ص -107- ... والكفين فمراده مع أمن الفتنة، والمحافظة على العفة، وستر ما سوى ذلك.
والواقع من نساء العصر خلاف ذلك، لضعف إيمانهن، وقلة حيائهن؟ ومعلوم أن سد الذرائع المفضية للمحرمات، من أهم أبواب الشريعة الكاملة. وقال تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} [سورة النور آية: 60] الآية.
فإذا كانت القواعد- وهن العجائز- يمنعن من وضع الثياب عن محاسنهن كالوجه والكفين، ونحو ذلك، فكيف بالشابات الجميلات الفاتنات؟ وإذا كانت العجائز يمنعن من التبرج بالزينة، فهو في الشابات أشد منعا، والفتنة بسببهن أكبر.
ولما ذكر ابن القيم رحمة الله: الغناء وما ورد فيه عن ابن عباس وغيره من الذم، وأنه من الباطل الذي لا يرضاه الله، قال ما نصه:
فهذا جواب ابن عباس رضي الله عنهما، عن غناء الأعراب، الذي ليس فيه مدح الخمر، والزنى، واللواط, والتشبيب بالأجنبيات، وأصوات المعازف، والآلات المطربة، فإن غناء القوم لم يكن فيه شيء من ذلك، ولو سمعوا هذا الغناء، لقالوا فيه أعظم قول؛ فإن مضرته وفتنته فوق مضرة شرب الخمر بكثير، وأعظم منه فتنة؛ فمن أبطل(22/106)
ص -108- ... الباطل أن تأتي الشريعة بإباحته.
فمن قاس هذا على غناء القوم، فقياسه من جنس قياس الربا على البيع، والميتة على المذكاة، والتحليل الملعون فاعله، على النكاح الذي هو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإذا كان هذا كلام ابن القيم في غناء أهل عصره، فكيف بغناء هذا العصر الذي يذاع، ويسمع الرجال والنساء، والخاص والعام فيما شاء الله من البلاد؟ ! فتعم مضرتة، وتنتشر الفتنة به، ولا شك أن هذا أشد إثما وأعظم مضرة.
وأما الأحاديث: فمنها، ما رواه الترمذي وحسنه، عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين، صوت عند نغمة لهو ولعب، ومزامير شيطان، وصوت عند مصيبة، خمش وجوه، وشق جيوب، ورنة" 1.
قال ابن القيم رحمه الله، بعد هذا الحديث: فانظر إلى هذا النهي المؤكد، بتسمية صوت الغناء صوتا أحمق، ولم يقتصر على ذلك حتى وصفه بالفجور، ولم يقتصر على ذلك، حتى سماه من مزامير الشيطان.
وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر على تسميته الغناء مزمور الشيطان، في الحديث الصحيح؛ فإن لم يستفد التحريم من هذا، لم نستفده من نهي أبدا.
ثم قال: فكيف يستجيز العارف إباحة ما نهى عنه
__________
1 الترمذي: الجنائز (1005).(22/107)
ص -109- ... رسول الله صلى الله عليه وسلم وسماه صوتا، أحمق فاجرا، ومزمور الشيطان، وجعله والنياحة التي لعن فاعلها أخوين، وأخرج النهي عنهما مخرجا واحدا، ووصفهما بالحمق والفجور وصفا واحدا. وقال "ابن مسعود رضي الله عنه: الغناء ينبت النفاق في القلب، كما ينبت الماء البقل".
وفي صحيح البخاري، عن "أبي مالك الأشعري، رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ليكوننّ من أمتي أقوام، يستحلون الحر والحرير، والخمر والمعازف، ولينزلن أقوام إلى جنب علم، يروح عليهم بسارحة لهم، يأتيهم لحاجة، فيقولوا: ارجع إلينا غدا، فيبيتهم الله ويضع العلم، ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة".
وأخرج ابن ماجه عن أبي مالك الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليشربن ناس من أمتي الخمر، يسمونها بغير اسمها، يعزف على رؤوسهم بالمعازف، والمغنيات، يخسف الله بهم الأرض، ويجعل منهم قردة وخنازير" 1.
قال ابن القيم رحمه الله، في هذا الحديث: إسناده صحيح. قال: وقد توعد مستحلي المعازف فيه بأن يخسف الله بهم الأرض، ويمسخهم قردة وخنازير، قال: والمعازف، هي: آلات اللهو كلها، لا خلاف بين أهل اللغة في ذلك. قال: ولو كانت حلالا، لما ذمهم على استحلالها، وإنما قرن باستحلال الخمر، ا هـ.
__________
1 أبو داود: الأشربة (3688) , وابن ماجه: الفتن (4020).(22/108)
ص -110- ... ولقد وقع مصداق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من استحلال بعض أمته المعازف، وصوت المغنيات؛ ولا شك أن هذا من تزيين الشيطان، وخداعه للناس، حتى يفعلوا هذه المعاصي، ولا يتوبون منها، لاستحلالهم لها.
وفيما ذكرناه من الآيات، والأحاديث، وكلام أهل العلم، الدلالة الصريحة، والبرهان القاطع على تحريم الأغاني، وآلات الملاهي، من الرجال والنساء، لما يترتب على ذلك من المفاسد العظيمة التي تقدم بيان بعضها.
ومما يؤكد تحريم ذلك، ويوجب مضاعفة الإثم: كون ذلك يلقى في مهبط الوحي، ومطلع شمس الرسالة، لما يترتب على ذلك، من إضلال الناس وفتنتهم، ولبس الأمور عليهم، حتى يعتقدوا ذلك من الحق، لكونه صدر من مهبط الوحي وحماة الحرمين الشريفين، الذين هما محط أنظار العالم وأمل المسلمين.
ومما يزيد الإثم أيضا، ويضاعف الفتنة: أن يشارك في ذلك النساء؟ بأصواتهن الفاتنة، المثيرة للغرائز، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء" 1 رواه البخاري.
وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للنساء: "ما رأيت من ناقصات عقل ودين، أذهب للب الرجل الحازم منكن" 2 هذا مع تحجبهن وتأدبهن بالآداب
__________
1 البخاري: النكاح (5096) , ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2740 ,2741) , والترمذي: الأدب (2780) , وابن ماجه: الفتن (3998) , وأحمد (5/200 ,5/210).
2 البخاري: الحيض (304).(22/109)
ص -111- ... الشرعية، فكيف بحال نسائنا اليوم؟ ! 1.
[ رد الشيخ عبد الله بن محمد على أبي تراب القائل بإباحة الغناء وآلات اللهو ]
وقال الشيخ: عبد الله بن محمد بن حميد، رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
"تعقيب وجواب". نشرت مجلة الرائد، في عددها 67 وتأريخ 6/8/1381هـ، مقالا للأستاذ أبي تراب الظاهري، قال فيه بإباحة الغناء، وآلات اللهو من المزامير والمعازف، والاستماع إليها, وأن الكتاب والسنة لم يحرما ذلك، كما نشرت أيضا جريدة عكاظ، في عددها 55، وتأريخ 4/ 1/ 81 كلمة للأستاذ المقنع أورد فيها أحاديث في الغناء، ويطلب الجواب عنها، وإني أشكر الأخ الأستاذ المقنع، على اجتهاده وتطلبه للحق.
لا شك أن الغناء حرام، دل عليه الكتاب والسنة، لما فيه من الضرر البين، والفساد العريض، فإنه يلهب النفوس، ويوقدها فيقيمها ويقعدها، لأنه وضع ليفعل أقصى ما يتصور من التأثير على السامعين والسامعات.
__________
1 ويأتي إن شاء الله باقي هذه النصيحة, في الباب التاسع, لمناسبته هناك; وقد قدمها رحمه الله إلى المسئولين, عنه, وعن مجموعة من المخلصين.(22/110)
ص -112- ... لا يمكن أن تحمل سماعه شاب أو شابة، دون أن يعمل فيهما عمله، لاسيما ما يخرج من تلك النغمات الرخيمة، لما فيه من التألم والاشتياق، والتلهف على اللقاء؛ إن مثل هذا ليذهب الغيرة الدينية، ويثير من القلوب كأمنها، ويحرك ساكنها.
وإن "الراديو" الذي لم يبق بلد، ولا بيت، ولا قطر، إلا وقد وصل إليه، تجلس المغنية أمام الآلات المبلغة، فترفع صوتها الرخيم المهيج للنفوس، الباعث للوجد والتوجع، تشكو وتهيج، وتستعطف، فتؤثر على النفوس أعظم تأثير.
فهل هؤلاء الصحابة والتابعون رضي الله عنهم، مثل عبد الله بن عمر، وعبد الله بن جعفر، وسعيد بن المسيب، ومالك بن أنس، وغيرهم، ممن نقل الأستاذ أبو تراب عنهم أنهم يسمعون الغناء، هل يسمعون مثل هذا الذي يذيعه "الراديو"؟ كغناء أم كلثوم، وفريد الأطرش، وأمثالهما؟ !.
فلو تفضل الأستاذ بنقل مسموعهم من الغناء المزعوم، أهو كهذا الغناء الذي نحن بصدده؟ ! هذا لم يكن، ولا يكون أبدا إن شاء الله.
ثم هؤلاء المغنون من الرجال، يجلس الواحد منهم أمام الآلة المؤدية للصوت، يفعل بصوته الطنان مع النساء، مما(22/111)
ص -113- ... يجعل الواحدة منهن تكاد تهيم على وجهها، باحثة منقبة عمن يبادلها الآهات والأنات، والمغازلات، وما وراء ذلك، والعياذ بالله.
أقول هذا- ولم تسمع أذني غناء قط والحمد لله، كفى الله العباد والبلاد شر هذا الغناء- وأعوذ بالله أن يقول مسلم بإباحة ما يحرض على الزنى ويدعو إليه، وأعتقد أن سماع صوت المغنيات، الباعث إلى هذا الفحش، لا يجرُؤ مسلم على أي مذهب، بأن يقول بإباحته.
فلا يجوز لمن يتولى الحكم على أفعال المكلفين، بالإباحة والحرمة، إلا أن ينظر في ذلك، نظر تأنٍ وحكمة، لينفذ بثاقب فكره إلى الأعماق منها، بتأمل الأدلة الشرعية، المفيدة حكم التحريم والإباحة، ثم بعد ذلك يحكم.
أما ما أورده أبو تراب من الأحاديث الدالة على منع الغناء، وطعنه في أسانيدها، وأنها غير صالحة للاحتجاج بها, فقد سلك في هذا مسلك ابن حزم، ورد عليه أئمة هذا الشأن وخطؤوه.
كقوله فيما رواه الإمام البخاري في صحيحه، حيث قال: قال هشام بن عمار، حدثنا صدقة بن خالد، وساق بسنده إلى أبي عامر، وأبي مالك رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليكونن أقوام من أمتي، يستحلون الحر، والحرير، والخمر، والمعازف" بأن هذا حديث منقطع، لا يصح الاحتجاج به.(22/112)
ص -114- ... وغلط الأستاذ في هذا، فإن البخاري علقه جازما به، وقد تقرر عند الحفاظ أن الذي يأتي به البخاري من التعاليق كلها، بصيغة الجزم، يكون صحيحا إلى من علق عنه، لا سيما في مقام الاحتجاج، كهذا الحديث.
والبخاري قد لقي هشام بن عمار، وقد أخرج أبو داود هذا الحديث، في كتاب اللباس من سننه، بسند متصل. وقد ثبت هذا الحديث من طرق كثيرة، لم يكن لقائل معها مقال.
والأحاديث الأخرى الدالة على تحريم الغناء والمعازف، كثيرة جدا، روى بعضها أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم، وأبو داود الطيالسي، والطبراني، وابن أبي شيبة، وابن أبي الدنيا، وغيرهم ممن لا يحصى كثرة، فإنها وإن كان بعضها فيه مقال، فهي صالحة للاحتجاج بها في تحريم الغناء، لكثرتها وتعدد طرقها.
وهؤلاء حماة الإسلام، والأئمة الأعلام، ينهون عن الغناء والمعازف، ويبينون مضارها ومفاسدها بما لا مزيد عليه، مستدلين بهذه الأحاديث وغيرها.
بل نقل الإمام القرطبي إجماع أهل العلم على تحريم الغناء، لأنه من اللهو واللعب المذموم، لما اشتمل عليه من وصف محاسن الصبيان والنساء.
أما ما نقل أبو تراب عن الإمام أبي حنيفة: أن من سرق(22/113)
ص -115- ... مزمارا أو عودا، قطعت يده، ومن كسرهما ضمنهما، فالمنصوص في كتب أصحابه الذين هم أعرف الناس بمذهبه، وأعرفهم بأقواله، بأنه لا قطع ولا ضمان على من أتلف آلات اللهو؛ وهو المفتى به عندهم، وعند غيرهم، رحمة الله عليهم, وحكاه بعض الحنفية إجماعا.
وقول الأستاذ أبي تراب في تفسير قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [سورة لقمان آية: 6] بأنه الغناء فلا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا ثبت عن أحد من الصحابة، وإنما هو قول من لا تقوم به الحجة.
هلا وقف الأستاذ، وتثبت فيما يقول؟ من نفي ثبوت ذلك عن الصحابة، رضي الله عنهم، فالقول بأن لهو الحديث هو: الغناء، قال به أكثر المفسرين، وصح عن عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وغيرهم رضي الله عنهم.
وقول الأستاذ أبي تراب: صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع مزمارا، فوضع أصبعيه في أذنيه، وكان معه ابن عمر، انتهى، ما كان للرسول صلى الله عليه وسلم ليسد أذنيه عن سماع المباح، ولا أنه يأمر بذلك.
مع أن المعروف في هذا ما رواه أبو داود، وابن ماجه، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنه "أنه سمع مزمار راع، فجعل أصبعيه في أذنيه، وعدل راحلته عن الطريق، فقال: هل تسمع يا نافع؟ فيقول نعم، فمضى حتى قال نافع:(22/114)
ص -116- ... لا أسمع شيئا، فرفع أصبعيه عن أذنيه، وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل مثل الذي فعلت" أو كما قال رضي الله عنه.
لعل الأستاذ يريد هذا، فيما أشار إليه بقوله: صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا ضعيف عند الحفاظ، بل قال أبو داود: هو منكر لا تقوم به حجة، ونافع صغير، لم يبلغ على تقدير ثبوته.
وهذه أقوال الأئمة الأربعة في ذلك:
أما أبو حنيفة، فمذهبه أشد المذاهب، وقوله فيه أغلظ الأقوال، فقد نقل أئمة مذهبه: بأن استماعه فسق، والتلذذ به كفر، وليس بعد الكفر غاية.
ومالك رحمه الله، سئل عن الغناء, فقال: إنما يفعله عندنا الفساق, وفي كتب أصحابه: إذا اشترى جارية، وتبين أنها مغنية، فلمشتريها ردها بالعيب.
والإمام أحمد، فقد سأله ابنه عبد الله عنه، فقال. يا بني الغناء ينبت النفاق في القلب. ثم ذكر قول مالك: إنما يفعله عندنا الفساق.
والشافعي رحمه الله، فقد قال في كتابه: "أدب القضاء": إن الغناء لهو مكروه يشبه الباطل. وقال لأصحابه بمصر: خلفت ببغداد شيئا أحدثته الزنادقة، يسمى "التغبير" يصدون به الناس عن القرآن.(22/115)
ص -117- ... فإذا كان قوله هذا في التغبير، الذي هو عبارة عن شعر مزهد في الدنيا، إذا غنى المغني به، ضرب الحاضرون بقضيب على نطع، أو مخدة، ضربا موافقا للأوزان الشعرية.
فليت شعري ماذا يقول في هذا الغناء الماجن، الذي تنقله الإذاعات إلى كل مكان؟ فمن قال بإباحة هذا النوع، فقد أحدث في دين الله ما ليس منه.
أما ما نشرت جريدة عكاظ من الأحاديث التي يطلب الأستاذ المقنع إيضاح معناها، كخبر الجاريتين اللتين كانتا تغنيان عند عائشة يوم العيد, وحديث محمد بن حاطب: "فصل ما بين الحلال والحرام، الدف، والصوت، في النكاح"1, وخبر: "أتيناكم أتيناكم، فحيانا وحياكم" 2, وحديث الربيع بنت معوذ، وأمثال هذه الأحاديث.
لم يكن في هذا ما يدل على إباحة الغناء الماجن، الذي نحن بصدده، فهل في غناء جاريتين صغيرتين، غير مكلفتين، عند صبية، تغنيان يوم عيد، بما تقاولته الأنصار يوم بعاث، من وصف الحرب والشجاعة والبطولة، ما يدل على إباحة غناء تلك المغنيات المستهترات الذي تنقله الإذاعات إلى كل مكان من وصف محاسن النساء المهيج للشرور، والباعث في النفوس الفتن والفجور؟!.
والأحاديث الأخرى هي في النكاح وأمثاله، في أوقات مخصوصة، بمثل هذا الغناء الذي لم يشتمل على
__________
1 الترمذي: النكاح (1088) , والنسائي: النكاح (3369) , وابن ماجه: النكاح (1896).
2 ابن ماجه: النكاح (1900).(22/116)
ص -118- ... فحش، ولا ذكر محرم؛ فإذا كان الغناء على نحو ما اعتاد الناس استعماله، لمحاولة عمل، وحمل ثقيل, وقطع مفاوز سفر، وسرور بعرس، ونحوه، ترويحا للنفوس وتنشيطا لها, كحداء الأعراب بإبلهم، وغناء النساء في بيوتهن لتسكين صغارهن، ولعب الجواري الصغار بلعبهن، فهذا إذا سلم المغني من فحش، وذكر محظور، فهو المباح؛ وهو الذي جاء ذكره في الأحاديث التي أشار إلى بعضها الأستاذ المقنع.
أما ما انتحله الكثيرون من المغنين والمغنيات، العارفين بصنعة الغناء، مما يحرك الساكن، ويهيج الكامن، والمشتمل على أوصاف محاسن الصبيان والنساء، من ذكر الجمال، والهجر، والوصال، والصبابة، والمعانقة، وما أشبه ذلك، فهو الممنوع.
وأعتقد أنه لا يقول مسلم بإباحة مثل هذا الغناء الفاتن؛ وقى الله العباد والبلاد شر هذا الغناء، ووفقهم جميعا إلى ما فيه رضاه، ومن عليهم باتباع كتاب ربهم، والتمسك بهدى نبيهم، في أمورهم كلها. والله الموفق، والهادي إلى سواء السبيل.(22/117)
ص -119- ... [ رد الشيخ ابن باز على ماكتب في الصحف من الدعوة إلى تزويد الإذاعة بالأغاني ]
وقال الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز، وفقه الله: لقد اطلعت على ما كتبته بعض الصحف المحلية عن بعض الكتاب، من الدعوة إلى تزويد الإذاعة السعودية بالأغاني، والمطربين المشهورين، والمطربات المشهورات، تأسيا باليهود وأشباههم في ذلك، ورغبة في جذب أسماع المشغوفين بالغناء، والراغبين في سماعه من الإذاعات الأخرى، إلى سماعه من الإذاعة السعودية 1.
وقرأت أيضا ما كتبه، فضيلة الشيخ عبد الملك بن إبراهيم، والشيخ حسن بن عبد الله، وكاتب آخر لم يفصح باسمه، من الرد على هذه الدعوة الحمقاء، والفكرة النكراء، والرغبة المنحرفة، إلى أسباب الردى؛ فجزى الله أنصار الحق كل خير، وهدى الله من حاد عنه إلى رشده، وكفى المسلمين شره وفتنته.
أيها القارئ الكريم إن الإذاعة في حد ذاتها أداة ذات حدين، إن أحسنت استعمالها فهي لك، وإن أسأت استعمالها فهي عليك. ولا شك أن الواجب في نفس الأمر، شرعا وعقلا، إما أن تكون هذه الأداة أداة تعمير وتوجيه وإرشاد، إلى ما ينفع الأمة في الدين والدنيا، ولا يجوز بوجه من الوجوه، أن تكون أداة تخريب وإفساد،
__________
1 وقد نشر هذا المقال في مجلة راية الإسلام, في ربيع الثاني سنة 1381 هـ.(22/118)
ص -120- ... وإشغال للأمة بما يضرهم ولا ينفعهم.
ولا ريب أيضا عند ذوي العقول الصحيحة والفطر السليمة أن تزويد الإذاعة بالأغاني، والمطربين والمطربات، من سبل الفساد والتخريب، لا من سبل الإصلاح والتعمير.
ويا ليت هؤلاء الذين دعوا إلى التأسي باليهود وأشباههم في الأغاني، ارتفعت همتهم، فدعوا إلى التأسي بهم في إيجاد المصانع النافعة، والأعمال المثمرة.
ولكن ويا للأسف انحطت أخلاق هؤلاء، ونزلت همتهم، حتى دعوا إلى التأسي بأعداء الله، وأعداء رسوله، وأعداء المسلمين عموما، والعرب خصوصا، في خصلة دنيئة من سفاسف الأخلاق، وسيئ الأعمال.
بل من الأمراض المخدرة للشعوب، والسالبة لحريتها وأفكارها، والصارفة لها عن معالي الأمور، ومكارم الأخلاق، عن النشاط في ميادين الإصلاح إلى ضد ذلك. ومن أراد أن يعرف مثالا لسقوط الهمم، وضعف التفكير، وانحطاط الأخلاق، فهذا مثاله: دعوة من بلاد إسلامية إلى خلق من أحط الأخلاق، بتأس فيه بأمة من أحط الأمم، وأشدها عداوة للإسلام والعرب، وقد غضب الله عليها، ولعنها، فالمتأسي بها له نصيب من ذلك.
ولا شك أن هذا من آيات الله التي ميز بها بين عباده، وجعلهم أصنافا متباينين، هذا همته فوق الثريا ينشد(22/119)
ص -121- ... الإصلاح أينما كان، ويدعو إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، ويدعو إلى الأعمال المثمرة، والمصانع النافعة للأمة، في دينها ودنياها، في عصر العلم المادي، والجموح الفكري، والتيارات الجارفة المتنوعة.
وشخص آخر قد انحطت همته إلى الثرى، يدعو إلى سفاسف الأمور وخبيث الأخلاق؛ يدعو إلى ما يضعف الأمة، ويشغلها عن طرق الإصلاح، وكسب القوة، وعمارة البلاد بكل عمل جدي مثمر.
يدعو إلى التأسي بالأمة العاملة في الخسيس لا في الحسن، وفي الفساد لا في الإصلاح، وفي الشر لا في الخير، وفيما يضر لا ما ينفع. هذه والله العبر التي لا يزال الله سبحانه يوجدها بين عباده {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [سورة الأنفال آية: 42]. سبحان الله، ما أعظم شأنه، وسبحان الله ما أحكمه وأجله.
أيها القارئ الكريم, إن تزويد الإذاعة بالأغاني والطرب، وآلات الملاهي، فساد وحرام, بإجماع من يعتد به من أهل العلم؛ وإن لم يصحب الغناء آلة اللهو، فهو: حرام عند أكثر العلماء.
وقد علم بالأدلة المتكاثرة أن سماع الأغاني، والعكوف عليها، ولا سيما بآلات اللهو، كالعود،(22/120)
ص -122- ... والموسيقى ونحوهما, من أعظم مكائد الشيطان ومصائده، التي صاد بها قلوب الجاهلين، وصدهم بها عن سماع القرآن، وحبب إليهم العكوف على الفسوق والعصيان.
والغناء هو قرآن الشيطان، ومزماره، ورقية الزنى واللواط، والجالب لأنواع الشر والفساد.
وقد حكى أبو بكر الطرطوشي، وغير واحد من أهل العلم، عن أئمة الإسلام: ذم الغناء، وآلات الملاهي، والتحذير من ذلك. وحكى الحافظ العلامة: أبو عمرو بن الصلاح، عن جميع العلماء: تحريم الغناء، المشتمل على شيء من آلات الملاهي، كالعود ونحوه. وما ذلك إلا لما في الغناء وآلات الطرب، من إمراض القلوب، وإفساد الأخلاق، والصد عن ذكر الله، وعن الصلاة.
ولا شك أن الغناء من اللهو الذي ذمه الله وعابه، وهو مما ينبت النفاق في القلب، كما ينبت الماء البقل، ولا سيما إذا كان من مطربين ومطربات قد اشتهروا بذلك؛ فإن ضرره يكون أعظم، وتأثيره في إفساد القلوب أشد.
قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [سورة لقمان آية: 6-7]: قال(22/121)
ص -123- ... الواحدي وغيره: أكثر المفسرين على أن المراد بلهو الحديث: الغناء; انتهى.
وكان ابن مسعود رضي الله عنه- وهو أحد كبار الصحابة وعلمائهم- يحلف بالله الذي لا إله إلا هو: أن لهو الحديث، هو الغناء، وقال رضي الله عنه: "الغناء ينبت النفاق في القلب، كما ينبت الماء الزرع".
وقد ورد عن السلف من الصحابة والتابعين آثار كثيرة بذم الغناء، وآلات الملاهي، والتحذير من ذلك، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يكون من أمتي أقوام، يستحلون الحر، والحرير، والخمر، والمعازف" رواه البخاري. و "الحر" هو: الفرج الحرام، والمراد بذلك: الزنا.
وأما المعازف، فهي: آلات الملاهي كلها، كالموسيقى، والطبل، والعود، والرباب، والأوتار، وغير ذلك.
قال العلامة ابن القيم، رحمه الله، في كتاب الإغاثة: لا خلاف بين أهل اللغة، في تفسير المعازف، بآلات اللهو كلها.
وخرج الترمذي، عن عمران بن حصين، رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يكون في أمتي قذف وخسف ومسخ، فقال رجل من المسلمين: متى ذلك(22/122)
ص -124- ... يا رسول الله؟ قال: إذا ظهرت القيان والمعازف، وشربت الخمور" 1.
وخرج أحمد في مسنده بإسناد جيد، عن ابن عباس، رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله حرم الخمر والميسر، والكوبة، وكل مسكر" 2 والكوبة، هي: الطبل، قاله سفيان، أحد رواة الحديث.
وقد روي في ذم الغناء والملاهي، أحاديث وآثار كثيرة، لا تحتمل هذه الكلمة ذكرها، وفيما ذكر كفاية، ومقنع لطالب الحق.
ولا شك أن الداعين إلى تزويد الإذاعة بالأغاني وآلات الملاهي قد أصيبوا في تفكيرهم، حتى استحسنوا القبيح، واستقبحوا الحسن، ودعوا إلى ما يضرهم، ويضر غيرهم، ولم ينتبهوا للأضرار، والمفاسد، والشرور الناتجة عن ذلك.
وما أحسن قول الله تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [سورة فاطر آية: 8] وصدق الشاعر حيث يقول:
يقضى على المرء في أيام محنته ... حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن
وقد دلت الأحاديث الصحيحة، على أن من دعا إلى
__________
1 الترمذي: الفتن (2212).
2 أبو داود: الأشربة (3696) , وأحمد (1/274).(22/123)
ص -125- ... ضلالة فعليه إثمها، ومثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا.
ومن ذلك: ما ثبت في صحيح مسلم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من دعا إلى هدى، كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة، كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا" 1.
فيا له من خطر عظيم، ووعيد شديد، لمن حبذ الباطل ودعا إليه! وإن نصيحتي لهؤلاء، الداعين إلى الغناء والملاهي، أن يتوبوا إلى الله من معصيتهم، وأن يراجعوا الحق، ويدعوا الله، فهو خير لهم من التمادي في الباطل.
والله سبحانه يتوب على من تاب، ويحلم على من عصى، ويملى ولا يغفل. نسأل الله لنا ولهم ولسائر المسلمين الهداية، والعافية من نزغات الشيطان.
ومما تقدم من الأدلة، والآثار، وكلام أهل العلم يعلم كل من له أدنى بصيرة، أن تطهير الإذاعات مما يضر الأمم، واجب متحتم، لا يسوغ الإخلال به، سواء كانت الإذاعات شرقية أو غربية، إذا كانت مما تحت ولاية المسلمين. فكيف إذا كانت الإذاعة في مهبط الوحي، ومنبع النور، ومحل القبلة التي يوجه المسلمون إليها وجوههم أينما كانوا، في اليوم والليلة خمس مرات؟!.
__________
1 مسلم: العلم (2674) , والترمذي: العلم (2674) , وأبو داود: السنة (4609) , وأحمد (2/397) , والدارمي: المقدمة (513).(22/124)
ص -126- ... لا شك أنها أولى وأحق بالتطهير والصيانة من كل ما يضر المسلمين في دينهم أو دنياهم؛ ولا ريب أن تزويدها بالأغاني وآلات الملاهي، مما يضر بالمسلمين ضررا ظاهرا في دينهم ودنياهم.
فوجب أن تصان إذاعتنا من ذلك، وأن تكون إذاعة إسلامية محضة، تنشر الحق، وتدعو إليه، وتحذر من الباطل وتنفر منه، تزود الناس ما ينفعهم، ويرضي الله عنهم في الدنيا والآخرة، وتكون نبراسا يهتدي به المسلمون أينما كانوا.
فتارة تزودهم من العلوم النافعة، والتوجيهات السديدة، وتلاوة القرآن الكريم، وتفسيره بما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح، ونشر محاسن الإسلام، وبيانه لهم، سليما من شوائب الشرك والبدع.
وطورا تسمعهم أحاديث طيبة، وأحاديث زراعية، وتوجيهات تجارية، وتعليمات تربوية، وإرشادات منزلية، إلى غير ذلك من أوجه النفع، وطرق الإصلاح الديني والدنيوي.
هكذا يجب أن تكون إذاعتنا، وهكذا يجب على المسؤولين أن يوجهوها، ويطهروها مما لا يليق بها، وإنهم والله مسؤولون عن ذلك يوم القيامة أمام العزيز الجبار، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.(22/125)
ص -127- ... وإني أتوجه بهذه الكلمة بالأصالة عن نفسي، وبالنيابة عن جميع العلماء، وعن جميع المسلمين الذين يغارون لله، ويغضبون إذا انتهكت محارمه، أتوجه بذلك إلى إمامنا وولي أمرنا جلالة الملك سعود بن عبد العزيز، وفقه الله، أول مسؤول، وأعظم مسؤول عن هذه الإذاعة، وما فيها من البرامج الهدامة, أن يصونها ويطهرها من كل ما يضر المسلمين، وأن لا يولي على شؤونها إلا من يخاف الله ويتقيه؛ وذلك مما أوجب الله عليه، وهو الراعي الأول لهذه البلاد، وكل راع مسؤول عن رعيته; وقد بذل الكثير من الإصلاح والتسهيلات للمسلمين، فنرجو أن يوفق لإصلاح هذه الإذاعة، كما وفق لإصلاحات كثيرة.
والله المسؤول بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى أن يوفقه لكل خير، وأن ينصر به الحق، وأن يصون به الشريعة، ويحمي به حماها، عن جميع البدع والمنكرات، وأن يصلح له البطانة، ويمنحه التوفيق في كل ما يأتي ويذر، وأن يوفق جميع المسؤولين في حكومته للتمسك بالشرع، والتعظيم لحرماته، والحذر مما خالفه، إنه على كل شيء قدير، وهو حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(22/126)
ص -128- ... [ قول الشيخ التويجري في كتابه الشهب المرمية عن فشو المعازف واستحلالها ]
وقال الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله التويجري، في كتابه "الشهب المرمية": بعد حمد الله، والثناء عليه، وذكر بعث محمد صلى الله عليه وسلم، وتزييف الشيطان وفشو المعازف، واستحلال الكثير لها.....إلخ 1.
وبلغ الشيطان منهم أمنيته وأمله، واستفزهم بصوته وخيله، وأجلب عليهم برجله وخيله، وخز في صدورهم وخزا، وأزهم إلى ضرب الأرض بالأقدام أزا.
فطورا يجعلهم كالحمير حول المدار، وتارة كالذباب ترقص وسيط الديار، فيا رحمتا للسقوف والأرض، من دك تلك الأقدام، ويا سوأتا من أشباه الحمير والأنعام.
ويا شماتة أعداء الإسلام بالذين يزعمون أنهم خواص الإسلام، قضوا حياتهم لذة وطربا، واتخذوا دينهم لهوا ولعبا، مزامير الشيطان أحب إليهم من استماع سور القرآن.
لو سمع أحدهم القرآن من أوله إلى آخره، لما حرك له ساكنا، ولا أزعج له قاطنا، ولا أثار فيه وجدا، ولا قدح فيه من لواعج الشوق إلى الله زندا.
حتى إذا تلي عليهم قرآن الشيطان، وولج مزموره سمعه، تفجرت ينابيع الوجد من قلبه على عينيه فجرت، وعلى أقدامه فرقصت، وعلى يديه فصفقت، وعلى سائر
__________
1 أي: مما قاله أو نقله أو استدل به إلخ, كما سيأتي.(22/127)
ص -129- ... أعضائه فاهتزت وطربت، وعلى أنفاسه فتصاعدت، وعلى زفراته فتزايدت، وعلى نيران أشواقه فاشتعلت. ولقد أحسن القائل:
تلي الكتاب فأطرقوا لا خيفة ... لكنه إطراق ساه لاهي
وأتى الغناء فكالحمير تناهقوا والله ... ما رقصوا لأجل الله
دف ومزمار ونغمة شادن ... فمتى رأيت عبادة بملاهي
ثقل الكتاب عليهم لما رأوا ... تقييده بأوامر ونواهي
سمعوا له رعدا وبرقا إذ حوى ... زجرا وتخويفا بفعل مناهي
ورأوه أعظم قاطع للنفس عن ... شهواتها يا ذبحها المتناهي
وأتى السماع موافقا أغراضها ... فلأجل ذاك غدا عظيم الجاه
أين المساعد للهوى من قاطع ... أسبابه عند الجهول الساهي
إن لم يكن خمر الجسوم فإنه ... خمر العقول مماثل ومضاهي
فانظر إلى النشوان عند شرابه ... وانظر إلى النشوان عند ملاهي
وانظر إلى تخريق ذا أثوابه ... من بعد تمزيق الفؤاد اللاهي
واحكم بأي الخمرتين أحق بالـ ... تحريم والتأثيم عند الله
وذكر ما في المجلات والصحف، وأنها داخلة في جملة الملاهي، وأنه سمع عن كثير من أهل العلم المقتدى بهم تحريمه.
ومنها: دخوله تحت قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [سورة لقمان آية: 6] الآية، وقد فسر لهو الحديث كثير من السلف، من(22/128)
ص -130- ... الصحابة والتابعين، بالغناء والمزامير، وفسره بعضهم بالأساطير والقصص، من أخبار ملوك الأعاجم والروم، وبعضهم فسر لهو الحديث بكل باطل يلهي، ويشغل عن الخير.
وقريب من ذلك، قول الإمام: محمد بن إسماعيل البخاري، رحمه الله، في صحيحه: "باب كل لهو باطل إذا شغله عن طاعة الله عز وجل" واستدل بهذه الآية؛ فإن فسرت الآية بالغناء والمزامير، فهو رأس الملاهي كلها، من الغناء والمزامير لمن قصدها، ووسيلة موصلة إليها لمن لم يقصدها، بل قصد غيرها؛ والوسائل لها حكم المقاصد.
وإن فسرت بالأساطير والقصص، والأضاحيك المهزولة، فهي غاية أخباره، وكثير من محاضراته التي يتعلل المفتونون به، باتخاذه لها؛ وإن فسرت بما يجمع ذلك من كل باطل يلهي، ويشغل عن الخير، فهو فوق ذلك الوصف، يعرف ذلك من عرفه.
قال: وهكذا الراديو، إن أحب صاحبه أن يفتحه على الأخبار فعل، وإن أحب أن يفتحه على القراءة فعل، وإن أحب أن يفتحه على اللهو والطرب فعل، ومنها: أنه أعظم ما يصد عن ذكر الله وعن الصلاة ولو لم يفتح على المعازف.
وقال، ومنها: أن إذاعته لا تخلو من هذه الأصوات الموسيقية المطربة، التي يؤتى بها للانتقال من فن إلى آخر لآلة النشر، كالتي يسمونها موسيقى الجيش، وغيرها من(22/129)
ص -131- ... الأصوات المطربة، وهي من المزامير التي هي صوت الشيطان؛ بل هي أعظمها وأدعاها إلى الطرب.
قال الله عز وجل {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} [سورة الإسراء آية: 64]: فسره مجاهد بالغناء والمزامير، وقد روى الإمام أحمد عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله بعثني رحمة وهدى للعالمين، وأمرني أن أمحق المزامير والكبارات" 1 يعني البرابط، والمعازف، والأوثان التي كانت تعبد في الجاهلية.
وقال: فإذا عرفت ما ذكرنا من الأحاديث، عرفت أنها محرمة، لا يجوز الاستماع إليها، كما نص على ذلك العلماء، من أتباع أحمد، والشافعي، ومالك، وأبي حنيفة.
وقال أيضا: وقال ابن حجر الهيتمي في "الزواجر": وحرم العراقيون من أتباع الشافعي المزامير كلها من غير تفصيل.
وقد أطنب الإمام الزولقي في دليل تحريمها، وقال: العجب كل العجب ممن هو من أهل العلم، يزعم أن الشبابة حلال، ويحكيه بوجه لا مستند له، وينسبه إلى مذهب الشافعي؛ ومعاذ الله أن يكون ذلك مذهبا له، أو لأحد من أصحابه، الذين يقع عليهم التعويل في علم مذهبه والانتماء إليه.
وقد علم من غير شك أن الشافعي رضي الله عنه حرم سائر أنواع الزمر، والشبابة من جملة الزمر، وأحد
__________
1 أحمد (5/257).(22/130)
ص -132- ... أنواعه. وما حرمت هذه الأشياء لأسمائها وألقابها، بل: لما فيها من الصد عن ذكر الله وعن الصلاة، ومفارقة التقوى، والميل إلى الهوى، والانغماس في المعاصي.
وقال الإمام أبو العباس القطبي: أما المزامير والأوتار، والكوبة، فلا يختلف في تحريم استماعها، ولم أسمع عن أحد ممن يعتبر قوله من السلف وأئمة الخلف، من يبيح ذلك. وكيف لا يحرم وهو شعار أهل الخمور، والفسوق، ومن يبيح الشهوات، والفساد، والمجون؟! وما كان كذلك لم يشك في تحريمه، ولا في تفسيق فاعله وتأثيمه.
وقال ابن القيم، رحمه الله: مذهب أبي حنيفة في ذلك من أشد المذاهب، وقوله فيه أغلظ الأقوال ; وقد صرح أصحابه بتحريم سماع الملاهي كلها، كالمزمار، والدف، حتى الضرب بالقضيب؛ وصرحوا بأنه معصية يوجب الفسق، وترد به الشهادة. انتهى.
وقال أيضا 1: ومنها: فشو المعازف، واستحلالها في أكثر البلاد الإسلامية؛ وقد ورد الوعيد الشديد لمتخذها ومستحلها، مع استحلال الخمر والزنى والحرير، وغير ذلك من المحرمات، بالخسف والمسخ، وغير ذلك من العقوبات، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوقوع ذلك في آخر الزمان.
__________
1 في كتابه الشهب المرمية.(22/131)
ص -133- ... وبالجملة: فقد جمعت هذه الآلة لأهل الفسوق، من آلات المعازف، ما كان شاردا، وقربت لهم من الفسوق والمجون ما كان متباعدا، فأصبحوا في غنية عن كل ما سواه من الآلات، ومن المغنين والمغنيات، وتغيرت به الأحوال والأخلاق في أقصر الأوقات.
فقد كانت أحوال الناس في دينهم، من نحو عشر سنين، على الاستقامة، يجتمعون لدرس العلوم الدينية التي هي مجالس الذكر في المساجد، وبعد طلوع الشمس، وبين العشاءين في البيوت، لكل واحد من أهل الدين والصلاح، نوبة تخصه، ويقرأ عليهم بعض طلبة العلم في بعض الكتب الدينية من كتب الحديث والتفسير، ويحضر تلك المجالس الجم الغفير من الناس، من قاصي البلد ودانيه؛ فانعكست الحال وتغيرت، فصار الفساق يجتمعون في بيت واحد منهم، للاستماع إلى هذا الملهى، ضد ما كان أولا، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
ومن العجب أن كثيرا من السفلة يفتحه على الغناء والطرب، بحضرة بناته، وزوجاته، وغيرهن من محارمه; وبعضهم يخصص زوجته، أو بنته بواحد، تفتحه متى شاءت على ما شاءت.
وهل هذه إلا نوع من الدياثة؟ عياذا بالله؟ لأنها إذا اعتادت سماع الغناء وأصوات الملاهي، قل حياؤها، وربما(22/132)
ص -134- ... انتزع منها جلباب الحياء بالكلية؛ فكان الفساد أسرع من السيل إلى منحدره.
قال ابن القيم، رحمه الله في: "إغاثة اللهفان": ولا ريب أن كل غيور يجنب أهله سماع الغناء، كما يجنبهن أسباب الريب ومن طرق أهله إلى سماع رقية الزنى، فهو أعلم بالإثم الذي يستحقه.
ومن الأمر المعلوم عند القوم أن المرأة إذ استعصت على الرجل، اجتهد أن يسمعها صوت الغناء، فحينئذ تعطي الليان، وهذا لأن المرأة سريعة الانفعال للأصوات جدا. فإذا كان الصوت بالغناء، صار انفعالها من وجهين، من جهة الصوت، ومن جهة معناه.
فأما إذا اجتمع إلى هذه الرقية، الدف والشبابة، والرقص بالتخنث والتكسر، فلو حبلت المرأة من غناء لحبلت من هذا الغناء; فلعمر الله، كم من حرة صارت بالغناء من البغايا! وكم من حر أصبح به عبدا للصبيان والصبايا ! وكم من غيور تبدل به اسما قبيحا بين البرايا !
وقال يزيد بن الوليد: يا بني أمية، إياكم والغناء، فإنه ينقص الحياء ويزيد في الشهوة، ويهدم المروءة، وإنه لينوب عن الخمر، ويفعل ما يفعل السكر. فإن كنتم لابد فاعلين، فجنبوه النساء، فإن الغناء داعية الزنى.
وقال في الرد على المفتي بحل اقتناء الراديو لغير(22/133)
ص -135- ... الغناء: وبيان ذلك: أن صاحبها إذا فتحها قرب وقت صلاة من الصلوات، لا تزال نفسه تترقب من كل إذاعة ما فيها من أخبار، وقراءات، ومحاضرات، وغيرها، فلا تزال به نفسه وشيطانه، حتى تفوته الصلاة مع الجماعة، وهذا يشهد له الواقع، ويعترف به كل منصف.
وقد منع بعض القضاة القائلين بالإباحة، تقليدا لهذا المفتي، من فتح الراديو مطلقا، وقت التراويح، وقيام رمضان، وتوعد فاعل ذلك بالعقوبة. وهذا القاضي قد أتى في صنيعه بالعجب العجاب.
فإذا كان يرى إباحته، فما المسوغ لمنع مباح تفوت بسببه سنة لا يعاقب تاركها؟ وما ذلك إلا أنه يرى أنه من أكبر العوامل في الصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وما كان هذا سبيله، فهل يشك أحد في تحريمه؟ لمشاركته الخمر والميسر في جزء علة التحريم.
ولهذا قل أن تجد مفتونا به، إلا وفيه من الكسل عن حضور الصلاة في جماعته ما ليس في غيره، وخصوصا صلاة العشاء، وصلاة الفجر، وهذا عين النفاق. وذلك أن ما بين العشاءين وقتا يفرغ فيه الناس من أعمالهم الدنيوية، فيجتمع بعضهم ببعض، كل بخليله وشكله، وإذا كان اجتماعهم في بيت فيه هذه الآلة، لا يزالون يستمعون من كل إذاعة ما فيها.
فيستمعون القراءات الملحنة المطربة، التي تستلذها(22/134)
ص -136- ... النفوس، لا تدينا وتفهما لكتاب الله عز وجل بل لما فيها من التلحينات الأنيقة، والنغمات الرقيقة، التي تهيج الطباع، وتلهي عن التدين، الذي هو المقصود بالاستماع، وقد افتتن باستماع هذه التلحينات خلق كثير، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
وبعضهم يفتحها لاستماع المعازف والمجون والفسوق، فيفوتهم بسبب ذلك صلاة العشاء مع الجماعة.
وأما صلاة الفجر، فإن كثيرا من متخذيه يسمرون عنده بعد العشاء الآخرة، فلا يزالون يستمعون من كل إذاعة ما فيها من أخبار وغيرها، على اختلافها من محرم ومكروه ومباح، فلا يزال ذلك دأب الأكثرين منهم إلى شطر الليل، فيغلبهم النوم عن القيام لصلاة الفجر، كما يشهد بذلك الواقع من حال الأكثرين منهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وقد جاء في المتفق عليه عن أبي برزة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكره النوم قبل العشاء، والحديث بعدها.
وذكر قول ابن القيم رحمه الله: إذا تدبرت الشريعة وجدتها قد أتت بسد الذرائع إلى المحرمات؛ والشارع, حرم الذرائع وإن لم يقصد بها المحرم، لإفضائها إليه، فكيف إذا قصد بها المحرم نفسه؟! قال: ومن قواعد الشرع العظيمة، قاعدة سد الذرائع، قال: والمحرمات قسمان: مفاسد، وذرائع موصلة إليها، مطلوبة الإعدام، كما أن المفاسد مطلوبة الإعدام.(22/135)
ص -137- ... وذكر قول شيخ الإسلام تقي الدين رحمه الله: ومن يحدث بأحاديث مفتعلة، ليضحك الناس، أو لغرض آخر، فهو عاص لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، مستحق للعقوبة التي تردعه.
وقال أيضا، وقال رحمه الله: وما كان مباحا في غير حال القراءة، مثل المزاح الذي جاءت به الآثار، وهو أن يمزح ولا يقول إلا صدقا، لا يكون في مزاحه كذب ولا عدوان، فهذا لا يفعل حال قراءة القرآن، بل ينزه عنه مجلس القرآن.
فليس كل ما يباح في حال غير القراءة يباح فيها، كما أن ليس كل ما يباح خارج الصلاة يباح فيها، لا سيما ما يشغل القارئ والمستمع عن التدبر والتفهم، مثل كونه يخايل ويضحك، فكيف واللغو والضحك حال القراءة من أعمال المشركين، كما قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [سورة فصلت آية: 26] ، وقال تعالى: {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُواً} [سورة الجاثية آية: 9]، وقال تعالى: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} [سورة النجم آية: 59-60-61]، ووصف المؤمنين بأنهم يبكون ويخشعون حال القراءة، فمن كان يضحك حال القراءة، فقد تشبه بالمشركين لا بالمؤمنين.
وقال رحمه الله: لم تأت الشريعة إلا بالمصلحة(22/136)
ص -138- ... الخالصة أو الراجحة، أما ما غلبت مفسدته، فلم تأت به شريعة من الله.
وقال أيضا، في الشهب المرمية: ولما كان الراديو، والآلة الفونوغرافية 1 أعظم وسيلة وذريعة إلى المعازف والملاهي والطرب، بل إن أكثر المفتونين بهما يتخذهما لذلك، أحببنا أن نذكر بعض ما ورد من النهي الأكيد، والوعيد الشديد، في اتخاذ المعازف والملاهي، فنقول:
قال الله سبحانه وتعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [سورة لقمان آية: 6] الآية، قال صديق حسن رحمه الله، في تفسيره على هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} 2 قال: وهو كل باطل يلهي، ويشغل عن الخير، من الغناء، والملاهي، والأحاديث المكذوبة، والأضاحيك، والسمر بالأساطير التي لا أصل لها، والخرافات، والقصص المختلفة، والمعازف والمزامير، وكل ما هو منكر، والإضافة بيانية، أي: اللهو من الحديث، لأن اللهو يكون حديثا وغيره، فهو: كثوب خز، وهذا أبلغ من حذف المضاف.
وقيل المراد: شراء القينات المغنيات والمغنين، فيكون التقدير: من يشتري أهل لهو الحديث، قال الحسن، لهو الحديث: المعازف والغناء، وروي عنه أنه قال: الكفر
__________
1 المعروفة بالصندوق وهي الآلة ذات الاسطوانات.
2 سورة لقمان آية: 6.(22/137)
ص -139- ... والشرك، وفيه بعد; والمعنى: يختارون حديث الباطل على حديث الحق.
قال القرطبي: إن أولى ما قيل في هذا الباب، هو: تفسير لهو الحديث بالغناء، قال: وهو قول الصحابة والتابعين، قال ابن عباس:?"لهو الحديث: باطله".
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: لا تعارض بين تفسير لهو الحديث بالغناء، وتفسيره بأخبار الأعاجم وملوكها، وملوك الروم، ونحو ذلك.
وقال أيضا، في الشهب المرمية: حرمة الغناء قطعية، قد قدمنا من الأحاديث الكثيرة التي فيها التصريح بتحريم الغناء، والآية، ما فيه كفاية.. إلخ.
وذكر رواية الإمام أحمد: سؤال إسحاق، مالك بن أنس، عما يرخص فيه أهل المدينة من الغناء؟ فقال: إنما يفعله عندنا الفساق.
وذكر قول ابن القيم رحمه الله: وأما سماع الغناء من المرأة الأجنبية، أو الأمرد، فمن أعظم المحرمات، وأشدها فسادا للدين.
وقال أيضا: قال ابن رجب رحمه الله: وقول الشافعي رحمه الله، إن الزنادقة وضعت التغبير تصد به الناس عن القرآن، يدل على أن الإصرار على سماع الشعر الملحن، مع الضرب بقضيب ونحوه، يقتضي شغف النفوس بذلك،(22/138)
ص -140- ... وتعلقها به ونفرتها عن سماع القرآن... إلخ.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه:"الغناء خطبة الزنا" وقال "مكحول: الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت السيل البقل".
وقال شيخ الإسلام تقي الدين رحمه الله: الأقوال التي ترغب في الفجور، وتهيج القلوب إليه، وكل ما فيه إعانة على الفاحشة، وترغيب فيها، حرام، أعظم من تحريم الندب والنياحة، لأن ذلك يثير الحزن، وهذا يثير الفسق، بل هذا من جنس القيادة.
وفي اللعب بالنرد والشطرنج، قال شيخ الإسلام تقي الدين رحمه الله: سائر ما يتلهى به البطالون من أنواع اللهو، وضروب اللعب، مما لا يستعان به في حق شرعي، كله حرام. وأما اللعب بالورق، فقال فيه بعض الشافعية: أظهر الترك أوراقا مزوقة بنقوش، سموها كنجفة، يلعبون بها؛ فإن كان بعوض فقمار، وإلا فهي كالنرد ونحوه، آخر المراد منه 1.
__________
1 أي من كتاب الشهب المرمية للشيخ عبد الرحمن بن عبد الله التويجري, رحمه الله.(22/139)
ص -141- ... [ قول الشيخ صالح الخريصي فيما ارتكبه كثير من الناس من العكوف على الراديو ]
وقال الشيخ: صالح بن أحمد الخريصي، في أثناء نصيحة له:
ومن المنكرات: ما ارتكبه كثير من الناس، ممن قل نصيبه من العلم الموروث عن سيد المرسلين، وهو: العكوف على هده الآلة المطربة، المسماة بالراديو.
فتراه- والعياذ بالله- يشتريها بالقيمة الغالية، ويعكف عليها ليلا ونهارا، على استماع الأصوات الفاجرة، والمحطات الماجنة، والحكايات الخالعة، التي تعمل في القلوب أعظم من السم في الأبدان. فيا لها من مصيبة ما أعظمها بلي بها كثير من أهل الإسلام، وصاد بها الشيطان الخلق الكثير، والجم الغفير، من أشباه الأنعام.
وقد وردت أحاديث كثيرة عنه صلى الله عليه وسلم بالنهي الشديد، والوعيد الأكيد، على من اتخذ القينات، والمعازف، والدفوف، والمزامير، والكبارات- يعني الطبول- مع أن القينة فيها خير كثير، من صلاة وعبادة، وخدمة، واستمتاع، وغير ذلك من مصالحها.
وأما هذه الآلة، فهي مشتملة على مفاسد عديدة، وليس فيها أي مصلحة، إلا أن الشيطان كاد بها بني آدم؛ وليرتقب صاحبها المصر عليها، والعاكف عندها، ما وردت به الأحاديث، من خسف، ومسخ، وغير ذلك من العقوبات التي أصابت أمثاله.(22/140)
ص -142- ... كما ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يسمخ قوم من هذه الأمة، قردة وخنازير، قيل يا رسول الله: أليس يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله؟ قال: بلى، ويصلون ويحجون، قيل: فما بالهم؟ قال: اتخذوا المعازف والدفوف، فباتوا على شربهم ولهوهم، فأصبحوا: قردة وخنازير.
وليصيبنهم قذف وخسف، حتى يصبح الناس، فيقولون: خسف الليلة بدار بني فلان، وخسف الليلة ببني فلان، وليرسلن عليهم حجارة من السماء، كما أرسلت على قوم لوط على قبائل فيها. ولترسلن عليهم الريح العقيم، التي أهلكت عادا، لشربهم الخمر، وأكلهم الربا، وضربهم الدفوف، واتخاذهم القيان، وقطيعتهم الرحم".
[ قول الشيخ عبد الله بن سليمان في استماع الغناء وضرب العود واستماعه ]
وقال الشيخ: عبد الله بن سليمان بن حميد، رحمه الله 1:
ومن المنكرات المحرمة: الغناء واستماعه، وضرب العود واستماعه، والزمر بالمزامير، وضرب الآلات المطربة، قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [سورة لقمان آية: 6].
فسرها ابن عباس، والحسن، وغير واحد بالملاهي، وقال تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ
__________
1 نقلت من الأربع الرسائل المفيدة صفحة 53 , 54.(22/141)
ص -143- ... بِصَوْتِكَ} [سورة الإسراء آية: 64].
قال مجاهد: بالغناء والمزامير.
وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله بعثني هدى ورحمة للمؤمنين، وأمرني بمحق المعازف، والمزامير، والأوتار، والصليب، وأمر الجاهلية" 1 وقال صلى الله عليه وسلم "أمرت بهدم الطبل والمزامير".
وعن ابن مسعود رضي الله عنه: "الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل"، وقال صلى الله عليه وسلم: "صوتان ملعونان في الدنيا والآخرة، صوت عند نغمة، وصوت عند مصيبة".
وبالجملة: فكل لهو محرم يحرم فعله واستماعه، ومن ذلك: الصندوق الجامع لجملة من الملاهي، فهي حرام، عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من استمع إلى صوت لهو، صب في أذنيه الآنك يوم القيامة" وهو الرصاص المذاب.
والمستمع للهو الحرام فاسق ساقط العدالة، وقيل. مباشر آلات اللهو إذا مات لا يصلى عليه. وكثير من الناس- والعياذ بالله- يتكاسلون عن الطاعات، وينشطون عند الملاهي، وذلك من علامات النفاق، نسأل الله العافية.
[ قول الشيخ عبد الله بن سليمان في فتح الراديو على الغناء وسائر الملاهي ]
وقال الشيخ: عبد الله بن سليمان بن حميد أيضا 2 ومن المنكرات الظاهرة: فتح الراديو على الغناء وسائر
__________
1 أحمد (5/268).
2 نقلت من الأربع المسائل المفيدة صفحة 119 , 120.(22/142)
ص -144- ... الملاهي، وهي محرمة إسماعا وسماعا وصنعة، وهي من شعائر الفساق لا يتوقف في تحريمها من شم رائحة العلم الصحيح؟ والملاهي جميعها بدؤها من الشيطان وعاقبتها غضب الرحمن، فالمزمار مؤذن الشيطان.
قال ابن القيم رحمه الله: وكونه مؤذن الشيطان، في غاية المناسبة، فإن الغناء قرآنه، والرقص والتصفيق اللذين هما المكاء والتصدية؛ صلاته، فلا بد لهذه الصلاة من مؤذن، وإمام، ومأموم: فالمؤذن المزمار، والإمام المغني، والمأموم الحاضرون والمستمعون.
والملاهي تنبت النفاق في القلب، كما ينبت الماء العشب، وهي من الحديث الذي قال الله تعالى فيه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [سورة لقمان آية: 6]، وقال تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} [سورة الإسراء آية: 64]، قال مجاهد وغيره: بالغناء والمزامير.
وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله بعثني هدى ورحمة للمؤمنين، وأمرني بمحق المعازف والمزامير، والأوتار، والصليب، وأمر الجاهلية" 1، وقال أيضا صلى الله عليه وسلم "أمرت بهدم الطبل والمزامير"، وقال: "من استمع إلى قينة صب في أذنيه الآنك يوم القيامة".
وقال بعض العلماء: إن استماع الملاهي، والتلذذ بها، معصية، توجب الفسق، وترد بها الشهادة. وأبلغ من ذلك
__________
1 أحمد (5/268).(22/143)
ص -145- ... في الزجر، قول أصحاب أبي حنيفة رحمهما الله: إن السماع فسق، والتلذذ به كفر.
وقالوا في دار يسمع منها صوت الملاهي والمعازف، يدخل عليهم بغير إذنهم، لأن النهى عن المنكر فرض، فلو لم يجز الدخول لغير إذن، لامتنع الناس من إقامة الفروض. وما ورد في الملاهي من التحريم، والوعيد الشديد على استعمالها، أكثر من أن تحصر.
إذا عرف هذا، فإن الراديو الحادث في هذه الأزمان، قد جمع آلات الملاهي كلها.
وكلام العلماء ينطبق عليه، في التحريم، وفسق المستعملين للملاهي فيه، وعدم الضمان والغرم على من كسر وأتلف آلات الملاهي. والراديو، من أكبر الفتن التي أدخلها الغربيون على المسلمين، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
[ قول الشيخ محمد بن مهيزع في رده لأوهام الظاهري في أحكام الملاهي ]
وقال الشيخ: محمد بن مهيزع، رحمه الله، ردا لأوهام الظاهري في أحكام الملاهي 1:
__________
1 وقد نشرت في مجلة راية الإسلام سنة 1381 هـ.(22/144)
ص -146- ... بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حبب إلينا الإيمان، وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، وأشهد أن لا إله إلا الله، أرسل محمدا رحمة للعالمين، وأمره بمحق المزامير، والمعازف، والأوتار، صلى الله عليه وآله وصحبة، ومن تمسك بهديه في السر والعلانية، وسلم تسليما، وبعد:
فقد قابلتنا مجلة الرائد في عدديها 67، 68 بمقال للأستاذ أبي تراب الظاهري، عنوانه: الكتاب والسنة لم يحرما الغناء، ولا استعمال المعازف والمزامير، والاستماع لها.
فلما تأملته وجدت فيه أشياء مخالفة لما جاء به الشرع المطهر، في ذم الملاهي والأغاني، بالنغمات الموسيقية المهيجة للعواطف والفساد؛ ولا يسوغ لمن لديه مسكة من العلم الموروث عن المصطفى صلى الله عليه وسلم أن يشك في تحريم ذلك. ولقد قرر تحريمه علماء الإسلام المحققون، من أئمة المذاهب الأربعة، وفقهاء الحديث وغيرهم؛ بل حكى ابن الصلاح الإجماع على تحريم السماع الذي جمع بين الدف والشبابة، قال: ولم ينقل عن أحد ممن يعتد به، أنه أباح هذا السماع. انتهى.
وإذا أمعنت النظر، وسبرت أحوال من مضى، تبين لك ما جرت المعازف والأغاني المطربة على أربابها، من الشر والفساد، وما جنت على المجتمع من الضرر والكساد؛ فإن(22/145)
ص -147- ... حياته تنقلب من القوة إلى الضعف، والوهن، ومن الجد إلى اللعب والحزن، ومن النشاط إلى الكسل والبطالة.
فلا تزال الدولة في سفال، وتفكك في عناصرها المعنوية، حتى يتحلل النشاط العلمي والعملي، فيتدهور كيان الأمة صناعيا واقتصاديا، وأخلاقيا وأدبيا، فيكون أمرها فرطا؛ أو لم يكف هؤلاء المغرورين أن الغناء قرآن الشيطان، والمزامير صوته.
ولهذا جاء عن الصحابة: أن الغناء ينبت النفاق في القلب، وأنه بريد الزنى، ورقية الشيطان، ومزمور إبليس، ولو تتبعنا أقوال علماء الإسلام، في ذم الأغاني والملاهي، والنهي عن استماعها، والتحذير منها، وتعداد ما اشتملت عليه من المفاسد والأضرار، لطال الكلام جدا، وليس هذا من غرضنا في هذه العجالة.
إنما المقصود هنا: التنبيه على ما سنح لنا من أوهام الظاهري، والإشارة إلى تحريم المعازف، وسائر أنواع الملاهي والأغاني بالنغمات الرخيمة، إسماعا واستماعا، محبة ومدحا، دعاية وتحسينا، لأن الوسائل لها حكم الغايات.
والتجربة شاهدة بأن استعمال ذلك، واستماع أصوات القينات بالنشيد، داعية الفجور، ومعاقرة الخمور، موصلة إلى الهلاك؛ فلا يجوز لعاقل أن يتعاطى شيئا ضرره متحتم بمنفعة متوهمة، كتسلية وترويح عن النفس، فإن(22/146)
ص -148- ... عاقبتها قلق النفس، واشتغال القلب، عند فقد مألوفه وما يهواه.
ولو أن الكاتب- عافانا الله وإياه- تثبت في كلام ابن حزم، وعرضه على أقوال السلف الصالح وعلماء الأمة، لتبين له الحق بدليله، فوسعه ما وسع القوم؛ لكن صادف قلبه فارغا فتمكن منه، وطار مع ابن حزم في ظاهريته، وتجرأ على النصوص المخالفة لمذهبه، تجريحا وتضعيفا، وتأويلا بما يوافق مأخذه، بلا بصيرة ولا تحقيق؛ وهذا جناية التقليد، والهوى يعمي ويصم.
أما قول أبي تراب: إن الغناء والآلة والاستماع لهما مباح لم يرد في الشريعة نص ثابت في تحريمه.
والرد عليه ظاهر في التحريم، بقوله تعالى: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [سورة الحج آية: 30]: فسره محمد بن الحنفية: بالغناء، وقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [سورة لقمان آية: 6] الآية، ونحيل القارئ الكريم إلى تفسير ابن جرير، وابن كثير، والبغوي، والواحدي.
وقد صح عن ابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، وغيرهم، في هذه الآية، من سورة لقمان أن الغناء هو لهو الحديث. ثم وازن بين هذا، وبين قول أبي تراب: وما ذم الله من اشترى لهو الحديث ليتلهى ويروح به عن نفسه، لا(22/147)
ص -149- ... ليضل عن سبيل الله، يتضح لك الخطأ، وتعلم أن الله قد ذمه وعابه في الآية الكريمة، فإن اللهو عام للغناء والملاهي، ومدعى التخصيص يحتاج إلى دليل.
وأيضا تفسير الصحابة أولى من تفسير من بعدهم، لأنهم تلقوا القرآن وتفسيره من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جعله طائفة من المحدثين في حكم المرفوع، لأنهم إذا تعلموا عشر آيات، لم يتجاوزوها حتى يتعلموا معانيها، والعمل بها.
قال البغوي، في قوله تعالى: {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [سورة الحج آية: 9] يعني: يفعله عن جهل; قال قتادة: "بحسب امرئ من الضلالة، أن يختار الباطل على الحق" واللام في قوله: (ليضل) لام عاقبة، على قراءة من فتح الياء، أو تعليل للأمر القدرى: أن قيضوا له، ليكونوا ضالين أو مضلين.
وفي صحيح البخاري ما نصه: وقال هشام بن عمار، حدثنا صدقة بن خالد، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد، حدثنا عطية بن قيس الكلابي، حدثنا عبد الرحمن بن غنم، حدثنا أبو مالك، أو أبو عامر الأشعري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليكونن من أمتي قوم يستحلون الحر والحرير، والخمر والمعازف".
ولا يضره قدح ابن حزم بأنه منقطع، فإن البخاري علقه بصيغة الجزم، وهشام بن عمار من شيوخ البخاري، لقيه وسمع منه، وقد وصله أبو داود، فقال: حدثنا عبد الوهاب بن نجدة، حدثنا بشر بن بكر عن عبد الرحمن(22/148)
ص -150- ... ابن يزيد، به; ورواه الإسماعيلي في صحيحه مسندا، وقال أبو عامر ولم يشك.
ووجه الدلالة من الحديث: أن المعازف، وهي آلات اللهو كلها، لو كانت حلالا لما ذمهم على فعلها واستحلالها، ولما قرنها بالحر- أي: الزنى- والخمر والحرير.
وفي الباب أحاديث كثيرة، وآثار عن جماعة من الصحابة ومن بعدهم، صالحة للاحتجاج والاعتضاد، لكثرتها وتباين مخارجها، وتعدد طرقها.
وقول الظاهري: فإذا كان الغناء محرما بالعموم، لأنه يلهي عن ذكر الله، فكذلك كل مُلْه حرام، ولو كان من قبيل المباح، حتى قراءة القرآن.. إلخ.
والرد عليه من طريقين، أولا: أننا لا نقول بتحريم الغناء على العموم، فقد جاء في الحديث إباحته في العرس حيث لا محذور، وكذلك للجواري الصغار، في عيد ونحوه، كما هو مقرر في كتب السنة؛ إنما المحرم ما اتخذ صناعة يجتمع الناس لها، أو كان بآلة لهو، أو بألحان مطربة، ونحو ذلك.
ثانيا: جعل قراءة القرآن من قسم المباح خطأ سافر، فإنه معلوم بالضرورة أن قراءة القرآن من أفضل العبادات، وأعظم القربات، وأن قراءة الفاتحة ركن في كل ركعة،(22/149)
ص -151- ... وتجب قراءة القرآن على من خاف نسيان، وتسن في غير ذلك، إلا مع جنابة ونحوها.
فقياس الغناء عليها من أفسد القياس؛ فإن الغناء تارة يكون حراما، وآونة يكون مكروها، ومرة يكون مباحا، على حسب ما اقترن به.
وقول أبي تراب: إنه صح عن ابن عمر، وعبد الله بن جعفر، ومن بعدهم... إلخ.
يقال له: أما سماع ابن عمر، فإن أبا داود، روى عن نافع: أن "ابن عمر سمع صوت مزمار، فوضع أصبعيه على أذنيه، ونأى عن الطريق، وقال: يا نافع، هل تسمع شيئا؟ فقلت: لا، فرفع أصبعيه عن أذنيه، وقال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فصنع مثل ما صنعت" 1 قال أبو داود. حديث منكر.
وعلى تقدير ثبوته، يقال: إنه لم يقع من ابن عمر إلا مجرد السماع لمصلحة، وهي حاجة النبي صلى الله عليه وسلم إلى معرفة انقطاع الصوت، ليرجع إلى الطريق، ويرفع أصبعيه عن أذنيه، وهذا نقض لقول الظاهري: لو كان حراما لما أباحه لابن عمر، وأقل ما يدل عليه الحديث: كراهة سماع المزامير، فكيف يكون حكم الاستماع قصدا؟
وأما ابن جعفر: فقد كان يتعاطاه، مع بعض جواريه، فأنكر عليه أكابر الصحابة، كابن عمر، وأما من بعدهم، فإن
__________
1 أبو داود: الأدب (4924).(22/150)
ص -152- ... ثبت ما نسب إليهم فليسوا بحجة، فإن السنة إذا ثبتت عن المعصوم صلى الله عليه وسلم لم يحل لأحد أن يتجاوزها لقول أحد من الخلق، كائنا من كان.
ويقال أيضا: هب أنهم سمعوا الغناء والملاهي مرة أو مرات لعذر، أو لتأويل ونحوه، فإن مجرد السماع أخف من الاستماع واستحلاله، كيف وقد خالفهم الجمع الغفير من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم، من سلف الأمة وأئمتها؟ فلا يعول على القول الشاذ.
وقول أبي تراب: لم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على الجاريتين، لما كانتا تغنيان بغناء بعاث... إلخ.
والجواب: أنهما كانتا صغيرتين غير معنيتين، وكان في يوم العيد، وغناؤهما بما تقاولت به الأنصار، في الشجاعة والفروسية، وليس هناك رقص ولا ملهيات.
والحديث حجة لنا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر أبا بكر على أن الغناء مزمار الشيطان، فكيف يستدل به على إباحة غناء القينات، والأجنبيات، بألحان الفن الخليع؟ والاستماع إلى تلك النغمات المعسولة، عند أهل الدعارة، والانحلال من الأخلاق الشريفة؟ فهل يجتمع في قلب المؤمن حب سماع القرآن، وحب سماع هذا الغناء؟ اللهم لا.
والواقع أن كثيرا من الناس يفتحون المذياع، على تلك الأغاني، وما في معناها، من لهو وطرب، فإذا وجدوا قراءة(22/151)
ص -153- ... القرآن أو كلمة دينية أو أدبية، أغلقوا المذياع، أو قلبوا موجاته، طلبا للفن الخليع، وتهالكا في طلب الملاهي والأغاني السامجة، والمهيجة للشر والفساد.
وصاحب الغناء والملاهي بين خطرين: إما أن يتهتك فيكون فاجرا، وإما أن يتنسك، فيكون منافقا، ففتش نفسك، هل أنت سالم؟
وقول الظاهري: وقد شغب قوم بأحاديث وردت بالمنع من ذلك، وهي واهية مردودة.
ويقال: الله أكبر، ما أعظم جرأة الظاهري على سلف الأمة، من الصحابة والتابعين ومن بعدهم؟! ممن رووا تلك الأحاديث من حملة الشريعة المشهود بهدايتهم، ودرايتهم، وورعهم {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [سورة الحشر آية: 10].
إن من الرعونة وسوء الأدب، وقلة الورع: نسبة هؤلاء العلماء إلى الشغب والتموية، وهذا هو جوابنا على قوله: وأما الآثار التي موهوا بها في الآية، أي قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ}[سورة لقمان آية: 6]. 1 ويقال أيضا: التمويه والشغب بكم ألصق، وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً}
__________
1. سورة لقمان آية: 6(22/152)
ص -154- ... ونحيل القارئ إلى كتاب "إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان" للعلامة: ابن القيم، فلقد أجاد وأفاد، وأحسن النقد في ذم الملاهي والغناء؛ فساق جملة من الأحاديث المرفوعة، والآثار الموقوفة، بأسانيدها، مبرهنا عن صحتها أو حسنها بكثرة طرقها، ففيه كفاية لطالب الحق.
وقول أبي تراب: ومن لم يُضع شيئا من الفرائض اشتغالا بما ذكر، فهو محسن.
يقال له: أي إحسان في الاشتغال بالأغاني والملاهي لو كانوا يعقلون؟ !.
وفي السنن عن عقبة بن عامر مرفوعا: "كل لهو يلهوه الرجل فهو باطل، إلا ثلاثا: رميه بقوسه، أو تأديبه لفرسه، وملاعبته لزوجته" حديث حسن، له طرق يشد بعضها بعضا، وهل في الباطل إحسان؟ !
وأما حديث عائشة في لعب الحبشة بحرابهم في المسجد، فلا حجة فيه لمبيحي الغناء والملاهي، لأنه مجرد لعب بآلات الحرب، وليس هناك غناء، ولا آلة لهو، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم الحكمة بقوله: "لتعلم يهود أن في ديننا فسحة" 1؛ وأين تقع مفسدة لعبهم، من مصلحة العلم، بيسر الدين وسماحته، والترغيب في الدخول فيه؟ !
وأما توهين أبي تراب للآثار المروية عن الصحابة ومن بعدهم، في ذم الملاهي والغناء، فهو توهين ساقط، لأن
__________
1 أحمد (6/116).(22/153)
ص -155- ... تلك الأقوال مأخوذة من معاني النصوص، وفيها الصحيح والحسن، فلا يجوز العدول عنها إلى مجرد الرأي، والتعصب للمذهب، وأقوال الشيوخ، فإنها أقوال يحتج لها ولا يحتج بها.
ولقد حرص الكاتب على تدعيم مذهب ابن حزم، في إباحة الأغاني والملاهي، فلم يصنع شيئا، وباء بالفشل؛ فإن قولهم هذا مردود باطل، لمخالفته لطريقة رسول الله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان؛ فمن نكص عن منهاجهم وسلك غير سبيلهم، ولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيراً.
ولقد أنكر السلف على من تتبع الرخص، وأخذ بالأقوال الشاذة؛ قال سليمان التيمي: "لو أخذت برخصة كل عالم لاجتمع فيك الشر كله" وقال يحيى بن سعيد الأنصاري:?"لو أن رجلا عمل بكل رخصة: بقول أهل الكوفة في النبيذ، وأهل المدينة في السماع، وأهل مكة في المتعة لكان فاسقا" وقال بعض السلف: من تتبع الرخص تزندق.
فأسأل الله أن يرينا الحق حقا، ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلا، ويزرقنا اجتنابه، ولا يجعله ملتبسا علينا فنضل، وصلى الله على محمد وآله وسلم.(22/154)
ص -156- ... [ رد الشيخ ابن باز على ما نشر في مجلة الرائد بقلم أبي تراب من قوله بحل الغناء ]
وقال الشيخ: عبد العزيز بن باز حفظه الله 1: لقد اطلعت على ما نشرته مجلة الرائد في عدديها: السابع والستين، والثامن والستين، بقلم أبي تراب الظاهري، تحت عنوان: "الكتاب والسنة لم يحرما الغناء، ولا استعمال المعازف والمزامير، والاستماع إليها".
وتأملت ما ذكره في هذا المقال، من الأحاديث والآثار، وما اعتمده في القول بحل الغناء وآلات الملاهي تبعا لإمامه أبي محمد بن حزم الظاهري، فتعجبت كثيرا من جرأته الشديدة، تبعا لإمامه أبي محمد، على القول بتضعيف جميع ما ورد من الأحاديث، في تحريم الغناء، وآلات الملاهي، بل على ما هو أشنع من ذلك، وهو القول: بأن الأحاديث الواردة في ذلك موضوعة.
وعجبت أيضا من جرأتهما الشديدة الغريبة، على القول بحل الغناء وجميع آلات الملاهي، مع كثرة ما ورد في النهي عن ذلك، من الآيات والأحاديث والآثار عن السلف الصالح رضي الله عنهم، فنسأل الله العافية والسلامة من القول عليه بغير علم، والجرأة على تحليل ما حرمه الله من غير برهان.
ولقد أنكر أهل العلم قديما، على أبي محمد هذه الجرأة الشديدة، وعابوه بها، وجرى عليه بسببها محن كثيرة، فنسأل الله أن يعفو عنا وعنه، وعن سائر المسلمين.
__________
1 وقد نشر هذا المقال في مجلة راية الإسلام سنة 1381 هـ.(22/155)
ص -157- ... ولقد حذر الله عباده من القول عليه بغير علم، ونهاهم سبحانه أن يحرموا أو يحللوا بغير برهان، وأخبر عز وجل أن ذلك من أمر الشيطان وتزيينه، قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [سورة الأعراف آية: 33].
وقال تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النحل آية: 116-117]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِين ٌإِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 168-169]. فحذر الله سبحانه عباده في هذه الآيات الكريمات، من التحليل والتحريم بغير علم، وبين سبحانه: أن القول عليه بغير علم، في رتبة رهيبة فوق الشرك، ونبه عباده على أن الشيطان يحب منهم القول على الله بغير علم، ويأمرهم به ليفسد عليهم بذلك دينهم وأخلاقهم ومجتمعهم.
فالواجب على كل مسلم أن يحذر القول على الله بغير علم، وأن يخاف الله سبحانه ويراقبه فيما يحلل ويحرم، وأن(22/156)
ص -158- ... يتجرد من الهوى والتقليد الأعمى، وأن يقصد إيضاح حكم الله لعباد الله، على الوجه الذي بينه الله في كتابه، أو أرشد إليه رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، نصحا لله ولعباده، وحذرا من كتمان العلم، ورغبة في ثواب الله على ذلك.
فنسأل الله لنا ولسائر إخواننا التوفيق لهذا المسلك، الذي سلكه أهل العلم والإيمان، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، إنه على كل شيء قدير.
وأنا ذاكر لك أيها القارئ- إن شاء الله- ما وقع في كلام أبي تراب وإمامه أبي محمد، من الأخطاء، وموضح لك ما ورد من الآيات والآحاديث الصحيحة والآثار، في تحريم الغناء وآلات الملاهي، وذاكر من كلام أهل العلم في هذا الباب ما يشفي ويكفي.
حتى تكون من ذلك على صراط مستقيم وحتى يزول عن قلبك- إن شاء الله- ما قد علق به من الشبه والشكوك، التي قد يبتلى بها من سمع مقالة أبي تراب وأضرابه من الكتاب. وبالله نستعين، وعليه نتوكل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
قال أبو تراب، وتحقيق المسألة: أن الغناء وآلاته والاستماع إليها مباح، لم ير في الشريعة التي جاء بها صلى الله عليه وسلم نص ثابت في تحريمة البتة، والأدلة تؤخذ من الأصلين هما: الكتاب، والسنة; وما لسواهما فهو شغب وباطل مردود،(22/157)
ص -159- ... ولا يحل لمؤمن أن يعدو حدود الله قطعا، إلى أن قال في أثناء مقاله:
قال الحافظ أبو محمد بن حزم: بيع الشطرنج، والمزامير، والعيدان، والمعازف، والطنابير، حلال كله؛ من كسر شيئا من ذلك ضمنه، إلا أن يكون صورة مصورة، فلا ضمان على كسرها، لما ذكرنا من قبل، لأنها مال من مال مالكها.
أقول: لقد أخطأ أبو محمد، وأخطأ بعده أبو تراب، في تحليل ما حرم الله من الأغاني وآلات الملاهي وفتحا على الناس أبواب شر عظيم، وخالفا بذلك سبيل أهل الإيمان، وحملة السنة والقرآن، من الصحابة وأتباعهم بإحسان، وإن ذلك لعظيم وخطره جسيم؛ فنسأل الله لنا وللمسلمين العافية، من زيغ القلوب، ورين الذنوب، وهمزات الشيطان، إنه جواد كريم.
ولقد ذهب أكثر علماء الإسلام، وجمهور أئمة الهدى، إلى تحريم الأغاني، وجميع المعازف- وهي آلات اللهو كلها- وأوجبوا كسر آلات المعازف، وقالوا: لا ضمان على متلفها.
وقالوا: إن الغناء إذا انضم إليه آلات المعازف، كالطبل، والمزمار، والعود، وأشباه ذلك، حرم بالإجماع، إلا ما يستثنى من ذلك، من دف النساء في العرس ونحوه، على ما يأتي بيانه إن شاء الله.(22/158)
ص -160- ... وقد حكى أبو عمرو بن الصلاح إجماع علماء المسلمين، على ما ذكرنا من تحريم الأغاني والمعازف إذا اجتمعا، كما سيأتي نص كلامه فيما نقله عنه العلامة ابن القيم رحمه الله.
وما ذلك إلا لما يترتب على الغناء وآلات اللهو من قسوة القلوب ومرضها، وصدها عن القرآن الكريم، واستماع العلوم النافعة، ولا شك أن ذلك من مكائد الشيطان التي كاد بها الناس، وصاد بها من نقص علمه ودينه؛ حتى استحسن سماع قرآن الشيطان ومزموره، بدلا من سماع كتاب الله، وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولقد اشتد نكير السلف على من اشتغل بالأغاني والملاهي، ووصفوه بالسفة والفسق، وقالوا: لا تقبل شهادته، كما سيأتي بعض كلامهم في ذلك إن شاء الله، وما ذاك إلا لما ينشأ عن الاشتغال بالغناء والمعازف من ضعف الإيمان، وقلة الحياء والورع، والاستخفاف بأوامر الله ونواهيه، ولما يبتلى به أرباب الغناء والمعازف من شدة الغفلة، والارتياح إلى الباطل، والتثاقل عن الصلاة وأفعال الخير، والنشاط فيما يدعو إليه الغناء والمعازف من الزنى واللواط، وشرب الخمور، ومعاشرة النسوان والمردان، إلا من عصم الله من ذلك.(22/159)
ص -161- ... ومعلوم عند ذوي الألباب، ما يترتب على هذه الصفات من أنواع الشر والفساد، وما في ضمنها من وسائل الضلال والإضلال.
وإليك أيها القارئ الكريم بعض ما ورد في تحريم الأغاني والمعازف، من آيات القرآن الكريم، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [سورة لقمان آية: 6-7] قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره عند هاتين الآيتين، ما نصه: لما ذكر حال السعداء وهم الذين يهتدون بكتاب الله وينتفعون بسماعه، كما قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [سورة الزمر آية: 23]، عطف: بذكر حال الأشقياء الذين أعرضوا عن الانتفاع بسماع كلام الله، وأقبلوا على استماع المزامير والغناء، والألحان وآلات الطرب، كما قال ابن مسعود، في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [سورة لقمان آية: 6] قال: هو والله الغناء".(22/160)
ص -162- ... روى ابن جرير: حدثني يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، أخبرني يزيد بن يونس، عن أبي صخر، عن أبي معاوية البجلي، عن سعيد بن جبير، عن أبي الصهباء البكري:?"أنه سمع عبد الله بن مسعود، وهو يسئل عن هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [سورة لقمان آية: 6]، فقال عبد الله بن مسعود: (الغناء، والله الذي لا إله إلا هو، يرددها ثلاث مرات".
حدثنا عمرو بن علي، حدثنا صفوان بن عيسى، أخبرنا حميد الخراط، عن عمار عن سعيد بن جبير عن "أبي الصهباء، أنه سأل ابن مسعود عن قول الله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [سورة لقمان آية: 6] قال: الغناء"، وكذا قال ابن عباس وجابر، وعكرمة وسعيد بن جبير، ومجاهد ومكحول، وعمرو بن شعيب وعلي بن بذيمة.
وقال الحسن البصري: "نزلت هذه الآية {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [سورة لقمان آية: 6] في الغناء والمزامير" ؟ وقال قتادة، قوله: {"وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [سورة لقمان آية: 6] والله لعله لا ينفق فيه مالا، ولكن شراؤه: استحبابه، بحسب المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحق وما يضر على ما ينفع" انتهى كلامه.
فتأمل: أيها القارئ الكريم، هاتين الآيتين الكريمتين، وكلام هذا الإمام في تفسيرهما، وما كان عن أئمة السلف في(22/161)
ص -163- ... ذلك، يتضح لك ما وقع فيه أرباب الأغاني والملاهي؛ فإن الخطر العظيم؛ وتعلم بذلك صراحة الآية الكريمة في ذمهم وعيبهم، وأن شراءهم للهو الحديث، واختيارهم له، من وسائل الضلال والإضلال، وإن لم يقصدوا ذلك أو يعلموه.
وذلك لأن الله سبحانه مدح أهل القرآن في أول السورة وأثنى عليهم بالصفات الحميدة، وأخبر أنهم أهل الهدى والفلاح، حيث قال عز وجل: (بسم الله الرحمن الر حيم)، {الم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة لقمان آية: 1-2-3-4-5].
ثم قال سبحانه بعد هذا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [سورة لقمان آية: 6] الآية، وذلك يدل على ذم هؤلاء المشترين، وتعرضهم للضلال بعد الهدى، وما كان وسيلة للضلال والإضلال، فهو مذموم يجب أن يحذر ويبتعد عنه.
وهذا الذي قاله الحافظ بن كثير في تفسير الآية، قاله غيره من أهل التفسير، كابن جرير، والبغوي، والقرطبي، وغير واحد، حتى قال الواحدي في تفسيره: أكثر المفسرين على أن لهو الحديث، هو: الغناء، وفسره آخرون بالشرك، وفسره جماعة بأخبار الأعاجم، وبالأحاديث الباطلة، التي تصد عن الحق؛ وكلها تفاسير صحيحة لا منافاة بينها.(22/162)
ص -164- ... والآية الكريمة تذم من اعتاض ما يصد عن سبيل الله ويلهيه عن كتابه؛ ولا شك أن الأغاني وآلات الملاهي، من أقبح لهو الحديث، الصاد عن كتاب الله وعن سبيله.
قال أبو جعفر بن جرير رحمه الله في تفسيره- لما ذكر أقوال المفسرين في لهو الحديث- ما نصه: والصواب من القول في ذلك، أن يقال: عنى به كل ما كان من الحديث ملهيا عن سبيل الله، مما نهى الله عن استماعه أو رسوله، لأن الله تعالى عم بقوله لهو الحديث، ولم يخصص بعضا دون بعض، فذلك على عمومه، حتى يأتي ما يدل على خصوصه؛ والغناء والشرك، من ذلك. انتهى كلامه.
وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [سورة لقمان آية: 6]: (من): في موضع رفع بالابتداء، و (ولهو الحديث): الغناء، في قول ابن مسعود وابن عباس وغيرهما، ثم بسط الكلام في تفسير هذه الآية.
ثم قال: المسألة الثانية، وهو: الغناء المعتاد عند المشتهرين به، الذي يحرك النفوس، ويبعثها على الهوى والغزل والمجون، الذي يحرك الساكن ويبعث الكامن، فهذا النوع إذا كان في شعر يشبب فيه بذكر النساء، ووصف محاسنهن، وذكر الخمور والمحرمات، لا يختلف في تحريمه، لأنه اللهو والغناء المذموم بالاتفاق.
فأما ما سلم من ذلك، فيجوز القليل منه في أوقات(22/163)
ص -165- ... الفرح، كالعرس والعيد، وعند التنشيط على الأعمال الشاقة، كما كان في حفر الخندق، وحدو الحبشة، وسلمة بن الأكوع.
فأما ما ابتدعته الصوفية اليوم، من الإدمان على سماع الأغاني بالآلات المطربة من الشبابات، والطار، والمعازف، والأوتار، فحرام. انتهى كلامه. وهذا الذي قاله القرطبي كلام حسن، وبه تجتمع الآثار الواردة في هذا الباب.
ومن ذلك: ما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها، قالت: "دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث، فاضطجع على الفراش وحول وجهه، ودخل أبو بكر رضي الله عنه فانتهرني، وقال: مزمار الشيطان عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: دعهما. فلما غفل غمزتهما فخرجتا" 1.
وفي رواية لمسلم: فقال رسول الله: "يا أبا بكر إن لكل قوم عيدا، وهذا عيدنا" 2، وفي رواية له أخرى، فقال صلى الله عليه وسلم "دعهما يا أبا بكر، فإنها أيام عيد" 3، وفي بعض رواياته أيضا: "جاريتان تلعبان بدف"4.
فهذا الحديث الجليل يستفاد منه: أن كراهة الغناء وإنكاره، وتسميته مزمار الشيطان: أمر معروف مستقر عند الصحابة رضي الله عنهم، ولهذا أنكر الصديق على عائشة غناء الجاريتين عندها، وسماه مزمار الشيطان.
ولم ينكر عليه النبي فيه تلك التسمية، ولم يقل له إن
__________
1 البخاري: الجمعة (950) , ومسلم: صلاة العيدين (892).
2 البخاري: الجمعة (952) , ومسلم: صلاة العيدين (892) , وابن ماجه: النكاح (1898) , وأحمد (6/99 ,6/134 ,6/186).
3 البخاري: الجمعة (988) , ومسلم: صلاة العيدين (892) , والنسائي: صلاة العيدين (1597) , وأحمد (6/84).
4 مسلم: صلاة العيدين (892).(22/164)
ص -166- ... الغناء والدف لا حرج فيهما، وإنما أمره أن يترك الجاريتين، وعلل ذلك بأنها أيام عيد.
فدل ذلك على أنه ينبغي التسامح في مثل هذه الجواري الصغار في أيام العيد، لأنها أيام فرح وسرور، ولأن الجاريتين إنما أنشدتا غناء الأنصار الذي تقاولوا به يوم بعاث، فيما يتعلق بالشجاعة والحرب.
بخلاف أكثر غناء المغنين والمغنيات اليوم، فإنه يثير الغرائز الجنسية، ويدعو إلى عشق الصور، وإلى كثير من الفتن الصادة للقلوب عن تعظيم الله ومراعاة حقه، فكيف يجوز لعاقل أن يقيس هذا على هذا؟ !
ومن تأمل هذا الحديث، علم أن ما زاد على ما فعلته الجاريتان منكر، يجب التحذير منه، حسما لمادة الفساد، وحفظا للقلوب عمّا يصدها عن الحق، ويشغلها عن كتاب الله وأداء حقه.
وأما دعوى أبي تراب أن هذا الحديث حجة على جواز الغناء مطلقا، فدعوى باطلة، لما تقدم بيانه؛ والآيات، والأحاديث، والآثار الواردة في هذا الباب، كلها تدل على بطلان دعواه.
وهكذا الحديث الذي رواه سفيان الثوري عن أبي إسحاق السبيعي، عن عامر بن سعد البجلي، "أنه رأى أبا مسعود البدري وقرظة بن كعب، وثابت بن يزيد، وهم في(22/165)
ص -167- ... عرس، وعندهم غناء، فقلت لهم: هذا وأنتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنه رخص لنا في الغناء في العرس، والبكاء على الميت من غير نوح".
فهذا الحديث ليس فيه حجة على جواز الغناء مطلقا، وإنما يدل على جوازه في العرس لإعلان النكاح؛ ومن تأمل هذا الحديث عرف أنه دليل على منع الغناء لا على جوازه.
فإنه صلى الله عليه وسلم لما رخص لهم فيه في العرس لحكمة معلومة، دل على منعه فيما سواه، إلا بدليل خاص، كما أن الرخصة للمسافر في قصر الرباعية، يدل على منع غيره من ذلك، وهكذا الرخصة للحائض والنفساء، في ترك طواف الوداع، يدل على منع غيرها من ذلك، والأمثلة لهذا كثيرة.
وأيضا: فإنكار عامر بن سعد، على هؤلاء الصحابة الغناء، وإقرارهم له على ذلك، دليل على أن كراهة الغناء، والمنع منه، أمر قد استقر عند الصحابة والتابعين، وعرفوه عن النبي صلى الله عليه وسلم والله المستعان.
قال العلامة بن القيم، رحمة الله عليه، في كتابه. "إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان" ما نصه:
ومن مكائد عدو الله ومصائده، التي كاد بها من قل نصيبه من العلم والعقل والدين، وصاد بها قلوب الجاهلين والمبطلين: سماع المكاء والتصدية والغناء بالآلات المحرمة(22/166)
ص -168- ... ليصد القلوب عن القرآن، ويجعلها عاكفة على الفسوق والعصيان.
فهو قرآن الشيطان، والحجاب الكثيف عن القرآن، وهو رقية: اللواط والزنى، وبه ينال الفاسق من معشوقة غاية المنى، كاد به الشيطان النفوس المبطلة، وحسنه لها، مكرا وغرورا، وأوحى إليها الشبه الباطلة على حسنه، فقبلت وحيه، واتخذت لأجله القرآن مهجورا، إلى أن قال. ولقد أحسن القائل:
تلي الكتاب فأطرقوا لا خيفة ... لكنه إطراق ساه لاهي
وأتى الغناء فكالحمير تناهقوا ... والله ما رقصوا لأجل الله
دف ومزمار ونغمة شادن ... فمتى رأيت عبادة بملاهي
ثقل الكتاب عليهم لما رأوا ... تقييده بأوامر ونواهي
سمعوا له رعدا وبرقا إذ حوى ... زجرا وتخويفا بفعل مناهي
ورأوه أعظم قاطع للنفس عن ... شهواتها يا ذبحها المتناهي
وأتى السماع موافقا أغراضها ... فلأجل ذاك غدا عظيم الجاه
أين المساعد للهوى من قاطع ... أسبابه عند الجهول الساهي
إن لم يكن خمر الجسوم فإنه ... خمر العقول مماثل ومضاهي
فانظر إلى النشوان عند شرابه ... وانظر إلى النشوان عند ملاهي
وانظر إلى تمزيق ذا أثوابه ... من بعد تمزيق الفؤاد اللاهي
واحكم فأي الخمرتين أحق بالتـ ... حريم والتأثيم عند الله
وقال آخر:
برئنا إلى الله في معشر ... بهم مرض من سماع الغناء(22/167)
ص -169- ... وكم قلت يا قوم أنتم على ... شفا جرف ما به من بنا
شفا جرف تحته هوة ... إلى درك كم به من عنا
وتكرار ذا النصح منا لهم ... لنعذر فيهم إلى ربنا
فلما استهانوا بتنبيهنا ... رجعنا إلى الله في أمرنا
فعشنا على سنة المصطفى ... وماتوا على تنتنا تنتنا
ولم يزل أنصار الإسلام، وأئمة الهدى تصيح بهؤلاء من أقطار الأرض، وتحذر من سلوك سبلهم، واقتفاء آثارهم، من جميع طوائف الملة.
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز، أيضا في رده على أبي تراب 1: شبهة يجب أن تكشف:
زعم أبو تراب تبعا لابن حزم، أن قوله سبحانه: {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً} [سورة لقمان آية: 6] الآية، دليل على أن مشتري لهو الحديث من الأغاني والملاهي لا يستحق الذم إلا إذا اشتراها لقصد الضلال، أو الإضلال أما من اشتراها للترفيه والترويح عن نفسه، فلا بأس في ذلك.
والجواب أن يقال: هذه شبهة باطلة من وجوه ثلاثة:
الوجه الأول: أن ذلك خلاف ما فهمه السلف الصالح، من الصحابة والتابعين من الآية الكريمة، فإنهم احتجوا بها على ذم الأغاني والملاهي والتحذير منها، ولم يقيدوا ذلك بهذا
__________
1 وهو من المنشور أيضا في مجلة راية الإسلام سنة 1381 هـ.(22/168)
ص -170- ... الشرط الذي قاله أبو تراب؛ وهم أعلم الناس بمعاني كلام الله وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم أعرف بمراد الله من كلامه ممن بعدهم.
الوجه الثاني: أن ذلك خلاف ظاهر الآية لمن تأملها، لأن الله سبحانه قال: {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [سورة لقمان آية: 6], فدل ذلك على أن هذا الصنف المذموم من الناس قد اشترى لهو الحديث ليضل به عن سبيل الله بغير علم ولا شعور بالغاية، ولا قصد للإضلال أو الضلال.
ولو كان اشترى لهو الحديث، وهو يعلم أنه يضل به، أو يقصد ذلك لم يقل الله عز وجل {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [سورة لقمان آية: 6]، لأن من علم أنه اشترى لهو الحديث، ليضل به عن سبيل الله، لا يقال له: إنه لا يعلم.
وهكذا من قصد ذلك، لا يقال إنه اشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم، لأن من علم أن غايته الضلال، أو قصد ذلك، قد اشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بعلم وقصد، لا ليضل بغير علم.
فتأمل وتنبه أيها القارئ الكريم، يتضح لك الحق، وعليه تكون اللام في قوله ليضل عن سبيل الله لام العاقبة، أو لام التعليل، أي: تعليل الأمر القدري، ذكر ذلك الحافظ ابن كثير وغيره.
وعلى كونها للعاقبة، يكون المعنى: أن من اشترى لهو(22/169)
ص -171- ... الحديث، من الغناء والمعازف، تكون عاقبته الضلال عن سبيل الله والإضلال، واتخاذ سبيل الله هزوا، والإعراض عن آيات الله استكبارا، واحتقارا، وإن لم يشعر بذلك ولم يقصده.
وعلى المعنى الثاني: وهو كونها لتعليل الأمر القدري، يكون المعنى: أن الله سبحانه قضى وقدر على بعض الناس، أن يشتري لهو الحديث ليضل به عن سبيل الله.
وعلى كلا التقديرين، فالآية الكريمة تفيد ذم من اشترى لهو الحديث، ووعيده، بأن مصيره إلى الضلال، والاستهزاء بسبيل الله، والتولي عن كتاب الله؛ وهذا هو الواقع الكثير والمشاهد، ممن اشتغل بلهو الحديث، من الأغاني والمعازف، واستحسنها وشغف بها، يكون مآله إلى: قسوة القلب، والضلال عن الحق، إلا من عصم الله.
وقد دلت الشريعة الإسلامية الكاملة في مصادرها ومواردها، على وجوب الحذر من وسائل الضلال والفساد، والتحذير منها، حذرا من الوقوع في غاياتها؛ كما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن شرب القليل الذي لا يسكر، حذرا من الوقوع في المسكر، حيث قال عليه الصلاة والسلام: "ما أسكر كثيره فقليله حرام" 1.
ونهى عن الصلاة بعد الصبح، وبعد العصر، لئلا يكون ذلك وسيلة إلى الوقوع فيما وقع فيه بعض المشركين، من عبادة الشمس عند طلوعها وغروبها؛ ونظائر ذلك كثيرة،
__________
1 الترمذي: الأشربة (1865) , وأبو داود: الأشربة (3681) , وابن ماجه: الأشربة (3393) , وأحمد (3/343).(22/170)
ص -172- ... يعرفها من له أدنى علم بالشريعة المطهرة، والله المستعان.
الوجه الثالث: أنه لو كان الذم مختصا بمن اشترى لهو الحديث، لقصد الضلال أو الإضلال، لم يكن في تنصيص الرب عز وجل على لهو الحديث فائدة، لأن الذم حينئذ لا يختص به، بل يعم كل من فعل شيئا يقصد به الضلالة أو الإضلال، حتى ولو كان ذلك الشيء محبوبا إلى الله سبحانه وتعالى.
كمن اشترى مصحفا يقصد به التلبيس على الناس وإضلالهم، فإن المصحف محبوب إلى الله لاشتماله على كلامه عز وجل، ولكنه سبحانه لا يحب من عباده أن يشتروه للتلبيس والإضلال، وإنما يشترى للاهتداء والتوجيه إلى الخير.
وقد اعترف ابن حزم وأبو تراب بهذا الوجه، وزعما أن الآية تختص بهذا الصنف، وهو خطأ بين، وعدول بالآية عن معناها الصحيح، وإضاعة لمعناها الأكمل.
فعرفت أيها القارئ الكريم، من هذه الأوجه الثلاثة، كشف شبهة أبي تراب وبطلانها، واتضح لك أن الآية الكريمة حجة ظاهرة على ذم الأغاني والملاهي وتحريمها، وأنها وسيلة للضلالة والإضلال، والسخرية بسبيل الله، والإعراض عن كتابه، وإن لم يشعر مشتريها بذلك؛ وهذا هو(22/171)
ص -173- ... الذي فهمه السلف الصالح من الآية الكريمة، وهم أولى بالاتباع رضي الله عنهم.
وسبق لك كشف شبهة أبي تراب، في تعلقه بحديث الجاريتين، وكشف شبهته الأخرى، في تعلقه بحديث أبي مسعود البدري وصاحبيه، في الرخصة لهم في الغناء وقت العرس.
وأوضحنا فيما تقدم أن الحديثين المذكورين حجة ظاهرة على أبي تراب وإمامه ابن حزم، في النهي عن الأغاني، والمنع منها، لا على جوازها. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
وقد تكلم العلامة ابن القيم رحمه الله، على الآية المتقدمة، وهي قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [سورة لقمان آية: 6] الآية، بكلام حسن يؤيد ما تقدم، وهدا نصه:
قال رحمه الله: قال الواحدي وغيره: أكثر المفسرين على أن المراد بلهو الحديث الغناء، قاله ابن عباس في رواية سعيد بن جبير ومقسم عنه، وقاله عبد الله بن مسعود في رواية أبي الصهباء عنه، وهو قول مجاهد وعكرمة. وروى ثوير بن أبي فاختة عن أبيه عن ابن عباس، في قوله تعالى:?"{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [سورة لقمان آية: 6] قال: (هو الرجل يشتري الجارية تغنيه ليلا ونهارا".
وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: هو: اشتراء المغني(22/172)
ص -174- ... والمغنية بالمال الكثير، والاستماع إليه وإلى مثله من الباطل، وهذا قول مكحول، وهذا اختيار أبي إسحاق أيضا، وقال: أكثر ما جاء في التفسير، أن لهو الحديث ههنا، هو: الغناء، لأنه يلهي عن ذكر الله تعالى.
قال الواحدي: قال أهل المعاني: ويدخل في هذا كل من اختار اللهو، والغناء، والمزامير، والمعازف، على القرآن، وإن كان اللفظ قد ورد بالشراء، فلفظ الشراء يذكر في الاستبدال والاختيار، وهو كثير في القرآن.
قال: ويدل على هذا ما قاله قتادة في هذه الآية: لعله أن لا يكون أنفق مالا. قال: وبحسب المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحق، قال الواحدي: وهذه الآية على هذا التفسير تدل على تحريم الغناء.
قال: وأما غناء القينات، فذلك أشد ما في الباب، وذلك لكثرة الوعيد الوارد فيه، وهو ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من استمع إلى قينة، صب في أذنه الآنك يوم القيامة" والآنك: الرصاص المذاب.
وقد جاء تفسير لهو الحديث بالغناء، مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ ففي مسند الإمام أحمد ومسند عبد الله بن الزبير الحميدي، وجامع الترمذي، من حديث أبي أمامة والسياق للترمذي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تبيعوا القينات، ولا تشتروهن، ولا تعلموهن، ولا خير في تجارة فيهن، وثمنهن حرام" 1.
__________
1 الترمذي: البيوع (1282) , وابن ماجه: التجارات (2168).(22/173)
ص -175- ... وفي مثل هذا، نزلت هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [سورة لقمان آية: 6]. وهذا الحديث، وإن كان مداره على عبيد الله بن زحر، عن علي بن يزيد الألهاني عن القاسم، فعبيد الله بن زحر ثقة، والقاسم ثقة، وعلي ضعيف، إلا أن للحديث شواهد ومتابعات، سنذكرها إن شاء الله تعالى.
ويكفي تفسير الصحابة والتابعين للهو الحديث بأنه: الغناء؛ فقد صح ذلك عن ابن عباس وابن مسعود، قال أبو الصهباء: سألت ابن مسعود عن قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [سورة لقمان آية: 6] فقال: (والله الذي لا إله إلا هو، هو: الغناء)، يرددها ثلاث مرات.
وصح عن ابن عمر رضي الله عنهما أيضا أنه الغناء، قال الحاكم أبو عبد الله، في التفسير في كتاب المستدرك: ليعلم طالب هذا العلم، أن تفسير الصحابي، الذي شهد الوحي والتنزيل، عند الشيخين مسند.
وقال في موضع آخر من كتابه: هو عندنا في حكم المرفوع، وهذا وإن كان فيه نظر، فلا ريب أنه أولى بالقبول من تفسير من بعدهم، فهم أعلم الأمة بمراد الله عز وجل في كتابه؛ فعليهم نزل، وهم أول من خوطب به من الأمة؛ وقد شاهدوا تفسيره من الرسول صلى الله عليه وسلم علما وعملا؛ وهم العرب الفصحاء على الحقيقة، فلا يعدل عن تفسيرهم ما وجد إليه سبيل.(22/174)
ص -176- ... ولا تعارض بين تفسير لهو الحديث بالغناء، وتفسيره بأخبار الأعاجم وسلوكها، وملوك الروم، ونحو ذلك، مما كان النضر بن الحارث يحدث به أهل مكة يشغلهم به عن القرآن، فكلاهما: لهو الحديث.
ولهذا قال "ابن عباس: لهو الحديث: الباطل والغناء"، فمن الصحابة من ذكر هذا، ومنهم من ذكر الآخر، ومنهم من جمعهما. والغناء أشد لهوا، وأعظم ضررا، من أحاديث الملوك وأخبارهم، فإنه رقية الزنى، ومثبت النفاق، وشرك الشيطان، وخمرة العقل، وصده عن القرآن أعظم من صد غيره من الكلام الباطل، لشدة ميل النفوس إليه، ورغبتها فيه.
إذا عرف هذا، فأهل الغناء ومستمعوه لهم نصيب من هذا الذم، بحسب اشتغالهم بالغناء عن القرآن، وإن لم ينالوا جميعه، فإن الآيات تضمنت ذم من استبدل لهو الحديث كما بالقرآن، ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا.
وإذا يتلى عليه القرآن، ولى مستكبرا كأن لم يسمعه، كأن في أذنيه وقرا، وهو الثقل والصمم، وإذا علم منه شيئا استهزأ به، فمجموع هذا لا يقع إلا من أعظم الناس كفرا؛ وإن وقع بعضه للمغنين ومستمعيهم، فلهم حصة ونصيب من هذا الذم.
يوضحه: أنك لا تجد أحدا، عني بالغناء وسماع(22/175)
ص -177- ... آلاته، إلا وفيه ضلال عن طريق الهدى، علما وعملا؛ وفيه رغبة عن استماع القرآن، إلى استماع الغناء، بحيث إذا عرض له سماع الغناء، وسماع القرآن، عدل عن هذا إلى ذاك، وثقل عليه سماع القرآن.
وربما حمله الحال، على أن يسكت القارئ، ويستطيل قراءته، ويستزيد المغني، ويستقصر نوبته، وأقل ما في هذا: أن يناله نصيب وافر من هذا الذم، إن لم يحظ به جميعه.
والكلام في هذا، مع من في قلبه بعض حياة يحس بها، فأما من مات قلبه، وعظمت فتنته، فقد سد على نفسه طريق النصيحة، {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [سورة المائدة آية: 41] انتهى كلامه رحمه الله.
ومن الآيات الدالة على ذم الأغاني والمعازف وهي: آلات الملاهي، قوله تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً} [سورة الإسراء آية: 64]، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [سورة الفرقان آية: 72].
وقد فسر الصوت والزور بالغناء وآلات الملاهي؛ وفسر الصوت أيضا بكل صوت يدعو إلى باطل؛ وفسر(22/176)
ص -178- ... الزور، بكل منكر؛ ولا منافاة بين التفاسير، ومدلول الآيتين يعم ذلك كله.
ولا ريب أن الأغاني والملاهي من أقبح الزور، ومن أخبث أصوات الشيطان، لما يترتب عليها من قسوة القلوب، وصدها عن ذكر الله وعن القرآن، بل وعن جميع الطاعات إلا من عصم الله، كما سلف بيان ذلك.
وأما الأحاديث الواردة في ذم الأغاني والملاهي، فكثيرة؛ وأصحها ما رواه البخاري في صحيحه، حيث قال: وقال هشام بن عمار، حدثنا صدقة بن خالد، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، حدثنا عطية بن قيس الكلابي حدثني عبد الرحمن بن غنم الأشعري، قال حدثني أبو عامر، أو أبو مالك الأشعري، والله ما كذبني، سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير، والخمر والمعازف".
وهو صريح في ذم مستحلي المعازف، حيث قرنهم مع مستحلي الزنى والخمر والحرير، وحجة ظاهرة في تحريم استعمال المعازف، وهي آلات الملاهي، كالطنبور، والعود، والطبل، وغير ذلك من آلات الملاهي.
وقد أجمع أهل اللغة على تفسير المعازف بآلات الملاهي، وما ذاك إلا لما يترتب عليها من قسوة القلوب ومرضها، واشتغالها عن الصلاة والقرآن، وإذا انضم إليه الغناء، صار الإثم أكبر، والفساد أعظم، كما سيأتي كلام(22/177)
ص -179- ... أهل العلم في ذلك، وقد تقدم لك بعضه.
وأما "الحر" فيروى بالحاء المهملة والراء، وهو الفرج، والمراد به الزنى، ويروى بالخاء المعجمة والزاي، وهو نوع من الحرير.
وقد أخذ علماء الإسلام بهذا الحديث، وتلقوه بالقبول، واحتجوا به على تحريم المعازف كلها. وقد أعله ابن حزم وأبو تراب بعده، تعليلا له: بأنه منقطع بين البخاري رحمه الله، وبين شيخه هشام بن عمار، لكونه لم يصرح بسماعه منه، وإنما علقه عنه تعليقا.
وقد أخطأ ابن حزم في ذلك، وأنكر عليه أهل العلم هذا القول، وخطؤوه فيه، لأن هشاما من شيوخ البخاري، وقد علقه عنه جازما به، وما كان كذلك فهو صحيح عنده؛ وقد قبل منه أهل العلم ذلك، وصححوا ما علقه جازما به إلى من علقه عنه.
وهذا الحديث من جملة الأحاديث المعلقة الصحيحة، ولعل البخاري لم يصرح بسماعه منه، لكونه رواه عنه بالإجازة، أو في معرض المذاكرة، أو لكونه رواه عنه بواسطة بعض شيوخه الثقات، فحذفه اختصارا، أو لغير ذلك من الأسباب المقتضية للحذف.
وعلى فرض انقطاعه بين البخاري وهشام، فقد رواه عنه غيره متصلا عن هشام بن عمار... الخ، بأسانيد صحيحة؛(22/178)
ص -180- ... وبذلك بطلت شبهة ابن حزم، ومقلده أبي تراب، واتضح الحق لطالب الحق، والله المستعان.
وإليك أيها القارئ كلام أهل العلم في هذا الحديث، وتصريحهم بخطأ ابن حزم في تضعيفه، قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري، رحمه الله، لما ذكر هذا الحديث، وذكر كلام الزركشي وتخطئته ابن حزم في تضعيفه، قال ما نصه:
وأما دعوى ابن حزم التي أشار إليها- يعني الزركشي- فقد سبقه إليها ابن الصلاح في علوم الحديث، فقال: التعليق في أحاديث من صحيح البخاري قطع إسنادها، وصورته صورة الانقطاع، وليس حكمه حكمه، ولا خارجا ما وجد ذلك فيه من قبيل الصحيح إلى قبيل الضعيف.
ولا التفات إلى أبي محمد بن حزم الظاهري الحافظ في رد ما أخرجه البخاري من حديث أبي عامر، أو أبي مالك الأشعري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "ليكونن في أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير، والخمر والمعازف" الحديث، من جهة أن البخاري أورده قائلا: قال هشام بن عمار، وساقه بإسناده، فزعم ابن حزم أنه منقطع فيما بين البخاري وهشام، وجعله جوابا عن الاحتجاج به على تحريم المعازف، وأخطأ في ذلك من وجوه.
والحديث صحيح معروف الاتصال بشرط الصحيح، والبخاري قد يفعل مثل ذلك، لكونه قد ذكر ذلك الحديث في(22/179)
ص -181- ... موضع آخر من كتابه مسندا متصلا، وقد يفعل ذلك لغير ذلك من الأسباب، التي لا يصحبها خلل الانقطاع. انتهى.
ثم قال الحافظ بعدما نقل كلام ابن الصلاح المذكور بأسطر، ما نصه: وقد تقرر عند الحافظ، أن الذي يأتي به البخاري من التعاليق كلها بصيغة الجزم، يكون صحيحا إلى من علق عنه، ولو لم يكن من شيوخه؛ لكن إذا وجد الحديث المعلق من رواية بعض الحفاظ، موصولا إلى من علق عنه، بشرط الصحة، أزال الإشكال.
ولهذا عنيت في ابتداء الأمر بهذا النوع، وصنفت كتاب تعليق التعليق. وقد ذكر شيخنا في شرح الترمذي، وفي كلامه على علوم الحديث: أن حديت هشام بن عمار جاء عنه موصولا في مستخرج الإسماعيلي، قال: حدثنا الحسن بن سفيان، حدثنا هشام بن عمار.
وأخرجه الطبراني في مسند الشاميين، فقال: حدثنا محمد بن يزيد بن عبد الصمد، حدثنا هشام بن عمار، قال: وأخرجه أبو داود في سننه، فقال: حدثنا عبد الوهاب بن نجدة، حدثنا بشر بن بكر، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر بسنده. انتهى.
وقال العلامة: ابن القيم رحمة الله عليه، في الإغاثة، لما ذكر هذا الحديث، ما نصه: هذا حديث أخرجه البخاري في صحيحه محتجا به، وعلقه تعليقا مجزوما به، فقال: باب فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه.(22/180)
ص -182- ... وقال هشام بن عمار: حدثنا صدقة بن خالد، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، حدثنا عطية بن قيس الكلابي، حدثني عبد الرحمن بن غنم الأشعري.
قال: حدثني أبو عامر، أو أبو مالك الأشعري، والله ما كذبني أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ليكونن من أمتي أقوام، يستحلون الحر والحرير، والخمر والمعازف، ولينزلن أقوام، إلى جنب علم، يروح عليهم بسارحة لهم يأتيهم لحاجة، فيقولوا: ارجع إلينا غدا، فيبيتهم الله تعالى ويضع العلم، ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة".
ولم يصنع من قدح في صحة هدا الحديث شيئا كابن حزم نصرة لمذهبه الباطل في إباحة الملاهي، وزعم أنه منقطع، لأن البخاري لم يصل سنده به، وجواب هذا الوهم من وجوه:
أحدها: أن البخاري قد لقي هشام بن عمار وسمع منه، فإذا قال: قال هشام فهو بمنزلة قوله عن هشام.
الثاني: أنه لو لم يسمع منه، فهو لم يستجز الجزم به عنه، إلا وقد صح عنه أنه حدث به؛ وهذا كثيرا ما يكون لكثرة من رواه عنه عن ذلك الشيخ وشهرته؛ فالبخاري أبعد خلق الله من التدليس.
الثالث: أنه أدخله في كتابه المسمى بالصحيح محتجا به، فلولا صحته عنده لما فعل ذلك.(22/181)
ص -183- ... الرابع: أنه علقه بصيغة الجزم، دون صيغة التمريض، فإنه إذا توقف في الحديث، أو لم يكن على شرطه، يقول: ويروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويذكر عنه، ونحو ذلك، فإذا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد جزم وقطع بإضافته إليه.
الخامس: أنا لو أضربنا عن هذا كله صفحا، فالحديث صحيح متصل عند غيره، قال أبو داود في كتاب اللباس: حدثنا عبد الوهاب بن نجدة، حدثنا بشر بن بكر، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، حدثنا عطية بن قيس، قال سمعت: عبد الرحمن بن غنم الأشعري قال: حدثنا أبو عامر، أو أبو مالك، فذكره مختصرا. ورواه أبو بكر الإسماعيلي في كتابه الصحيح مسندا، فقال أبو عامر ولم يشك.
ووجه الدلالة منه: أن المعازف هي آلات اللهو كلها، لا خلاف بين أهل اللغة في ذلك، ولو كانت حلالا لما ذمهم على استحلالها، ولما قرن استحلالها باستحلال الخمر.
و"الحر" فإن كان بالحاء والراء المهملتين، فهو استحلال الفروج الحرام، وإن كان بالخاء والزاي المعجمتين، فهو نوع من الحرير، غير الذي صح عن الصحابة رضي الله عنهم لبسه؛ إذ الخز نوعان: أحدهما من حرير، والثاني من صوف، وقد روي هذا الحديث من وجهين.(22/182)
ص -184- ... وقال ابن ماجه في سننه: حدثنا عبد الله بن سعيد، عن معاوية بن صالح، عن حاتم بن حريث، عن ابن أبي مريم، عن عبد الرحمن بن غنم الأشعري، عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها، يعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات، يخسف الله بهم الأرض، ويجعل منهم قردة وخنازير" 1 وهذا إسناد صحيح.
وقد توعد مستحلي المعازف فيه، بأن يخسف الله بهم الأرض، ويمسخهم قردة وخنازير؛ وإن كان الوعيد على جميع هذه الأفعال، فلكل واحد قسط في الذم والوعيد.
وفي الباب عن سهل بن سعد الساعدي، وعمران بن حصين، وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن عباس، وأبي هريرة، وأبي أمامة الباهلي، وعائشة أم المؤمنين؛ وعلي بن أبي طالب، وأنس بن مالك، وعبد الرحمن بن سابط، والغازي بن ربيعة، ونحن نسوقها لتقر بها عيون أهل القرآن، وتشجى بها حلوق أهل سماع الشيطان، ثم ساقها كلها.
ولولا طلب الاختصار، لنقلتها لك أيها القارئ الكريم، ولكني أحيل الراغب في الاطلاع عليها على كتاب الإغاثة، حتى يرى ويسمع ما تقر به عينه، ويشفي به قلبه، وهو على كثرتها وتعدد مخارجها، حجة ظاهرة، وبرهان قاطع، على تحريم الأغاني والملاهي، والتنفير منها، تضاف
__________
1 أبو داود: الأشربة (3688) , وابن ماجه: الفتن (4020).(22/183)
ص -185- ... إلى ما تقدم من الآيات والأحاديث، الدالة على تحريم الأغاني والمعازف.
ويدل الجميع على أن استعمالها، والاشتغال بها من وسائل غضب الله، وحلول عقوبته، والضلال والإضلال عن سبيله؛ نسأل الله لنا وللمسلمين العافية من ذلك، والسلامة من مضلات الفتن، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وأما كلام العلماء في الأغاني والمعازف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فهو كثير جدا، وقد سبق لك بعضه. وإليك جملة من كلامهم، على سبيل التكملة والتأييد لما تقدم، والله ولي التوفيق.
روى علي بن الجعد وغيره، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع" وقد روى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا والمحفوظ أنه من كلام ابن مسعود رضي الله عنه.
قال العلامة بن القيم، رحمه الله، في كتاب: "الإغاثة" لما ذكر هذا الأثر، ما نصه: فإن قيل فما وجه إنباته للنفاق في القلب، من بين سائر المعاصي؟
قيل: هذا من أدل شيء على فقه الصحابة، في أحوال القلوب وأعمالها، ومعرفتهم بأدويتها، وأدوائها، وأنهم: هم أطباء القلوب، دون المنحرفين عن طريقتهم الذين داووا(22/184)
ص -186- ... أمراض القلوب بأعظم أدوائها، فكانوا كالمداوي من السقم بالسم القاتل.
وهكذا والله فعلوا بكثير من الأدوية التي ركبوها أو بأكثرها، فاتفق قلة الأطباء وكثرة المرضى، وحدوث أمراض مزمنة لم تكن في السلف، والعدول عن الدواء النافع الذي ركبه الشارع، وميل المريض إلى ما يقوى مادة المرض، فاشتد البلاء وتفاقم الأمر، وامتلأت الدور والطرقات والأسواق من المرضى، وقام كل جهول يطبب الناس.
فاعلم أن للغناء خواص لها تأثير في صبغ القلب بالنفاق، ونباته فيه كنبات الزرع بالماء. فمن خواصه: أنه يلهي القلب ويصده عن فهم القرآن وتدبره والعمل بما فيه.
فإن القرآن والغناء لا يجتمعان في القلب أبدا، لما بينهما من التضاد؛ فإن القرآن ينهى عن اتباع الهوى، ويأمر بالعفة ومجانبة شهوات النفوس وأسباب الغي، وينهى عن اتباع خطوات الشيطان.
والغناء يأمر بذلك كله ويحسنة، ويهيج النفوس إلى شهوات الغي، فيثير كامنها، ويزعج قاطنها، ويحركها إلى كل قبيح، ويسوقها إلى وصل كل مليحة ومليح؛ فهو والخمر رضيعا لبان، وفي تهييجهما على القبائح فرسا- رهان؛ فإنه صنو الخمر ورضيعه، ونائبه وحليفه، وخدينه وصديقه، عقد الشيطان بينهما شريعة الوفاء التي لا تفسخ.(22/185)
ص -187- ... وهو جاسوس القلب، وسارق المروءة، وسوس العقل، يتغلغل في مكامن القلب، ويطلع على سرائر الأفئدة، ويدب على محل التخيل، فيثير ما فيه من الهوى والشهوة، والسخافة والرقاعة، والرعونة والحماقة.
فبينا الرجل وعليه سمة الوقار، وبهاء العقل وبهجة الإيمان، ووقار الإسلام، وحلاوة القرآن، فإذا استمع الغناء ومال إليه، نقص عقله وقل حياؤه، وذهبت مروءته، وفارقه بهاؤه، وتخلى عنه وقاره، وفرح به شيطانه، وشكا إلى الله تعالى إيمانه، وثقل عليه قرآنه، وقال: يا رب لا تجمع بيني وبين قرآن عدوك في صدر واحد.
فاستحسن ما كان قبل السماع يستقبحه، وأبدى من سره ما كان يكتمه، وانتقل من الوقار والسكينة، إلى كثرة الكلام والكذب، والهزهزة، والفرقعة بالأصابع، فيميل برأسه، ويهز منكبيه، ويضرب الأرض برجليه، ويدق على أم رأسه بيديه، ويثب وثبات الذباب، ويدور دوران الحمار في الدولاب، ويصفق بيديه تصفيق النسوان، ويخور من الوجد كخوران الثيران، وتارة يتأوه تأوه الحزين، وتارة يزعق زعقات المجانين. ولقد صدق الخبير به من أهله، حيث يقول:
أتذكر ليلة وقد اجتمعنا ... على طيب السماع إلى الصباح
ودارت بيننا كأس الأغاني ... فأسكرت النفوس بغير راح
فلم تر فيهم إلا النشاوى ... سرورا والسرور هناك صاحي(22/186)
ص -188- ... إذا نادى أخو اللذات فيه ... ولم نملك سوى المهجات شيئا
أجاب اللهو حي على السماح ... أرقناها لألحاظ الملاح
وقال بعض العارفين: السماع يورث النفاق في قوم، والعناد في قوم، والكذب في قوم، والفجور في قوم، والرعونة في قوم، وأكثر ما يورث عشق الصور، واستحسان الفواحش؛ وإدمانه يثقل القرآن على القلب، ويكرهه إلى سماعه بالخاصية؛ وإن لم يكن هذا نفاقا فما للنفاق حقيقة.
وسر المسألة: أنه قرآن الشيطان كما سيأتي، فلا يجتمع هو وقرآن الرحمن في قلب أبدا، وأيضا: فإن أساس النفاق، أن يخالف الظاهر الباطنوصاحب الغناء بين أمرين: إما أن يتهتك فيكون فاجرا، أو يظهر النسك فيكون منافقا.
فإنه يظهر الرغبة في الله والدار الآخرة، وقلبه يغلي بالشهوات، ومحبة ما يكرهه الله ورسوله، من أصوات المعازف، وآلات اللهو، وما يدعو إليه الغناء ويهيجه، فقلبه بذلك معمور، وهو من محبة ما يحبه الله ورسوله، وكراهة ما يكره، قفر؛ وهذا محض النفاق.
وأيضا، فمن علامات النفاق: قلة ذكر الله، والكسل عند القيام إلى الصلاة، ونقر الصلاة، وقل أن تجد مفتونا بالغناء إلا وهذا وصفه.
وأيضا: فإن النفاق مؤسس على الكذب، والغناء من أكذب الشعر، فإنه يحسن القبيح ويزينه ويأمر به، ويقبح(22/187)
ص -189- ... الحسن ويزهد فيه، وذلك عين النفاق.
وأيضا: فإن النفاق غش ومكر وخداع، والغناء مؤسس على ذلك. وأيضا: فإن النفاق يفسد من حيث يظن أنه يصلح، كما أخبر الله سبحانه بذلك عن المنافقين.
وصاحب السماع يفسد قلبه وحاله من حيث يظن أنه يصلحه، والمغني يدعو القلوب إلى فتنه الشهوات، والمنافق يدعوها إلى فتنة الشبهات.
قال الضحاك: "الغناء مفسدة للقلب، مسخطة للرب" وكتب عمر بن عبد العزيز إلى مؤدب ولده:?"ليكن أول ما يعتقدون من أدبك، بغض الملاهي التي بدؤها من الشيطان، وعاقبتها سخط الرحمن".
فإنه بلغني عن الثقات من أهل العلم أن صوت المعازف، واستماع الأغاني، واللهج بها، ينبت النفاق في القلب، كما ينبت العشب على الماء فالغناء يفسد القلب، وإذا فسد القلب هاج فيه النفاق.
وبالجملة: فإذا تأمل البصير حال أهل الغناء، وحال أهل القرآن، تبين له حذق الصحابة، ومعرفتهم بأدواء القلوب وأدويتها، وبالله التوفيق.
وقال ابن القيم، في موضع آخر من الإغاثة: قال الإمام أبو بكر الطرطوشي- وهو من أئمة المالكية- في خطبة كتابه، في تحريم السماع: الحمد لله رب العالمين، والعاقبة(22/188)
ص -190- ... للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، ونسأله أن يرينا الحق حقا فنتبعه، والباطل باطلا فنجتنبه.
وقد كان الناس فيما مضى يستر أحدهم بالمعصية إذا واقعها، ثم يستغفر الله ويتوب إليه منها، ثم كثر الجهل، وقل العلم، وتناقص الأمر، حتى صار أحدهم يأتي المعصية جهارا.
ثم ازداد الأمر إدبارا حتى بلغنا أن طائفة من إخواننا المسلمين- وفقنا الله وإياهم- استزلهم الشيطان، واستغوى عقولهم، في حب الأغاني واللهو، وسماع الطقطقة، والنقير، واعتقدته من الدين الذي يقربهم إلى الله.
وجاهرت به جماعة المسلمين، وشاقت سبيل المؤمنين، وخالفت الفقهاء وحملة الدين {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [سورة النساء آية: 115].
فرأيت أن أوضح الحق، وأكشف عن شبهة أهل الباطل، بالحجج التي تضمنها كتاب الله وسنة رسوله. وأبدأ بذكر أقاويل العلماء الذين تدور الفتيا عليهم، في أقاصي الأرض ودانيها، حتى تعلم هذه الطائفة، أنها قد خالفت علماء المسلمين في بدعتها، والله ولي التوفيق.
تم قال أما مالك، فإنه ينهى عن الغناء وعن(22/189)
ص -191- ... استماعه، وقال: إذا اشترى جارية فوجدها مغنية، كان له أن يردها بالعيب.
وسئل مالك رحمه الله عما رخص فيه أهل المدينه من الغناء؟ فقال: إنما يفعله الفساق. قال: وأما أبو حنيفة فإنه يكره الغناء، ويجعله من الذنوب.
وكذلك مذهب أهل الكوفة: سفيان، وحماد، وإبراهيم، والشعبي، وغيرهم، لاختلاف بينهم في ذلك، ولا نعلم خلافا أيضا بين أهل البصرة في المنع منه. انتهى كلام الطرطوشي.
قلت: ومراده بالطائفة التي أحبت الغناء، واعتقدته من الدين الذي يقربهم إلى الله: جماعة من الصوفية، أحدثوا بدعة سماع الغناء، وزعموا أنه ينشطهم على العبادة والتقرب إلى الله بأنواع القربات.
فأنكر علماء زمانهم عليهم ذلك، وصاحوا بهم من كل جانب. وأجمع علماء الحق على أن ما أحدثته هذه الطائفة، بدعة منكرة. وألف الطرطوشي: كتابه المشار إليه في الرد عليهم، وبيان بطلان مذهبهم.
ومن هنا، يعلم القارئ أن المفتونين بسماع الغناء والملاهي طائفتان: الطائفة الأولى: اتخذته دينا وعبادة، وهم شر الطائفتين وأشدهما إثما وخطرا، لكونهم ابتدعوا في الدين ما لم يأذن به الله، وجعلوا الغناء والملاهي اللذين(22/190)
ص -192- ... هما أداة الفسق والعصيان دينا يتقربون به إلى الملك الديان.
والطائفة الثانية: اتخذوا الغناء والملاهي لهوا ولعبا، وترويحا عن النفوس، وتسليا بذلك عن مشاغل الدنيا وأتعابها؛ وهم مخطئون في ذلك، وعلى خطر عظيم من الضلال والإضلال.
ولكنهم أخف من الطائفة الأولى، لكونهم لم يتخذوا ذلك دينا وعبادة؛ وإنما اتخذوه لهوا ولعبا وتجميما للنفوس. وقد صرح أهل العلم بتحريم هذا وهذا، وإنكار هذا وهذا.
ثم قال العلامة ابن القيم، رحمة الله عليه، بعدما نقل كلام الطرطوشي المتقدم، ما نصه:
قلت: مذهب أبي حنيفة في ذلك من أشد المذاهب، وقوله فيه أغلظ الأقوال، وقد صرح أصحابه بتحريم سماع الملاهي كلها، كالمزمار، والدف، حتى الضرب بالقضيب، وصرحوا بأنه معصية توجب الفسق وترد به الشهادة.
وأبلغ من ذلك: أنهم قالوا إن السماع فسق، والتلذذ به كفر. هذا لفظهم، ورووا في ذلك حديثا لا يصح رفعه، قالوا: ويجب عليه أن يجتهد في أن لا يسمعه إذا مر به، أو كان في جواره.
وقال أبو يوسف في دار يسمع منها صوت المعازف والملاهي: ادخل عليهم بغير إذنهم، لأن النهي عن المنكر(22/191)
ص -193- ... فرض، فلو لم يجز الدخول بغير إذن، لامتنع الناس من إقامة الفرض. قالوا: ويتقدم إليه الإمام إذا سمع ذلك من داره، فإن أصر حبسه أو ضربه سياطا، وإن شاء أزعجه عن داره.
وأما الشافعي فقال في كتاب أدب القضاء: إن الغناء لهو مكروه، يشبه الباطل والمحال؛ ومن استكثر منه فهو سفيه ترد شهادته؛ وصرح أصحابه العارفون بمذهبه بتحريمه، وأنكروا على من نسب إليه حله، كالقاضي أبي الطيب الطبري، والشيخ أبي إسحاق، وابن الصباغ.
قال الشيخ أبو إسحاق في التنبيه: ولا تصح، يعني- الإجارة- على منفعة محرمة، كالغناء، والزمر، وحمل الخمر، ولم يذكر فيه خلافا. وقال في المهذب: ولا يجوز على المنافع المحرمة، كالغناء، لأنه محرم، فلا يجوز أخذ العوض عنه، كالميتة والدم.
فقد تضمن كلام الشيخ أمورا; أحدها: أن منفعة الغناء بمجرده منفعة محرمة.
الثاني: أن الاستئجار عليها باطل.
الثالث: أن أكل المال به أكل مال بالباطل، بمنْزلة أكله عوضا عن الميتة والدم.
الرابع: أنه لا يجوز لرجل بذل ماله للمغني، ويحرم عليه ذلك، فإنه بذل ماله في مقابلة محرم؛ وأن بذله في ذلك، كبذله في مقابلة الدم والميتة.
الخامس: أن الزمر حرام، وإذا كان الزمر الذي هو(22/192)
ص -194- ... أخف آلات اللهو حراما، فكيف بما هو أشد منه، كالعود، والطنبور، واليراع. ولا ينبغي لمن شم رائحة العلم، أن يتوقف في تحريم ذلك، فأقل ما فيه أنه من شعار العشاق، وشاربي الخمور.
وكذلك قال أبو زكريا النووي، في روضته.
القسم الثاني: أن يغني ببعض آلات الغناء، بما هو من شعار شاربي الخمر، وهو مطرب، كالطنبور، والعود، والصنج، وسائر المعازف، والأوتار، يحرم استعماله واستماعه.
قال: وفي اليراع وجهان، صحح البغوي التحريم، ثم ذكر عن الغزالي الجواز. قال: والصحيح تحريم اليراع، وهو: الشبابة، وقد صنف أبو القاسم الدولعي كتابا في تحريم اليراع.
وقد حكى أبو عمرو ابن الصلاح الإجماع على تحريم السماع، الذي جمع الدف، والشبابة، والغناء، فقال في فتاويه:
وأما إباحة هذا السماع وتحليله، فليعلم أن الدف والشبابة والغناء، إذا اجتمعت، فاستماع ذلك حرام عند أئمة المذاهب وغيرهم من علماء المسلمين؛ ولم يثبت عن أحد ممن يعتبر بقوله إلى الإجماع والاختلاف، أنه أباح هذا السماع.(22/193)
ص -195- ... والخلاف المنقول عن بعض أصحاب الشافعي، إنما نقل في الشبابة المنفردة، والدف منفردا، فمن لا يحصل أو لا يتأمل، ربما اعتقد اختلافا بين الشافعيين في هذا السماع الجامع هذه الملاهي، وذلك وهم بيّن من الصائر إليه، تنادي عليه أدلة الشرع والعقل، مع أنه ليس كل خلاف يستروح إليه ويعتمد عليه.
ومن تتبع ما اختلف فيه العلماء، وأخذ بالرخص من أقاويلهم، تزندق، أو كاد، قال: وقولهم في السماع المذكور أنه من القربات والطاعات، قول مخالف لإجماع المسلمين.
ومن خالف إجماعهم، فعليه ما في قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [سورة النساء آية: 115].
وأطال الكلام في الرد على هاتين الطائفتين اللتين بلاء المسلمين منهما، المحللون لما حرم الله، والمتقربون إلى الله بما يباعدهم عنه.
والشافعي وقدماء أصحابه، والعارفون بمذهبه، من أغلظ الناس قولا في ذلك، وقد تواترت عن الشافعي، أنه قال: خلفت ببغداد شيئا أحدثته الزنادقة، يسمونه: التغبير، يصدون به الناس عن القرآن.(22/194)
ص -196- ... فإذا كان هذا قوله في التغبير، وتعليله أنه يصد عن القرآن، وهو شعر يزهد في الدنيا، يغني به مغن، فيضرب بعض الحاضرين بقضيب على نطع أو مخدة، على توقيع غنائه، فليت شعري ما يقول فيمن سماع التغبير عنده كتفلة في بحر؟ قد اشتمل على كل مفسدة، وجمع كل محرم، فالله بين دينه، وبين كل متعلم مفتون، وعابد جاهل.
قال سفيان بن عيينة: كان يقال: احذروا فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون، ومن تأمل الفساد الداخل على الأمة، وجده من هذين المفتونين.
وأما مذهب الإمام أحمد، فقال عبد الله ابنه: سألت أبي عن الغناء؟ قال: الغناء ينبت النفاق في القلب، لا يعجبني. ثم ذكر قول مالك: إنما يفعله عندنا الفساق.
قال عبد الله: وسمعت أبي يقول، سمعت يحيى القطان يقول: لو أن رجلا عمل بكل رخصة، بقول أهل الكوفه في النبيذ، وأهل المدينة في السماع، وأهل مكة في المتعة، لكان فاسقا.
قال أحمد: وقال سليمان التيمي: "لو أخذت برخصة كل عالم أو زلة كل عالم، اجتمع فيك الشر كله"، ونص على كسر آلات اللهو، كالطنبور وغيره، إذا رآها مكشوفة وأمكنه كسرها; وعنه في كسرها إذا كانت مغطاة تحت ثيابه وعلم بها روايتان منصوصتان.
ونص في أيتام ورثوا جارية مغنية، وأرادوا بيعها(22/195)
ص -197- ... فقال: لا تباع إلا على أنها ساذجة، فقالوا: إذا بيعت مغنية ساوت عشرين ألفا أو نحوها، وإذا بيعت ساذجة لا تساوي ألفين، فقال: لا تباع إلا على أنها ساذجة.
ولو كانت منفعة الغناء مباحة لما فوت هذا المال على الأيتام. وأما سماعه من المرأة الأجنبية أو الأمرد، فمن أعظم المحرمات، وأشدها فسادا للدين.
قال الشافعي رحمه الله: وصاحب الجارية إذا جمع الناس لسماعها، فهو سفيه ترد شهادته؛ وأغلظ القول فيه وقال: هو دياثة، فمن فعل ذلك كان ديوثا.
قال القاضي أبو الطيب: وإنما جعل صاحبها سفيها، لأنه دعا الناس إلى الباطل، ومن دعا الناس إلى الباطل كان سفيها فاسقا، قال: وكان الشافعي يكره التغبير وهو الطقطقة بالقضيب ويقول: وضعته الزنادقة ليشغلوا به عن القرآن.
قال: وأما العود، والطنبور وسائر الملاهي فحرام، ومستمعه فاسق، واتباع الجماعة أولى من اتباع رجلين مطعون عليهما، قلت: يريد بهما: إبراهيم بن سعد، وعبيد الله بن الحسن.
فإنه قال: وما خالف في الغناء إلا رجلان: إبراهيم بن سعد، فإن الساجي حكى عنه أنه كان لا يرى به بأسا، والثاني: عبيد الله بن الحسن العنبري قاضي البصرة، وهو مطعون فيه. انتهى كلام ابن القيم رحمه الله.(22/196)
ص -198- ... ونقل القرطبي في تفسيره عن الطبري ما نصه:
فقد أجمع علماء الأمصار على كراهة الغناء، والمنع منه، وإنما فارق الجماعة: إبراهيم بن سعد، وعبيد الله العنبري. انتهى.
قلت: وإبراهيم بن سعد، وعبيد الله بن الحسن العنبري، من ثقات أتباع التابعين، ولعل ما نقل عنهما من سماع الغناء، إنما هو في الشيء القليل الذي يزهد في الدنيا، ويرغب في الآخرة؛ وحملهما على أحسن المحامل أولى من حملهما على سماع الغناء المحرم.
وهكذا يروى عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه من سماع الغناء وشراء الجواري المغنيات، يجب أن يحمل على الشيء اليسير الذي لا يصد عن الحق، ولا يوقع في الباطل، مع أن ابن عمر والحسن البصري، قد أنكر عليه ذلك.
ومعلوم عند أهل العلم والإيمان أن الحق أولى بالاتباع، وأنه لا يجوز مخالفة الجماعة، والأخذ بالأقوال الشاذة من غير برهان؛ بل يجب حمل أهلها على أحسن المحامل، مهما وجد إلى ذلك سبيل، إذا كانوا أهلا لإحسان الظن بهم، لما عرف من تقواهم وإيمانهم.
وسبق لك أيها القارئ قول سليمان التيمي: "لو أخذت برخصة كل عالم، أو زلة كل عالم، اجتمع فيك الشر كله".
وذكر القرطبي في تفسيره ما نصه:(22/197)
ص -199- ... قال أبو الفرج، وقال القفال من أصحابنا: لا تقبل شهادة المغني والرقاص.
قلت: وإذ قد ثبت أن هذا الأمر لا يجوز، فأخذ الأجرة لا يجوز. وقد ادعى ابن عبد البر الإجماع على تحريم الأجرة على ذلك. انتهى ما نقله القرطبي.
وهذا آخر ما تيسر إملاؤه في هذه المسألة- أعني: مسألة الأغاني والمعازف- ولو ذهبنا نتتبع ما جاء في ذلك من الأحاديث والآثار، وكلام أهل العلم، لطال بنا الكلام; وفيما تقدم كفاية ومقنع لطالب الحق، وأما صاحب الهوى فلا حيلة فيه.
ونسأل الله لنا ولسائر المسلمين التوفيق لما يرضيه، والسلامة من أسباب غضبه وموجبات نقمه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.
ونصيحتي لأبي تراب وغيره، من المشغوفين بالغناء والمعازف، أن يراقبوا الله، ويتوبوا إليه، وأن ينيبوا إلى الحق، لأن الرجوع إلى الحق فضيلة، والتمادي في الباطل رذيلة، ولولا طلب الاختصار، لنبهنا على جميع ما وقع في مقال أبي تراب من الأخطاء.
وصاحب البصيرة يعرف ذلك مما تقدم، والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حوله ولا قوة إلا بالله، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وصلى الله على عبده ورسوله محمد، وآله وصحبه وسلم.(22/198)
ص -200- ... [ فصل في اللعب بالكرة وممارسة الألعاب الرياضية ]
فصل: ومن الملاهي ما يسمونه: "لعب الكرة" لم يكن في عهد الخلفاء، ولا ملوك المسلمين، ولا في هذه الدعوة المباركة، إلى وفاة الشيخ عبد الله.
وإنما سرت إلى هذه المملكة، من تلاميذ الغرب، حيث تلقتها بعض الدول المنحلة، عن الترك وغيرهم؛ فقد رغب فيها من قل نصيبه من العلم والدين، ليصدوا بها عن ذكر الله وعن الصلاة، وحتى يترك بعضهم صلاة العصر والمغرب، وحتى قال من لا نصيب له من الإسلام: إن الصلاة رياضة، وهذه بدلها.
وقد أنكر ذلك من له غيرة على دين الإسلام، من معلمين وغيرهم، فعسى الله أن يوفق ولاة أمورنا لمنعهم، ويقيموا مكانها، التعليم على آلات الحرب، ليدفعوا عدوهم عن بلادهم، وعسى الله أن يؤيدهم بروح منه، فيقيموا علم الجهاد، مقتفين بذلك آثار آبائهم، الذين جاهدوا في الله حق جهاده، والله الموفق.(22/199)
ص -201- ... [ جواب الشيخ محمد بن إبراهيم عن ممارسة الألعاب الرياضية ]
وقد سئل الشيخ: محمد بن إبراهيم، رحمه الله تعالى، عن ممارسة الألعاب الرياضية، بالقرب من المسجد، هل هي جائزة أم لا؟ وعن حكم الرياضة في الإسلام؟
فأجاب رحمه الله تعالى بما يلي:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فالجواب على السؤال الأولى، الخاص بطلب حكم ممارسة الألعاب الرياضية، بالقرب من المسجد، لا يخلو الحال من أمرين، إما أن يكون اللعب بأنواع الرياضات، في وقت الصلاة المكتوبة، أو ما يقارب وقتها قبل دخوله، فهذا لا يجوز بحال؛ وهو من المنكرات الواجب إنكارها، حكمه حكم غيره مما يلهي عن ذكر الله وعن الصلاة.
وإما أن تكون ممارسة الألعاب الرياضية في غير أوقات الصلاة، فما كان منها مباحا، كالسباق، والسباحة، والمصارعة، ونضال السهام، وما يشبهه، ونحو هذه الأمور، فإذا لم يكن في ممارستها قرب المسجد، ما يشوش على من في المسجد، من قراء ومصلين ونحوهم، فلا نرى مانعا يمنع جوازه. لما في ممارسة هذه الألعاب، من تنشيط للأبدان، وقلع الأمراض المزمنة فيها، وتقوية لها على الأعمال الخيرية، كالجهاد، والتدريب على الكر والفر.
فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما، عن عائشة(22/200)
ص -202- ... رضي الله عنها، أنها قالت: "لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما على باب حجرتي، والحبشة يلعبون فى المسجد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه، أنظر إلى لعبهم" 1 وفي رواية لهما: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم والحبشة يلعبون بحرابهم" 2.
وفي رواية عند أحمد عن عائشة أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: "لتعلم يهود أن في ديننا فسحة، إني أرسلت بحنيفية سمحة" 3 ففي هذا الحديث دليل على جواز اللعب بالحراب في المسجد، لا سيما إذا كان اللعب من أناس يشبهون الحبشة في التأثر بهذه الألعاب.
قال المهلب في فتح الباري، في شرح "باب أصحاب الحراب في المسجد": المسجد موضوع لأمر جماعة من المسلمين، فما كان من الأعمال يجمع منفعة الدين وأهله، جاز فيه.
وقال النووي في شرح صحيح مسلم: وفيه- أي: في هذا الحديث- جواز اللعب بالسلاح ونحوه، من آلات الحرب، ويقاس عليه ما في معناه، من الأشياء المعينة على الجهاد، وأنواع البر.
فما دام الأمر هكذا في نفس المسجد، فما كان بالقرب منه أولى بالجواز، بشرط أن يكون اللعب في غير أوقات الصلوات، وألا يشوش على من في المسجد، من قراء ومصلين ونحوهم، وأن يكون مثمرا منفعة الدين وأهله.
__________
1 البخاري: الصلاة (455) , ومسلم: صلاة العيدين (892) , والنسائي: صلاة العيدين (1594 ,1595) , وأحمد (6/56 ,6/166 ,6/186 ,6/247 ,6/270).
2 البخاري: الصلاة (455).
3 أحمد (6/116).(22/201)
ص -203- ... [ حكم الرياضة في الإسلام ]
أما السؤال: عن حكم الرياضة في الإسلام، فلا شك في جواز، أو استحباب، ما كان منها بريئا هادفا، مما فيه تدريب على الجهاد، وتنشيط للأبدان، وقلع للأمراض، وتقوية للأرواح.
فلقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سابق بالأقدام وسابق بين الإبل، وسابق بين الخيل، وحضر نضال السهام، وصارع مع إحدى الطائفتين، وطعن بالرمح، وركب الخيل مسرجة ومعراة، وصارع ركانة فصرعه.
وقد بسط الإمام ابن القيم رحمه الله بحث هذا في كتابه: "الفروسية" كما أشار رحمه الله في كتاب زاد المعاد، إلى أن ركوب الخيل، ورمي النشاب، والمصارعة، والمسابقة بالأقدام، كل ذلك رياضة للبدن، قالعة للأمراض المزمنة، كالاستسقاء، والقولنج.
ونص شيخه، شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، على حكم الشرع في الكرة نفسها 1 فقال في باب السبق، في مختصر فتاواه: ولعب الكرة إذا كان قصد صاحبه المنفعة للخيل والرجال، بحيث يستعان بها على الكر والفر،
__________
1 الكرة: كثبة, معروفة; وهي: ما أدرت من شيء; وفي الصحاح, هي: التي تضرب بالصولجان; وفي التهذيب: الصولجان عصا يعطف طرفها, يضرب بها الكرة على الدواب. وانظر ما ذكره ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية ج/12 عن سيرة الملك نور الدين محمود زنكي بأنه كان يكثر اللعب بها... إلخ.(22/202)
ص -204- ... والدخول والخروج، ونحوه، في الجهاد، وغرض الاستعانة على الجهاد، الذي أمر الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، فهو حسن؛ وإن كان في ذلك مضرة بالخيل أو الرجال، فإنه ينهى عنه.
وبمناسبة الحديث عن الألعاب الرياضية، وتعريجنا على اللعب بالكرة، وإيرادنا ما ذكره الشيخ من النهي عن اللعب بها، إذا كان فيه مضرة بالخيل أو الرجال. يحسن أن نغتنم هذه الفرصة لنقول بأن اللعب بالكرة الآن 1 يصاحبه من الأمور المنكرة، ما يقضي بالنهي عن لعبها، هذه الأمور، نلخصها فيما يأتي:
أولا: ثبت لدينا مزاولة لعبها في أوقات الصلاة، مما ترتب عليه ترك اللاعبين ومشاهديهم للصلاة، أو الصلاة جماعة، أو تأخيرهم أدائها عن وقتها؛ ولا شك في تحريم أي عمل يحول دون أداء الصلاة في وقتها، أو يفوت فعلها جماعة، ما لم يكن ثم عذر شرعي.
ثانيا: ما عن طبيعة هذه اللعبة من التحزبات، أو إثارة الفتن، وتنمية الأحقاد، وهذه النتائج عكس ما يدعو إليه الإسلام من وجوب التسامح، والتآلف والتآخي، وتطهير النفوس والضمائر من الأحقاد، والضغائن والتنافر.
ثالثا: ما يصاحب اللعب بها من الأخطار على أبدان اللاعبين بها، نتيجة التصادم والتلاكم، مع ما سبق ذكره،
__________
1 يريد الآلة الحادثة المعبأة بالهواء.(22/203)
ص -205- ... فلا ينتهي اللاعبون بها من لعبتهم في الغالب، دون أن يسقط بعضهم في ميدان اللعب مغمى عليه، أو مكسورة رجله أو يده، وليس أدل على صدق هذا، من ضرورة وجود سيارة إسعاف طبية تقف بجانبهم وقت اللعب بها.
رابعا: عرفنا مما تقدم، أن الغرض من إباحة الألعاب الرياضية، تنشيط الأبدان، والتدريب على القتال، وقلع الأمراض المزمنة، ولكن اللعب بالكرة الآن لا يهدف إلى شيء من مبررات إباحة الألعاب الرياضية.
وإن هدف إلى شيء من ذلك، فقد اقترن به- مع ما سبق ذكره- ابتزاز المال بالباطل، فضلا عن أنه يعرض الأبدان للإصابات، وينمي في نفوس اللاعبين والمشاهدين الأحقاد وإثارة الفتن.
بل قد يتجاوز أمر تحيز بعض المشاهدين لبعض اللاعبين، إلى الاعتداء والقتل، كما حدث في إحدى مباريات جرت في إحدى المدن منذ أشهر، ويكفي هذا بمفرده لمنعها، وبالله التوفيق. انتهى 1.
__________
1 من مجموع: الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله ج/8 , وأضفناه هنا للحاجة إليه.(22/204)
ص -206- ... [ قول الشيخ حمود التويجري من التشبه بأعداء الله، اللعب بالكرة ]
وقال الشيخ: حمود بن عبد الله التويجري، رحمه الله 1:
ومن التشبه بأعداء الله تعالى: اللعب بالكرة على الوجه المعمول به عند السفهاء في هذه الأزمان، وذلك: لأن اللعب بها على هذا الوجه، مأخوذ عن الإفرنج وأشباههم من أعداء الله تعالى. وقد رأيت عمل الأمريكان في أخشاب الكرة، ومواضع اللعب بها، ورأيت عمل سفهاء المسلمين في ذلك، فرأيته مطابقا لعمل الأمريكان أتم المطابقة.
وقد تقدم حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن رسوله الله صلى الله عليه وسلم قال: "من تشبه بقوم فهو منهم" 2، وتقدم أيضا حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس منا من تشبة بغيرنا" 3.
إذا علم هذا، فاللعب بالكرة على الوجه الذي أشرنا إليه، من جملة المنكر الذي ينبغي تغييره، وبيان ذلك من وجوه:
أحدها: ما فيه من التشبه بالإفرنج، وأضرابهم من أعداء الله تعالى، وأقل الأحوال في حديث عبد الله بن عمر، وحديث عبد الله بن عمرو، رضي الله عنهم، أنهما يقتضيان تحريم التشبه بأعداء الله تعالى، في كل شيء من زيهم
__________
1 في كتابه: "الإيضاح والتبيين لما وقع فيه الأكثرون من مشابهة المشركين" طبع سنة 1384 هـ.
2 أبو داود: اللباس (4031).
3 الترمذي: الاستئذان والآداب (2695).(22/205)
ص -207- ... وأفعالهم، ففيها دليل على المنع من اللعب بالكرة.
ويدل على المنع من اللعب بها أيضا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "خالفوا المشركين" 1 متفق عليه، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، ويدل على المنع منه أيضا، قول النبي صلى الله عليه وسلم: "هدينا مخالف لهدي أهل الأوثان والشرك" رواه الشافعي مرسلا، والحاكم موصولا، من حديث المسور بن مخرمة رضي الله عنهما.
الوجه الثاني: ما في اللعب بها من الصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهذا أمر معروف عند الناس عامتهم وخاصتهم، وربما أوقعت الحقد بين اللاعبين، حتى يؤول بهم ذلك إلى العداوة والبغضاء.
وتعاطي ما يصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وما يوقع العداوة والبغضاء بين المسلمين حرام، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [سورة المائدة آية: 90-91-92] .
واللعب بالكرة نوع من الميسر، لأنه يلهي عن ذكر الله وعن الصلاة، وقد روى ابن جرير في تفسيره، من طريق عبيد الله بن عمر، أنه سمع عمر بن عبيد الله، يقول
__________
1 البخاري: اللباس (5892) , ومسلم: الطهارة (259).(22/206)
ص -208- ... للقاسم بن محمد: النرد ميسر، أرأيت الشطرنج: ميسر هو؟ فقال القاسم: كل ما ألهى عن ذكر الله وعن الصلاة، فهو ميسر، وإذا كان اللعب بالكرة على عوض، فهو من الميسر بلا شك.
قال الشيخ: أبو محمد المقدسي في المغني: كل لعب فيه قمار، فهو محرم، أي لعب كان، وهو من الميسر الذي أمر الله تعالى باجتنابه، ومن تكرر منه ذلك ردت شهادته. انتهى.
وقد روى ابن جرير في تفسيره عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم، أنهما قالا: "الميسر القمار"، وروى أيضا عن مجاهد، وسعيد بن جبير، وطاووس، وعطاء، والحسن، وابن سيرين، والضحاك، وقتادة والسدي، ومكحول، وعطاء بن ميسرة نحو ذلك.
وفي رواية له عن مجاهد، وسعيد بن جبير، أنهما قالا: "الميسر: القمار كله، حتى الجوز الذي يلعب به الصبيان"، وفي رواية له عن طاووس وعطاء قالا: "كل قمار فهو من الميسر، حتى لعب الصبيان بالكعاب والجوز".
وذكر ابن كثير في تفسيره، عن راشد بن سعد، وضمرة بن حبيب، أنهما قالا: "حتى الكعاب والجوز والبيض، التي يلعب بها الصبيان".
وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية، رحمه الله(22/207)
ص -209- ... تعالى: الميسر محرم بالنص والإجماع.
إذا علم هذا، فمن استحل العوض على اللعب بالكرة، فقد استحل ما هو محرم بالنص والإجماع، من الميسر، وأكل المال بالباطل، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [سورة النساء آية: 29] .
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله أبى علي أن يدخل الجنة لحما نبت من سحت، فالنار أولى به" 1 رواه الحاكم في مستدركه من حديث عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وفي المستدرك أيضا، من حديث جابر بن عبد الله، رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا كعب بن عجرة، إنه لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت، النار أولى به" 2 وفي المستدرك أيضا، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من نبت لحمه من السحت، فالنار أولى به" 3.
وفي المستدرك أيضا، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "من نبت لحمه من السحت، فالنار أولى به"، وروى أبو نعيم في الحلية، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من نبت لحمه من سحت فالنار أولى به" 4.
__________
1 أحمد (3/321 ,3/399) , والدارمي: الرقاق (2776).
2 أحمد (3/321) , والدارمي: الرقاق (2776).
3 أحمد (3/399).
4 أحمد (3/399).(22/208)
ص -210- ... الوجه الثالث: أن في اللعب بالكرة ضررا على اللاعبين، فربما سقط أحدهم، فتخلعت أعضاؤه، وربما انكسرت رجل أحدهم، أو يده، أو بعض أضلاعه، وربما حصل فيه شجاج في وجهه، أو رأسه، وربما سقط أحدهم فغشي عليه ساعة، أو أكثر أو أقل، بل ربما آل الأمر ببعضهم إلى الهلاك، كما قد ذكر لنا عن غير واحد من اللاعبين بها، وما كان هذا شأنه، فاللعب به لا يجوز.
الوجه الرابع: أن اللعب بالكرة من الأشر والمرح، ومقابلة نعم الله تعالى بضد الشكر، وقد قال الله تعالى: {وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً} [سورة الإسراء آية: 37] ، واللعب بالكرة نوع من المرح.
وروى البخاري في الأدب المفرد، عن البراء بن عازب رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأشرة: شر" قال أبو معاوية أحد رواته، الأشرة: العبث، واللعب بالكرة نوع من العبث؛ فلا يجوز.
الوجه الخامس: ما في اللعب بها من اعتياد وقاحة الوجوه، وبذاءة الألسن، وهذا معروف عن اللاعبين بها.
وقد ألجأني الطريق مرة إلى المرور من عند اللاعبين بها، فسمعت منهم ما تستك منه الأسماع من كثرة الصخب والتخاطب بالفحش، ورديء الكلام، وسمعت بعضهم يقذف(22/209)
ص -211- ... بعضا، ويلعن بعضهم بعضا، وما أدى إلى هذا أو بعضه، فهو حرام بلا ريب.
الوجه السادس: ما في اللعب بها أيضا، من كشف الأفخاذ، ونظر بعضهم إلى فخذ بعض، ونظر الحاضرين إلى أفخاذ اللاعبين، وهذا لا يجوز، لأن الفخذ من العورة، وستر العورة واجب، إلا من الزوجات والسراري.
لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك" 1 رواه الإمام أحمد، وأهل السنن، والحاكم في مستدركه، من حديث بهز بن حكيم، عن أبيه عن جده رضي الله عنه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي في تلخيصه.
والدليل على أن الفخذ من العورة: ما رواه مالك، وأحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن حبان، والحاكم عن جرهد الأسلمي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم مر به وهو كاشف عن فخذه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"غط فخذك، فإنها من العورة"2 قال الترمذي: هذا حديث حسن، وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وروى الإمام أحمد، والترمذي، والحاكم أيضا، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الفخذ عورة" 3، هذا لفظ الترمذي.
ولفظ الحاكم: "مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل، فرأى
__________
1 الترمذي: الأدب (2769) , وابن ماجه: النكاح (1920).
2 الترمذي: الأدب (2796).
3 الترمذي: الأدب (2798) , وأبو داود: الحمام (4014).(22/210)
ص -212- ... فخذه مكشوفة، فقال: غط فخذك، فإن فخذ الرجل من عورته" 1.
قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
وروى أبو داود، وابن ماجه، وعبد الله بن الإمام أحمد، والحاكم، عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تكشف فخذك، ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت" 2، وفي رواية للدارقطني: "لا تكشف عن فخذك، فإن الفخذ من العورة".
وروى الإمام أحمد والبخاري في التأريخ الكبير، والحاكم في مستدركه، عن محمد بن عبد الله بن جحش رضي الله عنه قال: "مر النبي صلى الله عليه وسلم وأنا معه، على معمر، وفخذاه مكشوفتان، فقال: يا معمر، غط عليك فخذيك، فإن الفخذين عورة" 3.
وروى الدارقطني في سننه، عن أبي أيوب رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ما فوق الركبتين من العورة، وما أسفل من السرة من العورة" 4.
وروى أيضا: من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما تحت السرة إلى الركبة من العورة".
إذا علم هذا، فالنظر إلى عورة الغير حرام، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث علي رضي الله عنه: "ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت" 5.
__________
1 أحمد (1/275).
2 أبو داود: الحمام (4015) , وابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1460) , وأحمد (1/146).
3 أحمد (5/290).
4 أحمد (2/187).
5 أبو داود: الحمام (4015) , وابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1460) , وأحمد (1/146).(22/211)
ص -213- ... ولقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة" 1 رواه الإمام أحمد وأهل السنن، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
الوجه السابع: أن اللعب بالكرة من اللهو الباطل قطعا، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "كل ما يلهو به الرجل المسلم باطل، إلا رميه بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله؛ فإنهن من الحق" 2 وفي رواية: "وتعليم السباحة" رواه الامام أحمد، وأهل السنن، من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، ووافقه الذهبي في تلخيصه.
فدل هذا الحديث الصحيح على أن اللعب بالكرة من الضلال، لقول الله تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} 3، قال الخطابي، رحمه الله تعالى: في هذا بيان أن جميع أنواع اللهو محظورة، وإنما استثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الخلال من جملة ما حرم منها، لأن كل واحدة منها إذا تأملتها، وجدتها معينة على حق، أو ذريعة إليه، ويدخل في معناها: ما كان من المناقفة بالسلاح، والشد على الأقدام ونحوهما، مما يرتاض به الإنسان، فيتوقح بذلك بدنه، ويتقوى به على مجالدة العدو.
فأما سائر ما يتلهى به البطالون، من أنواع اللهو، كالنرد، والشطرنج، والمزاجلة بالحمام، وسائر ضروب
__________
1 مسلم: الحيض (338) , وأحمد (3/63).
2 الترمذي: فضائل الجهاد (1637).
3 سورة يونس آية: 32.(22/212)
ص -214- ... اللعب، مما لا يستعان به في حق، ولا يستجم به لدرك واجب، فمحظور كله. انتهى.
وقوله: فيتوقح بذلك بدنه، معناه: يصلب بدنه، قال الجوهري: حافر وقاح، أي صلب، وتوقيح الحافر: تصليبه بالشحم المذاب.
قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية، رحمه الله تعالى: سائر ما يتلهى به البطالون، من أنواع اللهو، وسائر ضروب اللعب، مما لا يستعان به في حق شرعي، كله حرام.
قلت: ومن هذا الباب: اللعب بالكرة، لأنه مجرد لهو ولعب، ومرح وعبث، وأعظم من ذلك: أنه يصد عن ذكر الله، وعن الصلاة، ويوقع العداوة والبغضاء بين اللاعبين، وليس هو مما يستعان به في حق شرعي، ولا يستجم به لدرك واجب، فهو من اللعب المحظور بلا شك، والله أعلم.
ثم ذكر الخطابي رحمه الله تعالى: أن من لعب بالشطرنج وقامر به فهو فاسق، ومن لعب به على غير قمار، وحمله الولوع بذلك على تأخير الصلاة عن وقتها، أو جرى على لسانه الخنا والفحش، إذا عالج شيئا منه فهو ساقط المروءة، مردود الشهادة. انتهى.
وما قاله في اللاعبين بالشطرنج، يقال مثله في اللاعبين(22/213)
ص -215- ... بالكرة، ويزيد أهل الكرة على أهل الشطرنج، بالمرح والأشر، والتعرض لأنواع الضرر؛ فاللعب بها شر من اللعب بالشطرنج، وأعظم منها ضررا.
ومن العجب أن هذا اللعب الباطل، قد جعل في زماننا من الفنون التي تدرس في المدارس، ويعتنى بتعلمه وتعليمه، أعظم مما يعتني بتعلم القرآن، والعلم النافع، وتعليمهما.
وهذا دليل على اشتداد غربة الإسلام في هذا الزمان، ونقص العلم فيه، وظهور الجهل بما بعث الله به رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم حتى عاد المعروف عند الأكثرين منكرا، والمنكر معروفا، والسنة بدعة، والبدعة سنة.
وهذا من مصداق الحديث المتفق على صحته، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من أشراط الساعة، أن يرفع العلم، ويظهر الجهل..." 1 الحديث.
واللعب بالكرة، والاعتناء بتعلمه وتعليمه في المدارس وغيرها، من ظهور الجهل بلا شك، عند من عقل عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وما أشبه المفتونين باللعب بالكرة، بالذين قال الله تعالى فيهم: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} 2.
__________
1 البخاري: الحدود (6808) , ومسلم: العلم (2671) , والترمذي: الفتن (2205) , وابن ماجه: الفتن (4045) , وأحمد (3/176 ,3/202 ,3/213).
2 سورة الأنعام آية: 70.(22/214)
ص -216- ... وقد قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية، رحمه الله تعالى: إن العلوم المفضولة إذا زاحمت العلوم الفاضلة، وأضعفتها، فإنها تحرم، انتهى.
وإذا كان الأمر هكذا في العلوم المفضولة مع العلوم الفاضلة، فكيف باللعب بالكرة، إذا زاحم العلوم الفاضلة وأضعفها، كما هو الواقع في زماننا؟!
مع أن اللعب بالكرة ليس بعلم، وإنما هو لهو ومرح، وأشر وبطر، فيجب المنع منه لما ذكرنا، ولما فيه من التشبه بأعداء الله تعالى، كما تقدم بيانه، والله أعلم.
وإذا علم هذا: فمن أهدى لبعض اللاعبين بالكرة شيئا، من أجل حذقه في اللعب بها، فقد أعان على الباطل، وكذلك من صنع لهم مأكولا، أو مشروبا، أو أحضره لهم، فهو معين لهم على الباطل.
وقد قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} 1.
وقال شيخ الإسلام: أبو العباس ابن تيمية، رحمه الله تعالى: و لعب الكرة إذا كان قصد صاحبه المنفعة للخيل والرجال، بحيث يستعان بها على الكر والفر، والدخول والخروج، ونحوه في الجهاد، وغرضه الاستعانة على الجهاد، الذي أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم، فهو حسن؛ وإن
__________
1 سورة المائدة آية: 2.(22/215)
ص -217- ... كان في ذلك مضرة بالخيل والرجال، فإنه ينهى عنه. انتهى.
وقال الشيخ: حمود: فصل، فإن ادعى المتشبهون بأعداء الله تعالى، أنهم إنما يريدون باللعب بالكرة: رياضة الأبدان، لتعتاد على النشاط والصلابة.
فالجواب أن يقال: إن الله تعالى قد جعل للمسلمين في الرياضات الشرعية غنية ومندوحة عن الرياضات الإفرنجية، فمن ذلك: المسابقة على الخيل؛ وقد سابق النبي صلى الله عليه وسلم بينها، وفعل ذلك أصحابه، والمسلمون بعدهم.
وفي الصحيحين، والموطأ، ومسند الإمام أحمد، والسنن الأربع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "سابق بين الخيل التي ضمرت، من الحفياء، وأمدها ثنية الوداع، وسابق بين الخيل التي لم تضمر، من الثنية إلى مسجد بني زريق، وأن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، كان فيمن سابق بها" 1.
وفي رواية لأحمد، والدارقطني، قال عبد الله: فكنت فارسا يومئذ، فسبقت الناس، طفف بي الفرس مسجد بني زريق، ورواه مسلم بنحوه. قال ابن الأثير: طفف بي الفرس مسجد بني زريق، أي: وثب بي حتى كاد يساوي المسجد، يقاله: طففت بفلان موضع كذا، أي: رفعته إليه، وحاذيته به. وقال النووي: طفف بي الفرس المسجد، أي: علا ووثب إلى المسجد، وكان جداره قصيرا.
__________
1 البخاري: الصلاة (421) , ومسلم: الإمارة (1870) , والنسائي: الخيل (3583 ,3584) , وأبو داود: الجهاد (2575) , وأحمد (2/55) , ومالك: الجهاد (1017) , والدارمي: الجهاد (2429).(22/216)
ص -218- ... قلت: وقد جاء ذلك في رواية للدارقطني، ولفظه: قال عبد الله: فجئت سابقا، فطفف بي الفرس حائط المسجد، وكان قصيرا وفي رواية له، قال: فوثب بي الجدار.
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: في الحديث: مشروعية المسابقة، وأنه ليس من العبث، بل من الرياضة المحمودة، الموصلة إلى تحصيل المقاصد في الغزو، والانتفاع بها عند الحاجة؛ وهي دائرة بين الاستحباب، والإباحة، بحسب الباعث على ذلك. انتهى.
وروى الإمام أحمد أيضا، والدارمي والدارقطني، والبيهقي، عن أنس، رضي الله عنه أنه قيل له: "أكنتم تراهنون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يراهن؟ قال: نعم، والله لقد راهن رسول الله صلى الله عليه وسلم على فرس له، يقال له "سبحة"، فجاءت سابقة، فبش لذلك وأعجبه" 1.
وروى البيهقي أيضا عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنه سئل: "أكنتم تراهنون على عهد رسول الله؟ قال: نعم، لقد راهن على فرس يقال لها "سبحة"، فجاءت سابقة" 2.
قال ابن منظور في لسان العرب: المراهنة والرهان: المسابقة على الخيل، وغير ذلك، وكذا قال صاحب القاموس: المراهنة والرهان: المخاطرة والمسابقة على الخيل، وقوله: فبش لذلك، معناه: فرح به، وارتاح له.
__________
1 أحمد (3/160) , والدارمي: الجهاد (2430).
2 أحمد (3/160 ,3/256) , والدارمي: الجهاد (2430).(22/217)
ص -219- ... وفي سنن الدارقطني، عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا علي قد جعلت إليك هذه السبقة بين الناس. فخرج علي رضي الله عنه فدعا سراقة بن مالك، فقال: يا سراقة إني قد جعلت إليك ما جعل النبي صلى الله عليه وسلم في عنقي من هذه السبقة.
فإذا أتيت الميطان- قال أبو عبد الرحمن: والميطان مرسلها من الغاية- فصف الخيل، ثم ناد: هل من مصلح للجام، أو حامل لغلام، أو طارح لجل؟ فإذا لم يجبك أحد، فكبر ثلاثا، ثم خلها عند الثالثة، يسعد الله بسبقه من شاء من خلقه".
فكان علي رضي الله عنه يقعد عند منتهى الغاية، ويخط خطا يقيم رجلين متقابلين عند طرف الخط، طرفه بين إبهامي أرجلهما، وتمر الخيل بين الرجلين، ويقول لهما: "إذا خرج أحد الفرسين على صاحبه بطرف أذنيه، أو أذن، أو عذار، فاجعلوا السبقة له فإن شككتما، فاجعلا سبقهما نصفين، فإذا قرنتم ثنتين، فاجعلوا الغاية من غاية أصغر الثنتين، ولا جلب، ولا جنب، ولا شغار في الإسلام".
وفي المسند، وصحيح ابن حبان، عن عياض الأشعري، قال: "قال أبو عبيدة رضي الله عنه من يراهنني؟ فقال شاب: أنا إن لم تغضب، قال: فسبقه، فرأيت(22/218)
ص -220- ... عقيصتي أبي عبيدة تنقزان، وهو خلفه على فرس عربي".
[ من الرياضات الشرعية المسابقة على الإبل ]
ومن الرياضات الشرعية أيضا: المسابقة على الإبل، وقد فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفعله أصحابه والمسلمون بعدهم.
وفي صحيح البخاري، والمسند، وسنن أبي داود، والنسائي، عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كان للنبي صلى الله عليه وسلم ناقة تسمى "العضباء" لا تسبق، أو لا تكاد تسبق، فجاء أعرابي على قعود فسبقها، فشق ذلك على المسلمين حتى عرفه، فقال: حق على الله أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه" 1.
وفي رواية للنسائي، عن حميد، عن أنس رضي الله عنه قال: "سابق رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي فسبقه، فكأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجدوا في أنفسهم من ذلك، فقيل له في ذلك، فقال: حق على الله أن لا يرفع شيء نفسه في الدنيا إلا وضعه الله"2، وكذا رواه الدارقطني في سننه، من طريق النسائي.
وفي رواية لأبي داود، عن ثابت البناني، عن أنس رضي الله عنه قال: "كانت العضباء لا تسبق، فجاء أعرابي على قعود له، فسابقها فسبقها الأعرابي، فكأن ذلك شق على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: حق على الله عز وجل أن لا يرفع شيء إلا وضعه" 3، ورواه البخاري تعليقا.
