آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الاحقاف:28]، ومعلوم أن المشركين لم يزعموا أن الأنبياء والأولياء والصّالحين والملائكة شاركوا الله في خلق السموات والأرض أو استقلوا بشيء من التدبير والتأثير والإيجاد ولو في ذرة من الذرات وقد بيّن القرآن في غير موضع أن من المشركين من أشرك بالملائكة ومنهم من أشرك بالأنبياء والصالحين ومنهم من أشرك بالكواكب ومنهم من أشرك بالأصنام وقد ردّ عليهم جميعهم وكفّر كل أصنافهم كما قال تعالى: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:80]، وقال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} الآية [التوبة:31]، وقال: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء: من الآية172]، ونحو ذلك في القرآن كثير وهذه العبادات التي صرفها المشركون لألهتهم هي أفعال العبد الصادرة منه كالحب والخضوع والإنابة والتوكل، والاستغاثة والاستعانة والدعاء والخوف والرجاء والنسك والتقوى والطواف ببيته رغبة ورجاء وتعلق القلوب والآمال
ص -40-(24/32)
بفيضه ومده وإحسانه وكرمه فهذه الأنواع أشرف أنواع العبادة وأجلها بل هي لب سائر الأعمال الإسلامية وخلاصتها وكل عمل يخلو منها فهو خداج مردود على صاحبه فمن صرف من هذه الأنواع شيئاً لغير الله من هؤلاء المشركين ممن يعبد الأوثان والصالحين، يحكم الشيخ وكل بأنهم مشركون ويرى كفرهم إذا قامت عليهم الحجة الرسالية وما عدا هذا من الذنوب التي دونه في الرتبة والمفسدة لا يكفر بها، ولا يحكم على أحد من أهل القبلة الذين باينوا لعبّاد الأوثان والأصنام والقبور بمجرد ذنب ارتكبوه وعظيم جرم اجترموه، وغلاة الجهمية والقدرية والرافضة ونحوهم ممن كفّرهم السلف لا يخرج فيهم عن أقوال أئمة الهدى والفتوى من سلف هذه الأمة، ويبرأ إلى الله مما أتت الخوارج وقالته في أهل الذنوب من المسلمين وأما مسائل القدر والجبر والإرجاء والإمامة والتشيع ونحو ذلك من المقالات والنحل فهو أيضاً فيها على ماكان عليه السلف الصالح وأئمة الهدى والدين يبرأ مما قالته القدرية النفاة والقدرية المجبرة وما قالته المرجئة والرافضة وما عليه
ص -41-(24/33)
غلاة الشيعة والناصبة يوالي جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم ويكف عما شجر بينهم ويرى إنهم أحق الناس بالعفو عما يصدر منهم وأقرب الخلق إلى مغفرة الله وإحسانه لفضائلهم وسوابقهم وجهادهم ولي أيديهم من فتح القلوب بالعلم النافع والعمل الصالح فمحو آثار الشرك وعبادة الأولياء والنيران والأصنام والكواكب ونحو ذلك مما عبده جهال الأنام ويرى البراءة مما عليه الرافضة وإنهم سفهاء لئام ويرى أن أفضل الأمة بعد نبيها أبو بكر فعمر فعثمان فعلي رضي الله عنهم أجمعين، ويعتقد أن القرآن الذي نزل به الروح الأمين على قلب سيّد المرسلين وخاتم النبيين كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود ويبرأ من رأى الجهمية القائلين بخلق القرآن ويحكي تكفيرهم عن جمهور السلف أهل العلم والإيمان ويبرأ من رأي الكلابية اتباع عبد الله بن سعيد بن كلاب القائلين بان كلام الله هو المعنى القائم بنفس الباري وأن ما نزل به جبرئيل حكاية أو عبارة عن المعنى النفسي ويقول هذا من قول الجهمية
ص -42-(24/34)
وأول من قسم هذا التقسم هو ابن كلاب وأخذه عنه الأشعري وغيره كالقلانسي، ويخالف الجهمية في كل ما قالوه وابتدعوه في دين الله ولا يرى ما ابتدعه الصوفية من البدع والطرائق المخالفة لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلّم وسنته في العبادات والخلوات والأذكار المخالف للمشروع ولا يرى ترك السنن والأخبار النبوية لرأي فقيه ومذهب عالم خالف ذلك باجتهاده بل السنة أجل في صدره وأعظم عنده من أن تترك لقول أحد كائنا من كان قال عمر بن عبد العزيز: "لا رأي لأحد مع سنة سنّها رسول الله صلى الله عليه وسلّم" نعم عند الضرورة وعدم الأهلية والمعرفة بالسنن والأخبار وقواعد الاستنباط والاستظهار يصار إلى التقليد لا مطلقاً بل فيما يتعسر ويخفى ولا يرى إيجاب ما قاله المجتهد لا بدليل تقوم به الحجة من الكتاب والسنة خلافاً لغلاة المقلدين ويوالي الأئمة الأربعة ويرى فضلهم وإمامتهم وأنهم من الفضل والفضائل في غاية ورتبة يقصر عنها المتطاول ويوالي كافة أهل الإسلام وعلمائهم
ص -43-
من أهل الحديث والفقه والتفسير وأهل الزهد والعبادة ويرى المنع من الانفراد عن أئمة الدين من السلف الماضين برأي مبتدع أو قول مخترع فلا يحدث في الدين ما ليس له أصل يتبع وما ليس من أقوال أهل العلم والأثر، ويؤمن بما نطق به الكتاب وصحت به الأخبار وجاء الوعيد عليه من تحريم دماء المسلمين وأموالهم وإعراضهم ولا يبيح من ذلك إلا ما أباحه الشرع وأهدره الرسول ومن نسب إليه خلاف هذا فقد كذب وافترى وقال: ما ليس له به علم ويسجزيه الله وما وعد به أمثاله من المفترين.
فهذا اعتقاد الشيخ إذ كنت جاهلاً
بأحواله بل قلت زورا ومأثما
ولم تتحقق أو علمت وإنما
دعاك إلى ما قلته البغي والعما
فلم تبصر الشمس المنيرة في الضحى
وأعشاك منها ضوؤها إذ تبسما
فحدّق بعين القلب فيما مفكرا
وأنصف بحكم العدل إن كنت مسلما
فإن كان هذا أصل كل ضلالة
وكل فساد في الورى قد تجهّما(24/35)
وليس هو الدّين الحنيفي والهدى
وكان لدى هذا ابتداعا ومأثما
وليس اعتقاد الأئمة كلهم
وأخرهم فيه قفا من تقدما
ص -44-
فقد خاب مسعى كل حبر وجهبذ
وقد سلكوا نهجاً من الغي مظلماً
وكان هو الآتي بكل فضيلة
وأصحابه أهل الضلالة والعما
وعباد عبد القادر الحبر ذي النهى
وما في المعلى حيث من كان يرتما
ويقصد بالأمر المحرم فعله
من الكفر والشرك الذي كان أظلما
وقبر ابن علوان الذي شاع ذكره
كذا البُرعي والزيلعي إذ يعظما
وقبر ابن عباس وحوّى وزبيب
وقبر علي والحسين وكلّما
على ظهرها من معبد لذوي الرّدى
ومشهد كفرغيّه قد تعظما
لئن كان أصحاب الحديث ومن على
طريقتهم جاءوا ضلاللا محرما
وكانوا على غير الهدى لاتباعهم
من الدين والتوحيد ما كان أقوما
وكان وعباد القبور على الهدى
يقينا ولمايا لقواقط مأثما
فقد هزلت واخلولق الدين وانمحت
معالمه بين الورى إذ تهدّما
فيا منصفا بالله أية عصبة
على الدين والتوحيد إن كنت مسلما
فكن حاكما بالحق لا متعصبا
ولم من أتى ظلما وإفكا محرماً
أم اتخذ الأنداد لله جهرة
يحب كحب الله عبدا معظّماً
ويدعوه في كشف الملمات أن عرت
وتفريحه كربا أضروا لما
ص -45-
وجبر مهوض وانتصار على العدى
وعزّ وإسعاف على كل من رما
ويرجوه في جلب المنافع جملة
ويقصده فيما أهمّ وأسئما
ويطلب منه الغوث بل يستعينه
إذا فادح الخطب أدلهمّ واجهما
ويخشاه بل ينقاد بالذل رهبة
ومستصغرا بل مستكينا مسلما
ينيب إلى من ليس يملك ذرة
ويرغب في مأمول ما منه يرتما
وقد كان فيما نابه متوكلا
عليه وينسى فاطر الأرض والسّما
ويخضع منقادا له متذللا
ومستسلما هذا هو الكفر والعما
ويهرع بالمنذور والذبح لاجيا
إليه بما ادّى وأبدى وعظما
أهذا أم العبد الذي ليس خائفا
ولا راجيا إلا إلها معظّما
مليكا عظيما قادرا متفردا(24/36)
معاذا ملاذا للعباد ومعصما
ويعلم أن الله لا ربّ غيره
هو الخالق الرّزاق بل كان منعما
فأفعاله سبحانه وبحمده
تفرد عن ند بها وتعظما
فليس له فيها شريك ولا له
مثيل فيدعى أو نديد فيرتما
كذلك لا يدعى ويلجى ويرتجا
لكشف ملم أو مهمّ تفخما
سواه فأنواع العبادة كلها
بأفعالنا لله قصدا تحتما
ص -46-
فأيهما أولى وأهدى طريقة
وأيهما باللوم قد كان ألوما
أهذا الذي أدى العبادات كلها
بأنواعها لله حقا معظما
أم المشركون الجاعلون لربهم
عديلا فأنصف أيّنا كان أظلما
وقد كان فيما قد تقدم عبرة
لمن كان ذا قلب وقد كان مسلما
بأخبار أحبار ثقات أئمة
عن الشرك في الأقطار والظلم والعما
وفي نجدنا من ذاك ما مر ذكره
وفي كل قطر منهل الكفر قد طما
فأظهر مولانا بفضل ورحمة
وجود وإحسان إماما مفهّما
تقيا تقيا المعيا مهذبا
نبيلا جليلا بالهدى قد ترسما
تبحر في كل الفنون فلم يكن
يشق له فيها غبار ولن وما
وسبّاق غايات وطلاع انجد
وبحر خضم أن طلاطم أوطما
فأطد للتوحيد ركنا مشيّداً
وأرشد حيرانا لذاك وعلّما
وحذّر عن نهج الرّدى كل مسلم
وهدّ من الإشراك ما كان قد سما
وجادله الأحبار فيما أتى به
وكل امرء منهم لدى الحق أحجما
والزم كلا عجزه فتألبوا
عليه وعادوه عنادا ومأثما
ص -47-
فلم يخش في الرحمن لومة لائم
ولا صده كيد من القوم قد طما
وكل امر أبدى العداوة جاهداً
وبالكفر والتجهيل والبهت قدرما
فأظهره المولى على كل من بغى
عليه وعاداه فما نال مغنما
وكيف وقد أبدى نوابغ جهلهم
فكم مقول منهم تحدّى فأبكما
والقمه بالحق والصدق صخرة
وكان إذا لاقي العداة عثمثما
وقد رفع المولى به رتبة الهدى
بوقت به الكفر ادلهم واجهما
فزالت مباني الشرك بالدين وانمحت
وفل حسام كان بالكفر لهذما
وحالت مغاني الغي واللهو والهوى
فإشراق نور الحق لما تبسّما(24/37)
فيا أيها المكيّ اقصر فإنما
قصاراك أن تلقى الكماة فتندما
فكم من أخي جهل أتى من شقائه
ليبني من الكفران ركنا مهدما
وعاث سفاها في ذوي الدين والهدى
وكان بما أبدى جريّا عشمشما
ففودر مجد ولا على أم رأسه
وقد خاب مسعاه وما نال مغنما
كنجل ابن جرجيس ودحلان إذ هما
قد اقترحا كذبا وإفكا محرما
فمن رام خذلانا لدين محمد
وناصره نال الشقاء المحتّما
سنسقيه بالبرهان كأساً روية
إذا ما تحسّاها سماما وعلقما
ص -48-
فللدين أنصار حماة تجردوا
وقد فوقوا نحو المعادين أسهما
وقد خلت أن الربع أقفر منهموا
فأجريت أقلاما من الجهل والعما
برد عيييّ سامج لا يقوله
ويحكيه إلا من يكون مبرسما
أو الأحمق المسلوب لبة عقله
ولو كان ذا عقل إذا ما تكلما
ولكنه من غيّه وغبائه
بثبج خُداريّ من الجهل قد ظما
فصل في ذكر شيء من كلام الشيخ في رسائله ودعوته إلى الله التي سماها هذا المكي أصل كل ضلال وفساد، فتأمل ما ذكر الشيخ رحمه الله بعين البصيرة والأنصاف، وإياك ورد ما فيه قبل التأمل بالجهل والاعتساف لما منّ به أهل الضلال والشقاق والخلاف، فقد وضعوا من الأكاذيب والهذيان ما تنفر عنه صبيان العقول من عبدة القبور والأوثان، وتشمئز منه نفوس أهل الغي والطغيان وتراهم عند سماع ذكر الوهابية كالحمرة المستنفرة بلا أرسان ويفزعون منهم كالغيل حين يقال للصبيان فتأمله بشراشر قلبك وسرج ثاقب فكرك في غور معانيه، وفصاحته ورصانة مباينة، قال رحمه الله تعالى في رسالة له المسألة الأولى إن الله خلقنا وصورنا و
ص -49-(24/38)
لم يتركنا هملاً بل أرسل إلينا رسولا معه كتاب من ربنا فمن أطاعه فهو في الجنة ومن عصاه فهو في النار والدليل على ذلك قوله تعالى {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ} الآية [المزمل:15] وقوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [النساء:13] والآية بعدها. الثانية: أن الله سبحانه ما خلق الخلق إلا لعبادته وحده مخلصين له الدين والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذريات:56]، وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء} [البينة: من الآية5]. الثالثة: إنه إذا دخل المشرك في العبادة بطلت ولم تقبل وأن كل ذنب يرجى له العفو إلا الشرك والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} الآية [الزمر:65]، وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [المائدة: من الآية72]. ومن أنواع هذا الشرك أن يعتقد الإنسان في غير الله من نجم أو إنسان نبيّاً كان أو صالحاً أو كاهنا أو ساحراً أو نباتاً أو شيطاناً أو غير ذلك أنه يقدر بذاته على جلب منفعة لمن دعاه واستغاث به أو دفع مضرة، قال تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ
ص -50-(24/39)
رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا} الآية [فاطر:2]، وقال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس: من الآية107]، فإذا ثبت في القلب أنه عز وجل بهذه الصفات فوجب أن لا يستغاث إلا به ولا يستعان إلا به، ولا يدعى إلا هو ولا يخاف ولا يرجى إلا هو، ولذلك قال تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا} [التوبة: من الآية51]، وقال تعالى توبيخاً لأهل الكتاب الذين يستغيثون بعيسى وأمه وعزير عليهم السلام لما أنزل الله عليهم القحط والجدب: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} الآية [الاسراء:56]، وقال تعالى لنبيه: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} الآية [الكهف:110]، وقال: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ} الآية [لأعراف:188].
ومن أنواع هذا الشرك: التوكل، والصلاة، والنذر، والذبح لغير الله فقد قال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: من الآية123]، {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان: من الآية58]، وقال: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: من الآية23]، وقال: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} إلى قوله: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة:3]، وقال: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2]، وقال: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162].
ومن أنواع هذا الشرك
ص -51-(24/40)
تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله واعتقاد ذلك، فقد قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية [التوبة:31]، فقال عدي بن حاتم: "يا رسول الله ما عبدوهم، قال: بلى أما حرموا عليهم الحلال فأطاعوهم؟ قال: بلى، قال: أما حللوا عليهم الحرام فأطاعوهم؟ قال: بلى، قال: فتلك عبادتهم".
وأحبارهم ورهبانهم علماؤهم وعبادهم وذلك أنهم اتخذوهم أربابا وهم لا يعتقدون ربوبيتهم بل يقولون ربّنا ربهم الله لكن أطاعوهم في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله وجعل الله ذلك عبادة فمن أطاع إنساناً عالماً أو عابداً أو غيره في تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرم الله واعتقد ذلك بقلبه فقد اتخذه ربا كالذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، ومن ذلك أن نفراً من المشركين قالوا يا محمد الميتة من قتلها؟ قال: الله، قالوا: كيف تجعل قتلك أنت وأصحابك حلالاً، وقتل الله حراماً؟ فأنزل الله قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} إلى قوله: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121].
ومن أنواع هذا الشرك العكوف على قبور المشهورين بالنبوة والصحبة، والولاية لأنّ الناس يعرفون الرجل الصالح وبركته
ص -52-(24/41)
ودعائه فيعكفون على قبره ويقصد وأن ذلك فتارة يسألونه وتارة يسألون الله عند قبره وتارة يصلون ويدعون الله عند قبره ولما كان هذا مبدأ الشرك سدّ النبي صلى الله عليه وسلّم هذا الباب ففي الصحيحين: أنه قال: في مرض موته: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا" قالت عائشة: ولو لا ذلك لأبرز قبره لكن كره أن يتخذ مسجداً وقال: "لا تتخذوا قبري عيداً ولا بيوتكم قبوراً وصلوا عليّ حيث ما كنتم فإن صلواتكم تبلغني"، وقال صلى الله عليه وسلّم: "لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج"، وقال في الموطأ عنه صلى الله عليه وسلّم: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد"، وفي صحيح مسلم عن علي رضي الله عنه، قال: "بعثني رسول الله أن لا أدع قبراً مشرفاً إلا سويته، ولا تمثالا إلا طمسته"، فأمر بطمس التماثيل من الصورة الممثلة على صورة الميت، والتمثال الشاخص المشرف فوق قبره فإن الشرك يحصل بهذا وبهذا، وبلغ عمر رضي الله عنه أن قوما يذهبون إلى الشجرة التي بايع النبي صلى الله عليه وسلّم أصحابه تحتها فأمر بقطعها وأرسل
ص -53-(24/42)
إليه أبو موسى أنه ظهر بتستر قبر دانيال وعنده صحيفة فيه أخبار ما سيكون، وفيه أخبار المسلمين ,انهم إذا جدبوا كشفوا عن القبر فمطروا، فأرسل إليه عمر يأمره أن يحفر في النهار ثلاثة عشر قبرا ويدفنه بالليل في واحد منها لئلا يعرفه الناس فيفتتنون به".
واتخاذ القبور مساجد مما حرم الله ورسوله وإن لم يبن عليها مسجداً، ولما كان اتخاذ القبور مساجد وبناء المساجد عليها محرما لم يكن من ذلك شيء على عهد الصحابة والتابعين، وكان الخليل عليه السلام في المغارة التي دفن فيها وهي مسدودة لا أحد يدخلها ولا تشدّ الصحابة الرحال لا له ولا إلي غيره من المقابر، ففي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلّم قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا". وكان من يأتي منهم إلى المسجد الأقصى يصلون فيه ثم يرجعون لايأتون مغارة الخليل ولا غيرها، وكانت مسدودة حتى استولى النصارى على الشام في أواخر المائة الرابعة ففتحوا البلاد وجعلوا ذلك مكان كنيسة، ولما فتح المسلمون البلاد اتخذه بعض الناس مسجداً، وأهل العلم ينكرون ذلك.
وهذه البقاع
ص -54-(24/43)
وأمثالها لم يكن السابقون الأولون يقصدونها ولا يزورنها فإنها محل الشرك ولهذا توجد فيه الشياطين كثيراً، وقد رآهم غير واحد على صورة الإنسان ويقولون لهم رجال الغيب يظنون أنهم رجال من الإنس غائبون عن الأبصار، وإنما هم جن والجن رجال، كما قال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} [الجن:6]، وما أحدث في الإسلام من المساجد على القبور هو من فعل من لم يعرف شريعة الإسلام وما بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلّم من كمال التوحيد وإخلاص الدين لله وحده وسدّ أبواب الشرك التي يفتحها الشيطان ولهذا يوجد من كان أبعد عن التوحيد والإخلاص ومعرفة الإسلام أكثر تعظيماً لمواضع الشرك، فالعارفون بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلّم وحديثه أولى بالتوحيد والإخلاص وأهل الجهل بذلك أقرب للشرك والبدء ثم ذكر كلاماً طويلاً، وقال في رسالته إلى عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف، وأمّا ما ذكر لكم عني فإني لم آته بجهالة بل أقول ولله الحمد وله المنة وبه القوة {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:161]، ولستُ لله الحمد ادعو إلى مذهب صوفي أو فقيه أو متكلم أو أمام من الأئمة الذين أعظمهم مثل ابن القيم أو الذهبي
ص -55-(24/44)
أو ابن كثير أو غيرهم بل ادعوا إلى الله وحده لا شريك له وادعوا إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلّم التي وصّى بها أول أمّته وآخرهم وأرجو أني لا أرد الحق إذا تأنى بل أشهد الله وملائكته وجميع خلقه أن أتاني منكم كلمة من الحق لأقبلنها على الرأس والعين ولأضربن الجدار بكل ما خالفها من أقوال أئمتي حاشا رسول الله صلى الله عليه وسلّم فإنه لا يقول إلا الحقّ.
ومن رسالته لعبد الله بن سحيم قال: ولا يخفى أن المسائل التي ذكرتم أنها بلغتكم في كتاب من العارض جملتها أربعة وعشرون مسألة بعضها حق وبعضها بهتان وكذب وقبل الكلام فيها لا بد من تقديم أصل وذلك أن أهل العلم إذا اختلفوا والجهال إذا تنازعوا ومثلي ومثلكم إذا اختلفنا في مسألة هل الواجب اتباع أمر الله ورسوله وأهل العلم أو والواجب اتباع عادة الزمان التي أدركنا الناس عليها ولو خالفت ما ذكره العلماء في جميع كتبهم، وإنما ذكرت هذا ولو كان واضحاً لأن بعض المسائل التي ذكرت أنا قلتها لكن هي موافقة لما ذكره العلماء في كتبهم الحنابلة وغيرهم، ولكن هي مخالفة لعادة الناس التي نشأوا عليها فأنكرها على من أنكرها لأجل
ص -56-(24/45)
مخالفة العادة وإلا فقد رأوا تلك في كتبهم عياناً وأقروا بها وشهدوا أن كلامي هو الحق لكن أصابهم ما أصاب الذين قال الله فيهم {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} الآية [البقرة: من الآية89] وهذا هو ما نحن فيه بعينه فإن الذي راسلكم هو عدو الله ابن سحيم، وقد بينت له ذلك فأقر به وعندنا كتب يده في رسائل متعددة أنّ هذا هو الحق وأقام على ذلك سنين لكن أنكر آخر الأمر لأسباب أعظمها البغي أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده وذلك أن العامة قالوا له ولأمثاله: إذا كان هذا هو الحق فلأي شيء لم تنهونا عن عبادة شمسان وأمثاله فتعذروا أنكم ما سألتمونا قالوا وإن لم نسألكم كيف نشرك بالله عندكم ولا تنصحونا وظنوا أن يأتيهم في هذا غضاضة وأن فيه شرفاً لغيرهم، قال: وإذا تبين هذا فالمسائل التي شنع بها منها ما هو من البهتان الظاهر وهي قوله: إني مبطل كتب المذاهب، وقوله: إني أقول إن الناس من ستمائة سنة ليسوا على شيء، وقوله: إني أقول: أن اختلاف العلماء نقمة، وقوله أني أكفر من توسل بالصالحين، وقوله: إني أكفّر البوصيريّ، لقوله: يا أكرم الخلق، وقوله: أني أقول: لو أقدر على هدم حجرة
ص -57-(24/46)
الرسول لهدمتها ولو أقدر على الكعبة لأخذت ميزابها وجعلت لها ميزابان من خشب، قوله أني أنكر زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلّم، وقوله: إني أنكر زيارة قبر الوالدين وغيرهم وأني أكفر من يحلف بغير الله، فهذه اثنتا عشرة مسألة جوابي فيها أن أقول: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: من الآية16]، ولكن قبله من بهت محمداً صلى الله عليه وسلم أنه يسب عيسى ابن مريم ويسب الصالحين تشابهت قلوبهم وبهتوه بأنه يزعم أن الملائكة وعيسى وعزيراً في النار، فأنزل الله في ذلك {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الانبياء:101].
وأما المسائل الأخر وهي أني أقول لا يتم إسلام الإنسان حتى يعرف معنى لا إله إلا الله، ومنها أني أُعرِّف من يأتيني بمعناها، ومنها أني أقول: لا إله إلا هو الذي فيه السر، ومنه تكفير الناذر إذا أراد به التقرب لغير الله وأخذ النذر لذلك، ومنها أن الذبح للجن كفر، والذبيحة حرام ولو سمّى الله عليها إذا ذبحها للجن، فهذه خمس مسائل كلها حق وأنا قلتها ونبدأ الكلام عليها لأنها أم المسائل وقبل ذلك أذكر معنى لا إله إلا الله، فنقول: التوحيد نوعان: توحيد الربوبية، وهو أن الله سبحانه منفرد بالخلق
ص -58-(24/47)
والتدبير عن الملائكة والأنبياء وغيرهم، وهذا حق لا بد منه، لكن لا يدخل الرجل في الإسلام؛ لأنّ أكثر الناس مقرون به، قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ} إلى قوله: {أَفَلا تَتَّقُونَ} [يونس:31]، والذي يدخل الرجل في الإسلام هو توحيد الألوهية، وهو أن لا يعبد إلا الله لا ملك مقرب ولا نبي مرسل وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلّم بعث والجاهلية يعبدون أشياء مع الله فمنهم من يدعو الأصنام ومنهم من يدعو عيسى، ومنهم من يدعو الملائكة فنهاهم عن هذا وأخبرهم أن الله أرسله ليوحد ولا يدعى من دونه لا الملائكة ولا الأنبياء فمن تبعه ووحد الله فهو الذي شهد أن لا إله إلا الله، ومن عصاه ودعا عيسى والملائكة واستنصرهم والتجأ إليهم فهو الذي جحد لا إله إلا الله مع إقراره إنه لا يخلق ولا يرزق إلا الله، وهذه جملة لها سبط طويل لكن الحاصل أن هذا مجمع بين العلماء، ثم تكلم رحمه الله تعالى على بقية المسائل الخمس، وذكر ما عليه أهل التحقيق من أهل المذاهب الأربعة، وقال في الرسالة التي أرسلها إلى عبد الرحمن بن عبد الله السويدي بعد أن ذكر أن الأعداء
ص -59-(24/48)
أجلبوا علينا بخيل الشيطان بأشياء قال: ومنها إشاعة البهتان بما يستحي العاقل أن يحكيه فضلاً عن أن يفتريه منها ما ذكرتم أنى أكفر جميع الناس إلا من اتبعني وأزعم أن أنكحتهم غير صحيحة ويا عجباً كيف يدخل هذا في عقل عاقل هل يقول هذا مسلم أو كافر أو عارف أو مجنون وكذلك قولهم أنه يقول لو أقدر أهدم قبة النبي صلى الله عليه وسلّم لهدمتها وأما دلائل الخيرات فله سبب وذلك إني أشرت على من قبل نصيحتي من إخواني أن لا يصير في قلبه أجل من كتاب الله ويظن أن القراءة فيه أجل من قراءة القرآن وأما إحراقه والنهي عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم بأيّ لفظ كان فهذا من البهتان والحاصل أن ما ذكر عنا من الأسباب غير دعوة الناس إلى التوحيد والنهي عن الشرك فكله من البهتان، وقال رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الوهاب إلى العلماء الأعلام في بلد الله الحرام نصر الله بهم سيد الأنام وتابعي الأئمة الأعلام: سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد جرى علينا من الفتنة، ما بلغكم وبلغ غيركم وسببه هدم بنيان في أرضنا على قبور الصالحين فلما كبر هذا على
ص -60-(24/49)
العامة لظنهم أنه تنقيص للصالحين ومع هذا نهينا عن دعوة الصالحين وأمرناهم بإخلاص الدعاء لله، فلما أظهرنا هذه المسألة مع ما ذكرنا من هدم البنيان على القبور كَبُر على العامة جداً وعاضدهم بعض من يدعى العلم ولأسباب آخر لا تخفى على مثلكم أعظمها اتباع هوى العوام ورفعوا الأمر إلى المشرف والمغرب، وذكروا عنا أشياء يستحيي العاقل من ذكرها وأنا أخبركم بما نحن عليه خبرا لا أستطيع أن أكذب فيه بسبب أن مثلكم لا يروج عليه الكذب على أناس متظاهرين بمذهبم عند الخاص والعام فنحن ولله الحمد متبعون غير مبتدعين على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، وحتى أن من البهتان الذي أشاع الأعداء عني أني ادعي الاجتهاد ولا أتبع الأئمة، فإن بان لكم أن هدم البناء على القبور والأمر بترك دعوة الصالحين لما أظهرناه وتعلمون أعزكم الله أن المطاع في كثير من البلدان لو تبين بالعمل بهاتين المسألتين أنها تكبر على العامة الذين درجو هم وأباؤهم على ضد ذلك فإن كان الأمر كذلك فهذه كتب الحنابلة عندكم بمكة المشرفة شرفها الله مثل الإقناع وغاية المنتهى والإنصاف الذي عليه اعتماد المتأخرين وهو
ص -61-(24/50)
عند الحنابلة كالتحفة والنهاية عند الشافعية وهم ذكروا في باب الجنائز هدم البناء على القبور واستدلوا عليه بما في صحيح مسلم عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعثه فهدم القبور المشرفة وأنه هدمها واستدلوا على وجوب إخلاص الدعوة لله والنهي عما اشتهر في زمانهم من دعاء الأموات بأدلة كثيرة وبعضهم يحكي الإجماع على ذلك، فإن كانت المسألة إجماعا فلا كلام، وإن كانت مسألة اجتهاد فمعلومكم أنه لا إنكار في مسائل الاجتهاد، فمن عدل بمذهبه في محل ولايته لا ينكر عليه.
قال: وبالجملة هذا ما نحن عليه وأنتم تعلمون أن من هو أجلّ منا لو تبين في هذه المسائل قامت عليه القيامة وأنا أشهد الله وملائكته وأشهدكم أني على دين الله ورسوله، وأني متبع لأهل العلم وما غاب عني من الحق وأخطأت فيه فبينوه لي وأشهد الله أني أقبله على الرأس والعين والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل.
ومن كلامه رحمه الله تعالى: هذه مسائل مهمة يحتاج إليها من أحب نفسه ولا قوة إلا بالله.
الأولى: أن محمداً صلى الله عليه وسلّم جاءنا بالبينات والهدى من عند ربنا ليخرج الناس
ص -62-(24/51)
من الظلمات إلى النور بشيراً ونذيراً فأول ما أنزل عليه {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر:2] أراد الإنذار عن الشرك هذا قبل الإنذار عن الزنا والسرقة وعن نكاح الأمهات، فمن أقرّ بهذا وعرف ما عليه أكثر الناس من المشرق إلى المغرب رأى العجب وفهم المسألة غير فهمه الأول.
الثانية: أنه لما هدم هذا وأنذرهم عنه أخرج الناس من الظلمات إلى النور وهو التوحيد الذي قال الله فيه {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر:3] أي عظّم بالإخلاص، وليس المراد بتكبير الأذان والصلوات فإنه لم يشرع عند نزول الآية، فمن عرف هذه وبشر نفسه بها وعرف ما عليه غالب أهل الأرض عرف قدر المسألة.
الثالثة: المعرفة بالضرورة أنه الله بعثه ليصدق ويتبع لا ليكذب ويعصى، وأما من أقرّ بالمسألتين ثم صرّح أن من اتبعه في التوحيد وصدقه في النذارة وأطاعه وانتذر خرج من دينه وحل دمه وماله فهذا مع كونه أبلغ من الجنون فهو من أعظم آيات الله وعجائب قدرته على تقليبه للقلوب كيف يجتمع في قلب رجل يشهد أن التوحيد هو دين الله ويعاديه ويشهد أن الشرك هو الكفر ويواليه ويذب عن أهله باللسان و
ص -63-(24/52)
والسنان والمال. وهذا آخر ما أردنا إيراده من كلامه في رسائله ودعوته إلى الله ليعلم الموحد المنصف حقيقة ما كان عليه الشيخ رحمه الله، ولا يلتبس الأمر عليه لشناعة من شنع من أعداء الله ورسوله الذين يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويسعون في الأرض فساداً والله لا يحب المفسدين وهذا هو الأصل الذي يزعم هذا المعترض الجاهل أنه أصل كل ضلال وفساد، فالله المستعان.
فلما أظهر الله هذا الدين على يديه ورفع الله له به المراتب وشاع جميل ذكره في المشارق والمغارب، وتبدى لأهل الدين كواكب سعد منيرة الإشراق، وظهر دين الله في جميع الأقطار والآفاق، وكثر على ذلك صحبه وجمعه وزاد إعلانه بالتوحيد وصدعه، شرق بهذا الدين من نشأوا على تلك العادات، وصرفوا ما لله من العبادات للمعبودات وانقطعت عنهم بهذه الدعوة الإسلامية المآكل والرياسات فعدلوا إلى إشاعة ما لفقوه من الشناعات، وما زخرفوه من الأكاذيب والتمويهات، وإنما حملهم على ذلك الحسد المحرم المذموم، حيث صار كل منهم لما أمله محروم، وبالخزي والمذلة موسوم، كما قيل
ص -64-
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه
فالقوم أعداء له وخصوم
كضرائر الحسناء قلن لوجهها
حسداً وبغياً إنه لذميم
وقد شرح الله صدور كثير من العلماء لدعوته وسروا واستبشروا بطلعته وأثنوا عليه نثراً ونظماً فمن ذلك ما قاله عالم صنعاء محمد ابن الأمير في أبيات له، قال فيها:
قفي واسألي عن عالم حل سوحها
به يهتدي من ضل عن منهج الرشد
محمد الهادي لسنة أحمد
فيا حبذا الهادي ويا حبذا المهدي
لقد أنكرت كل الطوائف قوله
بلا صدر في الحق منهم ولا ورد
وما كل قول بالقبول مقابل
ولا كل قول واجب الرد والطرد
سوى ما أتى عن ربنا ورسوله
فذلك قول جل قدرا عن الرد
وأما أقاويل الرجال فإنها
تدور على قدر الأدلة في النقد
وقد جاءت الأخبار عنه بأنه
يعيد لنا الشارع الشريف بما يبدي(24/53)
وينشر جهرا ما طوى كل جاهل
ومبتدع منه فوافق ما عندي
ويعمر أركان الشريعة هادما
مشاهد ضل الناس فيها عن الرشد
أعادوا بها معنى سواع ومثله
يغوث وود بئس ذلك من ودّ
ص -65-
وقد هتفوا عند الشدائد باسمها
كما يهتف المضطر بالصمد الفرد
وكم عفروا في سوحها من عقيرة
أهلت لغير الله جهر أعلى عمد
وكم طائف حول القبور مقبل
ومستلم الأركان منهن باليد
وقال الشيخ الإمام عالم الأحساء أبو بكر حسين بن غنام في أبيات له:
لقد رفع المولى به رتبة الهدى
بوقت به يعلى الضلال ويرفع
سقاه نمير الفهم مولاه فارتوى
وعام بتيار المعارف يقطع
فأحيا به التوحيد بعد اندراسه
وأوهى به من مطلع الشرك مهيع
سما ذروة المجد التي ما ارتقى لها
سواه ولا حاذى فناها سميدع
وشمر في منهاج سنة أحمد
يشيد ويحيى ما تعفّى ويرفع
يناظر بالآيات والسنة التي
أمرنا إليها في التنازع نرجع
فاضحت به السمحاء يبسم ثغرها
وأمسى محياها يضيئ ويلمع
وعاد به نهج الغواية طامساً
وقد كان مسلوكاً به الناس تربع
وجرت به نجد ذيول افتخارها
وحق لها بالألمعيّ ترفع
فأثاره فيها سوام سوافر
وأنواره فيها تضيئ وتلمع
ولنقتصر في بيان أصل ظهور هذه الدعوة وحقيقة ما كان
ص -66-(24/54)
عليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله على هذا المقدار من الإيجاز والاختصار، ومن أراد الوقوف على استيفاء هذا المقام فعليه بمطالعة روضة الأفكار والأفهام للشيخ الإمام أبي بكر حسين بن غنام رحمه الله تعالى.
فصل: قال المعترض بعد ذكره أن الأصل الأصيل لهذا الفساد الذي عم البلاد والعباد هو الشيخ ابن تيمية، قال: ولا أطيل في وصفه وحاله بل اقتصر على ملخص ما ذكره العلامة شهاب الدين الشيخ ابن حجر الهيثمي ثم ذكر كلاما بارداً حاصله أن شيخ الإسلام ابن تيمية مقالاته زائغة خارجة عن قانون الشريعة وأنه لا يليق ممن يدعى العلم ويطلب نصرة الدين والشريعة أن يقتدى ويقلد من هذا حاله يعني شيخ الإسلام ثم ذكر كلام الهيثمي.
والجواب أن هذا الرجل ممن أعمى الله بصيرته وأضله على علم وقد انقدحت في قلبه الشبهات وصادفت قلباً خالياً فهو لا يقبل إلا ما لفق من الترهات وما فاض من غيض ذوي الحسد والحقد والتمويهات بما لا يجدي عند ذوي العقول السليمة والألباب الزاكية المستقيمة، وما نقم عليه هؤلاء إلا إنّ الله تعالى اطلع شمس سعده في سماء الهداية وفاق بما أعطاه
ص -67-
الله تعالى على أقرانه بالرواية والدراية فحسدوه إذ لم ينالوا سعيه كما قيل.
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه
فالقوم أعداء له وخصوم
وقد عرف من كان له معرفة وعلم أن كلام هؤلاء وبهتم مما يدل على فضله وجلالته وهيبته وفطانته وذلك مما يزيده الله به رفعة وشرفاً في الدنيا والآخرة ويوجب إن شاء الله حسن العاقبة، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْأِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:11].
وقد قال رحمه الله تعالى:
لو لم تكن لي في القلوب مهابة
لم تكدح الأعداء فيّ وتقدح
كالليث لمّا هيب خطله الربي(24/55)
وعوت لهيبته الكلاب النبح
يرمونني شرز العيون لأنني
غلت في طلب العلى وتصبح
وقد كفانا من تقدم من أهل العلم في رد ما قاله ابن حجر وتهجيفه وبيان ما حمله على ذلك وسوف يلتقيان عند الله وكذلك ما قاله غيره من امتثاله من معاصريه فلا نطيل بذكر ذلك لكن نذكر من كلام أهل العلم أنموذجاً يعرف به كذب هولاء المتهوكين المتعمقين الرامين
ص -68-
البراء بما هم منه بريئون وأنه رحمه الله تعالى بالمحل المحوط والمقام المغبوط، وأن من ذكره بالتحقيق والعلم والديانة، اعلم وأورع وأفضل ممن عثاني عرضه بالكذب وشأنه، وإذا كان ذلك كذلك تبين لك بطلان ما اعتمد عليه هذا المعترض وأنه حاطم سيل وحاطب ليل ولذلك لم يسلك في شيخ الإسلام طريق العدل والإنصاف بل سلك طريق أهل التعصب لأهل الباطل والاختلاف ولو كان له نصيب من عقل ودين وإنصاف لكان الواجب عليه تكذيب ذلك القيل المنسوب إليه إذ غالبها من الموضوعات عليه، قال تعالى: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور:12]، وقال: {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور:16]، وهذا وإن كان قد نزل في شأن أم المؤمنين لما قال فيها أهل الإفك ما قالوا فإن حكمه عام في جميع المؤمنين كما دل عليه قوله: {ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً}، ولهذا شرع جلد القاذف وصار باب القذف وحده بابا عظيماً من أبواب الشريعة وكان سببه قصة أمّ المؤمنين فإنه ما نزل بها أمر تكرهه إلا جعل الله فيه للمؤمنين فرجا ومخرجا و
ص -69-(24/56)
والله الذي لا إله إلا هو أن شيخ الإسلام أخشى لله واتقى لله من أن يقول على الله وعلى رسوله وفي دين الله ما نسبه إليه هؤلاء الوضّاعون المفترون مما خالف الكتاب والسنة ودرج عليه سلف الأمة وأن تكون طريقته زائغة أو عن الحق رائقة فإن طريقته ولله الحمد والمنة اتباع الحق المحض ومعرفة مقادير جميع طوائف الأمة، وتعظيم من يستحق التعظيم من جميعهم ورد الباطل على كل من جاء به فهو رحمه الله تعالى ملتزم ما أمر الله به من الوصايا العشر التي أنزلها في سورة الأنعام وجمع فيها أصول الشريعة حيث يقول سبحانه: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام: من الآية152]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: من الآية8]، فإذا كان الله قد أمر المؤمنين أن لا يحملنهم بغض قوم على ترك العدل وهم إنما كانوا يبغضون الكفار فكيف بمن يتكلم فيمن علم الخاص والعام من أهل السنة إمامته وعدالته وجهاده في الله حق جهاده وذبه عن السنة وتمحيضها عن شوائب الشرك والبدع والأهواء ويعترض عليه بغير إنصاف وعدل بل بالجور والظلم والعدوان وقد قال
ص -70-(24/57)
تعالى {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} [الأحزاب:58]، وقد علم الخاص والعام واشتهر من عدله وإنصافه أن ليس عنده في مسائل الفروع ميل إلا إلى ما دل عليه الكتاب والسنة وإذا ذكر المسألة فإنه يذكر فيها مقالات الأئمة الأربعة وأصحابهم وغير أصحابهم ممن بعدهم أو قبلهم من الصحابة والتابعين وتابعيهم ويذكر دليل كل قول وتقرير على وجه لا يكاد يوجد في الكتب المصنفة لهم فكيف في مسائل أصول الدين التي ليس بين الأئمة في مسائلها المشهورة خلاف وإنما يخالف فيها أهل الأهواء والبدع وهو من أعرف خلق الله بمذاهب أهل الأهواء ووقت حدوثها إذا تحققت ذلك فكل المسائل التي ذكرها هذا المعترض عن ابن حجر قد تكلم عليها شيخ الإسلام بالعدل والإنصاف وذكر أقوال الناس فيها وحقق ما سلكه أهل التحقيق من أهل العلم في ذلك ورد ما خالف الكتاب والسنة وما انفرد رحمه الله في قول قاله عن أهل السنة المحضة بل كل مسألة يذكر المخالف أنه ما قلها أحد قبله قد ذكر من قال بها من السّلف وأهل التحقيق من أهل العلم فرحمه
ص -71-(24/58)
الله تعالى وعفى عنه، قال الإمام الذهبي في معجم شيوخه هو شيخنا وشيخ الإسلام وفريد العصر علما ومعرفة وشجاعة وذكاء وتنويراً إلهياً، وكرما ونصحاً للأمّة وأمر بالمعروف ونهياً عن المنكر سمع الحديث وأكثر بنفسه من طلبه وكتابته، وخرج ونظر في الرجال والطبقات وحصل ما لم يحصله غيره وبرع في تفسير القرآن وغاص في دقائق معانيه بطبع سيال وخاطر وقاد إلى مواضع الإشكال ميّال واستنبط منه أشياء لم يسبق إليها وبرع في الحديث وحفظه فقل من يحفظ ما يحفظ من الحديث مع شدة استحضاره له وقت الدليل وفاق الناس في معرفة الفقه واختلاف المذاهب وفتاوى الصحابة والتابعين وأتقن العربية أصولاً وفروعاً ونظر في العقليات وعرف أقوال المتكلمين ورد عليهم وبنه على خطئهم وحذر منهم ونصر السنة بأوضح حجج وأبهر براهين وأوذي في الله تعالى من المخالفين وأخيف في نصر السنة المحفوظة حتى أعلى الله تعالى مناره وجمع قلوب أهل التقوى على محبته والدعاء له وكبت أعداءه وهدى به رجالاً كثيرة من أهل الملل والنحل وجبل قلوب الملوك والأمراء
ص -72-(24/59)
على الانقياد له غالباً وعلى طاعته وأحيي به الشام بل الإسلام بعد أن كاد ينثلم خصوصاً في كائنة التتار وهو أكبر من أن ينبه على سيرته مثلي فلو حلفت بين الركن والمقام إني ما رأيت بعيني مثله وأنه ما رأى هو مثل نفسه لما حنثت" انتهى.
فانظر إلى ما قاله هذا الإمام من أنّ الله أحيي به الشام بل الإسلام وأن الله جمع قلوب أهل التقوى على محبته والد عاله وأنه أكبر من أن ينبه الذهبي على سيرته، ثم انظر إلى ما قاله المكي وما نقله عن ابن حجر وما قاله عن علوي نقلاً عن الذهبي، فالله المستعان.
وقال الحافظ العماد بن كثير رحمه الله تعالى في رجب سنة 704 سبعمائة وأربع راح الشيخ تقي الدين ابن تيمية إلى مسجد التاريخ وأمر أصحابه وتلامذته بقطع صخرة كانت هناك بنهر فلوحا تزار وينذر لها فقطعها وأراح المسلمين منها ومن الشرك بها فأراح من المسلمين شبهة كان شرها عظيماً وبهذا وأمثاله أبرزوا له العداوة وكذلك بكلامه في ابن عربي وأتباعه فحسد وعودي ومع هذا لا تأخذه في الله لومة لائم ولم يبال بمن عاداه ولم يصلوا إليه بمكروه وأكثر ما نالوا منه الحبس مع أنه
ص -73-(24/60)
لم ينقطع في بحث لا بمصر ولا بالشام ولم يتوجه لهم عليه ما يشين وإنما أخذوه وحبسوه بالجاه كما سيأتي إن شاء الله انتهى، فانظر إلى كلام الحافظ ابن كثير رحمه الله أنه إنما حسد وعودي لأجل إزالة معابد الشرك والكلام في ابن عربي.
وقال ابن الوردي في تاريخه ـ وقد عاصره ورآه وكانت له خبرة تامة بالرجال وجرحهم وتعديلهم وطبقاتهم، ومعرفة بفنون الحديث مع حفظه لمتونه الذي انفرد به وهو عجيب في استحضاره واستخراج الحجج منه وإليه المنتهى في عزوه إلى الكتب الستة والمسند بحيث يصدق عليه أن يقال: كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث ولكن الإحاطة لله تعالى غير أنه يغترف فيه من بحر وغيره من الأئمة يغترفون من السواقي وأما التفسير فسلم له قال وله الباع الطويل في معرفة مذاهب الصحابة والتابعين: قل أن يتكلم في مسألة ألا ويذكر فيها مذاهب الأربعة وقد خالف الأربعة في مسائل معرفة وصنف فيها واحتج لها بالكتاب والسنة وبقي سنين يفتى بما قام الدليل عنده، ولقد نصر السنة المحضة والطريقة السلفية، وكان دائم الابتهال
ص -74-(24/61)
كثير الاستغاثة قوى التوكل ثابت الجاش له أوراد وأذكار يديمها لا يداهن ولا يحابي محبوبا عند العلماء والصلحاء والأمراء والتجار والكبراء" انتهى ملخصاً فانظر إلى ما قاله ابن الوردي وقد عاصره ولقد نصر السنة المحضة والطريقة السلفية وهذا المعترض الجاهل وأضرابه يقولون أنه قد تحقق ضلاله وخروجه عن قواعد الشريعة فبعداً للقوم الظالمين.
وقال العلامة الشيخ عماد الدين الواسطي رحمه الله في حقه بعد ثناء طويل جميل ما لفظه: "فوالله ثم والله لم يُر تحت أديم السماء مثل شيخكم ابن تيمية علماً وعملاً وحالا وخلقاً واتباعاً وكرماً وحلماً وقياماً في حق الله تعالى عند انتهاك حرماته أصدق الناس عقدا وأصحهم علما وعزماً وأنفذهم وأعلاهم في انتصار الحق وقيامه همة وأسخاهم كفا وأكملهم اتباعاً لسنّة محمد صلى الله عليه وسلّم ما رأينا في عصرنا هذا من تستجلي النبوة المحمدية وسننها من أقواله وأفعاله إلا هذا الرجل يشهد القلب الصحيح أن هذا هو الاتباع حقيقة" فانظر إلى كلام العلامة الشيخ عماد الدين الواسطي وهو ممن عاصره ورآه فرحمه الله وعفى عنه
ص -75-(24/62)
ونقل في الشذرات عن الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد وقد سئل عن الشيخ ابن تيمية بعد اجتماعه به كيف رأيته قال: رأيت رجلاً سائر العلوم بين عينيه يأخذ ما شاء منها ويترك ما شاء فقيل له: فلم تتناظران قال لأنه يحب الكلام وأحبّ السكوت.
وقال ابن مفلح في طبقاته كتب العلامة تقي الدين السبكي إلى الحافظ الذهبي في أمر الشيخ تقي الدين ابن تيمية ما نصه فالمملوك يتحقق قدره وزخارة بحره وتوسعته في العلوم الشرعية والعقلية وفرط ذكائه واجتهاده وأنه بلغ في ذلك كل المبلغ الذي يتجاوزه الوصف والمملوك يقول ذلك دائماً وقدره في نفسي أكبر من ذلك وأجل مع ما جمعه الله تعالى لي من الزهادة والورع والديانة ونصرة الحق والقيام فيه لا لغرض سواه وجرمه على سنن السلف وأخذه من ذلك بالمأخذ الأوفى وغرابة مثله في هذا الزمان بل في أزمان" انتهى. فانظر إلى ما قاله السبكي مع أنه ممن وقع فيه وعاداه والحق ما شهدت به الأعداء.
وقال الإمام محمد التافلاني مفتي الحنفية بعد كلام له وقد
ص -76-(24/63)
أثنى عليه جمهور معاصريه، وجمهور من تأخر عنه وكانوا خير مناصريه وهم ثقاة صيارفة حفاظ، عريفهم في النقد دونه عريف عكاظ وطعن فيه بعض معاصريه بسبب أمور أشاعها مشيع لحظ نفسه أو لأجل المعاصرة التي لا ينجو من سمها إلا من قد كمل في قدسه، فخلف من بعدهم مقلدهم في الطعن فتجاوز فيه الحد ورماه بعظائم موجبة للتعزير أو الحد، ولو قال هذا المقلد كقول بعض السلف حين سئل عما جرى بين الإمام علي ومعاوية فقال: تلك دماء طهر الله منها سيوفنا أفلا نطهر منها الستنا لنجا من هذا العناء، وقول الآخر لما سئل عن ذلك فأجاب {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ} الآية [البقرة: من الآية134]، وهذا الإمام تصانيفه قد ملأت طباق الثرى وأطلع عليها القاصي والداني من علماء الورى فما وجدوا فيها عقيدة زائغة، ولاعن الحق رائفة كم سل السيوف الصوارم على فرق الضلال وكم رماهم بصواعق براهين محرقة كالجبال تنادي عقيدته البيضاء بعقيدة السلف، ولا ينكر صحتها وأفضليتها من خلف منا ومن سلف شهد له الأقران بالاجتهاد، ومن منع له فقد خرط بكفه شوك القتاد، وذكر
ص -77-(24/64)
كلاماًَ حسناً تركناه خشية الإطالة.
وقال حافظ الإسلام الحبر النبيل استاذ أئمة الجرح والتعديل شيخ المحدثين جمال الدين أبو الحجاج يوسف بن الركن عبد الرحمن المزي الشافعي فيما نقله عنه الحافظ ابن ناصر الدين: "ما رأيت مثله يعني ابن تيمية ولا رأى هو مثل نفسه، وما رأيت أحداً أعلم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلّم ولا أتبع لهما منه" انتهى.
وقال الشيخ شيخ الإسلام العيني الحنفي فيما كتبه قال: وما هم أي المنكرون على ابن تيمية رحمه الله تعالى الا صلقع بلقع سلقع، والمكفر منهم صلمعة بن قلمعة وهيان بن بيان، وهي بن بي وضل بن ضل وضلال بن التلال، ومن الشائع المستفيض أن الشيخ الإمام العالم العلامة تقي الدين ابن تيمية من شم عرانين الأفاضل ومن حبهم براهين الأماثل قال: وهو الذاب عن الدين طعن الزنادقة والملحدين والناقد للمرويات عن النبي سيد المرسلين وللمأثورات عن الصحابة والتابعين فمن قال إنه كافر فهو كافر حقيق، ومن نسبه إلى الزندقة فهو زنديق، وكيف ذلك وقد صارت تصانيفه إلى الآفاق، وليس فيها شيء مما يدل على
ص -78-
الزيغ والشقاق إلى آخر ما قال رحمه الله تعالى.
وقال الشيخ محمد ابن الشيخ جمال الدين اليافعي الشافعي اليمني في رده على السبكي في أبيات له قال فيها:
وما رددت عليه في الطلاق
حققت عقلاً ولا نقلاً ظفرت به
بل فاسد القصد أعتى الذهن منك
هو عادة الله في قال لمذهبه
نزلت حول حماه كي تنازله
فما علوت عليه بل علوت به
وقد أجابك فيها خير أجوبة
كالسيف حالت منايا عند مضربه
أخذت منه علوما فانتصرت به
على سواه وكانت من مهذبه
وحزتها مجملات من مفصّله
ففصّل الآن ما أجملت تحظ به
وهكذا كل من سارت ركائبه
يقفوا خطان فسائل من مجربه
وإن يتمحت في رد فلست له
كفوا ولا أهل هذا العصر فانتبه
كم بحر علم أتاه صار ساقية
وكم أزال صدى جهل بصيّبه
وما نرى لكموا في الخلف فائدة(24/65)
غير التنعم في النعماء من شبه
أين الثريا مكانا في ترفعها
من الثرى قال هذا كل منتبه
من ذا يقيس نقي الجلد من درن الـ
ـدنيا وأمراضها يوما بأجربه
لو كان عندكموا إنصاف مكرمة
أو نقد معرفة أوذهن منتبه
ص -79-
لكنت تقفوا ورآه قفو مجتهد
علماً وديناً وأمراً تفلحنّ به
لو وفق الله أهل الأرض قاطبة
إلى الصواب لساروا خلف مذهبه
وما نسبتم إليه عند ذكركموا
ترك الزيارة أمرا لا يقول به
فقد أجابكموا فيها بأجوبة
أزال فيها صدى الإشكال والشبه
وقد تبين هذا في مناسكه
لكل ذي فطنة في القول والنبه
رميتموه ببهتان يشان به
فالله ينصفه ممن رماه به
وفي الجواب أمور من تدبرها
سقى الأنام بها من صفو مشربه
ولم يكن مانعاً نفس الزيارة بل
شد الرحال إليها فوق مركبه
مستمسكاً بصحيح القول متبعا
خير القرون الأولى جاءوا بمذهبه
مع الأئمة أهل الحق كلهموا
قالوا كما قال قولاً غير مشتبه
وقد علمت يقينا حين وأفقه
أهل العراق على فتياه فانتبه
ومن أحسن ما قيل من المراثي فيه ما قاله عمر بن الوردي وهي:
عثا في عرضه قوم سلاط
لهم من نصر جوهره النقاط
تقي الدين أحمد خير حبر
خروف المعضلات به تخاط
توفي وهو محبوس فريد
وليس له إلى الدنيا انبساط
ص -80-
ولو حضروه حين قضى لألفوا
ملائكة النعيم به أحاطوا
قضى نحبا وليس له قرين
ولا لنظيره لفّ القماط
فتى في علمه أضحى فريدا
وحلّ المشكلات به نياط
وكان إلى التقى يدعو البرايا
وينهى فرقة فسقوا ولاطوا
وكان الجن تفرق من سُطاه
بوعظ للقلوب هو النباط
فيا لله ما قد ضمّ لحدٌ
ويا لله ما غطّى البلاط
هموا حسدوه لمّا لم ينالوا
مناقبه فقد مكروا وشاطوا
وكانوا عن طرائقه كُسالى
ولكن في أذاه لهم نشاط
وحبس الدّر في الأصداف فخر
وعند الشيخ في السجن اغتباط
بآل الهاشمي له اقتداء
فقد ذاقوا المنون ولم يواطوا(24/66)
بنوا تيمية كانوا فبانوا
نجوم العلم أدركها انهباط
ولكن يا ندامة حابسيه
فشك الشرك كان به يُماط
ويا فرح اليهود بما فعلتم
فإن الضد يعجبه الخباط
ألم يك فيكموا رجل رشيد
يرى سجن الإمام فيستشاط
أمام لا ولاية كان يرجو
ولا وقف عليه ولا رباط
ص -81-
ولا جاركموا في كسب مال
ولم يعهد له بكموا اختلاط
ففيم سجنتموه وغظتموه
أما الجزاء أذيته اشتراط
وسجن الشيخ لا يرضاه مثلي
ففيه لقدر مثلكموا انحطاط
إلى أن قال:
فها هو مات عنكم فاسترحتم
فعاطوا ما أردتم أن تعاط
وحلوا واعقدوا من غير رد
عليكم وانطوى ذاك البساط
والمقصود مناقضة هذا المعترض بمن أثنى عليه لا لغرض من الأغراض ومن قدح فيه فإنما ذاك لحظ نفسه شنع بما شنع من الاعتراض وإلا ففضل شيخ الإسلام ومناقبه أكثر من أن تذكر وأشهر من أن يحاط بها ويحصر وقد أثنى عليه من الأئمة من تقدم ذكرهم ومن لم نذكرهم فأكثر وأكثر وكلهم حفاظ نقاد وأئمة ثقات زهاد وممن أثنى عليه وبرأه مما نسب إليه من متأخري العلماء الشيخ إبراهيم بن حسن الكوراني المدني الشافعي وأمير المؤمنين في الحديث علامة دهره الشيخ على أفندي السويدي البغدادي الشافعي والشيخ
ص -82-(24/67)
شهاب الدين محمود الآلوسي ذكر ذلك الشيخ نعمان خير الدين ابن شهاب الدين محمود الآلوسي، وجمهور من ذكرنا ممن أثنى عليه أئمة مذهب هذا المعترض وقد خالفهم وانتحل طريقة عباد القبور، وانتصر لهم بما لا يجدى عنه ولا ينفعه يوم يبعثر ما في القبور، ويحصّل ما في الصدور، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: من الآية227]، وليت هذا المكي راقب ولاحظ فيما كتبه من الانتصار، {يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:52]، وجعل نصب عينيه إذا رأى محصول ما له وما عليه وظنه دليلاً، {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً، يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً، لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً} [الفرقان:27ـ29].
فصل: قال المعترض: فمن تلك الأمور أن السندي المذكور يقول في رسالته أن الأحاديث التي أوردها يعني استدل بها شيخنا السيد دحلان لمذهب أهل الحق منقولة عن التقي السبكي في "شفاء
ص -83-(24/68)
الأسقام" ليست فيها أحاديث صحاح ولاحسان إلى آخر كلامه. قال المكي وحاصل ما يجاب به عن شيخنا أن تلك الأحاديث كثيرة مشهورة مسندة إلى مخرجيها قال: وليس المقصود بها تأسيس أيجاب شيء بل المقصود بيان استحباب زيارته صلى الله عليه وسلّم وجواز التوسل به ثم ذكر كلاماً حاثله أنّ الأحاديث الضعيفة يعمل بها وأن معارضته محمد بن عبد الهادي لها في الصارم المنكي غير مقبولة؛ لأنّه من اتباع ابن تيمية وأن كلامه فيها لأجل الهوى.
والجواب أن هذا المعترض أجنبي عن معرفة الحديث ورجاله ولا خبرة عنده بما قاله الحفاظ النقاد أهل الجرح والتعديل ولو كان عنده خبرة ومعرفة بهذا الفن لم يكن هذا حاصل ما عنده ومن كان بهذه المثابة سقط الكلام معه اللهم إلا أن يكون لديه معرفة ولكن أراد التلبيس والتمويه على خفافيش البصائر وما أظن ذلك وما أحسن ما قيل:
وقل للعيون الرمد للشمس أعين
سواك تراها في مغيب ومطلع
ص -84-
وسامح نفوسا أطفأ الله نورها
بإهوائها لا تستفيق وتع(24/69)
ومما يبين لك عدم معرفته بالحديث ورجاله أنه ظن أنه لم يطعن في هذه الأحاديث إلا الحافظ محمد بن عبد الهادي فإنها كلها موضوعة مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأمثل ما فيها الحديث الذي رواه الإمام الدارقطني وقد تكلم فيه أئمة من حفاظ الإسلام وعلماء السنة الأعلام كالبخاري والبيهقي والنسائي والدارقطني والجوزجاني والعقيلي وأبو حاتم والنووي وغيرهم من العلماء الأعلام ولو سلمنا تسليماً جدلياً أنها أحاديث ضعيفة وأن الضعيف يعمل به في فضائل الأعمال فإنما ذلك إذا لم تخالف حديثاً صحيحاً وكيف وقد خالفت ما في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلّم أنه قال: "لا تشد الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد" الحديث، فبطل الاستدلال بها والعمل بها لمعارضتها للحديث الصحيح الصريح ولو أضرب هذا الجاهل عن الكلام في هذه المسألة لكان خيراً له ولكن {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} [المائدة: من الآية41].
ص -85-
وأين أنت يا هذا الجاهل المركب ومعرفة الحديث وأهله فلست من أهل هذه الصناعة ولا ممن يتجر في تلك البضاعة.
دع العيس وحاديها
واعط القوس باريها
وقد ذكرت فيما كتبته في المواهب الربانية في رد أضاليل الشبه الدّحلانية ما نصّه من أبيات:
وأمّا أحاديث الزّيارة كالتي
شعبت بها في الرّق واهيته العقد
فمحض أكاذيب في أوضاع أفك
ملفقة أضحت عن الصدق في بعد
فلم ترو في شيء من الكتب التي
عليها اعتماد الناس في الحل والعقد
فأما حديث الدارقطني فإنه
لامثل ما فيها وإن كان لا يُجدي
ولم يروه إلا لتبيين ضعفه
هناك الإمام الدارقطني على عمد
وقد طعن الحفاظ فيه فمنهموا
أبو حاتم والبيهقي في ذوي النقد
كمثل البخاري والنووي ومسلم
وكابن معين والنسائي ذي الجد
وكالجوزجاني والعقيلي وغيرهم
من النبلاء الأثبات من كل مستهد(24/70)
فصل: قال المعترض: ومن تلك الأمور التي في رسالة السمدي أن الأئمة متفقون على كراهة دعاء الزائر لنفسه مستقبلا للحجرة
ص -86-
الشريفة، والجواب أن يقال: ما ذكره السندي من أنّ الأئمّة اتفقوا على كراهة دعاء الزائر لنفسه مستقبلاً للحجرة الشريفة ثابت عن الأئمة كما نقله الثقات الأثبات ولا يمكن لأحد أن يكابر في دفع ذلك لا بنقل صحيح ولا سقيم، قال شيخ الإسلام قدّس الله روحه في منسك له صنفه في آخر عمره: "ويسلم عليه مستقبلاً الحجرة مستدبر القبلة عند أكثر العلماء كمالك والشافعي وأحمد وأما أبو حنيفة فإنه قال: يستقبل القبلة فمن أصحابه من قال: يستدبر الحجرة ومنهم من قال يجعلها عن يساره واتفقوا على أنه لا يستلم الحجرة ولا يقبلها ولا يطوف بها ولا يصلي إليها ولا يدعو هناك مستقبلاً للحجرة؛ فإن هذا كله منهي عنه باتفاق الأئمة، ومالك من أعظم الناس كراهية لذلك والحكاية عنه أنه أمر المنصور أن يستقبل القبر وقت الدعاء كذب على مالك بل ولا يقف عند القبر للدعاء لنفسه فإنّ هذا بدعة ولم يكن أحد من الصحابة يقف عنده يدعو لنفسه ولكن كانوا يستقبلون القبلة ويدعون في مسجده" انتهى.
وقال أيضاً: "وكره السلف رضي الله عنهم قصدها بالدعاء متأولين في ذلك قوله صلى الله عليه وسلّم: "لا تتخذوا قبري عيداً" كما ذكرنا ذلك
ص -87-(24/71)
عن علي بن الحسن، والحسن بن الحسن ابن عمه، وهما أفضل أهل البيت من التابعين، وأعلم بهذا الشأن من غيرهما المجاورتهما الحجرة النبوية نسباً ومكاناً وقد ذكرنا عن أحمد وغيره إنه أمر من سلم على النبي صلى الله عليه وسلّم وصاحبيه، ثم أراد أن يدعو أنه ينصرف ويستقبل القبلة وكذلك أنكر ذلك غير واحد من العلماء المتقدمين كمالك وغيره من المتأخرين مثل أبي الوفاء ابن عقيل، وأبي الفرج ابن الجوزي، وما أحفظ لا عن صاحب ولا عن تابع ولا عن إمام معروف أنه استحب قصد شيء من القبور للدعاء عندها، ولا روى أحد في ذلك شيئاً لا عن النبي صلى الله عليه وسلّم، ولا عن الصحابة، ولا عن أحد من الأئمة المعروفين وقد صنف الناس في الدعاء وأوقاته وأمكنته وذكروا فيه الآثار فما ذكر أحدٌ منهم في فضل الدعاء عند شيء من القبور حرفاً واحداً فيما أعلم، فكيف يجوز والحالة هذه أن يكون عندها أجوب وأفضل، والسلف تنكره ولا تعرفه وتنهى عنه ولا تأمر به" انتهى.
وقوله: ثم ذكر عن ابن تيمية، وعن ابن عبد الهادي مثل ما ذكر وزاد أن دعاء الزائر لنفسه إذا كان تبعاً للدعاء
ص -88-(24/72)
لأصحاب القبور لا ينهى عنه أحد من المسلمين لكن زيادتهما المذكورة بعد أن ذكرا أحاديث تدل على ذلك على عادة التابعين لابن تيمية إذا أنكروا شيئاً، ثم ورد عليهم ما يغاير إنكارهم جاهدوا بنحو لم يصح النقل أو بنحو إنما جاز لأجل كذا كدعواه جواز الدعاء بعد صحة الحديث به إنه لأجل التبعية إلى آخر ما قال.
فيقال: في جوابه هذا كله هوس وتخليط وليس لك فيه راحة ولا يفيدك شيئاً فإن الأحاديث الواردة في زيارة القبور الزيارة الشرعية ليس فيها إلاّ الدعاء لهم والترحم عليهم والاستغفار كما في حديث عائشة رضي الله عنها الذي رواه مسلم، وكذلك حديث بريدة عن أبيه عند مسلم وغيره من الأحاديث الصحيحة الثابتة بنقل العدل الضابط عن مثله، وقوله بعد أن ذكر أحاديث تدل على ذلك على عادة التابعين لابن تيمية إذا أنكروا شيئاً ثم ورد عليهم ما يغاير إنكارهم.
فيقال: نعم هي عادة اتباع ابن تيمية يذكرون الأحاديث ويعتمدون عليها ويستدلون بها على موارد النزاع ويتركون قول من خالفها
ص -89-(24/73)
كائنا من كان فإنه لا قول لأحد مع سنة سنّها رسول الله صلى الله عليه وسلّم فهلا ذكرت ما يغاير إنكارهم إن كنت من أهل العلم والمعرفة ولو كان عندك من الحق ما يغاير إنكارهم لما أهملته ولجبهت به من أنكر ذلك ونقل عن الأئمة خلافه، ولكنها عنقاء مغرب ومن الدعاء ما ليس عنده كذبته شواهد الامتحان. قوله: جاهدوا بنحو لم يصح النقل أو بنحو إنما جاز لأجل كذا كدعواه جواز الدعاء بعد صحة الحديث به أنه لأجل التبعية، فيقال: نعم كل حكم وشرع لم يأذن به الله ورسوله ولا صح به نقل عن الله ولا عن رسوله ولا عن الصحابة والتابعين لا يعملون به ولا يثبتونه ويردونه على من قال به كائنا من كان لقوله صلى الله عليه وسلّم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"، ودعواه جواز الدعاء بعد صحة الحديث به أنه لأجل التبعية فقد صح الحديث كما تقدم عند مسلم وغيره وكونه إنما جاز تبعاً وضمنا صريح في نفس الحديث بقوله: "اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم"، فالدّعاء
ص -90-(24/74)
بهذا ونحوه لا يكره مطلقاً بل يؤمر به كما جاءت به السنة ضمنا وتبعاً، وإنما المكروه أن يتحرى المجيئ إلى القبر للدعاء عنده كما ذكره الحافظ محمد بن عبد الهادي وكما تقدمت الإشارة إليه في حديث علي بن الحسين، والحسن بن الحسن ابن عمه.
وقوله: وحقيقة الأمر منع ابن تيمية للدعاء ونحوه تجاه قبر النبي صلى الله عليه وسلّم لما هو معتقده ومعتقد متابعيه أن النبي صلى الله عليه وسلّم بعد موته لا جاه له.
فيقال: إنما منع ذلك الأئمة الأربعة المقلدون المتفق على هدايتهم ودرايتهم وجلالتهم وعلمهم فاتبعهم ابن تيمية في المنع من ذلك وأنت خالفتهم وتركت طريقتهم وهديهم وما أمروا به، وما نهوا عنه فإن كان منع ابن تيمية من ذلك يلزم منه اعتقاد أن النبي صلى الله عليه وسلّم لا جاه له فكذلك هو لازم للأئمة الأربعة حيث منعوا من ذلك وهذا لا يقوله من يدري ما يقول وأين هذا من قولك عند ردّ كلام السندي ثبوت توسّل الإمام الشافعي بأبي حنيفة وهو كذب محض فقلت: وكفى بقولك تعني السندي أقوال من
ص -91-(24/75)
ذكروا فعالهم ليست من الحجة في شيء قبحا وسوء أدب مع الإمام الشافعي وأضرابه وإذا لم تقتد وتعتبر بأقوال وأفعال من ذكر في مثل هذه الفضائل مع كونهم أئمة الشريعة والمجمع على تحققهم بمرتبة الاجتهاد المطلق فيمن يحسن الاقتداء فقد نقضت أصلك وعدت عليه بالهدم والرد في هذا الموضع بالرد على ابن تيمية واتباعه حيث اتبعوا ما صح عن الأئمة الأربعة ولم تذكر ما ينقض ذلك عنهم وإني لك بذلك فكان داؤك هو الداء العضال الذي قد ختم بالطبع والأقفال وأيضاً قوله: أن معتقده ومعتقد متابعيه أن النبي صلى الله عليه وسلّم بعد موته لا جاه له كذب بحت، بل هم من أعظم الناس رعاية لحقه واحتراما له يأتمرون بأمره وينتهون عما نهى عنه ولا يشرعون في دين الله ما لم يأذن به فيزورون القبور لأمره بذلك ولا يشدون الرحال إليها لنهيه عن ذلك ويدعون لأهل القبور ولا يدعونهم ويستغفرون لهم ويطلبون لهم العافية ولا يطلبون منهم بخلاف الذين بدلوا قولاً غير الذي قيل لهم بدلوا الدعاء لهم بدعائهم والطلب
ص -92-
لهم بالعافية بالطلب منهم فالله المستعان.
شعراً:
نزلوا بمكة في قبائل هاشم
ونزلت بالبيدآء أبعد منزل(24/76)
فصل: قال المعترض فيما اعترض به على كلام محمد بن إسماعيل الصنعاني: إنّ الذين ينادون الأموات وينحرون لهم وينذرون لهم كذب وزور، فإن المعرفة من عوام مكة أن من كان عنده مريض مثلاً نوى أنه يتقرب إلى الله تعالى بصدقه لأجل أنه تعالى يتفضل عليه بعافية مريضه فقد يقول لله عليّ صدقة كذا أن شفى الله مريضي وإما كون أحد يذبح للميت الفلاني فلا سمعنا قط به وأمّا تخصيصهم الصدقة بكونها عند ذلك الميت الولي الصالح فغرضهم أن الصدقة للفقراء الحاضرين عنده أولى وأحسن؛ لأنهم يتوسلون بالولي إلى ربه ويطلبون منه أن يتوجه إلى ربه في قبول دعواتهم من ربهم لا منه، فلو سألت صغيرهم وغبيهم وعبدهم هل الميت الولي ينفعك أو يضرك أو يشقى مريضك لصاح لك وأنكر ذلك واعترف أن الضار والنافع هو الله تعالى لا غير إلى آخر ما
ص -93-(24/77)
اعترض به، فالجواب أن يقال: إن الصدقة بهذا النذر للسدنة والمجاورين نذر معصية لا يجب الوفاء به باتفاق العلماء والمعصية تصدق بالعبادة للمنذور له ومعلوم أن إخراجه على وجه القربة والتعظيم لأهل القبور عبادة وشرك وتقرب إلى غير الله وشرع لما لم يأذن به الله ولم تأت به شريعة ولم يكن من هدي السلف والقرون المفضلة، ولأن العكوف عند القبور وسدانتها أصل عبادة الأصنام كما ذكره ابن عباس وغيره في الكلام على قوله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} الآية [نوح: من الآية23].
وأما قوله: لأنهم يتوسلون بالولي إلى ربه فجوابه أن التوسل بالولي بعد موته والطلب منه أن يتوجه إلى ربه مصادمة لقوله تعالى: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:14]، فأخبر تعالى أنهم لا يسمعون دعاء من دعاهم ولو سمعوا على سبيل الفرض والتقدير ما استجابوا لهم لأن ذلك ليس لهم فإن الله تعالى لم يأذن لأحد من عباده في دعاء أحد منهم لا استقلالا ولا
ص -94-(24/78)
واسطة وأخبرنا سبحانه وتعالى أن هذا الدعاء شرك بقوله: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} [فاطر: من الآية14]، وهذا الطلب والتوجه إلى الأموات في قضاء الحاجات وتفريج الكربات هو شرك جاهلية العرب الذين بعث فيهم عبد الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلّم فإنهم كانوا يدعون الملائكة والأنبياء والصالحين ويلتجئون إليهم ويسألونهم على وجه التوسل بجاههم وشفاعتهم ليقربوهم إلى الله زلفي كما حكى الله ذلك عنهم في مواضع من كتابه كقوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} الآية [يونس:18]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: من الآية3]، وقال تعالى: {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الاحقاف:28].
ومعلوم أن المشركين لم يزعموا أن الأنبياء والأولياء والصالحين والملائكة شاركوا الله في خلق السموات والأرض أو استقلوا بشيء من التدبير والتأثير والإيجاد ولو في خلق ذرة من الذرات، وإنما عبدوهم والتجأوا
ص -95-(24/79)
إليهم ودعوهم على وجه التوسل بجاههم وطلب الشفاعة منهم، فقول هذا المكي أنهم يتوسلون بالولي إلى ربه ويطلبون منه أن يتوجه إلى ربه هو كقول جاهلية العرب الذين نزل القرآن بتكفيرهم سواء بسواء.
وقوله: وأما كون أحد يذبح للميت الفلاني فلا سمعنا قط به فيقال: ولا سمعت أحداً منهم يقول: يا رسول الله، يا كعبة الله، يا مقام إبراهيم، وهل هذا إلا مكابرة محضة فإن من لم ينكر هذا وهو ينادي به على رؤس الأشهاد ولا رآه شركاً كيف ينكر الذبح لغير الله عند ضرائح الأموات ولا سمعت أيضاً ما يقال عندها في المعلات ولا رأيت ما فيها من المساجد المبنية على القبور ولا ما يصرف إليها من النذور ولا رأيت إيقاد السرج فيها وقد قال صلى الله عليه وسلّم: "لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج" والذي رأيت في المعلات أكثر من مائة قنديل.
وليس يصح في الأذهان شيء
إذا احتاج النهار إلى دليل
وأيضاً قوله لأنهم يتوسلون بالولي إلى ربه ويطلبون منه أن يتوجه إلى ربه إلى آخره مراد هؤلاء الملاحدة أنهم يجعلونهم وسائط
ص -96-(24/80)
بينهم وبين الله كالمجاب الذين بين الملك وبين رعيته بحيث يكونون هم يرفعون إلى الله حوائج خلقه فيسألونهم وهم يسألون الله كما أن الوسائط عند الملوك يسألون الملوك حوائج الناس لقربهم منهم والناس يسألونهم أدبا منهم أن يباشروا سؤال الملك أو لأن طلبهم من الوسائط انفع من طلبهم من الملك لكونهم أقرب إلى الملك من الطّالب فمن أثبتهم وسائط على هذا الوجه فهو كافر مشرك يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل.
قال شيخ الإسلام: "وهؤلاء المشبهون شبهوا الخالق بالمخلوق وجعلوا لله أنداداً وفي القرآن من الرّد على هؤلاء ما تتسع له هذه الفتوى فإن الوسائط التي بين الملوك وبين الناس على أحد وجوه ثلاثة:
أما لأخبارهم من أحوال الناس بما لا يعرفون ومن قال: إن الله لا يعرف أحوال العباد حتى يخبره بذلك بعض الملائكة أو الأنبياء أو غيرهم فهو كافر بل هو سبحانه يعلم السّر وأخفى لا يخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء وهو السميع البصير يسمع ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات لا يشغله
ص -97-(24/81)
سمع عن سمع ولا تغلطه المسائل ولا يتبرم بإلحاح الملحين.
الوجه الثاني: أن يكون الملك عاجزاً عن تدبير رعيته ودفع أعاديهم الأباء وأن يعينونه فلا بدّ له من أعوان وأنصار لذله وعجزه والله سبحانه ليس له ظهير ولا ولي من الذل، قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سبأ:22]، وقال تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} [الاسراء:111]، وكل ما في الوجود من الأنساب فهو سبحانه خالقه وربه ومليكه فهو الغني عن كل ما سواه وكل ما سواه فقير إليه بخلاف الملوك المحتاجين إلى ظهرائهم وهم في الحقيقة شركاؤهم والله سبحانه ليس له شريك في الملك لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير، ولهذا لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه لا ملك ولا نبي ولا غيرهما فإن من يشفع عند غيره بغير إذنه فهو شريك في حصول المطلوب لأنه أثر فيه بشفاعته حتى جعله يفعل ما يطلب منه والله سبحانه
ص -98-(24/82)
وتعالى لا شريك له بوجه من الوجوه ويسمى الشفيع شفيعاً لأنه يشفع غيره أي يصير له شفعاً، قال تعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ} [النساء: من الآية85]، وكل من أعان غيره على أمر فقد شفعه فيه، والله تعالى وتر لا يشفعه أحد بوجه من الوجوه.
الوجوه الثالث: أن يكون الملك ليس مريد النفع رعيته والإحسان إليهم ورحمتهم إلا بمحرك يحركه من خارج فإذا خاطب الملك من ينصحه ويعظه أو من يدل عليه بحيث يكون يرجوه ويخافه تحركت إرادة الملك وهمته في قضاء حوائج رعيته أما لما يحصل له من الرغبة والرهبة من كلام المدل عليه، والله تعالى هو رب كل شيء ومليكه وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها وكل الأسباب إنما تكون بمشيئته فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وهوذا أجرى نفع العباد بعضهم على يد بعض فجعل هذا يحسن إلى هذا ويدعو له ويشفع فيه ونحو ذلك فهو الذي خلق ذلك كله وهو الذي خلق في قلب
ص -99-(24/83)
هذا المحسن والداعي والشافع إرادة الإحسان والدعاء والشفاعة ولا يجوز أن يكون في الوجود من يكرهه على خلاف مراده أو يعلمه ما لم يكن يعلمه أو من يرجوه الرب ويخافه ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلّم: "لا يقولن أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت ولكن ليعزم المسألة، فإن الله لا مكره له"، والشفعاء الذين يشفعون عنده لا يشفعون إلا بإذنه، قال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الانبياء: من الآية28]، وقال تعالى: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: من الآية23]، بخلاف الملوك فإن الشافع عندهم قد يكون له ملك أو يكون شريكاً لهم في الملك وقد يكون مظاهرا لهم معاوناً على ملكه وهؤلاء يشفعون عند الملوك بغير إذن الملوك والملك يقبل شفاعتهم تارة على وجه إنعامهم عليه حتى أنه يقبل شفاعة ولده وزوجته لذلك فإنه محتاج إلى الزوجة وإلى الولد حتى لو أعرض عنه ولده وزوجته لتضرر بذلك إلى أن قال والله تعالى لا يرجو أحداً ولا يخافه ولا يحتاج إلى أحد بل هو الغني إلى أن قال: والمقصود هنا أن من أثبت وسائط بين الله تعالى و
ص -100-(24/84)
البيان المبدي لشناعة القول المجدي - سليمان بن سحمان (2)
بين خلقه كالوسائط التي تكون بين الملوك والرعية فهو مشرك بل هذا دين المشركين عباد الأوثان" إلى آخر ما قال رحمه الله، فانظر رحمك الله إلى ما قاله الشيخ رحمه الله، ثم تأمل كلام المكي أنهم إنما يتوسلون بالولي إلى ربه ويطلبون منه أن يتوجه إلى ربه في قبول دعواتهم من ربهم لا منه هل بين كلامه وبين ما ذكره شيخ الإسلام فرق والله المستعان.
وقوله: ويعتقدون فيهم ما يعتقده العلماء إن الميت لا تفنى روحه بل هو سميع عليم معارفه باقية وبركته باقية. فالجواب أن يقال: وهذه أيضاً وهلة عظيمة وبليته أخرى فإنها مصادمة ومكابرة لقوله تعالى: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ} الآية [فاطر:14]، ولقوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ، وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الاحقاف:5ـ6]، وقد سوى هذا المعترض بين من نفى الله التسوية بينهما وهل هذا إلا مصادمة ومعارضة للقرآن فليهنأ معارضة كلام الله والجمع بين ما فرق الله، قال الله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ
ص -101-(25/1)
وَلا الأَمْوَاتُ} [فاطر:من الآية22]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ، أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل:20ـ21]، وقد تقرر أنّ الأموات لا يساوون الأحياء في وجه من الوجوه إذ الموت غير الحياة المعهودة وما ثبت لهم من الحياة فهي برزخية غير الحياة المعهودة في الدنيا فمن أراد بها الحياة المعهودة في الدنيا التي تقوم فيها الروح بالبدن وتدبره وتصرفه ويحتاج معها إلى الطعام والشراب واللباس فهذا خطأ ظاهر والحس والعقل يكذبه كما يكذبه النص وأما من أراد حياة أخرى غير هذه الحياة بل تعاد الروح إليه إعادة غير الإعادة المألوفة في الدنيا ليسأل ويمتحن في قبره ويرد السّلام على المسلمين فهذا حق ونفيه خطأ وقد دل عليه النص الصحيح الصريح وهذه الحياة متفاوتة فحياة الأنبياء أكمل من حياة الشهداء وحياة الشهداء أكمل من حياة غيرهم وهذه الحياة حياة برزخية لا يعلم كنهها إلا الله فقول هذا الجاهل المركب إنهم يتوسلون بالولي إلى ربه ويطلبون منه أن يتوجه إلى ربه في قبول دعواتهم قول غير معقول وضلال عند
ص -102-(25/2)
أهل الحق غير مقبول فإن الميت قد انقطع عمله وهو لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً بنص رسول الله صلى الله عليه وسلّم حيث قال: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث" الحديث، فإذا كان قد انفطع عمله لنفسه فكيف يطلب منه أن ينفع غيره أو يشفع له هذا من أمحل المحال وأضل الضلال.
وقوله: إن الميت لا تفني روحه بل هو سميع عليم معارفه باقية وبركته باقية إلى آخره.
فالجواب: أن يقال: إن سماع الميت مقيد بحال دون حال لا في جميع حالاته كما يشير إليه قول قتادة في أهل القليب وسماع الميت خفق نعال من يدفنونه إذا ولوا عنه وحال الأموات تختلف اختلافاً عظيماً وللأرواح بعد مفارقة هذا الجسم شأن لا يحيط بتفصيله إلا الله ومن زعم أن الاستمداد منهم جائز لا يفرق بين القريب والبعيد كما هو مشاهد ممن يدعو الأنبياء والصالحين ويستمد منهم وأفضل الخلق صلى الله عليه وسلّم قد ثبت عنه أنه يبلغ صلاة أمته مع البعد عن قبره ولا يسمعه فكيف بغيره فإذا ثبت أنه لا يسمعه من بعيد بل يبلغه فغيره أولى فكيف يعتقد في الأموات أنهم يسمعون
ص -103-(25/3)
وينفعون ويضرون وهم جثث بالقبور صارت أجسامهم إلى الفنا والبلا فكيف ذهب الشيطان بعقول هؤلاء المشركين إلى أن بلغ بهم إلى أن نزلوا المخلوق منزلة الخالق والعبد العاجز منزلة المعبود القاهر فوق عباده ونزلوا الميت منزلة الحي القيوم الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض فجعلوهم شركاء لله في الإلهية والربوبية والملك وفي علم الغيب واعتقدوا فيهم أنهم يسمعون من دعاهم من الأماكن البعيدة وهم أموات رفات وقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ، أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ} الآية [النحل:20ـ21] فترك هؤلاء المشركون الإيمان بالقرآن ونبذوه وراء ظهورهم واعتقدوا المحال الذي أحالته العقول الصحيحة وأنكرته الفطر السليمة المستقيمة وإذا كان المدعو في حال حياته واجتماع حواسه وحركاته لا يسمع من دعاه على البعد ولو مسيرة فرسخ فكيف يجوز في عقل من له أدنى مسكة من عقل أنه إذا مات وفارقت روحه جسده وذهبت حواسه وحركته بالكلية وصار رهينا في الثرى جسداً بلا روح أنه والحالة
ص -104-(25/4)
هذه يسمع من دعاه وإذا كانت أرواح الأنبياء والصالحين في أعلى عليين فيمتنع عقلاء وشرعاً وفطرة وقدر أن الأرواح التي فوق السموات السبع وفي أعلى عليين أنها تسمع دعاء أهل الأرض وتنفعهم وتتصرف فيهم هذا محال قطعا وضلال مبين بدليل قوله تعالى: {وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الاحقاف: من الآية5]، فكل من دعى من الأموات والغائبين والأنبياء والصالحين فمن دونهم غافل عن دعاء داعية بنصوص القرآن العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد فسبحان من أنزل كتابه روحاً وهدى ونورا وبرهانا يهتدى به من هداه الله إلى صراطه المستقيم فمن قال: إنهم بعد مماتهم يسمعون دعاء من دعاهم لأنّ أرواحهم لا تفنى وهم في أعلى عليين فقد سوى بين الأرواح وبين الله الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ويسمع ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات ولا يشغله سمع عن سمع وبين الأموات والحي الذي لا يموت ونسبته اعتقاد ذلك إلى العلماء كذب بحث وتمويه على الجهال فلم يعتقد هذا أحد من
ص -105-(25/5)
العلماء المعروفين المشهورين بالعلم والصلاح والدين الذين لهم قدم صدق في العالمين وإنما يعتقد هذا من يجوز دعاء الصالحين والالتجاء إليهم في الحياة وبعد الممات وبهذا تعرف خطأ هذا المعترض في اعتراضه على الصنعاني رحمه الله تعالى.
فصل: قال المعترض ومن تلك الأمور التي ذكر عبد الله السندي في رسالته قوله في حال زائر قبور الصالحين لكن لأي معنىً قام يمشي إلى القبر إلى آخر ما ذكره ثم قال وإذا لم يكن له اعتقاد في الميت على الصفة التي ذكرنا فهو عاص أثم إلى آخر كلامه نقلاً عن محمد بن إسماعيل الصنعاني هذا ما نقله المكي قال وهو صريح في أن الصنعاني المذكور من التابعين لابن تيمية في معتقد هم الفاسد أن الولي الصالح لا يبقى له قدر ولا تشريف بعد موته إلى آخر ما ذكره وهذا المكي جاهل لا يعرف الرجال بالحق بل من كان معتقده معتقد أهل السنة والجماعة فهو من أتباع ابن تيمية ونعما هي من خصلة سنيته، وحينئذ فالجواب أن يقال: قد تقدم قريباً نفى مساواة الميت بالحي فلا نطيل بإعادته فلم يبق إلاّ
ص -106-(25/6)
ما ذكره العلامة محمد بن إسماعيل الصنعاني رحمه الله تعالى وهو أن مشيك إلى القبر لتسمع الميت توسلك به وتعطف قلبه عليك وتتخذ عنده يداً بقصده وزيارته والدعاء عنده والتوسل به إذ قد تقدم أنه قد انقطع عمله فهو لا يملك لنفسه نفعاً ولا يدفع عنها ضراً فكيف بغيره وهذا المعترض ما وجد ما يرد به كلام الصنعاني إلا أنه من التابعين لابن تيمية ولم يأت بدليل يرد ما ذكره إلا أن معتقد أهل السنة والجماعة المعتصمين بكتاب الله وسنة رسوله معتقد فاسد وذاك لجهله بما كان عليه السلف الصالح والصدر الأول فإنه لم ينقل عنهم أنهم كانوا يشدون الرحال لزيارة المشاهد ويقصدونهم لتفريج الكربات وإجابة الدعوات هذا لم ينقله أحد عنهم ولم يفعله أحد منهم وليس عند هذا المعترض إلا ما عند عبدة القبور والصالحين من الأكاذيب الموضوعة والحكايات المصنوعة والحكايات المصنوعة وتمويهات من كانت أفئدتهم بالشر مطبوعة.
قال المعترض: ومما يرد قوله: فهو عاصٍ آثم ما نقله عبد الله السندي عن الشيخ حسين بن
ص -107-(25/7)
غنام الإحسائي وهو من علمائهم المرضين عندهم إلى آخر ما نقله المعترض.
والجواب: أنّ هذا المعترض أسقط من كلام الشيخ ابن غنام ما يهدم أصله ويوافق الصنعاني رحمه الله وذكر ما لا يغني عنه عند التحقيق وجعله مناقضة وأنا أذكر كلام الصنعاني رحمه الله وكلام ابن غنام على أصله ليتبين لك تمويه هذا المعترض وعدم علمه ومعرفته بكلام العلماء والمتوافق المؤتلف والمتناقض المختلف قال الصنعاني رحمه الله: "ومن قال إنه لم يقصد بدعاء الأموات والنحر لهم والنذر عليهم عبادتهم فقل له فلأي مقتضى صنعت هذا الصنيع فإن دعاك للميت عند نزول أمر ربّك لا يكون إلا لشيء في قلبك عبر عنه لسانك فإن كنت تهذوا بذكر الأموات عند عروض الحاجات من دون اعتقاد منك لهم فأنت مصاب بعقلك وهكذا إن كنت تنحر لله وتندر لله فلأي معنى جعلت ذلك للميت وحملته إلى قبره فإنّ الفقراء على ظهر البسيطة في كل بقعة من بقاع الأرض وفعلك وأنت عاقل لا يكون إلا لمقصد قد قصدته أو أمر قد أردته
ص -108-(25/8)
وإلا فأنت مجنون قد رفع عنك القلم ولا نوافقك على دعوى الجنون إلا بعد صدور أفعالك وأقوالك في غير هذا على نمط أفعال المجانين فإن كنت تصدرها مصدر أفعال العقلاء فأنت تكذب على نفسك في دعواك الجنون في هذا الفعل بخصوصه فراراً عن أن يلزمك ما لزم عبّاد الأوثان الذين حكى الله عنهم في كتابه العزيز ما حكاه بقوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً} الآية [الأنعام:136]، فتأمل كلامه رحمه الله وأن هذا فعل عاقل مختار قاصد معتقد لذلك ثم قال: بعد ذلك في حال الزائر وإذا لم يكن له اعتقاد في الميت على الصفة التي ذكرنا فهو عاص إثم.
وأما كلام ابن غنام رحمه الله فقال: "العاشرة: قولهم في الاستسقاء لا بأس بالتوسل بالصالحين وقول أحمد يتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلّم خاصة مع قولهم أنه لا يستغاث بمخلوق فالفرق ظاهر جداً وليس الكلام فما نحن فيه فكون بعض يرخص بالتوسل بالصالحين، وبعضهم يخصه بالنبي صلى الله عليه وسلّم وأكثر العلماء ينهى عن ذلك ويكرهه هذه المسألة من مسائل الفقه ولو كان الصواب عندنت قول
ص -109-(25/9)
الجمهور أنه مكروه فلا ننكر على من فعله ولا إنكار في مسائل الاجتهاد، لكن أنكرنا على من دعا المخلوق أعظم مما يدعو الله تعالى ويقصد القبر يتضرع عند الشيخ عبد القادر أو غيره يطلب منه تفريج الكربات وإغاثة اللهفات وإعطاء الرغبات فأين هذا ممن يدعو الله مخلصاً له الدين لا يدعو مع الله أحداً ولكن يقول في دعائه" أسألك بنبيك أو بالمرسلين أو بعبادك الصالحين" أو يقصد قبر معروف أو غيره يدعو عنده لكن لا يدعو إلا الله مخلصاً له الدين فأين هذا مما نحن فيه فانظر رحمك الله كيف أسقط من كلام ابن غنام مما يهدم أصله وذكر منه ما ظن أنه مناقضة وهو عين الموافقة فإن قوله رضي الله عنه لكن أنكرنا على من دعا المخلوق أعظم مما يدعو الله تعالى ويقصد القبر يتضرع عند الشيخ عبد القادر أو غيره يطلب تفريج الكربات وإغاثة اللهفات وإعطاء الرغبات موافق لكلام الصنعاني رحمه الله في قوله فإن دعائك للميت عند نزول أمر ربك لا يكون ألا لشيء في قلبك عبر عنه لسانك فأين المناقضة بين هذين الكلامين. وأما قول الصنعاني في حال الزائر
ص -110-(25/10)
وإذا لم يكن له اعتقاد في الميت على الصفة التي ذكرنا فهو عاص آثم وقول ابن غنام فأين هذا ممن يدعو الله مخلصاً له الدين لا يدعو مع الله أحداً ولكن يقول في دعائه أسألك بنبيك إلى آخره فإن كلام الصنعاني رحمه الله في شد الرحال لزيارة المشاهد وشد الرحال إليها بدعة محرمة ومن فعل ذلك ولم يكن له اعتقاد في البيت فهو عاص آثم لقوله صلى الله عليه وسلّم: "لا تشد الرّحال إلا إلى ثلاثة مساجد" الحديث. وأما شد الرحال إلى المشاهد فبأي دليل ومن فعل ذلك كان عاصيّا آثما لارتكابه ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وكلام ابن غنام في التوسل.
وقد اختلف العلماء في جوازه ومنعه كما ذكروا إذا كانت المسألة اجتهادية فهولاء إنكار في مسائل الاجتهاد فأين المناقضة بين هذين الكلامين هذا في التوسل وهذا في شدّ الرحال، وابن غنام رحمه الله من أشد الناس منعاً من شد الرحال إلى المشاهد وليس في كلامه هذا ما يشعر بجوازه لا لفظا ولا معنى إنما كلامه في الفرق بين من يدعو الصالحين ويطلب منهم تفريج الكربات
ص -111-(25/11)
وإغاثة اللهفات وبين من لا يدعو إلا الله مخلصاً له الدين لا يدعو مع الله أحداً لكن يقول في دعائه أسألك بكذا وكذا فإن فعل الأول عنده كفر وخروج من الإسلام والثاني فعله مكروه عنده ومن فعله باجتهاد فلا ينكر عليه ولكن هذا المعترض أراد بهذا التلبيس والتمويه على خفافيش البصائر وإن كلام هؤلاء متناقض فالله يجزيه الذي هو أهله.
فصل: قال المعترض ـ بعد أن ذكر كلام الشوكاني في قوله: إن التوسل بأهل الفضل هو في التحقيق توسل بأعمالهم إذ لا يكون الفاضل فاضلا إلا بأعماله ورد السندي على الشوكاني هذا الكلام بأربعة وجوه ذكرها قال المكي: فانظر كيف أنكر على الشوكاني تقدير المضاف واستدلّ بالرّد عليه بوجوه أربعة كما نقلته آنفاً ثم وقع في تقدير المضاف في قوله، فإن المراد بالتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلّم هو التوسّل بدعائه إلى كلامه.
ومقصوده بهذا أنهما من اتباع ابن تيمية وقد ناقض أحدهما الآخر، والجواب أن يقال: إذا كان السندي من أتباع ابن تيمية والشوكاني كذلك من أتباع ابن تيمية
ص -112-(25/12)
واختلفا في مسألة فاختلافهم لا يسقط الحق مع من كان والحق أحق أن يتبع والصواب هو ما قاله السندي فإن حقيقة التوسل بالشيء التوسل بذاته والتوسل بالأعمال أمر خارج زائد على الحقيقة ولا يصرف عن الحقيقة إلى المجازا لا لمانع فلا يتم له الدليل على أن التوسل بذواتهم إنما هو باعتبار ما قام بهم من الأعمال الصالحة فإن الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة لم يتوسلوا إلا بأعمالهم الخارجة عن حقيقة الذات ولم يتوسلوا بذواتهم وكونه أعني هذا المعترض جعل كلام السندي متناقضاً لأنه قال في آخر الكلام فإن المراد بالتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلّم وبعم النبي صلى الله عليه وسلّم في هذا القول هو التوسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلّم وبدعاء عمّه هذا ليس بتناقض فإن التوسل بالنبي في عرف الصحابة هو التوسل بدعائه وكذلك لما توسل عمر بالعباس إنما هو بدعائه لقوله: "قم يا عباس فادع الله"،وكقول معاوية ليزيد بن الأسود الجرشي: "قم يا يزيد فادع الله"، وليس هذا توسلاً بالذوات لأن التوسل بالذوات لم يرد إلا بلفظ غير ثابت لا يصح والتوسل بالأعمال قد ثبت بالكتاب
ص -113-(25/13)
والسنة الصحيحة وليس هذا من تقدير المضاف في شيء حتى يكون تناقضاً.
فصل: قال المعترض: ومن تلك الأمور التي ذكرها عبد الله السنديّ بعد أن نقل عن شيخنا السيد دحلان أن العلامة ابن جماعة نقل عن الإمام أبي حنيفة استقبال القبر الشريف أي للزائر عند السلام عليه صلى الله عليه وسلّم، قوله: أقول راجعت منسك ابن جماعة فلم أجد أثراً من هذا النقل وإنما فيه في ذلك الباب إن الذي صححه الحنفية أنه يستقبل القبلة عند السلام عليه والدعاء إلى آخره قال: والجواب:
أولاً: أن شيخنا فيما نقله عن ابن جماعة من الأوضاع التي ملأ بها رسالته الوضيعة ومقالاته الواهية الشنيعة فإنه رجل كذاب وضاع لا يستحيي من الكذب على أهل العلم وقد قال صلى الله عليه وسلّم: "إن مما أدرك الناس من أمر النبوة الأولى إذا لم تستحي فاصنع ما شئت". والذي يدل على كذبه ما قاله ابن جماعة في منسكه: أن الذي صحّحه الحنفية أنه يستقبل
ص -114-
القبلة عند السلام عليه والدعاء وإطلاق دحلان ما نقله عنه ولم يقيده بمنسك ولا باب غير مسلم له صحة ذلك؛ لأنه معروف بالوضع والكذب وإذا كان ذلك كذلك فالمثبت للكذب لا يقدم على النافي له فإن المتقرر عند العلماء إن الجرح مقدم على التعديل فمالك ولهذه الصناعة وأنت لست ممن يتجر في هذه البضاع ولا ممن يسرح النظر في تلك الفياض ويسيم في فيح تلك المطاوح والرياض.
فقل لغليظ القلب ويحك ليس ذا
بعشك فادج طالباً عشك البال
ولا تك ممن مد باعا إلى جنا
فقصر عنه قال ذا ليس بالمجال(25/14)
وقول المعترض: أن في رد هذه المقالة الخاطئة سوء أدب في حق علامة زمانه فهذا من عدم معرفته بما كان عليه أهل الحديث من الجرح والتعديل ونفيهم ما لم يصح نقله عن أهل العلم بالبرهان والدليل إذ نفى الكذب عنهم من نصرهم والذب عنهم والقيام بحقوقهم وبتبرئتهم من الكذب المنسوب إليهم وأما دحلان فهو لا حرمة له لأنه من الدعاة إلى عبادة القبور وطلب الحوائج من الأموات والالتجاء إليهم في كشف الشدائد في الملمات والمهمات ومن كان بهذه المثابة
ص -115-
فلا حرمة له ولا كرامة قال: وأرجو بفضل الله إن لم تتب وتندم أن يجازيك الله على سؤضيعك تباً ليفك هذه الرسالة في الرد على شيخنا السيد أحمد دحلان بالذل والهوان في الدنيا والآخرة سوف ترى إذا انجلى الغبار أفرس تحتك أم حمار.
والجواب أن يقال: نعم إذا انكشف الغبار، وافترق الناس فريقين فريق إلى الجنة وفريق إلى النار، هل تحته فرس أجراه لنصر الله ورسوله وأئمة المسلمين أو حمار، وستعلم حينئذ من كان على نهج الرسول وطريقه ومن نحى طريقة أبي جهل وكان من فريقه، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: من الآية227]، و {لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأنعام:67]، وليس من نصر الله ورسوله وأئمة المسلمين وذب عنهم وأمر بتوحيد الله بإخلاص العبادة له بالدعاء والخوف والرّجاء والخشية والرغبة والرهبة والخضوع والخشوع والمحبة والتعظيم والتوكل والإنابة والاستغاثة والاستعانة وغيرها من أنواع العبادات كمن ذب عمن صرفها لغيره من المعبودات الأحياء منهم والأموات فأحبهم محبة تأله وخضوع ودعاء مع الله في المهمات والملمات والحوادث التي لا يكشفها ولا
ص -116-
يجيب الدعاء فيها إلا فاطر الأرض والسموات وعكف حول أجداثهم وقبل أعتابهم وتمسح بآثارهم طلبا للغوث واستجابة الدعوات.
والله لن يستويا ولن يتلاقيا
حتى تشيب مفارق الغربان(25/15)
وما أحسن ما قيل شعراً:
وما يستوي الشخصان هذا مصعد
إلى المرقب الأعلى وهذا مصوب
وما يستوي البرقان هذا مبشر
بغيث وهذا كاذب للمع خلّب
ولو لا العيون الرمد ما كان يستوي
على حالة ضدان نور وغيهب
فصل: قال المعترض: ومن تلك الأمور التي ذكرها السندي بعد أن نقل عن شيخنا عن ابن حجر أن الإمام الشافعي أيام هو ببغداد كان يتوسّل بالإمام أبي حنيفة إلى آخر قوله: لا بد فيما ذكر من سند يعتمد عليه وبعده أقوال من ذكروا فعالهم ليست من الحجة في شيء قال: فيقال لعبد الله السندي مثل هذا المطلب لا يتوقف على سند الأحكام إلى آخر ما قال.
والجواب إنما قاله عبد الله السندي هو الحق والصواب لما قدمنا أن الناقل لها معروف بالوضع والكذب وهي كما ذكر في إغاثة اللهفان
ص -117-
من أن الحكاية المنسوبة عن الشافعي أنه كان يقصد الدعاء عند قبر أبي حنيفة من الكذب الظاهر بل قد ثبت عن الإمام الشافعي رحمه الله أنه قال: "أكره أن يعظم مخلوق حتى يجعل قبره مسجداً مخافة الفتنة عليه وعلى من بعده من الناس وذكر هذا عن أبي بكر الأثرم وغيره من أصحاب أحمد وسائر العلماء ذكره شيخ الإسلام رحمه الله وأما كون هذا المطلب لا يتوقف على سند فهذا لا يقوله من له أدنى إلمام بالعلوم ولا معرفة له بالمنطوق والمفهوم بل لا بد في نقل ذلك من سند يعتمد عليه وإلا فهو كذب والكذب مردود على من افتراه وافترعه.
وقول المكي: وكفى بقولك أقوال من ذكروا فعالهم ليست من الحجة في شيء قبحا وسوء أدب مع الإمام الشافعي وأضرابه وإذا لم تقتد بأقوال وأفعال من ذكر في مثل هذه الفضائل فيمن يحسن الاقتداء إلى آخر ما قال، فيقال: لو صحت هذه الحكاية وحاشى وكلاً إن تصح وكان الشافعي رضي الله عنه قد فعلها ولم يفعلها مالك ولا أبو حنيفة ولا أحمد فضلاً عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي أفكان فعله حجة على مالك وأبي حنيفة وأحمد
ص -118-(25/16)
وعلى كل من خالفه في هذه المسألة والصحابة رضي الله عنهم لم يذكر عن أحد منهم أنه فعل هذا ولا جاء به خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقد صح عنه صلى الله عليه وسلّم أنه قال: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"، ومن نقل هذا عن أحد من الصحابة فعليه الدليل بنقل العدل الضابط عن مثله وإذا لم ينقل فهو مردود على من قال به أو فعله لأن العبادات مبناها على التوقيف وهؤلاء الأئمة الأربعة قد نهوا الناس عن تقليدهم في كل ما يقولونه وذلك هو الواجب عليهم.
قال أبو حنيفة رحمه الله: "هذا رأيي فمن جاء برأي خير منه قبلناه"، ومالك كان يقول: "إنما أنا بشر أصيب وأخطئ فأعرضوا قولي على الكتاب والسنة"، أو كلاماً هذا معناه والشافعي يقول: "إذا صح الحديث فأضربوا بقولي الحائط وإذا رأيت الحجة موضوعة على الطريق" فهي قولي والإمام أحمد كان يقول: "لا تقلدني ولا تقلد مالكاً ولا الشافعي ولا الثوري وتعلم كما تعلمنا". فإذا كان الأئمة الأربعة رضي الله عنهم قد نهونا عن تقليدهم إلا فيما وافق الكتاب والسنة ولم يكن مع الإمام الشافعي سنة فيما فعله على سبيل الفرض والتقدير
ص -119-(25/17)
لم يكن حجة كيف وقد قال: "إذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط"، وحسن الأدب معه أن يتمثل أمره في المعروف وسوء الأدب معه أن يرتكب ما نهى عنه مما خالف الحق ويكفيك من سوء معتقد هذا المكي وعدم بصيرته أنه جعل هذه الأوضاع التي لا تصح عن أحد من الأئمة فضائل فالله المستعان.
فصل: قال المعترض: ومن تلك الأمور التي ذكرها عبد الله ترجمته لمحمد بن عبد الوهاب ناقلاً عن الشيخ حسين بن غنام الأحسائي مما يفيد الثناء على محمد بن عبد الوهاب، قال: فيقال لعبد الله السندي عندنا معاشر أهل الحق من أهل المذاهب الأربعة ومقلديهم أن ثناءك على ابن عبد الوهاب من أعظم عيوب رسالتك وكيف تثني على من طبق البقاع خبره الشنيع وملأ الأسماع وصفه الوضيع، وقد ذمّه من علماء عصره عدد كثير فذكر منهم عبد الله بن داود الحنبلي، وأحمد بن علي القباني صاحب البصرة وعطاء المكي وأحمد المصري الأحسائي، ومحمّد بن عبد الرحمن بن عفالق، وعلوي بن أحمد الحداد.
والجواب أن يقال: إن معاشر أهل الحق ولله الحمد والمنة على خلاف ما زعمت وعلى غير
ص -120-(25/18)
طريقتك التي انتحلت وقد أثنوا عليها وارتضوها وأقروا ما فيها من الثناء الجميل ويتقنوا فضل الشيخ وعلمه وتحقيقه، وصنفوا مصنفات أوضحوا فيها معتقده وتصديقه وأنه كان على ما كان عليه السلف الصالح في باب العلم والإيمان، والتحقيق والعرفان، ولا عبرة بمن خالفهم وإن كانوا عديد الشاء والبعران وأما من ذمه ممن ذكرت فإن كل هؤلاء ممن شرق بهذا الدين وعصفت عليهم عواصف الشقوة فسفتهم إلى أسفل السافلين، وماذاك إلا لما ألفوه من عادات أهل الزمان من عبادة الطواغيت والأوثان و{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: من الآية23].
وحسداً منهم وبغيا حيث من الله على هذا الشيخ بإظهار هذه الدعوة كما قال إخوانهم {أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: من الآية53]، وكل من هؤلاء قد أدحض الله حجته وألقم حجراً بالعلم والبرهان وصارت مصنفاتهم وردودهم ضحكة للساخرين وشماتته لمن نظر فيها من أهل المعرفة والدين؛ لأنهم إنما نقلوا فيها منكراً من القول وزوراً، وأوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً، {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [غافر: من الآية5] وعدلوا عن منهج
ص -121-(25/19)
الإصابة والصدق فهم بما لفقوه يموهون، {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون:53]، وأظنوا أنهم بما كتبوه حازوا قصب السبق والغناه وعجوا وضجوا وما أبقوا ممكنا، وحسبوا أنهم لهذا الدين يطفؤن {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: من الآية32].
فلما طلع عليهم باسم هذا النور، وعصفت عليهم عواصف الهوان والدبور، تسنموا غارب البهتان والفجور، وأظهروا أنهم لهذا الدين ينصرون {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [البقرة:11ـ12]. وزينوا للناس سلوك مناهج الضلال والهلاك وزجوهم إلى ما يوقعهم في شبائك الإشراك، وأوهموا الجهّال والطغام أنهم يهدون بالحق وبه يعدلون، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ} [البقرة:13]، وقد دعاهم الشيخ إلى دين الله ورسوله وأشادلهم المنار والمعالم عن فروعه وأصوله وبين لهم كيف الطريق إلى وصوله وكشف لهم القناع ولكنهم به يستهزؤون {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [لأنفال:23] فمزقهم الله تعالى: أيادي سبا، وأظهر الله من أظهر دين وأحبتي، و
ص -122-(25/20)
مكن لهم دينهم الذي ارتضاه لهم وحبا فهم بجبله مستمسكون {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص:5ـ6].
وقول هذا المعترض: أفتريد أيّها السندي أن تروج برسالتك هذه ضلال من اتضح لمن ذكر حاله وحال متبعيه مثلم بل قد زدنا بوصول رسالتك ورسالة التابع لك عبد الكريم بصيرة بأحوالكم وأعمالكم.
فالجواب أنه ولله الحمد ما أراد برسالته غير نصر الحق وإدالته وإدحاض الباطل وإزالته، وبيان هوس هذا المكي وجهالته، وسوء معتقد وضلالته ما أراد الترويج كما حرر هذا الجاهل بمقالته الشنيعة، وأظهره في اعتراضاته الوضيعة، وهذا هو الواجب على من أعطاه الله العلم ومنحه بكرمه وفضله الدراية والفهم {فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} [يونس: من الآية108]، و{لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [لأنفال: من الآية42]، ثم ذكر بعد هذا ما لخصه من تأليف علوي بن أحمد الحداد فيما جمعه من أقوال من عاصر شيخ الإسلام
ص -123-(25/21)
ابن تيمية رحمه الله من حاسديه ومعاديه لأجل حظوظ نفوسهم وبغيا منهم أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده وما أحسن ما قيل، وما ضرّ عين الشمس إن كان ناظراً، إليها عيون لم تزل دهرها عميا. فأما ما نقله عن الذهبي رحمه الله وهو ممن أثنى على شيخ الإسلام ونشر فضله وعلمه، وهو من أجل تلامذته ففيه بعض الألفاظ المخالفة لما تقدم عنه في ترجمته لشيخ الإسلام ولا آمن أن تكون من تحريفات هؤلاء الوضاعين. وأما كلام الشعراني عن أبي الحسن الشاذليّ فشنشنة أعرفها من أخزم فلا جرم أنه ممن تظاهر بعداوة الشيخ وما علمنا أن الشيخ رحمه الله أنكر على أحد من العارفين المعروفين بالصلاح والولاية ولكنه بين كفر ابن عربي وأمثاله كابن الفارض وغيرهما من الملاحدة وهم عند هؤلاء من أولياء الله العارفين وهم من أكفر أهل الأرض عند العلماء المحققين، ومن شكّ في كفرهم فهو كافر كما ذكره الإمام ابن المقرئ الشافعي رحمه الله، وأما ما قال عبد الرحمن الأشموني في حاشيته نقلاً من فتاوى العراقي فقد أثنى عليه إلا في قدر ستين مسألة فروعية ذكر أنه وافقه
ص -124-(25/22)
عليها غير واحد من الأئمة وحينئذ فلا مطعن عليه ولا لوم يتوجه إليه دون غيره من العلماء وقد تقرر عند أهل العلم أن لا إنكار في مسائل الاجتهاد ثم إنهم ولله الحمد لم يستطيعوا أن يحصروا حسناته كما حصروا لو سلم لهم بزعمهم سيئاته والعصمة إنما هي للرسل ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها، كفى المرأ نبلاً أن تُعدّ معائبه.
قال المكي: وإذا تبين مازدناك هنا مما نقله الثقات في بيان حاله علمت واتضح لك أن وصف محمد بن عبد الوهاب، وحاله مبني ومتفرع على ما أصله ابن تيمية فهو ضلال وفساد متفرع على ضلال وفساد إلى آخر ما هذا به.
والجواب أنا قد بينا فيما مضى من حال شيخ الإسلام رحمه الله وما قاله أهل العلم والتحقيق ما يعلم به فضله وعلمه وورعه وزهده وسمته وهديه وأنه على ما كان عليه السلف الصالح والصدر الأول من حسن السيرة وسلامة المعتقد وأنه برئ مما نسب إليه أعداؤه مما خالف الكتاب والسنة والسلف الصالح فلا نطيل بإعادته.
وكذلك الشيخ محمد بن عبد الوهاب قد بينا أصل ظهوره ودعوته وما كان عليه أهل الأقطار من الشرك
ص -125-(25/23)
وعبادة الأولياء والصالحين والطواغيت والأوثان خصوصاً أهل نجد قبل دعوته وذكرنا شيئاً من سيرته وأخباره وعقيدته وشيئاً من كلامه في رسائله والعجب كل العجب أن هذا المعترض قد تصفح رسالة السندي من أولها إلى آخرها وهي مملوءة من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وكلام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وأولاده وتلامذته فلم يفرح على لفظة واحدة من كلامهم بحق يحقه أو باطل يبطله ولو وجد باطلاً وهو ذو علم ما أهمله ولكنه عدل إلى هذه المعارضة والمناقضة للسندي التي هي أوهن من بيت العنكبوت وقد خصم نفسه في أول وهلة من كتابه حيث قال في رده على السندي وعبد الكريم ولم التفت لمعارضته كل واحد منهما في رد مقالته ببرهان عقلي وشرعي وإذا تبين لك أنه لم يرد مقالتهما ببرهان عقلي أو برهان شرعي كان رده وكلامه من جنس كلام المجازيب الذين ينطقون بما لا يعقلون ومن كلام من يقول على الله بلا علم إذا الكلام الخالي من البرهان الشرعي قول بلا علم والعلم، قال الله وقال رسوله، والكلام الخالي من البرهان العقلي لا يقيم حجة ولا يهدى إلىمحجة بل مجرد هوس وتخليط فالحمد لله الذي جعلهم بهذه المثابة وحرمهم
ص -126-(25/24)
ببغيهم وعدوانهم طريق الإصابة، ثم ذكر بعد هذا فصلا فقال فصل، ما كتبته على ما ذكره عبد الله السندي يغني في الرد على رسالة عبد الكريم إذ هي صغيرة كالفرع عن رسالة عبد الله السندي لكني رأيت عبد الكريم في رسالته قال: فإثبات علم المسؤلات مع البعد في المسافات من قبيل إثبات العلم بالمغيبات إلى آخر ما أطال به مما يفيدان من زعم أن النبي صلى الله عليه وسلّم يعلم الغيب يكفر وأن من ادعى علم الغيب كان كافراً.
والجواب أن يقال: إن هذا المعترض قد حذف من كلام عبد الكريم بعضاً وتصرف فيه وإنا أسوقه بحروفه فال عبد الكريم: "ويمكن كونه كناية عن أعلامه بأن فلانا صلى عليك فإثبات علم المسؤلات بناء على الحياة من غير فرق في القرب والبعيد من المسافات ولو في شأن أشرف الكائنات من قبيل العلم بالمغيبات" فحذف هذا المعترض من كلامه قوله: "بناء على الحياة من غير فرق في القريب والبعيد من المسافات ولو في شأن أشرف الكائنات"، وكلام عبد الكريم هذا حق فإن من زعم أن النبي صلى الله عليه وسلّم أو غيره كان بعد موته
ص -127-(25/25)
يعلم ما يقع في الأقطار والجهات على بعد المسافات بناء على أنه كان في الحياة كذلك من غير فرق بين البعيد والقريب فقد أعظم الفرية على الله وعلى رسوله كما قالت عائشة رضي الله عنها من زعم أن محمداً رأى ربه فد كذب ومن زعم أن أحداً يعلم الغيب فقد كذب وهل في الوجود أفسد، ومن هذا البناء فما كان في حيوته عليه الصلاة والسلام وهو في المدينة يعلم ويسمع ما يقع في أقطار الأرض من العرب والعجم بل روى عنه صلى الله عليه وسلّم أنه يسمع سلام المسلم من قريب ويبلغه من بعيد إذا تقرر هذا فقد قال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} [الأنعام: من الآية59]، وقال: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} [الأنعام: من الآية50]، وقال: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ} [النمل: من الآية65]، وقال لنبيه: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف: من الآية188]، وقال: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [النحل: من الآية77]، وقال له: {لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ} [الكهف: من الآية26]، قال المسيح: {سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ
ص -128-(25/26)
الْغُيُوبِ} [المائدة: من الآية116]، وقال: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج:70]، فمدح نفسه وأثنى عليها بانفراده وتخصيصه بعلم الغيب دون خلقه فإن كما العلم وإحاطته بجميع المعلومات كلياتها وجزئياتها وصف كمال استحق به تعالى أن يطاع ويتقي ويرجى ويعبد وعلم الخلائق أجمعين بالنسبة إلى علمه كنسبة ما يأخذه العصفور في منقاره من البحار كما في قصة موسى والخضر لأنهما لما ركبا في السفينة جاء عصفور فنقر في البحر فقال الخضر ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من البحر فمن تقرر هذا لديه وأمن بما دل عليه لم يلتفت إلى إطلاق ما أطلقه هذا المعترض بقوله اعتراضاً على عبد الكريم أن كلامه يفيد أن من زعم أن النبي صلى الله عليه وسلّم يعلم الغيب يكفر وأن من ادعى من المؤمنين علم الغيب لا يكفر بذلك وهل هذا إلا مصادمة ومصادرة لقوله تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: من الآية65]، وقوله: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ
ص -129-(25/27)
مِنَ الْخَيْرِ} [لأعراف: من الآية188]، ومن قال ذلك فقد انسلخ من الإسلام والعياذ بالله ولا يمر على سمع الموحد اسمج من هذا واشنع منه فتأمل قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} [الأنعام: من الآية59]، ثم تأمل إطلاق من أطلق أن النبي صلى الله عليه وسلّم أو غيره يعلم الغيب فإن صريح الآية نفى علم مفاتح الغيب عن غيره تعالى وكذلك قوله: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ} [النمل: من الآية65]، فيه نفى علمه عن كل من في السموات والأرض إلا الله تعالى، وهي صريحة في النفي عن غيره، وكذلك قوله لنبيه صلى الله عليه وسلّم: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} [الأنعام: من الآية50] صريح في نفي علم الغيب عن سيد ولد آدم فضلا عن غيره، وكذلك قوله: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [هود: من الآية123] تقديم الجار والمجرور يفيد الاختصاص والحصر، فعلم الغيب له تعالى لا لسواه، وقوله: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج:70] هذا يفيد اختصاصه تعالى وانفراده بعلم الغيب لأن السياق لبيان الكمال والمدح والثناء على نفسه تعالى ولو ثبت ذلك لغيره لفات المقصود من السياق وكذلك قول المسيح يشير إلى هذا كما يدل عليه إقحام
ص -130-(25/28)
الضمير بين خبر إن واسمها وكما يفيده التأكيد بأنّ، وفي الخبر أن جارية تغنت بقوله: "وفينا رسول الله يعلم ما في غد، فسمعها النبي صلى الله عليه وسلّم فقال لها: دعي هذا وقولي غيره"، وفي حديث عمر في سؤال جبريل عن الإسلام والإيمان والإحسان والساعة أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال له: "في خمس لا يعلمهن إلا الله، وتلا قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} الآية [لقمان: 34]، وقالت عائشة رضي الله عنها: "من زعم أن محمداً رأى ربه فقد كذب، ومن زعم أن أحداً يعلم الغيب فقد كذب"، وتأمل قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ، يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} الآية [سبأ:1ـ2] كيف تجد تحتها من إثبات الحمد والثناء المطلق على نفسه المقدسة بما دلت عليه هذه الآيتان الكريمتان ولو قيل بمشاركة غيره في ذلك لفات الحمد المقصود ولما تأتى هذا الثناء بما يشاركه فيه مخلوق ضعيف، قال مالك بن أنس رحمه الله: "أو كلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما نزل به جبرئيل على محمد صلى الله عليه وسلّم لأجل جدله".
قال المعترض:
ص -131-(25/29)
وحاصل ما ينبغي في تحقيق هذه المسألة من غير أن أطول بنصوص كثيرة بل أقتصر فيما يتعلق بما ذكر على صورة سؤال وملخص جوابه من خاتمة الفتاوى للشهاب ابن حجر الهيثمي، قال فيها: "سئل ـ أي الشهاب ابن حجر ـ بما لفظه: من قال: إن المؤمن يعلم الغيب هل يكفر، لقوله تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ}، وقوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً} [الجن:26].
أو يستفصل لجواز العلم بجزئيات من الغيب فأجاب بقوله: لا يطلق القول بكفره لاحتمال كلامه ومن تكلم بما يحتمل الكفر وغيره وجب استفصاله كما في الروضة وغيرها ومن استفصل فقال: أردت بقولي المؤمن يعلم الغيب أن بعض الأولياء قد يعلمه الله ببعض المغيبات قبل منه ذلك لأنه جائز عقلا وواقع نقلا إذ هو من جملة الكرامات الخارجة عن الحصر على ممر الأعصار فيعضهم يعلمه بخطاب وبعضهم يعلمه بكشف حجاب وبعضهم يكشف له عن اللوح المحفوظ حتى يراه إلى آخر ما قال.
فالجواب أن يقال: إن العلم بجزئيات الغيب لا يفيد أن من علمه فقد علم الغيب أو أنه ناسخ للنصوص العامة المطلقة غاية ما هناك إثبات ما دلّ عليه الاستثناء في الآيات
ص -132-(25/30)
الآتي بيانها كبعض الأفراد الجزئية وهو لا يمنع العموم بل العام باق على مفهومه كم لا يخفى على من له أدنى مفهوم وبهذا تعلم بطلان دعوى من ادعى أن الأموات يعلمون الغيب فإن هذه الدعوى مصادمة ومصادرة لما مر من النصوص ولأن الغيب اسم يقع على كل ما غاب عن الخلق من العلوم والمعارف وما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون فمن عرف هذا عرف أنه لا يجوز إطلاق القول بجواز حصول علم الغيب لأحد من الخلق وإما ما جاء من الاستثناء في بعض الآيات كقوله {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً، إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن:26ـ27] قال ابن كثير رحمه الله تعالى: "كقوله: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ} [البقرة: من الآية255] وهكذا قال ههنا أنه يعلم الغيب والشهادة وأنه لا يطلع أحداً من خلقه على شيء من علمه إلا بما أطلعه الله تعالى عليه ولهذا، قال: {فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً، إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} فهذا يعم الرسول الملكي والبشرى ثم قال: {فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} [الجن:27] أي يختصه بمزيد معقبات من الملائكة يحفظونه من أمر الله ويساقونه على ما معه من وحي الله ولهذا قال: {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا
ص -133-(25/31)
رِسَالاتِ رَبِّهِمْ} الآية [الجن:28]" انتهى. وقوله تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} فهذا يدل على أمرين تأكيداً لنفي وتحققه وإخراج بعض الأفراد التي يعلمها من شاء الله تعالى كما يعلم بالوحي ونحوه كذلك أخباره صلى الله عليه وسلّم عن أشياء وقعت فيما مضى وأخباره عن أشياء تقع في أمته فهذا ونحوه أمر جزئي بالنسبة إلى ما اختص الله بعلمه كما في حديث موسى وقول الخضر له ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من البحر وهذا بالنسبة إلى علم الله وإن كثر واتسع بالنسبة إلى علوم الخلق فإنما يحصل لرسل الله من العلوم والمعارف لا نسبة بينه وبين علم الله الذي أحاط بكل شيء وأحصاه عدداً إذا علمت هذا وتحققته فعبد الكريم لا ينفى وجود الجزئيات في حد الكرامة وخرق الله العادة لوليه كما في قصة عمر وقصته آصف وقصة مريم وكما يذكر عن أبي إدريس الخولاني وعن العلاء بن الحضرمي وأمثالهم وذلك ونحوه داخل في عموم قوله إلا بما شاء وقد دخل فيه ما يحصل للإنبياء عليهم السلام بواسطة وبغير واسطة ولكن لا يقال: إن أحداً ثبت له هذا بجميع أنواع الغيب كلية وجزئية لأن ذلك لا يكون إلا لله كما
ص -134-(25/32)
قال تعالى: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} الآية [لأعراف:188] ولا عبرة هنا بالمكابرة والدعوى المجردة عن الدليل والبرهان كقول بعض الضالين أن ذلك ثبت للأولياء على سبيل الكرامة فإن هذا لا دليل عليه من كتاب ولا سنة بل ولا قاله من يعتد به من هذه الأمة وإنما يعرف عمن غلظ عن معرفة الله ومعرفة حقه حجاب هم وكثر في دينه وخبره ريبهم واضطرابهم وعجزت عن معرفة قدره وعظمته وعموم علمه إلبابهم وإنما ينكر هو وكل مسلم إطلاق علم الغيب كما هو مصرّح به في كلامه وكما مر وذكره آنفا، وما قاله ابن حجر من أن بعضهم يكشف له عن اللوح المحفوظ حتى يراه وهله عظيمة وقوله مرفوضة ذميمة فما أعظم هذه من فرية وهل يجوز في خلد من يؤمن بالله واليوم الآخر إلا أنها كذب بلا مرية سبحانك هذا بهتان عظيم وهذا لا يقوله إلا أفراخ الجهمية والاتحادية الذين يزعمون أن الولي ارفع منزلته من الرسول لأن الرسول يأخذ عن الله بواسطة الملك والولي يأخذ عن الله بلا واسطة وينشدون في ذلك.
ص -135-
مقام النبوة في برزخ
فويق الرسول ودون الولي(25/33)
وقد جاء في الحديث الصحيح أنه لا ينظر فيه غير الله عز وجل في حديث أبي الدرداء واللوح المحفوظ فوق السموات كما جاء في الحديث: "أن الله كتب كتاباً فهو عنده على العرش" فسبحان الله ما أعظم هذا الإفتراء وما أجراهم على الله وما حصل هذا لأفضل خلق الله وأكرمهم عليه سيد ولد آدم فكيف بغيره من الأولياء.
وما جرى للخضر فإنما هو كما قال لموسى: "إنك على علم من الله علمك إياه لا أعلمه وأنا على علم من الله علمنيه لا تعلمه" أو كما قال، لا يقال أنه أخذه عن اللوح المحفوظ إلا بدليل ولا دليل على ذلك لا من كتاب ولا سنة ولا عن أحد من أهل العلم.
وخبر أبي بكر من قبيل الفراسة، وما ذكر عن عمر رضي الله عنه فهو على سبيل الكرامة والكشف وتقدم أن هذا الجزئي لا يفيد أن من علمه فقد علم الغيب أو أنه ناسخ للنصوص العامة المطلقة غاية ما هناك إثبات ما دل عليه الاستثناء في الآيات كبعض الأفراد الجزئية وهو لا يمنع العموم بل العام باق على مفهومه فسبحان الله ما أجهل من أطلق علم الغيب على غير الله تعالى من حيّ
ص -136-(25/34)
أو ميت وما أضله عن سوآء السبيل كيف يعارضون النصوص بهذا الكلام المموه المزخرف ويعتمدون عليه وينبذون كتاب الله وراء ظهورهم وذلك أن من علم شيئاً من جزئيات الغيب بنوع من الكرامات أو المكاشفات يقال: إنه يعلم الغيب ومن قال إنه يعلم الغيب لا يكفر وهل هذا لا تكذيب ومكابرة للقرآن، وأعظم من هذا من يزعم أن الولي يكشف له عن اللوح المحفوظ فيراه وقد قال بعض العلماء المحقيقين، فمن ادعى أنه إذا راض نفسه يرى ما كتب في اللوح المحفوظ ويعلم الغيب فهو كافر وبما ذكرناه يعلم كذب هذا المكي على عبد الكريم وعلى غيره من العلماء وهم إنما يكفرون من يطلق علم الغيب لغير الله لمصادمته للآيات الواردة في ذلك واختصاصه بالله دون غيره نبيا كان أو وليا وفي كلام ابن حجر ما يرد اعتراض هذا المكي وذلك قوله وحينئذ لا يطلق أنهم يعلمون الغيب والله سبحانه وتعالى أعلم.
فصل: قال المعترض: اعلم أنه من مدة سنين جاء على خاطري أن أهل الحق والصلاح وإن كانت لهم سيما وعلامات كثيرة لكن ظهر أن من أحسن العلامات وأقربها
ص -137-(25/35)
وضوحا أن أهل الحق والصّلاح يحبون الإمام حجة الإسلام الغزالي ويحبون مصنفاته كإحياء علوم الدين ومنهاج العابدين والأربعين الأصل، ويحبون المطالعة فيها ويرغبون في العمل بمقتضاها وأهل الباطل والضلال على ضد وصف من ذكر فلا يحبون الإمام الغزالي ولا يحبون مصنفاته المذكورة ولا يقرؤنها ولا يرغبون في العمل بمقتضاها فمن كان على الوصف الأول فهو إن شاء الله تعالى من أهل الحق والصلاح ومن أهل السنة والجماعة ومن السواد الأعظم التابعين لرسول الله صلى الله عليه وسلّم ومن كان على الضد من ذلك فهو من أهل الباطل والضلال، ثم ذكر شيئاً من سيرته وشيئاً من الترهات السامجة الباردة في فضل كتب الغزالي ومنها قوله: وأما تعظيم السّادة آل ابن علوي للأحياء فكثير جداً، فقد كان سيّدنا تاج العارفين عبد الله بن أبي بكر العيدروس يكاد يحفظه نقلا ويحث على التزام مطالعته والعمل بقوله وفعله ويقول عليكم يا إخواني بمتابعة الكتاب والسنة أعني الشريعة المشروحة في الكتب الغزالية وشرح الكتاب والسنة مستوفى في كتاب الإحياء للإمام حجة الإسلام الغزالي وقال أيضاً
ص -138-(25/36)
وبعد فليس لنا طريق ومنهاج سوى الكتاب والسنة وقد شرح ذلك كله سيّد المصنفين وبقية المجتهدين حجة الإسلام الغزالي في كتابه العظيم الشأن الملقب بأعجوبة الزمان إحياء علوم الدين الذي هو عبارة عن شرح الكتاب والسنة والطريقة وهو موضع نظر الله تعالى وموضع نظر رسول الله فمن أحبه وطالعه وعمل بما فيه فقد استوجب محبة الله تعالى ومحبة رسوله وملائكته وأنبيائه وأوليائه وجمع بين الشريعة والطريقة والحقيقة وصار عالما في الملك والملكوت ولو بعث الله تعالى الموتى لما وصفوا الأحياء إلا بما في الأحياء إلى آخر ما هذا به، وقد تركنا أسمج من هذا وسقنا هذا بحروفه لتعرف حقيقة ما عند هذا المكي وما هو عليه وأنه جعل كتب الغزالي معيارا فمن عمل بها وبمقتضاها فهو من أهل الحق عنده وليس على هذا الهوس من مزيد ولا عن مناقضته بالحق من محيد وإن كان ليس من غرضنا رد ما فيه لكن لما ذكر أن من لم يعمل به فهو من أهل الضلال وقد تكلم العلماء الأجلاء في كتب الغزالي وبينوا ما فيها من الأمور المخالفة للشريعة. ونذكر منها طرفا ليعلم به نسبته أهل
ص -139-(25/37)
العلم إلى الضلال. قال شيخنا شيخ الإسلام: وقدوة العلماء الأعلام الشيخ عبد اللطيف ابن الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله تعالى: "بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ عبد الله بن معيذر، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: قد بلغني عنك ما يشغل كل من له حمية إسلامية وغيرة دينية على الملة الحنيفية وذلك أنك اشتغلت بالقراءة في كتاب الإحياء للغزالي وجمعت عليه من لديك من الضعفاء والعامة الذين لا تمييز لهم بين مسائل الهداية والسعادة ووسائل الكفر والشقاوة، وأسمعتهم ما في الإحياء من التحريفات الجائرة والتأويلات الضالة الخاسرة والشقاشق التي اشتلمت على الداء الدفين والفلسفة في أصل الدين وقد أمر الله تعالى وأوجب على عباده أن يتبعوا رسله وأن يلتزموا سبيل المؤمنين وحرم اتخاذ الولائج من دون الله ورسوله ومن دون عباده المؤمنين هذا الأصل المحكم لأقوام للإسلام إلا به وقد سلك في الإحياء طريق الفلاسفة والمتكلمين في كثير من مباحث الإلهيات وأصول الدين وكسى الفلسفة لحاء الشريعة حتى ظنها الأغمار والجهال
ص -140-(25/38)
بالحقائق من دين الله الذي جاءت به الرسل ونزلت به الكتب ودخل به الناس في الإسلام وهي في الحقيقة محض فلسفة منتنة يعرفها ألوا الأبصار ويمجها من سلك سبيل أهل العلم كافة في القرى والأمصار قد حذر أهل العلم والبصيرة عن النظر فيها ومطالعة خافيها وباديها بل أفتى بتحريفها علماء المغرب ممن عرف بالسنة وسمها كثير منهم إماتة علوم الدين وقام ابن عقيل أعظم قيام في الذم والتشنيع وزيف ما فيه من التمويه والترقيع وجزم بأن كثيراً من مباحثه زندقة خالصة لا يقبل لصاحبها صرف ولا عدل قال شيخ الإسلام: "ولكن أبو حامد دخل في أشياء من الفلسفة وهي عند ابن عقيل زندقة وقد رد عليه بعض ما دخل فيه من تأويلات الفلاسفة ورد عليه شيخ الإسلام في السبعينية وذكر قوله في العقول والنفوس وأنه مذهب الفلاسفة فأفاد وأجاد ورد عليه غيره من علماء الدين وقال فيه تلميذه ابن العربي المالكي: "شيخنا أبو حامد دخل في جوف الفلسلفة ثم أراد الخروج فلم يحسن وكلام أهل العلم معروف في هذا لا يشكل الأعلى من هو مزجي البضاعة أجبني عن تلك الصناعة إلى أن قال: إذا سمعت بعض
ص -141-(25/39)
عباراته المزخرفة قلت: كيف ينهانا عن هذا فلان أو يأمر بالأعراض عن هذا الشأن كأنك سقطت على الدرة المفقودة والضالة المنشودة وقد يكون ما أطربك وهز إعطافك وحركك فلسفة منتنة وزندقة مبهمة أخرجت في قالب الأحاديث النبوية والعبارات السلفية إلى أن قال: ثم جمعت بعض أقوال العلم وما أفتوا به في هذا الكتاب وتحذيرهم للطالب والمسترشد ثم ذكر كلاما طويلاً للذهبي في ترجمته للغزالي قال: ومن معجم أبي علي الصدفي في تأليف القاضي عياض له قال الشيخ: أبو حامد ذو الأبناء الشنيعة والتصانيف العظيمة غلا في طريقة التصوف وتجرد لنصر مذهبهم وصار داهية في ذلك والف فيه تواليفه المشهورة أخذ عليه فيها مواضع وساءت به ظنون أمه والله أعلم بسره ونفذ أمر السلطان عندنا بالمغرب وفتوى الفقهاء بإحراقها والبعد عنها فامتثل ذلك، وقال الذهبي أيضاً: قد ألف الرجل في ذمّ الفلاسفة كتاب التهافت وكشف عوارهم ووافقهم في مواضع ظنا منه أن ذلك حق أو موافق للملة ولم يكن له علم بالآثار ولا خبرة بالسنن النبوية القاضية على العقل وحبب إليه إدمان النظر في كتاب رسائل
ص -142-(25/40)
إخوان الصفا وهو داء عضال وجرب مردي وسم قاتل ولو لا أن أبا حامد من الأذكياء وخيار المخلصين لتلف فالحذر الحذر من هذه الكتب وأهربوا بدينكم من شبه الأوائل والأوقعتم في الحيرة فمن رام النجاة والفوز فليلزم العبودية ولكيثر الاستغاثة بالله واليبتهل إلى مولاه في الثبات على الإسلام وأن يتوفى على إيمان الصحابة وسادات التابعين والله الموفق فيحسن قصد العالم يغفر له وينجو إن شاء الله" انتهى. قلت: فتأمل كلام الذهبي رحمه الله وهو من أئمة الشافعية المشهورين بالصّلاح والمعرفة والدين حيث قال ولم يكن له علم بالآثار ولا خبرة بالسنن البنوية القاضية على العقل ثم تأمل ما ذكره المكي من أن كتاب الإحياء هو عبارة عن شرح الكتاب والسنة والطريقة وهو موضع نظر الله تعالى وموضع نظر رسول الله: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: من الآية16]، وقال قاضي الجماعة أبو عبد الله محمد بن حمد القرطبي: "إن بعض من يعض ممن كان ينتحل رسم الفقه ثم بترا منه شغفا بالشرعة الغزالية والنحلة الصوفية أنشأ كراسة تشتمل على معنى التعصب لكتاب أبي حامد إمام برعتهم فأين هو من تشنيع مناكيره وتضليل أساطيره المباينة للدين وزعم أن
ص -143-(25/41)
هذا من علم المعاملة المفضى إلى علم الكاشفة الواقع بهم على سر الربوبية الذي لا يسفر عن قناعة ولا يفوز بإطلاعه إلا من تمطى إلى شيخ ضلالته التي رفع لهم أعلامها وشرع أحكامها قال أبو حامد وأدنى من هذا العلم التصديق به وأقل عقوبته أن لا يرزق المنكر فيه شيئاً فأعرض من قوله على قوله ولا تشتغل بقراءة قرآن ولا بكتب حديث لأن ذلك يقطعه عن الوصول إلى إدخال رأسه في كم جيبه والتدثر بكسائه فيسمع نداء الحق فهو يقول ذروا ما كان السلف عليه وبادروا ما آمركم به ثم إن القاضي أقذع وسب وكفر وقال أبو حامد وصدور الأحرار قبور الأسرار ومن أفشى سر الربوبية كفر ورأمثل قتل الحلاج خير من إحياء عشرة لإطلاقه ألفاظا ونقل عن بعضهم قال للربوبية سر لو ظهر لبطلت النبوة وللنبوة سر لو كشف لبطل العلم وللعلم سر لو كشف لبطلت الأحكام. قلت: سرّ العلم قد كشف بصفة أشقياء فانحل النظام وبطل لديهم الحلال والحرام قال ابن حمد ثم قال الغزالي بهذا إن لم يرد إبطال النبوة في حق الضعفاء فما قال ليس بحق فإن الصحيح لا يتناقض وإن الكامل لا يطفى نور معرفته نور ورعه وقال الغزالي العارف يتجلى له أنوار الحق وتنكشف له العلوم المرموزة المحجوبة عن الخلق
ص -144-(25/42)
فيعرف معنى النبوة وجميع ما وردت به ألفاظ الشريعة التي نحوه منها على ظاهرها قال عن بعضهم: إذا رأيته في البداية قلت: صديقا فإذا ذرأيته في النهاية، قلت: زنديقا ثم فسره الغزالي فقال: إذ اسم الزنديق لا يلصق إلا بمعطل الفرائض لا بمعطل النوافل وقال: ذهبت الصوفية إلى العلوم الإلهامية دون التعليمية فيجلس فارغ القلب مجموع الهم يقول الله الله الله على الدوام فيفرغ قلبه ولا يشتغل بتلاوة ولا كتب حديث فإذا بلغ هذا الحد التزم الخلوة ببيت مظلم ويدثر بكسائه فحينئذ يسمع نداء الحق {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل:1]. قلت: إنما سمع شيطانا أو سمع شيئاً لا حقيقة له من طيش دماغه والتوفيق في الاعتصام بالكتاب والسنة والإجماع.
وقال أبو بكر الطرطوشي: "شحن أبو حامد كتاب الإحياء بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلّم وما على بسيط الأرض أكذب منه شبكه بمذاهب الفلاسفة ومعاني رسائل إخوان الصفا وهم قوم يرون النبوة مكتسبة وزعموا أن المعجزات حيل ومخاريق" انتهى.
قلت: والمقصود أنه ذكر في ترجمته للغزالي أن من لم يقرأ في كتبه ويعمل بمقتضاها فهو من أهل الباطل وقد رأيت ما ذكره هؤلاء الأئمة الأفاضل من ذم كتب الغزالي وعلى زعم هذا المكي أن الهدي
ص -145-(25/43)
لا يؤخذ من الكتاب والسنة ولا يعمل بمقتضاهما ويكفي من ذلك النظر في الإحياء والعمل بمقتضاه وهل هذا إلا نبذ للكتاب والسنة وراء الظهر فالله المستعان ويلزم من كلامه هذا أن أئمة الإسلام المذكوربن أهل ضلال وليسوا من أهل السنة والجماعة لأنهم حذروا عن النظر في كتبه ونبهوا على ما فيها من الأمور المخالفة للشريعة الإسلامية والطريقة المحمدية وإنه شحن كتابه الأحياء بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلّم وشبكه بمذاهب الفلاسفة وأما أبو حامد نفسه فذكر شيخ الإسلام أنه في آخر عمره استقر أمره على الحيرة والوقوف بعد أن نظر فيما كان عنده من طرق النظار أهل الكلام والفلسفة وسلك ما تبين له من طرق العبادة والرياضة والزهادة وفي آخر عمره اشتغل بالحديث البخاري ومسلم" انتهى. وليس المراد بما نقلناه إلا التنبيه على ما في كتبه من التأويلات الجائرة ليكون المسلم على حذر من تلك الورطات ولعله أن يهرب بدينه من شبه الأوائل كما ذكر ذلك الثقات الأثبات وبما ذكرناه تعرف ضلال هؤلاء المتنطعين المتهوكين الحيارى المفتونين وأنهم عن معرفة الهدى وحقائق المعارف ومدارك الأحكام بمعزل وليس عندهم إلاّ
ص -146-(25/44)
التقليد المحض العاري عن الدليل وتنفير العوام والطغام عن دين الله ورسوله وعن ما عليه السلف الصالح والصدر الأول من إخلاص العبادة بجميع أنواعها لله والتحذير عمن هذه طريقته وهذه نحلته فنعوذ بالله من الحور بعد الكور ومن الضلال بعد الهدى ومن الغي بعد الرشاد وكان الأولى بهذا المكي أن يكون حظه على لزوم الصحيحين والسنن والمسانيد وعلى تفاسير أهل التحقيق كتفسير محمد بن جرير الطبري، وتفسير العماد ابن كثير والبغوي وغيرهم من تفاسير أهل السنة وأما كتب الغزالي فهي كما سمعت كلام العلماء فيها والواجب على كل مسلم الاعتصام بالكتاب والسنة والعض عليهما بالنواجذ والحض عليهما وترك ما خالفهما ولزوم هدي الصحابة وما كانوا عليه فإنهم كانوا هم أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفاً قوم اخترهم الله لصحبة نبيه ولإظهار دينه وقد قال بعض أهل التحقيق من أهل العلم في أبيات له قال فيها:
يا باغي الإحسان يطلب ربه
ليفوز منه بغاية الآمال
انظر إلى هدي الصحابة والدي
كانوا عليه في الزمان الخال
واسلك طريق القوم أين تيمموا
خذيمنة ما الدرب ذات شمال
ص -147-
تالله ما اختاروا لأنفسهم سوى
سبل الهدي في القول والأفعال
درجوا على نهج الرسول وهديه
وبه اقتدوا في سائر الأحوال
نعم الرفيق لطالب يبغي الهدى
فما له في الحشر خير مال
القانتين المخبتين لربهم
الناطقين بأصدق الأقوال
التاركين لكل فعل سيء
والعاملين بأحسن الأعمال
أهواؤهم تبع لدين بنبيهم
وسواهم بالضد في ذي الحال
ما شابهم في دينهم نقص ولا
في قولهم شطح الجهول الغال
عملوا بما علموا ولم يتكلفوا
فلذاك ما شابوا الهدى بضلال
وسواهموا بالضد في أحواله
تركوا الهدى في دعوا إلى الإضلال
فهموا الأدلة للحيارى من يسر
بهذا هموا لم يخش من إضلال
وهم النجوم هداية وإضاءة
وعلو منزلة وبعد منال
يمشون بين الناس هونا نطقهم(25/45)
بالحق لا بجهالة الجهّال
حلما وعلما مع تقى وتواضع
ونصيحة مع رتبة الأفضال
يحيون ليلهموا بطاعة ربهم
بتلاوة وتضرع وسؤال
وعيونهم تجري بفيض دموعهم
مثل انهمال الوابل الهطّال
ص -148-
في الليل رهبان وعند جهادهم
أسد وهم من أشجع الأبطال
وإذا بدى علم الرهان رأيتهم
يتسابقون بصالح الأعمال
بوجوههم أثر السجود لربهم
وبها أشعة نوره المتلالي
ولقد أبان لك الكتاب صفاتهم
في سورة الفتح المبين العالي
وبرابع السبع الطوال صفاتهم
قوم يجهموا ذووا إذلال
وبرآءة والحشر فيها وصفهم
وبهل أتي وبسورة الأنفال
وأما من جعل إنساناً حجة ومصنفاته وكلامه المشحون لكلام الفلاسفة ومعاني رسائل إخوان الصفا موضع نظر الله تعالى وموضع نظر رسول الله فمن أحبها وطالعها وعمل بما فيها فقد استوجب محبة الله تعالى ومحبة رسوله وملائكته وأنبيائه فقد كذب وافترى، وقال على الله بلا عليم {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: من الآية144]، والمقصود بما كتبه في هذه الأوراق نصرة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وغيرة على دين الله ورسوله من أعداء الشريعة الذين يريدون علواً في الأرض ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً ويسعون في الأرض فساداً
ص -149-(25/46)
والله لا يحب المفسدين والله المسؤل المرجو لإجابه أن يدخلنا برحمته في عباده الصالحين وأن يجعلنا من أنصار دينه الذابين عنه زيغ الزائغين وانتحال المبطلين وتحريف المحرفين وأن يهب لنا من لدنه علما وحكما ويرزقنا في كلامه وكلام رسوله فهماً وإخواننا المسلمين والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ونسأله أن يثبتنا على دينه حتى الممات وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ما اتصلت عين ينظر وإذن يخبر وسلم تسليما كثيراً إلى يوم الدين.
صورة ما قرظه العالم الرباني الشيخ أبو سالم صالح بن سالم آل بنياح، قال عفى الله عنه: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الناصر من نصره، والمدحض حجة من كفره، والمتكفل بالزيادة لمن شكره، الذي أقام للذب عن دينه من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أنا بها درج الجنان، وأجار بها من عذاب النيران، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي أرسله رحمة للعالمين، وحجة على العباد
ص -150-
أجمعين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، ما تعاقب الملوان وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد فإني وقفت على رسالة لمحمد سعيد بن محمد بابصيل الشافعي المكي اعترض فيها على ما كتبه العالم المحقق والعلامة المدقق عبد الله بن عبد الرحمن السندي وعلى ما كتبه عبد الكريم بن فخر الدين على رسالة أحمد بن زيني دحلان التي سماها "الدرر السنية في الرد على الوهابية" فأجلت في هذه الرسالة نظري وأسمت في معانيها فِكَري مع قصر باعي وعدم اطلاعي فإذا هي واهية المباني ركيكة المعاني وإن كانت في صدور الطغام أجل من السبع المثاني،
ولو لبس الحمار ثياب خزّ
لقال الناس يا لك من حمار(25/47)
تنادي على صاحبها بالجهالة وتفصح عنه بأنه من أهل الغواية والضلالة، لا يحسن بنقله الإيراد، ولا يعرف مما يورده المراد، والعلم مدينة أحد بابها الدراية، والثاني الرواية، وهو في كلا البابين ذوا بضاعة مزجاة، وظلمه في العلوم الشرعية أقلص من ظل حصاة، و
ص -151-
قد اعترف هذا الملحد بما ذكرناه وقدرناه حيث لم يلتفت لمعارضة خصمه ببرهان عقلي أوشرعي فهذه الشهادة منه بإفلاسه من النقل الصريح والعقل الصحيح قد خصم بها نفسه وأراح خصمه وقد أصل في رسالته أصلين ينبني يزعمه بطلان الأصل الأدنى وهو ظهور الشيخ محمد بن عبد الوهاب على بطلان الأصل الأبعد وهو شيخ الإسلام ابن تيمية إذ هو عنده أصل ضلال الوهابية فيما جرده من التوحيد لرب البرية، وهذا بناء منه على أن التقليد في أصول الديانات سائغ كما جرى له ولأ قرانه مع من قلدوا وهذا هو الذي أوجب لهم الضلال والشقاء فإن مسائل العلم والعبادة وإفراد الله بالطلب والإرادة وإحكام الشرك به ودعاء الأولياء والصالحين والاستغاثة بهم ومحبتهم مع الله واتخاذهم أولياء من دون الله ليست من المسائل الفروعية الاجتهادية التي قد يخفى دليلها فيحتاج المسلم فيها إلى التقليد كما زعم هذا الملحد بل المعول في هذا على نصوص الكتاب والسنة وإجماع علماء الأمة لا على
ص -152-(25/48)
كلام عالم أوفقية وبهذا تعرف أن هذا المكي أجنبي عن هذه المباحث والعلوم لا يدرى الفرق بين مسائل الاجتهاد وغيرها فكأنه من أهل الفترات لم يأنس بشيء مما جاءت به النبوات، يبين لك هذا ما قرره في رسالته من الشرك بالله رب العالمين وصرف حقه للأنبياء والأولياء والصالحين والاستغاثة بالغائبين من الأحياء والأموات وإنزال الحوائج بهم عند الكربات وقصدهم في الرغبات والرهبات وأن هذه الشركيات كل من الجائزات بل المستحبات كل هذا مما سوله له الشيطان وقلد فيه شيخه دحلان مع ما انضم إلى ذلك من مسبة لعلماء الدين، ومشائخ المسلمين الذين أوضح الله بهم نهج الطريقة المحمدية، وأعلى بهم منار الملة الحنيفية كشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية، والشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعهما ممن له درية بهذا الدين وروية، وقد هذا الملحد فيهم بالبهت والكذب يشهد لفضلهم، وينبني عن تقدمهم في الإسلام وسبقهم قال أبو الطيب:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص
فهي الشهادة لي بأني فاضل
ص -153-
وقال:
وقد زادني حباً لنفسي بأنني
بغيض إلى كل أمرئ غير طائل(25/49)
وقال الشافعي رحمه الله تعالى: ما أرى الناس ابتلوا بشتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلا ليزيدهم الله بذلك ثواباً عند انقطاع أعمالهم وأفضل الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمرو قد ابتليا من طعن أهل الجهالة والسفاهة بما لا يخفى وهذا الملحد وإن لم يرفع بما قرره في رسالته مما ذكرنا رأساً أهل المدارس والطلب لأنه لم يكن ذا حمة فلا وجه للخوف منه والهرب فالرسول صلى الله عليه وسلّم أمر بقتل الوزغ كما أمر بقتل الحية والعقرب فلهذا انتدب لكشف ما لفقه من السفاسف والتمويهات، وما حرره من الأكاذيب والأحموقات الحافظ الفهامة والفاضل التكلامه الذي استفرغ وسعه في المناضلة عن أهل السنة والقرآن والتصدي لقمع أهل الزيغ والطغيان عبده سليمان بن سحمان لا زال قمراً طالعاً في سماء السعادة ساميا مراتب المفاخر والسيادة قدوة لمن اقتدى، وعدة لمن اعتدى وسراجاً منيرا لمن استرشد واهتدى، فيا له من رد ما أنفس فوائده، وأنفع فرائده وأفصح
ص -154-
مقاله وأفسح مجاله، وبهذا يعلم الواقف عليه ولله الحمد أن في الزوايا جنايا، وفي الرجال من أهل العلم بقايا، قد أعدهم الله في كل زمان نصرة لهذا الدين، وحماة لأهل من علماء المسلمين كي لا تبطل حجج الله وبنيانه، ويدرس دينه ويقدم آياته، وأن المنح الإلهية ليست مختصة بقوم دون قوم، ولا مفاضة في يوم دون يوم بل ذاك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، فآب هذا الملحد من هذا الرد بالخيبة والحرمان وصفقت فيما حرره أخسر صفقة أبي غبشان فكان كمن كشف عورته بيديه، واستنشق الأوضاز بنحزيه، أو كعنز السوء يبحث عن حتفه بظلفه عياذاً بك اللهم من درك الشقاء ومن سوء القضاء.
عجبت الدهر يؤتى فيه بالعجب
ما أن يقوم به ذو الشعر والخطب
ومن عجائب ما يأتي وما وردت
من العجائب في ماض من الحقب
رسالة أرسلت بالزور أنشأها
ثور ولكنه ثور بلا ذنب
اعتنى به بابصيل الحضرمي ومن(25/50)
ما زال في ظلمات الغيّ والحجب
غدى يقرر فيها الشرك منتصرا
لأهله من ذوي الإشراك بالقبب
ص -155-
الهاتفين بها في كل آونة
والساجدين على الأبواب والعتب
والطائفين بها والناذرين لها
عرضا من المال والغالي من الذهب
والرافعين عليها من سفاهتهم
مساجدا أسرحت من غير ما سبب
شدوا الرحال إليها قاصدين لها
يرجون من أهلها كشفاً من الكرب
هذا ينوح وهذا يستغيث وذا
كأن في جسمه داء من الكلب
فكل قبر له يوم يخص به
فانظر إلى ما جرى للقوم في رجب
وكل هذى نهى عنها الني لكي
لا نشبه القوم من عبادة الصلب
والأحمق الخانع المأفون قررها
مصادما لنصوص الآي والكتب
وقام بثلب أنصار الشريعة من
تعلو وتغدو بهم ممدودة الطنب
الله أكبر لا تخفى سفاسطه
إلا على عمه في الغيّ محتجب
ظن الخبيث بأن الحق أربعة
قد أقفرت من هزير الأسد مرتقب
فثار من غبضة التوحيد منتصراً
نحو الفريسة في حين من الغضب
عبد تجرد للتوحيد محتسباً
في نصرة الدين لا للجاه والنشب
أعني سليمان من أردى العداة أما
مصارع القوم في قعر من القلب
ذا العلم والغوص في إيضاح مشكلها
والحلم والرأي والتحقيق والأدب
ص -156-
يرجو بذاك ثواباً للإله ومن
يرجو الإله فلا ينسى ولم يخب
فالله يجزيه عنا بالسداد له
وبالبقاء لأهل الدين والأرب
فكم له من ردود قد أجاد بها
نظما ونثر أتى من غير مضطرب
فانظر إلى رده ما قال عالمهم
دحلان ذو والهجر والإشراك والكذب
وفي البيان أمور قد أبان لها
عن ترهات أتت بالظلم والشغب
من جاهل بطريق الحق متصف
بكل وصف قبيح الفعل مكتئب
فانظر إليه صريعاً في أظافره
لا يستطيع حراكا منه كالخرب
فاحذر ثعالة أن تدنوا لغابتنا
فالليث في بابها جاث على الركب
اقصر فما أنت أهل أن تصاولها
فالحوم حول حماها غاية العطب
والحمد لله حمداً لإنفاد له
جار على رغب الأقدار والرهب(25/51)
الواحد الأحد الفرد الذي نزلت
آيات توحيده في جملة الكتب
ومظهر الدين انجاز الموعده
رغما على شيعة الأشقى أبي لهب
ثم الصلاة على المختار سيدنا
محمد المصطفى من أشرف العرب
وأكرم الخلق لا مستثنياً أحداً
من البرايا بلا هزل ولا لعب
من فل جمع ذوي الإشراك فانطمست
تلك الضلالات بالمرآن والقضب
ص -157-
أكرم به من رسول ذي مناقب لا
تحصى ومن رامها في غاية التعب
والآل والصحب ثم التابعين لهم
ما أنهل ودق السماء من مدحن السحب
وقال غيره:
الحمد لله الذي أزال شناعات القول المجددي بما أبانه البيان المبدي، واذهب انتان بصل بابصيل المؤذي باريج شذى عبير جواب المجيب النجدي، وبتك وتين المماحل المعارض المكي، بفرند صارم المجيب المنكي، وشدخ يا فوخ من انتصر لأهل الضلال وأوهى معارضاته فأضحت مثلوغة القماحد والقذال، فعاد خدارى جهله بتنسم صبح الحق إلى اضمحلال وصار بحمد لله بعد كشف حوالك غياهبة كالآل، فلله الحمد على إبانة الحق وأدالته، وإدحاض الباطل وإزالته، فلذلك أقول وبالله أصول.
أن الغبي الذي أبدى فضائحه
للناس منشورة تبدو لمن نظر
محمداً بابصيل الحضرمي غدى
للناصرين لأهل الشرك منتصراً
تبا له من جهول قدري أسفها
فعل الضلال من الكفار مغتفراً
الجاعلين مع الرحمن آلهة
والناد بين لدى الشدات من قبرا
ص -158-
والساجدين لدى الأعتاب من عمه
والصّارفين لغير الله ما نذرا
واللاجئين إذا ما أزمة أزمت
والناسكين لغير الله ما عقرا
والطالبين من الأموات مغفرة
والخاضعين لهم تبا لمن نصرا
سحقا وبعداً لهم من معشر خرجوا
عن مهيع ناصع بالحق قد عبرا
أعلامه قد بدت مشهورة وغدت
للسالكين إليها القاصدين عرا
فردّ من صدّ عن نهج الرسول على
من أوضحا الطريق الحق وانتصرا
فهام في فلوات الغي مفتقرا
إن التوى منتها من ضل وافتقرا
وهكذا كل من في الغي نشئته(25/52)
أعمى أصمّ فلم يسمع وليس يرا
بل ذا بمشيمة الأهواء في ظلم
أعني به صاحب المجدي الذي ذكرا
والله ما كان بالمجدي المصيب ولا
والله أقواله تجدي لمن سبرا
بل كلها ترهات بل ملفقة
يدرى بها كل من يدرى ومن خبرا
كالآل يبدو فيغتر الأوام به
والجاهلون به لا من رأى ودرا
فانظر إلى رده إن كنت ذا نظر
قد صار ذاك أحاديثا لمن سمرا
أبدى بذاك اعتراضا حين عنَّ له
أن قد تناقض حبرٌ عندما انتصرا
والله ما كان أهلا أن يقارنه
أوان يقاربه المأفون حين جرا
ص -159-
بل إنما ذاك ضرغام وذا ثعل
فانظر إلى شيخه دحلان قد قهرا
وصار منه صريعاً لا حراك به
مخالفاً بالعرى ثاو قد انحسرا
أين الثريا مكانا في ترفعها
من الثرى قال هذا القول القول من خبرا
وهكذا خدمة الداعي لمذهبه
والمرتضى نهجه والمقتفى الأثرا
قد صار ملقا صريعا لا حراك به
لما افترى وأجترى في القول بل فجرا
فانظر إلى رد من أوهي قواعد ما
قد أصل الماذق الكذاب إذ نصرا
أعني سليمان لا زالت مآثره
محمودة ولأهل الدين منتصرا
أبدى شناعات ما قد كان لفقه
وما تهور في المجدي لمن سبرا
وموهنا ما رآه الفدم من سفه
تناقضا ما له السندي قد ذكرا
وليس هذا عجيباً من غباوته
إذ لو درى بالذي أبداه لا انبرا
فالحمد لله حمداً دائماً أبدا
من أوضح الحق حتى بان وانتشرا
ثم الصلاة على المعصوم سيدنا
ما طاف بالبيت من قد حج واعتمرا
والآل والصّحب ثم التابعين
والتابعين ومن للدين قد نصرا
ص -160-(25/53)
عنوان الكتاب:
مشاهير علماء نجد وغيرهم
تأليف:
عبد الرحمن بن عبد اللطيف بن عبد الله آل الشيخ
الناشر:
دار اليمامة للبحث والترجمة والنشر
الطبعة الأولى: 1392هـ - 1972م
تقديم الكتاب
لحضرة صاحب المعالي الأستاذ الجليل الشيخ
حسن بن عبد الله آل الشيخ، وزير المعارف
تربطني بأخي مؤلف هذه التراجم وجامعها فضيلة الشيخ عبد الرحمن ابن عبد اللطيف بن عبد الله آل الشيخ رابطة قوية، فهو فضلاً عن الصلة العائلية التي تجمعنا فنحن نلتقي دائماً نتدارس كثيراً من الأمور العلمية، وعرفت فيه خلال سنوات كثيرة إلمامه الكبير بشتى العلوم، وبخاصة اللغة العربية والتاريخ، وتاريخ الجزيرة العربية بوجه خاص والتوحيد، وله ولع كبير بمطالعة الكتب العلمية وقدرة لا حد لها على سرعة مطالعة الكتب التاريخية، والعثور على ما قد تحتويه من أخطاء.
وبدافع من حبه لهذه الجزيرة وعلمائها فقد عكف منذ أكثر من عامين علل جميع هذه التراجم"للعلماء" في محاولة للإبقاء على ذكراهم، وتسجيل جهودهم وآثارهم العلمية وكفاحهم في الدعوة إلى الله، وإبلاغ شرعه للناس ولاقى في سبيل الحصول على المعلومات التي تحتويها هذه التراجم الكثي الكثير من الصعوبة والمشقة، لكنه كان يتقبل ذلك في سبيل تحقيق هدفه
الذي آلى على نفسه بلوغه ..
ص -7-
وإني إذ أقدم هذه المجموعة من تراجم علمائنا -عليهم رحمة الله- فإني أسجل بالشكر والعرفان الجهد الكبير الذي بذله فضيلة المؤلف، وأسأل الله أن يجعل في مؤلفه الفائدة التي نتوخاها جميعا وأن
يهيأ- في كل زمان ومكان- "لورثة الأنبياء" من ،يعتني بجهودهم ويبرز كفاحهم .. والله الموفق . وعليه الاتكال ..
حسن بن عبد الله آل الشيخ
ص -8-(26/1)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله احمده أستعينه واصلي واسلم على نبيه محمد وآله وصحبه وبعد، لما رأيت حركة النشر والتأليف وبعث التراث العلمي الإملائي في هذا العهد الزاهر قائمة على قدم وساق، ورأيت هذه النهضة العلمية التي يتعهدها بعونه ويرعاها بتقديره إمام المسلمين الذي آزر العلم وناصر الإسلام جلالة الملك
فيصل بن عبد العزيز آل سعود، أحببت المساهمة ولو بجهد المقل، فجمعت هذه الرسالة في تراجم مشاهير علماء نجد المتوفين1 ابتداء من الشيخ محمد ابن عبد ا لوهاب إلى هذا اليوم، ووضعت في أولها علماء آل الشيخ مرتبين على أقدمية الوفاة، ويليهم من عداهم من علماء نجد مرتبين أيضا على أقدمية الوفاة، ووضعت في آخرها تراجم بعض رجال النهضة من علماء الأمصار الذين تأثروا بدعوة الإسلام السلفية التي قام بتجديدها الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فأعلنوها حرباً شعواء على البدع والخرافات وهم صديق بن حسن خان وبشير السهسواني السيد محمود شكري الالوسي والسيد محمد رشيد رضا.
والله أسأله الإعانة والتوفيق وهو حسبي ونعم الوكيل
المؤلف
عبد الرحمن بن عبد اللطيف بن
عبد الله بن عبد اللطيف آل الشيخ(26/2)
__________
1 لا أدعي في هذه الرسالة المقتضبة أني استوعبت جميع مشاهير علماء نجد، بل أنا متيقن أنه فاتني أكثرهم لأن الإحاطة بجميع مشاهير علماء نجد تستلزم الوقوف على تاريخ حياتهم العلمية وهذا عمل شاق على مثلي حيث يحتاج إلى دأب متواصل وقيام برحلات عديدة إلى أغلب بلدان نجد إن لم يكن جميعها لسؤال ذوي المعرفة من أهل كل بلد عن سير علمائهم وما تركوه من الآثار العلمية وما إلى ذلك مما يتعلق بحياة كل عالم يراد الكتابة عنه و هذا أمر صعب يتعذر علي وليس في استطاعتي ولكن ما لا يدرك كله لا يترك أهمه. نسأل الله حسن الختام والمغفرة انه سميع مجيب.
ص -9-(26/3)
الشيخ عمر بن حسن آل الشيخ
أحببت في هذه المناسبة أن أتحف القراء بوضع ترجمة في أول هذا الكتاب
للعلامة الكبير سماحة الشيخ عمر بن الشيخ حسن آل الشيخ، فسجلت هذه
الترجمة التالية وذلك بعد إذن من سماحته مد الله في عمره"1
سماحة الشيخ عمر بن الشيخ حسن آل الشيخ:
هو العلامة المحقق الجليل المتقن شيخنا الشيخ عمر ابن الشيخ حسن ابن الشيخ حسين ابن الشيخ علي ابن الشيخ حسين ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رئيس هيئات الأمر بالمعروف في نجد والمنطقة الشرقية وخط (التابلاين ) .
مولده:
ولد سماحة هذا العالم الشهير بمدينة الرياض عام ألف وثلاثمائة وتسعة عشر من الهجرة ونشأ في كنف والده الشيخ حسن نشأة دينية علمية ولما بلغ السابعة من عمره أدخله والده مدرسة تحفيظ القران عند مقرىء يدعى إبراهيم بن عيسى بن رضيان من مشاهير حملة القرآن في زمنه، أتقن القرآن حفظاً وتجويداً حيث قرأه على الشيخ البطيحي المشهور في وقته بالحفظ ومعرفة قواعد التجويد لقراءته على الشيخ ابن سهل الذي تلقى علم القراءات والتجويد على العلامة الشيخ عبد الرحمن بن حسن ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب- فقرأ
__________
1 بعد إلحاحي على سماحته المرة بعد المرة أذن لي مد الله في حياته بكتابة هذه الترجمة المتضمنة تاريخ حياته الحافل بجلائل الأعمال النافعة أطال الله عمر سماحته ذخراً للعلم وأهله.
ص -11-(26/4)
سماحته القرآن على هذا المقرىء المذكور ثم قرأه عن ظهر قلب وهو في الثامنة من عمره على والده الشيخ حسن رحمه الله.
ابتداء طلبه العلم ومشائخه:
شرع سماحته في طلب العلم وهو في السنة التاسعة من عمره فقرأ على والده العلامة كتاب التوحيد عن ظهر قلب وكشف الشبهات وكتاب آداب المشي إلى الصلاة وقرأ عليه متن الاجرومية في النحو وأرجوزة الرحيبة في الفرائض وابتدأ بعد ذلك في القراءة على الشيخ العلامة عبد الله بن الشيخ عبد اللطيف فقرأ عليه مجموعه ة التوحيد غيباً من أولها إلى رسالة بيان النجاة والفكاك حيث وقف على هذه الرسالة بأمر شيخه ثم أعاد قراءة المجموعة على شيخه المذكور ثلاث مرات وعاود القراءة على والده الشيخ حسن فقرأ عليه قطر الندى وشرحه وقرأ عليه ألفية ابن مالك وشرح الرحبية في الفرائض وقرأ على الشيخ حمد بن فارس ملحة الإعراب للحريري وشرحها لبحرق وقرأ عليه ألفية ابن مالك في النحو وقرأ عليه مختصر المقنع وشرحه ثم قرأ على والده الشيخ حسن أصول الفقه ومختصر المقنع وشرحه من أوله إلى آخره- ثلاث مرات- وقرأ عليه رد الشيخ عبد اللطيف ابن الشيخ عبد الرحمن بن حسن علي داود بن جرجيس- ثم عاود القراءة على سماحة العلامة الشيخ عبد الله ابن الشيخ عبد اللطيف فقرأ عليه صحيح الإمام البخاري وجامح الترمذي وتهذيب السنن للإمام ابن القيم وقرأ عليه متن الطحاوية وشرحها وقرأ على الشيخ العلامة سعد بن حمد بن عتيق تفسير العماد إسماعيل ابن كثير من أوله إلى آخره ومسند الإمام احمد بن حنبل وقرأ عليه رد الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبي بطين على داود بن جرجيس وقرأ عليه فتاوى1 شيخ الإسلام ابن تيمية وقرأ عليه مختصر المقنع وشرحه من أوله إلى الوقف وصحب سماحة أخيه الشيخ عبد الله إلى هجرة الارطاوية لإرشاد البوادي المقيمين بها وتعليمهم واجبات الإسلام والدين فقرأ(26/5)
__________
1 هي المعروفة بالفتاوى المصرية التي طبعت على نفقة مقبل بن عبد الرحمن الذكير رحمه الله.
ص -12-
عليه ألفية ابن مالك وصحيح الإمام مسلم وسنن أبي داود وقرأ عليه الروض المربع شرح زاد المستنقع من أوله إلى آخره وبعد هذه القراءات الكثيرة قرأ على والده الشيخ حسن بمزاملة أخيه الشيخ عبد الله متن المنتهى وشرحه وذلك عام 1339 وكان يتولى القراءة أخوه سماحة الشيخ عبد الله وسماحة المترجم
معه نسخة خطية يتاح فيها قراءة أخيه وهذه القراءة المذكورة هي آخر قراءة له على شيوخه.
اجازاته العلمية:
تحصل على إجازة من الشيخ احمد الكتاني أثناء وجوده بمكة المكرمة بجميع مروياته وأسانيده المتصلة إلى مؤلفي الأمهات الست وتحصل على إجازة من الشيخ تقي الدين الهلالي بجميع مروياته .
أعمال سماحته:
تقلد وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر معاوناً لابن عمه الشيخ عبد العزيز ابن الشيخ عبد اللطيف بتكليف من الإمام عبد الرحمن بن فيصل رحمه الله عام 1336ه وعمر سماحته ذلك اليوم لا يتجاوز السابعة عشرة سنة وفي عام 1345- ولاه الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل آل سعود رئاسة هيئات الأمر بالمعروف بنجد، فقام بواجب ما وكل إليه خير قيام، حيث كان غيوراً على محارم الله، قوياً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا تأخذه في الله جل وعلا لومة لائم يتتبع أهل الجرائم وينفذ فيهم بدون رأفة ولا هوادة حكم الشرع الشريف فهابه أهل الفسوق من العصاة وانزجروا وفي عام 1372ه ضمت إلى سماحته المنطقة الشرفية وخط التابلاين وجميع بلدان نجد وقريات الملح إلى وادي الدواسر فصارت جميع هيئات هذه المناطق والبلدان تابعة لسماحته من ذلك التاريخ إلى هذا اليوم متع الله بحياته وأمده بمزيد من الإعانة والتوفيق.
