله إلا أنت، سبحانك وبحمدك، رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك خير الغافرين، اللهم لا إله إلا أنت، سبحانك وبحمدك، إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك خير الراحمين، اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمك، رب إني ظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم" هذا ما عليه المفسرون، لا ما قاله هذا الأحمق، فإن بعض من لا بصيرة له قد ذكره فالحجة فيما ثبت عن الصحابة، وعن سلف الأمة، وأئمتها، ولا يجوز تفسير القرآن بأقوال شاذة، أو موضوعة لا تثبت عند أهل العلم والحديث وأئمة التصحيح والترجيح انتهى.
وأما قول هذا الملحد: "قال في المواهب اللدنية: روي أنه لما خرج آدم من الجنة رأى مكتوبا على ساق العرش، وعلى كل موضع في الجنة اسم محمد صلى الله عليه وسلم مقرونا باسمه تعالى، فقال: يا رب هذا محمد من هو؟ قال الله: هذا ولدك الذي لولاه ما خلقتك. فقال: يا رب بحرمة هذا الولد ارحم هذا الوالد. فنودي يا آدم لو تشفعت إلينا بمحمد
ص -183-
في أهل السموات والأرض لشفعناك".
فالجواب أن نقول: هذا من نمط ما قبله من الموضوعات المكذوبات التي لا أصل لها في الكتاب والسنة، ولا رواها أحد ممن يعتمد عليه من الأئمة، فلا يلتفت إليه، ولا يعول في الحكم عليه، والله أعلم.
وأما قوله: "ولله در من قال:
وكان لدى الفردوس في زمن الصبا
أثواب شمل الأنس محكمة السدى
يشاهد في "عدن" ضياء مشعشعا
يزيد على الأنوار في الضوء والهدى
فقال: إلهي ما الضياء الذي أرى
جنود السماء تعشو إليه ترددا
فقال: نبي خير من طئ الثرى
وأفضل من في الخير راح أو اغتدى(41/77)
تخيرته من قبل خلقك سيدا
وألبسته قبل النبيين سؤددا
وأعددته يوم القيامة شافعا
مطاعا إذا ما الغير حاد وحيدا
فيشفع في إنقاذ كل موحد
ويدخله جنات عدن مخلدا
ص -184-
وإن له أسماء سميته بها
ولكنني أحببت منها "محمدا"
فقال: إلهي امنن علي بتوبة
تكون على غسل الخطيئة مُسعدا
بحرمة هذا الاسم والزلفة التي
خصصت بها دون الخليقة "أحمدا"
أقلني عثاري يا إلهي فإن لي
عدوا لعينا جار في القصد واعتدا
فتاب عليه ربه وحماه من
جناية ما أخطاه لا متعمدا
والجواب ومن الله أستمد الصواب:
أقول لعمري ما لهذا حقيقة
ولو صح هذا القول أو كان مسندا
لما طعن الحفاظ فيه وأوهنوا
أسانيده حتى غدا واهيا سدا
ولو صح هذا في فضائل "أحمد"
لكان به الحفاظ أولى وأسعدا
فما كان في الفردوس آدم في الصبا
يشاهد في عدن ضياءا ممددا
يزيد على الأنوار نور ضيائه
جنود السماء تعشو إليه ترددا
ص -185-
فقال: نبي خير من وطئ الثرى
وأفضل من في الخير راح واغتدى
فلم ير في الفردوس هذا ولم يقل
إلهي ما هذا الضياء الذي بدا
نعم كان في المعلوم أن نبينا
محمد المعصوم قد كان أوحدا
فليس له في الخلق حتما مما ثلا
يماثله في الفضل والجود والندا
ولكنه ما قيل هذا لآدم
فننفي الذي ما قيل والفضل قد بدا
ولا قال في الفردوس يوما لآدم
تخيرته من قبل خلقك سيدا
وأعددته يوم القيامة شافعا
وألبسته قبل النبيين سؤددا
ولا قال في الفردوس يوما لآدم
يخاطبه فيها خطابا مؤكدا
وإن له أسماء سميته بها
ولكنني أحببت منها محمدا
فقال إلهي أمنن علي بتوبة
تكون على غسل الخطيئة مسعدا
بحرمة هذا الاسم والزلفة التي
خصصت بها دون الخليقة أحمدا
ص -186-
فكل الذي قد قال ما صح نقله
ولا قيل في الفردوس هذا ولا بدا
وسيدنا المعصوم أفضل خلقه
ولا شك في هذا الذي من تسودا(41/78)
فكان لعمري سيدا ذا جلالة
ببعثته زال الظلام وأبعدا
ومات ودين الله للناس واضح
ومهيعة قد كان نهجا معبدا
وغادر في أتباعه النور فاهتدى
فكانوا على هذا الضياء وفي الهدى
فكان لهم يوم القيامة شافعا
لإخلاصهم في الدين إذ كان أحمدا
وأعداؤه في ظلمة الكفر والهوى
قد انهمكوا في الغي والجهل والردى
فليس لهم يوم القيامة شافعا
لإشراكهم جهلا وإلا تعمدا
فدع ذا ولا يغررك ألوان وشيه
فليت لعمرو الله محكمة السدى
فذاك من الموضوع إذ كان لم يكن
رواه عن الأعلام من كان سيدا
فسيدنا المعصوم أكمل خلقه
وأكرمهم بيتا ونفسا ومحتدا
ص -187-
وإن له فضلا عن الناس كلهم
يزيد على هاذي الأقاويل مسندا
رواه عن المعصوم حفاظ دينه
ومنهم به كانوا أحق وأسعدا
وأعظم مما قاله الكسم والذي
روى عنه المعصوم درا منضدا
ففيما روى الحفاظ في حق أحمد
من الفضل ما يغني أولي الدين والهدى
عن الكذب الموضوع والحق واضح
وإن ير ذا الحق من كان أرمدا
وخال سفاها أن ما قال فرية
مجاوزة للحد أهدى وأرشدا
لعمري لقد أخطأ من الحق مهيعا
سويا سميا مستقيما ممهدا
وأم طريقا مظلما غير ناصع
ولا مستقيم قد غلا فيه واعتدا
لعمري لقد أعطاه ربي فضائلا
وخص بها الرحمن فضلا محمدا
فأعطى لواء الحمد والكوثر الذي
حباه إله العرش حقا وأصعدا
وإن له حوضا هنيئا شرابه
به يشرب السني كأسا منددا
ص -188-
وأحلى من الشهد المصفي عذوبة
وعنه ينحى من عتا وتمردا
ويشفع في يوم القيامة للورى
ليحكم بين الخلق ذو العرش بالهدى
ويقعده فوق عرشه
كما جاء هذا في الأحاديث مسندا
فيغبطه كل الخلائق جملةسبحانه
بما قد حباه الله فضلا واصعدا
وقد خصه المولى بما لم نحط به
ونحصيه علما أو حسابا محددا
فدع عنك ما قال الغلاة وإن رووا
بذلك أخبارا ودرا منضدا
فأخبارهم موضوعة ونظامهم(41/79)
لعمري إلهي باطل واهي السدى
ص -189-
فصل
قال الملحد: "وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من خرج من بيته إلى الصلاة فقال: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، وأسألك بحق ممشاي هذا، إني لم أخرج أشرا، ولا بطرا، ولا رياء، ولا سمعة، وإنما خرجت اتقاء سخطك، وابتغاء مرضاتك، فأسألك أن تعيذني من النار، وأن تغفر لي ذنوبي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. أقبل الله عليه بوجهه، واستغفر له سبعون ألف ملك" رواه ابن ماجة ورواه ابن السني بإسناد صحيح عن بلال".
والجواب أن يقال: هذا الحديث ضعيف رواه عطية العوفي وفيه ضعف.
قال شيخ الإسلام: ولكن بتقدير ثبوته هو من هذا الباب، فإن حق السائلين عليه سبحانه أن يجيبهم، وحق المطيعين له أن يثيبهم، فالسؤال له، والطاعة له سبب لحصول إجابته وإثابته، فهو من التوسل به، والتوجه، والتسبب به، ولو قدر أنه قسم لكان قسما بما هو من صفاته، فإن إجابته وإثابته
ص -190-(41/80)
من أفعاله وأقواله، فصار هذا كقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح "أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك"1.
والاستعاذة لا تصح بمخلوق، كما نص عليه الإمام أحمد وغيره من الأئمة إلى آخر كلامه رحمه الله.
فتبين من كلام الشيخ أن السؤال بحق السائلين هو إجابتهم، وسؤاله بحق الطائعين إثابتهم، فيكون السائل بهذين سائلا بصفات الله، فإن الإجابة والإثابة من أفعاله وأقواله سبحانه وتعالى، وسؤال الله بأسمائه وصفاته والتوسل بها ثابت بالكتاب والسنة قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}[الأعراف180] وفي الحديث عن عبد الله بن بريدة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. فقال: "دعا2 الله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب" رواه الترمذي وأبو داود3 إلى غير ذلك من الأحاديث، وكذلك
__________
1 أخرجه مسلم عن عائشة ـ كتاب الصلاة ـ 1/352.
2 في طبعة الرياض"ادع".
3 أخرجه أبو داود 2/166عن مسدد حدثنا يحيى عن مالك بن مغول حدثنا عبد الله بن بريدة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول: "اللهم إني أسألك أني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد" فقال: "لقد سألت الله بالاسم الذي إذا=
ص -191-(41/81)
التوسل بالأعمال الصالحة كما ثبت ذلك بالكتاب والسنة، كما روي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بينما ثلاثة نفر يتماشون أخذهم المطر، فمالوا إلى غار في الجبل، فانحطت على فم غارهم صخرة من الجبل فأطبقت عليهم، فقال بعضهم لبعض: انظروا أعمالا عملتموها لله صالحة فادعوا الله بها لعله يفرجها" الحديث متفق عليه.
فليس في حديث أبي سعيد الخدري ما يدل على ما ادعوه من التوسل بذوات الأنبياء والأولياء والصالحين، فضلا عن دعائهم والاستغاثة بهم والإلتجاء إليهم وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وأما قوله: "ومما جاء عنه صلى الله عليه وسلم من التوسل قوله: "اغفر لأمي فاطمة بنت أسد" ووسع عليها مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي" إلى آخره.
__________
= سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب".
حدثنا عبد الرحمن بن خالد الرقي حدثنا زيد بن الحباب حدثنا مالك بن مغول ـ بهذا الحديث ـ قال فيه: "لقد سأل الله عز وجل باسمه الأعظم"، وأخرجه الترمذي في الدعوات من جامعه5/515 من جهة زيد بن الحباب عن زهير بن معاوية عن مالك..به بلفظ أبي داود الثاني إلا أنه قال: "والذي نفسي بيده لقد سأل الله باسم الأعظم ..."
وأخرجه ابن ماجة 2/1267 من جهة مالك ..به وفيه "اللهم إني أسألك بأنك أنت الله الأحد الصمد..." وبهذا اللفظ أخرجه أحمد 5/360.
ص -192-(41/82)
فالجواب أن هذا من نمط ما قبله، وقد تقدم الكلام على جنسه، وفي سند روح بن صلاح المصري ضعفه ابن عدي، وتصحيح الحاكم لن1 يجدي شيئا2، وقد تقدم عن أهل العلم أنه لما جمع المستدرك على الشيخين ذكر فيه من الأحاديث الضعيفة والمنكرة بل والموضوعة جملة كثيرة، وقد روى فيه لجماعة من المجروحين في كتابه في الضعفاء انتهى.
وأما رواية الطبراني له، فيقال لهذا الملحد: كم في الطبراني من حديث يخالف هذا ويدل على وجوب التوسل بأسماء الله تعالى وصفاته وإنابة الوجوه إليه؟ فما أعمى عينك عنها! هل هناك شيء أعماها سوى الجهل والهوى؟ وقد تكلم
__________
1 في الأصل، وطبعة الرياض "لان".
2 هذا الحديث رواه الطبراني في الكبير 24/351-352، والأوسط من جهة روح بن صلاح ثنا سفيان الثوري عن عاصم الأحول عن أنس قال: لما ماتت فاطمة بنت أسد أم علي بن أبي طالب دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس عند رأسها فقال: "رحمك الله يا أمي ..." وذكر القصة.
قال الطبراني: لم يروه عن عاصم إلا الثوري، تفرد به روح بن صلاح اهـ.
وقال الهيثمي في المجمع9/257 : "وفيه روح بن صلاح وثقه ابن حبان والحاكم وفيه ضعف، وبقية رجاله رجال الصحيح" اهـ.
فتبين أن الحديث معلول بروح ولا عبرة بتوثيق ابن حبان والحاكم لما علم من تساهلهما لذا عقب الهيثمي كلامهما بحكمه في الرجل فقال: "وفيه ضعف" وإضافة إلى ضعفه فإن قد تفرد به من بين أصحاب الثوري.
ص -193-(41/83)
في هذا الحديث غير واحد.
وقال شيخ الإسلام: قد بالغت في البحث والاستقصاء فما وجدت أحدا قال بجوازه، إلا ابن عبد السلام في حق نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام، أترى هذا الحديث خفي على علماء الأمة لم يعلموا ما دل عليه، ثم لو سلمنا صحته أو حسنه ففيه ما مر في حديث الأعمى أن المراد بدعاء نبيك إلى آخره، وأي وسيلة بذوات الأنبياء لمن عصى أمرهم، وخرج عما جاؤوا به من التوحيد والشرع.
قال شيخ الإسلام: فإذ قال الداعي: أسألك بحق فلان وفلان لم يدع له، وهو لم يسأله باتباعه لذلك الشخص أو محبته وطاعته، بل بنفس ذاته، وما جعله له ربه من الكرامة لم يكن قد سأله بسبب يوجب المطلوب انتهى.
ص -194-
فصل
قال الملحد: "وفي الأذكار للنووي ما نصه: روينا في كتاب ابن السني عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا انفلتت دابة أحدكم بأرض فلاة فليناد يا عباد الله احبسوا يا عباد الله احبسوا، فإن لله1عز وجل في الأرض حاضرا سيحبسه".
والجواب أن يقال: هذا حديث فيه مقال، فإن فيه ابن حسان وهو ضعيف قال الذهبي في الميزان2معروف بن حسان أبو معاذ السمرقندي عن عمر3بن ذر قال ابن عدي: منكر الحديث قد روى عن عمر4 بن ذر نسخة طويلة كلها غير محفوظة.
__________
1 في الأصل وطبعة الرياض "الله" وما أثبت من الأذكار للنووي5/150 بشرح ابن علان.
2 في الأصل، وطبعة الرياض : "أو معروف".
3 سقطت "عن" من طبعة الرياض.
4 سقطت "عن" من النسختين، وما أثبت من "الميزان" 4/143.
ص -195-(41/84)
وعلى تقدير صحته إنما يفيد نداء حاضر1، كنداء زيد عمرا مثلا ليمسك دابة أو ليرجعها، أو ليناوله ماء أو طعاما، أو نحو ذلك، وهذا مما لا نزاع فيه، غاية ما في الباب أن عمروا مثلا محسوس، وهؤلاء لا يرون لأنهم إما مسلمو الجن أو ملائكة مكلمون، لا نداء على شيء لا2يقدر عليه إلا الله تعالى. وأين هذا من الاستغاثة بأصحاب القبور من الأولياء والمشايخ؟ والمقصود أنه ليس في الحديث إلا نداء الأحياء والطلب منهم ما يقدر هؤلاء الأحياء عليه وذلك لا ننكره.
وأما قول هذا الملحد: "وأما ما تمسك به الوهابية من قوله لابن عباس: "وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، جف القلم بما أنت لاق، فلو جهدت الخليقة على أن تنفعك لم تنفعك إلا بشيء كتبه الله لك، ولو جهدت على أن تضرك لم تضرك إلا بشيء كتبه الله عليك" فلا يدل على عدم التوسل؛ لأن المتوسل إلى الله برسوله ما سأل إلا الله ولا استعان إلا به، مع اعتقاده بأن النفع والضر صار منه سبحانه وتعالى".
فالجواب أن نقول: نعم هذه كانت حال "الوهابية" فإنهم كانوا يتمسكون بكتاب الله، وبما صح الخبر به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعملون به، ويتركون ما خالف الكتاب والسنة
__________
1 في النسختين "حاظر" .
2 سقطت "لا" من النسختين.
ص -196-(41/85)
ويعملون بما كان عليه سلف الأمة وأئمتها، ولا يحدثون في دين الله ما لم يشرعه الله ورسوله، فهم بخلاف من نبذ كتاب الله وسنة رسوله وراء ظهورهم، واتبعوا ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، ولو جهد أعداء الله ممن خالف الوهابية أن يستدركوا على الوهابية في أصول الدين وفروعه أنهم استدلوا على ما يذهبون إليه بحديث موضوع أو ضعيف لا يصح الاحتجاج به لما وجدوا إلى ذلك سبيلا، فضلا من الله ونعمة والله ذو الفضل العظيم.
وهذا الحديث خرجه الترمذي من حديث حنش الصنعاني عن ابن عباس، وقال حسن صحيح، وخرجه الإمام أحمد من حديث حنش الصنعاني، وقد روى هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة من رواية ابنه علي، ومولاه عكرمة، وعطاء بن أبي رباح وعمر بن دينار، وعبيد الله بن عبد الله، وعمر مولى عفرة، وابن أبي مليكة وغيرهم.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى على هذا الحديث: وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله" هذا منتزع من قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة5] فإن السؤال هو دعاؤه والرغبة إليه، والدعاء هو العبادة كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث النعمان بن بشير وتلا قوله {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر60] خرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي
ص -197-(41/86)
والنسائي وابن ماجه. وخرج الترمذي من حديث أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم: "الداء مخ العبادة" فتضمن هذا الكلام أن يسأل الله عز وجل ولا يسأل غيره، وأن يستعان بالله دون غيره، وأما السؤال فقد أمر الله بسؤاله، فقال: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: آية32] وفي الترمذي عن ابن مسعود مرفوعا: "اسألوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسأل" وفيه أيضا عن أبي هريرة مرفوعا: "من لم يسأل الله يغضب عليه"، وفي حديث آخر: "يسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى يسأل شسعا نعله إذا انقطع".
وفي النهي عن مسألة المخلوقين أحاديث كثيرة صحيحة، وقد بايع النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من أصحابه على أن لا يسألوا الناس شيئا منهم أبو بكر الصديق، وأبو ذر، وثوبان، وكان أحدهم يسقط السوط وخطام ناقته فلا يسأل أحدا أن يناوله إياه، وخرج ابن أبي الدنيا من حديث أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود: "أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن بني فلان أغاروا علي فذهبوا بابني وإبلي" فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن آل محمد كذا وكذا وأهل بيت ما لهم مدّ من طعام أو صاع، فاسأل الله عز وجل"، فرجع إلى امرأته فقالت: ما لك؟ فأخبرها فقالت: نعم ما رد عليك، فما لبث أن رد الله عليه إبله وابنه أوفر ما كانت. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، وأمر الناس بمسألة الله عز وجل والرغبة إليه وقرأ
ص -198-(41/87)
{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق2ـ3].