__________
1 البخاري: الجهاد والسير (2872) , والنسائي: الخيل (3588) , وأبو داود: الأدب (4802) , وأحمد (3/103 ,3/253).
2 النسائي: الخيل (3592).
3 البخاري: الجهاد والسير (2872) والرقاق (6501) , والنسائي: الخيل (3588) , وأبو داود: الأدب (4802) , وأحمد (3/103 ,3/253).(22/219)
ص -221- ... وفي سنن الدارقطني عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "كانت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم القصوى، لا تدفع في سباق إلا سبقت، قال سعيد بن المسيب: فجاء رجل فسابقها فسبقها، فوجد الناس من ذلك أن سبقت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلغ ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن الناس لم يرفعوا شيئا من هذه الدنيا إلا وضعه الله عز وجل".
وفي رواية له، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "كانت القصوى لا تسبق، فجاء أعرابي على بكر، فسابقه فسبقها فشق ذلك على المسلمين، فقالوا: يا رسول الله، سبقت العضباء، وقال النبي صلى الله عليه وسلم إنه حق على الله أن لا يرفع شيئا من الأرض إلا وضعه" 1.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: تأمل قوله: "أن لا يرفع شيء" وفي اللفظ الثاني "أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه" فجعل الوضع لما رفع أو ارتفع، لا لما رفعه سبحانه، فإنه سبحانه إذا رفع عبده بطاعته وأعزه بها، لا يضعه بها. انتهى.
[ من الرياضات الشرعية المسابقة على الأقدام ]
ومن الرياضات الشرعية أيضا: المسابقة على الأقدام، وقد فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفعله أصحابه والمسلمون بعدهم.
وروى الشافعي، وأحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان، والبيهقي، عن عائشة رضي الله عنها:
__________
1 البخاري: الرقاق (6501) , والنسائي: الخيل (3588) , وأبو داود: الأدب (4802) , وأحمد (3/103 ,3/253).(22/220)
ص -222- ... أنها كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، قالت: فسابقته فسبقته على رجلي، فلما حملت اللحم سابقته، فسبقني، فقال: "هذه بتلك السبقة".
وفي رواية: "أنهم كانوا في سفر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: تقدموا، فتقدموا. ثم قال لعائشة: سابقيني، فسابقها، فسبقته، ثم سافرت معه مرة أخرى، فقال لأصحابه: تقدموا، ثم قال: سابقيني، فسبقته، ثم سابقني وسبقني فقال هذه بتلك" 1.
وفي المسند وصحيح مسلم عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه في حديثه الطويل، في غزوة ذي قرد، قال: "ثم أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم وراءه على العضباء، راجعين إلى المدينة، قال: فبينما نحن نسير، قال: وكان رجل من الأنصار، لا يسبق شدا، قال فجعل يقول: ألا مسابق إلى المدينة؟ هل من سابق؟ فجعل يعيد ذلك.
قال: فلما سمعت كلامه، قلت: أما تكرم كريما، ولا تهاب شريفا؟ قال: لا، إلا أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: قلت: يا رسول الله، بأبي وأمي ذرني فلأسابق الرجل، قال: إن شئت، قال: قلت: أذهب إليك، وثنيت رجلي، فطفرت فعدوت.
قال: فربطت عليه شرفا أو شرفين أستبقي نفسي، ثم عدوت في أثره فربطت عليه شرفا أو شرفين، ثم إني رفعت حتى ألحقه، قال: فأصكه بين كتفيه، قال: قلت: قد سبقت
__________
1 أبو داود: الجهاد (2578) , وأحمد (6/39).(22/221)
ص -223- ... والله، قال: أنا أظن، قال: فسبقته إلى المدينة" 1.
قال النووي: قوله: شدا، يعني: عدوا على الرجلين، وقوله: فطفرت، أي: وثبت وقفزت، وقوله: فربطت عليه شرفا أو شرفين أستبقى نفسي، معنى ربطت: حبست نفسي عن الجري الشديد.
والشرف: ما ارتفع من الأرض، وقوله: أستبقي نفسي بفتح الفاء، أي: لئلا يقطعني البهر.
وفي هذا دليل لجواز المسابقة على الأقدام، وهو جائز بلا خلاف إذا تسابقا بلا عوض، فإن تسابقا على عوض ففي صحتها خلاف، الأصح عند أصحابنا: لا تصح، قلت: وهو مذهب مالك وأحمد.
[ من الرياضات الشرعية المصارعة ]
ومن الرياضات الشرعية أيضا: المصارعة، وقد روى أبو داود، والترمذي، والبخاري في التأريخ، من حديث أبي جعفر بن محمد بن ركانة، عن أبيه: "أن ركانة صارع النبي صلى الله عليه وسلم فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم" 2 قال الترمذي: هذا حديث غريب، وإسناده ليس بالقائم، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في الإصابة: وقصة الصراع مشهورة لركانة.
لكن جاء من وجه آخر: أنه يزيد بن ركانة، فأخرج الخطيب في المؤتلف من طريق أحمد بن عتاب العسكري، حدثنا حفص بن عمر، حدثنا حماد بن سلمة، عن عمرو بن دينار، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما،
__________
1 مسلم: الجهاد والسير (1807) , وأحمد (4/52).
2 أبو داود: اللباس (4078).(22/222)
ص -224- ... قال: "جاء يزيد بن ركانة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ثلاثمائة من الغنم، فقال: يا محمد، هل لك أن تصارعني؟ قال: وما تجعل لي إن صرعتك؟ قال: مائة من الغنم، فصارعه فصرعه.
ثم قال: هل لك في العود؟ فقال: ما تجعل لي؟ قال مائة أخرى، فصارعه فصرعه. وذكر الثالثة، فقال: يا محمد، ما وضع جنبي في الأرض أحد قبلك، وما كان أحد أبغض إلي منك، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله. فقام عنه، ورد عليه غنمه".
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: روى أبو بكر الشافعي بإسناد جيد، عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن يزيد بن ركانة صارع النبي صلى الله عليه وسلم فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، كل مرة على مائة من الغنم" 1 وذكر بقية القصة بمثل ما في رواية الخطيب.
وذكر ابن إسحاق: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعرض غلمان الأنصار، فمر به غلام فأجازه في البعث. وعرض عليه سمرة بن جندب رضي الله عنه فرده، فقال: لقد أجزت هذا، ورددتني، ولو صارعته لصرعته. قال: فدونكه، فصارعه فصرعه سمرة، فأجازه" ورواه ابن عبد البر في الاستيعاب بنحوه.
[ من الرياضات الشرعية الرمي ]
ومن الرياضات الشرعية أيضا: الرمي ونحوه، مما فيه إعانة على الجهاد في سبيل الله عز وجل؛ وقد روى الإمام
__________
1 الترمذي: اللباس (1784) , وأبو داود: اللباس (4078).(22/223)
ص -225- ... أحمد، والبخاري، عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: "مر النبي صلى الله عليه وسلم على نفر من أسلم ينتضلون، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ارموا بني إسماعيل، فإن أباكم كان راميا، ارموا وأنا مع بني فلان. قال: فأمسك أحد الفريقين بأيديهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لكم لا ترمون؟ قالوا: كيف نرمي وأنت معهم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ارموا وأنا معكم كلكم" 1.
قال الجوهري: ناضله، أي: راماه، يقال: ناضلت فلانا فنضلته إذا غلبته، وانتضل القوم، وتناضلوا، أي: رموا للسبق، وفلان يناضل عن فلان، إذا تكلم عنه بعذره ودافع.
وقال الإمام أحمد، رحمه الله تعالى، في مسنده: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا سفيان، عن الأعمش، عن زياد بن حصين، عن أبي العالية، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: "مر النبي صلى الله عليه وسلم بنفر يرمون، فقال رميا بني إسماعيل، فإن أباكم كان راميا" 2.
ورواه ابن ماجه في سننه، عن محمد بن يحيى، والحاكم في مستدركه، من طريق إسحاق بن إبراهيم الصنعاني، وأحمد بن حنبل، كلهم عن عبد الرزاق به، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.
__________
1 البخاري: الجهاد والسير (2899) , وأحمد (4/50).
2 أحمد (1/364).(22/224)
ص -226- ... وروى الحاكم أيضا: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "خرج النبي صلى الله عليه وسلم وقوم من أسلم يرمون، فقال: ارموا بني إسماعيل، فإن أباكم كان راميا، وأنا مع ابن الأدرع، فأمسك القوم قسيهم، فقالوا: يا رسول الله من كنت معه غلب، قال: أرموا وأنا معكم كلكم" 1 قال الحاكم صيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي في تلخيصه. وروى الحاكم أيضا: عن محمد بن إياس بن سلمة، عن أبيه، عن جده، رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على ناس ينتضلون، فقال: حسن هذا اللهم، مرتين أو ثلاثا، ارموا وأنا مع ابن الأدرع، فأمسك القوم بأيديهم، فقالوا: لا والله لا نرمي معه، وأنت معه يا رسول الله، إذاً ينضلنا، فقال: ارموا وأنا معكم جميعا.قال: فلقد رموا عامة يومهم ذلك، ثم تفرقوا على السواء، ما نضل بعضهم بعضا" قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وروى الإمام أحمد، وأهل السنن، من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة: صانعه الذي يحتسب في صنعته الخير، والذي يجهز به في سبيل الله، والذي يرمي به في سبيل الله. وقال: ارموا، واركبوا، وأن ترموا خير لكم من أن
__________
1 البخاري: الجهاد والسير (2899) , وأحمد (4/50).(22/225)
ص -227- ... تركبوا. وقال: كل شيء يلهو به ابن آدم فهو باطل، إلا ثلاثا: رميه عن قوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله؛ فإنهن من الحق" 1 قال الترمذي: هذا حديث حسن، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وعند الحاكم في أوله قصة، ولفظه عن خالد بن زيد الجهني، قال: "كنت راميا أرامي عقبة بن عامر رضي الله عنه، فمر بي ذات يوم، فقال: يا خالد اخرج بنا نرمي فأبطأت عليه.
فقال: يا خالد، تعال أحدثك ما حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقول لك كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة: صانعه الذي احتسب في صنعته الخير، ومنبله، والرامي.
ارموا واركبوا، وأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا، وليس من اللهو إلا ثلاثة: تأديب الرجل فرسه، وملاعبته زوجته، ورميه بنبله عن قوسه، ومن علم الرمي ثم تركه، فهي نعمة كفرها" وقد رواه سعيد بن منصور، والنسائي بنحو هذا اللفظ.
وفي رواية أبي داود: "ومن ترك الرمي بعد ما علمه، رغبة عنه، فإنها نعمة تركها" 2 أو قال: "كفرها"، ورواه أبو داود الطيالسي، والدارمي في مسنديهما بنحو ما تقدم،
__________
1 النسائي: الخيل (3578) , وأبو داود: الجهاد (2513) , وأحمد (4/148) , والدارمي: الجهاد (2405).
2 النسائي: الخيل (3578) , وأبو داود: الجهاد (2513) , وأحمد (4/148) , والدارمي: الجهاد (2405).(22/226)
ص -228- ... وعندهما في آخره وقال: "من ترك الرمي بعد ما علمه، فقد كفر الذي علمه" 1.
وفي صحيح مسلم عن الحارث بن يعقوب، عن عبد الرحمن بن شماسة "أن فقيما اللخمي، قال لعقبة بن عامر رضي الله عنه: تختلف بين هذين الغرضين، وأنت كبير يشق عليك؟ قال عقبة: لولا كلام سمعته من رسوله الله صلى الله عليه وسلم لم أعانه، قال الحارث: فقلت لابن شماسة: وما ذاك؟ قال: إنه قال: من علم الرمي ثم تركه فليس منا، أو قد عصى" 2.
وفي المسند، وصحيح مسلم، وجامع الترمذي، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ستفتح عليكم أرضون، ويكفيكم الله، فلا يعجز أحدكم أن يلهو بسهمه" 3.
وفي المسند أيضا: عن أبي أمامة بن سهل، قال: "كتب عمر رضي الله عنه إلى أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه أن علموا غلمانكم العوم، ومقاتلتكم الرمي. فكانوا يختلفون إلى الأغراض...الحديث" قال أهل اللغة: العوم: السباحة.
وروى عبد الله بن الإمام أحمد في زوائد الزهد، وأبو نعيم في الحلية عن بلال بن سعد رحمه الله تعالى قال: "أدركتهم يشتدون بين الأغراض، ويضحك بعضهم إلى بعض، فإذا كان الليل كانوا رهبانا".
__________
1 أحمد (4/144) , والدارمي: الجهاد (2405).
2 مسلم: الإمارة (1919) , وابن ماجه: الجهاد (2814).
3 مسلم: الإمارة (1918) , وأحمد (4/157).(22/227)
ص -229- ... وذكر الشيخ: أبو محمد المقدسي في المغني، عن مجاهد قال: "رأيت ابن عمر رضي الله عنهما يشتد بين الهدفين، إذا أصاب خصلة، قال: أنا بها أنا بها" وعن حذيفة رضي الله عنه مثله، وذكر الطبراني عن مصعب بن سعد قال: "كان سعد رضي الله عنه يقول: أي بني تعلموا الرماية، فإنها خير لعبكم".
وذكر الشيخ أبو محمد المقدسي أيضا: عن مجاهد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الملائكة لا تحضر من لهوكم إلا الرهان، والنضال" قال الأزهري: النضال في الرمي، والرهان في الخيل، والسباق فيهما.
وذكر الشيخ أيضا: "أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم يربعون حجرا، يعني: يرفعونه، ليعرفوا الأشد منهم، فلم ينكر عليهم".
قال القرطبي: لا خلاف في جواز المسابقة على الخيل وغيرها من الدواب، وعلى الأقدام، وكذا الترامي بالسهام، واستعماله الأسلحة، لما في ذلك من التدريب على الحرب. انتهى. فهذا ما تيسر ذكره من رياضات المسلمين ولهوهم المباح، وفيها كفاية لكل مسلم.
ومن لم يكتف بالرياضات الشرعية، ولم يسعه ما وسع السلف الصالح، فلا كفاه الله، ولا وسع عليه في الدنيا والآخرة، ومن آثر الرياضات الإفرنجية على الرياضات(22/228)
ص -230- ... الشرعية، فذلك عنوان على زيغ قلبه، عياذا بالله من موجبات غضبه.
[ فصل في أن من أعظم الملاهي وأشدها فسادا التلفزيون ]
فصل: وأعظم من ذلك وأدهى وأمر، وأشد فسادا للأديان والأخلاق، وفساد العوائل: ما حدث في هذا العصر، وهو: ما يسمونه: "التلفزيون" وكلام الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد، فيه كفاية عن التدليل على قبحه، وعظيم مفسدته.
قال رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستهديه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، ما همع وبل، وومض وبرق.
وبعد: فقد كثر التساؤل عن حكم هذه الآلة، المعروفة بالتلفزيون، هل يجوز اتخاذها واستعمالها؟ أم أن ذلك ممنوع شرعا؟
وقد تنوعت الأسئلة في ذلك، إلا أنها ترجع إلى شيء واحد، وهو: أن هذه الآلة، آلة تثقيف وتعليم تارة، وآلة شر وبلاء أخرى، لما يعرض على شاشتها، مما يضعه(22/229)
ص -231- ... المخططون لبرامجه، فأقول مستعينا بالله معتمدا عليه:
لا شك أن هذه الآلة المعروفة بالتلفزيون، التي انتشرت في كثير من البلاد، واستعملها الكثيرون من الناس في بيوتهم، وبين فتيانهم وفتياتهم، حتى عمت الأندية والمجالس العامة.
وقبل أن نتكلم على حكمها، ونبين مضارها ومفاسدها، لابد من مقدمة قبل ذلك، نبين فيها ما ينبغي للمسلم التنبه له، من بيان حكم اللهو الممنوع، وتقسيم القلوب، وإشراب بعضها بالفتن ومحبتها لها، وإنكار البعض لها، واستنارتها بنور الإيمان.
المقدمة
روى أبو داود والترمذي والنسائي، والحاكم، وقالت صحيح الإسناد عن عقبة بن عامر، رضي الله عنه أن رسوله الله صلى الله عليه وسلم قال: "كل ما يلهو به الرجل المسلم باطل، إلا رميه بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله، فإنهن من الحق" 1.
في هذا الحديث دليل، على أن كل لهو يلهوه ابن آدم فهو باطل، أي: محرم ممنوع، ما عدا هذه الثلاثة، التي استثناها رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنها من الحق، أو وسيلة إليه؛ قال الخطابي في معالم السنن، قوله: "ليس من اللهو إلا ثلاث" 2 يريد ليس من اللهو المباح إلا ثلاث؛ وقد جاء معنى ذلك
__________
1 الترمذي: فضائل الجهاد (1637).
2 النسائي: الخيل (3578) , وأبو داود: الجهاد (2513) , وأحمد (4/146 ,4/148).(22/230)
ص -232- ... مفسرا في الحديث من رواية أخرى.
قلت: وفي هذا بيان أن جميع أنواع اللهو محظورة، وإنما استثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الخلال، من جملة ما حرم منها، لأن كل واحدة منها، إذا تأملتها وجدتها معينة على حق، أو ذريعة إليه.
ويدخل في معناها: ما كان من المناقفة بالسلاح، والشد على الأقدام ونحوها، مما يرتاض به الإنسان، فيتوقح بذلك بدنه، ويتقوى به على مجالدة العدو.
فأما سائر ما يتلهى به البطالون، من أنواع اللهو كالنرد، والشطرنج، والمزاجلة بالحمام، وسائر ضروب اللعب، مما لا يستعان به في حق، ولا يستجم به لدرك واجبه، فمحظور كله.
وقال الشوكاني، فيه: أن ما صدق عليه مسمى اللهو، داخل في حيز البطلان، إلا تلك الثلاثة الأمور، فإنها وإن كانت في صورة اللهو، فهي طاعات مقربة إلى الله عز وجل، مع الالتفات إلى ما يترتب على ذلك الفعل من النفع الديني...إلخ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيميه، رحمه الله، في الكلام على حديث عقبة: "كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل..." 1 الحديث، ما معناه: الباطل ضد الحق، فكل ما لم يكن حقا، أو وسيلة إليه، ولم يكن نافعا، فإنه باطل، مشغل
__________
1 أحمد (4/144) , والدارمي: الجهاد (2405).(22/231)
ص -233- ... للوقت، مفوت على الإنسان ما ينفعه في دينه ودنياه، فيستحيل على الشرع إباحة مثل هذا.
فهذا كلام العلماء، رحمهم الله، في اللهو الباطل، من أنه محرم، في حين أنه مقصور على صاحبه، ولم يكن بصورة عامة فاتنة، للكثيرين من الناس في قعر بيوتهم، مما يعرض على شاشة التلفزيون، من المناظر الفاتنة، والحفلات الداعرة، والمراقص الماجنة، واختلاط الرجال بالنساء، ومعانقة كل منهم الآخر، بدون حياء ولا خجل.
وبانتشار فظيع في كل بيت، وفي كل مكان، ينظر إليه البطالون، فيفسد أخلاقهم، ويقتل غيرتهم الدينية، ومروءتهم العربية، أين هذا من اللهو الباطل، المقصور على صاحبه؟ مما لم يكن بهذا الشكل، ولا هذه الكيفية؟ فالله المستعان.
قال حذيفة بن اليمان، رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير، عودا عودا، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تعود القلوب على قلبين: قلب أسود مربادا، كالكوز مجخيا، لا يعرف معروفا، ولا ينكر منكرا، إلا ما أشرب من هواه، وقلب أبيض، فلا تضره فتنة، ما دامت السماوات والأرض".
قال ابن القيم: فشبه عرض الفتن على القلوب شيئا فشيئا، كعرض عيدان الحصير- وهي: طاقاتها- شيئا فشيئا، وقسم القلوب عند عرضها عليها إلى قسمين:(22/232)
ص -234- ... قلب إذا عرضت عليه فتنة أشربها، كما يشرب الإسفنج الماء، فتنكت فيه نكتة سوداء؛ فلا يزال يشرب كل فتنة تعرض عليه حتى يسود وينتكس، وهو معنى قوله: كالكوز مجخيا، أي: منكوسا.
فإذا اسود وانتكس، عرض له من هاتين الآفتين، خطران متراميان به إلى الهلاك:
أحدهما: اشتباه المعروف عليه بالمنكر، فلا يعرف معروفا، ولا ينكر منكرا؛ وربما استحكم عليه هذا المرض، حتى يعتقد المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والسنة بدعة، والبدعة سنة، والحق باطلا، والباطل حقا.
الثاني: تحكيمه هواه على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وانقياده للهوى واتباعه له. وقلب أبيض قد أشرق فيه نور الإيمان، وأزهر مصباحه، فإذا عرضت عليه الفتنة أنكرها وردها، فازداد نوره وإشراقه وقوته.
والفتن التي تعرض على القلوب هي أسباب مرضها، وهي: فتن الشهوات، وفتن الشبهات، فتن الغي والضلال، فتن المعاصي والبدع، فتن الظلم والجهل، فالأولى: توجب فساد القصد والإرادة، والثانية: توجب فساد العلم والاعتقاد. انتهى.
فالقلوب نوعان: قلب إذا عرضت عليه الفتنة، أشربها(22/233)
ص -235- ... وحبها، ومال إليها وأيدها، وقلب: ينكرها، ويبغضها، ويحذر منها، فذلك مثل ما يعرض على شاشة التلفزيون، من الفتن المهلكة، والمناظر الضارة، والمراقص والحفلات، والتمثيليات، وغيرها.
قلب يألفها ويحبها ويدعو إليها، فهذا القلب قد اسود وماتت غيرته، واستحكم مرضه. وقلب ينكرها وينفر منها ويحذر عنها، فذلك القلب الأبيض الذي أشرق بنور الإيمان، وهو معنى ما تقدم في خبر حذيفة.
وقال أيضا: ومن حيل الشيطان ومكايده: الكلام الباطل، والآراء المتهافتة، والخيالات المتناقضة، التي هي زبالة الأذهان، ونحاتة الأفكار، والزبد الذي يقذف به القلوب المظلمة المتحيرة، التي تعدل الحق بالباطل، والخطأ بالصواب.
وقد تقاذفت بها أمواج الشبهات، ورانت عليها غيوم الخيالات، فمركبها القيل والقال، والشك والتشكيك، وكثرة الجدال، ليس لها حاصل من اليقين يعول عليه، ولا معتقد مطابق للحق يرجع إليه، يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا.
وقد اتخذوا لأجل ذلك القرآن مهجورا، وقالوا من عند أنفسهم منكرا من القول وزورا، فهم في شكهم يعمهون، وفي حيرتهم يترددون.(22/234)
ص -236- ... نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، واتبعوا ما تلته الشياطين على ألسنة أسلافهم من أهل الضلال، فهم إليه يحاكمون، وبه يتخاصمون، فارقوا الدليل، واتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل.
ولا شك، أن المؤيدين لهذه الآلة: "التلفزيون" من هذا القبيل، قذف الشيطان بزبده في تلك القلوب المظلمة، فرأوا أن التلفزيون أداة تعليم وتثقيف، وبها تتسع مدارك الإنسان، ويتسع أفقه.
وأن التلفزيون بمنْزلة النافذة، التي يطل معها الإنسان إلى العالم، فيعرف ما كانوا عليه، لما يعرض على شاشته، مما يضعه مخططو برامجه؛ هؤلاء وأمثالهم، فارقوا الدليل، واتبعوا أهواءهم، قوم قد ضلوا من قبل، وأضلوا كثيرا، وضلوا عن سواء السبيل، فلا عبرة بزخرف القول الباطل، والخيالات الفارغة، والتهافتات الساقطة.
فمن تأمل ما يعرض على شاشة التلفزيون من المضار، وقتل الغيرة الدينية، والميوعة، والانحراف الغريب، الذي طرأ على المسلمين في دينهم، وعقيدتهم، وتقاليدهم الحسنة، ومروءاتهم العربية، لم يشك أن هذا من مكايد الشيطان وحيله، ولم يتوقف في تحريمه، والمنع منه؛ ولا عبرة بمن استحسنه، واستعمله في بيته، واتبع هواه، وأعرض عن الحق وتولى عنه؛ ذلك مبلغهم من العلم.(22/235)
ص -237- ... فتجد الكثير من هؤلاء لا يرى من المصالح والمفاسد إلا ما عاد لمصلحة المال والبدن، دون المصلحة الحقيقية، وهي: مصلحة الأسر، وتربيتهم التربية الدينية النافعة، وصلاح الدين يتبعه صلاح المال والبدن، دون العكس، والله أعلم.
تحريمه:
أسلفنا حديث عقبة الذي رواه: أبو داود، والنسائي، والترمذي، وغيرهم "كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل..." 1 الحديث، والباطل: ضد الحق، فكل ما ألهى عن أداء واجب، ولم يكن ذريعة إلى حق فهو حرام، كما تقدم في قول الإمام الخطابي والشوكاني، وشيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهم.
وقال ابن القيم رحمه الله: إذا أشكل حكم شيء، هل هو الإباحة، أو التحريم، فلينظر إلى مفسدته، وثمرته وغايته؛ فإن كان مشتملا على مفسدة راجحة ظاهرة، فإنه يستحيل على الشارع الأمر به أو إباحته، بل العلم بتحريمه من شرعه قطعي، ولا سيما إذا كان طريقا مفضيا إلى ما يغضب الله ورسوله، موصلا إليه عن قرب.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله: لا يجوز اللعب المعروف بالطابة والمنقلة، وكل ما أفضى كثيره إلى حرمة، وإذا لم يكن فيه مصلحة راجحة، لأنه يكون سببا للشر والفساد، وما ألهى أو شغل عما أمر الله به، فهو
__________
1 أحمد (4/144) , والدارمي: الجهاد (2405).(22/236)
ص -238- ... منهي عنه، وإن لم يحرم جنسه، كالبيع والتجارة، وسائر ما يلهى به البطالون، من أنواع اللهو، وسائر ضروب اللعب، مما لا يستعان به على حق شرعي، فكله حرام. انتهى.
فاتضح من كلام هذين الإمامين: أن الشيء إذا أشكل حكمه، ينظر في مفسدته وثمرته وغايته، فإن كانت مصلحته أرجح من مفسدته، فالشرع لا يحرمه، بل تغتفر المفاسد الجزئية، في جانب المصالح الكلية.
وإن رجحت مفسدته على مصلحته، بأن كانت مفسدته كلية، وإن اشتمل على مصالح جزئية، فيستحيل على الشارع إباحته، بل هو محرم قطعا. وكل ما يلهو به الإنسان من أنواع اللهو، فهو باطل، وإن لم يحرم جنسه، إذا أدى إلى ترك واجب، كالبيع، والزراعة، ونحوهما.
فهذه وإن كانت أعمالا مطلوبة، ومرغبا فيها، لكنها تكون محرمة إذا أفضت إلى ما يسخط الله ويغضبه، كترك صلاة في جماعة، أو إلى أن يخرج وقتها، وما لم يكن فيه مصلحة راجحة، فهو أيضا ممنوع، لأنه يكون سببا للشر والفساد.
أين هذا من آلة التلفزيون؟ مع قطع النظر عما يعرض على شاشته، من الخلاعة والدعارة، وتربية الأطفال على الرقص والمجون؛ فإنه مشغل للوقت، مذهب له بدون(22/237)
ص -239- ... فائدة، مؤد إلى ترك الصلاة في جماعة، أو إلى خروج وقتها، فهذا أولى بالتحريم.
مضار التلفزيون، ومفاسده:
نشرت جريدة الشهاب البيروتية، في عددها الثاني، الصادر في 17/11/1387هـ مقالا للأستاذ المحامي: محمد علي ضاوي، نقتطف منه ما يلي: قال: التلفزيون: سرطان في الروح والمجتمع; التلفزيون: سرطان في الجسم والمال؛ التلفزيون: مائدة للشيطان، تعرض عليها المفاسد.
قال: فالتلفزيون بما هو عليه الآن، وفي أكثر برامجه شر، ومائدة للشيطان، يعرض عليها أنواعا من المفاسد والمجون، وتحريفات في القيم، والأفكار، والعادات، وذلك بمختلف الوسائل الفنية: أغنية، صورة، تمثيلية، حفلة، دعاية.... إلخ.
وأكثر الناس، وخاصة الأخلاقيين، والمحافظين، والإسلاميين، يعرفون ذلك، ويدركون أنهم بشرائهم للجهاز، يمكنون للانحلال والتميع في عائلاتهم، ويعودون الأهل عليهما؛ ومع هذا فهم يبتاعونه، وربما يستدينون، أو يقطعون عن معداتهم، لأجل الشيطان وجهازه التلفزيون، وقال: اقتله قبل أن يقتلك.
ثانيا: ولا ريب أن التلفزيون ببرامجه الحالية، عمل(22/238)
ص -240- ... ويعمل على تخدير أعصاب الآباء، إن لم تقل: إنه جبههم في عقر ديارهم، وانتزع منهم السلطة الأبوية، وخاصة فيما يتعلق بالتوجيه.
فرب العائلة الأخلاقي، أو المحافظ، أو الإسلامي، يتردد بادئ ذي بدء في شراء الجهاز وفي اقتنائه، إلا أن ضغط الزوجة، ومن ورائها ضغوط الأولاد، يدفعه إلى الشراء، شريطة التقيد بمواعيد محددة لاستعماله، موطنا نفسه عند ابتياعه، على استخدام نفوذه للحد من مفاسده وإغلاقه في اللحظات المناسبة والحاسمة.
بيد أنه بعد وقوعه في الفخ، وبعد جلوسه مع زوجته وفتيانه وفتياته، تضعف إرادته، ثم تتراخى، ثم تتخدر؛ ونراه ونرى عائلته يتسابقون في النظر والاستماع، وهم يتبعون الصور والحركات، وينتقلون من برنامج إلى آخر؛ وإذا سألته بعد حين، عن توجيه الأولاد، تأوه، وأطلق زفرات حرى، وتمتم: لا حول ولا قوة إلا بالله.
لقد أطلق أحد الأخصائيين الاجتماعيين في ألمانيا منذ سنوات، عبارة تلخص بعمق مدى خطورة التلفزيون على النشء، وعلى المجتمع، وذلك بعد دراسة مباشرة أجراها في مدارس ومؤسسات مختلفة، فقال: اقتله قبل أن يقتلك. ولكن عندما يشتد التخدير، يغدو القتل البطيء لذة محببة للنفوس المخدرة.
ثم لو أراد مخططو البرامج والمشرفون عليها أن تنتشر(22/239)
ص -241- ... بين الناس عادة من العادات، أو تتأصل فيهم فكرة من الأفكار في أعلى الدرجات، أو أسلوب في الكلام والزينة في أدناها، لوجدنا أن البرامج تلاحمت في جهد مشترك للوصول إلى الغاية المحددة، سيئة كانت أو حسنة.
ودسا للدسم في السم، يعمل التلفزيون بين حين وآخر على تجميد غضب المعارضين للبرامج، فينقل عبر محطاته وقنواته التي سبق لها أن نقلت السم الزعاف، ومبيدات الأخلاق والقيم، نماذج من البرامج الدينية والوطنية، وربما الثقافية، فيسكت الغضب عند المغضبين، ويقولون عند هذا: له حسنات، وله سيئات!!
غير أن الكثيرين أو الأكثر يتعامون عن أضراره ومفاسده، وذلك لانتشاره بين مختلف العائلات والطبقات، واستعباده لقلوبهم، فقد تعامى الناس عما فيه من الأضرار الاجتماعية، والأخلاقية، والدينية والصحية.
فهم يتثاقلون عن استماع ما يقوله الطب، عن تأثير الأشعة النووية بأجسام الأطفال خاصة، وإذا استمعوها تغافلوا عنها، وربما لم يصدقوها، لأن التلفزة قد استعبدتهم، واستحوذت على قلوبهم، وفتنتهم ببرامجها الخليعة الضارة.
كالتدخين، يقول الطب والطبيب والناس بضرره، ومع هذا فهم مدمنون على استعماله، لا يستطيعون الانفكاك عنه، وهم يصطرخون فيه.(22/240)
ص -242- ... قال الأستاذ الضناوي: ولقد قرأت أن العالم الشهير في التصوير الشعاعي: الدكتور "أميل كروب" قد أكد بمرارة، وهو يحتضر في أحد مستشفيات شيكاغو، بأمريكا: أن أجهزة التلفزيون في البيوت، هي عبارة عن عدو لدود، وأخطبوط سرطاني خطير، يمتد إلى أجسام الأطفال.
وقد كان الدكتور نفسه، أحد ضحايا السرطان، الناتج عن إشعاعات التلفزيون؛ وقد أجريت له قبل وفاته، ست وتسعون عملية جراحية، لاستئصال الدرنات السرطانية دون جدوى، إذ إنه وصل إلى النهاية المؤلمة، بعد أن استؤصل قسم كبير من وجهه، وبترت ذراعه.
وأضاف الدكتور كروب قبل موته: أن شركات التلفزيون تكذب وتخدع الناس، عندما تزعم بأن هنالك حدا أدنى للطاقة الإشعاعية لا تضر، وتزود بها أجهزتها. فالعلم يقول- بعد التجارب العديدة- أن أية كمية من الإشعاع مضرة بالجسم، على درجات متفاوته، وذلك حسب نسبة التعرض والجلوس أمام التلفزيون؛ كما فند الطبيب المحتضر بالسرطان نفسه، مزاعم الشركة التي تدعي أنها توجه الأشعة في جهازها نحو الأرض، لا إلى المشاهد الذي يجلس بالقرب من جهاز التلفزيون.
واستغرب الدكتور كروب: كيف لا يهتم هؤلاء بالناس، الذين يقطنون في الطوابق السفلى، علما بأن الإشعاعات(22/241)
ص -243- ... الضوئية، والذرية، والنووية، المستعملة في التصوير الشعاعي، والتلفزيون تخترق جميع الحواجز، بما فيها الجدران السميكة؟ !
وأيد كل من الدكتور "هاسل" والدكتور "لامب" أقوال الدكتور "كروب" الذي يعاني آلام الاحتضار.
ولقد طالبت مجلة الاقتصاد، التي نقلت هذه المعلومات، والتي تصدر في بيروت، في نهاية مقترحاتها: أن على كل أب، وكل أم، أن يتناولوا مطرقة ضخمة، ويحطموا بها كل ما لديهم من أجهزة تلفزيونية؛ العدد 23 كانون الأول عام 1967 م.
ولا شك أنها آلة بلاء وشر، داعية إلى كل رذيلة ومجون، داعية إلى كل فساد وخراب للعائلات، مشغلة للوقت، مذهبة له بغير فائدة، بل ربما أدت إلى ترك الواجبات، من صلاة، وقيام بطاعة؛ هذا لو سلمت من الخلاعة والدعارة.
كيف وقد يعرض على شاشته مناظر مزرية، وصور داعرة لنساء خليعات، ورجال أراذل؟! فيتحدثان بكلمات عشق ووصال، وصد وهجران؛ مما يدعو إلى الفجور، وارتكاب الجريمة، بمشاهدة الخلق الكثير، من الرجال والنساء.
فتجد الرجل عندما يرى هذه الصورة أمامه، ويسمع ما(22/242)
ص -244- ... يقع بينهما، وبجانب الرجل أو الرجال امرأة أو نساء أجنبيات، وهم ينظرون ويسمعون، ما عرض على شاشة التلفزيون، من غرام وحب ومعانقة.
أليس هذا بأعظم دعوة إلى الفساد، وارتكاب الفاحشة؟! وقد وجد بمجتمعنا اليوم، من يكتب ويدعو إلى التلفزيون، وأنه مصلحة وأداة خير للتثقيف والتعليم؟ !
فقل للعيون الرمد للشمس أعين ... وسامح نفوسا أطفأ الله نورها
سواك تراها في مغيب ومطلع ... بأهوائها لا تستفيق ولا تعي
إنها لغفلة مخيفة، لم ينتبه أكثر الناس إلى ما وراء ذلك، من الفسق، والدعارة، وفساد البيوت، وخراب الأسر، واختلاط الحابل بالنابل.
بذلت لهم نصحي بمنعرج اللوى ... فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد
وها هو التلفزيون الممنوع بالأمس، أصبح الآن بيننا في حكم المباح، إن لم يكن في حكم المستحب، أو الواجب; وكل ما نقوله أو نعتقده في الماضي، كنا فيه اليوم على غير هدى، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
كفى حزنا للدين أن حماته ... متى يسلم الإسلام مما أصابه
إذا خذلوه قل لنا كيف ينصر ... إذا كان من يرجى يخاف ويحذر
أيها المسلم لقد تكانفتنا الشرور من كل حدب وصوب، ونرقب إلى الله الخروج من هذه المآزق، ولا شك أن اجتماع الجنسين، عند هذه الآلة، وما يرونه على الشاشة، من الخلاعة العظيمة، والدعارة الفظيعة، لا شك أن(22/243)
ص -245- ... القلوب مع هذا ترقص طربا، وتذهب كل مذهب في هذه المناظرة الهائلة، ولا يعلم إلا عالم الجنسين وقتئذ بالغ منتهاه.
وإذا كانت المقدمات تدل على النتائج، فإن هذه المقدمات لا تنتج في الحالة، ولا في المآل، إلا بلاء وشقاء. وماذا ينتظر من نساء قطرة من الحياء، وهن كل ليلة ينسلن من كل حدب إلى حيث تمثل روايات الغرام المهيجة، على شاشة الآلة المسماة بالتلفزيون، حيث ترى المرأة بعينها، كيف يعمل العاشق مع معشوقته، وما يقع بينهما من الأنات والكلمات الغرامية، وتبادل كلمات التلاقي، والشوق المبرح، وما إلى ذلك مما لا أعرفه أنا.
ترى المرأة هذا وتسمعه بأذنها، فتقوم من هذا المجلس في حماس عظيم، وإلهاب هائل، فتكون في مثل هذا المنظر الذي تراه ألذ منظر في الوجود. ولو أنها لا ترى هذا إلا مرة واحدة في حياتها، لكفى في فسادها أبد الدهر؛ ولكنها ترى كل ليلة يتكرر على سمعها وبصرها، وهي امرأة ضعيفة في عقلها ودينها، وفي تفكيرها، ولا يهمها في الوجود شيء أكثر من إرضاء شهوتها البهيمية.
ليس ذلك فقط الذي تراه المرأة، وترى مع ذلك نساء برعن في الرقص بنوعيه، الخليع والإفرنجي; الخليع الذي(22/244)
ص -246- ... تكون فيه المرأة شبه عارية، وبعبارة أخرى عارية البدن كله، إلا مكانا مخصوصا منه.
ورؤية المرأة- وهي هكذا- شديد على النفس جدا، خصوصا إذا انضم إليه ما تفعله في رقصها من حركات في البطن والخصر، وما إلى ذلك، حركات تطرف الناظرين من الرجال.
وقد أجنبوا وهم ينظرون، كما يكون ذلك منهم حينما يرون المرأة مع الرجل، يرقصان ذلك الرقص الإفرنجي، الذي يتخاصران فيه، ويتلاصقان، وهو والحق يقال: منظر يثير الجماد، ويحرك من لا يتحرك، يرى النساء هذا المنظر، ويتكرر نظرهن له.
فما قولك في امرأة هذه حالتها؟! أيبقى فيها شيء من الحياء، أو العفة؟ ولماذا لا تكون هي كهذه التي تخاصر هذا؟ وتتمتع بمثل من تمتع، بالرقص معه، متعة فوق متعتها بآلاف المرات، والنفوس مولعة بالتقليد، خصوصا نفوس النساء.
أيها المسلمون: مالي أراكم تتحمسون وتقومون من أجل حطام قليل من حطام الدنيا، أو شبر من الأرض يتعدى عليه من بعضكم لبعض، أو من دولة مجاورة، تزأر الحكومة من أجله، وتقوم وتقعد، وتجند كل إمكانياتها حماية لهذا الشبر؟!(22/245)
ص -247- ... ولا أراكم تتحمسون لدينكم، ولا تغارون من أجل الشرف والعرض ديست كرامته! فأي الشيئين أهم وأقدس: أوامر دينكم والتمسك بتعاليم إسلامكم؟ أم حطام يسير من الدنيا، أو شبر من أرض أحدكم تعدى عليه الآخر؟ !
نرى منكم في الهين البسيط الحماس والتفاني، ولا نرى منكم نحو الأهم الخطير إلا التهاون والتواني؛ تتقون وتخشون عدوا من العباد، ولا تخشون عدوا في نفوسكم اسمه "الفساد"، يقتل النفوس ويستحي الأجساد؟ !
ألا ومنه التلفزيون المعروض على شاشته حفلة خليعة، مرقص، تمثيلية، مسرح، أغنية، غرام، التي هي: رقية زنا 1 ؟ !.
وقد شاهد الناس أنه ما غنى الغناء صبي إلا وفسد، ولا امرأة إلا وبغت ولا شاب إلا وإلا... ولا شيخ إلا وإلا...
ألا فانتبهوا أيها المسلمون، وناصحوا بعضكم بعضا، ممن امتهن أوامر الإسلام، ونبهوا من خرج على الآداب والاحتشام، وحاربوا هذا الداء الوبيل، الذي يفتك ويهتك بالأعراض والأجسام! فلا تعتبروا نفوسا ألفت الفساد،
__________
1 وقد جاء ما هو أوسع منه دائرة في الخزي والعار وكثرة اللهو, وهو البث الدولي المباشر في القنوات الفضائية ويروجه عباد المادة العفنة, فالله المستعان وسوف يعلمون.(22/246)
ص -248- ... فصارت عميا لا ترى للحق نورا، ولا تعرف للفضيلة جمالا، يظهر أمامها الحق واضحا جليا ساطعا نوره، فتراه باطلا مظلما، وتتجلى بين يديها الفضائل، فتراها رذائل، فهذه النفوس الدنيئة القذرة، هي بالحشرات أشبه، وبالديدان أقرب، يتعذر إقناعها، ويستعصي على الدعاة الناصحين علاجها؛ فمن العنا سياسة الهرم، ومن التعذيب تهذيب الذئب؛ لأن أمثال هؤلاء لا يميلون إلى الرشد، ولا إلى طلب الحق والفضائل.
وقد تستحسن بعض العقول استعمال هذه الآلة المسماة بالتلفزيون، ظنا منها أنها أداة تثقيف وتعليم، وأداة لنشر الفضائل، ولم تنتبه العقول لخطورتها، وما يعرض على شاشتها، من الخلاعة والدعارة، والمناظر الفاتنة، والحفلات المفسدة للبيوتات، والمخربة للأسر، ولم تعرف قواعد الشريعة الصحيحة.
بل كلما تجلى أمامها من نور مزيف مآله إلى الظلمة، وكلمات معسولة التي بها السم الزعاف، تلقته بالقبول والاستسلام، ونسيت ما يعرض على تلفزيونات البلاد الأخرى، من الشر والبلاء والفتنة؛ أضف إلى ذلك ضياع الوقت الذي هو من ذهب.
أيها المسلمون، لا تعتبروا عقولكم وما تستحسن في هذا السبيل اعتبروا بغيركم، وقيسوا الأشباه بالنظائر، وتثبتوا في أموركم حتى تروا الحق واضحا جليا؛ فإن العقول(22/247)
ص -249- ... البشرية، لا تستقل بإدراك المصالح الدنيوية، فكيف تستقل بمعرفة المصالح الأخروية؟ !
ولا تتمكن العقول وحدها إلى تمييز الخير من الشر، ولا إلى معرفة المعروف من المنكر، وليس في إمكانها أن تقف على حقائق الأمور، ولا أن تدير أمورها وحكمها على نظام تام، ومحكم مستقيم، لا خلل فيه ولا جور.
فإنها وإن وصلت إلى ما وصلت إليه من المعرفة والإدراك، فقد تميل إلى الباطل عن الحق، وتنحرف إلى الفساد عن الصلاح، ويخفى عليها وجه المصلحة، ولا تصل إلى الاهتداء لمغبة الأعمال؛ وكثيرا ما يبدو لها الشر في لباس الخير، فتظنه خيرا وهو شر محض، وبلاء مستطير، فتقع فيه؛ وكثيرا ما ظهر لها الخير فتظنه شرا، لعجزها عن إدراك الحقائق، فتقع فيه {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 216]. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(22/248)
ص -250- ... الباب الرابع التبرج
هو محرم بالكتاب والسنة والإجماع، ولم يعرف في سلفنا، ولا في السلف الصالح؛ وإنما تسرب إلى هذه البقعة، على هذه الصفات في هذا العصر، للاختلاط بأهل الخارج، وفتح الباب لهن باسم التربية والتعليم، والمصحات.
والتبرج هو: إظهار الجمال، وإبراز محاسن الوجه والجسم ومفاتنه، وقال البخاري رحمه الله، التبرج: أن تخرج المرأة محاسنها. وأصل التبرج: مأخوذ من البروج، وهي: القصور العالية لارتفاعها، فالمرأة المتبرجة تعلن عن محاسنها بإبرازها مفاتنها، وتحديدها، كما تعلن البروج عن نفسها بارتفاعها.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إذا خرجت المرأة متعطرة، فإنها زانية" وهو يثبت أن التبرج كذلك، يكون بنضوح ريحها، فيلفت النظر إليها.
وروى الإمام أحمد ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات، مميلات مائلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها..." 1 الحديث.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: كاسيات بلباس رقيق
__________
1 مسلم: اللباس والزينة (2128) , وأحمد (2/355 ,2/440).(22/249)
ص -251- ... لا يستر البشرة، أو ضيق يبدو منه حجم العضد والعجيزة، فهن عاريات حقيقة. وقال: يجب على ولي المرأة، كأبيها، وزوجها أن يمنعها من ذلك، فإن لم يفعلا عزرا.
وقال: لا يجوز للمرأة أن تلبس الخف الذي يبدي ضخامة القدم، وفي هذا العصر لبس بعضهن خفا يسمى: "أم كعب" يضخم معه القدم، وتنبو معه العجيزة.
ولم يقفن على ما وصفه الشيخ، بل أبدين، العضدين والساعدين، بلباس ضيق، وجعلن حمالات للثديين، واستعملن لباسا يسمونه "الكرته" و "أم صدر" ضيق الأعالي، فتبدو منه الخاصرة، ويضخمن العجيزة، دون حياء ولا خجل.
وقصصن الرأس- مع العلم أنه لم يؤذن لها أن تقص منه إلا قدر أنملة، إذا تحللت من الإحرام- لتبدو الرقبة بارزة، ويبقين في مقدم الرأس ثلة من الشعر، نحو ما على رأس بعض الحمير بين الأذنين، وأملن المفرق.
وتركن الذي كانت تستعمله العرب، في الجاهلية والإسلام، وسط الرأس، ويبقين ثلة في مؤخر الرأس، مرفوعة عن الرقبة، محزومة، تشبه ذنب الثعلب.
قال شيخ الإسلام: ما يضع الشعر بين الكتفين إلا العاهرات، وقد يجمعنها ويحزمنها مرتفعة، تشبه ذنب المعز. وقد قال بعض أهل العلم: يحتار الخاطب بين جمال(22/250)
ص -252- ... الوجه، أو الشعر، وقال امرء القيس يصف جمالها:
وفرع يزين الوجه أسود فاحم ... أثبت كقنو النخلة المتعثكل
فجمعن بين الوعيد بالنار، وعدم رائحة الجنة، وتشبهن بنساء الإفرنج، ومن سلك سبيلهم من الدول المنحلة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من تشبه بغيرنا" 1، وقال: "من تشبه بقوم فهو منهم" 2، وقال: "من تشبه بقوم حشر معهم".
فالعجب ممن يعلم هذا الوعيد الشديد، ويرضى بثمرة فؤاده أو ضجيعته، أن تتصف بهذه الصفات الشنيعة المحرمة! ويالله! يا للمسلمين! يا للعرب! يا للعقول!!!
وأعظم من ذلك وأدهى: أنهن يسخرن ممن يلبسن لباس المسلمات، ويرضين أن تشاطر الرجال في المكاتب وغيرها، وتخلو بدون محرم. ويأتي في كلام الشيخ وغيره ما يكفي عن بيان ما تشبهن فيه بالإفرنج، من كشف بعض الأعضاء وغير ذلك.
والعجب مما ذكر محمد رشيد رضا، قال: حدثني الأمير شكيب أرسلان في جنيف سويسرة، عن طلعت باشا التركي: أن عظيم الألمان، لما زار الأستانة في أثناء الحرب، ورأى النساء التركيات، سافرات متبرجات، عذله على ذلك، وذكر له ما فيه من المفاسد الأدبية، والمضار الاقتصادية، التي تئن منها أوروبا، وتعجز عن تلافيها.
وقال له: إن لكم وقاية من ذلك كله، ألا وهو الدين
__________
1 الترمذي: الاستئذان والآداب (2695).
2 أبو داود: اللباس (4031).(22/251)
ص -253- ... الإسلامي، أفتزيلونها بأيديكم؟! قال حمود التويجري، قلت: وهذا الألماني أعقل من كثير من المنتسبين إلى الإسلام، وقد ذكرت في الصارم المشهور، عن بعض عقلاء الإيطاليين نحو ذلك، فليراجع.
وقيل: أبحنا الشابات ليتمتع الشباب، ففسدت أزواجنا. والحق ما شهدت به الأعداء.
[ قول الشيخ محمد بن إبراهيم في شأن ما ابتلي به كثير من النساء من التهتك ]
وقال الشيخ: محمد بن إبراهيم، رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
من محمد بن إبراهيم: إلى من يراه من إخواننا المسلمين، وفقني الله وإياهم لما يرضيه، وجنبنا جميعا أسباب سخطه ومعاصيه، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فقد تغيرت الأحوال في هذه الأزمان، وابتلي الكثير من النساء بخلع جلباب الحياء، والتهتك، وعدم المبالاة، وتتابعن في ذلك، وانهمكن فيه إلى حد يخشى(22/252)
ص -254- ... منه الانحدار في هوة سحيقة من السفور والانحلال، وحلول المثلات والعقوبات من ذي العزة والجلال.
وذلك مثل لبسهن ما يبدي تقاطيع أبدانهن، من عضدين، وثديين، وخصر، وعجيزة، ونحو ذلك، ومثل لباس الثياب الرقيقة التي تصف البشرة، وكذلك الثياب القصيرة التي لا تستر العضدين ولا الساقين، ونحو ذلك.
ولا شك أن هذه الأشياء تسربت عليهن، من بلدان الإفرنج، ومن يتشبه بهم، لأنها لم تكن معروفة فيما سبق، ولا مستعملة. ولا شك أن هذا من أعظم المنكرات، وفيه من المفاسد المغلظة، والمداهنة في حدود الله لمن سكت عنها، وطاعة للسفهاء في معاصي الله.
وكونه يجر إلى ما هو أطم وأعظم، ويؤدي إلى ما هو أدهى وأمر، من فتح أبواب الشرور والفساد، وتسهيل أمر التبرج والسفور، ولهذا لزم التنبيه على مفاسدها، والتدليل على تحريمها والمنع منها، ونكتفي بذكر أمهات المسائل ومجملاتها، طلبا للاختصار.
أولا: أنها من التشبه بالإفرنج والأعاجم ونحوهم، وقد ثبت في الآيات القرآنية، والأحاديث الصحيحة النبوية، النهي عن التشبه بهم، في عدة مواضع معروفة؛ وبهذا يعرف أن النهي عن التشبه بهم أمر مقصود للشارع في الجملة.(22/253)
ص -255- ... وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في كتابه: "اقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أصحاب الجحيم": فجاءت الشريعة باتباع أولئك السابقين، على الهدى الذي رضيه الله لهم، وبمخالفة من سواهم، إما لمعصيته، وإما لنقيصته، وإما لأنه مظنة النقيصة.
فإذا نهت الشريعة عن مشابهة العجم، دخل في ذلك ما عليه الأعاجم الكفار قديما وحديثا، ودخل في ذلك ما عليه الأعاجم المسلمون، مما لم يكن عليه السابقون الأولون، كما يدخل في مسمى الجاهلية العربية، ما كان عليه أهل الجاهلية قبل الإسلام، وما عاد إليه كثير من العرب من الجاهلية التي كانوا عليها؛ ومن تشبه من العرب بالعجم لحق بهم، ومن تشبه من العجم بالعرب لحق بهم.
ثانيا: أن المرأة عورة، ومأمورة بالاحتجاب والستر، ومنهية عن التبرج، وإظهار زينتها، ومحاسنها ومفاتنها، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ} [سورة الأحزاب آية: 59] الآية وقال تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} [سورة النور آية: 31] .
وقال تعالى: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [سورة الأحزاب آية: 33]. وهذا اللباس مع ما فيه من التشبه، ليس بساتر للمرأة، بل هو مبرز لمفاتنها، ومعر لها، ومغر بها من رآها وشاهدها، وهي بذلك داخلة في الحديث الصحيح عن(22/254)
ص -256- ... أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"صنفان من أهل النار من أمتي، لم أرهما بعد: نساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، على رؤسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، ورجال معهم سياط مثل أذناب البقر، يضربون بها الناس" 1.
وقد فسر الحديث: بأن تكتفي المرأة بما لا يسترها، فهي كاسية، ولكنها عارية في الحقيقة، مثل أن تكتسي بالثوب الرقيق الذي يصف بشرتها، أو الثوب الضيق الذي يبدي مقاطع خلقها: عجيزتها، وساعدها ونحو ذلك.
لأن كسوة المرأة في الحقيقة هو: ما سترها سترا كاملا، بحيث يكون كثيفا فلا يبدي جسمها، ولا يصف لون بشرتها لرقته وصفائه، ويكون واسعا فلا يبدي حجم أعضائها، ولا تقاطيع بدنها لضيقه.
فهي مأمورة بالاستتار والاحتجاب، لأنها عورة؛ ولهذا أمرت أن تغطي رأسها في الصلاة، ولو كانت في جوف بيتها، بحيث لا يراها أحد من الأجانب، لحديث "لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار" 2.
فدل على أنها مأمورة من جهة الشرع، بستر خاص لم يؤمر به الرجل، حقا لله تعالى، وإن لم يرها بشر؛ وستر العورة واجب لحق الله حتى في غير الصلاة، ولو كان في
__________
1 مسلم: اللباس والزينة (2128) , وأحمد (2/355 ,2/440) , ومالك: الجامع (1694).
2 الترمذي: الصلاة (377) , وأبو داود: الصلاة (641) , وابن ماجه: الطهارة وسننها (655) , وأحمد (6/150 ,6/218 ,6/259).(22/255)
ص -257- ... ظلمة، أو في حال خلوة، بحيث لا يراه أحد، وحتى عن نفسه.
ويجب سترها بلباس ساتر لا يصف لون البشرة، لحديث بهز بن حكيم، عن أبيه عن جده، قال "قلت: يا رسول الله؛ عوراتنا، ما نأتي وما نذر؟ قال: "احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك".
قلت: فإن كان القوم بعضهم مع بعض؟ قال: فإن استطعت أن لا يراها أحد فلا يرينها، قلت: فإذا كان أحدنا خاليا؟ قال: فالله تعالى أحق أن يستحى منه" 1 رواه أبو داود.
وقد صرح الفقهاء، رحمهم الله، بالمنع من لبس الرقيق من الثياب، وهو ما يصف البشرة، أي: ما يستر العورة بالسترة الكافية، في حق كل من الرجل والمرأة، ولو في بيتها، نص عليه الإمام أحمد رحمه الله.
كما صرحوا بالمنع من لبس ما يصف اللين والخشونة والحجم، لما روى الإمام أحمد عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: "كساني رسول الله صلى الله عليه وسلم قبطية كثيفة كانت مما أهدى له دحية الكلبي، فكسوتها امرأتي. فقال صلى الله عليه وسلم: ما لك لا تلبس القبطية؟ قلت: يا رسول الله كسوتها امرأتي. فقال: مرها فلتجعل تحتها غلالة، فإني أخاف أن تصف حجم عظامها" 2.
__________
1 الترمذي: الأدب (2769) , وابن ماجه: النكاح (1920).
2 أحمد (5/205).(22/256)
ص -258- ... وكما صرحوا بمنع المرأة من شد وسطها مطلقا، أي: سواء كان يشبه الزنار، أو غيره، وسواء كانت في الصلاة، أو خارجها، لأنه يبين حجم عجيزتها، وتبين به مقاطع بدنها.
قالوا: ولا تضم المرأة ثيابها حال قيامها، لأنه يبين به تقاطيع بدنها، فتشبه الحزام. وهذا اللباس المذكور، أبلغ من الحزام، وضم الثياب حال القيام، وأحق بالمنع منه.
ثالثا: إن في بعض ما وقعنا فيه: شيئا من تشبه النساء بالرجال، وهذا من كبائر الذنوب؛ ففي الحديث: "لعن الله المتشبهات من النساء بالرجال، ولعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء" 1، وفي لفظ: "لعن الله المتخنثين من الرجال، والمترجلات من النساء" 2.
فالمرأة المتشبهة بالرجال، تكتسب من أخلاقهم، حتى يصير فيها من الظهور والتبرج والبروز، ومشاركة الرجال، ما قد يفضي لبعضهن إلى أن تظهر بدنها، كما يظهره الرجال، أو أكثر، لضعف عقلها، وتطلب أن تعلو على الرجال، كما يعلو الرجال على النساء، وتفعل من الأفعال ما ينافي الحياء، والحق المشروع في حق النساء.
كما أن الرجل المتشبه بالنساء، يكتسب من أخلاقهن بحسب تشبهه، حتى يفضي به الأمر إلى التخنث والميوعة، والتمكين من نفسه، كأنه امرأة - والعياذ بالله-؛ وهذا
__________
1 البخاري: اللباس (5885) , والترمذي: الأدب (2784) , وأبو داود: اللباس (4097) , وابن ماجه: النكاح (1904) , وأحمد (1/251 ,1/330 ,1/339).
2 البخاري: اللباس (5886) , وأبو داود: الأدب (4930) , وأحمد (1/225 ,1/227 ,1/237 ,1/254 ,1/365) , والدارمي: الاستئذان (2649).(22/257)
ص -259- ... مشاهد في الواقع؛ فصلوات الله وسلامه على من بلغ البلاغ المبين، وبلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة.
قلت: وقد أفضى الحال بكثير ممن يقلدون المتفرنجين، إلى أن تشارك كثير من النساء الرجال، في البروز، والخروج، والوظائف، والتجارة، والأسفار بدون محرم، وغير ذلك.
كما شارك كثير من الرجال النساء في المبالغة في التزين، والتخنث في الكلام، وحلق اللحى، والتثني عند المشي، والتحلي بخواتيم الذهب، والأزارير وغيرها، وساعات اليد التي فيها شيء من الذهب، ونحو ذلك، وأمثاله مما هو معروف، حتى صارت العادة عندهم تطويل ثياب الرجال، وتقصير ثياب المرأة إلى ركبتها، أو ما فوق الركبة، بحيث يبدو فخذها. نعوذ بالله من قلة الحياء، والتجرؤ على محارم الله.
رابعا: إن هذه الأشياء، وإن كان يعدها بعض من لا خلاق له من الزينة، فإن حسبانهم باطل، وما الزينة الحقيقة إلا التستر، والتجمل باللباس الذي امتن الله به على عباده، بقوله: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً} [سورة الأعراف آية: 26] .
وليست الزينة بالتعري، والتشبة بالإفرنج، ونحوهم، ممن لا خلاق له.
وأيضا: فلو نسلم أنه من الزينة، فليس لكل امرأة أن تخترع لها من الزينة ما تختاره، ويخطر ببالها،(22/258)
ص -260- ... لأن هناك أشياء من الزينة، وهي ممنوعة بل محرمة، بل ملعون فاعلها، كما لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواصلة والمستوصلة، والنامصة، والمتنمصة، والواشرة، والمستوشرة، والواشمة والمستوشمة.
وعن عبد الله بن مسعود، قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواشمات، والمستوشمات، والمتنمصات، والمتفلجات للحسن، المغيرات لخلق الله. فجاءته امرأة، فقالت: بلغني أنك لعنت كيت وكيت.
فقال: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله؟ فقالت: لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول. فقال: إن كنت قرأتيه فقد وجدتيه، أما قرأت قوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 1 2 قالت: بلى، قال: فإنه قد نهى عنه".
خامسا: إن النساء ناقصات عقل ودين، وضعيفات تصور وإدراك، وفي طاعتهن بهذا وأمثاله من المفاسد المنتشرة ما لا يعلمه إلا الله، وأكثر ما يفسد الملك والدول طاعة النساء.
وفي الصحيحين عن أسامة بن زيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء" 3، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعا: "إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف
__________
1 سورة الحشر آية: 7.
2 البخاري: تفسير القرآن (4886) , ومسلم: اللباس والزينة (2125) , والترمذي: الأدب (2782) , والنسائي: الزينة (5099 ,5107 ,5108 ,5109 ,5254) , وأبو داود: الترجل (4169) , وابن ماجه: النكاح (1989) , وأحمد (1/415 ,1/416 ,1/417 ,1/430 ,1/433 ,1/443 ,1/448 ,1/454 ,1/462 ,1/464 ,1/465) , والدارمي: الاستئذان (2647).
3 البخاري: النكاح (5096) , ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2740 ,2741) , والترمذي: الأدب (2780) , وابن ماجه: الفتن (3998) , وأحمد (5/200 ,5/210).(22/259)
ص -261- ... تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء" 1
وفي صحيح البخارى عن أبي بكرة مرفوعا: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" 2، وروي أيضا: "هلك الرجال حين أطاعوا النساء".
فيتعين على الرجال القيام على النساء، والأخذ على أيديهن، ومنعهن من هذه الملابس والأزياء المنكرة، وأن لا يداهنوا في حدود الله، كما هو الواجب عليهم شرعا، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} 3.
وقد صرح العلماء: أن ولي المرأة يجب عليه أن يجنبها الأشياء المحرمة، من لباس وغيره، ويمنعها منه؛ فإن لم يفعل، تعين عليه التعزير بالضرب وغيره، وفي الحديث: "كلكم راع ومسؤول عن رعيته" 4.
والمقصود: أن معالجة هذه الأضرار الاجتماعية المنتشرة، من أهم المهمات، وهي متعلقة بولاة الأمر أولا، ثم بقيم المرأة ووليها ثانيا، ثم المرأة نفسها مسؤولة عما يتعلق بها وبناتها، وفي بيتها.
كما على طلبة العلم بيان أحكام هذه المسائل، والتحذير منها؛ وعلى رجال الحسبة والأمر بالمعروف
__________
1 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2742) , والترمذي: الفتن (2191) , وابن ماجه: الفتن (4000) , وأحمد (3/19 ,3/22 ,3/61).
2 البخاري: المغازي (4425) , والترمذي: الفتن (2262) , والنسائي: آداب القضاة (5388) , وأحمد (5/50).
3 سورة التحريم آية: 6.
4 البخاري: الجمعة (893) , ومسلم: الإمارة (1829) , والترمذي: الجهاد (1705) , وأبو داود: الخراج والإمارة والفيء (2928) , وأحمد (2/54 ,2/111).(22/260)
ص -262- ... والنهي عن المنكر أن ينكروا هذه الأشياء، ويجتهدوا في إزالتها.
نسأل الله أن يجنبنا مضلات الفتن، ما ظهر منها وما بطن، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، ويذل أعداءه، إنه جواد كريم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
[ قول الشيخ عبد الله بن حميد رحمه الله: من خراب المجتمع تبرج النساء]
وقال الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد، رحمه الله:
من خراب المجتمع: تبرج النساء؛ فلقد افتتن كثير من النساء، في وقتنا هذا، بما يزيد على عمل نساء الجاهلية الأولى، من التبرج، وإظهار المحاسن والجمال أمام الرجال الأجانب، مما يثير الشهوة، ويوقع في الفتنة، ويوجب غضب الرب سبحانه وتعالى.
وخروج المرأة إلى المجتمعات سبب لتغير زوجها الغيور عليها والمحسن إليها، ووالد أولادها، فتحصل بينهما الفرقة بعد الألفة، والبغضاء بعد المحبه، والشقاوة بعد السعادة.
ولا شك أن من أقبح المنكرات وأكبر البلايا وأعظم الأخطار على المجتمع، أن تتبرج المرأة، وتظهر زينتها للرجال الأجانب في الطرقات، والأسواق، وبيوت التجارة، أو المساجد وغيرها من المجتمعات.
فهي في كل يوم تزداد في تبرجها، وتتفنن في أشكال ملابسها، فخلعت عنها ثياب الحشمة، والصيانة، والحياء،(22/261)
ص -263- ... والعفاف، وظلت لا تراعي الآداب، ولا تبالي بهتك الحجاب.
فماذا سترت المرأة إذا خرجت إلى السوق عارية الذراعين والساقين، كاشفة عن وجهها وصدرها، بادية النهود والأرداف، حاسرة الرأس؟! فلا دين يمنعها، ولا حياء يردعها، ولا ولي يحافظ عليها ويوقفها عند حدها؛ قد استشرفها الشيطان، فخرجت متجملة متعطرة فاتنة!
ألم تسمعوا إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "صنفان من أمتي لم أرهما بعد: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، على رؤوسهن كأسنمة البخت، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا" 1.
أما يكفي هذا ردعا وزجرا؟! مع قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا خرجت المرأة متجملة متعطرة، استشرفها الشيطان". كيف ترضون أن تكون نساؤكم محط الأنظار، ومثار الفتن؟! لقد قال صلى الله عليه وسلم "ما رأيت من ناقصات عقل ودين، أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن" 2.
كيف تخرج المرأة إلى السوق تتمطى في مشيتها عجبا وتيها، وتتلون اختيالا وزهوا، بتدلل وتكسر وتظرف؟ !
كيف يرضى حياؤها أن تكون مبعث إثارة فتنة وشهوة، في نفس رجل يراها؟ ! وكيف تطيق الشعور والصبر، بأنه يصبو إليها ويتمناها؟ !
__________
1 مسلم: اللباس والزينة (2128) , وأحمد (2/440).
2 البخاري: الحيض (304).(22/262)
ص -264- ... كيف ترون ذلك وتصبرون؟ ! أما تغارون؟ أما تخجلون؟ أما تخافون من رب العالمين؟ فالمرأة مأمورة بالاحتشام والحياء، والبقاء في قعر بيتها، لئلا تفتن وتنفتن، فتتنغص عليها حياتها وسعادتها، ويخدش عرضها، وتهان كرامتها، وتنطلق إليها النظرات الوقحة الجريئة.
ما هو والله إلا التقليد الأعمى سيطر على النفوس واستعبد القلوب، وأعمى بصائر الرجال والنساء، خضعوا له من غير تفكر ولا تدبر، ومن غير تورع ولا تأمل، وانقادوا له باستسلام ونشوة، فسلبت زهاهم مضرته وفتنته.
فالتبرج ضرره جسيم، وخطره عظيم، يخرب الديار، ويجلب الخزي والعار؟ إنكم مسؤولون أمام الله عما أولاكم، وجعلكم قوامين على النساء، فلماذا أهملتم؟ فأحسنوا تربيتهن وتوجيههن، وخذوا على أيديهن، فإنه إذا نزل العذاب عم الصالح والطالح.
فما لنا نرى المرأة في مجتمعنا، تزداد كل يوم في تبرجها؟ ! وإظهار جمالها ومحاسنها، بثيابها الجميلة وحليها البراق؟ ! وكأن المعني بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [سورة الأحزاب آية: 59] غيرها.
فياللأسف! لقد خلعت المرأة ثياب الحشمة والصيانة، وتجردت من الحياء والعفاف والكرامة، كل هذا بسبب(22/263)
ص -265- ... ضعف الدين في القلوب، وعدم الغيرة من وليها.
والمرأة اليوم زادت في تبرجها، على ما كان عليه نساء الجاهلية الأولى، فقد قال بعض المفسرين في ذلك، هو: أنها تلقي الخمار على رأسها ولا تشده، فلم يوار قلائدها وقرطها وعنقها، هذا هو تبرج نساء الجاهلية الأولى، فهل نساء اليوم قد ابتعدن منه وحذرنه؟! لا والله، بل زدن عليه، وأتين بما هو أشد.
بل نرى المرأة تجوب الشوارع العامة، وتأتي المجتمعات، عارية الذراعين والساقين، بادية الصدر والنهدين، كاشفة عن وجهها، مظهرة لمحاسنها؛ فلا دين ولا حياء ولا مروءة، ولا ولي يحافظ عليها، ويوقفها عند حدها؛ بهذا وأمثاله يسري الفساد على الأسر والبيوتات.
والله يوفق المسلمين لما فيه صلاح دينهم ودنياهم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
وقال الشيخ: عبد الله بن حميد، أيضا:
إن من أخطر ما ابتلي به مجتمعنا في الآونة الأخيرة من زماننا هذا: تبرج النساء، وخروجهن كاشفات عاريات، إلى الأسواق والشوارع والطرقات.
ومن أعظم البلاء وأشد الخطر: دخولهن في المسجد الحرام، وهن على هذه الحال، من غير ما رادع ولا زاجر، وهذه بادرة خطيرة على المجتمع كله.(22/264)
ص -266- ... يجب على ولاة الأمور، ومن بأيديهم السلطة، من رجال الفكر والعلم والدين، التيقظ والتنبه لهذه البادرة الخطيرة، والشر المتفاقم، كما يجب على ولاة أمور النساء محاربة ذلك، والقيام بواجبهم الديني والخلقي والاجتماعي، كرعاة مسؤولين عن القيام على رعاية النساء، وحمايتهن من العبث بشيمتهن وكرامتهن، وحفظهن من السهام المسمومة: سهام إبليس الممدودة إلى أفئدة الخارجين على قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [سورة النور آية: 30]. وروي حديث: "لتغضن أبصاركم، ولتحفظن فروجكم، ولتقيمن وجوهكم، أو لتكسفن وجوهكم".
وفي حديث آخر: "إن النظر سهم من سهام إبليس مسموم، من تركه مخافتي، أبدلته إيمانا، يجد حلاوته في قلبه". هذا وقد فرض الله الحجاب على النساء، وأمرهن بملازمة البيوت، فلا تبرج، ولا خروج إلا لحاجة، متسترات متحشمات.
{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [سورة الأحزاب آية: 33] لئلا يطمع الذي في قلبه مرض من ضعفاء الإيمان، خبثاء الأنفس، المتعرضين- على السبل، والشوارع، والأسواق، وأبواب المسجد الحرام- للنساء المستهترات بالدين، والخلق الإسلامي القويم،(22/265)
ص -267- ... اللاتي يتسببن بالفتنة، وفساد المجتمع، وانحطاط الأخلاق، ويتعرضن لسخط الله، وغضبه، واللعنات، حيث روي عن المصطفى صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة استعطرت ثم خرجت، فمرت على قوم ليجدوا ريحها، فهي زانية; وكل عين زانية" 1.
وحتى في الصلاة إذا خرجت إليها، فالواجب أن تخرج في ثياب بذلة غير متطيبة، ولا مستعملة لأي شيء من مظاهر الزينة التي تحرك الشهوة، أو تجر إلى الفتنة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة أصابت بخورا، فلا تشهدن معنا العشاء الآخرة" 2.
وقد رأت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها من النساء شيئا تكرهه، فقالت: "لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى من النساء ما رأيناه، لمنعهن من المسجد، كما منعت نساء بني إسرائيل" رضي الله عن أم المؤمنين وأرضاها.
فلو رأت في زماننا ما أحدث النساء من التبرج الذي تعدى تبرج الجاهلية الأولى، من التكشف وإظهار محاسنهن، والتمشي، والتمايل في الشوارع والأسواق، بل بالمسجد الحرام، وفي الطواف بالبيت الحرام، لو رأت ذلك، فماذا كانت تقول؟ !
إنها حقا لمصيبة دهماء، وفتنة عمياء، وداء عضال على المجتمع الإسلامي، يجب التنبه والتيقظ له، قبل أن يحل بنا
__________
1 الترمذي: الأدب (2786) , والنسائي: الزينة (5126) , وأحمد (4/413 ,4/418) , والدارمي: الاستئذان (2646).
2 مسلم: الصلاة (444) , والنسائي: الزينة (5128) , وأبو داود: الترجل (4175) , وأحمد (2/304).(22/266)
ص -268- ... الخطر، ويتسع الخرق على الراقع، ولات ساعة مندم.
ومن المعقول والمعلوم أن المسؤول عن المرأة والراعي لها شريك في إثم ما ترتكبه من التبرج والسفور، وما تحمله غيرها من الناظرين إليها، ولمظاهر زينتها، من الإثم، إذ هو المقصر في أداء واجبه نحو القيام بمسؤوليته، ورعايته نحو أهله، ومن جعلهم الله تحت إمرته ويده.
لذا، فنهيب بولاة الأمور القيام بواجبهم نحو هذا السرطان الفتاك، والأخذ على يد السفيه، وأطره على الحق، حتى لا يحل بنا ما حل بمن قبلنا من الأمم السابقة من المصائب والكوارث، لما تركوا أمر النساء بأيديهن، يعبثن بكرامتهن، ويفسدن أخلاق النشء والمجتمع، وصرن هن القائمات بالأمر، عكس الآية الكريمة، قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [سورة النساء آية: 34] الآية، كما هو الواقع اليوم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
هذا ونهيب بالجمهور الكريم، من ولاة أمور النساء أن يتعاونوا مع إخوانهم المسؤولين، في دفع هذا الشر المستطير، ويمنعوا نساءهم من التعري والتبرج، وإظهار محاسنهن في الشوارع والأسواق، ولا سيما في المسجد الحرام، الذي هو محط أنظار العالم الإسلامي بأسره.(22/267)
ص -269- ... وليعلموا ويُعلموا أن مثل هذا هتك لحرمة هذه البقعة المقدسة، والكعبة المشرفة.
كما نود أن نشعر الجميع من اليوم فصاعدا: أن أي امرأة تريد دخول المسجد الحرام، متبرجة متعطرة، حاسرة ساقيها وذراعيها، كاشفة وجهها وصدرها، مظهرة محاسنها التي يحرم النظر إليها من غير محارمها، ملفتة بذلك العمل الشنيع وتلك التقاليد الغربية السيئة، أنظار الأجانب، من الرجال والشباب إليها، ليعلم الجميع أنها تمنع منعا باتا، عن الدخول في المسجد الحرام، وهي على هذه الحال. وعلى رجال هيئة الأمر بالمعروف، والمراقبين، ورجال الشرطة بالحرم الشريف أن يقوم كل بواجبه، تجاه هذا الشر المستطير، وتلك الفتنة العمياء، بالقيام على أبواب الحرم، ومنع النساء اللاتي يردن الدخول في المسجد الحرام، وهن على هذه الحال. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.(22/268)
ص -270- ... [ رسالة من الشيخ ابن باز فيما عمت به البلوى من تبرج الكثير من النساء وسفورهن ]
وقال الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز، وفقه الله 1.
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز، إلى من يراه من المسلمين، سلك الله بي وبهم سبيل الاستقامة، وأعاذني وإياهم من أسباب الخزي والندامة، آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فلا يخفاكم أيها المسلمون، ما عمت به البلوى في كثير من البلدان، من تبرج الكثير من النساء، وسفورهن، وعدم تحجبهن من الرجال، وإبداء الكثير من زينتهن التي حرم الله عليهن إبداءها.
ولا شك: أن ذلك من المنكرات العظيمة، والمعاصي الظاهرة، ومن أعظم أسباب حلول العقوبات، ونزول النقمات، لما يترتب على التبرج والسفور من ظهور الفواحش، وارتكاب الجرائم، وقلة الحياء، وعموم الفساد.
فاتقوا الله أيها المسلمون، وخذوا على أيدي سفهائكم، وامنعوا نساءكم مما حرم الله عليهن، وألزموهن التحجب والتستر. واحذروا غضب الله سبحانه وعظيم عقوبته، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الناس إذا رأوا المنكر فلم
__________
1 طبعت مفردة حين كان نائب رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة.(22/269)
ص -271- ... يغيروه، أوشك أن يعمهم الله بعقابه" 1.
وقد قال الله سبحانه في كتابه الكريم: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} 2
وفي المسند وغيره، عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية، ثم قال: "والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد السفيه، ولتأطرنه على الحق أطرا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم يلعنكم كما لعنهم" 3.
وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" 4.
وقد أمر الله سبحانه في كتابه الكريم بتحجب النساء، ولزومهن البيوت، وحذر من التبرج، والخضوع بالقول للرجال، صيانة لهن عن الفساد، وتحذيرا لهن من أسباب الفتنة.
فقال تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاًوَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ
__________
1 ابن ماجه: الفتن (4005).
2 سورة المائدة آية: 78-79.
3 أبو داود: الملاحم (4336).
4 مسلم: الإيمان (49) , والترمذي: الفتن (2172) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5008 ,5009) , وأبو داود: الصلاة (1140) والملاحم (4340) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) والفتن (4013) , وأحمد (3/10 ,3/20 ,3/49 ,3/52 ,3/54 ,3/92).(22/270)
ص -272- ... الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} 1 الآية.
نهى سبحانه في هذه الآيات، نساء النبي الكريم، أمهات المؤمنين، وهن من خير النساء وأطهرهن، عن الخضوع بالقول للرجال، وهو: تليين القول وترقيقه، لئلا يطمع فيهن من في قلبه مرض شهوة الزنى، ويظن أنهن يوافقنه على ذلك.
وأمر بلزومهن البيوت، ونهاهن عن تبرج الجاهلية وهو: إظهار الزينة والمحاسن: كالرأس، والوجه، والعنق، والصدر، والذراع، والساق، ونحو ذلك من الزينة، لما في ذلك من الفساد العظيم، والفتنة الكبيرة، وتحريك قلوب الرجال، إلى تعاطي أسباب الزنى.
وإذا كان الله يحذر أمهات المؤمنين، من هذه الأشياء المنكرة، مع صلاحهن، وإيمانهن وطهارتهن، فغيرهن أولى وأولى، بالتحذير والإنكار، والخوف عليهن من أسباب الفتنة، عصمنا الله وإياكم من مضلات الفتن.
ويدل على عموم الحكم لهن ولغيرهن، قوله سبحانه في هذه الآية: {وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [سورة الأحزاب آية: 33] فإن هذه الأوامر أحكام عامة، لنساء النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن.
وقال عز وجل {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [سورة الأحزاب آية
__________
1 سورة الأحزاب آية: 32-33.(22/271)
ص -273- ... : 53]:
فهذه الآية الكريمة نص واضح في وجوب تحجب النساء عن الرجال، وتسترهن منهم.
وقد أوضح الله سبحانه في هذه الآية أن التحجب أطهر لقلوب الرجال والنساء، وأبعد عن الفاحشة وأسبابها. وأشار سبحانه إلى أن السفور وعدم التحجب، خبث ونجاسة؛ وأن التحجب طهارة وسلامة.
فيا معشر المسلمين، تأدبوا بتأديب الله، وامتثلوا أوامر الله، وألزموا نساءكم بالتحجب الذي هو سبب الطهارة، ووسيلة النجاة والسلامة.
وقال عز وجل {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [سورة الأحزاب آية: 59]: والجلابيب جمع جلباب، والجلباب هو: ما تضعه المرأة على رأسها للتحجب والتستر به.
أمر الله سبحانه جميع نساء المؤمنين بإدناء جلابيبهن على محاسنهن من الشعور، والوجه، وغير ذلك، حتى يعرفن بالعفة فلا يفتتن ولا يفتن غيرهن فيؤذيهن.
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: "أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن، في حاجة أن يغطين وجوههن، من فوق رؤوسهن بالجلابيب، ويبدين عينا واحدة".(22/272)
ص -274- ... وقال محمد بن سيرين: سألت عبيدة السلماني، عن قول الله عز وجل: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [سورة الأحزاب آية: 59] فغطى وجهه ورأسه، وأبرز عينه اليسرى.
ثم أخبر الله سبحانه أنه غفور رحيم عما سلف من التقصير في ذلك، قبل النهي والتحذير منه سبحانه.
وقال تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [سورة النور آية: 60].
يخبر سبحانه أن القواعد من النساء، وهن العجائز اللاتي لا يرجون نكاحا، لا جناح عليهن أن يضعن ثيابهن عن وجوههن وأيديهن، إذا كن غير متبرجات بزينة.
فعلم بذلك أن المتبرجة بالزينة ليس لها أن تضع ثوبها عن وجهها ويديها، وغير ذلك من زينتها، وأن عليها جناحا في ذلك، ولو كانت عجوزا، لأن كل ساقطة لها لاقطة.
ولأن التبرج يفضي إلى الفتنة بالمتبرجة ولو كانت عجوزا، فكيف يكون الحال بالشابة والجميلة إذا تبرجت؟! لا شك أن إثمها أعظم، والجناح عليها أشد، والفتنة بها أكبر.
وشرط سبحانه في حق العجوز أن لا تكون ممن يرجو النكاح، وما ذاك- والله أعلم- إلا لأن رجاءها النكاح، يدعوها إلى التجمل والتبرج بالزينة، طمعا في الأزواج،(22/273)
ص -275- ... فنهيت عن وضع ثيابها عن محاسنها، صيانة لها ولغيرها من الفتنة.
ثم ختم الآية سبحانه بتحريض القواعد على الاستعفاف، وأوضح أنه خير لهن وإن لم يتبرجن.
فظهر بذلك فضل التحجب والتستر بالثياب، ولو من العجائز، وأنه خير لهن من وضع الثياب؛ فوجب أن يكون التحجب، والاستعفاف عن إظهار الزينة خير للشابات من باب أولى، وأبعد لهن عن أسباب الفتنة.
وقال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة النور آية: 30-31].(22/274)
ص -276- ... أمر الله سبحانه في هاتين الآيتين الكريمتين، المؤمنين والمؤمنات، بغض الأبصار، وحفظ الفروج، وما ذاك إلا لعظم فاحشة الزنى، وما يترتب عليها من الفساد الكبير بين المسلمين، ولأن إطلاق البصر، من وسائل مرض القلب، ووقوع الفاحشة، وغض البصر من أسباب السلامة من ذلك، ولهذا قال سبحانه: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [سورة النور آية: 30].
فغض البصر، وحفظ الفرج، أزكى للمؤمنين في الدنيا والآخرة؛ وإطلاق البصر، والفرج، من أعظم أسباب العطب والعذاب، في الدنيا والآخرة، نسأل الله العافية من ذلك.
وأخبر عز وجل أنه خبير بما يصنعه الناس، وأنه لا يخفى عليه خافية; وفي ذلك تحذير للمؤمن، من ركوب ما حرم الله عليه، والإعراض عما شرع الله له، وتذكير له بأن الله سبحانه يراه، ويعلم أفعاله الطيبة وغيرها، كما قال تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [سورة غافر آية: 19]، وقال تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} [سورة يونس آية: 61] .
فالواجب على العبد أن يحذر ربه، وأن يستحي منه(22/275)
ص -277- ... أن يراه على معصيته، أو يفقده من طاعته التي أوجب عليه.
ثم قال سبحانه: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [سورة النور آية: 31]، فأمر المؤمنات بغض البصر، وحفظ الفرج، كما أمر المؤمنين بذلك، صيانة لهن من أسباب الفتنة، وتحريضا لهن على أسباب العفة والسلامة.
ثم قال سبحانه: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [سورة النور آية: 31]: قال ابن مسعود رضي الله عنه {مَا ظَهَرَ مِنْهَا}[سورة الأنعام آية: 151] يعني بذلك: ما ظهر من اللباس، فإن ذلك معفو عنه، ومراده بذلك رضي الله عنه الملابس التي ليس فيها تبرج وفتنة.
وأما ما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه فسر مَا ظَهَرَ مِنْهَا بالوجه والكفين فهو محمول على حالة النساء قبل نزول آية الحجاب، وأما بعد ذلك، فقد أوجب الله عليهن ستر الجميع، كما سبق في الآيات الكريمات، من سورة الأحزاب، وغيرها.
ويدل على أن ابن عباس أراد ذلك: ما رواه علي بن أبي طلحة عنه، أنه قال: "أمر الله نساء المؤمنين، إذا خرجن من بيوتهن في حاجة، أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب، ويبدين عينا واحدة".
وقد نبه على ذلك: شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من أهل العلم والتحقيق، وهو الحق الذي لا ريب فيه;(22/276)
ص -278- ... ومعلوم ما يترتب على ظهور الوجه والكفين من الفساد والفتنة.
وقد تقدم قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [سورة الأحزاب آية: 53] ولم يستثن شيئا، وهي آية محكمة، فوجب الأخذ بها والتعويل عليها، وحمل ما سواها عليها؛ والحكم فيها عام في نساء النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن من نساء المؤمنين.
وتقدم من سورة النور ما يرشد إلى ذلك، وهو ما ذكره الله سبحانه في حق القواعد، وتحريم وضعهن الثياب إلا بشرطين: أحدهما: كونهن لا يرجون النكاح. والثاني: عدم التبرج بالزينة. وسبق الكلام على ذلك، وأن الآية المذكورة حجة ظاهرة، وبرهان قاطع، على تحريم سفور النساء وتبرجهن بالزينة.
ولا يخفى ما وقع فيه النساء اليوم من التوسع في التبرج، وإبداء المحاسن، فوجب سد الذرايع، وحسم الوسائل المفضية إلى الفساد، وظهور الفواحش.
ومن أعظم أسباب الفساد: خلوة الرجال بالنساء وسفرهم بهن من دون محرم، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم، ولا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم" 1.
وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان
__________
1 البخاري: الحج (1862) , ومسلم: الحج (1341) , وأحمد (1/222).(22/277)
ص -279- ... ثالثهما" 1.
وقال صلى الله عليه وسلم:"لا يبيتن رجل عند امرأة، إلا أن يكون زوجا أو ذا محرم" 2 رواه مسلم في صحيحه.
فاتقوا الله أيها المسلمون، وخذوا على أيدي نسائكم، وامنعوهن مما حرم الله عليهن، من السفور، والتبرج، وإظهار المحاسن، والتشبه بأعداء الله من النصارى ومن تشبه بهم. واعلموا أن السكوت عنهن مشاركة لهن في الإثم، وتعرض لغضب الله وعموم عقابه، عافانا الله وإياكم من شر ذلك.
ومن أعظم الواجبات: تحذير الرجال من الخلوة بالنساء، والدخول عليهن، والسفر بهن بدون محرم، لأن ذلك من وسائل الفتنة والفساد.
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء" 3. وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فناظر كيف تعملون؛ فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء" 4.
وقال عليه الصلاة والسلام: "رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة" 5، وقال صلى الله عليه وسلم: "صنفان من أهل النار لم أرهما بعد: نساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، ورجال بأيديهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس" 6.
__________
1 الترمذي: الرضاع (1171).
2 مسلم: السلام (2171).
3 البخاري: النكاح (5096) , ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2740 ,2741) , والترمذي: الأدب (2780) , وابن ماجه: الفتن (3998) , وأحمد (5/200 ,5/210).
4 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2742) , وابن ماجه: الفتن (4000) , وأحمد (3/19 ,3/22 ,3/61).
5 البخاري: العلم (115) , والترمذي: الفتن (2196) , وأحمد (6/297) , ومالك: الجامع (1695).
6 مسلم: اللباس والزينة (2128) , وأحمد (2/355 ,2/440) , ومالك: الجامع (1694).(22/278)
ص -280- ... وهذا تحذير شديد من التبرج والسفور، ولبس الرقيق والقصير من الثياب، والميل عن الحق والعفة، وإمالة الناس إلى الباطل، وتحذير شديد من ظلم الناس، والتعدي عليهم، ووعيد لمن فعل ذلك بحرمان دخول الجنة، نسأل الله العافية من ذلك.
ومن أعظم الفساد: تشبه الكثير من النساء بنساء الكفار، من النصارى وأشباهم، في لبس القصير من الثياب، وإبداء الشعور والمحاسن، ومشط الشعور على طريقة أهل الكفر والفسق.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من تشبه بقوم فهو منهم" 1. ومعلوم ما يترتب على هذا التشبه، وهذه الملابس القصيرة، التي تجعل المرأة شبه عارية، من الفساد، والفتنة، ورقة الدين، وقلة الحياء.
فالواجب: الحذر من ذلك غاية الحذر، ومنع النساء منه، والشدة في ذلك، لأن عاقبته وخيمة، وفساده عظيم. ولا يجوز التساهل في ذلك مع البنات الصغار؛ لأن تربيتهن عليه يفضي إلى اعتيادهن له، وكراهتهن لما سواه إذا كبرن، فيقع بذلك الفساد والمحذور، والفتنة المخوفة التي وقع فيها الكبيرات من النساء.
فاتقوا الله عباد الله، واحذروا ما حرم الله عليكم، وتعاونوا على البر والتقوى، وتواصوا بالحق والصبر عليه،
__________
1 أبو داود: اللباس (4031).(22/279)
ص -281- ... واعلموا أن الله سبحانه سائلكم عن ذلك، ومجازيكم على أعمالكم.
وهو سبحانه مع الصابرين، ومع الصادقين والمحسنين، فاصبروا، وصابروا، واتقوا الله، وأحسنوا إن الله يحب المحسنين.
ولا ريب أن الواجب على ولاة الأمور: من الأمراء، والقضاة، والعلماء، ورؤساء الهيئات، وأعضاء الهيئات، أكبر من الواجب على غيرهم، والخطر عليهم أشد، والفتنة في سكوت من سكت منهم عظيمة.
ولكن ليس إنكار المنكر خاصا بهم، بل الواجب على جميع المسلمين، ولا سيما أعيانهم وكبارهم، وبالأخص أولياء النساء وأزواجهن، إنكار هذا المنكر، والغلظة فيه، والشدة على من تساهل في ذلك، لعل الله سبحانه يرفع عنا ما نزل من البلاء، ويهدينا ونساءنا إلى سواء السبيل.
وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنة قال: "ما بعث الله من نبي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون سنته ويهتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون؛ فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل".
واسأل الله أن ينصر دينه، ويعلي كلمته، وأن يصلح(22/280)
ص -282- ... ولاة أمرنا، ويقمع بهم الفساد، وينصر بهم الحق، ويصلح لهم البطانة، وأن يوفقنا وإياكم وإياهم، وسائر المسلمين لما فيه صلاح العباد والبلاد، في المعاش والمعاد، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وآله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
[ قول الشيخ حمود التويجري إن من أعظم الفتن خلع النساء جلباب الحياء ]
وقال الشيخ: حمود بن عبد الله التويجري في الصارم المشهور:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي من على من شاء بالحماية والصيانة، وقضى على من شاء بالسقوط والخذلان.
أحمده أن جعل الغيرة في قلوب أهل الإيمان، فقاموا على نسائهم أحسن القيام، وجنبوهن أسباب الافتتان.
وأشهد أن لا إله إلا الله العظيم الشان، الذي ينتقم ممن بارزه بالعصيان، فويل للكاسيات العاريات، من عقاب الملك الديان، وويل لأوليائهن الراضين لهن بالهوان.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الذي بين للناس غاية البيان، وحذرهم من حبائل الشيطان، صلى الله عليه وعلى(22/281)
ص -283- ... آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان.
أما بعد: فإن من أعظم الفتن، خلع النساء جلباب الحياء واستهتارهن بالتبرج والسفور، وقد انهار في هذه الفتنة نساء المسلمين، وهذا مصداق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم: "أن هذه الأمة تتبع سنن اليهود والنصارى" 1.
ومصداق ما أخبر به، من وجود الكاسيات العاريات، وقوله: "كيف بكم إذا فسق فتيانكم، وطغى نساؤكم؟ قالوا وإن ذلك لكائن؟ قال: نعم، وأشد".
وثبت: أنه قال: "من تشبه بقوم فهو منهم" 2، قال شيخ الإسلام: وهذا الحديث أقل أحواله، تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم، كما في قوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} 3. وعن ابن عمر مرفوعا: "ليس منا من تشبه بغيرنا، لا تشبهوا باليهود، ولا بالنصارى" 4 رواه الترمذي.
والتبرج: حرام، لما فيه من التشبه بأهل الجاهلية، والإفرنج وغيرهم؛ وقد أمر الله أزواج النبي صلى الله عليه وسلم الطيبات الطاهرات المطهرات، بلزوم بيوتهن، ونهاهن عن التبرج، فقال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} 5 وليس خاصا بهن، بل هو عام.
وقد تضافرت الأحاديث بالنهي عن التبرج وذمه، والوعيد الشديد عليه، منها: "شر نسائكم المتبرجات،
__________
1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3456) , ومسلم: العلم (2669) , وأحمد (3/84 ,3/89 ,3/94).
2 أبو داود: اللباس (4031).
3 سورة المائدة آية: 51.
4 الترمذي: الاستئذان والآداب (2695).
5 سورة الأحزاب آية: 33.(22/282)
ص -284- ... المتخيلات، وهن المنافقات"،
وإنكار عمرو بن العاص، على التي وضعت يدها على الهودج، فبدت خواتيمها.
فكيف لو رأى صنيع المتبرجات في زماننا؟ ولا سيما من كان منهن في البلدان التي قد افتتن أهلها بسفاسف المدنية الإفرنجية؟ !
وذكر حديث التبرج بالزينة لغير محلها، قال الخطابي، هو: تزين المرأة لغير زوجها، وذكر قوله فيه: "مثل الرافلة في الزينة في غير أهلها، كمثل ظلمة يوم القيامة لا نور لها" 1 قال ابن الأثير، الرافلة، هي: التي ترفل في ثوبها، أي: تتبختر.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل الله من امرأة صلاة، حتى تواري زينتها": وقال رسوله الله صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس انهوا نساءكم عن لبس الزينة، والتبختر في المسجد، فإن بني إسرائيل لم يلعنوا حتى لبس نساؤهم الزينة، وتبخترن في المساجد" 2.
قالت عائشة رضي الله عنها: "لو أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهن المسجد، كما منعه نساء بني إسرائيل".
وروي عن ابن المبارك، أنه قال: "أكره اليوم الخروج للنساء في العيدين، فإن أبت المرأة إلا أن تخرج، فليأذن لها زوجها أن تخرج في أطمارها، ولا تتزين، فإن أبت أن تخرج كذلك، فلزوجها أن يمنعها عن الخروج" قال:
__________
1 الترمذي: الرضاع (1167).
2 ابن ماجه: الفتن (4001).(22/283)
ص -285- ... ويروى عن سفيان الثوري أنه كره اليوم الخروج للنساء إلى العيد. قلت: وذكر شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية، رحمه الله تعالى، عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى، أنه سئل عن النساء يخرجن في العيد؟ قال: لا يعجبني في زماننا هذا، إنهن فتنة. قال الشيخ: وهذا يعم سائر الصلوات. انتهى.
قال ابن دقيق: وإذا كان هذا قول عائشة، وابن المبارك، وسفيان الثوري، وأحمد بن حنبل، في نساء زمانهم، فكيف لو رأى صنيع المتبرجات في زماننا؟
ثم ذكر أحاديث، في فضل صلاتها في بيتها، قال: وقد ورد الإذن للنساء في إتيان المساجد مشروطا باجتناب الطيب ونحوه، مما يهيج شهوة الرجال.
وذكر: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، ولكن ليخرجن وهن تفلات" 1، وقال: "ائذنوا للنساء بالليل، إلى المساجد تفلات" 2 أي: غير متطيبات.
قال ابن دقيق العيد: فيه حرمة التطيب على مريدة الخروج إلى المساجد، لما فيه من تحريك داعية الرجال وشهوتهم، وربما يكون سببا لتحريك شهوة المرأة أيضا; قال: ويلحق بالطيب ما في معناه، كحسن الملبس، والحلي الذي يظهر أثره، والهيئة الفاخرة.
__________
1 أبو داود: الصلاة (565) , وأحمد (2/438 ,2/475 ,2/528) , والدارمي: الصلاة (1279).
2 البخاري: الجمعة (899) , ومسلم: الصلاة (442) , والترمذي: الجمعة (570) , وأبو داود: الصلاة (568) , وأحمد (2/49 ,2/127 ,2/143 ,2/145).(22/284)
ص -286- ... وذكر قوله صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة استعطرت، ثم خرجت فمرت على قوم ليجدوا ريحها، فهي زانية، وكل عين زانية" 1. وقالت عائشة رضي الله عنها: "إن المرأة إذا تطيبت لغير زوجها، كان عليها نارا وشنارا" ورواه الطبراني مرفوعا.
قال: ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التبرج، وشدد فيه، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: "المرأة عورة..." 2، وقالت فاطمة رضي الله عنها: "خير النساء أن لا يرين الرجال ولا يرونهن".
وذكر قوله صلى الله عليه وسلم: "صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات، مميلات مائلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا" 3.
وفي رواية: "سيكون في آخر أمتي رجال يركبون على سروج كأشباه الرحال، ينْزلون على أبواب المساجد، نساؤهم كاسيات عاريات، على رؤوسهن كأسنمة البخت العجاف؛ العنوهن، فإنهن ملعونات..." الحديث.
وفي لفظ: "سيكون في آخر هذه الأمة رجال يركبون على المياثر حتى يأتوا أبواب مساجدهم، نساؤهم كاسيات عاريات، على رؤوسهن كأسنمة البخت العجاف، العنوهن فإنهن ملعونات".
وفي هذين الحديثين علم من أعلام النبوة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم
__________
1 الترمذي: الأدب (2786) , والنسائي: الزينة (5126) , وأبو داود: الترجل (4173) , وأحمد (4/413 ,4/418) , والدارمي: الاستئذان (2646).
2 الترمذي: الرضاع (1173).
3 مسلم: اللباس والزينة (2128) , وأحمد (2/355 ,2/440).(22/285)
ص -287- ... أخبر بما سيكون في آخر أمته، من وجود الكاسيات العاريات، فوقع الأمر طبق ما أخبر به، صلوات الله وسلامه عليه.
وقد افتتن كثير من نساء المسلمين، في هذا العصر، بتقليد نساء الإفرنج، والتزيي بزيهن واتباع سننهن، حذو القذة بالقذة.
وذكر في معنى الحديثين أقوال، منها: قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "كاسيات عاريات" أي: كاسيات بلباس يصف البشرة، أو يبدي بعض تقاطيع أبدانهن، كالعضد والعجيزة، فهن كاسيات بلباس، عاريات حقيقة. قلت: وهو أدق في المعنى، وظاهر اللفظ، وحسبك من شيخ الإسلام فيما يقول عن الكتاب والسنة.
وقال الشيخ حمود رحمه الله: وما عليه المتشهبات بنساء الإفرنج في زماننا أعظم وأعظم، فإنهن يكشفن رؤوسهن ورقابهن، ونحورهن، وصدورهن، وأيديهن إلى المناكب، وأرجلهن إلى الركب.
قلت: فهن كاشفات بعض أبدانهن، كاسيات عاريات حقيقة في البعض، باللباس الضيق المبدي لتقاطع بقية أبدانهن، قال: كلبس "الكرته" وما أشبهها، يعني اللباس الضيق؟ وقيل مائلات: يمتشطن المشطة الميلاء، وهي: مشطة البغايا، والمميلات، اللاتي: يمشطن غيرهن تلك المشطة.(22/286)
ص -288- ... وهذه صفة موجودة في المتشبهات بنساء الإفرنج، فإنهن: زائغات عن طاعة الله، متعديات لحدوده، ومميلات غيرهن إلى الأخذ بقبائح أفعالهن، ويمتشطن مع ذلك المشطة الميلاء، وهي مشطة نساء الإفرنج، ويمشطن غيرهن تلك المشطة، المخالفة لمشطة نساء المسلمين.
قال: ورجال هذا الصنف من النساء، شركاء لهن في الخزي والعار، وجديرون بمشاركتهن في العقوبة في الدار الآخرة، لأن الراضي بالذنب كفاعله، ولإهمالهم أمر نسائهم، وتركهم ما أوجبه الله تعالى عليهم، من رعايتهن، وتعليمهن، وتأديبهن، وأمرهن بالمعروف، ونهيهن عن المنكر، والأخذ على أيديهن، والحرص على إبعادهن عن جميع الأمور التي تفتنهن بالرجال، وتفتن الرجال بهن، وقد قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} 1. انتهى المراد منه.
[ قول الشيخ صالح بن لحيدان في الحديث عن أمر المرأة من طفولتها إلى تسلمها البيت ]
وقال الشيخ صالح بن محمد بن لحيدان وفقه الله 2: كنا تحدثنا في مقال عن أخلاق الشباب، وما ينبغي أن يتخذ نحوها، لصيانتها، وحفظها; والآن نسوق الحديث في أمر المرأة من طفولتها إلى تسلمها البيت وتربية النشء.
فإن أمرها أعظم من أن يهمل، وإن المرأة في هذا
__________
1 سورة النساء آية: 34.
2 في مجلة راية الإسلام العدد الخامس في 1/4/1380 هـ.(22/287)
ص -289- ... العصر، انخدعت بما ينشر عن تحريرها وتثقيفها، ومسايرتها لركب الحضارة، وقلة التمدن.
فانساقت مندفعة في كثير من البلاد العربيه والإسلامية، وغزت الحضارة كل أحد؛ حتى عم البلاء وشمل الشر، وبلغ السيل الزّبَى، وطم ودخل على المصونات في خدورهن، وتطلع إلى ربات الأودية في مطاوي شعابهن.
فقل أن تجد أحدا، إلا وقد أخذ من سيل هذه السحابة المعتمة، فمقل ومستكثر، حتى رأى كثير من النساء، أن العادة القديمة التي اعتادتها أمهاتهن، من التستر والصيانة، عادة عفى عليها الزمن، ولا تليق بمن تحب أن ترى ملابسها الفضفاضة الضيقة، وهي تحكي جسدها، وتصور تقاطيع جسمها.
بل إن النشأة التالية، من لم يعرفن من الحياة إلا الشيء القليل، تراهن في الطرقات، وعليهن تلك الملابس، التي لا تغطي إلا القليل من الجسد.
وإنك لتحس بالألم يحز قلبك، حين تصادف في بعض هذه الصبية، التي استحسن مربوها أن يجعلوها بهذه الصورة، وهي تستحي أن ترى، بل نراها تنحني حين تقابلها الريح، فتعبث بما يسمونه "الكرته" البالغ من السعة والقصر حدا كبيرا.
فهذه الطفلة يغلبها الحياء، فيحمر وجهها خجلا، لأن(22/288)
ص -290- ... هذه الملابس لا تستقر ساترة، وأهلها ممن نشأ في بيئة محافظة، وعاش في بيت مصون، يأبى لها حياة الحفظ والصيانة، ويريد لها أن تكون كبنات الجيران، ممن هانت عليهم أخلاقهم.
بل إن كثيرا من النساء اللاتي لا يعرفن إلا بيوتهن، قد عرفتهن في هذه الأزمنة الأسواق، واعتدن الخروج بثياب لا يرتضيها الإسلام، ولا يقرها الشرع، ولا تهضمها الأخلاق الفاضلة.
فيا ترى من المسؤول تجاه هذه الحالة، التي إن تركت على ما هي عليه، أوشكت أن تسلكنا في سلك جيراننا الأقربين، الذين نعرف الكثير من أحداث بلادهم، والتي من أكبر أسبابها: خروج النساء بهذه الصفة.
وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء" 1؛ والنساء ضعيفات عقل ودين، فإذا تركن وما يهوين، جرهن ذلك إلى الهاوية، واتبعهن الرجال. وإن خروجهن بأثواب مقطوعة الأكمام، وخمر لا تستر إلا المساوئ، وتبرز المحاسن، وتلفت الأنظار، لهو الخطر الكبير على الأخلاق.
وإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته"2؛ فليحفظ كل أحد رعيته، ويحافظ على ما جعل في وصايته وتحت عهدته، فقد أوصى النبي عليه السلام بالنساء فقال: "استوصوا بالنساء خيرا"3.
__________
1 البخاري: النكاح (5096) , ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2740 ,2741) , والترمذي: الأدب (2780) , وابن ماجه: الفتن (3998) , وأحمد (5/200 ,5/210).
2 البخاري: النكاح (5200) , ومسلم: الإمارة (1829) , والترمذي: الجهاد (1705) , وأبو داود: الخراج والإمارة والفيء (2928) , وأحمد (2/5 ,2/54 ,2/111 ,2/121).
3 البخاري: أحاديث الأنبياء (3331) , ومسلم: الرضاع (1468).(22/289)
ص -291- ... إننا نتساهل في الأمر، ونظن الخطب أيسر من ذلك، فنترك البنات يلبسن ما يختاره لهن الأمهات، ونقول: عندما يقاربن، سيمنعهن الحياء، وتقهرهن صفة الأنوثة فيهن، وهذا حسن نية مصيره الخطأ.
فإن من اعتاد شيئا في صغره، صعب عليه الابتعاد عنه إذا كبر، وقد يأتي اليوم الذي تخرج فيه الفتاة- إن تركت وما يحلو لها- على تقاليد أمتها، فلينظروا إلى البلاد العربية والإسلامية المجاورة ويستبينوا الأمر.
إن الكثير من الشباب، يحبذ هذه الحياة، ويراها تتيح للمرأة معرفة محيطها، وسبر أحوال مجتمعها، ويرى حياة البيت عارا على أمة تريد النهوض والرقي، وينظر إلى نساء الغرب السافرات نظرة إعجاب وتقدير.
وهذا من ضعف الإيمان، وقلة البصيرة في الدين، وكثرة الجهل، وغلبة الهوى، مما جعل أهل الغيرة يعيشون في حمى من الهموم والقلق، فإذا كانت حياة البيت تعد عارا، فكيف يعيشه أهل المروءة؟ !
إذا كانت حياة البيت عارا ... وإن كان التمدن في التعري
فكيف يعيش ذو الأنف الحمي ... فما فضل الحَصَان على البغي
والتعليم له خيره ومعه خطره، وإننا لا نعارض في تعليم الفتاة، ولكننا نريد تعليما يحفظ لها كرامتها، ويصون وجهها عن رؤية الأجانب، ويربى فيها روح الدين، ويعطيها(22/290)
ص -292- ... القدرة على إنشاء جيل صالح، يعتز بإسلامه، ويرى أنه لا شرف ولا عزة إلا بالتمسك به، والسير على هديه.
وهذا هو ما نترقبه من هذا التعليم، الذي بدأت قواعد بنيانه ترسى، ونحن ننتظر أن يكون هذا التعليم أكبر معين لنا في هذه الفترة، التي بدأ الشباب يتطلع إلى النساء المتعلمات في خارج البلاد، فجلبهن يحملن أخلاقا زائفة، وكرامات ملوثة، ووجوها فقدت ماء الحياء.
فلا ترى مانعا أن تلاقي كل أحد وهي سافرة، إن هذا لهو البلاء المبين! وإن قوما أهملوا أمر نسائهم لضيع؛ وإننا أمة تعيش في عزلة عن الأخلاق الفاسدة، حتى جرفنا هذا العصر بما فيه.
فإن لم نجاهد مجتمعين متكاتفين، ونحصن أمتنا بأقوى الحصون وأمنعها، أصابنا ما أصاب الأمم الأخرى المجاورة، وصارت أخلاقنا أثرا بعد عين، وخبرا يتناقله الناس، وآن اليوم الذي يقال فيه: كانت البلاد النجدية، بل بلاد الجزيرة العربية، محافظة على دينها، متمسكة بالأخلاق متحلية بالصيانة.
أقول: إن هذا اليوم ليس ببعيد، وإنه لمن المحزن أن تكون الأخلاق الإسلامية، لا تعرف إلا من بطون الأسفار، وطيات التأريخ؛ ومن لم يتعظ بما يسمع ويرى كل يوم، فما له من عقله إلا ما للأنعام السائمة.
إن العلاج والدواء عندنا متيسر، وإن مرضى يهملون(22/291)
ص -293- ... ما فيه شفاؤهم الأكيد، لسفهاء مغبونون.
فإلى الإسلام وتقاليده، لنحفظ نساءنا ونحرسهن بسلطة هذا الدين الحي، الذي أثبتت الأيام أنه خير نظام عرفته الإنسانية، ولن تعرف خيرا منه {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} 1.
[ قول الشيخ صالح بن أحمد الخريصي: إن عليكم عباد الله تفقد نسائكم وأولادكم ]
وقال الشيخ: صالح بن أحمد الخريصي، في أثناء نصيحة له: إن عليكم عباد الله تفقد نسائكم وأولادكم، فإن النساء ظهر منهن التبرج والزينة والتجول في الأسواق، وهذا خطأ وتفريط من الأولياء.
وقد نهى الله عز وجل عن التبرج في محكم كتابه، وهو إظهار الزينة في اللباس وغيره، وقال صلى الله عليه وسلم: "ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء" 2، وقال: "أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء" 3.
وأما الأولاد: فعلى الأولياء حفظهم عن الخروج والتجول، والأخذ على أيديهم وإلزامهم بما أوجب الله عليهم، من فعل الصلاة، وترك المحرمات، وعن الاجتماعات التي لا تنتج إلا الشر، فإنه يحصل فيها مفاسد عديدة.
وقد قال صلى الله عليه وسلم "مروا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع" 4، وقال: "ما نحل
__________
1 سورة آل عمران آية: 85.
2 البخاري: النكاح (5096) , ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2740) , والترمذي: الأدب (2780) , وابن ماجه: الفتن (3998) , وأحمد (5/210).
3 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2742) , وأحمد (3/22).
4 أبو داود: الصلاة (495) , وأحمد (2/180 ,2/187).(22/292)
ص -294- ... والد ولده- يعني ما أعطى عطية- أفضل من أدب حسن" 1 وقال في الأهل والأولاد: "ولا ترفع عصاك عنهم أدبا وأخفهم في الله" 2.
لا سيما تفقدهم في الأحوال التي تجر إلى غايات لا تحمد، فإن منهم من يتخذ "تواليت" النصارى، وهذا شيء أقل أحواله التحريم، وإلا فقد قال صلى الله عليه وسلم: "من تشبه بقوم فهو منهم" 3.
ومثل شرب الدخان، الذي فشا في أكثرهم، وهو محرم، وينتج مفاسد عديدة، ومنها اللواط- والعياذ بالله- وأكثر ما يحدث من الذين يظهرون بالسياكل إلى الأمكنة الخالية، التي يظنون أن الهيئة لا تصلها.
فعلى أهل الحسبة التجول في تلك الأماكن، واستبراؤها، لأن هذا من واجبهم؛ كما أن من واجبهم حسم هذه المادة، وهي: الخروج إلى البرية بالسياكل، إلا إذا كان قاصدا محلا معينا وليس متهما.
__________
1 الترمذي: البر والصلة (1952) , وأحمد (3/412).
2 أحمد (5/238).
3 أبو داود: اللباس (4031).(22/293)
ص -295- ... الباب الخامس: التصوير
وهو محرم بالكتاب والسنة والإجماع، ولم يستعمل في أول هذه الدعوة المباركة، إلى عصر الشيخ عبد الله وطبقته، ولم يستعمل في عصر الخلفاء الراشدين، ولا الأئمة المهديين، وقد استولوا على مشارق الأرض ومغاربها.
وإنما استعمل في هذا العصر، مشابهة لأهل الخارج، ولتولية الخونة المرتشية; ولا يجوز أن يستعمل الخائن على أمر من أمور المسلمين؛ ومن الباطل أن يلزم به كل موظف وفقير ومتعلم، حتى إن صغار المتعلمين يصورون، ويعلمون التصوير، اتباعا لبرنامج الخارج !!.
والتصوير: أصل شرك العالم، لا سيما المعظمين، قال تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً} [سورة نوح آية: 23-24] .
قال ابن عباس رضي الله عنه: "هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم، أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا ولم تعبد، حتى إذا هلك أولئك، ونسي العلم عبدت".
وقال ابن القيم: قال غير واحد من السلف: لما ماتوا(22/294)
ص -296- ... عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم".
وقال تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [سورة لقمان آية: 11] وفي الصحيحين عن أبي هريرة، رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة" 1.
وفيهما عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أشد الناس عذابا يوم القيامة، الذين يضاهئون بخلق الله" 2.
قال النووي: قيل هذا محمول على صانع الصورة لتعبد، وهو صانع الأصنام ونحوها، فهذا كافر، وهو أشد الناس عذابا. وقيل: هو فيمن قصد المعنى الذي في الحديث، من مضاهاته خلقه، واعتقد ذلك فهو كافر أيضا، وله به من شدة العذاب ما للكافر، ويزيد عذابه بزيادة كفره.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم" 3 متفق عليه، ولهما عنه صلى الله عليه وسلم: "من صور صورة كلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ" 4.
ولهما عن عائشة رضي الله عنها قالت: قدم
__________
1 البخاري: التوحيد (7559) , ومسلم: اللباس والزينة (2111) , وأحمد (2/259 ,2/391 ,2/527).
2 البخاري: اللباس (5954) , وأحمد (6/36).
3 أحمد (2/26).
4 البخاري: البيوع (2225) والتعبير (7042) , والترمذي: اللباس (1751) , والنسائي: الزينة (5359) , وأحمد (1/246).(22/295)
ص -297- ... رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفر، وقد سترت سهوة لي بقرام فيه تماثيل، فهتكه وتلون وجهه، وقال: "أشد الناس عذابا عند الله الذين يضاهئون بخلق الله" 1 القرام: الستر الرقيق.
وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم: "يخرج عنق من النار، فيقول: إني وكلت بكل من دعا مع الله إلها آخر، وبكل جبار عنيد، وبالمصورين" 2 قال الترمذي: حسن صحيح، وقال صلى الله عليه وسلم: "الذين يصورون هذه الصور، يعذبون يوم القيامة، ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم" 3 متفق عليه.
وقال ابن عباس رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كل مصور في النار، يجعل الله له بكل صورة صورها نفس يعذب بها في جهنم"4، وقال صلى الله عليه وسلم: "لعن الله المصورين"؛ قال ابن القيم: فالمصور أحد الملاعين الداخلين تحت لعنة الله ورسوله.
وهذا يدل على أن التصوير من أكبر الكبائر، لأنه جاء فيه من الوعيد واللعن، وكون فاعله أشد الناس عذابا، ما لم يجئ في غيره من الكبائر.
[ جواب الشيخ محمد بن إبراهيم عما كتبه أبو الوفاء محمد درويش بشأن التصوير ]
وقال الشيخ: محمد بن إبراهيم، رحمه الله تعالى 5:
وجه إلي سؤال عما كتبه فضيلة الشيخ أبو الوفاء
__________
1 البخاري: اللباس (5954) , والنسائي: الزينة (5356) , وأحمد (6/36).
2 الترمذي: صفة جهنم (2574) , وأحمد (2/336).
3 البخاري: النكاح (5181) , وأحمد (6/246) , ومالك: الجامع (1803).
4 مسلم: اللباس والزينة (2110) , وأحمد (1/308).
5 ردا على محمد درويش, كما في رسالته "الصور والتصوير" طبعت سنة 1385 هـ.(22/296)
ص -298- ... محمد درويش، في مجلة الهدي النبوي، بشأن التصوير الشمسي، من الفتوى بجوازه مطلقا، مؤكدا للجواز ومستدلا عليه بما رواه مسلم عن بسر بن سعيد، حينما قال بسر لعبد الله الخولاني، وقد رأى سترا فيه صورة في بيت زيد: ألم يخبرنا زيد عن الصور يوم الأول؟ فقال عبد الله: ألم تسمعه حين قال: إلا رقما في ثوب؟ !
وبقوله تعالى: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} 1 مقررا ذلك بقوله: لا يريد إلا أنه جعل أجسامكم في صورة حسنة× فالتصوير في الحقيقة لا يطلق إلا على المجسمات.
وجوابي عن ذلك، أن أقول: تصوير ما له روح لا يجوز، سواء في ذلك ما كان له ظل وما لا ظل له، وسواء كان في الثياب والحيطان، والفرش والأوراق وغيرها.
هذا هو الذي تدل عليه الأحاديث الصحيحة، كحديث مسروق الذي في البخاري، قال سمعت عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أشد الناس عذابا يوم القيامة، المصورون" 2
وحديث عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الذين يصنعون هذه الصور، يعذبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم" 3.
وحديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال سمعت
__________
1 سورة غافر آية: 64.
2 البخاري: اللباس (5950) , ومسلم: اللباس والزينة (2109) , والنسائي: الزينة (5364) , وأحمد (1/375).
3 البخاري: اللباس (5951) , ومسلم: اللباس والزينة (2108) , والنسائي: الزينة (5361) , وأحمد (2/20 ,2/55 ,2/141).(22/297)
ص -299- ... محمدا صلى الله عليه وسلم يقول: "من صور صورة في الدنيا، كلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ"1: فهذه الأحاديت الصحيحة وأمثالها دلت بعمومها على منع التصوير مطلقا، ولو لم يكن في الباب سواها، لكفتنا حجة على المنع الإطلاقي.
فكيف وقد وردت أحاديث ثابتة، ظاهرة الدلالة على منع تصوير ما ليس له ظل من الصور، منها حديث عائشة، رضي الله عنها، وهو في البخاري: "أنها اشترت نمرقة فيها تصاوير. فقام النبي صلى الله عليه وسلم بالباب، فلم يدخل، فقلت: أتوب إلى الله مما أذنبت. فقال: ما هذه النمرقة؟ فقلت: لتجلس عليها، وتوسدها، قال: إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم، وإن الملائكة لا تدخل بيتا فيه الصور"2.
ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي في السنن، وصححه الترمذي، وابن حبان، ولفظه: "أتاني جبريل فقال: أتيتك البارحة، فلم يمنعني أن أكون دخلت إلا أنه على الباب تماثيل، وكان في البيت قرام ستر فيه تماثيل، وكان في البيت كلب، فمر برأس التمثال الذي على باب البيت يقطع فيصير كهيئة الشجرة، ومر بالكلب فليخرج، ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم" 3.
ومنها: ما في مسلم عن سعيد بن أبي الحسين، قال:
__________
1 البخاري: التعبير (7042) , ومسلم: اللباس والزينة (2110) , والنسائي: الزينة (5358) , وأحمد (1/241 ,1/246 ,1/350).
2 البخاري: اللباس (5957) , ومسلم: اللباس والزينة (2107) , وأحمد (6/246) , ومالك: الجامع (1803).
3 الترمذي: الأدب (2806) , وأبو داود: اللباس (4158) , وأحمد (2/305).(22/298)
ص -300- ... "جاء رجل إلى ابن عباس، رضي الله عنهما، فقال: إني رجل أصور هذه الصور، فأفتني فيها، فقال له: ادن مني، فدنا منه. ثم قال: ادن مني، فدنا منه. ثم قال: ادن مني، فدنا منه، حتى وضع يده على رأسه، وقال: أنبئك بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعت رسوله الله صلى الله عليه وسلم يقول: كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة يصورها نفس، فتعذبه في جهنم" وقال: "إن كنت فاعلا فاصنع الشجر وما لا نفس له".
ومنها: ما في سنن أبي داود، عن جابر رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه زمن الفتح- وهو بالبطحاء- أن يأتي الكعبة فيمحو كل صورة فيها، فلم يدخلها النبي صلى الله عليه وسلم حتى محيت كل صورة فيها" 1.
ومنها: ما بوب له البخاري بقوله: باب نقض الصور، وهو حديث عمران بن حطان: أن عائشة رضي الله عنها، حدثته: "أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يترك في بيته شيئا فيه تصاليب إلا نقضه" 2.
ومن هذه الأحاديث وأمثالها أخذ الأئمة الأربعة وسائر السلف، إلا من شذ، منع التصوير، وعموم المنع في سائر الصور، سواء ما كان مجسدا، وما كان مخططا في الأوراق وغيرها، كالمصور في أصل المرآة وغيرها، مما يعلق في الجدران، ونحو ذلك.
__________
1 أبو داود: اللباس (4156) , وأحمد (3/335 ,3/383).
2 البخاري: اللباس (5952) , وأحمد (6/52).(22/299)
ص -301- ... أما تعلق من خالف ذلك بحديث: "إلا رقما في ثوب"1، فهو شذوذ عما كان عليه السلف والأئمة، وتقديم للمتشابه على المحكم؛ إذ يحتمل أن المراد باستثناء الرقم في الثوب، ما كانت الصورة فيه غير ذوات الأرواح، كصورة الشجر ونحوه، كما ذكر الإمام أبو زكريا النووي وغيره.
واللفظ إذا كان محتملا، فلا يتعين حمله على المعنى المشكل، بل ينبغي أن يحمل على ما يوافق الأحاديث الظاهرة في المنع، التي لا تحتمل التأويل; على أنه لو سلم بقاء حديث: "إلا رقما في ثوب" 2 على ظاهره، لما أفاد إلا جواز ذلك في الثوب فقط.
وجوازه في الثوب لا يقضي جوازه في كل شيء، لأن ما في الثوب من الصور، إما ممتهن، وإما عرضة للامتهان، ولهذا ذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا بأس بفرش الفرش التي فيها التصاوير، استدلالا بما في حديث السنن الذي أسلفنا، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "ومر بالستر فليقطع، فليجعل منه وسادتان منبوذتان توطآن" 3 إذ وطؤها وامتهانها مناف ومناقض لغرض المصورين في أصل الوضع، وهو تعظيم المصور، والغلو فيه، المفضي إلى الشرك بالمصور.
ولهذه العلة والعلة الأخرى، وهي المضاهاة
__________
1 البخاري: اللباس (5958) , والنسائي: الزينة (5349) , ومالك: الجامع (1802).
2 البخاري: اللباس (5958) , والنسائي: الزينة (5349) , ومالك: الجامع (1802).
3 الترمذي: الأدب (2806) , وأبو داود: اللباس (4158).(22/300)
ص -302- ... بخلق الله، جاء الوعيد الشديد، والتهديد الأكيد، في حق المصورين.
وأما جعل الآية الكريمة، وهي قوله تعالى: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} 1 معارضة لما دلت عليه النصوص النبوية بعمومها تارة وبظاهرها أخرى، فهذا من أفحش الغلط، ومن أبين تحريف الكلم عن مواضعه.
فإن التصوير الشمسي، وإن لم يكن مثل الجسد من كل وجه، فهو مثله في علة المنع، وهي: إبراز الصورة في الخارج، بالنسبة إلى المنظر؛ ولهذا يوجد كثير من المصورات الشمسية ما هو أبدع في حكاية المصور، بحيث يقال في الواحدة من الصور: هذه صورة فلان طبق الأصل.
وإلحاق الشيء بالشيء لا يشترط فيه المساواة من كل الوجوه، كما هو معلوم؛ هذا لو لم تكن الأحاديث ظاهرة في التسوية بينهما، فكيف وقد جاءت أحاديث عديدة واضحة الدلالة في المقام؟!
وقد زعم بعض مجيزي التصوير الشمسي أنه نظير ظهور الوجه في المرآة ونحوها من الصقيلات، وهذا فاسد; لأن ظهور الوجه في المرآة ونحوها، شيء غير مستقر، وإنما يرى بشرط بقاء المقابلة، فإذا فقدت المقابلة فقد ظهور الصورة في المرآة ونحوها.
بخلاف الصورة الشمسية، فإنها باقية في الأوراق
__________
1 سورة غافر آية: 64.(22/301)
ص -303- ... ونحوها، مستقرة؛ وإلحاقها بالصورة المنقوشة باليد أظهر وأوضح، وأصح من إلحاقها بظهور الصورة في المرآة ونحوها.
فإن الصورة الشمسية، وبدو الصورة في الأجرام الصقيلة ونحوها، يفترقان في أمرين: أحدهما: الاستقرار والبقاء; والثاني: حصول الصورة عن عمل ومعالجة، فلا يطلق لا لغة ولا عقلا ولا شرعا، على مقابل المرآة ونحوها أنه صور ذلك.
ومصور الصورة الشمسية، مصور لغة وعقلا وشرعا؛ فالمسوي بينهما مسوٍّ بين ما فرق الله بينه؛ والمانعون منه قد سووا بين ما سوى الله، وفرقوا بين ما فرق الله بينه، وكانوا بالصواب أسعد، وعن فتح أبواب المعاصي والفتن أنفر وأبعد.
فإن المجيزين لهذه الصور، جمعوا بين مخالفة أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ونفث سموم الفتنة بين العباد، بتصوير النساء الحسان، العاريات الفاتنات، في عدة أشكال وألوان، وحالات يقشعر منها كل مؤمن صحيح الإيمان، ويطمئن إليها كل فاسق وشيطان، فالله المستعان، وعليه التكلان.
[ قول الشيخ صالح البليهي في تحريم التصوير ]
وقال الشيخ صالح البليهي في تحريم التصوير، وأنه لا فرق بين المجسم وغيره:(22/302)
ص -304- ... قبل كلام كل متكلم، يجمل بنا أن نذكر الحجة من قول الناصح الأمين صلى الله عليه وسلم، ثم نشرح ذلك بالأدلة، على أنه لا فرق، ثم نتحف القارئ بقول البعض من جهابذة العلماء، وفرسان الشريعة، ليكون ذلك نبراسا وهدى للمهتدي، وحجة على المعتدي.
والسبب في ذلك أن البعض من أهل الوقت يعتقد أن التحريم في التصوير واقتنائه خاص بما له ظل، دون ما عداه؛ ولا يعتقد هذا المعتقد مع ظهور الحجة وبيان المحجة، إلا جاهل أو مرتاب; فنسأله جل شأنه أن يهدينا وإياهم إلى الحق والصواب.
وسبب آخر هو: كثرة التصوير، وكثرة اقتنائه.
فمن ذلك حديث ابن عمر رضي الله عنهما، أنه عليه السلام قال: "إن الذيق يصنعون الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم" متفق عليه، ولفظه لمسلم.
وفي المتفق عليه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون" 1، وفيهما أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة صورها نفس، فتعذبه في جهنم" 2.
وفي صحيح البخاري، عن أبي زرعة قال: دخلت مع
__________
1 البخاري: اللباس (5950) , ومسلم: اللباس والزينة (2109) , والنسائي: الزينة (5364) , وأحمد (1/375).
2 مسلم: اللباس والزينة (2110) , وأحمد (1/308).(22/303)
ص -305- ... أبي هريرة دارا بالمدينة، فرأى في أعلاها مصورا يصور، فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا حبة، أو ليخلقوا ذرة" 1، زاد مسلم "أو ليخلقوا شعيرة" 2.
والذي في صحيح مسلم: دخلت مع أبي هريرة في دار مروان، فرأى فيها تصاوير.
وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: "قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفر، وقد سترت بقرام لي على سهوة لي فيها تماثيل، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم هتكه، وقال: أشد الناس عذابا يوم القيامة، الذين يضاهئون بخلق الله. قالت: فجعلناه وسادة أو وسادتين" 3 متفق عليه، ولفظه للبخاري.
وعنها رضي الله عنها: "أنها اشترت نمرقة فيها تصاوير، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على الباب فلم يدخله، فعرفت في وجهه الكراهية; فقلت: يا رسول الله أتوب إلى الله، وإلى رسوله، ماذا أذنبت؟
فقال رسول الله: ما بال هذه النمرقة؟ قلت اشتريتها لك، لتقعد عليها وتوسدها، فقال عليه السلام: إن أصحاب هذه الصور يوم القيامة يعذبون، فيقال لهم: أحيوا ما خلقتم" 4، وقال: "إن البيت الذي فيه الصور، لا تدخله الملائكة" 5 والسياق للبخاري.
وعن أبي طلحة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
__________
1 البخاري: اللباس (5953) , ومسلم: اللباس والزينة (2111) , وأحمد (2/232 ,2/391 ,2/527).
2 مسلم: اللباس والزينة (2111) , وأحمد (2/232).
3 البخاري: اللباس (5954) , ومسلم: اللباس والزينة (2107) , والنسائي: الزينة (5357) , وأحمد (6/36).
4 البخاري: البيوع (2105).
5 البخاري: البيوع (2105) , ومسلم: اللباس والزينة (2107) , وأحمد (6/246) , ومالك: الجامع (1803).(22/304)
ص -306- ... "لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة" 1 متفق عليه.
وعن حيان بن حصين قال قال لي علي رضي الله عنه: "ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ألا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبرا مشرفا إلا سويته" 2 رواه مسلم; وفي سنن أبي داود، عن علي رضي الله عنه مرفوعا: "لا تدخل الملائكة بيتا فية صورة، ولا كلب، ولا جنب" 3.
وفي البخاري عن ابن عمر قال: "واعد رسول الله صلى الله عليه وسلم جبرائيل أن يأتيه فراث عليه حتى اشتد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج فلقيه جبريل فشكا عليه، فقال: إنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة" 4
وروى أحمد عن علي رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة، فقال: أيكم ينطلق إلى المدينة، فلا يدع فيها وثنا إلا كسره، ولا قبرا إلا سواه، ولا صورة إلا لطخها. فقال رجل: أنا يا رسول الله. قال: فانطلق ثم رجع، فقال: يا رسول الله, لم أدع وثنا إلا كسرته، ولا قبرا إلا سويته، ولا صورة إلا لطختها. ثم قال عليه السلام: من عاد إلى صنع شيء من هذا فقد كفر بما أنزل على محمد" 5 وجود المنذري إسناده.
وعن صفية بنت شيبة، قالت: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بلَّ ثوبا وهو في الكعبة، ثم جعل يضرب التصاوير التي فيها".(22/305)
__________
1 البخاري: بدء الخلق (3225) , ومسلم: اللباس والزينة (2106) , والترمذي: الأدب (2804) , والنسائي: الصيد والذبائح (4282) والزينة (5347 ,5348) , وابن ماجه: اللباس (3649) , وأحمد (4/30).
2 مسلم: الجنائز (969) , والترمذي: الجنائز (1049) , والنسائي: الجنائز (2031) , وأبو داود: الجنائز (3218) , وأحمد (1/96).
3 النسائي: الطهارة (261) , وأبو داود: اللباس (4152) , وأحمد (1/83 ,1/107 ,1/139) , والدارمي: الاستئذان (2663).
4 البخاري: اللباس (5960).
5 مسلم: الجنائز (969) , والترمذي: الجنائز (1049) , والنسائي: الجنائز (2031) , وأبو داود: الجنائز (3218) , وأحمد (1/87).(22/306)
ص -307- ... قال في مجمع الزوائد: رواه الطبراني، ورجاله ثقات.
وفي مسند أبي داود الطيالسي، عن أسامة، قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة، ورأى صورا، فدعا بدلو من ماء، فجعل يمحوها، ويقول: "قاتل الله قوما يصورون ما لا يخلقون".
وفي تاريخ مكة للأزرقي، عن عبد المجيد بن أبي روّاد: "أن الفضل دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة يوم الفتح، وبعثه النبي صلى الله عليه وسلم فأتى بذنوب من ماء زمزم ليطمس به الصور التي في الكعبة".
وفي الكتاب المذكور من حديث الزهري: "أنه عليه السلام دخل البيت يوم الفتح، وأرسل الفضل بن عباس، فجاء بماء زمزم، ثم أمر بثوب فبلّ بالماء، فأمر بطمس تلك الصور".
ونقل في شفاء الغرام، عن أبي قانع بسنده عن مسامع ابن شيبة عن أبيه، قال: "دخل النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة، فصلى فيها ركعتين، ورأى فيها تصاوير، فقال: يا شيبة اكفني هذا، فاشتد ذلك على شيبة، فقال له رجل: اطله بزعفران ففعل".
والأحاديث الواردة في هذا الباب كثيرة جدا. والأدلة على أنه لا فرق في التحريم بين المجسد وغيره كثيرة، فنذكر البعض منها، ليظهر الحق ويستنير:(22/307)
ص -308- ... الدليل الأول: أن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم عامة، ومن ادعى التفرقة فعليه الدليل.
الدليل الثاني: أن العلة في مضاهاة خلق الله موجودة في المجسد وغيره.
الدليل الثالث: أحاديث عائشة في شأن قرامها ظاهرة الدلالة، في عدم الفرق فيما له ظل، وفيما لا ظل له.
الدليل الرابع: علة الافتتان موجودة في المجسد وغيره، سواء كانت العلة عبادة أو غيرها.
الدليل الخامس: حديث علي حين بعثه عليه السلام: "أن لا يدع قبرا مشرفا إلا سواه، ولا صورة إلا طمسها" 1، فقوله عليه السلام: (إلا طمستها) ظاهر الحديث العموم، بل هو في التي لم تكن مجسدة أصرح، لأنه لم يقل أن لا تدع صورة إلا كسرتها، أو أزلتها.
الدليل السادس: حديث علي لما بعث عليه السلام الرجل إلى المدينة، أن لا يدع فيها صورة إلا لطخها، صريح في التي لم تكن مجسدة، فالطمس لا يزيل المجسد؛ وأيضا الرسول عليه السلام فرق بين الكسر واللطخ.
الدليل السابع: حديث أسامة، حيث دعا عليه السلام بدلو من ماء فجعل يمحوها; وجه الدلالة: أنها لو كانت مجسدة لم يزلها الماء، وهذا معروف لدى كل عاقل مريد
__________
1 مسلم: الجنائز (969) , والترمذي: الجنائز (1049) , والنسائي: الجنائز (2031) , وأبو داود: الجنائز (3218) , وأحمد (1/96).(22/308)
ص -309- ... للحق;
الدليل الثامن: حديث الفضل بن العباس، والحجة فيه كالذي قبله.
الدليل التاسع: حديث صفية، وحديث الفضل الآخر: لما جاء بماء زمزم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بثوب فبلّ بالماء، فأمر بطمس الصور; ومن المعروف والمتقرر: أنها لو كانت مجسدة لم يزلها الماء القليل الموجود في الثوب.
يوضحه: أن الصور الموجودة في الكعبة على جدرانها، معمولة بالنقوش والأصباغ، بدليل ما قاله أحمد تيمور باشا، في كتابه "التصوير عند العرب" قال فيه: وكان التصوير على الجدران معروفا عند العرب في الجاهلية والإسلام، وكانت الكعبة المكرمة مصورة الجدران، فلما فتحت مكة أزيلت تلك الصور.
الدليل العاشر: حديث شيبة حين أمره عليه السلام بإزالتها، واقترح عليه من حضر أن يطلاها بزعفران، وهذا واضح، فلو كانت مجسدة لم يكتف بذلك.
الدليل الحادي عشر: معلوم أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن إضاعة المال، فلو كانت الصورة التي لم تكن مجسدة مباحة، لم يأمر عليه السلام بإتلافها، وإتلاف ما هي فيه أو إفساده.
الدليل الثاني عشر: إنكار أبي هريرة للصور التي رآها في دار مروان، بدليل ما قاله القسطلاني في إرشاد الساري، على حديث أبي هريرة، قال: وظاهره يتناول ما له(22/309)
ص -310- ... ظل وما ليس له ظل، فلذا أنكر أبو هريرة ما نقش في سقف الدار; انتهى.
وأما ما ورد: "إلا رقما في ثوب" فأجاب عنه النووي، قائلا: وجوابنا وجواب الجمهور عنه: أنه محمول على رقم على صورة الشجر وغيره، مما ليس بحيوان.
وقد قدمنا أن هذا جائز عندما أجاب عنه ابن العربي المالكي، بأنه منسوخ بأحاديث المنع، وأجاب عنه كثير من العلماء: بأنه محمول على ما إذا كان الرقم في ثوب أو بساط، أو نحو ذلك مما يداس ويمتهن.
وللصور والتصاوير عقوبات في الدنيا والآخرة؛ فمن عقوبات ذلك: منع دخول الملائكة للبيت الذي فيه صورة، الذين دخولهم رحمة وبركة وطمأنينة وأنس، وفي الآخرة الوعيد الشديد، والعذاب الأكيد.
وإليك أيها الأخ النبيل ما قاله الفطاحلة من العلماء، الذين هم القدوة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
فمن ذلك: ما قاله الإمام النووي، في المجلد السابع من شرح مسلم: قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: تصوير صورة الحيوان، حرام شديد التحريم، وهو من الكبائر، لأنه متوعد عليه بهذا الوعيد الشديد المذكور في الأحاديث.
وسواء صنعه بما يمتهن أو بغيره، فصنعته حرام بكل حال، لأن فيه مضاهاة لخلق الله تعالى; وسواء ما كان في(22/310)
ص -311- ... ثوب أو بساط، أو درهم أو دينار، أو فلس، أو إناء، أو حائط، أو غيرها.
وأما تصوير صورة الشجر ورحال الإبل، وغير ذلك مما ليس فيه صورة حيوان، فليس بحرام، هذا حكم نفس التصوير.
وأما اتخاذ المصور فيه صورة حيوان، فإن كان معلقا على حائط، أو ثوبا ملبوسا، أو عمامة ونحو ذلك مما لا يعد ممتهنا، فهو حرام، إلى أن قال: ولا فرق في هذا كله، بين ما له ظل وما لا ظل له، هذا تلخيص مذهبنا في المسألة. وبمعناه قال جماهير العلماء، من الصحابة والتابعين ومن بعدهم; وهو مذهب الثوري، ومالك، وأبي حنيفة، وغيرهم.
وقال بعض السلف: إنما ينهى عما كان له ظل، ولا بأس بالصور التي ليس لها ظل، وهذا مذهب باطل; فإن الستر الذي أنكر النبي صلى الله عليه وسلم الصورة فيه، لا يشك أحد أنه مذموم، وليس لصورته ظل، مع باقي الأحاديث المطلقة في كل صورة.
وقال الزهري: النهي في الصورة على العموم، وكذلك استعمال ما هي فيه، ودخول البيت الذي هي فيه، سواء كانت رقما في ثوب أو غير رقم، وسواء كانت في حائط أو ثوب أو بساط، ممتهن أو غير ممتهن، عملا بظاهر الأحاديث. انتهى.(22/311)
ص -312- ... وقال ابن حجر في فتح الباري، على حديث ابن عباس، قلت: ويؤيد التعميم فيما له ظل، وفيما لا ظل له، ما أخرجه أحمد من حديث علي، ثم ساق الحديث المتقدم.
وقال ابن حجر أيضا: وصحح ابن العربي أن الصورة التي لا ظل لها إذا بقيت على هيئتها حرمت، سواء مما كانت يمتهن أم لا؛ وإن قطع رأسها أو مزقت هيئتها جاز.
وقال الحافظ أيضا، في شرح حديث عائشة: قال ابن بطال: في هذا الحديث دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم كان ينقض الصورة، سواء كانت مما له ظل أم لا، وسواء كانت مما توطأ أم لا، سواء في الثياب، وفي الحيطان وفي الفرش، والأوراق وغيرها. انتهى.
وقال القسطلاني على حديث أبي هريرة المتقدم: وظاهره يتناول ما له ظل، وما ليس له ظل؛ فلذا أنكر أبو هريرة ما نقش في سقف الدار، وقال القسطلاني في موضع آخر: ويحرم تصوير حيوان على الحيطان، والسقوف، والأرض، ونسج الثياب. انتهى.
وقال الذهبي رحمه الله: وأما الصور فهي كل مصور من ذوات الأرواح، سواء كانت لها أشخاص منتصبة، أو كانت منقوشة في سقف، أو جدار، أو موضوعة في نمط، أو منسوجة في ثوب أو مكان; فإن قضية العموم تأتي عليه،(22/312)
ص -313- ... فليجتنب; ويجب إتلاف الصور لمن قدر على إتلافها، أو إزالتها. انتهى.
وقال الشوكاني على حديث ابن عباس: وظاهر قوله: كل مصور، وقوله: بكل صورة صورها، أنه لا فرق بين المطبوع في الثياب، وبين ما له جرم مستقل، ويؤيد ذلك ما في حديث عائشة المتقدم.
إلى أن قال: فهذه الأحاديث قاضية بعدم الفرق بين المطبوع من الصور والمستقل لأن اسم الصورة صادق على الكل، إذ هي كما في كتب اللغة: الشكل، وهو يقال لما كان منها مطبوعا على الثياب شكلا. انتهى.
وقال صديق، رحمه الله، في السراج الوهاج، على حديث ابن عباس: وهذا الحديث في معناه يدل على تحريم تصوير الحيوان، وهو حرام شديد التحريم، وهو من الكبائر؛ وسواء صنعه بما يمتهن أو بغيره، فصنعته حرام بكل حال.
إلى أن قال: ومن أشراط الساعة القريبة، عموم البلوى بالتصوير في هذا العصر، حتى لم يبق شيء من المآكل والمشارب، والأثواب، والمراكب، وكل شيء يستعمله الإنسان، من كتب، وأواني، ودراهم، ودنانير، وغيرها، وتعذر الاحتراز عنها، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وقال المعصومي في عقد الجوهر الثمين: إن تصوير(22/313)
ص -314- ... صور الحيوانات ذوات الأرواح حرام وكبيرة، فلا يجوز فعله، سواء كانت مجسمة أو منقوشة، صنعها باليد أو بمكينة فوتوغرافيا؛ وأما تمثيل صور الأشجار وغير ذي الروح، فلا بأس، وإن كان الأولى الترك.
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز بعدما ذكر بعض الأحاديث الواردة في هذا الموضوع: وهذه الأحاديت وما جاء في معناها، دالة دلالة ظاهرة على تحريم التصوير لكل ذي روح، وأن ذلك من كبائر الذنوب المتوعد عليها بالنار.
وهي عامة لأنواع التصوير، سواء كان للصورة ظل أم لا، وسواء كان التصوير في حائط أو ستر، أو قميص، أو مرآة، أو قرطاس، أو غير ذلك، إلى آخر كلامه، حفظه الله 1.
وما سمعت من الأحاديث والأدلة، وكلام العلماء سابقا، هو الذي يشفي العليل، ويروي الغليل، لمن تخلى عن التعصب والهوى، لا بكلام فلان وفلتان وعلان، الذين كلامهم لا يروي ولا يجدي، ويزيد الطين بلة، ويلصق بالشك شكوكا.
فعلى المسلم الناصح لنفسه أن يحارب الصور في قوله وفعله واعتقاده، ويجب إتلاف ما قدر عليه منها، لأنها معصية ومنكر، وإنكار المنكر واجب; وعليه أن لا يدع شيئا
__________
1 في الجواب المفيد في حكم التصوير.(22/314)
ص -315- ... منها يدخل مسكنه، وإن عمت البلوى بشيء منها، فيجتهد في إزالتها أو طمسها، لأن التصوير معصية، وإقرارها في البيت رضى، والرضى بالمعصية معصية، ومن يتق الله يجعل له مخرجا.
ومما يؤسف له أن الكثير من أبناء المسلمين فتنوا بالمجلات والمصورات الخليعة الماجنة الداعرة، والتي فيها السموم القتالة، وفي طياتها الشرور الكامنة.
فيجب على أهل الحل والعقد والمسؤولية، وبالأخص علمائنا الأفاضل أن يسعوا جهدهم مبادرين بمنعها عن دخول المملكة، وعن بيعها في الأسواق جهارا، لأن ضررها على الدين والمجتمعات الإسلامية عظيم جدا.
ولا شك أنها من الجيوش الغربية التي غزتنا في عقر ديارنا، ونحن لم نحرك ساكنا من سياسة المبشرين للنصرانية، الذين يكيدون للعرب ودينهم، لأنهم يعرفون أنها تغير الأخلاق؛ وإذا تغيرت الأخلاق، ضعف الدين، وإذا ضعف الدين، حصل مقصودهم أو بعضه.
ومن المعلوم أن الأمة بدينها وأخلاقها الإسلامية السامية أولا، وباستعدادها بالقوة ثانيا، وإذا ضعف الدين، فقل على الأمة السلام. هذا ما تيسر, ولو استقصينا الأحاديث وكلام العلماء في هذه المسألة، لاستدعى ذلك سفرا، ولكن المقام يحتم الاختصار، وفيما(22/315)
ص -316- ... ذكرناه كفاية، والحمد لله.
لذا نوقف القلم عن جريانه، والله الهادي إلى سواء السبيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل. 1
[ قول الشيخ عبد الله بن سليمان بن حميد في صور ذوات الأرواح الموجودة في السيارات والمجلات]
وقال الشيخ: عبد الله بن سليمان بن حميد، رحمه الله: 2
ومن المنكرات الظاهرة: صور ذوات الأرواح الموجودة في السيارات والمجلات وغيرها، فقد جاء الوعيد الشديد، في عظم وزر المصورين.
قال صلى الله عليه وسلم: "إن الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم" 3، وقال صلى الله عليه وسلم: "أشد الناس عذابا عند الله، الذين يضاهئون بخلق الله" 4.
وقالت عائشة رضي الله عنها "سترت سهوة لي بقرام فيه تماثيل، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم تلون وجهه، قالت: فقطعناه" 5 وفي رواية: (ثم تناول الستر فهتكه).
وفي رواية: (قام على الباب ولم يدخل، فعرفت في وجهه الكراهة، فقلت: يا رسول الله أتوب إلى الله ورسوله; وقال: "إن البيت الذي فيه صور لا تدخله الملائكة" 6
وقد ورد الأمر بإتلافها، وطمسها إذا وجدت، فمنها
__________
1 وللشيخ صالح البيلهي أيضا مقال آخر نشر في مجلة الدعوة في شهر 7/1409 هـ, رد فيه على جريدة عكاظ.
2 في الأربع الرسائل المفيدة.
3 البخاري: اللباس (5951) , ومسلم: اللباس والزينة (2108) , والنسائي: الزينة (5361) , وأحمد (2/20 ,2/55 ,2/141).
4 البخاري: اللباس (5954) , والنسائي: الزينة (5356) , وأحمد (6/36).
5 البخاري: اللباس (5954) , ومسلم: اللباس والزينة (2107) , والنسائي: الزينة (5357) , وأحمد (6/86).
6 البخاري: النكاح (5181) , ومسلم: اللباس والزينة (2107) , وأحمد (6/246) , ومالك: الجامع (1803).(22/316)
ص -317- ... قوله صلى الله عليه وسلم لعلي: "أن لا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبرا مشرفا إلا سويته" 1، وقول علي لأبي الهياج: "ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أن لا تدع صورة إلا طمستها ولا قبرا مشرفا إلا سويته" 2.
والأحاديث في تحريم الصور، والوعيد الشديد على المصورين والمتخذين لها، كثيرة.
قال العلماء رحمهم الله: سبب امتناع الملائكة من دخول البيت الذي فيه صورة: كونها معصية، وفيها مضاهاة لخلق الله، وبعضها في صورة ما يعبد من دون الله؛ فالمراد بالملائكة: ملائكة الرحمة والبركة والاستغفار.
فالصور حرام بكل حال، سواء كانت الصورة في ثوب، أو بساط، أو درهم، أو دينار، أو فلس، أو إناء، أو حائط، أو غيرها; وسواء ما له ظل، أو ما لا ظل له.
ويؤيد التعميم: ما أخرجه الإمام أحمد، من حديث علي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيكم ينطلق إلى المدينة فلا يدع بها وثنا إلا كسره، ولا صورة إلا لطخها" 3 أي: طمسها، الحديث.
قال النووي: الأظهر أنه عام في كل صورة، لإطلاق الأحاديث، وأن الصور التي في المجلات، وعلى السيارات وغيرها، من ذوات الأرواح هي: منكر مما يجب على المسلمين إزالته.
__________
1 مسلم: الجنائز (969) , والترمذي: الجنائز (1049) , والنسائي: الجنائز (2031) , وأبو داود: الجنائز (3218) , وأحمد (1/96 ,1/128 ,1/145).
2 مسلم: الجنائز (969) , والترمذي: الجنائز (1049) , والنسائي: الجنائز (2031) , وأبو داود: الجنائز (3218) , وأحمد (1/96 ,1/128 ,1/145).
3 أحمد (1/87).(22/317)
ص -318- ... وقرر العلماء: أنه يجب على من رأى الصور كسرها، ولا غرم ولا ضمان عليه; وإذا لم يقدر لضعفه، أو لخوفه فتنة، وجب عليه رفع خبرها إلى ولي الأمر، ولا تبرأ ذمته إلا بذلك.
[ قول الشيخ عبد الرحمن بن فريان فيما ظهر وانتشر من التصوير لذوات الأرواح ]
وقال الشيخ: عبد الرحمن بن عبد الله بن فريان، وفقه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد: فإن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وإن الله عز وجل يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [سورة المائدة آية: 2] والبر هو: فعل الطاعات; والتقوى: ترك المعاصي; وقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة آل عمران آية: 110].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة. قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم" 1.
__________
1 مسلم: الإيمان (55) , والنسائي: البيعة (4197) , وأبو داود: الأدب (4944) , وأحمد (4/102).(22/318)
ص -319- ... وقال أيضا في الحديث الصحيح: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" 1، ويروى في الحديث الآخر: "من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم".
ونحن نرى اليوم - مع الأسف الشديد - ضعف التعاون بين المسلمين، على الطرق الخيرية، وقلة التناصح من بعضهم لبعض، بل صار الأمر بالعكس؛ حتى فشت المنكرات، وكثرت المجاملات، والمداهنات.
ترى الكثير منا يمدح الإنسان بما ليس فيه، ويقره على مخالفته للسنة، لأجل الثناء الفاشل، ولأغراض دنيوية، وتقديم رضى الناس، وضعف المحبة والدين، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
كيف تحولت الحال إلى هذه الغاية، وهذا الحد والنهاية؟! وقد تساهل بعض الناس بالنصوص الشرعية، التي تطبيقها هو صلاح البرية، وإهمالها هو عين الهلاك; قال الإمام مالك، رحمه الله: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها.
وإنه قد ساءنا ما قد ظهر بين المسلمين، وانتشر وكثر، وهو داء عظيم يجب علاجه، وهو: التصوير لذوات الأرواح؛ وقد كان بسببه حدث الشرك الأكبر في بني آدم، كما جاء في الأثر. فما هو العلاج لمكافحة هذا الداء؟
أيها المسلمون، هذا الداء القتّال، ولست أريد أنه يقتل
__________
1 البخاري: الإيمان (13) , ومسلم: الإيمان (45) , والترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2515) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5016) , وأحمد (3/272) , والدارمي: الرقاق (2740).(22/319)
ص -320- ... الجسد، ولكن يقتل الدين، وقد نهت عنه النصوص الشرعية، وحذرت منه، ولعنت فاعله.
فقل لي بالله واصدق أيها المسلم، هل يجوز الرضى بمعصية رب العالمين؟ وقد علم من الشرع الشريف، أن الراضي بالمعصية كفاعلها، وأن السكوت مع القدرة دليل الرضى.
وقد ضلت قوم نوح عليه السلام، وحدث فيهم الشرك، بسبب التصوير، فهو من وسائل الشرك وذرائعه، قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى:?"{وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} [سورة نوح آية: 23]:( هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، لما هلكوا صور قومهم صورهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم".
وقال أيضا: (كانت عشرة قرون بين آدم ونوح عليه السلام، كلهم على شريعة من الحق، فاختلفوا، فبعث الله نبيه نوحا عليه السلام، يدعوهم إلى التوحيد).
وقد ترجم الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله في كتاب التوحيد، بابا في هذا الشأن، فقال: باب ما جاء في المصورين; وذكر بعض النصوص الواردة في ذلك.
منها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى:?
"ومن أظلم ممن ذهب(22/320)
ص -321- ... يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة" 1 رواه البخاري ومسلم.
وعن عائشة رضي الله عنها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "أشد الناس عذابا يوم القيامة، الذين يضاهئون بخلق الله" 2 متفق عليه.
ولهما عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من صور صورة في الدنيا، كلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ" 3.
وروى مسلم في صحيحه عن أبى الهياج الأسدى، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال له: "ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أن لا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبرا مشرفا إلا سويته" 4.
فكيف: أيها المسلمون هذه الأحاديث النبوية، وهذه المنشورات السماوية، تأمرنا بما ينفعنا، وتنهانا عن ما يضرنا، وتأمر بطمس الصور إذا وجدت، من أي شيء كانت على العموم ولم تفرق بين ما كان مجسدا له ظل، وبين ما ليس كذلك، من المنقوشة، والمكتوبة، والمخيوطة، والتصوير الضوئي، وحبس الظل الفوتوغرافي، وغير ذلك; لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطي جوامع الكلم، وبعث إلى الناس كافة، كما جاء في الحديث.
__________
1 البخاري: التوحيد (7559) , ومسلم: اللباس والزينة (2111) , وأحمد (2/232).
2 البخاري: اللباس (5954) , وأحمد (6/36).
3 البخاري: التعبير (7042) , ومسلم: اللباس والزينة (2110) , والنسائي: الزينة (5358) , وأحمد (1/241 ,1/246 ,1/350).
4 مسلم: الجنائز (969) , والترمذي: الجنائز (1049) , والنسائي: الجنائز (2031) , وأبو داود: الجنائز (3218) , وأحمد (1/96 ,1/128).(22/321)
ص -322- ... ولا تغتر أيها المسلم بمن تنطع بمعسول الكلام، وقام يحلل ويحرم، بغير دليل ولا برهان، بل بمجرد الرأي والهذيان، من بعض متعلمة هذه الأزمان، وأجاز الصور الضوئية، وجعل المنع خاصا بما له أجسام، سبحان الله! من أين هذا التفريق؟ ولم يجئ لا في سنة ولا قرآن.
وقال ابن القيم رحمه الله:
العلم قال الله قال رسوله ... قال الصحابة هم أولو العرفان
ومنتهى أمر هذا المغالط أنه لا يرى منع حتى الصور المجسدة; ويقول: هذه لعب أطفال، ونحو ذلك من الأعذار الباردة، التي غايتها إلغاء النصوص الشرعية، التي جاءت عن خير البرية، والعياذ بالله.
بل: لو تنزّلنا مع المحلل للصور الضوئية جدليا، فيقال له: أليست علة المضاهاة بخلق الله، وعلة التعظيم موجودتين في الجميع؟
والله يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [سورة الحشر آية: 7].
بل لا يستقيم الإسلام إلا بتحكيمه صلى الله عليه وسلم وطاعته واتباعه، ويقول صلى الله عليه وسلم:"إني أوتيت القرآن ومثله معه" 1 يعني: السنة.
بل على الرغم أنه جاء التنصيص على غير المجسدة، والتحذير منه، كما في قصة الستر الذي هتكه صلى الله عليه وسلم وتغير
__________
1 أبو داود: السنة (4604) , وأحمد (4/130).(22/322)
ص -323- ... وجهه لما رآه، فقطعته عائشة، رضي الله عنها، بعد أن كانت قد جعلته سترا على الطاق النافذ في الحائط؛ وذلك مبادرة منها رضي الله عنها لما يرضي الله ورسوله.
وكذلك قصة دخوله صلى الله عليه وسلم الكعبة عام الفتح، لما رأى صورة إبراهيم وإسماعيل، قد صورهما المشركون في جدار الكعبة، فحكّها صلى الله عليه وسلم وقال عند ذلك: "قاتل الله المشركين، والله ما استقسما بالأزلام قط" 1؛ ثم دعا بماء فغسلها.
هذا حكمه صلى الله عليه وسلم في المكتوبة، والمنسوجة، وذلك قوله في المصورين؛ فما بال هذه الصور قد وجدت بيننا بكثرة، في بلدان المسلمين؟!
أين أوامر الإسلام ونواهيه؟! أين التطبيق لأوامر الشرع؟! قد صار الأمر إلى هذه الغربة، والمصورون قد فتحوا محلات للتصوير، بدون خجل أو حياء.
وأعظم من هذا وأطم: إدخاله في التعليم، والنداء على المصورات بالبيع في المكاتب، والدور، والأسواق; بل بعض الناس يحمل معه آلة التصوير بجيبه، ويصور كلما أراد. فقد سهلت يا عباد الله طرق الفساد، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
فيجب على المسلمين إنكار هذا المنكر، ولا يجوز لهم السكوت، ولا يغتر بفشوه ورواجه؛ فإن المنكر هو بحاله
__________
1 أحمد (1/365).(22/323)
ص -324- ... منكر، كما هو في الشرع. ولا يحلله كثرته ورواجه، ولا محبة البعض وارتكابه.
فإن بعض البلدان المجاورة، قد رأت ذلك ضروريا وأمرت به، وأجبرت عليه، وليس الأمر كذلك؛ فإن الناس لم يكونوا ضائعين قبل وجود هذه المعصية، من أول الرسل إلى آخرهم، وقبلهم وبعدهم؛ بل حصل الضياع والتلاعب، بعدما أهملت الأوامر السماوية.
فإنه لو كان في هذا الأمر خير، لأمر به خير البرية، قال صلى الله عليه وسلم: "لقد تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك" 1. فالله المستعان.
فإذا أجبر الإنسان على شيء من ذلك، فإثمه على من أجبره، بشرط أن يكون كارها لذلك، فلا يصلي بالصورة معه، ولا ينصبها في مجلسه; وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب أو صورة" 2.
ولكن الآن انعكست الحال، وصارت بعض البيوت ملآنة من الصور والكلاب; وإذا نفرت الملائكة من البيوت، قرت بها الشياطين، فقلَّ أن تجد في بعض البلدان المجاورة، بيت ثري ورئيس، إلا وعنده الكلاب، تأكل معه- نسأل الله العافية في الدنيا والآخرة -؛ وهذه حالة الإفرنج، ومن تشبه بهم.
فيا عباد الله، إن أعداءكم بذلوا أسبابهم لإفساد دينكم،
__________
1 سنن ابن ماجه: كتاب المقدمة (5 ,44) , ومسند أحمد (4/126).
2 البخاري: بدء الخلق (3225) , ومسلم: اللباس والزينة (2106) , والترمذي: الأدب (2804) , والنسائي: الصيد والذبائح (4282) والزينة (5347 ,5348) , وابن ماجه: اللباس (3649) , وأحمد (4/29 ,4/30).(22/324)
ص -325- ... وإفساد شبيبتكم، فبادروا لإنكار المنكرات، والتعاون على الخيرات، قبل أن تحل عليكم العقوبات.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [سورة الرعد آية: 11] وقال: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [سورة الأنفال آية: 25].
وفي الحديث: "إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه، أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده" 1 فجدِّدوا توبة صالحة، قبل هجوم الأجل.
هذه نصيحة لكم بذلناها، فإن قبلتموها فذلك المطلوب، وإلا فتبرأ الذمة، وهداية القلوب بيد علام الغيوب. وفق الله المسلمين، وولاة أمورهم، للخير; وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم.
__________
1 ابن ماجه: الفتن (4005).(22/325)
ص -326- ... [ قول الشيخ حمود التويجري في صناعة الصور وبيعها واقتنائها ]
وقال الشيخ: حمود بن عبد الله التويجري، رحمه الله. 1
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله المتفرد بالخلق، والتدبير، الذي أتقن كل شيء خلقه، وصور فأحسن التصوير، تعالى أن يكون له شريك أو نظير، ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلق الله، وهو عن الإيجاد عاجز حقير، لا يقدر على خلق ذرة، أو بعوضة، ولا حبة من شعير.
وهو مع ذلك ينازع الله فيما اختص به من التصوير، فويل للمصورين من عذاب السعير، فكل مصور في النار، كما أخبر بذلك البشير النذير; ومن أمر بالتصوير، أو رضي به، فهو شريك لفاعل هذا الذنب الكبير.
أما بعد: فقد قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً} [سورة الأحزاب آية: 57], قال عكرمة: نزلت في المصورين، ذكره البغوي، وابن كثير; ورواه أبو نعيم في الحلية، وفي هذه الآية على هذا التفسير أبلغ تحذير من التصوير.
ومثل ذلك ما في الأحاديث الصحيحة; وقد عظمت البلوى بصناعة الصور، وبيعها وابتياعها، وافتتن باقتنائها،
__________
1 في كتابه: "إعلان النكير على المفتونين بالتصوير" في سنة 1382 هـ.(22/326)
ص -327- ... واقتناء الجرائد والمجلات، والكتب التي فيها ذلك، كثير من المنتسبين إلى العلم، من معلمين ومتعلمين، فضلا عن غيرهم.
وصار نصبها في المجالس والدكاكين عادة مألوفة عند كثير من الناس، ومن أنكر ذلك عليهم، أو أنكر صناعتها، فأقل الأحوال أن يستهزئوا به، ويهمزوه، ويلمزوه.
وهذا دليل على استحكام غربة الإسلام، وظهور الجهل بما بعث الله به رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم وما أمر به من هدم الأوثان، وكسر الأصنام والصلبان، وطمس الصور، ولطخها، فالله المستعان.
وهذا المنكر الذميم - أعني: صناعة الصور ونصبها في المجالس وغيرها - موروث عن قوم نوح، ثم عن النصارى من بعدهم، وكذلك عن مشركي العرب؛ فإنهم كانوا يصنعون الصور، وينصبونها، ولكن كان عملها واتخاذها قليل، عند مشركي العرب، بالنسبة إلى النصارى.
وقد صور مشركو قريش في جوف الكعبة صورا، منها صورة إبراهيم، وإسماعيل، وصورة مريم في حجرها عيسى عليهم الصلاة والسلام; فالمصورون من هذه الأمة متشبهون بقوم نوح، وبالنصارى وبمشركي العرب.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من تشبه بقوم فهو(22/327)
ص -328- ... منهم" 1 رواه الإمام أحمد، وأبو داود وغيرهما من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وصححه ابن حبان.
وقال شيخ الإسلام أبو العباس بن تيمية، رحمه الله تعالى: إسناده جيد، قال شيخ الإسلام: وقد احتج الإمام أحمد وغيره بهذا الحديث; قال: وهذا الحديث أقل أحواله أنه يقتضي تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم، كما في قوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [سورة المائدة آية: 51]. انتهى.
وفي جامع الترمذي، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس منا من تشبه بغيرنا" 2.
وقال البخاري في صحيحه: حدثنا إبراهيم بن موسى أخبرنا هشام، عن ابن جريج، وقال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: صارت الأوثان التي في قوم نوح في العرب بعد.
أما ودُّ فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع فكانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد، ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع.
أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا، أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا فلم
__________
1 أبو داود: اللباس (4031).
2 الترمذي: الاستئذان والآداب (2695).(22/328)
ص -329- ... تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت; فهذا ما آل إليه أمر الصور في قوم نوح، فمن بعدهم من المشركين.
وأما النصارى فكانوا يعبدون الصور التي لا ظل لها، كما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: أن أم حبيبة وأم سلمة رضي الله عنهما، ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة، فيها تصاوير، فذكرتا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح، فمات، بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصور، فأولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة" 1.
وأعظم من ذلك: أنه قد اتخذ نصب صور بعضهم وسيما في كثير من المجالس الرسمية في زماننا، وهذا عين المحادة لله تعالى، ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد قال الله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ} [سورة التوبة آية: 63].
وما يفعله هؤلاء العصاة من تصوير الكبراء، ونصب صورهم في المجالس وغيرها لا يشك عاقل شم أدنى رائحة من العلم النافع، أنه مثل ما فعلة قوم نوح، من تصوير الصالحين، ونصب صورهم في المجالس، سواء بسواء، ومثل ما فعله النصارى من تصوير القديسين عندهم، ونصب صورهم في الكنائس والمجالس سواء بسواء; وهذا
__________
1 البخاري: الصلاة (427) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (528) , والنسائي: المساجد (704) , وأحمد (6/51).(22/329)
ص -330- ... مصداق قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها، شبرا بشبر، وذراعا بذراع" 1.
وما وقع من قوم نوح، والنصارى، وغيرهم، من الشرك الأكبر، بسبب الصور، لا يبعد أن يقع مثله في آخر هذه الأمة.
فالواجب على ولاة أمور المسلمين، أن يمنعوا رعاياهم من صناعة التصاوير، واتخاذها، وأن يطمسوا ما يوجد منها، عملا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم لعلى رضي الله عنه: "لا تدع صورة إلا طمستها" 2.
وقد أخبر الله تبارك وتعالى، عن خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام، أنه قال: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [سورة إبراهيم آية: 35]. فإذا كان خليل الرحمن إمام الحنفاء، ووالد من بعده من الأنبياء، قد خاف عليه، وعلى بنيه من عبادة الأصنام، مع أنه قد كسرها بيده، ومع أنه كان معصوما عن عبادتها، فكيف لا يخاف عبادتها من ليس بمعصوم؟! ولهذا قال إبراهيم التيمي: ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم، رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
ومن أعظم أسباب البلاء: نصب الصور في المجالس، والدكاكين، وغيرها، مما قد افتتن به كثير من الناس، في هذه الأزمان، والصور داخلة في مسمى الأصنام عند أهل
__________
1 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة (7319) , وأحمد (2/325 ,2/336 ,2/367).
2 مسلم: الجنائز (969) , والترمذي: الجنائز (1049) , والنسائي: الجنائز (2031) , وأبو داود: الجنائز (3218) , وأحمد (1/96 ,1/128).(22/330)
ص -331- ... اللغة، فتدخل فيما دعا إبراهيم ربه أن يجنبه وبنيه عبادتها.
قال ابن الأثير: قد تكرر ذكر الصنم والأصنام، وهو: ما اتخذ إله من دون الله; وقيل: هو ما كان له جسم أو صورة، فإن لم يكن له جسم أو صورة فهو وثن.
وقال أيضا: الفرق بين الوثن والصنم، أن الوثن كل ما له جثة معمولة من جواهر الأرض، أو من الخشب والحجارة، كصورة الآدمي، تعمل وتنصب فتعبد، والصنم الصورة بلا جثة; ومنهم من لم يفرق بينهما، وأطلقهما على المعنيين.
وقد يطلق الوثن على غير الصورة، ومنه حديث عدي بن حاتم: "قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب، فقال لي: ألق هذا الوثن عنك" 1.
وذكر الشيخ حمود أيضا تحريم ما يصنع من المطاط على صور النساء، وقال: وقد تواترت الأدلة على تحريم التصوير، ومشروعية طمس الصور، وفيها: الوعيد الشديد للمصورين، والإخبار بأن الملائكة، لا تدخل بيتا فيه صورة.
وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله عز وجل: ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقا كخلقي؟ فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة" 2.
قال النووي رحمه الله تعالى: قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: تصوير صورة الحيوان حرام شديد التحريم، وهو
__________
1 الترمذي: تفسير القرآن (3095).
2 البخاري: التوحيد (7559) , ومسلم: اللباس والزينة (2111) , وأحمد (2/232).(22/331)
ص -332- ... من الكبائر، لأنه متوعد عليه بهذا الوعيد الشديد، المذكور في الأحاديث، وسواء صنعه بما يمتهن أو بغيره.
فصنعته حرام بكل حال، لأن فيه مضاهاة لخلق الله، وسواء ما كان في ثوب أو بساط، أو درهم أو دينار أو فلس، أو إناء، أو حائط وغيرها; قال: ولا فرق في هذا كله بين ما له ظل، وما لا ظل له، هذا تلخيص مذهبنا في المسألة.
وبمعناه، قال جماهير العلماء، من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وهو مذهب الثوري، ومالك، وأبي حنيفة وغيرهم، وذكر حديث النمرقة، وما رواه النسائي وابن ماجه، ومنه: "إن أصحاب الصور يعذبون يوم القيامة، ويقال لهم أحيوا ما خلقتم" 1.
وعن عائشة رضي الله عنها: "إن أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهئون الله في خلقه" 2 وله حكم الرفع.
وذكر أنه لا فرق في تحريم التصوير، بين أن تكون الصور مجسدة أو غير مجسدة، لأن الذي أنكره النبي صلى الله عليه وسلم كان غير مجسد; ثم ذكر خبر علي: "لا تدع صورة إلا طمستها" 3.
وقال الحافظ بن حجر في الكلام على حديث النمرقة: يستفاد منه: أنه لا فرق في تحريم التصوير بين أن تكون الصورة لها ظل أو لا، ولا بين أن تكون مدهونة أو منقوشة،
__________
1 البخاري: النكاح (5181) , ومسلم: اللباس والزينة (2107) , وأحمد (6/246) , ومالك: الجامع (1803).
2 البخاري: اللباس (5954) , وأحمد (6/36).
3 مسلم: الجنائز (969) , والترمذي: الجنائز (1049) , والنسائي: الجنائز (2031) , وأبو داود: الجنائز (3218) , وأحمد (1/96 ,1/128).(22/332)
ص -333- ... أو منقورة، أو منسوجة، خلافا لمن استثنى النسج، وادعى أنه ليس بتصوير.
وقرر الإمام أبو العباس بن تيمية، رحمه الله تعالى: تغيير الصورة المجسمة وغير المجسمة، قال: وكل ما كان من العين، أو التأليف المحرم، فإزالته وتغييره متفق عليها بين المسلمين.
قال الخطابي: وأما الصورة فهي كل صورة من ذوات الأرواح، كانت لها أشخاص منتصبة، أو كانت منقوشة في سقف أو جدار، أو مصنوعة في نمط، أو منسوجة في ثوب، أو ما كان; فإن قضية العموم تأتي عليه، فليجتنب.
قال النووي، قال العلماء: سبب امتناعهم من بيت فيه صورة، كونها معصية فاحشة، وفيها مضاهاة لخلق الله تعالى، وبعضها في صورة ما يعبد من دون الله تعالى؛ فعوقب متخذها بحرمانه دخول الملائكة بيته، وصلاتها فيه، واستغفارها له، وتبريكها عليه، وفي بيته، ودفعها أذى الشيطان.