ص -13-(26/6)
مؤلفاته:
له مجموع رسائل أجوبة علمية وجهت إليه من بلدان نجد وغيرها قارب ثلاثة مجلدات ونية سماحته متجهة إلى ترتيبها وطبعها إن شاء الله ولسماحته معرفة بالعروض ويقرض الشعر على طريقة العلماء- له عدة قصائد منها قصيدة رثاء في العلامة الشيخ عبد الله ابن الشيخ عبد اللطيف تبلغ مائة بيت ومطلعها :
على الحبر بحر العلم شمس المعالم
بكا بدموع وكفها مترادف
وبدر الدجا فلبيك كل العوالم
بعد هنون المدجنات السواجم
وقصيدة رثاء في والده العلامة الشيخ حسن تبلغ سبعين بيت ومطلعها:
على الحبر بحر العلم شيخي ووالدي
وقطب رحا ذا الدين جم المحامد
قصيدة تهنئة للملك المرحوم عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل آل سعود بمناسبة دخول جلالته الحرمين عام 1343هـ تبلغ أبياتها مئة واثني عشر بيتاً ومطلعها:
أنجم بدا في الأفق أم ذلك البدر
أم الشمس أضحت ليس من دون افقها
بلى قد تبدى طالع السعد والمنى
أم البارق العالي أضاءت له المدر
سحاب ولا غيم هناك ولا قتر
فضاء ضياء الدين وانفلق الفجر
وسماحته مشهور بالتقوى، يحيي غالب الليل قراءة وتهجداً، و يتابع بين الحج والعمرة كل عام، ويلتقي بكبار علماء الأمصار الوافدين للحج، ويقيم لهم المآدب ويكرمهم، ويناقشهم في مهام الشرع وأصول الدين وفروعه ويقنعهم عند النزاع بدلائل الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة، لأن الله وهبه الإحاطة والشمول وجمع له بين الحفظ والفهم وسعة الإطلاع وقوة الذاكرة، وسرعة البديهة في استحضار نصوص الكتاب والسنة وأقوال أهل العلم من المفسرين والفقهاء وغيرهم الشيء الذي لا يعرفه ويتصوره إلا من قدر له ارتياد
ص -14-(26/7)
مجالس سماحته والاستماع إلى ما يمليه من النصوص والأحاديث ومسائل أصول الدين والفقه وغير ذلك من إشعار العرب وشواهد اللغة وأقوال المفسرين وغيرهم من أهل العلم هذا إلى جانب ما يتصف به سماحته من كرم الأخلاق والتواضع الجم فهو على هدي علماء السلف الصالح وسمتهم لا يعرف الكبر إلى قلبه العامر بالإيمان سبيلا.
أبناؤه:
أنعم الله على سماحته بنين وحفدة حيث أنجب ستة أبناء هم: الشيخ حسن. والشيخ حسين وعبد الله وعبد العزيز ومحمد وعبد المجيد- ولكل واحد من الشيخ حسن والشيخ حسين عدة أبناء.
مد الله في عمر سماحة المترجم الشيخ عمر وجعلهم قرة عين له ومتع المسلمين ببقائه- وصلى الله على محمد وآله وسلم.
ص -15-(26/8)
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
هو الإمام العلامة الشهير والداعية الإسلامي الكبير، ظهر في أثناء القرن الثاني عشر بنجد فدعا إلى توحيد الله بالعمل والعبادة، وإفراده بالقصد والإرادة فجدد ما اندرس من أصول الملة وقواعد الدين ودعا إلى مذهب السلف الصالح والأئمة السابقين وما كانوا عليه في باب معرفة الله وصفاته من الإثبات ونفي التشبيه وعدم التكييف والتعطيل المصلح الديني الذي طال ما كتب عن المؤرخون وأشاد بفضله ودعوته المنصفون شيخ الإسلام وعلم الهداة الأعلام صاحب النهضة الدينية والدعوة السلفية موقظ الجزيرة العربية من سبات الأوهام ومحررها -رحمه الله- من عقل البدع وعبادة الأصنام الشيخ محمد ابن الشيخ عبد الوهاب ابن الشيخ سليمان بن علي بن محمد بن احمد بن راشد بن بريد بن محمد بن مشرف بن عمر بن معضاد بن ريس بن زاخر بن محمد بن علوي بن وهيب بن قاسم بن موسى بن مسعود بن عقبة بن سنيع بن نهشل بن شداد بن زهير بن شهاب بن ربيعة بن أبي سود بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة ابن تميم بن مر بن أد بن طابحة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.
مولده ونشأته:
ولد-رحمه الله- في بلد العيينة1 من بلدان العارض بنجد سنة خمس عشرة ومائة
__________
1 بلدة العيينة تقع غرباً شمالا عن مدينة الرياض وتبعد عنها مسافة خمسة وأربعين كيلو متر وقد أصاب العيينة غور مياه حيث غارت قلبانها نحو ثمانين سنة حتى خربت وخلت من السكان ومن مدة عشرين سنة فاضت آبارها فجأة بالماء العذب الزلال وعمرت واكتظت بالسكان المزارعين وصارت تمد أسواق الرياض بـ 50 % من الحضر يومياً.
ص -16-(26/9)
وألف من الهجرة، فنشأ بها وقرآ القرآن حتى حفظه وأتقنه قبل بلوغه العشر، ثم اشتغل بطلب العلم فقرأ مبادىء العلوم والفقه الحنبلي على والده الشيخ عبد الوهاب ابن الشيخ سليمان بن علي وكان رحمه الله_حاد الفهم سريع الإدراك والحفظ. قال عنه أخوه الشيخ سليمان بن عبد الوهاب: لكان أبوه يتعجب من فهمه ويعترف بالاستفادة منه مع صغر سنه، ووالده الشيخ عبد الوهاب هو مفتي تلك البلاد وقاضيها، وجده الشيخ سليمان بن علي هو مفتي جميع الديار النجدية، آثاره وتصانيفه وفتاواه تدل على غزارة علمه وفقهه، فهو مرجع أهل نجد في زمنه في الفتاوى، وكان معاصراً للشيخ منصور بن يونس البهوتي الحنبلي اجتمع به في مكة المشرفة. فهو من بيت علم وفضل.
ولما بلغ سن الرشد قدمه والده الشيخ عبد الوهاب في إمامة الصلاة فأخذ -رحمه الله_ يؤم الناس ويصلي بهم ثم طلب من والده الحج فأجابه إلى ذلك فأدى فريضة الحج واعتمر عمرة الإسلام وبعد فراغه من الحج والاعتمار قصد المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام وأقام بها قريباً من شهر... ثم رجع إلى وطنه العيينة وتزوج بها وشرع في القراءة على والده في الفقه على مذهب الإمام احمد بن حنبل الشيباني ثم بعد ذلك سافر إلى الحجاز في طلب العلم وأخذ يتردد على علماء مكة المشرفة والمدينة المنورة وأقام بها مدة يقرأ فيها على الشيخ عبد الله بن إبراهيم بن سيف النجدي ثم المدني وعلى العالم الشهير محمد حياة السندي المدني صاحب الحاشية المشهورة على صحيح الإمام البخاري ثم رجع إلى وطنه ومكث فيه سنة ثم رحل إلى البصرة وقرأ بها كثيراً من الحديث والفقه والنحو وكتب بها من الحديث والفقه واللغة ما شاء الله أن يكتب في ذلك الوقت ولازم في البصرة عالماً من علمائها الأجلاء وهو الشيخ محمد المجموعي البصري وأخذ الشيخ مدة إقامته في البصرة يدعو إلى توحيد الله جل وعلا ونبذ الإشراك وهجر البدع وأخذ يصرح بذلك ويظهره لكثير من جلسائه(26/10)
بالبصرة قائلا لهم: إن العبادة كلها لله ولا يجوز صرف شيء منها لسواه وقد استحسن شيخه المجموعي ذلك فأحذ الشيخ محمد يقرر له توحيد العبادة ويوضح له
ص -17-
معنى لا اله إلا الله فقبل منه شيخه وانتفع به غير أن أعداء التوحيد وأنصار البدع والتقليد من علماء السوء وأحبار الضلال سعوا فيه عند ملإ البصرة وأعيانها فأخرجوه منها وقت الهاجرة في يوم صائف شديد الحر فخرج _رحمه الله- ماشياً على قدميه فلما توسط الدرب بين البصرة والزبير أدركه العطش وأشرف من شدة الظمأ ولهيب الحر على الهلاك والموت فوافاه رجل يقال له أبا حميدان من أهل بلدة الزبير وكان معه حمار فرأى على الشيخ الهيبة والوقار ورآه مشرفاً على الهلاك فسقاه ماء وحمله على حماره حتى أوصله بلدة الزبير فمكث الشيخ فيها أياماً وأراد السفر منها إلى الشام فقصرت به النفقة فانثنى عزمه عن المسير إلى الشام فرجع إلى نجد ومر في طريقه إليها ببلدة الاحساء وحل ضيفاً على الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف الشامي الاحسائى، ثم رجع إلى وطنه حاملاً زاداً كثيراً من العلم وسلاحاً قوياً من المعرفة وقصد بلدة حريملاء لعلمه أن والده الشيخ عبد الوهاب انتقل إليها وذلك بعد مات عبد الله بن معمر أمير العيينة سنة 1139هـ. وتولى بعده حفيده محمد بن حمد بن عبد الله بن معمر الملقب خرفاش فوقع بينه وبين الشيخ عبد الوهاب نزاع فعزله عن القضاء وولى مكانه أحمد بن عبد الله ابن عبد الوهاب بن عبد الله عالماً من علماء الوهبة فلما وصل الشيخ محمد إلى بلدة حريملاء جلس عند والده وأخذ يقرأ عليه وبعد فراغه من القراءة على والده يخلو بنفسه ويعكف على دراسة الكتاب والسنة وتفاسير علماء السلف الإجلاء وشروحهم للحديث والسنة وذلك بتدبر وإمعان، فبلغ -رحمه الله- الغاية القصوى والطريقة المثلى في معرفة معاني الكتاب والسنة واستنباط ما فيهما من الأسرار الشرعية والأحكام الدينية وأكب معهما على مطالعة(26/11)
مؤلفات شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية ومؤلفات تلميذه محمد بن قيم الجوزية، فازداد بهما علماً وتحقيقاً وعرفاناً وقد كتب بخط يده -رحمه الله- كثيراً من مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية لا يزال بعضها موجوداً بالمتحف البريطاني بلندن وكثر منه وهو مقيم في حريملاء الإنكار
ص -18-
للبدع والشركيات الموجودة في حريملاء والمنتشرة في ذلك الزمن بنجد حتى وقع بينه وبين والده كلام ووقع بينه وبين أهل بلدة حريملاء جدال وخصام ولكنه لم يصدح بالدعوة ويصرح بإنكار الشرك إلا بعد وفاة والده الشيخ عبد الوهاب سنة ألف ومائة وثلاث وخمسين من الهجرة فاشتد إنكاره على الشرك والبدع وأخذ يعلن دعوته دعوة التوحيد الذي دعت إليه الرسل من أولهم إلى آخرهم وأخذ ينشر شرائع الاسلام ويكاتب أهل بلدان نجد يأمرهم بعبادة الله وينهاهم عن التعلق على غير الله من الأولياء والصالحين والأشجار والأصنام وأخذ يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويعاقب عليه وذلك بعد ما تبعه على الحق أناس من أهل حريملاء شدوا أزره وقاموا بامتثال أمره ونصرته فذاع خبره في بلدان نجد فتوافد عليه أناس كثيرون من أهل العارض وغيرهم من قرى نجد فأخذوا يقرأون عليه كتب الحديث والسيرة والتفسير والفقه1 وصنف كتاب التوحيد فقرئ عليه في حريملاء ودرس فيه وانتشرت نسخه في نجد غير أنه حدث له -رحمه الله تعالى- ما أوجب انتقاله من بلدة حريملاء وذلك أنه خشي وخاف على نفسه الاغتيال بها لأن رؤساء هذه البلدة قبيلتان ترجعان إلى أصل واحد من وائل وكل واحدة من هاتين القبيلتين تدعي لنفسها القوة والغلبة والكلمة النافذة ولم يكن لهم رئيس واحد يزع الجميع ويحترمون أمره ويخشونه وكان في البلدة موال لإحدى القبيلتين يسمون آل حمين كثر تعديهم وفسقهم فأراد الشيخ -رحمه الله- أن يمنعوا عن الفساد وينفذ فيهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلما علم هؤلاء الموالي المفسدون بذلك هموا أن يفتكوا بالشيخ(26/12)
ويقتلوه سراً بالليل فجاءوا إليه وتسوروا عليه الجدار فعلم الناس بهم فصاحوا فيهم فهربوا فلم يطمئن الشيخ بعد هذه الحادثة إلى الإقامة في بلدة حريملاء فانتقل منها إلى بلدة العيينة فتلقاه أميرها عثمان بن حمد بن معمر بالقبول والمناصرة وأكرمه غاية الإكرام والزم الخاصة والعامة أن يمتثلوا أمره ويقبلوا
__________
1 ذكر الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب أن جده الشيخ محمداً صنف كتابه التوحيد في البصرة.
ص -19-(26/13)
قوله وتزوج الشيخ عند عثمان بالجوهرة1 بنت عبد الله بن معمر وكان في العيينة وما حولها كثير من القباب والأوثان والمشاهد المشادة على قبور الصحابة والأولياء وبها كثير من الأشجار والأحجار التي يعظمونها ويذبحون لها كقبة زيد2 بن الخطاب في الجبيلة وشجرة قريوه وشجرة أبي دجانة والذيبي، فأخذ الشيخ -رحمه الله- يقرر للأمير عثمان توحيد العبادة ويفسر له معنى لا اله إلا الله وما اشتملت عليه وتضمنته من نفي واثبات ومضى يبين له الاسلام الصحيح قبل ظهور الشرك وتسرب البدع ويطلب منه محو الأوثان وقطع الأشجار وهدم القباب وإزالة المشاهد فأجابه الأمير عثمان الى ذلك فخرج الشيخ - رحمه الله تعالى- وخرج معه الأمير عثمان -عفا الله عنه- وخرج معهما رجال كثيرون من جند عثمان فأتوا الى تلك الأماكن المذكورة فقطعوا الأشجار وهدموا المشاهد والقباب وكان الشيخ- رحمه الله- هو الذي تولى هدم قبة زيد ابن الخطاب بيده فلم يبق بعد ذلك وثن في هذه البلاد التي تحت ولاية عثمان ابن معمر.
وبعد هذا أتت امرأة إلى الشيخ واعترفت عنده بما يوجب الرجم وتكرر منها الاعتراف والإقرار، فسأل عنها فوجدها صحيحة القوى كاملة العقل فلقنها الشيخ الإكراه فأقرت واعترفت فأمر عليها فرجمت، فلما حصل ذلك وشاع وتناقلته الأخبار انزعج ولاة السوء من المترفين وعلماء الضلال وهالهم محو ما ألفوه من المعابد والأوثان وإقامة ما عطلوه من الحدود الشرعية فشنعوا على الشيخ ورموه بالزور والبهتان ففند أقوالهم وأدحض حججهم بأدلة قاطعة من السنة والقران، فلما أعيتهم الحجة وأعجزهم البرهان عمدوا إلى المكر والحيلة فأرادوا أن يدركوا بالسيف والسنان ما عجزوا عن إدراكه من قبل
__________
1 هي الجوهرة بنت عبد الله بن معمر التي نزل محمد بن سعود بن محمد بن مقرن في أمانها هو ومن معه بعد ما طلب ذلك، كما ذكر ذلك المؤرخ ابن بشر في سابقة 1139 من(26/14)
تاريخه وهي عمة الأمير عثمان بن حمد عفا الله عنه ،
2 هو زيد بن الخطاب اخو عمر بن الخطاب رضي الله عنهما
ص -20-
بالزور والبهتان فشكوه إلى شيخهم وزعيمهم سليمان بن محمد بن عريعر الحميدي حاكم الاحساء والقطيف في ذلك الزمان فأغروه به وصاحوا عنده وقالوا إن هذا يريد أن يخرجكم من ملككم ويسعى في قطع ما أنتم عليه من الأمور ويبطل المكوس والعشور فخشي ابن عريعر الحميدي أن يستفحل أمر
هذه الدعوة السلفية فتلوي بحكمه وتطيح بسلطانه فكتب إلى عثمان بن معمر كتاباً يأمره فيه بإخراج الشيخ من بلدته ويهدده فيه إذا هو لم يخرجه بغزوه وقطع مرتبه وكان ابن عريعر قد أجرى لابن معمر مخصصاً شهريًا فانصاع ابن معمر لأمره وأمر على الشيخ بمغادرة بلدته.
خروج الشيخ من العيينة:
فخرج الشيخ منها وولى وجهه شطر الدرعية فوصلها وحل ضيفاً بها على أحد تلامذته وهو الشيخ أحمد بن سويلم العريني وذلك سنة 1158ه، فلما علم بمقدمه أمير الدرعية محمد بن سعود بن محمد بن مقرن أسرع بالمسير إليه ودخل عليه في دار الشيخ أحمد بن سويلم وقابله بالبشر والحفاوة العظيمة والإكرام وقال له بعد السلام أبشر أيها الشيخ بالنصر والمنعة فقال الشيخ وأنا أبشرك -إنشاء الله- بالأجر والعز والتمكين والغلبة وهذه كلمة لا اله إلا الله من تمسك بها ونصرها غنم في الدنيا وربح في الآخرة وهي كلمة التوحيد الذي دعت إليه الرسل وأنزلت به الكتب ثم أخذ الشيخ يخبر الأمير محمد بن سعود بحقيقة الاسلام قبل حدوث الشرك وتسرب البدع ويبين له ما دعا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم من توحيد الله وافراده جل وعلا بالعبادة دون ما سواه، ويخبره بما نهى عنه الرسول من عبادة المخلوقين من البشر وغيرهم من الأشجار والأصنام والأحجار ويذكر له أن ما عليه اليوم أهل نجد من البدع والإشراك ودعاء الأموات هو عين ما كان عليه أهل الجاهلية الأولى قبل بعثة سيد المرسلين من التعلق على غير الله من الأولياء(26/15)
والصالحين وغيرهم من الأصنام والأحجار والأشجار وقد كان أهل نجد في زمن الشيخ خلعوا ربقة الاسلام والدين وعادوا إلى
ص -21-
ما كان عليه مشركو العرب الأولين من التعلق على غير الله من الأولياء والصالحين وغيرهم من الأوثان والأصنام والأحجار ينتابون قبر زيد بن الخطاب يسألونه قضاء الحاجات وتفريج الكربات وقبرا يزعمونه قبر ضرار1 ابن الأزور وشجرة تسمى الطرفية يعتقدون فيها كما اعتقد قبلهم في ذات أنواط مشركو الجاهلية ومغارة يسمونها مغارة بنت الأمير لها قصة على زعمهم تاريخية وطاغوتاً عندهم يسمى تاجا وثانياً يسمى يوسف وثالثا يسمى شمسانا2 يعبدونهم زاعمين أن لهم تصرفا ونفعا وفحال نخل يختلف إليه نساؤهم إذا لم يلدن أولم يتزوجن يقلن له يا فحل الفحول نريد ولدا أو زوجا قبل الحول بل كانوا شرا مما ذكرنا وأسوأ حالا مما إليه أشرنا كانوا في جاهلية جهلاء وضلالة نكراء فيهم من كفر الاتحادية3 والحلولية وملاحدة الصوفية ما يرون انه من الشعب
__________
1 هو ضرار بن الأزور الأسدي قدم على النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم وهو الذي قتل فيما بعد مالك بن نويرة بأمر خالد بن الوليد. استشهد ضرار بن الأزور يوم اليمامة وقيل مكث في اليمامة مجروحاً ثم مات قبل أن يرتحل خالد بن الوليد عن اليمامة بيوم وكان ضرار قاتل يوم اليمامة قتالا شديداً حتى قطعت ساقاه جميعا فجعل يحبو على ركبتيه ويقاتل وتطؤه الخيل حتى غلبه الموت وقيل إنه قتل يوم أجنادين وقيل انه لم يقتل بل توفي في الكوفة في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولكن الأرجح والأصح أنه قتل باليمامة. راجع لذلك طبقات ابن سعد ج 6/ ص 39 والإصابة ج 5 / ص 1269 واسه الغابة ج 3 / ص 39 والاستيعاب لابن عبد البر ج 2 / ص 502 والكامل لابن الأثير ج 2 / ص 136.
2 وفي بلدة الرياض آنذاك طاغوت يسمى طالب الحمضي وسيرد له ذكر ني رسالة الشيخ محمد بن عبد(26/16)
الوهاب التي كتبها إلى سليمان بن سحيم وذكر الرواة عن طالب الحمضي فضائح لا يليق ذكرها هنا.
3 والدليل على ذلك ما ذكره الشيخ محمد بن عبد الوهاب في رسالته التي كتبها إلى أهل الرياض وأهل منفوحة حيث يقول بالحرف الواحد ما نصه: "وكذلك أيضاً من أعظم الناس ضلال متصوفة في معكال وغيره مثل ولد موسى بن جوعان وسلامة بن مانع وغيرهما يتبعون مذهب ابن عربي وابن الفارض وقد ذكر أهل العلم أن ابن عربي من أئمة أهل مذهب الاتحادية وهم أغلظ كفرا من اليهود والنصارى فكل من لم يدخل في دين محمد صلى الله عليه وسلم ويتبرأ من دين الاتحادية فهو كافر بريء من الإسلام ولا تصح الصلاة خلفه ولا تقبل شهادته" انتهى ما ذكره شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب نقلا من تاريخ ابن غنام طبعة المدني ص344.
ص -22-(26/17)
لإيمانية والطريقة المحمدية وفيهم من إضاعة الصلوات وشرب المسكرات ما هو معروف مشهور، فلهذا لما أن بين الشيخ محمد بن عبد الوهاب للأمير محمد بن سعود حقيقة الاسلام والإيمان وأخبره ببطلان ما عليه أهل نجد من عبادة الأوثان والأصنام و الأشجار قال له: يا شيخ لا شك عندي أن ما دعوت إليه انه دين الله الذي أرسل به رسله وانزل به كتبه وأن ما عليه اليوم أهل نجد من هذه العبادات الباطلة هو كما ذكرت نفس ماكان عليه المشركون الأولون من الكفر بالله والإشراك فابشر بنصرتك وحمايتك والقيام بدعوتك، ولكن أريد أن أشترط عليك شرطين نحن إذا قمنا بنصرتك وجاهدنا معك ودان أهل نجد بالإسلام وقبلوا دعوة التوحيد أخاف أن ترتحل عنا وتستبدل بنا غيرنا والثاني أن لي على أهل الدرعية قانوتاً آخذه منهم وقت حصاد الثمار وأخاف أن تقول لا تأخذ منهم شيئاً. فقال الشيخ أما الشرط الأول فابسط يدك أعاهدك الدم بالدم والهدم بالهدم، وأما الثاني فلعل الله أن يفتح عليك الفتوحات فيعوضك من الغنائم والزكوات ما هو خير منه، فتم التعاهد والاتفاق بينهما -رحمهما الله تعالى- في ذلك المجلس على إظهار دين الله والجهاد في سبيله وطمس مظاهر الإشراك ومحو آثاره واقتلاع جذوره وتصحيح العقائد وتطهير الاسلام وتخليصه مما علق به من الإشراك وألصق به من الخرافات وتعاهدا مع هذا على جمع كلمة أهل نجد وإصلاح فسادهم ولم شعثهم لأن نجدا لم تكن في زمنهما خاضعة لإمارة واحدة يحترمها الجميع وينضوون تحت لوائها بل كانت مفككة الأجزاء كل واحد أمير بلدته وكل واحد يرى الزعيم من في بردته وقد أدى هذا التفرق بأهل نجد الى الفوضى واضطراب الأمن وسفك الدماء فعمل هذان الإمامان على جمع كلمة أهل نجد وتوحيد صفهم كما عملا على هدايتهم.
فلما تم التعاهد والاتفاق بين الشيخ محمد والأمير محمد بن سعود، قام الشيخ1 ودخل مع ابن سعود البلد واستقر عنده محترما معززا، فلما استقر(26/18)
__________
1 لأن دار مضيفه احمد بن سويلم خارج بلدة الدرعية
ص -23-
في الدرعية توافد عليه أنصاره الذين كانوا في العيينة ومعهم أناس من رؤساء المعامرة معاكسين لعثمان بن معمر وهاجر الى الدرعية أناس غيرهم من بلدان نجد وقراها وذلك لما علموا أن الشيخ أقام بالدرعية وعلموا مع هذا أنه منع ونصر، ولما استوطن الشيخ الدرعية ومكث بها وجد أهلها مثل عامة قرى نجد وبلدانها قد وقعوا في الشرك والبدع والتهاون بالصلاة والزكاة وسائر شعائر الإسلام وأركانه فتصدى لهم الشيخ- رحمه الله- بالمناصحة والتذكير وأخذ يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر وأمرهم بتعلم معنى لا اله إلا الله وأخبرهم أنها ننفي جميع ما يعبد من دون الله وتثبت العبادة لله وحده دون ما سواه، ثم أمرهم بتعلم ثلاثة أصول ومعرفة معنى الاسلام وأركانه الخمسة التي بني عليها ومعرفة النبي محمد- صلى الله عليه وسلم- ومعرفة اسمه ونسبه ومبعثه وهجرته ومعرفة ما دعا إليه من الإسلام الصحيح والتوحيد، فلما ذاقوا طعم الإسلام واستقر في قلوبهم معرفة التوحيد بعد جهلهم به وبعدهم عن معرفته أشرب في قلوبهم محبة الشيخ ومحبة من هاجر إليه في الدرعية فأخذ الشيخ -رحمه الله- يكاتب الناس وهو مقيم في الدرعية وعلى الأخص الرؤساء والعلماء يوضح لهم معنى الإسلام وحقيقة التوحيد ويحضهم على إتباع شرع الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ويأمرهم بنبذ البدع والإشراك والإقلاع عن أخذ الرشا وأكل السحت وأخذ يزيل ما وقع في نفوسهم وقام بها من الشبهات وذلك عن طريق المراسلات والمكاتبات، فمنهم من قبل من الشيخ ودان له بدعوة الإسلام الصحيح والدين فثاب الى الرشد وهجر البدع وتخلى عن عبادة الأوثان والأصنام ومنهم من استكبر وأبى وألب وعادى وأفتى بحل دم الشيخ ودم إخوانه الموحدين وأنصاره ووجوب غزوهم في أرضهم وعقر دارهم.
الجهاد:
فعند ذلك أمر الشيخ محمد بن عبد(26/19)
الوهاب بالجهاد دفاعاً عن النفس والأهل والمال ورداً لعادية الشرك وطغيان الضلال فحينئذ شمر الإمام محمد بن سعود
ص -24-
ابن محمد بن مقرن عن ساعد الجد ولبى نداء الواجب واستجاب لداعي الجهاد فحمل علم الإسلام ورفع راية التوحيد فأخذ يغزو أنصار الشرك ويجاهد أحزاب الضلال إحدى وعشرين سنة فما ضعف ولا استكان فأعز الله به الدين وأظهر به دعوة الإسلام والتوحيد فأبصر أهل نجد طريق الخير والرشد ورجعوا عن الغي ودخلوا في دين الله أفواجا فأصبحوا بفضل الله ثم بفضل هذه الدعوة والجهاد المقدس بعد أن كانوا أحزابا متفرقين وأعداء متقاطعين إخوانا متآلفين تجمعهم كلمة لا اله إلا الله محمد رسول الله تحت راية الإسلام الصحيح ولواء التوحيد المطهر فصاروا بعد ذلك مضرب المثل والوفاء والاستقامة والدين وبعد ذلك استأثر الله بالإمام المجاهد العظيم محمد بن سعود بن محمد بن مقرن فتوفاه سنة ألف ومائة وتسع وسبعين من الهجرة فقام بعده في الإمامة وخلفه في مؤازرة الشيخ محمد ومناصرته ابنه الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود فسار سير والده في الدفاع عن الاسلام وحماية الدعوة ومتابعة الجهاد والغزو، ففتح الله عليه الرياض وخرج منه ابن دواس هاربا خائفا لا يلوي على أحد فدخله الإمام عبد العزيز واستولى عليه رحمه الله وملكه وذلك سنة ألف ومائة وسبع وثمانين من الهجرة، وبعد هذا الفتح دانت له نجد كلها واتسع ملكه إلى ما ورائها فملك الاحساء والقطيف والزبارة1 وملك تهامة وما يليها من اليمن والحجاز ما عدا الحرمين الشريفين، فأقام العدل رحمه الله تعالى في ربوع هذه الولايات كلها وأقر الأمن فيها ورجع بأهلها إلى الاسلام الصحيح الذي يأمر بعبودية الله وحده وينهي نهياً باتاً عن اتخاذ الوسائط والشفعاء وبعد مضي سبع وعشرين سنة من ولاية الإمام عبد العزيز ابن الإمام محمد بن سعود توفى الله المصلح الإسلامي العظيم الشيخ محمد بن عبد الوهاب وذلك سنة ألف(26/20)
ومائتين وست من الهجرة عن واحد وتسعين عاماً قضاها في تحصيل العلم ونشره والقيام بدعوة الاسلام الصحيح والتوحيد، فقد أخذ عنه -رحمه الله -
__________
1 الزبارة تقع بين قطر والبحرين وكانت مقر حكام البحرين من آل خليفة في ذلك الوقت.
ص -25-
العلم عدد كثير نذكر في هذه الترجمة المختصرة بعض أعيانهم وهم أبناؤه الأربعة الشيخ عبد الله والشيخ حسين والشيخ علي والشيخ إبراهيم وحفيده الشيخ عبد الرحمن بن حسن والشيخ حمد بن ناصر بن عثمان بن معمر والشيخ عبد العزيز بن عبد الله الحصين والشيخ عبد الرحمن بن نامي والشيخ عبد الرحمن بن خميس الفرضي والشيخ عبد العزيز " أبا" حسين الوهبي التميمي والشيخ حسن بن عيدان والشيخ عبد العزيز بن سويلم والشيخ حمد بن راشد العريني والشيخ محمد بن سلطان العوسجي، وأخذ عنه غير هؤلاء خلق كثير تولوا مناصب القضاء والإفتاء والتدريس وقاموا بواجب العلم ونشر دعوة الإسلام والتوحيد في زمنهم- رحمهم الله-.
وقد ألف الشيخ محمد -رحمه الله تعالى- مؤلفات كثيرة مفيدة منها: كتاب التوحيد وكتاب كشف الشبهات ومفيد المستفيد في حكم تارك التوحيد وكتاب الكبائر وكتاب أصول الإيمان وفضائل الاسلام وكتاب أحاديث الفتن ومختصر السيرة النبوية ومختصر زاد المعاد ومختصر الإنصاف والشرح الكبير ومسائل الجاهلية1 ومجموع الحديث رتبه رحمه الله على أبواب الفقه وكتاب آداب المشي إلى الصلاة واستنباط القرآن وكتاب نصيحة المسلمين بأحاديث خاتم المرسلين وكتب -رحمه الله- رسائل كثيرة في تقرير التوحيد وتوضيحه تبلغ مجلدا كبيرا أورد البعض منها الشيخ حسين بن غنام في تأريخه هذا وقد رثاه الشيخ حسين بن غنام بقصيدة مؤئرة تبلغ أبياتها زهاء تسعة وثلاثين بيتا ومطلعها:
إلى الله في كشف الشدائد نفزع
وليس إلى غير المهيمن مفزع(26/21)
وكذلك الإمام محمد بن علي الشوكاني لما بلغه نعي الشيخ رثاه بقصيدة طويلة تبلغ أبياتها زهاء مائة بيت ومطلعها:
مصاب دهى قلبي فأذكى غلائلي
وأصمى بسهم الافتجاع مقاتلي
__________
1 أي المسائل التي خالف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجاهلية.
ص -26-
وكان الشيخ- رحمه الله- متعبدا يحيي غالب الليل صلاة وقراءة وتهجدا وكان -رحمه الله- مع هذا متعففا متورعا لا يأكل من بيت المال إلا بالمعروف، وبيت المال في يده ورهن تصرفه، وكان سخيا جوادا توفي -رحمه الله- ولم يخلف شيئا من المال ولا العقار غير داره التي كان يسكنها في حياته رحمه الله بل كان عليه دين كثير اقترضه في إنفاقه على الغرباء والمعوزين من أهل العلم وغيرهم وقد أوفى الله عنه هذا الدين. وقد أنجب الشيخ رحمه الله تعالى ستة أبناء علماء فضلاء هم المشايخ علي وحسين وعبد الله وحسن وإبراهيم وعبد العزيز رحم الله الشيخ ورضي عنه وأرضاه وجعل جنة الخلد منزله ومأواه.
وقد بارك الله في ذريته فبلغوا عددا كثيرا وهذه الذرية الكثيرة المباركة جميعهم من أبناء الشيخ الأربعة وهم الشيخ علي والشيخ حسين والشيخ عبد الله والشيخ حسن، وأما الشيخ إبراهيم والشيخ عبد العزيز ابنا الشيخ محمد بن عبد الوهاب فليس لهما ذرية ولا عقب، فآل الشيخ الموجودون اليوم منحدرون عن أبناء1 الشيخ محمد الأربعة الذين ذكرناهم آنفا. رحم الله الشيخ محمد بن عبد الوهاب وبارك في ذريته وأحفاده وجعلهم قادة خير وهدى وصلى الله على محمد وآله وسلم.
__________
1وضعنا بآخر الكتاب بيان يتضمن بيان ذرية الشيخ محمد بن عبد الوهاب المنحدرين عن أبنائه الأربعة المذكورين أعلاه رحم الله الجميع إنه سميع مجيب.
ص -27-(26/22)
الشيخ حسين ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب
هو الشيخ العالم الجليل حسين ابن شيخ الاسلام محمد بن عبد الوهاب ولد بمدينة الدرعية ونشأ بها وقرأ العلم على والده الشيخ محمد بن عبد الوهاب. تولى القضاء في بلدة الدرعية زمن الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود، وكان يصلي بالناس الجمعة في مسجد جامح الدرعية الكبير الواقع في محلة الطريف تحت منازل آل سعود في الجهة الغربية، ويصلي بالناس الفروض الخمسة في مسجد البجيري، وكان جهوري الصوت كفيف البصر. "وقد ورد له ذكر في كتاب لمع الشهاب".
أخذ عنه العلم جماعة منهم ابناه الشيخ علي بن حسين والشيخ عبد الرحمن بن حسين والشيخ أحمد الوهبي والشيخ سعيد بن حجي توفي -رحمه الله- في شهر ربيع الآخر سنة 1224هـ في وباء أصاب الدرعية. وخلف خمسة أبناء هم: الشيخ علي بن الشيخ حسين، والشيخ عبد الرحمن بن الشيخ حسين: والشيخ حمد بن الشيخ حسين، والشيخ عبد الملك بن الشيخ حسين، وحسن بن الشيخ حسين، وأحفاده يعرفون اليوم على انفراد هم بآل حسين نسبة إلى جدهم المترجم الشيخ حسين بن شيخ الإسلام محمد ابن عبد الوهاب رحمهم الله وغفر لهم وبارك في أحفادهم وذريتهم أنه سميع مجيب.
ص -28-(26/23)
الشيخ سليمان بن الشيخ عبد الله
هو العالم النحرير، والعلامة الذكي الشهير، الفقيه المحدث الأصولي الشيخ سليمان العلامة عبد الله ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب.
ولد هذا العالم المتبحر الفقيه سنة ألف ومائتين من الهجرة في بلدة الدرعية، وكانت الدرعية ذلك اليوم في أيام سعدها، وأوج عزها زاخرة بالعلماء الكبار، والجهابذة الحفاظ، من تلاميذ الشيخ محمد بن عبد الوهاب وغيرهم من الوافدين على الدرعية والمقيمين بها من العلماء الأعلام، فنشأ هذا العالم في هذا الوسط العلمي فقرأ القرآن حتى حفظه، ثم أقبل برغبته الشديدة على العلم والطلب، فقرأ على أبيه الشيخ عبد الله، وعلى الشيخ حمد بن ناصر بن عثمان ابن معمر، وعلى الشيخ عبد الله بن فاضل من علماء الدرعية، وعلى الشيخ محمد بن علي بن غريب. وأخذ علم الفرائض عن الشيخ عبد الرحمن بن خميس.
وكان -رحمه الله- نادرة في العلم والحفظ والذكاء، له المعرفة المتناهية بالحديث، ورجاله وحسنه وضعيفه، يسامي في ذلك أكابر المتقدمين من الحفاظ والمحدثين، عالماً بالتفسير والفقه والأصول والنحو، حسن الخط، ليس في زمنه من يخط بالقلم مثله بنجد، وقد تصدى للتدريس1 بالدرعية
__________
(1) جلس لطلبة العلم في فنون العلم وكان يجلس بعد صلاة المغرب في قصر الإمام سعود ويدرس درساً عاماً في صحيح الإمام البخاري يحضره الإمام سعود ومعه إخوانه وبنو عمه وبنوه وخلق لا يحصون قال الشيخ عثمان بن بشر وهو يتحدث عن سيرة الإمام سعود فإذا كان بعد صلاة المغرب اجتمع الناس للدرس عنده داخل القصر في سطح مسجد الظهر المذكور وجاء إخوانه وبنو عمه وبنوه وخواصه على عادتهم ثم يأتي سعود على عادته فاذا جلس شرع القارئ في صحيح البخاري وكان العالم الجالس للتدريس سليمان بن عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب فياله من عالم نحرير وحافظ متقن خبير إذا جلس يتكلم عن الأحاديث وطرقها(26/24)
ورواياتها فكأنه لم يعرف غيرها من إتقانه وحفظه.
ص -29-
مع وجود والده وأعمامه. فأخذ عنه العلم خلق كثير من أهل نجد وغيرهم من الوافدين على الدرعية، في ذلك الحين، ولكن مع الأسف لم يقدر لي الإطلاع على أسمائهم وقد ذكر المؤرخ الشهير عثمان بن عبد الله بن بشر في صحيفة(183من الجزء الأول من تاريخه) عنوان المجد . ان الإمام سعود بن عبد العزيز بن محمد ابن سعود، أرسل المترجم له الشيخ سليمان قاضياً لمكة بالمشاركة مع قضاتها السابقين، الذين أقرهم الإمام سعود بن عبد العزيز على قضاء مكة بعد ما استولى عليها وذكر ابن بشر: أن الشيخ سليمان أقام مدة يقضي بمكة ثم رجع الى الدرعية.
وقد ألف- رحمه الله تعالى _ مؤلفات نافعة جليلة تدل على تضلعه ورسوخ قدمه في العلوم، منها: "تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد" لجده شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، وهذا الشرح من الله بطبعه ونشره بعد ما كان مخطوطاً لا يرى إلا نادرا، وألف الشيخ الدلائل في عدم موالاة أهل الإشراك ورسالة في بيان عدد الجمعة، وحيدة في بابها، لم ينسج أحد على منوالها. وحاشية على المقنع في الفقه، لموفق الدين محمد بن عبد الله بن قدامة المقدسي تقع في ثلاث مجلدات ضخام، وقد طبعت هذه الحاشية على نفقة صاحب السمو الشيخ علي ابن الشيخ عبد الله بن قاسم آل ثاني حاكم قطر سابقا. وألف كتابا سماه "التوضيح عن توحيد الخلاق في جواب أهل العراق"1 رد به على عبد الله أفندي الراوي خطيب مسجد سليمان باشا، وله غير ذلك رسائل كثيرة طبعت مفرقة في مجاميع الرسائل والمسائل النجدية التي طبعت بمطبعة المنار بمصر أولا، وثانياً بمطبعة أم القرى.
__________
1 طبع كتاب التوضيح عن توحيد الخلاق في جواب أهل العراق بالمطبعة العامرة الشرقية بمصر عام 1319ه.
ص -30-(26/25)
وكان -رحمه الله- مع ما ذكرنا عنه من الفضل والعلم، شديد الغيرة على حرمات الاسم والدين، أماراً بالمعروف نهاءاً عن المنكر، لا تأخذه في الله لومة لائم، وقد أكرمه الله تعالى بالشهادة سنة ألف ومائتين وثلاث وثلاثين من الهجرة، وذلك عندما وشى به بعض المنافقين، إلى إبراهيم بن محمد علي باشا، عندما استولى على مدينة الدرعية سنة ألف ومائتين وثلاث وثلاثين، فاحضره إبراهيم باشا، وتكلم عليه وأنبه تأنيباً ًشديدا، واحضر آلات اللهو والمنكر1 بين يديه إغاظة له، ثم أخرجه إلى المقبرة وأمر الجند أن يطلقوا عليه رصاص بنادقهم دفعة واحدة، فأطلقوه عليه فمزق جسمه وفاضت2 روحه إلى ربه تشكو الظلم، فنعوذ بالله من هذه الوحشية، والقسوة المجردة عن الإنسانية والرحمة.
ونسأل الله أن يتغمد ذلك الشيخ الصابر المجاهد بالرحمة والغفران، وأن يجعله مع الصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(26/26)
__________
1 ذكر غير واحد من مؤرخي الحروب والوقائع النجدية المصرية، ان إبراهيم باشا بن محمد علي باشا أخذ معه في غزوة للحجاز ونجد المغنيات وأخذ معه جميع آلات اللهو من المعازف والمنكرات واستصحب معه بعض الضباط الفرنسيين الماجنين، الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر.
وذكر الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في كتابه الذي سماه "المقامات" بالحرف الواحد ما نصه\ فانتهى الأمر إلى الصلح وأعطاهم العهد والميثاق –يعني بذلك إبراهيم باشا- على ما في البلد من الرجال والمال، حتى الثمرة التي على النخل. لكن لم يف لهم بما صالحهم عليه لكن الله وقى شره عن أناس في قلبه عليهم حنانه –أي حنق- بلغة أهل نجد الدارجة بسبب أناس من أهل نجد. يكتبون فيهم عنده فكف الله يده ويد العسكر وغدروا بسليمان بن عبد الله –هو الشيخ المترجم له- وابن كثير عبد الله وآل سويلم بسبب البغدادي الخبيث. حداه عليهم فاختار الله لهم \انتهى كلام الشيخ عبد الرحمن بن حسن. ونحن لا ندري من هو هذا البغدادي الذي اثر على إبراهيم هذا التأثير. وأملى عليه هذه الشدة والقسوة المجردة عن الإنسانية والرحمة. وليت ان الشيخ عبد الرحمن ذكر اسم البغدادي. ولقبه وعرفه لنا.
2 وليس له رحمه الله اليوم عقب.
ص -31-(26/27)
الشيخ عبد الله ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب
هو الإمام العلامة الأوحد، الثقة الثبت، التقي الورع المجاهد المحتسب، ذو الهمة العالية والشجاعة المتناهية، الذي خلف والده شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في مؤازرة الإمام1عبد العزيز بن محمد بن سعود، وخلفه في بث العلم والقيام بدعوة التوحيد ونشرها، والدفاع عنها بالقلم واللسان، والحجة والبيان، عالم نجد بعد أبيه ومفتيها، من له الفتاوى السديدة والأجوبة العديدة، والردود العظيمة، من ضربت إليه أكباد الإبل من سائر بلدان نجد وتوالت عليه الأسئلة من جميع قرى نجد ومدنها الشيخ عبد الله ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب.
ولد هذا العالم الكبير في الدرعية سنة 1165هـ، ونشأ بها في كنف والده نشأة دينية صالحة، وقرأ القرآن حتى حفظه، ثم شرع في القراءة على والده شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب فتفقه في المذاهب الإسلامية، ومهر في علمي الفروع والأصول، وكان مع هذا بارزا في علم التفسير والعقائد وأصول الدين، عارفاً بالحديث ومعانيه، وبالفقه وأصوله وعلم النحو واللغة،
__________
1 بعد مضي سبع وعشرين سنة من ولاية الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود توفي المصلح المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب سنة 1206ه فخلفه في مؤازرة الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود، وفي القيام بدعوة التوحيد ونشرها المترجم له ابنه الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
ص -32-(26/28)
وله اليد الطولى في جميع العلوم والفنون، كرس جهده وأوقف حياته على تحصيل العلم ونشره تدريساً وتأليفا، فأخذ عنه العلم خلق كثير من فطاحلة علماء نجد وجهابذتهم، نذكر منهم في هذه الترجمة الموجزة أبناءه الثلاثة: الشيخ الإمام سليمان والشيخ عبد الرحمن والشيخ علي، وابن أخيه الشيخ عبد الرحمن بن حسن ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب والشيخ علي ابن أخيه الشيخ حسين ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، والشيخ محمد بن سلطان والشيخ عثمان بن عبد الجبار بن شبانة، والقاضي عبد العزيز بن حمد بن إبراهيم الوهيبي التميمي، والشيخ أحمد الوهيبي نزيل الإحساء، والشيخ عبد العزيز بن حمد بن ناصر بن عثمان بن معمر صاحب منحة القرب المجيب في الرد على عباد الصليب،والشيخ سعيد بن حجي، والشيخ جمعان بن ناصر، ومسفر بن عبد الرحمن بن جعيلان نزيل قرية العرين من عسير بوادي أبها1 والشيخ إبراهيم بن سيف ومحمد ابن الشيخ عبد الله بن احمد بن عبد القادر الأحسائي.
وكان إلى جانب قيامه بتعليم العلم وبثه ونشر مذهب السلف ودعوة التوحيد والإسلام، مرجع قضاة المملكة السعودية في عهد الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود، وابنه الإمام سعود وابنه الإمام عبد الله، فكان في ذلك الوقت بمثابة رئيس قضاة ومفت وقد ألف مؤلفات كثيرة، منها جواب أهل السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والزيدية، رد به –رحمه الله- على بعض علماء الزيدية فيما اعترض على دعوة التوحيد السلفية، وألف مختصر السيرة النبوية في مجلد ضخم، والكلمات النافعة في المكفرات الواقعة، طبعت مرارا، وآخرها بالمطبعة السلفية بمصر، وألف منسكا صغيراً للحج، وكتب رسائل وفتاوى كثيرة، لو أفردت على حدة وجمعت لبلغت مجلداً ضخماً كبيراً، ولكنها
__________
1 أصله من وادي الدواسر ونزح منها إلى عسير ونزل قرية "العرين" بفتح العين وكسر الراء. توفي بها.
ص -33-(26/29)
طبعت مفرقة في مجاميع الرسائل والمسائل النجدية التي طبعت سابقا بمصر وأخيراً بمطبعة أم القرى وكلا الطبعتين المذكورتين على نفقة الملك المغفور له عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل آل سعود –رحمه الله- تعالى.
وكان له دروس خاصة يحضرها الإمام سعود بن عبد العزيز وابنه الإمام عبد الله بن سعود في الدرعية، وقد صحب الأمير1 سعود بن الإمام عبد العزيز، ابن الإمام محمد بن سعود، ابن محمد بن مقرن في دخوله مكة المكرمة في حياة والده الإمام عبد العزيز –رحمه الله- وذلك في يوم السبت ثامن شهر محرم الحرام 1218سنة ألف ومائتين وثماني عشرة من الهجرة.
وكتب حال دخوله مكة المكرمة مع الأمير سعود رسالة وإجابة منه لمن سأله عما يعتقدونه ويدينون الله به، ونحن نوردها بكاملها في هذا الموضع من الترجمة لعظيم فائدتها ولاشتمالها على معاني دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ودحضها كذب أعداء الإسلام ودعاة الأباطيل من أنصار الشرك وأعداء التوحيد،
قال –رحمه الله- ما نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد2 لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين..(26/30)
__________
1 لقد تخلى عن مكة بعدما دخلها بشهر ولم يدخلها بعد ذلك إلا سنة 1220ه وذلك بعد وفاة والده واستقرت ولايته عليها وعلى جميع الحجاز إلى سنة 1228ه عندما ظهر عليه طوسون بن محمد علي باشا وحصل ما حصل من الوقائع والحروب المذكورة في محلها من التواريخ.
2 قال محمد كرد علي في كتابه القديم والحديث الطبعة الأولى سنة 1343ه ص166 سطر 6 عن هذه الرسالة ما نصه "ورسالة عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب التي كتبها حين فتح الحرمين الشريفين شاهدة عدل على انه بريء من تلك الافتراءات التي افتروها على عقائده وعقائد أبيه وبنو عليها تلك الزلازل والقلاقل وان مذهبه عين مذهب الأئمة المحدثين والسلف الصالحين وتلك الرسالة منقولة في إتحاف النبلاء من شاء الاطلاع عليها فليرجع إليها" انتهى.
ص -34-(26/31)
أما بعد، فإنا معاشر غزو الموحدين لما من الله علينا -وله الحمد- بدخول مكة المشرفة، نصف النهار يوم السبت ثامن شهر محرم الحرام سنة 1318ه بعد أن طالب أشراف مكة وعلماؤها وكافة العامة من أمير الغزو سعود –حماه الله- الأمان. وقد كانوا تواطؤوا مع أمراء الحجيج وأمير مكة على قتاله والإقامة في الحرم، ليصدوه عن البيت، فلما زحفت أجناد الموحدين ألقى الله الرعب في قلوبهم فتفرقوا شذر مذر، كل واحد يعد الإياب غنيمة له، وبذل حينئذ الأمير الأمان لمن بالحرم الشريف، ودخلنا شعارنا التلبية آمنين محلقين رؤوسنا ومقصرين غير خائفين من أحد من المخلوقين، بل من مالك يوم الدين، ومن حين دخل الجند الحرم، وهم على كثرتهم مضبوطون متأدبون، لم يعضدوا شجرا ولم ينفروا صيدا ولم يريقوا دماً إلا دم الهدي، أو ما أحل الله من بهيمة الأنعام، على الوجه المشروع، ولما تمت عمرتنا جمعنا الناس ضحوة الأحد وعرض الأمير –عافاه الله- على العلماء ما نطلب من الناس وندعوهم إليه، وهو إخلاص التوحيد لله تعالى وحده، وعرفهم أنه لم يكن بيننا وبينهم خلاف له وقع إلا في أمرين:
أحدهما: إخلاص التوحيد لله تعالى ومعرفة أنواع العبادة وأن الدعاء من جملتها وتحقيق معنى الشرك، الذي قاتل الناس عليه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، واستمر دعاؤه برهة من الزمن بعد النبوة إلى ذلك التوحيد، وترك الإشراك، قبل أن تفرض عليه أركان الإسلام الأربعة.
والثاني: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي لم يبق عندهم إلا اسمه، وانمحى أثره ورسمه، فوافقونا على استحسان ما نحن عليه جملة وتفصيلا، وبايعوا الأمير على الكتاب والسنة، وقبل منهم وعفا عنهم كافة، فلم يحصل على أحد منهم أدنى مشقة، ولم يزل يرفق بهم غاية الرفق لاسيما العلماء ويقرر لهم حال اجتماعهم -وحال انفرادهم- لدينا ما نحن عليه، ويطلب منهم المناصحة والمذاكرة وبيان الحق، وعرفناهم بأن صرح لهم الأمير حال
ص -35-(26/32)
اجتماعهم، بأن قابلون ما أوضحوا برهانه من كتاب أو سنة أو أثر عن السلف الصالح كالخلفاء الراشدين المأمورين بإتباعهم، لقوله صلى الله عليه وسلم، "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي" وعن الأئمة الأربعة المجتهدين، ومن تلقى العلم عنهم، إلى آخر القرن الثالث، لقوله صلى الله عليه وسلم "خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" . وعرفناهم أنا دائرون مع الحق أينما دار، وتابعون للدليل الجلي الواضح، ولا نبالي حينئذ بمخالفة ما سلف عليه من قبلنا فلم ينقموا علينا أمرا.
فألحينا عليهم في مسألة طلب الحاجات من الأموات إن بقي لديهم شبهة فذكر بعضهم شبهة أو شبهتين، فرددناها بالدلائل القاطعة من الكتاب والسنة، حتى أذعنوا، ولم يبق عند أحد منهم شك ولا ارتياب، فيما قاتلنا الناس عليه أنه الحق الجلي الذي لا غبار عليه وحلفوا لنا الأيمان المعقدة من دون استحلاف لهم على انشراح صدورهم وحزم ضمائرهم، أنه لم يبق لديهم شك فيمن قال: يا رسول الله. أو قال: يا ابن عباس. أو يا عبد القادر أو غيرهم من المخلوقين طالباً بذلك دفع شر أو جلب خير من كل ما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى، من شفاء المريض والنصر على العدو، والحفظ من المكروه ونحو ذلك، انه مشرك الشرك الأكبر الذي يهدر دمه ويبيح ماله، وإن كان يعتقد أن الفاعل المؤثر في تصريف الكون هو الله وحده، لكنه قصد المخلوقين بالدعاء، متشفعا بهم ومتقربا لهم بقضاء حاجته من الله، بسرهم وبشفاعتهم له فيها أيام البرزخ، وان ما وضع من البناء على قبور الصالحين صار في هذه الأزمان أصناماً تقصد لطلب الحاجات ويتضرع عندها ويهتف بأهلها في الشدائد كما كانت تفعله الجاهلية الأولى.
وكان من جملتهم مفتي الحنفية الشيخ عبد الملك القلعي وحسين المغربي وعقيل بن يحيى العلوي، فبعد ذلك أزلنا جميع ما كان يعبد بالتعظيم والاعتقاد فيه، ورجاء النفع ودفع الضر بسببه من جميع البناء على القبور وغيرها(26/33)
حتى لم يبق
ص -36-
في البقعة المطهرة طاغوت يعبد، فالحمد لله على ذلك، ثم رفعت المكوس1 وكسرت آلات التنباك ونودي بتحريمه، وأحرقت أماكن الحشاشين والمشهورين بالفجور ونودي بالمواظبة على الصلاة في الجماعة، وعدم التفريق في ذلك بأن يجتمعوا في كل صلاة على إمام واحد، يكون ذلك الإمام من أحد المقلدين للأربعة رضوان الله عليهم.
واجتمعت الكلمة حينئذ وعبد الله وحده وحصلت الألفة وسقطت الكلفة وأمر2عليهم، واستتب الأمر من دون سفك دم، ولا هتك عرض، ولا مشقة على أحد، والحمد لله رب العالمين.
ثم دفعت لهم الرسائل المؤلفة للشيخ محمد رحمه الله في التوحيد المتضمنة للبراهين، وتقرير الأدلة على ذلك بالآيات المحكمات، والأحاديث المتواترة مما يثلج الصدور، واقتصر من ذلك على رسالة مختصرة للعوام تنشر في مجالسهم وتدرس في محافلهم، ويبين لهم العلماء معانيها ليعرفوا التوحيد فيتمسكوا بعروته الوثيقة ويتضح لهم الشرك، فينفروا عنه وهم على بصيرة آمنين.
وكان فيمن حضر مع علماء مكة وشاهد غالب ما صار، حسين بن محمد بن الحسين الابريقي الحضرمي، ثم الحياني، ولم يزل يتردد علينا ويجتمع بسعود وخاصته من أهل المعرفة، ويسأل عن مسألة الشفاعة التي جرد السيف بسببها من دون حياء ولا خجل، لعدم سابقة جرم له فأخبرناه بأن مذهبنا في أصول الدين مذهب أهل السنة والجماعة، وطريقنا طريقة السلف التي هي الطريق الأسلم والأعلم والأحكم، خلافاً لمن قال طريقة الخلف أعلم، وهي انا نقر آيات الصفات وأحاديثها على ظاهرها، ونكل علمها إلى الله مع اعتقاد حقائقها.
__________
1 أي "الضرائب" والرسوم ومعنى رفعت أزيلت وألغيت.
2 أمر عليهم عبد المعين بن مساعد.
ص -37-(26/34)
فان مالكا وهو من أجل علماء السلف لما سئل عن الاستواء في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} قال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. ونعتقد أن الخير والشر كله بمشيئة الله تعالى، ولا يكون في ملكه إلا ما أراد. فإن العبد لا يقدر على خلق أفعاله بل له كسب، رتب عليه الثواب فضلا، والعقاب عدلا لا يجب على الله لعبده شيء، وانه يراه المؤمنون في الآخرة بلا كيف ولا إحاطة.
ونحن أيضاً في الفروع على مذهب الإمام أحمد بن حنبل ولا ننكر على من قلد أحد الأئمة الأربعة1 دون غيرهم، لعدم ضبط مذاهب الغير، كالرافضة، والزيدية، والإمامية ونحوهم. لا نقرهم ظاهراً على شيء من مذاهبهم الفاسدة بل نجبرهم على تقليد أحد الأئمة الأربعة، ولا نستحق مرتبة الاجتهاد المطلق، ولا أحد منا يدعيها، إلا انا في بعض المسائل، إذا صح لنا نص جلي، من كتاب أو سنة غير منسوخ، ولا مخصص ولا معارض بأقوى منه،وقال به أحد الأئمة الأربعة أخذنا به وتركنا المذهب كامام الصلاة، فنأمر الحنفي والمالكي مثلا بالمحافظة على نحو الطمأنينة في الاعتدال والجلوس بين السجدتين لوضوح ذلك، بخلاف جهر الإمام الشافعي بالبسملة فلا نأمره بالإسرار، وشتان ما بين المسألتين فاذا قوي الدليل أرشدناهم بالنص وان خالف المذهب، وذلك يكون نادرا جداً ولا مانع من الاجتهاد في بعض المسائل دون بعض ولا مناقضة لعدم الاجتهاد.
وقد سبق جمع من أتباع أئمة المذاهب الأربعة باختبارات لهم في بعض المسائل، مخالفة للمذهب الملتزمين تقليد صاحبه،ثم انا نستعين على فهم كتاب
__________
1 قال بعض العلماء انه لا يمكن الوثوق بأقوال غير الأئمة الأربعة لأن لا توجد كتب مدونة لنقل مذهبهم وان وجدت فلا يمكن الوثوق بها لأنها لم تنقل الينا بطريق موثوق به ولم يتلقها الناس عن الشيوخ فهي كتب منقطعة الإسناد وأيضاً فان لا بد من(26/35)
معرفة شروط الاحكام وقيودها ومعرفة ان قائليها لم يرجعوا عنها. وهذا غير ميسور في أقوال غير الأئمة الأربعة.
ص -38-
الله بالتفاسير المتداولة، ومن أجلها لدينا تفسير ابن جرير ومختصره لابن كثير الشافعي، وكذلك البغوي، والبيضاوي، والخازن، والحداد، والجلالين وغيرهم، وعلى فهم الحديث بشروح الأئمة المبرزين كالعسقلاني، والقسطلاني على البخاري، والنووي على مسلم، والمناوي على الجامع الصغير، ونحرص على كتب الحديث خصوصاً الأمهات الست وشروحها. ونعتني بسائر الكتب في سائر الفنون أصولا وفروعا، وقواعد وسير ونحو وصرف، وجميع علوم الأمة. ولا نأمر بإتلاف شيء من المؤلفات أصلا إلا ما اشتمل على ما يوقع الناس في الشرك كروض الرياحين1 وما يحصل بسببه خلل في العقائد كعلم المنطق، فإنه قد حرمه جمع من العلماء، على انا لا نفحص عن مثل ذلك وكالدلائل2 إلا إن تظاهر به صاحبه معاندا اتلف عليه، وما اتفق لبعض البدو من إتلاف كتب بعض أهل الطائف، إنما صدر عن بعض الجهلة، وقد زجروا وغيرهم عن مثل ذلك، ومما نحن عليه، انا لا نرى سبي العرب ولم نفعله ولم نقاتل غيرهم، ولا نرى قتل النساء والصبيان وغير المقاتلة.
وأما ما يكذب علينا ستراً للحق وتلبيسا على الخلق بأنا نفسر القرآن برأينا ونأخذ من الحديث ما وافق افهامنا من دون مراجعة شرح ولا معول على شيخ وأنا نضع من رتبة نبينا صلى الله عليه وسلم بقولنا: النبي رمة في قبره. وعصا أحدنا أنفع له منه، وليس له شفاعة وزيارته غير مندوبة وأنه كان لا يعرف معنى لا إله إلا الله حتى نزل عليه {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} مع كون الآية مدنية.
وإنا لا نعتمد على أقوال العلماء فنتلف مؤلفات أهل المذاهب، لكون فيها
__________
1 روض الرياحين ألفه أحد الغلاة عبد الله بن أسعد بن علي بن سليمان بن فلاح اليافعي نزيل مكة توفي سنة 898ه.
2 هي دلائل الخيرات(26/36)
معلومة بالغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم ومؤلفها رجل يقال له محمد بن سليمان بن عبد الرحمن الجزولي المغربي نسبة إلى جزولة أو كسولة من بطون البربر الشاذلي طريقة.
ص -39-
الحق والباطل، وانا مجسمة وانا نكفر الناس على الإطلاق أهل زماننا، ومن بعد الستمائة إلا من هو على ما نحن عليه، انه كان مشركا وان أبويه ماتا على الشرك بالله، وانا ننهى عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ونحرم زيارة القبور المشروعة مطلقاً، وانا من دان بما نحن عليه سقطت عنه جميع التبعات، حتى الديون، وانا لا نرى حق أهل البيت رضوان الله عليهم، وانا نجبرهم على تزويج غير الكفء لهم، وانا نجبر بعض الشيوخ على فراق زوجته الشابة، لتنكح شابا اذا ترافعوا الينا فلا وجه لذلك.
فجميع هذه الخرافات وأشباهها لما استفهمنا عنها من ذكر1 أولا: كان جوابنا في كل مسألة من ذلك: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} فمن روى عنا شيئاً من ذلك أو نسبه الينا، فقد كذب علينا وافترى، ومن شاهد حالنا وحضر مجالسنا وتحقق ما عندنا علم قطعا ان جميع ذلك وضعه علينا وافتراه أعداء الدين، وإخوان الشياطين، تنفيراً للناس عن الإذعان بإخلاص التوحيد لله بالعبادة وترك أنواع الشرك الذي نص عليه بأن الله لا يغفره ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء.
فانا نعتقد أن من فعل أنواعا من الكبائر، كقتل المسلم بغير حق والزنا وشرب الخمر، وتكرر منه ذلك أنه لا يخرج بفعله ذلك عن دائرة الإسلام، ولا يخلد به في دار الانتقام اذا مات موحدا بجميع أنواع العبادة، والذي نعتقده أن رتبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أعلى مراتب المخلوقين على الإطلاق وأنه حي في قبره حياة برزخية أبلغ من حياة الشهداء المنصوص عليها في التنزيل، اذ هو أفضل منهم بلا ريب وأنه يسمع سلام المسلم عليه وتسن زيارته صلى الله عليه وسلم إلا أنه لا يشد الرحل إلا لزيارة المسجد2 والصلاة(26/37)
فيه،
__________
1 من ذكر أولا يريد به حسين بن محمد بن الحسين الابريقي الحضرمي ثم اللحياني.
2 لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد "الحديث
ص -40-
واذا قصد مع ذلك الزيارة فلا بأس.
ومن أنفق نفيس أوقاته بالصلاة عليه، عليه الصلاة والسلام الواردة عنه فاز بسعادة الدارين، وكفى همه وغمه، كما جاء في الحديث عنه، ولا ننكر كرامات الأولياء، ونعترف لهم بالحق، و انهم على هدى من ربهم مهما ساروا على الطريقة الشرعية، إلا انهم لا يستحقون شيئا من أنواع العبادات لا حال الحياة ولا بعد الممات، بل يطلب من يطلب من أحدهم الدعاء في حال حياته، بل ومن كل مسلم، فقد جاء في الحديث: "دعاء المرء المسلم مستجاب لأخيه" الحديث. وأمر صلى الله عليه وسلم عمر وعلياً بسؤال الاستغفار والدعاء له ففعلا.
وتثبت الشفاعة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة حسب ما ورد وكذا نثبتها لسائر الأنبياء والملائكة والأولياء والأطفال حسب ما ورد أيضاً، ونسألها من المالك لها، والآذن فيها لمن يشاء من الموحدين الذين هم أسعد الناس بها، كما ورد بأن يقول أحدنا متضرعاً إلى الله تعالى: "اللهم شفع نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم قينا يوم القيامة" أو " اللهم شفع فينا عبادك الصالحين أو ملائكتك" أو نحو ذلك مما يطلب من الله لأمتهم، فلا يقال: يا رسول الله، أو يا ولي الله أسألك الشفاعة أو غيرها. كأدركني، أو أغثني، أو اشفني، أو انصرني على عدوي، أو نحو ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، فاذا طلبت ذلك مما ذكر في أيام البرزخ كان من أقسام الشرك، إذ لم يرد بذلك نص من كتاب أو سنة ولا أثر من السلف الصالح على ذلك، بل ورد الكتاب والسنة وإجماع السلف، ان ذلك شرك اكبر، قاتل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فان قلت: ما تقول في الحلف بغير الله والتوسل به؟
قلت: ننظر إلى حال المقسم ان(26/38)
قصد به التعظيم، كتعظيم الله أو اشد، كما يقع لبعض غلاة المشركين من أهل زماننا، اذا استحلف بشيخه أي
ص -41-
معبوده الذي يعتمد في جميع أموره عليه، لا يرضى ان يحلف اذا كان كاذباً أو شاكا، واذا استحلف بالله فقط رضي فهو كافر من أقبح المشركين وأجهلهم إجماعا، وان لم يقصد الحالف التعظيم بل سبق لسانه إليه، فهذا ليس بشرك اكبر فينهى عنه ويؤمر صاحبه بالاستغفار من تلك الهفوة.
أما التوسل وهو أن يقول القائل: اللهم إني أتوسل إليك بجاه نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، أو بحق نبيك، أو بجاه عبادك الصالحين، أو بحق عبدك فلان، فهذا من أقسام البدعة المذمومة ولم يرد بذلك نص، كرفع الصوت بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند الأذان.
وأما أهل البيت فقد ورد سؤال على الدرعية في مثل ذلك ما نصه: أهل البيت رضوان الله تعالى عليهم لا شك في طلب حبهم ومودتهم، لما ورد فيه من كتاب وسنة، فيجب محبتهم ومودتهم، إلا أن الإسلام ساوى بين الخلق فلا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، ولهم مع ذلك التوقير والتكريم والإجلال، ولسائر العلماء مثل ذلك، كالجلوس في صدر المجالس والبداية بهم في التكريم، والتقديم في الطريق إلى موضع التكريم ونحو ذلك اذا تقارب أحدهم مع غيره في السن، أو العلم وما اعتيد في بعض البلاد من تقديم صغيرهم وجاهلهم، على من هو أمثل منه، حتى انه لم يقبل يده كل ما صافحه عاتبه وصارمه، أو ضاربه أو خاصمه، فهذا مما لم يرد فيه نص ولا دل عليه دليل، بل منكر يجب إزالته، ولو قبل يد أحدهم لقدوم من سفر أو لمشيخة علم، أو في بعض أوقات أو لطول غيبة، فلا بأس به إلا انه لما ألف من الجاهلية الأخرى: ان التقبيل صار علماً لمن يعتقد فيه أو في أسلافه أو عادة المتكبرين من غيرهم نهينا عنه مطلقاً، لا سيما لمن ذكر حسما لذرائع الشرك ما أمكن، وإنما هدمنا بيت السيدة خديجة وقبة المولد وبعض الزوايا المنسوبة لبعض الأولياء حسما لتلك المادة،(26/39)
وتنفيرا عن الإشراك بالله ما أمكن، لقبح شأنه، وأنه لا يغفر، وهو
ص -42-
أقبح من نسبة الولد لله تعالى، اذ الولد كمال في حق المخلوق واما الشرك فنقص حتى في حق المخلوق لقوله تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ} الآية.
وأما نكاح الفاطمية بغير الفاطمي فجائز إجماعا بل ولا كراهة في ذلك، وقد زوج علي عمر بن الخطاب وكفى بهما قدوة، وتزوجت سكينة بنت الحسين بن علي بأربعة ليس فيهم فاطمي بل ولا هاشمي، ولم يزل عمل السلف على ذلك من دون إنكار إلا انا لا نجبر أحداً على تزويج موليته ما لم تطلب هي أو تمتنع من غير الكفء، والعرب أكفاء بعضهم لبعض.
فما اعتيد في بعض البلاد من المنع دليل التكبر وطلب التعظيم، وقد يحصل بسبب ذلك فساد كبير كما ورد، بل يجوز الانكاح لغير الكفء، وقد تزوج زيد –وهو من الموالي- زينب أم المؤمنين وهي قرشية، والمسألة معروفة النقول عند أهل المذهب. انتهى.
فان قال قائل منفر عن قبول الحق والإذعان له: يلزم من تقريركم وقطعكم في ان من قال : يا رسول الله، أسألك الشفاعة، انه مشرك مهدر الدم، أن يقال بكفر غالب الأمة، ولا سيما المتأخرين ولتصريح علمائهم المعتبرين، ان ذلك مندوب وشنوا الغارة على من خالف في ذلك.
قلت: لا يلزم ذلك لان لازم المذهب ليس بمذهب كما هو مقرر، ومثل ذلك لا يلزم ان نكون مجسمة وان قلنا بجهة العلو كما ورد الحديث بذلك، ونحن نقول فيمن مات: تلك أمة قد خلت، ولا نكفر إلا من بلغته دعوتنا للحق ووضحت له المحجة وقامت عليه الحجة، وأصر مستكبرا معاندا كأغلب من نجاهدهم اليوم يصرون على ذلك الإشراك ويمتنعون من فعل الواجبات ويتظاهرون بأفعال الكبائر المحرمات.
وغير الغالب إنما نجاهده لنصرته لمن هذه حاله ورضاه به ولتكثيره سواد من ذكر، والتغليب معه فاه حينئذ حكمه في حل جهاده.
ص -43-(26/40)
ونعتذر عمن مضى بأنهم مخطئون معذورون لعدم عصمتهم من الخطأ والإجماع في ذلك ممنوع قطعا ومن شن الغارة فقد غلط، ولا بدع أن يغلط، فقد غلط من هو خير منه كمثل عمر بن الخطاب رضي الله عنه فلما نبهته المرأة رجع في مسألة المهر وفي غير ذلك في سيرته بل غلط الصحابة وهم جمع ونبينا صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم، سار فيهم نوره فقالوا: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط.
فان قات: هذا فيمن ذهل، فلما نبه انتبه، فما القول فيمن حرر الأدلة واطلع على كلام الأئمة القدوة، واستمر مصرا على ذلك حتى مات.
قلت: ولا مانع ان نعتذر لمن ذكر ولا نقول انه كافر ولا كما تقدم أنه مخطئ وان استمر على خطئه لعدم من يناضل في هذه المسألة في وقته بلسانه وسيفه وسنانه فلم تقم عليه الحجة ولا وضحت له المحجة، بل الغالب على زمان المؤلفين المذكورين، التواطؤ على هجر كلام أئمة السنة في ذلك رأسا، ومن اطلع عليه اعرض عنه قبل أن يتمكن في قلبه، لم يزل أكابرهم تنهى اصاغرهم عن مطلق النظر في ذلك إلا من شاء الله منهم.
هذا وقد رأى معاوية وأصحابه رضي الله عنهم، منابذة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، بل وقتاله ومناجزته الحرب، وهم في ذلك مخطئون بالإجماع، واستمروا في ذلك الخطأ حتى ماتوا، ولم يشتهر عن أحد من السلف تكفير أحد منهم إجماعا، بل ولا تفسيقه، بل أثبتوا لهم اجر الاجتهاد، وان كانوا مخطئين، كما ذلك مشهور عند أهل السنة.
ونحن كذلك لا نقول بكفر من صحت ديانته وشهر صلاحه وعلم ورعه وزهده، وحسنت سيرته وبلغ من نصحه للأمة، ببذل نفسه لتدريس العلوم النافعة والتأليف فيها، وان كان مخطئاً في هذه المسألة أو غيرها، كابن حجر الهيتمي، فانا نعرف كلامه في "الدر المنظم" ولا ننكر سعة علمه، ولهذا
ص -44-(26/41)
نعتني بكتبه "كشرح الأربعين" و "الزواجر" وغيرهما، ونعتمد على نقله اذا نقل لأنه من جملة علماء المسلمين.
هذا ما نحن عليه، مخاطبين به من له عقل أو علم، وهو متصف بالإنصاف، خال من الميل إلى التعصب والاعتساف، ينظر إلى ما يقال لا إلى من قال، وأما من شأنه لزوم مألوفه وعادته، سواء كان حقا أو غير حق، فقد قال الله تعالى فيهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} عادته وجبلته أن يعرف الحق بالرجال، لا الرجال بالحق، لا نخاطبه وأمثاله إلا بالسيف حتى يستقيم اوده ويصح معوجه، وجنود التوحيد بحمد الله منصورة وراياتهم بالسعد والإقبال مشهورة، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} وقال تعالى: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}.
هذا ومما نحن عليه أن البدعة -وهي ما حدثت بعد القرون الثلاثة- مذمومة مطلقا، خلافا لمن قال حسنة وقبيحة، ولمن قسمها خمسة أقسام، إلا ان أمكن الجمع بأن يقال: الحسنة ما عليه السلف الصالح، شاملة للواجبة والمندوبة والمباحة، ويكون تسميتها بدعة مجازا، والقبيحة: ما عدا ذلك شاملة للمحرمة، والمكروهة، فلا بأس بهذا الجمع، فمن البدع المذمومة التي ننهي عنها رفع الصوت في موضع الأذان بغير الأذان سواء كانت آية أو صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، أو ذكراً أو غير ذلك بعد أذان أو في ليلة جمعة أو رمضان أو العيدين، فكل ذلك بدعة مذمومة.
وقد أبطلنا ما كان مألوفاً بمكة من التذكير والترحيم ونحوه، واعترف علماء المذاهب أنه بدعة.
ومنها: قراءة الحديث عن أبي هريرة بين يدي خطبة الجمعة، فقد صرح شارح الجامع الصغير انه بدعة.
ص -45-(26/42)
ومنها: الاجتماع في وقت مخصوص على من يقرأ سيرة المولد الشريف اعتقادا أنه قربة مطلوبة، دون علم السير، فان ذلك لم يرد.
ومنها: اتخاذ المسابح، فانا ننهى عن التظاهر باتخاذها.
ومنها: الاجتماع على راتب المشايخ ورفع الصوت وقراءة الفواتح والتوسل بهم في المهمات، كراتب السمان وراتب الحداد ونحوهما، بل قد يشتمل ما ذكر على أنه شرك أكبر، فيقاتلون على ذلك، فان سلموا من أرشدوا إلى أنه على هذه الصورة المألوفة غير سنة بل بدعة، فان أبوا عزرهم الحاكم بما يراه رادعاً، و أما أحزاب العلماء المنتخبة من الكتاب والسنة، فلا مانع من قراءتها والمواظبة عليها، فان الأذكار والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والاستغفار وتلاوة القرآن ونحو ذلك مطلوب شرعا، والمعتني بها مأجور فكلما أكثر منه العبد كان أوفر ثوابا لكن على الوجه المشروع من دون تقطيع ولا تغيير ولا تحريف، وقد قال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} وقال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} وقد ذكره النووي في جمعه كتاب الأذكار، فعلى الحريص على ذلك به ففيه الكفاية للموفق.
ومنها: ما اعتيد في بعض البلاد من قراءة مولد النبي صلى الله عليه وسلم بقصائد بألحان، وتخلط بالصلاة عليه، وبالأذكار والقراءة ويكون بعد صلاة التراويح، ويعتقدونه على هذه الهيئة من القرب، بل تتوهم العامة لأن ذلك من السنن المأثورة، فينهى عن ذلك وأما صلاة التراويح فسنة لابأس بالجماعة فيها والمواظبة عليها.
ومنها: ما اعتيد في بعض البلاد من صلاة الخمسة الفروض بعد آخر جمعة من رمضان، وهذه من البدع المنكرة إجماعا، فيزجرون من ذلك اشد الزجر.
ومنها: رفع الصوت بالذكر عند حمل الميت وعند رش القبر بالماء وغير ذلك، مما لم يرد عمن سلف، وقد ألف الشيخ الطرطوشي المغربي كتاباً
ص -46-(26/43)
نفيساً سماه "الباحث على إنكار البدع والحوادث" واختصره أبو شامة المغربي، فعلى المعتني بدينه بتحصيله، وإنما ننهى عن البدع المتخذة دينا وقربة، وأما ما لا يتخذ دينا ولا قربة، كالقهوة وإنشاد قصائد الغزل ومدح الملوك، فلا ننهى عنه ما لم يختلط بغيره، أما ذكر أو اعتكاف في مسجد ويعتقد انه قربة، لأن حسان رد على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وقال: قد أنشدته بين يدي من هو خير منك، فقبل عمر، ويحل كل لعب مباح لأن النبي صلى الله عليه وسلم اقر الحبشة على اللعب في يوم العيد، في مسجده صلى الله عليه وسلم، ويحل الرجز والحداء في نحو العمارة، والتدريب على الحرب بأنواعه، وما يورث الحماسة فيه، كطبل الحرب دون آلات الملاهي، فإنها محرمة، والفرق ظاهر ولا بأس بدف العرس وقد قال صلى الله عليه وسلم "بعثت بالحنفية السمحة، لتعلم اليهود أن في ديننا فسحة".
هذا، وعندنا ان الإمام ابن القيم وشيخه إماما حق من أهل السنة وكتبهم عندنا من أعز الكتب، إلا انا غير مقلدين لهم في كل مسألة، فان كل أحد يؤخذ من قوله ويترك، إلا نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم، ومعلوم مخالفتنا لابن القيم وشيخه في عدة مسائل. منها: طلاق الثلاث بلفظ واحد في مجلس، فانا نقول به تبعاً للأئمة الأربعة، ونرى الوقف صحيحاً والنذر جائزاً ويجب الوفاء به في غير المعصية ومن البدع المنهي عنها قراءة الفواتح للمشايخ بعد الصلوات الخمس، والإطراء في مدحهم والتوسل بهم، على الوجه المعتاد في كثير من البلاد، وبعد مجامع العبادات معتقدين ان ذلك من أكمل القرب، وهو ربما جر إلى الشرك من حيث لا يشعر الإنسان، فان الإنسان يحصل منه الشرك من دون شعور به لخفائه، ولولا ذلك لما استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم منه بقوله: "اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وانا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم انك أنت علام الغيوب" وينبغي المحافظة على هذه الكلمات والتحرز من الشرك ما أمكن فان عمر بن الخطاب رضي(26/44)
الله عنه قال: إنما تنقض عرى الإسلام
ص -47-
عروة عروة، اذا دخل في الإسلام من يعرف الجاهلية أو كما قال، وذلك انه يفعل الشرك ويعتقد انه قربة، نعوذ بالله من الخذلان وزوال الإيمان.
هذا ما حضر في حال المراجعة مع المذكور مدة تردده وهو يطالبني كل حين بنقل ذلك وتحريره، فلما ألح نقلت له هذا من دون مراجعة كتاب، وأنا في غاية الاشتغال بما هو أهم من الغزو، فمن أراد تحقيق ما نحن عليه فليقدم الدرعية فسيرى ما يسر خاطره ويقر ناظره من الدروس في فنون العلم وخصوصاً التفسير والحديث ويرى ما يسر بحمد الله وعونه من إقامة شعائر الدين والرفق بالضعفاء والوفود والمساكين، ولا ننكر الطريقة الصوفيع وتنزيه الباطن من رذائل المعاصي المتعلقة بالقلب والجوارح، مهما استقام صاحبها على القانون الشرعي والمنهج القويم المرعي، إلا انا لا نتكلف له تأويلا في كلامه ولا في أفعاله ولا نعول ونستعين ونستنصر ونتوكل في جمية أمورنا، إلا على الله تعالى، وهو حسبنا ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
قال ذلك عبد الله ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب عفا الله عنه والمسلمين.
انتهت هذه الرسالة الجليلة المتضمنة لبيان دعوة الإصلاح وشرحها وقد رأيت له -رحمه الله تعالى- تصديقاً على وقف كائن بمكة المكرمة للشيخ عبد الكبير زيني متوكل، قال في تصديقه عليه ما نصه:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله وصحبه أجمعين. أما بعد فقد نظرت في هذا الوقف فرأيته وقفاً صحيحاً لازماً لا يجوز تغييره ولا تبديله لاشتماله على شروط الوقف الصحيحة قاله عبد الله بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب. "الختم"
ص -48-(26/45)
ثم ختمه بختمه غير انه مع الأسف لم يؤرخه اكتفاء بتاريخ ورقة الوقف المصدق عليها، وقد أخذت لهذا التصديق صورة فوتوغرافية وأثبتها هنا.
وكان رحمه الله مع هذا شجاعاً مقداماً، وقف في باب البجيري المعروف بالدرعية، وشهر سيفه وقاتل قتال الأبطال قائلا كلمته الخالدة: بطن الأرض على عز، خير من ظهرها على ذل، حتى نحى العساكر وزحزحهم عن مواقفهم، وذلك في آخر حرب الباشا للدرعية، وقد سلم الله الشيخ ونقله إبراهيم بن محمد علي باشا إلى مصر بعد ما استولى على الدرعية وذلك سنة 1233ه ونقل معه ابنه عبد الرحمن وبقي بمصر محدود الإقامة حتى توفي1 بمصر سنة 1242ه.
وقد أنجب ثلاثة أبناء2 علماء هم: الشيخ سليمان الذي قتله إبراهيم باشا في الدرعية شهيدا، وعلي قتل فيما بعد على يد بعض عساكر الترك بنجد، وعبد الرحمن ونقل معه إلى مصر صغيرا وتعلم بها ودرس برواق الحنابلة
__________
1 لقد سها مؤلف تاريخ آل سعود حينما ذكر في ترجمته للشيخ عبد الله المذكور من تاريخه صحيفة194، وذلك عندما ذكر بطولته وشجاعته التي ذكرناها فذكر بقوله: "وأخيرا استشهد بالقرب من الدرعية سنة 1244ه" وهذا خطأ، والصحيح هو ما ذكرناه ان الشيخ عبد الله ابن الشيخ محمد نقل إلى مصر وبقي بها حتى توفي بمصر سنة 1242ه.
2 اشتبه على مؤلف تاريخ آل سعود حيث ظن ان الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله الذي درس الحنابلة هو الشيخ عبد الرحمن بن حسن فقال في تاريخه المذكور صحيفة 199 بعدما ساق ترجمة مقتضية للشيخ عبد الرحمن بن حسن ويقول عثمان بن سند الوائلي في تاريخه: مطالع السعود عنه ما نصه: وأما الشيخ عبد الرحمن فقد أدركته في الجامع الأزهر يدرس مذهب الحنابلة وكان شيخ رواق الحنابلة وكان عالماً فقيهاً ذا سمت حسن يظهر عليه التقوى والصلاح ثم يقطع المؤلف كلام ابن سند وفيه ذكر الوفاة ويدرج فيه كلاماً من عنده قائلا: قدم سنة 1241ه على الإمام تركي(26/46)
ولو استكمل المؤلف كلام ابن سند لظهر له جليا ان هذا الشيخ الذي ذكره ابن سند لم يخرج إلى نجد وانه توفي بمصر، فقد صدق عثمان بن سند وأخطأ المؤلف، فان عثمان بن سند أراد الشيخ عبد الرحمن ابن الشيخ عبد الله ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب ولم يرد الشيخ عبد الرحمن بن حسن ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب واليك ما ذكر عثمان بن سند قال في صحيفة 106 من تاريخه المذكور المطبوع بالمطبعة السلفية تحقيق=
ص -49-
وتوفي بها سنة 1273هـ رحم الله الشيخ عبد الله وجزاه عن الإسلام خير الجزاء وصلى الله على محمد وآله وسلم.
__________
=محب الدين: واعلم انه بقي للوهابية بقية بمصر ظلوا فيها برغبتهم لأنه صار لهم فيها أولاد وأملاك بمصر مثل الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب النجدي وله أولاد منهم: احمد الازجي وعبد الله كاتب في قلعة الوجه زمن الذين بقوا في مصر احمد ابن الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب، وأما الشيخ عبد الرحمن المذكور فقد أدركته في الجامع الأزهر يدرس مذهب الحنابلة سنة 1273ه برواق الحنابلة وتوفي سنة1274ه وكان عالماً فقيهاً ذا سمت حسن يظهر عليه التقى والصلاح آه. فهذا الشيخ الذي ذكره مختصر كتاب ابن سند وذكر أنه درس برواق الحنابلة بمصر هو الشيخ عبد الرحمن ابن الشيخ عبد الله ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب فانه الذي درس برواق الحنابلة ومات بمصر وله بها ذرية معروفة إلى اليوم وقد ذكر المؤرخ الشهير عثمان بن عبد الله بن بشر في الجزء الأول من تاريخه ص 103 عندما ذكر أبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب وعدد فضائل كل واحد منهم حتى أتى على ذكر الشيخ عبد الله ابن الشيخ محمد فقال ما نصه: وكان آية في العلم ومعرفة فنونه، ثم قال ابن بشر بعدما ذكر الشيخ عبد الله وأثنى عليه بأنه آية في العلم وفنونه ما نصه: وكان لعبد الله ابن اسمه عبد الرحمن(26/47)
جلى معه إلى مصر وهو صغير ويذكر لي أنه اليوم في رواق الحنابلة في الجامع الازهر وعنده طلبة علم وله معرفة تامة. أقول : وقد ترجم للشيخ عبد الرحمن ابن الشيخ عبد الله المذكور الشيخ عبد الرزاق البيطار. في كتابه حلية البشر ج 2 ص 839.
إذا تقرر هذا عرف أن الذي درس برواق الحنابلة بالجامع الأزهر هو الشيخ محمد بن عبد الوهاب فلم يدرس برواق الحنابلة، بل أقام بمصر ثمان سنوات وظهر إلى نجد في زمن الإمام تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود بسنة 1241ه وجدد دعوة التوحيد وتوفي بالرياض سنة 1285ه كما سيأتي بيان ذلك في ذكر ترجمته في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
ص -50-(26/48)
الشيخ علي ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب
هو الشيخ الجليل علي1 ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب. ولد بمدينة الدرعية ونشأ بها. أخذ العلم عن والده الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ولم يتول القضاء. قال الشيخ عثمان بن عبد الله بن بشر في كتابه عنوان المجد بعد ما ذكر أبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأثنى على كل واحد منهم:
" وأما علي ابن الشيخ فكان عالماً جليلاً ورعا كثير الخوف من الله وكان يضرب به المثل في الدرعية بالورع والديانة وله معرفة بالفقه والتفسير وغير ذلك وراودوه على القضاء فأبى عنه، وأبناؤه صغار ماتوا قبل التحصيل إلا محمدا فانه طالب علم وله معرفة".
انتهى كلام ابن بشر، قلت ولما استولى إبراهيم بن محمد علي باشا على مدينة الدرعية نقل المترجم الشيخ علي ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى مصر مع من نقل من آل الشيخ وبقي بمصر إلى أن توفي بها، وأما ابنه محمد ابن الشيخ علي ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب فلم ينقل مع والده المذكور بل عاش في نجد واستوطن مدينة الرياض زمن الإمام تركي بن عبد الله وقرأ على ابن عمه الشيخ عبد الرحمن بن حسن ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وأنجب ابنين هما الشيخ عبد العزيز بن محمد وعبد الرحمن بن محمد وكل من الأخوين المذكورين الشيخ عبد العزيز بن محمد وأخيه عبد الرحمن بن محمد له اليوم ذرية يعرفون على انفرادهم بآل محمد نسبة إلى جدهم محمد ابن الشيخ علي ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحم الله الجميع وغفر لهم وجمع بيننا وبينهم في دار كرامته وجناته حيث لا خصومة ولا نزاع.
__________
1 الغالب على الظن أن الشيخ علي ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب توفي ستة 1245هـ بمصر.
ص -51-(26/49)
الشيخ إبراهيم ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب
هو الشيخ إبراهيم بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب. ولد بمدينة الدرعية ونشأ بها وقرأ على والده الشيخ محمد بن عبد الوهاب. قال الشيخ عثمان بن عبد الله بن بشر بعد ما ذكر أبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأثنى على كل واحد منهم.
"وأما إبراهيم ابن الشيخ فرأيت عنده حلقة في التدريس وله معرفة في العلم ولكنه لم يتول القضاء، قرأت عليه في صغري كتاب التوحيد سنة أربع وعشرين ومائتين وألف".
انتهى ما ذكره ابن بشر وقال الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن قاسم في الجزء الثاني عشر من الدرر السنية في الأجوبة النجدية ص 46 طبعة دار الإفتاء ما نصه:
"الشيخ إبراهيم ابن الشيخ محمد -رحمه الله- هو الثقة العابد الورع، إلى أن قال: ولم أقف له على وفاة ولكنه موجود سنة 1251هـ في مصر وتوفي بها رحمه الله" انتهى كلام الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن قاسم.
قلت وليس للشيخ المترجم إبراهيم بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب بنجد ذرية -رحمه الله ورحم- آل الشيخ وجميع المسلمين انه سميع مجيب وصلى الله على محمد.
ص -52-(26/50)
الشيخ علي ابن الشيخ حسين
هو الشيخ العالم علي ابن الشيخ حسين ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ولد بمدينة الدرعية ولا أدري في أي سنة وقرأ على أشاخ وقته من علماء الدرعية وتولى القضاء بمدينة الدرعية من جملة قضاتها زمن الإمام سعود ابن الإمام عبد العزيز وزمن لبنه الإمام عبد الله بن سعود ولما استولى إبراهيم بن محمد باشا على الدرعية ونقل كبار آل الشيخ إلى مصر هرب المترجم له إلى عمان وقطر وأقام بها حتى تولى الإمام تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود ملك نجد فرجع إلى نجد وأقام بمدينة الرياض فعينه الإمام تركي بن عبد الله قاضياً في حوطة بني تميم ثم نقله إلى قضاء مدينة الرياض وبقي بها. وليس لي معرفة بتلامذته ولا بمؤلفاته غير أني رأيت له بعض رسائل في مجموع الرسائل والمسائل النجدية وورد له ذكر في مواضع متفرقة من تاريخ الشيخ عثمان بن عبد الله ابن بشر وسمعت ان له قصيدة في رثاء الدرعية مطلعها:
خليلي عوجا عن طريق العواذل
بمهجر ليلى وابكيا في المنازل
توفي فيما يغلب على الظن آخر سنة ألف ومائتين وسبع وخمسين من الهجرة لأن المؤرخ ابن بشر لم يورد له ذكراً في تأريخه بعد آخر هذه السنة وخلف ابناً هو الشيخ حسين ابن الشيخ علي وهو1 الجد الأدنى لكل من أصحاب
__________
1 الضمير يعود إلى الشيخ حسين ابن الشيخ علي: وأحفاد الشيخ حسين ابن الشيخ علي ابن الشيخ حسين ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب يعرفون اليوم على انفرادهم بآل حسن نسبة إلى والدهم الشيخ حسن ابن الشيخ حسين ابن الشيخ علي ابن الشيخ حسين ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله.
ص -53-(26/51)
السماحة والفضيلة الشيخ عبد الله ابن الشيخ حسن ابن الشيخ حسين رئيس القضاة في حياته وأخيه الشيخ عمر ابن الشيخ حسن ابن الشيخ حسين رئيس هيئات الأمر بالمعروف بنجد والمنطقة الشرقية والشيخ حسين ابن الشيخ حسن ابن الشيخ حسين المتوفي قديماً في بلدة عمان عام 1329هـ والشيخ عبد الرحمن ابن الشيخ حسن ابن الشيخ حسين إمام قصر الحكم بمدينة الرياض رحم الله المترجم له الشيخ علي ابن الشيخ حسين ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وغفر له وعفا عنه إنه سميع مجيب.. وصلى الله على محمد وآله وسلم.
ص -54-(26/52)
الشيخ عبد الرحمن بن الشيخ عبد الله
هو الشيخ العالم الورع الجليل عبد الرحمن بن الشيخ عبد الله بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب.ولد بمدينة الدرعية سنة ألف ومائتين وتسعة عشرة "1219ه" وقرأ القرآن ومبادئ العلوم بها ثم نقل مع والده الشيخ عبد الله بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب إلى مصر بعد سقوط الدرعية آخر سنة ألف ومائتين وثلاث وثلاثين "1233ه" ودرس بالجامع الأزهر ولما تخرج تولى مشيخة رواق الحنابلة في الأزهر ودرس عليه أناس كثيرون: قال عنه الشيخ عثمان بن عبد الله بن بشر الحنبلي في كتاب عنوان المجد مصورة لندن بالحرف الواحد ما نصه: "وأما عبد الرحمن فانه جلي مع أبيه إلى مصر في أول طلبه العلم وهو قريب البلوغ قبل أن يتم له الطلب وذكر لنا أنه اليوم في رواق الحنابلة يدرس في الجامع الأزهر وان له معرفة ودراية عظيمة وذكره الشيخ عبد الرزاق البيطار1 فقال عنه ما نصه: "الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن عبد الوهاب النجدي العالم المشهور والهمام الذي فضله مأثور ولد في بلاد نجد. ثم إن محمد علي باشا وزير مصر لما أمره المرحوم السلطان محمود بمقاتلة الوهابيين أرسل ولده إبراهيم باشا ومعه عسكر عظيم من الأكراد والأرناؤوط وعرب مصر الهوارة لمحاربة عبد الله بن سعود أمير نجد فقاتلهم وقتل ونهب وحرق وخرب وأسر عبد الله بن سعود وأرسله إلى مصر فبعثه والي مصر إلى
__________
1 حلية الشعر في رجال القرن الثالث عشر ج 2 ص 839 طبعة دمشق.
ص -55-(26/53)
السلطان محمود وأما... وباقي بيت الشيخ محمد بن عبد الوهاب المعبر عنهم ببيت الشيخ فانه نقلهم جميعاً إلى مصر وأسكنهم هناك ورتب لهم معاشات تكفيهم وكان من جملتهم المترجم المرحوم فالتفت إلى الطلب والتعلم والتعليم والاستفادة والإفادة إلى أن صار في الأزهر شيخ رواق الحنابلة وكان ظاهر التقوى والصلاح والزهادة والعبادة ولم يزل على حالته المرضية وطاعته وعبادته وإفادته السنية إلى أن اخترمته المنية سنة أربع وسبعين ومائتين وألف –رحمه الله تعالى- "انتهى كلام الشيخ عبد الرزاق البيطار-رحمه الله- "وذكره عثمان بن سند البصري النجدي بقوله في كتابه مطالع السعود بطيب أخبار الوالي داود "واعلم أنه بقي للوهابية بقية بمصر ظلوا فيها برغبتهم لأنه صار لهم فيها أولاد وأملاك بمصر مثل الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن عبد الوهاب النجدي وله أولاد منهم أحمد الأزجي وعبد الله كاتب في قلعة الوجه. ومن الذين بقوا بمصر "أحمد بن الشيخ عبد اللطيف" وأما الشيخ عبد الرحم المذكور فقد أدركته في الجامع الأزهر يدرس مذهب الحنابلة سنة 1273هـ برواق الحنابلة وتوفي سنة 1274هـ وكان عالماً فقيها ذا سمت حسن يظهر عليه التقى والصلاح. انتهى ما ذكره الشيخ أمين بن حسن الحلواني المدني مختصر كتاب ابن سند. اذا عرف هذا فالمترجم الشيخ عبد الرحمن بن الشيخ عبد الله بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب توفي بمصر سنة 1274ه وخلف أبناء ثلاثة هم أحمد الأزجي أي الصيدلي وعبد الله ومحمد فأما أحمد الأزجي الصيدلي فأنجب ابنا اسمه عبد الرحمن حقي وابنة اسمها لطيفة وعبد الرحمن حقي بن أحمد الأزجي الصيدلي أنجب ابنا أسمه محمد رئيس إسعاف العياط بمصر زمن فؤاد وفاروق والجمهورية توفي بمصر عام 1378هـ ورثته جريدة الأهرام المصرية في عددها 26171 تاريخ 23-1 1378هـ وله ابن اسمه أحمد مهندس: وأما عبد الله بن الشيخ عبد الرحمن بن الشيخ عبد الله بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب(26/54)
أخو أحمد الأزجي الصيدلي الآنف الذكر فله ألناء وذرية ضاعوا بمصر حيث لا نعرفهم: وأما محمد أخو أحمد الأزجي
ص -56-
وأخو عبد الله فخرج من مصر عام 1288هـ إلى نجد واستقر بمدينة الرياض وتزوج بها وأنجب ابنين هما عبد الحميد وعبد اللطيف. فأما عبد الحميد1 فقد توفي قديماً عام 1337هـ وأما عبد اللطيف لا يزال موجودا يصلي بالناس الفروض الخمسة في مسجد جامع الرياض الكبير نيابة عن الشيخ عبد العزيز بن باز: رحم الله المترجم الشيخ عبد الرحمن بن الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب وغفر له وعفا عنه وصلى الله على محمد وآله وسلم.
__________
1 عبد الحميد أنجب ابناً اسمه صالح موجود وله أبناء.
ص -57-(26/55)
الشيخ عبد الرحمن بن حسن
هو العلامة المشهور، صاحب التاريخ الحافل بالجهاد والكفاح، والمشرق بالدعوة والإصلاح، الذي كرس جهده، وأوقف حياته في بث العلم ونشره وجرد قلمه في الذب عن دعوة الإسلام، وعقيدة التوحيد، الإمام الأوحد الرباني والمجدد الثاني الشيخ عبد الرحمن بن حسن حفيد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب.
ولد هذا العالم الكبير سنة ثلاث وتسعين ومائة وألف من الهجرة في بلدة الدرعية، موطن الدعوة ومهد علمائها، وعاصمة ولاتها في ذلك الحين، فنشأ بها وقرأ القرآن حتى حفظه وهو في التاسعة من عمره، ثم لازم دروس العلم وحلق الذكر فقرأ على جده1 شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب كتاب التوحيد من أوله إلى أبواب السحر، وجملة من كتاب آداب المشي إلى الصلاة، وحضر عليه قراءات كثيرة في كتب التفسير والحديث والأحكام.
ثم توفي جده شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وهو لا يزال في الثالثة
__________
1 قتل والده حسن في وقعة من الوقائع بمكان يسمى غرابة بنجد وتربى في أحضان جده الشيخ محمد رحمه الله.
فائدة من فوائد المترجم له قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن ابن الشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب: الذي استقرت عليه فتوى شيخنا شيخ الإسلام إمام هذه الدعوة الإسلامية أن العقار ونحوه اذا كان في يد إنسان يتصرف فيه تصرف المالك من نحو ثلاث سنين فأكثر لبس فيه منازع في تلك المدة إن القول قوله ،ه يملكه إلا أن تقوم بينة عادلة تشهد بسبب وضع اليد أنه مستعير أو مستأجر.
ص -58-(26/56)
عشرة من عمره، فلازم علماء الدرعية وجهابذتها الأعلام، فقرأ على الشيخ حمد بن ناصر بن معمر كتاب المقنع في فقه الإمام أحمد بن حنبل، وقرأ على الشيخ عبد الله بن فاضل من علماء الدرعية، وقرأ على عمه علامة نجد في زمنه وخليفة والده بعد وفاة الشيخ عبد الله ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، وقرأ الفرائض على عبد الرحمن بن خميس من علماء الدرعية، وقرأ في النحو على العلامة الشيخ حسين بن غنام صاحب التاريخ المشهور.
وبعد هذه القراءات جلس لطلاب العلم يدرسهم علم التوحيد والفقه، ثم ولي قضاء الدرعية زمن الإمام سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود وزمن ابنه الإمام عبد الله بن سعود، وكان في الدرعية ذلك الحين قضاة كثيرون مرجعهم علامة نجد في زمنه الشيخ عبد الله ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، واستمر الشيخ عبد الرحمن في وظيفتي القضاء والتدريس حتى خرج طوسون بن محمد علي باشا لقتال أهل هذه الدعوة السلفية.
فعند ذلك جند الشيخ عبد الرحمن نفسه للدفاع عن الدين والأوطان، فصحب الإمام عبد الله بن سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود في مسيره لقتال طوسون فحضر معه وقعة وادي1 الصفراء الوقعة المشهورة بالقرب من المدينة التي حصلت بين طوسون وبين الإمام عبد الله وهزم فيها طوسون هزيمة منكرة.
وبعد هذه الوقعة استمر الشيخ في الدفاع وحضور الوقائع والحروب التي
__________
1 قال الشيخ عثمان بن عبد الله ابن بشر في حوادث السنة المذكورة وفيها أقبل من مصر العالم النحرير البحر الزاخر الغزير مفيد الطالبين المحفوظ بعناية رب العالمين جامع أنواع العلوم الشرعية ومحقق العلوم الدينية والأحاديث النبوية والآثار السلفية العلم كابراً عن كابر الذي صارت الأصاغر بإفادته شيوخاً أكابر قاضي قضاة الإسلام والمسلمين مفتي فرق الأنام الموحدين ناصر سنة سيد المرسلين الموفق للصواب في الجواب الشيخ عبد الرحمن بن حسن ابن(26/57)
الشيخ محمد بن عبد الوهاب متع الله المسلمين بحياته وأفاض عليهم من علومه وبركاته قدم على الإمام تركي بن عبد الله دس الله روحه ففرح به وأكرمه غاية الإكرام الخ.... وأفاض في الثناء عليه والتبسيط في ترجمته رحم الله الجميع وغفر لهم.
ص -59-
حصلت بين الدعوة السلفية والدولة العثمانية حتى قدر الله سقوط الدرعية واستيلاء إبراهيم بن محمد علي باشا عليها، وعلى جميع الجزيرة العربية فنقله إبراهيم باشا إلى مصر، ومعه حرمه وعائلته وابنه الشيخ عبد اللطيف وذلك في سنة 1233ه. وبقي ثمان سنوات بمصر، قرأ فيها على عدة علماء منهم الشيخ حسن القويسني ذكر: انه حضر عليه شرح جمع الجوامع للمحلي، ومختصر السعد في المعاني والبيان، وأجازه بجميع مروياته، ولقي بمصر مفتي الجزائر محمد بن محمود الجزائري الحنفي فقرأ عليه في الأحكام الكبرى للحافظ عبد الحق الاشبيلي، وأجازه بجميع مروياته عن شيخه الشيخ محمود الجزائري، والشيخ علي بن الأمير، ووجد بمصر الشيخ إبراهيم العبيدي المقري، شيخ مصر في زمنه في القراءات، فقرأ عليه القرآن ولقي الشيخ أحمد بن سلمونة فقرأ عليه الشاطبية وشرح الجزرية، وقرأ على الشيخ يوسف الصاوي شرح الخلاصة لابن عقيل وقرأ على الشيخ الباجوري شرح الخلاصة للأشموني.
وحضر على محمد الدمنهوري في الاستعارات والكافي في علمي العروض والقوافي وذلك بالجامع الأزهر الشريف عمره الله بالعلم والإيمان وجعله مقر للعمل بالسنة والقرآن1.
ولم يزل المترجم له الشيخ عبد الرحمن بن حسن مقيما بمصر ينهل من العلوم ويتزود من الفنون إلى ان رد الله الكرة لأهل نجد على يد الإمام تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود، فاستعاد نجدا وطهرها من جميع الأتراك والغزاة وأرجعها إلى الحكم السعودي مرة ثانية بعدما خرجت عنه وذلك سنة 1240ه فعند ذلك كتب للشيخ عبد الرحمن يستحثه في القدوم عليه من مصر فحقق الشيخ رغبته وقدم عليه بعد ولايته بسنة عام 1241ه ففرح(26/58)
بمقدمه الإمام تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود وإكرامه غاية الإكرام.
فقام الشيخ عبد الرحمن بمؤازرة الإمام تركي خير قيام، فاستعان به الإمام تركي على تأسيس دولة إسلامية ونشر دعوة سلفية، أصلح الله بها ما أفسدته
ص -60-
تلك العساكر التركية، فأعادت إلى أهل نجد ما فقدوه من الروح الدينية والقوة المعنوية فاستقر الأمن وساد النظام والعدل.
فأخذ الشيخ عبد الرحمن ينشر العلم ويناصح أهل نجد بالرسائل ويأمرهم بالمعروف ويحثهم على لزوم جماعة المسلمين والسمع والطاعة لولي أمرهم، ولهذا قال: فلبي في تأريخه المسمى "تاريخ نجد ودعوة الشيخ محمد" ص178 بالحرف الواحد ما نصه: "ثم وصل من مصر شخص آخر بارز هو الشيخ عبد الرحمن بن حسن حفيد محمد بن عبد الوهاب، فاحتل منصب قاضي الرياض ذلك المنصب الذي قدر للشيخ أن يشغله سنوات عديدة يشاركه ابنه وتلميذه الشيخ عبد اللطيف وقد لعب الوالد وابنه دورا مهماً في جعل الدين عاملا له أثره في حياة العرب" انتهى كلام فلبي وقد انتهت إلى الشيخ عبد الرحمن رئاسة العلم في زمنه بنجد فأصبح مرجع علمائها وشيخهم حيث جلس لطلاب العلم في نجد فتخرج به خلائق لا يحصون منهم ابنه الشيخ عبد اللطيف قرأ عليه في مصر وقرأ عليه بنجد والشيخ عبد الملك ابن الشيخ حسين ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأخوه الشيخ عبد الرحمن ابن الشيخ حسين والشيخ حسين بن حمد ابن الشيخ حسين ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، والشيخ عبد العزيز بن محمد بن علي ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب والشيخ عبد العزيز بن عثمان بن عبد الجبار بن شبانة والشيخ عبد الرحمن الثميري والشيخ عبد الله بن جبر والشيخ العلامة حمد بن عتيق والشيخ عبد العزيز بن يحيى الفضلي الملهمي والشيخ محمد بن إبراهيم بن عجلان والشيخ عبد الرحمن بن عدوان والشيخ محمد بن إبراهيم بن سيف والشيخ عبد الله بن علي بن مرخان والشيخ علي بن عبد الله بن عيسى والشيخ أحمد بن إبراهيم بن عيسى(26/59)
والشيخ عبد الرحمن بن مانع والشيخ محمد بن عبد الله بن سليم والشيخ حسن بن الشيخ حسين بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب والشيخ عبد الله بن نصير والشيخ ناصر بن عيد، وأخذ عنه غير هؤلاء خلق كثير يطول عدهم فهو شيخ مشايخ أهل نجد في زمانه بلا نزاع قام ببث العلم ونشر الدعوة وتصدى للرد على زعماء
ص -61-
الضلال ورؤساء البدع المعارضين لدعوة الإخلاص والتوحيد التي قام بها جده شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب.
فرد –رحمه الله- على داود بن سليمان بن جرجيس العراقي العاني بكتاب سماه القول الفصل النفيس في الرد على داود بن جرجيس، ورد على عثمان بن عبد العزيز بن منصور الناصري برد سماه المقامات، وقد استطرد فيه فأتى على جميع الحروب التي وقعت بين أهل هذه الدعوة السلفية والدولة العثمانية المصرية، فهو بحق رد وتاريخ، ورد –رحمه الله- على صاحب السحب الوابلة برد سماه المحجة، ورد على عبد الحميد الكشميري بكتاب سماه بيان كلمة التوحيد والرد على الكشميري عبد الحميد وشرح كتاب التوحيد لجده شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بكتاب سماه فتح المجيد وعلق على كتاب التوحيد لجده المذكور حاشية مفيدة سماها ابنه العلامة الشيخ عبد اللطيف قرة عيون الموحدين في تحقيق دعوة الأنبياء والمرسلين وقد طبع هذان الكتابان وعم نفعهما. وله الرد والردع على داود بن جرجيس وله –رحمه الله- رسائل كثيرة وأجوبة عديدة طبعت ضمن رسائل أئمة الدعوة. وله رسالة في تحريم صيام يوم الشك طبعت بمطبعة المكتب الإسلامي في دمشق وكان رحمه الله متنبها فطنا لدسائس أهل البدع كتب له مرة الشيخ عثمان بن بشر صاحب تاريخ عنوان المجد وقال في آخر دعائه انه على ما يشاء قدير فكتب إليه وقال في أثناء جوابه إن هذه الكلمة اشتهرت على الألسن من غير قصد وهي مثل قول الكثير اذا سأل الله تعالى قال وهو القادر على ما يشاء وهذه الكلمة يقصد بها أهل البدع شرا وكل ما في القرآن وهو على كل شيء قدير(26/60)
وليس في القرآن والسنة ما يخالف ذلك أصلا لأن القدرة شاملة كاملة وهي والعلم صفتان شاملتان تتعلقان بالموجودات والمعدومات وإنما قصد أهل البدع بقولهم وهو القادر على ما يشاء أن القدرة لا تتعلق إلا بما تتعلق به المشيئة1. انتهى.
__________ـ
1 الدرر السنية الجزء الثاني ص63.
ص -62-
وكتب إليه المذكور مرة أخرى يهنئه بقدوم ابنه عبد اللطيف من مصر ستة 1264ه وتوسل إلى الله في دعائه بصفاته الكاملة التي لا يعلمها إلا هو فكتب إليه وقال: "وقد ذكرت وفقك الله في وسيلة دعوتك جزاك الله عني أحسن الجزاء عن تلك الدعوات قلت وأتوسل إليك بصفاتك الكاملة التي لا يعلمها إلا أنت فاعلم أيها الأريب الأديب أن التي لا يعلمها إلا هو كيفية الصفة وأما الصفة فيعلمها أهل العلم بالله كما قال الإمام مالك الاستواء معلوم والكيف مجهول ففرق هذا الإمام بين ما يعلم من معنى الصفة على ما يليق بالله فيقال استواء لا يشبه استواء المخلوق ومعناه ثابت لله كما وصف به نفسه. وأما الكيف فلا يعلمه إلا الله، ولم يزل -رحمه الله- يفتي ويدرس ويكاتب أهل بلدان نجد بالمراسلات والنصائح يحثهم على لزوم جماعة المسلمين ويذكرهم نعمة الإسلام والدين زمن الإمام تركي بن عبد الله ثم زمن ابنه الإمام فيصل حتى توفاه الله عشية يوم السبت حادي عشر ذي القعدة سنة خمس1 وثمانين ومائتين وألف في بلده الرياض فصلي عليه بجامع الرياض ودفن في مقبرة العود وذلك في ولاية الإمام عبد الله بن فيصل وكان –رحمه الله تعالى- سخيا جوادا يتفقد طلاب العلم ويواسيهم ويعطف على الفقراء والمعوزين.
ترجم له عثمان بن بشر في تاريخه عنوان المجد ترجمة طويلة لأثنى عليه فيها بما هو أهله من الفضل والعلم وكذلك ترجم له المؤرخ الشهير إبراهيم بن صالح بن عيسى ترجمة طويلة في تاريخه عقد الدرر، وقد أنجب -رحمه الله تعالى- أولاداً خمسة هم: محمد2 والشيخ العلامة(26/61)
الشهير عبد اللطيف وإسحاق
__________
1 وضعنا بعد هذه الترجمة ملحقاً يتضمن رواية الشيخ عن مشائخه.
2 قتل محمد بن المترجم له الشيخ عبد الرحمن في حرب الدرعية سنة 1233ه وهو بكر أبيه وأكبر أبنائه.
ص -63-
وعبد الله وإسماعيل وكل من هؤلاء الأولاد المذكورين خلف ذرية كثيرة إلا محمداً وإسماعيل، فليس لهما عقب ولا ذرية رحم الله الشيخ عبد الرحمن"1 بن حسن وبارك في أحفاده وعقبه ورحم الله شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ورضي عنه وأرضاه وجعل جنة الخلد نزله ومأواه وصلى الله على محمد وآله وسلم.
__________
1 عاصر الشيخ عبد الرحمن بن حسن المترجم له ستة من ملوك آل سعود الذين تعاقبوا على الحكم وهم الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود وابنه الإمام سعود بن عبد العزيز وابنه عبد الله بن سعود ثم الإمام تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود وابنه الإمام فيصل بن تركي وابنه عبد الله بن فيصل بن تركي ومات الشيخ في أول حكمه سنة 1285ه وقد أورد ذكر الشيخ عبد الرحمن ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب صاحب: تاريخ آل سعود فقال في ص 200 س 15 وفي سنة 1255ه "1839م" كان قاضياً ببلدة الدلم بالخرج وكانت الخرج تحت حكم خورشيد باشا ومع ذلك لم يمسه أحد بسوء" وهذا وهم من مؤلف تاريخ آل سعود، والصحيح ان الذي كان قاضياً ببلدة الدلم بالخرج سنة 1255 عبد الرحمن ابن حسين ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب وليس الشيخ عبد الرحمن بن حسن ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب: وإليك نص ما ذكره الشيخ عثمان بن عبد الله بن بشر ثم دخلت سنة خمس وخمسين ومائتين وألف وخورشيد باشا إذ ذاك في الخرج ولما تولاها هرب منها أناس كثير إلى الحوطة والحريق لأنهم أهل منعة ولا يعطون الدنية للترك فسكن عندهم الشيخ عبد الرحمن بن حسن والشيخ علي بن حسين وأخوه عبد الملك: وبقي الشيخ عبد الرحمن بن حسين(26/62)
بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب قاضياً في الدلم ولا رأى مكروهاً" فاشتبه على صاحب تاريخ آل سعود وظن أنه الشيخ عبد الرحمن بن حسن وللتنبيه والتأريخ حرر.
ص -64-
رواية العلامة الشيخ عبد الرحمن بن حسن
ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب عن مشائخه
قال -رحمه الله- فيما كتبه إلى بعض تلامذته من العلماء وقد سأله ممن أخذ عنه من المشائخ في نجد ومصر.. وأما ما طلبت من روايتي عن مشايخي فأقول: اعلم أني قرأت على شيخنا الإمام الجد شيخ الإسلام -رحمه الله- كتاب التوحيد من أوله إلى أبواب السحر. وجملة من آداب المشي إلى الصلاة وحضرت عليه عدة مجالس كثيرة في البخاري والتفسير وكتب الأحكام بقراءة شيخنا الشيخ ابنه عبد الله -رحمهما الله تعالى- وشيخنا الشيخ ابنه علي رحمهما الله تعالى في كتاب البخاري وقراءة ابنه الشيخ عبد العزيز رحمه الله في سورة البقرة من كتاب ابن كثير وكتاب منتقى الأحكام بقراءة الشيخ عبد الله بن ناصر وغيرهم. . وسنده رحمه الله تعالى معروف تلقاه عن عدة من علماء المدينة وغيرهم رواية خاصة وعامة منهم محمد حياة السندي والشيخ عبد الله بن إبراهيم الفرضي الحنبلي وقرأت وحضرت جملة كثيرة من الحديث والفقه على الشيخين المشار إليهما أعلاه وشيخنا الشيخ حسين رحمه الله تعالى وحضرت قراءته وانا اذ ذاك في سن التمييز على والده شيخ الإسلام رحمه الله تعالى وشيخنا الشيخ حمد بن ناصر رحمه الله تعالى. قرأت عليه في مختصر الشرح والمقنع وغيرهما وشيخنا الشيخ عبد الله بن فاضل رحمه الله قرأت عليه في شرح الشنشوري في الفرائض وشيخنا الشيخ أحمد بن حسن الحنبلي قرأت عليه الجزرية للقاضي
ص -65-(26/63)
زكريا الأنصاري وشيخنا الشيخ أبو بكر حسين بن غنام قرأت عليه شرح الفاكهي على المتممة في النحو.
وأما مشايخنا من أهل مصر فمن فضلائهم في العلم الشيخ حسن القويسني حضرت عليه شرح جمع الجوامع في الأصول للمحلي ومختصر السعد في المعاني والبيان وما فاتني من الكتابين إلا فوت يسير، وأكبر من لقيت بها من العلماء الشيخ عبد الله سويدان وأجازني هو والذي قبله بجميع مروياتهم ودفع لي كل واحد منهما نسخته المتضمنة لأوائل الكتب التي رووها بسندهم إلى الشيخ المحدث عبد الله بن سالم البصري شارح البخاري ولقيت بها الشيخ عبد الرحمن الجبرتي وحدثني بالحديث المسلسل بالأولية بشروطه وهو أول حديث سمعته منه وقرأته عليه سنده حتى انتهيت إلى الإمام سفيان بن عيينة -رحمه الله- عن أبي قابوس مولى عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء وأجازني بجمع مروياته عن شيخه الشيخ مرتضى1 الحسيني عن الشيخ عمر بن أحمد بن عقيل عن الشيخ أحمد الجوهري كلاهما عن عبد الله بن سالم البصري وهو يروي عن أبي عبد الله محمد بن علاء الدين البابلي عن الشيخ سالم السنهوري عن النجم الغيطي عن شيخ الإسلام زكريا الأنصاري عن الحافظ شيخ الإسلام أحمد بن علي بن حجر العسقلاني صاحب فتح الباري وأكثر روايات من ذكرنا من مشايخنا للكتب تنتهي إليه
__________
1 هو أبو الفيض السيد محمد بن محمد بن عبد الرزاق الشهير بمرتضى الحسيني الزبيدي –الحنفي مؤلف كتاب تاج العروس من جواهر القاموس في أحد عشر مجلداً طبع عدة مرات وآخر طبعة له بمطبعة حكومة الكويت وتحقيق عبد الستار أحمد فراج عام 1385ه -1965م ترجم السيد أبي الفيض الشيخ عبد الرحمن بن حسن الجبرتي في الجزء الثاني من تاريخه عجائب الآثار في التراجم والأخبار ص 208 وص209 طبعة(26/64)
حسين أفندي شرف واطنب الجبرتي في ترجمته ومدحه وذكر أنه توفي بمصر سنة 1205 وترجم له عبد الستار أحمد فراج رئيس التحرير بمجمع اللغة العربية في مقدمة الجزء الأول من تاج العروس من جواهر القاموس المطبوع بمطبعة حكومة الكويت عام 1385ه- 1965م ترجمة وافية تقع في عشر صفحات.
ص -66-
وأما روايتهم للبخاري فرواه الحافظ رحمه الله عن إبراهيم بن أحمد التنوخي عن أحمد بن أبي طالب الحجار عن الحسين بن المبارك الزبيدي الحنبلي عن أبي الوقت عبد الأول بن عيسى بن شعيب السجزي الهروي عن أبي الحسين عن الداودي عن عبد الله بن حمويه السرخسي عن الفربري عن الإمام البخاري –رحمه الله- وقرأت عليه أسانيده عن شيخه المذكور متصلة إلى مؤلفي الكتب الحديثية كالإمام أحمد ومسلم وأبي داود، والنسائي والترمذي وابن ماجه –رحمهم الله تعالى- فأجازني بها وبسند مذهبنا بروايته عن شيخه المذكور، عن السفاريني النابلسي الحنبلي، عن أبي المواهب متصلاً إلى إمامنا -رحمه الله تعالى-
وأما الشيخ عبد الله بن سويدان فأجازني بجميع ما في نسخة عبد الله بن سالم المعروفة بمصر، ونقلها من أصله فهي إلى الآن موجودة عندنا مسندة إلى الشيخ المذكور بروايته عن شيخه محمد بن أحمد الجوهري عن أبيه أحمد عن شيخه عبد الله بن سالم، وقد تقدم سياق سنده إلى البخاري وأجاز لي رواية مذهب إمامنا بروايته له عن الشيخ أحمد الدمنهوري عن الشيخ أحمد بن عوض عن شيخه محمد الخلوتي عن شيخه الشيخ منصور البهوتي عن الشيخ عبد الرحمن البهوتي عن الشيخ يحيى ابن الشيخ موسى الحجاوي عن أبيه وسند الأب مشهور إلى الإمام أحمد.
وأما الشيخ حسن القويسني فأجازني بجميع ما في نسخة عبد الله بن سالم البصري المذكور بروايته عن الشيخ عبد الله الشرقاوي عن الشيخ محمد بن سالم الحفني عن الشيخ عبد الله بن علي النمرسي عن الشيخ عبد الله بن سالم البصري قال: وأخذت صحيح البخاري جميعه عن الشيخ داود القلعي عن(26/65)
الشيخ أحمد بن جمعة البحيري عن الشيخ مصطفى الإسكندراني المعروف بابن الصباغ عن الشيخ عبد الله بن سالم بسنده المتقدم، قال: وأخذت الصحيح عن شيخنا الشيخ سليمان البحيري عن الشيخ محمد العشماوي عن الشيخ أبي العز
ص -67-
العجمي عن الشيخ محمد الشويري عن محمد الرملي عن شيخ الإسلام زكريا الأنصاري عن الحافظ ابن حجر العسقلاني عن الشيخ التنوخي عن الشيخ سليمان بن حمزة عن الشيخ علي بن حسين ابن المنير عن أبي الفضل ابن ناصر عن الشيخ عبد الرحمن بن منده عن محمد بن عبد الله بن أبي بكر الجوزقي عن مكي بن عبدان النيسابوري عن الإمام مسلم عن الإمام البخاري رضي الله عنهم أجمعين قلت وبهذا السند روى صحيح مسلم.
ولقيت بمصر مفتي الجزائر محمد بن محمود الجزائري الحنفي الأثري فوجدته حسن العقيدة طويل الباع في العلوم الشرعية وأول حديث حدثنيه المسلسل بالأولية رواه لنا عن شيخه حمودة الجزائري بشرطه متصلا إلى سفيان بن عيينة كما تقدم وأجازني بمروياته عن شيخه المذكور وشيخه علي بن الأمين وقرأت عليه جملة في صحيح مسلم وأول البخاري رواية ابن سعادة بالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله تعالى وقرأت عليه جملة من الأحكام الكبرى للحافظ عبد الحق الإشبيلي رحمه الله وكتبت أسانيده في الثبت الذي كتبته عنه.
وممن وجدت بمصر الشيخ إبراهيم العبيدي المقري شيخ مصر في القراءات يقرأ العشر وقرأت عليه أول القرآن وأما الشيخ أحمد سلمونة فلي به اختصاص كثير وهو رجل حسن الخلق متواضع له اليد الطولى في القراءات والإفادات وقرأت عليه كثيراً من الشاطبية وشرح الجزرية لشيخ الإسلام زكريا الأنصاري وقرأت عليه كثيراً من القرآن وأجاد وأفاد، وهو مالكي المذهب وللذي قبله روايات وأسانيد متصلة إلى القراء السبعة وغيرهم ومنهم الشيخ يوسف الصاوي قرأت عليه الأكثر من شرح الخلاصة لابن عقيل رحمه الله تعالى.
ومنهم إبراهيم البيجوري قرأت عليه شرح الخلاصة للاشموني إلى(26/66)
الإضافة وحضرت عليه في السلم وعلى محمد الدمنهوري في الاستعارات والكافي في علمي العروض والقوافي قرأها لنا بحاشيته بالجامع الأزهر. عمره الله تعالى
ص -68-
بالعلم والإيمان وجعله محلا للعمل بالسنة وجميع المدن والأوطان انه واسع الامتنان وصلى الله على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
أملاه الفقير إلى الله تعالى عبد الرحمن بن حسن1، أحسن الله إليه بمنه وكرمه وكتبه الفقير إلى الله، إبراهيم بن راشد سنة 1244ه ونقله من خطه الفقير إلى رحمة ربه العزيز، محمد بن علي بن محمد البيز، رزقه الله العلم والفضل والعمل وحسن الخاتمة عند حلول الأجل انه واسع المن كثير الفضل سنة 1334هـ
__________
1 سئل شيخنا عبد الرحمن بن حسن رحمه الله تعالى عن تنصيف المهر: وذلك أن الرجل إذا خطب المرأة من الحمولة "أي العشيرة القبلية" وأجابوه وقربوه وعقدوا له على "ريالين" أو نحوهما يسمونه "مهراً" ومن المعلوم أن المقصود غيره وربما يقع الطلاق قبل الدخول فما الذي ينتصف هل هو المسمى عند العقد أو "المعتاد"
-أجاب- رحمه الله تعالى بقوله اعلم أن هذه المسألة تكثر الفكرة فيها ولم تقف على نص صريح فيها ولكن الذي يستقر في القلب ويغلب في الاعتقاد وهو أقرب إلى أصول الشرع أن التصنيف يكون فبما سمي "جهازاً" وهو الذي يبذل قبل الدخول في العادة في مثل نساء هذه المرأة "أي المكافئات لها" نسباً وايساراً ثم وجدنا في الاختيارات "لشيخ الإسلام ابن تيمية" ما يقرر ذلك ويوافقه ولفظه: والشرط المتقدم كالمقارن والاطراد العرفي كاللفظي: قال أبو العباس رحمه الله تعالى"أي شيخ الإسلام أحمد بن تيمية" وقد سئلت عن مسألة من هذا وقيل ما مهر هذا وقلت ما جرت العادة بأن يؤخذ من الزوج فقالوا إنما يؤخذ المعجل قبل الدخول: فقلت هذا مهر مثلها انتهى وهو واضح لا غبار عليه ويغلب على ظني أني قد أفتيت به(26/67)
سابقاً والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وسلم: الجزء الأول من مجموع الرسائل والمسائل النجدية الطبعة الأولى سنة 1346ه سنة 1928م بمطبعة المنار بمصر.
ص -69-
الشيخ عبد اللطيف ابن الشيخ عبد الرحمن
هو العلامة الأوحد الكبير علامة المعقول والمنقول حاوي علمي الفروع والأصول كما وصفه بهذا علامة العراق محمود شكري الأوسي: الشيخ عبد اللطيف ابن الشيخ عبد الرحمن بن حسن ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب.
ولد هذا العالم الجليل سنة 1225هـ ألف ومائتين وخمس وعشرين من الهجرة في مدينة الدرعية موطن دعوة التوحيد ومهد علمائها في ذلك الحين، فنشأ أول ما نشأ بها وقرأ القرآن في صغره ثم أصاب الدرعية ما أصابها من الخراب والتدمير على يد إبراهيم بن محمد علي باشا فنقل الشيخ عبد اللطيف وعمره ثمان سنوات إلى مصر في معية والده الشيخ عبد الرحمن بن حسن وذلك آخر سنة ألف ومائتين وثلاث وثلاثين من الهجرة فنشأ بها وتزوج فيها وأقام بها إحدى وثلاثين سنة. درس العلم فيها على علماء نجديين ومصريين فمن النجديين والده الشيخ عبد الرحمن بن حسن وابن عمه وخاله الشيخ عبد الرحمن1 ابن الشيخ عبد الله ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب. ومن المصريين
__________
1 الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب خال الشيخ عبد اللطيف المذكور أعلاه ترجم له الشيخ عبد الرزاق البيطار الدمشقي في كتابه حلية البشر في رجال القرن الثالث عشر ج 2 ص 839 طبعة دمشق المجمع العلمي قائلا بالحرف الواحد ما نصه: "الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن عبد الوهاب الحنبلي النجدي العالم المشهور والهمام الذي فضله مأثور ولد في بلاد نجد ثم إن محمد علي باشا وزير مصر لما أمره المرحوم السلطان محمود بمقاتلة الوهابيين أرسل ولده إبراهيم باشا ومعه معسكر عظيم من الأكراد والأرناؤوط وعرب مصر الهوارة لمحاربة عبد الله بن سعود أمير نجد =(26/68)
ص -70-
الشيخ العلامة محمد بن محمود بن محمد الجزائري الحنفي والشيخ إبراهيم الباجوري شيخ الجامع الأزهر في زمنه والشيخ أحمد الصعيدي وغيرهم من علماء مصر الأعلام.
وبقي بمصر كما ذكرنا مدة سنين ينهل فيها من العلوم ويتزود من المعارف والفنون حتى بلغ رتبة الإمامة في العلم والفضل، فحينئذ خرج إلى نجد وذلك سنة ألف ومائتين وأربع وستين من الهجرة وقدم بلدة الرياض على الإمام فيصل ابن الإمام تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود وعلى والده الشيخ عبد الرحمن بن حسن وكان والده ظهر قبله من مصر إلى نجد بثلاث وعشرين سنة أي سنة 1241ه.
ولما استقر الشيخ عبد اللطيف في مدينة الرياض بضعة أشهر وجلس لطلاب العلم فيها عرف الإمام فيصل ووالده الشيخ عبد الرحمن بن حسن غزارة علمه وسعة اطلاعه وقوة عارضته وقدرته على المناظرة فبعثاه على الإحساء لتقرير عقيدة السلف ونشر دعوة التوحيد ومناظرة علمائها في أصول الدين والعقائد لأن الغالب عليهم في ذلك الوقت مذهب الأشاعرة.
__________
=فقاتلهم وقتل ونهب وحرق وخرب، وأسر عبد الله بن سعود وأرسله إلى مصر إلى السلطان محمود فصلبه، وأما.. . باقي بيت الشيخ محمد بن عبد الوهاب المعبر عنهم ببيت الشيخ فانه نقلهم إلى مصر وأسكنهم هناك رتب لهم معاشات تكفيهم وكان من جملتهم المترجم المرقوم فالتفت إلى الطلب والتعليم والاستفادة والإفادة إلى أن صار في الأزهر شيخ رواق الحنابلة وكان ظاهر التقوى والصلاح والزهادة والعبادة، ولم يزل على حالته المرضية وطاعته وعبادته وافادته السنية إلى أن اختر مته المنية سنة أربع وسبعين ومائتين وألف رحمه الله تعالى" انتهى. ما ذكره الشيخ عبد الرزاق البيطار وفيه خطآن الأول حذفه اسم والد المترجم الشيخ عبد الله فانه كما ذكرنا الشيخ عبد الرحمن ابن الشيخ عبد الله ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب. والخطأ الثاني ترحمه على السلطان محمود(26/69)
والعثمانيين الذين تسلطوا على أهل هذه الدعوة السلفية بغياً وعدواناً والحمد لله أن هذه الدعوة السلفية عادت أعظم مما كانت وان أعداءها بادوا لا تحس منهم أحداً ولا تسمع لهم ركزاً أيد الله ولاة هذه الدعوة من ملوك آل سعود وجعلهم أنصارا لدينه انه سميع مجيب "تقدمت ترجمة الشيخ عبد الرحمن ابن الشيخ عبد الله في أول هذا الكتاب".
ص -71-
فقدم الشيخ عبد اللطيف الإحساء سنة ألف ومائتين وأربع وستين من الهجرة وأقام بها سنتين يوضح طريقة السلف وينشر دعوة التوحيد ويناظر بعض علماء الإحساء الذين كانوا على مذهب أبي الحسن الأشعري القديم وطريقته في التأويل والتعطيل فظهر عليهم بالأدلة وقهرهم بالحجة فأذعنوا له وسلموا فأزال رحمه الله ما تبقي في نفوسهم من رواسب الشبه والتأويل وقرر لهم طريقة أهل السنة والجماعة وما كانوا عليه في باب أسماء الله وصفاته ونعوت جلاله وأخبرهم أن إمامهم أبا الحسن الأشعري هجر مذهب التأويل ورجع إلى ما كان عليه أهل السنة والجماعة كما قرر ذلك وأوضحه في المقالات والإبانة وغيرهما من كتبه فاقتنع علماء الإحساء بذلك وأخذوا على أنفسهم التزام طريق السلف و سلوك مذهب أهل السنة والجماعة.
فعند ذلك رجع الشيخ1 عبد اللطيف إلى الرياض وتساعد هو ووالده الشيخ عبد الرحمن بن حسن بمناصرة الإمام فيصل ابن الإمام تركي ومؤازرته لهما على نشر العلم وبثه وإحياء معالم الدعوة وتجديد ما ندثر منها فملآ نجداً في زمانهما علماً وأعادا إلى الدعوة السلفية قوتها ونشاطها بعدما أصيبت بالوقوف ومنيت بالركود أيام الفتن والاضطرابات التي توالت على نجد ذلك الحين.
__________
1 كان الشيخ عبد اللطيف يصحب الإمام فبصل في بعض غزواته التي يقوم بها لتأديب العصاة والمتمردين ويصطحب معه نحو الاثنين أو الثلاثة من تلامذته عليه بحضرة الإمام فيصل في التوحيد وأصول الدين ويتولى الشيخ التعليق على(26/70)
القراءة وشرحها قال المؤرخ الشيخ عثمان بن بشر في معرض حديثه عن إحدى غزوات الإمام فيصل "ثم رحل ونزل المجمعة فركبت للسلام عليه فكان وصولي إلى مخيمه بعد صلاة العصر وإذا بالمسلمين مجتمعين في الصيوان الكبير للدرس فجلس الإمام فيه والمسلمون يمينه وشماله ومن خلفه وبين يديه وجلس الشيخ عبد اللطيف إلى جنبه فأمر القارئ بالقراءة عليه فقرأ في كتاب التوحيد تأليف الشيخ محمد بن عبد الوهاب قدس الله روحه وصدر الباب بقوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} إلى آخر الآية ثم ذكر حديث النواس بن سمعان فتكلم الشيخ بكلام جزل وقول صائب عدل بأوضح إشارة وأحسن عبارة فتعجبت من فصاحته وتحقيقه كأن بين يديه كتاب التفسير كالقرطبي أو ابن جرير أو أبي حيان أو ابن كثير الخ.
ص -72-(26/71)
وكان رحمه الله إلى جانب ما اتصف به من العلم والفضل قوي الشخصية صادق اللهجة مخلصاً لدينه ووطنه، وكان أمارا بالمعروف نهاءاً عن المنكر غيوراً على حرمات الإسلام والدين وكان مع هذا عالماً ربانياً وزعيماً دينياً مهاباً محترماً عند ولاة الأمور ومن دونهم من الخاصة والعامة، كافح عن نشر العلم وبث الدعوة والدفاع عن الدين وكرس جهده وأوقف حياته على نشر العلم وبث الدعوة والدفاع عنها في حياة والده. وبعد وفاته –رحمه الله- وقد أخذ عنه العلم خلائق من أهل نجد لا يحصون نذكر من فضائلهم في هذه الترجمة الموجزة ما يأتي:
تلامذته:
1. علامة نجد في زمنه ابنه الشيخ عبد الله ابن الشيخ عبد اللطيف.
2. وأخاه الشيخ إسحاق ابن الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ.
3. الفقيه الشيخ حسن بن حسين بن علي ابن الشيخ حسين آل الشيخ.
4. الشيخ العلامة حمد بن فارس أخذ عنه علم النحو حتى مهر فيه، وصار أنحى علماء نجد في زمنه.
5. العلامة المؤلف الشهير الشيخ سليمان بن سحمان.
6. العلامة الفقيه محمد بن إبراهيم بن محمود.
7. الشيخ صعب بن عبد الله التويجري.
8. الشيخ عبد الرحمن بن مانع.
9. الشيخ محمد بن عبد الله بن سليم.
10. الشيخ محمد بن عمر بن سليم.
11. الشيخ عبد الله بن نصير العنزي.
12. الشيخ إبراهيم بن عبد الملك آل الشيخ.
ص -73-(26/72)
13. الشيخ عبد الله بن مفدى.1
14.الشيخ علي بن عيسى من أهل شقراء.
15.الشيخ المحقق أحمد بن إبراهيم بن عيسى.
16.الشيخ عثمان بن عيسى.
17.الشيخ محمد بن إبراهيم بن سيف.
18.الشيخ عمر بن يوسف.
19.الشيخ صالح بن قرناس من أهل الرس.
20.الشيخ صالح الشثري من أهل حوطة بني تميم.
21.الشيخ عبد العزيز ن عبد الجبار من أهل سدير من وهبة تميم.
22.الشيخ عبد العزيز الصيرامي من أهل الخرج.
23.الشيخ عبد العزيز بن شلوان.
24.الشيخ أحمد الرجباني.
25.الشيخ عبد الله بن محمد الخرجي.
26.الشيخ عبد الرحمن نزيل الإحساء.
27.الشيخ علي بن سليم.
28.الشيخ عبد الله بن جرجس.
29.الشيخ عبد الله بن محمد الخرجي.
وأخذ عنه خلق غير هؤلاء كثير لا نطيل بذكرهم.
__________
1 تعرف أسرة آل مفدى اليوم بآل فدى بدون ميم. وهم قسمان في ديار القصيم وفي اشيقر ونزح منهم إلى الحجاز أفراد منهم عبد الله بن سليمان بن فداء والد الدكتور عبد العزيز الفداء.
ص -74-(26/73)
مؤلفاته:
ألف رحمه الله مؤلفات كثيرة نذكر منها ما يأتي:
1. تأسيس التقديس في الرد على داود بن جرجس"ط"
2. مصباح الظلام في الرد على من كذب على الشيخ الإمام رد به على عثمان بن عبد العزيز بن منصور في "كتابه الذي سماه كشف الغمة"
3. البراهين الإسلامية في الرد على الشبهات الفارسية"خ".
4. تحفة الطالب والجليس في الرد على ابن1 جرجيس"ط".
5. الإتحاف في الرد على الصحاف 2 "خ" وشرع رحمه الله في شرح نونية الإمام ابن القيم ومهد لذلك بكتابة مقدمة طويلة مشتملة على علم جم ومعان عظيمة ولكن المنية وافته قبل انجاز المشروع.
6. وله رسائل كثيرة3 كتبها في أغراض متعددة علمية واجتماعية وسياسية لو جمعت على حدة لبلغت مجلدا ضخما ولكنها طبعت مفرقة في مجاميع الرسائل والمسائل النجدية، نورد منها هذه الرسالة أنموذجا لما اتصف به رسائله من الرصانة والبلاغة.
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الشيخ عثمان بن منصور أنقذه الله من
__________
1 طبع كتاب تحفة الطالب والجليس على نفقة الشيخ علي بن عبد الله بن ثاني بعنوان دلائل الرسوخ في الرد على المنفوخ والذي سماه بهذا العنوان الشيخ محمد بن عبد العزيز بن مانع رحمه الله.
2 رد به على عبد اللطيف بن عبد المحسن الصحاف.
3 تبلغ نحو أربعمائة صفحة وهي منثورة ومبعثرة في مجاميع الرسائل والمسائل النجدية وفي الدرر السنية في الأجوبة النجدية وحبذا لو تصدى لها أحد أحفاده وجمعها ورتبها وطبعها على حدة ولا اقدر على هذا العمل العظيم من حفيده الشيخ عبد الملك بن إبراهيم ابن العلامة المترجم الشيخ عبد اللطيف.
ص -75-(26/74)
طوارق الفتن والشرور ورفع همته عن سفاسف الأمور سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على ما ألبسنا من ملابس فضله التي لا تخلعها الأنداد وأستزيده من بره الذي ليس له انقضاء ولا نفاد.
أما بعد فقد وصل إلينا منك خطان1 فأولهما صادف حين الاشتغال بلقاء الأحبة والآل، وأما الثاني فبعد أن ألقيت عصا الترحال وارتاح من ألم شوقه القلب والبال فبمجرد الوقوف على خطك ومطالعة نقشك ووشيك بحثت عن الوجه الذي تدلي به علينا وعن حقيقة المعنى الذي تشير به إلينا وما هو اللائق في إجابة أمثالك وهل يحسن بنا النسج على منوالك أو نقتصر على موجب {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ} إذ ليس وراءها مزية شرعية لأكون على بصيرة من أمري ومعرفة للحقائق قبل اقتداح زندي: فأخبرني الثقة بالجرح والتعديل الخبير بما قد شاع عنك من القيل أنصاحب الخط ينتمي إلى ممارسة العلوم المنقول منها والمفهوم غير أنه قد نسب عنه هفوات إن صحت فهي من عظائم المعضلات ولم نقف لها على تصحيح يعتمد ولم نلتفت لإلى البحث في متنها والسند اكتفاء بإعراضه عن الابتهاج بهذه الدعوة وهذا الأصل والمذاكرة واستغناء عدم التفاته إلى المؤاخاة في الله والمؤازرة بل كل الناس لديه إخوان والضدان عنده يجتمعان يصاحب عابدي الأوثان كما يصاحب أولياء الرحمن ويأنس بالمنقلب على عقبه كما يأنس بالثابت على الإيمان مع أنه قد شرح2 التوحيد وادعى الإتيان بكل
__________
1 الخطان في لغة أهل نجد الدارجة الرسالتان.
2 المخاطب عثمان بن منصور شرح كتاب التوحيد بشرح سماه فتح الحميد شرح كتاب التوحيد يوجد مخطوطاً في مكتبة العم محمد ابن الشيخ عبد الله بن الشيخ عبد اللطيف وقد آلت مكتبته من بعده إلى أبنائه.
ويوجد في مكتبة الشيخ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ قال الشيخ الإمام عبد اللطيف ابن الشيخ عبد الرحمن بن حسن عن ابن منصور(26/75)
وشرحه المذكور في رسالته التي كتبها إلى عبد العزيز بن إبراهيم بن عبد اللطيف ما نصه: "والرجل فيه رعونة تمنعه من المدارة والتقية. حتى كتابه الذي يزعم أنه=
ص -76-
معنى موجز سديد:
يوما بحزوي ويوما بالعقيق وبال
عذيب يوما ويوما بالخليصاء
وتارة تنتحي نجداً وآونة
شعب الغوير وطوراً قصر تيماء
فهو وإن ينتسب إلى الحق فقد والى من خرج عنه وعق فقلت إيه له من رجل لو استقام وصارم لولا ما عراه من الانثلام لكني أعلم ان للعلم بركات وللملك لمات فأرجو أن يقوده العلم إلى ثمراته وأن يحول بينه وبين الشيطان وخطواته {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} والقلب بين إصبعين من أصابع الرحمن كما رواه المحدثون والأعيان فلعل ميت رجائنا تحييه من يحيي عظام الميت وهي رميم، ولهذا أشرت إلى الشيخ الوالد 1أعز الله قدره ورفع بوراثة النبيين مجده وفخره بأن يرد لك الجواب ويعلمك بالخطب أتى من أي باب طمعا لك في الأوبة والفلاح وحرصاً على سلوك الهداية والصلاح لئلا تتوهم غير ذلك من الأسباب التي تنقل عنك بالاستطالة في الأعراض والاغتياب إذ هي لا يلتفت إليها المؤمن العاقل ولا يأخذ بها إلا غر مماحل وهي باقية ليوم ترجعون فيه إلى الله ويجزى كل قائل بما زوره وافتراه ولعل الله أن يمن برجوعك إلى الحق بعد الشرود وأن يقضي بصحبتك على توحيد ربنا المعبود،فأني أسر بذلك وأتأسف على تنكب أمثالك والله يقول الحق وهو يهدي السبيل وصلى الله على محمد.
وكان إلى جانب ما يتصف به من بلاغة الاسلوب في رسائله وجزالة اللفظ
__________
=شرح على التوحيد رأيت فيه من الدواهي والمنكرات م لا يحصيه إلا الله من ذلك قوله في الكلام على قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} أن ابن عربي المالكي قال:(26/76)
العبادة هي موافقة القضاء والقدر، وابن عباس يقول: كفر الكافر تسبيح هذا رأيته بخط ابن نصر الله من أهل بلده "أي بلد بن منصور" في كلامه على التوحيد نقلا عن الدرر السنية في الأجوبة النجدية ج9 ص 333 إذا عرف هذا فإنه يجب إتلاف شرح ابن منصور المذكور فضلا عن طبعه ونشره.
1 يعني بذلك والده العلامة الشيخ عبد الرحمن بن حسن ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب.
ص -77-
فقيهاً أصولياً ويقرض الشعر، له قصيدة طويلة تبلغ أبياتها ثلاثة وتسعين بيتاً رد بها على قصيدة البولاقي المصري التي عارض فيها منظومة الأمير محمد بن إسماعيل الصنعاني في مديحه لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وخلط فيها زيادة على ذلك بين البدع في العبادات والبدع في العادات فتصدى له الشيخ عبد اللطيف ورد عليه بهذه القصيدة التي أشرنا إلى عدد أبياتها وهذا مطلعها:
تبسم وجه النصر في طالع السعد
وأشرق نور الحق في كوكب الرشد
وأيد نظم للأمير محمد
فأدبر نحس للطوالع بالسعد
وولى على الأعقاب أفجر عائب
يرى نفسه جهلا أشد من الأسد
جهول ببولاق المعرة جهله
صريح ينادي بالتهافت في العقد
إلى آخرها وهي طويلة تبلغ أبياتها كما ذكرنا ثلاثة وتسعين بيتا.
ورد على قصيدة عثمان بن منصور الناصري التي هجا فيها شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وأحفاده وامتدح فيها طاغية العراق وداعية الكفر والضلال داود بن سليمان بن جرجيس البغدادي فرد عليه الشيخ بهذه القصيدة التالية:
على وجهها المرسوم بالشؤم والغدر
شمائل زيغ لا تزال مدى الدهر
لئن سودتها كف باغ وغادر
فأقلامنا بالرد أنهارها تجري
رسالة مختال تجر ذيولها
إلى مهمة قفر من العلم والذكر
هدية عثمان إلى شر صاحب
إلى الجسر من بغداد بالود واليسر
مؤيده حزب الضلال وشيعة
إلى درك النيران أعمالها تسري
بها من صريح الافك أخبث مورد
وإن ظنها الجهال من خالص التبر
رأيت بها ما يستباح بمثله(26/77)
على ناظم سل المهند والسمر
فتعسا لها منظومة ما أضلها
وأبعدها عن منهج الرشد والبر
أيوصف بالسادات يا عابد الهوى
دعاة إلى باب الجحيم وما تدري
ص -78-
فما أحوج الإنسان في أمر دينه
إلى ناصح والصمت أجدر بالحر
أترضى بأن يدعى حسين وخالد
وزيد وما يدعى مع الله في العسر
وتنصر قوما يعدلون بربهم
مجاهرة في كل بر وفي بحر
ترى كل موتور ينادي وليجة
ويسأل ما لا يستطاع من الأمر
يرون صوابا من سفاهة رأيهم
مناشدة الأموات من ساكني القبر
اذا شب حرب لا ينادي وليدها
ودارت على كره بقاصمة الظهر
وفر على أعقابه كل فارس
وضاقت بها في حجرها ربة الخدر
وان غشيهم موج من اليم زاخر
وجاشت على علاتها أنة الصدر
فما يرتجي في كشف ذاك وحله
سوى مشهد بالطف في ساحة القصر
وما تربة الجيلي الا مناتهم
ومعقلهم في كل كرب وفي يسر
ينادونه سرا على بعد داره
أغثنا أغثنا بالإجابة والنصر
ويرجونه في كل أمر وحادث
على أنه كنز المواهب والذخر
وإخوانهم في الغي أضحى مقيلهم
ومجمعهم عند المشاهد في مصر
بدف ومزمار ونغمة شادن
مع الرقص بالأرداف في الصحو والسكر
وان شئت أصل الدين تلقاه عندهم
لأربابهم تحت الصفائح والصخر
دعاء وذبح واستغاثة عابد
واخبات ذي فقر وإلحاح ذي عسر
وفي كل مصر مثل مصر وما الذي
ذكرت بأعلى ما لدى القوم من كفر
أما جعلوا أمر التصاريف ينتهي
إلى سبعة جحدا لما خط في الذكر
وهذا لعمري في الضلالة غاية
ومن دونه قول المثلث ذي الكفر
فأين خطاب الأنبياء لقومهم
وما قد جرى في معرض الأمر والنذر
وأين تقارير الجهابذة الألى
هم نقلوا نص الشريعة كالبدر
وأين إلى أين الذهاب وكلما
على ظهرها يأتيك بالخبر الخبر
حنانيك رب العرش من ان يغرني
كما غرهم ضرب من الزور والهذر
ص -79-
وأين تصانيف المذاهب والذي
تقرر في أبوابها واضح السطر(26/78)
يعدون كفرا دون ذا ولديهم
من الله برهان يلوح بلا نكر
على الرغم من أنف المكارم والعلا
هجاء إمام الدين نادرة العصر
قيل ويحه ان لم تباشره رحمة
وعفو وإلا فالمصير إلى "سقر"
تراه أهل الحق أضحى معادياً
على غير ذنب أحدثوه ولا غدر
سوى منهج قد أوضحوه وقرروا
أدلته بالنص والسنن الغر
وقولهم للخلق نصحا ورحمة
أنيبوا إلى رب السماوات بالشكر
ولا تعبدوا غير المهيمن انه
مليك جليل قد تفرد بالأمر
فان كان هذا عنده الزيغ والهوى
ودين فريق النهرواني والجسر
فما صدقت تلك الدعاوي وعودها
وقد خاب مسعاها فواضيعة العمر
على هضاب الشعب من أيمن الحمى
سلام مشوق لا على جانب الجسر
كروض كساه الوبل وشياً ملونا
يباكره سحا وأمطاره تجري
ترى جنبات القاع في ضل نبته
يروحها نفح الشمال اذا تسري
كأن مرور الريح من فوق زهره
صرير سهام نبلها أبدا يفري
ففي سفحها والشعب أشار1 عالم
أضاءت له الدنيا بكوكبها الدري
وقد كان منهاج الشريعة طامسا
وأعلام أصل الدين في نوبة الحر
فجرد عزما لا يضاهي بمثله
وقام قيام الليث في عزمة الصقر
فزالت بهذا الشيخ عنها غياهب
وعادت كما قد كان في سالف العصر
تجر به نجد ذيول افتخارها
إلى منهل صاف من الشرك والكفر
عليه من المولى الكريم تحية
يباشره روح الرياحين بالزهر
وخير صلاة الله ثم سلامه
على سيد السادات خاتمة الشعر
__________
1 يريد به الشيخ محمد بن عبد الوهاب حيث قبره هناك بشعب "قريوى" بمدينة الدرعية رحمه الله.
ص -80-(26/79)
وقد عاش رحمه الله بعد وفاة الإمام فيصل حقبة مقدارها إحدى عشرة سنة كانت مملوءة بالحروب والفتن بسبب النزاع والخلاف القائم بين أميرين من أمراء آل سعود هما الإمام عبد الله بن فيصل وأخوه الأمير سعود بن فيصل، وقد وقف الشيخ رحمه الله في هذه الحروب والفتن العمياء التي عصفت بنجد في ذلك الزمن مواقف خالدة، تشهد له بالزعامة والإخلاص والنصح لله ولرسوله وعباده المؤمنين وتشهد له أيضاً بالوطنية الصادقة والغيرة المتناهية عللا حرمات الإسلام والمسلمين والوقوف دون استباحة أموالهم وانتهاك أعراضهم في تلك الحروب التي اندلعت نيرانها بين ذينك الأميرين المذكورين وموافقة هذه تضمنتها رسائله بمطابع المنار بمصر ومطبعة أم القرى1 بمكة ضمن الرسائل والمسائل النجدية فمن أراد الوقوف عليها فليراجعها في محلها من الرسائل والمسائل النجدية.
وحسبنا أن نورد منها هذه الرسالة وهي الرسالة الحادية عشرة من رسائله الواقعة في صحيفة 69 من الجزء الثاني من الرسائل والمسائل النجدية التي طبعت بمطابع المنار بمصر وهي تعطينا صورة واضحة عن بعض مواقفه في تلك الحروب والفتن، قال رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخوين المكرمين زيد بن محمد وصالح بن محمد الشثري سلمهما الله تعالى. . السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد، فأحمد أليكما الله الذي لا إله إلا هو على نعمه والخط وصل أوصلكما الله إلى ما يرضيه وما ذكرتماه كان معلوما وموجب تحريره ما بلغني عنكما بعد قدوم
__________
1 وطبعت أخيرا على نفقة صاحب الجلالة إمام المسلمين فيصل بن عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود باسم الدرر السنية والأجوبة النجدية في بيروت بواسطة دار الإفتاء وهي توزع مجاناً على أهل العلم والمعرفة والأدب.
ص -81-(26/80)
عبد الله1 وغزوه من أهل الفرع2 وما جرى لديكم من الخوض في أمرنا والمراء والغيبة وإن كان قد بلغني مع ما ذكر تفاصيل ما ظننتها.
فأما ما صدر في حقي من الغيبة والقدح والاعتراض والمسبة ونسبتي إلى الهوى والعصبية فتلك أعراض انتهكت في ذات الله أعدها لديه جل وعلا ليوم فقري وفاقتي وليس الكلام فيها وإنما القصد بيان ما أشكل على الخواص والمنتسبين من طريقتي في هذه الفتنة العمياء الصماء فأول ذلك مفارقة سعود3 لجماعة المسلمين وخروجه على أخيه4 وقد صدر منا الرد عليه وتسفيه رأيه ونصيحة ولد5 عايض وأمثاله من الرؤساء عن متابعته والإصغاء أليه ونصرته وذكرناه ما ورد من الآيات القرآنية والآثار النبوية بتحريم ما فعل والتغليظ على من نصره ولم نزل على ذلك إلى أن حصلت وقعة جودة6 فثل عرش الولاية وانتثر نظامها وحبس محمد7 بن فيصل وخرج الأمام عبد الله شارداً وفارقه أقاربه
__________
1 هو الإمام عبد الله بن فيصل بن تركي.
2 المراد بالفرع هنا قرى تقع جنوب الرياض منها الحوطة والحريق ونعام والحلوة والقويع والعطيان والصدر وهناك بقرب المدينة المنورة موضع من ديار حرب يسمى الفرع وهذا مما اتفق لفظاً واختلف صقعاً كما يقولون.
3 هو سعود بن فيصل.
4يعني بقوله أخيه عبد الله بن فيصل أخا سعود بن فيصل.
5 ولد عايض هو محمد بن عايض بن مرعي حاكم عسير في ذلك الوقت وقبل آل سعود.
6 جودة ماء يسمى بهذا الاسم يقع شمال الاحساء حصلت فيه مقتلة عظيمة بين سعود بن فيصل وأخيه محمد بن فيصل وفي هذا العهد الزاهر صارت جودة قرية يسكنها العجمان.
7 وكان محمد بن فيصل يقود حملة من المقاتلة بعثهما معه أخوه عبد الله بن فيصل لقتال أخيه سعود بن فيصل فحصلت الهزيمة على محمد بن فيصل وأسره أخوه سعود بن فيصل وأرسله إلى سجن القطيف وذلك في عاشر رمضان سنة 1287هـ وبعد هذه الوقعة المشؤومة استنصر عبد الله بن فيصل بالدولة(26/81)
العثمانية فأرسل إلى مدحت باشا يطلب العون منه على أخيه سعود فكان عبد الله كما قيل:
والمستجير بعمرو عند كربته
كالمستجير من الرمضاء بالنار
ص -82-
وأنصاره.وعند وداعه أوصيته بالاعتصام بالله وطلب النصر منه وحده وعدم الركون إلى الدولة الخاسرة1 ثم قدم علينا سعود من معه من العجمان والدواسر وأهل الفرع وأهل الحريق وأهل الأفلاج وأهل الوادي 2ونحن في قلة وضعف وليس في بلدنا3 من يبلغ الأربعين مقاتلا وخرجت إليه وبذلت جهدي ودافعت عن المسلمين ما استطعت خشية استباحته البلدة، ومعه من الأشرار وفجار القرى من يحثه على ذلك ويتفوه بتكفير بعض رؤساء بلدتنا وبعض الأعراب يطلقه بانتسابهم إلى عبد الله 4بن فيصل.
فوقى الله شر تلك الفتنة ولطف بنا ودخلها بعد صلح وعقد وما جرى من المظالم والنكث شيء دون ما كنا نتوقعه، وليس الكلام بصدده وإنما الكلام في بيان ما نراه ونعتقده وصارت له ولاية بالغلبة والقهر تنفذ بها أحكامه وتجب طاعته في المعروف كما عليه كافة أهل العلم على تقادم الاعصار ومر الدهور وما قيل من تكفيره لم يثبت لدي فسرت على آثار أهل العلم واقتديت بهم في الطاعة في المعروف وترك الفتنة وما توجب من الفساد على الدين والدنيا والله يعلم أني بار راشد في ذلك ومن أشكل عليه من ذلك فليراجع كتب الإجماع كمصنف ابن حزم ومصنف ابن هبيرة وما ذكره الحنابلة وغيرهم وما ظننت أن هذا يخفى على من له أدنى تحصيل وممارسة وقد قيل: سلطان ظلوم خير من فتنة تدوم.
__________
1 الدولة الخاسرة يعني بها الدولة العثمانية.
2 يعني بهم أهل وادي الدواسر.
3 وليس في بلدنا يعني في بلدة الرياض.
4 لان عبد الله بن فيصل استنصر بالدولة العثمانية فاستغل أعداؤه الموالون لأخيه سعود هذه الغلطة والزلة فكفروه بها وكفروا أنصاره على سبيل التسلسل والتبعية وذلك كله أغراض سياسية حربية فالإمام عبد الله ابن الإمام(26/82)
فيصل معروف تمسكه بشرائع الدين والإسلام ومعروف بغضه وكراهيته لأعداء الإسلام وقد جوز له هذه الاستعانة وافتاه بها رجل من علماء وقته رد عليه العلامة الشيخ عبد اللطيف في عدة رسائل.
ص -83-
وأما الإمام عبد الله ابن فيصل فقد نصحت له كما تقدم أشد النصح وبعد مجيئه لما أخرج شيعة عبد الله سعودا وقدم من الإحساء ذاكرته في النصيحة وتذكيره بآيات الله وحقه ويثار مرضاته والتباعد عن أعدائه وأعداء دينه أهل التعطيل والشرك والكفر البواح واظهر1 التوبة والندم، واضمحل أمر سعود وصار مع شرذمة من البادية حول آل مرة والعجمان وصار لعبد الله غلبة ثبتت بها ولايته على ما قرره الحنابلة وغيرهم، كما تقدم أن عليه عمل الناس من أعصار متطاولة ثم ابتلينا بسعود 2وقدم علينا مرة ثانية وجرى ما بلغكم من الهزيمة3 على عبد الله وجنده ومر بالبلدة منهزماً لا يلوي على أحد وخشيت من البادية وعجلت إلى سعود كتاباً في طلب الأمان لأهل البلدة وكف البادية عنهم وباشرت بنفسي مدافعة الأعراب مع شرذمة قليلة من أهل البلد ابتغاء ثواب الله ومرضاته.
فدخل سعود البلد وتوجه عبد الله إلى الشمال وصارت الغلبة لسعود والحكم يدور وع علته، وأما بعد وفاة سعود4 فقدم الغزاة ومن معهم من الأعراب العتاة والحضر الطغاة فخشينا الاختلاف وسفك الدماء وقطيعة الأرحام بين حمولة آل مقرن5 مع غيبة عبد الله6 وتعذرت مبايعته بل ومكاتبته ومن
__________
1 وأظهر التوبة والندم يعني على ما صدر من استجلابه الدولة العثمانية واستنصاره بها على أخيه سعود.
2 يعني به سعود بن فيصل.
3 يشير إلى ما حصل على عبد الله بن فيصل من الهزيمة في وقعة الجزعة والجزعة مكان يقع بالقرب من مدينة الرياض جنوباً وقد هزم سعود أخاه عبد الله فتقهقر عبد الله ودخل بلدة الرياض منهزماً ثم غادرها هاربا إلى جهة الكويت وقصد بادية قحطان المقيمة على الصبيحية وأقام عندهم(26/83)
فدخل سعود الفيصل بلدة الرياض بعدما عجل له الشيخ عبد اللطيف كتاباً يطلب فيه الأمان لأهل بلدة الرياض.
4 هو سعود بن فيصل توفي في ثامن عشر من ذي الحجة سنة 1291ه .
5 آل مقرن هم آل سعود وإنما نسبهم الشيخ إلى جدهم مقرن والد محمد وهو مقرن بن مرخان بن إبراهيم بن موسى بن ربيعة بن مانع بن ربيعة المريدي العنزي.
6 هو عبد الله بن فيصل.
ص -84-
ذكره يخشى على نفسه وما له أفيحسن أن يترك المسلمون وضعفاؤهم سببا للأعراب والفجار وقد تحدثوا بنهب الرياض قبل البيعة وقد رامها غير عبد الرحمن 1ولا يمكن ممانعتهم ومراجعتهم ومن توهم أني وأمثالي استطيع دفع ذلك عقلا وتصورا ومن عرف قواعد الدين وأصول الفقه وما يطلب من تحصيل المصالح ودفع المفاسد لم يشكل عليه شيء من هذا، وليس الخطاب مع الجهلة والغوغاء إنما الخطاب معكم معاشر القضاة والمفاتي المتصدين لإفادة الناس وحماية الشريعة المحمدية، وبهذا ثبت بيعته وصار من ينتظر غائبا لا تصلح به المصالح فيه شبه ممن يقول بوجوب طاعة المنتظر وأنه لا إمامة إلا به ثم ان حمولة آل سعود2 صارت بينهم شحناء وعدواة، والكل يرى له الأولوية بالولاية وصرنا نتوقع كل يوم فتنة وكل ساعة محنة فلطف الله بنا وخرج ابن جلوي3 من البلدة وقتل ابن صنيتان4 وصار لي إقدام على محاولة عبد الرحمن5 في الصلح وترك الولاية لأخيه عبد الله فلم آل جهدي في تحصيل ذلك والمشورة عليه مع أني قد أكثرت في ذلك حين ولايته ولم أزل أكرر عليه في ذلك يوماً فيوماً حتى يسر الله قبل قدوم عبد الله6 بنحو أربعة أيام أنه وافق على تقديم عبد الله وعزل نفسه ورأى الحق له وانه أولى منه لكبر سنه وقدم إمامته فلما
__________
1 هو الإمام عبد الرحمن بن فيصل وقد بايعه الشيخ عبد اللطيف لعدم حضور عبد الله بن فيصل وبعده عن البلد وذلك بعد وفاة أخيه سعود بن فيصل.
2 الحمولة بلغة أهل نجد الاصطلاحية هي(26/84)
العشيرة.
3 هو سعود بن جلوي بن تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود له اليوم حفيد اسمه فهد بن مشاري بن سعود بن جلوي .
4 هو فهد بن عبد الله بن ا برا هيم بن عبد الله محمد بن سعود وصنيتان لقب غلب على والده عبد الله والذي قتل ابن صنيتان هو محمد بن سعود بن فيصل . وقد انقرض آل صنيتان ولم يبق لهم عقب.
5 هو الإمام عبد الرحمن بن فيصل والد الملك عبد العزيز وسبق أن ذكرنا ان الشيخ عبد اللطيف أعطاه البيعة لعدم حضور أخيه الأكبر عبد الله ثم سعى إليه في التنازل لأخيه.
6 هو الأمام عبد الله بن فيصل.
ص -85-(26/85)
نزل الإمام عبد الله بساحتنا اجتهدت إلى ان محمد بن فيصل يظهر إلى أخيه ويأتي بأمان لعبد الرحمن1 وذويه وأهل البلد وسعيت في فتح الباب واجتهدت في ذلك ومع ذلك كله لما خرجت للسلام عليه فإذا أهل الفرع وجهلة البوادي ومن معهم من المنافقين يستأذنونه في نهب نخيلنا وأموالنا ورأيت معه بعض التغير والعبوس ومن عامل الله ما فقد شيئا ومن ضيع الله ما وجد شيئا ولكنه بعد ذلك اظهر الكرامة ولين الجانب وزعم أن الناس قالوا ونقلوا وبئس مطية الرجل زعموا وتحقق عندي دعواه التوبة وأظهر2 لدي الاستغفار والندم، وبايعته على كتاب الله وسنة رسوله، هذا مختصر القضية ولولا أنكم من طلبة العلم والممارسين الذين يكتفون بالإشارة وأصول المسائل لكتبت رسالة مبسوطة ونقلت من نصوص أهل العلم وإجماعهم ما يكشف الغمة ويزيل اللبسة ومن بقي عليه إشكال فليرشدنا رحمه الله ولم أنكم أرسلتم بما عندكم مما يقرر هذا أو يخالفه وصارت المذاكرة لانكشف الأمر من أول وهلة ولكنكم صممتم على رأيكم وترك النصيحة من كان عنده علم واغتر الجاهل ولم يعرف ما يدين الله به في هذه القضية وتكلم بغير علم ووقع اللبس والخلط والمراء والاعتداء في دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم وهذا بسبب سكوت الفقيه وعدم البحث واستغناء الجاهل بجهله واستقلاله بنفسه.
__________
1 هو الإمام عبد الرحمن بن فيصل وقد سعى الشيخ عبد اللطيف في أخذ الأمان له من أخيه عبد الله.
2 وقوله: واظهر الاستغفار والندم، يريد بذلك الإمام عبد الله بن فيصل وسبب استغفاره وندمه وتوبته انه استعان بالدولة العثمانية على قتال أخيه سعود ابن فيصل وهذا لا يجوز لأنه حرام في الشرع الاستعانة بالمشرك على قتال المسلم ومعلوم ان الدولة العثمانية كانت وثنية تدين بالشرك والبدع وتحميها وتقاتل من وحد الله ودعا إلى إفراده بالعبادة. كما جرى لأهل هذه الدعوة السلفية معهم من الوقائع والحروب(26/86)
وما نقم العثمانيون من أهل هذه الدعوة السلفية أنهم آمنوا بالله ورسوله ودعوا إلى إفراد الله جل وعلا بالعبادة ودعوا إلى طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فيما أمر واجتناب ما نهى عنه وزجر، وان لا يعبد الله سبحانه وتعالى إلا بما شرع لا بالأهواء والبدع {ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}.
ص -86-
وبالجملة فهذا الذي نعتقده وندين الله به، والمسترشد يذاكر ويبحث والظالم والمعتدي حسابنا وحسابه على الله الذي عنده تنكشف السرائر وتظهر مخبآت الصدور والضمائر يوم يبعثر ما في القبور ويحصل ما في الصدور، وأما ما ذكرتم من التنصل و البراءة مما نسب في حقي إليكم فالا مر سهل والجرح جبار ولا حرج ولا عار وأوصيكم بالصدق مع الله واستدراك ما فرطتم فيه من عدم الغلظة على المنافقين الذين فتحوا للبشر كل باب وركن إليهم كل منافق كذاب وتأملا قول الله تعالى بعد نهيه عن موالاة الكافرين {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته آخر هذه الرسالة السياسية. وله قصيدتان صور فيهما تلك الفتن الهوجاء والحروب الطاحنة أروع تصوير.
احدهما نونية ومطلعها:
دع عنك ذكر منازل ومغاني
وبدور أنس قد بدت وغواني
والأخرى رائية جواب لأبيات وردت عليه من عبد الرحمن بن عبد الله بن طوق نزيل الإحساء. ونحن نورد قصيدة ابن طوق1 ونورد جواب الشيخ عبد اللطيف عليها ليعرف القارئ مدى هذه النعمة العظيمة التي نعيشها في هذا العهد الزاهر وهي نعمة جمع الكلمة ووحدة الصف والأمن الشامل والرخاء والاستقرار فيزداد شكراً لله سبحانه على هذه النعم العديدة التي ننعم بها في ظل أمام المسلمين جلالة الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود:
قال ابن طوق:(26/87)
رسائل شوق دائم متواتر
إلى فرع شمس الدين بدر المنابر
سلالة مجد من كرام عشائر
يعيد بديعا من كنوز المحابر
__________
1 آل طوق من أهل الدرعية، نزحوا إلى الإحساء بعد خراب الدرعية، ولم يرجع منهم أحد إليها.
ص -87-
مدارس وحي شرفت بأكابر
على ملة بيضاء تبدو لسائر
سقى عهدكم عهد الشريعة والتقى
وتعظيم دين الله أزكى الشعائر
فيا راكباً بلغ سلامي وتحفة
تعزيه فيما قد مضى في العشائر
وأعظم من ذا يا خليلي كتائب
تهدم من ربع الهدى كل عامر
ويبدو بها التعطيل والكفر والزنا
ويعلو من التأذين صوت المزامر
فقد سامنا الأعداء في كل خطة
واصل من الإسلام سوم المقامر
أناخ لدينا للضلالة شيعة
أباحوا حمى التوحيد من كل فاجر
وقابلهم بالسهل والرحب عصبة
على أمة التوحيد أخبث ثائر
يقولون لكنا رضينا تقية
تعود على أموالنا والذخائر
فضحك ولهو واهتزاز وفرحة
وألوان مأكول ونشوة ساكر
مجالس كفر لا يعاد مريضها
يراح إليها في المسا والبواكر
ويرمون أهل الحق بالزيغ ويحهم
أما رهبوا سيفاً لسطوة قاهر
وأما رباع العلم فهي دوارس
تحن إلى أربابها والمذاكر
مصاب يكاد المستجير لفتية
ينادي بأعلى الصوت هل من مثابر
فجد لي برد منك تبرد لوعتي
ويحدى به في كل ركب وسامر
وتنصر خلا في هواك مباعد
ولولاك لم تبعث به أم عامر
فأكثر وأقلل مالها الدهر صاحب
سواك فقابل بالمنى والبشائر
فأجابه الشيخ عبد اللطيف بهذه الأبيات التالية التي استهلها بالحنين إلى أيام الإمام فيصل ابن الإمام تركي حيث الاستقرار والهدوء والطمأنينة ثم ذكر ما حصل بعد عهد الإمام فيصل من الحروب الطاحنة والفوضى الضاربة بسبب النزاع والاختلاف وذهاب الوحدة وتفرق الكلمة. فقال:
رسائل إخوان الصفا والعشائر
أتتك فقابل بالمنى والبشائر
تذكرنا أيام وصل تقادمت(26/88)
وعهداً مضى للطيبين الأطاهر
ليالي كانت للسعود مطالع
وطائرها في الدهر أيمن طائر
ص -88-
وكان بها ربع المسرة آهلا
تمتع في روض من العلم زاهر
وفيها الهداة العارفون بربهم
ذوو العلم والتحقيق أهل البصائر
محابرهم تعلو بها كل سنة
مطهرة أنعم بها من محابر
مناقبهم في كل مصر شهيرة
رسائلهم يغدو بها كل ماهر
وفيهم من الطلاب للعلم عصبة
اذا قيل من للشكلات البوادر
وهندية قد أحسن القين صقلها
مجربة يوم الوغى والتشاجر
ورومية خضراء قد ضم جوفها
من الجمر ما يفري صميم الضمائر
وكانت بهم تلك الديار منيعة
محصنة من كل خصم مغامر
غدت بهمو تلك الفتون وشتتو
فلست ترى إلا رسوماً لزائر
وحل بهم ما حل بالناس قبلهم
أكابر عرب أو ملوك الأكاسر
وبدلت منهم أوجها لا تسرني
قبائل يام أو شعوب الدواسر
يذكرنيهم كل وقت وساعة
عصائب هلكى من وليد وكابر
وأرملة تبكو بشجو حنينها
لها رنة بين الربى والمحاجر
وهذا زمان الصبر من لك بالتي
تفوز بها يوم اختلاف المصادر
ودارت على الإسلام اكبر فتننة
وسلت سيوف البغي من كل غادر
وذلت رقاب من رجال أعزة
وكانوا على الإسلام أهل تناصر
وأضحى بنو الإسلام في كل مأزق
تزورهمو غرثى السباع الضوامر
وهتك ستر للحرائر جهرة
بأيدي غواة من بواد وحاضر
وجاءوا من الفحشاء مالا يعده
لبيب ولا يحصيه نظم لشاعر
وبات الايامى في الشتاء سواغبا
يبكين أزواجا وخير العشائر
وجاءت غواش يشهد النص أنها
بما كسبت أيدي الغواة الغوادر
وجر زعيم القوم للحرب دولة
على ملة الإسلام فعل المكابر
ص -89-
ووازره في كل رأيه كل جاهل
يروح ويغدو آثما غير شاكر
وآخر يبتاع الضلالة بالهدى
ويختال في ثوب من الكبر وافر
وثالثهم لا يعبأ الدهر بالتي
تبيد من الإسلام عزم المذاكر
ولكنه يهوى ويعمل للهوى
ويصبح في بحر من الريب غامر(26/89)
وقد جاءهم فيما مضى خير ناصح
إمام هدى يبني رفيع المفاخر
وينقذهم من قعر ظلما مضلة
لسالكها حر اللظى والمساعر
ويخبرهم أن السلامة في التي
عليها خيار الصحب من كل شاكر
فلما أتاهم نصر ذي العرش واحتوى
أكابرهم كنز اللهى والذخائر
سعوا جهدهم في هدم ما قد بنى لهم
مشائخهم واستنصحوا كل داعر
وساروا لأهل الشرك واستسلموا لهم
وجاءوا بهم مع كل علج وفاجر
ومذ أرسلوها أرسلوها ذميمة
تهدم من ربع الهدى كل عامر
وباءوا من الخسران بالصفقة التي
يبوء بها في دهره كل خاسر
وصار لأهل الرفض والشرك صولة
وقام بهم سوق الردى والمناكر
وشتت شمل الدين وانبت حبله
وصار مضاعا بين شر العساكر1
واذن بالناقوس والطبل أهلها
ولم يرض بالتوحيد حزب المزامر
__________
1 يريد بذلك عساكر الدولة العثمانية الذين جاءوا مع قائدهم مدحت باشا وتغلبوا على مقاطعة الإحساء وقد شاء الله الذي لا مرد لمشيئته ولا غالب لإرادته أن يكون لعساكر الدولة العثمانية معاودات إلى الممالك السعودية مرة بعد مرة ولكن الله يقيض لهم في كل مرة من ولاة هذه الدعوة السلفية ملوك آل سعود الأشاوس من يرجعهم على أعقابهم خائبين ويخرجهم كل مرة منها صاغرين ففي المرة الأولى قيض الله لهم البطل الإمام تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود وأخرجهم من نجد قسرا سنة 1240ه وفي المرة الثانية قيض لهم صقر الجزيرة الغلاب الملك الراحل عبد العزيز بن عبد الرحمن فقاتلهم على البكيرية سنة 1322ه قتال الأبطال حتى فرق جمعهم ومزق شملهم وتفرقوا شذر مذر وهلك بقيتهم في الفيافي والقفار ولم يرجع منهم إلى بغداد عين تطرف ثم سار إليهم بعد ذلك في الإحساء سنة 1331ه فأخرجهم منها قسراً نسأل الله أن يديم للإسلام حماة وولاة هذه الدعوة السلفية ملوك آل سعود وان يديم عز أمام المسلمين جلالة الملك فيصل آل سعود ويطيل عمره انه سميع مجيب.(26/90)
ص -90-
وأصبح أهل الحق بين معاقب
وبين طريد في القبائل نافر
فقل للغوى المستجير بضلهم
ستحشر يوم الدين بين الأصاغر
ويكشف للمرتاب أي بضاعة
أضاع وهل ينجو مجير أم عامر
ويعلم يوم الجمع أي جناية
جناها وما يلقاه من مكر ماكر
فيا أمة ضلت سبيل نبيها
وآثاره يوم اقتحام الكبائر
يعز بكم دين الصليب وآله
وأنتم بهم ما بين راض وآمر
وتهجر آيات الهدى ومصاحف
ويحكم بالقانون وسط الدسائر
هوت بكم نحو الجحيم هوادة
ولذات عيش ناعم غير شاكر
سيبدو لكم من مالك الملك غير ما
تظنون ان لاقى مزير المقابر
يقول لكم ماذا فعلتم بأمة
على ناهج مثل النجوم الزواهر
سللتم سيوف البغي فيهم وعطلت
مساجدكم من كل داع وذاكر
وواليتمو أهل الجحيم سفاهة
وكنتم بدين الله أول كافر
نسيتم لنا عهدا أتاكم رسولنا
به صارخاً فوق الذرى والمنابر
فسل ساكن الإحساء هل أنت مؤمن
بهذا وما يحوي صحيح الدفاتر
وهل نافع للمجرمين اعتذارهم
اذا دار يوم الجمع سوء الدوائر
فقال الشقي المفتري كنت كارها
ضعيفاً مضاعاً بين تلك العساكر
أماني نلقاها لكل متبر
حقيقتها نبذ الهدى والشعائر
تعود سرابا بعد ما كان لامعا
لكل جهول في المهامة حائر
فان شئت أن تحضى بكل فضيلة
وتظهر في ثوب من المجد باهر
وتدنو من الجبار جل جلاله
إلى غاية فوق العلى والمظاهر
فهاجر إلى رب البرية طالبا
رضاه وراغم بالهدى كل جائر
وجانب سبيل العادلين بربهم
ذوي الشرك والتعطيل مع كل غادر
وبادر إلى رفع الشكاية ضارعا
إلى كاشف البلوى عليم السرائر
ولا تيأسن من صنع ربك انه
مجيب وان الله أقرب ناصر
ص -91-
ألم تر أن الله يسدي بلطفه
ويعقب بعد العسر يسراً لصابر
وان الديار الهامدات يمدها
بوبل من الوسمي هام وماطر
فتصبح في رغد من العيش ناعم
وتهتز في ثوب من الحسن فاخر(26/91)
آخر هذه المنظومة التي صورت لنا تلك الفتن والحروب تصويرا رائعاً، فرحم الله ناظمها العلامة الشيخ عبد اللطيف ابن الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب.