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن الله عز وجل يقول: "هل من داع فأستجيب له دعاءه؟ هل من سائل فأعطيه سؤله؟ هل من مستغفر فأغفر له"؟ وخرج المحاملي وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: "من ذا الذي دعاني فلم أجبه، ويسألني فلم أعطه، واستغفرني فلم أغفر له، وأنا أرحم الراحمين"؟ انتهى.
وأما قوله: "فلا يدل على عدم التوسل، لأن المتوسل إلى الله برسوله ما سأل إلا الله، ولا استعان إلا به، مع اعتقاده بأن النفع والضر صادر منه سبحانه وتعالى".
فالجواب أن نقول: أما دعواه أن المتوسل إلى الله برسوله ما سأل إلا الله ولا استعان إلا به فمن1أقبح الكلام، وأبطل الباطل، وأمحل المحال، وهو مصادم لقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة5] فإن تقديم المفعول وهو "إياك" وتكريره للاهتمام والحصر، أي لا نعبد إلا إياك، ولا نتوكل إلا عليك، وهذا هو كمال الطاعة، والدين كله يرجع إلى هذين المعنيين، فالأول التبريء من الشرك، والثاني التبريء من الحول والقوة، فقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} أي إياك نوحد، ومعناه أنك تعاهد ربك أن لا تشرك في عبادته أحدا، لا ملكا ولا نبيا
__________
1 في الأصل وطبعة الرياض "من" .
ص -199-(41/88)
ولا غيرهما، فإن السؤال هو دعاؤه والرغبة إليه، والدعاء هو العبادة، وقوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} هذا فيه سؤال الله الإعانة وهو التوكل والتبريء من الحول والقوة، وفرق بين سؤال الله وسؤاله برسوله، ومن قال: إن المتوسل إلى الله برسوله ما سأل إلا الله، ولا استعان إلا به لم يفرق بين الخالق والمخلوق، والمسؤول والسائل، وهذا هو حقيقة مذهب الاتحادية، وكفى بسلوك طريق أهل الوحدة ضلالا وخروجا عن الصراط المستقيم.
وإن كان أراد هذا الملحد أن المتوسل إلى الله برسوله ما سأل ولا استعان إلا بالله، يعني أن المسؤول والمستعان به في الحقيقة هو الله، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فهو واسطة بينه وبين السائل المستعين، فهو سبحانه وتعالى المسؤول المستعان به حقيقة منه بالخلق والإيجاد، والنبي صلى الله عليه وسلم مستعان مسؤول منه بالكسب والتسبب العادي، فإن كان أراد هذا فهذا هو فعل المشركين الذين بعث الله فيهم رسوله صلى الله عليه وسلم، فإنهم كانوا يعلمون أن الله تعالى هو الخالق الموجد النافع الضار، وأما الأصنام وغيرهم من الملائكة والأولياء والصالحين، فيقولون إنها أسباب ووسائل عادية، فمن أجل ذلك كانوا يدعونهم ويستغيثون بهم وينحرون لهم وينذرون لهم، والدعاء والنذر والذبح والاستغاثة والسؤال والاستعانة والاستعاذة كلها من أقسام العبادة، وإذا حملتم لفظ الدعاء والاستغاثة والاستعانة والنحر والنذر التي هي من أقسام العبادة على معناها المجازي، فليحمل لفظ العبادة الواقع في كلام المشركين
ص -200-(41/89)
الصواعق المرسلة الشهابية على الشبه الداحضة الشامية - سليمان بن سحمان (3)
الأولين الذي حكا الله تعالى عنهم حيث قال سبحانه وتعالى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: آية3] فما وجه الفرق وأنى ذلك؟.
فإذا عرفت هذا فاعلم أن سؤال الله عز وجل دون خلقه هو المتعين، لأن السؤال فيه إظهار الذل من السائل والمسكنة والحاجة والافتقار، وفيه الاعتراف بقدر المسؤول على دفع الضر ونيل المطلوب وجلب المنافع ودفع المضار، لا يصلح الذل والافتقار إلا لله وحده، لأنه حقيقة العبادة.
وكان الإمام أحمد رحمه الله يدعو ويقول: "اللهم كما صنت وجهي عن السجود لغيرك، فصنه عن المسألة لغيرك، ولا يقدر على كشف الضر وجلب النفع سواك" كما قال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس: 107] وقال: {مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِه} [فاطر 2] والله تعالى يحب أن يسأل ويرغب إليه في الحوائج، ويلح في سؤاله ودعائه، ويغضب على من لا يسأله، ويستدعي من عباده سؤله، وهو قادر على إعطاء خلقه كلهم سؤالهم من غير أن ينقص من ملكه شيء، والمخلوق بخلاف ذلك كله يكره أن يسأل، ويحب أن لا يسأل لعجزه وفقره وحاجته، ولهذا قال وهب بن منبه لرجل كان يأتي الملوك: "ويحك تأتي من يغلق عنك بابه، ويظهر لك فقره،
ص -201-(42/1)
ويواري عنك غناه، وتدع من يفتح له بابه نصف الليل نصف النهار، ويظهر لك غناه، ويقول: ادعني استجب لك!" وقال طاووس لعطاء: "إياك أن تطلب حوائجك إلى من أغلق دونك بابه، ويجعل دونها حجابه، وعليك بمن بابه مفتوح إلى يوم القيامة، أمرك أن تسأله، ووعدك أن يجيبك"، وأما الاستعانة بالله عز وجل دون غيره من الخلق، فلأن العبد عاجز عن الاستقلال بجلب مصالحه ودفع مضاره، ولا معين له على مصالح دينه ودنياه إلا الله عز وجل، فمن أعانه الله فهو المعان، ومن خذله فهو المخذول، وهذا تحقيق معنى قول "لا حول ولا قوة إلا بالله" فإن المعنى لا تحول للعبد من حال إلى حال، ولا قوة له على ذلك إلا بالله، وهذه كلمة عظيمة، وهي كنز من كنوز الجنة، فالعبد محتاج إلى الاستعانة بالله في فعل المأمورات، وترك المحظورات، والصبر على المقدورات كلها في الدنيا وعند الموت وبعده من أهوال البرزخ ويوم القيامة، ولا يقدر على ذلك إلا الله عز وجل، فمن حقق الاستعانة عليه في ذلك كله أعانه، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز" ومن ترك الاستعانة بالله واستعان بغيره وكله الله إلى من استعان به فصار مخذولا. كتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز "لا تستعن بغير الله فيكلك الله إليه" ومن كلام بعض السلف: "يا رب عجبت لمن يعرفك كيف يستعين لغيرك؟" انتهى.
ص -202-(42/2)
فصل
قال الملحد: "الباب الثالث: في أقوال العلماء العاملين الذين هم أئمة الدين بالتوسل بالأنبياء والصالحين، وفي الخصائص: واختص أيضا بجواز القسم به على الله الكريم المنعم، واختص صلى الله عليه وسلم بجواز أن يقسم على الله به، وفي المواهب اللدنية قال ابن عبد السلام: وهذا ينبغي أن يكون مقصورا على النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه سيد ولد آدم، وأن لا يقسم على الله بغيره من الملائكة والأنبياء والأولياء؛ لأنهم ليسوا في درجته، وأن يكون هذا مما اختص به لعلو درجته ومرتبته انتهى".
والجواب أن يقال: إن مسألة التوسل بالأنبياء والصالحين قد نص على المنع منها جمهور أهل العلم، بل ذكر الشيخ في رده على ابن البكري أنه لا يعلم قائلا بجوازه إلا ابن عبد السلام في حق النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يجزم بذلك بل علق القول به على ثبوت حديث الأعمى وصحته، وفيه من لا
ص -203-(42/3)
يحتج به عند أهل الحديث1، ولم يجز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم ولا بالأنبياء والصالحين أحد ممن يعتد به ويقتدى به كالأئمة الأربعة وأمثالهم من أهل العلم والحديث.
قال شيخ الإسلام: بل لو أقسم على الله ببعض خلقه من الأنبياء والملائكة وغيرهم لنهي عن ذلك، ولو لم يكن عند قبره، كما لا يقسم بمخلوق مطلقا، وهذا القسم منهي عنه غير منعقد باتفاق الأئمة، وهل هو نهي تحريم أو تنزيه على قولين: أصحهما أنه نهي تحريم، ولم ينازع العلماء إلا في الحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، فإن فيه قولين في مذهب أحمد، وبعض أصحابه كابن عقيل طرد2الخلاف في الحلف بسائر الأنبياء، لكن القول الذي عليه جمهور الأئمة كمالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم أنه لا ينعقد اليمين بمخلوق البتة، ولا يقسم بمخلوق البتة، وهذا هو الصواب، والإقسام على الله بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ينبني على هذا الأصل، ففي هذا النزاع، وقد نقل عن أحمد في التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم في منسك المروذي ما يناسب قوله بانعقاد اليمين، لكن الصحيح أنه لا تنعقد اليمين به فكذلك هذا.
ثم قال هذا الملحد: وخالف في ذلك بعضهم، فجوز القسم على الله تعالى بكل نبي، بل جوز بعضهم التوسل
__________
1 سبق الكلام على حديث الأعمى، وبيان أنه حديث صحيح، إلا أنه لا دلالة فيه على ما ادعاه القبوريون.
2 في طبعة الرياض "لطرد"
ص -204-(42/4)
بالصالحين، حتى قال الأستاذ أبو العباس المرسي الشاذلي: من له حاجة إلى الله تعالى فليتوسل في قضائها بأبي حامد الغزالي".
فالجواب أن نقول: لا يجوز الإقسام على الله بخلقه لا الأنبياء ولا غيرهم باتفاق الأئمة، كما حكاه شيخ الإسلام آنفا، وحكى الخلاف في النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، قال: وأما غيره فما علمت بين الأمة فيه نزاعا، بل قد صرح العلماء بالنهي عن ذلك واتفقوا على أن الله يسأل ويقسم عليه بأسمائه وصفاته كما تقدم بيانه مرارا.
وأما قول الشاذلي: "من كانت له حاجة إلى الله فليتوسل في قضائها بأبي حامد الغزلي" فأقول: قد كان من المعلوم أن الشاذلي هذا من الغلاة، وليس من أهل العلم المعروفين بالصلاح والدين، ولا من حملة سنة سيد المرسلين، بل من الدعاة إلى عبادة الأولياء والصالحين، فلا حجة في قوله. وقد تكلم العلماء في أبي حامد الغزالي، فقال الفقيه ابن العربي المالكي: شيخنا أبو حامد دخل في جوف الفلسفة ثم أراد أن يخرج فلم يحسن الخروج. هذا كلام تلميذه وهو أعرف الناس به، وقال أبو بكر الطرطوشي: شحن أبو حامد كتاب الإحياء بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما على بسيط الأرض أكذب منه، شبكه بمذاهب الفلسفة ومعاني رسائل إخوان
ص -205-(42/5)
الصفا، وهم قوم يرون النبوة مكتسبة، زعموا أن المعجزات حيل ومخاريف1 انتهى.
فإذا كان هذا كلام العلماء في أبي حامد، مع أنه لو كان سالما من القول المذكور، وكان في درجة أحد من الصحابة أو أفاضل التابعين والأئمة المقلدين لم يكن التوسل به جائزا بعد مماته، وأنه يقضي حاجة من سأله قضاء الحاجات وتفريج الكربات، وقد منع العلماء ذلك في حق جميع الأنبياء، فضلا عمن دونهم، ووقع النزاع في الحلف بنبينا صلى الله عليه وسلم على القول بصحة الحديث، ولا يصح2، فكيف الحال بالشاذلي الذي يدعو الناس إلى التوسل إلى الله في قضاء حوائجهم بأبي حامد وقد عرفت ما يعنون هؤلاء الغلاة بالتوسل أنه دعاء الأموات والغائبين، والالتجاء إليهم من طلب الحوائج، وكشف الكربات، وإغاثة اللهفات، والاستغاثة بهم في جميع الطلبات، وقد ذكر شيخ الإسلام أن أبا حامد الغزالي رجع عن مقالاته، وندم على هفوات ورطاته، ومات والبخاري على صدره، فيكون المقصود بالكلام رد ما في كلامه من الباطل، وإبطال قول من زعم أن من كانت له حاجة إلى الله فليتوسل في قضائها بأبي حامد، لأن العلماء قد منعوا من ذلك في حق من هو أفضل منه، فكيف به وبأمثاله.
__________
1 في طبعة الرياض "مخاريفه".
2 تقدم الكلام على الحديث.
ص -206-(42/6)
فصل
قال الملحد: "قال السبكي: ويحسن التوسل والاستغاثة والتشفع بالنبي إلى ربه؛ ولم ينكر ذلك أحد من السلف والخلف حتى جاء ابن تيمية فأنكر ذلك؛ وعدل عن الصراط المستقيم؛ وابتدع ما لم يقله عالم قبله؛ وصار بين أهل الإسلام مثلة. انتهى".
والجواب أن يقال قد تقدم الكلام على التوسل؛ وما يراد به في لغة الصحابة والتابعين والأئمة المهتدين؛ وما يراد به في عرف هؤلاء الغلاة المنحرفين؛ الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا؛ ويسعون في الأرض فسادا؛ والله لا يحب المفسدين.
وأما الاستغاثة والتشفع بالنبي إلى ربه؛ فروى الطبراني أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين؛ فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه قوموا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه لا يستغاث بي؛ وإنما يستغاث
ص -207-(42/7)
بالله"1 فقوله: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق لأنه صلى الله عليه وسلم يقدر على كف أذاه. وأما قوله: إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله. فيه النص على أنه لا يستغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم ولا من دونه؛ كره صلى الله عليه وسلم أن يستعمل هذا اللفظ في حقه؛ وإن كان مما يقدر عليه في حياته حماية لجناب التوحيد؛ وسدا لذرائع الشرك؛ وأدبا وتواضعا لربه؛ وتحذيرا للأمة من وسائل الشرك في الأقوال والأفعال؛ فإذا كان هذا فيما يقدر عليه صلى الله عليه وسلم في حياته؛ فكيف يجوز أن يستغاث به بعد وفاته؛ ويطلب منه أمورا لا يقدر عليها إلا الله عز وجل؛ ومن المعلوم بالضرورة أن الإستغاثة هي طلب الغوث؛ وهو إزالة الشدة كالاستنصار: طلب النصر؛ والاستعانة :طلب العون؛ وقال أبوعبد الله الحليمي: الغياث هو المغيث؛ وأكثر ما يقال :غياث المستغيثين؛ ومعناه المدرك عباده في الشدائد إذا دعوه ومجيبهم ومخلصهم وقال أبو يزيد البسطامي: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة الغريق بالغريق وقال الشيخ أبو عبد القرشي: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون وفي دعاء موسى عليه سلام "اللهم لك الحمد؛ وإليك المشتكى؛ وأنب المستعان؛ وبك المستغاث؛ وعليك التكلان؛ ولا حول ولا قوة إلا بالله" ولما كان هذا المعنى هو المفهوم عند الإطلاق وكان مختصا بالله
__________
1 تقدم الكلام على هذا الحديث في "الرد على القبور بين".
ص -208-(42/8)
صح إطلاق نفيه عما سواه؛ ولهذا لا يعرف عن أحد من أئمة المسلمين أنه جوز مطلق الاستغاثة بغير الله؛ وكذلك الاستغاثة أيضا منها ما لا يصح إلا لله 1 وهي المشار إليها بقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}فإنه لا يعين على العبادة الإعانة المطلقة إلا الله.
وقال ابن القيم رحمه الله: ومن أنواعه أي الشرك طلب الحوائج من الموتى والإستغاثة بهم؛ وهو أصل شرك العالم؛ فإن الميت قد انقطع عمله وهو لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا فضلا لمن استغاث به وسأله أن يشفع له إلى الله؛ وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده؛ فإنه لا يقدر أن يشفع له عند الله إلا بإذنه؛ والله لم يجعل استغاثته وسؤاله سببا لإذنه؛ وإنما السبب كمال التوحيد؛ فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن؛ وهو بمنزلة من استعان في حاجة بما يمنع حصولها؛ وهذه حالة كل مشرك؛ فجمعوا بين الشرك بالمعبود؛ وتغيير دينه؛ ومعاداة أهل التوحيد؛ ونسبة أهله إلى التنقص بالأموات؛ وهم قد تنقصوا الخالق بالشرك؛ أولياءه 2 الموحدين بذمهم وعيبهم ومعاداتهم؛ وتنقصوا من أشركوا به غاية التنقص؛ إذا ظنوا أنهم راضون منهم بهذا؛ وأنهم أمروهم به وأنهم يوالونهم عليه؛ وهؤلاء هم أعداء الرسل في كل
__________
1 في النسختين"الله".
2 في الأصل"أوليائه".
ص -209-(42/9)
زمان ومكان؛ وما أكثر المستجيبين لهم؛ وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر إلا من جرد وتوحيده لله؛ وعادى المشركين في الله؛ وتقرب بمقتهم إلى الله؛ واتخذ الله وحده وليه وإلهه ومعبوده؛ فجرد حبه لله؛ وخوفه لله؛ ورجاءه لله؛ وذله لله؛ وتوكله على الله؛ واستعانته بالله والتجاءه إلى الله؛ واستغاثته بالله؛ وقصده لله؛ فهو لله؛ وبالله؛ ومع الله انتهى.
وأما قوله: "ولم ينكر ذلك أحد من السلف والخلف حتى جاء ابن تيمية فأنكر ذلك؛ وعدل عن الصراط المستقيم؛ وابتدع ما لم يقله عالم قبله؛ وصار بين أهل الإسلام مثله".
فأقول: إن هذا الكلام من لا يخاف الله ولا يتقيه؛ فإنه قد كذب في ما قاله؛ وافترى وقد خاب من افترى؛ وأكمل الناس وأكرمهم على الله سيد ولد آدم أنكر هذا؛ وقال:" إنه لا يستغاث بي؛ وإنما يستغاث بالله؛وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد ولكن قولوا ما شاء الله وحده" ولو كان عند هذا الرجل من الدين ما يزعه؛ ومن الحياء ما يردعه؛ ما فاه بهذه المخرقة؛ فإنه قد سبق شيخ الإسلام على ذلك الأئمة الأعلام سلفا وخلفا؛ وما خالفهم في ذلك إلا كل من لا يعتد به؛ ولا يعتمد عليه في الخلاف والوفاق؛ وقد تقدم كلام أبي عبد الله الحليمي؛ وكلام أبي يزيد البسطامي؛ وأبي عبد الله القرشي؛ وكلام العلماء في ذلك سلفا وخلفا كثير جدا لا يخفى إلا على من أعمى الله بصيرته؛وقد اشتهر وظهر عند الخاص والعام.
ص -210-(42/10)
من عدل شيخ الإسلام وإنصافه أن ليس عنده في مسائل الفروع ميل إلا إلى ما دل عليه الكتاب والسنة؛ وإذا ذكر المسألة فإنه يذكر فيها مقالات الأئمة الأربعة وأصحابهم وغير أصحابهم ممن بعدهم أو قبلهم من الصحاتة والتابعين وتابعيهم؛ ويذكر دليل كل قول وتقريره على وجه لا يكاد يوجد في الكتب المصنفة لهم؛ فكيف في مسائل أصول الدين التي ليس بين الأمة في مسائلهما المشهورة خلاف؛ وإنما يخالف فيها أهل الأهواء والبدع؛ وهو من أعرف خلق الله بمذاهب أهل الأهواء ووقت حدوثها.