وذكر حديث: "الذين يصنعون هذه الصور، يعذبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم" 1، وحديث: "أشد الناس عذابا عند الله يوم القيامة: المصورون" 2.
قال الخطابي: إنما عظمت عقوبة المصور، لأن الصور كانت تعبد من دون الله، ولأن النظر إليها يفتن، وبعض
__________
1 البخاري: اللباس (5951) , ومسلم: اللباس والزينة (2108) , والنسائي: الزينة (5361) , وأحمد (2/20 ,2/55).
2 البخاري: اللباس (5950) , ومسلم: اللباس والزينة (2109) , والنسائي: الزينة (5364) , وأحمد (1/375).(22/333)
ص -334- ... النفوس إليها تميل. وذكر حديث: "من صور صورة كلف يوم القيامة، أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ" 1، وحديث: "لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة ولا كلب" 2.
وقال: لا فرق بين الصور المجسدة، وغير المجسدة، فكل منها مانع من دخول الملائكة، كما تدل على ذلك عمومات الأحاديث.
وقال: والصحيح أن المحذور في الصورة الرأس وحده، نص عليه أحمد، لاشتماله على الوجه الذي هو أشرف الأعضاء.
__________
1 البخاري: اللباس (5963) , ومسلم: اللباس والزينة (2110) , والترمذي: اللباس (1751) , والنسائي: الزينة (5358) , وأحمد (1/246 ,1/350).
2 البخاري: بدء الخلق (3225) , ومسلم: اللباس والزينة (2106) , والترمذي: الأدب (2804) , والنسائي: الصيد والذبائح (4282) والزينة (5347 ,5348) , وابن ماجه: اللباس (3649) , وأحمد (4/29 ,4/30).
الباب السادس: حلق اللحى
وهو محرم بالسنة والإجماع، مخالف للعقل والفطرة والنظر؛ جعلها الله جمال الرجال، تحتفظ بها العرب في الجاهلية والإسلام، وتعتز بها، حتى إن من رؤسائهم من لم ينبت له لحية إلا شعيرات قليلة، فقالت بعض قبيلته: وددنا أن لو اشترينا لك لحية بألفي دينار.
وقد جرى من طائفة ما يوجب التعزير، فسودوا وجوههم، وأرادوا حلق لحاهم تعزيرا، فقال أهل العلم: لا يجوز التعزير بحلقها، لأنه معصية.(22/334)
ص -335- ... وبسبب الاختلاط بالمنحلين: كثر حلقها رغبة في التخنث، والتشبه بالنساء، مع ما في ذلك من النهي عن حلقها.
فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما وغيرهما، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "خالفوا المشركين وفروا اللحى واحفوا الشوارب" 1 ولهما عنه أيضا: "احفوا الشوارب واعفوا اللحى".
وفي رواية: "أنهكوا الشوارب واعفوا اللحى" واللحية اسم للشعر النابت على الخدين والذقن، قال ابن حجر: وفِّروا بتشديد الفاء، من التوفير، وهو: الإبقاء، أي: اتركوها وافرة، وإعفاء اللحية تركها على حالها.
ومخالفة المشركين يفسره: حديث أبي هريرة رضي الله عنه "أن أهل الشرك يعفون شواربهم، ويحفون لحاهم، فخالفوهم، فاعفوا اللحى واحفوا الشوارب" رواه البزار بسند حسن.
ولمسلم عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خالفوا المجوس، لأنهم كانوا يقصرون لحاهم، ويطولون الشوارب"، ولابن حبان عن ابن عمر قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم المجوس فقال: "إنهم يوفرون سبالهم، ويحلقون لحاهم، فخالفوهم" فكان يحفي سباله.
وله عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من فطرة
__________
1 البخاري: اللباس (5892) , ومسلم: الطهارة (259).(22/335)
ص -336- ... الإسلام أخذ الشارب، وإعفاء اللحى، فإن المجوس تعفي شواربها، وتحفي لحاها، فخالفوهم: خذوا شواربكم واعفوا لحاكم".
وفي صحيح مسلم عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أمرنا بإحفاء الشوارب وإعفاء اللحية" 1، وله عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جزوا الشوارب وأرخوا اللحى" 2 ومعنى جزّوا: قصّوا، وأرخوا أي: أطيلوا.
ورواه بعضهم بلفظ: (أرجوا) أي: اتركوا; وما روي بلفظ: قصّوا، لا ينافي الإحفاء، لأن رواية الإحفاء في الصحيحين معينة للمراد; وفي رواية "أوفوا اللحى" أي: اتركوها وافية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: يحرم حلق اللحية ; وقال القرطبي: لا يجوز حلقها ولا نتفها ولا قصها، وحكى أبو محمد بن حزم الإجماع على أن قص الشارب وإعفاء اللحية فرض.
واستدل بحديث ابن عمر: "خالفوا المشركين: احفوا الشوارب، واعفوا اللحى" 3 وبحديث زيد بن أرقم المرفوع: "من لم يأخذ شاربه فليس منا" 4 صححه الترمذي، وبأدلة أخرى.
قال في الفروع: هذه الصيغة عند أصحابنا تقتضي التحريم، وقال في الإقناع: ويحرم حلقها، وروى الطبراني
__________
1 مسلم: الطهارة (259) , والترمذي: الأدب (2764) , وأبو داود: الترجل (4199) , ومالك: الجامع (1764).
2 مسلم: الطهارة (260) , وأحمد (2/365 ,2/366).
3 البخاري: اللباس (5892) , ومسلم: الطهارة (259).
4 الترمذي: الأدب (2761) , والنسائي: الطهارة (13) والزينة (5047).(22/336)
ص -337- ... عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من مثل بالشعر ليس له عند الله خلاق".
قال الزمخشري معناه: صيره مثلة، بأن نتفه أو حلقه من الخدود، أو غيَّره بسواد، وقال في النهاية: مثّل بالشعر، حلقه من الخدود، وقيل نتفه أو تغييره بسواد.
وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اعفوا اللحى، وجزوا الشوارب، ولا تشبهوا باليهود والنصارى" 1.
وللبزار عن ابن عباس مرفوعا: "لا تشبهوا بالأعاجم اعفوا اللحى" وروى أبو داود عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تشبه بقوم فهو منهم" 2.
وله عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس منا من تشبه بغيرنا، لا تشبهوا باليهود، ولا بالنصارى" 3.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: فمخالفتهم أمر مقصود للشارع، والمشابهة في الظاهر تورث مودة ومحبة وموالاة في الباطن، كما أن المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر؛ وهذا أمر يشهد به الحس والتجربة.
قال: ومشابهتهم فيما ليس من شرعنا، يبلغ التحريم في بعضه إلى أن يكون من الكبائر؛ وقد يصير كفرا بحسب الأدلة الشرعية.
__________
1 أحمد (2/356).
2 أبو داود: اللباس (4031).
3 الترمذي: الاستئذان والآداب (2695).(22/337)
ص -338- ... وقال: وقد دل الكتاب والسنة والإجماع على الأمر بمخالفة الكفار، والنهي عن مشابهتهم في الجملة، وما كان مظنة لفساد خفي غير منضبط، علق الحكم به، ودار التحريم عليه.
فمشابهتهم في الظاهر سبب لمشابهتهم في الأخلاق والأفعال المذمومة، بل في نفس الاعتقادات؛ وتأثير ذلك لا ينضبط.
ونفس الفساد الحاصل من المشابهة قد لا يظهر، وقد يتعسر أو يتعذر زواله، وكل ما كان سببا إلى الفساد، فالشارع يحرمه; اهـ.
وروي عن ابن عمر: "من تشبه بهم حتى يموت حشر معهم"، وروى الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس منا من تشبه بغيرنا، لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى، فإن تسليم اليهود الإشارة بالأصابع، وتسليم النصارى الإشارة بالأكف" 1.
زاد الطبراني: "ولا تقصوا النواصي، واحفوا الشوارب، واعفوا اللحى". وفي شروط عمر على أهل الذمة: أن يحلقوا مقادم رؤوسهم ليتميزوا من المسلمين، فمن فعل ذلك فقد تشبه بهم.
وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم: "نهى عن القزع" 2 وهو: حلق بعض الرأس وترك بعضه.
__________
1 الترمذي: الاستئذان والآداب (2695).
2 البخاري: اللباس (5921) , ومسلم: اللباس والزينة (2120) , والنسائي: الزينة (5051 ,5228 ,5230 ,5231) , وأبو داود: الترجل (4194) , وابن ماجه: اللباس (3637 ,3638) , وأحمد (2/4 ,2/39 ,2/55 ,2/67 ,2/82 ,2/83 ,2/101 ,2/118 ,2/137 ,2/143 ,2/154).(22/338)
ص -339- ... وعن ابن عمر في الرأس: "احلقه كله، أو دعه كله" رواه أبو داود.
وحلق القفا لا يجوز لمن لم يحلق رأسه كله، ولم يحتج إليه، لأنه من فعل المجوس، ومن تشبه بقوم فهو منهم; وروى ابن عساكر عن عمر رضي الله عنه "حلق القفا من غير حجامة مجوسية".
وأيضا: نهى الله تبارك وتعالى عن اتباع أهوائهم، فقال: {وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [سورة المائدة آية: 77].
وقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [سورة البقرة آية: 145]: قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ومتابعتهم فيما يختصون به من دينهم، وتوابع دينهم اتباع لأهوائهم.
وروى ابن أبي شيبة: "أن رجلا من المجوس جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد حلق لحيته، وأطال شاربه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ما هذا؟ قال: هذا ديننا; قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:لكن في ديننا أن نحفي الشوارب، وأن نعفي اللحية".
وأخرج الحارث بن أبي أسامة عن يحيى بن كثير، قال: "أتى رجل من العجم المسجد، وقد وفر شاربه وجزَّ لحيته; فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حملك على هذا؟ فقال: إن ربي أمرني بهذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:إن الله أمرني(22/339)
ص -340- ... أن أوفر لحيتي، وأحفي شاربي".
وروى ابن جرير عن زيد بن حبيب قصة رسول كسرى، قال: "ودخلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد حلقا لحاهما، وأعفيا شواربهما، فكره النظر إليهما وقال: ويلكما من أمركما بهذا؟ قالا: أمرنا ربنا، يعنيان كسرى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولكن ربي أمرني بإعفاء لحيتي، وقصّ شاربي".
وروى مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير شعر اللحية" 1. وللترمذي عن عمر: (كث اللحية); وفي رواية: (كثيف اللحية)، وفي أخرى: (عظيم اللحية); وعن أنس: (كانت لحيته قد ملأت من هاهنا إلى هاهنا، وأمرّ يده على عارضيه).
ورخص بعض أهل العلم في أخذ ما زاد على القبضة لفعل ابن عمر 2 وأكثر العلماء يكرهه، وهو الأظهر لما تقدم، قال النووي: والمختار تركها على حالها، وأن لا يتعرض لها بتقصير شيء أصلا.
وأخرج الطيب عن أبي سعيد قال قال رسول الله: "لا يأخذ أحدكم من طول لحيته" وقال في الدر المختار:
__________
1 مسلم: الفضائل (2344).
2 الحجة في روايته, لا في رأيه, ولا شك أن قول الرسول وفعله أحق وأولى بالاتباع من قول غيره أو فعله كائنا ما كان.(22/340)
ص -341- ... وأما الأخذ منها وهي دون القبضة، كما يفعله بعض المغاربة ومخنثة الرجال فلم يبحه أحد; اهـ.
وقال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [سورة الأحزاب آية: 21]، وقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [سورة الحشر آية: 7].
وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [سورة الأنفال آية: 20-21]، وقال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النور آية: 63].
وقال: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [سورة النساء آية: 115].
والله تبارك وتعالى جمَّل الرجال باللحى، ويروى: ومن تسبيح الملائكة: "سبحان من زين الرجال باللحى" ; وقال في التمهيد: ويحرم حلق اللحية، ولا يفعله إلا المخنثون من الرجال اهـ.
فاللحية زينة الرجال، ومن تمام الخلق، وبها ميز الله الرجال من النساء، ومن علامات الكمال; ونتفها في أول(22/341)
ص -342- ... نباتها تشبه بالمرد، ومن المنكرات الكبار 1.
وكذلك حلقها أو قصها أو إزالتها بالنورة من أشد المنكرات، ومعصية ظاهرة، ومخالفة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقوع فيما نهى عنه.
وذكر الغزالي في الإحياء: أن نتف الفنيكين بدعة، وهما جانبا العنفقة، قال: "وشهد عند عمر بن عبد العزيز رجل كان ينتف فنيكيه، فرد شهادته"، "ورد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابن أبي ليلى قاضي المدينة شهادة من كان ينتف لحيته".
قال الإمام أبو شامة: وقد حدث قوم يحلقون لحاهم، وهو أشد مما نقل عن المجوس من أنهم كانوا يقصونها; وهذا في زمانه رحمه الله، فكيف لو رأى كثرة من يفعله اليوم؟!
وما لهم؟ قاتلهم الله أنى يؤفكون؟ أمرهم الله بالتأسي برسوله صلى الله عليه وسلم فخالفوه وعصوه، وتأسوا بالمجوس، والكفرة؟!
وأمرهم الله بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وقد قال صلى الله عليه وسلم: "اعفوا اللحى، أوفوا اللحى، أرخوا اللحى، أرجوا اللحى، وفروا اللحى" فعصوه وعمدوا إلى لحاهم فحلقوها؟!
وأمرهم بحلق الشوارب فأطالوها، فعكسوا القضية،
__________
1 قاله النووي والغزالي وغيرهما.(22/342)
ص -343- ... وعصوا الله جهارا، بتشويه ما جمّل الله به أشرف شيء من ابن آدم وأجمله.
{أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [سورة فاطر آية: 8].
اللهم: إنا نعوذ بك من عمى القلوب، ورين الذنوب، وخزي الدنيا، وعذاب الآخرة. {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [سورة الأنفال آية: 22-23].
وفي هذا كفاية {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [سورة ق آية: 37]، و {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً} [سورة الكهف آية: 17]. 1 والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(22/343)
ص -344- ... [ قول الشيخ عبد الله بن حميد فيما ابتلي به بعض الناس من حلق اللحى ]
وقال الشيخ: عبد الله بن سليمان بن حميد، رحمه الله 1:
ومن المنكرات الظاهرة: ما ابتلي به بعض الناس من حلق اللحى؛ وحلقها من تغيير خلق الله ومخالف لهدى رسوله الله؛ فإن الله سبحانه وتعالى تفضل بها على الرجال جمالا لهم، وميزة فارقة بينهم وبين النساء، وأهل الفضل جاهلية وإسلاما يحتفظون بها، ويفتخرون، ويعدونها شرفا لهم.
وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ذا لحية كثيرة الشعر، وكان يأمر بتركها مخالفة للمشركين، وقال صلى الله عليه وسلم: "خالفوا المشركين، وفروا اللحى، واحفوا الشوارب" 2، وعن ابن عمر أنه قال: "أمرنا بإحفاء الشوارب، وإعفاء اللحى" 3.
وكانت عائشة رضي الله عنها كثيرا ما تقول: "لا والذي جمل الرجال باللحى". ومن صفته صلى الله عليه وسلم أنه كان كثير شعر اللحية; فهذا رسول الله كان يترك شعر لحيته، ويأمر أمته بأن تخالف المشركين بحف الشوارب، وإعفاء اللحى.
ومخالفتهم أمر مقصود للشارع، فمشابهتهم في الظاهر مظنة مودتهم في الباطن؛ ومن تشبه بقوم فهو منهم، والله يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [سورة الأحزاب آية: 21].
__________
1 في الأربع الرسائل المفيدة, صفحة 123-125.
2 البخاري: اللباس (5892) , ومسلم: الطهارة (259).
3 الترمذي: الأدب (2764) , ومالك: الجامع (1764).(22/344)
ص -345- ... فاللحية شريفة، ولها أهمية كبيرة؛ ولشرفها وعظم شأنها، قرر الفقهاء على من جنى عليها، وأذهب جمالها ومنفعتها، الدية كاملة; وشعر العوارض من اللحية.
وقد حدث في هذا الزمان أناس عادوا اللحية وقلوها، 1 وبالأمواس أو النتف أزالوها، فوجوههم خالية من الشعر، جرد مرد كوجوه النساء، قد استحوذ عليهم الشيطان، فهم يميلون إلى الرقة والليونة في الأخلاق والملابس، مخالفون لهدى نبيهم.
أيها المسلمون، اعلموا أن اللحية زينة الرجال، وأن اللحية شرف الرجال، وأن اللحية ميزة الرجال، وأن اللحية فارقة بين الرجال والنساء، وأن اللحية خشونة ووقار.
وحلقها نوع من التخنث، وكفر لهذه النعمة؛ ولا يرضى بحلقها إلا من سفه نفسه، وعميت بصيرته عن مصالحه، وأضاع شرفه، وخالف هدى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
ومما يحرم، أو يكره كراهة شديدة: تغيير شيب اللحية بالسواد، لقوله صلى الله عليه وسلم في والد أبي بكر: "غيروا شعره وجنِّبوه السواد" 2، وفي حديث ابن عباس، أنه صلى الله عليه وسلم قال: "يكون قوم يخضبون في آخر الزمان بالسواد كحواصل الحمام، لا يريحون رائحة الجنة" 3 نسأل الله العافية.
__________
1 أي: أبغضوها.
2 مسلم: اللباس والزينة (2102) , والنسائي: الزينة (5076) , وأبو داود: الترجل (4204) , وابن ماجه: اللباس (3624) , وأحمد (3/316 ,3/322).
3 النسائي: الزينة (5075) , وأبو داود: الترجل (4212) , وأحمد (1/273).(22/345)
ص -346- ... [ قول الشيخ حمود التويجري في تقزيع شعر الرأس بحلق جوانبه أو قفاه ]
وقال الشيخ: حمود التويجري، رحمه الله 1:
ومن التشبه بأعداء الله تعالى: تقزيع شعر الرأس بحلق جوانبه أو قفاه، أو مواضع منه، وهو من فعل اليهود، والنصارى، والمجوس; وكثير من السفهاء في زماننا: يجزون شعر الرأس، ويتركون في مقدمه قنزعة تشبه عرف الديك، وقد قيل: إن هذا من فعل اليهود في زماننا، وليس ذلك ببعيد.
وبالجملة: فهذا الفعل القبيح من التمثيل بالشعر، وفيه تشويه للخلق، وقد روى أبو داود في سننه، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه "أنه رأى غلاما له قرنان، أو قصتان، فقال: احلقوا هذين أو قصوهما، فإن هذا زي اليهود".
وفي مسند الإمام أحمد عن صفية بنت أبي عبيد، قالت: "رأى ابن عمر رضي الله عنهما، صبيا في رأسه قنازع، فقال: أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تحلق الصبيان القزع".
وروى الإمام أحمد أيضا، والشيخان، وأهل السنن إلا الترمذي، عن ابن عمر، رضي الله عنهما، قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القزع" 2، والقزع: أن يحلق رأس الصبي، فيترك بعض شعره.
__________
1 في كتابه الإيضاح والتبيين, صفحة 76.
2 البخاري: اللباس (5921) , ومسلم: اللباس والزينة (2120) , والنسائي: الزينة (5051 ,5228 ,5230 ,5231) , وأبو داود: الترجل (4194) , وابن ماجه: اللباس (3637 ,3638) , وأحمد (2/4 ,2/39 ,2/55 ,2/67 ,2/82 ,2/83 ,2/101 ,2/118 ,2/137 ,2/143 ,2/154).(22/346)
ص -347- ... وروى الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، عن ابن عمر رضي الله عنهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى صبيا قد حلق بعض شعره، وترك بعضه، فنهاهم عن ذلك، وقال: احلقوه كله، أو اتركوه كله" 1.
قال النووي، رحمه الله تعالى: أجمع العلماء على كراهة القزع، قال العلماء: والحكمة في كراهته أنه تشويه للخلق; وقيل: لأنه زي اليهود. انتهى.
وروى الطبراني وغيره، عن عمر رضي الله عنه مرفوعا: "حلق القفا من غير حجامة، مجوسية" قال المروزي: سألت أبا عبد الله - يعني: أحمد بن حنبل - عن حلق القفا، قال: هو من فعل المجوس، ومن تشبه بقوم فهو منهم.
قال: وكان أبو عبد الله لا يحلق قفاه، إلا في وقت الحجامة; وقال المروزي أيضا: قلت لأبي عبد الله: يكره للرجل أن يحلق قفاه، أو وجهه؟ قال: أما أنا فلا أحلق قفاي.
__________
1 أبو داود: الترجل (4195) , وأحمد (2/88).(22/347)
ص -348- ... [ قول الشيخ صالح الخريصي فيما اشتهرت من كثير من الناس من حلق اللحى ]
وقال الشيخ: صالح الخريصي، في أثناء نصيحة له: 1
ومن المنكرات التي ظهرت واشتهرت من كثير من الناس في كثير من البلاد: حلق اللحى، وهو أمر محرم، نهى الشارع صلى الله عليه وسلم عنه، في أحاديث صحيحة صريحة، كقوله صلى الله عليه وسلم "جزوا الشوارب وأرخوا اللحى، خالفوا المجوس" 2 وقوله: "احفوا الشوارب واعفوا اللحى خالفوا المشركين".
وكثير من الناس - والعياذ بالله - يرتكب هذا المحرم جهارا، ويخالف أمر نبيه صلى الله عليه وسلم؛ وهذا في الحقيقة لم يحقق شهادة أن محمدا رسول الله معنًى، وإن حققها لفظا، لأن حقيقة شهادة أن محمدا رسول الله: طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع.
قال شيخ الإسلام، رحمه الله: يحرم حلق اللحية. وقال القرطبي: لا يجوز حلقها ولا نتفها ولا قصها; وحكى ابن حزم رحمه الله الإجماع على أن قص الشارب وإعفاء اللحية فرض.
واستدل بحديث ابن عمر: "خالفوا المشركين: احفوا الشوارب، واعفوا اللحى" 3، وبحديث زيد بن أرقم، رضي الله
__________
1 طبعت مفردة سنة 1380 هـ.
2 مسلم: الطهارة (260) , وأحمد (2/365 ,2/366).
3 البخاري: اللباس (5892) , ومسلم: الطهارة (259).(22/348)
ص -349- ... عنه، المرفوع: "من لم يأخذ من شاربه فليس منا" 1، وبأدلة أخرى.
وكثير من الناس، بل ومن المنتسبين، يغلط في مسمى اللحية؛ فيأخذ ما على الخدود وما تحت اللحية وما فوقها، وهو من مسمى اللحية; وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من مثّل بالشعر فليس له عند الله خلاق".
وقال الزمخشري: معناه: صيره مثلة، بأن نتفه من الخدود، أو غيره بالسواد; وقال في النهاية: مثل بالشعر: حلقه من الخدود، وقيل نتفه، وتغييره بسواد.
وكثير من الناس - والعياذ بالله - يجمع هذه الأشياء: ينتف بعضه، ويحلق بعضه، ويغير بعضه; "وكان ابن عمر رضي الله عنه إذا حلق يقول للحلاق: ابلغ العظم، افصل الرأس من اللحية".
فبين رضي الله عنه أن ما فوق العظم فهو من الرأس، وما تحته من مسمى اللحية; والعظم المشار إليه، هو: المسامت، المحاذي للأذن; فيا عباد الله: توبوا إلى ربكم، وارجعوا لأمر نبيكم، واحذروا هذه المشابهة، التي تورث مودة أعداء الله.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: فمخالفتهم أمر مقصود للشارع؛ والمشابهة في الظاهر تورث مودة ومحبة، وموالاة في الباطن، كما أن المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر; وهذا أمر يشهد به الحس والتجربة: إلى آخر كلامه.
وروي عن ابن عمر، رضي الله عنه قال: "من تشبه
__________
1 الترمذي: الأدب (2761) , والنسائي: الطهارة (13) والزينة (5047).(22/349)
ص -350- ... بقوم حتى يموت، حشر معهم". فتوبوا رحمكم الله قبل الممات، ما دامت التوبة مقبولة، وبابها مفتوح، مع أن اللحية هي: زينة الرجال، ومن تمام الخلق؛ فبها ميز الله بين الرجال والنساء، ومن علامات الكمال.
ولولا كمالها، وزينتها، ومحلها من الشريعة لما كان فيها الدية كاملة؛ إذ فقدها من الرجل مثلة عظيمة; ومعلوم أن لحيته صلى الله عليه وسلم قد ملأت من هاهنا إلى هاهنا، وأمرّ أنس يده على عارضيه.
ولكن من أدمن حلقها، لم يتحقق تشويه خلقته، لأنه عكس القضية، وعصى الله جهارا، بإزالة ما جمل الله به أشرف شيء من ابن آدم، وأجمله، وهو: الوجه؛ ولكن زين له سوء عمله، كما في الآية الكريمة: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [سورة فاطر آية: 8].(22/350)
ص -351- ... [ حث الشيخ عبد الستار الدهلوي في رسالته شمس الضحى الناس على طاعة الله ]
وقال الشيخ: عبد الستار الدهلوي الباكستاني 1:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد: فهذه نصيحة أقدمها إلى العالم الإسلامي، ليعم نفعها لإخواني المسلمين، أسأل الله رب العرش العظيم، أن يجعلها خالصة لوجهه الكريم، وينفع بها جميع المؤمنين، آمين.
اعلموا يا إخواني الكرام، أن الهدى ودين الحق الذي افترضه الله على عباده هو: معرفة الحق والعمل به، لكونه عز وجل لم يخلقهم عبثا سدى لا ينهون، بل خلقهم ليعبدوه ولا يشركوا به شيئا، كما قال تعالى في كتابه العزيز: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56].
والعبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال، والعقائد، والأعمال الظاهرة والباطنة.
ومنها: النصح لكل مسلم كما جاء في حديث جرير رضي الله عنه لما بايعه عليه الصلاة والسلام على إقام
__________
1 في رسالته شمس الضحى, ولأجل أنه قام بتقاريظها, جماعة من علماء الحرمين, وغيرهم, ومنهم الشيخ: عبد العزيز بن باز, في بعض طبعاتها, وضعنا المناسب منها هنا.(22/351)
ص -352- ... الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم، رواه البخاري في صحيحه.
وقد أوجب الله علينا طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم الذي لا {يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [سورة النجم آية: 3-4]، فقال: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [سورة المائدة آية: 92]، {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [سورة الحشر آية: 7].
فعلم من هذه الآيات، وغيرها أنه تجب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع أوامره ونواهيه، لأن طاعته صادرة عن طاعة الله تعالى.
فمن خالف أوامره، وارتكب نواهيه، فقد عرض نفسه للوعيد الشديد، كما قال جل وعلا: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النور آية: 63].
قال الإمام أحمد، رحمه الله: أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قوله، أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك، ثم تلا قوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [سورة النساء آية: 65].(22/352)
ص -353- ... وقال شيخ الإسلام: إمام أهل التوحيد ابن تيمية، رحمه الله عليه، مستدلا بهذه الآية: إن الله فرض طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم على كل أحد في كل حال.
فمن حيث أن النصح واجب على كل مسلم لأخيه المسلم، رأيت أن أكتب البعض مما ورد عن المصطفى صلى الله عليه وسلم في حلق اللحية وتوفير الشارب.
{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [سورة هود آية: 88] {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [سورة البقرة آية: 127].
{رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [سورة الأحقاف آية: 15].
اعلم وفقني الله وإياك أن اللحية هي اسم لجميع الشعر النابت على الوجه والذقن، ما خلا الشارب، في اللغة العربية.
يوضحه: ما نص بتاج العروس بالجزء العاشر، قال: اللِّحية بالكسر، شعر الخدين والذقن، وهما اللحيان، وهما العظمان اللذان فيهما الأسنان، ثم تكلم إلى أن قال: اللحيان اللذان هما جانبا الفم.
وما نص بالمصباح، قال: واللحي عظم الحنك، وهو(22/353)
ص -354- ... الذي عليه الأسنان، وهو من الإنسان حيث ينبت الشعر، وهو أعلى وأسفل.
وما نص بالقاموس بالجزء الرابع، قال: اللحية بالكسر، شعر الخدين والذقن.
فإذا فهمت ما جاء بكتب اللغة العربية، عرفت حينئذ أن جميع شعر الوجه مما ينبت على الذقن وتحت اللحيين، وما على الخدين والعارضين، يقال له لحية، ما عدا الشارب كما تقدم بيانه.
وفي عون المعبود شرح أبي داود: اللحية بكسر اللام وسكون الحاء، لجميع الشعر الذي ينبت على الخدين والذقن.
وذكر صاحب هذه الرسالة: الأحاديث الواردة، وكلام أهل العلم 1 وحالة أهل زماننا اليوم وأن عادتهم إذا رأوا محلوق لحية ذا مال ولباس محتشم، عظموه ووقروه، وفرحوا به فرحا شديدا، وإذا لاقوا ذا لحية متشرعا، موحدا، ومتبعا لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم حقروه، ونظروا إليه {نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ} [سورة محمد آية: 20].
وقال أيضا: وسمعت كثيرا من هؤلاء يقولون: إن الله لا ينظر إلى الصور والأجساد، ولكن ينظر إلى القلوب
__________
1 كما تقدم في رسالة الوالد رحمه الله "تحريم حلق اللحى".(22/354)
ص -355- ... والنيات، وفي قلوبنا الإيمان، ومحبة الله ورسوله، فلسنا نؤاخذ بحلق اللحية.
والجواب على ذلك: نعم، ينظر الله إلى قلبك، فيدرك أشياء تتعلق بلحيتك، ولا يمكنك أن تُخْلِي قلبك منها; يدرك في قلبك الكراهية لما أحبه الله ورسوله، وهو: إعفاء اللحية.
ويدرك في قلبك الحب لما كرهه الله ورسوله، وهو: حلق اللحية. ويدرك في قلبك الكراهية لما خلقه الله أو الاعتراض عليه، وهو: إنبات الشعر على وجهك.
ويدرك فيك الهم والغم، إذا لم يتحصل لك الحلق في ميعاده، والغضب على الحلاق إذا لم يأتك في وقته، فأين محبة الله ورسوله في قلبك؟!
إذا: كنت تبغض سنة رسولك، وتحلق لحيتك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أحب سنتي فقد أحبني، ومن أحبني كان معي في الجنة" 1 ولنعم ما قيل:
تعصى الإله وأنت تظهر حبه ... لو كان حبك صادقا لأطعته
هذا محال في القياس بديع ... إن المحب لمن يحب مطيع
وأيضا سمعت بعض هؤلاء يقول: وجدنا كثيرا من أصحاب اللحى يرتكبون الفواحش، ويتخذون لحاهم سترا وجنة، فظننا أن الخير في ترك مثل هذه المظاهر.
أقول مجيبا عن هذا: وهذه أيضا فكرة خاطئة، لأن
__________
1 الترمذي: العلم (2678).(22/355)
ص -356- ... العمل الطيب إذا عمله الخبيثون لا يصير خبيثا، كما أن العمل الخبيث إذا ارتكبه الطيبون لا يصير طيبا.
ولو اتخذنا هذه الفكرة أساساً لأعمالنا، لما بقي لنا شيء؛ فكم من الناس تعلموا القرآن والحديث، نجدهم انحرفوا عن الصراط المستقيم، وباعوا دينهم بدنياهم، وأصبحوا أضر على الدين من أعدائه، فهل يجوز لنا أن نترك دراسة القرآن الكريم والحديث؟!
وكم من الناس يقيمون الصلاة، ويحجون، ويصومون; ومع ذلك هم أخبث الناس، وأشرهم، وأجرؤهم على ارتكاب الجرائم للحصول على بعض الدراهم والدنانير، فهل يمكننا أن نترك الصيام والصلاة، ونترك الحج لأجل هؤلاء؟! حاشا وكلا.
وقد سمعت كثيرا من الناس الذين يحلقون لحاهم، يقولون: ماذا في اللحية؟ وهل الإسلام في اللحية؟ وهم مستهينون بشأنها مستهزئون بمن يعفيها.
فأقول: قد ثبت من كلام الأنبياء: إذا لم تستح فاصنع ما شئت {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [سورة التوبة آية: 65] ألا تخافون الله؟ تخالفون أمره وأمر رسوله; وتقولون: ماذا في اللحية..؟!
استحوا، وتوبوا إليه، واعلموا أن في اللحية امتثالا لأمر الله، واتّباعاً لسنته صلى الله عليه وسلم، وقد قال عليه الصلاة والسلام:(22/356)
ص -357- ... "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به"، نعم: ليس الإسلام كله في اللحية; ولكن: اللحية في الإسلام، وإنها من سنن الأنبياء الذين أمرنا بالاقتداء بهم.
وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "عشر من الفطرة، قص الشارب، وإعفاء اللحية.." 1 الحديت.
قال صاحب مجمع البحار، أي: من سنن الأنبياء عليهم السلام، الذين أمرنا بالاقتداء بهم فيها، أي: من السنن القديمة التي اختارها الأنبياء، واتفقت عليها الشرائع، فكأنها أمر جبلي فطروا عليه؛ فكيف بكم إذا أنتم تقفون بين يدي الجبار القهار؟ وماذا تكون الحجة والجواب؟!
ومن أقبح ما جاهروا به: حلق اللحية، وتشويهها بالقصر أو نحوه، وأخذ العارض أو توقيفه، فتشبهوا بالنساء بنعومة الخدود، وتشبهوا بالكفرة والمشركين بحلقها، وبالمجوس بتقصيرها.
والذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم يقول: "ليس منا من تشبه بغيرنا" 2, ومع ذلك يشربون الخمور، ويلعبون الميسر، ويشتغلون بالملاهي، والسينما، وحضور أماكن الرقص، متختمين بالذهب، لا حياء عندهم، ولا خجل، ولا مروءة.
وقد اتبعوا غير سبيل المؤمنين، وسلكوا مسلك
__________
1 مسلم: الطهارة (261) , والترمذي: الأدب (2757) , والنسائي: الزينة (5040 ,5042) , وأبو داود: الطهارة (53) , وابن ماجه: الطهارة وسننها (293) , وأحمد (6/137).
2 الترمذي: الاستئذان والآداب (2695).(22/357)
ص -358- ... الغربيين، ونهجوا على منوالهم، وساروا مقلدين لهم حذو النعل، قد غرتهم الحياة الدنيا وغرهم بالله الغرور.
عباد الله, هل نسينا ما قص الله علينا من قصة بني إسرائيل، كي لا نقع فيما وقعوا فيه؟ بأنه لعنهم {عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [سورة المائدة آية: 78-79].
ومن الناس من يقول: عصرنا اليوم ليس كالأمس، نحن نريد أن نتقدم، وأنتم يا أصحاب اللحى تريدون تأخيرنا; والصديق أصبح يعيب صديقه بعدم إحفاء اللحية، وحتى ناقصات العقول - يعني النساء - لا يرتضينها.
ومع هذا ينتهكون محارم الله، ويجاهرون بمعصية الله ورسوله في الطرقات، وفي الشوارع والأسواق، وعلى الأسطح والشرفات، وفي كل مكان.
يقرؤون المجلات الخليعة، المليئة بصور النساء العاريات، ولا يقرؤون مجلتنا - صحيفة أهل الحديث - التي تصدر في كل شهر مرتين، وفيها شرح لأحاديث البخاري، وتفسير لآيات الله البينات.
لا شك أن هؤلاء شاقوا الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ومن يشاق الرسول ويتبع غير سبيل المؤمنين فهو مهان عند الله، ومن يهن الله فما له من مكرم.(22/358)
ص -359- ... يحلقون لحاهم، ويبتغون بذلك مرضاة أزواجهم، ونسائهم، وأصدقائهم؛ والله تعالى يقول: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [سورة التوبة آية: 62].
والظاهر أن الشيطان زين لهم أعمالهم، وقد قال تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [سورة فاطر آية: 8], وقال تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} [سورة الأعراف آية: 146].
ومن المعلوم أن ما جاء به، وما أمرنا به رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم هو الرشد والهداية، وما يعاكسه فهو سبيل الغي والضلالة.
فيروى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جزوا الشوارب وأرخوا اللحى، خالفوا المجوس" 1.
والأحاديث المذكورة، وغيرها مما لم تذكر هنا، موجودة في الصحاح الستة، التي هي أمهات الكتب، كالبخاري ومسلم وغيرهما، والسنن، والمسانيد، من كتب الحديث المشهورة المقبولة، المتداولة بين أهل العلم.
فكيف يسوغ لمسلم أن يرتكب هذه المنهيات، ويترك العمل بالأوامر الشرعية، وهو يتلو أو يتلى عليه قوله الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ
__________
1 مسلم: الطهارة (260) , وأحمد (2/365 ,2/366).(22/359)
ص -360- ... أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [سورة الأحزاب آية: 36].
وكيف تطمئن نفس مسلم بعد وقوفه على قوله عليه الصلاة والسلام: "اعفوا اللحى، وجزوا الشوارب، ولا تشبهوا باليهود والنصارى"، وعلى قوله: "لا تشبهوا بالأعاجم، اعفوا اللحى، وجزوا الشوارب" وعلى قوله: "ليس منا من تشبه بغيرنا" ؟
ويعلم أيضا علم اليقين أن لحيته صلى الله عليه وسلم كثيفة عظيمة، كثيرة الشعر، قد ملأت عارضيه وذقنه الشريفة، ومع علمه بذلك لا يقبل صورة الرسول صلوات الله وسلامه عليه، ولا يفرح بها، ولا يستحسنها؟
بل يمثل بصورة المجوس، والمشركين، والوثنيين، ويختارها لنفسه، ويعمد إلى لحيته فيقص، أو يحلق، أو ينتف من أطرافها، من النابت على الخدين وتحت الذقن، أو مما ينبت على العارضين؟!
ولا يلتفت إلى قوله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [سورة الأحزاب آية: 21], ولا إلى قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [سورة الحشر آية: 7].
فلم يتأس برسوله، ويترك لحيته وافرة، كما كانت لحيته صلى الله عليه وسلم بل يعاكسه فيحلق لحيته، أو ينتف، أو يقص،(22/360)
ص -361- ... فإذا به يخالف الأوامر ويرتكب النواهي.
فالعجب كل العجب، والرزية كل الرزية، ممن ينتسب إلى العلم والدين كيف يتعود بحلق لحيته، أو قصها، أو نتفها، أو أخذ ما على الخدين والعارضين، أو ما تحت الذقن مما نبت، بلا مبالاة بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الخصوص، من الأحاديث القاضية بإعفاء اللحية، وحلق الشارب أو نهكه، على غير الصفة المذكورة بالأحاديث الصحيحة الصريحة، الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم أمرا ونهيا.
ولم نجد في رواية عن النبي عليه الصلاة والسلام، ولا عن أصحابه الكرام، والتابعين العظام، ولا عن أحد من الأئمة الأربعة، ولا عن أحد من المحدثين، رضوان الله عليهم أجمعين، ما يدلنا على خلاف هذا الأمر.
فكيف يجوز لنا السماح بتبديل الشرع المنصوص، بعادة اسمية نتبعها، ونترك السنة؟ كما قال أهل العلم: إن الحق فيما قضى به إمام الأنبياء، خاتم الرسل صلوات الله وسلامه عليه، ولو خالفه عامة من في الأرض عالمهم وجاهلهم، لقوله تعالى: {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [سورة النساء آية: 65].(22/361)
ص -362- ... قال شيخ الإسلام إمام الموحدين ابن تيمية، قدس الله روحه: إن مخالفة الكفرة غاية مقصودة للشريعة، لأن التشبه بهم في الظاهر يورث مودة في الباطن؛ كما أن المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر.
وأيضا: قال الشيخ - في المجلد الثاني من فتاويه -: فكل من عدل عن اتباع الكتاب والسنة وإطاعة الله ورسوله إلى عادته وعادة أبيه وقومه، فهو من أهل الجاهلية المستحقين للوعيد. انتهى.
وذكر أقوال الأئمة في النهي عن التقليد إذا خالف الكتاب والسنة، وما قيل: في النهي عن الإفساد في الأرض بعد إصلاحها، وأن من خالف ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فهو من المفسدين، وذكر أيضا قول أبي العالية: من عصى الله في الأرض، أو أمر بمعصية الله، فقد أفسد في الأرض، لأن صلاح الأرض والسماء إنما هو بطاعة الله ورسوله.
وقال أيضا في رسالته: ومما يناسب هذا المقام، قول الحافظ ابن كثير رحمه الله، على قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [سورة النور آية: 63] قال: عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو: سبيله ومنهاجه، وطريقته وسنته، وشريعته.
فتوزن الأقوال والأعمال، بأقواله وأعماله؛ فما وافق ذلك فهو مقبول، وما خالفه فهو مردود على قائله وفاعله، كائنا من كان، بدليل ما ثبت في البخاري ومسلم(22/362)
ص -363- ... وغيرهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" 1.
وبالجملة: فعلى المسلم أن يقتدي برسوله صلى الله عليه وسلم في جميع أقواله وأفعاله، وفي صورته، وسيرته. وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية، والله ولي التوفيق، وبيده أزمة التحقيق، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، كتبها في شهر شوال سنة 1377 هـ.
__________
1 مسلم: الأقضية (1718) , وأحمد (6/180 ,6/256).
الباب السابع: لباس الشرطة
وهو محرم، لمشابهته لباس الإفرنج، وفي الحديث: "من تشبه بقوم فهو منهم" 1، وقد تعاهد العلماء مع الملك أن لا يلبس الشرطة هذا الزي المشهور، من برنيطة وغيرها 2.
ثم بدئ به شيئا فشيئا حتى تم، فهم يسيرون بذلك بين أظهر المسلمين، لتعم المعصية كل من رآهم، ويشابهون الإفرنج في المشية، بالضرب بالرجل على الأرض، والإشارة باليد إلى الوجه بدل السلام، وغير ذلك.
نسأل الله أن يوفق ولاة المسلمين، فيزيلوا هذا المنكر عن بلادهم.
ومن نصائح المشايخ في ذلك ما يلي:
__________
1 أبو داود: اللباس (4031).
2 وانظر ما قاله الشيخ محمد بن إبراهيم في صفحة 76/ج/4 وصفحة 231/ج/6 من فتاويه رحمه الله في ذلك.(22/363)
ص -364- ... قال المشائخ، رحمهم الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد اللطيف، وصالح بن عبد العزيز، ومحمد بن إبراهيم، إلى: جناب عالي الجناب، حضرة الإمام: عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل، سلمه الله تعالى، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وموجب الكتاب، هو: النصيحة لكم، والشفقة عليكم، عملا بقوله صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة، قالها ثلاثا، قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم" 1.
وأعظم ما ننصحك به، عما رأيناه وسمعناه، من المنكرات الفظيعة الشنيعة التي تنقص الإسلام والدين.
منها: اللباس الذي هو شعار الإفرنج، والترك، والأعاجم، ولم يعهد عن الصحابة والتابعين، وأئمة الإسلام تخصيص جندهم بلباس خاص، غير اللباس المعتاد للرعية؛ ولما أحدث بنو العباس السواد، أنكر عليهم العلماء، الإمام أحمد وغيره.
وذكر شيخ الإسلام في اقتضاء الصراط المستقيم، في مخالفة أصحاب الجحيم: أن تغيير اللباس بسواد، أو غيره، خلاف ما عليه المسلمون، وأنه من البدع والمنكرات.
وأن كل زي اختص به الكفار، يحرم على المسلمين استعماله وموافقتهم فيه؛ وكل شيء مختص بالكفار، من
__________
1 مسلم: الإيمان (55) , والنسائي: البيعة (4197 ,4198) , وأبو داود: الأدب (4944) , وأحمد (4/102).(22/364)
ص -365- ... لباس وغيره، يحرم اتخاذه واستعماله, لأن اتخاذه واستعماله ينقص دين المسلم، وهو محرم، والمشابهة توجب التأثير في المشابه به، ذكر ذلك شيخ الإسلام.
ومنه: تعليمات الجند، التي هي من زي المشركين، والأعاجم، وكذلك المزيكة، والبرزان، التي طقت هذه الأيام في "العود" كل عصرية، وصار الناس والعوام والنساء يذهبون إليها ويحضرونها.
وهي كلها من شعائر الإفرنج، والترك، والأعاجم، الذين هم أعداء هذه الملة الإسلامية، ولم يعهد عند أحد من أئمة الإسلام المتقدمين والمتأخرين، الذين هم القدوة; وليس القدوة قوانين الإفرنج والترك والأعاجم، ولا التشبه بهم من دين الإسلام.
وآخر من نصر هذه الدعوة وقام بها، أوائلكم وأوائلنا، رحمهم الله; وذلك ما يقارب القرنين، لم يفعلوا شيئا من هذه الأمور، لأنهم يعتقدون تحريم مشابهة المشركين في كل شيء.
وأنت حفظك الله، الواجب عليك مراقبة الله وخوفه، وعدم الخروج عن المشروع، والاقتداء بالسلف الصالح; وأولئك الذين أيد الله بهم هذا الدين، إنما لباسهم وجندهم البياض المعتاد بوطنهم.(22/365)
ص -366- ... ولم يخصوا جندهم بلباس، وزي من زي الأعاجم، وغيرهم من أعداء الدين، وهذه دسيسة ممن يريد كيد الإسلام وأهله، يريدون بها تمرين الناس، وعدم وحشتهم ممن رؤيت عليه واستعملها.
وذكر شيخ الإسلام أن المشابهة في الأعمال الظاهرة تجر إلى الموافقة في الأعمال الباطنة قسرا. ولا حملنا على هذه النصيحة، إلا خروج من عهدة الكتمان، وبراءة لنا يوم نقف بين يدي الديان.
ونحن نبرأ إلى الله أن نوافق على هذه الأفعال، وعدم السكوت عن الإنكار، والبراءة منها ظاهرا وباطنا، ونبرأ إلى الله من فعلها، وإقرارها، لأن إقرارها من إقرار شعار الكفر والشرك.
فعليك بتقوى الله واغتنام الأعمال الصالحة قبل الوفاة، والأخذ بما ينجيك يوم الوقوف بين يديه، وليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال; وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم سنة 1358 هـ.(22/366)
ص -367- ... [ قول الشيخ حمود التويجري في لبس البرنيطة التي هي من لباس الإفرنج ]
وقال الشيخ: حمود بن عبد الله التويجري: 1 ومن التشبه بأعداء الله تعالى: لبس البرنيطة التي هي من لباس الإفرنج، ومن شابههم من أمم الكفر والضلال، وتسمى أيضا: القبعة.
وقد افتتن بلبسها كثير من المنتسبين إلى الإسلام، في كثير من الأقطار الإسلامية، ولا سيما البلدان التي فشت فيها الحرية الإفرنجية، وانطمست فيها أنوار الشريعة المحمدية.
ومن ذلك أيضا: الاقتصار على لبس السترة والبنطلون ; فالسترة قميص صغير يبلغ أسفله إلى حد السرة، أو يزيد عن ذلك قليلا، وهو من ملابس الإفرنج; والبنطلون: اسم للسراويل الإفرنجية، وقد عظمت البلوى بهذه المشابهة الذميمة، في أكثر الأقطار الإسلامية.
ومن جمع بين هذا اللباس، وبين لبس البرنيطة فوق رأسه، فلا فرق بينه وبين رجال الإفرنج، في الشكل الظاهر; وإذا ضم إلى ذلك حلق اللحية، كان أتم للمشابهة الظاهرة، و "من تشبه بقوم فهو منهم" 2 كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس منا من تشبه بغيرنا" 3.
والحديث الذي رواه الإمام أحمد في الزهد، عن
__________
1 في كتابه الإيضاح والتبيين.
2 أبو داود: اللباس (4031).
3 الترمذي: الاستئذان والآداب (2695).(22/367)
ص -368- ... عقيل بن مدرك قال: "أوحى الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل: قل لقومك لا يأكلوا طعام أعدائي، ولا يشربوا شراب أعدائي، ولا يتشكلوا شكل أعدائي؛ فيكونوا أعدائي، كما هم أعدائي".
وما رواه أبو نعيم في الحلية، عن مالك بن دينار قال: "أوحى الله إلى نبي من الأنبياء، أن قل لقومك: لا تدخلوا مداخل أعدائي، ولا تطعموا مطاعم أعدائي، ولا تلبسوا ملابس أعدائي، ولا تركبوا مراكب أعدائي؛ فتكونوا أعدائي كما هم أعدائي".
فإن ادعى المتشبهون بأعداء الله تعالى أنهم إنما يلبسون البرنيطات لتكون وقاية لرؤوسهم من حر الشمس، ويلبسون البنطلونات والقمص القصار لمباشرة الأعمال، قيل: هذه الدعوى حيلة على استحلال التشبه المحرم، والحيل لا تبيح المحرمات.
ومن استحل المحرمات بالحيل فقد تشبه باليهود، كما في الحديث الذي رواه ابن بطة بإسناد جيد، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود؛ فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل". والدليل على تحريم التشبه بأعداء الله تعالى، ما في حديث عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم.
وقد ورد الأمر بمخالفة أهل الكتاب في لباسهم، والأمر للوجوب؛ وترك الواجب معصية، فروى الإمام أحمد بإسناد(22/368)
ص -369- ... حسن، عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على مشيخة من الأنصار، فذكر الحديث، وفيه: فقلنا يا رسول الله، إن أهل الكتاب يتسرولون، ولا يتزرون، فقال: "تسرولوا واتزروا، وخالفوا أهل الكتاب" 1.
وروى الإمام أحمد أيضا وأبو داود الطيالسي، ومسلم والنسائي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليَّ ثوبين معصفرين، فقال: "إن هذه من ثياب الكفار، فلا تلبسهما" 2.
وفي رواية لمسلم، قال: رأى النبي صلى الله عليه وسلم عليَّ ثوبين معصفرين، فقال: "أأمك أمرتك بهذا؟ قلت: أغسلهما؟ قال: بل أحرقهما" 3. وفي رواية للنسائى عنه رضي الله عنه أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثوبان معصفران، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "اذهب فاطرحهما عنك ; قال أين يا رسول الله؟ قال: في النار" 4.
وهذا الحديث الصحيح، صريح تحريم ثياب الكفار على المسلمين ; وفيه دليل على المنع من لبس البرنيطات وغيرها من ملابس أعداء الله تعالى، كالاقتصار على لبس البنطلونات، والقمص القصار، وغير ذلك من زي أعداء الله تعالى، وملابسهم، لوجود علة النهي فيها.
وفي غضب النبي صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وأمره بطرح ثوبيه في النار، أبلغ زجر عن مشابهة الكفار في زيهم ولباسهم، وكذلك في قوله صلى الله عليه وسلم:
"أأمك
__________
1 أحمد (5/264).
2 مسلم: اللباس والزينة (2077) , والنسائي: الزينة (5316) , وأحمد (2/207).
3 مسلم: اللباس والزينة (2077).
4 النسائي: الزينة (5317).(22/369)
ص -370- ... أمرتك بهذا؟!" 1 أبلغ ذم وتنفير من التشبه بأعداء الله تعالى، والتزيِّي بزيهم.
وقد جعل الله سبحانه وتعالى للمسلمين مندوحة عن مزاحمة أعداء الله تعالى في لباسهم، والتشبه بهم؛ فمن أراد وقاية لرأسه، ففي لباس المسلمين ما يكفيه، ومن أراد ثيابا للأعمال فكذلك؛ ومن أراد ثيابا للزينة والجمال فكذلك؛ ومن رغب عن زي المسلمين ولم يتسع له ما اتسع لهم من الملابس المباحة، فلا وسع الله عليه في الدنيا ولا في الآخرة.
قال الشيخ أحمد محمد شاكر في الكلام على حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: هذا الحديث يدل بالنص الصريح على حرمة التشبه بالكفار، في اللبس وفي الهيئة، والمظهر، كالحديث الآخر الصحيح؛ و "من تشبه بقوم فهو منهم" 2.
ولم يختلف أهل العلم منذ الصدر الأول في هذا - أعني: في تحريم التشبه بالكفار - حتى جئنا في هذه العصور المتأخرة، فنبتت في المسلمين نابتة ذليلة مستعبدة، هجيراها وديدنها: التشبه بالكفار في كل شيء، والاستخذاء لهم، والاستعباد.
ثم وجدوا من الملتصقين بالعلم المنتسبين له من يزين لهم أمرهم، ويهون عليهم أمر التشبه بالكفار، في اللباس والهيئة، والمظهر والخلق، وكل شيء؛ حتى صرنا في أمة ليس لها من مظهر الإسلام إلا مظهر الصلاة والصيام
__________
1 مسلم: اللباس والزينة (2077).
2 أبو داود: اللباس (4031).(22/370)
ص -371- ... والحج، على ما أدخلوا فيها من بدع، بل من ألوان من التشبه بالكفار أيضا.
وأظهر مظهر يريدون أن يضربوه على المسلمين هو: غطاء الرأس الذي يسمونه: "القبعة، البرنيطة"، وتعللوا لها بالأعاليل والأباطيل، وأفتاهم بعض الكبراء المنتسبين: أن لا بأس بها إذا أريد بها الوقاية من الشمس، وهم يأبون إلا أن يظهروا أنهم لا يريدون بها إلا الوقاية من الإسلام.
فيصرح كتابهم ومفكروهم بأن هذا اللباس له أكبر الأثر في تغيير الرأس الذي تحته، ينقله من تفكير عربي ضيق، إلى تفكير إفرنجي واسع! ثم أبى الله لهم إلا الخذلان، فتناقضوا، ونقضوا ما قالوا من حجة الشمس، إذ وجدوا أنهم لم يستطيعوا ضرب هذه الذلة على الأمة.
فنزعوا غطاء الرأس بمرة، تركوا الطربوش وغيره، ونسوا أن الشمس ستضرب رؤوسهم مباشرة، دون واسطة الطربوش، ونسوا أنهم دعوا إلى القبعة، وأنه لا وقاية لرؤوسهم من الشمس إلا بها.
ثم كان من بضع سنين أن خرج الجيش الإنجليزي المحتل للبلاد، من القاهرة والإسكندرية; بمظهره المعروف؛ فما لبثنا أن رأيناهم ألبسوا الجيش المصري والشرطة المصرية، قبعات كقبعات الإنجليز.
فلم تفقد الأمة في العاصمتين، وفي داخل البلاد، منظر(22/371)
ص -372- ... جيش الاحتلال الذي ضرب الذلة على البلاد سبعين سنة، فكأنهم لم يصبروا على أن يفقدوا مظهر الذل الذي ألفوه واستساغوه، وربوا في أحضانه.
وما رأيت مرة هذا المنظر البشع، منظر جنودنا في زي أعدائنا وهيئتهم، إلا تقززت نفسي، وذكرت قول عميرة بن جعل الشاعر الجاهلي، يذم قبيلة تغلب:
إذا ارتحلوا عن دار ضيم تعاذلوا ... عليهم وردوا وفدهم يستقيلها
انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
وما ذكره رحمه الله تعالى من تشبه الجيش المصري، والشرطة المصرية، بالجيش الإنجليزي، ليس هو مما انفرد به المصريون، بل قد شاركهم فيه كثير من المسلمين والمنتسبين إلى الإسلام؛ فألبسوا جيوشهم وشرطهم مثل لباس الإفرنج، ولم يبالوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم:
"من تشبه بقوم فهو منهم" 1 فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وهذا التشبه القبيح، والانحراف عن زي المسلمين والتزيي بزي أعداء الله تعالى، كله من آثار بطانة السوء، كما في الحديث الصحيح، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما بعث الله من نبي، ولا استخلف, إلا كانت له بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه; فالمعصوم من عصم الله تعالى" 2 رواه البخاري، والنسائي.
__________
1 أبو داود: اللباس (4031).
2 البخاري: الأحكام (7198) , والنسائي: البيعة (4202) , وأحمد (3/39 ,3/88).(22/372)
ص -373- ... ولهما أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من وال إلا وله بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف، وتنهاه عن المنكر; وبطانة لا تألوه خبالا؛ فمن وقي شرها فقد وقي؛ وهو من التي تغلب عليه منهما" 1 هذا لفظ النسائي.
وقد رواه الإمام أحمد بنحوه، وعنده في آخره: "ومن وقي شر بطانة السوء، فقد وقي - يقولها ثلاثا -؛ وهو مع الغالبة عليه منهما" 2.
وقد رواه البخاري في الأدب المفرد، والترمذي، والحاكم، وفيه قصة لأبي الهيثم بن التيهان رضي الله عنه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، على شرط الشيخين ولم يخرجاه; ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وروى البخاري أيضا والنسائي، عن أبي أيوب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما بعث من نبي، ولا كان بعده من خليفة، إلا وله بطانتان، بطانة تأمره بالمعروف، وتنهاه عن المنكر، وبطانة لا تألوه خبالا؛ فمن وقي بطانة السوء فقد وقي" 3 هذا لفظ النسائي.
وإذا علم هذا، فالواجب على المسلمين كافة: أن يبعدوا كل البعد عن مشابهة أعداء الله تعالى، والتزيي بزيهم في اللباس وغيره؛ ويجب على ولاة الأمور أن
__________
1 النسائي: البيعة (4201).
2 الترمذي: الزهد (2369) , والنسائي: البيعة (4201) , وأحمد (2/289).
3 النسائي: البيعة (4203).(22/373)
ص -374- ... ينزعوا لباس الإفرنج عن جيوشهم وشرطهم، ويلبسوهم لباس المسلمين.
وينبغي لهم أن يحترزوا من شر بطانة السوء، ممن يأمرهم بالمنكر، ويحضهم عليه، ويبعدوهم عنهم غاية البعد. والله المسؤول: أن يوفق ولاة أمور المسلمين لما فيه الخير والصلاح، وأن يأخذ بنواصيهم إلى الحق إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وقال في تدريبهم:
ومن التشبه بأعداء الله تعالى: تدريب الجنود على الأنظمة الإفرنجية، وتشكيلهم بشكل أعداء الله تعالى، في اللباس، والمشي، وغير ذلك من الإشارات والحركات المبتدعة.
وقد فشا هذا التشبه المذموم، في كثير من المنتسبين إلى الإسلام؛ والدليل على تحريمه: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من تشبه بقوم فهو منهم" 1، وقوله في الحديث الآخر: "ليس منا من تشبه بغيرنا" 2.
فأما تعلم الرمي وما يتبع ذلك من استعمال الآلات الحربية الحادثة في هذه الأزمان، من برية، وبحرية، وجوية، فذلك مطلوب مرغب فيه للجهاد في سبيل الله، ومكافحة أعداء الله.
قال الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ
__________
1 أبو داود: اللباس (4031).
2 الترمذي: الاستئذان والآداب (2695).(22/374)
ص -375- ... رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [سورة الأنفال آية: 60] الآية.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"ألا إن القوة الرمي" 1 قالها ثلاث مرات، رواه الإمام أحمد، ومسلم، والدارمي، وأهل السنن إلا النسائي، من حديث عقبة بن عامر، رضي الله عنه.
[ من التشبه بأعداء الله تعالى: الإشارة بالأصابع عند السلام ]
وقال الشيخ حمود أيضا: ومن التشبه بأعداء الله تعالى: الإشارة بالأصابع عند السلام، وكذلك: الإشارة بالأكف مرفوعة إلى جانب الوجه، فوق الحاجب الأيمن، كما يفعل ذلك الشرط وغيرهم، وكذلك ضرب الشرط بأرجلهم عند السلام.
ويسمون هذا الضرب المنكر، والإشارة بالأكف: التحية العسكرية، وهي: تحية مأخوذة عن الإفرنج وأشباههم من أعداء الله تعالى، وهي بالهزء والسخرية أشبه منها بالتحية.
ولكن ما الحيلة فيمن غيرت طباعهم المدنية الإفرنجية؟ وأثرت فسادا كثيرا في أخلاقهم وأفعالهم، حتى صاروا يستحسنون من أفعال الإفرنج وغيرهم من الأعاجم، ما يستقبحه أولو العقول السليمة والفطر المستقيمة.
وهذه التحية المستهجنة من جملة المنكر الذي ينبغي تغييره والنهي عنه، لحديث عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تشبه بقوم فهو منهم" 2.
__________
1 مسلم: الإمارة (1917) , والترمذي: تفسير القرآن (3083) , وأبو داود: الجهاد (2514) , وابن ماجه: الجهاد (2813) , وأحمد (4/156) , والدارمي: الجهاد (2404).
2 أبو داود: اللباس (4031).(22/375)
ص -376- ... رواه الإمام أحمد، وأبو داود، وصححه ابن حبان، وغيره من الحفاظ.
وفي جامع الترمذي، عن عبد الله بن عمرو، رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس منا من تشبه بغيرنا، لا تشبهوا باليهود، ولا بالنصارى، فإن تسليم اليهود: الإشارة بالأصابع، وتسليم النصارى: الإشارة بالأكف" 1.
وروى الحافظ أبو يعلى، والطبراني في الأوسط، والبيهقي في شعب الإيمان، عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تسليم الرجل بأصبع واحدة يشير بها فعل اليهود" قال الهيثمي: رجال أبي يعلى رجال الصحيح، وقال المنذري: رواته رواة الصحيح.
وفي رواية للبيهقي: "لا تسلموا تسليم اليهود والنصارى، فإن تسليمهم إشارة بالكفوف، والحواجب" قال البيهقي: إسناده ضعيف، قلت: له شاهد مما تقدم، وما يأتي، وهو ما رواه النسائي بسند جيد، عن جابر رضي الله عنه مرفوعا: "لا تسلموا تسليم اليهود، فإن تسليمهم بالرؤوس، والإشارة".
وفي مستدرك الحاكم من حديث ابن جريج عن محمد بن قيس بن مخرمة، عن المسور بن مخرمة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هدينا مخالف لهديهم" يعني المشركين.
قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه،
__________
1 الترمذي: الاستئذان والآداب (2695).(22/376)
ص -377- ... ووافقه الذهبي في تلخيصه، وقد رواه الشافعي في مسنده، من حديث ابن جريج، عن محمد بن قيس بن مخرمة مرسلا، ولفظه: "هدينا مخالف لهدي أهل الأوثان والشرك".
إذا علم هذا، فقد اختص الله تبارك وتعالى المسلمين بأفضل التحيات وأكملها وأزكاها، وهو السلام الذي علمه الله تبارك وتعالى لآدم أبي البشر، حين نفخ فيه الروح، وأخبره أنه تحيته، وتحية ذريته من بعده.
كما في الصحيحين والمسند، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خلق الله آدم على صورته، طوله ستون ذراعا، فلما خلقه قال: اذهب فسلم على أولئك - نفر من الملائكة جلوس - فاستمع ما يحيونك، فإنها تحيتك، وتحية ذريتك; فقال: السلام عليكم، فقالوا: السلام عليك ورحمة الله; فزادوه: ورحمة الله..." 1 الحديث.
وقد شرع الله تبارك وتعالى لهذه الأمة: أن يسلم بعضهم على بعض، بهذه التحية المباركة الطيبة، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [سورة النور آية: 27].
وقال تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [سورة النور آية: 61] قال سعيد بن
__________
1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3326) , ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2841) , وأحمد (2/315).(22/377)
ص -378- ... جبير، والحسن البصري، وقتادة، والزهري، يعني: فليسلم بعضكم على بعض.
وفي جامع الترمذي عن أبي تميمة الهجيمي، عن رجل من قومه قال: طلبت النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث، وفيه: فقال - يعني النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا لقي الرجل أخاه المسلم، فليقل: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته" 1.
وفيه أيضا عن أبي تميمة الهجيمي، عن أبي جري جابر بن سليم الهجيمي، رضي الله عنه قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: عليك السلام، فقال: لا تقل عليك السلام، ولكن قل: السلام عليكم" 2 قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وبهذا السلام المبارك الطيب يسلم الرب تبارك وتعالى على المؤمنين إذا دخلوا الجنة، كما قال تعالى: {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [سورة يس آية: 58]، وقال تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} [سورة الأحزاب آية: 44].
وروى ابن ماجه في سننه، وابن أبي حاتم، والبغوي في تفسيريهما عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور، فرفعوا رؤوسهم، فإذا الرب تعالى قد أشرف عليهم من فوقهم، فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة، قال: وذلك قول الله تعالى: {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [سورة يس آية: 58] 3").
__________
1 الترمذي: الاستئذان والآداب (2721).
2 الترمذي: الاستئذان والآداب (2722).(22/378)
ص -379- ... وبهذا السلام المبارك الطيب، تسلم الملائكة على المؤمنين إذا دخلوا الجنة، كما قال تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [سورة الرعد آية: 23-24]، وقد تقدم تسليمهم على آدم بهذا السلام المبارك الطيب.
وكما أن السلام هو تحية المسلمين فيما بينهم في الدنيا، فكذلك هو تحيتهم فيما بينهم في الدار الآخرة، كما قال تعالى: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} [سورة يونس آية: 10]، وقال تعالى: {وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} [سورة إبراهيم آية: 23].
وإذا علم فضل السلام، وأنه تحية المسلمين في الدارين، فليعلم أيضا أنه لا أسفه رأيا ممن رغب عن ذلك، واستبدل عنه بإشارات الإفرنج وضربهم بالأرجل شبه البغال والحمير، إذا أحست بشيء يدبُّ على أرجلها.
ومن توقف في هذه المشابهة، فلينظر إلى البغال والحمير إذا كانت في مواضع القردان، فجعلت تضرب بأرجلها، ولينظر إلى ضرب الشرط بأرجلهم عند أداء تحيتهم العسكرية، حتى يرى تمام المشابهة، من أحد الجنسين للآخر.
بل ضرب الشرط بأرجلهم أفحش وأنكر من ضرب(22/379)
ص -380- ... البغال والحمير بأرجلها; وكفى بالتحية العسكرية مهزأة ومنقصة عند كل عاقل سالم، من أمراض المدنية الإفرنجية وأدناسها.
والله المسؤول: أن يوفق ولاة أمور المسلمين، لمنع هذه الأفعال المخالفة للشريعة المحمدية.
[ من التشبه بأعداء الله قيام الشرط وغيرهم من أعوان الملوك وخدامهم على الملوك وهم قعود ]
وقال: ومن التشبه بأعداء الله تعالى: قيام الشرط وغيرهم من أعوان الملوك وخدامهم على الملوك وهم قعود; وقيام الرجال للداخل عليهم على وجه التعظيم له والاحترام.
وقد ورد النهي عن ذلك، والتشديد فيه، كما في صحيح مسلم عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه قال: "اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلينا وراءه وهو قاعد، وأبو بكر يسمع الناس تكبيره; فالتفت إلينا فرآنا قياما، فأشار إلينا فقعدنا، فصلينا بصلاته قعودا; فلما سلم، قال: إن كدتم آنفا لتفعلون فعل فارس والروم، يقومون على ملوكهم وهم قعود، فلا تفعلوا..." 1 الحديث.
وقد رواه ابن ماجه في سننه بإسناد مسلم، ورواه البخاري في الأدب المفرد عن عبد الله بن صالح قال: حدثني الليث، قال: حدثني أبو الزبير، عن جابر رضي الله عنه فذكره بمثله، وإسناده حسن.
وقد بوب عليه البخاري بقوله: باب قيام الرجل للرجل
__________
1 مسلم: الصلاة (413) , والنسائي: السهو (1200) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1240) , وأحمد (3/334).(22/380)
ص -381- ... القاعد، ثم قال البخاري، رحمه الله تعالى، في الأدب المفرد: باب من كره أن يقعد ويقوم له الناس.
حدثنا موسى - يعني ابن إسماعيل التبوذكي – قال: حدثنا أبو عوانة، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، رضي الله عنه قال: "صرع رسول الله صلى الله عليه وسلم من فرس بالمدينة على جذع نخلة، فانفكت قدمه، فكنا نعوده في مشربة لعائشة رضي الله عنها، فأتيناه وهو يصلي قاعدا، فصلينا قياما.
ثم أتيناه مرة أخرى وهو يصلي المكتوبة قاعدا، فصلينا قياما، فأومأ إلينا أن اقعدوا، فلما قضى الصلاة، قال: إذا صلى الإمام قاعدا، فصلوا قعودا، وإذا صلى قائما فصلوا قياما، ولا تقوموا والإمام قاعد، كما تفعل فارس بعظمائهم" إسناده صحيح، رجاله كلهم من رجال الصحيحين.
وقد رواه أبو داود في سننه عن عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير، ووكيع، عن الأعمش، فذكره بنحوه، وإسناده صحيح على شرط الشيخين.
وفي المسند وسنن أبي داود وابن ماجه، عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: "خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم متوكئا على عصا، فقمنا إليه، فقال: لا تقوموا كما تقوم الأعاجم، يعظم بعضها بعضا" 1.
قال المنذري في الترغيب والترهيب:و إسناده حسن، فيه
__________
1 أبو داود: الأدب (5230) , وأحمد (5/253 ,5/256).(22/381)
ص -382- ... أبو غالب، واسمه حزور، ويقال: نافع; ويقال: سعيد بن الحزور، فيه كلام طويل ذكرته في مختصر السنن وغيره، والغالب عليه التوثيق، وقد صحح له الترمذي وغيره.
قلت: وقد وثقه الدارقطني، وقال ابن مفلح في الآداب: أبو غالب مختلف فيه، وحديثه حسن، وقد بوب أبو داود على هذا الحديث، وعلى حديث معاوية الآتي بقوله: باب الرجل يقوم للرجل يعظمه بذلك.
وقال البخاري، رحمه الله تعالى، في الأدب المفرد: حدثنا موسى بن إسماعيل - يعني التبوذكي – قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن حميد، عن أنس رضي الله عنه قال: ما كان شخص أحب إليهم رؤية من النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا إليه، لما يعلمون من كراهيته لذلك، إسناده صحيح على شرط مسلم.
وقد رواه الإمام أحمد، والترمذي، وقال: هذا حديث حسن، صحيح غريب; وبوب الترمذي على هذا الحديث، وعلى حديث معاوية الآتي، بقوله: باب كراهية قيام الرجل للرجل.
وقال أبو داود في سننه: حدثنا موسى بن إسماعيل - يعني التبوذكي - حدثنا حماد - يعني ابن سلمة - عن حبيب بن الشهيد، عن أبي مجلز، قال: خرج معاوية رضي الله عنه على ابن الزبير، وابن عامر، فقام ابن عامر، وجلس ابن الزبير.(22/382)
ص -383- ... فقال معاوية لابن عامر: اجلس فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أحب أن يتمثل له الرجال قياما، فليتبوأ مقعده من النار" 1 إسناده صحيح، على شرط مسلم.
وقد رواه الترمذي في جامعه، فقال: حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا قبيصة - يعني ابن عقبة - حدثنا سفيان - يعني الثوري - عن حبيب بن الشهيد، عن أبي مجلز، قال: خرج معاوية فقام عبد الله بن الزبير وابن صفوان حين رأوه.
فقال: اجلسا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من سره أن يتمثل له الرجال قياما، فليتبوأ مقعده من النار" 2.
قال الترمذي: وفي الباب عن أبي أمامة رضي الله عنه وهذا حديث حسن; قلت: رجاله كلهم من رجال الصحيحين، فهو على هذا صحيح على شرط الشيخين.
ثم رواه الترمذي عن هناد، عن أبي أسامة حماد بن أسامة، عن حبيب بن الشهيد، عن أبي مجلز، بكسر الميم وإسكان الجيم، واسمه: لاحق بن حميد السدوسي، عن معاوية رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، وهذا الإسناد صحيح على شرط الشيخين، وقد رواه الإمام أحمد في مسنده من طرق، عن حبيب بن الشهيد، وأسانيده كلها صحيحة.
وقال البخاري، رحمه الله تعالى، في الأدب المفرد: باب قيام الرجل للرجل تعظيما.
حدثنا آدم - يعني ابن أبي إياس – قال: حدثنا شعبة،
__________
1 الترمذي: الأدب (2755) , وأبو داود: الأدب (5229).
2 الترمذي: الأدب (2755) , وأبو داود: الأدب (5229).(22/383)
ص -384- ... وحدثنا حجاج - يعني ابن منهال – قال: حدثنا حماد - يعني ابن سلمة – قال: حدثنا حبيب بن الشهيد، قال: سمعت أبا مجلز يقول: إن معاوية رضي الله عنه خرج، وعبد الله بن عامر، وعبد الله بن الزبير قعود.
فقام ابن عامر، وقعد ابن الزبير - وكان أرزنهما -، قال معاوية رضي الله عنه قال النبي:صلى الله عليه وسلم "من سره أن يمثل له عباد الله قياما، فليتبوأ بيتا في النار" 1 إسناداه صحيحان على شرط مسلم.
قال ابن الأثير في قوله: "من سره أن يمثل له الناس قياما، فليتبوأ مقعده من النار" 2 أي: يقومون له قياما وهو جالس، يقال مثل الرجل يمثل مثولا، إذا انتصب قائما، وإنما نهى عنه، لأنه من زي الأعاجم، ولأن الباعث عليه الكبر، وإذلال الناس.
وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى، في الكلام على قول النبي:صلى الله عليه وسلم "إذا صلى الإمام جالسا فصلوا جلوسا، وإذا صلى الإمام قائما فصلوا قياما، ولا تفعلوا كما يفعل أهل فارس بعظمائها" 3.
في هذا الحديث: أنه أمرهم بترك القيام الذي هو فرض في الصلاة، وعلل ذلك بأن قيام المأمومين مع قعود الإمام، يشبه فعل فارس والروم بعظمائهم في قيامهم وهم قعود.
ومعلوم أن المأموم إنما نوى أن يقوم لله لا لإمامه،
__________
1 الترمذي: الأدب (2755) , وأبو داود: الأدب (5229) , وأحمد (4/91).
2 الترمذي: الأدب (2755) , وأبو داود: الأدب (5229).
3 مسلم: الصلاة (413) , والنسائي: السهو (1200) , وأبو داود: الصلاة (602) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1240) , وأحمد (3/300).(22/384)
ص -385- ... وهذا تشديد عظيم في النهي عن القيام للرجل القاعد، ونهي أيضا عما يشبه ذلك، وإن لم يقصد به ذلك.
وفي هذ الحديث أيضا: نهي عما يشبه فعل فارس والروم، وإن كانت نيتنا غير نيتهم، لقوله: "فلا تفعلوا" فهل بعد هذا في النهي عن مشابهتهم، في مجرد الصورة غاية؟! انتهى.
وقال النووي: فيه النهي عن قيام الغلمان والتباع على رأس متبوعهم الجالس لغير حاجة؛ وأما القيام للداخل، إذا كان من أهل الفضل والخير، فليس من هذا، بل هو جائز؛ قد جاءت به أحاديث، وأطبق عليه السلف والخلف.
قلت: في آخر هذا الكلام نظر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان أفضل الخلق وخيرهم، ومع هذا فقد نهى أصحابه عن القيام له إذا خرج عليهم، وأخبرهم: أن ذلك من فعل الأعاجم، يعظم بعضهم بعضا.
وقال أنس رضي الله عنه: "لم يكن شخص أحب إليهم من النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا إذا رأوه لم يقوموا، لما يعلمون من كراهيته لذلك"، "ولما قام ابن عامر لمعاوية رضي الله عنه لما خرج عليهم، أمره أن يجلس، وحدثهم بما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم من التشديد في ذلك".
وهذه أحاديث صحيحة، فيجب العمل بها; ومن قال: إنها محمولة على القيام على الملوك وهم قعود، وما أشبه(22/385)
ص -386- ... ذلك فقد أبعد النجعة، وخالف ما دلت عليه هذه الأحاديث من النهي عن القيام للداخل ونحوه، على وجه التعظيم والاحترام.
وقد رد ابن القيم رحمه الله تعالى على من قال بهذا القول، فقال في تهذيب السنن، على قول المنذري: وقد أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي الزبير رضي الله عنه أنهم لما صلوا خلفه صلى الله عليه وسلم قياما وهو قاعد، فأشار إليهم فقعدوا، فلما سلم قال: "إن كدتم آنفا لتفعلون فعل فارس والروم، يقومون على ملوكهم وهم قعود، فلا تفعلوا" 1.
قال ابن القيم، رحمه الله تعالى: حمل أحاديث النهي - يعني حديث معاوية، وحديث أبي أمامة - على مثل هذه الصورة ممتنع، فإن سياقها يدل على خلافه، وأنه صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن القيام له إذا خرج عليهم.
ولأن العرب لم يكونوا يعرفون هذا، وإنما هو من فعل فارس والروم، ولأن هذا لا يقال له قيام للرجل، إنما هو قيام عليه، ففرق بين القيام للشخص المنهي عنه، والقيام عليه، المشبه لفعل فارس والروم، والقيام إليه عند قدومه الذي هو سنة العرب، وأحاديث الجواز تدل عليه فقط، انتهى.
__________
1 مسلم: الصلاة (413) , والنسائي: السهو (1200) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1240) , وأحمد (3/334).(22/386)
ص -387- ... وذكر ابن القيم أيضا: حديث معاوية رضي الله عنه ثم قال: وفيه رد على من زعم أن معناه: أن يقوم الرجل للرجل في حضرته وهو قاعد، فإن معاوية روى الخبر لما قاما له حين خرج.
قال: وأما الأحاديث المتقدمة: فالقيام فيها عارض للقادم، مع أنه قيام إلى الرجل للقائه، لا قيام له، وهو وجه حديث فاطمة; فالمذموم: القيام للرجل; وأما القيام إليه للتلقي إذا قدم، فلا بأس به، وبهذا تجتمع الأحاديث، والله أعلم، انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
والأحاديث التي أشار إليها أنها قد تقدمت: ستأتي في القسم الثالث، وهي حديث عائشة رضي الله عنها، في قيام النبي صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة، وقوله للأنصار: "قوموا إلى سيدكم" 1 وحديث عائشة رضي الله عنها، في قيام النبي صلى الله عليه وسلم إلى فاطمة إذا دخلت عليه، وقيامها إليه إذا دخل عليها.
إذا علم هذا؛ فالقيام على ثلاثة أقسام:
أحدها: القيام على الرجل وهو قاعد، كما يفعله الشرط وغيرهم من أعوان الملوك مع الملوك، وهذا هو الذي ورد النهي عنه، في حديث جابر، رضي الله عنه الذي تقدم ذكره، ولا أعلم نزاعا في كراهته والمنع منه.
ويستثنى من هذا: مسألة واحدة، وهي: ما إذا قدم على الإمام رسل من الأعداء، وخيف منهم أن يغدروا به،
__________
1 البخاري: الجهاد والسير (3043) , ومسلم: الجهاد والسير (1768) , وأبو داود: الأدب (5215) , وأحمد (3/22 ,3/71).(22/387)
ص -388- ... فلا بأس أن يقوم بعض أعوانه على رأسه بالسلاح، كما فعل المغيرة بن شعبة، رضي الله عنه في صلح الحديبية، فإنه كان قائما بالسلاح على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه رسل قريش، والحديث بذلك في صحيح البخاري، ومسند الإمام أحمد، وغيرهما.
القسم الثاني: القيام للداخل ونحوه، إعظاما له واحتراما، لا لقصد المعانقة أو المصافحة؛ وفي كراهة هذا، والمنع منه نزاع بين العلماء، والصحيح المنع منه، لما تقدم عن أبي أمامة، وأنس ومعاوية، رضي الله عنهم في ذلك.
وأحاديثهم، وإن كانت واردة في هذا القسم، فعمومها يشمل القسم الأول أيضا، لأن كلا منهما من أفعال الأعاجم، وتعظيم بعضهم بعضا; والمسلم منهي عن التشبه بالأعاجم; وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من تشبه بقوم فهو منهم" 1، وفي الحديث الآخر: "ليس منا من تشبه بغيرنا" 2.
وقد فرّق بعض العلماء بين القيام لأهل الفضل والفقه، وبين القيام لغيرهم، فأجازوه لأهل الخير، ومنعوه لغيرهم، وهذا تفريق لا دليل عليه، وقد تقدم رد ما قاله النووي في ذلك.
وقال إسحاق بن إبراهيم: خرج أبو عبد الله على قوم في المسجد فقاموا له، فقال: لا تقوموا لأحد، فإنه مكروه. وقال أحمد أيضا في رواية مثنى: لا يقوم أحد لأحد.
وقال حنبل، قلت لعمي: ترى للرجل أن يقوم للرجل
__________
1 أبو داود: اللباس (4031).
2 الترمذي: الاستئذان والآداب (2695).(22/388)
ص -389- ... إذا رآه؟ قال: لا يقوم أحد لأحد، إلا الولد لوالده، أو أمه، فأما لغير الوالدين فلا، لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
وظاهر هذه الروايات أنه لا فرق بين القيام لأهل الفقة والدين، وبين القيام لغيرهم; وقد روي عن الإمام مالك نحو هذا; قال ابن القاسم في المدونة، قيل لمالك: الرجل يقوم للرجل، له الفضل والفقه؟ قال: أكره ذلك; ولا بأس أن يوسع له في مجلسه.
قال: وقيام المرأة لزوجها حتى يجلس، من فعل الجبابرة، وربما يكون الناس ينتظرونه، فإذا طل، قاموا، فليس هذا من فعل الإسلام.
وقال الحافظ بن حجر في فتح الباري: محصّل المنقول عن مالك: إنكار القيام، ما دام الذي يقام لأجله لم يجلس، ولو كان في شغل نفسه.
فإنه سئل عن المرأة تبالغ في إكرام زوجها فتلقاه وتنزع ثيابه، وتقف حتى يجلس؟ فقال: أما التلقي فلا بأس به، وأما القيام حتى يجلس، فلا، فإنه من فعل الجبابرة، وقد أنكره عمر بن عبد العزيز. انتهى.
قال شيخ الإسلام أبو العباس بن تيمية رحمه الله تعالى: أبو بكر، والقاضي، ومن تبعهما فرقوا بين القيام لأهل الدين وغيرهم، فاستحبوه لطائفة، وكرهوه لأخرى، والتفريق في مثل هذا بالصفات، فيه نظر.
قال: وأما أحمد، فمنع منه مطلقا لغير الوالدين، فإن(22/389)
ص -390- ... النبي صلى الله عليه وسلم سيد الأئمة، ولم يكونوا يقومون له، فاستحباب ذلك للإمام العادل مطلقا، خطأ، وقصة ابن أبي ذئب مع المنصور، تقتضي ذلك; وما أراد أبو عبد الله - والله أعلم - إلا لغير القادم من سفر.
فإنه قد نص على أن القادم من السفر، إذا أتاه إخوانه، فقام إليهم وعانقهم، فلا بأس به، وحديث سعد يخرّج على هذا، وسائر الأحاديث; فإن القادم، يتلقى، لكن هذا قام فعانقهم، والمعانقة لا تكون إلا بالقيام.
وأما الحاضر في المصر، الذي قد طالت غيبته، والذي ليس من عادته المجيء إليه، فمحل نظر؛ فأما الحاضر الذي يتكرر مجيئه في الأيام، كإمام المسجد، أو السلطان في مجلسه، أو العالم في مقعده، فاستحباب القيام له، خطأ، بل المنصوص عن أبي عبد الله هو الصواب. انتهى.
وقصة أبي ذئب التي أشار إليها الشيخ، قد ذكرت له مع المهدي، وأنه لما حج دخل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، "فقال المسيب بن أبي زهير، لابن أبي ذئب: قم، هذا أمير المؤمنين، فقال ابن أبي ذئب: إنما يقوم الناس لرب العالمين; فقال المهدي: دعه، فلقد قامت كل شعرة في رأسي".
وقد سئل الشيخ أيضا: عن النهوض الذي يعده الناس من الإكرام والاحترام، عند قدوم شخص معتبر، هل يجوز. أم لا؟ وإذا كان يغلب على ظن المتقاعد عن ذلك أن القادم(22/390)
ص -391- ... يخجل، أو يتأذى باطنه، وربما أدى ذلك إلى بغض ومقت وعداوة؟
فأجاب، رحمه الله تعالى: لم يكن من عادة السلف، على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، أن يعتادوا القيام للداخل المسلم، كما يردون عليه السلام، كما يعتاد كثير من الناس؛ بل قد قال أنس بن مالك رضي الله عنه: "لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا؛ لما يعلمون من كراهته لذلك".
ولكن ربما قاموا للقادم من مغيبه تلقيا له، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قام لعكرمة، وقال للأنصار - لما قدم سعد ابن معاذ -: (قوموا إلى سيدكم)، وكان سعد متمرضا بالمدينة، وكان قد قدم إلى بني قريظة شرقي المدينة.
والذي ينبغي للناس أن يعتادوا ما كان السلف عليه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنهم خير القرون، وخير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، فلا يعدل أحد عن هدي خير الخلق، وهدي خير القرون، إلى ما دونه؛ وينبغي للمطاع أن يقرر ذلك مع أصحابه، بحيث إذا رأوه لم يقوموا، ولا يقوم لهم في اللقاء المعتاد.
فأما القيام لمن قدم من سفر ونحو ذلك تلقيا له، فحسن; وإذا كان من عادة الناس إكرام من يجيء بالقيام، ولو ترك ذلك، لاعتقد أن ذلك بخس لحقه، أو قصد لخفضه، ولم يعلم العادة الموافقة للسنة، فالأصلح أن يقام(22/391)
ص -392- ... له لأن في ذلك إصلاح ذات البين، وإزالة للتباغض والشحناء.
وأما من عرف عادة القوم الموافقة للسنة، فليس في ترك ذلك إيذاء له، وليس هذا القيام هو القيام المذكور، في قوله صلى الله عليه وسلم "من سره أن يتمثل له الرجال قياما، فليتبوأ مقعده من النار" 1، فإن ذلك أن يقوموا له وهو قاعد، ليس هو أن يقوموا لمجيئه إذا جاء، ولهذا فرقوا بين أن يقال: قمت إليه، وقمت له; والقائم للقادم قد ساواه في القيام، بخلاف القائم للقاعد.
وقد ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى بهم قاعدا في مرضه، وصلوا قياما، أمرهم بالقعود، وقال: "لا تعظموني كما تعظم الأعاجم بعضها بعضا"، فقد نهاهم عن القيام في الصلاة وهو قاعد، لئلا يتشبهوا بالأعاجم، الذين يقومون لعظمائهم وهم قعود.
وجماع ذلك: أن الذي يصلح: اتباع عادة السلف وأخلاقهم، والاجتهاد في ذلك بحسب الإمكان؛ فمن لم يعتد ذلك، أو لم يعرف أنه العادة، وكان في ترك مقابلته بما اعتاده الناس من الإكرام مفسدة راجحة، فإنه يدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما، كما تحصل المصلحة بتفويت أدناهما. انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
وقال أيضا في - الفتاوى المصرية: ينبغي ترك القيام
__________
1 الترمذي: الأدب (2755) , وأبو داود: الأدب (5229).(22/392)
ص -393- ... في اللقاء المتكرر المعتاد، ونحوه؛ لكن إذا اعتاد الناس القيام، وقدم من لا يرى كرامته إلا به، فلا بأس به، فالقيام دفعا للعداوة والفساد، خير من تركه المفضي إلى الفساد؛ وينبغي مع هذا أن يسعى في الإصلاح على متابعة السنة. انتهى.
القسم الثالث: القيام إلى القادم لمعانقته، أو مصافحته، أو إنزاله عن دابته، ونحو ذلك من المقاصد الجائزة، وهذا القيام جائز قد فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله أصحابه بحضرته.
كما في جامع الترمذي عن عائشة رضي الله عنها، قالت: "قدم زيد بن حارثة المدينة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي، فأتاه، فقرع الباب، فقام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عريانا يجر ثوبه، والله ما رأيته عريانا قبله ولا بعده، فاعتنقه وقبله" 1 قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
قولها عريانا: تريد أنه عليه الصلاة والسلام، كان ساترا ما بين سرته وركبته، ولكنه سقط رداؤه عن عاتقه، فكان ما فوق سرته وما تحت ركبته عريانا، قال الطيبي: وكان هذا من شدة فرحه، حيثما لم يتمكن من تمام التردي بالرداء حتى جره، وكثيرا ما يقع مثل هذا. انتهى.
وروى البيهقي وغيره: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل عليه عكرمة بن أبي جهل مسلما مهاجرا، قام إليه فرحا بقدومه".
وروى أبو داود، والترمذي، والنسائي عن عائشة،
__________
1 الترمذي: الاستئذان والآداب (2732).(22/393)
ص -394- ... رضي الله عنها، قالت: "ما رأيت أحدا كان أشبه سمتا وهديا، ودَلًّا برسول الله صلى الله عليه وسلم من فاطمة رضي الله عنها، كانت إذا دخلت عليه قام إليها، فأخذ بيدها وقبلها وأجلسها في مجلسه، وكانت إذا دخل عليها قامت إليه، وأخذت بيده وقبلته وأجلسته في مجلسها" قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
وفي الصحيحين وغيرهما عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن أهل قريظة لما نزلوا على حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه أرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم فجاء على حمار; فقال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: "قوموا إلى سيدكم" 1.
وفي رواية لأحمد عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال أبو سعيد فلما طلع، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قوموا إلى سيدكم، فأنزلوه فقال عمر رضي الله عنه: سيدنا الله; قال: أنزلوه، فأنزلوه" 2 الحديث. قال الحافظ بن حجر: سنده حسن.
قلت: وفي هذه الرواية، بيان المراد من الأمر بالقيام إلى سعد رضي الله عنه، ففيه رد على من استدل به، على جواز القيام المنهي عنه.
قال الحافظ بن حجر: هذه الزيادة - يعني قوله فأنزلوه - تخدش في الاستدلال بقصة سعد على مشروعية القيام المتنازع فية. انتهى.
وفي الصحيحين وغيرهما، في قصة كعب بن مالك
__________
1 البخاري: الجهاد والسير (3043) , ومسلم: الجهاد والسير (1768) , وأبو داود: الأدب (5215) , وأحمد (3/22 ,3/71).
2 البخاري: الجهاد والسير (3043) , ومسلم: الجهاد والسير (1768) , وأبو داود: الأدب (5215) , وأحمد (3/22 ,3/71).(22/394)
ص -395- ... رضي الله عنه لما تاب الله عليه، قال: "وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد، وحوله الناس، فقام طلحة بن عبيد الله يهرول، حتى صافحني وهنأني" 1. الحديث.
فهذا وما أشبهه من القيام، جائز، كما دلت عليه هذه الأحاديث؛ وهو قيام إلى الشخص، لا له؛ والقيام إلى الشخص من فعل العرب، والقيام له، أو عليه من فعل العجم. وقد تقدم قول ابن القيم، رحمه الله: أن المذموم القيام للرجل، وأما القيام إليه للتلقي إذا قدم، فلا بأس به، وقد روي عن أحمد، رحمه الله تعالى، ما يوافق هذا.
قال أبو جعفر محمد بن أحمد بن المثنى: أتيت أحمد بن حنبل، فجلست على بابه انتظر خروجه، فلما خرج قمت إليه، فقال لي: أما علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أحب أن يتمثل الناس له قياما، فليتبوأ مقعده من النار" ؟ فقلت له: إنما قمت إليك لا لك، فاستحسنه.
__________
1 البخاري: المغازي (4418) , ومسلم: التوبة (2769) , وأبو داود: الجهاد (2773) , وأحمد (6/387).(22/395)
ص -396- ... [ فصل في أن من أبشع المنكرات تصفيق الرجال في بعض الأوقات ]
فصل
ومن أبشع المنكرات تصفيق الرجال في بعض الأوقات.
قال الشيخ: حمود التويجري: ومن التشبه بأعداء الله تعالى، ما يفعله كثير من الجهال، من التصفيق في المجالس والمجامع عند رؤية ما يعجبهم من الأفعال، وعند سماع ما يستحسنونه من الخطب والأشعار، وعند مجيء الملوك والرؤساء إليه، وهذا التصفيق سخف ورعونة، ومنكر مردود من عدة أوجه:
أحدها: أن فيه تشبها بأعداء الله تعالى من المشركين، وطوائف الإفرنج، وأشباههم فأما المشركون فقد قال الله تعالى عنهم: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [سورة الأنفال آية: 35]: قال أهل اللغة وجمهور المفسرين: المكاء: الصفير; والتصدية: التصفيق، وبهذا فسره ابن عمر وابن عباس، رضي الله عنهم.
فأما ابن عمر رضي الله عنهما، فرواه ابن جرير عنه; وفيه: "أنه حكى فعل المشركين فصفر وأمال خدّه وصفق بيديه"، وروى ابن أبي حاتم عنه رضي الله عنه أنه قال: "إنهم كانوا يضعون خدودهم على الأرض، ويصفقون، ويصفرون".
وأما ابن عباس، رضي الله عنهما، فرواه ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الفرج ابن الجوزي عنه; ولفظ ابن أبي حاتم قال: "كانت قريش تطوف بالبيت عراة، تصفر وتصفق".(22/396)
ص -397- ... والمكاء: الصفير; والتصدية: التصفيق; وكذا روي عن مجاهد، ومحمد بن كعب، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، والضحاك، والحسن، وقتادة، وعطية العوفي، وغيرهم.
قال ابن عرفة، وابن الأنباري: المكاء، والتصدية ليسا بصلاة، ولكن الله تعالى أخبر أنهم جعلوا مكان الصلاة التي أمروا بها، المكاء والتصدية، فألزمهم ذلك عظيم الأوزار.
وروى الإمام أحمد، والنسائي، والبيهقي، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر قريشا أنه أسري به إلى بيت المقدس، قالوا: ثم أصبحت بين ظهرانينا؟ قال: نعم، قال: فمن بين مصفق، ومن بين واضع يده على رأسه متعجبا للكذب" 1.
وأما الإفرنج وأضرابهم، من أعداء الله تعالى، فقد ذكر المخالطون لهم أن التصفيق من أفعالهم في محافلهم، إذا أعجبهم كلام، أو فعل من أحد، صفقوا تعجبا وتعظيما لذلك القول أو الفعل؛ وقد أخذ سفهاء المسلمين عنهم هذا الفعل السخيف، تقليدا لهم، وتشبها بهم.
وقد تقدم حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تشبه بقوم فهو منهم" 2. وتقدم أيضا حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من تشبه بغيرنا، لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى" 3 وفي هذين الحديثين دليل على المنع من
__________
1 أحمد (1/309).
2 أبو داود: اللباس (4031).
3 الترمذي: الاستئذان والآداب (2695).(22/397)
ص -398- ... التصفيق، لما فيه من التشبه بأعداء الله تعالى.
ويدل على المنع أيضا قوله صلى الله عليه وسلم: "خالفوا المشركين" 1 متفق عليه من حديث ابن عمر، رضي الله عنهما، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "هدينا مخالف لهديهم" يعني المشركين، رواه الحاكم في مستدركه، من حديت ابن جريج، عن محمد بن قيس بن مخرمة، عن المسور بن مخرمة، رضي الله عنهما، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه، ورواه الشافعي في مسنده، من حديث ابن جريج عن محمد بن قيس بن مخرمة مرسلا، ولفظه: "هدينا مخالف لأهل الأوثان والشرك".
ومن المقرر عند الأصوليين: أن الأمر بالشيء نهي عن ضده; وعلى هذا فالأمر بمخالفة المشركين هو في الحقيقة: نهي عن موافقتهم، والتشبه بهم فيما يفعلونه من التصفيق وغيره من زيهم وأفعالهم السيئة; وكذا إخباره صلى الله عليه وسلم بأن هدي المسلمين مخالف لهدي أهل الشرك، يقتضي منع المسلمين من التصفيق، وغيره من أفعال المشركين; والله أعلم.
وقد روي: أن التصفيق من أعمال قوم لوط; فروى ابن عساكر في تأريخه، عن الحسن مرسلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "عشر خصال عملها قوم لوط، بها هلكوا، وتزيدها أمتي بخلة" فذكر الخصال ومنها التصفيق.
الوجه الثاني: أن التصفيق من خصائص النساء، لتنبيه الإمام إذا نابه شيء في صلاته، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في
__________
1 البخاري: اللباس (5892) , ومسلم: الطهارة (259).(22/398)
ص -399- ... الحديث الصحيح: "إنما التصفيق للنساء" 1 رواه مالك، وأحمد، والشيخان، وأبو داود، والنسائي، من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه.
وقد أتى صلى الله عليه وسلم في هذه الجملة الوجيزة، بالحصر والاستغراق، والاختصاص، فدل على أنه لا مدخل فيه للرجال بحال; وعلى هذا فمن صفق من الرجال، فقد تشبه بالنساء، فيما هو من خصائصهن.
وقد "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء" 2 رواه الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي، والبخاري، وأهل السنن، إلا النسائي، من حديث بن عباس، رضي الله عنهما، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وروى ابن ماجه في سننه بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن المرأة تتشبه بالرجال، والرجل يتشبه بالنساء" 3 ورواه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي بنحوه، وصححه ابن حبان والحاكم، والنووي، وغيرهم، وقال الحاكم: على شرط مسلم، ولم يخرجاه، وأقره الذهبي في تلخيصه.
وروى الإمام أحمد أيضا: عن عبد الله بن عمرو، رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليس منا من تشبه بالرجال من النساء، ولا من تشبه بالنساء من الرجال" 4 في إسناده رجل مبهم، وبقية رجاله ثقات، وقد
__________
1 البخاري: الأذان (684) , ومسلم: الصلاة (421) , والنسائي: السهو (1183) , وأبو داود: الصلاة (940) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1035) , وأحمد (5/335) , ومالك: النداء للصلاة (392).
2 البخاري: اللباس (5885) , والترمذي: الأدب (2784) , وأبو داود: اللباس (4097) , وابن ماجه: النكاح (1904) , وأحمد (1/251 ,1/330).
3 ابن ماجه: النكاح (1903).
4 أحمد (2/199).(22/399)
ص -400- ... رواه الطبراني فأسقط الرجل المبهم، قال الهيثمي: فعلى هذا رجال الطبراني كلهم ثقات.
الوجه الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على الرجال لما صفقوا في الصلاة، لأنهم فعلوا فعلا لا يجوز للرجال فعله، ولا يليق بهم، وإنما يليق بالنساء؛ وقد قرن الإنكار ببيان العله في ذلك، فقال: "إنما التصفيق للنساء" 1 فهذه الجملة تفيد منع الرجال من التصفيق البتة، وأنه ينبغي الإنكار على من صفق منهم.
الوجه الرابع: أن التصفيق لم يكن من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من هدي أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين، ولم يكن من عمل التابعين وتابعيهم بإحسان، وإنما حدث في المسلمين في أثناء القرن الرابع عشر من الهجرة النبوية، لما كثرت مخالطة المسلمين للإفرنج، وأعجب جهال المسلمين بسنن أعداء الله وأفعالهم الذميمة.
وقد رأى الإمام أحمد، وأهل السنن من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة" 2 قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح; وصححه ابن حبان والحاكم، وقال: ليس له علة، ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وفي رواية للحاكم: "عليكم بما تعرفون من سنة نبيكم
__________
1 البخاري: الأذان (684) , ومسلم: الصلاة (421) , والنسائي: السهو (1183) , وأبو داود: الصلاة (940) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1035) , وأحمد (5/335) , ومالك: النداء للصلاة (392).
2 أبو داود: السنة (4607) , والدارمي: المقدمة (95).(22/400)
ص -401- ... والخلفاء الراشدين المهديين، وعضوا على نواجذكم بالحق" قال الحاكم: صحيح على شرطهما جميعا، ولا أعرف له علة، ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب أبلغ الخطب، ويخطب البلغاء بحضرته، وينشد فحول الشعراء عنده أفخم الشعر وأجزله، ولم ينقل أن أحدا من أصحابه صفق عند سماع خطبة ولا قصيدة.
وكذلك الخلفاء الراشدون بعده، كانوا يخطبون أبلغ الخطب، ويخطب عندهم البلغاء، وتنشد عندهم الأشعار الجيدة، ولم ينقل عنهم، ولا عن غيرهم من الصحابة والتابعين أنهم كانوا يصفقون عند التعجب والاستحسان.
وإنما نقل عن كفار قريش أن بعضهم صفقوا تعجبا لما أخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أسري به إلى بيت المقدس، فهؤلاء هم سلف المصفقين عند التعجب والاستحسان. وسلفهم الآخر: الإفرنج، وأشباههم من أعداء الله تعالى؛ وكل امرئ يهفو إلى ما يناسبه، ومن تشبه بقوم فهو منهم.
ولهم أيضا سلف ثالث من شر السلف، وهم: قوم لوط، فقد روى ابن عساكر في تأريخه عن الحسن البصري مرسلا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "عشر خصال عملها قوم لوط، بها هلكوا، وتزيدها أمتي بخلة" فذكر الخصال، ومنها التصفيق.
وللمصفقين أيضا سلف رابع من شر السلف، وهم:(22/401)
ص -402- ... جهال المتصوفة ومبتدعوهم. قال الحافظ أبو الفرج بن الجوزي، رحمه الله تعالى: إذا طرب أهل التصوف لسماع الغناء، صفقوا، ثم ساق بإسناده إلى أبي علي الكاتب قال: كان ابن بنان يتواجد، وكان أبو سعيد الخراز يصفق له.
قال ابن الجوزي، رحمه الله تعالى: والتصفيق منكر يطرب، ويخرج عن الاعتدال، وتتنزه عن مثله العقلاء، ويتشبه فاعله بالمشركين فيما كانوا يفعلونه عند البيت من التصدية؛ وهي التي ذمهم الله عز وجل لها فقال: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [سورة الأنفال آية: 35]، فالمكاء: الصفير، والتصدية: التصفيق.
قال: وفيه أيضا تشبه بالنساء; والعاقل يأنف من أن يخرج عن الوقار، إلى أفعال الكفار، والنسوة. انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
وقال الشيخ: عز الدين بن عبد السلام، في "قواعد الأحكام": وأما الرقص والتصفيق، فخفة ورعونة، مشهبة لرعونة الإناث، لا يفعلها إلا أرعن، أو متصنع كذاب؛ كيف يأتي الرقص المتزن بأوزان الغناء، ممن طاش لبه، وذهب قلبه؟!
وقد قال عليه السلام: "خير القرون، قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم" 1 ولم يكن أحد من هؤلاء الذين يقتدى بهم يفعل شيئا من ذلك إلى أن قال:
وقد حرم بعض العلماء التصفيق على الرجال
__________
1 البخاري: الشهادات (2652) , ومسلم: فضائل الصحابة (2533) , والترمذي: المناقب (3859) , وابن ماجه: الأحكام (2362) , وأحمد (1/378 ,1/442).(22/402)
ص -403- ... بقوله صلى الله عليه وسلم "إنما التصفيق للنساء" 1، ولعن عليه الصلاة والسلام المتشبهات من النساء بالرجال، والمتشبهين من الرجال بالنساء؛ ومن هاب الإله، وأدرك شيئا من تعظيمه، لم يتصور منه رقص، ولا تصفيق، ولا يصدر التصفيق والرقص، إلا من غبي جاهل، ولا يصدران من عاقل فاضل.
ويدل على جهالة فاعلهما: أن الشريعة لم ترد بهما في كتاب، ولا سنة، ولم يفعل ذلك أحد من الأنبياء، ولا من أتباع الأنبياء، وإنما يفعل ذلك الجهلة السفهاء، الذين التبست عليهم الحقائق بالأهواء، وقد مضى السلف، وأفاضل الخلف، ولم يلابسوا شيئا من ذلك، انتهى.
وقال شيخ الإسلام أبو العباس بن تيمية، رحمه الله تعالى: وأما اتخاذ التصفيق، والغناء، والضرب بالدفوف، والنفخ في الشبابات، والاجتماع على ذلك دينا، وطريقا إلى الله تعالى، وقربة فهذا ليس من دين الإسلام،
وليس مما شرعه لهم نبيهم صلى الله عليه وسلم ولا أحد من خلفائه، ولا استحسن ذلك أحد من أئمة المسلمين؛ بل ولم يكن أحد من أهل الدين يفعل ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عهد أصحابه، ولا تابعيهم بإحسان، ولا تابعي التابعين. انتهى.
والغرض منه قوله: إنه لم يكن أحد من أهل الدين يفعل ذلك، يعني: التصفيق وما ذكر معه، لا على عهد
__________
1 البخاري: الأذان (684) , ومسلم: الصلاة (421) , والنسائي: السهو (1183) , وأبو داود: الصلاة (940) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1035) , وأحمد (5/335) , ومالك: النداء للصلاة (392).(22/403)
ص -404- ... رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا على عهد أصحابه، ولا تابعيهم بإحسان، ولا تابعي التابعين.
وقال الشيخ أيضا في موضع آخر: وأما الرجال على عهده - يعني: على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يكن أحد منهم يضرب بدف، ولا يصفق بكف.
بل قد ثبت عنه في الصحيح، أنه قال: "إنما التصفيق للنساء"1، ولعن المتشبهات من النساء بالرجال، والمتشبهين من الرجال بالنساء; ولما كان الغناء والضرب بالدف، والكف، من عمل النساء، كان السلف يسمون من يفعل ذلك مخنثا. انتهى.
وقال العلامة ابن القيم، رحمه الله تعالى، في كتاب الإغاثة: والله سبحانه لم يشرع التصفيق للرجال، وقت الحاجة إليه في الصلاة، إذا نابهم أمر، بل أمروا بالعدول عنه إلى التسبيح، لئلا يتشبهوا بالنساء؛ فكيف إذا فعلوه، لا لحاجة، وقرنوا به أنواعا من المعاصي قولا، وفعلا. انتهى.
وقال الحليمي: يكره التصفيق للرجال، فإنه مما يختص به النساء، وقد منعوا من التشبه بهن، كما منعوا من لبس المزعفر لذلك، انتهى. قال الأذرعي: وهو يشعر بتحريمه على الرجال.
قلت يعني: أن مراد الحليمي بالكراهة: كراهة التحريم، لأن التشبه بالنساء حرام على الرجال، والمتشبه بهن ملعون، واللعن لا يكون إلا على كبيرة من الكبائر.
__________
1 البخاري: الأذان (684) , ومسلم: الصلاة (421) , والنسائي: السهو (1183) , وأبو داود: الصلاة (940) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1035) , وأحمد (5/335) , ومالك: النداء للصلاة (392).(22/404)
ص -405- ... وفيما قاله هؤلاء المحققون كفاية في بيان قبح التصفيق من الرجال، وذم من يتعاطى ذلك منهم.
الباب الثامن: حكم المكس 1
فهو محرم أخذه على المسلمين بالكتاب والسنة والإجماع، وجائز أخذه على المشركين بالإجماع، ولم يكن يؤخذ على المسلمين في عصر هذه الدعوة إلى وفاة الشيخ عبد الله.
ولم يكن يؤخذ في عصر الخلفاء الراشدين، ولا الأئمة المهديين، وسواء سمي بالجمرك، أو الرسوم، أو التأمينات; أو غير ذلك.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [سورة النساء آية: 29] وغيرها.
وقال صلى الله عليه وسلم: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام" 2 حتى قال شيخ الإسلام: لا يجوز لولي أمر المسلمين، أن يسبك لهم سكة من ذهب أو فضة، إلا بقدر أجرة السبك.
ويدل أيضا على عظم إثم المكس، وأنه أعظم من الزنى، قوله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يصلي على الزانية، التي رجمت حتى ماتت، فقال عمر: تصلي عليها وقد زنت؟ قال:
__________
1 وتقدم في الجزء التاسع, قول عدد من المشائخ فيه.
2 البخاري: الحج (1739) , وأحمد (1/230).(22/405)
ص -406- ... "أرأيت أن قد جادت بنفسها لله؟! لقد تابت توبة، لو تابها صاحب مكس، لغفر له" 1.
فدل هذا الحديث على أن المكس أعظم من الزنى، لأن هذا من الديوان الذي لا يترك الله منه شيئا; والعجب أن لو هرب صاحب سيارة، أو جمال، أو حمار، لطارت الجنود خلفه، ولو ترك فريضة لم يلتفت إليه!
وقال الشيخ: محمد بن إبراهيم، رحمه الله 2:
المكوس حرام، ولا تخلط مع الفيء، ولا مع الزكاة، ولا مع الفيء الخاص; بل كل له مصرف، هذه يتولاها من جباها، والحلال له مستحقون، والحرام شأنه به الذي جباه; لكن لو توخى بها أشياء فيها نفع خفف عنه; فإن أسوأ الدنانير، دينار يجيء من غير محله، ويدفع في غير محله، يجيء معصية ويبذل معصية.
رحمة الله على الوالد كتب لفيصل رسالة، قال: اعلم أن الأموال التي تجيء ثلاثة أقسام;: الزكاة، والفيء، والمكوس، فيجب أن يعطى كلَّا حكمه.
وقوله: المكوس، مراده التي جباها من جباها، وعصى بذلك; المقصود من ذكر كلام الوالد: أنه لا يخلط هذا مع هذا، فالفيء لأناس مخصوصين، والزكاة لأناس.
فالذي يحتوي عليه بيت مال المسلمين أشياء عديدة، بل
__________
1 مسلم: الحدود (1695) , وأبو داود: الحدود (4442) , وأحمد (5/348) , والدارمي: الحدود (2324).
2 في الجزء السادس من فتاويه.(22/406)
ص -407- ... أوسع من ذلك: أن الذي يجبيه الولاة أشياء:
أحدها: الزكاة.
الثاني: ما يدخل مدخلا شرعيا وليس بزكاة، كالخمس وخمسه، وكأموال الكفار التي تصل إلى المسلمين بغير إيجاف خيل ولا ركاب، فيصرف في المصالح، وإذا فضل شيء فهو لعموم المسلمين، وهو الفيء.
الثالث: المكوس، فإنها كثيرا ما يأخذ الولاة بغير حق، بل بظلم، ولكنها تعد في جملة ما يدخل على جنس الحكومات الإسلامية، فمنها ما هو شرعي، ومنها ما هو ظلم، ولكن يتعلق به أحكام مع أنه ظلم.
منها: أنه إذا وضع معصية، فإنه يجب أن يعدل فيه; فيؤخذ على ولد الملك، وطالب العلم وغير ذلك، ويدخل ذلك في المظالم المشتركة; ومن ذلك: أن الأئمة إذا أخذوا شيئا من هذه الأموال، واجب عليهم أن يردوها.
فإذا جهلت أربابها، حل لمن أعطيها من الجيش، فكل مال يجهل صاحبه، مصرفه الفيء، فالشيء الذي من المكوس إذا تاب الإمام فأراد ردّه إلى أربابه، وأهله لا يعرفون، فيجوز أن يعطى لأحد مستحقي الفيء.(22/407)
ص -408- ... وقال الشيخ:
عبد الله الخليفي: فصل: في ردّ بدع الرسوم
قال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} [سورة البقرة آية: 170].
قال بعض المفسرين: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرشد الناس إلى العمل بالقرآن، ويهديهم إليه، ويقول لهم: اتركوا رسوم الشرك والبدع، الرائجة فيكم، فيقولون: لو اتبعنا هذا القرآن، لذهب منا اتباع أسلافنا، بل نسلك مسلك الآباء، في الإتيان بالرسوم والمراسم; لأن هذا الطريق لو كان قبيحا، لما سلكه أكابرنا.
فأنزل الله هذه الآية، ورد فيها عليهم، وسفههم، وسجل عليهم بالحماقة بأن لو كانوا - آباءهم - جاهلين لا يشعرون شيئا، لا يفهمون قولا; أفهؤلاء يسلكون مسلكهم والحال هذه؟!
مع أنهم لا يختارون سبل الآباء في أمور دنياهم فيما فيه نقصانهم، كما أن أبا أحد، لو اتجر البز فلم يربح فيه، لا يؤثر ولده هذه التجارة قطعا، علما منه بأن فيها ضررا، وكذا، لو وقع والد أحد في البئر، لا يقع ولده فيه أبدا، ظنا منه أن في هذا هلاكه.
فيا لله العجب من هذا القوم؟! كيف يتبع الآباء في أمور الدين، ولا يتبعهم في أمور الدنيا؟! مع أن أمر الدين أهم وأعظم، وأحرى بالتحقيق والتدقيق، وأمر الدنيا هين ليّن،(22/408)
ص -409- ... لا يعود بضرر في الإيمان إن لم يقع كما أراد؟!
فلا أدري ما هذا الإسلام؟ يتركون الرسوم التي جاء بها الرسول، وأمر بها الله تعالى، ويختارون رسوم الآباء والأجداد، فهل رسوم الأسلاف أحق بالاتباع؟ أو شرع الله ورسوله؟!
فهذه الآية الكريمة: دليل على رد الرسوم المبتدعة والمراسيم المحدثة، والأمور الموضوعة التي راجت في الناس، وجاءت من أسلافهم السفهاء، كما تدل على رد التقليد فيها.
ومثل هذه الآية قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [سورة المائدة آية: 104] الآية: يعني: من التحليل والتحريم، اهـ، ملخصا من كتاب الدين الخالص، لصديق خان.(22/409)
ص -410- ... وقال أيضا رحمه الله:
فصل في رد بدع التشبه بغير أهل الإسلام
عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تشبه بقوم فهو منهم" 1 رواه الإمام أحمد، وأبو داود; قال الإمام صديق، رحمه الله في كتابه "الدين الخالص":
هذا الحديث من جوامع الكلم، ويوانع الثمار، لأنه قد عم المشبه والمشبه بهم من كان، وأينما كان، ولم يخص نوعا من أنواع التشبيه، لا قوما من الأقوام المشبه بها.
فتحصّل من ذلك: أن كل متشبه بآخر في كل شيء، حقيرا كان أو جليلا، ظاهرا كان أو باطنا، له حكم المتشبه به، في الكراهة والحرمة، والكفر؛ وتفصيل ذلك يطول.
وقد كفى لبيان بعضها شيخ الإسلام ابن تيمية الحراني، رحمه الله، في كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم، مخالفة أصحاب الجحيم"، وأتى فيه بأشياء تشبهت بها هذه الأمة، على غير الملة الإسلامية والأمة المحمدية، واستوعب غالبها، ولعله فاته أشياء كثيرة لم تكن في زمنه، وظهرت بعده في هذه الأزمنة المتأخرة، واتسع الخرق على الراقع، إلى أن قال، رحمه الله:
وقد أفرط الناس المسلمون في هذا العصر في التشبه بالمبتدعين والفاسقين، إلا ما شاء الله؛ وعم بذلك البلاد، حتى لم يبق شخص، ولا دار، ولا محلة، ولا بلد، ولا
__________
1 أبو داود: اللباس (4031).(22/410)
ص -411- ... إقليم، إلا وقد دخل فيه هذا الداء العضال، وعدّوه من أسباب الجمال والكمال.
ثم قال: وهذا الحديث يفيد ذم هذا التشبه، إذا كان بأهل غير الإسلام من أهل الكتاب وغيرهم; فهكذا يفيد بمفهومه المخالف أن التشبه بالصلحاء، وبأهل الله ورسوله، من المحدثين، والفقهاء، والقراء، ونحوهم، إذا لم يكن ذلك منه رياء وسمعة، وشهرة في الناس، بل كان هذا منه إخلاصا بالدين لله عز وجل وإيثارا لسنة سيد المرسلين، في اللباس، والطعام، والفراش، والصلاة، والصيام، وغير ذلك، مما أورد به الشرع الشريف، كان هذا المتشبه في عداد من تشبه بهم، ونفعه ذلك; اهـ; والله الموفق.
وقال الشيخ: صالح الخريصي، في رسالة للملك عبد العزيز آل سعود، بعد أن وعظه، وأخبره بما عليه من مسؤوليات؛ وأنه باتباعه هذه الشريعة المحمدية، ظاهرا وباطنا، يحصل له العز والتمكين.
فهنا كلمة من أخيك، ما بعث وحث عليها إلا إكمال النصح، فإن مسألة الرسوم اليوم، من الله عليكم وحباكم، وأعطاكم ووسع عليكم من واسع فضله، فارحموا عباد الله يرحمكم الله، وأوسعوا عليهم وتصدقوا عليهم بهذه الرسوم إن الله يجزي المتصدقين، وأنتم بإمكانكم نفع الفقير وتودّون نفعه،(22/411)
ص -412- ... وهذه الرسوم تؤخذ منه، لأن الغني سالم منها، يأخذه فائدة مع الرسوم، وتبقى على الفقير.
واسلموا من إثمه وعقوبته، فإني أرجو لكم بذلك السنا والرفعة في الدنيا والآخرة، فإن الفقراء أكثرهم في أزمة، وأنتم تحبون إيصال الخير إليهم.
[ فصل في تبين تحريم المكس ]
فصل إذا تبين تحريم المكس من الكتاب والسنة والإجماع، فقد فرض الله على عباده المسلمين الزكاة؛ وفيها، وفيما أخرج الله للمسلمين من المعادن غنى عنه، وقد تقدمت الأدلة على تحريمه; وأما الزكاة فقد قرنها الله في كتابه بالصلاة، في غير ما موضع; وفي السنة ما هو مشهور ويأتي.
وقال إمام هذه الدعوة، الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، للأمير محمد بن سعود، رحمهما الله، لما علم منه إقباله على الدين ونصرته واتباع شرعه في الزكاة، وفيما يفيء الله غنى، فوافقه على ذلك.
ويجدر بولاة الأمور أن يقتفوا بآبائهم، وقد فاض عليهم من المال ما لا يخطر ببال من الزكاة ومعادن وغيرها.(22/412)
ص -413- ... [ رسالة الشيخ محمد بن إبراهيم إلى سكان الهجر في الحث على أداء الزكاة ]
وقال الشيخ: محمد بن إبراهيم، رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
من محمد بن إبراهيم، إلى من يراه من إخواننا المسلمين، من سكان الهجر وتابعيهم، من البوادي وغيرهم، من البادية والحاضرة.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فنصيحة لكم، وشفقة عليكم، وحذرا من إثم الكتمان، كتبت إليكم بهذه الكلمات، فأقول:
قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [سورة البينة آية: 5].
وقال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [سورة التوبة آية: 5], وقال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [سورة التوبة آية: 11].
وروى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة؛ فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحق(22/413)
ص -414- ... الإسلام، وحسابهم على الله تعالى" 1.
وفي صحيح مسلم عن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا" 2.
وروى البخاري ومسلم من حديث ابن عمر، رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان" 3.
وقال أبو بكر الصديق، رضي الله عنه لما ناظره من ناظره، في قتال مانع الزكاة: "لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإنها قرينتها في كتاب الله. والله لو منعوني عناقا، وفي رواية عقالا، كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه".
فهذه النصوص تدل على أن أداء الزكاة أحد أركان الإسلام، وأنها قرينة الصلاة، وهما جميعا، قرينتا التوحيد، وأنه يجب قتال من امتنع عن أدائها، حتى يؤديها.
ولهذا جاء الوعيد الشديد، والتغليظ الأكيد في حق مانعها، كما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة، صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جبينه وظهره،
__________
1 البخاري: الإيمان (25) , ومسلم: الإيمان (22).
2 مسلم: الإيمان (8) , والترمذي: الإيمان (2610) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (4990) , وأبو داود: السنة (4695) , وابن ماجه: المقدمة (63) , وأحمد (1/27 ,1/51).
3 البخاري: الإيمان (8) , ومسلم: الإيمان (16) , والترمذي: الإيمان (2609) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5001) , وأحمد (2/26).(22/414)
ص -415- ... كلما بردت أعيدت له، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد؛ فيرى سبيله إما إلى الجنة، وإما إلى النار.
قيل يا رسول الله: فالإبل؟ قال: ولا صاحب إبل لا يؤدي حقها، ومن حقها حلبها يوم ورودها، إلا إذا كان يوم القيامة، بطح لها بقاع قرقر، لا يفقد منها فصيلا واحدا، تطؤه بأخفافها، وتعضه بأفواهها، كلما مر عليه أولاها، رد عليه أخراها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة، وإما إلى النار.
قيل يا رسول الله: فالبقر والغنم؟ قال: ولا صاحب بقر ولا غنم لا يؤدي منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة، بطح لها بقاع قرقر، لا يفقد منها شيئا، ليس فيها عقصاء، ولا جلحاء، ولا عضباء، تنطحه بقرونها، وتطؤه بأظلافها، كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة، وإما إلى النار".
والأحاديث دلت على أخذ الزكاة من المواشي عينا، فتؤخذ من الإبل تارة غنما، وتارة أسنانا من الإبل، على حسب ما ورد، كما تؤخذ الغنم من الغنم، والبقر من البقر، والنقد من النقد، والبر من البر، إلى آخر أنواع الأموال الزكوية؛ إلا أن أخذ القيمة جوزه بعض أهل العلم، بشرط المصلحة في ذلك; وبشرط عدم النقص عن القيمة التي تساويها حينئذ.(22/415)
ص -416- ... إذا عرف هذا، فإن كثيرا من العمال الموكول إليهم أخذ الزكاة من أرباب الأموال، لا يقومون بالواجب، إذا قبضوا منهم القيمة فيقبض بعضهم نصف القيمة، أو ثلثيها فقط، أو قريبا من ذلك.
وهذا لا يبرئ ذمة أرباب الأموال، ولا يحل لهم ما ترك من قيمة زكاة أموالهم، بل هي عليهم حرام، ويبقون غير مؤدين لهذا الركن العظيم من أركان الإسلام؛ ولا يسقط هذا بمفارقة العامل لهم، ولا بمضي سنة.
بل هذا دَيْن في رقاب أرباب الأموال، ولا يجوز لولاة المسلمين إقرارهم، على بقائها في ذممهم، كما يتعين على ولاة الأمور أن يوصوا من يبعثون في قبض الزكاة، بتقوى الله، واستيعاب جميع القيمة عندما تؤخذ القيمة، والاستقصاء في ذلك.
كما يجب عليهم أن يقوموا حول هذه العبادة العظيمة، وسائر فرائض الدين، بما يخرجون به من عهدة ما ولاهم الله عليه؛ وهو سائلهم عنه يوم القيامة.
فإن أهم مقاصد الولاية: إقامة دين الله، وإلزام الخاصة والعامة من المسلمين بالتزام فرائضه، ولا سيما: التوحيد، والصلاة، والزكاة، وأن يعاقبوا المتهاونين بأمر الله ورسوله، والمتساهلين بفرائض الدين، العقوبة التي تردع العصاة، والغواة عن عصيانهم وغيهم، وأن يوصلوا الزكاة إلى أربابها المستحقين لها، وهم(22/416)
ص -417- ... الأصناف الثمانية المذكورون في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [سورة التوبة آية: 60].
ودفعها إلى غير هؤلاء لا يبرئ الذمة، ولا يعتبر شرعا أداء للزكاة، كما أن على العمالة مخافة الله وتقواه فيما ائتمنوا عليه، بأن لا يأخذوا أكثر من الواجب، ولا يتركوا من الواجب شيئا، فيكونوا قد خانوا الله ورسوله، وخانوا ولي أمرهم، وخانوا أرباب الزكاة من الفقراء والمساكين ونحوهم وغشوا أرباب الأموال، حيث أرسلوا ليعينوهم على أنفسهم ويطهروهم بقبضها منهم.
كما يجب على أرباب الأموال: تقوى الله وخشيته، والخوف من أن يموت أحدهم وزكاة الإسلام في ذمته، ولا تقضى بعده؛ بل يلقى الله بها يوم القيامة وهي في ذمته.
والله أسأل أن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يوفقنا جميعا لما يحبه ويرضاه، إنه على كل شيء قدير، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(22/417)
ص -418- ... [ رسالة الشيخ صالح الخريصي في الحث على تقوى الله والشفقة على المحتاجين ]
وقال الشيخ: صالح بن أحمد الخريصي، رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد: فقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [سورة الحشر آية: 18]، وقال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [سورة المائدة آية: 2]، وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [سورة الحجرات آية: 10].
وقال تعالى: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} [سورة البقرة آية: 110]، وقال تعالى: {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} [سورة التغابن آية: 17] والآيات في هذا المعنى كثيرة جدا.
والغرض: أن الله تبارك وتعالى أمر المؤمنين أن يقوموا بحقه الذي أوجبه عليهم، وبحقوق بعضهم على بعض، من شفقة بعضهم على بعض، ورحمة بعضهم بعضا، ومواساة بعضهم بعضا، كما وصفهم في قوله: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [سورة الفتح آية: 29]، {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [سورة المائدة آية: 54].
وقال:صلى الله عليه وسلم "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر"، 1 وقال صلى الله عليه وسلم "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا" 2
__________
1 البخاري: الأدب (6011) , ومسلم: البر والصلة والآداب (2586) , وأحمد (4/270).
2 البخاري: الصلاة (481) , ومسلم: البر والصلة والآداب (2585) , والترمذي: البر والصلة (1928) , والنسائي: الزكاة (2560) , وأحمد (4/404).(22/418)
ص -419- ... وقال: "من فرّج عن مسلم كربة من كرب الدنيا، فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه" 1.
لا سيما مع الضعيف الملهوف ، فقد قال صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ذر رضي الله عنه: "وتسعى بشدة ساقيك إلى اللهفان المستغيث، وترفع بشدة ذراعيك مع الضعيف" 2.
وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تحل المسألة إلا لأحد ثلاثة: لذي دم موجع، أو غرم مفظع، أو فقر مدقع" 3، وفي الحديث: "إن الصدقة لتدفع ميتة السوء، وتطفئ الخطيئة" 4.
وفي الحديث: "باكروا بالصدقة، فإن البلاء لا يتخطاها", وفي الحديث: "ما نقص مال من صدقة؛ بل تزده، بل تزده"5، وفي الحديث: "صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وأهل المعروف في الدنيا، هم أهل المعروف في الآخرة، وأول من يدخل الجنة أهل المعروف".
جعلنا الله وإياكم منهم بمنه وكرمه، إنه جواد كريم رؤوف رحيم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين. حرر في ذي الحجة سنة 1375 هـ.
وفي هاتين الرسالتين كفاية، فلو تتبعنا ما لعلماء هذا العصر من النصائح في ذلك، لخرج بنا عن المقصود.
__________
1 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) , والترمذي: الحدود (1425) , وأبو داود: الأدب (4946) , وابن ماجه: المقدمة (225) , وأحمد (2/252).
2 أحمد (5/168).
3 أبو داود: الزكاة (1641) , وابن ماجه: التجارات (2198) , وأحمد (3/114).
4 الترمذي: الزكاة (664).
5 الترمذي: الزهد (2325) , وأحمد (4/231).(22/419)
ص -420- ... الباب التاسع وفيه فصول
[ الفصل الأول في العلم وفضله وفضل أهله ]
الأول: في العلم وفضله، وفضل أهله، من الكتاب والسنة والإجماع.
قال الله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [سورة المجادلة آية: 11], قال ابن عباس رضي الله عنهما:"العلماء فوق المؤمنين مائة درجة، ما بين الدرجتين مائة عام".
وقال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ} [سورة آل عمران آية: 18] الآية: بدأ بنفسه، وثنى بملائكته، وثلث بأهل العلم، وكنَّا هم بذلك شرفا وفضلا ونبلا.
وقال تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [سورة الزمر آية: 9]، وقال تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [سورة النحل آية: 43]، وقال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [سورة فاطر آية: 28]، وقال تعالى: {أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} [سورة البينة آية: 7] إلى قوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} 1: فاقتضت الآيات أن العلماء هم الذين يخشون الله، وأن الذين يخشون الله هم خير البرية؛ فصح أن العلماء خير البرية
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يرد الله به خيرا يفقّه في الدين" 2، وعنه صلى الله عليه وسلم: "العلماء ورثة الأنبياء" 3، وحسبك بهذه الدرجة
__________
1 سورة البينة آية: 8.
2 الترمذي: العلم (2645) , وأحمد (1/306) , والدارمي: المقدمة (225).
3 الترمذي: العلم (2682) , وأبو داود: العلم (3641) , وابن ماجه: المقدمة (223) , وأحمد (5/196).(22/420)
ص -421- ... شرفا ومجدا وفخرا، فكما لا رتبة فوق رتبة النبوة، فلا شرف فوق شرف وارث تلك الرتبة.
وقد أفرد في فضله وفضل أهله مصنفات، ولم يخل كتاب من كتب الحديث وغيرها من ذكر فضله وفضلهم.
وفي منهجهم ومكان تعلمهم:
فقد كان العلماء في عصر الشيخ عبد الله وطبقته، في بيوت الله التي هي أفضل بقاع الأرض، التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، كانوا يعلمون الناس كتاب الله وسنة نبيه، ومختصرات الأصول، والفقه؛ وتحفظ تلك عن ظهر قلب.
ولم نمثل بعصر الشيخ عبد الله، الأشهر من علم، وزهده وورعه وسعة فكره؛ وقد كان يضرب به المثل، وهو ما جرى عليه الشيخ عبد الرحمن بن حسن في عصر الإمام فيصل.
وكذلك في أول عصر تلك الدعوة المباركة، التي قام بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وآزره وأيدها الأمير محمد بن سعود؛ وازدهرت في تلك العصور المباركة، يحضرها المتعلمون وغيرهم، ومن يفد من الشام واليمن.
وكذلك كبار العلماء في المساجد، وفي الحرمين الشريفين، والمسجد الأقصى، وأولئك المتخرجون قديما وحديثا، لا يحصون كثرة؛ وما كانت المدرسة الأولى، بل(22/421)
ص -422- ... ما كانت الجامعة العلمية للمهاجرين والأنصار، إلا في المسجد، حيت يلقي عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يوحى إليه من الكتاب والحكمة، فهم يقتدون به في أفعاله العالية، وخصاله الحميدة، وهم يأخذونها سماعا بآذانهم، ورؤية بأعينهم، يقول لهم: "صلوا كما رأيتموني أصلي" 1.
وتؤخذ عنة تعاليم الإسلام من المسجد، كما في حديث ضمام بن ثعلبة الذي قدم المدينة، وأناخ بعيره في ناحية المسجد، وأخذ يلقي على رئيس تلك الجامعة أسئلة كثيرة، ويستفيدون بالأجوبة النافعة المفيدة، ويقول أخيرا: إنه رسول من وراءه، وينصرف راشدا ومعلما.
والوفود القادمون من مختلف أنحاء الجزيرة، لتعلم الدين، وأحواله، وقواعده التي يقوم عليها، في أيام قليلة يقضونها في المسجد، متعلمين من إخوانهم السابقين في الإسلام، من الأستاذ الأكبر صلى الله عليه وسلم، كوفد ثقيف، والأشعريين، وعبد القيس، وغيرهم.
والتعليم يلقى على الأفراد والجماعات، بأساليب الحكمة، وعلى كل واحد بما يتناسب مع عقله وعلمه واستعداده، كل ذلك في المسجد؛ وربما جلس الصحابة رضي الله عنهم، صامتين لا يتكلمون، حياء من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يسألونه، فيأتيهم الأعرابي يسأل عن أشياء، يستفيدون بالسؤال عنها.
__________
1 البخاري: الأذان (631) , والدارمي: الصلاة (1253).(22/422)
ص -423- ... وربما جاء جبريل في صورة رجل غريب، يسأل عن الدين، وأمارات الساعة؛ فيستفيدون من الجواب عليه، وينقلون العلم إلى من وراءهم. وفي الحديث: "نضّر الله وجه امرئ سمع مقالتي فوعاها، وأداها كما سمع، فرب مبلغ أوعى من سامع" 1.
ومن هناك كانت البعوث والسرايا، ودعاة الإسلام ورسله، تبعث قبل الشام واليمن ونجد، وإلى القرى القريبة والبعيدة؛ فقد كان أبو موسى ومعاذ، يذهبان إلى اليمن معلمين، ولهما ولأمثالهما يقول صلى الله عليه وسلم: "بشِّروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا" 2.
وأبو عبيدة المالي يذهب إلى نجران، والبحرين، ويأتي بأموال الجزية والخراج؛ ومثله عبد الله بن رواحة يأخذ ما وقت عليه المساقاة في خيبر مع اليهود.
وخالد وعمرو بن العاص، والمهاجرون أبو عبيدة، والعلاء بن الحضرمي، وزيد بن حارثة، وإخوانهم كثيرون، يخرجون من المسجد مدربين تدريبا عسكريا، صالحين للقيادة وإمارة الجيش.
والخلفاء الراشدون بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجده الشريف، يجلسون للتعليم، والشورى والإصلاح، والقضاء والفتيا، وتنظيم بيت المال، واستقبال الوفود، وكتابة الرسائل.
وفي الحرم المكي يجلس ابن عباس وابن عمر رضي الله
__________
1 الترمذي: العلم (2658) , وابن ماجه: المقدمة (232).
2 البخاري: المغازي (4345) , ومسلم: الجهاد والسير (1732) , وأبو داود: الأدب (4835) , وأحمد (4/399).(22/423)
ص -424- ... عنهم في المسجد، ودواليك بابن عباس ومجاهد، وعطاء، ومكحول، وميمون بن مهران، وعكرمة، ومقسم، وسعيد بن جبير.
فهذا يعلم الناس تفسيرا، وحديثا، وفقها، وأدبا؛ وهذا يفتح داره للأضياف، والقادمين إلى مكة، ويطعم الطعام، وهذا لشؤون الناس، والآخر لدينهم.
وكم تعاقب العلماء والمتعلمون من التابعين، وتابع التابعين بعد الصحابة في مسجد الأنصار، كسالم، وعروة، وخارجة، والقاسم بن محمد وزين العابدين، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث.
ثم ابن شهاب، والزهري، وهشام بن عروة، وعبيدة السلماني، وابن سيرين، كل أولئك يدرسون الناس في المساجد، ويتخرج على أيديهم الألوف من العلماء.
وأهل التأريخ الإسلامي كسفيان بن عيينة، ومالك بن أنس وابن جريج، وعبد الرزاق والصنعاني وشيخه معمر، وقبلهم وبعدهم من لا يأتي عليهم الحصر.
وفي مسجد دمشق، معاذ بن جبل، وأبو الدرداء، وعبد الله بن عامر من القراء السبعة، الذي قيل فيه: إنه خطب في المسجد عشرين سنة، وما سمعوا منه خطبة معادة، ولا كلاما مكررا.
وفي الكوفة: عبد الله بن مسعود، وتلاميذه، من أمثال علقمة بن وقاص الليثي، وبعدهم عبد الرحمن بن حبيب(22/424)
ص -425- ... السلمي، وأبو بكر بن عياش، ومن القراء: حمزة، والكسائي، وعاصم بن أبي النجود.
وفي البصرة: الحسن، وابن سيرين، وشيخهم أنس بن مالك، ثم واصل بن عطاء، وجمع كثير من علماء السنة.
وسل بغداد، والموصل، والقاهرة، وقرطبة، وأشبيلة، والقيروان; وسل أنطاكية، وحلب، وحمص، وحماه; وسل الطائف، والأحساء، وصنعاء، وزبيد، وحضرموت، وغيرها من الأقطار الإسلامية، كيف كانت مساجدها، وعلماؤها؟
وكيف كان الشافعي يقضي نهاره، في مسجد عمرو بن العاص بالفسطاط؟ وأين كانت الأئمة ورجال الفقه والحديث، يلقون دروسهم في شتى العلوم؟ وهل كان ذلك إلا في المسجد.
ولو بعث الله معمرا، وابن المثنى، والقاسم بن سلام، والفراء، والزجاج، والمبرد، والمازني، وأبا عمرو بن العلاء; لو بعث هؤلاء من الجيل الأول، وبعدهم القراء، والزمخشري والنووي، والرافعي، ومن بعدهم، وقيل لهم من أين تخرجتم؟ وفي أي مدرسة تعلمتم؟ لقالوا جميعا بلسان واحد: في المسجد تعلمنا.
أما المجاهدون، ورجال العلم أيضا، فسل عنهم المساجد لتحدثك عن سعد بن أبي وقاص، والمثنى بن حارثة، وأبي مسلم الخراساني، وطارق بن زياد، وموسى بن(22/425)
ص -426- ... نصير، وقتيبة بن مسلم الباهلي، والمهلب بن أبي صفرة، وطاهر بن حسين، وابنه عبد الله.
ثم جوهر الصقلي، ومنصور بن أبي عامر المعافري اليمني، وأمثالهم من القواد، والجنود، ونواب الخلافة، ووكلاء الشريعة، في الشرق والغرب.
كانت المساجد أبحرا تدفع بالأمواج من أبطال الغزو، وعلماء الدين، وتقذف بالجواهر، واللآلي الكبار من هذا النوع، في مختلف العصور؛ ومنها يخرج أبطال أعلام من قادة الفكر.
وانظر في الأمصار، والمدن من كل علّامة فيها يملي الأحاديث; وإن طال الكلام، فإنما هيجه ما دهى الإسلام في هذا العصر، من خلو بيوت الله، التي هي معاقد العلم، وتفرق أهله.
فأدركت الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، تتلى عليه المتون عن ظهر قلب، وقبل ذلك يتحفظ كتاب الله، ويتلى عليه التفسير، ويحضر تلك المجالس الشريفة المتعلمون وغيرهم.
ولسعة رأيه، إذا دهم الملك عبد العزيز أمر، أتى إليه في ذلك المجلس، فتراه يتململ، والشيخ لا يقطع الدرس، لعلوّ مكانة العلم عنده، ولم يكن يتبذله.
وكذا الشيخ حمد بن فارس، وكان يلي بيت المال، ويرسل إليه الملك: لم يتأخر؟ فلا يقطع الدرس; وكذا(22/426)
ص -427- ... الشيخ سعد بن عتيق يجلس للعلم في الجامع.
وتلك الفنون من مختصرات الحديث، والأصول، كالتوحيد، وحكم موالاة أهل الشرك، ومتون الفقه، كلها تتلى عند الجميع عن ظهر قلب.
وكذا عند الشيخ محمد بن إبراهيم، بعد أن أقيم مقام الشيخ عبد الله في التعليم، برهة من الزمن حيث فتحت المدارس النظامية، وأقبل الطلاب إليها وإلى المعاهد والكليات وغيرها من الاتجاهات؛ حينئذ تفرق أهل العلم عن قلب العاصمة الذين أخذوه عن معدنه، ويأخذه عنهم أولو الهمم العالية، السالمون من العلوم المفضولة والمحظورة.
وأما الآن فضعف العلم حيث خرج علماء المسلمين من بيوت الله، الذين هم أولى أن يبلغ عنهم العلم النافع كما بلغوا، فخلت بيوت الله من أهلها إلا من شاء الله؛ وأضعف العلم النافع بالعلوم المفضولة الذي قرر شيخ الإسلام أحمد بن تيمية وغيره تحريم العلوم المفضولة إذا أضعفت العلم النافع.
فضلا عن العلوم المحظورة التي يحملها الوثنيون الملحدون الزنادقة، الذين هم السم القاتل لدين الإسلام من رجال ونساء، والذين هم فساد المجتمع، الذي لا يمتري فيه من له أدنى مسكة من عقل.
مع أنهم قد رأوا وسمعوا وبلغهم بلاغا حسيا لا يمتري فيه إلا مكابر، ما جرى على الأجانب أفراخ الإفرنج(22/427)
ص -428- ... وتلاميذهم في تلك الدول المجاورة. فكيف وأين العقول؟ أين العروبة؟ سبحان الله؟ ما أعظم شأنه، كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون. 1
وإليك وصية الملك الفاتح لابنه، الذي اعترف بنصر الله له، حيث نصر دينه؛ وإن كان ذلك معلوما بالضرورة، ولكن سقته مثلا، وبيانا لحضه ابنه على استقدام العلماء وإكرامهم، وإن كان ذلك معلوما للولاة من عصر النبوة إلى عصر الشيخ عبد الله، رحمه الله.
قال الملك الفاتح عند موته لابنه في وصيته: واعمل على نشر الدين الإسلامي، فإن هذا هو واجب الملوك على الرعي. قدم الاهتمام بأمور الدين على كل شيء، ولا تفتر في المواظبة عليه؛ ولا تستخدم الأشخاص، الذين لا يهتمون بأمر الدين، ولا يجتنبون الكبائر، وينغمسون في الفحش؛ وجانب البدع المفسدة، وباعد الذين يحرضونك عليها.
واحرس أموال بيت المال من أن تتبدد؛ وإياك أن تمد يدك إلى مال أحد من رعيتك إلا بحق الإسلام؛ واضمن للمعوزين قوتهم، وابذل إكرامك للمستحقين.
__________
1 وهذا قبل الصحوة المباركة أما الآن فقد بدأ الرجوع إلى المساجد والعتناء بها وبالدعوة فيها -والحمد لله- ولا نزال في أمل بالمزيد وخصوصا حين أبطل الله كيد الحاقدين من شيوعيين وعلمانيين وغيرهم.(22/428)
ص -429- ... وبما أن العلماء هم مثابة القوة المبثوثة في جسم الدولة، فعظم جانبهم وشجعهم، وإذا سمعت بأحد منهم في بلد آخر، فاستقدمه إليك وأكرمه بالمال.
وحذار حذار! لا يغرنك المال، ولا الجند! وإياك أن تبعد أهل الشريعة عن بابك، وإياك أن تميل إلى أي عمل يخالف أحكام الشريعة؛ فإن الدين غايتنا، والهداية منهجنا، وبذلك انتصرنا.
ثم قال: واعمل على تعزيز هذا الدين المحمدي، وتوقير أهله، ولا تصرف أموال الدولة في ترف ولهو، أو أكثر من قدر اللزوم؛ فإن ذلك أعظم أسباب الهلاك. انتهى.
إذا فهمت ما تقدم، من فضل العلم وأهله، وعمارة بيوت الله، بتبليغ شرعه، ووصية الملك باستقدام أهل العلم، وبلغك تفرق العلماء، الذين هم الأهل أن يؤخذ عنهم العلم من قلب العاصمة.
وقدوم الألوف من الوثنيين الملحدين، الذين هم السم القاتل لدين الإسلام، وفساد المجتمع، تبين لك السبب الأعظم، الذي أفردت من أجله هذا الكتاب 1 لبيان تلك المعاول الهدامة، الحادثة في هذا العصر.
[ رسالة الشيخ عبد الله بن حميد في الحث على التمسك بالدين ]
ومن نصائح علماء هذا العصر التي تشمل غير الحادث
__________
1 يقصد به البيان الواضح وأنبل النصائح وقد قسمناه مع التراجم في جزئين لمراعاة أحجام الأجزاء.(22/429)
ص -430- ... فيه، أضفتها إلى كتاب النصائح الذي هو المجلد الأخير مما جمعته من رسائل علماء هذه الدعوة المباركة 1. وإليك بعض النصائح فيما هو في معنى هذا الفصل:
قال الشيخ: عبد الله بن محمد بن حميد، رحمه الله، سنة 1379 هـ.
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى حضرة الإمام المكرم: سعود بن عبد العزيز آل سعود، لا برحت أيامه بوجوده زاهرة، وسعادة دنياه متصلة بسعادة الآخرة.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فإن من الواجب علينا لكم النصح، والمحبة والإخلاص، لأن النصح لأئمة المسلمين، هو من دين الإسلام.
ومعنى النصح لهم: تنبيههم عند الغفلة، وإرشادهم عند الهفوة، وغرس محبتهم في قلوب الرعية، ورد القلوب الشاردة إليهم، هذا الذي يجب لكم علينا وعلى أمثالنا.
ومن المتعين علينا إبلاغكم به، هو ما نراه، ويراه غيرنا من كافة المسلمين، من انتقاض عرى الإسلام عروة
__________
1 التي من أهم ما فيها: الحث على تعلم هذا الدين الحنيف وتعليمه والتمسك به والدعوة إليه والصبر على الأذى فيه والتواصي به, وبالعمل عليه, وذكر بعض من آثاره, وآثار من أعرض عنه... إلخ, وهو الآن الجزء 14.(22/430)
ص -431- ... عروة، وبدو مرضه في هذه الديار; وحكومتكم - والحمد لله - حكومة دينية إسلامية، لا قوام لها ولا استقامة إلا بالتمسك بهذا الدين السماوي، والذب عنه بالسيف، واللسان، وجهاد من خالفه.
فإن أنتم تسمكتم بهذا وقمتم به حقا، استقامت دولتكم، وانتظمت أموركم، واجتمعت كلمتكم، وصرتم يدا واحدة على من خالفكم؛ وإن أهملتم شيئا من ذلك، أو تساهلتم فيه، نقص من هيبتكم، وضعف من سلطانكم، وتفرق من كلمتكم بقدر ما أهملتم أو تساهلتم فيه من الدين.
كما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما ترك قوم العمل بما أنزل الله، إلا جعل الله بأسهم بينهم" 1 فوقوع البأس، وحصول الاختلاف، وضعف القوة، إنما تكون بسبب ترك العمل بما أنزل الله.
وذلك لأن الدين والملك أخوان، لا يستغني أحدهما عن الآخر: الإسلام أُسُس الملك، وقواعده الذي ينبني عليه، والملك ينفذ أوامر الإسلام، ويحميه ممن أراد هدم بنيانه؛ فإذا ذهب الإسلام أو ضعف، ذهب الملك أو ضعف على قدر ضعف الإسلام.
ونرى أمورا لا يجوز السكوت عليها - والله يعلم أنا لا نقصد إلا براءة الذمة، مع المحبة لكم والنصح والإخلا(22/431)
ص - وهو: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
__________
1 ابن ماجه: الفتن (4019).(22/432)
ص -432- ... ضعف جانبه، وكثر في الناس مجانبه، وكاد عقد نظامه ينحل في هذه البلاد، لعدم سلطة قوية تحميه وتناصره.
فلذا فشت المنكرات، كإضاعة الصلوات، وشرب الخمور، و اختلاط الرجال بالنساء و استعمال التلفزيون 1 والسينماءات، لكثرة دخولها البلاد، وهي من أعظم أسباب الخلاعة والدعارة والفساد العريض، والشر الطويل، إلى غير ذلك من المنكرات التي لا يقرها دين ولا عقل.
ثم من المؤلم حقا إسناد تحقيقات الجرائم الضارة، من أخلاقية وغيرها، إلى من ليس بأهل، مما يبعث إلى كثرة ارتكاب المحرمات وانتشارها؛ فمثل هذه الأمور الهامة، لا ينبغي التحقيق فيها إلا من قبل أهلها الموثوق بهم، العارفين بمضرة هذا البلاء وخطورته على المجتمع وعلى الحكومة.
وأيضا يجب على الحكومة، وعلى جميع الشعب التحاكم إلى الشريعة الإسلامية؛ فإن فيها مقنعا وكفاية لكل ما يحتاجون إليه، فالشريعة الإسلامية لم تترك شاذة ولا فاذّة إلا وبينتها أحسن بيان ووضحتها أتم إيضاح، فلا يحتاج معها إلى شيء آخر.
فإن كثيرا من المصالح الحكومية اكتفت عن الشريعة بنظم سنّتها رؤساؤها من وزراء وغيرهم، كنظام العمل
__________
1 المراد في ذلك الوقت, تليفزيون شركة الزيت في الظهران.(22/433)
ص -433- ... والعمال، ونظام البلديات، ونظام التجارة، ونظام الشركات، ونظام المرور، ونظام الموظفين، إلى غير ذلك من النظم الكثيرة. 1
فلم يبق التحاكم إلى الشرع إلا لأفراد الشعب; ونعتقد أنكم - إن شاء الله - لا ترضون بهذا، ولا تطلعون عليه فضلا أن تقرروه; فلو أن لجنة التنظيمات عندما تريد سَنّ نظام يشترك معها أحد طلبة العلم، للتفاهم مع اللجنة فيما يجوز وما لا يجوز، حسب ما تقتضيه الشريعة المطهرة، لكان هو الواجب.
هذا ونسأل الله أن يوفقكم لما فيه صلاحكم وعزكم، وعز الإسلام والمسلمين، وصلى الله على خير خلقه محمد وآله وصحبه وسلم.
وقال الشيخ: عبد الله بن محمد بن حميد، رحمه الله، في كلمة وجهها لحضرات العلماء، 2 أصحاب الفضيلة، حفظهم الله; سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: تعلمون أيها العلماء الأجلاء، ما أصيب به الإسلام من انتقاض عراه عروة عروة، بفشو المنكرات، وتجرؤ الكثير أو الأكثر على ارتكابها، وزوال وحشتها من النفوس، وفساد العقيدة مما يلقيه دعاة الغرب من بذور
__________
1 ويأتي الحديث عن النظم في الباب العاشر, إن شاء الله تعالى.
2 نشرت في جريدة الندوة, في ذي العقدة سنة 1378 هـ.(22/434)
ص -434- ... الشبه والشك من فساد الأخلاق، وظهور البدع التي طغت على السنن.
كما يقول كثير من مدعي الإصلاح الزائف: هذا جمود، وهذه رجعية، وإنه يجب التطور مع الزمن والأحداث؛ يريدون بذلك نبذ تعاليم الإسلام، وعدم تطبيق أحكامه، كأن الإسلام بزعمهم هو الذي أخرهم وأقعدهم.
ولم ينتبهوا لدسائس الغرب الذين قالوا هذا القول، ودعوا إليه، وكتبوا لأجله الكتابات المختلفة الأساليب، يريدون أمرا واحدا، وهو القضاء على الإسلام الذي سطر مجدا خالدا، وتاريخا عظيما للمتمسكين به، في صدر هذه الأمة.
فقد محوا من الوجود ملك أمتين عظيمتين، هما أقوى ملوك الأرض، وأشدها بأسا - فارس، والروم - وأخضعوهم لأوامر القرآن ونواهيه؛ وامتد سلطان المسلمين إلى البحر الأطلنطي غربا، وإلى أقصى الصين شرقا؛ ذلك لأنهم قوم صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فأنجز لهم ما وعدهم مجدا في الدنيا، وأجرا في الآخرة.
أيها العلماء الأجلاء، إن الأجانب غزونا في بلادنا غزوا عظيما، بانحلال أخلاقنا، وإضعاف مكانة الدين الإسلامي من قلوبنا، بما يكتبونه من القصص الغرامية، والشبه والشكوك التي يلقونها على بني الإسلام، والتي من شأنها إفساد العقائد الحقة.(22/435)
ص -435- ... فإن العقيدة إذا فسدت، وخفت أوامر الإسلام ونواهيه على القلب، أصبح مصدرا لكل رذيلة وانحلال خلقي; قال بعض الأوروبيين: إن فن الاحتلال فن عسكري في الأول، ولكنه فن أخلاقي في الآخر.
أيها العلماء الأجلاء، ما مدح الله أهل العلم بما مدحهم به إلا لأنهم ورثة الأنبياء، يبلغون الشرائع للناس، ويوضحون طرق الفلاح والنجاح، وأسباب السعادة والعزة، في هذه الدار {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [سورة المنافقون آية: 8]، {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}[سورة العنكبوت آية: 64].
أيها العلماء الفضلاء: لقد علمتم ما قال الله في ذمّ من لم يقم بواجبه، ولم يؤد ما عليه لدينه وأمته، من الدعوة والإرشاد، والعظة والتذكير، والإنذار بسوء العاقبة؛ فإن الآيات في الدعوة أكثر من آيات الصوم والحج اللذين هما ركنان من أركان الإسلام الخمسة.
قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [سورة آل عمران آية: 187]: دلت الآية الكريمة على وجوب إظهار العلم وتحريم كتمان شيء من أمور الدين لغرض من الأغراض الفاسدة، والتأويلات البعيدة.
ومتى قام العلماء بما عليهم من إرشاد الأمة إلى اتباع كتابها وهديها، بإرشاده، وتهذيب أخلاقها بآدابه، وجمع(22/436)
ص -436- ... كلمتها حول تعاليمه، استقامت أمورها، وانتظمت أحوالها، فتصبح عزيزة الجانب، متكافئة متضامنة، أمرهم شورى بينهم.
هذا وإن العلماء - وفقهم الله - يعلمون أن الدعوة إلى الله محفوفة بالمخاطر، محوطة بالأشواك؛ ومن شأن تلك المخاطر تسرب اليأس إلى النفس، فيكون ذريعة عظيمة لتثبيط همة الداعي المرشد.
ولكن من الخير والمصلحة أن يحال بين اليأس وبين الداعي المرشد بما يراه من تلك العقبات التي تعترض الداعي، وتلك الشدائد التي يراها المصلح، بأنه لا غنى له عنها، وأنها سنة فيمن سبقه من الدعاة المصلحين كالرسل وأتباعهم.
وتأكد الدعوة واجب متعين في مثل عصرنا هذا الذي فشت فيه المنكرات، وفسدت العقائد؛ فترك الدعوة والإرشاد، أو التقصير فيهما، سسب للانحراف عن الدين الذي من شأنه اختلاف الكلمة، وتصدع في الوحدة، وتشتت للشمل، واختلاف في الأمر.
ويكون كلٌّ لا هم له إلا السعي وراء الغايات الشخصية، ولو كان في معصية لإلهنا، وضياع لأمتنا وعزتنا، مع ما انضاف إلى ذلك من تنابذ وشقاق، وترويج للباطل، وتمويه للحقائق.
والله المسؤول أن يوفق العلماء والمرشدين للقيام(22/437)
ص -437- ... بواجبهم في الدعوة إلى الله، وعظة الناس وتذكيرهم، وتوجيههم التوجيه الصحيح النافع؛ وأن يأخذ بأيدي المسلمين حاكمين ومحكومين إلى ما فيه عزهم وصلاحهم في الدنيا والآخرة؛ وهو الموفق الهادي إلى سواء السبيل.
[ رسالة من الشيخ عبد العزيز بن باز في الحث على طلب العلم ]
وقال الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله، نبينا محمد وآله وصحبه.
أما بعد: فلا ريب أن طلب العلم من أفضل القربات، ومن أسباب الفوز بالجنة والكرامة لمن عمل به. ومن أهم المهمات: الإخلاص في طلبه; وذلك بأن يكون طلبه لله لا لغرض آخر، لأن ذلك هو سبيل الانتفاع به، وسبب التوفيق لبلوغ المراتب العالية، في الدنيا والآخرة.
وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة" 1 يعني: ريحها، أخرجه أبو داود بإسناد حسن.
وأخرج الترمذي بإسناد فيه ضعف عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من طلب العلم ليجاري به العلماء، أو ليماري به السفهاء، أو ليصرف به وجوه الناس إليه، أدخله الله النار" 2.
__________
1 أبو داود: العلم (3664) , وابن ماجه: المقدمة (252) , وأحمد (2/338).
2 الترمذي: العلم (2654).(22/438)
ص -438- ... فأوصي كل طالب علم، وكل مسلم يطلع على هذه الكلمة، بالإخلاص لله في جميع الأعمال، عملا بقول الله سبحانه وتعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [سورة الكهف آية: 110].
وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يقول الله عز وجل: أنا أغنى الشركاء عن الشرك؛ من عمل عملا أشرك معي فيه غيري، تركته وشركه" 1.
كما أوصي كل طالب علم، وكل مسلم، بخشية الله سبحانه ومراقبته، في جميع الأمور، عملا بقوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [سورة الملك آية: 12]، وقوله سبحانه: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [سورة الرحمن آية: 46].
قال بعض السلف: رأس العلم خشية الله; وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "كفى بخشية الله علما، وكفى بالاغترار به جهلا"، وقال بعض السلف: من كان بالله أعرف كان منه أخوف; ويدلك على صحة هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له" 2.
فكلما قوي علم العبد بالله، كان ذلك سببا لكمال تقواه وإخلاصه، ووقوفه عند الحدود، وحذره من المعاصي، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [سورة فاطر آية: 28].
فالعلماء بالله وبدينه هم أخشى الناس، وأتقاهم له،
__________
1 مسلم: الزهد والرقائق (2985) , وابن ماجه: الزهد (4202) , وأحمد (2/301).
2 البخاري: النكاح (5063).(22/439)
ص -439- ... وأقومهم بدينه؛ وعلى رأسهم: الرسل والأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، ثم أتباعهم بإحسان; ولهذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من علامات السعادة، أن يفقه العبد في دين الله، فقال عليه الصلاة والسلام: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين" 1 أخرجاه في الصحيحين، من حديث معاوية رضي الله عنه.
وما ذاك إلا لأن الفقه في الدين، يحفز العبد على القيام بأمر الله وخشيته، وأداء فرائضه، والحذر من مساخطه، ويدعوه إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، والنصح لله ولعباده.
فأسأل الله عز وجل أن يمنحنا وجميع طلبة العلم، وسائر المسلمين، الفقه في دينه والاستقامة عليه؛ وأن يعيذنا جميعا من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله، وصحبه 2.
[ قول الشيخ عبد الرحمن بن فريان في وجوب النصيحة ]
وقال الشيخ: عبد الرحمن بن عبد الله الفريان
بعد أن ذكر وجوب النصيحة، وما يترتب عليها من نفع المؤمن، وتعليم الجاهل، وإرشاد الضال، وتحريض العالم على العمل بما عمل، وأن ذلك طريقة الرسل وأتباعهم.
ثم قال: فالواجب على كل من لديه علم، أن يذكر
__________
1 البخاري: العلم (71) , ومسلم: الزكاة (1037) , وابن ماجه: المقدمة (221) , وأحمد (4/93 ,4/98) , ومالك: الجامع (1667) , والدارمي: المقدمة (224 ,226).
2 وقد طبعت هذه النصيحة من الثمار اليانعة, للشيخ عبد الله الجار الله رحمه الله.(22/440)
ص -440- ... بذلك، وأن يناصح في الله، ويدعو إليه حسب الطاقة، أداء لواجب التبليغ والدعوة، وتأسيا بالرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام، وحذرا من الكتمان.
إلى أن قال: إذا عرف ما تقدم، فالذي أوصيكم به ونفسي: تقوى الله سبحانه في السر والعلانية، والشدة والرخاء؛ فإنها وصية الله، ووصية رسوله صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [سورة النساء آية: 131]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة" 1.
والتقوى: كلمة جامعة تجمع الخير كله; وحقيقتها: أداء ما أوجب الله، واجتناب ما حرمه الله، على وجه الإخلاص له، ومحبته والرغبة في ثوابه، والحذر من عقابه.
وقد أمر الله عباده بالتقوى، ووعدهم عليها تيسير الأمور، وتفريج الكروب، وتسهيل الرزق، وغفران السيئات، والفوز بالجنات.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ}[سورة الحج آية: 1]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [سورة الحشر آية: 18].
وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً?وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [سورة الطلاق آية: 2-3]، وقال تعالى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [سورة القلم آية: 34]، وقال
__________
1 الترمذي: العلم (2676) , وابن ماجه: المقدمة (42) , والدارمي: المقدمة (95).(22/441)
ص -441- ... تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} [سورة الطلاق آية: 5]، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
فيا معشر المسلمين، راقبوا الله سبحانه، وبادروا إلى التقوى في جميع الحالات، وحاسبوا أنفسكم عند جميع أقوالكم وأعمالكم؛ ومعاملاتكم، فما كان من ذلك سائغا في الشرع فلا بأس بتعاطيه، وما كان منها محذورا في الشرع فاحذروه، وإن ترتب عليه طمع كثير؛ فإن ما عند الله خير وأبقى؛ ومن ترك شيئا اتقاء الله، عوضه الله خيرا منه.
ومتى راقب العباد ربهم، واتقوه سبحانه وتعالى، بفعل ما أمر، وترك ما نهى، أعطاهم الله سبحانه، ما رتب على التقوى، من العزة، والفلاح، والرزق الواسع، والخروج من المضايق، والسعادة والنجاة، في الدنيا والآخرة.
ولا يخفى على كل ذي لب، وأدنى بصيرة، ما قد أصاب أكثر المسلمين، من قسوة القلوب، والزهد في الآخرة، والإعراض عن أسباب النجاة، والإقبال على الدنيا وأسباب تحصيلها، بكل حرص وجشع، من دون تمييز بين ما يحل ويحرم، وانهماك الأكثرين في الشهوات، وأنواع اللهو، والغفلة.
وما ذاك إلا بسبب إعراض القلوب عن الآخرة، وغفلتها عن ذكر الله ومحبته، وعدم التفكر في آلائه ونعمه، وآياته الظاهرة، وعدم الاستعداد للقاء الله، وتذكر الوقوف بين(22/442)
ص -442- ... يديه، والانصراف من ذلك الموقف العظيم إما إلى الجنة، وإما إلى النار.
فيا معشر المسلمين، تداركوا أنفسكم، وتوبوا إلى ربكم، وتفقهوا في دينكم، وبادروا إلى أداء ما أوجب الله عليكم، واجتنبوا ما حرمه الله عليكم، لتفوزوا بالعز والأمن والهداية، في الدنيا والآخرة.
وإياكم والإكباب على الدنيا، وإيثارها على الآخرة، فإن ذلك من صفات أعداء الله وأعدائكم، من الكفرة والمنافقين، ومن أعظم أسباب العذاب في الدنيا والآخرة.
كما قال تعالى في صفات أعدائه: {إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً} [سورة الإنسان آية: 27]، وقال تعالى: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [سورة التوبة آية: 55].
وأنتم لم تخلقوا للدنيا، وإنما خلقتم للآخرة، وأمرتم بالتزود لها؛ وخلقت لكم الدنيا لتستعينوا بها على عبادة ربكم الذي خلقكم سبحانه، والاستعداد للقائه، فتحوزوا بذلك فضله وكرامته، وجواره في دار النعيم.
فقبيح بالعاقل: أن يعرض عن عبادة خالقه ومربيه، وعما أعدّ له من الكرامة، ويشتغل عنه بإيثار شهواته البهيمية، والجشع على تحصيل عرض الدنيا الزائل، الذي قد ضمن الله له ما هو خير منه وأحسن عاقبة في الدنيا والآخرة.(22/443)
ص -443- ... وليحذر كل مسلم أن يغتر بالأكثرين، يقول: إن الناس قد ساروا إلى كذا، واعتادوا كذا، فأنا معهم؛ فإن هذه مصيبة عظمى، قد هلك بها أكثر الماضين.
ولكن أيها العاقل، عليك بالنظر لنفسك ومحاسبتها، والتمسك بالحق وإن تركه الناس، والحذر مما نهى الله عنه وإن فعله الناس؛ فالحق أحق بالاتباع.
كما قال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [سورة الأنعام آية: 116]، وقال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [سورة يوسف آية: 103].
وقال بعض السلف رحمه الله: "لا تزهد في الحق لقلة السالكين، ولا تغتر بالباطل لكثرة الهالكين".
هذا وإن أهم ما أوصيكم به: أمورا خمسة:
الأول: الإخلاص لله وحده في جميع القربات القولية والعملية، و الحذر من الشرك كله، دقيقه وجليله؛ وهذا أوجب الواجبات، وأهم الأمور، وهو معنى شهادة أن لا إله إلا الله. ولا صحة لأعمالكم وأقوالكم إلا بعد صحة هذا الأصل وسلامته، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [سورة الزمر آية: 65].
الأمر الثاني: التفقه في القرآن وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، والتمسك بهما، وسؤال أهل العلم عن كل ما أشكل عليكم(22/444)
ص -444- ... في أمور دينكم، وهذا واجب على كل مسلم، ليس له تركه والإعراض عنه، والسير وراء رأيه وهواه بدون علم وبصيرة؛ وهذا هو معنى شهادة أن محمدا رسول الله.
فإن هذه الشهادة، توجب على العبد الإيمان بأن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول الله، والتمسك بما جاء به، وتصديقه فيما أخبر به، والسير في طريقه، والسؤال عن كل ما أشكل من ذلك، قال الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [سورة النحل آية: 43]. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ألا سألوا إذا لم يعلموا؟ فإنما شفاء العي السؤال" 1 أخرجه أبو داود.
وكل من أعرض عن القرآن والسنة، فهو متابع لهواه، عاص لمولاه، مستحق المقت والعقوبة، كما قال تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} [سورة القصص آية: 50]. وقال تعالى في وصف الكفار: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [سورة النجم آية: 23]: واتباع الهوى - والعياذ بالله - يطمس نور القلب، ويصد عن الحق، كما قال تعالى: {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [سورة ص آية: 26].
فاحذروا رحمكم الله، من اتباع الهوى، والإعراض عن الهدى؛ وعليكم بالتمسك بالحق، والدعوة إليه، والحذر
__________
1 أبو داود: الطهارة (336).(22/445)
ص -445- ... ممن خالفه، لتفوزوا بخيري الدنيا والآخرة.
الأمر الثالث: إقامة الصلوات الخمس والمحافظة عليها في الجماعة فإنها أهم الواجبات وأعظمها بعد الشهادتين؛ وهي عمود الدين وميزان الأعمال، فمن حفظها فقد حفظ دينه، ومن تركها فارق الإسلام؛ فما أعظم حسرته، وأسوأ عاقبته، يوم الوقوف بين يدي الله.
فعليكم رحمكم الله بالمحافظة عليها، والتواصي بذلك، والإنكار على من تخلف عنها وهجره، لأن ذلك من التعاون على البر والتقوى، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر" 1.
وقال صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" 2.
الأمر الرابع: يجب على كل ذكر وأنثى من المسلمين إحصاء ما لديه من المال وضبطه، وإخراج زكاته كلما حال عليه الحول، إذا بلغ نصاب الزكاة؛ ويكون طيب النفس بذلك، منشرح الصدر أداء لما أوجبه الله، وشكرا لنعمته وإحسانا إلى عباد الله.
ومتى فعل المسلم ذلك، ضاعف الله له الأجر، وخلف عليه ما أنفق، وبارك له في الباقي، وطهره وزكاه.
ومتى بخل بالزكاة وتهاون بأمرها غضب الله عليه،
__________
1 الترمذي: الإيمان (2621) , والنسائي: الصلاة (463) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1079) , وأحمد (5/346).
2 مسلم: الإيمان (49) , والترمذي: الفتن (2172) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5008) , وأبو داود: الصلاة (1140) , وابن ماجه: الفتن (4013) , وأحمد (3/20 ,3/49).(22/446)
ص -446- ... ونزع بركة ماله، وسلط عليه أسباب التعلق، والإنفاق في غير الحق، وعذبه به يوم القيامة.
كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [سورة التوبة آية: 34]، وكل مال لا تؤدى زكاته فهو كنز يعذب به صاحبه يوم القيامة، أعاذنا الله وإياكم من ذلك.
الأمر الخامس: يجب على كل مسلم أن يهتم بأمر الله ويعظم حرماته، ويتفكر فيما خلق لأجله وأمر به، ويحاسب نفسه في ذلك دائما؛ فإن كان قد قام بما أوجب الله عليه، فرح بذلك، وحمد الله عليه، وسأله الثبات، وأخذ حذره من الكبر، والعجب، وتزكية النفس.
وإن كان قد قصر فيما أوجب الله، أو ارتكب بعض ما حرم الله عليه، بادر إلى التوبة الصادقة والندم، والاستقامة على أمر الله، والإكثار من الذكر، والاستغفار، والضراعة إلى الله سبحانه، وسؤاله التوبة من سالف الذنوب، والتوفيق لصالح القول والعمل.
ومتى وفق العبد لهذا الأمر العظيم، فذلك عنوان سعادته ونجاته، في الدنيا والآخرة؛ ومتى غفل عن نفسه وسار وراء هواه وشهوته، وأعرض عن الاستعداد لآخرته، فذلك عنوان هلاكه، ودليل خسرانه.
فلينظر كل منكم لنفسه ويحاسبها، ويفتش عيوبها، فسوف يجد ما يحزن باله، ويشغله بنفسه عن غيره، ويوجب(22/447)
ص -447- ... له الذل لله، والانكسار بين يديه، وسؤاله العفو والمغفرة؛ وهذه المحاسبة، وهذا الذل والانكسار بين يدي الله، هو سبب السعادة والفلاح، والعز في الدنيا والآخرة.
وليعلم كل مسلم أن كل ما حصل له من صحة، ونعمة، وجاه رفيع، وخصب، ورخاء، فهو من فضل الله وإحسانه؛ وكل ما أصابه من مرض أو مصيبة، أو فقر، أو جدب، أو تسليط عدو، أو غير ذلك من المصائب، فهو بسبب الذنوب والمعاصي.
فجميع ما في الدنيا والآخرة، من العذاب والألم، وأسبابها، فسببها معصية الله، ومخالفة أمره، والتهاون بحقه، كما قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [سورة الشورى آية: 30]، وقال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الروم آية: 41].
فاتقوا الله عباد الله، وعظموا أمره ونهيه، وبادروا بالتوبة إليه من جميع ذنوبكم، واعتمدوا عليه وحده، وتوكلوا عليه؛ فإنه خالق الخلق، ورازقهم، ونواصيهم بيده سبحانه، لا يملك أحد منهم لنفسه ضرا ولا نفعا، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا.
وقدموا رحمكم الله؛ حق ربكم وحق رسوله على حق غيره وطاعة غيره، كائنا من كان، وتآمروا بالمعروف،(22/448)
ص -448- ... وتناهوا عن المنكر، وأحسنوا الظن بالله، وأكثروا من ذكره واستغفاره.
وتعاونوا على البر والتقوى، وخذوا على أيدي السفهاء، وألزموهم بما أمر الله، وأحبوا في الله، وأبغضوا في الله، ووالوا أولياء الله، وعادوا أعداء الله، واصبروا، وصابروا، حتى تلقوا ربكم، فتفوزوا بغاية السعادة والكرامة والشرف، والمنازل العالية في جنات النعيم.