حيث عاش بعد وفاة الإمام فيصل ابن تركي عام 1282ه حقبة مقدارها إحدى عشرة سنة مملوءة بالفتن والحروب إلى أن توفي في الرابع عشر من شهر القعدة سنة 1293 ه ألف ومائتين وثلاث وتسعين من الهجرة عن ثمانية وستين1 عاماً قضى معظمها في تحصيل العلو ونشره، ثم في الكفاح الدائب والنضال المتواصل عن عقيدة الإسلام والدين والذود عن حياض المسلمين وحرماتهم والوقوف دون استباحة أموالهم وانتهاك أعراضهم في تلك الفتن2 العمياء التي حصلت في هذه الجزيرة اثر وفاة الإمام فبصل ابن الإمام تركي -رحمه الله- وقد رثاه الشيخ سليمان بن سحمان والشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن طوق من علماء الاحساء ورثاه غيرهما خلق كثير.
__________
1 هذه الثمانية والستون عاما التي عاشها الشيخ عبد اللطيف، في الدرعية وإحدى وثلاثون سنة بمصر وتسع وعشرون سنة قضاها في الرياض بنجد آخرها حروب وفتن.
2 ظلت هذه الفتن التي حصلت بعد وفاة الإمام فيصل ابن الأمام تركي سنة 1282 ه تعصف بهذه الجزيرة وأصبحت هذه الجزيرة مرتعاً للفوضى وسفك الدماء ومسرحاً للخلافات القبلية والحروب الأهلية إلى ان شاء الله لها الخير بظهور الملك الراحل عبد العزيز بن عبد الرحمن بن الإمام فيصل آل سعود واستيلائه على مدينة الرياض سنة 1319 ه، فوحد بعد جهاد طويل وكفاح عظيم أجزاء هذه الجزيرة وكون منها هذه المملكة العظيمة المترامية الأطراف التي تنعم اليوم في ظل خلفه الرائد العظيم إمام المسلمين الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود بنعمة الأمن والدين والرخاء والازدهار والاستقرار والتقدم العظيم الشامل لجميع النواحي والميادين أيد الله ملكه وأطال عمره وأدام عزه انه سميع مجيب.
ص -92-(26/92)
وخلف ثمانية أبناء هم: أحمد، والشيخ العلامة عبد الله، وعبد العزيز، والشيخ إبراهيم، والشيخ محمد، والشيخ عمر، وصالح، والشيخ عبد الرحمن.
فأما أحمد فإنه ولد له بمصر ولما أراد والده الشيخ عبد اللطيف الخروج من مصر إلى نجد سنة 1264ه أبي أحمد الخروج معه وبقي بمصر إلى أن توفي بها ولا يعرف له ذرية بها، وقد أورد اسمه مختصر تاريخ عثمان بن سند النجدي البصري، تاريخ مطالع السعود.
وأما السبعة الباقون فإنهم ولدوا للشيخ عبد اللطيف1 بمدينة الرياض ونشأوا بها وتعلموا العلم بها وتوفوا بها -رحمهم الله-، وقد خلف كل واحد من هؤلاء الأبناء السبعة المذكورين ذرية كثيرة موجودين بمدينة الرياض يعرفون عند انفرادهم بآل عبد اللطيف نسبة إلى جدهم المترجم الشيخ عبد اللطيف وأشهرهم علامة نجد في حياته الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي الديار السعودية ورئيس قضاتها قبل وفاته –رحمه الله، وأشهرهم اليوم شقيقة الشيخ عبد الملك بن إبراهيم ابن الشيخ عبد اللطيف رئيس هيئات الأمر بالمعروف بالمنطقة الغربية –رحم الله- المترجم الشيخ عبد اللطيف2 ابن الشيخ عبد
__________
1 سوى أكبرهم العلامة الشيخ عبد الله فانه ولد بالإحساء كما سنذكره في ترجمته ان شاء الله تعالى.
2 ترجم للعلامة الشيخ عبد اللطيف الشيخ إبراهيم بن صالح في كتابه عقد الدرر ترجمة وافية وترجم له خير الدين الزركلي في الجزء الرابع من كتابه الأعلام، وورد له ذكر في جميع كتب السياح الذين جاءوا إلى مدينة الرياض متنكرين في زمن الإمام فيصل ابن الإمام تركي وابنه الإمام عبد الله مثل بلجريف الرحالة وغيره.
وبلغني ان للعلامة المترجم الشيخ عبد اللطيف ترجمة مقررة على طلاب المعاهد والكليات المربوطة بسماحة الشيخ محمد بن الشيخ إبراهيم رحمه الله ولم يقدر لي الوقوف والاطلاع على هذه الترجمة المذكورة فرحم الله الشيخ عبد اللطيف فحياته متعددة الجوانب وحافلة(26/93)
بجلائل الأعمال تحتاج إلى كتاب قائم بنفسه.
ص -93-
الرحمن، فمثل هذه الترجمة الموجزة لا تفي بجميع مآثره لأن حياته حافلة نجلائل الأعمال ومتعددة النواحي والجوانب تحتاج إلى مؤلف ضخم قائم بنفسه يتحدث عنها بتبسيط وإسهاب.
غفر الله له وأسكنه فسيح جنته وبارك في خلقه وأحفاده انه سميع مجيب، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
ص -94-
الشيخ إسحاق
هو الشيخ إسحاق ابن الشيخ عبد الرحمن بن حسن ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، ولد بمدينة الرياض سنة 1276ه ونشأ بها وأخذ العلم عن أخيه العلامة الشيخ عبد اللطيف ابن الشيخ عبد الرحمن، وعن ابن أخيه الشيخ عبد الله ابن الشيخ عبد الله ابن الشيخ عبد اللطيف ابن الشيخ عبد الرحمن بن حسن والشيخ عبد الله بن حسين المخضوب والشيخ بن محمود ورحل إلى مصر وجاور بمكة.
ورحل إلى الهند سنة 1309هـ وأخذ عن الشيخ حسين وغيره من علماء الهند، وأخذ عنه العلم فالح بن صغير والشيخ عبد الله السياري والشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الوهاب الشمري والشيخ سالم الحناكي وله رد على المدعو أمين بن حنش وله الجوابات السمعية في الرد على الأسئلة الروافيه. توفي في التاسع والعشرين من شهر رجب سنة 1319هـ بمدينة الرياض وخلف ابنين هما الشيخ عبد الرحمن1 ومحمد وقد توفي محمد بعده بسنوات –رحمهم الله- وغفر لهم.
__________
1 عبد الرحمن ابن المترجم الشيخ إسحاق من المعمرين حيث يبلغ الآن واحدا وتسعين عاماً حيث ولد سنة 1399هـ وله أبناء وأحفاد.
ص -95-(26/94)
الشيخ عبد العزيز بن محمد
هو الشيخ عبد العزيز بن محمد ابن الشيخ علي ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب.ولد بمدينة الرياض ونشأ بها وقرأ القرآن ثم شرع في قراءة العلم على الشيخ عبد الرحمن بن حسن ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وعلى ابنه الشيخ عبد اللطيف.
تولى القضاء في إقليم سدير بنجد لمحمد بن عبد الله بن رشيد أيام تغلبه على نجد ثم نقله إلى قضاء مدينة الرياض.
توفي عام 1319هـ وقد أنجب ستة أبناء وهم: عبد الله1 بن عبد العزيز وعلي2 بن عبد العزيز وإبراهيم3 بن عبد العزيز، ومحمد4 بن عبد العزيز، وصالح بن عبد العزيز، وعبد الرحمن5 بن عبد العزيز،
وله اليوم أحفاد يعرفون مع أحفاد أخيه عبد الرحمن بن محمد بن الشيخ علي بآل محمد نسبة إلى والدهم المترجم محمد ابن الشيخ علي ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب،-رحم الله الجميع وغفر لهم-.
__________
1 عبد الله بن عبد العزيز هو الجد الأدنى لعبد الرحمن بن سليمان بن عبد الله وزير الزراعة سابقا ومدير بنك الرياض حاضراً.
2 علي بن عبدالعزيز هو والد كل من عبد الرحمن بن علي وسليمان بن علي، وعبد الله بن علي المتوفي ، وقد توفي عبد الرحمن بن علي سنة 1391 رحمه الله.
3 إبراهيم بن عبد العزيز هو والد كل من عبد الله بن إبراهيم بن عبد العزيز ومحمد بن إبراهيم بن عبد العزيز وعبد العزيز بن إبراهيم بن عبد العزيز.
4 محمد هو والد صالح بن محمد المتوفي قريباً في 23 صفر سنة 1389هـ.
5 عبد الرحمن بن عبد العزيز هو رئيس هيئة الطائف في الوقت الحاضر وله عدة أبناء لا يحضرني عددهم.
ص -96-(26/95)
الشيخ إبراهيم ابن الشيخ عبد اللطيف
هو العالم الذكي الورع التقي الشيخ إبراهيم ابن الشيخ عبد اللطيف ابن الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب.
مولده:
ولد بمدينة الرياض سنة 1280هـ ونشأ بها وقرأ القرآن نظرا وعن ظهر قلب ثم شرع في قراءة العلم على أخيه الشيخ عبد الله ابن الشيخ عبد اللطيف، والشيخ حمد بن فارس، والشيخ محمد بن محمود.
ثم ولي قضاء مدينة الرياض في أول عهد الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل آل سعود سنة 1321هـ واستمر فيه طيلة حياته –رحمه الله- وكان إلى جانب قيامه بالقضاء يجلس للتعليم فأخذ عنه العلم عدد غير قليل نذكر منهم في هذه الترجمة الموجزة من يأتي:
تلامذته:
1. الشيخ إبراهيم بن حسين.
2. الشيخ عبد الرحمن بن داود قاضي الخرمة في حياة خالد بن لؤي.
3. الشيخ عبد الله بن حمد الدوسري.
4. الشيخ إبراهيم بن حسين بن فرج.
5. الشيخ سعد بن سعود بن مفلح.
ص -97-
1. الشيخ عبد الرحمن بن سالم من أهل منفوحة.
مؤلفاته:
له رسائل وفتاوى وأجوبة على أسئلة علمية طبعت مفرقة في مجاميع الرسائل والمسائل النجدية.
وله منظومة رد بها على أحد المعارضين1 تبلغ أبياتها أربعة وتسعين بيتاً ومطلعها:
الحمد لله حمداً استزيد به
فضل الإله وأرجو منه رضوانا
وأستعين به في رد خاطئة
ًمن العراق أتت بغيا وعدوانا
وفاته:
توفي –رحمه الله- في الساعة السادسة ليلاً من شهر ذي الحجة سنة ألف وثلاثمائة وتسعة وعشرين من الهجرة ووجم الناس لموته وحزنوا عليه حزناً بالغاً ورثاه العلماء منهم الشيخ سليمان بن سحمان رثاه بقصيدة مطلعها:
على الجبر بحر العلم شمس الحقائق
نريق كصوب المدجنات الدواف
ورثاه الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري بقصيدة مطلعها:
إلى الله نشكو ما دهانا ونفزع
ونرخي أكفا للدعاء ونرفع(26/96)
خلف المترجم له الشيخ إبراهيم أربعة أبناء هم: عبد الله2 وسماحة الشيخ محمد والشيخ عبد اللطيف والشيخ عبد الملك وله اليوم أحفاد يعرفون على انفرادهم بآل إبراهيم نسبة إليه –رحم الله الشيخ إبراهيم ابن الشيخ عبد اللطيف فقد كان ورعاً تقياً متواضعاً عادلاً في أحكامه وصلى الله على محمد وآله وسلم.
__________
1 هو أمين بن حنش العراقي.
2 توفي عبد الله وكذلك سماحة الشيخ محمد وكذلك الشيخ عبد اللطيف رحم الله الجميع وغفر لهم وأطال عمر بقيتهم فضيلة الشيخ عبد الملك.
ملحوظة: ترجمنا في هذه الرسالة لسماحة الشيخ محمد ولأخيه الشيخ عبد اللطيف.
ص -98-(26/97)
الشيخ حسين1 ابن الشيخ حسن آل الشيخ
هو العالم الذكي الشيخ حسين ابن الشيخ حسن ابن الشيخ حسين ابن الشيخ علي ابن الشيخ حسين ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب.
مولده:
ولد بمدينة الرياض عام 1284 من الهجرة ونشأ في كنف والد الشيخ حسن نشأة دينية علمية: ولما بلغ السادسة من عمره أدخله مدرسة تحفيظ القرآن عند مقرئ يدعى عبد الرحمن بن مفيريج فختم القرآن نظراً ثم حفظه غيباً على والده الشيخ حسن وبعد ذلك شرع في قراءة العلم فقرأ على والده وعلى الشيخ العلامة عبد الله ابن الشيخ عبد اللطيف والشيخ محمد بن محمود والشيخ حمد بن فارس والشيخ عبد الله الخرجي.
مؤلفاته:
ألف مؤلفات منها شرح وضعه على متن الاجرومية وحاشية وضعها على متن ملحة الإعراب وألف مختصراً في الفقه غير ان هذه الآثار والمؤلفات فقدت وكان –يرحمه الله- شاعراً طويل النفس في الشعر له قصيدة تبلغ سبعين بيتاً رد بها على أمين بن حنش العراقي وقصيدة رائية تبلغ مائتي بيت رد بها على قصيدة يوسف النبهاني أملي علي أخوه العلامة الشيخ عمر ابن الشيخ حسن من
__________
1 قدمنا ترجمة الشيخ حسين ابن الشيخ حسن على ترجمة والده الشيخ حسن وفاء بما التزمناه في المقدمة من كون ترتيب التراجم على أقدمية الوفاة ووفاة الشيخ حسين تقدمت على وفاة والده الشيخ حسن –رحم الله الجميع.
ص -99-
حفظه قطعة منها وهي هذه الأبيات التالية:
لك الحمد حمداً لا أطيق له حصرا
واتبع حمد الله مني له الشكرا
وأسأله عونا على كل مبطل
ولا سيما الأعمى الذي أيد الكفرا
وذلك شامي لنبهان ينتمي
وما كان من أهل النباهة والذكرى
ولكنه قد كان وسنان تائها
كما ألف المخذول من قبله الشعرا
وأبدى مقالا كان أقوى دلالة
على فسقه طولاً على كفره طورا
تخير حرف الراء عجزا وإنما
يعدون حرف الراء ياذا لهم عيرا
وليس بكفء للجواب وانه(26/98)
لأدنى الورى طراً وقد أشبه الفأرا
ولكن خوفي من غبي يظننا
تركناه عجزا أو رضينا بما أجرى
أجبناه ردا كافيا في اختصاره
ونرجو اله الحق يمنحنا الأجرا
إلى أن قال:
وقولك: وهابية ضل سعيهم
فظنوا الردى خيرا وظنوا الهدى شرا
كذبت لعمر الله ما ضل سعيهم
ولكنه سعي الذي خالف الامرا
كمثلك مفتون يرى الشر ضده
ويحسب فعل الخير من جهله شرا
ومن دان بالتوحيد عندك كافر
ومن دان بالكفر ان نال بها الأجرا
نزح المترجم له الشيخ حسين إلى عمان1 عام 1325هـ وسكن جزيرة زعاب وأخذ في نشر الدعوة السلفية إلى أن توفي بجزيرة زعاب عام 1329هـ مخلفاً أبناء ماتوا بعده وليس له اليوم أبناء ولا أحفاد. وله أسباط2 هم عبد الله بن فهد بن فيصل بن فرحان آل سعود وأخوه عبد العزيز ومحمد وله سبط رابع هو عبد الرحمن بن موسى بن عبد الله بن مرشد –يرحم الله- المترجم الشيخ حسين ابن الشيخ حسن فقد كان عالماً ذكياً وشاعراً بليغاً وصلى الله على محمد وآله وسلم.
__________
1 عمان بضم العين وإسكان الميم.
2 الأسباط هم أبناء البنات.
ص -100-(26/99)
مشاهير علماء نجد وغيرهم - عبد الرحمن بن عبد اللطيف بن عبد الله آل الشيخ (2)
الشيخ عبد الله ابن الشيخ عبد اللطيف
هو الإمام العالم الجليل مفتي الديار النجدية ومحيي الآثار السلفية، علامة نجد وزعيمها الإسلامي في زمنه الشيخ عبد الله ابن الشيخ عبد اللطيف ابن الشيخ عبد الرحمن بن حسن ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب.
ولد هذا العالم الشهير في مدينة الهفوف بالإحساء سنة ألف ومائتين وخمس وستين ونشأ أول ما نشأ بها عند جده لأمه الشيخ عبد الله1 بن أحمد الوهيبي وقرأ القرآن حتى حفظه نظرا وعن ظهر قلب ثم أتى به والده العلامة الشيخ عبد اللطيف من الاحساء إلى الرياض وهو في الرابعة عشرة من عمره فمكث عند والده وقرأ عليه في التوحيد والفقه والحديث والتفسير وعلى جده الشيخ عبد الرحمن بن حسن وذلك في آخر ولاية فيصل ابن الإمام تركي بن عبد الله ثم توفي والده الشيخ عبد اللطيف سنة ألف ومائتين وثلاث وتسعين فاستوحش لفقده فسافر إلى الأفلاج وأقام بها ثلاث سنوات قرأ في خلالها على الشيخ حمد ابن عتيق ثم عاد إلى وطنه وكان قبل رحلته إلى الأفلاج قد مهر في التوحيد والفقه والحديث والتفسير فنبه قدره واشتهر ذكره بالكرم والعلم ورجاحة العقل فجلس في داره لتدريس العلم وضربت إليه آباط الإبل وتوافد إليه الطلاب من جميع آفاق نجد للأخذ عنه والقراءة عليه فصار يعطف على جميع الوافدين إليه من الطلاب وغيرهم من أهل العلم ويواسيهم ويبالغ في إكرامهم ويحثهم على التمسك بأهداب الإسلام والدين ويحضهم على إخلاص النية وإصلاح العمل
__________
1من وهبة تميم ومن الأسر التي نزحت من نجد إلى الاحساء ولهم بقية بالإحساء وبقية بنجد.
ص -101-(27/1)
والقيام بواجب الدعوة ونشر العلم والتوحيد، فوضع الله له القبول في النفوس وألقى عليه المهابة والوقار وصار مسموع الكلمة نافذ الأمر عند ولاة الأمور وغيرهم من الخاصة والعامة حتى ان الأمير محمد العبد الله الرشيد لما حاصر1 مدينة الرياض وضيق عليها الخناق سنة 1306هـ خرج إليه مع الأمير محمد ابن الإمام فيصل وجلاله الملك عبد العزيز2 ابن الإمام عبد الرحمن يفاوضونه في ترك الحرب ورفع الحصار عن الرياض أجابهم إلى ذلك وتخلى عن الحرب ورجع من حيث أتى.
وبعد ذلك استمر الشيخ عبد الله على حالته المذكور من بث العلم وتعليمه وكان يعتمد في معيشته وكرمه الحاتمي على الله ثم على الحرث من الزراعة والنخل وما يصله به الشيخ قاسم بن محمد بن ثاني حاكم قطر –رحمه الله-0 وبينما الشيخ مستمر وجاد في تعليم العلم ونشره وبث دعوة التوحيد السلفية عن طريق التدريس والمراسلات والنصائح لأهل نجد فوجئ بإعادة محمد بن عبد الله بن رشيد الكرة على مدينة الرياض ومحاصرتها والاستيلاء عليها نهائياً وعلى جميع بلدان نجد وذلك سنة 1308هـ "ألف وثلاثمائة وثمان من الهجرة" فعند ذلك رغب الأمير محمد بن عبد الله الرشيد إلى الشيخ في الشخوص إلى مدينة حائل مقر حكمه للانتفاع به في نشر العلم فلم يسع الشيخ إلا طاعة هذا الأمير المتغلب فسافر إلى حائل يصحبه بعض رجال من حاشية الأمير محمد بن رشيد فوصلها واستقر فيها وأقام بها حولا كاملا معززا محترما وجلس طيلة هذه المدة يدرس العلم فأخذ عنه علم العقائد والتوحيد والحديث والتفسير غالب
__________
1 حاصرها بسبب ثورة الإمام عبد الرحمن ابن الإمام فيصل على أمير الرياض لابن رشيد سالم بن علي بن سبهان.
2 كان عمر جلالة الملك عبد العزيز لا يزيد على ثلاث عشرة سنة وقد أعجب الأمير محمد العبد الله الرشيد ذلك اليوم بفصاحة الملم عبد العزيز وجرأته –رحم الله- الملك عبد العزيز.
ص -102-(27/2)
علماء حائل ولازموه ملازمة تامة لا سيما علماء لبدة1 وبعد ذلك أنعم عليه الأمير محمد بن عبد الله الرشيد بالهبات وأعاده إلى وطنه مكرما سنة 1309ه فاستمر في نشر العلم وبث الدعوة وإكرام العاني والوافد فكانت داره2 الواسعة المعروفة "بحي دخنة بالرياض" عامرة بقراءة كتب الحديث والفقه والتوحيد والتفسير فتخرج به أفواج من العلماء شغلوا مناصب القضاء وقاموا بواجب الدعوة إلى الله والإرشاد وتدريس العلم وعندما جاء الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود مجيئه الأول لفتح الرياض عام الصريف سنة 1318ه وتحصنت حامية ابن رشيد وعلى رأسهم أميرهم عبد الرحمن بن ضبعان في قصر المصمك المعروف بالرياض دخل معهم الشيخ القصر. ولما فك عبد العزيز الحصار عن القصر والحامية ورجع رحمه الله من حيث أتى خرج الشيخ عبد الله من القصر واستمر في مواصلة نشر العلم وتدريسه ولما تم لجلالة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل آل سعود الاستيلاء على مدينة الرياض في الخامس من شهر شوال 1319ه بايعه الشيخ عبد الله واصفاه الود ومحضه الإخلاص والنصح، وصاهره الملك عبد العزيز فالشيخ عبد الله هو جد صاحب الجلالة الملك فيصل بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل آل سعود لأمه وقد عاش الشيخ –رحمه الله- عشرين عاما في ولاية الملك عبد العزيز قضاها في نشر العلم والدعوة إلى الله فتخرج عليه في هذه الحقبة المذكورة خلق كثير نذكر من مشاهيرهم وفضلائهم من يأتي:
علامة نجد في زمنه الشيخ محمد بن الشيخ إبراهيم ابن الشيخ عبد اللطيف آل الشيخ مفتي الديار السعودية ورئيس قضاتها في حياته –رحمه الله-
__________
1 لبدة محلة من محلات مدينة حائل.
2 هدمت دار الشيخ عبد الله منذ سنوات في مشروع توسعة الشوارع وبقي منها بقية محاطة بسور توحي إلى المجتاز ببيت الشاعر:
قفا نسأل الدار التي خف أهلها
متى عهدها بالبر والحسنات
أو بقوله:(27/3)
منازل آل حماد بن ريد
على أهليك والنعم السلام
ص -103-
والشيخ صالح بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن حسين آل الشيخ والشيخ محمد بن عثمان الشاوي والشيخ عبد اللطيف ابن الشيخ إبراهيم ابن الشيخ عبد اللطيف مدير المعاهد والكليات في حياته –رحمه الله-.
والشيخ العلامة عمر بن الشيخ حسن آل الشيخ رئيس هيئات الأمر بالمعروف بالمنطقة الوسطى والشرقية.
وسماحة الشيخ عبد الله ابن الشيخ حسن رئيس القضاة في حياته –رحمه الله-.
والشيخ عبد العزيز بن صالح بن مرشد والشيخ عبد الرحمن بن سالم الدوسري، والشيخ سالم الحناكي، والشيخ محمد الحناكي وحمد بن محمد بن موسى والشيخ عبد الله بن محمد بن حمد بن دخل الناصري التميمي من أهل بلدة المذنب بالقصيم والشيخ الزاهد الورع عبد الله بن محمد بن عبد العزيز بن مفدى "فدا" من علماء مدينة بريدة بالقصيم والشيخ حمد بن مزيد قاضي قبة سابقاً والشيخ عبد الله بن خلف بن راشد بن خلف من قبيلة آل خلف المعروفة بمدينة حائل.
والشيخ عثمان بن حمد آل مضيان من أهل بريدة والشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري قاضي مقاطعة سدير بنجد في حياته –رحمه الله-. والشيخ عبد العزيز بن محمد الشثري "أبو حبيب" والشيخ عبد الرحمن بن محمد بن مبارك تولى إمارة الدرعية وقضاءها.
والشيخ عبد الرحمن بن محمد بن داود قاضي بلدة الخرمة في حياته –رحمه الله-.
والشيخعبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي القحطاني جامع الرسائل والمسائل النجدية وجامع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية والشيخ عبد العزيز بن عبد الله النمر والشيخ سليمان بن عبد الرحمن العمري قاضي المدينة ونقل منها إلى قضاء الإحساء وتوفي بها –رحمه الله- وفوزان السابق والشيخ عبد العزيز بن حمد بن عتيق.
ص -104-(27/4)
والشيخ حمود الحسين1 الشغدلي من علماء حائل وعبد الله بن سليمان السياري والشيخ عبد الله بن حمد الدوسري والشيخ عبد الرحمن بن عودان وناصر بن سعود بن عيسى والشيخ عبد الله بن رشيدان والشيخ فالح بن عثمان الصغير والشيخ فيصل بن عبد العزيز آل مبارك وخلق لا يحصون كثرة.
مؤلفاته:
ألف –رحمه الله- رسائل كثيرة2 في أغراض متعددة لو أفردت وجمعت على حدة بلغت مجلدا ولكنها طبعت مفرقة على أجزاء مجاميع الرسائل والمسائل النجدية ضمن رسائل أئمة الدعوة وهذه المجاميع طبعت أولا بمطبعة المنار بمصر ثم بمطبعة أم القرى بمكة ثم طبعت بعنوان الدرر السنية في الأجوبة النجدية بمطابع بيروت وبمطابع بيروت وبمطابع الرياض بواسطة دار الإفتاء على نفقة الملك فيصل آل سعود أيده الله.
وكان الشيخ –رحمه الله- مهيبا وقوراً غيوراً على حرمات الإسلام والدين آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر لا تأخذه في الله لومة لائم، على سيرة علماء السلف الصالح وسمتهم وما كانوا عليه من الهداية والدين. وكان يصلي بالناس الجمعة ويخطب بهم في المسجد الجامع الكبير ويصلي بهم الأعياد وكان خطيباً مؤثراً حسن القراءة والصوت تبكي خطبته السامعين وتؤثر فيهم تأثيراً بالغا، وكان بينه وبين الشيخ قاسم يحترمه ويجله ويراسله. وكان الملك عبد العزيز يأتي إليه في داره ويحضر دروسه ولا يخرج عن رأيه ومشورته في جميع مسائل العلم والدين، فكان الشيخ –رحمه الله- مرجع قضاة نجد في زمنه ومرجع أهل
__________
1 توفي الشيخ حمود الحسين الشغدلي عام 1391ه –رحمه الله- وكان قدم على الشيخ المترجم عبد الله سنة 1316 بالرياض وأخذ عنه العلم.
2 منها رسالة الإتباع وحضر الغلو في الدين والابتداع وغيرها من رسائله المطبوعة ضمن رسائل علماء دعوة التوحيد المسماة بالرسائل والمسائل النجدية.
ص -105-(27/5)
الحسبة من الآمرين بالمعروف والمرشدين، وقد أقبلت بوادي الأعراب من أهل نجد في زمنه –رحمه الله- على الدين وقراءة القرآن، وتعلم واجبات الإسلام وسكنوا الهجر وسموا بالإخوان والفضل بعد الله في هدايتهم وجمع كلمتهم يرجع إلى اهتمام الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود بأمور الدين ثم إلى إخلاص الشيخ عبد الله وحسن اختياره للدعاة والمرشدين من أهل العلم الذين وكل إليه جلالة الملك عبد العزيز آل سعود –رحمه الله- أمر اختيارهم وابتعاثهم إلى بوادي الأعراب.
كرم الشيخ وجوده:
كان الشيخ مع ما يتصف به من الاتزان وحصافة الرأي والإخلاص في الدعوة جوادا كريماً جلب إليه جوده وحسن أخلاقه محبة الناس وإجلالهم، فشاع له الذكر الجميل1 وتبارى علماء زمنه من أهل نجد وأدباؤهم في الثناء عليه ومدحه وحسبنا أن نورد نموذجاً من قصائد علماء نجد في الثناء عليه.
هذه القصيدة التالية للشيخ إبراهيم بن صالح بن عيسى أحد علماء الوشم بنجد:
صحا القلب عن ذكر الحمى والأخاشب
وعن ندب أطلال عفت بالذئاب
وأقلعت عن شوق ووجد بزينب
وان تيمت قلبي بزج الحواجب
وأبدلت عن وصف اللوى وظبائه
حسان الوجوه الناعمات الكواعب
بمدح أمام الدين والحق والهدى
إلا ذاك "عبد الله"فرع الأطايب
هو العالم النحرير والماجد الذي
سمى مجده اوج النجوم الثواقب
__________ـ
1 وترجم للشيخ عبد الله ابن الشيخ عبد اللطيف صاحب كتاب فرقة الإخوان الإسلامية بنجد محمد مغيربى فتيح ولكنها ترجمة مملوءة مع الأسف بالتحريف في تأريخ حياة الشيخ واسم والده وتبعه على بعض أخطائه الأستاذ خير الدين الزركلي في ترجمته للشيخ عبد الله في كتاب العلام ج4 ص 277 ثم استدرك على نفسه وأصلح جميع ما وقع فيه من الأخطاء في مصورة الأعلام الجزء المذكور
ص -106-
هو العلم الفرد الذي سار ذكره
بكل القرى من شرقها والمغارب(27/6)
حليف التقى والعلم والحلم والنهى
حميد السجايا الشم جم المناقب
شقيق الندى عف الإزار أخو الثنا
رحيب الفنا جزل الحبا والمواهب
كريم المحيا باسم متهلل
ثمال لمعتر وكنز لراغب
ضياء علوم ان دجى ليل مشكل
وغيث سماح هاطل بالرغائب
فصيح بليغ متقن متفنن
همام له في الفضل أعلى المراتب
لقد نال من نهج البلاغة رتبة
يقصر عنها كل ساعٍ وراكب
اذا قام يوماً فوق أعواد منبر
خطيباً فيالله من وعظ خاطب
مهيب عليه للوقار سكينة
حباه بها الرحمن أكرم واهب
إليه لأخذ العلم من كل بلدة
يشد رجال القوم نجب الركائب
فيلقون حبرا في العلوم مهذبا
يجلي بشمس العلم ليل الغياهب
يحل الذي أعيا ويكشف ما خفي
يفكر كعضب للإصابة صائب
ص -107-
يجيب على الفتيا جوابا مسددا
يزيح بها الإشكال عن فكر طالب
فيالك من شهم اذا قال لك يدع
مقالاً لأرباب العلا والمناصب
هو الندب وضاح الجبين كأنما
أنامله مخلوقة من سحائب
أشم عصامي من النفر الألى
فضائلهم لم يحصها عد حاسب
مقاول من عليا تميم توارثوا
كرم المساعي عن جدود مناجب
ولم يزل الشيخ موضع الإجلال والتقدير والإعجاب من الولاة والعلماء فمن دونهم من الخاصة والعامة إلى أن انتقل إلى رحمة الله يوم الجمعة في العشرين من شهر ربيع الأول سنة ألف وثلاثمائة وتسع وثلاثين عن خمس وسبعين سنة قضى معظمها في نشر العلم وبث الدعوة وصلى عليه الناس بالمسجد الجامع الكبير بالرياض وكانوا جمعاً غفيراً وحملت جنازته على الأعناق وغصت الأسواق بالمشيعين وخرج معه إلى المقبرة خلق كثير على رأسهم جلالة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود وقبروه في مقبرة العود بجوار والده الشيخ عبد اللطيف وجده الشيخ عبد الرحمن بن حسن -رحمهم الله- جميعاً وغفر لهم.
وقد وجم الناس لموته1 وحزنوا عليه حزناً شديداً ورثاه الشعراء والعلماء(27/7)
__________
1 أنجب الشيخ عبد الله بن الشيخ عبد اللطيف أربعة أبناء هم عبد الملك وعبد اللطيف ومحمد وصالح فأما عبد الملك فكان شهما شجاعاً كريماً فاضلا قتل في وقعة البكيرية التي حصلت بين الملك عبد العزيز وعبد العزيز بن متعب بن رشيد عام 1322 وكان غازياً مع الملك عبد العزيز وأما صالح=
ص -108-
منهم علامة نجد في زمنه الشيخ محمد بن إبراهيم ابن الشيخ عبد اللطيف رثاه –رحمه الله بقصيدة مطولة تبلغ جملة أبياتها خمسة وخمسين بيتاً ومطلعها:
لقد كسفت شمس العلى والمفاخر
وقد أصاب أهل الدين إحدى الفواقر
ورثاه الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم ابن الشيخ عبد اللطيف بقصيدة طويلة مطلعها:
على الحبر بحر العلم زاكي المناقب
بكينا عليه بالدموع السواكب
إلى ان قال:
هو الشيخ عبد الله ذو الجود والتقى
وذو الحلم والإحسان صافي المشارب
ورثاه الشيخ ناصر بن سعود بن عيسى بقصيدة طويلة مطلعها:
قضى الإله الذي فوق السموات
ان البرية تفني بالمنيات
نعى النعاة لنا شيخ الوجود قريع الدهر شمس الهدى عالي السجيات
ورثاه سماحة الشيخ عمر بن الشيخ حسن بقصيدة مؤثرة طويلة، ورثاه محمد بن عبد الله بن بلهيد بقصيدتين مؤثرتين لا يحضرني مطلعاهما، ورثاه شاعر نجد في زمنه الشيخ محمد بن عبد الله بن عثيمين المتوفى سنة 1363هـ بهذه القصيدة الميمية المؤثرة فقال:(27/8)
__________
=فتوفي شابا قبل وفاة والده وأما عبد اللطيف فهو والدي وكان جوادا كريما له معرفة تامة بالأنساب وفيه صراحة متناهية توفي –رحمه الله- بمدينة الرياض عام 1374 آخر شهر شعبان وأما محمد فهو صاحب كرم وله حظوة وجاه عند الملوك والولاة وعاش في غنى وسعة توفي آخر شعبان بمكة المكرمة عام1386هـ وخلف ثلاثة أبناء وله أحفاد هم عبد العزيز وتوفي سنة 1392، وعبد الله وعبد الرحمن، رحم الله العم محمد بن المترجم الشيخ عبد الله وغفر له فإنه كان من الأجواد المحسنين، -رحمه الله- وغفر له.
ص -109-
لمثل ذا الخطب فلتبك العيون دما
فما يماثله خطب وان عظما
اودى الإمام واودى العلم يتبعه
والفضل والجود بعد شيخه انصرما
كانت مصائبنا من قبله جللا
فالآن جب سنام الدين وانهدما
سقى ثرى حله شيخ الهدى سحب
من واسع العفو يهمي وبلها ديما
شيخ مضى طاهر الأخلاق متبعا
طريقة المصطفى بالله معتصما
بحر من العلم قد فاضت جداوله
لكنه سائغ في ذوق من طمعا
تنشق أصدافه في البحث عن درر
تهدي إلى الحق مفهوما وملتزما
فكم قواعد فقه قد أبان وكم
اشاد رسما من العليا قد انثلما
نعى إلينا العلى والبر مصرعه
والعلم والفضل والإحسان والكرما
هذي الخصال التي كانت تفضله
على الرجال فأضحى فيهم علما
فليت شعري من للمشكلات اذا
ما حل منها عويص يبهم الفهما
وللعلوم التي تخفي غوامضها
على الفحول من الأحبار والعلما
ص -110-
من للأرامل والأيتام ان كلحت
غبر السنين وأبدت ناجذا خذما
فقل لمن غره في دهره مهل
فضل يمري بحال الصحة النعما
لا تستطل غفوة الأيام ان لها
وشك انتباه يري موجودها عدما
أما ترى الشيخ عبد الله كيف مضى
وكان عقدا نفيسا يفضل القيما
عشنا به حقبة في غبطة فأتى
عليه ما قد أتى عادا أخا ارما
وقبله اختلست ساما وإخوته(27/9)
أيدي المنون وأفنت بعدهم أمما
لهفي عليه ولهف المسلمين معي
لو ان لهفا شفى من لاهف سدما
ولهف مدرسة بالعلم يعمرها
ومسجد كان فيه ينثر الحكما
فالله ينزله عفوا ويرحمه
فانه جل قدرا ارحم الرحما
ثم الصلاة على من في مصيبته
لنا العزاء اذا ما حادث عظما
محمد خير مبعوث وشيعته
وصحبه ما أضاء البرق مبتسما
ص -111-
آخرها رحم الله الشيخ عبد الله ابن الشيخ عبد اللطيف وغفر له فإن له في قلوب جميع أهل نجد منزلة عظيمة لا تسمو إليها أي منزلة ولا أدل على ذلك من بقاء ذكره بالجميل والثناء جاريا على ألسنتهم رغم مرور نيف ونصف قرن من الزمن على وفاته وهذا يرجع إلى ما اتصف به من العلم والعمل وكرم الخلق والجود والتواضع الجم والإنصاف وصيانة العلم -رحمه الله- وأسكنه فسيح جنانه انه سميع مجيب وصلى الله على محمد وآله وسلم.
ص -112-
الشيخ حسن بن حسين
هو العالم الورع الفاضل التقي الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ علي ابن الشيخ حسين ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، ولد بمدينة الرياض سنة ست وستين ومائتين وألف من الهجرة ونشأ بها وقرأ القرآن حتى حفظه نظرا وعن ظهر قلب ثم شرع في قراءة العلم على الشيخ العلامة عبد الرحمن بن حسن ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وابنه العلامة الشيخ عبد اللطيف والشيخ عبد الرحمن بن عدوان. تولى قضاء الأفلاج في أيام محمد العبد الله الرشيد ثم نقله من الأفلاج إلى بلدة المجمعة عاصمة سدير فصار قاضيا لها ولكافة بلدان سدير ثم ولاه القضاء في مدينة الرياض.
تلامذته:
أخذ عنه العلم عدد كثير منهم:
ابناه الشيخ عبد الله، والشيخ عمر.
والشيخ محمد بن عبد اللطيف والشيخ عبد الرحمن بن سالم.
والشيخ إبراهيم السياري والشيخ أحمد أبو حسين .
والشيخ محمد بن حميد وغير هؤلاء خلق كثير.
مؤلفاته:
له عدة رسائل في مجموع الرسائل والمسائل النجدية.
ص -113-(27/10)
وفاته:
توفي -رحمه الله- بمدينة الرياض عام 1341 في ذي القعدة وصلي عليه بعد العصر في جامع الرياض الكبير وأم الناس بالصلاة عليه الشيخ حمد بن فارس وشيعه خلق كثير من الأعيان والعلماء ودفن في مقبرة العود وخلف أربعة أبناء الشيخ حسين توفي في حياة والده ببلدة عجمان والشيخ عبد الله رئيس القضاة في حياته -رحمه الله- والشيخ عمر رئيس هيئات الأمر بالمعروف بالمنطقة الوسطى والشرقية والشيخ عبد الرحمن إمام القصر1 -رحم الله الشيخ حسناً وجميع علماء المسلمين وعامتهم وعفا عنهم انه سميع مجيب.
__________
1 القصر هو قصر الحكم بمدينة الرياض.
ص -114-
الشيخ عمر ابن الشيخ عبد اللطيف
هو الشيخ الفاضل عمر ابن الشيخ عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن بن حسن ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب. ولد بمدينة الرياض سنة ألف ومائتين وأربع وثمانين من الهجرة ونشأ بها وحفظ القرآن نظرا وعن ظهر قلب ثم شرع في قراءة العلم على أخيه الأكبر الشيخ عبد الله ابن الشيخ عبد اللطيف، ولما استولى جلالة الملك الراحل عبد العزيز آل سعود على مدينة الرياض سنة 1319هـ وأخذ في توحيد الجزيرة وتخليص بلدانها من المغتصبين غزا معه عدة غزوات ولما توفي أخوه العلامة الشيخ عبد الله ابن الشيخ عبد اللطيف سنة 1339هـ ولاه الملك عبد العزيز خطابة جامع الرياض الكبير وصلاة العيدين خلفاً لأخيه الشيخ عبد الله واستمر في خطابة الجامع وصلاة العيدين إلى ان أسن وضعف جسمه وكان -يرحمه الله- كريما وصولا للرحم فيه صراحة صارمة وحسن نية وطيبة قلب.
توفي سنة ألف وثلاثمائة وخمس وستين من الهجرة بمدينة الرياض وصلي عليه بمسجد الجامع الكبير وقبر بمقابر العود وخلف أربعة أبناء هم: عبد الرحمن1، وعبد الله، وعبد اللطيف، وعبد الملك.غفر الله له وأسكنه فسيح جنته انه سميع مجيب وصلى الله على محمد وآله وسلم.(27/11)
__________
1 عبد الرحمن توفي فيما بعد –رحمه الله.
ص -115-
الشيخ عبد الرحمن ابن الشيخ عبد اللطيف
هو الشيخ عبد الرحمن ابن الشيخ عبد اللطيف ابن الشيخ عبد الرحمن بن حسن ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب. ولد بمدينة الرياض سنة 1288ه وتوفي والده الشيخ عبد اللطيف سنة 1293ه فكفله أخوه الشيخ عبد العزيز ابن الشيخ عبد اللطيف ولما بلغ السابعة من عمره أدخله عند مقرئ يدعى عبد الرحمن بن مفيريج فحفظ القرآن ثم شرع في قراءة العلم على أخيه العلامة الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف وعلى الشيخ محمد بن محمود وعلى الشيخ حمد بن فارس ثم عين قاضياً لهجرة ساجر الهجرة المعروفة في السر بنجد عند سكانها الروقة ثم عين في هجرة عروى سنة 1342ه لدى أميرها جهجاه بن حميد، وصحب الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود في دخوله مكة المكرمة سنة 1343ه وفي سنة 1350ه عين قاضياً للخرج إلى سنة 1357ه حيث استعفى من القضاء وأقام بمدينة الرياض وخطب بالمسجد الجامع الكبير نحو سنة وتوفي -رحمه الله- سنة 1366ه بمدينة الرياض وخلف أربعة أبناء هم الشيخ عبد الله والشيخ عبد العزيز ومحمد وحسن، رحمه الله وعفا عنه وبارك في ذرية الشيخ محمد بن عبد الوهاب وجعلهم نصرة لدينه انه سميع مجيب.
ص -116-(27/12)
الشيخ محمد ابن الشيخ عبد اللطيف
هو العالم الجليل الشيخ محمد ابن الشيخ عبد اللطيف ابن الشيخ عبد الرحمن ابن حسن ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب. ولد بمدينة الرياض سنة 1282هـ، ونشأ بها وقرأ القرآن في حياة والده الشيخ عبد اللطيف، ثم اشتغل بالقراءة في العلم على أخيه الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف والشيخ محمد بن محمود وغيرهما من علماء وقته، وقد تقلب في عدة وظائف دينية منها قضاء مدينة شقراء وبعثه الملك عبد العزيز سنة 1339هـ إلى عسير وغامد وزهران لبث الدعوة إلى الله سبحانه وكتب رسالة في ذلك وتولى القضاء في الرياض وجلس في داره لطلاب العلم يقرأون عليه. وقد جمع مكتبة عظيمة أكثرها مخطوطات آلت بعده إلى ولده عبد الرحمن وسافر إلى مصر عام 1358ه لعلاج عينيه. ترجم له خير الدين الزركلي في الأعلام وتوفي –رحمه الله- بمدينة الرياض يوم الأحد ثاني جمادى الآخرة سنة 1367هـ وخلف ثلاثة أبناء هم: عبد الرحمن وعبد الله1 وإبراهيم وقد رثاه الشيخ صالح بن سليمان بن سحمان بقصيدة طويلة مطلعها:
زين الورى جد في الترحال وقالا
وطودها الجبل الراسي لها زالا
-رحم الله- الشيخ محمد ابن الشيخ عبد اللطيف وغفر له وعفا عنه فقد كان جواداً كريماً وصلى الله على محمد وآله وسلم.
__________
1 توفي ابنه عبد الله بعد وفاته بخمس سنوات وخلف عدة أبناء منهم الشيخ عبد العزيز بن عبد الله ابن الشيخ محمد ابن الشيخ عبد اللطيف والشيخ عبد العزيز المذكور هو خطيب الجامع الكبير بمدينة الرياض تولى الخطابة بعد وفاة سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله-.
ص -117-(27/13)
الشيخ صالح بن عبد العزيز
هو العالم الورع التقي الفاضل الشيخ صالح بن عبد العزيز ابن الشيخ عبد الرحمن ابن الشيخ حسين ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب.
مولده:
ولد ببلدة السلمية1 من بلدان الخرج بنجد عام 1287ه وتوفي والده وهو في السابعة من عمره، فانتقل مع والدته إلى مدينة الرياض مقر أخواله وعشيرته فنشأ في كفالة ابن عمه الشيخ حسن2 وقرأ عليه القرآن حتى ختمه نظرا وعن ظهر قلب وقرأ عليه مبادئ العلوم ومختصرات شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، ولما بلغ سن الرشد تزوج واستقل بنفسه وأخذ بأسباب البيع والشراء فمنحه الله التوفيق ووسع له في الرزق ولم يصده ذلك عن تعلم العلم النافع ومواصلة الطلب بل صار له خير حافز ومعين.
مشائخه:
شرع في القراءة على الشيخ عبد الله بن الشيخ عبد اللطيف في العقائد والحديث والتفسير، وقرأ عليه منهاج السنة لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية
__________
1 ولد بهذه البلدة لأن جده الشيخ عبد الرحمن ابن الشيخ حسين كان يشغل منصب القضاء في الخرج للإمام تركي ثم لابنه الإمام فيصل.
2 هو الشيخ حسن ابن الشيخ حسين ابن الشيخ علي ابن الشيخ حسين ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب تزوج والدة المترجم له الشيخ صالح بن عبد العزيز بعد وفاة زوجها عبد العزيز فنشأ المترجم له الشيخ صالح في كفالته حتى بلغ سن الرشد ثم استقل بنفسه كما أشرنا في الكلام أعلاه.
ص -118-(27/14)
تسميعا من أوله إلى آخره ولازمه ملازمة تامة، وقرأ على الشيخ عبد الله الخرجي والشيخ حمد بن فارس في الفرائض وقرأ في الفقه على الشيخ الفقيه محمد بن محمود. وكان -رحمه الله- مهاباً قوي البنية فيه حمية دينية ووطنية صادقة.
لما استولى الملك عبد العزيز على مدينة الرياض سنة 1319هـ وقضى على حامية ابن رشيد وأمر ببناء سور مدينة الرياض وتحصينها عن العدو بأسرع ما يمكن قام المترجم ببناء قسم كبير من السور بيده وأجرة العمال الذين يساعدونه في البناء على حسابه ثم أخذ بعد ذلك يغزو غزوات عديدة مع الملك عبد العزيز آخرها غزوة جراب1 وقد جرح في تلك الغزوة وأبلى فيها بلاء عظيما.
توليه قضاء الرياض:
وفي سنة 1337هـ ولاه الملك عبد العزيز آل سعود -رحمه الله- قضاء مدينة الرياض وقراها للحضر وعين قبله لقضاء البوادي الشيخ سعد بن حمد ابن عتيق، وبعد وفاة الشيخ سعد بن حمد بن عتيق ضم إليه الملك قضاء البادية فصار يقضي بين البادية والحاضرة وكان -رحمه الله- مثال القاضي النزيه العادل في أحكامه واستمر في وظيفة القضاء المذكورة إلى سنة 1352هـ حيث أصيب بألم شديد في رأسه وعينيه استعفى بسببه عن القضاء فأعفاه الملك عبد العزيز -رحمه الله- وألح عليه الملك في السفر إلى مصر لعلاج رأسه وعينيه فسافر إلى مصر على نفقة الملك عبد العزيز سنة 1354هـ ومكث بها نحو أربعين
__________
1 جراب منهل معروف في شمال جبل مجزل قرب إقليم سدير بنجد ذكره الهمداني في صفة جزيرة العرب ص 128 وأورد عليه هذا البيت:
سقى الله أمواهاً عرفت مكانها
جراباً وملكوماً وبذر والغمرا
وذكره البكري:
وجراب حدثت فيه وقعة بين الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود وبين سعود بن عبد العزيز ابن رشيد عام 1333هـ.
ص -119-(27/15)
يوماً تحت العلاج ثم رجع بدون جدوى، ولازمه هذا الألم الشديد نحو مدة عشرين سنة.
تدريسه وتلامذته:
كان –يرحمه الله- في حال صحته وعافيته إماما يصلي بالناس الفروض الخمسة في مسجده الذي يقع في الجهة الشرقية الشمالية "بحي دخنة"1 ويعرف باسم مسجد ابن شلوان2 فإذا صلى الظهر جلس بهذا المسجد لطلبة العلم يقرأون عليه في زاد المستنقع وغيره من كتب العلم إلى قريب العصر فأخذ عنه العلم عدد كثير اعرف منهم ابنه الشيخ محمدا والشيخ عبد العزيز بن سوداء.
وفاته:
تمكن منه المرض الذي ذكرناه آنفا وألزمه الفراش مدة خمس سنوات وتوفي آخر شعبان سنة 1372هـ بمدينة الرياض عن عمر بلغ خمسا وثمانين سنة وحزن عليه الخلق وصلى عليه الناس بالمسجد الجامع الكبير وحمل على أكتاف المشيعين إلى مقبرة العود ودفن بها وخلف ستة أبناء هم: عبد الله3 والشيخ محمد، وحسين، والشيخ إبراهيم4 وعبد المحسن، وأحمد.
رحم الله فقيد العلم والورع الشيخ صالح بن عبد العزيز وغفر له وأسكنه فسيح جناته انه سميع مجيب وصلى الله على محمد وآله وسلم.
__________
1 وهذه محلة من محلات مدينة الرياض.
2 نسبة إلى أمامه الأول عبد العزيز بن شلوان أحد قضاة الرياض زمن الإمام فبصل.
3 توفي ابنه عبد الله عام 1384ه تقريباً -رحمه الله-.
4 ابنه الشيخ إبراهيم ابن الشيخ صالح جامعي ويشغل الآن وظيفة مدير إدارة دار الإفتاء العام.
ص -120-(27/16)
الشيخ عبد الله بن حسن آل الشيخ
هو صاحب السماحة العلامة الفاضل الجليل الشيخ عبد الله ابن الشيخ حسن ابن الشيخ حسين ابن الشيخ علي ابن الشيخ حسين ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رئيس القضاة في حياته -رحمه الله-.
ولد هذا العالم الشهير ببلدة الرياض في اليوم الثاني عشر من محرم الحرام سنة ألف ومائتين وسبع وثمانين من الهجرة، ونشأ في أحضان والده الشيخ حسن فقرأ القرآن حتى حفظه وعمره عشر سنوات، ثم حفظه غيباً عن ظهر قلب وشرع بعد ذلك في القراءة وطلب العلم فأخذ العلم عن علماء أجلاء منهم والده علامة زمانه الشيخ حسن ابن الشيخ حسين والشيخ العلامة الجليل عبد الله ابن الشيخ عبد اللطيف والشيخ إسحاق ابن الشيخ عبد الرحمن بن حسن والشيخ محمد بن محمود والشيخ العلامة حمد بن فارس أخذ عنه علم النحو وأخذ عن الشيخ عبد الله بن راشد بن جلعود العنزي علم الفرائض وقرأ على الشيخ العالم الجليل سعد بن حمد بن عتيق في الفقه ومصطلح الحديث وأسماء الرجال والتفسير وأجازه الشيخ سعد فيما تجوز له روايته من كتب الحديث والتفسير وأخذ علم التجويد عن الشيخ علي بن داود تلميذ الشيخ عبد اللطيف ابن الشيخ عبد الرحمن.
وعين في أول حياته إماما لمسجد الإمام عبد الرحمن بن فيصل المشهور بمسجد الديوانية وذلك سنة 1323ه واستمر يصلي به إلى سنة 1337ه ثم تركه وذلك أن الملك عبد العزيز احتاج إلى علماء يمتازون بالمعرفة والعلم وطيب
ص -121-(27/17)
الأخلاق ورحابة الصدر فاختار عدة علماء من أهل نجد وأمرهم بالذهاب إلى الهجر عند رؤساء العشائر والبوادي المعروفين بالإخوان وذلك لبث الدعوة الصحيحة فيهم على المنهج السوي الموافق للكتاب والسنة وتعليمهم واجبات الإسلام وتحذيرهم من الزيادة والغلو في الدين.
وكانت هجرة الارطاوية التي يرأسها فيصل بن سلطان الدويش رئيس عشائر مطير من أهم تلك الهجر وأكبرها حيث كان يسكنها في ذلك الوقت ما يربو على عشرين ألفاً من المجاهدين، فلم يجد الملك عبد العزيز من يصلح لها إلا الشيخ عبد الله بن حسن فأمره الملك بالذهاب إليها فذهب الشيخ إلى هذه الهجرة المعروفة بالارطاوية وأقام بها سنة وبضعة أشهر، ثم طلبه الملك فرجع إلى الرياض وقد خلف بهذه الهجرة المذكورة أثراً طيباً وذكراً حميداً حيث صار له بين الإخوان المقيمين بها طاعة وإجلال وشهرة بالتقى والعلم والصلاح تربو على الحد والتصور، فلقد أحبه الإخوان المقيمون بتلك الهجرة وودوا لو أقام بينهم مدة حياته فطلبوا من الملك عبد العزيز إبقاء الشيخ عندهم وألحوا في الطلب، ولكن احتياج الملك للشيخ حال بينهم وبين تحقيق رغبتهم لدى الملك، فقد عينه جلالة الملك عبد العزيز قاضياً للجيوش مع جلالته -رحمه الله- فباشر ذلك وغزا مع الملك غزوات كثيرة وحضر معه مدينة حائل سنة 1340ه.
ولما جهز جلالة الملك عبد العزيز ابنه جلالة الملك فيصل لتأديب المتمردين في عسير والخارجين عن طاعة الملك عبد العزيز من آل عائض وغيرهم انتدب الملك عبد العزيز الشيخ عبد الله واختاره مرافقا لابنه فيصل وقاضيا للجيش وذلك في شهر شوال آخر سنة 1340ه فكان فيصل حفظه الله يحترم الشيخ عبد الله ويعمل بمشورته. وقد تم لفيصل النصر على المتمردين والعصاة واستولى على عسير وأمر فيها أحد رجاله سعد بن عفيصان من أهل الخرج وأبقى معه خمسمائة من الجند وعاد فيصل ومعه الشيخ عبد الله إلى والده في الرياض في شهر جمادى الثانية ظافرا منتصراً.(27/18)
ص -122-
ولما استولت جيوش الملك عبد العزيز على الطائف ومكة المكرمة سنة 1343ه وسار جلالة الملك عبد العزيز من نجد إلى مكة صحب معه الشيخ عبد الله قاضياً لجيشه فحضر معه الشيخ حصار جدة إلى أن تم تسليمها، فعينه جلالة الملك عبد العزيز إماما وخطيباً للمسجد الحرام فشغل هذا المنصب واستمر فيه إلى أن صدرت الإرادة السنية من الملك عبد العزيز بتعيينه رئيساً للقضاة بالحجاز وذلك سنة 1346ه ثم أسند إليه الملك زيادة على ذلك الأشراف على الحرمين والمدرسين فيهما وأسند إليه وظائف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وملاحظة المساجد والإشراف عليها واختيار الأئمة وتعيينهم وتوزيع الكتب المطبوعة على نفقة الملك عبد العزيز على المستحقين من طلاب العلم والمعرفة.
وأسند إليه مع هذا مهمة اختيار الوعاظ والمرشدين وبعثهم إلى القرى والبوادي لإرشادهم وتعليمهم واجبات الإسلام وأمور الدين، فقام -رحمه الله تعالى- بأعباء كل ما أسند إليه خير قيام.
وكان إلى جانب كل ما ذكرناه من الأعمال قائما بنشر العلم وتدريسه في الرياض ثم في الحجاز، فقد أخذ عنه العلم في نجد وفي الحجاز خلق لا يحصون نذكر من فضلائهم في هذه الترجمة المقتضبة أخوه العلامة الشيخ عمر ابن الشيخ حسن، والشيخ العلامة محمد بت عثمان الشاوي، والشيخ فالح بن عثمان الصغير، والشيخ عبد الرحمن بن داود، والشيخ عبد الرحمن بن عقلا، والشيخ عبد العزيز بن محمد الشثري الملقب بأبي حبيب، والشيخ عبد العزيز بن سوداء، وعلي بن زيد، وإبراهيم بن حسين. هؤلاء قرأوا عليه العلم في نجد وأخذ عنه العلم بالحجاز عدد كثير نذكر من فضلائهم محمد عبد الظاهر أبا السمح أمام الحرم المكي قرأ عليه في رد عثمان بن سعيد الدارمي وسمع عليه قراءات كثيرة في التوحيد والحديث والتفسير، وقرأ عليه الشيخ سليمان أباظة الأزهري فتح المجيد من أوله إلى آخره، وقرأ عليه الشيخ علي بن محمد الهندي
ص -123-(27/19)
كتبا كثيرة وأمر عليه مجموع الرسائل والمسائل النجدية جمع ابن قاسم من أوله إلى آخره وكان هذا المجموع أربع مجلدات كبار أخذ المذكور في قراءتها على الشيخ نحو ثلاث سنوات، وقرأ عليه ابنه الشيخ عبد العزيز بن عبد الله في الفقه والتوحيد وكتاب تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد للشيخ سليمان ابن الشيخ عبد الله وكان الكتاب ذلك اليوم مخطوطاً غير مطبوع وقد طبع فيما بعد، وقرأ عليه ابنه الشيخ محمد القرآن الكريم وقواعد التجويد ومؤلفات شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، وقرأ عليه ابنه معالي الشيخ حسن وزير المعارف في هذا العهد السعيد مبادئ العلوم وختم عليه القرآن الكريم عدة مرات وبالجملة فقد كانت داره الرحيبة المطلة على الحرم الشريف والمعروفة بالداوودية1 عامرة بالقراءات ينتابها رواد العلم وطلاب المعرفة يتزودون من العلوم والفنون.
وقد كان الشيخ –رحمه الله- من خيرة البقية الباقية من علماء دعوة التوحيد والدين وقورا مهيبا أمارا بالمعروف نهاءا عن المنكر لا تأخذه في الله لومة لائم، وكان على سمت علماء السلف الصالح وهديهم بعيدا عن مفاتن الحياة والتهالك على الدنيا، مثابرا على أعمال البر والخير وواجبات العلم والدين وقائماً بكل ما وكل إليه من أمور المسلمين على الطريقة السوية والوجه الأكمل إلى أن توفاه الله في يوم السبت سابع رجب الساعة الثانية ليلا سنة 1378هـ عن واحد وتسعين عاما أمضاها في نشر العلم وبث الدعوة وخدمة الإسلام ونصرة الدين، وقد وجم الناس لموته -رحمه الله- وحزنوا عليه حزنا شديدا وصلوا عليه بالمسجد الحرام وحضر الصلاة عليه سعود بن عبد العزيز وشيعه إلى المقبرة وخرج الناس والأعيان والرؤساء معه، فدفن بمقابر العدل بمكة المكرمة،
__________
1 دخلت مع رباط الداوودية في توسعة مشروع الحرم سنة 1380ه تقريباً.
تتخلف الآثار عن أربابها
حيناً ويدركها الفناء فتتبع(27/20)
-رحم الله- الشيخ عبد الله فانه كان من العلماء العاملين والأجواد المحسنين.
ص -124-
وقد رثاه –رحمه الله- العلماء ورجال الفضل والأدباء نثرا ونظماً وذلك على صفحات الصحف المحلية وحسبنا أن نشير في هذه الترجمة الموجزة إلى بعض من رثاه وهم أخوه العلامة الشيخ عمر بن حسن وابنه معالي الشيخ حسن والشيخ صالح جمال والشيخ عبد الله خياط أحد أئمة الحرم وخطبائه والأستاذ أحمد عبد الغفور عطار والشيخ عبد الله البسام قاضي المستعجلة الثالثة بمكة المكرمة1 والأستاذ مصطفى حسين عطار مدير التعليم بمكة المكرمة والشيخ محمد عبد الرحيم قاضي مستعجلة المدينة والشيخ علي بن محمد الهندي والشيخ سعيد بن عبد العزيز بن جندول ومحرر هذه الترجمة عبد الرحمن بن عبد اللطيف بن عبد الله آل الشيخ وعبد العزيز عبد الرحمن آل الشيخ والشيخ عمر عبد الجبار2. هؤلاء المذكورون رثوه نثراً وقد رثاه شعرا أديب الحجاز وشاعرها الكبير الشيخ أحمد بن إبراهيم الغزاوي نائب رئيس مجلس الشورى بمكة المكرمة والشيخ محمد بن عبد العزيز بن هليل المستشار الشرعي لديوان المظالم والشيخ عبد الله بن محمد بن خميس الكاتب الشهير والأستاذ محمد بن مقحم -رحمه الله- لأنه توفي بعد ذلك ورثاه غير من أوردنا أسماءهم خلق كثير وحسبنا أن نذكر في هذه الترجمة المقتضية مرثية ابنه معالي الشيخ حسن ونعقبها بذكر مرثية الشيخ أحمد بن إبراهيم الغزاوي:
كلمة الشيخ حسن عن والده:
هم يريدون مني أن أتحدث عن والدي والحيرة والتردد يسيطران على مشاعري وأحس إحساساً غريباً لا أستطيع تصويره، يتملك جوانحي وكيف أتحدث عنه والفجيعة بفقده أخرست الألسن وهول رحيله أدمى القلوب.؟!
__________
1 نقل الشيخ عبد الله البسام بعد ذلك إلى رئاسة محكمة الطائف ثم نقل منها إلى عضوية هيئة التمييز بالمنطقة الغربية بمكة المكرمة وفضيلته من خيرة رجال العلم والقضاء.
2 توفي(27/21)
الشيخ عبد الجبار بعد ذلك صباح السبت سادس عشر محرم عام ألف وثلاثمائة وأحد وتسعين من الهجرة وكانت ولادته سنة 1320 ه بمكة -رحمه الله وعفا عنه وغفر له-.
ص -125-
نعم، كيف أستطيع الحديث عنه وأنا لم أجد في موته أبلغ من الصمت الحزين عليه؟! إنها مهمة صعبة وقاسية تلك التي أحاول أن أدفع بنفسي أو يحاول من أحب أن يدفع بي إليها.
وأنا وبياني العاجز وقلمي المتعثر مجموعة لا أطن أنها مستطيعة أن تبلغ شأواً ولو كان قصيراً في هذا الميدان ولكني أجدها مناسبة كريمة أن أفتتح هذه الرسالة التي جمعت مشاعر الوفاء والنبل مما شاء إخوة كرام أن يشاركونا به في مصابنا الجلل ولهم شكرنا ومن الله الأجر والمثوبة.
وانا –حينما أحاول أن أقدم هذه الرسالة- أجد الجرح الذي أوجده فراقه الأليم –على غوره- لم يندمل وأحس الحزن على مصابنا فيه -على عمقه- لم يتوار ولكن لا نقول إلا كما الصابرون {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} واعتقد أن من الصعوبة بمكان أن أتحدث عن شخصية والدي –رحمه الله- لأنها شخصية متعددة الجوانب ولكن لا أجد ضيراً إذا استعرضت ما يحضرني من صفاته وأقواله ان كنت لست بمستطيع في هذه العجلة أن أكتب كما أريد.
كان -رحمه الله- حريصا كل الحرص على تعاليم دينه، وعلى فضائل الأخلاق وكان صارما في الخير وقويا في التوجيه يتعهدنا بالنصائح الجامعة والمواعظ البالغة ويقول:
" إياكم والدنيا والحرص عليها فقليلها يكفي المرء كساء وقوتا ولا تطلبوها بإضعاف دينكم" كان يغضب لو أقيمت الصلاة ثم وجد أحد أفراد حاشيته يؤدي بعض الفوائت ويقول "ان من يتهاون في ركعة قد يؤول به الحال إلى فقدان الاهتمام بأدائها جماعة لفي أول وقتها اذا حان وقت الأذان" كانت الصلاة شغله الشاغل حتى يؤديها غفر الله له ورضي عنه.
كان حريصا على إتباع السنة في كل قول وفعل يكره أشد ما يكره التساهل في مندوب أو مستحب ويقول: احرصوا عليهما لأنهما سياج يحمي(27/22)
الواجب الذي يتحتم القيام به. يحب في الله ويبغض فيه لم يكن حبه ولا بغضه لدينا أو
ص -126-
جاه أو شرف. كثير العطف على الفقراء والمساكين يؤنسهم بحديثه ويقبل عليهم بوجهه حتى أن أحدهم يقبل عليه وهو يرتجف هيبة ووقارا ثم يتحدث إليه برفق وبساطة حتى يعيد إليه هدوءه وانسه متواضع لا يعرف الكبر ولا العجب سبيلا إلى نفسه وقلبه، يكره التفريط في الوقت وإضاعته، كنت لا أراه إلا ممسكا بكتاب يقرؤه قراءة الباحث المنقب.
ولما ضعف بصره استبدل بقراءته قارئا يصحبه أينما كان وكثيرا ما تشرفت بالقراءة عليه كان لا يدع القراءة إلا ليعود إليها وبين المغرب والعشاء تكون داره أشبه بندوة علمية يحضرها طلبة العلم وكلهم ممسك بكتابه واحدهم يقرأ حتى يرتفع صوت المؤذن يدعو لصلاة العشاء ويقول: "عليكم بالدأب على قراءة النافع من الكتب فهي أفضل ما أنفقتم أوقاتكم فيه "كان حريصا على صلة الرحم وكم تحمل في سبيل ذلك من الأذى وكان يلقي الجحود والنكران وكنا نشفق عليه من سماع ما يوجه إليه ولكنه يخلف ظنوننا ويتلقى كل ذلك بهدوء المؤمن الصابر ويقول: "هذا لا يضرني" واذا بلغ به ما سمعه كان يقول: هداهم الله ولقد سمعته ومعي غيري يقول: من نعمة الله على أنني لم أحدث نفسي يوما بالانتقام لهل وقد عودني ربي أن يدافع عني وكان مرافقوه شديدي الدهشة على هذه المواقف الكريمة التي كان يقفها ممن يريد الإساءة إليه اذ كان يقابل إساءتهم بالصفح والتجاوز فعاش سليم الصدر لم يبت ليلة حاقدا على أحد ولم ير غاضباً لنفسه بل لم يكن يغضب إلا اذا تناهى إلى مسامعه انتهاك حرمات الله أو مجاهرة بمنكر أو الإقدام على معصية انه حينذاك يثور ولا يهدأ حتى ينتصر لحدود الله مهما كان معتديها. فعلمنا دروسا كريمة نبيلة قال لي يوما –ويده اليمنى يتخلل بأصابعها لحيته البيضاء- طيب الله ثراه- قال: اسمع يا بني لا تحاول يوما ان تنتصر لنفسك فانك ان كنت على حق فسيدافع الله عنك وان(27/23)
لم تكن عليه فليكن حديثهم عنك دافعا لك إلى العودة إلى الحق الذي لا أرتضي لك مجاوزته. وقال لي يوما: أوصيك بصلة رحمك فصلتها خير لك في دنياك وآخرتك. وكثيرا ما استشهد بالأحاديث النبوية
ص -127-
التي تحث على صلة الرحم ويردد قول رسول الله صلوات الله وسلامه عليه "ليس الواصل بالمكافئ" لقد أوذي في حياته ممن هم دونه ولكنه صمد صابرا صافحا مسامحا وعاش حياته كذلك، ثم خرج منها سليم الصدر رفيع المكانة لم يستطع إنسان أن ينال من مكانته وقدره محبوبا مرهوب الجانب لأنه كان صادقا فيما يقول ويفعل. فأجمع الناس -بحمد الله- على محبته.
وكان لا يزداد كل يوم إلا عزة ورفعة وكان كثيرا ما يردد: أخشى أن يكون ما أنا فيه استدراج من الله لي فأنا كل يوم في نعمة جديدة. ثم تختلج الكلمات بين شفتيه وهو يكاد يبكي كانت مجالسة عامرة بذكر الله والحث على التواصي بالخير والزهد في الدنيا والتقليل من شأنها والتحسر على ما وصلت إليه حالة المسلمين اليوم من فقدان الموالاة في الله والمعاداة فيه. وكان يروي وقائع في هذا المجال تكاد تكون مستحيلة الوقوع لبعد حاضرنا عنها. كان يعلمنا الإخلاص في العمل ويقول: أخلصوا في أداء ما أنيط بكم من أعمال تفوزوا برضاء الله تعالى وحسن توفيقه. إنكم مسؤولون عن أعمالكم فراقبوا الله في أدائها على النحو الذي يرضيه ان ما يعطى لكم من هذا المال كمرتب لقاء أعمالكم لا تستحلوه حتى تقوموا بها كاملة ترضي الله.
واشتد به مرضه وكان يتنقل على الكرسي ذي العجلات الأربع ويقول: لماذا لا أذهب لعملي؟! والأطباء يؤكدون ضرورة راحته وعرض ما يراد عرضه عليه في فراشه وهو يقول: هذا مستحيل لا بد من القيام بعملي وكيف يحل لي تركه وأنا أستطيعه؟ وكانت تقوم محاولات عنيفة تنتهي غالبا بهزيمتنا ونصائح الأطباء أمام عزيمته القوية وينقل إلى مقر عمله وهو يحمل آثار المرض رضي الله عنه وأرضاه.
وكان يحمل على الدنيا ويقلل من شأنها ويحذر(27/24)
من الاغترار بها وينحي باللائمة على من يكنزون أموالهم ويقول: لا تنفعهم فهي وبال عليهم في الدنيا والآخرة.وقال لأكثر من واحد من جلسائه: انه يتضايق اذا علم بوجود نقود تفيض عن حاجته لديه.
ص -128-
يرحمه الله... كان نادر المثيل وكانت فجيعتنا بفقده أكبر من الوصف وأجل من التصوير ولئن رزئنا بفقده فإن أهدافه الكريمة وخلائقه الفاضلة ستظل بإذن الله هدفنا ورائدنا.
ولقد مات راضي النفس قرير العين يلهج بذكر الله وينادي وهو في أشد حالات المرض من حوله ويقول: هل صلينا؟.. اذا حضرت الصلاة فأعلموني....
كانت هذه كلماته حتى قبيل موته بساعات ولست أزكيه على ربه ولكن أستعرض ما أشرت إليه ليوقظ في نفوسنا الشعور بالعلاقة المتينة التي تربط المسلم بربه والتي يجب أن تظل قوية الأصل متينة الجذور.. رحمه الله رحمة واسعة وأسبغ عليه شآبيب رحمته ورضوانه وجزاه عنا خير جزاء وأفضله وشمل تقصيره وقصور عمله بعفوه الشامل ورحمته الواسعة ولا حرمنا أجره ولا فتنا بعده... انه جواد كريم.
وقال الشيخ أحمد بن إبراهيم الغزاوي يرثي سماحة المترجم له الشيخ عبد الله بن حسن هذه القصيدة المؤثرة البليغة:
ما للعيون بمائها تتحجر
وقلوبنا بالحزن فيه تفجر
حبر من الرحمن يفجع نعيه
كانت به التقوى تعز وتفخر
من خير آل الشيخ من أعلامهم
وجميعهم بالباقيات مؤزر
لله عمر في الجهاد قضيته
يزهو به التوحيد وهو يكبر
كافحت فيه عن الشريعة مؤمنا
وأمرت بالمعروف حيث المنكر
وجعلت دأبك دعوة الصدق التي
لا يمتري فيها ولا هي تكفر
خلق كأنفاس الربيع مدرع
بالعلم وهو عن الرسالة يصدر
ما كنت إلا كوكبا متوقدا
وبك الجوامع كلها تتنور
قبل الآذان إلى الصلاة مبادرا
والليل داج والرياح تزمجر
ص -129-
في خشية لله دون جمالها
ما ضمت الدنيا وما هي تؤثر
والحق أنك في خشوعك آية
ويقينك الحصن الذي لا يقهر
تسعى إلى الصلوات في أوقاتها(27/25)
دلجا وتنذر بالهدى وتبشر
تلقاء بيت الله بين حطيمه
عند المقام مكانك المتخير
كم كنت تدعو للمهيمن هاديا
ومذكرا وكم انتضاك المنبر
وكم اقتدى بك عالم ومعلم
ومهلل ومحلق ومقصر
وكم الحجيج أفاض من عرفاته
حججا وأنت خطيبه المتوقر
هيهات يجحد فضلك القمر الذي
تشدو به شتى البلاد وتجهر
ما كنت إلا من مصابيح الهدى
ولك المواقف والعوارف تشهر
تفنى العصور وأنت فيها خالد
بالصالحات وبالمحامد تذكر
مهما استفاض الشعر فيك مراثيا
فهو المقصر والمقارب يؤجر
ورجاؤنا في الله أنك عنده
ممن رضوا عنه وفيه استبشروا
والموت حق والحياة مراحل
وبنوك دين الله فيهم ينصر
ولنا العزاء بهم وهم في شملهم
لك قرة وبنورهم نتبصر
يا حافظا لله وهو مودع
ومطيعه والكائنات تفطر
لك في جنان الخلد ما تجزى به
ولنا بمن خلقت كنز يبهر
وقد أنجب الشيخ عبد الله بن الشيخ خمسة أبناء هم الشيخ محمد مدير الشؤون الدينية بالمنطقة الغربية, ومعالي الشيخ عبد العزيز وزير المعارف سابقا وخطيب الحرم المكي حاضرا، ومعالي الشيخ حسن وزير المعارف في هذا العهد المبارك السعيد، وقد عرف معالي الشيخ حسن آل الشيخ بكتاباته الإسلامية ومحاربته البدع ومناصرة الإسلام والدين. وكتاب "دورنا في الكفاح" الذي ألفه معاليه بعض من كفاحه ونضاله الدائب عن الإسلام وحرمات الدين، وقد عرف معالي الشيخ حسن زيادة على هذا بتشجيعه لرجال التأليف والإنتاج
ص -130-
من العلماء والأدباء المخلصين لدعوة الإسلام والدين حيثما كانوا.
حفظ الله معاليه وأسبغ عليه نهمه ظاهرة وباطنة.
وقد خلف الشيخ عبد الله غير هؤلاء الأبناء الثلاثة ابنين هما: إبراهيم وأحمد -رحم الله- الشيخ عبد الله وأسكنه فسيح جنته ورضي عنه وأرضاه والحمد لله أولا وآخرا وصلى الله على محمد وآله وسلم.
ص -131-(27/26)
الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم
هو الفاضل الذكي الشيخ عبد اللطيف ابن إبراهيم ابن الشيخ عبد اللطيف ابن الشيخ عبد الرحمن بن حسن ابن شيخ الإسلام محمد ابن عبد الوهاب. ولد بمدينة الرياض عام 1315هـ ونشأ بها وقرأ القرآن نظرا، ثم شرع في قراءة العلم على عمه الشيخ عبد الله ابن الشيخ عبد اللطيف وعلى الشيخ حمد بن فارس وعلى الشيخ سعد بن حمد بن عتيق، وقرأ الفرائض على الشيخ الفرضي عبد الله بن راشد بن جلعود العنزي وتبحر في هذا الفن وشارك في غيره من العلوم.
جلس لطلاب العلم بعد صلاة المغرب في الفرائض وجلس لهم بعد صلاة الفجر في الأجرومية في النحو وتولى إدارة المعهد العلمي عند افتتاحه سنة 1370هـ ثم صار مديرا عاما للمعاهد والكليات ثم نائبا لأخيه الشيخ محمد رئيس الكليات والمعاهد العلمية.
له معرفة بالعروض ويقرض الشعر، له قصيدة طويلة رثاء في عمه الشيخ عبد الله بن الشيخ عبد اللطيف، وله قصيدة طويلة تبلغ مائتي بيت رد بها على قصيدة صبحي الحلبي مطلعها:
صحي القلب عن ذكر الحسان الكواعب
وعن مدح بيض فاحمات الذوائب
ووصف لآرام نعمن بوجرة
وندب لاطلال عفت بالسباسب
وكان إلى جانب ما يقوم به من الأعمال والتدريس يجلس في داره من بعد صلاة الظهر إلى قريب أذان العصر وكاتبه عن يمينه يكتب بين الناس وثائق
ص -132-(27/27)
البيع والشراء في العقارات من الدور والأراضي والنخيل وقد طبع على نفقته كتاب "رفع الايهام والاضطراب عن آي الكتاب" للشيخ محمد الأمين الشنقيطي، كما طبع الرد1 الجهمية تأليف عثمان2 بن سعيد الدارمي الشافعي المتوفى سنة 280هـ.
جزاه الله خيرا، توفي في ثالث شوال عام 1386هـ بمدينة الرياض وحزن عليه الناس وصلي عليه بجامع الرياض الكبير ودفن بمقبرة العود وخلف ابنين هما: عبد الله ومحمد. -رحمه الله- وغفر له وأسكنه فسيح جنته، انه لسميع مجيب.
__________
1) طبع في مطابع منشورات المكتب الإسلامي ببيروت.
2) هو عثمان بن سعيد الدرامي الذي له رد على بشر المريسي واسمه بالكامل عثمان بن سعيد ابن خالد الدارمي السجستاني محدث هراة وصاحب كتاب النقض علي بشر المريسي الذي طبع بعنوان "رد الإمام عثمان بن سعيد علي بشر المريسي العنيد" وذلك بطبعة أنصار السنة المحمدية بمصر عام 1358هـ على نفقة محمد حامد الفقي –رحمه الله-.
ص -133-(27/28)
الشيخ محمد بن إبراهيم
هو العلامة الجليل الأصولي المحدث الفقيه الشيخ محمد بن الشيخ إبراهيم ابن الشيخ عبد اللطيف ابن الشيخ عبد الرحمن بن حسن ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، مفتي الديار السعودية ورئيس قضاتها في حياته –رحمه الله-.
مولده:
ولد في مدينة الرياض في السابع عشر من شهر محرم سنة ألف وثلاثمائة وإحدى عشرة من الهجرة ونشأ في كنف والده الشيخ إبراهيم ولما بلغ الثامنة من عمره أدخله مدرسة تحفيط القرآن عند مقرئ يدعى عبد الرحمن بن مفيريج فختم القرآن نظرا وهو في الحادية عشرة من عمره وطرأ عليه العمى وهو في الرابعة عشرة من عمره فأعاد قراءة القرآن مرة أخرى عن ظهر قلب حتى ختمه وحفظه تاما ثم شرع في قراءة العلم في مختصرات الشيخ محمد بن عبد الوهاب ومبادئ النحو والفرائض على والده1 الشيخ إبراهيم ثم شرع في القراءة على عمه الشيخ عبد الله ابن الشيخ عبد اللطيف في كتاب التوحيد ثم في العقيدة الواسطية والحموية لشيخ الإسلام ابن تيمية وقرأ عليه في أصول التفسير والحديث وقرأ على الشيخ سعد ابن الشيخ حمد بن عتيق في الفقه ومصطلح الحديث ولازمه ملازمة تامة وقرأ على الشيخ حمد بن فارس في
__________
1) كان والده اذ ذاك قاضيا لمدينة الرياض وتوفي عام 1329هـ انظر ترجمته في أول هذا الكتاب.
ص -134-(27/29)
الألفية وغيرها من المؤلفات النحوية وقرأ عليه في الفقه وقرأ على الشيخ عبد الله بن راشد بن جلعود العنزي نزيل مدينة الرياض آنذاك في الفرائض ولم يزل مجدا في طلب العلم إلى أن توفي عمه الشيخ عبد الله ابن الشيخ عبد اللطيف سنة 1339هـ فعينه الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود خلفا لعمه1 في الفتيا وإمامة المسجد والتدريس فصار يؤم الناس الفروض الخمسة في مسجد عمه المشهور بمسجد الشيخ "بحي دخنة"2 ويجلس فيه لطلبة العلم يقرأون عليه في مختلف العلوم وفي سنة 1345هـ أرسله جلالة الملك عبد العزيز آل سعود إلى أهل الغطغط لما غلوا في الدين وشددوا فيه تشديدا ينافي الشرع فمكث عندهم ستة شهور يبين لهم معاني الكتاب والسنة وعبارات رسائل علماء دعوة التوحيد السلفية ويحذرهم من الغلو ومجاوزة الأمور المحظورة ثم رجع إلى الرياض واستمر في نشر العلم وتعليمه.
طريقة تدريسه وأوقات جلوسه:
فكان –رحمه الله- إذا صلى الفجر جلس في المسجد يقرأ عليه صغار الطلبة في الآجرومية في النحو، وبعدهم يقرأ عليه متوسطو الطلبة في القطر لابن هشام في النحو، وبعدهم يقرأ عليه كبار الطلبة في ألفية ابن مالك وشرح ابن عقيل، فإذا انتهوا من قراءة النحو في الألفية والشرح قرأوا عليه في الفقه في "متن زاد المستنفع" غيبا، فإذا قرأ آخرهم وسكت أخذ الشيخ في إعادة ما قرأوه من المتن من حفظه وشرع يتكلم على العبارات ويوضح معاني الكلمات فإذا انتهى شرع أحد الطلاب في قراءة شرح الزاد المسمى "الروض المربع شرح زاد المستنفع" قراءة ترتيل يقف عند كل فقرة وجملة والشيخ يعلق(27/30)
__________
1 كان عمه الشيخ عبد الله ابن الشيخ عبد اللطيف في مرض موته أوصى الملك عبد العزيز ابن عبد الرحمن آل سعود به خيرا وأخبره بكفاءته العلمية والدينية بموجب ذلك يصلح أن يكون خليفة بعده في إمامة المسجد والتدريس وحل المشكلات لإلى غير ذلك -رحم الله الجميع وغفر لهم وجمع بينهم في دار كرامته انه سميع مجيب.
2 دخنة محلة من محلات الرياض.
ص -135-
على عبارات الشارح وجمله بكلام يوضح المعنى ويزيح الإشكال، ويصور المسائل تصويرا ملموسا يقرب المعاني الفقهية إلى أذهان الطلبة ويقرر قواعدها في نفوسهم لأنه -رحمه الله- آخذ بناصية علم الفقه ومتبحر فيه تبحراً عظيما، فإذا انتهى من تقريره على الفقه شرعوا في القراءة عليه في بلوغ المرام، فإذا أشارت الساعة إلى الواحدة نهاراً انصرف إلى داره وجلس فيها فإذا حالت الساعة الثالثة جاءه كبار الطلبة وخواصهم وقرأوا عليه إلى الساعة الخامسة نهاراً ثم انصرفوا فإذا أذن الظهر خرج وصلى بالناس في المسجد وجاء أهل المطولات وقرأوا عليه في مختلف الكتب بجامع الترمذي وصحيح البخاري وزاد المعاد في هدي خير العباد، فإذا انتهوا قرأ عليه بعض الطلبة في بعض المتون العلمية غيبا مثل كتاب التوحيد والعقيدة الواسطية، فإذا أذن العصر خرج إلى داره وجدد الوضوء ثم رجع وصلى بالناس العصر وجلس في المسجد يقرأ عليه أحد أعيان الطلبة في بعض الردود، فإذا انتهى قرأ عليه جملة من الطلبة في مصطلح الحديث، فإذا انتهوا قرأوا عليه في العقيدة الحموية لشيخ الإسلام ابن تيمية، فإذا بقي على أذان المغرب مقدار نصف ساعة خرج إلى داره، فإذا أذن المغرب جاء وصلى بالناس ثم جلس في المسجد للطلبة يقرأون عليه علم الفرائض والمواريث، فإذا ختم أذان العشاء قام من حلقة درس الفرائض إلى الصف الأول ثم أمر القارئ فشرع يقرأ عليه في تفسير ابن كثير إلى الساعة الثانية والنصف فيأمر بإقامة(27/31)
صلاة العشاء، فإذا أقيمت وصلى بالناس تنفل وأوتر وخرج إلى داره وهي قريبة من مسجده واستمر على هذا الترتيب في الدروس بهذه الصفة من عام 1339هـ إلى عام 1380هـ حيث ترك جميع الدروس ماعدا درس الفقه وبلوغ المرام فإنه لم يترك الجلوس لهما بعد صلاة الفجر إلى أن حبسه المرض.
وقد تخرج على يديه أفواج من العلماء كثيرون شغلوا مناصب القضاء والتدريس والدعوة إلى الله والإرشاد، وحسبنا أن نشير إلى البعض منهم إشارة موجزة في هذه الترجمة المقتضية على النحو الآتي:
ص -136-
1- الشيخ العلامة الجليل عبد الله بن محمد بن حُمَيد، الرئيس العام للإشراف الديني بالمسجد الحرام.
2- الشيخ عبد العزيز بن باز، رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
3- الشيخ عبد الله بن يوسف الوابل نزيل أبها في هذا الوقت.
4- شيخنا الشيخ عبد الله بن سليمان المسعري رئيس ديوان المظالم.
5- شيخنا الشيخ عبد العزيز بن ناصر بن رشيد رئيس هيئة التمييز بالمنطقة الشرقية.
6- الشيخ عبد الملك بن إبراهيم ابن الشيخ عبد اللطيف شقيق المترجم رئيس هيئات الأمر بالمعروف بالمنطقة الغربية.
7- الشيخ عبد العزيز ابن الشيخ عبد الله بن حسن آل الشيخ.
8- الشيخ صالح1 ابن الشيخ عبد العزيز بن محمد آل الشيخ.
9- الشيخ عبد الرحمن بن فارس أحد قضاة الرياض حاليا.
10- الشيخ عبد الرحمن بن سعد من بلد ملهم المعروفة بنجد.
11- الشيخ إبراهيم بن سليمان من آل مبارك أهل بلدة حريملاء تولى قضاء الحرمة والأفلاج وتوفي رحمه الله.
12- الشيخ محمد بن عبد العزيز ابن الشيخ حمد بن عتيق توفي -رحمه الله-.
13- الشيخ عبد الله بن عمر بن دهيش رئيس محكمة مكة المكرمة سابقا.
14- الشيخ سليمان بن عبيد السلمي رئيس محكمة حاليا.
15- الشيخ عبد العزيز بن عجلان من بلدة نعام المعروفة.
16- الشيخ محمد بن مسلم آل عثيمين.(27/32)
__________
1 توفي الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد عام 1363ه –رحمه الله-، وهو شقيق عبد الرحمن بن عبد العزيز رئيس هيئة الأمر بالمعروف بالطائف.
ص -137-
17- الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن فريّان1 من أهل مدينة الرياض الأقدمين.
18- وابنه2 الشيخ إبراهيم ابن الشيخ محمد بن إبراهيم نائب المفتي الأكبر.
19- وابنه الشيخ عبد العزيز ابن الشيخ محمد بن إبراهيم مدير المعاهد والكليات.
20- الشيخ راشد بن صالح بن خنين.
21- الشيخ سعود بن رشود رئيس محكمة الرياض في حياته -رحمه الله-.
22- الشيخ ناصر الحناكي.
23- الشيخ سعد بن غرير.
24- الشيخ سعد بن محمد بن فيصل آل مبارك من آل مبارك من أهل بلدة حريملاء.
25- الشيخ محمد بن مهيزع. أحد قضاة الرياض حاليا.
26- الشيخ عبد الله بن بكر توفي -رحمه الله-.
27- محمد السيحباني.
28- صالح السيحباني.
29- حسن بن مانع.
30- إبراهيم بن نغيمش.
31- زيد بن فياض.
32- محمد ابن الشيخ عبد الرحمن بن قاسم.
33- عبد العزيز بن محمد بن صالح بن شلهوب.
34- أحمد بن قاسم.
__________
1 الشيخ ابن فريان: من بني هاجر.
2 الضمير في قولنا وابنه عائد إلى المترجم له الشيخ محمد بن الشيخ إبراهيم.
ص -138-(27/33)
وقرأ عليه غير هؤلاء خلق كثير1 لا يحضرني ذكرهم ولا معرفة أسمائهم.
مؤلفاته:
ألف مؤلفات وكتب رسائل كثيرة وله فتاوى تبلغ مجلدات جمعها ورتبها الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن قاسم جامع "فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" وله فتاوى غير ما جمعه ابن قاسم تبلغ عدة مجلدات لا تزال محفوظة في ملفات دار الإفتاء بمدينة الرياض. وبلغني أن النية متجهة إلى ترتيبها وتحقيقها وتبويبها والقيام بطبعها، وله مجموعة حديث في الأحكام رتبها على أبواب الفقه لا تزال محفوظة في ملفاتها، وله معرفة بالعروض ويقرض الشعر على طرقة العلماء له مرثية في عمه الشيخ عبد الله ابن الشيخ عبد اللطيف تبلغ أبياتها خمس وخمسين بيتا، ومطلعها:
على الشيخ عبد الله بدر المحافل
نريق كصوب الغاديات الهواطل
وله أربعة أبيات رثاء في الشيخ عمر بن سليم.
سنوردها في ترجمة الشيخ عمر بن سليم -إن شاء الله-.
وظائفه وأعماله التي قام بها:
استمر في إمامة مسجد عمه الشيخ عبد الله المعروف بمسجد الشيخ وتدريس الطلاب فيه من عام 1339هـ إلى قبيل وفاته. وفي عام 1373هـ أنشئت دار الإفتاء والإشراف على الشؤون الدينية تحت رئاسة سماحته، وفي عام 1376هـ
__________
1 وكان –يرحمه الله- لا يدع طالب العلم المبتدئ يقرأ عليه في الفقه والمطولات حتى يقرأ عليه في مختصرات شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وهي شروط الصلاة وأركانها وأربع القواعد وثلاثة الأصول وكشف الشبهات وآداب المشي إلى الصلاة وكتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد، فإذا قرأ عليه هذه المختصرات عن ظهر قلب سمح له في القراءة عليه في مختصر المقنع وغيره من كتب الفقه وفي القراءة في بلوغ المرام وغيره من كتب أحاديث الأحكام وشروحها والروض المربع شرح زاد المستقنع وهذه قاعدته وقاعدة من تقدمه من علماء دعوة التوحيد السلفية -رحمهم الله-.
ص -139-(27/34)
أنشئت رئاسة القضاء تحت رئاسة سماحته في نجد والمنطقة الشرقية والمنطقة الشمالية، وبعد وفاة سماحة الشيخ عبد الله بن حسن آل الشيخ -رحمه الله- سنة 1378هـ رئيس القضاة بالحجاز والمنطقة الغربية ضمت رئاسة القضاء بالحجاز والمنطقة الغربية إلى سماحة المترجم فصار رئيس قضاة المملكة العربية السعودية عامة.
أعمال سماحته المتعلقة بالمدارس والمعاهد والكليات:
في عام 1369هـ عرض سماحته على جلالة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود فكرة إنشاء معهد علمي بمدينة الرياض، فأمر جلالته -رحمه الله- بإنشاء هذا المعهد وتخصيص مكافآت سخية لطلابه تحت إشراف سماحته، وتم افتتاح هذا المعهد المشار إليه عام 1370هـ وأسند سماحته إدارته إلى شقيقه الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم واختار سماحته عددا وفيرا من تلامذته وألحقهم بالسنة الثالثة من المعهد المذكور نظرا لقراءتهم عليه وتحصيلهم السابق المعادل للسنة المذكورة.
وفي عام 1373هـ أنشئت كلية الشريعة بمدينة الرياض فالتحق بها خريجو المعهد المذكور، وفي عام 1374هـ تحصل سماحته على أمر ملكي يخوله افتتاح فروع لهذا المعهد فأمر سماحته بافتتاح ستة معاهد في كل من بريدة وشقراء والإحساء والمجمعة ومكة المكرمة وسامطة من أعمال جازان، ثم بدأت فروع هذا المعهد تنتشر في جميع أنحاء المملكة1.
وفي عام 1374هـ أنشئت كلية اللغة العربية بمدينة الرياض.
__________
1 وفي عام 1381هـ تم فتح معاهد في كل من المدينة المنورة وحائل وأبها وفي عام 1383هـ افتتح معاهد في كل من الزلفي بنجد. وحوطة بني تميم ومكة المكرمة وبلجرشي بغامد وفي عام 1384هـ تم افتتاح معاهد في كل من جدة والدمام وتبوك. والدلم بالخرج. والأفلاج وفي عام 1385هـ افتتح معاهد في كل من الطائف والرس بنجد وجازان. وعرعر. والحفر ووادي الدواسر ونجران وفي عام 1386هـ افتتح معاهد في كل من الجوف. وبيشة. والبكيرية(27/35)
والباحة=
ص -140-
هذه بعض الأعمال التي كان يقوم بها ويضطلع بأعبائها في حياته، وقد أوردنا ملخصا يتضمن جميع الأعمال المنوطة بسماحته في ملحق خاص وضعناه في آخر هذه الترجمة ليرجع إليه من شاء الاطلاع ومعرفة ما كان ينوء به الفقيد من الأعمال العظيمة التي لا يستطيع القيام بها إلا من كان على مستواه من العلم ورجاحة العقل والاتزان ومعرفة موارد الأمور ومصادرها.
وفاته رحمه الله:
توفي ظهر يوم الأربعاء في الرابع والعشرين من شهر رمضان سنة ألف وثلاثمائة وتسع وثمانين عن عمر بلغ ثمان وسبعين سنة وثمانية شهور وثمانية أيام، وانزعج الناس لموته وحزنوا عليه حزنا شديدا وصلوا عليه في الجامع الكبير وأم الصلاة عليه الشيخ عبد العزيز بن باز وبعد فراغهم من الصلاة خرجوا به إلى المقبرة محمولا عل الأعناق وكان الجمع عظيما والزحام شديداً وشيعه إمام المسلمين جلالة الملك فيصل آل سعود والعلماء والأمراء والوزراء وجميع سكان مدينة الرياض وقبر بمقبرة العود، وخلف أربعة أبناء هم الشيخ عبد العزيز والشيخ إبراهيم وأحمد وعبد الله، وقد رثاه العلماء والأدباء والشعراء نثرا ونظما، ويكفي أن نشير إشارة خاطفة في هذه الترجمة الموجزة إلى بعض من رثاه مرتبين على النحو الآتي:
بعض الذين رثوا سماحته:
1- الشيخ راشد بن صالح بن خنين رثاه نثرا بعنوان "حادث جلل".
2- الشيخ حمد بن محمد بن فريّان.
__________
=وفي عام 1387هـ افتتح معاهد في كل من حوطة سدير والقويعية والبدايع وحريملاء كما افتتح معهد واحد في رأس الخيمة بعمان بتخفيف الميم وكل هذه المعاهد التي أشرنا إليها تابعة للمعاهد والكليات أما التابع لوزارة المعارف فشيء كثير يفوق التصور أدام الله بقاء إمام المسلمين ونصير العلم والدين جلالة الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود إنه سميع مجيب.
ص -141-(27/36)
3- الشيخ سعد بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن رويشد رثاه نثرا بعنوان "فقيد الإسلام".
4- ابنه عبد الله ابن الشيخ سعد بن عبد العزيز بن رويشد رثاه نثرا بعنوان "فجيعة مملكة في شيخ القضاء وقاضي العلماء".
5- ورثاه شعرا الشيخ عبد الله بن إدريس بقصيدة تبلغ أبياتها عشرين بيتا ومطلعها:
ما عاش إلا للعلوم وشرعة الإنصاف
وقضى الحياة مكرم الأوصاف
6- ورثاه الدكتور محمد عبد المنعم الخفاجي بقصيدة طويلة تبلغ أبياتها زهاء ثلاثة وخمسين بيتا ومطلعها:
أمات الشيخ هل ذهب الإمام
وطار به إلى الخلد الغمام
7- ورثاه الدكتور كامل الفقي مدرس بكلية اللغة العربية بالرياض رثاه بقصيدة تبلغ أبياتها اثنين وثلاثين بيتا ومطلعها:
دهى الجزيرة خطب ليس يحتمل
فلتنفطر مهج ولتنهمر مقل
8- ورثاه الشيخ محمد بن عبد العزيز بن هليل المستشار الشرعي بديوان المظالم بقصيدة تبلغ أبياتها أربعة وثلاثين بيتا ومطلعها:
على شيخنا الحبر الجليل محمد
حفيد إمام المسلمين محمد
محقق توحيد الإله بدعوة
تجلت بنهج مستبين محمد
9- ورثاه نجله الشيخ عبد العزيز ابن الشيخ محمد مدير المعاهد والكليات بقصيدة تبلغ أبياتها ثلاثة وعشرين بيتا ومطلعها:
خطب دهى فبكى له العلماء
وبكت لهول مصابه العقلاء
10- ورثاه نجله الشيخ إبراهيم ابن الشيخ محمد نائب المفتي الأكبر بقصيدة تبلغ أبياتها ثلاثين بيتا ومطلعها:
مصاب كبير وجرح أليم
ورزء عظيم وخطب جسيم
ص -142-(27/37)
ورثاه معالي الشيخ حسن ابن الشيخ عبد الله بن حسن آل الشيخ بهذه الكلمة التي نشرت في الصفحة الأولى من العدد الخاص من جريدة الدعوة عدد 231 الاثنين 13 شوال عام 1389هـ فقال تحت عنوان "عالم فقدناه":
"صنفان من الناس يترك فقدهما فراغا كبيرا وهزة بعيدة المدى بل وربما يؤدي ذهابهما إلى الاضطراب والحسرة، وهم العلماء المحققون والزعماء المخلصون، والأمم في كل مراحل حياتها لا تستغني عن أولائك ولا هؤلاء، لأنها بالعلماء تعرف واجباتها نحو ربها ودينها وتمضي في حياتها على بصيرة، وبالزعماء تتنظم معيشتها فتأمن بهم السبل ولا يمكن لأي إنسان أن يقف صامتا عندما يشهد انحدار أو تهاوى إحدى الدعامات التي يقوم عليها مجتمعه، ونحن بما فقدنا قبل أيام بوفاة صاحب السماحة مفتي الديار السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم نجد أنفسنا بشبه الدوامة الحائرة من الأسف والأسى، فالفقيد شخصية علمية لامعة وحياته كانت جهادا متلاحقا في سبيل العلم والتعليم وكان أبرز صفاته بعد علمه الواسع عقله الكبير فلقد كان يتحلى بعقل راجح يحجزه عن الاندفاع والتسرع بل لقد كان عند النوائب صامدا كالطود لا يتزعزع وتلك ميزة ينفرد بها القائل من الرجال ثم لقد كان -رحمه الله- صبورا على التزاماته الكثيرة وجلدا على أدائها وحتى الأيام الأخيرة من حياته يمارس كل واجباته والتزاماته بعزيمة صلبة لا تعرف الملل وميزة الصبر غالية يحتاج إليها الرجال العاملون.
وكلمتي هذه ليست تعدادا لفضائله أو مناقبه فهي كثيرة لا تقع تحت حصر، لكنها تعبير رمزي لمشاعري نحو فقده وأسفي لوفاته تغمده الله بواسع رحمته وألهمنا جميعا فيه العزاء والصبر وأصلح عقبه وإنا لله وإنا إليه راجعون".
آخر هذه الكلمة التي صورت للقارئ ما كان يتصف به الفقيد من العلم
ص -143-(27/38)
ورجاحة العقل وما كان يتحلى به من الصبر على ما أنيط به من الأعباء الجسيمة. رحمه الله وعفا عنه.
وسيرى القارئ على الصفحة التالية ملحقا في ملخص أعمال سماحته1 التي كان يشغلها ويقوم بأعبائها في حياته تغمده الله برحمته وغفرانه.
__________
1 ولا يفوتنا أن نذكر أن سماحته قام بعدة رحلات إلى خارج المملكة منها:
1- رحلته عام 1369هـ إلى مصر لعلاج رجليه .
2- رحلته إلى لندن لعلاج مرض ألم بسماحته عام 1386هـ.
3- رحلته إلى لندن عام 1389هـ للعلاج: وكان –يرحمه الله- يتابع بين الحج والعمرة ويصطاف في أخريات أيامه بمدينة الطائف ويزاول جميع أعماله المنوطة به هناك مدة الاصطياف –رحمه الله- وغفر له إنه سميع مجيب.
ص -144-
ملحق في ملخص أعمال سماحته
نلخص أعمال سماحته ومسؤولياته فيما يأتي:
1- دار الإفتاء.
2- رئاسة القضاء.
3- رئاسة الكليات والمعاهد العلمية.
4- رئاسة الجامعة الإسلامية التي أسست بالمدينة المنورة سنة 1381هـ وبعد وفاة سماحته أسندت رئاستها إلى الشيخ عبد العزيز بن باز في 15-09-1390هـ.
5- رئاسة دور الأيتام التي ضمت فيما بعد إلى وزارة العمل والشؤون الاجتماعية.
6- الإشراف على رئاسة تعليم البنات.
7- رئاسة المعهد العالي للقضاء.
8- رئاسة المجلس الأعلى لرابطة العالم الإسلامي.
9- رئاسة المكتبة السعودية التي أنشئت بجوار مسجد سماحته بحي دخنة عام 1370هـ.
10- رئاسة المعهد الإسلامي في نيجيريا.
11- رئاسة المجلس العالي للقضاء.
ص -145-(27/39)
12- رئاسة معهد إمام الدعوة.
13- خطيب الجامع الكبير وإمام العيدين.
14- إمام مسجد دخنة الكبير المعروف بمسجد الشيخ من عام 1339هـ إلى أن توفي -رحمه الله-.
15- الإشراف على نشر الدعوة الإسلامية في أفريقيا.
16- رشيس مؤسسة الدعوة الإسلامية الصحفية التي تصدر عنها الآن جريدة الدعوة.
17- بدأ في إنشاء مجلس هيئة1 كبار العلماء وأثبت في ميزانية عام 1389هـ غير أن المنية وافت سماحته -رحمه الله- قبل أن يباشر المجلس أعماله.
18- الإشراف على ترشيح الأئمة والمؤذنين.
19- تعين الوعاظ والمرشدين.
هذا موجز أعمال سماحته التي كان يضطلع بها في حياته -رحمه الله تعالى-.
__________
1 أنشئ مجلس هيئة كبار العلماء بأمر ملكي رقم 1/138 تاريخ8/7/1391هـ ونصه "بعون الله تعالى نحن فيصل بن عبد العزيز آل سعود ملك المملكة العربية السعودية بعد الاطلاع على المادة الثانية من الأمر الملكي رقم 1/137 وتاريخ 8/7/1391هـ أولا يعين المشائخ التالية أسمائهم أعضاء هيئة كبار العلماء: الشيخ عبد العزيز بن باز، الشيخ عبد الله بن حميد، الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، الشيخ سليمان بن عبيد، الشيخ عبد الله خياط، الشيخ صالح بن لحيدان، الشيخ عبد الرزاق عفيفي، الشيخ صالح بن غصون، الشيخ محضار بن عقيل، الشيخ محمد الحركان، الشيخ عبد العزيز بن صالح، الشيخ محمد بن جبير، الشيخ عبد الله بن غديان، الشيخ عبد الله بن منيع، الشيخ راشد بن خنين، الشيخ عبد المجيد حسن، الشيخ إبراهيم بن محمد آل الشيخ.
نقلا عن جريدة المدينة الخميس 12 رجب 1391 السنة الثامنة العدد 2258.
ص -146-(27/40)
ابن غنام
هو الشيخ حسين بن أبي بكر ابن غنام الأحسائي المالكي مذهبا التميمي نسبا. ولد ببلدة المبرز بالإحساء ونشأ بها وقرأ على علماء وفته في الإحساء، ثم نزح من الإحساء إلى مدينة الدرعية فقدما على الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود والشيخ محمد بن عبد الوهاب فأكرماه وأنزلاه المنزلة الرفيعة. فاستقر في الدرعية وجلس فيها لطلبة العلم يقرأون عليه "علم النحو والعروض" فقط، فأخذ عنه جملة من العلماء نذكر من فضلائهم في هذه الترجمة المقتضبة الشيخ سليمان ابن الشيخ عبد الله ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب والشيخ عبد العزيز بن حمد بن ناصر بن معمر والشيخ العلامة عبد الرحمن بن حسن ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
ألف الشيخ حسين ابن غنام المذكور مؤلفين هما1 "العقد الثمين في أصول الدين" وتاريخه المشهور بتاريخ ابن غنام وقد سماه "روضة الأفكار والأفهام لمرتاد حال الإمام وتعداد غزوات ذوي الإسلام" وهو تاريخ مسجوع سجعا مملا ممقوتاً لا يكاد يخرج قارئه يخلص من سجعه إلى المعنى المطلوب إلا بعد لأي وجهد، وقد طبع ثلاث طبعات: الأولى سنة 1331هـ بمدينة بومباي بالهند على نفقة الملك عبد العزيز آل سعود -رحمه الله-. والثانية بطبعة البابي الحلبي بمصر سنة 1368هـ على نفقة عبد المحسن بن عثمان "أبا بطين" صاحب المكتبة الأهلية سابقا بمدينة الرياض، والطبعة الثالثة سنة 1381هـ بمطبعة المدني
__________
1 يوجد مخطوطاً بالمكتبة السعودية بمدينة الرياض.
ص -147-
بمصر بتحقيق الدكتور ناصر الدين الأسد وملتزم نفقات الطبع الشيخ عبد العزيز ابن الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ وقد جرد في هذه الطبعة الأخيرة من الأسجاع الممقوتة، لكن مع الأسف تصرف فيه تصرفا مخلا حيث حذف منه جميع ما حواه من القصائد وهي سبع قصائد، اثنتان لمحمد بن إسماعيل اليمني المشهور بالصنعاني:
الأولى بائية ومطلعها:(27/41)
أما آن عما أنت فيه متاب
وهل لك بعد البعاد إياب
والثانية الدالية المشهورة ومطلعها:
سلامي على نجد ومن حل في نجد
وإن كان تسليمي على البعد لا يجدي
وخمس قصائد للمؤلف الشيخ حسن بن غنام، الأولى هائية ومطلعها:
نفوس الورى إلا القليل ركونها
إلى الغي لا يلفى لدين حنينها
تبلغ أبياتها ستة وثلاثين بيتا وتقع في ص 71 – 72 ج 2 طبعة "أبا بطين".
الثانية سينية قالها في مناسبة جلاء دهام بن دواس عن الرياض ومطلعها:
كشف الحق ظلمة الأغلاس
ومحا الدين جملة الأرجاس
والقصيدة الثالثة عينية قالها في رثاء شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ومطلعها:
إلى الله في كشف الشدائد نفزع
وليس إلى غير المهيمن مفزع
وتبلغ أبياتها تسعة وثلاثين بيتا وتقع في ج(2) ص 155 – 156 الطبعة المذكورة.
والقصيدة الرابعة الطائية التي رد بها على قصيدة محمد1 بن عبد الله بن
__________
1 هو والد عبد الوهاب بن فيروز وجدير بالذكر أن لعبد الوهاب بن محمد بن عبد الله ابن فيروز حاشية غير حاشيته المشهورة التي على الروض المربع حاشية ثانية على شرح المنتهى للشيخ منصور البهوتي غير كاملة وقد جردها من هوامش شرح المنتهى محمد بن حميد صاحب السحب الوابلة ذكر ذلك الشيخ محمد بن مانع في هامش ص 105 من الجزء الثاني من تاريخ الإحساء لابن عبد القادر.
ص -148-
فيروز ومطلعها:
على وجهها الموسوم بالشؤم قد خطا
عروس هوى ممقوتة زارت الشطا
تبلغ أبياتها ستة وسبعين بيتا وتقع في ج(2) ص 190 – 192 من الطبعة المذكورة وسنثبت هذه القصيدة في آخر هذه الترجمة -إن شاء الله-.
والقصيدة الخامسة الرائية قالها في مناسبة قتل ثُويني وتهنئة للأمير سعود ووالده الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود باستيلاء ابنه الأمير سعود على الإحساء ومطلعها:
تلألأ نور الحق وانصدع الفجر
وديجور ليل الشرك مزقه الظهر(27/42)
وتبلغ أبياتها مائة وثمانية عشر بيتا وتقع في ج(2) ص 237- 242 من الطبعة المذكورة.
وكل هذه القصائد التي نوهنا عنها حذفت من طبعة المدني بلا إشارة إلى حذفها وحذف أيضا من طبعة المدني رسالة الشيخ حمد بن ناصر بن معمر المسماة "الفواكه العذاب في الرد على من لم يحكم السنة والكتاب" وهذه الرسالة تقع في ج(2) طبعة أبي بطين وتبتدئ من ص 204 232 أي تبلغ ثمان وعشرين صفحة.
كما حذف الحديثان المسلسلان بالأولية اللذان رواهما الشيخ محمد بن عبد الوهاب أجازة، الأول "الراحمون يرحمهم الرحمن" الحديث والثاني "إذا أراد الله بعبده خيرا استعمله" الحديث.
وكل هذا الحذف لم يشر إليه فإذا جاء القارئ الذي لم يسبق له الاطلاع على الأصل ظن أن هذا هو تاريخ ابن غنام بكامله بدون حذف ولا تغير سوى السجعات حيث نوه عنها في التمهيد والمقدمة إذا علم هذا عدنا إلى ما نحن بصدده من ذكر قصيدة الشيخ حسين بن غنام التي رد بها على قصيدة محمد بن فيروز1 حيث يقول:
__________
1 هو محمد بن عبد الله بن فيروز والد عبد الوهاب بن فيروز صاحب الحاشية على الروض
ص -149-
على وجهها الموسوم بالشؤم قد خطا
عروس هوى ممقوتة زارت الشطا
تخطت فأخطت في المساعي مرامها
ومرسلها عن نيل مقصوده أخطا
وثارت لنار الشرك تذكي ضرامها
وسارت فبارت والإله لها قطا
لقد شوهت ما زخرفته بزورها
كما أنها بالمين قد أحكمت ربطا
وقد جاء منشيها بزور ومنكرٍ
وفحش وبهتان يعطى به عطا
وحان به داعي العناد لمهيع
تنكب عن سبل الهداية واشتطا
فضل عن الإرشاد والحق واعتدى
وغطا أناسا في طريقته غطا
وجاوز منهاج الهداية راضيا
عن الدين بالدنيا فما نالها بسطا
يحاول تشييدا ورفعا لما وهت
قواعده فوق البسيطة وانحطا(27/43)
__________
الربع شرح زاد المستقنع ومحمد بن عبد الله بن فيروز المذكور من والد أعداء دعوة الإسلام والتوحيد السلفية. ومطلع قصيدته التي رد عليها المترجم:
أتأمل كف السعد قد أثبتت خطا
بأقلام أشياخ لنا حررت ضبطا
توفي محمد بن فيروز في بلدة الزبير من أعمال العراق عام 1216هـ وقيل توفي بسوق الشيوخ من أعمال العراق والله أعلم.
ص -150-
ويسعى بتحريض وتهييج فتنة
تصير إذا شبت لحاء العدا شمطا
وربك بالمرصاد ممن يريد أن
يؤسس ركن الشرك من بعد أن حطا
فلا عجب من يعش عن ذكر ربه
يقيض له الشيطان ينشطه نشطا
لقد خاب مسعى من غدا طول عمره
يصد عن الوحيد من دان أو شطا
ولا كابن فيروز يروم سفاهة
دفاعا لحق في البرية قد وطا
وصار يذود الناس عما أتى به
أجلّ شفيع في الجزا للِّوى يعطى
ويدعو إلى نهج الضلالة معلنا
ومنهاج أهل الزيغ جهلا به أطا
يغالب أمر الله والله غالب
ويندب من لا يملك الرفع والحطا
ويرجو من المخلوق غوثاً ونصرة
يناديه من بعد أغثنا بلا أبطا
وذاك من الأقدار ما فك نفسه
ولم يغن عنه المال إذ بذل الشرطا
لئن كان يدعوه لتفريج كربة
فليس سوى الرحمن ندعو بلا استبطا
فبشراه بالخسران والذل إن سعى
بهدم لهذا الدين أو وافق الضغطا
ص -151-
ومن جرب الأشياء يكفه ما جرى
ويلغي أباطيلا عن الاهتدا شحطا
وينظر في عقبى الخيانة والردى
فكل امرئ خان العهود غدا سقطا
وللشهم في تلك القضايا مواعظ
يرد بها عنه الغواية والهمطا
وكم دولة كادت وقادت جموعها
فبادت وما فادت وما أدركت مسطا
يريدون إخفاء لما الله مظهر
وإتمام نور الله بالحفظ قد حيطا
رويدا فوعد الله لابد واقع
وقد وعد التمكين من عمل القسطا
ومن عارض الأقدار أو سخط القضا
فربك قهار له المنع والإعطا
وما ذاك إلا معتد ذو حماقة
توغل في الإبلاس واغتر وانغطا(27/44)
فويل له يوم القصاص وحيث لا
مناص وأهل النار تسرطهم سرطا
سمت عصبة التوحيد عما يشينهم
وعن وصفهم بالكفر لكنه الأخطى
أيوصف بالطاغوت من جدد الهدى
وأحيا أصول الدين والسنة الوسطى
وأعلن بالإسلام والدعوة التي
لها كشط المختار رأس العدا كشطا
وقام بأمر الحق في جاهلية
وأهل الردى والشرك تحسبه خلطا
ص -152-
وأطلع مولاه نجوم سعوده
بآل سعود حين صاروا له سبطا
فسبحان من عم العباد بحلمه
وفي هذه الدنيا بإمهاله غطا
يكفر قوما بالكتاب تمسكوا
وبالهدى والإجماع ما خالفوا شرطا
وما عمموا بالكفر بل خصصوا به
أناس من الإشراك أعمالهم حبطا
أفي محكم التنزيل تكفير من دعا
إلى الله والتقوى وإسلام من شطا
وأهل الهوى والزيغ والفِرَق التي
تُحرف وحيَ الله جازوا الهدى خرطا
وهل جاء في التنزيل والوحي شاهد
بتحقيق إسلام الروافض قد خطا
ومن قد نحا في الدين سنة صحبه
ينادي عليهم أنهم خبطوا خبطا
فتبا وسحقا يا لها من مقالة
من الإفك والبهتان قد سحبت مرطا
لينظر ذو الأحلام والعلم والتقى
إلى أي قوم في الهدى تبعوا الخطا
وفي غربة الإسلام أعظم شاهد
بإصلاح من قد قام يدعو الورى ضبطا
وربهانه العقليُّ نصرة رهطه
وتمكينهم في الأرض أكرم بهم رهطا
ص -153-
لقد رفعت أعلامهم بأميرهم
وأبناه أسد الحرب بل بأسهم أسطى
بهم أسفرت شمس الهدى بعد دجنها
وزال ظلام الشرك من بعد ما غطى
ذوو الحزم والتسديد والعزم والنهى
وأهل المعالي والفخار بهم نيطا
يذودون عن ورد الدنايا نفوسهم
ويسخون في نيل المزايا بها سفطا
فقد بذلوا في ذا النفوس فأحرزوا
به العز يا طوبى لمن أدرك القسطا
وقد ولي الأحسا سعود فأسعدت
مساعيه أهل الخير فانتظموا سمطا
وأبعد أهل الشرك عنها وأبعدت
مذاهبهم فيها وما أبصروا غمطا
وقرر أرباب الوظائف كلهم
وما شهدوا في كل أوقاتهم هبطا(27/45)
مدارسهم معمورة بعلومهم
وما ثبطوا عن نشر أحكامهم ثبطا
وما أبطلت أحكامهم حيثما أتى
بإبطالة الشرع الشريف وما أخطا
نعم هدمت للرفض فيها كنائس
وكل شعار الرفض عن أرضها ميطا
وما كان من جور ونكث وبدعة
ولهو وتابوت بكل الدعا مُعْطى
ص -154-
ولم ينف إلا كل من عمل الردى
ومن كان سبابا لمنطقه مسطا
فليس ترى إلا مفيدا وهاديا
وعلما وتحديثا بذا تسمع اللغطا
وأمر بمعروف وتنكير منكر
وتنكيل من قد قارف الذنبا والسخطا
وحثا على فعل الصلاة جماعة
وتوبيخ من عنها قد تخلف أو أبطا
فلله ربي الحمد والشكر دائما
على نعم لم يحص نظم لها ضبطا
لقد من مولانا علينا بمنة
وخولنا من فضله خير ما أعطى
وصب علينا من شآبيب بره
سحائب رحمى قد حوينا بها غبطا
بإنقاذنا من غمرة الشرك والهوى
ولولاه كنا في غيابها ورطا
عسى الله يعلي في الجنان محمداً
ويولي الرضا عبد العزيز الذي وطا
ويحرسه من كل سوء ونسله
ويُبقى سعودا في سعود وفي إبطا
أبا عُمرٍ هنيت بل هُنِّئ الورى
بما نالت والتوحيد حاز بك البسطا
إليك القرى والمدن ترنوا عيونها
تمناك ترعاها فتملؤها قسطا
ص -155-
وترتاح من عليا سعود ونصره
وتغبط نجدا والحسا الآن والخطا
فجهز له المنصور بالبشر تلقه
وتفرش إكراما لأقدامه بسطا
فقد طرز الإقبال آيات فوزه
براياته والنصر والفتح قد خطا
ودم شاربا كأس المسرة والهنا
بأطيب عيش والعدا تأكل الخمطا
وأزكى صلاة يبهر المسك عرفها
تعم رسولا في الورود لنا فرطا
كذا لآل والأصحاب ما خط كاتب
ونمق في مرسومه الشكل والنقطا
وفاته:
توفي الشيخ المترجم الشيخ حسين بن غنام بمدينة الدرعية سنة 1225هـ -رحمه الله، وغفر له، وأسكنه فسيح جنته-.
ص -156-(27/46)
الشيخ حمد بن ناصر بن معمر
هو العالم العلامة المحقق الشيخ حمد بن ناصر بن عثمان بن معمر النجدي التميمي من آل نعمر أهل العُيَيْنَة، نزح منها واستوطن مدينة الدرعية وقرأ فيها على شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب على الشيخ أبي بكر حسين ابن غنام نزيل الدرعية، صاحب التاريخ المشهور وعلى الشيخ سليمان بن عبد الوهاب أخي الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وبعد ذلك جلس للتدريس بمدينة الدرعية فأخذ عنه العلم خلق كثير من أهل الدرعية وغيرهم من أهل نجد الوافدين إليها، نذكر من فضلائهم في هذه الترجمة المقتضية ما يأتي الشيخ العلامة الشهيد سليمان ابن الشيخ عبد الله ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب. والشيخ العالم الكبير عبد الرحمن بن حسن ابن شيخ الإسلام محمد ابن عبد الوهاب ونجل المترجم الشيخ عبد العزيز ابن الشيخ حمد بن معمر. والشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين.
وبعد ذلك لما كان في سنة ألف ومائتين وإحدى عشرة من الهجرة طلب غالب بن مساعد شريف مكة من الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود أن يبعث إليه عالماً ليناظر علماء الحرم الشريف في شيء من أمور الدين، فبعث إليه الإمام عبد العزيز المترجم الشيخ حمد بن ناصر بن معمر على رأس ركب من العلماء، فلما وصلوا إلى الحرم الشريف أناخوا رواحلهم أمام قصر الشريف غالب فاستقبلهم بالحفاوة والإكرام وأنزلهم منزلا محترما يليق بهم، فلما طافوا وسعوا للعمرة ونحروا الجزر التي أرسلها معهم الأمير سعود بن عبد
ص -157-(27/47)
العزيز هديا للحرم واستراحوا أربعة أيام من عناء السفر جمع الشريف غالب علماء الحرم الشريف من أرباب مذاهب الأئمة الأربعة ما عدا الحنابلة فوقع بين علماء الحرم ومقدمهم يومئذ في الكلام الشيخ1 عبد الملك القلعي الحنفي وبين الشيخ حمد بن ناصر مناظرة عظيمة في مجالس عديدة بحضرة والي مكة الشريف غالب وبمشهد عظيم من أهل مكة وذلك في شهر رجب من السنة المذكورة سنة 1211هـ فظهر عليهم الشيخ حمد بن ناصر بن معمر بالحجة وقهرهم بالحق فسلموا له وأذعنوا، وقد سألهم -رحمه الله تعالى- ثلاث مسائل الأولى، ما قولكم فيمن دعا نبيا أو وليا واستغاث به في تفريج الكربات كقوله: يا رسول الله، أو يا ابن عباس، أو يا محجوب، أو غيرهم من الأولياء الصالحين.
والثانية، من قال لا إله إلا الله، محمدا رسول الله، ولم يصل ولم يزك هل يكون مؤمنا؟ والثالثة، قال هل يجوز البناء على القبور؟ فعكس علماء الحرم هذه الأسئلة على الشيخ حمد المذكور، وطلبوا منه الإجابة عليها فأجاب عنها -رحمه الله- بما يشفي الغليل، ويبتهج به من يتبع الدليل، وأصَّلَ الإجابة وحرَّرها لهم في رسالة سماها علماء الدرعية "الفواكه العذاب في الرد على من لم يحكم السنة والكتاب" وقد أوردها الشيخ حسين بن غنام2، في الجزء الثاني من تاريخه واختارها الشيخ سليمان بن سحمان مع مختاراته التي جمعها في رسالة وسماها "الهدية السنية والتحفة الوهابية النجدية" فطبعت عدة مرات، ولولا ذلك لأوردناها في ترجمتنا للشيخ حمد بن معمر المذكور، فإنها جليلة القدر عظيمة الفائدة، وقد أشار إلى ما جرى بين الشيخ(27/48)
__________
1 هو الشيخ عبد الملك بن عبد المنعم بن تاج الدين بن عبد المحسن بن سالم القلعي الحنفي. ولد بمكة وتلقى العلم من علماء المسجد الحرام وبعد أن أجيز بالتدريس جلس للتدريس بالمسجد الحرام فقرأ عليه خلق كثير ولما قدم إلى مكة محمد علي باشا الألباني بلغه أن الشيخ عبد الملك مريض فزاره. توفي سنة 1228هـ وله مؤلفات (1) فتاوى في 3 مجلدات (2) شرح على متن الاجرومية (3) حل الرمز على شرح الكنز.
2 أوردها الشيخ حسين بن غنام في الجزء الثاني من تاريخه بكاملها وحذفت من التاريخ المذكور المطبوع بمطبعة المدني بمصر.
ص -158-(27/49)
حمد بن ناصر بن معمر، وعلماء مكة من المناظرة الشيخ محمد بن علي الشوكاني. فقال في الجزء الثاني من كتابه" البدر الطالع" ص 7 بعد ترجمته للشريف غالب بن مساعد، ما نصه: "وبلغنا أنه وصل إلى مكة بعض علماء نجد لقصد المناظرة فناظر علماء مكة بحضرة الشريف في مسائل، تدل على ثبات قدمه، وقدم صاحبه في الدين" انتهى كلام الشوكاني.
وللشيخ حمد بن معمر غير هذه الرسالة رسائل كثيرة، أجاب فيها على أسئلة علمية، لو جمعت لبلغت مجلدا ضخما، ولكنها طبعت مفرقة في مجاميع الرسائل والمسائل النجدية، التي طبعت بمطبعة المنار أولا، ثم بمطبعة أم القرى في مكة المكرمة ثانيا، وقد ولاه الإمام سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود قضاء الدرعية من جملة قضاتها الكثيرين، وبعثه بعدما استولى على الحجاز1 سنة 1220هـ إلى مكة، عند الشريف غالب مشرفا على أحكام قضاة مكة المكرمة، فأقام بمكة نحو أربع سنوات، ثن توفي بها –رحمه الله- سنة ألف ومائتين وخمس وعشرين من الهجرة، في أول شهر ذي الحجة، وصلى عليه الناس تحت الكعبة المشرفة، ثم خرجوا به من الحرم إلى البياضية2، فخرج الإمام سعود بن عبد العزيز من قصره بالبياضية وصلى عليه بعدد كثير من المسلمين صلاة ثانية. قبل أن يدفن ثم دفنوه بعد ذلك بمقبرة البياضية.
قال أحمد بن محمد بن أحمد الحضراوي في تاريخه المخطوط الذي سماه "اللطائف في تاريخ الطائف" ما نصه نقلا منه عن السيد محمد ياسين ميرغني ابن عبد الله المحجوب لما ذكر كشف الإمام سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود للقبة التي فوق صخرة مقام إبراهيم. قال: "وكان المباشر له أي لكشف(27/50)
__________
1 استولى الإمام سعود بن عبد العزيز على الحجاز نهائيا سنة 1220هـ وبعث المترجم إلى مكة سنة 1221هـ.
2 البياضية تقع بأعلى مكة شرقي القصر العالي المشهور قبل ذلك بقصر السقاف والبياضية محلها محاكم المستعجلات اليوم الواقعة شرقي القصر المذكور.
ص -159-
القبة حمد بن ناصر"، يقصد به المترجم له. ثم ذكر بعد كلام لا فائدة من ذكره، أنه مات ودفن بالبياضية.
وقد ذكر المؤرخ عثمان بن عبد الله بن بشر في الجزء الأول من تاريخه ص 159 طبعة أبي بطين: أن الشيخ حمد1 بن ناصر بن معمر توفي بمكة، وخفي عليه أنه دفن بمقبرة البياضية. فلم يذكر ذلك.
وقد خلف الشيخ حمد ابنا عالما هو الشيخ عبد العزيز صاحب "منحة القريب المجيب في الرد على عباد الصليب" وسنورد له ترجمة في هذه الرسالة رحم الله الشيخ أحمد ورحم ابنه الشيخ عبد العزيز، وجميع مشائخ الإسلام، وعلماء الدين، إنه سميع مجيب. وصلى الله على محمد وسلم.
__________
1 قلت أورد صاحب خلاصة الكلام ذكره في معرض تحدثه عن الصلح الذي بين غالب والإمام سعود بن عبد العزيز قائلا ما نصه "ثم وصل من الدرعية عشرون رجلا فيهم حمد بن ناصر أحد علمائهم وكان الشريف بجدة وأعطوه كتاباً من سعود فيه اتهام أمر الصلح ونزل حمد إلى مسجد عكاش وجمع الناس وقرأ عليهم رسالة محمد بن عبد الوهاب وقبل الشريف بمنع جميع الأمور فأمر بهدم القباب وترك شرك التنباك وعدم بيعه وبدخول الناس المسجد عند سماع الأذان لصلاة الجماعة في المسجد وبتدريس رسائل ابن عبد الوهاب، وترك تكرير الجماعة في المسجد الحرام والاقتصار على الأذان في المنابر وترك التسليم والتذكير والترحيم وأبطل ضرب نوبته ونوبة والي جدة فتوجه حمد بن ناصر إلى الدرعية يخبرهم بذلك وأرسل الشريف معه رسولا فرجع بالجواب والشريف باق بجدة" انتهى ما ذكره دحلان مع حذف بعض(27/51)
كلمات عدائية لا يليق ذكرها.
ص -160-
الشيخ عبد العزيز الحصين
هو الشيخ العالم الورع التقي الزاهد عبد العزيز بن عبد الله الحصيِّن الناصري التميمي النجدي الحنبلي. ولد سنة ألف ومائة وأرع وخمسين من الهجرة في بلدة الوقف من قرى الوشم وقرأ القرآن حتى ختمه نظرا وعن ظهر قلب، ثم قرأ الفقه في صغره على الشيخ إبراهيم بن محمد بن عبد الله ابن الشيخ محمد بن أحمد بن إسماعيل قاضي بلد "القرائن1" في ناحية الوشم، ثم تفقه وقرأ على شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وأقام مدة سنين يقرأ عليه وكان يكرمه ويعظمه ونصبه قاضيا في ناحية الوشم للإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود واستمر في قضاء تلك الناحية زمن الإمام سعود وزمن ابنه الإمام عبد الله ابن محمد بن سعود، وقد أرسله الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود والشيخ محمد بن عبد الوهاب سنة 1185هـ إلى والي مكة آنذاك الشريف أحمد بن سعيد لمناظرة علماء مكة وأرسل معه الشيخ رسالة إلى الشريف المذكور وقدم مكة ونزل عند الشريف الملقب بالفعر، واجتمع هو وبعض علماء مكة عنده، وهم يحيى بن صالح الحنفي، وعبد الوهاب بن حسن التركي مفتي السلطان، وعبد الغني بن هلال، وتفاوضوا في ثلاث مسائل وقعت المناظرة فيها:
الأولى: ما نسب إلى أهل نجد من التكفير بالعموم. والثانية: هدم القباب
__________
1 القرائن اسم يطلق على قريتين متجاورتين واقعتين بالقرب من شقراء أحدهما تسمى غسلة والأخرى تسمى الوقف والظاهر أن المترجم الشيخ عبد العزيز ولد ببلدة الوقف كما أخبرني بذلك محمد بن عبد الله بن عمار من أهل بلدة الوقف.
ص -161-(27/52)
التي على القبور. والثالثة: إنكار دعوة الصالحين لطلب الشفاعة.
فذكر لهم الشيخ عبد العزيز: أن نسبة التكفير إلى أهل نجد بالعموم زور وبهتان عليهم. وأما هدم القباب التي على القبور فهو الحق والصواب كما هو وارد في كثير من الكتب وليس لدى العلماء فيه شك. وأما دعوة الصالحين وطلب الشفاعة منهم والاستغاثة بهم في النوازل فقد نص على تحريمه الأئمة العلماء وقرروا أنه من الشرك الذي فعله القدماء ولا يجادل في جوازه إلا كل ملحد أو جاهل، فأحضروا كتب الحنابلة فوجدوا أن الأمر كل ما ذكر فاقتنعوا واعترفوا بأن هذا دين الله وقالوا: هذا مذهب الإمام الأعظم وانصرف عنهم الشيخ عبد العزيز مبجلا.
ولما كان سنة ألف ومائتين وأربع من الهجرة أرسل غالب بن مساعد شريف مكة كتابا إلى الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود ذكر له فيه أنه يريد رجلا عارفا من أهل الدين يعرفه حقيقة الأمر ليكون فيه على بصيرة، فأرسل إليه المترجم الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الحصين وكتب معه الشيخ محمد كتابا هذا لفظه:
"بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الوهاب إلى علماء الإسلام في بلد الله الحرام نصر الله بهم دين سيد الأنام عليه أفضل الصلاة والسلام وتابعي الأئمة الأعلام سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد جرى علينا من الفتنة ما بلغكم وبلغ غيركم وسببه هدم بنيان في أرضنا على قبور الصالحين ومع هذا نهيناهم عن دعوة الصالحين وأمرناهم بإخلاص الدعاء لله فلما أظهرنا هذه المسألة مع ما ذكرنا من هدم البناء على القبور كبر على العامة وعاضدهم بعض من يدعي العلم لأسباب لا تخفى على مثلكم أعظمها إتباع الهوى مع أسباب أخرى فأشاعوا عنا أنا نسب الصالحين وأنا لسنا على جادة العلماء ورفعوا الأمر إلى المشرق والمغرب فأشاعوا عنا أشياء يستحيى من ذكرها وأنا أخبركم بما نحن عليه بسبب أن مثلكم ما يروج عليه الكذب فنحن ولله الحمد متبعون لا مبتدعون
ص -162-(27/53)
على مذهب الإمام أحمد ابن حنبل وتعلمون أعزكم الله أن المطاع في كثير من البلدان لو تبين بهاتين المسألتين أنها تكبر على العامة الذين درجوا وآباؤهم على ضد ذلك وأنتم تعلمون رحمكم الله أن في ولاية الشريف أحمد بن سعيد وصل إليكم الشيخ عبد العزيز1 بن عبد الله وأشرفتم على ما عندنا بعدما أحضروا كتب الحنابلة التي عندنا عمدة كالتحفة والنهاية عند الشافعية فلما طلب من الشريف غالب أعزه الله ونصره امتثلنا وهو إليكم واصل فإن كانت المسألة إجماعا فلا كلام وإن كانت مسألة اجتهاد فمعلومكم أن هلا إنكار في مسائل الاجتهاد فمن أفتى بمذهبه في ولايته لا ينكر عليه وأنا أشهد الله وملائكته وأشهدكم أني على دين الله ورسوله وإني متبع لأهل العلم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته". فقدم الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الحصين مكة المشرفة فأكرمه غالب واجتمع به مرات وعرض عليه رسالة الشيخ فعرف ما بها من الحق فأذعن الشريف وأقر بذلك وطلب منه الشيخ عبد العزيز حضور العلماء للمناظرة في التوحيد فأبوا: وقالوا هؤلاء يريدون أن يقطعوا جوائزك التي من أجدادك ويملكون بلادك فارتعش قلبه وطار ليه فرجع الشيخ عبد العزيز إلى نجد وأفهم الإمام عبد العزيز والشيخ محمداً بما حصل من تهرب علماء مكة عن المناظرة. وكان المترجم مع ما اتصف به من الإخلاص للدين زاهدا ليس للدنيا عنده قدر ولا يركن إليها ولا يتعاطاها أمضى عمره وقطع وقته في نسخ الكتب النافعة وطلب العلم وبذله وبلغ من زهده وورعه أنه إذا دخل عليه وقت حصاد الزرع وجذاذة ثمر النخل قوت سنته من الحنطة والتمر من بيت المال وقد بقي عنده شيء من قوت السنة الماضية وثمرتها أعاده لبيت المال ولا يترك عنده منه شيئا وكان -رحمه الله- يحب طالب العلم محبة عظيمة كأنه ولده بالتودد إليه وتعليمه وإدخال السرور عليه والقيام بما ينوبه من بيت المال وكانت كلمته(27/54)
__________
1 المترجم.
ص -163-
مسموعة وقوله نافذ عند الرؤساء ومن دونهم وكان عنده حلقة كبيرة للتدريس من أهل شقراء وأهل الوشم وغيرهم وكان مجلسه في التدريس للفقه من وقت طلوع الشمس إلى ارتفاع النهار وكان إذا فرغ من التدريس رفع يديه ورفع الطلبة أيديهم ثم دعا فأكثر الدعاء والطلبة يؤمنون على دعائه فإذا فرغ من الدعاء قاموا وتفرقوا ولا يحضر ذلك المجلس عنده أحد غير الطلبة أو اثنين أو ثلاثة من رؤساء أهل شقراء وله مجالس في التدريس غير ذلك للعامة وقت الظهر والعصر وبين العشاءين.
تلامذته:
قرأ عليه وأخذ عنه العلم عدد وفير من قضاة المسلمين منهم العلامة الشهير الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن "أبا بطين" والشيخ إبراهيم بن سيف قاضي ناحية سدير للإمام عبد الله بن سعود ثم كان قاضيا لمدينة الرياض زمن الإمام تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود وابنه الإمام فيصل، وأخذ عنه أيضاً الشيخ غنيم بن سيف والشيخ عبد الله بن سيف اللذان توليا على انفراد القضاء في مدينة عنيزة وغيرها زمن الإمام سعود ابن الإمام عبد العزيز وهما أخوان للشيخ إبراهيم بن سيف الآنف الذكر، وأخذ عنه أيضا القاضي في بلد القرائن في ناحية الوشم زمن الإمام سعود وابنه عبد الله أخوه الشيخ محمد بن عبد الله الحصين الناصري التميمي جد الأسرة المعروفة بآل الحصين، وأخذ عنه أيضا الشيخ علي بن يحي بن ساعد القاضي في ناحية سدير والشيخ عبد الله1 بن سليمان بن عبيد قاضي ناحية الجبل زمن الإمام سعود وابنه الإمام عبد الله ثم كان قاضيا في بلد جلاجل في أول ولاية الإمام تركي بن عبد الله والشيخ محمد ابن سيف بن خميس قاضي بلد ثرمداء والشيخ إبراهيم بن يحي قاضي بلد ثرمداء بعد ابن خميس المذكور والشيخ عثمان بن عبد المحسن "أبا حسين"(27/55)
__________
1 هو الشيخ عبد الله بن سليمان بن محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عبيد من أهل جلاجل توفي سنة 1241هـ في بلدة جلاجل.
ص -164-
قاضي بلد أشيقر ومحمد بن نشوان قاضي حريق نعام في ناحية الجنوب بنجد والشيخ عبد الله القضيبي من أهل بلدة شقراء والشيخ عبد الكريم1 بن معيقل صاحب القرائن وأخذ عنه خلق كثير غير هؤلاء المذكورين.
مؤلفاته:
رأيت له رسالة في الدرر السنية ج 2 وج 3 طبعة دار الإفتاء في موضوع "معنى العبادة" تبلغ أربعاً وستين صفحة وأظن أن له رسائل غيرها في مجموع الرسائل. -توفي رحمه الله- في الثاني عشر من رجب سنة 1237هـ وليس له ذرية وآل الحصين الموجودون اليوم من ذرية أخيه الشيخ محمد بن عبد الله الحصين، وقد ترجم للشيخ عبد العزيز بن عبد الله الحصين الشيخ عثمان بن عبد الله بن بشر في الجزء الأول من كتابه عنوان المجد في حوادث السنة المذكورة سنة 1237هـ2 رحم الله الجميع وغفر لهم وعفا عنهم وجميع المسلمين إنه سميع مجيب وصلى الله على محمد.
__________
1 أبى عن القضاء، وولي الإمارة في ناحية القصيم ثم في ناحية سدير للإمام سعود بن عبد العزيز وكان له معرفة في الفقه وغيره –رحمه الله-.
2 وقبل أن يترجم له ذكر أن أهل شقراء بعد أيام من مصالحتهم لإبراهيم باشا وشى بهم رجل عند الباشا وقال إنهم ارتحل منهم عدة رجال من أعيانهم وعامتهم إلى الدرعية وأنهم يريدون أن ينقضوا العهد بعدما ترتحل عنهم الخ فأفزع ذلك الباشا فدخل بلدة شقراء مغضباً ومعه عدد كثير من عساكره وجعل العسكر في المسجد ودخل الباشا بيت إبراهيم بن سدحان المعروف جنوب المسجد وأرسل إلى الأمير حمد بن يحي وهو جريح فجيء به فتكلم عليه بكلام غليظ ثم أرسل إلى الشيخ العالم عبد العزيز الحصين الناصري وكان قد كبر وثقل فجيء به محمولا فأكرمه وأعظمه الخ القصة.
وذكر الرواة أن(27/56)
الشيخ عبد العزيز الحصين لما أرسل إليه الباشا وجيء به ورأى الباشا مغضباً قرأ عليه آيات العفو. فقال الباشا باللغة المصرية الدارجة "عفونا ياعكوز عفونا يا عكوز" أي يا عجوز والله أعلم.
ص -165-
الشيخ عبد العزيز بن حمد
هو الشيخ العالم الكبير الملقب بالقاضي عبد العزيز بن الشيخ حمد بن إبراهيم بن حمد بن عبد الوهاب بن عبد الله بن عبد الوهاب بن موسى بن عبد القادر بن راشد بن بريد بن محمد بن بريد بن مشرف الوهبي التميمي.
سبط الشيخ محمد بن عبد الوهاب ابن بنته، كان أبوه الشيخ حمد1 بن إبراهيم بن حمد يشغل قضاء بلدة مراة ثم تركه وقدم على الشيخ محمد بن عبد الوهاب في مدينة الدرعية وتزوج ابنته والدة المترجم له وسكن الدرعية عند الشيخ محمد وأخذ يقرأ عليه. وقد ولد المترجم الشيخ عبد العزيز ابن حمد قبل سنة ألف2 ومائة وتسعين وقرأ على الشيخ عبد الله3 بن علي بن غريب وعلى الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب وغيرهم من علماء الدرعية وتولى القضاء في الدرعية زمن الإمام سعود وابنه الإمام عبد الله ابن الإمام سعود وأرسله الإمام سعود4 في سفارة إلى إمام صنعاء وهو صاحب الأجوبة
__________
1 قال الشيخ عثمان بن عبد الله بشر في تاريخه مصورة لندن "في آخر هذه السنة أي سنة 1294هـ وفيها توفي الشيخ حمد بن إبراهيم بن حمد بن عبد الله بن عبد الوهاب بن عبد الله قاضي مراة قرأ على قرأ على الشيخ محمد بن عبد الوهاب وتزوج ابنته وسكن الدرعية عنده وولدت منه القاضي عبد العزيز بن حمد".
2 السحب الوابلة.
3 كذا ورد اسمه في السحب الوابلة عبد الله بن غريب وأورد ذكره عثمان بن بشر وذكر أن اسمه محمد بن غريب وهو الصحيح.
4 السحب الوابلة.
ص -166-(27/57)
المعروفة1 بالمسائل الشرعية إلى علماء الدرعية أورد ذكره الشيخ عثمان بن عبد الله بن بشر في كتابه "عنوان المجد" في معرض تحدثه عن الصلح الذي بين طوسون والإمام عبد الله وذلك بقوله: وبعث عبد الله معهم بكتاب الصلح عبد الله بن محمد بن بنيان صاحب الدرعية والقاضي عبد العزيز بن حميد ليعرضوه على محمد علي صاحب مصر فوصلوا مصر ورجعوا منه وانتظم الصلح. وذكره عبد الرحمن بن حسن الجبرتي بقوله: "فيه وصلت2 هجانة وأخبار ومكاتبات من الديار الحجازية بوقوع الصلح بين طوسون باشا وعبد الله ابن سعود الذي تولى بعد أبيه كبيرا على الوهابية وأن عبد الله المذكور ترك الحرب والقتال وأذعن للطاعة وحقن الدماء وحضر من جماعة الوهابية نحو العشرين نفرا إلى طوسون باشا وصل معهم اثنان إلى مصر. فكأن الباشا لم يعجبه هذا الصلح ولم يظهر عليه علامات الرضا بذلك ولم يحسن نزل الواصلين ولما اجتمعا به وخاطبهما وعاتبهما على المخالفة فاعتذرا.
وذكر أن الأمير سعود المتوفى كان فيه عناد وحدة مزاج واما ابنه الأمير عبد الله فإنه لين الجانب والعريكة ويكره سفك الدماء على طريقة سلفه الأمير عبد العزيز المرحوم فإنه كان مسالما حتى أن المرحوم الوزير يوسف باشا حين كان بالمدينة كان نبينه وبينه غاية الصداقة ولم يقع بينهما منازعة ولا مخالفة في شيء ولم يحصل التفاقم والخلاف إلا في أيام الأمير سعود ومعظم الأمر من الشريف غالب بخلاف الأمير عبد الله فإنه أحسن السيرة وترك الخلاف وأمن الطرق والسبل للحجاج والمسافرين ونحو ذلك من الكلمات والعبارات المستحسنات وانقضى المجلس وانصرفا إلى المحل الذي أمرا بالنزول فيه ومعهما أتراك ملازمون لصحبتهما مع أتباعهما في الركوب والذهاب والإياب فإنه(27/58)
__________
1 المسائل الشرعية إلى علماء الدرعية التي أجاب عليها المترجم له تقع في ص 564 إلى آخر ص 584 من الجزء الرابع من مجموعة الرسائل والمسائل النجدية طبعة المنار بمصر عام 1349هـ.
2 تاريخ الجبرتي المسمى العجائب والآثار في التراجم والأخبار المجلد الرابع طبعة حسين شرف الكتبي حوادث شهر شوال عام 1230هـ ص 744.
ص -167-
أطلق لهما الإذن لإلى أي محل أراداه فكانا يركبان ويمران بالشوارع بأتباعهما ومن يصحبهما ويتفرجان على البلدة وأهلها ودخلا إلى الجامع الأزهر في وقت لم يكن فيه أحد من المتصدرين للإقراء والتدريس وسألا عن أهل مذهب الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه وعن الكتب الفقهية المصنفة في مذهبه فقيل انقرضوا من أرض مصر بالكلية واشتريا نسخا من كتب التفسير والحديث مثل الخازن والكشاف والبغوي والكتب الفقهية المجمع على صحتها وغير ذلك وقد اجتمعت بهما مرتين فوجدت منهما أنسا وطلاقة لسان واطلاعا وتضلعاً ومعرفة بالأخبار والنوادر ولهما من التواضع وتهذيب الأخلاق وحسن الأدب في الخطاب والتفقه في الدين واستحضار الفروع الفقهية واختلاف المذاهب فيما يفوق الوصف، واسم أحدهما عبد الله والآخر عبد العزيز وهو الأكبر حسّاً ومعنى"انتهى كلام عبد الرحمن بن حسن الجبرتي وقال بركهارت وهو يتحدث عن صلح الإمام عبد الله بن سعود وطوسون وعن الرسولين اللذين يحملان اتفاقية الصلح قال وما نصه: "وصل الرسولان الوافدان من قبل عبد الله ابن سعود وكانا في حاشية طوسون باشا في المدينة إلى القاهرة في أغسطس أثناء تمرد الجنود التي سبق ذكرها أحدهما كان يدعى عبد العزيز وهو أحد أقارب الشيخ محمد بن عبد الوهاب مؤسس الدعوة والآخر كان أحد ضباط سعود قدما لمحمد علي المعاهدة التي عقدت مع ابنه طوسون باشا ومعها الخطابات التي ذكرت من قبل، وكان عبد العزيز عالما كبيرا أمر الباشا إلى معظم العلماء الأكفاء أن(27/59)
يحتكوا به الأمور الدينية استفسر عبد العزيز عن كل صغيرة وكبيرة وخاصة بالمؤسسات العسكرية والمدنية في مصر واشترى الكتب الكثيرة من الكتب الحربية وأخيرا أثار غيرة محمد علي باشا فأمر جنديين بملازمة الرسولين أينما ذهبا ولما تضايقا من هذا التصرف طلبا الرحيل فورا فأعطى محمد علي كل منهما حلة من الملابس وثلاثمائة ريال كما أعطاهما خطابا لعبد الله بن سعود بطريقة غامضة مبهمة بخصوص الحرب والسلم وذكر فيه أنه
ص -168-
يوافق على المعاهدة التي عقدت مع ابنه على شريطة أن يتخلى الوهابيون عن منطقة الإحساء" انتهى ما ذكره بركهارت.
والشاهد مما أوردناه من كلام الجبرتي وبركهاوت الاتفاق على غزارة علم المترجم وفضله الشيخ عبد العزيز بن حمد.
انتقل الشيخ عبد العزيز بن حمد بعد خراب الدرعية وسقوطها إلى مدينة1 عنيزة وتولى القضاء فيها ثم تحول إلى سوق الشيوخ بالعراق فولاه شيخ المنتفق قضاءها إلى أن توفي فيما بعد المائتين والأربعين والألف رحم الله القاضي الشيخ عبد العزيز بن حمد وغفر له2.
__________
1 السحب الوابلة على ضرايح الحنابلة.
2 الغالب على الظن أن المترجم الشيخ عبد العزيز ابن الشيخ حمد ولد عام 1190هوتوفي عام 1241هـ رحمه الله وغفر له.
ص -169-(27/60)
الشيخ عثمان بن عبد الجبار بن شبانة
هو العالم الفقيه عثمان ابن عبد الجبار ابن الشيخ حمد بن شبانة الوهبي التميمي أخذ العلم عن عدة أشياخ كبار منهم ابن عمه الشيخ حمد بن عثمان ابن عبد الله والشيخ حمد التويجري وأخذ أيضا عن العالم عبد المحسن بن نشوان ابن شارخ القاضي في الكويت والزبير وعن الشيخ عبد العزيز بن عيد الإحسائي نزيل الدرعية وكان المترجم له فقيها له قدرة على استحضار أقوال العلماء وله معرفة في التفسير والفرائض والحساب تخرج على يديه وانتفع به خلق كثير منهم ابنه القاضي الشيخ عبد العزيز بن عثمان بن عبد الجبار والشيخ عبد الرحمن بن أحمد الثميري قاضي سدير بعد الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن "أبا بطين" والشيخ عثمان بن علي بن عيسى قاضي الغاط والزلفي وغيرهم وكان في الغاية من الورع والعبادة والعفاف عينه الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود قاضيا لعسير وألمع عند عبد الوهاب "أبو نقطة" المتحمي وأقام هناك مدة ثم رجع وأرسله الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود أيضا قاضيا لعسير عند ابن حرملة وعشيرته ثم أرسله الإمام سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود قاضيا في عمان وأقام في رأس الخيمة يقضي بين الناس ويدرس طلاب العلم ومعه ابنه حمد ثم رجع ولما توفي عمه محمد قاضي بلدان سدير عينه الإمام سعود مكانه قاضيا لبلدان سدير واستمر في القضاء زمن الإمام سعود وزمن ابنه الإمام عبد الله وما بعدهما إلى أن توفي السابع والعشرين من شهر شعبان في عام1 1242هـ ألف ومائتين واثنين وأربعين رحمه الله وغفر له وعفا عنه وصلى الله على محمد وآله وسلم.
__________
1 أورد له الشيخ عثمان بن بشر ترجمة في حوادث سنة 1242هـ من الجزء الثاني من تاريخه رحم الله الجميع وغفر لهم.
ص -170-(27/61)
الشيخ عبد العزيز بن حمد بن معمر
هو الإمام العلامة الشيخ عبد العزيز بن الشيخ الإمام حمد بن ناصر بن عثمان بن معمر ولد في الدرعية عاصمة الحكم السعودي ومركز الحركة العلمية في ذلك الحين وذلك سنة ألف ومائتين وثلاث من الهجرة ونشأ في وسط العلماء العاملين الذين كانت تزخر بهم الدرعية ونجد في ذلك الزمن فكان من شيوخه والده الشيخ حمد بن ناصر بن معمر والشيخ الإمام عبد الله ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب والشيخ العلامة المؤرخ أبو بكر حسين بن غنام والشيخ أحمد بن حسين بن رشيد بن عفالق الحنبلي نزيل الدرعية غيرهم من العلماء فمهر في جميع العلوم والفنون فصار عالما محققا وفقيها متبحرا له اليد الطولى والباع الواسع في التصنيف والتأليف ونشر العلم وتخريج الكثير من الطلاب والرد على المعارضين وله عدة مصنفات وفتاوى ورسائل وأشعار ومن أشهر مصنفاته وأجلها الكتاب المسمى منحة1 القريب العجيب في الرد على عباد(27/62)
__________
1 طبع بمصر سنة 1358هـ على نفقة شركة فن الطباعة بمصر وقد قال في كتابه منحة القريب المجيب بعد الخطبة والديباجة ما نصه "واعلم أن الكتاب الذي قصدنا الرد لباطله يشتمل على مقالتين. المقالة الأولى منها تنقسم إلى قسمين الأول/ في صفحة الشريعة المسيحية والثاني/ في إثبات صحة كتب العهد الجديد يعني الأناجيل التي يعتمدها أهل النصرانية والمقالة الثانية تنقسم أيضاً إلى قسمين الأول/ في الرد على اليهود المكذبين والقسم الثاني/ في الرد على المسلمين وهذا القسم أرشدك الله لما يرضيه هو الذي قصدنا الرد عليه فيه وأما ما قبله من الأقسام فهو إما في رسالة المسيح وأن دينه صحيح وهذا متفق عليه بين المسلمين قبل التبديل والنسخ بشريعة خاتم المرسلين وأما في الرد على اليهود في كفرهم بالإنجيل وقولهم بالزور في المسيح ابن البتول وهذا على الجملة صحيح مقبول لكن تلك الأقسام قد ضمنها النصراني أيضاً باطلا كثيراً ومزج بها بهتاناً وزورً وسيمر عليك –إنشاء الله – الرد عليه في ضمن ما كتبناه وذلك القسم الذي نقضناه يشتمل على خمسة فصول الخ ويقع الكتاب المذكور في 322 من القطع المتوسط.
ص -171-(27/63)
الصليب ومن مصنفاته أيضا اختصار نظم ابن عبد القوي للمقنع ونتقى عقد الفرائد وكنز الفوائد يوجد مخطوطة منه بالمكتبة السعودية بالرياض أخذ عنه العلم وانتفع كثير من العلماء لم يسعدني الحظ بالوقوف على أسمائهم وفي زمنه جرى على الديار النجدية والدولة السعودية ما جرى من التقتيل والتخريب فدمرت الدرعية عاصمة ملك آل السعود في ذلك الحين وتشتت علماؤها وقادة الدعوة الإسلامية الذين كانوا بها أخرجهم إبراهيم1 بن محمد علي باشا من أوطانهم ونفاهم إلى مصر وفر المترجم له الشيخ عبد العزيز بن معمر من الدرعية إلى البحرين وكان لا يزال شابا في العقد الثالث من عمره فأقام بها ولم تنقطع صلته بآل الشيخ الذين نقلوا إلى مصر فكان يكاتب الشيخ عبد الرحمن ابن حسن بأشعار يتوجع فيها على ما حل بنجد من الدمار والخراب وكانت الدولة الإفرنجية قد مدت إصبعها في بلاد العرب وفكرت في أن تبسط نفوذها على هاتيك الربوع ومنها بلاد البحرين فإنها كانت مثار خلاف بين الإنكليز والفرنسيين والدولة العثمانية وأرسلت كل واحدة من هذه الدول مندوبا من قبلها فكان مندوب الإنكليز رجلا قسيسا اختارته انكلترا ليكون أبلغ إلى مقصودها بدهائه وعظيم مكره وليعمل على التبشير وبث الدعاية المسيحية فينشر في تلك البلاد الشبهات والشكوك النصرانية ليفتن الناس عم دينهم إن استطاع وتلك سياسة أوربا في كل الشرق الإسلامي أعظم ما تهتم له تشكيك الناس في دينهم مصدقا لقوله تعالى {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً}.
{وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا}
فحمل ذلك القسيس الإنكليزي كتابا أورد فيه شبهات نصرانية يزعم فيها تصحيح الملة المسيحية ودفعه إلى أمير البحرين وشيخها عبد الله بن خليفة وقد شحن القسيس كتابه بشكوك وشبهات كثيرة لظنه أنها ستروج على(27/64)
أهل
__________
1 ولد هذا الطاغية إبراهيم باشا بقوله عام 1203 وتوفي بمصر عام 1265 قبل وفاة والده بأشهر.
ص -172-
تلك الديار. وطلب القسيس من الشيخ عبد الله1 بن خليفة أن يعرضه على علماء البحرين ليردوا على ما فيه أو يقروا بعجزهم وانقطاع حجتهم فعمد الشيخ خليفة إلى من كان عنده من علماء البحرين وطلب منهم الرد عليه فلما قرءوه وجدوا أنفسهم عاجزين عن الرد عليه فاعتذروا وقالوا: لا نستطيع الرد على ما فيه من الشبه ثم أرسله إلى علماء الإحساء فقالوا مثل ما قال علماء البحرين من إظهار العجز وعدم القدرة على الرد عليه وقال بعضهم: ليس هذا النصراني كفوا أن يجاب فحزن لذلك الشيخ ابن خليفة أشد الحزن واغتم به أشد الاغتمام فلما رأى من حوله من جلسائه وخواصه ما هو فيه من الهم والحزن لعجز علماء البحرين والإحساء عن دفع شبه ذلك القسيس قال له أحدهم: إنه قد نزل بالبحرين شاب من طلبة العلم النجديين فأرى أن تعرضه عليه لعل الله أن يزيح به عنا هذه الغمة فأعطاه الكتاب وأوصله إلى الشيخ عبد العزيز وقص عليه الأمر والقصة من أولها إلى آخرها فتناوله الشيخ وأمعن النظر فيه وقال: تأخذون مني دحض هذه الشبهة بعد شهر –إن شاء الله تعالى- فلبث شهرا وأتم الرد وبعث به إلى الأمير وفرح به أشد الفرح ودعي القسيس الإنكليزي وأعطاه الرد فلما طالعه عجب له واندهش جدا لما كان يظنه من عجز علماء البحرين وقال: هذا الرد لا يكون من هنا وإنما يكون من البحر النجدي فقال له الأمير نعم إنه أحد طلبة العلم النجديين.
وللشيخ عبد العزيز أشعار رائعة لا سيما رثاء الدرعية حين حل بها ما حل من الخراب والتدمير على يد إبراهيم بن محمد باشا ومنها القصيدة المعروفة عند علماء الدرعية بالطنانة أوردها الشيخ عثمان بن عبد الله بن بشر في تاريخه ونحن نوردها في هذا الموضع من ترجمته –رحمه الله- وهي هذه المقتطفات(27/65)
الآتية:
__________
1 هو عبد الله بن أحمد بن محمد بن خليفة ولي إمارة البحرين بعد وفاة أخيه سلمان سنة 1236هـ.
ص -173-
إليك إله العرش أشكو تضرعا
وأدعوك في الضراء ربي لتسمعا
إلى أن قال:
وكم قتلوا من عصبة الحق فتية
هداة رضاة ساجدين وركعا
وكم دمروا من مربع كان آهلاً
فقد تركوا الدار الأنيسة بلقعا
فأصبحت الأموال فيهم نهائباً
وأصبحت الأيتام غرثى وجوعا
وفر من الأوطان من كان قاطنا
وفرق إلْفٌ كان مجتمعا معاً
إلى أن قال:
مضوا وانقضت أيامهم حين أوردوا
ثناء وذكرا طِيْبُهُ قد تضوعا
فجازاهم الله الكريم بفضله
جنانا ورضوانا من الله أرفعا
فإن كانت الأشباح منا تباعدت
فإن لأرواح المحبين مجمعا
عسى وعسى أن ينصر الله ديننا
ويجبر منا كل ما قد تصدعا
ويعمر للسمحا ربوعا تهدمت
ويفتح سبلا للهداية مهيعا
ويظهر نور الحق يعلو ضياؤه
فيضحى ظلام الشرك والشك مقشعا
إلهي فحقق ذا الرجاء وكن بنا
رؤوفا رحيما مستجيبا لنا الدعا
إلى أن قال:
ألا أيها الأخوان صبرا فإنني
أرى الصبر للمقدور خيرا وأنفعا
ولا تيأسوا من كشف ما ناب إنه
إذا شاء ربي كشف ذاك تمَزَّعا
فما قلت ذا أشكو إلى الخلق نكبة
ولا جزعا مما أصاب فأوجعا
فما كان هذا الأمر إلا بقدرة
بها قهر الله الخلائق أجمعا
وذلك عن ذنب وعصيان خالق
أخذنا به حينا فحينا لنرجعا
رقد آن أن نرجو رضاه وعفوه
وأن نعرف التقصير من فنقلعا
فيا محسنا قد كنت تحسن دائما
ويا راحما قد كان عفوك أوسعا
ص -174-
نعوذ بك اللهم من سوء صنعنا
فإن لنا في العفو منك لمطمعا
أغثنا أغثنا وادفع الشدة التي
أصابت وصابت واكشف الضر وارفعا
فجد وتفضل بالتي أنت أهله
من العفو والغفران يا غوث من دعا(27/66)
توفي المترجم الشيخ عبد العزيز ابن الشيخ حمد بن معمر سنة ألف ومائتين وأربع وأربعين من الهجرة ببلدة البحرين وقد رثاه الشيخ أحمد بن علي بن مشرف بقصيدة تبلغ أبياتها ستة وعشرين بيتا مطلعها:
أشمس الهدى غابت أم البدر آفل
أم النجم أمسى لونه وهو حائل
ورثاه غيره رحم الله الجميع وغفر لهم إنه سميع مجيب وصلى الله على محمد وآله وسلم.
ص -175-
الشيخ أبا بطين
هو الإمام العلامة الفقيه الشيخ1 عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد العزيز ابن عبد الرحمن بن عبد الله بن سلطان بن خميس، الملقب كأسلافه أبا بطين –بضم الباء وفتح الطاء وسكون الياء- العائذي2 نسبا، الحنبلي مذهبا، النجدي بلدا.
ولد هذا العالم في بلدة الروضة من بلدان سدير، لعشر بقين من ذي القعدة سنة أربع وتسعين ومائة وألف من الهجرة، ونشأ بها وقرأ على عالمها محمد ابن الحاج عبد الله بن طراد الدوسري الحنبلي، فمهر في الفقه، ثم رحل إلى شقراء عاصمة الوشم بنجد واستوطنها، وقرأ على قاضيها الشيخ العلامة الورع التقي عبد العزيز بن عبد الله الحصين –بضم الحاء- الناصري التميمي، تلميذ شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب.
قرأ عليه في التفسير والحديث والفقه وأصول الدين، وحتى برع في ذلك كله، وأخذ عن العلامة أحمد بن حسن بن رشيد العفالقي الإحسائي ثم المدني الحنبلي، وعن الشيخ العلامة حمد بن ناصر بن عثمان بن معمر التميمي،
__________
1 ترجم له صاحب السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة وترجم له خير الدين الزركلي في كتابه الأعلام ج4 ص232 الطبعة الأخيرة وذكر أنه رحل إلى الشام ولا أدري ما هو مصدره في ذلك.
2 من عائذ الظفير ذكر ذلك الشيخ محمد بن مانع في ص179 في تعليقه على مجموعة التوحيد المطبوعة على نفقة علي بن عبد الله آل ثاني. منشورات المكتب الإسلامي بدمشق.
ص -176-(27/67)
صاحب رسالة "الفواكه العذاب، في الرد على من لم يحكم السنة والكتاب" وجد واجتهد حتى صار إماما من أئمة العلم في زمنه -رحمه الله-.
ولما تولى الإمام سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود على الحرمين الشريفين سنة ألف ومائتين وعشرين من الهجرة، ولاه قضاء الطائف فباشره بعفة وتثبت، وعدالة تامة، وتأن في الأحكام، وجلس هناك للتدريس والتعليم، وقرأ عليه جماعة كثيرون في الحديث والتفسير، وعقائد السلف. وقرأ هو على السيد حسين الجفري في النحو1 ثم رجع إلى بلدة شقراء، وصار قاضيا عليها، وعلى جميع بلدان الوشم، وجلس مع القضاء في شقراء للتدريس والتعليم، وأخذ عنه العلم جماعة. منهم: الشيخ محمد بن عبد الله ابن سليم، والشيخ محمد بن عمر بن سليم. والشيخ علي بن محمد بن علي بن حمد بن راشد. والشيخ إبراهيم بن حمد بن عيسى وابنه الشيخ أحمد، والشيخ علي بن عبد الله بن عيسى. والشيخ سليمان بن عبد الرحمن. والشيخ عبد الله بن عبد الكريم بن معيقل. والشيخ محمد بن عبد الله بن مانع. وابنه عبد الرحمن، والشيخ صالح بن حمد بن نصر الله وغيرهم. ثم إن الإمام تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود، أرسله إلى بلدة عنيزة قاضيا عليها وعلى جميع بلدان القصيم، وذلك بعد ولاية الإمام تركي بن عبد الله على نجد، بثمان سنوات أي سنة 1248هـ.
وبعد ما قتل الإمام تركي شهيداً، وتولى بعده ابنه الإمام فيصل، أقره على قضاء القصيم، فبقي قاضيا على بلدان القصيم سنين عديدة، وقد قرأ عليه خلق كثير بالقصيم، وتخرجوا عليه وانتفعوا به، وكان رحمه الله جلدا
__________
1 وذكر الشيخ عثمان ابن الشيخ عبد الله بن بشر أن المترجم تولى القضاء في ساحل عمان للإمام عبد الله بن سعود ابن الإمام عبد العزيز وذلك حينما ذكر ترجمة الإمام عبد الله بن سعود وذكر قضائه.
ص -177-(27/68)
على التعليم والتدريس، لا يمل ولا يضجر، كريما سخيا ساكنا وقورا، دائم الصمت قليل الكلام، كثير التهجد والعبادة، قليل المجيء إلى الناس. وقد كتب بخط يده المتقن الجيد كتباً كثيرة قيمة، وقد اختصر بدائع الفوائد للإمام ابن القيم وكتب حاشية نفيسة على شرح المنتهى. جاءت في مجلد ضخم، وكتب تعليقات على شرح الدرة المضية شرح1 عقيدة السفاريني. وقد رد على طاغية العراق وداعية الكفر والضلال، داود بن سليمان بن جرجيس البغدادي بكتاب سماه"تأسيس2 التقديسفي كشف تلبيس داود ابن سليمان بن جرجيس" وألف ردا ثانيا سماه "الانتصار3 لحزب الله الموحدين والرد على المجادل عن المشركين" وله فتاوى كثيرة طبعت ضمن رسائل علماء دعوة التوحيد المسماة "بالرسائل والمسائل النجدية" ولما كان في 1270هـ رجع من مدينة عنيزة إلى بلدة شقراء، بسبب إلحاح أهل شقراء على الإمام فيصل في طلب إرجاعه إليهم وأقام بشقراء مستمرا على حالته المذكورة يقضي بين الناس وينشر العلم تأليفاً وتدريساً حتى توفي في السابع من جمادى الأولى سنة 1282هـ ولا أعرف له أبناء إلا ابنه عبد العزيز كان من رجال الإمام عبد الله آل فيصل وقتل عبد العزيز4 المذكور سنة 1301هـ في وقعة الحمادة التي حصلت بين الإمام عبد الله ابن الإمام فيصل ومحمد بن عبد الله بن رشيد ولعبد العزيز "أبا بطين" المذكور حفيد هو عبد العزيز مدير مصلحة الأشغال -رحم الله- المترجم الشيخ عبد الله "أبا بطين" وغفر له.(27/69)
__________
1 هي المسماة لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية شرح الدرة المضية في عقد الفرقة المرضية النظم والشرح للشيخ أحمد بن الحاج السفاريني المتوفى 1189هـ. ترجم لمحمد بن أحمد السفاريني صاحب مسلك الدرر وصاحب السحب الوابلة.
2 طبع كتاب تأسيس التقديس سنة 1344 بمصر بمطبعة عيسى البابي الحلبي.
3 وطبع كتاب الانتصار بالمطبعة السلفية سنة 1378هـ على نفقة الشيخ عبد الملك بن إبراهيم ابن عبد اللطيف آل الشيخ.
4 عبد العزيز ابن الشيخ عبد الله "أبا بطين" المذكور هو رسول الإمام عبد الله ابن الإمام فيصل إلى مدحت باشا في القضية التاريخية المعروفة –رحم الله الجميع وغفر لهم-.
ص -178-(27/70)
الشيخ حمد بن عتيق
هو العلامة الفاضل المحقق الشيخ حمد بن علي بن محمد بن عتيق بن راشد ابن حميضة واشتهر بابن عتيق نسبة إلى جده الثاني عتيق، وكذلك ذريته إنما يعرفون بآل عتيق.
ولد هذا العالم المحقق في بلدة الزلفي من بلدان نجد سنة ألف ومائتين وسبع وعشرين من الهجرة، وقرأ القرآن حتى حفظه، ثم بعد ذلك سمت همته وتاقت نفسه إلى طلب العلم الشريف، فسافر من بلدة الزلفي في سبيل هذه المهمة، فقدم الرياض سنة ألف ومائتين وثلاث وخمسين من الهجرة، وذلك في زمن الإمام فيصل بن تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود، فمكث بها تسع سنين يقرأ فيها على الشيخ العلامة عبد الرحمن بن حسن ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وكان حريصا مجتهداً، فرغ نفسه من جميع المشاغل وأقبل على العلم برغبة شديدة فتخرج على الشيخ عبد الرحمن بن حسن المذكور، فمهر في علم الفقه والعقائد وأصول الدين والتوحيد.
وولاه الإمام فيصل قضاء الخرج ثم الحلوة ثم نقل منها إلى قضاء الأفلاج. واستقر بها وجلس لطلاب العلم، يقرءون عليه فتخرج به خلائق لا يحصون كثرة، من أجلهم علامة نجد وزعيمها الديني الشيخ عبد الله ابن الشيخ عبد اللطيف، رحل إليه في بلدة الأفلاج عام 1294هـ. وقرأ عليه مدة سنتين. وقرأ ابنه العلامة الجليل الشيخ سعد بن حمد بن عتيق العالم المشهور. وابنه الشيخ عبد العزيز بن حمد بن عتيق. وقد ألف الشيخ المترجم
ص -179-(27/71)
له حمد بن عتيق مؤلفات كثيرة مفيدة.منها "أبطال التنديد، شرح كتاب التوحيد" ورسالة "بيان النجاة والفكاك"، ورسالة "الدفاع عن أهل السنة والإتباع" ورسالة كتبها لصديق بن حسن خان ملك بهوبال، ينبهه فيها على أخطاء وقعت في تفسيره، وله غير ذلك رسائل كثيرة، تبلغ مجلدا طبعت مفرقة ضمن رسائل أئمة الدعوة المسماة "بالرسائل والمسائل النجدية".
وقد كان معروفا بقوة الإيمان وصلابة الدين ونشر الدعوة، توفي سنة 1301هـ ألف وثلاثمائة وسنة من الهجرة في بلدة الأفلاج –رحمه الله-. وخلف أبناء هم الشيخ سعد بن عتيق، والشيخ عبد العزيز، والشيخ عبد اللطيف، والشيخ عبد الله، وغيرهم من أبنائه وكلهم انتقلوا إلى رحمة الله، وله اليوم أحفاد، يقطنون بلدة الأفلاج، رحم الله الشيخ حمد بن عتيق، وغفر له وأسكنه فسيح جناته، وصلى الله على محمد وصحبه وسلم.