قال الإمام الذهبي في معجم شيوخه: هو شيخنا وشيخ الإسلام وفريد العصر علما ومعرفة وشجاعة وذكاء وتنويرا إلهيا وكرما ونصحا للأمة وأمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر سمع الحديث وأكثر بنفسه من طلبه وكتابته؛ وخرج ونظر في الرجال والطبقات؛ وحصل ما لم يحصله غيره؛ وبرع في تفسير القرآن؛ وغاص في دقائق ومعانية بطبع سيال وخاطر وقاد إلى مواضع الإشكال ميال؛ واستنبط منه أشياء لم يسبق إليها؛ وبرع في الحديث وحفظه فقل من يحفظ ما يحفظ من الحديث؛ مع شدة استحضاه له وقت الدليل؛ وفاق الناس في معرفة الفقه؛ واختلاف المذاهب؛ وفتاوى الصحابة والتابعين؛ وأتقن العربية أصولا وفروعا؛ ونظر في العقليات؛ وعرف أقوال المتكلمين ورد عليهم؛ ونبه على خطئهم؛ وحذر منهم؛
ص -211-(42/11)
ونصر السنة بأوضح حجج وأبهر براهين؛ وأوذي في الله تعالى من المخالفين؛ وأخيف في نصر السنة المحفوظة؛ حتى أعلى الله تعالى مناره؛ وجمع قلوب أهل التقوى على محبته والدعاء له؛ وكبت أعداءه؛ وهدى به رجالا كثيرا 1 من أهل الملل والنحل؛ وجبل قلوب الملوك والأمراء على الإنقياد له غالبا وعلى طاعته؛ وأحيا به الشام بل الإسلام بعد أن كاد ينثلم؛ خصوصا في كائنة التتار؛ وهو أكبر من أن ينبه على سيرته مثلي؛ فلو حفلت بين الركن والمقام أني ما رأيت بعيني مثله؛ وأنه ما رآى هو مثل نفسه لما حنثت.
فانظر إلى ما قاله هذا الإمام المنصف من أنه من أعرف خلق الله بمذاهب أهل الأهواء ووقت حدوثها؛ وأنه يصر السنة بأوضح حجج وأبهر براهين؛ وأنه أوذي في الله تعالى؛ ومن جعلتهم هذا الرجل لأنه من المخالفين؛ وأخيف في نصر السنة حتى أعلا الله تعالى مناره؛ وجمع قلوب أهل التقى على محبته والدعاء له.
وهذا الرجل لو كان عند أهل العلم ممن يتقي الله لكان من جملة أهل التقى المحبين له والداعين له وأن الله كبت أعداءه؛ وهدى به رجالا كثيرا من أهل الملل والنحل؛ وأن الله أحيا به الشام بل الإسلام؛ إلى غير ذلك مما ذكر في فضله.
__________
1 في طبعة الرياض"كثرا".
ص -212-(42/12)
وهذا الرجل- عامله الله بعدله- يقول: "ولم ينكر ذلك أحد من السلف والخلف حتى جاء ابن تيمية فأنكر ذلك؛ وعدل عن الصراط المستقيم؛ وابتدع ما لم يقله عالم قبله" إلى آخر كلامه. وإنما حمله على هذا الكلام الحسد والهوى؛ وعدم خشية الله؛ والغلو الذي خرج به عن الصراط المستقيم وسلوك طريق أئمة الدين من الصحابة والتابعين والأئمة المهتدين الذين لهم قدم صدق في العالمين؛ فشيخ الإسلام هو الذي نصر الله به السنة؛ وقمع به أهل البدعة؛ فصاروا ببدعتهم مستترين؛ وأعز الله به الإسلام بعد أن كاد ينثلم.
وقال الإمام محمد التافلاني مفتي الحنفية بعد كلام له: وقد أثنى عليه جمهور معاصريه؛ وجمهور من تأخر عنه؛ وكانوا خير مناصرية؛ وهم ثقاة صيارفة حفاظ عريفهم في النقد دونه عريق عكاظ؛ وطعن فيه بعض معاصريه بسبب أمور أشاعها مشيع لحظ نفسه؛ أو لأجل معاصرة التي لا ينجو من سمها إلا من قد كمل في قدسه؛ فخلف من بعدهم مقلدهم في الطعن فتجاوز فيه الحد؛ ورماه بعظائم موجبة للتعزير والحد؛ ولو قال هذا المقلد كقول بعض السلف حين سئل عما جرى بين الإمام علي ومعاوية فقال"تلك دماء طهر الله منها سيوفنا أفلا نطهر منها ألسنتنا" لنجا من هذا العنا؛ وهذا الإمام تصانيفه قد ملأت طباق الثرى؛ واطلع عليها القاصي والداني من علماء الورى؛ فما وجدوا فيها عقيدة زائغة؛ ولا عن الحق
ص -213-(42/13)
رابغة 1؛ كم سل السيوف الصوارم على فرق الضلال؛ وكم رماهم بصواعق براهين محرقة كالجبال؛ تنادي عقيدته البيضاء بعقيدة السلف؛ ولا ينكر صحتها وأفضليتها من خلف منا ومن سلف؛ شهد له الأقران بالإجهاد؛ ومن منع له فقد خرط بكفه شوك القتاد .
وقال الإمام الحافظ بن عبد الهادي في رده على السبكي لما قال:"إن المبالغة في تعظيمه أي الرسول واجبة" فقال: إن أريد به المبالغة بحسب ما يراه كل أحد تعظيما؛ حتى الحج إلى قبره؛ والسجود له؛ والطواف به؛ واعتقاده أنه يعلم الغيب؛ وأنه يعطي ويمنع؛ ويملك لمن استغاث به من دون الله الضر والنفع؛ وأنه يقضي حوائج السائلين؛ ويفرج الكروب؛ وأنه يشفع فيمن يشاء؛ ويدخل الجنة من يشاء؛ فدعوى المبالغة في هذا التعظيم مبالغة في الشرك؛ وانسلاخ من جملة الدين. انتهى.
ولو ذهبنا نذكر ما ذكره العلماء في مناقبه وفضائله؛ وما ردوا به على مخالفيه في هذه الباحث لطال الكلام.
فإذا تحققت ما ذكره أهل العلم في شيخ الإسلام تبين لك أن السبكي هو الذي خرج عن الصراط المستقيم؛ وخالف ما عليه الأئمة من علماء المسلمين؛ وأنه هو الذي ابتدع مالم
__________
1 في الأصل "رأيفة" وفي الرياض "رأينه".
ص -214-
يقله عالم قبله؛ فصار بافترائه وعدوانه مثلة بين أهل الإسلام؛ ممن له معرفة بالعلوم ومدارك الأحكام؛ فلا يلتفت إلى مفترياته عاقل؛ ولا ينظر في أساطيل أساطيرها فاضل؛ وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ص -215-(42/14)
فصل
وأما قوله: "وروى القشيري عن معروف الكرخي أنه قال لتلامذته: إذا كانت لكم إلى الله حاجة؛ فاقسموا عليه بي؛ فإني الواسطة بينكم وبينه وذلك بحكم الوراثة عن المصطفى صلى الله عليه وسلم انتهى".
فالجوال: أن هذا من الكذب المعلوم كذبه بالإضطرار عند من له معرفة بالنقل؛ ومقادير الأئمة الأخيار؛ فإن مثل هذه الحكاية الواهية الساقطة المنتنة المظلمة لا يتصور صدورها عمن هو دون معروف الكرخي فضلا عن ذلك الزاهد الفاضل إلا من هو من أبعد الناس معرفة بحقيقة دين الإسلام؛ فإنه لا يقول هذا ويفتريه على أهل الإسلام والعلماء العاملين إلا أمثال هؤلاء الغلاة المنحرفين الحيارى المفتونين؛ فنعوذ بالله من طمس القلوب؛ ورين الذنوب.
ثم قال هذا الملحد: "وفي الفتوحات ما نصه:- مستمد جميع الأنبياء والمرسلين من روح محمد صلى الله عليه وسلم؛ إذ هو قطب الأقطاب؛ فهو ممد لجميع الناس أولا وآخرا؛ فهو ممد كل
ص -216-(42/15)
نبي وولي؛ سابق على ظهوره حال كونه بالغيب؛ وممد أيضا لكل ولي لا حق فيوصله بذلك إلى مرتبة كماله في حال كونه موجودا في عالم الشهادة؛ وفي حال كونه منتقلا إلى الغيب الذي هو البرزخ والدار الآخرة؛ فإن أنوار رسالته صلى لله عليه وسلم غير منقطعة عن العالم من المتقدمين والمتأخرين؛ فكل نبي تقدم زمان ظهوره فهو نائب عنه في بعثته لتلك الشريعة انتهى".
والجواب أن نقول: ما ذكره هذا الملحد من كلام صاحب الفتوحات كلام باطل؛ فإن مستمد جميع الأنبياء والمرسلين إنما هو الوحي الذي نزل به الأمين من رب العالمين؛ قال الله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ}[النساء: آية 163] وقال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}[الشورى: آية 13] وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}[الأنبياء: آية 25] وقال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ}[البقرة: آية 253] وقال تعالى: {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ}[الأنعام: آية 91] وقال تعالى: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً}[الأعراف: آية 145] الآية
ص -217-(42/16)
والآيات في هذا المعنى كثيرة جدا؛ فمستمد جميع الأنبياء والرسل ما أنزل الله عليهم من وحيه؛ فقوله: إن مستمد جميع الأنبياء والمرسلين من روح محمد صلى الله عليه وسلم مصادم ومناف لما تقدم من الآيات؛ ولقوله تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا}[هود: آية 49] وقوله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} [الشورى: آية 52] وقوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ}[يوسف: آية 3] وهذا مبني على أن روح محمد صلى الله عليه وسلم مخلوقة قبل جميع المخلوقات؛ وقد تقدم بطلان هذا القول؛ ومخالفته لصريح العقل والنقل في الكلام على ما نقله عن القسطلاني وما ذكره عن المناوي؛ وأن هذا القول مبتدع لم يقل به أحد من الأئمة المقتدى بهم؛ بل هذا مبني على مذهب الفلاسفة القائلين بأن الكتب المنزلة فيض فاض من العقل الفعال؛ على النفس المستعدة الفاضلة الزكية؛ فتصورت تلك المعاني وتشكلت في النفس بحيث يتوهمها أصواتا تخاطبه؛ وربما قوي الوهم حتى يراها أشكالا نورانية تخاطبه؛ وربما قوي ذلك ببعض الحاضرين فيرونها ويسمعون خطابها ولا حقيقة لشيء من ذلك في الخارج؛وهذا يكون عندهم بتجرد النفس عن العلائق؛ واتصالها بالمعارفات من العقول والنفوس المجردة؛ وهذه
ص -218-(42/17)
الحقائق تحصل عندهم بالاكتساب؛ ولهذا طلب النبوة من تصرف على مذهب هؤلاء. فتبين من كلام هذا الملحد أن الأنبياء والرسل- عليهم الصلاة والسلام- لم ينزل عليهم وحي من الله؛ كما نزل به الروح الأمين على قلب محمد- صلى الله عليه وسلم-؛ وإنما ذلك فيض فاض على أرواح الأنبياء من روح محمد- صلى الله عليه وسلم-؛ واستمدوا من روحه ما أنزل الله عليهم وشرعه لهم من الدين؛ ويزعمون أن الولاية أعظم من النبوة؛ لأن الولي
يأخذ عن الله بغير واسطة؛ والنبي الرسول بواسطة وينشدوان:-
مقام النبوة في برزخ
فويق الرسول ودون الولي
ويقولون: إن ولاية النبي أعظم من نبوته؛ ونبوته أعظم من رسالته؛ ثم قد يدعي أحدهم أن ولايته وولاية سائر الأولياء تابعة لولاية خاتم الأولياء؛وأن جميع الأنبياء والرسل من حيث ولايتهم هي عندهم أعظم من نبوتهم ورسالتهم؛ وإنما يستفيدون العلم بالله الذي هو عندهم القول بوحدة الوجود من مشكاة 1 خاتم الأولياء؛ وشبهتهم في أصل ذلك أن قالوا: الولي يأخذ عن الله بغير واسطة؛ والنبي والرسول بواسطة؛ ولهذا جعلوا ما يفيض في نفوسهم يجعلونه
__________________
1 في النسختين"شكاة".
ص -219-(42/18)
من باب المخاطبات الإلهية؛ والمكاشفات الربانية أعظم من تكليم موسى بن عمران؛ وهو في الحقيقية إيحاءات شيطانية؛ ووساوس نفسانية؛ وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم .
وأما قوله: "وفي حال كونه منتقلا إلى الغيب الذي هو البرزخ والدار الآخرة. فإن أنوار رسالته صلى الله عليه وسلم غير منقطعة عن العالم من المتقدمين والمتأخرين".
فالجواب أن يقال: إن كان أراد إنه صلى الله عليه وسلم له قدرة على إيصال الخيرات؛ ورفع المضرات بعد الممات؛ فقد قال تعالى: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ}[الأعراف: آية 188] وقال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ}[يونس: آية 107] فإذا كان هذا حاله في الحياة فما الظن به أو بغيره بعد الممات؟.
وإن كان أراد أن الخلق يستمدون منه أي مما جاء به من توحيد الله؛ وعبادته وحده لا شريك له؛ وترك عبادة ما سواه كائنا من كان؛ والعمل بسنته؛ والاهتداء بهديه؛ وترك ما نها عنه؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم عرفة:"وقد تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا إن اعتصمتم به كتاب الله" الحديث 1. وقال صلى الله عليه وسلم: "تركتكم على الحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ
__________
1 تقدم الكلام عليه.
ص -220-(42/19)
عنها بعدي إلا هالك"1 وقال صلى الله عليه وسلم: "إنها ستكون فتن"2 فقلنا له ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: "كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم؛ وخبر ما بعدكم؛ وحكم ما بينكم؛ هو الفصل ليس بالهزل؛ من بركه من جبار قصمه الله؛ ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله؛ هو حبل الله المتين؛ وهو الذكر الحكيم؛ وهو الصراط المستقيم؛ هو الذي لا تزيغ به الأهواء؛ ولا تلتبس به الألسنة؛ ولا تشبع منه العلماء؛ ولا يخلق عن كثرة الرد؛ ولا تنقضي عجائبه؛ هو الذي لم تنته الجن إذ 3 سمعته حتى قالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ}[الجن: آيات1-2] من قال به صدق؛ ومن عمل به أجر؛ ومن حكم به عدل؛ ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم"
رواه الترمذي وقال غريب 4.
__________
1 تقدم الكلام عليه.
2 في النسختين"فتنا" وما أثبت من سنن الترمذي.
3 ذي النسختين"إذا " وما أثبت من سنن الترمذي.
4 أخرجه الترمذي في سننه- كتاب فضائل القرآن- 5/172-173من جهة حمزة الزيات عن أبي المختار الطائي عن ابن أخي الحارث الأعود عن الحارث ... عن علي .. به مرفوعا.
وقال عقبة: هذا حديث [غريب] لا نعرفه إلا من هذا الوجه؛ وإسناده مجهول؛ وفي الحارث مقال. اهـ .
وتعقبه ابن كثير فقال في فضائل القرآن ص 7 :- قلت: لم ينفرد بروايته حمزة بن حبيب الزيات؛ بل رواه محمد بن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي عن الحارث الأعور. فبرىء حمزة من عهدته. على أنه وإن كان =
ص -221-(42/20)
فإذا عرفت هذا فلا يكون الاستمداد منه حال كونه منتقلا إلى الغيب الذي هو البزرخ والدار الآخرة,ولكن بما ترك فينا من كتاب الله وسنة رسوله, لأن أنوار رسالته صلى الله عليه وسلم لا تنقطع ما عمل بالكتاب والسنة.
وأما قوله: "فكل نبي تقدم على زمان ظهوره فهو نائب عنه في بعثته لتلك الشريعة".
فالجواب أن نقول: هذا كلام باطل مصادم لقوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}[المائدة: آية 48]ولقوله صلى الله عليه وسلم: "نحن معاشر الأنبياء أولاد علات"الحديث 1, وقد قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ
__________
= ضعيف الحديث فإنه إمام في القراءة.
والحديث مشهور من رواية الحارث الأعور, وقد تكلموا فيه, بل قد كذبه بعضهم من جهة رأيه واعتقاده, أما أنه تعمد الكذب في الحديث فلا والله أعلم.
وقصارى هذا الحديث أن يكون من كلام أمير المؤمنين علي رضي الله عنه, وقد وهم بعضهم في رفعه, وهو كلام حسن صحيح, على أنه قد روي له شاهد عن عبد الله بن مسعود, رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ... إلخ اهـ .
1 أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء من صحيحه 6/477-478 باب قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذْ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا}.
ومسلم في كتاب الفضائل من صحيح 4/837, [باب فضائل عيسى عليه السلام] عن أبي هريرة.
ص -222-(42/21)
وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}[الأعراف: آية 157] ومن المعلوم بالضرورة أن الأغلال والآصار التي كانت عليهم وفي شريعتهم من قتل أنفسهم وغير ذلك من الأغلال, لم يكن موسى عليه السلام نائبا عن نبينا في بعثته لتلك الشريعة من التكاليف الشاقة, من الآصار والأغلال التي كانت عليهم, بل من بركة هذا النبي الكريم, وأن الله أرسله رحمة للعالمين وضع عنهم الآصار والأغلال التي كانت عليهم, وأحل لهم الطيبات مما حرم عليهم في التوراة من لحوم الإبل والشحوم, ويحرم عليهم الخبائث كالدم ولحم الخنزير والميتة والربا, فكان من المعلوم أن لكل رسول أرسله الله إلى أمته شريعة ومنهاجا, وأما الأصل الذي هو دين الإسلام فجميع الرسل والأنبياء فيه على طريقة واحدة كما قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ}[الشورى: آية 13] ولا حاجة بنا إلى الكلام إلى استقصاء الكلام 1 على ما ذكره من كلام صاحب الفتوحات لسقوطه وتهافته, ومخالفته لصريح الكتاب والسنة, فلا نطيل برد كلام, لكن هذا على سبيل التنبية والإشارة, ثم كيف يستجيز من يؤمن بالله واليوم
__________
1 الكلام مكرر في النسختين.
ص -223-(42/22)
الآخر النقل في هذه المباحث وغيرها عن ابن عربي صاحب "الفصوص" و"الفتوحات" الذي هو من أكفر خلق الله, وأبعدهم عن سلوك الصراط المستقيم, ويعد من العلماء العاملين؟..