والله المسؤول أن يوفقنا وإياكم لما يرضيه، وأن يصلح قلوب الجميع، ويعمرها بخشيته ومحبته، والنصح له ولعباده؛ وأن يعيذنا وإياكم من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا؛ وأن يوفق إمامنا، وولي عهده، وجميع أسرته، وسائر ولاة المسلمين لما يرضيه، وأن ينصر بهم الحق، ويخذل بهم الباطل؛ وأن يعيذ الجميع من مضلات الفتن، إنه ولي دلك والقادر عليه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. في رجب سنة 1371 هـ.
[ قول الشيخ عبد الرحمن بن حماد العمر في معنى السعادة ]
وقال الشيخ: عبد الرحمن بن حماد العمر، في معنى: السعادة.
لهذا فأنتم يا حملة لواء الذب عن دين الله، الذين ترجون من الله حسن اللقاء والمعاد، وأنتم مع هذا الرجاء العظيم السعداء في الدنيا، فليست السعادة في المنصب، أو الجاه المغتصب، أو في ملك الملايين؛ بل إن أولئك(22/449)
ص -449- ... اللاهثين وراء الدنيا، رغم ما نالوا منها، أشقى الناس فيها.
وأنتم ترونهم قد شغلوا عن عبادة الله، وشغلوا عن ملاطفة أهليهم وأولادهم، وشغلوا بالمجاملة والنفاق: هذا يخافون منه، وهذا يرجون. وشغلوا عن نومهم بالوساوس والظنون، والتحسر على فرطاتهم الدنيوية. وشغلوا عن أكل لقمة العيش وحمد الله عليها، بالشبع الجهنّمي الذي تصطلي ناره في قلوبهم.
أما أنتم يا دعاة الحق، ففي سعادة لو ذاقها هؤلاء السذج، لجالدوكم عليها بالسيوف، تلك هي سعادة المتقين، الذين إذا أصابتهم سراء شكروا، وقيدوها بطاعة الله، واجتناب نواهيه، وإن أصابتهم ضراء صبروا، وحمدوا الله الذي جعل البلاء للمؤمنين كفارة لذنوبهم.
ومع هذا فهم قانعون بما رزقهم الله، لأنهم يعلمون أن حلال الدنيا حساب، وحرامها عقاب، ولأنهم اتخذوا من رسول الله قدوة، حين قال لما خير في تسيير الأبطح ذهبا: "اللهم اجعل قوت آل محمد كفافا".
ولأنهم يعلمون أن الذين آتاهم الله مالا من الصحابة ابتغوا فيه الدار الآخرة، فبذلوه في سبيل الله، ومسحوا به دموع البائسين، ومع قناعتهم هذه، فإنهم يمشون على نور من ربهم ينير قلوبهم، وينير الطريق أمامهم.
يعبدون الله على بصيرة وعلم، ويأمرون على بصيرة وعلم، ويقولون كلمة الحق عند كل أحد، لا تأخذهم في الله(22/450)
ص -450- ... لومة لائم، فلا يراؤون أحدا، ولا يرجون أحدا أو يخافونه، إلا الله، لأنهم يؤمنون بالله، وأنه النافع الضار.
ومع هذا، فهم راضون عن أنفسهم لحسن صنيعها; ولذا فإنهم يرحبون بكل بلاء في سبيل الله: فمن سجن منهم اتخذ من السجن خلوة يناجي فيها ربه، ومن نفي اتخذ من منفاه دار سياحة ودعوة، ومن قتل مات على الشهادة التي تمناها المؤمنون بلقاء الله منذ القدم: فهذه هي صفات المتقين، سعداء الدنيا والآخرة.
فإلى معين تلك السعادة يا دعاة الحق تسابقوا، ومن سبيلها تضلعوا؛ فلستم في دار خلد، وإنما دار الخلد تنتظركم، فاستعدوا لها بزادها زاد المتقين. انتهى.
فصل فيما ينبغي أن يتخلقوا به من الزهد في الدنيا
والتقليل منها، والقناعة في الملابس والمآكل والمساكن، وإتباع القول بالفعل، في النفس والأهل، والاقتداء بالسلف الصالح، ورسول رب العالمين، صلى الله عليه وسلم هو الأسوة الذي يجب التأسي به، والتخلق بأخلاقه، فقد عرضت عليه الدنيا فأباها.
دخل عمر على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مشربة له، على رمال حصير قد أثّر في جنبه، فقال: يا نبي الله، كسرى وقيصر على الديباج، فقال: "يا عمر أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة" 1.
وقال أنس: لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"والذي
__________
1 البخاري: تفسير القرآن (4913) , ومسلم: الطلاق (1479).(22/451)
ص -451- ... نفسي بيده، ما أصبح عند آل محمد صاع بر، ولا صاع تمر" 1، وقالت عائشة رضي الله عنها: "توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي، في ثلاثين صاعا من شعير لأهله".
وكانت حجره من جريد النخل، وقال في مسجده: "ولكن عريشا كعريش موسى" 2، وقال: "كل بناء وبال على صاحبه، إلا ما لا بد له منه" 3.
وقال في أشراط الساعة: "وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان" 4، وقد وقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم.
وفي هذا العصر لما ساحوا في بلاد الخارج، شابهوهم في التطاول في البنيان؛ فنسأل الله أن يوفقنا وجميع المسلمين إلى سلوك هدي سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم.
ولنضرب لك مثلا بشيخنا، الشيخ: عبد الله بن عبد اللطيف آل الشيخ، ذلك الشيخ الجليل الغيور، الورع، الزاهد، كبير العقل، واسع الرأي العفيف، الذي كان من عفته مع كرمه، وتلقي الوفود وأهل العلم أنه كانت له فلاحة واسعة.
وكلما تراكم عليه الدين، باع عقارا بقصوره ومواشيه; فباع "المحطة" من أكبر عقارات باطن الرياض، ثم باع النخل المعروف، المسمى بنخل ابن إبراهيم، ثم باع "سلطانه" على ابن ثاني، فأوقفها على طلبة العلم.
ولما استدان من الجويعي بأربعمائة ريالا، وكان وكيلا للقصيبي، وكانت الكتب ترسل إلى الأحساء على يد الشيخ
__________
1 ابن ماجه: الزهد (4147).
2 الدارمي: المقدمة (38).
3 أبو داود: الأدب (5237).
4 مسلم: الإيمان (8) , والترمذي: الإيمان (2610) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (4990) , وأبو داود: السنة (4695) , وابن ماجه: المقدمة (63) , وأحمد (1/27 ,1/51).(22/452)
ص -452- ... حمد بن فارس، وكان يلي بيت المال، فرأى وصول الكتاب بقلم الشيخ عبد الله، ومشموع بتمرة، ففتحه، ثم جاء به إلى الملك عبد العزيز.
فراح به إلى الشيخ عبد الله، فقال له: يا شيخ تستدين وأنا موجود؟! فقال الشيخ عبد الله: تدخل على الله ثم تدخل على الله، لا تفسد علي ديني، لا تفسد علي ديني. وكان لا يبتذل العلم، ويأتي إليه الملك في مهماته، وقد يأتيه في حالة التعليم فلا يقطع الدرس والعلم وطلبته.
واستقدم الشيخ سعد من الجنوب، وكان يعلم في المسجد الجامع; ولما ثقل كان يجلس في بيته مضطجعا، حرصا على التبليغ، فما أشبه استقدامه بما تقدم من وصية الملك الفاتح لابنه.
وكان الشيخ حمد بن فارس - وهو الذي يلي بيت المال - يجلس لطلبة العلم بعد صلاة الفجر، في مسجد الشيخ عبد الله، الذي كان يجلس فيه للتعليم؛ وكان الملك يرسل رجاله للشيخ حمد بن فارس، يستحثونه لقضاء حاجات من يسافر، فلا يقطع الدرس، لمكانة العلم عند أولئك. وهذه أمثلة ذكرتها، ليقتدى بأولئك العلماء الأفاضل، ولا أطيل بغيرها.
وكان الحسن البصري رحمه الله، يقول: "لا تكونوا من قوم أهلكتهم الأماني، حتى خرجوا من الدنيا وما لهم حسنة" ويقول أحدهم: إني لأحسن الظن بربي، وقد كذب، فإنه لو(22/453)
ص -453- ... أحسن الظن بربه، لأحسن العمل على الطريق المستقيم.
كما أشار إليه قوله تعالى: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [سورة فصلت آية: 23] قال عمرو بن العاص: "ما أبعد هديكم من هدي نبيكم صلى الله عليه وسلم، إنه كان أزهد الناس في الدنيا، وأنتم أرغب الناس فيها" خرّجه الإمام أحمد.
وقال ابن القيم رحمه الله: سمعت رجلا يقول لشيخنا: إذا خان الرجل في نقد الدراهم سلبه الله معرفة النقد، أو قال نسيه; فقال الشيخ: هكذا من خان الله ورسوله في مسائل العلم، فإن هذا من الهوى.
يعني: أن ينزع منه، فلا يفهمه، ولا يحفظ، بسبب ارتكاب هواه، وتأويله على ما يهواه; لأن القلوب المتعلقة بالشهوات محجوبة عن الله، بقدر تعلقها بها.
وقد جعل سبحانه رضى العبد بالدنيا، وطمأنينته، وغفلته عن معرفة آياته وتدبرها والعمل بها، سبب شقائه وهلاكه، ولا يجتمع هذان - أعني: الرضى بالدنيا، والغفلة عن آيات الرب - إلا في قلب من لا يؤمن بالمعاد، ولا يرجو لقاء رب العباد.
وإذا تأملت أحوال الناس، وجدت هذا الضرب هو الغالب على الناس، وهم عمار الدنيا; وأقل الناس عددا، من هو على خلاف ذلك، وهو من أشد الناس غربة بينهم؛ له شأن، ولهم شأن، علمه غير علومهم، وإرادته غير(22/454)
ص -454- ... إراداتهم، وطريقه غير طريقهم، فهو في واد، وهم في واد.
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [سورة يونس آية: 7-8].
وقال بعض السلف: نظر أهل المعاصي لا يجاوز مبادئ شهواتهم، ولا ينظرون إلى منتهى غاياتها؛ والعاقل البصير الحازم ينظر ما وراء السور، من الغايات المحمودة والمذمومة.
فيرى المنهيات كطعام لذيذ، قد خلط فيه سم قاتل، فكلما دعته لذته إلى تناوله، نهاه ما فيه من السم؛ ويرى الأوامر كدواء كريه المذاق، مفض إلى العافية والشفاء، كلما نهاه كراهة مذاقه عن تناوله، أمره نفعه وحلاوة عاقبته بالشفاء والعافية، بالصبر على ذلك، فالله المستعان. انتهى.
وقال شيخ الإسلام: فظلم المقاتلة بترك الجهاد عن المسلمين، من أعظم الظلم، قال: وكذلك أهل العلم، الذين يحفظون على الأمة الكتاب والسنة صورة ومعنى، مع أن حفظ ذلك واجب على الأمة عموما على الكفاية.
ومنه ما يجب على أعيانهم، وهو علم العين الذي يجب على المسلم في خاصة نفسه؛ لكن وجوب ذلك عينا وكفاية على أهل العلم الذين رأسوا فيه، أو رزقوا عليه، أعظم من وجوبه على غيرهم، لأنه واجب بالشرع عموما.
وقد يتعين عليهم، لقدرتهم عليه وعجز غيرهم،(22/455)
ص -455- ... ويدخل في القدرة استعداد العقل وسابقة الطلب، ومعرفة الطرق الموصلة إليه، من الكتب المصنفة، والعلماء المتقدمين، وسائر الأدلة المتعددة، والتفرغ له عما يشغل به غيرهم.
ولهذا مضت السنة بأن الشروع في العلم والجهاد يلزم كالشروع في الحج، يعني: أن ما حفظه من علم الدين وعلم الجهاد، ليس له إضاعته، لقول النبي صلى الله عليه وسلم "من قرأ القرآن ثم نسيه، لقي الله وهو أجذم" 1 رواه أبو داود.
وقال: "عرضت علي أعمال أمتي حسنها وسيئها، فرأيت في مساوئ أعمالها: الرجل يؤتيه الله آية من القرآن، ثم ينام عنها حتى ينساها"، وقال: "من تعلم الرمي ثم نسيه فليس منا" 2 رواه مسلم.
وكذلك الشروع في عمل الجهاد، فإن المسلمين إذا صافوا عدوًّا، أو حاصروا حصنا، ليس لهم الانصراف عنه حتى يفتحوه.
ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن ينزعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه".
فالمرصدون للعلم، عليهم للأمة حفظ علم الدين وتبليغه؛ فإذا لم يبلغوهم علم الدين، أو ضيعوا حفظه، كان ذلك من أعظم الظلم للمسلمين، ولهذا قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ
__________
1 أحمد (5/327).
2 مسلم: الإمارة (1919) , وابن ماجه: الجهاد (2814).(22/456)
ص -456- ... لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [سورة البقرة آية: 159].
فإن ضرر كتمانهم يتعدى إلى البهائم وغيرها، فيلعنهم اللاعنون حتى البهائم؛ كما أن معلم الخير يصلي عليه الله وملائكته، ويستغفر له كل شيء حتى الحيتان في جوف البحر، والطير في جو السماء.
وكذلك كذبهم في العلم من أعظم الظلم، وكذلك إظهارهم للمعاصي والبدع التي تمنع الثقة بأقوالهم، وتصرف القلوب عن اتباعهم، وتقتضي متابعة الناس لهم فيها، هي من أعظم الظلم؛ ويستحقون من الذم والعقوبة عليها ما لا يستحقه من أظهر الكذب والمعاصي والبدع من غيرهم، لأن إظهار غير العالم وإن كان فيه نوع ضرر، فليس هو مثل العالم في الضرر، الذي يمنع ظهور الحق، ويوجب ظهور الباطل؛ فإن إظهار هؤلاء للفجور والبدع، بمنزلة إعراض المقاتلة عن الجهاد ودفع العدو، ليس هو مثل إعراض آحاد المقاتلة، لما في ذلك من الضرر العظيم على المسلمين.
فترك أهل العلم لتبليغ الدين كترك أهل القتال للجهاد؛ وترك أهل القتال للقتال الواجب عليهم، كترك أهل العلم للتبليغ الواجب عليهم، لأنهما ذنب عظيم، وليس هو مثل ترك ما تحتاج الأمة إليه مما هو مفوض إليهم، فإن ترك هذا أعظم من ترك أداء المال الواجب إلى(22/457)
ص -457- ... مستحقه؛ وما يظهرونه من البدع والمعاصي، التي تمنع قبول قولهم، وتدعو النفوس إلى موافقتهم، وتمنعهم وغيرهم من إظهار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أشد ضررا للأمة وضررا عليهم من إظهار غيرهم لذلك.
ولهذا جبل الله قلوب الأمة على أنها تستعظم جبن الجندي وفشله، وتركه للجهاد، ومعاونته للعدو، أكثر مما تستعظمه من غيره، بخلاف فسوق الجندي وظلمه وفاحشته، وبخلاف قعود العالم عن الجهاد بالبدن.
ومثل ذلك: ولاة الأمور كل بحسبه، من الوالي، والقاضي; فإن تفريط أحدهم فيما عليه رعايته من مصالح الأمة، أو فعل ضد ذلك من العدوان عليهم، يستعظم أعظم مما يستعظم ذنب يخص أحدهم. انتهى كلام الشيخ رحمه الله.
وجدير بنا أن نحذر ما قاله بعض السلف، في علماء السوء على أبواب الجنة، يدعون الناس إليها بأقوالهم، ويدعونهم إلى النار بأفعالهم; فكلما قالت أقوالهم للناس: هلموا، قالت أفعالهم: لا تسمعوا منهم، فلو كان ما دعوا إليه حقا، كانوا أول المستجيبين له؛ فهم في الصورة أولياء، وفي الحقيقة قطاع طريق.
[ قول الشيخ عبد الرحمن بن حميد في الدعوة إلى الله وحثه عليها ]
وقال الشيخ: عبد الله بن محمد بن حميد، رحمه الله:(22/458)
ص -458- ... الدعوة إلى الله طريقة الرسل
قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [سورة النحل آية: 125]: هذا أمر من الله جل شأنه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بالدعوة، وهو أمر للأمة.
وقد أمر الله رسوله بأن يدعو الناس كافة إلى سبيله، وبأن تكون الدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، فرتب الدعوة على حسب مراتب الخلق والدعوة إلى سبيله مستلزمة لبيان السبيل المدعو إليه.
وقد بات هذا السبيل بالوحي الإلهي، فأوضح قواعد الدين الاعتقادية والعملية، فما قام دين من الأديان ولا مذهب من المذاهب، ولا ثبت مبدأ من المبادئ، إلا بالدعوة إليه؛ ولا تداعت أركان ملة بعد قيامه، ولا انتكث فلّ شريعة بعد إحكامها، ولا درست رسوم طريقة بعد ارتفاع أعلامها، إلا وسببه ترك الدعوة.
فيا أيها العلماء وحماة الدين، ما لنا نرى الحق بدت معالمه تتضاءل؟! وآثاره تعفو وتندرس؟ ومذاهب الباطل تموه بالدعوة، ويعم انتشارها؟!.
إن الإسلام بدأ يضعف منذ اقتنع أهله بالترف والنعيم، وأهملوا العناية بالدعوة إليه؛ فوالله لو بقي للعلماء سور من الغيرة على دينهم، لنفروا خفافا وثقالا للإرشاد والدعوة.
فإن الأمة الإسلامية في مبدأ نشأتها قامت بالدعوة إلى دينها، مبينة للأمم سماحته، شارحة حكمه، موضحة(22/459)
ص -459- ... محاسنه، فقد أعطيت أمثل التعاليم، وهديت إلى صراط مستقيم؛ وبذلك امتد سلطانها، واتسعت ممالكها، وأخضعت من سواها لأوامر القرآن ونواهيه.
ثم ما لبثت أن حرفت فانحرفت، وتمزقت بعدما اجتمعت; حرمت التعاليم الحقة، واشتبه عليها الباطل بالحق، وتبعت السبل، فتفرقت بها عن سبيل الحق؛ فأصبحت اليوم شيعا متفرقة، لما أضاعت من الحق والدعوة إليه ضاعت وهانت، وصارت غثاء كغثاء السيل.
وقال أيضا، رحمه الله: من واقعنا اليوم 1.
لا شك أن الإسلام قد أصيب بما أصيب به من الويلات والمصائب التي أدت إلى ضعف الإسلام، وخفة سطوته في القلوب؛ فقد علم الناس أن تغيرا عقليا طرأ على أفكارهم، وتدفق عليهم سيل المدينة الجارف.
فاستقبلوا ذلك البلاء العظيم بسرور وارتياح بال، وبادروا في إتقانه، وذهلوا عن كل شيء سواه، فكأنهم في سكرة من أمرهم.
وهذا مما جعل كل واحد من علماء المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، يحس بالخطر المحدق به، وبدينه، وبأمته؛ والكثير منهم والأكثر يتأفف من الحالة الراهنة، ويظهر التضجر، ويبدي التأثر والانفعال؛ غير أن هذا لا يكفي
__________
1 وقد نشر في مجلة راية الإسلام في ذي الحجة سنة 1380 هـ.(22/460)
ص -460- ... لتلافي الأخطار المحدقة بالإسلام، وهي في نمو وازدياد؛ بل لا بد لدفع ذلك من اجتماعات إسلامية صادقة، لتدارك ما فات، وإصلاح ما فسد، وإقامة ما اعوج.
إن الأمة الإسلامية لا تكون ذات كيان، إلا بالاجتماع والتناصر على جلب ما ينفعها، ودفع ما يضرّها، في أمر دينها ودنياها; وكما قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [سورة المائدة آية: 2].
ولا ريب أن الشرع الإسلامي شرع هذا الأمر ولم يهمله، فأمر باجتماعات يومية تنعقد في اليوم والليلة خمس مرات، في صلاة الجماعة، يؤدونها منتظمين صفوفا، جنبا إلى جنب خلف إمامهم، يكبرون إذا كبر، ويركعون إذا ركع؛ فاجتماع أبدانهم على هذه الكيفية مؤذن باجتماع قلوبهم على دينهم اعتقادا وعملا.
ثم فرض الإسلام اجتماعا أكبر من هذا الاجتماع في الأسبوع مرة لأداء صلاة الجمعة، يأتي الشخص فيصلي لربه خاشعا متواضعا، يسمع الموعظة الآمرة بالمعروف، ومكارم الأخلاق، الصالحة للدين والدنيا، ويجدد العهد بإخوانه المسلمين، من أهل تلك البلدة، يعطلون لهذا الاجتماع مساجدهم، وكذلك في العيدين.
ثم شرع اجتماعا أكبر من الذي قبله، فأوجب الحج على من استطاع إليه سبيلا في العمر مرة؛ فكان حج البيت هو اجتماع الأمة في كل سنة بمكة، يجتمع فيه رجال الأمة(22/461)
ص -461- ... الإسلامية، ونساؤها من كل حدب وصوب.
يفدون إليه مشاة وركبانا، برا وبحرا وجوا، حيث يجتمعون في بلد الله الحرام، وفي مهد الإسلام، وموطن إسماعيل، ومثابة إبراهيم الخليل، ليؤدّوا مناسك الحج، جريا على ما شرعه دينهم الإسلامي، وليشهدوا منافع لهم، ويذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام، ونعمة الإسلام.
وليتعاونوا فيتآلفوا، فيعرف بعضهم أحوال بعض، فيتعاونون على إصلاح العوج، وتقويم الأود، يضمهم موقف واحد، لا يتميز فيهم فقير عن غني، ولا صعلوك عن ملك، لابسي أكفانهم، بادية رؤوسهم في زي واحد، لا يتفاضلون، لا ميزة للمرء على غيره إلا بالعمل الصالح، يعتقد كل منهم أن أفضل راع للنفس هو الدين، يسمعون الخطب المؤثرة، والمواعظ النافعة، والدعوة إلى الإسلام بذكر محاسنه وفضائله وإيضاح حكمه.
ثم ينصرفون إلى ديارهم، كل يقصد جهته، وقد امتلأ أنسا وسرورا بما سمع وعلم، ويذكر لأهله وقومه حال إخوانه المسلمين، وقد تعرف خبرهم، وما هم عليه من خير أو شر، ويتحدث بين أقوامه ما يحسن أن يقوموا به، من الخدمات اللائقة لذلك، من التعاون، والتكاتف، والتوادد، فيبعث في نفوسهم حب إقامة العدل والدين.
وإني أدعو الله جلت قدرته أن يوفق هذه الأمة لما يصلح شؤونها، ويقوّم اعوجاجها، ويسلك بها الصراط السوي،(22/462)
ص -462- ... والطريق الأمثل، وأن يكون اهتمامها بأمر دينها الصحيح؛ فإن دين الإسلام دين الفطرة، دين الرقي، دين العدالة، دين المدنية الفاضلة، دين العمل، دين الاجتماع، دين التوادد، والتناصح، والتحابب، دين رفع ألوية العلم والصنائع والحرف، غير قاصر على أحكام العبادات والمعاملات، بل شامل لجميع منافع العباد ومصالحهم، على ممر السنين وتعاقب الدهور، إلى أن تقوم الساعة. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل، اهـ.
الفصل الثاني: من أعظم أسباب ضعف العلم والإسلام
سياحة بعض الناس في الأمصار المجاورة، وغالبهم يتمتع بالملاهي وغيرها، وإذا قدموا علينا في هذا العصر تلقيناهم بالترحيب والإكرام؛ وبعض السفلة ترغب نفوسهم فيما وصل إليه أولئك، رغبة في الحرية العربية، على ضد ما أمر الله به، وفعل ما نهى عنه.
ولذلك اشمأزت بعض النفوس، إلى استقدام معلمين منهم، من ذكور وإناث كما يأتي; وكنا في عصر الشيخ عبد الله، إذا قدم المسافر من تلك الأمصار لتجارة أو غيرها يهجر حتى يظهر التوبة.
وحدثني أبي رحمة الله عليه: أنه قد كان يفعل في بلدنا إذا قدم، يغمس بعد صلاة الجمعة في ثيابه، في ماء الطهارة، ليمتنع من السفر إليهم هو وغيره، وقد ذكر أهل(22/463)
ص -463- ... العلم تحريم السفر إلى بلاد المشركين - ومنهم من أفرده بالتأليف - ووجوب الهجرة من بلد الشرك.
[ رسالة الشيخ عبد الله بن حميد في التحذير من الركون إلى الكفار ]
وإليك رسالة الشيخ: عبد الله بن سليمان بن حميد، قد أجاد فيها وأفاد 1:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله القائل: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [سورة هود آية: 113], والصلاة والسلام على نبيه المجاهد للمنافقين والمشركين بسيف الحق البتار، وعلى آله وأصحابه المهاجرين منهم والأنصار، الذين نعتهم الله بأنهم: رحماء بينهم أشداء على الكفار، وعلى من اتبعهم بإحسان، ومن على هذا الدين يغار.
أما بعد: فاعلموا رحمني الله وإياكم أن أكثر الناس في هذا الزمان، نبذوا كتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وراءهم ظهريا، وزهدوا فيما فيهما من العلم النافع والعمل به؛ حتى صار الإسلام في هذا الوقت إلى ما إليه صار، وذلك لالتفات غالب الخلق لأمر الدنيا وإصلاحها، ولو بفساد الدين وذهابه.
ونسوا دينهم الصحيح المقرر بكتاب الله، وعلى لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فعميت البصائر، واستحكمت غربة الدين، وعمت الفتن وانتشرت، حتى اجتمع الصالح بالفاسد،
__________
1 وهي: "الهدية الثمينة فيما يحفظ به المرء دينه" طبعت مرارا, الأولى في سنة 1373 هـ.(22/464)
ص -464- ... والفاسق بالعابد، واختلط الحابل بالنابل، وخالط المسلمون الكفار والمشركين، والرافضة والملحدين.
وكانوا عندهم خداما، ولهم عمالا، ومنهم متعلمين، وفي التجارة وسائر المعاملات معاملين، وفي شركاتهم مشتركين، وبمجالسهم مستأنسين، ولطعامهم وشرابهم آكلين شاربين، ولهم مؤانسين.
وحصل بهذا الاختلاط فساد الاعتقاد، وفساد الأخلاق، وظهر الإلحاد، والتكذيب في تعاليم الدين، وانتشر هذا الداء إلى المقيمين بأوطانهم، من بادية وحاضرة، بتلقي أولادهم وأقربائهم، المتلبسين بالمشركين، الموالين لهم، بإكرامهم وتحسين أعمالهم، والذب عنهم.
والحامل على هذا للجميع: الجهل بدين الإسلام، ومحبة الدنيا، والافتتان بها، وتقديمها على ما يرضي الله، ونسوا أن الرزق والأجل قرينان، فما دام الأجل باقيا فالرزق جاريا {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [سورة الطلاق آية: 2-3].
وفي حديث: "إذا عظمت أمتي الدنيا نزعت منها هيبة الإسلام، وإذا تركت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حرمت بركة الوحي، وإذا تسابت سقطت من عين الله"، وقال صلى الله عليه وسلم: "صلاح أول هذه الأمة بالزهد واليقين، وهلاك آخرها بالبخل والأمل"، وقال: "ليأتين على الناس زمان،(22/465)
ص -465- ... لا يبالي المرء بما أخذ، من الحلال أم من الحرام" 1 رواه البخاري.
أوحى الله إلى داود عليه السلام: يا داود: حذّر وأنذر أصحابك أكل الشهوات، فإن القلوب المتعلقة بشهوات الدنيا، عقولها عني محجوبة؛ وإن أهون ما أصنع بالعبد من عبيدي، إذا آثر شهوة من شهواته، أن أحرمه من طاعتي".
والله يقول: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [سورة البقرة آية: 200]، {وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [سورة الشورى آية: 20]، {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً} [سورة الإسراء آية: 18]، {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [سورة الأعلى آية: 16-17].
والآيات، والأحاديث في ذم الدنيا والمشتغلين بها أكثر من أن تحصر، وأشهر من أن تذكر، ومع هذا فقد تحكم حبها في القلوب، وحصل بسببها ما يسخط علّام الغيوب.
أيها المسلمون، الدنيا لا تدوم نعمتها، ولا يستمر خيرها؛ بل هي مجمع الآفات، ومستودع المصائب، لا يركن إليها إلا مغرور، ولا ينخدع بها إلا مفتون.
أما المؤمن الحقيقي، فهي مطيته إلى الآخرة، إن أتته سراء شكر الله عليها، وإن أصابته ضراء صبر لها؛ يأمر بالمعروف ويسارع إليه، وينهى عن المنكر ولا يقر به،
__________
1 البخاري: البيوع (2059) , والنسائي: البيوع (4454) , وأحمد (2/435 ,2/452 ,2/505) , والدارمي: البيوع (2536).(22/466)
ص -466- ... لا يداهن العصاة والفاسقين، ولا يجامل الرؤساء والأعيان بما يسخط الله.
عباد الله، ليست المصيبة أن يصاب الإنسان بنفسه أو ماله أو ولده، وإنما المصيبة العظيمة، والكسر الذي لا ينجبر، أن يصاب الإنسان بدينه، فيحل الشك محل اليقين، فيرى الباطل حقا، والحق باطلا، والمعروف منكرا، والمنكر معروفا.
أيها المسلمون، لا يفتننكم الذين كفروا عن دينكم بعرض من الدنيا فتصبحوا خاسرين; الله، الله، في حفظ دينكم والعمل بتعاليمه، فإنه من يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه.
أيها المسلمون: ليس الإسلام مقصورا على الصلاة والزكاة والصوم والحج، ولكنه ذلك، والكف عن محارم الله، ومحبة أولياء الله، ومعاداة أعداء الله، والبعد عنهم، وإنكار ما هم عليه، وعدم مخالطتهم، وترك مشابهتهم وتقليدهم، إلى غير ذلك من حقوق الإسلام وشروطه ولوازمه.
ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال. أكثر الناس يقولون آمنا بالله {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [سورة البقرة آية: 8-9-10] بحب الشهوات وأكل الحرام.(22/467)
ص -467- ... {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [سورة المنافقون آية: 4] لكنهم عن الحق معرضون، ولأهله معادون مبغضون، ولأعداء الله محبون موالون.
والحقيقة أن من خالف أمر القرآن ونهيه، لم يؤمن به، شاء أم أبى، ومن لم يتبع شريعة محمد صلى الله عليه وسلم لم يصدقه، شاء أم أبى، لا تقبل دعوى بلا حقيقة، ولا قول بلا عمل.
والمصيبة العظيمة أن حرمات الله قد انتهكت، والفسوق قد انتشر بين المسلمين، ويحاول إخوان الشياطين: أن يقضوا على بقية الدين، ولا أحد ينكر أو يغار، أو يحزن لما يرى ويسمع من الأشرار، وينتحب على موت السنن وظهور البدع؛ ولا شك أن هذا علامة موت القلوب.
رحم الله ابن عقيل حيث يقول في زمانه: من عجيب ما نقدت من أحوال الناس، كثرة ما ناحوا على خراب الديار، وموت الأقارب والأسلاف، والتحسر على الأرزاق، وذم الزمن وأهله، وذكر نكد العيش فيه.
وقد رأوا من انهدام الإسلام، وتشعب الأديان، وموت السنن، وظهور البدع، وارتكاب المعاصي، وتقضي الأعمار في الفارغ الذي لا يجدي، والقبيح الذي يوبق ويؤذي.
فلا أجد منهم من ناح على دينه، ولا بكى على ما فرط من عمره، ولا أسى على فائت دهره، وما أرى لذلك سببا إلا قلة مبالاتهم بالأديان، وعظم الدنيا في عيونهم، ضد ما(22/468)
ص -468- ... كان عليه السلف الصالح، يرضون بالبلاغ من الدنيا، وينوحون على الدين، اهـ.
وقال ابن القيم رحمه الله:
لما أعرض الناس عن تحكيم الكتاب والسنة والمحاكمة إليهما، واعتقدوا عدم الاكتفاء بهما، وعدلوا إلى الآراء والقياس والاستحسان وأقوال الشيوخ، عرض لهم عند ذلك فساد في فطرهم، وظلمة في قلوبهم، وكدر في أفهامهم، ومحق في عقولهم، عمتهم هذه الأمور، وغلبت عليهم، حتى ربا فيها الصغير وهرم عليها الكبير، فلم يروها منكرا.
فجاءتهم دولة أخرى أقامت فيها البدع مكان السنن، والنفس مكان العقل، والهوى مقام الرشد، والضلال مقام الهدى، والمنكر مقام المعروف، والجهل مقام العلم، والرياء مقام الإخلاص، والباطل مقام الحق، والكذب مقام الصدق، والمداهنة مقام النصيحة، والظلم مقام العدل، فصارت الدولة والغلبة لهذه الأمور، وأهلها هم المشار إليهم، وكانت قبل ذلك لأضدادها، وكان أهلها هم المشار إليهم، إلى أن قال رحمه الله:
اقشعرت الأرض وأظلمت السماء، وظهر الفساد في البر والبحر من ظلم الفجرة، وذهبت البركات، وقلت الخيرات، وهزلت الوحوش، وتكدرت الحياة من فسق الظلمة وبكى ضوء النهار وظلمة الليل من الأعمال الخبيثة، والأفعال(22/469)
ص -469- ... الفظيعة، وشكا الكرام الكاتبون والمعقبات إلى ربهم من كثرة الفواحش، وغلبة المنكرات والقبائح.
وهذا والله منذر بسيل عذاب قد انعقد غمامه، ومؤذن بليل بلاء قد ادلهم ظلامه، فاعزلوا عن طريق هذا السبيل، بتوبة نصوح، ما دامت التوبة ممكنة وبابها مفتوح، وكأنكم بالباب وقد أغلق، وبالجناب وقد علق {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [سورة الشعراء آية: 227].
وقال رحمه الله:
علماء السوء جلسوا على باب الجنة، يدعون إليها الناس بأقوالهم، ويدعونهم إلى النار بأفعالهم، فكلما قالوا للناس هلموا، قالت أفعالهم: لا تسمعوا منهم، فهم في الصورة أدلَّاء، وفي الحقيقة قطاع طريق، اهـ.
فكيف لو رأى ابن القيم رحمه الله هذا الزمان، الذي انهدم فيه جانب الحق، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في غالب الناس، واختلط الخبيث بالطيب، وظهر الفاسد، وتكلم بملء شدقيه بلا خفية، وسكت المحق، فإن تكلم، فبينه وبين نفسه، وانعكست الأمور، وتغيرت الأحوال، وكثر العلم وقل العمل، وتعلم العلم للدنيا.
واتصف غالب أهله بالعقائد الفاسدة، والأعمال الخبيثة: إلحاد، وزندقة، واستهزاء بالسنن وأهلها، وخلاعة، وفجور، وزنى، ولواط، وشرب مسكرات، وترك للصلوات، ومروق من الدين والآداب العربية بكل الكلمة،(22/470)
ص -470- ... لا خوف من الله ولا حياء من خلقه.
همهم القيل والقال، والعكوف على آلات اللهو، والشهوات المحرمة، وأكل أموال الناس بالباطل، والربا، وأنواع الحيل المحرمة، والتفاخر في المآكل والملابس، والمباهاة في البنيان والأثاث، وصار الحب للدنيا، والبغض لها، والموالاة فيها، والمعاداة عليها.
فهم كما قال كعب الأحبار: "والله إني لأجد صفة المنافقين في كتاب الله عز وجل شرابين للقهوات "أي الخمور"، تراكين الصلوات، لعّابين بالكعبات، رقّادين عن العتمات 1، مفرطين في الغدوات، تاركين للجماعات".
ومن صفتهم: يقرؤون القرآن، وهم بين كافر به وفاجر يتأكل به; وفي حديث لأبي سعيد: "ثم يكون خلف يقرؤون القرآن لا يعدو تراقيهم" 2، وفي حديث آخر "وأما القرآن فيتعلمه المنافق فيجادل به المؤمنين" 3 كما هو الواقع، فهذه والله صفات غالب أهل زماننا هذا.
ورحم الله ابن القيم حيث قال: الزنادقة قوم أظهروا الإسلام ومتابعة الرسل، وأبطنوا الكفر ومعاداة الله ورسله؛ وهؤلاء هم المنافقون، وهم في الدرك الأسفل من النار.
وذكر رحمه الله من صفاتهم ما ينطبق على غالب أهل هذا الزمان، فراجعه في كتابه "طريق الهجرتين، وباب
__________
1 هي: العشاء والفجر.
2 أحمد (3/38).
3 أحمد (4/155).(22/471)
ص -471- ... السعادتين"
في الطبقة الخامسة عشر، يتبين لك أحوال الناس، وما أخلوا به وضيعوه، من تعاليم دينهم، وسنّة نبيهم.
وهلاك الأكثرين بانغماسهم في الشهوات المحرمة، وموالاتهم لأعداء الله ورسوله، وتركهم الصلاة التي هي عمود الإسلام، والذين يصلون منهم يؤخرونها عن أوقاتها.
وتأمل ذلك تجده عامًّا في القرى والأمصار والبوادي، إلا بقايا ممن رسخت في التوحيد عقائدهم، واستنارت بالعلم قلوبهم وبصائرهم، وعن الشر يحذرون، وبالأدلة يرشدون، وعلى الأذى في الله يصبرون.
وهذا مصداق قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله"1، لكنهم قليل.
وأنا وإن كنت لست من أهل هذا الشأن، وقاصر العلم واللسان، لكن لما رأيت ما عم وطم، من انقلاب الأكثرين عن دين الإسلام، وموالاتهم لعبدة الأوثان، وأعداء الشريعة من النصارى والملحدين والرافضة، حملتني الغيرة الدينية، والشفقة الإنسانية، أن أجمع بعض آيات قرآنية، وأحاديث نبوية، ومن كلام علماء السنة المقتدى بهم، نبذة يسيرة في بيان تحريم مخالطة المشركين، ووجوب البعد عنهم، وحكم التولي والموالاة، والسفر إلى بلادهم، وما يجب على من اضطر
__________
1 مسلم: الإمارة (1920) , والترمذي: الفتن (2229) , وابن ماجه: المقدمة (10) , وأحمد (5/279).(22/472)
ص -472- ... إلى العمل مع الشركات الأجنبية، لتكون تذكرة للمؤمنين، وحجة على المعاندين، وسميتها: "الهدية الثمينة، فيما يحفظ به المرء دينه".
والله أسأل التوفيق وحسن النية، وأن يدفع عنا وعن عموم المسلمين كل بلية ورزية، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
فأقول:
قال العلماء: إن الله حرم على المؤمنين في كتابه، وعلى لسان نبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، أن يوالوا المشركين ويظهروا لهم المودة، ولو بأدنى شيء من أنواع الانبساط، وتوعدهم بأعظم وعيد، وزجرهم بأكبر زجر وتهديد، كما في الآيات التي تسمعها الآن من كلام الله المحكم المبين.
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} [سورة آل عمران آية: 28]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة المائدة آية: 57].
{بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} [سورة النساء آية: 138-139]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِيناً} [سورة النساء آية: 144].
{وَلَوْ(22/473)
ص -473- ... كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [سورة المائدة آية: 81].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الإيمان بالله والنبي وما أنزل إليه مستلزم: بعدم ولايتهم، وثبوت ولايتهم يوجب عدم الإيمان، لأن عدم اللازم يقتضي عدم الملزوم.
وقال بعض المحققين: رتب الله على موالاتهم سخطه، والخلود في العذاب، وأخبر أن ولايتهم لا تحصل إلا ممن ليس بمؤمن، وأما أهل الإيمان بالله، وكتابه ورسوله، فإنهم لا يوالونهم بل يعادونهم، كما أخبر الله عن خليله إبراهيم والذين معه.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [سورة الممتحنة آية: 13]، {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ} [سورة المجادلة آية: 22] الآية، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْأِيمَانِ} [سورة التوبة آية: 23] الآية، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [سورة الممتحنة آية: 1] الآية،
{وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [سورة هود آية: 113] الآية، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ(22/474)
ص -474- ... مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} [سورة المائدة آية: 52-51] الآيتين.
{تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} [سورة المائدة آية: 80]،
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [سورة آل عمران آية: 149]، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [سورة آية: 73].
وقال في حق نبيه محمد صلى الله عليه وسلم {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً} [سورة الإسراء آية: 75-74].
وقال عن خليله إبراهيم ومن آمن معه {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [سورة الممتحنة آية: 4]، وقال عنه: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي} [سورة الزخرف آية: 27-26].
وقال عنه: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة مريم آية: 48]: قال العلماء: فهذه البراءة، وهذه الموالاة، هي معنى لا إله إلا الله، لاشتمالها على إثبات العبادة لله وحده، ونفيها عمن سواه؛ وهي حقيقة الإسلام، وهي ملة(22/475)
ص -475- ... إبراهيم التي أمرنا باتباعها بقوله: {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة النحل آية: 123].
فهذه أيها المسلمون، بعض من آيات الله، ظاهرة الدلالة، بينة الحجة، واضحة البرهان، حاكمة بمنطوقها على كل مسلم يوالي الكفار والمشركين واليهود والنصارى، ولا ينكر عليهم شركهم، ويحسن أفعالهم أو يشك في كفرهم، أنه كافر، ولو عرف التوحيد وعمل بشرائع الإسلام الظاهرة. ولو تتبعنا أقوال العلماء على هذه الآيات، لطال الكلام، وخرجنا عن مقصود الاختصار.
وأما الأحاديث الواردة في النهي عن مشابهة المشركين والكفار فهي كثيرة معروفة; منها: قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر: "من تشبه بقوم فهو منهم" 1. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: أقل أحواله - أي هذا الحديث - أن يقتضي تحريم التشبه، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم.
وقال ابن كثير رحمه الله: وفيه النهي الشديد والتهديد والوعيد، على التشبه بالكفار في أقوالهم وأفعالهم، ولباسهم وأعيادهم وعباداتهم، وغير ذلك مما لم يشرع لنا ولم نقر عليه.
وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن عمرو ثوبين معصفرين، قال: "إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها" 2 الحديث في مسلم، نهى عن لبسها لأنها من ثياب الكفار.
وفي كتاب عمر إلى عتبة بن فرقد: "وإياك وزي أهل
__________
1 أبو داود: اللباس (4031).
2 مسلم: اللباس والزينة (2077) , والنسائي: الزينة (5316) , وأحمد (2/207).(22/476)
ص -476- ... الشرك" وهو في الصحيحين، وروي عن حذيفة أنه أتى بيتا، فرأى فيه شيئا من زي الأعاجم، فخرج، وقال: (من تشبه بقوم فهو منهم).
ويروى عن الإمام أحمد أنه دعي إلى وليمة عرس، فنظر إلى كرسي في الدار عليه فضة، فخرج، فلحقه صاحب الدار، فنفض يده في وجهه، فقال زي المجوس، زي المجوس.
وقال عمر: "لا تعلموا رطانة الأعاجم" إلى آخر ما قال رحمه الله، وقد كتب عمر إلى المسلمين المقيمين في بلاد فارس: "إياكم وزي أهل الشرك".
وما ورد في ذلك أكثر من أن يحصر، ولم يحذر الله عن مشابهتهم إلا لقطع المودة بينهم وبين المسلمين، وقال ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى:?"{وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} 1 قال: (الركون هو الميل في المحبة ولين الكلام).
وقال: (إن من الركون إلى الكفار أن تبري لهم قلما" وقال عكرمة: أن تطيعوهم أو تودوهم، أو تولوهم الأعمال، كمن يولي الفساق والفجار، وقال الثوري: من لاث لهم دواة، أو برى لهم قلما، أو ناولهم قرطاسا، دخل في هذا، يعني في الوعيد.
وقال بعض المفسرين: فيها النهي عن اتباع أهوائهم، والانقطاع إليهم ومصاحبتهم ومجالستهم، وزيارتهم،
__________
1 سورة هود آية: 113.(22/477)
ص -477- ... ومداهنتهم، والرضى بأعمالهم، والتشبه بهم والتزيّي بزيهم، ومد العين إلى زهرتهم، وذكرهم بما فيه تعظيم لهم.
وتأمل قوله تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا} [سورة هود آية: 113] والركون هو الميل اليسير، فكيف بمن جالس الكافرين، وآكلهم، وألان لهم الكلام؟!.
ويذكر عن عيسى عليه السلام، أنه قال: تحببوا إلى الله ببغض أهل المعاصي، وتقربوا إليه بالبعد عنهم، واطلبوا رضوان الله بسخطهم; فإذا كان هذا مع أهل المعاصي، فكيف بالمشركين والكافرين، والمنافقين والملحدين؟!
وفي الحديث: "المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل" 1، وفيه: "المرء مع من أحب يوم القيامة" 2، وفي حديث: "لا تنزل الرحمة على قوم فيهم قاطع رحم".
ومما تقدم من الآيات، والأحاديث، وأقوال العلماء، يتبين أنه يجب على المؤمنين إظهار العداوة للكفار والمشركين، والبراءة منهم والبعد عنهم؛ وأن ذلك هو حقيقة الإسلام.
ويتبين أن المسلم إذا والى المشركين وأطاعهم، ووافقهم على رغبتهم، لأجل مال أو غيره، من غير إكراه، أنه كافر، ولو كان يعرف كفرهم ويبغضهم.
وقد جاء الأمر بمجاهدة الكفار والمشركين، والغلظة عليهم في غير موضع من كتاب الله؛ بل جاء الأمر بالإنكار على المجاهر بالمعاصي، ولو كان مسلما، فكيف بمن يوالي
__________
1 الترمذي: الزهد (2378) , وأبو داود: الأدب (4833) , وأحمد (2/303 ,2/334).
2 البخاري: الأدب (6168) , ومسلم: البر والصلة والآداب (2641) , وأحمد (1/392 ,4/405).(22/478)
ص -478- ... المشركين، ويحبهم، ويرى سبيلهم أهدى من سبيل المسلمين؟!
فيجب على المسلم معرفة أمور، من فعلها دخل في الوعيد، وتعرض لمسيس النار، التولي العام، الركون القليل، مداهنة الكفار ومداراتهم، طاعتهم فيما يقولون ويشيرون، تقريبهم في الجلوس، وتقديمهم في الدخول على أمراء الإسلام، مشاورتهم في الأمور، استعمالهم في الوظائف، اتخاذهم بطانة، مجالستهم ومزاورتهم والدخول عليهم، البشاشة لهم والطلاقة، الإكرام العام، استئمانهم وقد خونهم الله.
معاونتهم في أمورهم ولو بأدنى شيء، مناصحتهم، اتباع أهوائهم; مصاحبتهم ومعاشرتهم، الرضى بأعمالهم، التشبه بهم والتزيّي بزيهم; ذكر ما فيه تعظيمهم كتسميتهم سادات وحكام وحكماء، والسكنى معهم في ديارهم.
إذا تبين هذا فلا فرق بين أن يفعل ذلك مع أقربائه منهم، أو مع غيرهم؛ ولا تجتمع محبة الله، ومحبة أعداء الله في قلب مسلم.
قال ابن القيم:
تحب أعداء الحبيب وتدعي ... حبا له ما ذاك في إمكان
إذا فهمت ما تقدم، تبين لك انحراف كثير من أهالي هذا الزمان عن الدين، وردتهم الصريحة، لمبادرتهم إلى(22/479)
ص -479- ... موالاة المشركين، ومحبتهم وتحسين أعمالهم، مع تركهم الواجبات، وانتهاكهم المحرمات؛ فيجب ويتعين على كل مسلم ناصح لنفسه أن يعرف ما قرره العلماء رحمهم الله، من الفرق بين التولي والموالاة.
قالوا رحمهم الله: الموالاة مثل لين الكلام، وإظهار شيء من البشاشة، أو لياثة الدواة، وما أشبه ذلك من الأمور اليسيرة، مع إظهار البراءة منهم ومن دينهم، وعلمهم بذلك منه، فهذا مرتكب كبيرة من كبائر الذنوب، وهو على خطر.
وأما التولي: فهو إكرامهم، والثناء عليهم، والنصرة والمعاونة لهم على المسلمين، والمعاشرة، وعدم البراءة منهم ظاهرا؛ فهذا ردة من فاعله، يجب أن تجرى عليه أحكام المرتدين، كما يدل على ذلك الكتاب والسنة، وإجماع الأمة المقتدى بهم.
ومن كلام العلامة القصيمي محمد بن عبد الله بن سليم في هذا المعنى، قال رحمه الله: النوع الأول: أن يودهم ويود ما هم عليه من الكفر، ويطمئن إلى ذلك ويرضى به، فهذا كفر بلا ريب.
النوع الثاني: أن يودهم لغرض دنيوي، مع كراهته لما هم عليه، وتضليلهم، فهذا قد أتى كبيرة من كبائر الذنوب، متعرض للوعيد.
وأما السفر إلى بلاد المشركين والإقامة عندهم فقد قال صلى الله عليه وسلم: "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين ظهراني(22/480)
ص -480- ... المشركين، لا تراءى ناراهما 1").
وعن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جامع المشرك أو سكن معه، فإنه مثله" 2 وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم على بعض أصحابه: أن لا تراءا نارك نار المشركين، إلا أن تكون حربا لهم.
وقد عاتب الله المسلمين الذين تخلفوا عن الهجرة بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} 3 الآية، قيل: لما نزلت هذه الآية، كتب بها إلى من بمكة من المسلمين أنه لا عذر لهم بالإقامة، فخرجوا. وهذه الآية عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين، وليس متمكنا من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه مرتكب حراما.
قال القرطبي في شرح مسلم: ولا يختلف في أنه لا يحل لمسلم المقام في بلاد الكفر، مع التمكن من الخروج منها، لجريان أحكام الكفر عليه، ولخوف الفتنة على نفسه، وهذا حكم ثابت مؤبد إلى يوم القيامة.
وعلى هذا، فلا يجوز لمسلم دخول بلاد الكفر، لتجارة
__________
1 لهذا يجب علينا ألا نرسل أبناءنا وهم صغار, إلى بلاد الكفار للتعلم, لأن النشء إذا شب بينهم, لابد أن يتخلق بأخلاقهم, والأوفق بالمسلمين إن أرادوا تعليم أولادهم, بعض العلوم الحديثة كالميكانيكا, والهندسة: أن يفتحوا المدارس في بلادهم, ويجلبوا لها هؤلاء المهندسين, وبهذا يمكن حفظ أخلاق النشء ودينهم.
2 أبو داود: الجهاد (2787).
3 سورة النساء آية: 97.(22/481)
ص -481- ... ولا غيرها، مما لا يكون ضروريا في الدين، كرسل، وفكاك الأسير المسلم، وقد بطل الإمام مالك رحمه الله شهادة من دخل بلاد الهند للتجارة. انتهى.
وقال الشيخ: سليمان بن سحمان، رحمه الله: واجب على كل مسلم عداوة الكفار والمشركين وبغضهم وهجرهم ومفارقتهم بالقلب واللسان والبدن... إلى أن قال:
فتبين أن إظهار الدين، هو التصريح بالعداوة والبغضاء، وأن قول من أعمى الله بصيرة قلبه: إن إظهار الدين كون الكفار لا يمنعون أحدا من الصلاة، ولا من الحج، والأذان، قول باطل، مردود شرعا وعقلا.
وقال الشيخ: حمد بن عتيق رحمه الله: فمن أعظم الواجبات على المؤمن: محبة الله ومحبة من يحبه من الأشخاص، كالملائكة، وصالحي بني آدم، وموالاتهم، وبغض ما يبغضه الله من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، وبغض من فعل ذلك; فإن رسخ هذا الأصل في قلب المؤمن، لم يطمئن إلى عدو الله، ولم يجالسه، أو يلفت النظر إليه.
فلما ضعف هذا الأصل في قلوب كثير من الناس واضمحل، صار حال كثير منهم مع أعداء الله، كحاله مع أوليائه، يلقى كلا بوجه طلق، وصارت بلاد الحرب عنده كبلاد الإسلام، ولم يخش غضب الله الذي لا تطيقه الأرض والسماوات والجبال الراسيات.(22/482)
ص -482- ... ولما عظمت فتنة الدنيا في صدور كثير من الناس، وصارت أكبر همهم، ومبلغ علمهم، حملهم ذلك على التماسها ولو بوجه يسخط الله؛ فسافروا إلى أعداء الله في بلادهم، وخالطوهم في أوطانهم، ولبس الشيطان عليهم أمر دينهم، فنسوا عهد الله الذي أخذه عليهم في مثل قوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [سورة الحشر آية: 7]، إلى آخر ما قال رحمه الله.
ومن كلام لبعض المحققين قالوا رحمهم الله:
يحرم السفر إلى بلاد المشركين للتجارة، إلا أن يكون المسلم قويا، له منعة، يقدر على إظهار دينه، وتكفيرهم، وعيب دينهم، والطعن عليهم، والبراءة منهم، والتحفظ من مودتهم والركون إليهم; وليس فعل الصلاة فقط إظهارا للدين.
وقول القائل: إنا نعتزلهم في الصلاة، ولا نأكل ذبيحتهم، لا يكفي في إظهار الدين، بل لا بد مما ذكر.
قلت هو كما تقدم: أن يتبرأ من المشركين والكفار، وأن يصرح لهم بأنهم كفار، وأنه عدو لهم، ويعلمون ذلك منه، فإن لم يحصل ذلك، لم يكن مظهرا للدين.
وقول بعضهم: إنهم لا ينكرون علينا، قول فاسد؛ فالكلام على من يظن به الخير ممن يخالطهم، يخاف عليه إن سلم من الردة لا يسلم من الكبيرة الموبقة.
وأما من يظن به مودة الكافرين وموالاتهم، أو يرى(22/483)
ص -483- ... دينهم أهدى سبيلا من المؤمنين، كحال أكثر الناس اليوم، فهذا مرتد عن دينه بإجماع المسلمين.
وقال بعض العلماء رحمهم الله:
اعلموا أن المعاصي أنواع بعضها أكبر من بعض، فأعظمها: الشرك بالله في عبادته... إلى أن قال: وهذا الذنب له وسائل، وذرائع، توصل إليه، فأعظمها موالاة أعداء الله على اختلاف أنواعها.
وقد أصبح أهل هذا الزمان في غفلة عنها، وأكثرهم يواليهم أو يوالي من يواليهم، يقرؤون القرآن، وفيه تحريم موالاتهم، ونفي الإيمان عمن يفعل ذلك... إلى أن قال: وأكثر الناس لا يفرق بين الإسلام وضده، فيؤمن ببعض ويكفر ببعض؛ ومن كفر ببعض كمن كفر بالكل.
وقال بعضهم: أصل الموالاة هو الحب والنصرة والصداقة، ودون ذلك مراتب متعددة، ولكل ذنب من الوعيد والذم ما هو معروف، ونواقض الإسلام تقارب أربعمائة ناقض، كما هو معروف في مصنفات العلماء.
والمجمع عليه منها عشرة، الثالث من العشرة: من لم يكفر المشركين، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم واستحسنه، كفر، والثامن: منها مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين، لقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [سورة المائدة آية: 51].
وقال بعض المفسرين في قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:(22/484)
ص -484- ... {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} [سورة النساء آية: 63]: أمر الله نبيه بالإعراض عن المنافقين وإغلاظ القول عليهم، ولا يلقاهم بوجه طلق، بل يلقاهم بوجه عابس مكفهر، متغير من الغيظ.
فإذا كان هذا مع المنافقين الذين هم بين أظهر المسلمين، يصلون ويصومون ويحجون، ويجاهدون، فكيف بمن سافر إلى المشركين، وأقام بين أظهرهم أياما وليالي؟!
قلت: بل أشهرا وسنين مطمئنا، مستأذنا عليهم في بيوتهم، متعلما منهم مكثرا لهم التحية، ملينا لهم الكلام، وليس له عذر إلا طلب العاجلة؛ ولم يجعل الله الدنيا عذرا لمن اعتذر بها، كما نبه الله على ذلك في كتابه.
وفي حديث طويل قال: "لا يحملنكم الشيطان باستبطاء الرزق أن تطلبوه بمعاصي الله، فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته".
ولما نهى الله أن يقرب المشركون المسجد الحرام، قال: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [سورة التوبة آية: 28]، فلم يعذر الله بالفقر والفاقة، والحاجة إلى ما في أيدي الكفار، وأخبر أنه {هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [سورة الذاريات آية: 58].
وغاية ما عند الموالين الاعتذار بالحاجة، وما كان ذلك عذرا صحيحا كما بين الله في كتابه وعلى لسان رسوله.
فيا حسرة على العباد الذين عرفوا التوحيد، ونشؤوا(22/485)
ص -485- ... فيه، ودانوا به زمانا، كيف خرجوا عن ولاية رب العالمين إلى ولاية المشركين والنصارى والملحدين، ورضوا بها؟! {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} [سورة الكهف آية: 50] {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [سورة المائدة آية: 81]، {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [سورة الأنعام آية: 121].
فالله الله عباد الله!! انتبهوا من هذه البلية العظيمة التي صيرت أهل الإسلام والضلال جماعة واحدة، ويجب على من نور الله بصيرته، إذا عرف إنسانا من أقاربه وجماعته بهذا الأمر أن ينصحه ويدعوه إلى الله سبحانه، ويعرّفه قبح ما ارتكبه؛ فإن تاب وأناب فهذا هو المطلوب، وإن أصر وعاند فيعاديه، ويبتعد عنه؛ ولكل فاسق حكم ما ارتكبه.
ومن أراد الله فتنته وضلاله، فلن تجد له وليا مرشدا،{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [سورة يونس آية: 97-96].
ومن أراد الوقوف على هذه المباحث القيمة بأدلتها، فليطالع "اقتضاء الصراط المستقيم" لشيخ الإسلام ابن تيمية، ورسالة "حكم موالاة أهل الإشراك"، ورسالة "بيان النجاة والفكاك من موالاة المرتدين وأهل الإشراك" فإنه يجد ما يكفي ويشفي، والله ولي التوفيق، والهادي لأقوم طريق.
اعلموا أيها المسلمون، أن العمل مع الشركات الأجنبية من أعظم الخطر على العمال المسلمين، لما يحصل(22/486)
ص -486- ... من تغيير العقائد، وفساد الأخلاق، وانتشار الفوضى، ونقض عرى الإسلام.
وقد فاهوا من الآن بسبّ الخير وأهله وبغضهم، واستنكار السنن، وخالفوا علنا، ومالوا إلى الدنيا وزخارفها، وأضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، وضلوا وأضلوا إلا القليل منهم.
وإن العمال الموجودين الآن عند الشركات الأجنبية على قسمين:
الأول: المستخدمين في بيوتهم ومكاتبهم وأشغالهم الخاصة، المحبوسين تحت أوامرهم وسيطرتهم، خاضعين لهم ذليلين حقيرين، يتصرفون فيهم كيف شاؤوا. ومع ذلك هم تاركين لكثير من الواجبات، فاعلين لكثير من المحرمات، لا يفرقون بين الحق والباطل، ولا يعرفون من الإسلام إلا اسمه، ولا من شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله إلا لفظها، فهؤلاء مثلهم.
ومن شك في ردتهم عن الإسلام، فهو لم يعرف الدين الصحيح، ولم يشم رائحة العلم النافع، ومثل هذه الخدمة محرمة بنص الكتاب والسنة وإجماع الأمة.
القسم الثاني: الأجراء على أعمال معينة، كبناء البيوت، وحفر الآبار، وإصلاح السكك، وما أشبه ذلك في أجور معينة، يومية أو شهرية،
فمثل هذه الإجارة جائزة مع الضرورة، بشرط بعدهم(22/487)
ص -487- ... عنهم، وعدم الخضوع والاستذلال لهم، والقيام بواجبات الإسلام وأدائها على الوجه المشروع.
إذا فهمتم ما تقدم من استحكام غربة الدين، وانتهاك الحرمات، وانتشار الفسوق والعقائد الفاسدة، والفرق بين التولي والموالاة، وحكم السفر إلى بلاد المشركين، وبيان كيفية إظهار الدين، والفرق بين الخدمة عند المشركين والإجارة معهم، فواجب عليكم أن تتعلموا الدين الصحيح لتعملوا به، وتعرفوا أهله فتوالوهم وتحبوهم، وتعرفوا الشر لتجتنبوه، ولتعرفوا أهله فتبغضوهم، وتعادوهم، وتبتعدوا عنهم، ولو كانوا آباءكم أو إخوانكم أو أخواتكم.
ولا تكونوا كالأنعام يقودكم الشيطان إلى الآثام، ويتحكم الكفرة فيكم بما شاؤوا، حتى يخرجوكم من دينكم وأنتم لا تشعرون; قفوا عند حدود الله، وقوموا بفرائض الله؛ فالكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.
يا من يهمهم أمر دينهم نصيحتي لكم بالبعد عن المشركين والمنافقين والفاسقين، قال الله لنبيه: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} [سورة الأنعام آية: 68].
إن مرافقة الأشرار عار وهلاك; إنكم في زمان شره كثير وخيره قليل، ابتعدوا عن قرناء السوء، فإنكم إن لم(22/488)
ص -488- ... تشاركوهم في عملهم أخذتم بنصيب من الرضى عنهم، والسكوت عن الإنكار عليهم، فتكونوا أنتم وإياهم في الإثم سواء.
ومن أعان على معصية ولو بشطر كلمة، كان شريكا فيها; والساكت عن المعصية يقع في معصيتين: السكوت على الباطل، ومرافقة أهله؛ وخير لكم البعد عنهم {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [سورة الطلاق آية: 3-2].
ولو أخذ الإنسان حبله وجاء بحزمة حطب، أو كان حمالا، أو محترفا بقريته، خير له من الدخول والعمل في هذه الشركات الأجنبية.
ومن المصيبة أن أكثر العمال اليوم، تهاونوا بالدين، وضيعوا الصلاة التي هي عمود الإسلام؛ ولا دين لمن لا صلاة له، وإذا ضاعت الصلاة، لم يبق دين ولا إسلام. فالصلاة فرض لازم لا تسقط بحال، ما دام العقل موجودا؛ وهي فرض عين على الحر والعبد، والذكر والأنثى، والحاضر والمسافر، والصحيح والسقيم، والغني والفقير.
و تارك الصلاة كافر، لا حظ له في الإسلام، بعيد عن كل خير قريب من كل شبر؛ تقرر كفره بالآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، وإجماع الأئمة المقتدى بهم، ولا نطيل بذكر الأدلة لأنها معروفة.
والذين يصلون منهم، غالبهم يؤخرونها عق أوقاتها;(22/489)
ص -489- ... ولا يؤدون الواجب فيها، قال الله في حقهم: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} [سورة مريم آية: 59]: فالإضاعة: تأخيرها عن وقتها; وقال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [سورة الماعون آية: 5-4].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هم الذين يؤخرون الصلاة عن أوقاتها"؛ فمن يؤخر الصلاة عن وقتها، فهو سفيه معرض عن الله، قد أضله الهوى، والشيطان أغواه، لا دين له ينهاه عن سيئات الذنوب، ولا حياء له يردعه عن العيوب؛ فمثل هذا ليس له عدالة، ولا يقبل له قول شهادة، يجب على المسلمين هجره، والبعد عنه حتى يتوب.
ومثل هؤلاء الذين يتعلمون في مدارس الإفرنج، فإن التلميذ على عقيدة أستاذه ودينه وأخلاقه، فهم أضر شيء على المجتمع الإسلامي، ولا يغتر بهم إلا جاهل.
فإن أعداء الله ورسوله قد علموا أن أعظم ما يبطل إلحادهم، دين الإسلام؛ فنحوا الدين عن المتعلمين وأبعدوه عن مدارسهم بالكلية، أو يجعلون التعليم في الدين شيئا ضعيفا اسما بلا مسمى.
وهذه العلوم العصرية 1 هي مبادئ الإلحاد ومقدماته،
__________
1 يعني بالعلوم العصرية, التي تؤدي إلى الإلحاد, وتعليم التمثيل والأغاني, والألحان, وتعليم الغيب بالنجوم والكواكب, وعلوم الفلسفة. أما العلوم الأخرى, كعلم طبقات الأرض, التي بها يستطيع الإنسان معرفة ما خبأ الله لعبده من كنوز, وعلوم الطب, والهندسة, وغيرها التي تفيد المجتمع, وتقوي الأمم, فهي من العلوم التي يأتي الله بها المسلمين, ليكونوا أقوياء أعزاء وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة [الأنفال: 60] كي يرهبوا أعداء الدين. أما ما نراه على النشئ الذين يتعلمون في مدارس الكفار, من التحلل من الدين, فهو لما ينفثونهم من سموم الإلحاد والبعد عن الدين الحق.(22/490)
ص -490- ... ولهذا نرى النشء الجديد المتعلم في مدارس الشركات، لا قدر للدّين عندهم، ولا بصيرة لهم فيه، لضعف تعليمه عندهم.
ومتى ضعفت البصيرة في الدين والقلوب، وتعلقت بغيره، انهارت الأديان والأخلاق كما هو مشاهد؛ وهذا النشء المتعلم في مدارس الشركات في الداخل أو الخارج، وبعض العمال، هم أكبر سلاح على أمتهم في إفساد الأخلاق والأديان، فلا يغتر بهم.
أيها المسلمون العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، ولا تهنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين، لا تذلوا أنفسكم لأعداء الله، ولا تبيعوا دينكم بعرض من الدنيا هل من سامع للنصيحة؟ هل من مطيع لأوامر الله ورسوله؟ هل من منته عما(22/491)
ص -491- ... نهى الله ورسوله عنه؟ فيسعد في الدنيا والآخرة.
فإن اضطررتم أيها المسلمون إلى العمل بالأجرة، في معامل هذه الشركات الأجنبية، وبليتم بمخالطة هؤلاء الأجناس الأرجاس، الذين لا دين لهم مستقيم، ولا أخلاق شريفة، فإن حكومتكم أيدها الله، قد أخذت لكم الحقوق منهم تامة، ورفعت لكم الأجور، وحفظت لكم المصالح، وميزتكم عمن سواكم، لشرف الإسلام.
فعليكم بتقوى الله سبحانه وتعالى، والقيام بواجبات الإسلام، والعمل بتعاليمه؛ وأعظمها بعد الشهادتين: الصلاة في أوقاتها جماعة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لجماعتكم المسلمين، وأداء النصيحة لهم، والبعد عمن أخل بدينه منهم، اهجروهم، لا تؤاكلوهم، ولا تشاربوهم، ولا تجالسوهم، واحذروا منهم: وبيّنوا حالهم ليعاملوا بما يستحقونه.
ولا تخضعوا للكافرين، ولا تبدؤوهم بالسلام، ولا تعظموهم في شيء من الأمور، وأظهروا لهم البغضاء والعداوة، وأدوا الأمانة لمن ائتمنكم، ولا تخونوا من خانكم، وخذوا ما لكم من الحقوق، وأدّوا ما عليكم منها، ولا تطيعوا في معصية الله أحدا أبدا كائنا من كان. "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" 1.
لا تبدؤوهم بالسلام، ولا تقوموا لهم، وإذا لقوكم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه، ولا تقلدوهم في شيء من
__________
1 مسلم: الإمارة (1840) , والنسائي: البيعة (4205) , وأبو داود: الجهاد (2625) , وأحمد (1/131).(22/492)
ص -492- ... أمورهم وأفعالهم، خالفوا اليهود، يقول نبيكم صلى الله عليه وسلم: "من تشبه بقوم فهو منهم" 1، واحذروا شرب شيء من المسكرات، واستماع الغناء وآلات اللهو، كالسينما، والصندوق، والربابة، والسمسمية، والمزامير، سواء أكانت من الراديو أو غيره. وصلى الله على محمد.
آخر الجزء الخامس عشر ويليه السادس عشر
وفيه بقية البيان الواضح، وتراجم أصحاب تلك الرسائل والأجوبة.
__________
1 أبو داود: اللباس (4031).(22/493)
الدرر السنية - المجلد السادس عشر
القسم الأول من البيان الواضح وتراجم أصحاب تلك الرسائل والأجوبة(23/1)
ص -5- ... بسم الله الرحمن الرحيم
القسم الثاني من البيان الواضح
الفصل الثالث من الباب التاسع [السبب الأعظم لضعف العلم والإسلام]
والسبب الأعظم لضعف العلم والإسلام، والكسر الذي لا ينجبر، والطامة الكبرى: استجلاب معلمين ملحدين من البلدان المنحلة، لنشر الثقافة - يعني الغربية - ورفع الأمية.
ويحملون معهم برنامج التعليم الذي يشتمل على فنون محظورة، من تصوير، وغيرها مما له معاهد في تلك الأوطان في بلادهم، التي أعرضت عن دين الله وشرعه، واشتهرت فيها شعائر الكفر، ليجتثوا الإسلام من أصله، بسبب ما هم عليه من عداء، وما في قلوبهم من حقد، قال تعالى: {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [سورة الممتحنة آية: 2].
وقد أخذ عنهم أكثر الشباب مواد تعليمهم وتخلقوا بأخلاقهم، فيا ليتنا تلقيناهم بنحورنا نصرة لدين الله فمنعناهم، أو نلنا الشهادة؛ وعذرنا غدا بين يدي رب(23/2)
ص -6- ... العالمين; وفضل الجهاد في سبيل الله قد أفرد بالمصنفات، وفي أثناء كتب الحديث وغيرها.
وقد حدثني من لا أتهم: أن فلانا قال للشيخ عبد الرحمن بن حسن: يا شيخ عبد الرحمن، جدك الشيخ محمد جاء بشجرة لا إله إلا الله، فغرسها في بلدة العيينة، فصارت الأرض صلدة سبخة، فحملها إلى الدرعية، فصارت الأرض خصبة، فسقاها بالدعوة، وحماها محمد بن سعود بالسيف، فأينعت، وأراها في عصركم خوت; هذا والشيخ عبد الرحمن بن حسن يقول: لو ظهر علينا أهل الدرعية لقاتلونا.
وفي عصر الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف وطبقته صارت أشد خويانا، لأن المحتسبين في عصر الشيخ عبد الرحمن بن حسن أمسكوا كاتب الإمام فيصل، خرج من بيت فيه عزب، وطلبوا من الإمام ضربه في السوق، فقال: اضربوه في الحوشة.
فأتوا إلى الشيخ عبد الرحمن بن حسن، فقال للإمام فيصل: يضرب الرجل في السوق; فقال الإمام: يضرب في الحوشة، فقال الشيخ: نسلم عليك، وخرج من الرياض إلى بلدة الحوطة.
فتبعه الإمام فيصل، وطلب منه أن يرجع; فقال: عاهدناك على دين الله ورسوله، ولا أرجع حتى تعاهدني(23/3)
ص -7- ... الآن على ذلك، والرجل يضرب في السوق، فعاهده، وضرب في السوق.
وفي عصر الشيخ عبد الله: كنت أسير معه من المسجد إلى بيته في بعض الأيام، وذات يوم تبعه رجل من الإخوان، فأدركه في أثناء الطريق، فقال: يا شيخ عبد الله، هذا الكافر "فلبى" يدخل المسجد، أفلا نقتله؟ قال: لا يا ولدي، قال: أفلا نخرجه منه؟ ولم أحفظ ما قاله، فالتفت الشيخ إليه، فإذا هو قد ولى مدبرا، فالتفت إلي ودموعه على خديه، وقال بحزن: إيه سوف يعلمون. وأخبرني الشيخ عبد العزيز بن صالح بن مرشد باسم الرجل، وقال: إنه قال: أخرجوه أخرجوه، سوف يعلمون، سوف يعلمون، فلا أدري هل ما قاله مرة أخرى، أو تلك المرة، لأنه يقيم في البلد، ومن أخص الناس بالشيخ عبد الله.
وكان الشيخ سعد بن عتيق يذكر الناس في السوق، ولما مر بقوله صلى الله عليه وسلم "طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله" 1 وأنهى الكلام عليه، قام على قدميه ورفع صوته وهو يبكي فقال: ينزل النصراني في بيت أرفع من بيوت المسلمين التي حوله؟! وأزعج الناس. وكان عنده من رجال الملك عبد العزيز، فأخبروه،
__________
1 البخاري: الجهاد والسير (2887).(23/4)
ص -8- ... ثم توجه الملك إلى الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، وذكر له ما قال الشيخ سعد في السوق، فقال الشيخ عبد الله: نحن سكتنا، وتكلم الشيخ سعد بالواجب.
وفي هذا العصر ضعفت الغيرة الدينية من الأكثر، بسبب القادمين من بلاد الخارج، والتابعين لهم، فجاؤوا إلى شجرة لا إله إلا الله، التي جاء بها وغذاها المصلح، وأيدها بسيفه الناصر للدين، ليقتلعوها من وطن ازدهرت فيه برهة من الزمن.
إن لم تدارك بتكاتف العلماء، ومساعدة الرؤساء، فلسوف تزال، كما زالت من تلك الأمصار، التي كانت هي مقر الإسلام وولاته، ومجتمع العلماء، وتبليغ العلم; وفي انحرافهم لنا عبرة ألا نسلك مسالكهم، وألا يتسرب إلينا باطلهم.
وجدير بولاة الأمر والعلماء الاقتفاء بآثار آبائهم وسلفهم الصالح، وأن يبنوا ما تهدم من بنائهم الرفيع، ليفوزوا بحسن الثناء في الدنيا، والأجر الجزيل في الآخرة، وألا يذهب العلم والإسلام من وطنه الذي بناه سلفهم الصالح، وأن يقتفوا آثارهم في تعليم العلم وحماية الإسلام، وأن يزيلوا بدع ما جاء به أذناب المنحلين من صفة تعلمهم المضعف للعلم.(23/5)
ص -9- ... وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: العلوم المفضولة إذا أضعفت العلم، حرمت، فكيف بالعلوم المحظورة، ثم بترقب شهادات لمقدار الأجر؟! وفي الحديث: "من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة" 1 يعني: ريحها.
وذكر لنا الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد عن العاصمي، فقال ما معناه: إن أول مدرسة نظامية بنيت ببغداد، وطلب لها العلماء، وأجري لهم ولطلاب العلم مرتبات، والتحق بها كثير؛ ولما علم علماء بخارى بكوا بكاء شديدا، متأسفين على العلوم الإسلامية. فقيل لهم: ما هذا البكاء؟ وما هذا الجزع؟ ما هي إلا مدرسة دينية للعلم، كالتفسير، والحديث، والفقه، وغيرها; فقال العلماء: إن العلم شريف في نفسه سام، لا يحمله إلا النفوس السامية الزكية الشريفة، ويشرفون بشرف العلم. أما إذا أجريت المرتبات لطلابه، أقبل إليه من لا خير فيه، من السقطة والأراذل الذين يريدون بتعلمهم العلم لنيل المناصب، والوظائف، وأخذ المرتبات، فيزول العلم ويسقط بسقوط وإزالة حملته، فيصبح العلم الشريف لا قيمة له.
__________
1 أبو داود: العلم (3664) , وابن ماجه: المقدمة (252) , وأحمد (2/338).(23/6)
ص -10- ... ثم قال العاصمي: أما اليوم فلا طالب ولا مطلوب، ولا راغب فيه ولا مرغوب، لفساد الزمان. انتهى. وذلك في تلك العصور المعروف عن أهلها الجد في العلم النافع، واتساعه في أقطار الأرض؛ وفي هذا العصر، في العقد التاسع من القرن الرابع عشر، خلت المساجد، وبنيت المدارس، وأجريت الأجور، وأثبتت الشهادات لكل فصل، لمقادير الأجور والرتب. فيا حسرتاه! واحزناه! وارباه! واحر قلباه! لقد غزانا في هذه البقعة المباركة، التي ازدهرت فيها هذه الدعوة المباركة، وفيها مهابط الوحي: الألوف من أهل الخارج، ذكورا وإناثا، باسم التعليم والتربية، والتمريض، وغيرها. وفي برنامجهم: الحقوق، والطبيعة، والتصوير، والمادة وغيرها مما يزيد على ثلاثين فنا لإضعاف العلم النافع، أمنية أعداء الإسلام ليملكوا المسلمين. فيا لله! يا للمسلمين! وفيما ذكره علماؤنا الذين لهم غيرة لله كفاية.(23/7)
ص -11- ... [رسالة الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد إلى حضرة معالي وزير المعارف يوصيه بتقوى الله، ويظهر تأسفه الشديد بشأن بث الأخلاق السيئة]
قال الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن محمد بن حميد، إلى حضرة معالي وزير المعارف، حفظه الله. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، على الدوام، أدام المولى على الجميع نعمه.
وبعد: فإني أوصيك ونفسي بتقوى الله تعالى، ومراقبته في السر والعلانية؛ فإنها سبيل السلامة والنجاة في الدنيا والآخرة. وإني أسطر لكم هذه الأحرف، حينما بلغني ما يسوؤني ويسوؤكم، ويسوء كل مسلم غيور على دينه، وعلى الأمة الإسلامية والأخلاق الحسنة.
فإن هذه الوزارة التي هي وزارة المعارف، والتي أنتم تديرونها وأنتم الرائد الأول لها، قد أصبحت الآن مصدرا كبيرا لبث الأخلاق السيئة، وتبلبل الأذهان، واضمحلال العقيدة السلفية التي غرسها أوائلكم الأفاضل، في هذه الجزيرة.
وإنا والله نأسف أشد الأسف أن يحصل مثل هذا مع وجودكم، وأنتم الآن بأيديكم زمام هذا النشء، وتستطيعون قيادته إلى المكان الأعلى، ومع ذلك تهملون هذا الإهمال المتناهي.(23/8)
ص -12- ... بل لم تقتصروا على ذلك، حتى كنتم سببا لإدخال من أراد أن يهدم عقيدتكم، وعقيدة آبائكم، وعزكم وعز آبائكم، وما ذاك إلا باجتلابكم هؤلاء الزنادقة، وبثهم في كل صقع من المملكة، وإغرائهم وتشجيعهم بكثرة المرتبات، وعدم المراقبة عليهم فيما يبثون بين النشء، من هذه السموم القتالة، من أخلاق منحرفة، ودعايات سيئة، دعايات المجون والخلاعة، دعايات الزندقة والإلحاد، دعايات التهكم بهذا الدين ورجاله.
ولقد بلغني أنه يوجد في كلية الشريعة بمكة، التي أسست لتكون مركزا لنشر العلم الصحيح، والدين القويم، وتعتبر أرقى مرحلة من مراحل التعليم، والتي تخرج رجال القضاء والتعليم الديني، يوجد فيها شخص يسمى "الدكتور فوزي بشبيشي" قد تجاوز الحد، وتمادى في الطغيان، وبلبلة أذهان الطلاب.
ومع انحلاله من الدين، أصبح أكبر داعية للإلحاد والزندقة، والتهكم بالدين وحملته، وتلقيبهم بالتغفيل والرجعية، ومع ذلك له سنوات في هذه الكلية مكرما ومعززا.
وإليكم شيئا مما ثبت لدينا عنه، فمنها: رميه أسئلة التفسير - مع ما اشتملت عليه من الآيات القرآنية - على(23/9)
ص -13- ... الأرض، ودوسها بقدميه، وعندما قيل له: هذا حرام; قال: لا حلال ولا حرام، إنما هذه عقيدة أمهاتكم، التي ورثتم عنهن.
ومنها: حينما سأله أحد الطلاب عن مسألة، يقول له: اذهب احلق ذقنك، وتعال أعلمك. ومنها: حثه على حلق اللحى، وشرب الدخان، وقوله: إن فعل هذه الأشياء تحرر من القيود; فما أشبه هذه الدعوة بدعوة: صاحب الأغلال.
ومنها: إملاؤه على الطلاب في دفاترهم، ما يبعث في نفوسهم حب اللهو والغناء والميول إلى المجون، كقوله: ولو أنكم قرأتم الشعر الغنائي، أو سمعتموه من شادي العرب عبد الوهاب، ومطربة الجيل أم كلثوم، لرأيتم أو سمعتم أن معظم الأغنيات تدور معانيها حول العذرية، التي تسعى إليك، وعن يمينها نار الشوق، وعن يسارها روح الحرمان، وبين خطاها آهات وأنات، كأنما فيها كبد حرّى، وقلب مقتل، وروح مهمومة مهيمة. ومنها: ترديده دائما هذه العبارة: لولا مصر لذهب الدين من الوجود... إلى غير ذلك، كإلقائه التفرقة بين الطلاب الحجازيين والنجديين، وقوله: أنا أريد أن أبلبل أذهانكم، وأشككم، لتصلوا إلى اليقين، فإنا لله وإنا إليه راجعون.(23/10)
ص -14- ... فإذا كان هذا يوجد من شخص واحد، ومع ذلك أقام سنوات يبث هذه الأشياء ولا يلغى انتدابه؛ بل ولا يشعر به، فكيف تكون الحالة إذاً، وأضرابه يعدون بالآلاف؟ أليس هذا مؤذنا بهلاك عاجل، أي هلاك؟!
إذا ما السور هدمه أناس وسيبهم ذووه فقد أعانوا
والله لذهاب الأرواح وفناء الأشباح، أيسر وأخف من هذه الأمور، التي تزيل العقيدة، وتذهب الأخلاق الحميدة، هذا ما حصل من ناحية واحدة من نواحي التعليم، وإن كانت هي أعظم مصيبة.
ولكن أضف إلى ذلك ما حصل في مناهج التعليم من التغيير والتبديل، وإضعاف العلوم الدينية والعربية؛ حتى أصبحت الآن هذه المواد قسمتها قسمة ضيزى بالنسبة لسائر الفنون المحدثة.
ولا شك أن فقد هذه العلوم مصيبة كبرى ورزية عظمى; إن التعليم بدونها يعتبر خطراً عظيماً على هذا النشء، وهذه النابتة; وإنه لمما يخجل أن يسمع الطالب الذي يحمل الشهادة الابتدائية، يحاول أن يقرا شيئا من القرآن، فلا يستطيع من الخجل، لعدم معرفته له.
ومع ذلك تعتبر هذه السنة آخر مراحل التعليم بالنسبة للقرآن، فلا يدرس في المراحل المتوسطة، ولا في(23/11)
ص -15- ... الثانوية; فليت شعري متى يستطيع أن يقرأ القرآن، من هذه حاله؟! وهذا من أعظم الأسباب للابتعاد عنه، وعدم تأمله ومحبته، لأن من جهل شيئا أنكره.
وإذا كان هذا القرآن - وهو إنما يدرس عندهم نظرا مع ضبطه بالشكل - فكيف ببقية علوم الدين؟! وما ذاك إلا بسبب هذه الفنون المعوقة، كالرسوم، والأشغال، والرياضة البدنية، والألعاب الأخرى، مع وجود عوامل أخرى، كضعف المواد التي تمت إلى الدين والأخلاق بصلة، وعدم وجود المدرسين الأكفاء؛ بل الأغلبية من أولئك المشار إليهم سابقا، مما كان سببا في استياء أخلاق الشباب، وفساد طرايقهم وتغير فطرهم، كما هو مشاهد، يدخل أحدهم المدرسة سليم الفطرة، محبا للخير، آلفا للطاعة؛ ثم يخرج منها قد زال كل ذلك منه، لتغير فطرته وانحراف عقيدته، مبتعدا عن الله، وعن أهل الخير من خلقه، حتى من أبيه الأدنى المربي له، القائم بشؤونه ومهماته؛ وما هذا إلا لعدم تمكن أوامر الإسلام ونواهيه من قلبه. ومما لا شك فيه أن للمدرس أثرا كبيرا في هذه الناحية؛ فإن الأستاذ بالنسبة إلى الطالب كالقلب بالنسبة إلى سائر الأعضاء في البدن; فإن الأعضاء تقول له: اتق الله فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا.(23/12)
ص -16- ... فيجب اختيار الأكفاء من المدرسين، الذين ظاهرهم العدالة والصلاح، والابتعاد عن كل رذيلة، المتمسكين بالأخلاق الحسنة والصفات الجميلة:
يشقى رجال ويشقى آخرون بهم ويسعد الله أقواما بأقوام
هذا وقد أشيع بأن وزارة المعارف قد أزمعت على استجلاب أفلام سينمائية، لبثها في عدد من المدارس؛ وأنا لا أصدق ولا أكذب في هذا أن يوجد، لكني أحذر وأنذر عن نشرها وفشوها في المدارس. بل يجب إبعادها وطردها، مقرونة بالذل والصغار، لمن يريد إدخالها في هذه البلاد، ليضلل بها النشء إضلالا فوق إضلاله، لما احتوت عليه من الضرر الكبير والفساد العريض، حتى ولو قيل فيها ما قيل من التأويلات البعيدة؛ إذ الوسائل لها حكم الغايات، والداء إذا تمكن صعب علاجه، والدفع أسهل من الرفع، والعاقل النابه الحكيم، متى عرض مضارها على عقله السليم، لم يغتر بمن حاد عن الصراط المستقيم.
والواقع أن هذه وأمثالها من العلوم الحديثة، إما أن تكون مفضولة، أو مباحة على الأقل، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن العلوم المفضولة إذا زاحمت العلوم الفاضلة صارت مكروهة؛ وإن أضعفتها(23/13)
ص -17- ... صارت محرمة. وإني أكتب لكم هذا الكتاب لما أجده لكم من النصح والشفقة، فالمحب الصادق هو من يجرع صديقه المر، ليقيه من الوقوع في الضر.
ما ناصحتك خبايا الود من أحد ... ما لم ينلك بمكروه من العذل
مودتي لك تأبى أن تسامحني ... بأن أراك على شيء من الزلل
وختاما؛ أسأل الله تعالى أن يمن بالتوفيق علينا وعليكم، وعلى كافة المسلمين، وأن يأخذ بنواصينا إلى أقوم طريق؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على محمد، وآله وصحبه.
[مقال للشيخ عبد الله بن محمد بن حميد في التربية والتعليم]
وقال رحمه الله:
التربية والتعليم 1.
إن مما لا شك فيه ولا امتراء أن فساد الأمة وصلاحها، ناشئ عن حسن تربيتها لأولادها، وتعليمها لهم التربية الحسنة، والتعليم النافع، والعكس بالعكس، كما اتفق العقلاء على هذا.
فمتى كانت التربية حسنة جارية على السنن المستقيمة، والآداب الشرعية، والتعليم نافعا، حسب أوامر الدين
__________
1 نشر هذه المقال في جريدة اليمامة، بعددها 130 وتاريخ 3/1/1378هـ قبل أن تكون مجلة.(23/14)
ص -18- ... وتعاليمه، أمرا ونهيا واعتقادا، أنبتت تلك التربية والتعليم رجالا ذوي نصح وأمانة، وخبرة ووفاء، وصدق وإخاء، واتحاد في الكلمة. بهم تستقيم الأمة، وتنتظم أمورها الدينية والدنيوية، وأعادوا بمساعيهم السامية، كل خير ونفع للبلاد والأمة، فأجدر بهم أن يكونوا غررا في جبين التأريخ، لأن فلاح الأمة في صلاح أعمالها، وصلاح أعمالها في صحة علومها، وصحة علومها منتج لرجال أمناء مخلصين فيما يعملون.
وإن كانت التربية والتعليم بعكس ذلك، خابت الآمال، وفسد الدين والدنيا، وأصبحوا في جهل وفقر وحالة سيئة، كمن مس العلم بقرحه، ووضع في سبيل فلاح الأمة حجر عثرة يعرفه كل عاقل.
لأنه أمر معلوم، لا يحتاج إلى دليل من أن الصبي إذا بلغ مبلغ الرجال، صارت أعماله وأحواله على مثل ما نشأ عليه وتربى به، وتعلمه في الصغر؛ فهو إنما ينسج على المنوال الذي عرفه في صباه.
وقد علم أن أول شيء يقع عليه نظر حديث السن، يأخذ من قلبه المكان الأول، ويصادف منه قلبا خاليا من الشواغل، فينطبع في ذاكرته ويتمكن منه، ولا يتحول منه إلى غيره غالبا.(23/15)
ص -19- ... ولهذا كان للتعليم سن محدود غالبا، إذا تجاوزه الصبي مهملا، غير متعاهد بالتربية الحسنة والتعليم النافع صار تأديب المؤدب له مما لا فائدة فيه، ومن العبث الذي لا ينجح، ولا يأتي بطائل.
قد ينفع الأدب الأحداث في صغر وليس ينفعهم من بعده الأدب
فإن تعليم الولد في صغره، عبارة عن تغذية روحه، بما تتهذب به أخلاقه، وتزكو بشمائله، وتحسن مقاصده؛ بحيث يكون ميله إلى الخير ومحبته له، ونفرته من الشر وبغضه له، ملكة في نفسه. وهذه التغذية النافعة، إن لم تكن أنفع وأجل من تغذية البدن، بما يقوى بها البدن، وتنمو بها الأعضاء، فليست دونها؛ مع أن الكمال الإنساني لا يتوقف على بسطة واعتدال البدن، التي هي ربما أنها نتيجة التربية الجسدية. فإن من الناس من قوته الأسودان التمر والماء، وشيء من خبز وشعير ونحوه، ولم يكونوا ممن يتهيأ لهم نفيس المطاعم والمشارب، بل على شظف من العيش وقلة من الدنيا، ومع هذا دانت لهم أعناق الملوك الصيد، وذلت لهيبتهم الأعزة.
أتظن أنهم نالوا ذلك بحسنهم وجمالهم ونفيس(23/16)
ص -20- ... أطعمتهم؟ أم بوفرة أموالهم وكثرة عددهم؟ أم بمتانة عددهم، أو تفننهم في أساليب السياسة؟ لا والله، ما نالوا ذلك إلا بدين وعلم، وآداب وأخلاق فاضلة، أخذوها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فبالدين يصلح كل شيء، ويستقيم كل معوج.
بغير الدين لا نرجو صلاحا ... بغير الدين لا يحلو البقاء
إذا ما الدين ضيعه بنوه ... على الدنيا على الدنيا العفاء
فيا أيها الآباء والمعلمون، ويا أيها العلماء والمسؤولون، خذوا بأيدي هذه الشبيبة واهدوهم إلى محاسن الدين، بغرس محبته في قلوبهم، وتعظيمه في نفوسهم، بشرح محاسنه وفضائله، وما امتاز به على غيره؛ فقد رسم أعداء الإسلام خططا، ووضعوا مناهج لصرف بني الإسلام، وإغرائهم بهذه المدنية الزائفة التي معظمها فساد وبلاء.
يا قوم ضعنا وضاع الدين من يدنا ... لما جعلنا بوجه الدين تشويها
والله المسؤول أن يأخذ بأيدي المسلمين جميعا، إلى ما فيه هدايتهم وفلاحهم، وأن يؤيد بهم دينه وشرعه؛ وهو الموفق والهادي إلى سواء السبيل.(23/17)
ص -21- ... [رسالة الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد إلى كافة العلماء من أساتذة الكليات والمعاهد في الحث على التربية الصحية]
وقال رحمه الله: 1.
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن محمد بن حميد، إلى كافة العلماء، من أساتذة الكليات، والمعاهد وغيرها من مدارس الحكومة، حفظهم الله ونفع بعلومهم، آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: تعلمون وفقكم الله ونفع بكم، أن هذه النابتة المتربية في المدارس على تنوعها، هي أمانة تحت أيديكم، أوجب الله عليكم رعايتها وصيانتها، بتعليمها العلوم النافعة، وتربيتها التربية الصحيحة؛ فمتى صحت علومهم واستقامت، أنتجت رجالا مخلصين لدينهم وبلادهم، والعكس بالعكس.
فإن العقيدة متى اعتراها شيء من الانحراف، صارت مصدرا للأخلاق المرذولة؛ ومعالجة مثل هذه أصعب بكثير من الانحراف الناشئ عن طغيان الشهوة وحدها; لأن الأول يستهين ببعض محاسن الأدب، بدعوى أنها ليست من الحسن في شيء، ويخرج عن حدود المكارم، بزعم أن هذه الحدود لم تكن على حكمه. والمغلوب للشهوة وحدها، قد ينصرف عن الحسنة
__________
1 ونشر في جريدة حراء في 27 -5 - 1378هـ.(23/18)
ص -22- ... إلى السيئة معترف بخطئه، وينتهك حرمة الحق بدون شك منه على أنه ارتكب جريمة. ونصيحة هذا وموعظته والتأثير عليه، أيسر وأبلغ من منحرف العقيدة، لأن مثل هذا يصير الحق باطلا والباطل حقا، فلا حيلة فيه. وصلاح الأمة وفلاحها ناتج عن صحة أعمالها، وصحة أعمالها ناتج عن صحة علومها؛ فمتى كانت التربية والتعليم جرت على السنن المستقيمة، آداب وأخلاق فاضلة، أنتجت رجالا ذوي نصح وأمانة، وخبرة ووفاء، وصدق وإخاء، واتحاد في الكلمة، وإذا كان بخلاف ذلك، خابت الآمال، وفسد الدين والدنيا، وأصبحوا في جهل وبلاء، وحالة سيئة؛ فبالعلوم النافعة الصحيحة يصلح كل شيء وينتظم كل أمر.
فيا أيها العلماء الأجلاء، والأساتذة الفضلاء، خذوا بأيدي هذه الناشئة، واهدوهم إلى محاسن الإسلام، وغرس محبته في قلوبهم، بشرح محاسنه وفضائله، وبيان ما امتاز به على غيره؛ فقد رسم أعداء الإسلام خططا، ووضعوا مناهج لصد بني الإسلام عن الإسلام، وإغرائهم بهذه المدنية الزائفة، التي معظمها شر وبلاء.
فقد ألفوا في ذلك المؤلفات العديدة، والرسائل الكثيرة، بأساليب مختلفة؛ فإنهم قالوا في تربية النشء(23/19)
ص -23- ... الجديد: يجب
أن تكون تربيته على العصبية الجنسية، وإحلال خيالها محل الوجدان الديني، وجعلها بدلا من الأخوة الإيمانية، في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}[ سورة الحجرات آية: 10] وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر"1، وقوله: "المؤمنون كالبنيان يشد بعضه بعضا"2؛ تكون بدلا من هذه الأخوة الإسلامية: العصبية الجنسية والوطنية، وإن تباينت دياناتهم، ليحل مكان الوجدان الديني: العصبية الجنسية، ولجعلها في المثل الأعلى للأمة، والفخر برجالها المعروفين في التأريخ، وإن كانوا المفسدين المخربين، بدلا من الفخر برجال الإسلام مثل الخلفاء الراشدين وغيرهم من أبطال الإسلام الذين شهد لهم التأريخ بالفضل والدين، والشجاعة والبطولة والسياسة والحكمة.
وما زال أعداء الإسلام مجدين في هدمه، وتغيير عقائد أهله، كما قال "مسيو أتني الأمن الفرنسي": إن مقاومة الإسلام بالقوة، لا يزيده إلا انتشارا؛ فالواسطة الفعالة لهدمه، وتقويض بنيانه، هي: تربية بنيه في المدارس بإلقاء بذور الشك في نفوسهم، من عند النشأة،
__________
1 البخاري: الأدب (6011) , ومسلم: البر والصلة والآداب (2586) , وأحمد (4/270).
2 البخاري: الصلاة (481) , ومسلم: البر والصلة والآداب (2585) , والترمذي: البر والصلة (1928) , والنسائي: الزكاة (2560) , وأحمد (4/404).(23/20)
ص -24- ... لتفسد عقائدهم من حيث لا يشعرون. انتهى.
فهذا لعلمه قابلية الصغير لما يلقى إليه من العلوم الضارة وغيرها، ولعدم تمييزه بين الصحيح وغيره، ولأن الضرر الذي يصعب معالجته هو زيغ العقيدة، فإن زيغها مصدر كل شر وبلاء، ومصدر كل الأخلاق الرذيلة.
وانظر إلى ما قاله وزير رئيس إرساليات التبشير، فقد عقد مؤتمرا في القرن الماضي، حضره دعاة التبشير، وهذا نص خطابه، ليعرف منه مقاصده ومراميه. قال: أيها الإخوان الأبطال، والزملاء الذين كتب الله لهم الجهاد في سبيل المسيحية واستعمارها لبلاد الإسلام؛ فأحاطتهم عناية الرب بالتوفيق الجليل المقدس، لقد أديتم الرسالة التي أنيطت بكم أحسن الأداء، ووفقتم لها أسمى التوفيق، وإن كان إنه يخيل إلي أنه مع إتمامكم العمل على أكمل الوجوه، لم يفطن بعضكم إلى الغاية الأساسية منه. إني أخبركم على أن الذين دخلوا من المسلمين في حظيرة المسيحية لم يكونوا مسلمين حقيقيين؛ لقد كانوا كما قلتم أحد ثلاثة: إما صغير لم يكن له من أهله من يعرفه ما هو الإسلام، أو رجل مستخف بالأديان لا يبغى غير الحصول على قوته، وقد اشتد به الفقر، وعزت عليه لقمة العيش; وآخر: يبغي الوصول إلى غاية من الغايات الشخصية.(23/21)
ص -25- ... ولكن مهمة التبشير التي ندبتكم لها دول المسيحية، للقيام بها في البلاد المحمدية، ليست هي إدخال المسلمين في المسيحية؛ فإن في هذه هداية لهم وتكريما. وإن مهمتكم: أن تخرجوا المسلم من الإسلام، ليصبح مخلوقا لا صلة له بالله؛ وبالتالي لا صلة له تربطه بالأخلاق، التي تعتمد عليها الأمم في حياتها. وبذلك تكونون أنتم بعملكم هذا، طليعة الفتح الاستعماري، في الممالك الإسلامية؛ وهذا ما قمتم به من خلال الأعوام الماضية السالفة خير قيام؛ وهذا ما هنأتكم عليه وتهنئكم دول المسيحية والمسيحيون جميعا كل التهنئة... إلى أن قال: إنكم أعددتم بوسائلكم جميع العقول في الممالك الإسلامية إلى قبول السير في الطريق الذي مهدتم له كل التمهيد، إنكم أعددتم نشءا في ديار المسلمين، لا يعرفون الصلة بالله، ولا يريد أن يعرفها، وأخرجتم المسلم من الإسلام ولم تدخلوه في المسيحية. وبالتالي جاء النشء الإسلامي طبقا لما أراده له الاستعمار المسيحي، لا يهتم بالعظائم، ويحب الراحة والكسل، ولا يصرف همه في دنياه إلا في الشهوات؛ فإن تعلم فللشهوات، وإذا جمع المال فللشهوات، وإن تبوأ أسمى المراكز ففي سبيل الشهوات يجود بكل شيء.(23/22)
ص -26- ... إن مهمتكم تمت على أكمل الوجوه، وانتهيتم إلى خير النتائج، وباركتكم المسيحية، ورضي عنكم الاستعمار؛ فاستمروا في أداء رسالتكم، فقد أصبحتم بفضل جهادكم المبارك موضع بركات الرب. انتهى.
يشير هذا الخبيث: إلى الحث على تشكيك المسلمين، وبقائهم حيارى، خصوصا النشء الجديد، وأنهم إن تعلموا، أو جمعوا مالا، أو تبوَّؤوا مركزا ما، ففي سبيل شهواتهم؛ ويكونون بعيدين عن معرفة خالقهم ومعبودهم، وإذا تم لهم ذلك أصبح النشء لا يهتم بأي عظيمة في دينه وأمته، وهذا مما يمهد الطريق إلى أغراض المستعمرين، لاستحلال الممالك الإسلامية. وقد قال زويمل أيضا في كتابه "العالم الإسلامي اليوم": يجب تبشير المسلمين بواسطة من أنفسهم ومن بين صفوفهم; لأن الشجرة يجب قطعها بأغصانها; وإن من المحقق أن المسلمين قد نما في قلوبهم الميل الشديد إلى علوم الأوربيين، وأن هذه العلوم ستزاحم العلوم الإسلامية، وتضعفها من نفوسهم. انتهى.
إن غرض هذا القس وأمثاله، كسر هنري جونستون، والمستر بلس، وشاتليه، وأشباههم، الذين كتبوا في هذا المعنى، إنما غرضهم تربية العقول في عهد نشأتها طبق ما يريدون من إدخال العلوم الأوربية على العلوم(23/23)
ص -27- ... الإسلامية، وتنميتها في قلوبهم لينجذبوا بها إليهم، بتعظيمهم، وتعظيم آرائهم، وإخراج المسلم من الإسلام، أو جعله في حيرة من دينه، إلى غير ذلك من الأغراض الفاسدة.
فيجب على العلماء الأجلاء، والأساتذة الفضلاء، أن يعتنوا بهذا النشء، بتحذيرهم من قراءة بعض الكتب والمقالات، التي يكتبها بعض تلامذة أوربا، المنتسبين إلى الإسلام، وأن يبينوا لهم عظمة الدين الإسلامي، وما هو عليه من المحاسن والمزايا التي لا يوجد نظيرها في غيره. كما أن الطلاب النجباء، إذا لاحت لهم شبهة، أو أمر ارتابوا فيه، يسألون العلماء، من الأساتذة وغيرهم، ليكشفوا ما بهم من شبهة، ويوضحوا ما فيه من إشكال; وإني معتقد أن الأساتذة الأجلاء، قائمون بواجبهم نحو هذه الناشئة، فيما يعود عليهم خيره ونفعه في علومهم وأخلاقهم. بارك الله فيهم ونفع بعلومهم الإسلام والمسلمين؛ والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.(23/24)
ص -28- ... [رد الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد على ما كتب في صحيفة القصيم تحت عنوان "مبادؤنا الأصيلة"]
وقال أيضا رحمه الله: 1
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن محمد بن حميد إلى حضرة... حفظه الله، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: اطلعت على كلمتكم في صحيفة القصيم، في عددها 95 وتأريخ 8/5/1381? تحت عنوان "مبادؤنا الأصيلة" ولعلمي بأن هدفكم الحق، ورائدكم الإصلاح، لاحظت على بعض فقرات فيها، أحببت تنبيهكم عليها.
فمنها: أنكم ذكرتم أن من الواجب الطبيعي الخوض في هذه الأمور الهامة... إلى آخره. فنفيدكم: أن الطبيعة لا توجب شيئا، ولا واجب إلا ما أوجبه الشرع فقط؟ ثم إنكم علقتم أملكم بأصحاب الفكر والتوجيه، ولو قيدتم ذلك بما تقتضيه الشريعة الإسلامية، أو على الأقل بما لا يخالف الدين الإسلامي، لكان هو الواجب. ثم إنكم وضحتم هذا الأمر المهم الذي توجبه الطبيعة - على حد تعبيركم - وهو النظام السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، لبلادنا، ويلاحظ من هذا: حصر الأهمية وشدة الحاجة إلى هذه الثلاث فقط، ولم تذكروا معها
__________
1 نشر في جريدة القصيم 6 1381?.(23/25)
ص -29- ... أهمية هذا الدين، وشدة الحاجة إلى التمسك به، وإلى فهمه فهما صحيحا، وتطبيقه تطبيقا شاملا. فإنه متى فهم وطبق بجميع تعاليمه، فإنه كاف، بل هو الغاية في حل جميع المشاكل، ومن جملتها: النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
ومنها: قولكم: الكل يعلم أن باب الاجتهاد مقفول أمام الجميع، باستثناء القلة، التي هي نفسها لا تفعل شيئا سوى نقل النصوص الفقهية، التي كتبت من مئات السنين. فنقول: إن أريد بالاجتهاد هنا مجاوزة الشريعة وتخطيهما إلى غيرها، ووضع النظم المستمدة من سواها، المأخوذة من الأفكار والعقول التي لا تمشي على الأسس الشرعية، فنعم، هذا مقفول عن كل إنسان يدين بالشريعة المحمدية، ويلتزم بأحكامها، لكمالها واستيفائها لكل ما يحتاج إليه، قال الله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [سورة الأنعام آية: 38]. وإن أريد بذلك الاجتهاد: استنباط الأحكام الشرعية، والنظم السياسية، والاقتصادية والاجتماعية، وتطبيقها على ما يقتضيه الكتاب والسنة، وأقوال السلف الصالح، فهذا خلاف الواقع.
فإنه لم يحصر على بعض القلة القليلة، كما قلتم(23/26)
ص -30- ... ولله الحمد - بل ولا على طائفة مهما كثرت، ولا على جيل معين، ولا في زمن مخصوص، من حين وفاته صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا. بل أجمع علماء الشريعة على وجوب العمل بما يقتضيه الكتاب والسنة، وقبوله ممن أتى به كائنا من كان. وأما قولكم: باستثناء بعض القلة القليلة، فقد وضحنا أن هذا خلاف الواقع، وأنه لم يحصر على طائفة معينة، وإن كان جمهور الناس أعرضوا عن تعاليم دينهم، والعمل به، ولكن لم يحل بينهم وبينه أحد سوى أنفسهم والشيطان.
قال الله تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [سورة الأنعام آية: 116]. نعم يوجد طوائف وأشخاص تمسكوا بهذا الدين أشد من غيرهم، وهيأهم الله لنصرة دينه، والذب عنه بحسب استطاعتهم، امتثالا لقوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة آل عمران آية: 104]، ولما جاء من أنه يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وفي الحديث: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله تعالى" 1.
__________
1 مسلم: الإمارة (1920) , والترمذي: الفتن (2229) , وابن ماجه: المقدمة (10) , وأحمد (5/279).(23/27)
ص -31- ... وأما قولكم في هذه القلة التي هي نفسها لا تفعل شيئا سوى نقل النصوص الفقهية، فاعلم أن النصوص الفقهية المستمدة من الكتاب والسنة، هي من أفضل ما اشتغل بها، وصرفت الأنفاس في تفهمها. والتفقه أمر مفروض على هذه الأمة، كما قال تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [سورة التوبة آية: 122]، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين" 1.
وأما قولكم: إن هذه القلة لا تأتي بجديد، فهذا الوصف هو الذي جعلهم بهذه المنْزلة الرفيعة، وهو الذي جبل القلوب على مودتهم، واعتماد أقوالهم؛ ولو كانوا يأتون بجديد لم تأت به الشريعة، لضرب بأقوالهم عرض الحائط، ووجب الرد عليهم، ودخلوا تحت قوله صلى الله عليه وسلم "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" 2. وأما قولكم: بأن هذه النصوص الفقهية مضى عليها مئات السنين، فيفهم منه: أن هذا نقص فيها، وهذا في الحقيقة يدل على الكمال التام; فإن مرور مئات السنين عليها، دليل على صلاحيتها وحسنها، وأنه لا يستطيع أحد نقضها، ولا الاعتراض عليها جملة؛ وإن قدر وجود أخطاء قليلة، فهذا شيء لا يقدح فيها، ولا في أهلها، لأن العصمة لا تكون إلا للأنبياء.
__________
1 البخاري: العلم (71) , ومسلم: الزكاة (1037) , وابن ماجه: المقدمة (221) , وأحمد (4/93 ,4/98) , ومالك: الجامع (1667) , والدارمي: المقدمة (224 ,226).
2 البخاري: الصلح (2697) , ومسلم: الأقضية (1718) , وأبو داود: السنة (4606), وابن ماجه: المقدمة (14) , وأحمد (6/240 ,6/270).(23/28)
ص -32- ... ولكن العلماء لا يتفقون على خطأ، لما ورد عنه صلى الله عليه وسلم: "أن أمته لا تجتمع على ضلالة" 1؛ فلو قدر وجود خطأ ما من شخص أو طائفة، فإن هناك من يبين ذلك الخطأ، ويوضح الصواب، ويرده إلى الكتاب والسنة، لقول الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [سورة النساء آية: 59].
وأما قولكم: لا بد أن يكون لنا كلمة في شؤون ديننا، وأن الدين للجميع وليست وقفا على أحد دون الآخر، فهو كما تفضلتم، ولكن لم يقل أحد بذلك، ولا أظن أن يقال هذا.
وأما قولكم: هل إذا تركت شؤون غيري لغيري، سوف يهتم بدراسة أحوالي الاجتماعية والاقتصادية، وغير ذلك من الشؤون، إلى آخره؟!.
فنقول: إن جميع ما أشرتم إليه قد أتت به الشريعة الإسلامية، ووضحه علماؤها، ولم يبق شيء مشكل في جميع ما ذكرتم؛ وقد بينت لنا الأحوال الاجتماعية داخل المنْزل وخارجه، فبينت حق الوالد وابنه، وما لكل واحد على الآخر; وبينت ما يجب على كل فرد من أفراد الأسرة، وما يجب له.
وبينت ما للجار وما عليه، وما للقريب وما عليه، وما للغني وما عليه، وما للفقير وما عليه، وما للوالي وما
__________
1 ابن ماجه: الفتن (3950).(23/29)
ص -33- ... عليه، وما للشعب وما عليه، وما للمسلم وما عليه، وما للكافر وما عليه; ولم تترك شيئا، حتى بينت حد كل واحد من الزوجين على الآخر، وبينت ما عسى أن يقع من خلاف بينهما في المستقبل؛ ولو حشدنا ما ورد في الأحوال الاجتماعية من الشريعة لبلغ منتهى الكثرة.
وكذلك الأحوال الاقتصادية لم تقصر في شيء منها، بل أتت بجميع ما يحتاج إليه; فأمرت بالاكتساب، وأمرت بالضرب في الأرض للتجارة، والسعي في مناكبها، والبيع والشراء، والمداينات، والحراثة، والمعاملات. وبينت الحقوق الواجبة في المال، والواجبة له من الحفظ والصيانة؛ فنهت عن التبذير، ونهت عن التقتير، وأمرت بالاعتدال في ذلك كله، إلى غير ذلك مما يطول تعداده.
وكذلك الأحوال السياسية، فبينت حالات السلم، وحالات الحرب، وحالات المعاهدة، وأحكام الجزية، وبيان من تؤخذ منه، ومن لا تؤخذ منه، ومتى يجوز القتال، ومتى يمتنع، ومتى يستحب، إلى غير ذلك من الأمور التي لم تأت شريعة بما أتت به هذه الشريعة المحمدية؛ ولم يبق شأن من الشؤون إلا وأعطاه علماء الشريعة العناية الكاملة، وجميع ما يستحق من البحث، مستمدين ذلك من تعاليم الإسلام.(23/30)
ص -34- ... لكن يبقى مسألة قد تكون هي المشكلة الوحيدة، وهي: عدم سؤال الجاهل للعالم، والله يقول: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [سورة النحل آية: 43]، أو عدم الرضى والانقياد لما جاءت به الشريعة، والله يقول: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [سورة النساء آية: 65].
وإلا فلو كان من وجد في نفسه شيئا من الإشكالات، سأل العلماء عنه، لوجد عندهم ما يشفي ويكفي، سواء كانت المسألة اجتماعية، أو اقتصادية، أو سياسية.
وأما قولكم: إن التطور والأحداث التي تقع تحتم المبادرة إلى إعادة النظر في جميع أوضاعنا... إلى آخره. فيقال: ما المراد بالأوضاع؟ هل هو الوضع الديني؟ أو الوضع الاجتماعي؟ أو السياسي؟ أو الاقتصادي؟ أو يشمل الكل، كما يعطيه مدلول كلمة "جميع"؟ فإنه يفهم منها معنى الإحاطة والشمول، لا سيما حينما وضحتم بالعبارة التالية، وهي قولكم: إن النظام الأساسي للدولة كفيل بتحديد كل المعاني التي ننشدها جميعا; وأنا أعلم أن هناك من يعتقد أن النظام المذكور إذا وجد، فسوف يخالف تعاليم الإسلام وروحه.(23/31)
ص -35- ... فيا لله العجب، أنحن في شك من ديننا؟! أنحن في أمر مختلط من وضعنا؟! أنحن في حيرة من أمرنا؟! أنحن فقدنا كل المعاني من أنفسنا، فننشدها كما تنشد الضالة من الحيوان؟!. كلا، والله، فإن لدينا شريعة سماوية لم يكن مثلها، ولا نزل على نبي من الأنبياء نظيرها، وقد أرشدتنا إلى ما فيه صلاح ديننا ودنيانا، وما نحتاجه في جميع أمورنا.
وأما علمكم بأن هناك من يعتقد أن النظام المذكور يخالف تعاليم الإسلام، فهو كذلك كما علمتم، ولا شك أنه يخالفه، بل الدين الإسلامي يحارب مثل هذا، ولا يشك في ذلك مسلم ملتزم بمبادئه الشريفة.
وأما دعوتكم إلى تشكيل هيئة من بلادنا، والبلاد الإسلامية الأخرى، ورجال آخرين... إلى آخره. فيقال: إننا لسنا في حاجة إلى هذا، وقد حصل الاتفاق - ولله الحمد - من جميع علماء الإسلام من حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى وقتنا هذا، وهم متفقون كلهم على أن نظامهم ودستورهم، هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأنهما كفيلان بكل ما فيه مصلحة البشر من أمر الدنيا والآخرة.
وأما الرجال الآخرون، فكأنه يراد بهم الغير مسلمين، فيا للمصيبة! ويا لعدم الثقة بالمبدأ الشريف! أن نأتي(23/32)
ص -36- ... بأعدائنا،?كي يرسموا لنا خطة سياسية اقتصادية اجتماعية، طالما حاولوا ونصبوا لنا من أجلها الشباك، وبذلوا فيها الأموال الطائلة، وأتعبوا الأبدان الكثيرة في محاولتها، فنهبها لهم وهبا بلا مقابل، ونقر أعينهم بها عفوا بلا تعب!! ومن أين لآراء هؤلاء والاتفاق مع الشريعة الإسلامية، إلا كما يجتمع الماء والنار؟! وقد تكررت عبارتكم بالدعوة إلى القومية العربية. فنقول: إنه لا دعوة إلا إسلامية، وأن القومية العربية أو سواها من القوميات، متى فارقت الدين، ولم تلتزم بما يجب له، أنه ينبغي محاربتها، أو الابتعاد عنها حتى ترضخ للإسلام وتدين به. وقد قطع الله العلائق والمودة بين المسلم والكافر، ولو كان أقرب قريب، كما قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [سورة المجادلة آية: 22] الآية.
وأما قولكم: ولا يكفي أن ننتقد الغير في مبادئهم وأنظمتهم، بدون أن يكون لدينا أنظمة أفضل منها نواجههم بها.
فيقال: أليس عندنا من النظم والمبادئ ما هو أفضل وأعلى وأكمل وأشمل، من كل نظام على الوجود؟ أليس(23/33)
ص -37- ... نظامنا كتاب الله وسنة رسوله؟ أيستوي نظام من نحاتة الأفكار، وزبالة الأذهان، ونظام من حكيم خبير؟! أيستوي نظام في كل عصر يلغى ويبدل، ويضلل واضعه، ونظام مضت عليه القرون العديدة وهو يتجدد بذاته؟! أليس عقلاء المستشرقين وبحاثتهم قد أقروا أنه لا يوجد نظام على وجه الأرض أجمع وأكمل من نظام الإسلام؟ ولو سقنا ما بلغنا عنهم لاحتاج إلى صفحات.
ومناقب شهد العدو بفضلها والفضل ما شهدت به الأعداء
وأما قولكم: نواجههم بها، فنقول: لو واجهنا جميع أنظمة العالم بنظامنا، وجلس الكل مجلس الإنصاف والتجرد من الشهوات النفسانية، لأقروا بفضله، وظهرت لهم عيوب أنظمتهم وتناقضها، ولصارت أنظمة العالم بأسره كشمعة وقفت أمام الشمس في نحر الظهيرة؛ وهذا التنزل للمواجهة على سبيل الفرض والتقدير، وإلا فالنظام السماوي أعلى وأرفع، وأعز من أن يقارن به غيره.
ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا
وأما هذه الصنائع والعلوم، فلم يدركوها بفضل أنظمتهم، ولكن باجتهادهم في العمل، فلو أن المسلمين اتبعوا جميع نظامهم، وعملوا بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ}[ سورة النساء آية: 71]، وبقوله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ(23/34)
ص -38- ... مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}[ سورة الأنفال آية: 60]، وبقوله عليه السلام: "استعن بالله ولا تعجز"1، لأدركوا مرادهم، وعملوا كغيرهم، وفاقوهم في العمل. ولكن لم يعملوا بقدر استطاعتهم، وأخلدوا إلى العجز والكسل؛ وهذا شيء ينهى عنه الشرع، وإلا فما المانع من أن نطبق مدلول هذه الكلمة: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدأ، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا.
وأما ما ذكرتم من أن هذا العصر وقت التنظيم الحديث، ليكون الرخاء والتقدم من نصيبنا، فنقول: إن أريد التنظيم الحديث بمعنى المحدث في نظامنا الإسلامي، فلسنا في حاجة إليه. فالدين كامل لا يحتاج إلى تجديد، وبكماله كمل لنا كل معنى من المعاني التي نحتاجها؛ وقد حصل لنا من الرخاء والطمأنينة التي لا توجد في غير بلادنا، على حسب ما طبقنا من النظم الشرعية. وأما التقدم، فإن أريد به الصناعي، فهذا لا يحتاج إلا إلى عمل وجد، وعدم انهماك في الشهوات، ولم يحصل تقدم لأحد كما حصل لأوائلنا الذين تمسكوا بدينهم حق التمسك، وطبقوا تعاليمه على الوجه الأكمل، فقد سادوا العالم أجمع؛ فلو طبقناه كتطبيقهم، لوصلنا إلى ما وصلوا إليه.
ومبادؤنا لا تحتاج إلى صقل وتركيز - كما قلتم إنها
__________
1 مسلم: القدر (2664) , وابن ماجه: المقدمة (79).(23/35)
ص -39- ... تحتاج إلى ذلك - فهي الغاية في التركيز، والغاية في الوضوح والبيان; وقد قال صلى الله عليه وسلم: "تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك" 1 والله نسأل أن يهدينا وإياكم إلى صراطه المستقيم، وصلى الله على من بلغ البلاغ المبين، وآله وصحبة وسلم.
[نقد مساواة المرأة بالرجل على ضوء الإسلام]
وقال أيضا رحمه الله، في نقد مساواة المرأة بالرجل على ضوء الإسلام2: بيننا اليوم أناس كثير، يعتقدون مساواة النساء بالرجال؛ وأنه يجب لهن ما لهم، وعليهن ما عليهم، ولا فرق بين الصنفين في جميع الأحكام، لأن النساء شقائق الرجال; ولم يقفوا عند هذا الحد؛ بل أخذوا ينصرون هذا الرأي ويتعصبون له، مسفهين رأي من خالفهم من أهل الإسلام، كأن القوم لم يعرفوا أوامر الإسلام، ولا قرع آذانهم حكم من أحكامه؟! فالدين الإسلامي في ناحية، وهؤلاء المنتمون إليه في ناحية أخرى. ولا شك أن هذا الرأي رأي خبيث، بعيد عن مدلولات الكتاب والسنة؛ فاسمع الأدلة من الكتاب والسنة، على بعض الفوارق بين الرجال والنساء، ومفاضلة الصنف الأول على الثاني:
__________
1 ابن ماجه: المقدمة (44) , وأحمد (4/126).
2 نشر في عدد من الصحف المحلية.(23/36)
ص -40- ... الأول: قال الله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [سورة النساء آية: 34]: دلت الآية الكريمة بوضوح على أن الرجل هو القائم على أمر المرأة، والمحافظة على حمايتها ورعايتها، لما للرجل من قوة المزاج، والكمال في الخلقة، ولقوة عقله وصحة نظره في مبادئ الأمور وغاياتها، ولقدرته على التكسب والتصرف في الشؤون كلها; ومن ثم كلف الرجال بالإنفاق على النساء، والقيام برئاسة المنْزل، والمرأة تقوم بوظيفتها الفطرية، وهي: الحمل والولادة، وتربية الأطفال، وهي آمنة في سربها مكفية ما يهمها من نفقتها ونفقة أولادها. الثاني: قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [سورة النساء آية: 3]: ومن هذه الآية يتضح أن الله سبحانه وتعالى أباح للرجل أن يجمع أربع نسوة، إذا عرف من نفسه العدل بينهن. ولا يجوز للمرأة أن يتزوجها أكثر من واحد، لما في ذلك من اختلاط الأنساب، والفساد العريض، وعدم تمكن المرأة من القيام برغبات رجال متعددين في آن واحد، إلى غير ذلك مما لا يستقيم معه قيام البيوتات، وانتظام العوائل. فكيف مع هذا يقال بمساواة النساء بالرجال؟!(23/37)
ص -41- ... الثالث: قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}[ سورة النساء آية: 11]، وقوله: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}[ سورة النساء آية: 176]: اتضح من هاتين الآيتين أن للذكر من تركة مورثه مثل ما للأنثيين من أخواته، والحكمة في ذلك - والله أعلم - أن الرجل يأتي عليه وقت يتزوج فيه، فيولد له الأولاد، ونفقة هذه الزوجة وأولئك الأولاد ملزم بها، ومطلوبة منه، في حين أن منْزله مقصد للزائرين.
بخلاف الأنثى فإنه يأتي يوم يضمها إليه رجل يتزوجها، فيقوم بشؤونها، والإنفاق عليها، وعلى أولادها، من مأكل ومشرب وملبس ومسكن، لا تكلف هي هللة واحدة من مالها الخاص؛ ولا يخطر ببال أحد بأن يجعل منْزلها مقصده، لما في ذلك من مثار ظنون، ومهب ريب وشكوك. فكيف يقال بمساواة المرأة للرجل والحالة هذه؟!.
الرابع: قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [سورة البقرة آية: 282]: دلت الآية الكريمة أن الشهادة متى وجد لها رجلان، كان أكمل وأحفظ وأضبط؛ فإذا لم يكن إلا(23/38)
ص -42- ... رجل واحد، فلا يقوم مقام الرجل الآخر إلا امرأتان، لضعف حفظ المرأة، وعدم كمال ضبطها، أو لأن الرجل أقوى عقلا من المرأة، كما تدل له الآية، وكما يؤيده الواقع، ويشهد له الحس، في حين أن كثيرا من الأحكام، لا تقبل فيه شهادة النساء، كالحدود، والقصاص وغيرها. فكيف مع هذا يقال بمساواة النساء بالرجال؟!.
الخامس: من السنة ما رواه البخاري، وغيره، من قوله صلى الله عليه وسلم في حديث: "ما رأيت من ناقصات عقل ودين، أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن..." 1 الحديث. فهذا نص صريح في نقصان المرأة في عقلها ودينها عن الرجل، لضرورة أنه لا يتساوى من يصلي بعض حياته، بمن يصلي كل حياته، ولا من يصوم شهر رمضان من أوله إلى آخره، بمن لا يصوم إلا البعض. كما لا تتساوى شهادة الرجل، لكمال عقله وقوة ضبطه، بمن شهادتها نصف شهادته، لضعف عقلها وعدم كمال حفظها. فمن ساوى بين الرجل والمرأة، فقد جنى على الإسلام، وسلك سبيل الاعوجاج.
السادس: روى أحمد والبخاري وغيرهما، من حديث أبي بكر رضي الله عنه أنه قال: "لما هلك كسرى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: من استخلفت فارس عليها؟
__________
1 البخاري: الحيض (304) , ومسلم: الإيمان (80).(23/39)
ص -43- ... قالوا: ابنته; قال: لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" 1.
فهذا الحديث ينص على أنه لا يجوز أن تكون المرأة في مركز الخلافة، وأن الفلاح منفي عنهم بتولية المرأة؛ ومتى تخلف الفلاح عنهم، قارنهم الخذلان والخيبة; فاتضح أن هذا المنصب الهام مخصوص بالرجال. بل صرح أهل العلم أن المرأة لا يجوز توليتها القضاء، ولا أن تكون إمامة في الصلاة، ولا مؤذنة، ولا خطيبة، وأخذ هذا المعنى الشاعر فقال:
ما للنساء وللكتابة والإمامة والخطابة هذا لنا ولهن منا أن يبتن على جنابة
السابع: روى الشيخان وغيرهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم" 2: دل الحديث على منع خلوة الرجل بالمرأة، إلا إذا كان معها محرم، من زوج وغيره؛ والرجل لا خوف عليه إذا خلا به رجل آخر، لأنه ليس موضعا للمعنى الذي من أجله يميل إليه الرجل.
بخلاف المرأة، فإنه لا يؤمن عليها، لقوة الداعي منه ومنها، كما في الحديث الآخرة: "لا يخلون رجل بامرأة، إلا وثالثهما الشيطان" 3
فكيف يقال بمساواة المرأة للرجل؟! هذا دعاية أوربية، قام بها أعداء الإسلام، حتى استفحل أمرها،
__________
1 البخاري: الفتن (7099) , والترمذي: الفتن (2262) , والنسائي: آداب القضاة (5388) , وأحمد (5/38 ,5/50).
2 مسلم: الحج (1341) , وأحمد (1/222).
3 البخاري: النكاح (5232) , ومسلم: السلام (2172) , والترمذي: الرضاع (1171) , وأحمد (4/149 ,4/153) , والدارمي: الاستئذان (2642).(23/40)
ص -44- ... وعظم خطرها، فدعا إليها الكثيرون ممن أظلمت قلوبهم، ولم يشموا رائحة الإيمان، من المنتمين إلى الدين الإسلامي.
الثامن: روى أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل لامرأة أن تصوم وزوجها حاضر إلا بإذنه" 1 أي: أنه لا يجوز للمرأة أن تصوم تطوعا، وزوجها حاضر، إلا بإذنه، لأن صومها نفل، وطاعتها له في مقصوده منها فريضة عليها، إذاً يكون صومها جريمة ارتكبتها، لا طاعة مثابة عليها.
التاسع: جاء في حديث معاذ، رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "دية المرأة نصف من دية الرجل" 2 وهو مجمع عليه بين المسلمين. فاتضح مما تقدم بطلان قول من قال: بأن النساء يساوين الرجال في سائر الأحكام، وهذه الدعاية الشنيعة، المخالفة للكتاب والسنة، يعرف كل فسادها ببداهة العقل.
والنصوص الدالة على الفوارق بين النساء والرجال، وعدم مساواة الصنفين كثيرة جدا، كحديث: "التسبيح للرجال والتصفيق للنساء" 3، وحديث: "ليس على النساء حلق، وإنما يقصرن" 4، وحديث: "لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها" 5،
وحديث: "عليكن بحافات الطريق" 6، وحديث: "لا
__________
1 البخاري: النكاح (5195) , ومسلم: الزكاة (1026) , وأحمد (2/316).
2 مالك: العقول (1607).
3 البخاري: الجمعة (1203) , ومسلم: الصلاة (422) , والترمذي: الصلاة (369) , والنسائي: السهو (1208 ,1209) , وأبو داود: الصلاة (939) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1034) , وأحمد (2/241 ,2/261) , والدارمي: الصلاة (1363).
4 أبو داود: المناسك (1984) , والدارمي: المناسك (1905).
5 الترمذي: الرضاع (1159).
6 أبو داود: الأدب (5272).(23/41)
ص -45- ... تسافر المرأة إلا مع ذي محرم" 1، وحديث: "خير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها" 2، وحديث: "صلاة المرأة في بيتها خير من صلاتها معي" 3، وحديث: "الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعته، إلا على أربعة" 4 ذكر منهم المرأة، وحديث: "العقيقة عن الغلام شاتان، وعن الجارية شاة" 5، وحديث: "عتق المرأتين في الفضل، يعادل عتق الذكر"، إلى غير ذلك من النصوص التي لا تحصى.
فهل تساوي المرأة الرجل فيما تقدم بيانه، في الأحاديث السابقة؟ أم يضرب بهذه النصوص عرض الحائط؟ ويقال: نحن في القرن العشرين، نسير مع العصر، ويكفينا مجرد الانتساب إلى الإسلام، مع نبذ أوامره ونواهيه، كما عليه دعاة هذه المذاهب الهدامة؛ وقى الله شرهم، وأراح الإسلام والمسلمين منهم.
هذا، وأسأل الله أن ينصر دينه ويعلي كلمته، ويوفق الأمة الإسلامية للتمسك بتعاليم دينها الحنيف؛ وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
__________
1 البخاري: الحج (1862) , ومسلم: الحج (1341) , وأحمد (1/222 ,1/346).
2 مسلم: الصلاة (440) , والترمذي: الصلاة (224) , والنسائي: الإمامة (820) , وأبو داود: الصلاة (678) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1000) , وأحمد (2/247 ,2/340) , والدارمي: الصلاة (1268).
3 أبو داود: الصلاة (570).
4 أبو داود: الصلاة (1067).
5 الترمذي: الأضاحي (1516) , والنسائي: العقيقة (4218) , وأبو داود: الضحايا (2834 ,2835 ,2836) , وابن ماجه: الذبائح (3162) , والدارمي: الأضاحي (1966).(23/42)
ص -46- ... [عزكم وعز بلادكم في الإسلام يا مسلمون]
وقال الشيخ: عبد الله بن سليمان بن حميد:
وعزكم وعز بلادكم في الإسلام يا مسلمون 1.
من كان يريد العزة فلله العزة جميعا، فالتمسوا العزة يا مسلمون من هذا السبيل، وابتغوها من هذا الوجه; واعلموا أنه هو السبيل المستقيم، والمنهاج القويم، الذي سلكه أوائلكم السالفون، وعض عليه بالنواجذ الصالحون، واستغنوا به عما سواه من سبيل. واكتفوا به عن كل نظام أجنبي دخيل، فدانت لهم أمم العالم، وذلت أمامهم الدنيا، وملكوا أطراف المعمورة، وسيقت لهم خيرات الأرض؛ حتى قال بعض ملوكهم، وقد رأى يوما سحابة: سيري كيف شئت، وأمطري أنى شئت، فسيأتيني خراجك. وهكذا كانت نتيجة التمسك بالدين، والعمل على إعلاء كلمة الله؛ فهم طبقوا الإسلام في أنفسهم قولا وعملا، وارتضوه عقيدة ودينا، وجاهدوا في سبيله أعظم الجهاد، ودعوا إليه في الحاضر والباد؛ يطلبون بذلك كله رضى الله، ويلتمسون من وراء ذلك ثواب الآخرة، فأعطاهم الله تعالى الملك العظيم الواسع، جزاء لهم في الدنيا منه وفضلا؛ وما أعده لهم في الآخرة خير وأبقى.
__________
1 في مجلة راية الإسلام.(23/43)
ص -47- ... فانهلوا أيها المسلمون من حياض الإسلام، وتمسكوا بتعاليمه، وتأدبوا بآدابه، وتخلقوا بأخلاقه، واعملوا بشرائعه، واتبعوا محمدا صلى الله عليه وسلم في هديه تسعدوا وتسعد بلادكم، وتكونوا كأسلافكم سادة وقادة.
فالتمسك بالدين هو الرقي والفلاح، ولا تشرقوا ولا تغربوا، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله، فتدمروا أنفسكم وبلادكم، وتخسروا دنياكم وأخراكم، واحذروا - يا مسلمون - دعاة السوء، وشياطين الإنس والجن، الذين لا يقصرون في العمل على تدميركم.
ولا يفتؤون يواصلون الحرب الخبيثة لاجتثاث أخلاقكم، بإرسال المجلات الداعرة، والصحف الفاجرة، والإذاعات الملحدة الممتلئة بالنيل من الدين ورجاله، والطعن في الإسلام ونظامه؛ ويوهمون الشباب أن التمسك بالدين جمود ورجعية، وأن الانحلال والإلحاد تقدم ومدنية. وقد تعس هؤلاء الشياطين ومن سلك سبيلهم، وانتكسوا، وإذا شيكوا فلا انتقشوا؛ فهذه بلادهم مسرح للجرائم الخلقية، وميادين الشرور الدينية والدنيوية، فلا يأمن الإنسان منهم على نفسه ولا يطمئن على ماله وعرضه.
وبلادنا بحمد الله تعالى آمنة مطمئنة بسبب تنفيذ تعاليم الدين، والتمسك بشرائع الإسلام. فيجب على شبابنا(23/44)
ص -48- ... العقلاء أن يعضوا بالنواجذ على تعاليم الإسلام، ويعرفوا قدره وفضله، فلا يغيروا فيغير الله عليهم: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [ سورة الرعد آية: 11] ولا تظنوا أيها المسلمون: أن تقليد الأجانب في زيهم وأحوالهم المخالفة للإسلام يرفع قدركم، ولا أن اتخاذ الكفار أولياء من دون المؤمنين يعظم شأنكم، فإن الله الآخذ بنواصيكم، يقول: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} [سورة النساء آية: 139-138].
وقال الشيخ صالح بن محمد اللحيدان: التعليم ودروس الدين1
إن مما لا شك فيه لعاقل انتشار التعليم في شتى بقاع المملكة، حتى شمل القرى النائية والبادية، وقد يندر أن تجد شابا لا يحسن القراءة والكتابة، إلا أنه مع هذا التقدم الشامل، قد سرت في الناس موجة شر، تنذر بخطر كبير، إن لم يتدارك أمرها؛ ويُقضَى على بذور السوء في مهدها، ويحسن المنهج الذي يدرس.
ويعتنى بالمادة التي طرأ عليها التهذيب والتشذيب،
__________
1 في مجلة راية الإسلام, جمادى الأولى سنة 1381 ه.(23/45)
ص -49- ... وهي مادة الدين، من قرآن وحديث، وفقه وتوحيد وتفسير، وما يتبع تلك العلوم ويخدمها من علوم العربية؛ إذ إن التعليم في البلاد، يتسع في رقعته ومواده، إلا أن اتساع المواد، سيكون في أغلب الأحوال على حساب دروس الدين. فكلما اخترع درس، نقصت دروس الدين لإيجاد محل لذلك الدرس الجديد، حتى صار الطالب يتخرج من المرحلة الإعدادية، وهو لا يعرف إلا أسماء المواد، فدراسته لمواد الدين سطحية.
ودرس الدين ثقيل على نفوس الطلاب، وذلك لما يكتنفه من مزاحمة، من دروس يحسنها أصحابها ويمجدونها، ويسبغون عليها من صفات الكمال، ما يجعلها ذات الفائدة الكبرى والمهمة العظمى في الحياة. إننا في بلد يحق له أن يسمى بالبلد الإسلامي الأول؛ إذ إن تعاليم الإسلام لا تطبق في بلد كما تطبق فيه، وإلى الآن والدستور الشامل في هذا البلد - والحمد لله - دستور الإسلام. فينبغي لنا الاعتناء بالتربية الإسلامية، وتحسين الإسلام وأحكامه في نفوس الناشئة، إذ قلوبهم خالية يمتلكها ما سبق إليها؛ فإن كان السبق للتعاليم المنافسة لعلوم الدين، امتلكت قلوب الشباب ونفوسهم، حتى يصبح ما عداها(23/46)
ص -50- ... مستهجنا عتيقا، لا يليق بالشباب المثقف المتحرر، بل هو من صفات عتقاء التفكير والأخلاق.
وينتج عن ذلك انحلال في العقيدة، وفساد في الأخلاق، وفوضى في التفكير، ثم تصبح الكلمة لهؤلاء الجنس من الناس؛ إذ هم المتعلمون التعليم العصري الحر؛ ويكون بيدهم نتيجة لذلك القول والفصل، فتضيع البلاد، ويختل نظام الإسلام فيها؛ والسعيد من وعظ بغيره.
ونظرة واحدة إلى كثير من البلاد الإسلامية تعطينا صورة لما يمكن أن يحدث إن لم يعالج بحكمة وحزم; إن الروح الإسلامية تكاد تكون معدومة في شتى مواضيع الدراسة، ويندر أن نجد من يعتني بهذه الناحية، أو يوليها جانبا من الاهتمام. حتى من يناط بهم تدريس المواد الدينية، لا يشغلون أنفسهم إلا بتلقين الطلاب تلك المواد جافة صلبة، ولا يجهدون أنفسهم بالدعوة إليها، وتبيين محاسن الإسلام، وكمال نظامه، واعتنائه بجميع شؤون الحياة، وسمو تشريعه على كل نظام.
ففي بلادنا وغيرها تضعف روح الإسلام ويخف سلطانه على النفوس عند المتعلمين؛ ويتسع هذا الضعف ويخف ذلك السلطان بقدر ما يتسع التعليم وتنتشر المدارس، وما(23/47)
ص -51- ... ذلك إلا بسبب إهمال رجال التعليم لتربية الإسلام، وترك الروح المعنوية تذبل وتجف، وزيادة ما يزاحم الدروس الدينية مما أضعفها وأضعف نتائجها، وجعل الطلاب ينظرون إليها شزرا، ويحسون بثقل درس الدين وصعوبة الاستماع إليه؛ حتى إن بعضهم يتحين الفرص للخروج عن الفصل إذا أتت هذه الدروس الثقيلة على نفسه؛ مما جعل مدرسي المواد الدينية يجدون مشقة كبيرة، ويلاقون صعوبات كثيرة في إنجاح مهمتهم.
فلابد من عمل حاسم، يقضي على الشر قبل استفحاله - وقد بدأ يستفحل -، ويعالج الأمر بعلاجه النافع؛ وذلك بتحسين وضع التعليم الديني، وتقوية جانبه، والاهتمام بأمره، باختيار المدرس الصالح، الذي يؤمن بما يلقي من دروس؛ فإن من لا يؤمن بالمبادئ التي يدرسها، لا يرجى لتدريسه ثمرة، وكذلك من يخالف فعله ما يحمله من علم.
فإن الأخلاق يجب أن يهتم بها قبل غزارة المادة؛ فإن من يدرس الصلاة وواجباتها ووجوبها، ثم يتهاون بها، فإن الطلاب على أثره يعملون. ولقد اهتمت وزارة المعارف، وجعلت دروس الدين ولغته، مادة أساسية من لم ينجح فيها فلا نجاح له، إلا أن هناك جوانب يحسن الاعتناء بها، وهي:(23/48)
ص -52- ... اختيار من يدرس هذه المواد، وجعل مواد الدين تحسب نمرها في المجموع الكلي لمن يراد ابتعاثهم، كما ينبغي ألا ينظر لقوة الطالب المبتعث للخارج، إلا إذا كان معروفا بالمحافظة الشديدة على شعائر الإسلام وآدابه.
وأن يشعر الطلاب أن من يحفظ عنه إخلال ببعض النواحي الدينية، فسيكون لهذا دخل في عدم نجاحه؛ وسينظر إليه بأنه قاصر عن زملائه وإن تفوق في المعلومات.
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هُمُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا
إن اعتناءنا بالقرآن، وعلومه وآدابه، كدولة مسلمة، ضعيف جدا؛ فالقرآن الذي هو أقوى شيء وأقدره على تكوين العقول الحية، وتهذيب النفوس والأخلاق، لا يقرأ إلا في المدارس الابتدائية، قراءة مهلهلة.
ثم يخرج الطالب إلى القسم الثانوي، ويخرج منه، وقراءة كتاب لأحد الأدباء العصريين أسهل عليه من قراءة جزء من القرآن، لبعد العهد به، وعدم تمكنه منه، ولأن ذلك الكتاب وجد من يدعو له، ويمجده ويحسنه، حتى يظن البعض أن ما بينه وبين الاتصاف بالأديب، إلا أن يكرر ذلك الكتاب مرات، حتى يصبح منشئا بليغيا.
ولو كتب موضوعا، وعرضت له بعض الآيات،(23/49)
ص -53- ... لأخطأ في كتابتها; وهذا يدل على مبلغ العناية بهذا الكتاب المعجز. أما السنة المطهرة التي تفسر القرآن، وتبين مراميه، وتدل على كنوزه، فيمرون عليها مر الكرام، لا يثقلون عليها بالدرس والتمحيص، ولا يغوصون على كنوزها، ولا يلتمسون منها العون على حل مشاكل الحياة؛ حتى صارت أقوال طه حسين وأضرابه، متداولة بين الشباب; بينما أقوال سيد البشر لا تنبس بها شفة بين هذا الصنف من الناس، الذين هم يرجون لكل خير.
أما سيرة رسولهم، وتأريخ حياة أصحابه، وحياة رجال الإسلام، فهي لا تقاس بشيء أمام ما تقدم من القرآن والسنة؛ بل الذكر لنابليون وأشباهه، ولمفكري بني جلدته ممن دأبوا على تحطيم كيان المسلمين.
ولقد بلغ الأمر إلى درجة أنك إذا سمعت بين الشباب ثناء على شخص ما، بأدبه وأخلاقه، وحسن ذوقه، تيقنت أنة خال من الأخلاق الإسلامية، قليل المعرفة بمعاني كتاب ربه، جاهل حتى بأسماء كتب السنة، التي تحوي أقوال هادي البشرية، بالهداية الإلهية، منحرف في تفكيره، ومعطل لشعائر دينه، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
إن رجال التعليم عليهم واجب كبير، وحمل ثقيل، ومسؤولية عظمى؛ فبيدهم زمام الأمر، وهم الذين يستطيعون بتوفيق الله أن يحفظوا على الأمة أخلاقها(23/50)
ص -54- ... وآدابها، بتشجيعهم لأهل الخير، واحترامهم وتقديرهم، وإشعار الآخرين أنه لا كرامة ولا تقدير لمن لم يحافظ على كرامة هذا الدين، ولم يقدر شعائره.
ويجابهوهم بذلك، ويصارحوهم به، وأعني بذلك المشائخ الذين لهم السلطة التامة على التعليم والمتعلمين: رئيس المعاهد والكليات، ونائبه، ووزير المعارف الذي هو أوسع دائرة وأكبر مسؤولية، وأعظم خطرا؛ إذ التعليم الشامل هو تابع لوزارته. فلا بد من عمل الحيطة، وتقريب أهل الخير والصلاح وإكرامهم، وإشعار الآخرين بأننا لا نحترم، إلا من يجتهد في احترام هذا الدين، ويعمل على غرس حبه في نفوس الآخرين؛ كما يراد من الجميع العناية التامة، في إسناد وظائف التدريس إلى من يخدمها بأمانة المسلم ونصح المسلم.
ويشعر من يستقدم للتدريس إلى أن من ضبط عليه إخلال بالسلوك وإظهار لما يتنافى مع الإسلام، فإن مصيره الإبعاد، إن كان من خارج البلاد، أو الفصل من الوظيفة إن لم يكن كذلك.
فإن المدرسين قد غيروا أخلاق الناشئة، إما بالدعوة السيئة باللسان، وإما بدعوة التقليد بأعمالهم،
نسأل الله أن يوفق رجال التعليم، في بلادنا، وجميع البلاد الإسلامية،(23/51)
ص -55- ... إلى الاعتناء بعلوم الإسلام، والدعوة إليه، وتقوية جانبه؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
الفصل الرابع [أعظم أسباب التبرج]
وأعظم أسباب هذا التبرج المشين: استجلاب أعداء الدين، فأفسدن الكثير من نساء المسلمين، وأعجز من له غيرة على محارمه أن يسلك بهن السبيل المستقيم المستبين؛ وتقدم قول الملك عبد العزيز، رحمه الله، في أمر اختلاط النساء بدعوى تهذيبهن وفتح المجال لهن... إلخ. 1.
وقال الشيخ: محمد بن إبراهيم وغيره من المخلصين، في خطابهم الموجه لولاة الأمور 2: توظيف المرأة في الأعمال التي تدعوها إلى مخالطة الرجال، كالإذاعة، والخدمة الاجتماعية، وخدمة الرجال في الطائرات، وأشباه ذلك، يفضي إلى مفاسد كثيرة. اعلم وفقك الله: أن الله جل وعلا الذي خلق الذكر والأنثى، جعل بينهما فوارق طبيعية لا يمكن إنكارها؛ وسبب ذلك الاختلاف الطبيعي جعل لكل منهما خدمات يقوم بها للمجتمع الإنساني، مخالفة لخدمة الآخر.
__________
1 في الجزء الرابع عشر صفحة 403.
2 وتقدم أوله في الباب الثالث ج 15, ص 103-111.(23/52)
ص -56- ... اعلم أولا: أن الذكورة كمال خلقي، وقوة طبيعية; والأنوثة نقص خلقي، وضعف طبيعي؛ وعامة العقلاء مطبقون على ذلك; ولذلك تراهم ينشئون الأنثى في أنواع الزينة، من حلي، وحلل، كما قال تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [سورة الزخرف آية: 18]، والتنشئة في الحلية إنما هي لجبران النقص الخلقي الطبيعي، الذي هو الأنوثة، بخلاف الذكر، فإن شرف ذكورته وكمالها، بغنية عن الحلي والحلل.
وما الحلي إلا زينة من نقيصة ... يتم من حسن إذا الحسن قصرا
وأما إذا كان الجمال موفرا ... كحسنك لم يحتج إلى أن يزورا
ولأجل أن الذكورة كمال وقوة، جعل الله هذا الكامل في خلقته، القويّ بطبيعته، قائما على الناقص خلقة، الضعيف طبيعة، ليجلب له من النفع، ما يعجز عن جلبه لنفسه، ويدفع عنه من الضر ما يعجز عن دفعه عن نفسه {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [سورة النساء آية: 34] الآية.
ولكون قيامه عليها، يقتضي دفع الإنفاق والصداق - فهو يترقب النقص دائما، وهي تترقب الزيادة دائما - آثره عليها في الميراث، لأن إيثار مترقب النقص على مترقب الزيادة ظاهر الحكمة؛ وذلك من آثار ذلك الاختلاف الطبيعي بين النوعين.
ومن آثاره: أنه تعالى جعل المرأة حرثا للرجل(23/53)
ص -57- ... {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} [سورة البقرة آية: 223] الآية فهو فاعل، وهي مفعول به؛ وهو زارع، وهي حقل زراعة، تبذر فيه النطفة كما يبذر الحب في الأرض، وهذا محسوس لا يمكن إنكاره، لأن الازدراع مع الرجل.
فلو أرادت المرأة أن تجامعه لتعلق منه بحمل وهو كاره، فإنها لا تقدر على ذلك، وينتشر إليها; بخلافه، فإنه قد يحبلها وهي كارهة، كما قال أبو كبير الهذلي في ربيبه: تأبط شرا 1.
ممن حملن به وهن عواقد ... حبك النطاق فشب غير مهبل
حملت به في ليلة مزءودة ... كرها وعقد نطاقها لم يحلل
ومن أجل هذا جعل الله الطلاق بيده، لأن إرغام الزارع على الازدراع في حقل لا يريده، مخالف للحكمة; ولأجل ذلك الاختلاف الطبيعي، قال الله تعالى: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى} [سورة النجم آية: 21-22].
فلو كانت الأنثى معادلة للذكر في الكمال الطبيعي، لكانت تلك القسمة في نفسها غير ضيزى، لأن قسمة الشيء إلى متساويين، ليست في ذات نفسها ضيزى، وإن كان
__________
1 وانظر صفحة 194 , ج8 من خزانة الأدب وما بعدها إن شئت.(23/54)
ص -58- ... ادعاء الأولاد لله من حيث هو، فيه من أشنع الكفر وأعظمه ما لا يخفى.
وقال تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ} [سورة النحل آية: 58-59] الآية.
فلو كانت الأنثى معادلة للذكر في الكمال الطبيعي، لما ظهر وجه المبشر بها مسودا وهو كظيم، ولما توارى من القوم من سوء تلك البشارة، ولما أسف ذلك الأسف العظيم على كون ذلك المولود ليس بذكر.
ومن آثار ذلك الاختلاف الطبيعي: أن الله تعالى جعل شهادة امرأتين في الأموال كشهادة رجل {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [سورة البقرة آية: 282] الآية.
فالله الذي خلقهما، وأحاط علما بما جبلهما عليه، وما أودع فيهما من حكمة؛ ولو لم يجعل الرجل أكمل من المرأة، لما نزل امرأتين منْزلة رجل واحد، لأن تفضيل أحد المساويين ليس من أفعال العقلاء وإجراء خالق السماء جل وعلا.
وقد جاء الشرع القويم بقبول شهادة الرجل في أشياء لا تقبل فيها شهادة النساء، كالقصاص والحدود؛ ولو كانا متماثلين في الكمال الطبيعي لما فرق الحكيم الخبير بينهما.(23/55)
ص -59- ... ولأجل هذا الاختلاف الطبيعي، وقعت امرأة عمران مشكلة من نذرها في قوله: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً} [سورة آل عمران آية: 35] الآية، لما ولدت مريم.
ولو كانت ولدت ذكرا لما وقعت في هذا الإشكال المذكور في قوله: {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} [سورة آل عمران آية: 36] ؛ وتأمل قوله في هذه الآية: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} [سورة آل عمران آية: 36]، فإنه واضح في الفرق الطبيعي.
ومن الفوارق الظاهرة بينهما: أن المرأة الأولى خلقت من ضلع الرجل الأول، فهي جزء منه؛ وهو أصل لها {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [سورة النساء آية: 1] الآية؛ ولذا كانت نسبة الأولاد اليه لا إليها، وكان هو المسؤول عنها في تقويم أخلاقها {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ}[ سورة النساء آية: 34] الآية، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً}[ سورة التحريم آية: 6] الآية، وهو المسؤول عن سد خلاتها.
ولأجل هذا الاختلاف الطبيعي، والفوارق الحسية والشرعية بين النوعين، فإن من أراد منهما أن يتجاهل هذه الفوارق، ويجعل نفسه كالآخر، فهو ملعون على لسان(23/56)
ص -60- ... رسول الله صلى الله عليه وسلم لمحاولته تغيير صنع الله، وتبديل حكمه، وإبطال الفوارق التي أودعها فيهما.
وقد ثبت في صحيح البخاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم "لعن المتشبهات من النساء بالرجال، والمتشبهين من الرجال بالنساء"1 ولو لم يكن بينهما فرق طبيعي عظيم، لما لعن صلى الله عليه وسلم المتشبه منهما بالآخر. ومن لعنه صلى الله عليه وسلم فهو ملعون في كتاب الله، لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [سورة الحشر آية: 7] الآية، كما صح عن ابن مسعود رضي الله عنه.
ولما جهلت أو تجاهلت فارس هذه الفوارق التي بين الذكر والأنثى، فولوا عليهم ابنة ملكهم، قال صلى الله عليه وسلم: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة"2؛ ولو كانا متساويين لما نفى الفلاح، عمن ولى أحدهما دون الآخر. وقد يفهم من هذا الحديث الصحيح أن تجاهل الفوارق بين النوعين من أسباب عدم الفلاح، لأن قوله: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" 3 واضح في ذلك.
والله جل وعلا جعل الأنثى بطبيعة حالها قابلة لخدمة المجتمع الإنساني، خدمة عظيمة لائقة بالعرف والدين؛ ولا تقل أهميتها عن خدمة الرجل: فهي تحمل وتعاني آلام الحمل مدة، وتنفس، وترضع، وتصلح جميع شؤون البيت؛ فإذا جاء الرجل من عمله، وجد أولاده
__________
1 البخاري: اللباس (5885) , والترمذي: الأدب (2784) , وأبو داود: اللباس (4097) , وابن ماجه: النكاح (1904).
2 البخاري: المغازي (4425) , والترمذي: الفتن (2262) , والنسائي: آداب القضاة (5388) , وأحمد (5/43).
3 البخاري: المغازي (4425) , والترمذي: الفتن (2262) , والنسائي: آداب القضاة (5388) , وأحمد (5/43).(23/57)
ص -61- ... الصغار محضونين، وجميع ما يلزم مهيأ له. فإن قالوا: هي محبوسة في البيت كالدجاجة، قلنا: لو خرجت مع زوجها لتعمل كعمله، وبقي أولادها الصغار، وسائر شؤون بيتها ليس عند ذلك من يقوم به، لاضطر زوجها أن يؤجر إنسانا يقوم بذلك. فيحبس ذلك الإنسان في بيتها كالدجاجة، فترجع النتيجة في حافرتها، مع أن خروجها لمزاولة أعمال الرجال فيه من ضياع الشرف والمروءة، والانحطاط الخلقي، ومعصية خالق السماوات والأرض ما لا يخفى. فإن المرأة متاع، هو في الجملة خير متاع الدنيا، وهو أشد الأمتعة تعرض لخيانة الخائنين; وأكثر من تخرج المرأة بينهم اليوم، فسقة لا ورع عندهم، فتعريضها لنظرهم إليها نظر شهوة ظلم لها، لأنه استمتاع بجمالها مجانا، على سبيل المكر والخيانة؛ والخائن يتلذذ بالنظر الحرام تلذذا عظيما. قال أحدهم:
قلت اسمحوا لي أن أفوز بنظرة ... ودعوا القيامة بعد ذاك تقوم
وكما أنه ظلم لها، فهو مخل بالمروءة والدين والشرف; والعجب كل العجب ممن لا يغار على حرمه، مقبلة مدبرة في غير صيانة ولا ستر بين الفسقة، بدعوى التقدم والحرية!(23/58)
ص -62- ... وما عجب أن النساء ترجلت ... ولكن تأنيث الرجال عجاب
ومن المعلوم الذي لا نزاع فيه أن جميع الأقطار التي صارت فيها النساء تزاول أعمال الرجال، انتشر فيها من الرذائل والانحطاط الخلقي، ما يعرق منه الجبين.
إن للعار فحشها موبقات ... تتقى مثل موبقات الذنوب
فقد راعى الشرع المطهر، الفوارق التي ذكرنا في أمور كثيرة، كما قدمنا في الشهادة، والميراث، وقيام الرجل على المرأة، والطلاق، وكتولي المناصب.
فإن المرأة لا يصح شرعا أن تساوي الرجل في تولي المناصب، ومن أوضح الأدلة على ذلك: الحديث الصحيح الذي قدمنا، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة"1، فإن علة عدم فلاحهم، كون من ولوه امرأة.
وقد دل مسلك العلة المعروف بمسلك الإيماء والتنبيه، على أن علة عدم الفلاح في هذا الحديث الصحيح، هو أنوثة المولى؛ وضابط مسلك الإيماء والتنبيه - المحتوي على جميع صوره - هو: أن يقترن وصف بحكم، في نص من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، على وجه لو لم يكن فيه ذلك الوصف علة لذلك الحكم، لكان الكلام معيبا عند العارفين بأساليب الكلام.
فلو لم يكن علة عدم الفلاح في الحديث المذكور،
__________
1 البخاري: المغازي (4425) , والترمذي: الفتن (2262) , والنسائي: آداب القضاة (5388) , وأحمد (5/43).(23/59)
ص -63- ... كون المولى امرأة، لكان الكلام معيبا، ولكان ذكر المرأة حشوا لا فائدة فيه؛ وكلام من أوتي جوامع الكلم منَزه عن ذلك. وهكذا المسلك لا خلاف في إفادته علة الحكم بين العلماء، وإنما خلافهم فيه هل هو من قبيل النص الظاهر أو الاستنباط، كما هو مقرر في محله؟ ويفهم من دليل خطاب الحديث المذكور - أعني مفهوما مخالفته - أن المولى لو كان ذكرا، لما كان ذلك علة النفي للفلاح، وهو كذلك؛ وهذا من أعظم الأدلة على الفرق بين الرجال والنساء في تولي المناصب.
ومن أدلة ذلك أيضا: النصوص الدالة على منع اختلاط الرجال بالنساء، لأن المرأة الموظفة وظيفة لا تختص بالنساء، لا بد أن تخالط الرجال بمقتضى طبيعة وظيفتها; ومن تلك النصوص قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [سورة الأحزاب آية: 53]: فالأمر بكون سؤالهن من وراء حجاب دليل واضح على لزوم الحواجز، وعدم الاختلاط. فإن قيل: هذه الآية الكريمة خاصة بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم كما هو مقتضى السياق، وكما روي عن بعض أهل العلم، فلا تشمل غيرهن من نساء المؤمنين، فالجواب من ثلاثة أوجه:(23/60)
ص -64- ... الوجه الأول: هو: ما تقرر في الأصول من أن العلة قد تعيّن معلولها، وذلك مجمع عليه في الجملة; ومن أمثلة صوره المجمع عليها: قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "لا يقضين حاكم بين اثنين وهو غضبان" 1 فإن المسلك المتقدم، الذي هو مسلك الإيماء والتنبيه، قد دل أيضا: على أن علة منع الحاكم من القضاء، في هذا الحديث الصحيح، هي: الغضب. إلا أن هذه العلة، التي هي الغضب عممت معلولها، وهو نهي الحاكم عن القضاء في كل حالة مشوشة للفكر، كالجوع والعطش المفرطين، والسرور والحزن المفرطين، والحقن والحقب المفرطين، ونحو ذلك، لأن تشويش الفكر المانع من استيفاء النظر في الحكم غير الغضب. وإيضاح ذلك في الآية التي نحن بصددها: أنه جل وعلا لما قال: {فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [سورة الأحزاب آية: 53]، وبين علة ذلك المشتملة على حكمته، فقال تعالى: {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [سورة الأحزاب آية: 53]، فبين أن العلة في ذلك هي طهرية قلوب النوعين، والتباعد عن دواعي الريبة وقذر القلوب؛ ولا شك أن هذه العلة تشمل جميع نساء المؤمنين، لأنهن يطلب في حقهن طهارة قلوبهن وطهارة قلوب الرجال من الميل إلى ما لا ينبغي منهن.
__________
1 البخاري: الأحكام (7158) , ومسلم: الأقضية (1717) , والترمذي: الأحكام (1334) , والنسائي: آداب القضاة (5406 ,5421) , وأبو داود: الأقضية (3589) , وابن ماجه: الأحكام (2316) , وأحمد (5/36 ,5/37 ,5/46).(23/61)
ص -65- ... فليس لقائل أن يقول: هذا الأدب الكريم السماوي، المقتضي المحافظة على الشرف والدين، وطهرية القلوب من الميل إلى الفجور، يجوز إلغاؤه وإهداره بالنسبة لغير أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من نساء المؤمنين، لأن طهارة القلب، ومجانبة أسباب الرذيلة، أمر مطلوب من الجميع بلا شك، مع أن النفوس أشد هيبة لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم من غيرهن، لأنهن أمهات المؤمنين. الوجه الثاني: أن الأصل المقرر عند العلماء المؤيد بالدليل، هو استواء جميع الناس في أحكام التكليف، ولو كان اللفظ خاصا ببعضهم، إلا ما جاء النهي مصرحا بالخصوص فيه؛ ولذلك فجميع الخطابات العامة يدخل فيها النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، وأحرى غيره; وما ذلك إلا لاستواء الجميع في الأحكام الشرعية، إلا ما قام عليه دليل خاص. فقد سأل الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم فأجابهم بما يتضمن ذلك، فإنه صلى الله عليه وسلم لما قال: "لن يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل"1. فكأنهم يقولون له: أأنت داخل معنا في هذا العموم؟ وهو يجيبهم بنعم، وما ذلك إلا لاستواء الجميع في الأحكام الشرعية.
فإن قيل: آية الحجاب تخص بمنطوقها أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.
__________
1 البخاري: الرقاق (6467) , ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار (2818) , وأحمد (6/125).(23/62)
ص -66- ... فالجواب: أنها لم تدل على أن غيرهن من النساء لا يشاركنهن في حكمها؛ والأصل مساواة الجميع في الأحكام الشرعية، إلا ما قام عليه دليل خاص; ولذا تقرر في الأصول: أن خطاب الواحد المعين من قبل الشرع من صيغ العموم، لاستواء الجميع في أحكام الشرع.
وخلاف من خالف من العلماء، في أن خطاب الواحد يقتضي العموم خلاف لفظي، لأن القائل بأن خطاب الواحد لا يقتضي العموم، موافق على أن حكمه عام إلا أن عمومه عنده لم يقتضه خطاب الواحد؛ بل عمومه مأخوذ من أدلة أخرى، كالإجماع على استواء الأمة في التكليف، وكحديث: "ما قولي لامرأة إلا كقولي لمائة امرأة" 1 فالجميع مطبقون على أن خطاب الواحد يشمل حكمه الجميع، إلا لدليل خاص، واختلافهم، إنما هو: هل العموم بمقتضى اللفظ، أو بدليل آخر.
الوجه الثالث: أنا لو سلمنا تسليما جدليا: أن حكم الآية الكريمة خاص بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فهن القدوة الحسنة لنساء المؤمنين؛ فليس لنا أن نحرم نساءنا هذا الأدب السماوي الكريم، المقتضي المحافظة على الشرف والفضيلة، والتباعد عن أسباب الرذيلة ودنس القلوب؛ وقد اختاره الله لنساء أحب خلقه إليه وأفضلهم عنده.
ومن آثار الفوارق بين النوعين:
__________
1 الترمذي: السير (1597) , والنسائي: البيعة (4181) , وأحمد (6/356) , ومالك: الجامع (1842).(23/63)
ص -67- ... تنبية القرآن العظيم، على أن صوت المرأة إذا ألانته ورخمته، فإنه يصير من مفاتنها المؤدية إلى إثارة الغرائز، وطمع مرضى القلوب في الفجور، قال الله تعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [سورة الأحزاب آية: 32] الآية؛ وفي ذلك أوضح دلالة، على أن إذاعة صوت المرأة في أقطار الدنيا، في غاية الترخيم والترقيق بالألحان الغنائية، مخالف مخالفة صريحة للآداب السماوية التي أدب الله بها نساء أحب خلقه إليه، وهن القدوة الحسنة لنساء المؤمنين.
والفاء السببية في قوله: {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} تدل دلالة واضحة على أن الخضوع بالقول، كإلانته وترخيمه، سبب لطمع مرضى القلوب فيما لا ينبغي; ولا شك أن وجود السبب ذريعة لوجود المسبب؛ والذريعة إلى الحرام حرام، فيجب سدها، وهذا النوع من أنواع الذرائع الثلاث مجمع على سده.
ومن الأدلة على ذلك، قوله تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [سورة الأنعام آية: 108]: فإنه نهى عن سب الأصنام لكونه ذريعة لسب عابديها الله. وقوله: {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} [سورة الأعراف:(23/64)
ص -68- ... 19] الآية:
فنهاهم عن قربانها، لأن القرب من الشيء ذريعة للوقوع فيه، كالراعي يرعى حول الحمى، يوشك أن يقع فيه. ومن الأحاديث الصحيحة الدالة على أن ذريعة الحرام حرام، قوله صلى الله عليه وسلم: "إن من العقوق شتم الرجل والديه، قالوا: يا رسول الله، وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: نعم، يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه"1، فقد جعل صلى الله عليه وسلم ذريعة السب سبا، وهو واضح في أن ذريعة الحرام حرام.
وبالجملة، فمن المحسوس أن صوت المرأة الرخيم الرقيق من جملة مفاتنها، كمحاسن جسدها؛ ولذا ترى المتشبهين بالنساء يذكرون صوت المرخم كذكرهم جمال الجسم، وذلك كثير جدا، كقول ذي الرمة:
لها بشر مثل الحرير ومنطق ... رخيم الحواشي لا هراء ولانزر
وعينان قال الله كونا فكانتا ... فعولان بالألباب ما تفعل الخمر
فجعل صوتها الرخيم، وبشرتها التي هي كالحرير، وحسن عينيها سواء، في أن الجميع من جملة محاسنها. وقال قعينب بن أم صاحب:
وفي الخدور لو أن الدار جامعة ... بيض أوانس أصواتها غنن
فجعل غنة صوتها كبياض جسمها، وهذا معروف؛
__________
1 مسلم: الإيمان (90) , والترمذي: البر والصلة (1902) , وأحمد (2/164 ,2/195).(23/65)
ص -69- ... والمقصود التمثيل، ولا شك أن من المعلوم الذي لا يكاد يختلف فيه اثنان أن البلاد التي تجاهلت هذه الفوارق التي ذكرنا بين النوعين، وجعلت المرأة كالرجل في كل ميادين الحياة، سبب لها ذلك ضياع الفضيلة، وانتشار الرذيلة، ولا ينكر ذلك إلا مكابر.
وكيف يصح في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل
والذي يدعو إلى مساواة المرأة بالرجل في ميادين الحياة، حقيقة دعوته المطابقة لما في نفس الأمر، أنه يحاول بكل جهوده، أن يردي المرأة المسلمة في مهواة الفساد، التي تردت فيها نساء البلاد الأخرى.
فالنتيجة التي كانت عاقبة البلاد الأخرى معلومة لا نزاع فيها، والعجب ممن يراها ويتحققها، ويدعو أمته للأسباب التي توقع في مثلها.
وختاما فليعلم سموكم أن الذين يخدعون المرأة المسلمة بالشعارات الزائفة، والأساليب البراقة الكاذبة، من حرية وتقدم، وكفاح، وممارسة حقوق في الحياة، ويخيلون لها أنها رجل في جميع الميادين، يريدون إيقاعها في المآسي الآتية:
أولا: أن تكون ملعونة في كتاب الله، وعلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم لتشبهها بالرجال في كل شيء، وإلغائها(23/66)
ص -70- ... الفوارق الطبيعية التي فرق الله بها بينهما قدرا وكونا وشرعا.
ثانيا: القضاء على حيائها اللائق بشرفها ومروءتها وإنسانيتها.
ثالثا: تعريض جمالها لأن يكون مرتعا لعيون الخائنين يتمتعون به مجانا على سبيل الخيانة والمكر، على حساب الدين والشرف والفضيلة، من وراء اسم التقدم، والحرية؛ وربما آلت بها تلك المخالطة إلى أشياء أخرى غير لائقة.
رابعا: تعريضها لأن تكون خراجة ولاجة، تزاول الأعمال الشاقة كالأمة، بعد أن كانت درة مصونة في صدف بيتها محجبة، تكفى كل المؤونات صيانة وإكراما لها، ومحافظة على شرفها، مع قيامها بالخدمات العظيمة لزوجها ولأولادها، وعامة المجتمع الإنساني في بيتها، من غير إخلال بشرف ولا دين.
ومما تقدم من الأدلة يعلم تحريم توظيف المرأة في المجالات التي تخالط فيها الرجال، وتدعو إلى بروزها، والإخلال بكرامتها، والإسفار عن بعض محاسنها، مثل كونها مضيفة في الطائرة، وعاملة في الخدمة الاجتماعية، ومذيعة في الإذاعة، أو مغنية، أو عاملة في المصنع مع الرجال، أو كاتبة في مكاتب الرجال، ونحو ذلك; أما عملها فيما يختص بالنساء، كالتعليم والتمريض، ونحو ذلك، فلا مانع منه.(23/67)
ص -71- ... ونبتهل إلى الله سبحانه أن يلهمكم الصواب، وينصر بكم الحق، ويحمي بكم الشريعة، ويسدد خطاكم في الأقوال والأعمال؛ إنه على كل شيء قدير. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. إخوانكم المخلصون، عنهم محمد بن إبراهيم.
وقال الشيخ عبد الله السليمان بن حميد: نقد وتوجيه 1
[ حول تعليم البنات وفتح مدارس لهن]
كثيرا ما نسمع كلمات حول تعليم البنات، وفتح مدارس لهن، وكنا بين مصدق ومكذب؛ حتى تحقق ذلك رسميا؛ فاستغربنا هذا، وأسفنا له غاية الأسف، ولنا عظيم الأمل بحكومتنا السنية التي دستورها القرآن وشريعة محمد صلى الله عليه وسلم. أن يكون التعليم للبنت على المنهح الذي يقره الدين وتعاليمه، مع التمسك بالحجاب، وبالأخلاق الفاضلة، كما كان التعليم زمن السلف الصالح إلى يومنا هذا؛ وهي فاعلة إن شاء الله. والذي أثار الشعور، وأقلق النفس كلمة القصيم، بعنوان: تعليم البنت، بعددها 26 الصادر في 6/12/
__________
1 نشر في مجلة راية الإسلام سنة 1380 ه.(23/68)
ص -72- ... 1379?.
تلك الكلمة يظهر منها تحسين ما قبح الله، ومخالفة ما شرعه، وصريحة بشن الغارة على رجال الدين، حيث سماهم عقبة كأداء.
نعم، إن رجال الدين عقبة كأداء، دون التعليم الذي يعود وبالا على الأمة والبلاد، وحربا على الفضيلة والأخلاق، بالتبرج والسفور؛ وعاقبته الانحلال والفجور.
ويرون وجوب تعليم المرأة ما يجب عليها من أمور دينها؛ ولم يزل المسلمون يعلمون نساءهم تحت الستار والحجاب، من زمن الصحابة إلى يومنا هذا; والكاتب يعلم أن كل بيت ما يخلو - بحمد الله - من قارئة للقرآن أو بعضه، وكل بلد ما يخلو من معلمة أو معلمات.
وإنما يقصد بالتعلم، الذي هو مجاراة الأمم المنحلة عن الدين، كما يدل عليه قوله: ويعوضنا ما فات، ويهيئ لنا التقدم بشطري الأمة، فيكون التعادل، ويكون التماثل، ويكون الانسجام... إلى أن قال: ويجعلها تطير إلى أهدافها بجناحين متكافئين، كل واحد منهما يؤدي واجبه على أحسن وجه وأكمله، جناح البنين وجناح البنات، إلى آخر مقاله.
لا شك أن هذا الكلام خلاف ما شرع الله ورسوله، ودرج عليه المسلمون والعرب في جاهليتها، وضد حكمة الله في خلقه؛ فالله فضل الرجل على المرأة، وجعله(23/69)
ص -73- ... القائم عليها; وجعل له من الحقوق مثل ما لها، وجعل شهادة الرجل تعدل شهادة امرأتين، وفضله في الدية وغير ذلك مما يطول عده. وقال الصادق الأمين الذي لا ينطق عن الهوى: "ناقصات عقل ودين"1، وأمرها الله بالحجاب كما في القرآن العظيم، وفي سنة رسوله أكثر من أن يحصر، والحجاب شرع للمرأة، حفظا لها من عبث الرجل وفتنة المحتال.