ص -180-(27/72)
الشيخ محمد بن سليم
هو الشيخ العلامة محمد بن عمر بن عبد العزيز بن عبد الله بن صالح بن حمد بن محمد بن سليم، ولد بمدينة بريدة بالقصيم ونشأ بها وقرأ القرآن ثم قرأ العلم على الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن المشهور "بأبا بطين" ثم رحل إلى مدينة الرياض وقرأ على العلامة الشيخ عبد الرحمن بن حسن ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وعلى ابنه العلامة الشيخ عبد اللطيف ابن الشيخ عبد الرحمن ثم رجع إلى مدينة بريدة ودرس بها وأفتى.
فأخذ عنه العلم بمدينة بريدة خلق كثير نذكر منهم الورع الزاهد الشيخ عبد الله بن محمد بن مفدى "فَدَّاء" والشيخ عثمان بن حمد بن مضيان الذي تولى قضاء "أبو عريش" في عهد الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن –رحمه الله-. وأخذ عنه ابنه إبراهيم بنم محمد بن عمر وإبراهيم بن حمد بن جاسر1 في في بداية أمره وصالح بن كريديس وسليمان بن عبد الله بن حميد وعبد الرحمن بن غيث وابن عمه الشيخ عبد الله بن محمد بن سليم2 قاضي القصيم بعد أخيه المذكور.
__________
1 إبراهيم بن حمد بن جاسر عرض له شبه فاسدة وفارق علماء دعوة التوحيد السلفية وانحاز إلى الضد والله أعلم بما مات عليه وبما ختم له به.
2 الشيخ عبد الله بن محمد بن سليم وأخوه الشيخ عمر بن محمد بن سليم يجتمعان مع شيخهما المترجم الشيخ محمد بن عمر بن سليم في جدهم صالح بن حمد بن محمد بن سليم.
ص -181-(27/73)
ولم يزل المترجم الشيخ محمد بن عمر بن سليم قائماً بنشر العلم وبث الدعوة إلى الله إلى أن توفي سنة 1308هـ وخلف أبناء نذكر منهم إبراهيم وسليمان وعبد العزيز انتقلوا فيما بعد إلى رحمة الله، وله أحفاد أشهرهم عبد الله ابن إبراهيم ابن الشيخ محمد بن عمر بن سليم، تولى إدارة المدرسة السعودية في مدينة بريدة في أول تأسيسها ثم تولى إدارة المدرسة الأهلية بمدينة الرياض ثم تولى إدارة معهد المعلمين بمدينة بريدة وأظنه لا يزال مديرا للمعهد المذكور. رحم الله الشيخ المترجم محمد بن عمر بن سليم وغفر له وعفا عنه وجميع علماء المسلمين وعامتهم إنه سميع مجيب.
ص -182-(27/74)
الشيخ محمد بن عبد الله بن سليم
هو الشيخ العلامة محمد1 بن عبد الله بن حمد بن محمد بن صالح بن حمد ابن محمد بن سليم. ولد بمدينة بريدة بالقصيم سنة 1240هـ ونشأ بها وقرأ القرآن نظرا وعن ظهر قلب ثم اشتغل بالعلم فأخذ عن الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن المشهور "أبا بطين" ثم رحل إلى مدينة الرياض فقرأ بها على العلامة الشيخ عبد الرحمن بن حسن ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وابنه الشيخ عبد اللطيف ابن الشيخ عبد الرحمن ثم رجع إلى بلده ولازم الشيخ سليمان بن علي بن مقبل قاضي مدينة بريدة وتوابعها في زمنه. ولما عزم الشيخ سليمان بن علي بن مقبل على السفر إلى مكة المكرمة للإقامة بها والمجاورة بالحرم الشريف أشار على أمير بريدة آنذاك بتولية المترجم الشيخ محمد بن عبد الله بن سليم القضاء فقبل مشورته وولاه القضاء فاستمر قاضياً ومفتياً ومدرساً لطلاب العلم زهاء اثنتين وعشرين سنة وكان بينه وبين الشيخ عبد اللطيف ابن الشيخ عبد الرحمن مراسلات موجودة في مجموع الرسائل والمسائل النجدية.
تلامذته:
أخذ عنه العلم خلق كثير نذكر منهم: نجليه الشيخ عبد الله والشيخ عمر والشيخ عبد الله بن سليمان بن بلهيد، والزاهد الورع عبد الله بن محمد بن فداء "مفدى" وعبد الله بن دخيل قاضي بلدة المذنب وعبد الله
__________
1 يلتقي مع ابن عمه محمد بن عمر في جدهم صالح بن حمد وأصلهم من أهل الدرعية.
ص -183-(27/75)
ابن محمد قاضي مدينة عنيزة في حياته، وعلي بن مقبل، وعثمان بن حمد بن مضيان، وعبد الرحمن بن عبد العزيز بن عويد، ومحمد بن حمد بن مضيان، وأخذ عنه فوزان بن عبد العزيز صاحب الشماسية، وعبد الرحمن ابن ناصر العجاجي، وعبد العزيز بن عبد الله بن فداء وصالح بن دخيل، وعبد الله بن أحمد آل رواف وغيرهم.
توفي –رحمه الله- بمدينة بريدة سنة 1323هـ وخلف ابنين عالمين هما: الشيخ عبد الله والشيخ عمر، وسنورد لكل واحد منهما ترجمة وافية في هذا الكتاب –ان شاء الله- رحم الله الجميع وغفر لهم وعفا عنهم إنه سميع مجيب وصلى الله على محمد وآله وسلم.
ص -184-(27/76)
الشيخ أحمد بن عيسى
هو الشيخ العلامة أحمد بن إبراهيم بن حمد بن محمد بن حمد بن عبد الله ابن عيسى من قبيلة بني زيد القبيلة المشهورة بشقراء وغيرها من بلدان الوشم بنجد وهي قبيلة قضاعية.
مولده:
ولد في بلدة شقراء سنة ثلاث وخمسين ومائتين وألف فقرأ القرآن حتى ختمه ثم شرع في القراءة على الشيخ الفقيه عبد الله بن عبد الرحمن "أبا بطين" ثم ارتحل إلى مدينة الرياض فأخذ عن الشيخ العلامة عبد الرحمن بن حسن ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وعن ابنه العلامة الشهير عبد اللطيف ثم توجه إلى مكة لقضاء فريضة الحج وعاد ثم أخذ يتردد على مكة للتجارة وعلى جدة وكان غالب تجارته الأقمشة القطنية وعامل في التجارة والشراء عبد القادر بن مصطفى التلمساني أحد تجار جدة ومن ذوي الأملاك في القطر المصري، كان يدفع له أربعمائة جنيه ويشتري بألف ويسدد الباقي أقساطاً1 ودام التعامل بينه وبين الشيخ التلمساني زمناً طويلا. وكان لصدقه وأمانته ووفائه أثر طيب في نفس الشيخ التلمساني حتى أخذ يبيعه كل ما يحتاج إليه مؤجلا يسدده فيما بعد أقساطاً وقال له التلمساني: إني عاملت الناس أكثر
__________
1 يسدد الباقي أقساطا بكفالة مبارك المساعد البسام مولاهم وكان مبارك المذكور من تجار عنيزة بالقصيم مقيما بجدة.
ص -185-(27/77)
من ثلاثين عاماً فما وجدت أحسن من التعامل معك يا وهابي، ويظهر أن ما يشاع عنكم يا أهل نجد مبالغ فيه من خصومكم السياسيين بسبب الحروب التي وقعت بينكم وبين أشراف مكة والمصريين والأتراك. فقد أشاعوا عنكم أقولا منكرة فسأله الشيخ أحمد أن يبينها له. فقال له الشيخ التلمساني: يقولون إنكم لا تصلون على النبي صلى الله عليه وسلم، ولا تحبونه. فأجابه الشيخ أحمد: سبحانك هذا بهتان عظيم كيف ونحن نعتقد أن من لا يصلي عليه في التشهد الأخير صلاته باطلة ونعتقد أن من لا يحبه كافر، وإنما نحن أهل نجد ننكر الاستغاثة والاستعانة بالأموات، لا نستغيث إلا بالله وحده ولا نستعين إلا به سبحانه كما كان على ذلك سلف الأمة، واستمر النقاش بينه وبين التلمساني ثلاثة أيام وأخيراً هدى الله الشيخ التلمساني للحق وصار موحداً ظاهراً وباطناً، ثم سأله الشيخ التلمساني أن يوضح وجه الخلاف بينهم وبين خصومهم في باب أسماء الله وصفاته ونعوت جلاله فقال الشيخ أحمد: إنا نعتقد أ، الله فوق سماواته بائن عن مخلوقاته مستو على عرشه استواء يليق بجلاله وعظمته من غير تشبيه ولا تجسيم ولا تأويل وهكذا اعتقادنا في جميع آيات الصفات وأحاديثها، كما جاء عن الإمام أبي الحسن الأشعري في كتابيه الإبانة في أصول الديانة ومقالات الإسلاميين واختلاف المصلين ودامت المناظرة بينهما في هذه المسألة خمسة عشر يوماً لأن الشيخ التلمساني كان أشعرياً درس في الجامع الأزهر كتب العقائد الأشعرية، السنوسية وأم البراهين وشرح الجوهرة وغيرها وقد انتهت هذه المناظرات الطويلة بإقناع الشيخ التلمساني بأن عقيدة السلف هي الأسلم والأحكم والأعلم، ثم بعد هذا صار الشيخ التلمساني –رحمه الله- من دعاة العقيدة السلفية وطبع على نفقته كتباً كثيرة وكان يوزعها مجاناً، مثل "الصارم المنكي في الرد على السبكي" لابن عبد الهادي، والكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية المعروفة بالنونية للإمام ابن(27/78)
القيم، والاستعاذة من الشيطان الرجيم لابن مفلح والمؤمل في الرجوع إلى
ص -186-
الأمر الأول لأبي شامة المؤرخ الدمشقي والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان للإمام أحمد بن تيمية والرد الوافر لابن ناصر الدين الدمشقي1 مع رسائل أخرى ضمن الرد الوافر، وغاية الأماني في الرد على النبهاني للسيد محمود شكري الألوسي البغدادي وقد هدى الله كذلك الوجيه الحجازي الشهير الشيخ محمد بن حسين بن نصيف –رحمه الله- على يد المترجم.
مؤلفاته:
ألف المترجم الشيخ أحمد بن إبراهيم بن عيسى ردودا كثيرة على علماء الضلال وأنصار البدع، منها كتاب تنبيه النبيه والغبي في الرد على المدواسي2 والحلبي وله الرد على ما جاء في خلاصة الكلام من الطعن على الوهابية والافتراء لدحلان (خ) والرد على شبهات المستعين بغير الله رد به على شبهات داود ابن سليمان بن جرجيس البغدادي (ط) وكتاب توضيح المقاصد وتصحيح3 القواعد شرح به نونية الإمام ابن القيم "المسماة بالكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية" طبع بمطابع المكتب الإسلامي بدمشق وهو يقع في جزأين.(27/79)
__________
1 ابن ناصر الدين هو محمد بن أبي بكر عبد الله بن محمد بن أحمد بن مجاهد بن يوسف بن محمد بن علي القيسي الدمشقي الشافعي الشهير بابن ناصر الدين.
2 كتاب تنبه النبيه والغبي طبع ضمن مجموعة الرد الوافر لابن ناصر وهو يقع في 85 صفحة من القطع الكبير استهله بقوله "الحمد لله الذي علا في سمائه وجلا باليقين قلوب أوليائه" إلى أن قال "أما بعد فقد وقعت على مؤلف لبعض المعاصرين من أهل مدارس حاصله هذيان ووسواس مسمى بالتنبيه والتنزيه فرأيت فيه ألفاظا في غاية الركاكة وكلمات ملحونة لا يتكلمها إلا الحاكة". وقال في آخره: "وكان الفراغ من إتمام هذا الرد المبارك يوم الاثنين المبارك ثاني عشر جمادى الآخر سنة 1320هـ ووافق ذلك بمكة المكرمة حماها الله تعالى وسائر بلاد الإسلام على يد راقمه ومؤلفه أحمد بن إبراهيم بن عيسى" وتحته ما نصه "وكان الفراغ من إتمام طبعه في الثاني والعشرين من شهر شعبان المعظم سنة 1329هـ".
3 كان يوجد منه نسخة مخطوطة في مكتبة الشيخ فوزان السابق سفير الحكومة السعودية في مصر والمتوفى سنة 1373 بمصر –رحمه الله وغفر له-.
ص -187-(27/80)
تلامذته:
أخذ عنه العلم خلق كثير في نجد والحجاز وأعرف منهم الشيخ عبد الستار الدهلوي، والشيخ أبا بكر خوقير الحنبلي والشيخ سعد بن حمد بن عتيق حج ومكث ستة أشهر قرأ فيها على المترجم شرح الزاد "الروض المربع شرح زاد المستقنع".
وقد جالس المترجم الشيخ أحمد بن عيسى أثناء إقامته بمكة وتردده عليها أمير مكة عون بن محمد بن عبد المعين بن عون المتوفى سنة 1323هـ فأقنعه بهدم القباب المشيدة على القبور في مكة وجدة والطائف، فهدمها إلا قبة قبر حواء وقبة قبر خديجة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وقبة قبر ابن عباس بالطائف فإنه لم يهدم هذه القباب الثلاث خوفا من السلطان عبد الحميد العثماني أن يعزله عن الإمارة.
وقد رجع المترجم إلى نجد بعدما توفي الشريف عون سنة 1323هـ واستقر بها وولاه الأمير عبد العزيز بن متعب بن رشيد قضاء المجمعة وجميع مقاطعة سدير فبقي في قضاء مقاطعة سدير حتى قتل عبد العزيز بن متعب ودانت المجمعة لجلالة الملك عبد العزيز آل سعود وذلك سنة 1324هـ فعزله الملك عبد العزيز عن القضاء وولى مكانه الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري وقد كان المترجم الشيخ أحمد بن عيسى عادلا فيس القضاء مشكور السيرة إلى أن توفي بعد صلاة يوم الجمعة رابع جمادى الآخر سنة سبع وعشرين وثلاثمائة وألف من الهجرة، وخلف ابناً لا يزال موجودا إلى اليوم وله أبناء رحم الله الشيخ أحمد وغفر له وعفا عنه إنه سميع مجيب.
ص -188-(27/81)
الشيخ ابن محمود
هو الشيخ الفقيه محمد بن إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن محمود بن منصور ابن عبد القادر بن محمد بن علي بن حامد، يمت بنسبه إلى علي بن أبي طالب من فاطمة الزهراء رضي الله عنها ويجتمع مع آل حامد المعروفين في السيح من قرى الأفلاج في جدهم حامد المذكور.
مولده:
ولد سنة خمسين ومائتين وألف من الهجرة ببلد ضرماء نمن بلدان العارض بنجد ونشأ بها بين والديه إلى سن التمييز ثم صار في حضانة أمه وقرأ القرآن حتى ختمه نظرا وعن ظهر قلب ثم اشتغل بقراءة العلم على قاضي بلدة ضرماء آنذاك عبد الله بن نصير وقي سنة خمس وستين ومائتين وألف قدم مدينة الرياض فقرأ فيها على الشيخ العلامة عبد الرحمن بن حسن ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وابنه الشيخ عبد اللطيف ابن الشيخ عبد الرحمن والشيخ عبد الرحمن بن عدوان أحد قضاة الرياض في زمنه والشيخ عبد العزيز بن شلوان من قضاة الرياض آنذاك ثم أرسله الإمام فيصل بن الإمام تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود لأهل وادي الدواسر قاضياً وأقام عندهم ثلاث سنين ثم أعفي من القضاء ورجع إلى مسقط رأسه بلدة ضرماء ثم عين قاضيا لها ومكث في قضاء بلدة ضرماء إلى سنة 1280هـ وفي سنة 1283 بعد وفاة الإمام فيصل نقله الإمام عبد الله ابن الإمام فيصل إلى قضاء مدينة الرياض فاستقر فيها وصار إلى
ص -189-(27/82)
جانب القضاء يقوم بتدريس الفقه الحنبلي ويصلي بالناس الفروض الخمسة بمسجد الجامع الكبير، فأخذ عنه عدة تلاميذ نذكر من فضلائهم ما يأتي:
تلامذته:
الشيخ إبراهيم ابن الشيخ عبد اللطيف.
والشيخ عبد الله ابن الشيخ حسن رئيس القضاة في حياته رحمه الله.
والشيخ حسين ابن الشيخ حسن المتوفى في عمان –بتخفيف الميم-.
والشيخ محمد ابن الشيخ عبد اللطيف.
والشيخ عمر ابن الشيخ عبد اللطيف.
والشيخ عبد الله بن مسلم.
والشيخ عبد الرحمن ابن الشيخ عبد اللطيف ابن الشيخ عبد الرحمن.
والشيخ عبد الله الحجازي.
والشيخ محمد بن عياف آل مقرن.
والشيخ عبد الله بن جريس من أهل ضرماء.
وغير هؤلاء.
توفي المترجم الشيخ محمد بن محمود في مدينة الرياض في شهر صفر 1333هـ عن ثلاث وثمانين سنة وقبر بمقبرة العود رحمه الله وغفر له. وخلف ثلاثة أبناء هم: عبد الله وعمر وعلي وكلهم انتقلوا إلى رحمة الله ولهم أبناء وأحفاد في بلدة منفوحة.
ص -190-(27/83)
الشيخ عيسى بن عكاس
هو العلامة الورع التقي الشيخ عيسى بن عبد الله بن عكاس ينتهي نسبه إلى قبيلة سبيع القبيلة المعروفة بنجد وكان أجداده يسكنون في عنيزة بنجد ثم رحلوا إلى الإحساء عام 956هـ فطابت لهم الإقامة فيها وكثر نسلهم، تزوج والده عبد الله بشريفة بنت أحمد بن إسماعيل المدني سنة 1250هـ فأنجبت أولادا منهم المترجم له وكان مولده بالإحساء عام 1268هـ ونشأ بها.
وكان كفيف البصر له نور ضئيل يشع من إحدى عينيه، فحفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب ثم اشتغل بالقراءة على أشياخ وقته بالإحساء فقرأ الفقه المالكي على الشيخ أحمد بن مشرف قاضي الإحساء في حياته والمتوفى عام 1285هـ وقرأ الفقه الحنبلي وعقائد السلف الصالح على الشيخ عبد الرحمن الوهيبي قاضي الإحساء في حياته والمتوفى عام 1282هـ وبعد ما ارتوى من معين المعرفة جلس لطلاب العلم في الإحساء يقرأون عليه في الموطأ وفقه الإمام مالك وفي النحو والحديث والتفسير وعلم العقائد وكان نادرة في الحفظ والاستحضار1 وحسن الهدي والسمت فطلبه الشيخ قاسم بن محمد بن ثاني حاكم قطر للإقامة عنده لنشر العلم وعقيدة السلف فسافر إلى قطر وأقام بها سنة ينشر العلم والعقيدة ثم رجع إلى الإحساء واستمر في تدريس العلم على حالته المذكورة.
__________
1 قال عنه فضيلة الشيخ عبد الله بن عمر بن دهيش: سمعته يملي كتاب موطأ الإمام مالك من حفظه –رحمه الله-.
ص -191-(27/84)
توليه القضاء:
ولما استولى الملك عبد العزيز ابن الإمام عبد الرحمن ابن الإمام فيصل آل سعود على الإحساء في ثمانية وعشرين جمادى الأولى عام 1331هـ عينه قاضياً للإحساء وذلك في غرة محرم عام 1334هـ واستمر في القضاء مدة حياته وكان -رحمه الله- يأبى أشد الإباء أن يأخذ على القضاء أجرا زهادة منه وتورعا.
تلامذته:
قرأ عليه وتخرج به عدد غير قليل من أهل الإحساء وغيرهم قبل أن يتولى القضاء وبعد ولايته القضاء نذكر منهم على النحو التالي:
1. الشيخ إبراهيم بن صالح بن عيسى مؤلف كتاب عقد الدرر وكتاب بعض الحوادث الواقعة بنجد.
2. محمد الباهلي من أهل الرياض النازحين إلى الإحساء.
3. أحمد بن محمد بن بريك الأحسائي.
4. الشيخ سيف المدفع قاضي الشارقة بعمان.
5. عبد العزيز بن سويلم من أهل الرياض النازحين إلى الإحساء.
6. إبراهيم بن طوق من أهل الدرعية النازحين إلى الإحساء بعد خراب الدرعية.
7. حسين بن على بن نفيسة من أهل ضرماء.
8. حمد بن عبد الرحمن بن عمران من أهل الرياض المقيمين بالإحساء.
9. فهيد بن سويدان من أهل منفوحة المقيمين بالإحساء.
10. الشيخ عبد العزيز بن عمر بن عكاس المتوفى عام 1383هـ رحمه الله.
11. محمد بن سليمان أبا الغنيم من أهل نجد المقيمين بالإحساء.
ص -192-(27/85)
وقرأ عليه غير هؤلاء خلق كثير من أهل نجد وأهل قطر ورأس الخيمة والشارقة وعمان وأم القيوين وقرأ عليه فضيلة الشيخ عبد الله بن عمر بن دهيش قال فضيلته: قرأت عليه الموطأ للإمام مالك قبل وفاته بسنتين أي سنة 1336هـ وقال عنه أيضاً: كان الشيخ عيسى بن عكاس يقرر العلوم من حفظه على تلاميذه ليلا ونهارا في مسجد بجوار داره وكان في بيته أكثر من ثلاثين طالباً من المغترين من أهل نجد وعمان وقطر يقوم بنفقتهم من المأكل من ماله الخاص وقال فضيلته عنه أيضاً:كان الشيخ عيسى قوي الحجة بلغي أنه لما وردت عليه كتب الإمام صديق بن حسن عالم بهبال من الهند وهي كتاب الدين الخالص للإمام محمد بن علي الشوكاني وكتب أخرى وذلك عام 1317هـ عارضه في توزيعها أناس من أهل الاحساء وجرت بينه وبينهم مناظرة فقطعهم بالحجة والبرهان وأقام الدليل الواضح بأنها من كتب السلف تدعو إلى التمسك بالكتاب والسنة وعدم التعصب المذهبي فقنعوا واستمر في توزيعها –رحمة الله-. وقال فضيلته أيضاً:وكان الشيخ عيسى ابن عكاس يقرض الشعر على طريقة العلماء نظم باب الحيض وقد سقط من منظومة شيخه الشيخ احمد بن مشرف لكتاب العبادات. وكان محباً للدعوة السلفية التي قام بنشرها الإمام محمد بن عبد الوهاب ونصره على ذلك الإمام محمد بن سعود وأحفاده من بعده إلى هذا اليوم خلد الله ملكهم. وقال أيضاً وكان الشيخ عيسى محباً للملك عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل آل سعود يلهج بالثناء عليه والدعاء له بالعز والنصر والتمكين.
أبناؤه:
تزوج الشيخ عيسى بلطيفة بنت إبراهيم بن إسماعيل بن أحمد المدني ابنة عم والدة فضيلة الشيخ عبد الله بن عمر بن
ص -193-(27/86)
دهيش لطيفة بنت حسين بن إسماعيل المدني وأنجبت منه خمسة أبناء عبد الله وعمر وعثمان وعلي وحسن.
وفاته:
توفي المترجم الشيخ عيسى بن عكاس في رابع شوال عام 1338هـ بالإحساء وخلف أبنائه الخمسة المذكورين آنفا فأما ابنه عبد الله فتوفي بعده وأما عمر فهو الآن في الوقت الحاضر إمام مسجد الجميح بجدة وأما علي وعثمان فكل واحد منهما إمام مسجد بالطائف رحم الله الشيخ عيسى بن عكاس وغفر له وأسكنه فسيح جنته. وقد رأيت له في صغري وثائق عند والدي في الأحكام بين الناس ووثائق في بيع وشراء العقارات يقول في آخر الوثيقة مانصه "أملاه الفقير إلى رب الناس عيسى بن عبد الله بن عكاس" ويضع في آخرها ختمه –رحمه الله- هذا وقد استقيت مواد ترجمته من فضيلة الشيخ عبد الله بن عمر بن دهيش جزاه الله خيراً ونفع بعلومه وصلى الله على محمد وآله وسلم.
ص -194-(27/87)
الشيخ إبراهيم بن عيسى
هو الشيخ العالم المؤرخ الشهير إبراهيم بن صالح بن إبراهيم بن محمد بن عبد الرحمن بن حمد بن عبد الله بن عيسى، من قبيلة بني زيد1 القبيلة المعروفة في شقراء وفي غيرها من بلدان الوشم، ولد ببلدة أشيقر2 سنة ألف ومائتين وسبعين من الهجرة ونشأ بها وتلقى العلم فيها على مشاهير علمائها ثم قام برحلات متعددة إلى الهند والإحساء والبصرة والزبير وجد في طلب العلم فأخذ عن الشيخ العلامة عيسى بن عكاس قاضي الإحساء في زمنه ولازمه مدة عشر سنوات وأخذ عن الشيخ صالح بن حمد المبيض أحد علماء الحنابلة3 المقيمين ببلدة الزبير. وأخذ عن ابن عمه الشيخ أحمد بن إبراهيم بن عيسى وكان –رحمه الله- ذا قناعة في الدنيا وزهد في المناصب يتباعد عنها ولا يرغبها، فقد طلب منه أعيان مدينة عنيزة أن يتولى القضاء في مدينتهم فأبى
__________
1 بنو زيد عشيرة المترجم يرجعون في أصل نسبهم إلى قضاعة بني مالك بن عمرو بن مرة بن زيد بن مالك بن حمير على رواية علي بن محمد بن حزم في الجمهرة ص444 ورواية القلقشندي في نهاية الأرب ص400 ومن أراد معرفة جميع بطون هذه القبيلة قبيلة بني زيد وأراد معرفة جميع فروعها المنتشرة في بلدان نجد فليراجع كتاب المنتخب في معرفة أنساب العرب لعبد الرحمن بن زيد المغيري اللامي طبعة المدني بمصر.
2 أشيقر بلدة قريبة من شقراء وأكثر سكانها في الزمن الأول إلى ما قبل أربعين سنة وهبة تميم وقد ذكرها الحفصي بقوله "الأشيقر باليمامة قرية بني عكل قال مضرس بن ربعي:
تحمل من وادي أشيقر حاضره
وألوى بريعان الخيام أعاصره
3 صالح بن حمد المبيض توفي في شهر شوال سنة 1315هـ وكان قاضيا لبلدة الزبير -رحمه الله-.
ص -195-(27/88)
وكان يجلس لطلبة العلم في بلدة أشيقر في المسجد الجامع بعد طلوع الشمس وفي المسجد الجنوبي بعد صلاة الظهر، وقد كتب بخطه من الفوائد ما يقارب عشرين مجموعا وقد ذكر الشيخ محمد بن عبد العزيز بن مانع في تعليقه1 على مجموعة التوحيد النجدية المطبوعة بمنشورات المكتب الإسلامي في بيروت على نفقة الشيخ علي بن عبد الله بن ثاني ص436 ان الشيخ إبراهيم بن صالح بن عيسى المترجم خمسين ترجمة لعلماء نجد الذين أهمل ذكرهم صاحب "السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة2".
تلامذته:
وقد أخذ عنه العلم تلاميذ تخرجوا على يديه -رحمه الله تعالى- منهم الشيخ عبد الله بن زاحم رئيس قضاة المدينة المنورة في حياته -رحمه الله- والشيخ عبد الله بن جاسر رئيس هيئة التمييز بالمنطقة الغربية والشيخ محمد بن(27/89)
__________
1 محمد بن عبد العزيز بن مانع توفي بمدينة بيروت سنة 1385هـ ونقل إلى قطر ودفن فيه –رحمه الله- وسنورد له ترجمة في هذا الكتاب إن شاء الله.
2 صاحب " السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة" هو محمد بن عبد الله بن علي بن عثمان بن حميد من أهل مدينة عنيزة المشهورة بالقصيم ولد بها سنة 1236هـ وقرأ العلم على قاضيها آنذاك الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن "أبا بطين" ثم رحل إلى مكة المكرمة وقرأ على علمائها في الحرم الشريف ثم قام برحلات إلى اليمن والشام ومصر والعراق وفلسطين ثم عاد إلى مكة وعكف على التدريس بالمسجد الحرام، وألف كتباً منها السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة، ترجم فيه العلماء الحنابلة وبدأ من حيث وقف قلم عبد الرحمن بن رجب إلى أن أتى على العلماء المعاصرين لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وترجم لهم وأهمل ذكر علماء دعوة التوحيد السلفية شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وتلامذته وأبنائه وأحفاده وأهمل ذكر معاصريه اللذين عاش في عصرهما وهما الشيخ عبد الرحمن بن حسن ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وابنه العلامة الشيخ عبد اللطيف ابن الشيخ عبد الرحمن وسبب ذلك خلاف عقائدي حصل بين ابن حميد والعلامة الشيخ عبد الرحمن ابن حسن فرد عليه الشيخ عبد الرحمن برد سماه "المحجة في الرد على اللجة" واللجة لقب ابن حميد المذكور.
ص -196-(27/90)
علي البيز قاضي جدة ثم الطائف وغير هؤلاء من لم أقف على أسمائهم، وقد تصدى المترجم الشيخ إبراهيم ن صالح بن عيسى لخدمة تاريخ نجد وكتابته فكان ما كتبه ذيله على كتاب عنوان المجد في تاريخ نجد للشيخ عثمان بن عبد الله بن بشر النجدي تلبية لأمر جلالة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود –رحمه الله- وقد سماه "عقد الدرر فيما وقع في نجد من الحوادث في أواخر القرن الثالث عشر وأول القرن الرابع عشر" وبدأه من السنة التي وقف عليها الشيخ عثمان بن عبد الله بن بشر وهي سنة ألف ومائتين وثمان وستين من الهجرة وألف كتاب "تاريخ بعض الحوادث الواقعة في نجد" وقد لبث رحمه الله في بلدته أشيقر ينشر العلم تدريساً ويجمع ما يستطيع جمعه من أخبار بلاد نجد حتى أرهقته الشيخوخة فانتقل في الحادي عشر من صفر سنة 1342هـ إلى مدينة عنيزة بالقصيم فعاش فيها بقية حياته القصيرة إلى أن وافته المنية في الرابع والعشرين من شهر شوال سنة 1343هـ في مدينة عنيزة وخلف ابنين هما عبد الرحمن وعبد العزيز رحمه الله وغفر له وأسكنه فسيح جنته إنه سميع مجيب وصلى الله على محمد وآله وسلم.
ص -197-(27/91)
الشيخ حمد بن فارس
هو الشيخ حمد بن فارس بن محمد بن رميح من قبيلة سبيع ولد سنة ثلاث وستين ومائتين وألف تقريباً فنشأ على يد والده فارس ورباه تربية طيبة ولازمه ملازمة تامة فتخصص عليه في علم الفرائض والحساب وغيرهما من العلوم ثم قرأ على الشيخ عبد الله بن حسين المخضوب الهاجري1 صاحب الخطب المنبرية المشهورة ثم قرأ على الشيخ العلامة عبد اللطيف ابن الشيخ عبد الرحمن ابن حسن في الفقه والنحو وصار أنحى علماء زمنه بنجد وتولى حفظ بيت مال للإمام عبد الله بن فيصل ثم للإمام عبد الرحمن ثم لجلالة الملك عبد العزيز آل سعود فكانت تجبى إليه زكوات الحبوب والتمور من بلدان نجد2 ويقوم على حفظها في مخازن معدة لها بقصر الرياض ويقوم بتوزيعها حسب الأوامر العالية وكذلك أوقاف آل سعود وضحاياهم كانت موكولة إليه وهو المسئول عنه -رحمه الله-.
وكان له معرفة في الفلك وداوم على التعليم في مسجد الشيخ عبد الله ابن
__________
1 توفي الشيخ عبد الله بن حسين المخضوب بالخرج حيث كان قاضياً لها عام 1315هـ.
2 خلفه في حفظ الزكوات إبراهيم بن عبد الله الشايقي وفي أقاف آل سعود وضحاياهم ابنه محمد بن حميد بن فارس وفي عهد إمام المسلمين الملك فيصل بن عبد العزيز أصدر أمره الكريم إلى الجباة بأن زكوات ثمار كل بلد تعطى فقراءه فورا ولا تحتاج إلى نقل كما كانت. زنظم أوقاف آل سعود واعتنى بحفظ وصاياهم وأضحيتهم فأسس لها دائرة في بناية خاصة مكتوب عليها "دائرة أوقاف آل سعود" ووكل أمرها إلى لجنة من المشهورين بالأمانة والتقوى تستلم غلالها وتقوم بإخراج معيناتها من الأضاحي وغيرها أيد الله إمام المسلمين بتوفيقه ونصره إنه سميع مجيب.
ص -198-(27/92)
الشيخ عبد اللطيف من بعد صلاة الصبح إلى الساعة الرابعة نهارا في النحو والفقه وأخذ عنه هذين العلمين كثير من العلماء لا يحضرني عددهم. وكان -رحمه الله- يرى صيام يوم الثلاثين من شهر شعبان إذا حال من دون رؤية الهلال ليلة الثلاثين من شعبان قترٌ أو غيم وذلك على القول المرجوح رحمه الله وعفا عنه وسامحه.
وفاته:
توفي في الساعة العاشرة بعد العصر في الثامن والعشرين من جمادى الآخرة سنة خمس وأربعين وثلاثمائة وألف وصلي عليه في جامع الرياض وأم الناس في الصلاة عليه الشيخ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ وشيعه خلق كثير ودفن في مقبرة العود وخلف ابناً هو محمد توفي عام 1387هـ وخلف عدة أبناء رحم الله الشيخ حمداً وابنه محمداً وغفر لهما وجميع المسلمين وصلى الله على محمد وآله وسلم.
ص -199-
الشيخ سليمان بن سحمان
هو العلامة الشهير صاحب المؤلفات والردود الذي حرد قلمه وسخر يراعه لنصرة الإسلام والنضال عن عقيدة التوحيد الشيخ سليمان بن سحمان بن مصلح ابن حمدان بن مسفر بن محمد بن مالك بن عامر الخثعمي التبالي العسيري النجدي وأصله –رحمه الله- من تبالة قرية من أعمال بيشة كانت مضرب المثل في الرخاء والخصب قال لبيد بن ربيعة العامري:
فالضيف والجار الجنيب كأنما
هبطا تبالة مخصبا أهضامُها
أصل الشيخ من هذه القرية المشهورة فنزح والده منها إلى مدينة أبها عاصمة عسير فولد الشيخ في قرية1 من أعمال أبها تسمى السقا وذلك سنة 1266هـ(27/93)
__________
1 لما استقر والده بمدينة أبها تزوج امرأة من أهالي القرا محلة من محلات أبها وأنجبت منه ثلاثة أبناء: الشيخ سليمان ومحمدا وعبد الكريم وكانت قد تزوجت قبل سحمان بزوج ورزقت منه بابن اسمه فايع ولما نزح سحمان من عسير إلى نجد ونزح معه بابنيه الشيخ سليمان ومحمد ترك ابنه عبد الكريم ووالدته بأبها ولما وصل مدينة الرياض فتح مدرسة لتحفيظ القرآن بجوار مسجد الشيخ بحي دخنة وأخذ يعلم أبناء آل الشيخ القرآن وغيرهم من أبناء أهل مدينة الرياض وتزوج امرأة من آل مزيعل سكنة "أبا الكباش" من أعمال مدينة الرياض وأنجبت منه ابنا اسمه إسماعيل ابن سحمان استشهد في وقعة البكيرية عام 1322هـ وهو غاز في جيش الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود وخلف ابنا اسمه ناصر بن إسماعيل بن سحمان طالب علم توفي بمدينة الرياض عام 1350هـ أخذ الشيخ سحمان والد المترجم له يعلم القرآن في مدينة الرياض وبعد وفاة الإمام فيصل ابن الإمام تركي بسنتين أي 1284هـ رحل بابنيه الشيخ سليمان ومحمد إلى بلدة العمار من بلدان الأفلاج بنجد وأخذ يدرس أبناء بلدة العمار القرآن إلى أن توفي ببلدة العمار عام 1289هـ فخلفه في تدريس القرآن ابنه محمد وقد أنجب محمد ابناً اسمه عبد العزيز وعبد العزيز أنجب ابناً اسمه عبد الرحمن وعبد الرحمن المذكور هو قاضي الأفلاج حالياً.
ص -200-(27/94)
مشاهير علماء نجد وغيرهم - عبد الرحمن بن عبد اللطيف بن عبد الله آل الشيخ (3)
ألف ومائتين وسنة وستين من الهجرة فنشأ بها في أحضان والده الشيخ سحمان وكان والده فاضلا من حفظة القرآن وطلاب العلم فأقرأه ابنه القرآن حتى ختمه ثم أخذ يلقنه مبادئ العلوم وفي سنة ثمانين بعد المائتين والألف من الهجرة في ولاية محمد بن عائض بن مرعي نزح والده سحمان من عسير إلى نجد واصطحب معه ابنيه المترجم له الشيخ سليمان ومحمداً فوصل بهما مدينة الرياض وحل فيها ضيفا مهاجرا عند الإمام فيصل ابن الإمام تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود فآواه ورتب له مرتبا يقوم بكفايته وعائلته وكان ذلك في زمن الإمامين الشيخ عبد الرحمن بن حسن ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وابنه الشيخ عبد اللطيف فابتدأ الشيخ سليمان في القراءة على الشيخ عبد الرحمن بن حسن وعلى ابنه الشيخ عبد اللطيف ولازمه ملازمة تامة وصار يكتب له الرسائل والردود وبعد وفاة الإمام فيصل ابن الإمام تركي بسنتين أي 1284هـ انتقل مع والده الشيخ سحمان إلى بلدة العمار من بلدان الأفلاج بنجد وشرع في القراءة على الشيخ حمد بن عتيق ولازمه سبعة عشر عاماً وبعد وفاة الشيخ حمد سنة 1301هـ رجع إلى مدينة الرياض وقوى صلته بالعلامة الشيخ عبد الله ابن الشيخ عبد اللطيف، وأخذ في حضور دروس الشيخ عبد الله ومزاولة الردود وكان جيد الخط فطلبه الإمام عبد الله ابن الإمام فيصل كاتباً عنده فلم يسعه إلا تلبية أمره وإجابة طلبه فصار يكتب للإمام عبد الله ابن الإمام فيصل الرسائل ورحل معه إلى مدينة حائل سنة 1305هـ ولما رجع الإمام عبد الله إلى مدينة الرياض سنة 1307هـ تخلف المترجم في مدينة حائل وأكب على نسخ الكتب ليلاً ونهاراً فتحصل على كتب خطية كثيرة وفي عام 1309هـ رجع إلى مدينة الرياض وانبرى للتأليف والردود ثم تلقى تهديداً من عبد العزيز بن متعب بن رشيد بشأن كتابة الردود ففتر عزمه، ولما شاء الله الخير(28/1)
لهذه الجزيرة واستولى نصير العلم وحامي حمى الشريعة الإسلامية الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل آل سعود على نجد واستقرت له الأمور قوي ساعد المترجم له فأخذ يحامي عن الإسلام ويرد
ص -201-
على المبتدعين ثم طرأ عليه العمى وأصيب بذهاب بصره عام 1331هـ فبعثه الملك عبد العزيز لعلاج عينيه في البحرين سنة 1332ه فلم يقدر له الشفاء ورجع بدون فائدة فعاد إلى التأليف والردود بحماس ديني وقوة إسلامية فأخذ يدافع عن الشريعة ويكافح رؤساء الضلال ودعاة البدع الذين ناوأوا التوحيد السلفية فألف -رحمه الله- قبل ذهاب بصره وبعد ما طرأ عليه العمى هذه المؤلفات الآتية:
1. الأسنة الحداد في الرد على علوي الحداد "ط" مرتين.
2. الصواعق المرسلة الشهابية في الرد على الشبه الشامية "ط"1.
3. كشف غياهب الظلام عن أوهام جلاء الأوهام "ط" مرتين2.
4. الضياء الشارق في رد شبهات الماذق المارق "ط" عدة مرات3.
5. كشف شبهات عبد الكريم البغدادي في تحليله ذبائح الصليب وكفار البوادي "ط".
6. ارشاد الطالب إلى أهم المطالب "ط".
7. رسالة الساعة وبيان أنها صناعة رد بها على طالب علم ادعى أن الساعة سحر.
8. تنبيه ذوي الألباب السليمة عن الوقوع في الألفاظ الوخيمة ملاحظات على الشيخ مجمد بن مانع في شرحه لعقيدة السفاريني "ط".(28/2)
__________
1 رد بها على الأقوال المرضية في الرد على الوهابية وهي رسالة صغيرة تبلغ صفحاتها 26 صفحة ألفها رجل من أهل دمشق يدعى أحمد عطاء الكسم وطبعت له بالمطبعة العمومية بمصر عام 1901 ميلادية.
2 رد به على كتاب جلاء الأوهام عن مذاهب الأئمة العظام وهذا الكتاب ألفه رجل يدعى مختار بن أحمد المؤيد العظم توفي سنة 1340ه ومولده ووفاته بدمشق زار مصر وسكن المدينة المنورة مدة له كتب منها فصل الخطاب أو تفليس إبليس من تحرير المرأة ورفع الحجاب ورد الفضول في مسألة الخمر والكحول.
3 الضياء الشارق في رد شبهات الماذق المارق رد به –رحمه الله- على جميل صدقي الزهاوي وعلى أباطيله التي ضمنها كتابه الفجر الصادق في الرد على منكر التوسل والكرامات والخوارق وطبعت له في القاهرة "1333ه" وجميل صدقي الزهاوي ملحد زنديق لا يدين بدين ولد ببغداد سنة 1279ه وتوفي بها سنة 1354ه وله ديوان شعر "ط".
ص -202-
9. اقامة الحجة والدليل وايضاح المحجة والسبيل على ما هو به أهل الكذب والمين من زنادقة....
10. كشف الشبهات عن رسالة يوسف بن شبيب والقصيدتين.
11. الجواب المستطاب عما أورده الجاهل المرتاب المسمى متروك "خ"
12. الجواب المنكي في الرد على الكنكي "خ"
13. الجواب الفارق بين العمامة والعصائب "ط".
14. حل الوثاق في أحطام الطلاق "خ".
15. منهاج أهل الحق والإتباع في مخالفة أهل الجهل والابتداع "ط".
16. كشف الأوهام والالتباس عن تشبيه بعض الأغبياء من الناس.
17. التبيان المبدي لشناعة القول المجدي.
18. الرد على كتاب القول المنيف الذي ألفه عبد الله بن عمرو.
19. الهدية1 السنية والتحفة الوهابية "ط".
20. تبرئة2 الشيخين الإمامين من تزوير أهل الكذب والمين "ط".(28/3)
__________
1 الهدية السنية مجموعة خمس رسائل الأولى للإمام عبد العزيز ابن الإمام محمد بن سعود والثانية للشيخ الإمام عبد الله ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب والثالثة رسالة الفواكه العذاب في الرد على من لم يحكم السنة والكتاب للإمام الشيخ حمد بن ناصر بن معمر والرابعة للشيخ العلامة عبد اللطيف ابن الشيخ عبد الرحمن بن حسن ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب والخامسة لابنه الشيخ محمد ابن الشيخ عبد اللطيف ابن الشيخ عبد الرحمن وبآخر هذه الرسائل منظومة طويلة دالية للمترجم له الشيخ سليمان بن سحمان ضمنها عقيدة أهل السنة والجماعة وما يدينون الله به وهذه المنظومة زائدة على قصائد ديوان المؤلف لأنه أنشأها بعد ما طبع الديوان.
2 يرد به على قصيدة وشرحها منسوبة للأمير محمد بن إسماعيل الصنعاني ومطلع القصيدة المزورة على الأمير الصنعاني:
رجعت عن النظم الذي قلت في النجدي
فقد صح لي عنه خلاف الذي عندي
فرد عليه المترجم له الشيخ سليمان بقصيدة طويلة تبلغ أبياتها ثلاثمائة واثنين وثمانين بيتاً ومطلعها:
ألا قل لذي جهل تهور في الرد
وأظهر مكنوناً من الغيظ لا يجدي=
ص -203-
21. الجيوش الربانية في كشف الشبه العمروية يرد به على عبد الله بن عمرو "خ".
22. ورسالة جواب الأسئلة عن التكفير والتفسيق والهجر على المعاصي "ط".
23. رد على العاملي الإمامي صاحب كشف الارتياب "خ".
24. نظم اختيارات شيخ الإسلام "خ".
25. الرد على عبد الله بن عمرو "خ".
26. أشعة الأنوار "ط".
وله أجوبة على مسائل طبعت في مجموع الرسائل والمسائل النجدية.
وكان -رحمه الله- شاعرا موهوبا له ديوان شعر اسماه "عقود الجواهر المنضدة الحسان" طبع قديما في الهند1 سنة 1333ه غالبه ردود على شعراء
__________
=
وفاه بتزوير وإفك ومنكر
وظلم وعدوان على العالم المهدي(28/4)
وزور نظماً للأمير محمد
وحاشاه من إفك المزور ذي الجحد
لعمري لقد أخطأت رشدك فاتئد
فلست على نهج من الحق مستبدي
وقد صح أن النظم هذا مقول
تقوله هذه الغبي على عمد
وما كان هذا النظم منظوم عالم
نقي تفي بالهدى للورى يهدي
ولكنه جهل صريح مركب
ومنشئه عن منهج الرشد في بعد
وهاأنا ذا أبدي مخازيه جهرة
واقض مايبديه بالحق والرشد
لتعلم أن الفدم هذا مزور
وأن الذي أبداه من جهله المردي
يخالف ما قال الأمير محمد
وقرر في التطهير تقرير ذي نقد
وحسبك من هذا ضلالا وفرية
على البعد فضلا عن الأب والجد
فجاء على تزويره بدلائل
تعود على ما قال بالرد والهد
إذا صح ما قلنا لديك فقوله
رجعت عن النظم الذي قلت في النجدي
رجوع عن الحق الذي هو ذاكر
عن السلف الماضيين من كل ذي رشد
وهي طويلة نجتزي منها بهذا القدر حيث طبعت مع شرحها في كتاب تبرئة الشيخين الإمامين عن تزوير أهل الكذب والمين والكتاب ذكرناه ضمن مؤلفات المترجم له –رحمه الله-.
1 بلغني من حفيده عبد الرحمن بن عبد العزيز ابن الشيخ سليمان ان لجده الشيخ سليمان قصائد كثيرة لم تطبع.
ص -204-(28/5)
الضلال الذين هاجموا دعوة التوحيد السلفية ورموا بقوافي الشتم وسهام الطعن علماءها وقد بلغ مجموع قصائد هذا الديوان مائة وثماني قصائد وبلغ عدد أبيات هذه القصائد ثمانية آلاف وثمانية وتسعين بيتاً.
وكان -رحمه الله-طويل النفس في الشعر حتى أن إحدى قصائده بلغت خمسمائة وثلاثين بيتاً ورائيته التي رد بها على رائية النبهاني بلغت أربعمائة بيت وكان لا تأتيه قافية هجاء إلا وانبرى للرد عليها وزناً وقافية وإن كانت من أبشع قوافي الشعر ممتازة ليست لغيره وذلك انه يستعرض قصيدة المعارض مجزأة ثم يتعقبها بالمناقشة ثم يعاكسها ويأتي على كل بيت من أبياتها بالرد والنقض في جملة أبيات حتى يأتي على جميعها ويستوعبها نقضاً ورداً.
نورد مثالاً لبعض ما ذكرنا هذه القصيدة الرائية التي رد بها على رائية يوسف النبهاني1.
وقفت على نظم حوى الكفرا والشرا
وصاحبه خب لئيم وقد أجرى
ينابيع كفر في تقاسيم غيه
فحرر في تقسيمه الافك والوزرا(28/6)
__________
1هو يوسف بن إسماعيل النبهاني نسبة إلى بني نبهان من عرب البادية بفلسطين. ولد سنة 1265ه ونشأ بقرية "اجزم" التابعة لحيفا من شمال فلسطين، ثم سافر إلى مصر سنة 1283ه وتعلم بالأزهر وسافر إلى الاستانة فعمل في تحرير جريدة "الجوائب" وتصحيح ما يطبع في مطبعتها ورجع إلى بلاد الشام سنة 1296ه فتنقل في أعمال القضاء إلى أن كان رئيساً لمحكمة الحقوق ببيروت سنة 1305ه وأقام بها زيادة على عشرين سنة وسافر إلى المدينة المنورة مجاورا ونشبت الحرب العالمية الأولى فعاد إلى قريته "اجزم" وتوفي بها سنة 1350ه وكان شاعرا طويل النفس وقحا ضالا وثنيا يدعو إلى دعاء الأموات والغائبين له "شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق" وله كتب كثيرة حمل فيها بدون حياء ولا وازع من دين على أعلام الإسلام كشيخ الإسلام أحمد بن تيمية وتلميذه محمد بن قيم الجوزية وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب والإمام الألوسي صاحب روح المعاني وحفيده محمود شكري الألوسي والشيخ محمد عبده المصري وآخرين وله رائية شعر طويلة اطلق لنفسه فيها عنان البذاءة وهجر القول، فسب فيها شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب واخوانه الموحدين السلفيين وقد تصدى له المترجم الشيخ سليمان بن سحمان فرد عليه بهذه القصيدة وهي تبلغ في حملتها أربعمائة بيت من وزن قصيدة النبهاني ورويها جزاه الله خيراً.
ص -205-
ولم يأتنا منها سوى الخامس الذي
تهور فيه القدم في الكفر واستجرا
يذم به أهل التقى وذوي النهى
فسحقا له سحقا فقد أظهر الكفرا
فكان علينا واجبا متعينا
أجابته لم هذا وأتى هجرا
ولم أك في ردي عليه تعمقاً
بتعقيد ألفاظ كمنظوم ذي الاطرا
ولكن بلفظ مستقيم نظمته
ليفهمه القاري ومن كان لا يقرا
فطورا أرد الهمط من زور غيه
وأبدى له خزيا وانشره نشرا
وأعكسه طوراً عليه لأنه
بأرجاسه أولى وأركانه احرى(28/7)
فها أنا ذا أنبيك بعض نظامه
لتعلم أن الفدم ما أحكم الأمرا
ويحسب جهلا أنه بمقاله
أتى بصواب في مقالته النكرا
فقال الغبي الأحمق الفدم منشدا
لينشر من أقواله الكفر والشرا
أولئك . . . . . ضل سعيهم
فظنوا الردى خيرا وظنوا الهدى شرا
فهذا مقال الفدم لا در دره
ولا نال إلا الخزي والعار والوزرا
وأعجب من ذا لو يرى الرشد أنه
بذلك أبدى من مخازيه ما أزرى
فمن لم يكن في قلبه حب أحمد
اعز الورى فخرا وأعظمهم قدرا
فليس لعمري مؤمنا بمحمد
وما نال إلا الخزي من ذاك والوزرا
ومن أشرك المعصوم في حق ربه
وأسهب في منظومه المدح بالاطرا
فذا كافر بالله جل جلاله
كهذا الذي أبدى بمنظومه الكفرا
نعم نحن وهابية حنفية
حنيفية نسقي لمن غاضنا المرا
ومن هاضنا أو غاضنا بمغيضة
سنصعقه صعقاً ونكسره كسرا
وكم من أخي جهل رمانا بجهله
فعاد حسيرا خاسئاً نائلا شرا
بمحكم آيات وسنة أحمد
نصول على الأعدا ونأطرهم أطرا
وما ضل منا السعي بل كان سعينا
على ملة المعصوم والسنة الغرا
فلا ندع إلا الله جل جلاله
ونرجوه في السرا وفي العسر والضرا
فلا يستغيث المسلمون بغيره
تعالى عن الأنداد من ملك الأمرا
ص -206-
نوحده سبحانه بفعاله
وأفعالنا لله خالصة طرا
وأهل النهى سكان نجد جدودهم
هم العرب العربا بهم لم تحطْ خبرا
وقد استعربت منهم قبائل جَمّة
سموا بالعلى قدرا وبالمصطفى فخرا
أتم عقول الناس طرا عقولهم
وأحسنهم خلقا وخلقا فهم أحرا
وقد ورثوا مجدا أصيلا مؤثلا
لأهل الهدى منهم فنالوا به الفخرا
مسيلمة الكذاب ليس بجدهم
وليس له نسل يقرر أو يدري
ولا لسجاح1 ويل أمك فاتئد
فما الفشر إلا ما هذوت به نشرا
وقد أسلمت والشام كان مقرها
فلو كان من لؤم لكنت به أحرا
وإذ كنت من أنباط اجزم لم تكن
من العرب العربا ولا من سموا فخرا
ولم تدر من دين الهدى غير مذهب(28/8)
يضلك في الدنيا و يخزيك في الأخرى
فما لك وللأنساب دعها لمن له
بها خبرة اذ كان منكم بها أدرى
فعلمك بالأنساب أعظم آية
على جهلك المردى كما قلته جهرا
أتحسب انا ويل أمك غفلا
كأنباط من ... ما حققوا الامرا
وقولك فيما تهورت ضلة
وحررته رقما وأودعته كفرا
إلى الله بالمعصوم لم يتوسلوا
نعم هذه حق يعدونها كفرا
على عرف عباد القبور لأنه
بمعنى الدعا والاستغاثة قد يجرى
فيدعونه جهلا لدى كل كربة
ومعضلة دهياء تعرو لهم جهرا
وهذا هو الإشراك بالله جهرة
فتبا لمن يدعو الذي سكن القبرا
وما كان مسنونا فنحن نقره
على عرف من منكم بسنته أدرى
أولئك أصحاب النبي محمد
وأتباعه ممن على نهجه يترى
توسلهم بالمصطفى في حياته
إذا ما دهاهم فادح أوجب الضرا
__________
1 ليست سجاح من بني تميم قال الحافظ إسماعيل بن كثير في ج6 ص320 من تاريخه المسمى والبداية والنهاية بالحرف الواحد ما نصه "هي سجاح بنت الحارث بن سويد بن عقفان التغلبية من نصارى العرب" وناهيك بالحافظ ابن كثير دراية وحفظاً وتدقيقاً رحمه الله.
ص -207-
فيأتونه مستشفعين لما دها
من الكرب أو مستعتب طالب غفرا
فيدعو لهم أن يكشف الله ما بهم
من الضر واللأوى ويستنزل النصرا
ومن بعد أن مات النبي محمد
فليس سوى الرحمن يدعونه طرا
بل الله مولاهم ولا شيء غيره
وبالعمل المرضي يدعونه جهرا
وبالدعوات الصالحات توسلوا
وإيمانهم بالمصطفى من سما فخرا
وما كان مكروها وكان محرما
ومخترعا في الدين مبتدعا نكرا
فذاك الذي بالجاه أو بذواتهم
توسل أو يدعو بهم طالبا أجرا
فما بذوات الأنبياء وجاههم
أتى النص أن ندعو بهم واضحا يقرا
نعم قدرهم أعلى لدى كل مسلم
على كل مخلوق وكل بني الغبرا
وتعزيزهم أعلى لدى كل مسلم
وتوقيرهم إذ كلهم قد علا قدرا
فما ورثوا الكذاب من كان يدعي(28/9)
بأن له شطرا وللمصطفى شطرا
لأنهمو قد أخلصوا الأمر كله
ولم يجعلوا للمصطفى ذلك القدرا
ومن أشرك المخلوق في حق ربه
فقد جاء بالكفران والقالة النكرا
وأنتم ورثتم جهرة كل كافر
وحققتم الارث الذي أوجب الكفرا
بصرفكمو ما للاله لغيره
فلم تجعلوا لله شيئا ولا شطرا
ومن قول هذا المفتري في نظامه
وقرر هذا في قصيدته جهرا
أشار رسول الله للشرق ذمه
وهم أهله لا غرو ان أطلع الشرا
أقول لعمري ما أصبت وإنما
دهاك اسم نجد حيث لم تعرف الامرا
فما شرق دار المصطفى قط نجدنا
ولكنه نجد . . . فهم أحرى
ومنه بدت تلك الزلازل كلها
وقد قررت أخبارها للورى سيرا
ففي الفتح1 ما يشفي ويطلع عالما
بتلك المعاني قد أحاط بها خبرا
وما طعنوا في الأشعري إمامكم
ولكن بأتباع له كسروا كسرا
وللملاتريدي حيث جاء ببدعة
وللاشعري أشياء منكرة أخرى
__________
1 يعني به فتح الباري شرح صحيح البخاري.
ص -208-
ووافق أهل الحق في جل ما به
يقولونه حقا ومن غيرهم نبرا
فبين حقا في الابانة قوله
وفي غيرها من كتبه أوضح الأمرا
فلستم على منهاجه وطريقه
ولكنكم من أمة آثروا السكرا
وتزعم جهلا ويل أمك أننا
نقول وما حققت أحوالنا سيرا
بتحقير أحباب الرسول تقربوا
إليه فنالوا البعد إذ ربحوا الخسرا
وما هذه إلا مقالة آفك
أراد بها التنفير، ما أعظم الأمرا
فما رجل من بتحقير شأنهم
تقرب يا من قال بالزور واستجرا
سوى أن حق الله لله وحده
جعلنا ولم نجعل لأحبابه شطرا
وتعظيمهم بالإتباع على الهدى
على المنهج الأسنى نقرره جهرا
وأن لهم فضلا على الناس كلهم
بما عملوا من صالح هم به أحرى
وأما حقوق الله جل جلاله
فليس لهم منها ولا ذرة تجرى
وما ذاك تحقيرا لهم وتنقصا
ولكنه تعظيمهم إذ همو أدرى
وأعلم بالله العظيم ودينه(28/10)
فنالوا به فخراً وأعلوا به قدرا
ونلنا بهذا الاعتقاد سلامة
ونلتم بذاك الإعتقاد بهم خسرا
ويعتقدون الأنبياء كغيرهم
سواء عقيب الموت لا خير ولا شرا
فليس لهم بعد الممات تصرف
ولا لسواهم من بني ساكن الغبرا
فمن يدعو غير الله أو يستغث به
وقد فارق الدنيا وصار إلى الأخرى
فذلك بالرحمن قد كان مشركا
وهذا هو الأمر الذي أوجب الكفرا
وقد أجمع الأعلام من كل مذهب
على أن ذا كفر وقد حققوا الأمرا
وما شذ منهم غير من كان رأيه
على رأي قوم أحدثوا للورى شرا
وساروا على منهاج من ضل سعيه
ولم يعرفوا الإسلام حقا ولا الكفرا
ولكنهم ضلوا بوهم شفاعة
دعاهم بها الشيطان واجتال من غرا
وأي دليل من كتاب وسنة
عن السيد المعصوم معلومة تقرا
وتتلى بإسناد صحيح محق
تقرره أعلام سنتنا الغرا
ص -209-
وقولك فيما قد نظمت تهورا
وأبديته فيما تحروه جهرا
وقد عذروا من يتغيث بكافر
كذبت وقد أبديت في نظمك الهجرا
فما وجدوا عذرا لمن كان كافرا
ولا وجدوا للمستغيث بهم عذرا
ولا رحلوا للشرك في دار رجسه
وجابوا إلى أوطانه البر والبحرا
ولا جوَّزوا للمسلمين رحيلهم
لزورة خير الخلق في طيبة الغرا
ولكنهم قد جوزوه لمسجد
يصلي به من رام من ربه الأجرا
ومن بعد أن صلى يزور محمدا
ويدعو له لا يدعو من سكن القبرا
وفيه حديث في الصحيح1 لمسلم
يقرره من كان يعرفه جهرا
وهي طويلة نكتفي منها بهذا القدر الذي أوردناه.
ورأيت له هذه القصيدة التي ضمنها حنينه إلى وطنه ومسقط رأسه عسير السراة فأحببت أن أمتع القراء بإيرادها في هذا الموضع من ترجمته لاشتمالها على مواضع وأماكن تاريخية وجغرافية
قال رحمه الله:
فيا أيها الغادي على ظهر جلعد
عردنسة وجنا من الضّمّر الحُمْرِ
إذا أنت أزمعت المسير ميمماً
إلى الطور من أرض السراة إلى الوعر
وخلفت أمدار البلاد وجزتها
بلاداً بلادا أو قفاراً إلى قفر(28/11)
وجاوزت شهراناً وناهس بعدما
قطعت طريبا من ديار بني صقر
فأشرف على أبها حنانيك قائلا
ودمعك سفاح على الخد والنحر
سلام على من حلها من ذوي الهدى
بقية أهل الدين في غابر الدهر
وعرض على أهل القرا2 حيث أنها
محلة أخوالي وإن كنت لا تدري
فسلم على من كان بالله مؤمنا
ودع كل من يأوي إلى أمة الكفر
__________
1 إشارة إلى ما رواه مسلم من قوله صلى الله عليه وسلم "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاث مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا ومسجد القدس".
2 القرا محلة من محلات أبها.
ص -210-
وارض بها نيطت على تمائمي
تسمى السقا دار الهداة أولى الأمر
بلاد بني تمام حيث تواطنوا
وآل يزيد من صميم ذوي الفخر
وأبلغ بني الشيخ الأمير محمد
عليا وعبد الله عنا بلا حصر
سلاما وبلغ عائضاً وذوي الهدى
ومن هو منهم لم يزل سائر الدهر
وأخوتنا عبد الكريم ويافعا1
وأبنائهم تسليم مكتثب الصدر
مضى عمره والقلب في عرصاتكم
وأشواقه تزداد في السر والجهر
ولم أرسل عن تذكاركم وادكاركم
على البعد واللأوى وفي العسر واليسر
وما زلت في أرض نشأت بربعها
أحن إليها دائما وأمض الذكر
فياليت شعري هل شدا بمشيده2
كعهدي به حال الطفولة من عمري
وهل حصن زهوان الحصين وجيرة
حواليه في عز رفيع وفي فخر
وحصن ابن عواض وآل مفرج
وجيرانهم أهل القريع على خير
وصدرى وحصن لابن لاحق حولنا
ويا ليتني أدري أكانوا كما أدري
أم الحال قد حالت بهم وتغيرت
وبدل خير فيهمو كان بالشر
حنانيك خبرني ولا تأل جاهدا
فإني لدى الأخبار منشرح الصدر
واختم نظمي بالصلاة مسلماً
على السيد المعصوم ذي المجد والفخر
وأصحابه والآل مع كل تابع
وتابعهم حقا إلى منتهى الدهر(28/12)
وقد أقعد في آخر حياته فلزم داره وصار لا يخرج منها ولكنه لم ينقطع عن التأليف والردود عن عقيدة الإسلام إلا قبيل وفاته بسنتين.
تلامذته:
أخذ عنه ابناه صالح وعبد العزيز والشيخ سليمان بن عبد الرحمن بن حمدان والشيخ عبد العزيز بن صالح بن مرشد.
__________
1 عبد الكريم أخوه لأمه وأبيه ويافع أخوه من أمه فقط.
2 شدا: قصر بمدينة أبها.
ص -211-
والشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن حسين.
وغير هؤلاء ممن لا يحضرني ذكرهم.
وفاته:
توفي -رحمه الله- بمدينة الرياض سنة ألف وثلاثمائة وتسع وأربعين من الهجرة وصلى عليه الناس بمسجد جامع الرياض الكبير ودفن في مقبرة العود غفر الله له وعفا عنه وجزاه عن دفاعه عن الإسلام ونضاله عن الدين خير الجزاء.
وقد أنجب -رحمه الله- ثلاثة أبناء هم: عبد العزيز وصالح وعبد الله فأما عبد العزيز فمات في حياة والده وخلف ابنا اسمه عبد الرحمن أصبح اليوم من طلبة العلم وأما صالح وعبد الله فهما موجودان ولهما أبناء وذرية وصالح سبق له أن طلب العلم ولديه معرفة.
والحمد لله أولا وآخرا وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
ص -212-(28/13)
الشيخ سعد بن عتيق
هو العلامة الورع الزاهد الشيخ سعد ابن الشيخ حمد بن علي بن محمد بن عتيق بن راشد بن حميضة، اشتهر كوالده بابن عتيق ولد ببلدة العمار من بلدان الأفلاج1 الناحية المعروفة جنوب نجد سنة تسع وسبعين ومائتين وألف تقريباً، فنشأ في كنف والده الشيخ حمد وقرأ عليه جملة من المتون المؤلفة في توحيد العبادة وتوحيد الأسماء والصفات والفقه والحديث والنحو.
ثم سافر إلى الهند سنة تسع وتسعين ومائتين وألف وقدم بهبال واجتمع بصديق ابن حسن خان وقرأ عليه وأخذ عن الشيخ نذير حسين والشيخ محمد بشير السندي والشيخ سلامة الله الهندي وعن الشيخ حسين بن محسن الأنصاري الخزرجي اليماني المقيم بالهند وبقي تسع سنين يقرأ على علماء الحديث المذكورين ثم
__________
1 الأفلاج جمع فلج وهو النهر الصغير وهو اليوم يطلق على ناحية كبيرة من نواحي نجد تقع بين وادي بريك وبلدانه وهي الحوطة والحريق ونعام والحلوة والصدر والعطيان والمفيجر. تقع الأفلاج بين هذه القرى وبين السليل وتبعد عن مدينة الرياض نحو ثلاثمائة كيلومترا وتشتمل الأفلاج على عدة قرى أعرف منها ما يأتي "ليلى" وهي العاصمة "والحمر، والهدار، والستارة، والخرفة، وسيح آل حامد، والغيل، والعمار" وبها ولد له المترجم له "وحراضة، وواسط، وسيلا، ومروان، والزريقية، والروضة، والبديعة، وسويدان" جميع هذه القرى يطلق عليها اسم الأفلاج وهي آهلة بالسكان وفيها نخيل وقصور ومزارع وأنهار عديدة وماؤها غزير لا ينضب وفيها مدارس بنين وبنات ودوائر حجومية وفيها جميع لوازم الحياة أطال الله عمر إمام المسلمين الملك فيصل آل سعود الذي تقدمت المملكة في عهده تقدماً عظيماً في شتى المجالات والميادين حفظه الله من كل مكروه وأدام عليه نعمة التوفيق إنه لسميع مجيب.
ص -213-(28/14)
رجع إلى وطنه وحج وبعد فراغه من الحج مكث بمكة ووجد بها الشيخ أحمد ابن إبراهيم بن عيسى النجدي مجاورا فقرأ عليه الروض المربع شرح زاد المستقنع، وأخذ عن جماعة من علماء مكة المكرمة منهم الشيخ حسب الله الهندي والشيخ عبد الله الزواوي والشيخ أحمد أبو الخير، ثم عاد إلى وطنه وبقي في مسقط رأسه بلدة العمار وتولى قضاء الأفلاج مدة ولاية آل رشيد، ولما تولى جلالة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل آل سعود ملك نجد نقله إلى مدينة الرياض بجانبه وولاه القضاء في الدماء وجميع القضايا التي تتعلق بالبوادي وإمامة الفروض الخمسة بمسجد الجامع الكبير، وعقد بالجامع المذكور حلقتين للتدريس إحداهما بعد طلوع الشمس والأخرى بعد صلاة الظهر، وكان شديد التحري والضبط في دروسه يضبط الألفاظ ويحترز من اللحن وإن قل، وكان قليل الكلام كثير التثبيت، لا يقرأ عليه في كتاب إلا إذا كان قد راجع جميع ما عليه من شروح وحواشي واستوفاها مطالعة، وكان لا يترك الطالب يقرأ عليه من عبارات الفقهاء أكثر من أربع مسائل أو خمس ثم يتبع الكلام عليها منطوقا ومفهوما ويقرر عليها تقريرا واضحا مفيدا يفهمه الطالب ويرسخ في ذهنه.
أخذ العلم عنه خلق كثير نذكر من فضلائهم في هذه الترجمة المقتضبة: سماحة الشيخ عبد الله بن حسن رئيس القضاة في حياته، والشيخ محمد بن عبد اللطيف وسماحة الشيخ محمد ابن الشيخ إبراهيم ابن الشيخ عبد اللطيف مفتي الديار السعودية ورئيس قضائها في حياته –رحمه الله-، وسماحة الشيخ عمر ابن الشيخ حسن رئيس هيئات الأمر بالمعروف بالمنطقة الوسطى والشرقية، والشيخ عبد اللطيف ابن الشيخ إبراهيم ابن الشيخ عبد اللطيف مدير المعاهد والكليات في حياته –رحمه الله- والشيخ محمد بن عثمان الشاوي والشيخ عهد الله بن عبد العزيز العنقري والشيخ عبد الله بن حمد الدوسري والشيخ عبد العزيز بن صالح بن مرشد والشيخ إبراهيم بن سليمان آل مبارك والشيخ(28/15)
ص -214-
فيصل بن عبد العزيز آل مبارك والشيخ عبد الرحمن بن عودان والشيخ سعود بن رشود. وأخذ عنه ابنه محمد بن سعد وابن أخيه محمد بن عبد العزيز بن حمد بن عتيق ومحمد بن علي التويجري.
ألف رسالة سماها "حجة التحريض في تحريم الذبح للمريض".
وكان يقرض الشعر على طريقة العلماء، نظم متن "زاد المستقنع، مختصر المقنع" حتى وصل في نظمه إلى الشهادات، وله رسائل طبعت في مجموع الرسائل والمسائل النجدية. وقد كف بصره آخر عمره.
وتوفي –رحمه الله- بمدينة الرياض ثالث عشر جمادى الأولى سنة 1349هـ، وخلف أبناء ليس لي معرفة بأسمائهم، وقد رثاه بعض الأدباء والشعراء منهم الشيخ محمد بن عبد الله بن عثيمين، رثاه بهذه القصيدة الرائية الفريدة:
أهكذا البدر تخفي نوره الحفر
ويفقد العلم لا عين ولا أثر
خبت مصابيح كنا نستضيء بها
وطوحت للمغيب الأنجم الزهر
واستحكمت غربة الإسلام وانكشفت
شمس العلوم التي يهدى بها البشر
تجرم الصالحون المقتدى بهمو
وقام منهم مقام المبتدى الخبر
فلست تسمع إلا كان ثم مضى
ويلحق الفارط الباقي كما غبروا
فنح على العلم نوح الثاكلات وقل:
وا لهف نفسي على أهل له قبروا
ص -215-
الثابتين على الإيمان جهدهمو
والصادقين فما مانوا ولا ختروا
والعادلين عن الدنيا وزهرتها
والآمرين بخير بعدما ائتمروا
لم يجعلوا سلما للمال علمهمو
بل نزهوه فلم يعلق به وضر
هذي المكارم لا تزويق أبنية
ولا الشفوف التي تكسى بها الجدر
فابك على العلم الفرد الذي حسنت
بذكر أفعاله الأخبار والسير
من لم يبال بحق الله لائمة
ولا يحابي امرءاً في خده صعر
بحر من العلم قد فاضت جداوله
أضحى وقد ضمه في بطنه المدر
فليت شعري من للمشكلات إذا
حارت بغامضها الأفهام والفكر
من للمدارس بالتعليم يعمرها
ينتابها زمر من بعدها زمر
هذي رسوم علوم الدين تندبه
ثكلى عليه ولكن عزها القدر(28/16)
طوتك يا سعد أياما طوت أمما
كانوا فبانوا وفي الماضين معتبر
إن كان شخصك قد واراه ملحده
فعلمك الجم في الآفاق منتشر
ص -216-
بَنَى لكم حمد يا للعتيق علا
لم يبينها لكمو مال ولا خطر
لكنه العلم يسمو من يسود به
على الجهول ولو من جده مضر
والعلم إن كان أقوالا بلا عمل
فليت صاحبه بالجهل منغمر
يا حامل العلم والقرآن إن لنا
يوما تضم به الماضون والأخر
فيسأل الله كلا عن وظيفته
فليت شعري بماذا منه نعتذر
وما الجواب إذا قال العليم إذا
قال الرسول أو الصديق أو عمر
والكل يأتيه مغلول اليدين فمن
ناج ومن هالك قد لوحت سقر
فجددوا نية لله خالصة
قوموا فرادى ومثْنَى واصبروا ومروا
وناصحوا دائما من ولي أمركمو
فالصفو لابد يأتي بعده كدر
والله يلطف في الدنيا بنا وبكم
ويوم يشخص من أهواله البصر
وصلّ ربّي على المختار سيدنا
شفيعنا يوم نار الكرب تستعر
محمد خير مبعوث وشيعته
وصحبه ما بدا من أفقه قمر
آخرها رحم الله الشيخ سعداً وغفر له وعفا عنه إنه سميع مجيب.
ص -217-(28/17)
الشيخ عبد الله بن سليم
هو الشيخ التقي الورع الزاهد عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الله بن سليم ولد بمدينة بريدة بالقصيم عام 1287هـ ونشأ بها وقرأ القرآن حتى حفظه نظرا وعن ظهر قلب ثم شرع في قراءة العلم على والده الشيخ محمد وابن عمه الشيخ محمد بن عمر بن سليم ورحل إلى مدينة الرياض فقرأ على الشيخ عبد الله ابن الشيخ عبد اللطيف ثم رجع إلى وطنه ولازم والده ملازمة تامة. ولما أفضت إمارة نجد إلى عبد العزيز بن متعب رن رشيد جرى على المترجم منه محن شديدة وتغريب ولما أنعم الله على أهل نجد بولاية الملك عبد العزيز ولاه قضاء مدينة بريدة وملحقاتها فاستمر في القضاء طيلة حياته -رحمه الله- مع قيامه بإمامة المسجد الجامع الكبير وخطابة العيدين ونشر العلم وتدريسه.
تلامذته:
أخذ عنه العلم وتتلمذ له خلق كثير منهم:
الشيخ عبد الله بن عبد العزيز بن عبدان قاضي مدينة عنيزة حالياً.
والشيخ محمد بن صالح المطوع.
والشيخ سليمان المشعلي.
والشيخ عثمان بن حمد بن سقيان تولى قضاء أبو عريش من أعمال جازان.
والشيخ عبد العزيز بن إبراهيم العبادي.
وغير هؤلاء ممن لا يحضرني ذكرهم.
توفي في الحادي عشر من شهر محرم عام 1351هـ في مدينة بريدة وحزن عليه الناس ورثاه خلق كثير وخلفه في منصب القضاء أخوه الشيخ عمر ابن الشيخ محمد بن سليم، ولم يخلف عقباً سوى بنات رحمه الله وغفر له إنه سميع مجيب.
ص -218-(28/18)
الشيخ صالح العثمان القاضي
هو صالح بن عثمان بن حمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن القاضي1 من الوهبة من تميم. ولد في عنيزة 10 ربيع الآخر سنة 1282هـ وأولع في مطلع عمره بالشعر العربي والنبطي حتى برع فيه، ثم أقبل على العلم في جد ونشاط فقرأ على:
1. الشيخ علي المحمد الراشد.
2. الشيخ محمد الإبراهيم السناني.
3. الشيخ صالح بن قرناس.
4. الشيخ عبد العزيز بن محمد المانع، والد مدير المعارف سابقا.
5. الشيخ عبد الله بن عائض.
6. الشيخ علي بن محمد السناني.
ثم رحل إلى بريدة للتزود من طلب العلم فقرأ على:
7. الشيخ سليمان بن مقبل قاضي بريدة آنذاك.
8. الشيخ محمد بن عبد الله بن سليم.
9. الشيخ محمد بن عمر بن سليم.
وفي سنة 1306هـ سافر إلى القاهرة لإكمال دراسته في الجامع الأزهر فنزل
__________
1 ابن محمد بن منيف بن بسام بن منيف بن عساكر بن عقبة بن ريس بن زاخر بن محمد بن علوي بن وهيب بن قاسم بن موسى بن عقبة بن سنيع بن نهشل بن شداد بن زهير بن شهاب ابن ربيعة بن أبي سود بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم.
ص -219-(28/19)
برواق المغاربة واشتغل بطلب العلم بهمة ونشاط، وفي سنة 1308هـ حدثت –معركة المليداء- بين الأمير محمد بن رشيد وبين أهل القصيم، فبلغه وهو في القاهرة مقتل إخوانه فرجع م القاهرة فلما وصل مكة علم بكذب نبأ قتلهم فجاور بمكة ونزل في أحد أرابطتها، ويقول حفيده الشيخ محمد بن عثمان ابن الشيخ صالح: ولقد مررت مع والدي عثمان حينما حججنا سنة 1363هـ على الرباط الذي كان يسكنه جدي بعد أن دلنا عليه من كان يزوره فيه من أهل عنيزة والآن دخل في توسعة الحرم. ولنعد إلى ما نحن بصدده من ذكر بقية مشائخ المترجم حيث قرأ بمكة على كثير من العلماء الأعلام منهم:
1. الشيخ الأنصاري الذي أجازه بسنده المتصل.
2. الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن وكان مجاورا بمكة.
3. الشيخ أحمد بن عيسى وهو أكثرهم له فائدة وملازمة.
ولم يزل دائباً على تحصيل العلم حتى غضب الشريف على أهل عنيزة فاختفى الشيخ صالح بالمعابدة بينما يستعد للسفر هاربا من عون، إلى أن توفي عون عام 1323هـ والشيخ في اختفائه، إلا إنه أزمع السفر فسافر إلى بلدة عنيزة فألح عليه جماعته وأمراء البلد ليتقلد القضاء فامتنع ثم إنه نزولا على إلحاحهم التزم بالقضاء بعد الشيخ إبراهيم بن جاسر عام 1324هـ.
واستمر فيه إلى آخر يوم من حياته، وكان المرجع في بلده في الفتوى والتدريس والإفادة وهو إمام وخطيب وواعظ جامع عنيزة الكبير مدة حياته فانتفع منه خلق كثير من طلبة العلم والمستمعين.
وكان من تلامذته النابهين:
1. الشيخ عبد الرحمن السعدي، العالم المشهور.
2. الشيخ عثمان بن صالح القاضي ابن المترجم.
3. الشيخ محمد العلي آل تركي، العالم المشهور.
4. الشيخ صالح الزغبي، إمام الحرم المدني.
ص -220-(28/20)
1. الشيخ سليمان بن عبد الرحمن العمري، قاضي الإحساء .
2. الشيخ علي بن ناصر بن وادي.
3. الشيخ علي بن محمد السناني.
4. الشيخ محمد بن عبد العزيز المانع، مدير المعارف سابقا.
5. الشيخ سليمان السحيمي.
10.الشيخ عبد الله بنم محمد المانع، قاضي عنيزة الورع وابنه.
11. الشيخ محمد بن عبد الله المانع.
12. الشيخ عبد الله بن عبد العزيز السويل.
وغيرهم خلق كثير.
وكان لا يرى تأليف الكتب ويقول: لم يترك الأول للآخر شيئاً، ومع هذا فله حاشية على دليل الطالب وحاشية على رياض الصالحين وله مسودة تاريخ لنجد ومجموعة خطب نفيسة وكلها لم تطبع، وكان آية في العلوم الشرعية والعلوم العربية صاحب اطلاع واسع.
أما قضاؤه وأحكامه فهذا مما جعل له الشهرة الواسعة والصيت الذائع لما له من الفراسة في الناس وصفاء الحس والإدراك. ولا يزال الناس رغم مضي أربعين سنة على وفاته لا يذكرون إلا أحكامه وفراسته واستنباطه ومعرفته المحق من المبطل وقد ولي القضاء سبعا وعشرين سنة محبوبا مقبولا لدى الخاص والعام وكان على جانب كبير من التواضع وحسن الخلق فكانت مجالسه مفيدة ممتعة.
وقد توفي في اليوم الخامس والعشرين من ربيع الآخر عام 1351هـ -رحمه الله تعالى-.
ص -221-(28/21)
الشيخ إبراهيم بن محمد بن ضويان
هو الشيخ العالم الفقيه المؤرخ النسابة إبراهيم بن محمد ضويان يمت بنسبه إلى قبيلة آل زهير التي تنسب إلى قبيلة بني صخر(1). ولد -رحمه الله- بمدينة الرس بالقصيم سنة ألف ومائتين وخمس وسبعين من الهجرة ونشأ بها وقرأ على علمائها منهم الشيخ صالح بن قرناس بن عبد الرحمن بن قرناس ثم رحل إلى مدينتي عنيزة وبريدة بالقصيم فقرأ على الشيخ عبد العزيز بن(2) محمد بن مانع وعلى الشيخ العلامة محمد بن عمر بن سليم ثم عاد إلى الرس وتولى القضاء بها وتدريس العلم في مسجدها فتخرج على يديه كثير من طلاب العلم شغلوا مناصب القضاء والوعظ والتدريس. منهم الشيخ محمد بن عبد العزيز بن رشيد. ألف المترجم له عدة مؤلفات .. منها رسالة في أنساب أهل نجد (خ) ورسالة مختصر في التاريخ ابتداء من سنة 750هـ إلى 1319هـ ذكر فيها الغزوات والوقائع والوفيات (خ) وألف كشف النقاب في تراجم الأصحاب ابتداء من الإمام أحمد إلى وقته (خ) ومنار السبيل شرح الدليل(3) طبع على نفقة الشيخ قاسم بن درويش فخرو وألف حاشية على الروض المربع شرح زاد المستقنع (لا تزال موجودة بخطه) توفي فجأة في ليلة عيد الفطر سنة ألف وثلاثمائة وثلاث وخمسين من الهجرة .. وكان على جانب عظيم من التواضع والزهد والورع -رحمه الله وغفر له وعفا عنه- إنه سميع مجيب.
__________
1يسمى ببني صخر عدة قبايل قحطانية وعدنانية.
2هو والد الشيخ محمد ابن الشيخ عبد العزيز بن مانع مدير المعارف في حياته وسنورد للشيخ محمد بن مانع ترجمة في هذا الكتاب -إن شاء الله-.
3 هو دليل الطالب في فقه الإمام أحمد بن حنبل تأليف الشيخ مرعي بن يوسف الكرمي الحنبلي.
ص -222-(28/22)
الشيخ محمد بن عثمان الشاوي
هو العلامة الفاضل الشيخ محمد بن عثمان بن محمد بن عبد الله بن سليمان الشاوي يمت بنسبه إلى قبيلة البقوم المعروفة ببلدة تربة وحضن. اشتهر -رحمه الله- بلقب (الشاوي). ولد في بلدة البكيرية من بلدان القصيم بنجد سنة 1313هـ وفي الثالثة من عمره أصابه مرض الجدري فذهب بصره بسببه، فقرأ القرآن وحفظه على يد المقرئ محمد بن علي بن محمود وهو في الرابعة عشرة من عمره، ثم شرع في مبادئ العلوم على الشيخ عبد الله بن محمد بن سليم في بلدة البكيرية ثم رحل إلى مدينة الرياض فقرأ على العلامة الشهير الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف في سائر العلوم لا سيما علم العقائد والتوحيد وقرأ على الشيخ عبد الله بن راشد العنزي في الفرائض وعلى الشيخ سعد بن محمد بن عتيق في الفقه والحديث وعلى الشيخ محمد بن فارس في ألفية ابن مالك وشرح ابن عقيل ثم صدر الأمر بتعيينه 1333هـ قاضياً في هجرة سنام عند سكانها من قبيلة العصمة ثم نقل منها إلى القضاء في هجرة الغطغط، وقد حضر عدداً من الغزوات بصفته قاضياً للغزاة من أهل الغطغط، ومن الغزوات التي حضرها غزوة تربة الشهيرة وغيرها وحضر دخول مكة سنة 1343هـ، وبعد ذلك صدر الأمر بنقله من قضاء الغطغط وتعيينه مدرساً في المعهد السعودي بمكة المكرمة إلى جانب التدريس بالمسجد الحرام وذلك سنة 1346هـ ثم نقل سنة 1349هـ إلى قضاء بلدة تربة ثم إلى قضاء بلدة شقراء عاصمة الوشم الناحية المعروفة بنجد ومكث بها إلى أن توفي.
ص -223-(28/23)
أخذ العلم عنه خلق كثير نذكر منهم الشيخ العالم الورع عبد الله بن يوسف الوابل من قبيلة شمر(1) والشيخ إبراهيم بن راشد الحديثي والشيخ عبد العزيز بن السبيل وعبد الرحمن المقوشي ومحمد الصالح الخزيم وسليمان الصالح الخزيم وعبد الله بن عبد العزيز الخضيري وعبد الله بن سليمان السديس وإبراهيم ابن عبد العزيز الخضيري وهؤلاء المذكورون من أهل بلده، وأخذ عنه أيضاً الشيخ محمد بن عبد العزيز بن هليل الموظف بديوان المظالم، وكان المترجم الشيخ محمد بن عثمان الشاوي يقرض الشعر على طريقة العلماء، له قصيدة يصف فيها دخول مكة المكرمة سنة 1343هـ وقصيدة يرد بها على شاعر يدعى صبحي الحلبي، توفي المترجم ببلدة شقراء في التاسع من شهر رجب سنة 1354هـ وخلف ستة أبناء مات أكبرهم عبد الله سنة 1365هـ ومعرفتي من الباقين بالأستاذ حمد(2) -رحم الله الشيخ الشاوي وغفر له وعفا عنه وجميع المسلمين إنه سميع مجيب.
__________
1وقد وهم هاشم النعمي في تأريخه تاريخ عسير، حيث نسب الشيخ عبد الله بن يوسف المذكور إلى قبيلة بني تميم والصحيح أن الوابل الذين منهم الشيخ عبد الله بن يوسف من قبيلة شمر.
2 مدير عام ديوان إمارة منطقة مكة المكرمة، وأنجب غير حمد اثنين هما عبد الرحمن وعلي رحمه الله الشيخ الشاوي.
ص -224-(28/24)
الشيخ عبد العزيز بن بشر
هو الشيخ الفاضل الكريم عبد العزيز بن عبد الرحمن بن ناصر بن حسن بن آل بشر يمت نسبه إلى علي بن أبي طالب من فاطمة الزهراء.
ولد بمدينة الرياض سنة 1275هـ ونشأ بها وقرأ القرآن حتى حفظه نظراً وعن ظهر قلب وقرأ العلم على الشيخ محمد بن محمود وعلى غيره من أشياخ وقته.
ولاه الملك عبد العزيز قضاء مدينة بريدة 1327هـ ثم نقله منها إلى قضاء إقليم الإحساء سنة 1339هـ وقرأ عليه بالإحساء عبد الله بن دهيش والشيخ عبد الله(1) أبو يابس من بني زيد أهل القويعية ومكث المترجم له الشيخ عبد العزيز بالإحساء مدة طويلة ثم نقله الملك عبد العزيز إلى قضاء مدينة الرياض سنة 1357هـ وأخيرا أعفاه من القضاء لكبر سنه وضعف جسمه وتوفي بمدينة الرياض سنة 1359هـ وخلف ابناً اسمه عبد الرحمن توفي فيما بعد وله اليوم حفيد يسمى حسن بن عبد الرحمن بن الشيخ عبد العزيز ويكنى (أبو عمر) -رحم الله- المترجم له الشيخ عبد العزيز بن بشر(2) فقد كان جواداً كريماً وصلى الله على محمد وآله وسلم.
__________
1 الشيخ عبد الله أبو يابس من أهل بلدة القويعية البلدة المشهورة بالعرض بنجد نزح إلى مصر وأقام بها مدة تنيف على أربعين سنة ثم جاء إلى مدينة الرياض لغرض يخصه سنة 1389هـ فوافته المنية بمدينة الرياض في العام المذكور سنة 1389هـ وخلف ابناً اسمه علي وللشيخ عبد الله أبو يابس مؤلفان مطبوعان هما: "الرد القويم على ملحد القصيم" و"أعلام الأنام عن مخالفة شيخ الأزهر شلتوت للإسلام" -رحم الله- (أبو يابس) وغفر له.
2 ملحوظة: آل بشر الموجودون في نجد بعضهم من السادة وهم المترجم وعشيرته وبعضهم من بني زيد القبيلة القضاعية المعروفة بالوشم ومنهم المؤرخ الشهير الشيخ عثمان بن عبد الله بن بشر وبعضهم من الفضول من بني لام وهم عشيرة الشيخ محمد بن بشر رئيس محكمة جدة حالياً وهم يقطنون الأفلاج جنوب نجد.
ص -225-(28/25)
الشيخ عبد الله بن بلهيد
هو الشيخ العالم المتفنن عبد الله بن سليمان بن سعود بن سالم بن محمد بن بليهد الخالدي، ولد ببلدة القرعاء من قرى القصيم بنجد سنة 1284هـ، وقرأ القرآن على والده الشيخ سليمان بن سعود بن بليهد وقرأ الحديث والتفسير على الشيخ محمد بن دخيل(1) ببلدة المذنب بالقصيم وقرأ على الشيخ محمد بن عبد الله بن سليم بمدينة بريدة ورحل إلى الهند للعلاج فقرأ على علماء الحديث ثم رجع إلى بلاده وتولى التدريس والوعظ والإرشاد في بعض بلدان القصيم كبلدة البكيرية والرس والخبراء وجميع القرى المجاورة يتنقل بينها لإرشاد أهلها وتعليمهم إلى سنة 1333هـ حيث عين قاضياً لتلك القرى مع بواديها إلى سنة 1341هـ حيث صدر الأمر بتعيينه قاضياً بجبل طيء المعروف فيما بعد بجبل شمر فاستقر بعاصمته مدينة حائل فصار الخصوم يردون عليه من جميع قراء وبواديه.
ولما دخل الملك عبد العزيز الحجاز واستتب له الأمر نقله من قضاء حائل إلى رئاسة القضاة بمكة المكرمة سنة 1344هـ وكانت له مواقف مشرفة يحمد عليها، فمن ذلك ما ذكره الشيخ حافظ وهبه(2) -رحمه الله- في كتابه "جزيرة العرب في القرن العشرين" ص262 حيث قال بالحرف الواحد ما
__________
1 ابن دخيل بضم الدال وفتح الخاء وتشديد الياء.
2 حافظ وهبة وزير مفوض فسفير في لندن -رحمه الله- وغفر له في روما سنة 1387هـ.
ص -226-(28/26)
نصه: (لما تولت الحكومة السعودية على الحجاز جاء وفد من الهند برئاسة مولانا "شوكت علي" وطلبوا من الملك عبد العزيز أن يعين لهم مجلساً يكون مؤتمراً إسلامياً يجتمع فيه وفود الدول الإسلامية، فوافق الملك عبد العزيز وانتدب الشيخ ابن بليهد متكلماً عنه.
واجتمع المؤتمر في بناية المالية بمكة، ولما تكاملت الوفود تكلم (شوكاً علي) بكلام فيه تحامل على الحكومة السعودية ولما فرغ قام الشيخ ابن بليهد وتكلم بكلام بليغ بأسلوب لطيف مقنع رد فيه على (شوكت علي) فانقض المؤتمر. وقد حمدت الوفود والملك عبد العزيز الشيخ ابن بليهد على كلامه).
وقد مكث الشيخ عبد الله بن بليهد في منصب رئاسة القضاء بمكة المكرمة إلى آخر سنة 1345هـ حيث أعفى منه وأعيد إلى قضاء جبل شمر وعين بدله رئيساً للقضاة الشيخ عبد الله بن حسن بن حسين بن علي بن حسين ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمهم الله-.
مؤلفاته:
ألف الشيخ عبد الله بن بليهد منسكاً سماه "جامع المناسك في أحكام المناسك" طبع ورسالة لطيفة رداً على مدعي الخلافة لم تطبع.
تلاميذه:
أخذ عنه العلم جماعة من العلماء منهم حمود الحسين الشغدلي والشيخ عبد الرحمن الملق والشيخ سالم الصالح والشيخ أحمد المرشدي والشيخ علي الصالح والشيخ عبد الله الدقلي. وأخذ عنه غير هؤلاء من أهل مكة والمدينة المنورة ومقاطعة القصيم، وقد ظل في قضاء جبل شمر إلى أن توفي بمدينة الطائف(1)
__________
1 خلف خمسة أبناء هم سليمان وعبد الرحمن ومحمد وإبراهيم وناصر، وتوفي عبد الرحمن بعدة سنوات ثم توفي محمد بعد عبد الرحمن.
ص -227-(28/27)
ليلة الاثنين عاشر جمادى الأولى سنة 1359هـ بداء السل وصلى عليه الملك فيصل وخلق كثير في مسجد ابن عباس ودفن في المقبرة القريبة من مسجد ابن عباس تقع عنه جنوباً شرقاً يفصلها عن المسجد الشارع العام وحزن عليه الناس -رحمه الله-.
ورثاه الأدباء منهم الشيخ أحمد بن إبراهيم الغزاوي شاعر الحجاز وأديبه المشهور متع الله بحياته، ومنهم ابن عم المترجم محمد بن عبد الله بن بليهد ونحن هنا نورد قصيدة الشيخ أحمد بن إبراهيم الغزاوي:
في مثلك الصبر عند الله يحتسب
والعلم يفقد والأشجان تصطخب
يا ويح كل فؤاد أنت موقظه
أمسى بفقدك في أعماقه يثب
ويا رزيئة هذا النعي في ملإ
كأنما الدمع من آماقه عبب
تنهل عبراته حزناً على جدث
فيه السماحة والأخلاق والأدب
ما للجفون أراها فيك دامية
كأنما هي بالأحشاء تنسكب
هيهات أودي الردى في غير ما لجب
بمشمخر من الأوطاد ينتشب
حبر من الصفوة الأولى علقت به
فما فتئت أعاني فيه ما يجب
ص -228-
هوى به الموت في لُجِيّ غمرته
فأين لا أين ذاك المدره الذرب
في ذمة الله ما ألقى به، وله
من رحمة الله ما نرجو ونرتقب
تلبه في ضحى الإسلام ألوية
تشد أزر الهدى والوعد مقترب
تبلو الشريعة فيه حاذقاً فطنا
من الذين لهم في شملها دأب
يجيش كالموج أو كالبحر منطقه
ولا تباريه في آفاقه السحب
ما كان إلا جناناً ثابتاً ويدا
خفاقة وهي في غاراتها خطب
وفي وسيدائه التوحيد مدرعاً
حسن اليقين غير (؟) أنه لهب
إذا انبرى في مجال من مواقفه
حسبت سحبان تجثو حوله الركب
عجبت للحد هل في اللحد متسع
حتى انزوى فيه رضوى فهو محتجب
لشد ما ضاقت الدنيا به أبداً
فكيف واراه شبر وهو منقلب
مالي وللندب في من خطبه جلل
ومن عليه حدود الله تنتحب
لا نملك اليوم إلا زفرة ورضا
بما قضى الله فيه ثم نحتسب
ص -229-
وما قضى من له في ربه أمل
ولا قضى من له في دينه نصب(28/28)
فإن ذكراه في الأعمال باقية
والموت حق وما من دونه هرب
فضاعف الله أجر المؤمنين به
في جنة الخلد وليعظم به السبب
وعوض الدين عنه خير ما طلعت
عليه شمس الضحى أو غارت الحقب
رحم الله المترجم الشيخ عبد الله بن سليمان بن بلهيد وغفر له فقد كان سمحاً جواداً متواضعاً لا يعرف الكبر إلى قلبه العامر بالإيمان التقوى سبيلا. وصلى الله على محمد وآله وسلم.
ص -230-
الشيخ عمرو بن محمد بن سليم
هو العالم الجليل الشيخ عمر بن الشيخ محمد بن عبد الله بن سليم ولد بمدينة بريدة بالقصيم سنة ألف ومائتين وثمان وتسعين من الهجرة ونشأ في كنف والده الشيخ محمد بن عبد الله بن سليم فقرأ القرآن حتى حفظه نظراً وعن ظهر قلب ثم شرع في قراءة العلم على والده وجلا معه إلى قرية النبهانية من قرى القصيم حيث حدد إقامة والده بهذه القرية عبد العزيز بن متعب بن رشيد، فلازم والده ملازمة تامة في هذه القرية، وقرأ عليه جميع فنون العلم من توحيد وفقه وتفسير ونحو وفرائض، ولما استولى الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود على نجد رجع في معية والده من قرية النبهانية إلى مدينة بريدة وبعثه والده بعد ذلك إلى الشيخ عبد الله ابن الشيخ عبد اللطيف في مدينة الرياض فقرأ عليه في التوحيد وأصول الدين نحو ستة أشهر، ثم أجازه إجازة علمية ورجع إلى والده بمدينة بريدة ولازم القراءة عليه وعلى غيره من علماء بريدة إلى أن توفي والده ثم عين قاضياً في هجرة (دخنة)(1) ولما تأسست هجرة الأرطاوية سنة 1330هـ عينه الملك عبد العزيز قاضياً ومرشداً لسكانها وغالبهم من عشيرة مطير وبقي عندهم مرشداً وقاضياً إلى عام 1337هـ ثم رجع إلى مدينة بريدة وعين إماماً في مسجد ناصر بن سليمان بن سيف بمدينة بريدة فعمر هذا المسجد
__________
1 دخنة تعرف في كتب معاجم البلدان بمنعج وسكنتها من قبائل حرب.
ومنعج جاء ذكره على لسان بعض(28/29)
الشعراء العرب الأقدمين بقوله:
أحب بلاد الله ما بين منعج
إلى وسلمى أن يصوب سحابها
بلاد بها عق الشباب تمائمي
وأول أرض مس جلدي ترابها
ص -231-
بتدريس العلم حيث عقد فيه حلقات للعلم فتخرج عليه في هذا المسجد أفواج من طلبة العلم وكان إلى جانب إمامة المسجد وإلقاء الدروس فيه ينوب عن أخيه الشيخ عبد الله في القضاء إذا غاب أو مرض، وينوب عنه أيضاً في صلاة الجمعة والأعياد. فلما توفي أخوه الشيخ عبد الله سنة 1351هـ أسند إليه قضاء مدينة بريدة وتوابعها من القرى والبلدان وتولى أيضاً إمامة مسجد الجامع وخطابته وصلاة الأعياد والتدريس في المسجد الجامع الكبير.
طريقة دروسه وأوقاته:
كان -رحمه الله- إذا صلى الفجر جلس لطلاب العلم في المسجد المذكور يقرأون عليه في النحو الآجرومية والقطر وملحة الإعراب والألفية، فإذا طلعت الشمس وانتشرت خرج إلى داره للاستراحة وتجديد الوضوء ثم يرجع إلى المسجد ويصلي تحية المسجد ويجلس في ناحيته الشرقية ثم يشرع الطلبة يقرأون عليه في مختلف العلوم حديثاً وفقهاً وتوحيداً وأصولاً فإذا فرغ من التدريس ذهب إلى داره لتناول الغداء ثم جلس في داره للقضاء بين المتحاكمين من الخصوم فإذا أذن الظهر خرج إلى المسجد وصلى النافلة ثم المكتوبة فالنافلة ثم جلس للتدريس إلى قريب العصر ثم رجع إلى داره فإذا أذن العصر خرج إلى المسجد وصلى في الجماعة ثم جلس بعض صلاة العصر للطلبة في أصول الفقه وبلوغ المرام ومصطلح الحديث، ثم يخرج ويجلس الناس للقضاء بينهم في داره إلى أذان المغرب فإذا أذن المغرب خرج إلى المسجد وصلى بالناس وبعد صلاة المغرب يجلس الطلب في الفرائض والمواريث فإذا أذن العشاء قام من الحلقة من إلى الصف الأول وشرع القارئ يقرأ عليه في التفسير.
ثم أقيمت صلاة العشاء، فإذا صلى العشاء ثم النافلة والوتر ذهب إلى دار عبد العزيز بن مشيقح للقهوة ودرس عليه هناك بعض الطلبة وعددهم نحو الخمسة عشر طالباً(28/30)
ثم ذهب إلى داره. فهذه طريقة دروسه وترتيبها مدة حياته. وكان إلى جانب ذلك يتعاطى أسباب البيع والشراء كالسلم في الثمار من الحنطة والتمر والتورق. فوسع الله عليه في الرزق.
ص -232-
تلامذته:
أخذ عنه العلم عدد كثير نعرف منهم من يأتي:
1- الشيخ سليمان بن عبد الله المشعلي تولى القضاء في عدة بلدان من بلدان القصيم.
2- الشيخ محمد بن عبد العزيز العجاجي.
3- الشيخ عثمان بن أحمد بن بشر قاضي الأجفر.
4- عبد الرحمن بن عبد العزيز بن صعب.
5- عبد الله بن رشيد بن فرج خطيب جامع بريدة.
6- الشيخ عبد العزيز بن عبدان قاضي أبها ثم الزلفى فمدينة عنيزة.
7- الشيخ الجليل صالح بن محمد الخريصي رئيس محكمة بريدة.
8- الشيخ صالح بن عبد العزيز بن عثيمين الموظف سابقاً بوزارة الحج ومؤلف السابلة في تراجم الحنابلة (خ).
9- عبد الله بن سليمان بن حميد قاضي برك الغماد سابقاً(1).
10- سليمان بن محمد بن جربوع قاضي العظيم ثم الأرطاوية.
11- عبد الرحمن بن عبد الله بن بداح.
12- عبد الله بن سليمان بن نقير مطوع هجرة النفي.
13- عبد الرحمن بن دخيل قاضي بلدة لينة(2)
__________
1برك الغماد بكسر الباء وتسكين الراء بلدة تقع بين بلدة القنفذة وبين بلدة القمحة وهو واقع على ساحل البحر الأحمر، وقد ورد ذكره في الأثر حيث قال بعض الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لو خضت بنا البحر إلى برك الغماد لخضناه معك، وقد ذكر محمدين أبان بن جرير بقوله:
دع عنك من أمسى بغور محلها
ببرك الغماد بين هضبة بارح
2 لينة ذكرها ياقوت في معجمه ج7 ص347 وأورد عليها شعراً للأشهب بن رميلة وهو قوله:
ولله دري أي نظرة ذي هوى
نظرت ودوني لينة وكثيبها
وذكرها أبو مدرك مريزيق بن صالح اللبيني القشيري بقوله:
أيا أضلع الماء اللواتي (بلينة)
سقيتن من صوب الغمام اللوامح=
ص -233-(28/31)
وفاته:
توفى -رحمه الله- في سابع عشر شهر ذي الحجة عام 1362هـ(1) ووجم الناس لموته وحزنوا عليه حزناً شديداً ورثاه العلماء والأدباء نثراً وشعراً نذكر منهم من يأتي:
الشيخ حمد بن مزيد رثاه بقصيدة طويلة تبلغ آياتها خمسة وخمسين بيتاً ومطلعها:
على العالم التحرير شمس المعالم
نريق دموعاً مثل صوب الغمائم
ورثاه السيد عبد الفتاح ساكن ناحية اليمن بقصيدة طويلة تبلغ أبياتها نحو خمسين بيتاً ومطلعها:
ما للمدامع كالطوفان تنحدر
والناس سكرى وأيم الله ما سكروا
ورثاه عبد المحسن بن عبيد بقصيدة طويلة تبلغ أبياتها واحداً وأربعين بيتاً ومطلعها:
أشكوا إلى الله علام الخفيات
مصيبة عظمت لا كالمصيبات
ورثاه الشخي صالح بن عبد العزيز بن عثيمين مؤلف "تسهيل السابلة في تراجم الحنابلة" بقصيدة طويلة تبلغ أبياتها خمسين بيتاً ومطلعها:
مصاب عظيم حق فيه التلهف
وصارت به عيناي بالدمع تذرف
__________ـ
=وقد صارت لينة في هذا العهد الزاخر عهد إمام المسلمين الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود بلدة كبيرة آهلة بالسكان بها إمارة ومحكمة شرعية ومدارس بنين ومصح وغير ذلك من لوازم الحياة أدام الله بقاء إمام المسلمين الذي زهت الربوع في عهده وعمرت البلدان ونعمت الرعية في ضله بالرخاء والأمان.
1 خلف الشيخ عمر بن محمد بن سليم ابنين هما عبد الله وإبراهيم.
ص -234-
ورثاه الشيخ محمد بن عبد العزيز بن هليل المستشار الشرعي بديوان المظالم بقصيدة تبلغ أبياتها ثلاثة وعشرين بيتاً ومطلعها:
رضا وصبرا وحمدا ليس منحصراً
على قضاء الذي للخلق قد فطرا
ورثاه صاحب السماحة العلامة مفتي الديار السعودية ورئيس قضاتها في حياته الشيخ محمد بن إبراهيم بن الشيخ عبد اللطيف بهذه الأبيات الأربعة:
إن المصيبة حقا فقدنا عمرا
أعظم بميتته رزءا بنا كبرا
قطب القصيم وما دون القصيم وما(28/32)
خلف القصيم وما مجرى القصيم جرى
عليه دار الهدى والحق بينه
كان الحياة وكان السمع والبصرا
ارزقه يا ربنا عفوا ومغفرة
واجبر مصيبتنا يا خير من جبرا
ورثاه ابن الشيخ عبد العزيز ابن الشيخ محمد بن إبراهيم ابن الشيخ عبد اللطيف ابن الشيخ عبد الرحمن بن حسن ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب مدير المعاهد والكليات بهذه القصيدة التالية:
الدمع من عيني ذو هملان
والقلب مملوء بذي الأحزان
والجسم أصبح مستدقا ناحلا
والنوم حارب مقلتي وجفاني
والليل طال وبدلت نعماؤنا
بؤسا لفقد العالم الرباني
عمر الذي عمر المجالس بالتقى
والدرس والتحقيق والعرفان
رب المعارف والحقائق والعلى
والحلم والإرشاد والإحسان
ورث المكارم كابرا عن كابر
بنو سَلِيم هم أولو الإتقان
ص -235-
يتقشفون على كثافة قدرهم
يتواضعون وهم عظيمو الشان
من المجالس في بريدة بعده
من للعلوم وسنة العدناني
يا رب فارحمه واسق ضريحه
صوبا من الرضوان والغفران
مولاي ابقِ لنا إمام الدين والتحقيق
ناصر شرعة الرحمن
قمر الدجى رب العلي زين الملا
بحر العلوم ترجمان قرآن
شيخ المشائخ سيد العلماء في
هذا الزمان بل وكل زمان
هو والدي والحق يشهد أنني
فيما أقول مقصر ببياني
يا رب فاحفظه ومتعنا به
يا دائم المعروف والإحسان
وامنن على بِبِرِّهِ ورضائه
وكذاك أولادي كذا اخواني
وأفض علينا منه علما نافعا
يا سيدي يا منزل الفرقان
وكذاك ابق لنا مشائخنا فهم
فينا البدور تضيء للعميان
واغرس لهذا الدين غرسا واحمه
من كيد كل ملدد شيطان
ثم الصلاة على الحبيب شفيعنا
والآل والأصحاب والأعوان
ما سح ودق أو تغنى منشدا
الدمع من عيني ذو هملان
آخرها رحم الله الشيخ عمر بن محمد بن سليم وغفر له إنه سميع مجيب.
ص -236-(28/33)
الشيخ سليمان بن عطية
هو العالم العابد الذي الشيخ سليمان بن عيطة بن سليمان المزيني، ولد سنة ألف وثلاثمائة وسبعة عشرة من الهجرة، بمدينة حائل ونشأ بها وقرأ القرآن على الشيخ شكر بن حسين ثم شرع في طلب العلم على الشيخ عبد الله بن مسلم التميمي نزيل مدينة حائل وعلى الشيخ عبد الله الصالح الحليفي فاتجه إلى علم الفقه وأكب على دراسته واعتنى بكتبه فتبحر فيه وكان له معرفة بالعروض، ونظم الشعر سهل عليه فنظم متن زاد المستقنع مختصر المقنع(1) في ثلاثة آلاف بيت نظما رائعا وفي غاية من السهولة والوضوح ونظم البيوع في متن دليل الطالب(2) واستهل نظمه لدليل الطالب بهذه الأبيات(3):
بحمدك يا مولاي أفضل مبتدا
فحمدا لك اللهم ما هبت الصبا
وصل على خير البرية أحمد
كذا آله مع صحبه أمة الهدى
وبعد فخذ يا صاح مختصراً أتى
على جل أحكام البيوع مع الربا
على مذهب الحبر الإمام ابن حنبل
إمام الهدى والعلم والفضل والتقى
__________
1 زاد المستقنع مختصر المقنع للشيخ شرف الدين موسى بن أحمد المقدسي المتوفى سنة 968هـ. والأصل وهو كتاب المقنع لأبي محمد العلامة الفقيه عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي صاحب كتاب المغني والكافي وعمدة الفقه، وعمدة الحازم وهي مختصر لكتاب الهداية لأبي الخطاب وغير هذه الكتب.
2دليل الطالب في فقه الإمام أحمد بن حنبل تأليف مرعي بن يوسف الكرمي ثم المقدسي نزيل القاهرة والمتوفى بها سنة 1033 من الهجرة.
3 نقلاً عن كتاب زهر الخمائل في تراجم علماء حائل للشيخ علي بن محمد الهندي.
ص -237-
على الأحمد المختار من قول أحمد
وما قدم الأصحاب في الحق لا سوى
إذ الفقه في خير الفنون ومن يكن
من الفقه خال ليس في الحكم مرتضى
ثم ذكر أحكام البيع- فقال:
وللبيع أحكام سنأتي بنظمها
عليها بحول الله ربي إن يشا
فينعقد البيع الصحيح بكلما(28/34)
يدل عليه من مقال بلا امترا
وبالفعل مثل القول حكما عندنا
نقول معاطاة لدى البيع والشرا
كقول الفتى: خذ درهمي أعطني به
طعاما فيعطيه ويأخذه الفتى
ثم يمضي في ذكر شروط البيع وما بعدها بأبيات واضحة سهلة:
كتب عنه الأستاذ الشهير الشيخ عثمان الصالح في مجلة المنهل الغراء وأورد له هذه المقتطفات والمقطوعات الشعرية الآتية:(1)
ديار المعالي بين سمراء حائل
وبين أجا مغمورة بالفضائل
رسا في مغانيها سمو ورفعة
ومجد أثيل شائع في القبائل
فلله ما أنقى هواها من الأذى
وأطيبها بين البلاد لنازل
جرى ماؤها من شامخات جبالها
تلقته من فيض الغوادي الهواطل
فيهبط من سامي سماء مسيله
على كل نبت طيب الريح فاضل
ألذ من الشهد الشهي نميره
فبطحاؤها المرجان يبدو لخائل
ومنها:
دليل على ذا أن من حل دارها
ثنى عزمه شوقا لبلدة حائل
فكم قائل حييت يا بلد الندى
بسارية تهمي عليك بوابل
__________
1كتب عنه الأستاذ عثمان الصالح في الجزء التاسع من مجلة المنهل في سنتها الخامسة والثلاثين مجلد ثلاثين في شهر رمضان سنة 1389 هـ صفحة 1225 - آخر صفحة 1228.
ص -238-
وأورد له هذه الأبيات التالية في مدح صاحب السمو الأمير الجليل عبد العزيز بن مساعد بن جلوي آل سعود:
به أشرقت مذ جاء أرجاء حائل
وظل سماح في كسا العز يرفل
فإنا وإن يبك القصيم لفقده
فوجه العلا فينا به يتهلل
فظلت به سلمى تميس كأنها
فتاه بدا كفء لها وهو أجزل
وظل أجا يرنو به متصاغرا
لهيبته والشعر في ذلك أجمل
وهي طويلة تزيد على الأربعين بيتاً قالها ارتجالاً في مناسبة قدوم الأمير عبد العزيز بن مساعد لحائل أميراً عليها.
وقد نظم زاد المستقنع مختصر المقنع في ثلاثة آلاف بيت كما أشرنا إلى ذلك في أول الترجمة بدأها بقوله:
خذ العلم عن علم المجد بعزمه
مشيراً إلى جل العلوم بفهمه(28/35)
ولا تختصر ما قاله متطفلاً
فقول الفتى يأتي على قدر علمه
وسامح ولا تفضح فكل سميدع
يرى نصح ذي التقصير آكد عزمه
وقل غفر الرحمن لابن عطية
خطيئاته بالعمد منه ووهمه
وله أيضاً قصيدة نظمها في قواعد الفقه نورد منها ما يأتي:
الحمد لله على ما أولى
حمد مقر فضله للمولى
والحمد لله الذي فقهنا
في دين خير خلقه علمنا
محمد صلى عليه الله
وآله الغر ومن والاه
وبعد خذ يا صاحبي قواعدا
في الفقه أسس واغتنم فوائدا
وابن على الأساس خير مبنى
واحذر تظل المقتفى والمعنى
فكل من أتلف مالاً في الورى
لغيره يضمه بلا امترا
وقيمة التالف قول الغارم
من قابض للنفس بين العالم
وعدم التفريط ليس يقبل
إلا ببرهان لدين يُعقلُ
ص -239-
وها هنا أمر علينا يلزم
تنبيه من لا في العلوم يفهم
إذا ادعى اتلاف ما قد بانا
فهاهنا تلزمه البرهانا
وقابض العين لمن سواه
يقبل في جميع ما ادعاه
والرد بالعيب بشرط واجل
فقول من ينفيه عند من عقل
وكل عقد يقتضي الضمانا
لم ينفه الشرط كما أتانا
وكل رهن في الروى لا يقبض
فإنه شرط لدينا ينقض
وبيعك المجهول لا ينعقد
نص على ذاك الإمام أحمد
وكل عقد جائز لا يلزم
وكل قرض جر نفعاً يحرم
وكل شيء لا يباع شرعاً
فرهنه ليس يجوز قطعاً
لكن يجوز رهن زرع وثمر
قبل الصلاح عند أصحاب الأثر
وكل حيلة تجر للربا
فإنما تحريمها قد وجبا
وابطلن تصرف المحجور
عليه كالغاصب والمسعور
وكل ما لييس بدين مستقر
وعرضه للفسخ مثل ما ذكر
فلا يصح بيعه ورهنه
ونحوه مما يعم حكمه
ولا يصح الرهن والكفيل
به كما قد قرر الجليل
وافهم لزوم العقد للكراء
لأنه كالبيع والشراء
ويبرأ المحيل بالحوالة
كاملة الشروط لا الوكالة
وعكسه لا يبرأ المضمون
عنه إذا ضمنه المأمون
ثم الوكيل عندنا أمين
لأنه في فعله معين
وفي وفاء الدين إذ لم يشهد(28/36)
يضمن أن أنكر أنه لم يبتد
والصلح قبل البيع في الأحكام
كقسمة وهبة الأنام
إذا أتى الجميع في معناه
فحكمه الشرعي قررناه
والسلم المعروف عند الناس
مخالف لواضح القياس
ص -240-
ويرجع المسلم إن تعذرا
وفاؤه برأس مال قدرا
ويحرم التقاط ما يمتنع
بنفسه إذا أتاه سبع
يقيمه آخذه إن تلفا
بقيمة لمثله قد عرفا
لكن مع الجحود مرتين
في المذهب الاسني بغير مين
وسو في عطية الأولاد
واعدل ولا تشهد على الفساد
فتمت القواعد المذكورة
معروفة عند الألى مشهورة
رويتها عن كل حبر هاد
إلى سبيل الحق والرشاد
وصل يا رب على المختار
وآل وصحبه الأبرار
ما اخضوضل النبت بهل الماء
من مزنة غزيرة وطفاء
المنهل الجزء 9 لسنة 35 رمضان 1389هـ ص1224 إلى صفحة 1228 وهذه مقطوعة في الصور الأربع في العارية:
لا تضمن العارية المقبوضة
في أربع من صور محفوظة
فيما إذا أعارها المستأجر
أو تلفت عارية لا تنكر
في مالها أعارها المعير
أو تلفت في مالها تشير
أو أركب المركوب من دوابه
منقطعاً يرجو ثواب ربه
وله قصيدة في البيوع تربو على مائة وستين بيتاً سماها "الحائلية" وله ألغاز في الفقه كثيرة انتهى ما أورده الأستاذ عثمان الصالح عن المترجم له وقال عنه الشيخ علي بن محمد بن عبد العزيز الهندي: له منسك (نظم) وله أبيات في القواعد الفقهية وقال: رأيت عنده مكتبة كبرى ذكر أنه جمع بعضها وورث البعض الآخر عن والده الشيخ عطية السليمان، وقال عنه أيضاً: كان الشيخ سليمان يحب المذاكرة والبحث والنقاش بتواضع واعتراف بالحق إذا ظهر، وكان شغوفاً بجمع الكتب الأدبية ومطالعتها لاسيما تأليف الأدباء الكبار وكان
ص -241-(28/37)
صالحاً ورعاً زاهداً لا يحب الكلام في أحد من الناس. انتهى ما ذكره الشيخ علي في كتابه "زهر الخمائل". قلت: كان المترجم له الشيخ سليمان بن عطية يقرأ درساً في التفسير والحديث والتاريخ على صاحب السمو الأمير عبد العزيز بن مساعد بن جلوي آل سعود في الحضر والسفر إلى أن توفي المترجم له سنة ألف وثلاثمائة وثلاث وستين من الهجرة -رحمه الله- وغفر له إنه سميع مجيب.
ص -242-
الشيخ محمد بن مقبل
هو العالم الورع التقي الشيخ محمد بن مقبل بن علي بن مقبل(1). ولد بالمنسي من قرى القصيم بنجد سنة ألف ومائتين وإحدى وثمانين من الهجرة فنشأ بها وقرأ القرآن حتى حفظه نظراً وعن ظهر قلب ثم شرع في طلب العلم، فقرأ على الشيخ محمد بن عبد الله بن سليم والشيخ عبد الله الحسين (أبا الخيل) والشيخ عبد الله بن مفدي والشيخ عبد الله بن سليمان العريني وكان زاهداً يعتمد في معيشته على الله ثم على كسب يده حيث يشتغل بالزراعة وغرس النخل ويتورع عن الأخذ من بيت المال.
تولى قضاء مدينة البكيرية سنة 1347هـ فأمر الملك عبد العزيز بن عبد الله آل سعود وكيل مالية بريد آنذاك أن يصرف له ثمانمائة صاع بر وألفي وزنة تمر، وألف ريال سنوياً، فأبى عن قبول ذلك واستمر في قضاء مدينة البكيرية مدة طويلة من غير أن يأخذ عليه رزقاً من بيت المال تورعاً وزهداً.
وكان إلى جانب قيامه بالقضاء ينشر العلم تدريساً فتخرجه عليه علماء كثيرون نذكر منهم في هذه الترجمة المقتضبة من يأتي:
__________
1 ليس الشيخ محمد بن مقبل المترجم له من آل مقبل أهل ضرماء ولا آل مقبل أبناء عمهم أهل بلدة المذنب فآل مقبل أهل ضرماء وأهل بلدة المذنب من نواصر تميم والمترجم له ليس منهم وإنما هو موافق لهم في اللقب دون الأصل والنسب.
ص -243-(28/38)
تلامذته:
1- الشيخ عبد العزيز بن سبيِّل.
2- الشيخ عبد الرحمن المقوشي.
3- الشيخ عبد الله المحمد الخليفي.
4- الشيخ عبد الرحمن المحيميد.
5- الشيخ عبد الله الخضيري.
6- الشيخ إبراهيم الخضيري.
7- الشيخ صالح الشاوي.
8- الشيخ محمد الصالح الخزيم.
9- الشيخ سليمان الخزيم.
10- وأبناء المترجم صالح وعبد الرحمن ومقبل.
11- الشيخ صالح السلطان.
12- صالح المحمود.
13- عبد الرحمن السالم الكريديس.
14- صالح المحيميد.
15- علي بن محمد المحيميد.
16- الشيخ الفاضل محمد بن صالح بن سليم عضو هيئة التمييز بالرياض.
17- الشيخ إبراهيم الحديثي.
18- عبد الله الحديثي.
19- الشيخ عبد الله السديس.
20- الشيخ عبد الله المحمد الراجحي.
21- محمد العبد الله العقيل.
22- محمد بن عبد الرحمن الخزيم.
23- الشيخ عبد الله بن إبراهيم بن سليمان آل خزيم مدير التربية الإسلامية بوزارة المعارف.وغير هؤلاء خلق كثير
ص -244-
ولما أن توفي قاضي مدينة بريدة وتوابعها الشيخ عمر بن محمد بن سليم رغب إليه كبار مدينة بريدة وقراها أن يكون خلفاً عن الشيخ عمر بن محمد بن سليم في القضاء وساروا إليه من مدينة بريدة وقابلوه في مدينة البكيرية وطلبوا منه أن يجيبهم ويحقق رغبتهم بتولي القضاء عندهم فأبى -رحمه الله- أشد الإباء فرفعوا خطاباً إلى جلالة الملك الراحل عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود يطلبون فيه أن يأمره بأن يكون قاضياً عندهم بمدينة بريدة خلفاً للشيخ عمر بن سليم فجاء الأمر من جلالة الملك عبد العزيز بتعيينه قاضياً لمدينة بريدة فكتب إلى الملك عبد العزيز كتاباً بليغاً مؤثراً وأنشد فيه بيت عوف بن محلم الخزاعي المشهور:
إن الثمانين وبلغتها
قد أحوجت سمعي إلى ترجمان(28/39)
فسامحه الملك عبد العزيز وأعفاه من تولي قضاء مدينة بريدة واستمر على صفته المذكورة من الزهد والعبادة وتدريس العلم إلى أن توفي سنة 1368هـ ببلدة البكيرية مخلفاً أربعة أبناء صالحا وعبد الرحمن ومقبلا(1).
- رحم الله الشيخ محمد بن مقبل وغفر له فقد كان عالماً ورعاً متواضعاً يحب الخمول ويكره الشهرة والبروز وصلى الله على محمد وآله وسلم.
__________
1 ليس لي معرفة باسم الابن الرابع.
ص -245-
الشيخ عبد الله العنقري
هو الشيخ المحقق عبد الله بن عبد العزيز العنقري التميمي النجدي، ولد -رحمه الله- في بلدة ثرمداء من قرى إقليم الوشم بنجد سنة 1290هـ وتوفي والده وهو في الثالثة من عمره. وفي السابعة من عمره كف بصره فقرأ القرآن وحفظه عن ظهر قلب ثم شرع في تلقي مبادئ العلوم الدينية والعربية في بلدة ثرمداء، ثم سمت همته وتاقت نفسه إلى المزيد من العلوم والتضلع منها فقصد مدينة الرياض، وكانت ولا تزال والحمد لله حافلة بالعلماء الأعلام يقصدهم الطلاب من جميع نواحي نجد لانتهال العلم والمعرفة، فشرع المترجم -رحمه الله- في أخذ العلم عنهم وملازمة حلقات دروسهم وهم الشيخ العلامة عبد الله ابن الشيخ عبد اللطيف ابن الشيخ عبد الرحمن بن حسن ابن الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب، والشيخ الفقيه حسن ابن الشيخ حسين والشيخ إبراهيم ابن الشيخ عبد الطيف ابن الشيخ عبد الرحمن بن حسن، والشيخ محمد بن إبراهيم بن محمود والشيخ حمد بن محمد بن فارس والشيخ إسحاق أخذ عنهم في التوحيد والحديث والفقه الحنبلي والنحو والفرائض.
وفي سنة 1336هـ عينه الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود قاضياً لإقليم سدير فسكن بلدة المجمعة(1) قاعدة هذا الإقليم، وكان -رحمه الله- إلى جانب اشتغاله بالقضاء يقوم بالتدريس ونشر العلم، فتخرج على يديه زهاء ستة وثلاثين من طلبة العلم نذكر منهم فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الوهاب(28/40)
__________
(1) والخصوم يأتون إليه في بلدة المجتمعة من جميع قرى إقليم سدير فيفصل بينهم ويكتب لهم عقود المبايعات والتصديق على أوقافهم ووصاياهم.
ص -246-
ابن مزاحم والشيخ الورع الزاهد محمد الخيال والشيخ عبد العزيز بن صالح رئيس المحكمة الكبرى بالمدينة المنورة والشيخ حمد المزيد والشيخ حمود التويجري والشيخ سليمان بن حمدان والشيخ إبراهيم السويح(1) والشيخ محمد بن علي التويجري والشيخ ناصر بن جعوان والشيخ حمد الحقيل والشيخ عبد العزيز بن ربيعة وعثمان الركبان، وعبد الرحمن الدهش قاضي قبة، وعبد العزيز بن عبد الرحمن الثميري.
وفي سنة 1340هـ أثناء توليه قضاء سدير بعثه الملك عبد العزيز -رحمه الله- إلى هجرة الأرطاوية ليتولى تعليم الأخوان أمور دينهم وحل مشاكلهم القضائية ونهيهم عن التعصب المخالف لاصل الدين وسماحته بالإضافة إلى قضاء سدير فقام بهذا الواجب المهم متنقلاً بين المجمعة والأرطاوية في همة ونشاط، فكان موضع تقدير الملك عبد العزيز وعلماء نجد.
ظل -رحمه الله- قاضياً ستة وثلاثين عاماً وبعدها تقدمت به السن وأرهقته الشيخوخة واستقال من منصب القضاء، وتفرغ للتدريس ونشر العلم والتأليف.
مؤلفاته:
فألف -رحمه الله- حاشية وضعها على الروض المربع شرح زاد المستقنع في الفقه الحنبلي، وله تعليقات على نونية الإمام ابن القيم لا تزال مخطوطة لم تطبع.
توفي -رحمه الله- في الثاني من شهر صفر سنة 1373هـ عن عمر يناهز الثلاثة والثمانين عاماً قضاه في التحصيل والقضاء ونشر العلم، وقد خلف أبناء هم عبد الرحمن وسعد وصالح وخلف مكتبة حافلة بنفائس الكتب الخطية والمطبوعة ولا أدري أين آلت إليه -رحمه الله وعفا عنه وغفر له وسامحه- إنه سميع مجيب.(28/41)
__________
(1) هو الشيخ إبراهيم بن عبد العزيز السويح قاضي المقاطعة الشمالية في حياته ومؤلف "بيان الهدى من الضلال في الرد على صاحب الأغلال" ويقع في جزأين (ط) توفي السويح بمكة في شوال عام 1369 -رحمه الله-.
ص -247-
الشيخ سعود بن رشود
هو الشيخ الفاضل القاضي العادل سعود بن محمد بن عبد العزيز بن راشد بن رشود بن سعيد بن محمد بن النبطة من سبيع القبيلة المشهورة بنجد والحجاز، اشتهر هو وعشيرته بلقب آل رشود.
مولده:
ولد سنة 1322هـ في بلدة (ليلى) عاصمة إقليم الأفلاج ونشأ في كنف والده وعلمه القراءة والكتابة فحفظ القرآن نظراً وهو ابن عشر سنين ثم شرع في حفظه عن ظهر قلب عند الشيخ سعد بن سعود آل مفلح من علماء الأفلاج فحفظه وهو في الثانية عشرة من عمره ثم أخذ يساعد والده في الزراعة وفلاحة النخل إلى أن التقى به جلالة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود عند والده محمد بن رشود فتوسم فيه الخير والذكاء فأمر والده بتفريغه لطلب العلم فنفذ والده مشورة الملك عبد العزيز ووجهه إلى طلب العلم فأخذ في القراءة على الشيخ سعد بن سعود بن مفلح، وعلى الشيخ عبد العزيز بن حمد بن عتيق ثم رحل إلى مدينة الرياض وقرأ على الشيخ سعد بن حمد بن عتيق وعلى الشيخ حمد بن فارس وطالت مدة قراءته العلم حتى قرأ على سماحة الشيخ محمد ابن الشيخ إبراهيم ابن الشيخ عبد اللطيف ولازمه ملازمة تامة وفي عام 1358هـ عينه الملك عبد العزيز بمشورة من شيخه الشيخ محمد ابن الشيخ إبراهيم قاضياً بوادي الدواسر بنجد.
ص -248-(28/42)
وفي سنة 1364 نقل من قضاء وادي الدواسر إلى قضاء مدينة المجمعة عاصمة إقليم سدير بنجد، ولم يلبث فيها إلا أشهراً ثم أمره الملك عبد العزيز بالتوجه إلى مدينة الرياض، وبعد وصوله مدينة الرياض أمره الملك بالذهاب مع جلالته -رحمه الله- إلى روضة خُرَيم لإنهاء القضايا والمشاكل الخاصة هناك، وبعدما أنهى القضايا الخاصة هناك أعجب الملك عبد العزيز بحسن حله للأحكام المعقدة وأمره بالبقاء في مدينة الرياض للقضاء بين البوادي في الدماء والأموال، ثم إن الملك عبد العزيز أمر بنقل الشيخ إبراهيم بن سليمان آل مبارك رئيس محكمة الرياض إلى قضاء وادي الدواسر وعين بدله رئيساً لمحكمة الرياض المترجم له الشيخ سعود بن محمد بن رشود وذلك سنة 1367هـ واستمر فيها طيلة حياته وكان -رحمه الله- يقرض الشعر.
طرح عليه شيخه الشيخ محمد ابن الشيخ إبراهيم سؤالاً في جملة الطلاب وهو ما معنى العلو والاستواء، وهل هما قديمان أو حديثان؟ وهل دليلهما عقلي أو سمعي وهل هما مترادفان أو متغايران؟ فأجاب بعد إجابته نثراً بهذه الأبيات التالية:
إن العلو صفة الإله
ذاتية قديمة لله
وثابت دليله بالعقل
كذاك أيضاً ثابت بالنقل
دلائل شرعية قطعية
وفسروا معناه بالفوقية
فهو العلي بقدره وقهره
وذاتية كما أتى في ذكره
فلم يزل ولا يزال الخالق
له العلو والكمال المطلق
أما دليل الاستوا فقد ورد
من السماع لا إلى العقل استند
وليس في عقل صريح ضد ما
أتى من النقل الصحيح فافهما
وفسروه بعلا وارتفع
وصعد وباستقر فاتبع
وواجب إثابته للباري
فإنه فعل له اختياري
فلم يزل ولا يزال يفعل
لما يشا متى يشا كينزل
ص -249-
أما على العرش استوى فإنما
حدوثه بغير شك فاعلما
ثم الترادف فيه ما لا يعلم
فالفرق فيهما جلي يفهم
إذ العلو صفة ذاتية
أما استوى فصفة فعليه
والاستواء من أدلة العلو
فقد رواه العلماء الأول
بذين يفهم النبيه الفرق(28/43)
ثم الصلاة والسلام حق
على النبي وآله وصحبه
ومن أقر بكلام ربه
حرر في 5-1-1358هـ(1)
وكان على جانب ما اتصف به من العلم والمعرفة شجاعاً غزا تحت لواء الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل آل سعود غزوة الرغامة عام 1343هـ وهو ابن إحدى وعشرين سنة ثم غزا بعدها غزوة تهامة عام 1352هـ وفي هذه الغزوة تجلت شجاعته حيث أخذ الراية بيمينه بعد أن قتل حاملها ورفعها ترفرف عالية خفاقة وسار بالغزاة تجاه العدو بإرادة قوية وإيمان ثابت فائقة حتى انهزم العدو.
استمر رئيساً لمحكمة مدينة الرياض من عام 1367هـ كما أشرنا إليه أولاً إلى أن مرض عام 1373هـ ونقل إلى المستشفى اللبناني بمدينة جدة وتوفي سابع عشر شهر شوال من السنة المذكورة 1373هـ ونقل إلى مكة المكرمة وصلي عليه بالمسجد الحرام وقبر بمقابر العدل وخلف ابنين هما عبد الله جامعي ويشتغل كاتب عدل الأفلاج وعبد العزيز يشتغل مساعد كاتب عدل الأفلاج -رحم الله المترجم له الشيخ سعود بن محمد بن رشود فقد كان مشهوراً بالعلم والعدالة في الحكم وصلى الله على محمد وآله وسلم.
__________
(1) تأريخ تحرير إجابة المترجم له على سؤال شيخه -رحم الله الجميع، وغفر لهم إنه لسميع مجيب.
ص -250-(28/44)
الشيخ عبد الله بن زاحم
هو الشيخ الفاضل العالم الجليل عبد الله بن عبد الوهاب بن زاحم يمت بنسبه إلى قبيلة البقوم القبيلة المشهورة ببلدة تربة وحضن(1)، ولد بقرية القصب من أعمال الوشم بنجد سنة الف وثلاثمائة من الهجرة ونشأ بِها وقرأ القرآن نظراً وعن ظهر قلب ثم رحل إلى بلدة أشيقر وأخذ عن عالمها المؤرخ الشهير إبراهيم بن صالح بن عيسى، ثم رحل إلى مدينة الرياض وقرأ على علمائها آنذاك وعلى رأسهم العلامة الشيخ عبد الله ابن الشيخ عبد اللطيف ثم قرأ على الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري في بلدة المجتمعة ثم عينه الملك عبد العزيز آل سعود -رحمه الله- قاضياً في هجرة (الداهنة) عند أميرها عمر بن ربيعان وحضر معه عدة غزوات من أشهرها حصار جدة وغزوة اليمن وبعد ذلك نقل إلى رئاسة محكمة مدينة الرياض ثم نقل منها إلى رئاسة محكمة المدينة المنورة وبقي بِهذا المنصب إلى أن توفي سنة 1374هـ بالمدينة المنورة ودفن بالبقيع وكان متواضعاً حسن الأخلاق والسيرة. خلف أبناء معرفتي منهم: عبد الوهاب وإبراهيم -رحم الله الشيخ المترجم عبد الله بن زاحم وأسكنه فسيح جناته، إنه سميع مجيب.
__________
(1) قال البكري ج2 ص993 حضن بفتح أوله وثانيه وبالنون جبل في ديار بني عامر يقال في المثل (أنجد من رآى حضناً) إلخ وقال صاحب بلاد العرب الحسن بن عبد الله الأصفهاني في ص 11 في كتابه بلاد العرب (ولهم من الجبال "حضن" لجشم خاصة) قال الأستاذ الشيخ حمد الجاسر في تعليقه على ذلك ص11 رقم (2) (من أذكر الجبال وأشهرها وفيه المثل من رآي حضناً فقد أنجد وهو في حرة مستطيلة من الجنوب إلى الشمال فشماليه مطل على سهل ركبة وجنوبيه متصل بأطراف الجبال المتصلة بسلسلة سراة الحجاز وفي جنوبيه يقع واد تربة وفي شرقيه واحة الخرمة) انتهى ما ذكره الأستاذ أحمد الجاسر قلت: حضن ذكره جرير بن الخطفي التميمي بقوله:(28/45)
لو أن جمعهم غداة مخاشن
يرمي به حضن لكاد يزول
وذكر المتلمس بقوله:
إن العلاف ومن ياللوذ من حضن
ص -251-
الشيخ عبد الرحمن بن عودان
هو الشيخ الفاضل عبد الرحمن بن علي بن عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم بن علي بن سليمان بن يحيى بن غيهب من قبيلة بني زيد القبيلة القضاعية المشهورة بشقراء وغيرها من بلدان الوشم.
مولده:
ولد سنة ألف وثلاثمائة وخمس عشرة من الهجرة بشقراء وأصيب في عينه بمرض الجدري وهو في الرابعة من عمره وذهب أكثر بصره ثم دخل مدرسة تحفيظ القرآن عند مقرئ يدعى (ابن حنطي) وفي أثناء ذلك توفي والده وهو في السابعة من عمره فكفلته والدته هو وأخوته الثلاثة وقامت على تربيتهم فاستمر في تعلم القرآن حتى حفظه وهو في التاسعة من عمره وعطف عليه عمه إبراهيم، وكان من سكان قرية القصب فأخذه عنده وأدخله في مدرسة، عند معلم يدعى (الحربي) وأعاد عليه قراءة القرآن حتى حفظه وأتقنه عن ظهر قلب. ثم رجع إلى مدينة شقراء وقرأ فيها مبادئ العلوم على الشيخ سعود ابن ناصر الملقب بشويمي والشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف الباهلي ولما بلغ السادسة عشرة من عمره رحل إلى مدينة الرياض فقرأ على علمائها آنذاك حيث قرأ على الشيخ عبد الله بن الشيخ عبد اللطيف في التوحيد والعقائد والحديث والتفسير وقرأ على الشيخ حمد بن فارس في النحو وقرأ على الشيخ سعد بن حمد بن عتيق في الفقه، ولما كان 1334هـ طلب الإمام عبد الرحمن ابن الإمام فيصل إماماً يصلي به في رمضان فأشار الشيخ عبد الله ابن الشيخ عبد اللطيف
ص -252-(28/46)
والشيخ حمد بن فارس بالمترجم له فصلى بالإمام عبد الرحمن شهر رمضان فأنعم عليه الإمام عبد الرحمن في عيد الفطر بكسوة ونقود فاشترى جملاً وحمله بالبر والتمر والكسوة وسافر إلى والدته وأخوته بمدينة شقراء، فلما وصل إليهم فرحوا به فرحاً شديداً وكانوا في ضنك وفاقه شديدة فيسر الله لهم هذا الرزق وباع الجمل بمكسب، وتحصل عنده نحو ثلاثين ريال فرنسي وهي أول رزق له فجلس عند والدته وأخوته جميع فصل الشتاء، ثم عاد إلى مدينة الرياض لمواصلة دراسته فاستمر في القراءة على مشائخه المذكورين. وأصيب أثناء ذلك بمرض شديد في عينه قضى على جميع بصره فلم يثن عزمه بل استمر في مواصلة الطلب وإكمال الدراسة حتى وفقه الله.
وظائفه:
في 1338 أرسله جلالة المغفور له الملك عبد العزيز إلى بلدة ساجر إماماً لسكانها ومفتياً لهم ثم نقل بعد سنة إلى هجرة عسيلة وصار قاضياً لهم وجميع منطقة السر حتى 1354هـ حيث صدر أمر الملك عبد العزيز بنقله من عسيلة إلى قضاء مدينة شقراء وذلك أثر وفاة قاضيها الشيخ إبراهيم بنقله من عسيلة إلى قضاء مدينة شقراء وذلك أثر وفاة قاضيها الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف الباهلي فاستقر في مدينة شقراء وصار قاضياً لجميع قرى الوشم والسر ومجموع قرى الوشم وقرى السر يربو على أربع وعشرين قرية فأرهقه العمل وأتعبه كثرة الخصوم فطلب الإعفاء من قضاء أحد الإقليمين فأعفي من قضاء الوشم.. وأعيد إلى السر وعين بدله في قضاء الوشم الشيخ محمد بن عثمان الشاوي ثم توفي الشيخ محمد بن عثمان الشاوي عام 1355هـ -رحمه الله- فأعيد المترجم له إلى قضاء الوشم والبقاء بمدينة شقراء مرة ثانية وفي عام 1360هـ صدر الأمر السامي من الملك عبد العزيز -رحمه الله- بنقله إلى مدينة عنيزة لتولي القضاء بين أهلها حتى عام 1369هـ حيث حصل بينه وبين بعد المدرسين بثانوية مدرسة عنيزة خلاف علمي فطلب على أثر هذا الخلاف من الملك عبد العزيز -رحمه الله- إعفاءه من
ص -253-(28/47)
قضاء مدينة عنيزة فأمر الملك عبد العزيز بالاستمرار في القضاء ووعده النقل فلما فتح المعهد العلمي بمدينة الرياض في 15-10-1369هـ عينه الملك -رحمه الله- مدرساً في المعهد العلمي بمدينة الرياض وإماماً للفروض الخمسة بجامع الرياض الكبير وفي 1371هـ صدر الأمر السامي بإعادته إلى سلك القضاء فعين قاضياً في محكمة الرياض واستمر في القضاء بمدينة الرياض حتى اشتد به مرض مزمن كان يعاني منه من مدة طويلة فتوفي في 12-3-1374هـ بمدينة شقراء وخلف -رحمه الله- ستة أبناء هم على درس على والده وتخرج من كلية الشريعة في عام 1379هـ وهو الآن محقق شرعي بوزارة الداخلية ومحمد تخرج من كلية الزراعة في القاهرة عام 1385هـ وهو الآن مهندس زراعي في وزارة الزراعة وإبراهيم تخرج من كلية في أمريكا عام 1390هـ وهو الآن يشتغل في مؤسسة التأمينات الاجتماعية وعبد الله هو الآن طالب في السنة الثالثة من كلية التجارة وناصر تخرج من الثانوية عام 1391هـ وسليمان الآن طالب في الثانوية وللمترجم الشيخ عبد الرحمن بن عودان تلاميذ أعرف منهم الشيخ محمد البصيري والشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم الباهلي المدرس الآن بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة وعبد الرحمن الزوم والشيخ محمد البواري وعبد الرحمن بن عبد العزيز الحصين -رحم الله المترجم له الشيخ عبد الرحمن بن عودان وغفر له ولجميع المسلمين إنه سميع مجيب وصلى الله على محمد وآله وسلم.
ص -254-(28/48)
الشيخ سليمان العمري
هو العالم الورع التقي الشيخ سليمان بن عبد الرحمن ابن الشيخ محمد بن عمر العمري ولد بالقصيم الإقليم المشهور بنجد عام ألف وثلاثمائة من الهجرة وقرأ القرآن حتى حفظه نظراً وعن ظهر قلب ثم شرع في قراءة العلم على الشيخ محمد بن عبد الله بن سليم ثم رحل إلى مدينة الرياض وقرأ على الشيخ العلامة عبد الله ابن الشيخ عبد اللطيف آل الشيخ ثم رجع إلى القصيم وقرأ على الشيخ عبد الله ابن الشيخ محمد ابن سليم.
وظائفه وأعماله:
عينه الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود قاضياً للمدينة المنورة عام 1345هـ وكان إلى جانب قيامه بالقضاء يقوم بتعليم العلم وتدريس الطلاب في المسجد النبوي، كما ألف أثناء قيامه بالقضاء في المدينة المنورة رسالة جليلة رد فيها على بعض العلماء المجاورين بالمدينة المنورة آنذاك وقد طبعت هذه الرسالة المشار إليها ووزعت على أهل العلم ثم نقل الشيخ سليمان من قضاء المدينة عام 1360هـ إلى قضاء إقليم الإحساء وبقي فيه حتى أسن وأرهقته الشيخوخة فطلب الإعفاء من القضاء فأجيب طلبه وأعفي من القضاء واستمر بالإحساء حتى توفي بِها سنة 1375هـ وخلف أبناء لا أعرف أسماءهم - رحم الله الشيخ سليمان العمري وغفر له وعفا عنه فقد كان من بيت علم وقضاء عرفوا بطيب الذكر والمعتقد وصلى الله على محمد وآله وسلم.
ص -255-(28/49)
الشيخ عبد الرحمن بن سعدي
هو العلامة الورع الزاهد تذكرة السلف الشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله آل سعدي الناصري التميمي الحنبلي.
مولده:
ولد في مدينة عنيزة بالقصيم سنة ألف وثلاثمائة وسبع من الهجرة وتوفيت أمه وله أربع سنين ثم توفي والده وهو في الثانية عشر من عمره فعطفت عليه زوجة والده وصارت تشفق عليه أشد من شفقتها على أولادها وكذلك أخوه محمد عطف عليه فنشأ الشيخ نشأة حسنة فدخل مدرسة تحفيظ القرآن فحظه وهو في الحادية عشرة من عمره وحفظه عن ظهر قلب وهو في الرابعة عشر من عمره.
مشائخه:
بعد حفظ القرآن نظراً وعن ظهر قلب اشتغل بطلب العلم، فقرأ على إبراهيم بن حمد بن جاسر في الحديث وقرأ على محمد بن عبد الكريم الشبل في الفقه والنحو وقرأ على الشيخ صالح بن عثمان قاضي عنيزة(1) في التوحيد والتفسير والفقه وأصوله والنحو وهو أكثر من قرأ عليه حيث لازمه ملازمة تامة حتى توفي. وقرأ على الشيخ عبد الله بن عائض وعلى الشيخ صعب بن عبد
__________
(1) الشيخ صالح العثمان القاضي من أسرة القضاة المعروفة وهم من وهبة تميم وتولى قضاء مدينة عنيزة إلى أن توفي وتقدمت ترجمته في هذا الكتاب.
ص -256-(28/50)
الله التويجري وعلى الشيخ علي السناني والشيخ علي بن ناصر أبو وادي قرأ عليه في الحديث والأمهات الست وأجازه في ذلك وقرأ على الشيخ محمد الشنقيطي نزيل الحجاز قديماً ثم بلدة الزبير قرأ عليه في التفسير والحديث ومصطلح الحديث أثناء إقامة الشنقيطي بمدينة عنيزة.
جلوسه للتدريس:
ولما بلغ من العمر ثلاثة وعشرين سنة جلس للتدريس فكان يتعلم ويعلم ويقضي أوقاته في ذلك، وفي الأكباب على طالعة مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية ومؤلفات تلميذه ابن القيم بتمعن وتفهم فانتفع بهذه المؤلفات غاية الانتقاع.
وفي عام ألف وثلاثمائة وخمسين من الهجرة انتهت إليه المعرفة التامة ورئاسة العلم في القصيم على القراءة عليه وتلقي العلوم والمعارف عنه.
تلامذته:
أخذ عند العلم خلق كثير أعرف منهم هؤلاء المذكورين أدناه:
1- الشيخ سليمان بن إبراهيم البسام درس في المعهد العلمي وعين قاضياً فرفض.
2- الشيخ محمد بن عبد العزيز المطوع تولى القضاء في المجمعة ثم في عنيزة.
3- الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البسام عضو هيئة التمييز بالمنطقة الغربية.
4- محمد بن منصور الزامل درس بمعهد عنيزة العلمي.
5- علي بن محمد الزامل مدرس في معهد عنيزة وهو أنحى أهل نجد في زمنه.
ص -257-(28/51)
6- محمد بن صالح آل عثيمين مدرس بالمعهد وخليفة شيخه على إمامة الجامع بعنيزة.
7- الشيخ عبد الله بن عبد العزيز بن عقيل عضو الإفتاء ورئيس الهيئة العلمية المستقلة بعد وفاة سماحة رئيس القضاة.
8- الشيخ عبد الله المحمد لعوهلي مدرس بالمعهد العلمي بمكة المكرمة.
9- عبد الله بن حسن آل بريكان مدرس بالمعهد العلمي بعنيزة.
ولد -رحمه الله- تلاميذ غير هؤلاء كثيرون، لم يتسن لي معرفتهم.
مؤلفاته:
ألف مؤلفات كثيرة نافعة نذكر منها:
1- تفسير القرآن الكريم المسمى (تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن)، ثمانية مجلدات(1) وقد فرغ من إكمال تأليفه عام 1344هـ طبع بالمطبعة السلفية بمصر.
2- حاشية على الفقه استدراكاً على جميع الكتب المتداولة والمؤلفة في المذهب الحنبلي (خ).
3- إرشاد أولي البصائر على طريقة السؤال والجواب (ط).
4- تنزيه الدين وحملته ورجاله مما افتراه القصيمي في أغلاله (ط).
5- الدرة المختصر في محاسن الإسلام (ط).
6- الخطب العصرية (ط).
7- القواعد الحسان لتفسير القرآن (ط).
8- الحق الواضح المبين في شرح توحيد الأنبياء والمرسلين، وهو توضيح لنونية الإمام ابن القيم -رحمه الله- (ط).
__________
(1) أكمله عام 1344 طبع عام 1365هـ بمطبعة الترقي في دمشق على نفقة المؤلف ووزع مجاناً.
ص -258-(28/52)
1- توضيح الكافية الشافية (ط).
2- وجوب التعاون بين المسلمين وموضوع الجهاد الديني.
3- القول السديد في مقاصد التوحيد (ط).
4- منهج السالكين مختصر في أصول الفقه.
5- تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن (ط).
6- الرياض الناضرة (ط).
7- بهجة قلوب الأبرار (ط).
8- الإرشاد إلى معرفة الأحكام (ط).
9- الفواكه الشهية في الخطب المنبرية (ط).
10- منهج السالكين وتوضيح الفقه في الدين (ط).
11- طريق الوصول إلى علم المأمول بمعرفة القواعد والضوابط والأصول (ط).
12- الدين الصحيح يحل جميع المشاكل (ط).
13- الفروق والتقاسيم البديعة النافعة (ط).
14- الأدلة القواطع والبراهين في إبطال أصول الملحدين (ط).
15- فوائد مستنبطة (ط).
16- الرسائل المفيدة سؤال وجواب في أهم المهمات (ط).
17- شرح تائية شيخ الإسلام ابن تيمية التي رد بِها على القدرية (ط).
18- الفتاوى السعدية مجلد ضخم (ط).
19- التوضيح والبيان لشجرة الإيمان.
20- فتح الرب الحميد في أصول العقائد والتوحيد.
ص -259-(28/53)
1- الدلالة القرآنية.
2- التنبيهات اللطيفة على ما احتوت عليه الواسطية من المباحث المنيفة (ط).
مرضه:
أصيب عام 1371هـ بمرض ضغط الدم وضيق الشرايين وكانت أعراضه تبدو بعض الساعات في الكلام فيقف ولو كان يقرأ القرآن، ثم يتكلم ويرجع كعادته فسافر إلى لبنان عام 1372هـ على نفقة الحكومة السعودية أيدها الله، وبقي في لبنان شهراً يعالج وشفاه الله وبعد أن رجع إلى مدينة عنيزة باشر أعماله التي كان يباشرها قبل مرضه من تدريس وإفتاء وتصنيف وخطابة جمعة وإمامة. فعاوده المرض فلما كان في شهر جمادى الآخرة سنة 1376هـ أحس بالذي فيه وكان معه مثل البرد والقشعريرة وفي ليلة الأربعاء 22 من الشهر المذكور عام 1376هـ بعد فراغه من الدرس المعتاد العمومي الذي يشبه محاضرة من المحاضرات والذي كان يقوم بإلقائه على الجماعة في المسجد بعد فراغ من هذا الدرس أحس بثقل وضعف حركة بعد الصلاة وفراغها فأشار إلى بعض تلامذته أن يمسك بيده ويذهب معه إلى داره ففعل فهرع معه أناس من الحاضرين فلم يصل إلى داره إلا وقد أغمي عليه وبعد ذلك أفاق -رحمه الله- وأثنى على الله وحمده وتكلم مع الحاضرين بكلام حسن طيب ثم عاوده الإغماء فلم يتكلم بعد ذلك. فلما أصبحوا صباح الأربعاء دعوا الطبيب فقرر أنه نزيف في المخ وإن لم يتدارك فوراً فإنه يموت فأبرقوا إلى جلالة الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود بذلك فأصدر أمره الكريم عاجلاً بكل ما يلزم فقامت الطائرة فوراً وفيها مهرة من الأطباء والعلاجات إلى مدينة عنيزة ولكن الجو كان ملبداً بالغيوم والرعد والبرق والعواصف الشديدة فلم تستطع الطائرة الهبوط على أرض المطار فتوفي -رحمه الله- قبل فجر يوم الخميس الموافق 22 جمادى الآخرة سنة 1376هـ فأصب الناس لموته فانهمرت الدموع ووجفت القلوب وصلى عليه الناس بعد صلاة ظهر يوم الخميس في حشد عظيم لم يشهد في عنيزة له
ص -260-(28/54)
مثيل فامتلأ الجامع بالمصلين والمشيعين، وانهمرت العيون بالدموع وانطلقت الألسن بالترحم عليه والدعاء له بالمغفرة والرضوان، فلما صلى عليه، حملوه فوق الأعناق بزحام شديد إلى مقبرة الشهوانية المعروفة بمدينة عنيزة.
فبعد ذلك هتفت التعازي بالبرقيات من المعزين من جميع الجهات ورثى بمراث كثيرة يصعب عدها وخلف ثلاثة أبناء: هم عبد الله، ومحمد، وأحمد -غفر الله للشيخ المترجم عبد الرحمن بن سعدي ورحمه وعفا عنه فإنه كان من العلماء العاملين الورعين وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
ص -261-(28/55)
الشيخ عبد الله الخليفي
هو العالم الفقيه شيخنا الشيخ عبد الله الصالح الخليفي. ولد في بلدة البكيرية من بلدان القصيم بنجد سنة ألف وثلاثمائة من الهجرة وقرأ القرآن فيها على خاله وابن عمه محمد الخليفي ثم انتقل إلى مدينة حائل عاصمة الجبل فأخذ العلم عن الشيخ عبد العزيز المرشدي والشيخ عبد الله بن مسلم التميمي نزيل مدينة حائل ولازمه ملازمة تامة حتى تخرج عليه في الفقه وغيره من سائر العلوم ثم جلس لطلاب العلم بمدينة حائل فكانت له حلقة كبرى يعقدها بمسجده بالعليا بعد صلاة المغرب كل لليلة في علم الفرائض ثم تنقل في الوظائف الحكومية فعين قاضياً بالمدينة المنورة ثم نقل إلى قضاء الجوف ثم إلى قضاء الطائف عام 1357هـ وكان إلى جانب قيامه بالقضاء في الطائف يجلس لطلبة العلم في مسجد الهادي بعد صلاة العصر كل يوم ثم نقل من القضاء إلى تدريس الفقه بدار التوحيد بالطائف عام 1365هـ واستمر في هذه الوظيفة حتى نقل منها إلى التدريس بالمعاهد والكليات بمدينة الرياض ثم نقل منها عام 1378هـ وعين قاضياً لمدينة حائل عاصمة الجبل وقد أخذ عنه في مدينة حائل قبل تنقله في الوظائف الحكومية جماعة من العلماء منهم الشيخ سلميان بن عطية والشيخ عبد الكريم الخياط والشيخ علي بن محمد بن عبد العزيز الهندي والشيخ راشد بن منيصير والشيخ عبد العزيز العريفي والشيخ عبد الله الراشد المرجان والشيخ عبد الرحمن الشعلان والشيخ محمد الخلف العبد الله والشيخ عبد الله الشلاش والشيخ سليمان بن محمد الخليف وقرأت عليه بداره في الطائف بحي قروي في
ص -262-
الفقه عام 1366هـ كان -رحمه الله- يعرف العروض وينظم الشعر على طريقة العلماء رأيت له بيتاً في ذوي الأرحام من الرجز وهو قوله:
نزلهمو منزلة من أدلوا به
إرثاً وحجباً هكذا قالوا به
وكانت له معرفة بعلم الفلك رأيت له هذه الأبيات جمع فيها البروج الشمسية وما يخص كل برج من النجوم:(28/56)
للحمل أخبية فرع المقدم مع
هاء المؤخر خذ هذا بلا ضجر
منه ثمانية الثور يتبعها
نوء الرشاد، وياء الشرط في الأثر
منه البقية للجوزاء نسبتها
نوء البطين ترى جيم من الدبر
والعشر للسرطان هقعة وأضف
حاء من الهنع معروف لدى البشر
يبقى به خمسة مع ذرع نثرتهم
لليث مشتهر يدريه ذو خبر
لبرج سنبلة طرف وجبهتهم
مع هاء زبرتهم باد لمعتبر
باقيه ينسب للميزان صرفتهم
مع طاء عاوية تأتي على أثر
وبرج عقربهم يحوي بقيته
نوء السماك وغفراً عند ذي بصر
القوس يحيو زبانا كله وكذا
جيماً من القلب فألق السمع واختبر
يبقى به إحدى عشر للجدي شولتهم
من النعائم هاء عد واعتبر
يبقى ثمانية للدلو بلدتهم
مع طاء ذابحهم سار على قدر
باقيه مع بلع للحوت مشتهر
سعد السعود فذي منازل القمر
توفي في شهر شعبان سنة ألف وثلاثمائة وواجد وثمانين من الهجرة وخلف أربعة أبناءهم محمد ومنصور وصالح وإبراهيم - رحمه الله وغفر له فإنه كان سهل الجانب متواضعاً لا يعرف الكبر إلى قلبه الطيب سبيلاً.
ص -263-(28/57)
الشيخ محمد أبا الخليل
هو محمد بن عبد الله بن حسين بن صالح بن حسين (أبا الخيل) من قبيلة عنزة المشهورة، ولد في قرية المريديسية من قرى بريدة بالقصيم سنة 1308هـ وعاش في أحضان والديه ولما بلغ العاشرة من عمره بعثه والده إلى مؤدب حسن فأتقن القراءة والكتابة وبعض مبادئ العلوم وقد كان هناك حروب وفتن حالت دون استمراره في الدرس والتحصيل، ولما هدأت الأحوال كان والده قد توفي فانتقل في مدينة بريدة وجلس لطلب العلم فحفظ القرآن عن ظهر قلب وأخذ علم النحو واللغة عن الشيخ عيسى الملاحي ثم أخذ علم التوحيد والفقه عن الشيخين المشهورين الشيخ عبد الله بن محمد بن سليم والشيخ عمر ابن محمد بن سليم حتى أجازاه وكانا يخلفانه في مكانهما إذا غابا عن بريدة.
أعماله:
تولى القضاء في (نظره)؟ وفي (الجعلة) إحدى قرى القصيم مدة طويلة وفي سنة 1363هـ تولى القضاء في مدينة عنيزة، وفي سنة 1364هـ تولى القضاء في مدينة بريدة، وقد قضى أغلب حياته إماماً لمسجد بجوار بيته.
حالته الاجتماعية:
كان عالماً ورعاً زاهداً فيما عند الناس فقد اعتزل الأعمال والاختلاط الكثير بالناس منذ أن ترك القضاء في بريدة، وكان يقضي كل وقته في المسجد يقرأ
ص -264-(28/58)
القرآن ويكتب العلم ويتعبد وكان يحج كل عام حتى مرض في آخره عمره ومع ذلك فقد كان سمح الأخلاق واسع البال لا يعرف الغضب إليه طريقاً وكان لا يمل حديثه ولا مجالسته وكان يتفقد أقاربه وجيرانه ويتعهد الفقراء والمساكين لدى عارفيه والمتصلين به. ألف -رحمه الله- "زوائد الزاد" في فقه إمام أهل السنة أحمد بن حنبل الشيباني يقع 942 صفحة من القطع الكبير طبع بالمطبعة السلفية بمصر على نفقته وجعله وقفاً لله على طلبة العلم. توفي -رحمه الله- في يوم الجمعة ثالث عشر شهر شعبان سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة وألف في بريدة وصلى عليه في المسجد الجامع الكبير ودفن في مدينة بريدة -رحمه الله- وغفر له وأسكنه فسيح جناته وصلى الله على محمد.
ص -265-(28/59)
الشيخ عبد العزيز ابن عكاس
هو الشيخ الفاضل عبد العزيز بن عمر بن عكاس ينتهي نسبه إلى قبيلة سبيع القبيلة العربية العدنانية المشهورة بنجد. كان أجداده يسكون بمدينة عنيزة إحدى عاصمتي القصيم بنجد ثم رحلوا سنة 956هـ إلى الإحساء فطابت لهم الإقامة فيها وكثر نسلهم. ولد الشيخ عبد العزيز بالإحساء سنة 1304هـ ونشأ بِها وقرأ القرآن ولما حفظه شرع في القراءة في العلم على عمه الشيخ العلامة عيسى بن عبد الله بن عكاس المتوفى سنة 1338هـ وأخذ عن الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن الملا فقيه الأحناف بالإحساء ولما قدم إلى الإحساء الشيخ عبد الله البشاوري وعين قاضياً فيها في العهد العثماني قرأ عليه المترجم الشيخ عبد العزيز وبعد ذلك قدم إلى مكة المكرمة فأخذ العلم عن الشيخ أسعد الدهان والشيخ عبد الرحمن الدهان ولما استولى الملك عبد العزيز وبعد ذلك قدم إلى مكة المكرمة فأخذ العلم عن الشيخ أسعد الدهان والشيخ عبد الرحمن الدهان، ولما استولى الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود على الإحساء واستتب له الأمر فيها وفي ملحقاتها عين المترجم قاضياً في بلدة الجبيل سنة 1339هـ فمكث في القضاء ست سنوات ثم استعفى من القضاء وأعفي، فعكف على مطالعة الكتب ودراسة غامضها والاتجاه لعبادة الله، ثم في عام 1373هـ صدر الأمر الكريم بتعيينه رئيساً لهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالإحساء وملحقاتها وكان يدرس طلابه طيلة إقامته بالإحساء وكان -رحمه الله- يفد إلى مكة المكرمة في كل سنة من شهر رمضان المبارك للعمرة والصيام والعبادة ويعود إلى بلده الإحساء بعد العيد وكان حسن الخلق متواضعاً لا يعرف الكبر والحقد إلى قلبه سبيلاً. توفي بالإحساء سنة 1383هـ -رحمه الله وغفر له فإنه كان من العلماء المتواضعين الذين لا يعرف الكبر إلى قلوبهم العامرة بالإيمان سبيلاً.
وقد ألف أرجوزة في أصول القه بطلب من تلميذه الشيخ عبد الله الملا.
ص -266-(28/60)
الشيخ محمد بن مانع هو العلامة الفقيه الشيخ محمد بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن مانع الوهيبي التميمي النجدي. ولد في مدينة عنيزة إحدى مدن القصيم(1) سنة ألف وثلاثمائة من الهجرة، ولما بلغ السابعة من عمره أدخله
__________ـ
(1) القصيم مقاطعة كبيرة يقع في الناحية الشمالية من نجد بين الوشم وبين جبل طي المعروف فيما بعد بجبل شمر والقصيم كثير القرى والمزارع والنخيل تبلغ قراه نحو مائتين قرية والقصيم غزير المياه خصب التربة وأكثر بلدانه مذكورة في أشعار العرب ومعاجم البلدان وقد ذكره زيد الخيل الطائي بقوله:
ونحو الجالبون سباء عبس
فكان رواحها للحي كعب
إلى الجبلين من أهل القصيم
وكان غدوها لنبي تميم(28/61)
وذكر في كتاب (بلاد العرب) المنسوب للغدة الأصفهاني ص 339 (والقصيم موضع ذو غضا فيه مياه كثيرة وقرى "قلت" القصيم يشتمل على بلدان كثيرة أعرف منها ما يأتي: (مدينة بريدة - مدينة عنيزة - الرس - المذنب - البكيرية - العمار - البدائع - الهلالية - النبهانية - الرسيس - الزرقا - القويع - قيعان - القرعاء - الوطأة - الشماس - الشماسية - الربيعية - هدية - أبو يدسة - صبيح - قصر ابن عقيل - القرية - الخبرا - رياض الخبراء - الظليم - الشيحية - عيون لجواء - عيون ابن فهيد القصيعة - البصر - رهطان - الجعلة - قصيبا - الأسياح وهي المعروفة في معاجم البلدان بالنباج وهي تطلق على مجموعة هذه القرى الآتية: العين - البرقا - التنومة - خصيبة - حنيظل - وأبي الدود والشنانة - الديمسية - القيصومة - القصر - البرود - طريف - الجعلة - النبقية وبها انتهت قرى الأسياح.
ومن بلدان القصيم أيضاً: الفوارة - القوارة - وفي القصيم خبوب "جمع خب" وهي منخفضات من الأرض بين أكثبة من الرمال فيها مياه نخيل وقرى كثيرة جداً وجميع بلدان القصيم وقراه كغيرها من جميع بلدان قرى المملكة العربية السعودية آهلة بالسكان وفيها مدارس بنين وبنات ومستشفيات ومستوصفات وغير ذلك من جميع لوازم الحياة نسأل الله أن يطيل عمر إمام المسلمين. جلالة الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود.
ص -267-(28/62)
والده المدرسة (الكتاتيب) ليتعلم بها القرآن، ولم يلبث والده أن توفي فاستمر المترجم في قراءة القرآن حتى ختمه ثم شرع في القراءة على علماء بلده في مبادئ العلوم فقرأ على عمه الشيخ عبد الله وعلى الشيخ صالح العثمان القاضي، ولما بلغ الثامنة عشرة من عمره سافر إلى بغداد واتصل بالعلامة السيد محمود شكري الألوسي(1) فقرأ عليه وعلى ابن عمه السيد علي بن السيد نعمان(2) أفندي الألوسي وقرأ على غيرهما من مشاهير العلماء ببغداد فقرأ في النحو والصرف والفقه والفرائض والحساب ثم توجه إلى مصر فأقام في الأزهر مدة قرأ فيها الروض المربع شرح زاد المستقنع وبعضاً من شرح دليل الطالب وقرأ النحو والعلوم السائدة في الأزهر على الشيخ محمد الذهبي أحد المدرسين برواق الحنابلة ثم سافر إلى دمشق الشام ولازم الشيخ جمال الدين القاسمي وسمع عليه صحيح البخاري وحضر دروس الشيخ بدر الدين محدث الشام التي كان يلقيها بالجامع الأموي وحضر دروس العلامة الشيخ عبد الرزاق البيطار ثم رجع إلى بغداد ولازم القراءة على العلامة محمود شكري الألوسي فقرأ عليه كثيراً من مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية وقرأ عليه في المعاني والبيان والبديع كثيراً من الرسائل المختصرة في هذه الفنون مثل الفريدة في الاستعارات وشرح التلخيص وقرأ عليه شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك وشرح السيوطي وقرأ شرح القطر للفاكهي وقرأ عليه في علم الوضع مع شرح العلامة علي القوشجي ورسالة أبي بكر الكردي في علم الوضع وقرأ شرح منظومة حسن العطار. وقرأ لوامع البيان للرازي مع مراجعة لوائح الأنوار(3).
__________ـ
(1) هو محمود شكري ابن السيد عبد الله ابن السيد محمود شهاب الدين الألوسي صاحب التفسير المسمى روح المعاني.
(2) هو السيد علي ابن السيد نعمان أفندي مؤلف جلاء العينين وفي محاكمة الأحمدين ابن السيد محمود شهاب الدين صاحب التفسير المسمى روح المعاني.
(3)(28/63)
لهو لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية شرح الدرة المضية في عقد الفرقية المرضية منظومة والشرح والمنظومة كلاهما للشيخ محمد بن الحاج أحمد السفاريني وقد طبع هذا الشرح على نفقة علي بن عبد الله بن ثاني عام 1380هـ وطبع مختصره لابن سلوم عام 1386هـ.
ص -268-
للسفاريني وشرح العقائد الأصفهانية لشيخ الإسلام ابن تيمية وقرأ عليه بعضاً من تفسير البيضاوي وقرأ شرح السلم وشرح الدمنهوري وقرأ شرح الرسالة الأندلوسية لعبد الباقي الألوسي الأمثلة والبناء في التصريف وشرح السعد على العزي ومغني اللبيب لابن هشام وقرأ على الشيخ عبد الوهاب أفندي النائب أمين الفتوى في بغداد في بعض كتب آداب البحث والمناظرة وقرأ دليل الطالب في الفقه الحنبلي وشرح الأزهرية في النحو في المدرسة المرجانية على الشيخ عبد الرزاق الأعظمي وقرأ على السيد يحيى بن قاسم الوتري المدرس في المدرسة الأحمدية في بغداد في شرح العلوي على السلم وحاشية المرصفي على شرح المقولات العشر وشرح نظم الورقات في أصول الفقه.
وفي هذه المدة دعاه بعض الأكابر من أهل بغداد ليكون إماماً له ويقرأ عليه كتب الحديث فقرأ عليه بعضاً من صحيح البخاري وجميع صحيح مسلم والجزء الأول من زاد المعاد لابن القيم والجزء الأول من مسند الإمام أحمد بن حنبل والموطأ للإمام مالك وكثيراً من كتب التاريخ وقرأ نزهة النظر للحافظ ابن حجي ثم رجع إلى بلده مدينة عنيزة سنة 1329هـ وقرأ على قاضيها الروض المربع شرح زاد المستقنع وغير ذلك، ثم توجه إلى بلد الزبير من أعماق العراق سنة 1330هـ وقرأ على الفقيه الحنبلي المشهور في بلدة الزبير محمد العوجان في الفقه الحنبلي والفرائض والحساب ثم دعاه مقبل الذكير أحد تجار نجد وأعيانها المقيمين في البحرين للتجارة دعاه لمكافحة التبشير وفتح له لهذا الغرض مدرسة آخر سنة 1330هـ فأقام في بلدة البحرين أربع سنين وشرح في أثناء إقامته بالبحرين العقيدة(28/64)
السفارينية (المسماة بالدرة المضية) ثم دعاه حاكم قطر آنذك عبد الله بن قاسم بن محمد بن ثاني طيب الله ثراه فتوجه إليها في شهر شوال سنة 1334هـ فتولى القضاء والخطابة والتدريس ورحل إليه كثير من
ص -269-
الطلاب أخذوا عنه العلم في قطر وأقام في قطر أربعاً وعشرين سنة(1) وحج معه سنة 1342هـ وهو مقيم بقطر في أول رمضان واتصل بعمر حمدان المحرسي وقرأ عليه ألفية السيوطي في مصطلح الحديث والنزهة للحافظ ابن حجر وبعض بلوغ المرام حفظاً وقرأ عليه وعلى حبيب الله الشنقيطي الأربعين العجلونية وكتب كل واحد منهما أجازه له بها ثم رجع بعد الحج إلى قطر، وبقي في قطر على حالته المذكورة.
ولما كان في صفر أول سنة ألف وثلاثمائة وثمانية وخمسين قدم الإحساء وكث بها إلى شهر جمادى الآخرة من السنة المذكورة وفي هذا الأثناء قدم الإحساء عبد الله السليمان الحمدان فاتصل به وقابله وأشار عليه عبد الله السليمان فقبل ذلك وقدم على الملك عبد العزيز في مدينة الرياض فأكرمه الملك وعينه مدرساً في الحرم الملكي الشريف فأقام في مكة واجتمع عليه كثير من طلاب العلم يقرأون عليه في الفقه والحديث والنحو والفرائض أعرف منهم الشيخ عبد العزيز بن رشيد رئيس هيئة التمييز بنجد والشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم بن علد اللطيف الباهلي والشيخ البصيلي والشيخ ناصر بن حمد الراشد الرئيس العام لمدارس البنات والشيخ عبد الله بن زيد بن محمود وقد أخذ عنه العلم قبل ذلك في البحرين وقطر خلق كثير نذكر منهم: عبد الله الأنصاري وعبد الله بن تركي والحاج قاسم درويش ومحمد حسن الجابر وابنه محمد حسن الجابر وأحمد بن يوسف الجابر ومبارك بن نصر وبعد قيامه بواجب التدريس بالمسجد الحرام عينه الملك عبد العزيز زيادة على ذلك رئيساً لثلاث هيئات: هيئة تمييز القضايا وهيئة الأمر بالمعروف وهيئة الوعظ والإرشاد. وقام بهذه الأعمال إلى جانب قيامه بالتدريس في المسجد الحرام بعد صلاة الفجر(28/65)
وبعد
__________
(1) تولى في خلال هذه الأربع والعشرين السنة التي قضاها في قطر القضاء والفتيا وتزوج في قطر وأنجب أبناءه الثلاثة الشيخ عبد العزيز -رحمه الله- وأحمد وعبد الرحمن وأنشأ في قطر أول مدرسة علمية سنة 1336هـ تقريباً واستمرت نحو سبعة عشر عاماً.
ص -270-
صلاة المغرب وفي عام 1364هـ عينه الملك مديراً للمعارف (1) وفي سنة 1366هـ أسند إليه رئاسة دار التوحيد إلى أن شكلت وزارة المعارف سنة 1373هـ وعين لها الملك عبد العزيز وزيراً ابنه صاحب السمو الملكي الأمير فهد (2) فحينئذ نقل الشيخ محمد بن مانع مستشاراً برتبة وكيل وزارة إلى عام 1377هـ حيث طلبه حاكم قطر في السنة المذكورة ولازم الشيخ علي بن الشيخ عبد الله بن قاسم بن ثاني إلى أن توفي سابع عشر شهر رجب عام 1385هـ بمدينة بيروت على أثر عملية جراحية أجريت له ونقل جثمانه إلى قطر ودفن بها وخلف ثلاثة أبناء عبد العزيز وأحمد وعبد الرحمن. وخلف مكتبة كبيرة حافلة بنوادر الكتب وخلف مؤلفات منها: إقامة الدليل والبرهان بتحريم الإجارة على قراءة القرآن، وتحديث النظر في أخبار الإمام المهدي المنتظر، وإرشاد الطلاب إلى فضيلة العلم والعمل والآداب (ط) والأجوبة الحميدة رسالة تتعلق بالتوحيد (ط) وحاشية على دليل الطالب (ط) وسبل الهدى شرح قطر الندى (خ).