وإذا أردت حقيقة ما قلنا فانظر إلى ما قاله في"الفصوص" قال في الإدريسة: ومن أسمائه الحسنى العلي, على من وما ثم إلا 1 هو, فهو العلي لذاته أو عن ماذا, وما هو إلا هو, فعلوه لنفسه, وهو من حيث الوجود عين الموجودات فالمسمى محدثات هي العلية لذاتها, وليست إلا هو- إلى أن قال-: فهو عين ما ظهر وهو عين ما بطن في حال ظهوره, وما ثم من يراه غيره, ومن ثم من يبطن عنه فهو الظاهر لنفسه باطن عنه, وهو المسمى أبو سعيد الحزاز,وغير ذلك من أسماء المحدثات- إلى أن قال-: ومن عرف ما قررناه في الأعداد, وأن نفيها عين إثباتها علم أن الحق المنزه هو الخلق المشبه, وإن كان قد تميز الخلق من الخالق فالأمر الخالق المخلوق, والأمر المخلوق الخالق كل ذلك من عين واحدة, لا بل هو العين الواحدة, وهو العيون الكثيرة {فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ}[الصافات: آية 102] والولد عين أبيه فما رأى2 يذبح سوى نفسه, وفداه بذبح عظيم, فظهر بصورة كبش من ظهر بصورة إنسان,فظهر بصورة لا بحكم ولد من
__________
1 في "ط الرياض" "إلى".
2 في النستختين "راء".
ص -224-(42/23)
هو عين الوالد, وخلق منها زوجها فما نكح سوى نفسه- إلى أن قال-: فالعلي لنفسه هو الذي يكون له الكمال الذي يستغرق جميع الأمور الوجودية والنسب العدمية, بحيث لا يمكن أن يفوقه نعت منها, وسواء كانت محمودة عرفا وعقلا وشرعا, أو مذمومة عرفا وعقلا وشرعا, وليس ذلك إلا لمسمى 1 الله خاصة.
فصرح عدو الله بأن الحق المنزه هو الخلق المشبه، وصرح بأنه المنعوت بكل نعت مذموم ومحمود, وصرح بأنه أبو سعيد الخزاز وغيره من المحدثات, كما صرح بأن المسمى محدثات هي العلية لذاتها, وليست إلا هو. وقال أيضا: ولما كان فرعون في منصب التحكم, وأنه الخليفة بالسيف, وإن جاز في العرف الناموسي لذلك قال: "أنا ربكم الأعلى" أي وإن كان الكل أربابا بنسبة ما, فأنا الأعلى منهم بما أعطيته في الظاهر من التحكم عيهم, ولما علمت السحرة صدقه فيما قال لم ينكروه, وأقروا له بذلك,وقالوا له: "إنما تقضي هذه الحياة الدنيا فاقض ما أنت قاض", فالدولة لك فصح قوله: "أنا ربكم الأعلى", وإن كان عين الحق.إلى أمثال هذه الكفريات, والله در الأمير محمد بن إسماعيل حيث يقول:-
وأكفر خلق الله من قال: إنه
إله فإن الله جل عن الند
___________________
1 في"ط الرياض" "إلا المسمى".
ص -225-
مسماه كل الكائنات بأسرها
من الكلب والخنزير والقرد والفهد
وأن عذاب النار عذب لأهلها
سواء عذاب النار أو جنة الخلد
وينشدنا عنه نصوص فصوصه
ينادي خذوا في النظم مكنون ما عندي
"وكنت امرأ من جند إبليس فارتمى
بي الدهر حتى صار إبليس من جندي!!"
فلو مات قبلي كنت أدركت بعده
دقائق كفر ليس يدركها بعد(42/24)
فمن كان بهذه المثابة كيف يستجيز من يؤمن بالله واليوم الآخر أن يذكر كلامه في جملة العلماء العاملين, أو يصغي إلى شبهات هؤلاء الغالين.
وأما دعوى هؤلاء الملاحدة أن خاتم الأولياء هو أفضلهم,كما أن خاتم الرسل أفضلهم, بل يزعم ابن عربي أن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الرسل, لأن خاتم لأولياء يأخذ عن الله بلا واسطة, وخاتم الرسل إنما يأخذ عن الملك, فقد ذكر شيخ الإسلام أن خاتم الأولياء كلمة لا حقيقة لفضلها ومرتبتها, وإنما تكلم أبو عبد الله الترمذي بشيء من ذلك ولم يستند فيه إلى شيء, ومسمى هذا اللفظ هو آخر مؤمن يبقى, ويكون بذلك خاتم الأولياء, وليس ذلك أفضل الأولياء باتفاق
ص -226-
المسلمين, بل أفضل الأولياء سابقهم, وأقربهم إلى الرسول, وهو أبو بكر, ثم عمر, إذ الأولياء يستفيدون من الأنبياء فأقربهم إلى الرسول أفضل,بخلاف خاتم الرسل فإن الله أكرمه بالرسالة ولم يحله على غيره, فقياس أحد اللفظين على الآخر في وجوب كونه أفضل من أفسد القياس.
ص -227-(42/25)
وقال أيضا:
فصل
وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها وسائر أولياء الله تعالى على أن الأنبياء أفضل من الأولياء الذين ليسوا بأنبياء,وقد رتب الله عباده السعداء المنعم عليهم أربع مرات, فقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا}[النساء: آية 69] وفي حديث"ما طلعت الشمس ولا غربت على أحد تعد النبيين والمرسلين أفضل من أبي بكر" وأفضل الأمم أمة محمد- صلى الله عليه وسلم- قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}[آل عمران: آية 110] وقال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا}[فاطر: آية 32] وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي في المسند" أنتم توفون سبعين أمة, أنتم خيرها, وأكرمها على الله" وأفضل أمة محمد القرن الأول,وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أنه قال:"خير القرون القرن الذي بعثت فيهم, ثم الذين يلونهم" وهذا ثابت في الصحيحين من غير وجه, وفي الصحيحين أيضا صلى الله عليه وسلم أنه قال:
ص -228-(42/26)
"لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه".
والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار أفضل من سائر الصحابة قال تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى}[الحديد- 10], وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}[التوبة- 100] والمراد بالفتح صلح الحديبية, فإنه كان أول فتح مكة, وفيه أنزل الله{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}[الفتح- 1] فقالوا يا رسول الله أو فتح هو؟ قال نعم.
وأفضل السابقين الأولين الخلفاء الأربعة, وأفضلهم أبو بكر, ثم عمر, وهذا هو المعروف عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان, وأئمة الأمة وجماهيرها, وقد دلت على ذلك دلائل بسطناها في "منهاج أهل السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية". وبالجملة اتفق طوائف السنة والشيعة على أن أفضل هذه الأمة بعد نبيها واحد من الخلفاء, ولا يكون من بعد الصحابة أفضل من الصحابة.
وأفضل أولياء الله تعالى أعظمهم معرفة بما جاء به
ص -229-(42/27)
الرسول واتباعا له كالصحابة الذين هم أكمل الأمة في معرفة دينه واتباعه, وأبو بكر الصديق أكمل معرفة بما جاء به, وعملا به فهو أفضل أولياء الله, إذا كانت أمة محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الأمم, وأفضلها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وأفضلهم أبو بكر رضي الله عنه
وقد ظن طائفة غالطة أن "خاتم الأولياء" أفضل الأولياء قياسا على خاتم الأنبياء, ولم يتكلم أحد من المشائخ المتقدمين بخاتم الأولياء إلا محمد بن علي الحكيم الترمذي, فإنه صنف مصنفا غلط فيه في مواضع, ثم صار طائفة من المتأخرين يزعم كل واحد منهم أنه خاتم الأولياء, ومنهم من يدعي أن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء من جهة العلم بالله, وأن الأنبياء يستفيدون العلم بالله من جهته, كما يزعم ذلك ابن عربي صاحب كتاب" الفتوحات المكية" وكتاب"الفصوص" فخالف الشرع والعقل, مع مخالفته جميع أنبياء الله تعالى وأوليائه, كما يقال لمن قال: فخر عليهم السقف من تحتهم: لا عقل ولا قرآن, وذلك أن الأنبياء أفضل في الزمان من أولياء هذه الأمة [والأنبياء عليهم أفضل الصلاة والسلام أفضل من الأولياء, فكيف الأنبياء كلهم؟] 1والأولياء 2 إنما
__________
1 ما بين المعكوفين سقط من طبعة الرياض. وما أثبته من الأصل, ومن مجموع فتاوى ابن تيمية لا بن قاسم 11/224.
2 في طبعة الرياض "الأنبياء" وهو خطأ. وما أثبته من الأصل, ومجموع الفتاوى .
ص -230-(42/28)
يستفيدون معرفة الله ممن يأتي بعدهم, ويدعي أنه خاتم الأولياء, وليس آخر الأولياء 1 أفضلهم, كما أن آخر الأنبياء أفضلهم, فإن فضل محمد صلى الله عليه وسلم ثبت بالنصوص الدالة على ذلك كقوله صلى الله عليه وسلم "أنا سيد ولد آدم ولا فخر" كقوله "آتي باب الجنة فاستفتح, فيقول الخازن من أنت؟ فأقول محمد, فيقول بك 2 أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك" وليلة المعراج رفع الله درجته فوق الأنبياء كلهم, فكان أحقهم بقوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ}[البقرة: آية 253] إلى غير ذلك من الدلائل, كل منهم يأتيه الوحي من الله, لا سيما محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن في نبوته محتاجا إلى غيره, فلم تحتج شريعته إلى سابق ولا إلى لاحق, بخلاف المسيح أحالهم في أكثر الشريعة على التوراة, وجاء المسيح فكملها, ولهذا كان النصارى محتاجين إلى النبوات المتقدمة على المسيح كالتوراة, والزبور, وتمام الأربع وعشرين نبوة, وكان الأمم قبلنا محتاجين إلى محدثين, بخلاف أمة محمد صلى الله عليه وسلم فإن الله أغناهم به 3 فلم يحتاجوا معه إلى نبي ولا إلى محدث, بل جمع له من الفضائل والمعارف والأعمال الصالحة ما فرقه في غيره من الأنبياء, فكان ما فضله
__________
1 تكرر في طبعة الرياض "وليس آخر الأولياء".
2 في الأصل. و ط الرياض "كما" وما أثبته من صحيح مسلم 1/188.
3 سقطت "به" من النسختين. وما أثبته من "مجموع الفتاوى".
ص -231-(42/29)
الله1به من الله 1بما أنزله إليه وأرسله إليه لا بتوسط بشر, وهذا بخلاف الأولياء فإن كل من بلغه رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لا يكون وليا لله إلا باتباع محمد صلى الله عليه وسلم, وكل ما حصل له من الهدى ودين الحق هو بتوسط محمد, صلى الله عليه وسلم وكذلك من بلغه رسالة رسول إليه لا يكون وليا لله إلا إذا اتبع ذلك الرسول الذي أرسل إليه.
ومن ادعى من الأولياء الذين بلغتهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم من أن له طريقا 2 إلى الله لا يحتاج فيه إلى محمد فهذا كافر ملحد 3, وإذا قال أنا محتاج إلى محمد في علم الظاهر دون علم الباطن, أو في علم الشريعة دون علم الحقيقة, فهو شر من اليهود والنصارى الذين قالوا: إن محمدا 4 رسول إلى الأمين دون أهل الكتاب, فأن أولئك آمنوا ببعض وكفروا ببعض فكانوا كفارا بذلك, وكذلك الذي يقول إن محمدا بعث بعلم الظاهر دون علم الباطن[آمن ببعض ما جاء به وكفر
__________
1 سقطت لفظ الجلالة الأولى من النسختين, والثانية من طبعة الرياض وما أثبته من"الفتاوى".
2 في الأصل" طريق".
3 كذا في النسختين. وفي الفتاوى"ومن ادعى أن من الأولياء الذين بلغتهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم من له طريق إلى الله لا يحتاج فيه إلى محمد فهذا كافر ملحد".
4 في الأصل. و ط الرياض"محمد".
ص -232-(42/30)
ببعض فهو كافر, وهو أكفر من أولئك لأن علم الباطن] 1 الذي هو علم إيمان القلوب ومعارفها وأحوالها هو علم بحقائق الإيمان الباطن, وهذا أشرف 2 من العلم بمجرد أعمال الإسلام الظاهرة.
فإذا ادعى المدعي أن محمد- صلى الله عليه وسلم- إنما علم هذه الأمور الظاهرة دون حقائق الإيمان, وأنه لا يأخذ هذه الحقائق عن الكتاب والسنة, فقد ادعى أن بعض الذي آمن به مما جاء به الرسول دون البعض, الآخر, وهذا شر 3 ممن يقول أؤمن ببعض وأكفر ببعض, ولا يدعي أن هذا البعض الذي آمن به أدنى القسمين.
وهؤلاء الملاحدة يدعون أن الولاية أفضل من النبوة, ويلبسون على الناس فيقولون: ولايته أفضل من نبوته وينشدون 4:-
مقام النبوة في برزخ
فويق الرسول ودون الولي!
ويقولون: نحن 5 شاركناه في ولايته التي هي أعظم من
____________________
1 ما بين المعكوفين سقط من النسختين. وأثبته من "الفتاوى"
2 في طبعة الرياض"شرف".
3 سقطت"شر" من " ط الرياض.
4 في النسختين"ويستبدون".
5 سقطت"نحن"من طبعة الرياض.
ص -233-(42/31)
رسالته, وهذا من أعظم ضلالهم, فإن ولاية محمد لم يماثله فيها أحد لا إبراهيم ولا موسى, فضلا أن يماثله فيها هؤلاء الملحدون.
وكل رسول نبي ولي, فالرسول نبي ولي, ورسالته متضمنة لنبوته, ونبوته متضمنة لولايته, وإذا قدروا مجرد إنباء 1 الله إياه بدون ولايته لله فهذا تقدير ممتنع, فإنه حال انبائه إياه ممتنع أن يكون إلا وليا 2 لله, ولا تكون مجردة عن ولايته, ولو قدرت مجردة لم يكن أحد مماثلا للرسول في ولايته إلى أن قال:-
وهؤلاء المتفلسفة قد يجعلون"جبرائيل" هو الخيال الذي يتشكل في نفس النبي صلى الله عليه وسلم, والخيال تابع للعقل, فجاء الملاحدة الذين شاركوا هؤلاء الملاحدة المتفلسفة وزعموا أنهم "أولياء الله" وأن أولياء الله أفضل من أنبياء الله, وأنهم يأخذون عن الله بلا واسطة كابن عربي صاحب "الفتوحات" و "الفصوص" فقال: إنه يأخذ من المعدن الذي أخذ منه الملك الذي يوحي به إلى الرسول, والمعدن عنده هو العقل, الملك هو الخيال, والخيال تابع للعقل, وهو بزعمه يأخذ عن الذي هو أصل الخيال, والرسول يأخذ عن3 الخيال, فلهذا
__________
1 في النسختين "أنبياء" وما أثبته من "مجموع الفتاوى".
2 في طبعة الرياض "الأولياء".
3 في طبعة الرياض "على".
ص -234-
صار عند نفسه فوق النبي ولو كان خاصة النبي ما ذكروه 1 ولم يكن هو من جنسه, فضلا عن أن يكون فوقه, فكيف وما ذكروه يحصل لآحاد المؤمنين؟ والنبوة أمر وراء ذلك, فإن ابن عربي وأمثاله وإن ادعوا أهم من الصوفية فهم من صوفية الملاحدة الفلاسفة, ليسوا من صوفية أهل العلم, فضلا عن أن يكونوا من مشائخ أهل الكتاب والسنة كالفضيل بن عياض, وإبراهيم بن أدهم, وأبي سليمان الداراني, ومعروف الكرخي, والجنيد بن محمد, وسهل بن عبد الله التستري, وأمثالهم رضوان الله تعالى عليهم أجمعين إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى .(42/32)
__________
1 الواو ليست في "الفتاوى" 11/233.
ص -235-
وأما قول الملحد:"ولذا أنشد القطب الكبير سيدي محمد بن أبي الحسن البكري المصري:-
ما أرسل الرحمن أو يرسل
من رحمة تصعد أو تنزل
في ملكوت الله أو ملكه
من كل ما يختص أو يشمل
إلا وطه المصطفى عبده
نبيه مختاره المرسل
واسطة فيها وأوصل لها
يعلم هذا كل من يعقل
فعذبه من كل ما تشتكي
فهو شفيع دائما يقبل
ولذ به في كل ما ترتجي
فإنه المأمن المعقل
ص -236-
وحط أحمال الرجاء عنده
فإنه المرجع والموئل
وناده إن أزمة انشبت
أظفارها واستحكم المعضل
يا أكرم الخلق على ربه
وخير من فيهم به يسأل
قد مسني الكرب وكم مرة
فرجت كربا بعضه يذهل
فبالذي فضلك بين الورى
برتبة عنها العلا تنزل
عجل باذهاب الذي اشتكي
فإن توقفت فمن أسأل
فحيلتي ضاقت وصبري انقضى
ولست أدري ما الذي أفعل
وإن ترى أعجز مني فما
لشدة أقوى ولا أجمل
وأنت باب الله أي امرىء
أتاه من غيرك لا يدخل
عليك صلى الله ما صافحت
زهر الروابي نسمة شمأل
مسلما ما فاح عطر الحمى
وطاب منه الند والمندل
ص -237-
والآل والأصحاب ما غردت
ساجعة أملودها مخضل
والجواب أن أقول:-
أقول هذا كله لا يعقل
ولا له في الشرع أصل منزل
إلا أكاذيب رواها عصبة
مرفوضة أقوالهم لا تنقل
بل كلها موضوعة مكذوبة
والطعن فيها كلها مستعمل
بل الذي في الشرع أن المصطفى
محمدا رسوله والأفضل
مختاره من خلقه وأنه
إلى جميع الخلق حقا مرسل
وأنه للناس فيما بينهم
وبين ربي بالهدى يفصل
واسطة بوحيه يهديهموا
بما به الله الكريم ينزل
فمن يقول إنه أصل لهذا
الخلق طرا أوه لما قد ينزل
من رحمة من ربنا سبحانه
في الملك والملكوت أو ما يرسل
ص -238-
إلا وهذا المصطفى أصل لها(42/33)
من كل ما يختص أو ما يشمل
فقد أتى بفرية معلومة
بل ليس هذا في العقول يعقل
فليأتنا1بآية من قال ذا
أو سنة محفوظة لا تجهل
وقد أتى من بعد هذا كله
بمنكر لا يرتضيه الكمل
بأنه معاذ من يشكو له
أف لما قد قاله ذا المبطل
أو أنه من غير أذن شافع
فهو شفيع سرمديا يقبل
وأنه الملاذ فيما يرتجى
وأنه الكهف المنيع المعقل
وأنه محط أحمال الرجا
لأنه الرجعى له والموئل
وأن ينادي إن ألمت أزمة
ونشبت أظفارها لا تمهل
فهذا كله شرك به
سبحانه عما يقول المبطل
__________________
1 في ط الرياض"فاليتنا".