قال تعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [سورة الأحزاب آية: 32]، ويقول صلى الله عليه وسلم: "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء" 2، وقال: "ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما"3. ومع الحجاب وشدة الحكومة - أيدها الله - على أهل الفساد، نرى ونسمع مرضى القلوب يتابعون النساء في الشوارع والمنعطفات، ويقفون لهن على الأبواب، وفي الأماكن المظلمة، ويتسلقون عليهن الجدران.
فكيف إذا حصل السفور والاختلاط؟ وتمكن الذئب من الغنم؟ مع ضعف الدين وقوة سلطان الشر، وكثرة أهله؟! اللهم سلم; هناك يظهر الشر من خبثاء النفوس، والذين في قلوبهم مرض.
إن المرأة عورة، وتعليمها على الصفة التي يريدها المفكرون والباحثون - كما زعم الكاتب - مصدر انحطاط
__________
1 البخاري: الحيض (304) , ومسلم: الإيمان (80).
2 البخاري: النكاح (5096) , ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2740 ,2741) , والترمذي: الأدب (2780) , وابن ماجه: الفتن (3998) , وأحمد (5/210).
3 البخاري: النكاح (5232) , ومسلم: السلام (2172) , والترمذي: الرضاع (1171) , وأحمد (4/149 ,4/153) , والدارمي: الاستئذان (2642).(23/70)
ص -74- ... الأمة وسقوطها في الهاوية، وهل مصيبة على المسلمين أعظم من تمرد المرأة؟ وخروجها عن تعاليم دينها، وآداب شرعها وعوائد قومها، وإباحة السفور لها؟! وهل غزا الأجانب البلاد المجاورة، إلا بسقوط الأخلاق؟! وبتعليم المرأة حصل التبرج، وبتعليمها مزقت الحجاب، وكشفت عن الساق والفخذ، والرأس والصدر، فصرفت لها الأنظار، فثارت الشهوة، فضعفت الرجولية، وماتت الغيرة والحمية، وهلك الشباب بذلك.
وإذا أصيب القوم في أخلاقهم فأقم عليهم مأتما وعويلا
وإني أنصح لكل مسلم أن لا يدخل ابنته أو أخته في هذه المدارس التي ظاهرها الرحمة، وباطنها البلاء والفتنة، ونهايتها السفور والفجور، وسقوط الأخلاق والفضيلة؛ ومن لم يتعظ ويعتبر بما يرى ويسمع في البلاد المجاورة فلن يعظه شيء {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [سورة النور آية: 40]. فعلى الدعاة والمرشدين والمصلحين أن يسارعوا إلى القيام بواجبهم نحو هذه الأخطار التي يسعى بها أعداء الإسلام إلى المسلمين، وإلى أوطانهم، وأن يشرحوا مزايا الإسلام ومحاسن الدين، وكيف جاء عن النبي الكريم في شأن المرأة المسلمة؟ وأن يردوا على مثل هذه الكلمات الخاطئة، ويقاوموا الأعمال السيئة التي تعود على مجتمعنا(23/71)
ص -75- ... بالخذلان والدمار، كل على حسبه، والله ولي التوفيق.
[أخطار تحيط بكم أيها المسلمون]
وقال الشيخ عبد الله السليمان بن حميد، أيضا 1 الحمد لله وحده وصلى الله وسلم على نبيه الكريم.
وبعد، أيها المسلمون، إن محاربة تعاليم الإسلام، والعمل على نقض عراه، هو أهم ما يضعه أعداء المسلمين نصب أعينهم، من بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، فهم بذلوا وسعهم في العمل على اقتلاع جذوره، والتخلص منه، والقضاء عليه، لكونهم يرونه الصخرة الصلدة التي تقف في سبيل أطماعهم، وتقطع عليهم غيهم وضلالهم، وتحول دون استغلالهم واستعبادهم للمسلمين؛ وقد أجمعوا عدتهم وعديدهم، في كل وقت وحين، لإزالة الإسلام وإبادة المسلمين، كما هو مبسوط في التواريخ.
ولكن - بحمد الله - لم يدركوا مرادهم في هذه الحروب، بل الغلبة للمسلمين في أكثر الوقائع؛ ولما رأوا أنهم لم يدركوا - ولن يدركوا إن شاء الله - غايتهم عن طريق الحروب النارية، رسموا طريقا أخبث، وسلاحا أخطر.
__________
1 في رسالة طبعت مستقلة, عنوانها: "أحظار تحيط بكم أيها المسلمون".(23/72)
ص -76- ... فعملوا طريق التعليم لأولاد المسلمين، ذكورهم وإناثهم، باسم التوجيه، والإصلاح، والتثقيف، حتى أدركوا بهذا التعليم، جيلا من شباب المسلمين لا يعرف الدين، ولا يعتز بالإسلام، تحللوا من قواعده، وتنكروا للأخلاق الإسلامية؛ فكان هؤلاء طليعة في بلادهم لأعداء الإسلام، وعونا لهم على الاحتلال والاستغلال. وما غزا الأجانب أكثر البلاد الإسلامية، إلا بواسطة أفراخهم هؤلاء الشباب المغرورين، الذين صاروا حربا على القائمين بشريعة الإسلام؛ وإنما صار الشباب المتعلم في تلك الحال المخزية، بسبب هذه التوجيهات الغربية التي يغرونهم بها؛ فيرونها مضيئة لامعة جذابة، فيميلون نحوها، كالفراش يلقي نفسه في النار، جاهلين أن هذه التوجيهات الغربية، هي الداء العضال، والسم القتال، وأن فيها دمارهم، ودمار بلادهم. وهل هلك الشباب العربي إلا بالضوء اللامع مع زعمهم؟ وهل ذهبت أخلاقهم إلا عند المنظر الجميل، بسبب الاختلاط؟! فلم يبق لهم قوة في نفوسهم، أو حماس في صدورهم، بعد ذهاب أخلاقهم وانتزاع الغيرة منهم.
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت ... فإن هُمُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا(23/73)
ص -77- ... وبذلك نجح احتلال الأعداء لبعض الأقطار المجاورة، بهذا السلاح البارد؛ فهم الآن كما تسمعون عنهم، يقرون الرذيلة والفساد في أوطانهم، كمسارح الرقص، ومحلات المجون والخلاعة، والخمور؛ حتى إن الرخص تمنح للنساء العربيات، ليتجرن في أعراضهن، وليبعن عفافهن، وليفتحن بيوت البغاء رسميا وعلانية، بدون خجل أو حياء أو مبالاة.
ولا نطيل الكلام بذكر ما يجري هناك، من المخازي والأمور القبيحة، من الرؤساء والأعيان، فضلا عن الهمج؛ كما أنه بالتوجيهات الغربية والثقافات المزيفة، فقد شبابهم العقائد الصحيحة، وسارعوا إلى الإلحاد والزندقة، وحاربوا الدين والمتدينين، ووالوا الكفرة والمشركين. وكل ذلك من آثار التعليم الغربي، والثقافات المزيفة، فصاروا إلى هذه الحال المحزنة. أيها المسلمون، إن المملكة العربية السعودية، كانت - بحمد الله - آمنة مطمئنة، متمسكة بشرائع الإسلام، منفذة لتعاليم الدين، متبعة للقرآن، وعاملة بسنن خير المرسلين; ولكن يا للأسف، دب إليها الشر من حيث لا يعلمون، واستحكم فيها البلاء من حيث لا يدرون.
بسبب بعض التعليم الحديث، وبعض المعلمين(23/74)
ص -78- ... الأجانب، ودخول المجلات الداعرة، والصحف الفاجرة، واستماع الإذاعات الملحدة المملوءة بالنيل من الدين ورجاله، والطعن في الإسلام ونظامه، والتصريح بأن التمسك بالدين جمود ورجعية، وأن الانحلال والإلحاد تقدم ومدنية.
وبهذه الأمور اختلت الأخلاق، وتغيرت الفطر، وترك كثير من أوامر الله، وارتكب كثير من نواهيه، وبث بعض المعلمين الأجانب - الذين لا صلة لهم بالدين ولا علاقة - في نفوس كثير من الطلبة كراهة الدين وأهله، وتنقصهم، والاستخفاف بهم؛ حتى إنهم يتنقصون الحكومة، وينتقدون الكثير من أعمالها. وتحقق ضرر هؤلاء المعلمين الأجانب، على أبناء هذه المملكة، وظهر سوء عاقبتهم على الدين والأخلاق والحكومة. وكنا في أمل من حكومتنا - وفقها الله - للانتباه والإصلاح، وتدارك ما حصل بتعديل مناهج الدراسة، على ما يقوم به الدين، وتحصل به منفعة للوطن، وإبعاد المعلمين الأجانب المنحرفين، ومنع المجلات والصحف الضارة.
إذ فجأنا خبر فادح ومصيبة عظيمة، وطامة كبرى; ألا وهي فتح مدارس لتعليم البنات في المملكة العربية(23/75)
ص -79- ... السعودية على نحو التعليم الموجود في البلاد المنحلة، عن الدين والأخلاق. وقد عارض بعض المسلمين في تعليم المرأة بهذه الصفة، خوفا من فتنتها، وحذرا من ضررها على المجتمع، في المستقبل بعد مدة.
وألفت نظر ولاة الأمور، إلى أنه لا مانع من توسيع تعليم المرأة على المنهج الذي يقره الدين وتعاليمه، مع التمسك بالحجاب، وبالأخلاق الفاضلة، وكما كان التعليم زمن السلف الصالح، مثل تعليمها التوحيد، والطهارة، والصلاة، وأحكام الحيض والنفاس، وأمور دينها الواجب عليها، وكتربية أولادها، وتدبير منْزلها، وغير ذلك من الأمور النافعة لها؛ وهذا فيما يظهر ونظن، هو هدف الحكومة - أيدها الله - ورغبتها. ولذا جعلوها منوطة بالمشائخ، وقد عينوا برياستها شيخا منهم، مؤملين فيه السير بمدارس البنات على الهدف المنشود؛ ولكن يا للأسف! بأول سنة شوهد تبدل الأمر، وسوء الحال: فقد نشرت جريدة البلاد، بعددها 703 في 3/2/1380? مقالا للرئيس المذكور، يتضمن عزمه على إدخال مواضيع الحساب، والهندسة، والجغرافيا، بمناهج مدارس البنات، في السنة الدراسية القادمة؛ لأن هذه المواضيع لم تكن تدرس في هذه السنة.(23/76)
ص -80- ... هذا وقد صرح الرئيس العام لمدارس البنات بأن منهاج مدارس البنات يتألف من خلاصة مناهج التعليم بالجمهورية العربية المتحدة... إلخ. كما وقد سمعنا أنهم سيجلبون معلمات صالحات، من سورية ولبنان ومصر، فيا ليت شعري أن الرئيس يبين هذا الصلاح في تلك النسوة، التي سيجلبهن من الخارج للتعليم في هذه المملكة. بل إن الصالحات منهن سافرات مائلات مميلات، وكأنه لا يوجد في المملكة العربية معلمات صالحات لتعليم الدين النافع، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
أيها المسلمون، يا أهل الغيرة والأنفة، اسمعوا لهذا التصريح الشنيع الذي يقصد منه إرغام أهل الخير، ومجاراة الأمم المنحلة، في تعليم بناتكم الحساب، والهندسة، والجغرافيا، ما للنساء وهذه العلوم، تضاف إلى ما يزيد عن أحد عشر درسا، غالبا لا فائدة فيه؟ إنها لمصيبة وخطر عظيم على مجتمعنا. إن تعليم المرأة على هذه الصفة، هو مصدر انحطاط الأمة، وسقوطها في الهاوية، إن هذا التعليم سبب لتمرد المرأة، وخروجها عن تعاليم دينها، وآداب شرعها، وعوائد قومها الصالحة، وسفورها، وتبرجها، واختلاطها مع الأجانب؛ والسفور مدعاة إلى الفجور، وفتنة الاختلاط كبيرة.(23/77)
ص -81- ... وقد أجمع العقلاء على أن المرأة مطمع نظر الرجل ومثار شهوته، وأن الاختلاط مثير للشهوة جالب للفتن، سبب لفعل ما يكرهه الله. وهل حدث ما تعلمون أو تسمعون عنه في البلاد المجاورة من تمزيق الحجاب وكشف الساق والفخذ والرأس، وفتح بيوت البغاء، والسينما، والرقص والخلاعة، إلا بعد التعليم المزعوم ثقافة؟!.
وقد انتقد بعض القراء كلمتي السابقة عن مدارس البنات، متباعدين وقوع ما أشرت إليه؛ ولعلهم الآن عذروا، بعدما رأوا وسمعوا عن لباس البنات الخاص بالمدرسة، وركوبهن الأتوبيسات سافرات؛ وليس الخبر كالعيان.
أيها المسلمون، إن أفراخ الإفرنج الذين تغذوا بألبانهم، وتثقفوا بتعاليمهم، يريدون من تعليم المرأة مشاركتها للرجل في المكاتب، والمباسط، والمعامل، والمدارس، كما صرحوا به في عدة مقالات معروفة، فقد خسرنا الغالب من أبنائنا نتيجة هذا التعلم الفاسد.
فهم لا يقدرون أبا، ولا يحترمون أما، ولا يرحمون أخوة، ولا يؤدون واجبا إلا وهم كارهون؛ يحبون الشر، ويقلدون الكفرة، ويتشبهون بالمجوس، ويبغضون الخير وأهله، ويتنقصونهم، فالله المستعان.(23/78)
ص -82- ... ولم يقفوا عند هذا الحد، بل يريدون ويحاولون إخراج البنات من أكنانهن ليكشفوا حجابهن، وليتمكنوا من التمتع بهن، بحيلة هذا التعليم المزعوم. والعجب العجاب: حصول هذه الأمور الهدامة، التي هي هدم للأخلاق، وخروج عن الشريعة، ومحادة لله ولرسوله، وللمسلمين، ولا نرى المنتسبين إلى العلم والمتصفين بالشهامة والرجولة يهمهم ذلك. فأين الغيرة يا أهل الإسلام؟! غزاكم أعداء الإسلام في بيوتكم، وأفسدوا الكثير من أبنائكم، ويحاولون إفساد البنات، وأنتم ساكتون! ما هذا السكوت والطمأنينة، والركود والإخلاد؟! أجهلتم هذا؟! أم تساهلتم به؟ فإنه والله عظيم! كيف بعد التستر والحجاب، والحفظ والصيانة يكون السفور والخلاعة، في بلاد نشأ أهلها على فطرة الإسلام، وعبادة الله وحده، وتحكيم شرعه، ودستورها القرآن؟! إنها لمصيبة عظيمة!
أيها المسلمون، كونوا على حذر، وتنبهوا لهذه الأخطار، وتكاتفوا، وتعاونوا في السعي، بمراجعة المشائخ والحكومة، وبيان الحقائق لهم، لإغلاق ما فتح من هذه المدارس التي فتحت لتعليم البنات على المنهج الحديث.(23/79)
ص -83- ... فهي مدارس ظاهرها الرحمة، وباطنها البلاء والفتنة، ونهايتها السفور والفجور، فإن لم تدركوا الحصول على إغلاقها، فلا تقبلوا فتحها في بلاد لم تفتح فيها؛ فإن تساهلتم حل بكم ما حل بغيركم، وستندمون وقت لا ينفع الندم.
إن تعليم المرأة على هذا المنهج خطر عظيم على المجتمع، ومصيبة لا تجبر، وعاقبته سيئة; إن تعليم المرأة سبب لتمردها، وهن ناقصات عقل ودين؛ لذا أوجب الله على المكلفين من العبادات ما هو معلوم.
وخص المرأة - وهو العليم الحكيم - بوجوب الحجاب في عدة آيات من القرآن، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم معلوم مشهور، فلا نطيل بذكر ما ورد في ذلك.
ونهى الشارع عن سفر المرأة وحدها، وحرم الخلوة بالأجنبية، إبعادا للتهم، وكان أهل الجاهلية، يئدون البنات خشية العار، فيلحقهم عارها. وبيتعليمها ستسافر وحدها، وتخلو بزميلها أو معلمها، وتذهب بعض الليل بعيدة عن أهلها باسم الدراسة والمذاكرة، أو تبيت عند غير أهلها، ولا يكون لوليها عليها أمر.
فالله الله عباد الله، في مقاومتها وردها، وعدم قبولها؛ فإنه لا يرضى بهذه المدارس، إلا من لا غيرة(23/80)
ص -84- ... عنده، ولا رجولة ولا دين. والغالب أن الراضين بها والمستحسنين لها من دعاة الفجور، نعوذ بالله من موجبات غضبه. والقصد مما ذكرنا: النصيحة لإخواننا المسلمين، وأداء الواجب، وبراءة الذمة؛ والله يوفقنا جميعا لما يحبه ويرضاه، إنه جواد كريم؛ وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
[في سبيل الحق]
وقال الشيخ: عبد الرحمن بن حماد العمر: 1
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
وبعد: فبمناسبة ما نشاهده من تحول في تطبيق ديننا الحنيف نتيجة ما مني به كثير من المنتسبين للإسلام، من تخلف فكري وعقائدي، جعلهم يسخرون بدينهم، وبالداعين إليه; ويطالبون باسم التقدم والرقي إحلال كثير من المحرمات في بلادهم، مخرج الأنبياء، ومهبط وحي السماء.
وامتثالا لما أوجبه الله علينا، من مؤازرة الحق، ونصيحة من حادوا عنه، وإرشادهم إلى طريق سعادتهم ورقيهم ونجاتهم،
__________
1 في رسالة له "في سبيل الحق" في 7 - 3- 1383ه.(23/81)
ص -85- ... لهذا قمت بإعداد هذه الرسالة، راجيا من الله سبحانه أن يجعلها من الأسباب الناجعة في حل الخلاف، وشفاء القلوب.
كما أرجو من القارئ الكريم أن يدرأ بالحسنة السيئة، ويحمل كلماتها محمل النصح وحسن المعتقد؛ فذلك مقصدي، والله حسبي ووكيلي.
بسم الله الرحمن الرحيم
رسالة: إلى الطائفة المنصورة: إليكم يا حملة رسالة الأنبياء والمرسلين، إليك يا أخي المجاهد في سبيل الله... بيدك... بلسانك... بقلمك... بذلك كله... إليك أوجه رسالتي هذه، وأنا أحس بإحساسك، وأشعر بشعورك.
ولكني أقول لك يا أخي المجاهد الغيور: إنك سوف تلاقي في سبيل دعوتك إلى الله، وفي سبيل غيرتك لمحارم الله، عندما تراها تنتهك... عندما ترى السفور منتشرا، والخمر مستقى، والجرائم الأخلاقية مرتكبة، والفرائض مضاعة، والدين والشرف يستباحان، باسم التقدم والرقي.
أقول لك: سوف تتقاذفك سهام مرضى القلوب، الذين تنفذ دعوتك إلى مخازيهم وأهدافهم الخسيسة، نفوذ السهم من الرمية، وسوف يقولون عنك: منافق، مخادع،(23/82)
ص -86- ... أكال، جاهل، رجعي، دجال; وسوف يقولون عنك كل شيء مما يشفون به غليل نفوسهم المريضة، وسوف يطالبون بطردك من وظيفتك إن كنت موظفا، ويحاربونك في كل مجال. ولكني أذكرك قدوتك وإمامك محمدا صلى الله عليه وسلم الذي دعا الناس بمكة عشر سنين، لم يؤمن خلالها بدعوته إلا النّزر اليسير، والذي قيل له لما بدأ دعوته إلى الله: ساحر، كاهن، مجنون. وقيل لمن أراد الإنصات لتلاوته: {لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [سورة فصلت آية: 26] وقذف بالحجارة، وألقى عليه سلى الجزور - وهو ساجد أمام بيت الله - ومع هذا كله، صبر وضاعف جهاده، ولم يشك قلة حيلته، وهوانه على الناس إلا على ربه; وكسرت رباعيته، وشج وجهه، ولم يزد على أن أخذ يمسح الدم عن وجهه، ويقول: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون" 1. نعم، ذلك هو محمد بن عبد الله، جاهد في الله، وتلقى الأذى بصدر رحب في سبيل الله، حتى حقق الله له النصر، فاستغفر الله الذي توفاه مؤمنا حقا، وألحقه بالرفيق الأعلى، بعد أن بلغ الرسالة، وأدى الأمانة. وتلا محمدا صحابته، والتابعون لهم بإحسان،
__________
1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3477) , ومسلم: الجهاد والسير (1792) , وابن ماجه: الفتن (4025) , وأحمد (1/380 ,1/441 ,1/453).(23/83)
ص -87- ... بالإيمان والجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، بالغيرة لمحارم الله، بنشر دين الله، بدعوة الناس إليه.
وهكذا يتبع هديه المهتدون إلى يوم القيامة، ممن قال الله فيهم: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} [سورة فصلت آية: 33]، وممن حققوا قول الله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة آل عمران آية: 104]. بل إنهم الطائفة المنصورة التي قال عنها محمد صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى" 1 ذلك لأنهم فهموا قول الله: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [سورة النساء آية: 114]. فهموا ذلك القول الرباني فحققوه، فاستحقوا أن يوصفوا بمقتضاه، ويكرموا جزاء امتثاله كرامة المتقين.
وهكذا يصف الله المجاهدين فيه من الرسل وحملة رسالتهم، تلك الرسالات التي اختتمت برسالة محمد صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة، والتي بها رسخت أركان العدالة في الأرض، وانمحت رواسب التفرقة بين بني الإنسان، بقول الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [سورة الحجرات آية: 13]، وبقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس لعربي فضل على عجمي
__________
1 مسلم: الإمارة (1920) , والترمذي: الفتن (2229) , وابن ماجه: المقدمة (10) , وأحمد (5/279).(23/84)
ص -88- ... إلا بالتقوى; كلكم لآدم وآدم من تراب". أو كما قال.
وأنتم يا دعاة الحق، الغيورين لحرمات الله، المؤمنين به، الداعين إليه، أنتم المخاطبون بالتضحية، والصبر، فلا تنهزموا أمام الباطل الزاهد، وأنتم الأعلون.
واعلموا أن الله معكم، ينصركم كما نصر من جاهدوا قبلكم من الأنبياء وعباد الله المخلصين. فادعوا إلى الله على بصيرة، قابلوا الجاهل بالحلم، وخاطبوا العالم المعاند، بالإقناع بالموعظة الحسنة، لعله يتذكر أو يخشى، ولعله يتوب إلى ربه من ظلم نفسه.
لأنه يظن - يا أخي المجاهد - أنه يضادك ويغيظك، ولا يدري أنه إنما يضاد نفسه، ويسعى في هلاكها، وينصب من نفسه عدوا لله، وناصرا للشيطان، ناصرا للمنكر من تحكيم القوانين، وإباحة وأد الأخلاق الفاضلة، ناصرا لتقاليد الغربيين والشيوعيين، في أهله، في بنيه، وبناته.
يفكر أن التقدم في إدخال ابنته وعورته، مدرسة يقوم بالتدريس فيها أستاذة تلقت دراستها في الخارج، وصارت طيلة أيام دراستها مع زميلها على كرسي واحد، ومشت متبرجة في الشارع، وشاهدت المسرح والرقص، ودخلت دور السينماء وقرأت شيئا من "آخر ساعة" و "المصور" وشيئا من مؤلفات ذوي الخلاعة والمجون، في مقابل الجهل بأمر دينها، وفاضل أخلاقها.(23/85)
ص -89- ... ويقتنع هذا المغرور بنفسه، الجاهل بمستقبل محارمه أن ابنته في مدرسة مصونة بالحيطان عن عيون الرجال، دون أن يفكر في تلك الأستاذة الماثلة أمام ابنته، والتي لن تدرسها مهما أعطيت من التعليمات، إلا الشيء الذي تعرفه، لأنها لا تعرف غيره. وإن لم تظهر ذلك الذي تعرف في كل درسها، فلا بد من ظهوره في فعلها ونظراتها، وحركاتها، وفرطات كلامها، لأنه من المستحيل أن ينضح إناء بغير الذي فيه.
وظيفة المرأة: ويظن هذا المغرور أن للمرأة حقا في مشاركة الرجل، في الدائرة، وفي المتجر، والمصنع، وفي الإذاعة؛ وينسى أنها عورة إنما خلقت لتصان في بيوت، وتكرم فيها.
وينسى أن الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض، كما جاء في كتاب الله الذي حفظ لها حقوقها وكرامتها، وبين مهمتها في الحياة، وكما بين تلك الحقوق وتلك المهمة أيضا محمد صلى الله عليه وسلم في كثير من الأحاديث.
فلو قرأ قول الله: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ(23/86)
ص -90- ... مِنْهَا1 وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ2 أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة النور آية: 31].
__________
1 ما ظهر منها: هو ما لا تستطبع المرأة ستره، كالخارج من الثياب ونحوها، كما جاء عن ابن مسعود وغيره، وليس هو كما نسب إلى ابن عباس، بدليل الآيات، والأحاديث الموجبة لستر ا لوجه عن الرجال الأجانب
2 المقصود بأولي الإربة: الذين لا حاجة لهم في الجماع، ولا دافع لديهم إليه، أما أولئك الذين يستخدمون في بيوتهم الرجال، ويتركونهم يخاطبون محارمهم، كالسائق، والطباخ، وخادم التنظيف، وقاضي الحوائج، ونحوهم من الأطفال الذين تزيد أعمارهم على سن العاشرة، على أساس الثقة فيهم.
فهؤلاء: قد أخطؤوا، واتصفوا تصفة تدل على عدم غيرتهم؛ ففي الحديث: "ما خلا رجلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما" وفي الحديث أيضا: "مروا أبناءكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع".(23/87)
ص -91- ... وقوله الله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [سورة النور آية: 59]، وقول الله: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً} [سورة النساء آية: 34]، وقول الله: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} [سورة الطلاق آية: 6]، وقول الله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} [سورة الأحزاب آية: 59] الآية، لو قرأ هذا وآمن به، لما طالب بتحلل المرأة، وخروجها من سترها إلى محيط العمل، ومخالطة الأجانب.
وآمن بقول الله: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [سورة النور آية: 30]، وبقول الله: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [سورة الأحزاب آية: 53]، وبقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كتب على ابن آدم نصيبه من الزنى، مدرك ذلك لا محالة: العينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها(23/88)
ص -92- ... البطش، والرجل زناها الخطى. والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه" 1 متفق عليه، وبحديث أم سلمة رضي الله عنها، قالت: "كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده ميمونة، فأقبل ابن أم مكتوم، وذلك بعد أن أمرنا بالحجاب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم احتجبا منه; فقلنا: يا رسول الله، أليس هو أعمى لا يبصرنا، ولا يعرفنا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم أفعمياوان أنتما؟ ألستما تبصرانه؟"2، وبقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يخلون أحدكم بامرأة إلا مع ذي محرم" 3 متفق عليه.
لو قرأ هذا وآمن به، لما طالب بتحلل المرأة، وخروجها لتختلط بالرجال; ولما "سئلت فاطمة ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأفضل للمرأة؟ قالت: أن لا ترى الرجال ولا يرونها"
وقال الشيخ محمد بن عبد الله بن حمدان:
لن نترك كتاب الله، ونعمل بالنظم الغربية 4
اطلعت في جريدة اليمامة العدد 249 في 1/6/80 على كلمة بعنوان: " نقد وتوجيه " بتوقيع رشيد سلهوب الخالدي، من الظهران، ردا على كلمتي المنشورة في مجلة راية الإسلام الغراء، حول كلمة: "لا تئدوا بناتنا في المهد" يقول الكاتب في كلمته:
__________
1 البخاري: الاستئذان (6243) والقدر (6612) , ومسلم: القدر (2657) , وأبو داود: النكاح (2152) , وأحمد (2/276 ,2/317).
2 الترمذي: الأدب (2778) , وأبو داود: اللباس (4112) , وأحمد (6/296).
3 البخاري: النكاح (5233) , ومسلم: الحج (1341) , وأحمد (1/222).
4 نشر هذا المقال في مجلة راية الإسلام, سنة 1380 ه.(23/89)
ص -93- ... إن تعليم البنات - على الطريقة المتبعة في الخارج - دعوة إلى الانطلاق والتقدم، والعمل لمؤازرة الرجل.
هكذا يصف التعليم الذي نهايته: التبرج والسفور، والانحلال، والرقص، والغناء، والخروج على الأخلاق. ليتكم يا هذا تطالبون بتعليم البنات في حدود ما رسمه الدين الحنيف، وتكتفون بذلك، إذاً لرحبنا بذلك، وأيدناكم؛ ولكنكم تريدون تعليما كالتعليم الموجود في الخارج - مجرد تقليد ومحاكاة - ولا تهمكم تعاليم الإسلام التي تأمر بالمحافظة على أخلاق المرأة، وتصون لها عفتها وكرامتها.
لا تريدون هذا، لأنه من أعمال الرجعيين!! تريدون لفتياتكم أن ينْزلن بجانب الرجل، في ميادين العمل؛ بل تريدون لهن أن يخرجن نجوما للسينما، والتلفزيون، وغيرهما، وهذا هو التقدم، الذي تتمنون أن تحرزه أمتكم. وهذا خروج على مبادئ الدين الحنيف، ومحاربة للفضيلة، ولا يرضاه الإسلام، بل حذر منه. ورغم أن الإسلام بين أن المرأة عورة، يجب محافظتها على الأخلاق، والتحرز من الاختلاط بالرجال، فإن أنصار المرأة - أو على الأصح أعداءها - لا يرضيهم هذا، لأنه بحد زعمهم كبت وحبس لها;(23/90)
ص -94- ... وهذا ما تلقنوه من أساتذتهم - أسيادهم - الغربيين، وأتباعهم، وقبلته عقولهم الضعيفة.
ثم يقول الكاتب: أرأيت كيف وصلت البلدان التقدمية إلى ما هي عليه الآن من حضارة، وعلم، وتكتيك؟! ولو لم تكن بجانب الرجل تشد أزره، لما نهضت وتقدمت؟!.
وجوابي على هذا التساؤل، أن أقول: نعم رأيت وسمعت، ويا لهول ما سمعت وما رأيت!! رأيت: أنهم تجاوزوا في تعليم فتياتهم، فلم يكتفوا بتعليمهن الدين، وشؤون المنْزل، وتربية الأولاد.
لا; لم يكتفوا بذلك، بل خرجوا بهن عن الحدود الموسومة لهن، زاعمين أنهم يريدون لهن التحرر، والحضارة والانطلاق؛ فخرجن بذلك عن تعاليم الإسلام، ونزعن برقع الحياء، وتركن الحجاب، واختلطن بالرجال، ونزلن إلى ميادين العمل؛ بل برعن في إجادة الرقص، والغناء، والفجور!! وصار ما يخالف هذا يعد من أعمال الرجعية!! أي حضارة؟! وأي تقدم في هذا الذي وصلت إليه هذه الأمم؟!! نحمد الله أننا لم نصل بعد - ولن نصل إن شاء الله - إلى هذه الحضارة الزائفة، وهذا التقدم المزعوم!!.(23/91)
ص -95- ... نحمد الله على ما نحن عليه، من تمسك نسائنا بتعاليم الإسلام، في المحافظة على الحجاب، وعدم الاختلاط بالرجال، وعدم إظهار الزينة، والتمشي مع تعاليم الدين الذي من تمسك به فهو السعيد. وليست أدل على ذلك مما تزخر به إذاعاتهم وصحفهم من هذا النوع، فهذه المجلات الخليعة التي ترد إلينا منهم فيها من الصور العارية، والحكايات الفاجرة، والقصص، والأوصاف الخسيسة، فيها من كل هذا وأكثر منه، الشيء الكثير - كما هو معروف -، زيادة على ما فيها من إلحاد، وزندقة، واستهزاء بالدين وأهله. هذا هو التقدم والحضارة المزعومة!! ولكن الله سينصر دينه ويعلي كلمته، ويدحض أعداءه، ويكبتهم، ويحفظ علينا ديننا، وأخلاقنا، وشيمنا، ورجعيتنا، إن كان التمسك بالدين هو الرجعية.
ثم يقول الكاتب متسائلا: هل اطلعت على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان؟ الصادر في "سان فرنسيسكو" الذي يقضي عدم التمييز بين الرجل والمرأة؟!. اضحك معي أيها القارئ الكريم، وابك أيضا على هذا الكلام، فهو مضحك مبك في آن واحد; كيف تستدل أيها الكاتب على عدم التمييز، بما أوصت به هذه اللجنة؟! لماذا تكلف نفسك مشقة البحث والاطلاع؟ وتذهب(23/92)
ص -96- ... بعيدا إلى ما أوصت به لجنة "سان فرانسيسكو"؟! أليس عندك كتاب الله، وسنة رسوله؟ فيهما الخير الكثير، لمن أراد الهداية; فيهما ما يغنيك عن تتبع ما أوصت به اللجان الغربية، عن مركز المرأة أو غيره.
فإن كنت تعتقد - وهذا ما نرجوه - أن توصيات الدين الإسلامي خير من توصيات هذه اللجان وأشباهها، فلماذا تترك توصياته وتعاليمه، وتبحث غيرها؟!. وإن كانت الأخرى - لا قدر الله - فاعلم أن الدين الإسلامي أرقى الأديان، وأعظمها، وأنه جاء بخير البشرية جمعاء؛ فلا خير إلا دلنا عليه، ولا شر إلا حذرنا منه {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [سورة آل عمران آية: 85]. فكر جيدا أيها الكاتب، واعلم أن الغربيين أعداء الإسلام، لم يدخروا وسعا في تضليلنا عن ديننا، بل عملوا بكل ما أوتوا من قوة; ومن جملة دسائسهم الخبيثة: دعوتهم إلى تحرير المرأة، وتثقيفها، ومساواتها بالرجل، لعلمهم أننا إذا فعلنا ذلك وقعنا في المحذور، وخالفنا أوامر ربنا.
إن الدين الإسلامي أنصف المرأة وحفظ لها أخلاقها، وشيمها العربية الأصيلة، ولم يهضمها حقوقها، كما يزعمه البعض، ممن تأثر بأبواق الدعايات الغربية؛ بل(23/93)
ص -97- ... أمر بتعليمها الدين، وما يجب عليها تعلمه، في حدود مرسومة لا تتعداها.
ونهى عن تعليمها التعليم الذي يؤدي إلى السفور، ونزع جلباب الحياء، ومحو الأخلاق والفضيلة، وأمرها بالحجاب والتستر، والمحافظة على الأخلاق; ونهاها عن التبرج، والاختلاط بالرجال، وإظهار الزينة. ولست بذلك أدعو إلى احتقار المرأة، أو عدم تعليمها؛ كلا، ولكن هذا التعليم السافل الذي يدعو إليه البعض والذي مؤداه ونهايته: التبرج، والانحلال، وترك الأخلاق، والفضيلة، هذا التعليم، هو: ما نحذر مجتمعنا منه، ومن دعاته، ونخوفهم من عواقبه الوخيمة التي ظهرت في بعض البلدان؛ والسعيد من وعظ بغيره. أما تعليم الدين وما يتبعه، كتربية الأولاد، وتدبير المنْزل، مع الحرص الشديد على الأخلاق والشيم، والعادات الحميدة، التي نادى بها الإسلام، من لبس الثياب الساترة والحجاب، وعدم المخالطة، فهذا لا ينكره أحد.
وأي مصيبة وأي انتكاس أعظم من وجود أناس في مجتمعنا، يستدلون على إباحة شيء أو تحريمه بالنظم الغربية، والقوانين الوضعية تاركين كتاب الله، وسنة رسوله؟!(23/94)
ص -98- ... ونحن نطالب صحفنا الحرة، الحريصة على نشر الأفكار النافعة، أن توصد الباب أمام كل رأي فج، واقتراح مرتجل; ونطلب من صحفنا التي نذرت نفسها لخدمة الأمة، أن تحرص على نشر ما يتمشى مع تقاليدنا الحرة السليمة، وتقبله فطر المسلمين النقية.
وأخيرا، نبتهل إلى الله العلي القدير، أن يرزقنا التمسك بكتابه، وسنة رسوله، وأن يعيذنا من شياطين الإنس والجن، وأن يجنبنا مواقع الزلل؛ إنه على كل شيء قدير، وصلى الله على محمد.
الفصل الخامس [الأمر من ديوان مجلس الوزراء بمنع النساء من العمل الذي يؤدي إلى اختلاطهن بالرجال]
ولأهمية شأن المرأة والاهتمام به 1، فقد تقرر الأمر من ديوان مجلس الوزراء، بمنع النساء من العمل، الذي يؤدي إلى اختلاطهن بالرجال، كما ذكر ذلك في التعميم الآتي:
بسم الله الرحمن الرحيم
صاحب السمو الملكي، ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء، ورئيس الحرس الوطني، بعد التحية:
بناء على ما لاحظنا من قيام بعض الجهات الحكومية بالرفع عن طلب السماح لها، بالتعاقد، أو
__________
1 وقد ألحقنا هذا التعميم هنا بعد وفاة جامع هذه الرسائل رحمه الله حتى لا يخفى.(23/95)
ص -99- ... تعيين عدد من السيدات السعوديات، للعمل بها، أو الترخيص لهن بممارسة بعض الأعمال، أو المهن، التي تؤدي إلى اختلاطهن بالرجال.
ولأنه سبق أن صدر الأمر رقم 1960/8 وتأريخ 22/2/1399? بمنع النساء من العمل في الوظائف، التي تؤدي إلى اختلاطهن بالرجال، كما صدر الأمر رقم 11575 وتأريخ 19/5/1401? بالتأكيد على ذلك، وعدم الترخيص للمرأة بممارسة المهن التي تؤدي إلى اختلاطهن بالرجال.
نخبركم بأن السماح للمرأة بالعمل الذي يؤدي إلى اختلاطها بالرجال، سواء في الإدارات الحكومية، أو غيرها من المؤسسات العامة أو الخاصة، أو الشركات، أو المهن، ونحوها، أمر غير ممكن، سواء كانت سعودية، أو غير سعودية؛ لأن ذلك محرم شرعا، ويتنافى مع عادات وتقاليد هذه البلاد؛ وإذا كان يوجد دائرة، تقوم بتشغيل المرأة، في غير الأعمال التي تناسب طبيعتها، أو في أعمال تؤدي إلى اختلاطها بالرجال، فهذا خطأ يجب تلافيه.
وعلى الجهات الرقابية ملاحظة ذلك، والرفع عنه; وقد زودت الجهات المعنية بنسخة من أمرنا هذا، للاعتماد والإحاطة، فأكملوا ما يلزم بموجبه. توقيع رئيس مجلس الوزراء(23/96)
ص -100- ... الفصل السادس [مطالعة الصحف التي تسربت إلى بلاد المسلمين]
مطالعة الصحف التي تسربت إلى بلاد المسلمين، فهي من الوسائل العظمى لنقض عرى الإسلام، من الدول المجاورة المنحلة، أفراخ الإفرنج، عباد الأولياء والصالحين، العكّف عند المشاهد، الباذلين عندها نفائس الأموال، بقصد التبرك والنذور لها، التاركين لإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وغيرهما من شعائر الإسلام، المشتهرة بينهم شعائر الكفر، واستحلال المحرمات، والخلاعة، وينتسبون إلى الإسلام، جرأة على الله {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [سورة النساء آية: 142].
وقد تسربوا إلى بلد الإسلام، فأخذ كثير من الشباب أخلاقهم المزيفة، وبثوا بعض علومهم المحرمة؛ وسرت إلى المسلمين صحفهم الخليعة، وسار على سبيلهم كثير من الشباب الزائغ، فنشروا في بلد الإسلام على الصحف تلك: الإلحاد، والزندقة، والخلاعة.
وتعلق بها من لا بصيرة له، ومستحسن ما يتلوه من تلك الصحف، ومن الصحف الخارجية؛ وفسدت أخلاق الكثير، واعتنقوا الباطل، وأعرضوا عن الحق، وتركوا كثيرا مما أمر الله به، وارتكبوا كثيرا من المنكرات، مما سلف وغيره.(23/97)
ص -101- ... [إكباب الجهال والشباب على مطالعة كتب الزيغ والإلحاد والزندقة]
قال الشيخ: محمد بن إبراهيم آل الشيخ، رحمه الله: ومن المنكرات: إكباب الجهال والشباب، على مطالعة كتب الزيغ، والإلحاد والزندقة، والصحف المشتملة على ذلك، وعلى الصور الخليعة مما أحرى من أدمن النظر فيها من الشباب ونحوهم أن يصبح أسيرا للشيطان، إن لم يقتله بالكلية، ويسلبه جميع الإيمان.
[التشبه بالكفار]
ومن المنكرات: التشبه بالكفار، ولا فرق بين الأمور الدينية، والعادية، كالزي ونحوه، وروى أبو داود بسند جيد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من تشبه بقوم فهو منهم" 1.
وقال الشيخ: عبد الله بن محمد بن حميد، سنة 1384?:
ويل للإسلام من أهله
إن الإسلام بدأ يضعف في بلادنا، وتخف سطوته في القلوب، وتضعف عظمته في النفوس بما أصيب به من الويلات والمصائب، التي جرها بعض المنتسبين إلى الإسلام نحو الإسلام.
فقد علم الناس أن تغيرا عقليا، وانحرافا غريبا طرأ على أفكارهم، وتدفق عليهم سيل المدنية الجارف؛ فاستقبلوا ذلك البلاء العظيم بارتياح، وقبول وصفاء بال، وبادروا إلى إتقانه، والدعوة إليه، وذهلوا عن كل شيء سواه،
__________
1 أبو داود: اللباس (4031).(23/98)
ص -102- ... فكأنهم في سكرة من أمرهم. وهذا مما جعل كل واحد من علماء المسلمين، في مشارق الأرض ومغاربها، يشعر بالخطر المحدق به، وبدينه، وبأمته، لأن الباطل في نمو وازدياد، والحق في ضعف واختفاء. والكثير من العلماء أو الأكثر يتأففون من الحالة الراهنة، ويظهرون التضجر والسخط، ويبدون التأثر والانفعال؛ ولكن هذا لا يكفي لتلافي الأخطار المحدقة بالإسلام - وهي في نمو وازدياد - بل لا بد لدفع ذلك، من اجتماعات إسلامية صادقة، لتدارك ما فات، وإصلاح ما فسد، وإقامة ما اعوج.
إن الأمة الإسلامية لا تكون ذات كيان، عزيزة الجانب، إلا إذا اجتمعت، وتناصرت على جلب ما ينفعها، ودفع ما يضرها، في أمر دينها ودنياها، كما قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [سورة المائدة آية: 2].
وإليك بعض ما قاله أعداء الإسلام في وصفهم للمسلمين، حين عدلوا عن دينهم الإسلامي إلى ما سواه: لما رغب المسلمون عن تعاليم دينهم، وجهلوا حكمه وأحكامه، فشا فيهم فساد الأخلاق; فكثر الكذب والنفاق والخيانة، والتحاقد والتباغض، وتفرقت كلمتهم.
وجهلوا أحوالهم الحاضرة والمستقبلة، وغفلوا عما(23/99)
ص -103- ... يضرهم وما ينفعهم، وقنعوا بحياة يأكلون فيها ويشربون وينامون؛ ثم لا ينافسون غيرهم في فضيلة؛ ولكن متى أمكن لأحدهم أن يضر أخاه لا يقصر في إلحاق الضرر به؛ فجعلوا بأسهم بينهم، والأمم من ورائهم تبتلعهم لقمة بعد أخرى. رضوا بكل عارض، واستعدوا لقبول كل حادث، وركنوا إلى السكون في كور بيوتهم، يسرحون في مرعاهم، ثم يعودون إلى مأواهم. هذا وصفهم لحالة المسلمين حين جهلوا تعاليم هذا الدين القويم، ورضوا منه بمجرد الانتساب إليه؛ في حين أن الإسلام، هو أجلّ دين على وجه الأرض، لم ينزل على نبي من الأنبياء مثله، ولا كان لأمة من الأمم نظيره. فإنه دين الفطرة، دين الرقي، دين العدالة، دين المدنية الفاضلة، دين العمل، دين الاجتماع، دين التوادد والتناصح والتحابب، دين رفع ألوية العلم، والصنائع، والحرف، غير قاصر على أحكام العبادات والمعاملات، بل شامل لجميع منافع العباد ومصالحهم، على ممر السنين وتعاقب الدهور، إلى أن تقوم الساعة; والله الموفق الهادي إلى سواء السبيل، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(23/100)
ص -104- ... وقال الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد، رحمه الله: 1
المولد النبوي الشريف
اعتاد كثير من الناس، في مثل هذا الشهر، شهر ربيع الأول من كل سنة، إقامة الحفلات الرائعة، لذكرى مولد الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك ليلة الثانية عشر منه، قائلين: إنه عبارة عن إظهار الشكر لله عز وجل على وجود خاتم النبيين وأفضل المرسلين، بإظهار السرور بمثل اليوم الذي ولد فيه صلى الله عليه وسلم، وبما يكون فيه من الصدقات والأذكار.
فنقول: لا شك أنه سيد الخلق وأعظمهم، وأفضل من طلعت عليه الشمس; ولكن لماذا لم يقم بهذا الشكر أحد من الصحابة، والتابعين؟ ولا الأئمة المجتهدين، ولا أهل القرون الثلاثة الذين شهد لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالخير؟ مع أنهم أعظم محبة له منا، وهم على الخير أحرص، وعلى اتباعه أشد.
بل كمال محبته وتعظيمه، في متابعته وطاعته، واتباع أمره، واجتناب نهيه، وإحياء سنته ظاهرا وباطنا، ونشر ما بعث به، والجهاد على ذلك، بالقلب واليد واللسان؛ فإن هذه هي طريقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار،
__________
1 في رسالة نشرت في مجلة الحج في ربيع الأول سنة 1376 ه.(23/101)
ص -105- ... والذين اتبعوهم بإحسان، لا في إقامة تلك الحفلات المبتدعة، التي هي من سنن النصارى. فإنه إذا جاء الشتاء في أثناء كانون الأول، لأربع وعشرين خلت منه، بزعمهم أنه ميلاد عيسى، عليه الصلاة والسلام، أضاؤوا في ذلك الكهرباء، وصنعوا الطعام، وصار يوم سرور وفرح عندهم. وليس في الإسلام أصل لهذا؛ بل الإسلام ينهى عن مشابهتهم، ويأمر بمخالفتهم.
فقد قيل: إن أول من احتفل بالمولد النبوي، هو: كوكبوري أبو سعيد بن أبي الحسن علي بن يكتكين التركماني، صاحب "إرْبَلْ"، أحدث ذلك في أواخر القرن السادس، أو أوائل القرن السابع؛ فإنه يقيم ذلك الاحتفال ليلة التاسعة، على ما اختاره المحدثون من ولادته صلى الله عليه وسلم تلك الليلة، وتارة ليلة الثانية عشر، على ما قاله الجمهور.
فهل كان التركماني ومن تبعه أعلم وأهدى سبيلا من خيار هذه الأمة وفضلائها من الصحابة ومن بعدهم؟ في حين أنه لو قيل: إن يوم البعث أولى بهذا الشكر من يوم الولادة، لكان أحرى، لأن النعمة، والرحمة، والخير والبركة، إنما حصلت برسالته، بنص قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [سورة الأنبياء آية: 107].
ومعلوم أن كل بدعة يتعبد بها أصحابها، أو تجعل من شعائر الدين، فهي محرمة، ممنوعة، لأن الله عز وجل(23/102)
ص -106- ... أكمل الدين، وأجمعت الأمة على أن الصدر الأول أكمل الناس إيمانا وإسلاما.
فالمقيمون لتلك الحفلات، وإن قصدوا بها تعظيمه صلى الله عليه وسلم فهم مخالفون لهديه، مخطئون في ذلك؛ إذ ليس من تعظيمه أن يبتدع في دينه بزيادة أو نقص أو تغيير، أو تبديل؛ وحسن النية، وصحة القصد لا يبيحان الابتداع في الدين. فإن جلّ ما أحدثه من كان قبلنا من التغيير في دينهم، عن حسن نية وقصد؛ وما زالوا يزيدون وينقصون بقصد التعظيم وحسن النية، حتى صارت أديانهم خلاف ما جاءتهم به رسلهم.
وقال الشيخ: عبد الله بن محمد بن حميد رحمه الله:
ليس هذا ما يقوله ابن تيمية رحمه الله
قرأت في صحيفة الندوة بتأريخ 16/4/1382?، كلمة بعنوان: "هذا ما يقوله ابن تيمية" حول الاحتفال بذكرى المولد النبوي، باسم الشيخ: محمد المصطفى الشنقيطي، ومقاله يتضمن أنه اطلع على جواب فضيلة الشيخ: يحيى عثمان المكي، وعلى جوابنا، حول إحداث بدعة ذكرى المولد النبوي.(23/103)
ص -107- ... أما نحن، فهذا ما نعتقده، وندين الله به، مستدلين بما ستراه إن شاء الله، وكما هو معنى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، وأما الشيخ يحيى، فكلامه لا شك أنه عين الصواب، وهو عين كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، لمن يعقل ويفهم كلام المحققين.
وأما دعواكم بأنه بتر كلام الشيخ فهذا غير صحيح، بل ساق منه ما هو المقصود، وما يدل على الموضوع؛ وكلام الشيخ صريح بكون ذكرى المولد بدعة، لا يجوز بما نقله الشيخ يحيى، وبما نقلتم أنتم أيضا.
فإنكم نقلتم عنه، إلى أن قلتم: قال رحمه الله: فتعظيم المولد، واتخاذه موسما، قد يفعله بعض الناس، ويكون له فيه أجر عظيم، لحسن قصده، وتعظيمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما قدمته لك: أنه يحسن من بعض الناس، ما يستقبح من المؤمن المسدد.
فهذا كلام الشيخ رحمه الله، الذي تزعم أن الشيخ يحيى بتره; والواقع أن هذا هو معنى كلام الشيخ السابق، وهو يؤيد ما نقله الشيخ يحيى.
وبيان ذلك: أن الشيخ ابن تيمية قال فيما نقله عنه يحيى: والله يثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد، لا على البدع من اتخاذ مولد النبي صلى الله عليه وسلم عيدا.
فتأمل كلام الشيخ تجده قد فرق بين المحبة(23/104)
ص -108- ... والاجتهاد، وبين إحداث البدعة، فرجا لهم المثوبة على المحبة والاجتهاد، وأثبت عليهم حكم الابتداع، بفعل ما لم يشرع.
فالمحبة للرسول مشروعة، بل واجبة، بل يجب تقديم محبته صلى الله عليه وسلم على النفس؛ وهذا أيضا هو: معنى ما نقلتم; فإن الشيخ رحمه الله يقول: قد يفعله - أي المولد - بعض الناس، ويكون له فيه أجر عظيم، لحسن قصده، وتعظيمه للرسول صلى الله عليه وسلم كما قدمته لك: أنه يحسن من بعض الناس، ما يستقبح من المؤمن المسدد. فكلام الشيخ رحمه الله، صريح بأن هذا الفعل: يستقبح من المؤمن المسدد، فهل يستقبح ما هو مشروع؟!، وهل نختار فعل المؤمن المسدد، أو نختار فعل بعض الناس الذي حسن قصده، ولكنه أخطأ الطريق بفعله؟!.
وأما ما نقله شيخ الإسلام عن الإمام أحمد، أنه قال في حق الأمير الذي أنفق على تحلية المصحف ألف دينار: هذا خير ما أنفق فيه الذهب، أو كما قال، مع أن مذهبه: إن زخرفة المصاحف مكروهة، ا?.
فنقول: لا شك أن تحلية المصحف بألف دينار، خير من إنفاقها على البغايا، والخمور، والمعازف، ونحو ذلك، وإنه لمن الإنصاف، لو أكمل الشيخ المصطفى(23/105)
ص -109- ... الشنقيطي، كلام شيخ الإسلام على هذه العبارة ولم يبترها. وهو قوله: وقد تأول بعض الأصحاب انه أنفقها في تجويد الورق، والخط، وليس مقصود أحمد هذا، وإنما قصده: أن هذا العمل فيه مصلحة، وفيه أيضا مفسدة كره لأجلها.
فهؤلاء إن لم يفعلوا هذا، وإلا اعتاضوا بها الفساد، الذي لا صلاح فيه، مثل أن ينفقها في كتاب من كتب الفجور، ككتب الأسمار والأشعار، أو حكمة فارس والروم. هذا كلام ابن تيمية يبين أن تحلية المصحف بألف دينار، خير من إنفاقها في كتب الفجور، ونحوها.
ونحن نقول: إن ذكرى المولد النبوي مع اعتقادنا أنه بدعة، خير من تعطيل حكم الشريعة، وإباحة الزنى، والخمور، فمن فعل هذه الأشياء، فبدعة ذكرى المولد أسهل منها - وهي محرمة - إلا أنها خير من سواها، مما هو أشد تحريما منها؛ حنانيك إن بعض الشر أهون من بعض.
وأما قولكم: إن الاستدلال بكلام الشيخ ابن تيمية مقلوب، وأنه صريح في جواز عمل المولد، فهذا افتراء على شيخ الإسلام، وإلزام له بما لم يقل، ولا يتحمله كلامه البتة، ولم يفهمه أحد من المسلمين عنه.(23/106)
ص -110- ... ولكنه على حد فهمكم الخاطئ، الذي لم يستطع التفرقة بين حسن القصد وبين سوء الفعل، كما سبق توضيح كلام الشيخ رحمه الله.
ألم تر أنه صلى الله عليه وسلم لما صنع خالد رضي الله عنه ما صنع في بني جذيمة، لم يرض فعله صلى الله عليه وسلم وقال: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد" 1 مرتين.
فتبرأ من صنيع خالد، ولم يتبرأ من خالد نفسه، لحسن قصده ونيته; فاتضح: أن المقلوب في الحقيقة هو: استدلالكم، وإذا خفي كلام الشيخ عليكم فهو لا يخفى على القراء.
وأما نقلكم عن شيخ الإسلام: أن مرتكب البدعة لا ينهى عنها، إذاً كان نهيه يحمله إلى ما هو شر منها، فهذا حق، ولكنك أردت قياسه على مسألتنا، وهو قياس مع الفارق، وليس له في بحثنا صلة.
هل إذا منعنا بدعة المولد سيحدث ما هو أعظم منكرا منها؟!.
ما هو الذي سيحدث بمنعها؟! هل سيحدث سفك دماء؟! أو شركيات؟! أو بدع أشد منها؟! لا - ولله الحمد -.
وهل إحداث المولد في ليلة أو ليلتين من السنة يمنع الناس من استعمال أغاني أم كلثوم - على حسب
__________
1 البخاري: المغازي (4339) , والنسائي: آداب القضاة (5405) , وأحمد (2/150).(23/107)
ص -111- ... زعمكم - ماذا تفعل تلك الليلة في جانب ليالي السنة كلها؟!
ولا شك أن سماع سيرة الرسولصلى الله عليه وسلم خير من استماع غيرها من الأشياء المباحة، فضلا عن الأشياء المنكرة، ولكن تخصيصها بليلة واحدة معينة من ليالي السنة، واتخاذها عيدا يتكرر، كالأعياد التي شرعها لنا الإسلام، لا شك أنه بدعة؛ بل ينبغي أن تكون سيرته صلى الله عليه وسلم في أغلب أيام السنة تقرأ، من غير تخصيص لوقت معين. ومما يدل على أنه بدعة، ما يأتي: أولا: أنه لم يرد في كتاب ولا سنة، والعبادات مبناها على الأمر.
ثانيا: قد ورد النهي عنها بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" 1.
ثالثا: لم يفعله أبو بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا علي، ولا غيرهم من الصحابة والتابعين، ولا من بعدهم من أئمة المسلمين. رابعا: هذا فيه المشابهة للنصارى بأعيادهم، وقد نهينا عن التشبه بهم في عدة أحاديث، كما لا يخفى على من عرف شيئا من الشريعة الإسلامية.
ومن المستغرب أنكم قلتم في مقالكم السابق،
__________
1 مسلم: الأقضية (1718) , وأحمد (6/180 ,6/256).(23/108)
ص -112- ... تأريخ 7/4/1382? في صحيفة الندوة: إن بدعة المولد تلقتة الأمة الإسلامية بالقبول، فكأنكم جعلتم فعل الناس دليلا على الجواز، وهل هذا حجة؟ والسنة تردّه؟! وهل ما يفعله العوام أو المنحرفون يحتج به على الشريعة؟! هل أجمع علماء الإسلام المحققون على جوازه؟ مع أن الأمة التي تشير إليها، قد أجمعت على وضع القانون بدلا من الشريعة، فهل يكون دليلا على جواز إباحة الخمور، والزنى عند التراضي، والبناء على القبور، والصلاة عندها؟! هل يكون فعلهم دليلا على جواز هذه الأشياء؟!
وأما قولكم: إننا اذا لم نفعل ذلك - أي إحداث المولد - نكون موضعا للوقوع في أعراضنا، و اتهامنا بعدم محبته صلى الله عليه وسلم.
فنقول: كيف نتهم بذلك، ونحن نعتقد أن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم ركن من أركان الصلاة، وأن من صلى ولم يصل على النبي فصلاته غير صحيحة، فريضة كانت أو نافلة؛ وهذا مذهبنا معشر الحنابلة دون غيرنا.
وأيضا: وقوع مثل هذا لا يكون مسوغا لنا على ترك الحق وعدم التمسك به، فإن صاحب الحق قد يلقب بألقاب شنيعة تنفر عنه؛ فالمشركون قالوا في حقه صلى الله عليه وسلم إنه قطع أرحامنا، وسفه أحلامنا، وإنه كاهن،(23/109)
ص -113- ... ومجنون، وساحر، إلى غير ذلك من الألقاب، ولم يزده ذلك إلا تمسكا بالحق، وكذلك أتباعه من الأئمة وغيرهم من المحققين، كشيخ الإسلام ابن تيمية، وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب.
وأيضا: هناك ألقاب في هذا الزمن لكل متمسك بدينه، فتراه يرمى بأنه رجعي، وأنه متزمت، وضيق العطن، إلى أمثال هذه الكلمات، فهل ندع أوامر الشريعة للسلامة من هذه الألقاب؟!
ثم إنكم أيضا قلتم عن شيخ الإسلام، إنه ابتدع مؤلفات كثيرة في حماية جانب الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا في الحقيقة اتهام للشيخ خاطئ، وجهل وقصور متناه منكم. فشيخ الإسلام لم يبتدع، وإنما ينقل الآيات، والأحاديث، وكلام العلماء ويوضحها، ويبين المراد منها، وينفي عنها تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين. وهو من أحرص الناس على الاتباع وترك الابتداع، وكذا تلميذه العلامة ابن القيم على طريقته رحمه الله.
والواقع أن بحث هذا الموضوع يستدعي كلاما أبسط من هذا، ولكن هذه إشارة; وسنكتب - إن شاء الله - كلاما أوسع، وأجمع للأدلة من هذا; وصلى الله على خير خلقه محمد وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان.(23/110)
ص -114- ... [الجن هل لوجودهم حقيقة أم لا وما حكم من أنكر وجودهم]
وسئل الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد رحمه الله: 1 ما قولكم دام فضلكم وكثر النفع بعلومكم عن الجن، هل لوجودهم حقيقة؟ أم لا؟ وما حكم من أنكر وجودهم؟ وهل لهم نفوذ في أجسام البشر أم لا؟ لأن بعضهم أنكروا ذلك، قائلين: إنما يحدث في بعض الناس هو من أخلاط في العقل، وهذيان كلام لا معنى له. إنما هو علة تمنع الأعضاء النفسية عن الأفعال والحركة والانتصاب في عملها منعا غير تام، وسببه أخلاط غليظة لزجة، تسد منافذ بطون الدماغ سدا غير تام، فيمتنع نفوذ الحس والحركة فيه، وربما كان لأسباب أخرى من شأنها تشنج بعض الأعضاء، أو خلل في الأعصاب.
وإن الصرع داء عصبي يعتري المصابين به، فيفقدهم حسهم وشعورهم، ويصرعهم إلى الأرض، ويجعلهم يتخبطون؛ في بدء حصوله يكون الجسم متوترا، والوجه شاحبا، ثم تحدث إرجافات شديدة، وانطباقات في الفكين، وخروج ماء الفم ممزوج بدم، وتنضم اليدان إحداهما إلى الأخرى؛ وبعد مضي بضع دقائق، يعود المريض إلى حالته الأولى، فيميل للنوم، فينام، ثم يستيقظ كأنه لم يطرأ عليه شيء.
__________
1 نشر هذا المقال في مجلة الحج بتاريخ 16/12/1377ه.(23/111)
ص -115- ... فأجاب رحمه الله: دلّت الكتب السماوية على وجود الجن حقيقة، وأجمع المسلمون عليه، بل وعقلاء النصارى، والمجوس، والصابئون؛ وهذا أمر معلوم حتى عند جاهلية العرب، ولم ينكر وجودهم إلا جهلة الأطباء. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: لم يخالف أحد من طوائف المسلمين في وجود الجن، وكذا جمهور الكفار، لأن وجودهم تواترت به أخبار الأنبياء، تواترا معلوما بالاضطرار، يعرفه الخاصة والعامة; قال: ولم ينكر الجن إلا شرذمة قليلة من جهلة الفلاسفة ونحوهم.
وقال: ليس الجن كالإنس في الحد، والحقيقة; فلا يكون ما أمروا به وما نهوا عنه مساويا لما على الإنس في الحد، والحقيقة؛ لكنهم شاركوهم في جنس التكليف بالأمر والنهي، والتحليل والتحريم، بلا نزاع أعلمه بين العلماء. وقال ابن حزم في كتاب "الفيصل": ووجود الجن جاءت به النصوص، وأنهم: أمة عاقلة مميزة، متعبدة، موعودة متوعدة متناسلة، يموتون، وأجمع المسلمون على ذلك، بل النصارى والمجوس، والصابئون، وأكثر اليهود؛ وهم يروننا ولا نراهم.
وقال الإمام الماوردي: الجن من العالم الناطق المميز، يتناسلون، ويموتون، وأشخاصهم محجوبة عن(23/112)
ص -116- ... الأبصار، وإن تميزوا بأفعال وآثار، إلا أن الله يخص برؤيتهم من يشاء.
وإنما عرفهم الإنس من الكتب الإلهية، وما تخيلوه من آثارهم الخفية... إلى أن قال: فإن أنكر قوم خلق الجن، ولم يؤمنوا بالكتب الإلهية، قهرتهم براهين العقول، وحجج القياس. وقال أبو البقاء في كلياته: وجمهور أرباب الملل، المصدقين بالأنبياء، قد اعترفوا بوجود الجن، واعترف جمع عظيم من قدماء الفلاسفة.
وقال ابن القيم رحمه الله في "زاد المعاد" في علاج الصرع ما مثاله: الصرع صرعان، صرع من الأرواح الخبيثة الأرضية; وصرع من الأخلاط الرديئة. والثاني هو الذي يتكلم فيه الأطباء في سببه وعلاجه. وأما صرع الأرواح: فأئمتهم وعقلاؤهم يعترفون بأن علاجه بمقابلة الأرواح الشريفة الخيرية العلوية لتلك الأرواح الشريرة الخبيثة، فتدفع آثارها، وتعارض أفعالها، وتبطلها. وقد نص على ذلك بقراط في كتبه، فذكر بعض علاج الصرع، وقال: هذا إنما ينفع من الصرع الذي سببه الاختلاط، والمادة; وأما الصرع الذي يكون من الأرواح، فلا ينفع فيه هذا العلاج.(23/113)
ص -117- ... وأما جهلة الأطباء، فينكرون صرع الأرواح، ولا يقرون بأنها تؤثر في بدن المصروع، وليس معهم إلا الجهل، وإلا فليس في الصناعة الطبية ما يدفع ذلك، والحسد والوجود شاهدان به، وإحالتهم ذلك على علية بعض الأخلاط، هو صدق في بعض أقسامه لا في كلها. وقدماء الأطباء يسمون هذا الصرع: "المرض الإلهي" وقالوا من الأروح.
وقال في الإقناع وشرحه: والمشهور أن للجن قدرة على النفوذ في بواطن البشر، لقوله عليه الصلاة والسلام: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم" 1.
وكان الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله إذا أوتي بالمصروع وعظ من صرعه، وأمره ونهاه؛ فإن انتهى وفارق المصروع، أخذ عليه العهد أن لا يعود، وإن لم يأتمر، ولم ينته، ولم يفارقه، ضربه حتى يفارقه. والضرب في الظاهر يقع على المصروع، وإنما يقع في الحقيقة على من صرعه؛ ولهذا يتألم من صرعه به ويصيح، ويخبر المصروع إذا أفاق بأنه لم يشعر بشيء من ذلك. ولو تتبعنا أقوال العلماء في هذا لكثر جدا.
أما حكم منكر الجن فإنهم مكذبون للقرآن العزيز والسنة النبوية، ومخالفون لما أجمع عليه المسلمون، كما قال تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ
__________
1 البخاري: الاعتكاف (2039) , ومسلم: السلام (2175) , وأبو داود: الصوم (2470) والأدب (4994) , وابن ماجه: الصيام (1779) , وأحمد (6/337).(23/114)
ص -118- ... الْقُرْآنَ} [سورة الأحقاف آية: 29]، {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} [سورة الجن آية: 1]، وكما في خبر جن نصيبين الذين جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستمعوا قراءته، وآمنوا به، وصدقوه. فظهر مما تقدم إثبات وجود الجن حقيقة، وكفر من أنكر وجودهم، وأن لهم قدرة على النفوذ من بواطن البشر؛ وأن الصرع صرعان: صرع من الأرواح الشريرة الأرضية، وصرع من الأخلاط الرديئة، لما نص عليه كثير من محققي العلماء، رحمهم الله، والله الموفق، والهادي إلى سواء السبيل؛ وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
وقال الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد: تعقيب وتنبيه 1 حول مقال [الحج بين التعسير والتيسير]
نشرت جريدة البلاد بعدديها الصادرين في 6 محرم، وفي 12 منه، سنة 1385?، كلمتين للأستاذين الفاضلين: صالح محمد جمال، وأخيه أحمد محمد جمال؛ ومع شكري لهما وتقديري لمواقفهما الإسلامية، بارك الله فيهما، وفي علومهما، غير أنه لا بد من إيضاح ما ورد من الخطأ في كلمتيهما.
قال الأخ الفاضل صالح في كلمته بعنوان: "الحج بين
__________
1 كتب هذا التعقيب والتنبيه, في آخر محرم سنة 1385 ه.(23/115)
ص -119- ... التعسير والتيسير": ذكرني هذا الاقتراح، بما يعمد إليه خطباء المساجد عندنا، في كل عام في موسم الحج، من إيراد صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم وحث الحجاج أن يحجوا كما حج تماما... إلخ.
أقول: ناهيك بهذا شرفا وفضلا، من أن المسلمين يحجون كما حج الرسول صلى الله عليه وسلم وأن فيهم من يأمر بذلك، ويحث عليه، ويرغب فيه; فإن الله أمرنا باتباعه، والتمسك بهديه. فقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [سورة الأحزاب آية: 21]، وقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [سورة الحشر آية: 7]، فهل يجوز لنا أن نغير في شرع الله ودينه؟ وفي صفة الحج وهيئته؟ بحجة الفروق الزمنية، واختلاف الوسائل العصرية؟! فيختص الشرع في أناس كانوا فبانوا؟!. لا أظن أن أحدا من المسلمين يقول بهذا، أو يعيب على من حث بالاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في الحج، أو الصلاة، أو الزكاة، والصوم، وغيرها من شرائع الإسلام، فقد قال عبد الله بن مسعود: "اتبعوا، ولا تبتدعوا، فقد كفيتم"، وقال: "إنكم اليوم على الفطرة، وإنكم ستحدثون، ويحدث لكم، فإذا رأيتم ذلك، فعليكم بالهدي الأول"
مع أن الحث هو الحض، والترغيب وليس الإلزام(23/116)
ص -120- ... والإيجاب، فهل يريد الأخ أن لا يذكر شيء أبدا مما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة الحج؟!. ثم قال الأخ: ويحذروهم من الذبح بمكة، لأنه غير جائز، ووجوب الذبح بمنى! لا أظن هذا صحيحا، فإن الذبح بمنى وبمكة جائز، لما روى أبو داود، وابن ماجة وغيرهما، عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "منى منحر وفجاج مكة كلها منحر" 1 ثم قال الأستاذ: ولو أراد الحجيج كلهم أن يأخذوا بدعوة هؤلاء الخطباء لدقّت الأعناق... إلخ.
أقول: لو تمسك الناس بحج رسول الله صلى الله عليه وسلم لوجدوا فيه الخير والبركة والهدوء، والراحة التامة؛ فهذا الحجيج ينصرفون من عرفات إلى مزدلفة دفعة واحدة، وما دقّت الأعناق، ولا كسّرت الرواحل، ولا تعطلت الحركة، وما حصل إلا الخير. ثم هم ينفرون من منى دفعة واحدة إلى مكة، ولا يبقى إلا القليل على كثرتهم. وهؤلاء الخطباء لم يأتوا بشيء من عندياتهم، أو استحساناتهم، حتى نترك أقوالهم، أو يمنعون من صيغ الخطب، التي يلقونها، وهي إيراد صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم كما تفضلتم بذلك.
وبعد أن فرض الحج، أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن ينادي في الناس، بأنه سيحج هذا العام، ليقتدوا بأفعاله، وليعلمهم
__________
1 أبو داود: الصوم (2324).(23/117)
ص -121- ... طريقة أداء المناسك، فهل الرسول صلى الله عليه وسلم أراد من هذا العمل، ومن قوله صلى الله عليه وسلم "خذوا عني مناسككم" 1 تكليف أمته والشق عليهم؟! لا والله. {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [سورة التوبة آية: 128]. وإذا لم نتبع هدي الرسول ونقتدي به، فمن نتبع؟ وكيف نعلم الجاهل، إذا كان حج الرسول صلى الله عليه وسلم فيه تكليف؟!
ثم قال الأخ صالح: ولولا رحمة الله التي تمثلت في اختلاف المذاهب الأربعة لكان الحج عملية جد شاقة. أقول: أصحاب المذاهب الأربعة لم يقصدوا مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم لغرض التوسعة على الناس، وليست أقوالهم شرعا يتبع، إذا خالفت النص، بل كل منهم يتحرى ما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم أو فعله، أو أقره، لا أنهم يأتون بأحكام جديدة لم تستند على دليل.
وهذا الاختلاف إنما نشأ عن حسن نية وتطلب للحق، وإلا فكلهم مجمعون على أن أي قول يقولونه مخالف لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يضرب به عرض الحائط، قال هذا المعنى أبو حنيفة، ومالك، والشافعي وأحمد.
والخلاف: ليس رحمة، بل هو مذموم؛ ذمه القرآن والسنة: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [سورة الأنعام آية: 159]، {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ
__________
1 مسلم: الحج (1297) , وأحمد (3/318).(23/118)
ص -122- ... رَحِمَ رَبُّكَ} [سورة هود آية: 119-118]، {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [سورة آل عمران آية: 103]، {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [سورة آل عمران آية: 105]، {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [سورة النساء آية: 115]. ولو كان الخلاف رحمة لما كان الإجماع - الذي هو الأصل الثالث - حجة.
وفي حديث العرباض بن سارية: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة" 1، وجاء في صحيح مسلم، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: هَجَّرْتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما، فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى في وجهه الغضب، قال: "إنما أهلك من كان قبلكم اختلافهم في الكتاب" 2 وفي حديث آخر: "أبهذا أمرتكم؟ أم بهذا أرسلت إليكم؟! وإنما أهلك من كان قبلكم كثرة التنازع في أمر دينهم، واختلافهم على أنبيائهم"3.
وبالجملة: فهذه الآيات، والأحاديث، والآثار، كلها تذم الاختلاف، وتعيبه، وتمنع منه، وما يروى: "اختلاف
__________
1 أبو داود: السنة (4607) , والدارمي: المقدمة (95).
2 البخاري: الخصومات (2410) , وأحمد (1/419).
3 الترمذي: القدر (2133).(23/119)
ص -123- ... أمتي رحمة" لا أصل له، كما قاله السيوطي، وابن الديبع، والسخاوي في المقاصد الحسنة. بل الرحمة والخير في الاجتماع; والشر والبلاء في الفرقة والاختلاف، ومعناه ليس بصحيح، لأن المعنى: يكون الحث على الاختلاف، والتفرق، وعدم الاتفاق، طلبا لتوسعة الرحمة. والذي تعطيه عبارة الأخ في قوله: ولولا رحمة الله التي تمثلت في اختلاف المذاهب الأربعة،... إلخ، ما يدل على أن الرحمة لم تتمثل وتحصل إلا بعد وجود هذه المذاهب الأربعة، وكثرة الخلاف؛ وأعتقد أن الأخ لا يقصد هذا، وإنما هي سبقة قلم.
قال الأخ: ولو أراد الحجيج كلهم أن يخرجوا دفعة واحدة من مكة فيخرجوا يوم التروية، متجهين إلى منى، ليصلوا بها الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، وفجر اليوم التاسع، ثم يتحرك كل الحجيج دفعة واحدة أيضا إلى عرفات، لو وقع هذا فعلا، لما تحركت سيارة واحدة من مكة... إلى أن قال: ولو تحركوا من منى كلهم في صبيحة اليوم التاسع، لانتهى وقت الوقوف قبل أن يصل كل الحجيج إلى عرفات.
أقول: لو خرجوا دفعة واحدة لتيسر أمرهم، ما داموا متبعين لهدي الرسول صلى الله عليه وسلم ولوجدوا فيه الراحة،(23/120)
ص -124- ... والطمأنينة، وهذا يحصل فعلا بدفعهم من عرفات إلى مزدلفة، وكالنفر الأول من منى إلى مكة، ولا يحصل إلا الخير. ومع هذا، فإن الخطباء لم يقرروا وجوب الخروج في اليوم الثامن؛ بل لو خرج الحجيج قبله أو بعده إلى عرفات، جاز. والمبيت بمنى الليلة التاسعة، سنّة بغير خلاف. ثم لو لم يأت عرفة إلا ليلة النحر قبل طلوع الفجر، صح حجه.
ثم قال الأخ صالح: ولم يكن الحج عند إصدار هذه التشريعات، بهذه الكثرة، وبهذه الوسائل؛ فكيف لو شاهد واحد منهم هذا الذي يلقاه الحجاج الآن؟ مما يجعل إلزام الحاج، بأن يحجوا كما حج الرسول صلى الله عليه وسلم أمرا يكاد يكون مستحيلا. فهل الكثرة وتلك الوسائل المريحة، تكون سببا لتغيير الأحكام الشرعية؟! بل إن هذه الأزمنة، أسهل وأيسر في حق الحجاج من الزمن الأول، لعدم توفر المياه في ذلك الوقت، ولصعوبة المسالك، ولحاجتهم الشديدة إلى نقل كل ما يحتاجونه من ماء وغيره، لبعد المسافات على الرواحل، ولعدم وجود ما يحتاجونه من الأطعمة في عرفات ومزدلفة ومنى؛ والذين حجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم بلغ عددهم مائة وأربعة وعشرين ألفا.(23/121)
ص -125- ... وقد ذكر بعض المؤرخين أن عدد الحجاج في أواخر خلافة بني العباس، قد بلغ ستمائة ألف; فقارن نسبتهم مع نسبة عدد الحجاج في هذا الزمن، مع اعتبار وسائل النقل؛ وفي زمننا كل شيء متيسر - ولله الحمد- من المياه، والمطاعم، ووسائل النقل، وغيرها.
وأحب أن أذكر الأخ أن الحج ليس مجرد نزهة فقط، لا يتحمل الإنسان منه أدنى مشقة أو تعب؛ لا، بل أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الحج من الجهاد؛ والجهاد معروف ما يتحمله الإنسان في سبيله، وكما يدل عليه قوله تعالى: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} [سورة النحل آية: 7].
وقول الأخ صالح: فكيف لو شاهد واحد منهم هذا الذي يلقاه الحجاج الآن؟ مما يجعل إلزام الحاج أن يحج كما حج النبي صلى الله عليه وسلم أمرا، يكاد يكون مستحيلا.
هذه عبارة لا ينبغي أن تصدر من عاقل، فضلا عمن عنده أدنى علم. فهل يسوغ لنا أن نغير في العبادات الشرعية بحجة الكثرة؟ أيشرع للناس وقوفا في اليوم الثامن وفي اليوم التاسع؟ أيشرع للناس ترك رمي الجمار نظرا للكلفة والمشقة؟!، أيشرع للناس اختصار الطواف والسعي خمسة أشواط بدلا من سبعة؟! نظرا للكثرة والمشقة!!.
وقوله: يكاد يكون الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم أمرا مستحيلا(23/122)
ص -126- ... ليس هو- والحمد لله- بالمستحيل، بل هو متيسر سهل، فلا نزيد ولا ننقص "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" 1. وإذا كان الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم مستحيلا، فمن الذي يجب أن يقتدى به، وتكون طريقته أسهل وأيسر من النبي صلى الله عليه وسلم؟ أم نقول للناس تخبطوا في متاهات الجهل، وحجوا كما أردتم، بدون الاقتداء بأحد؟!.
وقوله: لم أسمع خطيبا يحاول التيسير على الحجاج، فيقول لهم مثلا: إن الإمام مالك أجاز المكث في مزدلفة، بقدر حط الرحال. أقول: ليس التيسير من جهة الخطباء، ولا من غيرهم، بل هي السنة; والإمام مالك إذا كان يرى إجزاء المكث بمزدلفة بقدر حط الرحال، فإن من الصحابة من قال: إن الوقوف بمزدلفة والمبيت بها ركن كعرفة؛ قال بهذا ابن عباس، وابن الزبير رضي الله عنهما.
وقال به من التابعين: إبراهيم النخعي، والشعبي، وعلقمة، والحسن البصري، والأوزاعي، وحماد ابن أبي سليمان، وداود الظاهري، وأبو عبيد القاسم بن سلام، وابن جرير، وابن خزيمة، وهو أحد الوجوه للشافعية، وأكثر العلماء يقولون بوجوبه. والمسلمون مأمورون باتباع نبيهم صلى الله عليه وسلم لا باتباع مالك، ولا أحمد، ولا غيرهما.
__________
1 مسلم: الأقضية (1718) , وأحمد (6/180 ,6/256).(23/123)
ص -127- ... قال شيخ الإسلام: وأجمع العلماء على تحريم الحكم والفتيا بالهوى، وبقول، أو وجه من غير نظر في الترجيح، والإمام مالك يقول: كل يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقوله: لم أسمع واحدا منهم قط، قال لهم: إمضاء يوم الثامن بمنى إلى فجر يوم التاسع مجرد سنة، أنفي سمعك يدل على أنهم لم يقولوه؟ بل كلهم مجمعون فيما علمت على أن الخروج في اليوم الثامن، والمبيت بمنى تلك الليلة سنة، وأنه لو لم يخرج إلى عرفات، إلا ليلة النحر قبل طلوع الفجر صح حجه.
وقوله: أما وجوب ذبح الهدي بمنى فإني ألاحظ عليهم، وعلى أكثرية خطباء المسجد الحرام تحذير الحجاج من الذبح بمكة، والفتوى بعدم إجزائه!! لا يقول بهذا أحد منهم، بل الذي عليه أكثر العلماء، من الشافعية، والحنابلة، جواز الذبح بمكة، وعدم وجوبه بمنى، لحديث جابر السابق.
قوله: و أسلوب الرسول صلى الله عليه وسلم في توجيه الحجيج الذي كان يقوله لكل سائل: افعل ولا حرج!! لم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم لكل سائل افعل ولا حرج، إلا فيما يحصل به التحلل، فهذا عروة بن مضرس، جاء يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يقل له: افعل ولا حرج.(23/124)
ص -128- ... قال عروة: جئت من جبل طيء أتعبت نفسي، وأكللت راحلتي، فما من جبل إلا وقفت عنده، فهل لي من حج؟ قال صلى الله عليه وسلم "من شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلا أو نهارا، فقد تم حجه، وقضى تفثه" 1، فراعى الرسول صلى الله عليه وسلم الترتيب، ولم يقل له: افعل ولا حرج، مع أن السائل، قال: أتعبت نفسي، وأكللت راحلتي؛ فهل: لو رمى الجمار يوم عرفة- بأن قدمه على يوم النحر- هل يجزئه بحجة: افعل ولا حرج؟! أو طاف طواف الإفاضة في اليوم التاسع، فهل يكفيه بحجة: افعل ولا حرج؟! وإنما "قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن سأله يوم النحر: ذبحت قبل أن أرمي، قال: ارم ولا حرج، قال آخر: رميت قبل أن أذبح، قال: اذبح ولا حرج; فما سئل يومئذ عن شيء قدم ولا أخر، إلا قال: افعل ولا حرج"2، والمراد به هو: ما يحصل به التحلل يوم العيد; لقوله: فما سئل يومئذ، ولم يقل لكل سائل: افعل ولا حرج; وقصة كعب بن عجرة أيضا معروفة معلومة. انتهى المراد من كلمة الأخ صالح.
ولي على كلمة الأخ أحمد محمد جمال، المنشورة في جريدة البلاد، في العدد الصادر بتأريخ اثني عشر منه خمس ملاحظات:
__________
1 الترمذي: الحج (891).
2 البخاري: الحج (1736) , ومسلم: الحج (1306) , والترمذي: الحج (916) , وأبو داود: المناسك (2014) , وابن ماجه: المناسك (3051) , وأحمد (2/159 ,2/192) , ومالك: الحج (959) , والدارمي: المناسك (1907).(23/125)
ص -129- ... أولا: قوله: وأردف الفقيه العربي، أن مذهب الشافعي: جواز الذبح طيلة العام. أقول: لم يكن هذا هو مذهب الشافعي الصحيح، بل قوله موافق لقول الجمهور، كما دلت عليه النصوص النبوية، من تخصيص الذبح في أيام التشريق كما قاله الحافظ ابن كثير وغيره، ونقله عنه الموفق ابن قدامة في المغني، وكما في الأم له رحمه الله. ثانيا: نقله عن الفقيه العربي قوله، ويمنع في الوقت نفسه الخطباء والوعاظ الذين يحرمون الذبح في غير منى; لو تفضل الأخ الفقيه، وأعلن بأسماء الذين يمنعون من ذلك لكان أليق; فإن الجمهور من العلماء يجوزون الذبح بمكة، كمنى، لحديث جابر السابق. ثالثا: نقله استنكار الفقيه العربي أن يجمد الخطباء والوعاظ على الحث للحجاج باقتفاء سنة الرسول صلى الله عليه وسلم في حجه من حيث المبيت بمنى ليلة التاسع، وفي المزدلفة ليلة العاشر، مع أنهم يعلمون علم اليقين أن ذلك مستحيل على كافة الحجاج... إلخ. أعظم بها من منقبة وأكرم بها من طريقة سامية! كيف لا يقتدى بسيد الخلق، وإمام المرسلين الذي أمرنا باتباعه، والتمسك بهديه، والاقتداء بأفعاله؟ {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [سورة الأحزاب آية: 21]، {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [سورة النور آية: 54]،(23/126)
ص -130- ... وقال صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني مناسككم" في حين أن المبيت بمنى ليلة التاسع سنة إجماعا، لأحاديث دلت على ذلك؛ والمبيت بمزدلفة واجب عند كثير من أهل العلم. وآخرون قالوا إنها ركن من أركان الحج، لا يتم الحج بدون المبيت بمزدلفة، كما تقدم، لحديث عروة بن مضرس: "من شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع" 1 الحديث. رابعا: قوله: وإن الفقهاء قبلهم قد أوضحوا السنة من الواجب، من مناسك الحج، وبذلك يسروا على الحجاج. فهل التيسير من الفقهاء؟!، أهم مشرعون من عندياتهم؟! أم مجتهدون، يتحرون الدليل، ويلتمسون الصواب، ويتطلبون الاقتداء بنبيهم صلى الله عليه وسلم في صفة الحج وغيره. وكلهم يعلمون، أن التيسير ليس من قبلهم، ويعلمون أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" 2، ويعلمون أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، وإياكم ومحدثات الأمور" 3. نقل الأستاذ أحمد، عن الفقيه العربي، بأنه سيصدر فتوى لحجاج بلاده بجواز التصدق بثمن الهدي عند الحاجة إليه، فهلا يتكرم بإصدار فتوى بجواز التصدق، بتكاليف الحج، بدلا من الحج؟! ويسقط عنهم حجة الإسلام، فمتى جاز في البعض جاز في الكل.
__________
1 الترمذي: الحج (891).
2 مسلم: الأقضية (1718) , وأحمد (6/180 ,6/256).
3 أبو داود: السنة (4607) , والدارمي: المقدمة (95).(23/127)
ص -131- ... وقل للعيون الرمد للشمس أعين ... سواك تراها في مغيب ومطلع
وسامح نفوسا أطفأ الله نورها ... بأهوائها لا تستفيق ولا تعِي
ففتواه هو وغيره ما لم تستند على دليل شرعي غير معتبرة.
وليس كل خلاف جاء معتبرا إلا خلافا له حظ من النظر
وختاما: أشكر للأستاذين الجليلين، أن أتاحا لي الفرصة للاشتراك بإبداء رأيي في الموضوع، والله الموفق، والهادي إلى سواء السبيل.
[رد الشيخ عبد العزيز بن باز على عبد الله السعد حين أساء الظن بالإخوة المتطوعين في الدعوة إلى الله]
وقال الشيخ: عبد العزيز بن باز1 في ردّه على عبد الله السعد:2 فألفيت الكاتب قد أساء الظن بالإخوان المتطوعين، القائمين بالدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر في "الرياض" وملحقاتها، ووصفهم بأنهم مخدوعون، ومتشددون، ومحاربون للجديد، إلى غير ذلك مما وقع في كلامه من الأخطاء.
وقد رأيت أن أنبه في هذه الكلمة، على ما وقع في مقاله، من الأخطاء ذات الأهمية، نصحا له ولسائر الأمة،
__________
1 في رسالته: "الأدلة الكاشفة" لأخطاء بعض الكتاب.
2 الذي نشر مقاله في صحيفة البلاد, تحت عنوان "احذروا الغلو" بتاريخ 12/2/1385?.(23/128)
ص -132- ... ودفاعا عن الإخوان، فيما نعلم براءتهم منه، وتحريضا له ولغيره من الكتاب، على التثبت في القول، ولزوم الاعتدال في الحكم، والحذر من سوء الظن الذي لا ينبني على أساس مستقيم.
وإلى القارئ تفصيل القول فيما وقع في مقال الكاتب: عبد الله السعد، من الأخطاء التي تستحق التنبيه عليها، والإنكار على قائلها؛ فنقول، والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا به: أما ما ذكره الكاتب: عن مضار الغلو والتشديد فصحيح؛ ولا شك أن الشريعة الإسلامية الكاملة جاءت بالتحذير من الغلو في الدين، وأمرت بالدعوة إلى سبيل الحق بالحكمة، والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن. ولكنها مع ذلك لم تهمل جانب الغلظة والشدة في محلها، حيث لا ينفع اللين، والجدال بالتي هي أحسن، كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [سورة التوبة آية: 73]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [سورة التوبة آية: 123]، وقال تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [سورة العنكبوت آية: 46] الآية.(23/129)
ص -133- ... فشرع الله سبحانه لعباده المؤمنين، الغلظة على الكفار، والمنافقين، حين لم تؤثر فيهم الدعوة بالحكمة واللين؛ والآيات وإن كانت في معاملة الكفار، دالة على أن الشريعة إنما جاءت باللين في محله حين يرجى نفعه. أما إذا لم ينفع، واستمر صاحب الظلم، أو الكفر، أو الفسق في عمله، ولم يبال بالواعظ والناصح، فإن الواجب الأخذ على يديه، ومعاملته بالشدة، وإجراء ما يستحقه، من إقامة حد، أو تعزير، أو تهديد، أو توبيخ، حتى يقف عند حده، وينْزجر عن باطله.
ولا ينبغي للكاتب وغيره: أن ينسى ما ورد في هذا من النصوص، والوقائع من حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى عصرنا هذا، وما أحسن ما قاله الشاعر في هذا المعنى:
دعا المصطفى دهرا بمكة لم يجب وقد لان منه جانب وخطاب
فلما دعا والسيف صلت بكفه له أسلموا واستسلموا وأنابوا
والخلاصة: أن الشريعة الكاملة جاءت باللين في محله، والشدة في محلها. فلا يجوز للمسلم أن يتجاهل ذلك; ولا يجوز أيضا أن يوضع اللين في محل الشدة، ولا الشدة في محل اللين. ولا ينبغي أيضا أن ينسب إلى الشريعة أنها جاءت(23/130)
ص -134- ... باللين فقط، ولا أنها جاءت بالشدة فقط؛ بل هي شريعة حكيمة كاملة، صالحة لكل زمان ومكان، ولإصلاح كل أمة؛ ولذلك جاءت بالأمرين معا، واتسمت بالعدل والحكمة والسماح. فهي شريعة سمحة، ليسر أحكامها، وعدم تكليفها ما لا يطاق، ولأنها تبدأ في دعوتها باللين، والحكمة، والرفق؛ فإذا لم يؤثر ذلك، وتجاوز الإنسان حده، وطغى، وبغى، أخذته بالقوة والشدة، وعاملته بما يردعه، ويعرفه سوء عمله.
ومن تأمل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة خلفائه الراشدين، وصحابته المرضيين، وأئمة الهدى بعدهم، عرف صحة ما ذكرناه. 1
ومما ورد في اللين قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ
__________
1 من ذلك: ما أرشد إليه نبيه صلى الله عليه وسلم في معاملة من أراد التحاكم إلى الطاغوت مع دعواه الإسلام, فقال تعالى, في حقه في سورة النساء [63]: وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا وكل من دعا إلى نبذ مبادئ الإسلام, وهو في صف المسلمين, فينبغي أن يعامل معاملة تردعه هو وأمثاله, وإلا تجرأ الفسقة والمارقون; والمسئول عن هذا المقام: الإمام الأعظم ونوابه.(23/131)
ص -135- ... لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [سورة آل عمران آية: 159] الآية، وقوله تعالى في قصة موسى وهارون لما بعثهما إلى فرعون: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [سورة طه آية: 44]، وقوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [سورة النحل آية: 125] الآية. ومما ورد في الشدة: الآيات المتقدم ذكرها 1، ومن الأحاديث: ما رواه أحمد، وأبو داود وغيرهما، عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تلا قوله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [سورة المائدة آية: 79-78] قال: "والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد السفيه وفي لفظ آخر: على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا، أو لتقصرنه على الحق قصرا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم يلعنكم كما لعنهم" 2.
__________
1 في صفحة 132.
2 الترمذي: الفتن (2169).(23/132)
ص -136- ... وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلا يصلي بالناس، ثم أنطلق برجال معهم حزم من حطب، إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم" 1، وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لولا ما في البيوت من النساء والذرية لحرقتها عليهم" 2، وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بعث الله من نبي في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون، وأصحاب يأخذون بسنته ويهتدون بأمره. ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون. فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل". وقصة الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك من غير عذر، معلومة لدى أهل العلم، وقد هجرهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم خمسين ليلة، حتى تابوا، فتاب الله عليهم، وأنزل في ذلك قوله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} [سورة التوبة آية: 117]
__________
1 البخاري: الأذان (644) والخصومات (2420) والأحكام (7224) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (651) , والنسائي: الإمامة (848) , وأبو داود: الصلاة (548) , وابن ماجه: المساجد والجماعات (791) , وأحمد (2/314 ,2/377) , ومالك: النداء للصلاة (292) , والدارمي: الصلاة (1274).
2 البخاري: الأذان (644) والخصومات (2420) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (651) , والترمذي: الصلاة (217) , وأبو داود: الصلاة (548 ,549) , وابن ماجه: المساجد والجماعات (791) , وأحمد (2/367).(23/133)
ص -137- ... إلى قوله: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [سورة التوبة آية: 118] الآية.
فمما تقدم من الآيات والأحاديث، يعلم الكاتب وغيره من القراء أن الشريعة الإسلامية الكاملة جاءت باللين في محله، والغلظة والشدة في محلها.
وأن المشروع للداعية إلى الله أن يتصف باللين والرفق، والحلم والصبر، حتى يكون ذلك أكمل في نفع دعوته والتأثر بها، كما أمره الله بذلك، وأرشد إليه رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يكون على علم وبصيرة فيما يدعو إليه، وفيما ينهى عنه، لقول الله سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ}[ سورة يوسف آية: 108]. ولا ينبغي للداعية أن يلجأ إلى الشدة والغلظة، إلا عند الحاجة والضرورة، وعدم حصول المقصود بالطريقة الأولى؛ وبذلك يكون الداعي إلى الله سبحانه قد أعطى المقامين حقهما، وترسم هدي الشريعة في الجانبين; والله الموفق. ونحن في هذا لا نقصد موافقة الكاتب على ما نسبه للإخوان من التشديد، فالذي عرفنا عنهم خلاف ذلك، فهم - بحمد الله- على بينة وبصيرة، ويعاملون الناس بالتي هي أحسن، ويوجهونهم إلى الخير، تحت إرشادات علماء البلاد، والمسؤولين فيها.
ولو فرضنا أنه وقع من بعضهم خطأ، أو تشديد في غير محله، فليسوا معصومين، والواجب تنبيههم،(23/134)
ص -138- ... وإرشادهم إلى ما قد يقع منهم من الخطأ، حتى يحذروه مستقبلا. وكان الواجب على الكاتب، حين بلغه عنهم ما يعتقده خلاف الشرع، أن يتصل بأعيانهم مشافهة أو كتابة، ويناصحهم فيما أخذ عليهم، أو يتصل بسماحة المفتي، أو رئيس الهيئات، ويبدي ما لديه حول الإخوان من النقد، حتى يوجههم المشايخ إلى الطريق السوي. أما أن يكتب في صحيفة سيارة ما يتضمن التشنيع عليهم، والحط من شأنهم، ووصفهم بما هم برآء منه، فهذا لا يجوز من مؤمن يخاف الله ويتقيه، لما فيه من كسر شوكة الحق، والتثبيط عن الدعوة إليه، والتلبيس على القراء، ومساعدة السفهاء والفساق على باطلهم، وعلى النيل من دعاة الحق.
والله المسؤول أن يسامحنا وإياه، وأن يوفر الجميع للتوبة النصوح، والاستقامة على الحق، ومناصرة الداعين إليه، إنه خير مسؤول.
وأما قوله: وأنا لا أنكر على كل مؤمن أن يرشد إلى الخير، ويوجه إلى الرشد، ويستنكر الشر، ويلفت النظر إليه بأخلاق القرآن والسنة; وهي: اللطف واللين، والروية; أما إذا اتسمت أقواله أو أفعاله بالقسوة والشدة، فإن ذلك ليس من حقه،(23/135)
ص -139- ... لأنه غير مأذون، ولا مكلف من جهة أسند إليها هذا الأمر، وغاية ما في الأمر أن يستنكر ما يراه منكرا بقلبه، وهو أضعف الإيمان لغير المسؤول. قد يكون هذا الأمر مستساغا ومقبولا في جماعة أو أمة ليس فيها أجهزة حكومية خصصت لهذا الواجب، ولكنه غير لازم ولا مقبول إلى جانب السلطات الحكومية المكلفة. فهذا الكلام فيه حق وباطل وإيهام، وإليك أيها القارئ بيان ذلك بالتفصيل.
أما قوله: إنه لا ينكر على كل مؤمن، أن يرشد إلى الخير، ويوجه إلى الرشد... إلخ، فهذا حق، والواجب على كل من لديه بصيرة، أن يقوم بذلك؛ وهو سبيل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وسبيل أتباعه على بصيرة، كما قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي}[ سورة يوسف آية: 108]: فهذه الآية الكريمة ترشد إلى أن أتباع النبي صلى الله عليه وسلم على الكمال هم أهل البصيرة والدعوة إلى الحق. وقال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [سورة النحل آية: 125]: وهذه الآية العظيمة، وإن كان الخطاب فيها موجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمراد بها جميع الأمة، وقد أوضح الله فيها سبيل الدعوة ومراتبها.(23/136)
ص -140- ... فالواجب على الدعاة: أن يسيروا في دعوتهم إلى الله سبحانه على ضوئها، وعلى الطريقة التي رسمها الله فيها، سواء كان المدعو كافرا، أو مسلما، إلا من ظلم وعاند، فقد تقدم في الأدلة السابقة، ما يدل على شرعية الغلظة عليه، ومعاملته بما يستحق، في حدود الشريعة الكاملة.
و أما قول الكاتب: أما إذا اتّسمت أقواله وأفعاله بالقسوة والشدة، فإن ذلك ليس من حقه، لأنه غير مأذون، ولا مكلف من جهة أسند إليها هذا الأمر؛ وغاية ما في الأمر أن يستنكر ما يراه منكرا بقلبه، وهو أضعف الإيمان لغير المسؤول.
فهذا فيه إجمال وخطأ ظاهر، يتضح مما تقدم; وذلك لأن المطلوب من جميع الدعاة، سواء كانوا مسؤولين من جهة الحكومة، أو متطوعين، أن يكونوا في دعوتهم على المنهج الشرعي، وأن لا تتسم أقوالهم وأفعالهم، بالقسوة والشدة، إلا عند الضرورة إليها، كما سبق؛ وكلام الكاتب يوهم خلاف ذلك.
وقوله: وغاية الأمر... إلخ. هذا خطأ واضح.
والصواب: أن مراتب الإنكار الثلاث، مشروعة للمسؤول وغيره؛ وإنما يختلفان في القدرة، فالمسؤول من جهة الحكومة أقدر من غيره، والإنكار بالقلب هو(23/137)
ص -141- ... أضعف الإيمان، في حق العاجز عن الإنكار، باليد واللسان، سواء كان مسئولا، أو متطوعا؛ وهو صريح الحديث الشريف، ومقتضى القواعد الشرعية.
و أما قول الكاتب قد يكون هذا الأمر مستساغا ومقبولا، في جماعة أو أمة ليس فيها أجهزة حكومية خصصت لهذا الواجب، ولكنه غير لازم ولا مقبول إلى جانب السلطات الحكومية المكلفة، ففيه نظر ظاهر أيضا. وهذا الأسلوب الذي أطلقه الكاتب، ليس أسلوبا علميا، ولا منسجما مع الأدلة الشرعية; لأن الدعوة إلى الله سبحانه، وتعليم الناس ما يجهلونه من شرع الله، لا ينبغي أن يعبر عنه بمثل هذا الأسلوب. بل ينبغي أن يعبر عنه بأسلوب الحث والترغيب، ولا سيما في الأمم والجماعات المحتاجة إلى ذلك، فإن دعوتهم، وإرشادهم إلى ما يجب عليه من شرع الله، من الأمور المتعينة على ولاة الأمر، وعلى أهل العلم حسب القدرة؛ فكيف يعبر عن مثل هذا الأمر العظيم، يقول الكاتب: قد يكون هذا الأمر مستساغا ومقبولا...إلخ؟! وأما قوله: ولكنه غير لازم ولا مقبول إلى جانب السلطات الحكومية المكلفة، فهذا خطأ ظاهر أيضا؛ لأن الأجهزة والسلطات الحكومية، إن كانت قد قامت بواجب(23/138)
ص -142- ... الدعوة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فمشاركة غيرها لها في ذلك من المتطوعين حسن جدا، ومطلوب شرعا؛ لأنه من باب التعاون على البر والتقوى، والمشاركة في جهاد شرعي، وتوجيه صالح. قصارى ما هنالك أن الأجهزة والسلطات الحكومية قد أدت فرض الكفاية، وصار القيام من غيرهم لمشاركتهم من باب السنن والتطوع، وذلك من أفضل العبادات وأحبها إلى الله سبحانه. وأما إن كانت الأجهزة والسلطات الحكومية، لم تقم بالواجب على الوجه الأكمل، كما هو الواقع، فإن مشاركة غيرهم لهم في ذلك متعينة، لأن فرض الكفاية لم يسقط بهم.
وقد تقرر في الأدلة الشرعية أن الدعوة إلى الله سبحانه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفاية، إذا قام بها من يكفي سقط الفرض عن الباقين، وصارت المشاركة فيها في حق الباقين سنة؛ وإن لم يقم بها من يكفي أثم الجميع. وقد يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فرض عين، وذلك في حق من يرى المنكر، وليس هناك من ينكره، وهو قادر على إنكاره، فإنه يتعين عليه إنكاره، لقيام الأدلة الكثيرة على ذلك.(23/139)
ص -143- ... ومن أصرحها: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" 1 أخرجه مسلم في صحيحه. والإنكار بالقلب: فرض على كل واحد، لأنه مستطاع للجميع، وهو بغض المنكر، وكراهيته، ومفارقة أهله عند العجز عن إنكاره باليد، واللسان، لقول الله سبحانه: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [سورة الأنعام آية: 68].
وقال تعالى في سورة النساء: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} [سورة النساء آية: 140] الآية. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [سورة الفرقان آية: 72]، ومعنى لا يشهدون الزور: لا يحضرونه; والزور: يشمل كل منكر. ويدخل في ذلك الشرك، والكفر، وأعياد المشركين، والاجتماع على شرب الخمور، والتدخين، والأغاني، وآلات الطرب، وأفلام السينما، وأشباه ذلك من المنكرات؛ ذكر معنى ذلك الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية.
__________
1 مسلم: الإيمان (49) , والترمذي: الفتن (2172) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5008) , وأبو داود: الصلاة (1140) , وابن ماجه: الفتن (4013) , وأحمد (3/20 ,3/49).(23/140)
ص -144- ... وذكر البغوي رحمه الله، عند تفسيرها قريبا من ذلك، وقال: أصل الزور تحسين الشيء، ووصفه بخلاف صفته، فهو تمويه الباطل بما يوهم أنه حق، وهذا هو الواقع من أهل الباطل.
فإنهم يحسّنون المنكرات، بوصفها بغير حقيقتها، حتى يرغب فيها الناس، وحتى لا ينفروا منها؛ فيكون على فاعل ذلك إثم ما عمل، وإثم الدعوة إليه، وأعظم من ذلك، الدعوة إليها بالقول.
وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا. ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا" 1. والأدلة في هذا المعنى كثيرة.
و قول الكاتب: وقد سرني أن علماءنا الأفاضل قد استنكروا هذا التجاوز منهم، ونهوهم عنه... إلخ. فيه نظر.
وقد سبق لك أن الإخوان كانوا في دعوتهم، وإنكارهم للمنكر، يتحرون الطريقة الشرعية، ويعاملون الناس بالرفق والحكمة، ولا نعلم أنهم تعاطوا من الشدة والقسوة ما يوجب إنكار العلماء عليهم.
فلا أدري عن أي مصدر وصل هذا الخبر إلى الكاتب.
__________
1 مسلم: العلم (2674) , والترمذي: العلم (2674) , وأبو داود: السنة (4609) , وأحمد (2/397) , والدارمي: المقدمة (513).(23/141)
ص -145- ... ومعلوم أن على الناقل أن يتثبت في النقل، وأن ينظر فيما ينقل وينشر بين الناس، وإذا صح لديه الخبر، نظر هل إعلانه أصلح، أم تركه أحسن في العاقبة.
ولا شك أن هذا الخبر لو صح، فليس من المصلحة نشره بين الناس، وإعلانه في الصحف، لما في ذلك من التنقص للدعاة إلى الحق، وتثبيط عزائمهم، وتشجيع أهل الفسق ضدهم، في وقت يتكاتف فيه دعاة الباطل، والمذاهب الهدامة، على نشر باطلهم، وإعلان مذاهبهم، فالله المستعان.
وأما ما ذكره الكاتب عن الفتنة، التي وقعت في صدر الإسلام، وتمخض عنها قتل عثمان رضي الله عنه، وما جرى من الخلاف بعد ذلك بين أهل الشام والعراق... إلخ. فتلك أمور قد عنى بها التأريخ، وعرفها علماء الإسلام وغيرهم. ولا شك أن لأعداء الإسلام والجهال به فيها دورا فعّالا؛ وقول أهل السنة والجماعة، في هذه الفتنة معلوم، وهو الكف عما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم، والترضي عنهم جميعا، واعتقاد أنهم مجتهدون فيما فعلوا، طالبون للحق؛ والمصيب منهم له أجران، والمخطئ له أجر واحد، كما صح بذلك الحديث الشريف.
وإنما يهمنا هنا أمران: أحدهما: تخوف الكاتب من(23/142)
ص -146- ... أن يكون هؤلاء الإخوان، قاموا بما قاموا به، عن تأثير جماعة سرية إجرامية تخريبية. والجواب عن هذا، أن يقال: من عرف الإخوان وسبر حالتهم، يعلم يقينا أنهم بعيدون كل البعد عن هذه التهمة الشنيعة، وعن هذا الظن السيئ؛ والواجب على المسلم، حمل أحوال إخوانه على أحسن المحامل، وعلاج ما قد يقع من الخطأ بالطرق الشرعية، التي تبني ولا تهدم، وتشجع الحق ولا تخذله، وتنصر الحق وتدمغ الباطل، لا أن يظن بهم السوء، ويشجع على إماتة دعوتهم، وتشويه سمعتهم وتشجيع أهل الباطل ضدهم، وتحريض ولاة الأمر على إيقاف حركتهم، عملا بقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}[ سورة الحجرات آية: 12]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم "إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث" 1. والأمر الثاني: وصفه كعب الأحبار، تقليدا لبعض المتأخرين، بأنه يهودي أظهر الإسلام، من أجل الكيد للإسلام وإفساد أهله.
والجواب: أن هذا خلاف المعروف عن علماء الإسلام، ونقلة الأخبار؛ فقد روى عنه علماء الحديث، وأثنى عليه معاوية رضي الله عنه وكثير من السلف; وروى عنه مسلم في صحيحه، وذكره البخاري في كتابه
__________
1 البخاري: النكاح (5144) , ومسلم: البر والصلة والآداب (2563) , والترمذي: البر والصلة (1988) , وأحمد (2/245) , ومالك: الجامع (1684).(23/143)
ص -147- ... "الجامع الصحيح" ولم يزنه بريبة، وذكره الحافظ ابن حجر في الإصابة، والتهذيب، وابن الأثير في أسد الغابة، ولم يتهموه بهذه التهمة. وقال الحافظ ابن حجر في التقريب، ما نصه: كعب بن مانع الحميري، أبو إسحاق، المعروف بكعب الأحبار، ثقة، من الثانية، مخضرم، كان من أهل اليمن، فسكن الشام، مات في خلافة عثمان رضي الله عنه. فكيف يجوز لمن يخاف الله ويتقيه: أن يرمي شخصا أظهر الإسلام، والدعوة إليه، وشارك الصحابة في أعمالهم، بأنه يهودي، بدون حجة ولا برهان يسوغ ذلك. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم التحذير من رمي المسلم لأخيه، بالصفات الذميمة، وأن من رمى أخاه بما هو بريء منه، كان الرامي أولى بذلك الوصف، الذي رمى به أخاه. وكونه: يروي بعض الأخبار الإسرائيلية الغريبة، لا يوجب رميه باليهودية، والكيد للإسلام، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج"1. وقد قام علماء الإسلام بنقد أخبار بني إسرائيل، وتزييف ما خالف الحق منها، وإبطاله؛ فكعب في ذلك يشبه عبد الله بن عمرو، وعبد الله بن سلام، ووهبا، وغيرهم ممن نقل أخبار بني إسرائيل.
__________
1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3461) , والترمذي: العلم (2669) , وأحمد (2/159 ,2/202) , والدارمي: المقدمة (542).(23/144)
ص -148- ... فكما أن عبد الله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنهما، لا يجوز أن يتهم باليهودية، لكونه نقل كثيرا من أخبار بني إسرائيل، من الزاملتين اللتين أصابهما يوم اليرموك من كتبهم، فهكذا كعب، لا يجوز أن يرمى باليهودية والكيد للإسلام من أجل ذلك؛ ولا يجوز أن يجعل في صف عبد الله بن سبأ وأشباهه، من المعروفين بالكفر والإلحاد، والكيد للإسلام. وفي الصحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من دعا رجلا بالكفر، أو قال: يا عدو الله، وليس كذلك، إلا حار عليه 1") هذا الحديث، وما جاء في معناه: يوجب على المسلم التثبت في الحكم على الناس، والحذر من رمي أخيه بصفة ذميمة، وهو بريء منها، بمجرد الظن، أو تقليد من لا يعتمد عليه، والله المستعان.
ثم قال الكاتب أقول: إن من جهل شيئا عاداه، كما في المثل، وقد كنا قبل وعينا الجديد، وقبل معرفتنا بحقيقة المستحدثات العلمية الجديدة نكره استعمالها، ونستعيبه; ثم ذكر استعمال السيارات، والطائرات، والصواريخ، إلى أن قال:
__________
1 أي: رجع إليه ما نسب إليه; اه, لسان.(23/145)
ص -149- ... ما دمنا قد عرفنا هذا كله، ولمسناه، وتأكدنا فوائده، وعدم معارضته للدين، فلماذا يحاربه هؤلاء الطيبون المخدوعون؟ ولماذا يسافرون من بلد إلى آخر، لاستنكاره ومحاولة عدم استعماله؟... إلخ. لا ريب أن من قرأ هذا الكلام، وضم بعضه إلى بعض، يفهم منه أن الإخوان الذين انتصب الكاتب لنقدهم، ينكرون هذه المستحدثات الجديدة، من السيارات، والطائرات، واللاسلكي، وأشباه ذلك.
ومعلوم قطعا أن الإخوان الذين أشرنا إليهم، لا ينكرون شيئا من ذلك، ولا يعيبونه، بل هم أنفسهم يستعملون ذلك، فينتقلون في السيارات، ويركبون الطائرات، ويستعملون اللاسلكي، فما الذي دعا الكاتب إلى الوقوع في هذه الفرية الكبيرة؟ والزلة الشنيعة؟!! أترك الجواب للقراء وأسأل الله سبحانه وتعالى: أن يعصمنا من الهوى، وخطوات الشيطان. وأما سفرهم إلى البلدان للدعوة والتوجيه، فهو أمر يستحقون عليه الثناء والشكر، وليس محلا للاستنكار والاستغراب; نعم هو حقيق بالاستغراب، بالنسبة إلى تخلف أكثر الناس عن هذه المهمة الشريفة، التي هي طريقة الرسل وأتباعهم، وليس هو محلا للاستغراب الذي ينتج عنه الاستنكار، والتشنيع والظن السيئ.(23/146)
ص -150- ... وأما قوله: المخدوعون; فهي عبارة لا تليق من الكاتب، وليس الإخوان محلا لها، وقائلها أولى بها; لأن الإخوان - بحمد الله - على بينة من أمرهم، وليسوا مخدوعين، ولا متأثرين بحركة هدامة، ولا عاملين لغرض دنيء، بل غايتهم شريفة، وعملهم مشكور، ودافعهم هو الحق، والغيرة له، والخوف على المسلمين من عواقب ظهور المنكرات وعدم تغييرها; وإنما المخدوع حقا من ظن بهم خلاف ذلك. وأما قوله: الطيبون، وقوله - فيما تقدم - عن المغرضين، والطامعين، وأعداء الإسلام: إنهم استغلوا طيبة الصحابة; أرجو أن لا يكون قصد بهذا الوصف، التنقص لمن وصفهم بالطيب؛ لأن سياق الكلام، ووصف الصحابة، والإخوان بالطيب، في جانب كونهم مخدوعين، يشير إلى أن المراد بوصف الطيب: الغفلة، والغباوة، وعدم التنبه لعواقب الأمور، هذا هو المعروف من بعض كتّاب العصر. أرجو أن لا يكون الكاتب قصد هذا المقصد، وإن كان كلامه يقتضيه، أو يحوم حوله، ونسأل الله أن يعفو عنا وعنه، وأن يمن علينا جميعا بالتوبة النصوح من أخطائنا، وسيئات أعمالنا، إنه خير مسؤول.
وأما قول الكاتب - بعدما تقدم -: ليس لي بالطبع(23/147)
ص -151- ... الإفتاء، ولا أحمل مؤهلاته!! فهذا من اختصاص علمائنا الأفاضل، الذين استنكروا عمل هؤلاء المخدوعين الطيبين!! فيقال له، أولا: ما دمت تعرف أنك غير أهل للفتوى، فما بالك أفتيت أولا، وآخرا؟! ولو تأملت كلمتك، لعلمت أنك أفتيت فيها عدة فتاوى، على غير هدى. ومن أعظم الجرائم: الفتوى بغير علم، فكم ضل بها من ضل، وهلك بها من هلك، ولا سيما إذا كانت الفتوى معلنة على رؤوس الأشهاد، وممن قد يغتر به بعض الناس؛ فإن الخطر عظيم، والعواقب وخيمة. وعلى المفتي بغير علم مثل آثام من تبعه، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أفتي بفتيا غير ثبت فإنما إثمه على من أفتاه" 1.
وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا" 2 وقد أعظم الله سبحانه وتعالى، شأن الفتوى بغير علم، وحذر عباده منها، وبيّن أنها من أمر الشيطان، قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [سورة الأعراف آية: 33].
__________
1 أبو داود: العلم (3657) , وابن ماجه: المقدمة (53) , وأحمد (2/321 ,2/365) , والدارمي: المقدمة (159).
2 مسلم: العلم (2674) , والترمذي: العلم (2674) , وأبو داود: السنة (4609) , وأحمد (2/397) , والدارمي: المقدمة (513).(23/148)
ص -152- ... وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 169-168]. ثم يقال للكاتب ثانيا: من هو الذي استنكر من العلماء الأفاضل على الإخوان عملهم؟!. وقد سبق في صدر هذه الكلمة: أنا لا نعلم أحدا من العلماء المعروفين بالغيرة والتحقيق، استنكر عملهم; بل المعروف من العلماء الأفاضل تأييدهم، ومساعدتهم، وشكرهم على أعمالهم الطيبة، والدعاء لهم بالتوفيق والسداد. وكيف يستنكر العلماء الأفاضل الدعوة إلى الله، وإرشاد العباد إلى طاعته، وتحريضهم على الصلاة في الجماعة، والإنكار على من تخلف عن ذلك؟! فلا يستنكر هذه الأعمال الجليلة مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر، ويعرف شيئا مما ورد في الدعوة إلى الله سبحانه، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فضلا عن العالم الفاضل. فعياذا بالله من القول عليه، وعلى عباده بغير علم، وعياذا بالله من خطل اللسان، وسيئات العمل. فما أعظم ما جناه الكاتب على نفسه، وعلى غيره، ممن قد يغتر بقوله! وما أعظمها من جريمة!!(23/149)
ص -153- ... ثم قال الكاتب بعد ذلك: ولكني أقول: إذا كان الدين يحرم التماثيل المجسمة وما في حكمها سدا للذريعة، وخوفا من العودة إلى عبادتها، كما كان في الجاهلية الأولى، وكما هو الحال اليوم في الأمم الوثنية، وإذا كان من واجبنا كأمة مسلمة محافظة أن نحارب الصور الماجنة الخليعة، خوفا على أخلاقنا وتقاليدنا، فما هي حجة بعضنا في إنكار الصور الظلية العاكسة، التي لا فرق بينها مطلقا وبين ما تعكسه المرآة التي يستعملها شبابنا وشيوخنا، ونساؤنا وبناتنا؟.
وما الفرق بين هذه الصورة الظلّية العاكسة كالمرآة، التي تشتمل عليها الجريدة والمجلة والمعرض والبيت والسينما، وبين أختها المعروضة لاسلكيا في التلفزيون؟ وكما قلت في كلمة سابقة: إن التلفزيون لا يسجل إلا ما يعرض على شاشته من خير أو شر، ونحن في هذه البلاد المقدسة قادرون على اختيار الخير والنافع، وعرضه على شاشة التلفزيون، كعلم وكدرس، وكتأريخ، وكتسلية بريئة نحول فيها بين المجتمع وبين الفراغ والنميمة وسفاسف الأقوال والأفعال. انتهى المقصود.
والجواب عن هذا أن يقال: لقد أحسن الكاتب في اعترافه بأن الدين الإسلامي يحرم التماثيل المجسمة، وما في حكمها، سدا للذريعة،(23/150)
ص -154- ... وخوفا من العودة إلى عبادتها، كما كان في الجاهلية الأولى، وكما هو الحال اليوم في الأمم الوثنية.
فقد جاءت الأحاديث الصحيحة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يدل على ما ذكر الكاتب من تحريم التماثيل، والزجر عنها، ولعن المصورين، والتصريح بأنهم أشد الناس عذابا يوم القيامة، وأنهم يعذبون يوم القيامة، ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم. وقد جاء في القرآن الكريم، وثبت في الأحاديث والآثار أن أسباب ضلال قوم نوح هو التماثيل، كما قال تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالاً مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَاراً} [سورة نوح آية: 25-23]. وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن بعض أزواجه، ذكرت له كنيسة رأتها بأرض الحبشة، وما فيها من الصور، فقال: "أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح، بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله" 1. والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. فتبين مما تقدم أن التساهل ببيعها في الأسواق، ونصبها في المكاتب والدوائر ونحوها، من أعظم أسباب الشرك، ومن أعمال الجاهلية، ومن أخلاق شرار الخلق عند الله. فالواجب على المسؤولين جميعا في حكومتنا السنية
__________
1 البخاري: الصلاة (434) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (528) , والنسائي: المساجد (704) , وأحمد (6/51).(23/151)
ص -155- ... القضاء على هذه التماثيل، والزجر عنها، ومنع توريدها، وإتلاف ما يوجد منها في كل مكان، طاعة لله ولرسوله، وحذرا من عواقبها الوخيمة.
ولقد أحسن الكاتب أيضا في قوله: وإذا كان من واجبنا كأمة مسلمة محافظة، أن نحارب الصور الماجنة الخليعة خوفا على أخلاقنا وتقاليدنا. نعم والله قد أحسن الكاتب في هذا، فالواجب علينا، وعلى المسؤولين في حكومتنا محاربة هذه الصور الخليعة، التي غزت بلادنا من كل مكان، وعرضت بين شبابنا وفتياتنا في كل بقعة، إلا ما شاء الله. فالواجب على أولي الأمر أن يحاربوها، ويحاربوا الصحف والكتب التي تحملها إلى هذه البلاد، كما يجب أن تحارب جميع الصحف والكتب التي تحمل إلى بلادنا أنواع الإلحاد والتخريب، والدعوة إلى التفسخ من الأخلاق الفاضلة والسجايا الكريمة. ويجب على أولي الأمر أيضا تكليف الحكام الإداريين، وموظفي الأمن، بالتعاون مع هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على القضاء على هذه المعاول الهدامة، والوسائل الفتاكة بديننا وأخلاقنا وفقهم الله لنصر دينه، وحماية شريعته، ومساعدة من قام بذلك، إنه على كل شيء قدير.(23/152)
ص -156- ... وأما قول الكاتب - بعد ذلك -: فما هي حجة بعضنا في إنكار الصورة الظلية العاكسة التي لا فرق بينها مطلقا وبين ما تعكسه المرآة... إلخ؟! فالجواب أن يقال: هذه فتوى من الكاتب بالتسوية بين الصورة الشمسية وبين الصورة في المرآة!! ومعلوم: أن الفتوى تفتقر إلى علم بالأدلة الشرعية، وقد سبق اعتراف الكاتب بأنه ليست فيه صفتها، ولا يحمل مؤهلاتها، فما باله- هداه الله- أفتى هنا، وجزم بالحكم بغير علم؟!. ويقال له أيضا: لقد أخطأت في التسوية والقياس، من وجهين: أحدهما: أن الصورة الشمسية لا تشبه الصورة في المرآة، لأن الصورة الشمسية لا تزول عن محلها، والفتنة بها قائمة. وأما الصورة في المرآة فهي غير ثابتة، تزول بزوال المقابل لها، وهذا فرق واضح لا يمترى فيه عاقل.
والثاني: أن النص عن المعصوم صلى الله عليه وسلم جاء بتحريم الصور مطلقا، ونص على تحريم ما هو من جنس الصورة الشمسية، كالصورة في الثياب والحيطان.
فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم في عدة أحاديث: أنه لما رأى عند عائشة سترا فيه تماثيل، غضب وهتكه، وقال: "إن أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون" 1، وقال في حديث آخر: "إن أصحاب هذه الصور - يشير إلى الصور التي في الثياب
__________
1 البخاري: الأدب (6109).(23/153)
ص -157- ... - يعذبون يوم القيامة، ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم" 1، وثبت عنه عليه الصلاة والسلام: "أنه محا الصور التي في جدران الكعبة يوم الفتح"، وهي في حكم الصور الشمسية. فلو سلمنا مشابهة الصورة الشمسية للصورة في المرآة، لم يجز القياس، لما قد تقرر في الشرع المطهر: أنه لا قياس مع النص، وإنما محل القياس إذا فقد النص، كما هو معلوم عند أهل الأصول، وعند جميع أهل العلم.
وأما ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة، إلا رقما في ثوب" 2 فهذا الحديث لا شك في صحته، وقد تعلق به بعض من أجاز الصور الشمسية. والجواب عنه من وجوه: منها: أن الأحاديث الواردة في تحريم التصوير ولعن المصورين، والتصريح بأنهم أشد الناس عذابا يوم القيامة، مطلقة عامة، ليس فيها تقييد ولا استثناء، فوجب الأخذ بها، والتمسك بعمومها وإطلاقها.
ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم لما رأى الصور المشبهة للشمسية، وهي الصور الموجودة في الستور والحيطان، غضب، وتلون وجهه، وأمر بهتك الستور التي فيها الصور، ومحو الصور التي في الجدران؛ وباشر محوها بنفسه، لما رآها في جدران الكعبة، كما سبقت الإشارة إلى ذلك. ومنها: أن الاستثناء المذكور، إنما ورد في سياق
__________
1 البخاري: النكاح (5181) , ومسلم: اللباس والزينة (2107) , وأحمد (6/246) , ومالك: الجامع (1803).
2 البخاري: بدء الخلق (3226) , ومسلم: اللباس والزينة (2106) , والترمذي: الأدب (2804) , والنسائي: الزينة (5350) , وأبو داود: اللباس (4155) , وابن ماجه: اللباس (3649) , وأحمد (4/28).(23/154)
ص -158- ... الأحاديث الدالة على امتناع الملائكة، من دخول البيت الذي فيه تصاوير، ولم يرد في سياق الأحاديث المانعة من التصوير، وفرق عظيم بين الأمرين. ومنها: أن قوله: "إلا رقما في ثوب" 1 يجب أن يحمل على الصور التي قطع رأسها، أو طمس; أو التي في الثياب التي تمتهن باتخاذها وسائد وبُسُطا، ونحو ذلك، لا فيما ينصب ويرفع كالستور على الأبواب، والجدران، والملابس; فإن الأحاديث الصحيحة صريحة في تحريم ذلك، وأنه يمنع من دخول الملائكة، كما ورد ذلك في حديث عائشة، وأبي هريرة، وغيرهما. وبما ذكرناه يتضح الجمع بين الأحاديث، وأن الاستثناء إنما ورد في سياق الأحاديث الدالة على امتناع دخول الملائكة البيت الذي فيه الصور، وأن المراد بها الصور الممتهنة في الوسائد، والبسط، ونحوها، أو مقطوعة الرأس، والله ولي التوفيق.
وقد جمع الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح، والنووي في شرح مسلم، بين الأحاديث بما ذكرته آنفا؛ وأنا أنقل لك أيها القارئ كلامهما، وبعض كلام غيرهما في هذه المسألة، ليتضح لك الصواب، ويزول عنك الإشكال، والله الهادي إلى إصابة الحق، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
قال الحافظ في الفتح، قال الخطابي: والصورة التي
__________
1 البخاري: اللباس (5958) , والنسائي: الزينة (5349) , ومالك: الجامع (1802).(23/155)
ص -159- ... لا تدخل الملائكة البيت الذي هي فيه: ما يحرم اقتناؤها، وهو ما يكون من الصور التي فيها الروح، مما لم يقطع رأسه، أو لم يمتهن، ا?. وقال الخطابي رحمه الله أيضا: إنما عظمت عقوبة المصور، لأن الصور كانت تعبد من دون الله، ولأن النظر إليها يفتن، وبعض النفوس إليها تميل. اهـ.
وقال النووي رحمه الله في شرح مسلم: باب تحريم تصوير صورة الحيوان، وتحريم اتخاذ ما فيه صورة غير ممتهنة بالفرش، ونحوه، وأن الملائكة عليهم السلام لا يدخلون بيتا فيه صورة أو كلب. قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: تصوير صورة الحيوان حرام شديد التحريم، وهو من الكبائر، لأنه متوعد عليه بهذا الوعيد الشديد المذكور في الأحاديث؛ وسواء صنعه بما يمتهن، أو بغيره، فصنعته حرام بكل حال، لأن فيه مضاهاة لخلق الله؛ وسواء ما كان في ثوب، أو بساط، أو درهم، أو دينار، أو فلس، أو إناء، أو حائط، أو غيرها. وأما تصوير صورة الشجرة، ورحال الإبل، وغير ذلك مما ليس صورة حيوان، فليس بحرام؛ هذا حكم نفس التصوير.
وأما اتخاذ المصور فيه صورة حيوان فإن كان معلقا على حائط، أو ثوبا ملبوسا، أو عمامة، ونحو ذلك مما(23/156)
ص -160- ... لا يعد ممتهنا فهو حرام; وإن كان في بساط يداس، ومخدة، ووسادة، ونحوهما مما يمتهن فليس بحرام... إلى أن قال: لا فرق في هذا كله بين ما له ظل، وما لا ظل له. هذا تلخيص مذهبنا في المسألة. وبمعناه قال جماهير العلماء من الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم، وهو مذهب الثوري ومالك، وأبي حنيفة، وغيرهم. وقال بعض السلف: إنما ينهى عما كان له ظل، ولا بأس بالصور التي ليس لها ظل؛ وهذا مذهب باطل، فإن الستر الذي أنكر النبي صلى الله عليه وسلم الصورة فيه، لا يشك أحد أنه مذموم، وليس لصورته ظل، مع باقي الأحاديث المطلقة في كل صورة، ا?.
قال الحافظ- بعد ذكره لملخص كلام النووي هذا- قلت: ويؤيد التعميم فيما له ظل، وما لا ظل له ما أخرجه أحمد من حديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيكم ينطلق إلى المدينة، فلا يدع بها وثنا إلا كسره، ولا صورة إلا لطخها" 1 أي، طمسها، الحديث; وفيه: "من عاد إلى صنعة شيء من هذا، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم" 2 ا?.
قلت: وقد سبق أن النبي صلى الله عليه وسلم محا الصور التي في جدران الكعبة، وهي لا ظل لها، وخرج مسلم في
__________
1 أحمد (1/87).
2 أحمد (1/87).(23/157)
ص -161- ... صحيحه عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "لا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبرا مشرفا إلا سويته" 1 وهذا يعم الصور التي لها ظل، والتي لا ظل لها، والأمر في ذلك واضح لا غبار عليه، والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا به. ونسأله تعالى لنا ولجميع المسلمين التوفيق لما يرضيه، والسلامة من أسباب غضبه، إنه سميع الدعاء.
وأما التلفزيون فهو آلة خطيرة، وأضرارها عظيمة، كالسينما، أو أشد، وقد علمنا عنه من الوسائل المؤلفة في شأنه، ومن كلام العارفين به في البلاد العربية وغيرها، ما يدل على خطورته، وكثرة أضراره بالعقيدة، والأخلاق، وأحوال المجتمع.
وما ذلك إلا لما يثبت فيه، من تمثيل الأخلاق السافلة، والمرائي الفاتنة، والصور الخليعة، وشبه العاريات، والخطب الهدامة، والمقالات الكفرية، والترغيب في مشابهة الكفار في أخلاقهم وأزيائهم، وتعظيم كبرائهم، وزعمائهم، والزهد في أخلاق المسلمين وأزيائهم، والاحتقار لعلماء المسلمين، وأبطال الإسلام، وتمثيلهم بالصور المنفرة منهم، والمقتضية لاحتقارهم، والإعراض عن سيرتهم، وبيان طرق المكر، والاحتيال، والسلب، والنهب، والسرقة، وحياكة المؤامرات والعدوان على الناس.
__________
1 مسلم: الجنائز (969) , والترمذي: الجنائز (1049) , والنسائي: الجنائز (2031) , وأبو داود: الجنائز (3218) , وأحمد (1/96 ,1/128).(23/158)
ص -162- ... ولا شك: أن ما كان بهذه المثابة، وترتب عليه هذه المفاسد: يجب منعه، والحذر منه، وسد الأبواب المفضية إليه؛ فإذا أنكره الإخوان المتطوعون، وحذروا منه، فلا لوم عليهم في ذلك، لأن ذلك من النصح لله ولعباده.
ومن ظن أن هذه الآلة تسلم من هذه الشرور، ولا يبث فيها إلا الصالح العام إذا روقبت، فقد أبعد النجعة وغلط غلطا كبيرا، لأن الرقيب يغفل، ولأن الغالب على الناس اليوم هو التقليد للخارج، والتأسي بما يفعل فيه؛ ولأنه قل أن توجد رقابة تؤدي ما أسند إليها، ولا سيما في هذا العصر الذي مال فيه أكثر الناس إلى اللهو والباطل، وإلى ما يصد عن الهدى؛ والواقع يشهد بذلك، كما في الإذاعة، والتلفزيون في المنطقة الشرقية; فكلاهما لم يراقب الرقابة الكافية المانعة من أضرارهما، ونسأل الله أن يوفق حكومتنا لما فيه صلاح الأمة ونجاتها، وسعادتها في الدنيا والآخرة، وأن يصلح لها البطانة، إنه جواد كريم.
وهذا آخر ما أردنا التنبيه عليه، من أخطاء الكاتب عبد الله السعد، نصحا لله ولعباده؛ ونسأل الله سبحانه أن يوفقنا والكاتب، وسائر المسلمين، للتفقه في الدين، ولكل ما فيه صلاح أمر ديننا ودنيانا، إنه على كل شيء قدير، وصلى الله على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه.(23/159)
ص -163- ... وقال الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز: 1
احذروا الصحف الخليعة
لقد أصيب العالم الإسلامي عامة، وسكان الجزيرة خاصة، بسيل من الصحف التي تحمل بين طياتها أشكالا كثيرة من الصور الخليعة المثيرة للشهوات، الجالبة للفساد، الداعية للدعارة، الفاتنة للشباب، والشابات.
وكم حصل في ضمن ذلك من أنواع الفساد، لكل من يطالع تلك الصور العارية، وأشباهها، وكم شغف بها من الشباب من لا يحصى كثرة، وكم هلك بسمومها من شباب وفتيات، استحسنوها، ومالوا إليها، وقلدوا أهلها.
وكم في طيات تلك الصحف من مقالات إلحادية، تنشر الأفكار المسمومة، والقصائد الباطلة، وتدعو إلى إنكار الأديان، ومحاربة الإسلام. وإن من أقبح تلك الصحف، وأكثرها ضررا: "المصور" و"آخر ساعة" و"الجيل" و "روزاليوسف" و "صباح الخير" و "مجلة العربي".
فالواجب على حكومتنا - وفقها الله - منع هذه الصحف منعا باتا، لما فيها من الضرر الكبير، على
__________
1 في مقال نشر في مجلة راية الإسلام سنة 1380 ه, وللشيخ محمد بن عثيمين أيضا: خطبة جيدة في فتن المجلات طبعت مفردة وانتشرت سنة 1407ه.(23/160)
ص -164- ... المسلمين في عقائدهم، وأخلاقهم، ودينهم، ودنياهم؛ ولا ريب: أن ولاة الأمر، أول مسئول عن حفظ دين الرعية وأخلاقهم.
ولا شك أن هذه الصحف مما يفسد الدين والأخلاق، ويضر المسلمين ضررا ظاهرا في الدين والدنيا، ويزلزل عقائدهم، ويحدث الشكوك والمشاكل الكثيرة بينهم، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة الحج آية: 41-40]، ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [سورة محمد آية: 7].
ولا ريب أن القضاء على هذه الصحف، ومنع دخولها البلاد، من أعظم نصر الله وحماية دينه.
وفي الحديث الصحيح، يقول النبي صلى الله عليه وسلم "كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته: فالإمام راع ومسؤول عن رعيته. والرجل راع في أهل بيته، ومسؤول عن رعيته. والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها. والعبد راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته" 1.
وقال صلى الله عليه وسلم:"ما من أمير يلي أمر المسلمين، ثم لا يجهد لهم وينصح، إلا لم يدخل معهم الجنة" 2 رواه مسلم.
فيا ولاة أمر المسلمين، اتقوا الله في المسلمين،
__________
1 البخاري: الجمعة (893) , ومسلم: الإمارة (1829) , والترمذي: الجهاد (1705) , وأبو داود: الخراج والإمارة والفيء (2928) , وأحمد (2/5 ,2/54 ,2/121).
2 مسلم: الإيمان (142).(23/161)
ص -165- ... وحاربوا هذه الصحف الهدامة، وخذوا على أيدي السفهاء، وأغلقوا أبواب الفساد، تفوزوا بالنجاة والسعادة، وتنشلوا بذلك جمعا غفيرا من الفتيان والفتيات من وهدة هذا التيار الجارف، وحمأة هذه الصحف الخبيثة المدمرة.
ويا معشر المسلمين، حاربوا هذه الصحف الخبيثة المدمرة، ولا تشتروها بقليل ولا كثير; فإن بيعها وثمنها حرام، وإنما الواجب إتلافها أينما وجدت، دفعا لضررها، وحماية للمسلمين من شرها. أراح الله منها العباد والبلاد؛ ووفق ولاة أمر المسلمين، لما فيه صلاح دينهم ودنياهم، وسلامة عقائدهم، وأخلاقهم، إنه على كل شيء قدير.
[ أنجح الوسائل وأقرب الطرق في الدعوة والتوجيه والإرشاد ]
وقال الشيخ: صالح بن علي بن غصون: 1
الحمد لله: إن كل فرد منا يدرك أثر الدعوة والتوجيه والإرشاد في الجماهير والأسر والأفراد، كما يدرك أن أنجح الوسائل، وأقرب الطرق في هذا الوقت لهذا الغرض، طريق الإذاعة، والصحف، والمجلات، والمنابر، والنوادي، مما جعل أعداء الإسلام يستغلون هذه الثغور استغلالا فظيعا، دجلا، وتضليلا، وخلاعة، ودعارة، وتشبيها، وزندقة، وإلحادا، بكل جرأة وإقدام؛ دأبوا على ذلك ليل نهار، وضحوا في هذا السبيل، بكل
__________
1 في مجلة راية الإسلام, سنة 1380 ه.(23/162)
ص -166- ... غال ورخيص، فانخدع ببريق دعاياتهم، وترويجاتهم خلق كثير، وجم غفير.
ونحن، يا للأسف، بين غافل ومتغافل، عن تلك الأخطار المحدقة، والدعايات المغرضة التي زعزعت العقائد، وحطمت الكرامات، ودنست الأخلاق; فالبعض منا يتعلل عن المساهمة في هذا الواجب بمشاغله وأعماله الرسمية، بينما يتخلف قسم آخر عن المساهمة في هذا الواجب مستترا بالخمول وعدم اعتباره لدى الكثيرين، على حد تعبيره.
وقسم آخر حظهم التألم، وإظهار الحزن والأسى، وشن الحملات النكراء على المسؤولين، والأشخاص البارزين، كأن المسؤولية عليهم دونهم، وكأن النصوص الشرعية القاضية بالأمر والنهي لم تتناولهم، فنصيبهم منها التخلي والعيب على إخوانهم.
ولا شك أن واجب الأمر والنهي، والدعوة والإرشاد على كل فرد منا بحسب حاله، وعلمه، ومقدرته، ونفوذه، إذا لم يقم بهذا الأمر العظيم، من تحصل بهم الكفاية في هذا الزمن.
فعلينا أن نفرغ أنفسنا للدعوة والإرشاد، والكفاح، والنضال عن طريق الوسائل المجدية، كالإذاعة، والمنابر، والنوادي، والصحف، والمجلات؛ وأن نساند الدعاة إلى(23/163)
ص -167- ... خير أين كانوا، وأن نشجع الصحف والمجلات التي تحتضن الدعوة إلى التمسك بهذا الدين، وآدابه، وأخلاقه، ماديا، وأدبيا.
فواقعنا اليوم يحتم علينا أن نكرس الجهود، ونستهين المشقات، والصعوبات في سبيل نشر هذا الدين، ومقاومة المبادئ الهدامة، التي لعبت أدوارا في ميادين الدجل والتضليل؛ سيما وقد أفسح لها المجال، فوجدت آذانا صاغية، وقلوبا واعية، انساقت وراء تلك الدعايات، بدون تفكير ولا روية.
وإن لم يتدارك الأمر قبل فواته، فالواقع أليم، والخطب جسيم، ولن يسلم من معرة ذلك وعواقبه، إلا من قام بواجبه تجاه نفسه وولده وذويه، وإخوانه المسلمين، مهما كثرت مشاغله، وتعللاته؛ وفقنا الله لصالح القول والعمل.
[ الحث على نشر الدعوة الإسلامية بكل الوسائل ]
وقال الشيخ: صالح بن محمد بن لحيدان، في كلمة افتتاحية: 1
بحمدك اللهم نبدأ، وعلى هدى منك نسير، ورجاؤنا بك عظيم، أن تسدد خطانا، وتكتب لنا النجاح والتوفيق فيما نحن فيه.
في السنوات الأخيرة انتشرت الحياة الثقافية في بلادنا
__________
1 نشرت في مجلة راية الإسلام سنة 1380 ه, وكان رئيس تحريرها.(23/164)
ص -168- ... انتشارا سريعا، يحمل معه طابع السرعة في كل شيء؛ وفي السرعة من الأخطار والأخطاء الشيء الكثير. انتشرت هذه الحياة، وانتشر معها الأفكار المختلفة، والمبادئ المتباينة، ترد من الشرق والغرب، وتحمل الناس على نبذ دينهم، والسير في ركابها.
تحملها الجرائد والمجلات في صفحاتها، والإذاعات على أمواج الأثير، في أثواب مختلفة تخدع العيون، وتميت القلوب؛ ففتن بها الشباب، وارتاع منها الشيوخ وبهتوا، وجعلت مبادئ الشر تلوح من كل جانب.
وأقبل المتعلمون من أبناء الأمة الإسلامية على اعتناق هذه الأفكار، والدعوة لها، لجهلهم بالدين وتعاليمه؛ يساعد على ذلك واقع المسلمين، وما هم عليه. وقليل منهم وقف منها موقف الناقد الممحص، المدقق، ليسبر غورها، ويطلع على ما تنطوي عليه، وتنتهي إليه من شرور وفساد في الأخلاق، والعقائد والعادات والتقاليد.
فأفضى بهم موقفهم هذا إلى نتائج أفزعتهم، وأقضت مضاجعهم، وأقلقت بالهم؛ وجعلوا يرسمون الخطط، ويخطون السبل لصد هذا السيل الجارف، وحماية أمتهم وملتهم من ويله ووباله.
وكانت الجزيرة العربية مصدر النور والإشعاع، ومهبط الوحي والفلاح، منها انتشر الإسلام في ابتداء رسالته، كما كانت منار هدى عند اندراس ملته، فمن قِبَلها(23/165)
ص -169- ... ظهرت الدعوة التجديدية للملة الإسلامية، على يد حاملها وباعث نهضتها، في قلب الجزيرة.
لهذا أصبح من المتحتم على أبنائها أن يستعدّوا لنشر الدعوة الإسلامية، والوقوف موقف المدافع عن دينه ومقدساته، وأن يردوا ما تقوله الكتب، وتنشره الصحف من سخف القول، ورذيل الأفكار.
وأقرب وسيلة لهذا الميدان هي: الصحافة، لاشتراك العامة والخاصة في الاطلاع عليها، والوقوف على ما يقال فيها. وكان إنشاء مجلة تلزم نفسها السير مع الدين، وتقف نشاطها لحمايته، ونفي ما يلصق به وبأهله من باطل فكرة تداعب مخيلات كثير من العلماء والمتعلمين، ولكن إخراجها إلى حيز الوجود هو الصخرة التي تتكسر عليها أفكارهم، وتذوب عندها آمالهم.
ذلك لما يرونه من إعراض الناس مما يكتب في هذا الميدان، وخوفا من المستقبل المظلم، فالقراء يسعون وراء الصحف التي تنشر هجر القول، ووضيع الكلام، والتي تخدم المادة، وتسير في ركاب الفكر الشرقي والغربي، الذي هدفه: رفع الدنيا بهدم الدين!!.
ولكن الله يسر لهذه الفكرة من ذوي الغيرة الإسلامية، فقاموا لها على قدم وساق، وتولى إخراجها إلى ميدان العمل والظهور على مسرح الحياة، من لهم مسابقة في(23/166)
ص -170- ... ميدان الدعوة ونشر الدين، فعملوا على إبرازها، وليس غريبا منهم:
وهل ينبت الخطِّيّ إلا وشيجه وتغرس إلا في منابتها النخل 1
وهذه المجلة التي نتشرف بزفها إلى القراء، وعرضها عليهم هدفها واضح من اسمها، وغايتها مرتسمة في الراية التي تحملها، رائدها الخير والدعوة إليه، ونفي الشر والتحذير منه، وإرشاد المسلمين إلى ما فيه صلاحهم.
فهي مجلة كل مسلم غيور، حريص على بعث أمته وهدايتها، ومنها يستطيع أن يعبر عن رأيه ويرشد؛ فهي منار إرشاد، ومصدر تثقيف، تعالج المشاكل الإسلامية، وتحاول حلها، وترسم الخطط السليمة التي ترفع من شأن المسلمين، وينبني عليها نظام الإسلام في العبادات والعادات، وفي السياسة والاقتصاد، وفي علاقة الناس بربهم، وفيما بينهم.
وتشرح أحوال المسلمين وواقعهم، وتبين مصادر الفلاح، وأن مكانها في الإسلام، وتحذر من انتهاج السبل المؤدية إلى الهلاك والدمار; فيها تقرأ عن أسلوب الدعوة في الإسلام، وعن الأدب والأدباء، وعن التأريخ، وما
__________
1 وانظر الشاهد رقم 218 من أوضح المسالك لفهم معناه.(23/167)
ص -171- ... سجله لأهل الجهاد من أعمال البطولات والنصر.
تجد فيها ما تحب من فتاوى تهم المسلمين، ولها مساس بحياتهم، يكتبها أكابر العلماء في هذه البلاد؛ وهي مصدر حياة، ومنار علم، تجيب على أسئلة القراء، واستفتاءاتهم، وتحل ما يصعب حله من مسائل الاقتصاد التي ضل فيها الشرق والغرب، ومن سار في ركابهم.
إنها مجلتك أيها المسلم أين كنت، وحيث تكون، فهي بك ولك، ومنك تصدر، وعنك تنطق؛ هي ميدانك الفسيح الذي تجد فيه ما يروقك من علم وأدب، فتنقلك من مقالة إلى قصيدة، إلى قصة هادفة، إلى فتوى مفصلة.
فهي روضتك المحببة، تضم أنواع النباتات النافعة، تغذيها أفكار حية، أشربت حب الإسلام، والدفاع عنه، ويتولى إخراجها كوكبة من العلماء، والشباب المثقف، ممن ستقرأ لهم في هذا، والأعداد المقبلة.
إنها مجلتك، ونجاحها متوقف على وقوفك بجانبها، فجاهد بمساندتها، وستساير بإذن الله العصر وتطوره، وستربط بين المسلمين في شرق بلادهم وغربها، حتى يكونوا جسما واحدا، يحيا حياة حرة كاملة، وهي بعون الله بالغة ما تصبو إليه، وما ذلك على الله بعزيز.(23/168)
ص -172- ... الباب العاشر "النظم"
[الفصل الأول القضاء الشرعي الذي أوجبه الله على عباده]
سميته بها لكثرتها في هذا العصر، ولم تكن في عصر الشيخ عبد الله، ولا في عصر النبوة، ولا الأئمة المهديين; وإنما سرت إلينا من أفراخ الإفرنج المنحلين، المعرضين عن شرع رب العالمين، فجاؤوا بنظمهم يطبقونها على المسلمين.
وفي الباب فصول; الأول منها: القضاء الشرعي الذي أوجبه الله على عباده، وقد أجمعوا على أن ينصب في كل إقليم قاضيا، لحفظ حقوق المسلمين، عملا بقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ}[ سورة المائدة آية: 49]، وقوله: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [سورة الأعراف آية: 3].
وقد تكفل الله لعباده جميع ما يحتاجون إليه إلى قيام الساعة، قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ}[ سورة الأنعام آية: 115] الآية، وقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [سورة المائدة آية: 3]. والقضاء، وفضله، وآدابه، قد أفرد بالمؤلفات؛ وفي أثناء كتب الحديث والفقه ما يشفي ويكفي، ويغني عن أفكار المعرضين عن شرع رب العالمين.(23/169)
ص -173- ... قال الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد رحمه الله:
من محاسن الإسلام 1:
لا شك أن الدين الإسلامي، دين سماوي، لم يكن لأمة من الأمم مثله، ولا نزل على نبي من الأنبياء نظيره، إذ هو دين عام، مبين لأحوال المجتمع الإسلامي، بل البشر عامة؛ وبه كمل نظام العالم، فهو جامع شامل للمصالح الاجتماعية، والأخلاقية.
فإنه يبين الأحوال الشخصية التي بين العبد وبين ربه، من صلاة، وزكاة، وصوم، وحج؛ وشرع نظافة البدن، فأمر بغسل الجنابة، والجمعة، والعيد، أو بعضا كالوضوء عند أداء كل فريضة من الفرائض الخمس.
وشرع أمور الفطرة، من ختان، وقص شارب، وتقليم أظفار، ونتف الإبط، والسواك، وحلق العانة. كما أرشدنا الإسلام إلى تجميل الثياب، وأن تكون على أحسن هيئة وأكملها، كما سن ذلك في الجمعة، والعيدين.
وهذب الأخلاق: فأمر بالصدق في المعاملات، والوفاء بالعقود، والعهود، والمواعيد، وأوجب ترك الذنوب، من زنى، وخمر، وغيبة، وقذف، وسعاية، وشهادة زور، وانحراف في الأحكام، وتحريف لما أباح الله
__________
1 نشر في جريدة القصيم.(23/170)
ص -174- ... وحرم، بتغيير له عن وجهه، وما أريد به إلى غير ذلك.
وبالجملة: إن الدين الإسلامي جامع، ورابط للأمة الإسلامية؛ بل هو حياتها، وتدوم ما دام، وتنعدم، وتسقط إذا انعدم. وهو مفخرة من مفاخرها العظيمة، ومن خصائصها، حيث لم يكن لأمة من الأمم قبلنا مثله.
فلو أن المسلمين تمسكوا بأحكام الإسلام وتعاليم دينهم، كما كان آباؤهم الأماجد، لكانوا أرقى الأمم، وأسعد الناس؛ ولكن لما حرفوا تعاليم دينهم، انحرفوا عن الصراط السوي.
وقد جعل الإسلام للفقراء حظا في مال الأغنياء، بالزكوات، والكفارات، لطفا بهم وإحسانا إليهم، ورحمة بالأغنياء، وتكرمة لهم، وتحصينا لأموالهم؛ هذا أساس المبادئ الاشتراكية المعتدلة، والأعمال الخيرية، التي تأسست لها الجمعيات الكبرى في بعض أقطار العالم.
وشرع الإسلام الحج ليحصل اجتماع عام لسائر الأمم التي تدين به، لينتفع بعضهم من بعض علومهم، وأحوالهم، ويحصل بذلك التعارف، والتعاون، والتآخي، ولما في ذلك من إعانة أهل الحرمين الشريفين ليكونا مركزين عظيمين للإسلام؛ وهذا بعض من مقاصد الحج، كما قد شرع الإسلام: اجتماعات أخرى أصغر وأيسر، في الجمع، والأعياد.(23/171)
ص -175- ... وبين أحكام المعاملات، من بيع وشراء، ورهن، وقرض، وإباحة شركات ووكالة، وحوالة، وعارية، وغيرها من المعاملات المالية، التي تقتضيها القاعدة التي عليها مبني علم الاجتماع البشري.
وبيّن الإسلام كيف تقام البيوتات، وتتأسس العائلات; فندب إلى الزواج، وحث عليه ورغب فيه، وبيّن العقود التي تعتبر زواجا، ووضح شروطها، من رضى وولي وشهود، وغيرها؛ وما خالف ذلك فهو سفاح أو قريب منه; وأمر بسدل الحجاب للنساء صيانة للنسل، وإبعادا للمظنة وراحة لكل ضمير.
وبيّن أحكام الجنايات، كالقصاص في النفس والطرف، وما يشرط لذلك؛ كما بين أحكام فصل الخصومات، في الدماء والأموال، والأعراض.
وبيّن ما يلزم لحفظ المجتمع العام، من نصب الإمام، وشروط استحقاقه للإمامة، وما يجب له من الطاعة، وما يجب عليه من المشورة، والعمل بالشريعة، وإقامة العدل بين أصناف الرعية.
ثم إن الإسلام قسم السلطة فجعلها خططا منها القضاء، فحدد للقاضي خطته، من فصل الخصومات، والنظر في أموال غير المرشدين، والحجر على من يستوجبه، والنظر في وقوف عمله ليعمل بشرطها، وتنفيذ الوصايا، وإقامة الحدود، إلى غير ذلك.(23/172)
ص -176- ... وبيّن خطة الشاهد: كيف تحمل الشهادة وأدائها، ومن تقبل شهادته، ومن لا تقبل; وأمر بإثباتها وعدم كتمانها؛ كما بيّن خطة المحتسب، ثم بقية الخطط.
وبيّن حكم من خرج عن طاعة الإمام، بأن يقاتل حتى يفيء إلى أمر الله؛ وبين كيف تعامل الأمم الأجنبية فيما إذا وقع حرب معها، وفي حالة مسالمتها. وأمر بحسن الجوار، وإقامة الحدود على من أخاف السبيل، أو خالف ما أمرت به الشريعة.
وبالجملة: فقد استقصى هذا الدين الإسلامي العظيم جميع الشؤون الاجتماعية، وبيّنها أحسن بيان، مما يعجز عن مثله عقلاء البشر؛ حتى دخل مع الرجل في بيته وحكم بينه وبين امرأته، فبين ما له عليها من الحقوق، وبيّن ما لها عليه من مثل ذلك، وبيّن ما عسى أن يقع بينهما من خلاف في المستقبل. كما حكم الإسلام بين الرجل وبين ولده، وبينه وبين نفسه في حياته وبعد وفاته، كأوقافه ووصاياه، وما يصح منها وما لا يصح، وقسّم مواريثه، وبين أحكام تغسيله وتكفينه ودفنه. كل هذا لأجل أن تنتظم الحياة انتظاما كاملا، ويعيش المسلم عيشة هنيئة منتظمة، ليتمكن معها لإعداد الزاد ليوم المعاد، والتأهب لما بعد الموت.(23/173)
ص -177- ... فالدين الإسلامي: نظام عام للمجتمع البشري الإسلامي؛ فإنه تام الأحكام، ثابت المباني، دين سماوي، لم يدع شاذة ولا فاذة إلا بينها أحسن بيان، ووضحها أتم إيضاح.
وما دخلت الأمم الكثيرة في الإسلام أفواجا أفواجا، واتسعت دائرة الإسلام، فانتشرت الأمة الإسلامية مادة جناحها من نهر القانج من الهند شرقا إلى إفريقيا، ثم إلى أواسط أوروبا، في زمن قليل، إلا باحترام الحقوق والعمل بقواعد الإسلام، والتسوية بين طبقات المسلمين، ملكهم، وصعلوكهم، وصغيرهم وكبيرهم فيه على السواء.
فالأمة الإسلامية لا حياة لها ولا استقامة بدون التمسك بدينها، والعمل بأوامره ونواهيه؛ فهي دائمة بدوام دينها، مضمحلة باضمحلاله، ساقطة إذا أهملت تعاليم دينها القويم.
كما قال بعض أعداء المسلمين: لما رغب المسلمون عن تعاليم دينهم، وجهلوا حكمته وأحكامه، نشأ فيهم فساد الأخلاق، والتباغض، وتفرقت كلمتهم، وجهلوا أحوالهم الحاضرة والمستقبلة، وغفلوا عما يضرهم وما ينفعهم.
وقنعوا بحياة يأكلون فيها ويشربون، وينامون؛ ثم لا ينافسون غيرهم في فضيلة، ولكن متى أمكن لأحدهم أن يضر أخاه لا يقصر في إلحاق الضرر به، فجعلوا بأسهم(23/174)
ص -178- ... بينهم، والأمم تبتلعهم لقمة بعد أخرى. رضوا بكل عارض، واستعدوا لقبول كل حادث، وركنوا إلى السكون في كور بيوتهم، يسرحون في مرعاهم ثم يعودون إلى مأواهم.
هذا وصفهم لحالة المسلمين حين جهلوا تعاليم هذا الدين القويم، ورضوا منه بمجرد الانتساب إليه، وهو دين سماوي عام، شامل لمصالح الدنيا والآخرة، ثابت المباني، تام الأركان.
قال كثير من منصفي عقلاء المستشرقين، ممن يكتب لبيان الحق، لا للسياسة: إن نشأة مدنية أوروبا الحديثة، إنما كانت رشاشا من نور الإسلام، فاض عليها من الأندلس، ومن صفحات الكتب التي أخذوها في حروبهم مع المسلمين، في الشرق والغرب.
وقال القس لميلوان: الإسلام يمتد في إفريقيا، وتسير الفضائل معه حيث سار؛ فالكرم، والعفاف، والنجدة من آثاره، والشجاعة، والإقدام من نتائجه; ومن الأسف أن السكر والفحش والقمار تنتشر بين السكان بانتشار دعوة المبشرين.
وقال كونتنسن: يمتاز المسلمون على غيرهم برفعة في السجايا، وشرف في الأخلاق؛ قد طبعت في نفوسهم ونفوس آبائهم وصايا القرآن، بخلاف غيرهم، فإنهم في سقوط تام من حيث ذلك.(23/175)
ص -179- ... وقال أيضا: إن من أهم النعوت التي يمتاز بها المسلم: عزة النفس فهو سواء في حالة بؤسه ونعيمه، لا يرى العزة إلا لله ولرسوله وله، وهذه الصفة التي غرسها الإسلام في نفوسهم، إذا توفرت معها الوسائل، كانت أعظم دافع لها إلى التسابق إلى غاية المدنية الصحيحة، ورقيات الكمال.
وقال: هانوتو، وزير خارجية فرنسا في وقته: إن هذا الدين الإسلامي قائم الدعائم، ثابت الأركان، وهو الدين الوحيد الذي أمكن اعتناق الناس له زمرا وأفواجا; وهو الدين الإسلامي العظيم، الذي تفوق شدة الميل إلى التدين به كل ميل، إلى اعتناق دين سواه؛ فلا يوجد مكان على سطح المعمورة إلا واجتاز الإسلام فيه حدوده، فانتشر في الآفاق.
وأقوالهم في هذا كثيرة جدا، يعترفون فيها بعظمة الإسلام، وشموله لعموم المصالح، ودرء المفاسد، وأن المسلمين لو تمسكوا بإسلامهم حقا، لصاروا أرقى الأمم وأسعد الناس، ولكن ضيعوه فضاعوا، واكتفوا منه بمجرد التسمي بأنهم مسلمون.
مناقب شهد العدو بفضلها ... والفضل ما شهدت به الأعداء
ويؤسفنا كثيرا بأن البعض من أولادنا لم يعرفوا عن(23/176)
ص -180- ... الإسلام وعظمته ما عرفه هؤلاء المعادون له، بل صاروا يعظمون هذه المدنية الزائفة، ويتقبلون كل ما يكتب نحو الإسلام وأهله، من غير تعقل وتفهم.
ولم يدروا أن معظم كتاباتهم على اختلاف أساليبها يريدون بها غمط الإسلام، وتشكيك المسلمين في إسلامهم، بما يبذرونه من الشك والشبه، المؤدية إلى الحيرة والتردد، لمن لا خبرة له بمقاصدهم، ولا علم عنده بالإسلام وحكمه; والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
وقال رحمه الله: مكانة القضاء في الإسلام 1
إن مركز القضاء له الأهمية الكبرى في هذه الشريعة، حيث كان القاضي يفصل في الخصومات، ويقضي في الدعاوى بين الناس، لا فرق بين ملك وأمير، وصغير وكبير، وغني وفقير؛ والذي هذا شأنه، وهذه مهمته، يجب عليه أن يتخلق بخلق القرآن، ويقتدي بالنبي الكريم، والسلف الصالح.
فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتولى القضاء بنفسه، فكان إذا جلس له يتمثل العدل في أسمى وأجمل المظاهر، وكان خلفاؤه من بعده يتولون هذا المنصب بأنفسهم؛ قام به أبو
__________
1 نشر في جريدة الندوة في 29/6/1380 ه.(23/177)
ص -181- ... بكر وضي الله عنه، جامعا بين السلطة الدينية والسياسية، فكان يحكم بكتاب الله، فإن لم يجد فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتوقف في بعض القضايا، فيجمع لها المهاجرين والأنصار، رضي الله عنهم، فيستشيرهم في حكمها.
وجرى على هذا من بعده، الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه فلما اتسعت الفتوحات الإسلامية، واشتغل بالأعمال السياسية، ولّى أبا الدرداء قضاء المدينة; وكان أكابر الصحابة وحفاظ القرآن، يقومون بهذا المنصب، فأبو موسى تولى قضاء الكوفة، وشريح في البصرة، وغيرهما، فساروا وأمثالهم في القضاء، سيرة بهرت العقول.
هذا صعلوك من صعاليك اليهود، ادعى عليه علي رضي الله عنه في رمح كان بيد اليهودي، على أنه رمحه، فطلب شريح من علي البينة بأنه رمحه، فشهد ابنه الحسن، فقال: ائتني بشاهد غيره، لأنه ابنك، ولا تقبل شهادة الابن لأبيه، فقضى به شريح لليهودي، فسبح اليهودي، وهلل، وحمد وكبر، فأسلم، وقال: الرمح لعلي، وإني لكاذب عليه، فقال علي: الرمح لك، وأعطاه فرسا لتكمل عنده آلة الجهاد.
فالشريعة الإسلامية عنت بالعدل في القضاء عنايتها بكل ما من شأنه دعامة لسعادة الحياة، فأتت فيه بالعظات(23/178)
ص -182- ... البالغة، تبشر من أقامه وعدل فيه، بعلو المنْزلة، وحسن العاقبة؛ وتنذر من قصر أو جار، بسوء المنقلب، وعذاب الهون.
فمن الآيات المنبهة لما في العدل والاستقامة من الكرامة والفضل، قوله تعالى: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [سورة المائدة آية: 42] أي: بالعدل {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [سورة المائدة آية: 42].
فدلت الآية الكريمة على الأمر بالعدل، وأن خيرا عظيما يحصل للحاكم بالقسط، هو محبة الله له؛ وناهيك بها من محبة، فما بعد محبة الله إلا الحياة الطيبة في الدنيا، والعيشة الراضية في الآخرة.
ومن الأحاديث الدالة على ما يورثه العدل، من المنْزلة، وعلو المكانة ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن المقسطين عند الله على منابر من نور، عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين: الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا"1 وشدة قربهم من الله جل شأنه، وفوزهم برضوانه، حاصل لهم بسبب عدالتهم.
وإن ترد مثلا من آيات الوعيد، فتأمل قوله وتعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [سورة ص آية: 26].
__________
1 مسلم: الإمارة (1827) , والنسائي: آداب القضاة (5379) , وأحمد (2/160).(23/179)
ص -183- ... تجد الآية تنادي بأن الفصل في القضاء جريا مع الأهواء، ضلال عن سبيل الله الذى هو صراطه المستقيم، والضلال عن سبيل الله، ملق صاحبه في العذاب الشديد؛ فما ظنك بعذاب وصفه الكبير المتعال بالشدة، ويشتريه بمتاع في هذه الدنيا؟ إن هذا لسفه، ودلالة على عدم نفوذ الإيمان إلى سويداء قلبه؛ فلهذه الآية أثر عظيم في النفوس المطمئنة بالإيمان، البعيدة عن الأهواء.
يحدثنا التاريخ أن أحمد بن سهل، جار لقاضي مصر، بكار بن قتيبة، فاتفق أنه مر على بيت بكار أول الليل، فسمعه يقرأ هذه الآية، ويرددها ويبكى {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [سورة ص آية: 26] ثم قمت آخر الليل، فإذا هو يقرؤها مرددا لها، وإن بكارا هذا من أعدل القضاة حكما، وأشرفهم أمام أولي الأمر موقفا.
والأحاديث الواردة في الوعيد على الجور كثيرة جدا، كحديث بريدة: "القضاة ثلاثة: اثنان في النار، وواحد في الجنة، رجل عرف الحق وقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل عرف الحق وقضى بخلافه، فهو في النار" 1.
فإن كان حظه من القضاء بخسا، أو يكون خلُق العفاف في نفسه واهيا، كمن كان متبعا لهواه، جاريا على غير السنن، فهذا جزاؤه.
__________
1 أبو داود: الأقضية (3573) , وابن ماجه: الأحكام (2315).(23/180)
ص -184- ... وصف الإسلام ما في العدل، من فوز، ورضى، وخير، واستقامة وما في الحيف من شقاء، وبلاء وشر؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم رسم العدل في القضاء رسما مستقيما ليس بذي عوج، وزاده بسيرته العملية بيانا واستنارة.
انظر إلى قصة المخزومية التي سرقت، وأمر بقطع يدها، وشفاعة أسامة بذلك; وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من كان قبلكم إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله: لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها" 1.
فاستبانت قضيته عليه الصلاة والسلام لأصحابه في أجلى مظهر، فاقتدوا بهديه الحكيم، وأيدوا للناس القضاء، الذي يزن بالقسطاس المستقيم، كما في كتاب عمر لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه؛ فإن للإسلام في سيرة رجاله الذين أوتوا العلم، والإيمان أثرا كبيرا في إصلاح القضاء، والسير به على المنهج القويم.
والمحاكم لا تشرق بنور العدل، إلا أن يمسك بأزمتها رشيد العقل، وقوي الإيمان بيوم المعاد؛ فالخوف من الله ومراقبته تحمل القاضي على تحقيق النظر في كل واقعة، بحيث يتطلب معرفة الحق، ويبلغ في تطلبه منتهى استطاعته.
ولا يتعجل بما يلوح له من أول فهم يبدو له، بل
__________
1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3475) , ومسلم: الحدود (1688) , والترمذي: الحدود (1430) , والنسائي: قطع السارق (4899) , وأبو داود: الحدود (4373) , وابن ماجه: الحدود (2547) , وأحمد (6/162) , والدارمي: الحدود (2302).(23/181)
ص -185- ... يتأنى، ويبحث عما تستدعيه مجريات القضية، حتى ولو علم أن قضاءه نافذ المفعول، وما له فيه معقبا. فمن ملوك الأندلس من يعزل القاضي إذا رأى منه التعجل في فصل الأحكام التي تستدعي بطبيعتها شيئا من التروي والتعقل، إذ يبدو من تعجله عدم تحرجه، من إثم الخطأ في الحكم.
فإن التقوى هي التي توقف القاضي عند حدود العدل، لا يخرج عنها قيد شعرة؛ وانظر إلى خبر عقبة بن يزيد، قاضي بغداد، وتخوفه على دينه، حيث قدمت له هدية فردها، واستقال من أجلها.
فقد روي أن عقبة بن يزيد، قاضي بغداد في أيام الخليفة المهدي، جاء إليه في بعض الأيام وقت الظهيرة، وهو منفرد، فلما دخل عليه استأذنه فيمن يسلم إليه القمطر الذي فيه قضايا مجلس الحكم، واستعفاه من القضاء، وطلب منه أن يقيله من ولايته.
فظن الخليفة المهدي أن بعض الأمراء من البيت المالك قد عارضه في حكمه; فقال له في ذلك: إن كان عارضك أحد لننكرنّ عليه; فقال القاضي: لم يكن شيء من ذلك; قال: فما سبب استعفائك من القضاء؟
قال يا أمير المؤمنين، كان قد تقدم إلي خصمان منذ شهر في قضية مشكلة، وكل يدعي بينة وشهودا، ويدلي(23/182)
ص -186- ... بحجج تحتاج إلى تأمل وتثبت، فرددت الخصوم رجاء أن يصطلحوا، وأن يظهروا الفصل بينهما; فسمع أحد الخصوم أني أحب الرطب، فعمد في وقتنا هذا، وهو أول أوقات الرطب، لا يتهيأ في وقتنا هذا جمع مثله لأمير المؤمنين، وما رأيت أحسن منه، ورشا خادمي بدراهم، على أن يدخل الطبق، ولا يبالي عاقبة ذلك.
فلما أدخله علي أنكرت ذلك، وطردت خادمي، وأمرت برد الطبق إليه. فلما كان اليوم، تقدم الخصمان إلي فما تساويا في عيني، ولا في قلبي، فهذا يا أمير المؤمنين وأنا لم أقبل الهدية، فكيف يكون حالي لو قبلت؟ ولا آمن أن تقع علي حيلة في ديني فأهلك، وقد فسد الناس؛ فأقلني يا أمير المؤمنين أقالك الله، وأعفني أعفاك الله. فشدد في هذا الطلب، فلم يسع الخليفة إلا إقالته من القضاء، إجابة لطلبه وإلحاحه في ذلك.
ويروى أن منذر بن سعيد البلوطي، كان قاضيا بقرطبة، في أيام زهرة الإسلام، في تلك البلاد التي أخنى عليها الدهر، وأصبحت أثرا بعد عين. وفي عصره احتاج الخليفة الناصر إلى شراء دار في قرطبة، فوقع استحسانه على دار كانت لأولاد أيتام، قصّر؛ وكانت قريبة لبعض أملاكه، وهذه الدار يتصل بها حمام له غلة واسعة.
وكان الأولاد الأيتام القصّر في حجر القاضي، فأرسل(23/183)
ص -187- ... الخليفة من قوّم الدار بقدر ما طابت نفسه به، وأرسل أناسا أمرهم بمداخلة وصي الأيتام في بيعها عليهم; فقال: إنه لا يجوز ذلك إلا بأمر القاضي.
وأرسل الخليفة إلى القاضي منذر، ليبيع هذه الدار، فقال القاضي لرسوله: البيع على الأيتام لا يصح إلا بوجوه; منها: الحاجة، ومنها: الوهي الشديد; ومنها: الغبطة. فأما الحاجة بهذه الأيتام إلى البيع فلا; وأما الوهي فليس فيها؛ وأما الغبطة فهذا مكانها، فإن أعطاهم أمير المؤمنين فيها ما تستديم به الغبطة فأمر وصيهم بالبيع، وإلا فلا.
فنقل جوابه إلى الخليفة، فأظهر الزهد في شراء الدار، طمعا في أن يتوخى رغبته فيها، وخاف القاضي أن تنبعث منه عزيمة تلحق الأيتام ثورتها، فأمر وصي الأيتام بنقض الدار، وبيع أنقاضها. ففعل ذلك، وباع الأنقاض، فكانت لها قيمة أكسب مما قومت به للخليفة الناصر، فاتصل الخبر بالخليفة، فعز عليه خرابها، وأمر بتوقيف الوصي على ما أحدثه فيها، فأحال الوصي على القاضي أنه أمر بذلك.
فأرسل عند ذلك إلى القاضي منذر، وقال له: أنت أمرت بنقض دار أخي نجدة؟ فقال له: نعم. فقال: وما دعاك إلى ذلك؟ قال: أخذت فيها بقوله تعالى: {أَمَّا(23/184)
ص -188- ... السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} [سورة الكهف آية: 79]. مقوموك لم يقوموها إلا بكذا، وبذلك تعلق وهمك، فقد قبض في أنقاضها أكثر من ذلك، وبقيت القاعة والحمام، فضل، وقد نظر الله تعالى للأيتام القصّر، فصبر الخليفة عبد الرحمن على ما أوتي من ذلك، وقال: نحن أولى من أنفذ الحق، فجزاك الله عنا وعن أمانتك خيرا.
ونقل بعضهم أنه لما تولى الشيخ عز الدين بن عبد السلام القضاء في مصر، تصدى لبيع أمراء الدولة من الأتراك، وذكر أنه لم يثبت عنده أنهم أحرارا، وأن حكم الرق مستصحب عليهم لبيت مال المسلمين، فبلغهم ذلك، وعظم الخطب عندهم؛ والشيخ مصمم على فكرته، لا يصحح لهم بيعا، ولا شراء، ولا نكاحا، وتعطلت مصالحهم لذلك.