وله الكواكب الدرية شرح الدرة المضيئة (3) طبع مرتين والقول السديد فيما يجب الله
__________
(1) تعاقب على إدارة المعارف قبل ابن مانع هؤلاء الأشخاص الآتية أسماؤهم: صالح شطا، محمد كامل قصاب الشيخ ماجد كردي الشيخ حافظ وهبة، محمد أمين فودة، إبراهيم الشورى، طاهر الدباغ: المترجم له أعلاه محمد بن عبد العزيز بن مانع.
(2) وتعاقب على وزارة المعارف بعد صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز الشيخ عبد العزيز بن الشيخ عبد الله بن حسن آل(28/66)
الشيخ من غرة رجب عام 1380هـ حتى نهاية شهر شوال عام 1381هـ ثم تولاها معالي الشيخ حسن بن الشيخ عبد الله بن حسن آل الشيخ ولا يزال أسبغ الله على معاليه ثوب الصحة والعافية وأطال عمر إمام المسلمين الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود. إنه سميع مجيب.
(3) الدرة المضية في عقد الفرقة المرضية منظومة في العقيدة للشيخ محمد بن الحاج أحمد بن سالم السفاريني شرحها ناظمها بشرح سماه لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية يقع في جزأين من القطع المتوسط تبلغ صفحات الأول 453 والثاني 470 طبع على نفقة الشيخ علي بن عبد الله بن ثاني سنة 1380.
ص -271-
على العبيد (ط) نبذتان تتعلقان بمدينة عنيزة إحداهما عن أمرائها والأخرى(1) عن قضاتها طبعتا في آخر كتاب المنتخب في ذكر أنساب قبائل العرب لعبد الرحمن بن حمد المغيري وسمعت أن لدى ابنه أحمد دفتراً فيه قيود تاريخية لوالده والله أعلم -رحم الله الشيخ بن مانع وغفر له فقد كان حافظاً لكثير من فنون العلم وأقوال الفقهاء وقسط كبير من منظومة ابن عبد القوي في الفقه.
__________
(1) عنوان النبذتين (الأعلام فيمن ولي عنيزة من الأمراء والقضاة الأعلام).
ص -272-(28/67)
الشيخ حمود الشغدلي
هو العالم الفاضل الشيخ حمود الحسين الشغدلي ولد بمدينة حائل عام 1295هـ ألف ومائتين وخمسة وتسعين من الهجرة ونشأ بها وقرأ القرآن نظراً على مقرئ يدعى مبارك بن عواد ثم حفظه عن ظهر قلب وشرع في قراءة العلم على أشياخ بلده من علماء حائل فأخذ الفقه والفرائض عن الشيخ صالح السالم البنيان وأخذ عن الشيخ عثمان بن عبد الكريم العبيد ورحل إلى مدينة الرياض عام 1326هـ فقرأ التوحيد وعلم العقائد والحديث على الشيخ العلامة عبد الله بن الشيخ عبد اللطيف وقرأ علم النحو على الشيخ حمد بن فارس وجد واجتهد في تحصيل العلم حتى عد من أكابر علماء بلده وكان ناسكاً متعبداً محباً لطلبة العلم آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر لا تأخذه في الله لومة لائم جلس لطلاب العلم بمدينة حائل فأخذ عنه العلم جماعة من العلماء منهم الشيخ علي الصالح السالم البنيان والشيخ عبد الكريم الصالح السالم البنيان والشيخ عبد العزيز العريفي والشيخ محمد الخلف العبد والشيخ إبراهيم الحماد والشيخ عبد الله الشلاش والشيخ عبد الرحمن العبد الله الملق والشيخ محمد المشاري وغيرهم، قال عنه الشيخ علي بن محمد الهندي في كتابه "زهر الخمائل" أن غالب من يحسنون العربية والفرائض في تلك البلاد (أي حائل) هم من تلامذته كان المترجم له الشيخ حمود ينوب في قضاء منطقة الجبل عن الشيخ عبد الله السليمان البُليهد إلا سافر أو مرض ثم عين قاضياً لمنطقة الجبل عام 1362 هـ إلى عام 1378هـ حيث طلب الإعفاء من القضاء لتقدم سنه فأجيب إلى طلبه وأعفي من القضاء وبقي بمدينة حائل عاصمة جبل طيء إلى أن توفي في أول هذه السنة 1391هـ ألف وثمانين وإحدى وتسعين من الهجرة بمدينة حائل وخلف أبناء -رحمه الله- وغفر له وعفا عنه إنه سميع مجيب.
ص -273-(28/68)
صديق بن حسن
هو السيد العلامة محيي السنة وقامع البدعة النواب السيد صديق بن حسن بن علي بن لطف الله الحسيني البخاري القنوجي ثم الهوبالي.
مولده:
ولد ضحى يوم الأحد التاسع عشر من جمادى الأولى سنة ثمان وأربعين ومائتين وألف من الهجرة النبوية ببلدة (بريلي) موطن جدة القريب من جهة أمه ثم جاءت به والدته (من بريلي) إلى (بلدة قنوج) موطن آبائه، ولما بلغ السادسة من عمره توفي والده كفلته أمه ورباه أخوه الكبير السيد أحمد حسن عريش فقرأ القرآن وتعلم على أخيه المذكور اللغة الفارسية ومبادئ اللغة العربية ومبادئ العلوم الدينية وقرأ على غيره من أشياخ وطنه ثم ارتحل إلى دلهي عاصمة الهند سنة 1269هـ وقرأ على الشيخ صدر الدين خان مفتي بلدة دلهي في المنطق والفلسفة والهيئة والعوم الرياضية وقرأ على الشيخ التي الصالح محمد يعقوب المهاجر بمكة المشرفة قرأ عليه في دلهي ثم رجع إلى وطنه قنوج ولكنه بعد ذلك بمدة يسيرة اضطر إلى السفر لابتغاء الرزق فوصل بلدة بهبال سنة 1276هـ ونزل ضيفاً على مدار المهام للرياسة جمال الدين خان، وكان يعرف أسرته فأكرمه غاية الإكرام وزوجه بابنته التي هي أم أولاد المترجم وعينه في ديوان الإمارة فقام بوظيفته خير قيام، وفي أثناء إقامته في بهبال أخذ الحديث عن المحدث الكبير القاضي حسين بن محسن السبيعي الأنصاري اليمني الحديدي تلميذ الشريف محمد بن ناصر الحازمي تلميذ الإمام الشوكاني وأخذ عن أخيه
ص -274-(28/69)
القاضي زين العابدين الأنصاري اليماني وأجازاه إجازة عامة كذلك أجازه الشيخ المعمر المولوي عبد الحق البارسي تلميذ الشاه إسماعيل الدهلوي والمجاز من الإمام الشوكاني شفاهياً في اليمن وأجازه مشائخ آخرون ذكرهم في ثبته الذين ألفه باللغة الفارسية وسماه "سلسلة العسجد في مشائخ السند" ثم استأذن ملكة بهبال في الحج فأذنت فحج سنة 1285هـ في المراكب الشراعية وقاسى عناء شديداً ومرت السفينة على موانئ اليمن فاشترى من اليمن الكتب الخطية النفيسةمن مؤلفات علماء السلف وعلماء اليمن وخصوصاً مؤلفات الإمام الشوكاني والأمير الصنعاني، وبعد الحج وزيارة مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم رجع إلى بهبال واشتغل بوظيفته الرسمية وكانت ملكة بهبال شاه جهان (بيكم) امرأة عاقلة فاضلة، وكانت أيما مات زوجها فكانت تريد الزواج من رجل شريف من أهل الديانة والعلم، فاختارت المترجم له السيد صديق حسن ورغبت في الزواج به فقبل ذلك وتزوجها سنة 1288هـ ومن ذلك الوقت أصبح حاكماً للإمارة نيابة عنها ولقب (بالنواب) ومعناه الأمير فقام بالأمر خير قيام وتحسنت حال البلاد الدينية والأخلاقية والاجتماعية حيث طهر الإدارة الحكومية من الخائنين وظف بدلهم الأكفاء العاملين وجمع إليه أهل العلم وعين لهم مرتبات كبيرة ورغبهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفي نشر العلوم والمعارف خصوصاً في العقيدة السلفية وعلم الحديث ودعوة الناس إلى العمل بالكتاب والسنة فحصلت في البلاد نهضة دينية وعلمية ثم وُشِيَ به إلى الحكومة الإنكليزية فضغطت على الملكة زوجته وأمرتها بأن تعزله عن النيابة في الحكم فقاومت هذا الضغط في أول الأمر وأخيراً رضخت لرغبة الإنكليز خوفاً على نفسها وإمارتها فعزلته عن النيابة في الحكم سنة 1302هـ ولكنها مع ذلك بقيت في عصمته وبقي هو في قصرها معززاً مكرماً مشتغلاً بالتأليف والمطالعة والمذاكرة طيلة حياته.
ص -275-(28/70)
مؤلفاته على حرف الهجاء:
1- إتحاف النبلاء المتقين بإحياء مآثر الفقهاء والمحدثين باللغة الفارسية.
2- الاحتواء في مسألة الاستواء.
3- الإدراك في تخريج أحاديث رد الإشراك.
4- الإذعان لما كان ويكون بين يدي الساعة.
5- أربعون حديثاً في فضائل الحج والعمرة.
6- إفادة الشيوخ معرفة الناسخ والمنسوخ باللغة الفارسية.
7- الإكسير في أصول التفسير.
8- إكليل الكرامة في تبيان مقاصد الإمامة مطبوع بالهند.
9- الانتقاد الرجيح في شرح الاعتقاد الصحيح -شرح فيه كتاب الإمام ولي الله الدهلوي شرحاً مفيداً على طريقة السلف وانتقد علي الدهلوي استعماله لاصطلاحات المتكلمين في بيان التنزيه مثل نفي الجوهر والعرض - طبع قديماً بمصر على هامش كتاب جلاء العينين.
10- بغية الرائد في شرح العقائد فارسي.
11- البلغة في أصول اللغة.
12- بلوغ السول في أقضية الرسول.
13- تميمة الصبي في ترجمة الأربعين من أحاديث النبي.
14- التاج المكلل من جواهر مآثر جواهر مآثر الطراز الآخر والأول - طبع على نفقة علي بن ثاني.
15- ثمار التنكيت في شرح أحاديث التثبيت.
16- الجنة في الأسوة الحسنة بالسنة.
17- حجج الكرامة في آثار القيامة الفارسي.
18- الحرز المكنون في لفظ المعصوم المكنون(1).
__________
(1) فاتنا أن نذكر هذا المؤلف فوضعناه في الحاشية وهو كتاب حسن الأسوة بما ثبت من الله ورسوله في النسوة، قربه ووقف على طبعه زكريا علي يوسف صاحب مطبعة الإمام: وكان=
ص -276-(28/71)
1- حصول المأمول من علم الأصول - كتاب مفيد في أصول الفقه لخصه من (إرشاد الفحول) للشوكاني مع زيادات مفيدة مطبوع في استانبول ومصر.
2- الحطة في ذكر الصحاح الستة. ذكر فيه كل ما يتعلق بالكتب الستة ومؤلفيها من المعلومات والفوائد مطبوع بالهند.
3- حل المسألة المشكلة.
4- خبيئة الأكوان في افتراق الأمم على المذاهب والأديان.
5- دليل الطالب إلى أشرف المطالب (فارسي).
6- الدين الخالص مجلدين -طبع قديماً في الهند وأخيراً بمصر على نفقة آل ثاني.
7- رحلة الصديق إلى البيت العتيق - ذكر فيه رحلته للحج سنة 1285هـ، وبين فيه المناسك على طريقة المحدثين (مطبوع بالهند).
8- الروضة الندية شرح الدراري المضية للشوكاني (مطبوع بمصر).
9- رياض الجنة في تراجم أهل السنة.
10- السحاب المركوم في بيان أنواع الفنون وأسماء العلوم.
11- سلسلة العسجد في ذكر مشائخ السند (فارسي).
12- السراج الوهاج شرح مختصر مسلم بن الحجاج وهو شرح مختصر صحيح مسلم للمنذري.
13- شمع أنجمن في ذكر شعراء الزمن (فارسي).
14- الوشي المرقوم في بيان أحوال العلوم المنثور منها والمنظوم.
15- ضآلة الناشد الكئيب في شرح النظم المسمى بتأنيس القريب.
16- ظفر اللاظي بما يجب في القضاء على القاضي - كتاب مفيد في بيان أصول القضاء مطبوع بالهند.
__________
=أصل الكتاب يشتمل على جميع الآيات والأحاديث التي تتعلق بالنساء في جميع أحوالهن منذ بدء الخليقة إلى ما بعد البعثة المحمدية يقر به زكريا علي يوسف وجعله خاصاً بما يتعلق بالنساء بعد البعثة المحمدية.
ص -277-(28/72)
1- العلم الخفاق في علم الاشتقاق - كتاب مفيد في هذا الفن مطبوع بالهند.
2- العبرة بما جاء في الغزو والشهادة والهجرة.
3- عنوان الباري بحل أدلة البخاري - أربعة مجلدات.
4- عون الباري شرح تجريد البخاري (للزبيدي مطبوع نادر).
5- غصن بان المورق لمحسنان البيان.
6- غنية القاري، في ترجمة ثلاثيات البخاري.
7- فتح البيان في مقاصد القرآن - في ثمانية مجلدات طبع بمصر وبهامشه تفسير ابن كثير لخص فيه تفسير الشوكاني وزاد فوائد جمة.
8- فتح المغيث في فقه الحديث.
9- فتح العلام شرح بلوغ المرام مجلدان - وهو مختصر سبل السلام ببعض زيادات مفيدة - مطبوع بمصر.
10- الفرع النامي في الأصل السامي (فارسي).
11- قصد السبيل إلى ذم الكلام والتأويل.
12- قضاء الإرب في مسألة النسب.
13- فتح الثمر في عقائد أهل الأثر.
14- كشف الالتباس عما وسوس به الخناس في الرد على الشيعة باللسان الهندي.
15- لف القماط على تصحيح ما استعمله العامة من الأغلاط.
16- لقطة العجلان مما نمى إلى معرفة حاجة الإنسان.
17- مثير ساكن الغرام إلى روضات دار السلام.
18- مراتع الغزلان في تذكرة أدباء الزمان - طبع في الهند وفي استنابول بمطبعة الجوائب.
19- مسك الختام شرح بلوغ المرام -فارسي.
20- منهج الوصول إلى اصطلاح أحاديث الرسول - فارسي.
ص -278-(28/73)
1- نشورة السكران من صهباء تذكار الغزلان.
2- نيل المرام في تفسير آيات الأحكام.
3- هداية السائل إلى أدلة المسائل.
4- يقظة أولي الاعتبار بما ورد في ذكر النار وأصحاب النار.
وله غير هذه المؤلفات.
وكان المترجم له السيد صديق حسن خان آية من آيات الله في العلم والعمل والأخلاق الفاضلة والتمسك بالكتاب والسنة صرف ما آتاه الله من المال والجاه في خدمة الإسلام والدين وفي نشر علم الحديث والدعوة إلى العقيدة السلفية والعمل بالكتاب والسنة وإعانة العلماء والأدباء وجمع مكتبة نفيسة مملوءة بالكتب القيمة النادرة في سائر العلوم وخصوصاً كتب التفسير والحديث ومؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام ابن القيم والإمام الشوكاني وغيره من علماء اليمن وطبع كتباً نفيسة مثل فتح الباري شرح صحيح البخاري وتفسير ابن كثير ونيل الأوطار طبعها على نفقته في مطابع الهند ومصر واستانبول ووزعها مجاناً على العلماء وطلبة العلم، ورتب إعانات مالية للعلماء، ورغبهم في ترجمة كتب الحديث إلى اللغة الهندية (اردو) فترجموها له وطبعها على نفقته ووزعها وكان مكباً على تأليف العلم ليلاً ونهاراً فبلغت مؤلفاته -رحمه الله- أكثر من مائتي كتاب في اللغة العربية والفارسية والهندية (اردو) كان يطبعها ويوزعها مجاناً ولم يزل موقفاً حياته ومكرساً جهده في نشر العلم وتأليف الكتب إلى أن توفي في شهر رجب في بهبال سنة 1307هـ ألف وثلاثمائة وسبع وخلف ابنين هما السيد نور الحسن خان والسيد علي حسن خان -رحمه الله السيد صديق بن حسن خان وعفا عنه وغفر له- إنه سميع مجيب، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
ص -279-(28/74)
الشيخ بشير السهسواني
هو العلامة النحرير، الشيخ محمد بشير، المحدث الفاروقي ابن الحكيم محمد بدر الدين، كان تذكار السلف الصالحين في الفضائل والكمالات وأعظم مفخرة في العلم والحكمة، كان من المجددين للدين، وأحد المحققين المتأخرين، الذي بلغ درجة الاجتهاد المطلق في عصره. ولد في وسط القرن الثالث عشر الهجري، وتوفي أبوه وهو ابن تسع سنين، وكان له أخوان أكبر منه وثالث أصغر.
قضى زمن طفولته في لكنهؤ، وبدأ فيها تعلمه القراءة على الشيخ محمد واجد علي، وعلى بعض أفاضل (فرنجي محل) قرأ فنون المعقولات والمنقولات المتداولة، وبعد ذلك ذهب إلى دلهي لتكميل علوم التفسير والحديث والفقه والأصول فقرأ على السيد أمير حسن بعض الكتب الدينية، وأخذ عن مولانا سيد نذير حسين كتب الصحاح والسنن الستة وغيرها سماعاً وقراءة، واستجاز من الشيخ حسين بن محسن الأنصاري اليمني والشيخ أحمد بن إبراهيم بن عيسى النجدي) نزيل مكة، والشيخ محمد السهارنبوري المهاجر بمكة.
وبعد فراغه من الطلب اشتغل أولاً بتدريس العلوم العقلية من المنطق والفلسفة ثم حصل لها انهماك كثير في الفقه والأصول والأدب، وكان يفتي في الفقه موافقاً لمذهب الحنفية، ثم صاحب السيد أمير حسن فغلب عليه ذوق التحقيق في الدينيات، وتقدم في تحقيق اتباع القرآن والحديث، ومن ذلك الحين رجع
ص -280-(28/75)
في تحقيق جميع المسائل الجزئية والفرعية إلى الكتاب والسنة، وشرع في العمل بالحديث على طريقة المجتهدين، وصار يفتي بوجوب ترك الآراء والتقليد الشخصي، وكل مسالة وقع فيها اختلاف بين الأئمة الأربعة كان يرجح فيها مسلك المحدثين بأقوال السلف وآثار الصحابة، وكان يستدل لكل مطلب بالحجج القوية، ويستنبط شواهده من الكتاب والسنة.
وكان -رحمه الله- وحيد عصره في سعة المعلومات والاطلاع على مذاهب السلف، يصرف أكثر أوقاته في التدريس والتصنيف والوعظ والإرشاد، ثم صار مدرساً للغة الفارسية والعربية في كلية (سانت جونس) في أكره(1) وزيادة على هذا كان يدرس للطلبة الذين يجيئون إلى داره فنون المعقول والمنقول، فقرأ عليه الحكيم مبارك علي والحكيم معصوم علي (كتاب الأفق المبين) واشترك في هذا الدرس السيد أمير أحمد.
وقد خرج حاجاً من (أكره) ولما رجع من الحج (أي بلا زيارة لقبر الرسول صلى الله عليه وسلم فاعترضوا عليه) صنف كتاب (القول المحقق المحكم، في حكم زيارة قبر الحبيب الأكرم) فرد عليه الشيخ عبد الغني اللكنوي (المذهب المأثور) فكتب الشيخ جوابه وجمع فيه جميع الاعتراضات على هذه المسألة من قديم وحديث وأجاب عنها كلها والمعارضون له وإن كانوا قد كتبوا في جوابه لم يلتفت أهل التحقيق إلى جوابهم ومع ذلك فقد كتب الشيخ جواباً على ذلك لكنه لم يطبع. وكان ابتداء هذا البحث من السيد إمداد علي الذي كان من أكابر تلاميذ الشيخ بشير الدين القنوجي، لكن الشيخ إمداد علي لما أحس بضعفه عن مقابلة الشيخ بشير دعا الشيخ عبد الحي لهذا الميدان وفوض إليه الأمر وأعطاه جميع ما كتب.
__________
(1) آغره: المدينة الشهيرة تكتب بكاف فارسية معقوفة وينطق بها مفخمة كالجيم المصرية.
ص -281-(28/76)
وإمداد على هذا كان نائب مدير المقاطعة، وكان الشيخ بشير المترجم مع ذلك كلما ذهب إلى لكهنؤ نزل ضيفاً على الشيخ عبد الحي فيستقبله بالاحترام والبشاشة ويمسكه في ضيافته أياماً كثيرة أزيد مما يريد الشيخ، ويجلس في درس وعظه مستمعاً مع الأدب والتوقير للشيخ. وفي أيام مقامه (بأكره) حصل للشيخ أمير أحمد السهواني مع الشيخ بشير اختلاف في بعض المسائل الفرعية وكان الشيخ أمير أمد يدافع فيها بلين والشيخ يخالفه بالشدة، ثم انتهى الأمر إلى الاعتراف بالحق والمصالحة بينهما.
كان الشيخ بشير على جانب عظيم من الورع والتقوى والعبادة وقيام الليل، وكان يغلب عليه في وعظه رقة القلب والخشية حتى تدمع عيناه. وفي 5 المحرم سنة 1295هـ استدعاء النواب صديق حسن خان بهادر من (أكره) إلى (بهوبال) وفوض إليه رياسة المدارس الدينية في إمرة بهوبال، فكان يتبرع بتدريس التفسير والحديث،وكان يجيب على المسائل ويكتب الفتاوى بطريق الاجتهاد، وفي كل جمعة يجلس لدرس الوعظ في جامع القاضي ويصرح برأيه ولو خالف الحكومة بلا مبالاة، ويقيم حجته على المخالفين تقريراً وتحريراً مع التواضع وحسن الخلق.
وكاد يخالط أحبابه بلا تكلف ولا احتشام وكان ديدنه إكرام الضيوف وإمداد الغرباء بلا رياء ولا عجب ولا سمعة، وكان نصب عينية اتباع آداب الكتاب والسنة حتى كان يثقل على طبه ترك المستحبان، وقد أقر له أهل الهند كافة بقوة الاجتهاد والفضيلة العلمية واعترفوا له بها.
تناظر أحمد دحلان مفتي مكة في زمانه (1) والشيخ بشير في مسألة التوحيد، فكتب الشيخ رداً عليه كتابه المسمى (2) "صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ
__________
(1) لعل المناظرة كانت لما حج واجتمع بدحلان بمكة فناظره شفوياً ثم لما رجع رد عليه بكتابه "صيانة الإنسان".
(2) كتبه رداً على رسالة دحلان المسماة الدرر السنية في الرد على الوهابية كما صرح بذلك المترجم في أول كتابه(28/77)
صيانة الإنسان.
ص -282-
دحلان" واشتهر الكتاب وطبعه علماء نجد ولم يرد عليه أحد من المخالفين.
ولما حصل النزاع بين النواب صديق حسن خان والشيخ عبد الحي اللكنوي وكتبت كتب من الطرفين وقع في نفس الشيخ عبد الحي أن بعض رسائل الرد من تصنيف الشيخ وصرح بذلك في كتابه (إبراز النفي) فسعى الشيخ لدفع هذا الوهم عن فكر الشيخ عبد الحي وتصالحا بعد هذا.
ولما توفي النواب -رحمه الله- في جمادى الأولى سنة 1307هـ أراد الشيخ مفارقة بهوبال ولكن بيكم (1) بهوبال تعلقت به وعطفت عليه واستبقته، فكان يذهب في كل يوم اثنين من الأسبوع إلى تاج محل (قصر الأميرة بكم) فيجلس للوعظ ويجتمع عليه النساء المتصلات ببيكم لسماع وعظه وطلب الدعوات الصالحة منه، وكان يتكلم في وعظه هذا بالترغيب والترهيب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلا مداهنة ولا مبالاة، حتى توفيت بيكم -رحمها الله- في سنة 1319هـ ولما جلست بعدها على عرش ولايتها بنتها سلطان جهان بيكم وأخذت في نشر العلوم العصرية والفنون الأوروبية وتقليل شأن العلوم الدينية والقائمين بها ارتحل الشيخ عن بهوبان إلى دلهي بعدما أقام فيها خمسة وعشرين سنة.
وكان الشيخ قد دعي لمناظرة مرزا غلام أحمد القادياني في دلهي فجاءها بأمر حكومة بهوبال فأقبل عليه أهل العلم والدين والتجار وغيرهم ممن لهم تعلق بالشيخ نذير حسين كبير علمائها ورغبوا إليه أن يقيم بدلهي بسبب ضعف الشيخ نذير حسين وكبر سنه للقيام مقامه ولكن لما كانت حكومة بهوبال لا تزال تعظم الشيخ وتسند إليه رياسة الأمور الدينية لم يستطع إجابتهم إلى رغبتهم حينئذ، فلما تغيرت الأحوال في بهوبال استأنفوا الطلب فأجابهم إلى ذلك. وتحول إليهم ثم جلس في مقام شيخه يدرس ويفتي ويعظ.
__________
(1) هي زوجة النواب صديق حسن خان أميرة بهوبال الشهيرة، وكاف بيكم مفخمة كالجيم المصرية وبعض كتاب العربية يكتبونها بيغم(28/78)
بالغين كأمثالها.
ص -283-
كان مرزاً غلام أحمد ادعى أنه المهدي المنتظر ثم ترقى عن دعوته المهدوية لنفسه إلى دعوى المسيحية وتحول عن اشتغاله بمناظرة المسحيين (وارياسماج) من الهندوس إلى مناظرة علماء المسلمين، وكان لا يناظر إلا بالقرآن معرضاً عن الأحاديث وأقوال الصحابة واشتهر أمره حتى صرح بطلب المبارزة، حينئذ أمرت بيكم بهوبال الشيخ محمد بشير أن يتوجه إلى دلهي لمناظرة المرزا، ولما لم يرض مرزا بالمناظرة الشفوية تناظرا كتابة وهما في دلهي وكل منهما في محله.
كان مرزا يصرح بموت المسيح مستدلاً بقوله تعالى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} فعارضه الشيخ مثبتاً حياة المسيح بقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} ثم أخذ مرزاً على عادته يجادل بالتأويلات وينتقد القواعد النحوية والصرفية ليستدل على أن الآية لا تثبت حياة المسيح. فرد عليه الشيخ بأجوبة لم يستطع ردها، فانقطع عن المناظرة معتذراً بأن أحد أقاربه بقاديان مريض وأنه سيسافر لعيادته، وجميع المكاتبات التي دارت في هذه المناظرة حتى انقطع المرزا مدونة في كتاب (الحق الصريح، في إثبات حياة المسيح) وهو مطبوع وكانت تلك المناظرة في سنة 1312هـ.
وفي مدة إقامته في دلهي كتب رسالة سماها (القول المحمود في رد السود)(1) وكان أصل تلك المسألة من الشيخ نذير أحمد الدهلوي.
ومن مفردات الشيخ أنه كان يجيز الأضحية إلى آخر ذي الحجة، وخالفه أهل العلم في ذلك فجمع كتاباً استدل فيه على رأيه بأقوال أهل العلم فجاء كتاباً ضخما ولكنه لم يطبع - وصنف كتاباً مبسوطاً في مسألة القراءة خلف الإمام سماه (البرهان العجاب، في مسألة فرضية أم الكتاب) طبع بعد وفاته وله غير ذلك رسائل دينية منسوبة إلى بعض تلاميذه.
__________
(1) أي الربا والسود لغة أوردية.
ص -284-(28/79)
وكانت عادة الشيخ مدة مقامه في دلهي أن يعقد مجالس للتدريس في جميع العلوم ومن ذلك ساعتان بعد صلاة الصبح لتفسير القرآن بالحديث(1) وكان الناس يحضرون من أماكن بعيدة لاستماع هذا الدرس بشوق عظيم.
توفي -رحمه الله- في دلهي سنة 1326هـ وكان عمره حينئذ أربعاً وسبعين سنة (إنا لله وإنا إليه راجعون) طيب الله ثراه، وجعل الجنة مثواه.
__________ــــــــ
(1) لعل الأصل بالمأثور لأن الأحاديث المرفوعة في التفسير قليلة وكذا الموقوفة.
ص -285-(28/80)
محمود شكري الألوسي
هو العالم العلامة المؤلف اللغوي، الأديب المصلح أبو المعالي السيد محمود شكري ابن السيد عبد الله بن السيد محمود شهاب الدين(1) الألوسي. ولد سنة ألف ومائتين واثنتين وسبعين من الهجرة في أسرة عريقة في المجد والنسب ومعروفة بالعلم والدين وتلقي العلم عن أبيه وعمه أبي البركات نعمان خير(2) الدين الألوسي والشيخ إسماعيل بن مصطفى الموصلي والسيد محمد أمين الخراساني والفارسي وغيرهم. وتقدم في العلوم العقلية والنقلية ودرس وألف فذاع صيته وقصده الناس من بلدان متعددة فكان زعيماً من زعماء النهضة الدينية ورائداً من رواد العلم والأدب وداعياً من دعاة الإصلاح. حارب البدع والخرافات ودعا إلى نهج السلف الصالح، وهاجم التصوف وطرقه وكان مثالاً للعالم الجرئ أمام الدولة العثمانية وفترة الاحتلال الإنكليزية للعراق.
ألف مؤلفات كثيرة في الدين واللغة والتاريخ والأدب والعلم منها:
بلوغ الإرب في أحوال العرب (ط) -أخبار بغداد وما جاورها من البلدان- الدلائل العقلية على ختم الرسالة المحمدية -غاية الأماني في الرد(3) على النبهاني (ط) - الآية الكبرى على ضلال النبهاني في رائيته الصغرى
__________ــــــــــ
(1) محمود شهاب الدين: هو صاحب التفسير المسمى روح المعاني.
(2) صاحب كتاب جلاء العينين في محاكمة الأحمدين.
(3) لم يذكر اسمه الواضح في غاية الأماني بل استعار له اسماً غير اسمه هو: أبو المعالي السلامي الشافعي فرقاً من الدولة العثمانية آنذاك.
ص -286-(28/81)
فتح المنان في الرد على صلح الأخوان(1) (ط) -سعادة الدارين في شرح حديث الثقلين - رد على الشيعة - فصل الخطاب في مسائل الجاهلية للإمام محمد بن عبد الوهاب (ط) - الضرائر فيما يسوغ الشاعر دون الناثر - بدائع الإنشاء - الأجوبة المرضية على الأسئلة المنطقية - ما دل عليه القرآن مما يعضد الهيئة الجديدة القويمة البرهان (ط) - السيوف المشرقة مختصر الصواعقة المحرقة - صيب العذاب على من سب الأصحاب - رد به على محمد الطباطبائي الشيعي - مختصر التحفة الاثني عشرية الأصل للشاه عبد العزيز حكيم الدهلوي باللغة الفارسية إلى العربية سنة 1337هـ الشيخ الحافظ غلام محمد بن محي الدين عمر الأسلمي واختصره وهذبه سنة 1301هـ السيد محمود الألوسي المترجم. طبع بالمطبعة السلفية.
حاشية على كتاب بلوغ الإرب من تحقيق استعارات العرب(2) توجد مخطوطة بدار الكتب الوطنية بمدينة الرياض.
كان السيد محمود شكري الألوسي -رحمه الله- يحسن اللغة الفارسية والتركية وله بعض الرسائل المترجمة إلى العربية من هاتين اللغتين.تتلمذ عليه خلائق لا يحصون من أهل العراق وغيرهم وأخذ عنه العلم من أهل نجد الشيخ محمد بن عبد العزيز بن مانع، والشيخ علي بن سليمان آل يوسف القصيمي، صاحب كتاب "اربح البضاعة في معتقد أهل السنة والجماعة" توفي المترجم السيد محمود شكري في بغداد سنة ألف و ثلاثمائة واثنتين وأربعين من الهجرة: وأوسع ما كتب عنه كتاب (محمود شكري الألوسي وآراؤه اللغوية) لتلميذه الأستاذ محمد بهجت الأثري -رحمه الله محمود شكري وغفر له- وصلى الله على محمد وآله وسلم.
__________ـــــــــــ
(1) فتح المنان رد به على صلح الأخوان، لداود بن سليمان بن جرجيس البغدادي وكان الشيخ عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن رد على داود ومات قبل إكمال رده، فأكمل رده الشيخ عبد اللطيف السيد محمود شكري. وسمى التتمة فتح المنان.
(2) الأصل لعبد الملك(28/82)
بن عصام وجاء في آخر الحاشية ما نصه (تمت حاشية ابن عصام بقلم الحقير محمد بن حجاج رستم في سنة اثنتين وسبعين ومائتين بعد الألف).
ص -287-
السيد رشيد رضا
هو العلامة السلفي رشيد بن علي رضا بن محمد شمس الدين منلا علي خليفة القلموني البغدادي الأصل الحسيني النسب.
مولده:
ولد يوم الأربعاء في السابع والعشرين من شهر جمادى الأولى عام ألف ومائتين واثنين وثمانين للهجرة، الموافق الثامن عشر من شهر تشرين الأول سنة ألف وثمانمائة وخمسة وستين ميلادية في قرية قلمون الواقعة على شاطئ البحر على بعد زهاء خمسة كيلومترات إلى الجنوب من طرابلس الشام، ولد بهذه القرية ونشأ بها وتعلم في مدرسة قلمون قواعد الحساب والخط والقراءة بما فيها قراءة القرآن الكريم. ثم دخل المدرسة الرشدية بطرابلس الشام وهي مدرسة ابتدائية تابعة للدولة العثمانية وكان التعليم فيها باللغة التركية فمكث بها سنة ثم تركها والتحق بالمدرسة الوطنية الإسلامية وهي مدرسة أنشأها الشيخ حسين الجسر الأزهري -رحمه الله- وكان التعليم في هذه المدرسة يجري باللغة العربية مضافاً إليها اللغتان التركية والفرنسية وفي هذه المدرسة توسع في دراسة العلوم العربية والشرعية ودرس المنطق والرياضة والفلسفة غير أن هذه المدرسة أغلقتها السلطات العثمانية، فانتقل إلى المدارس الدينية بطرابلس وبقي فيها حتى تحصل على الشهادة العالية ثم واصل تعليمه ودراسته الحرة على أستاذه
ص -288-(28/83)
الشيخ حسن الجسر(1) الذي أجازه في التدريس وكان له أثر عظيم في تنشئته وتوجيهه الوجهة العلمية النافعة كما أخذ علم الحديث والفقه الشافعي عن الشيخ محمود نشابة إلى جانب استفادته أدبياً ودينياً من الشيخ عبد الغني الرافعي والشيخ محمد القاوقجي الكبير، وكان له أثناء الطلب مطالعة في كتاب الأغاني للأصفهاني وكتاب نهج البلاغة، وكتاب الأحياء لأبي حامد الغزالي وقد أثر فيه حيث جعله يميل إلى الزهد والتقشف، وكان له من ذكائه الفطري ونور البصيرة ما جعله يعرف الضار من كتاب الأحياء فيدع الأخذ به كعقيدة الجبرية والأشعرية والشطحات الصوفية وبعض التأويلات المبتدعة ومع ذلك بقي عنده شيء من الميول إلى العزلة والتقشف ولذا انتدب إماماً بمجد القرية الذي بناه جده فصار يؤم الناس فيه ويعظهم ثم بدا له ما غير وجهته حيث عثر بمكتبة والده الزاخرة بالكتب على بعض أعداد مجلة العروة الوثقى فقرأها وأعجب بها وكاد يحفظها وكاتب مؤسسها الأفغاني مبديا رغبته في لقائه فعاجلت المنية الأفغاني قبل أن يراه السيد رشيد رضا، فالتقى بالسيد محمد عبده مرتين في طرابلس في زيارتين قصيرتين فأعجب به ورغب في الاتصال به، وعزم على الرحيل إليه بمصر سنة 1314هـ الموافق سنة 1896م وهي السنة التي توفي فيها الأفغاني وكان قد نال شهادة التدريس العالمية من شيوخه بطرابلس وكان
__________ـــــــــــــ
(1) هو العالم الشيخ حسين الجسر بكسر الجيم بن محمد بن مصطفى الجسر أديب وفقيه ولد بطرابلس الشام سنة 1261هـ (1845 ميلادية) وتلقى مبادئ العلوم على صهره عبد القادر الرافعي ورحل إلى مصر والتحق بالأزهر وعاد إلى طرابلس سنة 1284 هـ 1867 ميلادية واشتغل بالفقه والصحافة وأنشأ جريدة طرابلس وأسس مدرسة وتوفر على التأليف له: (نزهة الفكر) في ترجمة أبيه وله رياض طرابلس عشرة أجزاء مجموعة دراسات والرسالة المحمدية في حقيقة الديانة(28/84)
الإسلامية وإشارات الطاعة في حكم صلاة الجماعة. والكواكب الدرية في الفنون الأدبية (خ) وله نظم شعر كثير وله سيرة مهذب الدين توفي عام 1327هـ الموافق 1909ميلادية وخلف ابناً فقيها هو محمد الجسر توفي عام 1353هـ رحمه الله ووالده وجميع المسلمين وقد ترجم للشيخ حسين الجسر ترجمة مطولة الشيخ محمد رشيد رضا في مجلة المنار 1327هـ - رحم الله الجميع وغفر لهم.
ص -289-
والده يأبى عليه السفر، فلم يزل به حتى أراه وسمح له فسافر إلى مصر بطريق البحر من بيروت فوصل الإسكندرية مساء الجمعة الثالث من كانون الثاني سنة 1898م 1315هـ ووصل القاهرة يوم السبت في الثامن عشر من شهر كانون الثاني سنة 1898م الموافق 1315هـ وفي ضحوه اليوم التالي ذهب إلى دار الشيخ محمد عبده في الناصرية لزيارته فقابله وصارحه القول في الغرض من هجرته إلى مصر وأخذ يتردد على داره ويقابله الشيخ محمد عبده كل مرة مقابلة ود وإجلال فتوثقت أواصل الأخوة والصداقة بينهما فاستشاره في اختيار اسم المجلة التي يزمع إصدارها وقدم له عدة أسماء فوقع الشيخ محمد عبده على اسم "المنار".
سنة إنشاء مجلة المنار:
فأنشأ مجلة المنار في مدينة القاهرة سنة 1315هـ الموافق 1898م وصدر العدد الأول منها في الثاني والعشرين من شهر شوال عام 1315هـ وكانت أول سنتها غرة ذي القعدة ثم صارت في أول محرم وأصبحت السنة الهجرية هي سنة مجلة المنار الحسابية منذ السنة الخامسة 1320هـ فأخذ السيد رشيد رضا يقاوم على صفحات مجلة المنار البدع والخرافات التي أضرت بالمسلمين وألصقت بالدين، ويحارب العقائد الزائفة ويحث فيها على ضرورة التعليم وحسن التربية والتوجيه ويحث على كثرة إنشاء المدارس لأنها السبيل الوحيد لإزاحة الجهل وإصلاح أعمال الدنيا والدين. وكان ينشر في مجلة المنار لكثير من العلماء والمصلحين وينشر ما كان يقتبسه من دروس شيخه الشيخ محمد عبده ومجالسه بعبارة صحيحة فصيحة يعتز شيخه بعزوها إليه(28/85)
حتى استطاع أن ينشر فضل شيخه ويوجد له تلاميذاً ما كانوا يعرفون شيئاً عن الشيخ محمد عبده إلا من مجلة المنار ومطبوعاتها. وكان مسموع الكلية عند الشيخ محمد عبده، فكثيراً ما يشير عليه بأن يفيد في تحقيق رسالة الإصلاح فيأخذ بمشورته فهو الذي حمله بالإلحاح على قراءة التفسير الذي كان يكتبه بمجلة المنار في الجامع الأزهر
ص -290-
وأتاه بكتاب أسرار البلاغة من طرابلس وحمله على تصحيحه وتدريسه في الأزهر فجدد البلاغة العربية بعد أن جمدت وتلاشت في كتب المتأخرين المقتضبة والمقعدة، وكان الشيخ محمد عبده يعرف للسيد رشيد غزارة علمه وسعة باعه واطلاعه في العلوم، ويعرف له قدرته على الكفاح والنضال وشغفه بتأدية رسالة العلم والإصلاح فرشحه في مرض موته أن يكون خليفة له بهذه الأبيات التالية:
فيا رب إن قدرت رجعي قريبة
إلى عالم الأرواح وانفض خاتم
فبارك على الإسلام وارزقه مرشداً
(رشيدا) يضيء النهج والليل قائم
فتوفي الشيخ محمد عبده سنة 1323هـ الموافق 1905م فخلفه الشيخ رشيد رضا فصمد في ميدان الكفاح والقيام بأعباء الدعوة والإصلاح حتى آخر رمق من حياته -يرحمه الله-.
معهد الدعوة والإرشاد:
ورحل بعد وفاة شيخه الشيخ محمد عبده بأربع سنوات إلى الآستانة للسعي في إنشاء معهد إسلامي يخرج علماء مبرزين يرسلون إلى جميع الأقطار دعاة إلى الإسلام. وبعد مقابلات عديدة لأعضاء الحكومة العثمانية وأركان جمعية الاتحاد والترقي وشيخ الإسلام في الآستانة تكللت جهوده بالنجاح وصدرت الإرادة بالموافقة على اقتراحاته وصدر الأمر العالي بإنشاء جمعية العلم والإرشاد على أن يكون لها دائرة باسمها ويتربى ويتعلم في هذه المدرسة طائفة من الطلاب على نفقة المدرسة فهي تنفق عليهم لا يكلفون طعاماً ولا شراباً ولا لباساً.
تأسست دار الدعوة والإرشاد وفتحت أبوابها في الثاني عشر من ربيع الأول عام 1330هـ الموافق 1912م فعمل الشيخ محمد رشيد وكيلاً لجامعة الدعوة(28/86)
والإرشاد وناظراً للمدرسة فمضى على إنشاء دار الدعوة والإرشاد ثلاث سنوات إلا قليلاً ثم قامت الحرب العالمية الكبرى عام 1333هـ الموافق عام 1914 م وأوقفت المساعدات التي كانت تأتيها من الحكومة المصرية
ص -291-
فاضطرت أن تكتفي بمن فيها من الطلب ثم أغلقت أبوابها نهائياً عام 1916م واستمر -رحمه الله- في إصدار مجلة المنار وطبع الكتب التجارية بمطبعتها وتأليف الكتب النافعة، وقد بلغت مجلة المنار قبيل وفاته 34 مجلداً وكان -يرحمه الله- سلفياً باطناً وظاهراً لا تشوب سلفيته شائبة فلسفية أو أشعرية على طريقة علماء السلف الصالح كالإمام أحمد بن حنبل وغيره من الأئمة مقتدياً بشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية نظر الله وجهه وبرد مضجعه وللسيد رشيد رضا اجتهاديات فرعية انفرد بها عن جمهرة العلماء من المفسرين والفقهاء منها أنه يرى أن الوصية المذكورة في قول الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ ... الْمُتَّقِينَ} يرى أن هذه الآية غير منسوخة بآية المواريث ولا بحديث: "لا وصية لوارث".
ويخالفهم في تفسير آية التيمم وهي قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ.. وَأَيْدِيكُمْ} فيرى أن المسافر يجوز له التيمم ولو كان الماء موجوداً بين يديه ولا عذر من استعماله ويجادل في مسألة (الوصية والتيمم) وينتصر لرأيه -رحمه الله- بحجج لا تقوى على معارضته حجج الجمهور وأدلتهم القوية التي لا ينهض لمخالفتها ما عداها من الأدلة الضعيفة.
مؤلفاته:
ألف مؤلفات كثيرة منها:
1- تفسير القرآن المشهور بتفسير المنار ثلاثة عشر مجلداً طبع وصل فيه إلى قوله تعالى: (ذلك ليعلم أني لم أخنه ... الخائنين)(1).
__________ـــــــــــــــ
(1) كان شيخنا علامة الشام الشيخ محمد بهجت البيطار الدمشقي بدأ في إكمال تفسير المنار من حيث وقف قلم(28/87)
السيد رشيد رضا وقد أطلعني فضيلته عام 1364هـ بمدينة الطائف على ملازم مخطوطة. من تفسيره لسورة يوسف ولا أدري بعد ذلك هل استمر فضيلته في مواصلة تفسير ما بدأ به من إكماله لتفسير المنار أم لا.
ص -292-
1- إنجيل برنابا.
2- المسلمون والقبط.
3- عقيدة الصلب والفداء.
4- تاريخ الأستاذ محمد عبده المصري ثلاث مجلدات (ط) سجل فيه زيادة على ذلك حياة مصر وتاريخها في ذلك العهد.
5- الوحي المحمدي (ط).
6- الإسلام وأصول التشريع العام (ط).
7- الخلافة (ط).
8- الوهابيون والحجاز (ط).
9- محاورات المصلح والمقلد (ط).
10- ذكرى المولد النبوي (ط).
11- شبهات النصارى وحجج الإسلام (ط).
12- نداء الجنس اللطيف يوم المولد النبوي (ط).
13- السنة والشيعة -كتيب صغير (ط).
14- منسك صغير في أحكام الحج وبيان أسراره (ط).
15- الربا والمعاملات في الإسلام كتب مقدمته وأتمه شيخنا أبو اليسار الشيخ محمد بهجت البيطار الدمشقي (ط).
16- فتاوى السيد رشيد ستة مجلدات، جمعها من أجزاء مجلة المنار. وحققها وقام بطبعها في مطبعة دار الكتاب عام 1390هـ صلاح الدين المنجد.
17- كتاب الحكمة الشرعية في محاكمة القادرية والرفاعية.
18- الوحدة الإسلامية.
19- يسر الإسلام وأصول التشريع العام.
20- مساواة الرجل بالمرأة.
ص -293-(28/88)
1- رسالة أبي حامد الغزالي.
2- المقصورة الرشيدية (قصيدة).
وللسيد رشيد رضا غير هذه المؤلفات ساقها شكيب أرسلان في كتابه (محمد رشيد رضا أو إخاء أربعين سنة) وقال عنها بالحرف الواحد: (هذه مؤلفات هذا الرجل الذي لم يضع ساعة واحدة من حياته بلا عمل مفيد للإنسانية عموماً وللإسلام خصوصاً).
استمر السيد رشيد رضا في محاربة البدع والنضال عن عقيدة الإسلام إلى أن توفي فجأة عام 1354هـ ودفن في القاهرة وحزن عليه المسلمون ورثاه العلماء والأدباء في جميع الأقطار وخلف ابنين هما المعتصم وشفيع، ولما بلغ نعيه الحجاز رثاه الشيخ يوسف ياسين برثاء مطلعه: (دمعة تلميذ على أستاذه) نشر في جريدة أم القرى عدد 560 السنة الثانية عشر الموافق يوم الجمعة عاشر جمادى الثانية سنة 1354هـ ورثاه عبد الظاهر أبو السمح بهذه القصيدة(1) التالية:
أي خطب دها وأي مصاب
خبروني فقد نكرت صوابي
أحقيق قضى رشيد فأسمى
صامتاً لا يحير رد الجواب
أحقيق هوى منير الدياجي
من سماء العلا وحق اكتئابي
أحقيق غاض الخصم ودك الـ
ـطود في مصر يا له من مصاب
أي إمام الهدى أعرني لساناً
كان فيه الهدى وفصل الخطاب
وذكاءً يمده نور علم
ويراعا يجول في كل باب
وأعرني لآلئاً كنت تمليـ
ـها هدى من بليغ آي الكتاب
فلعلي أصوغ منها المرائي
باكيات ولا بكاء السحاب
ولعلي أفي ببعض حقوق
لفقيد الإسلام محيي الشباب
__________ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) نشرت لأبي السمح في جريدة أم القرى عدد 562 السنة الثانية عشر الموافق يوم الجمعة خامس عشر جمادى الآخرة سنة 1354هـ.
ص -294-
من لنا اليوم بعد موتك يفتي
ويبين الصواب دون ارتياب
ويرد الضلال من غير عي
ويرد العدا على الأعتاب
من لتفسيرك المحكم من ذا
لمنار في الحق ليس يحابي
من يحل العويص من المشكلات
من يجلي مخدرات الكتاب(28/89)
من يسد الفراغ بعد رشيد
من يبين السبيل للطلاب
كان ملء العيون علماً وفضلاً
حجة في العلوم والآداب
سلفياً محققاً مستقل الـ
فكر حر الضمير حلو الخطاب
المعيا مناظراً لا يجاري
وبليغاً من أبلغ الكتاب
وخطيبا ومصقعاً علوياً
باسق الأصل في ذرا الأنساب
محييا سنة للنبي بعلم
ومميتا لبدعة وكذاب
داعياً للإله في حين يدعو
علماء الضلال والأنصاب
حارب الشرك والفجور بعزم
دونه مرهف القنا والحراب
فتوالت عليه شتى خطوب
من أناس كثيرة كالذباب
وتعادت عليه مثل ذئاب
وهو كالبدر لم ينل باصطخاب
ومضى ناصحاً بغير التفات
لأذى ملحد وأهل كتاب
غير راج من الخلائق أجراً
لا ولا خائف ولا هياب
كم أهاب الرشيد بالشرق حتى
صادعاً بالحق المبين إذا ما
أشرقت شمسه بغير حجاب
شغلت غيره ذوات الخضاب
لا يبالي بمدحه الناس يوماً
وهو أهلي لها ولا بسباب
فاقرأ الوحي(1) إن أردت رشادا
ومناراً دليلة كالشهاب
كم تمنى لشرعة الحق نصرا
وعلواً على جميع الرقاب
كم أماط اللثام عنها وجلى
وسبانا بحسنها الخلاب
__________
(1) إشارة إلى كتاب الوحي المحمدي تأليف العلامة الفقيد.
ص -295-
شعلة أطفأت وشمس توارت
وي كأن الحياة لمع سراب
ليت شعري أتائب حاسدوه
بعد هذا لربنا التواب
كل حي إلى الفناء سيمضي
ومسوق جميعنا للتراب
رب إن المصاب فيه عظيم
ضاق فينا ذرعاً أولو الألباب
رب أفرغ على القلوب اصطباراً
وامنحن الفقيد حسن الثواب(28/90)
آخرها - رحم الله السيد رشيد رضا وعفا عنه وغفر له -. هذا ولا يفوتنا أن نذكر أن السيد رشيد رضا -رحمه الله قام برحلات عديدة إلى كثير من أقطار نحيل القارئ إلى ما كتب هو عنها في أعداد مجلة المنار حيث وضعنا لذلك ملحاً خاصاً خلف هذه الترجمة يحمل أرقام الصفحات والأجزاء مع الإشارة إلى ذكر السنوات .. وكذلك ذكرنا في هذا الملحق ما كتب عن السيد رشيد رضا -رحمه الله وغفر له- وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
ص -296-
ملخص خاص رحلات السيد رشيد رضا وذكر بعض من كتب عنه
1- (سياحته في سوريا "المنار ج11" سنة 1908 ميلادية ص706 - 716 وص 874 وص 936 - 953: وج 12 سنة 1909ملادية ص 150 - 159).
2- رحلته إلى القسطنطينية المنار ج12 سنة 1909 ميلادية ص 956 - 959: وج13 سنة 1910م ص145 - 150: وص 314 - 316: وص 748 - 752).
3- رحلته إلى الهند بعنوان لحلتنا الهندية العربية المنار ج16 سنة 1913م ص396 - 399.
4- رحلة الحجاز المنار ج19 سنة 1916م ص 307 - 310: وص 466 - 482: وص 563 - 574 وج20 سنة 1917م ص 108 126 وص 150 - 159 وص 192 - 199: وص 236 - 246: وص 276 - 288 وص 316 - 328: وص 352 363)(1).
5- رحلته السورية الثانية المنار ج21 سنة 1920م ص 377 - 382
__________
(1) أيام فيصل بن الحسين وانتخب رئيساً للمؤتمر السوري فيها وغادرها في السنة نفسها وذلك على أثر دخول الفرنسيين: وحج عام 1344هـ الموافق 1926م وحضر المؤتمر الإسلامي الذي عقده جلالة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل آل سعود بمكة المكرمة -رحمه الله وغفر له. وكان السيد رشيد موضع الحفاوة والتبجيل والإكرام من إمام المسلمين في حياته الملك عبد العزيز آل سعود موضع الإكرام من إخوانه من علماء المملكة العربية السعودية.
ص -297-(28/91)
وص 428 - 433 وص 498 - 504 وج22 سنة 1921م وص 155 - 160: وص 390 - 397: وص 617 - 623 وص 768 - 785 - وج 23 سنة 1922م ص 141 - 147 وص 235 - 240 وص 313 - 317 وص 390 - 396.
1- رحلته إلى أوربا المنار ج 23 سنة 1922م ص114 - 119: وص 306 - 313 وص 383 - 390 وص 441 - 448 وص 553 - 560 وص 635 - 640.
بعض من كتب عن السيد رشيد رضا
1- المغربي عبد القادر: كيف ارتاد الشيخ مصر (الرسالة ج3 سنة 1935م ص1452 - 1456).
2- أرسلان شكيب: السيد رشيد رضا أو إخاء أربعين سنة (ط) في دمشق بمطبعة ابن زيدون عام 1937م.
3- العقاد عباس محمود بعنوان: عالم فذ لا يعني بالمعارف العصرية نشر في المصور عدد 1276 حزيران سنة 1949م.
4- اليازجي إبراهيم: نحن والمنار نشر في مجلة الضياء ج5 سنة 1903م ص 5565.
5- مجلة الهلال: (مجلة المنار) نشر في مجلة الهلال ج6 عام 1898م ص 590 وج 7 عام 1899م ص 319: وج 10 عام 1902 ص 482 وج16 عام 1907م ص189.
6- مجلة المقتطف: الاحتفال بالمنار نشر في مجلة المقتطف ج33 عام 1908م ص 79 - 80.
7- الشيخ محمد بهجت البيطار: المصاب بوفاة السيد الإمام رشيد رضا منشيء المنار نشر في مجلة المجتمع العربي ج15 عام 1935م ص365 - 374 وص 4740480.
8- أمين عبد الله: السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار والأستاذ عباس
ص -298-(28/92)
محمود العقاد في مجلة المقتطف ج115 سنة 1949م.
1- أبو رية محمود: السيد رشيد رضا بمناسبة الذكرى التاسعة لوفاته نشر في مجلة الرسالة ج18 عام 1950 ص 1079 - 1082.
2- عيسى عبد الجليل: (محمد رشيد رضا). نشر في الرسالة ام 1950م ص1079 - 1082 (؟).
3- مبارك زكي الدكاترة (الحديث ذو شجون) نشر في الرسالة ج11 عام 1943م ص604-605.
4- محيسن حامد: (محمد رشيد رضا) نشر في الرسالة ج18 عام 1950م ص1142 وص 1144.
وقد صدرت بعض الدراسات أو الترجمات عنه منها:
1- الصعيدي عبد المعتال: المجددون في الإسلام صدر في القاهرة مكتبة الآداب بدون تأريخ ص 539 - 544.
2- العدوي إبراهيم: رشيد رضا الإمام المجاهد - القاهرة الدار المصرية للتأليف والترجمة عام 1964.
3- أحمد الشرباصي: رشيد رضا صاحب المنار صدر عام 1391هـ 1971م.
وذكرته أيضاً معاجم الأعلام والمؤلفين نذكر منها:
1- سركيس يوسف إليان معجم المطبوعات العربية والمعربة القاهرة، عام 1928م عمود 935 - 936.
2- خير الدين الزركلي: الأعلام الطبعة الثانية، القاهرة عام 1954م ج6 ص 361 - 362.
3- كحالة عمر رضا: معجم المؤلفين دمشق عام 1957م ج9 ص 310 - 312 انتهى نقلاً عن المجلد الأولى من فتاوى الإمام محمد رشيد رضا جمع وتحقيق الدكتور صلاح الدين المنجد ويوسف خوري مع تصرف قليل بزيادة وحذف.
ص -299-(28/93)
الشيخ أبو بكر خوقير
هو الشيخ التقي المحقق أبو بكر ابن الشيخ محمد عارف الإمام بالمسجد الحرام ابن العلامة الشيخ عبد القادر بن محمد علي خوقير الكتبي الحنبلي.
ولد -رحمه الله- سنة 1284هـ بمكة المكرمة وبعد أن قرأ القرآن اشتغل بطلب العلم من صغره وكان شغوفاً بكتب الحديث والعكوف على مطالعتها.
كان -رحمه الله- يسافر إلى الهند لجلب كتب السلف ونشرها بمكة وينتهز الفرصة فيتلقى العلم عن علماء الهند الأعلام. استمع إليه وهو يحدث تلميذه الشيخ عبد الستار الدهلوي فيقول -رحمه الله-: رويت عن مشائخ معروفين مشهورين بعلو الإسناد منهم الشيخ حسين بن محسن الأنصاري اليماني والقاضي أحمد بن إبراهيم بن عيسى(1) والشيخ محمد الأنصاري والشيخ محمد بن عبد العزيز الهاشمي الجعفري الهندي وأحمد دحلان والشيخ عبد الرحمن سراج مفتي مكة، وكنت أحضر درسه في التفسير وراء المقام الحنفي وكان له فيه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) هو الشيخ أحمد بن إبراهيم بن عيسى من قبيلة بني زيد المعروفين بشقراء وغيرها من بلدان الوشم، جاور بمكة عدة سنوات ثم رجع إلى نجد وتولى قضاء المجمعة وتوفي بها سنة 1329 هـ وهو الذي اتصل بالشريف عون بن محمد بن عبد المعين بن عون وأقنعه بإزالة القباب المشادة على القبور فأمر الشريف بهدمها وفي هذا الكتاب ترجمة للشيخ أحمد بن عيسى المذكور.
ص -300-(28/94)
مشاهير علماء نجد وغيرهم - عبد الرحمن بن عبد اللطيف بن عبد الله آل الشيخ (4)
سبب نزولها وفي ارتباطها بما قبلها بأنواع المناسبات ومعناها وما اشتملت عليه من أنواع البلاغة وفيما يؤخذ منها من الأحكام وبلغت فتاواه أربعة مجلدات واسمها (الضوء والسراج) وله مجمعة في الفقه.
رحل إلى القاهرة في آخر عمره وتوفي بها سنة 1314هـ ومنهم الشيخ ابن محسن الأنصاري الخزرجي السعدي لقيته في سياحتي بالهندي سنة 1313هـ وسمعت منه الأولية وقرأت عليه الكثير منا لأوائل السنبلية للعلامة محمد بن سعيد سنبل وأجازني بها كما يروي عن الشيخ محمد بن ناصر الحازمي اليماني الحسني عن شيخه محمد طاهر سنبل وكتب لي بخطه إجازة مطولة مخطوطة عندي وهي أجل غنم عندي.
عكف الشيخ أبو بكر خوقير على مؤلفات شيخ الإسلام المجدد محمد بن عبد الوهاب فشغلت ذهنه مسألة التوحيد التي هي عماد الإسلام التي تبلورت في لا إله إلا الله والتي تميز الإسلام بها عما سواه فأدرك أن التوحيد أساس الاعتقاد بأن الله وحده هو خالق العالم المسيطر عليه والمشرع له وليس في الخلق من يشاركه في الخلق ولا في حكمه ولا من يعينه على تصريف أموره لأنه تعالى ليس في حاجة إلى عون أحد مهما كان من المقربين إليه الذي بيده الحكم وحده وهو الذي بيده النفع والضر وحده لا شريك له ليس في الوجود ذو سلطة حقيقية غير الله وليس في الوجود من يستحق العبادة والتعظيم غير الله.
شرح أبو بكر خوقير -رحمه الله- يدعو إلى توحيد الربوبية الذي أقر به الكفار وأنه تعالى هو الخالق الرازق المحيي المميت مدبر الأمور ومنزل الغيث، وشرع يبين توحيد الألوهية وبيان عبادة الله التي شرعها كالدعاء والذبح والنذر والاستغاثة وبيان أن هذا التوحيد الذي جحده الكفار وشرع في بيان توحيد الصفات وأنه الإيمان بكل ما ورد في القرآن والأحاديث بما وصف الله به نفسه من صفات على حقيقتها دون التعرض لها بشيء من التكييف
ص -301-(29/1)
والتمثيل أو التشبيه والتأويل أو التحريف والتعطيل وكان -رحمه الله- شديد الإنكار والنقمة على الذين يشدون الرحال للأولياء ويقدمون النذور لهم ويتمسحون بالمقابر وتذللون لها ويطلبون منها جلب الخير لهم أو دفع الشر عنهم وكان -رحمه الله- يوصي بقراءة صحيح البخاري ويقول: إني قرأت البخاري وعرفت شرح الحديث بعضه ببعض كما استفدت من مسند إمامنا أحمد بن حنبل وروايته مع مراجعة الغريب وضبط اللفظ ويقول لطلابه أنه يكفي الطالب المبتدئ بلوغ المرام وعمدة الأحكام، وللطالب المنتهي المشكاة والمنتقى فإنهما جمعاً ما في الكتب الصحاح مع بيان الصحيح من السقيم.
بلغ ولاة الأمور قبل دخول الملك عبد العزيز -رحمه الله- مكة دعوة الشيخ أبي بكر ما نصه: لقدشاهدت الشيخ أبا بكر أثناء دخولي السجن في غرفته بملابس رثة وقد طال شعر رأسه ولحيته إذ لا يسمح لسجين باستعمال مقص أو موس فسلمت عليه فرد السلام وقال: (إن الله مع الصابرين) ولي أسوة بإمامنا أحمد بن حنبل وظل -رحمه الله- في السجن إلى أن أفرج عنه مع بقية المسجونين جلالة الملك عبد العزيز آل سعود -رحمه الله- وذلك بعد استيلاء جلالته على مكة سنة 1343هـ.
مؤلفاته:
ألف -رحمه الله- مؤلفات قليلة لأن ظروفه القاسية لم تسمح له بأكثر من هذه المؤلفات وهي:
ص -302-(29/2)
1- كتاب فصل المقال وإرشاد الضال في توسل الجهال طبع بمطبعة المنار بمصر عام 1343هـ يقع في 72 صفحة.
2- مسامرة الضيف بمفاخرة الشتاء والصيف.
3- كتاب ما لابد منه في أمور الدين على طريقة السلف الصالح ومذهب الإمام أحمد بن حنبل في العقائد طبع في مطبعة التمدن في القاهرة بمصر سنة 1332هـ يقع في 118 صفحة.
4- مختصر في فقه الإمام أحمد بن حنبل طبع بالمطبيعة المنيرية بدمشق سنة 1349هـ يقع في 40 صفحة.
رحم الله الشيخ (أبو بكر خوقير) حيث جاهد في الله بقلمه ولسانه حق جهاده وأوذي في ذات الله فما ضعف وما استكان والله يحب الصابرين. وصلى الله على محمد وآله وسلم.
ص -303-(29/3)
السيد علوي مالكي
هو السيد علوي مالكي ابن السيد عباس بن عبد العزيز المالكي.
مولده:
ولد بمكة المكرمة سنة ألف وثلاثمائة وخمس وعشرين من الهجرة، ونشأ في أحضان والده نشأة علمية. حيث أدخله مدرسة تحفيظ القرآن عند عمه السيد حسن مالكي، فحفظ القرآن وجوده نظراً، وعن ظهر قلب، ثم التحق بمدرسة الفلاح بمكة، ولازم حلق علماء الحرم الشريف المسائية، يقرأ عليهم في العصر والمغرب والعشاء فأخذ عن عدة علماء منهم والده (1) السيد عباس مالكي. والسيد محمد مرزوق (أبو حسين) وأحمد ناضرين وغيرهم، ثم تخرج من القسم العالي بمدرسة الفلاح. وعين أستاذاً بها، وأجيز بالتدريس في المسجد الحرام. وذلك عام 1347هـ فكان يخرج ظهر كل يوم من مدرسة الفلاح لأداء صلاة الظهر في المسجد الحرام، ثم يعقد حلقة درس في الفقه المالكي، ويعود إلى منزله. وبعد صلاة العصر يجلس في منزله في (حي النقا) يدرس البلاغة ومصطلح الحديث. ثم ينزل إلى الحرم ويصلي فيه المغرب والعشاء، ويدرس بعد صلاة مغرب ليالي السبت والأحد والاثنين يدرس "صحيحي الإمامين البخاري ومسلم" وبعد عشاء ليالي الثلاثاء والأربعاء والخميس يدرس
__________
(1) ترجم لوالده عمر عبد الجبار في كتابه "سير وأعلام" ص163.
ص -304-(29/4)
وبلوغ المرام" و"تفسير ابن كثير" وفي الحج يغير بعض دروسه، ويدرس مناسك الحج. وفي شهر رمضان يدرس العصر "إتحاف أهل الإسلام بخصوصيات رمضان". وكان صوته وهو يشرح الأحاديث النبوية والمسائل العلمية ينطلق مدوياً في أرجاء الحرم وأروقته. يسمعه غالب من في المسجد الحرام.
استمر على ذلك طوال حياته وله محاضرات في الإذاعة العربية السعودية صباح كل جمعة وله حديث أسبوعي في إذاعة نداء الإسلام وفي ندوة رابطة العالم الإسلامي ومع ذلك وجد متسعاً للتأليف فألف هذه المؤلفات:
1- فيض الخير في أصول التفسير.
2- العقد المنظم في أقسام الوحي.
3- المنهل اللطيف في بيان أحكام الحديث الضعيف.
4- فتح القريب المجيب على تهذيب الترغيب.
5- المواعظ الدينية.
6- إبانة الأحكام شرح بلوغ المرام.
7- نيل المرام شرح عمدة الأحكام.
8- التعليق على رياض الصالحين.
9- نفحات الإسلام من محاضرات البلد الحرام.
10- من نفحات رمضان (وكل هذه المؤلفات مطبوعة).
11- ديوان شعر (مخطوط).
12- فتاوى مجلدان (مخطوطة).
ص -305-
وفاته:
توفي آخر عام 1390 بمكة المكرمة وقبر بمقابر المعلاة، وخلف ابنين هما محمد عباس. فأما محمد فجامعي متخرج من كلية الشريعة بمكة المكرمة وحاصل على (الماجستير) في صيف عام 1390هـ من الجامعة الأزهرية ويدرس الآن في كلية الشريعة بمكة المكرمة، وفي الحرم الشريف. وأما عباس فلا أعرف عنه شيئاً.
وصلى الله على محمد وآله وسلم.
آخر التراجم (1) -رحم الله أصحابها وغفر لهم وعفا عنهم-
مضوا وانقضت أيامهم حين أوردوا
ثناءً وذكراً طيبة قد تضوعا(29/5)
__________
(1) ويليها بيان يتضمن ذرية أبناء الشيخ محمد عبد الوهاب، وهم ذرية الشيخ حسن ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب: وذرية أخيه الشيخ علي ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب: وذرية أخيهم الشيخ عبد الله ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحم الله الجميع وبارك في ذرية الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ومن عليهم بما من على سلفهم من العلم النافع والعمل الصالح، إنه لسميع مجيب، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
ص -306-
تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم
هذا بيان نذكر فيه ذرية أبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب الأربعة:
(الشيخ حسن) (والشيخ حسين) (والشيخ علي) (والشيخ عبد الله) أبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
وعدنا في أول هذا الكتاب بأنا سنذكر في آخره بيان ذرية أبناء الشيخ محمد ابن عبد الوهاب، فوفاء بذلك الوعد. نذكرهم في هذا الموضع من الكتاب على النحو الآتي، مراعين في ذلك الإيجاز والاختصار. وعدم زيادة التفصيل والإطناب.
ذرية الشيخ حسن ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب
أنجب الشيخ حسن ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب ابناً واحداً هو العلامة الشيخ عبد الرحمن بن حسن وأنجب الشيخ عبد الرحمن بن حسن خمسة أبناء هم: محمد، والشيخ العلامة عبد اللطيف، والشيخ إسحاق، وعبد الله، وإسماعيل.
فأما محمد ابن الشيخ عبد الرحمن فقتل في حرب الدرعية سنة 1233هـ. وليس له ذرية.
وأما الشيخ عبد اللطيف ابن الشيخ عبد الرحمن بن حسن. فأنجب ثمانية أبناء. هم: أحمد، والشيخ عبد الله، وعبد العزيز، والشيخ إبراهيم.
ص -307-(29/6)
والشيخ محمد، والشيخ عمر، والشيخ عبد الرحمن، وصالح.
فأما أحمد (1) ابن الشيخ عبد اللطيف، فإنه ولد بمصر، وبقي بها حتى توفي ولا يعرف له ذرية بمصر، وأما الشيخ عبد الله ابن الشيخ عبد اللطيف، فإنه أنجب أربعة أبناء. هم: عبد الملك وقتل غازياً مع الملك عبد العزيز آل سعود في معركة البُكيرية عام 1322هـ. وعبد اللطيف (2) توفي سنة 1374هـ محمد (3). وصالح وتوفي قبل وفاة والده.
وأما الشيخ عبد العزيز ابن الشيخ عبد اللطيف. فأنجب ثلاثة أبناء هم: عبد الرحمن، وعبد اللطيف، ومحمد الملقب بالصحابي، وقد توفي الشيخ عبد العزيز ابن الشيخ عبد اللطيف عام 1354هـ.
وأما الشيخ إبراهيم ابن الشيخ عبد اللطيف، فأنجب أربعة أبناء هم: سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي الديار السعودية ورئيس قضاتها، والشيخ عبد اللطيف ابن الشيخ إبراهيم مدير المعاهد والكليات، والشيخ عبد الملك ابن الشيخ إبراهيم رئيس هيئات الأمر بالمعروف بالمنطقة الغربية، وعبد الله ابن الشيخ إبراهيم.
__________ـ
(1) ولد أحمد ابن الشيخ عبد اللطيف بمصر. لأن الشيخ عبد اللطيف نقله إبراهيم باشا مع والده عبد الرحمن بن حسن إلى مصر، وذلك بعد سقوط الدرعية سنة 1233هـ. وعمر الشيخ عبد اللطيف ذلك اليوم ثمان سنوات، فنشأ بمصر وتزوج فيها، وولد له بها أحمد المذكور، ثم خرج الشيخ عبد اللطيف من مصر إلى نجد سنة 1264هـ. ولم يخرج معه ابن أحمد، بل بقي بمصر حتى مات. ولم يعرف له أبناء ولا ذرية في مصر، ومن الجائز أن يكون له ذرية بمصر ضاعوا فيها.
(2) فأما عبد اللطيف ابن الشيخ عبد الله، فأنجب ابنين هما: عبد الرحمن، مؤلف هذا الكتاب، وعبد الملك مات في الرياض، شاباً في السادسة عشرة من عمره عام 1361هـ. وكان شاباً صالحاً نجيباً ذكياً. عوضه الله الجنة.
(3) توفي محمد ابن الشيخ عبد الله ابن الشيخ عبد اللطيف عام 1376هـ وخلف ثلاثة أبناء هم عبد العزيز وعبد(29/7)
الله وعبد الرحمن.
ص -308-
وأما الشيخ محمد ابن الشيخ عبد اللطيف فأنجب ثلاثة أبناء هم: عبد الرحمن وعبد الله وإبراهيم.
وأما الشيخ عمر ابن الشيخ عبد اللطيف فأنجب أربعة أبناء: هم عبد الرحمن، وعبد الله وعبد اللطيف وعبد الملك.
وأما الشيخ عبد الرحمن ابن الشيخ عبد اللطيف فأنجب أربعة أبناء هم: عبد الله، وعبد العزيز، ومحمد، وحسن.
وأما صالح ابن الشيخ عبد اللطيف فأنجب ابناً واحداً اسمه محمد، وكل واحد من أحفاد الشيخ عبد اللطيف ابن الشيخ عبد الرحمن له أبناء وذرية. وهؤلاء الأحفاد يعرفون بآل عبد اللطيف نسبة إلى جدهم الأدنى الشيخ عبد اللطيف ابن الشيخ عبد الرحمن بن حسن ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب.
وأما الشيخ إسحاق ابن الشيخ عبد الرحمن بن حسن أخو الشيخ عبد اللطيف ابن الشيخ عبد الرحمن بن حسن فأنجب ابنين هما: محمد، والشيخ عبد الرحمن.
فأما محمد فليس له أبناء ولا أحفاد.
وأما الشيخ عبد الرحمن فله أبناء وأحفاد يعرفون بآل إسحاق.
وأما عبد الله بن الشيخ عبد الرحمن بن حسن أخو الشيخ عبد اللطيف ابن الشيخ عبد الرحمن بن حسن، فأنجب ابنين هما: عبد الرحمن ومحمد، وكلا الابنين لهما أبناء وذرية.
وأما إسماعيل ابن الشيخ عبد الرحمن بن حسن أخو الشيخ عبد اللطيف ابن الشيخ عبد الرحمن بن حسن، فليس له عقب ولا ذرية.
انتهى بيان ذرية الشيخ حسن ابن الشيخ بن عبد الوهاب وذلك على سبيل الاختصار والإيجاز.
ص -309-(29/8)
ذرية الشيخ حسين ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب
أنجب الشيخ حسين ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب خمسة أبناء هم أبناءهم: الشيخ علي ابن الشيخ حسين، والشيخ عبد الرحمن ابن الشيخ حسين، والشيخ عبد الملك ابن الشيخ حسين، والشيخ حسن ابن الشيخ حسين وحسن ابن الشيخ حسين. ونحن ذاكرون ذرية كل واحد من هؤلاء الأبناء الخمسة على النحو الآتي:
ذرية الشيخ علي ابن الشيخ حسين
فأما الشيخ علي ابن الشيخ حسين ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فأنجب ابناً واحداً هو الشيخ حسين. والشيخ حسين أنجب ابناً واحداً هو الشيخ حسن والشيخ حسن ابن الشيخ حسين أنجب أربعة أبناء هم: الشيخ حسين المتوفى في بلدة عمان، وسماحة الشيخ عبد الله ابن الشيخ حسن رئيس قضاة المملكة العربية السعودية، في زمن الملك عبد العزيز، والشيخ عمر ابن الشيخ حسن رئيس هيئات الأمر بالمعروف في المنطقتين الوسطى والشرقية. والشيخ عبد الرحمن ابن الشيخ حسن.
فأما الشيخ حسين ابن الشيخ حسن فليس له اليوم أبناء ولا أحفاد.
وأما سماحة الشيخ عبد الله ابن الشيخ حسن رئيس قضاة المملكة العربية السعودية في زمن الملك عبد العزيز، فخلف أبناء خمسة هم: الشيخ محمد مدير عام الشؤون الدينية بالمنطقة الغربية والشيخ عبد العزيز وزير المعارف سابقاً وخطيب الحرم المكي حاضراً، ومعالي الشيخ حسن وزير معارف المملكة العربية السعودية في هذا العهد الزاهر عهد النهضة والعدالة والعلم، عهد الفيصل العظيم، أيد الله ملكه، وأدام عزه. وإبراهيم وأحمد .. وقد أنجب كل من الشيخ محمد والشيخ عبد العزيز والشيخ حسن عدة أبناء.
فالشيخ محمد فأنجب ثمانية أبناءهم: إبراهيم، وحسين، وعبد العزيز، وخالد، وعبد الرحمن، وعبد الإله، وعصام، وعبد الله.
ص -310-(29/9)
والشيخ عبد العزيز أنجب ستة أبناء هم: عبد الرحمن، ومحمد، وأحمد، وعمر، وعبد المحسن، وعبد الله.
والشيخ حسن أنجب خمسة أبناء هم: هشام، ومحمد، وعبد الرحمن، وعبد الله، وأسامة.
وأما الشيخ ابن الشيخ حسن رئيس هيئات الأمر بالمعروف بالمنطقة الوسطى والشرقية، فأنجب ستة أبناء هم: الشيخ حسن، وحسين، وعبد الله، وعبد العزيز، ومحمد، وعبد المجيد. وأما الشيخ عبد الرحمن ابن الشيخ حسن فأنجب ابنين هما: حسن وعبد اللطيف. فهؤلاء هم ذرية الشيخ علي ابن الشيخ حسين ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب وهم يعرفون اليوم بآل حسن، نسبة إلى والدهم الشيخ حسن ابن الشيخ حسين ابن الشيخ علي ابن الشيخ حسين ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
انتهى ذرية الشيخ علي ابن الشيخ حسين ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
ذرية الشيخ عبد الرحمن ابن الشيخ حسين
وأما الشيخ عبد الرحمن ابن الشيخ حسين فأنجب ابناً واحداً هو عبد العزيز ابن الشيخ عبد الرحمن ابن الشيخ حسين.وعبد العزيز أنجب ابنين هما الشيخ صالح بن عبد العزيز الذي تولى قضاء الرياض في عهد الملك عبد العزيز، وأخوه عبد الرحمن بن عبد العزيز. فأما الشيخ صالح فأنجب ستة أبناء هم: عبد الله، ومحمد، وحسين وإبراهيم، وأحمد، وعبد المحسن. وأما أخوه عبد الرحمن بن عبد العزيز فأنجب ابناً واحداً، هو عبد العزيز بن عبد الرحمن المشهور بأبي سعود، وكل من أبناء الشيخ صالح بن عبد العزيز له عدة أبناء. وكذلك عبد العزيز بن عبد الرحمن أبو سعود له عدة أبناء، وهؤلاء هم ذرية الشيخ عبد الرحمن ابن الشيخ حسين ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
انتهى بيان ذرية الشيخ عبد الرحمن ابن الشيخ حسين.
ص -311-(29/10)
ذرية الشيخ عبد الملك بن الشيخ حسين
وأما الشيخ عبد الملك بن الشيخ حسين، فخلف ابناً هو الشيخ إبراهيم بن عبد الملك، والشيخ إبراهيم بن عبد الملك خلف ثلاثة أبناء هم: حسن ابن الشيخ إبراهيم، ابن الشيخ عبد الملك، وعبد الملك ابن الشيخ إبراهيم بن عبد الملك، الذي تولى قضاء الحوطة سابقاً، ثم أعفي من القضاء وسكن الرياض، حتى توفي بها سنة 1385هـ، وعمر ابن الشيخ إبراهيم ابن الشيخ عبد الملك.
فأما حسن ابن الشيخ إبراهيم بن عبد الملك فخلف ولدين هما: عبد الله بن حسن ابن الشيخ إبراهيم بن عبد الملك قاضي بيئة سابقاً وساكنها حاضراً وأخوه عبد الرحمن بن حسن ابن الشيخ إبراهيم بن عبد الملك، هؤلاء هم ذرية الشيخ عبد الملك بن الشيخ حسين بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وكانوا أولاً يسكنون حوطة بني تميم، لأن جدهم الشيخ عبد الملك ابن الشيخ حسين بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب جعله الإمام تركي بن عبد الله بن محمد ابن سعود قاضياً لبلدة الحوطة فتناسلت ذريته فيها، وفي هذه السنوات الأخيرة بدأوا ينزحون منها إلى الرياض، وإلى غيرها من مدن المملكة.
ذرية الشيخ حمد ابن الشيخ حسين
وأما الشيخ حمد ابن الشيخ حسين ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب فخلف ابناً واحداً هو الشيخ حسين ابن الشيخ حمد، والشيخ حسين ابن الشيخ حمد أنجب ابنين هما: الشيخ حمد ابن الشيخ حسني، وأخوه عبد العزيز ابن الشيخ حسين.
فأما الشيخ حمد ابن الشيخ حسين فأنجب عدة أبناء هم: عبد العزيز (1)
__________
(1) عبد العزيز ابن الشيخ حمد بن حسين، هو والد عبد الرحمن بن عبد العزيز رئيس هيئة جدة في الوقت الحاضر. ووالد أخيه إسماعيل بن عبد العزيز ساكن بيشة.
ص -312-(29/11)
وإبراهيم وعبد اللطيف وحسن وعبد الرحمن ومحمد، وكل واحد من أبناء الشيخ حمد ابن الشيخ حسين له عدة أبناء. وأما عبد العزيز ابن الشيخ حسين أخو الشيخ حمد ابن الشيخ حسين فأنجب عدة أبناء هم عبد الله (1) وحسين وصالح وحسن قاضي بلدة نعام في هذا الوقت.
فهؤلاء هم ذرية الشيخ حسين ابن الشيخ حمد ابن الشيخ حسين ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، هم يسكنون بلدة الحريق، لأن جدهم الشيخ حسين ابن الشيخ حمد ابن الشيخ حسين ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، جعله الإمام فيصل بن تركي قاضياً في بلدة الحريق، فتناسلت ذريته فيها. وقد بدأوا في السنوات الأخيرة ينزحون منها إلى الرياض، وإلى غيرها من مدن المملكة.
ذرية الشيخ حسن ابن الشيخ حسين
فأما حسن ابن الشيخ حسين ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فأنجب ابناً هو عبد الله بن حسن، وعبد الله أنجب ابناً هو حسن بن عبد الله. ثم بعد ذلك انقرضوا ولم يبق اليوم لحسن ابن الشيخ حسين ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب عقب ولا ذرية.
وجميع من تقدم من ذرية الشيخ علي ابن الشيخ حسين، والشيخ عبد الرحمن ابن الشيخ حسين، والشيخ عبد الملك ابن الشيخ حسين، والشيخ حمد ابن الشيخ حسين، والشيخ حسن ابن الشيخ حسين هذا: يعرفون جميعاً بآل حسين، نسبة إلى جدهم حسين ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
ذرية الشيخ علي ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب
أنجب الشيخ علي ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب أبناء ماتوا صغاراً إلا واحداً، وهو محمد، وقد أنجب محمد ابن الشيخ علي ابن الشيخ محمد بن عبد
__________ـ
(1) عبد الله بن عبد العزيز هو والد عبد الرحمن الكاتب بمحكمة الطائف.
ص -313-(29/12)
الوهاب ابنين. هما الشيخ عبد العزيز بن محمد وعبد الرحمن بن محمد. فأما الشيخ عبد العزيز بن محمد فأنجب ستة أبناء هم: عبد الله، وعلي، وإبراهيم، ومحمد، وعبد الرحم، رئيس هيئة الأمر بالمعروف بالطائف في الوقت الحاضر، وصالح.
فأما عبد الله ابن الشيخ عبد العزيز بن محمد، فأنجب ابنين هما سليمان (1) ابن عبد الله، ومحمد بن عبد الله، وأما علي ابن الشيخ عبد العزيز بن محمد، فأنجب أربعة أبناء هم عبد الرحمن بن علي، وعبد الله بن علي، وسليمان بن علي، وصالح بن علي، وكل واحد هؤلاء الأبناء له أبناء أحفاد، إلا صالح بن علي. فليس له أبناء ولا أحفاد.
وأما إبراهيم ابن الشيخ عبد العزيز بن محمد فأنجب ثلاثة أبناء. هم عبد الله ومحمد، وعبد العزيز، وكل واحد من هؤلاء الأبناء الثلاثة له أبناء وأحفاد. وأما محمد ابن الشيخ عبد العزيز بن محمد فأنجب ابنه صالح بن محمد، ولصالح عدة أبناء وأحفاد، وأما عبد الرحمن ابن الشيخ عبد العزيز بن محمد، رئيس هيئة الأمر بالمعروف بالطائف. فأنجب تسعة أبناء هم عبد العزيز، ومحمد، وصالح، وعبد الله، وحسن، وأحمد، وإبراهيم، وعلي، وأنس. وأما صالح ابن الشيخ عبد العزيز بن محمد، فليس له أبناء ولا ذرية. وأما أخو الشيخ عبد العزيز بن محمد. وهو عبد الرحمن بن محمد فأنجب ابنين هما عبد الله(2) بن عبد الرحمن، وعبد المحسن بن عبد الرحمن. فأما عبد
__________
(1) سليمان بن عبد الله ابن الشيخ عبد العزيز بن محمد، هو والد عبد الرحمن بن سليمان، الذي سبق أن تولى وزارة الزراعة في عهد سعود بن عبد العزيز.
(2) عبد الله بن عبد الرحمن، هو الذي وقعت له القصة مع البدوي، الذي ادعى أنه أودعه أمانة وطلبها منه، وهو لم يودعه، فما كان من عبد الله بن عبد الرحمن إلا إعطاء البدوي ما ادعاه من الأمانة، ومقدارها ثلاثمائة ريال فرنسي وبعد مدة سنة مر البدوي من عند دكان إبراهيم البصري، فناداه(29/13)
إبراهيم قائلاً له: خذ أمانتك. فعرف البدوي أن ما أخذه من عبد الله بن عبد الرحمن بدعوى الأمانة خطأ فأخذ أمانته من إبراهيم البصري، وعاد إلى دكان عبد الله بن عبد الرحمن المذكور. وقبل رأسه وقال: أنا أخطأت وغلطت ما أمنت عندك شيئاً، وأمانتي كانت عند إبراهيم البصري وأعطاني إياها. فخذ نقودك التي أعطيتني إياها وسامحني، فأخذها وسامحه.
ص -314-
الله بن عبد الرحمن فأنجب أبناء أكبرهم عبد المحسن وصار له أحفاد، ثم مات أبناؤه وأحفاده وانقرضت ذريته وأما عبد المحسن بن عبد الرحمن أخو عبد الله بن عبد الرحمن فأنجب ابنين هما عبد اللطيف بن عبد المحسن ومحمد بن عبد المحسن.
فأما عبد اللطيف بن عبد المحسن فأنجب ابناً اسمه عبد العزيز، وأما محمد ابن عبد المحسن فأنجب أربعة أبناء هم: عبد الرحمن، وعبد المحسن، وعبد الله، وعبد العزيز، وكل هؤلاء الأبناء لهم أبناء إلا عبد المحسن.
وجميع هؤلاء الذين ذكرناهم ذرية الشيخ علي ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ويعرفون بآل محمد نسبة إلى جدهم محمد ابن الشيخ علي ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
انتهى بيان ذرية الشيخ علي ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
ذرية الشيخ عبد الله ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب
أنجب الشيخ عبد الله ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب ثلاثة أبناء هم العلامة الشيخ سليمان، والشيخ علي والشيخ عبد الرحمن.
فأما الشيخ سليمان فقتله إبراهيم بن محمد علي باشاً آخر سنة 1233هـ وليس له ذرية.
وأما الشيخ علي فقتل بالقرب من الدرعية على يد الأغا حسين جوخدار سنة 1234هـ. وقد أنجب ابناً واحداً: هو عبد الرحمن بن علي، وعبد الرحمن بن علي أنجب ابناً واحداً، هو عبد الله بن عبد الرحمن بن علي وعبد الله أنجب خمسة أبناء. هم: محمد، وعبد الرحمن، وعبد المجيد، وعبد الوهاب، وعبد المحسن، فأما محمد وعبد الرحمن وعبد المجيد فليس لهم ذرية، وأما عبد الوهاب أنجب ابناً واحداً هو محمد بن عبد الوهاب ساكن(29/14)
بلدة أبها، وله عدة أبناء. وأما عبد المحسن فأنجب عبد الله. وأما الشيخ عبد الرحمن ابن الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، أخو الشيخ سليمان ابن الشيخ عبد الله، وأخو الشيخ علي ابن الشيخ عبد الله، فنقل مع والده الشيخ
ص -315-
عبد الله ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى مصر بعد سقوط الدرعية سنة 1233هـ. وتعلم العلم بمصر ودرس برواق الحنابلة بمصر. وتوفي بها سنة 1274هـ. وخلف بمصر أبناء ثلاثة هم أحمد الأزجي، أي الصيدلي، وعبد الله، ومحمد. فأما أحمد الأزجي ابن الشيخ عبد الرحمن فأنجب ابناً اسمه عبد الرحمن حقي، وابنة اسمها لطف وعبد الرحمن حقي أنجب ابناً اسمه محمد رئيس إسعاف العياط بمصر في زمن فاروق وزمن الجمهورية وتوفي بمصر في 23-1-1378هـ ورثته جريدة الأهرام المصرية في عددها 6171 تاريخ 23-1-1378هـ. وله أخت اسمها حنيفة ابنة عبد الرحمن حقي، وله ابن اسمه أحمد محمد حقي مهندس، وأما عبد الله ابن الشيخ عبد الرحمن فله بمصر أبناء يعرفهم والدي -رحمه الله-ز ومع الأسف فإنني لم أكتب عنه أسماءهم.
وأما محمد بن الشيخ عبد الرحمن ابن الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب أخو أحمد الأزجي، وأخو عبد الله، فخرج من مصر على الرياض بعد وفاة الإمام فيصل بن تركي، وذلك سنة 1288هـ. وتزوج بالرياض، وأنجب ابنين هما: عبد الحميد وعبد اللطيف، فأما عبد الحميد، فمات سنة 1337هـ وقد أنجب ابناً واحداً هو صالح بن عبد الحميد، وأما عبد اللطيف فتولى قضاء الأفلاج، ثم أعفي منه، وسكن الرياض، ولا يزال بها يصلي بالناس الفروض في مسجد جامع الرياض، نيابة عن ابن باز، وكل من عبد اللطيف بن محمد وابن أخيه صالح بن عبد الحميد بن محمد بن عبد الوهاب وذلك على سبيل الإيجاز والاختصار (1). وبتمامه تم بيان ذرية أبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب الأربعة الشيخ حسن والشيخ حسين والشيخ علي والشيخ عبد الله -رحم الله الجميع وغفر لهم -إنه سميع(29/15)
مجيب.
__________
(1) عمل الأستاذ الكبير محمد أمين التميمي شجرة لجميع ذرية الشيخ محمد بن عبد الوهاب الماضيين والموجودين أحياءً وأمواتها وصممها وفرغ من تنسيقها وتشجيرها ولم يبق عليه إلا طبعها -أعانه الله-.
ص -316-
المؤلف في سطور
هو عبد الرحمن بن عبد اللطيف بن الشيخ عبد الله ابن الشيخ عبد اللطيف ابن الشيخ عبد الرحمن بن حسن ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب. ولد في مدينة الرياض سنة 1332هـ ونشأ بها وقرأ القرآن على يد مقرئ يدعى عبد الله بن مُفَيْرِيج، وبعدما ختم القرآن لازم(1) حلق الذكر التي كان يعقدها سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ بمسجد الشيخ بحي دُخْنَةَ، ثم قرأ على الشيخ محمد بن عبد العزيز بن عياف آل مُقرن مبادئ العلوم، ثم انتقل مع والده إلى مكة المكرمة سنة 1353هـ وقرأ على جملة من العلماء الذين كانوا يفدون إلى مكة المكرمة، وقرأ على الشيخ عبد الله بن سليمان المَسْعَرِيِّ رئيس ديوان المظالم حالياً في "الكافي في علمي العروض والقوافي" وقرأ على الشيخ عبد العزيز بن ناصر بن رَشيد رئيس هيئة التمييز بنجد والمنطقة الشرقية الفقه، وقرأ على الشيخ محمد بهجت البيطار الدمشقي أثناء وجوده بالطائف في "تفسير ابن كثير". وقرأ على الشيخ عبد الله الصالح الخليفي أثناء إقامته في الطائف في القه والفرائض، وكان مع هذا كثير المطالعة، مغرماً بالكتب لاسيما كتب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية وتلميذه محمد بن قيم الجوزية، ورسائل أئمة الدعوة المعروفة بـ"الرسائل والمسائل النجدية" وله اطلاع على
__________
(1) لازم حلق الذكر المذكورة أعلاه، ولكنه مع الأسف الشديد لم يقرأ على سماحة الشيخ محمد ابن الشيخ إبراهيم، وإنما كان يستع قراءة القراء الذي يقرأون على سماحته -رحمه الله وغفر له .
ص -320-(29/16)
التاريخ، وإلمام واسع بالأدب القديم ويحفظ جيد الشعر، له تآليف منها:
1- دعوة الشيخ ومناصروها (ط).
2- علماء الدعوة (ط).
3- نسب آل سعود (ط).
4- مشاهير علماء نجد وغيرهم (وهو هذا).
وله تحقيقات لكتاب عنوان المجد وعقد الدرر والرحلة الملكية.
أكثر الله من أمثاله ورحمه الله أسلافه آل الشيخ حُماة الإسلام وأنصار التوحيد وصلى الله على محمد وآله وسلم.
ص -321-
استدراكات وتصحيحات الشيخ حسن يماني
[محل هذه الترجمة بين صفحتي 306 و307 ولكنها وضعت هنا عن غير قصد، لوصولها بعد الطبع].
هو العالم الجليل الشيخ حسن ابن الشيخ سعيد(1) بن محمد.
مولده:
ولد بمكة المكرمة سنة 1312هـ ونشأ في أحضان والده فغذّاه بلبان العلم والمعرفة، فختم عليه القرآن الكريم نظراً، وعن ظهر قلب، وشرع في تلقي العلم فقرأ الفقه على والده وعلى الشيخ حسين بن محمد الحبشي مفتي الشافعية، وقرأ على الشيخ عبد الرحمن بن أحمد الدهان وغيره من علماء الحرم الشريف، وكان يرحمه الله براً بوالده، يخدمه ويكتب له ما يحتاج إليه في درسه، خصوصاً درسه في "صحيح مسلم" كان يحضر لوالده هذا الدرس، ويعلق ما ينبغي تعليقه من الإيضاحات والفوائد، ويضعه على هامش النسخة، وهو إلى جانب ذلك مقري حلقة والده، ثابر في تحصيل العلم وملازمة علماء الحرم الشريف حتى صار حجة ومرجعاً، فأجيز للتدريس في آخر سنة 1330هـ فتصدى لذلك في حياة والده وعقد حلق دروسه بالمسجد الحرام، فكانت تغص بكثرة الطلاب والمستمعين، وفي
__________
(1) ترجم للشيخ سعيد يماني الأستاذ عمر عبد الجبار في ص 136 من مؤلفه"سير وتراجم بعض علمائنا في القرن الرابع عشر للهجرة" رحم الله الجميع وغفر لهم.
ص -322-(29/17)
عام 1344هـ رحل إلى (إندنوسيا) صحبة والده وشقيقه صالح ومحمد علي فكانوا لا ينزلون ببلد إلى وتقام لهم حفلات تكريم وتقدير من طلاب والدهم الشيخ سعيد، وكانوا منتشرين في تلك الجهات، وبعد قيامه بنشر العلم مع والده في ربوع (إندنوسيا) عاد صحبة والده وأخويه إلى مكة المكرمة، واستمر في مواصلة تدريس العلم بالمسجد الحرام وفي عام 1345هـ عين من قبل جلالة الملك عبد العزيز آل سعود يرحمه الله نائباً لرئيس هيئة التمييز الشرعي، وقام بعد ذلك برحلات متعددة إلى (إندنوسيا) و(ماليزيا) لنشر العلم واستمرت رحلاته إلى سنة 1370هـ، حيث ألقى عصا الترحال، واستقر بمكة المكرمة، وأقبل على تدريس العلم في الحرم إلى سنة 1377هـ حيث أصابه المرض وأنهكه الداء فصبر واحتسب، وفتح داره لطلبة العلم، يأتون إليه ويدرسهم ويفيدهم، وكان يرحمه الله نادرة في الذكاء، وسرعة الخاطر، وقوة الحافظة ورعاً تقياً كريماً متواضعاً، لا يعرف الكبر إلى قلبه سبيلاً.
وفاته:
في الأيام الأخيرة اشتدت به وطأة المرض إلى المستشفى الوطني بمدينة جدة، فوافاه الأجل حيث توفي يوم الجمعة السادس والعشرين من شهر الحجة عام 1391هـ ونقل إلى مكة المكرمة، وصلى عليه الناس بالمسجد الحرام، وشيعوه إلى مقبرة المعلاة، فحزن عليه أهل العلم والفضل، وبكوه بأدمعهم، ورثاه على صفحات الصحبة المحلية عدد غير قليل من العلماء والأدباء والكتاب، نذكر من بينهم الأستاذ الكبير أحمد عبد الغفور عطار، والشيخ محمد ابن الشيخ علوي مالكي، وقد خلف ابنين هما معالي الشيخ أحمد زكي يماني وزير البترول والثروة المعدنية، وأخوه محمد، رحم الله فقيد العلم والورع الشيخ حسن يماني وغفر له، ولجميع علماء المسلمين وعامته، إنه سميع مجيب، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
ص -323-(29/18)
عنوان الكتاب:
تنبيه ذوي الألباب السليمة عن والوقوع في الألفاظ المبتدعة الوخيمة
تأليف:
سليمان بن سحمان
1349هـ
الناشر:
دار العاصمة الرياض، المملكة العربية السعودية
تنبيه ذوي الألباب السليمة عن والوقوع في الإلفاظ المبتدعة الوخيمة
تأليف: سليمان بن سحمان النجدي الحنبلي
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
من سليمان بن سحمان، إلى جناب عالي الجناب، الأخ المكرم الأخشم الشيخ محمد بن عبد العزيز بن مانع سلمه الله تعالى وهداه، وحفظه وتولاه، وجعله من حزبه وأوليائه، الذين يغضبون لغضبه، ويرضون لرضاه، آمين،
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وأزكى وأشرف تحياته
أما بعد: فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو وهو للحمد أهل وهو على كل شيء قدير، على ما أولاه من نعمه وصرف عنا من نقمه، والخط الشريف وصل وصلك الله إلى خيري الدنيا والأخرى، وما ذكرته كان معلوما خصوصا ما ذكرته من جهة المرزوقي فاعلم يا أخي أنه قد تبينت لنا حاله، فلا يروج علينا في الإخوان ما لفه وقاله، فلا يهمنك أمره، وقد اجتمعنا بك في البحرين ولم نسمع منك إلا ما يسرنا من حسن العقيدة ومحبة هذه الدعوة وأهلها والسعي في نشر ما ذكره وألفه شيخ الإسلام، وقدوة العلماء الأعلام، الشيخ محمد بن عبد الوهاب، أجزل الله له الأجر والثواب، فلا نقبل بعد ذلك إلا ما تحققناه بأن لنا كالشمس في نحر الظهيرة. والقول السديد والكواكب الدرية وصلت إلينا فلما قرأت ديباجة الكواكب الدرية ومر بسمعي قولك: وقد كنت قرأت في تراجم بعض الأفاضل من الحنابلة، كالشيخ العلامة حسن الشطي، والشيخ الإمام
ص -2-(30/1)
محمد بن علي بن سلوم، لم تسمح نفسي بسماعها، بعد أن ذكرت هذين الرجلين، لأنه قد كان من المعلوم عندنا لما تحققناه من مشايخنا، أن محمد بن علي بن سلوم ليس هو من أئمة أهل الإسلام، ولا من الأفاضل الأعلام، بل كان ممن شرق بهذا الدين ولم يرفع به رأسا، بل عاداه وعادى أهله، واتبع غير سبيل المؤمنين، وكان من المعلوم أيضا عندنا أن آل الشطي من أئمة الضلال وممن يدعو إلى دعاء الأنبياء والأولياء والصالحين، ويجيزون الاستغاثة بهم في المهمات والملمات، ومن هذا سبيله فليس هو من الأئمة الأعلام ولا من أفاضل أهل الإسلام، وإن كانوا من الحنابلة.
ثم إني بعد برهة من الزمان أشرفت على ورقة اعترض صاحبها على أشياء مما في هذين الكتابين مما يخالف ما ذكره المحققون من أهل السنة والجماعة الذين هم الأسوة وبهم القدوة، وقد ذكرت لي أني إن عثرت على شيء مما يذكره المعارضون لها مما يخالف الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة وأئمتها أني أبين ذلك لك وأنك ترجع في ذلك إلى الحق والصواب مما قاله السلف الصالح رضوان الله عليهم وهذا هو الحق على من كان مقصوده طلب الحق والانصاف، وترك التعصب والاعتساف، فلما تأملت ما في هذه الورقة وقابلتها بما في هذين الكتابين من الأشياء المخالفة لما عليه المحققون من السنة والجماعة أحببت أن أنبهك على ذلك.
فمن ذلك ما ذكره الشارح على قوله:
* ثم الصلاة والسلام سرمدا* قال: الصلاة من الله الرحمة، ومن
ص -3-(30/2)
الملائكة الاستغفار ومن غيرهم التضرع والدعاء بخير. وهذا خطأ، والصواب: ما ذكره البخاري في صحيحه عن أبي العالية قال: صلاة الله ثناؤه على عبده في الملأ الأعلى. وإذا كان هذا الصواب في المسألة فلا ينبغي للعالم أن يترك ما هو الراجح المقطوع به ويذكر القول المرجوح الذي لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا ذكره المحققون من أهل العلم وإن كانت هذه المسألة أخف مما بعدها، والله المستعان.
ومنها ما ذكره في الكواكب في صفحة أربعة وعشرين قال في معنى الاستواء: "استواء منزها عن المماسة والتمكن والحلول". فاعلم أن هذا القول قول مبتدع مخترع لم يذكره أحد من أهل العلم من سلف هذه الأمة وأئمتها الذين لهم قدم صدق في العالمين، وقد تقرر أن مذهب السلف وأئمة الإسلام عدم الزيادة والمجاوزة لما في الكتاب والسنة وأنهم يقفون وينتهون حيث وقف الكتاب والسنة وحيث انتهيا.
قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: لا يوصف الله تعالى إلا بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم. انتهى. وذلك لعلمهم بالله وعظمته في صدورهم وشدة هيبتهم له وعظيم جلاله، ولفظ المماسة لفظ مخترع مبتدع، لم يقله أحد ممن يقتدى به ويتبع، فإن أريد به نفي ما دلت عليه النصوص من الاستواء والعلو والارتفاع والفوقية، فهو قول باطل ضال قائله، مخالف للكتاب والسنة ولإجماع سلف الأمة مكابر للعقول الصحيحة والنصوص الصريحة وهو جهمي لا ريب من جنس ما قبله،
ص -4-(30/3)
وإن لم يرد هذا المعنى بل أثبت العلو والفوقية والارتفاع الذي دل عليه لفظ الاستواء فيقال فيه: هو مبتدع ضال، قال في الصفات قولا مشتبها موهما، فهذا اللفظ لا يجوز نفيه ولا إثباته، والواجب في هذا الباب متابعة الكتاب والسنة والتعبير بالعبارات السلفية الإيمانية، وترك المتشابه. هذا ما ذكره شيخنا الشيخ عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن بن حسن في جوابه على بعض الجهمية.
وأما قول الشارح في صفحة خمس وعشرين منه: فمذهب السلف الصالح أن الله تعالى مستو على عرشه حقيقة من غير مماسة، فقوله من غير مماسة، قول على السلف بلا علم ولا برهان كما قدمنا بيانه، اللهم إلا أن يكون من قول بعض من ينتسب إلى السلف من أهل الكلام الذين لا يعتد بقولهم، ولا يعول عليه في هذا الباب لأن هذا الفظ لم يرد في كتاب، ولا سنة، ولا قول صاحب، ولا قول أحد من الأئمة. زمن زعم هذا فعليه الدليل.
ص -5-
والدليل على بطلان هذه الزيادة ما قاله الإمام عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون، وهو أحد أئمة المدينة الثلاثة الذين هم: مالك بن أنس، وابن الماجشون، وابن أبي ذئب. وقد سئل عما جحدت الجهمية: "أما بعد: فقد فهمت ما سألت فيما تتابعت الجهمية ومن خالفها في صفة الرب العظيم الذي فاقت عظمته الوصف والتقدير، وكلت الألسن عن تفسير صفته، وانحسرت العقول دون معرفة قدره، وردت عظمته العقول فلم تجد مساغا فرجعت خاسئة وهي حسيرة، وإنما أمروا بالنظر والتفكر فيما خلق بالتقدير(30/4)
وإنما يقال "كيف" لمن لم يكن مرة ثم كان، فأما الذي لا يحول ولا يزول ولم يزل وليس له مثل فإنه لا يعلم كيف هو إلا هو، وكيف يعرف قدر من لم يعد زمن لم يمت ولا يبلى، وكيف يكون لصفة شيء منه حد أو منتهى يعرفه عارف أو يحد قدره واصف، على أنه الحق المبين لا حق أحق منه ولا شيء أبين منه، الدليل على عجز العقول عن تحقيق صفته، عجزها عن تحقيق صفة أصغر خلقه، لا تكاد تراه صغراً يحول ويزول ولا يرى له سمع ولا بصر لما يتقلب به ويحتال من عقله اعضل بك وأخفى عليك لما ظهر من سمعه وبصره فتبارك الله أحسن الخالقين وخالقهم، وسيد السادة ربهم {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} اعرف رحمك الله غناك عن تكلف صفة ما لم يصف الرب نفسه بعجز عن معرفة قدر ما وصف منها، إذا لم تعرف قدر ما وصف منها فما تكلفك على ما لم يصف؟ هل تستدل بذلك على شيء من طاعته، أو تنزجر به عن شيء من معصيته، فأما الذي جحد ما وصف الرب من نفسه تعمقا وتكلفا قد استهوته الشياطين في الأرض حيران، فصار يستدل بزعمه على جحد ما وصف الرب وسمى من نفسه بأن قال لابد إن كان له كذا من أن يكون له كذا فعمى عن البين بالخفي ويجحد ما سمى الرب بصمت الرب عن ما لم يسم منها" إلى آخر كلامه رحمه الله.
والمقصود من ذلك قوله: اعرف رحمك الله غناك عن تكلف صفة ما لم يصف الرب نفسه بعجزك عن معرفة قدر ما وصف منها، إذا لم
ص -6-(30/5)
تعرف قدر ما وصف فما تكلفك علم ما لم يصف؟ وقوله: ويجحد ما سمى الرب من نفسه بصمت الرب عن ما لم يسم منها والله سبحانه وتعالى لم يصف نفسه في كتابه ولا وصفه رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته بأنه استوى على العرش استواء منزها على المماسة ولتمكن والحلول وقد ذكرت بعد هذا ما ذكره الإمام ربيعة بن عبد الرحمن، والإمام مالك، والإمام الشافعي، والإمام أحمد، وإمام الأئمة محمد بن خزيمة رحمهم الله تعالى ولم يذكر أحد منهم هذا القول المخترع المبتدع ولو كان هذا مذهب السلف لذكره أئمتهم المذكورون فعلم أن هذا ليس هو مذهب السلف الصالح، والله أعلم.
"ومنها" ما ذكره في الكواكب أيضا على قوله:
وليس ربنا بجوهر ولا
عرض ولا جسم تعالى ذو العلا
فاعلم وفقني الله وإياك للعلم النافع والعمل الصالح أن لفظ الجوهر والعرض والجسم ألفاظ مبتدعة مخترعة لم يرد بنفيها ولا إثباتها كتاب ولا سنة ولا قول صاحب ولا أحد من أئمة التابعين ولا من بعدهم من الأئمة المهتدين الذين يعتد بقولهم في هذا الباب، فإذا تحققت ذلك فهذه الألفاظ التي لم يرد نفيها ولا إثباتها لا تطلق حتى ينظر في مقصود قائلها، فإن كان معنى صحيحا قبل، لكن ينبغي التعبير عنه بألفاظ النصوص دون الألفاظ المجملة إلا عند الحاجة مع قرائن تبين المراد مثل أن يكون الخطاب مع من لا يتم المقصود معه إن لم يخاطب بها ونحو ذلك، فإذا تبين هذا فالواجب على من منحه الله العلم والمعرفة أن ينظر في هذا الباب أعني باب الصفات فما أثبته الله
ص -7-(30/6)
ورسوله أثبته، وما نفاه الله ورسوله نفاه. والألفاظ التي ورد بها النص يعتصم بها في الإثبات والنفي، فنثبت ما أثبته الله ورسوله من الألفاظ والمعاني، ونفي ما نفته نصوصها من الألفاظ والمعاني. وأما كون شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه وتلميذه ابن القيم ما لا إلى أنه لا وجود للجوهر الفرد، فحق ولكن المقصود بذلك الرد على من أثبت الجوهر الفرد وأنه لا حقيقة لوجوده، ولا يلزم من ذلك إذا رده ونفاه أنه يرى أن إطلاق هذه الألفاظ على الله نفيا وإثباتا جائز، فقد ذكر رحمه الله في بعض أجوبته ما نصه: فإن ذكر لفظ الجسم في أسماء الله تعالى بدعة لم ينطق بها كتاب ولا سنة ولا قالها أحد من سلف الأمة وأئمتها ولم يقل أحد منهم أن الله تعالى جسم، ولا أن الله تعالى ليس بجسم، ولا أن الله تعالى جوهر، ولا أن الله تعالى ليس بجوهر، انتهى. وكما صرح بذلك فيما ذكرناه عنهما وفي بعض مواضع أخر خلافا لما ذكره الناظم وأقره الشارح.
إذا تقرر هذا فلا بد من ذكر كلام أئمة أهل السنة على هذه الألفاظ المبتدعة المخترعة التي أدخلها بعض المنتسبين إلى السنة من أهل الكلام وغيرهم في العقائد ونسبها بعضهم إلى مذهب السلف رضوان الله عليهم، وذلك مثل لفظ الجوهر والجسم، والأعراض ، والأغراض، والأبعاض والحدود، والجهات، وحلول، والحوادث وغيرها. قال شيخ الإسلام بن تيمية قدس الله روحه: وكانت المعتزلة تقول: إن الله منزه عن الأعراض، والأبعاض والحوادث والحدود، ومقصودهم نفي الصفات ونفي الأفعال
ص -8-(30/7)
ونفي مباينة للخلق وعلوه على العرش، وكانوا يعبرون عن مذهب أهل الإثبات أهل السنة بالعبارات المجملة التي تشعر الناس بفساد المذهب، فإنهم إذا قالوا: إن الله منزه عن الأعراض لم يكن في ظاهر العبارة ما ينكر، لأن الناس يفهمون من ذلك أنه منزه عن الاستحالة والفساد كالأعراض التي تعرض لبني آدم من الأمراض والأسقام، ولا ريب أن الله منزه عن ذلك، ولكن مقصودهم: أنه ليس له علم ولا قدرة ولا حياة ولا كلام قائم به، ولا غير ذلك من الصفات التي يسمونها أعراضا- وكذلك إذا قالوا: إن الله منزه عن الحدود والأحياز والجهات، أوهموا الناس بأن مقصودهم بذلك أنه لا تحصره المخلوقات، ولا تحوزه المصنوعات، وهذا المعنى صحيح، ومقصودهم به أنه ليس مباينا للخلق ولا منفصلا عنه، وأنه ليس فوق السموات رب، ولا على العرش إله، وأن محمدا لم يعرج إليه، ولم ينزل منه شيء، ولا يصعد إليه شيء، ولا يتقرب إليه بشيء، ولا ترفع الأيدي إليه في الدعاء ولا غيره، ونحو ذلك من معاني الجهمية. وإذا قالوا إنه ليس بجسم، أوهموا الناس أنه ليس من جنس المخلوقات، ولا مثل أبدان الخلق، وهذا معنى صحيح، ولكن مقصودهم بذلك: أنه لا يرى ولا يتكلم بنفسه ولا تقوم به صفة، ولا هو مباين للخلق، وأمثال ذلك. وإذا قالوا لا تحله الحوادث، أوهموا الناس أن مرادهم أنه لا يكون محلا للتغيرات والاستحالات، ونحو ذلك من الأحداث التي تحدث للمخلوقين فتحيلهم وتفسدهم، وهذا المعنى صحيح، ولكن مقصودهم بذلك: أنه ليس له فعل اختياري يقوم بنفسه ولا
ص -9-
له كلام ولا فعل يقوم به يتعلق بمشيئته وقدرته، وأنه لا يقدر على استواء أو نزول أو إتيان أو مجيء، وأن المخلوقات التي خلقها الله لم يكن منه عند خلقها فعل أصلا بل عين المخلوقات هي الفعل، ليس هناك فعل ومفعول وخلق ومخلوق بل المخلوق عين الخلق والمفعول عين الفعل ونحو ذلك، انتهى.
ص -10-(30/8)
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في "الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة": ويقولون نحن ننزه الله تعالى عن الأعراض والأغراض والأبعاض والحدود والجهات وحلول الحوادث، فيسمع الغر المخدوع هذه الألفاظ فيتوهم منها أنهم ينزهون الله عما يفهم من معانيها عند الإطلاق من العيوب والنقائص والحاجة، فلا يشك أنهم يمدحونه ويمجدونه ويعظمونه، ويكشف الناقد البصير ما تحت هذه الألفاظ فيرى تحتها الإلحاد وتكذيب الرسل وتعطيل الرب تعالى عما يستحقه من كماله – فتنزيههم عن الأعراض هو جحد صفاته كسمعه وبصره وحياته وعلمه وكلامه وإرادته، فإن هذه أعراض له عندهم لا تقوم إلا بجسم، فلو كان متصفا بها، لكان جسما، وكانت أعراضا له، وهو منزه عن الأعراض.
وأما الأغراض فهي الغاية والحكمة التي لأجلها يخلق ويفعل ويأمر وينهى ويثيب ويعاقب، وهي الغايات المحمودة المطلوبة من أمره ونهيه وفعله، فيسمونها أغراضا منه وعللا ينزهونه عنها.
وأما الأبعاض فمرادهم بتنزيهه عنها: أنه ليس له وجه ولا يدان ولا يمسك السموات على أصبع، والأرض على إصبع، والشجر على أصبع، والماء على أصبع، فإن ذلك كله أبعاض والله منزه عن الأبعاض.(30/9)
وأما الحدود والجهات فمرادهم بتنزيهه عنها: أنه ليس فوق السموات رب، ولا على العرش إله، ولا بشار إليه بالأصابع إلى فوق كما يشار إليه أعلم الخلق به، ولا ينزل منه شيء، ولا يصعد إليه شيء، ولا تعرج الملائكة والروح إليه، ولا رفع المسيح إليه، ولا عرج برسوله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه إذ لو كان كذلك لزم إثبات الحدود والجهات وهو منزه عن ذلك.
وأما حلول الحوادث فيريدون به أن لا يتكلم بقدرته ومشيئته، ولا ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا ولا يأتي يوم القيامة ولا يجيء ولا يغضب بعد أن كان راضيا، ولا يرضى بعد أن كان غضبانا ولا يقوم به فعل البتة، ولا أمر مجدد بعد أن لم يكن، ولا يريد شيئا بعد أن لم يكن، ولا يريد شيئا بعد أن لم يكن مريداً له، فيقول له كن حقيقة ولا استوى على عرشه بعد أن لم يكن مستويا، ولا يغضب يوم القيامة غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله ولا ينادي عباده يوم القيامة بعد أن لم يكن مناديا لهم ولا يقول للمصلي إذا قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} حمدني عبدي، فإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}قال: أثنى علي عبدي، فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قال: مجدني عبدي، فإن هذه كلها حوادث وهو منزه عن حلول الحوادث.
إلى أن قال: واعلم أن لفظ الجسم لم ينطق به الوحي إثباتا، فيكون له الإثبات، ولا نفيا، فيكون له النفي، فمن أطلقه أو إثباتا سئل عما أراد، فإن قال: أردت الجسم معناه في لغة العرب وهو البدن الكثيف الذي لا يسمى في اللغة جسم سواه، فلا يقال للهواء جسم لغة، ولا للنار ولا للماء فهذه اللغة وكتبها بين أظهرنا فهذا المعنى منفي عن الله عقلا
ص -11-(30/10)
وسمعا. وإن أردتم به مركب من المادة والصورة، والمركب من الجوهر الفرد، فهذا منفي عن الله قطعا، والصواب نفيه عن الممكنات أيضاً، فليس جسم المخلوق مركبا من هذا ملا من هذان وإن أردتم بالجسم ما يوصف بالصفات ويرى بالأبصار ولا يتكلم ويكلم ويسمع ويبصر ويرضى ويغضب فهذه المعاني ثابتة لله تعالى وهو موصوف بها فلا ننفيها عنه بتسميتكم للموصوف بها جسما – إلى أن قال: وإن أردتم بالجسم ما يشار إليه حسية، فقد أشار أعرف الخلق به بأصبعه رافعا بها إلى السماء بمشهد الجمع الأعظم، مستشهدا له لا للقبلة، وإن أردتم بالجسم ما يقال له أين؟ فقد سأل أعلم الخلق به عنه بأين منبها على علوه على عرشه، وسمع السؤال باين وأجاب عنه، ولم يقل: هذا السؤال إنما يكون عن الجسم، وأنه ليس بجسم، وإن أردتم بالجسم ما يلحقه "من" و"إلى" فقد نزل جبريل من عنده وعرج برسوله إليه، وإليه يصعد الكلام الطيب، وعبده المسيح رفع إليه. وإن أردتم بالجسم ما يتميز منه أمر غير أمر، فهو سبحانه موصوف بصفات الكمال جميعها من السمع والبصر والعلم والقدرة والحياة، وهذه صفات متميزة متغايرة ومن قال إنها صفة واحدة، فهو بالمجانين أشبه منه بالعقلاء، وقد أعلم الخلق به: "أعوذ برضاك من سخطك" الحديث – قال وأما استعاذته صلى الله عليه وسلم به منه باعتبارين مختلفين، فإن الصفة المستعاذ بها والصفة المستعاذ منها صفتان لموصوف واحد، ورب واحد، فالمستعيذ بإحدى الصفتين من الأخرى مستعيذ بالموصوف بهما منه – وإن أردتم بالجسم
ص -12-(30/11)
ما له وجه ويدان وسمع وبصر، فنحن نؤمن بوجه ربنا الأعلى وبيديه وبسمعه وبصره وغير ذلك من صفاته التي أطلقها على نفسه، وإن أردتم بالجسم ما يكون فوق غيره ومستويا على غيره فهو سبحانه فوق عباده مستو على عرشه.
وكذلك إن أردتم بالتشبيه والتركيب هذه المعاني التي دل عليها الوحي والعقل فنفيكم لها بهذه الألقاب المنكرة خطأ في اللفظ والمعنى وجناية على ألفاظ الوحي، أما الخطأ اللفظي فتسميتكم الموصوف بذلك جسما مركبا مؤلفا مشبها بغيره وتسميتكم هذه الصفات تركيبا وتجسيما وتشبيها، فكذبتم على القرآن وعلى الرسول وعلى اللغة ووضعتم لصفاته ألفاظا منكم بدأت وإليكم تعود، وأما خطأكم في المعنى فنفيكم وتعطيلكم لصفات كماله بواسطة هذه التسمية والألقاب فنفيتم المعنى الحق وسميتموه بالاسم المنكر.
إلى أن قال: وكذلك إذا قال الفرعوني لو كان على السموات رب أو على العرش إله لكان مركبا، قيل له لفظ المركب في اللغة هو الذي ركبه غيره في محله، كقوله تعالى {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} وقولهم ركبت الخشبة والباب وما يركب من أخلاط أجزاء بحيث كانت أجزاؤه مفرقة فاجتمعت وركبت حتى صار شيئا واحدا كقولهم ركبت الدواء من كذا وكذا، وإن أردتم بقولكم لو كان فوق العرش كان مركبا هذا التركيب المعهود وأنه كان متفرقا فاجتمع فهو كذب وفرية وبهت على الله وعلى الشرع وعلى العقل، وإن أردتم أنه لو كان فوق العرش لكان عاليا على خلقه
ص -13-(30/12)
بائنا منهم مستويا على عرشه ليس فوقه شيء فهذا المعنى حق، فكأنك قلت: لو كان فوق العرش لكان فوق لعرش فنفيت الشيء بتغيير العبارة وقبلها إلى عبارة وأخرى وهذا شانكم في أكثر مطالبكم.
وإن أردتم بقولكم كان مركبا أنه يتميز منه شيء عن شيء فقد وصفته أنت بصفات يتميز بعضها من بعض فهل كان عندك هذا تركيبا؟ فلا أثبت له صفة واحدة فرار من التركيب، قيل لك العقل لم يدل على نفي المعنى الذي سميته أنت مركبا، وقد دل الوحي والعقل والفطرة على ثبوته أتننفيه بمجرد تسميتك الباطلة؟ فإن التركيب يطلق ويراد به خمسة معان:
(1) تركيب الذات من الوجود والماهية عند من يجعل وجودها زائداً على ما هيتها، فإذا نفيت هذا جعلته وجوداً مطلقا إنما هو في الأذهان لا وجود له في الأعيان.
"الثاني" تركيب الماهية من الذات و الصفات فإذا نفيت هذا التركيب جعلته ذاتا مجردة عن كل وصف لا يسمع ولا يبصر ولا يعلم ولا يقدر ولا يريد ولا حياة له ولا مشيئة ولا صفة أصلا فكل ذات في المخلوقات من هذه الذات، فاستفدت بهذه التركيب كفرك بالله وجحدك لذاته ولصفاته وأفعاله.
"الثالث" تركيب الماهية الجسمية من الهيولي والصورة كما يقوله الفلاسفة.
ص -14-(30/13)
"الرابع" التركيب من الجواهر الفردة كما يقوله كثير من أهل الكلام.
"الخامس" تركيب الماهية من أجزاء كانت متفرقة فاجتمعت وتركبت، فإن أردت بقولك لو كان فوق العرش لكان مركبا كما يدعيه الفلاسفة والمتكلمون قيل لك: جمهور العقلاء عندهم أن الأجسام المحدثة المخلوقة ليست مركبة لا من هذا ولا من هذا فلو كان فوق العرش جسم مخلوق ومحدث لم يلزم أن يكون مركبا بهذا الاعتبار فكيف ذلك في حق خالق الفرد والمركب الذي يجمع المتفرق ويفرق المجتمع ويؤلف بين الأشياء فيركبها كما يشاء؟ والعقل إنما دل على إثبات إله واحد ورب واحد لا شريك له ولا شبيه له لم يلد ولم يولد، ولم يدل على أن ذلك الرب الواحد لا اسم له ولا صفة له، ولا وجه ولا يدين، ولا هو فوق خلقه، ولا يصعد إليه شيء، ولا ينزل منه شيء، فدعوى ذلك على العقل كذب صريح عليه كما هي كذب صريح على الوحي وكذلك قولهم ننزهه عن الجهة إن أردتم أنه منزه عن جهة وجودية تحيط به وتحويه إحاطة الظرف بالمظروف فنعم هو أعظم من ذلك وأكبر وأعلى، ولكن لا يلزم من كونه فوق عرشه هذا المعنى.
وإن أردتم بالجهة أمراً يوجب مباينة الخالق للمخلوق وعلوه على خلقه واستواءه على عرشه فنفيكم بهذا المعنى باطل وتسميته جهة وقلتم منزه عن الجهات وسميتم العرش حيزاً وقلتم ليس بمتحيز وسميتم الصفات أعراضاً وقلتم الرب منزلة عن الأعراض، وسميتم كلامه بمشيئة ونزوله إلى سماء الدنيا ومجيئة يوم القيامة لفصل القضاء بمشيئته وإرادته المقارنة لمرادها وإدراكه المقارن
ص -15-(30/14)
لوجود المدرك وغضبه إذا عصي ورضاه إذا أطيع، وفرحه إذا تاب إليه العباد، ونداءه لموسى حين أتى الشجرة، ونداءه للأبوين حين أكلا من الشجرة، ونداءه لعباده يوم القيامة، ومحبته لمن كان يبغضه حال كفره ثم صار يحبه بعد إيمانه، وربوبيته التي هو كل يوم هو في شأن "حوادث". وقلتم هو منزه عن حلول الحوادث وحقيقة هذا التنزيه أنه متنزه عن الوجود وعن الربوبية وعن الملك وعن كونه فعالا لما يريد بل عن الحياة والقيومية.
فانظر ماذا تحت تنزيه المعطلة النفاة بقولهم ليس بجسم ولا جوهر ولا مركب ولا تقوم به الأعراض ولا يوصف بالأبعاض ولا يفعل بالأغراض ولا تحله الحوادث ولا تحيط به الجهات ولا يقال في حقه أين وليس بمتحيز كيف كسوا حقائق أسمائه وصفاته وعلوه على خلقه واستوائه على عرشه وتكليمه لخلقه ورؤيتهم له بالأبصار في دار كرامته هذه الألفاظ ثم توسلوا إلى نفيها بواسطتها وكفروا وضللوا من أثبتها واستحلوا منه ما لم يستحلوه من أعداء الله من اليهود والنصارى، فالله الموعد وإليه التحاكم، وبين يديه التخاصم.
نحن وإياهم نموت ولا
أفلح يوم الحساب من ندما
انتهى.
وقال شيخ الإسلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى في رسالته إلى عبد الله بن سحيم، وقد طلب منه أن يذكر له شيئا من معنى كتاب الموليس، فقال رحمه الله في الجواب بعد كلام له: وذلك أن كتابه مشتمل على الكلام في ثلاثة أنواع من العلوم "الأول" علم الأسماء والصفات الذي
ص -16-(30/15)
يسمى علم أصول الدين ويسمى أيضا العقائد. "والثاني" الكلام على التوحيد والشرك. "والثالث" الاقتداء بأهل العلم واتباع الأدلة وترك ذلك.
أما الأول فإنه أنكر على أهل الوشم إنكارهم على من قال ليس بجوهر ولا جسم ولا عرض، وهذا الإنكار جمع اثنتين، أحدهما: أنه لم يفهم كلام ابن عيدان وصاحبه. "الثانية" أنه لم يفهم صورة المسألة وذلك أن مذهب الإمام أحمد وغيره من السلف أنهم لا يتكلمون في هذا النوع إلا بما تكلم به الله ورسوله فما أثبته الله لنفسه وأثبته رسوله أثبتوه، مثل: الفوقية والاستواء والكلام والمجيء وغير ذلك. وما نفاه الله عن نفسه ونفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم نفوه، مثل: المثل والند والسمي وغير ذلك. وأما ما لا يوجد عن الله ورسوله إثباته ولا نفيه مثل الجوهر والعرض والجهة وغير ذلك لا يثبتونه، فمن نفاه مثل صاحب الخطبة التي أنكرها ابن عبدان وصاحبه فهو عند أحمد والسلف مبتدع، ومن أثبته مثل هشام بن الحكم وغيره فهو عندهم مبتدع والواجب عندهم السكوت عن هذا النوع اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه – إلى أن قال: وأنا أذكر لك كلام الحنابلة في هذه المسألة:
قال الشيخ تقي الدين بعد كلام له على من قال إنه ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض ككلام صاحب الخطبة، قال رحمه الله تعالى: فهذه الألفاظ لا يطلق إثباتها ولا نفيها كلفظ الجوهر والجسم والتحيز والجهة ونحو ذلك من الألفاظ، ولهذا لما سئل ابن سريج عن التوحيد فذكر توحيد المسلمين وقال: وأما توحيد أهل الباطل فهو الخوض في الجواهر والأعراض وإنما
ص -17-(30/16)
بعث النبي صلى الله عليه وسلم بإنكار ذلك وكلام السلف والأئمة في ذم الكلام وأهله مبسوط في غير هذا الموضع. والمقصود أن الأئمة كأحمد وغيره إذا ذكر لهم أهل البدع الألفاظ المجملة كلفظ الجسم والجوهر والحيز لم يوافقوهم لا على إطلاق الإثبات ولا على إطلاق النفي. انتهى كلام الشيخ تقي الدين.
إذا تدبرت هذا عرفت أن إنكار ابن عبدان وصاحبه على الخطيب الكلام في هذا هو عين الصواب، وقد اتبعا في ذلك إمامهما أحمد بن حنبل وغيره في إنكارهم ذلك على المبتدعة ففهم صاحبكم أنهما يريدان إثبات ضد ذلك، وأن الله جسم، وكذا وكذا تعالى الله عن ذلك، وظن أيضا أن عقيدة أهل السنة هي نفي أنه لا حسم ولا جوهر ولا كذا وكذا وقد تبين لكم الصواب أن عقيدة أهل السنة هي السكوت، من أثبت بدعوه، ومن نفى بدعوه، فالذي يقول ليس بجسم ولا ولاهم الجهمية والمعتزلة والذين يثبتون ذلك هو هشام وأصحابه والسلف بريئون من الجميع من أثبت بدعوه، ومن نفى بدعوه. فالموليس لم يفهم كلام الأحياء ولا كلام الأموات، وجعل النفي الذي هو مذهب الجهمية والمعتزلة مذهب السلف وظهر أن من أنكر النفي أنه يريد الإثبات كهشام واتباعه ولكن العجب من ذلك استدلاله على فهمه بكلام أحمد المتقدم.
ومن كلام أبي الوفاء بن عقيل قال: أنا أقطع أن أبا بكر وعمر ماتا وما عرفا الجوهر والعرض فإن رأيت أن طريقة أبي علي الجبائي أو أبي هشام خير
ص -18-(30/17)
لك من طريقة أبي بكر وعمر فبئس ما رأبت انتهى.
وصاحبكم يدعي أن الرجل لا يكون من أهل السنة حتى يتبع أبا علي وأبا هاشم بنفي الجوهر والعرض فمن أنكر الكلام فيهما مثل أبي بكر وعمر فهو عنده على مذهب هشام الرافضي. فظهر بما قررناه أن الخطيب الذي يتكلم بنفي العرض والجوهر أخذه من مذهب الجهمية والمعتزلة، وأن ابن عبدان وصاحبه أنكر ذلك مثل ما أنكره أحمد والعلماء كلهم على أهل البدع. انتهى.
فتأمل رحمك الله ما تحت إطلاق هذه الألفاظ المبتدعة المخترعة التي خالف من وضعها سلف الأمة وأئمتها واغتر بها من حسن ظنه بهؤلاء الذين قلدوا من ابتدعها من المتكلمين، الذين ليس لهم قدم صدق في العالمين حيث أرادوا بها التنزيه، ووقعوا في التعطيل والتشبيه، فساروا على مناهجهم من غير دليل ولا برهان من الكتاب والسنة، ولا كلام أحد من الأئمة فالله المستعان.
وتأمل ما ذكر شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب حيث قال: فمن نفاه - مثل صاحب الخطبة التي أنكرها ابن عيدان وصاحبه – فهو عند أحمد والسلف مبتدع والواجب عندهم السكوت عن هذا النوع اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه – إلى أن قال: وقد تبين لكم الصواب أن عقيدة أهل السنة هي السكوت من أثبت بدّعوه، ومن نفى بدّعوه، فالذي يقول ليس بجسم ولا ولاهم الجهمية والمعتزلة والذين يثبتون ذلك
ص -19-
هو هشام وأصحابه والسلف بريئون من الجميع، من أثبت بدعوه، ومن نفى بدعوه إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى.
"ومنها" ما ذكره الناظم بقوله:
وإن ما جاء مع جبريل
من محكم القرآن والتنزيل
كلامه سبحانه قديم
أعيا الورى بالنص يا عليم(30/18)
فقوله: *كلامه سبحانه قديم* هو من جنس ما قبله من الألفاظ المبتدعة المخترعة التي لم ينطق بها سلف الأمة وأئمتها والذي عليه أهل السنة والجماعة المخالفون لأهل البدع أن كلام الله سبحانه وتعالى حادث الآحاد قديم النوع، وأنه يتكلم بمشيئته وقدرته إذا شاء لا يمتنع عليه شيء أراده وأن الله تعالى متصف بالأفعال الاختيارية القائمة به فهو سبحانه قد تكلم في الأزل بما شاء ويتكلم فيما لم يزل بقدرته ومشيئته بما أراد وهو الفعال لما يريد {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وأهل البدع المخالفون للسلف ينفون ذلك ويسمون هذه الأفعال الاختيارية القائمة به سبحانه وتعالى حلول الحوادث والله لا يكون محلا للحوادث ويريدون بهذا أن لا يتكلم بقدرته ومشيئته ولا ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا ولا يأتي يوم القيامة ولا يجيء ولا يغضب بعد أن كان راضيا ولا يرضى بعد أن كان غضبانا ولا يقوم به فعل البتة ولا أمر مجدد بعد أن لم يكن ولا يريد شيئا بعد أن لم يكن مريدا له فلا يقول له كن حقيقة ولا استوى على عرشه بعد أن لم يكن مستويا ولا يغضب غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله ولا ينادي عباده يوم القيامة بعد أن لم يكن مناديا ولا يقول للمصلي
ص -20-
إذا قال {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} حمدني عبدي، فإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال: أثنى علي عبدي، فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قال: مجدني عبدي" فإن هذه كلها حوادث وهو منزه عن حلول الحوادث كما تقدم بيان هذا وإيضاحه في كلام ابن القيم رحمه الله، وقال في الكافية الشافية لما ذكر أقوال أهل البدع المخالفين لأهل السنة:
والآخرون أولو الحديث كأحمد
ذاك ابن حنبل الرضي الشيباني
قد قال إن الله حقا لم يزل
متكلما إن شاء ذو إحسان
جعل الكلام صفات فعل قائم
بالذات لم يفقد من الرحمن
وكذاك نص على دوام الفعل بالا(30/19)
حسان أيضا في مكان ثان
وكذا ابن عباس فراجع قوله
لما أجاب مسائل القرآن
وكذاك جعفر الإمام الصادق ال
مقبول عند الخلق ذو العرفان
قد قال لم يزل المهيمن محسنا
برا جوادا عند كل أوان
إلى آخر كلامه فإنه قد أجاد فيه وأفاد فراجعه فيها.
وأما ما ذكره في القول السديد في الأبيات التي نسبها لشيخ الإسلام قدس الله روحه إن صح النقل بذلك عنه حيث قال:
وأقول في القرآن ما جاءت به
آياته فهو القديم المنزل
فهذا القول إن صح لا ينافي كونه سبحانه يتكلم فيما لم يزل بقدرته ومشيئته كما هو مذهب أهل السنة والجماعة خلافا لأهل الكلام من المبتدعة وغيرهم. والله أعلم.
"ومنها" ما ذكره في صفحة أربع وعشرين وهو أخف مما قبله
ص -21-
خطرا لما ذكر المهدي وأنه قد ورد فيه أحاديث كثيرة لم يثبت منها حديث واحد، فاعلم يا أخي أنك ذكرت هذا القول جازما به من غير علة ذكرتها تقدح في هذه الأحاديث عن عالم من علماء أهل الجرح والتعديل الذين يعتد بهم في هذا الباب وقد ذكر هذه الأحاديث أبو عيسى الترمذي في جامعه وهو إمام فاضل من أئمة أهل الجرح والتعديل فقال رحمه الله تعالى:(30/20)
"باب ما جاء في المهدي"
حدثنا عبيد بن أسباط بن محمد القرشي أنبأنا أبي أنبأنا سفيان الثوري عن عاصم بن بهدلة عن زر عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تذهب الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي". وفي الباب عن علي وأبي سعيد وأم سلمة وأبي هريرة، هذا حديث حسن صحيح. حدثنا عبد الجبار بن العلاء العطار أنبأنا سفيان بن عيينة عن عاصم عن زر عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يلي رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي". قال عاصم: وأنبأنا أبو صالح عن أبي هريرة قال: لو لم يبق من الدنيا إلا يوما لطول الله ذلك اليوم حتى يلي، هذا حديث حسن. حدثنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن جعفر أنبأنا شعبة قال سمعت زيد العمي قال: سمعت أبا الصديق الناجي يحدث عن أبي سعيد الخدري قال: خشينا أن يكون بعد نبينا حدث، فسألنا نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن في أمتي المهدي يخرج يعيش خمسا أو سبعا أو تسعا" زيد الشاك. قال: قلنا: وما ذاك؟ قال:
ص -22-(30/21)
"سنين" قال: فيجيء إليه الرجل فيقول: يا مهدي اعطني، قال: فيحثي له في ثوبه ما استطاع أن يحمله" هذا حديث حسن، وقد روي من غير وجه عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو الصديق الناجي اسمه بكر ابن عمر، ويقال بكر بن قيس. فهذا ما ذكره الإمام أبو عيسى الترمذي جازما بصحة هذه الأحاديث، وأنت لم تذكر لأحاديث المهدي علة عن أحد من العلماء على عدم ثبوتها إلا مجرد الدعوى من غير برهان ولا دليل، والمثبت مقدم على النافي، وإذا صح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجزم بذلك إمام من أئمة أهل الحديث، وجب علينا التصديق به والإيمان به، وأنه حق كائن لا محالة. وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه أجل في صدورنا من أن نعارضها بما يذكره ابن خلدون وأمثاله ونعارض ما صححه الإمام الترمذي بأمثال ابن خلدون من لا يؤبه له ولا يعد من العلماء الأفاضل، والأئمة الأمائل، بل ذكر لي بعض الإخوان أنه إخباري صاحب تاريخ قد شحن مقدمته بالطلاسم 1 وأخبار المنجمين(30/22)
__________
1 كذا في الأصل، ولعله يسر الأستاذ المؤلف نفع الله به أن نخبره عن معرفة بأن ابن خلدون ليس مؤرخا نقالا للأخبار على علاتها كأكثر المؤرخين، بل هو محقق في التاريخ، ومحدث، وفقيه، وليست مقدمة تاريخه مشحونة بالطلمسات وأخبار المنجمين كما قال له الثقة عنده بل تذكر فيها الطلمسات في فصل الكلام على السحر، وهو يذمه ويقول فيه ما قال فقهاء أصحابه المالكية وغيرهم. وله فصل آخر في المقدمة عنوانه: "إبطال صناعة النجوم وضعف مداركها وفساد غايتها". وأما كلامه في المهدي فهو يذكر ما ذكر من أحاديث الترمذي مع ما ذكره أئمة الجرح والتعديل في تضعيف رواتها كتضعيفهم لعاصم بن بهدلة في الحديث دون القراءة ولكن من جهة سوء حفظه وكونه تغير في آخر عمره. وأما زيد العمي فكلامهم في ضعفه كثير ويعلم المؤلف حفظه الله أن الترمذي كان يتساهل في الصحيح فلا يعتد بتصحيحه لما خالفه غيره فيه من الأئمة.
ص -23-
هذا ما حدثني به من لا أتهمه في حديثه، وأنا ما رأيت شيئا من كتبه ولا أعرفها، والله أعلم. وقد ذكر أبو داود هذه الأحاديث في سننه، ولم يذكر لها علة ولا جرحه بشيء من الأمور التي تقدح فيها.
"ومنها" ما ذكره في صفحة تسع وسبعين في الأبيات التي ذكر فيها مفاخرة علي رضي الله عنه، قال: ومما نسب إلى علي رضي الله عنه:
محمد النبي أخي وصهري
وحمزة سيد الشهداء عمي
وجعفر الذي يمسي ويضحى
يطير مع الملائكة ابن أمي
وبنت محمد سكني وعرسي
مسوط لحمها بدمي ولحمي
وسبطا أحمد ابناي منها
فأيكم له سهم كسهمي
سبقتكم إلى الإسلام طراً
غلاما ما بلغت أوان حلمي(30/23)
فهذه المفاخرة التي ذكرها الشارح لم يذكرها عن علي رضي الله عنه بسند صحيح ولا حسن ولا ضعيف ولا عزاها إلى شيء من الكتب المعتمدة ولا ذكرها عن أحد من أئمة أهل الحديث ولا غيرهم فالأشبه بها أن تكون من أوضاع الرافضة والصحابة رضي الله عنهم لم يكن من هديهم وأخلاقهم التفاخر بينهم بالأحساب والأنساب بل كان السلف رضوان الله عليهم ينهون عن الفخر والخيلاء والاستطالة على الخلق بحق
ص -24-
أو بغير حق كما هو مذكور في عقائد أهل السنة والجماعة، وعلي رضي الله عنه أخشى لله وأتقى له من أن يفتخر بهذه المفاخرة على أحد من الصحابة رضي الله عنهم على ما ذكره الرافضي أنه افتخر بذلك على أهل الشورى أو على معاوية لما بلغته مفاخرته كما ذكره السفاريني، وقد قال تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وإنما كانوا يتفاضلون ويذكرون بالتقوى، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}، وإذا كان من المعلوم أنهم ما كانوا يتفاخرون بأحسابهم وبأنسابهم بل كان ذلك من أمر الجاهلية وقد أذهب الله ذلك بالإسلام كما في الحديث الذي رواه الترمذي وحسنه، وفيه: "إن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية، وفخرها بالآباء، إنما هو مؤمن تقي، أو فاجر شقي، الناس من آدم وآدم خلق من تراب". وعن عياض بن حمار مرفوعا "إن اله تعالى أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد" رواه مسلم. فإذا تبين لك هذا ففضائل علي رضي الله عنه ومناقبه مشهورة مذكورة لا تخفى على أهل العلم، فالعدول عنها إلى هذه المفاخرة التي لم تذكر في شيء من الكتب المعتمدة من الغفلة التي لا ينبغي لمن نصح نفسه وأراد نجاتها أن تنسب إليه ويذكر بها، فالله المستعان. ثم إني(30/24)
بعد ما حررت هذه الكلمات رأيت ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه في منهاج السنة على أصل هذه الأبيات التي وضعها بعض الكذابين، فنظمها من نظمها ونسبها لعلي رضي الله
ص -25-
عنه فقال رحمه الله تعالى:
"الفصل الحادي عشر"
قال الرافضي: وعن عامر بن واثلة قال: كنت مع علي وهو يقول لهم لأحتجن عليكم بما لا يستطيع عربيكم ولا عجميكم تغيير ذلك، ثم قال: أنشدكم بالله أيها النفر جميعا، أفيكم أحد وحد الله تعالى فبلي؟ قالوا: اللهم لا، قال: أنشدكم بالله هل فيكم أحد له أخ مثل أخي جعفر الطيار في الجنة مع الملائكة غيري؟ قالوا: اللهم لا، قال: فأنشدكم بالله هل فيكم أحد له عم مثل عمي حمزة أسد الله وأسد رسوله سيد الشهداء غيري؟ قالوا: اللهم لا، قال: فأنشدكم بالله هل فيكم أحد له زوجة مثل زوجتي فاطمة بنت محمد سيدة نساء أهل الجنة غيري؟ قالوا: اللهم لا، قال: فأنشدكم بالله هل فيكم من له سبطان مثل سبطي الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة غيري؟ قالوا: اللهم لا، "وذكر أشياء أخر غير هذا اقتصرنا منها على ما ذكره منها صاحب النظم".
فقال شيخ الإسلام في جوابه: أما قوله عن عامر بن واثلة وما ذكره يوم الشورى، فهذا كذب باتفاق أهل المعرفة بالحديث، ولم يقل علي رضي الله عنه يوم الشورى شيئا من هذا ولا ما يشابهه،"ثم ذكر كلاما إلى أن قال": وفي هذا الحديث الذي ذكره الرافضي أنواع من الأكاذيب التي نزه الله تعالى عليا عنها، مثل احتجاجه بأخيه وعمه وزوجته، وعلي رضي الله عنه أفضل من هؤلاء وهو يعلم أن أكرم الخلق عند الله أتقاهم ولو قال العباس:
ص -26-(30/25)
هل فيكم أحد مثل أخي حمزة ومثل أولاد أخي أي محمد وعلي وجعفر لكانت هذه الحجة من جنس تلك بل احتجاج الإنسان ببني إخوته أعظم من احتجاجه بعمه ولو قال عثمان هل فيكم من تزوج بنتي نبي لكان من جنس قول القائل هل فيكم من زوجته مثل زوجتي وكانت فاطمة قد ماتت قبل الشورى كما ماتت زوجتا عثمان فإنها ماتت بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بستة أشهر، وكذلك قوله: هل فيكم أحد له ولد كولدي وفيه أكاذيب متعددة - إلى آخر ما ذكر رحمه الله تعالى. هذا ملخص ما ذكر الشيخ في المنهاج في الجزء الثالث في صفحة خمسة عشر ولكن العجب كل العجب أنك لما ذكرت أحاديث المهدي ذكرت أنه لم يثبت فيها حديث واحد، وقد تقدم ما ذكره حفاظ أهل الحديث كأبي داود وأبي عيسى الترمذي من تحسين أحاديث المهدي وتصحيحها وذكرت ما ذكرت من أنه لا يجب اعتقاد محبيء هذا المهدي ولا ندين الله به، ثم ذكرت هذه المفاخرة المكذوبة الموضوعة التي لا أصل لها فذكرتها في فضائل علي و مناقبه وأقررتها فكان الحق والواجب على مثلك أن لا تذكر هذه الأبيات الموضوعة المكذوبة وأن لا تذكر في أحاديث المهدي إلا ما ذكره أهل الحديث الذين هم القدوة وبهم الأسوة وحسبك السير على منهاجهم فإنهم كانوا على الصراط المستقيم، والمنهج القويم، ومن عداهم من أهل الكلام، الذين فارقوا به أئمة أهل الإسلام فإنما يأخذون بمقاييس عقولهم وآرائهم، وقد تبعوا في ذلك أهواءهم قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا
ص -27-(30/26)
كثيراً و ضلوا عن سواء السبيل.
واعلم يا أخي أبي ما كتبت لك إلا ما قاله المحققون من أهل العلم الذين هم أئمة هذا الشأن من سادات الحنابلة وأئمتهم الذين ينفون عن دين الله تحريف الغالين، وانتحال المطلين، ليتبين لك طريقة السلف الصالح والصدر الأول، فعض عليه بالنواجذ ولا يكن في صدرك حرج منه، فإنه الحق، وقد تركت أشياء مما ذكره المعترض في ورقته إما لسوء فهمه أو لعدم معرفته واطلاعه وأمورا ً أخر لم أرفع بها رأسا ولم أكتب لك إلا ما وقفت عليه مزبوراً في الشرح فاعلم ذلك وبالله التوفيق وبه الثقة والعصمة.
"فصل"
إذا تبين لك ما قدمته لك من كلام علماءالمحققين وكان المقصود هو ظهور الحق وبيانه فهنا أشياء أخر يجب التنبيه عليها ولا ينبغي السكوت عنها. "منها" قولة في الصفحة الثمانية عشرة قول الشارح: فيجب على كل مكلف أن يعرف الله تعالى بصفات الكمال و يجزم بأنه سبحانه واحد لا يتجزأ ولا ينقسم، أحد، لا من عدد، فرد صمد، إلى آخره، فأقول وبالله التوفيق:
اعلم أن قول القائل: ويجزم بأنه سبحانه وتعالى واحد لا يتجزأ ولا ينقسم، قول مبتدع مخترع لم يقله أحد من السلف رضوان الله عليهم وليس مذكورا في عقائد أهل السنة والجماعة بل هو من جنس ما يذكره أهل
ص -28-
البدع من قولهم: ليس بجوهر ولا عرض ولا جسم وليس له أعراض ولا أغراض ولا أبعاض إلى غير ذلك مما خالفوا به سلف الأمة وأئمتها. قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه في كتابه المسمى بالعقل والنقل الذي قال ابن القيم رحمه الله تعالى فيه:
واذكر كتاب العقل والنقل الذي
ما في الوجود له نظير ثان(30/27)
قال بعد كلام له: وكثير من أهل الكلام يقول: التوحيد له ثلاث معان وهو: واحد في ذاته لا قسيم له ولا جزء له، وواحد في صفاته لا شبيه له، وواحد في أفعاله لا شريك له، وهذا المعني الذي تتناوله هذه العبارة فيها ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وفيها ما يخالف ما جاء الرسول – فذكر كلاما حسنا إلى أن قال- فإنهم إذا قالوا: لا قسيم له ولا جزء له ولا شبيه له فهذا اللفظ وإن كان يراد به معنى صحيح فإن الله ليس كمثله شيء وهو سبحانه لا يجوز عليه أن يتفرق ولا يفسد ولا يستحيل بل هو أحد صمد، والصمد الذي لا جوف له، وهو السيد الذي كمل سؤدده، فإنهم يدرجون في هذه نفي علوه على خلقه ومباينته لمصنوعاته ونفي ما ينفونه من صفاته ويقولون إن إثبات ذلك يقتضي أن يكون مركبا منقسما وأن يكون له شبيه. وأهل العلم يعلمون أن مثل هذا لا يسمى في لغة العرب التي نزل بها القرآن تركيبا وانقساما ولا تمثيلا، وهكذا الكلام في مسمى الجسم والعرض والجوهر والتحيز وحلول الحوادث، وأمثال ذلك، فإن هذه الألفاظ يدخلون في مسماها الذي ينفونه أموراً مما ووصفه به رسوله
ص -29-(30/28)
فيدخلون فيها نفي علمه وقدرته وكلامه ويقولون إن القرآن مخلوق لم يتكلم الله به، وينفون بها رؤيته لا رؤيته1 على اصطلاحهم لا تكون إلا لمتحيز في جهة وهو جسم، ثم يقولون والله منزه عن ذلك فلا تجوز رؤيته، ولذلك يقولون: المتكلم إلا جسما متحيزاً والله ليس بجسم متحيز، فلا يكون متكلما، ويقولون لو كان فوق العرش لكان جسما متحيزاً والله سحا نه وتعالى ليس بجسم متحيز فلا يكون فوق العرش، وأمثال ذلك إلى آخر كلامه وهو في صفحة ثلاث وثلاثين و مائة.
والمقصود أن قول أهل البدع في الواحد أنه الذي لا ينقسم ولا يتجزأ قول مبتدع لم يقل به أحد من سلف الأمة وأئمتها بل هو من كلام من ينتسب إلى أهل السنة والجماعة من المتكلمين وغيرهم.
وأما قول الشارح في الأحد أنه أحد لا من عدد، فهو كلام لا طائل تحته ولا يفيد شيئا من المعاني بل الذي ينبغي أن يقال ما قاله فيه شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه حيث قال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ} فأدخل اللام في الصمد ولم يدخلها في أحد لأنه ليس في الموجودات ما يسمي أحداً في الإثبات مفرداً غير مضاف بخلاف النفي وما في معناه كالشرط والاستفهام فإنه يقال هل عندك أحد إلا أكرمته وإنما استعمل
__________
1كذا في أصل هذا الكتاب وفي العقل والنقل المطبوع، وهذا التعبير يقتضي إثبات رؤيته والكلام في نفيها والتعبير الصحيح هو: لأن الرؤية على اصطلاحهم الخ، فلعله حصل تحريف في النسخة المطبوعة فسرى إلى ما هنا
ص -30-(30/29)
في العدد المطلق وقال 1 أحد اثنان يقال أحد عشر وفي أول الأيام يقال يوم الأحد إلى أن قال: والمقصود هنا أن لفظ الأحد لم يوصف به شيء من الأعيان إلا الله وحده، وإنما يستعمل في غير الله في النفي، قال أهل اللغة: تقول لا أحد في الدار، ولا تقل فيها أحد، ولهذا لم يجيء في القرآن إلا في غير الموجب كقوله تعالى: {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ}، وكقوله: {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاء}، وقوله: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْه} وفي الإضافة كقوله تعالى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُم}{جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ}، والله أعلم.
__________
1 كذا في الأصل ولعله يقال.
"ومنها" ما ذكره الشارح في الكواكب في صفحة ثلاثة عشر:
فكل ما جاء من الآيات
أو صح في الأخبار عن ثقات
من الأحاديث نمره كما
قد جاء فاسمع من نظامي و اعلما
قوله: فكل ما جاء أي عن الله تعالى من الآيات القرآنية أو صح مجيئه في الأخبار بالأسانيد الصحيحة بخلاف الضعيفة فإن وجودها كعدمها فلابد من أن تكون الأخبار عن رواة ثقات في النقل من الأحاديث والآثار فما يوهم تشبيها فهو من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله نؤمن به وبأنه من عند الله ونمره كما قد جاء عنه تعالى أو عن رسوله. فمذهب السلف عدم الخوض في هذا والسكوت عنه ونفوض علمه إلى الله. قال ابن عباس هذا من المكتوم الذي لا يفسر وكذا قال غيره من الصحابة والتابعين. وأما أهل التأويل فأبوا إلا أن يفسروا ويؤولوا حتى خالفوا سلف الأمة
ص -31-(30/30)
و أئمتها وابتدعوا في ذلك كل بدعة ضلالة انتهى.
فأقول: اعلم وفقك الله أن هذا الكلام الذي أوردته في هذا المقام لا ينبغي أن يؤخذ على إطلاقه ونسبته إلى مذهب أهل السنة والجماعة من السلف رضوان الله تعالى عليهم بل فيه ما هو حق من كلام السلف وفيه ما هو من بعض أقوال المتكلمين الذين ينتسبون إلى أهل السنة ممن كثر في باب أسماء الله وصفاته اضطرابهم وكشف عن معرفته حجابهم فإن السلف رضوان الله عليهم لا يدخلون أسماء الله وصفاته الواردة في الكتاب والسنة في المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله، نعم فيه ما ذكر عن السلف أنهم يمرون آيات الصفات و أحاديثها كما جاءت و سيأتي بيان معنى ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى. قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه في الرسالة المسماة بالإكليل في المتشابه والتأويل:
فصل
و أما إدخال أسماء الله وصفاته أو بعض ذلك في المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله أو اعتقاد أن ذلك هو المتشابه الذي استأثر الله بعلم تأويله كما يقول كل واحد من القولين طوائف من أصحابنا و غيرهم فإنهم وإن أصابوا كثير مما يقولونه ونجوا من بدع وقع فيها غيرهم فالكلام على هذا من وجهين: الأول من قال إن هذا من المشابه وأنه لا يفهم معناه، فنقول: أما الدليل على ذلك فأني ما أعلم عن أحد من سلف الأمة ولا من الأئمة لا أحمد بن حنبل، ولا غيره أنه جعل ذلك من المتشابه الداخل في
ص -32-(30/31)
في هذه الآية ونفى أحد أن يعلم معناه 1 وجعلوا أسماء الله وصفاته بمنزلة الكلام الأعجمي الذي لا يفهم ولا قالوا إن الله ينزل كلاما لا يفهم أحد معناه وإنما قالوا كلمات لها معان صحيحة، قالوا في أحاديث الصفات تمر كما جاءت ونهوا عن تأويلات ا لجهمية وردوها و أبطلوها التي مضمونها تعطيل النصوص عن عما دلت عليه ونصوص أحمد أجمد والأئمة قبله بينة في أنهم كانوا يبطلون تأويلات الجهمية ويقرون النصوص على ما دلت عليه من معناها و يفهمون منه للبعض ما دلت عليه كما يفهمون ذلك في سائر نصوص الوعد والوعيد والفضائل و غير ذلك، وأحمد قد قال في غير أحاديث الصفات تمر كما جاءت في أحاديث الوعيد مثل قوله: "من غشنا فليس منا" وأحاديث فضائل ومقصوده أن الحديث لا يحرف كلمه عن مواضعه كما يفعله من يحرفه ويسمى تحريفه تأويلا بالعرف المتأخر، فتأويل هؤلاء المتأخرين عند الأئمة تحريف باطل وكذلك نص أحمد في كتاب الرد على الزنادقة والجهمية أنهم تمسكوا بمتشابه القرآن وتكلم أحمد على ذلك المتشابه و بين معناه وتفسيره بما يخالف تأويل الجهمية وجرى في ذلك على سنن الأئمة قبله، فهذا اتفاق من الأئمة على أنهم يعلمون معنى هذا المتشابه وأن لا يسكت عن بيانه وتفسيره بل يبين ويفسر، فاتفاق الأئمة من غير تحريف له عن مواضعه أو الحاد في أسماء الله وآياته. انتهى.
فتأمل ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله حيث قال: فهذا اتفاق من
__________
1 كذا ولعل أصله: أن يعلم معناه أحد.
ص -33-(30/32)
الأئمة على أنهم يعلمون معنى هذا المتشابه وأن لا يسكت عن بيانه وتفسيره بل يبين ويفسر، فاتفاق الأئمة من غير تحريف له عن مواضعه أو الحاد في أسماء الله وآياته. ثم تأمل ما ذكر الشارح يقوله: فمذهب السلف عدم الخوض في هذا والسكوت عنه فإنه يخالف ما ذكره شيخ الإسلام عن اتفاق الأئمة على أنهم يعلمون معنى هذا المتشابه، وأن لا يسكت عن بيانه في تفسيره، فتبين أن هذا ليس هو مذهب السلف وأنه من القول عليهم بلا علم ولا برهان يدل على ذلك.
ثم قال شيخ الإسلام: ومما يوضح لك ما وقع هنا من الاضطراب أن أهل السنة متفقون على إبطال تأويلات الجهمية ونحوهم من المحرفين الملحدين، والتأويل المردود هو صرف الكلام عن ظاهره إلى ما يخالف ظاهره، فلو قيل: إن هذا هو التأويل المذكور في الآية وأنه لا يعلمه إلا الله وليس هذا مذهب السلف والأئمة وإنما مذهبهم نقي هذه التأويلات وردها لا التوقف عنها، وعندهم قراءة الآية والحديث تفسيرها وتمر كما جاءت دالة على المعاني لا تحرف ولا يلحد فيها. وذكر كلاما طويلا أجاد فيه وأفاد، وبلغ غاية المراد، فمن أراد الوقوف عليه فهو في الرسالة المسماة بالإكليل في المتشابه والتأويل، وإنما لم نذكره خوف الإطالة إذ المقصود التنبيه على هذه الورطات.
وأما قول الشارح فمذهب السلف عدم الخوض هذا والسكوت عنه وتفويض علمه إلى الله، فاعلم يا أخي أن شيخ الإسلام ابن تيمية ذكر
ص -34-(30/33)
في العقل والنقل أقوال أهل التفويض فنذكر من ذلك ما يدل على بطلانه وأنه من شر أقوال أهل البدع والإلحاد. قال شيخ الإسلام قدس الله روحه في صفحة خمسة عشر ومائة في الوجه السادس عشر وأما التفويض فمن المعلوم أن الله تعالى أمرنا أن نتدبر القرآن وحضنا على عقله وفهمه فكيف يجوز مع ذلك أن يراد منا الإعراض عن فهمه ومعرفته وعقله؟ فذكر أقوال الفلاسفة ثم قال: والجهمية والمعتزله وأمثالهم يقولون أنه أراد أن يعتقدوا الحق على ما هو عليه مع علمهم بأنه لم يبين ذلك في الكتاب والسنة بل النصوص تدل على نقيض ذلك فأولئك يقولون أراد منهم اعتقاد الباطل وأمرهم به، وهؤلاء يقولون أراد اعتقاد ما لم يدلهم إلا على نقيضه، والمؤمن يعلم بالاضطرار أن كلا القولين باطلا ولابد للنفاة أهل التأويل من هذا أو هذا، وإذا كان كلاهما باطلا كان تأويل النفاة للنصوص باطلا فيكون نقيضه حقا وهو إقرار الأدلة الشرعية على مدلولاتها ومن خرج عن ذلك لزمه الفساد ما لا يقوله أهل الإلحاد، وما ذكرناه من لوازم قول أهل التفويض هو لازم لقولهم الظاهر المعروف بينهم إذ قالوا إن الرسول كان يعلم معاني هذه النصوص المشكلة المتشابهة ولكن لم يبين للناس مراده بها ولا أوضحه إيضاحا يقطع به النزاع. وأما على قول أكابرهم إن معاني هذه النصوص المشكلة المتشابهة لا يعلمه إلا الله، وأن معناها الذي أراده الله بها هو ما يوجب صرفها عن ظواهر – فعلى قول هؤلاء يكون الأنبياء والمرسلون لا يعلمون معاني ما أنزل الله عليهم من هذه النصوص ولا
ص -35-(30/34)
الملائكة ولا السابقون الأولون وحينئذ فيكون ما وصف الله به نفسه في القرآن أو كثير مما وصف الله به نفسه لا يعلم
الأنبياء معناه بل بقولون كلاما لا يعقلون معناه، وذلك نصوص المثبتين للقدر عند طائفة والنصوص المثبتة للأمر والنهي والوعد والوعيد عند طائفة، والنصوص المثبتة للمعاد عند طائفة، ومعلوم أن هذا قدح في القرآن والأنبياء إذ كان الله أنزل القرآن وأخبر أنه جعله هدى وبيانا للناس، وأمر الرسول أن يبلغ البلاغ المبين وأن يبين للناس ما نزل إليهم، وأمر بتبدبر القرآن وعقله ومع هذا فأشرف ما فيه وهو ما أخبر به الرب عن صفاته أو عن كونه خالقا لكل شيء وهو بكل شيء عليم أو عن كونه أمر ونهى ووعد وتوعد أو عما أخبر به عن اليوم الآخر لا يعلم أحد معناه فلا يعقل ولا يتدبر ولا يكون الرسول بين للنا س ما نزل إليهم ولا بلغ البلاغ المبين، وعلى هذا التقدير فيقول كل ملحد ومبتدع: الحق في نفس الأمر ما علمته برأيي وعقلي وليس في النصوص ما ينافي ذلك، لأن تلك النصوص مشكلة متشابهة ولا يعلم أحد معناها وما لا يعلم أحد معناه لا يجوز أن يستدل به فيبقي هذا الكلام سداً لباب الهدى والبيان من جهة الأنبياء وفتحا لباب من يعارضهم ويقول أن الهدى والبيان في طريقنا لا في طريق الأنبياء لأنا نحن نعلم ما نقول ونبينه بالأدلة العقلية والأنبياء لم يعلموا ما يقولون فضلا عن أن يبينوا مرادهم. فتبين أن قول أهل التقويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة والسلف من شر أقوال أهل البدع و الإلحاد آخر إلى كلامه رحمه الله
ص -36-(30/35)
وأما قول الشارح قال ابن عباس هذا من المكتوم الذي لا يفسر وكذا قال غيره من الصحابة والتابعين، وأما أهل التأويل فأبوا إلا أن يفسروا ويؤولوا حتى خالفوا سلف الأمة وأئمتها وابتدعوا في ذلك وكل بدعة ضلالة انتهى.
فاعلم يا أخي أن هذا القول الذي نسبة الشارح إلى ابن عباس رضي الله عنه وغيره من الصحابة إن كان صحيحا ثابتا فليس معناه ما توهمه الشارح من أن نصوص الكتاب والسنة الواردة في أسماء الله وصفاته أن 1 مما يوهم تشبيها فيكون من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله، وأنه مما لا يعقل معناها 2 وأنها لا تفسر وقد تقدم بيان ذلك في معنى التفويض ونزيد ذلك إيضاحا بما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه في هذا الكتاب حيث قال: وأما تأويل ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر فهو نفس الحقيقة التي أخبر عنها، وذلك في حق الله هو كنه ذاته وصفاته التي لا يعلمها غيره. ولهذا قال مالك وربيعة وغيرهما: الاستواء معلوم، والكيف مجهول.
__________
1 كذا في النسخة فأما أن تكون "أنه" هنا تأكيداً لأنه في أول الجملة، وإما أن تكون سبق قلم، فأن ما بعدها خبر لأنه الأولى، وحاصل المعنى أن النصوص المذكورة ليست من المتشابه الذي لا يعقل كما توهم الشارح.
2 تذكير ضمير "وأنه" لأنه راجع إلى "ما توهمه الشارح" وتأنيثه في "كلمة معناها" لرجوعه إلى النصوص، وربما كان سهوا في النسخ.
وكذلك قال ابن الماجشون وأحمد بن حنبل وغيرهما من السلف يقولون: إنا لا نعلم كيفية ما أخبر الله عن نفسه وإن علمنا تفسيره ومعناه. ولهذا
ص -37-(30/36)
رد أحمد بن حنبل على الجهمية والزنادقة فيما طعنوا فيه من متشابه القرآن وتأولوه على غير تأويله فرد على من حمله على غير ما أريد به وفسر هو جميع الآيات المتشابهة وبين المراد به. وكذلك الصحابة والتابعون فسروا جميع القرآن وكانوا يقولون إن العلماء يعلمون تفسيره وما أريد به وإن لم يعلموا كيفية ما أخبر الله به عن نفسه وكذلك لا يعلمون كيفيات الغيب فإن ما أعده الله لأوليائه من النعيم ما لا عين رأته ولا أذن سمعته ولا خطر على قلب بشر، فذاك الذي أخبر به لا يعلمه إلا الله بهذا المعنى فهذا حق. وأما من قال إن التأويل الذي هو تفسيره وبيان المراد به لا يعلمه إلا الله فهذا ينازعه فيه عامة الصحابة والتابعين الذين فسروا القرآن كله، وقالوا إنهم يعلمون معناه كما قال مجاهد عرضت المصحف على ابن عباس من فاتحته إلى خاتمته أقف عند كل آية واسأله عنها، وقال ابن مسعود ما في كتاب الله آية لا وأنا أعلم فيم أنزلت، وقال الحسن البصري ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن يعلم ما أراد بها. ولهذا كانوا يجعلون القرآن يحيط بكل ما يطلب من علم الدين، كما قال مسروق ما نسأل أصحاب محمد عن شيء إلا وعلمه في القرآن ولكن علمنا قصر عنه. وقال الشعبي ما ابتدع قوم بدعة إلا في كتاب الله بيانها، وأمثال ذلك من الآثار الكثيرة المذكورة بالأسانيد الثابتة مما ليس هذا موضع بسطه. انتهى
فهذا ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه من علم الكيفية عما أخبر الله به عن نفسه وكذلك لا يعلمون كيفيات الغيب فإن ما أعده
ص -38-(30/37)
الله لأوليائه من النعيم مما لا عين رأته ولا أذن سمعته ولا خطر على قلب بشر، فذاك الذي أخبر الله به لا يعلمه إلا الله بهذا المعنى، فهذا الذي ذكره شيخ الإسلام هو الذي يحمل عليه قول ابن عباس وغيره من الصحابة إن كان النقل بذلك ثابتا عنهم. وقد تقدم أن السلف رضوان الله عليهم كانوا يقولون: إنا لا نعلم كيفية ما أخبر الله عن نفسه وإن علمنا تفسيره ومعناه فكان من المعلوم أن ابن عباس وغيره من الصحابة وأئمة السلف كانوا يفسرون ما تشابه من القرآن يعلمون معني ذلك ولم يسكتوا عن بيان ذلك.
"وأما قول الشيخ": وأما أهل التأويل فأبوا إلا أن يفسروا ويؤولوا حتى خالفوا سلف الأمة وأئمتها وابتدعوا في ذلك وكل بدعة ضلالة. انتهى.
فاعلم يا أخي أن التأويل المردود الذي سلكه الجهمية ومن تبعهم من المتكلمين هو صرف الكلام عن ظاهره فلو قيل: إن هذا هو التأويل المذكور في الآية وأنه لا يعلمه إلا الله لكان في هذا تسليم للجهمية أن للآية تأويلا يخالف دلالتها لكن ذلك لا يعلمه إلا لله وليس هذا مذهب السلف والأئمة وإنما مذهبهم نفي هذه التأويلات وردها لا التوقف عنها، وعندهم قراءة الآية والحديث تفسيرها وتمر كما جاءت دالة على المعاني لا تحرف ولا يلحد فيها، فكان من المعلوم أن السلف الذي قالوا لا يعلم تأويله إلا الله كانوا يتكلمون بلغتهم المعروفة بينهم ولم يكن
ص -39-(30/38)
لفظ التأويل عندهم يراد به معنى التأويل الاصطلاحي الخاص وهو صرف اللفظ عن المعنى المدلول عليه المفهوم منه إلى معنى يخالف ذلك فان تسمية هذا المعنى وحده تأويلا إنما هو اصطلاح طائفة من المتأخرين من الفقهاء والمتكلمين وغيرهم ليس هو عرف السلف من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وغيرهم كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه، والله اعلم. إذا تبين لك هذا فاعلم أن مراد من قال من السلف رضي لله عنهم أنه لا يفسر يعنون أنه لايؤول ويحرف فيصرف عن ظاهره إلى ما لا يدل عليه ظاهره كما أولوا الاستواء وفسروه بأنه الاستيلاء وكما فسروا اليد بالنعمة وهذا هو الذي نهى السلف عن تفسيره وتأويله بهذا المعنى. والله أعلم.
"فصل"
ومنها ما ذكره في الوجه الرابع والعشرين على قول الناظم:
سبحانه قد استوى كما ورد
من غير كيف قد تعالى أن يحد
فقال: تعالى الله أن يحد. وفيه الرد على من زعم أن يلزم من كونه مستويا على عرشه أن يحد تعالى الله عن ذلك إذ المحدود محدث، والمحدث مفتقر للخالق، والخالق سبحانه {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}، الأول من غير بداية، والآخر من غير نهاية، والظاهر من غير تحديد، والباطن من غير تخصيص، موجود بالوجود القديم من غير تشبيه ولا تكييف.
ص -40-(30/39)
فأقول: اعلم وفقك الله أن هذا الكلام الذي أورده الشارح في هذا المقام من الألفاظ المجملة الموهمة المطلقة المحتملة لمعنيين حق وباطل فلا ينفصل النزاع إلا بتفصيل تلك المعاني وتنزيل ألفاظها عليها كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى على هذه الألفاظ المبتدعة المخترعة التي لم ينطق بها سلف الأمة وأئمتها، ويقولون نحن ننزه الله تعالى عن الأعراض والأغراض والأبعاض والحدود والجهات وحلول الحوادث، فيسمع الغر المخدوع هذه الألفاظ فيتوهم منها أنهم ينزهون الله عما يفهم من معانيها عند الإطلاق من العيوب والنقائص والحاجة فلا يشك أنهم يمجدونه، ويعظمونه ويكشف الناقد البصير ما تحت هذه الألفاظ فيرى تحتها لإلحاد وتكذيب الرسل وتعطيل الرب تعالى عما يستحقه من كماله – إلى آخر كلامه. وقد تقدم.
وقال شيخ الإسلام قدس الله روحه: وكذلك إذا قالوا إن الله منزه عن الحدود والأحياز والجهات أوهموا الناس بأن مقصودهم بذلك أنه لا تحصره المخلوقات ولا تحوزه المصنوعات، وهذا المعنى صحيح مقصودهم أنه ليس مباينا للخلق ولا منفصلا عنه، وأنه ليس فوق السموات ولا على العرش إله، وأن محمداً لم يعرج به إليه ولم ينزل منه شيء ولا يصعد إليه شيء ولا يتقرب إليه بشيء ولا ترفع الأيدي إليه في الدعاء ولا غيره ونحو ذلك من معاني الجهمية. انتهى.
فإذا تبين لك هذا فاعلم أن قول الشارح على هذه اللفظة المحتملة الموهمة المطلقة حيث قال: تعالى الله أن يحد وفيه الرد على من زعم أنه يلزم
ص -41-(30/40)
من كونه مستويا على عرشه أن يحد، تعالى الله عن ذلك، إذ المحدود محدث، والمحدث مفتقر للخالق إلى آخر كلامه هو من كلام أهل البدع من الجهمية وغيرهم ممن نحا نحوهم من المتكلمين. فإذا كان هذا هو المفهوم من كلام الناظم والشارح قطعا ولا محيد عنه لإطلاقه ألفاظا لم ينطق بها الكتاب والسنة ولا نطق بها أئمة السلف رضوان الله عليهم بل المتكلم بها من هؤلاء المبتدعة يوهمون الناس أن مقصودهم بذلك أنه لا تحصره المخلوقات، ولا تحوزه المصنوعات، وهذا المعنى صحيح، ولكن مقصودهم هو ما تقدم بيانه عنهم من كلام شيخ الإسلام آنفا. وإذا كان ذلك كذلك فنحن نسوق كلام أئمة السلف رضوان الله تعالى عليهم في هذا المقام ليتبين لك خطأ الناظم والشارح.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه في العقل والنقل بعد أن ذكر كلاما طويلا قال: وقال حنبل في موضع آخر عن أحمد قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} في ذاته كما وصف به نفسه قد أجمل تبارك وتعالى بالصفة لنفسه فحد لنفسه صفة ليس يشبهه شيء فنعبد الله بصفاته غير محدودة ولا معلومة إلا بما وصف به نفسه، قال فهو سميع بصير بلا حدود ولا تقدير ولا يبلغ الواصفون صفته وصفاته منه وله، ولا نتعدى القرآن والحديث، فنقول كما قال، ونصفه كما وصف نفسه، ولا نتعدى ذلك ولا تبلغه صفة الواصفين؛ نؤمن بالقرآن كله محكمه ومتشابهه، ولا نزيل عنه صفة من صفاته لشناعة شنعت وما وصف به نفسه من كلام ونزول وخلوه بعبده
ص -42-(30/41)
يوم القيامة ووضعه كنفه عليه، هذا يدل على أن الله تبارك وتعالى يرى في الآخرة، والتحديد في هذا كله بدعة، والتسليم لله بأمره بغير صفة ولا حد إلا ما وصف به نفسه، سميع بصير لم يزل متكلما، عالما غفورا، عالم الغيب والشهادة علام الغيوب، فهذه صفات وصف بها نفسه لا تدفع ولا ترد، وهو على العرش بلا حد كما قال تعالى: { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} كيف شاء، المشيئة إليه عز وجل والاستطاعة ليس كمثله شيء وهو خالق كل شيء وكما وصف نفسه سميع بصير بلا حدود ولا تقدير. قال إبراهيم لأبيه: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ}، فنثبت أن الله سميع بصير صفاته منه لا نتعدى القرآن والحديث، والخبر: "يضحك الله"، ولا نعلم كيف ذلك إلا بتصديق الرسول، وبتثبيت القرآن، لا يصفه الواصفون، ولا يحده أحد تعالى الله عما تقول الجهمية والمشبهة. "قلت": والمشبهة ما يقولون؟ قال من قال: بصر كبصري، ويد كيدي، وقدم كقدمي، فقد شبه الله بخلقه، وهذا يحده – وهذا كلام سوء وهذا محدود والكلام في هذا لا أحبه.