ص -239-
فهو المنادي وحده سبحانه
وهو الملاذ المرتجى الموئل
وهو المعاذ وحده إن أزمة
أو كربة تعدو لنا أو تنزل
لا عبده المعصوم فهو المجتبي
وهو المطاع أمره لا يهمل
لكننا لا ندع إلا ربنا
في كل ما نرجوه وما نأمل
ما مس عبد كربة أو نابه
من نائبات الدهر مما يعضل
إلا وربي فراج لها
لا عبده إن كنت ممن يعقل
تالله ما هذا بقول يرتضى
في المصطفى مما يقول المبطل
فالمشتكى لله لا للمصطفى
وهو الذي إن لم يجب من نسأل
وهو الذي إن لم يعنا لم نطق
حملا لعجزان دها ما يشغل
وهو الذي لا رب حق غيره
وهو الرجا والملتجا الموئل
هذا الذي قالته وهابية
والحق ما قالوه وهو الأكمل
ص -240-
وهو الصواب حقيقة إذا كله
حق وتحقيق وأمر يعقل
لا ما ادعاه الكسم أو قاله
من قد دعوه القطب وهو الأرذل
تالله ما هذا بقطب الورى
في دينهم بل كان ممن يجهل
بل كان قطب الكفر والشرك الذي
أغوى به الشيطان من لا يعقل
فانبذه خلف الظهر لا تعبأ بما
قد قاله هذا الغوى المبطل
ص -241-(42/34)
فصل
قال الملحد: "وفي الشفا للقاضي عياض قال: ناظر 1 أبو جعفر أمير المؤمنين مالكا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: لا ترفع صوتك في هذا المسجد, فإن الله أدب قوما فقال{لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ}[الحجرات-2] الآية ومدح قوما فقال {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ}الآية [الحجرات-3], وذم قوما فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ}الآية,[الحجرات-4]وحرمته ميتا كحرمته حيا, فاستكان لها أبو جعفر وقال: يا أبا عبد الله أستقبل القبلة وادعو, أم أستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ولم تصرف وجهك عنه, وهو وسيلتك, ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله تعالى يوم القيام؟ بل استقبله, واستشفع به, فيشفعك الله وفي نسخة فيشفعه الله قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ}[النساء – 64], انتهى.
__________
1 في الأصل وطبعة الرياض "ناضر".
ص -242-(42/35)
والجواب أن يقال هذه الحكاية لا حجة فيها لمبطل لما سنذكره إن شاء الله تعالى, قال الإمام الحافظ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي في "الصارم المنكي" قلت المعروف عن مالك أنه لا يستقبل القبر عند الدعاء, وهذه الحكاية التي 1 ذكرها القاضي عياض, ورواها بإسناده عن مالك ليست بصحيحة عنه.
وقد ذكر المعترض 2 في موضع من كتابه أن إسنادها إسناد جيد, وهو مخطىء في هذا القول خطأ فاحشا, بل إسنادها إسناد ليس بجيد, بل هو إسناد مظلم منقطع, وهو مشتمل على من يتهم بالكذب, وعلى من يجهل حاله, وابن حميد هو محمد بن حميد الرازي, وهو ضعيف كثير المناكير غير محتج بروايته, ولم يسمع من مالك شيئا, ولم يلقه, بل رواية عنه منقطعة غير متصلة.
وقد ظن المعترض أنه أبو سفيان محمد بن حميد المعمري أحد الثقاة المخرج لهم في صحيح مسلم, قال: فإن الخطيب ذكره في الرواة عن مالك, وقد أخطأ فيما ظنه خطأ فاحشا, ووهم وهما قبيحا. إلى أن قال:
وأما محمد بن حميد الرازي فإنه في طبقة الرواة عن
__________
1 في النسختين "الذي" وما أثبته من "الصارم" ص 218.
2 المقصود به صاحب "شفاء السقام".
ص -243-(42/36)
المعمري كأبي خيثمة 1,وابن نمير, وعمرو الناقد, وغيرهم إلى أن قال:
وقد تكلم في محمد بن حميد الرازي وهو الذي رويت عنه هذه الحكاية من غير واحد من الأئمة, ونسبه بعضهم إلى الكذب. قال يعقوب بن شيبة السدوسي محمد بن حميد الرازي كثير المناكير. وقال البخاري: حديثه فيه نظر. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني: رديء المذهب غير ثقة. وقال فضلك الرازي عندي عن ابن حميد خمسون ألف حديث لا أحدث عنه بحرف, وقال أبو العباس أحمد بن محمد الأزهري: سمعت إسحاق بن منصور يقول: أشهد على محمد بن حميد, وعبيد بن إسحاق العطار بين يدي الله أنهما كذابان. وقال صالح بن محمد الحافظ: كان كل 2 ما بلغه من حديث سفيان يحيله على مهران, وما بلغه من حديث منصور يحيله على عمرو بن أبي قيس3, وما بلغه من حديث الأعمش يحيله على مثل هؤلاء وعلى عنبسة, ثم قال: كل شيء كان يحدثنا ابن حميد كنا نتهمه فيه. وقال
__________
1 في النسختين "أبي حنيفة" وما أثبته من "الصارم" ص 218 ط المصرية. وص 346 ط دار الافتاء بالرياض- تحقيق الشيخ إسماعيل الأنصاري.
2 في النسختين"على" وما أثبته من " الصارم" ومن تهذيب التهذيب 9/129.
3 لفظة "أبي" سقطت من النسختين. ومن نسخة "الصارم" المصرية.وأثبتها من "التهذيب" ونسخة "الصارم" تحقيق الشيخ إسماعيل.
ص -244-(42/37)
في موضع آخر: كانت أحاديثه تزيد, وما رأيت أحدا أجرأ 1 على الله منه كان يأخذ أحاديث الناس فيقلب بعضهم على بعض, وقال في موضع آخر: ما رأيت أحدا أحذق بالكذب من رجلين: سليمان الشاذكوني, ومحمد بن حميد الرازي كان يحفظ حديثه كله, وكان حديثه كل يوم يزيد- ثم أطال الحافظ الكلام فيه 2 إلى أن قال-:
فإذا كانت هذه حال محمد بن حميد الرازي عند أئمة هذا الشأن فكيف يقال في حكاية رواها 3 منقطعة: إسنادها جيد, مع أن في طريقها إليه من ليس بمعروف, إلى أن قال: فانظر هذه الحكاية وضعفها, وانقطاعها, ونكارتها, وجهالة بعض رواتها, ونسبة بعضهم إلى الكذب, ومخالفتها لما ثبت عن مالك, وغيره من العلماء. وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه في "اقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أصحاب الجحيم": ولم يكن أحد من السلف يأتي إلى قبر نبي, أو غير نبي لأجل الدعاء عنده, ولا كان الصحابة
__________
1 في النسختين "أجرى" .
2 وقد لخص الحافظ ابن حجر- رحمه الله تعالى- القول فيه, فقال في "التقريب" :-"محمد بن حميد بن حيان, حافظ ضعيف, وكان ابن معين حسن الرأي فيه.." اهـ .
3 في النسختين .والنسخة المصرية من "الصارم" "رواتها". وما أثبته من نسخة الشيخ إسماعيل الأنصاري المطبوعة بدار الإفتاء. وقد علق عليها بقوله:- "قوله "رواها" بصيغة الماضي, من المخطوطتين, وهو الصواب".
ص -245-(42/38)
يقصدون الدعاء عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا عند قبر غيره من الأنبياء, وإنما كانوا يصلون ويسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم, وعلى صاحبيه, واتفق الأئمة على أنه إذا دعا بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم لا يستقبل قبره, وتنازعوا عند السلام عليه, فقال مالك وأحمد وغيرهما: يستقبل قبره, ويسلم عليه, وهو الذي ذكره أصحاب الشافعي, وأظنه منصوصا عنه.
وقال أبو حنيفة: بل يستقبل القبلة ويسلم عليه هكذا في كتب أصحابه. وقال مالك: فيما ذكره إسماعيل بن إسحاق في" المبسوط" والقاضي عياض, وغيرهما 1:- لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو, ولكن يسلم ويمضي, وقال أيضا في "المبسوط": لا بأس لمن قدم من سفر, أو خرج أن يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو له, ولأبي بكر وعمر, قيل له: فإن ناسا من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدونه يفعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر, وربما وقفوا في الجمعة, أو في الأيام المرة والمرتين أو أكثر عند القبر يسلمون ويدعون ساعة فقال: لم يبلغني هذا عن أحد من أهل الفقه ببلدنا, وتركه واسع, ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها, ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك, ويكره إلا لمن جاء من سفر أو أراده. وقد تقدم في ذلك من الآثار عن السلف والأئمة ما يوافق هذا ويؤيده من أنهم كانوا
__________
1 في النسختين" وغيرهم " وما أثبته من نسختي"الصارم".
ص -246-(42/39)
إنما يستحبون عند قبره ما هو من جنس الدعاء له والتحية كالصلاة والسلام, ويكرهون قصده للدعاء, والوقوف عنده للدعاء 1, ومن يرخص منهم في شيء من ذلك فإنه إنما يرخص فيما إذا سلم عليه, ثم أراد الدعاء أن يدعو مستقبل القبلة إما مستدير القبر, وإما منحرفا عنه, وهو أن يستقبل القبلة ويدعو, ولا يدعو مستقبل القبر, وهكذا المنقول عن سائر الأئمة, ليس في أئمة المسلمين من استحب للمرء 2 أن يستقبل قبر النبي ويدعو عنده.
وهذا الذي ذكرناه عن مالك يبين حقيقة الحكاية المأثورة عنه, وهي الحكاية التي ذكرها القاضي عياض عن محمد بن حميد قال ناظر 3 أبو جعفر أمير المؤمنين مالكا في مسجد رسول الله- صلى الله عليه وسلم-, قال له مالك: يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد, فإن الله تعالى أدب قوما فقال: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ}[الحجرات-2] وذكر باقي الحكاية, ثم قال: فهذه الحكاية على هذا الوجه إما أن تكون ضعيفة, أو مغيرة, وإما أن تفسر بما يوافق مذهبه إذ قد يفهم منها ما هو خلاف مذهبه المعروف بنقل الثقاة من أصحابه, فإنه لا يختلف مذهبه أنه لا يستقبل القبر عند
__________
1 سقطت الواو من ط الرياض.
2 في ط: الرياض "المرء".
3 في النسختين"ناضر".
ص -247-(42/40)
الدعاء, وقد نص على أنه لا يقف عند الدعاء مطلقا, وذكر طائفة من أصحابه أنه يدنو من القبر, ويسلم على النبي صلى الله عليه وسلم, ثم يدعو مستقبل القبلة ويوليه ظهره, وقيل:[لا يوليه ظهره] 1 فاتفقوا في استقبال القبلة, وتنازعوا في تولية القبر ظهره وقت الدعاء, ويشبه والله أعلم أن يكون مالك 2 رحمه الله سئل 3 عن استقبال القبر عند السلام عليه, وهو يسمى ذلك دعاء, فإنه قد كان من فقهاء العراق من يرى أنه عند السلام عليه يستقبل القبلة أيضا, ومالك يرى استقبال القبر في هذا الحال كما تقدم. وكما قال في رواية ابن4وهب عنه: إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم يقف ووجهه إلى القبر, لا إلى القبلة 5, ويدنو, ويسلم, ويدعو, ولا يمس القبر بيديه. وقد تقدم قوله: إنه يصلي عليه, ويدعو له.
ومعلوم أن الصلاة عليه, والدعاء له توجب شفاعته للعبد يوم القيامة كما قال في الحديث الصحيح:"إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول, ثم صلوا علي فإنه من صلى علي
__________
1 ما بين المعكوفين سقط من النسختين. وما أثبته من نسختي "الصارم" ومن"اقتضاء الصراط المستقيم" 2/756.
2 وقع في نسخة "الاقتضاء" المحققة "أن يكون مالكا", مع أن نسخة محمد حامد الفقي فيها "مالك"!!
3 في ط: الرياض "سأل".
4 سقطت"ابن" من النسختين.
5 في النسخة المحققة من "الاقتضاء" [أو].
ص -248-(42/41)
مرة صلى الله عليه عشرا, ثم اسألوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله, وأرجو أن أكون ذلك العبد, فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة"1.
فقول مالك في هذه الحكاية- إن كان ثابتا عنه- معناه أنك إذا استقبلته, وصليت عليه, وسلمت عليه, وسألت الله له الوسيلة, يشفع فيك يوم القيامة, فإن الأمم يوم القيامة يتوسلون بشفاعته, واستشفاع العبد به في الدنيا هو فعله ما يشفع به له يوم القيامة, كسؤال الله تعالى له بالوسيلة, ونحو ذلك, وكذلك ما نقل عنه من رواية ابن وهب: إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم ودعا, يقف ووجهه إلى القبر لا إلى القبلة, ويدعو ويسلم, يعني دعاءه 2 للنبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه.
فهذا هو الدعاء المشروع هناك, كالدعاء عند زيارة قبور سائر المؤمنين, وهو الدعاء لهم, فإنه أحق الناس أن يصلي عليه, ويسلم عليه, ويدعى له, بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم. وبهذا تتفق أقوال مالك, ويفرق بين الدعاء الذي أحبه, والدعاء الذي كرهه وذكر أنه بدعة.
__________
1 أخرجه مسلم في صحيح 1/288 عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع النبي- صلى الله عليه وسلم- يقول: ".. الحديث".
2 في النسختين "دعاء للنبي" وكذا في النسخة المصرية من "الصارم" وما أثبته من الاقتضاء 2/757, ونسخة الشيخ الأنصاري ص 351.
ص -249-(42/42)
وأما الحكاية في تلاوة مالك هذه الآية1: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ}[النساء–64] فهو- والله أعلم- باطل2, فإن هذا لم يذكره أحد من الأئمة فيما أعلم, ولم يذكر أحد منهم أنه استحب أن يسأل بعد الموت لا استقلالا 3 ولا غيره, وكلامه المنصوص عنه وأمثاله ينافي هذا, انتهى4.وقد تقدم الجواب على هذه الآية.
وأما القول هذا الملحد: "والمراد من قوله وحرمته ميتا أي حال انتقاله إلى البرزخ, فلا ينافي ما تقدم: أنه حي في قبره صلى الله عليه وسلم.
والجواب أن يقال: ليس هذا مالك رحمه الله, فإنه إمام عالم عربي فقيه, ومن أعلم أهل زمانه بالحديث ومعانية, فإنه حال حكايته مع المنصور- لو ثبت- لا يخاطب المنصور بحال انتقاله إلى البرزخ بأنه ميت, وإنما يخاطبه حال الحكاية معه وقت المناظرة بعد وفاته بزمان طويل, أن حرمته ميتا في هذا الوقت- أي وقت المناظرة- كحرمته في حال الحياة في
__________
1 سقطت كلمة "هذه الآية" من النسختين .وأثبتها من نسختي "الصارم" و"الاقتضاء".
2 في نسخة "الاقتضاء" المحققة [باطلة].
3 في نسخة "الاقتضاء" ونسختي "الصارم" [لا استغفارا].
4 أي كلام ابن عبد الهادي من "الصارم" الذي نقله من "الاقتضاء" لشيخه شيخ الإسلام.
ص -250-(42/43)
غض الصوت عنده وعدم رفعه, فما قاله مالك- رحمه الله- ينافي ما تقدم من الحكايات الموضوعة, والأحاديث المكذوبة, وما كان منها ضعيفا فمؤلف محرف, من تحريفات هؤلاء الغلاة المارقين.
وأما حكايته عن شارح "نور الإيضاح" فككلام 1 غيره من المصنفين في الزيارة ممن لا يوثق به, ولا يعتمد على قوله ونقله, وليسوا من أهل الحديث المعروفين بالرواية والدراية والأمانة, وفيما نقلنا عن مالك وأصحابه, وأبي حنيفة وأصحابه, وأحمد وأصحابه, والشافعي وأصحابه ما يكفي ويشفي عن كلام هؤلاء, وليس 2 المراد من ذكر أصحاب مالك, وأبي حنيفة, وأحمد, وشافعي من تأخر منهم, إنما المراد بأصحاب الأئمة من نهجوا منهجهم, وأخذوا بمذهبهم, وكانوا على طريقتهم في الأقوال, والأفعال, والمآخذ من الأصول المنقولة المأثورة عن الصحابة – رضي الله عنهم- أجمعين .
__________
1 في الأصل "كلام".
2 وقع ي ط: الرياض تحريف شنيع "وليس المراد بأصحاب الأئمة من نهجوا منهجهم, وأخذوا بمذاهبهم".
ص -251-
فصل:
قال الملحد: "وفي "الإيضاح" للنووي المؤلف في مناسك الحج على مذهب الإمام الشافعي- رحمه الله تعالى- ما نصه: ومن أحسن ما يقول ما حكاه أصحابنا عن العتبي مستحبين له, قال:كنت جالسا عند قبر النبي- صلى الله عليه وسلم- فجاء أعرابي, فقال: السلام عليك يا رسول الله, سمعت الله يقول: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: آية 64] وقد جئتك مستغفرا من ذنبي, مستشفعا بك إلى ربي ثم أنشأ يقول:
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه
فطاب من طيبهن القاع والأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه
فيه العفاف وفيه الجود والكرم
أنت الشفيع الذي ترجى شفاعته
على الصراط إذا ما زلت القدم
ص -252-
وصاحباك فلا أنساهما أبدا(42/44)
مني السلام عليكم ما جرى القلم
قال: ثم انصرف, فغلبتني عيناي, فرأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في النوم, فقال يا عتبي: إلحق الأعرابي وبشره بأن الله قد غفر له, انتهى.
والجواب أن يقال: هذه الحكاية على تسليم صحتها ليس فيها دليل شرعي يجب المصير إليه عند أهل العلم والإيمان, فقد ذكر العلماء الأدلة الشرعية, وحصروها, وليس أحد منهم استدل على الأحكام برؤيا آحاد الأمة, لا سيما إذا تجردت عما يعضدها من الكتاب والسنة والإجماع والقياس.
قال شيخنا الشيخ عبد اللطيف- رحمه الله-: وهذه القصة ذكرها طائفة من متأخري الفقهاء, ولم يذكرها غيرهم ممن يعتد به, ويقتدى به,كالأئمة المتبوعين, وأكابر أصحابهم, وأهل الوجوه في مذاهبهم, كأشهب, وابن القاسم, وسحنون, وابن وهب, وعبد الملك, وابنه, والقاضي إسماعيل من المالكية. ولا من الشافعية كالمزني, والبويطي, وابن عبد الحكيم, ومن بعدهم كابن خزيمة, وابن سريج, وأمثالهم ونظرائهم من أهل الوجوه. وكأبي يوسف من أصحاب أبي حنيفة, ومحمد بن الحسن اللؤلؤي, وزفر بن الهذيل, ومن بعدهم كالطحاوي حامل لواء المذهب. وكذلك أصحاب
ص -253-
أحمد, وأصحاب الوجوه في مذهبه, لم يذكرها أحد منهم كعبد الله,وصالح, والخلال, والأثرم, وأبي بكر عبد العزيز, والمروذي, وأبي الخطاب, ومن بعدهم كابن عقيل, وابن بطة .
وبعض 1من ذكر هذه الحكاية يرويها بلا إسناد,وبعضها عن محمد بن حرب الهلالي, وبعضهم يرويها عن محمد بن حرب عن أبي الحسي الزعفراني عن الأعرابي, وقد ذكرها البيهقي 2 بإسناد مظلم عن محمد بن روح بن يزيد البصري حدثني أبو حرب الهلالي قال: حج أعرابي فذكر نحو ما تقدم.