وكان من جملتهم نائب السلطنة، فاشتاط غضبا، فاجتمعوا وأرسلوا إليه، فقال: نعقد لكم مجلسا، وننادي عليكم لبيت مال المسلمين، فرفع الأمراء إلى السلطان، فبعث إليه فلم يرجع، فأرسل إليه نائب السلطنة بالملاطفة فلم يفد فيه.
فانزعج النائب، وقال: كيف ينادي علينا هذا الشيخ(23/185)
ص -189- ... ويبيعنا ونحن ملوك الأرض؟! والله لأضربنه بسيفي هذا، فركب بنفسه في جماعة، وجاء إلى بيت الشيخ، والسيف مسلول في يده.
فخرج ولد الشيخ فرأى من نائب السلطنة ما رأى، وشرح لوالده الحالة، فما اكترث لذلك، وقال: يا ولدي أبوك أقل من أن يقتل في سبيل الله، ثم خرج. فحين أن وقع بصره على النائب يبست يد النائب، وسقط السيف منها، وارتعدت مفاصله، فبكى، وسأل أن يدعو له.
وقال: يا سيدي: ماذا تعمل؟! قال: أنادي عليكم، وأبيعكم، وقال: فيما تصرفون ثمننا؟! قال: في مصالح المسلمين، قال: من يقبضه؟ قال: أنا; فتم ما أراد، ونادى على الأمراء واحدا واحدا، وغالى في ثمنهم، ولم يبعهم إلا بالثمن الوافي، وقبضه، وصرفه في وجوه الخير التي يعود نفعها على الأمة الإسلامية.
ويروى: أن القاضي بكار بن قتيبة، كان عالما، ورعا، محدثا، ثقة، ويبتعد عن الشبهات، خوفا من الوقوع في المحرمات، وقد تولى القضاء في مصر في زمن الملك بن طولون، وكان أحمد بن طولون يعظمه ويحترمه.
ويظهر أن ابن طولون لما رأى نفسه ملكا مستقلا في مصر، أراد أن يضيف إلى ذلك الخلافة الإسلامية،(23/186)
ص -190- ... فأرسل للقاضي بكار رسولا، وطلب منه خلع الخليفة الموفق بن المتوكل، فامتنع القاضي بكار من ذلك، وقال: هذا مخالف لكتاب الله وسنة رسوله.
فغضب أحمد بن طولون على القاضي بكار; ويقال إنه أحضره أمامه، ومزق ثيابه، وبعد ذلك أصر بسجنه. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل حرض عليه بعض بطانته، فادعى عليه بمظالم كذبا وزورا، وكان يحضره أمامه من السجن في حالة لا تناسب الأدب، حتى إذا انتهى التحقيق من المظالم المزعومة، أعاده إلى السجن مرة ثانية، وقد منعه من أداء صلاة الجمعة. فيقول القاضي بكار: اللهم اشهد.
فأرسل إليه ابن طولون من يقول له: كيف رأيت المغلوب المقهور، لا أمر له ولا نهي، ولا تصرف له في نفسه؟! ومع كل هذه المحن التي رآها القاضي بكار، لم يمنعه من قراءته الحديث الشريف، وهو في السجن، على تلاميذه الذين يستمعون من خارج السجن.
ومكث القاضي بكار في السجن على هذه الحالة، حتى مرض ابن طولون مرض الموت، فأرسل إليه يستسمحه، فقال للرسول: قل له: أنا شيخ كبير، وأنت عليل مدنف، والملتقى قريب، والله يحكم بيننا وهو خير الحاكمين. ولم تمض أيام حتى مات ابن طولون، وخرج(23/187)
ص -191- ... القاضي بكار من السجن، وقد رأى ما رأى من البلايا والمحن، ولم يغير عقيدته ويوافق ابن طولون.
فهذا شيء يسير من سير بعض قضاة الإسلام؛ وأخبارهم كثيرة جدا، كما في كتب التراجم والتواريخ، ساروا فيها سيرا يمثل العدل، في أجلى مظهر وأسمى منْزلة، فقارن بين القضاء في العصور الخالية، وبين القضاء في هذا الزمان، واحكم بما ترى، فأنت العاقل اللبيب; والله الموفق، الهادي إلى سواء السبيل، وصلى الله على نبينا محمد.
[ الحث على العناية بالقضاء ]
وله أيضا رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن محمد بن حميد، إلى حضرة المكرم الأحشم، سماحة الشيخ: محمد بن إبراهيم، رئيس القضاة؛ أدام الباري عليه إحسانه، وأجرى بالصواب قلمه ولسانه، آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فأرجو الله أن يحفظكم ويوفقكم لما فيه رضاه، وأن يسدد خطاكم، ويجعلكم من صالح عبيده وأوليائه.
سلمك الله، بما أني أعتبر نفسي كواحد من أبنائكم، وأن الواجب علينا جميعا التناصح، والتساعد على ما فيه الخير والصلاح العام، والتعاون على البر والتقوى، والمؤمن مرآة أخيه المؤمن.(23/188)
ص -192- ... لذا أحب أن أبدي لكم ما في نفسي، نصحا ومحبة، وحرصا على هذه الشريعة الكاملة في مصادرها ومواردها، أن تنتهك حرمتها، أو تنال بسوء، أو أن يخفف وقعها في النفوس، وذلك بما هو معلوم لديكم، ولدى الناس عامة، وهو ما أصيب القضاء من ضعف، وما حصل به من خلل.
وغير خاف عليكم حفظكم الله، مكانة القضاء من الإسلام وما عليه الناس اليوم، فإعطاؤه العناية الكاملة من كل الوجوه، وبذل النفس والنفيس في تركيزه على الطريقة المثلى التي ركزها الرسول الأعظم صلوات الله وسلامه عليه، والتناصح في ذلك من أوجب الواجبات.
فتحكيم الشريعة الإسلامية مفقود من جميع نواحي المعمورة، سوى هذه المملكة الإسلامية أيدها الله، وأدام تمسكها بهذا الدين الحنيف.
لذا ولما تقدم: رأيت من المتعين علي أن أبين لسماحتكم بعض ما لاحظته على القضاء في هذه المملكة، والله يعلم أني لا أريد إلا النصح، والسعي فيما فيه حفظ حقوق المسلمين، واحترام الشريعة الإسلامية بأن لا تكون في نفوس بعض العامة وغيرهم غير كافلة لمصالحهم، بحيث يرون أن غيرها أحفظ لحقوقهم منها، وأعوذ بالله أن يكون ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله.(23/189)
ص -193- ... سبق أن شافهتكم كثيرا، وكاتبتكم مرارا في هذا الموضوع; وهو: أن الحالة القضائية انحط شأنها، وضعف في نفوس الكثيرين مكانتها، وذلك لأمور:
منها تولية غير الأكفاء، كبعض الطلاب المتخرجين من الكليات وغيرهم، ممن لا يعرف دينه وعقله وعلمه وأمانته، فيما ولي مثل هذه الأعمال الهامة؛ والتحقق عن جميع ما ذكر واجب.
والأولى أن تتولى ذلك بنفسك، ولا تعتمد على أحد، لأهمية هذا العمل؛ وذلك بأن يكون القاضي ممن اشتهر بالعلم والورع والديانة والأخلاق الفاضلة، وإن كان ممن مارس هذا العمل فهو أولى.
ثانيا: تهاون بعض القضاة بالأخلاق الفاضلة، وبشعائر الإسلام الظاهرة، وعدم تخلقهم بها، مما يسقط مكانة القضاء والقضاة من نفوس العامة.
ثالثا: إدخال بعض الأنظمة على القضاء التي من شأنها تعقيد المسائل، وتطويل المعاملات، بكثرة السؤال والجواب، وطول الأخذ والرد، وتكليف الخصوم بما يحصل المقصود بدونه، مما يجعل أحدهم يسب القضاء والقضاة والحكومة، بسبب ما تحمله من التكاليف في بدنه وماله.
رابعا: قصور علم بعض القضاة، وفقد غالب الشروط التي ذكرها العلماء في القاضي، كما لا يخفى وكما هو(23/190)
ص -194- ... مشاهد، فإن بعضا من القضاة لم يعرفوا أحكام صلاتهم، فضلا عن أن يحكموا بين الناس باسم الشريعة الإسلامية، وقد بلغنا كثيرا من فتاويهم وأحكامهم، ومع هذا يحكم في الأموال والحدود، والفروج، والأوقاف وغيرها بلا خجل ولا حياء.
خامسا: تكثير المحاكم في كل هجرة وقرية، من غير تحقق في كثرة السكان وبعد المسافة، بل بمجرد الطلب يوافق على ذلك، والأولى التقليل من ذلك لقلة وجود الأهل لهذا العمل الهام.
سادسا: إلزام بعض أهل البلاد على قضاتهم، إذا كان بينهم وبينه خلاف واقعي صحيح، وهذا يخالف المصلحة. فالمستحسن، نقل كل من تظلم أهل بلده منه، أو رمي بتهم لا تليق به، حفظا لكرامته، وصونا لسمعته، ونقله- والحالة هذه- أولى من إلزامهم به، لما يترتب على ذلك من الأمور التي هي غير محمودة.
ولما تقدم يترتب عليه أمور:
منها: أن في وجود ما ذكر في القضاء والقضاة، تكثيرا للمشاكل، وإتعابا للناس وللحكومة ولكم، في كثرة المراجعات، وإبداء التظلمات، وإطلاق ألسنتهم في المنتسبين، مما يجعل القاضي كأقل موظف، بل وأحط رتبة منه في نفوس الناس؛ في حين أن القاضي يجب(23/191)
ص -195- ... احترامه وتوقيره وتقديره، لأجل المنصب الذي يشغله، لا لشخصيته.
ثانيا: إن كثيرا ممن يحكم عليه يرى أنه مظلوم، وأن الحكم ليس بصحيح، لعدم ثقته بقاضيه وارتياحه منه; لأنه يرى ويسمع منه، ما يصيره معتقدا أن قاضيه ليس على حق في حكمه، فيعتقد أن الحكومة ظلمته بتولية مثل هذا، ولم تراع له حقا.
ثالثا: إن في ترك الناس على هذه الحالة، سببا إلى ميول العامة إلى القوانين الوضعية، وأنها هي التي تضمن لهم حقوقهم؛ ولا شك أن هذه بلية عظمى، متى رأى الناس هذا الرأي، وإن لم يتفوهوا به. هذا بعض ما دار في النفس، أحببت أن أكتب لكم به، نصحا وبراءة للذمة، وحرصا على هذه الشريعة الإسلامية، ومحبة لهذه الحكومة ولكم، وثقة بعقلكم وبعد نظركم، ولعل الله أن يقدر الاجتماع بكم، فأبين لكم جميع ما في نفسي حول ذلك مما لا تنبغي كتابته. والله أسأل أن يوفقكم ويكلل أعمالكم بالنجاح، ويبارك في علومكم ومساعيكم والإسلام، في 30 / 12 / 1382?.(23/192)
ص -196- ... [رسالة الشيخ صالح بن أحمد إلى القضاة يذكرهم بالله ويرشدهم إلى ما يستعان به في أداء هذه الأمانة]
وقال الشيخ صالح بن أحمد الخريصي رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
من صالح بن أحمد الخريصي، إلى من يراه من إخواننا القضاة، وفقني الله وإياهم لأسباب النجاة، وعصمني وإياهم من سلوك طرق الغي والضلالات، آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: تعلمون أيها الإخوان، أنكم قد حملتم حملا ثقيلا، وطوقت برقابكم أمانة عظيمة، وإنكم موقوفون بين يدي الله سبحانه، ومسؤولون عن أدائها، فأعدوا للسؤال جوابا، وللجواب صوابا.
ومن أعظم ما يستعان به، على أداء هذه الأمانة أسباب; أولها: تقوى الله عز وجل ومراقبته في السر والعلانية، فإن بتقوى الله يتبين وجه الصواب، قال الله عز وجل: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً} [سورة الأنفال آية: 29]، وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [سورة الطلاق آية: 2]، وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} [سورة الطلاق آية: 4]، وقال تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ} [سورة الحديد آية: 28].
والآيات في هذا المعنى كثيرة، ولهذا لما قيل للإمام أحمد، رحمه الله: من نسأل بعدك؟ قال: سلوا(23/193)
ص -197- ... عبد الوهاب الوراق، فإنه رجل صالح مثله يوفق للصواب.
واستدل الإمام أحمد، رحمه الله بقول عمر رضي الله عنه: "اقتربوا من أفواه المطيعين، واسمعوا منهم ما يقولون؛ فإنهم تجلى لهم أمور صادقة، وذلك لقرب قلوبهم من الله"
وكلما قرب القلب من الله، زالت عنه معارضات السوء، وكان كشفه للحق أتم وأقوى، وكلما بعد عن الله كثرت عليه المعاوضات، وضعف نور كشفه للصواب، فإن العلم نور يقذفه الله بالقلب، يفرق به العبد بين الخطأ والصواب.
ومن ذلك: أن يتأدب بالآداب التي ذكر العلماء، رحمهم الله في هذا الباب، منها: أن يكون قويا على حمل ما كلف به، ومن غير عنف يمنع صاحب الحق من استيفاء حقه، ومن غير ضعف يجترئ به صاحب الباطل عليه وعلى خصمه.
قال عمر بن عبد العزيز، رحمه الله: "لا يصلح القاضي إلا أن تكون فيه خصال; أن يكون صليبا نزها عفيفا حليما، عليما بما كان قبله من القضاء والسنن"
ومن ذلك: أن يكون ذا بصيرة، وبصر بأهل زمانه، لا سيما أهل هذه الأزمان؛ فإن أكثرهم أروغ من الثعالب، وليحذر حلاوة ألسن أكثرهم، فإن لهم في ذلك أهدافا(23/194)
ص -198- ... وأغراضا، وحوائج يحومون حول تحصيلها بكل ممكن.
ومنها: أن يكون ذا أناة، يتثبت، وفطنة فيما يحكم به. ومنها: أن لا يعجل في البت بالحكم، حتى يتبين له وجه الصواب، من غير تأخير يخل بالمقصود، ويوجب للضعيف ترك حقه.
كما قال عمر رضي الله عنه في كتابه لمعاوية: "وتعاهد الغريب، فإنه إن طال حبسه ترك حقه، وانطلق إلى أهله، وإنما أبطل حقه من لم يرفع به رأسا"
ومنها: الحرص على لزوم العمل، والمبادرة إليه في أوقاته، لإنجاز مهمات المسلمين، وقضاء حوائجهم، فإن كثيرا من إخواننا- هداهم الله- يرددون الخصوم أكثر من الحاجة، من غير سبب يدعو إلى ذلك.
ومنها: ما ينبغي للقاضي أن يتخلق ويتأدب ويتزيّا به، من الآداب الشرعية التي لا ينبغي له أن يخل بتركها، لأنه منظور إليه، ترمقه العيون بلحظاتها، وتقتدي به الأرواح والنفوس في صفاتها.
فإذا أكمل نفسه وأصلحها، فينبغي له، بل يتعين عليه أن يكمل غيره، بالدعوة إلى الله، والإرشاد، والأمر والنهي، والتعليم؛ ويكون قدوة في ذلك، يقتدى به ويؤتم به، وهذا من أجلّ المقاصد في نصب القضاة.
وبعض إخواننا من القضاة، قد أهمل هذا المقام(23/195)
ص -199- ... العظيم، ولم يرفع به رأسا، فتجده في أخلاقه وأعماله وآدابه، إلى الانحراف أقرب، عافانا الله وإياهم، وألهمنا وإياهم رشده.
ومنها: أن يعلم القاضي أن الخصومات ستعاد يوم القيامة، ويحكم فيها العدل الذي لا يجور، وإنما القضاء في الدنيا للفصل بين الناس، فليتَّئِد عند ذلك.
وليتلمّح وجه الصواب في القضية مهما أمكنه، من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة رضوان الله عليهم، والتابعين لهم بإحسان، وعلماء الأمة الذين لهم لسان صدق في الأمة.
فإذا اجتهد وبذل وسعه وطاقته حسب الإمكان، رجي له أن يوفق لإصابة الحق، وأن لا يفوته أجران مع الصواب، أو أجر مع الخطأ.
ولا ينظر إلى كثرة الأساليب التي استعملها بعض القضاة، خشية أن يقال في حكمه، أو يعترض عليه; بل إذا تبين له الحق، حكم به ولا يبالي بمن اعترض عليه، أو قال في حكمه، كما قيل:
إذا رضي الحبيب فلا أبالي ... أقام الحي أم جد الرحيل
ومنها: أنه ينبغي منه إذا خفي عليه وجه الصواب، وأعيته الأمور بإغلاق الأبواب، أن يستغيث بمعلم(23/196)
ص -200- ... إبراهيم؛ فإن هذا من أنجح الأسباب الموصلة إلى المقصود، كما ذكر الأصحاب، أنه ينبغي للقاضي أن يدعو بدعاء الاستفتاح:
"اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم" 1.
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه، ونور ضريحه، كثير الدعاء بذلك، وكان إذا أشكلت عليه المسائل، يقول: يا معلم إبراهيم علمني; وكان بعض السلف يقول عند الإفتاء: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم. وكان مكحول يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله. وكان مالك رحمه الله يقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله العلي العظيم; وكان بعضهم يقول: رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري، واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي. وكان بعضهم يقول: اللهم وفقني واهدني وسددني، واجمع لي بين الصواب والثواب، وأعذني من الخطأ والحرمان; وكان بعضهم يقرأ الفاتحة; قال العلامة ابن القيم، رحمه الله: جربنا ذلك فرأيناه من أقوى أسباب الإصابة.
__________
1 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (770) , والترمذي: الدعوات (3420) , والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار (1625) , وأبو داود: الصلاة (767) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1357) , وأحمد (6/156).(23/197)
ص -201- ... وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه:"قل: اللهم إني أسالك الهدى والسداد"1. والمعول في ذلك كله على حسن النية وخلوص المقصد، وصدق التوجه في الاستمداد من المعلم الأول، معلم الرسل والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
فإنه لا يرد من صدق في التوجه إليه، لتبليغ دينه وإرشاد عبيده، ونصيحتهم والتخلص من القول عليه بلا علم. ومما ينبغي لمن عين للقضاء: أن يعرض نفسه على الأمور المتقدم ذكرها، ويحاسبها ويبحث معها بحثا دقيقا، هل هذه الخصال موجودة فيها أم لا؟ وهل هو أهل لذلك أم لا؟.
وقد كتب سلمان رضي الله عنه إلى أبي الدرداء، لما ولي القضاء، وقال: "بلغني أنك جعلت طبيبا، فإن كنت تبرئ فنعماء، وإن كنت متطببا، فاحذر أن تقتل إنسانا فتدخل النار"
فكان أبو الدرداء رضي الله عنه إذا قضى بين اثنين وأدبرا عنه نظر إليهما، وقال: "متطبب والله، ارجعا أعيد قضيتكما"، فهذه حال أهل المعرفة بالله.
كما أنه ينبغي للجهات المختصة- المسؤولين- أن لا يعينوا إلا من يصلح، وتكون فيه كفاءة لذلك، وأخلاق دينية على حسب الطاقة، لأن الولاية أمانة. وإذا كان تقديم
__________
1 النسائي: الزينة (5210) , وأحمد (1/138).(23/198)
ص -202- ... الرجل في الجماعة، وفيهم من هو أفضل منه، يوجب أن لا يزالوا في سفال، فكيف بالقاضي الذي يقتدي به فئات من الناس؟ !.
فيجب عليهم: أن يولوا أفضل من يجدوا، علما وورعا، لأنهم ناظرون للمسلمين، فيجب أن يختاروا الأصلح لهم، واختيار الأفضل علما من لازم القضاء، لأنه إنما يمكنه القضاء بين المترافعين بالعلم، لأن القضاء بالشيء فرع العلم به.
والأفضل أولى من المفضول، لأنه أثبت وأمكن، وكذا كل من كان ورعه أكثر، كان سكون النفس فيما يحكم به أعظم، وكان من ترك التجري والميل في جانب أبعد. قال الإمام أحمد رحمه الله: لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه، حتى يكون فيه خمس خصال،
أولها: أن يكون له نية، فإن لم يكن له نية لم يكن له نور، ولا على كلامه نور.
الثانية: أن يكون له حلم ووقار وسكينة.
الثالثة: أن يكون قويا على ما هو فيه، وعلى معرفته.
الرابعة: الكفاية، وإلا مضغه الناس، فإنه إن لم يكن له كفاية احتاج إلى الناس، وإلى الأخذ مما في أيديهم.
الخامسة: معرفة الناس.
فهذه نبذة ينبغي للعاقل تأملها، لأنها تطلع على ما(23/199)
ص -203- ... وراءها. وقد ذكر العلماء، رحمهم الله ما يكفي ويشفي، ولكن لعلك لا تجد كلاما مجموعا لهذه الكلمات اليسيرات. وأسأل الله الكريم أن ينفع بها كل طالب للحق، ومستفيد، ومراقب لله فيما يبدي ويعيد، والله يوفق الجميع للقول السديد، والأمر الرشيد، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. حرر في 11 / 4 / 1382 ?.(23/200)
ص -204- ... الفصل الثاني: [الحكم الوضعي التشريعي ويسمى بالدستور وبالحقوق والقانون]
الحكم الوضعي التشريعي ويسمى بالدستور، وبالحقوق، والقانون، وغير ذلك، ولكل دوله قانون، وقد يغير كل عام، ورغّب في تعليمه، فلمتوليه أضعاف ما للشرعي، فرغب فيه، ومن سنين وهو يدرس في الخارج، في الجامعات والمعاهد، باسم الحقوق.
وأملنا عظيم في ولاة أمورنا، في الحذر منه، أيدهم الله بروح منه، وجعلهم هداة مهتدين، ناصرين لشرع الله القويم، ولم يزالوا في محافلهم وخطبهم، يعتزون بتحكيم الكتاب والسنة، وينفذونها على الرعية. 1.
ومما قالوه على رؤوس وفود حجاج بيت الله الحرام، ونشر في الصحف والمجلات:
حيث كنا مسلمين حقا، فيجب أن نتبع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ونحق الحق، فإن كتاب الله بين أيدينا، ولم يحرف ولم يبدل، وإن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم بين أيدينا، ولم يدخلها تغيير ولا تبديل.
فحيث كنا مسلمين حقا، فيجب أن نعود إليهما ونحكمهما
__________
1 ومن ذلك ما تقدم في الجزء 14 من كلمات للملك عبد العزيز رحمه الله وعزمه على القيام بها.(23/201)
ص -205- ... في أمورنا، ونخضع للحكم بطواعية وبنفوس طيبة: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [سورة النساء آية: 65].
ومما قالوه أيضا: القرآن هو دستورنا، ولا دستور لنا سواه، الإسلام هو الذي شرف العرب وهداهم لرفع شأنهم، كما رفع شأن كل من اهتدى بهديه.
الشريعة الإسلامية هي مصدر تشريعنا في العبادات والمعاملات. الإسلام هو الذي جاءنا بأعلى وأرفع أنواع العدل، وأرقى النظم الاجتماعية.
مبادئنا الاجتماعية نستمدها من القرآن، ومن سنة نبينا، وما كان عليه السلف الصالح؛ ولا يمكن أن نستورد هذه المبادئ من أي نظام في العالم.
نحن سننفذ نظمنا الدينية، والقضائية، والاجتماعية، طبقا لأحكام ديننا، في بلادنا بكل شدة وحزم، وندعو لذلك في خارج بلادنا، بالحكمة والموعظة الحسنة. فلو ذهبنا نتتبع خطاباتهم البليغة، وغيرها، لخرج بنا عن المقصود.
وتقدم في الجزء التاسع فتوى المشائخ بهدم مسجد حمزة، وأبا رشيد على الفور. وأما القوانين؛ فإن كان شيء منها موجودا في الحجاز، فيزال فورا، ولا يحكم إلا بالشرع المطهر.(23/202)
ص -206- ... [ تحكيم القوانين ]
وللشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله رسالة في تحكيم القوانين وهذا نصها: 1
بسم الله الرحمن الرحيم
إن من الكفر الأكبر المستبين، تنْزيل القانون اللعين منْزلة ما نزل به الروح الأمين، على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ليكون من المنذرين، بلسان عربي مبين، في الحكم بين العالمين؛ والرد إليه عند تنازع المتنازعين، مناقضة ومعاندة لقول الله عز وجل:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [سورة النساء آية: 59].
وقد نفى الله سبحانه وتعالى الإيمان عمن لم يحكموا النبي صلى الله عليه وسلم فيما شجر بينهم، نفيا مؤكدا بتكرار أداة النفي وبالقسم، قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [سورة النساء آية: 65].
ولم يكتف تعالى وتقدس منهم بمجرد التحكيم للرسول صلى الله عليه وسلم، حتى يضيفوا إلى ذلك عدم وجود شيء من
__________
1 طبعت في غرة رجب سنة 1380 ه, وهي موجودة وغيرها في مجموع فتاويه الجزء 12 وسبق أن نشرت في مجلة راية الإسلام في 4/1380 ه, وغيرها.(23/203)
ص -207- ... الحرج في نفوسهم، وبقوله جل شأنه: {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ} [سورة النساء آية: 65] والحرج: الضيق، بل لا بد من اتساع صدورهم لذلك، وسلامتها من القلق والاضطراب.
ولم يكتف تعالى أيضا هنا بهذين الأمرين، حتى يضموا إليهما التسليم، وهو: كمال الانقياد لحكمه صلى الله عليه وسلم، بحيث يتخلون ها هنا من أي تسليم للنفس بهذا الشيء، ويسلموا ذلك إلى الحكم الحق أتم تسليم؛ ولهذا أكد ذلك بالمصدر المؤكد، وهو قوله جل جل شأنه: {تسليما} المبين أنه لا يكتفي ها هنا بالتسليم، بل لا بد من التسليم المطلق.
وتأمل ما في الآية الأولى، وهي قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [سورة النساء آية: 59]، كيف ذكر النكرة، وهي قوله: {شيء} في سياق الشرط، وهو قوله جل شأنه: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ} المفيد العموم فيما يتصور التنازع فيه، جنسا وقدرا. ثم تأمل كيف جعل ذلك شرطا في حصول الإيمان بالله واليوم الآخر، بقوله: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}.
ثم قال جل شأنه: {ذَلِكَ خَيْرٌ}، فشيء يطلق الله عليه أنه خير، لا يتطرق إليه شر أبدا، بل هو خير محض، عاجلا وآجلا.(23/204)
ص -208- ... ثم قال سبحانه: {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} أي: عاقبة في الدنيا والآخرة، فيفيد أن الرد إلى غير الرسول صلى الله عليه وسلم عند التنازع شر محض، وأسوأ عاقبة في الدنيا والآخرة، عكس ما يقوله المنافقون: {إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً} [سورة النساء آية: 62]، وقولهم: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [سورة البقرة آية: 11] ؛ ولهذا رد الله قائلا: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [سورة البقرة آية: 12]، وعكس ما عليه القانونيون، من حكمهم على القانون بحاجة العالم، بل ضرورتهم إلى التحاكم إليه، وهذا سوء ظن صرف، بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ومحض استنقاص لبيان الله ورسوله، والحكم عليه بعدم الكفاية للناس عند التنازع، وسوء العاقبة في الدنيا والآخرة، إن هذا لازم لهم.
وتأمل أيضا ما في الآية الثانية من العموم، وذلك في قوله تعالى: {فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} فإن اسم الموصول مع صلته، من صيغ العموم، عند الأصوليين وغيرهم؛ وذلك العموم والشمول هو من ناحية الأجناس والأنواع، كما أنه من ناحية القدر، فلا فرق هنا بين نوع ونوع، كما أنه لا فرق بين القليل والكثير.
وقد نفى الله الإيمان عمن أراد التحاكم إلى غير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من المنافقين، كما قال تعالى: {أَلَمْ(23/205)
ص -209- ... تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} [سورة النساء آية: 60].
فإن قوله عز وجل: {يزعمون} تكذيب لهم فيما ادعوه من الإيمان، فإنه لا يجتمع التحاكم إلى غير ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم مع الإيمان في قلب عبد أصلا، بل أحدهما ينافي الآخر.
والطاغوت: مشتق من الطغيان، وهو: مجاوزة الحد، فكل من حكم بغير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم أو حاكم إلى غير ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فقد حكم بالطاغوت وحاكم إليه.
وذلك أنه من حق كل أحد، أن يكون حاكما بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فقط، لا بخلافه؛ كما أن من حق كل أحد أن يحاكم إلى ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم. فمن حكم بخلافه، أو حاكم إلى خلافه، فقد طغى وجاوز حده، حكما، أو تحكيما؛ فصار بذلك طاغوتا لتجاوزه حده.
وتأمل قوله عز وجل: {وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} [سورة النساء آية: 60] تعرف منه معاندة القانونيين، وإرادتهم خلاف مراد الله منهم حول هذا الصدد؛ فالمراد منهم شرعا، والذي تعبدوا به، هو: الكفر بالطاغوت، لا تحكيمه {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} [سورة البقرة آية: 59].(23/206)
ص -210- ... ثم تأمل قوله: {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ} [سورة النساء آية: 60] كيف دل على أن ذلك ضلال؛ وهؤلاء القانونيون يرونه من الهدى، كما دلت الآية على أنه من إرادة الشيطان، عكس ما يتصور القانونيون، من بعدهم من الشيطان، وأنه مصلحة الإنسان.
فتكون على زعمهم مرادات الشيطان هي صلاح الإنسان، ومراد الرحمن وما بعث به سيد ولد عدنان معزولا من هذا الوصف، ومنحى عن هذا الشان؛ وقد قال تعالى منكرا على هذا الضرب من الناس، ومقررا ابتغاءهم أحكام الجاهلية، وموضحا أنه لا حكم أحسن من حكمه: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [سورة المائدة آية: 50].
فتأمل هذه الآية الكريمة، وكيف دلت على أن قسمة الحكم ثنائية، وأنه ليس بعد حكم الله تعالى إلا حكم الجاهلية، الموضح أن القانونيين من زمرة أهل الجاهلية، شاؤوا أم أبوا؛ بل هم أسوأ منهم حالا، وأكذب منهم مقالا، ذلك أن أهل الجاهلية لا تناقض لديهم حول هذا الصدد.
وأما القانونيون فمتناقضون، حيث يزعمون الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ويناقضون ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا، وقد قال الله تعالى في أمثال هؤلاء: {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً} [سورة النساء آية: 151].(23/207)
ص -211- ... ثم انظر كيف ردت هذه الآية الكريمة على القانونيين ما زعموه من حسن زبالة أذهانهم، ونحاتة أفكارهم، بقوله عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [سورة المائدة آية: 50].
قال الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية: ينكر تعالى على من خرج من حكم الله المحكم، المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء، والاصطلاحات التي وضعها الرجال، بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات، مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم "جنكيزخان" الذي وضع لهم كتابا مجموعا من أحكام، قد اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية، والنصرانية، والملة الإسلامية، وغيرها، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعا متبعا، يقدمونها على الحكم بكتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فمن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير. فال تعالى:
{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [سورة المائدة آية: 50] ويريدون، وعن حكم الله يعدلون، {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ(23/208)
ص -212- ... يُوقِنُونَ} [سورة المائدة آية: 50]. أي: ومن أعدل من الله في حكمه؟ لمن عقل من الله شرعا وآمن به، وأيقن وعلم أن الله أحكم الحاكمين، وأرحم من الوالدة بولدها؛ فإنه تعالى هو العالم بكل شيء، القادر على كل شيء، العادل في كل شيء.
وقد قال عز شأنه- قبل ذلك- مخاطبا نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} [سورة المائدة آية: 48]، وقال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [سورة المائدة آية: 49].
وقال تعالى مخيرا نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بين الحكم بين اليهود والإعراض عنهم، إن جاؤوه لذلك: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [سورة المائدة آية: 42]، والقسط هو: العدل، ولا عدل حقا إلا حكم الله ورسوله.
والحكم بخلافه هو الجور والظلم والضلال والكفر والفسوق، ولهذا قال تعالى بعد ذلك: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [سورة المائدة آية: 44]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [سورة المائدة آية: 45]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا(23/209)
ص -213- ... أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [سورة المائدة آية: 47].
فانظر كيف سجل تعالى على الحاكمين بغير ما أنزل الله، بالكفر والظلم والفسوق؛ ومن الممتنع أن يسمي الله سبحانه الحاكم بغير ما أنزل الله كافرا ولا يكون كافرا، بل هو كافر مطلقا، إما كفر عمل، وإما كفر اعتقاد.
وما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما، في تفسير هذه الآية، من رواية طاووس وغيره، يدل أن الحاكم بغير ما أنزل الله كافر، إما كفر اعتقاد ناقل عن الملة، وإما كفر عمل، لا ينقل عن الملة.
أما الأول: وهو كفر الاعتقاد، فهو أنواع: أحدها: أن يجحد الحاكم بغير ما أنزل الله أحقية حكم الله ورسوله، وهو معنى ما روي عن ابن عباس، واختاره ابن جرير، أن ذلك هو جحود ما أنزل الله من الحكم الشرعي، وهذا ما لا نزاع فيه بين أهل العلم.
فإن الأصول المتقررة المتفق عليها بينهم أن من جحد أصلا من أصول الدين، أو فرعا مجمعا عليه، أو أنكر حرفا مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم قطعيا، فإنه كافر الكفر الناقل عن الملة.
الثاني: أن لا يجحد الحاكم بغير ما أنزل الله كون(23/210)
ص -214- ... حكم الله ورسوله حقا، لكن اعتقد أن حكم غير الرسول صلى الله عليه وسلم أحسن من حكمه وأتم وأشمل، لما يحتاجه الناس، من الحكم بينهم عند التنازع، إما مطلقا، أو بالنسبة إلى ما استجد من الحوادث التي نشأت عن تطور الزمان، وتغير الأحوال؛ وهذا أيضا لا ريب أنه كفر، لتفضيله أحكام المخلوقين، التي هي محض زبالة الأذهان، وصرف حثالة الأفكار، على حكم الحكيم الحميد.
وحكم الله ورسوله لا يختلف في ذاته باختلاف الأزمان وتطور الأحوال، وتجدد الحوادث؛ فإنه ما من قضية كائنة ما كانت إلا وحكمها في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم نصا أو ظاهرا أو استنباطا، أو غير ذلك، علم ذلك من علمه، وجهله من جهله.
وليس معنى ما ذكره العلماء من تغير الفتوى بتغير الأحوال، ما ظنه من قل نصيبهم أو عدم من معرفة مدارك الأحكام وعللها، حيث ظنوا أن معنى ذلك بحسب ما يلائم إرادتهم الشهوانية البهيمية، وأغراضهم الدنيوية، وتصوراتهم الخاطئة الوبية.
ولهذا تجدهم يحامون عليها، ويجعلون النصوص تابعة لها، منقادة إليها مهما أمكنهم؛ فيحرفون لذلك الكلم عن مواضعه؛ وحينئذ معنى تغير الفتوى بتغير الأحوال والأزمان، مراد العلماء منه ما كان مستصحبه فيه الأصول(23/211)
ص -215- ... الشرعية، والعلل المرعية، والمصالح التي جنسها مراد لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم. ومن المعلوم أن أرباب القوانين الوضعية عن ذلك بمعزل، وأنهم لا يقولون إلا على ما يلائم مراداتهم كائنة ما كانت؛ والواقع أصدق شاهد.
الثالث: أن لا يعتقد كونه أحسن من حكم الله ورسوله، لكن اعتقد أنه مثله؛ فهذا كالنوعين اللذين قبله، في كونه كافرا الكفر الناقل عن الملة، لما يقتضيه ذلك من تسوية المخلوق بالخالق، والمناقضة والمعاندة لقوله عز وجل {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [سورة الشورى آية: 11] ونحوها من الآيات الكريمة، الدالة على تفرد الرب بالكمال، وتنْزيهه عن مماثلة المخلوقين في الذات والصفات والأفعال، والحكم بين الناس فيما يتنازعون فيه.
الرابع: أن لا يعتقد كون حكم الحاكم بغير ما أنزل الله مماثلا لحكم الله ورسوله، فضلا عن أن يعتقد كونه أحسن منه؛ لكن اعتقد جواز الحكم بما يخالف حكم الله ورسوله؛ فهذا كالذي قبله، يصدق عليه ما يصدق عليه، لاعتقاده جواز ما علم بالنصوص الصحيحة الصريحة القاطعة تحريمه.
الخامس: وهو أعظمهما وأشملهما وأظهرها معاندة للشرع، ومكابرة لأحكامه، ومشاقة لله ولرسوله، ومضاهاة بالمحاكم الشرعية، إعدادا وإمدادا، وإرصادا(23/212)
ص -216- ... وتأصيلا وتفريعا، وتشكيلا وتنويعا، وحكما وإلزاما، ومراجع مستمدات. فكما أن للمحاكم الشرعية مراجع مستمدات مرجعها كلها إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلهذه المحاكم مراجع هي القانون الملفق من شرائع شتى، وقوانين كثيرة، كالقانون الفرنسي، والقانون الأمريكي، والقانون البريطاني وغيرها من القوانين، ومن مذاهب بعض البدعيين المنتسبين إلى الشريعة وغير ذلك. فهذه المحاكم الآن في كثير من أمصار الإسلام، مهيأة مكملة، مفتوحة الأبواب، والناس إليها أسراب إثر أسراب، يحكم حكامها بينهم بما يخالف حكم السنة والكتاب، من أحكام ذلك القانون، وتلزمهم به وتقرهم عليه، وتحتمه عليهم، فأي كفر فوق هذا؟ وأي مناقضة للشهادة بأن محمدا رسول الله بعد هذه المناقضة؟ وذكر أدلة جميع ما قدمنا على وجه البسط، معلومة معروفة، لا يحتمل ذكرها هذا الموضع. فيا معشر العقلاء، ويا جماعات الأذكياء وأولي النهى، كيف ترضون أن تجري عليكم أحكام أمثالكم، وأفكار أشباهكم، أو من هم دونكم ممن يجوز عليهم الخطأ، بل خطؤهم أكثر من صوابهم، بل لا صواب في حكمهم، إلا ما هو مستمد من حكم الله ورسوله نصا أو استنباطا؟(23/213)
ص -217- ... تدعونهم يحكمون في أنفسكم، ودمائكم وأبشاركم وأعراضكم، وفي أهاليكم من أزواجكم وذراريكم، وفي أموالكم وسائر حقوقكم، ويتركون ويرفضون أن يحكموا فيكم بحكم الله ورسوله الذي لا يتطرق إليه الخطأ، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنْزيل من حكيم حميد. وخضوع الناس ورضوخهم لحكم ربهم، خضوع ورضوخ لحكم من خلقهم تعالى ليعبدوه، فكما لا يسجد الخلق إلا لله، ولا يعبدون إلا إياه، ولا يعبدون المخلوق، فكذلك يجب أن لا يرضخوا، ولا يخضعوا، أو ينقادوا، إلا لحكم الحكيم، العليم الحميد، الرؤوف الرحيم، دون حكم المخلوق الظلوم الجهول، الذي أهلكته الشكوك والشهوات والشبهات، واستولت على قلوبهم الغفلة والقسوة، والظلمات. فيجب على العقلاء أن يربؤوا بنفوسهم عنه، لما فيه من الاستعباد لهم، والتحكم فيهم بالأهواء والأغراض، والأغلاط والأخطاء، فضلا عن كونه كفرا بنص قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [سورة المائدة آية: 44].
السادس: ما يحكم به كثير من رؤساء العشائر والقبائل، من البوادي ونحوهم، من حكايات آبائهم(23/214)
ص -218- ... وأجدادهم، وعاداتهم التي يسمونها "سلومهم" يتوارثون ذلك منهم، ويحكمون به، ويحصلون على التحاكم إليه عند النّزاع، بقاء على أحكام الجاهلية، وإعراضا ورغبة عن حكم الله ورسوله، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
وأما القسم الثاني: من قسمي كفر الحاكم بغير ما أنزل الله، وهو الذي لا يخرج من الملة، فقد تقدم أن تفسير ابن عباس رضي الله عنهما، لقول الله عز وجل: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [سورة المائدة آية: 44] قد شمل ذلك القسم، وذلك في قوله رضي الله عنه في الآية: "كفر دون كفر"، وقوله أيضا: "ليست بالكفر الذي تذهبون إليه".ا?.
وذلك أن تحمله شهوته وهواه على الحكم في القضية بغير ما أنزل الله، مع اعتقاده أن حكم الله ورسوله هو الحق، واعترافه على نفسه بالخطأ ومجانبة الهدى.
وهذا وإن لم يخرجه كفره عن الملة، فإنه معصية عظمى أكبر من الكبائر، كالزنا وشرب الخمر، والسرقة، واليمين الغموس وغيرها؛ فإن معصية سماها الله في كتابه كفرا، أعظم من معصية لم يسمها كفرا. نسأل الله أن يجمع المسلمين على التحاكم إلى كتابه، انقيادا ورضاء، إنه ولي ذلك والقادر عليه.(23/215)
ص -219- ... [ الوصية بتقوى الله والتمسك بدينه وتعظيم كتاب الله وسنة نبيه ]
وله أيضا وغيره من المشائخ، رحمهم الله 1.
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن إبراهيم، وعبد العزيز الشثري، وعبد اللطيف بن ابراهيم، وعمر بن حسن، وعبد العزيز بن باز، وعبد الله بن حميد، وعبد الله بن عقيل، وعبد العزيز بن رشيد، وعبد اللطيف بن محمد، ومحمد بن عودة، ومحمد بن مهيزع.
إلى من يراه من المسلمين، سلك الله بنا وبهم سبيل عباده المؤمنين، وأعاذنا وإياهم من طريق المغضوب عليهم والضالين، آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فالموجب لهذا هو نصيحتكم، ووصيتكم بتقوى الله، وترغيبكم فيما ينفعكم في الدنيا والآخرة، وتحذيركم مما يضركم من الدنيا والآخرة، عملا بقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [سورة المائدة آية: 2].
وقوله عز وجل (بسم الله الرحمن الر حيم) {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
__________
1 وهي موجودة أيضا في مجموع فتاوى ورسائل الشيخ محمد, رحمه الله, ج 12.(23/216)
ص -220- ... الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [سورة العصر آية: 3-1]. فأمر سبحانه بالتعاون على البر والتقوى، وحذر من التعاون على الإثم والعدوان، وتوعد من خالف ذلك بشديد العقاب. وأخبر عز وجل في هذه السورة القصيرة العظيمة أن الناس قسمان، خاسرين، ورابحين. وبين أن الرابحين هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر؛ فمن اكتمل هذه الصفات الأربع، فهو من الفائزين بالربح الكامل، والسعادة الأبدية، والعز والنجاة في الدنيا والآخرة؛ ومن فاته شيء من هذه الصفات، فاته من الربح بقدر ما فاته منها؛ وأصابه من الغبن والفساد، بقدر ما معه من التقصير والغفلة والإعراض عن ما يجب عليه. فاتقوا الله عباد الله، وتخلقوا بأخلاق الرابحين، وتواصوا بها بينكم، واحذروا صفات الخاسرين، وأعمال المفسدين، وتعاونوا على تركها وتحذير الناس منها، تفوزوا بالنجاة، والسلامة والعاقبة الحميدة. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم "الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة، قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم" 1.
فمن أهم الأمور التي يجب فيها التناصح والتواصي، تعظيم كتاب الله وسنة رسوله علية الصلاة والسلام
__________
1 مسلم: الإيمان (55) , والنسائي: البيعة (4197 ,4198) , وأبو داود: الأدب (4944) , وأحمد (4/102).(23/217)
ص -221- ... والتمسك بهما ودعوة الناس إلى ذلك في جميع الأحوال; لأنه لا سعادة للعباد ولا هداية، ولا نجاة في الدنيا والآخرة، إلا بتعظيم كتاب الله وسنة نبيه الأمين صلى الله عليه وسلم اعتقادا وقولا وعملا، والاستقامة على ذلك والصبر عليه حتى الوفاة؛ لأن الله سبحانه أمر عباده بطاعته وطاعة رسوله، وعلق كل خير بذلك، وتهدد من عصى الله ورسوله بأنواع العذاب، والخزي في الدنيا والآخرة.
قال الله تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [سورة النور آية: 54]، وقال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [سورة الأنعام آية: 155]، وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النور آية: 63]، وقال عز وجل: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [سورة النساء آية: 14-13].
ففي هذه الآيات المحكمات: الأمر بطاعة الله(23/218)
ص -222- ... ورسوله، والحث على اتباع كتابه، وتعليق الهداية والرحمة ودخول الجنات، بطاعة الله واتباع كتابه العظيم، وتعليق الفتنة والعذاب المهين بمعصية الله ورسوله. فاحذروا أيها المسلمون ما حذركم الله منه، وبادروا إلى ما أمركم به، بإخلاص وصدق، ورغبة ورهبة، تفوزوا بكل خير، وتسلموا من كل شر في الدنيا والآخرة.
ومن أعظم طاعة الله ورسوله عليه الصلاة والسلام: التحاكم إلى شريعته، والرضى بحكمها، والتواصي بذلك، والحذر كل الحذر مما خالفها، عملا بقول الله عز وجل: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [ سورة النساء آية: 65]: أقسم الله سبحانه في هذه الآية الكريمة أن العباد لا يؤمنون، حتى يحكموا الرسول صلى الله عليه وسلم فيما شجر بينهم، وينقادوا لحكمه راغبين مسلمين، من غير كراهية ولا حرج؛ وهذا يعم مشاكل الدين والدنيا. فهو صلى الله عليه وسلم هو الذي يحكم فيها بنفسه في حياته، وبسنته بعد وفاته، ولا إيمان لمن أعرض عن ذلك أو لم يرض به.
وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [سورة الشورى آية: 10]، فهو سبحانه الذي يحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه في هذه الدار، وذلك بما أوحى إلى(23/219)
ص -223- ... رسوله صلى الله عليه وسلم من القرآن والسنة؛ وفي يوم القيامة يحكم بين الناس بنفسه عز وجل. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [سورة النساء آية: 59].
يأمر الله سبحانه في هذه الآية بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم لأن في ذلك خير الدنيا والآخرة، وعز الدنيا والآخرة، والنجاة من عذاب الله يوم القيامة؛ ويأمر بطاعة أولي الأمر، عطفا على طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم من غير أن يعيد العامل، لأن أولي الأمر إنما تجب طاعتهم فيما هو طاعة لله ولرسوله؛ وأما ما كان معصية لله ورسوله، فلا تجوز طاعة أحد من الناس فيه كائنا من كان، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الطاعة في المعروف" 1، وقال صلى الله عليه وسلم "لا طاعة للمخلوق في معصية الخالق" 2. ثم أمر الله سبحانه عباده أن يردوا ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله، فقال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [سورة النساء آية: 59]، والرد إلى الله هو الرد إلى كتابه الكريم، والرد إلى الرسول هو الرد إليه في حياته عليه الصلاة والسلام، وإلى سنته بعد وفاته.
__________
1 البخاري: الأحكام (7145) , ومسلم: الإمارة (1840) , والنسائي: البيعة (4205), وأبو داود: الجهاد (2625) , وأحمد (1/82 ,1/94).
2 أحمد (1/409).(23/220)
ص -224- ... ثم قال سبحانه وتعالى: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [سورة النساء آية: 59] يرشد عباده إلى أن رد مشاكلهم كلها إلى الله والرسول، خير لهم وأحسن عاقبة في العاجل والآجل.
فانتبهوا رحمكم الله، واعتصموا بكتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، تفوزوا بالحياة الطيبة، والسعادة الأبدية، كما قال الله سبحانه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة النحل آية: 97].
وإن من أقبح السيئات وأعظم المنكرات: التحاكم إلى غير شريعة الله، من القوانين الوضعية، والنظم البشرية وعادات الأسلاف والأجداد، التي قد وقع فيها الكثير من الناس اليوم، وارتضاها بدلا من شريعة الله التي بعث بها رسوله محمد صلى الله عليه وسلم. ولا ريب أن ذلك من أعظم النفاق، ومن أكبر شعائر الكفر والظلم والفسوق، وأحكام الجاهلية التي أبطلها القرآن، وحذر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} [سورة النساء آية: 61-60].(23/221)
ص -225- ... وقال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [سورة المائدة آية: 50-49]، وقال عز وجل: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [سورة المائدة آية: 44]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [سورة المائدة آية: 45]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [سورة المائدة آية: 47]: وهذا تحذير شديد من الله سبحانه لجميع العباد، من الإعراض عن كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والتحاكم إلى غيرهما، وحكم صريح من الرب عز وجل على من حكم بغير شريعته، بأنه كافر وظالم وفاسق، ومتخلق بأخلاق المنافقين وأهل الجاهلية.
فاحذروا أيها المسلمون ما حذركم الله منه، وحكموا شريعته في كل شيء، واحذروا ما خالفها، وتواصوا بذلك فيما بينكم، وعادوا، وأبغضوا من أعرض عن شريعة الله أو تنقصها، أو استهزأ بها، أو سهل في التحاكم إلى غيرها، لتفوزوا بكرامة الله، وتسلموا من عقاب الله؛ وتؤدوا بذلك ما أوجب الله عليكم، من موالاة أوليائه الحاكمين بشريعته، الراضين بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.(23/222)
ص -226- ... والله المسؤول أن يهدينا وإياكم صراطه المستقيم، وأن يعيذنا وإياكم من مشابهة الكفار، والمنافقين، وأن ينصر دينه ويخذل أعداءه، إنه على كل شيء قدير، وصلى الله على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه وسلم تسلميا كثيرا إلى يوم الدين، حرر في 12/11/1380 هـ.
وقال الشيخ حمود بن عبد الله التويجري رحمه الله: 1
فصل [ اطراح الأحكام الشرعية والاعتياض عنها بحكم الطاغوت من القوانين والنظامات الإفرنجية]
النوع الثاني من المشابهة، وهو من أعظمها شرا، وأسوئها عاقبة: ما ابتلي به كثيرون، من اطراح الأحكام الشرعية، والاعتياض عنها بحكم الطاغوت، من القوانين، والنظامات الإفرنجية، أو الشبيهة بالإفرنجية، المخالف كل منها للشريعة المحمدية. وقد قال الله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [سورة المائدة آية: 50]، وقال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة الشورى آية: 21]. وقد انحرف عن الدين بسبب هذه المشابهة فئام من
__________
1 في كتابه "الإيضاح والتبيين".(23/223)
ص -227- ... الناس، فمستقل من الانحراف ومستكثر؛ وآل بكثير منهم إلى الردة، والخروج من دين الإسلام بالكلية، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
والتحاكم إلى غير الشريعة المحمدية من الضلال البعيد، والنفاق الأكبر، قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} [سورة النساء آية: 61-60]، ثم نفى تبارك وتعالى الإيمان عمن لم يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم عند التنازع، ويرضى بحكمه ويطمئن إليه قلبه، ولا يبقى لديه شك أن ما حكم به هو الحق الذي يجب المصير إليه؛ فيذعن لذلك وينقاد له ظاهرا وباطنا.
وأقسم سبحانه وتعالى على هذا النفي بنفسه الكريمة المقدسة، فقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [سورة النساء آية: 65].
وما أكثر المعرضين عن أحكام الشريعة المحمدية من أهل زماننا! ولا سيما أهل الأمصار، الذين غلبت عليهم الحرية الإفرنجية، وهان لديهم ما أنزل الله على رسوله(23/224)
ص -228- ... محمد صلى الله عليه وسلم من الكتاب والحكمة؛ فاعتاضوا عن التحاكم إليهما بالتحاكم إلى القوانين والسياسات، والنظامات التي ما أنزل الله بها من سلطان، وإنما هي متلقاة عن الدول الكافرة بالله ورسوله، أو ممن يتشبه بهم ويحذو حذوهم، من الطواغيت الذين ينتسبون إلى الإسلام، وهم عنه بمعزل. وأقبح من فعل المنافقين ما يذكر عن بعض أهل زماننا أنهم قالوا. إن العمل بالشريعة المحمدية يؤخرهم عن اللحاق بأمم الإفرنج، وأضرابهم من أعداء الله تعالى: وهذه ردة صريحة. والله المسؤول أن يقيض لأهلها، ولكل من لم يرض بأحكام الشريعة المحمدية، من يعاملهم معاملة أبي بكر الصديق، رضي الله عنه لإخوانهم من قبل.
وقال أيضا، رحمه الله: فصل [ إبدال الحدود والتعزيرات بالحبس ]
ومن اطراح الأحكام الشرعية: ما يفعله كثير من المنتسبين إلى الإسلام، من إبداله الحدود والتعزيرات بالحبس، موافقة للإفرنج وأشباههم من أعداء الله تعالى. وهذا مصداق ما في حديث أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لتنتقض عرى الإسلام عروة عروة، وكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها؛ فأولهن نقضا الحكم، وآخرهن الصلاة" رواه الإمام أحمد(23/225)
ص -229- ... وابنه عبد الله، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركة.
وقال الشيخ عبد الرحمن بن حماد العمر، في رسالته في سبيل الحق:
ولما سبق، فأنا أقول لكم، يا دعاة الحق: أبشروا فأنتم الأعلون، فاعملوا الخير في أنفسكم، وانشروا الإسلام في الآفاق، فأنتم المستحفظون عليه والوارثون له. وأزيلوا المنكرات من مجتمعكم، في صبر وحكمة وإلحاح وعدم يأس، ولا تعبؤوا بلغو اللاغين. واعلموا أنهم الزبد، وأنتم الماكثون في الأرض، وكونوا عودا طيبا كلما أحرق زاده الإحراق طيبا.
يا دعاة الحق، إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم، ولا بد لكل إنسان من بلوى، فمبتلى في سبيل الشيطان، ومبتلى في سبيل الله {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [سورة النساء آية: 104].
أجل، ترجون من الله ما لا يرجوه هؤلاء، الذين يتكلمون بلسان الشيطان، من تلامذة الغربيين وأفراخهم، ممن يرون عبادة الله تخلفا ورجعية، ويرون السفور والعهارة رقيا وسموا.
ويرون كتاب الله العظيم، وهدى رسوله الكريم(23/226)
ص -230- ... قاصرين عن تنظيم الحياة، فينادون باستبدالهما بالقوانين الوضعية، وبالقانون الفلاني، وهم في الوقت نفسه لا يرون أنهم أخسر الناس صفقة في هذا المجال. فقد خسروا دينهم ودنياهم، ذلك لأنهم خالفوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تركت فيكم ما إن اعتصمتم به لن تضلوا أبدا: كتاب الله وسنة نبيه" 1 ولكن: إن تأس يا أخي المجاهد على هؤلاء الذين يدعون المعرفة، ممن يتشدقون بأنهم يحملون الشهادات القانونية، وشهادات السياسة، والآداب، والتجارة وغيرها، وممن جهلوا منازلهم، وظنوا أنهم تسنموا أفراد المجتمع إلى الفكر والفهم، وأن كلمة الفصل هي كلمتهم فحسب، فلأنهم ممن حسبوا في عداد المسلمين، وصار بعض من يشاهد أفعالهم، ويسمع مقالهم من غير المسلمين، يمقت الإسلام والمسلمين، ويكره الإسلام الذي هذه أخلاق أهله؛ فصاروا أداة هدم وتخريب وتنفير عن دين الله الذي أوجب الله عليهم أن يتخلقوا بأخلاقه، وينقادوا لتعاليمه، ويدعوا الناس إليه. وصار من يشاهد أفعالهم، ويسمع مقالهم من جهال المسلمين، يقلدهم وينحرف بانحرافهم، وخاصة الذين يجلسون ويعملون معهم، فجمعوا بين الجريمتين: جريمة تشويه الإسلام بأفعالهم والانحراف عن مبادئه، وجريمة
__________
1 مسلم: الحج (1218) , وأبو داود: المناسك (1905).(23/227)
ص -231- ... تضليل جهلة المسلمين وإدخال الزيغ إلى نفوسهم.
إن تأس يا أخي، فمأساتك عليهم، لأنهم مسلمون فسقوا عن الإسلام، في الداخل والخارج. أما تأسفنا عليهم لأنهم من أقطاب الدين، فالحمد لله أنهم أبعد من كثير من اليهود والنصارى معرفة بكتاب الله وسنة رسوله. ولا أدل على جهلهم هذا، من رميهم الدين الإسلامي بالعجز عن تنظيم الحياة، ومطالبتهم باستبداله بالقوانين، والأنظمة، ولو لم يبق من مطالبتهم إلا تشجيعهم ورضاهم به لكفى. والدافع الذي دفع أولئك، إلى إقرار بعض القوانين والنظم في بلادهم، والتي أخذوا يشتركون في وضع مخططاتها، متحدين بذلك فاطر السماوات والأرض الذي لا حكم لأحد سواه، في الأرض ولا في السماء، الدافع لهم على ذلك، هو أنهم في الواقع لا يعرفون عن كتاب الله، وسنة رسوله شيئا، ويظنون أن القصور فيهما، ولا يدرون أن القصور في الحقيقة كامن في عقولهم، ومداركهم السخيفة؛ لأنها لا تعرف غير قوانين الغرب، وقوانين الاشتراكية والشيوعية الملحدة فقط.
ولو أن هؤلاء المارقين عن دين الله رجعوا إلى أهل العلم، العارفين بكتاب الله وسنة نبيه، وما فيهما من أحكام ومقاصد سامية وشاملة لما ظهر من الأحداث وما لم يظهر بعد،(23/228)
ص -232- ... لو رجعوا إليهم واستشاروهم، لوجدوا منهم فتح المجالات الرحبة، في تنظيم شؤون الحياة، والسياسة والحرب، على ضوء الكتاب والسنة، ولوجدوا صورا حية من صور البطولة المعنوية، وتنظيما ساميا في الاقتصاد والتجارة، والعلم، على اختلاف أشكاله، تنظيما محكما صالحا لكل عصر، لا يتطرق إليه الفشل، لأنه مستمد من وحي الله الذي يعلم ما كان وما سيكون، وليس مستمدا من رأي مخلوق، لأن رأي البشر قاصر، ومعرض للخطأ. وكان الصحابة رضي الله عنهم يناقشون الآراء، لأنهم يعرفون أنها قد تصيب وقد تكون خاطئة، ولكنهم لا يناقشون الوحي الذي يأتي من السماء، كما لا يناقشون حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كما قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [سورة النجم آية: 4-3]؛ وكانوا: لا يناقشون الوحي، لأنهم يعرفون يقينا إصابته ولا بد، وإن لم يوافق ما يرون، لأن العقول لا تدرك إلا ما تراه، وإدراكها لما ترى إدراك ناقص أيضا. وبفضل تمسك الصحابة بكتاب الله وسنة رسوله، تمت لهم ولمن سار على هديهم السيادة على العالم، وبلوغ الذروة في العلم والمجد(23/229)
ص -233- ... الفصل الثالث: [ما يسمى بالنظم و بالقانون لم يكن يعرف في عهد سلفنا]
ما يسمونه بالنظم، وقد يسمى بالقانون، وغير ذلك، ولكل دولة فيه اصطلاح، وقد يختم كل نظام بوجوب الحكم به، وللدولة نظم عديدة، كنظام الوزراء، والمحاكم، وكنظام البنوك، ونظام العمل والعمال، وسائر الدوائر، ولم تكن تلك تعرف في عهد سلفنا، ولا في عهد السلف الصالح، وعسى الله أن يوفق أئمة المسلمين أن يؤلفوا نبذا مختصرة مصحوبة بالنصوص الشرعية، كافلة بما تحتاجه ولاة الأمر في جميع أمور الرعية.
وإليك: ما كتبه الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد رحمه الله، لبيان ما في نظام العمل والعمال، من الأخطاء، والتناقض والضلال، فأجاد وأفاد.
قال الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد، رحمه الله: [رسالة الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد إلى رئيس مجلس الوزراء وما كتبه الشيخ في نظام العمل والعمال ]
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن محمد بن حميد، إلى حضرة المكرم الأحشم، رئيس مجلس الوزراء أدام الباري توفيقه، ومتع بحياته، آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فأرجو الله أن يحفظكم ويمتع بحياتكم، سلمك الله: نظام العمل(23/230)
ص -234- ... والعمال، طالما كنت أسمع عنه، وما فيه من الأحكام الباطلة، المخالفة للشريعة الكاملة، في مصادرها ومواردها. وأنا لا أصدق، ولا أكذب. ولعلمي أنكم- ولله الحمد- من أشد الناس حرصا على هذه الشريعة الإسلامية، والذود عنها، وحمايتها بكل ما أوتيتموه من حول وقوة، كما جاء ذلك في خطابات سموكم المتعددة، في بعض المناسبات، فقد قلتم: إن شريعة الإسلام كفيلة لكل مصلحة، وقامت هذه الدولة على أسسه، أولها الأساس الإسلامي، وتحكيم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وقلتم: إننا لسنا في حاجة إلى نظام مستورد من الخارج. وقلتم: سنكون في خدمة هذا الدين إلى أن يتوفانا الله، جاهدين مجاهدين عن شريعة الإسلام، ومكافحة كل ما يعترض هذا الدين. وقلتم: كل ما لا يوافق الشريعة الإسلامية فهو رد، ولا قضاء غير الشرع، ولا نوافذ على نظام لا يكون له أساس من ديننا الذي استوعب كل ما فى الحياة. والحقيقة أنكم تشكرون على هذا، ونرجو الله أن يثبتكم ويحفظكم، ويجعلكم دائما محافظين على هذه الشريعة، مجاهدين دونها، كما نرجوه أن يتولى جزاءكم في الدارين، ويجزل لكم المثوبة.(23/231)
ص -235- ... وبناء على هذا، قرأت نظام العمل والعمال، فوجدته أفظع مما قيل فيه، وأعظم مما كنت أسمع عنه ; فمما جاء منه: أن الأجر يدفع للعامل في حالة الإقعاد الجزئي الدائم، مبلغ 18000 للعامل درجة أولى، و12000 للعامل درجة ثانية، و 8000 للعامل درجة ثالثة، وذلك مقابل فقدان البصر كليا، أو فقدان العينين معا. وهكذا درج على هذا المنوال، في حين أن هذا باطل، لعدة وجوه منها: أن الأجر لا يلزمه شيء لم يلتزم به، ولم يقع بسببه، ولا بإهماله، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه" 1.
ثانيا: تدل هذه المادة أنه لو تعدى على العامل أحد من العمال، لزم المؤجر تلك الغرامة، في حين أن الشرع والعقل يلزم بذلك الجاني، فهو الذي يلزمه بذل أرش تلك الجناية الصادرة منه. ثالثا: هذه التفرقة، وتقسيم العمال إلى ثلاث درجات، تقسيم في غير محله، فمن هو المبين أن هذا العامل من الدرجة الأولى، والآخر من الثانية، أو الثالثة، فقد يكون عند هذا من العمل ما ليس عند الآخر; وبكل حال هذا التفريق باطل، تأباه الشريعة السمحة، وينكره العقل السليم.
كما جاء أيضا في النظام نفسه: أن العامل إذا أصيب
__________
1 مسلم: البر والصلة والآداب (2564) , وأحمد (2/277).(23/232)
ص -236- ... بإصابة أقعدته عن عمله، يدفع له أجرة 75% من أجرته، وذلك بعد مضي سبعة أيام من تاريخ الإصابة، التي يجب أن يستوفي فيها أجره كاملا، ويستمر دفع 75% إلى حين شفاء المصاب، وانتهاء مدة الإقعاد المؤقت... إلخ، والنظام على هذا المنوال. والشريعة حرمت أموال المسلمين، كما حرمت دماءهم، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة البيت الحرام، في الشهر الحرام، في البلد الحرام" 1 فكيف يلزم المؤجر بدفع ثلاثة أرباع أجور عماله، المصابين عنده، بدون مقابل؟ فالشريعة أمرت العامل إذا مرض أن يقيم مكانه من يقوم بعمله، وإلا فللمؤجر الفسخ. والحقيقة أن هذا النظام باطل من أساسه، إذ لم يستند في أحكامه على نص، لا من كتاب، ولا سنة، ولا إجماع، ولا قول أحد من أهل العلم، والعقل السليم يعرف بطلانه؛ بل تصوره كاف في قبحه. ولكن بكل حال: أنتم معذورون، لتقدم وضعه.
وأعتقد كما يعتقد غيري أنكم لم تطلعوا عليه، لسبب وضعه، فقد وضع بتاريخ 25/11/1366? ولهذا كتبت عليه هذه الملاحظات المشفوعة بكتابنا هذا.
__________
1 البخاري: الحج (1739) , وأحمد (1/230).(23/233)
ص -237- ... إذا، أرجو الاطلاع عليه، والأمر بما ترون نحو هذا النظام الفاسد، الذي سيعتبر قدحا في تاريخ هذه الدولة السعودية المسلمة، التي لم يعرف عنها سوى تحكيم الكتاب والسنة فيما لها وعليها، وبين رعاياها، والله يثبتها عليه، ويحفظها من القوانين الوضعية المجانبة للكتاب والسنة. ولعل يد الإصلاح في عهد سموكم، تمتد إلى إماطة هذا الأذى عن طريق المسلمين، تولاكم الله ورعاكم: والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. في 7/6/ 1384?.
وقال رحمه الله في ملاحظاته:
بسم الله الرحمن الرحيم بيان ما في نظام العمل والعمال من الأخطاء والتناقض والضلال
الحمد لله الذي جعلنا من خير الأمم، ونجانا بنور الوحيين من حوالك الظلم، وخصنا بمحمد الذي أوتي جوامع الكلم، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين حازوا بمتابعته العز في الدنيا وفي الآخرة، وسلم تسليما. أما بعد: فقد قرئ علي بعض من نظام العمل والعمال، الذي صدر الأمر والعمل به بتاريخ 25/ 11/ 1366?، والذي لم يزل العمل به مستمرا إلى هذا الوقت. ولما سمعت بعض مواده وفقراته، طال تعجبي من وجود مثل هذه الأنظمة يحكم بها بين ظهراني المسلمين، وتقررها وتنفذها دولة إسلامية، تحكم القرآن وتفخر به،(23/234)
ص -238- ... ويحق الفخر لمن تمسك به، وعمل بأحكامه، وكنت قبل اطلاعي عليه أسمع شيئا مما يتناقله الناس عنه، غير أني لا أصدق ولا أكذب بكل ما أسمع عنه. ولما اطلعت عليه وجدته فوقع ما أسمع، وأفظع مما يقال فيه، ورأيت أنه متحتم علي أن أبين ما علمته فيه من الأخطاء، على وجه النصيحة وبراءة الذمة، ورتبته على مقدمة، فملاحظة عامة، فبيان ما في كل فقرة من الأخطاء على وجه التفصيل. والله المسؤول أن يمن علينا بحسن القصد، والاتباع لهدى نبينا صلى الله عليه وسلم، وأن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه، إنه سميع مجيب.
المقدمة
قد بعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم إلى البشر، رحمة منه وإحسانا، ليخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه، ويهديهم إلى صراط مستقيم. وكانت العرب قبل بعثته صلى الله عليه وسلم في جاهلية جهلاء، وشقاء لا بعده شقاء؛ يعبدون الأصنام، ويئدون البنات، ويسفكون الدماء بأدنى سبب، وبلا سبب، في ضيق من العيش، وفي نكد وجهد من الحياة، يعيشون عيشة الوحوش، ومع الوحوش، يتحاكمون إلى الكهان والطواغيت.(23/235)
ص -239- ... فلما جاء الله بهذا النبي الكريم، أخرجهم الله به من الظلمات إلى النور، أخرجهم من ظلمة الكفر والشرك إلى نور الإيمان والتوحيد، ومن ظلمة الجهل والطيش إلى نور العلم والحلم، ومن ظلمة الجور والبغي إلى نور العدل والإحسان. ومن ظلمة التفرق والاختلاف إلى نور الاتفاق والوئام، ومن ظلمة الأنانية والاستبداد إلى نور التواضع والتشاور، ومن ظلمة الفقر والجهد إلى نور الغنى والرخاء؛ بل أخرجهم من ظلمة الموت إلى نور الحياة السعيدة {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة الأنعام آية: 122]. أكمل الله به الدين، وتمم به مكارم الأخلاق. أمر بعبادة الله وحده لا شريك له، وأمر ببر الوالدين، وصلة الأرحام، والإحسان إلى الفقراء والمعوزين، حتى قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء" 1. وأمر بالتحاكم فيما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله، لا خير إلا ودل الأمة عليه، ولا شر إلا حذرها عنه، أخبر بما كان وما يكون إلى يوم القيامة، كما قال حذيفة رضي الله عنه: "قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاما، ما ترك شيئا يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة، إلا حدث به، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه"،
__________
1 مسلم: الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1955) , والترمذي: الديات (1409) , والنسائي: الضحايا (4405 ,4412) , وأبو داود: الضحايا (2815) , وابن ماجه: الذبائح (3170) , وأحمد (4/123 ,4/124 ,4/125) , والدارمي: الأضاحي (1970).(23/236)
ص -240- ... وقال أبو ذر رضي الله عنه "لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قال: لقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يقلب طائر جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علما". رسم لأمته طرق السعادة في الدنيا والآخرة، في سياسته الشرعية، التي يعجز كل أحد أن يأتي بناحية من نواحيها، فرسم لهم طرق السياسة مع الأعداء، فبين لهم ما تعامل به الأمم الأجنبية، من الحرب ووجوبه، والسلم ووجوبه، والمعاهدات والصلح، وحفظ العهود. وأوجب عليهم الاستعداد بكل قوة يستطيعونها، ونهاهم عن الإخلاد إلى الكسل والعجز والدعة والراحة، وأخبرهم أن هذا سبب للذل ; بل أمرهم أن يكونوا أقوياء أشداء أعزاء، لا تلين قناتهم لأحد سوى الله ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. وأوضح لهم جميع الشؤون الاجتماعية أتم إيضاح؛ بين ما للحاكم، وما للمحكوم وما عليه؛ فأوجب للحاكم السمع والطاعة، وحرم الخروج عليه، وأوجب على المسلمين مناصرته وموالاته عندما يخرج عليه خارج؛ وأمرهم بقتال الباغين عليه؛ وأمرهم بالصبر على ما يأتيهم من ولاتهم، وأنهم مهما عملوا لا يجوز الخروج عليهم، ما أقاموا فينا الصلاة، إلا أن نرى كفرا بواحا،
فقال صلى الله عليه وسلم "عليكم بالسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم(23/237)
ص -241- ... عبد حبشي" 1، وقال صلى الله عليه وسلم "اسمع وأطع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك" 2. وهذا يدل على كمال هذه الشريعة وتمام نضوجها في السياسة وغيرها؛ لأنه متى حصل منابذة للحاكم، لا بد أن ينجم عن ذلك القتل، وخلل في الأمن، وعدم الاستقرار، فيذهب بسبب ذلك الألوف من الأنفس، كما قيل: ملك ظلوم غشوم، خير من فتنة تدوم. وهذا شيء يشهد له التاريخ والواقع. وهناك أنفس شريرة لا يناسبها إلا هذا الوضع، ما لم يضرب عليها بيد من حديد.
أما الأنفس الخيرية التي زكت عقولها، وتنورت بنور الوحي المحمدي، فهذا أشق عليها، كما قال الإمام أحمد: لو كان لي دعوة مستجابة لصرفتها للسلطان، لأن بصلاحه صلاحا للرعية، وبفساده فسادا للرعية. ويروى عن سفيان والفضيل، رضي الله عنهما مثل ذلك. وكلما عظم قدر الدين في النفس، عظم عندها قدر الحاكم واحترامه وتوقيره؛ ولكن لا يكون هذا التوقير مانعا عن مناصحته، وتبيين أخطائه ليتلافاها، وإنكار ما يرتكبه من المنكر، والصدع بكلمة الحق بين يديه، بل يعد هذا من كمال محبته والشفقة عليه، كما قيل: من أحبك نهاك، ومن أبغضك أغراك، وقال الشاعر:
ما ناصحتك خبايا الود من أحد ... ما لم ينلك بمكروه من العذل
__________
1 البخاري: الأحكام (7142) , وابن ماجه: الجهاد (2860) , وأحمد (3/114).
2 مسلم: الإمارة (1847) , وأبو داود: الفتن والملاحم (4244).(23/238)
ص -242- ... مودتي لك تأبى أن تسامحني بأن أراك على شيء من الزلل
فأوجبت الشريعة على الحاكم للمحكومين النصح لهم، وأن لا يدخر وسعا في الشفقة عليهم وحفظ مصالحهم، وحماية أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، وحماية جميع ما لهم من الحقوق، وقمع المعتدين عليهم، وإنفاذ الحدود التي أوجبها الله على المخالفين، والجد كل الجد في حفظ دينهم، وتعزيزه بكل ممكن، وتطبيق أحكامه عليهم بكل دقة، وأن لا يشاب بشيء من الآراء والاستحسانات، وأن يكون ذلك التطبيق جاريا على كل أحد، من شريف ووضيع، وحاكم ومحكوم، وغني وفقير لأن الولاية إنما شرعت لهذا وأمثاله. ثم إن هذه الشريعة لكمالها، لم تقتصر على هذا، بل أمرت بالضرب في الأرض، لطلب الكسب، وأمرت بحرث الأرض للمعاش، وأمرت بالبيع والشراء، وبينت أحكام الدين والاستدانة، ونهت عن البطالة والكسل في طلب المعاش.
وعلمت كيفية الاقتصاد، فنهت عن التبذير، وعن التقتير، وأمرت بالقوام بينهما، ورسمت أحكاما لكل من التجارة والزراعة والصناعة، وأوجبت حفظ الحقوق، فأمرت(23/239)
ص -243- ... بالكتابة والإشهاد، وحرمت كتمان الشهادة أشد تحريم، حماية للأموال، وسلامة للصدور عن التقاطع والتباغض. كما نهت أيضا عن الغش والخداع في المعاملات والربا بأنواعه، وبيع البعض على بيع البعض، وعن التدليس وبيغ الغرر؛ كل هذا حفظا للحقوق، وحرصا على تمام الروابط بين المسلمين.
نعم إنها لم تكتف بهذا، بل دخلت على الأسرة الواحدة في بيتها، فبينت ما لكل منهم وما عليه، من الوالد والولد، والزوج والزوجة، وجميع الأقارب كل بحسبه. ولم يمر بالإنسان طور من أطوار حياته، إلا بينت مشاكله، وجميع ما قد يعرض له في حياته، من حين رضاعه إلى إبان وفاته، بل إلى ما بعد ذلك. فبينت الأولى بتغسيله وتكفينه، وحمله والصلاة عليه ودفنه، وميراثه ووصيته، وحقوقه من قضاء دين وتنفيذ وصية وإنفاذ عهد. فلله ما أعظم هذه الشريعة، وأجلها وأسماها! وكلما ازداد المرء معرفة بها، ازداد لها احتراما وتعظيما وتوقيرا. فلذلك كان الصحابة رضي الله عنهم- لكماله معرفتهم بها- أشد الناس تمسكا بها، وتمشيا مع تعاليمها بكل جليل ودقيق.(23/240)
ص -244- ... وإنه لمن العجب إعراض أكثر الناس في هذه الأزمنة عن تعاليم هذه الشريعة السامية الكاملة، واستبدالها أو شوبها بقوانين وضعية، ظاهرة التناقض، واضحة الجور، فاسدة المعنى. فلذا كثيرا ما يطرأ عليها التغيير والتبديل، كل يرى أنه أحسن ممن تقدمه، وأدرى بالمصالح والمفاسد ممن سبقه، ثم يجري فيها تغييرا وتبديلا، بحسب رأيه؛ وهكذا دواليك ما بقيت هذه النظم، المستمدة من نحاتة الأفكار وزبالة الأذهان.
أما الشريعة الإسلامية، فهي صالحة لكل زمان ومكان مضى عليها أربعة عشر قرنا وهي هي في كمالها ومناسبتها، وحفظها لكافة أنواع الحقوق لجميع الطبقات. وأهدأ الناس حالا، وأنعمهم بالا، وأقرهم عيشا، أشدهم تمسكا بها، سواء في ذلك الأفراد أو الشعوب، أو الحكومات؛ وهذا شيء يعرفه كل أحد إذا كان عاقلا منصفا، وإن لم يكن من أهلها، بل وإن كان من المناوئين لها.
وقد سمعنا وقرأنا كثيرا مما يدل على ذلك؛ فقد ذكر بعض عقلاء المستشرقين الذين يكتبون لبيان الحقيقة والواقع - لا للسياسة- أن نشأة أوربا الحديثة، إنما كانت رشاشا من نور الإسلام، فاض عليها من الأندلس، ومن صفحات(23/241)
ص -245- ... الكتب التي أخذوها في حروبهم مع المسلمين، في الشرق والغرب. وقال القس "طيلر": إن الإسلام ليمتد في أفريقيا، وتسير الفضائل معه حيث سار؛ فالكرم والعفاف والنجدة، من آثاره، والشجاعة والإقدام من نتائجه. وقال "كونتنس": يمتاز المسلمون على غيرهم برفعة في السجايا، وشرف في الأخلاق؛ قد طبعته في نفوسهم ونفوس آبائهم وصايا القرآن؛ بخلاف غيرهم، فإنهم في سقوط تام من حيث ذلك. وقال أيضا: إن من أهم النعوت التي يمتاز بها المسلم: عزة في النفس، فهو- سواء في حالة بؤسه ونعيمه- لا يرى العزة إلا لله ولرسوله وله، وهذه الصفة التي غرسها الإسلام في نفوسهم، إذا توفرت معها الوسائل، كانت أعظم دافع إلى التسابق إلى غايات المدنية الصحيحة ورقيات الكمال. وقال "هانوتو" وزير خارجية فرنسا في وقته: إن هذا الدين الإسلامي قائم الدعائم، ثابت الأركان، وهو الدين الوحيد الذي أمكن اعتناق الناس له زمرا وأفواجا.
وهو الدين الإسلامي العظيم، الذي تفوق شدة الميل إلى التدين به كل ميل إلى اعتناق أي دين سواه؛ فلا يوجد مكان على سطح المعمورة إلا واجتاز الإسلام فيه حدوده، فانتشر في الآفاق.(23/242)
ص -246- ... وقال بعضهم: لما رغب المسلمون عن تعاليم دينهم، وجهلوا حكمه وأحكامه، وعدلوا إلى القوانين الوضعية المتناقضة، المستمدة من آراء الرجال، فشا فيهم فساد الأخلاق، فكثر الكذب والنفاق، والتحاقد والتباغض، فتفرقت كلمتهم، وجهلوا أحوالهم الحاضرة، والمستقبلة. وغفلوا عما يضرهم وما ينفعهم، وقنعوا بحياة يأكلون فيها ويشربون، وينامون، ثم لا ينافسون غيرهم في فضيلة، ولكن متى أمكن لأحدهم أن يضر أخاه، لا يقصر في إلحاقه الضرر. وأقوالهم في هذا الموضوع كثيرة جدا. يعترفون فيها بعظمة الإسلام، وشموله لعموم المصالح ودرء المفاسد، وأن المسلمين لو تمسكوا بإسلامهم حقا، لصاروا أرقى الأمم وأسعد الناس، ولكن ضيعوا فضاعوا، واكتفوا منه بمجرد التسمي بأنهم مسلمون.
مناقب شهد العدو بفضلها وأفضل ما شهدت به الأعداء
ولسنا- والحمد لله- في حاجة إلى شهادة هؤلاء وأمثالهم، بفضل الإسلام وعلو مكانته، ولكن ذكرنا هذا لما قصر أهله في فهمه والعمل به، وعرف منه أعداؤه ما لم يعرفه بنوه؛ إذ جهلوا مصالحه، وتطلعوا إلى غيره من النظم الفاسدة المتناقضة، وأعداؤه يفضلونه ويشهدون له بالكمال وأنه فوق كل نظام.(23/243)
ص -247- ... ولا شك أنه الدين الصحيح، الكفيل بكل ما يحتاجه البشر على وجه يكفل لهم المصالح، ويدرأ عنهم المفاسد، دين الفطرة السليمة، دين الرقي الحقيقي، دين العدالة بأسمى معانيها، دين المدنية والحرية بمعناها الصحيح، دين العمل، دين الاجتماع، دين التوادد والتناصح والتحابب، دين رفع ألوية العلم والصنائع والحرف. لم يقتصر على أحكام العبادات، أو المعاملات، بل شمل جميع منافع العباد ومصالحهم، على ممر السنين وتعاقب الدهور، إلى أن تقوم الساعة. ولكن يا للأسف ويا للمصيبة! أن أبناء هذا الدين جهلوا قدره، وجهلوا حقيقته؛ بل كثير منهم عادوه وأصبحوا يدسون عليه معاولهم ليهدموه، وليفرقوا أهله، ويفضلون أهل الغرب على المسلمين، ظنا منهم بعقولهم الفاسدة وآرائهم الكاسدة أن الدين هو الذي أخرهم، وهيهات هيهات أن يكون هو الذي أخرهم، ولكنهم أخروا أنفسهم بالإعراض عن تعاليم دينهم، وأخلدوا إلى الكسل، وقنعوا بالجهل، فأصبحوا في حيرة من أمرهم. إنهم لو عرفوا دينهم، وطبقوا تعاليمه لوصلوا فوق ما وصل إليه غيرهم، من التقدم الصناعي؛ ولكنهم تركوا دينهم، واقتنعوا بالترف والنعيم، وأهملوا العناية به.
فوالله لو أن أهله قاموا بما يجب عليهم، لحازوا(23/244)
ص -248- ... شرف الدنيا والآخرة. وإن الواجب على أهل الإسلام، خصوصا العلماء منهم، وولاة الأمور، أن يبثوا الدعوة له، وينشروا محاسنه لنشئهم، ليرغبوهم فيه، ويرشدوا الأمة لأحكامه وحكمه، كما فعل أوائلهم الأماجد.
فإنهم قاموا بالدعوة، فبينوا للأمم محاسنه وسماحته، شارحين لهم حِكمه، موضحين مزاياه، وبذلك امتد سلطانهم، واتسعت ممالكهم، وأخضعوا من سواهم لتعاليمه. ولكن ما لبث أبناؤهم أن حرفوا فانحرفوا، وتمزقوا بعدما اجتمعوا، واشتبه الحق عليهم والباطل، فتفرقت بهم السبل، وأصبحوا شيعا، متفرقين في آرائهم، متباينين في مقاصدهم. وكيف يحصل لهم الرقي، وأنى يتسنى لهم التقدم، وقد رضوا بقوانين وضعية، استمدوها من أعدائهم، يجرون وراءهم، وينهجون نهجهم تقليدا لهم، ومصادمة للشريعة الإسلامية، التي هي عزهم وفخرهم، وفيها راحتهم وطمأنينتهم.
والله سبحانه وتعالى يقول: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [سورة المائدة آية: 50]، ويقول جل شأنه: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [سورة المائدة آية: 44]، وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ(23/245)
ص -249- ... فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [سورة المائدة آية: 45]، وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [سورة المائدة آية: 47]، وقال سبحانه وتعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [سورة النساء آية: 59]. وقد تكفلت بحل جميع المشاكل وتبيينها وإيضاحها، قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [سورة الأنعام آية: 38]، وقال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [سورة النحل آية: 89]: ففي هذه الآية: أن القرآن فيه البيان لكل شيء، وأن فيه الاهتداء التام، وأن فيه الرحمة الشاملة، وأن فيه البشارة الصادقة للمتمسكين به، الخاضعين لأحكامه.
وقال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ}[ سورة البقرة آية: 213]، وقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [سورة النحل آية: 44]، وقال صلى الله عليه وسلم: "تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك" 1، وقال صلى الله عليه وسلم "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله، فيه
__________
1 ابن ماجه: المقدمة (44) , وأحمد (4/126).(23/246)
ص -250- ... نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم؛ هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله....." 1 الحديث.
وقد قال الإمام ابن كثير رحمه الله، على قوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [سورة المائدة آية: 50] الآية: ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء، والاصطلاحات التي وضعها الرجال، بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الجهالات والضلالات، كما يحكم به التتار من السياسات المأخوذة عن "جنكيزخان" الذي وضع لهم: "الياسق" وهو: عبارة عن كتاب أحكام، اقتبسها من شرائع شتى، من اليهودية، والنصرانية، والملة الإسلامية، وفيها كثير من الأحكام، أخذها عن مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعا، يقدمونها على الحكم بالكتاب والسنة؛ فمن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله، حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فلا يحكم بسواه في قليل ولا كثير، ا?.
وقال ابن القيم: رحمه الله تعالى، على قوله عز وجل: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ
__________
1 الترمذي: فضائل القرآن (2906) , والدارمي: فضائل القرآن (3331).(23/247)
ص -251- ... رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} [سورة النساء آية: 61]: هذا دليل على أن من دعي إلى تحكيم الكتاب والسنة فأبى، أنه من المنافقين، ا?. وقد قتل عمر رضي الله عنه رجلا طلب التحاكم إليه، ولم يرض بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنبي حي ولم ينكر على عمر قتله للرجل؛ فكيف يجترئ من يدعي الإيمان مع هذا البيان الواضح، والآيات البينات، والأحاديث الصحيحة، على الرضى بالتحاكم إلى الطاغوت، والإعراض عن شريعة الله؟ والله قد نفى الإيمان عمن لم يحكم الرسول فيما وقع بينهم من التشاجر، قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [سورة النساء آية: 65]. وإنه لمن أعظم الضلال، أن يعتقد من يدعي الإسلام، أن الشريعة لم تأت بما يكفل مصلحة الجميع، وأن الناس محتاجون إلى غيرها في شيء من شؤونهم ومشاكل حياتهم. أليس ذلك ظنا وتكذيبا لقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [سورة المائدة آية: 3]، وإنكارا وردا لقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [سورة النحل آية: 89] ؟(23/248)
ص -252- ... وإننا لنربأ بحكومتنا السنية، ورجالها المصلحين أن يفسدوا ما تمسكوا به من تعاليم هذا الدين الحنيف، بإدخال بعض هذه النظم، والقوانين المخالفة للشريعة على المسلمين، أو يلزموهم بها، فيبوؤوا بالإثم، وتتناولهم هذه الآية الكريمة: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [سورة النحل آية: 25]. فلما تقدم من الأدلة الشرعية على وجوب التمسك بحكم الله ورسوله، وأن لا يلتفت إلى ما سواهما، وبراءة للذمة، ورجاء للمثوبة من عند الله، رأيت أن أبين ما قد لاحظته على هذا النظام المهين.
ملاحظات عامة: تضمن هذا النظام أمورا كثيرة مما يخالف الشريعة المطهرة، ويلاحظ عليه على سبيل الإجمال: أن هذا النظام الذي وضعته الحكومة ضمنته أشياء غير سائغة شرعا، وشروطا في صالح المستأجر، وأخرى ليست في صالحه، بل هي ضرر عليه، ومثلها للعامل.
والواقع أن كلا يؤجر ويستأجر، وهو لا يعلم بوجود هذا النظام أصلا، ولم يعرف شيئا مما تضمنه من الشروط، سواء كانت له أو عليه، ثم إنه لو حدث تشاجر بينهما، أو خلاف وتكايس أحد الطرفين، وسمع بهذا(23/249)
ص -253- ... النظام، ثم بحث عنه ووجد أن له فيه مصلحة، أو قيل له: إن هناك نظاما يرى الحق لك، طالب به، وألزم الطرف الآخر بحسب ما يقضيه به هذا النظام؛ فهل هذا يقره عقل، أو عرف، فضلا عن الشريعة؟ !. كلا، بل هذا يعتبر من أظلم الظلم، وكيف يتحصل أو يقضى له بشيء لم يشترطه قبل إبرام العقد، ولم يلتزم الطرف الآخر به، ولم يعلم به أصلا؟ !. هذا شيء مناقض للشريعة، ومصادم للنصوص، فإنه صلى الله عليه وسلم يقول: "المسلمون على شروطهم، إلا شرطا أحل حراما، أو حرم حلالا" 1: فهذا الحديث ينص على أنه لا يلزم أحد، إلا بما التزم به هو بنفسه، لا باشتراط غيره عليه، وهو لا يعلم.
وقال عمر رضي الله عنه: "مقاطع الحقوق عند الشروط". ثم إن المتعاقدين لو اشترطا فيما بينهما ما يخالف الشريعة أيضا، لم يقرا عليه، وبطل الشرط وحده، أو أبطل العقد من أصله، بحسب ما هو مقرر في كتب أهل العلم، المستمدة من القرآن والسنة، لقوله صلى الله عليه وسلم: "من شرط شرطا ليس في كتاب الله، فهو باطل، وإن كان مائة شرط" 2.
وكثير من مواد هذا النظام مخالف لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مع ما اشتمل عليه من الظلم والتناقض، ومع
__________
1 الترمذي: الأحكام (1352).
2 البخاري: البيوع (2168) , ومسلم: العتق (1504) , وأبو داود: العتق (3929) , ومالك: العتق والولاء (1519).(23/250)
ص -254- ... أن المتعاقدين لم يتفقا عليه، ولم يعلما بمضمونه، ولا ما دل عليه. ثم إنه لو قيل: إن النظام وضعته الحكومة، وهو خاص بأعمالها الحكومية، فهي التي التزمت بهذه الشروط على نفسها لعمالها، لقلنا: هذا ليس صحيحا من وجهين. أحدهما: أن جميع ما فيه من الشروط، سواء كانت للعامل أو عليه، يجب أن تفهم له قبل دخوله في العمل، حتى يفهمها جيدا، بمنطوقها ومفهومها، ليكون على بصيرة من أمره، في كل ما له وما عليه. الثاني: أن لا يتضمن شيئا مما يخالف الشرع؛ فإن تضمن شيئا مما يخالف الشريعة فهو باطل ولو رضي كلا الطرفين.
وقد يقال أيضا: إن هذا النظام وضع بين شركة كافرة وبين المسلمين، وغالبه في صالح العامل، والمقصود منه الاستيلاء على أموال هؤلاء الكفار، بأي وسيلة حصلت لنفع المسلمين وتقويتهم. فالجواب: أن هذا من التعليلات، غير مجدية شيئا في جواز تطبيقه، لأمور، منها: أنه ليس كله في صالح العامل، ثم لو فرض ثبوت هذا، فالشرع لا ينظر إلى مصلحة طرف دون الآخر؛ بل كل يرى ما له وما عليه من الحقوق، سواء كان الحق لمسلم أو لكافر، ما لم يكن الكافر حربيا، فليس له أي حق سوى دعوته للإسلام.(23/251)
ص -255- ... ومنها: أن أموال الكفار الذين دخلوا البلاد بأمان من المسلمين، ولم يكونوا حربيين، ولم يحصل منهم ما يخالف التعاليم الصحيحة التي أخذها المسلمون عليهم، لا يجوز الاستيلاء عليها بطريق الغصب، ولا بطريق الحيلة الممنوعة شرعا. فإن الله يقول في حق أهل الكتاب: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [سورة المائدة آية: 49]، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالحكم بينهم بما تقتضيه الشريعة الإسلامية؛ هذا بين الكفار بعضهم مع بعض، فكيف إذا كان بينهم وبين المسلمين؟ فيكون إذاً من باب أولى. ثم حصل التفريق في هذا النظام بين المسلمين في المواد الجنائية، ولم يرد في الشرع فرق بين المسلمين، إذا كانوا ذكورا أحرارا في الجنايات، سواء في ذلك الصغير والكبير، والغني والفقير، والعالم والجاهل؛ لأنه لا فرق بينهم إلا بالتقوى، والتقوى لا يعلمها إلا الله، ويظهر تفاوت الناس بها في الآخرة، أما في الدنيا فالحكم على الظاهر، فمن ظهر إسلامه عومل معاملة المسلمين كائنا من كان، ماهرا فنيا أو عكسه، فديتهما على السواء.
أما ما ذكر في هذا النظام، فهو تحكيم ما أنزل الله(23/252)
ص -256- ... به من سلطان، بل هو رد لنصوص القرآن والسنة. هذه ملاحظة عامة.
أما الملاحظات التفصيلية الخاصة لكل مادة وفقرة، فهي ما يلي:
1- جاء في هذا النظام، في المادة السادسة، ما نصه: لا يجوز استخدام عمال دون العاشرة من العمر بصفة عامة ويجوز لوزارة المالية لما يأتي... إلخ. ويلاحظ عليها: أن عدم تجويز استخدام من بهذا السن، لم يرد به الشرع، ولا يجوز لأحد أن يبيح، أو يحرم شيئا بعقله، والله يقول: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [سورة النحل آية: 116]، فإذا بلغ الصبي سن التمييز، جاز تصرفه بإذن وليه، بكل شيء، من عمل وبيع أو شراء، إذا كان في مقدوره، وفي حدود طاقته، وعلمت المصلحة وانتفت المفسدة. ثم يلاحظ عليها أيضا: التناقض، حيث جعل هذا النظام الحق لوزارة المالية في رفع هذا السن أو تخفيضه، بناء على ما ترتئيه هذه الوزارة؛ فما الذي منعه على المسلمين ولو رأوا المصلحة؟ وما الذي أباحه لوزارة المالية دون غيرها؟ !
2- نصت فقرة (ب) من هذه المادة: أنه لا يجوز(23/253)
ص -257- ... تشغيل العامل، تشغيلا فعليا أكثر من ثماني ساعات في اليوم ولا شك أن هذا خطأ واضح لما يأتي: أولا: أنه متى استأجره المستأجر يوما، فيجب عليه العمل كل ذلك اليوم، إلا بشرط لفظي أو عرفي، ما عدا أوقات الصلوات الفرائض، وما تدعو إليه الحاجة من أكل وشرب وغيرهما. ثانيا: أن الأعمال تتفاوت، فمنها ما هو شاق، ولا يستطيع العامل أن يعمل ثماني ساعات، ومنها: ما هو سهل، فهو يستطيع العمل يومه وليلته، أكثرها بدون تكليف؛ لأنه لا يستوي العامل الذي يضرب بمرزبته صفائح الحديد، والعامل الذي هو عبارة عن حارس أو بواب، فتحديد العمل بشيء لم يتفقا عليه، ولم يكن مستثنى شرعا، أو عرفا، مع اختلاف تنوع الأعمال، لا يجوز.
3- نصت فقرة (ج) من المادة المذكورة: أنه لا يجوز أن يشتغل العامل أكثر من خمس ساعات متوالية، وهذه كالفقرة السابقة، بل يلزم العمل حسب ما اتفقا عليه، ما لم يكن هناك شرط لفظي أو عرفي أو مستثنى شرعا، كأداء الفرائض، أو حاجة العامل إليه، وكذا لا يجوز تحديد زمن للراحة إلا على حسب الشرط بينهما.
4- جاء في المادة السابعة ما نصه: يجب دفع أجر(23/254)
ص -258- ... العامل وكل مبلغ مستحق له في البلاد العربية السعودية، بالعملة السعودية، ويحصل الدفع للعامل نفسه ولو كان قاصرا، ما لم يكن ولي القاصر محتاجا لكده... إلخ. والجواب عن ذلك: أنه لا يلزم ما ذكر في هذه الفقرة، بل الواجب على المؤجر أن يدفع للعامل ما اتفقا عليه من نوع الأجرة، سواء كانت نقودا، أو عروضا، أو منفعة، لكن لو أجره بعدد من العملة، ولم تختص تلك العملة بعينها وقت العقد، فينصرف ذلك إلى العملة السعودية، لاقتضاء العرف لذلك، فينْزل منْزلة الشرط اللفظي.
وقوله في هذه الفقرة: وكل مبلغ مستحق له، أي: للعامل في البلاد العربية السعودية يكون الدفع بالعملة السعودية. أي: لو كان للعامل على آخر دين أو قرض بعملة أخرى، كذهب أو فضة، أو استرليني، يتعين الدفع له بالعملة السعودية، وهذا باطل، بل يندفع إليه نوع العملة التي له على غريمه أيا كانت، ولا يجبر على أخذ ما عداها، إلا برضاه، ما لم يفض إلى الربا. ومما يلاحظ على هذه المادة أيضا: أنها نصت على أنه يلزم دفع الأجرة للقاصر، ما لم يكن وليه محتاجا لكده، وهذا أيضا لا يجوز؛ فإن القاصر محجور عليه، ولا يجوز أن يسلم ماله إلا بيد وليه، سواء كان محتاجا إليه أو غير محتاج.(23/255)
ص -259- ... ولو أتلف القاصر ما دفع إليه من المال، لاعتبر الدافع له ضامنا، لأنها لا تبرأ ذمته إلا بتسليمه لوليه، لأن الله خاطب الأولياء الدفع إليهم عند بلوغهم، إذا آنسوا منهم الرشد. فقال تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [سورة النساء آية: 6] وهذه الآية الكريمة، صريحة في أنه لا يجوز أن يدفع إليه ماله، إلا إذا علم رشده.
5- جاء في فقرة (ج) من المادة السابعة، ما نصه: إذا كان العمل يؤدى بالقطعة، ويحتاج لمدة تزيد على أسبوعين فيجب أن يحصل العامل على دفعة كل أسبوع، تتناسب مع ما أتم من العمل، ويصرف الباقي كله خلال الأسبوع التالي لتسليم العمل...إلخ. وهذا شيء لا يجب على المؤجر، وإيجابه لم يستند على شيء من نصوص الشريعة، بل هو بعيد عنها، والواجب: أن العامل متى كان عمله على شيء معين، لا يستحق تسليم شيء من الأجرة حتى ينهي ما انبرم عليه العقد بينهما، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه" 1 وهذا كناية عن وجوب تسليمه حقه فور انتهائه، أما قبل الانتهاء، فلا يلزم إلا بشرط، أو تبرع من المؤجر.
__________
1 ابن ماجه: الأحكام (2443).(23/256)
ص -260- ... وجاء أيضا في الفقرة نفسها: أنه إذا انتهت خدمة العمل وجب دفع أجره فورا، إلا إذا كان خروجه من تلقاء نفسه، فيجوز دفع أجره في خلال سبعة أيام، وهذا تفريق بلا فارق، وتحكم بلا دليل. فإن الواجب شرعا أن العامل متى أكمل عمله المتفق عليه من قبله، وقبل المؤجر، وجب على المؤجر الدفع فورا، سواء خرج العامل من تلقاء نفسه، أو برغبة من المؤجر، للحديث السابق: "أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه" 1 ولم يفرق صلى الله عليه وسلم بين الحالتين، فوجب اتباع الحديث، وطرح ما سواه.
6- جاء في المادة الثامنة: إذا تسبب عامل في فقد، أو إتلاف مهمات، أو منتجات مما يملكه الآجر ويكون في عهدته بسبب رعونته، أو عدم احتياطه، أو إهماله، أو تفريطه، كان للآجر أن يقتطع المبلغ اللازم للإصلاح من أجر العامل، بشرط أن لا يزيد ما يقتطع لهذا الغرض، على أجر خمسة أيام في الشهر الواحد، على شرط أن يكون كل ذلك في حالة عجز العامل عن إثبات أن ما وقع كان نتيجة قضاء وقدر.
ويلاحظ على هذه المادة عدة أمور، منها: قوله يقتطع المبلغ اللازم من العامل للآجر بشرط أن لا يزيد ما يقتطع على أجرة خمسة أيام في الشهر الواحد، وهذا
__________
1 ابن ماجه: الأحكام (2443).(23/257)
ص -261- ... الشرط فاسد، لا أصل له، فإن الواجب دفع المبلغ المستحق، كاملا فور ثبوته، إلا برضى منهما، أو في حالة إعسار المكلف بالدفع، كسائر الحقوق الثابتة في الذمم، فيكلف الملي بدفعها، وينظر المعسر حتى القدرة على الوفاء. ومنها قوله: على شرط أن يكون ذلك في حالة عجز العامل عن إثبات أن ما وقع كان نتيجة قضاء وقدر. وهذا والله موضع عجب، أيظن الكاتب: أن هناك أشياء تقع لا لنتيجة قضاء وقدر؟ ! بل تكون خارجة عن القضاء والقدر، وأن الرب لم يقدر وقوعها، ولم يقض بوجودها، وأنها خارجة عن مشيئته؟ ! وهذا مذهب باطل، أطبقت الصحابة والتابعون، وسائر أئمة الإسلام، على ذم هذا القول وبدعيته، وتضليل قائله. وأنه لم يؤمن بقوله: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [سورة البقرة آية: 284]، وقوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [سورة القمر آية: 49] سبحانه وتعالى أن يقع شيء لم يقدره الله ولم يقضه. بل ظن هذا الجاهل، أو المنحرف عن العقيدة الصحيحة أن الذي يقع بسبب من أحد خارج عن القضاء والقدر، وهذا مخالف للكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة، ومكذب لقوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [سورة القمر آية: 49].(23/258)
ص -262- ... ومنها: أن العامل ليس عليه الإثبات بأن ما حصل لم يكن بسببه، بل الإثبات على المؤجر وغيره، ممن له الحق أن العامل هو الذي فرط، أو تسبب، لأن الأصل براءة الذمم، حتى تقوم البينة بإثبات الحق أن هذا عن نتيجة إهمال العامل، أو تفريطه، لقوله صلى الله عليه وسلم: "البينة على المدعي، واليمين على من أنكر" 1.
7- جاء في المادة التاسعة: لا يجوز للآجر أن يقتطع من العامل أكثر من عشر أجره الشهري، لسداد ما يكون أقرضه إياه، وهذا خطأ بين؛ فإن الواجب على العامل دفع ما عليه من القرض، متى طلبه صاحبه، والمؤجر وغيره سواء، ما لم يكن من عليه الحق معسرا; أما لو فضل شيء من أجرة العامل عما يحتاجه، تعين عليه دفعه لغريمه. وهذه المادة نصت في الحكم على القرض خاصة، ومفهومه: أن غير القرض من الحقوق كثمن مبيع، وقيمة متلف ونحوهما ليس كالقرض، وهذا تفريق باطل، بل كل الحقوق على السواء. وهكذا سبيل النظم والقوانين الوضعية، لا بد لها من التناقض والتباين، صدق الله العظيم: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [سورة النساء آية: 82] .
8- نصت المادة العاشرة، في الفقرة الأولى منها:
__________
1 الترمذي: الأحكام (1341).(23/259)
ص -263- ... أن الآجر يعيد العامل على نفقته إلى الجهة التي أبرم فيها العقد أو أخذ ورحل منها، إذا طلب العامل ذلك، في خلال خمسة عشر يوما من تأريخ انتهاء العقد إلى آخره.
وهذا شيء ليس بلازم شرعا، إلا باشتراطه عند العقد، أو كان معروفا عند أهل تلك الجهة، بحيث أن المؤجر يعرف ذلك، وعالم به وبتكاليف رد العامل إلى المكان الذي أبرم فيه العقد، سلامة من الجهالة المفسدة لعقد الإجارة، والتحديد بخمسة عشر يوما، تحكم بلا دليل.
9- ذكر في الفقرة الرابعة من المادة العاشرة: أنه يجوز للآجر بصفة استثنائية، أو مؤقتة إذا دعت ضرورة ملحة، بسبب القوة القاهرة، أو وقوع حادث مفاجئ، أو إصلاح عاجل لا يتحمل التأخير، عدم التقيد بأحكام الفقرة الثالثة. وهي: أنه لا يجوز للآجر أن يكلف العامل عملا غير ما اتفق عليه أعلاه، وبالشروط الآتية: أن لا تزيد مدة العمل عن إحدى عشرة ساعة في اليوم، وأن لا يشتغل العامل أكثر من ست ساعات متواليات، وعلى أن يصرف للعامل عن ساعة إضافية مبلغ يوازي الأجر العادي الذي يستحقه في الساعة، مضافا إليه خمسة وعشرون في المائة على الأقل.(23/260)
ص -264- ... ويلاحظ: أن هذا الاستثناء غير معتبر شرعا، بل لا حق للآجر أن يلزم العامل بعمل لم يتفقا عليه، سواء كان بزيادة في الزمن المتفق عليه للعمل به، أو بنقله إلى عمل آخر ليس من جنس العمل الذي اتفقا عليه، وعلى أجرته الخاصة. لقوله صلى الله عليه وسلم: "المسلمون على شروطهم" 1، اللهم إلا إذا كان ترك العمل المفاجئ يؤدي إلى إصابة في الأنفس، أو ضرر في أبدان المعصومين، كالغرق والحرق والهدم ونحوها، فهذا يجب على العامل وجوبا استقلاليا، بدون أمر من الآجر. وهو ليس خاصا بالعامل وحده، بل يجب على كل من علم ذلك الخطر من المسلمين، وهو قادر على تخليصه. كما أن التحديد للعمل بإحدى عشرة ساعة، وأنه لا يعمل أكثر من ست ساعات متواليات، وأنه يصرف للعامل عن ساعة إضافية مثل ما صرف له في عمله المعتاد عن كل ساعة، مضافا إليه زيادة ربع على الأقل عما يستحقه: كل هذه أمور باطلة، لا أصل لها في الشريعة الإسلامية، بل يكون على حسب ما اتفق عليه المؤجر، والمستأجر، فلا يلزم أحد بما لم يلتزم به ويرضاه، إذ إن من شروط الإجارة معرفة العمل، ومعرفة مقدار الأجرة،
__________
1 الترمذي: الأحكام (1352).(23/261)
ص -265- ... ومقدار الزمن الذي يعمل فيه، فيكف يلزم العامل أو الآجر بما لم يعلم به أصلا، ولم يلتزم به؟ !.
10- جاء في الفقرة السادسة من المادة العاشرة: أن الآجر يسهل للعمال الذين يعملون في أماكن بعيدة عن العمران المساكن الملائمة، وهذا أيضا ليس بلازم بدون شرط، أما إذا شرط في العقد، أو كان ذلك عرفا مطردا عند أهل تلك الجهة، فيكون لازما؛ لكن يشترط فيه معرفة المسكن، ونوعه في البناء، وسعته، وعدد حجره، وكل وصفه تختلف فيه الأجرة. وأما وصفه بكونه ملائما، فهذا وصف غير منضبط، فقد يكون العامل لا يلائمه إلا بيت من المسلح، يحتوي على شيء كثير من المزايا، وقد يكون العامل ممن يكتفي بأكواخ، وصنادق وخيام ونحوها، فينتج عن ذلك اختلاف بين المؤجر والعامل، فلذا يجب الاحتياط عند العقد، تفاديا للخلاف وحصول الضرر الناتجين عن جهالة المسكن ونوعه، وما يشترط لمعرفته من الشروط التي يصح معها عقد الإجارة.
11- جاء في المادة الحادية عشر، ما نصه: إذا كان العقد مبرما لمدة محدودة، وانتهت المدة المحدودة، دون أن تنقطع خدمة العامل لدى الآجر اعتبر العقد ممددا لمدة غير محدودة.(23/262)
ص -266- ... ويلاحظ عليها: أن هذا الاعتبار، غير معتبر شرعا، بل متى انتهت المدة التي تم العقد عليها، فلا يبقى بينهما عقد آخر، إلا باتفاق جديد بينهما، هذا إذا آجره لمدة شهر فقط، أو أسبوع، أو يوم ونحوها. أما إذا قال: كل يوم تعمله عندي بكذا، أو كل شهر ونحوه، فإن العامل متى تلبسه بعمل اليوم، أو الشهر مثلا، يلزمه إتمامه، بمقدار الأجرة المخصصة لذلك العمل. وأما بدون ذلك، كأن استأجره لمدة شهر، ولم يقل كل شهر تعمله بكذا، فهذا لو تلبس بالعمل بدون اتفاق بينه وبين المؤجر، والمؤجر لم يكفه عن العمل، فإن ما عمله بهذه المدة، لا يستحق عليه الأجر المسمى، ولكن يستحق أجرة مثله، سواء زادت عن أجرة المتفق عليه بينهما أو نقصت، لأنه لم يحصل بينهما عقد شرعي، فيلزم كل منهما به.
12- جاء في المادة الثانية عشر ما نصه: إذا كانت مدة العقد غير محدودة، كان لكل من الطرفين الحق في فسخه، وإعلان الطرف الآخر بذلك على أن يكون ذلك الإعلان سابقا للفسخ بالمدة الآتية:
1- بالنسبة لعمال اليومية، يكون الإعلان سابقا للفسخ لمدة ثلاثة أيام
2- بالنسبة للعمال ذوي الأجور(23/263)
ص -267- ... الأسبوعية، يكون الإعلان سابقا للفسخ بمدة أسبوع ; بالنسبة للعمال المعينين بأجور شهرية، يكون الإعلان سابقا للفسخ بمدة ثلاثين يوما.
وفي حالة مخالفة المدة المشار إليها، يلتزم الطرف الذي فسخ العقد بأن يدفع للطرف الآخر تعويضا مساويا لأجر العامل عن مدة المهلة، أو الجزء الباقي منها، ويتخذها أساسا لتقدير التعويض متوسط ما تناوله العامل إلى الثلاثة الأشهر الأخيرة من أجر ثابت ومرتبات إضافية. ويلاحظ على هذه المادة، وما تضمنته من فقرات عدة ملاحظات:
13- جاء في أول المادة قوله: وإعلام الطرف الآخر بذلك، على أن يكون الإعلان سابقا للفسخ بالمدة الآتية. وهذا الشرط ليس لازما، وما على لزومه أثرة من علم؛ بل هذا تحكم وإلزام بغير ما ألزم به الشرع.
وليس للمؤجر حد على العامل أن يخبره، إلا وقت تركه العمل، فيما إذا كان العقد غير محدد، إلا إذا كان المؤجر شرط ذلك على العامل، فالشرط أملك. وأيضا: لا بد في الشرط من تعيين المدة من قبلهما، بحسب ما يتفقان عليه سواء زادت عن المدة المحددة في هذا النظام، أو نقصت؛ فإذا كان المؤجر قد يتضرر بترك العامل العمل بدون إشعاره، فالذي ينبغي له أن يحتاط(23/264)
ص -268- ... لنفسه، ويشترط في ابتداء العقد، تعيين المدة اللازمة لإعلامه. وفي غير هذا فالعامل لا يكلف بشيء لم يلتزم به، ولم يلزمه به الشرع، بل بمجرد التحكم والخرص. وكذلك أيضا ليس للعامل حق على المؤجر، أن يعلن له ذلك الإعلان، إلا وقت إتمامه المدة التي حصل الاتفاق عليها منهما، وهل يلزم المؤجر عندما يريد أن يعمل عملا لا يحتمل أكثر من يوم واحد، أن يعمل ثلاثة أيام معه، بناء على أنه لم يشعر العامل بذلك، أو يدفع له أجرة عمل ثلاثة أيام بدون مقابل؟ وهل ورد في الشرع نظير ذلك؟ أم هو مجرد ظن وخرص وزعم منهم أن هذا يكفل مصلحة الجميع؟ ! وهذا عين الضرر عليهم معا، ولو وقع شيء منه على واضع هذا النظام وألزم به لعلم فساده بنفسه.
14- جاء في الفقرة من المادة نفسها قوله: بالنسبة لعمال اليومية، يكون الإعلان سابقا للفسخ لمدة ثلاثة أيام. سبحان الله ! ما هذا التفريق بين العامل ذي اليوم وذي الأسبوع، وذي الشهر؟ ! وما هذا التحديد والإلزام الذي لم يشم رائحة العدل؟ متى وجد في الشرع نظيره، ومن قال به من العلماء؟ وأي مناسبة لثلاثة الأيام، مع اليوم الواحد، الذي استؤجر به العامل؟ !(23/265)
ص -269- ... كيف يستأجر ليوم واحد، ويلزم بثلاثة أيام تبعا لهذا اليوم، فإن ذلك من لازم هذه المادة؟ وهذا التحكيم ينتج عنه: أن من أجر نفسه يوما واحدا، لا يجوز له أن يترك العمل من تلقاء نفسه، إلا بعد ثلاثة أيام، وإلا فيغرم ثلاثة أضعاف أجرة ذلك اليوم الذي تحصل عليها. تأبى الشريعة أن تأتي بمثل هذه التحكمات البعيدة عن العدل، أو تقرها؛ بل تنهى عن مثل ذلك أشد النهي.
15- جاء في فقرة من المادة نفسها، بالنسبة للعمال ذوي الأجور الأسبوعية يكون الإعلان سابقا للفسخ لمدة أسبوع ا?. وهذه الفقرة فيها من الملاحظة كما في الفقرة قبلها، ويلزم على قولهم هذا: أن العامل عندما يعقد لمدة أسبوع ليرى العمل ومناسبته له، يلزمه أحد أمرين: أما أن يعمل أسبوعا آخر من غير رضاه، وإما أن يخسر أجرة أسبوعه الذي عمله أجمع؛ وهذا غاية الجور والظلم والضرر عليه. وكذلك نفس الشيء يعود على المؤجر، هل إذا احتاج لعمل لا يدري ما يكفيه من المدة، واستأجر عمالا ليعملوا عنده أسبوعا واحدا، ثم تطلب العمل زيادة يوم أو يومين، هل يلزم أن يدفع لهم بقية الأسبوع؟ نعم على مقتضى هذه المادة، أليس هذا أكلا للمال بالباطل؟
16- يلاحظ: على ما تضمنته فقرة (3) مع نفس(23/266)
ص -270- ... الشيء السابق في الفقرتين قبلها، وهل يلزم العامل بالعمل ثلاثين يوما بغير رضاه، ومن دون شرط، أو اتفقا بينهما، إذا لم يمكن الفسخ للمؤجر في المدة المعينة، وإلا فيغرم العامل جميع ما تحصل عليه من الأجرة في ذلك الشهر؟! وعلى أي أساس بنيت هذه الغرامات التي ما أنزل الله بها من سلطان؟ ! وهل هي في مقابل عمل أو نفع؟ ! ثم إن هذه الغرامات لم تأت على أساس من الدين، ولا من العقل، ولا من العرف، وذلك أن العامل إذ ترك العمل، وتسبب لضرر أو نقص على المؤجر، فإن الضرر اللاحق بالمؤجر، قد يكون سهلا جزئيا، وقد يكون ضرره جسيما، وقد لا يلحقه أي ضرر. فلم لم يقل: إن العامل يلزمه غرامة بقدر ما حصل من النقص بسببه؟ لأنه قد يقصد إدخال الضرر على المؤجر، فيتلف عليه شيء كبير، أو تفوته مصلحة كبرى لا يوازيها أجرة عمله مدة طويلة. وقد لا يحصل بسبب ذلك شيء من النقص، لا قليل ولا كثير، فهل تستوي هاتان الحالتان، وهذا النظام جعلها على السواء؟!
ولا شك أن هذا الإلزام هو عين الظلم على كل من الطرفين، مع ما فيه من التناقض الواضح؛ فلا يلزم واحد منهما الإعلان على حسب ما جاء في هذه الفقرات،(23/267)
ص -271- ... ولا يلزم دفع هذه الغرامة المذكورة فيه أيضا، وعلى أي أساس بنيت هذه الغرامة التي تنافي المصلحة العامة لكل من الطرفين، وهذا حكم مخالف لقواعد الشريعة السمحاء.
17- يلاحظ ظهور التناقض لهذه الفقرات، حيث جعل للشهر ثلاثين يوما، وللأسبوع مثله، ولليوم ثلاثة أيام، أي ثلاثة أضعاف اليوم؟ لم لم يجعل لليوم يوما واحدا، نظيرا للشهر، والأسبوع، لو قدر صحة ذلك؟ !. صدق الله العظيم: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [سورة النساء آية: 82]. أما إذا كان العمل مستمرا، وتلبس به العامل، بأن استمر في اليوم الثاني، والأسبوع، والشهر، بعد انقضاء المدة المتفق عليها بينهما، ولم يحصل من جانب المؤجر إعلام بالفسخ له، حال التلبس بالعمل أو قبله، وكان دخول العامل على أنه يعمل كل يوم، أو كل أسبوع، أو كل شهر بكذا. فهذا يعتبر كعقد جديد، يلزم كلا من الطرفين إتمامه، وله من الأجرة مثل ما سبق؛ هذا قول لبعض العلماء، وطائفة منهم لا يرون صحة مثل هذا، بل يعتبرونه عقدا فاسدا، لا تلزم فيه الأخرة المعينة في العقد الأول، ولكن يستحق أجرة مثله، سواء زادت أو نقصت من المسمى.(23/268)
ص -272- ... 18- جاء في المادة (13) إذا كان الفسخ من جانب الآجر، وجب أن يدفع للعامل مكافأة عن مدة خدمته... إلى آخر الفقرتين منها.
ويلاحظ على هذه المادة ملاحظات، قوله: إذا كان الفسخ من جانب الآجر، فمفهومه، أن للآجر الفسخ، وقد سبق في مادة (12) أنه ليس لأحدهما الفسخ، إلا بعد إعلان الطرف الآخر، بالمدة الموضحة هناك، وإلا فيلزمه الغرامة المذكورة أيضا، وهنا ذكر: أن له الفسخ ولم يذكر سابق إعلان، فهذه تناقض تلك.
19- إن المفهوم من كلمة "فسخ" أن يفسخ عقدا مبرما، قبل تمام أجله، لأنه بعد تمامه لا يسمى فسخا، وهذا غير صحيح، لأنه ليس لأحدهما فسخ العقد إلا بعد تمام المدة، سواء في ذلك المؤجر، أو العامل؟ وإن كان المراد من ذلك عدم تجديد عقد آخر، فلا مانع من ذلك لكل من الطرفين، ولا يلحق المؤجر شيء من التعويضات عن ذلك إلا تبرعا منه بغير إلزام.
20- ما ذكر في فقرة (1) من هذه المادة، بالنسبة للعمال باليومية، والعمال ذوي الأجور الأسبوعية، والعمال الذين تحدد أجورهم بالقطعة أجر خمسة عشر يوما، يعني مكافأة... إلى آخر الفقرة.
ونقول: إن إلزام الأجر بذلك غير سائغ شرعا، ولا(23/269)
ص -273- ... يجوز هذا الإلزام، فإنه ظلم للمؤجر، وأخذ للمال بالباطل، وظلم للعامل، وإعانة له على الظلم. إلا إذا كان هذا عن شرط بينهما، ودخل المؤجر على بصيرة منه، أو كان ملتزما به لكل عامل عنده، وعرف ذلك منه عند معامليه.
21- جاء في الفقرة (2) من المادة نفسها، وهي قوله: إلا إذا بلغت الخدمة مدة عشرين سنة، فيمكن أن تصل المكافأة إلى ما يعادل أجر سنة ونصف على الأكثر.ا?. والمفهوم من كلمة يمكن، أن هذا شيء قد يحصل للعامل، وقد لا يحصل، فهل هو حق ثابت له فيطالب به، أو لا؟ وهل هذا الإمكان سيتقرر من العامل، أو من جهة المؤجر، أو من جهة أخرى؟! ثم إنه أيضا لم يقف على حد بين، بل قال: على الأكثر، وهذا فيه إبهام، فالعامل مثلا يطالب بالأكثر، والمؤجر يمتنع من ذلك. فإذا كان هذا راجع للمؤجر، ولا حق للعامل في تحديد ما يدفع له، فلم منع من الزيادة على أجر سنة ونصف، إذا كان تبرعا منه؟ فإنه لا حجر على أحد في التبرع من ماله بشيء، إلا إن كان سفيها، أو محجورا عليه.(23/270)
ص -274- ... فهذا شيء لا بد أن يوقع في الخلاف، والشريعة تنهى عن كل ما يكون سببا للخلاف بين المسلمين; والحق أن هذه المكافأة لا يجوز إلزام الآجر بها ما لم يكن شرطا بينهما كما سبق موضحا.
22- ذكر في المادة الرابعة عشر: أنه ينتهي العقد بوفاة العامل، أو عجزه عن تأدية العمل عجزا كاملا، بعد إثبات ذلك بشهادة طبية أو مرضية، مرضا أدى إلى انقطاعه عن العمل، مدة لا تقل عن شهرين متتاليين، أو مدة تزيد في جملتها عن الثلاثة شهور، في خلال سنة واحدة... إلى آخر المادة، ويلاحظ عليها عدة أشياء.
23- إن قوله: لا يجوز الفسخ من المؤجر إلا بعد انقطاعه عن العمل مدة لا تقل عن شهرين متتاليين، وهذا التوقيت لم يستند إلى شيء من الشرع، ولا يجوز الحجر على المؤجر، وإلزامه بانتظار العامل هذه المدة الطويلة. بل متى انقطع العامل عن العمل لمرضه، ولو يوما واحدا، لزمه أحد أمرين: إما الفسخ برضى منهما، وإما أن يقيم العامل من يعمل مكانه حتى يبرأ، أو تتم المدة المعقود عليها، إذا لم تشترط مباشرة العامل لذلك العمل. وليس للعامل البقاء على العقد بدون عمل منه، إلى مضي شهرين، فإن هذا التحديد لا أصل له في الشريعة الإسلامية، كما أن المؤجر ليس له الفسخ إذا أقام العامل(23/271)
ص -275- ... من يقوم بعمله، ما لم تشترط مباشرة العامل للعمل، ولو تجاوزت المدة الشهرين أو أكثر، ما دام العقد باقيا لم يتم.
24- حصرهم اعتماد ذلك على الشهادة الطبية أو المرضية، وعدم الالتفات إلى ما سواهما، فلو أقعده المرض، أو أعجزه عن القيام بعمله قبل أن يأخذ شهادة مرضية، يعتبر متلاعبا، وكأن الإثباتات الشرعية منحصرة في تلك الشهادة المذكورة. فلو شهد رجلان مسلمان من أهل الخبرة والأمانة، بما قام بهذا العامل من العذر، لا يعبأ بهذه الشهادة ما لم تكن من طبيب، وهذا بعينه هو الظلم الذي تنهى عنه الشريعة الإسلامية؛ فإن طرق الإثباتات في الشريعة كثيرة، لا تنحصر فيما حصره هذا النظام، ويتفرع على هذا مسائل كثيرة، لا نطيل بذكرها، فالله المستعان.
25- قوله: ويلزم في حال انتهاء العقد بالكيفية المبينة آنفا، بأن يدفع المكافأة المبينة بالمادة (13)، وقد سبق بيان مثل هذه; وهو: أن المكافأة ليست لازمة شرعا، ما لم تشترط حال العقد، وتكون معلومة بينهما، فلا يجوز إلزام المؤجر بما لم يلتزمه، ولم يشرط عليه في العقد، والله أعلم.
26- جاء في الفقرة الثالثة من المادة (15) على كل(23/272)
ص -276- ... آجر يستخدم خمسين عاملا فأكثر أن يضع نظاما للإسعاف في المصنع، أو محل العمل، مع تخصيص طبيب لعيادة العمال، وعلاجهم مجانا، وإعداد وسائل الصرف للعلاج والأدوية بدون مقابل، سواء في ذلك وقت العمل أو غيره. ويلاحظ عليها: أن هذا الإلزام غير لازم شرعا؛ لأنه لا يمكن ضبطه؛ فالعامل قد يحتاج إليه، وقد لا يحتاج إليه؛ والمرض قد يستغرق علاجه مدة طويلة من الزمن، وكمية كثيرة من الأدوية والمصاريف، وقد يكون علاجه بسيطا في زمنه ومصاريفه. فهذه جهالة شديدة، والشريعة الإسلامية قواعدها تنهى عن كل عقد يكون فيه جهالة أو غرر، وهذا يعتبر كجزء من الأجرة المعلومة، وهذا الجزء المجهول يصير الأجرة كلها مجهولة، فيفسد العقد إذا.
27- جاء في فقرة (4) من نفس المادة (15): إن على كل آجر يستخدم خمسين فأكثر: أن يضع نظاما للتوفير والادخار. ويلاحظ على هذه الفقرة عدة أمور وهي: أن المؤجر لا يلزمه شيء لم يلتزم به في ابتداء العقد، كما سبق بيانه أكثر من مرة.
28- إن نظام التوفير فيه عدة محاذير، منها: أن ربحه معروف مضمون مقدر بنسبة في مقابل التصرف بهذا المال المعين، وهو الربا الصريح الذي جاء الوعيد فيه(23/273)
ص -277- ... بقوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [سورة البقرة آية: 275]، وهذا بعينه هو ربا الجاهلية، وهو ربا النسيئة الذي هو أشد أنواع الربا تحريما؛ وقد ذكره الله بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 279-278]. فإن قصد بهذا الادخار غير معناه المفهوم، وهو حفظه كأمانة تبقى في صندوق التوفير، متى طلبها صاحبها دفعت إليه، كسائر الأمانات، فهذا لا بأس به؛ غير أن العامل يكون مخيرا في ذلك، إن شاء أمن ما لديه أو بعضه لدى صندوق التوفير أو غيره، وإن شاء غير ذلك، فالأمر إليه، لأنه جائز التصرف في ماله بما يرى فيه مصلحته، ما لم يفض إلى الربا.
29- لا يلزم المؤجر أن يضع لهم هذا النظام، وإلزامه بذلك يعتبر ظلما، ومخلا بالعقد، زيادة على ما فيه من المحذور السابق.
30- ما ذكر في الفقرة نفسها، في حالة استخدام ما دون الخمسين عاملا، يجب أن يكون في كل مشروع صناعي صندوق للإسعافات الطبية، وهذا الواجب، غير(23/274)
ص -278- ... واجب شرعا؛ ولا يجوز أن يلزم المؤجر به، ما لم يكن شرطا بينهما، أو ملتزما به المؤجر من قبل نفسه؛ مع أنه لا بد أن يكون معلوما مقدار ما التزم به من كل نوع مما يلزم لذلك.
31- جاء في الفقرة (5) من المادة (16) أن للآجر أن يفسخ العقد إذا تغيب العامل دون سبب مشروع، أكثر من خمسة عشر يوما في خلال السنة الواحدة، أو أكثر من سبعة أيام متوالية. ويلاحظ عليها: أن هذا التحديد، لم يعتمد على شيء من قواعد الشريعة الإسلامية، بل هو تحكم لا يسوغ مثله؛ فالمؤجر له الحق في الفسخ، متى ترك العامل العمل، إلا إذا أقام العامل مكانه من يعمل مثله، أو أقامه الحاكم إذا لم يشترط فيه مباشرة العامل للعمل. وإذا لم يحصل شيء من ذلك، فإن للمؤجر الفسخ في الحال عندما يتغيب العامل.
32- جاء في الفقرة الثامنة من المادة (16) أن للآجر أن يفسخ العقد، إذا ثبت أن العامل قد ارتكب عملا مخلا بالشرف، أو الأخلاق أو الآداب.ا?.
ويلاحظ: أن هذه الأشياء، لا تكون مسوغة للفسخ، لأن المؤجر إنما استأجر العامل لعمل مخصوص، ولا حق له أن يتدخل فيما هو خارج عن العمل المستأجر العامل لأجله، اللهم إلا إذا كان العامل قد أخل بشيء يعود بضرر(23/275)
ص -279- ... على المؤجر، بحيث يصير مانعا من موانع العمل، أو تكميله، أو غير ذلك من الضرر. ثم إنه يلاحظ: على هذه الفقرة، أنه ذكر فيها الإخلال بالشرف والأخلاق والآداب، ولم يذكر فيها الإخلال بالدين، وكأن الواضع لها، لا يرى أن الإخلال بالدين نقص، مع أن الإخلال به يكون موجبا للفسخ، إذا ارتكب ما يوجبه. والفاسق غير مؤتمن، فربما يخون في عمله، كما خان في دينه، وربما كان جواز الفسخ في مثل هذا له وجه. فمن العجب أن تكون تلك الأشياء مخلة، وارتكاب ما يخل بالدين ليس مخلا !!!.
33- جاء في الفقرة التاسعة، من المادة (16) أن للآجر الفسخ إذا وقع من العامل اعتداء على الآجر، أو على أحد رؤسائه في العمل أو بسببه. ويلاحظ: على هذه الفقرة أشياء، منها: أن ما ذكر فيها ليس مسوغا لجواز الفسخ للإجارة، بل العقد باق على ما كان عليه، وللمؤجر أن يطالب بحقه الخاص، أو لمن هو متول عليه. وأما ما كان لغيره من رؤساء العمل، أو غيرهم، فإذا اعتدى عليهم أحد من العمال، فكل يطالب بحقه، ولا دخل للمؤجر، إلا بما يخصه بنفسه، إلا بوكالة شرعية ممن له الحق.(23/276)
ص -280- ... 34- خصص في هذه المادة الاعتداء على الرئيس، أو الآجر، فإذا ما الحكم إذا كان الاعتداء على غير الرئيس في العمل؟ ! وما الفرق بين الرئيس والمرؤوس في حفظ حقوقهم وكرامتهم وحمايتهم، إن كان هذا يعتبر حماية لهم؟ !
35- جاء في الفقرة الأولى من المادة (17): أنه يجوز للعامل أن يترك العمل قبل نهايته إذا كان الآجر، أو من يمثله قد أدخل الغش عليه وقت التعاقد، فيما يتعلق بشروط العمل، بشرط أن يتمسك بهذا السبب، قبل مضي شهر من تأريخ دخوله في العمل. والواقع أن هذا التحديد غير مبني على أصل شرعي، فهو تحديد باطل، بل يثبت الخيار وقت علمه بالغش، سواء مضى لذلك شهرٌ أو أكثر، غير أنه متى علم العامل بالغش ثم استمر على العمل بعد علمه به، فإنه ليس له الخيار، سواء كان ذلك بمدة طويلة أو قصيرة، لأن استمراره في العمل يدل على الرضى منه بذلك.
36- جاء في الفقرة الثانية من المادة (17) أن للعامل أن يترك العمل إذا لم يقم الآجر بالتزاماته طبقا لأحكام هذا النظام... ا?. وبما أن هذا النظام غالب مواده وشروطه ليست موافقة للشريعة الإسلامية، بل كثير منها قد نصت الشريعة(23/277)
ص -281- ... على إبطاله، فلا ينبغي أن الآجر يلتزم به، فضلا عن أن يكون للعامل الفسخ بعد التزاماته؛ بل لو التزم به كله، بما فيه المخالف للشريعة، لكان العقد باطلا من أصله. وإنه لمن العجب أن يحتاط لهذا النظام كل هذا الاحتياط، مراعاة لأحكامه، فلو كان ذلك بالنسبة لأحكام الشريعة لكان هو الأولى، بل هو الأوجب، فالله المستعان.
37- جاء في الفقرة الرابعة من المادة (17): أن للعامل أن يترك العمل، إذا وقع من الآجر اعتداء عليه أو على أحد من أفراد أسرته، ا?. وقد سبق الكلام على نظيرة هذه المسألة في الملاحظة (33)، والواقع أن هذه المادة ونظيرتها تعتبران مفتاح خلاف وخيانة، فإنه متى سئم العامل من العمل، أو المؤجر من العامل، تعرض وتسبب لمنازعة الطرف الآخر، لعله يحدث منه أي اعتداء، وإن قل، ليحصل له فسخ العقد المبرم بينهما.
38- جاء في الفقرة الخامسة، من المادة (17) إلزام الآجر بدفع مكافأة مالية للعامل، إذا ترك العمل للأسباب المبينة في فقرة (أ) و(ب) و(ج) و(د) والكلام على هذه المادة وفقراتها قد سبق مفصلا في الملاحظة رقم (20) و(21) وبينا هناك وجه بطلانه، فليرجع إليه.
39- جاء في المادة (18): على صاحب العمل أن(23/278)
ص -282- ... يدفع للعامل الذي يثبت مرضه أثناء العمل نصف أجر أيام مدة انقطاعه عن العمل لهذا السبب وحده، دون أن يكون ناشئا عن إصابة وقعت أثناء العمل، بشرط أن لا تزيد المدة التي يدفع عنها نصف الأجر المذكور عن شهر في السنة، ا?. ويلاحظ على هذه المادة ملاحظات، منها: أن إلزام المؤجر بدفع هذا المبلغ غير سائغ، بل هو ظلم، وتعد عليه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام" 1؛ وأكل العامل لهذا المال، من مال المؤجر، من أكل المال بالباطل، حيث لم يرض مالكه بدفعه إليه عن طيب نفس، لأنه ليس في مقابلة عمل، وحرمة مال المسلم كحرمة دمه.
40- ومنها: التحديد بنصف الأجرة، وفي مدة لا تزيد على شهر في السنة، هذا كالذي قبله، لم يستند على نص من كتاب ولا سنة، ولا قول صحابي، ولا تابعي، ولا أحد من أهل العلم. والشريعة الإسلامية احترمت أموال المسلمين، وبينت ما يجوز الأخذ منها، وما لا يجوز، وفيها مقنع وكفاية لطالب الحق، فنعوذ بالله من مخالفتها.
41- التفريق بين ما إذا كان ناشئا عن أسباب أثناء العمل، أو كان غير ذلك، وهذا التفريق لا أصل له في الشريعة الإسلامية؛ بل هو تحكم بدون مستند، فإنه لا فرق بينهما إلا إذا كان ناشئا عن سبب من المؤجر، أو عن
__________
1 البخاري: الحج (1739) , وأحمد (1/230).(23/279)
ص -283- ... عدم إخباره بخطورته، مع علمه به، والعامل لا يعلم ذلك. وأما إذا لم يقع من المؤجر أي سبب، فليس للعامل حق عليه، إذا كان العامل بالغا رشيدا، أو كان صبيا وقد أذن له وليه؛ وإذا كانت الإصابة نشأت عن سبب أحد، فالمتسبب هو الغارم، سواء كان المؤجر أو غيره.
42- جاء في المادة (19): يدخل في احتساب الأجور التي تقدر على أساس التعويض عن الإصابات طبقا لأحكام هذا النظام، سواء كانت يومية، أو أسبوعية، أو شهرية، كل ما كان يدفع مقابل العمل الزائد، والمدة الزائدة إلى العمال المصابين، كعلاوة إضافية، أو منفعة خاصة، ا?. وسبق أن لوحظ على مماثلتها رقم (20) فقرة (أ) من المادة (13) منه، وكذا في المادة قبل هذا، وقد بينا أن ليس للمصاب على المؤجر أي حق ما لم يكن بسببه أو تفريطه، أو عدم إشعار العامل بالخطر مع علمه، أي المؤجر بذلك. وكذلك المكافأة المشار إليها غير لازمة شرعا إلا بشرط، إلا إذا كان تبرعا من المؤجر؛ وإذا كانت تبرعا، فلا يترتب عليها ما يترتب على الأجرة من اللزوم ونحوه.
43- جاء في الفقرة الرابعة من المادة (20): أن(23/280)
ص -284- ... على الآجر أن يعد مساكن صحية متوفر فيها أسباب الراحة الكاملة، ويشترط على أصحاب المشاريع الصناعية أن لا يسكنوا أكثر من عاملين اثنين من العمال العرب في غرفة مساحتها 12 × 15 قدما... إلخ. وهذه الفقرة أيضا تقدم الكلام على مماثلتها في رقم (10) على الفقرة السادسة من المادة (10) وأوضحنا فيها أن هذا لا يلزم به المؤجر إلا بشرط؛ ثم إنه لا بد من وصف المسكن وصفا لا يختلف. وقد ذكر هنا: الراحة الكاملة، وهذا شيء لا ينضبط، لأن كمال الراحة قد يحصل لبعض الناس بمجرد الوقاية من الحر والبرد، وحفظ الأمتعة فقط، وبعضهم لا تكفل راحتهم إلا بإيجاد الماء فيه والكهرباء، والهاتف، ونحوها. فلهذا لو حصل الاتفاق من المؤجر والعامل على اشتراط المسكن الكافل للراحة فلا يكفي هذا الوصف، لما فيه من الإيهام والجهالة، لذا يبطل مضمون هذه المادة من جهتين: عدم اشتراطه في العقد، وعدم ضبط المراد منه.
44- جاء في المادة (22): يجب على العامل أن يقدم للآجر بيانا بأسماء وعناوين من يقوم بإعالتهم... إلخ، وهذا الذي عبر عنه بالوجوب، غير ظاهر الوجوب،(23/281)
ص -285- ... بل ليس ذلك بلازم على العامل. فإن المؤجر لا حق له على أحد سوى العامل الذي جرى بينه وبينه العقد؛ أما حقوق عائلته، فهي على العامل، ولا دخل للمؤجر في ذلك، ولا يلزم العامل الإخبار بذلك إذا امتنع منه.
45- جاء في المادة (23) ما نصه: إذا أصيب العامل بإصابة أقعدته عن العمل، يدفع له أجرة 75% من الأجرة، وذلك بعد مضي سبعة أيام من تاريخ الإصابة التي يجب أن يستوفي فيها أجره كاملا. ويستمر الدفع للـ 75% إلى حين شفاء المصاب، أو انتهاء مدة الإقعاد المؤقت في المادة(3)... إلخ. ويلاحظ عليها ما يلي:
46- منها: أن الإصابة التي تقع على العامل بدون سبب من المؤجر أو مباشرة، أو بسبب إهماله، فليس للعامل حق في مطالبة المؤجر بشيء من ذلك، وتغريم المؤجر غير سائغ شرعا، بل هو من الحكم بغير ما أنزل الله تعالى.
47- إن التحديد بهذا المبلغ الموضح، تحديد مجانب للعدل؛ وذلك أن الإصابة تتفاوت، وهي هنا جعلت على حد سواء. ثم إنه نص على سبعة أيام، فإن زادت أو نقصت تغير الحكم؛ وهذا التحديد غير مبني على أساس من الشرع، ولا من العقل، ولا يوجد له نظير في معناه(23/282)
ص -286- ... من الأحكام الشرعية، بل هو ظلم وجور.
48- نصت هذه المادة على أن للعامل استحقاق السبعة أيام التي قعد فيها عن العمل؛ وهذا أيضا لا يستحقه العامل، ولا يجب على المؤجر، ولا تجوز مطالبته بذلك، كما سبق نظيره أكثر من مرة.
49- إلزام الأجر بدفع 75% من الأجرة ظلم وتعد، فلو كثر المصابون من العمال، فهل يلزم الأجر الدفع لهم 75% من أجورهم بدون مقابل، ولو أدى إلى ضرره ونفاد ماله، ويلزم بالاستدانة لهم مهما كثر عدد المصابين عنده؟ ! حاشا الشريعة الإسلامية، التي هي أساس في العدل والكمال، أن تأتي بمثل هذا، صدق الله العظيم: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [سورة المائدة آية: 50].
50- تحديد دفع هذا المبلغ إلى مدة شفاء المريض، هو تحديد مجهول، فقد يبرأ لمدة شهر أو أقل أو أكثر، غاية الأمر: أنه جعل نهايته لسنة، وهذا لا يجعله معلوما، لأنه إما أن تكون المدة بضعة أيام، أو شهور، أو سنة كاملة.
51- ما ذكر من التعريف المشار إليه بمقتضى المادة (25) سيأتي الكلام عليه عند الكلام على المادة نفسها. وبالجملة: ما تضمنته هذه المادة، كله باطل لا أصل له؛ والشريعة الإسلامية تعطي العامل أجره المتفق عليه(23/283)
ص -287- ... بينه وبين المؤجر، ما دام قائما بعمله، وإذا تخلف عن العمل فلا شيء له، ما لم يكن يمنع من المؤجر مع بقاء مدة الإجارة، بدون سبب يقتضي ذلك.
52- جاء في المادة (24) يدفع الآجر إلى العامل في حالة الإقعاد الجزئي الدائم المبلغ المندرج في الكشف المربوط; ويلاحظ على هذه المادة ما يلي:
53- منهما: أن إلزام الآجر بشيء لم يلتزم به، جور وتعد، يتنافى مع العدل المأمور به في الكتاب والسنة.
54- أنه لو التزم بما تضمنته هذه المادة لفسد العقد، للجهالة؛ ومن شرط صحة الإجارة العلم بالأجرة.
55- إنه قد أطلق الكلام فيها ولم يفصل فيه أي تفصيل، مع أن الإصابة التي تكون حال العمل لا تخلو من حالات: إما أن تكون بسبب من المؤجر أو إهماله، أو بسبب غيره كأحد العمال، أو بدون سبب. ففي هذه الحالات، لا يلزم المؤجر شيء إلا ما حصل منه مباشرة أو تسببا.
والمفهوم من هذه المادة: أنه لو حصل اعتداء من أحد العمال على عامل آخر، فإن جميع ما يترتب أو ينتج من هذا الاعتداء، فغرامته على المؤجر؛ ولا شك أن هذا(23/284)
ص -288- ... خطأ، لا يقره الشرع الشريف، ولا العقل السليم، وتصوره كاف في قبحه.
56- فرق هذا النظام بين المصابين، فجعلهم ثلاث درجات، لكل درجة حكم خاص، من حيث الدية للنفس، والمنافع، والأعضاء كما فصل ذلك في المادة الأولى، قسم ثلاثة، في فقرة (أ) و (ب) و (ج) حديث جاء التفريق فيها بين العامل بالشهر، والعامل باليومية، والعامل تحت التمرين، والعامل الفني، وغيره. إذ نوع الدية، فجعل دية عيني العامل درجة أولى (18.000) ودرجة ثانية (12.000) ودرجة ثالثة (8.000) كما جعل دية اللسان، أو الإصابة بالبكم الدائم، درجة أولى (12.000) وثانية (6.000) وثالثة (5330)، وقس على هذا باقي الأعضاء، والمنافع. وهذا التفريق غير سائغ في الشريعة الإسلامية، بل هو مضاد لها أي مضادة، ومعارض أقبح معارضة; وكيف يتجرأ من يدعي الانتساب إليها، في وضعه أو إقراره أو الرضى به، وقد علم من له أدنى معرفة بالشريعة أنه لم يحصل بين المسلمين أي تفريق من حيث الدية؟ قال تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [سورة المائدة آية: 45]، وصح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المؤمنون تتكافأ دماؤهم" 1؛
وهذا النظام المفرق بين المسلمين في الديات مضاد
__________
1 النسائي: القسامة (4746) , وأبو داود: الديات (4530).(23/285)
ص -289- ... لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومخالف لما أجمعت عليه الأمة، فلا فرق بين الصغير والكبير، والغني والفقير، والسيد والمسود، في الدية، لما تقدم. ومن تأمل أسرار الشريعة في مساواة المسلمين بتكافؤ دمائهم، على بطلان هذا النظام الخاطئ، لكن يستثنى من ذلك الفرق بين الحر والعبد، وبين الذكر والأنثى، والمسلم والكافر.
57- فرق هذا النظام بين دية اليد اليمنى واليد اليسرى فجعل لليمين دية أكثر من اليسرى، ثم عكس عندما تكون اليسرى تعمل عمل اليمين. ثم جرى التفريق كذلك بين دية سلامى كل منهما، بناء على التفريق السابق في اليد؛ وهذا كما سبق تحكم، وخرص ما أنزل الله به من سلطان. بل بمجرد التصور الخاطئ، والرأي العازب عن الرشد؛ فإن هذا مع ما جمع من الجور والظلم، والتفريط الذي لم يبن على أساس من الشرع والعقل، فهو مباين لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن الشرع لم يفرق بينهما، لا جملة ولا تفصيلا. ولا شك أن حكمة الله بالغة، وأن العقول قاصرة عن إدراك حكمة الله في شرعه؛ ولكن هؤلاء الذين استبدلوا بالشريعة النظم والقوانين، لما انحرفوا عن أصل الدين،(23/286)
ص -290- ... حسن الشيطان والهوى كل ما يخالف الشريعة، وتنقصوها، واستهزؤوا بأهلها، فبقوا متحيرين عقوبة لهم، قال تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [سورة البقرة آية: 15] فلا ينبغي للمسلم الركون إليهم، ولا العمل بشيء من نظمهم لحل المشاكل؛ فالله قد أغناهم بكتابه وهدى رسوله صلى الله عليه وسلم عن سواهما، بل فيهما ما ليس عند أحد من العالمين، من حل المشاكل، ودرء المفاسد، وحفظ المصالح.
58- جعل دية اليدين المقطوعتين من مفصل الكتفين، أكثر من دية النفس وهذا أيضا خطأ؛ فإن الشارع لم يجعل فيها سوى دية واحدة، بدون زيادة، وفي الواحدة نصف الدية.
59- فرق بين فقدان البصر من ذي العينين وذي العين الواحدة؛ فجعل لذي العين الواحدة مثل ما لإحدى العينين، مع سلامة الأخرى، ولم يفرق بين عين الأعور، وبين من بقيت إحدى عينيه، بأن جعل ديتهما درجة أولى (8000) ودرجة ثانية (5400) ودرجة ثالثة (3600) وهذا باطل شرعا وعقلا. فالشريعة سوت بينهما، لقيام العين الواحدة في النفع مقام العينين.
60- إنهم لم يفرقوا بين العامل المسلم، والحر(23/287)
ص -291- ... والذكر، وضدهم؛ والواجب فيه التفريق، فإن الشرع فرق بينهم، في دية النفس والأعضاء، والمنافع وسائر الجراحات.
61- إنه لم يفرق بين الإصابة إذا كانت عمدا، أو خطأ؛ والقرآن صريح في التفريق بينهما.
62- إن ما ذكر في هذا الجدول، على سبيل العموم مخالف للشريعة، ومضاد للنصوص؛ فلا يحتاج مناقشة تفصيلية، بل هو باطل من أساسه؛ فلا يجوز العمل به، لأنه متناقض من أصله، حيث فرق بين متماثلين، وماثل بين المتفاوتين. فنجده فرق بين الأسنان والأنياب والأضراس، وما قطع من الكوع أو المرفق، كما فرق بين الأصابع كالسبابة والوسطى، والخنصر والبنصر، ونحو ذلك مما هو كثير. وهذا شأن كل ما لم يستمد من نصوص الكتاب والسنة، تجده متناقضا، بعيدا عن المصلحة، بعيدا عن العدل، بعيدا عن الصواب، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [سورة النساء آية: 82].
63- جاء في المادة (25): أنه يدفع الآجر إلى العامل درجة أولى في حال الإقعاد الكلي (27.000) ريال، وللعامل درجة ثانية (18.000)، وللعامل درجة ثالثة (12.000) ا?. ويلاحظ ما يلي:(23/288)
ص -292- ... 64- إن هذا التفريق بين العمال تفريق ما أنزل الله به من سلطان؛ فيحرم العمل به، لأنه لا يستند على نص، بل هو محض الجور والظلم والتعدي، فيجب احترام أموال المسلمين. ثم لو أن هذا العامل لم يعمل عند الآجر إلا مدة يسيرة، لا تزيد أجرته على مائة ريال مثلا، فما المسوغ لإلزام الأجر بدفع (27.000)؟ اللهم غفراً !.
65- إن المؤجر لا يلزمه شيء، إلا ما ثبت عليه شرعا، بأنه هو المباشر، أو المتسبب. ثم إن الواجب عليه هو ما أوجبه الشرع، لا ما نص عليه هذا النظام الجائر.
66- نصت المادة (26) على أن الآجر يقوم بمعالجة ومداواة المصابين، ونقلهم إلى المستشفيات، على نفقته مهما كان نوع الإصابة، ولو لم تحدث لهم أثناء العمل. ونصت المادة (27) أيضا: أن الأجر يقدم لعماله المعالجة الطبية، حتى في الأوقات التي لا تمنعهم إصاباتهم الجراحية عن مواصلة العمل. وقد سبق بيان أن هذا غير لازم، كما لوحظ على نظيرتهما، في الملاحظة رقم (45)، وهو أنه لا يجوز إلزام الآجر بهذا إلا بشرط بينهما، فيما يمكن ضبطه؛ وما لا يمكن ضبطه لا يجوز ولو شرط.(23/289)
ص -293- ... 67- نصت المادة (28) على أن العامل إذا مات، بإصابة لحقته أثناء العمل، دفعت لورثته المبالغ المدرجة في المادة (25) وقد سبق أن بينا أن ذلك باطل شرعا، وأنه من التحاكم إلى الطاغوت، ولا يجوز مراعاة ما دلت عليه هذه المادة، لمخالفتها نصوص الكتاب والسنة.
68- جاء في المادة (29) أن العامل المصاب بعجز سابق، أو بمرض جسماني سابق، إذا أصيب بإصابة من النوع المؤدي للعجز الدائم، لا يأخذ تعويضا عن الإصابة الأخيرة... إلخ. وهذه المادة قد تقدم الكلام على مثيلتها، في الملاحظتين رقم (52) و (63) وبيان أن الأجر لا يلزمه شيء، إلا ما كان منه مباشرة أو تسببا.
69- نصت المادة رقم (33) على أن يعتبر تقدير تعويض الإصابات بهذا النظام، جزءا متمما له، ا?. وقد سبق الكلام على ذلك الجدول، وبيان تناقضه، ومباينته للشريعة بما يغني عن إعادته هنا، وذلك في الملاحظة رقم (63).
70- جاء في فقرة (أ) من المادة (34): يجوز حرمان العامل من التعويض عن إصابته، إذا ثبت ثبوتا قطعيا: أن العامل كان متعديا في مشاجرة أو عراك.. ويلاحظ على هذه الفقرة أنه لا يجوز حرمان العامل لما يستحقه شرعا على من تشاجر معه، ولو(23/290)
ص -294- ... ثبت تعديه؛ غير أنه يؤاخذ بما عليه، ويعطى ما له من الحق، لأنه قد يتعدى، ثم المعتدى عليه يأخذ أكثر من حقه، وهذا لا يجوز. لأن الله يقول: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [سورة النحل آية: 126] ؛ فإذا زاد المعتدى عليه بالأخذ من حقه، وجب أخذ الحق منه بمقدار ما زاد عما يستحق.
71- جاء فى الفقرة (2) من المادة نفسها: يجوز حرمان العامل من التعويض إذا قصر في إبلاغ الإصابة وظروفها، في مدة ثلاثين يوما من تأريخ الإصابة أو الحادث. ويلاحظ على هذه الفقرة أن تأخر إبلاغ المصاب بالإصابة، لا يضيع حقه على الجاني، متى ثبت شرعا؛ بل إذا كان مستحقا للتعويض، فإن تأخره لا يكون سببا في حرمانه من حقه. ومتى وجد هذا التحديد في كتاب أو سنة، أو كلام لأحد من العلماء؟ ! إن هذا تحديد ما أنزل الله به من سلطان، وجراءة على الله في أحكامه {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النحل آية: 117-116].
72- جاء في الفقرة الثالثة من المادة نفسها، فيما(23/291)
ص -295- ... يجوز به حرمان العامل، من التعويض إذا ألحق العامل الإصابة بنفسه عمدا، بشرط ألا يتسبب عن الإصابة وفاة، أو عاهة مستديمة. ويلاحظ على هذه الفقرة ما يلي:
73- قوله: إذا ألحق العامل بنفسه عمدا، والمفهوم من قوله: عمدا، أن الحكم يتغير إذا أخطأ، وأنه يرجع الضمان على المؤجر في حالة الخطأ؛ وهذا كسابقه، من القول على الله بلا علم، ومناقضة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه" 1.
74- قوله: ألا يتسبب عن الإصابة وفاة، أو عاهة مستديمة، فظاهرها أنه إن حصل شيء من ذلك، فضمان الإصابة أيضا على المؤجر، وهذه كسابقتها، في جانب بعيد عن الصواب. فكيف يلزم المؤجر جناية العامل على نفسه، كما لو ضر العامل يد نفسه، فعابت وتعطل العمل بها؟! سبحان الله! ما أعجب هذا الجهل! فالعقل السليم يأبى هذا وينكره، وقد تقدمت الإشارة إلى مثل هذا.
75- جاء في الفقرة الخامسة من المادة (34) فيما يجوز فيه حرمان العامل من التعويض، ما نصه: إذا امتنع العامل عن عرض نفسه على الطبيب، أو امتنع من قبول معالجة الطبيب المكلف بالمعالجة من قبل الآجر... إلخ.
وهذا كما سبق ليست مسقطا لحقه، إن كان له حق
__________
1 مسلم: البر والصلة والآداب (2564) , وأحمد (2/277).(23/292)
ص -296- ... شرعي على من جنى عليه؛ فيجب بذل ما وجب له من حق، وإن امتنع، لأن امتناعه ذلك، لا يسقط حقه الواجب له شرعا، ولا يلزمه الشرع بالمعالجة من غير اختياره، لعدم وجوب التداوي. بل ربما كان تركه للمعالجة توكلا على الله، ورضى بأقداره، أو لعدم ثقته بالطبيب. ثم إنه ليس من المتيقن زوال الخطر عنه بالعلاج، هذا شيء مشكوك فيه، وإن كان الغالب فيه النجاح، فإنه أيضا ربما كان سببا للوفاة.
76- جاء في المادة (38) يجوز للعامل، أو الآجر، أن يطلب إجراء التحكيم إذا قام نزاع بينهما؛ وذلك بتقديم طلب إلى الحكومة، وتتولى هيئة من عضوين، يعين أحدهما الآجر والآخر الحكومة. فإذا اختلف العضوان، عين وزير المالية حكما ثالثا في الفصل في النّزاع؟ ويلاحظ عليها أمور منها:
77- أن طلب التحكيم إلى شخص ممن يعرف الأحكام الشرعية، لا يتوقف جواز التحكيم إليه إلى تقديم طلب للحكومة؛ بل متى رضيه الخصمان، وكان أهلا لذلك، فإنه ينفذ حكمه بدون تقديم طلب، أو علم من الحكومة، لأن "عمر وأبيا تحاكما إلى زيد بن ثابت، وتحاكم عثمان وطلحة إلى جبير بن مطعم، ولم يكن أحد منهما قاضيا".(23/293)
ص -297- ... 78- أنه لا يشترط كون التحاكم إلى هيئة مؤلفة من عضوين، يكفي واحد إذا رضيه الكل وهو أهل.
79- أنه إذا اشتبه الحكم على الهيئة إن كانت، أو الواحد مثلا، ولم يحكم كل منهما، فالواجب الرجوع إلى المحكمة الشرعية، من قبل الحكومة، وليس من حق وزير المالية تعيين حكم بينهما بغير رضاهما، إلا إن كان ولي الأمر جعل له ذلك.
80- إن هذه الفقرة فرقت بين الآجر والعامل، فجعلت الحق للآجر أن يختار حكما، ولم تجعل للعامل مثله، بل جعلت ذلك للحكومة؛ والعدل أن كلا منهما يختار لنفسه من يكون أهلا، وإلا فمرجعهما إلى المحكمة الشرعية.
81- جاء في المادة (40) أن المحاكم المحلية أو الهيئات القضائية التي تنشأ خصيصا لذلك هي المرجع المختص لحل عموم القضايا المتنازع فيها، والتي لا يمكن حلها على مقتضى التحكيم المدرج في المادة (38) ا?. ويلاحظ عليها: أن هذه المحاكم المشار إليها في هذه المادة، إن كان يقصد بها المحاكم الشرعية التي تحكم بنصوص الكتاب والسنة، فنعم يلزم الرجوع إليها؛ وإن كان يقصد بها أي محكمة غير شرعية، فالرجوع إليها من التحاكم إلى الطاغوت المأمور بالكفر به في قوله(23/294)
ص -298- ... تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} [سورة النساء آية: 60]. ثم إنه قال: التي لا يمكن حلها على مقتضى المادة (38)، وقد مر بيان فساد ما تضمنته تلك المادة المشار إليها في هذه، والله المستعان.
82- جاء في المادة (41) مما نصه: يجري فصل الحوادث للإصابات التي وقعت سابقا على العامل على اختلاف درجاتهم، لدى شركات الاستثمار في المملكة، التي لم تفصل إلى تأريخ تصديق هذا النظام ونشره، بمقتضى مواد هذا النظام؛ كما يسري مفعوله على كل ما يقع بعد ذلك من حوادث وإصابات في المشاريع الاستثمارية الحالية والمقبلة، ا?. ويلاحظ عليها: أنه لا يجوز لأحد أن يتحاكم إلى غير ما أنزل الله، سواء هذا النظام أو غيره من النظم المستمدة من غير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذه القوانين الوضعية من جملة الحكم الطاغوتي، الذي نهى الله ورسوله عن التحاكم إليه؛ وإنما الواجب التحاكم إلى ما أنزل الله في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [سورة النساء آية: 65]، لا سيما وقد لوحظ على(23/295)
ص -299- ... هذا النظام مباينته للشريعة، ومصادمته لها؛ فكيف يسوغ لأحد أن يدعو الناس إلى التحاكم إليه، ونبذ الأحكام الشرعية، وهو يدعي الإسلام؟ وقد سبق بيان بطلان هذه المواد التي تشير إليها هذه المادة، وأنها لم تبن على أساس من الشرع، ولا أساس من العقل الصحيح. واعتماد هذا النظام في دماء المسلمين، وأموالهم، هو من الفساد في الأرض. كما في قوله تعالى: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} [سورة الأعراف آية: 56]، وقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [سورة البقرة آية: 12-11].
83- جاء في المادة (43) ما نصه: كل شرط يخالف أحكام هذا النظام يعتبر باطلا ولا يعمل به، ولو كان سابقا على صدور هذا النظام.ا?. حسبنا الله ونعم الوكيل، إنا لله وإنا إليه راجعون، يا للمصيبة!! ويا للإسلام! أتنسب العداوة هكذا علنا للقرآن، والسنة، ويضرب بأحكامها عرض الحائط بكل جراءة ووقاحة؟ !!
إذا رزق الفتى وجها وقاحا ... تقلب في الأمور كما يشاء
أليس هذا مشاقة لله ورسوله؟ {وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ(23/296)
ص -300- ... وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [سورة الأنفال آية: 13]. أليس هذا تضليلا للأمة الإسلامية، وحملا لها على التحاكم إلى الطاغوت؟ ألم يخشوا الوقوع في معنى قوله تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [سورة النحل آية: 25].
ويلاحظ: على هذه المادة الشنيعة ملاحظات، منها:
84- أنها جعلت أحكام هذا النظام فوق كل نظام، حتى الأحكام الشرعية، كما هو صريح المادة؛ فنعوذ بالله من مخالفة شرعه ودينة {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [سورة المائدة آية: 50] {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [سورة النساء آية: 65].
85- قوله: كل شرط يخالف أحكام هذا النظام، يعتبر باطلا، هذا رد صريح لقوله صلى الله عليه وسلم "كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط" 1.
وهذا النظام يرد على الحديث ردا قبيحا صريحا، لا يحتمل التأويل، فيقول: كل ما يخالف هذا النظام، فهو باطل، ولو كان شرطا صحيحاً جرى على وفق قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"المسلمون على شروطهم" 2 كما لو اشترط أحد المتعاقدين على الآخر نفعا معلوما، لم يذكر في هذا
__________
1 البخاري: الشروط (2729) , ومسلم: العتق (1504) , وأبو داود: العتق (3929) , ومالك: العتق والولاء (1519).
2 الترمذي: الأحكام (1352).(23/297)
ص -301- ... النظام، يكون باطلا، ما أجرأهم على الشريعة، وعلى القول على الله بلا علم!
86- إن هذه المادة أكدت بطلان ما سوى هذا النظام بستة تأكيدات.
أولا: قوله: كل شرط، ومن المعلوم أن لفظ: "كل" يدل على العموم والشمول.
ثانيا: أنه أكد بالإشارة إليه، بقوله: هذا النظام، خوفا من توهم غيره.
ثالثا: توكيده بلفظة: باطل، لأن التعبير بالبطلان من أعلى الألفاظ التي تدل على فساد العقود.
رابعا: توكيده بقوله: لا يعمل به، لأنها تأكيد لقوله: يعتبر باطلا، فإن هذه الجملة كافية في عدم اعتبار غيره.
خامسا: توكيده بقوله: ولو كان سابقا عليه.
سادسا: تأكيده بالإتيان بالظاهر محل الضمير؛ لأن قوله: على صدور هذا النظام يقوم مقامه لو قيل فيه: على صدوره، وهو أليق بالقواعد العربية في مثل هذا، إلا إذا قصد به التأكيد، فأتى به هنا لهذا الغرض. فلأي شيء يحتاط لهذا النظام كل هذا الاحتياط، مع مصادمته بالشريعة، فلو كانت هذه الاحتياطات في الأمر بالتمسك بالأحكام الشرعية لكان هو الألزم والأوجب، كما هو المتعين فرضا.(23/298)
ص -302- ... 87- إن هذه المادة تدل بجملتها، على أنها ناسخة للأحكام الشرعية ومبطلة لها; لأنها ألغت جميع ما تقدم على أحكام هذا النظام، ومن المعلوم: أن الشريعة الإسلامية قبله بقرون، فاعتبر أنه ناسخ لها.
فيا عجبا! يصبح هذا النظام المحتقر، المستمد من زبالة الأذهان، ونحاتة الأفكار، يحكم نفسه على الشريعة المطهرة الغراء، المنزلة من حكيم حميد، حكيم في أحكامه، عليم بما يصلح عباده، سار عليها المسلمون أربعة عشر قرنا في غاية من الطمأنينة، وحفظ الحقوق.
وكلما كمل تطبيقها كمل الأمن والراحة للبشر، وبحسب ما يهمل منها يحصل القلق والخلل؛ أضف إلى هذا كله: كونها أوضحت جميع ما يحتاج إليه الناس في معاشهم ومعادهم.
قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [سورة الأنعام آية: 38]، وقال تعالى في ذم من ابتغى التحاكم إلى غيرها: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [سورة المائدة آية: 50].
وكل ما خالف القرآن والسنة، فهو حكم جاهلي، بعيد عن العدل والإنصاف، مبني على الجور والميل عن طريق الصواب، وهو المعنى بقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ(23/299)
ص -303- ... يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} [سورة النساء آية: 60].
وكل ما خالف القرآن والسنة فهو حكم طاغوتي.
88- جاء في المادة (44) ما نصه: يكون للموظفين الذين تنتدبهم وزارة المالية حق التفتيش، على محال العمال المختلفة، والتحقق من اتباع هذا النظام، وتنفيذه، وإثبات ما يقع من مخالفات لأحكامه... إلخ. وحيث أنه قد علم أن هذا النظام لم يبن على أساس من الشرع، فلا يجوز العمل به ولا تنفيذه، فضلا عن المطالبة باتباعه وتنفيذ مواده؛ فالواجب أن يتبع في جميع ذلك أحكام القرآن والسنة، ويطرح ما سواهما من النظم والقوانين المخالفة لهما، كهذا النظام.
89- جاء في المادة (46) ما نصه: يستحق العامل استراحة أسبوعية قدرها يوم واحد، بأجرة كاملة بعد اشتغاله ستة أيام... إلخ. ويلاحظ على هذه المادة: أن إلزام الأجر بدفع أجرة يوم واحد للعامل بدون عمل، أن ذلك غير سائغ في الشرع، ولا يجوز للعامل مطالبة المؤجر بذلك، وهذا يعتبر في الحقيقة من أكل المال بالباطل، والله يقول: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [سورة البقرة آية: 188].
90- جاء في المادة (47) إن للعامل أن يتمتع بإجازة(23/300)
ص -304- ... اعتبارية، بأجرته الكاملة عن كل سنة عشرة أيام، على أن يتعين مواعيدها، بموافقة صاحب المشروع... الخ. ويلاحظ عليها: أن هذه الإجازة ليست لازمة على المؤجر، إلا بشرط بينهما عند العقد، مع بيان عدد أيامها، وتعيينها من الشهر؛ وأما بدون ذلك فهو غير لازم. أما الإجازة المرضية، فقد تقدم الكلام على حكمها في الملاحظة رقم (39) على المادة (18) وبينا عدم لزومهما للآجر.
91- جاء في المادة (57) ما نصه: الإصابات التي تعتبر إقعادا جزيئا دائما، أو إقعادا مؤقتا، أو إقعادا كليا، أو تشويه منظر في الجسم أو إخلالا في الحواس، أو ارتجاجا فيها، تجري التعويضات عنها بمقتضى الجدول المربوط ا?. وقد سبق أن أوضحنا الملاحظات على ذلك الجدول، وبيان بطلانه، وأنه في معزل بعيد عن الصواب مخالف للكتاب والسنة، ومخالف للعقل السليم، كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله:
ما صادق الحكم المحل ولا هو اسـ ... توفى الشروط فصار ذا بطلان
92- جاء في المادة الأولى من المواد الملحقة بجدول التعويضات ما نصه: الشلل العام الدائمي، والإصابة في(23/301)
ص -305- ... المخ التي ينتج عنها عته أو جنون، لا تمكن معالجتها، يعتبران في التعويض كالإقعاد الكلي; ويلاحظ عليها ما يلي:
93- التسوية بين الشلل والعته والجنون مع الفارق الكبير بين هذه الثلاثة، وهذا خطأ؛ فإن الشرع جعل في ذهاب العقل كله الدية كاملة، وفي ذهاب بعض العقل بالنسبة إلى ما ذهب منه بقدره.
وأما الشلل: فإن كان العضو المشلول قد تعطل نفعه كليا، ففيه ما في ذلك العضو لو قطع، لأن بقاءه بدون فائدة كذهابه من حيث النفع. وأما إن لم يتعطل ذلك العضو، ولكن نقص نفعه، ففيه حكومة، وكذلك في العقل، إذا لم يمكن معرفة مقدار ما ذهب منه.
والحكومة حيث جاءت في هذا الباب، فالمراد منها: أن المجني عليه يقوم عبدا؛ فيقوم سليما من تلك الجناية؛ ثم يقوم وهي به قد برئت، فما نقص من قيمته سليما فله مثل نسبته من ديته الشرعية.
94- يلاحظ عليها ما لوحظ على المادة (25) منه، وهو أن التفريق بين المصابين إذا كانوا رجالا مسلمين أحرارا، فهو تفريق باطل، ما أنزل الله به من سلطان؛ فالواجب المساواة في الدية الشرعية حسب ما نصت عليه النصوص الشرعية وأجمعت عليه الأمة
95- لم يوافق الجدول المشار إليه الشرع، بتقدير(23/302)
ص -306- ... الدية في أحد، من المشلول، والمعتوه، والمجنون؛ بل إما زادت أو نقصت. والحق أنه لا يوضع تقدير للدية، ولا لسائر الأعضاء والمنافع، إلا من أحكام الشريعة الإسلامية، التي أوضحت ذلك أتم إيضاح، على وجه العدل والإنصاف.
فإن من له ذوق في الشريعة الكاملة في مصادرها ومواردها، وله أدنى اطلاع على كمالها وعدلها وسعتها ومصلحتها، علم يقينا أن الخلق لا صلاح لهم بدونها البتة، وعلم أيضا بطلان هذا النظام الحقير، من أوله إلى آخره.
96- جاء في المادة ثلاثة من الملحق بجدول الإصابات: إذا كان المصاب أعسر، تعتبر تعويضات الإصابات التي تلحق بيده اليسرى كيمنى غيره، وبالعكس، ا?. وبناء على ما علم من الشريعة الإسلامية أنه لا فرق بين دية اليمنى واليسرى، من الأعسر وغيره، فيعتبر هذا التفريق مخالفاً لها؛ ولا يجوز العمل بموجبه. وقد سبق بيان بطلان ذلك، في الملاحظة رقم (57)، على جدول الإصابات.
97- جاء في المادة (4) من الملحق، ما نصه: فقدان بعض السلامى يعتبر كفقدان السلامى كلها، وفقدان(23/303)
ص -307- ... السلامى الثلاثة من أصبع من أصابع اليد عند انفرادها، يعوض بالفرق الواقع بين السلامتين والأصبع كاملا، ا?. ويلاحظ عليه ما يلي:
98- أنها مخالفة لما قرره علماء الشريعة، وكون فقدان بعض السلامى كفقدانها كلها خطأ، بل الواجب في بعض السلامى يكون بقدر نسبة ذلك البعض، من دية تلك السلامى كاملة.
99- أنه لا فرق بين دية السلامى الثلاثة، فإن الواجب في كل واحدة منها ثلث عشر الدية، ما عدا الإبهام، ففيها نصف عشر الدية، لكونها لا تحتوي على أكثر من سلامتين. وقد مر في الملاحظة رقم (52) بيان خطأ ما قرر نحو الأصابع وغيرها مما هو مخالف للشريعة.
100- نصت المادة الخامسة من الملحق: أن الإصابة التي لم يرد ذكرها في جدول التعويضات من تشويه، أو اختلال، أو تغير في الوضع الطبيعي لأي عضو، أو لأي جزء من الجسم أو الحواس، إذا كانت تتصل بعضو من الأعضاء التي ذكرت في الجدول، يقدر تعويضها منسوبا إلى تعويض كامل ذلك العضو، بنسبة مئوية. وإذا كانت لا تتصل بأي عضو منها، يقدر تعويضها من قبل لجنة... إلخ، ويلاحظ على هذه المادة ما يلي:
101- أن المنصوص عليه في الجدول المشار إليه،(23/304)
ص -308- ... لم يسلك فيه مسلك العدل، الذي جاءت به الشريعة الكاملة، بل هو مشاقة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم واتباع غير سبيل المؤمنين، فالواجب على المسلمين نبذه، وعدم الالتفات إليه.
102- أن النسبة المئوية غير معتبرة في كل ما ذكر، بل فيه تفصيل: فمنها ما هو مقدر استحقاقه شرعا، ومنها ما هو مقدر فيه النسبة المئوية، وهى الجناية إذا كانت بالحواس، أو المنافع إذا لم تذهب كلها بل ذهب جزء معلوم المقدار، ومنها ما فيه حكومة، وقد سبق بيانها.