وقال محمد بن مخلد، قال أحمد: نصف الله بما وصفه به نفسه وبما وصفه به رسوله. وقال يوسف بن موسى: إن أبا عبد الله قيل له: ولا يشبه ربنا شيئا من خلقه؟ قال نعم {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، فقول أحمد أنه ينظر إليهم ويكلمهم كيف شاء، وإذا شاء. وقوله: وهو على العرش بلا حد، كما قال: { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}، كيف شاء، المشيئة إليه والاستطاعة له ليس كمثله شيء يبين أن نظره وتكليمه وعلوه على العرش واستواءه على العرش مما
ص -43-(30/42)
يتعلق بمشيئته واستطاعته، وقوله بلا حد ولا صفة يبلغها واصف أو يحده أحد ـ نفي به إحاطة علم الخلق به وأن يحدوه أو يصفوه علي ما هو عليه إلا بما أخبر به عن نفسه ليتبين أن عقول الخلق لا تحيط بصفاته، كما قال الشافعي في خطبة الرسالة: الحمد لله الذي هو كما وصف به نفسه وفوق ما يصف به خلقه 1 ولهذا قال أحمد لا تدركه الأبصار يجد ولا غاية. فنفى أن يدرك له حد أو غاية. فهذا أصح القولين في تفسير الإدراك وقد بسط الكلام على شرح هذا الكلام في غير هذا الموضع.
وما في هذا الكلام من نفي تحديد الخلق وتقديرهم لربهم وبلوغهم صفته لا ينافي ما نص عليه أحمد وغيره من الأئمة كما ذكره الخلال أيضا. قال حدثنا أبو بكر المروذى قال سمعت أبا عبد لله لما قيل له: روى علي بن الحسن ابن شقيق عن ابن المبارك أنه قيل له: كيف نعرف الله عز وجل؟ قال على العرش بحد. قال قد بلغني ذلك عنه و أعجبه ثم قال أبو عبد الله، {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَام} ثم قال: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً}. قال الخلال: وأنبأنا محمد بن علي الوراق حدثنا أبو بكر الأثرم حدثني محمد بن إبراهيم القيسي قال قلت لأحمد بن حنبل يحكي عن
__________
1 كذا وقد سقط من عبارة الشافعي كلام بين الحمد وهذا الوصف يحتمل أن يكون عمدا للاختصار، وأن يكون سهوا – ومنه قوله: فعل محل الشاهد هنا: ولا يبلغ الواصفون كنه عظمته، الذي هو كما وصف نفسه وفوق ما يصفه به خلقه. ا هـ ?
ص -44-(30/43)
ابن المبارك وقيل له نعرف ربنا؟ قال: في السماء السابعة على عرشه بحد فقال أحمد هكذا هو عندنا وأخبرني حرب بن إسماعيل قال: قلت لإسحاق يعني ابن راهويه: هو على العرش بحد؟ قال: نعم بحد، وذكر عن ابن المبارك قال: هو على عرشه بائن من خلقه بحد، قال: وأخبرني المروذي قال: قال إسحاق بن إبراهيم بن راهويه قال الله تبارك وتعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}، إجماع أهل العلم أنه فوق العرش استوى ويعلم كل شيء في أسفل الأرض السابعة وفي قعور البحار ورؤس الآكام وبطون الأودية، وفي كل موضع كما يعلم علم ما في السموات السبع وما فوق العرش، أحاط بكل شيء علما، فلا تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة ظلمات البر والبحر إلا وقد عرف ذلك كله وأحصاه، فلا تعجزه معرفة شيء عن معرفة غيره. فهذا بينوا أن ما أثبتوه له من الحد لا يعلمه غيره، كما قال مالك وربيعة وغيرهما: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، فتبين أن كيفية استوائه مجهولة للعباد، فلم ينفوا ثبوت ذلك في نفس الأمر، ولكن نفوا علم الخلق به، وكذلك مثل هذا في كلام عبد العزيز بن عبد الله بن الماجشون وغير واحد من السلف والأئمة ينفون علم الخلق بقدره وكيفيته، وبنحو ذلك قال عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون في كلامه المعروف. وقد ذكره ابن بطة في الإبانة وأبو بكر الطلمنكي في كتابه الأصول ورواه أبو بكر الأثرم، قال حدثنا عبد الله بن صالح عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة أنه قال: أما بعد، فقد فهمت ما سألت عنه فيما تتابعت فيه الجهمية
ص -45-(30/44)
ومن خالفها في صفة الرب العظيم الذي فاقت عظمته الوصف والتقدير وكلت الألسن عن تفسير صفته، وانحسرت العقول عن معرفة قدره، إلى أن قال: فإنه لا يعلم كيف هو، وكيف يعرف قدر من لا يموت ولا يبلى؟ وكيف يكون لصفة شيء منه حد أو منتهى يعرفه عارف، أو يحد قدره واصف، الدليل على عجز العقول عن تحقيق صفته، عجزها عن تحقيق صفة أصغر خلقه، – إلى أن قال: اعرف رحمك الله غناك عن تكلف صفة ما لم يصف الرب من نفسه بعجزك عن معرفة قدر ما وصف منها، إذا لم تعرف قدر ما وصف، فما تكلفك علم ما لم يصف؟ هل تستدل بذلك على شيء من طاعته، أو تنزجر عن شيء من معصيته؟ وذكر كلاما طويلا إلى أن قال: فأما الذي جحد ما وصف الرب من نفسه تعمقا وتكلفا قد استهوته الشياطين في الأرض حيران، فصار يستدل بزعمه على جحد ما وصف الرب وسمى من نفسه بأن قال: لا بد إن كان له كذا من أن يكون له كذا، فعمي عن البين بالخفي بجحد ما سمى الرب من نفسه ويصف الرب بما لم يسم فلم يزل يملي له الشيطان حتى جحد قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}، فقال لا يراه أحد يوم القيامة، فجحد والله أفضل كرامة الله التي أكرم بها أولياءه يوم القيامة من النظر في وجهه {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} قد قضى أنهم لا يموتون فهم بالنظر إليه ينضرون. وذكر كلاما طويلا كتب في غير هذا الموضع، ثم ذكر بعد هذا كلام الإمام عثمان بن سعيد الدارمي في كتابه الذي سماه "رد عثمان بن
ص -46-(30/45)
سعيد، على الكافر العنيد، فيما افتراه على الله في التوحيد" فقال:
"باب الحد والعرش"
قال أبو سعيد: وادعى المعارض أيضاً أنه ليس لله حد ولا غاية ولا نهاية، قال: وهذا هو الأصل الذي بنى عليه جهم جميع ضلالاته، واشتق منها جميع أغلوطاته، وهي كلمة لم يبلغنا أنه سبق جهما إليها أحد من العالمين. فقال له قائل ممن يحاوره: قد علمت مرادك أيها الأعجمي، تعني أن الله لا شيء، لأن الخلق كلهم قد علموا أنه ليس شيء يقع عليه اسم شيء إلا وله حد وغاية وصفة، وأن لا شيء ليس له حد ولا غاية ولا صفة، فالشيء أبداً موصوف لا محالة، ولا شيء يوصف بلا حد ولا غاية، وقولك لا حد له تعني أنه لا شيء، قال أبو سعيد: والله تعالى له حد لا يعلمه أحد غيره ولا يجوز لأحد أن يتوهم لحده غاية في نفسه، لكن يؤمن بالحد وبكل علمه. انتهى.
إذا فهمت هذا وتحققته، تبين لك منافاة ما قاله الناظم والشارح لكلام أئمة السلف رضوان الله عليهم، لأن مرادهم في قولهم بلا حد كما قال أحمد وهو على العرش بلا حد، وقوله: وكما وصف نفسه سميع بصير بلا حد، وقوله لا يصفه الواصفون ولا يحده أحد. فمرادهم بقوله بلا حد، معناه ما ذكره شيخ الإسلام قدس الله روحه بقوله بلا حد ولا صفة يبلغها واصف أو يحده أحد نفى به إحاطة علم الخالق به، وأن يحدوه أو يصفوه على ما هو عليه إلا بما أخبر به عن نفسه ليتبين أن عقول الخلق لا تحيط بصفاته كما قال الشافعي في خطبة الرسالة: الحمد لله الذي هو كما وصف به نفسه وفوق
ص -47-(30/46)
ما يصفه به خلقه. ولهذا قال أحمد: لا تدركه الأبصار بحد ولا غاية، فنفى أن يدرك له حد أو غاية، وكذلك ما ذكره الإمام عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون حيث قال: وكيف يكون لصفة شيء منه حد أو منتهى يعرفه عارف، أو يحد قدره واصف إلى آخر كلامه.
فهذا ما ذكره أئمة السلف رضوان الله عليهم في معنى قولهم بلا حد، وهو خلاف ما فهمه الشارح في معنى قولهم بلا حد، فإنه قال: وفيه رد على من زعم أنه يلزم من كونه مستويا على عرشه أن يحد تعالى الله عن ذلك، إذ المحدود محدث، والمحدث مفتقر للخالق، وهذا يوافق ما قاله أهل البدع من أهل الكلام وغيرهم ممن أخذ بأقوال الجهمية المنكرين لعلوه على عرشه، ومباينته لمخلوقاته كما ذكر ذلك عنهم الإمام عثمان بن سعيد الدارمي في رده على بشر المريسي حيث قال: وادعى المعارض أيضا أنه ليس لله حد ولا غاية ولا نهاية، قال: وهذا هو الأصل الذي بنى عليه جهم جميع ضلالاته واشتق منها جميع أغلوطاته، وهي كلمة لم يبلغنا أنه سبق جهما إليها أحد من العالمين، فقال له قائل ممن يحاوره: قد علمت مرادك أيها الأعجمي، تعني أن الله لا شيء لأن الخلق كلهم قد علموا أنه ليس شيء يقع عليه اسم الشيء إلا وله حد وغاية أو صفة، وأن لا شيء ليس له حد ولا غاية ولا صفة، فالشيء أبداً موصوف لا محالة، ولا شيء يوصف بلا حد ولا غاية، وقولك لا حد له، تعني أنه لا شيء، قال أبو سعيد: والله تعالى له حد لا يعلمه أحد غيره، ولا يجوز لأحد أن يتوهم لحده غاية في نفسه، ولكن يؤمن بالحد، وبكل علم، انتهى.
ص -48-(30/47)
فإذا كان ذلك كذلك تعين ما ذكره أئمة السلف حيث قالوا: كيف نعرف الله عز وجل؟ قال: على العرش بحد كما رواه علي بن الحسين بن شقيق عن عبد الله بن المبارك رضي الله عنه، وكما رواه الخلال بإسناده إلى الإمام أحمد أنه قيل له: يحكى عن ابن المبارك وقيل له: كيف تعرف ربنا؟ قال: على عرشه بحد، قال أحمد: هكذا هو عندنا، وذكر أيضا عنه حرب بن إسماعيل قال: قلت لإسحاق، يعني ابن راهويه: هو على العرش بحد؟ قال: نعم بحد. وذكر عن ابن المبارك، قال: هو على عرشه بائن من خلقه بحد. ثم قال شيخ الإسلام بعد أن ذكر أقوال أئمة السلف: إنه بحد، قال رحمه الله: بينوا أن ما أثبتوه له من الحد لا يعلمه غيره كما قال مالك وربيعة وغيرهما: الاستواء معلوم، والكيف مجهول. فبين أن كيفية استوائه مجهولة للعباد، فلم ينفوا ثبوت ذلك في نفس الأمر، ولكن نفوا علم الخلق به. واعلم أني أعدت هذا الكلام وكررته ليتبين لك ما بين اللفظين من قوله: بلا حد، ومن قوله: بحد، لتعلم الفرق بين هاتين اللفظين كما بينه شيخ الإسلام فيما تقدم. والله أعلم 1
__________
1 قال الحافظ الذهبي في ترجمة الحافظ محمد بن حبان أبي حاتم البستي من الميزان ما نصه: قال أبو إسماعيل الهروي شيخ الإسلام، سألت يحيى بن عمار عن أبي حاتم بن حبان، فقال: رأيته ونحن أخرجناه من سجستان كان له علم كثير، ولم يكن له كبير دين: قدم علينا فأنكر الحد لله، فأخرجناه. قلت: إنكاره الحد وإثباتكم للحد نوع من فضول الكلام والسكوت عن الطرفين أولى، إذ لم يأت نص ينفي ذلك ولا إثباته، والله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فمن أثبته، قال له خصم: جعلت لله حداً برأيك ولا نص معك بالحد. والمحدود مخلوق، تعالى الله عن ذلك. وقال هو للنافي: ساويت ربك بالشيء المعدوم، إذ المعدوم لا حد له. فمن نزه الله وسكت سلم وتابع السلف.
ص -49-(30/48)
وأما قول الشارح: والخالق هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم، الأول من غير بداية، والآخر من غير نهاية، والظاهر من غير تحديد، والباطن من غير تخصيص، إلى آخر كلامه.
فاعلم وفقك الله أن في هذا الكلام ألفاظ لم يقل بها أحد من أئمة السلف رضي الله عنهم، كقوله: والظاهر من غير تحديد، والباطن من غير تخصيص، فلنسلم معنى ما ذكره من هذه الألفاظ لما تقدم بيانه.
والذي ذكره أئمة السلف هو ما ذكره ابن القيم رحمه الله في سفر الهجرتين حيث قال:
وقد فسر أعلم الخلق بربه هذه الآية، قوله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}، بأنه هو الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، والظاهر الذي فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء، فهذا تفسير أعلم الخلق بربه، ولا حاجة بنا إلى تفسير من لا عصمة في قوله، وقد بينا فيما تقدم أن هذا من كلام أهل البدع، وأنهم يوهمون الناس أن مقصودهم بذلك أن لا تحصره المخلوقات، ولا تحوزه المصنوعات، وهذا المعنى صحيح. ومقصودهم أنه ليس مباينا للخلق، ولا منفصلا عنه، وأنه ليس فوق السموات رب، ولا على العرش إله. وقد تقدم هذا في كلام شيخ الإسلام بتمامه.
ص -50-
وأما قوله: والباطن من غير تخصيص – فهو أيضا من كلام أهل البدع كما ذكره شيخ الإسلام عن ابن التومرت الذي يسمونه المهدي، وهو من نفاة الصفات. والجواب عما ذكره ابن التومرت مذكور في العقل والنقل في صفحة سبع ومائتين في الجلد الأخير في الجزء الثالث، فمن أراد الوقوف عليه فليراجعه هناك، والله أعلم.(30/49)
ومنها ما ذكره الشارح في صفحة سبع وعشرين على قوله: "ونهجه" أي نهج اليد والوجه ونحوهما، أي كل ما ورد من الأوصاف من الرجل والقدم والصورة، فأقول:
اعلم أن ما ذكره الشارح من قوله: والصورة إن أراد به ما أخبر به صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح كما في البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله خلق آدم على صورته"، ورواه الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، ولفظه: "خلق آدم على صورة الرحمن". قال شيخ الإسلام: ورواه الأعمش مسندا، وكما ورد في الحديث "فيأتيهم على الصورة التي يعرفونها، فيقول: أنا ربكم". فما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك فهو الحق الذي لا ريب فيه. ولكن لا نقول إلا ما ورد به النص عن رسول الله عليه وسلم، ولا يجوز لأحد أن يطلق على الله أنه صورة، لأن ذلك لم يرد في الكتاب ولا في السنة لا نفيا ولا إثباتاً، ولا سمى الله به نفسه. فإطلاق هذه الألفاظ على الله من أقوال أهل البدع التي تلقاها من خلف منهم عمن سلف
ص -51-
قال ابن القيم رحمه الله في المدارج بعد أن ذكر كلاما سبق: إن الفعل أوسع من الاسم، ولهذا أطلق على نفسه أفعالا لم يتسم منها بأسماء الفاعل، كأراد وشاء وأحدث، ولم يسم بالمريد والمشيء والمحدث، كما لم يسم نفسه بالصانع والفاعل والمتقن وغير ذلك من الأسماء التي أطلق أفعالها على نفسه، فباب الأفعال أوسع من باب الأسماء، وقد أخطأ أقبح خطأ من اشتق له من كل فعل اسما، وبلغ بأسمائه زيادة على الألف، فسماه الماكر والخادع والفاتن والكائد ونحو ذلك، وكذلك باب الإخبار عنه بالاسم أوسع من تسميته به، فإنه يخبر عنه بأنه شيء موجود ومذكور ومعلوم ومراد ولا يسمى بذلك. انتهى.(30/50)
فإذا تبين لك هذا، فاعلم أن من أدخل اسم الصورة في أسماء الله قد أخطأ أقبح خطأ، لأن باب الأفعال والإخبار عن الله أوسع من باب الأسماء، ولفظ الصورة لم يذكره أحد من علماء أهل السنة والجماعة في عقائدهم وإنما ذكر ذلك بعض من ينتسب إلى أهل السنة، فمن اشتق من أفعال الله سبحانه وتعالى أسماء وأوصافا لم يذكرها الله ولا رسوله إلا على سبيل الإخبار، فنقول في ذلك ما قاله الله ورسوله، وأخبر به في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لا نتجاوز القرآن والحديث، والله أعلم. وقد تقدم التنبيه على أن السلف رضوان الله عليهم قد فسروا آيات الصفات وأحاديثها، وبينوا من معانيها ونهوا عن تأويلات الجهمية، وذكرنا ما ذكره شيخ الإسلام من أن مذهب أهل التفويض أشر المذاهب وأخبثها، ونسبة ذلك إلى السلف
ص -52-
من الكذب عليهم، والله أعلم.
ومنها" ما ذكره في صفحة ثمان وسبعين على قول الناظم:
فسائر الصفات والأفعال
قديمة لله ذي الجلال(30/51)
قال الشارح: وسائر الأفعال من الاستواء أو النزول والإتيان والمجيء والتكوين ونحوها قديمة عند سلف الأمة وأئمتها لله ذي الجلال والإكرام ليس منها شيء محدث وإلا لكان محلا للحوادث وما حلت به الحوادث فهو حادث تعالى الله عن ذلك، انتهى.
فأقول: اعلم أنا قد قدمنا فيما قبل من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وكلام تلميذه ابن القيم الذين هم سادات الحنابلة وأئمتهم ما فيه الكفاية، ولكن لابد من التنبيه على بعض ذلك ليتبين لك أن نسبة ذلك إلى سلف الأمة وأئمتها من الكذب عليهم وإنما هو كلام سلف أئمة أهل البدع والضلال الذين ينتسبون إلى مذهب أهل السنة والجماعة. فمن ذلك أن شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم ذكرا أن مذهب السلف وأئمتها أن أفعال الله سبحانه وتعالى قديمة النوع حادثة الآحاد، وأن الله سبحانه لم يزل متكلما إذا شاء ولم يزل فاعلا إذا شاء أولم تزل الإرادات والكلمات تقوم بذاته شيئا بعد شيء ونحو ذلك. فإذا عرفت هذا تبين لك أن قول الشارح في أفعال الله الاختيارية: ليس منها شيء محدث وإلا كان محلا للحوادث وما حلت به الحوادث فهو حادث تعالى الله عن ذلك - ليس هو من كلام السلف وأئمتها، بل هو
ص -53-(30/52)
من كلام أهل البدع المخالفين للسلف كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى. وأما حلول الحوادث فير يدون به: أنه لا يتكلم بقدرته ومشيئته ولا ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا ولا يأتي يوم القيامة ولا يجيء ولا يغضب بعد أن كان راضيا ولا يرضى بعد أن كان غضبان ولا يقوم به فعل البتة ولا أمر مجدد بعد أن لم يكن ولا يريد شيئا بعد أن لم يكن مريداً له فلا يقول له كن حقيقة ولا استوى على عرشه بعد أن لم يكن مستويا ولا يغضب يوم القيامة غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله ولا ينادي عباده يوم القيامة بعد أن لم يكن مناديا ولا يقول للمصلي: ".. إذا قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} حمدني عبدي، فإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال: أثني علي عبدي، فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قال: مجدني عبدي.."، فإن هذه كلها حوادث، وهو منزه عن حلول الحوادث، انتهى. وقد تقدم كلام شيخ الإسلام، وفيه الكفاية.
ثم إن من المعلوم عند من له إلمام بالمعارف والعلوم أن نزول الله سبحانه وتعالى إلى سماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر وكذلك مجيئه لفصل القضاء بين العباد يوم القيامة لم يكن قديماً قبل أن يخلق السموات والأرض في الأزل بل ذلك فيما لم يزل إلى يوم القيامة بمشيئته وقدرته وإرادته كما يشاء أن ينزل وكما يشاء أن يجيء ويأتي على ما يليق بعظمته وجلاله. ومن تأمل كلام شمس الدين ابن القيم حق التأمل تبين له ما قاله أئمة السلف وتبين له أيضا ما يقوله أئمة أهل البدع وما تحت ألفاظهم المجملة التي لم ينطق بها كتاب ولاسنة ولم يتكلم بها أصحاب رسول الله
ص -54-(30/53)
صلى الله عليه وسلم ولا التابعون ولا من بعدهم من الأئمة المهتدين، والله أعلم.
وكذلك ما قاله الشارح بعد هذا، قال سفيان بن عيينة كل ما وصف الله به نفسه في كتابه فتفسيره قراءته، والسكوت عنه ليس لأحد أن يفسره إلا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. فأقول قد تقدم الكلام على ذلك وإنما مقصود السلف بذلك تأويله وصرفه عن ظاهره. وأما قوله وسمع الإمام أحمد رحمه الله شخصا يروي حديث النزول ويقول: ينزل بغير حركة ولا انتقال، ولا تغير حال، فأنكر الإمام أحمد عليه ذلك وقال: قل كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو أغير على ربه منك، فأقول نعم، قد كان أحمد ينكر هذه الألفاظ التي لم يأت بها كتاب ولا سنة ولا نطق بها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من بعدهم من التابعين وكان يحب السكوت عن ذلك كما قدمنا ذلك عنه في الحد.
ولأئمة السلف ومنهم أحمد كلام في الحركة والانتقال، فنذكر من ذلك ما يتبين به صحة مذهب السلف وبطلان ما خالفهم من كلام أهل البدع. قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه في العقل والنقل بعد كلام طويل قال فيه: والفعل صفة كمال لا صفة نقص كالكلام والقدرة وعدم الفعل صفة نقص، كعدم الكلام وعدم القدرة، فدل العقل على صحة ما دل عليه الشرع وهو المطلوب. وكان الناس قبل أبي محمد بن كلاب صنفين، فأهل السنة والجماعة يثبتون ما يقوم بالله تعالى من الصفات والأفعال التي يشاؤها ويقدر عليها، والجهمية من المعتزلة وغيرهم تنكر هذا.
ص -55-(30/54)
وهذا فأثبت ابن كلاب قيام الصفات اللازمة به ونفى أن يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته من الأفعال وغيرها، ووافقه على ذلك أبو العباس القلانسي وأبو الحسن الأشعري وغيرهما، وأما الحارث المحاسبي فكان ينتسب إلى قول ابن كلاب ولهذا أمر أحمد بهجره، وكان أحمد يحذر عن ابن كلاب وأتباعه، ثم قيل عن الحادث أنه رجع عن قوله، وقد ذكر الحارث في كتاب فهم القرآن عن أهل السنة في هذه المسألة قولين ورجح قول ابن كلاب، وذكر ذلك في قوله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}، وأمثال ذلك.
وأئمة السنة والحديث على إثبات النوعين، وهو الذي ذكره عنهم من نقل مذهبهم، كحرب الكرماني، وعثمان ابن سعيد الدارمي وغيرهما، بل صرح هؤلاء بلفظ الحركة وأن ذلك هو مذهب أئمة السنة والحديث من المتقدمين والمتأخرين، وذكر حرب الكرماني قول من لقيه من أئمة السنة؛ كأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وعبد الله بن الزبير الحميدي، وسعيد بن منصور، وقال عثمان بن سعيد وغيره: إن الحركة من لوازم الحياة، فكل حي متحرك، وجعلوا نفي هذا من أقوال الجهمية، نفاة الصفات الذين اتفق السلف والأئمة على تضليلهم وتبديعهم، وطائفة أخرى من السلفيين؛ كنعيم بن حماد الخزاعي، والبخاري صاحب الصحيح، وأبي بكر بن خزيمة، وغيرهم؛ كأبي عمر بن عبد البر وأمثاله يثبتون المعنى الذي يثبته هؤلاء، ويسمون ذلك فعلا ونحوه، لكن يمنعون عن إطلاق لفظ الحركة لكونه
ص -56-(30/55)
غير مأثور وأصحاب أحمد منهم من يوافق هؤلاء، كأبي بكر عبد العزيز، وأبي عبد الله بن بطة، وأمثالهما، ومنهم من يوافق الأولين: كأبي عبد الله ابن حامد، وأمثاله – ثم ذكر كلاما – طويلا إلى أن قال: وقال أبو محمد حرب بن إسماعيل الكرماني في مسائله المعروفة التي نقلها عن أحمد، وإسحاق، وغيرهما، وذكر معهما من الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة وغيرهم ما ذكر – إلى أن قال: وأدركت من أدركت من علماء أهل العراق والحجاز والشام وغيرهم عليها، فمن خالف شيئا من هذه المذاهب أو طعن فيها أو عاب قائلها فهو مبتدع خارج من الجماعة زائل عن منهج السنة وسبيل الحق، وهو مذهب أحمد، وإسحاق، وإبراهيم بن مخلد، وعبد الله بن الزبير الحميدي، وسعيد بن منصور، وغيرهم ممن جالسنا وأخذنا عنهم العلم، وذكر الكلام في الإيمان، والقدر، والوعيد، والإمامة، وما أخبر به الرسول من أشراط الساعة، وأمر البرزخ، والقيامة، وغير ذلك، إلى أن قال: وهو سبحانه بائن من خلقه، لا يخلو من علمه مكان، ولله عرش، وللعرش حملة يحملونه، وله حد، الله أعلم بحده، والله على عرشه، عز ذكره، وتعالى جده، ولا إله غيره، والله تعالى سميع لا يشك، بصير لا يرتاب، عليم لا يجهل، جواد لا يبخل، حليم لا يعجل، حفيظ لا ينسى، يقظان لا يسهو، رقيب لا يغفل، يتكلم، ويتحرك، ويسمع، ويبصر، وينظر، ويقبض، ويبسط، ويحب، ويكره، ويبغض، ويرضى، ويسخط، ويغضب، ويرحم، وعفو، ويغفر، ويعطي، ويمنع، وينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا كيف شاء، وكما شاء، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}
ص -57-
إلى أن قال: ولم يزل متكلما عالما {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} اهـ ?.
والمقصود أنه ذكر عن أئمة السلف في أفعال الله الاختيارية التي تتعلق بمشيئة وقدرته وإرادته الحركة فليس لنا أن نعدل عن قولهم ونأخذ بمذاهب أهل البدع وآرائهم.(30/56)
وقال شيخ الإسلام أيضا في العقل والنقل: وقال عثمان بن سعيد الدارمي في كتابه المعروف "بنقض عثمان بن سعيد، على المريسي الجهمي العنيد، فيما افترى على الله في التوحيد"، قال: وادعى المعارض أيضا أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله ينزل إلى السماء الدنيا حين يمضي ثلث الليل، فيقول: هل من مستغفر؟ هل من تائب؟، هل من داع؟" قال: وادعى أن الله لا ينزل بنفسه، إنما ينزل أمره، ورحمته، وهو على العرش، وبكل مكان من غير زوال؛ لأنه الحي القيوم، والقيوم بزعمه من لا يزول. "قال" فيقال لهذا المعارض: وهذا أيضا من حجج النساء والصبيان، ومن ليس عنده بيان، ولا لمذهبه برهان، لأن أمر الله ورحمته ينزل في كل ساعة ووقت وأوان، فما بال النبي صلى الله عليه وسلم يحد لنزوله الليل دون النهار ويوقت من الليل شطره والأسحار؟ أفأمره ورحمته يدعوان العباد إلى الاستغفار؟ أو يقدر الأمر والرحمة أن يتكلما دونه؟ فيقولا: "هل من داع فأجيبه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من سائل فأعطيه؟" فإن قررت مذهبك لزمك أن تدعي أن الرحمة والأمر هما اللذان يدعوان العباد إلى الإجابة والاستغفار بكلامه دون الله، وهذا محال عند السفهاء، فكيف عند الفقهاء؟ قد علمتم ذلك ولكن تكابرون، وما بال رحمته
ص -58-(30/57)
وأمره ينزلان من عنده شطر الليل ثم يمكثان إلى طلوع الفجر ثم يرفعان؟ لأن رفاعة راويه يقول في حديثه: "حتى ينفجر الفجر"، قد علمتم إن شاء الله تعالى أن هذا التأويل باطل، ولا يقبله إلا ساهل، وأما دعواك أن تفسير القيوم الذي لا يزول عن مكانه ولا يتحرك فلا يقبل منكم هذا التفسير إلا بأثر صحيح مأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن بعض أصحابه أو التابعين، لأن الحي القيوم يفعل ما شاء، ويتحرك إذا شاء، ويهبط ويرتفع إذا شاء، ويقبض ويبسط ويقوم ويجلس إذا شاء، لأن أمارة ما بين الحي والميت التحرك. كل حي متحرك لا محالة، كل ميت غير متحرك لا محالة. ومن يلتفت إلى تفسيرك وتفسير صاحبك مع تفسير نبي الرحمة، ورسول رب العزة إذ فسر نزوله مشروعا منصوصا، ووقت لنزوله وقتا مخصوصا، لم يدع لك ولأصحابك فيه لعبا ولا عويصا. انتهى، والله أعلم.
"ومنها" ما ذكره الشارح في صفحة ثلاثة وثلاثين على قول الناظم:
وكل ما يفعله العباد
من طاعة أو ضدها مراد
لربنا من غير ما اضطرار
منه لنا فافهم ولا تمار
قال الشارح: وكل ما أي فعل يفعله العباد من طاعة وهي متعلق المدح في العاجل، والثواب في الآجل ، أو ضدها أي وكل ما يفعله من ضد الطاعة وهي المعصية يعني ما فيه ذم في العاجل، وعقاب أو لوم في الآجل مراد لربنا تعالى داخل تحت إرادته ومشيئته فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهو على كل شيء قدير. انتهى.
ص -59-(30/58)
فأقول: اعلم وفقك الله تعالى أن الشارح والناظم أطلقا لفظ الإرادة من غير تفصيل ولا بيان، وهو كلام مجمل موهم من جنس ما تقدم من الألفاظ التي نبهنا عليها من كلام أهل البدع، فإن الظاهر من هذا اللفظ الذي أطلقه الشارح والناظم إنما يراد به الإرادة الكونية القدرية، وفي المسألة تفصيل قد ذكره المحققون من أهل العلم، لأن الإرادة إرادتان، كونية قدرية، وإرادة دينية شرعية
وبيان ذلك بما ذكره شيخ الإسلام بن تيمية قدس الله روحه في منهاج السنة حيث قال: "الوجه الثالث" طريقة الأئمة الفقهاء وأهل الحديث وكثير من أهل النظر وغيرهم، أن الإرادة في كتاب الله نوعان: إرادة تتعلق بالأمر، وإرادة تتعلق بالخلق، فالإرادة المتعلقة بالأمر أن يريد من العبد فعل ما أمر به، وأما إرادة الخلق فأن يريد ما يفعله هو، فإرادة الأمور هي المتضمنة للمحبة والرضا، وهي الإرادة الدينية، والإرادة المتعلقة بالخلق هي المشيئة، وهي الإرادة الكونية القدرية، فالأولى، كقوله تعالى: { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْر}، وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُم} إلى قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ}، وقوله: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} الآية والثانية، كقوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْس أَهْلَ الْبَيْت} الآية. والثانية، كقوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً}، وقوله: {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ}، ومن هذا النوع
ص -60-(30/59)
قول المسلمين: ما شاء الله كان و ما لم يشأ لم يكن، ومن الأول: كقولهم لمن يفعل القبائح هذا يفعل ما لا يريده الله منه، فإذا كان كذلك فالكفر والفسوق والعصيان ليس مراداً للرب عز وجل بالاعتبار الأول، والطاعة موافقة لتلك الإرادة، وموافقة للأمر المستلزم لتلك الإرادة. فأما موافقة مجرد النوع الثاني فلا يكون به مطيعا وحينئذ فالنبي يقول له أن الله يبغض الكفر ولا يحبه ولا يرضاه لك أن تفعله ولا يريده بهذا الاعتبار، والنبي صلى الله عليه وسلم يأمره بالإيمان الذي يحبه الله ويرضاه له ويريده بهذا الاعتبار. ثم ذكر كلاما طويلا في منهاج السنة في الجزء الثاني من المجلد الأول في صفحة اثنين وعشرين: فمن أراد الوقوف عليه فليراجعه في محله.
وقال أيضا رحمه الله تعالى في موضع آخر: وقد قسم الإرادة أربعة أقسام، فقال رحمه الله: "الأول" ما تعلقت به الإرادتان، وهو ما وقع في الوجود من الأعمال الصالحة، فإن الله تعالى أرادها إرادة دين وشرع، فأمر به وأحبه ورضيه وأراده إرادة كون، فوقع ولولا ذلك لما كان. "الثاني" ما تعلقت به الإرادة الدينية فقط، وهو ما أمر الله به من الأعمال الصالحة فعصى ذلك الأمر الكفار والفجار فتلك كلها إرادة دين وهو يحبها ويرضاها لو وقعت ولم تقع. "الثالث" ما تعلقت به الإرادة الكونية فقط، وهو ما قدره و شاءه من الحوادث التي لم يأمر بها كالمباحات والمعاصي، فإنه لم يأمر بها ولم يرضها ولم يحبها إذ هو لا يأمر بالفحشاء ولا يرضي لعباده الكفر ولولا مشيئته و قدرته وخلقه لما كانت و لما وجدت، فإن ما شاء الله كان
ص -61-(30/60)
وما لم يشأ لم يكن. "الرابع" من أقسام الإرادة الذي لم تتعلق به هذه الإرادة ولا هذه فهذا ما لم يكن من أنواع المباحات والمعاصي، أنتهي.
إذا تبين لك هذا فاعلم أن قول الناظم والشارح يوافق ما قالته القدرية الجبرية حين ردوا ما قالته القدرية النفاة لما أنكروا القدر وزعموا أن الأمر أنف فقابلهم أولئك بالقول بالجبر 1 وأنهم لا يخرجون عن قدره وقضائه نظرا منهم إلى أن الأمر كائن بمشيئة الله وقدره، وأن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه تعالى خالق كل شيء وربه ومليكه، ولا يكون في ملكه شيء إلا بقدرته وخلقه ومشيئته، كما قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} {مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّه} {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ}، ونحو ذلك من الآيات. ولا ريب أن هذا أصل عظيم من أصول الإيمان لا بد منه في حصول الإيمان وبإنكاره ضلت القدرية النفاة، وخالفوا جميع الصحابة وأئمة الإسلام، لكن لا بد معه من الإيمان بالإرادة الشرعية الدينية التي نزلت بها الكتب الإيمانية، ودلت عليها النصوص النبوية وأئمة المسلمين قد أثبتوا هذه وهذه، وذكروا الجمع بينهما وآمنوا
__________
1 اقتصر المؤلف وفقنا الله وإياه على رد الجبرية على القدرية، ولم يذكر مذهب أهل الحديث ومتبعي السلف في الرد على الفريقين للجمع بين النصوص المثبتة لأفعال العبد بمشيئة الله تعالى إذ عليها مدار صحة التكليف وقد أثبته وأوضحه المحقق ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه شفاء الغليل بما لم يأت بمثله أحد, وقول المؤلف وأنهم لا يخرجون عن قدره الخ، يقوله الأثريون أيضا لا الجبرية وحدهم.
ص -62-
بكل من الأصلين، فتفطن، فهذا الموضع يزيل عنك إشكالات كثيرة، والله سبحانه وتعالى أعلم.(30/61)
"فصل"
ومنها ما ذكره الشارح في صفحة خمس وثلاثين على قول الناظم:
وجاز للمولى يعذب الورى
من غير ما ذنب ولا جرم جرى
إلى آخره.
قال الشارح: وجاز للمولى جل جلاله – وهو رب العالمين – يعذب الورى أي الخلق من غير ذنب أي إثم ولا جرم هو بمعنى ما قبله، وعطفه عليه لزيادة البيان، جرى من العدم إلى قوله: حتى إثابة العاصي وعقوبة المطيع إلى قوله: لأنه تعالى لو عذبهم لعذبهم بعدله الخالص من شائبة الظلم لأنه تعالى تصرف في ملكه، والعدل وضع الشيء في محله من غير اعتراض على الفاعل عكس الظلم – إلى آخر كلامه.
فأقول: اعلم وفقك الله أن هذا الكلام الذي قاله الناظم، والشارح يخالف ما قاله المحققون من أهل العلم، بل هو من كلام أهل البدع الذين قابلوا باطلا بباطل المخالفين لأئمة السلف رضوان الله تعالى عليهم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه بعد كلام له سبق: وهذه النصوص النافية للظلم تثبت العدل في الجزاء وأنه لا يبخس عاملا عمله، وكذلك قوله فيمن عاقبهم: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْء}، وقوله: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ}
ص -63-(30/62)
بين أن عقاب المجرمين عدلا لذنوبهم لا لأنا ظلمناهم فعاقبهم بغير ذنب. والحديث الذي في السنن "لو عذب الله أهل سمواته وأرضه، لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم، لكانت رحمته لهم خيراً من أعمالهم". يبين أن العذاب لو وقع لكان لاستحقاقهم ذلك لا لكونه بغير ذنب. وهذا يبين أن من الظلم المنفي عقوبة من لم يذنب. وكذلك قوله: { وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ . مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ} يبين أن هذا العقاب لم يكن ظلما بل لاستحقاقهم ذلك، وأن الله لا يريد الظلم. والأمر الذي لا يمكن القدرة عليه لا يصلح أن يمدح الممدوح بعدم إرادته، وإنما يكون المدح بترك الأفعال إذا كان الممدوح قادراً عليها فعلم أن الله قادر على ما نزه نفسه عنه من الظلم وأنه لا يفعله وبذلك يصح قوله: "إني حرمت الظلم على نفسي". وإن التحريم هو المنع. وهذا لا يجوز أن يكون فيما هو ممتنع لذاته فلا يصلح أن يقال حرمت على نفسي أو منعت نفسي من خلق مثلي أو جعل المخلوقات خالقة ونحو ذلك من المحالات، وأكثر ما يقال في تأويل ذلك ما يكون معناه أني أخبرت عن نفسي بأن ما لا يكون مقدوراً لا يكون مني، وهذا المعنى مما يتيقن المؤمن أنه ليس مراد الرب، وأنه يحب تنزيه الله ورسوله عن إرادة مثل هذا المعنى الذي لا يليق الخطاب بمثله إذ هو مع كونه شبه التكرير وإيضاح الواضح، ليس فيه مدح ولا ثناء ولا ما يستفيده المستمع، فعلم أن الذي حرمه على نفسه هو أمر مقدور عليه لكنه لا يفعله
ص -64-(30/63)
لأنه حرمه على نفسه وهو سبحانه منزه عن فعله مقدس عنه يبين أن ما قاله الناس في حدود الظلم يتناول هذا دون ذلك، كقول بعضهم: الظلم وضع الشيء في غير موضعه، كقولهم: من أشبه أباه فما ظلم، أي فما وضع الشبه غير موضعه. ومعلوم أن الله سبحانه حكم عدل لا يضع الأشياء إلا مواضعها، ووضعها غير مواضعها ليس ممتنعا لذاته بل هو ممكن، لكنه لا يفعله، لأنه لا يريده، بل يكرهه ويبغضه، إذ قد حرمه على نفسه.
وكذلك من قال: الظلم إضرار غير مستحق، فإن الله لا يعاقب أحداً بغير حق. وكذلك من قال هو نقص الحق، وذكر أن أصله النقص كقوله: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئا}. وأما من قال: هو التصرف في ملك الغير، فهذا ليس بمطرد ولا منعكس، فقد يتصرف الإنسان في ملك غيره بحق ولا يكون ظالما، وقد يتصرف في ملكه بغير حق فيكون ظالما. وظلم العبد نفسه كثير في القرآن. وكذلك من قال: فعل المأمور خلاف ما أمر به، ونحو ذلك. أتسلم صحة هذا الكلام؟ فالله سبحانه قد كتب على نفسه الرحمة وحرم على نفسه الظلم فهو لا يفعل خلاف ما كتب ولا يفعل ما حرم. وليس هذا الجواب موضع بسط هذه الأمور التي نبهنا عليها فيه، وإنما نشير إلى النكت.
وبهذا يتبين القول المتوسط وهو: أن الظلم الذي حرمه الله على نفسه مثل أن يترك حسنات المحسن، فلا يجزيه بها، ويعاقب البريء على ما لم يفعل من السيئات ويعاقب هذا بذنب غيره، أو يحكم بين الناس بغير القسط
ص -65-(30/64)
ونحو ذلك من الأفعال التي ينزه الرب عنها لقسطه وعدله وهو قادر عليها، وإنما استحق الحمد والثناء لأنه ترك هذا الظلم وهو قادر عليه. وكما أن الله منزه عن صفات النقص والعيب، فهو أيضا منزه عن أفعال النقص والعيب، وعلى قول الفريق الثاني ما ثم فعل يجب تنزيه الله عنه أصلا، والكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها يدل على خلاف ذلك إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى، فمن أراد الوقوف عليه فهو في الجلد الأول من الفتاوى في صفحة اثنتين وأربعين وثلاث مائة. إذا تحققت هذا وتبين لك من شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه أن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحداً من عباده بغير ذنب، لأنه نزه نفسه عن ذلك فلا يريده بل يكرهه ويبغضه، لأنه حرمه على نفسه وإن كان قادرً عليه، فتبين بهذا خطأ الناظم والشارح حيث توهما أن ذلك جائز بغير ذنب ولا جرم استحق به العقاب والعذاب، فإن هذا هو حقيقة قول الفريق الثاني الذين قابلوا باطلا بباطل حيث قالوا ما ثم فعل يجب تنزيه الله عنه أصلا.
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في شفاء العليل في مناظرة جرت بين سني وجبري، قال السني في جواب الجبري: وصرحت بأنه يجوز عليه أن يعذب أشد العذاب لمن لم يعصه طرفة عين، فإن حكمته ورحمته لا تمنع ذلك بل هو جائز عليه ولولا خبره عن نفسه بأنه لا يفعل ذلك لم تنزهه عنه. وقلت إن تكليفه عباده بما كلفهم به بمنزلة تكليف الأعمى للكتابة، والزمن للطيران، فبغضت الرب إلى من دعوته إلى هذا الاعتقاد ونفرته
ص -66-(30/65)
عنه وزعمت أنك بذلك توحيده، وقد قلعت شجرة التوحيد من أصلها. وأما منافاة الجبر للشرائع فأمر ظاهر لا خفاء به فإن مبنى الشرائع على الأمر والنهي وأمر الآمر لغيره بفعل نفسه لا بفعل المأمور ونهيه عن فعله لا فعل المنهي عبث ظاهر فإن متعلق الأمر والنهي فعل العبد وطاعته ومعصيته، فمن لا فعل له كيف يتصور أن يوقعه بطاعة أومعصيته، وإذا ارتفعت حقيقة الطاعة والمعصية ارتفعت حقيقة الثواب والعقاب وكان ما يفعله الله بعباده يوم القيامة من النعيم والعذاب أحكاما جارية عليهم لمحض المشيئة والقدرة لا أنها بأسباب طاعتهم ومعاصيهم. بل هاهنا أمر آخر وهو أن الجبر مناف للخلق كما هو مناف للأمر، فإن الله سبحانه له الخلق والأمر وما قامت السموات إلا بعدله فالخلق قام بعدله، وبعدله ظهر كما أن الأمر بعدله، وبعدله وجد، فالعدل سبب وجود الخلق والأمر وغايته فهو علية الفاعلية الغائية والجبر لا يجامع العدل ولا يجامع الشرع والتوحيد. انتهى.
والمقصود من هذا أنه نفى تجويز عذاب الله عباده على ما لم يفعلوه من الذنوب والجرائم وقد نزه الله نفسه عن ذلك لأنه لا يريده بل يكرهه ويبغضه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقال أيضاً رحمه الله في عدة الصابرين على قوله سبحانه {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً}. كيف يجد في ضمن هذا الخطاب أن شكره تعالى يأبى تعذيب عباده سدى بغير جرم كما يأبى إضاعة سعيهم باطلا فالشكور لا يضيع أجر محسن ولا يعذب غير مسيء
ص -67-(30/66)
وفي هذا رد لقول من زعم أنه يكلف عبده مالا يطيقه ثم يعذبه على ما لا يدخل تحت قدرته، تعالى الله عن هذا الظن الكاذب، والحسبان الباطل علواً كبيراً، فشكره سبحانه اقتضى أن لا يعذب المؤمن الشكور، ولا يضيع عمله، وذلك من لوازم هذه الصفة، فهو منزه عن خلاف ذلك كما تنزه عن سائر العيوب والنقائص التي تنافي كماله وغناه وحمده. انتهى.
وأما قول الشارح: واستدل بقوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ}، فأقول: هذه الآية لا تدل على ما توهمه الشارح من أنه جائز لله أن يعذب عباده من غير ما ذنب ولا جرم استحقوا به، بل الآية تدل على خلافه كما تقدم بيانه مبينا مفصلا.
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في مدارج السالكين على هذه الآية في صفحة مائتين وإحدى عشر: وهذا من أبلغ الأدب مع الله في مثل هذا المقام أي شأن السيد رحمة عبيده والإحسان إليهم، وهؤلاء عبيدك ليسوا عبيدا لغيرك، فإذا عذبتهم مع كونهم عبيدك، فلولا أنهم عبيد سوء من أنجس العبيد وأعتاهم على سيدهم وأعصاهم له لم يعذبهم، لأن قربة العبودية تستدعي إحسان السيد إلى عبده ورحمته له، فلماذا يعذب أرحم الراحمين، وأجود الأجودين، وأعظم المحسنين إحسانا عبيده لولا فرط عتوهم وإبائهم عن طاعته وكمال استحقاقهم للعذاب؟ وقد تقدم قوله: {إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} أي هم عبادك وأنت أعلم بسرهم وعلانيتهم، فإذا عذبتهم عذبتهم على علم منك بما تعذبهم عليه فهم عبادك وأنت أعلم بما جنوه واكتسبوه فليس في هذا
ص -68-
استعطاف لهم كما يظنه الجهال ولا تفويض إلى محض المشيئة والملك المجرد عن الحكمة كما تظنه القدرية، وإنما هو إفراد واعتراف وثناء عليه بحكمته وعدله وكمال علمه بحالهم واستحقاقهم للعذاب. إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى.(30/67)
فصل
"ومنها" ما ذكره في القول السديد على قوله: { فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ}، فقال: ومعنى الإيمان بالله أن تعتقد أنه هو الإله المعبود الذي لا يستحق العبادة أحد سواه ومعنى الكفر بالطاغوت أن تعتقد بطلان عبادة غير الله إلى آخر كلامه.
فأقول: اعلم وفقك الله أنه لا يكفي في الإيمان بالله مجرد الاعتقاد بالقلب فقط، فإن هذا هو مذهب الجهمية ومن تبعهم من أهل الكلام، بل لا بد مع ذلك من نطق اللسان، واعتقاد الجنان، والعمل بالأركان. فإن اعتقاد القلب وحده لا يكفي في النجاة بل هو مخالف لما عليه أهل السنة والجماعة وأئمة الحديث وغيرهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه في كتاب الإيمان: ومن هذا الباب أقوال السلف وأئمة السنة في تفسير الإيمان، فتارة يقولون: هو قول وعمل، وتارة يقولون: هو قول وعمل ونية، وتارة يقولون: قول وعمل ونية واتباع السنة، وتارة يقولون: قول باللسان، واعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح، وكل هذا صحيح. فإذا قالوا: قول وعمل، فإنه يدخل في القول قول القلب
ص -69-(30/68)
واللسان جميعا، وهذا هو المفهوم من لفظ القول والكلام ونحو ذلك – إلى أن قال: والمقصود هنا: أن من قال من السلف: الإيمان قول وعمل، أراد قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح، ومن أراد أن لفظ القول لا يفهم منه إلا القول الظاهر أو خاف ذلك فزاد الاعتقاد بالقلب، ومن قال قول وعمل ونية، قال القول يتناول ذلك، ومن زاد اتباع السنة فلأن ذلك كله لا يكون محبوبا لله إلا باتباع السنة، وأولئك لم يريدوا كل قول وعمل، وإنما أرادوا ما كان مشروعا من الأقوال والأعمال، ولكن كان مقصودهم الرد على المرجئة الذين جعلوه قولا فقط، فقالوا بل هو قول وعمل، والذين جعلوه أربعة فسروا مرادهم كما سئل سهل بن عبد الله التستري عن الإيمان ما هو؟ فقال: قول وعمل ونية وسنة، لأن الإيمان إذا كان قولا بلا عمل فهو كفر، وإذا كان قولا وعملا بلا نية فهو نفاق، وإذا كان قول وعمل ونية بلا اتباع سنة فهو بدعة.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب الصلاة: وههنا أصل آخر وهو أن حقيقة الإيمان مركبة من قول وعمل، والقول قسمان: قول القلب، وهو الاعتقاد، وقول اللسان، وهو التكلم بكلمة الإسلام. والعمل قسمان: عمل القلب، وهو نية وإخلاص، وعمل الجوارح. فإذا زالت هذه الأربعة زال الإيمان بكماله، وإذا زال تصديق القلب لم تنفع بقية الأجزاء، فإن تصديق القلب شرط في اعتقادها، وكونها نافعة إلى آخر كلامه رحمه الله. إذاً المقصود بهذا، التنبيه. فمن أراد الكلام بتمامه فليراجعه هناك.
ص -70-(30/69)
وقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى في كشف الشبهات ما ذكره بقوله: ولنختم الكلام إن شاء الله بمسألة عظيمة مهمة جداً – فذكر كلاما ثم قال: فنقول: لا خلاف أن التوحيد لا بد أن يكون بالقلب واللسان والعمل، فإن اختل شيء من هذا لم يكن الرجل مسلما، فإن عرف التوحيد ولم يعمل به فهو كافر معاند كفرعون وإبليس وأمثالهما إلى أن قال: فإن عمل بالتوحيد عملا ظاهراً وهو لا يفهمه ولا يعتقده بقلبه فهو منافق، وهو شر من الكافر الخالص إلى آخر كلامه. وكذلك الكفر بالطاغوت لا يكفي في ذلك مجرد اعتقاد القلب فقط كما قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في كتاب التوحيد:
باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان، وقول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ}، قال في المسائل في معنى الطاغوت: "الرابعة": وهي من أهمها: ما معنى الإيمان بالجبت والطاغوت؟ هل هو اعتقاد القلب أو هو موافقة أصحابها مع بغضها ومعرفة بطلانها؟ انتهى.
فإذا تبين لك هذا فاعلم أن اعتقاد بطلان عبادة غير الله لا يكفي في النجاة وحده بل لا بد مع ذلك من تكفيرهم والبراء منهم ومن دينهم والتصريح لهم بذلك وإظهار العداوة والبغضاء لهم كما قال شيخنا عبد الرحمن بن حسن على ما ذكر شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بقوله: أصل الإسلام وقاعدته أمران: "الأول": الأمر بعبادة الله وحده
ص -71-(30/70)
لا شريك له، والتحريض على ذلك والموالاة فيه وتكفير من تركه. "الثاني": الإنذار عن الشرك في عبادة الله، والتلفظ في ذلك والمعادة فيه وتكفير من فعله، فذكر كلاما طويلا ثم قال رحمه الله تعالى:
وقد وسم أهل الشرك بالكفر فيما لا يحصى من الآيات، فلا بد من تكفيرهم، وأيضا هذا هو مقتضى لا إله إلا الله كلمة الإخلاص، فلا يتم معناها إلا بتكفير من جعل لله شريكا في عبادته كما في الحديث الصحيح "من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله". فقوله: وكفر بما يعبد من دون الله – تأكيد للنفي فلا يكون معصوم الدم والمال إلا بذلك، فلو شك أو تردد لم يعصم دمه وماله، فهذه الأمور هي تمام التوحيد، لأن لا إله إلا الله قيدت في الأحاديث بقيود ثقال بالعلم والإخلاص والصدق واليقين وعدم الشك، فلا يكون المرء موحداً إلا باجتماع هذا كله واعتقاده وقبوله ومحبته والمعاداة فيه والموالاة. انتهى.
ثم إني بعد ما حررت هذه الكلمات وقفت على ما ذكره في القول السديد أن أركان الإيمان ثلاثة، قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان.
فقلت من التعجب ليت شعري
أأيقاظ أمية أم نيام
فإذا كان هذا هو الحق وتعتقد أنها أركان الإيمان، فكيف ساغ لك أن تذكر أن معنى الإيمان بالله أن تعتقد أنه هو الإله المعبود الذي لا يستحق العبادة أحد سواه، وقد ذكر شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كشف الشبهات أنه لا خلاف أن التوحيد لا بد أن يكون بالقلب
ص -72-(30/71)
ومنها ما ذكره في الكواكب في صفحة العشرين حيث قال في البصر: ولا على سبيل تأثر حاسة.
فأقول: اعلم أن هذه اللفظة من جملة الألفاظ المخترعة المبتدعة التي لم ينطق بها السلف رضوان الله عليهم لا نفيا ولا إثباتا، فاعلم ذلك.
وكذلك ما ذكره الشارح بقوله في السمع والبصر: إنهما صفتان زائدتان على الذات، وهذا القول الذي ذكره الشارح من أقوال أهل البدع، كالأشاعرة وغيرهم، وكما ذكره شيخ الإسلام عن ابن رشد وغيره، وإذا كان من المعلوم بالاضطرار أن السمع والبصر من الصفات اللازمة القائمة بذات الرب سبحانه وتعالى، فكيف يجوز أن يقال: إنهما صفتان زائدتان على الذات، وهذا من أمحل المحال، وأبطل الباطل. فإن ما كان من الصفات زائداً على
واللسان والعمل، فإن اختل شيء من هذا لم يكن الرجل مسلما، وأنت لم تذكر في معنى الإيمان بالله في هذا الموضع إلا ركنا واحدا وهو الاعتقاد فقط، وقد علمت أنه لا بد من الركنين الآخرين لأنه لا يكون الرجل مسلما إلا بالقيام بهذه الأركان الثلاثة، وقد تقدم أن مذهب الجهمية هو التصديق فقط، وتقدم أقوال أئمة السلف في معنى الإيمان، فلا بد من المصير إلى ما ذكروه وقرروه، وكذلك ما ذكرته في معنى الطاغوت أن تعتقد بطلان عبادة غير الله، وقد كان من المعلوم أنه لا بد مع ذلك من تكفير من فعل الشرك والبراءة منه والتصريح لهم بالعداوة والبغضاء، فتأمل ذلك، والله الموفق للصواب.
ص -73-(30/72)
الذات لا يكون منها بل يكون مفارقا لها، ومن المعلوم أن ما كان مفارقا للذات لا يكون من الصفات القائمة بذاته بل يكون مخلوقا من مخلوقاته، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
وقد قال الشيخ الإمام عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى في رده على الزيدية لما أثبت الصفات اللازمة القائمة بذات الله.
قال الزيدي: فإن ترد أنها تدل على صفات زائدة على الذات لزمك ما لزم الأشاعرة وهو أن يكون مع الله قدماء، وهي المعاني التي لحقت ذاته تعالى بالوصف، ونحن نبرأ من هذا نحن وأنت، قال الشيخ عبد الله في جوابه: فيقال أهل السنة والجماعة يقولون: إن الله تبارك وتعالى موجود كامل بجميع صفاته، فإذا قال القائل دعوت الله أو عبدت الله كان اسم الله متناولا للذات المتضمنة لصفاتها ليس اسم الله اسما لذات مجردة عن صفاتها اللازمة لها، وحقيقة ذلك أنه لا يكون نفسه إلا بنفسه، ولا تكون ذاته إلا بصفاته، ولا يكون نفسه إلا بما هو داخل في مسمى اسما لذات مجردة عن صفاتها اللازمة لها وحقيقة ذلك أنه لا يكون نفسه إلا بنفسه ولا تكون ذاته إلا بصفاته، ولا يكون نفسه إلا بما هو داخل في مسمى اسمها، ولكن قول القائل إنه يلزم أن يكون مع الله قدماء، تلبيس – فإن ذلك يشعر أن مع الله قدماء منفصلة عنه، وهذا لا يقوله إلا من هو من أكفر الناس وأجهلهم بالله كالفلاسفة، لأن لفظ الغير يراد به ما كان مفارقا له بوجود أو زمان أو مكان ويراد به ما أمكن العلم به دونه، فالصفة لا تسمى غيراً له، فعلى المعنى الأول يمتنع أن يكون معه غيره. وأما المعنى الثاني فلا يمتنع أن يكون وجوده مشروطا بصفات، وأن يكون مستلزما لصفات لازمة له وإثبات المعاني القائمة التي
ص -74-(30/73)
يوصف بها الذات لا بد منها لكل عاقل، ولا خروج عن ذلك إلا بجحد وجود الموجودات مطلقا، وأما من جعل وجود العلم هو وجود القدرة، ووجود القدرة هو وجود الإرادة فطرد هذه المقالة يستلزم أن يكون وجود كل شيء هو عين وجود الخالق تعالى وهذا منتهى الاتحاد وهو مما يعلم بالحس والعقل والشرع أنه في غاية الفساد، ولا مخلص من هذا إلا بإثبات الصفات، مع نفى مماثلة المخلوقات وهو دين الذين آمنوا وعملوا الصالحات – ثم ذكر كلاما طويلا تركناه خشية الإطالة.
وقال الإمام أحمد في الرد الزنادقة: فقالت الجهمية لنا – لما وصفنا الله: هذه الصفات إن زعمتم أن الله ونوره، والله وعظمته، والله وقدرته، فقد قلتم بقول النصارى حين زعمتم أن الله لم يزل ونوره ولم يزل وقدرته. فقلنا لا نقول: إن الله لم يزل وقدرته ونوره، ولكن نقول: لم يزل بقدرته وبنور، لا متي قدر ولا كيف قدر؟ وقالوا: لا تكونوا موحدين أبدا حتى تقولوا: كان الله ولا شيء. فقلنا: نحن نقول كان الله ولا شيء، ولكن إذا قلنا إن الله لم يزل بصفاته كلها أليس إنما نصف إلها واحدا بجميع صفاته، وضربنا لهم في ذلك مثلا، فقلنا: أخبرونا عن هذه النخلة أليس لها جذوع وكرب وليف وسعف وخوص وجُمّار واسمها اسم شيء واحد، نخلة. سميت نخلة بجميع صفاتها، فكذلك الله سبحانه وتعالى، وله المثل الأعلى بجميع صفاته إله واحد، ولا نقول إنه كان في وقت من الأوقات ولا قدرة حتى خلق القدرة والذي ليس له قدرة هو عاجز، ولا نقول قد في وقت من الأوقات ولا
ص -75-(30/74)
علم له حتى خلق العلم، والذي لا يعلم هو جاهل، ولكن نقول لم يزل الله عالما قادراً مالكا لا متى ولا كيف، وقد سمى الله رجلا كافرا اسمه الوليد بن المغيرة المخزومي، فقال: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} وقد كان هذا الذي سماه الله وحيدا، وله عينان وأذنان ولسان وشفتان ويدان ورجلان وجوارح كثيرة فقد سماه الله وحيدا بجميع صفاته، فكذلك الله تعالى وله المثل الأعلى هو بجميع صفاته إله واحد. انتهى.
فتبين بما ذكره الإمام أحمد أن الله سبحانه وتعالى إله واحد بجميع صفاته اللازمة القائمة بذاته ولم يقل إن من هذه الصفات صفة زائدة على ذاته كالسمع والبصر كما أن النخلة بجذوعها وكربها وليفها وسعفها وخوصها وجمارها نخلة واحدة بجميع هذه الصفات لها ولا يمكن في العقل أن السعف والليف زائدان على مسمى النخلة إذ جعل هذه المسميات من مسمى واحد، وليس منها شيء زائد على ذاته، والله أعلم.
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في بدائع الفوائد بعد كلام سبق: حلوا لنا شبه من قال باتحادهما ليتم الدليل، فإنكم أقمتم دليلا وعليكم الجواب عن المعارض، فمنها أن الله وحده هو الخالق وما سواه مخلوق، فلو كانت أسماؤه غيره لكانت مخلوقة وللزم ألا يكون له اسم في الأزل ولا صفة، لأن أسماءه صفات، وهذا هو السؤال الأعظم الذي قاد متكلمي الإثبات إلى أن يقولوا الاسم هو المسمى فما عندكم في دفعه؟
والجواب: أن منشأ الغلط في هذا الباب من إطلاق ألفاظ مجملة محتملة
ص -76-(30/75)
لمعنيين: حق وباطل فلا ينفصل النزاع إلا بتفصيل تلك المعاني وتنزيل ألفاظها عليها. ولا ريب أن الله تبارك وتعالى لم يزل ولا يزال موصوفا بصفات الكمال المشتقة أسماؤه منها، فلم يزل بصفاته وأسمائه وهو إله واحد له الأسماء الحسنى والصفات العلى، وصفاته وأسماؤه داخلة في مسمى اسمه وإن كان لا يطلق على الصفة وحدها أنها إله يخلق ويرزق فليست صفاته وأسماؤه غيره، وليست هي نفس الإله. وبلاء القوم من لفظة الغير فإنها يراد بها معنيين: أحدهما: المغاير لتلك الذات المسماة بالله وكل ما غاير الله مغايرة محضة بهذا الاعتبار فلا يكون إلا مخلوقا، ويراد به مغايرة الصفة للذات إذا جردت عنها. فإذا قيل علم الله وكلام الله غيره بمعنى أنه غير الذات المجردة عن العلم والكلام كان المعنى صحيحا ولكن الإطلاق باطل، فإذا أريد أن العلم هو الكلام "؟" المغاير الحقيقة المختصة التي امتاز بهما عن غيره كان باطلا لفظا ومعنى، وبهذا أجاب أهل السنة المعتزلة القائلين بخلق القرآن، قالوا كلامه تعالى داخل في مسمى اسمه، فالله تعالى اسم للذات الموصوفة بصفات الكمال، ومن تلك الصفات صفة الكلام كما أن علمه وقدرته وحياته وسمعه وبصره غير مخلوق، ولا يقال إنه غير الله، فكيف يقال إن بعض ما تضمنه وهو أسماؤه مخلوقة، وهي غيره، فقد حصحص الحق بحمد لله، وانحسم الإشكال، وأن أسماءه الحسنى التي في القرآن من كلامه، وكلامه غير مخلوق، ولا يقال: هو غيره، ولا هو هو، وهذا المذهب مخالف لمذهب المعتزلة الذين يقولون أسماؤه تعالى غيره، وهي مخلوقة، ولمذهب من رد عليهم
ص -77-(30/76)
ممن يقول أسماؤه نفس ذاته لا غيره، وبالتفصيل تزول الشبهة ويتبين الصواب، والحمد لله. انتهى.
إذا تبين هذا فقد كان معلوما بالاضطرار أن أسماء الله وصفاته من الله، وأنها داخلة في مسمى اسمه لا مغايرة له ولا منفصلة عنه. وقال الشيخ عبد الله بن شيخ الإسلام محمد أيضا في رده على الزيدية بعد كلام ذكره عن أهل البدع في لفظ الغير: ولهذا أطلق كثير من مثبتة الصفات عليها أنها أغيار للذات، وقالوا يقولون "؟" إنها غير الذات، ولا يقول إنها غير الله، فإن لفظ الذات لا يتضمن الصفات بخلاف اسم الله فإنه يتناول الصفات، ولهذا كان الصواب على قول أهل السنة أن لا يقال في الصفات إنها زائدة على اسم الله بل من قال ذلك فقد غلط عليهم، وإذا قيل هل هي زائدة على الذات أم لا؟ كان الجواب أن الذات الموجودة في نفس الأمر مستلزمة للصفات فلا يمكن وجود الذات مجردة عن الصفات، بل ولا يوجد شيء من الذوات مجردا عن جميع الصفات، بل لفظ الذات تأنيث "ذو" ولفظ "ذو" مستلزم للإضافة، وهذا اللفظ مولد، وأصله أن يقال: ذات علم، وذات قدرة وذات سمع، كما قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُم}، ويقال: فلانة ذات مال وجمال، ثم لما علموا أن نفس الرب ذات علم وقدرة وسمع وبصر ردا على من نفى صفاتها عرفوا لفظ الذات وصار التعريف يقوم مقام الإضافة بحيث إذا قيل لفظ الذات فهو ذات كذا، فالذات لا يكون إلا ذات علم قدرة ونحوه من الصفات لفظا ومعنى، وإنما يريد محققو أهل السنة بقولهم
ص -78-(30/77)
الصفات زائدة على الذات أنها زائدة على ما أثبته نفاة الصفات من الذات، فإنهم أثبتوا ذاتا مجردة لا صفات لها، فأثبت أهل السنة الصفات زائدة على ما أثبته هؤلاء فهي زيادة في العلم والاعتقاد والخبر لا زيادة على نفس الله جل جلاله، بل نفسه المقدسة متصفة بهذه الصفات لا يمكن أن تفارقها ولا توجد الصفات بدون الذات ولا الذات بدون الصفات. والمقصود هنا بيان بطلان كلام المعترض.
إذا تأملت هذا فاعلم أن ما قاله محققو أهل السنة حيث قالوا إن الصفات زائدة على الذات إنما مرادهم بذلك أنها زائدة على ما أثبته نفاة الصفات من الذات، فإنهم أثبتوا ذاتا مجردة لا صفات لها، ومقصود أهل السنة أنها زائدة على ما أثبته هؤلاء النفاة فهي زيادة في العلم والاعتقاد والخبر، لا زيادة على نفس الله جل جلاله، بل نفسه المقدسة متصفة بهذه الصفات لا يمكن أن تفارقها ولا توجد الصفات بدون الذات، ولا الذات بدون الصفات كما تقدم بيانه.
إذا تحققت هذا فتخصيص الشارح السمع والبصر بأنهما صفتان زائدتان على الذات تخصيص لا أدري ما مقصوده بذلك، وأهل السنة أطلقوا لفظ الصفات ولم يخصوا السمع والبصر، فتأمل ذلك مع أن الإجمال والإطلاق في هذا الموضع وغيره من غير تفصيل ولا تبيين لما أرادوه من إثبات الصفات الزائدة على ما أثبته النفاة من الذات يوهم من لا معرفة له بكلام أهل السنة رضوان الله عليهم أن المقصود بذلك أنها زائدة على نفس الله
ص -79-
جل جلاله، وهذا من أبطل الباطل، وأمحل المحال، وقد قال ابن القيم رحمه الله في الكافية الشافية:
فعليك بالتبيين والتفصيل فال
إطلاق والإجمال دون بيان
كم أفسدا هذا الوجود وخبطا ال
آراء والأذهان كل زمان(30/78)
ثم لا يخفى عن المحب أن أهل السنة لم يقولوا إن الصفات زائدة على الذات فقط كما توهمه الشارح، وإنما قالوا: إنها زائدة على ما أثبته النفاة من الذات، لأنهم إنما أثبتوا ذاتا مجردة عن الصفات فتأمل ذلك، والله أعلم.
وهذا آخر ما أردنا من التنبيه على هذه الورطات التي لا مخلص منها إلا باتباع مذهب السلف من أهل السنة المحضة الذين هم الأسوة وبهم القدوة في مسائل هذا الباب وغيره.
إذا تحققت هذا فنحن لم نذكر في هذا التنبيه إلا ما ذكره أئمة الحنابلة وساداتهم الذين أخذوا بأقوال سلف هذه الأمة وأئمتها، وهذا الذي ذكرناه عن الأئمة هو الذي ندين الله به وهو الحق والصواب، الذي لا شك فيه ولا ارتياب، وما خالفه فهو كلام أهل البدع المخالفين لأهل السنة والجماعة.
و{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَق}. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.
"تم طبع الكتاب"
ص -80-(30/79)
عنوان الكتاب:
تأسيس التقديس في كشف تلبيس داود بن جرجيس
تأليف:
عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين
1282هـ
دراسة وتحقيق:
عبد السلام بن برجس العبد الكريم
الناشر:
مؤسسة الرسالة
الطبعة الأولى 1422هـ ـــــ 2001م
المقدمة
الحمد لله ، وصلى الله وسلم على رسول الله . أما بعد :
فبين يديك أيها الموفق رسالة محررة من يد أحد فحول العلماء وأكابرهم العالم الشهير الفقيه الكبير عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين ، ردا على شبهات أثارها : داود بن جرجيس ، تتعلق بقضايا في توحيد الألوهية .
هذه الشبهات مازال لها أهلون ، يثيرونها كلما درست ، ويحيونها كلما خبت ، ليضلوا عباد الله ، ويصرفونهم عن عبادته وحده لا شريك له ، وعن تعظيمه جل جلاله اللائق به دون من سواه إلى عبادة غيره من المخلوقات !!
عجبا لأولئك الذين يرمون أهل التوحيد والسنة بأنهم ينتقصون الأولياء بل الأنبياء ، إذ لم يجوزوا دعاءهم من دون الله ! ؟ أليس هم قد تنقصوا الله جل جلاله إذ جوزوا أن تصرف العبادة لغيره وهو القائل : {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} بلى والله : هم تنقصوا الله جل جلاله ، وتنقصوا أيضا الأنبياء والأولياء ، لأن أنبياء الله ورسله وأولياء الله تعالى براء مما يعملون . بل أرسلوا ليجاهدوا إخوان هؤلاء من كفار بني إسرائيل وكفار قريش بالحجة والبرهان وبالسيف والسنان .
قال تعالى : {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ * فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} .[سورة سبأ: 40-42]
فهذه براءة الملائكة(31/1)
عليهم السلام من عبادة المشركين لهم ، إذ زعموا أنهم ما يعبدونهم إلا ليقربوهم إلى الله زلفى .
ومثل هذه الآية قوله تعالى : {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا
ص -5-(31/2)
الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا} [الفرقان: 17 ، 18].
وبراءة أخرى لنبي الله عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام قال تعالى : {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}[المائدة:116 ، 117] .
كل ذلك وما جاء في معناه في القرآن العزيز والسنة المطهرة ليؤكد أن الواقعين في دعاء الأنبياء والأولياء والملائكة فضلا عن غيرهم من الجن والشياطين ؛ هم المذمومون المتنقصون حقا لجناب الأنبياء والصالحين، إذ خالفوا أوامرهم، بل نقضوا أصل دعوتهم : لا معبود بحق إلا الله وحده، {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} .
إن هؤلاء الذين يضلون الأمة ويربونها على تنقيص جانب الربوبية ، ويزيدون على ذلك : رمي أهل الحق والتوحيد بأعظم الفرى وأقبح الشائعات ليصدوا الناس عن سبيل الله تعالى، لينتقم الله تعالى منهم، ومن انتقام الله تعالى منهم وغيرته تعالى وتقدس على حدوده ومحارمه؛ بعث من يتصدى لهم : يبطل ما بنوه ، ويفرق ما جمعوه ، ويكشف ما ستروه : {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} . [الحج 62] . وأن يضرب مثل في ذلك ؛ فمثل عزيز : أمة في رجل . إنه محمد بن(31/3)
عبد الوهاب رحمه الله تعالى العالم الإمام شيخ الإسلام . رجل واحد حمل لواء الدعوة إلى التوحيد ، وتبديد ما أرساه القبوريون بثقل علماء السوء وولاة السوء، فجعل بفضل الله وحده ذلك كله قاعا صفصفا، وبنى للتوحيد وأهله بناء مشيدا وحصنا عظيما، صمد إلى الآن أمام كل
ص -6-
التحديات، بل تثلمت معاول الهدم التي هرع إليها حفدة القبوريون ووراثهم ، وذلك دليل صدق على عون الله تعالى للشيخ محمد ، وتأييده له ، وأنه صادق مخلص محب لصلاح الأمة مشفق عليها .
لقد ترامت دعوته المباركة في جميع الأقطار، واستجاب لها أهل الفطر والأبصار ، فلا بلد بحمد الله تعالى إلا وأثر دعوة الشيخ فيه واضحة وآثاره مرفوعة ظاهرة. 1
وخلفه في هذا المنصب الكبير أبناؤه وأحفاده وتلامذة الجميع رحمهم الله تعالى رحمة
واسعة .
والشيخ العالم الفقيه: عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، أحد ثمار غرس الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب، فقد تتلمذ على يد الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، والشيخ حمد بن ناصر بن معمر ، والشيخ عبد العزيز بن عبد الله الحصين ، وغيرهم من تلاميذه الشيخ محمد بن عبد الوهاب، حتى كان من أوعية العلم وفحول العلماء : درس وقضى ، وأفتى ، ووعظ ، وألف.
وكان مما جلس فيه للقضاء من الأمصار : القصيم ، حيث بعثه الإمام تركي بن عبد الله عام 1248هـ إلى ذلك . ثم رجع إلى شقراء للتدريس والإفتاء بعد مقتل الإمام تركي سنة 1249 هـ . وفي سنة 1251 ه بعثه الإمام فيصل ابن تركي إلى القصيم لتولي القضاء ، فذهب واستوطن عنيزة حتى سنة 1270هـ .
وقد جاء إلى عنيزة وقت قضاء الشيخ بها رجل عراقي يقال له : داود بن جرجيس ، في طريقه إلى الحج ، فقرأ على الشيخ طرفا من تفسير(31/4)
__________
1 زعم بعضهم: أن الشيخ محمدا "قام مع من شاء الله من إخوانه من علماء نجد بالدعوة إلى التوحيد" وهذا قول جاهل بمبادئ تاريخ دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، إذ قد أجمع الناس كلهم على أن القائم بالدعوة إلى التوحيد هو الشيخ محمد وحده، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، ولا راد لفضل الله تعالى.
ص -7-
البيضاوي ، وبعضا من فقه الحنابلة ، ثم طلب من الشيخ أن يجيزه في فقه الحنابلة ، فأجازه، وأذن له بالتدريس .
ثم إنه وقعت منه مخالفات عقدية، فأحضره الشيخ عبد الله، وكشف شبهته فيها ، وكتب رسالة في ذلك سماها بعض طلبته: "الانتصار }. 1
فأظهر داود الرجوع عما وقع فيه من الخطأ، ثم إن داود حج ورجع إلى بلده، وأخذ ينصر تلك الشبهة، ويتطلب أشياء من كلام العلماء ليؤيد بها شبهته، فأخذ من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية أشياء ظنها له، وهي عليه.
وبعد أربع سنوات حج داود مرة أخرى، ونزل أيضا في بلد عنيزة، وصرح بأنه مازال على تأييد شبهته، وأن رجوعه السابق قد رجع عنه.
فأحضره الشيخ عبد الله، وسأله عن نقضه لرجوعه السابق، فأبرز داود عبارات لشيخ الإسلام ابن تيمية. فطلب الشيخ عبد الله إحضار الكتب التي نقل منها تلك العبارات ، فوجدت إيرادات يوردها ابن تيمية للرد عليها وإبطالها ، فسكت داود وأسر في نفسه العداوة للشيخ وعامة علماء نجد .
فلما رجع إلى بلاده في العراق؛ أرسل رسالة إلى أحد أصدقائه في بلد عنيزة ضمنها أدلة لما رد به على الشيخ عبد الله، فأطلع الشيخ عليها، فوجدها نفس الشبهة الأولى إلا أنه زاد عليها: أنه لا فرق بين الأحياء والأموات، وأن السؤال من الميت كالسؤال من
الحي . فانتدب لها الشيخ وردها بكتاب سماه: "تأسيس التقديس" .
هذه قصة كتابنا هذا كما حكاها الشيخ المؤرخ عثمان بن عبد الله بن بشر رحمه الله تعالى في "عنوان المجد في تاريخ نجد" . 2(31/5)
__________
1 طبعت عدة طبعات. آخرها طبعة بتحقيق الشيخ الفاضل الدكتور الوليد بن عبد الرحمن الفريان.
2 من مخطوطة للكتاب عند الشيخ الفاضل عبد الله بن عبد الرحمن البسام، نقله عنها في كتابه الفريد المحرر: {علماء نجد خلال ثمانية قرون} {4/230}.
ص -8-
عملي في الكتاب
* اعتمدت في ضبط نص الكتاب على ثلاث نسخ :
الأولى: الطبعة الأولى في مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه سنة 1244 هـ في رمضان
منها .
جاء على صفحة العنوان منها :
طبع بإذن الشيخ عبد الله بن حسن خطيب الحرم المكي .
الثانية: نسخة خطية في ملك الشيخ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ رحمه الله تعالى وهي محفوظة في المكتبة السعودية بالرياض. ورمزها "ب" .
الثالثة : نسخة خطية نسخت عام 1306 ه ، وهي مصورة عندي. ورمزها "أ" .
* عزوت الأحاديث إلى مخرجيها .
* وضعت فهرسا للموضوعات .
ص -9-(31/6)
ترجمة موجزة للمؤلف
* العالم العلامة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد العزيز بن عبد الرحمن أبا بطين . يرجع نسبه إلى عائذ من عبيدة من قحطان .
* ولد في : روضة سدير 20 / 12 / 1194 هـ .
* قرأ على قاضي روضة سدير الفقيه الشيخ محمد بن طراد الدوسري ولازمه ملازمة
تامة.
* ارتحل إلى شقراء ، وقرأ على قاضيها الشيخ عبد العزيز الحصين .
* ثم رحل إلى الدرعية فقرأ على علمائها: الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب .
والشيخ حمد بن ناصر بن معمر . وقرأ فيها على الشيخ أحمد بن حسن بن رشيد العفالقي الأحسائي ، وأجازه.
* ولاه الإمام عبد الله بن سعود قضاء عمان.
وولاه الإمام تركي بن عبد الله قضاء الوشم، ثم كلفه بقضاء سدير معها، فكان يقيم في كل مقاطعة شهرين .
ثم نقله الإمام تركي إلى قضاء القصيم.
ثم ولاه الإمام فيصل بن تركي قضاء القصيم مرة أخرى .
* له مؤلفات منها :
1. حاشية نفيسة على شرح المنتهى .
2. مختصر بدائع الفوائد لابن قيم .
3. مختصر إغاثة اللهفان .
4. تأسيس التقديس في كشف شبه داود بن جرجيس .
5. الانتصار في الرد على داود أيضا - .
6. رسالة في تجويد القرآن الكريم .
7. التفصيل والبيان في تنزيه الرحمن .
ص -17-
1. وله فتاوى ورسائل محررة . طبع بعضها في "مجموعة الرسائل والمسائل النجدية" ، وجمع أخيرا الأخ الشيخ إبراهيم بن محمد الحازمي – الشريف - .
* توفي في شقراء في 7 / 5 / 1282 هـ .
ص -18-(31/7)
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
الحمد لله ، نحمده ونس تعينه، ونستغفره، ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما.
أما بعد ، فإنه قد قدم علينا في أثناء عشر ستين بعد المائتين والألف 1 رجل اسمه داود بن سليمان البغدادي ومعه شيء من كتب المذهب ، وجلس عندنا مدة وطلب مني إجازة في الفتيا في المذهب ، وكتبت له ، ثم بعد ذلك بنحو أربعين سنين قدم حاجا ، وذكر لي أن معه ورقة فيها عبارات من كلام الشيخ تقي الدين يشبه بها على الناس ، يضع كلام الشيخ على غير موضعه فأحضرته وباحثته فإذا حقيقفة أمر دعواه : استحالة وقوع الشرك في الأمة المحمدية، ويزعم أن دعاء الأموات والغائبين والذبح والنذر لغير الله ليس بشرك، ويقول: إن الطلب من الأموات والغائبين لا يسمى دعاء بل نداء ، ويقول: الشرك هو السجود لغير الله فقط، وسألته عن معنى لا اله الله وما معنى الإله فارتبك وتحير ، فقلت أخبرني عن حقيقة الشرك الذي حرمه الله وأخبر أنه لا يغفره ؟ فقال: هو السجود لغير الله .
فقلت : نهى الله عن السجود لغيره، لكن ما دليلك على أنه شرك؟ فلم يكن عنده جواب ، فلما أوردت بعض الأدلة على بطلان دعواه ودحضت حجته أظهر الموافقة قصدا لقطع الكلام لا للموافقة باطنا فيما أظن، وكتبت على ورقته التي معه نحو ثلاثين ورقة سماها بعض الطلبة "الانتصار" .
__________
1 في "أ"في اثنين عشر ستين سنة " والمثبت من هامش "ب" مع حذف كلمة "السنة" بعد جملة المثبتة .
ص -19-(31/8)
وبعد ذلك طلب مني بعض الإخوان بيان معنى بعض أبيات في البردة وتشطيرها للرجل المذكور، فكتبت عليها قدر ورقتين فأشمأز بعض المخالفين لزيغ في قلبه، واعترض على ما كتبته بكتابة ورقة متضمنة شركا عظيما، فكتبت على كلامه قدر ثلاثة كراريس وهم قد رفعوا جوابي الأول والثاني إلى كبيرهم داود المذكور، مستنصرين به ، فقام وقعد ، وجد واجتهد في البحث عن الأوراق التي اعترض فيها أعداء الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمة الله عليه – فيما دعا إليه من التوحيد، فحصل فيما بلغني جملة منها فاستمد منها وزاد من عنده فضائح وضعها في تسويده هذا الذي عثرنا عليه، فيه ترويج على الجهال.
فرأيت أنه يتعين على مثلي بيان تلبيسه وتمويهه لعل الله أن يحشرنا في زمرة الذين ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين.
ذكر المعترض في أول تسويده بأنا نكّفر من كانت البردة عنده ومن قرأها ومن سمعها ، وأننا نبيح قتله ، وهذا من أول كذبه وافترائه.
وزعم أن ما كتبناه متضمن لتنقص الرسول صلى الله عليه وسلم، وسلفه في ذلك عباد المسيح، لما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن عبادته قالوا تنقص المسيح عليه السلام، ونحن إنما نهينا عن الغلو فيه صلى الله عليه وسلم الذي حذر منه بقوله:" لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم" . 1 قوله : "ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله" . 2
وقوله : "لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد"، 3 وقوله للذي
__________
1 أخرجه البخاري ، كتاب أحاديث الأنبياء ، باب : "واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها 0000 " حديث رقم 3445 .
2 المصدر السابق نفسه .
3 أخرجه ابن ماجه ، كتاب الكفارات ، باب النهي أن يقال ما شاء الله وشئت ، حديث رقم 3118 ، وأحمد في المسند "5 / 448 " ، والطحاوي في مشكل الآثار رقم 237 ، وانظر : السلسلة الصحيحية 137 .
ص -20-(31/9)
قال ما شاء الله وشئت : "أجعلتني لله ندا" . 1
وأما ما ذكره هذا من مدحه نفسه وتزكيتها بدعوى العلم، وذمه المخالف وتجهيله فالعاقل مايغتر بذلك بل يقوم لله وينظر لنفسه ويتأمل ما يورده من الحجج ولا يقلد فإن التقليد لا يجوز 2 في هذا الأصل العظيم.
قال وقد روى هذه القصيدة مع الهمزية جماعة من العلماء وشرحها بعضهم ولم يفهموا منها محذورا.
فنقول كما قال الأئمة الأعلام : كل يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأيضا لا يلزم أن كل من روى كتابا أو قصيدة أن يكون مستصوبا لكل ما روى .
وذكر ممن روى البردة أبو حيان ، والبيضاوي ، والمحلي ، وابن حجر العسقلاني ، وكذا القسطلاني .
فيقال له: تفسير الثلاثة للقرآن موجود، وكذا شرح البخاري، هل تجد في شيء منها ما يمكن تشبيهك به على الناس بما يوافق دعواكم الباطلة من أن علم اللوح والقلم من علوم النبي صلى الله عليه وسلم وأنه لا يخفى عليه شيء من أدواء القلوب كما في بيت الهمزية من قوله: وليس يخفى عليك في القلب داء، وأن الدنيا والآخرة من جوده صلى الله عليه وسلم وأنه يطلب منه اليوم الإنقاذ من عذاب الله والألم، وأن ما جاز طلبه منه في حياته جاز طلبه منه بعد موته، وأن الله سبحانه أمر عباده المؤمنين بطلب حاجاتهم من الأموات والغائبين
__________
1 أخرجه البخاري في الأدب المفرد رقم 804 ، وأحمد في المسند "1/ 266" ، والطحاوي في مشكل الآثار رقم 235 ، وأبو نعيم في الحلية "4 / 99 " ، وانظر : السلسلة الصحيحية رقم 139 .
2 في "ط" "لما يجوز" .
ص -21-(31/10)
وغير ذلك من دعاويكم الباطلة، ولن تجد في كتب المذكورين وغيرهم من العلماء المحققين إلا ما يبطل حجتك، بل يوجد في كلام كثير ممن ليس من أهل العلم المعروفين به شيء كثير تصديقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه " . 1
قال المعترض: وعصر الناظم متقدم على عصر ابن تيمية ولم ينقل عن ابن تيمية الإنكار عليه.
قلنا: إن كان نظمه هذا قد بلغ الشيخ فهو ممن عنى بقوله : "والاستغاثة به صلى الله عليه وسلم بعد موته موجودة في كلام بعض الناس مثل يحيى الصرصري ومحمد بن النعمان وأمثالهما. قال: وهؤلاء لهم صلاح لكن ليسوا من أهل العلم بل جروا على عادة كمن يستغيث بشيخه عند الشدائد ويدعوه"، وقد يكون البوصري وغيره ممن أراد بقوله وأمثالهما.
وقد صنف شيح الإسلام -رحمه الله- كتابا في الرد على من جوز الإستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم وقرر أن ذلك من الشرك قال -رحمه الله- "وقد طاف هذا بجوابه -يعني الذي أجاز فيه الاستغاثة به صلى الله عليه وسلم- على علماء مصر ليوافقه واحد منهم فما وافقوه، وطلب منهم أن يخالفوا الجواب الذي كتبته فما خالفوه مع أن قوما كان لهم غرض وفيهم جهل بالشرع قاموا في ذلك قياما عظيما واستعانوا بمن له غرض من ذوي السلطان مع فرط عصبيتهم وكثرة جمعهم وقوة سلطانهم ومكايد شيطانهم". انتهى.
فهؤلاء علماء مصر في ذلك الزمان لم يخالفوا ما كتبه الشيخ فعدم مخالفتهم دليل الموافقة لا سيما وحال أكثر أهل ذلك الزمان مع الشيخ ومخالفتهم له في أشياء غير ذلك معلومة ، فلو رأوا لمخالفته في هذه المسألة
__________
1 أخرجه البخاري كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة ، باب: "لتتبعن سنن من كان قبلكم" حديث رقم 7320 ، ومسلم ، كتاب العلم ، باب: اتباع سنن اليهود والنصارى حديث رقم 6723 .
ص -22-(31/11)
مساغا لبادروا وأظهروا ذلك.
قال البغدادي معترضا على ما كتبناه على قول الناظم: فإن من جودك الدنيا وضرتها. قال: وهو قال لك إن الدنيا والآخرة لغير الله أفلا يجوز أن الله يعطي الدنيا لأحد وهو يجود بها أو منها، أو ليس كل الوجود لله وقد ملكه لعباده، فما هذا الاعتراض الفاسد.
قال: وقد ورد أن الدنيا والآخرة خلقتا لأجله، وورد في البخاري أنه أكرم من الريح المرسلة، فماذا يضر لو كرم بما لربه 1 وهو حبيبه الأعظم. انتهى.
فنقول: هل يشك أحد في جوده صلى الله عليه وسلم، فهو أجود الناس، وأجود من الريح المرسلة صلوات الله وسلامه عليه، والمعترض حرف قول الصحابي وهو ابن عباس في قوله -رضي الله عنه-: "فلرسول الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة ". 2 فحرفه المعترض وقال إنه أكرم من الريح المرسلة. وقوله: أفلا يجوز أن الله يعطي الدنيا لأحد وهو يجود بها أو منها.
يعني أنه يجوز أن الله يعطي الدنيا كلها لإنسان، وذلك الإنسان يعطي من يشاء ويمنع من يشاء، وهذا لا يليق به سبحانه أن يجعل رزق العباد عند غيره بحيث يصير ذلك الغير هو مقصودهم الذي يرغبون إليه ويسألونه قضاء حوائجهم، ومقتضى قو ل الناظم فإن من جودك الدنيا وضرتها أنه صلى الله عليه وسلم هو الذي جاد بهما لأن الله أعطاه ذلك ليجود به على عباده، بل مقتضى كلامه وإن لم يرده أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي جاد على أهل الدنيا بإعطائهم ما يحبون ويجود على أهل الجنة بها.
وقوله: أوليس كل الوجود له وقد ملكه لعباده.
__________
1 في "أ " و "ب " " بمال ربه " .
2 أخرجه البخاري ، كتاب : بدء الوحي ، باب : 5 حديث رقم 6 . ومسلم ، كتاب الفضائل ، باب : كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير من الريح المرسلة 00 حديث رقم 5964 .
ص -23-(31/12)
فهذا كلام باطل؛ لأن الوجود يتناول كل موجود من ذلك الجنة والنار والسماء والأرض والعرش والكرسي والحجب وغير ذلك من العالم العلوي والسفلي مما لا يعلمه إلا الله، ولم يملكه لأحد من عباده، بل لم يملك من الوجود إلا النزر القليل.
قوله: وقد ورد أن الدنيا والآخرة خلقتا لأجله 1 صلى الله عليه وسلم.
فهذا حديث لا يصح، والله سبحانه قد أعلمنا بالحكمة في خلق هذه المخلوقات كما في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِي}[الذاريات: 56]. وقال تعالى {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7]. وقال تعالى {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}[الملك:2]. وقال تعالى {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنْ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12].وقال تعالى {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[المائدة :97]. فأخبر الله سبحانه بالحكمة في خلق هذه الأشياء، وأنه إنما خلقها لحكم التي ذكرها لا لأجل أحد من عباده، مع أن هذا الحديث لو صح لم يكن فيه حجة ولا شبهة يستأنس بها لما ادعاه، مع أنه أكرم الخلق على ربه وأقربهم إليه وسيلة صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر النبيين والمرسلين، لكنه نهى عن الغلو فيه فقال: " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله" 2.(31/13)
__________
1 يشير إلى ما أخرجه الديلمي وابن عساكر بلفظ "لولاك ما خلقت الجنة ولولاك ما خلقت النار" . وفي رواية ابن عساكر : "لولاك ما خلقت الدنيا" . وهو حديث موضوع كما قال السيوطي في اللآلىء "1 / 272 } والعلامة الألباني في السلسلة الضعيفة"1 / 451 " .
2 تقدم تخريجه ص 20 .
ص -24-
وقول المعترض: فما ذا يضره لو كرم بما لربه.
مقتضى هذه العبارة أنه يتصرف في خزائن الرب سبحانه، لأن التصرف والتكرم بما في يده ليس مختصا به صلى الله عليه وسلم، لأن كل أحد يتصرف فيما أعطاه الله وملكه، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما يتصرف فيما في يده يضعه حيث أمره ربه. قال صلى الله عليه وسلم: "إني لا أعطي أحدا ولا أمنع أحدا وإنما أنا قاسم أضع كما أمرت" 1
وقال: في حكم الزكاة: "إن الله لم يرض فيها بحكم نبي ولا غيره حتى حكم هو فيها فجزأها ثمانية أجزاء ". 2
وقول الناظم: إن من جودك الدنيا وضرتها: أي من عطائك وإنعامك وإفضالك الدنيا والآخرة، وهذا كلام لا يحتمل تأويله بغير ذلك، ووازن بين قول الناظم من جودك الدنيا وضرتها وبين قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا} [الجن:21]. وقوله: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} [الأنعام: 50].
قال ابن كثير 3 "قل لا أقول لكم عندي خزائن الله أي خزائن رزقه فأعطيكم ما تريدون "ولا أعلم الغيب" فأخبركم بما غاب ممامضى وما سيكون "ولا أقول لكم إني ملك"؛ لأن الملك يقدر على ما لا يقدر عليه الآدمي ويشاهد ما لا يشاهده الآدمي.
وقوله تعالى {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 188].(31/14)
__________
1 أخرجه البخاري ، كتاب فرض الخمس ، باب : قول الله تعالى : "فأن لله خمسه وللرسول" حديث رقم 3117 عن أبي هريرة رضي الله عنه .
2 أخرجه أبو داود ، كتاب الزكاة ، باب من يعطي من الصدقة ، وحد الغنى حديث رقم 1630 ،وضعفه العلامة الألباني كما في الإرواء رقم 859 .
3 كذا في جميع النسخ والصحيح أن هذا كلام البغوي – رحمه الله تعالى – إلى قوله "الآدمي" ، ينظر : "البغوي وابن كثير " "3 / 312 – 313" .
ص -25-(31/15)
قال ابن كثير: أمرا لله نبيه أن يخبر بتفويض الأمور إليه، وأن يخبر عن نفسه أنه لا يعلم الغيب المستقبل إلا ما أطلعه الله عليه كما قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ}[الجن: 26،27]. فإنه يطلعه على من يشاء من غيبه . قال: والأحسن في قوله: {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ}[الأعراق:188]. ما رواه الضحاك عن ابن عباس "لا ستكثرت من الخير " أي من المال، وفي رواية لعلمت إذا اشتريت رخيصا ما أربح فيه فلا أبيع شيئا إلا ربحت فيه ولا يصيبني الفقر. وقال ابن جرير – رحمه الله تعالى - : وقال آخرون معنى ذلك ولوكنت أعلم الغيب لأعددت للسنة المجدبة من السنة المخصبة ولوقت الغلاء من الرخيص. وقال ابن زيد-رحمه الله-: {وما مسني السوء } لا اجتنبت ما يكون من الشر قبل أن يكون واتقيته 1 . وقال تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:128].
قال المعترض على ما كتبناه على قول الناظم: ومن علومك علم اللوح والقلم. فقال: قد قال الشراح: المراد باللوح ما يكتب فيه الناس، وبالقلم ما يكتبون به. قال: ويحتمل أن يكون المراد باللوح اللوح المحفوظ ولا يلزم على هذا الاعتراض الذي قاله هذا الرجل لأن مراده علم اللوح غير الفواتح الخمس. قال على أن قوله علم اللوح، الإضافة فيه جنسية أي بعض علم ما في اللوح، والجنس يصدق على بعض الأفراد -إلى أن قال-: بل ولو لم نقل هذا لم يلزم هذا الاعتراض ؛ لأن فواتح الغيب الخمس لا يلزم أنها في اللوح المحفوظ، بل هي في أم الكتاب وهي غير اللوح -إلى أن قال- : فتبين من هذا أن أم الكتاب غير اللوح المحفوظ بل هي أصل اللوح. انتهى .
قوله: إن الشراح قالوا المراد باللوح ما يكتب فيه الناس وبالقلم مايكتبون به.
__________
1 انتهى كلام ابن كثير رحمه الله .
ص -26-(31/16)
فيقال: هذا بعيد من مراد الناظم ومن مقتضى لفظه لأن أل في اللوح والقلم للعهد الذهني، لا يقع في ذهن السامع غير اللوح المحفوظ والقلم الذي جرى بالمقادير وكونه بعيدا من مراد الناظم في هذه الحال لأنه بالغ في مدح النبي صلى الله عليه وسلم وإطرائه، فلما وصفه بكون الدنيا والآخرة من جوده فتعدى في وصفه بالجود ناسب أن يصفه بسعة العلم، ولو أراد أقلام الناس لم يخص الألواح بل يأتي بلفظ يعم ما يكتبون فيه من لوح وقرطاس وغيره. وأيضا فالناس يكتبون بأقلامهم الحق والباطل، ويكتبون الكفر والسحر والشعر وجميع العلوم الباطلة مما ينزه الرسول صلى الله عليه وسلم عن إضافته إليه، ويكتبون بعد موته صلى الله عليه وسلم الرسائل والمداينات وغير ذلك مما يقع في غد وذلك من الخمس التي لا يعلمها إلا الله، وقد قالت عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها-: "من زعم أن محمدا يعلم ما في غد فقد كذب، ثم قرأت : {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا}. 1
وقوله: ويحتمل أن المراد اللوح المحفوظ، ولا يلزم على هذا اعتراض المعترض لأن المراد علم اللوح غير الفواتح الخمس. إلى قوله: وهذه الفواتح لا يلزم أنها في اللوح المحفوظ بل هي في أم الكتاب وهي غير اللوح. إلى قوله : فتبين بهذا أن أم الكتاب غير اللوح بل هي أصل اللوح.
لم يذكر ما يبين ذلك وإنما هو مجرد دعوى كاذبة. وذكر ما ذكره البغوي عن عكرمة عن ابن عباس، قال : هما كتابان سوى أم الكتاب. وهذا حجة عليه لأنه ذكر كتابين غير أم الكتاب بل كلامه يدل على أن اللوح الذي ذكر صفته هو أم الكتاب لأنه لما ذكره قرأ {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}[الرعد: 39]. فالظاهر أن هذا إشارة إلى أن هذا اللوح الذي وصفه هو أم الكتاب، لم يقل إن اللوح المحفوظ غير أم الكتاب. وما ذكره عن عطاء عن ابن عباس لم يقل(31/17)
__________
1 أخرجه مسلم ، كتاب الإيمان ، باب معنى قول الله عز وجل - : {ولقد رآه نزلة أخرى} حديث رقم 438.
ص -27-
فيه إن اللوح المحفوظ غير أم الكتاب. والمعترض يرى أن البغوي قد جزم عند قوله سبحانه: {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} بأن أم الكتاب هي اللوح المحفوظ. وقال البغوي أيضا في قوله سبحانه: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج:21،22] قال هو الذي يعرف باللوح المحفوظ وهو أم الكتاب ومنه تنسخ الكتب، محفوظ من الشياطين ومن الزيادة فيه والنقصان. وقال أيضا في قوله -سبحانه وتعالى- {وَإِنَّهُ } يعني القرآن {في أُمُّ الْكِتَابِ} في اللوح المحفوظ. قال قتادة -رحمه الله تعالى-: أم الكتاب أصل الكتاب وأم كل شيء أصله. قوله
{لدينا } أي القرآن مثبت عند الله في اللوح المحفوظ كما قال: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج:21،22] . وقال البغوي أيضا في قوله سبحانه: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ } [يس:12]. هو اللوح المحفوظ. وقال الواحدي {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ} [الزخرف:4].أي في اللوح المحفوظ. قال الزجاج: أم الكتاب أصل الكتاب، وأصل كل شيء أمه. قال: والقرآن مثبت عند الله في اللوح المحفوظ كما قال: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج: 21،22] وقال الواحدي على قوله:
{بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} عند الله وهو أم الكتاب منه نسخ القرآن والكتب وهو الذي يعرف باللوح المحفوظ من الشياطين ومن الزيادة فيه والنقصان.
وقال ابن كثير -رحمه الله-: {وَإِنَّهُ } أي القرآن {فِي أُمِّ الْكِتَابِ} أي اللوح المحفوظ قاله ابن عباس ومجاهد {لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} وقال في قوله –سبحانه-: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} أي وجميع الكائنات(31/18)
مكتوب مسطور في لوح محفوظ. والإمام المبين هنا هو أم الكتاب قاله مجاهد وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم . انتهى.
وقال البيضاوي {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} أصل الكتب وهو اللوح المحفوظ إذ ما من كائن إلا وهو مكتوب فيه. وقال في قوله سبحانه: {وَإِنَّهُ
ص -28-
فِي أُمِّ الْكِتَابِ} في اللوح المحفوظ فإنه أصل لكل الكتب السماوية {لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ}.
وقال النسفي: أم الكتاب أصل كل كتاب وهو اللوح المحفوظ لأن كل كائن مكتوب
فيه. انتهى.
والمراد بذكرنا كلام المفسرين -رحمهم الله تعالى- وبيان إجماعهم على أن اللوح المحفوظ هو أم الكتاب وهو نص حديث عمران بن حصين الآتي قال: "وكتب في اللوح المحفوظ كل شيء "1 تبين كذب هذا وجراءته في جزمه بأن أم الكتاب غير اللوح المحفوظ مع أن هذا لا ينفعه لو سلم له لأن الكل جرى به القلم فيدخل في قول الناظم: ومن علومك علم اللوح والقلم.
وقوله: إن الإضافة في قوله علم اللوح والقلم جنسية أي بعض علم ما في اللوح والجنس يصدق على بعض أفراده.
فيقال علم بعض ما في اللوح لا يختص به صلى الله عليه وسلم بل يشاركه في ذلك غيره من الأنبياء وغيرهم من آحاد الناس من كل من علم شيئا مما جرى به القلم، مع أنه لا يصح حمل كلام الناظم على ذلك ولا يحتمله، لأنه قال ومن علومك علم اللوح والقلم. " فمن " في كلام الناظم للتبعيض فمقتضى اللفظ أن علم اللوح والقلم بعض علومك، وزعم بعض المنازعين أن من في قول الناظم من جودك ومن علومك إلخ ، أ نها لبيان الجنس،وبينا غلطه في جوابنا السابق، ولو سلم أنها لبيان الجنس مع أنها لا تصلح لذلك فالمعنى على ذلك أن علومك هي عين علم اللوح والقلم لا تقصر عنها لأن هذا هو معنى من البيانية. وكلام الناظم خطأ على كلا التقديرين، ومما يبين أن مراد الناظم إحاطة النبي صلى الله عليه وسلم بعلم الغيب قوله في الهمزية في حق النبي صلى الله عليه وسلم: وليس يخفى عليك(31/19)
في القلب داء . فوصفه صلى الله عليه وسلم بالعلم بجميع أدواء القلوب
__________
1 أخرجه الإمام أحمد في المسند "4 / 578 "
ص -29-
وعللها لأن قوله داء نكرة في سياق النفي فتعم جميع ما احتوت عليه القلوب، وهذا مما اختص به الرب سبحانه قال تعالى: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه:7]وقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ}[البقرة: 235] . وقال : {وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [التغابن: 4]. والآيات في هذا كثيرة معلومة وقد قال سبحانه وتعالى في آخر ما نزل من القرآن: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنْ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [التوبة:101] .
وقال : {وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال:60] .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع " . 1
قال القاضي عياض في الشفا على هذا الحديث: وتجرى أحكامه عليه السلام على الظاهر ، ولو شاء الله لأطلعه على سرائر عباده ومخبآت ضمائر أمته -إلى أن قال-: وكل ذلك من علم الغيب الذي استأثر به عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فيعلمه منه ما شاء ويستأثر بما شاء، ولا يقدح هذا في نبوته، ولا يفصم عروة من عصمته 2 ، وخفي عليه صلى الله عليه وسلم حال أهل الإفك حتى جاءه الخبر من الله، ويخفى عليه صلى الله عليه وسلم أمور كثيرة يطول عدها ، حتى يأتيه الوحي بخبرها.
وقال صلى الله عليه وسلم: " إنه سيجاء برجال من أمتي يوم القيامة فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول أمتي . فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك " 3(31/20)
__________
1 أخرجه البخاري ، كتاب الشهادات ، باب : من أقام البينة بعد اليمين حديث رقم 2680 ، ومسلم ، كتاب الأقضية ، الحكم بالظاهر واللحن والحجة حديث رقم 4448 .
2 سقطت "ولا يفصم عروة من عصمته " من "ب " .
3 أخرجه البخاري ، كتاب تفسير القرآن ، سورة الأنبياء ، باب "كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا " حديث رقم 4740 .
ص -30-
ثم قال المعترض: وهو -أي الناظم- أثبت للنبي صلى الله عليه وسلم علم اللوح والقلم، ومراده بتعليم الله له.
ثم قال بعد ذلك: ما المانع أن يكون من علوم النبي صلى الله عليه وسلم علم اللوح والقلم.
فالعجب من تناقض هذا المبطل، ادعى أولا أن المراد باللوح والقلم ألواح الناس وأقلامهم، ثم ادعى أن الإضافة جنسية، ثم اعترف بأن الناظم أثبت للنبي صلى الله عليه وسلم علم اللوح والقلم، ثم قال: فماالمانع أن يكون من علوم النبي صلى الله عليه وسلم علم اللوح والقلم.
قال: وهذا الذي قررناه بناء على أن الله تعالى يطلع نبينا وغيره على الخمس .
قال: فهناك نقول من أطلعنا على كلامه.
وذكر أشياء ليس فيها ما يستأنس له به فضلا عن أن يكون حجة، وإنما أكثر من النقول للتمويه والترويج على الجهال، ومنها ما هو حجة عليه كنقله عن شرح المشكاة لعلي القاري على قوله صلى الله عليه وسلم: "مفاتح الغيب خمس" 1 أي لا يعلم تفصيله إلا هو ولا يعلم مجمله بحسب خرق العادة إلا من قبله.
وقال في شرح قوله: {في خمس لا يعلمهن إلا الله} فإن قلت قد أخبر الأنبياء بكثير من ذلك فكيف الحصر ، قلت الحصر، باعتبار كلياتها دون جزئياتها، قال تعالى {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ}[الجن: 26،27]. انتهى .
وهذا حجة عليه لأننا لا ننكر أن الله يطلع الأنبياء على أشياء من الغيب معجزة لهم ويكشف لبعض أتباعهم شيئا من ذلك كرامة لهم،(31/21)
وإنما ننكر القول بأن محمدا صلى الله عليه وسلم يعلم جميع ما جرى به القلم في اللوح المحفوظ.
ومن ذلك مفاتح الغيب الخمس، وأنه صلى الله عليه وسلم يعلم جميع ما احتوت عليه القلوب بقوله: وليس يخفى عليك في القلب داء .
__________
1 أخرجه البخاري ، كتاب الاستسقاء ، باب : لا يدري متى يجيء المطر إلا الله ، حديث رقم 1039 .
ص -31-
واستدل المعترض بقوله سبحانه وتعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن:26،27]. وبقوله {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران: 179]. وليس في ذلك حجة له بل هي حجة عليه، ومعنى الآيتين عند جميع المفسرين: أن الله سبحانه يطلع رسله على ما يشاء من الغيب آية لهم ومعجزة، ولنبينا صلى الله عليه وسلم من ذلك ما لا يحصى ولا يشك فيه مسلم.
واحتج المعترض بما نقله عن المدابغي فقال: قال العلامة المدابغي في حاشيته على شرح الأربعين لابن حجر: والحق كما قال جمع إن الله لم يقبض نبينا عليه الصلاة والسلام حتى أطلعه على كل ما أبهمه عنه إلا أنه أمر بكتم بعض وإعلام بعض. انتهى .
قلت: قد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- عن بعض ضلال أهل زمانه أنه ادعى ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم وهذه دعوى عظيمة تعارض نصوص القرآن والسنة الصحيحة الصريحة وتخالف ما عليه الصحابة والتابعون والعلماء بعدهم، يحتاج مدعيها إلى دليل واضح ولن يجد إلى ذلك سبيلا، ولا شبهة معه، وإنما هي مجرد دعوى كاذبة جمع مدعيها بين رد نصوص الكتاب والسنة وإجماع العلماء وبين افتراء الكذب على الله
{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}(31/22)
[الأنعام:144].
قال المموه: وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى مصارع القتلى يوم بدر، وكل منهم صرع في ذلك المكان، فقد علم أن هذه الأنفس بأي أرض تموت وهي من الخمس، وأخبر عن أشياء تقع بعده إلى يوم القيامة فوقعت كما أخبر وهذا مما لا تدري نفس ماذا تكسب غدا. انتهى .
فانظر أولا إلى هذه العبارات الركيكة، وقوله: وأخبر عن أشياء تقع بعده إلى يوم القيامة فوقعت كما أخبر . مقتضى هذه العبارة أن جميع ما أخبر
ص -32-(31/23)
بوقوعه بعده إلى فناء الدنيا قد وقع، وليس كذلك وإنما وقع منه ما وقع إلى زمان هذا الرجل، وأخبر عن وقوع أشياء لم تقع بعد وهي واقعة بلا شك، والمراد أن هذا الرجل يأتي بعبارات فاسدة.
ويقال ثانيا هل ينكر ذلك مسلم، وهذا ونحوه مما أخبر به من الغيب الذي استثناه سبحانه في قوله {إِلَّا مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن:27]. فإنه يطلعه على ما يشاء من غيبه.
واستدل بقول المسيح -عليه السلام-: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} [آل عمران:49] .
فنقول وهذا من معجزات المسيح -عليه السلام-.
وأورد ما روي عن ابن مسعود -رضي الله عنه-: "أن الملك الموكل بالرحم يقول أي رب مخلقة أو غير مخلقة فإن كانت مخلقة قال ذكر أو أنثى شقي أم سعيد ما الأجل ما الأثر بأي أرض تموت. فيقال اذهب إلى الكتاب فإنك ستجد فيه قصة هذه النطفة " . 1
قال: فهذا يدل على أن الله يطلع بعض خلقه على شيء من الخمس وهو الملك .
قال: والنبي صلى الله عليه وسلم أولى لأنه منصوص عليه في قوله{فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن:26،27].
فقوله إنه منصوص عليه. الذي يظهر من كلامه أنه منصوص عليه بأنه يعلم ما في الأرحام، وهذا كذب منه وإنما النص في أنه سبحانه يطلعه على ما يشاء من غيبه، ومن ذلك إطلاعه سبحانه رسوله على ما يشاء إطلاعه عليه مما في الأرحام إن كان قد وجد من ذلك شيء، لا أنه يعلم جميع ما في الأرحام، وجميع ما أورده المعترض في هذا المحل من خبر المسيح وأثر ابن مسعود وأمر قتلى بدر وغير ذلك مما يعلم هو أنه لا حجة له فيه وأننا لا ننكره ، إنما أراد التجهيم على الجهال وتكثير السواد في القرطاس.
__________
1 أخرجه ابن جرير "9 / 110 " وابن أبي حاتم "8 / 2474 " .
ص -33-(31/24)
وجاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم قال في الساعة لا يجليها لوقتها إلا الله ، وكذلك إنزال الغيث لا يعلمه إلا الله ، ولكن إذا أمر به علمته الملائكة الموكلون بذلك وما شاء الله من خلقه.
وكذلك لا يعلم ما في الأرحام مما يريد أن يخلقه تعالى سواه، لكن إذا أمر بكونه ذكرا أو أنثى أو سعيدا أو شقيا علم الملائكة الموكلون بذلك ومن شاء الله من خلقه، وكذلك لا تدري نفس ماذا تكسب غدا في دنياها وأخراها وما تدري نفس بأي أرض تموت.
قال المعترض: وقد أخذ جمع من العلماء أن قول النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل :
"ما المسؤول عنها بأعلم من السائل" 1 أن المعنى أنا وأنت في العلم بها سواء فكما تعلمها أنت أعلمها أنا .
فالعجب من هذا التحريف لكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي شابه فيه اليهود الذي يحرفون الكلم عن مواضعه مع معارضته لنص الحديث نفسه حديث جبريل من رواية أبي هريرة في الصحيحين لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة قال : "ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، وسأحدثك عن أشراطها، إذا ولدت الأمة ربتها فذلك من أشراطها، وإذا رأيت الحفاة العراة رؤوس الناس 2 فذالك من أشراطها وإذا تطاول رعاء البهم في البنيان فذلك من أشراطها في خمس لا يعلمهن إلا الله ثم تلا رسول الله: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} 3 الآية وقوله: في خمس لا يعلمهن(31/25)
__________
1 أخرجه البخاري ، كتاب الإيمان ، باب : سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان ، حديث رقم 50 ، ومسلم ، كتاب الإيمان ، باب : الإسلام ما هو ، وبيان خصاله ، حديث رقم 99 . كلاهما عن أبي هريرة رضي الله عنه ، وأخرجه مسلم ، كتاب الإيمان ، باب : الإيمان والإسلام والإحسان 00 حديث رقم 93 ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
2 في "أ" الحفاة العراة رعاء الشاء رؤوس الناس" .
3 أخرجه البخاري ، كتاب تفسير القرآن ، سورة لقمان ، باب قوله : إن الله عنده علم الساعة ، حديث رقم 4777، ومسلم ، كتاب الإيمان ، باب الإسلام ما هو وبيان خصاله حديث رقم 99 .
ص -34-(31/26)
إلا الله 1 أي هي من الخمس المذكورة في الآية التي اختص الله بعلمها ولا أظن هذا التأويل يصدر ممن عنده علم لأن نص الحديث يكذبه واحتجاج المعترض بما حكاه في تأويل هذا الحديث وبما نقله عن المدابغي صريح في أنه يقول بذلك وهذا كفر صريح لمعارضته نصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة.
واستشهد هذا على دعواه بما نقله عن علي القارئ في شرح المشكاة أنه قال: ما التوفيق بين قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان:34] وبين ما اشتهر عن العرفاء من الأخبار الغيبية كما قال الشيخ الكبير أبو عبدا لله في معتقده أنه قال: ونعتقد أن العبد يتنقل في الأحوال حتى يصير إلى نعت الروحانية فيعلم الغيب وتطوى له الأرض، ويمشي على الماء، ويغيب عن الأبصار، فالجواب: أن للغيب مبادئ ولواحق فمباديه لا يطلع عليه ملك مقرب ولا نبي مرسل وأما اللواحق فهو ما أظهره الله على بعض أحبابه من لوحة علمه وخرج دلك عن الغيب المطلق فصار غيبا إضافيا وذلك إذا تنورت الروح 2 القدسية وازداد نورها وإشراقها والمواظبة على العلم والعمل وفيضان الأنوار الإلهية حتى يقوى النور وينبسط في فضاء قلبه فتنعكس فيه النقوش المرسمة في اللوح المحفوظ ويطلع على المغيبات ويتصرف في أجسام العالم السفلي. انتهى.
مراده بالنقوش المرسمة في اللوح المحفوظ الكتابة التي جرى بها القلم في اللوح المحفوظ.
أورد المعترض هذا الكلام بعد قوله وهذا قررناه بناء على أن الله سبحانه يطلع نبينا وغيره من المقربين على الخمس، فاحتج بقول هذا الضال على دعواه الباطلة من أن الله يطلع نبينا وغيره على الخمس، فمن ادعى أنه إذا أراض نفسه يرى ما كتب في اللوح المحفوظ ويعلم الغيب
__________
1 تقدم تخريجه آنفا .
2 في "ب" "تنور الريح"
ص -35-(31/27)
فهو كافر، فإذا ضم إلى ذلك دعوى أنه يحصل له من القدرة ما يتصرف به في 1 العالم السفلي ازداد كفرا.
ثم قال المعترض: ويحتمل أن هذه الخمس لم تكتب في اللوح المحفوظ وأنها في غامض علم الله وما استأثر الله به، وقد قال قبل ذلك وهذه الفواتح لا يلزم أنها في اللوح المحفوظ بل هي في أم الكتاب وهي غير اللوح. وهنا قال إنها في غامض علم الله، وكذب نفسه بذكره بعد ذلك الأثر المروي أن الملك الموكل بالرحم يقول أي رب مخلقة وغير مخلقة -إلى أن قال- فيقال اذهب إلى الكتاب فإنك ستجد فيه قصة هذه النطفة.
فانظر إلى تناقص هذا، تارة يقول إن الناظم أراد بقوله اللوح والقلم ألواح الناس وأقلامهم ، وتارة يعترف بأن الناظم أراد اللوح والقلم الذي جرى بالمقادير 2 ، ولكن هذه الخمس لم تكتب فيه ، بل 3 هي في غامض علم الله ، وتارة يقول هي في أم الكتاب يعني الخمس 4 وهي غير اللوح المحفوظ ويجزم بذلك، وتارة يقول في أثناء كلامه وهذا بناء على أن الله يطلع نبينا وغيره على الخمس، ويحتج على ذلك بما نقله عن المدابغي والقاري والشيخ الضال الذي يدعي أن الإنسان قد يطلع على اللوح المحفوظ ويعلم الغيب ويتصرف في العالم السفلي.
وقوله إنها في غامض علم الله يعني الخمس وأنها لم تكتب في اللوح المحفوظ.
يكذب هذا القول نصوص الكتاب والسنة، قال الله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}
__________
(1) في "ب" "في أجسام العالم" .
(2) في "ط" "به المقادير" .
{3} في "أ" "لم تكتب فيه و تارة يقول هي في غامض" .
{4} سقطت من "أ" "يعني الخمس" .
ص -36-(31/28)
[الحج:70] قال ابن كثير في الآية: يخبر -سبحانه وتعالى- عن كمال علمه بخلقه فلا يعزب عنه مثقال ذرة وأنه سبحانه علم الكائنات كلها قبل وجودها وكتب ذلك في اللوح المحفوظ كما في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء" 1 . وفي السنن من حديث جماعة من الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أول ما خلق الله القلم قال له اكتب ، قال : وما أكتب ؟ قال : اكتب ما هو كائن فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة} 2 ، وروى ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: خلق الله اللوح المحفوظ كمسيرة 3 مائة عام. وقال للقلم قبل أن يخلق الخلق وهو على العرش تبارك وتعالى اكتب، قال: وما أكتب ؟ قال علمي في خلقي إلى يوم تقوم الساعة، فجرى القلم بما هو كائن في علم الله تعالى إلى يوم القيامة، فذلك قوله تعالى {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج:70] .
وجميع المفسرين على أن المراد بالكتاب في الآية هو اللوح المحفوظ، وأن كل شيء من الكائنات مكتوب فيه، وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}[الحديد:22].وفي الصحيحين عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إقبلو البشرى يا بني تميم، قالوا: قد بشرتنا فأعطنا، قال: إقبلوا البشرى يا أهل اليمن، قالوا: قد قبلنا فأخبرنا عن أول هذا الأمر كيف كان؟ قال:كان الله قبل كل شيء وكان عرشه على الماء، وكتب في اللوح(31/29)
__________
1 أخرجه مسلم ، كتاب القدر ، باب حجاج آدم وموسى عليهما السلام ، حديث 6690 .
2 أخرجه أبو داود ، كتاب السنة ، باب في القدر حديث 4700 ، والترمذي ، كتاب القدر ، باب 17 حديث 2155 3 في "أ" "مسيرة" وفي "ب ، ط" "بمسيرة" والمثبت من تفسير ابن كثير .
ص -37-
المحفوظ كل شيء ثم خلق السموات والأرض" 1 .
فهذا الحديث شاهد للمفسرين في تفسيرهم الكتاب في الآيات باللوح المحفوظ، وأن كل شيء مكتوب فيه وأنه أم الكتاب. والمراد بيان كذب هذا وبيان تناقضه وهو لا يشعر بذلك بل هو خابط خبط عشواء، وثبت في صحيح البخاري عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله لا يعلم أحد ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم متى ياتي المطر أحد إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت ، ولا يعلم 2 متى تقوم الساعة أحد إلا الله" 3 . وتقدم حديث أبي هريرة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "في خمس لا يعلمهن إلا الله" 4 .
أفيظن مسلم أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثون الأمة بهذه الأحاديث المصرحة بتفرد الله سبحانه بعلم هذه الأمور المذكورة في هذه الأحاديث، وأن عندهم ما يخالف ذلك فيكتمونه فيحصل التلبيس على الناس في هذا الباب، فيلزم من ذلك اعتقاد الباطل حقا والحق باطلا، والصواب خطأ والخطأ صوابا، صانهم الله عن ذلك.
أم يظن مسلم أنه خفي على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين ما ادعاه هؤلاء الضلال وعلموه هم، هذا من أبطل الباطل، ويزيد ذلك وضوحا ما ثبت في الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: {من زعم أن محمدا يخبر بما في غد فقد أعظم الفرية على الله ، ثم قرأت : "وما تدري نفس ماذا تكسب(31/30)
__________
1 أخرجه البخاري ، كتاب التوحيد ، باب وكان عرشه على الماء وهو رب العرش العظيم ، حديث رقم 7418 وفيه "كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء ثم خلق السموات والأرض وكتب في الذكر كل شيء "هذا نص البخاري ، وأما لفظ المؤلف فقد أخرجه الإمام أحمد في المسند "4 / 578".
2 في "أ"يدري "وفي "ب " "لا يعلم أحد متى" .
3 تقدم تخريجه ص 31 .
4 تقدم تخريجه ص 34 .
ص -38-
غدا" 1 هذا لفظ مسلم ولفظ البخاري: "من حدثكم أن محمدا يعلم ما في غد فقد كذب ثم قرأت "وما تدري نفس ماذا تكسب غدا" 2 . ومرادها رضي الله عنها نفي ذلك عنه صلى الله عليه وسلم في حال 3 حياته .
وروى الإمام أحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "أوتي نبيكم مفاتيح كل شيء غير خمس ثم قرأ "إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث}. الآية 4 .
وفيما ذكرنا من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة كفاية في بيان بطلان دعاوى هذا البغدادي ومن نقل عنه كالمدابغي والقاري وغيرهما كمحرف قوله صلى الله عليه وسلم:
"ما المسؤول عنها بأعلم من السائل" 5 .
وأورد المعترض حديث المنام وقوله صلى الله عليه وسلم : "رأيت ربي في أحسن صورة ،
فقال يا محمد فيم يختصم الملأ 6 الأعلى إلى -أن قال- فتجلى لي كل شيء وعرفت -وفي رواية- فعلمت ما في السماء والأرض -وفي رواية- فعلمت ما بين المشرق والمغرب" 7.
وليس في ذلك ما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم علم على ما جرى به القلم في اللوح المحفوظ، ولا أنه علم مفاتيح الغيب. قال غير واحد ممن شرح الحديث: يحمل ذلك على أن الله سبحانه كشف له عن الأعيان الموجودة إذ ذاك. وهذا(31/31)
__________
1 أخرجه مسلم ، كتاب الإيمان ، باب معنى قول الله عز وجل : "ولقد رآه نزلة أخرى" حديث رقم 438 وفيه : "قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله " بدل "وما تدري نفس ماذا تكسب غدا " .
2 أخرجه البخاري ، كتاب التفسير ، سورة النجم ، باب 1 حديث رقم 4855 .
3 سقطت "حال " من "أ" .
4 أخرجه الإمام أحمد في المسند "1 / 557".
5 تقدم تخريجه ص 34 .
6 سقطت "الملأ " من "ب " .
7 أخرجه الإمام أحمد في المسند "1 / 460" والترمذي ، كتاب تفسير القرآن ، باب "ومن سورة ص" حديث رقم 3232 .
ص -39-(31/32)
هو الظاهر وهو صريح رواية "فعلمت ما في السماء والأرض" ورواية "فعلمت ما بين المشرق والمغرب" وما موصولة ، أي فعلمت الذي بين المشرق والمغرب، أي الموجود بينهما 1 ، يوضح ذلك لو 2 قلت : دخلت دار فلان فعلمت ما فيها، إنما يتناول علمك الموجود فيها من الأشياء حين دخولك، لا ما يوجد فيها بعد ذلك والله أعلم، ولما ذكر ابن كثير قول بعض المفسرين على قوله سبحانه وتعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}[الأنعام:75]. أنه فرجت له السموات فنظر إلى ما فيهن حتى انتهى بصره إلى العرش، وفرجت له الأرضون السبع فنظر إلى ما فيهن، قال 3 : فيحتمل هذا أنه كشف له بصره حتى رأى ذلك عيانا، ويحتمل أن يكون عن بصيرته حتى شاهده بفؤاده وتحققه وعرفه وعلم ما في ذلك من الحكم الباهرة والدلالات القاطعة، كما روي الإمام أحمد والترمذي وصححه عن معاذ بن جبل رضي الله عنه في حديث المنام: "أتاني ربي في أحسن صورة فقال يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى -فذكر الحديث- ثم تلا وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين" 4 . انتهى.
وذكر المعترض حديث حذيفة أنه قال: "إن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا عن كل ما يقع إلى يوم القيامة حتى دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار حتى إنا لنرى الطائر يقلب جناحيه فنذكر منه علما ". هكذا أورده البغدادي، جعل ذلك كله من قول حذيفة، وحرف اللفظ والمعنى، فأول هذه الجملة من كلام حذيفة، وآخرها من قول أبي ذر، لكنه غير الكلام فأفسد اللفظ والمعنى. فنميز قول حذيفة من قول أبي ذر رضي الله عنهما ليتبين للناظر
__________
1 في "ب" "والذي في السماء والأرض" .
2 في "ب" "إنك لو قلت" .
3 ابن كثير رحمه الله تعالى .
4 تقدم تخريجه ص 39 .
ص -40-(31/33)
تخبيط هذا الجاهل، ففي صحيح البخاري عن حذيفة رضي الله عنه قال: "قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاما فما ترك شيئا يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدثه، حفظه من حفظه ونسيه من نسيه، فقد علمه أصحابي هؤلاء، وإنه ليكون من الشيء فأعرفه فأذكره كما يذكر الرجل وجه الرجل إ ذا غاب عنه ثم رآه عرفه" 1 .
قال حذيفة: "ما أدري أنسي أصحابي أم تناسوا، والله ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم من قائد فتنة إلى أن تنقضي الدنيا يبلغ من معه ثلثمائة فصاعدا إلا سماه لنا باسم أبيه وقبيلته" هذا لفظ حذيفة .
وقال أبو ذر: "لقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكرنا منه علما" 2 . انتهى .
فانظر إلى تخبيط هذا وتحريفه الفاحش، يقول أبو ذر "وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكرنا منه علما" يعني إلا ذكر لنا النبي منه علما ، وهذا يقول: "إنا لنرى الطائر يقلب جناحيه فنذكر منه علما" أي نذكر نحن من الطير علما. فغير كلام الصحابي وأبدله بكلام لا معنى له.
وقول أبي ذر وحذيفة يدل على أنه صلى الله عليه وسلم أخبرهم بأمور جزئيات من الغيب تحدث بعده أطلعه الله عليها، وهل في ذلك ما يدل على أنه أخبرهم بوقت الساعة ؟
أو أنه أخبرهم بما في أرحام نسائهم ودوابهم ؟ أو أنه أخبر كل واحد بأي أرض تموت ؟ أو بما يحدث له من الذرية، ومتى يموت هذا ؟ مما يعلم قطعا أنه لم يكن منه شيء.
وكذلك حديث المنام ليس فيه ما يستأنس به لهذا المبطل، وما ذكرنا من قول عائشة وابن مسعود كاف في بطلان دعوى من قال : إن الله لم يقبض
__________
1 أخرجه البخاري ، كتاب القدر ، باب "وكان أمر الله قدرا مقدورا" حديث رقم 6604 ، ومسلم ، كتاب إخبار النبي صلى الله عليه وسلم فيما يكون إلى قيام الساعة ، حديث رقم 7192 .
2 أخرجه الإمام أحمد في المسند "5 / 200" .
ص -41-(31/34)
نبيه حتى أطلعه على جميع ما كتمه عنه . وكذلك ما حدث به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه صلى الله عليه وسلم مثل قوله: "مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله" وقوله عن الساعة:" في خمس لا يعلمهن إلا الله" 1 يخبر الصحابة التابعين بذلك؛ والتابعون يخبرون من بعدهم، وأهل الحديث يرون هذه الأحاديث ويثبتونها في كتبهم ولا يذكرون ما يخالفها مما هو الحق في زعم هؤلاء الملحدين حتى يجيء هؤلاء المفترون على الله الكذب وعلى رسوله فيبينون للناس ما خفي على الصحابة والتابعين وجميع علماء المسلمين!! هذا مما يقطع ببطلانه كل عاقل، وأبلغ من ذلك إخبار الله سبحانه في كتابه بتفرده بعلم الغيب ونفيه عن غيره حتى عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. والمفسرون من الصحابة ومن بعدهم يقررون ما دلت عليه الآيات ولم يذكر أحد منهم خلاف مدلولها وهذا ظاهر ولله الحمد، لكن لأجل ترويج الكذبة على الجهال يحتاج إلى إيضاح ذلك.
واعترض هذا على ما كتبناه على قول الناظم:
يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به
سواك -إلى قوله مع قول المشطر
إن لم تكن في معادي آخذ بيدي
ومنقذي من عذاب الله والألم
أو شافعا لي مما قد جنيت غدا
فضلا و إلا فقل يا زلة القدم
قال: هذا الاعتراض باطل من وجوه. الأول: أن هذا الرجل يزعم أن قول الناظم إن لم تكن في معادي آخذا بيدي. وقول المشطر، ومنقذي من عذاب الله والألم. أو شافعا لي إلى آخره أن هذا الإنقاذ بالفعل، وأنه غير الشفاعة وأنه إن لم يحصل بالفعل فبالشفاعة. وليس كما زعم لأن الإنقاذ والأخذ باليد هو أيضا بالشفاعة لأن غير الشفاعة يكون استقلالا من دون الله ولا يتصور اعتقاد هذا من مسلم ولو كان بدويا جاهلا، والمراد تنوع الشفاعة فالنوع الأول هو الأخذ باليد والإنقاذ، وقد ورد هذا في الأحاديث
__________
1 سقطت "وقوله عن الساعة في خمس لا يعلمهن إلا الله" من "ب" .(31/35)
ص -42-
الصحيحة في الشفاعة " فأقول يا رب أمتي ، فيقال انطلق فاخرج من في قلبه مثقال ذرة من إيمان ، فأنطلق فأفعل . فأقول يا رب أمتي أمتي، فيقال انطلق فأخرج من في قلبه أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان ، فأنطلق فأفعل. فأقول يارب أمتي أمتي، فيقال ا انطلق فأخرج من في قلبه أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان فانطلق فأخرجهم من النار" 1 . -إلى أن قال- فما المانع من إطلاق هذا اللفظ؟ وهل هذا الإخراج إلا الإنقاذ من العذاب؟ . الوجه الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم في المعاد وهو يوم القيامة حي كحاله في الدنيا هو وجميع الخلائق فلا ما نع ذلك اليوم من أن يتسبب ويخرج وينقذ من الشدة لأنه حي حاضر. قال: وعند هذا الرجل وأشياعه أن الحي الحاضر له قدرة بنفسه، قال ابن عبد الوهاب في "كشف الشبهات" في جواب الحديث الصحيح: "أن الناس يوم القيامة يستغيثون بآدم ثم بنوح ثم بإبراهيم ثم بموسى ثم بعيسى حتى ينتهوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين فيقول أنا لها أنا لها" 2. قال : فأجاب عن هذا بالاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه جائزة كما قال تعالى في قصة موسى 3 : {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} وكما يستغيث الإنسان بأصحابه في الحرب وغيره في أشياء يقدر عليها المخلوق. انتهى. قال: فإذا كان الحي الحاضر عند هؤلاء ينسبون له الفعل لأنه يقدر عليه، وصاحب البردة يخبر أنه إن لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم في معادي وهو يوم القيامة آخذا بيدي فضلا و إلا فقل يا زلة القدم، والنبي وجميع الخلائق ذلك اليوم أحياء حاضرون لهم قدرة فيما يقدرون عليه من الأمور العادية الحسية، ونسبة الأفعال إلى فاعلها وأسبابها جائزة شرعا وعرفا، فكيف ينكر إنقاذ النبي صلى الله عليه وسلم أمته من العذاب ويجعله ممتنعا وأنه خلاف الشفاعة! مع أن النبي(31/36)
__________
1 أخرجه البخاري ، كتاب التوحيد ، باب كلام الرب عز وجل يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم حديث رقم 7510 ، ومسلم ، كتاب الإيمان ، باب حديث الشفاعة ، حديث رقم 2 / 47 .
2 جزء من الحديث المتقدم تخريجه آنفا .
3 سقطت "في قصة موسى" من "أ" .
ص -43-
حينئذ حاضر، له قدرة فيما يقدر عليه ذلك اليوم، ويقدر على ذلك كما هو في حال الحياة الدنيا، كما كان يرمي العدو وهم ألوف بكف من تراب فيعميهم، ويروي الألوف العطاش ويشبعهم بقليل من الماء والطعام، وفي الحديث: "إنكم تتهافتون في النار تهافت الفراش، وأنا آخذ بحجزكم لئلا تقعوا فيها" (1). وأعظم من هذا أن الله نسب إخراج الكفار من النور إلى الظلمات إلى الطاغوت وهي الأصنام، مع أنها لا قدرة له بوجه، لكن لما كانت سببا للإخراج نسب الإخراج إليها وكذلك هنا لما كان النبي صلى الله عليه وسلم سببا للإنقاذ من العذاب نسب الإنقاذ إليه. وفي دعاء الاستسقاء "اللهم أغثنا غيثا مغيثا" (2) قالوا: معناه منقذا من الشدة، مع أن الغيث جماد لا قدرة له، لكن لما كان سببا للإنقاذ والإغاثة نسب الإنقاذ إليه، وقد اشتهر عند العلماء أنبت الربيع البقل ومنع البقاء تقلب الشمس، مع أن المنبت في الحقيقة هو الله والمانع للبقاء هو الله، وقال: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ}[القصص:15] . مع أن القضاء من الله، وقال في حق نبيه: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}[الأعراف:157] مع أن الواضع هو الله، لكن لما كان سببا للفعل نسب الفعل إليه ، بل جميع الأفعال تنسب إلى فاعلها فيقال: فلان أعطي وفلان منع، وفلان نفعني وفلان ضرني، ويلزم على قول هذا ألا تنسب الأفعال إلى فاعلها ولا قائل به. قال: وورد نسبة الإنقاذ من النار إلى(31/37)
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في المسند "1 / 488" عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- وأخرج نحوه البخاري ، كتب الرقاق ، باب الإنتهاء من المعاصي ، حديث رقم 6482 ، ومسلم ، كتاب الفضائل ، باب شفقته على أمته ومبالغته في تحذيرهم مما يضرهم ، حديث رقم 5914 .
(2) أخرجه الإمام أحمد في المسند "4 / 322" وأبو داود ، كتاب الصلاة ، باب رفع اليدين في الاستسقاء حديث رقم 1169 بلفظ : "اللهم اسقنا غيثا مغيثا مريعا مريئا 00" وأخرج نحوه البخاري ، كتاب الاستسقاء باب الاستسقاء ، في خطبة الجمعة غير مستقبل القبلة رقم 1014 ، ومسلم ، كتاب صلاة الاستسقاء ، باب الدعاء في الاستسقاء ، حديث رقم 2075 بلفظ : "اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا" .
ص -44-(31/38)
المعاني من الأعمال، وقد ورد في حديث صحيح قال: "رأيت رجلا من أمتي عذب في قبره، فجاءته صلاته فأنقذته من العذاب، والآخر أنقذه حجه، والآخر صيامه" 1. فإذا جاز نسبة الإنقاذ من النار إلى المعاني لكونه أسبابا فنسبتها إلى الذوات من باب أولى، خصوصا أشرف الذوات من المخلوقين. انتهى.
وجوابه أن يقال: أولا وازن بين قول يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك، وبين قول الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أجعلتني لله ندا حيث قال له ما شاء الله وشئت" 2. فهذا لو قال ما لي من ألوذ به إلا الله وأنت، لكان أقبح من قول القائل ما شاء الله وشئت، لأن الله أثبت للعبد مشيئة يقوله: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير:28]. {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} [الإنسان:29] فكيف إذا أفرد الرسول باللياذ والالتجاء من عذاب ذلك اليوم الذي لا تكلم فيه نفس إلا بإذنه!
وقد ذكرت في الجواب السابق الفرق بين قول هذا في تشطيره ومنقذي من عذاب الله والألم، وبين قوله: أو شافعا لي، لأن المعترض الأول ادعى بجهله أن عطف الشفاعة على الإنقاذ عطف تفسير ومعنى الكلمتين واحد، وبينا بطلان قوله هذا وأن قوله أو شافعا لي لا يصلح كونه عطف تفسير لأنهم ذكروا أن عطف التفسير إنما يكون بالواو خاصة، وممن ذكر ذلك ابن هشام، وأما العطف يأو فهو نص في أن المعطوف غير المعطوف عليه، مع أن العامي فضلا عن العالم يفرق بين اللفظين، فلو قصد إنسان إنسانا وقال
__________
1 ذكره الهيثمي في المجمع "7 / 371" من حديث عبد الرحمن بن سمرة وقال : رواه الطبراني بإسنادين في أحدهما سليمان بن أحمد الواسطي ، وفي الآخر خالد بن عبد الرحمن المخزومي وكلاهما ضعيف .
2 تقدم تخريجه ص 21 .
ص -45-(31/39)
قصدتك لحاجة 1 كذا، فإما أن تقضيها أو تشفع لي عند فلان في قضائها فكل أحد يعرف الفرق بين العبارتين كما فرق القرآن بينهما في قول صاحب يس {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِي الرَّحْمَانُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنقِذُونِي} [يس:23].فالإنقاذ هو بالنصرة والمظاهرة ، والشفاعة بالجاه والمكانة.
قال ابن القيم بعد كلام سبق على الآية: إن العابد يريد من معبوده أن ينفعه وقت الحاجة دائما، وإن أرادني الرحمن الذي خلقني بضر لم يكن لهذه الآلهة من القدرة ما تنقذني بها من ذلك الضر، ولا من الجاه والمكانة ما تشفع لي إليه لأتخلص 2 من ذلك الضر فبأي شيء تستحق العبادة، إني إذا لفي ضلال مبين إن عبدت من دون الله 3 من هذا شأنه. انتهى .
وقال البيضاوي: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِي الرَّحْمَانُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنقِذُونِي} [يس:23] . أي لا تنفعني شفاعتهم، ولا ينقذون بالنصر والمظاهرة: {إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [يس:24].فإن إيثار من لا ينفع ولا يدفع ضرا بوجه ما على الخالق المقتدر على النفع والضر وإشراكه به ضلال مبين لا يخفى على عاقل. انتهى.
وقوله: إن الإنقاذ والأخذ باليد هو أيضا بالشفاعة لأن غير الشافع يكون استقلالا من دون الله ولا يتصور اعتقاد هذا من مسلم.
قلت: ولا يتصور ذلك من أحد من مشركي العرب الذي بعث إليهم محمد صلى الله عليه وسلم فإنهم كلهم معترفون بأن آلهتهم لا تخلق ولا ترزق ولا تدبر شيئا من دون الله ، ونصوص القرآن كثيرة في ذلك كما قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ(31/40)
__________
1 في "ط" " لحاجتي" .
2 في "ط" " ولا تخلصني"
3 سقطت "من دون الله" من "أ" .
ص -46-
وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [يونس:31]. أي أفلا تتقون الشرك في الألوهية إذا أقررتم بالربوبية. وقال تعالى: {قُلْ لِمَنْ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّا تُسْحَرُونَ} [المؤمنون:84-89] . {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:9]. واعترفوا أيضا بصفة العزة 1 والعلم لله، والآيات في هذا كثيرة معلومة عند الجميع يحتج سبحانه عليهم بإقرارهم بتوحيد الربوبية على إشراكهم في توحيد الألوهية كما قال تعالى:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106] . قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: إيمانهم إذا قيل لهم من خلق السموات والأرض والجبال قالوا الله وهم يعبدون معه غيره! ولهذا يقولون في تلبيتهم لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك . وقال عطاء في الآية: إيمانهم وإخلاصهم الدعاء لله في الشدائد وينسون في الرخاء كما قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت:65].الآية.
والآية تعم ذلك كله فهذه نصوص القرآن صريحة في أن المشركين يعترفون بتوحيد الربوبية اعترافا جازما غير مترددين ولا متوقفين، بل يقرون(31/41)
بجملة من صفات الرب سبحانه وتعالى ينكرها كثير من المسلمين المنحرفين كإقرارهم بصفة العزة والعلم، ويقرون أيضا بعلوه فوق سمواته كما في حديث حصين بن المنذر لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "كم إلها تعبد؟ قال: سبعة، ستة في الأرض وواحد في السماء، قال: فمن الذي تعد لرغبتك
__________
1 في "أ" "العز" .
ص -47-
ورهبتك؟ قال الذي في السماء" 1 وكما في شعر أمية بن الصلت وغيره.
وأخبر الله عنهم أنهم ما أرادوا من آلهتهم إلا الشفاعة عند الله في أمور دنياهم، وكذا من يعترف منهم بالآخرة، فإذا طلبوا من آلهتهم حاجة من حوائجهم من رزق أو نصر على عدو ونحو ذلك لم يقولوا إن آلهتهم تحدث شيئا من مطلوبهم من دون الله وتستقل بذلك، لم يقل هذا أحد منهم، وإنما كانوا يقولون إننا إذا طلبنا حاجتنا من هذا الوجيه عند الله حصل مطلوبنا لوجاهته عند الله، ولهذا يخلصون الدعاء لله في الشدائد وينسون الوسائط كما قال تعالى: {وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [الأنعام:41].
إذا تبين هذا فإذا خوطب النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره من الأموات والغائبين بلفظ من ألفاظ الاستغاثة أو طلب منه حاجة بقول أغثني، أو أنقذني من كذا، أو خذ بيدي، أوأقض حاجتي، أو أنت حسبي، أو أشكوا إليك حاجتي، أو نحو ذلك، يتخذه واسطة بينه وبين الله في ذلك فهذا شرك العرب الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقول المستغيث خد بيدي، أو أنقذني، من أبلغ ألفاظ الاستغاثة فلو اعتقد الداعي أن من دعاه وطلبه يقضي حاجته استقلالا من دون الله كان هذا شركا في توحيد الربوبية والألوهية.
قال شيخ الإسلام تقي الدين رحمه الله تعالى: ومن رحمة الله سبحانه أن(31/42)
__________
1 أخرجه الترمذي ، كتاب الدعوات ، باب 70 ، حديث 3483 . من حديث عمران بن حصين ، قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي يا حصين 00 الحديث . وضعفه العلامة الألباني . انظر : ضعيف الترمذي رقم 690 ، والحديث على ضعفه فإن السؤال فيه موجه إلى والد عمران بن الحصين وهو الحصين بن عبيد بن خلف الخزاعي ، وليس إلى الحصين بن المنذر كما ذكر المؤلف . ثم إني لم أجد من الصحابة سمي بالحصين بن المنذر "بالصاد المهملة" وقد وجد في التابعين من اسمه الحضين بن المنذر "بالضاد المعجمة" روى عن عثمان وعلي والمهاجرين منقذ 00 ومات سنة 97 ه . انظر : تهذيب التهذيب 2 / 356 .
ص -48-(31/43)
الدعاء المتضمن شركا كدعاء غيره إن يفعل، أو دعائه إن يدعوا، ونحو ذلك لا يحصل غرض صاحبه ولا يورث حصول الغرض شبهة إلا في الأمور الحقيرة، فأما الأمور العظيمة كإنزال الغيث عند القحوط وكشف العذاب النازل فلا ينفع فيه هذا الشرك، قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمْ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [الأنعام:40-41].وقال: {وَإِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 67].وقال: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:62]. وقال: {أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر:43-44]. فكون هذه المطالب العظيمة لا يستجيب فيها إلا هو سبحانه دل على توحيده وقطع شبهة من أشرك به.
قال رحمه الله: وجماع الأمر أن الشرك نوعان:
شرك في ربوبيته: بأن يجعل لغيره معه تدبير ما، كما قال تعالى: {قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سبأ:22]. فبين أنهم لا يملكون مثقال ذرة استقلالا، ولا يشركون في شيء من ذلك، ولا يعينونه على ملكه ، فمن لم 1 يكن مالكا ولا شريكا ولا عونا فقد انقطعت علاقته.
وشرك في الألوهية: بأن يدعى غيره دعاء عبادة أو دعاء مسألة، كما قال تعالى:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}فكما أن إثبات المخلوقات سببا لا يقدح في توحيد الربوبية،(31/44)
ولا يمنع أن يكون الله خالق كل شيء، ولا يوجب أن يدعي المخلوق دعاء عبادة أو دعا ء استعانة 2
__________
1 في "ب ، و ط" "فلم" .
2 في "ط" "استغاثة" .
ص -49-
كذلك إثبات بعض الأفعال المحرمة من شرك أو غيره أسبابا لا تقدح في توحيد الألوهية، ولا تمنع أن يكون الله هو الذي يستحق الدين الخالص، ولا توجب أن تستعمل الكلمات والأفعال التي فيها شرك إذا كان الله يسخط ذلك ويعاقب عليه، ويكون مضرة ذلك على العبد أكثر من منفعته، إذ قد جعل الخير كله في ألا نعبد إلا إياه ولا نستعين إلا به.
قال:وعامة آيات القرآن تثبت هذا الأصل، حتى إنه سبحانه قطع أثر الشفاعة بدون إذنه كقوله سبحانه: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ}. وقال: {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأنعام:51]. وقال: {وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع } [الأنعام:70]. وقال: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمْ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:94]. وسورة الأنعام سورة عظيمة مشتملة على أصول الإيمان، وكذلك قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ} [السجدة:4]. وقال: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}[الزمر:3]. وقال : {أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا(31/45)
يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر:43،44] . وسورة الزمر أصل عظيم في هذا.
قال: والقرآن عامته إنما هو في تقرير هذا الأصل العظيم الذي هو أصل الأصول. انتهى.
وما احتج به هذا الملحد من قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أمتي أمتي فيقال انطلق فأخرج من في قلبه كذا وكذا من إيمان" 1 وقوله: فما المانع من إطلاق هذا اللفظ -يعني لفظ الإنقاذ- وطلبه من النبي صلى الله عليه وسلم وهل هذا الإخراج إلا
__________
1 تقدم تخريجه ص 43 .
ص -50-(31/46)
الإنقاذ من عذاب الله.
فالعجب من هذا التمويه، فهل فعل هذا صلى الله عليه وسلم بنفسه أو بأمر الله له بذلك؟! فالله سبحانه هو الذي أكرمه بهذه الشفاعة فهو صلى الله عليه وسلم عبد مأمور لا يشفع إلا بإذن ربه فيمن أذن الله له أن يشفع فيه فقط، لا يتجاسر أن يشفع في غير من أذن له فيه ربه.
ثم انظر قول هذا: إن النبي صلى الله عليه وسلم حي كحاله في الدنيا هو وجميع الخلائق فلا مانع في ذلك اليوم من أن يتسبب ويخرج وينقذ من الشدة لأنه حي حاضر، والنبي وجميع الخلائق ذلك اليوم أحياء حاضرون لهم قدرة فيما يقدرون عليه من الأمور العادية الحسية.
قال: وعند هذا الرجل وأشياعه أن الحي الحاضر له قدرة بنفسه، فكيف ينكر إنقاذ النبي أمته من العذاب ويجعله ممتنعا مع أن النبي حينئذ حاضر له قدرة فيما يقدر عليه ذلك
اليوم، ويقدر على ذلك كما هو في حال الحياة الدنيا، كما كان يرمي العدو وهم ألوف بكف من تراب فيعميهم، ويروي الألوف العطاش ويشبعهم بقليل من الماء والطعام.
فلينظر المنصف إلى تقرير هذا المبطل وجعله النبي بل وغيره يتصرفون في ذلك اليوم كتصرفهم في الدنيا، وأنه صلى الله عليه وسلم يخرج وينقذ من الشدة، ويقرر ذلك من هذا التقرير، وأنه صلى الله عليه وسلم يقدر على ذلك أي الإنقاذ، وتعجبه ممن ينكر ذلك فقال وكيف ينكر إنقاذ النبي أمته من العذاب، ويحتج علينا بأنا إذا قلنا إن للحي 1 الحاضر قدرة في الدنيا على التصرف بالفعل بنفسه يقول 2 فيلزمكم أن تثبتوا ذلك في الآخرة لا فرق-ثم قال- ويقدر على ذلك كما هو في حال الحياة الدنيا، وقوله والنبي وجميع الخلائق ذلك اليوم لهم قدرة فيما يقدرون عليه من الأمور العادية الحسية، والمراد بالأمور العادية الأشياء
__________
1 في "ط " "بأن للحي" .
2 في "ط " "فنقول" .
ص -51-(31/47)
التي يفعلها الحي في العادة، والحسية الأفعال المشهودة بالعيان مثل إعطاء بعضهم بعضا ومعاونة بعضهم لبعض وكذا جناية بعضهم على بعض، والعجب من هذا الضال سوى في هذه الأمور بين الدنيا والآخرة ولم يجعل لإخباره سبحانه بتفرده بالملك والأمر في ذلك اليوم فائدة ولا معنى، وأي محادة لله ورسوله أكبر من هذا ؟! وهذه نصوص الكتاب والسنة نذكر بعضها فيعرض المصنف كلام هذا الرجل عليها.
قال تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قال ابن كثير: إنما أضيف الملك إلى يوم الدين لأنه لا يدعي أحد هناك شيئا ولا يتكلم أحد إلا بإذنه 1 {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَانُ وَقَالَ صَوَابًا} [النبأ:38]. وقال: {يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [هود:105]. وقال: {وَخَشَعَتْ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَانِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} [طه:108]. وقال الضحاك عن ابن عباس: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}يقول لا يملك أحد في ذلك اليوم حكما كملكهم في الدنيا –قال- ويوم الدين يوم الحساب للخلائق وهو يوم يدينهم بأعمالهم إن خيرا فخير وإن شرا فشر إلا من عفي عنه –قال- وكذا قال غيره من الصحابة والتابعين والسلف وهو ظاهر 2.
وقال البغوي: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} إنما خص يوم الدين بالذكر مع كونه مالكا للأيام كلها، لأن الأملاك يومئذ زائلة فلا ملك ولا أمر إلا له، قال تعالى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَانِ} [الفرقان:26]. وقال: {لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16]. وقال {وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}.انتهى.
وقال تعالى {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} [فاطر:4].وقال: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} [هود:123].وهذا معنى قوله {وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الإنفطار:19] وقال تعالى {قَوْلُهُ الْحَقُّ(31/48)
وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ}
__________
1 في تفسير ابن كثير "كما قال تعالى" .
2 انتهى كلام ابن كثير رحمه الله تعالى
ص -52-
[الأنعام:73]. وقال: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} [الحج:56]. وقال: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَانِ} [الفرقان:26]. وقال: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة:48].
قال البيضاوي في هذه الآية: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} قال: وإيراده شيئا منكرا مع تتنكير النفسين 1 للتعميم والإقناط الكلي انتهى.
وما ذكره البيضاوي من أن النكرة في سياق النفي تعم مجمع عليه عند البيانيين والأصوليين وعليه جميع المفسرين والفقهاء.
وقال تعالى: {وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا} [لقمان:33]. وقال: {يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا} [الدخان:41]. وقال: {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا} [الإنفطار:19]. فنكر النفسين وشيئا، وهذا من أبلغ صيغ العموم في النفي كما قال البيضاوي، فيعم جميع الأنفس وكل ما يقع عليه اسم شيء، ثم أكد بقوله: {وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}.
وقال ابن كثير: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} [الإنفطار: 17،18]. تهويل لشأن ذلك اليوم ولهذا قال: {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا} [الإنفطار:19]. أي لا ينفع أحد أحدا ولا يدفع أحد عن أحد شيئا ولهذا قال: {وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} كقوله: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَانِ} [الفرقان:26]. وقوله: {لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} وكقوله : {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قال قتادة: {وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}(31/49)
قال: والأمر والله لله اليوم ولكن لا ينازعه يومئذ أحد ولا يصنع أحد شيئا إلا رب العالمين.
وقال الزمخشري: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} [الإنفطار:17،18]. يعني أن أمر يوم الدين عظيم بحيث لا
__________
1 في "ط" "النفس" .
ص -53-
يدرك كنهه في الهول والشدة وكيفما تصورت فهو فوق ذلك وعلى أضعافه، والتكرير لزيادة التهويل، ثم أجمل القول عن وصفه فقال: {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا} أي لا تستطيع دفعا عنها ولا نفعا لها بوجه ولا أمر إلا الله وحده 1.
وفي تفسير الجلالين: {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا} من المنفعة {وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}
لا أمر لغيره معه أي لم يمكن أحدا من التوسط فيه 2 بخلال الدنيا 3.
وقول المعترض: إن البغوي قال في قوله تعالى: {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا} إن هذا في النفس الكافرة.
وكذب في نسبة ذلك إلى البغوي، فإن البغوي حكى ذلك عن مقاتل، فيحتمل أن مقاتلا خص بعض ما تناولته الآية لمعنى ما، والظاهر أن مراده أن غير الكافر يشفع فيه الشافعون ويرى 4 أن من أذن له في الشفاعة يملك ما أذن له فيه كما قال بعض المفسرين في قوله سبحانه: {لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَانِ عَهْدًا} [مريم:87]. وقوله: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:86] بناء على أن الاستثناء في الآيتين متصل، وأن من أذن له في الشفاعة يصدق عليه أنه ملك الشفاعة فيمن أذن له فيه فقط، والشفاعة المأذون فيها هي من الأمر 5 الذي اختص الله به سبحانه في قوله: {وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} والألف واللام في الأمر تفيد العموم عند الجميع كقوله: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ(31/50)
الْأَمْرُ كُلُّهُ}
__________
1 الكشاف 3 / 358 .
2 في "ط" "لم يمكن لأحد من الخلق التوسط فيه" .
3 تفسير الجلالين ص 530 .
4 في "ب" "ويروى" .
5 في "ط" هي "غير الأمر" .
ص -54-
{وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} 1 فهو سبحانه الآمر والآذن فله الأمر كله وله الملك كله. {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} {يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ} {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَانُ وَقَالَ صَوَابًا} [النبأ:38]. والعموم في قوله سبحانه وتعالى: {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا} [الإنفطار:19].كالعموم في نظائرها من الآيات التي قدمنا ذكرها كقوله: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} {2} وقوله: {لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا} [لقمان:33].وما رأينا أحدا من المفسرين قال في هذه الآيات بالخصوص بل قرروا عمومها على مقتضاه، ولم يقل أحد منهم في شيء منها إنه مختص بالكفار سوى ماذكره البغوي عن مقاتل في قوله: {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا} وليس هو بالصواب وهو مخالف لما عليه المفسرون وأهل العربية والأصوليون {3} والفقهاء في قولهم بعموم النكرة في سياق النفي، فمن له نظر في كتب الجميع وجد ذلك صريحا.
قال في شرح مختصر التحرير:ومن صيغ العموم نكرة في نفي، صرح به أهل العربية. وكذا قال العراقي في شرح جمع الجوامع إن النكرة في سياق النفي تعم ولم يذكر خلافا، وهذا يفهمه كل أحد من مثل قوله تعالى {وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا}. {وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} {لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ(31/51)
وَلَا فِي السَّمَاءِ}. {فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا}. فمن سمع هذه الآيات ونحوها لم يشك في عمومها، كيف وفي قوله سبحانه وتعالى: {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا} زيادة تأكيد للنفي لأنه نكر النفسين
__________
1 في "ب" والألف واللام في الأمر كقوله "وإليه يرجع الأمر كله" ، "وإلى الله ترجع الأمور" تفيد العموم عند الجميع .
{2} سقطت الآية من "ب" .
{3} في "ب و ط" "والأصوليين " .
ص -55-(31/52)
وشيئا فهو كما قال البيضاوي في قوله: {لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} إذ قال: وإيراده شيئا منكرا مع تنكير النفسين 1 للتعميم والإقناط الكلي. ولا ريب أن الشفاعة الحاصلة بإذنه سبحانه وتعالى ليست داخلة تحت النفي حتى يقال إن هذا مخصوص بالكافرة، وإنما المنفي نفع أحد أحدا بشفاعة أو غيرها بدون إذنه سبحانه كما قال قتادة: وليس أحد يصنع يومئذ شيئا إلا رب العالمين. ومما يوضح خطأ من خص الآية بالكافرة ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر قريش -أو كلمة نحوها- اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئا إلى أن قال: يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئا" 2. وفي واية الترمذي لحديث أبي هريرة: "يامعشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرا و لا نفعا إلى أن قال: يافاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لك ضرا ولا نفعا، إن لك رحما سأبلها ببلالها" 3. وفي صحيح سلم من طريق آخر عن أبي هريرة قال: "لما نزلت {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا فعم وخص فقال: "يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب أنقذوا انفسكم من النار، يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار فإني والله لا أملك لكم من الله شيئا إلا أن لكم رحما سأبلها ببلالها" 4، وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: "لما نزلت وأنذر عشيرتك الأقربين(31/53)
__________
1 في "ب " "التفسير" .
2 أخرجه البخاري ، كتاب الوصايا ، باب هل يدخل النساء الولد في الأقارب ، حديث رقم 2753 ومسلم ، كتاب الإيمان ، باب في قوله تعالى : "وأنذر عشيرتك الأقربين" حديث رقم 503 .
3 أخرجه الترمذي ، كتاب تفسير القرآن ، باب ومن سورة الشعراء ، حديث رقم 3185 .
4 أخرجه مسلم ، كتاب الإيمان ، باب في قوله تعالى: "وأنذر عشيرتك الأقربين" حديث رقم 500 .
ص -56-(31/54)
قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا فاطمة بنت محمد يا صفية بنت عبد المطلب، يا بني عبد المطلب، لا أملك لكم من الله شيئا سلوني من مالي ما شئتم"1، وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره ثم قال: لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء فيقول: يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد بلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس لها حمحمة فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد بلغتك" 2 الحديث.
فأخبر الصادق المصدوق أنه لا يملك لابنته سيدة نساء الأمة وعمه وعمته والمهاجرين والأنصار من الله شيئا ولا يغني عنهم من الله شيئا، فهذه الأحاديث ونحوها شاهدة للعموم في قوله سبحانه وتعالى: {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا} مع أن الآية صريحة في ذلك، فهذه الأحاديث تزيد الواضح وضوحا ولله الحمد، مع أن قول مقاتل ليس فيه حجة لهذا المبطل لأننا نقطع أن مقاتلا لم يرد أن أحدا يفعل في ذلك شيئا من دون الله سبحانه، أو أن أحدا يشفع عنده بغير إذنه، وإنما أراد نفي الشفاعة في الكافر.
وليتأمل المنصف ما ذكرنا من الآيات والأحاديث المصرحة بتفرد الله سبحانه بالملك والأمر في ذلك اليوم، وأنه لا حاكم ولا متصرف هناك سواه سبحانه، ويعرض قول هذا الملحد المشرك بين الله وبين رسوله، بل وغير الرسول في التصرف والأمر في ذلك اليوم العظيم
بقوله: إن النبي صلى الله عليه وسلم يقدر
__________
1 أخرجه مسلم ، كتاب الإيمان ، باب في قوله تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين} حديث رقم 502 .
2 أخرجه البخاري ، كتاب الجهاد والسير ، باب الغلول حديث رقم 3073 ، ومسلم ، كتاب الإمارة ، باب غلظ تحريم الغلول حديث رقم 4711.
ص -57-(31/55)
على إنقاذ أمته من العذاب في ذلك اليوم، وإنه يقدر على ما كان يقدر عليه في الدنيا، وإنه يتصرف في ذلك اليوم هو وغيره كما كانوا في الدنيا، فيعرض كلامه هذا على ما ذكرنا من كلام الله وكلام رسوله ليتبين الهدى لمن أراد الله هداه.
قال المعترض: وصاحب البردة يخبر أنه إن لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم في معادي آخذا بيدي وإلا فقل يا زلة القدم.
فيقال له قول صاحب البردة وقولك ليس إخبارا بل هو استغاثة 1 بل من أبلغ ألفاظ الاستغاثة، كقول الأبوين {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23]. وقول نوح: {وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنْ الْخَاسِرِينَ} [هود:47]. وقول بني إسرائيل: {لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:149]. أترى أن الأبوين وجميع المذكورين يخبرون الله بأنه إن لم يغفر لهم ويرحمهم فهم خاسرون وأن هذا منهم مجرد إخبار، بل كل أحد يعرف أن هؤلاء الذين أخبر الله عنهم بهذا الكلام يسألون الله ويرغبون إليه في أن يغفر لهم ويرحمهم ومعترفون بأنه إن لم يغفر لهم ويرحمهم فهم خاسرون وهذا الجاهل لا يفرق 2 بين نوعي الكلام من الإنشاء والخبر.
فالكلام عند علماء البيان نوعان: خبر وإنشاء، فالخبر ما احتمل الصدق والكذب، أي ما احتمل أن يكون قائله صادقا ويحتمل أن يكون كاذبا كقوله: جاء زيد وقدم عمرو، فهذا قول يحتمل أن يكون صدقا وأن يكون كذبا، فهذا تعريف الخبر، وما سواه يسمى إنشاء.
وأما قول صاحب البردة وقول المشطر :
يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به
سواك 000000000000000
__________
1 سقط " بل" من "ط" و "ب" .
2 في "ب" " لا يعرف يفرق" وفي "ط" "لا يعرف الفرق" .
ص -58-(31/56)
إلى قولهما:
إن لم تكن في معادي آخذا بيدي
ومنقذي من عذاب الله والألم
........................
فضلا 1 فقل يا زلة القدم
أي وإن لم تأخذ بيدي وتنقذني من عذاب الله فقل يا زلة القدم. أي فأنا خاسر
أو هالك، فهو كقول الأبوين: {وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23]. وقول نوح: {وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنْ الْخَاسِرِينَ} [هود:47]. وقول بني إسرائيل: {لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:149].
ثم أورد المعترض أشياء يستدل بها لقوله: ومنقذي من عذاب الله والألم.
وليس فيها ما يستأنس له به فضلا عن أن يكون حجة، وإنما أراد الإكثار من الكلام إيهاما للطغام.
وقد قدمنا جملة من شبهه حقيقتها نسبة المسبب إلى سببه منها قوله: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص:15]. قال: مع أن القضاء من الله، يعني أن القضاء في هذا الموضع هو فعل الرب سبحانه الذي بمعنى التقدير كما يقال قضى الله كذا أي قدر كذا، وقد أخطأ في معنى هذه الكلمة، وإنما المراد بالقضاء في قوله {فَقَضَى عَلَيْهِ} القتل الذي هو فعل موسى لا فعل الرب، يقول فوكزه موسى فقضى عليه أي قتله. هذا هو المراد عند جميع المفسرين، تقول العرب: قضى فلان على فلان إذا قتله، ويقال قضى فلان أي مات.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "وأنا آخذ بحجزكم عن النار" 2 المراد تحذيرهم عن الأعمال التي توجب غضب الرب وتورد النار.
__________
{1} في "ط" " إلى قوله" .
{2} تقدم تخريجه ص 44 .
ص -59-(31/57)
وقوله: إن الله نسب إخراج الكفار من النور إلى الظلمات إلى الطاغوت وهي الأصنام.
فأخطأ في قوله إن المراد بالطاغوت هنا الأصنام، وأكثر المفسرين يقولون المراد بالطاغوت هنا الشياطين، وقيل المراد كعب بن الأشرف وأشباهه من علماء اليهود، ولم نر من فسر الطاغوت هنا بالأصنام، ولهذا قال: {يخرجونهم} فأتى بضمير العقلاء.
فلو ذهبنا نتتبع خطأه وتخبيطه في نحو ذلك لطال الكلام.
وذكر قول الشاعر: منع البقاء تقلب الشمس. وقولهم: أنبت الربيع البقل.
ومن استدل بنحو ذلك على جواز الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأموات والغائبين بطلب الحاجات منهم، ثم طلب الإنقاذ من عذاب يوم القيامة وشدائده فقد أتى بما ينكره العامي السليم الفطرة ولكن الهوي يعمي ويصم.
ونحن لا ننكر إضافة الأشياء إلى أسبابها ولكن الله سبحانه هو خالق الأسباب والمسببات ولا يلزم من ذلك أن نعتمد على الأسباب فضلا عن أن نسألها ونرغب إليها وهي
مخلوقة، بل يتعين على العباد أن يعتمدوا على خالق الأسباب ويرغبوا إليه ويستعينوا به ويعبدوه وحده {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
وقال شيخ الإسلام تقي الدين في أثناء كلام له: إن إثبات المخلوقات أسبابا لا يقدح في توحيد الربوبية، ولا يمنع أن يكون الله خالق كل شيء ولا يوجب أن يدعى المخلوق دعاء عبادة أو دعاء استعانة. انتهى، وقد تقدم.
وهذا المبطل يقول إذا كان الله قد جعل النبي سببا للإنقاذ من النار من أراد الله هدايته جاز أن يطلب الإنقاذ من النار منه صلى الله عليه وسلم فطرد هذا الأصل الباطل أن يجوز ذلك في جميع الأسباب، وقد قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ
ص -60-(31/58)
الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا} [الروم:48]. فيلزمه أن يجوز للناس أن يطلبوا من الريح أن تثير 1 لهم سحابا ماطرا، وقال تعالى في حق نبيه : {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [إبراهيم:1]. والمراد بالظلمات ظلمات الجهل والكفر والشك إلى نور العلم والإيمان، فيجوز على أصل هذا أن يقال: يا رسول الله أخرجنا من الظلمات إلى النور، وهذا حقيقة هداية الصراط المستقيم فيقال: يا رسول الله اهدنا الصراط المستقيم، وهذا لازم لهذا المبطل على أصله الباطل لا محيد له عنه ولا أستبعد التزامه ذلك لجهله وعناده، وقد قال الله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56].
قوله: وقد ورد نسبة الإنقاذ إلى المعاني من الأعمال .. إلى آخر كلامه.
هذا مما احتج به لقوله: ومنقذي من عذاب الله والألم، فانظر هذا القياس الفاسد وجعله هذا من باب أولى، وقياسه هذا أقبح من قياس الذين قالوا إنما البيع مثل الربا، لو أنه ساوى بين الأمرين فكيف وهو يقول هذا من باب أولى.
فكذب على الله وعلى رسوله في زعمه إن ذوات المخلوقين تنقذ من عذاب الله كما تنقذ الأعمال الصالحة بل هي أولى في زعمه.
ومراده طلب الإنقاذ من المخلوقين لأنه أراد بذلك الاحتجاج لطلبه الإنقاذ من النبي صلى الله عليه وسلم بقوله ومنقذي من عذاب الله والألم، ويقوله إن الله أمر بطلب الحاجات من الأموات والغائبين، وهذا من الكذب على الله، وشرع دين لم يأذن به الله حيث زعم أن الله يحب من عباده أن يطلبوا من غيره أن ينقذهم من عذابه، وأنه يحب من المؤمنين طلب الحاجات من الأموات والغائبين {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21]. وقال تعالى: {قل قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ(31/59)
تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا
__________
{1} في "ط" " تسير" .
ص -61-
تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33]. والله سبحانه جعل دخول الجنة والنجاة من النار معلقا على الأعمال الصالحة، لا على الالتجاء إلى المخلوقين والاستغاثة بهم والتوسل بذواتهم، قال تعالى : {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} [الصف:10-12] الآيتين 1.
فعلق سبحانه النجاة من عذابه ومغفرة ذنوبهم ودخولهم الجنة والنصر على الأعداء على الإيمان بالله وبرسوله والجهاد في سبيله.
وقال: {وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [البقرة:25]. وقال: {وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا} [الكهف:2،3]
وقال: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر].
كما جعل سبحانه اتباع رسوله سببا لمحبته ومغفرة الذنوب والفلاح في الدنيا والآخرة،
قال سبحانه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران31]. وقال: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ(31/60)
الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:157].
وهذا المفتري على الله الكذب يزعم أن التقرب إلى الله بذوات المخلوقين أولى من التقرب إليه بالأعمال الصالحة وبإتباع رسوله صلى الله عليه وسلم.
فيا سبحان الله كيف يروج تمويه هذا على من يسمع هذه الآيات ونحوها مما لا يحصى من آي القرآن، وعلى من يسمع قول الله سبحانه {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}. {يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ} ونحو هذه الآيات مع قول النبي صلى الله عليه وسلم
__________
1 والصواب : " الآيات" .
ص -62-(31/61)
لابنته وعمته والمهاجرين والأنصار: "لا أغني عنكم من الله شيئا، لا أملك لكم من الله شيئا" 1 ويؤكد ذلك بحلفه لابنته وعمته أنه لا يغني عنهم من الله شيئا.
وقد قال الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا * قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنْ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} [الحن:21،22]. أي لا اجد من التجىء إليه واعتمد عليه، وصاحب البردة يقول فإن لي ذمة منه بتسميتي محمدا. يعني أنا في ذمته وجواره لموافقة اسمي اسمه، وهذا يقتضي أن كل من سمى محمدا فهو في ذمته صلى الله عليه وسلم، وقوله في الهمزية الأمان الأمان ، أي أسألك الأمان ، فأكده تأكيدا لفظيا، فهو يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤمنه ويجيره من عذاب الله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:" لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا ولا انت يا رسول الله، قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل" 2، وكان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم:" اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار" 3، ومن دعائه صلى الله عليه وسلم:" رب قني عذابك يوم تبعث أو تجمع عبادك" 4،وفي دعاء الخروج إلى الصلاة" أسألك أن تنقذني من النار وأن تغفر لي ذنوبي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت" 5.
__________(31/62)
1 تقدم تخريجها ص 56 .
2 أخرجه البخاري ، كتاب المرضى والطب، باب تمني المريض الموت، حديث رقم 5673، ومسلم، كتاب صفات المنافقين، باب لن يدخل الجنة بعمله بل برحمة الله تعالى، حديث رقم 7047.
3 أخرجه البخاري ، كتاب الدعوات ، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم :" ربنا آتنا في الدنيا حسنة" حديث رقم 6389 ، ومسلم كتاب الذكر والدعاء ، باب فضل الدعاء ب اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ، حديث رقم 6781 .
4 أخرجه أبو داود ، كتاب الأدب ، باب ما يقول عند النوم ، حديث رقم 5045 .
5 أخرجه ابن ماجه ، كتاب المساجد ، باب المشي إلى الصلاة ، حديث رقم 778 ، وابن السني في عمل اليوم والليلة رقم 85 . وضعفه العلامة الألباني ، انظر السلسلة الضعيفة رقم 24 .
ص -63-
فالنبي صلى الله عليه وسلم يسأل الله أن يقيه عذابه وعذاب النار ويسأله أن ينقذه من النار وهذا يطلب الإنقاذ من النبي صلى الله عليه وسلم. ما أعظمه من ضلال.
وفي بعض أدعيته صلى الله عليه وسلم:" أسألك الفوز بالجنة والنجاة من النار" 1.
وقال للذي قال لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ "إني أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار حولها ندندن" 2. ومن دعائه صلى الله عليه وسلم:" لا ملجأ ولا منجا منك إلا
إليك" 3. "أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك" 4.
فالتجأ إلى الله منه واستعاذ به منه. وصاحب البردة والمشطر التجيا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من عذاب الله، وعاذا به منه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للذي
قال: اللهم إني أتوب إليك لا إلى محمد "عرف الحق لأهله" 5.
وزعم هذا المتخبط أن الشفاعة نوعان: أحدهما الأخذ باليد والإنقاذ.
والثاني معنى قولي أو 6 شافعا لي 7 باستغفاره. فالأولى شفاعة فعلية بأن(31/63)
__________
1 أخرجه الحاكم في "المستدرك" "1 / 534" من حديث ابن مسعود . وصححه . قال الذهبي : فيه حميد الأعرج وهو متروك .
2 أخرجه أبو داود ، كتاب الصلاة باب في تخفيف الصلاة ، حديث رقم 792 ، وابن ماجه كتاب الدعاء ، باب الجوامع من الدعاء حديث رقم 3847 .