ووضع لها بعض الكذابين إسنادا إلى علي بن أبي طالب 3. كما روى أبو الحسن علي بن إبراهيم بن عبد الله بن عبد الرحمن الكرخي, عن علي بن محمد بن علي, حدثنا أحمد بن محمد بن الهيثم الطائي, قال حدثنا أبي عن أبيه سلمة بن كهيل عن أبي صادق عن علي بن(42/45)
__________
1 الكلام من هنا لابن عبد الهادي ص 337-338.
2 في شعب الإيمان. كما في"الصارم المنكي" لا بن عبد الهادي ص 338.
3 إلى هنا موضع الكلام لا بن عبد الهادي في "الصارم" ص 338 من طبعة الإفتاء. وما بعده نقل من"الصارم" ص430.
ص -254-
أبي طالب, فذكر نحو ما تقدم 1.
قال الحافظ بن عبد الهدي: هذا الخبر منكر موضوع 2 لا يصلح الاعتماد عليه, ولا يحسن المصير إليه, وإسناده ظلمات بعضها فوق بعض, والهيثم جد أحمد بن محمد بن الهيثم أظنه ابن عدي الطائي, فإن لم يكن هو فهو كذاب متروك 3, وإلا فمجهول4, وقال عباس5 الدوري: سمعت يحيى بن معين يقول: الهيثم بن عدي كوفي ليس بثقة كان يكذب, وقال العجلي وأبو داود: كذاب, وقال أبو حاتم الرازي 6والنسائي والدولابي والأزدي متروك الحديث, وقال
__________
1 ولفظها كما في "الصارم"- عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قدم علينا أعرابي بعد ما دفنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاثة أيام فرمي بنفسه إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وحثا على رأسه من ترابه. وقال: يا رسول الله قلت فسمعنا قولك, ووعيت عن الله عز وجل فما وعينا عنك, وكان فيما أنزل الله عز جل عليك {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} وقد ظلمت نفسي وجئتك تستغفر لي .
فنودي من القبر أنه قد غفر لك .
2 في"الصارم": وأثر مختلق مصنوع .
3 في "الصارم": متروك كذاب .
4 في "الصارم" بعد قوله:- مجهول:- وقد ولد الهيثم بن عدي بالكوفة ونشأ بها وأدرك زمان سلمة بن كهيل فيما قيل ثم انتقل إلى بغداد فسكنها. قال عباس ...
5 في الأصل و ط: الرياض "ابن عباس" .
6 في الأصل و ط: الرياض "الرازي النسائي" .
ص -255-(42/46)
السعدي: ساقط كشف قناعه, وقال أبو زرعة: - ليس بشيء 1,وقال ابن عدي: ما أقل ما له من المسند, وإنما هو صاحب أخبار, وأسمار, ونسب, وأشعار2, وقال الحاكم أبو عبد الله:- الهيثم بن عدي الطائي في علمه ومحله حدث عن جماعة من الثقات أحاديثه منكرة, وقال العباس بن محمد: سمعت بعض أصحابنا يقول: قالت جارية الهيثم: كان مولاي يقوم عامة الليل يصلي فإذا أصبح جلس يكذب؟.
فإذا كانت هذه الحكاية عند أهل العلم بهذه المثابة لم تثبت بسند يعول عليه ويحتج به.
قال الشيخ: ولو سلمنا ثبوت هذه الحكاية فلا دليل فيما على ما ذهب إليه هذا الأحمق من تجويز دعاء الأنبياء والصالحين, وطلب الحوائج منهم. والأعراب لا يحتج بأفعالهم ويجعلها دليلا شرعيا إلا مصاب في عقله, مفلس في فهمه وعلمه, وكذلك نقل العتبي ومن مضى من رجال سندها ليسوا بشيء. وقد تقدم أن أدلة الأحكام هي الكتاب, والسنة,والإجماع, والقياس المعتبر فيه خلاف, وغير ذلك ليس من
__________
1 في "الصارم" ص431: وقال البخاري سكتوا عنه- أي تركوه-.
2 في "الصارم": وقال ابن حبان: كان من علماء الناس بالسير وأيام الناس وأخبار العرب إلا أنه روى عن الثقات أشياء كأنها موضوعات يسبق إلى القلب أنه كان يدلسها.
وقال الحاكم أبو أحمد: ذاهب الحديث .
ص -256-(42/47)
الأدلة في شيء, ولم يأت عن أحد من الأئمة من عهد الصحابة إلى آخر القرون المفضلة في هذا الباب ما يثبت, لا طلب الاستغفار ولا غيره, وقد تقدم عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالي أنه حكي الإجماع على منعه.
ولو فرض أن هذا الأعرابي قد غفر له فذلك أيضا لا يدل على حسن حاله, وأسباب الكائنات لا يحصيها إلا الله تعالى, وقد يستجاب لعباد الأصنام استدراجا, كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى-في كتابه"اقتضاء الصراط المستقيم" ثم ليس في الحكاية أنه سأل الرسول شيئا, غايتة أنه توسل به, ومسألة التوسل بذاته صلى الله عليه وسلم غير مسألة دعائه والاستغاثة به والطلب منه, وقد قال تعالى: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ}[ آل عمران: آية 135] فإذا كان هذا المختص بمغفرة الذنوب فكيف تطلب المغفرة من غيره تعالى وتقدس, وقد تقدم الكلام على قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ} بما أغنى عن إعادته هنا.
وأما ذكره في"المستوعب" لأبي عبد الله السامري الحنبلي وفيه" اللهم إنك قلت في كتابك لنبيك - عليه السلام : {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ}"الآية".
فنقول هذا من نمط ما قبله وقد تقدم الكلام عليه.
ثم قال الملحد: "سئل العلامة الشهاب الرملي عن ما يقع
ص -257-(42/48)
من العامة من قولهم عند الشدائد: يا شيخ فلان ونحو ذلك, فأجاب: بأن الاستغاثة بالأنبياء والمرسلين والأولياء والعلماء والصالحين جائزة, وللرسل والأنبياء والأولياء إغاثة بعد وتهم, لأن معجزة الأنبياء وكرامة الأولياء لا تنقطع, انتهى".
فالجواب أن يقال: قد تقدم أن الاستغاثة هي طلب الغوث, وهو: إزالة الشدة, كالاستنصار طلب النصر, والاستعانة طلب العون, وذكرنا فيما تقدم كلام أبي عبد الله القرشي أحد مشايخ الطريقة أنه قال: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة الغريق بالغريق, وعن ذي النون 1إستغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله في الرسالة السنية: فإذا كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن انتسب إلى الإسلام من مرق منه مع عبادته العظيمة, فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام والسنة في هذه الأزمان قد يمرق أيضا من الإسلام لأسباب منها: الغلو في بعض المشائخ, بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في المسيح عليه السلام, فكل من غلا في نبي أو رجل صالح, وجعل فيه نوعا من الإلهية مثل أن يقول: يا سيدي فلان أنصرني, أو أغثني, وارزقني, أو أنا في حسبك, ونحو هذه الأقوال, فهذا شرك وضلال يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل, فإن الله سبحانه وتعالى إنما أرسل الرسل, وأنزل
__________
1 في الأصل والمطبوعة بالرياض "ذا النون".
ص -258-(42/49)
الكتب ليعبد وحده لا شريك له, ولا يدعى معه إله, والذين يدعون مع الله آلهة أخرى مثل المسيح والملائكة والأصنام لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق, أو تنزل المطر, أو تنبت النبات, وإنما كانوا يعبدونهم, أو يعبدون قبورهم, أو يعبدون صورهم يقولون: إنما نعبدهم, ليقربونا إلى الله زلفى, ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله فبعث الله سبحانه رسله تنهي أن يدعى أحد من دونه, لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة انتهى.
وقال أيضا:من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم, ويتوكل عليهم, ويسألهم كفر إجماعا. نقله عنه 1 صاحب الفروع, وصاحب الإنصاف, وصاحب الإقناع.
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: ومن أنواع - يعني الشرك - طلب الحوائج من الموتى, والاستغاثة بهم, والتوجه إليهم, وهذا أصل شرك العالم فإن الميت قد انقطع عمله, وهو لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا, فضلا لمن استغاث به أو سأله أن يشفع له إلى الله, وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده, وقد تقدم بتمامه.
وبالجملة فضابط هذا أن كل ما شرعه الله لعباده, وأمرهم به ففعله لله عبادة, فإذا صرف العبد من تلك العبادة شيئا لغير الله فهو مشرك, مصادم لما بعث الله به رسوله من قوله: {قُلْ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي}[الزمر: آية 14].
__________
1 في الأصل و ط: الرياض "عن" ولعل الصواب ما أثبته.
ص -259-(42/50)
فإذا عرفت هذا فهذا الرجل المسمى الشهاب الرملي إن كان من المعروفين بالعلم - لأني لا أعرف ما حاله - فهو من جنس السبكي وأضرابه الغالين الذين يصنفون في إباحة الشرك وجوازه زاعمين أن ذلك من تعظيم الرسول, وتعظيم الأنبياء والأولياء, وذلك لجهلهم, وعدم إدراكهم لحقائق الدين, ومدارك الأحكام, وليس لهم قدم صدق في العالمين, ولا كانوا من العلماء العاملين, فلا حجة في أقوالهم {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ}[النور: آية 40] ثم لو كان الشهاب الرملي من أهل الفضل والعلم والعبادة وأكابر أهل الفقه والورع والزهادة لكان قد أخطأ فيما قاله وأراده, ودعا إلى عبادة غير الله, وهذا يوجب كفره وارتداده.
وأما معجزات الأنبياء وكرامة الأولياء فهي لا تدل على دعائهم, ولا الاستغاثة بهم, وصرف خالص حق الله لهم, وإنما تدل على علو درجتهم, وكرامتهم على الله, وقربهم منه. وقد قال صلى الله عليه وسلم لما طلب الصحابة رضي الله عنهم من النبي أن يغيثهم من المنافق الذي آذاهم: "إنه لا يستغاث بي, وإنما يستغاث بالله عزو جل"1 وقد قال الله
__________
1 تقدم الكلام عليه في "الرد على القبوريين" لا بن معمر. وأن في سنده ابن لهيعة لكن تكلم عليه شيخ الإسلام بكلام حسن عندما تعقبه البكري في إيراد هذا الحديث فقال في رده على البكري ص 153:
هذا الخبر لم يذكر للاعتماد عليه, بل ذكر في ضمن غيره ليتبين أن معناه موافق للمعاني المعلومة بالكتاب, والسنة, كما أنه إذا ذكر حكم بدليل=
ص -260-(42/51)
تعالى لنبيه- صلى الله عليه وسلم-: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ بَلْ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ}[الزمر: آية 65] وهؤلاء الغلاة لا يأتمرون بما أمر الله به ورسوله, ولا ينتهون عما نهى الله عنه ورسوله, فالله المستعان.
__________________
= معلوم, ذكر ما يوافقه من الآثار والمراسيل وأقوال العلماء وغير ذلك لما في ذلك من الاعتضاد والمعاونة, لا لأن الواحد من ذلك يعتمد عليه في حكم شرعي.
ولهذا كان العلماء متفقين على جواز الاعتضاد والترجيح بما لا يصلح أن يكون هو العمدة من الأخبار التي تكلم في بعض رواتها لسوء حفظ أو نحو ذلك, وبآثار الصحابة والتابعين, بل بأقوال المشايخ والإسرائيليات والمنامات مما يصلح للاعتضاد, فما يصلح للاعتضاد نوع, وما يصلح للاعتماد نوع.
وهذا الخبر من النوع الأول فإنه رواه الطبراني في معجمه من حديث ابن لهيعة, وقد قال أحمد: قد كتبت حديث الرجل لأعتبر واستشهد به مثل حديث ابن لهيعة.
فإن عبد الله بن لهيعة قاضي مصر كان من أهل العلم والدين باتفاق العلماء, ولم يكن ممن يكذب باتفاقهم. ولكن قيل: إن كتبه احترقت فوقع في بعض حديثه غلط, ولهذا فرقوا بين من حدث عنه قديما, وبين من حدث عنه حديثا. وأهل السنن يروون له.
إلى أن قال:-
وقد روي الناس هذا الحديث من أكثر من خمسمائة سنة إن كان ضعيفا, وإلا فهو مروي في زمان النبي- صلى الله عليه وسلم-, وما زال العلماء يقرؤون ذلك, ويسمعونه في المجالس الكبار والصغار, ولم يقل أحد من المسلمين إن إطلاق القول: إنه لا يستغاث بالنبي-صلى الله عليه وسلم- كفر ولا حرام ... إلخ كلامه- رحمه الله تعالى-.
ص -261-(42/52)
فصل
قال الملحد: "وروي عن ابن عباس أن عمر رضي الله عنه قال:"اللهم إنا نستسقيك بعم نبيك صلى الله عليه وسلم, ونستشفع إليك وبشيبته, فسقوا" وفي ذلك يقول عباس بن عتبة بن أبي لهب:
بعمي سق الله الحجاز وأهله
عشية يستسقي بشيبته عمر"
والجواب أن يقال: هذا الحديث الذي ذكره عن ابن عباس لم يذكره بإسناده, ولم يعزه إلى شيء من الكتب المعتمدة, وفيه ألفاظ مخالفة للأخبار الصحيحة, فلا اعتماد على ما ذكره, والمحفوظ المعتمد عليه ما ذكره البخاري في صحيحه عن أنس أن عمر استقى بالعباس بن عبد المطلب, وقال: " اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا, وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا" فيسقون.
قلت: وقد ورد في بعض الألفاظ: قم يا عباس فادع الله. فاستسقوا به كما كانوا يستسقون بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته, وهو
ص -262-(42/53)
أنهم يتوسلون بدعائه وشفاعته, فيدعون معه, كالإمام والمأمومين من غير أن يكونوا يقسمون على الله بمخلوق,كما ليس لهم أن يقسم بعضهم على بعض بمخلوق, ولما مات صلى الله عليه وسلم توسلوا بدعاء العباس واستسقوا به.
ولهذا قال الفقهاء: يستحب الإستقاء بأهل الخير والدين, والأفضل أن يكونوا من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم, وقد استقى معاوية بيزيد بن الأسود الجرشي, وقال: "اللهم أنا نستقي بيزيد بن الأسود: يا يزيد أرفع يديك, فرفع يديه ودعا, ودعا الناس حتى امطروا, وذهب الناس. ولم يذهب أحد من الصحابة إلى قبر نبي ولا غيره يستسقي عنده ولا به.
وأما قوله: "وفي رواية للزبير بن بكار أن العباس رضي الله عنه قال في دعائه: وقد توجه بي القوم إليك لمكاني من نبيك صلى الله عليه وسلم فأسقنا الغيث, فأرخت السماء مثل الجبال حتى أخصبت الأرض. انتهى".
فأقول: قال الحافظ في الفتح, وقد بين الزبير بن بكار في الأنساب صفة ما دعا به العباس لما استسقى به عمر قال: اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب, ولم يكشف إلا بتوية, وقد توجه القوم بي إليك لمكاني من نبيك, وهذه أيدينا إليك بالذنوب, ونواصينا إليك بالتوبة, فاسقنا الغيث, فأرخت السماء مثل الجبال, حتى أخصبت الأرض, وعاش الناس.
وقد أسقط هذا الملحد من هذا الأثر قوله: اللهم إنه لم
ص -263-(42/54)
ينزل بلاء إلا بذنب, ولم يكشف إلا بتوبة. لعلمه أنه يعود على مقصوده بالهدم, وذلك أنهم إنما سألوا به ليدعو لهم, فاستكان لله تعالى بالاعتراف وبالذنب, وأنهم قد أتوه بائبين منيبين.
وكذلك أسقط منه قوله: "ونواصينا إليك بالتوبة" وهذا توسل منه بهذا العمل الصالح, وهو التوبة, وعلى تقدير صحة هذا الأثر فلا دليل فيه على ما يتوهمه, فإن توسلهم بالعباس بدعاء حي يقدر على الدعاء, وهذا لا محذور فيه وقد فعله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما المحذور المنهي عنه دعاء الأموات, وتوجه بهم, والتوسل بهم وهذا لم ينقل عن أحد من الصحابة, ولا التابعين, ولا الأئمة المهديين, والعلماء والراسخين.
وأما قوله: "وفي هذا يبطل قول من منع التوسل مطلقا سواء كان في الأحياء وبالأموات, وقول من منع ذلك بغير النبي صلى الله عليه وسلم لأن فعل عمر رضي الله عنه حجة لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه" رواه الإمام أحمد والترمذي"1.
__________
1 في الأصل : "تسلوا " وفي ط الرياض: "سئلوا ".
2 هذا الحديث روي عن جماعة من الصحابة. منهم ابن عمر أخرجه الترمذي في الفضائل من جامعه 5/617 وفي سنده خارجة بن عبد الله.
ومنهم أبو ذر كما في مسند أحمد 5/177 وابن ماجه 2/40 وأبو دود 3/365 .
ص -264-(42/55)
فالجواب على هذا من وجوه:-
الأول: أن في سنده خارجة بن عبد الله الأنصاري, وهو ضعيف ضعفه أحمد.
الثاني: أن عمر استسقى بدعاء حي حاضر يقدر على الدعاء, وليس في هذا ما يدل على الاستسقاء بالأموات, ولو كان هذا جائرا لما عدل الفاروق عن الاستسقاء بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى الاستسقاء بالعباس الحي,فالقياس باطل, والتوهم تحكم.
الثالث: أن جعل الحق على لسان عمر وقلبه لا يستلزم كون فعله رضي الله عنه حجة, ومن يدعيه فعليه البيان, خصوصا إذا خالف غيره من الصحابة.
الرابع: أن المقصود أن الله تعالى أجرى الحق على لسان عمر رضي الله عنه في وقائع, كما قال ابن عمر راوي الحديث: ما نزل بالناس أمر قط, فقالوا فيه, وقال فيه عمر إلا نزل فيه القرآن على نحو ما قال عمر. ويقويه الحديث المتفق عليه عن أنس وابن عمر أن عمر قال:1وافقت ربي في ثلاث.قلت يا رسول الله:لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى؟ فنزلت {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}[البقر: آية
__________
= ومنهم أبو هريرة, وعمر بن الخطاب نفسه, وابن عمر, وبلال, ومعاوية ابن أبي سفيان, وعائشة, وعلي بن أبي طالب موقوفا عليه, وابن مسعود كذلك, وطارق بن شهاب كذلك. ذكرها كلها الهيثمي في مجمع الزوائد 9/66-67.
1 في طبعة الرياض "وابن عمر إن قال عمر".
ص -265-(42/56)
125] وقلت يا رسول الله يدخل على نسائك البر والفاجر فلو أمرتهن يحتجبن فنزلت آية الحجاب, واجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة عليه فقلت: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} ونزلت كذلك. إلى غير ذلك من الأمور التي وافق فيها عمر, كقصة أسارى بدر وقصة الصلاة على المنافقين.