103- إن الذي يحتاج إلى لجنة، هو الذي يكون فيه وجه حكومة، لأجل التقدير السابق بيانه؛ لكن لا يشترط في أعضاء اللجنة ما ذكر في هذه المادة، بل تبعثهم المحكمة الشرعية للتأكد من معرفتهم بالشيء المطلوب؛ ثم المحكمة بدورها تحكم بذلك، وتلزم به. وليس لأحد حق الاعتراض، إذا توفرت شروط الحكم، وانتفت موانعه، وكان جاريا على الأصول الفقهية المستمدة من الشريعة الإسلامية.
104- جاء في ملحق نظام العمل والعمال، ما نصه: صدر الأمر السامي الكريم، رقم 7218 وتأريخ 1/11/67? باعتماد قرار مجلس الشورى الآتي رقم 212 وتأريخ 29/8/67? كتشريع قانوني، يلحق بنظام العمل والعمال.(23/305)
ص -309- ... وقد جاء فيه: أن يقصد بجملة "أثناء العمل" الواردة في نظام العمل والعمال، من الناحية القضائية، استحقاق الموظف العامل لعمل من الأعمال المنوطة به، لكافة الحقوق الممنوحة بموجب نظام العمل والعمال، مقابل الواجبات المطلوب منه أداؤها، سواء كان ذلك في مقر عمله الرسمي، أو في طريقه إلى عمله الرسمي. وكل إصابة يتعرض لها موظف خلال ذلك، وضمن نطاق الأراضي والتشكيلات التي تتمتع الشركة بامتيازها، يعوض عنه بمقتضى نظام التعويض. إلخ، ويلاحظ على هذا الملحق ملاحظات:
105- منها: أن هذا النظام لما كان غير متمشيا فيه مع الشرع، بل هو ضد للشريعة، كان مفتقرا في كل حين وآخر إلى زيادة، وتصحيح، وملاحظات، وتصويب أخطاء، وإيضاح مجهول، وتعديل متناقض، وإكمال ناقص؛ فهذا مما يبين ضعفه وفساده، وأنه دائما ناقص متناقض؛ مما يؤدي إلى اشمئزاز نفس كل من رآه أو سمعه.
106- أن ما ذكر في هذا الملحق مخالف للشريعة؛ وتلك الالتزامات المذكورة غير لازمة للمؤجر، لأنها مبنية على الجهالة والغرر، وعلى الظلم والجور، مع أنه لم يحصل عليها الاتفاق من جانب المؤجر والمستأجر، فصار فيها جملة محاذير: مخالفتها للشريعة، والجهل، والغرر،(23/306)
ص -310- ... وعدم الاتفاق عليها وقت العقد، وقد سبق الكلام على مثل ذلك.
107- أنه صدر الأمر باعتماد هذا الملحق، كتشريع قانوني، سبحان الله! ياللأسف! يا للمصيبة! هل هناك مشرع غير الله؟ ! أيجترئ مجترئ فيحاد الله في أمره وشرعه، ويقر على هذا الفعل؟ ! أنحن في حاجة إلى تشريع أحد؟ والله تعالى يقول: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [سورة الشورى آية: 13] الآية. أنحن في حاجة إلى تشريع لأحد، وكتاب الله بين أيدينا، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا؟ ! هل الشريعة قاصرة على حل مشاكلنا؟ ! كلا والله ثم كلا، إنها والله الكاملة الوافية، التي لم تدع شيئا مما يحتاج إليه البشر في ماضي الزمان وحاضره ومستقبله، إلا أتت به على الوجه الأكمل وأوضحه وأعدله. أليس قد أكمل الله لنا الدين وأتم علينا نعمه، ورضي لنا الإسلام دينا، كما قال عز وجل {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [سورة المائدة آية: 3] ؟
أيكفي أن نتسمى بالاسلام بدون أن نطبق أحكامه علينا؟ ! لا والله لا يكفي حتى نتمسك به عقيدة وعملا واتباعا لأحكامه {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [سورة النساء آية: 65]
هل هناك مشكلة من مشاكل الحياة، لم تحلها الشريعة(23/307)
ص -311- ... وتوضحها غاية الإيضاح؟ ألم نصدق بقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى} [سورة النحل آية: 89] ؟ ألم يؤكد لنا صلى الله عليه وسلم هذا بقوله: "تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها؛ لا يزيغ عنها إلا هالك" 1.
ويا عجبا! أترمى شريعتنا بالتقصير في حل مشاكلنا، ونمد يد الفقر والحاجة إلى أعدائنا، ليعلمونا حل مشاكلنا؟! أيشهد أعداؤنا بكمال الشريعة ونضوجها، وصلاحها لكل زمان ومكان، ونكذبهم بأفعالنا؟! أليس من الواجب علينا أن ننشر محاسنها لمن لا يعلمها، ونبلغها إليهم بكل ممكن؟ ما بالنا عكسنا هذه القضية، وأصبحنا نبث مساويا لها لا تعرفها الشريعة التي هي في غاية البعد عنها، ونقف دون تعلم الناس لها، بتقليدنا لهم، واتباعنا سواها؟ !. أيعدل عن الشريعة الكاملة العدل، إلى نظم في غاية من التناقض والظلم والجور، يشهد بعضها على بعض بعدم ملاءمتها، ووضوح تناقضها؟ ! وليس بأدل على ذلك من كونها في كل زمن يطرأ عليها التعديل والتبديل، والملحقات، كما في هذا الملحق. وكل حاكم يتجدد يجدد نظما وقوانين لم تكن لمن قبله; صدق الله العظيم {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيرا} [سورة النساء آية: 82].
__________
1 ابن ماجه: المقدمة (44) , وأحمد (4/126).(23/308)
ص -312- ... لو سبرت أحوال العالم لوجدت أقر الناس عيشا، وأنعمهم بالا، وأوفرهم طمأنينة، وأعظمهم استقرارا، وأكملهم راحة، من تمسك بها؛ وبحسب تمسك هذه الدولة بالدين يحصل لها ولشعبها الأمن والطمأنينة والاستقرار والراحة.
ولذا نرى سائر البلاد تكثر فيها السرقة، والقتل، وهتك الأعراض، وضيق العيش على الأكثر منهم؛ ونرى- ولله الحمد- في هذه البلاد السعودية، لم يحصل فيها ما حصل في غيرها، وما ذاك إلا بسبب ما تمسكوا به، من هذه الشريعة. وإنا نخشى أن يتسرب إليها ما تسرب إلى غيرها، من هذه النظم المخالفة لما شرعه الله في كتابه العزيز وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. وإنا نبتهل إلى الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العليا أن يوفق حكومتنا الرشيدة إلى ما فيه صلاحها، وصلاح دينها، وأمرها، ومجتمعها، وشعبها عموما، وأن يجعلنا وإياهم من المتمسكين بدينه عند فساد الزمان، وتغير الأحوال، لتنال بذلك الأجر الوافر، وتتصف بوصف عباده الذين وصفهم الله بقوله: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [سورة الحج آية: 41]،
وأن يهدينا الصراط المستقيم، صراط {الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ(23/309)
ص -313- ... عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} [سورة النساء آية: 69]. إلى آخر ما دعا به وأمل من الحكومة الرشيدة بأن تكون حصنا منيعا لحفظ هذه الشريعة الحكيمة، وأن تذود عنها بالسيف والسنان، وكل ما أوتيته من حول وقوة، وغير ذلك مما سأل ربه أن يحققه، وأثنى به عليه، وصلى على خاتم النبيين، كعادته رحمه الله في ختام رسائله، مع ذكر اسمه وتاريخ التحرير.
فجزاه الله أحسن الجزاء، ونفع بعلمه النافع، وعمله الصالح. فالقضيه إذا وقعت وبينت بيانا شافيا، تنفع في نظائرها وأشباهها؛ ولعل هذا من أهم أسباب وضعها هنا، لمسيس الحاجة إليها، وكشف حقائق أشباهها، وما تبقى منها، مما هو قائم وموجود الآن، ولكي يعرف موقف العلماء والمسؤولين إزاءها وقت وقوعها، وكيف يعالجونها، ولما يحصل من براءة ودفاع عنهم وعن غيرهم، وغير ذلك مما يتعطش إليه المسترشد، ويطمئن به البصير، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. آخر القسم الثاني من البيان الواضح وأنبل النصائح; ويليه: تراجم أصحاب تلك الرسائل والأجوبة.(23/310)
ص -314- ... بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب تراجم أصحاب تلك الرسائل والأجوبة
ترجمة إمام الدعوة قدس الله روحه
هو الإمام العالم العامل، الحبر العلم، إمام الأئمة، مفتي الأمة، محي السنة، قامع البدعة، المجتهد الحافظ، الثقة النبيل، الأصولي المحدث الجليل، مجدد الدعوة الإسلامية، والملة الحنيفية، العالم الرباني والصديق الثاني، بدر العلوم، وحيد الزمان، شرف الإسلام وفريده، علما وعملا، ومعرفة وشجاعة، وذكاء، وتنويرا إلهيا، وكرما ونصحا للأمة.
أشرقت شمس فضائله في الأقطار، وعلت مكارمه على كل منار، أجمع أئمة الدين في زمانه، وبعد زمانه، على تقدمه في شأنه، ونبله وعلو مقامه، ومكانه، خاتمة المجتهدين، وبقية أكابر السلف الماضين.
أصدق الناس وأصحهم علما وعزما، وأنفذهم وأعلاهم، في الانتصار للحق والقيام به، وأكملهم اتباعا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، سيف الله على المبتدعين والمرتدين، وكاشف عورات المشبهين المضلين، مشيد أعلام الملة والدين،(23/311)
ص -315- ... أبو علي، شيخ الإسلام، قدوة الأنام الشيخ: محمد بن عبد الوهاب بن الشيخ العالم مفتي نجد سليمان بن علي بن محمد بن أحمد بن راشد بن بريد بن محمد بن بريد بن مشرف بن عمر بن معضاد بن ريس بن زاخر بن محمد بن علوي بن وهيب بن قاسم بن موسى بن مسعود بن عقبة بن سنيع بن نهشل بن شداد بن زهير بن شهاب بن ربيعة بن أبي سود بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم.
ولد رحمه الله تعالى، سنة 1115 من الهجرة، في بلد العيينة من أرض نجد، ونشأ بها، وقرأ القرآن بها قبل بلوغه العشر. وكان حاد الفهم، سريع الإدراك، يتعجب أهله من فطنته وذكائه. ثم اشتغل بالعلم وجد في الطلب، وكان سريع الكتابة ربما كتب الكراسة في المجلس.
وبعد بلوغه سن الاحتلام، قدمه والده إماما في الصلاة. ثم حج فقضى فريضة الإسلام، ثم قصد المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، وأقام بها شهرين؛ ثم رجع إلى وطنه واشتغل بالقراءة على مذهب الإمام أحمد رحمه الله.
ثم رحل لطلب العلم، وزاحم العلماء الكبار. ورحل إلى البصرة والحجاز مرارا، واجتمع بمن فيها من العلماء والمشائخ الأحبار. وأتى الأحساء وهي إذ ذاك آهلة(23/312)
ص -316- ... بالمشائخ والعلماء، فسمع وناظر، وبحث واستفاد، وساعدته الأقدار الربانية بالتوفيق والإمداد.
أخذ العلم عن عدة مشائخ أجلاء، وعلماء فضلاء؛ ففي نجد عن أبيه وغيره، وفي المدينة عن الشيخ العالم محمد حياة السندي المدني، وعن الشيخ إسماعيل العجلوني، وغيرهما. وأخذ عن الشيخ علي أفندي الداغستاني وغيره؛ وأجازه محدثو العصر بكتب الحديث وغيرها.
وأخذ أيضا العلم، وروى عن جماعة، منهم الشيخ عبد الله بن إبراهيم النجدي ثم المدني، وأجازه من طريقين، وأول ما سمع منه الحديث المسلسل بالأولية. كتب السماع بالسند المتصل، إلى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء" 1.
وسمع منه مسلسل الحنابلة بسنده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد الله بعبده خيرا استعمله. قالوا: كيف يستعمله؟ قال: يوفقه لعمل صالح قبل موته" 2 وهذا الحديث من ثلاثيات أحمد رحمه الله تعالى. 3
__________
1 الترمذي: البر والصلة (1924) , وأبو داود: الأدب (4941).
2 الترمذي: القدر (2142) , وأحمد (3/106).
3 وقد شرحها السفاريني وهي مطبوعة.(23/313)
ص -317- ... وقد سمع رحمه الله تعالى الحديث والفقه، من جماعة بالبصرة كثيرين، وطالت إقامته بها. وقرأ بها كثيرا من كتب الحديث والفقه والعربية، وكتب من الحديث والفقه واللغة ما شاء الله في تلك الأوقات.
بلغ في العلوم العقلية والنقلية مبلغا صار بذلك أعجوبة العالم. وكان يدعو إلى التوحيد ويظهره لكثير ممن يخالطه ويجالسه، ويستدل عليه بالكتاب والسنة، ويقول: الدعوة كلها لله، لا يجوز صرف شيء منها لسواه.
وربما ذكروا بمجلسه إشارات الطواغيت، أو شيئا من كرامات الصالحين الذين كانوا يدعونهم، ويستغيثون بهم، ويلجؤون إليهم في الملمات فينهى عن ذلك ويزجر، ويورد الأدلة ويحذر، ويخبر أن محبة الأولياء والصالحين إنما هي متابعتهم فيما كانوا عليه من الهدى والدين القويم.
ثم خرج منها إلى نجد قاصدا الحج، فحج؛ وقد تبين له بما فتح الله عليه، ضلال من ضل في كل قطر وناحية، فلما قضى الحج وقف بالملتزم، وسأل الله عز وجل أن يظهر هذا الدين بدعوته، وأن يرزقه القبول من الناس.
فخرج قاصدا المدينة، وحضر عند العلماء إذ ذاك، منهم حياة السندي وغيره، وكتب الهدي والبخاري، وحضر(23/314)
ص -318- ... في فنون العلم. ثم ارتحل يريد الشام، فحصل له عائق لما اقتضته الحكمة الربانية، من ظهور هذا الدين في البلاد النجدية.
فقصد نجدا ووجد والده قد ارتحل إلى بلدة حريملاء، فاستقر معه فيها، يدعو إلى السنة المحمديه؛ حتى رفع الله شأنه، ورفع ذكره، ووضع له القبول، وشهد له بالفضل ذووه، من أهل المعقول والمنقول.
ثم ارتحل منها إلى بلد العيينة، وساعده أميرها عثمان بن معمر. وأمر الشيخ بهدم القباب والمساجد المبنية في الجبيلة على قبور الصحابة، رضي الله عنهم، وقطع الأشجار التي تنتابها الخلق في كل ساعة.
فبادر عثمان وخرج الشيخ معه وجماعتهم، فهدموا تلك المساجد المبنية عليها، وأزالوا تلك المشاهد المصروفة العبادة إليها، ومحق ما في العارض من المعبودات، الأشجار وغيرها، فلم يبق وثن في تلك البلدان؛ فشاع ذلك واستبان.
فاستنكرته قلوب أهل الطغيان، وعجوا مطبقين بأنه ساحر كذاب، وحكموا بكفره ومن معه من الأصحاب، وجدوا في التحريش عليه، وأرسلوا بذلك إلى الحرمين الشريفين، والبصرة وغيرها.
ولم يزل رحمه الله مقيما في بلد العيينه، يأمر(23/315)
ص -319- ... بالمعروف وينهى عن المنكر، ويعلم الناس دينهم، ويقيم الحدود؛ حتى أمر برجم زانية فرجمت، فكثر القيل والقال من أهل البدع والضلال.
فشكوا إلى شيخهم رئيس بني خالد، فكتب إلى عثمان يأمره بقتله أو إجلائه؛ فأمر بإجلائه ولم يكن له إلى قتله من سبيل، وذلك لما اقتضته الحكمة الإلهية، والعناية الصمدانية، من إحياء دارس السنة المحمدية، والآثار السلفية.
فخرج الشيخ وهاجر إلى بلد الدرعية، فنَزل إلى عبد الله بن سويلم، ثم انتقل إلى تلميذه الشيخ أحمد بن سويلم. فلما سمع بذلك الأمير محمد بن سعود، أسكنه الله دار الخلود، قام مسرعا إليه، فأتاه فسلم عليه، وبادره بالقبول والتقبيل، وأبدى له غاية الإكرام والتبجيل.
وأخبره أنه يمنعه مما يمنع منه أولاده، من جميع من عاداه وكاده، إلا أنه طلب من الشيخ العهد والميثاق، أن لا يرحل عن بلده إلى سائر الآفاق، وهذا من عناية الله بهذا الرجل وتوفيقه، و {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [سورة الحديد آية: 21] .
فأعطاه الشيخ عقد المرام، وأقام عنده في تلك البلاد، يدعو الناس إلى ما خلقوا له، في وقت طرق الإسلام قد عفت آثارها، وخبت أنوارها، ووهت أركانها،(23/316)
ص -320- ... وجهل مكانها؛ فشيد من معالمها ما عفا من كلمة التوحيد، وأوضح سبيل الهداية لمن أراد أن يسلكها، وأظهر كنوز السعادة لمن قصد أن يملكها.
وقام منعه على ذلك إخوانه، ووزراؤه، وأعوانه، وأنصاره، من أهل الدرعية؛ فجردوا للدعوة أمضى سنان، وأرخوا في ذلك العنان؛ فصار الشيخ يدعو إلى التوحيد، ويقمع كل شيطان مريد، ويناظر أهل الشرك والعناد، وينكر على أهل البغي والفساد، نصره الله بالحجة واللسان، والسيف والسنان.
أمر بالجهاد هو والإمام محمد بن سعود، وشمروا عن ساعد الجد والاجتهاد، وعدوا للجهاد ما استطاعوا من الإعتاد.
وكان الشيخ هو الذي يجهز الجيوش، ويبعث السرايا على يد الإمام، ويكاتب أهل البلدان ويكاتبونه، والوفود إليهما، والضيوف عنده، وصدور الأوامر من عنده; حتى أذعن أهل نجد، وتتابعوا على العمل بالحق، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فعمرت نجد بعد خرابها، وصلحت بعد فسادها، واجتمعت بعد افتراقها، وحقنت الدماء، ونال الفضل والفخر والملك من نصره وآواه، وملك الحرمين الشريفين واليمن وعمان، وما دونه وما وراءه.(23/317)
ص -321- ... وفيه مشابهة لنبينا صلى الله عليه وسلم فيما ناله من الرؤساء والأحبار، في ابتداء دعوته؛ فإنه رحمه الله لما أظهر الدعوة إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة، استصرخوا بأهل الحرمين، والنجرانيين، وبني خالد وغيرهم عليه، وألبت تلك الطوائف.
فثبته الله ومن آواه ونصره، على قلة منهم وضعف، وصبروا على مخالفة الناس، وتحملوا عداوة كل من عادى هذا الدين.
بل أشبه أمر الشيخ ما جرى لخاتم النبيين، حتى في مهاجره وأنصاره، وكثرة من عاداه وناوأه في حال الابتداء، كما هو حال الحق في المبادئ، يرده الكثيرون وينكرونه، ويقبله القليل وينصرونه، ثم تكون الغلبه له.
فرحمه الله من إمام همام، وحبر شهم ضرغام، عمم الله ببركة علمه الأنام. قام بهذا الدين الحنيف، ولم يكن في البلاد إلا اسمه، وانتشر في الآفاق؛ وكل امرئ نال منه حظه وقسمه، وانتفع بعلمه.
حتى أهل الآفاق يرسل إليهم ويدعوهم، ويسألون عما يأمر به وينهى عنه؛ فيقال لهم يأمر بالتوحيد وينهى عن الشرك. فانتهى أناس كثير من أهل الآفاق، وهدم المسلمون ببركة علمه جميع القباب والمشاهد، التي بنيت على القبور وغيرها، في أقاصي الجزيرة، من الحرمين، واليمن وتهامة، وعمان وغير ذلك.(23/318)
ص -322- ... وبالجملة: فمحاسنه وفضائله أكثر من أن تحصر، وأشهر من أن تذكر. ومن طالع مصنفاته، واستقرأ سيرته ومؤلفاته، عرف أنه من أغزر الناس علما، وأحدهم فهما، وأنفذهم عزما وأشجعهم؛ بل هو من أكابر السلف.
وهذه كتبه وفتاواه ورسائل دعوته تشهد بذلك؛ وهو المرجع في وقته في سائر العلوم والفتاوى. وما كان يخطر بالبال، ولا يدور في الخيال، أن رجلا فذا يدرك هذا المركز بعينه؛ حتى صار هو بين العالم فذا، فحق له أن يتمثل:
أيا لائمي دعني أغالي بقيمتي ... فقيمة كل الناس ما يحسنونه
فلقد كان رحمه الله من الفضل آية وحده، وفردا حتى نزل لحده، بل أمة قدوة، أخمل من القرناء كل عظيم، وأخمد من البدع كل حديث وقديم. هو البحر من أي النواحي جئته، والبدر من أي الضواحي رأيته.
ولعمري هو شيخ الإسلام، قدوة الأنام، حسنة الأيام، افتخرت به نجد على سائر الأمصار؛ بل زها به عصره على سائر متقدمي الأزمان والأعصار، لما جمع الله له من المناقب والفضائل، التي أوجبت للأواخر الافتخار على الأوائل.
قام مقام نبي، ودعا وملأ اسمه الدنيا شرقا وغربا(23/319)
ص -323- ... شمالا وجنوبا. وجمع بين خلتي العلم والحسب والنسب، والعقل والفضل، والخلق والخلق، مع سلامة الصدر واللطف والرفق، وحسن النية وطيب الطوية، لم ير في عصره من يستجلي النبوة المحمدية، وسننها وأقوالها وأفعالها إلا هو.
اجتمعت الألسن على مدحه والثناء عليه، والقلوب على محبته والميل إليه. شهرته تغني عن الإطناب في ذكره، شمس فضائله شارقة في الأقطار، ومحاسنه علت على كل علم ومنار.
أمده الله بكثرة الكتب، وسرعة الحفظ، وقوة الإدراك، وعدم النسيان. سمع الحديث وأكثر في طلبه، وكتب، ونظر في الرجال والطبقات، وحصل ما لم يحصل غيره.
برع في تفسير القرآن، وغاص في دقائق معانيه، واستنبط منه أشياء لم يسبق إليها، وبرع في الحديث وحفظه، فقل من يحفظ مثله، مع سرعة استحضاره له وقت إقامة الدليل.
وفاق الناس في معرفة الفقه، واختلاف المذاهب، وفتاوى الصحابة والتابعين، بحيث إنه إذا أفتى لم يلتزم بمذهب، بل بما يقوم دليله عنده. تمسك بأصول الكتاب، والسنة، وتأيد بإجماع سلف الأمة. وكان من بيت علم في(23/320)
ص -324- ... آبائه وأجداده، واتصل في بنيه وبنيهم، ولا يزال إلى آخر الزمان إن شاء الله تعالى.
نصر السنة المحضة، والطريقة السلفية بأوضح حجج وأبين براهين. احتج بمقدمات وأمور وبراهين لم يسبق إليها، فظهرت السنة بعد أن سفت عليها السوافي. أعلى الله مناره، وجمع قلوب أهل التقوى على محبته والدعاء له، وكبت أعداءه.
هدى به أمما من أهل الملل والنحل، وجبل قلوب الملوك والأمراء على الانقياد له؛ فظهرت هذه الدعوة، وبلغت مشارق الأرض ومغاربها، وانتشرت؛ فلم يبق أهل وبر ومدر إلا عرفوها وأقروا بها.
ودخل أكثرهم فيها، وعرفوا صحتها، وأنها ما كان عليه سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم. وهو أكبر من أن ينبه على سيرته مثلي، فقد انتشرت فضائله واشتهرت، وشاعت دعوته لله وظهرت.
وذكر الشيخ: حسين بن غنام وغيره، عن أكابر أهل عصرهم، أنهم شهدوا له بالعلم والدين، وأنه من جملة المجددين لما جاء به رسول رب العالمين؛ وكذلك أهل مصر والشام والعراق والحرمين، والهند وغيرهم، تواتر عن فضلائهم وأذكيائهم مدحه والثناء عليه، والشهادة له أنه جدد هذا الدين، كما قال محمد بن علي الشوكاني قاضي صنعاء:(23/321)
ص -325- ... وقام مقامات الهدى بالدلائل ... مقام نبي في إماتة باطل
لقد أشرقت نجد بنور ضيائه ... فما هو إلا قائم في زمانه
وأثنى عليه في مرثية له، وتأتي. وقال الأمير الشهير محمد بن إسماعيل الصنعاني:
وإن كان تسليمي على البعد لا يجدي ... رباها وحياها بقهقهة الرعد
ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد ... لقد زادني مسراك وجدا على وجد
به يهتدي من ضل عن منهج الرشد ... فيا حبذا الهادي ويا حبذا المهدي
سلام على نجد ومن حل في نجد ... لقد صدرت من سفح صنعا سقى الحيا
سرت من أسير ينشد الريح أن سرت ... يذكرني مسراك نجدا وأهله
قفي واسألي عن عالم حل سوحها ... محمد الهادي لسنة أحمد
*****
بلا صدر في الحق منهم ولا ورد ... ولا كل قول واجب الرد والطرد
فذلك قول جل قدرا عن الرد ... تدور على قدر الأدلة في النقد
يعيد لنا الشرع الشريف بما يبدي ... ومبتدع منه فوافق ما عندي
مشاهد ضل الناس فيها عن الرشد ... لقد أنكرت كل الطوائف قوله
وما كل قول بالقبول مقابل ... سوى ما أتى عن ربنا ورسوله
وأما أقاويل الرجال فإنها ... وقد جاءت الأخبار عنه بأنه
وينشر جهرا ما طوى كل جاهل ... ويعمر أركان الشريعة هادما
إلى أن قال:
وكنت أرى هذي الطريقة لي وحدي ... لقد سرني ما جاءني من طريقه(23/322)
ص -326- ... ثم قال:
يتابع قول الله في الحل والعقد ... وهل غيره بالله في الشرع من يهدي
وليس له ذنب سوى أنه غدا ... ويتبع أقوال النبي محمد
وقال العالم الرباني، الشيخ محمد بن سرور الهمداني، بعد ثنائه، على الصنعاني في معارضته البولاقي.
بمدح إمام قام بالخير والرشد ... بسمر العوالي والقواضب والجرد
وبوأه الرضوان في جنة الخلد ... ذوائب عدنان ذوي العقل والمجد
خبيث السجايا واحد البكم والبلد ... وما قال إلا الصدق والحق ناطق
وأحيا من التوحيد ما كان دارسا ... جزاه إله العرش خير جزائه
له نسب زاك إلى خير أسرة ... سلالة إسماعيل ذاك الذبيح يا
وقال الشيخ العالم الجليل عبد القادر بن أحمد بن مصطفى، المعروف بابن بدران، الدمشقي.
هو العالم الأثري، والإمام الكبير، محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، يتصل نسبه بزيد مناة بن تميم، رحل إلى البصرة والحجاز لطلب العلم، وأخذ عن الشيخ علي أفندي الداغستاني، وعن المحدث الشيخ إسماعيل العجلوني، وغيرهما من العلماء. وأجازه محدثو العصر بكتب الحديث وغيرها.
ولما أمتلأ وطابه من الآثار، وعلم السنة، وبرع في مذهب أحمد، أخذ لينصر الحق، ويحارب البدع، ويقاوم(23/323)
ص -327- ... ما أدخل الجاهلون في هذا الدين الحنيفي، والشريعة السمحاء، ولم يزل مثابرا على الدعوة حتى توفاه الله تعالى سنة 1206?.
وقال الشيخ عبد الرحمن الجبرتي الحنفي في سنة 1217?: ترادفت الأخبار بأمر ابن عبد الوهاب "الشيخ محمد بن عبد الوهاب" وظهور شأنه من مدة ثلاث سنوات من ناحية نجد؛ ودخل في عقيدته قبائل من العرب كثيرة، وبث دعاته في أقاليم الأرض. ويزعم أنه يدعو إلى كتاب الله وسنة رسوله، ويأمر بترك البدع التي ارتكبها الناس، ومشوا عليها إلى غير ذلك.
قال: وأرسل إلى شيخ الركب المغربي كتابا، ومعه أوراق تتضمن دعوته، وعقيدته، وصورتها: بسم الله الرحمن الر حيم، الحمد لله... إلخ 1 ثم قال: إن كان كذلك، فهذا ما ندين الله به نحن أيضا، وهو خلاصة لباب التوحيد، وما علينا من المارقين والمتعصبين.
فانظر ما اعترف به هذا المؤرخ المشهور.
وقال صاحب الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي، في ترجمة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى:
__________
1 تقدمت في كتاب العقائد.(23/324)
ص -328- ... ربي بحجر والده، ثم انتقل للبصرة لإتمام دروسه؛ فبرع في علوم الدين واللسان، وفاق الأقران. واشتهر هناك بالتقوى، وصدق التدين، عقيدته السنة الخالصة، على مذهب السلف المتمسكين بمحض القرآن والسنة؛ لا يخوض التأويل والفلسفة، ولا يدخلها في عقيدته.
وفي الفروع مذهبه حنبلي، غير جامد على تقليد الإمام أحمد ولا من دونه؛ بل إذا وجد دليلا أخذ به، وترك أقوال المذهب، فهو مستقل الفكر في العقيدة والفروع معا. وكان قوي الحال، ذا نفوذ شخصي، وتأثير نفسي... إلى أن قال:
فأصبح ابن عبد الوهاب ذا شهرة طبقت العالم الإسلامي وغيره، معدودا من الزعماء المؤسسين للمذاهب الكبرى.
وقال في: "حاضر العالم الإسلام": طلب العلم، وتشرب مبادئ الإمام الحافظ، حجة الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، وابن عروة وغيرهم من فحول أئمة الحنابلة؛ وهناك أيضا ازداد ريا من مواد المذهب الحنبلي، وأخذ يفكر في إعادة الإسلام إلى نقاوته الأولى: عقيدة الصحابة والتابعين.
فلذلك الوهابية، يسمون مذهبهم: عقيدة السلف، ومن هناك أنكر الاعتقاد بالأولياء، وزيارة القبور،(23/325)
ص -329- ... والاستغاثة بغير الله، وغير ذلك مما جعله من باب الشرك؛ واستشهد على صحة آرائه، بالآيات القرآنية والأحاديث المصطفوية.
وكذلك اعترف أعداؤه من معاصريه، والحق ما شهدت به الأعداء، ولو وجدوا سبيلا إلى الطعن لم يبقوا ممكنا، بل شهد له سائر الكل بأنه المصلح الأكبر.
وقال الشيخ: ملا عمران بن علي، نزيل لنجة، في أثناء رد له، نصرا، للحق، وللشيخ محمد، رحمه الله تعالى:
صح المبين وبالكلام الجيد ... إلا المهيمن ذا الجلال السرمدي
كلا ولا من صالح أو سيد ... فأتاهم الشيخ المشار إليه بالنـ
يدعو همو لله أن لا يعبدوا ... لا يشركوا ملكا ولا من مرسل
إلى أن قال:
أهل الزمان اشتد غير مقلد ... لله أندادا بغير تعدد
فالشيخ لما أن رأى ذا الشأن من ... بادا همو يا قوم كيف جعلتمو
إلى أن قال:
إظهار ما قد ضيعوه من اليد ... ليكافئوه على وفاق المرشد
لو أنصفوا لرأوا له فضلا على ... ودعوا له بالخير بعد مماته
إلى أن قال:
لرأي المحب محمد المحمد ... عجبا لهم لو كان فيهم منصف(23/326)
ص -330- ... للحب في نص الكتاب الأمجد ... الحق شمس للبصير المهتدي
حسب يقربنا له بتودد ... نمتار نعمته ولم نسترفدي
لذوي البصيرة فاهتدى من يهتدي ... من حيث إن الاتباع مقارن
قالوا صبأتم نحوه قلنا لهم ... ما بيننا نسب نميل إليه أو
أيضا ولا هو جارنا الأدنى الذي ... لكنها شمس الظهيرة قد بدت
* * * *
ن له أقروا بالفضائل واليد ... كالشعرة البيضا بجلد أسود
حق القليل مقالة لم تجحد ... شك وريب واختلاف يبتدي
تجدوها حقا ظاهرا للمقتدي ... فالعالمون العاملون المنصفو
لكن قليل منهمو في عصرنا ... والله قد ذم الكثير وقال في
فإن اعتراكم في الذي قد قاله ... فزنوا بميزان الشريعة قوله
وقال الشيخ العلامة: أحمد بن محمد الحفظي في أرجوزة له:
قد جاءنا في آخر العصر القذي ... بأمر رب العالمين الخالق
من أرض نجد عالما مجتهدا ... الحنبلي الأثري الأحمد
بين الورى وقد طغى واعتكرا ... يصرخ بين أظهر القبيلة
ليس إلى نفس دعا أو مذهب ... حركني لنظمها الخبر الذي
لما دعا الداعي من المشارق ... وبعث الله لنا مجددا
شيخ الهدى محمد المحمدي ... فقام والشرك الصريح قد سرى
دعا إلى الله وبالتهليلة ... ولم يزل يدعو إلى دين النبي(23/327)
ص -331- ... أن لا إله غير فرد يعبد ... رسوله إليكم وقصده
شيئا به والابتداع فاتركوا ... يعلم الناس معاني اشهدوا
محمد نبيه وعبده ... أن تعبدوه وحده لا تشركوا
وقال أيضا رحمه الله تعالى، داعيا ملوك اليمن وعلماءهم، أن يدخلوا في دعوة الشيخ:
وارمق عواقب حالها المتحول ... لم أدر ما حيلولة المتحيل
فهو البريء من الخلاف المبطل ... جريد والتفريد للرب العلي
ويذم من يدعو النبي أو الولي ... وبدائعا وصنائعا لم تقبل
وفظاظة وشكاية لم تجمل ... وهيونة للمقبل المستقبل
أو يقتل الأبطال إن لم تبطل ... غرض بمذهب آخر عن أول
ثم اتباعا للنبي المرسل ... فعلام ينفر كل ندب أفضل
لهما ولوا عبدا فكيف بمن ولي ... واستشهد الأيام وانظر شأنها
والحق أولى أن يجاب وإنما ... إن كان ظنا أن ذاك مخالف
بل قام يدعو الناس للتوحيد والتـ ... ويذب عن شرع النبي محمد
ولقد أضاء فكم أزال شنائعا ... أو كان ظنا أن فيه غلاظة
فأقول حاشا إن فيه ليونة ... لا يطلب الأموال من خزانها
أو ينزع الملك المولى أوله ... بل قصده التوحيد في أفعالنا
هذان ليس سواهما قصده ... والواجب الشرعي إجابة من دعا
وقال:
ومقدمات نتائج الأشكال ... شهدت عدول شواهد الأفضال(23/328)
ص -332- ... في العلم بالله العلي المتعالى ... أن المعالي والعوالي والعلا
ثم ذكر ما الناس فيه من الشرك، وقال:
نبأ عظيم أمره متوالي ... ـاس بالتوحيد والإفراد بالأعمال
لله ليس الشرك في مثقال ... ومجدد العصر الأخير التالي
كافاه ربي بالجزاء العالي ... حتى أتانا من مشارق أرضنا
داع بأعلى الصوت يدعو النـ ... ويحث في صرف العبادة كلها
أعني بذاك إمامنا شيخ الهدى ... بحر العلوم أبا حسين محمدا
وقال:
مناهج دعواه وصحت لداعيها ... وعبد العزيز القائم العدل محييها
بأقلام حق والسيوف تحاذيها ... وبرهن بالوحيين حتى تلألأت
إمام الهدى أعني محمدا الفتى ... فحياهما من جهبذين تناصرا
وقال عالم الأحساء، حسان وقته، الشيخ: أحمد بن علي بن مشرف، بعد ثنائه على أنصار السنة العلماء:
للدين ذو علم وذو إقدام ... بثواقب من علمه وسهام
وضلالهم أكرم به من حام ... فأزاح ليل الشوك والأوهام
بدليل وحي قاطع وحسام ... فجلا به قطعا من الإظلام
وحباه بالإحسان والإنعام ... منهم بنجد عالم ومجدد
نصر الهدى ونفى الردى، ورمى العدا ... وحمى حمى التوحيد من شبه العداي
وأدلة التوحيد ألف شملها ... ومشاهد الإشراك هد بناءها
فأتاهم بالنور من صبح الهدى ... فجزاه رب العرش خير جزائه(23/329)
ص -333- ... وقال:
وقد جد في إخفائه كل ملحد ... فأكرم به من عالم ومجدد
كما قد أمات الشرك بالقول واليد ... بكل دليل كاشف للتردد
لقد أوضح الإسلام عند اغترابه ... وجدد منهاج الشريعة إذ عفت
وأحيا بدرس العلم دارس رسمها ... وكم شبهة للمشركين أزاحها
وقال الشيخ حسين بن غنام الأحسائي، رحمه الله:
وقد كان فيه للبرية مرتع ... بوقت به يعلو الضلال ويرفع
أزيل بها عنه حجاب وبرقع ... وعام بتيار المعارف يقطع
وأهوى به من مظلم الشرك مهيع ... ومصباحه عال ورياه ضيع
سواه ولا حاذى فناها سميدع ... يشيد ويحمي ما تعفى ويرقع
ويدمغ أرباب الضلال ويدفع ... أمرنا إليها في التنازع نرجع
لقد غاص بحر العلم والفهم والندى ... لقد رفع المولى به رتبة الهدى
أبان له من لمعة الحق لمحة ... سقاه نمير الفهم مولاه فارتوى
فأحيا به التوحيد بعد اندراسه ... فأنوار صبح الحق باد سناؤها
سما ذروة المجد التي ما ارتقى لها ... وشمر في منهاج سنة أحمد
وينفي الأعادي عن حماه وسوحه ... وناظر بالآيات والسنة التي
وقال عبد الجليل البصري:
وبالخير من قد كان أصدق قائم ... هو الحبر ذو الأفضال حاوي المكارم
هو القانت السجاد في جنح فاحم ... جزى الله رب العرش بالصفح والرضى
بنصرة دين المصطفى وظهيره ... هو الورع الأواه شيخي محمد(23/330)
ص -334- ... فريد طريد ماله من مسالم ... وفي الله لم تأخذه لومة لائم
على محض شرك في العبادة لاجم ... لقد قام يدعو للمهيمن وحده
وجاهد للرحمن حق جهاده ... همام بدا والناس إلا أقلهم
إلى أن قال:
ولا آمرا بالعرف بين العوالم ... بآيات حق للضلال صوارم
قواعد زيغ محلكات الدعائم ... ولم تلق عن بادى المناكر ناهيا
فجرد عضب العزم إذ وضح الهدى ... وقد بها هام الغواية فانمحت
وقال الشيخ سليمان بن سحمان، رحمه الله تعالى:
إلى السيد المعبود بالجد والجهد ... على الكفر بالمعبود والجعل للند
ويدعون من لا يملك النفع للعبد ... عداوة من قد خالفوه على عمد
جناية ذي بغي ولا زيغ ذي صد ... عليه لكي يطفوا من النور ما يبدي
وقد قام يدعو الناس في جاهلية ... وقد كان أهل الأرض إلا أقلهم
ينادون أرباب القبور سفاهة ... فجاهد في ذات الإله ولم يخف
ولم يثنه عن نصرة الحق والهدى ... وتأليب أعداء الشريعة جندهم
* * * *
به الملة السمحا على كل ذي جحد ... وقد ضاء نور الحق من طالع السعد
وقد طبق الآفاق من سائر البلد ... فألزم كلا عجزه من ذوي الطرد
وقد جهدوا إلى كيده غاية الجهد ... وأعلن بالتوحيد لله فاعتلت
فأضحى بنجد مهيع الحق ناصعا ... وأقلع ديجور الضلالة والهوى
وجادلة الأحبار فيما أتى به ... فآبوا وقد خابوا وما أدركوا المنى(23/331)
ص -335- ... عليه وأولاه من العز والحمد ... وأكمد أكبادا بها الحسد المردي
فاظهره المولى على من بغى ... بما كلت الأقلام عن حصر بعضه
* * * *
فحل على هام المجرة والسعد ... وكم مشهد قد شيد أوهاه بالهد
بنور الهدى حتى استبانت لذي الرشد ... من العلماء المنصفين ذوي النقد
وأرسل نظما ثابتا عنه في الوفد ... عليه بما أبدى من الحق في نجد
يعيد لنا الشرع الشريف بما يبدي ... فلله من حبر تسامى إلى العلا
فكم سنن أحيا وكم بدع نفى ... وكم شبهة جلت فجلا ظلامها
وحسبك ما قال الأمير محمد ... فقد قال في الشيخ الإمام محمد
فمن قوله في معرض الشكر والثنا ... وقد جاءت الأخبار عنه بأنه
ثم قال:
وما لم يقل في فضله فبلا حد ... كهذا التقي الفاضل العلم الفرد
ولا كل منشور بحمد لذي عد ... وضعضع من ركن العدا كل مسند
فدونك ما قد قاله في نظامه ... وكم من أخي علم أقر بفضله
فليس بمحص فضله كل ناظم ... لقد أوضح الإسلام بعد اندراسه
وقال أيضا: بعد أن ذكر ما كان بنجد من الشرك والبدع:
وجود وإحسان إماما مفهما ... نبيلا جليلا بالهدى قد ترسما
يشق له فيها غبار ولن وما ... فأظهر مولانا بفضل ورحمة
تقيا نقيا ألمعيا مهذبا ... تبحر في كل الفنون فلم يكن(23/332)
ص -336- ... وبحر خضم أن تلاطم أو طما ... وأرشد حيرانا لذاك وعلما
وهد من الإشراك ما كان قد سما ... بنجد وأعلى ذروة الحق فاستما
وسباق غايات وطلاع أنجد ... فأطد للتوحيد ركنا مشيدا
وحذر عن نهج الردى كل مسلم ... فأتوى وأوهى كل كفر ومعبد
* * * *
وكل امرئ منهم لدى الحق أحجما ... عليه وعادوه عنادا ومأثما
ولا صده كيد من القوم قد طما ... وبالكفر والتجهيل والبهت قد رمى
عليه وعاداه فما نال مغنما ... فكم مقول منهم تحدى فأبكما
وكان إذا لاقى العداة عثمثما ... بوقت به الكفر ادلهم وأجهما
وفل حسام كان بالكفر لهذما ... بإشراق نور الحق لما تبسما
وجادله الأحبار فيما أتى به ... وألزم كلا عجزه فتألبوا
فلم يخش في الرحمن لومة لائم ... وكل امرئ أبدى العداوة جاهدا
فأظهره المولى على كل من بغى ... وكيف وقد أبدى نوابغ جهلهم
وألقمه بالحق والصدق صخرة ... وقد رفع المولى به رتبة الهدى
فزالت مباني الشرك بالدين وانمحت ... وحالت معاني الغي واللهو والهوى
[مكانته العلمية ومؤلفاته]
ومن عرف الرجال بالعلم، عرف حال الشيخ رحمه الله، ورسوخه ومتانة علمه ودينه، وأنه يلحق بأكابر السلف وعلمائهم، وإن تأخر عصره؛ وقد تتبع العلماء مصنفاته وفتاواه من أهل زمانه، ومن بعدهم، فأعجزهم أن يجدوا فيها ما يعاب.(23/333)
ص -337- ... وقد كانت أقواله في أصول الدين، مما أجمع عليه أهل السنة والجماعة، وفي الفروع حنبلي المذهب، متوخيا الدليل، لا يوجد له قول مخالف لما ذهب إليه الأئمة الأربعة.
وكان رحمه الله، مع قيامه بأعباء الدعوة، ومجاهدة المشبهين والمبطلين، متبتلا في العبادة، كثير الإفادة، غزير الاستفادة، رحل إليه في طلب العلم من جميع النواحي، وضربت إليه آباط الإبل.
له مجالس عديدة مشهورة في التدريس، كل يوم وكل وقت، معمورة بالفقهاء في جميع فنون العلم، في التوحيد والتفسير والفقه وغيرها؛ وانتفع الناس بعلمه، وصنف مصنفات كثيرة، وألف مؤلفات نافعة شهيرة، سارت في الآفاق سيرورة ذكاء في الإشراق. منها:
1- كتاب التوحيد، فيما يجب من حق الله على العبيد، لم يعلم له نظير في الوجود.
2- كتاب كشف الشبهات.
3- كتاب أصول الإيمان.
4- كتاب فضائل الإسلام.
5- كتاب فضائل القرآن.
6- كتاب السيرة المختصرة.
7- كتاب السيرة المطولة.
8- كتاب مجموع الحديث على أبواب الفقه.(23/334)
ص -338- ... 9- كتاب مختصر الإنصاف والشرح الكبير.
10- كتاب مختصر الصواعق.
11- كتاب مختصر فتح الباري.
12- كتاب مختصر الهدي.
13- كتاب مختصر العقل والنقل.
14- كتاب مختصر المنهاج.
15- كتاب مختصر الإيمان.
16- كتاب آداب المشي إلى الصلاة.
وله رسائل وأجوبة في التوحيد والنصائح، وأجوبة في الفقه كثيرة مفيدة، تقدمت في هذا الكتاب على حسب الترتيب؛ وله من المسائل المستنبطات من كتاب الله، ما يقصر عنه فهم الفحول الأفاضل، ولا يقدر على إبرازه ذوو التدقيق من الأماثل، تكلم على غالب السور، واستنبط منها من الفوائد ما لم يسبق إليه.
[تلاميذه وتوليه لبيت المال]
أخذ عنه العلم عدة من العلماء الأجلاء من بنيه وبنيهم، وغيرهم من علماء الدرعية، وأهل النواحي ممن تأهل؛ فمنهم أبناؤه الجهابذة الشيخ حسين، والشيخ عبد الله، والشيخ علي، والشيخ عبد العزيز، وأخذ عنه ابن ابنه الشيخ عبد الرحمن بن حسن.
وأخذ عنه الشيخ حمد بن ناصر بن معمر، والشيخ عبد العزيز الحصين الناصري، والشيخ سعيد بن حجي،(23/335)
ص -339- ... والشيخ محمد بن عبد الله بن سويلم، والشيخ عبد الرحمن بن خميس، والشيخ عبد الرحمن بن نامي، الشيخ محمد بن سلطان العوسجي، والشيخ عبد الرحمن بن عبد المحسن أبا حسين، والشيخ حسن بن عبد الله بن عيدان، والشيخان عبد العزيز ومحمد آل سويلم، والشيخ حمد بن راشد العريني.
وكل واحد من هؤلاء ولي القضاء في ناحية، وأخذ أيضا عنه ممن ولي القضاء وممن لم يله، من الفقهاء والأعيان الخلق الكثير، والجم الغفير، وكان كثيرا ما ينشد هذه الأبيات:
بأي لسان أشكر الله إنه ... لذو نعمة أعجزت كل شاكر
حباني بالإسلام فضلا ونعمة ... علي وبالقرآن نور البصائر
فبالنعمة العظمى اعتقاد ابن حنبل عليها اعتقادي يوم كشف السرائر
وكانت حاله رحمه الله في العبادة، والزهد والورع، مشهورة بين الأنام، سميره القرآن في دجى الظلام، وإحياء كثير من الليل بالقيام، مع اشتغاله في النهار بالتدريس، والتصنيف، وتنفيذ الأحكام؛ فساعاته كلها مواسم، وله من الرأي والفراسة والتدبير ما يعجز عنه الملوك.
وكان يتولى بيت المال، من جميع بلدان المسلمين، ويفرقه عليهم، وكان عن كثرة الأكل منه متعففا، بل يعجله خروجا ومصرفا، وكان سمحا جوادا كريما، لا يلفى عنده المال مقيما،(23/336)
ص -340- ... ومحافظا على ما له من الأحزاب والأوراد، مشمرا في تحصيل نافع الزاد، متجردا للاستعداد ليوم المعاد، وكثيرا ما يلهج بقول: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [سورة الأحقاف آية: 15].
فأجاب الله دعاءه، وصار ذريته وذريتهم، هم الباقين، وعلماء عاملين; توفي رحمه الله وأسكنه الفردوس الأعلى سنة 1206?، يوم الاثنين آخر شهر شوال، وكان يوما مشهودا؛ تزاحم الناس على سريره، وصلوا عليه في بلده الدرعية، وخرج الناس مع جنازته الكبير والصغير، وحصل بموته الخطب العظيم، والفادح العميم.
فضلا وجودا وتكريما وإحسانا ... ورحمة منه إحسانا ورضوانا
فالله يعليه في الفردوس منْزلة ... والله يوليه ألطافا ومغفرة
[ما قيل في رثائه]
ورثاه طوائف من العلماء منهم العالم النبيل محمد بن علي الشوكاني، رحمه الله، فقال:
وأصمى بسهم الإفتجاع مقاتلي ... فأمست بفرط الوجد أي ثواكلي
وأنهلني قسرا أمر المناهل ... حليف أسى للقلب غير مزائل
مصاب دهى قلبي فأذكى غلائلي ... وخطب به أعشار أحشائي صدعت
ورزء تقاضى صفاء معيشتي ... فغدوت به رهن التياع ولاعج(23/337)
ص -341- ... وقلب من الحزن المبرح ذاهل ... ومن كرب لاقيت أعظم هائل
وعن حمله قد كل متني وكاهلي ... أسير جوى أفنى فؤادي رسيسه
مصاب به قامت علي قيامتي ... مصاب به ذابت حشاشة مهجتي
* * *
وكان على حال من الحزن هائل ... وقد شمخت أعلام قوم أسافل
بها نجم روحي كان أسرع آفل ... وشد بناء الغي مع كل باطل
نعيق غراب بالمذلة هائل ... هوان انهدام جاء من كل باطل
بسم لنفس الدين مرد وقاتل ... مصاب به قد أظلم الكون كله
مصاب به الدنيا قد أغبر وجهها ... رميت به عن قوس أبرح لوعة
به هد ركن الدين وأنبتّ حبله ... وقام على الإسلام جهرا وأهله
وسيم منار الاتباع لأحمد ... وهبت لنار الابتداع سمائم
* * *
ويا كبدي انقشي بحزن مواصل ... ويا فجعتي للقلب ما عشت نازلي
وجودي بدمع دائم السكب هاطل ... ويا سلوتي ولي وللقلب زائلي
ومركز أدوار الفحول الأفاضل ... وغيب وجه الحق تحت الجنادل
ومروي الصدى من فيض علم ونائل ... وجم القرى صدر الصدور الأوائل
فيا مهجتي ذوبي أسى وتأسفا ... ويا لوعتي دومي وزيدي ولازمي
ويا مقلتي نحي الكرى عنك جانبا ... ويا جزعي لا غبت كن متجددا
فقد مات طود العلم قطب رحى العلا ... وماتت علوم الدين طرا بموته
إمام الهدى ماحي الردى قامع العدى ... جمال الورى رحب الذرى شامخ الذرى(23/338)
ص -342- ... جالي الخفا عن مشكلات المسائل ... منيل المنى من سيبه كل آمل
عظيم الوفا كنْز الشفا معدن الصفا ... بهي السنا عذب طيب الثناء
* * *
وشيخ الشيوخ الحبر فرد الفضائل ... وجل مقاما عن لحوق المطاول
سلالة إنجاب زكي الخصائل ... تبل ثراه بالضحى والأصائل
وقام مقامات الهدى بالدلائل ... من الفضل تثني عزة المتطاول
له في تقادير لها من مماثل ... وميدان فخر سابق للأوائل
وكامل أوصاف وحسن شمائل ... منيب وعن مولاه ليس بغافل
وجفن بهتان المدامع هامل ... وفي الجهر طول الدهر ليس بذاهل
إمام الورى علامة العصر قدوتي ... محمد ذو المجد الذي عز دركه
إلى عابد الوهاب يعزى وإنه ... عليه من الرحمن أعظم رحمة
لقد أشرقت نجد بنور ضيائه ... إمام له شأن كبير ورتبة
فريد كمال في العلوم فهل ترى ... تأخر ميلادا وفي حلبة العلا
على خلق يحكي النسيم لطافة ... وقلب سليم للمهيمن خاشع
وقلب تجافيه المضاجع في الدجى ... وعن ذكر رب العرش في السر دائما
* * *
إلى الشيم يعزى ليس يهفو لعاجل ... ضحوك ووجه للبشاشة باذل
وعن منكر ينهى وليس بقابل ... برأي وتدبير وحسن تعامل
عفو عن الجاني صفوح وحلمه ... يقابل من يلقى ببشرى ومبسم
ويأمر بالمعروف في كل حالة ... ولم يأل جهدا في نصيحة مسلم(23/339)
ص -343- ... وبالجاه عن مستوجه غير باخل ... ولم يمض منه العمر في غير طائل
لمن كان مظلوما وليس بخاذل ... يجازي بإحسان إساءة غيره
تقمص بالتقوى وبالخشية ارتدى ... ومن شأنه قمع الضلال ونصره
* * *
بماضي سنان دامغ للأباطل ... مضل وبدعي ومغوي وفائل
وما نكست أعلامه بالأراذل ... ولا عن وصال الاعتبار بغافل
ولا اشتد للإسلام ركن المعاقل ... يقيم اعوجاج السير من كل عادل
مقام نبي في إماتة باطل ... سيبكيه عني جفن طل ووابل
ويبكيه طرسي دائما وأناملي ... وكم كان في الدين الحنيفي مجاهدا
وكم ذب عن سامي حماه وذاد من ... ففيم استباح أهل الضلال لعرضه
وليس له شيء عن الله شاغل ... فلولاه لم تحرز رحى الدين مركزا
ولا كان للتوحيد واضح لا حب ... فما هو إلا قائم في زمانه
ستبكيه أجفاني حياتي وإن أمت ... وتبكيه أقلامي أسى ومحابري
* * *
يميد ببحر فائض العلم سائل ... هنيئا له إذ كان أشرف حامل
فقد كان غيث الجود كهف الأرامل ... وآها على تلك العلوم الجلائل
وتوضيحه للمعضلات المشاكل ... يبين المخبا منهما للمحاول
عجبت لقبر ضمه كيف لم يكن ... ومن نعش كان حامل جسمه
ولا غرو أن يبكي الزمان لفقده ... فآها على ذاك المحيا وحسنه
وآها على تحقيقه في دروسه ... فمن للبخاري بعده ولمسلم(23/340)
ص -344- ... لأحكام فقه الدين من للرسائل ... وكشف لثام الحكم عند النوازل
ومن ذا لتفسير الكتاب ومن ترى ... ومن لمسانيد سمت ومعاجم
* * *
عليه وذو جسم من الحسن ناحل ... وردع أخي الجهل الغوي المجادل
بها أنزل القرآن أشرف نازل ... بجد ولا يخشى ملامة عاذل
لقد عبت حقا وارتجلت بباطل ... وفل التعصب بالسيوف الصواقل
صرختم له بالقذف مثل الزواجل ... إلي دين آباء له وقبائل
أتانا بها طه النبي خير قائل ... ألم تر أن الدهر نصف كآبة
ومن للمعالي والبيان ومنطق ... ومن لك بالأصلين واللغة التي
ومن بعده للصدع بالحق قائم ... أفق يا معيب الشيخ ما ذا تعيبه
نعم ذنبه التقليد قد جذ حبله ... ولما دعا الله في الخلق صارخا
أفيقوا أفيقوا إنه ليس داعيا ... دعا لكتاب الله والسنة التي
* * *
عليه ويا حزني لأكرم راحل ... ولكن قضاء الله أغلب حائل
لكنت له بالجهد أي محاول ... أتاه من الرحمن أكرم ناقل
وكان لها كفوا وأسرع واصل ... أظلتها أهني وأرفه قائل
تقول له قد فزت يا خير عامل ... فوا أسفي وا لهف قلبي وحسرتي
ويا ندمي لو كان يجدي من القضا ... ولو كان من ريب المنية مخلص
وما مات كلا بل إلى جنة العلا ... ولما له الفردوس زاد اشتياقه
وكان على حسن الأرائك في ذرى ... شذت ورق أغصان الهناء ترجعا(23/341)
ص -345- ... هنيئا برغد في رفيع المنازل 1 ... اعزيكمو مع ذي انتساب وائل
بجاري القضا في عاجل ثم آجل ... لديه تعالى من أجور جزائل
وما الحزن برد للقضاء بفاعل ... ولا وهن في فادحات النوازل
فقد كان فينا معقبا كل كامل ... بعلم وفضل شامخ القدر شامل
وخاطبه التاريخ فألا بقوله ... فيا سائر الأولاد للشيخ إنني
وأوصيكمو بالصبر طرا وبالرضى ... بتسليم أمر الله ثم احتساب ما
فما جزع يوما بنافع جازع ... ومثلكمو لا يعتريه تزلزل
فإن كان للجنان والدكم مضى ... وأنتم بحمد الله عنه خلائف
* * *
بكم يقتدي في دينه كل فاضل ... تحث إليكم مضمرات الرواحل
ويحميكمو من طارقات الغوائل ... ويعقبكم طرا جمال المحافل
يعاديكم من كل حاف وناعل ... برزء لموصول المسرة فاضل
وجمل زاكي ذكركم كل عاطل ... وإنا لنرجو أن تكونوا أئمة
وللخير والإحسان من كل وجهة ... ونسأل رب العرش يعظم أجوركم
ويجبر صدع القلب والكسر منكمو ... ولا زلتمو غيظ القلوب لكل من
ولا فجعت في الدهر ساحة سوحكم ... عليكم سلام الله ما هب ناسم
__________
1 كان موضع ما بين القوسين بياضا في الأصل, فكمله شيخنا وفقه الله, أي: الشيخ محمد بن إبراهيم.(23/342)
ص -346- ... وأزكى محيات سوام كوامل ... هداة الورى من محتدي فرع وائل
وأوفى الثنا مني عليكم مكررا ... وأضعافها للمقرنين كلهمو
* * * *
جميع بني الدنيا فما للمجادل ... إلى أن أقاموا بالضبا كل مائل
فحقهم التبجيل بين القبائل ... كما حالف الآبا ليحس براحل
كما دمغوا داعي الهوى بالقنابل ... وما اهتزت الأزهار في صبح هاطل
على المصطفى الهادي كريم الشمائل ... وآل وأصحاب كرام أفاضل
هم الناس أهل الباس يعرف فضلهم ... لقد جاهدوا في الله حق جهاده
فناديهمو في كل ناد مبجل ... سعود مضى والسعد حالف نجله
لقد نصروا دين الإله وحزبه ... عليهم سلام الله ما ذر شارق
وأزكى صلاة الله ثم سلامه ... محمد المختار من فرع هاشم
وممن رثاه الشيخ حسين بن غنام الأحسائي، رحمه الله تعالى:
وليس إلى غير المهيمن مفزع ... فسالت دماء في الخدود وأدمع
وطاف بهم خطب من البين موجع ... وحل بهم كرب من الحزن مفظع
نجم ثوى في التراب واده بلقع ... وبدر له في منْزل اليمن مطلع
فداجي الدياجي بعده متقشع ... إلى الله في كشف الشدائد نفزع
لقد كسفت شمس المعارف والهدى ... إمام أصيب الناس طرا بفقده
وأظلمت أرجاء البلاد لموته ... شهاب هوى من أفقه وسمائه
وكوكب سعد مستنير سناؤه ... وصبح تبدى للأنام ضياؤه(23/343)
ص -347- ... إلى آخر ما رثى به، رحمه الله وعفا عنه، وجزاه عن الإسلام والمسلمين الفردوس الأعلى، في جنات النعيم المقيم.
ومن أراد الاطلاع على حقيقة حاله، وما منحه الله في مبدإ أمره ومآله، من النور المبين، وتجديد الملة والدين، وما حباه الله من نيل مقصوده، وبلوغه الأمل من توحيد معبوده، وما من الله به عليه من الظفر والتمكين، ولسان الصدق في العالمين، فعليه بكتاب "روضة الأفكار والأفهام لمرتاد حال الإمام، الشيخ: محمد بن عبد الوهاب" وهو تأريخ الإمام الشيخ: حسين بن غنام الأحسائي الشافعي، رحمه الله تعالى.
الإمام محمد بن سعود رحمه الله
هو الإمام الرئيس، مجدد الجهاد بالعرمرم الخميس، الثبت الشجاع الحازم الألمعي، الهمام الصارم، إمام المسلمين، محيي العدل في العالمين، جامع كلمة المؤمنين، ناصر الموحدين، قائد المجاهدين، العادل المؤيد، بدر الزهاد، سلالة الأمجاد، إمام الهدى، مطفي الردى، الأوحد بدر الزمان، الأمجد:
محمد بن سعود بن محمد بن مقرن بن مرخان بن إبراهيم بن موسى بن محمد بن ربيعة بن مانع بن(23/344)
ص -348- ... الحسيب بن المقلد بن بدران بن مالك بن سالم بن مالك بن حسان بن ربيعة بن مرة بن منقذ بن الحارث بن سعد بن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل، ذو الرأي الباهر، والعقل الوافر، أجمع قومه على توليته؛ فساسهم، ودبر أمورهم، بحسن السيرة والكرم، وقوة الباس.
جددت الدعوة الإسلامية على يديه، وأحييت السنة المحمدية بمواضيه، لما نور الله قلب شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، وأظهر التوحيد، ونهى عن الشرك والتنديد، قبل منه الأقلون، واشمأزت قلوب الذين لا يوقنون، ونفرت الرؤساء والأحبار، واستصرخت بأهل القوى والأمصار.
فقال للشيخ: أبشر بالعز والمنعة، فقال له الشيخ: وأنا أبشرك بالعز والتمكين، والنصر المبين. وهذه كلمة التوحيد، دعت إليها الرسل كلهم، ومن تمسك بها، وعمل بها ونصرها، ملك العباد والبلاد. وأنت ترى نجدا كلها وأقطارها، أطبقت على الشرك والجهل، والفرقة والاختلاف، والقتال لبعضهم بعضا; فأرجو أن تكون إماما يجتمع عليه المسلمون، وذريتك من بعدك أئمة متعاقبون. فتلقاه الإمام بالقبول والتحية، ونصره وأواه.(23/345)
ص -349- ... وما أحسن ما قيل:
يلقاه بالإجلال وهو يرحب ... به اشتد للشيخ المبجل منكب
كما بايعت في وفدها قبل يثرب ... آواه في الدرعية البطل الذي
محمد أصل المجد في آل مقرن ... وبايعه في نصرة الدين والهدى
فأجد وأمد، وعن ساعده شمر واجتهد، وأعد للجهاد ما استطاع من قوة الآلات، ومن رباط الخيل في سبيل الله، فأعز الله به الإسلام والمسلمين، وألف به قلوب المؤمنين، وظهر الحق وانتصر الدين، وقمع الباطل وأولياءه من المشركين.
ولم يزل رحمه الله مساعدا للشيخ في دعوة الناس إلى التوحيد، وجهاد من أبى عنه من كل شيطان مريد، حتى ارتجع الله له الحق الذي كان نادا، ورد على يديه الأمر الذي لم يكن له غير الله رادا، وبلغ كل مؤمن من إعلاء كلمة الإيمان ما كان له وادا.
وأيده الله وتولاه، وهزم ضده وأعداءه، وصار فيه شبه من الأنصار، بل الأنصار من نصر الدين، مع تطاول الأعصار؛ فأعز الله بهما الدين، وأذل بهما الشرك والمشركين، وجعل ذريتهما الباقين، وحقق رجاء إمام هذه الدعوة، وجعله إماما لخلقه، ووارثا لأرضه، وداعيا إلى الله بإذنه.(23/346)
ص -350- ... فصار هو وذريته الذين حازوا فضائل المفاخر، وأذل لهيبتهم كل عنيد من باد وحاضر؛ وملؤوا هذه الجزيرة بإدمان سيف قهرهم، كما ملؤوها بسيف عدلهم وبرهم. واستبشرت بهم الحرمان الشريفان، لما أزالوا عنهما الجور والطغيان، والبناية على القبور، التي ما أنزل الله بها من سلطان، ونادوا في فجاجهما: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ} [سورة النحل آية: 90] .
وكسوا الكعبة المشرفة بالحرير، وسارت الظعينة إليها من العراق والشام واليمن والبحرين، والبصرة وما حولها وما دونها، لا تخشى أحدا إلا الله الواحد المنان؛ وبطلت في زمانهم جوائز الأعراب على الدروب، وسكنت تلك الفتن والحروب، يجلس الرجل ويأكل مع قاتل أبيه وأخيه كالإخوان.
وزالت سنن الجاهلية، وسارت عمالهم إلى جميع الأعراب في الشام والعراق، واليمن وأقصى الحجاز، وما وراء الينبع إلى دون مصر، وإلى عدن وما دون البصرة.
وهدموا المواضع الشركية في تلك الأقطار، وعمروا المساجد للصلاة والتدريس والأذكار؛ والأمر- والحمد لله وحده- مستمر إلى هذا الحين، أدام الباري لهم العز والتمكين، والقيام بشريعة سيد المرسلين.
فإن الناس قيامهم بقيام آثار نبيهم وشرائعه بينهم،(23/347)
ص -351- ... وقيام أمورهم وحصول مصالحهم، واندفاع أنواع البلاء والشر عنهم، بحسب ظهورها بينهم، وقيامها؛ وهلاكهم، وعنتهم وحلول البلاء والشر بهم، عند تعطلها والإعراض عنها.
ومن تأمل تسليط الله من سلط على البلاد والعباد من الأعداء، علم أن ذلك بسبب تعطيلهم لدين نبيهم، وسنته وشرائعه؛ حتى إن البلاد التي لآثار النبي صلى الله عليه وسلم وسننه وشرائعه فيها ظهور، دفع عنهم بسبب ظهور ذلك بينهم.
ويشهد أن هذا الإمام وخلفاءه، على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأنهم على الحق، وعدوهم على الباطل، ما جرى عليهم ممن عاداهم؛ وأيدهم الله، ونصرهم على قلة منهم وضعف، وقوة من عدوهم وكثرة.
وصارت الغلبة والظهور لهم، وكثير ممن ناوأهم لم تقم لهم قائمة، وصار كل من في نجد وما حولها، سامعا مطيعا لإمام المسلمين، القائم بهذا الدين بأمن وأمان؛ وأثنى عليه علماء الأمصار والبلدان، القاصي منهم والدان.
قال الشيخ: أحمد بن محمد الحفظي اليمني، في أرجوزة له بعد ثنائه على مجدد هذه الدعوة:
آل سعود الكبراء القادة ... ونصرة الإسلام والشم الأنف
وعرفوا من حقه ما أنكروا ... والسابقون الأولون السادة
هم الغيوث والليوث والشنف ... فأقبلوا والناس عنه أدبروا(23/348)
ص -352- ... وكم وكم لله من ضنائن ... محمد الرئبيل والعيسوب
وجند ربي قبله حيزوم ... حفوا به كأسد العرائن
وابن سعود كأبي أيوب ... قال اذهبوا فأنتم سيوم
وقال الشيخ: أحمد بن علي بن مشرف الأحسائي:
تهلل وجه الفخر وابتسم المجد ... فهم للعدا حتف وهم للهدى جند
ومعشر صدق فيهم الجد والحد ... وإن أشعلت نار الوغى فهم الأسد
وكم مشهد للشرك بنيانه هدوا ... فهم دون ما يخشونه الردم والسد
ومهما ذكرت الحي من آل مقرن ... همو نصروا الإسلام بالبيض والقنا
غطارفة ما أن ينال فخارهم ... وهم أبحر في الجود إن ذكر الندى
فكم مسجد قد أسسوه على التقى ... بهم أمن الله البلاد وأهلها
وقال الشيخ: سليمان بن سحمان، بعد ثنائه على الشيخ محمد، رحمهما الله تعالى:
أئمة عدل مهتدون ذوو رشد ... بآل سعود واستطالوا على الضد
إلى الله بالتقوى وبالصارم الهندي ... بنوهم وقد ساروا على منهج الرشد
وقد جرهم قوم طغاة إلى نجد ... وساعده في نصرة الدين والهدى
وقد نال مجدا أهل نجد ورفعة ... بإظهار دين الله قسرا ودعوة
وقام بهذا الأمر من بعد من مضى ... وقد جاهدوا أعداء دين محمد
إلى أن قال:
مناهم فباؤوا بالخسارة والطرد ... ومجدا بنصر الدين والكسر للضد
فما نال من عاداهمو من ذوي الردي ... ونال ذوو الإسلام عزا ورفعة(23/349)
ص -353- ... بنصر وإسعاف على كل ذي حقد ... فلا زال تأييد الإله يمدهم
ولو ذهبنا نتتبع ما أثنى به عليه، لذهب بنا عن المقصود؛ وأصح الثناء ما اعترف به الأعداء. وقد قال دحلان في رده على أهل هذه الدعوة، مما اعترف به، بأن من خصالهم أمرهم البوادي بإقامة الصلاة، والمحافظة على الجمع والجماعات، ومنعهم من الفواحش الظاهرة، كالزنا، واللواط، وقطع الطريق، فأمنوا الطرقات، وصاروا يدعون الناس إلى التوحيد.
ولو وجد مجالا لأنكر تلك الأعمال الفاضلة، ولكنه اضطر إلى الاعتراف بها، لأنها أشهر من الشمس في رابعة النهار. وقبله من معاصري الشيخ ممن اشتهر عناده، عثمان بن سند البصري، الفيلكاوي، قال في تاريخه: ومن محاسن الوهابية: أنهم أماتوا البدع ومحوها، ومن محاسنهم: أنهم أمنوا البلاد التي ملكوها، وصار كل ما كان تحت حكمهم، من هذه البراري والقفار، يسلكها الرجل وحده على حمار بلا خفر، خصوصا بين الحرمين الشريفين، ومنعوا غزو الأعراب بعضهم على بعض.
وصار العرب على اختلاف قبائلهم، من حضرموت إلى الشام، كأنهم إخوان أولاد رجل واحد، وهذا بسبب قسوتهم في تأديب القاتل، والناهب والسارق، إلى أن عدم(23/350)
ص -354- ... هذا الشر، في زمان ابن سعود؛ وانتقلت أخلاق الأعراب، من التوحش إلى الإنسانية.
وكفى برهانا على شجاعته، وثبات جأشه، وشهامته وإرادته الحديدة، وعزمه البات، وقوة إيمانه، وسائر خصاله الحميدة: إيواؤه للشيخ، وقيامه بنصرته، وقد رأى وعلم ما وراء ذلك من الأخطار، وتألب الملوك والأمراء، وعامة الناس عليه.
ولولا أنه هو الأوحد، فرد زمانه، لما نجح في توطيد دعائم ملكه ونشر سلطته على البلدان، وتوحيد كلمة التوحيد تحت لوائه بين خطوب سود، ونظراء أقوياء، وتكالب من جميع أطراف جزيرة العرب؛ فلهو القائد الباسل، والأوحد الحلاحل، فما قام بنصرة هذا الشيخ، ولا أخذ بساعده، إلا عن اعتقاد راسخ، وإيمان قوي.
ولقد كانوا على حالة تشبه حال مسلمي الصدر الأول في مقاومة المشركين الذين جاهدهم النبي صلى الله عليه وسلم، وفي مقاومة تاركي الصلاة ومانعي الزكاة كالذين قاتلهم أبو بكر رضي الله عنه، وفي مجاهدة البغاة كالذين قاتلهم علي رضي الله عنه، وفي مجادلة المبتدعين كالذين ناضلهم الإمام أحمد رحمه الله.
فأعادوا نشأة الإسلام في الصدر الأول، من ولاية وبراءة، وهجرة وجهاد بالسيف والسنان، وبالحجة(23/351)
ص -355- ... والبرهان؛ فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين، أفضل ما جزى به من سلكوا سبيلهم، وأخذوا بهديهم؛ إنه سميع قريب.
صار هو: الخليفة في نجد، من سنة 1158? إلى 1179? وتتابعت الخلافة في ذريته إلى الآن. جاهدوا في الله حق جهاده؛ حتى أنجح الله لهم المآرب، وحقق لهم ما راموا من المطالب. وأشرقت جزيرة العرب بالتوحيد، وطهرت من الشرك، والبدع والتنديد.
وكانت أعلامهم في غالب البلدان خافقة، وشموس سعدهم في الآفاق شارقة، وألسنتهم بين التوحيد والشرك فارقة، وجياد أبطالهم إلى الجهاد سابقة، حتى محقوا جميع البدع والأهواء، إزالة وتغييرا.
وسطروا آيات الرشد تسطيرا، وحازوا من الفخر أعلى مقام، حيث قاموا من الدين بذروة السنام، وأصبح جندهم على جنود الأعداء منصورا، وأضحى التوحيد مشرقا مستنيرا؛ طهر الله بهم جزيرة العرب من الإشراك تطهيرا.
وشاما إلى البصرى بل الغرب والشرقا ... وكانوا أولي بأس فسل كل من تلقى
وقد ملكوا نجدا وغورا واتهموا ... حنيفية في دينها سلفية
وهو أشهر من أن ينبه على سيرته، قد انصبغت في القلوب مودته، وظهر حسن خليقته، ونطقت الألسن بحسن(23/352)
ص -356- ... طريقته، وسارت الركبان بنشر فضيلته؛ كان في العبادة والزهادة فردا، محافظا على أوراده متأهبا لمعاده.
قاضيه في الدرعية شيخ الإسلام: محمد بن عبد الوهاب، وهو المدرس والمفتي; وأميره على عرقة إبراهيم الهلالي، وعلى منفوحة إبراهيم بن سعيد، والوشم عبد الله بن حمد بن غيهب، وفي الخرج إبراهيم بن عفيصان، وفي ضرمى علي بن سلطان، وفي المحمل ساري بن يحيى.
توفي رحمه الله، وأسكنه النعيم، سنة 1179?، في بلد الدرعية، وضج الناس لفقده، وشيعوه إلى لحده، وعجوا بالدعاء له وحمده.
الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود رحمه الله
هو الخليفة الراشد، والملك الهمام القائد، سلالة الأماجد، الألمعي المهذب، الصارم المجرب، أسد الأسود، مورد الجود، مؤيد السنة، نجل الأكابر، بحر الندى، إمام الهدى: عبد العزيز بن الإمام محمد بن سعود.
ولد سنة 1133?، في بلد الدرعية، وأخذ العلم عن الشيخ محمد وغيره، وشب شجاعا شهما، فاتكا ماجدا، سائقا للجنود وقائدا. اجتمعت له المكارم والفضائل، وزانت به المجالس والمحافل، طلعت بشائر سعوده مشهودة، وفاق عشائره وجدوده.(23/353)
ص -357- ... ولي الملك بعد أبيه فبايعه الناس، ورئيسهم في تلك البيعة شيخ الإسلام. وفتح الله على يديه البلدان والأقطار، وأرعب به ملوك الأمصار؛ وظهر صيته وشاع، وأثنى عليه القريب والبعيد، والتابع والمطاع.
قال الشيخ محمد بن أحمد الحفظي اليمني:
مجدد دين الله بالمرهف الحد ... فيا حبذا التشمير في ذلك القصد
بتلك ارتقى أعلى المراتب والمجد ... وأمواله قطعا يصدق بالوعد
صفوة التوحيد من كدر الضد ... ونزهه عن قول طاغ ومرتد
سلام على من حل نجدا موحدا ... ويدعو إلى التوحيد ذلك قصده
له همة في نصرة الدين والهدى ... وجاهد في ذات الإله بنفسه
إمام الهدى عبد العزيز الذي حما ... وأوضح منهاج الهدى وأبانه
وقال أيضا في أرجوزة له:
عبد العزيز من ومن ومن ... ودوخ البر وخاض للثبج
على طريق العدل والإحسان ... مجاهد بالأربع المراتب
والصدق للقلوب مغناطيس ... وقام فاروق الزمان المؤتمن
فسار في الناس كسيرة الأشج ... يسوس بالآثار والقرآن
يدعو إلى الله بحزب غالب ... ونفسه لله والنفيس
وقال الشيخ أحمد بن عبد القادر الحفظي، بعد ثنائه على الشيخ:
فقام وقاموا واستقاموا بحجة ... بحجة قرآن وضرب المواضيا(23/354)
ص -358- ... هو القائم الفاروق بالعدل قاضيا ... وأجرى إلى برك الغماد العواديا
وفي شن غارات وتجهيز غازيا ... وكل نفيس والأسود الضواريا
وشيبته داع وراع وساعيا ... وجدد توحيدا وقد كان باليا
ورد إلى الدين الحنيفي غاويا ... ولا سيما عبد العزيز فإنه
حما بيضة الإسلام بالبيض والقنا ... وما زال في بعث الجيوش مجاهدا
بنفس وأولاد وأهل وإخوة ... وأنفق في ذات الإله شبابه
وبدد جيش الشرك في كل بلدة ... ودوخ بالتهليل شرقا ومغربا
وقال الشيخ حسن بن محمد بن حسن الحفظي: هو غرة الزمان، وبهجة المكان والأوان، وخدين المعالي والفضائل والإحسان، الداعي إلى توحيد الله الملك الديان، بالصوافن والهواجن، والكتائب والهندوان، وارث السطوات والعدوات، خالفا عن سالف بلا توان، الباذل لله همته وماله ورجاله والفرسان، أمير المؤمنين، وحامي شريعة سيد المرسلين، بالضرب والطعان، حتى بحمد الله ابلولج، وانهار غسق البهتان:
وتظاهرت من فيض فتح الباري ... بسماع تلك لطائف الأخبار
فتسابك المعطار بالعطار ... بشر الهواتف في قرى الأمصار
لله في الإعلان والإسرار ... طلعت بدور النور بالأنوار
وبشائر وافت فطاب سرورنا ... فاحت نفائح مسكها بعواطر
نطقت بنصر إمامنا وتبادرت ... أعنيك يا عبد العزيز المنتدب(23/355)
ص -359- ... باب الإله بحكمة الغفار ... فلقد هزمت عساكر الكفار
فتراهم صرعى بلا مقدار ... الجهبذ النحرير والداعي إلى
هنيت بالظفر المبين على العدىبصوارم الأسياف تلمع بينهم
* * *
وضياعه في سائر الأقطار ... يا ابن الكرام وبضعة الأبرار
في دار أخرانا وهذي الدار ... في حوز دعوتكم بلا إنكار
واستأنست في السهل والأغوار ... ريع والتدريس والتذكار
بدع الجهالة بضيا الأنوار ... والوحش والأنعام والأطيار
فلقد نصرت الشرع بعد مماته ... أضحت بلاد المسلمين جميعهم
وبك الجهات استبشرت وتنورت ... وتدوخت بالأمن والإيمان والتشـ
وتحولت وتغيرت وتبدلت ... واهتزت الغبراء من فرح بكم
وقال الشيخ حسين بن غنام الأحسائي، رحمه الله:
كان الإمام عبد العزيز، رحمه الله، كثير الخوف من الله والذكر له، آمرا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، كثير الرأفة والرحمة بالرعية، شديدا على من جنى جناية أو قطع سبيلا، أو سرق شيئا، ثم قال:
وأبناء أسد بل بأسهم أسطى ... وزال ظلام الشرك من بعد مالطا
وأهل المعالي والفخار بهم ينطى ... لقد رفعت أعلامهم بأميرهم
بهم أسفرت شمس الدجى بعد دجنها ... ذوو العزم والتسديد والعلم والنهى(23/356)
ص -360- ... ويسخون في نيل المزايا بها سفطا ... يذودون عن ورد الدنايا نفوسهم
وقال الشيخ أحمد بن مشرف الأحسائي، رحمه الله بعد ثنائه على الشيخ:
على قلة منهم وعيش منكد ... ولم يثنه صولات باغ ومعتد
إلى حين ووري في الصفيح الملحد ... فما وهنوا للحرب أو للتهدد
وكم طارف حووه ومتلد ... وكم هدموا بنيان شرك مشيد
وإن تسأل السمار عن ذاك ترشد ... بها أيد الرحمن سنة أحمد
فوازره عبد العزيز ورهطه ... فما خاف في الرحمن لومة لائم
وقفى سعود أثره طول عمره ... وقد جاهدوا في الله أعداء دينه
وكم غارة شعواء شنوا على العدى ... وكم سنة أحيوا وكم بدعه نفوا
وقائعهم لا يحصر النظم عدها ... وكم لهم من وقعة شاع صيتها
* * *
ودانت لهم بدو، وسكان أبلد ... وما بين جعلان إلى جنب مزبد
قلوصك من مبدي سهيل إلى الجد ... ذوي الشرك والإفساد كل مطرد
وبالصلوات الخمس للمتعبد ... كما عمرت أيديهمو كل مسجد
وناد به في كل ناد ومشهد ... وأسكنهم روض النعيم المخلد
وكم فتحوا من قرية ومدينة ... وكم ملكوا ما بين ينبع بالقنا
ومن عدن حتى تنيخ بأيلة ... وقد طهروا تلك الديار وطردوا
بأمر بمعروف ونهي عن الردى ... وقد هدموا الأوثان في كل قرية
فكن ذاكرا فوق المنابر فخرهم ... تغمدهم رب العباد برحمة(23/357)
ص -361- ... وقال عبد الجليل:
مطارف أمن شاملات المعالم ... أتاه به من غاب ضاري الضراغم
إلى الخط 1 لا يخشى مكائد غاشم ... وفي العهد تلقى خير واف ملازم
وباني المعالي بالقنا والصوارم ... طوارق شر فهو أمنع عاصم
وأيامه بالخير خير المواسم ... ويبغض ذا الفحشاء رب الجرائم
إمام كسا ظهر البسيطة عدله ... فلو ضاع حلس في الفلا من مسالم
فيرحل من أقصى تهامة راكب ... عزيز جوار لم ينل جاره الردى
حليف التقى والعلم والفضل والندى ... يغار على الإسلام عن أن يصيبه
لياليه بالبر العميم بواسم ... ويحب أخا التقى ويرفع قدره
* * * *
ففاز بكلتا الضرتين البواسم ... بإظهار دين الأبطحي ابن هاشم
لها لجب كالرعد إثر الغمائم ... بأسر وقتل واكتساب الغنائم
ومزق شمل الباطل المتراكم ... وما قد نالوا غير شر الهزائم
ودانوا به من بعد كفر مفاقم ... وطاطأ له رأس الكفور المراغم
لقد عمر الدنيا وآثر غيرها ... حريص على إعلاء أمر إلهنا
ورب جيوش كالسيول يقودها ... فألبس أهل الشرك أثواب ذلة
إلى أن أباد الله كل معاند ... ورد جموع المشركين بغيظهم
فآبوا لدين الله من بعدما أبوا ... وأعلن بالتوحيد كل موحد
__________
1 اسم لأرض القطيف ونواحيه, انظر: صفحة 405 من عنوان المجد في تاريخ نجد.(23/358)
ص -362- ... وشجاعته، وكرمه، وفتوحاته، وسائر محاسنه، أشهر من أن تذكر. وكان كثير الخوف من الله والذكر له، آمرا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، لا تأخذه في الله لومة لائم؛ ينفذ الحق ولو في أهل بيته وعشيرته، لا يتعاظم عظيما إذا ظلم، فيقمعه عن الظلم، وينفذ الحق فيه؛ ولا يتصاغر حقيرا ظلم، فيأخذ له الحق ولو كان بعيد الوطن.
وكان لا يخرج من المسجد بعد صلاة الصبح حتى ترتفع الشمس، ويصلي فيه صلاة الضحى، كثير الرأفة والرحمة بالرعية، خصوصا أهل البلدان بإعطائهم الأموال من الفيء والزكاة، وبثها في فقرائهم، والدعاء لهم، والفحص عن أحوالهم، ويكثر لهم الدعاء في ورده. ويقول: اللهم أبق فيهم كلمة الإخلاص "لا إله إلا الله"، حتى يستقيموا عليها، ولا يحيدوا عنها؛ فاستقاموا عليها ولله الحمد والمنة.
وكانت الأقطار والرعية في زمنه آمنة مطمئنة؛ فكان الشخص يسافر بالأموال العظيمة أي وقت يمنا وشاما، شرقا وغربا، في نجد والحجاز، واليمن، وتهامة. وعمان، وغير ذلك؛ لا يخشى أحدا إلا الله، لا سارقا ولا مكابرا.
وكان رحمه الله، مع رأفته بالرعية، شديدا على من جنى جناية، من الأعراب وغيرهم، أو قطع سبلا، أو(23/359)
ص -363- ... سرق شيئا من مسافر أو غيره، أخذ ماله نكالا أو بعضه أو شيئا، وعزره على حسب جنايته، وأدبه أدبا بليغا. وكانت الحواج والقوافل وجميع أهل الأسفار، يأتون من البصرة وعمان، وبلاد العجم، وغير ذلك، إلى الدرعية، ويرجعون إلى أوطانهم، لا يخشون إلا الله.
وكان أكثر أهل الأقطار يمرون ببلد الدرعية، في مسيرهم إلى الحج. وكانت ضوال الإبل، من وجد منها شيئا أتى بها إلى بلد الدرعية؛ وجعل الإمام عليها رجلا يحفظها، ومن له شيء أتى وأخذه.
وهذا الأمن في هذه المملكة، شيء وضعه الله في قلوب العباد، من البادي والحاضر، مع الرعب العظيم في قلوب من عادى أهلها؛ ولم يكن يوجد هذا إلا في زمن عمر رضي الله عنه.
وكان ما يحمل في زمنه وزمن ابنه سعود، بل وفي زمن فيصل، وإمامنا عبد العزيز، من الفيء، والأخماس، والزكوات، وغير ذلك، من السلاح، والخيل العتاق، والإبل، غير ما يفرق على أهل النواحي والبلدان، وضعفائهم، وضعفاء البوادي، ما يخرج عن الحد، ولا يحصيه العد.
وكانوا يوصون عمالهم بتقوى الله، وأخذ الزكاة على الوجه المشروع، وإعطاء الضعفاء والمساكين، ويزجرونهم(23/360)
ص -364- ... عن الظلم، وأخذ كرائم الأموال؛ وكانوا مع ذلك كثيري العطاء، والصدقات للرعية، والوفود والأمراء، والقضاة وأهل العلم والطلبة، ومعلمي القرآن والمؤذنين وأئمة المساجد.
وكان إذا مات الرجل من جميع نواحي نجد، يأتي أولاده إليهم، فيستخلفونه، فيعطيهم عطاء جزيلا، وربما كتبوا لهم راتبا في الديوان.
وكانوا كثيرا ما يفرقون على أهل النواحي والبلدان، كثيرا من الصدقات في كل وقت، كل سنة يعطى أهل كل بلد، وأهل كل ناحية الوفا; ويسألون عن الضعفاء والأيتام، في الدرعية والرياض وغيرها، ويأمرون بإعطائهم.
وكثيرا ما يكتبون لأهل النواحي، لتعلم القرآن وتعليمه، والعلم وتعليمه، ويجعلون لهم راتبا في الديوان؛ ومن كان منهم ضعيفا، يأمرونهم بالرحلة إلى الدرعية والرياض، ويقومون بجميع ما ينوبه؛ وهكذا كان يفعل أبوه الإمام محمد..
وبالجملة: فمحاسنهم، وفضائلهم، أشهر من أن تذكر، وأكثر من أن تحصر; ولو بسطت القول في وقائعهم، وغزواتهم، وسعوداتهم، وما مدحوا به من الأشعار، ومن قصد أبوابهم، من الرؤساء والعظماء من(23/361)
ص -365- ... أقصى الأقطار، وما حمل إليهم من الأموال، والسلاح، والخيل الجياد، لبلغ أسفارا.
وكان قضاته في الدرعية بعد الشيخ، رحمه الله، بنيه: الشيخ حسين، والشيخ عبد الله، والشيخ علي، والشيخ ابن غريب، وعلى ناحية الوشم: الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الحصين، وعلى ناحية سدير: الشيخ حمد بن راشد العريني، وعلى منيخ وما يليه: الشيخ محمد بن عثمان بن شبانة، وعلى ناحية القصيم: الشيخ عبد العزيز بن سويلم من أهل الدرعية، وعلى ناحية الخرج: الشيخ محمد بن سويلم، وعلى ناحية الجنوب: الشيخ سعيد بن حجي في الحوطة، وغيرهم.
وكان أميره على المحمل ساري بن يحيى بن سويلم، وعلى ناحية الوشم: عبد الله بن حمد بن غيهب، في شقراء، وعلى ناحية سدير: عبد الله بن جلاجل، وعلى ناحية القصيم: حجيلان بن حمد في بريدة.
وعلى جبل شمر: محمد بن فائز، في بلد حائل، وعلى ناحية الخرج: إبراهيم بن عفيصان، وعلى وادي الدواسر: ربيع بن زيد، وعلى الحجاز وما يليه من النواحي: عثمان المضايفي.
وعلى تهامة وما يليها من اليمن: عبد الوهاب أبو(23/362)
ص -366- ... نقطة، وعلى الأحساء ونواحيه: سليمان بن محمد بن ماجد، وعلى القطيف ونواحيه: أحمد بن غانم، وعلى الزبارة والبحرين: سليمان بن خليفة، وعلى عمان صقر بن راشد; وتحت كل أمير عدة أمراء.
توفي رحمه الله وأسكنه رفيع الدرجات سنه 1218?، في العشر الأخير من رجب، طعنه رافضي في أثناء صلاة العصر، من أهل مشهد الحسين؛ فاضطرب أهل المسجد، ثم حمل رحمه الله، إلى قصره وقد غاب ذهنه فلم يلبث أن توفي، وقتل الرافضي، واشتد الأمر بالمسلمين وبهتوا.
وكان ابنه سعود في نخله، فلما بلغه الخبر أقبل واجتمع الناس عنده، ووعظهم وعزاهم وبايعوه، وبعث إليه بالمرائي والتعزيات.
الإمام سعود بن عبد العزيز بن محمد رحمهم الله
هو الملك الشجاع، الهمام الباسل العادل، المؤيد الموفق المسدد، فخر الشجرة الزكية; فاتح الأقطار، مرجف الجنود والأمصار، مبيد الطغاة والبغاة والكفار، مؤمن الحرمين الشريفين.
جامع كلمة المؤمنين، ناشر لواء العدل والإحسان، إمام الهدى بحر الندى، نافي الردى: أبو عبد الله، إمام المسلمين سعود بن الإمام عبد العزيز بن الإمام محمد بن سعود، شب سعيدا، وعاش حميدا، وولي الخلافة رشيدا.(23/363)
ص -367- ... كان في نخله، فلما بلغه وفاة أبيه، رحمه الله تعالى، أقبل واجتمع الناس عنده، وقام فيهم خطيبا، فوعظهم موعظة بليغة، وعزاهم؛ فقام المسلمون فبايعوه، خاصتهم، وعامتهم، وعزوه بأبيه، وكتب إلى أهل النواحي، يعظهم ويخبرهم، ويعزيهم.
ويأمرهم يبايعون أمراءهم له فبايع جميع أهل النواحي والبلدان، وجميع قبائل العربان، ولم يختلف منهم اثنان وبعثوا إليه بالتهاني والثناء، وشاع ذكره في الأقطار، وأرعب منه أهل الأمصار، وفتح على يديه الفتوحات، وشهد له بالخلافة والفضل العلماء والرؤساء.
قال الشيخ: أحمد بن عبد القادر الحفظي:
سعود وفي لطف جلي وخافيا ... فناصحه والصدق أمضى المواضيا
وينصر مظلوما ويقمع عاصيا ... ويأمر بالتوحيد قاص ودانيا
وفعلا فطابت للرعايا المراعيا ... أسانيدها في الخافقين عواليا
تخلف عنه لاكعا والمعاديا ... لأمر رسول الله في المدح كافيا
وإن سعودا من مساعيه دام في ... خليفة صدق ناصح الله جهرة
على محكم التنْزيل يهدي ويهتدي ... وينهى عن الشرك الذي طم بحره
تحقق بالأصلين قولا ونية ... أحاديثه في الهجرتين صحيحة
فحدث عن البحر المحيط وقل لمن ... سياسته شرعية واتباعه(23/364)
ص -368- ... سواه فقد حاز العلا والمعاليا ... فذلك ظل الله في الأرض ساريا
وللحرم المكي إماما وحاميا ... إليه أمور الحج بالقسط وافيا
عطاء حلالا، لا مكوس المجابيا ... وللكعبة البيت المحرم كاسيا
وأصبح شيطان التفرق خاسيا ... ومن حكم المختار في نفسه وفي
ويا سعد من أضحى سعود إمامه ... وأصبح في أكناف طيبة نازلا
وقام بإحياء المناسك وانتهت ... وجيران بيت الله مد عليهم
وطهر بيت الله من كل مشرك ... وصلى الصلاة الخمس جمعا بواحد
وقال الشيخ محمد بن أحمد الحفظي:
يجاهد لم يردعه باد وحاضر ... ويقظتهم هم والندامى السوامر
على صهوات الصافنات يسامر ... وإن الجياد المشبعات ضوامر
وعاد غريبا والغريب يسافر ... وألقى العصا والعسر منه مياسر
وهذا سعود، ذو السعادة ساعيا ... ولم يلهه نوم الملوك استراحة
يبيت يجافي جنبه عن فراشه ... ويعدو على الكمت العناجيج ضامر
يجدد دينا قد بدا في غرابة ... فألفه حتى استقر به النوى
* * *
ودالت على الأمصار منه عساكر ... وقرر توحيدا وقرت نواظر
عراها الأذى وهي الطهور الطواهر ... فجوزي بالحسنى فنعم التجائر
عدول رماح أو سيوف شواهر ... ودانت له الأعراب بعد جفائها
وأقرى وفادا وأقرأ طالبا ... وطهر ساحات المحجة بعدما
فجددها حسنا ونورا ومنهجا ... له ظفر بالحرب قد شهدت به(23/365)
ص -369- ... تجبك البوادي عنهمو والبنادر ... سجايا كرام في الندى لا تناظر
فسل عنه أهل الشط والشام سلهم ... تحاكي سجاياه الكرام وجندا
وقال:
مقدم جيش الحق وارية الزند ... ويعسوبهم في كل معترك يعدي
فحاز فنون الفضل بالجد والحد ... هو البحر في الإحسان والجود والمد
يطوف به العطشان في كل ذي ورد ... على كل ذي جبار وذى عمل مرد
سلامي على الندب الكبير ومن غدا ... سعود كمي للسراة أميرهم
وذلك في التوحيد ليس كغيره ... هو الشمس لكن لا أفول لمجده
هو المورد العذب الذي طاب ورده ... هو الحق والسيف الصقيل مهند
وقال: لما طلب منه إمام صنعاء المتوكل، ليخبره عنه:
العالم العلامة العمال ... من يحمل الأسياف والأسنة
عندهم البعيد كالحميم ... والنصر معقود بتلك الهمة
وهادما مشاعر الأصنام ... ذاك الإمام الفارس المفضال
وعنده من علماء السنة ... من خلق مستحسن كريم
وقد أجابته الجموع الجمة ... معظما شعائر الإسلام
وقال في أرجوزة له بعد ثنائه على والده:
بأمر رب العالمين الوازع ... سعود مخ الراس قلب الهيكل
من فارس والروم والزنجان ... وبعده قام الإمام البارع
وهو الهزبر الضيغم العدل الولي ... كم زع بالقرآن والسلطان(23/366)
ص -370- ... ومصر من صولته مرعود ... دوخها بالقهر والمغازي
قد أصبحت بعدله مطهره ... ومن أبى يطره بالمشرفي
وفي العراقين له رعود ... واليمن الميمون كالحجاز
والحرمين وهي المطهرة ... بالرفق يدعوهم وبالتعطف
* * * *
وشاهد الواقع فيه يكفي ... فريه من أمراء العصر
مجاهدا في يومه وأمسه ... في خارج بيعا بلا إقالة
ليظهر الحق وتعلو الكلمة ... ببيضة الإسلام أن ترضا
في الأرض والعلو والعنادا ... وإنما مطلوبه التوحيد
ولم يكن في نزعه من ضعف ... فلم أر من عبقري يفري
وهكذا من يبتدي بنفسه ... فإنه يطاع لا محاله
ونغمات أمره مترجمة ... وهو الغيور الشهم ليس يرضى
لا يطلب الدنيا ولا الفسادا ... أو مذهبا أو ذهبا يريد
وقال عبد الجليل، بعد أن ذكر إعلانه التوحيد:
وتأييده تاج الملوك القماقم ... وكان له الإقبال خير ملازم
كؤوس الردى حتى اهتدى كل راغم ... وتعلو على هام السهى والنعائم
نهوضا بأعباه بهمة حازم ... بعون إله العرش جل ثناؤه
سعود أدام الله أيام سعده ... إمام الهدى بحر الندى من سقى العدى
أخو همة يستصغر الخطب عندها ... إذا نزل الأمر الفظيع رأيته(23/367)
ص -371- ... بها الله عنا زاح هول العظائم ... فليس له في فضله من مزاحم
تدفق بالدر النفيس لناظم ... إذا أخلفت أيدي السحاب الرواكم
إذا عم أمر المعضلات الكوالم ... أليس محاكي الراسيات بواهم
وإنا لنرجو الله طوع الأعاجم ... له عزمات تنقي الأسد بأسها
إمام حوى مجدا وعز مناقب ... إذا رمت علما فهو في العلم لجة
وإن رمت جودا فهو كالغيث للورى ... ورأي سديد يستضاء بنوره
وحلم رزين لا يجاري ببعضه ... وطاع له عرب القبائل كلها
ولو ذهبنا نذكر فضائله ومحاسنه، وفتوحاته، وما أثني به عليه، لخرج بنا عن المقصود.
وقد قال الشيخ: عثمان بن بشر، في تاريخه: كان ذا رأي باهر وعقل وافر، ثبتا شجاعا، محببا إليه الجهاد في صغره وكبره؛ فأمنت به البلاد، وطابت قلوب العباد، وانتظمت مصالح المسلمين بحسن مساعيه، وانضبطت الحوادث بين مراعيه. فبلغ من الشرف منتهاه، ومن سنام المعالي أعلاه، وكان متيقظا، بعيد الهمة، وذكر شيئا من محاسنه ومآثره، ثم قال: ولو تتبعت فضائله، ونائله، وغزواته وفتوحاته، وما مدح به من الأشعار، من أقاصي الأقطار في حياته، وما رثي به من الشعر بعد وفاته، لم يسعه كتاب كبير.(23/368)
ص -372- ... وقد كان، رحمه الله، شجاعا في الحروب، محببا إليه الجهاد في صغره وكبره، بحيث إنه لم يتخلف في جميع المغازي، والحج، ويغزو معه بجملة من العلماء من أهل الدرعية، وأهل النواحي، ويستخلف في الدرعية أحد بنيه.
وكثيرا ما يستخلف ابنه عبد الله، ويغزو معه بنوه، وإخوته وبنو عمه عبد الله؛ وكل واحد من هؤلاء، معه دولة عظيمة من الخيل والركاب، والخيام والرجال، في الجهاد وبذل الاجتهاد. وفتح أكثر البلاد في أيام أبيه وبعد موته، وأعطي السعادة في مغازيه، ولا يعلم أنه هزم له راية، بل نصر بالرعب الذي ليس له نهاية، وكل أيامه مواسم، ومغازيه مغانم. وقد قذف الله الرعب في قلوب أعدائه؛ فإذا سمعوا بمغزاه ومعداه، هرب كل منهم، وترك أباه وأخاه، وما حواه.
رفع رايات التوحيد، فيما وراء الحرة وعمان، وشيد قصرا على حدود مسقط، ألف قدم فوق البحر، واجتاز إلى حوران والكرك، فوصل إلى أبواب الشام وفلسطين، وأرسل إلى الولاة هناك يدعوهم إلى توحيد الله.
ويأمر جنوده بالصبر في مواطن اللقاء ويزجرهم عن العجب بالكثرة، والزيادة في النفوس، الذي هو سبب الفشل والهزيمة، ويزجرهم عن الغلول.(23/369)
ص -373- ... وإذا صلى الصبح ركب بالمسلمين، وضجوا بالتكبير، وأغاروا؛ فتظلم الأرض والسماء من إثارة النقع؛ فيغيب الذهن في تلك الساعة، ويوقن المسلمون بالنصر. فيوقع الله بأسه فيمن قصدته تلك الجنود؛ فلا يرفع السيف إلا عمن لم يبلغه الحلم، أو امرأة أو شيخ كبير، وتؤخذ جميع الأموال. ثم يرحل عن مغارة القوم، بجميع تلك الغنائم، مع البادي والحاضر، وينْزل قريبا منها على بعض الموارد، فتعزل الأخماس، وتباع الغنائم بدراهم، وتقسم على جميع الغزو، للراجل سهم، وللفارس ثلاثة أسهم، سهم له، وسهمان لفرسه.
وأما جنوده، ومماليكه، وخيله ومدافعه، فلا يحصيها العد، ولا يبلغها الحصر والحد. وكان يرسل لقبض زكاة السائمة من بوادي جزيرة العرب، مما وراء الحرمين، وعمان واليمن، والعراق والشام، وما بين ذلك من بوادي نجد، بضعا وسبعين عاملا، مع كل عامل طائفة. فما تجبيه تلك العوامل، ويجبى إلى الدرعية من أموال البحرين والقطيف، وعمان واليمن، والحجاز وتهامة، وغير ذلك، وزكاة ثمار نجد وعروضها، لا يستطيع أحد عده; وما ينقل من الأخماس والغنائم أضعاف ذلك، وما يدفع للوفود وفقراء البلدان من الصدقات، ألوف مؤلفة.(23/370)
ص -374- ... وكان رحمه الله آمرا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، كثير الحض على ذلك في مجالسه ومراسلاته، ناصرا لأهله، محببا إليه أهل العلم، ويعظهم ويكرمهم، ويجزل عطاياهم، ويلزم أهل البلدان بإكرامهم، وتعظيمهم وتوقيرهم. وإذا أراد إنفاذ أمر، أرسل إلى خواصه من رؤساء البوادي، واستشارهم، ثم يرسل إلى خواصه وأهل الرأي من أهل الدرعية، ثم يرسل إلى أبناء الشيخ وأهل العلم من أهل الدرعية، ومال إلى رأيهم وأظهر لهم رأيه. وفضائله ومحاسنه، ونائله، وغزواته، وفتوحاته، وما مدح به من الأشعار، من أهل نجد والأمصار أشهر من أن تذكر.
وبالجملة: فمحاسن هؤلاء الأمجاد، وفضائلهم، ومحامدهم، ومآثرهم، طبق الأرض. أزال الله بهم عن الناس الجهل، والمحن والظلم والجور والبغي والفتن. كان قضاته على الدرعية بني الشيخ: حسين، وعبد الله، وعلي، وابني ابنيه: عبد الرحمن بن حسين، وعلي بن حسين ابني الشيخ، والشيخ حمد بن ناصر بن معمر، وقاضيه على الرياض الشيخ: عبد الوهاب بن صالح، ثم ابنه محمد.
وقاضيه على الأحساء الشيخ: محمد بن سلطان(23/371)
ص -375- ... العوسجي، ثم الشيخ عبد الرحمن بن نامي، وعلى القطيف الشيخ: محمود الفارسي، وعلى جبل شمر وما يليه الشيخ: عبد الله بن سليمان بن عبيد، وعلى ناحية القصيم الشيخ: غنيم بن سيف، وعلى ناحية الوشم الشيخ: عبد العزيز الحصين، وعلى ناحية سدير الشيخ: علي بن يحيى بن ساعد، وعلى ناحية منيخ الشيخ: عثمان بن عبد الجبار، وعلى حريملاء والمحمل الشيخ: عبد الرحمن بن عبد المحسن أبا حسين، وعلى ناحية الخرج الشيخ: حمد بن راشد العريني، وعلى اليمن الشيخ: حسين بن خالد الشريف، وعلى الطائف وناحية الحجاز الشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، وعلى تهامة الشيخ: أحمد الحفظي؛ وأما مكة فأقر فيها قضاتها، ثم أرسل إليها الشيخ: عبد الرحمن بن حسن، وفي جدة الشيخ: سليمان بن الشيخ عبد الله بن الشيخ; وعلى المدينة الشيخ: حمد إلياس الحنفي، والشيخ أحمد بن رشيد الحنبلي؛ وأما غير ذلك من النواحي، فكان يبعث إليها القاضي نحو سنة، ثم يرجع، ويبعث غيره، وأميره على الرياض: عبد الله بن حسن الفضلي، وأميره على الأحساء إبراهيم بن عفيصان، وعلى القطيف(23/372)
ص -376- ... أحمد بن غانم، وعلى البحرين سليمان بن خليفة، وعلى عمان سلطان بن صقر بن راشد، وعلى الجيوش في عماد: مطلق المطيرى.
وعلى جبل شمر والجوف: محمد بن عبد المحسن بن فائز بن علي، وعلى ناحية القصيم: حجيلان بن حمد، وعلى ناحية سدير حمد بن سالم، ثم عبد الكريم بن معيقل، وعلى ناحية الوشم: محمد بن غيهب، وعلى المحمل ساري بن يحيى، وعلى ناحية الخرج: عبد الله بن عفيصان، وعلى وادي الدواسر: ربيع بن زيد، وعلى بيشة ونواحيها: مسلط بن قطنان، وعلى الطور وتهامة: عبد الوهاب أبو نقطة، ثم طامي بن شعيب، وعلى الطائف والحجاز: عثمان المضائفي، وعلى مكة: غالب بن مساعد الشريف، وعلى المدينة: حسن قلعي، وعلى ينبع: جابر بن جبارة الشريف. توفي رحمه الله وأسكنه جنات النعيم، سنة 1229?، في بلد الدرعية، ورثاه جم غفير من جهابذة العلماء.
الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله تعالى
هو الإمام الحبر الهمام، بدر الأعلام مفتي الأنام، حجة الإسلام قمر الدجى، شمس الضحى، الثقة الثبت، العلم البارع، التقي النقي، الورع الفارس في العلوم، والسيف الصارم المسلول على المبتدعين، والحبر القائم بأمور الدين،(23/373)
ص -377- ... ذو الهمة والشجاعة والإقدام، فائق علماء زمانه، مجتهد زمانه فلك هو قطبه، يزيد عليهم زيادة الشمس على البدر، إذا ذكر المسألة بهت الناس من كثرة محفوظه، وجودة إيراده، وإعطائه كل قول ما يستحقه. يقول الحق الذي أدى إليه اجتهاده، مع ما اشتهر عنه من الورع، وكمال الفكر، وسرعة الإدراك، والخوف من الله، والتعظيم لحرماته. لم ير تحت أديم السماء بعد والده مثله علما وعملا، وحالا ومقالا، وحلما وخلقا، واتباعا وكرما، وقياما في حق الله. هو عالم نجد ومفتيها بعد والده، ولد في بلد الدرعية، وأخذ العلم عن أبيه وخلق. وتفقه في المذاهب، وأدرك في الأصول والفنون أعلاها، وتفنن في علوم الإسلام، حتى بلغ علاها. كان عارفا بالتفسير لا يجارى، وبأصول الدين وإليه فيها المنتهى، وبالحديث ومعانيه وفقهه، ودقائق الاستنباط منه، لا يلحق في ذلك، وبالفقه وأصوله، وبالعربية.
وبالجملة له اليد الطولى في كل فن من فنون العلم; له المصنفات المشهورة المقبولة، والفتاوى القاطعة غير المعلومة، والرسائل والنصائح السامقة المبرورة; منها:
1- الرد على الزيدية أسماه "جواب أهل السنة في نقض كلام الشيعة والزيدية" مجلد.(23/374)
ص -378- ... 2- مختصر السيرة "مجلدان"، وله مشاركة في كتاب التوضيح.
3- الفصول النافعة في المكفرات الواقعه.
4- منسك في الحج.
5- رسائل وفتاوى تبلغ مجلدا، فرقناها في مواضعها على حسب الترتيب. وله مجالسة في التدريس مشهورة، بإحياء علوم أصول الدين معمورة، يأتي إليه العلماء من الأمصار، والسؤالات من جميع النواحي، والأقطار؛ فيفهم أحسن إفهام، ويجيب أصوب إيقاع بإيجاز، وانتظام. أثنت عليه أهل نجد بأسرها، وأهل الخبرة في برها وبحرها.
قال الشيخ: حسين بن غنام يثني عليه، وعلى إخوانه علماء الدرعية:
وما ثبطوا عن نشر أحكامهم ثبطا ... وعلما وتحديثا بذا تسمع اللغطا
وتنكيل من قارف الذنب والسخطا ... وتوبيخ من عنها تخلف أو أبطا
مدارسهم معمورة بعلومهم ... فلست ترى إلا مفيدا وهاديا
وأمرا بمعروف وتنكير منكر ... وحثا على فعل الصلاة جماعة
وقال الشيخ أحمد بن علي بن مشرف، بعد ثنائه على الشيح:
محجته المثلى وفي نصرها جدوا ... فكم قد أفادوا من يروح ومن يغدو
وكم شبهة جلوا وأبوابها سدوا ... وأبناؤه الغر الكرام قد اقتفوا
فكانوا إلى التوحيد يدعون دأبهم ... وكم سنة أحيوا وكم بدعة نفوا(23/375)
ص -379- ... وقال الشيخ: أحمد بن عبد القادر الحفظي:
على حلقات الذكر حق إلهيا ... لهم طالما عفت عليها العوافيا
على الأرض والشرك المحرم خازيا ... وأحمد خريت الطريق وهاديا
عليهم من المولى السلام يوافيا ... عليها خصوصا تابعا وصحابيا
وحف بآل الشيخ أعلام مكة ... مدارس في التوحيد تصنيف والد
فأصبح توحيد العبادات ظاهرا ... أئمة حق والنصوص طريقهم
على مذهب الحبر الإمام ابن حنبل ... عقائدهم سنية أجمع الملا
أخذ عنه العلم الخلق الكثير، والجم الغفير، الجهابذة النبلاء، منهم بنوه: الشيخ سليمان، وعلي وعبد الرحمن، والشيخ عبد الرحمن بن حسن، والشيخ عبد اللطيف، والشيخ حسن بن حسين، والشيخ عبد الرحمن بن حسين، وحمد وعلي ابنا الشيخ حسين بن الشيخ، والشيخ محمد بن سلطان، والشيخ محمد بن عبد العزيز، والشيخ أحمد الوهيبي، وعبد الله الوهيبي، والشيخ عبد العزيز بن معمر، والشيخ سعيد بن حجي، والشيخ جمعان، ومسفر بن عبد الرحمن، والشيخ أبا بطين، والشيخ محمد بن مقرن، والشيخ عثمان بن عبد الجبار، والشيخ إبراهيم بن سيف، وغيرهم.
كان رحمه الله ذا عبادة وتهجد، وطول قيام، ولهج بالذكر، وشغف بالمحبة والإنابة، والافتقار إلى الله،(23/376)
ص -380- ... والانكسار، والانطراح بين يديه، على عتبة عبوديته؛ لم ير في معناه مثله. نقل إلى مصر سنة 1233 ه، وتوفي فيها سنة 1242?، ورحمه الله وعفا عنه، وأسكنه الفردوس الأعلى.
الشيخ حسين بن الشيخ محمد رحمهما الله
هو العالم الفاضل، مفيد الطالبين، قامع المشبهين، الشيخ القدوة: حسين بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهما الله تعالى. كانت له المعرفة في الأصول والفروع، والتفسير وغيره. انتفع الناس بعلمه. وله همة وشجاعة، وشهامة مشهورة، وسمعة دائرة في السنن والأقوال، وكمال فكر وتصور من ربه، وزهد وعبادة، وتعظيم لحرمات الله.
أخذ العلم عن أبيه الشيخ محمد وغيره، وكان متواضعا عند الخاصة والعامة، ذا أناة وحلم ووقار، مجالسه عامرة بالفقهاء والمحدثين، وأهل الخير، كثير الإفادة، فضائله مشهورة، وأوقاته، بالخير والنفع معمورة. قال الشيخ محمد بن أحمد الحفظي يذكر فضله وإخوته:
أئمة دين الحق موضحة الرشد ... كذاك عبد الله واسطة العقد
فبان لنا وجه الصواب بلا رد ... وكل غلو أو فساد لذي حقد
سلام على الأحباب من كل جهبذ ... حسين وإبراهيم نجلي محمد
وقد وضحوا في ديننا كل مشكل ... وقد هدموا في الدين كل ضلالة(23/377)
ص -381- ... بهم يهتدي من حار في الغور أو نجد ... وهم في ظلام الجهل أشرف أنجم
وهو أشهر من أن يذكر، له فتاوي. وكان هو القاضي في بلد الدرعية بعد والده، والإمام في الجمعة في مسجد الجامع، مسجد الطريف الكبير في الدرعية، الذي تحت قصر آل سعود في المنازل الغربية، وإماما في مسجد البجيري. وله مجالس في التدريس، أخذ عنه العلم جماعة من العلماء، من القضاة وغيرهم.
منهم أبناؤه: الشيخ علي، والشيخ حسين وابنه عبد الرحمن، والشيخ سليمان بن عبد الله، والشيخ عبد الرحمن بن حسن وابنه، وعلي بن عبد الله، والشيخ عبد العزيز بن حمد بن ناصر، والشيخ أحمد الوهيبي، والشيخ سعيد بن حجي، وخلق ممن تأهل وغيرهم. توفي رحمه الله وأسكنه الفردوس الأعلى سنة 1224?، في ربيع الآخر، في بلد الدرعية؛ وبكته تلك المجالس وسائر الرعية، ورثاه بعض معاصريه، فرحمه الله وعفا عنه.
الشيخ إبراهيم بن الشيخ محمد، رحمهما الله تعالى
هو الثقة العابد الورع، حسنة الأيام، فخر الأنام، لم ير أزهد ولا أورع، ولا أعبد منه، متواضعا لينا كيسا، حسن الأخلاق، كأن النور يخرج من وجهه، كثير العبادة، كثير الزهادة، أخذ العلم عن أبيه وغيره.(23/378)
ص -382- ... أدرك حظا من العلوم وأفاد، وانتفع به فئام من العباد، له مشاركة كثيرة في رسائل وأجوبة، ولم أقف له على وفاة ولكنه موجود سنه 1251?، فى مصر، وتوفي فيها رحمه الله تعالى وعفا عنه.
الشيخ علي بن الشيخ محمد رحمهما الله تعالى
هو الإمام العالم العلامة، الثقة الثبت الزاهد الورع، كان شهما هماما، فقيها صدوقا، حسن الطريقة، كيسا متواضعا، مع غزارة العلم، عذب العبارة، مكرما للطلبة.
أخذ العلم عن أبية وغيره، ورزق علما وفهما، حتى صار يتكلم في المسائل مع الفقهاء. وله مجالس مشهورة، وأياد مذكورة، وأخلاق حسنة مشكورة، وأجوبة ونصائح، قال محمد الحفظي بعد ثنائه على الشيخ محمد: أولاده مشائخ التحقيق، وسدرة في منتهى الطريق. توفي رحمه الله وعفا عنه بمصر.
الشيخ حمد بن معمر، رحمه الله تعالى
هو الإمام العالم العلامة، الحبر البحر الفهامة، المحقق المجتهد، الحافظ المتقن الورع، الفارس في العلوم، والسيف الصارم المسلول، قامع المشبهين، بقية السلف، قدوة الخلف.(23/379)
ص -383- ... الشيخ الجليل: حمد بن ناصر بن عثمان بن معمر
كان فقيها محدثا، زاهدا عابدا كثير الخير، له قدم راسخ في الفتوى، ذا جلالة ومهابة، وذكاء وكيس، ومروءة، نبيها شهما حسن السمت، حسن الخلق.
آخذ العلم عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، والشيخ سليمان بن عبد الوهاب، وأخذ العربية عن الشيخ حسين بن غنام وغيرهم.
بلغ في العلوم العقلية والنقلية مبلغا، له اليد الطولى في الأصول، والفروع، والحديث واللغة العربية وغيرها، قليل المثل في الديانة والعبادة. جمع أنواع المحاسن والمعالي، قرن بين خلتي العلم والحلم، والحسب والنسب، والعقل والفضل، والتدريس والتصنيف، والفتاوي والنصائح.
أوحد العصر في أنواع الفضائل، مجالسه بالعلم معمورة، وبالفقهاء مشحونة، وأوقاته بالخير مقرونة، وأخلاقه بالزكاء مشهورة. أخذ عنه العلم ابنه الشيخ عبد العزيز، والشيخ عبد الرحمن بن حسن، والشيخ عبد الله أبا بطين، والشيخ سليمان بن عبد الله، والشيخ علي بن الحسن اليماني، وخلق.
وله رسائل وأجوبة تبلغ مجلدا، فرقناها في مواضعها على حسب الترتيب. وكان قاضيا في الدرعية وغيرها؛(23/380)
ص -384- ... وأرسله الإمام سعود قاضيا ومعلما في مكة المكرمة، وأقام فيها مدة، وتوفي فيها رحمه الله تعالى، وأسكنة الفردوس الأعلى، سنة 1225?، في العشر الأخير من ذي الحجة. وصلى عليه المسلمون تحت الكعبة المشرفة، ثم خرجوا به إلى البياضية، وخرج الإمام سعود، وصلى عليه عدد كثير من المسلمين، ودفن بمكة، فرحمه الله وعفا عنه.
الشيخ سليمان بن عبد الله بن الشيخ، رحمه الله
هو: الحافظ المحدث الفقيه المجتهد، الثقة أوحد الحفاظ، تاج عصره جمال الزمان، الشيخ: سليمان بن الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ولد سنة 1200 هـ.
كان آية في العلم والحلم، والحفظ والذكاء، له المعرفة التامة في الحديث ورجاله، وصحيحه وحسنه وضعيفه، والفقه والتفسير والنحو. وكان في معرفة رجال الحديث يسامي أكابر الحفاظ، وضرب به المثل في زمنه بالذكاء، وكان حسن الخط، ليس في زمنه من يكتب بالقلم مثله.
أخذ العلم عن أبيه، والشيخ حمد بن معمر، وعن عميه الشيخ حسين، والشيخ علي، والشيخ حسين بن(23/381)
ص -385- ... غنام، والشيخ عبد الله بن فاضل، والشيخ عبد الرحمن بن خميس، والشيخ عبد الله الغريب، وأجازه الشيخ: محمد بن علي الشوكاني.
برع في الفنون، كانت له اليد الطولى في الحديث ورجاله؛ يروى عنه أنه كان يقول: أنا برجال الحديث أعرف مني برجال الدرعية. لم ير شخص حصل له من الكمال والعلوم، والصفات الحميدة، التي لم يحصل بها الكمال لسواه، على صغر سنه.
صنف شرح كتاب التوحيد لجده، فمن بعده عيال عليه؛ ولكنه لم يكمله، وله حاشية على شرحه، والدلائل في حكم موالاة أهل الإشراك، كان طلبة العلم يحفظونها عن ظهر قلب، ورسالة في عدد الجمعة لم ينسج على منوالها، وأجوبة فرقناها على حسب الترتيب، ومن وقف على كلامه، شهد له بالشهامة والجودة، والذكاء والحفظ، وحسن الفهم.
أخذ عنه العلم عدد كثير من أهل الدرعية وغيرهم، منهم الشيخ محمد بن سلطان وغيره. وكان رحمه الله آمرا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، لا تأخذه في الله لومة لائم؛ فلا يتعاظم رئيسا في الأمر والنهي، ولا يتصاغر ضعيفا أتى إليه يطلب فائدة.(23/382)
ص -386- ... اخترته المنية في عنفوان شبابه، بكت عليه العيون بأسرها، فيا له من خطب ما أعظمه! وعاجل أجل ما أوجعه! ومصاب ما أكبره وأهوله! نمي به رحمه الله عند إبراهيم باشا فقتله، أكرمه الله بالشهادة، سنة 1233?، رحمه الله وأسكنه الفردوس الأعلى.
الإمام عبد الله بن سعود رحمهما الله
هو الإمام الهمام، فرع شجرة الفخار، سلالة الأطهار: عبد الله بن سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود، رحمهم الله تعالى. كان ذا سيرة حسنة، مقيما للشرائع، آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر، كثير الصمت حسن السمت، باذلا العطاء، صالح التدابير في مغازيه، شجاعا فى مواطن اللقاء، ثبتا في مصابرة الأعداء، وكانت سيرته في مغازيه، وفي الدرعية، وترتيب الدروس، وقضاء حوائج المسلمين، وغير ذلك على سيرة آبائه. وكان قضاته ومدرسوه على الدرعية: الشيخ عبد الله بن الشيخ، وابنه الشيخ سليمان، والشيخ علي بن حسين، والشيخ عبد الرحمن بن حسن، والشيخ عبد الله الوهيبي، وعلى الأحساء ونواحيه: الشيخ عبد الرحمن بن ناصي، وعلى عمان: الشيخ على بن حمد العريني.
وعلى الحوطة والحريق: رشيد السردي، وعلى ناحية سدير: الشيخ إبراهيم بن سيف، وعلى منيخ: الشيخ(23/383)
ص -387- ... عثمان بن عبد الجبار، وعلى الوشم: عبد العزيز الحصين، وعلى حريملاء والمحمل: الشيخ محمد بن مقرن، وعلى ناحية القصيم: عبد العزيز بن سويلم، وعلى جبل شمر: الشيخ عبد الله بن عبيد.
وكان أميره على ناحية الأحساء: فهد بن سليمان بن عفيصان، وعلى القطيف: إبراهيم بن غانم، وعلى عمان: حسن بن رحمة، وأمير الجيش في عمان: بتال المطيري، وعلى وادي الدواسر: قاعد بن ربيع، وعلى الوشم: حمد بن يحيى بن غيهب، وعلى الخرج: عبد الله بن سليمان بن عفيصان، وعلى بلدان المحمل: ساري بن يحيى، وعلى سدير ومنيخ: عبد الله بن معيقل، ثم إبراهيم أبا الغنيم، وعلى ناحية القصيم: حجيلان بن حمد، وعلى جبل شمر: محمد بن عبد المحسن بن علي. وباقي النواحي عليها قضاة أبيه وأمراؤه الذين تقدم ذكرهم. نقل سنة 1233?، إلى مصر، ثم إلى قسطنطينية، وقتل هناك، رحمه الله وعفا عنه.
الشيخ عبد العزيز الحصين، رحمه الله تعالى
هو الإمام العلامة، الفقيه الزاهد الورع، الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن إبراهيم الحصين الناصري الحنبلي، رحمه الله تعالى. كان عالما عاملا زاهدا ورعا، حليما(23/384)
ص -388- ... فاضلا، مهيبا فقيها; وجعل الله في علمه البركة للناس وانتفع به أناس كثير من أهل النواحي.
أخذ الفقه في صغره عن الشيخ: إبراهيم بن محمد بن إسماعيل. ثم أخذ العلم عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وابنه الشيخ عبد الله، والشيخ حسين، والشيخ حمد بن ناصر بن معمر، وخلق غيرهم.
له مجالس في التدريس مشهورة، وأوقاته بالعبادة معمورة، وله رسالة في معنى التوحيد، وفتاوي.
ولي القضاء في الوشم، في ولاية الإمام عبد العزيز بن محمد، وأول ولاية الإمام سعود.
وأخذ عنه عدة من العلماء، منهم: الشيخ عبد الله أبا بطين، والشيخ إبراهيم بن سيف، والشيخ غنيم بن مسفر والشيخ عبد الله بن سيف، والشيخ محمد بن عبد الله الحصين، والشيخ علي بن يحيى بن مساعد، والشيخ عبد الله بن سليمان بن عبيد، والشيخ محمد بن سيف، والشيخ إبراهيم بن حجي، والشيخ عثمان بن عبد المحسن أبا حسين، والشيخ محمد بن نشوان، والشيخ عبد الله القضيبي، والشيح عبد الكريم بن معيقل، وغيرهم ممن لم يل القضاء الجم الغفير.
توفي رحمه الله تعالى، في 13 من رجب، سنة 1237هـ.(23/385)
ص -389- ... الشيخ عبد العزيز بن معمر رحمه الله تعالى
هو الإمام العالم العلامة، الحبر الفهامة، المجتهد المتقن، بحر العلوم، الشيخ: عبد العزيز بن الشيخ حمد بن ناصر بن عثمان بن معمر. ولد في بلد الدرعية، وأخذ العلم عن أبيه، والشيخ عبد الله، والشيخ علي ابني الشيخ، والشيخ حسين بن غنام، والشيخ أحمد بن رشيد الحنبلي، وغيرهم. وبرع في جميع الفنون؛ فكان أديبا محققا مدققا، فائقا في الأصول والفروع، شهما هماما، يتوقد ذكاء، زاهدا ورعا، آمرا بالمعروف، ناهيا عن المنكر.
اختصر النظم المعروف لابن عبد القوي، وله كتاب فتح القريب المجيب في الرد على عباد الصليب في مجلد، وله أجوبة ورسائل، توفي رحمه الله في البحرين سنة 1244?، ورثاه الشيخ أحمد بن علي بن مشرف فقال:
أم النجم أمسى لونه وهو حائل ... أم العلم قد أوهت بناه الزلازل
لدن غيبت حبر الزمان الجنادل ... فكم نصر الإسلام منه رسائل
فأنجمها تبكي عليه أوافل ... وتندبه للمشكلات مسائل
وكانت له فيها تشد الرواحل ... أشمس الهدى غابت أم البدر آفل
أم الدين هد الخطب جانب طوده ... نعم أفلت شمس العلوم وبدرها
إمام الهدى عبد العزيز بن ناصر ... رثته علوم الدين أن غاب نجمه
وظلت ربوع العلم تهتف باسمه ... فمن بعده للمعضلات وحلها(23/386)
ص -390- ... ومن للهدى يحمي وعنه يناضل ... وكلم فمن ذا بالعلاج يحاول
إذا نزلت بالمسلمين النوازل ... وكل لنيل المعالي رسائل
سوى أنه للبحر يوجد ساحل ... جواب من التحقيق شاف ونائل
وعاش زمانا ذكره فيه خامل ... وهذا زمان تسمو منه الأسافل
ومن للعدا يرمي بشهب علومه ... لقد صار في الإسلام ثلم بموته
وقد كان للإسلام حصنا ومفزعا ... فأصبح مقصودا لمن طلب الهدى
هوا البحر إن رمت العلوم وبحثها ... إذا ما أتاه السائلون عنده
وقد جهل الأقوام مقدار فضله ... فلا عجب فالكنْز يجهل غالبا
* * * *
إلا أنه بالجزم للحق نائل ... بأحرف علم هن فيه عوامل
إلى كل خير فهو بالعلم عامل ... كما يستحق الرفع في النحو فاعل
وليس له في عقله من يعادل ... وما طال من شيء فما فيه طائل
لقد جد في علم الشريعة ناصبا ... وقد كان مخفوض الجناح تواضعا
أضيف إليه العلم النفيس فجره ... وفعل المعالي أوجبت رفع قدره
ولكنه في الفضل ما عنه نائب ... فحسبك من حسن الثنا ما ذكرته
* * * *
لدن فقدت عبد العزيز المحافل ... وعم الرضى من غيبته الجنادل
فحكم المنايا للبرية عادل ... لقد فقد العلم العزيز ونشره
سقى روحه الرحمن هطال رحمة ... فأوصيك بالصبر الجميل وبالرضى(23/387)
ص -391- ... لعاش الهداة الأكرمون الأفاضل ... وخطب عميم للبرية شامل
فلو كان سهم الموت يخطئ واحدا ... لكنه حكم من الله نافذ
الإمام تركي بن عبد الله، رحمهما الله تعالى
هو الإمام الشجاع، الفارس المجيد، والشهم اللوذعي الوحيد، لا يماثل في الشجاعة والبراعة، ولا نظير له في الحلم والعفو والأناة، الخليفة حقا، الشجاع صدقا، بل أوحد الشجعان: تركي بن الأمير عبد الله بن الإمام محمد بن سعود.
افتتح قرى نجد، واستولى عليها حربا وصلحا، بعد أن كان بعضهم يضرب رقاب بعض، ورفضوا أكثر شعائر الإسلام؛ فجاهد حق الجهاد، حتى دانت له البلاد والعباد، وصاروا كلهم جماعة، وبايعوه على السمع والطاعة. كان ذا رأي وفطنة وبراعة، وله من الشهامة والشجاعة ما ليس لغيره من الملوك، بل له الحظ الأوفر، خصوصا الشجاعة والديانة؛ حتى إنه لا يقاس به في زمانه قرين، مع تواضع للأرامل واليتامى والمساكين، في هيبة جعلها الله عليه، ومحبة في القلوب معروفة إليه. وأعاد الله به أبهة هذا الملك، فعمر أبنية المجد والكرم، ورفع شرف آبائه وأعمامه.(23/388)
ص -392- ... قال الشيخ عثمان بن بشر: هو الإمام الشهير الفارس، المجيد الذي لا يماثله أحد في الشجاعة والبراعة، ولا يعرف له نظير في العفو والحلم والأناة. وقال: كان شجاعا مقداما، مجاهدا في سبيل الله.
أطفأ الله به نار الفتنة بعد اشتعال ضرامها، وتعذرت بين البلدان الأسفار، فحاصر البلدان وقاتل العربان; ودعاهم إلى الجماعة، والسمع والطاعة؛حتى ضرب الإسلام بجرانه، وسكنت الأمة في أمنه وأمانه.
قدمت الوفود إليه من البلدان والعربان، وأكرمهم وأحسن جوائزهم، وكان يخرج كل خميس واثنين لحضور الدرس، واجتماع المسلمين. وكان الجالس المعلم في ذلك الدرس، الشيخ: عبد الرحمن بن حسن؛ وكان آمرا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، ويرسل النصائح إلى البلدان، ويحضهم على القيام بشرائع الإسلام.
وبالجملة: فمناقبه ومكارمه مأثورة، وفضائله ووقائعه مشهورة، ولو تتبعنا ما مدح به من الشعر والنثر، لطال غاية، وفيما نبهنا عليه كفاية.
وكان قاضيه على الرياض: الشيخ عبد الرحمن بن حسن، والشيخ علي وحسن ابنا الشيخ حسين، وعلى الحوطة: الشيخ سعد العجيري، ثم الشيخ علي بن حسين، ثم الشيخ عبد الملك بن حسين; وعلى ناحية الخرج:(23/389)
ص -393- ... الشيخ: عبد الرحمن بن حسين، وعلى وادي الدواسر: الشيخ جمعان بن ناصر، وعلى المحمل ونواحيه: الشيخ محمد بن مقرن، وعلى الأحساء ونواحيه: الشيخ عبد الله الوهيبي، وعلى سدير: الشيخ عبد الله بن عبيد، ثم الشيخ عبد الرحمن الثميري، وعلى منيخ والغاط والزلفي: الشيخ عثمان بن عبد الجبار، ثم ابنه الشيخ عبد العزيز، وعلى ناحية الوشم: عبد الله أبا بطين، وعلى القطيف: محمود الفارسي، وعلى القصيم: الشيخ قرناس. وكان يبعث إلى جبل شمر وعمان والقطيف وغيرها قضاة من عنده ثم يرجعون ويرسل غيرهم كل سنة.
وكان أميره على الأحساء ونواحيه: عمر بن محمد بن عفيصان، وعلى القطيف ونواحيه: عبد الله بن غانم، وعلى وادي الدواسر: عبد الله بن إبراهيم الحصين، ثم محمد بن عبد الله بن جلاجل، وعلى ناحية سدير: محمد بن الأمير، ثم محمد بن عبدان، وعلى ناحية الخرج وما يليه: علي بن محمد بن عفيصان، وعلى المحمل وبلدانه: يحيى بن ساري، وعلى الوشم: حمد بن يحيى بن غيهب، ثم محمد بن عبد الكريم البواردي، وعلى بلد بريدة: عبد العزيز بن محمد بن حسن; وعلى بلد عنيزة: يحيى بن سليمان بن زامل، ثم محمد بن ناهض، وعلى(23/390)
ص -394- ... جبل شمر: صالح بن عبد المحسن بن علي.
قتل رحمه الله وعفا عنه، سنة 1249?، يوم الجمعة آخر ذي الحجة، بعد صلاة العصر، وذلك أن مشاري بن عبد الرحمن، قدم عليه فأكرمه، وزاد في إكرامه، واستعمله أميرا على منفوحة؛ ثم وشى به عند خاله تركي، فعزله عن الإمارة، فعزم على إثارة الفتنة، بمساعدة أسافل من الخدام والأراذل. فاعترض الإمام تركي رحمه الله، خادم لهم فقتله. فإذا مشاري قد خرج من المسجد، فشهر سيفه وتهدد الناسك وتوعدهم، وشهر أناس، سيوفهم معه، فبهت الناس وعلموا أن الأمر قد تشوور فيه، وقضي بليل. ثم جلس للمبايعة، وأرسل إلى آل الشيخ فبايعوه، وبايعه الناس، ولكن البغي مصرعة الرجال: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} [سورة الإسراء آية: 33] ثم بلغ الأمير فيصل الخبر وهو في القطيف، فرحل قافلا، فلما قدم الأحساء فشا ذلك في الناس، وكان مع الأمير فيصل رؤساء المسلمين، من الأمراء والأعمار. فأرسل إليهم وأخبرهم بالأمر، وأبدى لهم أنه لا بد أن يأخذ بالثأر، ويضرم عليهم نار الحرب، لا يقر له عن ذلك قرار.
وذاكرهم وذكرهم، فقاموا كلهم وبايعوه، ثم رحل(23/391)
ص -395- ... وساعدته الأقدار، حتى قتل مشاري وسط القصر، والقصاص يكفر الله به عن الجاني، فلم يلبث مشاري بعد قتل الإمام تركي إلا أربعين يوما، وقتل ليلة الخميس من صفر، سنة 1250?.
الإمام فيصل بن تركي رحمهما الله تعالى
هو الخليفة العادل، الزاهد العابد، فخر الإسلام والمسلمين، ناصر شريعة سيد المرسلين، محيي العدل في العالمين، نصرة المظلومين، قامع المعتدين والمسرفين، منبع الكرم والإحسان، مؤيد السنة والقرآن، الذاب عن حوزة الدين، القائم في مصالح المسلمين، الملتجئ إلى الله، المستضاء بداره، المطروق مورد فنائه، المصدوق في مورد ثنائه، المحقوق من كل ولي بولائه، نجل السادة الغر، القادة الزهر.
أبو عبد الله الإمام فيصل بن الإمام تركي بن الأمير عبد الله بن الإمام محمد بن سعود،
ولد سنة 1213?، وطلعت بشائر سعوده، وهو ملتف في مهوده، فحاز مفاخر الأوائل والأواخر، وصلحت منه البواطن والظواهر، واجتمعت فيه المكارم، والفضائل، وزانت به المجالس والمحافل، واقتحم عظائم لم يقتحمها عشائره، وجدوده. وجيش الجيوش برا وبحرا، وأخذ الممالك طوعا وقهرا، وتوفرت بحسن سيرته مصالح المسلمين، وجمع في(23/392)
ص -396- ... سياسته بين الشدة واللين. سياسة تعجز عنها الملوك وأعوانها، وصلحت بها الممالك وسكانها، لم يكن سفاكا للدم الحرام، ولا غاصبا للمال الحرام من أيدي الأنام، معرضا عن جميع الحطام، مستغيثا بربه في دياجي الظلام له من السيرة المحمودة وتقديم الشرع، وترك الظلم والجور، وإقامة العدل، الحظ الأوفى.
عفيف، شريف النفس، للفضل عارف، حليم كريم، سالم القلب منصف، استبشرت الأرض بطلعته، وأمنت الطيور فى حوزته، وحفت الملائكة برياض جنته; وسوت بولايته الأوطان والأوطار، وأنفذ الله به أمره ونهيه في الأقطار.
ولي الخلافة بعد مقتل مشاري، وقارنه العز والتمكين، وجلس على سرير الملك والشرف، وأعلن بالحمد والشكر واعترف. وأطلع الله شمس سعادته مشرقة الأنوار، ولبست الدنيا ملابس الافتخار. أخذ الولاية لا عن كلالة، وأتاه الملك مستبشرا يجر أذياله، فلم يكن يصلح إلا له.
إليه تجر أذيالها ... ولم يك يصلح إلا لها
لزلزلت الأرض زلزالها ... لا زال ظلا دائما ممدودا
أتته الإمامة منقادة ... فلم تك تصلح إلا له
ولو رامها أحد غيره ... ورث الإمامة كابرا عن كابر(23/393)
ص -397- ... فرحا به وتأودت تأويدا ... فكأنهن جعلن له مهودا
تعب الجلاد وكم تشق جلودا ... أعني بها التكبير والتحميدا
هزت بمظهره الولاية عطفها ... ملك رقى المعالي وهو مرعرع
ملك براحته الصوارم تشتكي ... ملك له عند الكفاح علامة
أثنت عليه الأقاليم والأمصار، وفرح به الإسلام واستنار، وشاع صيته وطار في الأقطار، وأثنت عليه جهابذة العلماء، في المحافل والأسطار، وما أحسن ما قيل فيه:
وبالعز والعدل العميم وبالرشد ... عراه وقام الحق في شده العضد
معاهدها مأهولة في حمى صهد ... بهدي ابن تركي ذا الأعاريب تشهد
قرير سرير القلب والعيش في رغد ... وبالرأي إدراك الفتى قبل ذي جد
ويرتاض من أعمالها كل مشتد ... ففي الحرب يسطو سطوة الأسد الوردي
وأخلاقه الأزهار مطلولة البرد ... إذا بخلت أيدي الكرام عن الرفد
إمام أتانا بالمسرة والهنا ... به شد أزر الدين واستوثقت به
وعادت قضايا الشرع مخضرة الربى ... هو النوربين الرشد والغي فيصل
به الجار من كل الحوادث آمن ... بآرائه سود الفوادح تنجلي
أخو همة تدنى له كل شاسع ... يهاب ويرجى حاربا ومسالما
وفي السلم برأي يحيى مهذب ... له راحة في الجود تغني عن الحيا(23/394)
ص -398- ... وقال الشيخ أحمد بن مشرف الأحسائي:
لدن جمعتنا بالإمام المسدد ... مناقبه فوق الثريا وفرقد
من الحسب السامي إلى خير محتد ... بنوا في المعالي كل فخر وسؤدد
يقصر عن إدراكها كل سيد ... ومردي العدى بالمشرفي المهند
وأمنها من كل باغ ومعتد ... وغيث اليتامى والفقير المضهد
ببذل العطايا هاطل كفه ندي ... بكل نفيس من لجين وعسجد
ليالي المنى جادت علينا بالسعد ... حليف المعاني فيصل من سمت به
تفرع عن روح المكارم وانتمى ... كريم السجايا ماجد من أماجد
ولكنه أضحى بأعلى أرومة ... إمام الهدى جالي الصدى منهل الندى
حمى أرض نجد بالصوارم والقنا ... هو البطل المقدام كالليث في الوغى
رفيق شفيق بالورى متواضع ... له نفس حر تشتري المجد والثنا
وقال:
فقد زانت الدنيا بوجهك والعصر ... لئن لبست نجد بملكك مفخرا
وقال:
فمن مثله في الفضل والبأس والندى ... حليف العلا من كان في الفضل أوحدا
له بسطتا فضل وفصل على العدى ... وآباؤه الغر الكرام أولو الهدى
من السنة الغراء ما قد تأودا ... إذا ريم خسفا وجهه يتربدا
أخو همة في شامخ العز قد علت ... أبو المجد وابن المجد والمجد أصله
إمام همام باسل باذخ العلا ... فأكرم به فرعا سلالة مقرن
لقد نصروا دين الإله وقوموا ... هو الأسد الضرغام والضيغم الذي(23/395)
ص -399- ... بوطأته الأعدا ومن كان ملحدا ... لقد أمن الله البلاد وأهلها
وقال:
من آلة للحرب أو متمول ... جعل الخلافة في الإمام الأعدل
كل النفوس على إمامة فيصل ... لا تحسب الملك القصور وما حوت
بل مالك الملك الإله وإنه ... جمع الإله له القلوب فأجمعت
وقال:
وطاب له في العالمين أروم ... نماه إلى أعلى الفخار صميم
لهم مكرمات جمة وحلوم ... له بين سكان البلاد رسوم
إمام حوى كل المكارم والعلا ... له نسب في وائل بن ربيعة
تفرع من صيد الملوك الذين هم ... هم نصروا دين الهدى بعد أن عفت
لخير الورى منها العظام رميم ... فعاد كريم الأصل وهو كريم
إذا شب من نار الحروب جحيم ... وأحيوا بأطراف الأسنة سنة
وقد ورثوا المجد الأثيل لفيصل ... هو الضيغم الضرغام في كل معرك
وما أحسن ما قيل:
تلقاه عن أسلافه السادة الغر ... وفيصل في ذا العقد واسطة الدر
وترفل في ثوب الجلالة والفخر ... له في سرير الملك أصل مؤثل
هم العقد من أعلى اللآلئ منظما ... غدت أرض نجد منه تزهو ملاحة
وهو أشهر من أن يذكر. وكان له رحمه الله تعالى سر مع ربه، يلتجئ به إليه في الشدائد، وثقة به في كل نازلة يرجوه ويعول عليه. وكان قد حفظ القرآن عن ظهر قلبه(23/396)
ص -400- ... صغيرا، وحافظ على تلاوته والتهجد به شابا وكبيرا.
وله الحظ الأوفى من الليل والقيام فيه، وكثرة التضرع والابتهال بين يدي بارئه; وكم حامت عليه الحوائم، وجلت الخطوب، فيعجل الله له بالفرج القريب، ويجعل له المخرج العجيب.
كان قضاته على الرياض ومدرسوه: الشيخ عبد الرحمن بن حسن، وابنه الشيخ عبد اللطيف، والشيخ علي بن حسين، وابنه الشيخ حسين، والشيخ إبراهيم بن سيف، والشيخ عبد العزيز بن شلوان، والشيخ عبد الرحمن بن عدوان، والشيخ عبد العزيز بن صالح المرشدي، وعبد الرحمن بن بشر.
وقاضيه على بلد عرقة: الشيخ محمد بن سلطان، وعلى منفوحة: الشيخ عبد الله بن جبر، وعلي ضرمى: الشيخ عبد الله بن نصير، ثم الشيخ عبد الله بن مرخان، وعلى المحمل: الشيخ محمد بن مقرن، ثم الشيخ عبد العزيز بن يحيى، وعلى سدير: الشيخ عبد العزيز بن عبد الجبار، ثم عثمان بن منصور، ثم الشيخ عبد العزيز بن صالح المرشدي.
وعلى الوشم: الشيخ إبراهيم بن عيسى، وعلى الحوطة: الشيخ علي بن حسين ثم الشيخ عبد الملك بن حسين، وعلى الحريق: الشيخ حسين بن حمد، وعلى نعام: الشيخ محمد بن عجلان، وعلى الحلوة: الشيخ ناصر بن(23/397)
ص -401- ... عيد، وعلى الخرج: الشيخ عبد الرحمن بن حسين، ثم الشيخ حمد بن عتيق، ثم الشيخ محمد بن عجلان.
وعلى الإفلاج: الشيخ حسين بن فرج، ثم رشيد بن عوين، ثم الشيخ حمد بن عتيق، وعلى وادي الدواسر: جمعان بن ناصر، ثم ناصر بن عيد، ثم الشيخ حمد بن عبد العزيز، ثم الشيخ محمد بن محمود، وعلى القويعية: علي بن فراج، ثم الشيخ سعود بن محمد.
وعلى بريدة: سليمان آل مقبل، وعلى عنيزة: الشيخ عبد الله أبا بطين، ثم الشيخ علي بن محمد، وعلى حائل: الشيخ محمد بن إبراهيم بن سيف، ثم الشيخ علي بن سليم، ثم الشيخ الغنيمي، وعلى الأحساء: الشيخ محمد بن عبد القادر، ثم الشيخ عبد الله الوهيبي، ثم الشيخ عبد الرحمن الوهيبي، ثم عبد اللطيف آل مبارك.
وكان يخلف في الرياض أميرا: سعد بن خير الله، وأميره على عرقة: محمد الهلالي، ثم ابنه عبد العزيز، وعلى الدرعية: إبراهيم بن رواف ثم إبراهيم الطويل، وعلى ضرمى: محمد بن عبد العزيز، ثم علي بن عبد الله بن عبد العزيز، وعلى الخرج: سليمان بن منديل، ثم ابنه الأمير سعود بن الإمام فيصل، ثم محمد بن سنبل.
وعلى الحوطة: محمد الجبر، ثم أخوه عثمان، وعلى آل حسين: ناصر بن عبد الله، ثم رشيد بن حمد، وعلى(23/398)
ص -402- ... الحريق: تركي الهزاني، ثم ابنه سعد، وعلى الحلوة: إبراهيم بن خريف، وعلى الإفلاج: ابن عبيد الله، ثم عبد الرحمن بن إبراهيم، وعلى وادي الدواسر: ناصر بن عيد، ثم عبد الرحمن بن إبراهيم، وعلى القويعية: ناصر بن سعود، ثم حمد بن جبرين، وعلى الشعيب والمحمل: فيصل بن مبارك في حريملاء، وسعد بن محمد في ثادق، وعلى سدير: إبراهيم العسكر، وعلى الوشم: محمد الجميح، وعلى الشعراء: سعد بن سعود، وعلى بريدة: عبد العزيز آل محمد، ثم مهنا بن عرفج.
وعلى عنيزة: جلوي بن تركي، ثم يحيى بن زامل آل سليم، وعلى حائل: عبد الله الرشيد، ثم طلال الرشيد، وعلى الأحساء: أحمد السديري، ثم ابنه محمد، وعلى عمان: سعد المطيري، ثم أحمد السديري، ثم ابنه تركي، وعلى القطيف: عبد الله المداوي، ثم محمد بن مرشد، ثم محمد بن عبد العزيز صاحب ضرمى.
وكان رحمه الله آمرا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، محبا للعلماء، ومجالستهم، وكان على طريقة آبائه في تعاهد الرعية بالنصائح.
توفي رحمه الله وأسكنه الفردوس الأعلى، في رجب سنة 1282?، في بلد الرياض، ورثاه جمع منهم الشيخ أحمد بن مشرف:(23/399)
ص -403- ... بكينا بدمع مثل صوب الغمائم ... بسمر القنا والمرهفات الصوارم
وأفنى رؤوسا منهم في الملاحم ... ويرميهم في حربه بالقواصم
تغير بنجد خيله والتهائم ... وأصبح عرش الملك عالي الدعائم
وما زال ينهى عن ركوب المحارم ... سماحا ويعفو عن كثير الجرائم
فحاز الثنا من عربها والأعاجم ... وأسكنه الفردوس مع كل ناعم
على فيصل بحر الندى والمكارم ... إمام نفى أهل الضلالة والخنى
فكم فل من جمع لهم جاء صائلا ... يجر عليهم جحفلا بعد جحفل
فما زال هذا دأبه في جهادهم ... إلى أن أقيم الدين في كل قرية
وأخلى القرى من كل شرك وبدعة ... ويعطي جزيل المال محتقرا له
مناقب جود قد حواها جبلة ... تغمده المولى الكريم برحمة
الشيخ محمد بن مقرن رحمه الله تعالى
هو العلامة الشهم الفقيه النبيه، ذو العقل الفائق، والرأي الصائب الرائق، الشيخ الفاضل: محمد بن مقرن بن سند بن علي بن عبد الله بن فطاي الودعاني، الدوسري القحطاني.
نشأ في بلد القرينة; وأخذ العلم عن الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد، وغيره من علماء الدرعية وغيرهم وحصَّل; وكان فطنا مستيقظا، له عقل راجح، ورأي وشهامة وسماحة، وحسن خلق؛ استعمله الإمام سعود قاضيا في بلدان المحمل.
وفي بعض الأوقات يرسله في نواحي مملكته؛ فأرسله(23/400)
ص -404- ... مرة قاضيا في عمان، فنفع الله به، وأصلح الله عمان على يديه، ثم أرسله قاضيا لجهة اليمن وغير ذلك. ثم في ولاية الإمام تركي أرسل إليه وأقامه عنده، ثم جعله قاضيا في ناحية المحمل؛ ثم لما ولي عبد الله بن ثنيان إمارة نجد مضى عنده، فلا يسلك جهة إلا وهو معه.
فلما قدم الإمام فيصل، وذهب الشقاق عن المسلمين، أكرمه، وأرسله قاضيا في الأحساء في وقت الموسم، فمرض بحمى، ولم يزل محموما سقيم البدن، حتى توفي رحمه الله.
أخذ عنه العلم جماعة من أهل النواحي، وأهل المحمل، منهم الشيخ: عبد الرحمن بن عدوان، والشيخ عبد الرحمن بن عزاز، والشيخ عبد العزيز بن يحيى، وغيرهم؛ وله أجوبة، توفي رحمه الله سنة 267?.
الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله
هو الإمام العالم العلامة، الحبر البحر الفهامة، مفيد الطالبين، مرجع الفقهاء والمتكلمين، المحفوف بعناية رب العالمين، العالم الرباني والمجدد الثاني، جامع أنواع العلوم الشرعية، ومحقق العلوم الدينية، والأحاديث النبوية، والآثار السلفية، وارث العلم كابرا عن كابر.
رجع العلم به غضا بعد أن كان دابرا، وظاهرا بعد أن كان غابرا، مفتي فرق الأنام،(23/401)
ص -405- ... ناصر شريعة سيد الأنام، الموفق للصواب في الجواب، شيخ الإسلام، الشيخ: عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
ولد سنة 1196?، في بلد الدرعية، وشب بها، وأخذ العلم عن جده الشيخ: محمد، وعمومته، الشيخ: عبد الله، والشيخ علي، والشيخ حسين; وعن الشيخ حمد بن ناصر بن معمر، والشيخ عبد الله بن فاضل; وقرأ على الشيخ: عبد الرحمن بن خميس، في الفرائض، وفي الجزرية على أحمد بن حسن الحنبلي، وشرح الفاكهي على المتممة في النحو على الشيخ حسين بن غنام.
وأخذ العلم أيضا عن علماء مصر، إذ كان ثم مع أعمامه، ومن فضلائهم الشيخ حسن القويسيني، والشيخ عبد الله سويدان، والشيخ عبد الرحمن الجبرتي; وأخذ العلم عن مفتي الجزائر: محمد بن محمود الجزائري الحنفي، وقرأ على الشيخ إبراهيم العبدي، شيخ مصر في القراءات، قرأ عليه أول القرآن.
وقرأ على الشيخ أحمد سلمونه كثيرا من الشاطبية وشرح الجزرية، وقرأ على الشيخ يوسف الصاوي والشيخ إبراهيم البيجوري شرح الخلاصة؛ وأجازه جماعة من المحدثين. وأخذ العلم أيضا عن جماعات سوى هؤلاء المذكورين.
وكان رحمه الله: له اليد الطولى في الأصول(23/402)
ص -406- ... والفروع، حتى لم يكن في زمانه أفقه ولا أورع ولا أزهد ولا أتبع للسنة منه. وكان من الجبال التي لا ترتقى ذروتها، ولا ينال سنامها، ومن أكابر السلف وأعلامها، غزير الفضل، كامل العقل، شديد التثبت، حسن السمت، إماما في جميع الفنون الدينية، معرضا عن الدنيا وأهلها، هينا لينا شجاعا مهيبا، متواضعا محبا للطلبة والمساكين، حسن الخلق والخلق، جوادا سخيا كثير العبادة والتضرع والدعاء، كان النور يخرج من وجهه. عن الدنيا ما كان أصبره، وبالسلف ما كان أشبهه، وبالصالحين ما كان ألحقه; اختصه الله بنصر دينه، والقيام بحفظ سنته، ورضيه لإقامة حجته، قام مقام نبوة، واشتهر ذكره وانتشر، وأجمع على إمامته في الدين أهل نجد والأمصار، وشاع صيته في الأقطار وشمائله.
وما قال الأئمة في مدحه كثير، قال الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن مانع رحمه الله:
بعيد عن الأدناس ناء عن الكبر ... أشد لدى هتك الحدود من النمر
وأسقى غراس العلم في سائرالعمر ... وفي بحثه التوحيد نادرة العصر
وكل فنون العلم أربى على البحر ... فلا يبعدنك الله من شيخ طاعة
قوي بأمر الله شهم مهذب ... تجرد للتدريس والحفظ دائبا
ففي الفقه والتفسير بحر غطمطم ... وفي النحو والتأصيل قد صار آية(23/403)
ص -407- ... يزيح به الإشكال عن مرتج الفكر ... بتحقيق أبحاث أدق من الشعر
غدابين تلك الكتب كالكوكب الدر ... من الملحدين المعتدين أولي الغدر
يجيب على الفتيا جوابا مسددا ... فيضحى عويص المشكلات موضحا
فسل عنه في التوحيد تهذيبه الذي ... وفي رده تشبيه كل مشبه
****
جلاها كما يجلى دجى اللبل بالفجر ... تصانيفه في كل مصر وفي كل قصر
وغرره ما لفقوه من الهذر ... فراح ابن جرجيس على الذل والصغر
ودحض فولى بالبوار وبالخسر ... وفضل إله العرش يسمو على الحصر
ولكن ذا نزر يدل على الغمر ... إذا مبطل يأتي بتزويق شبهة
ففي كل إقليم له الرد فانتهت ... ولما طغى علج العراق بجهله
رماه كما يرمى الرجيم بثاقب ... وباء ابن منصور بإرغام حجة
وفي كل معنى وفي الله قسمة ... ولست بمحص بعض تعداد فضله
وقال الشيخ أحمد بن علي بن مشرف بعد ثنائه على الشيخ محمد:
بنور الهدى يهدي فمن ذا يعادله ... فيبطل تمويهاته ويناضله
كذا عابد الرحمن أعني حفيده ... ينافح عن دين الهدى كل مبطل
وقال:
أكرم به من عالم وإمام ... زين لأهل العلم والحكام
ندت وقاد صعابها بزمام ... ونحا طريقة الإمام حفيده
أعني بذلك شيخنا علم الهدى ... قد رد من كل العلوم شواردا(23/404)
ص -408- ... وأذل من أضحى ألد خصام ... كم أيقظوا من معشر نوام
فلقد كفى وشفى بتصنيفاته ... فهم دعاة الدين بل أنصاره
وقال:
أتاه بتيار من العلم كالبحر ... بنور هدى يجلي الغياهب كالفجر
فعالمنا بين الكواكب كالبدر ... إذا مبطل أجرى من الجهل جدولا
فجلى ظلام الجهل والشك والعمى ... لئن كان أهل العلم كالشهب في السما
وقال الشيخ عثمان بن بشر: هو العالم النحرير، والبحر الزاخر الغزير، مفيد الطالبين، وافتخار العلماء الراسخين، ومرجع الفقهاء والمتكلمين، المحفوظ بعناية رب العالمين، عمدة السلف وبقية الخلف، جامع أنواع العلوم الشرعية، ومحقق العلوم الدينية، والأحاديث النبوية، والآثار السلفية، مفتي فرق الأنام، ومؤيد شريعة سيد الأنام.
[مصنفاته ومكانته وتلاميذه]
وقال الشيخ إبراهيم بن عيسى: هو الإمام العالم الفاضل القدوة، رئيس الموحدين، وقامع الملحدين، كان إماما بارعا محدثا فقيها، ورعا تقيا نقيا صالحا، له اليد الطولى في جميع العلوم الدينية؛ وكان ملازما للتدريس، مرغبا في العلم، معينا عليه، كثير الإحسان للطلبة، لين الجانب، كريما سخيا، ساكنا وقورا، كثير العبادة.
ولو تتبعنا محاسنه وفضائله لطال المقام، وله مصنفات شهيرة مقبولة، منها:(23/405)
ص -409- ... 1- كتاب فتح المجيد شرح كتاب التوحيد.
2- قرة عيون الموحدين حاشية على التوحيد.
3- كشف ما ألقاه إبليس، على داود بن جرجيس 1 مجلد; ورد عليه أيضا غيره.
4- كتاب في الرد على عثمان بن منصور مجلد.
5- وله الرد والودع على داود أيضا.
6- مشاركة مع عمه الشيخ عبد الله، في رده على الزيدية.
7- اختصر قطعة من العقل والنقل.
8- تفسير الفاتحة.
9- مختصر تفسير قل هو الله أحد. وله ردود مختصرات على ابن منصور وغيره، وأجوبة مفيدة، ورسائل ونصائح عديدة، أكثر من مجلد، فرقناها في مواضعها على حسب الترتيب. وبالجملة: فهو رئيس قضاة المسلمين، وانتفع بعلمه الفئام.
فممن أخذ عنه العلم من القضاة والعلماء، من ذريته وذرية أعمامه: ابناه الشيخ عبد اللطيف، وإسماعيل، والشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، والشيخ حسن بن حسين بن الشيخ، والشيخ عبد الرحمن بن حسين، وابنه عبد العزيز، والشيخ عبد الملك وابنه إبراهيم
__________
1 والمسمى بالقول الفصل النفيس.(23/406)
ص -410- ... والشيخ حسين بن حمد بن حسين، والشيخ حسين وحسن ابنا علي بن حسين، والشيخ عبد الله بن حسن بن حسين، والشيخ عبد الله بن محمد بن علي، وأبناء الشيخ علي بن الشيخ، وغيرهم ممن لم يل القضاء خلق. وأخذ عنه من القضاة والفقهاء: الشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن بشر، والشيخ عبد العزيز بن صالح بن مرشد، والشيخ محمد بن عبد الله بن سليم، والشيخ محمد بن عمر بن سليم، والشيخ صالح بن محمد الشثري، والشيخ زيد بن محمد آل سليمان، والشيخ عبد العزيز بن شلوان، والشيخ علي بن عبد العزيز بن سليم; والشيخ إبراهيم بن عيسى وابنه أحمد، والشيخ علي بن عبد الله بن عيسى، والشيخ عمر بن محمد بن يوسف، والشيخ عبد الرحمن بن محمد بن مانع، والشيخ عبد الله الخرجي، والشيخ عبد الله المخضوب، والشيخ مرشد، والشيخ محمد بن علي بن موسى، والشيخ عبد العزيز بن فرحان، والشيخ عيسى بن إبراهيم الشثري، والشيخ عيسى الزير، والشيخ الصيرامي، والشيخ حمد بن فارس، والشيخ عثمان بن عبد الجبار، والشيخ عبد الله بن نصير، والشيخ ناصر بن عيد، والشيخ محمد بن سلطان، والشيخ عبد الرحمن بن حمد الثميري، والشيخ حمد بن عتيق، والشيخ عبد الله بن(23/407)
ص -411- ... جبر، والشيخ محمد بن إبراهيم بن سيف، والشيخ عبد العزيز بن حسن بن يحيى، والشيخ محمد بن إبراهيم بن عجلان، والشيخ عبد الله بن علي بن مرخان، والشيخ حمد بن عبد العزيز، والشيخ عبد الرحمن بن عدوان، وغيرهم ممن ولي القضاء.
وأما من أخذ عنه ممن تأهل ولم يل القضاء فخلق كثير لا يحصى، نفع الله الطالب بحسن تعليمه، بحيث لا يلبث إلا يسيرا حتى يكون فائقا. ضربت إليه آباط الإبل من جميع نواحي نجد والأمصار، وظهرت آثار البركة من تعليمه، وبذل نصحه للأئمة، ولسائر الأمة، وكان مشهورا بالكرم، وحسن الخلق، وحسن الدعوة، والغيرة لله ولدينه، والقيام بذلك علما، وعملا. وكان يتفقد طلبة العلم والفقراء، ويبذل لهم مما خوله الله مع تعفف مشهور.
وفضائلة ومحاسنه ومناقبه أشهر من نار على علم; فرحمه الله وجزاه عن الإسلام والمسلمين أحسن الجزاء; فلقد بذل نفسه لله، وفي ذات الله، لا تأخذه في ذلك لومة لائم، ولا عذل عاذل; وألقي عليه من المهابة والجلالة والبهاء، ما لا يعرف لغيره.
توفي رحمه الله تعالى وقدس روحه ونور ضريحه، في 8 من ذي الحجة، سنة 1285?، وصلى عليه بعد طلوع(23/408)
ص -412- ... الشمس في مسجد العيد، وحضر جنازته خلائق لا يحصون، وأصاب المسلمين بموته من الحزن والبكاء والتوجع، حتى ربات الخدور، حصل لهن من الفزع والحزن ما يعز وصفه; ولم يصب المسلمون بمصيبة أعظم من مصيبته، وجاءت التعازي من جميع النواحي.
قال الشيخ: عبد الرحمن بن محمد بن مانع:
وفوض بتسليم مع الحمد والشكر ... ونعم الدرع الصبر في العسر واليسر
مشيع بما يهدي إلى المسمع الوقر ... بماذا ينادي والفؤاد على جمر
بأن إمام الدين أوفى على العمر ... لفيه الحصى ماذا يقول من الشر
وهيل عليه الترب من جانب القبر ... وحرك أشواقا بها عيل من صبري
تردّ رداء الصبر في حادث الأمر ... فنعم احتساب المرء في حال رزئه
لقد ساءنا ما جاءنا من مبلغ ... فصخت له سمعا وألححت سائلا
فقيل ينادي أخطأ الله شره ... فقلت نعي جاء من نحو داره
فقال سراج الدين أصبح ثاويا ... فأزعج من ألبابنا كل ساكن
* * *
وأن الفضا مما بنا صار كالشبر ... حيارى كأيتام أصيبوا على صغر
ويا عبرتي خلي غروب الأسى تجري ... سعير حريق القلب أو أنة الصدر
بعيد عن الأدناس ناء عن الكبر ... وأيقنت أن الأرض مادت بأهلها
لقد ظل أهل الحق من بعد موته ... فيا مهجتي حقا عليه تفتتي
ويا أضلعي لا تسأمي إن تصدعت ... فلا يبعدنك الله من شيخ طاعة(23/409)
ص -413- ... رفيق لدى الإفتا لطيف لدى النجا ... رقيق لدى النجوى إلى عالم السر
وأطال في الثناء عليه ثم قال:
ويثني به القاري ويدعو له المقري ... لخلد نحرير الهدى سائر الدهر
لزدناه من وقت به منتهى العمر ... لسمنا نفوسا تحت راياتها الخضر
بأعناقنا لا تفديها من الأسر ... وموت أهيل العلم قاصمة الظهر
فلهفي على أهل النهى الجلة الطهر ... ونقل خيار الناس من جملة النذر
ويجبر منا ما تصدع من كسر ... رحيم ودود قد تفرد بالأمر
عسى يحيى ذكراه لنا بعد فقده ... فلو كان يبقى بالفضائل فاضل
أو الأجل المحتوم يدفع برهة ... أو الحتف تدفعه جنود وجحفل
ولكن أطواق المنايا قلائد ... لقد بان فينا النقص من بعد موته
فكان كسلك قد وهى من نظامه ... فهذي علامات القيامة قد بدت
فنرجو إله العالمين يثيبنا ... ويسكنهم في جنة الخلد إنه
الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمهما الله
هو الإمام العالم العامل، الحبر العلم الكامل، سيد أهل الإسلام في زمانه، وقطب فلك الأنام في أوانه، أوحد البلغاء، بدر الفصحاء، خصه الله بالفضل والشهامة والشجاعة، طنت بذكره الأعصار، وضنت بمثله الأمصار، أخذ بمجامع الحقائق النقلية والعقلية، سيف السنة المسلول، حاوي المعقول والمنقول، البليغ المصقع، واللوذعي البلتع، الفاضل الفصيح، المجاهد النصيح، أبو(23/410)
ص -414- ... عبد الله الشيخ عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
ولد في بلد الدرعية سنة 1225? ونشأ بها وقرأ القرآن فيها إلى أن بلغ ثماني سنين، ونقل مع والده وأعمامه وحمولته لمصر، وأخذ العلم فيها عن والده وعميه، الشيخ عبد الله والشيخ إبراهيم، وهم إذ ذاك بمصر، وأخذ عن عمه الشيخ علي بن الشيخ، وخاله الشيخ عبد الرحمن بن الشيخ عبد الله، والشيخ أحمد بن رشيد الحنبلي.
وأخذ عن علماء مصر، منهم: الشيخ مفتي الجزائر، محمد بن محمود بن محمد الجزائري; والشيخ إبراهيم البيجوري شيخ الأزهر، والشيخ مصطفى الأزهري، والشيخ حمد الصعيدي وغيرهم من العلماء، وأجازه جماعة، وبرع حتى صار إماما في جميع الفنون؛ لم ير شخص له من الكمال في العلوم والصفات الحميدة التي لم يحصل بها الكمال لسواه.
فإنه رحمه الله: كان كاملا في صورته ومعناه، من الحسن والإحسان، والحكم والسؤدد، والعلوم المتنوعة، والأخلاق الجميلة، والأمور المستحسنة، التي لم تكمل من غيره، وقد علم من كرم أخلاقه، وحسن عشرته، وهيبته وجلالته، ووفور حلمه، وكثرة علمه، وغزير فطنته، وكمال مروءته ودوام بشره، وعزوف نفسه عن الدنيا(23/411)
ص -415- ... وأهلها، والمناصب لأربابها، ما قد عجز عنه كبار الأكياس، ولا يظن أن يدركه أحد من الناس.
أدرك مقام الأئمة الكبار، وناسب قيامه من بعض الأمور مقام الصديقين. وأما شجاعته فبها تضرب الأمثال، وببعضها يتشبه الأكابر الأبطال؛ فلقد أقامه الله في نصرة دينه، والتقاء أعباء الأمر بنفسه; وقام وقعد، وعزل ونصب، واجتمع بالملك وشجعه، ومرة أخافه وأرعبه، وله حدة قوية، وإقدام وشهامة، وقوة نفس، يضرب بها المثل، وفيه مروءة، وقيام مع الناس، وسعي في مصالحهم. لم ير أزهد منه عن الدنيا، والدرهم لا يذكره، ولا أظنه يدور في ذهنه، وكان كثيرا ما يتمثل بهذه الأبيات:
وهو المؤمل في الضراء والباس ... فلا تكلني إلى خلق من الناس
وجهي المصون ولا تخضع لهم راسي ... رزقي وصني عمن قلبه قاسي
بحسن صنعك مقطوعا عن الناس ... يا من له الفضل محضا في بريته
عودتني عادة أنت الكفيل بها ... ولا تذل لهم من بعد عزته
وابعث على يد من ترضاه من بشر ... فإن حبل رجاثي فيك متصل
قد شاعت مناقبه ومحاسنه في الورى، وأثنى عليه علماء نجد والأمصار، ودار في ساثر الأقطار، فقال ابنه الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف: لما رأيت أهل الفهم(23/412)
ص -416- ... والذكاء لم يتعرضوا لرثي شيخ الإسلام، وقدوة العلماء الأعلام، علامة دهره ووحيد عصره، الوالد الشيخ عبد اللطيف، ثبت الله حجته، أحببت أن أبذل وسعي في ذلك، وإن كنت لست من رجال ذلك الميدان، ولكن يستأنس بالمثل: كم ترك الأول للآخر، وكم زل من ذكي ماهر، وقلت مستعينا بالله شعرا:
وقد كان لي في عهدها بالهدى عهد ... وأنوار هذا الدين من أفقها تبدو
ولاح لنا من وجهها القمر الفرد ... فكل مقال لا تقرره رد
فإن كل ما يبني من الأمر منهد ... وحصباؤها در وأمواهها شهد
به ارتفع الإسلام وانهزم الضد ... وقد مس أهل الزيغ في بأسهم حد
لدن غاب من آفاقها الطالع السعد ... لقد أظلمت من كل أرجائها نجد
وكنا وأهلوها على خير حالة ... وقد ساعدت ليلى وطاب وصالها
بها قام سوق للشريعة عامر ... وكل إمام لا ينفذ أمرها
فصحراؤها روض تفتق زهره ... فلله عصر قد مضى في حمائها
صحبناهم والدهر مسترخ رواقه ... لقد حل بالسمحا من الخطب فاظع
*****
عبد اللطيف العالم الأوحد الفرد ... لما قاله في السالف العالم المجد
أم الفتنة الظلماء قد أقبلت تعدو ... فأظلمت الآفاق إذ أظلمت نجد
إمام التقى بحر الندى علم الهدى ... فمذ غاب عن عيني تمثلت منشدا
الليل غشى الدنيا أم الأفق مسود ... أم السرج النجدية الزهر أطفئت(23/413)
ص -417- ... وضعضع ركن للهدى فهو منهد ... ومن دونها النسران والنجم والسعد
وأحمد والنعمان والليث والمجد ... مليك جليل القدر تعفو له الأسد
طوالعها لا يستطاع لها جحد ... وكم من هدى أبداه إذ أشكل الرد
نعم كورت شمس الهدى وبدا الردى ... حليف المعاني قد رقى ذروة الهدى
وعلامة ما الشافعي ومالك ... يرى في ثياب النسك حبرا كأنه
فسائل به آيات مجد شواهدا ... فكم من ضلال تصدى لرده
* * *
عليك سلام الله ما سبح الرعد ... به من قبلك الأب والجد
أناس رعاهم قبلك الذيب والفهد ... وكيف يقادالجيش والجرد والجند
يرام له إرث وإن عظم الجد ... إمام سما في العلم ليس له ند
وقد عز من دهر تقادم أن يبدو ... وأن إله الحق في حكمه فرد
وكادت إلى فوق السماكين تعتد ... يفوح به من طيبه المسك والورد
إلى شرف العليا فحق له المجد ... فيا أيها الحبر الذي كان حجة
بنيت بناء للشريعة قد سما ... وأسست هذا الدين حتى سما به
وأنبأتهم كيف السياسة والعلا ... فأورثتهم مجدا وما كان مثله
حظوظ بميراث النبي أشادها ... أعاد لنا نهج الشريعة واضحا
وجلى لنا أسرار شرعة أحمد ... فجرت به نجد ذيول افتخارها
حديث رسول الله إن جاء درسه ... محاسن من دنيا ودين سما بها(23/414)
ص -418- ... وقال الشيخ عبد القادر البغدادي الحنفي:
يوم الجزاء بأجر غير ممنون ... في الشرق والغرب من نجد إلى الصين
بديع در عزيز القدر مكنون ... عبد اللطيف جزاه الله خالقنا
هو الهمام الذي شاعت فضائله ... بحر من العلم يبدي من معارفه
حما طريق رسول الله عن شبه... إلخ..