3 أخرجه البخاري ، كتاب الدعوات ، باب ما يقول إذا نام ، حديث رقم 6313 ، ومسلم كتاب الذكر ، باب ما يقول عند النوم واخذ المضجع ، حديث رقم 6822 عن البراء بن عازب .
4 أخرجه مسلم كتاب الصلاة ، باب ما يقال في الركوع والسجود ، حديث رقم 1090 . عن عائشة رضي الله عنها .
5 أخرجه الإمام أحمد في المسند "3 / 562 – 563" والطبراني في الكبير "839" ، والحاكم في المستدرك "4 / 255" وقال : حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وتعقبه الذهبي بقوله : قلت ابن مصعب ضعيف . قلت وفيه علة أخرى وهي الانقطاع بين الحسن والأسود بن سريع فإن الحسن لم ير الأسود ، انظر : نصب الراية "1 / 90" .
6 في "ط" "أي" .
7 سقطت "لي" من "أ" .
ص -64-(31/64)
يخرجه من العذاب بعد وقوعه فيه. والثانية شفاعة قولية بأن يحال بين المذنب وبين المؤاخذة 1انتهى.
فانظر إلى هذا التقسيم الباطل، وهل يعقل الناس شفاعة إلا بالكلام من الشافع كما في حديث الشفاعة الطويل: "حتى استأذن على ربي فإذا رأيته وقعت له أو خررت ساجدا لربي فيدعني ما شاء الله ثم يقال ارفع محمد، قل يسمع واشفع تشفع وسل تعطه، فأرفع رأسي فأحمده بتحميد يعلمنيه ثم أشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة" 2. وذكر الثانية كذلك والثالثة والرابعة.
وكذلك شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في إخراج ناس من النار يقال له انطلق فأخرج
من قلبه كذا من إيمان.
فالعجب من ترويج هذا المبطل وهل يسمى الفعل المجرد عن القول شفاعة عند عالم أو جاهل؟! إنما الشفاعة بالكلام وقبولها بالفعل من الشافع فيما أذن له فيه، فإدخاله صلى الله عليه وسلم الجنة من أمره الله بإدخاله وإخراجه من النار من أمره بإخراجه هذا حقيقة قبول الشفاعة، لا أن ذلك شفاعة أخرى.
وهل يوجد في حديث أنه صلى الله عليه وسلم أدخل أحدا الجنة أو أخرج أحدا من النار بغير أمر الله؟ وهذا أمر واضح ما يحتاج إلى توضيح لكن ربما يحصل بكلامه تشبيه على الجاهل فلو ذهبنا نتتبع ما في كلامه من الركاكة والتناقض والعيب لاحتمل مجلدا.
من ذلك قوله على قوله في القصيدة: أو شافعا لي مما قد جنيت: فمراد إخباره عن نوع آخر من الشفاعة وهو كونه شافعا لي باستغفاره أو بدعائه لا بفعله، فيشفع لي شفاعة ثانية مما جنيت من الذنوب فلا يؤاخذني بها فلا أرى العذاب بالكلية أو يزيد في درجاتي.
__________
1 في "أ" "بين الذنب وبين المؤاخذة به".
2 أخرجه البخاري ، كتاب الرقاق ، باب صفة الجنة والنار ، حديث 6565 ، ومسلم كتاب الإيمان ، باب حديث الشفاعة ، حديث 474 .
ص -65-(31/65)
ثم قال بعد ذلك: وقولي ثانيا أو شافعا لي مما قد جنيت غدا فهي شفاعة أخرى غير شفاعة الإنقاذ بالاستغفار للذنب، قال تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19]. وقال: {أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء:64]. فالأولى شفاعة فعلية بأن ينقذه من العذاب بعد وقوعه فيه، والثانية شفاعة قولية بأن يحال بين المذنب وبين المؤاخذة -قال- وهذا ظاهر. انتهى.
أقول بل كله كلام باطل متناقض، من ذلك كونه جعل قوله في خطابه للنبي صلى الله عليه وسلم ومنقذي من عذاب الله والألم أو شافعا لي إخبارا فهذا باطل، بل هو استغاثة به صلى الله عليه وسلم لا خبر وقد قدمنا -عند قوله فيما تقدم: وصاحب البردة يخبر أنه إن لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم آخذا بيده وإلا فقل يا زلة القدم- إيضاح ذلك ولكن لو سلم أنه خبر مع استحالة كونه خبرا فهو إخبار منه للنبي صلى الله عليه وسلم لأن الخطاب معه فهو يخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يشفع له شفاعتين قولية وفعلية،
فهو يخبر النبي بما لا يعلمه لأنه لو كان يعلم ذلك لم يحتج إلى إخباره له بذلك.
وحقيقة كلامه إذا جعله خبرا أنه يقول أنت يار سول الله تشفع لي شفاعتين فعلية وقولية. فهل يوجد كلام أسمج من هذا الكلام؟! مع تضمنه الكذب على الله وعلى رسوله وتزكية نفسه بحصول شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم له، فهو والحالة هذه شاهد لنفسه بأنه من أهل الجنة، وجعله الشفاعة الأولى بأن ينقذه النبي صلى الله عليه وسلم من العذاب بعد وقوعه فيه، والشفاعة الثانية استغفار النبي صلى الله عليه وسلم له ما أعجب هذا!!
هل في الآخرة توبة واستغفار؟! وإنما الواقع من الأنبياء وغيرهم الشفاعة، ولم يأت أهل الموقف إلى الأنبياء يقولون استغفروا لنا بل بقولون اشفعوا لنا.
وأيضا(31/66)
إذا حصلت لهذا الشفاعة الفعلية بزعمه، وهي الإنقاذ من العذاب فقد سلم من المؤاخذة بذنبه فلا يحتاج أن يشفع له ثانيا بأن لا يؤاخذ
ص -66-
بذنبه، ومن له أدنى نظر تبين له فساد كلامه وتناقضه في أكثر المواضع من تسو يده هذا. والله الهادي إلى سواء السبيل.
وذكر المعترض أني استدللت بقول الله سبحانه: {أفأنت تنقذ من في النار} ولا أذكر ذلك ولا وجدته في المسودة عندي، ولا شك أن معنى الآية أن من كتبه الله شقيا لا تنقذه مما هو قيه من الضلالة لأن من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له،
هذا مع أني أقول الاستدلال بعموم الآية على ما نحن فيه سائغ ومازال العلماء يستدلون بآيات نزلت في أمور خاصة على ما يتناوله اللفظ بعمومه، والعبرة عند العلماء بعموم اللفظ لا بخصوص السبب لا سيما والمستدل بهذه الآية عليه ثابت حكمه بنصوص آيات وأحاديث كقوله سبحانه: "مالك يوم الدين} "يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله} وكقوله صلى الله عليه وسلم لسيدة نساء الأمة ولقرابته: "أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم من الله شيئا". وقوله للمهاجرين والأنصار: "لا أملك لكم من الله شيئا" 1 ومعنى لا أملك لكم من الله شيئا: لا أملك لكم ضرا ولا نفعا كما في رواية الترمذي للحديث.
قال البغدادي: وهذا الرجل ينكر نسبة الإنقاذ من النار بالفعل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويذكر الأحاديث التي فيها نسبة الإنقاذ من النار إلى قريش ولا يدري أنها رادة عليه مدعاه الذي يدعيه، إذ يقال كيف نفى الله الإنقاذ عن نبيه ويثبته لأقاربه من قريش بقوله: "أنقذوا أنفسكم من النار" ؟ فإنه نسب الإنقاذ من النار لهم. فإن قلت أراد أنكم تتسببون في إنقاذ أنفسكم بالإسلام. قلنا وكذلك إطلاق كلامنا ككلامه فإن مرادنا بقولنا: ومنقذي من عذاب الله والألم أي متسببا في إنقاذي أو منقذي بفعله. انتهى.
فانظر إلى هذا الكلام الباطل والقياس الفاسد، يقول كيف ينفي(31/67)
__________
1 تقدم تخريجه ص 56 .
ص -67-
الإنقاذ عن نبيه ويثبته لأقاربه من قريش، وقوله وإطلاق كلامنا ككلامه.... الخ.
قلنا: أما الاتفاق في الحروف فنعم وأما في المعنى فبين الكلامين من التباين ما لا نهاية له،
فالعجب من هذا التلبيس الذي لا يخفى على العامي السليم الفطرة.
ويقال له أيضا كذبت في قولك كلامنا ككلامه، فهو صلى الله عليه وسلم يقول أنقذوا أنفسكم من النار بطاعة الله ورسوله فهذا السبب الذي أمرهم به صلى الله عليه وسلم في دار العمل، وأنت تطلب الإنقاذ من النار من النبي صلى الله عليه وسلم في دار الجزاء، فسببك الذي تعتمد عليه الشرك وهو الاستغاثة به صلى الله عليه وسلم لينقذك من عذاب الله يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله، والسبب الذي أمر به صلى الله عليه وسلم التوحيد ولزوم طاعة الله ورسوله، فالسبب الذي أمر به صلى الله عليه وسلم يوصل إلى رضى الله والجنة والسبب الذي تدلي به يبعد عن الله غاية الإبعاد وهل قال النبي صلى الله عليه وسلم لابنته وعمه وعمته والمهاجرين والأنصار أنا أنقذكم من عذاب الله أو أتسبب في إنقاذكم فلا تخافوا، فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم شيء من هذا الأمر ذلك اليوم لكان هؤلاء أحق من غيرهم.
وقوله كيف ينفي الإنقاذ عن نبيه ويثبته لقريش.
قلنا: لم ننف الإنقاذ عنه صلى الله عليه وسلم، بل هو الذي نفاه عن نفسه بقوله: "لا أملك لكم من الله شيئا" . "لا أغني عنكم من الله شيئا "فالإنقاذ الذي أمرهم به غير الإنقاذ الذي نفاه عن نفسه.
قال المعترض: وأما استدلاله بقوله سبحانه عن صاحب يس : {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِي الرَّحْمَانُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنقِذُونِي} [يس:23]. فإن هذا في الأصنام التي اتخذها الكفار آلهة وأربابا من دون الله – قال - فهل يستدل من له أدنى تمييز(31/68)
على عدم شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وإنقاذه لأمته بمثل هذا الدليل الباطل الذي ساوى فيه الأصنام بسيد الأنام
ص -68-
بعدما أخبر الله عنه بقوله {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5]. قال: وظاهر كلام هذا الرجل إنكار الشفاعة بالكلية لقوله وهذا نص في أن من أراده الله بضر فلا منقذ له ولا شفيع – قال - ومعلوم أن من استوجب العذاب من المسلمين أو دخل فيه وشفع فيه الأنبياء أو الملائكة أو المؤمنون لا شك أن الله أراده بضر ونفعه 1 شفاعة الشافعين، فكيف يجوز لمسلم إنكار الشفاعة وهو يدعي أنه من أهل السنة والجماعة ويستدل عليها بآية الأصنام المتخذة أربابا. انتهى.
قوله: إن هذه الآية أعني آية يس في الأصنام خاصة فهو كاذب ضال في قوله هذا، بل الآية عامة في كل ما عبد من دون الله، لأن من أراده الله بضر لم يغن عنه معبوده شيئا سواء كان معبوده ملكا أو نبيا أو غيرهما فلا يكشف عنه ضرا أراده الله به ولا يجلب له نفعا، وأتى سبحانه في الآية بضمير العقلاء بالواو والميم فهي عامة في كل معبود من دون الله سواء كان عاقلا أم جمادا، يوضح ذلك قوله {قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا} [الإسراء:56]. قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما هم الملائكة والمسيح وأمه وعزير. وقال ابن مسعود نزلت في أناس يعبدون ناسا من الجن فأخبر سبحانه أن هؤلاء لا يملكون كشف الضر عمن عبدهم ولا تحويلا من موضع إلى موضع. وقال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} [الأنعام:17]. وهذا المعترض يقول هذه الآية آية يس فيمن عبد الأصنام، ومقتضى كلامه أن من عبد غير الأصنام أن معبوده ينفعه بشفاعة وغيرها، ومن المعلوم بالسنة المتواترة وإجماع أهل السنة بل الأمة أن من مات مشركا لا شفيع له، وأخبر سيد الشفعاء صلوات الله وسلامه عليه أن شفاعته لمن مات(31/69)
لا يشرك بالله شيئا، فمن عبد غير الله من ملك أو نبي أو صالح أو صنم أو غير ذلك فإنه لا يشفع فيه شافع
__________
{1} في "ط" ونفعته .
ص -69-
ولا يدفع عنه دافع قال الله تعالى {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر:18]. وقال:{فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ } [المدثر:48]. وقال {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم:26]. {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنْ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [ الأنبياء:28]. وانظر إلى إنكار هذا المعترض قولنا إن من أراده الله بضر فلا منقذ له ولا شفيع كما هو نص الآية بقوله ظاهر كلام هذا الرجل إنكار الشفاعة بالكلية لقوله وهذا نص في أن من أراده الله بضر فلا منقذ له ولا شفيع فيا عجبا من جرأة هذا، وهل قلت من عند نفسي إن من أراده الله بضر فلا شفيع له ولا منقذ، أو هذا قول الله سبحانه وتعالى لا قول غيره؟! وزعم أن استدلالنا بالآية إنكار منا للشفاعة وهو يعلم أننا لا ننكر الشفاعة الواقعة بإذن الله، وإنما ننكر الشفاعة الشركية التي يثبتها هو وأشباهه .
قوله: وهل يستدل من له أدنى عقل على عدم شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وإنقاذه لأمته بمثل هذا الدليل الباطل.
فوصف الخبيث كلام الله بالبطلان مما يبين جهل هذا وفجوره، فلو قال الاستدلال الباطل لكان أخف إثما لأن وصف الدليل بالبطلان كفر صريح لأن القرآن هو الدليل، قال الإمام أحمد: الدال الله والدليل القرآن والمبين الرسول، والمستدل أولو العلم، هذه قواعد الإسلام. والمقصود بذكر كلام الإمام أحمد بيان أن الذي يوصف بالدليل هو القرآن، فقول المعترض مثل هذا الدليل الباطل وصف للقرآن بالبطلان.
وانظر قوله: ومعلوم أن من استوجب العذاب أو دخل فيه(31/70)
وشفع فيه الملائكة والأنبياء وغيرهم لا شك أن الله أراده بضر ونفعه شفاعة الشافعين.
فصريح كلامه هذا تكذيب لصاحب يس - الذي صدقه الله فيه، ويشهد له من نصوص القرآن ما لا يحصى إلا بكلفة - في قوله: {إِنْ يُرِدْنِي الرَّحْمَانُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنقِذُونِي} [يس: 23] . فيقال
ص -70-
لهذا المتخرص: إنما تكون الشفاعة لمن أراد الله رحمته وإن كان قد عذبه قبل ذلك، فإذا أراد الله سبحانه رحمة إنسان قد استجوب العذاب أو قد دخل النار أخرجه منها برحمته، أو أذن لمن يشاء من عباده أن يشفع فيه كما في بعض أحاديث الشفاعة "أن الله سبحانه إذا أراد رحمة من شاء ممن في النار أذن في الشفاعة فيه} 1 وأما من أراد الله ضره في الآخرة أو في الدنيا فلا منقذ له ولا شفيع ، قال الله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 17].
وقوله: لا شك أن الله أراد بضر ونفعه شفاعة الشافعين.
فنقول لا شك في بطلان هذا الكلام، بل هو كفر، لأن حقيقة كلامه هذا أن شفاعة الشافعين منعت من نفوذ إرادة الله، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا .
قال المعترض: وأما استدلاله بقول الله سبحانه وتعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران 128]. فيقال هذه نازلة في أناس مخصوصين من الكفار آذوا النبي صلى الله عليه وسلم فدعا عليهم بالهلاك وكان علم الله فيهم من يؤمن فقال: {لَيْسَ لَكَ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ} فهذه الآية في أناس مخصوصين، ونحن كلامنا في نفع النبي صلى الله عليه وسلم أمته بالشفاعة فقد أخبره الله بقوله: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} وأنزل له جبريل يقول الله2 {نرضيك في أمتك ولا نسوءك}3 ولم يقل هنا ليس لك من الأمر شيء. انتهى.
يزعم المعترض أن قوله سبحانه: {لَيْسَ لَكَ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ} في أناس مخصوصين، ونحن كلامنا في نفع النبي صلى الله عليه(31/71)
وسلم أمته بالشفاعة وقد أخبره بقوله: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} ولم يقل هنا ليس لك من الأمر شيء.
__________
{1} أخرجه الإمام أحمد في المسند "3 / 5" .
{2} في "ب" "وأنزل له جبريل بقوله" .
{3} أخرجه مسلم كتاب الإيمان ، باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأمته وبكائه شفقة عليهم ، حديث رقم 498 .
ص -71-
فيقال وهل في قوله سبحانه: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} معارضة لقوله: {لَيْسَ لَكَ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ} فالأمر كله له وحده ووعد نبيه أنه سيرضيه، وقوله إن الآية في أناس مخصوصين، مراده أن حكمها لا يتعداهم، ليس مراده أنهم سبب النزول فهو يقول إن غير هؤلاء المخصوصين للنبي من أمرهم شيء، فيكون شريكا لله في أمر غير هؤلاء المخصوصين، ولهذا احتج بقوله سبحانه: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} قال: ولم يقل هنا ليس لك من الأمر شيء. فجعل قوله سبحانه: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} معارضا لقوله: {لَيْسَ لَكَ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ} لأنه عارض هذه الآية بتلك الآية وضرب كلام الله ورسوله بعضه ببعض، مع أنه ليس بين الآيتين ما يوهم التعارض فالذي له الأمر كله وعد نبيه أن يعطيه فيرضى، وإنما مراده بإيراد الآية التلبيس والإيهام للجهال، والله سبحانه لم يقل ليس لك من أمر هؤلاء المخصوصين شيء وإنما قال: {لَيْسَ لَكَ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ} والألف واللام تفيذ العموم عند الأصوليين، وقال تعالى: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} وقال: {بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا}.
قال ابن كثير على قول سبحانه: {لَيْسَ لَكَ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ} بعد الكلام على أول الآية قال: ثم اعترض بجملة دالة على أن الحكم في الدنيا والآخرة له وحده لا شريك له فقال:
{لَيْسَ لَكَ مِنْ الْأَمْرِ(31/72)
شَيْءٌ} بل الأمر كله لي كما قال تعالى1: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} وقال: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} قال محمد بن إسحاق: لَيْسَ لَكَ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ} أي ليس لك شيء من الحكم في عبادي إلا ما أمرتك به فيهم. انتهى.
قال تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} أورد ابن جرير عند تفسير هذه
__________
1 في "ط" و "ب" سقطت "تعالى" .
ص -72-(31/73)
الآية حديثا مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: من زعم أن الله جعل للعباد شيئا من الأمر فقد كفر بما أنزل الله على أنبيائه لقوله: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} فله سبحانه الأمر كله وله الملك كله والحمد كله وإليه يرجع الأمر كله، فالأمر كله له سبحانه في الدنيا والآخرة، وإنما خص يوم القيامة في نحو قوله تعالى: {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار 19]. لتفرده سبحانه في ذلك اليوم بالتصرف والحكم والتدبير، فليس لأحد معه في ذلك اليوم تصرف ولا تدبير ولا أمر ولا نهي، بخلاف الحال في الدنيا فإن الله سبحانه ملك أهلها ما خولهم فيها، فهم يتصرفون فيما أعطاهم بحسب اختيارهم مع كون الملك والأمر في الحقيقة لله وحده في الدنيا والآخرة وقد قال الله سبحانه لنبيه لما قال في شأن عمه أبي طالب: {لأستغفر ن لك ما لم أنه عنك} 1 {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113].وقال في شأن المنافقين: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة 80]. وقال: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة 84].
قال المعترض: وأما استدلاله بقوله لقرابته وبضعته "لا أغني عنكم من الله شيئا" معناه: إذا لم تؤمنوا بالله ورسوله لا أغني عنكم من الله شيئا بدليل قوله: "أنقذوا أنفسكم من النار" 2. يعني بالإسلام - قال - وفي بعض روايات الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم دعا قريشا فاجتمعوا وقال: "يا بني كعب أنقذوا أنفسكم من النار - إلى أن قال - فإني لا أملك لكم من الدنيا منفعة ولا(31/74)
__________
1 أخرجه البخاري ، كتاب الجنائز ، باب إذا قال المشرك عند الموت لا إله إلا الله ، حديث رقم 1360 ، ومسلم ، كتاب الإيمان ، باب الدليل على صحة إسلام من حضره الموت ما لم يشرع في النزع ، وهو الغرغرة ، حديث رقم 131 .
2 تقدم تخريجه ص 56 .
ص -73-
من الآخرة نصيبا إلا أن تقولوا لا إله إلا الله". انتهى.
هذه الجملة من قوله: "لا أملك لكم من الدنيا منفعة ولا من الآخرة نصيبا إلا أن تقولوا لا إله إلا الله" كل هذه الجملة التي عزاها للصحيحين كذب وافتراء منه، ليس في الصحيحين منها حرف واحد، ما أجرأ هذا على الكذب على الله ورسوله وعلى
العلماء ، ثم المعارضة لكلام الله وكلام رسوله في مواضع من أوراقه هذه، ثم العجب ممن تلقى ذلك كله بالقبول ولم يفطنوا لشيء من فضائحه، فيا أسفى من غلبة الجهل واستيلاء الهوى وعمى التقليد على أكثر النفوس، فإنا لله وإنا إليه راجعون .
ثم كيف يقول إلا أن تقولوا لا إله إلا الله وهو يقول لابنته وعمته والمهاجرين والأنصار:
"لا أغني عنكم من الله شيئا" " لا أملك لكم من الله شيئا" أليس هؤلاء هم أهل لا إله إلا الله الذين هم أحق بها وأهلها، قال الله تعالى في حقهم: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} وقد قال تعالى في حق نبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ}. [ أي لا أملك لنفسي جلب نفع ولا دفع ضرا إلا ما شاء الله ] 1 ربي من النفع لي ودفع الضر عني {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا} ومن المعلوم يقينا أن من أراد الله به سوءا من أهل التوحيد أن النبي صلى الله عليه وسلم وغيره لا يملكون دفعه عنه كحال أهل الكبائر من أهل لا إله إلا الله الذين يعذبون في النار حتى تدركهم رحمة أرحم الراحمين فيأذن في الشفاعة فيهم لمن أراد(31/75)
إكرامه بها.
ثم انظر إلى قول هذا المفتري إن قوله صلى الله عليه وسلم لابنته وقرابته لا أغني عنكم من الله شيئا إذا لم تؤمنوا بالله ورسوله! ما أجرأ هذا على الافتراء على الرسول وما أقل حياءه من ارتكاب ما فيه فضيحته، أو ليست ابنته صلى الله عليه وسلم سيدة نساء
__________
1 ما بين المعكوفتين سقط من "أ" .
ص -74-
هذه الأمة أو سيدة نساء المؤمنين؟! ثبت ذلك في الصحيحين1.أو ليس المهاجرون والأنصار الذين قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم لا أملك لكم من الله شيئا سادات الأمة الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه؟! وهذا يقول المعنى لا أملك لكم من الله شيئا إذا لم تؤمنوا بالله ورسوله، وأيضا فقوله إذا لم تؤمنوا بالله ورسوله استدراك منه على الرسول صلى الله عليه وسلم فهو صلى الله عليه وسلم قال: "لا أملك لكم من الله شيئا" فأطلق ولم يقيد بشرط الإيمان بالله ورسوله، ومفهوم الشرط الذي زاده هذا بقوله إذا لم تؤمنوا بالله ورسوله أنه يملك لهم من الله شيئا إذا آمنوا بالله ورسوله، وهذا منه رد على النبي صلى الله عليه وسلم، النبي يقول لسادات المؤمنين لا أملك لكم من الله شيئا وهذا يقول بل يملك من الله شيئا لمن آمن به.
ثم قال المعترض: وكيف لا يغني عن بضعته وقرابته شيئا وقد أنزل الله عليه في حقهم:
{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب 33] .
-قال- وكيف لا يغني عنهم شيئا وهو لما أنزلت عليه هذه الآية جمعهم وجللهم بكسائه
وقال: "اللهم هؤلاء أهل بيتي أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا" 2 هل هذا إلا إغناء وفائدة لهم، بل هو يغني عن كل من آمن به. انتهى.
فانظر قوله كيف لا يغني عن بضعته وقرابته شيئا، فهذا منه استفهام إنكار فهو ينكر على النبي صلى الله عليه وسلم في قوله لا أغني عنكم من الله شيئا، ويكرر الخبيث هذه(31/76)
الكلمة مرتين. النبي صلى الله عليه وسلم يقول لا أغني عنكم من الله شيئا، وهذا يقول كيف لا يغني عنهم من الله شيئا، فهل يستريب من له أدنى نظر أن كلامه هذا رد على الرسول وإنكار عليه، بل العامي البليد يفهم هذا ومن
__________
1 أخرجه البخاري ، كتاب المناقب ، باب علامات النبوة في الإسلام ، حديث 3624 ، ومسلم كتاب فضائل الصحابة ، باب فضائل فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم حديث رقم 6263 .
2 أخرجه الترمذي ، كتاب المناقب ، باب فضل فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم ، حديث رقم 3871 ، قال الترمذي : هذا حديث حسن وهو أحسن شيء روي في هذا الباب .
ص -75-(31/77)
لم يجعل الله له نورا فما له من نور، وهل في قول الله سبحانه: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب 33]. وفي دعائه صلى الله عليه وسلم لهم معارضة لقوله: "لا أغني عنكم من الله شيئا" ولقول الله سبحانه: {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}? [الانفطار 19]. وإنما مقصود هذا بتكثير الإيرادات التي لا شبهة له فيها الترويج على الجهال وكثرة التسويد في القرطاس، مثل كلامه في الشفاعة وذكر بعض ما ورد فيها مع علمه أننا لا ننكر ما ورد في الشفاعة من الأحاديث عنه صلى الله عليه وسلم.
وانظر قوله : فهل هذا إلا إغناء وفائدة1 لهم.
فنقول: كل خير دنيوي وأخروي حصل لأمته عامة ولأهل بيته خاصة من ربهم فعلى يديه صلوات الله وسلامه عليه، وهل في هذا معارضة لقوله: "لا أغني عنكم من الله شيئا" ولقول الله سبحانه: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا} [الجن 21]. {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار 19].
قال المعترض: بقي أن يقال: قوله يا أكرم الخلق، فإن هذا عندهم دعاء وهو النداء، ولا وجه للتكفير به، لأن النداء إذا كان ضارا وهو دعاء - كما يزعمون - لزم ألا ينادي أحد لا حي ولا ميت، لأن كون الشيء الواحد بالنسبة للحي يكون طاعة وللميت والغائب يكون عبادة، لم يعهد هذا شرعا ولا عرفا، وإنما الدعاء الذي هو عبادة فهو اتخاذ غير الله ربا وإلها، وهذا لا يقصده أجهل المسلمين فضلا عن أكابر العلماء. والدليل على أن النداء والطلب من الأموات والغائبين ليس بعبادة بل هو مأمور به شرعا آيات وأحاديث وآثار وأقوال العلماء الكبار من الأئمة الأربعة الأخيار .. هذا لفظه.
قوله: فإن هذا عندهم دعاء وهو النداء - يقول - هم يسمونه دعاء(31/78)
__________
1 في "ب" "فهل في هذا إغناء وفايدة" .
ص -76-
وليس كما يزعمون وإنما هو نداء لا دعاء - يقول - لو كان دعاء كما يزعمون لزم ألا ينادي أحد لا حي ولا ميت، وهذا الرجل حين واجهني ادعى ذلك، فقال الطلب من الأموات والغائبين لا يسمى دعاء بل هو نداء، وبينت له بعض الأدلة وأذعن ظاهرا في هذه المسألة وغيرها، وظننت أن مراده قطع الكلام لا الموافقة.
فيقال لهذا: تفريقك بين الدعاء والنداء تفريق باطل مخالف1 للكتاب والسنة وإجماع الأمة مع مخالفته اللغة، فقد سمى الله سبحانه سؤال عباده له دعاء ونداء، قال تعالى عن
نوح : {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر 10]. وقال: {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنْ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} [الأنبياء 76]. فسماه في موضع دعاء وفي موضع نداء ، وقال عن زكريا {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} [مريم 3]. وقال في موضع
{هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} [آل عمران 38]. وقال عن أيوب: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنباء 83]. وقال: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِين} [الأنبياء:87]. وقال صلى الله عليه وسلم: "دعوة أخي ذي النون ما دعا بها مسلم إلا استجيب له"2 . وقال بعض الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم:"أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه"3 فأنزل الله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي} [البقرة:186]. وقد سمى الله سبحانه طلب المخلوق من المخلوق واستغاثته به دعاء واستغاثة ونداء 4 . قال سبحانه :(31/79)
{فَاسْتَغَاثَهُ
__________
1 في "ط" "تفريقا باطلا مخالفا" .
2 أخرجه الترمذي ، كتاب الدعوات ، باب 82 حديث رقم 3505 ، والنسائي في عمل اليوم والليلة حديث رقم 661 .
3 أخرجه ابن جرير "2 / 164" وابن أبي حاتم "1 / 314" .
4 في "أ" "طلب المخلوق من المخلوق دعاء واستعانة به واستغاثة ونداء" .
ص -77-
الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص 15]. وقال الصحابة : "قوموا بنا نستغيث برسول الله من هذا المنافق }1
وقال تعالى: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ} [فاطر 14]. فهذه نص في دعاء المسألة وقال: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا}2. وقال: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِين} [الأعراف:194]. قوله فادعوهم أي اطلبوا منهم. وقال: {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} [الأعراف 193]. فأراد بالدعاء هنا الطلب الذي هو ضد الصمت.
وقال: {قُلْ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِي فَلَا تُنظِرُونِي} [الأعراف 195]. أي استغيثوا3 بشركائكم. وقال: {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ} [القصص 64] . أي استعينوا بهم ليخلصوكم من عذابي {فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} [القصص 64]. {وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِي الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} ليخلصوكم مما أنتم فيه {فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} فقال في موضع أدعوا وفي موضع نادوا . وقوله فادعوهم صريح في الطلب منهم. وقال: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي استعينوا بهم، وقال: {وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي استعينوا بهم. فسمى سبحانه استعانتهم بهم دعاء، بل سمى الله نعيق(31/80)
الراعي بالبهائم دعاءا ونداءا فقا ل: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} [البقرة:171].
فجميع ما قدمنا صريح في أن سؤال العبد ربه يسمى دعاء ونداءا وأن استغاثة المخلوق بالمخلوق وطلبه منه يسمى دعاء ونداءا.
وقد قال النحويون: النداء هو الدعاء بأحرف مخصوصة وأن المنادى
__________
1 أخرجه الإمام أحمد في المسند "5 / 398" وذكره الهيثمي في المجمع "10 / 159" وقال : رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح ، غير ابن لهيعة وهو حسن الحديث .
2 سقطت الآية من "أ" .
3 في "أ و ط" "استعينوا" .
ص -78-(31/81)
منصوب، لفظا أو محلا بفعل محدوف، فقولك يازيد، أي أدعوا زيدا. ومن أقسام المنادى المستغاث وهو كل من نودي ليخلص من شدة أو يعين على دفع مشقة كقول عمر - رضي الله عنه - يالله للمسلمين، أي أدعوك للمسلمين.
فاتضح بطلان قول هذا في أن طلب المخلوق من المخلوق لا يسمى دعاءا بل نداءا، فهو يقول إن الطلب من الملائكة والمسيح وأمه وعزير والجن نداء لا دعاء، فما أدري ما يقول فيمن طلب من العزى ومناة واللات! فإن قال إن الطلب منها لا يسمى دعاءا بل هو نداء وأن النداء لا يضر عنده افتضح عند العامة والخاصة، وإن قال إنه يسمى دعاء. قيل له نقضت أصلك حيث جعلت الطلب من هذه الأوثان دعاءا ومن غيرها نداءا، فهذا شيء واحد جعلته بالنسبة إلى الأموات والغائبين والملائكة والمسيح وأمه وعزير والجن نداء، وبالنسبة إلى العزى وغيرها من الأوثان دعاء مع أنه يلزمه ألا يسميه دعاء إذا لم يسم مدعوه ربا وإلها لقوله إن الدعاء الذي هو عبادة فهو اتخاذ غير الله ربا وإلها.
إذا تبين بطلان قول هذا فالدعاء يكون أيضا أعم من النداء لأنه قد يكون بغير حرف نداء كقول نوح {وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنْ الْخَاسِرِينَ} [هود:47] وقول بني اسرائيل: {لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:149] . وقول السائل أشكوا إلى الله حاجتي أو ذنوبي، وأسأل الله كذا أو أعوذ به من كذا، وكل هذا يسمى دعاء، وسمى النبي صلى الله عليه وسلم قول ذي النون: {أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ} دعوة كما تقدم في الحديث، وفي الترمذي: {كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة لاإله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير}1 . وفي الصحيحين عن ابن عباس
__________(31/82)
1 أخرجه الإمام أحمد في المسند "2 / 277" وهذا لفظ الإمام أحمد . وأما لفظ الترمذي : "خير الدعاء دعاء يوم عرفة ، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك والحمد وهو على كل شيء قدير" . أخرجه برقم 3585 ، وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه ، وحمادي بن أبي حميدة هو محمد بن أبي حميد وهو أبو إبراهيم الأنصاري المدني وليس بالقوي عند أهل الحديث .
ص -79-
- رضي الله عنهما -: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعوا عند الكرب لاإله إلا الله العظيم الحليم لا إله إلا الله رب العرش الكريم، لا إله إلا الله رب السموات والأرض ورب العرش الكريم"1 ، فسمى هذا دعاء مع أنه ليس فيه تصريح بالسؤال.
قال شيخ الإسلام تقي الدين رحمه الله في الكلام على دعوة ذي النون قال: فالسائل تارة يسأله بصيغة الطلب، وتارة بصيغة الخبر، إما بوصف حاله أو حال المسؤول أوبهما، وهو من حسن الأدب في السؤال كقول أيوب مسني الضر وأنت أرحم الراحمين، والسؤال بالحال أبلغ من جهة العلم والبيان، وبالطلب أظهر من جهة القصد والإرادة فلهذا كان غالب الدعاء من القسم الثاني لأن السائل يتصور مراده فيسٍأله بالمطابقة، فإن تضمن وصف الحال السائل والمسؤول فهو أكمل كقوله: اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفرلي مغفرة من عندك وأرحمني إنك أنت الغفور الرحيم، فيه وصف لحال نفسه المقتضي حاجته إلى المغفرة ووصف ربه أنه لا يقدر على هذا غيره، وفيه تصريح بالمطلوب وفيه وصف الرب بما يقتضي الإجابة وهو وصفه بالمغفرة والرحمة، فهذا ونحوه أكمل الأنواع. انتهى.
قال ابن كثير: وقد يكون السؤال بالإخبار عن حال السائل واحتياجه كما قال موسى {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} وقد يتقدمه مع ذلك وصف المسؤول كقول ذي النون {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ(31/83)
__________
1 أخرجه البخاري ، كتاب الدعوات ، باب الدعاء عند الكرب ، حديث رقم 6346 ، ومسلم ، كتاب الذكر والدعاء ، باب دعاء الكرب . حديث رقم 6858 .
ص -80-
الظَّالِمِينَ} وقد يكون بمجرد الثناء على المسؤول كقول الشاعر:
ءأذكر حاجتي أم قد كفاني
حباؤك إن شيمتك الحباء
إذا أثنى عليك المرء يوما
كفاه من تعرضه الثناء
وقول المعترض: إن الشيئ الواحد يكون بالنسبة إلى الحي طاعة وللميت أو الغائب عبادة لم يعهد هذا شرعا ولا عرفا.
يقال لهذا: وهل يوجد شيء واحد يختلف اسمه باختلاف متعلقه وهو قولك إن سؤال الميت والغائب لا يسمى دعاء بل نداء وسؤال العبد ربه يسمى دعاء، ليس معك على هذا إلا مجرد دعوى باطلة قد بينا بطلانها وافتضاحها.
وقوله فيما بعد: بل على قولكم إن الطلب نفسه عبادة يقتضي ألا فرق بين الحياة والممات لأن العبادة ممنوعة في الحالين. انتهى.
قوله يكون بالنسبة للحي طاعة جعل سؤال الحي طاعة وهو كاذب في جعله طاعة، لأن الله سبحانه لم يأمر مخلوقا قط أن يسأل مخلوقا، بل قد تواترت الأحاديث عنه صلى الله عليه وسلم في ذم السؤال، وبايع صلى الله عليه وسلم جماعة من الصحابة ألا يسألوا الناس شيئا، وفي حديث ابن عباس "إذا سأٍلت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله"1 أي: إذا سألت فاسأل الله وحده، وإذا استعنت فاستعن بالله2 وحده، وترك سؤال الناس من كمال التوحيد، وهذا المفتري يقول إن الله يقول سلوا عبادي خصوصا الأموات والغائبين واستعينوا بهم، ومسألة الناس قد تكون محرمة، وتكون مكروهة، وتكون جائزة، وتسميتها طاعة خطأ وضلال، وكذا قوله ولا عرفا خطأ لأن العرف لا مدخل له في العبادات.
وأما قوله: إذا جاز سؤال الحي فالميت كذلك، أي يجوز سؤاله، بل(31/84)
__________
1 أخرجه الترمذي ، في كتاب صفة القيامة ، باب 59 ، حديث رقم 2516 .
2 سقطت الجملتان من "أ" والجملة الأولى فقط من "ب" .
ص -81-
هو يقول إنه طاعة؛ لأن الله -في زعمه- أمر به. ويقول إذا قلتم إن الطلب عبادة يقتضي ألا فرق بين الحياة والممات وهذه شبهة ربما تدخل في نفوس كثير من الناس.
فيقال أولا ذو الفطرة السليمة وإن كان جاهلا يفرق بين الطلب من الحي الحاضر مما في يده وبين الطلب من الميت والغائب ولا يسوي بين الحي والميت إلا من اجتالته الشياطين عن الفطرة التي فطره الله عليها أو إنسان أعماه الهوى والتقليد، وقد قال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ} [فاطر:22]. معنى ذلك: أنه لايستوي المؤمن والكافر كما لا يستوي الحي والميت، [شبه المسلم بالحي والميت بالكافر]1 فلما كان معلوما من المخاطبين أن الحي والميت لا يستويان يقول سبحانه فكذلك المؤمن والكافر، فمن سوى بين الحي والميت بقوله يطلب من الميت ما يطلب من الحي فقد سوى بين ما فرق الله والناس بينهما، حتى المجانين يفرقون بين الحي والميت، فلو قصد مجنون بيت إنسان ليطعمه فوجده ميتا وأهله عنده لعدل إلى الطلب من أهله الأحياء الحاضرين عنده ولم يلتفت إلى الميت.
ومما يوضح بطلان هذه الشبهة أن الله سبحانه أمر عباده بالاستعاذة به كما في المعوذتين ومواضع من القرآن معلومة، وكذلك في السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك كثير، وفعل العبد ما أمره به ربه أمر إيجاب أواستحباب عبادة له بإجماع العلماء، فإذا امتثل العبد أمر ربه فاستعاذ به أو بصفاته فقد عبده، والإستعاذة نوع من الدعاء لأن المستعيذ يلتجئ إلى الله ليدفع عنه ما يحذر وصوله إليه مما يكره أو ليرفع ما قد وصل إليه من ذلك، كما في الحديث "أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر" 2 وهذا حقيقة الدعاء.(31/85)
__________
1 ما بين المعكوفتين سقط من "ط" .
2 أخرجه أبو داود ، كتاب الطب ، باب كيف الرقى ، حديث رقم 3891 ، والترمذي ، كتاب الطب ، باب 29 حديث رقم 2080 . وابن ماجه ، كتاب الطب ، باب ما عوذ به النبي صلى الله عليه وسلم وما عوذ به ، حديث 3522 ، وصححه العلامة الألباني ، انظر : صحيح ابن ماجه رقم 2855 .
ص -82-
فلما كان مستقرا عند العلماء أن الاستعاذة بالله عبادة له قالوا لا تجوز الاستعاذة بمخلوق، فلما كان هذا الأصل مستقرا عندهم استدلوا به على أن كلام الله غير مخلوق لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الاستعاذة بكلمات الله التامات فعلا منه وقولا، وهذا من حجة أهل السنة على الجهمية القائلين بخلق القرآن - يقولون - لو كان القرآن مخلوقا امتنعت الاستعاذة به، فعلى ما ذكرنا أن الاستعاذة نوع من الدعاء كما قرره شيخ الإسلام تقي الدين، وهو واضح، فالعلماء القائلون بامتناع الاستعاذة بالمخلوق يقولون لا يجوز دعاء المخلوق، لأن الاستعاذة دعاء حقيقة، لأن المستعيذ بربه يطلب منه دفع مكروه أو رفعه وهذا حقيقة الدعاء.
قال شيخ الإسلام تقي الدين - رحمه الله -: فالاستعاذة والاستجارة والاستغاثة كلها نوع من الدعاء، وهي ألفاظ متقاربة، وسمى النبي صلى الله عليه وسلم الاستعاذة دعاء، كما في السنن أن رجلا قال يا رسول الله علمني دعاء أدعوا به قال: "قل اللهم إني أعوذ بك من شر سمعي ومن شر بصري ومن شر لساني ومن شر قلبي ومن شر منيي"1.
وقال أبو هريرة : "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوا فيقول : اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع ، وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة"2، رواه أبو داود بإسناد صحيح، وفي السنن عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم "كان يدعوا بهؤلاء الكلمات:
__________(31/86)
1 أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب في الاستعاذة حديث رقم 1551، والترمذي ، كتاب الدعوات، باب 75، حديث رقم 2492، والنسائي، كتاب الاستعاذة، باب الاستعاذة من شر السمع والبصر، حديث رقم 5459.
2 أخرجه أبو داود ، كتاب الصلاة، باب في الاستعاذة حديث رقم 1547، والنسائي ، كتاب الاستعاذة، باب الاستعاذة من الخيانة رقم5483، وابن ماجه، كتاب الأطعمة، باب التعوذ من الجوع، رقم3354، وحسنه العلامة الألباني في صحيح ابن ماجه رقم 2723.
ص -83-(31/87)
اللهم إني أعوذ بك من فتنة النار، وعذاب النار، ومن شر الغنى والفقر"1، وفي صحيح مسلم: "كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفجأة نقمتك وجميع سخطك"2.
والمقصود من إيراد هذه الأحاديث بيان أن الاستعاذة تسمى دعاء في كلام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
فلما قال العلماء إن الاستعاذة لا تجوز بمخلوق بل هي مختصة بالله سبحانه لأنها دعاء فهكذا سائر أنواع الدعاء، إذا تقرر هذا فمن المعلوم بالضرورة أنه لو خاف إنسان من عدو له فالتجأ إلى حي حاضر ليجيره من عدوه لم يكن بهذا بأس عند جميع المسلمين، وليس بداخل تحت قول العلماء إن الاستعاذة لا تجوز بمخلوق، فهذا شيء واحد اختلف حكمه باختلاف متعلقه، فبالنسبة للحي الحاضر جائز وبالنسبة لغيره ممتنع، فكذلك دعاء غير الله بطلب قضاء الحاجات لا يجوز لقوله تعالى: {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن:18]. ولا يدخل في هذا النهي طلب الإنسان حاجة من حي حاضر مما يدخل تحت قدرة البشر.
ويقال أيضا لهذا المساوي بين الحي والميت لو أعطى إنسان آخر مالا وقال أودعه عند ثقة، فذهب به الوكيل وأودعه عند قبر رجل صالح كالشيخ عبد القادر وقال هذا وديعة عندك لفلان واستحفظه إياه فضاع لعده الناس مجنونا جنونا لا يرفع التكليف وألزموه بالضمان، ويلزم هذا الذي ساوى بين الحي والميت أن يقول هو مصيب فيما فعله ولا ضمان عليه، وربما أنه لا يلتزم هذا خوفا من الفضيحة عند الناس وحينئذ يقول له
__________
1 أخرجه الترمذي، كتاب الدعوات، باب77، حديث رقم 3495، والنسائي، كتاب الاستعاذة، باب من شر فتنة القبر، حديث 5481.
2 أخرجه مسلم، كتاب الذكر والدعاء، باب أكثر أهل الجنة الفقراء وأكثر أهل النار النساء، حديث 6879.
ص -84-(31/88)
الوكيل في الإيداع أنا ما فرطت على مذهبك في التسوية بين الحي والميت، لأنك تقول ما جاز طلبه من الحي جاز طلبه من الميت ، وأنا طلبت من الشيخ عبد القادر حفظ هذه الوديعة وهي حاجتي عنده ، وأنت تجوز طلب الحاجات من الأموات فكيف تخطئني؟
ومما يوضح بطلان شبهته ما لو خرج شخصان من بيتهما وقصد أحدهما رجلا حيا غنيا وقال أشكو إليك الجوع ، وقصد الآخر هبل وقال : يا هبل أشكو إليك الجوع، هل يستوي الشخصان عند جاهل فضلا عن العالم ؟! فهذا شيء واحد يختلف حكمه باختلاف النسبة، فالنسبة إلى هبل شرك وبالنسبة إلى الرجل الحي الحاضر الغني جائز، لا يتوقف في هذا عاقل، وعلى مذهب هذا الضال في قوله إن الطلب من المخلوق لا يسمى دعاء بل نداء فلا يضر عنده نداء الطالب من هبل ونحوه؛ لأنه يقول إنما الدعاء الذي هو عبادة فهو اتخاذ غير الله ربا وإلها، فصريح كلامه أنه لو استغاث بالعزى أو مناة أو اللات ونحوها أن ذلك لا يضر، لأنه ليس بعبادة عنده ما لم يسم من دعاه أو استغاث به ربا وإلها.
ومن الفرق بين الحي والميت أن الاستغاثة بالحي إنما تكون في الأسباب الظاهرة [العادية من الأمور الحسية في قتال أو ادراك عدو ونحو ذلك]1، بحسب الأسباب الظاهرة بالفعل، وأما الميت فحركته منقطعة ، وإنما يزعم الذين يدعونهم أن نفعهم بالقوة والتأثير الذي يسميه بعضهم السر، ولا يشك عاقل في انقطاع الحركة من الميت المعهودة من الحي.
فإن قيل هذه الأوثان المعروفة للمشركين جماد كاللات ومناة والعزى والمقبور إنسان فما الجامع بينهما.
قلنا نصوص القرآن في النهي عن دعوة غير الله عامة في كل من دعا من
__________
1 ما بين المعكوفتين سقط من "أ"
ص -85-(31/89)
دون الله ما لايضر ولا ينفع قال تعالى: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنْ الظَّالِمِينَ} وقال: {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا[الجن:18]. وقال: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ} [الأنعام 71]. وقال: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأحقاف:5]. قال البيضاوي على هذه الآية: هذا إنكار أن يكون أحد أضل من المشركين حيث تركوا عبادة السميع المجيب القادر الخبير إلى عبادة من لا يستجيب لهم لو سمع دعاءهم فضلا عن أن يعلم سرائرهم ويراعي مصالحهم وهم عن دعائهم غافلون، لأنهم إما جمادات وإما عباد مسخرون مشتغلون بأحوالهم. وقال تعالى : {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} [فاطر 13، 14].
والذم إنما توجه إلى من دعا من هذه صفته سواء كان بشرا أو ملكا أو صنما وهو من لا ينفع من دعاه ولا يضر من لم يدعه، ومن دعا من لا يسمع دعاءه أو ولو سمعه ما استجاب له لاستحالة الإجابة منه، وهذه صفة الميت. وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ} [الأعراف:197]. وهذه أيضا صفة الميت، ومن المعلوم أن المشركين يعبدون الملائكة والمسيح وأمه وعزيرا والجن، ويعبدون اللات وهو رجل صالح في قول ابن عباس ومجاهد، ويعبدون الأصنام المصورة في زعمهم على صورة من يقصدونه كفعل قوم نوح في تصويرهم على صور الذين ذكرهم الله في سورة نوح.(31/90)
قال تعالى فيمن يعبد الملائكة: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} [سبأ:40]. وقال: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَانِ إِنَاثًا} [الزخرف:19]. إلى أن قال: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَانُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف:20]. فهذا صريح في أنهم يعبدون الملائكة، وما قاله
ص -86-
الصحابة والتابعون في سورة بني إسرائيل، والمراد بذلك بيان بطلان ما لو قال جاهل إنهم إنما يعبدون الأصنام فقط .
وقال ابن القيم بعد كلام سبق: ومن ها هنا اتخذ أصحاب الروحانيات والكواكب أصناما زعموا أنها على صورتها، فوضع الصنم إنما كان في الأصل على شكل معبود غائب، فجعلوا الصنم على صورته وشكله وهيأته ليكون نائبا منابه وقائما مقامه، وإلا فمن المعلوم أن عاقلا لا ينحت خشبة أو حجرا بيده ثم يعتقد أنه إلهه ومعبوده، ومن أسباب عبادتها أيضا أن الشياطين تدخل فيها وتخاطبهم منها وتخبرهم ببعض المغيبات وتدلهم على بعض ما يخفى عليهم وهم لا يشاهدون الشياطين. انتهى.
والمقصود بيان أن عباد الأصنام إنما قصدوا عبادة من صوروا الصنم على صورته من ملك أو نبي أو صالح أو كوكب، فكل ما في القرآن من النهي عن دعاء غير الله والإنكار على من دعا غيره يتناول كل معبود للمشركين من نبي وملك وبشر حي أو ميت أو صنم، يوضح ذلك قول الله تعالى: {قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ} أي ادعوهم فيما يهمكم من جلب نفع أو دفع ضر لعلهم يستجيبون لكم إن صحت دعواكم ، فلا يملكون كشف الضر عنكم1 ولاتحويلا، أي لا يملكون كشف الضر بالكلية ولا تحويله من موضع إلى غيره ولا تغيير صفته. وقد قال المفسرون من الصحابة والتابعين إن هذه الآية نزلت فيمن يعبد الملائكة وعيسى وأمه وعزيرا وفيمن يعبد الجن، وهؤلاء غائبون أحياء وفيهم من هو ميت. فكل من دعا ميتا أو غائبا تناولته(31/91)
الآية. وقال تعالى: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنْ الظَّالِمِينَ} [يونس:106].
وأما الطلب من الحي الحاضر مما يدخل تحت قدرة البشر فليس مرادا بالنهي ولا يمنع منه، قال تعالى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ
__________
{1} في {ب} "عليكم"
ص -87-
عَدُوِّهِ} [القصص:15]. وقال: {وَإِنْ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمْ النَّصْرُ } [الأنفال:72]. وقال الصحابة: "قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المناف"1 وقال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} فمن ساوى بين الأحياء والأموات في ذلك بقوله ماجاز طلبه من الحي جاز طلبه من الميت فقد جمع بين ما فرق الله بينه وضل ضلالا بعيدا.
ويقال لهذا المساوي بين الأحياء والأموات: من المعلوم أن أهل الدنيا يستقضون حوائجهم بعضهم من بعض برهم وفاجرهم مسلمهم وكافرهم، وقد استعار النبي صلى الله عليه وسلم أدراعا من صفوان بن أمية وهو مشرك، واستعان في بعض غزواته بأناس من المشركين، وما زال المسلمون يستقضون حوائجهم من المسلم والذمي والبر والفاجر، فيلزم المساوى بين الأحياء والأموات أن يساوي بين أموات المذكورين كما كانوا في الدنيا كذلك.
فإن قال: طلب الحاجات مختص بموتى الصالحين فلا يجوز طلبها من موتى الكفار والفساق.
قيل له: نقضت أصلك حيث فرقت بين أحياء هؤلاء وأمواتهم.
فإن قال: موتى الصالحين أحياء في قبورهم كما زعم، فهو كاذب في ذلك لم يرد في ذلك حديث إلا ما أخبر الله عن حياة الشهداء، مع أن حياتهم لا تدرك بالحس ولا بالعقل فالله سبحانه أعلم بحقيقتها، وأما سوى الشهداء غير الأنبياء فلم يأت خبر عن الرسول أنهم أحياء في قبورهم، وإنما هو افتراء وكذب من هذا الضال.
فإن قال: إن صالحي الأموات ينعمون(31/92)
في البرزخ.
قيل له: وضدهم يعذبون فيدركون العذاب كما يدرك الصالح النعيم، وهذا إدراك وإحساس لا يعلم حقيقته إلا الله.
__________
{1} تقدم تخريجه ص 78
ص -88-
والحاصل أن من سوى بين الحي والميت في أستقضاء الحوائج فقد ضل في عقله ودينه، ونصوص القرآن كثيرة في إبطال هذا القول. والله سبحانه جعل أهل الدنيا فيها وخولهم ما ملكهم فيها، ولا يتم أمرهم إلا بمعاونة بعضهم بعضا ولم يحجر عليهم سبحانه التعاون والتناصر فيما لا يسخطه، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.
يوضح ذلك أن دعاء الإنسان للمسلمين واستغفارهم لهم وقضاء حوائجهم ومعاونتهم عليها من الأعمال الصالحة المرغب فيها، فلو كان هذا يحصل من الميت لم يكن عمله قد انقطع. وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أوعلم ينتفع به من بعده أو ولد صالح يدعوا له}1 . فدل على هذه الأشياء التي يطلبها المشركون من الأموات من قضاء حوائجهم أو الدعاء لهم ونحو ذلك التي هي أعمال صالحة من الحي قد استحال وجودها من الميت فطلبها منه طلب مستحيل لعجزه حسا، فلا يملك لنفسه ولا لغيره نفعا ولا ضرا ولاموتا ولا حياة ولا نشورا فهو داخل تحت قوله {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأحقاف:5]ٍ. {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ} [يونس:106].
والنبي صلى الله عليه وسلم فرق بين الحي والميت في الحديث المتقدم آنفا، كما فرق الله بينهما في مثل قوله: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ} وجميع العقلاء بل مجانين كما قدمنا يفرقون بين الحي والميت، فالميت لا يستجيب لداعيه ولا يسمع دعاءه، ولو فرض سماعه فهو عاجز لا ينفع من(31/93)
دعاه كداعي الجمادات قال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ}
__________
{1} أخرجه مسلم، كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، حديث رقم 4199.
ص -89-
[فاطر:13،14]. فالمتصف بعدم سماع الدعاء وعدم الاستجابة أو المتصف بأحدهما ممتنع دعاءه شرعا وعقلا تتناوله هذه الآيات ونحوها من آي القرآن.
فإن قيل: وردت الآثار بسماع الميت.
قلنا: لم تدل على أنه يسمع كل كلام.
قال شيخ الإسلام تقي الدين رحمه الله: وردت الآثار بأن الميت يسمع لكن لا تدل على أنه يسمع كل كلام، قال ابن عبد البر: صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما من مسلم يمر بقبر أخيه كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله روحه حتى يرد عليه السلام"1 . فهذا وغيره يدل على أن روح الميت ليست دائما في قبره، وأن لها اتصالا به لا يعلم حقيقته إلا الله، واعتبر هذا بسرعة نزول الملك وروح النائم وشعاع الشمس ونحوه.
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن صفة حياة الشهداء بما في صحيح مسلم عن ابن مسعود لما سئل عن ذلك فقال: إنا سألنا عن ذلك فقال: "أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل"2 الحديث. ففسر حياتهم بذلك.
وثبت في الحديث الذي رواه مالك في الموطأ عن كعب بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه"3 . ورواه الترمذي وصححه. فهذا يدل على أن روح(31/94)
__________
1 أخرحه ابن الجوزي في العلل المتناهية رقم 1523، وقال هذا حديث لا يصح وقد أجمعوا على تضعيف عبدالرحمن بن زيد، قال ابن حبان: كان يقلب الأخبار وهو لا يعلم حتى كثر ذلك في روايته مع رفع المراسيل وإسناد الموقوف فاستحق الترك.
2 اخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب بيان أن أرواح الشهداء في الجنة وأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، حديث رقم 4862.
3 أخرجه الإمام مالك في الموطأ رقم 992. وابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر القبر والبلى، حديث رقم 4271، وصححه العلامة الألباني، أنظر السلسلة الصحيحة رقم995
ص -90-
المؤمن في الجنة، وتدل الآثار على أن لها اتصالا به في القبر لا يعلم حقيقته إلا الله، قوله "يعلق" روي بفتح اللام وضمها، والمعنى واحد وهو الأكل والرعي، يقول يأكل من ثمار الجنة ويرعى ويسرح بين أشجارها.
وسيأتي لذلك زيادة بيان إن شاء الله1. وإنما المقصود هنا بيان بطلان قوله في تسويته بين الحي والميت، وتجويزه الطلب من الميت ما يطلب من الحي، وأن ذلك لا يسمى دعاء، - قال- وإنما الدعاء الذي هو عبادة فهو اتخاذ غير الله ربا وإلها.
وقد بينا فيما تقدم بطلان قوله إن ذلك لا يسمى دعاء، وأما كونه يسمى عبادة فقد تقدم ما يدل على ذلك وسيأتي له زيادة إيضاح إن شاء الله تعالى.
ومما يوضح ذلك معرفة حد العبادة في الشرع وأنها كل ما أمر الله به ورسوله أمر إيجاب أو استحباب فهو عبادة.
وبعض العلماء يقول العبادة هي الطاعة، فيتناول فعل المأمور وترك المحظور، ومما أمر الله به سبحانه دعاؤه وسؤاله قال تعالى : {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف:55]. إلى قوله: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} [الأعراف:56]. وقال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي(31/95)
__________
1 وجد في هامش "ب" عند هذا الكلام ما نصه:
ثم بعد تقريرنا الكلام في الفرق بين الحي والميت وقفت على كلام لشيخ الإسلام ابن تيمية جواب سؤال وقد سئل عمن يعظم بعض المشائخ الموتى ويستغيث بهم فأجاب: من استغاث بغائب من البشر أو ميت بحيث يدعوه عند الشدائد ويطلب منه قضاء الحاجات فيقول: يا سيدي فلان، يستوحيه، ويستغيث به، فإن هذا ضال ظالم مشرك عاص لله باتفاق المسلمين، قهم متققون على أن الميت والغائب - كلام غير واضح بمقدار سطرين - يطلبون منه في حياته وهذا هو التوسل الذي جاءت به الشريعة...انتهى ملخصا.
فانظر حكايته إجماع المسلمين على أنه لا يجوز أن يطلب من الميت والغائب شيء وهذا شرك وضلال. كذا على هامش نسخة شيخنا.
ص -91-(31/96)
أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر 60]. وقال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء 90] . وقال : {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي} [البقرة 186]. وقال: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:32]. وقال : {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} [العنكبوت:17] . أي لا عند غيره لأن تقديم المعمول يفيد الاختصاص عند البيانيين، وفي حديث نزول الرب إلى السماء الدنيا: "من يدعوني فأستجيب له ، من يسألني فأعطيه ، ومن يستغفرني فأغفر له"1 وفي السنة من ذلك ما لا يحصى.
فإذا امتثل العبد أمر ربه فدعاه مخلصا صار ذلك عبادة منه لربه، فإذا دعا غيره فقد عبد ذلك الغير. وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم "الدعاء هو العبادة"2 . وفي الحديث الآخر: "الدعاء مخ العبادة"3. فسمى النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء عبادة، فالدعاء في نفسه عبادة فكل مدعو معبود ، وما أدري ما يقول هذا الرجل في دعاء العبد ربه واستغاثته به هل هو عبادة أم لا.
فإن قال ليس بعبادة فهذا مكابرة يعرفه كل عاقل، ومخالفة للكتاب والسنة وإجماع
الأمة، وإن أقر أنه عبادة من العبد لربه، قيل له هل تجد شيئا
__________(31/97)
1 أخرجه البخاري، كتاب التهجد، باب الدعاء والصلاة آخر الليل، حديث رقم 1145، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل والإجابة فيه، حديث رقم 1769.
2 أخرجه أبو داود ، كتاب الصلاة ، باب الدعاء ، حديث 1479 ، والترمذي ، كتاب الدعاء ، باب ما جاء في فضل الدعاء ، حديث رقم 3372 ، وابن ماجه ، كتاب الدعاء ، باب فضل الدعاء حديث رقم 3828 ، وصححه العلامة الألباني ، انظر صحيح ابن ماجه رقم 3101 .
3 أخرجه الترمذي ، كتاب الدعاء ، باب ما جاء في فضل الدعاء ، حديث رقم 3371 وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه لا نعرفه إلا من حديث لبن لهيعة ، وضعفه العلامة الألباني ، انظر ضعيف الترمذي رقم 669 .
ص -92-(31/98)
واحدا يكون بالنسبة إلى الله عبادة، وغير عبادة بالنسبة إلى غيره؟ فيظهر حينئذ بطلان شبهته التي اعتمدها في قوله إنه لا يوجد شرعا ولا عرفا.
وهذا الرجل لما قرر أن الطلب من الأموات والغائبين والاستغاثة بهم جائز، بل يقول هو قربة1 كما يأتي في احتجاجه بالآية. ثم قال وإنما الدعاء الذي هو عبادة [فهو اتخاذ غير الله ربا وإلها فحصر الدعاء الذي هو عبادة]2 في تسمية المدعو ربا وإلها لأنه يقول إن مجرد الطلب لا يضر مقتضى اطلاقه، وإن كان المطلوب منه صنما أو شجرا أو حجرا، وإن طلب منه مغفرة الذنوب وهداية القلوب وإنزال الغيث وشفاء المرضى، فإن هذا لا يضر عنده إذ لم يسمه أو يعتقده ربا وإلها.
وهذا الرجل لما اجتمع بي قبل تسويده هذا بنحو ثمان سنين ومعه ورقة نقل فيها عبارات لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يشبه بها على بعض الناس، فأحضرته وبحثته وإذا هو في هذا الأصل العظيم جاهل جهلا مركبا ومعاند، وإحدى العلتين في المرء تهلكه.
وقلت له أخبرني ما حقيقة هذا الشرك الذي لا يغفر، وصاحبه مخلد في النار.
فقال: الشرك: السجود لغير الله لا غير. فأوردت عليه بعض الأدلة فبهت وأحب قطع الكلام بالموافقة ظاهرا، وكتبت على ورقته التي معه أوراقا سماها بعض الطلبة
{بالانتصار}3 وما زال من ذلك الوقت يدأب ويبحث في تحصيل ما جمعه في هذه الأوراق التي اطلعنا عليها.
وقوله: إن أجهل المسلمين لا يسمي غير الله ربا وإلها ولا يقصد ذلك.
__________
1 سقطت "هو قربة" من "أ" .
2 ما بين المعكوفين سقط من "ب" .
3 طبعت بتحقيق الشيخ الفاضل الوليد بن عبد الرحمن الفريان باسم "الانتصار لحزب الله الموحدين والرد على المجادل عن المشركين".
ص -93-(31/99)
فيقال: التسمية لا حكم لها، ولا تتغير حقيقة الشيء بتغير الاسم كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم: "أنه يأتي ناس من أمتي يسمون الخمر بغير اسمها"1 وكذا من سمى الزنا نكاحا، فالتسمية لا تزيل الاسم ولا الحكم ؛ ومن عامل معاملة ربوية فهو مرابي وإن لم يسمه ربا، فكذا من ارتكب شيئا من الأمور الشركية فهو مشرك وإن سمى ذلك توسلا
وتشفعا ونحوه.
والشيطان لما علم أن النفوس تنفر من تسمية ما يفعله المشركون تألها أخرجه في قالب آخر تقبله النفوس، ومما يفضح هذا في قوله إن طلب المخلوق من المخلوق لا يسمى دعاء بل هو نداء، وإنما الدعاء الذي هو عبادة فهو اتخاذ غير الله ربا وإلها.
فعلى قوله أن من نادى إبليس وطلب منه قضاء حاجاته وكشف كرباته مع كونه لا يسميه ربا ولا إلها، بل يقول أنا أبغضه ولكن أطلب منه حوائجي وأستنصر به على عدوي لأنه يقوي على ما لا يقوي عليه البشر، ولا يضرني ذلك على مذهب الشيخ
داود، لأني لا أسمي الشيطان ربا ولا إلها ولا أعتقد ذلك فيه [فعلى مذهبه الباطل أن هذا جائز]2 .
يحقق ذلك أن كل أحد يعترف بأن عبادة غير الله شرك. وقد قدمنا تعريف العبادة فمن جعل نوعا من أنواع العبادة لغير الله فقد أشرك وإن كان لا يظنه شركا ولا تألها وسماها بأي اسم شاء. فالمشرك مشرك شاء أم أبى، كما أن المرابي مراب شاء أم أبى.
يوضح ذلك أن من أطاع مخلوقا في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله فقد اتخذه ربا وإلها من دون الله، قال الله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ
__________
1 أخرجه ابن ماجه ، كتاب الأشربة ، باب الخمر يسمونها بغير اسمها حديث 3384 والإمام أحمد في المسند "4 / 324" وصححه العلامة الألباني انظر الصحيحة رقم 414 .
2 ما بين المعكوفين سقط من "ب" .
ص -94-(31/100)
وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة 31]. وروى الإمام أحمد والترمذي وغيرهما أن عدي بن حاتم قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وكان قد تنصر في الجاهلية فسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية فقال للنبي صلى الله عليه وسلم إنهم لم يعبدوهم فقال: "بلى إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم"1.
وقال ابن عباس وحذيفة بن اليمان في تفسير هذه الآية: إنهم اتبعوهم فيما حللوا. وقال الربيع بن أنس قلت لأبي العالية كيف كانت تلك الربوبية [في بني اسرائيل؟ قال: كانت الربوبية]2 أنهم وجدوا في كتاب الله ما أمروا به وما نهوا فقالوا لن نسبق أحبارنا بشيء، فما أمرونا به ائتمرنا وما نهونا عنه انتهينا لقولهم. فاستنصحوا3 الرجال ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم4. وقال أبو البحتري: أما أنهم لم يصلو لهم ولو أمروهم أن يعبدوهم ما أطاعوهم، ولكن أمروهم فجعلوا حلال الله حرامه وحرامه حلاله فأطاعوهم فكانت تلك الربوبية. انتهى.
فهؤلاء الذين أخبر الله عنهم في هذه الآية لم يسموا أحبارهم ورهبانهم أربا ولا آلهة، ولا كانوا يظنون أن فعلهم هذا معهم عبادة لهم ولهذا قال عدي إنهم لم يعبدوهم، وحكم الشيء تابع لحقيقته لا لاسمه ولا لاعتقاد فاعله، فهؤلاء كانوا يعتقدون أن طاعتهم لهم في ذلك ليس بعبادة لهم فلم يكن ذلك عذرا لهم ولا مزيلا لاسم فعلهم ولا لحقيقته وحكمه
__________
1 أخرجه الترمذي ، كتاب تفسير القرآن ، باب و من سورة التوبة ، حديث 3095 .
2 ما بين المعكوفين سقط من "ب" .
3 في "ب" " فاستنضحوا" .
4 أخرجه ابن جرير "6 / 355".(31/101)
ص -95-
فكذلك ما يفعله عباد القبور في سؤالهم من المقبورين قضاء الحاجات وتفريج الكربات والتقرب إليهم بالنذور والذبائح عبادة منهم للمقبورين وإن كانوا لا يسمونه ولا يظنونه عبادة.
ويوضح ذلك أيضا ما روى الترمذي وصححه عن أبي واقد الليثي قال: خرجنا مع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط، فمررنا بسدرة فقلنا : يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إنها السنن قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} لتتبعن سنن من كان قبلكم"1، فهؤلاء لقرب عهدهم بالكفر ما كانوا يظنون أن الذي طلبوه من التأله لغير الله لأنهم يقولون لا إله إلا الله ويعرفون معناها، وخفي عليهم أن ذلك الذي طلبوه مما تنفيه لا إله إلا الله ، فلم يكن ظنهم مغيرا لحقيقة هذا الأمر وحكمه.
ومن له معرفة بما بعث الله به رسوله علم أن ما يفعل عند القبور من دعاء أصحابها والاستغاثة بهم والذبح والنذر لهم أعظم وأكبر من فعل الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، وأقبح من الذين قالوا اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط.
قال ابن القيم رحمه الله: فإذا كان اتخاذ هذه الشجرة لتعليق الأسلحة والعكوف عليها اتخاذ إله مع الله مع أنهم لا يعبدونها ولا يسألونها فما الظن بالعكوف حول القبر والدعاء به ودعائه والدعاء عنده، فأي نسبة للفتنة بشجرة إلى الفتنة بالقبر لو كان أهل الشرك والبدعة يعلمون؟! وقد قال الله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ(31/102)
__________
1 أخرجه الترمذي ، كتاب الفتن ، باب ما جاء لتركبن سنن من كان قبلكم ، حديث 2180 .
ص -96-
كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ * إلى قوله مسلمون} [آل عمران:3]
روى ابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهما عن ابن عباس قال قال أبو رافع القرظي حين اجتمعت اليهود والنصارى من أهل نجران عند النبي صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الإسلام أتريد يا محمد منا أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى بن مريم؟ وقال رجل من أهل نجران نصراني يقال له الرئيس: أو تريد منا ذلك يا محمد؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " معاذ الله أن نعبد غير الله أو أن نأمر بعبادة غير الله، ما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني "فأنزل الله في ذلك قوله: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ -إلى قوله- مسلمون }1.
فبين سبحانه وتعالى أن من عبد الملائكة والنبيين فقد اتخذهم أربابا من دون الله، وأنه يكفر بذلك وإن لم يعتقده ربوبية أولم يسمه ربا، وأن من أمر بعبادتهم فقد أمر باتخاذهم أربابا من دون الله فكيف بمن هو دونهم، وهذا الذي يقول أن الله أمر عباده المؤمنين أن يطلبوا حوائجهم من الأموات والغائبين!! ويقول بجواز الذبح والنذر لهم2، وغير ذلك من أنواع العبادات غير السجود لهم!! لأنه حين كلمته قال إن الممنوع منه السجود للميت فقط. فحقيقة قوله إن الله سبحانه أمر عباده أن يتخذوا أهل القبور أربابا من دون الله، وإن من تبرأ من ذلك فهو حقيقة دعواه.
قوله: والدليل على أن النداء والطلب من الأموات والغائبين ليس بعبادة، بل هو مأمور به شرعا آيات وأحاديث وآثار-قال- الدليل الأول: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا(31/103)
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة:35].
فالعجب من هذا الملحد لم يقتصر على الجواز ، بل ادعى أن الله أمر
__________
1 أخرجه ابن جرير "3 / 323" وابن أبي حاتم "2 / 693" .
2 سقطت " لهم " من "ب " و "ط "
ص -97-
عباده المؤمنين بذلك، ولعله يري أن الأمر فيما فهمه من الآية للوجوب، لأن الأصل في الأمر الوجوب ما لم يوجد دليل يصرفه إلى الاستحباب، وبكل حال فهو يقول إن الله أمر عباده المؤمنين أن يفزعوا إلى الأموات في قضاء مآربهم وكشف شدائدهم سواء قال إن الأمر للإيجاب أو للإستحباب، ومقتضى كلامه العموم في جميع الأموات صالحهم وطالحهم!! ما أجرأ هذا على الكذب على الله والإلحاد في آيات الله بوضعها1 على غير ما أراد الله. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} [فصلت:40]. قال ابن عباس {يلحدون في آياتنا} يضعون الكلام على غير موضعه.
قال الله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:144]. فعلى قول هذا إن الله يحب من عباده أن يطلبوا حوائجهم من الأموات والغائبين، وأنه ينبغي الإكثار من ذلك والإلحاح في الطلب منهم لأن الله يحب الملحين في الدعاء، ويقتضي أيضا أن يستكثر الإنسان من المدعوين المطلوبين ويعلق قلبه ورجاءه بالكثير منهم بحيث يقول لو لم يجبني بعض أجابني آخرون، فيصير الإستكثار أوثق عنده وأحب إلى الله2 في زعم هذا الضال الباطل فيا سبحان الله!! أءرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار؟!.
وظاهر كلامه في إطلاقه أنه يطلب من الأموات والغائبين كل شيء.
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: من جوز أن يطلب من المخلوق كل ما يطلب من الخالق من كشف الشدائد فكفره شر من كفر عباد الأصنام فإنهم لا يطلبون منها كل ما يطلب(31/104)
من الله كما قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمْ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [الأنعام:40،41]
__________
1 في "ط" "بوضعهما" .
ص -98-
فبين سبحانه أنه إذا جاء عذاب الله أو أتت الساعة لا يطلبون إلا الله في كشف الشدائد وجلب الفوائد. وقال: {وَإِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:67]. قال وقد وقع في كثير من ذلك من وقع من العامة وغيرهم.انتهى.
وافتراء هذا الرجل على الله أعظم من افتراء الذين أخبر الله عنهم بقوله {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ } [الأعراف:28] نزلت هذه الآية في الذين يطوفون بالبيت عراة اتبعوا في ذلك آباءهم، ويزعمون أنه مستند إلى الله، فقال تعالى مكذبا لهم {إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:28]. وهذا يقول: إن الله أمر بدعاء الأموات والغائبين ووجدنا الناس على هذا غيركم.
وهذا الأمر الذي ادعى أن الله أمر به، مما بعث الله الرسل من أولهم إلى آخرهم ينهون عنه. قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]. {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِي} [الأنبياء:25]. والآيات في هذا كثيرة معلومة. والدعاء من أجل العبادات كما في الحديث المرفوع: "الدعاء مخ العبادة"1 قالو: معناه خالص العبادة، لأن الداعي(31/105)
إنما يدعوا عند انقطاع أمله مما سوى الله وهذا حقيقة التوحيد والإخلاص. وفي الحديث الآخر "إن الدعاء هو العبادة"2 وفي الحديث الآخر "إن الله يحب الملحين في الدعاء"3 وفي حديث آخر "من لم يسأل الله يغضب
__________
1 تقدم تخريجه ص 92 .
2 تقدم تخريجه ص 92 .
3 ذكره العلامة الألباني في السلسلة الضعيفة رقم 637 وفي الإرواء رقم 677 وقال حديث موضوع رواه العقيلي في الضعفاء والقاسمي في الفوائد .
ص -99-(31/106)
عليه"1 وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ينزل ربيا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل فيقول: من يدعوني فاستجيب له ، من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له" 2. فذكر أولا لفظ الدعاء ثم السؤال ثم الاستغفار، والمستغفر سائل كما أن السائل داع. فطف السؤال والاستغفار على الدعاء من عطف الخاص على العام الذي يتناولهما وغيرهما قاله شيخ الإسلام تقي الدين رحمه الله تعالى.
والله سبحانه أمر بدعائه في كتابه في مواضع، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر من دعاء الله واستغفاره وأمر بذلك في أحاديث كثيرة. وقال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قال ابن عباس: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} إياك نوحد ونخاف ونرجو يا ربنا لا غيرك {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} على طاعتك وعلى أمورنا كلها. وقال قتادة: يأمركم ربكم أن تخلصوا له العبادة وأن تستعينوه على أموركم كلها. وتقديم المعمول في الكلمتين يفيد الحصر والاختصاص عند البيانيين وجميع المفسرين والقاري3 لما ذكر الحقيق بالحمد وصفه بصفات عظام يتميز بها عن سائر المخلوقين. وتعلق العلم بمعلوم عظيم الشأن حقيق بالثناء وغاية الخضوع والاستعانة في المهمات، خوطب الموصوف بتلك الصفات فقيل إياك يا من هذه صفاته نعبد، وإياك نستعين لا غيرك.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وسر الخلق والأمر والكتب والشرائع والثواب والعقاب انتهى إلى هاتين الكلمتين، وعليهما مدار العبودية والتوحيد، حتى قيل أنزل الله مائة كتاب وأربعة كتب، جمع معانيها في التوراة والإنجيل والقرآن، وجمع معاني هذه الكتب الثلاثة في القرآن، وجمع
__________
1 أخرجه الترمذي ، كتاب الدعاء ، باب 2 حديث 3373 ، وابن ماجه ، كتاب الدعاء ، باب فضل الدعاء "3827" .
2 تقدم تخريجه ص 92 .
3 في "ط" "قال القاري" .
ص -100-(31/107)
عنوان الكتاب:
تأسيس التقديس في كشف تلبيس داود بن جرجيس
تأليف:
عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين
1282هـ
دراسة وتحقيق:
عبد السلام بن برجس العبد الكريم
الناشر:
مؤسسة الرسالة
الطبعة الأولى 1422هـ ـــــ 2001م
معاني القرآن في المفصل، وجمع معاني المفصل في الفاتحة، وجمع معاني الفاتحة في {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وهما الكلمتان المقسومتان بين الرب وبين عبده نصفين فنصفها له وهو {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ونصفها للعبد وهو {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} انتهى.
فالله سبحانه فرض على العباد أن يعبدوه وحده، وأن يستعينوا به وحده، وهذا الملحد المفتري على الله الكذب يقول إن الله يأمركم أن تستعينوا بالأموات والغائبين وترغبوا إليهم في مهماتكم!! ما أعظم هذه المحادة لله وقد قال تعالى: {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} أي ارغب إليه لا إلى غيره، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا سألت فأسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله"1. وقد قررنا فيما تقدم تعريف العبادة وأن كل ما أمر الله به ورسوله أمر إيجاب أو استحباب فهو عبادة، فإذا دعوت الله فقد عبدته، فإذا دعوت غيره من ميت أو غائب أو حجر أو شجر فقد عبدت ذلك الغير، فإذا سجدت لله فقد عبدته، [فإذا سجدت لغيره صرت عابدا لذلك الغير، فإذا ذبحت لله فقد عبدته]2 ، فإذا ذبحت لغيره صرت عابدا له، وهكذا سائر العبادات، هذا مع أن نصوص القرآن في النهي عن دعاء غير الله وذم من فعل ذلك والإنكار عليه أكثر من النهي عن خاصية السجود لغيره كما هو معلوم عند الخاصية والعامة.
قال شيخ الإسلام تقي الدين رحمه الله في الكلام على دعوة ذي النون: لفظ الدعاء والدعوة في القرآن يتناول دعاء العبادة ودعاء المسألة، وفسر قوله سبحانه : {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} بهذا وهذا3.
وقال ابن القيم في بدائع الفوائد بعد آيات ذكرها: وهذا في القرآن(32/1)
__________
1 تقدم تخريجه ص 81 .
2 ما بين المعكوفين سقط من "ب" .
3 في "أ" "بالوجهين" .
ص -101-
كثير يبين أن المعبود لا بد أن يكون مالكا للنفع والضر، فهو يدعى للنفع والضر دعاء المسألة، ويدعى رجاء وخوفا دعاء عباده، فاعلم أن النوعين متلازمان فكل دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة، وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العبادة -إلى أن قال- وليس هذا من استعمال اللفظ المشترك في معنييه كليهما ولا استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه بل هذا استعمال له في حقيقته الواحدة المتضمنة للأمرين جميعا. انتهى.
فعلى هذا فنهيه سبحانه عن دعاء غيره نص في دعاء العبادة ودعاء المسألة حقيقة، فهو نهي عن كل واحد منهما حقيقة، قال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} [فاطر:13]. فهذا يتناول نوعي الدعاء ثم قال: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ} [فاطر:14]. فهذا صريح في دعاء المسألة ولهذا قال {وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} [ فاطر:14]. ومن لا يسمع دعاء من دعاه ليس بأهل لأن يدعى، ومن لا يستجيب له لو سمعه لا يستحق أن يدعى، وهذه حال الميت لا يسمع دعاء من دعاه، ولو فرض أنه يسمعه لم يستجب له لعجزه فقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} [فاطر:13]. إن الآيتين تتناولان كل من يدعوه المشركون من دون الله. ومعلوم أنهم يدعون الملائكة1 والمسيح وأمه وعزيرا والجن واللات وغيرهم، وبعض من يدعونه ميت يدخل في العموم.
فإن قيل إن الميت يسمع. قلنا كما تقدم إنه لم يثبت أنه يسمع كل كلام، فقوله صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام"2 . وكذلك الحديث الذي تقدم "ما من مسلم يمر بقبر أخيه كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه(32/2)
__________
1 في "ب" "يعبدون" .
2 أخرجه أبو داود ، كتاب المناسك، باب زيارة القبور ، حديث 2041 .
ص -102-
السلام"1 . يدل على أن رد الروح يحصل حين السلام.
وقال الله تعالى: {قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء 56-57].
قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى في الكلام على هذه الآية لما ذكر أن السلف من ذكر أن المراد بهم الملائكة، ومنهم من ذكر معهم الإنس كالمسيح وأمه
وعزير، ومنهم من ذكر أنهم من الجن قال: إن السلف يذكرون جنس المراد من الآية على التمثيل كما يقول الترجمان لمن سأله عن لفظ الخبز فيريد رغيفا، والآية هنا قصد بها التعميم لكل ما يدعى من دون الله، فكل من دعا ميتا أو غائبا من الأنبياء والصالحين سواء كان بلفظ الاستغاثة أو غيرها فقد تناولته هذه الآية كما تتناول من دعا الملائكة والجن، ومعلوم أن هؤلاء يكونون وسائط فيما يقدره الله بأفعالهم، ومع هذا فقد نهى عن دعائهم وبين أنهم لا يملكون كشف الضر عن الداعين ولا تحويله، لا يرفعونه بالكلية ولا يحولونه من موضع إلى موضع ومن حال إلى حال كتغير صفته أو قدره، ولهذا قال ولا تحويلا، فذكر نكرة تعم أنواع التحويل وقال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن:6]. كان أحدهم إذا نزل واديا قال: أعوذ بعظيم هذا الوادي من سفهائه. فقالت الجن: الإنس تستعيذ بنا. فازدادوا رهقا. قد نص الأئمة كأحمد وغيره على أنه لا تجوز الاستعاذة بمخلوق، وهذا ما استدلوا به على أن كلام الله(32/3)
غير مخلوق لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه استعاذ بكلمات الله وأمر بذلك، فإذا كان لا يجوز ذلك فأن لا يجوز2 أن يقال أنت خير معاذ يستعاذ به أولى. فالاستعاذة والاستجارة والاستغاثة كلها من نوع الدعاء والطلب وهي ألفاظ متقاربة انتهى.
__________
1 تقدم تخريجه ص 90 .
2 في "أ" "فلأن لا يجوز" .
ص -103-
وقد قدمنا بعض الأحاديث التي فيها تسمية الاستعاذة دعاء ولهذا كان الأئمة المصنفون يدخلون أحاديث الاستعاذة1 في أثناء كتاب الدعوات كصاحبي الصحيحين وغيرهما ، لأن الاستعاذة عندهم دعاء حقيقة وهذا ظاهر، فقول الإنسان أعوذ بفلان من كذا أو أسأله أن يدفع عني أو يرفع عني كذا فهو في الحالتين سائل طالب داع، فانظر إلى قوله - رحمه الله - فكل من دعا ميتا أو غائبا تناولته هذه الآية، وهو ظاهر لأن هؤلاء غائبون كالملائكة والمسيح، وغائب الملائكة أقرب من غائب البشر ويقدرون على ما لا يقدر عليه البشر وهم يكونون وسائط فيما يقدره الله بأفعالهم، وممن أريد بالآية من هو ميت كمريم وعزير ومن المعلوم يقينا أن أموات البشر وغائبهم لا يملكون كشف الضر عمن دعاهم ولا تحويله من حال إلى حال، فالآية تناولتهم قطعا، فيقال لداعيهم أدعوهم2 فإنهم لا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا.
وقال ابن القيم في المدارج: ومن أنواع الشرك طلب الحوائج من الموتى والاستغاثة بهم والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم فإن الميت قد انقطع عمله وهو لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا فضلا لمن استغاث به وسأله قضاء حاجته أو سأله أن يشفع له إلى الله فيها، والميت محتاج إلى من يدعو له ويترحم عليه ويستغفر له كما أوصانا النبي صلى الله عليه وسلم إذا زرنا قبور المسلمين أن نترحم عليهم، ونسأل الله لهم العافية والمغفرة، فعكس المشركون هذا وزاروهم زيارة العبادة واستقصاء الحوائج والاستغاثة بهم، وجعلوا قبورهم
أوثانا تعبد، وسموا قصدها(32/4)
حجا، فجمعوا بين الشرك بالمعبود وتغيير دينه ومعاداة أهل التوحيد ونسبة أهله إلى التنقص بالأموات، وهم قد تنقصوا الخالق بالشرك وأولياءه الموحدين له الذين لم يشركوا به شيئا بذمهم وعيبهم
__________
1 في "ط" "الاستغاثة" .
2 في "ط" و "ب" "أدعهم" .
ص -104-
ومعاداتهم، وتنقصوا من أشركوا به غاية التنقص إذ ظنوا أنهم راضون منهم بهذا وأنهم أمروهم به وأنهم يوالونهم عليه، وهؤلاء أعداء الرسل وأهل التوحيد في كل زمان ومكان، وما أكثر المستجيبين لهم، وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر إلا من جرد توحيد الله وعادى المشركين في الله وتقرب بمقتهم إلى الله واتخذ الله وحده وليه وإلهه ومعبوده، فجرد حبه وخوفه لله ورجاءه لله وذله لله وتوكله على الله واستعانته بالله، إذا سأل سأل الله وإذا استعان استعان بالله وإذا عمل عمل لله فهو لله وبالله ومع الله.
وقال في موضع آخر: وهكذا قول عباد المسيح للنبي صلى الله عليه وسلم لما قال لهم إن المسيح عبد، قالوا تنقصت المسيح وعبته. وهكذا أشباه المشركين لمن منع اتخاذ القبور أوثانا تعبد ومساجد وأمر بزيارتها على الوجه الذي أذن الله فيه ورسوله قالوا تنقضت أصحابها، فانظر إلى هذا التشابه بين قلوبهم حتى كأنهم قد تواصوا به، ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا.
وقد قطع الله سبحانه في كتابه الأسباب التي يتعلق بها المشركون جميعا يعلم من تأمله وعرفه أن من اتخذ من دون الله وليا أو شفيعا فهو كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون، فقال تعالى: {قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ(32/5)
لَه} [سبأ:22،23]. فالمشرك إنما يتخذ معبوده لما يحصل له به من النفع. والنفع1 لا يكون إلا ممن فيه خصلة من هذه الخصال الأربع: إما مالك لما يريد عابده منه، فإن لم يكن مالكا كان شريكا، فإن لم يكن شريكا كان معينا له وظهيرا، فإن لم يكن معينا ولا ظهيرا كان شفيعا عنده، فنفى سبحانه المراتب الأربع نفيا مرتبا متنقلا من الأعلى إلى ما
__________
1 سقطت "والنفع" من "ب" .
ص -105-(32/6)
دونه فنفى الملك والشركة والمظاهرة والشفاعة التي يظنها المشرك، وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك وهي الشفاعة بإذنه، وكفى بهذه الآية نورا وبرهانا ونجاة وتجريدا للتوحيد وقطعا لأصول الشرك ومواده1، لمن عقلها، والقرآن مملوء من أمثالها ونظائرها ولكن أكثر الناس لا يشعر بدخول الواقع تحته وتضمنه له ويظنه في نوع وقوم قد خلوا من قبل ولم يعقبوا وارثا، وهذا هو الذي يحول بين القلب وفهم القرآن، ولعمر الله إن كان أولئك قد خلوا فقد ورثهم من هو مثلهم وشر منهم ودونهم، وتناول القرآن لهم كتناوله لأولئك2، ولكن الأمر كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية، وهذا لأنه إذا لم يعرف الجاهلية والشرك وما عابه القرآن وذمه، وقع فيه وأقره ودعا إليه وصوبه وحسنه، وهو لا يعرف أنه الذي كان عليه أهل الجاهلية أو نظيره أو شر منه أو دونه، فتنقض بذلك عرى الإسلام ويعود المعروف منكرا والمنكر معروفا والبدعة سنة والسنة بدعة، ويكفر الإنسان بمحض الإيمان وتجريد التوحيد، ويبدع بتجريد متابعة الرسول ومفارقة الأهواء والبدع، ومن له بصيرة وقلب حي يرى ذلك عيانا والله المستعان.
هذا كلامه رحمه الله في زمانه فكيف لو أدرك هذا الزمان فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وقال ابن القيم أيضا: قال شيخنا وهذه الأمور المبتدعة عند القبور مراتب، أبعدها عن الشرع أن يسأل الميت حاجته ويستغيث به فيها كما يفعله كثير من الناس –قال- وهؤلاء من جنس عباد الأصنام، ولهذا قد يتمثل لهم الشيطان في صورة الميت أو الغائب كما يتمثل لعباد الأصنام، وهذا يحصل للكفار من المشركين وأهل الكتاب، يدعو أحدهم من يعظمه
__________
1 في "ط" "وموارده" .
2 في "ط" "كتناوله أولئك" .
ص -106-(32/7)
فيتمثل له الشيطان أحيانا وقد يخاطبه ببعض الأمور الغائبة، وكذا السجود للقبر والتمسح به وتقبيله.
المرتبة الثانية: أن يسأل الله به، وهذا يفعله كثير من المتأخرين وهو بدعة باتفاقالمسلمين .
الثالثة: أن يظن أن الدعاء عند قبره مستجاب، أو أنه أفضل من الدعاء في المسجد فيقصد زيارته والصلاة عنده لأجل طلب حوائجه، فهذا أيضا من المنكرات المبتدعة باتفاق المسلمين وهي محرمة، وما علمت في ذلك نزاعا بين أئمة الدين، وإن كان كثيرا1 من المتأخرين يفعل ذلك، ويقول بعضهم قبر فلان الترياق المجرب. والحكاية المنقولة عن الشافعي أنه كان يقصد الدعاء عند قبر أبي حنيفة من الكذب الظاهر. انتهى.
قال ابن القيم: ورأيت لأبي الوفاء ابن عقيل في ذلك فصلا حسنا فذكرته بلفظه قال: لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام عدلوا عن أوضاع الشرع إلى أوضاع وضعوها لأنفسهم فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا بها2 تحت أمر غيرهم - قال - وهم عندي كفار بهذه الأوضاع، مثل تعظيم القبور وإكرامها بما نهى عنه الشرع من إيقاد النيران وتقبيلها وتخليقها، وخطاب الموتى بالحوائج وكتب الرقاع فيها: يا مولاي افعل بي كذا وكذا، وأخذ تربتها تبركا، وإفاضة الطيب على القبور، وشد الرحال إليها، وإلقاء الخرق على الشجر، إقتداء بمن عبد اللات والعزى. انتهى المقصود منه.
وقال شيخ الإسلام وقد سئل عن رجلين تنازعا، فقال أحدهما لابد لنا من واسطة بيننا وبين الله فإنا لا نقدر أن نصل إليه إلا بذلك.
فأجاب رحمه الله تعالى بقوله: إن أراد بذلك أنه لابد لنا من واسطة
__________
1 في "ب" "كثيرا" .
2 في "ب" "يدخلونها" .
ص -107-(32/8)
تبلغنا أمر الله فهذا حق فإن الخلق لا يعلمون ما يحبه الله ويرضاه وما يأمر به وما ينهى عنه إلا بواسطة الرسل الذين أرسلهم الله إلى عباده، وهذا مما أجمع عليه أهل الملل من المسلمين واليهود والنصارى، فإنهم يثبتون الوسائط بين الله وبين عباده وهم الرسل الذين بلغوا عن الله أوامره ونواهيه قال الله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنْ النَّاسِ} [الحج:75]. ومن أنكر هذه الوسائط فهو كافر بإجماع أهل الملل.
وإن أراد بالواسطة أنه لابد من واسطة يتخذها العباد بينهم وبين الله في جلب المنافع ودفع المضار، مثل أن يكونوا واسطة في رزق العباد ونصرهم وهداهم يسألونه1 ذلك ويرجعون إليه فيه فهذا من أعظم الشرك الذي كفر الله به المشركين حيث اتخذوا من دون الله أولياء وشفعاء يجتلبون بهم المنافع ودفع المضار. فمن جعل الملائكة و الأنبياء وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار، مثل أن يسألهم غفران الذنوب وهداية القلوب وتفريج الكربات وسد الفاقات فهو كافر بإجماع المسلمين -إلى أن قال- فمن أثبت وسائط بين الله وبين خلقه كالحجاب الذين يكونون2 بين الملك ورعيته، بحيث يكونون هم يرفعون إلى الله حوائج خلقه، وأن الله إنما يهدي عباده ويرزقهم وينصرهم بتوسطهم، بمعنى أن الخلق يسألونهم وهم يسألون الله، كما أن الوسائط يسألون الملوك حوائج الناس لقربهم منهم والناس يسألونهم أدبا3 منهم أن يباشروا سؤال الملك أو لأن طلبهم من الوسائط أنفع لهم من طلبهم من الملك لكونهم أقرب إلى الملك من الطالب، فمن أثبتهم وسائط على هذا الوجه فهو كافر مشرك يجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. وهؤلاء مشبهون شبهوا الخالق بالمخلوق
__________
1 في "ب" "يسألونهم" .
2 في "ب" "الذي يكون" .
3 في "ب" "لأبا" .
ص -108-(32/9)
وجعلوا لله أندادا. وفي القرآن من الرد على هؤلاء ما لا تتسع له هذه الفتوى فإن هذا دين المشركين عباد الأوثان الذين كانوا يقولون إنها تماثيل الأنبياء والصالحين وأنها وسائل يتقربون بها إلى الله. انتهى ملخصا.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله في الرسالة السنية لما ذكر حديث الخوارج قال: فإذا كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم من قد مرق من الإسلام مع عبادته العظيمة فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام في هذا الزمان قد يمرق أيضا، وذلك بأمور منها: الغلو الذي ذمه الله، كالغلو في بعض المشايخ كالشيخ عدي، بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في المسيح. فكل من غلا في نبي أو رجل صالح وجعل فيه نوعا من الإلهية مثل أن يدعوه من دون الله بأن يقول: يا سيدي فلان أغثني أو أجبرني أو توكلت عليك أو أنا في حسبك، فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه فإن تاب وألا قتل، فإن الله أرسل الرسل وأنزل الكتب ليعبد وحده ولا يجعل معه إله آخر. والذين يجعلون مع الله آلهة أخرى مثل الملائكة والمسيح وعزير والصالحين أو صورهم لم يكونوا يقولون إنها تخلق وترزق، وإنما كانوا يدعونهم يقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله. فبعث الله الرسل تنهى أن يدعى أحد من دون الله، لا دعاء عبادة ولا دعاء استعانة. انتهى.
ونصوص القرآن كثيرة مصرحة بأن المشركين في الشدائد ينسون آلهتهم من الملائكة والبشر وغيرهم ويخلصون الدعاء لله وحده كما قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمْ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [الأنعام:40،41]وقال: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ} [الزمر:8].الآية.وقال : {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا(32/10)
فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} [يونس:12]. والآيات في ذلك كثيرة معلومة. فالله سبحانه رضي إخلاصهم في هذه الأحوال.
ص -109-
ومقتضى قول هذا المفتري أن الله سبحانه أمر بالطلب من الأموات وغيرهم، وأن الله يحبه ويرضاه، وأن يكون عدم إخلاص هؤلاء المشركين في الشدائد أصوب، وأن الأولى بهم الاستمرار على الطلب من الملائكة والمسيح وعزير وغيرهم، لأن ذلك من الوسيلة التي أمر الله بها في زعم هذا الضال. وكفى بهذا فضيحة له.
ومما يزيد مما قررناه وضوحا أن الله سبحانه سمى الدعاء في كتابه دينا قال سبحانه : {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت 65]
وقال : 0{وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [لقمان 32].
وقال: {حتى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمْ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [يونس 22]. والمراد بالدين في هذه الآيات الدعاء عند جميع المفسرين، وهو ظاهر مفسر في مثل قوله:
{وَإِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء 67]. وفي قوله: {أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ} [الأنعام 4041]. وقال: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأنعام 63]. أي سرا وعلانية.
{لَئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنْ الشَّاكِرِينَ[الأنعام:63]. أي يقولون لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين. وذكر سبحانه الدين في هذه الآيات معرفا بالألف واللام وهو الدعاء. وقال: {وَمَا(32/11)
أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5]وقال: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [غافر:14]. وقال: {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [غافر:65].وقال: {فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:2،3]. وقال : {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر:11]. فلما سمى الله سبحانه الدعاء دينا وأمر بإخلاص الدين له وضد الإخلاص الشرك، ومن جملة الدين الدعاء، فمن جعل شيئا من الدين لغير الله فقد
ص -110-(32/12)
أشرك. وقد قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39]. أي وحتى يكون الدين كله لله، فمتى كان شيء من الدين لغير الله فالعصمة منتفية، ومن أنواع الدين الدعاء بنص القرآن.
فإن قيل ما معنى الوسيلة في قول الله سبحانه: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة:35]. قيل: المراد بالوسيلة التقرب إليه سبحانه بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه.
قال البغوي: الوسيلة القربة. وقال البيضاوي: أي ما تتوسلون به إلى ثوابه والزلفى لديه من فعل الطاعات وترك المعاصي.
وقال ابن كثير: المعنى تقربوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه –قال- وهذا إجماع من المفسرين وكذا قوله في الآية الأخرى: {يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ} [الإسراء:57]. [قال البغوي الوسيلة القربة وقيل الوسيلة كل ما يتقرب به إلى الله. وقال البيضاوي : يبتغون إلى ربهم الوسيلة]1 بالطاعة. أي هؤلاء الآلهة يبتغون إلى الله القربة بالطاعة أيهم اقرب بدل من واو يبتغون أي يبتعي من هو اقرب منهم إلى الله الوسيلة فكيف بغير الأقرب ونحو ذلك. قال ابن كثير: وقيل يحرصون أيهم بكون أقرب إلى الله وذلك بطاعته وازدياد الخير. وقول البغوي ينظرون أيهم أقرب إلى الله فيتوسلون به هذا لفظ البغوي لا ابن2 عباس، وضل الناقل في عزوه إلى ابن عباس. فان كان معنى هذه الكلمة كما قال البغوي فالمراد بذلك ما كان يفعله الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم في حياته3 من طلبهم دعاءه لهم واستسقائهم به في أحاديث كثيرة، وما فعله عمر بعد موته صلى الله عليه وسلم من استسقائه بالعباس في قوله: "اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا
__________
1 ما بين المعكوفين سقط من "أ" و "ب" .
2 في "ب" و "ط" "لابن" .
3 في "ب" "في حياتهم" .
ص -111-(32/13)
وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا"1. وكذلك فعل معاوية مع يزيد بن الأسود الجرشي لما استسقى قال: "اللهم إنا نستشفع إليك بخيارنا يزيد، يا يزيد ارفع يديك إلى الله فرفع يديه ودعا ودعوا فسقوا"2. فهذا من الوسيلة.
قال شيخ الإسلام تقي الدين: أما التوسل والتوجه إلى الله وسؤاله بالأعمال الصالحة التي أمر الله بها كدعاء الثلاثة الذين آووا إلى الغار بأعمالهم الصالحة، وبدعاء الأنبياء والصالحين وشفاعتهم فهذا مما لا نزاع فيه بل هو من الوسيلة التي أمر الله بها في قوله: {وابتغوا إليه الوسيلة} وقوله: {يبتغون إلى ربهم الوسيلة} فإن ابتغاء الوسيلة إليه هو طلب ما يتوسل به، أي يتوصل به ويتقرب إليه به سبحانه سواء كان على وجه العبادة والطاعة وامتثال الأمر أو كان على وجه السؤال والاستعاذة به رغبة إليه في جلب المنافع ودفع المضار، ومن ذلك سؤاله بأسمائه وصفاته كقوله: أسألك بأن لك الحمد لاٍإله إلاأنت المنان بديع السموات والأرض ياذا الجلال والإكرام.
واستدل المعترض بقول الله سبحانه {لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَانِ عَهْدًا}. قال: فقد أخبر أن الله ملك المؤمنين الشفاعة، فطلبها ممن يملكها بتمليك الله له لا مانع منه، كمن طلب المال وغيره ممن ملكه الله إياه، ومراد المنادي له صلى الله عليه وسلم والمتوسل به إنما هو الشفاعة. انتهى.
قوله: إن الله ملك المؤمنين الشفاعة كما ملك أهل الدنيا المال وغيره فحقيقة هذا القياس أن الشفعاء يشفعون عنده بغير إذنه وفيمن لا يرضى أن يشفع فيه3، كما أن أهل الدنيا [يتصرفون فيما أعطاهم الله بغير إذنه
__________
1 أخرجه البخاري ، كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، حديث 3710 .
2 أخرجه ابن سعد في الطبقات "7 / 444" والذهبي في السير "4 / 137" .
3 في "ب" "وفيما يرضى أن يشفعون فيه" .
ص -112-(32/14)
سبحانه وقدر]1 ، يتصرفون تصرفا لا يرضاه الله، يتصرفون بحسب اختيارهم لا بأمر الله لهم وإذنه، فقد يعطون من لا يرضى الله إعطاءه [ويمنعون من يحب الله إعطاءه]2 ، بل يعطون من نهى الله عن اعطائه ويمنعون من أمر الله بإعطائه ويقربون إليهم من أمر الله بإبعاده ويبعدون من أمر الله بتقريبه، وليس كذلك حال الشفعاء عندالله. ونصوص القرآن صريحة في أنه لا يشفع عنده أحد إلا بوجود أمرين: إذنه للشافع، ورضائه عن المشفوع فيه فمتى فقد الأمران أو أحدهما لم يوجد شفاعة قال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم:26]. وقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] وقال تعالى: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} [يونس:3]. وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ لَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَانُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه:109]. وقال: {أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزمر:43،44].
وقياس هذا أقبح من قياس المشركين بالشفعاء عند الملوك3. فالمشركون جعلوا شفعاءهم بمنزلة خواص الملوك عند الملوك يشفعون عندهم بغير إذنهم، وفيمن لا يرضونه، وهذه هي الشفاعة الشركية التي نفاها القرآن، وأما قياس هذا الجاهل الشفاعة بحال الدنيا وملكهم فيها، فالذي يسأل أهل الدنيا يسألهم مما في أيديهم يقول: أعطوني مما في أيديكم. لا يقول إنهم يشفعون له عند الله ولا يقول اشفعوا لي فتبين بطلان قياس هذا وضلاله.(32/15)
__________
1 ما بين المعكوفين سقط من "ب".
2 ما بين المعكوفين سقط من "ب" .
3 سقطت "عند الملوك "من "ب" .
ص -113-
قال شيخ الإسلام تقي الدين بعد كلام سبق: ولهذا كانوا في الشفاعة على ثلاثة أقسام:
فالمشركون1 أثبتوا الشفاعة التي هي شرك، كشفاعة المخلوق عند المخلوق كما يشفع عند الملوك خواصهم لحاجة الملوك إلى ذلك، فيسألونهم بغير إذنهم ويجيب الملوك سؤالهم لحاجتهم إليهم، فالذين أثبتوا مثل هذه الشفاعة عند الله مشركون كفار، لأن الله لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، ولا يحتاج إلى أحد من خلقه، بل من رحمته وإحسانه إجابة دعاء الشافع، ولهذا قال {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ}[السجدة:4] إلى أن قال : وأما الخوارج والمعتزلة2 فإنهم أنكروا شفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر من أمته، وهؤلاء مبتدعة ضلال مخالفون للسنة المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولإجماع خير القرون.
القسم الثالث: أهل السنة والجماعة، وهم سلف الأمة وأئمتها ومن تبعهم بإحسان، أثبتوا ما أثبته الله في كتابه وسنة رسوله، ونفوا ما نفاه، فالشفاعة التي أثبتوها، هي الشفاعة التي جاءت بها الأحاديث، وأما الشفاعة التي نفاها القرآن - كما عكسه المشركون والنصارى ومن ضاهاهم من هذه الأمة- فينفيها أهل العلم والإيمان، مثل أنهم يطلبون من الأنبياء والصالحين الغائبين والميتين قضاء حوائجهم، ويقولون إنهم إن أرادوا ذلك قضوها، ويقولون إنهم عند الله كخواص الملوك عند الملوك، يشفعون بغير إذن الملوك، ولهم على الملوك إدلال يقضون به حوائجهم، فيجعلونهم لله بمنزلة شركاء الملك. والله سبحانه قد نزه نفسه عن ذلك. انتهى.
وقوله: إن الله ملّك المؤمنين الشفاعة مستدلا بقوله سبحانه: {لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَانِ عَهْدًا} [مريم:87] وقوله:(32/16)
__________
1 وهؤلاء هم القسم الأول من أصناف الناس في الشفاعة .
2 وهم القسم الثاني .
ص -114-
{وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:86]. بناءا على أحد قولي المفسرين : أن الاستثناء في الآيتين متصل.
فإطلاق القول بأن الله ملك المؤمنين الشفاعة خطأ، بل الشفاعة كلها لله وحده {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر:44]. وأثبت سبحانه الشفاعة بإذنه، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الأنبياء يشفعون والصالحون يشفعون، وعلى هذا فمن أذن الله له في الشفاعة يصح أن يقال أنه ملك ما أذن له فيه فقط، لا ما لم يؤذن له فيه، فهو تمليك معلق على الإذن والرضا، لا تمليك مطلق كما يزعمه هذا الضال، وسيد الشفعاء صلوات الله وسلامه عليه لا يشفع حتى يقال له إرفع رأسك وقل يسمع واشفع تشفع، قال الله سبحانه لأكرم الخلق عليه {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113] لما قال صلى الله عليه وسلم في حق عمه: "لأستغفرن لك ما لم أنه عنك"1 وقا ل في حق المنافقين {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة:80].
وقوله: إن مراد المنادي له صلى الله عليه وسلم والمتوسل به إنما هو بالشفاعة.
فقد تقدم جواب ذلك، وهو أن هذا مراد المشركين مما قصدوه، كما أخبر الله عنهم بذلك كقوله عنهم {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس:18] {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3].لم يقولوا أن أحدا من الملائكة أو المسيح أو عزيرا أو الجن يستقلون(32/17)
بقضاء حوائجهم، وإنما يقولون إنهم يشفعون لنا عند الله في قضاء حوائجنا.
وقوله: إن الصحابة كانوا يطلبون منه صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليهم، ولم يقل أنتم أشركتم لأنكم طلبتم مني قبل الإذن - قال - فدل على أن ذلك جائز في حياته وبعد موته لأنه حي في قبره بالإتفاق - قال - وما جاز أن يطلب منه في حياته
__________
1 تقدم تخريجه ص 73 .
ص -115-
جاز أن يطلب منه بعد الموت، ومن منع فعليه الدليل، وعلى قولكم أن الطلب عبادة يقتضي ألا فرق بين الحياة والممات انتهى.
أما إستدلاله بطلب الصحابة منه في حياته أن يدعوا لهم، ولم ينكر عليهم ولم يقل أنتم أشركتم، فهذا من المغالطة والترويج على الجهال، يقول إذا أنكرتم طلب الدعاء منه بعد موته لزمكم ألا تجيزوا1 طلب الدعاء منه في حياته!! وإذا قلتم إنه لا يشفع في الآخرة إلا من بعد إذن الله له لزمكم القول إنه لا يدعوا لأحد في الدنيا إلا من بعد إذن الله له في ذلك2!!
ويقول: لما ثبت أن الصحابة يطلبون الدعاء منه في حياته فكذلك يجوز بعد موته.
ويقول: إذا كان يدعوا لهم بغير إذن الله في ذلك جاز أن يشفع لهم في الآخرة بغير إذن الله له هذا حقيقة كلامه.
فيقال لهذا : وهل يقول أحد أنه لا يجوز طلب الدعاء منه في حياته صلى الله عليه وسلم أومن غيره؟ فلا يقول هذا أحد، فقد كان أصحابه يطلبون منه أن يدعو لهم ويستسقي لهم ويستنصرلهم ويستغفر لهم، وأمره الله بذلك فقال: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد:19]. وقال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء:64] فدعاؤه صلى الله عليه وسلم من أعظم الوسائل إلى مطلوبهم وقال صلى الله عليه وسلم لعمر لما استأذنه في العمرة "أشركنا يا أخي في دعائك"3 وما زال(32/18)
المسلمون يطلب بعضهم من بعض الدعاء قال تعالى:
__________
1 بياض في مكان هذه الكلمة في "ب" .
2 في "ب" "إلا من بعد أن يأذن الله في ذلك" .
3 أخرجه أبو داود ، كتاب الصلاة ، باب الدعاء ، حديث 1498 ، والترمذي ، كتاب الدعوات ، باب 110 ، حديث 3562 ، وابن ماجه ، كتاب المناسك ، باب فضل دعاء الحاج ، حديث 2894 ، وضعفه العلامة الألباني ، انظر ضعيف ابن ماجه رقم 575 .
ص -116-(32/19)
{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} [الحشر:10].
وقوله: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليهم طلب الدعاء منه، ولم يقل أنتم أشركتم لأنكم طلبتم الدعاء مني قبل الإذن.
فهذا تهويل منه وتوهيم للطغام، وهل يقول هذا أحد؟ وإنما الذي يتوقف على الإذن من الله سبحانه هو الشفاعة في الآخرة حين يرجع الأمر والملك لله الواحد القهار الذي لا يغلبه غالب ولايقهره قاهر، قال تعالى {يَوْمَئِذٍ لَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَانُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه:109]. {يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [هود:105]. {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَانُ وَقَالَ صَوَابًا} [النبأ38]. والله سبحانه وتعالى فرق بين أحكام الدنيا والآخرة، فشرع لأهل الدنيا دعاء بعضهم لبعض للأحياء والأموات، وملكهم ما يتصرفون فيه، فهم يتصرفون بحسب اختيارهم، وأما الآخرة فأخبر سبحانه أنه المتفرد بالملك والأمر والتصرف في ذلك اليوم، فلا يصنع أحد شيئا، ولا أمر لغيره معه يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الإنفطار19]. ولا شفاعة إلا من بعد إذنه {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} [يونس:3].
فكلام هذا الضال يدور على التسوية بين أحكام الدنيا والآخرة، وهذا من أعظم المحادة والمشاقة لله ولرسوله، {وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115].
وقوله: إنه صلى الله عليه وسلم حي في قبره بالاتفاق، حكاية الاتفاق1 كذب منه ، وهو قد نقض حكاية الاتفاق بما ذكره بعد(32/20)
من الحكاية المروية عن مالك رحمه الله، وقول لأبي جعفر إن حرمته ميتا كحرمته حيا فوصفه مالك بالموت
__________
1 سقطت "حكاية الاتفاق" من "ب" وفي "ط" "حكايته" .
ص -117-
حال كلامه مع أبي جعفر، فما ذكره عن مالك يكذب دعواه الاتفاق. ويأتي في عبارة لهذا وصف فيها النبي صلى الله عليه وسلم بالموت الآن، فهو متناقض.
وعبارته التي أشرنا إليها قوله في الكلام على حديث: "يا عباد الله احبسوا"1 فقال: ولكون النبي صلى الله عليه وسلم حاضرا مع موته شرع لنا خطابه والسلام عليه في الصلاة، وهو قولنا: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته.
فقوله: حاضرا مع موته، وصف له بالموت الآن. هذا مع أنه لا يمكنه أن يأتي بحرف واحد عن الأئمة الذين يعتد بوفاقهم وخلافهم كالأئمة الأربعة وأمثالهم على حياته صلى الله عليه وسلم في قبره الحياة التي يشير إليها.
قال ابن القيم: لم يرد حديث صحيح أنه صلى الله عليه وسلم حي في قبره، لكن نقطع أن الأنبياء لاسيما خاتمهم وأفضلهم محمد صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين أعلى رتبة من الشهداء، وقد قال سبحانه عن الشهداء أنهم أحياء عند ربهم يرزقون، فالأنبياء أولى بذلك قال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169]. ومع ذلك فالشهداء داخلون تحت قوله: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [العنكبوت:57]. {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30]. فأثبت سبحانه للشهداء موتا بدخولهم في العموم كالأنبياء وهو الموت المشاهد، ونفى عنهم موتا، فالموت المثبت غير الموت المنفي2، فالموت المثبت هو فراق الروح الجسد وهو مشاهد محسوس، والمنفي زوال الحياة بالجملة عن الروح والبدن. انتهى.
وقال البيضاوي على قوله سبحانه: {بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ }(32/21)
[البقرة:154]. فيه تنبيه على أن حياتهم ليست في الجسد، ولا من جنس ما يحس به من الحيوانات، وإنما هي أمر لا يدرك بالعقل بل بالوحي. انتهى .
ومن العجب أنه لو جاء إنسان إلى ميت على وجه الأرض شهيدا أو
__________
1 انظر تخريجه ص 134 .
2 سقطت "فالموت المثبت غير الموت المنفي" من "ب" .
ص -118-
غيره يطلب منه أن يدعو له فضلا أن يطلب منه أن ينصره على عدوه أو يكسوه لقال الناس هذا مجنون، فإذا صار رميما في بطن الأرض زين لهم الشيطان ودعاة الضلال من الإنس الاستغاثة به وطلب الحاجات منه. والعامي السليم الفطرة يعلم بطلان هذا بفطرته، كما حكي لنا أن رجلا من أهل مكة ينسب إلى علم قال لرجل عامي من أهل نجد : أنتم ما للأولياء عندكم قدر والله يقول في الشهداء إنهم أحياء عند ربهم يرزقون. قال له العامي : هل قال يرزقون يعني بفتح الياء أو قال يرزقون يعني بالضم فإن كان يعني بالفتح فأنا أطلب منهم فإن كان يعني بالضم فأنا أطلب من الذي يرزقهم. فقال المكي: حجاجكم كثيرة وسكت.
ويقال لمن ادعى أن النبي صلى الله عليه وسلم حي في قبره كحياته كما كان على وجه الأرض: [ثبت أنه صلى الله عليه وسلم مات بنص القرآن، فما حجتكم على أنه عاد حيا كما كان على وجه الأرض]1 قبل موته؟ فلن يجد2 إلى ذلك سبيلا، وليس عندهم إلا مجرد دعوى أو شبهة لا حقيقة لها، ويدل على بطلان هذه الدعوى ما رواه أبوداود عنه صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مسلم يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام"3. فهذا يدل على أن روحه الشريفة صلى الله عليه وسلم ليست في بدنه
دائما، وإنما هي في أعلى عليين، ولهذا اتصال بالجسد الله أعلم بحقيقته، لا يدركه الحس ولا العقل، وليس ذلك خاصا به صلى الله عليه وسلم لحديث تقدم عنه صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مسلم يمر بقبر أخيه كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه(32/22)
حتى يرد عليه السلام"4. وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم: "أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في رياض الجنة حيث شاءت
__________
1 ما بين المعكوفين سقط من "ب" .
2 في "ب" "تجد" .
3 تقدم تخريجه ص 102 .
4 تقدم تخريجه ص 90 .
ص -119-
ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش"1. الحديث. وقد أخبر سبحانه أنهم في البرزخ أحياء عند ربهم يرزقون. وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في حق النبي صلى الله عليه وسلم: "أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها ، ولن يجمع الله عليك موتتين}.
وقد قام الدليل القاطع أنه عند النفخة في الصور لا يبقى أحد حيا، فلو كان الأمر كما يزعمون لكان الله قد يجمع عليه موتتين، ولما قال صلى الله عليه وسلم: " أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة فإن صلاتكم معروضة علي " قالوا : كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت -يعني قد بليت- قال: "إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء"2 .
ولم يقل لهم أنا حي في قبري كحياتي الآن صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين.
قوله: وما جاز أن يطلب منه في حياته جاز أن يطلب منه بعد موته، ومن منع فعليه الدليل.
ليس هذا خاصا به صلى الله عليه وسلم عند هذا المعارض، بل يزعم كما تقدم أن الله أمر بطلب الحاجات ممن يعترف هذا بموتهم في قوله: إن الله أمر بالطلب من الأموات
والغائبين. وادعى في موضع آخر حياتهم، فهو متناقض كما ترى.
قوله: ومن منع فعليه الدليل.
فنقول: جميع ما تقدم من الأدلة الدالة على أن دعاء الأموات والغائبين وطلب الحاجات منهم من الشرك الذي حرمه الله ورسوله، يدخل في ذلك الملائكة والأنبياء والصالحون وغيرهم، لأن ذلك عبادة، وهي محض حق الله(32/23)
__________
1 أخرجه مسلم كتاب الإمارة ، باب بيان أن أرواح الشهداء في الجنة حديث 4862 .
2 أخرجه أبو داود ، كتاب الصلاة ، باب فضل يوم الجمعة وليلة الجمعة ، حديث 1047 ، والنسائي ، كتاب الجمعة ، باب إكثار الصلاة على النبي صلىالله عليه وسلم يوم الجمعة ، حديث 11373 ، وابن ماجه ، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها ، باب فضل الجمعة ، حديث 1085 ، وصححه العلامة الألباني ، انظر الإرواء رقم 4 .
ص -120-(32/24)
لا يرضى أن يشرك معه فيها ملك مقرب ولا نبي مرسل قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65] وقال: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:88] . وقال سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله"1، وقال: "ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله"2.
وقول المعترض: وما جاز أن يطلب منه في حياته جاز أن يطلب منه بعد موته. تقدم الجواب عنه عند قوله: لأن الشيء الواحد يكون بالنسبة للحي طاعة وبالنسبة للميت عبادة.. إلخ. تقدم هناك ما فيه كفاية لمن أراد الله هدايته.
وكلامه في هذا الموضع في حق النبي صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى زيادة بيان وإيضاح، فمن المعلوم بالضرورة أن الصحابة كانوا يطلبون منه صلى الله عليه وسلم في حياته أن يدعو لهم ويستغفر لهم ويستسقي لهم ويستفتونه، ويطلب الناس منه عرض الدنيا مما أعطاه الله تعالى، ويرجعون إليه فيما أشكل عليهم من أمر دينهم، وهذا كله معلوم بالضرورة وأما بعد موته فلم يأت أحد من الصحابة إلى قبره صلى الله عليه وسلم يطلب منه أن يدعو له، فضلا عن أن يطلب منه شيئا من عرض الدنيا أو نصر على عدو ونحو ذلك، ولا استفتاه أحد منهم فيما أشكل عليهم. فأول ذلك لما أشكل عليهم هل يجردونه من ثيابه عند غسله أو لا، لم يسألوه وهو بين أيديهم. ولما عزم الصديق على قتال مانعي الزكاة وحصل عند عمر توقف في ذلك لم يأت إلى قبره يسأله عما استراب فيه. ولما حضرت عمر الوفاة طلب من عائشة أن يدفن مع صاحبيه ولم يقل استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك لعلمهم - رضي الله عنهم - أن هذه الأمور مستحيلة منه بعد موته.
واستسقى عمر بالعباس ولم يأت هو والصحابة إلى قبره يطلبون منه أن(32/25)
__________
1 تقدم تخريجه ص 20 .
2 أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة رقم 249 ، والإمام أحمد في المسند "3 / 193" .
ص -121-
يستسقي لهم كما كانوا يفعلونه في حياته. وحدث في المدينة حوادث عظيمة كوقعة الحرة ولم يأت أحد إلى قبره ليستنصر لهم، فضلا عن أن يطلبوا منه أن ينصرهم، فلو كان هذا جائزا لأتوا إلى قبره، ذكرهم وأنثاهم، لاسيما والمضطر يتشبث بأدنى سبب يظن به النفع، وهذا مما تتوافر الهمم والدواعي على نقله لو فعل، لكنهم أعلم بالله ورسوله من هؤلاء الخلوف. وكان الناس يأتون إلى عائشة يستفتونها وهي في بيته صلى الله عليه وسلم فكيف يستفتونها وتفتيهم وهو صلى الله عليه وسلم عندهم يسمع كلامهم ويجيبهم لو سألوه في زعم هذا المبطل. ولما وقع الاختلاف بين علي ومعاوية وأشكل أمرهم على كثير من الناس1 لم يأتوا إلى قبره يستفتونه في هذا الأمر ليزيل الإشكال عنهم. وأشكل على الصحابة مسائل كثيرة يختلفون فيها يوجد في المسألة لهم قولان وثلاثة وأربعة وأكثر. وقال عمر: ثلاث وددت أني سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها.
فأين هذا المفتري عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن يقول لهم كيف تشكل عليكم المسائل وتختلفون فيها2، وهذا نبيكم بين ظهرانيكم حي ما عرفتم
قدره؟! هذه حقيقة دعوى هذا الملبس، تخطئة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجهيلهم. وكان ابن عمر يأتي إلى القبر فيقول: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه ثم ينصرف. وقال سلمة بن وردان3 : رأيت أنس بن مالك يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يسند ظهره إلى جدران القبر ثم يدعوا.
ونص الأئمة الأربعة على أنه إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم وأراد الدعاء أنه يستقبل القبلة ولا يستقبل القبر.
ومن المعلوم أن أعظم مطلوب الأمة منه صلى الله عليه وسلم أخذ العلم عنه، ولم(32/26)
__________
1 سقط "وأشكل أمرهم على كثير من الناس" من "ب" .
2 سقطت "فيها " من "أ" و "ط" .
3 في "ط" "ورد إني" .
ص -122-
يقصد أحد منهم قبره صلى الله عليه وسلم لذلك فالتابعون أخذوا العلم عن الصحابة، وتابعوا التابعين أخذوا العلم عن التابعين، وكذلك كل طبقة يأخذون العلم عمن فوقهم، والعلماء يرحلون إلى الآفاق حجازا وشاما ويمنا وعراقا لطلب الحديث بالأسانيد والوسائط الكثيرة، وتحملوا المشاق العظيمة، فلو كان ما يقوله هذا حقا من أنه يطلب منه صلى الله عليه وسلم بعد موته كل ما يطلب منه في حياته لتزاحموا عند قبره لأخذ العلم عنه على حقيقته ويتركون الوسائط، وهذا أمر ظاهر الفساد، لكن ربما يدخل كلام هذا في نفوس بعض الجهال لظنهم أن عند هذا الرجل علما، فيتفهموا الفطرة التي فطروا عليها حتى يبين لهم بطلانه.
وقوله: فمن منع فعليه الدليل. فأي دليل أبلغ وأوضح مما قررنا من أن الصحابة قبل موته صلى الله عليه وسلم يطلبون منه جميع ما تقدم، وأنهم بعد موته صلى الله عليه وسلم ما فعلوا معه شيئا مما كانوا يفعلون معه في حياته من طلب الدعاء منه أو استفتائه أو طلب حاجة من حوائجهم أو نصر على عدو، وكذلك التابعون بعدهم، فلا دليل أوضح من هذا على بطلان قوله إنه يطلب منه بعد موته جميع ما يطلب منه في حياته.
قال ابن القيم رحمه الله1 : ولقد جرد السلف الصالح التوحيد وحموا جانبه - إلى أن قال - ومن المحال أن يكون دعاء الأموات أو الدعاء بهم مشروعا وتصرف عنه القرون الثلاثة المفضلة بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يرزقه الخلوف الذين يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهل القبور بضعا وعشرين سنة حتى توفاه الله، وهذه سنة خلفائه الراشدين، وهذه طريقة جميع الصحابة والتابعين لهم بإحسان هل يمكن بشرا على وجه الأرض أن يأتي عن أحد منهم بنقل(32/27)
صحيح أو حسن أو ضعيف أو منقطع أنهم إذا كان لهم حاجة قصدوا القبور فدعوا
__________
1 في كتابه "إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان" 1 / 200 فما بعدها .
ص -123-
عندها وتمسحوا بها، فضلا عن أن يصلوا عندها أو يسألوا الله بأصحابها أو يسألوهم حوائجهم؟ فليوقفونا على أثر واحد في ذلك، بل يمكنهم أن يأتوا على الخلوف التي خلفت بعدهم بكثير من ذلك، وكلما تأخر الزمان وطال العهد كان ذلك أكثر، حتى لقد وجد في ذلك عدة مصنفات ليس فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن خلفائه الراشدين ولا عن الصحابة حرف واحد من ذلك، بل فيها من خلاف ذلك كثير كما قدمنا من الأحاديث المرفوعة، وأما آثار الصحابة فأكثر من أن يحاط بها.
-وقد ذكر جملة1 مما روي في ذلك منها - ما ذكر محمد بن إسحاق في مغازيه من زيادات يونس بن بكير عن أبي خلدة خالد بن دينار قال حدثنا أبو العالية قال: لما فتحت تستر وجدنا في بيت مال الهرمزان سريرا عليه رجل ميت، عند رأسه مصحف، فأخذنا المصحف فحملناه إلى عمر الخطاب، فدعا كعبا فنسخه بالعربية فأنا أول2 رجل من العرب قرأ مثل ما أقرأ القرآن. قلت لأبي العالية ما كان فيه؟ قال سيرتكم وأموركم ولحون كلامكم وما هو كائن بعد. قلت فما صنعتم بالرجل؟ قال : حفرنا بالنهار ثلاثة عشر قبرا فلما كان بالليل دفناه وسوينا القبور كلها لنعميه على الناس لا ينبشونه. قلت وما يرجون منه؟ قال كانت السماء إذا حبست عنهم أبرزوا السرير فيمطرون. فقلت من كنتم تظنون الرجل؟ قال: رجلا يقال له دانيال. فقلت منذ كم وجدتموه مات؟ قال : منذ ثلاثمئة سنة. قلت ما كان تغير منه شيء؟ قال : إلا شعيرات من قفاه إن لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض ولا تأكلها السباع.
ففي هذه القصة ما فعله المهاجرون والأنصار من تعمية قبره لئلا يفتتن به الناس، ولم يبرزوه للدعاء عنده والتبرك به، ولو ظفر به هؤلاء المتأخرون لجالدوا(32/28)
عليه بالسيوف، ولعبدوه من دون الله، فهم قد اتخذوا من القبور
__________
1 أي ابن القيم رحمه الله .
2 في "ب" "أحمل" .
ص -124-
أوثانا من لا يداني هذا ولا يقاربه وأقاموا لها سدنة، فلو كان الدعاء عند القبور والصلاة عندها والتبرك بها فضيلة أو سنة أو مباحا لنصب المهاجرون والأنصار هذا القبر علما لذلك ودعوا عنده وسنوا ذلك لمن بعدهم، ولكن كانوا أعلم بالله ورسوله ودينه من الخلوف التي خلفت بعدهم، وكذلك التابعون لهم بإحسان درجوا على هذا السبيل، وقد كان عندهم من قبور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمصار عدد كثير وهم متوافرون، فما منهم من استغاث عند قبر صاحب ولا دعا به ولا دعاه ولا دعا عنده أو استسقى به ولا استنصر به، ومن المعلوم أن مثل هذا مما تتوافر الهمم والدواعي على نقله، بل على نقل ما هو دونه.
وذكر ابن القيم أيضا ما رواه أبو داود في سننه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجعلوا بيوتكم قبورا، ولا تجعلوا قبري عيدا، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم"1.
وروى أبو يعلى عن علي بن الحسين أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها فيدعوا فنهاه وقال:ألا أحدثكم حديثا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تتخذوا قبري عيدا ولا بيوتكم قبورا ، وصلوا علي فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم"2. رواه أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي في مختارته.
وروى سعيد بن منصور في سننه عن أبي سعيد مولى المهري قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تتخذوا بيتي عيدا ، ولا بيوتكم قبورا، وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني" .(32/29)
__________
1 أخرجه أبو داود ، كتاب المناسب ، باب زيارة القبور ، حديث 2024 .
2 أخرجه أبو يعلى الموصلي في مسنده رقم 469 ، وذكره الهيثمي في المجمع "3 / 668" وقال : رواه أبو يعلى ، وفيه جعفر بن إبراهيم الجعفري ، ذكره ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه مدحا وبقية رجاله ثقات .
ص -125-
وروى سعيد أيضا عن سهيل بن أبي سهيل قال رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عند القبر فناداني وهو في بيت فاطمة يتعشى فقال: هلم إلى العشاء. فقلت : لا أريده. فقال : مالي رأيتك عند القبر ؟ فقلت: سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إذا دخلت المسجد فسلم -ثم قال- إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتخذوا بيتي عيدا، ولا تتخذوا بيوتكم مقابر، لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم، ما أنتم ومن بالأندلس سواء".
قلت: ورواه عبد الرزاق في كتابه عن الحسن بن الحسن بن علي أنه رأى قوما عند القبر فنهاهم وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتخذوا قبري عيدا، ولا بيوتكم قبورا، وصلو علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني"1.
قال ابن القيم: فهذان المرسلان من هذين الوجهين المختلفين يدلان على ثبوت الحديث، لاسيما وقد احتج به من أرسله فهذا يقتضي ثبوته عنده، هذا لو لم يكن روي من وجوه مسندة غير هذين فكيف وقد تقدم مسندا.
قال شيخ الإسلام تقي الدين قدس الله روحه: ووجه الدلالة منه أن قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل قبر على وجه الأرض وقد نهى عن اتخاذه عيدا فقبر غيره أولى . انتهى.
ففيما ذكرناه أوضح برهان وأبين دليل على بطلان دعوى هذا المفتري في قوله: إن ما جاز أن يطلب منه في حياته جاز أن يطلب منه بعد موته صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر النبيين.
وقوله: بل على قولكم إن الطلب نفسه عبادة يقتضي ألا فرق بين الحياة والممات(32/30)
..
إلخ .
فقد تقدم الجواب عن هذه الشبهة في كلامنا على قوله فيما تقدم: إذا كان النداء دعاء لزم ألا ينادي أحد لا حي ولا ميت.
__________
1 أخرجه عبد الرزاق الصنعاني في المصنف رقم 6726 ، وابن أبي شيبة في مصنفه رقم 7542 ، وانظر تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد للعلامة الألباني ص96 .
ص -126-
وقوله هنا فعلى قولكم إن الطلب نفسه عبادة. مقتضى كلامه أن الطلب من حيث ليس بعبادة سواء كان الطلب من الله أو من غيره.
فيقال له: إن زعمت أن الطلب من الله ليس بعبادة فهذا معلوم البطلان كما قررناه فيما تقدم وبينا دلائله، من ذلك أن الله أمر بدعائه، وأثنى على من دعاه رغبا ورهبا فقال:
{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء:90]، وسمى النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء عبادة فقال: "إن الدعاء هو العبادة"1 وقال: "الدعاء مخ العبادة"2 وكل ما أمر الله به أمر إيجاب أو استحباب فهو عبادة عند جميع العلماء. فمن قال إن دعاء العبد ربه ليس بعبادة له فهو ضال، بل كافر، فإن أقر أنه عبادة ولابد أن يقر إلا أن يعاند ويكابر، فإن أقر أن دعاء العبد ربه عبادة فإذا دعا ربه راغبا وراهبا فقد عبده3، فإذا من دعا من لا يسمعه أو لا يستجيب له من ميت أو غائب كان قد دعا من لا ينفعه ولا يضره، ونصوص القرآن صريحة في النهي عنه وذم من دعا من هذه صفته، فيدخل في ذلك الأموات والغائبون كالجماد4، لأن كلا من هؤلاء لا يستجيب لداعيه فلا ينفعه إن دعاه ولا يضره إن لم يدعه. وتقدم حكاية الشيخ تقي الدين إجماع المسلمين على كفر من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم. وتقدم أيضا قول الله سبحانه وتعالى: {قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا} [الإسراء: 56]. وقول(32/31)
المفسرين: إنها نزلت فيمن يعبد الملائكة والمسيح وأمه وعزيرا والجن، وقول الشيخ تقي الدين: إن الآية تعم من دعا الأموات والغائبين. فكل من دعا ميتا أو غائبا فهو داخل في حكم هذه الآية، وهذا ظاهر لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، والذين هم سبب النزول غائبون، وغائبهم
__________
1 تقدم تخريجه ص 92 .
2 تقدم تخريجه ص 92 .
3 في "ب" "فقد عبده فإذا دعا من لا يسمعه فقد عبده فإذا دعا من لا يسمعه 00 " .
4 في "أ" "والجمادات" .
ص -127-(32/32)
أقرب من غائب الإنس، ومنهم الميت كعزير ومريم.
ويقال لهؤلاء الذين يدعون الأموات والغائبين ادعوهم فيما يهمكم وينزل بكم من الشدائد فإنهم لا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويله، فكل من دعا من لا يملك كشف الضر1 ، ولا تحويله داخل في عموم الآية. وأما طلب الإنسان حاجته من حي حاضر ما2 يدخل تحت مقدور البشر فلم يمنع الله سبحانه من ذلك كما قدمنا مع أن ترك مسألة الناس من تحقيق التوحيد وكماله. فلو أن الله سبحانه أمرنا بطلب حاجاتنا من الأموات والغائبين كما زعم هذا وفعلنا ذلك امتثالا لأمر الله كان ذلك عبادة منا لله لا لغيره، كما أن الله سبحانه لما أمر الملائكة بالسجود لآدم وسجدوا كان ذلك عبادة لله لا لآدم. ولو أمرنا الله بالسجود لنبينا وفعلنا كان ذلك عبادة منا لله لا لنبينا صلى الله عليه وسلم ولو فعلنا ما نهانا الله عنه من السجود لغيره كان ذلك عبادة للمسجود له.
واحتج المعارض بما رواه الترمذي عن أنس أنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يشفع له.
وهذا لا ينكر كطلب أهل موقف القيامة من الرسل أن يشفعوا لهم، وإنما ننكر الطلب منه بعد موته، وننكر الشفاعة الشركية التي أثبتها هذا بقوله إن الله ملك المؤمنين الشفاعة كما ملك أهل الدنيا ما أعطاهم فيها، فهم كما تقدمنا يتصرفون على حسب اختيارهم. وحقيقة تشبيهه أن المؤمنين يشفعون بحسب اختيارهم من غير إذن من الله كحال أهل الدنيا فيما أعطاهم الله. فهذه هي الشفاعة التي ننكرها كما نفاها القرآن.
واستدل المعترض بحديث الأعمى.
ولا حجة له فيه، وليس فيه ما يوهم جواز دعائنا له3 والاستغاثة
__________
1 في "ب" "من لا يقدر على كشف ضر ه" .
2 في "ط " " مما " .
3 سقطت " له" من "ب".
ص -128-(32/33)
به. وغاية ما يفهم من حديث الأعمى التوسل بجاهه صلى الله عليه وسلم كما فهمه منه ابن عبد السلام. وقد بين شيخ الإسلام تقي الدين رحمه الله تعالى معنى الحديث وأوضحه غاية الإيضاح.
ولفظ الحديث: "أن رجلا أعمى جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ادع الله أن يكشف عن بصري، قال : إن شئت دعوت لك الله وإن شئت صبرت. قال: ادعه. فأمره أن يتوضأ ويصلي ركعتين، ويقول: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى ، اللهم فشفعه في"1 هذا لفظه. وليس فيه حجة لهذا في جواز الاستغاثة به صلى الله عليه وسلم فهو لم يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يرد عليه بصره، وإنما طلب منه صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله له، وليس في الحديث صراحة لما فهمه ابن عبد السلام.
قال شيخ الإسلام تقي الدين رحمه الله بعد كلام ذكره: ومن هذا استشفاع الناس بالنبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، بمعنى أنهم [يطلبون منه أن يشفع إلى الله كما كانوا في الدنيا]2 يطلبون منه أن يدعو لهم في الاستسقاء وغيره. وقول عمر: إنا كنا نتوسل إليك بنبيك فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا. معناه: نتوسل إليك بدعائه وشفاعته وسؤاله، ونحن نتوسل إليك بدعاء عمه وسؤاله وشفاعته، وليس المراد أنا نقسم عليك به، أو ما يجري هذا المجرى مما يفعل بعد موته وفي مغيبه كما يقول بعض الناس: أسألك بجاه فلان عندك، أو يقولون: إنا نتوسل إلى الله بأنبيائه ورسله وأوليائه. ويرون حديثا موضوعا: "إذا سألتم الله فأسألوه بجاهي فإن جاهي عند الله عريض"3، فلو كان هذا التوسل الذي كان الصحابة(32/34)
__________
1 أخرجه الترمذي ، كتاب الدعوات ، باب 119 حديث 3578 ، وابن ماجه ، كتاب اقامة الصلاة والسنة فيها ، باب ما جاء في صلاة الحاجة ، حديث 1385 ، وصححه العلامة الألباني ، انظر صحيح ابن ماجه رقم 1145 .
2 ما بين المعكوفين سقط من "ب" .
3 لا أصل له ، ذكره العلامة الألباني في السلسلة الضعيفة رقم 22 .
ص -129-
يفعلونه كما ذكر عمر لفعلوا ذلك بعد موته ولم يعدلوا عنه إلى العباس، مع علمهم أن السؤال به والإقسام به أعظم من العباس. فعلم أن ذلك التوسل الذي ذكره عمر هو مما يفعل بالأحياء دون الأموات، وهو التوسل بدعائهم وشفاعتهم، فإن الحي يطلب منه ذلك والميت لا يطلب منه دعاء ولا غيره، وكذلك حديث الأعمى فإنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له ليرد الله عليه بصره، فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم دعاء أمره أن يسأل الله به قبول شفاعته، وإن قوله: أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة أي بدعائه وشفاعته، كما قال عمر: كنا نتوسل إليك بنبينا. فلفظ التوجه والتوسل في الحديثين بمعنى واحد. ثم قال يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي ليقضيها، اللهم فشفعه في، فطلب من الله أن يشفع فيه نبيه. وقوله: يا محمد يا نبي الله ، فهذا وأمثاله نداء1 يطلب منه استحضار المنادى في القلب، فيخاطب المشهود بالقلب، كما يقول المصلي: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. والإنسان يقول مثل هذا كثيرا، يخاطب من يتصوره في نفسه وإن لم يكن في الخارج من يسمع الخطاب. انتهى.
وقول المعترض: إن ابن تيمية يقول إن الأعمى صور صورة النبي صلى الله عليه وسلم وخاطبه كما يخاطب الإنسان من يتصوره في ذهنه ممن يحبه أو يبغضه وإن لم يكن حاضرا - قال - وهذا عجيب من ابن تيمية، فإن نداء الصورة والطلب منها مع كونها وهما خياليا أقوى في الحجة على المانع، فهذا الحديث هو الدليل لمن يجوز نداء النبي(32/35)
صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد موته. والناظم ممن يرى ذلك. انتهى.
انظر كذب هذا على ابن تيمية بقوله: إن ابن تيمية يقول إن الأعمى صور صورة النبي صلى الله عليه وسلم وليس هذا لفظ ابن تيمية وإنما قال رحمه الله: فهذا وأمثاله نداء يطلب به استحضار المنادى في القلب، فيخاطب المشهود
__________
1 سقطت "نداء" من "ط" .
ص -130-
بالقلب كقول المصلي: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته -ثم قال- والإنسان يفعل مثل هذا كثيرا يخاطب من يتصوره في نفسه وإن لم يكن في الخارج من يسمع الخطاب. هذا لفظه على حديث الأعمى في اقتضاء الصراط المستقيم وغيره، هل قال إن الأعمى صور صورة النبي صلى الله عليه وسلم وقول الشيخ بعد ذلك والإنسان يفعل مثل هذا كثيرا، يخاطب من يتصوره في ذهنه، أي من يستحضره في نفسه.
وقوله: وهذا عجيب من ابن تيمية فإن نداء الصورة والطلب منها مع كونه وهما خياليا أقوى في الحجة على المانع.
فيقال: وهل قال ابن تيمية إنه يطلب من الصورة شيء. ولم يذكر ابن تيمية لفظ الصورة، وإنما قال من يتصوره أي يستحضره.
ثم أتى المعارض بالكذب الصريح في قوله: وذكر ابن تيمية في معنى هذا الحديث قولين. قول بجواز التوسل به، بمعنى طلب دعائه في حياته. وقول بجواز ذلك في حياته ومماته ومغيبه-قال-وقد وافق ابن تيمية ابن عبد السلام بجواز الطلب والتوسل به صلى الله عليه وسلم لحديث الأعمى، فصار ندؤاه والطلب منه محل اتفاق. انتهى.
ففي هذه الجملة من كلامه ثلاث كذبات:
الأولى: قوله إن ابن تيمية حكى قولا في معنى الحديث بجواز الطلب منه صلى الله عليه وسلم في حياته ومماته وحضوره ومغيبه.
الكذبة الثانية: قوله إن ابن تيمية وافق ابن عبد السلام بقوله [إن ابن عبد السلام يقول]1 بجواز الطلب منه في الحياة والموت.
والكذبة الثالثة: قوله فكان نداؤه والطلب منه محل اتفاق.
وكذبة رابعة على ابن عبد(32/36)
السلام بقوله: إن ابن عبد السلام يقول بجواز الطلب من النبي صلى الله عليه وسلم والسؤال منه في الحياة والممات.
__________
1 ما بين المعكوفين سقط من "ب" .
ص -131-
أما قوله إن ابن تيمية حكى قولا في معنى الحديث أن المراد طلب الدعاء منه في الحياة والممات والحضور والغيبة، فهو كاذب على الشيخ. والشيخ رحمه الله جزم بأن معنى الحديث: أن الأعمى طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له، وأن ذلك مختص بالحياة ممتنع بعد الموت، كاستسقاء عمر بالعباس. ثم ذكر قول ابن عبد السلام إنه فهم من حديث الأعمى التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يوافقه الشيخ على ذلك، بل منع من التوسل بجاهه صلى الله عليه وسلم وما جزم به الشيخ في معنى الحديث، [وما حكاه عن ابن عبد السلام هما القولان اللذان ذكرهما في معنى الحديث]1 حديث الأعمى، لا كما زعم هذا الكذاب أن القولين في طلب الدعاء منه، وأن أحد القولين اختصاص ذلك بالحياة، والقول الثاني أن ذلك جائز في حياته ومماته صلى الله عليه وسلم وأن هذا قول ابن عبد السلام وأن الشيخ وافقه على ذلك، فكذب على ابن عبد السلام وعلى الشيخ في زعمه أنهما أجازا طلب الدعاء منه صلى الله عليه وسلم بعد موته. ما أجرأ هذا على تعمد الكذب!! لأنه يرى كلام الشيخ على هذا الحديث نفسه، وإنكاره طلب الدعاء من الأموات، لاسيما طلب ذلك منه صلى الله عليه وسلم ويقول طلب الدعاء من الأموات شرك. وكتابه في الرد على ابن البكري الذي جوز الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم موجود. وكلامه على حديث استسقاء عمر بالعباس في أن طلب الدعاء منه صلى الله عليه وسلم مختص بحياته. وكلامه في هذه المسألة معروف مشهور موجود في كتبه، فكيف يجترىء على الكذب الظاهر.
قوله: فكان نداؤه والطلب منه محل اتفاق، كذب ظاهر وخطأ فاحش.
أما أولا فإنه لو2 يتفق ابن عبد السلام وابن تيمية على قول واحد(32/37)
في مسألة فإنه لا يقال فيه إنه اتفاق. وإنما يقال هذا محل اتفاق فيما اجتمع ]
__________
1 ما بين المعكوفين سقط من "ب"
2 في "ط" " لم"
ص -132-
عليه علماء الأمة الذين يعتد بوفاقهم وخلافهم في الأحكام. وهذا لم يذكر كلمة واحدة توافق مذهبه عن صحابي ولا تابعي ولا عن إمام من أئمة المسلمين، وإنما حقيقة أمر هذا الرجل كما قال بعض العلماء: شرك مبني على إفك.
كذب على الله في قوله: إن الله أمر بالطلب من الأموات والغائبين، وأن هذا من الوسيلة التي أمر الله بها. وكذب على النبي صلى الله عليه وسلم في زعمه أن حديث الأعمى وغيره مما أورد يدل على ذلك. [وادعى اتفاق العلماء على حياة النبي صلى الله عليه وسلم في قبره]1 . وادعى على ابن تيمية وابن عبد السلام أنهما أجازا الطلب من النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته وأن ذلك اتفاق. وكذب2 في قوله إن في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا أملك لكم من الدنيا منفعة ولا من الآخرة نصيبا إلا أن تقولوا لا إله إلا الله .
وكذبه وتناقضه ومعارضته للقرآن والحديث لا يخفى على عاقل منصف نبهنا على بعضه. وأحببت أن أذكر هنا بعض كلام الشيخ رحمه الله في مسألة التوسل وقول ابن عبد السلام.
قال الشيخ تقي الدين رحمه في رده على ابن البكري: وما زلت أبحث وأكشف ما أمكنني من كلام السلف والأئمة والعلماء هل جوز أحد منهم التوسل بالصالحين في الدعاء، أو فعل ذلك أحد منهم، فما وجدته. ثم وقفت على فتيا للفقيه أبي محمد ابن عبد السلام أفتى بأنه لا يجوز التوسل بغير النبي صلى الله عليه وسلم، وأما بالنبي فجوز التوسل به إن صح الحديث في ذلك. وذكر القدوري في شرح الكرخي عن أبي حنيفة وأبي يوسف أنه لا يجوز أن يسأل الله إلا به. انتهى.
وذكر ابن القيم في إغاثة اللهفان3 عن أبي الحسين القدوري نحو(32/38)
__________
1 ما بين المعكوفين سقط من "ب" .
2 في "ب" "وكذبه" .
3 1 / 216 .
ص -133-
ذلك، فقال: قال القدوري، قال بشر بن الوليد سمعت أبا يوسف قال: قال أبو حنيفة لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، وأكره أن يقول بمعاقد العز من عرشك، أو يقول بحق خلقك1. وهو قول أبي يوسف.
قال أبو يوسف معقد العز من عرشك هو الله، فلا أكره ذلك، وأكره بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت والمشعر الحرام.
قال القدوري: المسألة بخلقه لا تجوز، لأنه لا حق للمخلوق على الخالق فلا تجوز يعني وفاقا.
وقال البلدجي في شرح المختارة: ويكره أن يدعو الله إلا به، فلا يقول: أسألك بفلان أو بملائكتك أو أنبيائك ونحو ذلك لأنه لا حق للمخلوق على الخالق. انتهى.
وهذه المسألة غير ما نحن فيه لكن ناسب ذكر2 ذلك لمخالفته لما فهمه [ابن عبد السلام من حديث الأعمى، وأن الذي فهم]3 ابن عبد السلام إنما هو التوسل به صلى الله عليه وسلم في الدعاء، لا دعاؤه نفسه كما زعمه هذا المفتري.
واحتج المعترض بالحديث الذي روي مرفوعا: "إذا انفلتت دابة أحدكم بأرض فلاة فليناد: يا عباد الله احبسوا فإن لله حاضرا سيحبسه"4 وزعم أن سنده صحيح.
__________
1 في "أ" "أو يقول بحق فلان أو يقول بحق خلقك" .
2 سقطت ذكر من "ط " .
3 ما بين المعكوفين سقط من "ب" .
4 أخرجه أبو يعلى الموصلي في مسنده رقم 5269 ، والطبراني في الكبير رقم 10518 ، وابن السني في عمل اليوم والليلة رقم 508 ، وذكره الهيثمي في المجمع "10 / 188 " وقال : رواه أبو يعلى والطبراني وفيه معروف بن حسان وهو ضعيف . والحديث ضعفه المحدث العلامة الألباني ، انظر الضعيفة رقم 655 .
ص -134-(32/39)
وليس كما ذكر من صحته، لأن في سنده معروف بن حسان وهو منكر الحديث، قاله ابن عدي، وعلى تقدير صحته فليس فيه حجة لهذا المبطل على جواز دعاء الأموات والغائبين، لأنه قال فيه: فإن الله حاضرا سيحبسه. المعنى: أن لله عبادا لا نعلمهم -وما يعلم جنود ربك إلا هو- قد وكلهم سبحانه بهذا الأمر. وهذا يدل على أن هؤلاء الذين أمر بمناداتهم حاضرون أحياء، جعل الله لهم قدرة على ذلك، فمناديهم ينادي من يسمع ويقدر على ذلك، لقوله: فإن الله حاضرا سيحبسه. وهذا كما ينادي الإنسان أصحابه الذين معه في السفر أن يردوا عليه دابته إذا انفلتت.
وكل عاقل يتيقن أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يأمر بمناداة من لا يسمع ولا يعين من ناداه. ومن استدل بذلك على جواز الاستغاثة بالأموات والغائبين فهو ضال.
قال المعترض -بعد إيراده هذا الحديث- : وأما قول من قال إن هذا نداء لحاضر كذب
ظاهر. فإن عباد الله المدعوين -وإن كانوا حاضرين بالنسبة لعلم الله الذي لا يغيب عنه شيء- فهم غائبون بالنسبة لمن يناديهم، وكذلك الأنبياء والصالحون من أهل القبور، فإنهم أحياء1 في قبورهم، وأرواحهم موجودة، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن ينادوهم ويخاطبوهم كمخاطبة الحاضر، مع أنهم غائبون عن الأعين. انتهى.
فالعجب من تناقض هذا!! يورد هذا الحديث -ونص الحديث: فإن لله حاضرا سيحبسه- ثم يقول: من قال إن هذا نداء لحاضر كذب ظاهر. يورد الحديث ثم يكذبه.
وقوله: فإن عباد الله المدعوين وإن كانوا حاضرين بالنسبة لعلم الله فهم غائبون بالنسبة لمن يناديهم. فيا سبحان الله!! كيف يبلغ اتباع الهوى بصاحبه إلى هذا التناقض ومعارضة الأحاديث التي يحتج بها.
__________
1 سقطت " أحياء" من "أ" .
ص -135-(32/40)
فإذا أخبر الرسول أنهم حاضرون قادرون بقوله: فإن لله حاضرا سيسحبه. فإخبار الرسول بحضورهم أبلغ من رؤيتنا لهم، كما لو كان الذي انفلتت دابته أعمى ويعلم أن عنده أناسا لا يراهم، فإنه يستعين بهم لعلمه أنهم يسمعون كلامه وإن لم يكن يراهم.
قال المعترض في كلامه على هذا الأثر قال: ولكون النبي صلى الله عليه وسلم حاضرا مع موته شرع لنا خطابه والسلام عليه في الصلاة.
فقوله: مع موته. إقرار منه بموته في قبره الآن. ثم كابر فادعى أن جميع الصالحين في قبورهم أحياء، وكذب في هذه الدعوى، والله سبحانه أخبرنا بحياة الشهداء في كتابه، والأنبياء أرفع من الشهداء فهم أولى بذلك من الشهداء، مع أنه لم يأت حديث صحيح بحياتهم. وهذه حياة لا يعلم صفتها وحقيقتها إلا الله لقوله سبحانه: {بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} [البقرة:154].
وأما قوله بحياة الصالحين غير الأنبياء والشهداء في قبورهم فكذب منه وافتراء.
وقوله: ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن ينادوهم ويخاطبوهم مخاطبة الحاضر مع أنهم غائبون عن الأعين.
فيقال لهذا المبطل: الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أمته وشرعه لهم عند زيارة القبور حجة عليك كافية في إبطال مذهبك، هل فيما شرعه النبي صلى الله عليه وسلم حرف واحد يتضمن دعاءهم والطلب منهم والاستغاثة بهم؟! بل ليس فيها ما يتضمن سؤاله بهم. فليتأمل طالب الحق جميع ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم مما كان يقول إذا زارها، وما أمر به أمته عند زيارتها، هل يجد فيها حرفا واحدا مما يعتمده أهل الشرك والبدع أم يجدها مخالفة لما هم عليه من جميع الوجوه؟ فمضمون الزيارة التي شرعها صلى الله عليه وسلم تذكر الآخرة، والإحسان إلى المزور بالدعاء له والترحم عليه والاستغفار له وسؤال العافية له، فبدل هؤلاء
ص -136-(32/41)
المشركون قولا غير الذي قيل لهم، وغيروا الدين، وجعلوا المقصود بالزيارة الشرك بالميت بالاستغاثة به وسؤال قضاء الحاجات وتفريج الكربات والنصر على الأعداء واستنزال البركات.
وقوله: ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن ينادوهم ويخاطبوهم مخاطبة الحاضر.
فيقال له: وهل في خطابهم لهم طلب حاجة منهم أو طلب الدعاء منهم؟ أو المخاطب الزائر المسلم هو الذي يدعو لهم ويستغفر لهم ويترحم عليهم ويسأل الله لهم العافية.
فهل في ذلك إلا ما هو حجة عليك.
ثم يقال لهذا المتخرص: هذا هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته مع الأموات في دعائه لهم في الصلاة على جنائزهم، وعند دفنهم وعند زيارتهم، هل تجد فيها حرفا واحدا يوافق دعواك في طلب الحاجات من الأموات والغائبين؟ ودعواك أن الله أمر بذلك بقوله: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} فكأن النبي صلى الله عليه وسلم ما علم من معنى الوسيلة ما علمت؟ وأنه علم ذلك ولم يدل عليه بحرف واحد.
وكذلك أصحابه من بعده عند إتيانهم إلى قبره صلوات الله وسلامه عليه لا يزيدون على مجرد السلام عليه وعلى صاحبيه كما تقدم عن ابن عمر وأنس وغيرهما وما تقدم عن أهل بيته صلى الله عليه وسلم من إنكار علي بن الحسين زين العابدين على الذي يدعوا الله عند قبره صلى الله عليه وسلم وقول الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب للذي قال سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: إذا دخلت المسجد فسلم - وفي رواية - فنهاه، واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم {لاتتخذوا بيتي عيدا }. الحديث وتقدم.
أفخفي على هؤلاء السادة ما فهمه هذا وأشياعه من قول الله {وابتغوا إليه الوسيلة} وما فهمه من حديث الأعمى وغيره؟! ولكن بهذا ونحوه يظهر مصداق النبي صلى الله عليه وسلم :"لتتبعن سنن من كان قبلكم"1. وقد أخبر الله تعالى عن أهل الكتاب قبلنا بالغلو والكذب وتحريف الكلم عن موضعه.(32/42)
__________
1 تقدم تخريجه ص 22 ، والرواية الأخرى ص 96 .
ص -137-
وما ذكره المعترض عن عتبه بن غزوان فهو مثل الذي قبله، لقوله فيه: {فإن لله عبادا لا يراهم} ولفظه: {إذا أضل أحدكم شيئا وأراد عونا وهو بأرض فلاة ليس بها أنيس فليقل يا عبادالله أعينوني؛ فإن لله عبادا لايراهم}1.
قال المعترض: فهب أن عباد الله المدعوين حاضرون كما قال،ولكن إذا لم يرهم الداعي لهم كيف يهتدي إلى الطريق وهو لم يرهم؟
فيقال: قولك هذا اعتراض منك على ما استدللت به.
ونقول له قد تحصل الهداية بإشارة أو علامة ترفع له، أو يكونون من جنس الملائكة الذين يلقون في قلب ابن آدم، فكل هذا جائز إن صح الأثر.
فانظر تسميته النداء دعاء في ثلاث مواطن من هذا المحل!! وهو يقول إن طلب المخلوق من المخلوق لا يسمى دعاء بل نداء. فتناقض، وهذا من سنة الله سبحانه في المبطل أنه يتناقض.
واحتج أيضا بما روي أن رجلا جاء إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فشكا إليه الجدب عام الرمادة، فرآه وهو يأمره أن يأتي عمر فيأمره أن يخرج فيستسقي بالناس. هذا لفظه في اقتضاء الصراط المستقيم.
قال الشيخ رحمه الله: ومثل هذا يقع كثيرا لمن هو دون النبي صلى الله عليه وسلم وأعرف من هذا وقائع. - قال - وليس هو مما نحن فيه - قال - وهذا القدر إذا وقع يكون كرامة لصاحب القبر، أما أنه يدل على حسن حال السائل فلا، ففرق بين هذا وهذا. انتهى.
وهذه الحكاية التي احتج بها هذا المبطل هي حجة عليه في قوله: إن ما جاز أن يطلب منه في حياته صلى الله عليه وسلم جاز أن يطلب منه بعد موته. وهو صلى الله عليه وسلم لما(32/43)
__________
1 أخرجه الطبراني في الكبير "17 / 117 – 118" وذكره الهيثمي في المجمع "10 / 188" وقال : رواه الطبراني ورجاله وثقوا على ضعف في بعضهم إلا أن زيد بن علي لم يدرك عتبة ، والحديث ضعفه محدث العصر العلامة الألباني . انظر الضعيفة رقم 656 .
ص -138-
كان حيا معهم على وجه الأرض إذا طلبوا منه أن يستقي لهم يستسقي بنفسه، لا يقول اذهبوا إلى فلان ليستسقي لكم. وفي هذه الحكاية لم يقل أنا أستسقي لكم، بل أمر عمر يخرج بالناس يستسقي لهم، فدل على أن هذا متعذر منه بعد موته صلى الله عليه وسلم والصحابة خرجوا إلى الصحراء مع عمر واستسقوا، ولم يأتوا إلى قبره يطلبون منه أن يستسقي لهم كما كانوا يفعلون في حياته، بل ولا جاءوا يستسقون عند قبره.
وقوله: إن صاحب هذه الحكاية صحابي أعلم من سائر علماء المسلمين.
فقوله هذا كذب ظاهر. وهل يعرف اسمه حتى يعرف حاله؟! والمدينة في ذلك الزمان يردها أهل الآفاق من العرب والعجم والبادية والحاضرة، ولا سمي صاحب هذه الشكوى، ولا يدرى من هو، فكيف يزكيه هذه التزكية البالغة وهو لا يعرفه؟! والشيخ يقول: ومثل هذا إذا وقع لا يدل على حسن حال السائل.
وقوله: إن ابن تيمية ذكر هذه الحكاية -وأنه قال- وهذا حق ومثل هذا يقع كثيرا لمن هو دون النبي صلى الله عليه وسلم، والشيخ ذكر جملة من هذا النوع ثم قال وهذا حق، يعني وقوع مثل هذا ثابت، ليس مراده أنه صواب كما زعمه هذا.
والشيخ رحمه الله لما قرر أن الدعاء عند القبور بدعة يعني قصدها لأجل دعاء الله عندها وأن ذلك منهي عنها، وقرر أن دعاء المقبورين وسؤالهم قضاء 1 الحاجات شرك. قال: ولا يدخل في هذا أن قوما سمعوا رد السلام من قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو قبور غيره من الصالحين، وأن سعيد بن المسيب كان يسمع الأذان من القبر ليالي الحرة ونحو ذلك - إلى أن قال - رحمه الله فإن الخلق لم ينهوا عن الصلاة(32/44)
عند القبور واتخاذها مساجد استهانة
__________
{1} سقطت "قضاء " من "ب " و "ط " .
ص -139-
بأهلها، بل لما يخاف عليهم من الفتنة، وإنما تكون الفتنة إذا انعقد سببها، فلولا أن يحصل عند القبور ما يخاف الافتتان به لما نهي الناس عن ذلك. وكذلك ما يذكر من الكرامات وخوارق العادات التي توجد عند قبور الأنبياء والصالحين، مثل نزول الأنوار والملائكة عندها، وتوقي الشياطين والبهائم لها، واندفاع النار عنها وعمن جاورها - إلى أن قال - فجنس هذا حق1 وليس مما نحن فيه إلى أن قال وكل هذا لا يقتضي استحباب الصلاة عندها ولا قصد الدعاء والنسك عندها لما في قصد العبادات عندها من المفاسد التي علمها الشارع كما تقدم - قال - فذكرت
هذه الأمور لأنها مما يتوهم معارضتها لما ذكرنا، وليس كذلك.
واحتج المعترض بالحكاية التي ذكرها القاضي عياض في الشفاء: أن الإمام مالكا رحمه الله تناظر مع أبي جعفر المنصور، فقال مالك: يا أمير المؤمنين إن الله أدب أقواما فقال {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ } [الحجرات:2]. ومدح قوما فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} [الحجرات:3].
وإن حرمته ميتا كحرمته حيا. فاستكان لها أبو جعفر وقال: يا أبا عبد الله أستقبل القبلة أم أستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال مالك: ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم، بل استقبله وتشفع به. ثم قرأ {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء"64]2.
__________(32/45)
1 في هامش "ط" ما نصه "قوله رحمه الله فجنس هذا حق يعني وقوعه ثابت ليس مراده أنه صواب" .
2 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: " وهذه الحكاية منقطعة فإن محمد بن حميد الرازي لم يدرك مالكا ولاسيما في زمن أبي جعفر المنصور ، فإن أبا جعفر توفي بمكة سنة ثمان وخمسين ومائة ، وتوفي مالك سنة تسع وسبعين ومائة ، وتوفي محمد بن حميد الرازي سنة ثمان وأربعين ومائتين ، ولم يخرج من بلده حين رحل في طلب العلم إلا وهو كبير مع أبيه ، وهو مع هذا ضعيف عند أكثر أهل الحديث . كذبه أبو زرعة وابن واره وقال صالح بن محمد الأسدي :
ص -140-
ولما ذكر شيخ الإسلام تقي الدين رحمه الله تعالى أشياء ذكرها عن السلف عامة وعن مالك خاصة، قال: وهذا الذي ذكرنا عن السلف ومالك يبين حقيقة الحكاية المأثورة عنه التي ذكرها القاضي عن محمد بن حميد قال ناظر أبو جعفر إلخ.
قال رحمه الله: فهذه الحكاية على هذا الوجه إما أن تكون ضعيفة أو مغيرة، وإما أن تفسر بما يوافق مذهبه [إذ قد يفهم منها ما هو خلاف مذهبه]1 ، المعروف بنقل الثقات من أصحابه، فإنه لا يختلف مذهبه أنه لا يستقبل القبر عند الدعاء، وقد نص أنه لا يقف عنده للدعاء مطلقا -إلى أن قال- وأما الحكاية في تلاوة مالك هذه الآية {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ} الآية فهو والله أعلم باطل فإن هذا لم يذكره أحد من الأئمة فيما أعلم. ولم يذكر عن أحد منهم أنه استحب أن يسأل بعد الموت الاستغفار ولا غيره. وكلامه المنصوص عنه وعن أمثاله ينافي ذلك، وإنما يعرف مثل هذا في حكاية ذكرها بعض المتأخرين من الفقهاء عن أعرابي أنه أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وتلا هذه الآية،
وأنشد :
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه
فطاب من طيبهن القاع والأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه
فيه العفاف وفيه الجود والكرم(32/46)
ولهذا استحب طائفة من متأخري الفقهاء من أصحاب الشافعي
__________
= ما رأيت أحدا أجرأ على الله منه وأحذق بالكذب منه ، وقال يعقوب بن شيبة: كثير المناكير ، وقال النسائي: ليس بثقة . وقال ابن حبان: ينفرد عن الثقات بالمقلوبات 00 وهذه الحكاية لم يذكرها أحد من أصحاب مالك المعروفين بالأخذ عنه ، ومحمد بن حميد ضعيف عند أهل الحديث إذا أسند فكيف إذا أرسل حكاية لا تعرف إلا من جهته " انظر مجموع الفتاوى "1 / 228"
1 ما بين المعكوفين سقط من "ب".
ص -141-(32/47)
وأحمد مثل ذلك، واحتجوا بهذه الحكاية التي لا يثبت بها حكم شرعي، لاسيما مثل هذا الأمر العظيم الذي لو كان مشروعا مندوبا لكان الصحابة والتابعون أعلم به وأعمل به من غيرهم، بل قضاء الله حاجة هذا الأعرابي وأمثاله له أسباب قد بسطت في غير هذا الموضع. وليس كل من قضيت حاجته بسبب يقتضي أن يكون ذلك السبب مشروعا مأمورا به. فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل في حياته المسألة فيعطيها لا يرد سائلا وتكون المسألة محرمة في حق السائل، حتى قال: "إني لأعطي أحدهم المسألة فيخرج بها يتأبطها نارا " قالوا : يا رسول الله ، فلم تعطيهم ؟ قال: "يأبون إلا أن يسألوني ويأبى الله لي البخل"1 .
قال: وقد يفعل الرجل العمل الذي يعتقده صالحا ولا يكون عالما أنه منهي عنه، فيثاب على حسن قصده ويعفى عنه لعدم علم، وهذا باب واسع .
قوله رحمه الله في أول كلامه: وهذا الذي ذكرناه عن السلف ومالك يبين حقيقة الحكاية المأثورة عنه.
فالكلام الذي أشار إليه قوله قبل ذلك: واتفق الأئمة على أنه إذا دعا بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم لا يستقبل قبره [وتنازعوا عند السلام عليه، فقال مالك وأحمد وغيرهما إنه يستقبل قبره]2 ويسلم عليه وهو الذي ذكره أصحاب الشافعي، وأظنه منصوصا عنه. وقال أبو حنيفة بل يستقبل القبلة ويسلم عليه. هكذا في كتب أصحابه. وقال مالك فيما ذكره إسماعيل بن اسحاق في المبسوط والقاضي عياض وغيرهما: لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم
__________
1 أخرجه الإمام أحمد في المسند "3 / 21" والحاكم في المستدرك "1 / 46" وذكره الهيثمي في المجمع "3 / 255" وقال : رواه أحمد وأبو يعلى والبزار بنحوه ورجال أحمد رجال الصحيح ، كلهم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه : قلت : وأخرج نحوه مسلم "2425" عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
2 ما بين المعكوفين سقط من "ط" .
ص -142-(32/48)
ويدعو [ولكن يسلم ويمضي. وقال أيضا في المبسوط: لا بأس لمن قدم من سفر أو خرج أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو]1 له ولأبي بكر وعمر فقيل له: إن أناسا من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدونه يفعلون ذلك في اليوم مرة وأكثر عند القبر فيسلمون ويدعون ساعة. فقال: لم يبلغنا هذا عن أحد من أهل الفقه ببلدنا ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك، ويكره إلا لمن جاء من سفر أو أراده.
ثم قال الشيخ: فقول مالك في هذه الحكاية إن كان ثابتا عنه معناه: أنك إذا استقبلته وصليت عليه وسلمت عليه2 وسألت الله له الوسيلة يشفع فيك يوم القيامة، فإن الأمم يوم القيامة يتوسلون بشفاعته، واستشفاع العبد به في الدنيا هو فعل ما يشفع له به يوم
القيامة، كسؤال الله له الوسيلة.
وكذلك ما نقل من رواية ابن وهب: إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم، ودعا يقف ووجهه إلى القبر لا إلى القبلة، ويدعو ويسلم. يعني دعا للنبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه فهذا هو الدعاء المشروع هناك كالدعاء عند زيارة قبور المسلمين وهو الدعاء
لهم، فإن أحق الناس أن يصلى عليه ويدعى له بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه.
وبهذا تتفق أقوال مالك ويفرق بين الدعاء الذي أحبه والدعاء الذي كرهه وذكر أنه بدعة . انتهى.
ويشهد لذلك ما رواه عبد الرزاق في كتابه عن معمر عن أيوب عن نافع قال: كان ابن عمر إذا قدم من سفر أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك يا رسول
الله ، السلام عليك يا أبا بكر ، السلام عليك يا أبتاه.
__________
1 ما بين المعكوفين سقط من "ب" .
2 سقطت "وسلمت عليه" من "أ" .
ص -143-(32/49)
قال معمر وأخبرنا عبيد الله 1 بن عمر عن نافع عن ابن عمر. قال معمر: فذكرت ذلك لعبيد الله بن عمر فقال: ما نعلم أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك إلا ابن عمر.
وقال الحافظ محمد بن أحمد بن عبد الهادي في كتابه "الصارم المنكي في الرد على
السبكي" : محمد بن حميد راوي2 هذه الحكاية -أعني حكاية أبي جعفر مع الإمام مالك- هو محمد بن حميد الرازي لا العمري3 كما ظنه السبكي.
قال: وقد تكلم في محمد بن حميد الرازي هذا غير واحد من الأئمة ونسبه بعضهم إلى الكذب. قال يعقوب بن شيبة: محمد بن حميد الرازي كثير المناكير. وقال البخاري : حديثه فيه نظر. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال أبو العباس4 محمد بن أحمد الأزدي: سمعت إسحاق بن منصور يقول أشهد على محمد بن حميد وعبيد بن إسحاق العطار بين يدي الله أنهما كذابان. وذكر عن جماعة كثيرة نحو ذلك، فهذا يبين عدم صحة هذه الحكاية، والله أعلم.
وذكر المعترض ما روي أن أعرابيا جاء إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم بعد ثلاثة أيام من دفنه صلى الله عليه وسلم ورمى بنفسه وقال: يا رسول الله قلت فسمعنا قولك، ووعيت عن الله فوعينا عنك، وكان فيما أنزل الله عليك {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ} الآية. وقد جئتك مستغفرا لذنبي. فنودي من القبر: غفر لك.
فيا سبحان الله يعتمد على حكاية أعرابي بغير إسناد في هذا الأمر الذي لوكان مستحبا أو جائزا لفعله الصحابة والتابعون، ولو كانوا يفعلون
__________
1 في "أ" و "ب" "عبد الله" .
2 في "ط" "الراوي" .
3 في "أ " و "ب" "لا المعمري" .
4 في "ط" "أبو عباس" .
ص -144-(32/50)
شيئا من ذلك لنقل عنهم لا عن أعرابي وغيره ممن لا تعرف حاله.
فلو وجد الناقل لهذه الحكاية1 شيئا من ذلك عن أحد من الصحابة وعلماء التابعين لكان أولى من نقله عمن لا يعرف بصحبة2 ولا علم.
وأيضا فهذه حكايات بغير إسناد معروف، بحيث لو يذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث بغير إسناد معروف رجاله لم يلتفت إليها، مع أنه ليس في هذه الحكاية ونحوها أنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يغفر له أو أن يدعو الله له.
قال المعترض ويعضد هذا الأثر المتقدم الذي تلقاه الأئمة بالقبول - يعني أثر العتبي - حتى ابن تيمية مع أنه شدد في ذلك.
فكذب على ابن تيمية في قوله إنه تلقاه بالقبول، بل ابن تيمية خطأ من احتج بحكاية العتبي كما قدمنا عنه. وما روي من قول سواد بن قارب.
فكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة
بمغن فتيلا عن سواد بن قارب
فهذا3 بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم في حياته كما تقدم من حديث أنس،وكاستشفاع الناس به يوم القيامة. وقوله: أدنى المرسلين وسيلة. فهو كذلك صلوات الله وسلامه عليه، لأن الوسيلة هي القربة، والتوسل إلى الله: التقرب إليه بطاعته وإتباع رسوله والاقتداء به، وهذا هو الوسيلة المأمور بها في قوله سبحانه: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} ومن الوسيلة دعاؤه لهم صلى الله عليه وسلم وطلبهم ذلك منه في حياته كما كانوا يطلبون منه أن يدعو لهم ويستسقي لهم كقول عمر: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا. الحديث.
فهذا من الوسيلة المأمور بها.
__________
واحتج المعترض بما روي أنه قيل لابن عمر - حين خدرت رجله -:
1 في "ب" و "ط" "الحكايات" .
2 في "ب" "بصحة" .
{3} في "ط " "فهذه " .
ص -145-(32/51)
اذكر أحب الناس إليك. وأن ابن عباس قاله لآخر. فقال أحدهما: محمد. وقال الآخر: يا محمد.
وليس له في هذا حجة على طلب الحاجات من الأموات والغائبين.
والقائل لم يقل ادع أحب الناس إليك. والمقول له لم يقل يا محمد أزل خدر رجلي. فإن صح الأثر فلعل المعنى في ذلك أنه توسل إلى الله بمحبة نبيه.
وأحدهما لم يأت بحرف النداء وذكرها أحدهما، فلعل هذا مثل قولنا: السلام عليك أيها النبي، السلام عليك يا رسول الله. وخدر الرجل من نوع الضر1 ، والمحتج بذلك يحتج به على جواز طلب كشف الضر من النبي صلى الله عليه وسلم وغيره وقد قال الله تعالى:
{قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا} [الجن:21]. أي لا أقدر على كشف ضر نزل بكم ولا جلب خير إليكم. أي إن الله يملك ذلك لا أنا. وقال : {قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا}. [الإسراء: 56]. وقد ذكرنا فيما تقدم أن مفسري الصحابة والتابعين ذكروا أن الآية نزلت فيمن يعبد الملائكة والمسيح وأمه وعزيرا والجن. والآية تعم كل مدعو من دون الله.