وجملة القول أن هذا الحديث على تقدير ثبوته ليس معناه إلا ما روي في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقد كان فيمن قبلكم محدثون فإن يكن في أمتى أحد فإنه عمر" المحدث الملهم1, وقيل الرجل الصادق الظن, وهو من ألقي في روعه شيء من قبل الملأ الأعلى فيكون كالذي حدثه غيره به, وقيل من يجري الصواب على لسانه من غير قصد, وقيل المكلم أي تكلمه الملائكة بغير نبوت, وقيل الملهم بالصواب الذي يلقى على فيه, وعلى كل تقدير لا يحكم بما وقع للمحدث بل لا بد له من عرضه على الكتاب والسنة, ومن ثم أجمع أهل السنة على أن إلهام غير النبي صلى الله عليه وسلم ليس بحجة, وعلى هذا المعنى ينبغي أن يحمل حديث ابن عمر المذكور, وليس الغرض أن الله جعل الحق في كل حادثه وواقعة على لسان عمر وقلبه, وأن فعله وقوله حجة شرعية, وأنه لا يقع منه خطأ قط, وإلا لما خالفه ونازعه أحد
__________
1 ذكر هذه الأقوال الحافظ ابن حجر في الفتح عند كلامه على هذا الحديث 7/50.
ص -266-(42/57)
من الصحابة والتابعين من بعدهم من أهل الحديث والفقه, والثاني باطل فإن مخالفات الصحابة لعمر رضي الله عنه أكثر من أن يكتب في هذا المختصر, وأشهر أن يخفى على من له إلمام بكتب الحديث والأثر, ثم كيف يصح القول بحجية فعل عمر رضي الله عنه عموما كما زعم هذا المؤلف فقد أخطأ عمر رضي الله عنه في مسائل: منها عدم جواز التيمم عنده لمن أجنب فلم يجد الماء. ومنها عدم جواز التمتع في الحج عنده.ومنها قوله: إن لمعتدة 1الثلاث السكنى والنفقة,إلى غير ذلك من الأمور التي أخطأ فيها, ورجع فيها إلى الصواب. وكان الصديق رضي الله عنه يقومه في أشياء كثيرة,كما قومه يوم صلح الحديبية, ويوم موت النبي صلى الله عليه وسلم, بل كان آحاد الناس يبين له الصواب فيرجع إلى قوله, كما راجعته أمرأة في قوله:"لئن بلغني أن أحدا زاد صداقه على صداق أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وبناته إلا رددت الفضل في بيت المال" فقالت له امرأة: لم تحرمنا شيئا أعطانا الله إياه؟ وقرأت قوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا} 2 [النساء: آية 20] فرجع إلى قولها وقال في لفظ آخر: الله أكبر أصابت امرأة وأخطأ عمر, وأمثال هذا كثير.
إذا عرفت هذا فليس في قول صلى الله عليه وسلم: "إن الله جعل الحق
__________
1 في الأصل و ط الرياض "المعتدة".
2 الحديث رواه أحمد وأهل السنن. وسرد طرقه ابن كثير في تفسير الآية .
ص -267-(42/58)
على لسان عمر وقلبه" حجة على جواز التوسل بالنبي, والاستغاثه به بعد موته صلى الله عليه وسلم, ولا بأحد من الأموات والغائبين, لا من الأنبياء والأولياء, ولا غيرهم من الصالحين, غاية ما فيه أن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه, ومن ذلك أنه عدل عن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته إلى التوسل بدعاء العباس, وهذا من الحق الذي جعل الله على لسان عمر وقلبه, وسيأتي إيضاح هذا فيما بعد عن قريب إن شاء الله تعالى.
وأما قول الملحد: "ولا يقال فيه دليل على امتناع التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد انتقاله لأن التوسل والاستسقاء بالنبي صلى الله عليه وسلم كان معلوما عندهم كما تقدم في القصة التي رواها ابن حنيف, وكما في توسل آدم في الحديث المتقدم الذي رواه عمر رضي الله عنه , وإنما فعله عمر رضي الله عنه لدفع توهم أن الاستسقاء بغير النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز".
فالجواب أن نقول: قد تقدم الجواب عن هذا, وأنه لم يكن يفعله أحد من الصحابة, ولا التابعين, ولا من بعدهم من الأئمة المقلدين, لذلك عدل عمر رضي الله عنه عن التوسل به صلى الله عليه وسلم إلى التوسل بالعباس, وقد ألهم الصواب لأن الله جعل الحق على لسانه وقلبه.
وأما حديث الأعمى فليس فيه ما يدل على غيبته صلى الله عليه وسلم, وهو توسل بدعائه, كما كان الصحابة يتوسلون بذلك, ويسألونه الاستغفار والدعاء, وهذا كان هديهم وفعلهم في حياته صلى الله علي وسلم
ص -268-(42/59)
كما تقدم, وأما بعد وفاته فلم يفعله أحد من الصحابة رضي الله عنهم.
وأما الذي حدثه عثمان بن حنيف فلم يخاطبه, ولم يثبت ذلك في حديث الأعمى أعني مخاطبته صلى الله عليه وسلم والذي رواه من أهل السنن المعتبرة لم يثبت مخاطبة الرسول, بل هي ساقطة في الأصول المحررة, ومسألة السؤال به أو بحقه غير مسألة نفسه ودعائه.
وأما الحديث الذي عزاه لعمر بن الخطاب بتوسل آدم بجاه محمد فهو حديث موضوع مكذوب باتفاق أهل العلم بالحديث.
وأما قوله:"وإنما فعله عمر رضي الله عنه لدفع توهم أن الاستسقاء بغير النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز."
فالجواب أن يقال: قد ثبت في صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كانوا إذا قحطوا استسقى بالعباس رضي الله عنه , قال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبيك صلى الله عليه وسلم فتسقينا, وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فأسقنا فيسقون. فإنه لو كان التوسل به عليه الصلاة والسلام بعد انتقاله من هذه الدار جائز لما عدلوا إلى غيره بل كانوا يقولون: اللهم إنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا. وحاشاهم أن يعدلوا عن التوسل بسيد الناس إلى التوسل بعمه العباس وهو يجدون أدنى مساغ لذلك, فعدولهم هذا مع أنهم السابقون
ص -269-(42/60)
الأولون وهم أعلم منا بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بحقوق الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام,وما يشرع من الدعاء وما لا يشرع, وهم في وقت ضرورة ومخمصة يطلبون تفريج الكربات,وتيسير العسير, وإنزال الغيث بكل طريق, دليل واضح على أن المشروع ما سلكوه دون غيره.
وأما قوله: "وإنما فعله عمر رضي الله عنه لدفع توهم أن الاستسقاء بغير النبي لا يجوز".
فأقول فيه كلام من وجوه:-
الأول: أن المراد بالاستسقاء بالعباس والتوسل به الوارد في حديث أنس رضي الله عنه هو الاستسقاء بدعاء العباس, على طرية معهودة في الشرع, وهي أن يخرج من يستسقى به إلى المصلي, فيستسقي ويستقبل القبلة داعيا, ويحول رداءه, ويصلي ركعتين أو نحوه من هيئات الاستسقاء التي وردت في الصحاح, والدليل عليه قول عمر رضي الله عنه : اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم فتسقينا, وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا. ففي هذا القول دلالة واضحة على أن التوسل بالعباس كان مثل توسلهم بالنبي صلى الله عليه وسلم, والتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن إلا بأن يخرج, ويستقبل القبلة, ويحول رداءه, ويصلي ركعتين أو نحوه من الهيئات الثابتة في الاستسقاء, ولم يرد في حديث ضعيف فضلا عن الحسن والصحيح أن الناس طلبوا السقيا من الله في حياته متوسلين به صلى الله عليه وسلم من غير أن يفعل ما يفعل في
ص -270-(42/61)
الاستسقاء المشروع من طلب السقيا والدعاء والصلاة وغيرهما مما ثبت بالأحاديث الصحيحة, ومن يدعي وروده فعليه الإثبات.
إذا تمهد هذا فاعلم أن الاستسقاء والتوسل على الهيئة التي وردت في الصحاح من الاستسقاء لا يمكن إلا بالحي لا بالميت, فالقول بإمكان هذا الاستسقاء بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته من أبطل الباطل, وكان القول بأنه لو استسقي بالنبي صلى الله عليه وسلم لربما يفهم منه بعض الناس أو يتوهم أنه لا يجوز الاستسقاء بغيره بديهي البطلان, فإن ما ثبت بفعله صلى الله عليه وسلم هو مشروع لنا لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}[الحشر: آية 7] وقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}[الأحزاب: آية 21] ما لم يدل دليل على كونه مخصوصا بالنبي صلى الله عليه وسلم, فلا مجال لهذا التوهم حتى يحتاج إلى دفعه.
والثاني: أن المقصود لو كان دفع التوهم المذكور لكان أولى بأن يتوسل بحي غير النبي صلى الله عليه وسلم في حياته, أو بميت غير النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته, أو بميت غير النبي صلى الله عليه وسلمفي حياته, فإن هذه الصور الثلاث أبعد من أن يبدو فيها الاحتمال الآتي من أنه إنما استسقي بالعباس لأنه حي, والنبي صلى الله عليه وسلم قد مات, وأن الاستسقاء بغير الحي لا يجوز, فلما ترك عمر رضي الله عنه تلك الصور, واختار الصورة التي يتأتي فيها الاحتمال المذكور
ص -271-(42/62)
دل هذا الصنيع على أن مقصوده رضي الله عنه ليس دفع التوهم المذكور.
الثالث: أن توهم عدم جواز الاستسقاء بغير النبي صلى الله عليه وسلم أخف من توهم عدم جواز الاستسقاء بالميت, لا سيما إذا كان ذلك الميت غير النبي صلى الله عليه وسلم, فكان هذا التوهم أولى بالدفع, فكان الأنسب حينئذ أن يستسقي بميت غير النبي صلى الله عليه وسلم.
الرابع: أن هذا التعليل فاسد لأن المعلل لم يقم عليه برهان ولا دليل فلا يصغي إليه.
ص -272-
فصل:
قال الملحد: "وقد ذكر العلامة ابن حجر في كتابه المسمى "بالخيرات الحسان في مناقب الإمام أبي حنيفة" في الفصل الخامس والعشرين أن الإمام الشافعي أيام هو ببغداد كان يتوسل بالإمام أبي حنيفة رضي الله عنه يجيء إلى ضريحه يزور فيسلم عليه, ثم يتوسل إلى الله تعالى في قضاء حاجاته, وقد ثبت توسل الإمام أحمد بالشافعي رضي الله عنهما حتى تعجب ابنه عبد الله من ذلك, فقال له الإمام أحمد: إن الشافعي كالشمس للناس وكالعافية للبدن"1.
والجواب أن يقال لهذا الجاهل البليد كيف يثبت دين الله تعالى بمثل هذه الأقوال الكاسدة, والشبه المعتلة الفاسدة. أيظن أن كل أحد يروج عليه الباطل, ويشتبه عليه العاطل؟ طلا فإن الله رجالا ينفون عن دينه زيغ المبطلين, وتحريف الملحدين .
ثم إن هذه الحكاية من الكذب المعلوم كذبه بالاضطرار
__________
1 كذب شيخ الإسلام ابن تيمية هذه القصة في "الاقتضاء" 2/685 .
ص -273-(42/63)
عند من له معرفة بالنقل والآثار 1,فإن الشافعي لما قدم بغداد لم يكن ببغداد قبر ينتاب للدعاء عنده ألبتة, بل ولم يكن هذا على عهد الشافعي معروفا, وقد رأى الشافعي بالحجاز واليمن والشام والعراق ومصر من قبور الأنبياء والصحابة والتابعين, من كان أصحابها عنده وعند المسلمين أفضل من أبي حنيفة وأمثاله من العلماء،فما باله لم يتوخ الدعاء إلا عنده.
ثم إن أصحاب أبي حنيفة الذي أدركوه مثل أبي يوسف, ومحمد بن الحسن, وزفر, والحسن بن زياد, وطبقتهم لم يكونوا يتحرون الدعاء عند قبر أبي حنيفة ولا غيره,
ثم إن الشافعي قد صرح في بعض كتبه بكراهة تعظيم قبور المخلوقين خشية الفتنة بها, وإنما يضع هذه الحكايات من يقل علمه ودينه, وإما أن يكون المنقول من هذه الحكايات عن مجهول لا يعرف, ونحن لو روي لنا مثل هذه الحكايات المسيبة أحاديث عمن لا ينطق عن الهوى لما جاز التمسك لها حتى تثبت, فكيف بالمنقول عن غيره.
ثم هذه الحجج دائرة بين نقل لا يجوز إثبات الشرع به, أو قياس لا يجوز استحباب العبادات بمثله, مع العلم بأن الرسول لم يشرعها, وتركه مع قيام المقتضي بمنزلة فعله, وإنما يثبت العبادات بمثل هذه الحكايات والمقاييس من غير
__________
1 في ط: الرياض "نقل".
ص -274-(42/64)
نقل عن الأنبياء 1 النصارى وأمثالهم, وإنما المتبع في إثبات أحكام الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسبيل السابقين الأولين لا يجوز إثبات حكم شرعي بدون هذه الأصول الثلاثة نصا واستنباطا بحال.
وأما قوله: "وقد ثبت توسل الإمام أحمد بالشافعي" فهو من نمط ما قبله مما يعلم كل عاقل بالضرورة أنه من الكذب بل لا بد من رفع هذه الأمور إلى أصحابها بسند يعتمد عليه, ودونه لا يسمع, ثم لو ثبت ذلك فأفعالهم وتقريراتهم ليست من الحجة, في شيء, وحاشاهم من ذلك فهم أجل قدرا, وأعظم خطرا من أن تجري منهم هذه الأمور, وهي لم يفعلها أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وشيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه أجاب في كتابه"اقتضاء الصراط المستقيم" عن مثل شبه هذا الملحد بوجهين.- مجمل ومفصل, وقد أجاد فيها وأفاد, وحيث أن ذلك مما لا يمكننا نقل جميعه فلا بأس أن نذكر المجمل.
قال رحمه الله تعالى:- أما المجمل فالنقض, فإن اليهود والنصارى عندهم من الحكايات والقياسات من هذا النمط كثير, بل المشركون الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يدعون عند أوثانهم فيستجاب لهم أحيانا كما يستجاب لهؤلاء أحيانا, وفي وقتنا هذا عند النصارى من هذا طائفة, فإن كان
__________
1 وفي الأصل "أنبياء".
ص -275-(42/65)
هذا وحده دليلا على أن الله يرضى ذلك ويحبه فليطرد الدليل, وذلك كفر متناقض, ثم إنك تجد كثيرا من هؤلاء الذين يستغيثون عند نبي أو غيره, كل منهم قد اتخذ وثنا أحسن به الظن بآخر, وكل منهم يزعم أن قرينه يستجاب عنده, ولا يستجاب عند غيره, فمن المحال أصابتهم جميعا, موافقة بعضهم دون بعض تحكم وترجيح بلا مرجح, والتدين بدينهم جميعا جمع بين الأضداد, فإن أكثر هؤلاء إنما يكون تأثيرهم فيما يزعمون بقدر إقبالهم على وثنهم, وانصرافهم عن غيره, وموافقتهم جميعا فيما يثبتونه دون ما ينفونه يضعف التأثير على زعمهم, فإن الواحد إذا حسن الظن بالإجابة عند هذا, وهذا لم يكن تأثره مثل تأثر الحسن الظن بواحد دون آخر, وهذه كلها من خصائص الأوثان, ثم قد استجيب لبلعام بن باعورا في قوم موسى المؤمنين, وسلبه الله تعالى الإيمان, والمشركون قد يستسقون فيسقون, ويستنصرون فينصرون انتهى.
وفيه كفاية لمن كشف الله عن بصيرته حجب الغفلة, والله الهادي إلى سواء السبيل.
ص -276-
فصل:
قال الملحد: "وذكر العلامة ابن حجر في كتابه المسمى "بالصواعق المحرقة لأهل الضلال والزندقة" إن الإمام الشافعي رضي الله عنه توسل بأهل البيت النبوي حيث قال:-
آل النبي ذريعتي
وهم إليه وسيلتي
أرجو بهم أعطى غدا
بيدي اليمنى صحيفتي(42/66)
انتهى, من كتاب "خلاصة الكلام" مع بعض تقرير واختصار".
والجواب أن نقول: وهذا أيضا من نمط ما قبله, وفيه من الكلام كما فيما قبله. وابن حجر المكي - عامله الله بعدله - من الغالين في الصالحين, ومن الثالبين لأئمة المسلمين, الذين جردوا توحيد العبادة لله رب العالمين, وجاهدوا في الله ولله من خرج عن سبيل المؤمنين {وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}[ النساء: آية 115] {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ}[النور: آية 40] ومن كانت هذه حاله,
ص -277-(42/67)
وهذه أقواله فحقيق أن لا يلتفت إليه. وعلى تقدير ثبوته وصحته إن كان النقل صحيحا أن المضاف هنا مقدر تقديره: إن حب آل محمد, وتعظيمهم, واتباعهم, والصلاة عليهم ذريعتي ووسيلتي, وكان في قوله: أرجو بهم, أي أرجو بحبهم وتعظيمهم واتباعهم.
وأما قول هذا الملحد: "فتحصل لنا من هذا جميعه أنه يجوز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل وجوده وفي حياته وبعد انتقاله، وأنه يصح التوسل بغيره أيضا من الأحياء"
فأقول: أما التوسل به صلى الله عليه وسلم قبل وجوده فمسند 1هؤلاء الغلاة فيه على حديث موضوع مكذوب كما بيناه فيما سبق وأما في حياته صلى الله عليه وسلم فقد بينا فيما تقدم أن ذلك بدعائه كما ذكرنا كلام أهل العلم بما أغنى عن إعادته. وأما بعد وفاته فقد بينا أنه ليس من هدي الصحابةرضي الله عنهم, وأنهم لم يكونوا يفعلونه, ولا نقل ذلك عنهم أحد من العلماء الذين يعتد بهم.
وإذا علمت هذا فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد",وفي رواية "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" وما ذكره هؤلاء المشبهون من الأحاديث في جواز ذلك فمنها ما هو موضوع, ومنها ما هو معلول لا تقوم به الحجة, ولا تثبت به الأحكام الشرعية, وكذلك ما ذكر من
__________
1 في الأصل, و ط: الرياض "ومسند".
ص -278-(42/68)
الحكايات التي هي كالخيالات الخرافات التي يوردها أهل الشبهات هي كلها من الموضوعات المكذوبات, والله الهادي إلى الصواب.
وأما قوله:"وقد أجمع من يعتد بإجماعه من المسلمين على ذلك".
فأقول: هذه دعوى مجردة, وقوله: "وهو مذهب الأئمة الأربعة" فأقول: وهذا أيضا أبطل مما قبله, فإنه لم يذكر عن الأئمة الأربعة إلا هذه الحكايات الموضوعة المكذوبة التي وضعها بعض الغلاة في الصالحين.
وقوله:"ومستندهم الكتاب والسنة لما قدمنا, والإجماع حجة قاطعة".
فأقول: هذا قول على كتاب الله, وعلى سنة رسول الله, وعلى جميع العلماء بغير علم قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}[الأعراف: آية 33].
وهذا الملحد لم يذكر من كتاب الله, وسنة رسوله, والإجماع القاطع ما يدل على ما توهمه, بل هو عليه لا له, ولا يعجز كل مبطل عن مثل هذه الدعوى فالله المستعان.