وقال الفاضل علي أفندي المدرس بمدينة البصرة:
ودها الشرك والعناد زوال ... بعد ما كان دونها ظلال
من سما الحق عارض هطال ... الإمام المهذب المفضال
من عنده تنتهي الآمال ... هو بحر للعلم بحر زلال
لاح نور الهدى وزال الضلال ... وتجلت شمس الكمال عيانا
ورياض التوحيد جاد رباها ... وبدا الجهبذ المحقق للحق
والهزبر الهمام والعالم النحرير ... ذاك عبد اللطيف كنْز المعالي
وقال الشيخ أحمد بن مشرف الأحسائي:
إمام هدى بالعلم تزهو محافله ... وعبد اللطيف الحبر لا تنس فضله
وقال الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن مانع:
سواه ولم يبلغ سناها ذوو الصدر ... فأضحت بعيد الطي توصف بالنشر
إذا ما انتدى للقوم في محفل الذكر ... مصيب ولم يثن اللسان على هجر
فتشفي أوام الصدرعن مغلق الحصر ... سما رتبة في العلم لم يتصل بها
فأنعش بعد الدرس بالدرس ميتها ... فكان أحق الناس في قول من مضى
إذا قال لم يترك مقالا لقائل ... وأقلامه تجري على متن طرسه(23/415)
ص -419- ... أزاح له الإشكال بالسبر والخبر ... فراح بها يدري وقد كان لا يدري
ويمنح أهل العلم من سيبه الغمر ... لدين الهدى فانضاح في البر والبحر
وإن طالب يأتيه يبغي إفادة ... وأنهله من بحره الجم نهلة
فلا زال يولي الطالبين من الهدى ... يجدد منهاج الأئمة جددوا
وقال الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن طوق:
قوي جليد لم يروعه غاشمه ... جلت ليله أقلامه وعزائمه
يقصر عنها تبع وصوارمه ... حسام الهدى ممن يعاديه قاصمه
ومن ذا هزبر هيبة فيكالمه ... يكاد جهول قال للغيب عالمه
ولا كرم إلا حوته مكارمه ... من الناس إلا فوق تلك عزائمه
هزبر إذا ما قام لله داعيا ... فكم ليل أشكال بتلبيس مبطل
له فتكات بالحديث على العدى ... وتروى به جرد الشريعة منتضى
فلا تنطق العوراء يوما بناده ... له حدس من دونه حدس أكثم
فما الجود إلا صورة في أكفه ... ولا فتكة أو عزمة لابن حرة
وقال الشيخ سليمان بن سحمان:
إمام هدى قد كان لله داعيا ... وثقلا على الأعداء عضبا يمانيا
وحل رواق المجد إذ كان عاليا ... بنته عداة الدين من كان طاغيا
ويحمي حماها من شرور الأعاديا ... بما فاق أبناء الزمان تساميا
فعبد اللطيف الحبر أوحد عصره ... لقد كان فخرا للأنام وحجة
إماما سما مجدا إلى المجد وارتقى ... تصدى لرد المنكرات وهد ما
فأضحت به السمحاء يبسم ثغرها ... حباه إله العرش في العلم والنهى(23/416)
ص -420- ... ولم يأل في رأب اللثا والمناهيا ... وقد جد في ذات الإله بجهده
وقال:
وسد ينابيع الغواة الأخاسر ... وتأسيس أصل الدين سامي الشعائر
وقمع لمن ناواه من كل غادر ... وتحذيره عنهم بكل الزواجر
تؤول إلى رفض الهدى من مقامر ... أولي العلم والحلم الهداة الأكابر
إلى الله من قد ند من كل نافر ... قلوبا لعمري مقفلات البصائر
لقد جد في نصر الشريعة والهدى ... وإعلاء دين الله جل ثناؤه
وإحيائه بعد الدروس ونشره ... وإبعاد أعداء الهدى وجهادهم
وقد رد بل قد سد كل ذريعة ... قفا إثر آباء كرام أئمة
ببذلهمو للجد والجهد في الدعا ... فكم فتحوا بالعلم والدين والهدى
وقال في أثناء قصيدة له ذكر فيها وثبته على ابن جرجيس:
وجهبذ ألمعي فاضل فطن ... غربا وشرقا ومن بصرى إلى عدن
في العلم فيما علمنا من بني الزمن ... من العراق أتت عن خانع عشن
وقاد ذهن ذكي ليس باللكن ... ملفقات لأهل الغي والدرن
يسمو بها حيث يحمي حوزة السنن ... من ضيغم باسل حبرا أخي ثقة
عبد اللطيف الذي شاعت مناقبه ... ما مصقع بلتع حاذاه أو علم
فانظر صواعق علم أحرقت شبها ... جواب حبر هزبر حازم يقظ
أوهى به ما بنى داود من شبه ... فالله يعليه في الفردوس منْزلة
[مصنفاته]
ولو تتبعنا سيرته ومحاسنه، وما أثني به عليه لبلغ مجلدا; وله رحمه الله مصنفات عديدة منها:(23/417)
ص -421- ... 1- كتاب مصباح الظلام، في الرد على عثمان بن منصور، مجلد.
2- كتاب منهاج التأسيس، في كشف شبهات داود بن جرجيس، مجلد.
3- كتاب البراهين الإسلامية في الرد على شبهات الفارسية.
4- كتاب تحفة الطالب والجليس في الرد على داود بن جرجيس.
5- رسائل عديدة وأجوبة مفيدة تبلغ مجلدا، جمع أكثرها الشيخ سليمان بن سحمان، وقال: لقد اشتملت على أصول أصيلة ومباحث جليلة، لا تكاد تجدها في كثير من الكتب المصنفة، والدواوين المشهورة المؤلفة، إذا سرح العالم نظره فيها علم أن هذا الإمام قد حاز قصب السبق في الفروع والأصول، واحتوى منه على ما سمق وسبق به الأئمة الفحول. وشرع في شرح كتاب الكبائر، وشرح النونية، فاخترمته المنية.
فرحمه الله من إمام بلتع، وفاضل فصيح مصقع؛ فلقد تبحر في جميع فنون العلم، وهذه رسائله تطلعك على ما هنالك، وثواقب علومه يهتدي بها السائر عن سلوك معاطب المهالك.(23/418)
ص -422- ... ولم يأل جهدا في ارتفاع ذراها ... عن السنة الغرا ورام خفاها
رسائله اللاتي أضاء ضياها ... وأعشى عيون الملحدين سناها
لأسئلة قد أشكلت فجلاها ... نبوق عبير المسك طيب شذاها
بفيح 1 معانيها وشاو ذراها ... وإن قد تسامى للعلا فعلاها
فقد قام في نصر الشريعة جاهدا ... ورد على من ند من كل ملحد
وقد شيدت أركان سنة أحمد ... فأشرق منها الحق للخلق ناصعا
وأجوبة تسمو وتسمق بالهدى ... يضوع لأهل الحق منها نواشر
إذا أرسل النحرير ثاقب فكره ... أقر له بالفضل والعلم والحجى
وجميع رسائله وأجوبته، ومختصرات ردوده، فرقناها في مواضعها، على حسب الترتيب.
[تلاميذه]
أخذ عنه العلم خلائق لا يحصون، منهم أبناؤه: الشيخ عبد الله، والشيخ إبراهيم، والشيخ محمد وعبد العزيز، وأخوه إسحاق، والشيخ حسن بن حسين بن علي، والشيخ عبد العزيز بن محمد بن علي، والشيخ حسن بن علي، والشيخ إبراهيم بن عبد الملك، والشيخ عبد الله بن حسن بن حسين بن علي، وعبد العزيز بن عبد الرحمن بن حسين، والشيخ ناصر بن حسين، والشيخ إسماعيل بن عبد الرحمن، والشيخ سليمان بن عبد الرحمن بن حسين، والشيخ حمد بن عتيق، والشيخ سليمان بن سحمان،
__________
1 كذا بالأصل.(23/419)
ص -423- ... والشيخ علي بن عيسى، والشيخ أحمد بن عيسى، والشيخ إبراهيم بن عيسى، والشيخ عثمان بن عيسى، والشيخ عبد العزيز بن حسن، والشيخ حمد بن عبد العزيز; والشيخ محمد بن محمود، وحمد بن فارس، والشيخ عبد الرحمن بن عدوان، والشيخ عبد الرحمن بن مانع، والشيخ محمد بن عبد الله بن سليم، والشيخ محمد بن عمر بن سليم، والشيخ علي بن سليم، والشيخ عبد الله بن محمد بن مفدى، والشيخ صالح الشثري، والشيخ عبد العزيز بن صالح المرشدي.
والشيخ صالح بن قرناس، والشيخ محمد بن إبراهيم بن سيف، والشيخ عمر بن يوسف، والشبخ عبد العزيز الصيرامي، والشيخ عبد الله بن حسين المخضوب، والشيخ محمد بن خميس، والشيخ عبد العزيز بن عبد الجبار، والشيخ عبد الله بن جريس، والشيخ عبد العزيز بن شلوان، والشيخ عبد الرحمن الوهيبي، والشيخ عبد الله بن محمد الخرجي، والشيخ حسين بن تميم، والشيخ أحمد الرجباني، والشيخ أحمد بن عبيد، والشيخ محمد بن حسن بن جريبة; والشيخ عبد الرحمن بن بشر، والشيخ علي بن نفيسة، والشيخ عبد الرزاق، وخلائق من أهل نجد ومصر والأحساء وغيرها.
[وفاته وما قيل في رثائه]
توفي رحمه الله وأسكنه النعيم المقيم، في 4 من ذي(23/420)
ص -424- ... الحجة سنة 1292? وأصيب المسلمون بفقده، ولم تسد ثلمته من بعده; وبكته المجالس والقبائل، وفقدته الرؤساء والمحافل، وقد رثي بقصائد منها ما رثاه به الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن طوق، مطلعها:
وإن عظمت هماته وعزائمه ... وأيتمه للعلم إذ مات عالمه
بأوحش أنباء بريد يكاتمه ... فأظلم كل الكون وارتج عالمه
وجاد بماء الجفن سحا غمائمه ... وهد بسور العلم أوهاه ثالمه
وكنْزا أبى مضروبها أن يقاومه ... تلقاه فرع أصلته أكارمه
فإني وأيم الله للفضل ظالمه ... فما هو إلا دارسات معالمه
أبي خلق الأيام حيا تسالمه ... فما أوحش الدنيا ويا حزن نجدها
فما مر يوم مر يوم أتى به ... وجدنا كأن الأرض حتما تزلزلت
وهاجت رياح من زفير تنفس ... فيا لك من رزء فظيع على الورى
فقد كان للدنيا وللدين عدة ... بقية أهل العلم والعلم الذي
فإن لم يكن دمعي جرى فيه عن دم ... فإن تبكه فالعلم نبكهما معا
إلى أن قال:
من الدهر قد دبت إليه أراقمه ... يشرعه جفن لها وسواجمه
فزاد برزء منك مرا علاقمه ... فلي بعده من رزئه قلب ثاكل
وعين لها حرم الكرى صح ملة ... وما زال هذا العصر مرا وعلقما
ثم قال:
على المبلغ المنجي طريق ملازمه ... سواه ولا بد المنون تزاحمه
وعاش سعيدا ثم مات موحدا ... فلا حي إلا الحي والكل هالك(23/421)
ص -425- ... وللدهر يوما سوف يدركك صارمه ... وجافته عن دار الغرور عزائمه
إذا ما خلا حبر به قام قائمه ... وماذا وإن أعطيت عمرا كآدم
فطوبى لعبد أيقظته عناية ... وما زال هذا النور فيكم شامخا
ومنها مرثية الشيخ سليمان بن سحمان:
وتظهر مكنونا من الحزن ثاويا ... وبالعلم يزهو ربع تلك الروابيا
وأطواد شرع الله فيها رواسيا ... جناها ينلها والقطوف دوانيا
مناهلها كالشهد فعم صوافيا ... يرجعن ألحان الغواني تهانيا
وأنوار هذا الدين تعلو سواميا ... علينا بأنواع الهموم الروازيا
وننبأو عنها في القرون الخواليا ... وأوجعها فقدان تلك المعاليا
فحق لنا إهراق دمع المآقيا ... مصابيح داجيها لخطب وداهيا
مذيق العدى كاسات سم الأفاعيا ... تذكرت والذكرى تهيج البواكيا
معاهد كانت بالهدى مستنيرة ... وأراضها بالعلم والدين قد زهت
وقد أينعت منها الثمار فمن يرد ... وأنهارها للواردين شريعة
وقد غردت أطيارها برياضها ... وكنا على هذا زمانا بغبطة
فما كان إلا برهة ثم أطبقت ... فكنا أحاديث كأخبار من مضى
لعمري لئن كانت أصيبت قلوبنا ... لقد زادت البلوى اضطراما وحرقة
فقد أظلمت أرجاء نجد وأطفئت ... لموت إمام الدين والعلم والتقى
إلى أن قال:
وأصبح ناعي الدين فينا مناديا ... وحل بها من موجعات التآسيا
ولما نمى الركبان إخبار موته ... رثيناه جبرا للقلوب لما بها(23/422)
ص -426- ... وغيظ العدى فليبك من كان باكيا ... وحل بنا خطب من الرزء شاجيا
يضيء سناها للورى متساميا ... وهطال سحب العفو من كل غاديا
على قبره ذا ديمة ثم هاميا ... وألحقه بالصالحين المهاديا
وأضحى دفينا في المقابر ثاويا ... ويبهر ضوء الشمس أزكى سلاميا
لشمس الهدى بدر الدجى علم الهدى ... لئن ظهرت منا عليه كآبة
فقد كسفت للدين شمس منيرة ... سقى الله رمسا حله وابل الرضى
ولا زال إحسان الإله وبره ... وأسكنه الفردوس فضلا ورحمة
عليه تحيات السلام وإن نأى ... يفوق عبير المسك عرف عبيرها
* * *
مضى لسبيل كلنا فيه ماضيا ... ربوع ذوي الإسلام منه خواليا
بآثار آباء كرام المساعيا ... وأحيوا من الأعلام ما كان عافيا
يقصر عن تعدادهن نظاميا ... وليس يواريها غطاء المعاديا
وبالعفو عنهم يا مجيب المناديا ... إلى الخير يا من ليس عنا بلاهيا
فيا معشر الإخوان صبرا فإنما ... فإن أفل البدر الفريد وأصبحت
فقد شاد أعلام الشريعة واقتفى ... همو جددوا الإسلام بعد اندراسه
وكم لهمو من منحة وفضيلة ... مناقبهم لا يحصيها النظم عدة
فيا رب جد بالفضل منك تكرما ... وأبق بنيهم سادة يقتدى بهم(23/423)
ص -427- ... الشيخ عبد الله أبا بطين رحمه الله
هو الإمام العالم العلامة، الفقيه البحر الفهامة، المدقق النبيه، المحقق الموفق، مفيد الطالبين وقامع المشبهين، شيخ الإسلام: عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن عبد الله بن سلطان بن خميس أبا بطين العائذي، ولد في بلد الروضة سنة 1194 من الهجرة، ونشأ بها نشأة حسنة، في الديانة والصيانة، والعفاف، وطلب العلم.
أخذ العلم عن الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، والشيخ محمد بن عبد الله بن طراد الدوسري الحنبلي؛ فمهر في الفقه، وفاق أهل عصره في إبان نشاته، ثم ارتحل إلى شقراء، وأخذ العلم عن الشيخ عبد الله بن عبد العزيز الحصين، في التفسير والحديث والفقه، وأصوله، وأصول الدين، حتى برع، وأخذ عن الشيخ أحمد بن حمزة بن رشيد العفالقي الأحسائي ثم المدني، وعن الشيخ حمد بن ناصر بن معمر، واجتهد حتى صار منارا يهتدى به، وإماما يقتدى به.
ولي القضاء زمن الإمام سعود في بلد الطائف، ودرس فيه؛ وأخذ عنه جماعة في الحديث والتفسير، وعقائد السلف، ثم رجع إلى بلده قاضيا عليها وبلدان الوشم.(23/424)
ص -428- ... قال الشيخ إبراهيم بن عيسى: هو الإمام، والحبر الهمام، العالم العلامة، القدوة الفهامة، حسن السيرة والورع، والديانة، والصيانة، والعفاف، جلدا على التدريس، لا يمل ولا يضجر، ولا يرد طالبا، كريما سخيا، وقورا دائم الصمت قليل الكلام، كثير التهجد والعبادة، حسن الصوت بالقراءة، قراءته مرتلة مجودة، معرضا عن القال والقيل، ماشيا على أهدى سبيل، وأثنى عليه هو وغيره، وهو أشهر من أن يذكر.
وله:
1- حاشية على شرح المنتهى مجلد.
2- حواش وتعليقات على شرح الزاد وغيره.
3- رسالة في تجويد القرآن.
4- كتاب كشف تلبيس داود بن جرجيس.
5- الانتصار، رد عليه أيضا.
6- فتاوى تبلغ مجلدا، فرقناها في مواضعها. وكتب كثيرا من الكتب الجليلة بخطه الحسن المتقن، ونقل على كثير منها كثيرا من الفوائد.
وصار قاضيا أيام الإمام تركي، في عنيزة وبلدان القصيم.
أخذ عنه العلم جماعة منهم: ابنه عبد الرحمن، والشيخ محمد بن عبد الله بن مانع، والشيخ محمد بن عبد الله بن سليم، والشيخ محمد بن عمر بن سليم،(23/425)
ص -429- ... والشيخ علي بن محمد بن راشد، والشيخ إبراهيم بن حمد بن عيسى، وابنه الشيخ أحمد، والشيخ علي بن عبد الله بن عيسى، والشيخ حسن بن علي، والشيخ عبد العزيز بن محمد، والشيخ محمد بن إبراهيم بن سيف، والشيخ محمد بن عبد الله بن حميد، والشيخ علي بن محمد، والشيخ علي البناني، والشيخ علي بن محمد آل مقبل، والشيخ إبراهيم بن عجلان، والشيخ سليمان بن عبد الرحمن، والشيخ عبد الله بن عبد الكريم، والشيخ صالح بن حمد بن نصر الله، وغيرهم جم غفير.
توفي رحمه الله تعالى في شقراء، سنة 1282?.
الشيخ عبد العزيز بن حسن رحمه الله تعالى
هو العالم العلامة، الأريب الأديب، ذو العنصر الزكي، والبيت التقي، الشيخ الفاضل: عبد العزيز بن حسين بن عبد الله بن محمد بن يحيى، من جرثومة بني لام، الذين لهم سابقة مشهورة قديمة في الإسلام، ولأهل الإسلام.
ولد في بلدة ملهم وشب بين أبويه وعمومته.
وأخذ العلم عن الشيخ محمد بن مقرن، ثم رحل إلى الشيخ عبد الرحمن بن حسن، فأخذ عنه الفقه والتفسير، والتجويد والعربية وغيرها، وعن ابنه الشيخ عبد اللطيف وغيرهم.
وكان رحمه الله شهما، هماما تقيا، آمرا بالمعروف(23/426)
ص -430- ... ناهيا عن المنكر، مفيدا للطالبين واعظا للراغبين، قامعا للمفسدين، لا تأخذه في الله لومة لائم، سخيا حسن الخلق، ذا عفاف وسمت، وفصاحة وكرم وسماحة.
وكان يلقب بـ "حصام".
ولي القضاء في ولاية الإمام فيصل، وله فتاوي.
أخذ عنه العلم ابنه الشيخ ناصر، وعبد الرحمن وسعد.
وقرأ عليه ابنه عبد الله، وأخذ عنه الشيخ حمد بن عبد العزيز، والشيخ عبد الله بن حمد الحجازي، والشيخ محمد القصير وعلي القصير، وعبد الرحمن بن عبد العزيز، وعبد المحسن ومحمد آل يحيى، وعبد الله بن مفدى، وناصر بن ناصر وغيرهم.
توفي رحمه الله تعالى سنة 1298?.
الشيخ حمد بن عتيق رحمه الله تعالى
هو الإمام العلامة، الورع الفهامة، الثقة الفارس في العلوم، ذو الهمة والشجاعة، الشيخ: حمد بن علي بن محمد بن عتيق بن راشد بن حميضة، ولد في الأفلاج 1، وأخذ العلم عن الشيخ عبد الرحمن بن حسن، وابنه الشيخ
__________
1 وذكر الشيخ إسماعيل بن سعد بن إسماعيل بن حمد بن عتيق أنه ولد في الزلفى ولم يظهر له أيضا أنه أخذ العلم عن الشيخ عبد اللطيف فالله أعلم.(23/427)
ص -431- ... عبد اللطيف، والشيخ علي بن حسين وغيرهم، وبرع في العلوم. وكان له حظ من العلوم، وإقدام وشهامة، وعبادة وتهجد، وطول صلاة ولهج بالذكر، شديد المحبة للعلم وكتابته ومطالعته، وتصنيفه والحث عليه. قال الشيخ سليمان بن سحمان، رحمه الله:
لحل عويص المشكلات البوادر ... إذا ما تبدت من كفور مقامر
فحل على هام النجوم الزواهر ... يعوم بتيار من العلم زاخر
يجدد من منهاجهم كل داثر ... ويعمر من بنيانه كل دامر
بها وارتقى مجدا سمي المظاهر ... فليس له في عصره من مناظر
وفي العلم ذو حظ أطيد ووافر ... أريب رسيب الجأش ليس بطائر
إذا ما أجنت حالكات الفواقر ... يعز علينا أن نرى اليوم مثله
وللشبهات المعضلات وردها ... فلله من حبر تصعد للعلا
ولله من حبر إمام وبلتع ... ويقفو لآثار النبي وصحبه
ويحيي علامات من العلم قد عفت ... إمام تزيا بالعبادة فاستمى
لقد كان إماما في السماحة والندى ... وفي الحلم قد أضحى لعمرك آية
تقي نقي ألمعي مهذب ... وبدر منير يستضاء بضوئه
إلى أن قال:
حميد المساعي مشمعل المآثر ... وقد كان ذا علم يفقه الأواخر
تسامى بها فوق النجوم الزواهر ... فما حمد بالعلم إلا متوج
عليم بفقه الأقدمين محقق ... وقد حاز في علم الحديث محلة(23/428)
ص -432- ... من القول بالفتوى وقطع التشاجر ... فضائله أعيت على كل حاصر
سميا شهيرا بين باد وحاضر ... وبالسلف الماضين كان اقتفاؤه
وفي كل فن فهو للسبق حائز ... وحسبك أن قد صار مشهور فضله
له عشرة من الولد. أخذ عنه العلم منه ابنه الشيخ سعد، والشيخ عبد العزيز، والشيخ عبد اللطيف، وأخذ عنه الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، والشيخ محمد بن عبد اللطيف، والشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف; والشيخ سليمان بن سحمان، والشيخ عمر بن يوسف، والشيخ حسن بن عبد الله بن حسن، والشيخ حسن بن حسين، والشيخ عبد العزيز الصيرامي، والشيخ محمد بن علي آل موسى، والشيخ سعود بن مفلح، والشيخ ناصر بن حسين، والشيخ عبد المحسن بن باز، وخلق.
وله حاشية على التوحيد، وردود، ونصائح، ورسائل، وفتاوي، فرقناها على حسب الترتيب.
[وفاته وما قيل في رثائه]
توفي رحمه الله سنة 1301?، وبكت عليه الخلق، واشتد الحزن، قال الشيخ سليمان بن سحمان يرثيه:
وشمس الهدى فليبك أهل البصائر ... عليه كثج المعصرات المواطر
خلي من الأشجان ليس بغائر ... وثلم من الإسلام إحدى الفواقر
على الحبر بحر العلم بدر المنابر ... وأية عين لا تثج بمائها
فلا نعمت يوما ولا قلب قالئ ... فوالهفا من فادح جل خطبه(23/429)
ص -433- ... ورزء فظيع بل مريع ولائع ... بشمس هدى أضحى نزيل المقابر
ثم قال:
وأقوت رباع من حماة أساور ... يغطي سناها كل باغ وكافر
ونهي الورى عن موبقات المناكر ... لتأخذه في الله لومة ساخر
لئن كان قد أضحى له القبر منْزلا ... لقد كسفت للدين شمس منيرة
لقد عاش في الدنيا على الأمر بالتقى ... يجاهد في ذات الإله ولم يكن
إلى أن قال:
وصار إلى رب كريم وغافر ... لدن طرق الناعي بفخر المحاظر
يضعضع من ركن الهدى كل عامر ... وأظلم من نجد سطيع الدساكر
ورحمته والله أقدر قادر ... فأضحى رهينا في المقابر آويا
لقد صابنا صاب من الحزن مفجع ... وأرق جفن العين خطب عصبصب
فجالت لنا الأشجان من كل جانب ... تغمده المولى الكريم بفضله
الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن رحمهما الله تعالى
هو الإمام العلامة الحبر الفهامة، المحدث الفقيه، الواعظ المحقق النبيه، العامل الزاهد التقي، الشيخ الفاضل: إسحاق بن الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
ولد سنة 1276?، في بلد الرياض، ونشأ نشأة حسنة، وأخذ العلم عن أبيه الشيخ عبد اللطيف، والشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، والشيخ حمد بن عتيق، والشيخ محمد بن محمود، والشيخ(23/430)
ص -434- ... عبد الله بن حسين المخضوب، والشيخ عبد العزيز بن صالح بن مرشد. وارتحل إلى الهند سنة 1309?، وأخذ عن الشيخ نذير حسين، وحصل له منه ومن غيره السماع والقراءة والإجازة، وأخذ عنه الحديث المسلسل عن مشائخه، وأخذه من طريق علماء الهند عن المولوي، وقرأ عليه ثم ارتحل إلى بهوبال، فقرأ فيها على الشيخ حسين بن محسن الأنصاري، والشيخ سلامة الله وأجازاه. وأخذ عن الشيخ محمد بشير وغيرهم، وأخذ عن علماء مصر وغيرهم، وحصل له منهم أيضا السماع والقراءة والإجازة.
ونبغ في عصره وبرع في فنون العلم: الأصول والفروع، والنحو وغيرها، حتى صار إماما يقتدى به، فاضلا ورعا يهتدى به، حسن السمت دائم البشر، مشتغلا بإلقاء الدروس، غزير الفوائد، كثير التحري فيما يورده، كثير التواضع؛ شهد له بالفضل والنبل، أهل التحقيق والإنصاف. قال الشيخ سليمان بن سحمان:
سلالة أنجاب كرام ذوي مجد ... فتى ألمعي لوذعي مهذب
وقال فوزان بن عبد الله السابق، رحمه الله بعد ثنائه عليه:
وحاز لما يسمو به في المجالس ... وأعني به بحر العلوم ومن سما(23/431)
ص -435- ... وهد بناء الناكبين الأبالس ... وجاؤوا بهمط من تشيع البسابس
بها صار أهل الزيغ من كل حادس ... وجدد من أعلامه كل طامس
لعلم نصوص الوحي خير ممارس ... ذوي الجرح والتعديل من كل فارس
وعلم بما قد حاز أهل التنافس ... لها الخط في بحث من العلم دارس
لآلئ در نضدت في الملابس ... وأردى لأعداء الشريعة والهدى
وفرق جمعا منهم قد تألبوا ... وجلّى بنص الوحي كل ضلالة
فأعلى لركن الحق بعد وهائه ... وذاك الذي يدعى بإسحاق من غدا
وقدوة خير للثقاة أولي التقى ... فيا من له حلم وعقل وفطنة
أجل منك فكرا في مطاوي دفاتر ... ترك بديعا من عويص غويصه
[تلاميذه ووفاته وما قيل في رثائه]
وفضله ومناقبه مشهورة، ومجالسه بالعلم معمورة. أخذ عنه العلم الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف، والشيخ عبد الله العنقري، والشيخ عبد الله بن فيصل، والشيخ فالح، والشيخ سالم الحناكي، والشيخ عبد الله السياري، وعبد العزيز بن عبد الله بن عبد الوهاب، والشيخ عبد العزيز بن عتيق، والشيخ عبد الرحمن بن محمد بن داود، وغيرهم. وله رد على ابن حنش، ورسائل ونصائح وفتاوى فرقناها على حسب الترتيب.
توفي رحمه الله وعفا عنه، في بلد الرياض، سنة 1319?، وبكته تلك المجالس المعمورة بتعليمه وتفهيمه، وأصيب المسلمون به، ورثاه بعض الأدباء، ومنها ما قاله(23/432)
ص -436- ... فوزان بن عبد الله السابق، مطلعها:
وشمس الهدى فليبك أهل التدارس ... وقلب من الأشجان ليس ببائس
على فقده في الناس ليس بعابس ... بدا سعده خلف النجوم الطوامس
إذا ما دجت مغسوسقات الحنادس ... ويحمي حمى التحقيق عن لبس لابس
وخطب فظيع بل مريع وواكس ... جزاء الفتى بالصبر نيل النفائس
لحبر تقي فاضل غير ناحس ... بهم صين ركن الحق من كل خالس
لعبد منيب سائل غير آيس ... وألبسه في الفردوس خير الملابس
وأنصارهم من كل هاد وسائل ... على الحبر بحر العلم بدر المدارس
فلا نعمت عين تشح بمائها ... ولا وجه ذي لب تلكّا وقد غدا
فوا حزنا من فقده بعد مالنا ... يعز علينا أن نرى اليوم مثله
وعز الذي بالنص يتقن قوله ... فيا لك من ثلم به الدين قد وهى
فصبرا ذوي الإسلام صبرا فإنما ... وأبدوا الدعا في كل وقت إجابة
سلالة أحبار هداة أئمة ... فيا حي يا قيوم يا خير سامع
تغمده بالغفران منك وبالرضى ... وآباءه بالجود منك فعمهم
الشيخ حمد بن عبد العزيز رحمه الله
هو العالم العلامة، الفقيه الزاهد، المذكر العابد، الشهم النبيه، الشيخ حمد بن عبد العزيز بن محمد بن عبد العزيز بن محمد بن حمد بن علي بن سلامة بن عمران العوسجي البدراني الدوسري، ولد سنة 1245?، في بلدة ثادق.
وأخذ العلم عن الشيخ عبد الرحمن بن حسن، وابنه الشيخ عبد اللطيف، والشيخ محمد بن مقرن، والشيخ عبد(23/433)
ص -437- ... العزيز بن حسن، والشيخ عبد الرحمن بن عدوان، والفرائض عن الشيخ عبد العزيز بن شلوان وغيرهم.
برع في جميع الفنون، وكان يقظا فطنا، قليل المثل في الشهامة والذكاء، والديانة والعبادة، كثير الخير، له قدم راسخ في الفتوى، ووقع في النفوس، دمث الأخلاق، قوي الجأش في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولي قضاء ناحية سدير، في ولاية الإمام فيصل وابنه بعده، ثم في الوشم، ثم في بلدان المحمل بعد الشيخ عبد العزيز بن حسن، وله أجوبة سديدة، ونصائح مفيدة، ومجالس في التدريس، أخذ عنه العلم ابنه محمد، وغيره من سائر بلدان المحمل.
توفي رحمه الله تعالى، في شعبان سنة 1330?.
الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف رحمه الله
هو الإمام العالم العلامة الفقيه، الحبر الثقة اليقظ النبيه، الشهم الملك المتقن، الحافظ المجتهد، الورع الزاهد العابد، مفيد الطالبين، ذو العقل الفائض، والرأي الصائب الرائع، والأخلاق السنية المرضية، الشيخ إبراهيم بن الشيخ عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
ولد في بلد الرياض سنة 1280?، ونشأ بها نشأة حسنة، وقرأ بعض القرآن على أبيه عن ظهر قلب؛ وأخذ(23/434)
ص -438- ... العلم أيضا عن أخيه الشيخ عبد الله، والفقه والنحو عن الشيخ حمد بن فارس، وغيرهم.
برع في العلوم النقلية والعقلية، وكان آية في الفهم، لم ير مثله في الذكاء، والفطنة والحفظ، برز في كل فن، حتى كاد يستوعب السنن والآثار حفظا، وفاق أهل عصره.
له المعرفة التامة في الحديث، والتفسير، والفقه، مع ما جمعه الله له من الزهد والعبادة، والورع والديانة، ونصرة الحق، والقيام به. أخذ من ذلك بالمأخذ الأولى، غريب المثل في زمانه، شارف مقام الأئمة الكرام. أجمع أهل وقته على فضله، وشهد ذووه بنبله; يضرب به المثل فى الذكاء والشهامة والحفظ، أثنى عليه أهل المعرفة. قال الشيخ سليمان بن سحمان:
فأم إلى هاماتهن الشواهق ... ونهمة مشتاق إليها وشائق
يرى إنما تحصيلها في التسابق ... إلى ثبج هاتيك العلوم الشوارق
فنال المنى منها بأسنى الطرائق ... وليس بغيرالعلم ترجى لوامق
أبي وفي عالم بالحقائق ... كريم سليم القلب دمث الخلائق
نقيبته التقوى وبغض المماذق ... يروم المعالي باهتمام ورغبة
بهمته العليا لنيل مرامها ... وقلب عقول مطمئن مفهم
فعام بتيار المعارف قاصدا ... علوم أصول الدين والفقه فارتوى
بهن ينال المرء كل فضيلة ... فلله من حبر هزبر محقق
تقي نقي ألمعي مهذب ... لبيب أريب أحوذي موفق(23/435)
ص -439- ... وذي حذر عن معضلات العوائق ... وقاد ذهن حازم متيقظ
* * *
وليس بطياش ولا المتحامق ... وميل إلى القول الصواب الموافق
لحل عويص المشكلات الدقائق ... يفوق بها الأقران من كل حاذق
لما كان معنيا يراد لسائق ... وعلم وتحقيق وحلم مطابق
وليس لأعداء الهدى بالمرافق ... وذي دغل جاف جهول منافق
على رغم أنف الكاشح المتحاذق ... وقد كان ذا عقل رزين مؤيد
له في فنون العلم باع ومسرح ... يغوص بفهم ثاقب متوقد
وإدراك ذي علم وحسن روية ... وحفظ وإتقان وحسن تصور
يؤم إلى كل العلوم بخبرة ... قريب إلى أهل التقى وذوي النهى
بعيد عن الأشرار من كل فاسق ... حباه إله العرش منه تفضلا
* * *
إذا ما دهتهم معضلات الوثائق ... بكل الذي يهوى بمحض الحقائق
وأقوال أهل العلم من كل سابق ... يقول به الأصحاب من كل لاحق
على قمع صنديد كفور مشاقق ... بأهل الهدى أو مستريب منافق
لدى الناس لا تخفى على كل رامق ... تحلى فأضحى فائقا كل فائق
وقد كان للطلاب كهفا وموئلا ... فيصدر كل من أولئك راجعا
فيفتيهمو بالنص إن كان واردا ... فإن لم يجد أقوالهم قال بالذي
وقد كان لي بالحق خير مساعد ... ومبتدع في الدين أو متهوك
فسيرته محمودة مستفيضة ... بكل جميل من محاسن من مضى(23/436)
ص -440- ... وكان رحمه الله هينا لينا، مهابا سمحا، كريما متحببا، ومفيدا للطالبين، قويا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يُهاب ولا يَهاب، ولا يخاف في الله لومة لائم، له قوة وإقدام، وشهامة وهيبة منها العجب، كريما عن الدنيا لا يذكرها، ولا تدور فى ذهنه، روي من كرم أخلاقه، وحسن عشرته، ووفور حلمه، وغزير فطنته ما لا يدرك.
ولي القضاء في بلدة الرياض من سنة 1321?، إلى أن توفي رحمه الله. وله مجالس في التدريس كثيرة، زاهرة بالعلم مستنيرة، أخذ عنه بنوه الشيخ محمد، وعبد الله، والشيخ عبد اللطيف، قرأ عليه القرآن.
وأخذ عنه العلم ممن تأهل، وتولى القضاء: الشيخ عبد الملك بن الشيخ إبراهيم بن حسين، والشيخ عبد الرحمن بن داود، والشيخ عبد الله بن حمد الدوسري، والشيخ مبارك بن باز، والشيخ عبد الرحمن بن سالم، والشيخ فالح بن عثمان، والشيخ إبراهيم بن حسين بن فرج; والشيخ سالم الحناكي، والشيخ سعد بن سعود، وغيرهم ممن تأهل الجم الغفير. فله رد على أمين بن حنش، وفتاوي فرقناها في مواضعها.
[وفاته وما قيل في رثائه]
توفي رحمه الله تعالى، وأسكنه النعيم المقيم سنة 1329?، ورثاه جمع، منهم الشيخ: سليمان بن سحمان، قال:(23/437)
ص -441- ... نريق كصوب المدجنات الدوافق ... وحق لذي لب محب ووامق
على الشيخ إبراهيم شمس الحقائق ... من اشتهروا بالفضل بين الخلائق
من الأرض في غربها والمشارق ... وهدوا رعان الكفر من كل شاهق
وبدر سمت أنواره في الغواسق ... على الحبر بحر العلم شمس الحقائق
دما بدموع وكفها متتابع ... إراقة دمع العين سحا ودائما
على علم الأعلام نجل ذوي التقى ... همو أظهروا الإسلام في كل وجهة
همو جددوا الإسلام بعد اندراسه ... فلهفي على شمس تشعشع ضوؤها
* * *
ورزء دهى بالمعضلات الطوارق ... لست من الساعات من جنح غاسق
ثلاث مئين بعد ألف مطابق ... فأعول كل بالبكا والتشاهق
كصبح تولوا بالحبيب المفارق ... وسالت جفون بالدموع الدوافق
وكهلا إلى غير النهى غير تائق ... فما طرقتنا ليلة بمصيبة
لست مضت من شهر ذي الحجة انتهى ... لتسع سنين بعد عشرين قد تلت
بأعظم منها لوعة ومصيبة ... ولا كصباح مر يوما بمره
فضجوا جميعا بالبكاء وبالدعا ... لفقد محب كان مذ شب يافعا
إلى أن قال:
يفوز بها أهل التقى والسوابق ... وخالقنا الرحمن رب المشارق
ومحو الذنوب المثقلات العوائق ... لقد خلف الأحزان في كل وامق
لئن كان في الدنيا على خير حالة ... لدى الملك العلام ذي العرش والعلا
فنرجو من المولى له العفو والرضى ... وإن كان قد أضحى رهينا لرمسه(23/438)
ص -442- ... من العلم للطلاب بين الخلائق ... من الحزن لم يلمم بها حزن ماذق
عليه علا من فوق سبع الطرائق ... لهيب لظى عند احتضار المضائق
وأضحت ربوع العلم قفرا دوارسا ... فيالهف نفسي قد أمضى بها الضنا
فيا من على العرش استوى فوق خلقه ... أنله الرضى والفوز بالقرب واكفه
وبكاه ورثاه الخلق الكثير، منهم الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري، فقال:
ونرخي أكفا للدعاء ونرفع ... تلم لنا شعثا وللشمل تجمع
أتانا بها أمر فظيع مروع ... وأيتمني والقلب مني مصدع
ومن في فنون العلم بحر مترع ... وحق لها عند الزلازل تدمع
وقلبي لفقد الأكرمين مفجع ... إلى الله نشكو ما دهانا ونفزع
عسى نفحة من جوده حين سؤلنا ... فما مر في أزماننا مر ساعة
فما أوحش الدنيا علينا بما دهى ... بموت إمام فاضل متفضل
لقد سالت العينان مني بالبكا ... وهي شديد من خطوب جليلة
* * *
تكاد لها الأحشاء مني تقطع ... وهد بسور الدين من أين يرقع
وبدرا على أهل البسيطة يسطع ... ونجم لطلاب الهداية يطلع
غياهب سحب الغي عنا يقشع ... ويبدو لنا التوحيد يسمو ويلمع
فيا لك من جرح ممض ولوعة ... ويا لك من رزء فظيع على الورى
لقد كان شمسا للورى مستنيرة ... شهاب على هام الشياطين مرصد
إذا ما دجا ليل الشكوك وأظلمت ... فتضحى لنا السمحا يلوح طريقها(23/439)
ص -443- ... ويدخله الجنات يرقى فيرفع ... إلى صالح الأعمال بالسعي يسرع
أمنّ علينا من الآباء وأنفع ... عسى ربنا الباري يجود بمنه
إلى حضرة الفردوس من كل مخلص ... ويبقي لنا ذرية الشيخ منهمو
الشيخ حسن بن حسين، رحمه الله
هو الإمام العالم العلامة، الفقيه الفهامة، الفاضل الزاهد العابد، الشيخ: حسن بن الشيخ حسين بن الشيخ علي بن الشيخ حسين بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ولد سنة 1267?، في بلد الرياض، ونشأ بها.
أخذ العلم عن الشيخ عبد الرحمن بن حسن، وابنه الشيخ عبد اللطيف، والشيخ عبد الله بن حسين المخضوب، والشيخ عبد الرحمن بن عدوان، والشيخ محمد بن محمود، والشيخ حمد بن عتيق. وأخذ الفرائض عن الشيخ حمد بن فارس، وغيرهم، وبرع في فنون العلم.
وكان فاضلا، ورعا، حسن السمت، دائم البشر، كريم النفس، مشتغلا بإلقاء الدروس المفيدة، نفاعا للخلق، حسن الخلق والخلق، له فضل وجلالة، وطال عمره ونفع الله به الخلق.
وَلِيَ القضاء للإمام عبد الله بن فيصل في الأفلاج، وفي ناحية سدير، وفي الرياض في ولاية ابن رشيد; وله(23/440)
ص -444- ... مجالس مشهورة في البلدان التي ولي القضاء فيها، ثم في منفوحة، ورسائل وفتاوى.
أخذ عنه العلم أبناؤه: الشيخ حسين، والشيخ عبد الله، وعمر; وأخذ عنه الشيخ محمد، والشيخ إبراهيم، والشيخ عبد الرحمن، بنو الشيخ عبد اللطيف، والشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري، والشيخ عبد الله بن فيصل، والشيخ عبد الرحمن بن سالم، والشيخ إبراهيم بن ناصر، والشيخ سعد بن سعود، والشيخ إبراهيم السياري، والشيخ حسن بن إبراهيم بن عبد الملك، والشيخ عبد الملك بن إبراهيم; والشيخ مبارك أبو حسين، والشيخ فالح، والشيخ سالم، ومحمد بن حميد، وخلق.
توفي رحمه الله تعالى، وعفا عنه، سنة 1341?، في الرياض، وبكته الناس، ورثاه عبد الرحمن بن عقلا وغيره، ومنهم ابنه عمر في مرثية مطلعها:
على الحبر بحر العلم شيخي ووالدي وقطب رحى ذا الدين جم المحامد
الشيخ سليمان بن سحمان، رحمه الله
هو الإمام النبيل، الورع الزاهد، العابد، مفيد الطالبين، قامع المبتدعين، كاشف شبهات المشبهين والمبطلين، حامي حوزة الدين، صاحب التصانيف المشهورة، والفضائل المأثورة، البليغ المصقع، اللوذعي(23/441)
ص -445- ... البلتع، الثقة الحجة، مشيد أعلام المحجة، الشهم اليقظان، الشيخ سليمان بن سحمان، ولد سنة 1268?، في قرية السقا من بلدان أبها، ونشأ بها حتى راهق البلوغ، قال رحمه الله:
وأرض بها علي نيطت تمائمي ... تسمى السقا دار الهداة أولي الأمر
بلاد بني تمام حيث توطنوا ... وآل يزيد من صميم ذوي الفخر
ثم انتقل منها إلى الرياض، وأخذ العلم عن الشيخ عبد الرحمن بن حسن، وابنه عبد اللطيف، وابنه الشيخ عبد الله، والشيخ حمد بن عتيق، والشيخ حمد بن فارس، وغيرهم.
وبلغ في العلوم مبلغا، حتى صار منارا يهتدى به، إماما هماما، شهما مقداما، أصوليا مجتهدا، متبحرا، كثير التصانيف، كشف جميع شبه المشبهين نظما ونثرا؛ حتى أدحض حججهم، وأرغم أنوفهم، منارا يهتدى به، أمة وحده، وفردا حتى نزل لحده.
أخمل من القرناء كل عظيم، وأخمد من أهل البدع كل حديث وقديم، قام في رد الشبه مقاما فاق به أهل وقته؛ فثبته الله وسدده، وأدحض به الباطل وأخمده، شهد له بالفضل والأمانة من اجتمع به من أهل الشهامة، ووقف على نثره ونظامه، وحسن تعبيره وانسجامه، وأثنى عليه القريب والبعيد، ومسطره بذلك شهيد.(23/442)
ص -446- ... قال محمد بن حسين الأنصاري الهندي:
بسرور مبشر بالأمان ... ثابت الجأش ما له من ثان
وفيها قد قام بالبرهان ... ذا سليمان عالي البنيان
وعلوما تسمو مدى الملوان ... مما يشين في كل آن
وبكتب تخال مثل السنان ... وسيف في حلبة الميدان
فبعضب يرى كسيف يمان ... حق له ديدن على كل شان
طائر السعد بالتهاني أتاني ... أن بدا طالع الزمان بحبر
بعلوم بها لقد أفحم الخصـ ... أعني حبر الأنام قدوة نجد
فسليمان جل قدرا وفضلا ... سالم العرض والشمائل والأخلاق
قامع الملحدين منه بوعظ ... بلسان كوابل الغيث في السلم
يفحم الخصم بالدليل وإلا ... يطلب الحق والرشاد إلى الم
وقال الشيخ محمد بن حسن المرزوقي، صاحب قطر، مقرظا على كتاب له:
لسحمان سامي القدر والبشر ... وشاد برهانه في واضح الخبر
فصار يحكي سناها ساطع القمر ... والحق يعلو وليل الجهل ذو غير
من مخلب الليث فتكا غير منجبر ... نجد القصيم وآل الشوم في هجر
يعزى لفارس ثغر الدين في زمن ابن ... شهما نبيلا حوى فهما ومعرفة
كم سنة صاح أحيا رسم دارسها ... وبدعة درست واندك شامخها
كم جاهل جال في الميدان حل به ... من العراق وشام والحجاز إلى(23/443)
ص -447- ... وقال الشيخ عبد اللطيف بن الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف، بعد ثنائه على عمه الشيخ عبد الله:
ففينا أخو السمحاء غيظ المحارب ... يذود عن السمحاء كل مشاغب
يناضل عن دين الهدى كل ثالب ... وبذل جود في الليالي السواغب
فحل على هاماتها والغوارب ... غدا واحدا في شرقها والمغارب
ويحمي حمى السمحاء عن ثلب ثالب ... وردما عن الأعداء أهل المشاغب
لئن كان شيخ الجود أضحى موليا ... عسى الله أن يبقي نبيلا مهذبا
عنيت سليمان بن سحمان من غدا ... إمام همام ماجد ذو تورع
له همة تسمو إلى المجد والعلا ... إمام همام ماجد متورع
يرى نصرة الإسلام حقا وواجبا ... لقد كان بدرا في البسيطة ساطعا
[مصنفاته ومكانته]
وقال الشيخ محمود شكري الألوسى: هو علامة الزمان، وملاذ الفضل والعرفان، الكمال المجسد، والفرد الأوحد، ذو التصانيف الفائقة، والتآليف الرائقة، وهو أشهر من أن ينبه عليه. وله المصنفات المقبولة; منها:
1. الأسنة الحداد، في رد شبهات علوي الحداد
2. كتاب هداية الأنام وجلاء الأوهام، عن معتقد الإمام، وعلم الهداة الأعلام، الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
3. الجواب المنكي في الرد على الكنكى.
4. البيان المبدي لشناعة القول المجدي، في الرد على أبا بصيل.(23/444)
ص -448- ... 5. التبيان في القول المنيف، في الرد على ابن عمرو، مجلد، ومجلد آخر أخصر منه، وجزء أيضا في الرد عليه.
6. كشف غياهب الظلام، عن أوهام جلاء الأوهام، وبراءة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، عن مفتريات هذا الملحد الكذاب، علي أحمد باشا.
7. كتاب الضياء الشارق، في رد شبهات الماذق المارق، جميل أفندي الزهاوي.
8. تنبيه ذوي الألباب السليمة، عن الوقوع في الألفاظ المبتدعة الوخيمة.
9. كتاب تبرئة الشيخين، عن تزوير أهل الكذب والمين، رد على ولد الصنعاني.
10. إقامة الحجة والدليل، وإيضاح المحجة والسبيل، على ما موه به أهل الكذب والمين، من زنادقة أهل البحرين.
11. الصواعق المرسلة الشهابية، على الشبه الداحضة الشامية.
12. كشف الشبهتين، عن رسالة يوسف بن شبيب، والقصيدتين.
13. الجواب المستطاب عما أورده الجاهل المرتاب، المسمى بمبروك.
14. كشف الأوهام والالتباس، عن تشبيه بعض الأغبياء من الناس.(23/445)
ص -449- ... 15. الجواب الفارق بين العمامة والعصائب.
16. حل الوثاق في أحكام الطلاق.
17. نبذة في الزيارة.
18. إرشاد الطالب إلى أهم المطالب.
19. منهاج الحق.
ورسائل ونصائح وأجوبة، فرقناها في مواضعها على حسب الترتيب، فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين أحسن الجزاء، وأعلى منازله في جنات العلا؛ فلقد نصر الإسلام وأظهره، وقمع الباطل وأدحضه، واشتهرت مصنفاته، وأثني عليها.
قال الشيخ حمود بن حسين الشغدلي، في ثنائه عليه ومصنفاته: فهي من أكبر النعم على الطلاب النجديين الموحدين، من الشرقيين والغربيين، ثم قال:
وذلك من تذكار فقد الأجلة ... فغادرنا جيش الهنا والمسرة
تزف لأرباب الهدى والعناية ... لأهل التقى في كل قطر وبلدة
لنصر الهدى مشحونة بالأدلة ... يصول بها أهل الشقا والتعنت
ذوي الشرك والأطر أو جحد الألوهة ... توالت همومي مدة وأمضت
وقلة من يرجى لكبت عادتنا ... وما هو إلا طبع كتب أنيقة
فجاءت على وفق المنى تنشر العلا ... فقربها يا صاح عينا فإنها
وفيها الهدى من كل شك وشبهة ... كمثل الغلاة الناكبين عن الهدى(23/446)
ص -450- ... ومن كان عن نهج التقى ذا جفاوة ... كذا كل فدفد إن تجاوز واعتدى
* * *
فأعظم بها من نعمة قد تجلت ... وأردى بها أهل الخنى والشقاوة
أريب نهيك سابق في النكاية ... إذا جاء خطب أو قيام بضلة
يجندل أهل الزيغ في كل حفرة ... بنثر ونظم مفحم مع عذوبة
ويزداد غما عندها ذو الغواية ... وأبقاه دهرا ناشرا للفضيلة
مع السادة الأبرار في خير رفعة ... أضاءت لنا كالشمس في فلك العلا
أقام بها سوق الجهاد وما انثنى ... إمام همام لوذعي ومصقع
وشهم حديد ألمعي غشمشم ... عنيت سليمان بن سحمان من غدا
فسل عنه ما أبداه للناس جهرة ... يسر بها والله من كان منصفا
جزى الله منشيها المسرة دائما ... ومن بعده الحسنى بخلد مؤبد
وقال الشيخ فوزان بن عبد العزيز:
ملفقات لهم نالوا بها الشللا ... مردي العداة الذي للحق قد عقلا
منه الردود على الأعدا وما غفلا ... معالم الحق إذ أحيا له سبلا
مسيرة الشمس في الأقطار إذ فضلا ... في بحره وانجلى بالحق ما انسدلا
وانظر صواعق علم أحرقت شبها ... الجهبذ الفاضل الموهوب تكرمة
ومن حمى ملة الإسلام وانتشرت ... بالنظم حقا وبالمنثور فاتضحت
أعني سليمان من سارت فضائله ... فانظر لحزب الردى حقا فقد غرقوا
وقال الأديب: محمد بن عبد العزيز الهلالي، مقرظا لديوانه: أملاه الحبر الأريب الماهر، والبحر العذب(23/447)
ص -451- ... الزاخر، معجز الأوائل والأواخر، لم يسبقه إليه سابق، ولا أظن يلحقه في مثله لاحق، ثم قال بعد ثنائه على ما كان له، من الشعر في نصرة الهدى:
ومن لم يزل في حلة المجد قد رفل ... وذو الأدب السامي على كل من نقل
كما أنه في العلم أضحى هو الأجل ... فما فن إلا حظه فيه قد كمل
ووثبته كالليث إن هم ما نكل ... لمستبهر يدري وعن ربه عقل
أتى عن رسول الله بالقول والعمل ... له في ذرى الإنصاف حظ ومدخل
كمثل الذي أملاه نحرير عصرنا ... سليمان من يعزى لسحمان ذو الحجى
لقد كان في بحر البلاغة واحدا ... حوى العلم مع نثر الكلام ونظمه
يحل عويص المشكلات بفكره ... فما نثره إلا كشمس منيرة
دلائل من آي الكتاب أو الذي ... وقول ذوي التحقيق من كل جهبذ
* * *
ولكنه الأبهى لدى كل من عقل ... من الشيح والحوذان والكرش والنفل
وغنى به طفل وشيخ ومكتهل ... بشبهته أدلى وبالباطل احتفل
من السنة الغرا ومحكم ما نزل ... وارتقى للمكرمات ولم يزل
أتى شطحا في الدين بالقول والعمل ... وما نظمه إلا كعقد منضد
وما هو إلا روضة طاب نبتها ... إذا قال قولا سار في الناس منشدا
قصاراه نصر الدين أو قمع مارق ... فيكشف ما أوهى بأقوى دلالة
فديوانه هذا يدل بأنه سما ... ينافح عن دين الهدى كل مبطل
[تلاميذه]
أخذ عنه العلم أبناؤه: صالح، وعبد العزيز،(23/448)
ص -452- ... وعبد الله، ومحمد بن الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، والشيخ عبد اللطيف، والشيخ عبد الملك أبناء الشيخ إبراهيم، والشيخ عبد العزيز بن صالح بن مرشد، والشيخ سليمان بن حمدان، والشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن حسين، وغيرهم. وهو القائل:
حنيفية نسقي لمن غاظنا المرا ... سنصقعه صقعا ونكسره كسرا
نعم نحن وهابية حنفية ... ومن هاضنا أو غاظنا بمغيظة
والقائل:
فعاد حسيرا خاسئا نائلا شرا ... نصول على الأعداء فنأطرهم أطرا
وكم من أخي جهل رمانا بجهله ... بمحكم آيات وسنة أحمد
والقائل:
يؤيد أهل الحق أرجو بها الأجرا ... وألفت كتبا نثرها ونظامها
[وفاته وما قيل في رثائه]
توفي رحمه الله تعالى، وأسكنه الفردوس الأعلى، سنة 1349? في بلد الرياض. ومما قاله حمد بن محمد بن جاسر، يرثيه هو والشيخ سعد رحمهما الله تعالى:
وأمر نافذ ما منه بد ... بنفع أو به قد نيل قصد
سيغلب صبره الخطب الأشد ... قضاء لا يطاق له مرد
وهل يجدي التأسف لو تناهى ... ولكن الصبور ولو تسلى(23/449)
ص -453- ... لشدة وقعه تنهار نجد ... ومجدا ساميا لا يسترد
وحالف أهلها حزن وسهد ... فهل يرجى لها التقويم بعد
يضمهما عن الأنظار لحد ... ومنها النور قدما كان يبدو
وهل خطب كخطب منه كادت ... به فقدت فخارا لا يضاهى
وحالفها خمول مستمر ... هدّا ركنان قد رفع علاها
وأصبح نيراها في خفاء ... فأضحت في ظلام مكفهر
* * *
يؤم أمامه قد سار سعد ... يحاربه كثير وهو فرد
يروم لكيده أشر ووغد ... لنصر الشرعة الغرا يعد
يزينهما لدى العلماء زهد ... إذا قصدا له لم يكب زند
صريح منهما ما فل حد ... حوى التوفيق قولهما الأسد
يقر بذلك خصمهما الألد ... مضى عنها سليمان محثا
فأضحى العلم بعدهما يتيما ... وأضحى الدين بعدهم مهانا
هما سيفان ما لهما نظير ... هما حبران أهل تقى وعلم
ففي حل العويص إذا تعامى ... وفي قمع الكفور بنص وحي
وفي الإفتاء إن قالا بقول ... وحازا للصواب بلا نزاع
الشيخ سعد بن حمد بن عتيق، رحمهما الله تعالى
هو الإمام العالم العلامة، الحبر البحر الفهامة، الحافظ الثقة المحدث المجتهد، المفتي المدرس، الورع الزاهد، بدر زمانه، وسعد أوانه: الشيخ سعد ابن الشيخ(23/450)
ص -454- ... حمد بن علي بن محمد بن عتيق بن راشد بن حميضة، ولد في بلد العمار من الأفلاج.
وأخذ العلم عن والده، ثم سافر لطلب العلم نحو تسع سنين، فأخذ العلم عن الشيخ نذير حسين الدهلوي، والشيخ شريف حسين، والشيخ صديق حسن القنوجي، وعن الشيخ حسين بن محسن الأنصاري الخزرجي، والشيخ محمد بشير السندي، والشيخ سلامة الله الهندي، وأخذ عن الشيخ أحمد بن إبراهيم بن عيسى النجدي، وكلهم أجازوه.
وأخذ عن جماعة من علماء مكة، منهم الشيخ حسب الله الهندي، والشيخ عبد الله الزواوي، والشيخ أحمد أبو الخير، وجم غفير، وبرع حتى أدرك من العلوم حظا وافرا، وفاق أهل زمانه محصولا، وسمق حتى كان حجة حافظا، وكان كامل العقل، شديد التثبت، حسن السمت، حسن الخلق، له اليد الطولى في الأصول والفروع، تام المعرفة في الحديث ورجاله، وكان من العلماء العاملين، واشتهر ذكره في العالمين، وأثنت عليه ألسن الناطقين.
قال الشيخ سليمان بن سحمان: لما رجع من رحلته لطلب العلم من الهند، ثم من مكة إلى بلده الأفلاج:
فآبت لها الألطاف من كل جانب ... مآثر تزهو كالنجوم الثواقب
على بلد الأفلاج أشرق سعده ... هنيئا لكم أهل العمار بمن له(23/451)
ص -455- ... سلالة حبر فاضل ذي مناقب ... هنيئا لكم هذا القدوم بعالم
إلى أن قال:
أخي ثقة في وده غير كاذب ... سمات العلا من عليات المراتب
وللعلم يسمو مشمعل المناقب ... وأهلا به من ألمعي مهذب
تسامت به هماته فتألقت ... فشام إليها طرفه فسما لها
ولو تتبعنا مناقبه وفضائله لطال، أوقع الله محبته في القلوب; وأمده بسعة العلم، وكان كثير الدعاء والابتهال، متواضعا عند العامة، مرتفعا عند الملوك، مجالسه معمورة بالعلماء، مشحونة بالفقهاء والمحدثين، مشتغلا بنفسه، وبإلقاء الدروس المفيدة على أصحابه.
[تلاميذه]
أخذ عنه العلم الجم الغفير، وانتفع بعلمه الخلق الكثير، حسن الإفادة، حسن الاستفادة، أخذ عنه العلم أبناؤه محمد، وعبد العزيز، وحمد. وأخذ عنه إخوته الشيخ عبد العزيز، والشيخ عبد اللطيف، والشيخ عبد الله، ومحمد ابن أخيه عبد العزيز، والشيخ محمد بن عبد اللطيف، والشيخ محمد، وعبد اللطيف وعبد الملك، بنو الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف، والشيخ عبد الله، وعمر، ابنا الشيخ حسن بن حسين، والشيخ سعد بن سعود، والشيخ عبد الرحمن، وإبراهيم ابنا حسين، وعبد الرحمن بن الشيخ إسحاق،(23/452)
ص -456- ... والشيخ عبد اللطيف بن محمد بن عبد الرحمن آل الشيخ، والشيخ محمد بن عثمان الشاوي، والشيخ سليمان بن حمدان، والشيخ عبد الله بن حمد الدوسري، والشيخ إبراهيم بن سليمان، والشيخ فيصل بن عبد العزيز، والشيخ عبد العزيز بن سوداء، وعبد العزيز بن مرشد، وعبد الله بن عبد الرحمن بن غنام، والشيخ عبد الله بن حسن بن إبراهيم بن عبد الملك، وعبد الله بن فوزان، والشيخ عبد العزيز بن محمد الشثري، والشيخ عبد الله بن رشيدان، والشيخ عبد الرحمن بن عودان، والشيخ محمد بن علي البيز، وعبد الله بن سعدون، ومحمد بن إسحاق، وغيرهم خلق لا يحصون.
ونظم متن الزاد وصل إلى الشهادات، وله حجة التحريض في الذبح عند المريض، ونصائح ورسائل، وفتاوى فرقناها في مواضعها. وأملى عند وفاته، على تلميذه عبد العزيز بن صالح بن مرشد، هذه الآبيات:
رزاق يا ذا الفضل والإحسان ... وكذا تقلب مقلتي وجناني
قلبي وتعصمني من الشيطان ... فضي بصاحبه إلى الرضوان
والتابعين لهم على الإحسان ... يا حي يا قيوم يا خلاق يا
بيدك أنفاسي ورزقي كله ... يا رب هب لي رحمة تهدي بها
ومن الضلال عن الصراط القيم المـ ... دين النبي محمد وصحابه(23/453)
ص -457- ... بهوى يضل وبالحطام الفاني ... المستعيذ به من الخذلان
يا واسع الإحسان والغفران ... وقني إلهي فتنة أشقى بها
فأنا الضعيف المستجير بخالقي ... وأنا العظيم الذنب فاغفر زلتي
[وفاته وما قيل في رثائه]
توفي رحمه الله وأسكنه الفردوس الأعلى، في 13 جمادى الأولى، سنة 1349?، في بلد الرياض، وأصيب المسلمون بموته، وضجوا بالبكاء والعويل، والدعاء له، ورثاه جماعة، منهم محمد بن عبد الله بن عثيمين، مطلعها:
ويفقد العلم لا عين ولا أثر ... أهكذا البر تخفي نوره الحفر
إلى أن قال:
بذكر أفعاله الأخبار والسير ... ولا يحابي امرأ في خده صعر
أضحى وقد ضمه في بطنه المدر ... حارت بغامضها الأفهام والفكر
ينتابها زمر من بعدها زمر ... ثكلى عليه ولكن عزها القدر
كانوا فبانوا وفي الماضي معتبر ... فعلمك الجم في الآفاق منتشر
وابك على العلم الفرد الذي حسنت ... من لم يبال بحق الله لائمة
بحر من العلم قد فاضت جداوله ... فليت شعري من للمشكلات إذا
من للمدارس بالتعليم يعمرها ... هذي رسوم علوم الدين تندبه
طوتك يا سعد أيام طوت أمما ... إن كان شخصك قد واراه ملحده(23/454)
ص -458- ... وقال الشيخ عبد الملك بن الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف:
ورزء عظيم قد أهاج بلابل ... وخطب عرا مذك سعير الغلائل
وأظلمت الآفاق من عظم نازل ... وللعين تبكي بالدموع الهواطل
بموت إمام العلم زاكي الشمائل ... بكل فنون العلم بين القبائل
تقي نقي ما له من مماثل ... يراقب ربا ليس عنه بغافل
يقرر للتوحيد بين المحافل ... وذو خشية لله ليس بذاهل
فقيه نبيه فاضل وابن فاضل ... مصاب دهى بالمعضلات النوازل
وكسر دهى الإسلام من أين جبره ... به الأرض ضاقت والسماء تغيرت
فآن لقلبي أن يحالفه الأسى ... لدن جاءنا الناعي مساءً مخبرا
هو الشيخ سعد من غدا متفردا ... إمام لعمري ناسك متورع
إمام لعمري كان بالعلم عاملا ... إمام لعمري كان للعلم باذلا
إمام لعمري ذو علوم كثيرة ... إمام لعمري متقن بل وحافظ
* * *
وغيظ لأفاك جهول مماحل ... ولم يخش في الرحمن لومة عاذل
ويحمي حماها من جميع الغوائل ... تشد إليه مضمرات الرواحل
تراهم عكوفا بين قار وسائل ... يحل عويص مشكلات المسائل
رحيب لأهل الخير يحنو عليهمو ... يجاهد أعداءالشريعة دائبا
وملة إبراهيم أضحى يحوطها ... له مجلس بالعلم يزهر دائما
يأمونه الطلاب من كل وجهة ... فيلقون حبرا للغوامض كاشفا(23/455)
ص -459- ... بها جاء نعي الشيخ جم الفضائل ... وأسكنه الفردوس مع كل عامل
بديمة عفو بالضحى والأصائل ... فما مرنا في دهرنا مر ساعة
تغمده رب العباد برحمة ... سقى الله قبرا حله وابل الرضى
الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، رحمهما الله تعالى
هو الإمام العالم العلامة، الشهم الثقة الفهامة، محيي السنة قامع البدعة، الزاهد الورع العابد، ذو العقل الكامل، والخلق الحافل، أوحد العصر في أنواع الفضائل، أبو عبد الملك شيخ الإسلام، الشيخ: عبد الله بن الشيخ عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
ولد في الأحساء سنة 1265?، وقدم بلد الرياض سنة 1272?، وأخذ العلم عن أبيه وجده، والشيخ حمد بن عتيق، والشيخ عبد الرحمن بن عدوان، والشيخ عبد الله بن حسين المخضوب; والشيخ محمد بن محمود، والشيخ عبد العزيز المرشدي; وفارس الرميح، وغيرهم.
وبرع في جميع الفنون: الأصول والفروع، والتفسير والنحو، وغيرها؛ وصار رفيع القدر، جم الفضائل. انتهت إليه الرئاسة في العلم، والرأي والكرم، قدوة الأنام، حسنة الأيام، افتخرت به نجد على سائر الأمصار، وشاع صيته في الأقطار، وضرب به المثل في الهيبة والاشتهار.(23/456)
ص -460- ... له اليد الطولى في الفروع والأصول، والمجالس للتدريس المحفوفة بالفحول; وله صدور المجالس والمحافل، وإلى قوله المنتهى في الفصل بين العشائر والقبائل، مع ما أمده الله من سعة العلم، وفطره عليه من الكرم والحلم؛ وكان لا يوفر جانبه عمن قصده، قريبا كان أو بعيدا، ولا يدخر شفاعته عمن اعتمده بريا أو بحريا، ضعيفا أو شديدا، ينتابه الأمراء والملوك، والعلماء، وأثنى عليه القريب والبعيد.
قال الشيخ إبراهيم بن صالح بن عيسى:
وعن ندب أطلال عفت بالذنائب ... وإن تيمت قلبي بزج الحواجب
حسان الوجوه الناعمات الكواعب ... ألا ذاك عبد الله فرع الأطائب
سما مجده أوج النجوم الثواقب ... بكل القرى من شرقها والمغارب
حميد السجايا الشم جم المناقب ... رحيب الفنا جزل الحبا والمواهب
ثمال لمعتر وكنْز لراغب ... وغيث سماح هاطل بالرغائب
همام له في الفضل أعلى المراتب ... صحا القلب عن ذكر الحمى والأخاشب
وأقلعت عن شوق ووجد بزينب ... وأبدلت من وصف اللوا وظبائه
بمدح إمام الدين والحق والهدى ... هو العالم النحرير والماجد الذي
هو العلم الفرد الذي سار ذكره ... حليف التقى والعلم والحلم والنهى
شقيق الندى عف الإزار أخو الثنا ... كريم المحيا باسم متهلل
ضياء علوم إن دجا ليل مشكل ... فصيح بليغ متقن متفنن(23/457)
ص -461- ... يقصر عنها كل ساع وراكب ... خطيبا فيا لله من وعظ خاطب
حباه بها الرحمن أكرم واهب ... يشد رجال القوم نجب الركائب
يجلى بشمس العلم ليل الغياهب ... بفكر كعضب للإصابة صائب
يزيح بها الإشكال عن فكر طالب ... مقالا لأرباب العلا والمناصب
أنامله مخلوقة من سحائب ... فضائلهم لم يحصها عد حاسب
كرام المساعي عن جدود مناجب ... لقد نال من نهج البلاغة رتبة
إذا قام يوما فوق أعواد منبر ... مهيب عليه للوقار سكينة
إليه لأخذ العلم من كل بلدة ... فيلقون حبرا في العلوم مهذبا
يحل الذي أعيا ويكشف ما خفي ... يجيب على الفتيا جوابا مسددا
فيا لك من شهم إذا قال لم يدع ... هو الندب وضاح الجبين كأنما
أشم عصامي من النفر الأولى ... مقاوم من عليا تميم توارثوا
ولو ذهبنا ننتبع مآثره، ومحاسنه وفضائله، وما أثني به عليه، لخرج بنا عن المقصود؛ وهو أشهر من أن ينبه على فضله، يضرب بشهرته المثل. له رسائل وفتاوى ونصائح كثيرة مفيدة، ورأي راجح في الحوادث المدلهمة، وهيبة وجلالة ألبسها بين الأمة، ومجالس في التدريس، عليها من المهابة جمة، في سنين عديدة، مشهورة مستنيرة، بل هو المتصدي للتدريس والفتوى بنجد.
[تلاميذه]
أخذ عنه العلم بنوه: عبد الملك، وعبد اللطيف، ومحمد، وصالح، وأخذ عنه العلم عمه الشيخ إسحاق بن(23/458)
ص -462- ... عبد الرحمن، وإخوته الشيخ: محمد، والشيخ إبراهيم، والشيخ عبد العزيز، والشيخ عبد الرحمن، والشيخ صالح بن عبد العزيز، والشيخ محمد بن إبراهيم، وعبد اللطيف، وعبد الرحمن بن الشيح إسحاق، وعبد الرحمن بن الشيخ محمد، والشيخ عبد الملك بن إبراهيم بن عبد الملك، وعبد الله بن حسن بن إبراهيم بن عبد الملك.
وعلي ابن الشيخ عبد العزيز، وعمر بن الشيخ حسن، وصالح، وعبد الرحمن أبناء الشيخ عبد العزيز بن محمد، والشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري، والشيخ عبد الله بن فيصل، والشيخ عبد العريز بن بشر، والشيخ عبد الرحمن بن سالم، والشيخ عبد الرحمن بن محمد بن داود، والشيخ عبد العزيز بن حمد بن عتيق، والشيخ عبد الله بن سليمان السياري، والشيخ عبد الله بن حمد الدوسري، والشيخ سالم الحناكي، ومحمد الحناكي، والشيخ عمر بن سليم، والشيخ عبد الرحمن بن عودان، والشيخ محمد بن عثمان الشاوي، وناصر بن سعود بن عيسى.
والشيخ مبارك بن عبد المحسن، والشيخ عبد الله بن زاحم، والشيخ عبد الله بن بليهد، والشيخ عبد العزيز بن عبد الله النمر، والشيخ سعد بن سعود، والشيخ فيصل بن(23/459)
ص -463- ... عبد العزيز آل مبارك، والشيخ إبراهيم بن سليمان بن راشد، والشيخ عبد الله بن عتيق، والشيخ عبد اللطيف بن عتيق، والشيخ إبراهيم وعبد الرحمن ابنا حسين، والشيخ عبد الله بن رشيدان، والشيخ سليمان بن حمدان، والشيخ محمد بن علي البيز، والشيخ فالح بن عثمان بن صغير، والشيخ عبد العزيز الشثري، وعبد العزيز بن مرشد، وحمد بن محمد بن موسى، وخلق لا يحصيهم إلا الله تعالى.
[وفاته وما قيل في رثائه]
توفي رحمه الله تعالى سنة 1339?، ورثاه الجم الغفير، منهم الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف، قال:
نريق كصوب الغاديات الهواطل ... ولوعة محزون مهاج البلابل
وتسكب دمعا بالضحى والأصائل ... فؤادي على حزن به متواصل
فإني مصاب القلب مذكى الغلائل ... كيوم وفاة الشيخ زاكي الشمائل
به الكل مفجوع مصاب المقاتل ... وداهية من قاصمات الكواهل
وهد بسور الدين صافي المناهل ... على الشيخ عبد الله بدر المحافل
دموعا على الخدين تجري بعبرة ... فقد حق أن العين تهراق ماءها
وآن لكبدي أن تذوب وينطوي ... وللأنس أن يزور عني جانبا
فما مرنا يوم فظيع على الورى ... فأعظم به من فادح جل خطبه
ويا لك من رزء به انبتّ حبلنا ... ويا لك من نقص عظيم وثلمة
* * *
وفرجته هيهات ذا غير حاصل ... فهل أحد يرجى لسد انثلامه(23/460)
ص -464- ... تحن على فقدانه في المنازل
لدن قيل مات الشيخ جم الفضائل
يبين الهدى في مشكلات المسائل
وغايته كي ينتهي عن أباطل
طبيب زمان ما له من مماثل
وثابت جأش في اشتداد النوازل
وذو خلق زاك وحسن شمائل
وذو نصف في أمره غير مائل
وذو شبه بالسالفين الأماثل
لدين الهدى العالي على كل طائل
فما أم بكر قد أظلته يوما
بأعظم مني لوعة ومصيبة
هو العالم النحرير والجهبذ الذي
هو الناصح البذال في النصح وسعه
إمام لعمري عارف أهل وقته
تقي نقي حازم ذو رزانة
حليم ذكي ذو دها وسماحة
فقيه نبيه ناسك متورع
مهيب إذا ما جئته ذو تبسم
قفا أثرهم بالصالحات ونصرهم
* * *
ظهور الفلا من شاسعات المنازل
صفوح عن الزلات من جهل جاهل
وعن نائل من عرضه أي نائل
وكهفا لعمري للهداة الأفاضل
وأجناد إبليس اللعين المخاتل
ويثنيه مغلولا على غير حاصل
يفلق من هاماتهم كل طائل
وعبادة الأوثان أهل الغوائل
وأحزاب سوء قد أقاموا لباطل
إليه تشد اليعملات وتمتطى
وصول لأرحام إن قطعت له
عفو عن الجاني عليه وجارم
وقد كان شمسا للأنام منيرة
وكان شهابا محرقا لذوي الردى
يرد على ذي الابتداع ابتداعه
وسيفا على الكفار قد سل نصله
من الترك والأرفاض أخبث شيعة
وجهمية في غيرهم من طوائف(23/461)
ص -465- ... تنوب شجا في حلق كل مماحل
ووالد أيتام وغيث أرامل
وبهجته للارتياح لنائل
بأجمعها سبحان مولي الفضائل
فوالله نزر من أقل القلائل
يسار بها في الضاعنين ونازل
على وجناتي واستمري وواصلي
ويبكيه غيري من شريف وخامل
ويشجو على تقريره في المحافل
أراد به الأعلام من كل فاضل
لمرجوحها من راجحات المسائل
من العلماء العالمين الأماثل
وأعينهم كالمستهل بوابل
لدين الهدى من ذي استماع وسائل
وآخر بالأقلام راو وناقل
ولا سيما الأصل المنافي لباطل
وغيرهما من أمهات الدلائل
وقد كان ردما دون كل كريهة
وقد كان قصدا للعفاة1 ومحتدا
إذا منصف يوما تأمل حاله
تيقن أن الشيخ قد أحرز العلا
وما قلته من زاكيات خصاله
وشهرته تكفي وأخباره التي
فيا عين سحي أدمعا بعد أدمع
سأبكيه جهدي ما حييت بحرقة
ويبكيه أصل الدين قطب رحى الهدى
ونشر له من بعد لف يبين ما
وتبكي فروع طال ما كان موضحا
ويبكيه حقا كل صاحب سنة
ويبكيه طلاب العلوم بلوعة
على مجلس ينتابه كل مبتغ
ومن حافظ تقريره بفؤاده
ومن قارئ ما يشفي من مصنف
وكتب حديث للبخاري ومسلم
* * *
وقد أدنيت منها القطوف لنائل
فكان لعمري جنة قد تزخرفت
__________
(1) نسخة: قصدا الفاة.(23/462)
ص -466- ... قطفناه منها عاجلا غير آجل
كمجلسه يوما فأروي غلائلي
لياليه بالحسنى وجم الفضائل
وأسكنه الفردوس أعلى المنازل
عشيرته والله مولى الفضائل
عن الملة السمحا برد الأباطل
قريب لداع مستجيب لسائل
لإرشاد غاو بل وتعليم جاهل
فهل عوض منها فنقطف مثلما
ويا ليت شعري أنني كنت واجدا
فهيهات هيهات انقضى وتصرمت
جزاه إله الناس عنا بجنة
وأخلفه بخير في عقب وفي
وأبقاهمو دهرا يذبون جهدهم
ووفقهم للصالحات فإنه
وأحي لنا أشياخنا أنجم الهدى
وقال الشيخ سليمان بن سحمان:
وقد صاب أهل الدين إحدى الفواقر
لدن غيبوا في الرمس بدر المنابر
وجالي الصدى بالقاطعات الظواهر
ومفتي القرى شيخ الشيوخ الأكابر
لدى كل صقع في بعيد الجزائر
مآثر تزهو كالنجوم الزواهر
نبي الهدى أكرم بهم من أطاهر
وقاموا بنشر الدين بين العشائر
ورحمته والله أكرم غامر
بصدق وجد قامع للمكابر
على رغم أهل الشرك من كل كافر
لقد كسفت شمس العلا والمفاخر
وقد فتقت في الدين أعظم ثلمة
عنيت به شيخ الهدى معدن الندى
جمال الورى جزل القرى شامخ الذرى
هو الشيخ عبد الله من عم صيته
سليل الرضى عبد اللطيف الذي له
سلالة من أحيوا لدين محمد
لقد أشرقت نجد بنور ضيائهم
تغمدهم رب العباد بفضله
همو جددوا دين الهدى بعدما عفا
فأصبح أصل الدين يزهو بنوره(23/463)
ص -467- ... عصابة حق من كرام العناصر
بهم تقترى غرثى السباع الضوامر
فقد جردوا في نصره للبواتر
بحزم وعزم في الوغى والتشاجر
على حالة يرضى لها كل شاكر
ولا زال حزب الله أهل تناصر
على الخد مني مثل تسكاب ماطر
لواهبها اورت أليم السعائر
يرى فيض دمعي والنجوم الزواهر
وكيف ونومي لا يلم بخاطر
مجدد أصل الدين غيظ المناظر
وبشرا وجودا في الليالي العسائر
ومن طبعه حسن الوثوق بقادر
ووازرهم في نصرة الدين والهدى
ليوث إذا الهيجاء شب ضرامها
بآل سعود أظهر الله دينه
وقد جاهدوا في الله حق جهاده
إلى أن أعاد الله دين نبينا
فلا زال من أبنائهم نصرة له
أقول ودمع العين يهمي بعبرة
وفي القلب نار الحزن تذكى ضرامها
أرقت ومالي في الدجى من مسامر
أروم لنفسي فى دجى الليل راحة
ألا ذهب الحبر المحبب في الورى
أبو مضيف من يقصده يلق بشاشة
به الجود طبعا لا يفارق كفه
* * *
وعلم وإنصاف وعفة صابر
وإرشاد ذي جهل وقمع مقامر
لدى الحادثات المنصعات البوادر
لدى الصحب والإخوان أو ذي أطامر
ولا سيما عند الغواة الغوادر
وليس بمحصيها يراع لحاصر
له السبق في غايات مجد وسؤدد
وحلم عن الجاني وصدق مودة
ورأي سديد يستضاء بنوره
أبي وخذ ما شئت من لين جانب
ولكنه ليث عليه مهابة
وكم من مزايا لا يطاق عدادها(23/464)
ص -468- ... شمائله مشهورة في العشائر
وحق بأن يرثى له كل شاعر
من الأجل المحدود في علم قاهر
وقد منح المولى مثوبة صابر
وليس بمحتاج إلى مدح نادب
ولكن لنا بعض التسلي بذكرها
وما مات إلا بانقضاء لمدة
فلا جزع مما قضى الله ربنا
وقال الشيخ عبد اللطيف بن الشيخ إبراهيم رحمه الله:
بكينا عليه بالدموع السواكب
وللأنس أن يزور عني بجانب
وللجسم أن يمسي كجسم لشاحب
أصاب سويدا القلب بين الحواجب
مصيبته تنسي جميع المصائب
لما عمها من فادحات النوائب
لدن غيبوا أسد الهداة الأطائب
مآثر مجد عاليات المراتب
على الحبر بحر العلم زاكي المناقب
وحق لعيني أن تريق دموعها
وحق لقلبي أن يرى متصدعا
وذاك لخطب قد دهانا مروع
فأعظم به من فادح جل خطبه
به أظلمت أرجاء نجد جميعها
فوالله إن العيش عاد منغصا
وأعني بة الشيخ الإمام الذي له
* * *
وذو الحلم والإحسان صافي المشارب
وكهفا لأيتام وغيثا لطالب
وثابت رأي في اشتداد النوائب
شهاب على الأعداء من كل ناكب
وكان لعمري ما له من مقارب
هو الشيخ عبد الله ذو الجود والتقى
إمام لعمري كان بالعلم عاملا
حليم عليه للوقار مهابة
إمام لدين الله كان مجددا
تفرد في التقوى وفي الحلم والحجى(23/465)
ص -469- ... وذو خلق زاك وجم المناقب
لهم همة فوق النجوم الثواقب
أبي وفي صادق ذو سماحة
تفرع من قوم كرام أعزة
* * *
على الخد مني ساكب أي ساكب
وكشاف هم مدْلهمِّ الغياهب
وليس بمحصيها يراع لكاتب
تسير بها الركبان فوق النجائب
يحف به من مستفيد وطالب
لكي يرتووا من صافيات المشارب
من العلم والتحقيق خير المساكب
ويهتك أستار الغواة الكواذب
فنرجو له الجنات أعلى المطالب
بأعلى الجنان يا سميعا لطالب
أقول ودمع العين جار بعبرة
ألا ذهب الشيخ الإمام أخو الندى
مناقبه في الناس أضحت شهيرة
فوائده سارت بشرق ومغرب
له مجلس بالعلم يزهر دائما
إليه أتى الطلاب من كل وجهة
فيلقون ما قد أملوه وزائدا
يقرر توحيد العبادة دهره
لئن عاش في الدنيا عزيزا منعما
فيا رب يا مولاي بوئه منْزلا
وقال الأديب ناصر بن سعود بن عيسى:
أن البرية تفنى بالمنيات
ـع الدهر شمس الهدى عالي السجيات
أتقى وأنقى وأحجى ذو مروات
فينا على الدين حقا والولايات
راجعون إليه في الملمات
وابكي أخا المجد مأمون السريرات
قضى الإله الذي فوق السموات
نعى النعاة لنا شيخ الوجود قريـ
نعوا إماما هماما حازما يقظا
إنسان عين الزمان خير مؤتمن
فالحمد لله إنا للإله وإنا
يا عين جودي على شيخي بعبرات(23/466)
ص -470- ... وابكي على الشيخ عبد الله أفضل ... أهل العصر أكثرهم تقوى وخيرات
وابكي على شيخنا بحر العلوم وقا ... موس الفهوم الزكيات الصحيحات
* * *
خير امرئ قد علمنا في البريات ... يا لهف نفسي عليه بين أموات
على الذي يرتضي رب السماوات ... برا نصيحا منيلا للكرامات
موت الإمام الزكي الأورع الرات ... فأذهبت عنهم كل المسرات
ومن دم تستهل العين عبرات ... فراعنا إذ أتانا أي روعات
وابكي على عالم جم فضائله ... علما وحلما وجودا لا نظير له
كان الضياء وكان النور يتبعه ... وينشر العلم لطلاب كان بهم
مصيبة عظمت لا كالمصيبات ... ريعت لها من ذوي الإسلام أفئدة
كادت تفيض عليه النفس من حزن ... خطب عظيم الشأن فاجانأ
* * *
سحوا الدموع التي كانت غزيرات ... في المكرمات وفي حسن الخليقات
في الأصل والفرع من نفي وإثبات ... عن الخنى والمساوي والدناءات
فأصبحت بعد ذاك النور ظلمات ... للطالبين وأصحاب السؤالات
يا أيها المسلمون ابكوا لشيخكمو ... هل يشبه الشيخ عبد الله من أحد
هل يشبه الشيخ عبد الله من أحد ... بر رحيم لطيف الطبع مبتعد
نور أضاء على نجد وساكنها ... كانت مجالسه بالعلم عامرة
إلى آخر ما أثنى به مما أجاد فيه، فرحمه الله وعفا عنه.(23/467)
ص -471- ... الشيخ محمد بن عبد اللطيف، رحمه الله
هو العالم الجليل، الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن. ولد في الرياض سنة 1282?، ونشأ في بيت علم نشأة حسنة مباركة.
قرأ القرآن وحفظه، وشرع في طلب العلم بهمة عالية. فقرأ على علماء الرياض، ومن أبرزهم: أخوه عبد الله بن عبد اللطيف، ومحمد بن محمود، وحمد بن عتيق، وسليمان بن سحمان؛ حتى نبغ في العلم وتأهل للقضاء، فعين في شقراء، وبعث داعية إلى عسير وغامد وزهران.
وجلس للطلبة؛ وكان حسن التعليم واسع الاطلاع، يحب جلب الكتب ومشتراها، وتولى قضاء الرياض، وانتهى إليه الإفتاء والتدريس بعد وفاة أخيه عبد الله، وغير ذلك.
توفي رحمه الله سنة 1367? وخلف أبناءه الثلاثة عبد الرحمن، وعبد الله، وإبراهيم. انتهى باختصار من روضة الناظرين لمؤلفها محمد بن عثمان القاضي.(23/468)
ص -472- ... الشيخ صالح بن عبد العزيز، رحمه الله
هو العالم الجليل، الشيخ صالح بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن حسين، ولد في قرية السلمية من بلدان الخرج سنة 1287?، توفي والده وهو صغير وكفله ابن عمه حسن بن حسين، حين تزوج أمه، ورعاه رعاية حسنة، فقرأ عليه القرآن حتى حفظه، وقرأ عليه مبادئ العلوم.
ولما بلغ رشده زوجه فاستقل بنفسه، وصار يتعاطى البيع والشراء، ولم يصده ذلك عن طلب العلم. فمشايخه من أبرزهم ابن عمه الذي تقدم ذكره، والشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، وهو أكثر مشايخه نفعا وملازمة، والشيخ عبد الله الخرجي، ومحمد بن محمود، وحمد بن فارس.
وتعين إماما بمسجد ابن شلوان المجاور لبيته، ودرس فيه، فتخرج عليه ثلة من طلبة العلم. وكان يصدع بالحق، لا يخاف في الله لومة لائم، غزا مع الملك عبد العزيز، وكان من الشجعان البواسل وإماما في الجيش. تولى القضاء في الرياض، مع الشيخ سعد بن عتيق.
توفي رحمه الله سنة 1372هـ انتهى باختصار من روضة الناظرين.(23/469)
ص -473- ... الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، رحمه الله
هو العالم الورع الزاهد، الشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي، ولد في مدينة عنيزة بالقصيم سنة 1307 من الهجرة، وعرض له اليتم في صغره، وبعد حفظه للقرآن قرأ على المشايخ، ومنهم صالح بن عثمان قاضي عنيزة.
ثم جلس للتدريس وأخذ عنه العلم عدد كثير، منهم الشيخ سليمان بن إبراهيم البسام، والشيخ محمد بن عبد العزيز المطوع، والشيخ محمد بن صالح العثيمين.
وله مؤلفات مشهورة، منها: تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن.
توفي رحمه الله في جمادى الآخر سنة 1376هـ، وخلف ثلاثة أبناء. انتهى باختصار من روضة الناظرين المتقدم ذكرها. ولمزيد من المعرفة عن ترجمته انظر ما في الجزء الثالث من كتاب الشيخ البسام.
الشيخ عبد الله الخليفي، رحمه الله
هو العالم الجليل والفقيه الفرضي الشهير، الشيخ عبد الله بن صالح بن عبد الرحمن الخليفي، ولد في البكيرية بالقصيم سنة 1300 من الهجرة، ونشأ نشأة حسنة، قرأ القرآن وحفظه مع مبادئ العلوم على خاله محمد العبد الله الخليفي.(23/470)
ص -474- ... ثم علت همته للتزود من العلم فسافر إلى مدينة حائل، ولازم علماءها بجد ونشاط، ومن أبرزهم عبد العزيز الصالح المرشد قاضي حائل، وعبد الله بن مسلم، وعبد الله بن سليمان بن بليهد.
وكان لا يسأم من المطالعة، ومشغولا بكتب ابن تيمية وابن القيم، وذو تبحر في الفقه والفرائض، تولى القضاء والتدريس في عدد من المدن.
توفي رحمه الله سنة 1381هـ، وخلف أربعة أبناء. انظر روضة الناظرين إن شئت معرفة أكثر عنه.
الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف، رحمه الله
هو العالم الجليل، والفهامة المهيب الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، خليفة الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، ولد سنة 1311هـ بمدينة الرياض، في بيت علم وشرف ودين.
رباه والده إبراهيم أحسن تربية، ونشأ نشأة حسنة، وحفظ القرآن نظرا وهو في العاشرة، وحفظ مبادئ العلوم. وفقد بصره وهو في السادسة عشر من عمره، فأخذ يحفظه شيئا فشيئا حتى أكمله، وصار يدارس والده القرآن ويحفظ المتون، وكان أبوه قاضيا في مدينة الرياض.
ولازم علماء الرياض، ومن أبرزهم: الشيخ سعد بن حمد بن عتيق، والشيخ حمد بن فارس، والشيخ(23/471)
ص -475- ... عبد الله بن راشد. ولازم أباه وعمه عبد الله، وأقبل على العلم إقبالا منقطع النظير.
وكان المشايخ معجبين بفرط ذكائه ونبله، فصار على حسن ظنهم، حيث كان خليفة الشيخ عبد الله في الإفتاء ورئاسة القضاء، وكل مرفق يحتاج في رئاسته إلى عالم يرجع إليه، فله فيه الباع الطويل.
فله الأثر الكبير في التعليم وحسن التأسيس له، والحرص التام على التخصص في العلوم الشرعية، بل والحرص على تعلم الناس دينهم الذي لا نجاه لهم إلا به.
وقد أخذ العلم عنه خلق كثير منهم الآن من تولى الرئاسة في الإفتاء والقضاء، وهيئة التمييز، وهيئة كبار العلماء ومنهم المدرسون والدعاة إلى الله، ورؤساء الهيئات، والمستشارون، وغير ذلك من آثار طيبة وجليلة. رحم الله الشيخ رحمة واسعة وجزاه أحسن الجزاء، ولا شك أن المسند إليه ذلك له نصيب كبير في ذلك.
توفي رحمه الله سنة 1389 من الهجرة وجمع له رسائل وفتاوى بلغت 13 جزءا مرتبة ترتيبا جيدا، لا يستغني عنها طالب العلم لما فيها من الوضوح، ولما فيها من حسن الجواب، وما يربط بين الماضي والحاضر فى معرفة الأمور وحل المشاكل وغير ذلك، ولا تزال شجرته خضراء - ولله الحمد - فقد خلّف أولادا وأحفادا فيهم خير وبركة.(23/472)
ص -476- ... الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد، رحمه الله
هو العالم الجليل والحبر الفهامة النبيل، المحقق المدقق، الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد، ولد بمدينة الرياض سنة 1329 من الهجرة، وفقد بصره في طفولته.
حفظ القرآن، وشرع في طلب العلم بهمة ونشاط، فقرأ على الشيخ حمد بن فارس، والشيخ سعد بن عتيق، والشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ، ومحمد بن عبد اللطيف، والشيخ محمد بن إبراهيم وغيرهم.
وكان مشايخه يتفرسون فيه الذكاء والنباهة، ويقولون سيكون لهذا الفتى شأن، فكان على حسن ظنهم، نفع الله به الإسلام والمسلمين، فكان قاضيا ومفتيا، وداعية إلى الله ومصلحا، ومحبوبا.
تولى مناصب عدة منها: القضاء، ورئاسة المجلس الأعلى للقضاء، ورئاسة الحرم المكي، والمجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي، وعضو في هيئة كبار العلماء مع قيامه بالتعليم في كل مدينة يسكنها، وبعثه الرسائل في الدعوة إلى الله، والرد على من ظهر منه الخطأ في الصحف والمجلات، وإجابته عن الأسئلة في المحاضرات والندوات، وغير ذلك من الأعمال الصالحة التي قلّ من يقوم بمثلها، فرحمه الله رحمة واسعة، وجزاه الله أحسن الجزاء.(23/473)
ص -477- ... وافته المنية في 20/11/1402 من الهجرة، وقد خلف أولادا وتلامذة فيهم خير وبركة، فلله الحمد والمنة، ونسأله تعالى أن يجعلهم خير خلف لخير سلف، ورثاه ثلة من العلماء منهم الشيخ محمد بن عبد الله بن سبيل، وأحمد الغنام، كما في روضة الناظرين. ولمزيد من المعرفة عنه انظر ترجمته في "علماء نجد خلال ثمانية قرون" ج 4.
الشيخ عبد الله بن سليمان بن حميد، رحمه الله
عالم جليل وداعية إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ولد في بريدة بالقصيم عام 1322 من الهجرة، وتعلم فيها القراءة والكتابة، ثم بدأ بطلب العلم على الشيخ عبد الله بن محمد بن سليم، والشيخ عمر بن محمد بن سليم، والشيخ عبد العزيز العبادي، وغيرهم من علماء بريدة حتى أدرك وصار من العلماء.
وقد رشحه شيخه عمر للقضاء في برك الغماد من مقاطعة جيزان، ثم تنقل في محاكم تهامة، فصار رئيسا لمحكمة القنفذة، ثم رئيسا لمحكمة جيزان، ثم نقل رئيسا لمحكمة البكيرية، ثم نقل رئيسا لهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالقصيم، ثم أحيل للتقاعد في عام 1383?.
وله نشاط في الدعوة والإرشاد، والنصح، وقد تولى في آخر حياته الإشراف على مدارس تحفيظ القرآن في(23/474)
ص -478- ... القصيم، فقام بذلك بجد واجتهاد، وكان يجلس للتدريس في أحد مساجد بريدة؛ والتف عليه عدد من الطلبة، ونفع الله بعلمه حتى أقعده المرض.
توفي رحمه الله في يوم الاثنين 3/6/1404? وحضر الصلاة عليه جمع غفير فرحمه الله وعفا عنه، انتهى باختصار مع بعض التصرف من كتاب البسام "علماء نجد خلال ثمانية قرون " ج 4.
الشيخ محمد بن عبد العزيز بن مهيزع، رحمه الله
عالم جليل وحبيب لبيب متواضع، ولد في حريملاء سنة 1325 من الهجرة، ونشأ فيها وتعلم مبادئ القراءة والكتابة. فلما صار في طور الشباب من عمره وعلت همته لطلب العلم، رحل إلى الرياض وقرأ على الشيخ محمد بن إبراهيم، وعلى أخيه الشيخ عبد اللطيف، ولازم الشيخ محمد في كثير من العلوم الشرعية حتى عدّ من الطلاب المدركين.
فلما بلغ هذا المبلغ، ولما له من سجايا طيبة، عيّن قاضيا في عدة قرى، ثم في المحكمة الكبرى بالرياض، ثم أحيل على التقاعد برغبة منه; ومع أعماله القضائية فله مشاركة هامة في التدريس والإفتاء والبحوث وغير ذلك. فجزاه الله أحسن الجزاء، ونسأله تعالى أن يجعل منازلنا وإياه في الفردوس الأعلى.(23/475)
ص -479- ... توفي رحمه الله عام 1404 هـ. انتهى باختصار مع بعض التصرف من كتاب البسام "علماء نجد خلال ثمانية قرون" ج 6.
الشيخ صالح بن إبراهيم البليهي، رحمه الله
الحبيب اللبيب والعالم الجليل، والداعية إلى الله، اليقظ الفطن، ولد رحمه الله سنة 1331 من الهجرة في الشماسية، ثم انتقل إلى بريدة مع أسرته وقرأ القرآن، واشتغل مع والده في التجارة، ثم الزراعة.
وتفرغ لطلب العلم، فأخذ يطلب العلم على الشيخ عمر بن محمد بن سليم، ولازمه ملازمة تامة، وقرأ أيضا على الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد، وعلى الشيخ صالح بن أحمد الخريصي، وغيرهم، وعرض عليه القضاء، ولكنه اعتذر.
وفي عام 1373هـ عيّن مدرّسا في المعهد العلمي ببريدة، وفي عام 1384? عيّن إماما في مسجد الوزان، وأخذ يدرس العلوم الشرعية لطلاب العلم. وكان له مكتبة كبيرة تضم أمهات الكتب، فيقضي فيها كثيرا من وقته في البحث والتأليف والمطالعة.
وطلب منه أن يكون محاضرا في كلية الشريعة بالقصيم فوافق على ذلك، واستفاد منه الطلاب; ثم أحيل للتقاعد،(23/476)
ص -480- ... فتفرغ للدعوة. ومن أجل أعماله إنشاء الجماعة الخيرية لتحفيظ القرآن، وجمعية البر التي من أهم أهدافها رفع المستوى الاجتماعي والصحي والثقافي ببريدة وضواحيها.
ومن تلاميذه الشيخ صالح الفوزان والشيخ إبراهيم الدباسي وحمد المحيميد وغيرهم; وله مؤلفات منها عقيدة المسلمين والرد على الملحدين، والسلسبيل في معرفة الدليل، والهدى والبيان في أسماء القرآن وغيرها; فجزاه الله عنا وعن المسلمين أحسن الجزاء، وجعل منازلنا وإياه في الفردوس الأعلى.
توفي رحمه الله في يوم الجمعة 3/5/1410 من الهجرة. انتهى باختصار مع بعض التصرف من كتاب الشيخ البسام "علماء نجد خلال ثمانية قرون" ج 2.
الشيخ حمود بن عبد الله التويجري، رحمه الله
العالم العابد الزاهد، الحبيب اللبيب، الصبور المحتسب، المجاهد في إظهار الحق ورد الباطل، بلسانه وقلمه وماله، فلا تأخذه في الله لومة لائم، ولد عام 1334 من الهجرة، وتعلم القراءة والكتابة في صغره، وحفظ القرآن.
ثم ابتدأ في طلب العلم، ولازم أهل العلم منهم الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري، وقد أجازه في رواية(23/477)
ص -481- ... الصحاح والسنن والمسانيد، وفى رواية كتب ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وفي غير ذلك.
وقرأ على الشيخ محمد بن عبد المحسن الخيال، والشيخ عبد الله بن محمد بن حميد، وكان مثالا يحتذى في الورع والأدب وحسن الخلق، عيّن في القضاء في المنطقة الشرقية، وفي الزلفى، ثم اعتذر، وطلب للتعليم مرارا; لكنه اعتذر وآثر التفرغ للعلم والبحث والتأليف.
فألف كتبا ورسائل، الناس في أمسّ الحاجة لمثلها، فنفع الله بها، ولا تزال - بحمد الله - تتجدد ويرجع إليها، لما فيها من الأدلة والبراهين وحسن التوجيه لما عليه السلف الصالح، وكشف ما وقع فيه بعضا من الخلف ممن غفل عن منهج السلف، أو أعرض عنه لجهله وبعده عنه، وغير ذلك من الأسباب.
توفي رحمه الله عام 1413هـ، وخلف أولادا فيهم خير وبركة. فرحم الله الشيخ حمود وأسكنه فسيح جناته، وبارك له في الباقيات الصالحات إنه سميع مجيب. ولمزيد من المعرفة عنه انظر ترجمته في الجزء الثاني من كتاب "علماء نجد خلال ثمانية قرون" للشيخ عبد الله البسام حفظه الله.(23/478)
ص -482- ... الشيخ صالح بن أحمد الخريصي، رحمه الله
العالم، الورع، الزاهد، ولد سنة 1327 من الهجرة، وتعلم القرآن الكريم والنحو على يد الشيخ صالح الكريديس، وباقي العلوم الشرعية على عدد من المشايخ، منهم: محمد بن عبد الله الحسيني، ومحمد السليم، وعبد الله بن محمد بن حميد، رئيس مجلس القضاء الأعلى.
تولى الإمامة وفتح حلقة ذكر وتدريس في المسجد عام 1354هـ، وعيّن في القضاء في القصيم، ثم في الأسياح ثم في الدلم، ثم تولى رئاسة المحكمة الكبرى ببريدة، ثم عين رئيسا لمحاكم القصيم. وله تلامذة كثيرون، وكان لا يدع الحج والعمرة، ولا يدع صيام ثلاثة أيام من كل شهر، ولا يدع قيام الليل.
وكان شافعا لأصحاب الحاجات والغارمين واليتامى والمساكين والأرامل، وجلّ وقته لقضاء مصالح المسلمين. له رسائل ونصائح طبع بعضها وانتشر، توفي رحمه الله سنة 1415 من الهجرة، غفر الله له وجزاه عنا وعن جميع المسلمين أحسن الجزاء.(23/479)
ص -483- ... الشيح عبد الرحمن بن عبد الله بن حمود التويجري، رحمه الله
عالم جليل، وورع عفيف، ولد سنة 1336 من الهجرة، توفي والده وهو صغير فاعتنت به والدته، فتعلم مبادئ القراءة والكتابة عند الشيخ أحمد الصانع. ولما تجاوز سن الصبا قرأ على الشيخ عبد الله العنقري، والشيخ محمد الخيال، والشيخ سعود بن رشود، عددا من العلوم الشرعية فأدرك إدراكا جيدا، وصار له مشاركة كبيرة في العلوم التي درسها.
وطلب منه القضاء ولكنه اعتذر، وتولى الإمامة والوعظ وتدريسه الطلاب في مسجدين في المجمعة 43 سنة. ومن تلاميذه أبناؤه، وأبناء أخيه حمود، وألف كتابه "الشهب المرمية" طبع سنة 1374هـ، نقد فيه كثيرا مما اتبعته العامة من تقليد للغربيين في أعمالهم وعاداتهم، وله رسالة لاحظ فيها على كتابي علماء نجد بعض الأخطاء المطبعية وغير ذلك.
توفي رحمه الله في 16/10/1416هـ. انتهى باختصار مع بعض التصرف من كتاب "علماء نجد خلال ثمانية قرون" ج 3.(23/480)
ص -484- ... الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، حفظه الله
هو العالم الجليل، والمحدث الفقيه، المفيد للطالبين، المحفوف بعناية رب العالمين، الورع الزاهد، المحبوب المعمر في طاعة رب العالمين، قد خيّب الله بطول عمره، توقع الجاهلين، وظن الحاقدين. ولد حفظه الله في سنة 1330 من الهجرة، بمدينة الرياض، وكان بصيرا، ففقد بصره سنة 1350هـ، حفظ القرآن قبل سن البلوغ، ثم جدّ في طلب العلم، على علماء الرياض.
ومن أبرزهم الشيخ محمد بن عبد اللطيف، والشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ، والشيخ سعد بن عتيق، والشيخ حمد بن فارس، والشيخ محمد بن إبراهيم وغيرهم، ولما برز في العلوم الشرعية واللغة العربية عيّن في القضاء سنة 1357هـ.
ولم ينقطع عن العلم والتعليم، بما شغل به من مناصب في القضاء في أي مدينة كان، فهو القاضي والمفتي، والداعية والمصلح، والرئيس والإمام والمعلم، والمكرم للضيوف، والحنون على الأرامل والأيتام، ومطعم المساكين، والواسطة في الأمور الخيرة.
نشأ على يديه عدد فيهم خير وبركة، له تأسيس كبير(23/481)
ص -485- ... في الندوات والمحاضرات، واختيار الموضوعات. ظهر له كتب ورسائل كثيرة وأشرطة عديدة، يعجز عن إحصائها المتتبع لها، لا يضيع عليه شيء من أوقاته، فما أحسن وأحلى وأعظم حياته!
فهنيئا له ولكل من سار على نهجه في حياته فصبر وصابر، وعمر أوقاته في طاعة ربه ومرضاته.
وأسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يزيد لنا في مدّ عمره بكامل حواسه وقواته، وأن يرزقنا وإياه حسن الخاتمة في الأمور كلها، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. 1.
الشيخ صالح بن علي بن فهد بن غصون التميمي، حفظه الله
عالم جليل، وفقيه ورع، مفيد للطالبين، ومحفوف بعناية رب العالمين، ولد حفظه الله سنة 1341 من الهجرة في الرس، حفظ القرآن في صغره، وفقد بصره في السنة 12 من عمره.
وعلت همته إلى طلب العلم فتوجه إلى الرياض، وقرأ على الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم الفرائض
__________
1 وانظر إن شئت ترجمة له في الجزء الأول من فتاوى اللجنة الدائمة.(23/482)
ص -486- ... والأجرومية، وقرأ على الشيخ محمد بن إبراهيم جميع العلوم النافعة، عشر سنين.
ثم عيّن في القضاء في سدير سنة 1368هـ، ومكث فيه أربع سنين، ثم في شقراء عشر سنين، بالإضافة إلى التدريس في المعهد، والإمامة والخطابة في الأماكن التي عيّن فيها.
وفي نهاية عام 1381? عيّن في الأحساء رئيسا للمحاكم فيها، إلى نهاية سنه 1390هـ ثم صار عضوا في هيئة التمييز في الرياض، وفي سنة 1391هـ عيّن أيضا عضوا في هيئة كبار العلماء، وفي عام 1399هـ عيّن في المجلس الأعلى للقضاء.
وفي 1408هـ طلب الإحالة للتقاعد للاستجمام لصحته والتفرغ لعبادة ربه، ومع ذلك فلم ينقطع نفعه عن المسلمين؛ فله مشاركة في الإذاعة في برنامج نور على الدرب، مستمرة من عام 1391?، إلى الآن يجيب فيها على الأسئلة، ويوجه الناس لما هو الأصلح في دينهم ودنياهم، بأسلوب مبسط، وسهل، يعيه العامي والمتعلم، وهذا من حسن تواضعه، ورغبته في إيصال الخير لمريده.
كما أنه أيضا يجيب على الأسئلة، في المسجد وفي بيته، وعلى جهاز الهاتف، وغير ذلك; فحياته - ولله الحمد - كلها جدّ واجتهاد وعمل وصبر.(23/483)
ص -487- ... أرجو الله الكريم أن يضاعف له الأجر، وأن يمد في عمره بصحة وعافية وهناء، وأن يحسن لنا وله الخاتمة في الأمور كلها، وصلى الله على محمد، حرر في ليلة الاثنين 8/1/1419 هجرية.
الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن فريان، حفظه الله
عالم جليل، وشهم شفيق، معلم، وإمام، وخطيب، ولد حفظه الله سنة 1348هـ، وحفظ القرآن في سن مبكر في الخامسة عشر من عمره.
وقرأ على الشيخ محمد بن إبراهيم، والشيخ محمد بن عبد اللطيف، والشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم، والشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ عبد الرحمن المقوشي، والشيخ عبد العزيز الشثري، والشيخ إسماعيل الأنصاري، والشيخ عبد الحميد الجزائري وغيرهم.
وقرأ عليه عدد كبير في مكتبة ابن تيمية الخيرية وفي مسجده الجامع، وله جهد كبير في الدعوة إلى دين الله الحق والتمسك به؛ فله مشاركات كثيرة في الندوات والمحاضرات في جامع الإمام تركي وغيره. وله تجول في المملكة للدعوة إلى الله في المدارس والمعاهد، وقطاع الأمن، وغيرها، ويفتح مجالا للأسئلة والإجابة عليها.(23/484)
ص -488- ... وله رسائل ونصائح فيما يهم المسلمين، فهو مصلح ومحتسب، ومحسن للفقراء والمحتاجين والأرامل بالتوسط لدى المحسنين، وغير ذلك من طرق الخير.
ومؤسس الجماعات الخيرية، ومنها جماعة تحفيظ القرآن سنة 1387 من الهجرة، وله جهد كبير في تسهيل حلقات القرآن في المساجد وغيرها; يقول الحق ولا يخاف في الله لومة لائم.
فله نشاط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن ذلك إقامة الصلاة جماعة في الدوائر الحكومية وغيرها، وحثه على بناء المساجد فيها.
وله مكانة عند المسؤولين وقبول فيما يراجعهم فيه من أمور الدين والدنيا، مع الملوك والأمراء، وكبار المشايخ وغيرهم.
فجزاه الله أحسن الجزاء، وبارك في أوقاته، ونسأل الله لنا وله حسن الخاتمة، وأن يجعل في ذريته وتلامذته الخير والبركة، فيكون امتدادا لصالح عمله.(23/485)
ص -489- ... الشيخ صالح بن محمد اللحيدان، حفظه الله
عالم جليل وداعية إلى الله، ذو هيبة وقدر، وإمام وخطيب، ولد بمدينة البكيرية بمنطقة القصيم عام 1350 من الهجرة.
وقد تخرّج من كلية الشريعة بالرياض عام 1379? وعمل سكرتيرا لسماحة الشيخ محمد بن إبراهيم، رحمه الله في الإفتاء بعد تخرجه، إلى أن عين عام 1383? مساعدا لرئيس المحكمة الكبرى بالرياض، ثم صار رئيسا للمحكمة عام 1384هـ.
وقد حصل على رسالة الماجستير من المعهد العالي للقضاء، عام 1389?، واستمر رئيسا للمحكمة الكبرى إلى أن عين عام 1390? قاضي تمييز، وعضوا بالهيئة القضائية العليا.
وفي عام 1403هـ، عين رئيسا للهيئة الدائمة بمجلس القضاء الأعلى، واستمر في ذلك نائبا لرئيس المجلس في غيابه إلى أن عين عام 1413هـ رئيسا للمجلس بهيئته العامة والدائمة.
وهو أيضا عضو في هيئة كبار العلماء منذ إنشائها عام 1391هـ، وعضو في رابطة العالم الإسلامي، وكان له نشاط في تأسيس مجلة راية الإسلام، ومديرها ورئيس تحريرها.
وله دروس في المسجد الحرام وتذاع، وفتاوى في برنامج نور على الدرب، وله محاضرات وندوات،(23/486)
ص -490- ... ومشاركة في مناقشة رسائل الماجستير والدكتوراه، وغير ذلك مما فيه صلاح وإصلاح، فجزاه الله أحسن الجزاء، وأحسن لنا وله الخاتمة في الأمور كلها وصلى الله على محمد، حرر في 9/1/1419هـ.
الشيخ عبد الرحمن بن حماد العمر البدراني، حفظه الله
عالم جليل، وداعية إلى الله بالحكمة، والموعظة الحسنة، ولد في روضة سدير في 17/2/1354 من الهجرة، وتربى على يدي والديه، وتعلم مبادئ القراءة والكتابة على يد إمام جامع البلد عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فنتوخ، وتعلم القرآن على فوزان القديري وابنه عبد الله، وأكمل دراسة القرآن وحفظ الأصول الثلاثة وأدلتها، وشروط الصلاة وأحكامها على والده، رحمه الله.
والتحق بالمدرسة الابتدائية عام 1369هـ، ثم بالمعهد العلمي بالرياض، ثم بكلية الشريعة فتخرج منها عام 82 - 83 ?، وأخذ قبل التخرج وبعده عن كثير من العلماء، وفي مقدمتهم الشيخ محمد بن إبراهيم، والشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ عبد الله بن محمد بن حميد، والشيخ سليمان بن حمدان، وقد أجازه كتابة بما أجازه أهل العلم; وأخذ العلم أيضا عن غيرهم من أهل العلم.(23/487)
ص -491- ... وكان يكثر من قراءة كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وكتب أئمة الدعوة، والمراجع الكبار في التفسير والحديث والأصول والفقه وغير ذلك. وله كتب ورسائل بلغت 18 طبع بعضها وانتشر، منها: "فى سبيل الحق"، "الإرشاد إلى توحيد رب العالمين"، "الذكرى"، "دين الحق" وقد ترجم إلى لغات كثيرة، وغير ذلك. وله مشاركة في المحاضرات والندوات في المساجد وعمل محاسبا بوزارة المالية بمدة أشهر، ثم مديرا للمبيعات بالخطوط الجوية، ما يزيد على خمس سنوات.
ثم عمل مدرسا بوزارة المعارف ما يقارب ثلاثين عاما حتى تقاعد في سنة 1415هـ، وله أولاد فيهم خير وبركة. ولا يزال - بحمد الله - يشارك في المحاضرات والندوات، والتأليف. نسأل الله أن يحسن لنا وله الخاتمة، وأن يتقبل منا ومنه الحسنات، ويغفر لنا وله السيئات آمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
الشيخ محمد بن عبد الله بن حمدان
ولد في "البير" من بلدان المحمل شمال غرب الرياض عام 1357?. وتلقى تعليمه في الكتاتيب في "البير"، ثم في مدرسة "تمير" الابتدائية، حيث كان جده إماما فيها، ثم التحق بمعهد إمام الدعوة في الرياض سنة 1373هـ، كما واصل دراسته المتوسطة والثانوية ليلا.(23/488)
ص -492- ... وحين تخرّج من المعهد التحق بكلية الشريعة بالرياض، ثم تعين موظفا واستمر منتسبا حتى تخرّج منها عام 1383هـ، وتنقل في وظائف عدة كان آخرها في إمارة منطقة الرياض حتى طلب التقاعد عام 1400هـ بعد أن بلغت خدمته في الدولة 20 عاما.
كتب عدة مقالات وبحوث فى المجلات والصحف السعودية القديمة والحديثة، وصدر له بعض من الكتب، منها: "بنو الأثير"، و"صبا نجد"، و"ديوان حميدان"، وله كتب أخرى ينوي طبعها.
ونشأت لديه هواية جمع المخطوطات والكتب والجرائد، والمجلات القديمة، واجتمع عنده الكثير، فأنشأ "مكتبة قيس" لشراء وبيع ما اجتمع لديه، وانتفع بذلك، ولديه "متحف قيس" يضم نوادر وطرائف من المأثورات الشعبية; يكره المديح والكبر، ويهوى السياحة والسباحة.
نسأل الله لنا وله حسن الخاتمة في الأمور كلها، وأن يجعل في ذريته من تقر بهم عينه في طاعة الله وطاعة رسوله، وأن يكونوا له من الباقيات الصالحات إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على محمد، حرر في 1/2/1419هـ.(23/489)
ص -493- ... نبذة عن هذه الطبعة الجديدة
وإليك نبذة عن هذه الطبعة الجديدة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. وبعد: فحيث أن الطبعة الأولى للدرر السنية التي طبعت في مكة بمطابع أم القرى في عهد الملك عبد العزيز، قلّ وجودها، حتى في المكتبات العامة، وتتكون من أربعة مجلدات.
ثم صورت على الطبعة الأولى في عهد الملك فيصل، وقلت أيضا مع ما حصل عليها من بعض التغيير، ونفدت إلا ما شاء الله منها، وكثر السؤال عنها في وقت قد تيسّر الطبع فيه وسهلت مئونته، وأن جامعها قد احتفظ بنسخة منها مزيدة، وكان حريصا على طباعتها قبل وفاته بما يقرب من ثلاث سنوات ولم يتيسر له ذلك.
ولأهميتها والاستفادة منها، وتيسر الطبع على نفقة الأخ ناصر، فقد استعنت بالله في الإشراف على طبعها والقيام بما يلزم، من مقابلة، ومراجعة، وتدقيق، وتنقيح، ونسخ ما يحتاج إلى نسخ، وبذلت الجهد بأن تكون هذه الطبعة وفق ما ذكر في أول الجزء الأول، في التمهيد، والتنبيهات.
وعلقت على ما يحتاج إلى تعليق، مما يوضح(23/490)
ص -494- ... المراد، وما يظن أنه متكرر وليس بمتكرر، وما له علاقة بما قبله أو بعده، ليسهل الرجوع إليه، وما يحتاج إلى تقديم أو تأخير، أو إضافة أو حذف وهو قليل جدا، مع الإشارة إلى ذلك، وإبدال كلمة "وفقه الله" لمن قد توفي بكلمة "رحمه الله".
وقمت بفهرسة الرسائل المضافة والترجمة لأصحابها، على نمط فهرسة جامعها، وتراجمهم، علما بأن مجموع ما فرق في الأجزاء، يقرب من جزء، وبسبب مراعاة الأشياء الفنية في الطباعة وتغير حجم الصفحات وما حصل من إضافات فقد بلغ عدد الأجزاء بما فيها المخطوط المسمى: "بالبيان الواضح وأنبل النصائح" 16 جزءا.
ولمزيد من الإيضاح عن هذه الطبعة الجديدة: فقد تم بحمد الله طبع هذه النسخة الجديدة في ستة عشر جزءا، كما يلي:
(أ) الجزء الأول ويشتمل على تقريظات، وتمهيد، وتنبيهات، وكتاب العقائد، وعدد صفحاته 607.
والجزء الثاني يشتمل على كتاب التوحيد، وعدد صفحاته 371.
والجزء الثالث يشتمل على كتاب الأسماء والصفات وعدد صفحاته 388، وقد تم طبع هذه الثلاثة الأجزاء سنة 1413هـ- 1992 م.(23/491)
ص -495- ... (ب) الجزء الرابع ويشتمل على القسم الأول من كتاب العبادات، أوله في أصول مأخذهم، ثم من كتاب الطهارة إلى نهاية باب صلاة أهل الأعذار، وعدد صفحاته 449.
والجزء الخامس ويشتمل على القسم الثاني من كتاب العبادات، من أول باب صلاة الجمعة إلى نهاية العقيقة، وعدد صفحاته 425.
والجزء السادس من أول كتاب البيع إلى نهاية اللقطة، وعدد صفحاته 483; وقد تم طبع هذه الثلاثة أيضا سنة 1314? - 1994 م.
(ج) الجزء السابع من أول كتاب الوقف إلى نهاية الإقرار، وعدد صفحاته 619.
والجزء الثامن ويشتمل على القسم الأول من كتاب الجهاد، وعدد صفحاته 512.
والجزء التاسع ويشتمل على القسم الثاني من كتاب الجهاد، والقسم الأول من كتاب حكم المرتد، وعدد صفحاته 455.
والجزء العاشر ويشتمل على القسم الأخير من كتاب حكم المرتد، وعدد صفحاته 533، وهذه الأربعة الأجزاء تم طبعها سنة 1416?- 1995 م.
(د) الجزء الحادي عشر، ويشتمل على القسم الأول(23/492)
ص -496- ... من كتاب مختصرات الردود، عدد صفحاته 600.
والجزء الثاني عشر ويشتمل على القسم الثاني من كتاب مختصرات الردود، وعدد صفحاته 564.
والجزء الثالث عشر ويشتمل على تفسير واستنباط لسور وآيات من القرآن الكريم، عدد صفحاته 465.
والجزء الرابع عشر، ويشتمل على كتاب النصائح، عدد صفحاته 600.
وهذه الأجزاء الأربعة تم طبعها سنة 1417? - 1996 م و 1997 م.
(ه) الجزء الخامس عشر، ويشتمل على القسم الأول من كتاب البيان الواضح وأنبل النصائح، عدد صفحاته 450.
والجزء السادس عشر، يشتمل على القسم الأخير من كتاب البيان الواضح وأنبل النصائح، وعلى تراجم أصحاب تلك الرسائل والأجوبة الموجودة في الطبعة الأولى والمزيدة في هذه الطبعة، وهو آخر ما جمعه الوالد ورتبه لهذه الدرر، فجزاه الله أحسن الجزء، وكذا كل من أعانه عليها وساعده في نشرها.
وآخر دعوانا: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
المشرف على الطبع ابنه سعد(23/493)
البيان المبدي لشناعة القول المجدي - سليمان بن سحمان (1)
الناشر:
مطبع القرآن والسنة الواقع في بلدة أنر تسر
البيان المبدي لشناعة القول المجدي
تأليف: الشيخ سليمان بن سحمان
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي يقذف بالحقّ على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق، وأوضح الحق وأعلاه فأضاء نوره ما بين المغارب والمشارق، وأدحض الباطل وأهله من كل معاند للحق ومشاقق، أحمده سبحانه وأشكره على قمع كل منافق ومارق، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في إلهيته وربوبيته لجميع الخلائق، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إمام المتقين وقائد الغر المحجلين ذو المناقب والسوابق صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ما انغدق الودق وأومضت البوارق، وسلم تسليما كثيراً.
أما بعد، فقد رأيت كلاماً لمحمد سعيد بن محمد بابصيل الشافعي المكي ردّاً على ما كتبه العالم الفاضل الألمعي والنبيل الجليل اللوذعي المسمّى بعبد الله
ص -2-(24/1)
ابن عبد الرحمن بن عبد الرحيم السنديّ، وما كتبه عبد الكريم فخر الدين على رسالة أحمد زيني دحلان التي سمّاها: الدّرر السّنية في الرد على الوهابية، وقد ضمنها دحلان من الأكاذيب والترهات ما يستحي العاقل من حكايتها مع ما اشتملت عليه من إباحة الشرك والالتجاء إلى الصالحين ودعائهم والاستغاثة بهم إلى غير ذلك مما تمجه الأسماع ويتفر عنه الطباع وكذلك ما قرره من الزيارة البدعية الشركية واستدل على ذلك بأحاديث مكذوبة موضوعة يعرفها كل من له إلمام بمعرفة الحديث ورجاله فردا عليه فأجادا وأفادا وانتصرا لله ورسوله وأئمة المسلمين، فجزاهما الله عن الإسلام وأهله أفضل الجزاء.
ثم إنّ هذا المكيّ المسمّى بابصيل اعترض عليهما فيما كتباه بما نقله عن ابن حجر الهيثمي في مسبة شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه باعتراضات بعضها حق وهو قائلها ومعه الكتاب والسنة وأقوال الأئمة من الصحابة والتابعين ولم يخرج رحمه الله في قول قاله عن قول أحد من السّلف منفرداً به بل قد قاله غيره من الأئمة و
ص -3-
باعتراضات أخرى يعرف كل منصف أنها دعاوى باطلة وأكاذيب محضة وبما نقله أيضاً عن علوي بن أحمد بن حسن بن عبد الله الحداد، وجعل ما اعترض به ما على شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ردّاً واعتراضاً على الشيخ محمد بن عبد الوهاب تأصيلا منه أنه إنما درج على منواله، واحتذل حذوه في مقاله، وبمناقضات زعم أنه أخذها عليهما وأنه باعتراضه قد وجد الضالة المنشودة، وسقط على الدرة المفقودة وهي على غير ما توهمه، وعنه التحقق على خلاف ما زعمه فردّ عليهما لاعتماده واعتقاده أنهما من الوهابية، وأنهما من اتباع شيخ الإسلام ابن تيمية فاستعنت الله تعالى على رد أباطيل هذا المعترض الأفاك الذي نصب نفسه للانتصار لأهل الباطل والإشراك، وذلك بعد ما أكثر عليّ بعض الإخوان، وإن كنت لست من أهل هذا الشأن ولا ممن يجري الجواد في مثل هذا الميدان.(24/2)
ولكن البلاد إذا اقشعرت
وصوح بنتها رعى الهيثم
وقد تأملت ما كتبه هذا المفتري فإذا هو لم يأت إلا بتمويهات وترهات وخزعبلات وخرافات، لا تروج على ذوي العقول السليمة، وليست بحمد الله بصائبة ولا مستقيمة بل عواقبها ذميمة، ومراتعها
ص -4-
وخيمة، والله المسؤول المرجو الإجابة، أن يوفقنا الطريق السداد والإصابة وأن يجزل لنا بمنه وكرمه الإثابة، وهذا جهد المقل، وأسأل الله أن يحسن لنا النية والعمل وسميت هذا: "الرّد بالبيان المبدي لشناعة القول المجدي".
قال المعترض بعد أن ذكر أنه وقف على رسالتين أحدهما مؤلفها عبد الكريم بن فخر الدين، والأخرى مؤلفها عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الرحيم السنديّ، قال: ولم ألتفت لمعارضة كل واحد منهما في رد مقالته ببرهان عقلي أو شرعي إلى آخره.
فالجواب ومن الله استمد الصواب أن هذا المعترض الجاهل قد خصم نفسه باعترافه أنه لم يعترض عليهما في الرد ببرهان عقلي أو شرعي ولو ظفر ببرهان عقلي أو شرعي يرد به ما زعم أنه الباطل لما أهمله في هذا المقام، ولصال بخيله ورجله لينال من خصمه المرام، وما يحسن بمن عنده علم وفضل كلام عند مقاومة الخصوم وإرخاء أعنة الأقلام أن يرتدي برداء العيّ والإحجام، ولكنه ولله الحمد والمنة مزجي البضاعة من العلوم النبوية والآثار السلفية وليس له ملكة ولا روية ولا معرفة بمدارك الأحكام ولادرية، وأنى لهذا المعترض يد بمقاومة جند الله ورسوله،
ص -5-
المعتصمين بكتاب الله والسالكين على سنة رسوله وسبيله، ولكن بهذا الهذيان البارد، والأكاذيب المظلمة المسالك والموارد التي لا يعجز عنها أحد ممن تجاوز الحد وأفرط والحد، هيهات هيهات {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ، بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} {القمر:45ـ46].
لعمرك ما يدري الغبي بأنه
أتى موئداً من مورد الشرك مظلماً
وردّ على من شاد سنة أحمد(24/3)
باوضاعه اللاتي بها قد تكلما
وأعلى من الكفر الصريح معالما
أشاد لها دحلان من كان أظلما
وأرسى لها في قلب كل معطل
جهول وأفاك رسوما وسلما
لترسورير في كل من رام فرية
بأسبابها طوداً من الكفر قدطما
ويسعى بان يدعى حسين وخالد
وزيد ومعروف ومن كان أعظما
ويدعى الرفاعي بل على وحمزة
ويدعى لعمري العيدروس بكلما
به يقصد الرحمن جل جلاله
فبعداً لأرباب الضلالة والعما
وقد قام هذا الوغد منتصرا له
بلا حجة أدلى بها إذ تكلما
ولكن ببهتان وسبة مفترٍ
على علماء الدين ظلما ومأثما
وأرخى عنان الجهل والظلم خاليا
من العقل والبرهان والشرع مانما
ص -6-
ولو ظفر المخذول بالعلم والهدى
لا بد لهما فورا وما كان أحجما
ولكنه والحمد لله وحده
من العلم بالبرهان قد كان معدما
فحادوا بدى نزهات وضيعة
وأقوال أعداء بها الإفك قد طما
وقد قام كالحرباء يرنو بطرفه
إلى الشمس عدوانا وبغيا ومأثما
وما ضرّ إلا نفسه باعتراضه
ونصرته من كان أعمى وأبكما
وأنّى لهذا الوغد علم بمابه
يدان ويرجى فاطر الأرض والسما
ولو كان يدرى ماهدى بضلالة
وسطر في أوراقه الجهل والعما
ولكن أهل الزيغ في غمراتهم
فليس لهم عن مهيع الكفر مرتما
خفافيش اعشاها من الحق شمسه
وأعمها إشراقه إذ تبسّما
فلما دجى ليل الضلالة أقبلت
وجالت وصالت حين جنوأظلما
أيحسب هذا الفدم والوغد اننا
غفلنا وما كنا غفاة ونوما
سنضرب من هاماتهم كل قمحد
ونبكم صنديدا تحدى وغمغما
وتشدخ بالبرهان يافوخ إفكه
فيصبح مثلوغا وقد كان مبهما
وما كان أهلا أن يجاب لجهله
وهُجنة ما أبداه لما تكلما
ولكن ليدرى أن في الربع والحمى
رماثا اعدّوا للمعادين اسهُما
ص -7-
ويعلم أنا لا نزال ولم نزل
على ثغرة المرمى قعودا وجثما
وفي زعم هذا الأحمق الوغد انه
وأصحابه أهل الهدى حين قسما
وإن ذوي الإسلام أهل ضلالة(24/4)
وأهل ابتداع بئسما قال إذ رمى
ذوي الدين بالغي الذي هو أهله
وكان بما أبدى أحق والوما
أيوصف بالإسلام من كان مشركاً
ويوصف بالاشراك من كان مسلما
لعمري لقد جئتم من القول منكرا
وزورا وبهتانا وأمرا محرّماً
فيا ويحه أن لم يتب من ضلاله
لسوف يرى جهراً ويصلي جهنما
فصل: قال المعترض بعد أن أصّل أصلين ينبني بزعمه بطلان الأصل الأدنى بالكلام على الأصل إلا بعد قال: فأقول الأصل الأدنى ظهور محمد بن عبد الوهاب، وقد بلغ بدعوته الضالة ما بلغ وملأت البلاد والأقطار وكلامه ودعوته مؤسسة على دعوى من قبله فمن قلد من قبله وهو الأصل الأصيل لهذا الفساد الذي عم العباد والبلاد وهو الشيخ ابن تيمية إلى آخر ما قال.
والجواب: أن يقال: سبحان من طبع على قلوب أعدائه فاصمهم وأعمى أبصارهم فإن هذا الجاهل الذي أعمى الله بصيرة قلبه لما لم يكن لديه
ص -8-
معرفة بأصل هذا الدين الذي بعث الله به رسوله محمداً صلى الله عليه وسلّم ومنّ الله بإظهاره بعد أن كان ذلك مهجوراً بين الناس. لا يعرفه منهم إلا النزاع من الأكياس على يدي شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب من إخلاص العبادة بجميع أنواعها لله رب العالمين، وإنكار ما كان الكثير عليه من شرك المشركين، بالإلتجاء إلى الصالحين وطلب ما كان لله عنده ضرائح الأموات من المعبودات، وإنزال الحاجات بهم في الملمات لتفريج الشدائد والكربات، ونهيه عن عبادة الأشجار والأحجار والقبور والطواغيت والأوثان، وعن الإيمان بالسحرة والمنجّمين والكهّان، صار لديه هو أصل الضلال والفساد، الذي ملأ الأقطار وانتشر في البلاد، فلمّا لم يكن لديه معرفة بهذا الدين دعا إليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب من إخلاص العبادة لله والشرك الذي نهى عنه وجد أهل نجد عليه من صرف جميع العبادات لغير أمته، تعين أن نذكر هذا الأصل الذي جعله هذا المعترض أصل الضلال والفساد وهو ظهور هذه الدعوة النجدية،
ص -9-(24/5)
والطريقة المحمدية؛ ليتبين لك فساد تأصيل هذا المكي وليعرف المسلم قدر نعمة الله التي أنعم بها على المسلمين بدعوة هذا الشيخ وأنهم قبله في ضلالة ظلما، وجهالة جهلاً، وفلوات غيّ مفاوزها يهما، ونذكر قبل ذلك ما كان عليه أهل نجد وأهل الأقطار حال تبين الشيخ رحمه الله.
قال الشيخ أبو بكر حسين بن غنام رحمه الله تعالى: الفصل الأول في بيان ما جرى في تلك الأزمان من الشرك والضلال والطغيان في نجد والحسا وغيرهما مما يليهما من البلدان، فنقول: كان غالب الناس في زمانه متضمخين بالأرجاس متلطخين بوظر الأنجاس، وإطفاء نور الهدى بالانطماس بذهاب ذوي البصائر والبصيرة، والألباب المضيئة المنيرة، وغلبة الجهل والجهال، واستعلاء ذوي الأهواء والضلال حتى نهجوا في تلك الطريق منهجاً وعرا، ونبذوا كتاب الله تعالى وراءهم ظهراً، وأتوا زوراً وبهتاناً وهجراً، وزين لهم الشيطان الهم ينالون بذلك أجراً، ويجوزون به عزا وفخراً، فاركبهم مراكب
ص -10-(24/6)
الأسلاف قسراً وامتطى كواهلهم في ذلك السنن قهراً، وحسّن لهم أن الأباء بحقيقة الحق أدرى، وأنهم بنهج منهج الشريعة أحرى فعدلوا إلى عبادة الأولياء والصالحين وخلعوا ربقة التوحيد والدين، فجدّوا في الاستغاثة بهم في النوازل والحوادث ةالخطوب العظلة الكوارث، وأقبلوا عليهم في طلب الحاجات وتفريج الشدائد والكربات من الإحياء منهم والأموات وكثير يعتقد النفع والأضرار في الجمادات كالأحجار والأشجار، وينتابون ذلك في أغلب الأزمان والأوقات ولم يكن لهم إلى غيرها إقبال ولا التفات فهم على تلك الأوثان عاكفون ولها في كثير الأحايين ملازمون {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر: من الآية19]، لعب بعقولهم الشيطان، وأخذ بهم منهج الخسران حتى ألقاهم في قعر الهوان، فلجوا في طغيانهم يعمهون، تسنموا من الأهوى اسمى فنن، وأتوا من الضلال إنما فتن، ورفضوا والله أسنى سنن {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1]، أحدثوا من الكفر والفجور،
ص -11-(24/7)
والإشراك بعبادة أهل القبور وصرف الدعاء لهم والنذور، {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون:117] شرعوا لهم شياطينهم من الدين ما لم يأذن به الله، وجعلوا لغيره ما لا يجوز صرفه إلى سواه، وزادوا على أهل الجاهلية فكانوا لا يدعون إذا مسّهم الضرّ إلا إياه، {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت:65]، ملؤوا قلوبهم له بالوجد والمحبة، وبذلوا أعمارهم وألسنتهم في دفع من أبدى لهم مسبة، ولم يشتغلوا بالله وكفى به لعبده رغبة، وليتهم سووا بينهم في المحبة والطلبة، {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ، إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَمَا أَضَلَّنَا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ} [الشعراء:97ـ99]، وكانت هذه المحبة في سويداء القلب سارية وعلى صفحة الوجه واللسان بادية، وأفعال الشرك في غالب الأقطار جارية، {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106]، وقد حدث الغيّ والإضلال والإسراف، ووقع التغير في الدين والاختلاف من زمان قديم من غير خلاف، وجاء بعدهم
ص -12-(24/8)
من اعتقد أن الدين هو ذلك الضلال والإسراف؛ لأنهم وجدوا عليه الأباء والأسلاف {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23]، وقد نص عليه كثير من العلماء الأعلام في كتبهم المصنفة فيما حدث من البدع من الأنام وماغيروا من منار الدين والإسلام، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: من الآية112]، وكان أكثر الناس على دعوة الأنبياء والصالحين الأحياء منهم والميتين، مجدين مجتهدين، وبالاعتقاد المحض فيهم مفتونين {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [النحل:51]، أيدعى من لا يملك لنفسه نفعاً، ولا يصرف عنها من السوء دفعا، ويترك مدبّر الخلائق إعطاء ومنعاً، {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل:53]، فغدوا عليهم في قضاء الحاجات وراحوا، وابتهلوا لديهم في ذلك وباحوا، وأحلوا ما حرم الله واستباحوا، {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [لأعراف:33]، وكان
ص -13-(24/9)
في بلدان نجد من ذلك أمر عظيم والكل على تلك الأحوال مقيم، وفي ذلك الوادي مسيم {حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة: من الآية48]، وقد مضوا قبل بدو نور الصواب يأتون من الشرك بالعجاب وينسلون إليه من كل باب ويكثر منهم ذلك عند قبر زيد بن الخطاب ويدعونه لتفريج الكرب بفصيح الخطاب ويسألونه كشف النوب من غير ارتياب {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: من الآية18]، وكان ذلك في الجبيلة مشهوراً وبقضاء الحوائج مذكوراً، وكذلك قربوه في الدرعية يزعمون أن فيها قبوراً، أصبح فيها بعض الصحابة مقبوراً، فصار حظهم في عبادتها موفورا، فهم في سائر الأحوال عليها يعكفون، {أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} [الصافات:86]، وكان أهل تلك التربة أعظم في صدورهم من الله خوفاً ورهبة، وأفخم عندهم رجاء ورغبة، فلذلك كانوا في طلب الحاجات بهم يبتدون، {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22]
وفي شعب غبيرا يفعل من الهجر والمنكر ما يعهد مثله ولا يتصور، ويزعمون أن فيه قبر ضرار بن
ص -14-(24/10)
الأزور، وذلك كذب محض وبهتان مزور مثّله لهم إبليس وصوّر، ولم يكونوا به يشعرون، وفي بليدة الفدا ذكر النخل المعروف بالفحال يأتونه النساء والرجال ويفيدون عليه بالبكر والأصال، ويفعلون عنده أقبح الفعال، ويتبرّكون به ويعتقدون، وتأتيه المرأة إذا تأخرت عن الزواج، ولم تأتها لنكاحها الأزواج، فتضمه بيديها بحضور ورجاء الانفراج، وتقول: يا فحل الفحول أريد زوجاً قبل أن يحول الحول، هكذا صحّ عنهم القول، {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: من الآية43]. وشجرة الطرفية تشبث بها الشيطان واعتلق، فكان ينتابها للتبرك طوائف وفرق، ويعقلون فيها إذا ولدت المرأة ذكرن الخرق، لعلهم عن الموت يسلمون، وفي أسفل الدرعية غار كبير يزعمون أن الله تعالى فلقه في الجبل لأمرأة تسمى بنت الأمير أراد بعض الفسقة أن يظلمها فصاحت ودعت الله فانفلق لها الغار بإذن العلي الكبير، وكان تعالى لها من ذلك السوء وجير، فكانوا يرسلون إلى ذلك الغار اللحم والخبز ويهدون، {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ، وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:95ـ96] قال: وكذلك
ص -15-(24/11)
ما يفعل الآن في الحرم المكي الشريف زاده الله تعالى رفعة وتشريفاً فهو يزيد على غيره وينيف، فيفعل في تلك البقاع المطهرة المكرمة، والمواضع المعظمة المحترمة، من الأمور المحظورة المحرمة ما يحق أن تسفح عند رؤيته العيون والأجفان، وتزال لأجله الدموع وللاتصان، وتلتهب في القلب لوعج الأحزان إذا أبصر الموحد ما يصدر من أولئك العربان من الفسوق والضلال والعصيان، وما عرى فيه الدين من الهوان، فلقد انتهكت فيه المحرمات والحدود، وكان لأهل الباطل فيه قيام وقعود كما هو الآن مشاهد موجود، أين قوله تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج:26]، ويشهد بذلك من رآه ممن كان له قلب سليم، {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: من الآية25]، ولقد تظاهر بذلك فيهم جمّ غفير، وتجاهر به بين أظهرهم جمع كثير، ولم يكن لأهل العلم إزالة ولا تغيير، بل تألبوا على مصادمة الحق الشهير، وراموا إطفاء مصباحه المنير، وإخماد ضيائه المستنير، وجادلوا
ص -16-(24/12)
تغيير محيّ الصواب، {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [غافر: من الآية5]، {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر: من الآية37]. فمن ذلك ما يفعل عند قبر المحجوب، وقبة أبي طالب، وهم يعلمون أنه شريف حاكم متعد غالب، كان يخرج إلى بلدان نجد ويضع عليهم من المال خراج ومطالب، فإن أعطى ما أراد انصرف وإلاّ أصبح لهم معادياً ومحارب، وكذلك عند قبر المحجوب، يطلبونه الشفاعة لغفران الذنوب؛ لأنه عندهم المقرب المحبوب، فلهذا كانوا من شره يحذرون، وإن دخل متعد أو سارق أو غاصب مال قبر أحدهما لم يتعرض له أحد من الرجال، ولا يخشى معاقبة ولا نكال ولا يتوصل إليه بما يكره ولا ينال، وإن تعلق جان ولو أقل جناية بالكعبة سحب منها بالأذيال، فهم في تعظيمها مفرطون، {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ، لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} [يّس:74ـ75]، ومن ذلك ما يفعل عند قبر ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها بسرف، وعند قبر خديجة رضي الله عنها في المعلى، مما لا يسوغ
ص -17-(24/13)
المسلم أن يطلق عليه إباحة وحلا، فضلا عن كونه يراه قربة يدرك بها أجرا وفضلا من اختلاط النساء بالرجال وفعل الفواحش والمنكرات، وارتفاع الأصوات عندهم بالدعوات وحصول الندب وشدة الاستغاثات، وعند قبر عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في الطائف من الأمور التي تشمئز منها نفس الجاهل فكيف بالعارف فيقف عند قبره متضرعاً مستغيثاً كل مكروب وخائف، وينادي أكثر الباعة في الأسواق من غير نكير ولا زاجر على الإطلاق، ويقول بلهجة قلب واحتراق، كثير من أهل الشرك والإبلاس، وذوي الفقر والإفلاس، اليوم على الله وعليك يا ابن عباس، ويسألونه الحاجات ويسترزقون {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ} [يّس:23].
وأما يفعل عند قبره عليه الصلاة والسلام من الأمور المحرمة العظام من تعفير الخدور، والإنحناء بالخضوع والسجود واتخاذ ذلك القبر عيداً، وقد لعن عليه الصلاة والسلام فاعله وكفى بذلك زجراً ووعيداً ونهى عن ما يفعل عنده الآن غالب العلماء نهياً شديداً، وغلظوا في ذلك تغليظاً أكيداً، فهو مما لا يخفى ولا ينكر، وأعظم
ص -18-
من أن يذكر، فهو في الشهرة والانتشار، كالشمس في رابعة النهار، ويكل اللسان عما يفعل عند قبر حمزة والبقيع وقباء من ذلك القبيل، ويعجز القلم عن بيانه على التفصيل، ولو لم يذكر منه إلا القليل.
شعر:
وليس يصح في الأذهان شيء
إذا احتاج النهار إلى دليل(24/14)
وأما ما يفعل في جدة فما عمت به البلوى فقد بلغ من الضلال والفحش الغاية القصوى، وعندهم قبر طوله ستون ذراعاً عليه قبة يزعمون أنه قبر حوّى، وضعه بعض الشياطين من قديم وهيئه وسوّى، يجبون عند السدنة من الأموال كل سنة ما لا يكاد يخطر على بالبال، ولا يدخل يسلم على أمه كل إنسان إلا مسلماً دراهم عاجلاً من غير توان، أيبخل أحد من اللئام، فضلا عن الكرامة ببذل الحطام، ويدع الدخول على أمّه والسّلام، وعندهم معبد يسمى العلوي بالغ في تعظيمه جميع الخلائق، وأربوا في الغلو على تلك الطرائق، فلو دخل قبره قاتل نفس أو غاصب أو سارق لم يتعرض بمكروه من مؤمن ولا فاسق، ولم يجسر أحد أن يكون مخرجاً له سائق، أو إلى المساعدة إليه مسارع مسابق، فمن استجار بتربته
ص -19-
أجير، ولم يعرج عليه حاكم ولا وزير.
وأما ما في بلدان مصر وصعيدها، من الأمور التي ينزه اللسان عن ذكرها وتعديدها خصوصاً عند قبور الصلحاء والعباد من ساداتها وعبيدها كما ذكرها الثقات في نقل الأخبار وتوكيدها، فيأتون قبر أحمد البدوي، وكذا قبور غيره من العباد، وسائر ترب المشهورين بالخير والزهاد، فيستغيثون ويندبون ويعجلونهم بالإمداد، ويستحثونهم على زوال المصيبة عنهم والأنكاد، ويتداولون بينهم حكايات وينسبون عنهم قضيات، ويحكون في محافلهم ما جريات من أفحش المنكر والضلالات فيقولون فلان استغاث بفلان فأغيث فورا في ذلك الأوان، وفلان شكى لصاحب القبر حاله وأمره فأغاثه وكشف عنه ضره، وفلان شكى إليه حاجته فأزال عنه فقره، وأمثال هذا الهذيان الذي هو زور وبهتان، ويصدر هذا الكلام في تلك البلدان وهي مملوءة بالعلماء من أهل الزمان وذوي التحقيق والعرفان، ولا يزال ذلك المحظور، ولا يغار من صدور تلك الأمور، بل ربما تنشرح منهم له الصدور.
وأما ما يفعل في بلدان اليمن
ص -20-(24/15)
من الشرك والفتن قبل هذا الوقت وفي هذا الزمن فأكثر من أن يحسب أو يحصى، أو يعد ويستسقى، أو يدرك له أقصى، فمن ذلك ما يفعله أهل شرقي صنعاء بقبر عندهم يسمى الهادي والكل على دعوته والاستغاثة به رائح غادي، فتأتيه المرأة إذا تعسر عليها الحمل أو كانت عقيمة، فتقول عنده كلمة قبيحة عظيمة، فسبحان من لا يعاجل بالمعاقبة على الجريمة.
وأما أهل بلد برع فعندهم رجل يرحل إلى دعوته، كل ناء عن محله وبلدته، ويؤتي إليه من غير إشكال من مسيرة أيام وليال لطلب الإغاثة وشكاية الحال ويقيمون عند قبره للزيارة ويتقربون بالذبائح عنده كما حقق أخباره من شاهد حضرته واحتضاره.
وأما أهل الهجرية ومن حذا حذوهم فعندهم قبر يسمى ابن علوان، وقد أقبل عليه العامة في نوائب الزمان، واستغاث به منهم كل لهفان، فهم يلجؤون به في كل وقت وأوان ويسميه غوغاء هم منجي الغارقين كما حكاه بعض السامعين، وأغلب أهل البر منهم والبحر يطربون عند سماع ذكره، ويستغيثون به
ص -21-(24/16)
وإن لم يصلوا إلى قبره، وينذر له في البحر والبر، وعند أهل بلده من تعظيمه ما يزيد على الحصر، ويفعلون عند قبره السماعات والموالد ويجتمع عنده أنواع المعاصي والمفاسد، فليس في أقطار اليمن في هذا الزمن من يساويه في الاشتهار، بل ولا في سائر الأقطار ولهم في حضرته أمور يفعلونها دينا، ويتوخونها حينا فحينا يطعنون أنفسهم بالسكاكين والد بابيس، وقد جعلها لهم عبادة إبليس ويقولون وهم يرقصون، وبما يغنيه طبون قد ملأ الوجد منهم البابا وذهنا، يا سادتي قلبي بكم معنّا وأمّا أهل حضر موت والشحر ويافع وعدن، فقد ثوى فيهم الغي وقطن، وعندهم العيدروس يفعل عند قبره من السفه والضلال الوبيل ما يغني مجمله عن التفصيل، ويقول قائلهم شيء لله يا عيدروس شيء لله محي النفوس، ثم ذكر ما في بلدان الساحل وما يفعل أهل المخا عند قبر على بن عمر الشاذلي، وأهل الحديد عند قبر الشيخ صديق، وأهل اللحية عند قبر الزيلعي، وعند قبر رابعة، وما يفعل أهل نجران عند سيدهم، قال: وأمّا
ص -22-(24/17)
ما في حلب ودمشق وأقصى الشام وأدناه، فهو مما لم يوقف له على حد ولم يكن ضبط أقصاه ولا يعرف قدره ومنتهاه، ولو استفرغ الإنسان في ذلك قصاراه بحسب ما يحكيه من يشاهد ذلك ويراه من العكوف على عبادة القبور، وصرف القربان إليها والنذور والمجاهرة بالفسوق والفجور، وأخذ الأمكاس والدستور، ووضع الخراج على البغايا من تلك المهور.
وفي الموصل وبلدان الأكراد، وما يليها من سائر البلاد، وكذا في العراق خصوصاً المشهد وبغداد مما لا يحتاج إلى حصر وتعداد، فيفعل عند قبر الإمام أبي حنيفة ومعروف الكرخي والشيخ عبد القادر رضي الله تعالى عنهم من الدعاء والاستغاثة بهم ومنهم في سائر الأوقات والأزمان ما لا يعرف له صفة ولا شأن، وتسفح عندهم والخضوع، أعظم مما يصدر بين يدي الله في الصلاة في الحضور والخشوع، بل كثير ممن فعل ذلك مراراً وجرب هم لقضاء الحوائج ترياق مجرب، قال: وأما مشهد علي بن
ص -23-(24/18)
أبي طالب رضي الله عنه فقد صيرته الرافضة وثنا يعبد ويدعى بخالص الدعاء دون من ذرأ الخلق وأوجد، ويصلي له في قبته ويركع ويسجد، وليس في صدور أولئك الضّلال وغيرهم من الجهّال، وذوي الفسق والضلال من التعظيم والهيبة والإجلال لذي الفضل والنوازل معشار ما فيها لعلي رضي الله عنه من غير إشكال والإسراف في المقال فتراهم يحلفون الأيمان الكاذبة بالله، ولا يخاف أحدهم مولاه، ولا يراقبه سرّاً ولا جهراً، ولا يخشاه، ولا يحلف بعلي كاذباً أبداً يعظم بذلك حماه فلا ينتهك ذلك ولا يتعداه، ويجزمون أن عنده مفاتح الغيب من غير شك قبحهم الله ولا ريب ولهذا يقولون إن زيارته أفضل من سبعين حجة وكفى بما ذكرناه في خروجهم عن الإسلام حجة، وإخراجهم عن واضح السنن والمحجة، ولقد غلوا فيه وأتوا من الشرك القبيح، أعظم مما يفعل النصارى في المسيح سوى دعوى الولدية فلم تصدر من هذه البرية، وساووهم وزادوا عليهم في غيرها من الخصال الرديّة، وزخرفوا على قبره الذي يدعونه قبة مذهبة
ص -24-(24/19)
وخالفوا هديه رضي الله عنه ومذهبه، ولقد كان في حياته حرق ممن غلا فيه أناس، فما أغناهم عن انتهاج منهج الضلال فيه والإبلاس، ومثل ذلك ما يفعل من الشرك والمكر والشين، عند مشهد الكاظم ومشهد الحسين، قال: وأما جميع قرى الشط والمجرة، فقد لبسوا ثياب الشرك والمضرة، بل كانوا أهله وأصله ومقره، وكذلك ما حول البصرة وما توسط فيها من تلك القبب والمشاهد التي أصبح كل إليها مقبلاً وقاصد لا سيما قبر الحسن البصري والزبير رضي الله عنهما، فقد طلبوا الفرج منهما، وصرفوا لهما من العبادة والاستغاثة عند الشدائد، وطلبوا منهما جميع الفوائد، وليس لها منكر ولا جاحد، سوى ما يصدر وما يشاهد في تلك البلدان من المنكرات والفواحش والمفاسد، ولا يجحد ذلك إلاّ مباهت معاند، وأما ما في القطيف والبحرين من البدع الرفضيّة، والأمور القبيحة الشركية، والمشاهد المعظمة الوثنية، وما يفعله أولئك الضلال والأنجاس من الضلال والغي والإبلاس وما يأتونه من الشرك والأرجاس فلا يكاد
ص -25-(24/20)
يخفى على أحد من الناس، ويقف دون ساحل إحصائه الإدراك ويقصر عن مقتضاه ونظمه في هذه الأسلاك، وما يجحد ذلك الأكل معتد أفاك، وهذا آخر ما أردنا من إيراد ما ذكره الشيخ أبو بكر حسين بن غنام رحمه الله قبل ظهور هذه الدعوة الإسلامية والطريقة المحمّدية التي سماها هذا الضال أصل الفساد الذي ملأ الأقطار وانتشر في البلاد والعباد، وذلك لجهله بدين الإسلام الذي بعث الله به نبيه محمداً صلى الله عليه وسلّم ولألفه بما كان عليه أهل الشرك والضلال من عبادة غير الله تعالى بالالتجاء إلى الصّالحين ودعائهم والاستغاثة بهم فهو لا يعرف إلا ما نشأ عليه الآباء والجدود الراتعين في رياض المحرمات والحدود والأكثر منهم يتدين بالبدع والأهوى ويرفض ما درج عليه السلف الصالح من الدين القديم الأقوى، فلما تفاقم هذا الخطب وعظم وتلاطم موج الكفر والشرك في هذه الأمة وجسم وظهر الضلال والبدع، وأكثر أهل الأرض إلاّ من شاء الله
ص -26-(24/21)
إلى منهاجها نزع، واندرست الرسالة المحمدية وانمحت منها المعالم وطمست الآثار السلفية ولم يبق منها سوى الإطلال والمراسم، وأقيمت البدع الرفضية، والأمور الشركية، وأعتقد أكثر البرية، إنها محبوبة لله مرضية، وأمور حسنة دهنية، فأقاموا لها أعياداً ومواسم وعكفوا عليها والأغلب لها شائم، ولتشديدها والذب عنها دائم، ولتشديد معالمها بالجد والاجتهاد قائم، انتدب هذا الإمام الذي أضحى بهديه الدين مشرفاً باسم، والباطل يحججه مظلماً سادم منادياً على رؤس العوالم بإخلاص العبادة لله وتنكير الإشراك والمظالم وإبطال دعوة غيره من نبي وولي وظالم وحاكم فلم يخف في الله لومة لائم حتى نال من مولاه المنح العظائم والعطايا الكرام الجسائم، وحاز منه أسنى الصلاة والغنائم واختار الله وما عنده، وبذل في طاعة الله جهده وطاقته وجده، حتى أنجز الله تعالى له وعده، وأكثر بعد ذلك محبه وجنده وصار له بتلك الدعوة والقيام، توكل على ربه واعتصام، فلم يبال بجميع الأنام، وما رموه من الفوادح
ص -27-(24/22)
العظام، وما فوقوا له من تلك السهام فلم يكن لهم إليه وصول، وصار كل منهم عنه مغلول، وحد لسانه مفلول حتى بدا له في أفق تلك البلد طالع القبول ولمع فيه بارق سيف الحق المسلوك وانحط ذُرى الضلال وانقطع حبله الموصول وعصفت عليه عواصف الدبور بعد الشمال والشمول وصار لنجمه كسوف وأفول ولعوده المورق باللهو والمزامير والطبول، بعد غصنته ونضارته يبس وذيول ولجسمه الممتلى بالفواحش نحول.
وتجرد للدعوة إلى الله وردّ هذا الناس إلى ما كان عليه سلفهم الصالح في باب العلم والإيمان، وباب العمل الصالح والإحسان وترك التعلق على غير الله من الأنبياء والصالحين وعبادتهم والاعتقاد في الأحجار والأشجار والعيون والمغار، وتجريد المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلّم في الأقوال والأفعال وهجر ما أحدثه الخلوف والأغيار فجادل في الله وقرر حججه وبنيانه وبذل نفسه لله وأنكر على أصناف بني آدم الخارجين عما جاءت به الرسل المعرضين عنه التاركين له وصنف في الرد على من عائد وجادل وما جل حتى ظهر
ص -28-(24/23)
الإسلام في الأرض وانتشر في البلاد والعباد وعلت كلمة الله وظهر دينه وانقمع أهل الشرك والفساد، واستبان لذوي الألباب والعلوم من دين الإسلام ما هو مقرر معلوم.
واستجاب لهذه الدعوة من أهل الإسلام عصابة حصل بهم من العز والمنعة ما هو عنوان التوفيق والإصابة فكانوا لطريقته المثلى متبعين وبأقواله وبأفعاله مقتدين لا يزالون معه في إخلاص الدعوة مشمرين، وفي إدحاض الباطل وأهله مجتهدين، وبإيضاح مناهج الشرك معلنين، وفيما يرضى الله مشرعين، ولأهل الدين والحق مكرمين ولأهل الضلال موهنين، وللضلال والفساق مهينين، ولقبح عقائهم لهم مبينين قائمين في ذلك لرب العالمين، ولوجهه الكريم محتسبين وللنجاة مرتجين {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69]، فلما أظهر الله هذا الدين شرق به أناس من أهل الشرك والارتياب، وأنكرته قلوب الذين حقت عليهم كلمة العذاب، وقالوا مثل ما قال الأولون ذوو الكفر والإعجاب {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [صّ:5]، فأخذوا في ردّه
ص -29-(24/24)
والإنكار عليه وأتوا بأعظم الأسباب وزجوا الخلق في لجة الضلالة والارتياب وضجوا على دعوة الحق بالتكذيب والأكذاب، وعجوا مطبقين على الشيخ بأنه ساحر أو مفتر أو كذاب وحكموا بكفره واستحلال دمه وماله وجميع من له من الأصحاب {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [غافر: من الآية5]، وصنفوا في ردّ هذا الدين مصنفات ولفقوا من الأكاذيب على الشيخ وأكثروا من النزهات ولم يكن لهم قصد ولا مرام إلا تنفير الخواص والعوام فتلقى هذا المكي ما في كتبهم من المخرقة، وصريح الإفك والزندقة {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: من الآية112]، فموه بها على الجهال والطغام وصادف قلوباً قد ملئت بالشرك وعداوة أهل الإسلام فكانوا لما يبديه من الأوضاع يصدقون، {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام:113]، وقد تلقى هذه الأوضاع والأكاذيب من نمط هذا المعترض من له في عداوة هذا الدين أوفر حظ ونصيب، فأقام الله في نحره من انتصر لله ولرسوله ولأئمة المسلمين فأباد باطله وأدحض
ص -30-
حجته، وأبان الحق وأوضح محجته، وهو الإمام الفاضل الشيخ مُلا عمران فقال رحمه الله تعالى في ردّ أباطيل هذا الملحد المفترى.
شعر:
جاءت قصيدتهم تروح وتغتدي
في سبّ دين الهاشميّ محمّد
إلى أن قال:
الشيخ شاهد بعض أهل جهالة
يدعون أصحاب القبور الهمّد
تاجاً وشمسان ومن ضاهاهما
من قبة أو تربة أو مشهد
يرجون منهم قربة وشفاعة
ويؤملون كذاك أخذا باليد
ورأى العبّاد القبور تقرّباً
بالنذر والذبح الشنيع المفسد
ما أنكر القرّاء والأشياخ ما
شهد وأمن الأمر الذي لم يحمد
بل جوّزوه وشاركوا في أكله
من كان يذبح للقبور ويفتد
فأتاهم الشيخ المشار إليه بالنـ(24/25)
ـصح المبين وبالكلام الجيّد
يدعوهمو الله أن لا يعبدوا
إلاّ المهيمن ذا الجلال السرمد
فتنافروا عنه وقالوا ليس ذا
إلا عجيب عندنا لم يعهد
ما قاله أباؤنا أيضاً ولا
أجدادنا أهل الحجى والسّودد
إنا وجدنا جملة الأبا على
هذا فنحن بما وجدنا نقتدي
ص -31-
فالشيخ لما أن رأى ذا الشأن من
أهل الزمان اشتد غير مقلد
ناداهموا يا قوم كيف جعلتموا
لله أندادا بغير تعددّ
قالوا له بل إن قلبك مظلم
لم تعتقد في صالح متعبد
إلى أن قال:
لو انصفوا لرأوا له فضلا على
إظهار ما قد ضيعوه من اليد
ودعوا له بالخير بعد مماته
ليكافئوه على وفاق المرشد
لكنهم قد عاندوا وتكبروا
ومشوا على منهاج قوم حسّد
ورموه بالبهتان والإفك الذي
هم يعملون به ومنهم يبتدي
كمقالهم هو للمتابع قاطع
بدخول جنات وحور خرّد
حاشى وكلاّ ليس هذا شأنه
بل إنه يرجو بها الموحد
قالوا له أشقى الورى مع كونه
ينهى عن الأنداد للمتفرد
وهموا يرون الشمس ظاهرة لهم
لكن أعمى القلب ليس بمهتد
قالوا له يا كافر يا فاجراً
ما ضره قول العداة الحسد
قالت قريش قبلهم للمصطفى
ذا ساحر ذا كاهن ذا معتد
قالوا يعم المسلمين جميعهم
بالكفر قلنا ليس ذا بمؤكد
ص -32-
بل كل من جعل العديل لربه
ونهى فصد فذاك كالمتهود
قالوا له غشاش أمة أحمد
وهو النصيح بكل وجه يبتدي
هل قال إلاّ وحّدوا ربّ السّما
وذروا عبادة ما سوى المتفرد
وتمسكوا بالسنة البيضاء ولا
تتنطعوا بزيادة وتردّد
هذا الذي جعلوه غشا وهو قد
بعثت به الرسل الكرام لمن هدي
من عهد آدم ثم نوح هكذا
تترى إلى عهد النبي محمد
وكذلك الخلفاء بعد نبيّهم
والتابعون وكل حبر مهتد
منهاجهم هذا عليه تمسكوا
من كان مستنا بهم فليقتد
عجبا لمن يتلو الكتاب ويدعى
علم الحديث مسلسلا في المسند
ويقول للتوحيد غشاً أن ذا
خطر على من قال فليتشهد(24/26)
ويجدد الإسلام والإيمان معـ
ـتر فابان الشيخ خير مجدّد
ما ذنبه في الناس إلا أنه
هدم القباب وتلك سيرة أحمد
ما صح عهد ثقيف لما عاهدوا
إلا بهدم اللات لو لم يعبد
ما اللات إلا كان عبداً صالحاً
لتّ السويق لطائف متعبد
لما توفي عظموا لضريحه
كصنيع عباد القبور النكد
ص -33-
إذ كان حيا قادراً قاموا يا طـ
ـعام له وبكسوة وتفقد
وإذا توارى عنهموا في قبره
وحديث أبي الهيّاج فيه كفاية
جعلوه نداً للاله السيّد
لذوي البصائر والعقول النقد
في طمس تمثال وقبر مشرف
جاء الحديث به الصحيح لمسند
لما نفى الإطراء عنهم والغلو
قالوا أتيت بذا الجفاء المبعد
لو كان حبك للنبي محققا
لفعلت فعلتنا لعلك تهتد
أما الدلائل فهو لم ينكرها
صلوات أزكى العالمين إلا مجد
إلا التظاهر بالغلو وجعلها
درسا يكرر في كتاب مفرد
فترى لهم حرصاً على تجويدها
حظّا وتذويقاً وحسن مجلّد
لا يعتنون بمصحف لهمواكما
هم يعتنون براتب وبمولد
فلو اعتنى ربّ الدلائل بالذي
يأتي عقيب تشهد المتشهد
لكفاه كل مؤنة وتكلف
ومشى على النهج القويم الأرشد
سأل النبي من الصحابة سائل
كيف الصلوات عليك كالمسترشد
فأجاب يرشده إلى ما جاء في
قول المصلي دبر كل تشهد
لوّحت فيه ولم أصرح حيث لم
يدخل على وزن القريض المنشد
ص -34-
هذا الكلام على الدلائل ليس ما
قد قاله من شذّ عن ذا المقصد
وكذاك في روض الرياحين التي
فيها الغلو بصالح مُتعبّد
والله قد ذمّ الغلو فقال يا
أهل الكتاب بغلظة وتهدد
إذ قال لا تغلوا بنهي لازم
في دينكم في الحكم لم يتردّد
وكذا الرسول نهى وأخبر أنه
فيه الهلاك لراهب متعبّد
عجباً لهم لو كان فيهم منصف
لرأى المحبّ محمداً لمحمد
من حيث إن الاتباع موافق
للحب في نص الكتاب الأمجد
قالوا صبأتم نحوه قلنا لهم
الحق شمس للبصير المهتد
ما بيننا نسب نميل به ولا(24/27)
حسب يقربنا له بتؤدد
أيضاً ولا هو جارنا الأدنى الدني
نمتار نعمته ولم نسترفد
لكنها شمس الظهيرة قد بدت
لذي والبصائر فاهتدى من يهتدي
فإن اعتراكم في الذي قد قاله
شك وريب واختلاف يبتدي
فزنوا بميزان الشريعة قوله
تجدوه حقاً ظاهراً للمقتد
ولئن وجدتم جاء فيها أو فاسقاً
أو جاهلا في العلم كالمتردد
قد زل يوماً أو هفا لا تنسبوا
هفواته لجناب ذاك المرشد
ص -35-
فالآل والأصحاب ماذا ضرهم
من بعدهم تكدير صاف المورد
من بعد ذاك الاجتماع على الهدى
ظهروا ذووا فرق وأهل تبدد
ماذا يضر السحب نبح الكلب أم
ماذا يضر الصّحب سب الملحد
ثم الصلاة على النبي محمد
أزكى الورى أصلاً وأطيب محتد
والآل والأصحاب جمعا كلما
قد ذبّ عن ذا الدين كل موحد
وقد اعترض هذا الملحدُ على الشيخ محمّد بن عبد الوهاب رحمه الله بنحو ممّا اعترض به هذا المكي وشنّع وعاوى، وحشر علماء السوء نادى، وقد أرهف هو وأخدانه أسنة المقال، والكل خاض في الإفك ونال، فأبوا بالخسران والإذلال، ولقد عرفوا أن الذي جاء به الحقّ ولكنهم لذلك كانوا يكتمون {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32]، وكذلك قد عارضه من الغلاظ المارقين، ومن الدعاة إلى عبادة الأولياء والصالحين أناس من أهل وقته فباءوا بغضب الله ومقته، وأظهره الله عليهم بعد الامتحان، ,حقت كلمة ربك على أهل الكفر والطغيان، وهذه سنة الله التي قد خلت من قبل وحكمته إليّ يظهر بها ميزان الفضل والعدل فتتبع هذا المكي هذه الضلالات التي هي اللائقة بتلك
ص -36-(24/28)
الفهوم والقلوب المقفلات {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر: من الآية8]، والمؤمن إذا وقف على مالفقه هؤلاء من النزهات عرف قدر ما هو فيه من نعمة الإسلام وما اختص به من حلل الإيمان والكرامات، وازداد تعظيماً لربه وتمجيداً، وإخلاصاً في معاملته وتوحيداً لو شاء ربك كنت أيضاً مثلهم، فالقلب بين أصابع الرحمن، فلله الحمد والمنة حيث منّ علينا باجتناب طرائق هؤلاء الضّلال الحبارى، السّالكين مناهج الغيّ جهالة واغتراراً، ونسأله أن يثبتنا على دينه القويم، ويهدينا سلوك صراطه المستقيم.
فصل: ويزيد هذا المقام إيضاحاً ليزداد به الموحد سروراً وانشرحاً بذكر شيء من سيرة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ونذكر طرفاً من أخباره وأحواله ليعلم الناظر فيه حقيقة أمره فلا يروج عليه تشنيع من استحوذ عليه الشيطان وأغراه وبالغ في كفره واستهواه، فنقول: قد عرف واشتهر واستفاض من أمره ودعوته وما عليه الفضلاء النبلاء من أصحابه وتلامذته أنه على ما كان عليه السّلف الصالح وأئمة الفقه و
ص -37-(24/29)
الفتوى في باب معرفة الله وإثبات صفات كماله ونعوت جلاله التي نطق بها الكتاب العزيز وصحّت بها الأخبار النبوية وتلقتها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالقبول والتسليم يثبتونها ويؤمنون بها ويمرونها كما جاءت من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل وقد درج على هذا من بعدهم من التابعين وتابعيهم من أهل العلم والإيمان ويلف الأمة وأئمتها.
وأمّا توحيد العبادة والإلهية فلا خلاف بين أهل الإسلام فيما قاله الشيخ وثبت عنه من المعتقد الذي دعا إليه يوضح ذلك أن أصل الإسلام وقاعدته شهادة أن لا إله إلا الله وهي أصل الإيمان بالله وحده وهي أفضل شعب الإيمان وهذا الأصل لا بد فيه من العلم والعمل والإقرار بإجماع المسلمين ومدلوله وجوب عبادة الله وحده لا شريك له والبراءة من عبادة ما سواه كائناً من كان وهذا هو الحكمة التي خلقت لها الإنس والجن وأرسلت لها الرّسل وأنزلت بها الكتب وهي تتضمن كمال الذّل والحبّ وتتضمن كمال الطاعة والتعظيم وهذا هو دين الإسلام الذي لا يقبل الله
ص -38-(24/30)
دينا غيره لا من الأولين ولا من الآخرين فإنّ جميع الأنبياء على دين الإسلام وهو يتضمّن الاستسلام لله وحده فمن استسلم له ولغيره كان مشركاً ومن لم يستسلم له كان مستكبراً عن عبادته فالعبادة بجميع أنواعها لله تعالى لا شريك له فمن صرف منها شيئاً لغيره فقد أشرك مع الله غيره في عبادته، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: من الآية48]، وقال: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [المائدة: من الآية72]، والشرك المراد بهذه الآيات ونحوها يدخل فيه شرك عبّاد القبور وعبّاد الأنبياء والملائكة والصالحين فإن هذا هو شرك جاهليّة العرب الذين بعث فيهم عبد الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلّم فإنهم كانوا يدعونها ويلتجئون إليها ويسئلونها على وجه التوسل بجاهها وشفاعتها لتقربهم إلى الله زلفى كما حكى الله ذلك عنهم في مواضع من كتابه كقوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} الآية [يونس: من الآية18]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: من الآية3]، وقال: {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً
ص -39-(24/31)