فإذا كان الملائكة الذين يكونون وسائط فيما يقدره الله بأفعالهم لا يملكون كشف الضر عمن دعاهم ولا تحويله من حال إلى حال فغيرهم أولى. فإذا كان هؤلاء المذكورون لا يستجيبون لمن دعاهم فهم داخلون تحت قوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:5،6]وغيرها من الآيات فكيف تعارض نصوص القرآن بمثل ذلك.
ومضمون دعوى المحتج بذلك: أن الشفاء يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم وكان
__________
1 في "ط" " الضرر" .
ص -146-(32/52)
في رقية النبي للمريض1: اشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك2 . 3
فالمحتج بهذا الأثر على4 ما ادعاه معارض لنصوص القرآن والسنة مكذب لله ورسوله فيما ذكرنا من الآيات والحديث. ولو قال من خدرت رجله أعوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم من شر ما أجد صار مستعيذا بمخلوق. ونص العلماء أن الاستعاذة لا تجوز بمخلوق والاستعاذة5 نوع من الدعاء كما أمر تقريره.
فلو قال من أصابه ما يكره أعوذ بمحمد مما أجد وأسأله كشف ما أجد أو أشكو إليه ما أجد كان المعنى في جميع هذه العبارات واحدا إذ المعنى: أطلب إزالة ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم.
وابن القيم ذكر هذا الأثر، فلو كان فيه شبهة تعارض ما كان يقرره من أن دعاء غير الله والاستغاثة به شرك لبين ذلك.
ورأيت من جملة فتاوى للقاضي أبي يعلى منها أنه سئل عمن يقول يامحمد، يا علي، فقال: هذا لا يجوز لأنهما ميتان.
وقول المعترض: أوليس ابن تيمية قد عذر المتأول والمقلد وقال أنه يغفر للجاهل ما لا يغفر لغيره.
فيقال لهذا: إنما يورد من كلام الشيخ هذا من يوافق على تحريم الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأموات وأن ذلك شرك. ثم يقول لعله يغفر للجاهل ونحوه.
وأما من ينكر قول الشيخ في ذلك ويبدع من قال بقوله أو يكفره فلا يتوجه له القول بعذر المذكورين، لأنه يقول إنهم غير مخطئين، بل
__________
1 سقطت "للمريض" من "ب" .
2 في "أ" و "ب" "لا شافي إلا أنت" .
3 أخرجه البخاري ، كتاب المرضى والطب ، باب دعاء العائد للمريض حديث 5675 .
4 سقطت "على " من "ط " .
5 في "أ" "والاستعانة " .
ص -147-(32/53)
مأجورين1 لامتثالهم أمر الله في قوله: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} في زعم هذا المحرف لكلام الله فلا وجه لطلب العذر لهم.
وما قاله الشيخ رحمه الله في هذا الباب أعني باب التوحيد ليس باجتهاد منه لكنه بين ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة وإجماع العلماء فرحمه الله ورضي عنه. والشيخ قال: وقد يفعل الرجل العمل الذي يعتقده صالحا ولا يكون عالما2 أنه منهي عنه، فيثاب علي حسن قصده ويعفى عنه لعدم علمه، وهذا باب واسع. قال ويغفر للجاهل ما لا يغفر لغيره مراده في الجملة لا في التفصيل، ولهذا قال رحمه الله في شرح العمدة في أثناء كلام سبق: فكل رد لخبر الله أو أمره فهو كفر دق أو جل، لكن يعفى عما قد خفيت فيه طرق العلم وكان أمرا يسيرا في الفروع، بخلاف ما ظهر أمره وكان من دعائم الدين من الأخبار والأوامر.
وقد قال رحمه الله: إن الشرك لا يغفر ولو كان أصغر. ونقل ذلك عنه تلميذه صاحب الفروع فيه قال: ذلك والله أعلم لعموم قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48].
وقال في الرسالة السنية: فكل من غلا في نبي أو رجل صالح وجعل فيه نوعا من الإلهية مثل أن يدعوه من دون الله بأن يقول: يا سيدي فلان أعثني، أو أجبرني، أو توكلت عليك، أو أنا في حسبك، فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه فإن تاب و إلا قتل.
وكذلك قال في مسألة الوسائط: إن فاعل ذلك يستتاب فإن تاب و إلا قتل.
وعموم قول الله{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48] يتناول كل مشرك. والفقهاء من جميع المذاهب يذكرون في باب حكم المرتد أن من أشرك بالله كفر، ويحتجون بهذه الآية ونحوها، ولم يحرجوا الجاهل من
__________
1 في "ب" "مأجورون" .
2 في "أ" "يعلم" .
ص -148-(32/54)
العموم وقال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:103،104] . وقال: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمْ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمْ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأعراف:30] . قال ابن جرير: وهذا من أبين الأدلة على خطأ من زعم أن الله لا يعذب أحدا على معصية ركبها أو ضلالة اعتقدها إلا أن يأتيها بعلم منه، لأنه لوكان كذلك لم يكن بين فريق الضلالة الذي ضل وهو يحسب أنه مهتد وفريق الهدى فرق، وقد فرق الله بين أسماءها وأحكامها في هذه الآية. انتهى.
وليس كلامنا في هذا الموضع في هذه المسألة وإنما الكلام مع هؤلاء الضلال الدعاة إلى الشرك الملبسين على الناس دينهم المفترين على الله الكذب المضلين للناس بغير علم.
وذكر المعترض أن في تاريخ ابن كثير أن الصحابة كان شعارهم في الحرب يا محمد. وفي تاريخ آخر أن بعض المسلمين من التابعين أسرهم الكفار وألقوهم في القدور فنادوا يا محمداه. وأن خبيبا رضي الله عنه لما مثل به الكفار قال يا محمد.
فهذه هي وأشباهها حجة هذا المبطل وشيعته، وهذه التواريخ وأشباها فيها الصدق والكذب وأكثرها يحكى بغير إسناد، ولو كان ما ذكر في هذه التواريخ ونحوها حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم بغير سند متصل صحيح لم يحكم به في فلس.
والحكاية الأولى أن هذا كان شعارهم في الحرب، لم يقل أنهم كانوا يستغيثون به في الحرب، ولا أنهم يدعونه، بل قال: هذا [شعارهم في الحرب. فلا شبهة لك فيه لأنهم كانوا يستعملون الشعار في الحرب1 باسم(32/55)
__________
1 سقط من "ب" قوله "في الحرب ، لم يقل إنهم كانوا يستغيثون به في الحرب ولا أنهم يدعونه ، بل قال : هذا شعارهم في الحرب ، فلا شبهة لك فيه لأنهم كانوا يستعملون الشعار" .
ص -149-
أو كلمة ليعرف بعضهم بعضا كما روي أن1 شعارهم] في بعض غزواتهم حم لا ينصرون2 وفي بعضها أمت أمت3.
وما ذكر عن الذين كانوا في زمن التابعين أنهم قالوا يا محمداه . حكاية بغير إسناد عمن لم يعرف من هم.
وما حكي أن خبيبا قال يامحمد. إن صح فهذا ونحوه يقوله الإنسان توجعا لفراق حبيبه، ولا يشك عاقل أن خبيبا وأشباهه لا يستغيثون بالنبي صلي الله عليه وسلم في تلك الحال وهو لا يسمع كلامهم، كيف وقال لهم صلى الله عليه وسلم لما استغاثوا به على رجل عنده في المدينة قال: "إنه لايستغاث بي وإنما يستغاث بالله عز وجل"4 ولكن صاحب الباطل يروج على الناس ويلبس عليهم بكل ما يقدر عليه، ولو لا إتباع الهوى ما عارض بحكاية عن أعرابي، أو عن تاريخ لا يعرف غثه من سمينه، مع أنه ليس له فيما يحكيه حجة على باطله ومع ذلك يعارض به نصوص القرآن كقوله تعالى{وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنْ الظَّالِمِينَ} [يونس:106] {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأحقاف:5] {قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا} [الإسراء:56] فإذا كان الملائكة المقربون لايملكون كشف الضر عمن دعاهم ولا تحويله فنبينا صلى الله عليه وسلم كذلك لا يكشف الضر عمن دعاه ولا تحويله، فلو كان يملك شيئا من ذلك لطلب أصحابه الذين هم أعلم الناس بالله وبرسوله وبدينه ذلك منه مع أن عموم هذه الآيات وغيرها(32/56)
تتناوله كغيره، لايشك في هذا عاقل سليم الفطرة فضلا عن العالم المنصف، هذا مع قوله
__________
1 ما بين المعكوفين سقط من "ط" .
2 أخرجه أبو داود ، كتاب الجهاد ، باب في الرجل ينادي بالشعار ، حديث 2597 ، والترمذي ، كتاب الجهاد باب ما جاء في الشعار حديث 1682 .
3 أخرجه أبو داود ، كتاب الجهاد ، باب في الرجل ينادي بالشعار ، حديث 2596 .
4 تقدم تخريجه ص 78 .
ص -150-(32/57)
سبحانه في حق نبينا خاصة ماذكره في كتابه كقوله: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعراف:188] وقوله: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا} [الجن:21] أي لا أقدر على كشف ضر نزل بكم ولا إيصال نفع إليكم ، أي لا يملك ذلك إلا الله . فمن زعم أن غير الله يطلب منه فهو مكذب لله وجاعل له شريكا في ذلك تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
قال المعترض: فدل على أن نداء النبي صلى الله عليه وسلم في الشدائد أمر معهود.
يعني الاستغاثة به صلى الله عليه وسلم وإنما عبر بالنداء طردا لقوله الباطل المتناقض:
إن طلب المخلوق من المخلوق يسمى نداء لا دعاء. وقد بينا بطلان قوله هذا ومخالفته للكتاب والسنة والإجماع العلماء والنحويين، وأن الدعاء بطلب رفع المكروه أو دفعه يسمى استغاثة كما يسمى دعاء. فلما قال: إن نداء النبي صلى الله عليه وسلم في الشدائد أمر معهود يعني أنه يطلب منه صلى الله عليه وسلم كشف الشدائد، فهذا حقيقة الاستغاثة، فليسميه المبطل نداء أو طلبا أو توسلا أو تشفعا أو ما شاء من الأسماء، فإن ذلك لا ينفعه ولا يغير الحكم، فهذا الضال يزعم أن الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم في الشدائد بعد موته أمر معهود، يعني معروف مشهور معمول به عند الصحابة
والتابعين. فجعل هذا الصحابة والتابعين أشد غلوا في النبي صلى الله عليه وسلم من المشركين الأولين في الملائكة والأنبياء والجن والأصنام1 ، لأن الله سبحانه أخبر في كتابه أن المشركين يخلصون الدعاء لله في حال الشدة وينسون آلهتهم من الملائكة والأنبياء والجن والأصنام قال سبحانه {وَإِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ } [الإسراء:67] وقال تعالى{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت:65] وقال : {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ(32/58)
أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمْ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [الأنعام:40،41].
__________
1 سقطت "والجن والأصنام" من "ب" .
ص -151-
وقال : {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} [الروم:33] . {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا} [يونس:12].
وقول هذا الرجل فيما تقدم: إن الله أمر بالطلب من الأموات والغائبين عام في الأوقات والأحوال والأشخاص، فيا لله لعقول ضلت حين لم يتبين لها ضلال هذا في غالب كلامه وخاصة1 في قوله: إن الله أمر بطلب الحاجات من الأموات والغائبين. فكما قدمنا إذا كان الله يحب ذلك لأمره به في زعم هذا الضال فالأولى ملازمة ذلك في الشدة والرخاء [محافظة على ما يحبه الله في جميع الحالات. والموحدون يقولون الواجب على الناس إخلاص الدعاء لله وحده في الرخاء والشدة]2 ،فلا يسأل إلا هو وحده ، ولا تطلب الحاجات إلا منه، ولا يرغب إلا إليه وحده. والمشركون الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم يخلصون الدعاء لله في الشدة وينسون غيره3، ونصوص القرآن ناطقة بذلك.
وهذا الملحد يقول: الاستمرار على الطلب من الأموات والغائبين في جميع الحالات أولى، لأن الله يحب ذلك، لأنه من الوسيلة التي أمر الله بها، فالمحافظة على ما يحبه الله أولى من الغفلة عما يحبه سبحانه وتعالى. فيا سبحان الله كيف يتلبس أمر هذا على عاقل سليم الفطرة ؟!
وما ذكره من قول صفية ألا يا رسول الله كنت رجاءنا. فهذه حال من يبكي شخصا ويرثيه، يخاطبه مخاطبة الحاضر، وتذكر حاله صلى الله عليه وسلم معهم لأنه القائم بأمورهم فهو أبوهم خاصة وأبو المؤمنين عامة {النَّبِيُّ(32/59)
أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب:6] صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين.
وقد حمى النبي صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد أبلغ حماية حتى قال: " لا تجعلوا
__________
1 في "ط" وخاصيته .
2 ما بين المعكوفين سقط من "ط" .
3 في "أ" "آلهتهم" .
ص -152-
قبري عيدا"1 . وقال: "لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد بل ما شاء الله ثم شاء محمد"2. وقال للذي قال له ما شاء الله وشئت "أجعلتني لله ندا"3 فوازن بين قوله لمن قال ما شاء الله وشئت: أجعلتني لله ندا، وبين قول هذا الضال: إنه يستغاث به في الشدائد. أليس هذا أولى بأن يقال له أجعلتني لله ندا وقد قال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّه} [النمل:62]. أي: أءله مع الله يفعل هذا؟ والذي يقول إنه يستغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم في الشدائد بقوله: إن نداء النبي صلى الله عليه وسلم في الشدائد أمر معهود، يقول إنه يجيب المضطر ويكشف السوء وإلا كانت الاستغاثة به عبثا باطلا. والمشركون يعترفون بأنه لا ينحي من الشدائد والضرورات إلا الله، ولهذا يخلصون الدعاء لله في هذه الأحوال لعلمهم أنه لا ينجي منها إلا الله قال الله تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [لقمان:32]. قال البيضاوي: دعوا الله مخلصين له الدين لزوال ما ينازع الفطرة من الهوى والتقليد بما دهاهم4 من الخوف الشديد. وقال أيضا على قوله: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أي كائنين في صورة من أخلص دينه من المؤمنين ، حيث لا يذكروا إلا الله ولا يدعون سواه ، لعلمهم بأنه لا يكشف الشدائد إلا هو سبحانه. انتهى.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لحصين بن المنذر: "كم إلها(32/60)
تعبد؟ قال سبعة، ستة في الأرض وواحد في السماء. قال: فمن الذي تعد لرغبتك ورهبتك؟ قال: الذي في السماء"5. ولما أقبل برهة على مكة وهرب أهلها منها خوفا منه
__________
1 تقدم تخريجه ص 125 .
2 أخرجه ابن ماجه ، كتاب الكفارات ، باب النهي أن يقال ما شاء الله وشئت ، حديث 2118 .
3 تقدم تخريجه ص 21 .
4 في "ط" "دعاهم" .
5 تقدم تخريجه ص 48 .
ص -153-
قام عبد المطلب ونفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة، وأخذ عبد المطلب بحلقة باب الكعبة ويقول:
يا رب لا أرجو لهم سواك
يا رب فامنع منهم حماك
إن عدو البيت من عاداك
فامنعهم أن يخربوا قراك(32/61)
وإخبار الله سبحانه عنهم بالإخلاص في الكرب والشدائد كاف. فيا سبحان الله !!
هؤلاء المشركون الذين نزل القرآن بتكفيرهم وإباحة دمائهم وأموالهم للمسلمين يعلمون بقلوبهم ويقرون بألسنتهم بأنه لا يكشف الشدائد إلا الله ويفزعون فيما يهمهم إلى الله وحده ويتركون الوسائط الذين اتخذوهم شفعاء لهم عند الله، قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمْ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [الأنعام:40،41]. وهذا الرجل الذي يسمى عالما يقول: إنه يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم كشف الشدائد وإنه يكشفها. فلولا أنه يقول إنه يكشفها لم يجوز طلب كشفها منه؟ وكان طلب ذلك منه عناء بلا فائدة.
ثم زعم أن الاستغاثة به صلى الله عليه وسلم في الشدائد أمر مشهور معمول به عند الصحابة والتابعين. فنسب إلى خير القرون ما هم أبعد الناس عنه، ويكفي في إبطال شبهه كلها قول الله تعالى: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا} وهذا في حال حياته صلى الله عليه وسلم فكيف الحال بعد الموت ؟
وهو أيضا لم يقتصر على النبي صلى الله عليه وسلم كما قرر في أوراقه هذه أن الله أمر بطلب الحاجات من الأموات وأنهم أحياء في قبورهم، مع ما ضم إلى ذلك من دعواه إثبات التصرف المطلق للنبي وغيره في يوم القيامة، ودعواه علم الغيب للنبي صلى الله عليه وسلم، وما تضمنه كلامه من الكذب على الله وعلى رسوله وعلى
ص -154-(32/62)
العلماء كما بيننا بعض ذلك فيما تقدم، وكذا ما في كلامه من التناقض والمعارضة الصريحة لكلام الله ورسوله، ثم العجب ممن تلقى كلامه بالقبول ولا رأوا بعض ما فيه من الفضائح التي ينكرها العامي سليم الفطرة، ولكن الأمر كما قيل باطل وافق هوى، والهوى يعمي ويصم. ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
ولنختم هذا الجواب بتلخيص فصل من "إغاثة اللهفان" لشمس الدين ابن القيم - رحمه الله تعالى - قال بعد كلام سبق: ومن جمع بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور وما أمر به وما نهى عنه وما كان عليه أصحابه وبين ما عليه أكثر الناس اليوم رأى أحدهما مضادا للآخر مناقضا له، بحيث لا يجتمعان أبدا.
فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة إلى القبور، وهؤلاء يصلون عندها!!
ونهى عن اتخاذها مساجد، وهؤلاء يبنون عليها مساجد ويسمونها مشاهد مضاهاة لبيوت الله!! ونهى عن إيقاد السرج عليها، وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل عليها!! ونهى أن تتخذ عيدا، وهؤلاء يتخذونها أعيادا ويجتمعون أياما كاجتماعهم للعيد أو أكثر!! وأمر بتسويتها كما روي مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي قال قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه "ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته"1. وفي صحيحه عن ثمامة بن شفي قال: كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم برذوذس، فتوفي صاحب لنا . فأمر فضالة بقبره فسوي. ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها2. وهؤلاء يبالغون في مخالفة هذين الحديثين ويرفعونها من الأرض كالبيت، ويعقدون عليها القباب!! ونهى عن تجصيص القبر وأن يقعد عليه وأن يبني عليه، ونهى عن(32/63)
__________
1 أخرجه مسلم ، كتاب الجنائز ، باب الأمر بتسوية القبر ، حديث 2240 .
2 أخرجه مسلم ، كتاب الجنائز ، باب الأمر بتسوية القبر ، حديث 2239 .
ص -155-
الكتابة عليها كما روى أبو داود في سننه عن جابر أنه صلى الله عليه وسلم "نهى أن تجصص القبور وأن يكتب عليها"1 . قال الترمذي حديث حسن صحيح، وهؤلاء يتخذون عليها الألواح ويكتبون عليها القرآن وغيره!! ونهى أن يزاد عليها غير ترابها كما روى أبو داود من حديث جابر أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهى أن يجصص القبر ويكتب عليه أو يزاد عليه"2 وهؤلاء يزيدون عليه سوى التراب الآجر والأحجار والجص.
إلى أن قال: فانظر إلى هذا التباين العظيم بين ما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصده من النهي عما تقدم ذكره في القبور وبين ما شرعه هؤلاء وقصدوه.
ولا ريب أن في ذلك من المفاسد ما يعجز العد عن حصره.
فمنها تعظيم الموقع في افتتان بها من العكوف عليها والمجاورة عندها وتعليق الستور عليها وسدانتها3، وعبادها يرجحون المجاورة عندها على المجاورة عند البيت الحرام ، ويرون سدانتها أفضل من خدمة المساجد والويل عندهم لقيمها ليلة يطفأ القنديل المعلق عليها.
ومنها النذر لها ولسدنتها.
ومنها اعتقاد المشركين بها أن بها يكشف البلاء وينصر على الأعداء ويستنزل غيث السماء وتفرج الكربات وتقضى الحوائج وينصر المظلوم ويجار الخائف إلى غير ذلك.
ومنها الدخول في لعنة الله ورسوله باتخاذ المساجد عليها وإيقاد السرج.
ومنها الشرك الأكبر الذي يفعل عندها.
__________
1 أخرجه الترمذي ، كتاب الجنائز ، باب ما جاء في كراهية تجصيص القبور والكتابة عليها ، 1052 .
2 أخرجه أبو داود ، كتاب الجنائز ، باب البناء على القبور ، حديث 3226 .
3 في "ط" "وسدانتها" .
ص -156-(32/64)
ومنها إيذاء أصحابها بما يفعله المشركون بقبورهم، فإنهم يؤذيهم ما يفعل عند قبورهم، ويكرهونه غاية الكراهة.
ومنها مشابهة اليهود والنصارى في اتخاذ المساجد والسرج عليها.
ومنها محادة الله ورسوله ومناقضة ما شرعه فيها.
ومنها إماتة السنن وإحياء البدع.
ومنها أن الذي شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم عند زيارة القبور إنما هو تذكر الآخرة والإحسان إلى المزور بالدعاء له والترحم عليه والاستغفار له وسؤال العافية له.
فيكون الزائر محسنا إلى نفسه وإلى الميت. فقلب هؤلاء المشركون الأمور1 وعكسوا الدين وجعلوا المقصود من الزيارة الشرك بالميت ودعاءه والدعاء به وسؤاله حوائجهم واستنزال البركات منه ونصره لهم على الأعداء ونحوذلك فصاروا مسيئين إلى نفوسهم وإلى الميت.
فاسمع الآن زيارة أهل الإيمان التي شرعها الله على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم وازن بينها وبين زيارة أهل الشرك التي شرعها لهم الشيطان واختر لنفسك.
قال عائشة رضي الله عنها "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان ليلتي منه يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين وأتاكم ما توعدون، غدا مؤجلون وإنا إن شاء الله بكم لاحقون. اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد"2 رواه مسلم في صحيحه.
وعنها أيضا: "أن جبريل أتاه فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم. قالت: قلت كيف أقول يا رسول الله قال: "قولي السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين،
__________
1 سقطت " الأمور" من "ب" .
2 أخرجه مسلم ، كتاب الجنائز ، باب ما يقال عند دخول القبر والدعاء لأهلها ، حديث 2253.
ص -157-(32/65)
وإنا إن شاء الله بكم للاحقون"1.
وفي صحيحه أيضا عن سليمان ابن بريدة عن أبيه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا: السلام على أهل الديار - وفي لفظ - السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون نسأل الله لنا ولكم العافية"2 .
وعن بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" كنت نهيتكم عن زيارة القبور فمن زارها فليزر ولا تقولوا هجرا"3 رواه الإمام أحمد والنسائي.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى الرجال عن زيارة القبور سدا للذريعة فلما تمكن التوحيد في قلوبهم أذن لهم في زيارتها على الوجه الذي شرعه ونهاهم أن يقولوا
هجرا. فمن زارها على غير الوجه المشروع الذي يحبه الله ورسوله فإن زيارتها غير مأذون فيها. ومن أعظم الهجر الشرك عندها قولا وفعلا.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"زوروا القبور فإنها تذكر الموت" وعن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكر الآخرة"4 رواه
أحمد.
وعن ابن عباس قال: "مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور المدينة فأقبل عليهم
__________
1 أخرجه مسلم ، كتاب الجنائز ، باب ما يقال عند دخول القبر والدعاء لها حديث 2254 .
2 أخرجه الإمام أحمد في المسند "5 / 448" والنسائي ، كتاب الجنائز ، باب زيارة القبور حديث 2032.
3 أخرجه مسلم ، كتاب الجنائز ، باب استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل في زيارة قبر أمه حديث 2256 .
4 أخرجه الإمام أحمد في المسند "1 / 179" .
ص -158-(32/66)
فقال: السلام عليكم يا أهل القبور يغفر الله لنا ولكم أنتم لنا سلف1 ونحن بالأثر"2 رواه أحمد والترمذي وحسنه.
وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروا القبور فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة"3 رواه ابن ماجه.
وروي الإمام أحمد عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزورها فإن فيها عبرة"4 .
فهذه الزيارة التي شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته وعلمهم إياها، هل تجد فيها شيئا مما يعتمده أهل الشرك والبدع أم تجدها مضادة لما هم عليه من كل وجه؟
وما أحسن ما قال الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها. ولكن كلما ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم، ونقص إيمانهم عوضوا عن ذلك بما أحدثوه من البدع والشرك.
ولقد جرد السلف الصالح التوحيد وحموا جانبه حتى كان أحدهم إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم أراد الدعاء استقبل القبلة وجعل ظهره إلى جدار القبر ثم دعا.
قال سلمة بن وردان: رأيت أنس مالك يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يسند ظهره إلى جدار القبر ثم يدعو.
ونص على ذلك الأئمة الأربعة: أنه يستقبل القبلة وقت الدعاء حتى لا يدعو عند القبر فإن الدعاء عبادة، وفي الترمذي وغيره "الدعاء هو العبادة"5 فجرد السلف الصالح العبادة لله، ولم يفعلوا عند القبور منها
__________
1 سقطت "أنتم لنا سلف" من الحديث في "ب" و "ط" .
2 أخرجه الترمذي ، كتاب الجنائز ، باب ما يقول الرجل إذا دخل المقابر حديث 1053 .
3 أخرجه ابن ماجه ، كتاب الجنائز ، باب ما جاء في زيارة القبور ، حديث 1571 .
4 أخرجه الإمام أحمد في المسند "3 / 47" .
5 تقدم تخريجه ص 92 .
ص -159-(32/67)
إلا ما أذن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من السلام على أصحابها والاستغفار لهم والترحم عليهم.
وبالجملة فالميت قد انقطع عمله فهو محتاج إلى من يدعو له ويشفع له.
ولهذا شرع في الصلاة عليه من الدعاء له وجوبا أو استحبابا ما لم يشرع مثله في الدعاء للحي.
قال عوف بن مالك "صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة فحفظت من دعائه وهو يقول: "اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه وأكرم نزله ووسع مدخله واغسله بالماء والثلج والبرد ونقه من الخطايا كما ينقي الثوب الأبيض من الدنس وأبدله دارا خيرا من داره وأهلا خيرا من أهله وزوجا خيرا من زوجه وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر ومن عذاب النار". حتى تمنيت أن أكون أنا الميت لدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك الميت"1 رواه مسلم.
وقال أبو هريرة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في صلاته على الجنازة: "اللهم أنت ربها وأنت خلقتها وأنت هديتها للإسلام وأنت قبضت روحها وأنت أعلم بسرها وعلانيتها، جئنا شفعاء فاغفر له"2 رواه أحمد.
وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء"3.
وقالت عائشة وأنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه"4 رواه مسلم.(32/68)
__________
1 أخرجه مسلم ، كتاب الجنائز ، باب الدعاء للميت في الصلاة حديث 2229 .
2 أخرجه الإمام أحمد في المسند "2 / 338" وأبو داود ، كتاب الجنائز ، باب الدعاء للميت حديث 3200، وضعفه العلامة الألباني ، انظر ضعيف أبي داود رقم 703 .
3 أخرجه أبو داود ، كتاب الجنائز ، باب الدعاء للميت ، حديث 3199 . وابن ماجه ، كتاب الجنائز ، باب ما جاء في الدعاء في الصلاة على الجنازة ، حديث 1497 . وصححه المحدث العلامة الألباني انظر أحكام الجنائز ص 156 .
4 أخرجه مسلم ، كتاب الجنائز ، باب من صلى عليه مائة شفعوا فيه ، حديث 2195 .
ص -160-(32/69)
وعن ابن عباس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئا إلا شفعهم الله فيه" رواه مسلم1.
فهذا مقصود الصلاة على الميت وهو الدعاء والاستغفار والشفاعة فيه. ومعلوم أنه في قبره أشد حاجة على نعشه، فإنه حينئذ معرض للسؤال وغيره وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقف على القبر بعد الدفن فيقول: "سلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل"2 فعلم أنه أحوج إلى الدعاء بعد الدفن.
فإذا كنا على جنازته ندعو له لا ندعو به ونشفع له لا نستشفع به، فبعد الدفن أولى وأحرى، فبدل أهل الشرك والبدع قولا غير الذي قيل لهم، بدلوا الدعاء له بدعائه نفسه والشفاعة له بالاستشفاع به، وقصدوا بالزيارة التي شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم إحسانا إلى الميت وإحسانا إلى الزائر وتذكيرا بالآخرة سؤال الميت والإقسام به على الله وتخصيص تلك البقعة بالدعاء الذي هو مخ العبادة، وحضور القلب عندها وخشوعه أعظم منه في المساجد وأوقات الصلوات.
ومن المحال أن يكون دعاء الموتى أو الدعاء بهم3 أو الدعاء عندهم مشروعا وعملا صالحا وتصرف عنه القرون الثلاثة المفضلة بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يرزقه الخلوف الذين يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون.
فهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين وهذه طريقة جميع الصحابة والتابعين لهم بإحسان، هل يمكن بشرا على وجه الأرض أن يأتي عن أحد منهم بنقل صحيح أو حسن أو ضعيف أو منقطع أنهم كانوا إذا
__________
1 أخرجه مسلم ، كتاب الجنائز ، باب من صلى عليه أربعون شفعوا فيه ، حديث 2196 .
2 أخرجه أبو داود ، كتاب الجنائز ، باب الاستغفار عند القبر للميت في وقت الانصراف حديث 3221 وصححه العلامة الألباني .
3 سقطت "والدعاء بهم" من "أ" .
ص -161-(32/70)
كانت لهم حاجة قصدوا القبور فدعوا عندها وتمسحوا بها، فضلا عن أن يصلوا عندها أو يسألوا الله بأصحابها أو يسألوهم حوائجهم؟ فليوقفونا على أثر واحد أو حرف واحد في ذلك، بل يمكنهم أن يأتوا عن الخلوف التي خلفت بعدهم بكثير من ذلك، وكلما تأخر الزمان وطال العهد كان أكثر، حتى لقد وجد في ذلك عدة مصنفات ليس فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن خلفائه الراشدين ولا عن أصحابه حرف واحد من ذلك، بل فيها من خلاف ذلك كثير كما قدمناه في الأحاديث المرفوعة - قال -1 ومن له خبرة بما بعث الله به رسوله وما عليه أهل الشرك والبدع اليوم في هذا الباب وغيره علم أن بين السلف وبين هؤلاء الخلف من البعد أبعد مما بين المشرق والمغرب وأنهم على شيء والسلف على شيء كما قيل:
سارت مشرقة وسرت مغربا
شتان بين مشرق ومغرب
والأمر - والله - أعظم مما ذكرنا.
وقد ذكر البخاري في صحيحه عن أم الدرداء قالت: دخل علي أبو الدرداء مغضبا. فقلت: مالك ؟ فقال: والله ما أعرف فيهم من أمر محمد إلا أنهم يصلون جميعا2.
وروى مالك في الموطأ عن عمر أبي سهيل3 بن مالك عن أبيه أنه قال: ما أعرف شيئا مما أدكت عليه الناس إلا النداء بالصلاة. يعني الصحابة رضي الله عنهم4.
وقال الزهري: دخلت على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي فقلت ما يبكيك ؟ فقال : ما أعرف شيئا مما أدركت إلا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد
__________
1 أي الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى .
2 أخرجه البخاري ، كتاب الأذان ، باب فضل صلاة الفجر جماعة ، حديث رقم 650 .
3 في "أ" "عن عمه أبي سهيل" وفي "ط" عن محمد بن سهيل .
4 أخرجه الإمام مالك في الموطأ "1 / 76" رقم 194 .
ص -162-(32/71)
ضيعت1. ذكره البخاري - وفي لفظ آخر - ما كنت أعرف شيئا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قد أنكرته اليوم.
وقال الحسن البصري: سأل رجل أبا الدرداء فقال: رحمك الله لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان حيا بين أظهرنا هل كان ينكر شيئا مما نحن عليه؟ فغضب واشتد غضبه. فقال: وهل كان يعرف شيئا مما أنتم عليه؟
وقال المبارك بن فضالة: صلى الحسن الجمعة وجلس يبكي. فقيل له: ما يبكيك يا أبا سعيد؟ فقال: تلومونني2 على البكاء !! ولو أن رجلا من المهاجرين اطلع من باب مسجدكم ما عرف شيئا مما كان عليه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنتم عليه إلا قبلتكم هذه3، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
تم الكتاب
__________
1 أخرجه البخاري ، كتاب مواقيت الصلاة ، باب تضييع الصلاة عن وقتها ، حديث رقم 530 .
2 في "أ" "تلومني" .
3 ذكر بعد هذه الجملة ما نصه : آخر ما كشف به المصنف رحمه الله تلبيس داود وشبهاته الواهي ، ولها بقية لم يظفر بها المصنف ، وشبهات داود لا تحتاج إلى رد لمن بقي على فطرته وسلم من الكبر والتعصب ، لأن بطلانها وتناقضها لا يخفى إلا على من أعمى الله قلبه ، ومن يظلل الله فماله من هاد ، ولكن لما تغير كثير من الفطر احتاجت إلى كشف فكشفها الشيخ عبد الله أبا بطين - رحمه الله - أحسن كشف ، وردها أوضح رد ، فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيرا .
ثم غرة جمادى الأولى سنة 1306 ه والحمد لله أولا وآخرا ، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
ص -163-(32/72)
تحفة الطالب والجليس في كشف شبه داود بن جرجيس - عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ (1)
الناشر:
دار العصمة
الطبعة الثانية 1410 هـ/1990م
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله رَبِّ العالمينَ، وصلى اللهُ وسَلَّمَ على نَبيِّنا محمَّدٍ، وآلِه وصحبِه أجمعين، أما بعد.
فإن اللهَ سبحانه نَصَبَ في كلِّ زمانٍ رجالاً يحمونَ شريعتَه، وينصرون ملَّتَه، ويجاهدونَ فيه حقَّ جهادِه، إذا انتهكت حُرُماتُه غَضِبوا غَضَبَ الأَسَد، وإذا سُلِكَ سَبِيْلُه فَرِحُوا فرحَ الوالِد بالولد.
أسبلَ اللهُ عليهم من العلمِ النافع والعملِ الصالح ما أهَّلَهم للقيامِ بهذه المسؤوليةِ العظيمةِ، والمُهَّمةِ الجسيمة.
فاستخدموا هذا السلاحَ الذي أسبلَ اللهُ عليهم أذيالَه في هداية الخلقِ، وإرشادِهم إلى الطَّرِيْقِ السَّويِّ، والنَّهْجِ المَرْضِيّ.
كما استخدموه أيضا في استئصال شبه المنحرفين، والقضاء، على بدع المبتدعين.
وكان مقصودُهم بالردِّ على هؤلاء القيامَ بالمِيْثاقِ الذي أخذه اللهُ تعالى على أهلِ العلمِ في قوله:{وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ}.الآية، والخوفَ من الوقوعِ في جريمةِ كتمِ العلمِ وإخفائه.
وكان من مقصودِهم أيضاً نُصْحُ الأُمَّةِ، والأَخْذُ بِحُجُزِها عن السقوط في المهالك، سواءٌ في ذلك المردودُ عليه منهم أو غيرُه،
ص -5-(33/1)
فالمَرْدُوْدُ عليه بإيضاحِ الحقِّ له، وقِيامِ الحُجَّةِ عليه، وغيرُه بتحذيرِه من اتباعِ الأهواءِ، والسُّقُوطِ في شَرَكِهَا.
قال شيخ الإسلام أبو العباس –رحمه الله تعالى- في وصفِ أهل السُّنَّةِ والجماعةِ، ومرادِهم بالردِّ على المنحرفين:
وأئمةُ السُّنَّةِ والجماعة وأهلُ العلمِ الإيمانِ فيهم العدلُ والعلمُ والرحمةُ، فيعلمون الحقَّ الذي يكونون به موافقينَ للسُّنَّةِ، سالمين من البدعة.
ويعدِلُون على من خَرَجَ منها ولو ظلمهم، كما قال تعال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}.
ويرحمون الخَلْقَ فيريدون لهم الخَيْرَ والهدى والعلمَ، ولا يقصدون الشَّرَّ لهم ابتداءً، بل إذا عاقبوهم، وبينوا خطأهم وجهلهم وظلمهم كان قصدُهم بذلك بيانَ الحقِّ، ورحمةَ الخلقِ، والأمرَ بالمعروفِ، والنَّهي عن المنكرِ، وأن تكون كلمةُ اللهِ هي العليا، وأن يكون الدينُ كلُّه لله ... اهـ من الردِّ على البكري.
وإن من الرِّجالِ الذين هَيَّأَهم الله تعالى، ونَصَبَهم لحفظِ شريعتِه، والقيام عليها: أئمةَ الدَّعْوةِ بنجد، الذين أبلوا بلاءً حسناً في هذا المِضمَارِ، وحَمَوْا ثغوراً للشَّرِيْعة كاد أن يَقْتَحِمها المشركونَ والكُفَّارُ وأنفقوا نفيسَ العمرِ وعزيزَ المالِ في الدعوة إلى التوحيدِ ومُؤازَرَةِ أهلِه الأبرار.
فلا تجد شبهةً منحرفةً أثيرت في وقتِهم إلا وهم لها بالمرصاد، ولا تشكيكاً في الحقِّ إلا وهم لتفنيدِه وتَزْيِيْفِه على أتمِّ استعداد.
ص -6-(33/2)
وهذه الرسالةُ التي هي السادسة من هذه السلسلة الموسومة بـ"سلسلة رسائل وكتب علماء نجد الأعلام"واحدةٌ من عشراتِ الكُتُبِ المَرْمُوْقةِ ببَناَنِ أَئِمَّةِ الدَّعوةِ في الردِّ على أهل البِدَعِ والانْحِرافِ العَقَديِّ.
وهي في نَقْضِ شُبَهٍ أثَارَها رجلٌ جانٍ على نصوص الكتاب والسُّنَّة، يدعى:"داود بن سليمان بن جرجيس".
وقد تصدى لنقضها مؤلفنا العالمُ العَلاَّمَةُ المحقق الجليل الشيخُ عبدُ اللطيف بنُ عبدِ الرحمن بنِ حسن بنِ محمد بنِ عبد الوهاب –رحمهم الله تعالى-في هذه الأوراق الكريمة الثمينة، المسماة:"تُحفةُ الطالبِ والجليس في كشف شُبَهِ داود بنِ جِرْجِيس"1.
ولن أثقل سمعَ القارئِ بِكثرةِ الكلامِ حولَ هذه الرسالةِ ومَضْمُونِها، فأَدَعَه وإيَّاها، ليَعْرِفَ محتواها، ويَطَّلِع على فَحْواَها، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
كتبه
الفقير إلى عفو ربه القدير
عبد السلام بن برجس بن ناصر آل عبد الكريم
غفر الله له ولوالديه وللمسلمين
الرياض-يوم عاشوراء من شهر الله المحرم سنة 1408هـ.
__________
أفاد الشيخ محمد بن عبد العزيز بن مانع في مقدمته لهذا الكتاب:أنه أُلِّف سنة 1291، أي قبل وفاة مؤلفه –رحمه الله تعالى وغفر له- بعامين.
ص -7-(33/3)
النسخ المعتمدة
طبع هذا الكتاب لأول مرة في عام 1305هـ وتعتبر هذه الطبعة في مصاف النوادر من المخطوطات، وبتيسير من الله تعالى وقعت نسخة منها في يد الشيخ محمد بن عبد العزيز المانع، فسعى في طبعها ونشرها، وعرضها على حاكم قطر الشيخ علي بن عبد الله آل ثاني، فسارع –كعادته في المبادرة إلى الخير-بطبعها وقفاً لله تعالى، وذلك سنة 1382هـ.
قال ابن مانع في تقديمه للرسالة:"وقد طبع هذا الرد العجيب سنة 1305هـ ونفدت طبعته، وقَلَّ وجوده حتى نسي، أو كاد أن ينسى، وما زلتُ أبحث عنه لأقوم بإعادة طبعه ...حتى يسَّر الله لنا الوقوف عليه في مكتبة عين من أعيان الحجاز العالم السلفي الفاضل الشيخ محمد بن حسين نصيف، فحين الوقوف عليه، عرضته على أنظار صاحب السمو الشيخ علي بن عبد الله آل ثاني ..فبادر بإصدار أمره العالي بطبعه وقفاً لله تعالى ..."اهـ بتصرف.
وقد صُوِّرت هذه الطبعة على نفقة رئاسة هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمملكة العربية السعودية، وذلك في عام 1402هـ.
كما توجد نسخة ثانية ضمن كتاب الدرر السنية في الأجوبة النجدية"للشيخ العلامة عبد الرحمن بن قاسم –رحمه الله تعالى-.
ص -8-(33/4)
هذا ما وقفت عليه من طبعات الكتاب.
أما نسخ الكتاب الخطية فقد عثرت على ثلاث نسخٍ:
النسخة الأولى:في إحدى المكتبات الخاصة في نجد، وقد عثر عليها الشيخ الفاضل:الوليد بن عبد الرحمن آل فريّان –وفقه الله-وهي نسخة قديمة، حسنة الخطِّ، تقع في اثنين وأربعين ورقة، كتبت من إملاء المؤلف، بقلم:عبد العزيز بن ناصر بن راشد بن تريكي، ولم يذكر عليها تاريخ النسخ.والإشارة إليها بحرف (أ).
النسخة الثانية:محفوظة في "جامعة الملك سعود"رقم (8/ 34)وهي نسخة جيِّدة الخط، تقع في ثمانٍ وعشرين ورقة، لم يذكر عليها اسم الناسخ ولا تاريخ النسخ، وقد سقط منها قرابة ربع الكتاب الأخير، يبدأ السقط من صفحة (104)سطر(14)بعد كلمة:(لم يفهمه كثير)من الطبعة التي بين يديك.والإشارة إلى هذه النسخة بحرف(ب).
النسخة الثالثة:في مكتبة شيخنا المعمَّر:عبد العزيز بن مرشد –حفظه الله-وهي بخط والده الشيخ صالح، كما دَلَّ على ذلك:قلمُه.وتقع في ثمانٍ وثلاثين ورقة.
*****
وقد قابلتُ النسخ الخطية مع طبعة آل ثاني، وأثبت أغلب الفروق بينهُنَّ.
كما خرّجتُ أغلب الأحاديث الواردة في الكتاب.
ووضعت فهارس للموضوعات تبرز مكنون الكتاب ومخبوءه.
والله أسأل التسديد والتوفيق، والهداية لأقوم طريق.
ص -9-(33/5)
(تنبيه)
طبعت هذه الرسالة باسم:"دلائل الرسوخ في الرد على المنفوخ"في طبعتي عام 1382هـ و1402هـ وقد سمّاها بهذا الاسم الألوسي في كتابه"المسك الأذفر"ص 460.وينظر في الطبعة الأولى هل هي بهذا الاسم أم لا.
ونسب الشيخ عبد الرحمن بن عبد اللطيف بن عبد الله آل الشيخ في كتابه "مشاهير علماء نجد"ص75 تسمية هذه الرسالة بهذا الاسم إلى الشيخ محمد بن عبد العزيز بن مانع الذي كان مشرفاً على الطبعة الثانية.
والذي يترجح –والله أعلم-أن الاسم الصحيح هو ما أثبته على ظهر هذه الطبعة، وذلك لأمورٍ منها:
الأول:أنه الاسم المثبت على النسختين الخطيتين "أ"و"ب".
الثاني:أنه الاسم المعتمد عند المترجمين للمؤلف، كما جرى عليه الشيخ العلامة عبد الرحمن بن قاسم في ملحق "الدُّرر"(12/ 71) والشيخ عبد الرحمن آل الشيخ في كتابه "مشاهير علماء نجد"، وعلق في الحاشية قوله:طبع كتاب"تحفة الطالب والجليس"
ص -10-
بعنوان"دلائل الرسوخ في الرد على المنفوخ"والذي سماه بهذا العنوان الشيخ محمد بن عبد العزيز بن مانع.اهـ.قلت:لعل الشيخ ابن مانع أخذ هذه التسمية من كتاب"المسك الأذفر"للألوسي المتوفى عام 1343هـ.
ص -11-
ترجمة المؤلف
*هو الشيخ العالم العلامة الإمام القدوة الفهامة: عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن بن الشيخ حسن بن شيخ الإسلام الإمام محمد بن عبد الوهاب.
ويجمل أن ينشد عند قراءة هذا النسب قول الشاعر:
هو الشيخُ وابنُ الشيخِ والشيخُ جدُّه
فيا حَبَّذا شيخ تناسل من شيخِ(33/6)
*ولد هذا العالم الجليل في مدينة "الدرعية"عام 1225هـ، وكانت آهلة بالعلماء الأجلاء، والطلاب النبغاء، مما أدَّى إلى غرس حبِّ العلم في صدره، حتى شُغِفَ به، وتشوق إليه.وما إن مَرَّ عليه زمن التمييز في هذه البلاد المباركة حتى انقض عليها العدو الغاشم، فأبادها، ونقل معه أعيان الأسرتين الكريمتين:آل سعود، وآل الشيخ، ووضَعَهُما تحت الرقابة في البلاد المصرية، وكان المترجم له أحد المنقولين.
*ترعرع في كنف بيت شامخ في العلم والإيمان، متَحَلٍّ بكرائم الأخلاق، شهرته ملأت الأصقاع، وخيره وبرُّه طرق الأسماع، فأبوه:الشيخ الإمام المجاهد عبد الرحمن بن حسن.ووالدته:بنت الشيخ العلامة عبد الله بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب.
ص -12-(33/7)
فكان لهذا البيت الطاهر أثرٌ فعَّالٌ في تقويم سلوكه،وتهيئته لحمل رسالة العلم والدعوة، مواصلة لسير آبائه وأجداده في ذلك.
*أقام في مصر إقامة طويلة، بلغت واحداً وثلاثين عاماً، قضاها في العلم والمدارسة، حتى لم يدع فَنًّا إلا وأدرك فيه إدراكاً جيداً، لا سيما العلوم التي لم تنتشر في البلاد النجدية.
وكان من مشايخه النجديين:الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب.ووالده الشيخ عبد الرحمن بن حسن.والشيخ أحمد بن حسن بن رشيد الحنبلي.
ومن غير النجديين:شيخ الأزهر الشيخ إبراهيم الباجوري.والشيخ أحمد الصعيدي.والشيخ العلامة محمد الجزائري.
*لما تركتِ الجيوشُ التركية العثمانية بلادَ نجدٍ، وسَكَنَت فتنُ مشاري وعبد الله آل ثنيان، وكان الأمر للإمام فيصل بن تركي، وضعفتِ الرَّقابةُ على النجديين في بلاد مصر، خرج الشيخ عبد اللطيف من مصر متوجهاً إلى بلاد نجد، وكان وصوله الميمون إلى "الرياض"عام 1264هـ.
*فَرِحَ الناسُ بقدومه عموماً، وطلاب العلم خصوصاً، لأنهم وجدوا فيه بغيتهم، ومقصدهم.حيث قدم حاملاً لعلومٍ قلَّ من يتقنها غيرُه في تلك النواحي.
وكان قدومه خيراً وبركة على والده الشيخ عبد الرحمن الذي طعن في السِّنِّ، حيث حمل عنه بعض أعباء التدريس والدعوة والإرشاد.
ص -13-(33/8)
كما كان قدومه –أيضاً- خيراً وبركة على الإمام فيصل بن تركي، حيث وجد فيه العقلية المتكاملة، والمشورة الصائبة، والرأي السديد، مما حمله على الاعتماد عليه في جميع أموره، واصطحابه في الحل والترحال.
*بعد أن مَنَّ الله على الإمام فيصل بفتح الأحساء –وكان مجمع الفساد العقدي-لم يجد كُفْءاً لتقويم هذه البقعة وتطهيرها من مظاهر الشرك والخرافة، غيرَ الشيخ عبد اللطيف، فيعثه هناك معلماً مفتياً داعياً، فناظر علماء الأحساء فيما لديهم من انحراف عن منهج السلف، فاقتنع كثير منهم، وعادوا إلى مذهب السلف، واعترفوا بخطأ منهجهم، وذلك لقوة حجة الشيخ، وبراعته في المناظرات، وفصاحة لسانه، وتحليه بالأخلاق الفاضلة، والآداب السامية.
*وبعد وفاة الإمام فيصل بن تركي –رحمه الله تعالى-وقع بين ابنيه:عبد الله وسعود نزاع كبير على السلطة،جرى بسببه فتن عظيمة، اندلعت نيرانها، وتطاير شررها، وعَمَّ الحاضر والبادِ ضررها.
وكان موقف الشيخ عبد اللطيف منها موقف العالم البصير بعواقب الأمور، والسياسي المحنك المجرَّب في الحروب،حيث بذل قصارى جهده في القضاء على هذه الفتنة، والسعي في حقن دماء المسلمين، وتوحِيد الكلمة، وجمعِ الشمل، ولكن أمر الله نافذ، وقضاؤه حتم، فقد شاء لهذه الفتنة الامتداد، رغم ما بذله العلماء من جهود في سبيل إخمادها(لِّيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً).
ص -14-(33/9)
ومن تأمَّل رسائل الشيخ عبد اللطيف، التي كتبها في هذه الحقبة الزمنية العكرة –وهي أحد عشر عاماً-علم ما كابده الرجل ولاقاه من إرهاق نفسي، وإجهاد بدني، بسبب هذه الفتنة العمياء، فالله يكتب له الأجر والثواب، ويثقل ميزانه يوم الحساب، ويغفر له ولوالديه وللمسلمين أجمعين.
*ومع انشغاله بتسكين الفتنة، والقضاء عليها، فقد أثرى المكتبة الإسلامية بمؤلفات رصينة، تنبئ عن غزارة علمه، وسعة اطلاعه، وفصاحة لسانه، وحريرية بنانه، فمن تلك المؤلفات:
1-تحفة الطالب والجليس في الرد على شبه داود بن جرجيس، وهو هذا.
2-الرد على عثمان بن منصور، المسمى(مصباح الظلام في الرد على من كذب على الشيخ الإمام).
3-البراهين الإسلامية في الرد على الشُّبَه الفارسية.
4-الرد على عبد المحسن الصحافي.
5-شرح نونية ابن القيم، شَرَحَ فيه المقدمة، ثم اخترمته المنية قبل إتمامه.
6-وله رسائل كثيرة، فيها فوائد جليلة، ونوادر بديعة، وقد جمعها الشيخ سليمان بن سحمان، وطبعت في مجلد كبير.
7-له قصائد كثيرة، قيلت في مناسبات مختلفة، منها ما هو في الرد على أهل البدع والانحراف العقدي ومنها ما هو في الإخوانيات.
ص -15-
*تتلمذ على يده نخبة من طلبة العلم، أصبحوا فيما بعد قضاة، وعلماء، ودعاة، فممن تتلمذ عليه:
1-ابنه الشيخ عبد الله.
2-الشيخ سليمان بن سحمان.
3-الشيخ العالم الفقيه النحوي:محمد بن محمود.
4-الشيخ حمد الفارس.
5-الشيخ العلامة الفاضل:أحمد بن عيسى.
6-الشيخ المجاهد الباسل:صالح بن قرناس.
7-الشيخ صالح الشثري.
8-الشيخ حسن بن حسين آل الشيخ.
*توفي مأسوفاً على فقده في "الرياض"في اليوم الرابع عشر، من شهر ذي القعدة، عام 1293هـ، وله من العمر يومئذ ثمانية وستون عاماً.رحمه الله تعالى وغفر له، وأسكنه فسيح
ص -16-
تقاريظ الكتاب1
قد قرظ هذا الكتاب جملة من الأفاضل الأدباء؛ منهم: عبد القادر أفندي البغدادي الحنفي النقشبندي القادري، وذلك بقوله:(33/10)
عبد اللطيف جزاهُ الله خالقنا
يومَ الجزاء بأجرٍ غير ممنونِ
هو الهمام الذي شاعت فضائلهُ
في الشرق والغرب من نجدٍ إلى الصينِ
بحرٌ من العلم يبدي من معارفهِ
بديعَ دُرٍّ عزيز القدر مكنونِ
حَمى طريقَ رسولِ الله عن شبهٍ
منسوبة لجهول غير مأمونِ
وساوس وأقاويل ملفقة
كأنها بعض أقوال المجانينِ
ظن ابن برجيس من جهل ومن سفهٍ
لم يبقَ في الناس ذو علمٍ وتمكينِ
فقال ما قال من زورٍ ومن كذبٍ
مزخرف قد تبدَّى غير موزونِ
ولم يكن يغني عنهُ الظنّ فانعكست
ظنونهُ في مجالٍ غير مظنونِ
إذ ردَّهُ ناكصاً يدعو النجاء على
أعقابِه خسر الدنيا مع الدينِ
إن ابن جرجيسَ برذون وذا أسدٌ
وهل تقاس أسود بالبراذينِ
"دلائل" أشرقت كالشهب أرسلها
عبد اللطيف رجوماً للشياطينِ
جزاهُ مولاهُ عنا كل صالحةٍ
من جنة الخلد في يوم الموازينِ
__________
1 هذه التقاريظ موجودة في طبعة آل ثاني فقط. ولعلها مأخوذة من الطبعة الأولى، المطبوعة عام 1305هـ.
ص -17-
وقال حضرة العالم العلامة، والنحرير الفهامة، مولانا الأستاذ السيد مصطفى أفندي، مفتي السادة الحنفية، في مدينة الحلة، الشهير بواعظ زاده:
أدين الله بجميع ما في هذا الكتاب، الحاوي لكل معنى منيف، وأبرأُ إليه تعالى من الاعتقادات الفاسدة، والأقاويل الزائفة عن الحق، العارية عن كل فائدة، وأنزههُ سبحانهُ عما تقوّلهُ أهل الأباطيل، وعلَّلوه بتعليل عليل، وأشكر فضل من أنشأ هذه الفوائد الدينية، والقواعد الإسلامية.فجزى الله العلماء العاملين عن الإسلام والمسلمين خيراً، ورزقهم الأمن والأمان والبشرى في الحياة الدنيا والآخرة، والحمد لله أولاً وآخراً، وباطناً وظاهراً.
وأنا الفقير إليه عَزَّ شأْنه:السيد مصطفى نور الدين ابن المرحوم السيد محمد أمين الواعظ.غفر الله لهما آمين.
ص -18-(33/11)
وقال المولى البارع، ذو النور الساطع، والفضل الناصع، الفاضل الأمجد، الشيخ أحمد، سلَّمه الفرد الصمد:
نحمدك اللهمَّ على أن جعلت لهذا الدين من العلماء العاملين أنصاراً وأعواناً، ووفقتهم للذود عن سنة سيد المرسلين، والشرع المتين سرًّا وإعلاناً، فجرَّدوا قواضب ألسنتهم لقطع ألسنة المبتدعين، وحَدُّوا أسنة أقلامهم لسرد شبه الملحدين، فكانوا أعظم شأناً وأعلى برهاناً.
ونصلي ونسلم على نبيك ورسولك وصفيك وأمينك، الذي ختمتَ به الرسالة، وأزلتَ بنوره ظلمة الضلالة، ورفعتَ ببعثتهِ الجهالة، بعد أن هلك الناس كفراًَ وطغياناً، فكسر الأصنام، وأزاح الطغيان، وقل الآثام، وقمع الأوثان، فبدل العصيان إذعاناً، وأحال الشرك إيماناً، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله الذين اتبعوا أَثَرَهُ، وساروا سيرَه، وحفظوا سنَّتَهُ، ونصروا ملَّتَهُ، فارتفع بهم الشرع بنياناً، وقوي الدين أركاناً.
وعلى أصحابه الراشدين الهادين المهديين، الذين هم نجوم الاهتداء، وبدور الاقتداء، جزاهم الله سبحانه وتعالى عن المسلمين خير الجزاء، وأثابهم إنعاماً وإحساناً، وبَوَّأهم من فضله غرفاً وجناناً.
أما بعد:
فقد نظرت في عبارات هذا الكتاب نظرَ ناقد، وتأمَّلْتُ مقاصده فصلاً بعد فصل، وباباً بعد باب تأمُّلَ قاصد، وقلبتُ ما فيه ظهراً لبطن، وفنًّا بعد فَنٍّ، فألفيته قد اشتمل على فصل الخطاب،
ص -19-(33/12)
وأصاب عين الصواب، وتميز بالحق عند أولي الألباب، فما مولى أحكم ترصيفه، وأجاد تصنيفه، وأبدع تأليفه، ووضع أركانه، ورفع وأعلى شأنه، إلا رجل عَضَّ على الشريعة بالنواجذ، وحملته غَيْرَتُه الإسلامية على رد ملحد مبتدع نابذ، قد لعب بعقله الشيطان، وسلك به كل فج من العصيان، فكتب أوراقاً تشتمل على خرافات من البدع والضلالة، وتحتوي على تُرَّهاتٍ تنادي على صاحبها بالسفه والجهالة، ثم نشرها على ضعفاء العوام ليضلهم بها عن سنة خير الأنام –عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام- ترويجاً لمذهبه الفاسد، واعتقادِه الكاسد، وطلباً لتحصيل أمانيه الدنيوية، وحظوظه الحيوانية، ظنًّا منه أن الشريعة المطهرة قَلَّت أنصارها، وأظلم منارها، واستقلَّت ركابها، وعزَّ طلاّبها، وذَلَّت أسودها، واشتبهت حدودها،ولم يدرأنها محاطة بأبطال يضيق عنهم المجال، وتُسَدُّ بهم الخِلال، إذا قارعوا قرعوا، وإن صارعوا صرعوا، وإن حوربوا حربوا، وإن نوزلوا سلبوا، دروعهم كتاب الله، وأسنتهم سنة رسول الله، لسانهم سنان، وسنانهم لسان، وسلاحهم طاعة وإيمان.
فقيّض الله لردّه مؤسس هذا الكتاب، ومجري ينابيع هذا البحر العباب، والفاضل الذي شهدت بكماله فضلاء البلاد، وعمَّت فضائله كل ناد، العالم العامل البدر الذي يقصر عن مجاراته كل متطاول، الورع الزاهد، والتقي العابد، وطود القلم الشامخ، وركن المجد الباذخ، صاحب التصانيف المفيدة، والتآليف العديدة، الشيخ عبد اللطيف الحنبلي، غمره المولى عَزَّ وَجَلَّ بلطفه الجليل الجلي، فَرَدُّهُ
ص -20-
بهذا الرد الحقيق بالقبول، المرضي عند ذوي العقول، فهو للمسلمين ترياق نافع، وللمبتدعين سُمٌّ ناقع، جزى الله تعالى مؤلفه خير الجزاء، وسلك به سبيل الصلحاء، وجعلنا ممن اقتفى أثر النبي صلى الله عليه وسلم، واتبع سنته، وصَيَّرَنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.(33/13)
ص -21-
وقال الفاضل، والعالم العامل، جناب علي أفندي، المدرس بمدينة البصرة:
لاح نور الهدى وزال الضلال
ودهى الشركَ والعنادَ زوالُ
وتجلت شمس الكمال عيانًا
بعد ما كان دونها أظلال
ورياض التوحيد جاد رُباَها
من سما الحق عارض هطالُ
ويد الجهبذ المحقق للحق
الإمام المهذَّب المفضالُ
والهِزَبْر الهمام والعالم النحـ
ـرير مَنْ عنده تنتهي الآمالُ
ذاك عبد اللطيف كنز المعالي
هو بحر للعلم بحر زُلالُ
أَحْكَمَتْ1 للورى "دلائل" قصد
صار فيها على الهدى استدلالُ
رسخت في قلوب قوم هداة
وذوو الزيغ عن هنالك زالوا
رفعت عن عيوننا كل غبن
وبها زال داء شرك عضالُ
ولها مبتغي الهدى فليبادر
فلها ساغ أن تُشَدَّ الرِّحالُ
__________
1 أي يد الجهبذ.
ص -22-
نماذج من النسخ الخطية
ص -23-
الورقة الأولى من نسخة الشيخ ابن مرشد24
ص -24-
الورقة الأخيرة من نسخة الشيخ ابن مرشد
ص -25-
الورقة الأولى من نسخة جامعة الملك سعود
ص -26-
الورقة الأخيرة من نسخة جامعة الملك سعود
ص -27-
الورقة الأولى من نسخة (أ).
ص -28-
الورقة الأخيرة من نسخة (أ)
ص -29-(33/14)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي يقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق.أرسل الرسل وأنزل الكتب لتأصيل الأصول وتحقيق الحقائق، فقامت حجة الله على المكلَّفين من الخلائق.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة مخلص لله صادق.
وأشهد أن محمداًَ عبده ورسوله المبعوث بأحسن الملل والطرائق، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين قاموا بجهاد كل فاسق1 ومنافق.
أما بعد:
فقد وقفت على أوراق أرسلها بعض أهل العراق2 إلى بعض
__________
1 في طبعة آل ثاني:"كافر".
2 في طبعة آل ثاني:"أرسلها الملا داود بن سليمان الجرجيس العاني العراقي".
قلت:هو الداعية إلى الزَّيْغ والضلال، القائد زمام الفساد والانحلال، المصرح باستحباب صرف العبادة لغير الله الكبير المتعال، والمنفّق سلعته بالكذب والزور والتلبيس، داود بن سليمان بن جرجيس، المولود ببغداد عام 1231هـ الهالك بها عام 1299هـ.
ألف رسالته البتراء"المنحة الوهبية"ملأها بالاعتقادات الفاسدة الشركية، وشانها بالسب والطعن في أهل السنة النبوية، وأكثر فيها من النقول المكذوبة والمبتورة على
ص -31-(33/15)
أصحابنا، ورأيت1 فيها من الصد عن سبيل الله، والدعوة إلى عبادة الأولياء والصالحين، ودعائهم، والحثِّ على قصدهم في الملمات والشدائد، والإلحاد في آيات الله، وتحريف الكلم عن مواضعه، ما لا يتسع السكوت عليه.
فإن الله تعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وأمر بجهاد الكفار والمنافقين بالحجة والبيان، كما أمر بجهادهم باليد والسنان.
__________
شيخ الإسلام ابن تيمية.
فلما أعلن الحرب على التوحيد وأنصاره وأعوانه، والموالاة للشر وأتباعه وكُهَّانه، تصدى له أئمة العلم والهدى، وشموس الحق والتقى، فألَّفوا الردود المطوَّلة والمختصرة في نقض شبهه وتضليله، وبيان كذبه وافترائه وتزويره، فانجلى للناس بهذه الردود حقيقة أمره، وسوء مغزاه ومكره.فلله الحمد على إعزاز دينه وأوليائه، وخذل الشرك وأهله وأعوانه.فممن ردَّ عليه الشيخ العلامة عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين بكتابه "الانتصار لحزب الله الموحدين والرد على المجادل عن المشركين"وبكتاب آخر أسماه "تأسيس التقديس".
وردَّ عليه الشيخ العالم العلامة عبد الرحمن بن حسن بكتاب اسمه "كشف ما ألقاه إبليس من البهرج والتلبيس على قلب داود بن جرجيس".وردَّ عليه ابنه العلامة الجليل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بكتاب أوسع من الكتاب الذي بين يديك أسماه "منهاج التأسيس والتقديس في كشف شبهات داود بن جرجيس"ولكن المنية اخترمته قبل إتمامه، فتصدى لإكماله العلامة الفاضل السيد محمود شكري الألوسي بكتاب سماه "فتح المنان".وردَّ عليه الشيخ أحمد بن عيسى بكتاب سماه "الرد على شبهات المستعينين بغير الله".وردَّ عليه علامة العراق السيد نعمان الألوسي بكتاب سمّاه "شقائق النعمان في ردّ شقاشق داود بن سليمان".
1 في طبعة آل ثاني:"فرأيت".
ص -32-(33/16)
قال تعالى: {وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا}.[الفرقان:52].وقال تعالى:{وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.[آل عمران:104]، وقال تعالى:{وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ}.[الحج:78]، وقال تعالى:{فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ}.[هود:116].
قال ابن كثير1:(يقول تعالى:فهلا وجد من القرون الماضية من أهل الخير، ينهون عما كان يقع بينهم من الشرور والمنكرات والفساد في الأرض.
وقوله:{إِلاَّ قَلِيلاً}أي قد وجد منهم من هذا الضرب قليل، وهم الذين أنجاهم الله عند حلول غِيَرِه2، وفجأة نقمته، ولهذا أمر الله تعالى هذه الأمة الشريفة أن يكون فيها من يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر.
وقوله:{وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ}أي استمروا على ما هم فيه3 من المعاصي والمنكرات، ولم يلتفتوا إلى إنكار أولئك، حتى فجأهم4 العذاب).
__________
1 في تفسيره:2/ 464 طبعة الحلبي.
2 في ابن كثير:"غضبه"والغِير –بالكسر-هي الحوادث والنكبات.
3 في تفسير ابن كثير:"عليه".
4 في طبعة آل ثاني:"فاجأهم".
ص -33-(33/17)
وقال أبو السعود1:(أولو2 بقية من الرأي والعقل أولو2 فضل، وخير.وسمِّيا بها لأن الرجل إنما يستبقي مما يخرجه عادة أجوده وأفضله.ومن قولهم:في الزوايا خبايا، وفي الرجال بقايا.انتهى).
وقد ينتفع بهذا من أراد الله هدايته، واستعماله فيما يرضيه، من توحيده، وطاعته، ولو سبق منه رده والصد عنه.قال الله تعالى: {عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً}.الآية [الممتحنة:7].
وما أحسن ما قيل:
أَبِن وجه نورِ الحقِّ في صدرِ سامعٍ
ودعه فنورُ الحقِّ يَسْرِي ويُشْرِقُ
سيؤنِسُه يوماً وينسى نفارَه
كما نسي التوثيقَ من هو مطلقُ
__________
1 تفسير أبي السعود 4/ 246 طبعة دار المصحف.
2 في النسخ الخطية:"ألوا".
ص -34-(33/18)
فصل:
قال العراقي في "رسالته":(اعلم أني ووالدي وجدي1 بيت علم، وعقيدتنا عقيدة السلف، وليس الآن في بغداد من هو على مذهب الإمام أحمد غيري، وأنا تابع لأقوال الشيخين ابن تيمية وابن القيم).
والجواب أن يقال:مذهبك وعقيدتك وما أنت عليه قد اشتهر وعرف من رسائلك، وسُمِعَ منك شفاهاً,ونقله العدول، ولم يزل يتواتر من وقت قدومك الجبل، والقصيم، واجتماعك بالشيخ عبد الله أبا2 بطين، وما وقع بينكما من المناظرة في مسمي العبادة وغيرها، كل ذلك وصل إلينا، وتواتر لدينا، واستفاض استفاضةً3 تورث علماً ضرورياً أنك داعية إلى دعاء الصالحين والأولياء، وندائهم بالحوائج,والاستغاثة بهم في الملمَّات والشدائد، وأن ذلك لديك مستحب وارد,وأن من كفَّر من يعبد الصالحين فهو مخطئ ضال، وأنه لا يكفر ولا يشرك إلا من دعاهم استقلالاً، وزعم أنهم الفاعلون المدبرون، وأما على وجه الجاه والشفاعة فذلك عندك ليس بشرك ولا كفر.
__________
1 في طبعة آل ثاني:"وجدي ووالدي".
2 في طبعة آل ثاني:"أبي بطين"والصواب:أنها منصوبة على الحكاية، فتنبه.
3 في النسخ الخطية:"استفاظ استفاظة".
ص -35-(33/19)
كل هذا ثبت لدينا قَبْل هذه الرسالةِ الأخيرة، فلما وقفنا على ما فيها، وتأملنا خافيها وباديها، إذا هي على المذهب الذي حكينا، والطريقة التي عرفنا وروينا، بل فيها من الزيادة في الكذب على الله وكتابه، والكذب على أهل العلم في نقل مذاهبهم، وتحريف كلامهم، ما لا يصدر عَمَّن تصور الإسلام وعرفه، وآمن بالله واليوم الآخر، بل لا يصدر عَمَّن له عقل يحسن أن يعيش به. فنعوذ بالله من الجهالة والعمى، والضلال عن سبل الإيمان والهدى.
ونسبة هذا إلى الإمام أحمد وإلى الشيخين كنسبة اليهودية والنصرانية إلى إبراهيم، أو إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وخواص أصحابه، وأهل ملَّته.
نزلوا بمكةَ في قبائلِ هاشمٍ
ونزلت بالبيداءِ أبعدَ منزلِ
والمؤمن يعرف هذا بمجرد إيمانه، ولا يختص بمعرفة أولو1 العلم.وأما تبرئتك نفسك من الحلف بغير الله، فمسألة الحلف لو سُلِّمت لك البراءة منها دون ما أنت عليه بكثير، فإن من استحب دعاء غير الله، وألحد في آياته، وصد عن سبيله:أعظم إثماً، وأكبرجرماً، ممن يحلف بغيره.
وأما ما زعم العراقي من أنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فالمعروف في عرفه هو:دعاء الصالحين، ونداؤهم2 بالحوائج.
__________
1 في النسخة الخطية:"ألوا".
2 في النسخ الخطية:"ندائهم".
ص -36-(33/20)
وهذا عند الله ورسوله، وعند أولي العلم من خلقه أكبر الكبائر على الإطلاق، كما جاء في حديث ابن مسعود قال:قلت:يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال:"أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك"1.
وهذا العراقي صرح بأنه يجوز نداؤهم2، [أعني نداء الأنبياء والصالحين، بل والجمادات –كما هو مشهور عنه، لكن يسميه توسلاً، خالف المشركين في التسمية، لا في الحقيقة، فيدعو الغير، ويرجوه]3 في كل مطلوب، على وجه الجاه والتسبب، وهذا حقيقة الشرك والتنديد.
والمنكر في عرفه هو:النهي عن هذا، وعن تكفير أهله، ولهذا صرح في هذه الرسالة بأنه ينصح عن4 تكفير هذا الضرب من الناس، ويزعم أن لهم نيَّات صالحة، ومقاصد صحيحة، فظهر أنه رأس من دعا إلى المنكر، وسعى في هدم5 المعروف، ومحو آثاره.
__________
1 أخرجه البخاري في "صحيحه":كتاب التفسير -8/ 163-492، وفي الأدب -10/ 433، وفي الحدود -12/ 114، وفي الديات -12/ 187، وفي التوحيد -13/ 491-503.
وأخرجه مسلم في "صحيحه":كتاب الإيمان -1/ 90-91، كلاهما من طريق أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل عن ابن مسعود ...به.
2 في النسخ الخطية:نداؤه.
3 ما بين المعقوفتين سقط من النسخ الخطية.
4 في طبعة آل ثاني:"عن عدم تكفيره".
5 في طبعة آل ثاني:"عدم".
ص -37-(33/21)
وأي معروف يبقى مع دعاء غير الله، وأي منكر يزجر عنه وينهى لو كانوا يعلمون؟؟
قال تعالى: { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}. [الكهف:103-104].
وأصل الإسلام وقاعدته:أن لا يعبد إلا الله، وأن لا يُعبد إلاَّ بما شرع.
وهذا وأمثاله من أجهل الناس بهذا الأصل، وأضلهم عن هذا السبيل، بل هم أعظم الناس صدًّا عنه، وردًّا له، وعيباً لأهله. والمخلصُ عندهم1، الداعي إلى توحيد الله، وإخلاص العبادة له:خارجي مبتدع، كما صرح بع في رسالته الأولى، وزعم أن هذا دين الخوارج، وأن من كفر بدعاء غير الله فهو ممن يكفر أهل القبلة بالذنوب، وأكثر هؤلاء لا يقتصرون على نسبة أهل التوحيد إلى الخوارج والبدعة، بل يصرحون بتكفيرهم، واستحلال دمائهم وأموالهم.والله المستعان.
قال العراقي:(ولكنا لا نكفر الناس بهذه الأشياء، لأنا اطلعنا على كتاب الله وسنة رسوله، وكذا وكذا).
فيقال:أبْعد الخلق عن كتاب الله، وسنة رسوله، هم أهل الاعتقادات
__________
1 في طبعة آل ثاني:"والمخلص الداعي ...عندهم".
ص -38-(33/22)
الباطلة، وأهل الغلو في الأنبياء، والأولياء، و1الصالحين، وهم أضل خلق الله عما جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب، وإن ورثوا الكتاب، ودرسوه، فإن الوراثة والدراسة والاطلاع نوعٌ، والعلم به والإيمان والعمل، ومعرفة حقائقه ونصوصه نوعٌ آخر.قال تعالى:{وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا}.[الأنعام:25].وقال تعالى:{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا}.[الجمعة:5].
وفي الحديث الذي في وصف الخوارج:"يقرؤون2 القرآن لا يجاوز حناجرهم، هم شر قتلى تحت أديم السماء"3.
فالعلم والكتاب إذا لم يَخْلُصْ إلى القلوب فهو حجة على ابن آدم.
ويقال:كتاب الله، وسنة رسوله، وأقوال أهل العلم صريحة متوافرة متظاهرة على تكفير من دعا غير الله، وناداه بما لا يقدر عليه إلا الله، قال تعالى:{وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ}.[يونس:106]. وقال تعالى:{قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً}.[الإسراء:56].
والقرآن كلُّه دالٌّ على هذا المعنى، مقرر له، وإن اختلفت
__________
1 في طبعة آل ثاني:"والأولياء الصالحين".
2 في النسخ الخطية:"يقرؤن".وفي طبعة آل ثاني:"يقرأون".
3 تقدم تخريجه في الرسالة الأولى:ص 47.
ص -39-(33/23)
الطرق والأوجه في بيانه، والتنبيه عليه، فكيف ينسب جواز دعاء غير الله، وعدم تكفير فاعله إلى القرآن وإلى السنة؟؟
وهل يقول هذا من يعرف ما جاءت به الرسل ويتصوره، فضلاً عَمَّن يؤمن به؟
والمشركون الأولون يعترفون للرسل وأتباعهم أنهم دعاة إلى التوحيد، وإخلاص العبادة والدعاء لله، وإنما نازعوا في تصديقهم، وقبول ما جاؤوا به.
وهذا الذي يزعم أنه اطلع على كتاب الله لم يعرف منه ما عرفه أولئك المشركون!
فالإسلام في هذه الأوقات أغرب منه في أول ظهوره، والدعوةُ إليه مع كثرة من يقرأ القرآن، وينسخه، ويطبع المصاحف، وكتب العلم، فسبحان من قلوب العباد بيده، يصرفها بقدرته وحكمته، ويدبرها بعلمه ومشيئته.
ومن العجائبِ والعجائبُ جَمَّةٌ
قربُ الدواءِ وما إليه وصولُ
كالعيسِ في البيداءِ يقتلها الظما
والماءُ فوق ظهورِها محمولُ
وما أحسن ما قال مجاهد –رحمه الله- في قوله تعالى:{وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ}.[الأنفال:24]قال:حتى يتركه لا يعقل.
وأما قوله:(إن الشيخ أحمد بن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية لا يكفران أحداً من أهل القبلة).
ص -40-(33/24)
فيقال:لو عرف هذا مَنْ أهلُ القبلة في هذا الموضوع، ومن المراد بهذه العبارة عند أهل العلم1 لما أوردها هنا محتجاً بها على دعاء غير الله، وعدم تكفير فاعله.
ومن أعرض عن كلام أهل العلم، ورأى أن من صلى، أو قال2"لا إله إلا الله"فهو من أهل القبلة، وإن ظهر منه من الشرك والترك لدين الإسلام ما ظهر، فقد نادى على نفسه بالجهالة والضلالة، وكشف عن حاصله من العلم والدين بهذه المقالة.
وقد أنكر الإمام أحمد –رحمه الله-قول القائل:لا نكفر أهل القبلة3.وهذا يزعم أنه على مذهب الإمام أحمد، ومقصود من قالها إنما هو البراءة من مذهب الخوارج الذين يكفرون بمجرد الذنوب، وهذا وَضَعَ كلامهم في غير موضعه4، وأزال بهجته، لأنه تأوله في أهل الشرك، ودعاء الصالحين، فالتبس عليه الأمر، ولم يعرف مراد من قال هذا من السلف.
وهذا الفهم الفاسد مردود بكتاب الله، وسنة رسوله، وبإجماع أهل العلم، وقد عقد الفقهاء من أرباب المذاهب باباً مستقلاً في هذه المسألة، وذكروا حكم المرتد من أهل القبلة، وقرروا من المكفرات أشياء كثيرة دون ما نحن فيه، وجزموا بأن العصمة بالتزام
__________
1 سقطت:"عند أهل العلم"من طبعة آل ثاني.
2 في طبعة آل ثاني:"وقال".
3 في طبعة آل ثاني:"أهل الذنوب".
4 في "ب"و"جـ":"وهذا موضع كلامهم وأزال بهجته".
ص -41-(33/25)
الإسلام ومبانيه ودعائمه العظام، لا بمجرد القول، أو الصلاة1، مع الإصرار على المنافي.
وهذا يعرفه صغار الطلبة، وهو مذكور في المختصرات من كتب الحنابلة وغيرهم.
فهذا لم يعرف ما عرفه صبيان المدارس والمكاتب، فالدعوى عريضة والعجز ظاهر.
وأعجب من هذا أنه يقول في رسالته"
(إني رأيت لمن يدعو2 الصالحين والأولياء ويناديهم في حاجاته أدلةً صحيحة، ونيات صالحة، ما تخرج عن التوحيد، لأن المقصود التسبب والوسائل، لا الاستقلال)هذا كلامه.
ومن بلغت به الجهالة والعماية إلى هذا الغاية، فقد استحكم على قلبه الضلال والفساد، ولم يعرف ما دعت إليه الرسل سائر الأمم والعباد.
ومن له أدنى نهمة3 في العلم، والتفات إلى ما جاءت به الرسل، يعرف أن المشركين من كل أمة في كل قرن ما قصدوا من معبوداتهم، وآلهتهم التي عبدوها مع الله:إلا التسبب، والتوسل، والتشفع، ليس إلا، ولم يدَّعوا الاستقلال والتصرف لأحد من دون
__________
1 في طبعة آل ثاني:"والصلاة".
2 في النسخ الخطية:"يدعوا".
3 في طبعة آل ثاني:"صلة".
ص -42-(33/26)
الله، ولا قال به1 أحد منهم سوى فرعون، والذي حاج إبراهيم في ربِّه.
وقد قال تعالى:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا}.[النمل:14].فهم في الباطن يعلمون أن ذلك لله وحده.
قال تعالى في بيان قصدهم ومرادهم بدعاء غيره:{وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ}.الآية[يونس:18]، وقال تعالى:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}.[الزمر:3]، وقال تعالى:{فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً}.[الأحقاف:28]، وقال تعالى:{أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء}.[الزمر:43]، وقال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ}.[البقرة:165].
فأخبر تعالى أنهم تعلقوا على آلهتهم، ودعوهم مع الله للشفاعة، والتقريب إلى الله بالجاه والمنزلة، وأحبوهم مع الله محبة تأله وتعبد لنيل أغراضهم الفاسدة، ولم يريدوا منهم تدبيراً ولا تأثيراً لا شركة2 ولا استقلالاً.
يوضحه قوله تعالى:{قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ}.إلى قوله {أَفَلاَ تَتَّقُونَ}.[يونس:31]، وقوله:{قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ
__________
1 في طبعة آل ثاني:"قاله أحد".
2 في طبعة آل ثاني:"ولا شركة".
ص -43-(33/27)
وَمَن فِيهَا}إلى قوله {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ}.[المؤمنون:84-89]، وقوله {أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا}إلى قوله {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}.[النمل:61-64].
فتأمل هذه الآيات، وما فيها من الحجج والبينات، تطلعك على جهل هذا العراقي وأمثاله، وأنهم ما عرفوا شرك المشركين، وما كانوا عليه من القصد والدين، ولم يعرفوا ما كان عليه أنبياء الله وأتباعهم من توحيد رب العالمين.
وتأمل كيف استدل الله سبحانه وتعالى على توحيد إلهيته، ووجوب عبادته وحده لا شريك له، بما أقر به الخصم واعترف به من توحيد ربوبيته، واستقلاله بالملك، والخلق، والتأثير، والتدبير.
وهذه عادة القرآن دائماً يعرج على هذه الحجة، لأنها من أكبر الحجج، وأوضحها، وأدلها على المقصود.
فسبحان من جعل كلامه في أعلى طبقات البلاغة، والفصاحة، والجلالة، والفخامة، والدلالة، والظهور.فأيُّ شبهة بعد هذا تبقى للمماحل1 الكفور2.
واعلم أن دعاء الأموات والغائبين ليس بسبب لما يقصده المشرك ويريده، بل هو سبب لنقيض قصده وحرمانه، وهلاكه في الدنيا والآخرة.
__________
1 في طبعة آل ثاني:"للماحل".
2 في طبعة آل ثاني:"المغرور".
ص -44-(33/28)
قال تعالى:{يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ *يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ}.[الحج:12-13].(لأنه في الحقيقة إنما عبد الشيطان، ودعاه، وأطاعه فيما يأمر به، ولذلك تتبرأ الملائكة والصالحون ممن1 دعاهم، وصرف لهم شيئاً من العبادة)2.
وأيضاً فليس كل سبب يباح، بل من الأسباب ما هو محرَّم، وما هو كفر، كالسحر، والتكهن.
والغبي يظن أن الدليل يسلم له إذا أراد السبب لا الاستقلال.وعباد الكواكب، وأصحاب النيرنجيات3 ومخاطبات النجوم، يرون أنها أسباب ووسائل نافعة، ويظنونها كالأسباب العادية، وعباد القبور والأنفس المفارقة، يرون أن تعلق قلب الزائر وروحه بروح المزور سبب لنيل مقصوده، وتحصيل نصيب مما يفيض على روح ذلك
__________
1 في طبعة آل ثاني:"ومن"والتصويب من نسخة "الدرر السنية في الأجوبة النجدية":جـ 9/ 292.
2 ما بين القوسين سقط من النسخ الخطية.
3 في النسخ الخطية:"التمريخات".
قال في مفتاح السعادة ومصباح السيادة"لطاش كبري زاده:النيرنجات معرَّب نيرنك، وهو التمويه والتخييل، وهو إظهار غرائب الامتزاجات بين القوى الفاعلة والمنفعلة ...إلخ (1/ 339)، طبعة المعارف العثمانية.
وقال صاحب"الكشكول":النيرنجيات:إظهار خواص الامتزاجات ونحوها.ونيرنج فارسي معرَّب، وأصله:نورنك، أي:لون جديد.والنيرنجيات ألحقها بعضهم بالسحر...إلخ.
ص -45-(33/29)
المزور، كما ذكره الفارابي وغيره من عباد الكواكب، والأنفس المفارقة.
وقد قال بعض السلف:(ما عبدتِ الشمسُ والقمر إلا بالمقاييس)1.
1 جاءت هذه العبارة عن ابن سيرين فيما رواه عنه ابن جرير في "تفسيره":(8/ 131)، والبيهقي في "المدخل إلى السنن":ص196، والدارمي في المقدمة من "سننه": (1/ 58)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله": (2/ 76) طبعة المنيرية.
ولفظه: "أول من قاس إبليس، وإنما عبدت الشمس والقمر بالمقاييس".
قال الحافظ ابن كثير في "تفسيره":(2/ 203)على سند ابن جرير:إسناده صحيح.اهـ.
وقد ذكر شيخ الإسلام هذه العبارة عن بعض السلف في "الرد على البكري"ص 269.وقال شيخ الإسلام في "الاقتضاء":(2/ 652):وإنما عبدت الشمس والقمر بالمقاييس.اهـ.وينظر "الاقتضاء":(2/ 682، و687).
ص -46-
فصل
قال العراقي:(ومن الأدلة على جواز دعاء الصالحين وندائهم ما ذكر الله عن نبيه سليمان، وقوله لآصف، فإنه1 طلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله).
فنقول:سبحانك هذا بهتان عظيم، ما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا.
وقصة آصف من أدلة التوحيد، وآصف توسل إلى الله بتوحيده وإلهيته، وكرر ذلك في دعائه، وقد قيل: إنه يعرف الاسم الأعظم، فهو طالب من الله، راغب إليه، سائل له، ليس بفاعل أصلاً2، وسليمان عليه السلام آمر ليس بسائل ولا طالب. وفرق بين الأمر والمسألة.
ومن لم يفرق بين الأمرين، و3لم يدر حكم المسألتين، فليرجع إلى وراء، وليقتبس نوراً من كلام أئمة العلم والهدى.
__________
1 في طبعة آل ثاني:"وقد".
2 سقطت من طبعة آل ثاني:"ليس بفاعل أصلاً".
3 سقطت:و"من طبعة آل ثاني.
ص -47-(33/30)
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب:"لا تنسنا يا أُخَيَّ من صالح دعائك"1.
__________
1 أخرجه الإمام أحمد في "مسنده":(1/ 29، و2/ 59)، وأبو داود:(2/ 169)، والترمذي:(5/ 559)وقال:حديث حسن صحيح، وابن ماجه:(2/ 966)، وابن السني في "عمل اليوم والليلة":ص 103، وابن عدي في "الكامل":(5/ 1868)، وابن حبان في "المجروحين":(2/ 128)، وأبو يعلى الموصلي، والخطيب في "تاريخه":(11/ 396-397) جميعهم من طريق عاصم بن عبيد الله عن سالم عن ابن عمر عن عمر ...به.وهذا إسناد ضعيف –كما قال شيخنا العلامة المحدّث عبد العزيز بن باز-وعلّته عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب.قال فيه البخاري:منكر الحديث، وكذا قال أبو حاتم وابن نمير، وضعفه أحمد وابن معين وغيرهم (انظر:"تهذيب التهذيب"لابن حجر)وقال الحافظ ابن حجر في "التقريب":(ضعيف).
وللحديث طريق آخر أخرجه الخطيب في "تاريخه":(11/ 396)من طريق أبي عبيد بن الحسين، ثنا الحسن الزعفراني، ثنا أسباط، عن سفيان الثوري، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال:استأذن عمرُ النبي صلى الله عليه وسلم في العمرة ...الحديث.
قال البرقاني:قيل هذا لا يتابع عليه أبو عبيد، وإنما الصحيح ما حدّث به الزعفراني عن شبابة عن شعبة عن عاصم بن عبد الله عن سالم عن ابن عمر عن عمر. اهـ.
وقال ابن عبدان:وبلغني عن أبي عبيد بن حربويه حدث به عن الزعفراني مثل هذا –أي من طريق عبيد الله بن عمر-وليس بمحفوظ من حديث الثوري وأظنه وهماً.اهـ.من "تاريخ بغداد".
وهو كما قال، فإن سائر الثقات الذين رووا هذا الحديث عن الثوري قالوا فيه:عن عاصم بن عبيد الله.وخالفهم في ذلك أسباط بن محمد عن الثوري فقال:عن عبيد الله بن عمر.
وأسباط هذا ضعيف في الثوري.قال ابن معين:كان يخطئ عن سفيان.وقال الحافظ في "التقريب":(ثقة ضعف في الثوري).
فعلى هذا تكون هذه الطريق منكرة، وذلك(33/31)
أن أسباط وإن كان ثقة فهو ضعيف في روايته عن الثوري، فمخالفته للثقات هنا من باب مخالفة الضعيف للثقة والله أعلم.
ص -48-
وهذا من جنس الأسباب العادية، فإن الرجل إذا كان معروفاً بالصلاح، وإجابة الدعاء، فطلب منه الدعاء، أو أمر به، فدعا الله واستجيب له، لا يكون هو الفاعل للاستجابة، وليس المطلوب منه ما يختص بالله من الفعل، وإنما يطلب منه ما يختص به من الدعاء والتضرع.
فالآية من أدلة التوحيد، وصرف الوجوه إلى الله، وإقبال القلوب عليه، فإن آصف توسل إلى الله بتوحيده وربوبيته، وقَصَدَه وحده، ولم يقصد سليمان ولا غيره، مع أن سليمان أفضل منه لنبوته.
وفيها أن الأنبياء لا يسألون ولا يقصدون، بل ربما صار حصول مقصودهم، ونيل مطلوبهم على يد من هو دونهم من المؤمنين.
وأن أعظم الوسائل وأشرف المقاصد هو توحيد الله بعبادته ودعائه وحده لا شريك له، كما فعل آصف.
وفيها براءة أولياء الله من الحول والقوة، كما دلت عليه القصة، فإنه1 توضأ، وصلى، ودعا، فقال في دعائه: "يا ذا الجلال والإكرام" قاله مجاهد.
وقال الزهري2: يا إِلهَنا وإله كل شيء، إلهاً واحداً، لا إله إلا أنت، ائتني بعرشها".
فأي شبهة تبقى مع هذا، وأي حجة فيه على أن غير الله يدعى؟
1 في النسخ الخطية: "وأنه".
2 في طبعة آل ثاني: "الزيادي" وهو خطأ.
ص -49-(33/32)
ثم أخذ العراقي في هذيان وإسهاب حاصله: أن السبب لا يفعل، وأن الله هو الفاعل.
ومراده بهذا أن دعاء الأموات والغائبين من الأولياء والصالحين يجوز ويسوغ، إذا اعتُقِد أن الله هو الفاعل.
وقد مَرَّ رد هذا، وتقرير جهل قائله، ومفارقته لما عليه أهل الإسلام، وقد تقدم أن أصل الإسلام وقاعدته: هي عبادة الله وحده لا شريك له، وإفراده بالقصد والطلب.
وأن توحيد الربوبية، واعتقاد الفاعلية له تعالى لا يكفي في السعادة والنجاة، ولا يكون به الرجل مسلماً حتى يعبد الله وحده، ويتبرآ مما سواه من الأنداد والآلهة.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس: "آمركم بأربع، وأنهاكم عن أربع: آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ شهادة أن لا إله إلا الله"1.
وهذا ظاهر بحمد الله، وإن خفي على خفافيش البصائر، الذين لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا2 إلى ركن وثيق، فهاموا من
__________
1 أخرجه البخاري في "صحيحه": كتاب الإيمان (1/ 129)، وفي العلم (1/ 185) عن ابن عباس قال: إن وفد عبد قيس أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "من الوفد –أو من القوم .... الحديث".
وأخرجه مسلم في "صحيحه": كتاب الإيمان 1/ 46، 47، 48، 49، 50)، عن ابن عباس وأبي سعيد.
2 في طبعة آل ثاني: "يلجأوا".
ص -50-
الجهل والضلال في كل فج عميق، مع انتسابهم إلى العلوم والدفاتر، وتقدمهم في المجالس والمحاضر1.
لا عيبَ في القومِ من طولٍ ومن قصرٍ
جسمُ البغالِ وأحلامُ العصافيرِ2
__________
1 في النسخ الخطية: "المحاضر".
2 البيت لحسان بن ثابت، وهو في "ديوانه": ص 267، طبعة: عبد الرحمن البرقوقي، ولفظه:
لا بأس بالقوم من طولٍ ومن عظمٍ
جسم البغال وأحلام العصافير
ص -51-(33/33)
فصل
قال العراقي: (فعند أهل السنة أفعال العبد مخلوقة لله، وعند المعتزلة أن المخلوق خالق لأفعاله، ومع هذا فأهل السنة لا يكفرونهم) انتهى.
قلت: يريد العراقي أن مسألةَ الأموات والغائبين، ودعاءََهم1 في الحوائج والشدائد مبنية على هذه المسألة، وأن أهل السنة يثبتون ذلك لمن اعتقد أن الله خالق أفعال العباد، وأن من أنكر دعاء الصالحين ونداءهم2، فهو من المعزلة، لأن إنكاره مبني على اعتقاده أن العبد خالق لأفعال نفسه.
والجواب أن يقال: أما هذه المسألة أعني –خلق أفعال العباد- فأهل السنة قائلون بها، لدلالة الكتاب والسنة، والأدلة العقلية والنقلية، قال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}. [الصافات: 96].
وقد انعقد الإجماع على هذا، ثم حدث قول القدرية النفاة في أواخر عصر الصحابة، وأول من اشتهر عنه ذلك غيلان القدري،
__________
1 في "ب" و"جـ" وطبعة آل ثاني: "دعائهم".
2 في النسخ الخطية: "دعائهم".
ص -52-(33/34)
ومعبد الجهني.
فأما غيلان: فكان في زمن هشام بن عبد الملك، فناظره الأوزاعي إما أهل الشام في زمانه، وألزمه الحجة، وحكم بكفره، وقتله هشام.
ومعبد الجهني: قتله الحجاج بن يوسف. وأكثر السلف والأئمة1 يكفرونه بههذ المقالة، كما هو معروف في محله.
وقد قال الإمام أحمد: "ناظروهم بالعلم، فإن أقروا به خصموا، وإن أنكروا كفروا".
وقد حكى الإجماع على كفر من أنكر العلم شمس الدين ابن قيم الجوزية، وناهيك به علماً واطلاعاًَ، فنسبته عدم التكفير إلى أهل السنة كذب جَرَّه عدم الحياء.
ثم أي حجة في هذا على أن الأولياء والصالحين يدعون بما لا يقدر عليه إلا الله، فمسألة خلق الأفعال لا تلازم بينها وبين دعاء الأولياء والصالحين بوجه ما.
وإنما أتي هذا من جهة ظنه أن من قال: بأن الله يخلق أفعال العباد، يباح له دعاء الصالحين. ومن قال: إن العبد يخلق أفعال نفسه، يحرم عليه ذلك، هذا ظن الأحمق، ولم يفرق2 بين مذهب المعتزلة والقدرية، ودين المشركين من العرب والصابئين.
__________
1 سقطت: "والأئمة" من طبعة آل ثاني.
2 في النسخ الخطية: "يميز".
ص -53-(33/35)
ويذكر أن بعض الأغبياء شكا رجلاً إلى أمير من الأمراء، فقال: إنه مرجئ، خارجي، رافضي1، ناصبي، يسب معاوية بن الخطاب الذي قتل علي بن العاص. فقال له الوالي: "لا أدري على أي شيء أحسدك؟ على علمك بالمقالات، أو على معرفتك بالأنساب"2.
قال العراقي: (وكان أحمد يصلي خلفهم، وكل السلف).
والجواب أن يقال: سبحان الله، ما أقبح الواقحة والجراءة3، والتمادي في الكذب على الله، وعلى أولي العلم من خلقه؛ ما صلى الإمام أحمد خلف قدري قط، بل أفتى بعض أهل الحديث بمجلسه أنه لا يصلى خلفهم، فاستحسنه واستصوبه. والمعروف من مذهبه أن الصلاة لا تصح خلف فاسق باعتقاده أو فعله.
وقد كذب هذا بانتسابه إليه، والحكم عليه بالصلاة خلف القدرية، وأكثر أهل السنة لا يرون الصلاة خلفهم، كما ذكره صاحب "كشف الغمة".
بعض العلماء يقول: مسألة صلاة الجمعة والجماعة مبنية على
__________
1 في "أ": "رافظي".
2 ذكر هذه الحكاية ابن الجوزي في "أخبار الحمقى والمغفلين": ص144، طبعة دار الكتب العلمية.
وقد ذكر الذهبي –رحمه الله- في "السير": (10/ 205) قصةً نحوها.
3 في طبعة آل ثاني: "والجرأة".
ص -54-
مسألة القول بالتكفير وعدمه، ويرى الصلاة خلف من لم يكفر ببدعته إذا احتيج1 إلى ذلك، فما حكاه هذا عن أهل السنة كذب لا مرية فيه، والصواب التفصيل عند بعضهم، والمنع مطلقاً عند آخرين.
__________
1 في طبعة آل ثاني: "احتج".
ص -55-(33/36)
فصل
قال العراقي: (وهذا باب الكرامة) وتكلم في إثبات الكرامة، وأنها تكون بعد الموت، واستدل بقوله تعالى عن الملائكة {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ}. [فصلت: 31].
ومراد العراقي أن دعاء الصالحين، والاستشفاع بهم، وطلب ما لا يقدر عليه إلا الله منهم، من جنس الكرامة المثبتة التي أثبتها أهل السنة.
وهذه طامة عظيمة، وغاية في الجهالة والسفاهة، بل هي من جنس احتجاج النصارى على دعاء المسيح، وأمه، وعبادتهما، ظنوا أن ما حصل للمسيح ولأمه –عليهما السلام- من المعجزات والكرامات1، يبيح لهم دعاءهما2، وعبادتهما. وإذا خاطبت النصراني، سرد عليك من المعجزات والكرامات التي أعطيها المسيح واحتج بها على دعواه.
وعباد القبور يحتجون في هذا الباب بما لم يثبت. وما ثبتَ
__________
1 في طبعة آل ثاني: "من الكرامات والمعجزات" وقد سقطت "من المعجزات والكرامات" من "أ".
2 في "ب" و"جـ": دعائهما".
ص -56-(33/37)
فأكثرُه دون ما أعطيه المسيح، ومع ذلك فالاحتجاج به على دعائهم من جنس حجج النصارى، لا يدل على المدَّعَى، بل غايته أن يدل1 على علو الدرجة، وصدق الرسالة، أو ثبوت الولاية إذا اقترن به عمل صالح.
وأما الاستدلال بذلك على أنه يدعى ويرجى، ويشفع وينفع، فهذا من دين النصارى، والصائبة، وعباد الأصنام.
وهذه الشبهة هي التي أوقعت في الشرك جمهور المشركين، فإن أصل عبادة الأصنام هو التعلق على الصالحين، وتصوير صورهم وتماثيلهم. بل عباد الكواكب دعاهم إلى عبادتها ما أودع الله فيها من الحِكم والمنافع التي ظهرت آثارها في هذا العالم، كما يعرفه من عرف مذاهب القوم.
وطرد الدليل الذي استدل به العراقي: أن يقال بدعاء كل ذي كرامة وقربة2، إذا اعتقد أن الفاعل هو الله، ولا يتوجه الإنكار على النصارى في قولهم: يا عيسى افعل كذا، يا روح القدس أعطني كذا، ويا والدة المسيح اشفعي لنا إلى الإله، لأنه من أولي العزم، ومن أكابر أهل الكرامات.
والمسلم إذا تصور هذا ظهر له ما فيه من الجهل والضلال، بمجرد الفطرة، ومعرفة الإسلام، وأما من رزق الفهم فيما جاء به
__________
1 "أن يدل" ليست في "ب" ولا "جـ".
2 في "أ" وطبعة آل ثاني "ومزيّة".
ص -57-(33/38)
محمد صلى الله عليه وسلم، ووفق للاستدلال بآيات الله ومخلوقاته، التي نصبها شاهدة ودالة على توحيده في ربوبيته، فذلك أكمل إيماناً، وأتم علماً وإيقاناً، يرى كفر من تعلق على غير الله، ودعاه فيما يختص بالله من أوضح الواضحات، وأبين البينات.
قال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. [الشورى:9]. استدل بعموم قدرته وإيجاده وإحيائه الموتى على وجوب توليه بعبادته وحده لا شريك له.
والقرآن والسنة يدلان على هذا، ويقررانه بأنواع الدلالات، وألطف التقريرات.
والآية التي استدل بها ليس فيها ما يدل على دعواه، بل فيها ما يبطلها ويدحضها1، فإن أول الآية نص على وجوب التوحيد، وإفراد الله بالعبادة والاستقامة على ذلك بالتزام حقوقه وواجباته، وتنزل الملائكة ومخاطبتهم للمؤمن بهذا الخطاب، وتوليهم2 له لا يدل على أنه يفعل ويشفع، وإنما يدل على كرامته، وعلو درجته، ونيل مشتهاه، ومدعاه في دار الكرامة.
فأين في هذا ما يدل على أنه يدعى في حياته، أو بعد مماته؟ وفي الحديث: "من قال في القرآن برأيه فليتبوأ3 مقعده من النار".
__________
1 في "أ" و"ب": "ويدحظها".
2 في طبعة آل ثاني: "وتوليتهم".
3 في "ب" و"جـ": يتبوء" وفي "أ": "يتبؤ".
ص -58-(33/39)
وفي رواية: "بغير علم"1.
__________
1 أخرجه الإمام أحمد في "مسنده": (1/ 233، 269)، وأبو داود فيما نسب إليه المزي في "تحفة الأشراف": (4/ 423) –ولعله في غير رواية اللؤلؤي فإني لم أجده فيها، وهي المتداولة بين الناس- والترمذي: (5/ 199) وقال: حديث حسن صحيح، والنسائي في "السنن الكبرى" كما في "تحفة الأشراف": (4/ 423)، والطبري في "تفسيره": (1/34)، والبغوي في "شرح السنة": (1/ 257-258)، جميعهم من طريق عبد الأعلى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ... به.
قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" على هذا الحديث (1/ 147): رواه الطبراني في "الكبير" وفيه عبد الأعلى بن عامر والأكثر على تضعيفه. اهـ. وقد ضعفه أحمد وأبو زرعة وابن سعد وقال النسائي: ليس بالقوي يكتب حديثه، وقال ابن معين: ليس بذاك القوي. قال الحافظ ابن حجر في "التهذيب": (6/ 95) بعد أن ساق هذه الأقوال وغيرها: وصحح الطبري حديثه في الكسوف وحسن له الترمذي وصحح له الحاكم وهو من تساهله. اهـ.
ورواه ابن عدي في "الكامل": (6/ 2130) من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قال في القرآن برأيه فإن أصاب لم يؤجر".
وهذا إسناد تالف. الكلبي اسمه "محمد بن السائب بن بشر" لخص الحافظ ابن حجر قول أئمة الجرح فيه فقال: متهم بالكذب ورمي بالرفض. اهـ.
وروى ابن عدي بسنده عن سفيان الثوري قال: قال لي الكلبي: قال لي أبو صالح: كل ما حدثتك فهو كذب. وأبو صالح هو باذام مولى أم هانئ بنت أبي طالب, قال ابن معين: ليس به بأس وإذا روى عنه الكلبي فليس بشيء. وقال ابن حبان: يحدث عن ابن عباس ولم يسمع منه. "تهذيب التهذيب": (1/ 416-417) ولخص الحافظ ابن حجر القول فيه فقال: ضعيف مدلّس. اهـ.
وروى ابن أبي شيبة هذا الحديث في "مصنفه": (1/ 512) موقوفاً على ابن عباس، وفي إسناده عبد الأعلى بن ماهر. ورواه الطبري في "تفسيره":(33/40)
(1/ 43) موقوفاً على ابن عباس.
ص -59-
وهذا الجاهل في الاستدلال بآيات الله، ويحملها على غير محملها، ويتأولها على غير تأويلها، بل على نقيضه وضده، فسبحان من طبع على قلبه.ط
[وقد استدل بعض من يدعي العلم على مسألة تصرف الأولياء، وأنهم يدعون، بقوله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}. [آل عمران:169].
فقال بعض عوام المسلمين: إن كانت القراءة يَرزقون –بفتح الياء- فذاك متجه، وإلا فالآية حجة عليك]1.
قال في "الفتاوى البزازية": من كتب الحنفية: "قال علماؤنا: من قال أرواح المشايخ حاضرة تعلم يكفر". انتهى.
فإن أراد علماء الشريعة فهو حكاية للإجماع، والإجماع على هذا يعلم بالضرورة من دين الإسلام، وهذا أحد الطرق التي يعرف بها الإجماع.
وقال الشيخ صنع الله الحلبي الحنفي في رسالته "في الرد على من زعم أن الأولياء يدعون ويتصرفون على أن ذلك كرامة".
قال: "وهذا كلام فيه تفريط وإفراط، بل فيه الهلاك الأبدي،
__________
وفي الباب عن جندب بن عبد الله بلفظ: "من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ". أخرجه الترمذي: (5/ 200)، وأبو داود: (4/ 63-64)، والنسائي في "الكبرى" كما في "تحفة الأشراف": (2/ 444) وإسناده ضعيف علته سهيل بن أبي حزم وهو ضعيف عندهم."تهذيب التهذيب": (4/ 261).
1 ما بين المعقوفتين: زيادة من طبعة آل ثاني.
ص -60-
والعذاب السرمدي، لما فيه من روائج الشرك المحقق، ومصادمة الكتاب العزيز المصدق، ومخالفة عقائد الأئمة، وما اجتمعت عليه الأمة". انتهى1.
والمقصود أنه حكى إجماع الأمة على كفر من زعم ذلك.
__________
1 "انتهى" ليست في طبعة آل ثاني.
ص -61-(33/41)
فصل
واستدل العراقي على دعاء الصالحين وندائهم بالحوائج1 بقوله تعالى: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا}. [النازعات:5]. وذكر عن البيضاوي أنها أرواح الموتى.
الجواب أن يقال: قد حكى البيضاوي أقوالاً في الكلام2 على هذه الآية، وقدَّم أنها الملائكة، وحكى أنها النجوم، وحكى أنها خيل الغزاة، وحكى أنها أنفس الغزاة.
وعلى زعم هذا وطرد دليله: كل ما ذكر يدعى مع الله حتى خيل الغزاة، والبيضاوي لا يقول بدعاء أحد مع الله، بل ذكر في "تفسيره" مواضع يعز استقصاؤها في المنع من3 ذلك وتحريمه.
ثم هذا القول الذي قاله العراقي رجوع إلى عبادة الملائكة، والنجوم، والأنفس المفارقة، هذا حقيقة دين الصابئة، أوقع العراقي فيه: ظنه أن العبادة لا تكون عبادة وشركاً إلا إذا اعتقد التأثير من
__________
1 في ط: آل ثاني "الحوائج" وفي "ب" و"جـ": (للحوائج). والمثبت من الدرر السنية 9/ 296.
2 "في الكلام" ليست في ط: آل ثاني.
3 في ط: آل ثاني "عن".
ص -62-(33/42)
دون الله، وهذا الشرط هو الذي أوقعه فيما وقع فيه من تجويز عبادة الملائكة، والنجوم، والأنفس المفارقة.
وهذه1 المسألة غلط فيها كثير من الضالين، مع أن الله تعالى وضحها في كتابه توضيحاً كافياً شافياً. وقد تقدم بعض ذلك قريباً.
__________
1 في ط: آل ثاني، عند هذا الموضع تعليق للشيخ نعمان الألوسي، نقل فيه من تفسير والده رحمه الله ما يتعلق بهذه الآية مختصراً، ثم قال: هذا، واعلم أن هذا الناقل لكلام البيضاوي المموه أدلته بالأباطيل شنشنته معروفة عند علماء العراق، وتأويلاته الفاسدة غير مسلمة بالاتفاق، فعليك بطريقة السلف، وأعرض عمن ابتدع وتخلف، وأعرض عن ذكر الله وتكلف وتصلف. اهـ.
وفي هذا الموضع أيضاً من الطبعة المذكورة تعليقة أخرى فيها نقل كلام الألوسي في تفسيره "روح المعاني" فيما يتعلق بذم المتصوفة، والغالين في الأولياء، نسوقه لحسنه: قال العلامة مفتي الأنام في مدينة السلام، أبو الثناء شهاب الدين الألوسي تغمده الله تعالى برحمته، في تفسيره "روح المعاني" في باب الإشارة ما نصه: "وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر" الآية، فيه إشارة إلى ذم المتصوفة الذين إذا سمعوا الآيات الرادة عليهم ظهر عليهم التجهم والبسور، وهم في زماننا كثيرون، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وفي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا}. الآية إشارة إلى ذم الغالين في أولياء الله تعالى، حيث يستغيثون بهم في الشدة؛ غافلين عن الله تعالى، وينذرون لهم النذور، والعقلاء منهم يقولون: إنهم وسائلنا إلى الله تعالى، وإنما ننذر لله عز وجل ونجعل ثوابه للولي.
ولا يخفى أنهم في دعواهم الأولى أشبه الناس بعبدة الأصنام القائلين: إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى. ودعواهم الثانية لا بأس بها لو لم يطلبوا منهم بذلك شفاء مريضهم، أو رد غائبهم، أو(33/43)
نحو ذلك، والظاهر من حالهم الطلب، ويرشدنا إلى
ص -63-
والشرك: جعل شريك لله تعالى فيما يستحقه ويختص به من العبادة الباطنة والظاهرة1، كالحب، والخضوع، والتعظيم، والخوف، والرجاء، والإنابة، والتوكل، والنسك، والطاعة، ونحو ذلك من العبادات.فمتى أشرك مع الله غيره في شيء من ذلك فهو مشرك بربه، قد2 عدل به سواه، وجعل له نداً من خلقه. ولا يشترط في ذلك أن يعتقد له شَرِكَةً في الربوبية، أو استقلالاً منها.
والعجب كل العجب أن مثل هؤلاء يقرؤون3 كتاب الله، ويتعبدون بتلاوته، وربما عرفوا شيئاً من قواعد العربية، وهو في هذا
__________
ذلك أنه لو قيل: انذروا لله تعالى، واجعلوا ثوابه لوالديكم، فإنهم أحوج من أولئك الأولياء، لم يفعلوا.
ورأيت كثيراً منهم يسجد على أعتاب حجر قبور الأولياء، ومنهم من يثبت التصرف لهم جميعاً في قبورهم، لكنهم يتفاوتون فيه حسب تفاوت مراتبهم، والعلماء منهم يحصرون التصرف في القبور في أربعة أو خمسة، وإذا طولبوا بالدليل قالوا: ثبت ذلك بالكشف، قاتلهم الله تعالى، ما أجهلهم، وأكثر افتراءهم.
ومنهم من يزعم أنهم يخرجون من القبور، ويتشكلون بأشكال مختلفة، وعلماؤهم يقولون: إنما تظهر أرواحهم متشكلة، وتطوف حيث شاءت، وربما تشكلت بصورة أسد أو غزال، أو نحوه، وكل ذلك باطل لا أصل له، في الكتاب، والسنة، وكلام سلف الأمة، وقد أفسد هؤلاء على الناس دينهم، وصاروا ضحكة لأهل الأديان المنسوخة، من اليهود والنصارى، وكذا لأهل النحل والدهرية، نسأل الله تعالى العفو والعافية. انتهى. الفقير/ أحمد شهاب الدين.
1 سقطت: "الباطنة والظاهرة" من: "ب" و"جـ".
2 في "ب" و"جـ": (وقد).
3 في النسخ الخطية: (يقرؤن) وفي ط: آل ثاني (يقرأون).
ص -64-(33/44)
الباب من أضل خلق الله، وأبعدهم عن فهم وحيه وتنزيله.
ومن الأسباب المانعة عن فهم كتاب الله أنهم ظنوا أن ما حكى الله عن المشركين، وما حكم عليهم به1، ووصفهم به، خاص بقوم مضَوا، وأناس سلفوا وانقرضوا، لم يعقبوا وارثاً.
وربما سمع بعضهم قول من يقول من المفسرين: هذه نزلت في عباد2 الأصنام، هذه نزلت3 في النصارى، هذه في الصابئة، فيظن الغُمر4 أن ذلك مختص5 بهم، وأن الحكم لا يتعداهم، وهذا من أكبر الأسباب التي تحول بين العبد وبين فهم القرآن والسنة.
ثم اعلم أن قول البيضاوي هنا قول لا يلتفت إليه، ولا يعول في الدليل عليه، لأنه صدر عَمَّن لا يرضى، ولا يؤتم به في هذا الشأن ولا يقتدى، ولم يقله أحد من أئمة التفسير والهدى، بل قد صرحوا بخلافه كما يعرفه أولو6 الأحلام والنهى، ونبهوا على أن أصل الشرك هو سؤال أرواح الموتى.
والبيضاوي وأمثاله إنما يؤخذ عنهم ما شهدت له الأدلة الشرعية، وجرى على القوانين المرضية، التي يتلقاها أهل العلم والإيمان، من أحكام السنة والقرآن.
__________
1 "به" ليست في ط: آل ثاني.
2 سقطت: "عباد" من النسخ الخطية.
3 "نزلت" ليست في ط: آل ثاني.
4 في ط: آل ثاني: "الغِرّ".
5 في "أ" و"ب": (مختصاً).
6 في النسخ الخطية: (ألوا).
ص -65-(33/45)
وقد قال عمر بن الخطاب –رضي الله تعالى عنه-: "ذهاب الإسلام من ثلاثة: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن،1 وحكم الأئمة المضلين"2.
هذا لو سلمنا ثبوت العلم لمن يحكي مثل هذه الأقوال، وإلا فأين العنقاء لتطلب، وأين السمندل ليجلب؟3
وأهل التحقيق من المفسرين على أن المراد بهذه الآية هم الملائكة، فإسناد التدبير إليهم كإسناد النزع، والنشط، والتقسيم، والزجر، كما في قوله: {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا}. [الذاريات:4] وقوله: {فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا*فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا}. [الصافات:2-3].
وليس في هذه الآيات الكريمات ما يدل على دعاء الملائكة، وعبادتهم، فإنهم رسل مأمورون مدبرون، كما أن إبلاغ الرسالة من الرسول البشري لا يدل على دعائه، ولا يقتضيه، فكذلك الملائكة،
__________
1 سقطت من "أ": "وحكم الأئمة المضلين".
2 أخرجه الدارمي في "سننه" 1/ 63. والفريابي في "صفة المنافق" ص54 وابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" 2/ 110، وأبو نعيم في "الحلية" 4/ 195.
3 قوله: (العنقاء) ذكر في "اللسان" عدة أقوال في تعريفها، وكل هذه الأقوال تدل على صعوبة الوصول إليها، أو عدمه. ومن تلك الأقوال: (طائر عظيم لا يرى إلا في الدهور)، وقيل: (طائر يكون عند مغرب الشمس) وقال الزجاج: (طائر لم يره أحد)، وقيل: (طائر لم يبقَ في أيدي الناس من صفتها غير اسمها) وقيل غير ذلك.
(ينظر اللسان، 4/ 3136، ط: دار المعارف بمصر).
وقوله: (السمندل) هو –كما في "اللسان" 3/ 2105- طائر إذا انقطع نسله وهرم ألقى نفسه في الجمر فيعود إلى شبابه.
وقيل: هو دابة يدخل النار فلا تحرقه. اهـ من اللسان بتصرف.
ص -66-(33/46)
لأنهم رسل بالأوامر الكونية والشرعية. والقدرةُ والتدربير وتسخير المخلوقات كل ذلك لله وحده، وهو من أدلة توحيده وإلهيته، وصرف الوجوه إليه، والإعراض عما سواه.
قال تعالى في حق الملائكة: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ}. إلى قوله {كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ}. [الأنبياء:26-29]. وقال في شأن جبريل وغيره من الملائكة {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}. [مريم:64].
فتأمل ما في هذا القول من كمال العبودية، ومتابعة الأمر، والبراءة من الملكة والحول والقوة، والاعتراف له تعالى بذلك.
فاستدل بعموم الربوبية، ثم قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} ثناء عليه تعالى بإثبات العلم، ونفي ما يضاده، أو ينافي كماله.
قال تعالى في حق المسيح: {لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ}. الآية [النساء:172].
والمقصود أن تسخير الملائكة، وتدبيرها، وإرسالها من أدلة إلهيته تعالى، واستحقاقه لأن يعبد وحده لا شريك له.
* ومن العجب أن هذا العراقي زعم هنا أن ابن القيم قال في كتاب "الروح" وابن تيمية قال في كتاب "الفرقان": إن أرواح الموتى تدبر. وقد برأهما الله، وحماهما من ذلك، بل هما من أبعد خلق الله عن هذه الأقاويل الجاهلية الشركية، ومن أشدهم نهياً عنها، وإبطالاً
ص -67-(33/47)
لها في غالب كتبهم ومصنفاتهم، وقد شنعوا على من قال هذا، وكفروه، وحكوا هذا القول عن الصابئة والمشركين من الفلاسفة وغيرهم.
وفي "الفرقان" للشيخ ما يبطل هذا المذهب من وجوه عديدة تقارب السبعين. فانظر ترى، إن كنت من أهل العلم والهدى.
وفي كتاب "الروح" ما يقارب ذلك من إبطال هذا القول، وتكفير فاعله.
ومن وقف على الكتابين، وله فهم عن الله ورسوله، يعرف ما قلناه، ويتضح له صحته ومغزاه.
والخطاب مع ذكي النفس، قوي الهمة، رفيع القدر، العارف بأخذ العلم واستنباطه، وأما وضيع النفس، ضعيف الهمة، خسيس القدر، الجاهل بأخذ العلم من معدنه ومظانه فليس الكلام معه، ومثله لا يزداد بكثرة الكتب والأقوال إلا شكاًّ وحيرة.
ثم استدل العراقي برؤيا الأرواح بعد الموت عند النصر والظفر.
وهذا من أعجب ما سمعنا عن هؤلاء الضلال. والرؤيا على أقسام معروفة، وتأويلات مختلفة، فمنها حقائق وصور مشهورة. ومنها أمثال مضروبة، وعلى الأول ليست فاعلة، ولا سبباً أصلاً، بل هي علامات وشواهد، ولا يخالف في هذا من شم رائحة العلم والتمييز. وقد قالوا: إن رؤيته صلى الله عليه وسلم مناماً –بشرطها المقرر، وهو أن يراه صلى الله عليه وسلم على صفته ومثاله- يختلفُ تأويلُه بحسب اختلاف الرائي، واختلاف الزمان والمكان، فرؤيته عند الحرب تحمد للمؤمنين وفيها بشارة لهم،
ص -68-(33/48)
بخلاف غيرهم من الكفار والمنافقين، والبغاة المعتدين، فهي نذارة لهم، وعقوبة عاجلة، وكذلك المكان الذي تكثر فيه المعاصي، ويظهر الفجور. واللبيب يفهم من الرؤيا والمثل ما لا يفهمه سواه، وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون.
وأيضاً فالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته الدنيوية، وأبو بكر، وعمر كانوا يجاهدون بأنفسهم وأموالهم، وقد قال تعالى لنبيه: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى}. [الأنفال:17]. ولما وعدهم أن يمدهم بالملائكة تقاتل معهم قال تعالى: {وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}. [الأنفال:10] فأخبر أن النصر من عند الله لا من عند غيره، لتنيب القلوب إليه، فتعتمد في مهماتها ةعليه، وتستغيث به وحده لا شريك له.
فإذا كان هذا حالهم في الحياة فكيف ترى حال الأرواح بعد الممات، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُوْ لَهُ".
وهؤلاء الضلالُ يقولون: إن أرواح الأولياء تدبر، وتهزم، وتنصر، وتفعل، وتفعل، قل أأنتم أعلم أم الله.
وهذا الرجل يعرف من نظر في كلامه أنه أجنبي عن العلم والإيمان، لم يعرف ما جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب، وكيف كان الشرك في الأمم. ولكنه وجد مادة وكتباً شتت فهمه، أراد
ص -69-
الاستغناء بها فلم تزده إلا جهلاً وعمى، وأضاف إلى ذلك الجراءة في الكذب على أهل العلم، ونسبة الأقوال الضالة إليهم، كما كذب على الشيخ وتلميذه، وزعم أنهما قالا: أرواح الموتى من المدبرات، وروح النبي صلى الله عليه وسلم هزمت الجيوش. والصواب أن الشيخ –رحمه الله- نص على أن القول بمثل هذا من أقوال الفلاسفة والصابئة*.
ص -70-(33/49)
قال رحمه الله – فيمن قال إن أرواح الموتى تجيب من دعاها1:
"هذا يشبه بقول من يقول: الأرواح بعد المفارقة تجتمع هي والأرواح الزائرة فيقوى تأثيرها، وهذه المعاني ذكرها طائفة من الفلاسفة، ومن أخذ عنهم كابن سينا وأبي حامد وغيرهما.
وهذه الأحوال هي من أصول الشرك، وعبادة الأصنام، وهي من المقاييس التي قال بعض السلف: ما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس".
وقال أيضاً –رحمه الله- في الكلام على رؤساء المتكلمين: "وكل شرك في العالم إنما حدث برأي جنسهم، فهم الآمرون بالشرك، الفاعلون له"2 إلى أن قال: "وقد رأيت في مصنفاتهم في عبادة الملائكة، وعبادة الأنفس المفارقة –أنفس الملائكة وغيرهم- ما هو أصل الشرك".
وقال العلامة ابن القيم –رحمه الله- في "مدارجه": ومن أنواعه –يعني الشرك الأكبر- طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم،
__________
والرجل وجد مادة وكتباً شتت فهمه، وحيرت عقله، أراد الاستغناء بها فلم تزده إلا عمى وجهلاً، فأضاف إلى ذلك الجرأة في الكذب على الله وعلى رسله وعلى أولي العلم من خلقه، كما كذب على الشيخ ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية، وزعم أنهما قالا: الأرواح تدبر وتتصرف بعد الموت، والشيخ رحمه الله نص على أن القول بمثل هذا من أقوال الفلاسفة والصابئة.
1 في ط: آل ثاني: "قال رحمه الله: من قال إن أرواح ..." إلخ.
2 هذا النقل عن شيخ الإسلام ليس موجوداً في ط: آل ثاني.
ص -71-(33/50)
والتوجه إليهم. وهذا أصل شرك العالم، فإن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، فضلاً عمن استغاث به، أو سأله أن يشفع له عند الله. انتهى.
[ونَقْلَ العراقي عن كتاب "الروح" أن روح النبي صلى الله عليه وسلم هزمت جيوش الكفار والظلم مع كثرة عددهم، لا أصل له، وكتاب "الروح" موجود، ومسموع من المشايخ الثقات العارفين بنصوصه وأقواله وأصوله وفروعه، ليس فيه هذا، بل فيه ردُّه وإبطاله كما تقدم.
كذلك نقله عن الشيخ كذب ظاهر، وإفك وخيم.
ويغلب على ظني أنه سمع في كتاب "الروح" ذكر رؤيا الأرواح وصعودها، ونزولها، وحضورها تارة عند الحرب أو غيره، ورؤية بعض الناس لأصحابها: فظن أن هذا هو القول بأن الأرواح تدبر، وتهزم الجيوش، لأن في ذهنه وخَلْده ما عليه الصابئة والفلاسفة من أن الأنفس المفارقة قد تؤثر في هذا العالم، ولم يميز بين مذهب الصابئة، وما عليه المسلمون، ومن بلغ في الجهالة إلى هذه الغاية والحد، فقد تعطل قلبه عن الإدراك والمنافع وفسد]1.
__________
1 ما بين المعقوفتين سقط من ط: آل ثاني.
ص -72-(33/51)
فصل
قال العراقي في استدلاله على أن أرواح الصالحين تدعى وتدبر: (ومن الآيات التي تدل على ذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ}. [يوسف:24]. قال1 المفسرون، منهم البغوي: رأى يعقوب عاضاً على أنملته، يقول: إياك وإياها، فلم يفعل، فكان يوسف في مصر، ويعقوب في الشام. فهذا نوع من الكرامة وهي سبب، والقدرة لله).
قلت: يريد العراقي أن مثل هذا يدل على جواز دعاء الصالحين وندائهم بالحوائج في الغيبة، وبعد الممات، لأن هذا كرامة، والكرامة يدعى صاحبها، وينادى.
والجواب أن يقال: عبادة الله وحده لا شريك له وإفراده بالدعاء والطلب فيما لا يقدر عليه إلا هو، دلت على وجوبها الكتب السماوية، واتفقت عليها الدعوة الرسالية، وهي أصل الدين وقاعدته، لا يعتريها نسخ ولا تخصيص.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ
__________
1 في ط: آل ثاني "وقال".
ص -73-(33/52)
خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}. [فاطر:3]. وقال تعالى: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ*أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُور}. [تبارك: 20-21]. وقال تعالى: { فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}. [العنكبوت:17].
فتأمل هذه الآيات ونظائرها، وانظر ما دلت عليه من اختصاصه تعالى وانفراده1 بالخلق والرزق اللذين هما أصل المخلوقات وقوامها، وانظر2 كيف استدل بهذا على وجوب عبادته وطاعته والإيمان به، وهل يُعَارِضُ هذا الأصل بمثل هذه الأوهام الضالة من شَمَّ رائحة العلم، ودرى ما الناس فيه من أمر دينهم.
فإن كنتَ لا تدري فتلك مصيبةٌ
وإن كنتَ تدري فالمصيبةُ أعظمُ
هذا لو سلم أن الكرامات سبب، وأن هذا المثال فيه إثبات الكرامة، فكيف والأمر بخلاف ذلك بإجماع أهل العلم، والمقدمتان كاذبتان، لأن الكرامة فعل الله تعالى لا فعل للولي فيها، ولا قدرة له عليها ولا تأثير.
وكل من يذكر تعريف الكرامة وحَدَّها يقول: هي خرق الله العادة لوليه، لحكمة ومصلحة تعود عليه، أو على غيره، وعلى هذا
__________
1 "وانفراده" ليست في ط: آل ثاني.
2 في النسخ الخطية: "فانظر".
ص -74-(33/53)
التعريف لا فعل للولي فيها ولا إرادة، فمن أين يؤخذ أنها سبب يقتضي دعاء من قامت به، أو فعلت له؟ ومن أي وجه دلت الكرامة على هذا؟ وأفضل الناس الرسل، والملائكة من أفضل خلق الله، ولهم من المعجزات والكرامات والمقامات ما ليس لغيرهم.
قد جاء عيسى بن مريم بما هو من أفضل المعجزات والكرامات: يخلق من الطين كهيئة الطير، فينفخ فيه، فيكون طيراً بإذن الله، ويبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى بإذن الله، وينبئهم من الغيب ما يأكلون وما يدخرون.
وقد أنكر تعالى على من دعاه وقصده1 في حاجاته وملماته، وأخبر أن فاعل ذلك كافر بربه، ضال بعبادة غيره.
قال تعالى: {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا}. الآية [آل عمران:80]. والأرباب هنا2: هم المعبودون المدعون، وسيأتي تحقيق هذا.
وقال تعالى فيمن عبد3 المسيح: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَاللّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}. [المائدة:76].
وسيأتيك أن الدعاء والنداء بما لا يقدر عليه إلا الله داخل في مسمى العبادة فتنبه.
__________
1 في ط: آل ثاني: "قصده ودعاه".
2 سقطت: "هنا" من ط: آل ثاني.
3 في ط: آل ثاني: "عبدوا".
ص -75-(33/54)
فأخبر تعالى عن المسيح أنه لا يملك لمن دعاه نفعاً ولا ضراً، وإن قَلَّ، كما يفيده التنكير، وأبطل عبادته، وأنكرها أشد الإنكار، ومعجزاته أوضح من الشمس وسط النهار.
وقد تقدم أن هذه الشبهة هي التي تعلق بها النصارى في دعائه ودعاء أمه.
ثم اعلم أن الآية ليس فيها ما يدل على كرامة يعقوب –عليه السلام- إلا حفظه في عقبه، وصيانة ولده، فإن الله يحفظ الرجل الصالح في نفسه وأهله ووله، كما في حديث ابن عباس: "احفظ الله يحفظك"1. وليس ذلك من جهة المثال وتخصيصه، فإن هذا لا يفيد الكرامة ولا يفهمها.
__________
1 للحديث عن ابن عباس –رضي الله عنهما- طرق كثيرة، أصحها طريق حنش الصنعاني، أخرجه أحمد، والترمذي، وغيرهما.
قال الترمذي: "حديث حسن صحيح" اهـ من السنن 7/ 204 ط: المكتبة الإسلامية في تركيا.
وقال الحافظ أبو عبد الله بن منده: لهذا الحديث طرق عن ابن عباس، وهذا –أي طريق حنش- أصحها. اهـ. وقال أيضاً: وهذا إٍسناد مشهور، ورواته ثقات. اهـ بواسطة نقل ابن رجب عنه، في رسالته "نور الاقتباس" ص 30.
وقال ابن رجب في الرسالة المذكورة: وأجود أسانيده من رواية حنش عن ابن عباس التي ذكرنا، وهو إسناد حسن لا بأس به. اهـ.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وصى بذلك ابن عباس من حديث علي بن أبي طالب، وأبي سعيد الخدري، وسهل بن سعد، وغيرهم من الصحابة، وفي أسانيدها مقال.
وذكر العقيلي أن أسانيد الحديث كلها ليِّنة، وبعضها أصلح من بعض. اهـ من كلام ابن رجب في الرسالة المذكورة، وجامع بيان العلوم والحكم.
ص -76-(33/55)
وقد تمثل جبريل في صورة دحية الكلبي1. وكثيراً ما يتمثل الملك في صورة البشر.
__________
1 أخرجه أحمد في مسنده (2/ 107) عن يحيى بن يعمر عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ... وذكر قصة مجيء جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: "وكان جبريل عليه السلام يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في صورة دحية". وسنده جيد.
قال الحافظ ابن حجر في الإصابة (3/ 191): وروى النسائي "بإسناد صحيح" عن يحيى بن يَعْمَر عن ابن عمر قال: "كان جبريل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في صورة دحية".
وروى العجلي في تاريخه عن عوانة بن الحكم قال: "أجمل الناس من كان جبرائيل ينزل على صورته" يعني دحية اهـ.
وأخرجه الإمام أحمد في مسنده في حديث طويل (6/ 141-142) وحسن إسناده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 138).
وأخرجه الطبراني في الأوسط (كما في المجمع 9/ 378) عن أنس قال: قال رسول الله: "كان يأتيني جبريل على صورة دحية الكلبي.
قال الهيثمي: وفيه عفير بن معدان وهو ضعيف.
وروى ابن عساكر في تاريخه (التهذيب 5/ 223) من عائشة: "أنها رأت النبي صلى الله عليه وسلم واضعاً يده على معرفة فرس دحية الكلبي وهو يكلمه قالت: فقلت: يا رسول الله، رأيتك واضعاً يدك على معرفة فرس دحية، فقال: ذاك جبريل ...".
وروى أيضاً عن أم سلمة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحدث رجلاً، فلما قام قال: يا أم سلمة، من هذا؟ قلت: دحية الكلبي. فلم أعلم أنه جبريل حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث أصحابه ما كان بيننا".
فائدة: قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (1/ 125) على قصة جبريل ومجيئه للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه: دلت الروايات التي ذكرناها على أن النبي صلى الله عليه وسلم ما عرف أنه جبريل إلاَّ في آخر الحال. وأن جبريل أتاه في صورة رجل حسن الهيئة، لكنه غير معروف لديهم. وأما ما وقع في رواية النسائي من طريق أبي(33/56)
فروة في آخر الحديث "وإنه لجبريل نزل في صورة دحية الكلبي". فإن قوله: "نزل في صورة دحية الكلبي" وهم، لأن دحية معروف
ص -77-
والذي رآه يوسف هو المثال، لا نفس يعقوب وذاته كما فهمه الغبي، فإن هذا لا يدل عليه كلامهم أصلاً، وكرامات يعقوب –عليه السلام- أَجَلُّ من ذلك وأعظم.
وقد يُمَثَّلُ للإنسان من يحب ويأنس به، أو من يجله ويهابه، لمصلحة تعود عليه، لا على نفس صاحب المثال، ولذلك نظائر وأشباه في اليقظة1 والمنام، يعرفها أولو العلم والأفهام.
__________
عندهم، وقد قال عمر: "ما يعرفه منا أحد" وقد أخرجه محمد بن نصر المروزي في كتاب "الإيمان" له من الوجه الذي أخرجه منه النسائي فقال في آخره: "فإنه جبريل جاء ليعلمكم دينكم". وهذه الرواية هي المحفوظة لموافقتها باقي الروايات. اهـ.
1 في النسخ الخطية: "اليقضه".
ص -78-(33/57)
تنبيه
ليست الكرامة من لوازم المنزلة وعلو الدرجة، مشى قوم فوق البحار، ومات عطشاً من هو أفضل منهم، وأقوى إيماناً.
وقد كثرت في القرن الثاني والثالث، وفي القرن الأول من هو أفضل وأجل ممن وقعت له هذه الخوارق، وبسط هذا له محل آخر1.
والقصد إبطال كلام هذا الضال.
ويقال له: أكثر المفسرين على غير هذا، فمنهم من قال: إن هَمَّ يوسف من جنس الخطرات والواردات التي لا تستقر وليست بعزم، فتركها والإعراض عنها حسنة، كما دل عليه حديث: "إذا هَمَّ العبد بالسيئة فلم يفعلها كتبت له حسنة"2.
ومنهم من قال: البرهان المشار إليه هو قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى}. [الإسراء:32]. رأى الآية مكتوبة في السقف.
__________
1 سقطت: "آخر" من ط: آل ثاني.
2 أخرجه البخاري في صحيحه –كتاب الرقائق- 11/ 323، ومسلم في صحيحه 2/ 149 "نووي" كلاهما عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه تعالى أنه قال: .... الحديث.
ولهما عن أبي هريرة ... مثله.
ص -79-(33/58)
ومنهم من قال: رأى ثلاث آيات هي البرهان.
ومنهم من قال: لم يهمّ يوسف بسوء لوجوب عصمته حتى قبل النبوة، وقوله: {وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ}. [يوسف:24] معلق على عدم الرؤية، وقد ثبتت فلا هَمَّ، نقول: هلك1 زيد لولا عمر.
وهذا معنى ما قال بعضهم: في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: لولا أن رأى برهان ربه همَّ بها.
وهذا يذهب إليه من يقول بعصمة الأنبياء قبل النبوة.
وهو الراجح عن من اعتمد أقوالهم هذا العراقي فيما وصل إلينا في علم مسألة2 الغيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهنا3 خالفهم ظناً منه أن إثبات الكرامة يقتضي إباحة الدعاء مع الله.
قال بعض السلف: "أنت عند الطاعة قدري، وعند المعصية جبري، أيَّ مذهب وافق هواك تمذهبت به".
ومن العجب أنه يكرر في هذه "الرسالة": سلوني سلوني إن أشكل عليكم شيء، وعندي مِنَ النسخ، وعندي كذا وكذا، ويطري نفسه إطراء لا يصدر عَمَّن له دين وعقل، أو دراية بشيء من الآداب والنقل، حتى أنشد في مدح نفسه قول الشاعر:
__________
1 في ط: آل ثاني: "ملك".
2 سقطت: "مسألة" من ط: آل ثاني.
3 في ط: آل ثاني: "وهذا".
ص -80-
سَلِي إن جهلتِ الناسَ عَنَّا وعنهمُ
فليس سواءً عالمٌ وجهولُ1
وما أحسن ما قيل:
إني سألتُ ولكن لم أجدْ أحداً
أثنى2 عليك ومدح النفس تضليلُ
ومثل هذا لا يَحسُنُ ممن له علم وفضل، أو أدب ينتفع به وعقل، فكيف بمن لم يعلم حقيقة الإسلام، ولم يعرف منه ما عرفه آحاد العوام.
وقد اعترض بعض الجهال على شيخ الإسلام في بعض تقاريره فأخطأ الإصابة، ولم يتأدَّب بحضرة تلك العصابة. وقال له الشيخ: لا أدب ولا فضيلة.
وأَنَّى لمثل هذا بالفضل والأدب، وقد عدم العلم الذي هو أصل الفضائل والرتب.
فقرُ الجهولِ بلا علمٍ إلى3 أدبٍ
فقر الحمار بلا رأس إلى3 رسن(33/59)
__________
1 البيت للسموأل بن عادياء، ومطلع القصيدة التي منها هذا البيت:
إذا المرء لم يَدْنَسْ من اللُّؤْمِ عَرضُه
فكل رداءٍ يرتديه جميلُ
وإن هو لم يحملْ على النفس ضيمها
فليس إلى حسن الثناءِ سبيلُ
2 في ط: آل ثاني: "ثنا" وقد سقط البيت من "جـ".
3 في ط: آل ثاني: "ولا" وهو خطأ.
والبيت من قصيدة لأبي الطيب المتنبي يمدح فيها محمد بن عبد الله الخطيب الخصيني. وهي في الديوان ص131 (ط هندية بشارع الموسكي بمصر، 1342) ولفظ البيت: "فقر الجهول بلا قلب ... إلخ ومعناه –كما ذكر محشي الديوان-: هم لا عقل عندهم فلا يحتاجون إلى أدب، كما لا يحتاج الحمار فاقد الرأس إلى لجام.
ص -81-
وهذه الدعوى الكاذبة يمكن كل واحد أن يدعيها، ولكن هيهات هيهات قد حيل بين النفوس الجاهلة وبين أمانيها، لقول أصدق الورى، ومن لا ينطق عن الهوى: "لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال دماء قوم وأموالهم" الحديث1.
والله يعلم أني ما رأيت لهذا إصابة قط فيما يدعيه وينفرد به، حتى أنه قال في بدء رسالته وخطبته في وصف الأرواح: (فما تعارف منها في الأزل ائتلف). فزاد في الحديث قوله: "في الأزل" وهي زيادة تدل على جهله، وكثافة فهمه، فإن الأزل لا وجود للأرواح فيه، فضلاً عن أن تتعارف، لأنه اسم لما قبل إيجاد المخلوقات.
__________
1 أخرجه البخاري في صحيحه –كتاب التفسير- 8/ 213، ومسلم في صحيحه –كتاب الأقضية- 3/ 1336، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو يعطى الناس بدعواهم، لادعى ناس دماء رجالٍ وأموالهم. ولكن اليمين علىالمدعى عليه". هذا لفظ مسلم.
ص -82-(33/60)
فصل
قال: (وقد أجمع الحنابلة وغيرهم على طلب الشفاعة من الرسول بعد موته عند زيارته).
والجواب أن يقال: هذه دعوى عريضة كبيرة، لا تصدر إلا عن اطلاع كلي، وإحاطة تامة بأقوال أهل العلم، أو عن وقاحة كلية، وتهور في الكذب، وإيغال في الافتراء.
ومن المعلوم ضرورة عند من نظر في كلام هذا من أهل العلم، أنه ليس من القسم الأول، بل هو ممن يجهل الضروريات الإسلامية، والبديهيات الإيمانية اليقينية، مما لا يخفى على عامة المسلمين، فكيف له بمعرفة الإجماع في هذه المسألة.
والمدَّعِي يطالب بتصحيح دعواه. ولكن نتنزل مع هذا ونكتفي منه بتصحيح ذلك عن واحد فقط ممن يحتج به من أئمة العلم والفتوى، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو من بعدهم من التابعين، وتابعي التابعين، أو الأئمة الأربعة، أو أصحاب الوجوه والترجيحات في مذاهبهم.
وأما من لا يحتج به من الخُلُوْفِ الذين يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فهؤلاء ليسوا بحجة، ولا يرجع إليهم بالاتفاق، والآثارُ والأحاديث دَلَّت على عيبهم وذمهم بما أحدثوه في دين الله من
ص -83-(33/61)
الأقوال والأفعال، كما في حديث العرباض بن سارية1، وغيره من الأحاديث.
وما علمت أحداً من أهل العلم وأئمة الفتوى، قال هذا، لا من الصحابة ولا من غيرهم.
__________
1 ونصه: قال العرباض بن سارية: "وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب. قلنا: يا رسول الله، إن هذه لموعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ قال: "وقد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، ومن يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بما عرفتم من سنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، وعليكم بالطاعة وإن عبداً حبشياً، عضوا عليها بالنواجذ، فإنما المؤمن كالجمل الأنف حيثما انقيد انقاد". هذا لفظ أحمد. وفي لفظ له: "أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن كان عبداً حبشياً، فإنه من يعش منكم يرى بعدي اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وإن كل بدعة ضلالة". أخرجه أحمد 4/ 126-127، وأبو داود 5/ 13-14-15، والترمذي 5/ 44-45، وابن ماجه 1/ 15-16-17، وابن حبان 1/ 105، والآجري في الشريعة ص 47، والمروزي في السنة ص21-22، وابن أبي عاصم في السنة 1/ 17-18-19-20-26-27-29-30، والطبراني في الكبير 18/ 245- 246- 247، والحاكم في المستدرك 1/ 95-96-97، وفي المدخل إلى الصحيح ص79-80-81، والبيهقي في الدلائل 6/ 541، وفي مناقب الشافعي 1/ 10-11.
قال الترمذي: حسن صحيح. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح ليس له علّة، وأقره الذهبي، وصححه شيخ الإسلام ابن تيمية في الاقتضاء 2/ 579. وقال الحافظ ابن كثير في "تحفة الطالب" ص163: صححه الحافظ أبو نعيم الأصبهاني، والذعولي، وقال شيخ الإسلام الأنصاري: هو أجود حديث في أهل الشام وأحسنه. اهـ.
ص -84-(33/62)
بل حكى الشيخ الإمام أحمد بن عبد الحليم الإجماع على المنع من دعائه صلى الله عليه وسلم، والطلب منه، وقرر أن هذا من شعب الشرك الظاهرة، وسيأتيك بسط كلامه.
وذكر الحنابلة كصاحب "الفروع" و"الإقناع" وغيرهم، حتى أصحاب المختصرات: أن المُسَلِّم عند القبر لا يستقبله عند الدعاء، ولا يدعو الله عنده. وهذا منهم صيانة للتوحيد.
وأبو حنيفة قال: لا يستقبله عند السلام عليه صلى الله عليه وسلم، بل يستقبل القبلة، وحكاه شيخ الإسلام.
وقد كره مالك للرجل أن يدعو عند القبر الشريف، على صاحبه أفضل الصلاة والسلام، وذكر أنه يستقبل القبلة عند الدعاء، كما ذكره في "المبسوط" وغيره من كتب المالكية.
وفي منسك الإمام أحمد مثل هذا، بل كرهوا للرجل من أهل المدينة أن يأتي القبر الشريف كما دخل المسجد، لأنه محدث، لم يفعله أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال مالك: ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصْلَحَ أوّلَها1.
__________
1 باعث هذه الكلمة التي هي من جوامع الكلم، ما ذكره القاضي عياض –رحمه الله- في "الشفا" ج2/ 676 ط الحلبي، نقلاً من "المبسوط" للإمام إسماعيل بن إسحاق الجهضمي، عن الإمام مالك –رحمه الله- أنه قال: لا بأس لمن قدم من سفر أن يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيصلي عليه، ويدعو لأبي بكر وعمر –رضي الله عنهما.
فقيل له: فإن ناساً من أهل المدينة لا يقدمون من سفر، ولا يريدونه –أي لا يريدون السفر بل هم مقيمون- يفعلون ذلك في اليوم مرّة أو أكثر عند القبر،
ص -85-(33/63)
وأما مَنْ قدم من سفر أو أراده من أهل المدينة فرخصوا1 له في إتيان القبر الشريف للسلام، لأن ابن عمر كان يفعله.
قال ابن أخيه عبيد الله بن عمر بن عاصم: لم يفعله أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا ابن عمر2.
وعبيد الله المصغَّر3 من أفضل آل عمر، ومن أعيان وقته، ثقةً وزهداً وعلماً.
وأما دعاؤه، وطلب الشفاعة منه صلى الله عليه وسلم بعد موته، فهم مجمعون على المنع منه.
ولم ينقل عن أحد من أئمة المسلمين، لا الأئمة الأربعة، ولا غيرهم، ما يقتضي الجواز والإباحة.
__________
فيسلمون، ويدعون ساعة؟ فقال: لم يبلغني هذا عن أحد من أهل الفقه ببلدتنا، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك. ويكره إلا لمن جاء من سفر، أو أراده. اهـ.
وانظر "الاقتضاء" لشيخ الإسلام ابن تيمية، 2/ 754.
1 في النسخ الخطية: "فرخص".
2 قال عبد الرزاق في "المصنف" 3/ 576: عن معمر عن أيوب عن نافع قال: كان ابن عمر إذا قدم من سفر أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه.
وأخبرنا عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر. قال معمر: فذكرت ذلك لعبيد الله بن عمر، فقال: ما نعلم أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك إلا ابن عمر.
3 في ط: آل ثاني "المصفر".
ص -86-(33/64)
قال شيخ الإسلام أبو العباس –رحمه الله-: "والطلب من النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته وفي مغيبه1 ليس مشروعاً قط، ولكن كثيراً من الناس يدعو2 الموتى والغائبين من الشيوخ وغيرهم، فتتمثل3 له الشياطين، و4تقضي بعض مآربه، لتضله5 عن سبيل الله كما تفعل الشياطين بعباد الأصنام، وعباد الشمس والقمر، وتخاطبهم، وتتراءى لهم، وهذا كثير يوجد في زماننا، وغير زماننا". انتهى.
وقال الشيخ –رحمه الله-: "وكان الصحابة والتابعون –لما كانت الحجرة النبوية منفصلة عن المسجد إلى زمن الوليد بن عبد الملك- لا يدخل أحد إليها، لا لصلاة هناك، ولا لتمسح بالقبر، ولا دعاء هناك، بل هذا جميعاً إنما يفعلونه6 في المسجد7.
وكان السلف إذا سلموا على النبي صلى الله عليه وسلم وأرادوا الدعاء دعوا مستقبلي القبلة، ولم يستقبلوا القبر.
وأما وقوف المُسَلِّم عليه، فقال أبو حنيفة: ليستقبلوا القبلة أيضاًَ، و8لا يستقبلوا القبر.
__________
1 في ط: آل ثاني: "مغيبة".
2 في النسخ الخطية: "يدعوا".
3 في النسخ الخطية: "فتمثل".
4 سقطت "و" من النسخ الخطية.
5 في النسخ الخطية: "لتضلهم".
6 في ط: آل ثاني: "يفعل".
7 في ط: آل ثاني: "بالمسجد".
8 سقطت "و" من النسخ الخطية.
ص -87-(33/65)
وقال أكثر الأئمة: بل ليستقبلوا القبر عند السلام عليه خاصة، ولم يقل أحد من الأئمة إنه يستقبل القبر عند الدعاء –أي الدعاء الذي يقصده لنفسه1- إلا في حكاية مكذوبة تروى عن مالك، ومذهبه بخلافها.
واتفق الأئمة على أنه لا يمس قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يُقَبِّله. وهذا كله محافظة على التوحيد، فإن من أصول الشرك بالله اتخاذ القبور مساجد.
قالت طائفة من السلف في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ}. الآية [نوح:23]. هؤلاء كانوا قوماً صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوّروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم.
وقد ذكر بعض هذا البخاري في "صحيحه"2 لما ذكر قول ابن عباس. وذكر ابن جرير وغيره عن غير3 واحد من السلف. وذكره وَثِيْمَةُ4 وغيره في "قصص الأنبياء" من عدة طرق. انتهى.
__________
1 في ط: آل ثاني: "بنفسه".
2 ج 8/ 667.
3سقطت "غير" من ط: آل ثاني.
4 هو: وَثِيْمة بن موسى بن الفرات الوَشَّاء، توفي سنة سبع وثلاثين ومائتين، من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
قال ابن خلّكان في "وفيات الأعيان" ج6/ 12: وصنّف –أي وثيمة- كتاباً في أخبار الردّة ... ولم أعرف لوثيمة المذكور من التصانيف سوى هذا الكتاب اهـ.
ص -88-(33/66)
وقال الحافظ محمد بن عبد الهادي من أكابر الحنابلة وعلمائهم: "والسلف كلهم متفقون على أن الزائر لا يسأله شيئاً –يعني النبي صلى الله عليه وسلم- ولا يطلب منه ما يطلب منه في حياته، ويطلب منه يوم القيامة، لا شفاعة ولا استغفاراًَ".
وقال أيضاً: "والحكاية التي تنسب إلى مالك مع أبي جعفر المنصور كذبٌ عند أهل المعرفة بالنقل الصحيح". انتهى.
ومذهب مالك –رحمه الله- المعروف عند أصحابه يخالف هذه الحكاية المكذوبة ويردها.
قال القاضي عياض: قال مالك في "المبسوط": "لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو1، ولكن يسلم ويمضي".
وقال القاضي إسماعيل في "المبسوط" قال مالك: "لا أرى أن يقف الرجل عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو1، ولكن يسلم على النبي، وعلى أبي بكر، وعمر، ثم يمضي".
ولما نقل ابن وهب عن مالك أنه يدعو1 للنبي2 صلى الله عليه وسلم عند القبر، حمله أكابر أصحابه على الصلاة علي النبي صلى الله عليه وسلم. وابن
__________
قلت: ومن كتبه أيضاً كتاب "قصص الأنبياء" الذي أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم" ج 2/ 767-768. وقال الحافظ ابن حجر –رحمه الله تعالى- في "لسان الميزان" جـ6/ 217: ووقفت له على تصنيف كبير في المبتدأ وقصص الأنبياء.
1 في النسخ الخطية: "يدعوا".
2 في ط: آل ثاني: "النبي" وهو خطأ فاحش.
ص -89-(33/67)
عبد البر يقول: لفظ1 الرواية على ما ذكره ابن القاسم والقعنبي وغيرهما: يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، هذا لفظ مالك.
وقال بعض المالكية: المراد بالدعاء السلام، بدليل أنه ذكر في رواية ابن وهب نفسه يقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله.
وقد تقدم مذهب الحنابلة وأبي حنيفة.
وإذا كان هذا ممنوعاً مع أنه دعاء الله، فما ظنك بدعاء الرسول نفسه، وطلب الشفاعة منه صلى الله عليه وسلم؟
فالأول مُنِع منه لأنه وسيلة وذريعة إلى هذا المحذور الذي هو سؤال غير الله، وقصده في الحاجات. ولم يكن في عهد السلف شيء من هذا، وإنما حدث أوائله ومباديه بعد القرون المفضلة، وأنكرها أهل العلم والإيمان، محافظةً منهم2 على السنة، وحمايةً لجانب التوحيد، وطاعة لله ورسوله، وسداً لذرائع الشرك ووسائله.
وقد روى الضياء في "المختارة" عن الحسن بن الحسن أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فنهاه عن ذلك، قال: "ألا أحدثكم حديثاً سمعته من أبي عن جدي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "لا تتخذوا قبري عيداً، ولا بيوتكم قبوراً، وصلوا عليَّ فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم"3.
__________
1 في ط: آل ثاني: "لفظاً لرواية".
2 في النسخ الخطية: "منه".
3 هذا اللفظ الذي ذكره المؤلف هو لفظ حديث علي بن الحسين، انظر التعليقة رقم "1" من الصفحة القادمة.
ص -90-(33/68)
وروي أيضاً عن علي بن الحسين زين العابدين.
وهذان الإمامان هما أفضل أهل البيت في زمانهما.
وقد روي هذا الحديث عن أبي هريرة في سنن أبي داود بلفظ: "لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا قبري عيداً ..." الحديث1.
__________
1 أخرجه الإمام أحمد في "المسند" 2/ 367، وأبو داود في كتاب المناسك من "سننه" 2/ 534 من طريق عبد الله بن نافع أخبرني ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تتخذوا قبري عيداً، ولا بيوتكم قبوراً، وحيثما كنتم فصلوا عليَّ فإن صلاتكم تبلغني". هذا لفظ أحمد.
ولفظ أبي داود: "لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا عليَّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم".
قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية بعد أن ساق سند الحديث في "الاقتضاء" 2/ 654:
وهذا إسناد حسن، فإن رواته كلهم ثقات مشاهير. لكن عبد الله بن نافع الصائغ الفقيه المدني صاحب مالك فيه لين لا يقدح في حديثه. قال يحيى بن معين: هو ثقة، وحسبك بابن معين موثقاً. وقال أبو زرعة: لا بأس به.
وقال أبو حاتم الرازي: ليس بالحافظ وهو لين تعرف حفظه وتنكر. فإن هذه العبارات منهم تنزل حديثه من مرتبة الصحيح إلى مرتبة الحسن، إذ لا خلاف في عدالته وفقهه، وأن الغالب عليه الضبط، لكن قد يغلط أحياناً ثم هذا الحديث مما يعرف من حفظه، ليس مما ينكر، لأنه سنة مدنية، وهو محتاج إليها في فقهه، ومثل هذا يضبطه الفقيه.
وللحديث شواهد من غير طريقه، فإن الحديث روي من جهات أخرى، فما بقي منكراً.
وكل جملة من هذا الحديث رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم بأسانيد معروفة، وإنما الغرض هنا النهي عن اتخاذه عيداً.
ص -91-(33/69)
__________
فمن ذلك ما رواه أبو يعلى في مسنده: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا زيد بن الحباب حدثنا جعفر بن إبراهيم من ولد ذي الجناحين حدثنا علي بن عمر عن أبيه عن علي بن الحسين أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيدعو، فنهاه فقال: ألا أحدثكم حديثاً سمعته عن أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "لا تتخذوا قبري عيداً، ولا بيوتكم قبوراً، فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم". رواه أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي الحافظ فيما اختاره من الأحاديث الجياد الزائدة على الصحيحين، وشرطه فيه أحسن من شرط الحاكم في صحيحه. اهـ كلام شيخ الإسلام.
قال الهيثمي في المجمع 4/ 3 على هذا الحديث: "رواه أبو يعلى وفيه حفص بن إبراهيم الجعفري ذكره ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه جرحاً وبقية رجاله ثقات" اهـ.
قلت: كذا في الأصل "حفص" والصواب "جعفر" كما ساقه شيخ الإسلام، وكما في المصنف لابن أبي شيبة 2/ 375 –وفضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم للجهضمي ص33.
وفي سنده علي بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ذكره ابن حبان في "الثقات" وقال: يعتبر حديثه من غير رواية أولاده عنه. اهـ من التهذيب. وقال الحافظ ابن حجر في "التقريب": "مستور". اهـ.
ثم ذكر شيخ الإسلام لهذا الحديث شاهدين فقال في المصدر السابق:
وروى سعيد بن منصور في سننه: حدثنا حبان بن علي حدثني محمد بن عجلان عن أبي سعيد مولى المهري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تتخذوا بيتي عيداً ولا بيوتكم قبوراً وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني". انتهى كلام شيخ الإسلام.
وحبان بن علي هذا ضعفه الأئمة كما في التهذيب 2/ 173. وأبو سعيد مولى المَهْري قال عنه الحافظ ابن حجر في التقريب: مقبول. اهـ. يعني حيث يتابع وإلا فلين كما نص على هذا في المقدمة.
ص -92-(33/70)
فانظر هذه السنة المأخوذة عن أقرب الناس من رسول الله صلى الله عليه وسلم نسباً وداراًَ. وتأمل ما دلت عليه من الحِكم والفوائد: من ذلك نهيه عن اتخاذ قبره عيداً، والعيد ما يعتاد مجيئه في وقت مخصوص. وتأمل حكمة ذلك ومقصوده، وما فهمه السلف منه1 من النهي عن التردد إلى القبر الشريف، كلما دخل المسجد.
وفيه: أن الصلاة والسلام يبلغه، وإِنْ بَعُدَ المُسَلِّم.
وفيه: أن الذي يجب له صلى الله عليه وسلم من التوقير والتكريم، والصلاة والسلام، مطلوب في كل مكان، وعلى أي حال، وذلك أكمل وأتم2 ممن يعتاد ذلك عند مجيئه إلى القبر، أو يزيد بالغلو والإطراء، فإذا بَعُدَ عنه فهو من أشد الناس معصية وجفاءً.
__________
قال شيخ الإسلام في المصدر السابق: وقال سعيد: حدثنا عبد العزيز بن محمد أخبرني سهيل بن أبي سهيل قال: رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عند القبر فناداني –وهو في بيت فاطمة يتعشى- فقال: هلم إلى العشاء. فقلت: لا أريده، فقال: ما لي رأيتك عند القبر؟ فقلت: سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إذا دخلت المسجد فسلم، ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتخذوا بيوتكم مقابر، لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبائهم مساجد، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم"، ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء.
فهذان المرسلان من هذين الوجهين المختلفين يدلان على ثبوت الحديث، لا سيما وقد احتج به من أرسله؛ وذلك يقتضي ثبوته عنده، هذا لو لم يكن روي مسنداً من وجوه غير هذا، فكيف وقد تقدم مسنداًَ.
1 "منه" ليست في ط: آل ثاني.
2 في ط: آل ثاني "وأعم".
ص -93-(33/71)
وفيه حماية أصل الدين وقاعدنه بصرف الوجوه إلى الله، وإنابة القلوب إليه، واعتمادها عليه.
ورعاية هذا الأصل من أهم1 أصول الشريعة، ومداركِ الأحكام.
وسؤال المخلوق وصرف الوجه إليه بالمسألة والطلب في الأمور الكلية يعود على هذا الأصل بالهدم والقلع.
فمن عرف هذا حق المعرفة، ونظر في أدلته وأصوله: تبين له علم السلف، ودقة نظرهم، وحسن سياستهم للناس بما يصلح دينهم ودنياهم.
وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود والنصارى على اتخاذ قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد2.
__________
1 سقطت "أهم" من "أ".
2 أخرجه الإمام أحمد 1/ 218-6/ 34-228-275، والبخاري في كتاب الصلاة من صحيحه 1/ 532-وفي المغازي 8/ 140-وفي الأنبياء 6/ 494-وفي اللباس 10/ 277.
ومسلم في كتاب المساجد من صحيحه 1/ 377 جميعهم من طريق الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن عائشة وابن عباس قالا ... الحديث.
وأخرجه أحمد 6/ 274 عن عبيد الله عن عائشة ... به.
وأخرجه الإمام أحمد أيضاً 6/ 80-121-255، والبخاري في كتاب الجنائز من صحيحه 3/ 200-255 كلاهما عن عروة عن عائشة.
وأخرجه الإمام أحمد 6/ 146-252 عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن عائشة ... به.
ص -94-
وذكر أبو بكر الإمام الأثرم وغيره من أئمة الحنابلة: أن العلة في ذلك كون الصلاة ونحوها من العبادات عند القبور وسيلة وذريعة إلى تعظيم أربابها بما لم يشرع من الغلوِّ، والدعاء، وعبادتها مع الله.
فكيف والحالة هذه يقال بجواز طلب الشفاعة من الرسول صلى الله عليه وسلم أو أن ذلك مجمع عليه، كما زعمه المفتري، الجاهل بالله تعالى ومعرفة حقه، وحق رسله، فنعوذ بالله من الخذلان.
والعلمُ يَدْخُلُ كُلَّ قلبِ موفقٍ
من غير بَوَّابٍ ولا استئذانِ
ويرده المحرومُ من خِذلانه
لا تشقِنَا اللّهمَّ بالخِذْلاَنِ
ص -95-(33/72)
فصل
قال العراق: (والمقصود أن تكفير الناس بمجرد فهم واحد من كتاب الله لم يفهمه النبي صلى الله عليه وسلم، كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ}. [فاطر:13]. وهذه الآية صحيحة، ولكن هذا الفهم باطل، لأن الدعاء المذكور هو1 السجود على أنها أرباب، وهي الأصنام، وهم كانوا يعبدونها على أنها أرباب لهم، وهي أخشاب وأحجار لا تملك شيئاً، فالذي يستدل بهذه الآية يقال له: أين مذكور تفسير هذه الآية أنَّ المراد بها الأنبياء والشهداء والأولياء الذين يناديهم المسلم نداء لا عبادة؟ فإن هذا لم يذكر قط في تفسير، ولا في حديث، ولا في أقوال السلف. نعم ذكر الشيخ تقي الدين وقال: إنه باب الزجر والتغليظ والإشارة، لا باب الحكم على المسلم بالردة، فله أكثر من مائة عبارة تنفي ذلك، والدعاء ليس في كل مكان يراد به العبادة، قال تعالى: {فَلْيَدْعُ نَادِيَه*سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ}. [العلق:17-18]. أيقال: إن الله تعالى عبد الزبانية لأنه دعاهم) انتهى كلامه.
وإنما سقناه بحروفه ليعلم المؤمن قدر ما أنعم الله عليه به من
__________
1 في النسخ الخطية: "و".
ص -96-(33/73)
نعمة الإسلام، وما اختصه به من الكرامة ورفع المقام، وليعتبره بما يراه من حال هؤلاء الضالين، كيف تلاعب بهم الشيطان، وأوصلهم إلى غاية من الجهل والضلال، حجبهم بها عن معرفة الله، ودينه، وحقه على عبيده، وعن معرفة رسله، ومعرفة حقهم، وما يجب لهم، وما يستحيل، وأوهمهم مع ذلك أنهم من أهل العلم بشرعه ودينه في التحريم والتحليل، وهم كما ترى ليس معهم من الإسلام أصل ولا خبر، ولم يقعوا من ذلك على عين ولا أثر.
فإن حاصل ما قرره هنا: أن الله تعالى لم يحرم عبادة الأنبياء والملائكة والصالحين، ودعاءهم1، وإنما حَرَّم اعتقاد الاستقلال من دونه، واعتقاد الربوبية فيها. وأن العبادة هي السجود فقط، مع اعتقاد أنها أرباب –وهي الأصنام والأخشاب والأحجار- لا تملك شيئاً. وأن النداء يجوز لأنه ليس بعبادة، وأنه2 لم يذكر قط كون النداء عبادة، وما ذكره الشيخ تقي الدين من باب الزجر والإشارة، وله أكثر من مائة عبارة تنفي كون نداء الأنبياء والصالحين عبادة. ومن فهم من كلام الله تحريم دعاء الصالحين فهو مخطئ ضال، منفرد بهذا الفهم.
هذا حاصل كلامه، فيا ويحه ما أكبر زلته، وما أغلظ كفره، وما أشدَّ عداوته لما جاءت به الرسل [وما أكثف حجابه عن معرفة ما أرسلت به الرسل]3 واتفقت عليه دعوتهم، وهذا النوع من
__________
1 في النسخ الخطية: "دعائهم".
2 تفي ط: آل ثاني: "وإن".
3 ما بين المعقوفتين ليس في ط: آل ثاني.
ص -97-
الناس1 هم أعوان إبليس وأنصاره في زمان ومكان، ظهروا للناس في ثياب القراء والعلماء، وهم من أجهل من تحت أديم السماء.
يا فرقةً ما خان دينَ محمدٍ
وجنى عليه ومله إلا هي(33/74)
وفي هذا من الكذب على الله، والكذب على رسوله، وعلى أولي العلم من ورثته، والقول عليه بغير علم، وتحريف الكلم عن مواضعه، والكذب على اللغة والشرع ما يعزُّ استيفاء الكلام عليه واستقصاؤه.
فقوله: (إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفهم من هذه الآية ونحوها تكفير من دعا الأنبياء والصالحين) كذب على الرسول، ونسبة ما لا يليق بآحاد المؤمنين إليه.
وهل وقعت الخصومة، وجرد السيف، ودعي من دعي2 من أهل الكتاب إلى المباهلة، وأمر بقتالهم حتى يسلموا، أو يعطوا الجزية، إلا لأجل عبادة الأنبياء والصالحين، ودعائهم. وهل صُوِّرَتِ الأصنام وعبدت إلا باعتبار من هي على صورته وتمثاله من الأنبياء والملائكة والصالحين؟
__________
1 "من الناس" ليست في ط: آل ثاني.
2 في ط: آل ثاني "ودعا من دعا".
ص -98-(33/75)
والآيات التي يعبَّر فيها بالموصول وصلته كقوله: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ}. [فاطر:13] ونحوها من الآيات، كقوله تعالى: {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ}. [يونس:106]. {قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ}. [الإسراء:56].
فهذه الموصولات في كلام الله وكلام رسوله واقعة على كل مدعوّ ومعبود نبياً كان أو ملكاً أو صالحاًَ، إنسياً أو جنياً، حجراً أو شجراً، متناولة لذلك بأصل الوضع.
فإن الصلة كاشفة ومبنية للمراد، وهي واقعة على كل مدعوٍّ من غير تخصيص، وهي أبلغ وأدل وأشمل من الأعلام الشخصية والجنسية، وهذا هو الوجه في إيثارها على الأعلام، وشرط الصلة أن تكون معهودة عند المخاطب. تقول: جاء الذي قام أبوه، لمن يعهد قيام الأب، ويجهل النسبة بينه وبين من جاء.
والمعهود عند كل من يعقل من أصناف بني آدم أن الأنبياء والملائكة والصالحين قد عُبِدوا مع الله، وقصدهم المشركون بالدعاء في حاجاتهم وملماتهم، كما جرى لليهود والنصارى في عبادة الأنبياء والأحبار والرهبان، وكما جرى لقوم نوح في ودٍّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر1، وكما جرى للعرب في عبادة الملائكة، واللات، وهو رجل صالح كان يلت السويق للحاج.
__________
1 في النسخ الخطية: "نسرا".
ص -99-(33/76)
وهذا أوضح من أن يحتاج لتقرير، وأظهر من أن يتوقف على كشف وتفسير. فإن العربي سليم الذوق والفطرة يعرفه1 بعربيته وفطرته، وجميع المفسرين يقررون هذا بضروب من العبارات والتقريرات، ويفهمها الذكي، ومَنْ خَصَّ الأصنام في بعض المواضع فهو لا يمنع أنها عبدت باعتبار من هي على صورته.
وقد ذكر هذا ابن كثير في "تفسيره" وذكره غيره من أهل العلم. وقد كذب هذا عليهم، نسبهم إلى الجهل، كما كذب على الله ورسوله، قال تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ}. [الزمر:60].
وأيضاً فقد2 قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}. [الأنبياء:25].
فإن نازع هذا في عموم النفي فهو على مذهب من قال: (أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب). وإن سلم العموم، وزعم أن دعاء الصالحين ونداءهم3 ليس بعبادة ولا دعاء فقد خرج عن المعقول والمنقول، وأتى بجهالة حمقى، خرج بها عَمَّا قاله جميع أئمة العلم والهدى.
__________
1 في: "ب" و"جـ" وط: آل ثاني: (يعرف).
2 في "أ": "قد".
3 في النسخ الخطية: "دعائهم".
ص -100-(33/77)
تحفة الطالب والجليس في كشف شبه داود بن جرجيس - عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ (2)
وقوله تعالى عن نبيه يوسف: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}. [يوسف:39] هي من هذا الباب، فإن تفرق الآلهة والأرباب يصدق بعبادة الأنبياء والصالحين.
ومن نازع في هذا فليس من جملة العقلاء1 ولا ممن يعرف الضروريات التي يعرفها الحمقى.
هذا لو لم يرد في عبادة الأنبياء والصالحين الملائكة نصوص خاصة، فكيف2 وقد جاء في ذلك ما فيه الهدى والشفاء.
قال تعالى: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}. [آل عمران:80]. والأرباب هنا هم الآلهة المعبودة3، فإن الرب وضع للمعبود كما وضع للمالك والمربي والخالق، وليس هذا من المشترك، ولا من المتواطئ، بل هو من استعمال اللفظ في حقيقته اللغوية، والشرعية.
وبهذا يتبين لك خطأ العراقي في قوله: (على أنها أرباب) فإنه يريد بهذا القيد أنها لا تكون عبادة إلا مع اعتقاد التدبير والتأثير لها، كما تقدم عنه صريحاً.
وقال تعالى فيمن عبد الصالحين بطاعتهم من دون الله، وغلا في الأنبياء: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ}. الآية
__________
1 في النسخ الخطية: "بل ولاممن..".
2 سقطت من ط: آل ثاني: "فكيف".
3 في النسخ الخطية: "المعبودون".
ص -101-(34/1)
[التوبة:31]. فسرها النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم بطاعتهم في التحليل والتحريم المخالف لأحكام الله تعالى1.
__________
1 أخرجه الترمذي في سننه –كتاب التفسير- 5/ 278، وابن جرير الطبري في تفسيره 10/ 114، والطبراني في الكبير 17/ 92، والبيهقي في سننه –كتاب آداب القاضي- 10/ 116 كلهم من طريق عبد السلام بن حرب عن غطيف بن أعين عن مصعب بن سعد عن عدي بن حاتم قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال: "يا عدي اطرح عنك هذا الوثن" وسمعته يقرأ في سورة براءة {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ}. قال: "أما، إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئاً حرموه". هذا لفظ الترمذي. وهذا إسناد ضعيف علته غطيف بن أعين وقيل غضيب، ضعفه الدراقطني وغيره –وبه أعل الترمذي هذا الحديث فقال عقبه: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبدالسلام بن حرب، وغطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث" اهـ. وعبد السلام بن حرب ثقة إمام حافظ إلا أن له مناكير.
والحديث عزاه السيوطي في الدرّ المنثور 4/ 174 لابن سعد، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه. وعزاه ابن كثير في تفسيره 2/ 348 للإمام أحمد، ولم أجده في مسند عدي والله أعلم.
وللحديث شاهد من حديث حذيفة موقوفاً أخرجه –كما في الدر المنثور 4/ 174- عبد الرزاق، والفريابي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والبيهقي في سننه كلهم من طريق أبي البَخْتَري سعيد بن فيروز قال: سأل رجل حذيفة –رضي الله عنه- فقال: أرأيت قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ}. الآية. أكانوا يعبدونهم؟ قال: لا، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئاً حرموه.
وأخرجه(34/2)
من هذا الطريق ابن جرير في تفسيره 10/ 114-115 وإسناده ضعيف للانقطاع بين أبي البختري وحذيفة. فإن أبا البختري لم يسمع من حذيفة، إنما أرسل عنه، كما في تهذيب الكمال للمزي، وجامع التحصيل.
ص -102-
وقال تعالى فيمن عبد الصالحين: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً}. [الإسراء:56]. وهذه فيمن عبد الصالحين من الجن والإنس والملائكة كما فسرها بذلك غير واحد من السلف، ويدل عليه قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ}. [الإسراء:57]. وقد وصفهم بأنهم لا يملكون كشف الضر ولا تحويله من حال إلى حال وإن قَلَّ، كما تفيده1 النكرة في سياق النفي، فبطل دعاؤهم بما لا يقدر عليه إلا الله.
وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ}. [سبأ:22]. نفى أن يكون لهؤلاء المدعوين مُلْكٌ في السموات والأرض ولو قَلَّ كمثقال ذرة، وهذا هو الذي يعبر عنه بالاستقلال.
ونفى أن يكون لهم فيهما شرك ولو قَلَّ، كما يفيده قوله: (من شرك)2، فإنه يفيد استغراق النفي.
__________
ثم عزا السيوطي في "الدر" أثر حذيفة هذا إلى أبي الشيخ والبيهقي في شعب الإيمان –والذي يظهر من صنيع السيوطي أنه من طريق آخر غير طريق أبي البختري فلينظر.
وقد حسن شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية هذا الحديث كما في كتابه "الإيمان" ص64 وعلى معنى هذا الحديث جمهور المفسرين. والله أعلم.
1 في ط: آل ثاني: "يفيده".
2 ليس في النسخ الخطية "شرك".
ص -103-(34/3)
ونفى أن يكون له منهم من1 ظهير يعاونه ويؤازره، وإذا بطل الملك والشركة والمعاونة لم يبقَ سوى الشفاعة، فنفاها بقوله: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}. [سبأ:23]. فإن هذا يفيد إبطال الشفاعة التي ظنها المشرك ودعا غير الله لأجلها، وقد دل القرآن على نفيها في مواضع.
والشفاعة المثبتة التي دلَّ عليها الاستثناء، وجاءت بها الأحاديث النبوية، نوع آخر غير ما ظنه المشركون.
وحقيقتها: أن الله تعالى إذا أراد رحمة عبده ونجاته أذن لمن شاء في الشفاعة رحمة للمشفوع فيه، وكرامة للشافع.
وقُيِّدت الشفاعة المثبتة بقيود منها: إذنه تعالى للشافع. ونكتة هذا القيد وسره: صرف الوجوه إلى الله، وإسلامها له، وعدم التعلق على غيره لأجل الشفاعة، ولذلك يساق هذا بعد ذكر التوحيد، وما يدل على وجوب عبادة الله وحده.
وهذا الموضع لم يفهمه كثير2 من الناس، ظنوا أن الاستثناء يفيد إثبات الشفاعة مطلقاً وطلَبَها من غير الله، فعادوا إلى ما ظنه المشركون وقصدوه، قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}. [يونس:18].
ومنها: أنه لا يشفع أحد إلا فيمن رضي الله قوله وعمله. قال تعالى:
__________
1 سقطت: "من" من "أ".
2 إلى هنا انتهت نسخة "ب" المصورة من جامعة الملك سعود.
ص -104-(34/4)