وإذا كان هذا جميع ما تحصل له من ما مر حكايته عنه من
ص -279-
القول القاسط, والهذيان الساقط, فيتعين أن نذكر من كلام أهل العلم ما يبطل دعواه: إن مستنده كتاب الله, وسنة رسوله, والإجماع القاطع, وما يترتب على ذلك من المفاسد.
ص -280-(42/69)
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
فصل
ثم إن في اتخاذ القبور أعيادا من المفاسد العظيمة التي لا يعلمها إلا الله تعالى ما يغضب لأجله كل من في قلبه وقار لله تعالى، وغيرة على التوحيد1، وتهجين وتقبيح للشرك، ولكن ما لجرح بميت إيلام.
فمن مفاسد اتخاذها أعيادا: الصلاة إليها، والطواف بها، وتقبيلها، واستلامها، وتعفير الخدود على ترابها، وعبادة أصحابها، والاستغاثة بهم، وسؤالهم النصر والرزق والعافية وقضاء الديون، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات وغير ذلك من أنواع الطلبات التي كان عباد الأوثان يسألونها أوثانهم، فلو رأيت غلاة المتخذين لها عيدا، وقد نزلوا عن الأكوار والدواب إذا رأوها من مكان بعيد، فوضعوا لها الجباة، وقبّلوا الأرض، وكشفوا الرؤوس، وارتفعت الأصوات بالضجيج، وتباكوا حتى تسمع لهم النشيج، ورأوا أنهم قد أربوا في الربح على
__________
1 في النسختين: "وغيرة التوحيد" وما أثبته من إغاثة اللهفان ص102 ط الميمنية بمصر.
ص -281-(42/70)
الحجيج، فاستغاثوا بمن لا يبدي ولا يعيد، ونادوا ولكن من مكان بعيد، حتى إذا نزلوا منها صلوا عند القبر ركعتين، ورأوا أنهم قد أحرزوا من الأجر ولا أجر لمن صلى إلى القبلتين، فتراهم حول القبر ركعا سجدا، يبتغون فضلا من الميت ورضوانا، وقد ملؤوا أكفهم بالخيبة وخسرانا، فلغير الله بل للشيطان ما يراق هناك من العبرات، ويرتفع من الأصوات، ويطلب من الميت من الحاجات، ويسأل من تفريج الكربات، وإغناء ذي الفاقات، ومعافاة أولي العاهات والبليات، ثم انبثوا بعد ذلك حول القبر طائفين، تشبيها له بالبيت الحرام الذي جعله الله مباركا وهدى للعالمين، ثم أخذوا في التقبيل والاستلام، أرأيت الحجر الأسود وما يفعل به وفد البيت الحرام؟ ثم عفروا لديه تلك الجباه والخدود، الذي يعلم الله أنها لم تعفر كذلك بين يديه في السجود، ثم كمّلوا مناسك حج القبر بالتقصير هناك والحلاق، واستمتعوا بخلاقهم من ذلك الوثن إذ لم يكن لهم عند الله من خلاق، وقربوا لذلك الوثن القرابين، وكانت صلاتهم ونسكهم وقربانهم لغير الله رب العالمين، فلو رأيتهم يهنيء بعضهم بعضا، ويقول: أجزل1الله لنا ولكم أجرا وافرا وحظا، فإذا رجعوا سألهم غلاة المتخلفين أن يبيع أحدهم ثواب حجّه القبر بحج المتخلف إلى البيت الحرام، فيقول: لا ولو بحجك كل عام. هذا ولم
__________
1 في النسختين: "أجز" وما أثبته من "إغاثة اللهفان".
ص -282-(42/71)
نتجاوز ما حكينا عنهم، ولا استقصينا جميع بدعتهم وضلالتهم إذ هي فوق ما يخطر بالبال، أو يدور في الخيال.
وهذا كان مبدأ عبادة الأصنام في قوم نوح كما تقدم، وكل من شم أدنى رائحة من العلم والفقه يعلم أن من أهم الأمور سد الذريعة إلى هذا المحذور، وأن صاحب الشرع أعلم بعاقبة ما نهى عنه، وما يؤول إليه، وأحكم في نهيه عنه، وتوعده عليه، وأن الخير والهدى في اتباعه وطاعته، والشر والضلال في معصيته ومخالفته.
ورأيت لأبي الوفاء1بن عقيل في ذلك فصلا حسنا، فذكرته بلفظه، قال: لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم، قال: وهم عندي كفار، مثل تعظيم القبور وإلزامها بما نهى عنه الشرع من إيقاد النيران، وتقبيلها، وتخليقها، وخطاب الموتى بالحوائج، وكتب الرقاع فيها: يا مولاي افعل بي كذا أو كذا، وأخذ تربتها تبركا، وإفاضة الطيب اقتداء بمن عبد اللات والعزى، والويل عندهم لمن لم يقبّل مشهد الكف، ولم يتمسح بآجرة مسجد الملموسة يوم الأربعاء، ولم يقل
__________
1 في النسختين "ورأيت لأبي عبد الله الوفاء بن عقيل" وما أثبته من "الإغاثة".
ص -283-(42/72)
الحمالون على جنازته: الصديق أبو بكر أو محمد وعلي، أو لم يعقد1على قبر أبيه أزجا بالجص والآخر، ولم يخرق ثيابه إلى الذيل، ولم يرق ماء الورد على القبر، انتهى.
ومن جمع بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور، وما أمر به، ونهى عنه، وما كان عليه أصحابه، وبين ما عليه أكثر الناس اليوم رأى أحدهما مضادا للآخر، مناقضا له، بحيث لا يجتمعان أبدا.
فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة إلى القبور، وهؤلاء يصلون عندها.
ونهى عن اتخاذها مساجد، وهؤلاء يبنون عليها المساجد ويسمونها مشاهد مضاهاة لبيوت الله تعالى.
ونهى عن إيقاد السرج عليها، وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل عليها.
ونهى أن يتخذ عيدا، وهؤلاء يتخذون أعيادا ومناسك، ويجتمعون لها كاجتماعهم للعيد أو أكثر.
وأمر بتسويتها كما روى مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي، قال قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أدع ثمثالا إلا طمسته، ولا قبرا مشرفا إلا سويته"، وفي صحيحه أيضا عن
__________
1 في النسختين "لم يعقد" وما أثبته من "الإغاثة".
ص -284-(42/73)
ثمامة بن شفي قال: كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم برودس فتوفي صاحب لنا فأمر فضالة بقبر فسوي، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها، وهؤلاء يبالغون في مخالفة هذين الحديثين، ويرفعونها من الأرض كالبيت، ويعقدون عليها القباب.
ونهى عن تجصيص القبر والبناء عليه، كما روى مسلم في صحيحه عن جابر قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تجصيص القبر وأن يعقد عليها وأن يبنى عليه بناء".
ونهى عن الكتابة عليها، كما روى أبو داود في سننه عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن تجصيص القبور، وأن يكتب عليها. قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وهؤلاء يتخذون عليها الألواح، ويكتبون عليها القرآن وغيره.
ونهى أن يزاد عليها غير ترابها، كما روى أبو داود من حديث جابر أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يجصص القبر، أو يكتب عليه، أو يزاد عليه.
وهؤلاء يزيدون عليه سوى التراب والآجر والأحجار والجص.
ونهى عمر بن عبد العزيز أن يبنى القبر بآجر، وأوصى أن لا يفعل ذلك بقبره، وأوصى الأسود بن يزيد ألا تجعلوا على قبري آجرا.
وقال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون الآجر على قبورهم.
وأوصى أبو هريرة حين حضرته الوفاة: أن لا تضربوا
ص -285-(42/74)
علي فسطاطا.
وكره الإمام أحمد أن يضرب على القبر فسطاطا.
والمقصود أن هؤلاء المعظمين للقبور المتخذينها أعيادا الموقدين عليها السرج، الذين يبنون عليها المساجد والقباب مناقضون لما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومحادون لما جاء به، وأعظم ذلك اتخاذها مساجد، وإيقاد السرج عليها، وهو من الكبائر.
قال رحمه الله: وقد آل الأمر بهؤلاء الضلال المشركين إلى أن شرعوا للقبور حجا، ووضعوا له مناسك حتى صنف بعض غلاتهم في ذلك كتابا وسماه "مناسك حج المشاهد" مضاهاة منه بالقبور للبيت الحرام، ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الإسلام، ودخول في دين عباد الأصنام.
فانظر إلى هذا التباين العظيم بين ما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصده من النهي عما تقدم ذكره في القبور، وبين ما شرعه هؤلاء وقصدوه، ولا ريب أن في ذلك من المفاسد ما يعجز العبد عن حصره.
فمنها تعظيمها الموقع في الافتتان بها.
ومنها اتخاذها عيدا.
ومنها السفر إليها.
ومنها مشابهة عباد الأصنام بما يفعل عندها من العكوف
ص -286-(42/75)
عليها، والمجاورة عندها، وتعليق الستور عليها، وسدانتها، وعبادتها يرجحون المجاورة عندها على المجاورة عند المسجد الحرام، ويرون سدانتها أفضل من خدمة المساجد، والويل عندهم لقيّمها ليلة يطفي القنديل المعلق عليها.
ومنها النذر لها، ولسدنتها.
ومنها اعتقاد المشركين بها أن بها يكشف البلاء، وينصر على الأعداء، ويستنزل غيث السماء، ويفرج الكروب، وتقضى الحوائج، وينصر المظلوم، ويجار الخائف إلى غير ذلك.
ومنها الدخول في لعنة الله تعالى، ورسوله باتخاذ المساجد عليها، وإيقاد السرج عليها.
ومنها الشرك الأكبر الذي يفعل عندها.
ومنها إيذاء أصحابها بما يفعله المشركون بقبورهم، فإنهم يؤذيهم ما يفعل عند قبورهم، ويكرهونه غاية الكراهة، كما أن المسيح يكره ما تفعله النصارى عند قبره1وكذلك غيره من الأنبياء والأولياء، والمشائخ يؤذيهم ما يفعله أشباه النصارى عند قبورهم، ويوم القيامة يتبرؤون منهم، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ قَالُوا
__________
1 في النسختين "قبورهم".
ص -287-(42/76)
سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا}[الفرقان:17-18] قال الله للمشركين {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ}[الفرقان19]وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ}[المائدة116] الآية، وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ40] ومنها مشابهة اليهود والنصارى في اتخاذ المساجد والسرج عليها.
ومنها محادة الله ورسوله، ومناقضة ما شرعه فيها.
ومنها التعب العظيم، مع الوزر الكثير، والإثم العظيم.
ومنها إماتة السنن، وإحياء البدع.
ومنها تفضيلها على خير البقاع وأحبها إلى الله، فإن عباد القبور يقصدونها من التعظيم، والاحترام، والخشوع، ورقة القلب، والعكوف بالهمة على الموتى بما لا يفعلونه في المساجد، ولا يحصل لهم فيها نظيره، ولا قريب منه.
ومنها أن ذلك يتضمن عمارة المشاهد، وخراب المساجد، ودين الله الذي بعث به رسوله بضد ذلك، ولهذا
ص -288-(42/77)
لما كانت الرافضة من أبعد الناس عن العلم والدين عمروا المشاهد وخربوا المساجد.
ومنها أن الذي شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم عند زيارة القبور إنما هو تذكر الآخرة، والإحسان إلى المزور بالدعاء له، والترحم عليه، والاستغفار له، وسؤال العافية له، فيكون الزائر محسنا إلى نفسه، وإلى الميت، فقلب هؤلاء المشركين الأمر، وعكسوا الدين، وجعلوا المقصود بالزيارة الشرك بالميت، ودعاءه والدعاء به، وسؤالهم حوائجهم، واستنزال البركاتت منه، ونصره لهم على الأعداء، ونحو ذلك، فصاروا مسيئين إلى نفوسهم، وإلى الميت، ولو لم يكن إلا محروما به تركه ما شرعه الله تعالى من الدعاء له، والترحم عليه، والاستغفار له...
ثم ذكر رحمه الله تعالى الزيارة الشرعية، والأحاديث الواردة في ذلك، ثم ذكر أقوال السلف، ومن بعدهم من العلماء ثم قال:
فإذا كنا على جنازته ندعو له، لا ندعو به، ونشفع له، ولا نستشفع به، فبعد الدفن أولى وأحرى، {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} بدلوا الدعاء له بدعائه نفسه، والشفاعة له بالاستشفاع به، وقصدوا بالزيارة التي شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم إحسانا إلى الميت وإحسانا إلى الزائر وتذكيرا بالآخر سؤال الميت، والإقسام به على الله، وتخصيص تلك
ص -289-(42/78)
البقعة بالدعاء الذي هو في العبادة، وحضور القلب عندها، وخشوع أعظم منه في المساجد وأوقات الأسحار، ومن المحال أن يكون دعاء الموتى والدعاء به، أو الدعاء عندهم مشروعا، وعملا صالحا، ويصرف عنه القرون الثلاثة المفضلة بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يرزقها الخلوف الذين يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما يؤمرون، فهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهل القبور بضعا وعشرين سنة حتى توفاه الله تعالى، وهذه سنة خلفائه الراشدين، وهذه طريقة جميع الصحابة والتابعين لهم بإحسان هل يمكن بشرا على وجه الأرض أن يأتي عن أحد منهم بنقل صحيح أو حسن أو ضعيف أو منقطع أنهم كانوا إذا كان لهم حاجة قصدوا القبور فدعوا عندها، وتمسحوا بها، فضلا أن يصلو عندها، أو يسألوا الله بأصحابها، أو يسألوهم حوائجهم، فليوقفونا على أثر واحد، أو حرف واحد في ذلك، بل يمكنهم أن يأتوا عن الخلوف التي خلفت بعدهم بكثير من ذلك، وكلما تأخر الزمان وطال العهد كان ذلك أكثر، حتى لقد وجد في ذلك عدة مصنفات ليس فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن خلفائه الراشدين، ولا عن أصحابه حرف واحد من ذلك، بلى فيها من خلاف ذلك كثير كما قدمناه من الأحايث المرفوعة.
قال رحمه الله بعد ذكره ما فعله الصحابة رضي الله عنهم بقبر دانيال وتعميته بين القبور قال: ففي هذه القصة ما فعله
ص -290-(42/79)
المهاجرون والأنصار من تعمية قبره، لئلا يفتتن به الناس، ولم يبرزوه للدعاء عنده، والتبرك به ولو ظفر به المتأخرون لجالدوا عليه بالسيوف، ولعبدوه من دون الله، فهم قد اتخذوا من القبور أوثانا من لا يداين هذا ولا يقاربه، وأقاموا لها سدنة، وجعلوها معابد أعظم من المساجد، فلو كان الدعاء عند القبور والصلاة عندها، والتبرك بها فضيلة أو سنة أو مباحا لنصب المهاجرون والأنصار هذا القبر علما لذلك، ودعوا عنده، وسنوا ذلك لمن بعدهم ولكن كانوا أعلم بالله، ورسوله، ودينه من الخلوف التي خلفت بعدهم، وكذلك التابعون لهم بإحسان راحوا على هذا السبيل، وقد كان عندهم من قبور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمصار عدد كثير وهم متوافرون، فما منهم من استغاث عند قبر صاحب، ولا دعاه، ولا دعا به ولا عنده، ولا استشفى به، ولا استنصر به، ومن المعلوم أن مثل هذا مما تتوافر الهمم والدواعي على نقله، بل على نقل ما هو دونه.
وحينئذ فلا يخلو إما أن يكون الدعاء عندها والدعاء بأربابها أفضل منه في غير تلك البقعة، أو لا يكون، فإن كان أفضل فكيف خفي علما وعملا عن الصحابة والتابعين وتابعيهم، فتكون القرون الثلاثة الفاضلة جاهلة بهذا الفضل العظيم، وتظفر به الخلوف علما وعملا، ولا يجوز أن يعلموه ويزهدوا فيه1مع حرصهم على كل خير، لا سيما الدعاء فإن
__________
1 في النسختين "به" وما أثبته من الإغاثة ص107.
ص -291-(42/80)
المضطر يتشبث بكل سب وإن كان فيه كراهة ما، فكيف يكونون مضطرين في كثير من الدعاء، وهم يعلمون فضل الدعاء عند القبور، ثم لا يقصدونه، هذا محال طبعا وشرعا، فتعين القسم الآخر وهو أنه لا فضل للدعاء عندها، ولا هو مشروع، ولا مأذون فيه بقصد الخصوص، بل تخصيصها بالدعاء عندها ذريعة إلى ما تقدم من المفاسد، ومثل هذا مما لا يشرعه الله ولا رسوله البتة، بل استحباب1الدعاء عندها شرع عبادة لم يشرعها الله، ولم ينزل بها سلطانا، وقد أنكر الصحابة ما هو دون هذا بكثير.
ثم قال رحمه الله:
ومن أعظم كيد الشيطان أنه ينصب لأهل الشرك قبر معظم يعظمه الناس، ثم يجعله وثنا يعبد من دون الله، ثم يوحي إلى أوليائه أن من نهى عن عبادته واتخاذه عيدا وجعله وثنا فقد تنقصه وهضم حقه، فيسعى الجاهلون المشركون في قتله وعقوبته ويكفرونه، وذنبه عند أهل الإشراك أمره بما أمر الله به ورسوله، ونهيه عما نهى الله عنه ورسوله من جعله وثنا وعيدا.
وإيقاد السرج عليها2، وبناء المساجد، والقباب عليه، وتجصيصه، وتقبيله، واستلامه، ودعائه، أو الدعاء به، أو
__________
1 في النسختين "استجاب"، والمثبت من الإغاثة، ص 107.
2 في الإغاثة "عليه" ص 111.
ص -292-(42/81)
السفر إليه، أو الاستعانة به من دون الله مما قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أنه مضاد لما بعث الله به رسوله، من تجريد التوحيد لله، وأن لا يعبد إلا الله، فإذا نهى الموحد عن ذلك غضب المشركون، واشمأزت قلوبهم، وقالوا قد تنقص أهل الرتب العالية، وزعم أنهم لا حرمة لهم ولا قدر، وسرى ذلك في نفوس الجهال والطغام وكثير ممن ينسب إلى العلم والدين، حتى عادوا أهل التوحيد، ورموهم بالعظائم، ونفّروا الناس منهم، وولوا أهل الشرك وعظموهم، وزعموا أنهم هم أولياء الله وأنصار دينه ورسوله، ويأبى الله ذلك فما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون له، الموافقون له، العارفون بما جاء به، الداعون إليه، لا المتشبعون بما لم يعطوا لابسو ثياب الزور، الذين يصدون الناس عن سنة نبيهم، ويبغونها عوجا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
ثم ذكر كلاما طويلا، إلى أن قال:
قال شيخنا قدس الله روحه: وهذه الأمور المبتدعة عند القبور مراتب: أبعدها عن الشرع أن يسأل الميت حاجته، ويستغيث به فيها، كما يفعله كثير من الناس، قال: وهؤلاء من جنس عباد الأصنام، ولهذا قد يتمثل لهم الشيطان في صورة الميت أو الغائب، كما قد يتمثل لعباد الأصنام، وهذا يحصل للكفار من المشركين وأهل الكتاب يدعو أحدهم من يعظمه فيتمثل له الشيطان أحيانا، وقد يخاطبهم ببعض الأمور الغائبة،
ص -293-(42/82)